فصار حديث القباني الممثل المطرب والمنشد البارع والملحن الأوحد مالئ دنيا الشام وشاغل أهلها.
ولما أقبلت عليه الدنيا إقبال الأتي المنهمر، وبسم له الدهر وصلحت حاله، أخذ محلاً في (خان الكمرك) في العصرونية بالقرب من المدرسة العادلية، وأقام مسرحه هناك في منتصف المدينة. وهنا استفاض الحديث في المنازل والمجالس عن عظيم مواهبه وسحر فنه، وكثر رواد مسرحه، وعشاق موسيقاه، وتمثيل رواياته، فلا حديث في المدينة إلا حديثه، ولا ذكر إلا ذكره. . .
وكان كلما تدفقت عليه الأموال ينفقها في سبيل تحسين مسرحه وجلب الحاجات الفنية الغامضة إليه، ففتن الناس وخلب عقولهم حتى بلغ من شأن الاهتمام برواياته أن صار الفقير منهم الذي لا يملك ثمن بطاقة الدخول يبيع فراشه وأواني بيته وحلي زوجته ليشاهدها ويجتلي طلعته فيها، وكان لشدة الازدحام يؤم الواحد منهم القاعة من الصباح ويبقى فيها حتى المساء ليشاهد الرواية، فإذا ما انقضت اللذة بمشاهدة رواية تولدت شهوة ولذة بمشاهدة غيرها. ومن شدة الازدحام على أبواب القاعة المقام فيها المسرح أسس الدخول إليها لا يكون إلا تحت إشراف السلطات المحلية، وصارت تباع التذاكر لدى مكاتب المتعهدين قبل ثلاثة أيام، ومن يتأخر عن حجز مكان له في أسبوع قبل ثلاثة أيام أو أربعة أيام يضطر مكرها للخطوة بمشاهدة هذه الروايات في الأسبوع الذي يليه.
وكان الوالي في قاعة المسرح مقصورة يقصدها كل ليلة ويمتع سمعه وبصره بهذا الفن الأخاذ بالرغم من جهله باللغة العربية التي يمثل فيها القباني رواياته.
ومن عادة الدهر ألا يبقى على حالة واحدة، وأنه إذا ضحك إنسان يوماً ما سيتجهم له إذا دالت دولته وولى زمانه وشالت نعامته، وخانه صحبه وأوطانه، وقديماً قال الشاعر: (من سره زمن ساءته أزمان. . .).
(للبحث صلة)
حسني كنعان(804/33)
الضمير العالمي
للأستاذ عبد الرحيم عثمان صارو
طالت على الأيام رقدته ... وخلا من الوجدان والمهج
فمتى ترى تفتر مقلته ... وتقرَّ عين العالم اللهج؟
ثملت من الإغفاء عيناه ... أم ذاب تحت جفونه البصر؟
يا ليت شعري أين مثواه ... بين الجوانح أيها البشر؟!
تصحو المظالم إن جرى الوسن ... في مقلتيه ويمحى العدل
وإذا تنبه نامت الفتن ... بين الورى واستأمن الكل
فيم (المجامع) أيها الناس: ... قول يسر ومنطق عجب؟
و (مواثق) يتعجب الماس ... من حسنها والدر والذهب
فيم (المجامع) راح ينهزم ... حق بها ويعز بهتان
لو صحت النيات والذمم ... لم يشق تحت الشمس إنسان
لو لم تك الأهواء رائدكم ... يا من ملكتم قبضة الكون
ما أحتاج حق أن يناشدكم ... - عبثاً - له قبساً من العون
لو لم تك الأهواء غالبة ... ومطامع تعدو وتستبق
لم تخذلوا للعرب واضحة ... غراء مثل الشمس تأنلق
تاه السلام وحار بينكم ... ويكاد يقضي نحبه طفلاً
تتمشدقون به وفعلكم ... يردي السلام ويورثُ القتلا
أو قدمتموها بيننا شعلاً ... حتى قهرتم طاغياً حرناً
ومن العجائب: كل ما فعلا ... معكم فعلتم شبهه معنا
سيظل بين جوانب الأرض ... تعس الوجوه وضيعة الأمل
ما شمت طي جوانح البعض ... أسطورة الذئب والحمل
عبد الرحيم عثمان صارو(804/34)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
اليونسكو في بيروت:
ينعقد الآن في بيروت المؤتمر العام الثالث لهيئة (اليونسكو) وقد افتتح يوم 17 نوفمبر الحالي بكلمة لرئيس الجمهورية اللبنانية موضوعها (القيم الروحية والقوة الهوجاء) وقد تتابعت الجلسات في الأيام الخمسة الماضية إلى وقت كتابة هذا، وحفلت هذه الجلسات بكلمات من المندوبين وتلاوة التقرير السنوي للهيئة الذي وضعه المدير العام، وقد أثيرت مسائل مختلفة في الاجتماعات الماضية، أهما موضوع تمثيل الهيئات اليهودية الذي أعلنت لبنان رفضه وأيده سائر البلاد العربية، ولكن مندوبين غربيين قالوا إن المؤتمر الثقافي هيئة إنسانية لا طائفية ولا عنصرية ودعوا إلى التسامح بقبول ممثلي الدولة المزيفة في المؤتمر، فرد بعض المندوبين العرب بأن البلاد العربية ترفض لا لسبب عنصري أو طائفي بل لمعارضتها السياسية في قيام دولة يهودية. وبعد نقش حاد قرر المؤتمر أن تمثل الهيئات الدولية غير الحكومية بمراقبين لا حق لهم في الاقتراع. وقال مذياع بيروت إن الأستاذ يوسوف خاطر مندوب لبنان قام بعمل بارع إذ اقترح أن يقصر تطبيق ذلك على الهيئات التي أرسل إليها فعلاً وأجابت بالموافقة، فأيد المؤتمر هذا الاقتراح وعلى هذا ينطبق ذلك القرار على 36 هيئة ليس بينها هيئة صهيونية. . .
ومن المسائل التي أثيرت مسألة تعليم الشبان الفلسطينيين اللاجئين إذا أقترح مندوب استراليا أن تقوم اليونسكو والدول الأعضاء فيها ببذل المعونة في ذلك، وقد شكره شفيق غربال بك مندوب مصر، ثم أعلن الرئيس الموافقة على الاقتراح فأحيل إلى لجنة التعمير الفرعية لدراسته.
ويعمل مذياع بيروت في المكان المخصص له بمدينة اليونسكو، فيذيع أهم ما يدور في الجلسات، كما يسدل كلمات المندوبين ويذيعها، وقد سمعت منه كلمة شفيق بك غربال ومما تضمنته الإشارة إلى بعض المسائل التي يتم الاتفاق عليها خارج اليونسكو وهي أولى ببحثها وتنظيمها كمسألة موجات الإذاعة التي وزعت بطريقة غير عادلة.
وقال مذياع بيروت في التعقيب على اجتماعات اليونسكو: أن هذا المؤتمر العالمي يجتمع(804/35)
بلبنان في جو سمح حر بعيد عما يلابس المؤتمرات العالمية من محاولة البلاد التي تجتمع بها التأثير في مجرى أعمالها لتوافق هواها.
وقد لوحظ في تأليف وفد مصر إلى المؤتمر أنه يشمل إلى جانب الأعضاء الرسميين بعض الخبراء غير الرسميين كالدكتور بشر فارس وقد دعت حكومة لبنان الدكتور طه حسين بك إلى حضور المؤتمر بصفة شخصية، على أن يكون ضيفاً لديها، فلبى الدعوة ويسافر من القاهرة إلى بيروت في 25 نوفمبر، ويلقى هناك محاضرة عن الحضارة العربية وما أسدت الحضارة الغربية.
تعقيب:
يخيل إلى من يستمع أو يقرأ ما يجري في اجتماعات اليونسكو أن البحر قد أصبح (طحينة) كما نقول في أمثالنا العامية، فنشر الفكر وحرية الأنباء وإنماء الثقافات وتعاونها على إقرار السلام يتحدث عنها أولئك المفكرون الأفذاذ من مندوبي العالم وهم مستغرقون في الخيال. . . والمسألة كيف ينتقل ذلك كله من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة أو كيف يمكن نقل هذه الأشياء إلى مجال العمل والتنفيذ، ثم كيف يوجهون التيارات الثقافية إلى صالح السلام ونصف القوة العالمية غير ممثل في اليونسكو، وهو روسيا؟ وسينفض هذا المؤتمر الثالث، ونرجو عند اجتماع المؤتمر الرابع أن يكون العالم بخير. . .
صديقنا الزين يتراءى لنا:
كتبت في عدد مضى من الرسالة منذ قليل، كلمة في ذكرى الصديق الكريم، والفقيد العظيم الشاعر الراوية أحمد الزين؛ وما أحب إلى أن أعود الآن إلى الحديث عنه في التعبير عن خاطرة تتعلق به، وهو جدير بأن تؤلف في أدبه وشخصيته المؤلفات، فلا أقل من كلمات.
قلت أن اللقاء لم ينقطع بين الصديق الفقيد وبيني على رغم وفاته، ألقاه في كل مكان صاحبته فيه وعند كل ما يذكرني به. إلى آخر ما عبرت به عن هذا الإحساس. ثم كتب بعد ذلك في مجلة (الثقافة) الأستاذ عبد الفتاح البارودي كلمة طيبة في ذكرى الزين، فلم يكن من الغريب، وهو من أصدقاء الشاعر الفقيد، أن نتفق في الإحساس نحو صديقنا الراحل، قال: أن (طيفه الرقيق الوديع قلما يبرح مخيلتي إلا ليعود إليها) ثم بنى مقالة على(804/36)
رؤيا رآه فيها.
ومنذ بضعة شهور رأى الأستاذ محمود لطفي أمين مكتبة المجمع اللغوي، وهو أيضاً من أصدقاء الزين - رأى فيما يرى النائم أنه يقف أسفل سلم، والزين على إحدى درجات هذا السلم، وبينهما ست درجات. وقال العالم بتأويل الأحلام: إنك لا تزال في الدنيا، وقد صعد الزين منها، وتلحق به بعد ستة أيام أو ستة أشهر أو ستة أعوام. . . فانزعج صديقنا لطفي وأخذ في الحساب. . . الستة أيام مضت، والسنة الشهور يبقى منها نصف شهر. . . وأعد عدته وجد في تحسين خاتمته، ولكن الله سلم؛ فهل كسب الصديق في عمره ستة أعوام. . .؟
وليس بعجيب أن يتراءى لنا صديقنا الخالد، في المنام وفي غفوات اليقظة، فقد كان صافي النفس، خالص الوجدان والفكر مما يصطنعه الناس من الرياء والنفاق، لا يعلق قلبه بما تعلق به أحابيل المرائين والمنافقين من غايات. وكان روحه ينسرب في نفوس أصدقائه خلال حديثه إليهم لصدقه وصراحته ونظراته إلى الأمور نظرة إنسانية عالية.
وكان يبدي رأيه في الأشخاص صريحاً، وكان يرغب عن مصانعة من يتنازل بعض الناس عن حريته في مصانعتهم، ضناً بأدبه أو كرامته أن يكون لهما ثمن من حطام أو سراب. . . مما جر عليه حقد أولئك الناس وجحودهم قدره، وكان حرياً بكل تقدير وإعزاز.
ذلك هو الإنسان الذي يتراءى لنا طيفه، لأنه خالد في نفوسنا وما أسعدنا به حياً وميتاً.
الشعب ينفق على تلهية الأغنياء:
جاء في مقال للدكتور طه حسين بك في (الأهرام) قوله: (فكان من الديمقراطية مثلا، في أواسط القرن الخامس قبل المسيح، أن يفرض على الأغنياء تلهية الشعب بتنظيم حفلات التمثيل على اختلافها، فكان الأغنياء وحدهم هم الذين ينفقون على إعداد القصة التمثيلية وإخراجها، يأجرون الشاعر الذي ينشئها، ويأجرون الممثلين الذي يعرضونها، ويأجرون الذين يشرفون على هذا الإخراج، ويؤدون كل ما يحتاج إليه الموسم التمثيلي من نفقات).
كان ذلك في أوربا منذ خمسة وعشرين قرناً، أما الآن فالأمر عندنا في مصر على عكس ذلك، أي أن الشعب هو الذي ينفق على تلهية الأغنياء. . .
الحكومة تمنح الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى نحو خمسة عشر ألف جنيه في العام،(804/37)
وتنفق على استقدام فرق التمثيل الأجنبية مالا يقل عن ذلك المبلغ، ولا أعرف بالضبط ما تنفقه على دار الأوبرا الملكية، ولكنا نعلم أنها دار فخمة لها مدير ووكيل وفيها موظفون فنيون وإداريون وسعاة وفراشون وما إلى ذلك، عدا مرافقها المختلفة وما يتطلبه إعداد الروايات من أثاث وثياب ورسم مناظر وغير ذلك، فلا بد أن لها (ميزانية) كبيرة. وهناك أيضاً لجنة ترقية التمثيل، وجوائز مالية تمنح في مباريات التأليف للمسرح.
وكل ذلك يصرف من خزانة الدولة التي تتكون من الضرائب التي يدفعها الشعب على اختلاف طبقاته، ويقصد منه إحياء فن التمثيل وتحقيق المتعة والفائدة، ولكن من يستمع ويستفيد؟ الأغنياء طبعاً لأنهم هم القادرون على (دفع ثمن التذاكر) أما الفقراء ومن يليهم من المتوسطين فحسبهم النظر إلى الإعلانات وصور الممثلين والممثلات في الصحف وعلى الجدران، لقاء ما ساهموا به من الإنفاق على التمثيل باعتبارهم (دافعي ضرائب).
أليس معنى ذلك أن الأغنياء يشاهدون التمثيل على نفقة الفقراء؟ ولعل ذلك بعض الجواب عن تساؤل الدكتور طه: أين نحن الآن من معنى الديمقراطية.
كثرة التأليف من علامات الساعة:
هكذا يقول أثر من الآثار المصرية القديمة يرجع عهده إلى 4000 سنة قبل الميلاد، إذ وجد منقوشاً على حجر من هذه الآثار أن (من علامات الساعة أننا صرنا إلى زمن لا يتورع فيه كل من هب ودب عن التطلع إلى التأليف والتصنيف).
وإذا كان الكاتب القديم في ذلك الزمن السحيق يقول ذلك فماذا نقول نحن الآن وقد صار كل إنسان يستطيع أن يكون مؤلفاً ما دام يملك نفقات الطبع ويستطيع أن يؤلف أي كلام. . حتى انصرف الناس عن قراءة الكتب، وأصبح الكتاب في أزمة شديدة بفضل (المؤلفين) الذين كان يمكن أن ينتفع بهم في إنتاج سلع أخرى؟
فإن كان قدماؤنا قد هالهم ما رأوا من إقبال غير الأكفاء على التأليف حتى عدوه من علامات الساعة، فيظهر أنا وقعنا، مما نرى من فوضى التأليف، في (الساعة) نفسها! والله المستعان.
من طرف المجالس:(804/38)
كان الحديث عن هؤلاء (القصاصين) الذين يوالون الإنتاج بسرعة عجيبة، حتى ملؤا الصحف وأخرجوا العديد من مجموعات القصص والأقاصيص. سأل أحد الجلساء: كيف يتسنى لكاتب أن ينشئ في أسبوع واحدة عدة قصص، عاش في أجوائها وهضم فكراتها واستوت له عقدها و. . . فقطعت عليه الإجابات سبيل استرساله، قال الأول: رويدك! رويدك! أي أجواء وأية عقد؟ إنها حكايات و (حواديت) يجتذبون القراء إليها بسرد وقائع الشباب الفائر وعرض الأنوثة الصارخة!
وقال الثاني: بارك الله في قصص الغرب. فما على الواحد منهم إلا أن يجرد القصة من القبعة ثم يضع عليها الطربوش أو العمامة ومع ذلك تبدو عليها ملامح السحنة الغربية.
وقال الثالث: ولكن هناك كثيراً من هذه القصص تكتب غربية بحوادثها وأشخاصها وأماكنها وليس على القصة إلا أسم أخينا المصري، وما أحسبه يدعى تأليفها، فمن ترجمها أو اقتبسها أو لخصها؟ الواقع أن هذا النوع من. . . التأليف. . . أو من الترجمة أو مما لا أدري أسمه - قد حيرني!
وأمسك الجميع حين رأوا ذلك الأديب الكبير الذي يتصدر المجلس - متهلل الوجه تدل هيئته على أن عنده شيئاً طريفاً في الموضوع، قال:
تلقيت من فلان المجموعة القصصية التي أصدرها أخيراً، وقد أرفقها برسالة يرجو فيها (عدم المؤاخذة) لما في الكتاب من أخطاء نحوية ولغوية سببها أنه طبع في بلد بعيد فلم يستطيع مباشرة التصحيح. . . فعجبت لهذه المطبعة التي تعصي الفيروز ابادي وتخالف أوامر سيبويه! ولكن عجبي ذهب عندما رأيت قوله (لعلكم تتفضلون بتشجيع الخطوات التي يخطوها (الناشئين) وتذليل ما (يجدوا) من صعوبات).
ثم ظهرت على فم أديبنا الكبير ابتسامة ساخرة وقال: وقد هان على الخطب لأنني اطمأننت على الطباعة!
الجامعة والمعاهد العالية:
جاء في الجزء الخاص بالتعليم من خطاب العرش ما يلي:
(وتعتزم حكومتي إنشاء مجلس موحد لمعاهد التعليم العالي، يكفل القيام على شؤونها(804/39)
المشتركة، لما تبين من صواب قيام هذه المعاهد بجانب الكليات الجامعية، لغلبة الصبغة العملية عليها، ولتمكين طائفة غير قليلة ممن أتموا التعليم الثانوي من إتمام التعليم العالي بها).
وقد نشرت الصحف أحاديث لمدير جامعة فؤاد الأول، يشكو فيها من تضخم الجامعة لكثرة من قبلتهم من الطلبة في هذا العام، وهم مع هذا ليسوا كل المتقدمين إليه من الناجحين في (التوجيهية) وقد بين سعادته ضرر زحمة الطلاب بالجامعة؛ من حيث صعوبة إشراف الأساتذة والمدرسين على العدد الكبير من الطلبة واستحالة قيام العلاقة المرجوة بين الطالب والأستاذ.
والواقع أن الإقبال أشتد على التعليم العالي في السنوات الأخيرة، وليس كل المقبلين راغبين في التعليم ذاته، فهناك كثيرون يريدون شهادات ذات (كادرات) وليس كل الراغبين في التعليم صالحين للتعليم الجامعي، فليس من وضع الأمور في مواضعها إثقال كاهل الجامعة بكل هؤلاء.
وعلى ذلك فأن الاتجاه إلى الإكثار من معاهد التعليم الفني العالي اتجاه سديد، إذ تنصرف إليها طائفة كبيرة من الطلبة إعدادهم إعداداً فنياً عملياً في مختلف الشؤون والفنون، ويتجه إلى الجامعة ذوو الاستعداد الملائم لها.
عباس خضر(804/40)
البريد الدبي
إلى الأستاذ شفيق أحمد عبد القادر
جاءني أيها الأخ العزيز بضعة وعشرون رسالة من طراز رسالتك التي تكرمت مجلة الرسالة بنشرها في عدد 15 نوفمبر الحالي صفحة 1306، وقد تفضل كاتبوها كما تفضلت وأسبغوا على من ثنائهم الكريم ما أغرقني في بحر من خجل. بعضهم كتبوا إلي عن يد الرسالة وبعضهم كتبوا إلي رأساً. ولم أشأ أن أنشر رسائلهم لئلا يؤخذ على أني أطنطن بخدمة عربية هي واجبة علي كالخدمة العسكرية. ولو كنت في شرخ السباب خالياً من المسؤولية لحملت بندقيتي ومشيت وراء المثل الأعلى الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة مع المتطوعين ممن قادهم إلى ساحة القتال يوم توالت الخطب في الجامع وكانت خطبته كلمتين: (ليست خطبتي إلا أن بندقيتي وأمضي إلى الميدان فمن شاء أن يتبعني فهلم).
وقد سمعت الأستاذ أحمد حسين غير مرة يخطب فما خيرت عنه المغفور له مصطفى باشا كامل. ولكن هاتين الكلمتين اللتين خطبها في الجامع كانتا أوقع في نفوس السامعين.
ولو لم أكن قد بلغت من العمر عتياً، ولم يبق الوهن في جسدي من القوة شيئاً، لحملت بندقيتي وجريت وراء الأستاذ طائعاً مجاهداً رضياً، وإنما ترك لي الوهن قلباً سوياً، يهز قلماً عربياً يزلزل لواء صهيونياً، ويدك عرشاً إزرائيلياً.
ولكن يظهر يا عزيزي أن مهاجمة الصهيونية لم تعد نافعة بل صار من الواجب (مواخزة) (من الوخز) الجامعة العربية عسى أن تتدارك الموقف وقد صار روياً، إن الله كان بعباده المؤمنين مخلصاً وفياً.
نقولا الحداد
حول سوداء وسودا:
جاءني في (البريد الأدبي) تعقيب على كلمة كتبها الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد المفتش بالأزهر حول نصب (سود) صفة (لحلوبة) في بيت عنترة:
فيه اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم(804/41)
السواد صفة للحلوبة المفردة - لفظاً ومعنى - لكان الصواب أن يقال (سوداء) وصفاً للمفردة وليس (سودا) وصفاً للجميع ومن ثم لا يكون (سود) - في البيت - صفة للحلوبة، وإنما هو صفة للجميع على المعنى وهو اثنتان وأربعون).
ونصحح البيت أولاً فنقول: إن صلة (فيها اثنتان وأربعون حلوبة. . .) وليس كما ذكر (فيه اثنتان. . .).
ثم نقول: إن (سودا) هذه فيها أربعة أوجه: وجه بالرفع وثلاثة بالنصب، وأحد هذه الثلاثة أن تكون (سودا) صفة لحلوبة، وليس يلزم أن نقول (سودا) لتكون وصفاً لحلوبة المفردة، لأن (سودا) بالجمع تصح أن تكون وصفاً لحلوبة حملاً على المعنى.
وليس هذا المعنى هو (اثنتان وأربعون) كما قال الأستاذ المعقب، وغنما المعنى هو أن (حلوبة) بمعنى (حلائب) فصح وصفها بالجمع وهو (سود).
(الإسكندرية)
حسن صادق حميدان
1 - اللباب في الأنساب لابن الأثير:
يشترك كثير من العلماء: من أدباء ومؤرخين وفقهاء ومفسرين ومحدثين، وغيرهم، في نسبة واحدة، كالنسبة إلى بلد أو جد أو صناعة أو قبيلة أو غير ذلك. فإذا ذكر أحدهم بنسبته في مرجع من المراجع ربما التبس بغيره ممن يشاركه في هذه النسبة لذلك ألف بعض العلماء كتباً باسم (الأنساب) جعلوها كمعاجم لذلك، يضبطون النسبة ثم يسردون أسماء من أشهر بها، مع المهم من ترجمته، ولا سيما مولده ووفاته، ويذكرون سبب شهرته بهذه النسبة، إلى غير ذلك.
ومن أعظم هذه المعاجم كتاب الأنساب للسمعاني، لكنه توفي قبل تهذيب الكتاب فجاء فيه أغلاط كثيرة في الضبط، وأهمل كثيراً من الأنساب، ونسب العلماء إلى بلد أو جد، وهم في الحقيقة ينتسبون إلى غيرها، إلى أوهام في تعيين مواضع بعض البلاد، وغير ذلك.
فغدا الكتاب في حاجة إلى عالم بارع نقاد يستدرك ما فات السمعاني من الأنساب ليكون المعجم كاملاً، ويصحح أوهامه، فقام بذلك شيخ المؤرخين عز الدين بن الأثير، الذي أشتهر(804/42)
عنه أنه أملى كتابه (أسد الغابة في الصحابة) من حفظه، بلا مراجعة كتاب، ولم يستطع من بعده من المؤلفين في هذا الباب من كبار الحفاظ أن يستدركوا عليه إلا أشياء يسيرة.
أنني أذكر جميع تراجم كتابه لا أخل منها بترجمة واحدة، إلا أحوال الشخص التي لا حاجة إلى ذكرها ولا تزيد النسب وضوحاً، وأن كثيراً منه لم آخذ منه سوى ما ذكرت لأنه لم يحتمل الاختصار؛ وإذا عثرت على وهم في كتابه بينته وأظهرت الحق فيه، لا قصداً للتتبع العثرات ولا إظهار لعيبه، وإنما فعلت ذلك إرادة لإظهار الحق، وأن أنزه نفسي عن أن يقال رأي الخطأ فلم يعرفه. . . وتبلغ تحقيقاته واستدراكاته على السمعاني نحو ربع المعجم.
وقد نشرت (مكتبة القدسي) جزأين من هذا المعجم في 870 صفحة، والباقي منه نحو 300 صفحة أي ربع الكتاب جزاها الله خيراً.
2 - مد أنابيب البترول السعودي (عبر سورية):
يقع مثل هذا التعبير في الصحف بين الحين والحين؛ وقد اختلف أهل اللغة المعاصرون في صحة هذا الاستعمال، ولكني وقفت على شاهد له في (تأريخ الإسلام وطبقات الأعلام للذهبي ج1 ص123 المطبوع حديثاً بالقاهرة) وهو قول سواد ابن قارب:
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء (عبر السباسب)
الذعلب: الناقة السريعة، السباسب جمع سبب وهي المفازة.
3 - من سمى عمراً من الشعراء:
قال الأستاذ التنوخي في الجزء 9 من المجلد 15 من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: لمحمد بن داود بن الجراح مصنفات ممتعة جمة، منها كتاب الشعر والشعراء، وكتاب من سمى عمراً من الشعراء في الجاهلية والإسلام، وكتاب الوزراء، ولم نعثر على غير كتاب الورقة. (ويترجم فيه لكل شاعر في نحو ورقة واحدة).
مع أن في دار الكتب المصرية كتابه (من سمى عمراً من الشعراء) وقد جرد جل أو كل ما فيه الإمام المرزباني في كتابه (معجم الشعراء) المطبوع بمصر.
محمد أسامة(804/43)
الأسبتاريه لا الأستباديه:
في كلمتي عن الهدنة في الإسلام بالبريد الأدبي في العدد الماضي وقد تصحيح في كلمة الاسبتاريه فأضحت الاستباديه.
والأسبتاريه هي طائفة من الفرسان أسسها جيرارد سنة 1113م. وقد آلت إلى جيرارد هذا إدارة مستشفى بالقدس، لعلاج الفقراء والمرضى من الحجاج اللاتين. ومن هنا أطلق عليهم الـ ونقل المؤرخون العرب ومنهم القلقشندي هذه الكلمة مع بعض التحريف البسيط فأضحت الأسبتاريه.
ولما توفي جيرارد سنة 1118م، آلت إدارة المستشفى إلى ريموند الذي نقل عن فرسان المعبد الكثير من نظامهم العسكري وأدخلهم على الأستباريه. هذا وقد لعبت هذه الطائفة من الفرسان دوراً كبيراً في الحروب التي أثارها الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي في الأراضي المقدسة.
شفيق أحمد عبد القادر
كلية الآداب - قسم التاريخ جامعة فؤاد الأول(804/44)
القصص
الجد
للأستاذ عبد المغنى علي حسين
من كان يرتاد أحد المتنزهات الكبيرة بالقاهرة كان يرى في ضحى أيام الصيف يتكرر يوماً بعد يوم وفي رتابة ودقة موعد، ويسترعي نظر من تستهويه نواحي الجلال والجمال والعاطفة.
كان يرى (سامي بك) ذلك الضابط القديم الذي يحتفظ في السبعين بقامته وسمته في الأربعين يعلوهما تاج من شيبة جليلة، شيخ طويل مهيب، وليس في بنيانه وقسمات وجهه غير التناسب الجميل، يقبل كل يوم في موعد لا يتغير، بمشيته التي وهنت قليلاً لكن لم يزايلها ثباتها وانتظامها العسكري، وعصاه الخفيفة بيمينه لا يتوكأ عليها بل لا يلمس بها الأرض إلا لماماً، ترافقه على الدوام حفيدة له، صبية في نحو العاشرة، فيقصدان تواً إلى مقصف المتنزه ويجلسان إلى نضد بركن منه، ويأخذ الشيخ يطالع صحيفته والصبية تتسلى بتقليب صفحات إحدى المجلات ومشاهدة المتنزهين والمتنزهات، واللاعبين على العشب الأخضر واللاعبات.
ولم يكن يماثل إعجاب الناظر بروعة منظر الشيخ وحسن سمته سوى إعجابه وعجبه من الصبية الصغيرة أيضاً. كانت ذات ملاحة وظرف وحسن، لكن محاسنها لا تبدو إلا لمن يرقبها عن كثب لانطوائها وراء هدوء وصمت ورزانة تكتر سن الصبية بكثير، وتكاد تضارع فيها جئها الكبير. . كانت تمشي بجانب جدها في خطو متزن وقامة معتدلة، ثوبها طويل محتشم وحقيبتها اللطيفة تتدلى من كتفها، ووجهها الصغير المستدير صامت جاد، ونظرتها إلى الأمام. . فإذا جلسا لم تكن تهز رجلاً أو تتلفت أو تبادئ جدها بحديث. فإذا طوى الجد الصحيفة نظر إلى حفيدته في فرط حنان وإشفاق، وقال لها شيئاً، لعله يسائلها إن كان ثمة ما ترديد، أو يريدها أن تطرح بعض احتشامها وتنزل إلى العشب لاهية مثل لداها، فتجيبه بهزة نفي من رأسها الصغير وابتسامة شكر على ثغرها الرقيق.
هذا ما كان يطالع منهما عين الناظر العابر، لكن عين الناظر لا تستطيع أن تقرأ ما وراء الصور العابرة من قصص الحياة. . إن سامي بك تزوج في صباه من سيدة ذات محتد(804/45)
وعاشا عمرهما لم ينجبا غير ابن وحيد. وتزوج الابن فأنجب ابنة هي هذه الحفيدة، وقسا القدر فمات الابن، ثم لحقت به زوجته بعد قليل، وخلفا الطفلة الصغيرة لا راعي لها إلا جداها الكبيران ثم قسا القدر على الشيخ قسوة أخرى كبرى فماتت زوجته، وخلفته في شيخوخته يرعى نفسه ويرعى الحفيدة الصغيرة وحده، ينظر إلى شجرة الأسرة التي أنشأها فلا يرى باقياً منها إلا هو وفي طرف الحياة من عند نهايتها وهذه الصغيرة في الطرف الآخر عند المبدأ.
أن فرط حنان الجدود على الصغار من أحفادهم وحبهم لهم أمر معروف، أما الحنان والحب من شيخ كبير وحيد لحفيدة صغيرة وحيدة يتيمة الأبوين لا راعي لها إلا هو فهما لا شك يبلغان الغاية أو يتجاوزانها. أن حنان سامي بك وحبه لحفيدته (عزيزة) مما تعجز الكلمات عن تصويره.
إنه ينظر إلى الرصيد القليل المتبقي له من أيام الحياة. ترى هل يمتد به حتى يرى (عزيزة) زوجة سعيدة؟ لقد كان في صباه لا يرهب الموت، وعلى الأهبة في كل لحظة لبيع حياته بيعاً سمحاً عندما يقتضيها الواجب. كان ذلك والحياة قيمة، والشباب قشيب، وبساط الأمل زاه فسيح، وأفق المستقبل متألق بسام. واليوم وقد انقضت الحياة إلا نفاية من وهن وأوصاب، وبساطها قد انطوى إلا طرف يرتعش للانطواء، والأفق نحبو أضواؤه مؤذنة بانسدال الستار، يجد الشيخ نفسه أشد ما يكون حباً للحياة وحرصاً عليها. . من أجل (عزيزة).
وكانت له في الحياة أماني أشتات، تزدحم بنفسه في بعض الأوقات بالمئات، تحقق منها ما تحقق وأخفق منها ما أخفق، واليوم لا يعرف غير أمنية وحيدة، هي أن يعيش ليرى عزيزة ولجت باب الحياة، وثبتت على أرضها قدميها، ولم تعد بحاجة لقبضته الواهنة تأخذ بيدها، ويستطيع أن يستودعها ركناً آمناً هانئاً، ويستقبل المصير الحتم لكل حي بقلب رخي وبال خلي.
لكن هب أن الأجل أمتد به وتحققت الأمنية، وذهبت عنه عزيزة في زيجة سعيدة فكيف تكون حياته بعد ذهابها؟ إنه حقاً إنما يعيش من أجلها، لكنه في الوقت نفسه لا يعيش إلا بها. كانت في حياته أنجم وأقمار وشموس فأفلت كلها إلا كوكب واحد هو هذه الصغيرة،(804/46)
فإذا زخرحت هي الأخرى من سماء حياته ففي أي ديجور بعدها سيعيش؟ ليس في الوجود أرق نغماً من صوتها، ولا أعذب لفظاً ونطقاً وأظرف معنى من حديثها، والحوار معها في دروسها المدرسية متعة عقله وروحه وعود جديد إلى عهد الصبا الجميل، والنزهة معها سبح مع ملاك في فراديس، ووجودها في البيت يجعل فقره الموحش روضة من جنات النعيم. . أي بيت يكون هذا بغير وجودها، حيث لا رفقة تبقى لذلك الشيخ غير الخدم والشيخوخة والأوصاب؟ رفقة أشباح ودميمة في قاعات مظلمة بدار عذاب!
لكن هل شيء من هذا يهم. وهل لشيء مما يتعلق بذاته الغاربة تلقاء ما يتعلق بذات (عزيزة) أي وزن، وكيف لعاطفة من الحنان والحب والواجب؟ أن محيط نفسه الزاخر تلغط جميع أمواجه هاتفة بتلك المنية وصوت الأنانية ضئيل هزيل في موضع سحيق بقاع المحيط لا يصل إلى أذنه ولا يستبين.
ومضت سنون، وأنهت عزيزة دراستها، واستوى قدمها، واكتملت أنوثتها، تلك الهمسة الحقية التي تسرها الطبيعة في نواة جسم الأنثى فإذا حان الحين نبت السر متلوياً في قاعة هيفاء لدنة كغصن البان، وحقاق على الصدر مرمرية في استدارة الرمان، والمفاتن الأخرى التي لا يتغنى فيها بيان عن عيان. . لكن الأنوثة وأن كانت واحدة إلا أنها تختلف كاختلاف لون الورود وعطرها. لقد نمت عزيزة إلى فتاة ممشوقة نحيلة القوام، صامتة جادة حيية، في بياض بشرتها شفافية لطيفة عاجية، وجهها حلو القسمات صغير مستدير، وعيناها جوهرتان أصفى من الندى أشربتا بلون عنبري عميق.
ولم يكن العريس الحبيب عليها بعزيز ولا منها ببعيد. . . إنه شاب وسيم يكبرها ببضع سنين، يشغل وظيفة طيبة في مؤسسة مصرية كبيرة، يمت إلى عزيزة بقربى من ناحية الجدة، ويمت إليها بما هو أقري، تماثل في العقلية والطبع الهادئ الجاد الرزين، وأسمه (فريد).
لقد تقدم لخطبتها غيره كثيرون، لكن ما منهم أرتاح إليه البك الارتياح كله لأسباب أرتآها، أو هفت إليه عزيزة بكامل قلبها لأسباب لا تعرفها، إلا فريد فقد حل من نفسيهما معاً في المكين.
وتمت خطبة عزيزة لفريد، وراح يعد العدة لاستكمال نصفه الذي صحا ذات يوم على(804/47)
افتقاده. كم هي حافلة تلك الأيام يخطو فيها الشاب خطواته ليصبح رباً بعد أن كان فرداً، ويأخذ إلى فلكه كوكباً ليدورا معاً وكان يدور حول نفسه فقط. . . وكان لفريد داره (فيلا) صغيرة راح يعدل فيها ويهيئ كي تصبح العش الجميل له وللألف الحبيب
وأخذت عزيزة تتهيأ لتقلد وظيفتها وأداء رسالتها، رسالة الحب وما يؤدي إليه من صنع خيوط جديدة في نسيج البشرية.
وجاء فريد ذات يوم ليتفق مع البك والعروس على يوم الزفاف وحدده، وانصرف الشاب، وشبعه البك وهو يشد يده في تهنئته دافئة ودعابة لطيفة.
والتفت البك إلى حفيدته العزيزة ليهنئ ويداعب، فلم يرعه منها إلا نظرة إليه بعينيها الفاتنتين تترقرق فيها دمعتان كقطرتي ندى على نرجسيتين.
قال الشيخ مندهشاً: ما بك يا ابنتي؟!. هل تبكين؟!
قالت: يا جدي لا أدري كيف أبعد عنك وأتركك تعيش وحدك!
فأحس الشيخ برجفة نفسانية، وكاد أول وهلة أن يشاطر الفتاة الجزع لكن لم يلبث أن تجلد وربت كتف عزيزته وهو يقول: يا أبنتي لن تكوني بعيدة. أما عن عيشي وحدي فلا تنسي أني جندي، والاخشيشان والاستكفاء الذاتي بعض ما عرفته وألفته، ومهما تقدمت بس السن فلن أضيق بشيء من ذلك ولعلي أتوق إليه.
هذا ما قاله لها. أما ما دار بخاطره فهو: ترى ماذا يمنع من أن تعيش وحيدتي العزيزة هذه معي هنا هي وفتاها بعد زواجهما حتى أموت؟!. لم لا أخاطب فريداً في هذا فقد يرضى به؟. . لكن لا. لقد كنت يوماً شاباً خاطباً مثله، ولم يكن يخطر ببالي إذ ذلك، ولي بيت أن أعيش بزوجتي مع أهلها في بيتهم، ولو طلب إلى ذلك ما كنت أفعله إلا كارهاً. . كلا، ليس أحب إلى عروسين صغيرين من عش خالص لهما، يمرحان فيه على هواهما، ويضحكان بطلاقة، ويتحابان بلا تحرج، ويختلفان إذ لزم الأمر بغير كبت. حرام علي أن أنشد هناتي على حساب شيء من هنائهما. كلا، لن أثقل عليهما بظلي في شيخوختي مثقال ذرة.
وجاءته عزيزة في يوم آخر متهللة الوجه، تجر وراءها فريداً من كمه، قالت: يا جدي، لقد أقنعت فريداً بأن يترك فلته ونعيش معك هنا في بيتنا. . . ورضى.
- أقنعته؟!. . ورضى؟!(804/48)
قال الشاب: إني على استعداد يا سيدي ألبك لأن أفعل أي شيء يكون فيه راحتك وهناء عزيزة.
فأطرق الشيخ برهة، ثم قال. يا بني أن فلتك جميلة جداً، وأنا أتطلع إلى اليوم الذي أزوركما فيه هناك وأجلس في شرفاتها اللطيفة وأستمتع بما يحيط بها من مناظر بديعة. إني شيخ كبير وأصبحت أسأم المكان الواحد وأحب تغيير المناظر.
فأطرق الشاب مرتبكاً ولم يدر ماذا يقول. وحدقت الفتاة أمامها وقد أسقطت في يدها هي الأخرى. وزفت عزيزة لفريد، وسافرا لقضاء شهر العسل في مصيف لطيف.
فلما حل يوم عودتهما كان الشيخ الكبير في انتظارهما بالمحطة، ولو قبع في داره مستريحاً لخفا إليه حال عودتهما، لكنه لم يستطع صبراً، ولم يكن يدري هل غابت عنه عزيزة شهر أم دهراً. وبعد أن ضمها وقبلها في الجبين عرف من أحاديثها الفرحة أن السعادة التي كان يحلم بها لها صارت حقيقة. وتركهما يذهبان وعاد إلى داره قرير العين.
وفي الغد زاره في داره: بعد الغد أخذ سمته إلى فلتها لزيارتهما، فراحا يحتفيان به ويجلسان في كل غرفة وكل شرفة ليمتعاه بالفيلا الجميلة والمناظر البديعة كما كان يقول: وكان وجهه يتهلل بشراً وسعادة، وقل صمته وجده، وكثرت دعاباته اللطيفة وملحه الطريفة. وغادرهما في المساء وعاد إلى داره.
وداعب خادمه النوبي لأول مرة في حياته حتى أبتسم الخادم من نواجذه البيض أمام سيده لأول مرة أيضاً. . وتناول عشاء خفيفاً، بعض الفاكهة وفنجاناً من القهوة، ثم أوى إلى فراشه.
وأستيقظ بعد انتصاف الليل على ضيق في التنفس وحزة في القلب واسطة الجسم وصميم الحياة. فتح عينيه وتقلب كيما يخفف الألم وتسترجع الأنفاس، لكن الألم لم يخف والضيق أزداد. فمد يده وأضاء النور، ثم تحامل حتى جلس متكئاً، فلم يغنه ذلك شيئاً. فمد يده ودق الجرس مستدعياً خادمه، وكان الخادم قد أحس يقظة سيده في تلك الساعة من الليل على غير عادة، فخف إليه فرآه ممسكاً بصدره مكروباً.
- ما لك يا سيدي؟!. . سلامتك يا سيدي!. . هل أستدعي الدكتور؟
- لا. . أعمل لي شيئاً من شراب ساخن. . فنجاناً من الينسون.(804/49)
وعندما عاد الخادم بفنجان الينسون ألقاه على نضد وقد كاد أن يسقط من يده.
- سلامتك يا سيدي!. هل أستدعي سيدتي عزيزة هانم؟
- لا تزعجها. . بلغها. . سلامي.
وتشهد. . وانتهى.
عبد المغني علي حسين(804/50)
الكتب
معنى النكبة
تأليف الدكتور قسطنطين زريق
(معنى النكبة) هو كتاب جديد للدكتور قسطنطين زريق وكتاب الدكتور هذا يذكرنا بكتاب سابق له هو وإنما ينزعان إلى رأي واحد كتاب (الوعي القومي). وليس الكتابان في موضوع واحد وفكرة واحدة، هي الفكرة القومية، التي يرى فيها الدكتور من دون غيرها فكرة الخلاص للشعوب العربية في جميع أقطارها ومع أن كتاب (معنى النكبة) يقوم على الفكرة القومية إلا أنه كتب عن الوضع الحضر في فلسطين. وعنوان الكتاب يدل على أن الدكتور يعتقد (ونحن نوافقه) أن ما وقع في فلسطين كان نكبة بكل ما في الكلمة من معنى. بل هو يقول: إنها جاءت (محنة من أشد ما أبتلي به العرب في تأريخهم الطويل على ما فيه من محن ومآس).
ويتناول الدكتور في كتابه هذا الصغير، الذي ينشره في وقت ملائم، مواضع تدل عناوينها بعض الدلالة على ما فيها؛ فهو يبدأ بالحديث عن (فداحة النكبة) ثم يتحدث في فصل آخر عن (معنى النكبة) في هذا الباب وعن (الحل الأساسي) و (المعالجة القريبة) لدرع هذه النكبة التي حلت بالعرب.
وكان المؤلف قد كتب قبل أن ينشر هذا الكتاب فصلين أذاعهما قبل ظهور الكتاب: أحدهما عن (الصراع بين المبدأ والقوة في قضية فلسطين) والآخر عنوانه (لماذا نجاهد في فلسطين).
وأنت تقرأ الكتاب كله فتشعر بميزتين أو ثلاث له، تبرز بروزاً واضحاً لا غموض فيه: فأما واحدة من هذه الميزات فهي أن الكتاب يعبر تعبيراً تاماً عما يجول في خاطر الناس بعدما وقع في فلسطين. فالناس بعد هذا الذي وقع تبلبلت أفكارهم وتحيروا ماذا يقولون. وقد عبر المؤلف تعبيراً صادقاً وآلم به إلماماً موفقاً. وميزة أخرى للكتاب هي أنه ينظم البحث تنظيماً يدل على فكر منظم وعقل مدبر. وقد عرف هذا عن الدكتور زريق في تأليفه، ويظل ما عرف عنه صحيحاً في هذا الكتاب الصغير. وميزة ثالثة للكتاب نوردها لأننا نتحدث عنه لا لأنها كبيرة الأهمية وعي الوضوح في التعبير، والجمال الطبيعي في(804/51)
الأسلوب والجدة في الأداء؛ صفات تستهويك حين تطالع فصول الكتاب فتكسبه عند عامة القراء قوة على إبلاغ الرأي الذي يراه المؤلف إلى ذهن القارئ في يسر وإمتاع.
وعندما يتحدث الدكتور زريق عن (معنى النكبة) التي حلت بالعرب في قضية فلسطين، يقول شيئاً يجد القارئ العادي صعوبة في إدراكه، ولكنه صحيح وإن كان مطبوعاً بالطابع النظري المحض. فالدكتور يقول: أن النكبة تقاس بمقدار تأثيرها في نفسية الشعب العربي. فإن هي أرهقت هذه النفسية وشلت قدرتها على الصمود في وجه التعسف والإغراء، وإن هي مكنت لقوى الرجعية العربية من السيطرة انهزمت أمام هذه القوى، وإن هي لم تثر مواطن الضعف ولم تحتفظ بعناصر القوة فقد وقعت كنكبة، وإن كان الأمر على العكس من ذلك فلم يرهق النفس العربية ولم تشل قدرتها على الصمود في وجه الظلم ولم تهن أمام قوى الرجعية والإغراء، عادت وكأنها ليست نكبة وإنما كانت مناسبة لتنقية جوهر الأمة العربية وبلورة كيانها. وهذا مله صحيح وإن لم أشعر أن المؤلف الكريم وفق كل مرة إلى وصف الطريقة التي تمكننا من أن نصمد لما حل بنا، وأن تخرج منه بعبرة للمستقبل بحيث يخرج كما قال (من العسر يسر ومن النكبة بذور ظفر) وسأبين ذلك عن قريب، لأنني أحب في هذه اللحظة أن أتحدث عن أهم ما تناوله الكتاب، وأهم ما جاء به في نظري هو الحل الذي يراه للنكبة التي وقعت بفلسطين، وهو يقسم الحل إلى قسمين: أحدهما (المعالجة القريبة) والآخر (الحل الأساسي) وكلا الموضوعين هام تطالعه في شغف وسرعة وهو يرى أن المعالجة القريبة تقوم على أركان خمسة: هي تقوية الإحساس بالخطر، وتجنيد قوى الأمة الحربية بكاملها وتحقيق أكبر قسط من التوحيد الممكن بين الدول العربية في ميادين الحرب والسياسة والاقتصاد وسواها. والركن الرابع هو إشراك القوى الشعبية في النضال، أي لا يقتصر الجهاد على الحكومات والجيوش النظامية، والركن الخامس في الجهاد العربي لحفظ فلسطين هو استعداد العربي للمساومة، وللتضحية ببعض المصالح لدرء الخطر الأكبر.
هذه هي الأركان الخمسة عند الدكتور زريق للمعالجة القريبة لقضية فلسطين، وهو يشرح كل واحد من هذه الأركان شرحاً وافياً لا مجال للخوض فيه ههنا، وأنا أثق على كل حال أن القارئ الكريم سيعرف شيئاً من المقصود بهذه الأركان من مجرد ذكر عناوينها، وذلك(804/52)
لثقافة الناس العامة الآن بقضية فلسطين وبقضايا بلادهم. ولا أتعرض لأي واحد من هذه الأركان اللهم إلا لركن المساومة السياسية هذه، التي يتحدث عنها الدكتور، على أساس موجب أشد الوجوب للنقد، وسأوضح لك ذلك عما قريب.
أما المعالجة البعيدة لقضية فلسطين، أو الحل الأساسي فيتطلب عند المؤلف (حرباً مديدة الأفق بعيدة الأجل) وتبدلاً (أساسياً في الوضع العربي، وانقلاباً تاماً في أساليب تفكيرنا وعملنا وحياتنا بكاملها) أنه يتطلب (كياناً عربياً قومياً متحداً تقدمياً) (وإنشاء هذا الكيان هو الركن الأول للجهاد العربي البعيد) ثم يمضي الأستاذ فيشرح كل واحدة من هذه الصفات التي يجب أن يتصف بها الكيان العربي. وهو يلاحظ أثناء هذا الشرح أن أساليب تفكيرنا ما تزال عتيقة وأننا لا نساير الزمن فنأخذ مما في الحضارات الإنسانية من قيم عقلية وروحية.
ولو أردنا تقريب الحل لقضية فلسطين من أذهان القارئ الكريم لقلنا إن الدكتور زريق يضع أركاناً خمسة لكل من الحلين القريب والبعيد لقضية فلسطين. ومجموع ما يريد من كلا الحلين يتلخص في خلق أمة عربية على طراز الأمم الغربية. ويشمل ذلك القوة العسكرية والقوة العلمية والخلقية والاقتصادية وبعض هذه القوى يحتاج إنشاؤه إلى زمن طويل. والذي أراه أن أعجل ما يمكن أن يأتي بنتيجة من آراء الدكتور هو ما أسماه (المساومة) فالواقع أن هذا سلاح ماض جداً في أيدي العرب إذا سددوه إلى ناحية أصاب الهدف وأصمى.
فالعرب يشبهون في حالهم السياسي الحاضر وضع اليهود بين حزبي الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا أو وضع حزب الأحرار بين حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا - فإذا مالوا بثقلهم مهما هان شأنه على ناحية من ناحيتي الكتلتين العالميتين اليوم، رجحت كفته بثقلهم وأنتصر على خصمه. وهذا السلاح الماضي لا يقتضي إلا اتفاق الرأي بين العرب في جميع أقطارهم على الناحية التي يرجحونها. وهم غير مضطرين حين يرجحون كف أن يظلوا على موقفهم زمناً طويلاً. بل الواجب يقضي أن يعدلوا موقفهم بحسب الظروف تعديلاً ملائم مصلحتهم كأمة. وهذا السلاح الماضي من أسلحة المعالجة القريبة يستطيع العرب أن يفيدوا منه منذ الآن، أنه لا يحتاج إلى مثل ما تحتاج إليه(804/53)
الأسلحة الأخرى من استعداد طويل ووقت بعيد، ففي العرب اليوم فئة من الساسة المحنكين الذين يفهمون التيارات السياسية العالمية وما يحمل في طواياها من مغازهم قادرون إذا أخلصوا أن يوجهوا شعوبهم معهم إلى الناحية التي يجدون فيها الخير لهم.
وهنا أستطيع أن أوضح لك الخطأ الكبير الذي أرتكبه الدكتور زريق حين تحدث عن أحد أركان المعالجة القريبة وهو (المساومة)، وحين شرح لقرائه معنى كلمة (تقدمي) التي وصف بها الكيان العربي الذي يريده. قال الدكتور أن الخطر الصهيوني لا يرده إلا كيان عربي قومي متحد تقدمي. وهو حين تستعمل هذه الصفة (تقدمي) يقول (أن قوميين إذا أرادوا أن يحاربوا الشيوعية حقاً فسبيلهم الوحيد أن تكون قوميتهم مجارية لقوى الزمان (ص48) فمحاربة الشيوعية عند الدكتور إذن إرادة صميمة يدل الناس على السبيل الوحيد إليها. ولكنه حين تحدث عن أركان الجهاد العربي لحفظ فلسطين تكلم عن استعداد العرب للمساومة مع الدول الأخرى على أساس تبادل المصالح والمنافع. وهذا حق في نظرنا. فإذا أراد أن يبسط معنا للقارئ قال: (لا نحالف مثلاً الدول الديمقراطية على الشيوعية ونضطهد الأحزاب اليسارية في بلادنا لوجه الله وجرياً مع الصداقة أو لمجرد التخاذل) أن الاستعداد للمساومة على الحقوق المتبادلة عنصرها من عناصر الجهاد العربي كما ذكرنا والعرب يفتقرون إلى استخدامه كل الافتقار، والعالم الآن منقسم إلى قسمين فقط: الديمقراطية والشيوعية. فإذا نفى الدكتور قابلية المساومة مع الشيوعية لأننا يجب أن نحاربها كما سبق، فلم يبقى معنا من طرف نساومه إلا الديمقراطية، فإذا أدركت الديمقراطية أن المساومة لا تكون إلا معها بكل معنى المساومة وتعنتت الديمقراطية معنا فأخذت منا دون أن نأخذ منها، وهذا هو السر الأكبر للضعف في موضوع فلسطين في الوقت الحاضر، والدكتور لا يخلصنا منه، وأني أثق أن المؤلف فعل ذلك عن نية حسنة.
وبعد فقد قال الدكتور في مقدمة كتابه (لست أدعي أني في هذه الدراسة قد (اخترعت البارود) وإنما هي محاولة لتصفية تفكيري في هذه الأزمة الخانقة). والحق أن الكتاب لا بد وأن يكون قد أحدث صفاء في التفكير عند القراء الذين طالعوه في الوقت الذي يجب أن يطالعوه فيه. والفضل في ذلك يعود إلى المؤلف الكريم.
1 - بناء دولة - مصر محمد علي(804/54)
(للدكتور محمد فؤاد شكري الأستاذ بجامعة فؤاد الأول
وزميليه الأستاذين عبد المقصود العناني وسيد محمد خليل)
هذا كتاب كنا ننتظر صدوره من زمن بعيد، فقد أضاف إلى مكتبة (محمد علي) كتاباً جديداً حافلاً بالدراسة المستقلة من ناحية، وبالوثائق السياسية من ناحية أخرى. أما الدراسة المستقلة فقد عالج المؤلفون في القسم الأول من الكتاب موضوع أحوال مصر الداخلية في عهد محمد علي معالجة لم تعتمد على تكرار ما هو متداول فيكتب التاريخ، مما هو معروف ومشهور، بل أضافوا نواحي جديدة لم تظهر قبل في مؤلف عربي. وقد أتاح لهم ذلك إطلاع واسع على مكتبة (محمد علي باشا) الفنية في المؤلفات الأوربية. ولم يكتف المؤلفون بسرد آراء الأجانب على سبيل التدوين، وإلا كان الكتاب سجلاً تضيع معه قيمة التحقيق العلمي، ولكنهم كانوا يناقشون الآراء في اعتزاز وصح حكم حتى بدت على وجهها الصحيح.
أما الوثائق السياسية فهي خير علمي يضاف إلى ما
في الكتاب من خير كثير، فقد عمد المؤلفون إلى
ترجمة بضعة من التقارير المعاصرة لعهد محمد
علي وهو يهم ويمضي في بناء دولة مصر من
الداخل، وهي وثائق يطمئننا المؤلفون إلى أنهم رأوا
في اختيارها ما يجعلها جديرة بالاطمئنان إليها في
رسم صورة دقيقة للعصر الذي تتناوله. ومهما
يختلف الرأي في قيمة التقارير تبعاً لما تمليه أهواء(804/55)
أصحابها أو عواطفهم فأنهم مما لا شك فيه أن
الأجانب كانت عيونهم مفتوحة على كل حركة
يصدرها العاهل الكبير، وأنهم لم يدعوا ناحية من
النواحي البنائية الإنشائية في مصر محمد علي إلا
درسوها دراسة جدية؛ حتى أن أحد هؤلاء وهو السير
جون بورنج لم يترك في تقريره عن مصر صغيرة
ولا كبيرة إلا أحصاها. فتحدث عن الزراعة
والصناعة والضرائب والإدارة والجيش والتجارة
والصحة العامة والقضاء والتعليم حديثاً مدعماً
بالإحصاء ومؤيداً بالملاحظة الدقيقة، ولما كانت
البيانات الرسمية غير مسعفة له فقد كان يتصيد
البيانات من مصادرها الأولى؛ كما فعل في إحصاءه
عن معامل السكر التي كان يملكها إبراهيم باشا؛ فقد
طلب البيان من ناظر المعامل وترجمه ليكون ضمن
تقريره.(804/56)
وكان السير بورنج موفداً من قبل حكومته لوضع تقرير شامل عن حالة مصر، فقدم إليها سند 1837، واتصل بكثير من الموظفين فيها للحصول على بياناته، واستعان كثيراً بالقنصل الإنجليزي (كامبل) الذي زوده بكثير من الإحصاءات الزراعية والصناعية.
لقد كانت تقارير بورنج وكامبل وهودجسون ومن إليهم فيه غير متناول القارئ العربي، إلا ما كان من نتف هنا وهناك يترجمه المؤرخون المصريون في معرض الحديث عن شيء معين؛ ولكن مؤلفي هذا الكتاب قربوا هذه التقارير كاملة من القارئ العربي، بل سهلوا الحصول على تقرير بورنج الذي لا توجد منه في العالم إلا نسخ قليلة جداً.
2 - الشمس الحزينة أو حياة غاندي
(تأليف الأستاذ محمد كاظم)
وهذا كتاب لطيف في حياة غاندي، وهو أول كتاب عربي ألف في حياة المهاتما بعد مماته. ويمتاز بسلاسة في التعبير كأن المؤلف يحكي حكاية عن شمس كانت ساطعة ثم جنحت إلى الغروب. وقد كانت أم غاندي تنتظر الشمس؛ عند شروقها فإذا ما رأتها ساطعة تهلل وجها بالبشر كما خفق قلبها بالدعاء؛ وكانت السحب الكثيفة حينما تلف وجه الشمس بالحجاب تبدو هذه الشعلة السماوية في ثياب الحزن، كما تحزن أم غاندي ويحزن معها ولدها الصغير لأن السماء مظلمة.
ولهذا سمى المؤلف كتابه (الشمس الحزينة).
لقد ظهرت كتب في العربية عن حياة غاندي كان المؤلفون يلتمسون منها المثالية كاملة في إنسان رفعته الإنسانية العالية إلى مراتب (السوبرمان). وظهر بعد وفاة غاندي كتاب الأستاذ كاظم هذا، وكتيب آخر للأستاذ طه السيد ظهر منذ بضعة من الأيام. فبدأ غاندي بعد مماته أروع مما كان في حياته؛ لأن الفكرة الخالدة لا تموت.
وكانت في حياتك لي عضات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا
وكان غاندي - كما يقول المؤلف - يصوم (ليواجه غضب الطبيعة وجهل البشرية. . .)؛ أما الطبيعة فلا سبيل إلى إرضائها متى ثارت؛ لأنها تثور فوق إرادتنا، وتجري على غير مشيئتنا، فهل إلى تعقل البشرية الحمقاء من سبيل؟(804/57)
عبد الغني
شلي بروميثوس طليقاً
ترجمة لويس عوض
(ماجستير في الأدب الإنكليزي من جامعة لندن والمدرس
بجامعة فؤاد)
دراما غنائية رائعة في أربعة فصول كتبها الشاعر الإنجليزي المعروف بيرش شلي ونقلها إلى العربية الأستاذ عوض، وقد قدم الكتاب بمقدمة عن الحركة الرومانتيكية لكنها مقدمة طويلة تحتل نصف الكتاب تقريباً، وهي رغم طولها طريفة شيقة تمهد لمعرفة جو المسرحية، وختم الأستاذ لويس كتابه بترجمة قصيدة أدونيس لشلي وهي تلك المرثية الرائعة التي نظمها في موت صديقه الشاعر جون كيت.
وقد تحدث في المقدمة عن الانقلاب الصناعي في إنجلترا، وأثره في دراسة الأدب، وتخرج الفوج الأول من المدرسة الرومانتيكية وهم: وردزورث وكولريدج رشدي وسير والتر سكوت والفوج الثاني منها وهم: بيرون وشيلي؛ وكيت وعرض عرضاً تاريخياً للنظم السياسية في إنجلترا، ثم أنتقل إلى كلمة الرومانتية وبين أصلها في اللغة ورأي الأدباء والشعراء في تعريفها في أوربا.
أما المسرحية فيمكن تلخيص فكرتها في تلك العبارة: (أن القوة المطلقة خطيئة) وهي عبارة قالها بروميثوس في الفصل الأول من المسرحية وتعرض لرأي شلي أيضاً في السياسة والأخلاق والاجتماع؛ فجوبتر ملك الأرباب والشياطين وسيد الأرواح نصب نصبه حاكماً مطلقاً وأخضع سائر الآلهة إلا برميثوس صديق البشر الذي سرق النار الإلهية وهي نار العلم وخلص البشر من الجهل فصلبه جوبتر على شفا هاوية سحيقة وأطلق عليه النسور الضواري تنهش جسده وربات الانتقام أو النوريات يصبن قلبه بجراج معنوية غائرة ولكن بروميثوس عول على محاربة جويتر بسلاح الخير فهوى جويتر من فوق عرشه العظيم وتقوضت أركان ملكه المكين، وظهر هرقل رمز القوة ففك أغلال بروميثوس رمز الحرية(804/58)
في الوجود حيث أعرس من آسيا نور الحياة وصورة الجمال التي ليس لها نظير. . .
والمسرحية تصور ثورة الحرية على الطغيان وما هي إلا صدى للجهاد العنيف في سبيل حقوق الإنسان الذي تأثر به شلي، ولا يزال العالم يكتوي بناره حتى اليوم وأسلوب الترجمة يرتفع حيناً إلى آفاق البلاغة وينحدر حيناً إلى أعماق الركاكة ويرجع هذا إلى المؤثرات في مزاج المترجم من حين إلى حين، وفي الأسلوب بضعة أخطاء حرفية ونحوية واستعمالات لألفاظ وجمل مبتذلة تنبو عن أسلوب أستاذ جامعي كلفظة (أسطوات) و (عاشا في ثبات ونبات) ويمكن للمترجم السمو بأسلوبه بقراءة الكتب العربية القديمة ولكن أسلوب الترجمة لقصيدة أدونيس يرتفع عن المسرحية في بعض المواضع.
مهما يكن من شيء فجهد الأستاذ لويس جهد مشكور ونتمنى أن يتحف المكتبة العربية دائماً بنفائس الأدب الإنكليزي.
إبراهيم جمار الدين الرمادي(804/59)
العدد 805 - بتاريخ: 06 - 12 - 1948(/)
حقوق الإنسان في هيئة الأمم
للأستاذ عمر حليق
سنتان والنقاش مستمر في هيئة الأمم المتحدة حول إقرار ميثاق لحماية حقوق الإنسان.
وأمام الجمعية العمومية بباريس الآن اقتراحات بعضها مشوه وبعضها متناقض في مبادئ أساسية في تقرير الحرية والحقوق والواجبات التي لابد منها لكل ميثاق يوضع لحماية حقوق الفرد نحو الفرد والفرد نحو المجتمع، والفرد نحو الدولة والدولة نحو الفرد. ولا تزال هذه الحقوق موضوع بحث ومناقشة وتعديل في لجنة حقوق الإنسان التي أسسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لهيئة الأمم المتحدة في أواخر عام 1946.
وفي خضم الجدل السياسي العنيف الذي يشوب اجتماعات الأمم المتحدة يكاد مشروع ميثاق حقوق الإنسان لا يجد من ألسنة الرأي العام من ينوء به ويشير إليه بما يستحقه. ذلك لأن إقرار ميثاق عالمي لحماية الحرية والحقوق والواجبات سيكون معلمة خالدة من معالم الحضارة المعاصرة.
ولكن روح السخرية التي جلبتها هيئة الأمم المتحدة على نفسها بعد مهازلها السياسية في فلسطين وإندونيسيا وحيدر أباد وكشمير واليونان وكوريا وغيرها جعلت مجهود الأمم المتحدة في سبيل هذا الميثاق لوناً من ألون الجدل البيزنطي العقيم.
على أن الآراء التي أبداها مندوبو الثماني عشرة دولة التي تؤلف لجنة حقوق الإنسان فيها طرافة وانعكاسات عميقة في ناحية مهمة من نواحي التفكير والاتجاهات والمذاهب السياسية والاقتصادية المعاصرة. وسأحاول هنا أن أعرض بعض هذه الآراء وطرفاً من الجدل الذي احتدم حولها بين مندوبي هذه الدول. أمام اللجنة الدولية التي وكل إليها وضع ميثاق حقوق الإنسان صيغة تحضيرية لا يزال المندوبون يتناولونها فقرةً فقرة بل كلمةً كلمة.
خذ مثلاً المادة الثانية التي تنص على أن لكل فرد الحق في جميع ما ينص عليه الميثاق من حقوق وواجبات (بدون تمييز في الجنس واللون واللغة والعقيدة والمذهب السياسي ومميزات الثروة أو العراقة أو المحتد.
هذه المادة كانت موضوع جدل عنيف جداً؛ لأن مندوب الاتحاد السوفييتي أصر على إدخال(805/1)
كلمة (الطبقة الاجتماعية) في هذه المميزات المحرمة، والطبقة كما لا يخفى تحتل مكانة أصيلة في الفلسفة الماركسية.
وأصر الروس على إجراء هذا التعديل وتألفت لحل هذا الإشكال لجنة فرعية مؤلفة من أمريكا وفرنسا وروسيا واتفقوا بعد جدل عنيف على إضافة كلمة النسب إلى الأنظمة الاجتماعية التي يجب أن لا تكون مميزة للفرد على الفرد.
وبالرغم من أن جميع مندوبي الدول وافقوا مبدئياً على روح الميثاق إلا أن الخلاف على تفاصيله وصياغته كانت من أصعب الأمور التي كانت الأمم المتحدة القيام بها.
وهذا ما اشتكى منه الدكتور شارل مالك أستاذ الفلسفة في جامعة بيروت الأمريكية سابقاً ومندوب لبنان في هيئة الأمم، فهو المقرر للجنة حقوق الإنسان بالإضافة إلى رئاسته للمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
ذلك لأن الخلاف على الصياغة وحرفية الميثاق يستمد عنفه من التباين في المذاهب السياسية والاقتصادية والفكرية التي تدين بها دول الجيل المعاصر.
خذ مثلاً خطبة الإنتاج التي استهلت بها المسز فرانكلين روزفلت مندوبة الولايات المتحدة ورئيسة لجنة حقوق الإنسان.
قالت مسز روزفلت: (إن هذا الميثاق (ميثاق حقوق الإنسان) يجب أن لا يفرض التزامات قانونية على الدول، مع العلم بأن مبادئه هي أسس الحرية التي يجب أن يكون السعي لتحقيقها هدف جميع الدول والشعوب). ووافقها مندوب السوفيات الدكتور بافلوف ذلك. ومع هذه الموافقة كان نقاش مسز روزفلت والدكتور بافلوف من أعنف ما شهدته اللجنة.
وبروح السخرية الخفية قالت المسز نيولاندز مندوبة نيوزيلندة بأنها وإن كانت تواقة لأن ترى الدول توافق على ميثاق عالمي لحقوق الإنسان إلا أنها ترى من الأهم، قبل كل شيء، أن يوضع مشروع عالمي مماثل يضمن إخلاص الدول في تنفيذ هذا الميثاق. وتابعت مندوبة نيوزيلندة الكلام مشيرة إلى أن الدول والشعوب تتفاوت في مستوى التقدم الفكري والرقي الاجتماعي والمناهج السياسية والأنظمة الاقتصادية، وإن لكل منها كياناً خاصاً يختلف في كثير من الأوجه عن كيان الدول الأخرى وأن أية محاولة لحملهم على التقيد بميثاق موحد يفرض عليهم فرضاً دون تعديل وتحوير محاولة لن تسفر عن النتيجة(805/2)
المتوخاة، وأن التراث الثقافي والتاريخي الذي تستمد منه الدول مبادئها وآراءها وفلسفتها في الحياة يستوجب التريث قبل أن ترتبط الدول بالتزامات أدبية ودولية تقتضيها روح ميثاق حقوق الإنسان ونصه. وأن على كثير من الدول أن تعيد النظر في مدار هذا الميثاق على ضوء الأنظمة القانونية والتقاليد والعادة والعرف التي تدين بها المجتمعات التي تعيش فيها.
واتخذ مندوب اليونان حقه في النقاش وسيلة إلى التنويه بالديمقراطية التي نشرت الثقافة اليونانية في عصور الجهالة القديمة، وقال إن الأمم المتحدة مسؤولة أمام الحضارة عن إقرار هذا الميثاق.
وانتقد كثير من المندوبين الصيغة التحضيرية للميثاق لأنها لا تصر إصراراً كافياً على واجبات الفرد بنفس الحماسة التي تصر بها على حماية حقوقه. وكان مندوب جمهورية كوبا في أمريكا الجنوبية هو بطل الحملة في هذه النقطة المهمة. وتكلم مندوب الاتحاد السوفيتي معقباً فقال إن الدستور السوفيتي والنظام الشيوعي، وتعاليم ماركس ولينين تصر جميعاً على إقرار حقوق الفرد بنفس القوة التي تطلب بها منه القيام بالواجبات.
وتابع المندوب الكوبي الدكتور جينوروز ' تفنيده الميثاق مشيراً إلى أن حقوق الفرد الاجتماعية (بالمقارنة إلى حقوقه السياسية والاقتصادية) ليست تحتل المكانة التي يجب أن تحتلها في الميثاق، وأن تعديلات أساسية لإثبات حقوق المرأة وحمايتها يجب أن تدخل في صلب الميثاق المقترح.
وعند بحث هذه النقطة تكلم مندوب المملكة العربية السعودية السيد جميل البارودي فلفت النظر إلى أن الميثاق على الجملة لا يلائم المبادئ والعادات ومفهوم الحقوق والواجبات التي يدين بها المجتمع السعودي، وهي مبادئ وعادات تختلف - في بعض الأحوال - اختلافات جوهرية عن المبادئ التي نص عليها الميثاق والمستمدة من الحضارة الغربية والتراث الثقافي الغربي. ومن الطريف ذكره أن السيد جميل البارودي مندوب المملكة السعودية مسيحي من لبنان يستوطن الولايات المتحدة، وقد استخدمه الوفد السعودي ليمثله في بعض أعمال هيئة الأمم، وقد دافع عن وجهة نظر السعوديين في أهمية الثقافة الإسلامية بالرغم من أنه لا يدين بها. وكذلك فعلت السيدة إليس فندلفت مندوبة سوريا في(805/3)
لجنة حقوق المرأة في مناسبة مماثلة.
وأثار مندوب اتحاد جنوبي أفريقيا مسألة حقوق الأقليات فقال إن حكومته لا توافق على نص الميثاق بخصوص الأقليات. فإن ممارسة الحقوق - في رأيه - يجب أن تكون مصحوبة بتوفر المؤهلات. وهو بذلك يعني تقييد حقوق العبيد والهنود في اتحاد جنوبي أفريقيا الذين لا يزالون يصارعون في سبيل الحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية هناك.
وتكلم مندوب الاتحاد السوفيتي الدكتور بافلوف بإسهاب في إحدى الجلسات الأخيرة فقال إن في لجنة حقوق الإنسان ثلاث جبهات: جبهة تقول بأن الميثاق المقترح يذهب إلى أبعد مما يجب. وجبهة ثانية أظهرت بعض الحماس لبعض مواد الميثاق وأهملت البعض الآخر، ولكنها على الإجمال راضية عنه. أما الجبهة الثالثة فلا تعتقد أن الميثاق المقترح يلبي الحاجة ويسد الفراغ، وأنه يجب أن يعدل ليكون أكثر ملاءمة للتطور التقدمي الذي يكتسح العالم، والاتحاد السوفياتي منضم إلى الجبهة الأخيرة.
واشتكى المندوب الروسي بأن بريطانيا تحاول أن تتخلص من قبول الالتزام بشأن شعوب مستعمراتها، وأن الدول المستعمرة إجمالاً قد تحالفت في اللجنة وأسقطت من الميثاق المقترح الحقوق الأساسية التي قد تستطيع الدول الخاضعة للاستعمار بواسطتها التخلص منه.
وأجاب المستر مايهو البريطاني على تعليقات المندوب السوفيتي مذكراً بالالتزامات الأدبية التي يفرضها الميثاق المقترح إذا اتخذ مثلاً عالمياً أعلى لحقوق الإنسان. وقال إن بريطانيا ستطبق مبادئ الميثاق على الدول الواقعة تحت حكمها أو انتدابها.
وأجاب إجابة مباشرة على اتهامات المندوب السوفيتي قائلاً: إن اتهام بريطانيا باستغلال حريات الشعوب هو من قبيل الدعاية التي يلجأ إليها الروس في المحافل الدولية بين آن وآخر، وأن خير مثل على استعباد الشعوب واستغلال حرياتهم هي الشيوعية وحملتها من السوفيت، فإنها أعنف أنواع الديكتاتوريات التي عرفها العالم. إن الأحرار الذين نالوا الويلات على يد الفاشية والنازية وجدوا الآن أنفسهم مضطرين إلى النجاة بأرواحهم من طغيان الشيوعية في أوربا الشرقية. وتابع المندوب البريطاني قائلاً: إن مندوب السوفيت(805/4)
الذي يقف هنا نصيراً للحرية يجدر به أن يتذكر بأن حكومته هي الدولة الوحيدة من بين دول العالم التي حققت توسعاً استعمارياً إقليمياً في السنوات الأخيرة. وقال إن الشيوعية قد شنت حملات شعواء على الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا وفي جميع البلدان خارج منطقة النفوذ السوفيتي.
وجاءت هذه الحملات ارتجالية دون تحد سابق إلا العداء الكامن الذي تكنه الشيوعية لجميع المبادئ التي تخالفها في الغايات والسبل. وإن من الإنصاف أن ترد بريطانيا التهمة عن نفسها.
وقال مندوب جمهورية كولومبيا في أمريكا الجنوبية إن هدف هذا الميثاق هو في الواقع تقرير مبادئ أساسية لا للتدخل بين الدول ورعاياها أو بين الفرد والمجتمع.
وأصر مندوب بولندا على أن تكون بعض المبادئ الجوهرية للميثاق مستمدة من الفلسفة الماركسية وتقدم بأربع نقط ليدعم بها الميثاق وهي:
1 - أن الحقوق السياسية عديمة الجدوى إذا لم تعزز بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
2 - يجب أن يكون القيام بالواجبات شرطاً لإعطاء الحقوق للفرد وحمايتها.
3 - للشعوب الواقعة تحت الحكم الأجنبي أن تتمتع بمزايا الميثاق تماماً كما تتمتع به الشعوب المستقلة والدول الحاكمة.
4 - يجب أن لا تكون موافقة الدول على الميثاق مدعاة إلى التدخل في شؤونها الداخلية.
وعقب مندوب بلجيكا الكونت دي وييارت نقطة الواجبات مطالباً بأن يتضمن الميثاق نصاً بالتزامات حسن الجوار، واقترح لهذا النص إحدى الوصايا العشر التي نص عليها الكتاب المقدس وهي (أحب لجارك ما تحب لنفسك).
وأبدى بعض المندوبين روح تسامح وسعة أفق ورغبة صادقة في التغلب على الخلافات الحادة. فقال مندوب جمهورية الشيلي في أمريكا الجنوبية مثلاً.
إن تحضير لميثاق عام كميثاق حقوق الإنسان أمر يتطلب الصبر والأناة وسعة الأفق والتسامح والرغبة الصادقة في التعاون وتقريب وجهات النظر. فإذا عجزنا أن نحمل السوفيات وحلفاءهم والدول الغربية على التسامح والتنازل عن بعض الخلافات الحادة، فلن يجدي جدلنا هذا نفعاً. ويجب كذلك أن تسعى لتقريب وجهات النظر في المبادئ الجوهرية(805/5)
بين حضارة الغرب وبين حضارات الشرق وبين الأنظمة القانونية التي تختلف جوهرياً في العالم الأنجلو سكسوني مثلاً عنها في العالم اللاتيني.
وناشد الدكتور كريم عزقول مندوب لبنان اللجنة بأن توافق على الميثاق لتعيد إلى الإنسانية البلبلة الفكر المتوترة الأعصاب إيمانها بالقيم الروحية ومكانة الفرد وعزته.
ولا تزال اللجنة تواصل النقاش حول مواد الميثاق.
(نيويورك)
عمر حليق
سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية(805/6)
قائد الأسطول المصري في عهد صلاح الدين:
حسام الدين لؤلؤ
للأستاذ أحمد احمد بدوي
حسام الدين لؤلؤ من جند مصر في عصر الدولة الفاطمية، أعجب صلاح الدين بشجاعته، فأسند إليه قيادة الأسطول، وكان السلطان قد عنى بأمر الأسطول، وأفرد له ديواناً خاصاً، وعين للإنفاق عليه موارد ثابتة، فكان الاختيار موفقاً، لأن حسام الدين كان شجاعاً خبيراً بالبحر والقتال فيه، فسار النصر في ركابه، وصاحب خطاه النجح والتوفيق، وسجل له التاريخ معارك انتصر فيها على الفرنج عند ساحل الشام.
وكان صلاح الدين يرسل إليه كي يهاجم أسطول الفرنج حيناً، أو يحاول بينه وبين إيصال المدد إلى من بالشام من الصليبيين حيناً آخر، أو ليضطر جيشهم إلى الدفاع عن الساحل بينما صلاح الدين يهاجم جيوش الفرنج بالبر، فيلزم عدوه أن يقسم قوته، ويصد هجومين في وقت واحد معاً، وهكذا كان الأسطول وعلى رأسه لؤلؤ إحدى يدي صلاح الدين وجناح جيشه.
واشتهر لؤلؤ في معركة عكا، وساهم فيها بالنصيب الأوفى، فعندما حاصرها العدو سنة 585 أرسل صلاح الدين في طلب الأسطول فقدمت منه خمسون قطعة على رأسها البطل البحري، فانقض على أسطول الصليبيين وبدده، وظفر ببطستين كبيرتين بما فيهما من الأموال والرجال والقلال، وقويت نفوس أهل المدينة بقدوم الأسطول واستظهروا برجاله على العدو، وكانوا زهاء عشرة آلاف، وظل الأسطول يكافح في المعركة، يحارب حيناً ويجلب المسيرة والإمداد حيناً آخر.
وكان مما خلد ذكر هذا القائد ما دار بينه وبين الصليبيين في البحر الأحمر سنة 578، ذلك أن صاحب الكرك، وهو من ألد أعداء المسلمين، وأشدهم نكاية فيهم، فكر في مهاجمة المسلمين في البحر الأحمر، ظناً منه أنهم غير مستعدين فيه، وتأديباً لحامية أبلة التي كانت تغير عليه، ولا سبيل له عليها، لأنها تقيم بقلعة في جزيرة وسط البحر، فبنى سفناً، ونقل أخشابها على الجمال إلى الساحل، وجمعها في أسرع وقت، وشحنها بالمحاربين وآلات القتال، وسارت السفن وقد اقترنت فرقتين: أقلت إحداهما على حصن أبلة تحصره وتمنع(805/7)
أهله ورود الماء، فأصاب حاميته شدة وضيق، ومضت الثانية، وهي فرقة فدائية، إلى عيذاب فأحرقوا في البحر ستة عشر مركباً، وأخذوا في البر قافلة كبيرة كانت قادمة من قوص إلى عيذاب وقتلوا جميع أفرادها، واستولوا على مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على الساحل كانت معدة ليرة مكة والمدينة، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع بمثلها في الإسلام، فقد فاجئوا الناس على حين غفلة فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً لا تاجراً ولا محارباً. وأرادت الحملة أن تقطع طريق الحج، فقد كانت الغزوة في شهر شوال سنة 578، وأن تمضي إلى المدينة المنورة لتنبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنقل جسده الشريف إلى بلادها، وتدفنه هناك، ولا تمكن المسلمين من زيارته إلا بجعل. فسارت الفرقة إلى بلاد الحجاز، وجاء الخبر إلى مصر، وبها الملك العادل نائباً عن أخيه صلاح الدين، فأمر قائد الأسطول وهو الحاجب لؤلؤ أن تبع هؤلاء الغزاة، فأخذ الأسطول وانقض على محاصري أبلة انقضاض العقاب وقاتلتهم فقتل بعضهم، وأسر الباقي.
ثم مضى إلى عيذاب وأخذ يتتبع مراكب العدو حتى عثر عليها بعد أيام، فأوقع بها، وأطلق المأسورين من التجار فيها، ورد عليهم ما أخذ منهم.
ورأى العدو قد أوغلوا في طريق المدينة حتى لم يبق بينهم وبينها إلا مسافة يوم، فمضى خلفهم على حيل أخذها من الأعراب وحاصرهم هناك في شعب لا ماء فيه، حتى استسلموا، فقتل أكثرهم وأرسل بعضهم إلى منى ليقتلوا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله، وعاد بالباقين إلى مصر.
فكان لدخولهم يوم مشهود، وطيف بهم في القاهرة والإسكندرية، ورآهم ابن جبير بالإسكندرية وقد تجمع الناس حولهم، عندما أدخلوا البلد راكبين على الجمال، ووجوههم إلى أذنابها، وحولهم الطبول والأبواق.
وأرسل صلاح الدين إلى أخيه العادل يثني على أسير البحر ويغبطه، ويأمل بقتل أسراه، ويقول له على لسان القاضي الفاضل:. . . وقد غبطناه بأجر جهاده، ونجح اجتهاده، ركب السبيلين براً وبحراً، وامتطى السابقين مركباً وظهراً، وخطا فأوسع الخطو، وغزا فانجح الغزو، وحبذا العنان الذي في هذه الغزوة أطلق، والمال الذي في هذه الكرة أنفق؛ وهؤلاء(805/8)
الأسارى فقد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها، وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها. . . ولابد من تطهير الأرض من أرجاسهم، والهواء من أنفاسهم، بحيث لا يعود منهم بخبر يدل على عورات المسلمين).
وأرسل صلاح الدين بنبأ هذا النصر إلى بغداد، وانتهى الأمر بقتل الأسرى، وتولى قتلهم الصوفية والفقهاء وأرباب الديانة.
خلدت هذه المعركة ذكرى بطلها، وأقبل الشعراء يشيدون بذكره ويمجدون جهاده، فأنشأ أبو الحسن بن الذروى أشعاراً كثيرة يمدحه بها، منها قوله يصف أسرى المعركة:
مر يوم من الزمان عجيب ... كاد يبدي فيه السرور الجماد
إذا أتى الحاجب الأجل بأسرى ... قرنتهم في طيها الأصفاد
بجمال كأنهن جبال ... وعلوج كأنهم أطواد
قلت بعد التفكير لما تبدى ... هكذا هكذا يكون الجهاد
حبذا لؤلؤ يصيد الأعادي ... وسواه من اللآلئ يصاد
وقوله يصف هذا الجهاد:
يا حاجب المجد الذي ماله ... ليس عليه في الندى حجبه
ومن دعوه لؤلؤاً عندما=صحت من البحر له نسبه
لله ما تعمل من صالح ... فيه وما تظهر من حسبه
كفيت أهل الحرمين العدا ... وذدت عن أحمد والكعبه
كما قال فيه الرضي بن أبي حصينة المصري يخاطب الفرنج:
عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير
فأمر حسامك أن يحظى بنحرهم ... فالدر مذ كان منسوب إلى النحر
ويظهر أن صلاح الدين والعادل قد أغرقا العطاء على القائد المقدام فأثرى ثراء ضخماً.
غير أنه لم يشأ أن يستأثر وحده بهذا الثراء، فإنه بعد أن زوج بناته، وكن أربعاً وجهزهن بجهاز كاف، وأعطى ابنيه ما يكفيهما، شرع يتصدق بما يبقى معه على الفقراء، قال العماد الكاتب: ومن دلائل سماحه ما شاهدته بالقاهرة، في سنة إحدى وتسعين من مبراته الظاهرة، إنه لما حط القحط رحله). . . وتم الغلا، وعم البلاد، ابتكر هذا الحاجب الكبير مكرمة لم(805/9)
يسبق إليها، وبذلك أنه كان يخبز كل ليلة أثنى عشر ألف رغيف، فإذا أصبح جلس على باب الموضع الذي فيه حشر الفقراء. . . فما يزال قاعداً حتى يفرق الألوف على الألوف.
وكان هذا دأبه في هذا الغلاء، حتى هب رخاء الرخاء، فحينئذ تنوعت صدقاته، واستغرقت بالصلاة أوقاته؛ وكان بهي الشيب، نقي الحبيب، قد جعل الله البركة في عمره، وخصه مدة حياته بإمرار أمره، فأنجده في أوان ضعفه بتضعيف بره). وكان هذا الكرم مثار إعجاب الشعراء كذلك فمدحه ابن الذروى بقوله:
لئن كنت من ذا البحر يا لؤلؤ العلا ... نتجت، فإن الجود فيك وفيه
وإن لم تكن منه لأجل مذاقه ... فإنك من بحر السماح أخيه
وفي اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة 596 وارت مصر التراب بطلاً من أبطالها، وقائداً من أبرع قوادها، قال عنه العماد وهو يؤرخ وفاته:
كان في الأيام الصلاحية أشجع الشجعان، وأفرس الفرسان، وله مقامات في الغزاة، ومواقف مع العداة.
(حلوان الحمامات)
أحمد احمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(805/10)
محمد إقبال
شاعر الشرق والإسلام
1389 - 18731357 - 1938
للأستاذ مسعود الندوي
(تتمة)
مكة وجنيف:
لقد عمت في هذا العصر مجالس الأمم
لكن الوحدة الإنسانية بقيت مختفية عن الأنظار،
والهدف الذي ترمي إليه حكمة الأفرنج، هو تفريق الأمم وغاية الإسلام إنما هي الوحدة الإنسانية.
فقد بعثت مكة إلى جنيف بهذه الرسالة:
ماذا تريدين: (عصبة الأمم) أم عصبة بني آدم؟
المرأة والتعليم:
إذا كانت الحضارة الغربية مهلكاً للأمومة.
ففي الرجال ليس ليا أثر غير الخسران والموت الخلقي؛
والعلم الذي يجعل المرأة مجردة من خصائص الأنوثة. ما أجدره أن يسمى بالسم النافع وما أقربه إلى دواء الموت منه إلى العلم النافع.
وإن كانت مدرسة النساء خالية من الدين، فلا يكون العلم والصناعة إلا موتاً للحب والوداد.
مسجد باريس:
كيف أنظر إلى ما فيه من بدائع الصناعة
فإن هذا الحرم الغربي بعيد عن الحق؛
بل ليس هذا بحرم؛ وإنما أخفى صناع الإفرنج
روح الوثنية في جثمان الحرم؛(805/11)
وإنما أسس هذا المعبد أولئك السفاكون
الذين دمروا دمشق بأيديهم.
سياسية الإفرنج:
رب! إن سياسة الإفرنج أصبحت قربتك في الملك
اللهم إلا أن عبادها الأمراء والأغنياء والملاك؛
لقد خلقت من النار إبليساً واحداً
وخلقت هذه من الطين ألوفاً من الأبالسة.
أمر إبليس لأبنائه السياسيين:
الرجل الصعلوك الذي لا يهاب الموت أصلاً،
أخرجوا روح (أي تعليم) محمد صلى الله عليه وسلم من بدنه؛
وأصبغوا أفكار العرب بصبغة الإفرنج أولاً،
ثم أخرجوا الإسلام من الحجاز واليمن؛
والدواء الناجع لغيرة الأفغان الدينية،
أن أخرجوا (الملأ) من جبالهم وفيافيهم.
أوربا وسورية:
منحت أرض سورية للإفرنج.
نبي العفة والمواساة والرفق في المعاملة؛
وجاء من أوربا إلى سورية، مكافأة بصنعها
الخمر والمقامرة وكثرة المومسات.
الشام وفلسطين:
أدام الله خمارة الأحرار الفرنسيين،
حيث نرى كؤوس حلب مملوءة بالصهباء؛
إن كان لليهود حق على فلسطين،
فلماذا لا يكون للعرب حق على إسبانيا؟(805/12)
هذا غيض من فيض وبرض من عد وقليل من كثير من أفكاره وآرائه الحكيمة المبثوثة في ثنايا دواوين شعره. ومما يجدر بالإشارة إليه ثانياً أن هذه الأفكار والآراء مقتبسة من ديوانه (ضرب كليم) الذي نشر قبل نشوب الحرب العالمية الثانية ببضعة أعوام.
- 6 -
سياسة:
لم يكن صاحبنا في شبابه من رجال السياسة، ولم يشاطر بني جلدته سراء الجهاد وضراءه، وإنما اكتفى بالقريض الحافز للأمة والنافخ فيهم روح الحياة، كما أعرب عنه بنفسه في بيت له: إن إقبالاً (مبلغ) كبير تأخذ أحاديثه بالألباب.
لكنه يغزو بالأقوال فقط ولم يتيسر له أن يكون عاملاً محايداً.
وبقى شاعرنا كذلك منقطعاً عن الحياة السياسية مرمياً من قومه بالجمود والازورار عن الجد والكفاح، إلا إنه ترشح سنة 1936 (للمجلس التشريعي) الذي قال فيه قبل ذلك:
(مجالس التشريع والإصلاح والحقوق
(كلها أدوية حلوة المذاق اخترعها الطب الغربي لتنويم أهل الشرق.
وأول ما عرفنا من مشاركته في السياسة العملية سنة 1930 حينما راس المؤتمر السنوي لعصبة المسلمين مؤتمر المائدة المستديرة منعقد في (لندن). وإنما انعقد مؤتمر عصبة المسلمين وقتئذ ليبين لأعضاء المائدة المستديرة مطالب المسلمين، ويؤكد استمساكهم بها. فانتخب محمد إقبال رئيساً للمؤتمر، لغياب الزعماء السياسيين وسفرهم إلى لندن بمناسبة انعقاد المؤتمر وحضور جلساته، فخطب خطبته الرئيسية التي أحدثت ضجة عظيمة في الهند والدوائر السياسية في (لندن)؛ والتي تناولتها صحف الهنادك والوطنيين بالنقد اللاذع وأعادت وبدأت فيها. وذلك أن صاحبنا بين فيها نظرية جديدة للسياسة الإسلامية وهي أن تتكون مملكة إسلامية مؤلفة من ولاية كشمير ومقاطعات بنجاب والحدود الغربية الشمالية والسند في ضمن المملكة الهندية الكبرى، لأن مسلمي الهند - في رأي صاحبنا - أمة مستقلة مغايرة للهنادك في الدين والثقافة واللغة والأوضاع والتقاليد.
وهذه هي النظرية التي جعلها بعض الشبان المقيمين في (لندن) أساساً لحركة (باكستان).(805/13)
ثم تبدلت الأحوال وتقلبت الظروف إلى أن جعلت عصبة المسلمين تطالب بتقسيم الهند، وتأسيس مملكة مستقلة باسم (باكستان) وقد تحققت هذه الأمنية فعلاً. ولست في هذا المقام بصدد البحث في السياسة الهندية وقضاياها المتشعبة، فإن لها موضعاً آخر من البحث والكلام. والذي أردت ذكره في هذا الموضع أن صاحبنا هو الذي كان أبا عذرة هذه النظرية الجديدة وأظهرها لأول مرة في خطبة عامة للصحف، وإن كان يحلم بأمثالها كثير من السياسيين المسلمين. والمسألة أشهر من نار على علم. ومما لابد من ذكره في هذا الصدد أن خطبته هذه غيرت مجرى مؤتمر الدائرة المستديرة، حيث كان الأعضاء مكبين على إيجاد حل للمشكلة الطائفية، فأبى أعضاء الهنادك قبول مطالب المسلمين وتوجسوا منها شراً. وقال الدكتور (م. ر. جيكار) بصراحة: (أنا قد اطلعنا الآن على ما تضمره أفئدة المسلمين، ونشكر للدكتور إقبال صراحته وصدق لهجته). وعلى كل، فإن هذه الخطبة كانت فاتحة باب جديد في السياسة الهندية. وقد صدق الدكتور ذاكر حسين، عميد الجامعة الملية الإسلامية، حيث قال لصاحبنا، طالباً إليه أن يكف عن الوقوع في حمأة السياسة:
(لقد خطبت خطبة تكفي المسلمين لمائة سنة).
ثم ظل صاحبنا يعمل بضع سنين مع الذين كانوا يناوئون الحركات الوطنية إلا أنه لم يقدر أن يسايرهم زمناً طويلاً، لأن أولئك كانوا يعارضون الحركة، حباً في الاستعمار والتطفل على مائدته. وأما شاعرنا فكان يناوئها بغضاً في الهنادك ورجال سياستهم، فأعتزل جميع الحركات السياسية، إلا أنه كان يعطف على عصبة المسلمين ويؤيد قضيتها بنفوذه وتأثيره البليغ في الشبيبة الناشئة. ومن أعماله التي تذكر وتشكر موقفه الجليل في الآونة الأخيرة من حياته بازاء القاديانيين. فإنه حمل عليهم حملات شعواء قصمت ظهرهم في معقلهم (بنجاب)، ولولا مساعدة الحكومة لهم لانعدموا، لأن أئمة الكفر منهم كانوا يدعون من قبل، أن المشايخ (والمولوبين) هم الذين يكفروننا لتعنتهم وجمودهم. ولما آن صوب ملك شعراء آسيات كما كانت تدعوه دائماً جريدة الاحمدية اللاهورية سهام محاضراته الفلسفية إلى نحورهم، سقط في أيديهم وجعلوا يسبونه ويصبون عليه وابل الملام والشتم، وبدءوا ينقصون من شعر الرجل الذي كانت تلهج ألسنتهم بالثناء عليه صباح مساء، ولقبته مراراً صحيفتهم الأسبوعية الثائرة بـ اللقب الذي لقبته به أولا الشاعرة الهندية الطائرة(805/14)
الصيت سروجني نائيدو ولم يقتصر على الحملات اللفظية بل استقال من رئاسة جمعية (حماية إسلام) وكلياتها الملحقة بها حتى تتطهر - حسب تعبيره - من كل من لا يقول بختم نبوة النبي العربي صلى الله عليه وسلم.
- 7 -
خدماته العلمية:
قد سبق لي الكلام أنه قضى عهد الطالب في وطنه مدينة سيالكوت ولاهول، ثم عين معلماً في الكلية الأميرية بلاهور؛ وبعد أن اشتغل بالتدريس بضعة أعوام، سافر إلى كيمبردج وبرلين ونال شهادات المحاماة والدكتوراه في الفلسفة.
وبعد الرجوع من أوربا، تعاطى المحاماة، لكنه لم ينجح لاشتغاله بالتفكير الفلسفي والتحقيق العلمي. فانقطع إلى العلم والتفكير ورزق فيما نجاحاً باهراً وقبولاً عظيماً، فألقى محاضرات عديدة في مختلف جامعات الهند وأوربا، منها محاضرته التي ألقاها في جامعة مدراس (جنوبي الهند)، ونشرتها جامعة اكسفورد بعنوان: (التشكيل الجديد للفكر الديني في الإسلام)، وهو كتاب دقيق فلسفي لا يقدر على فهمه إلا من أوتي حظاً وافراً من الفلسفتين الجديدة والقديمة، والعلوم الإسلامية. وكذلك انتدبته جامعة اكسفورد لإلقاء محاضرة (رودس) عن (الزمان والمكان) وجدير بالذكر أنه أول شرقي انتدب لإلقاء محاضرة (رودس). ولم نعرف مدى ما بلغ فيه من الحذق والإجادة لعدم الإلمام بالموضوع. وكذلك ألقى محاضرات عديدة علمية عن الإسلام والأدب الفارسي والفلسفة الجديدة في جامعات (حيدر آباد) و (علي كره) والجامعات الأخرى. ونظراً إلى مكانته العلمية منحته الحكومة ومنحته جامعات (بنجاب) و (علي كره) و (رهاكه) (شرقي بنغال) شهادات شرف بالدكتوراه في الحقوق والدكتوراه في الآداب
هذا ما أردت إجماله في سيرة محمد إقبال وشعره وتوسعت فيه قليلاً، لعدم معرفة قراء العربية بمواهبه. فإن نجحت في مهمتي، أي مهمة التعريف بشعره البليغ وحكمته الرائعة، فذاك حظي؛ وإلا فليس هذا بأول مجهود ما قدر له النجاح والقبول. وحسبي أني بذلت جهدي حسب ما كنت أستطيعه، والعبد لا يكلف إلا ما يطيقه. وآخر دعوانا أن الحمد لله(805/15)
رب العالمين.
مسعود الندوي
معتمد دار العروبة للدعوة الإسلامية(805/16)
عيادة المطالعة
للأستاذ إيليا حليم حنا
أنواع القراء:
(عيادة المطالعة!) ربما يدهشك هذا العنوان وتراه عجيباً ولكن رجال التربية في أمريكا وجدوا أن القراءة فن مهمل فألحقوا بكلياتهم عيادات يعالجون فيها الذين لم تغرس فيهم عادة القراءة أو الذين لا يعرفون كيف تكون المطالعة المجدية.
والآن أقدم لك أيها القارئ دكتور روبرت مدير (عيادة المطالعة) في كلية درثمورت يحدثك عن عيادته:
عيادة المطالعة - أسم غريب ولكنه في الحقيقة ليس بغريب. . . . فالكثيرون من المتعلمين مرضى ولا يعرفون أسس القراءة الصحيحة. وأما مرضهم فهو أنواع؛ فمن الناس من يعجز عن تركيز الذهن فيما يقرأ. ومنهم من يحاول أن يسابق زملاءه كما تحاول السلحفاة أن تلاحق الطائرة. ومنهم من يشعر بدوار كواكب البحر بعد أن يقرا صفحات معدودة. ومنهم من لا يقرأ مطلقاً. . . أجل عيادة المطالعة وما أحوجنا إلى عيادات).
ويحدثنا الكاتب الفرنسي (أندريه موروا) عن أنواع القراء فيقول: (من الناس لهم ولع شديد بالقراءة يدفعهم إلى التهام كل شيء يقع عليه بصرهم من الكتب والصحف والمجلات وغيرها فراراً من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال، وهؤلاء لا يستفيدون إلا القليل التافه من قراءتهم.
ويقول نورمان لويس أستاذ القراءة بعيادة المطالعة بجامعة نيويورك: (إن القراءة أهم ما نتعلم ونحذق، فإنه لا يوجد عمل إلا وهو يحتاج إليها. وفي بعض البلدان يقل عدد البالغين الأميين ولكن ستين في المائة في الأقل ممن يعرفون القراءة لا يحسنونها)
وعندنا يتخرج الطالب في مدرسته أو كليته وهو يكره الكتب وإن قرأ فهو لا يقرأ إلا الصحف والمجلات ويهمل مسائل العالم الأخرى من سياسية واجتماعية وثقافية. وكلما تقدم في السن ازداد تعلقاً بآرائه الأولى التي شب عليها فهو في ركود نفسي لا يتطور مع الزمن ولا يساير الآراء الجديدة في الأخلاق والاقتصاد وأنواع الثقافات الأخرى المختلفة.
لماذا لا يقرأ المتعلمون؟(805/17)
ويرجع كره المتعلمين للقراءة إلى الأسباب الآتية: -
1 - إغفال المدرسة لأساليب التربية الحديثة واعتبار
الطفل كإناء فارغ واجب المدرس أن يصب فيه
المعلومات التي أشار بها واضعو المناهج، ويبقي
الطفل هذه المعلومات غفي رأسه خوفاً من العقاب أو
الرسوب في الامتحان ويظل يكافح في إبقائها على
مضض حتى يأتي يوم الامتحان فيفرغ ما امتلأ به
رأسه ويخرج حامداً الله على أنه أطلق من أسره
وتخلص من عبئه؛ ثم يقسم على أنه لن يفتح كتاباً
فكفاه ما لاقى في قراءة الكتب المدرسية من آلام
وعذاب؛ وهو بذلك لا يقبل على القراءة لأن جهازه
العصبي قد تكيف بالألم من جراء الطريقة التي
وصلت بها المعلومات إلى رأسه بدون مراعاة ميوله
ورغباته وإثارة تشوقه.
2 - القراءة فن جميل لم يتعلمه الطلبة في المدرسة، ولذلك لا يتذوقون الكتب عند قراءتها كالشخص الذي لم يتمرن على كيفية العزف على إحدى الآلات الموسيقية ويجد أن أنامله لا(805/18)
تنتج إلا أنغاماً لا ترابط ولا انسجام بينها تصدع رأسه. هكذا الكتب لا يتذوقها إلا الذي درس فن القراءة الصحيحة وأصولها.
3 - لأن الطلبة لا يفهمون ما يقرئون من الثقافات العالية لأنهم لم يتعودوا التفكير فيما يطالعون ولم ينضجوا ذهنياً فاكتفوا بقراءة مجلات اللهو والتسلية وتركوا الكتب الدسمة لأن عقولهم لا تقوى على هضمها.
4 - لأن المشرفين على تربيتهم لم يوجهوا غرائزهم إلى الناحية السامية فانقلبت هذه الغرائز إلى النواحي الدنيا فمال كثير من المتعلمين إلى الأدب المكشوف الذي لا يثير في قرائه إلا أحط الرغبات.
5 - لم تتكون فيهم عادة القراءة لأن منزل الطفل يخلو من الكتب، وأمه أمية أو لا تكره غير الكتب، وأبوه لا يحب الكتب، وهو لا يجد كتباً في منزله يتناولها ويقلبها لعله يجد ما يلذه مطالعته واخوته وأخواته الكبار يتصفحون كتبهم المدرسية بغير اشتياق أو عناية.
ولذا نرى أن البيت والمدرسة مسئولان إلى حد كبير عن هذا الكره، والحل يتطلب تغيراً أساسياً في المدرسة وفي حياة الطلبة لكي يتهيأ لهم الجو الذي يحببهم في القراءة ويجعلها عادة فيهم. والحاجة ماسة إلى بيئة منزلية تعينهم على تعهد هذه العادة حتى لا تنقرض أو تضعف.
ايليا حليم حنا
دبلوم عال في التربية
الأبيض - السودان(805/19)
بين الأدب والأخلاق:
الصداقة في رأي ابن المقفع
للشيخ محمد رجب البيومي
(ومن المعونة على تسلية الهموم وسكون النفس لقاء الأخ أخاه، وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه يبثه، وإذا فرق بين الأليف وأليفه فقد سلب قراره وحرم سروره، وعشي بصره)
(ابن المقفع)
بيني وبين ابن المقفع صداقة أعتز بها كل الاعتزاز، فقد كان أول كاتب تثقفت بأدبه في العربية، ولا أزل أذكر قصصه الشائقة الممتعة التي قرأتها في كتابه الخالد (كليلة ودمنة) وكنت حينئذ لا أتجاوز العاشرة، ولكنه كان يجذبني - بوضوحه المشرق - إلى متابعته دون سآمة أو ملل، وكنت أستوعب روائعه في لذة وشغف، فإذا ما خلوت إلى الناس كانت محور السمر، وأداة الحديث، ومهما يكن من شيء فقد جعلتني أعتبر ابن المقفع - في سن الطفولة - نادرة الكتاب، وأستاذ البلغاء. وما زلت أنظر إلى الرجل هذه النظرة العالية حتى اليوم، فلا غرو إذا تحدثت عنه حديث الدارس المستوعب، فغير كثير عليه أن تسطر في أدبه الصحائف، وتهتم بآثاره الأقلام!!
وقد لاحظت إن أديبنا الكبير قد اكثر من الحديث عن الصداقة إكثاراً يدعو إلى الدهشة والعجب، فما يكاد فصل واحد من كتابه يخلو من التصريح أو التلميح بما يشتجر في نفسه من العواطف الأنيسة الرفيعة، مما دفعتني إلى التنقيب في حياة الكاتب، ودراسة تاريخه دراسة فاحصة.
وقد اتضح لي أن عبد الله كان صديقاً وفياً لصفوة مختارة من الأدباء والشعراء، فكان يقضي الأمسيات الضاحكة في سمر ممتع لذيذ، فإذا عاقته ظروفه - يوماً ما - من منتدى أصفيائه حن إليهم حنيناً ينبئ عن وفائه وولائه، وقام يراعه البليغ بالتعبير عن عواطفه النبيلة فنفث السحر، وأدار السلاف!. . .
وقد تحدث كثير من الكتاب عن الصداقة والأصدقاء، فما وجدت لأحاديثهم جاذبية تدفعني إلى التعليق عليها، وما شعرت بارتياح تام إلى تحليلها وتشريحها، لأن جل هؤلاء في الواقع يقولون مالا يفعلون، فهم يسهبون في الحديث عن الوفاء والتسامح والإيثار، فإذا(805/20)
رجع الباحث إلى تواريخهم المظلمة، وجد ما تنطق بالقدر والحقد والكيد.
أما أديبنا الحكيم فذو تاريخ نبيل مجيد، تقرأه فتخفض رأسك إجلالاً لصاحبه وتتساءل - كما أتسائل الآن - عن هذا الذي ملك عواطفه، وحكم مشاعره، فلم يخضع يوماً إلى منطق الحقد، ولم تتخطفه نوازع الهوى، بل سار في مهبع لا حب مستقيم تحدوه الكرامة والعزة ويرفرف عليه ظل وارف من النبل والوفاء.
وإذا كانت حياة الإنسان أعز شيء لديه، ثم يليها في المرتبة ما يملك من مال وعتاد، فإن ابن المقفع قد نظر إلى حياته وماله نظرة هينة رخيصة، فذكرا اكثر من مرة أن التضحية بالنفس والمال أقل ما يجد على الإنسان نحو صديقه الأمين، ونحن نسمع هذا الكلام من كل كاتب، ولكن عبد الله لا يسطر الرأي إلا بعد أن يعتقده ويقوم بتنفيذه دون تردد وإحجام، فقد شاء القدر العنيد أن يمتحنه أمام الناس، ليظهر في ثوبه الشفاف، ولقد انتهى الامتحان الرهيب بنجاح ابن المقفع وانتصاره في ميدان الكرامة أبهر الانتصار.
كان عبد الله صديقاً حميماً لعبد الحميد الكاتب، فقد تراسلا حقبة من الدهر، وأعجب كلا الرجلين بصاحبه إعجاباً زائداً، وحين عصفت رياح الزمن بالدولة الأموية، وهب العباسيون يتعقبون أولياءها في كل مكان.
فر عبد الحميد إلى صديقه واختبأ في بيته مدة كان فيها موضع التكريم والإكبار، وشاء طالعه الأشأم أن يقف أرباب السوء على مكانه، فأبلغوا الخبر في أسرع من البرق إلى الخليفة السفاح وفاجأه الطلب الصاعق في منزل ابن المقفع فقال رسول الخليفة للصديقين: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما (أنا)، خوفاً على صاحبه، وأوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفع لولا أن صاح بهم عبد الحميد، قائلاً: ترفقوا بنا، فلكل منا علامات يعرف بها أتم تعريف، فوكلوا بنا بعضكم، وليمض البعض الآخر إلى من وجهكم فيذكر له تلك العلامات، ففعلوا كما أشار، وأتضح لهم عبد الحميد فقتلوه!!
فهذه الحادثة وحدها كافية لإثبات رجولة ابن المقفع، وهي تدل دلالة ناطقة، على أن الرجل يتقيد بما يوجبه على غيره من حقوق الصداقة والوفاء. وناهيك بمن يبذل نفسه تضحية رخيصة في سبيل صديقه، وكما قيل: الجود بالنفس أقصى غاية الجود!!
وبديهي أن الذي يقدم نفسه ضحية لصاحبه، لا يتردد لحظة في إنفاق ماله عليه، ولقد كان(805/21)
عبد الله في سعة من الخير، ورفاهية من العيش، وكم بذل من الثروات الطائلة في سبيل أصدقائه وعارفيه، وأخباره في هذا الباب لا تندرج تحت حصر، ويكفي أن تذكر على سبيل المثال موقفه مع صديقه (عمارة بن حمزة) وهو كعبد الله كاتب أديب، وقد كان عاملاً لأبي جعفر المنصور على الكوفة، وكان ابن المقفع إذ ذاك بها.
فبينما هو ذات يوم عنده ورد على عمارة كتاب وكيله بالبصرة، يعلمه أن ضيعة جوار ضيعته تباع وأن ضيعته لا تصلح إن ملكها غيره، وثمنها ثلاثون ألف درهم، فقرأ عمارة الكتاب وقال: ما أعجب هذا!! وكيلنا يشير علينا بالابتياع، ونحن في جدب وإملاق، ثم كتب يأمره ببيع ضيعته والتوجه حثيثاً إليه، وسمع عبد الله الحديث فقام إلى بيته وكتب إلى الوكيل على لسان عمارة، (أما بعد فقد كنت أمرتك ببيع الضيعة ثم حضر لي مال فلا تبعها واشتر الضيعة الأخرى وهاك ثمنها) ففعل الوكيل ما أراد، وجاء الخبر إلى عمارة، فأخذه العجب من ذوق ابن المقفع كل مأخذ، ثم قال له مداعباً: بعثت بثلاثين ألف درهم إلى الوكيل، وكنا في حاجة إليها؟ فقال له من فوره: وإن عندنا لفضلاً، وبعث إليه بثلاثين ألفاً أخرى)؛ فهل ترى بعد ذلك صديقاً كعبد الله يدفع عن أصفيائه الغوائل بنفسه وماله؟ وهل يليق بنا أن نغفل حديثه عن الصداقة بعد أن ضحى في سبيلها بأكثر من الواجب وجعل نفسه المثل الأعلى للصديق النبيل!
ومهما اختلفت الآراء في الصديق، فقد كان الأديب الحكيم يرفعه إلى منزلة عالية ويضعه في مرتبة فوق مرتبة الشقيق، وكثيراً ما عقد بينهما موازنة طريفة تنتهي بتفضيل الصديق عمن عداه. ولقد قال له بعض الناس أنا بالصديق آنس مني بالأخ، فعرف السرور في وجهه، وانبرى يدلل على صحة ما سمع، فقال لصاحبه: صدقت، فالصديق نسيب الروح، والشقيق نسيب الجسم!! وكثير من الحكماء يؤيدون الكاتب في دعواه بل ربما يسرفون إسرافاً يميل بهم إلى التحامل على القرابة بدون موجب. ومنهم من يقتصد في حكمه اقتصاداً لا يخرج به عن الإنصاف، فقد قيل لبزرجمهر، من أحب إليك؟ أخوك أم صديقك، فقال ما أحب أخي إلا إذا كان صديقي. وقال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة.
وينبغي ألا نغفل عن حقيقة ملموسة، وهي إن ابن المقفع ومن سار معه في طريقه، لم(805/22)
يضطروا إلى الموازنة بين الصديق والشقيق إلى حين وقرت في نفوسهم منزلة الأخ.
وعجزوا أن يحولوا عنها الأنظار، فكان كل همهم أن يعارضوها بمنزلة الصديق، وهيهات أن يبلغوا ما يريدون؟ فالأخوة رباط رباني صنعته يد الخالق، والصداقة رباط إنساني عقدته يد المخلوق، وإنما كثر التحامل على الأخ والتشهير به أكثر من الصديق، لأن الشقيق مظنة الإيثار والعطف، فكل هفوة تصدر منه فهي كثيرة الكبائر وأر الذنوب.
أما الصديق فمهما سمت منزلته فلن تستغرب منه الهفوات لأنه بوضعه الطبيعي أجنبي بعيد، ومن هنا سكت عنه اللائمون - إلى حد ما - واتجهوا باللائمة القارضة على الأخ الشقيق!
وما نقوله في المفاضلة بين الصديق والشقيق نقوله أيضاً في الموازنة بين الصديق والعشيق، فقد طاب لبعض الناس أن يرفعوا الصديق إلى منزلة العشيق فقال الحسن بن وهب: غزل الصداقة أرق من غزل العلاقة.
وقال آخر: النفس بالصديق آنس منها بالعشيق، وأمثال هذه الأقوال قد تجد جانباً من الرواج لدى العاطفيين البله، ولكنها تتبخر أمام التحليل النفسي العميق، فالعشيق في مرتبة دونها الصديق والشقيق معاً، فكيف نفهم هذا الكلام العجيب؟ ولقد خدع الشريف الرضي نفسه بهذه الأقوال المرتجلة، فانبرى يقول في صديقه مالا يقال في غير العشيق، ولا أدري كيف تقبل منه صديقه الأديب الشاعر أبو الحسن البتي قصيدته التي يقول فيها بدون مبالاة.
أغار عليك من خلوات غيري ... كما غار المحب على الحبيب
ولي شوق إليك أعل قلبي ... ومالي غير قربك من طبيب
أكاد أراب فيك إذا التقينا ... من الألحاظ والنظر المريب
وهي قصيدة طويلة تتجلى فيها غفلة الشريف إلى حد ما، وله من صفاء نفسه ورقة قلبه شفيع أي شفيع، ولعل من الأدباء من يوافق مذهبه كل الموافقة، وإن كنت وإياه على طريق نقيض!
وإذا كان الصديق في رأي ابن المقفع مفضلاً على النفس والشقيق، فإنه ينصح دائماً بالتؤدة في اختياره، ويدعو إلى التريث الزائد في اصطفاء الأصحاب، وكأني به وقد أدرك ما في(805/23)
الطبائع الإنسانية من لؤم وغدر، فحرص على الامتحان العنيف حتى يتميز الخبيث من الطيب، فلا يختار العاقل غير من كان في درجة عالية من الكمال، ليكون أهلاً للفداء والتضحية من أجله إذا دعت الحال. وقد يسرف الكاتب في الحيطة والتؤدة إسرافاً يدعو إلى التملص من الصداقة بادئ ذي بدء، فهو يقول (إذا أقبل إليك مقبل فسرك ألا يدبر عنك فلا تنعم الإقبال عليه والتفتح له، فإن الإنسان طبع على ضرائب لؤم، فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به، ويلصق بمن رحل عنه، إلا من حفظ بالأدب نفسه وكابر طبعه) وهذه الحيطة في البداية مقبولة معقولة، لاسيما وابن المقفع يرى أن الصداقة (زواج كاثوليكي) لا انفصام له، وهو لا يرى خلة أبشع من الهجرة والجفاء. ويعجبني جداً قوله في هذا السياق، (ولتعلم أنه لا سبيل لك في مقاطعة أخيك، وإن ظهر لك منه ما تكره، فإنه ليس كالمملوك الذي تعنفه متى شئت، أو كالمرأة التي تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك وشرفك، وإنما مروءة الرجل إخوانه وأخواته، فإن عثر الناس على أنك قطعت رجلاً من إخوانك، - وإن كنت معذراً - نزل ذلك عند أكثرهم فمنزلة الخيانة للإخاء، والملال فيه، وإن أنت مع ذلك تصبرت على مقارنة غير الرضى عاد ذلك إلى العيب والنقيصة، فالأنثاد الأنثاد والتثبت التثبت!!).
ولا يقتصر الحكيم الفارسي على إبداء رأيه في هذا الموضوع بل يلجأ إلى الافتراض والتعليل، ومع أنه لا يمثل الإطناب في القول فإن حرصه على تدعيم رأيه، يلجئه إلى الإسهاب والتكرار، ولا ينسى أن يضرب الأمثلة التطبيقية ليهلك من هلك بينه ويحيى من حي عن بينة. وفي كتاب كليلة ودمنة أقاصيص عديدة تدور حول هذه النقطة الهامة، وما أبرع عبد الله حين يقنعك بأقصوصة فرضية يختلقها اختلاقاً، فتقوم مقام ألف دليل، وتغنى غناء تاماً عن التحايل والتأويل؛ وإليك المثال.
قال الكاتب (إذا استضافك ضيف ساعة من نهار وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك) وهذا رأيه السالف في الاحتراس من الناس، ولكنه يتبعه بمثال فرضي يقطع به كل اعتراض، فيقول بعد ذلك (ولا تأمن أن يصلك من ضيفك أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث) ثم يسرد في إيجاز قصة وهمية عن قملة استضافت برغوثاً دون أن تعرفه، وأسكنته في فراش نائم سمين ثم أوصته أن يتريث فلا يلدغ النائم قبل أن يتأكد من رقاده،(805/24)
ولكن الضيف الأحمق يتسرع فيلدغ الرجل ويهب من فراشه مذعوراً ليبحث عن الجاني فيطير البرغوث، وتصدع القملة بجريرة ضيفها الأثيم) فأي عاقل يسمع هذا المثال الحكيم ثم لا يجعل آراء ابن المقفع دستوراً حكيماً يطبقه على نفسه فيتشدد تشدداً تاماً في اختيار الرفيق.
وقد يفهم القارئ من آراء ابن المقفع أنه يدعو إلى التؤدة والتريث مع كل إنسان وهذا ما يتضح جلياً مما قدمناه؛ ولكن يخيل لنا أن هناك فرقاً بين إنسان ربطتك به جامعة أو إدارة أو بلد، فلم يصل إلى سمعك من أخباره ما يسود صحيفته، ويسئ سمعته، وبين إنسان نجم أمامك فجأة فلم تعلم عنه ما يزين أو يشين؛ فالمبالغة في الحيطة مع الأول قد تكون تعنتاً لا مبرر له، ومع الثاني يجد ما يسوغها بل يفرضها فرضاً لازماً على كل عاقل. ولقد أبدع الكاتب حين أسهب في الحديث عن صداقة الجرذ والغراب، فقد اطلع القارئ على ما يجب عليه من التريث التام في قبول الصديق بادئ ذي بدء، حيث صور الغراب في صورة مستكينة ذليلة وقد وقف أمام الجرذ يخطب وده ويرغب في مصاحبته؛ وهنا يبرز عبد الله حيطة الجرذ ناطقة في قوله للغراب، (ليس بيني وبينك تواصل، وإنما العاقل ينبغي أن يتلمس ما يجد إليه سبيلاً، ويترك التماس ما ليس إليه سبيل، فإنما أنت الآكل وأنا طعام لك) ويطنب أديبنا الحكيم في هذا المعنى فيقول مرة ثانية على لسان الجرذ (إن العداوة التي بيننا ليست تضرك وإنما ضررها عائد علي؛ وإن المال لو أطيل إسخانه لم يمنعه من إطفاء النار إذا صب عليها. وإنما مصاحب العدو ومصالحه كصاحب الحية يحملها في كمه. والعاقل لا يستأنس إلى العدو الأريب) وما أظن بعد ذلك تهذيباً لمهذب وإرشاداً لمسترشد. ويجدر بنا أن نشير إلى أن ابن المقفع قد اختار الجرذ والغراب بالذات ليمحو ما قد وقر في بعض الأذهان من أن العداوة إذا وقرت في القلب لا تمحى منه، فهو يريد أن الإنسان بكياسته وحزمه قادر على أن يخلق من عدوه صديقاً مهما تغلغلت جذور البغضاء في قلبه، وهذه دعوة سافرة إلى التسامح الإنساني والرجوع إلى مبادئ الإخاء والتواد، فالمرء لا محالة مدني بطبعه، وإن خيمت في الأفق غيوم قاتمة من الإحن العاتية فعن قريب ستتبدد في هوج الرياح.
على أن حديث الغراب والجرذ لم ينقطع بعد، فقد شاء الأديب الكبير أن يجعل الحجة(805/25)
للغراب في مطلبهن فيذكر على لسانه من الحكم الغالية ما يستنزل به العصم من معاقلها الشم، كأن يقول للجرذ، لا تصعب علي الأمر بقولك ليس إلى التواصل بيننا من سبيل، فإن العقلاء الكرام لا يبغون على المعروف جزاء، والمودة بين الصالحين سريع اتصالها بطئ انقطاعها، ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب، بطئ الانكسار سريع الإعادة، هين الإصلاح إن أصابه ثلم أو كسر، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بطئ اتصالها ومثل ذلك مثل الكوز من الفخار، سريع الانكسار ينكسر من أدنى عيب، ولا وصل له أبداً. والكريم يود الكرم، واللئيم لا يود أحداً لا عن رغبة أو رهبة) ثم تنتهي القصة الممتعة بمصادقة الغراب والجرذ، وتعاونهما على النوائب في الحياة، تعاوناً يصل بهما شاطئ السعادة الهنيئة. وإذن فقد بلغ الكاتب ما يريده، حيث صور أولاً ما ينبغي بادئ الأمر من الحيطة والاتئاد، وكشف ثانياً عن خطأ ما يتوهمه الناس في أعدائهم المتناحرين، إذ أن من السهل الهين على هؤلاء أن يصبحوا بقليل من الكياسة، أحبة متوادين كأحسن ما يكون!!
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي(805/26)
موقعة نصيبين
24 يونيه سنة 1839
للأستاذ السيد كمال درويش
أجمع المؤرخون على أن موقعة نصيبين هي بلا جدال اكبر انتصار أحرزه البطل الفاتح إبراهيم باشا في حروبه ضد الدولة العثمانية.
حدثت هذه الموقعة في اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيه سنة 1839 وبدأت في الساعة الثالثة بعد الظهر ولم تدم سوى ساعتين، انجلى بعدهما الميدان عن انتصار ساحق للمصريين وهزيمة شنيعة للجيش العثماني، ذلك الجيش الذي لاذ أفراده بأذيال الفرار بعد أن تركوا أربعة آلاف قتيل في الميدان وما يتراوح بين أثنى عشر ألف وخمسة عشر ألف أسير. أما الذخيرة التي استولى عليها الجيش المصري فقد قدرت بما يقرب من عشرين ألف بندقية وأربعة وسبعين مدفعاً. ومع ذلك فلم تكن هذه الغنائم على كثرتها شيئاً يذكر بجانب العثور على خزانة الجيش العثماني التي لم يتمكن العثمانيون في فرارهم من أخذها؛ وكان بها من النقد ما قيمته ستة ملايين فرنك؛ وأخيراً الاستيلاء على خيمة حافظ باشا قائد الجيش بما كان فيها من الأرائك التركية المطعمة بالصدف والأوراق الرسمية وحتى الأوسمة التي كان يتحلى بها ذلك القائد وقعت هي الأخرى في يد إبراهيم.
ولئن دلت هذه الغنائم على مدى أهمية ذلك الانتصار من الناحية الحربية والعسكرية البحتة، فقد كان لتلك الموقعة الحاسمة من النتائج السياسية ما أدى إلى أن أصبح محمد علي قاب قوسين أو أدنى من الجلوس على عرش السلطنة العثمانية بعد أن فقدت سلطانها الذي مات قبل أن تصل إليه أخبار الهزيمة، وجيشها الذي انهار في نصيبين وأسطولها الذي انضم بقائده إلى محمد علي؛ لولا التدخل الأوربي وتطور المسألة الشرقية نتيجة لهذا التدخل.
هذه لمحة سريعة عن أهمية هذه الموقعة التي كان بطلها إبراهيم. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن خطورة ذلك الدور الذي قام به إبراهيم خلال تلك الموقعة حتى أحرز ذلك النصر الحاسم. ولكي يتبين لنا أهمية ما قام به إبراهيم يكفي أن نعلم أن السلطان العثماني كان قد استعد لهذه الموقعة استعداداً كبيراً بولاية مصر إذا تم له الانتصار. وكان الجيش العثماني(805/27)
هو البادئ بالتحدي وباجتياز الحدود المتفق عليها. وكان السلطان قد استعان بمجموعة من الضباط البروسيين لتنظيم الخطط الحربية للجيش العثماني وإقامة تحصيناته وإعداد وسائل دفاعه وهجومه على أحدث النظم الأوربية. وهكذا أخذ الجيش العثماني يواصل استعداداته وبناء استحكاماته في نصيبين حتى إذا انتهى من ذلك بدأ قائده يدس الدسائس ضد إبراهيم تمهيداً للاشتباك في موقعة فاصلة حاسمة.
وأدرك إبراهيم حقيقة الموقف فلم يأل جهداً في الاحتياط وفي تنسيق خطته هو الآخر؛ حتى إذا أشار عليه محمد علي بتأديب العدو وتعقبه كتب إلى حافظ باشا يقول: (إذا كنتم قد تلقيتم الأمر باستئناف القتال فما بالكم تدسون الدسائس؟ هلموا إلى ميدان القتال بصراحة وخوضوا غمرات الحرب كما يجب أن تخاض).
كان جيش العثمانيين يبلغ حوالي أربعين ألف مقاتل وكذلك كان جيش إبراهيم. وكان يقود الجيش العثماني حافظ باشا ويعاونه أركان حربه من كبار الضباط البروسيين وكان من بينهم هلموت فون ملكته (الذي قاد فيما بعد الجيش الألماني فهزم به فرنسا أثناء الحرب السبعينية المشهورة وخلد ذكره في موقعة سيدان) وكان من بينهم فون ملباخ. وعلى ذلك يمكن القول أن الجيش العثماني كان يمتاز على جيش إبراهيم بأركان حربه الألمان، وبقوة استحكاماته في نصيبين، وبخبرته بميدان القتال، وبابتداء الهجوم والعدوان، وبوفرة الجند والذخائر. أما إبراهيم فكان يعتمد على حماسة الجيش المصري وتماسك أفراده وشجاعة جنوده وحبهم للطاعة والنظام ثم على عبقريته الحربية كقائد.
وأيقن إبراهيم أن عليه إذا أراد النصر أن يفاجئ الجيش العثماني قبل أن يفاجأ هو بالهجوم. وكان الجيش المصري مرابطاً في الغرب من نصيبين. وأدرك إبراهيم أن الهجوم على العثمانيين في نصيبين مع التعرض لاستحكاماتها مجازفة خطيرة، لذلك قرر مهاجمتها من جهتها الشرقية بعيداً عن الاستحكامات المقامة في غربها. وقام إبراهيم بالالتفاف بجيشه جنوب نصيبين حتى وصل إلى شرقها وعبر في سبيل ذلك القنطرة المقامة على النهر ثم بدأ ينظم موقعة في شرق المدينة. والواقع أن إبراهيم وهو صاحب فكرة القيام بحركة الالتفاف هذه كان يدرك مدى خطورتها إذ كان يحتمل أن يخرج العثمانيون من استحكاماتهم لمهاجمته أثناء القيام بها في الجنوب من نصيبين أو أثناء عبوره القنطرة المقامة على(805/28)
النهر؛ لذلك أتقن تلك الحركة وقام بتنفيذها بمنتهى الدقة والحرص والنظام حتى قال الضباط الألمان عنها فيما بعد: (لقد كانت حركات الجيش المصري تسير طبقاً لخطط الجيوش الأوربية المدربة على أرق فنون القتال العلمية).
وكما كان النجاح في تنفيذ تلك الحركة دليلاً على دقة إبراهيم وسرعة بديهته وحسن تصرفه وانتهازه للفرص وإدراكه الصحيح لما يتطلبه الموقف؛ نجدها أيضاً كانت دليلاً على جمود الجيش العثماني وجمود قائده وتردده في انتهاز فرصة الهجوم على الجيش المصري أثناء التفافه معارضاً بذلك نصيحة مستشاريه الألمان الذين غضبوا فقدموا استقالاتهم ولم يسحبوها إلا حين قيل لهم: (إن الجندي لا يستقيل قبل الموقعة). لقد كانت خطة حافظ باشا ترمي إلى تفضيل البقاء في نصيبين بدلاً من القيام بالهجوم في تلك المنطقة المكشوفة، ولذلك أخذ في إقامة استحكامات جديدة وعلى عجل في الجهة الشرقية حتى يعتمد عليها جيشه أثناء الموقعة.
ونظر إبراهيم فوجد القائد العثماني في تسرعه قد أهمل تحصين أكمة مرتفعة تجاه جناح جيشه الأيسر، وتقع في الشمال الشرقي من نصيبين. عند ذلك اغتنم تلك الفرصة فأرسل فرقة من جيشه فاحتلتها وبدأت تقيم فيها الاستحكامات وتنصب المدافع. ولم يتنبه حافظ باشا إلى أهمية تلك الأكمة غلا بعد فوات الأوان فأرسل فرقة عثمانية لاسترجاعها ولكنها ردت في الحال على أعقابها.
وواجه إبراهيم بجيشه شرق نصيبين وأدرك أن الجيش العثماني قد ركز قوته كلها في الميمنة والقلب. ولذلك كانت ميسرته أضعف جهاته. وكانت الأكمة التي أحتلها إبراهيم قد كشفت ذلك الجناح بأسره فجعلته تحت رحمته. وفي ذلك الحين أدرك إبراهيم أهمية احتلال تلك الأكمة كما أدرك ذلك أعداؤه، لاسيما المستشارون الألمان الذين قالوا عنها فيما بعد: (لقد كانت حركة احتلال الأكمة هي مفتاح النصر في هذه الموقعة).
عند ذلك قرر إبراهيم تركيز الهجوم على الميسرة في الوقت الذي يهاجم فيه العدو من جميع الجهات.
وبدأت الموقعة، ودوى صوت المدافع، واشتد الضرب من الجانبين وسقط القتلى والجرحى واستبسل العثمانيون. وتقدمت في أثناء ذلك ذخيرة المدفعية المصرية، فخفتت أصواتها(805/29)
انتظاراً للإمداد فانتهز العثمانيون الفرصة، فصبت المدفعية التركية نارها بشدة على مواقف المشاة المصريين، فتقهقرت الصفوف الأولى، وكانت فرصة نادرة لهجوم الأتراك على مواقع المصريين ولكن إبراهيم يظهر بنفسه ويقف بين الجنود في تلك اللحظة الحرجة فيثبت المنهزمين ويجدد الحماسة في النفوس فيبدأ الهجوم من جديد وتصل الذخائر فيشتد ضرب المدفعية المصرية ويستمر الضرب والهجوم حتى تشتت شمل الجنود غير النظاميين في الجيش العثماني؛ فأحدثوا الاضطراب بالجيش، وتحطمت صفوف الجند النظاميين وارتبك الجيش كله فلاذ أفراده وسط الذعر والخوف بالفرار، وكما فعل الجيش فعل قائده الذي فضل الفرار على الوقوع في أسر المصريين.
ويسير إبراهيم في ميدان المعركة فيجد خيمة حافظ باشا، وينظر منها فلا يجد أحداً من الأعداء أمامه، فيكتب إلى أبيه ليعلمه بالنصر ثم يقول له في ذيل خطابه: (وإني أود أن أقتفي أثر الأعداء ولكني لا أجد منهم أحداً).
حقاً؛ لقد كان إبراهيم قائداً حربياً ممتازاً. ولئن دلت موقعة نصيبين على مهارة الجيش المصري وكفاءته فإنها لتدل أيضاً على ما امتاز به قائده من عبقرية نادرة مكنته من إحراز ذلك النصر الحاسم الذي يعد بحق من أعظم الانتصارات الحربية في التاريخ.
كمال السيد درويش
مدرس بمدرسة الرمل الثانوية
وعضو الجمعية التاريخية لخريجي جمعية فاروق(805/30)
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
- 3 -
يخطئ من يحسب أن القبائل العربية كانت تجري في تعديتها للأفعال أو تصريفها على منوال رتيب. ومن العسير معرفة ما إذا كانت هذه القبيلة تتجه إلى زيادة مبنى الألفاظ أو تلك تميل إلى اختصارها؛ فمثلاً قبيلة تميم تقول أجزأ عني بمعنى قضى وأمضني هذا الأمر. وأسحنه الله وآلانه عن وجهه. وغيرها يقول جزى عني ومضني وسحته ولاته بينما تقول تميم جبرت فلاناً على الأمر. وهلك الله الظالمين وخلا فلان على اللين بمعنى اقتصر عليه وغيرها يقول أجبرته وأهلكهم وأخلى. ونجد تميماً تقول: حسب يحسب على وزن علم يعلم وبرئ المريض يبرأ على وزنه كذلك ويقول الحجازيون حسب يحسب بكسر السينين وبرأ يبرأ بفتح الراءين. هذا في حين إن تميماً تقول رضع يرضع وعرض له الأمر يعرض على وزن ضرب يضرب فيهما ويقولهما الحجازيون على وزن علم يعلم كما تقول القبائل بما فيها تميم جنح لكذا بفتح النون ويختلفون في نون مضارعها فتميم تفتحه وقيس تضمه وغيرهما يكسره. أما من حيث الزيادة والنقص فترى تميماً تقول اتخذت وهو الذي ينتقد الدراهم، والكراهية. وليله أضحيانة وغيرها يقول تخذت وهو الذي ينقد الدراهم وليلة ضحيانه. هذا في حين أن تميماً تقول مذ وأنتم لله بدون نون فيهما، وتفتح همزة أيم، وثنتان بدون ألف؛ وغيرهما: اثنتان ومنذ وأيمن الله ومن القبائل من يقول أيم بكسر الهمزة وهم بنو سليم. وأم بدون ياء وهم أهل اليمامة وأغلبهم بنو حنيفة.
ومن حيث الواو والياء والألف نجد تميماً تقول: القنوة وقلنسوة والقار ويقول الحجازيون القنية والقلنسية والقير في حين أن قبائل نجد ومنها تميم يقولون القصيا وتجمع تميم وضبة القنو على قنيان بالياء وضم القاف والحجازيون يقولون القصوى ويجمعون القنو على قنوان بالواو وكسر القاف وقبيلة قيس تقول القصوى وتجمع القنو على قنوان بواو وضم القاف، وقبيلة كلب تجمعه على قنيان بالياء وكسر القاف.
ومن حيث الحركات نجد تميماً وتشاركها في بعض ذلك قيس وأسد تقول: الزعم والفواق والأسوة ومرية بضم أول الكلمات ويفتح الحجازيون أول الأولين ويكسرون أول الأخيرين(805/31)
في حين أن تميماً تقول عقر الدار والشهد وربوة بفتح أول الكلمات، والصحف والطرف والمغزل والرجز بكسر أولها ويضم الحجازيون أول الرجز وعقر الدار والشهد وربوة وتضم قيس أول المصحف والمطرف والمغزل.
فنحن كما نرى لا نجد لأي قبيلة طريقة واحدة في أوزان الأفعال وكيفية تمدينها ولا منهجاً مثقفاً في الميل إلى الزيادة أو النقص ولا خطة ثابتة تسلكها في صوغ الكلمات.
أما ما ذكرته سابقاً من الإمالة والتسهيل وتحزهما فذلك من العادة اللغوية التي لا تشذ عن قالبها الجماعة المرتبطة والبيئة المتفقة ولما كان حصر كل الألفاظ التي وردت في المعاجم والكتب منسوبة إلى القبائل مما لا يعنينا على وجه العموم فسأقتصر في الألفاظ على ما جاء في القرآن بقراءاته. ولست أزعم أنني قد حققت جميع ألفاظه؛ إذ أن كثيراً من الكلمات لم تنسب إلى قبائلها مع أن فيها لغات مختلفة تجعلها متغايرة الأوزان. ولما كنت قد أخذت على نفسي أن أذكر ما لكل قبيلة من لهجة كان لها أثر في القراءات أو اللغة ونحوها وصرفها فإني أكمل أولاً ما اختلفت فيه قبيلة تميم من جهة النحو والصرف ولو لم يكن له أثر في القراءات.
(1) تنوين الترنم:
يقسم النحاة التنوين إلى (أ) تنوين التمكين. وهو اللاحق الأسماء المعربة. (ب) تنوين التنكير وهو اللاحق الأسماء المبنية. (ج) تنوين المقابلة وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم. (د) تنوين العوض وهو اللاحق للأسماء المنقوصة. (هـ) تنوين الترنم وهو يلحق أواخر القوافي المطلقة التي في آخرها حركة. وهذا التنوين في لغة تميم وقيس تلحقانه للمحلى بأل وبالفعل سواء كان ماضياً أم مضارعاً وبالضمير وبالحرف. والاصطلاح على أن اسمه الترنم مخالف لأثره الناشئ عنه إذ أنه في الواقع يقطع ترنم المنشد حين يشبع الحركة بما يجانسها من حروف العلة فينطق بنون ساكنة تصحب الحركة القصيرة ولهذا سماه بعضهم تنوين قطع الترنم ومن شواهده التي تروى لاحقاً للمحلى بأل والفعل قوله:
أقلي اللوم عاذل والعتابن ... وقولي إن أصبت لقد أصابن
ولاحقاً بالحرف قوله:
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما نزل برحالنا وكأن قدن(805/32)
ولاحقاً بالضمير قوله: يا أبتا علك أو عساكن.
هذا وسماه صاحب الإتقان تنوين الفواصل إذا كان في القرآن وخرجوا عليه قول الله تعالى (وأكواب كانت قواريرا) قال الزمخشري وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة.
وكذلك قال في قراءة من قرأ (سلاسلاً) بالتنوين: إنه بدل من حرف الإطلاق أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر حيث يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم كما قال الراجز (يا صاح ما هاج للدموع الذرمن).
وقرأ أبو الدينار الأعرابي (والفجر. . . والوتر. . . يسر) بالتنوين في الثلاثة. قال ابن خالويه: هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على آخر القوافي بالتنوين وإن كان فعلاً وإن كان اسماً فيه ألف ولام.
(2) لغة تميم إهمال (ليس) إذا اقترنت بها (إلا) كقولهم: ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله برفع طاعة والحجازيون ينصبونها. قال الأصمعي: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال يا أبا عمر ما شيء بلغني عنك تجيزه! قال وما هو؟ قال بلغني أنك تجيز (ليس الطيب إلا المسك) بالرفع قال أبو عمر ونمت يا عيسى وأدلج الناس ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع ثم قال أبو عمر وقم يا يحيى يعني اليزيدي وأنت يا خلف، يعني خلفاً الأحمر، فاذهبا إلى أبي المهدي فلقناه الرفع فإنه لا يرفع واذهبا إلى أبي المنتجع فلقناه النصب فإنه لا ينصب فذهبا فأتيا أبا المهدي فلقناه الرفع فلم يرفع وقال: ليس هذا لحني ولا لحن قومي، ثم أتيا أبا المنتجع فلقناه النصب وجهدا به فلم ينصب وأبى إلا الرفع. فأتيا أبا عمرو وأخبراه فأخرج عيسى بن عمر خاتمه من يده وقال. ولك الخاتم هذا والله فقت الناس.
(3) كم الخبرية: تمييز كم الخبرية واجب الخفض ويكون مفرداً ومجموعاً إلا أن التميميين يجيزون نصب تمييزها إذا كان مفرداً وقد جاء في رواية لبيت الفرزدق:
كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاه قد حلبت على عشارى
بنصب عمة إلى أنها تمييز لكم الخبرية على لغة التميميين، وقيل إن كم هنا استفهام تهكمي. واستعملت كم في القرآن بأن يقترن تمييزها بحرف الجر (من)، (وكم من ملك) أو يتصل الفعل بها مباشراً (كم تركوا من جنات وعيون).(805/33)
(4) أمس: يبني الحجازيون أمس على الكسر رفعاً ونصباً وجراً. ظرفاً وغير ظرف يقولون رأيته أمس وذهب أمس بما فيه وما رأيته مذ أمس. وقد ورد:
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها حمراء قانية ... وغروبها صفراء كالورص
اليوم أعلم ما يجيء به ... ومضى بفصل قضائه أمس
أما تميم فتبنى أمس على الكسر في حالتي النصب والجر وتعربه إعراب مالا ينصرف في حالة الرفع، وقد قيل:
اعتصم بالرجاء إن عن يأس ... وتناس الذي تضمن أمس
ومن بني تميم من يعربه إعراب مالا ينصرف في حالتي النصب والجر أيضاً، وقد قيل:
لقد رأيت عجباً مذ أمسا ... عجائزاً مثل السعالي خمساً
يأكلن ما في رحلهن همساً ... لا ترك الله لهن ضرسا
ومن بني تميم من يعربه إعراب المنصرف فيبنونه في الأحوال الثلاث، والقرآن الكريم لم يستعمل أمس؛ إنما استعملها معرفة بالألف واللام مجرورة بالباء (فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه. قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون).
(5) ما كان عاماً على فعال يعربه بنو تميم ممنوعاً من الصرف وبعضهم يصرفه وقد جاء:
قد مر دهر على وبار ... فأهلكت جهرة وبارُ
أما الحجازيون فيبنونه على الكسر وأكثر بني تميم يوافقون الحجازيون فيما كان آخره راء كحضار وبعضهم يعربه أيضاً كإعراب مالا ينصرف وأغلب الأشعار جاءت على لغة الحجازيين قال لجيم بن صعب:
إذ قالت حزام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حزام
وقال النابغة:
أتاركة تدللها قطام ... وضناً بالتحية والكلام
هذا وقد اتفق الحجازيون والتميميون وسائر العرب على بناء فعال المدول على الكسر إذا كان مصدراً إلا بني أسد فإنهم يبنون هذا النوع على الفتح تخفيفاً وقد جاء على الأكثر:(805/34)
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وفتكي
(6) المصدر النكرة الواقع بعد أما يجوز رفعه عند التميميين يقولون (أما علم فعالم)؛ إلا أن الأرجح عندهم النصب، والحجازيون يوجبون نصبه، وإذا كان المصدر بعد إما معرفة فالأرجح عند الحجازيين رفعه ويجيزون نصبه نحو أما العلم فعالم لكن بني تميم يوجبون رفعه، وقد روى على لغة الحجازيين بجواز النصب في المصدر المعرفة قول الشاعر:
ألا ليت شعري هل إلى أم معمر ... سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا
بنصب الصبر بعد أما.
(7) تقول العرب في كلامها: بعداً له وسحقاً أو قبحاً له وترحاً، أما تميم فإنها ترفع فتقول بعدٌ له وسحق كقولك غلام له وفرس.
(8) من ثلاثة إلى عشرة تنصب عند الحجازيين على الحال إذا أضيفت إلى ضميرها تقدمها يقولون جاء القوم ثلاثتهم ومررت بهم ثلاثتهم (بنصب ثلاثتهم في الجميع أما بنو تميم فإنهم يتبعون ذلك لما قبله في الإعراب توكيدأ له فيرفعون في المثال الأول وينصبون في الثاني ويجرون في الثالث.
(9) بنو تميم يتبنون مفعولاً من الياء فيقولون ثوب مخيوط ورجل مديون وقد ورد: (فكأنها تفاحة مطبوبة) وورد (يوم رذاذ عليه الدجن مغيوم) وقول الشاعر أيضاً:
قد كان قومك يزعمونك سيداً ... وأخال أنك سيد معيوب
وبعضهم يجري ذلك في لواوي أيضاً وقد جاء: (والمسك من عنبره مدووف) وورد فرس مقرود وثوب مصوون ورجل معوود، أما غير تميم فإنهم يعلون ذلك بالحذف سواء أكان من الياء أم من الواو فيقولون مخيط ومدين ومصون. . . الخ.
(10) لبني تميم في الحلقي العين الثلاثي تفريعات:
(أ) أن يكسروا الحرف الحلقي فإذا كسروه فقد يتبعون فاء الكلمة لعينها يقولون فَخِذٌ (اسماً) ونَهِلَ (فعلاً) بفتح الأول وكسر الثاني منهما، أو فخذ ونهل بكسر الأول والثاني منهما.
(ب) أن يسكنوا الحرف الحلقي يقولون فُخْذٌ ونَهْلَ بفتح فسكون فيهما.
(ج) أن ينقلوا حركة عين الكلمة وهي الكسرة إلى فائها ويسكنون عينها يقولون فخذ ونهل بكسر فسكون فيهما.(805/35)
وما كان على وزن فعيل يكسرون فاء كلمته تبعاً لعينها إذا كانت العين أحد حروف الحلق وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء يقولون: زئير وشهيق وسعيد ورحيم وشخير ورغيف بكسر أولها وثانيها جميعاً. ومنهم من يفعل ذلك في فعيل ولو لم يكن عينه حرف حلق فيقولون كبير وجليل هذا وتشاركهم في أغلب ذلك قبيلتا قيس وأسد.
(للبحث بقية)
عبد الستار أحمد فرج
محرر بالمجمع اللغوي(805/36)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
على هامش اليونسكو:
يوالي مؤتمر اليونسكو عقد جلساته في بيروت، وتلقى في هذه الجلسات خطب تتضمن الإشادة بمثل الثقافة الإنسانية والتعاون العالمي في الميدان الفكري، وتقدم اقتراحات، وتؤلف لجان. ويلاحظ في تبادل التحيات بين ممثلي الدول المختلفة، ما يبديه رجال الغرب من تنويه بفضل ثقافة العرب على الحضارة الغربية، وعزم على توثيق الروابط الفكرية بين الشرق والغرب، ثم ثناء على كرم الضيافة العربية.
وكل ذلك جميل رائع، ولكن لست أدري أي شيطان بعث إلى تصوري بجانب ذلك صورة كلاب الحراسة التي ضربها أستاذنا الزيات مثلاً للمهذبين من بني آدم. . . قلت في نفسي، أو قال لها ذلك الشيطان: إنها نوبة التهارش! ألست تتمثل أولئك المندوبين العالميين في قصر اليونسكو تحت ظلال أشجار الأرز بلبنان. .؟ يكادون يذوبون من فرط الرقة والتلطف والمجاملة فليس هناك وجبة تقدم ولا عظمة في حواشي الفناء. . . . المسألة كلها خطب وفلسفات، فما الداعي إلى العراك وتحلب الأشداق واحمرار الأحداق؟ هذا مكانه (ليك ساكسس) و (قصر شايو) حيث يأكلون لحم الأمم الصغيرة وعظامها أيضاً. أما في مؤتمر الثقافة فلا بأس من التظاهر بالتعاطف والثناء على الشرق وكرم الضيافة العربية. وسينفض المؤتمر ويترك الحبر على الورق ويعود المندوبون رجال سياسة، كما يعود الزعماء والوزراء وغيرهم من الكبار إلى قصورهم ومكاتبهم بعد زيارة الفلاحين في حقولهم وتقديرهم لمجهود الفلاح وفضله، ورثائهم لسوء عيشه، ووعدهم بتحسين حاله ورفع مستواه.
وعد بنا إلى كلاب الحراسة تحت ظلال الشجر. . . هذه الكبار توطئ أكتافها للصغار وتبدي لها الود، وهؤلاء مندوبو الغرب يقترحون على اليونسكو مساعدة اللاجئين الفلسطينيين في حدود اختصاصها، ويشكرهم مندوبو البلاد العربية. ويقول لي ذلك الشيطان: أترى في ذلك أكثر من العطف العقيم في أثناء التهارش تحت ظل الأشجار. . . أم ترى اليونسكو تعمل شيئاً جدياً لهؤلاء المساكين غير (التوصيات). . .!(805/37)
ذكرت بذلك حكاية جارية غنت في مجلس فأجادت، فقام إليها رجل من الجالسين وقال لها: بأبي أنت وأمي، وددت لو كان لي مال فوهبته لك. . ولكنني أرجو أن يجعل الله لك كل حسنة لي ويجملني عنك كل سيئة عليك. فأقبلت عليه الجارية وشكرته. فتقدم رجل آخر وقال لها: كل مملوك لي حر وكل امرأة طالق إن كان قد وهب لك شيئاً أو حمل عنك ثقلاً، فماله حسنة يهبها لك ولا عليك سيئة يحملها عنك، فعلى أي شيء تشكرينه؟
عزيزي الأستاذ محمد عبد الوهاب
أعبر لحضرتكم عن شعوري إذ أقول إن قلبي كان معكم حينما كتبت إلى الآنسة أم كلثوم في شأن تحكمها في الإذاعة، أو إغداق الإذاعة عليها، بمنحها خمسين جنيهاً في كل مرة تذاع لها أغنية مسجلة مأجورة عند تسجيلها، حتى يقدر مجموع ذلك بنحو ألف جنيه في الشهر.
كان قلبي معك يا أستاذ عبد الوهاب، لأن الإذاعة تخص أم كلثوم بتلك المعاملة الهائلة. . أما أغنياتك المسجلة فتشكو الأثير جراحاً. . ولذلك سرني ما نشر من أنك طلبت عدم إذاعة أغانيك، وأن الإذاعة رجتك أن تعدل عن هذا الطلب مؤقتاً إلى أن تعقد معك اتفاقاً جديداً.
فامض في طلبك وتشدد فيه، فإن هذه الإذاعة لا ينفع معها غير ذلك. وإنك لابد ظافر بألف جنيه في الشهر، وأعلم أنك وأم كلثوم الدعامتان اللتان يقوم عليهما فن الغناء والموسيقى في هذا العصر، وأن أمثالكما من كبار الفنانين في روسيا الشيوعية ينالون أكبر الأجور ويصيبون أوفر حظاً من الترف والنعيم، كما يترامى إلينا من وراء الستار الحديدي.
فاحرص أيها الفنان العظيم على ذلك الحق (الشيوعي) كما تحرص عليه أم كلثوم، وكما يحرص عليه كبار الموظفين في الإذاعة وإن لم يكونوا من الفنانين. . . وعلى كل مذيع بعد ذلك، وعلى الديموقراطية، وعلى الإذاعة، السلام. . . وسلام عليك.
نحو الحياد الثقافي:
نشرت (المصري) لمراسلها بباريس عن أنباء موسكو أنه صدر فيها بلاغ رسمي جاء فيه أن أكاديمية العلوم ستنشر 42 كتاباً في سنة 1949 عن الدراسات الشرقية منها كنب هامة عن العرب والأدب العربي الحديث، وقد كتب عن الموضوع الأخير المستشرق برجناني(805/38)
كراشكوفسكي، وأهم ما كتب فيه يتعلق بالمؤلفين والكتاب العرب في خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وستنشر الأكاديمية أيضاً كتاباً عن تحليل ما بقي من اللغة العربية في اللغات التي يستخدمها سكان جمهورية أوزبك السوفيتية، وعنوان الكتاب (العرب في أسيا الوسطى).
وعلق المراسل على ذلك بأن هذا الاهتمام من جانب روسيا بشؤون العرب لا يقاس إلى جانب المعركة الخفية بين رجال الحزب الشيوعي وبين رجال الدين الإسلامي في جنوب الاتحاد السوفييتي وذكر المراسل كلاماً كثيراً دلل به على هذه المعركة، منه امتناع التلاميذ المسلمين عن المدارس لاعتقادهم أن في المواد الدراسية ما يتنافى مع الدين الإسلامي، ومنه استغلال بعض الكتاب حرية النقد في الطعن في الإسلام وإنكار وجود الله. . الخ.
ولا شك إن المقارنة بين اهتمام روسيا بشؤون العربية الأدبية والثقافية وبين المعركة الدينية الخفية، خلط ظاهر. . . فالخبر نفسه ذو أهمية كبيرة، فنحن نسعى إلى رواج أدبنا وثقافتنا في العالم ونحب أن نعرف بأنفسنا، وأن يتحقق التعاون الفكري العالمي بالأخذ والعطاء بيننا وبين سائر الدول شرقية وغربية. والأمم الرشيدة تعمل لنشر ثقافتها في خارج حدودها، وتبذل في هذا السبيل جهوداً كبيرة. فلا يجوز أن نواجه اهتمام أي دولة بآدابنا وشؤوننا الفكرية - بالتهوين من شأنها بمثل هذا الكلام. وهل نحن نقول للمستشرقين الفرنسيين إن جهودكم في خدمة التراث العربي لا قيمة لها لأن فرنسا تصنع بمسلمي المغرب ما تصنع؟ وهل نقول مثل ذلك للمستشرقين الهولنديين لتنكيل هولندا بمسلمي إندونيسيا؟ ثم إنجلترا التي تقفل جنوب السودان في وجه الإسلام وتيسر للمبشرين من إرساليات الكاثوليك والبروتستانت أن ينشروا هناك دعاياتهم الدينية - أنرفض التعاون مع مستشرقيها لذلك. . .؟
وإذا كنا ندعو إلى الحياد السياسي أو نختلف فيه، فما أظن الحياد الثقافي إلا جديراً بتأييده والإغداق عليه.
ضيعة الشباب في مصر:
تلقت وزارة المعارف كتاباً من اتحاد الطلبة لجامعات فرنسا يطلب فيه موافاته بما قامت به مصر في خدمة شبابها. وقد أخذت الوزارة في إعداد البيان المطلوب.(805/39)
وخدمة الشباب هي استغلال أوقات فراغهم في إنماء ثقافاتهم وإبراز ملكاتهم الفنية وتعهدها، وتربية أذواقهم وأبدانهم، بالمطالعة والمحاضرة والسينما الثقافية والرحلات والألعاب وغير ذلك من مختلف الوسائل. وتقوم بها في مصر إدارة خدمة الشباب بوزارة المعارف وبعض الجمعيات الكبيرة كجمعية الشبان المسلمين وجمعية الشبان المسيحية وجمعية الأخوان المسلمين، والثانية أكثرها نشاطاً في هذا المضمار.
أما إدارة خدمة الشباب فهي إدارة صغيرة ناشئة تشق طريقها جاهدة في حدود (المستطاع) وهو قليل. وحسبك أن تعلم أنه لا ميزانية لها. . بدأت العمل وسارت فيها وقطعت أشواطاً وليس لها اعتماد مالي!
لم تقف أمام ضيق الميزانية جامدة، بل تلفتت حولها فلمحت إلى جانبها (إدارة التأمين الاجتماعي) وهي ذات صندوق يتكون ما فيه من النقود التي يدفعها طلبة المدارس الثانوية بقصد التعاون الاجتماعي بينهم، ينفق منها على من يحتاج منهم إلى المساعدة في الأغراض والحالات الضرورية. نظرت إدارة خدمة الشباب إلى أختها إدارة التأمين الاجتماعي، وهشت لها وتلطفت قائلة: ألسنا نتحد في الغاية وهي العمل لمصلحة الشباب؟ فلم تضن عليها بل وضعت نفسها وما تملك في خدمتها أي خدمة الشباب. . .
وبذلك استطاعت إدارة خدمة الشباب أن تعمل، فنظمت المهرجان الأدبي والفني، ودعت الشباب إلى مشاهدة الأفلام الثقافية في دارها، وتعاقبت أفواج منهم في الاصطياف بمخيماتها على شاطئ الإسكندرية في الصيف الماضي. وأخيراً تم إنشاء سبعة فروع منها موزعة بمدارس القاهرة، في كل منها ما يتيسر من وسائل التثقيف وأنواع الفنون والألعاب.
كل ذلك ليس بشيء إلى جانب ما ينبغي لخدمة الشباب في هذه البلاد التي تتسكع فلذات أكبادها في طرقاتها كالكلاب الضالة. . واذهب إلى الأحياء التي تسكنها الطبقات المتوسطة، وهي التي يتكون منها سواد الطلبة في المدارس، مثل عابدين وجنينة قاميش وبعض جهات شبرا والعباسية، وانظر ماذا يصنع الشباب في أوقات الفراغ. . فهذه جماعات على الطوار تحملق في الغاديات والرائحات، وتصطنع نوعاً من الغزل (الشوارعي) كثيراً ما يجر المشاكل والمعارك. والمحظوظون السعداء هم الذين ظفروا من(805/40)
ذويهم ببعض النقود فاستبقوا إلى دور السينما والمقاهي. وهذه الطبقات تنعدم فيها أسباب الفائدة في قضاء أوقات الفراغ إلى ما هو معروف من الفوضى في حياة الأسر وسوء التربية المنزلية؛ ومن ثم ندرك الحاجة الماسة إلى الوسائل العامة لخدمة شبابنا، ومما يرثى له أن هذه الحاجة لا يقابلها ما ينبغي لها من الجهود والعناية، على حين نجد البلاد التي ليست حال الشباب بها كذلك لتقدم الحياة الاجتماعية فيها تهتم بخدمة الشباب اهتماماً لا يذكر بجانبه ما تظفر به هذه الخدمة في مصر، فلو أحصى من نصل إليهم من أسباب إدارة خدمة الشباب لم يزيدوا على ألف شاب من القاهرة، ويبقى بعد ذلك في العاصمة والأقاليم مئات الآلاف مضيعين، بل إن الذين يستفيدون فعلاً لا يتحقق لهم مما يرجى إلا القليل.
إنه إذا أمكن حصر الخدمات التي تقوم بها الدولة والهيئات للشباب بمصر في أي تقرير أو بيان، فإن ضيعة الشباب بها لا ينتهي الكلام فيها عند حد. . .
من ظرف المجالس:
كان موضوع الحديث مذهب (السريالزم) في الفنون الذي يرمي إلى الفضاء وصفها بالجمال. . فإنك تنظر إلى الصورة فلا تعرف لها معنى، وتستعين بصاحبها فلا تجد في شرحه غناء. والشيء الوحيد الذي تتركه هذه الصور في نفسك هو تأثرك من بشاعة منظرها وما فيها من العبث بالطبيعة. . . وقد سرب هذا الاتجاه إلى قليل من الشعر العربي الحديث، وإن كان يقف بهذا القليل عند من يأتي به!
نص أحد الأصحاب ما حدث أخيراً في أحد المعارض الأوربية إذ زاره رسام أمريكي وشاهد فيه بعض الصور مقلوبة الوضع، وراجع ما كتبه النقاد من أنصار (السريالزم) عن هذا المعرض فوجدهم قد أثنوا على صوره، وخصوا الصور المقلوبة بوافر الثناء ولم يلاحظ أحد منهم أن أعلاها في أسفلها وأسفلها في أعلاها!
قال آخر: العجيب أن (السريالزميين) يقولون إنهم ينتفعون بالنظريات العلمية والثقافات الحديثة، ولكن ما أثر هذه النظريات والثقافات في إنتاجهم هذا؟
قال ثالث: أثرها واضح يا أخي كل الوضوح. . ألست ترى ما فيها من آثار مذهب دارون في النشوء والارتقاء.؟
تركيب:(805/41)
نظرت لجنة الألفاظ والأساليب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية في هذا التركيب: (يحب ابنه كما لا يحب والد ولده) هل هو صحيح، وما هو التركيب الفصيح الذي يؤدي هذا المعنى؟
قال بعض الأعضاء إنه تركيب سليم وتخريجه: يحب ابنه مثل حب عظيم لا يحبه والد ولده.
فقال عضو آخر: إننا إذا فرضنا صحته فإن الركاكة بادية عليه ولم اللجوء إليه وإلى تصويبه والتعبير الفصيح المماثل له ورد في القرآن الكريم وهو (ومن كفر فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين)؟ وعلى ذلك يكون ذلك التركيب فصيحاً هكذا: يحب ابنه حباً لا يحبه والد ولده. فاستحسن الأعضاء هذا الرأي وأقرته اللجنة.
عباس خضر(805/42)
البريد الأدبي
كاد (أن):
درجت أفهم في صحيح اللغة أن المضارع الواقع في موضع خبر (كاد) لا يقترن ب (أن) وذلك هو القياس المطرد، وكل ما جاء على خلاف فهو من الضرائر - إن كان شعراً - ومن الشذوذ - إن كان نثراً - كقول رؤبة:
ربع عفاه الدهر طولاً فانمحى ... قد كاد من طول البلى أن يمصحا
قال سيبويه: وقد جاء في الشعر (كاد أن) يفعل شبهوه بعسى؛ قال رؤبة: (قد كاد من طول البلى أن يمصحا)؛ وكقول آخر:
وجدت فؤادي كاد أن يستخفه ... رجيع الهوى من بعض ما يتذكر
فهو أيضاً من الضرائر الشعرية وليس بأصل كحد قول الآلوسي في (ضرائره). وقد كنت هكذا أفهم استعمال (كاد) وخلو خبرها المضارع من أن؛ حتى طلع علينا الأستاذ الزيات صاحب الرسالة وأستاذ البلاغة بالخبر اليقين حين قال: (إن حالتها (تكاد أن) تكون طبيعية. . .) فآمنت بخلاف ما كنت أؤمن، وقوي إيماني به في حينه ما ورد على الخاطر مما ورد في صحيح البخاري (وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) ثم ما جاء في الحديث أيضاً - وهو نادر - (كاد الفقر أن يكون كفراً).
وبعد. فهذا الذي سبق هو مفهومي من القول الفصل مع قصر الباع والذراع. . . وعلى المريدين أن يدلوا بدلوهم في الدلاء كل على قدر شطئه ورسنه. . . والسلام.
عدنان
(الرسالة): الذي نذكره على البعد من كتب المراجعة، أن الأفعال الناقصة التي يجب أن يكون خبرها فعلاً مضارعاً يحب اقترانه بأن في أفعال الرجاء، وممتنع في أفعال الشروع ويجوز في أفعال المقاربة على قلة في بعضها وكثرة في البعض الآخر، كما نذكر كذلك قول البحتري:
أتاك الربيع الطاق يختال ضاحكاً ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
المصحف المبوب:(805/43)
ما كنت أظن أن تجد فكرة المصحف المبوب معارضاً، لأنها أمنية طالما تمناها كبار العلماء لتظهر بها كل سورة من سور القرآن الكريم متسقة المعاني، منتظمة المباني، معروفة الأغراض، محددة الأبواب، وليس هذا علم الله في القشور، وإنما هو لب اللباب، وحدث عظيم في ترتيب المصحف.
ولكن كيف يمر هذا من غير معارض، وقد طال بنا إلف كل قديم، حتى صار السكون عندنا بركة، وكرهنا كل حركة، وأسأنا الظن بكل جديد، وأخذنا الجديد النافع بذنب الجديد الضار.
وماذا في فكرة المصحف المبوب من الضرر؟ يقول الأستاذ الفاضل عمر إسماعيل منصور إنه يود أن يشعر المسلمون بأن كتابهم مقدس، وليس عرضة لكل مبتكر، إذ من الجائز أن يختلف والتبويب، فيظهر المصحف في عدة طبعات، فإذا بوبه اليوم فلان، فسيبوبه غداً غيره، فيقولون قرآن فلان، ومصحف فلان، وتكون فتنة، وكلما تفلسف شخص أضاف فكرة جديدة، ما دمنا قد فتحنا هذا الباب.
فالأستاذ عمر إسماعيل منصور في هذا يكره الابتكار لذات الابتكار، ولا يفرق فيه بين نافع وضار، ثم يوهم أن التبويب سيحدث تغييراً في نظم المصحف، مع أنه سيكون بهامشه ولا يدخل في صلبه، فمثله كمثل المصحف المفسر الذي ظهر منذ سنتين، وتناوله عدد من المفسرين، ولكل عدد منهم طريقته في تفسيره، وفي موضعه من المصحف باختلاف طرقهم في التفسير ووضعه، بل اختلفت القراءات بيننا، وقيل قراءة فلان وقراءة فلان، وهو اختلاف يرجع إلى لفظ القرآن، فلم يحدث منه فتنة أيضاً، وسيكون هذا شأن المصحف المبوب، إن شاء الله تعالى.
عبد المتعال الصعيدي
الحصار السلمي في الشرع الدولي:
هو منع السفن من الدخول أو الخروج من مرافئ الدولة التييفرض الحصار عليها؛ وأول مرة وقع فيها ذلك كان عامك 1827 حينما حاصرت دول فرنسا وبريطانيا وروسيا مرفأ نافنرين منعاً للقتال في بلاد اليونان، ثم تكرر ذلك عندما حاصرت بريطانيا سواحل اليونان(805/44)
عام 1850 تأييداً لمطالب أحد رعاياها اليهود، فتوسطت فرنسا في هذا الشأن، وعرضت القضية على لجنة التحكيم التي ظهر لها بعد التحقيق أن مطالب اليهودي المذكور هي 150 فرنكاً؛ ووقع بعد ذلك للمرة الثالثة لما حاصرت الدول العظمى عدا فرنسا سواحل اليونان عام 1886 ولكن هذا الحصار كان مفروضاً على السفن اليونانية وحسب.
ويشترط في صحة الحصار أن يبلغ إلى الدولة المعتزلة (الحيادية) وتعاقب السفن التي تخترق خط الحصار طبقاً لإحدى النظريتين الفرنسية أو البريطانية؛ فالنظرية الفرنسية تفضي بالقبض على السفينة حتى ينهار الحصار، ولا يسمح بامتلاكها واغتنامها؛ أما النظرية البريطانية فتبيح امتلاك السفن التي تخترق خط الحصار، وتعدها غنيمة. ولكن النظرية الفرنسية هي المتبعة في الجمعية الدولية؛ وقرار مجمع الحقوق الدولية المنعقد عام 1887 كان موافقاً لها.
محمد أسامة عليبة
أوهام لغوية:
قرأت في الرسالة العدد 801 تحت عنوان سر الحاكم بأمر الله للأستاذ عباس خضر هذه العبارة (. . . والحادثة الهامة في القصة أو العقدة فيها ادعاء الحاكم بأمر الله الألوهية) واستعمال كلمة هامة في هذا المكان للدلالة على أهمية الحادثة وهم لغوي! وكان الصواب أن يقول: الحادثة المهمة؛ ففي قاموس الصحاح للجوهري ما يلي: المهم: الأمر الشديد؛ وأهمك من الأمر ما أقلقك وأحزنك. والهامة، في الصحاح أيضاً، الرأس والجمع هام وهامة القوم رئيسهم.
في عرض الدكتور علي حسن عبد القادر ل (كتاب البرهان في وجوه البيان) تحقيق مستفيض عن صاحب الكتاب. وقد كتب في موضع من بحثه القيم أنه تحقق من (نسبته لأبي الحسين) وهذا وهم لغوي أيضاً! والصواب قوله: (بسبته إلى أبي الحسين).
وللأستاذين الفاضلين الخضر وعبد القادر إعجابي وإكباري.
أحمد عزيز بيتوغن
تصويب:(805/45)
ورد في افتتاحية العدد الماضي؛
وإن ابن آدم لا يزال عبد العصا وضيعة الدينار
والصواب: وصنيعة الدينار.
صاحب الدولة أحمد حلمي باشا:
في مساء الخميس الماضي شرف حضرة صاحب الدولة أحمد حلمي باشا رئيس مجلس الوزراء في عموم حكومة فلسطين دار مكتبة الأطفال وقد كتب دولته في دفتر الزيارات الكلمة التالية يحيي فيها جهود الدار في سبيل خدمة النشء العربي. . . .
مكتبة الكيلاني للأطفال
زرت مكتبة الكيلاني للأطفال فأكرم بها روضة علم وأدب، وخزانة حكمة ومعرفة. تشرق بمؤلفاته المفيدة، وتزدان بآثاره الفريدة، التي تدل على عبقريته، وحسن اختياره ودقته. كما تدل على عنايته بما ينفع أطفالنا ويغنيهم بالأدب الرفيع الذي يذكي عقولهم ويشرح صدورهم فهي منارة مصر. ومفخرة العصر.
حياه الله وأدامه مناراً للعلم والأدب في شرقنا العربي وأكرم به عالماً تحريراً، وأديباً كبيراً بزر برده على الوفاء، ويضم جناحه على الولاء. حفظه الله ورعاه وأدامه لأخيه وصديقه المخلص.
أحمد حلمي
أخطاء مطبعية:
وقعت في مقالي (دفاع عن الأدب) الذي نشر في العدد الماضي من الرسالة بعض الأخطاء المطبعية، وقد رأيت أن أصححها هنا ليستقيم المعنى المقصود من بعض العبارات؛ أما هذه الأخطاء فلتتمثل في العبارات التالية:
(لئن كانت الإدارة قوام الإنسان الفنان، فليست قوام الإنسان الفنان؛ ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإدارة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي) وصحتها: (لئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير، فليست قوام الإنسان الفنان، ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإرادة الخ. . .(805/46)
(ولعل في رمى الأدب الاعتراف بالتأنث كثيراً من الإغراق في التجني والإسراف والتحامل) وصحتها: (والإسراف في التحامل). . . (هذا هو أرى الفيلسوف الإيطالي في أدب الاعترافات) وصحتها: (هذا هو رأي الفيلسوف الإيطالي الخ) (يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما فعلت من خير وشر) وصحتها: (بما حفلت من خير وشر).
أنور المعداوي(805/47)
رسالة النقد
موسى كليم الله
لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الحميد مطاوع المدرس بالأزهر
قصة سيدنا موسى، عليه السلام، معروفة إجمالاً وتفصيلاً للخاصة وللعامة من اليهود والمسيحيين والمسلمين شرقاً وغرباً؛ لأنه نبي معترف بنبوته في الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو أظهر أنبياء العهد القديم؛ شأناً وسيرة، وقد تحدث بسيرته (القرآن الكريم) في مواضع عدة حسب مناسبات مختلفة لم يتحدثه بأحد غيره من الرسل والأنبياء. وكذلك الأحاديث النبوية، وتبعتها أحاديث الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الإخباريين والقصاص والمؤرخين والمفسرين.
من أجل ذلك كانت الكتابة المفصلة في هذا الموضوع عرضة لخطر التكرار المملول الذي تضيق به الأسماع والقلوب، وكان تلمس الجدة عند محاولة الكتابة فيه أمراً بالغ الخطر واجب الرعاية. وما الجدة المراد تلمسها أمراً متعذراً ولا متعسراً على راغبيها المقتدرين، وهي ألزم ما تكون لمن يخاطبون بكتاباتهم الخاصة لا العامة كمؤلف هذا الكتاب.
ونقرأ هذا الكتاب فنجده خالياً كل الخلو من الجدة، فهو تأليف بكل معنى هذا اللفظ في أصله اللغوي العام وهو (الجمع): الجمع لمعلومات أغلبها تافه ملفق وأغلبها جليل صحيح، فكثيره احتطاب ليل وقليله اجتناء لا حيلة فيه ولا مناص منه، لأن المعول عليه في القرآن الكريم. ولم يحاول المؤلف الخروج عن الجمع الساذج إلى شيء إلا الوعظ الرخيص وتلمس العبر التافهة بأسلوب معوج، فنحو ثلثي الكتاب عظات واستنتاجات (خطابية) ونحو ثلثه تاريخ مجموع على النحو الساذج الذي أشرنا إليه لم يعن فيه جامعه بما يعني به المؤرخون على اختلاف مناهجهم وكفاءاتهم وأمزجتهم وأهدافهم.
فهو كتاب وعظ لا تاريخ مع أن صاحبه يتظاهر فيه بأنه مؤرخ لا واعظ، وهو في حديثه يسوق الكلام إلى ما يقبل العقل والذوق وما لا يقبلان. ترصد الصيد عظة رخيصة أو افتعالها. وتكاد تتكرر في كل صفحة (قيل) و (قال) ولا شيء بعدهما عدا العظات، ولو تأدى تصديق القيل والقال إلى التعرض في المحال والتطوح مع الخيال إلى أبعد حدود الضلال.(805/48)
في الكتب الإسلامية قصص يسميها العلماء (الإسرائيليات) يدور أكثرها حول موسى خاصة وبني إسرائيل عامة، ولقد حذر (الفاهمون الغير من العلماء) من التورط في تصديق هذه (الأساطير) التي دسها (الإسرائيليون) في (الإسلاميات) رغبة العبث والضلال، ورواها عنهم بعض (الطيبين) من علمائنا، أو نحلها إياهم هؤلاء (الإسرائيليون) ثم نقلها الخلف عن السلف بأسانيدها أو بغيرها بنية (سليمة) ضرورة أن في القرآن آيات تتضمن قصصاً لابد من تفسيرها، ولم يكن لأحد الجرأة على الخوض في تفسيرها بالحق حيناً وبالباطل أحياناً، إلا علماء (يهود) الذين عندهم علم (كل) شيء كان وكل شيء (سيكون) فما من أمر في السماء وفي الأرض حدث أو سيحدث إلا وفي (ثوراتهم) ذكره ووصفه وميقاته وكل ما يتصل به لا مجملاً بل مفصلاً أوضح تفصيل وأدقه، ولا ريب أن من القراء من أتاهم نبأ (الإسرائيلي) الذي حدث عمر بن الخطاب فعل مقتله بثلاثة أيام بأن وصفه وأخلاقه وملبسه، بل يوم موته بالتحديد مدون في (التوراة). وإذن فلا ريب أن هذه التوراة قد أحصت كل شيء علماً، وأحاطت به خبراً، وأنها صورة من علم الله.
وهذا الكتاب قد حشرت له (الإسرائيليات) حشراً لم يترك منها فيما يتصل بهذا الموضوع حتى ما لم توح به نصوص القرآن ولا يرتضيه عقل مستقيم ولا يقبله ذوق مهذب. وإليك مثلاً من عشرات وقعت في الكتاب وصف الله فيها بصفات (توراتية) معاذ الله فالذي وصف فيها هو (يهوه رب الجنود) كما يسمي اليهود إلههم ويلقبونه. في هذا المثل ترى (يهوه رب الجنود) في أقصى جنونه الوحشي يدبر المكايد، ويتجنى على (الضعفاء) الذنوب ويدفع بفرعون دفعاً إلى الكفر والعناد ثم ينتقم منه أبشع انتقام ويشمت به أقبح شماتة: هذه مؤامرة يشترك فيها (رب الجنود) مع جبريل وميكائيل ضد فرعون الذي وقف مع جيشه على شاطئ البحر متردداً في اقتحامه خلف الإسرائيليين الهاربين من وجهه، ووزيره هامان ينصحه بالإحجام فيرسل (رب الجنود) جبريل أمامهم يغريهم، وميكائيل من خلفهم يرفعهم، ويحسنان لهم عبور البحر، ويوقظان فيهم شهوة النكال بموسى، ثم لم يكتفوا بذلك، فامتطى (جبريل فرساً أتاناً عريضة الكفل حسنة المنظر (تأمل هذين الوصفين) فتقدم بها جواد فرعون الفاره وضرب فرسه فتحركت أمامه وجرت تخايله فأندفع جواد فرعون (كذا) وتدافع قومه بعده بخيلهم ورجلهم) ص 89 وأتاه جبريل - وهو يشرف على الغرق(805/49)
- وأراه فتيا كان قد خطها فرعون بيده مغزاها أن العبد الذي يجحد فضل سيده جزاؤه الغرق في البحر (فناوله جبريل إياها وأطلعه عليها والماء يلجمه ويغصهن فعرف خطه وبكى حظه، ثم ندم، ولات ساعة مندم.
أرأيت تفصيلات هذه المؤامرة الصبيانية التي لا تليق بإنسان رشيد له قلب بعطف أدنى فضلاً عن إله وملائكته؟ إن شئت غيرها فأمثالها في الكتاب كثير تبلغ عشراً وعشرات.
وفي الكتاب عشرات المحالات في غير ضرورة من دين أو عقل أو ذوق، وهاك مثلاًك أرسل موسى وهو في التيه - أثنى عشر نبياً من الإسرائيليين (البواسل) إلى أرض كنعان للتجسس، فلقيهم كنعاني (وهو عوج بن عنق، وكان فاره الجسم يطاول السماء بقامته - رأى النقباء أمامه فأخذهم في كمه مع فاكهة يحملها من بستانه، وجاء بهم إلى ملكه ونثرهم بين يديه. . .) ص 149 أين خيال الكاتب الإنجليزي مؤلف قصة (جلفر) وقصوره من خيال سادتنا العلماء (الطيبين) في هذه (الإسرائيليات). لقد اشتط القصصي المسكين في خياله هازلاً فما ظفر بغير هذه البدائع (المقدسة) التي أوردها سادتنا الأبرار جادين بل مسرفين في الجد والإيمان. إن لم تكن أعجبتك هذه ففي الكتاب عشرات أمثالها. ولقد زعمت لك قبل أن المؤلف لم يكن عمله في كتابه هذا إلا الجمع، وأنا أنزل عن هذا الزعم هنا مرة واحدة لأن المؤلف استعمل هنا عقله فسكت عما تذكره الإسرائيليات عن (عوج بن عنق) وهذا فقد ذكر ما ذكرته من أنه كان (يطاول السماء بقامته) ولكنه لم يقل ما قالته من أنه - لطوله هذا - كان يمد يده فيخرج الأسماك من أقصى قيعان البحر ويرفعها أمام الشمس فيشويها في حرارته ويأكلها هنيئاً مريئاً.
والمعجزات في الكتاب أكثر من أن يحيط بها عقل، وأعجب كيف حملها الكتاب، ففي كل حركة يتحركها موسى وقومه وأعداؤه بل في كل همسة معجزة ضخمة وفي كل معجزة ضخمة أصغر منها، وإن تكن المعجزات في (إقناع) العقل سواء فلا صغيرة فيها ولا كبيرة إلا من حيث المساحة، وفي الكتاب يبدو (يهوه رب الجنود) الذي اختار (يهود) شعباً له وفضلهم على سائر خلقه - يبدو قائماً قاعداً لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، ولا يهتدي إلى حل مشكلات (شعبه المختار) سواء ما شجر منها بين بعض أفراده وبعض وما شجر بينهم وبين الشعوب الأخرى التي قدر للشعب المختار أن يحتك بها ويساجلها الكراهة والتمازع(805/50)
بل (يتطوع) بكرهها ومنازعتها لوجه (يهود) أو لوجه (الشيطان).
أورد المؤلف في كتابه بالتفصيل كل ما قيل في موسى من الإسرائيليات الواردة في الروايات الإسلامية، وألم بأطراف مما ورد فيه ذكر موسى من التوراة، فتحدث بنسبه ومولده ونشأته وهربه إلى مدين وعودته إلى مصر رسولاً، وخروجه منها ببني إسرائيل قائداً لهم، والطريق الذي سلكه بهم، وما جرى لفرعون وجنده في مطاردتهم، وما حدث له ولقومه في صحراء سيناء من سياسته الشاقة لهم، ونزول التوراة عليه وعبادتهم العجل في غيابه، وقصته مع هارون أخيه بعد رجوعه بالتوراة حين وجدهم يعبدون العجل، وقصته مع الخضر (العبد الصالح) وقصته مع قارون وإيذائه إياه وانتقام الله منه إذ خسف به وبداره الأرض ومقامه مع قومه في التيه أربعين سنة، وقصة بلعام بن باموراء العالم الإسرائيلي (وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محيرة للمتعلمين يكتبون عنه ويرصدون غزير علمه) فغضب الله عليه لأنه لم يشكره يوماً على ما أعطاه، وتحدث المؤلف بما حدث على يد موسى من معجزات في هذه المواقف كلها، ومن هذه المعجزات ما ذكره القرآن ومنها ما لم يذكره و (تطوع) أصحاب (الإسرائيليات) بذكره، وذكر المؤلف قصة هرون أخيه وموته ثم موت موسى ودخول (يهود) أرض الكنعانيين، تحت قيادة خليفته عليهم (يهود) إلى (الحجاز)، ولا موضع لمثل ذلك في سيرة موسى.
يقول المؤلف في مقدمة كتابه (اتخذت القرآن الكريم إمامي، والأحاديث النبوية عمادي، وآثار الصحابة والتابعين سندي، ورواية الثقات من المفسرين مرشدي، وما تراضى عليه المؤرخون واللغويون مصدري، ورتبت القول بما يتفق ومجرى الحال من ولادته حتى وفاته) ص6. وهذا تعريف بمصادر الكتاب ناقص من ناحية وزائد من ناحية، فهو ينقل عن التوراة وكتب علماء الآثار مثلاً معلومات كثيرة، ولا يرفض ككثير من (ثقات المفسرين) ما في (الإسرائيليات) من شطط ومحال. وتعريفه بالكتاب ومصادره وكيفية الانتفاع بها في مجمل غامض لا يفيد من يريد المراجعة والمحاسبة.
ومن أعجب العجب في الكتاب أن مؤلفه إذا ذكر آية من القرآن ذكر رقمها وسورتها، وينقل عن التوراة آيات برمتها فلا يذكر أرقامها في إصحاحاتها - إلا مرة واحدة نقل فيها نقلاً وأشار إلى أنه من سفر الخروج (ص 103) دون تعيين الإصحاح ولا رقم الآية فيه -(805/51)
وينقل عن مصادره الأخرى ومنها كتب التفسير وكتب عبرية مخطوطة، وكتب لعلماء الآثار الغربيين، وكتب لمؤرخين وطنيين وأجانب فلا يشير مرة واحدة في هامش صفحة إلى اسم الكتاب الذي نقل عنه صفحة نقله إلا مرة واحدة ذكر فيها خبراً، وأشار إلى أنه من رواية (الإمام القرطبي والنسقي والنيسابوري، وسواهم من أئمة المفسرين) ص 27. وهذا سير عجيب بل سير مريب لأنه يفترض أن كل هذه المصادر البعيدة معروفة للقراء فلا داعي لذكرها ما عدا القرآن فهو مجهول ولذلك لا غنى عند ذكر الآية من ذكر رقمها في سورتها. هذا مع أن الكتاب ألف باللغة العربية كي يقرأه أقل من يعرفونها دون سواها، فهو يكاد يكون مؤلفاً لعامة المسلمين وحدهم.
والمؤلف يسوق قصة موسى كما وردت في القرآن وقصته كما وردت في التوراة على أنهما متكاملتان، وهذا السياق يوقعنا في خطأ كبير، وهأنذا أقرر - ولا أدري أحداً سبقني إلى قراري هذا - أن الصورة التي يتبينها القارئ في نصوص القرآن لموسى تختلف اختلافاً كبيراً عن الصورة التي يتبينها له من تأمل نصوص التوراة رغم اتفاق القصتين في معظم الوقائع العامة، وأن الله في نظر موسى كما ذكر القرآن يختلف اختلافاً كبيراً عن (يهوه) في نظر موسى كما ذكرت التوراة، فإن موسى المؤمن بالله الواحد غير موسى الذي اختص هو وقومه بعبادتهم (يهوه) مرة، و (إلوهيم) - ومعناها الآلهة - مرة أخرى.
والمؤلف ينقل عن التوراة مسلماً بصحتها، ولا أريد أن أصدمه برأي الثقات من علماء المسلمين، ومبلغ ثقتهم بهذه (التوراة) كما فهموا من نصوص القرآن، لا أريد صدم المؤلف بذلك رغم أنه مسلم بل عالم من علماء الأزهر، ولكني أشير عليه أن يعيد قراءة التوراة كلها بفهم وتدبر، وأنا بواثق من أنه سيغير رأيه فيها كل التغيير، وليسمح لي أن أهمس في أذنه بأن الجهل التام شر من بعض العلم ولاسيما في هذه المسائل التي تؤخذ كلها. فليحط خيراً بما يريد الاعتماد عليه من المصادر، وإلا فحسبه مصادره الإسلامية وحدها، وشفيعه أنه من (علماء الأزهر) لا يثق إلا بما يثق به دينه وعلماؤه الفاهمون، فأما تقحم المعضلات بلا أهبة وخطف جملة من هنا ونبذة من هناك دون استيعاب ولا تمحيص فإثمه أكبر من نفعه.
لقد نقل المؤلف - كما أسلفت - عن كثير من علماء الآثار والمؤرخين الغربيين، وهو يهتم(805/52)
بذكر التفصيلات التافهة فكان عليه - لذلك - أن ينظر فيما أصدروا من أحكام خطيرة هي في حاجة إلى إبداء رأيه فيها لخطرها وخطر أصحابها. فالعالم النمسوي المشهور سيجموند فرويد - وهو يهودي غير متهم - يذهب في ترجمته لموسى أنه مصري لا يهودي، ويرى غيره أن موسى مات قتيلاً لا حتف أنفه وأن اليهود هم الذين قتلوه حين ضاقوا به وبإصلاحاته، وغيره يرى أنه تعلم في (جامعة عين شمس) على أيدي كهنتها، ومنهم من يرى أن فرعون المشار إليه في التوراة والقرآن ليس ملكاً مصرياً بل أحد الحكام الصغار في أقاليمها الشمالية الشرقية، ومنهم من يرى أن بني إسرائيل لم يتوغلوا داخل حدود مصر، ولم يتجاوزوا حدود صحراء سيناء أثناء ضربهم في الأرض شرقاً وغرباً، ويستدل قائل ذلك على قوله بسكوت التاريخ القديم عن ذكر عن ذكر هؤلاء الإسرائيليين بأي اسم من أسمائهم المعروفة قديماً وحديثاً، ومن هذه الأقوال ما لا يتعارض مع نصوص القرآن ومنها ما يتعارض معها، فهل عند فضيلة المؤلف علم شاف بهذه الأحكام التي لم تصدر جزافاً، وهل عنده حجة للرد على ما يتعارض منها مع نصوص القرآن؟ أنا في انتظار الجواب، وهو أول من يدل برأيه في هذا المجال الذي اختص به وعرف فيه حتى ما ذكره الغربيون كما يدل عليه نقله عنهم، ولعل فضيلته لا يبخل علينا بالجواب، كي تتم فصول الكتاب.
والمؤلف يعلم - أو يجب أن يعلم - من دراسة الفرق الكلامية الإسلامية، أن منها من تأثروا أو دافعوا أهل نحلة تسمى (المانوية) وكنا المانويين يصدقون بنبوة عيسى ويرفضون نبوة موسى، لأسباب منها أن (الإله) كما وصفته التوراة، شيطان متوحش شرير شغوف بالخراب والفساد وإراقة الدماء، وقارئ التوراة إذا حاول أن يتبين صفات (يهوه رب الجنود) وسيرته مع (شعبه المختار) وجب أن يتصوره مخلوقاً شيطانياً لا حد لأنانيته في الحب والتدليل لشعبه المختار، وهو أعجز المخلوقات حيلة في سياستهم وسياسة خصومهم، فبينما هو راض عنهم كل الرضا إذا هو ساخط عليهم كل السخط، وهو مفرط الحقد والكراهة لأعدائهم، فهو لذلك ولأنه لا حد لقدرته ولعدم حيلته - ينزل ضرباته على هؤلاء الأعداء في إسراف وجنون وقسوة لا حد لها، وينتقم لأتفه الأسباب أبشع انتقام، وهو رغم قدرته التي لا حد لها - مخلوق (جبان) يهاب مالا يهابه إنسان له شجاعة عادية، فهو(805/53)
ينكص عن محاربة بعض أعدائه وأعدائهم لأن لهم في الحروب عجلات قوية فهو يتركهم وشأنهم معهم، ولا يخوض معهم في حربهم خوفاً من هذه العربات. . . إلى غير ذلك من الفروض المستحيلة التي لا يستطيع العقل أن يحتفظ بوحدته معها، ويكاد ينسحق تحت وطأتها. وكنت أود أن أدلي بتفصيل شاف للقراء في هذا الموضوع وغيره مما ألمحت إليه هنا نولاً ضيق المقام وربما قدمت هذا البيان قريباً في كتابي (أصول الزندقة وتطورها).
ولقد آن لنا أن ننظر إلى قدماء حكام مصر في موقفهم إزاء قدماء الإسرائيليين نظرة ترضي الدين ولا تغضب الحقيقة ولست داعياً إلى ذلك عن عصبية للوطن ولا استخفاف بالدين بل عن رغبة في العدل ومتابعة أحكام العقل، وحسبنا التهم الباطلة التي ألصقتها اليهود بالمصريين منذ آلاف السنين ونقلتها عنهم الأمم الأخرى - حتى العرب - دون تمحيص، وأنا أدعو إلى ذلك عائذاً بالله من شر كل هوى أعمى يدفعني إلى ما يثلم عقيدتي، ويضلني عن الحق.
هذا وفي الكتاب عشرات المآخذ نكتفي منها بما أوردناه ونسكت عن بقيتها فلا نذكرها إجمالاً ولا تفصيلا.
أما بعد فدار الفكر العربي طابعة هذا الكتاب هي وغيرها من دور النشر، شديدة الضن بمالها وجهدها على المؤلفين الكادحين، وكنا نربأ بدار الفكر أن تنشر هذا الكتاب، فإن تكن غايتها الربح وحده ففي نشر (ألف ليلة) وأمثاله ما يكفل لها ربحاً أكبر، وإن كانت تهدف إلى خدمة الدين إرضاء للعامة ففي نشر (دلائل الخيرات وأمثاله) ما يكفل لها ربح رضاهم ومالهم أيضاً، ولقد آن للهازلين أن يجدوا، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
محمد خليفة التونسي(805/54)
القصص
مجنون!!
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
هل أنا مجنون؟ أو لست إلا غيوراً؟ لست أدري! ولكني أعاني عذاباً شديداً. لقد ارتكبت فعلاً جنونياً، فعلاً وحشياً حقا. ولكنها الغيرة الجارفة، والحب الطاغي القادر الذي لا أستطيع منه فكاكاً، والألم الممض الذي أقاسيه، ألا يكفي كل ذلك لأن يدفعنا إلى اقتراف الجرائم وارتكاب الحماقات دون أن يكون الإجرام متأصلاً في قلوبنا أو في عقولنا.؟
أواه. . أني أتعذب، أتعذب عذاباً شديداً مستعراً، مضنياً، مخيفاً. لقد أحببت زوجتي حباً جنونياً. ولكن. . . هل هذا صحيح؟ هل أنا حقاً أحبها؟ كلا. لقد كانت تسيطر علي جسداً وروحاً، وتقيدني بأغلالها. كنت ولا زلت أحد ممتلكاتها، بل لعبتها. كنت عبد ابتسامتها، وشفتيها، ونظراتها ووجهها، وتلافيف جسمها. كنت ألهث تحت سلطان جمالها. ولذلك كرهت في ذلك الجسد المرأة، واحتقرتها، ولعنتها. ولا زلت أمقتها، وأزدريها وألعنها، لأنها خدعة، حيوانية مدنسة، آثمة. أنها الشيطان في صورة امرأة، والحيوان البوهيمي المجرد من الضمير، والوحش البشري الذي لا بعرف الرحمة. بل هي أدنى من ذلك، فلم تكن إلا جسداً بديعاً جميلاً تسكنه الرذيلة.
إن أوائل أيام صلاتنا كانت عجيبة جميلة. كنت أرقد بين ذراعيها في نشوة، وشفتاها القرمزيتان المنفرجتان ترتعشان، وعيناها تثيران في نفسي التعطش إلى الحب. لقد كانتا رماديتين ظهراً، ثم تميلان إلى الخضرة عند الغروب، وزرقاوين عند الشروق إني لست مجنوناً، ولذلك أقسم أنه كانت لهما تلك الألوان الثلاثة. وتنفرج جفونها الثقيلة في بطء فتكشف عن نظرة من العواطف المتقدة سرعان ما تتلاشى فأشعر برجفة تهز كياني، ورغبة قاهرة في قتل ذلك الحيوان الثاوي في ذاتها حتى تصبح لي. . . أنا وحدي.
وعندما كانت تخطر في غرفتي، كنت أشعر بوقع خطواتها يتردد في فؤادي؛ ثم تبدأ خلع ملابسها، ويسقط رداؤها فتبدو سافرة أمامي. وهنالك تندفع الدماء في عروقي، ويلهث صدري، وتتخاذل ساقي، وأشعر برهبة غامضة تجرف قلبي.
كنت أنتظر أول نظراتها كل صباح، أنتظرها وأنا في ثورة وكراهية واحتقار لذلك الحيوان(805/55)
المتربع في كيانها الذي كنت عبداً له. أن مجرد تفكيري وخشيتي من أن تنكشف تلكما العينان الزرقاوان عن فتور وملل يجعلني أحس بنار سريعة تتقد في فؤادي فتحرقني وتزيد من حنقي وكراهيتي.
وفي ذات يوم لاحظت أنها فاترة نحوي، فنظرت إلى عينيها فوجدت فيهما تلك النظرة الباردة العابسة. وعندئذ عرفت، وشعرتن، وأدركت، لقد انتهى كل شيء، انتهى إلى الأبد. . . ولم يكن هناك أدنى شك في ذلك؛ لقد تبين لي الدليل في كل ساعة، بل في كل لحظة.
وحاولت، وناديت الذراعين والشفتين، فكانت تتحول عني في ضيق وهي تتمتم قائلة دعني. . . أنك ثقيل. . . ألا تترك لي فرصة للراحة؟!
وعندئذ شعرت بالغيرة المستعرة، وذقت مرارة الخديعة، وضاق صدري غيظاً، وعرفت جيداً أنها ملتني، وأن شعورها الحيواني الفاتر الآن سوف يلهبه رجل غيري يوماً ما. كنت غيوراً في جنون ولكني لست مجنوناً. . . كلا. . . بالطبع كلا.
وانتظرت وارتقبت ولكنها لم تخني. ومع ذلك ظلت باردة هادئة. وكانت أحياناً تقول لي (إني أنفر من الرجال) وعيناها تؤكدان ذلك عندما كانت ترنو إلي.
وصرت أغار من دلالها ومن برودها، وأغار من وحدة لياليها ومن حركاتها، وأغار من أفكارها الآثمة بل من كل شيء يتعلق بها.
كنت عندما أستيقظ صباحاً وأنظر إلى عينيها، تلكما العينين المطفأتين، يضيق صدري غضباً وأشعر بثورة جارفة في نفسي تعصف بي وبنزوة طارئة تدفعني إلى خنقها، وأن أضغط على عنقها الجميل حتى أرغمها على الاعتراف بما في صدرها من أسرار.
هل أنا مجنون؟. . . كلا. . .
وفي ذات ليلة وجدتها وقد غمرتها سعادة لا أدري كنهها. فاستنتجت أن عاطفة جديدة قد تولدت في ذاتها. بل تأكدت من ذلك تأكد لا يتزعزع. لقد كانت تنتفض انتفاضة من أشبع رغبته، ملتمعة العينين باسمة الثغر، مشرقة الوجه. وتظاهرت بعدم المبالاة. ولكني كنت أراقبها من طرف خفي، ومع ذلك لم أكتشف شيئاً وانتظرت أسبوعاً، ثم شهراً، ثم فصلاً، فكانت تزداد جمالاً في عاطفة غامضة وقد غمرتها نشوة من السعادة المبهمة. وفجأة وضح لي الأمر، واستنتجت، وعرفت! إني لست مجنوناً. أقسم إني لست مجنوناً.(805/56)
ولكن. . . كيف أعبر، وكيف أشرح، وكيف أفسر؟!
كان ذلك في ليلة عادت فيها من نزهة ممتطية صهوة جواد. وترجلت عنه بوجنتين ورديتين، وصدر لاهث، وساقين متعبتين وعينين مجهدتين. ثم تهالكت جالسة على مقعد منخفض. ورأيتها في هذا الحال فعرفت أنها قد وقعت في حب غيري. إذن لم أكن مخدوعاً! وتحاشيت نظراتها وأنا في ذهول. والتفت صوب النافذة فرأيت الخادم يقود الجواد إلى حظيرته. ثم نظرت إليها، كانت تتبع الجواد بعينيها، وهو يسير في نشاط، حتى إذا ما اختفى عن ناظريها استلقت على المقعد وراحت في سبات عميق.
وقضيت الليل مسهداً أفكر. كنت أحاول أن أخترق سراً لا اشك في وجوده. من ذا الذي يستطيع أن يصل إلى أعماق نفسية المرأة؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يكشف دلالها الغامض وخيالها العجيب؟
وأصبحت ترحل فجراً وقد امتطت صهوة جوادها فيركض بها في السهول والغابات. وكانت تعود في كل مرة مجهدة كأنها مقبلة من موقعة غرامية. وفهمت، وأصبحت أغار من ذلك الجواد، وأغار من الريح التي تداعب شعرها، ومن الأفنان التي تهمس في أذنيها، ومن أشعة الشمس التي تقبل وجنتيها، من ذلك السرج الذي يلمس جسمها. أغار من كل هذه الأشياء التي غمرتها بالسعادة والبهجة والنشوة والتي تنهك قواها فتعود إلي في شبه غيبوبة.
وعزمت على الانتقام. وجعلت ألاطفها وأوليها اهتمامي. وأمسك بيدها أعينها على الترجل بعد عودتها من نزهتها. وكان الحيوان المتوثب يندفع نحوها، فتربت على رقبته وتقبله في خياشيمه دون أن تمسح شفتيها، وتمتزج رائحتها برائحته الغريبة.
وانتظرت اليوم والساعة، ساعة الانتقام. كانت تسير كل صباح في طريق يخترق غابة صغيرة فخرجت قبل الفجر وقد تزودت بحبل ومسدس أخفيته في صدري وكأنما أنا ذاهب إلى مبارزة وأسرعت صوب ذلك الطريق، وشددت الحبل بين شجرتين، ثم رقدت وسط الحشائش وأنا أرهف السمع، فسمعت صوت ركضات الجواد آتية من بعد، ثم لمحتها مقبلة تحفها الأفنان والجواد مندفع بها: أواه. أني لم اكن مخدوعاً. لقد كانت في سرور ظاهر، والدماء تتصاعد إلى وجنتيها، وقد تلألأت عيناها وهي تهتز فوق الجواد في نشوة جارفة.(805/57)
واصطدم الجواد بالحبل فكبا ثم سقط على الأرض مكسور المقدمتين وتلقفتها بين ذراعي القويتين ثم أنزلتها على الأرض. واقتربت من الجواد. كان ينظر إلي في غضب. ثم حاول أن يعضني، فصوبت المسدس إلى أذنه وأطلقت عليه رصاصة كأني أطلقها على رجل. . . على منافس لي. وفي نفس الوقت سقطت على الأرض أثر ضربة من سوط وقعت على وجهي فنظرت فرأيتها تهم بالاعتداء علي مرة ثانية، فأطلقت عليها رصاصة أخرى فاخترقت صدرها الجميل. . .
. . . خبرني إذاً. . أأنا مجنون؟!.
محمد فتحي عبد الوهاب(805/58)
العدد 806 - بتاريخ: 13 - 12 - 1948(/)
المنبوذة
- 1 -
جمعني مجلس من مجالس المنصورة الأدبية ببعض السيدات الحديثات من اللائي يتزعمن دعوات الخير، ويتصدرن حفلات التكريم، ويفشين أندية الرياضة. وكان مجلسي من الصالون بين سيدتين رشيقتين أنيقتين لهما اطلاع على الأدب ومشاركة في الثقافة. فجرى الحديث بينهما وبيني أول الكلام فيما يشغل الناس من أمر فلسطين ومصير اللاجئين؛ ثم أفضى إلى ذكر ما تبذلان من الجهد الجاهد في معونة الهلال الأحمر ومبرة محمد علي، فنم سياق حديثهما وما شاب أداءه من نبرات الزهو وحركات العجب على ما تضمران من حب الظهور ورغبة الشهرة، في طوايا ما تظهران من حب الخير ورغبة المنفعة. والمرأة الجميلة الفتية لا تجد في الحياة المصرية مظهراً لفتنتها، ولا معرضاً لزينتها، ولا سبيلاً لشهرتها، إلا في الحفلات الخيرية والخدمات العامة: فهي تشترك فيها بالشعور والحضور لتظهر، وتتبرع لها بالجمال والمال لتذكر. بله ما تشعر به من الرضا والغبطة بمنافستها للرجل في ميدان عمله، ومساعدتها للوطن على تحقيق أمله.
ثم انتقلنا إلى حديث الأدب فذكرتني إحداهما بما كتبته في الرسالة عن (مثل المرأة الحديثة) فشكرت بعضه وأنكرت بعضه. وكان الذي أنكرته ما يرمي إلى تقييد المرأة وقصر كفايتها على تربية وتدبير البيت ومعاونة الرجل. ثم مضت تنوه بما يكون للمرأة الحرة المستقلة من أثر في الأسرة وبلاء في المجتمع إذا شاء الرجال أن يفردوها بشؤون البيت ويشركوها في أمور الوطن. وفي اللحظة التي كانت تقول فيها: (إن المرأة روح الأمة والرجل جسمها وإن الزوجة رأي الأسرة والزوج عزمها، طغى على صوتها الحماسي صوت سيدة نصف كانت تتحدث في تأثر وامتعاض إلى هلال من عقائل المدينة فيهن ربة الدار؛ فأصغتا وأصاخ الجلوس فإذا هي تروي حادث الطلاق الذي وقع في الأيام الأخيرة بين فتى محافظ أبوه من نبلاء الريف، وبين فتاة حرة أبوها من أطباء المدينة. وكان سبب هذا الطلاق الذي أعقب الزواج أن العروس كانت مغرقة في التحرر، مسرفة في التجدد، فسعت بنفسها على أسرة العريس، ورمت حماها بالرجعية وحماتها بالأمية، وطلبت أن تسيطر على أرزاق البيت وعلى أذواق أهله، فتبدل أثاث الغرف كل سنة، وتغير زي النساء كل شهر، وتقيم(806/1)
حفلة استقبال كل أسبوع. ثم اقترحت أن يزال الجدار الحاجز بين البهو والردهة ليكون منهما مرقص متى أريد الرقص ومقصف متى أريد القصف؛ وأنم يقلع الشجر المثمر في الحديقة لينشأ على مكانه ملعب للتنس وحوض للسباحة. وكان المطلب الأخير ألا يدخل البيت ريفيون من أقارب الزوج ولا فلاحون من رجال العزبة. فلم يستطع الزوج معها صبراً، ولم يجد أبوه لترويضها حيلة، فكان الفراق وكانت الفضيحة!!
فلما سمعت جارتاي الخبر وكانتا على علم به من قبل، قالتا بلسان واحد: (المودرنة للمودرن والقديمة للقديم! والمخطئ هو الذي ينزل في غير أهله، ويقع على غير شكله!).
ثم تركنا القوم على الحادث والحديث بما يشاءون، وانتقلنا إلى مائدة الشاي ثم عدنا حيث كنا. وعادت جارتي اليسرى إلى حديث التقيد والانطلاق، وكانت جارتي الأخرى قد فتحت محفظتها وأخرجت منها قلم الروج أو الإصبع الأحمر وأخذت تجدد به صبغة شفتيها، ثم أعادته وأخرجت سيكارة إنجليزية وأشعلتها، وقطعت صاحبتها الحديث وفعلت فعلتها. ثم لحظتا بعض الهنوات على زينة المدعوات وأزيائهن، وتبادلتا بعض الغمزات على كلام المتحدثات وآرائهن. ثم أقبلتا علي تستأنفان ما كنا نخوض فيه من الحديث فوجدتاني شارد اللب مطرق الرأس مطبق الجفنين كأنما أخذتني فترة النعاس، فقالتا لي: ماذا عراك؟ فقلت لهما: ذكرى بعثها في الخاطر هذا الأحمر على شفتيكما وخديكما! فقالتا: أنعم بذكرى تظفرنا منك بحديث، وتمتعنا بلذة الموازنة بين القديم والحديث. . .
(للحديث بقية)
أحمد حسن الزيات(806/2)
الصهيونية هي الخطر الأول
في حاضر الشرق العربي ومستقبله
للأستاذ عمر حليق
قد يكون الكاتب أو القارئ العربي أو كلاهما مصابا بمركب (اليهودية) إذا جاز لنا استعارة هذا التعبير من مصطلح علماء النفس، ولكن أي تعليل لا يعترف بأن المشكلة الصهيونية هي الخطر الأول في حاضر الشرق العربي ومستقبله لا ينصف الحقيقة ويساير منطق الحوادث والأشياء.
ولنترك الشرق العربي، ولنترك فلسطين لنتعرف على لون من ألوان الخطورة التي تحكيها اليهودية العالمية في أمريكا وهي البلاد التي بلغ اليهود فيها أوج النفوذ وما يتبعه من رخاء وقوة وجاه.
في هذه الحرب الباردة التي يشنها الروس والأنجلوسكسون في برلين وهيئة الأمم وأقصى القارة الأسيوية وفي كل ناحية من نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية تلعب دور اليهودية العالمية بالنار لعبة أكبر الظن أنها ستحرق نفسها مرة ثانية في أقل من عشرين سنة. أين تقف اليهودية العالمية - وهي عالمية منظمة كما تشهد بذلك فلسطين - أين تقف من هذا الصراع؟
إن النزاع بين الماركسية السوفيتية وبين الديمقراطية الأنجلوسكسونية حقيقة لا مفر لكلتيهما من التسليم بها.
فالماركسية السوفيتية وما علق بها من فلسفة لينين وستالين نعترف في تحليلاتها الاقتصادية والفلسفية والقانونية والسياسية بأن بقاء الشيوعية وحياتها ستظل معرضة للخطر، خطر الفشل ثم الانحلال والدمار، وما لم تحول العالم بأسره إلى الشيوعية عن طريق الثورة وما يسبقها من ممهدات. فهي بذلك حركة توسع من نوع مستحدث وخطير معاً. ولن تنفع في دفع هذه الحقيقة ملايين الخطب والتصريحات التي تصدر عن موسكو وعن فيشينسكي من منابر الأمم المتحدة. ذلك لأن هذا التوسع منصوص عليه في التعاليم الشيوعية وفي الدساتير الشيوعية وفي ثورات الشيوعية وكتبها المقدسة وفي ماركس وأنجلس ولينين وستالين.(806/3)
والرأسمالية الغربية، وإن لم تكن دساتيرها وفلسفتها السياسية وأنظمتها الاقتصادية تتطلب مثل هذا التوسع السوفيتي - فالغرب توسع استعماري تقليدي من نوع مماثل في السوء - إلا أن هذا التحدي السوفيتي يضع الديمقراطية الغربية في نفس الوضع الهجومي الذي تقف فيه روسيا السوفيتية، ويجعل أمريكا وهي معقل هذه الديمقراطية في هذه الأهبة التي تستعد فيها المواجهة للتوسع السوفيتي ولسحقه وإبادة الماركسية التروروية من الوجود في المراحل النهائية إذا استطاعت ذلك.
أين يقف اليهود، وهم قومية لها في كل معسكر جالية ضخمة العدد، قوية النفوذ؟
في روسيا نفسها نجد العنصر اليهودي في الحزب الشيوعي وفي ألسنته الشعبية والفكرية بارزاً أشد البروز.
فرئيس تحرير برافدا، واسفستيا، وكبار المعلقين في راديو موسكو، وكبار كتاب المقالة السياسية (أمثال اهرتبرغ) يهود، ومراسلا تاس في أمريكا وفي هيئة الأمم يهوديان كذلك.
وفي بولندا يبرز العنصر اليهودي في النظام الشيوعي القائم هناك أشد البروز في وجه مجتمع كاثوليكي يمقت بحكم تعاليمه وتأصل التقوى فيه الشيوعية مقتاً - لعل الفاتيكان خير من عبر عنه في أكثر من مناسبة.
وعلى سبيل المثال فإن الوفد البولندي لهيئة الأمم مؤلف من خمسة أعضاء رئيسين كلهم يهود.
وفي رومانيا مدام بوكر وزيرة الخارجية (وهي ابنة حاخام) تحكم البلاد حكم السيد المطلق السلطة.
وكان اليهود في انقلاب تشيكوسلوفاكيا اليد الطولى، وفي هنغاريا وقسم الاحتلال في النمسا وألمانيا عددهم ونفوذهم في الحكم والتوجيه الفكري والسياسي ظاهر.
ترى ما مبلغ عداء العناصر القومية في تلك البلدان لهذه السيطرة اليهودية؟ لا يمكنك أن تجد الجواب في الصحف المحلية - فهذا غير معقول - ولا تجده كذلك في الصحف الأجنبية في الدول الديمقراطية، فكلمة (اللاسامية) أصبحت - بفضل الضغط والدعاية اليهودية المنظمة - وسيطرتهم على معارض الإعلان ودور النشر والإذاعة والسينما، وباء لا يلمسه المعلقون والكتاب في العالم الغربي إلا ويضعون مستقبلهم الأدبي والاقتصادي في(806/4)
يد (الجستابو) اليهودي الذي يطلق على نفسه في أمريكا (مجمع مقاومة التشهير) وميزانيته للسنة الحالية، 6 ملايين دولار!
ولكن الظاهرة الخطيرة أن هذا الضغط، هذا الجستابو اليهودي بشدته وجبروته أخذ يدفع العناصر الجريئة في أمريكا إلى أن تحاربه بنفس السلاح - بالتشهير على طريقة جوبلز. ففي النشرة الأخيرة التي أصدرها هذا المجمع اليهودي نفسه يعترف بأن موجة العداء ضد اليهود في أمريكا قد ارتفعت ارتفاعاً مخيفاً.
وهذه الظاهرة تدعو إلى التساؤل: ذنب من هذا؟ ذنب اليهود أم غير اليهود؟ الجواب أن الذنب على الغطرسة، وعلى روح التحدي والخداع والمواربة التي تتملك العقلية اليهودية في كل مكان وفي كل جيل فتجلب على اليهود وعلى المجتمع الذي يأويهم فوضى الشغب العنصري الذي بليت به ألمانيا في ظل النازية، وبليت به روسيا العنصرية، وأسبانيا الكاثوليكية من قبل، وتبلى به العراق مثلاً اليوم.
قلنا إن النزاع بين الشيوعية السوفيتية والرأسمالية الأمريكية حقيقة لا مفر من التسليم بها على شناعتها. واليهود في أمريكا يعلمون ذلك ويعلمونه أكثر من كل المواطنين، وذلك لأن وعيهم السياسي شديد فهو يتمشى مع عقليتهم ونشاطهم الاقتصادي. ولكن أين يقف اليهود؟
اليهود هم العنصر الرئيسي في الحزب الشيوعي الأمريكي، وذلك بشهادة هذه التحقيقات التي لا تزال اللجنة البرلمانية الأمريكية تلاحقها منذ أكثر من سنة. واليهود وراء حزب هنري والاص وهو حزب مهادنة الروس بأي ثمن.
ونسبة اليهود الذين يدرسون النظريات الماركسية والسوفيتية في الجامعات ومعاهد العلم الأمريكية عالية جداً، والكتاب الذين يعالجون مواضيع العلاقات السوفيتية والأمريكية بروح العطف تجد نسبة اليهود بينهم عالية جداً، ولذلك كان من الصعب، بل من المستحيل على الأصوات الأمريكية الخافتة التي تفهم قضية فلسطين وقضايا العالم العربي أن تقنع الرأي العام الأمريكي بخطورة محالفة موسكو والصهيونية في فلسطين، على المصالح الأمريكية.
ولذلك كان من الصعب جداً على خبراء السياسة الفكرية في أمريكا وبريطانيا أن ينجحوا في ضم إسبانيا إلى البرنامج العسكري لأوربا الغربية.
وحتى في مشكلة برلين، حيث التوتر على أشده يقف والترليمان وهو معقب سياسي يهودي(806/5)
خطير النفوذ يطلب أن تحل مشكلة برلين على حساب الشعب الألماني أن يبني خط الدفاع العسكري في فرنسا وراء مناجم الرور وفحمه! ويسوى خلاف أمريكا وروسيا، بأن ينسحب الطرفان ويترك الشعب الألماني لمقدراته، ببؤسه وحطامه ليبيد! ولزيادة التعريف بليمان هذا أقول إنه وضع مشروعاً لحل قضية فلسطين قبل أن يضع تقريره برنادوت بأربعة أشهر، ومشروع برنادوت صورة فوتوغرافية لمشروع ليمان!
ومن قبل والترليمان هذا شرع يهودي أمريكي آخر، هو هنري موجنتاو عندما كان وزيراً للمالية بواشنطون زمن الحرب وبعد انتهائها، يمحو مقومات الثقافة والاقتصاد والكيان الحيوي لألمانيا بواسطة مشروع جهنمي أكتشف الأمريكان خطورته قبل أن يتم تحقيقه فأقيل موجنتاو، وهو الآن يدير المجهود الحربي ليهود فلسطين في أمريكا.
ومن وجهة النظر الأمريكية البحتة فإن إحياء ألمانيا ضرورة لازمة.
ما الذي يفيده الشرق العربي من هذه الصورة اليهودية الخطيرة؟
الجواب يفيده في مراقبة تسرب النفوذ اليهودي في ألسنة الرأي العام والتوجيه الصحفي والثقافي في العالم العربي؛ فحركة (الكاتب المصري) يجب ألا تكرر، وديكتاتورية السينما والإعلانات اليهودية والأنباء الخارجية، وتمكن اليهود في النفوذ الاقتصادي العربي يجب أن يوقف بأي ثمن. إن هذا النفوذ هو الذي أعمى الأمريكان والروس معاً، ومعهم عشرات الدول الأوربية عن مأساة العرب في فلسطين، وعن مأساتهم في السودان ومراكش والجزائر وتونس. كتبت جريدة (الجويش كرونكيل) اليهودية في لندن تقول إن يهود شمالي أفريقيا يعتقدون بأن كيانهم مرتبط بالاتحاد الفرنسي، أمام بعبع الجامعة العربية!
وفي عالم مضطرب، وفي شرق يحاول بناء حضارة ومجد أصيل، يجب أن يعلم أن اليهودية العالمية تشكل أخطر ما يواجهه من شرور. إنه خطر تكرر في أجيال سابقة وثقافات سابقة وفي التاريخ لنا عبرة.
(نيويورك)
عمر حليق(806/6)
مجال الأدب بين مظاهر الشعور
للأستاذ أحمد احمد بدوي
يرى علماء النفس للشعور مظاهر ثلاثة: فهو تفكير إذا كان بحثاً عن حقائق الوجود لمعرفة أسبابها، واستنباط قواعدها، وإدراك ما بين بعضها وبعض من صلة أو تنافر؛ وهو وجدان إذا صحبه إحساس باللذة بالألم، فالحب والبغض والسرور والحزن والرجاء واليأس، والخوف والغضب، كلها وجدانات تتصل بالنفس فتحدث بها لذة أو ألماً؛ وهو إرادة إذا حفر المرء إلى العمل، ودفعه إليه، كالرغبات والنيات.
وإن بين هذه المظاهر النفسية اتصالاً وثيقاً لا يتأتى معه انفعال واحد عن صاحبيه، وإن كان المظهر الغالب لأحدهما؛ فمن المحال أن نجد ألماً في أنفسنا من غير أن نبحث عن سببه ونبذل طاقتنا في سبيل إبعاده. ويستحيل أن نفكر في عمل عقلي من غير أن نشعر بارتياح إذا سهل الأمر وانقاد، وامتعاض إذا اعتاص والتوى. والأعمال الإرادية يصحبها التفكير والوجدان، ولا تستقل بنفسها أبداً.
غير أن الصلة التي تربط هذه المظاهر بعضها ببعض قد تكون طبيعية، إذا كانت التجربة نفسها تستدعي هذا الترابط بطريق تداعي المعاني، كما إذا وصل إليك نبأ نجاحك مثلاً، فإن خواطر شتى تفد إلى نفسك من كل صوب: ما بين سرور وابتهاج بما ظفرت به، وتفكير في الوسائل التي انتهجتها، فوصلت بك إلى تلك الغاية السعيدة؛ إلى رغبات وهزمات تصمم عليها، ويدفعك إليها هذا الظفر المحبوب، وبينا ترى بعض هذه الخواطر واضحاً جلياً للنفس، يحتل بؤرة الشعور أو الحواشي القريبة منها، تجد بعضها الآخر غامضاً خفياً لا تكاد نشعر به، ةتكون الصلة غير طبيعية إذا لم تكن التجربة مستدعية لها بطريق تداعي المعاني، كما إذا كنت تدرس نظريات الهندسة، فسئمت العمل وتركته فليس بين نظريات الهندسة والسأم من صلة.
ليس التفكير الخالص بميدان للأدب، وإنما هو مرتع للعلم وحده، أما الأدب فمجاله الإحساس بالحسن الذي يشير في النفس لذة، أو بالقبح الذي يبعث فيها ألماً، فالأدب تعبير عن هذا الإحساس، وتصوير له، فهو لسان الوجدان وترجمانه، وإذا كان العلم لسان التفكير والمبين عنه.(806/7)
تسمع قول قريط بن أنيف يعاتب قومه الذين لم ينجدوه ويمدح بني مازن؛ لأنهم أخذوا بيده ونصروه:
لو كنت من مازن لم تستبيح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا أقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
فالشاعر هنا يصور لنا نقمته على قومه، وازدراءه كثرة عددهم لخورهم وجبنهم، حتى ليقابلون ظلم ظالمهم بالصفح والغفران، وإساءة المسيئين إليهم بالعفو والإحسان. يتلمسون لضعفهم المعاذير، من الخضوع لتعاليم الدين، فكأن الله لم يخلق غيرهم لخشيته. أما بنو مازن فهو معجب ببسالتهم وإقدامهم، يمنعون حماهم أن يستباح، ويجد أعداؤهم فيهم خشونة لا تلين، يسرعون إلى نصرة أخيهم قبل أن يطلبوا منه برهاناً على ما قال، فلا عجب أن تمنى استبدال قومه بغيرهم.
تحدث الشاعر في تلك القطعة عن إعجابه وسخطه، أي عن إحساسه بالجمال والقبح، ونجح في تصويرهما، مستعيناً على ذلك بألوان من الخيال، تكاد تلمس بها خشونة جانب من نصروه، وترى بها الشر مكشراً لهم عن أنيابه، وتبصرهم طائرين لا يلوون على شيء، ومورداً هذه المناقضات التي ما كان يليق أن تكون، ومتهكماً بهم تهكماً مراً لاذعاً، ويشعر القارئ لهذا الشعر بلذة أثارها فينا نجاحه في التصوير، وبراعته في التعبير.
بينما نحن لا نعد من الأدب هذه المقالات العلمية التي تخاطب التفكير وحده، من غير أن تشرك الوجدان معه.
على إن الأديب قد يستعين بقضايا الفكر على تصوير هذا الإحساس، كما فعل المتنبي عندما أراد أن يصور حيرته اليائسة من الوصول إلى أن يدرك كنه الحياة ومصير الوجود(806/8)
فقال:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل: تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
وهنا نجد الطريق ممهداً للحديث عن هدف الأدب، والحق أننا نقف بهذا الهدف عند حد الإثارة الوجدانية، فلا نطلب منه أن يمدنا بأفكار صادقة عن الحياة، ولا أن يثير فينا النزوع إلى الأعمال الصالحة، أي أن ليس مهمته التعليم والإصلاح، وإن كان ذلك لا يمنع من أن يزودنا بالأفكار، أو أن يحرك إرادتنا للعمل، سواء أكان ذلك مقصوداً للأديب أم غير مقصود؛ فقد يقف الأدب عند حد الإثارة الوجدانية فحسب، كما في أدب الطبيعة، وشعر الغزل وكثير من المرائي والرسائل، والمقالات العاطفية المحضة، مثل قول البحتري:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوَّما
يفتقها برد الندى فكأنه ... يبث حديثاً كان قبل مكتما
فمن شجر رد الربوع لباسه ... عليه، كما نشرت وشياً منمنما
أحل، فأبدى للعيون بشاشة ... وكان فذى للعين إذ كان محرما
ورق نسيم الريح حتى حسبته ... يجيء بأنفاس الأحبة نسما
وقول العشيري:
حننت إلى ريَّا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعباكما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا
قفا ودعا نجداً، ومن حل بالحمى ... وقل لنجد عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا ... وما أحسن المصطاف والمتربعا
ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وجالت بنات الشوق يحنن نزعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجمت من الإصغاء ليناً وأخدعا
وأذكر أيام الحمى، ثم أنثنى ... على كبدي من خشية أن تصدعا(806/9)
وليست عشيات الحمى برواجع ... إليك ولكن خل عينيك تدمعا
وقول ابن الرومي يرثي ابنه.
بكاؤكما يشفي إن كان لا يجدي ... فجودا فقد أودى نظيركما عندي
ألا قاتل الله المنايا ورميها ... من القوم حبات القلوب على عمد
توخى حمام الموت أوسط صببني ... فلله كيف اختار واسطة العقد
على حين شمت الخير من لمحاته ... وآنست من أفعاله آية الرشد
طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب، قريباً على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها ... وأخلفت الآمال ما كان من رعد
لقد قل ما بين المهد واللحد لبثه ... فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد
محمد، ما شيء توهم سلوة ... لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذَّعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سلوة بل حرارة ... يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
وحيناً يمدنا بمعلومات عن الحياة، ونظم الكون والمجتمع على شريطة أن يكون ذلك ممتزجاً بشعور الأديب، وناشئاً عن تجربة شخصية له، كما ترى ذلك في ألوان الأدب الاجتماعي والسياسي وفي شعر الحكمة كقول زهير:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يسقفن عنه ويذمم
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يعد حمده ذماً عليه ويندم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقول المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا(806/10)
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
وقوله:
إنما أنفس الأنيس سباع ... يتفارسن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء وغلابا ... واقتساراً لم يتلمسه سؤالا
كل غاد لحاجة يتمنى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا
وقديماً عدوا حسن إيراد الحجة من البلاغة، وضربوا بذلك المثل بقوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم؟! قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة، وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون، أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى، وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فيكون؛ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).
وحيناً يثير الأديب فينا الإرادة، ويدفعنا إلى العمل. وأظهر ما يتجلى ذلك في الخطابة، فإنها كثيراً ما ترمي إلى إثارة التفكير المصحوب بالوجدان والمتبوع بالعمل كخطبة عبد الله بن طاهر في جنده، وقد تجهز لقتال الخوارج: (إنكم فئة الله، المجاهدون عن حقه، الذابون عن دينه، الذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله، والطاعة لولاة أمره، الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام المسلمين، فاستنجزوا موعود الله ونصره، بمجاهدة عدوه، وأهل معصيته، الذين أرشدوا وتمردوا، وشقوا عصا الطاعة، وفارقوا الجماعة، ومرقوا من الدين، وسعوا في الأرض فساداً، فإنه يقول تبارك وتعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) فليكن الصبر معقلكم الذي إليه تلجئون وعدتكم التي بها تستظهرون، فإنه الوزر لمنيع الذي دلكم الله عليه، والجنة الحصينة التي أمركم الله بلباسها. غضوا أبصاركم، وأخفتوا أصواتكم في مصافكم، وامضوا قدماً على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله والاستعانة به، كما أمركم الله، فإنه يقول: (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون).(806/11)
أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحياطة والنصر).
فأنت تراه قد أثار وجدانهم، بما عرضه عليهم من الأفكار ليدفعهم إلى الجهاد.
وكما في الآيات القرآنية التي ترمي إلى تحريك الإرادة مثل قوله سبحانه: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وكقول الشاعر:
دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألفوا دونه الأُزُرا
وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد ثمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وأكثر ما يحرك الأدب الإرادة من غير أن يأمرها بذلك، كما في الروايات التمثيلية الخلقية والاجتماعية، وكما في كثير من الشعر، وربما كان هذا هو ما حدا الأقدمين إلى أن يوصوا أولادهم بحفظه ودراسته؛ بل ربما كان هو المعنى الذي لحظوه عندما وضعوا لهذا اللون من القول الجميل اسم الأدب. قال معاوية لأبنه: (يا بني، ارو الشعر وتخلق به، فلقد هممت يوم صفين بالفرار مرات فما ردني عن ذلك إلا قول ابن الإطنابة:
أبت لي همتي، وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحسدي أو تسبريحي
لأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح
وأنت ترى الشعر نفسه لا يطلب إقداماً، ولا يحث على ثبات، ولكنه حديث عن هذا النزاع الذي دار بنفس قائله، وهو في ميدان القتال، وكيف استطاع أن يثبت في هذا الميدان، يحمله على الثبات ماض مليء بالجهاد، وهمة تأبى النقيصة، وقلب موكل باكتساب المجد، ونفس اعتادت الإقدام على المكاره، وضرب هامات الأبطال دفاعاً عن مآثره، وحماية لعرضه. وليس في الشعر سوى هذا، ولكن معاوية رأى في صاحبه بطلاً جديراً بالإقتداء.
وبما قدمناه يتبين أن هذا الخلاف على أن الإصلاح الاجتماعي من أهداف الأدب خلاف ظاهري، يزيله تحديد معنى الأدب، وتحديد مجاله، أما وقد قلنا: إن كل ما في الحياة يصلح أن يكون موضوعاً للأديب؛ على أن يتناول من ناحية إحساس الأديب بما فيه من جمال أو(806/12)
قبح، فلا ضير على الأديب إذاً أ، يتناول مسألة خلقية أو اجتماعية يعالجها، أو أن يدعو إلى فضيلة أو ينهى عن مأثمة، على شريطة أن يكون ذلك من تجاربه، وأن يثير فينا الوجدان، فيرضى فنعمل، أو يكره فنكف.
الأديب حر في أن يتناول ما يشاء من تجاربه، من غير أن نضع له خطة ينتهجها، وكل ما نطالبه به أن يرسم لنا شعوره؛ ولذا نرى من الأدباء من أحس بجمال المشورة فمدحها، كبشار بن برد إذ قال:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح او نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم
ومنهم من لم ير فيه جمالاً، كعبد الملك بن صالح حين قال: (ما استشعرت أحداً إلا تكبر علي، وتصاغرت له، ودخلته العزة، ودخلتني الذلة، فعليك بالاستبداد؛ فإن صاحبه جليل في العيون، مهيب في الصدور، وإذا افتقرت إلى العقول حقرتك العيون، فتضعضع شأنك، ورجفت بك أركانك، واستحقرك الصغير، واستخف بك الكبير، وما عز سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصائحه). وكلا القطعتين من الأدب.
أما التعبير الإباحي فليس من الأدب، ولا الفن الجميل، لأننا نعني بالإثارة، تلك الإثارة الوجدانية الروحية الخالصة، أما إثارة الغريزة الجنسية فليس من عمل الأدب، ومثل هذا اللون من القول مثل الصور الخليعة الماجنة لا يعدان من الفنون الرفيعة.
أحمد احمد بدوي
المدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول(806/13)
طرائف من العصر المملوكي
عبرتان من عبر التاريخ
للأستاذ محمود رزق سليم
هاتان عبرتان من عبر التاريخ - وكم فيه من عبر - نسوقها إلى زعماء العرب وشعوبهما، في هذه الأزمة الخانقة والآونة الحاسمة التي يمرون بها أو تمر بهمز ولعل فيهما متعظاً ومعتبراً.
في كل عبرة منهما نزل خطب، وألمت شدة، وحزبت ضائقة ووقف عدو لدود بالمرصاد.
أما في الأولى فقد التأمت الصفوف وتنادت الأصوات وتصافت النفوس ولمت الأيدي واجتمع الهوى، حتى أصبح المسلمون - أو بعضهم - جبهة واحدة، فردوا العدوان ودفعوا الطغيان وكانت عاقبتهم نصراً مؤزراً وغلباً مظفراً.
أما في الثانية فقد تغيرت القلوب وانتثر الشمل وتفرقت الأيدي، وأضمر الغدر، وحيكت الخيانة، فكانت العاقبة خساراً ودماراً، وشقوة وبواراً.
هما موقفان من مواقف الأمة المصرية وقادتها، كان أولهما في مطالع العصر المملوكي، وكان ثانيهما في أخرياته. يتمثل في الأولى مزايا الإقدام والشجاعة، وعواقب الحزم والعزم، وفوائد الوحدة والتعاون، بما يحق الحق ويصون الكرامة، ويبقي العزة ويؤثل المجد، ويضفي المهابة. ويتمثل في الثاني مثالب الخور والجبن، وعواقب التردد والضعف، وغرم التفرق والخلف. بما يهدر الحق ويشيع الذل ويمكن للفساد، ويصوح به نبت الحياة.
أقبل عام 656هـ يحمل في جعابه للأمم الإسلامية سهاماً مريشة، وعلى مناكبه رماحاً مشرعة، تنذر بالويل والثبور، والهلاك والدثور. فهاهم أولاء التتار قد نسلوا من أواسط آسيا بعد أن خربوا الديار وأباحوا الدمار، بقلوب فاجرة، وأفواه فاغرة وحب السفك تغلى به دماؤهم، وتضطرب أعضاؤهم، وقد هيئوا العدة، وجمعوا الكيد، فتجهم بهم وجه الأفق، وارمدت بهم صفحة السماء، وأكفهر جو القدر وأرجف المسلمون في كل مصر أن حدثاً جللاً سيقع. فتدافعت سيول التتار إلى بغداد والعراق، بعد أن خلفوا وراءهم أمماً باكية وشعوباً ممزقة وعروشاً مثلولة فأتموا ببغداد فصول روايتهم، وأزالوا من سمائها شمس الخلافة العباسية، واتخذوا في أهلها ما شاء لهم العوام والشراسة وحب السفك والفتك.(806/14)
تسامع الناس بأخبارهم في ديار حلب والشام ومصر، وأخذت الفرائص ترتعد هلعاً وفزعاً تترقب هبوط هذا الوباء التتري آونة وأخرى. وكانت ديار حلب والشام مقسمة دولاً صغيرة متنابذة متمادية متواثبة يحكمها بقايا من أمراء بني أيوب. بينما كانت مصر قد تأثل فيها المماليك دولة عتيدة وسلطنة مجيدة جهد مؤسسها عز الدين أيبك في توطيد دمائهما وتثبيت أركانها منذ عام 648هـ. ثم خلفه ابنه المنصور، وكان حدثاً صغيراً، فأقيم الأمير (قطز) المعزي مملوك أبيه نائباً لسلطنته وفوضت أمور الدولة إليه. وكان على دمشق أمير من الأيوبيين اسمه الناصر، ترددت الأطماع في نفسه أن يدهم مصر ويستأثر بملكها. فلذلك كان بين سلطان مصر دخل وجفاء. وبينما كان الناصر بين الخوف والطمع إذ وافته رسل (هولاكو) التتري تطالعه برسالته التي يهدده فيها ويتوعده، ويدعو إلى الدخول في طاعته. وبين سطورها يخاطبه ويقرو. (إذا وافقت على كتابي هذا، فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روي زمين، تأمن شره وتغل خيره. كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى). ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت من قبل فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا وحريمهم إلى (كروان سواي)، فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها.
أين النجاة ولا مناص لهارب ... ولى البسيطان الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت ... في قبضتي الأمراء والوزراء
ففزعت أحشاء الناصر، وصكت ركبتاه، وسقط في يده ولم يدر ما يصنع. فأرسل إلى (قطز) يستجديه معونة مصر، بعد أن كان طامعاً في ملكها وكان (قطز) قد شعر بالخطر القريب، وفطن إلى الشر المرتقب فأخذ يعد للأمر عدته، ويتخذ له أهبته. وتحيل حتى خلع سلطانه (المنصور) وقفز بنفسه إلى سرير الملك، ليكون طلق اليد حر الإرادة في تدبير الأمور، في هذا الوقت الحرج والموقف الشائك. غير أن وثوبه إلى العرش قد احقد بعض الأمراء عليه وأحنقهم، فتجهموا له، وهموا به فأخذ يترفق بالثائرين حتى هدأ من ثورتهم، ويتلطف بالحانقين الحاقدين حتى قلل من حنقهموثبط من حقدهم، واعتذر إليهم بأنه لا مأرب له في ملك أو سلطان، ولا مطمع في عرش أو تاج وإنما همه الأول أن يكونوا يداً(806/15)
على من سواهم، وأن يدافعوا عن أنفسهم وديارهم خطر التتار، الذين ما دخلوا قرية إلا أفسدوها، ولا مصراً إلا جعلوا أعزة أهله أذلة، ولا بلداً إلا عبثوا بتراثه، أولئك التتار الذين ضجت لهم الأرض وملئوا فجاجها بالدماء، وعرفوا بأنهم القوة التي تغلب، والوباء الذي لا يستطاع كفاحه.
ويذكر بعض المؤرخين أن هذا السلطان (قطز) هو محمود ابن ممدود، وأنه ابن أخت جلال الدين شاه خوارزم الذي أباد التتار ملكه وعفوا أثره. وقع محمود هذا في الإسار، وتنقل به ذله من دار إلى دار، حتى دفع به المقدار إلى مصر، فأبتاعه سلطانها (المعز أيبك) فاستأثر برقه. وكان حبيباً إلى قلبه قريباً إلى مجلسه، أثيراً عند تدبيره. فعلا نجمه، وزكت فيه مخايل الإمارة، ودوى في أعماقه صوت الثأر وصلصل جرس الانتقام فما هو إلا أن ملك الناصية وأخذ بالزمام، حتى قاد أمراءه وجنوده بمقاد الحزم وذكرهم بواجبهم المقدس حيال الإسلام، وإنهم إن أحجموا باد، وإن أقدموا ساد. وهاهم أولاء يرون دولة تسقط فتبيد واحدة إثر أخرى. فراعهم بهذا الخطاب، وملكهم بمنطقه الخلاب، فألقوا إليه السلم، وتوافدوا إلى حظيرته زمراً زمرا، بعد أن بث فيهم عزماً من عزمه، وحماساً مما يتقد في جسمه.
تطايرت الأخبار منذ أوائل عام 658هـ إلى مصر ثوب التتار على حلب ودمشق وغيرهما من بلاد المسلمين، وما اجترحه أولئك الطغاة فيها من قتل وسبي، وسلب ونهب، وتخريب وتدمير وتشريد، وظلم وجور، وعجت التخوم والمسالك بالفارين واللاجئين من وجه البغي والعدوان.
وجاء النذير إلى مصر، ووفدت إليها رسل هولاكو - بعد أن أسر الناصر وخرب دياره - ومعهم رسالة إلى سلطانها يقول فيها: (من ملك الملوك شرقاً وغرباً، القان الأعظم. باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء. يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك. يعلم الملك المظفر قطز، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا(806/16)
أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ فنحن ما نرحم من بكي، ولا نرق لمن شكا. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد. فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب. فأي ارض يؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال). . . الخ.
حزم (قطز) رأيه وشاور أمراءه، فأيقنوا جميعاً بالخطر الداهم والشر المستطير. وأنهم إن لم يأخذوا الطريق على عدوهم بقلب شجاع ونفس مغامرة وروح فادية، دهمهم في عقر دارهم، وأزال ملكهم، وخرب ديارهم، وهم البقية القوية من جند الإسلام. ولهم عبرة بما اجترح التتار في الشام والعراق والجزيرة وأواسط آسيا. فقر رأيهم على قتل رسل (هولاكو) وعلقوا رؤوسهم على باب زويلة، وأعلنوا في الناس بالجهاد، والخروج في سبيل الله، دفاعاً عن النفس والعرض والدين. وأعجل الجنود عن شئونهم، ودبر المال؛ ورأى السلطان تواكل بعض الأمراء، فقرعهم تقريعاً شديداً، وقال لهم. (يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون. وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته. فإن الله مطلع عليه. وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين) فأقبل الأمراء عليه يقسمون له يمين الطاعة والولاء.
ففر جيش مصر بعدده وعدته، يتقد حماسة ويغيض رغبة في القتال وعلى رأسه سلطانه (قطز) الشجاع الباسل الصنديد. يحف به أمراء باعوا نفوسهم لله، يحدوهم الولوع إلى لقاء التتار، فإما حياة كريمة ونصر مؤزر، وإما موت لا يقاس به موت.
وهناك في عين (جالوت) بفلسطين، التقى الجمعان في معركة حامية سالت فيها أنهارالدماء، وتجمعت أكداس الأشلاء. ولما أشتد وطيسها على المسلمين صرخ (قطز) من الأعماق قائلاً: (وا إسلاماه) فدوى صوته في آذان جنوده. وكأنما كانت صرخته إشارة بالمكر، أقدموا لا هيبة ولا وجل، وأخذوا التتار من كل جانب حتى قتل قائدهم (كتيغا) وولت فلولهم لا تلوى على شيء. فتبعهم المسلمون إلى (بيسان) فدارت بها رحى معركة جديدة، دحر فيها التتار وأسلموا للفرار، تاركين من ورائهم قتلى قد ضاق بها الفضاء.
استطاع جيش مصر وجنده بهاتين الموقعتين أن يحمي بلاد الشام من شر التتار، وأن يقذف(806/17)
بهم إلى غير رجعة بعيداً عن أرض مصر، فلم تطأها لهم قدم. وتعتبر أن نقطتي تحول حاسم في تاريخ مصر لا تقلان في أهميتهما عن موقعة (العلمين) في الحرب الأخيرة. وبدت بهما قوة التتار خرافة لا سند لها، وأن التغلب عليها مستطاع، متى صدق الإيمان، واجتمع الصبر والتعاون، واتحدت القلوب وقد عاشت سلطنة المماليك بعدهما بفضل شجاعة (قطز) وموقفه الرائع، أكثر من قرنين ونصف.
أما في الموقف الثاني فقد كان في عام 922هـ على عهد سلطان مصر قانصوه الفوري، الذي اقتيد إلى العرش بين بكائه ونحيبه رهبة وإشفاقاً من المصير. فقد كانت البلاد مزقتها الفتن الداخلية والحروب الأهلية، ولج بين بنيها الخلف، وصنع بهم ما يصنع السيف. وخوت خزائنها على عروشها. ولم تعد بها إلا حثالات وشراذم من أمراء وجنود، تملأ كل شرذمة العصبية لنفسها، وحب الجهاد لمنفعتها، غير آبهة لسواها إلا مزاحمة ومجالدة، ولم يعد يعنيهم من شؤون البلاد شيء إلا استقلالها. بينما كانت دولة العثمانيين في آسيا الصغرى تبسط سلطانها وتنشر طغيانها. وما وافى عام 962هـ حتى أخذت تمهد لغزو الشام ومصر. ووطئت أنباء استعدادها آذان البلاد. فاضطر الغوري إلى الخروج عن البلهنية والطمأنينة، إلى العمل على اللقاء. وشرع بجميع القادة والجند ويحثهم على التهيؤ للخروج إلى الجهاد، فكان كأنه يستجديهم شيئاً لنفسه، لا أنه يتقاضاهم للقيام بواجبهم. لذلك اثاقلوا عنه ولم يخفوا إليه. وكان كل ما حوله يخذل عن القتال ويثبط عن النفور إليه إلا بقية ممن لا تزال بهم بقية من ضمير، وقبس من إخلاص، وإثارة من كرامة.
وكانت بالسلطان غفلة لا تنبغي لمثله في وقت شدة وضيق، وكلما وردت أخبار تومي إلى الصلح والتراضي بينه وبين العثمانيين هش ونش، وهلل وكبر، وفرح واستبشر. ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى حسم العداء وحقن الدماء، ولا سيما أن العثمانيين إخوان في الدين. ولكن اللهج بالصلح ضعف، واشتهاه الموادعة خور، والاستسلام للعافية جبن.
وكانت تجيئه رسل السلطان سليم فيبهرونه باللسان المعسول، والهدية النفيسة، فيلقاهم لقاء الحافل، ويعاتبهم عتاب الخليل، وما كانوا إلا ليمهدوا للظفر بالغافلين. وبث العثمانيون العيون لينقلوا إليهم أخبار مصر وجيشها الباسل وسلطانها المغوار، فلم يعمل أحد على قطع دابرهم والقضاء عليهم، وبعث نائب السلطان بالشام إليه يجأر بالشكوى مما بالشام من(806/18)
غلاء فاحش وجدب ضارب، وينكر إن للعثمانيين رغبة في القتال، ويدعو السلطان إلى القبوع والقعود.
ومهما يكن من شيء فقد أنصف السلطان نفسه، وأعد العدة وأنفق المال، وجمع الجند وعين القادة ورتب أمر الخروج إلى الشام لملاقاة بني عثمان. وهو لا يعلم أن العثمانيين قد اتصلوا ببعض أمرائه فوجدوا منهم نفوساً وقلوباً عليلة لا تكبر الأمانة، وتستعذب الخيانة في سبيل للطمع غير المشروع. .
خرجت مواكب الجيش تترى ناسلة إلى دمشق فحلب، وعليها طلاوة وبها خيلاء، ويحسب من يراها أنها إلى النصر تسير وإلى القلب تطير. وهو لا يعلم أنها تجمع قوماً إن لم يمزقهم الضعف فقد فرقهم الخلف، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، عمادها فريقان من المماليك هما (الجلبان والقرانصة)، وبينهما عداء مستحكم اضطرمت ناره وتطاير شراره، وقد تمكن منهم الفساد وحب العناد.
لا نريد أن نسهب إسهاباً تاريخياً في وصف مظاهر الضعف في الجيش المصري، ولا في أنباء قتاله حينذاك، فقد امتلأت بهذه الأنباء بطون الموسوعات.
وحسبنا أن نذكر أن هذا الجيش - على علاته - لقي جيش العثمانيين على كثرة جنده ووفرة عدده، فكاد يذهبه بدداً ويفرقه طرائق قدداً، وذلك في موقعة (مرج دابق) لولا أن أطلت الخيانة بقرونها، وطلع الغدر عليه مطلع الشيطان. فانحاز بعض القادة من سلطانهم بلا سبب، ودبت الوقيعة بين القراصنة والجلبان فشغلتهم أنفسهم عن واجبهم، فكر العثمانيون عليهم وطعنوا القلب، وفيه السلطان يدافع عن شرفه وكرامته، وقد أسفه تفوق الأنصار عنه، وفرار الأصحاب منه. فاضطرب لبه، وامتلأ بالحسرة قلبه. ولهج لوقته وتهاوى عن متن جواده وتناولته سنابك الخيل. ودارت الدائرة على جيش مصر، ورجعت إليها فلوله باكية حزينة.
وتعتبر موقعة (مرج دابق) المشئومة من المواقع الفاصلة في تاريخ مصر. فتحت أمام العثمانيين الطريق إلى غزوها وتمام إخضاعها. وهكذا جثت مصر والشام أمام الغزاة، ووقعتا فريستين سمينتين لهم، فلبثوا بهما زهاء ثلاثة قرون تعسة شقية، لم تسعدا فيها بيوم هناء.(806/19)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(806/20)
حديث إلى العرب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يلقى هذا الحديث، ومؤامرة الدول الكبرى على فلسطين العربية تتكشف، ونوابا الأمم الغربية الكبيرة والصغيرة ومواقفها من الصهيونية والعرب تتضح وتفتضح، ويظهر خبيئها المستور، وقد فقد العرب جميع أصدقائهم تحت ضغط المصالح التي في أيدي الدول الكبرى، والقضية الفلسطينية تجتاز دورها النهائي، بعد أن أوشك أن يتم الاتفاق الدولي على تمزيق فلسطين وتقسيمها والاعتراف بإسرائيل دولة الإرهاب، وجميع التيارات الظاهرة والخفية في اللجنة السياسية التابعة لهيئة الأمم، كلها تتجه اتجاها واحدا في مسألتين: هما أن لليهود الحق في إقامة دولتهم، وأن تكون القدس دولية يعين عليها حاكم من قبل هيئة الأمم المتحدة، وأن تتولى لجنة توفيق معينة من قبل الهيئة تحديد تخوم تلك الدولة، ويكون الباقي للعرب. وسواء اتصل العرب بهذه اللجنة أم قاطعوها، فهي ستمضي في مهمتها على ضوء ما تسفر عنه قرارات اللجنة السياسية أو هيئة الأمم.
ولم يكن - كما ترون - لعبث اليهود المتكرر بالهدنة، ولا لتشريدهم مئات الألوف من العرب الآمنين، ولا لقتلهم وسيط هيئة الأمم، ولا لافتضاح المؤامرة بينهم وبين الشيوعيين التي ثبتت بالوقائع والدلائل القاطعة، ولا لاعتدائهم المتعمد على مقدسات المسيحية والإسلام، أي تأثير في تغيير سياسة هيئة الأمم ومجلس الأمن نحوهم، بل بالعكس كلما زادوا إمعانافي انتهاك الحرمات، وإقبالا على تحطيم كرامة الهيئة، زادتهم تأييدا وتدليلا.
أما العرب، فقد تلقوا هذه المؤامرات والمكايد بصبرهم المعهود. . . فوفودهم لا تزال تجادل وتكافح في المجال السياسي الدولي بدون جدوى، وجيوشهم لا تزال تحترم الهدنة، وشعوبهم لا تزال تنتظر ما تستقر عليه قرارات حكوماتهم بعد انكشاف المؤامرة، ولم يكن هذا النضج السياسي لدى العرب الذي أوشك أن يتحول إلى احتراق وخمود، أي تأثير في المجامع الدولية والضمير العالمي الخرب بمقدار ما كان لأفاعيل اليهود واعتناقهم مبدأ الاعتماد على الأمر الواقع والتمهيد به إلى تحقيق آمالهم والتدرج به نحوها خطوة خطوة.
ولقد أعذر العرب بصبرهم إلى العالم أجمع، وسواء كانوا محمولين على صبرهم هذا، كما يحمل على السقم السقيم، خضوعاً للضرورات، وتفاديا من الوقوع في شرك المؤامرات(806/21)
الدولية التي تتمنى أن يزلوا ويخطئوا لتحكم عليهم ومعها الحجة بإدانتهم، أم كان صبرهم هذا طبيعة فيهم ونضجا خلقيا وسياسيا منهم، وجنوحا للسلام حين يدعو داعيه، ولو كانت دعوته خداعا. . . سواء أكان هذا أم ذاك، فقد وضح الصبح لعيونهم ورأوا على ضوئه كرامتهم المهانة ومركزهم الدولي الممتهن، وصبرهم المتهم بالضعف والعجز والبلادة، ومثلهم العليا التي لا تقدير لها، وكميتهم المهملة التي لا وزن لها، وفشل هذا الدور منكفاحهم السياسي فشلا ذريعا لا يمكن نكرانه ولا التهوين من نتائجه.
والسؤال الآن الذي يتردد على فم الدنيا هو: ماذا يفعل العرب بعد ذلك كله؟ هل يريدون أن يحيوا أم يريدون أن يفنوا؟ هل يطيلون الصبر على هذه النظرة العالمية الظالمة إليهم، أم يردون إلى أنفسهم اعتبارها ويثبتون وجودها؟ هل يريدون أن يبقوا على عدوهم في ديارهم ليجلب عليهم بخيله ورجله، وليكون لهم عدوا وحزنا ونحسا ورهقا وخيالا، أم يقضون عليه وفي أيديهم روحه قبل أن يستفحل شره، ويستحيل ذئبه الخسيس إلى أسد شجاع؟
هل يعلمون ويعقلون أهدافه الواسعة الطامعة في بلاد العرب كلها من النيل إلى الرافدين، ومما بعدهما، وأحلامه في محو أهلها وتحويلهم إلى عبيد وحيوانات بشرية، وزرعها كلها يهودا، أم يغفلون عن هذه الأهداف ولا يدركون مداها ويحسبونها قاصرة على فلسطين الصغيرة وحدها؟!
لئن شاء العرب لحولوا سم السرطان الصهيوني الذي فرضته عليهم القوى الغشوم ترياقا يوقظ بلسعاته وموجعاته قوى الكفاح الكامنة في كيانهم المعنوي والمادي، ويثير فيهم حمى الحقد والثأر ومجازاة الشر بالشر وعزائم المقاومة التي خدروها وأناموها في عالم لا تقام فيه لقوى الشر والبغي عين!
أجل. . . إن شاء العرب، كان في هذا الشر الجديد ميلاد لقوى جيوشهم الحديثة وحرية اقتصادياتهم الوفيرة، وكان فيه دفع حثيث لهم إلى السباق الدائم بين الأمم نحو العلم المادي الذي يعتمد عليه عدونا، ويسرع إلى استغلال أسراره، يتخذ منها أسلحته وخيوط شباكه حديثا كما كان يسرع إلى استخدام السحروالجن قديما، كما ورد في آثاره. . .
وإن شاءوا كان فيه دافع عنيف إلى توحيد قلوبهم توحيدا حقيقيا، يولده الدم المتحد، والعقائد(806/22)
المشتركة، والمصالح المشتركة، والأخطار المشتركة، فلم يعد هذا الزمن يحتمل تفرق كلمتنا وعيشة دولتنا عيشة القبائل التي لا تجمعها وحدة متينة، وليصيبن بغداد وعمان والقاهرة وبيروت ودمشق ومكة وصنعاء وغيرها من عواصم العرب ما أصاب القدس وحيفا ويافا إذا قالت كل أمة أو حكومة فيها: نفسي. . . نفسي. . . وحسب كل جيش من جيوش العرب أن نصره أو هزيمته له وحده!
وهذا التوحيد الحق للقلوب والجهود في جميع أقطار العرب، هو السلاح الضروري الأول الفعال الذي لا جدوى لأي سلاح بدونه، وما أتى العرب ولا أصابهم ما أصابهم للآن إلا من تفريطهم في هذا السلاح. فعلى الشعوب العربية أن تدفع زعمائها وقادتها، إذا ترددوا، على هذا التوحيد دفعا لا هوادة فيه ولا تباطؤ، فإن الحرب بيننا وبين أعدائنا حرب في كل لحظة، وعلى كل ثغرة، وفي كل ميدان، ومن كل فرد، فدولة إسرائيل المزورة، إذا قامت، ستكون كلها معسكرا يعمل فيه النساء والرجال والكبار والصغار ليل نهار، ويمده بالأخبار والأسرار، وينفذ خططه طوابيره الخامسة في كل بلد عربي محيط به، والصهيونيون يعلمون مقدما ما يبيته لهم العرب وما توعدوهم به من خنق عسكري واقتصادي وسياسي، ولذلك سيعملون بنفوذهم الذي لا ينكر في العالم وفي البلاد العربية على إحباط ذلك إذا لم نتيقظ لهم، وسيكون أول عمل لهم هو إفساد ذات البين في علاقات الشعوب العربية داخلها وخارجها، وضرب طبقاتها وأحزابها بعضها ببعض عن طريق الدعوات الاقتصادية والعمالية، وإفساد عزائم الشباب وقواهم بإضرام الشهوات وشغلهم بها عن آفاق مجدهم وكرامتهم، وعما يبيت لمستقبل أوطانهم وعقائدهم. والصهيونيون لم ينالوا ما نالوه من نفوذ بالغ في العالم، ولم يصلوا إلى ما وصلوا إليه بشعورهم بجنسهم المشترك وهدفهم المشترك وتوحيد قيادتهم وتدبير خطتهم، وتوزيع رجالهم على المعسكرات العالمية المختلفة، وصدورهم كلهم في جميع أنحاء العالم عن رأي واحد وقلب واحد. ولا شك أنهم لم يكونوا لينالوا ما نالوه، لو أنهم افترقت قلوبهم وتخاذلت قواهم وشكوا في قادتهم. فإذا أراد العرب أن يخنقوا دولتهم، فلا سبيل إلى ذلك إلا بدوام إذكاء الشعور بوحدة العرب، وبإيقاظ كل فرد إلى أداء واجبه في ضرائب الدم وضرائب المال، وتضحية الصغائر والكماليات، حتى يتغلب الجسم العربي على سموم هذا السرطان!(806/23)
وإذا كان الصهيونيون يحاولون أن يسرقوا ويغصبوا ديارنا، لأنهم يدركون أهميتها وقيمتها المادية والمعنوية لهم، فأولى بنا، ونحن وارثوها والمالكون لها، أن يكون دفاعنا عنها أضعاف هجومهم عليها!
أجل. . . أولى بصاحب الدار أن يقاتل أضعاف قتال اللص، فلا يكون اللص أعرف منه وأكثر تقديرا لممتلكاته وأشد حرصا على افتدائها. وإذا كان هذا المعقول والواجب في الدفاع عن دار ومتاع خاص، فإنه أكثر وجوبا في الدفاع عن الأوطان والمقدسات والحرمات. واليهود يدفعون دمائهم وأموالهم وجهودهم راضين مغتبطين، لأنهم يشترون بها وطنا وأملا وتاريخا مزورا مفقودا، منذ ألفي سنة، فأولى بنا ونحن نملك الوطن والأمل والتاريخ ألا نضيعه، وإلا كنا غير جديرين به ولا بالحياة. ومعاذ العرب أن يرضوا لأنفسهم وأمجادهم أن تفنى، ولكرامتهم أن تهان على هذه الصورة وعلى رؤوس الأشهاد في أشد قضايا التاريخ ظلما وبهتانا!
وإن الجامعة العربية لتهيب بالشعوب العربية وتنادي كل فرد عربي أن يجند نفسه ويثير جميع قوى الكفاح التي ترسب خمائرها في دمه للدفاع عن مثله العليا وأوطانه وكرامته، وهو الذي لا ينام على ثأر ولا يرضى بضيم، فما بالهين على العربي أن يرضى لكرامة شعوبه ودوله السبع أن تداس في مجتمع الدول لإرضاء طغمة من الإرهابيين أعداء البشر بإقامة دولة ملفقة لهم في أعز بقاعه عليه وفي مهد المسيح الذي عبد قلوب البشر للسلام، وكانت دعوته وروحانيته وحياته كلها ردا على مثل اليهود وأخلاق اليهود ومادية اليهود، الذين يريدون أن يقيموا دولتهم على أرض مهده، بعد أن طردت روحه منها (رأس الأفعى اليهودية) وشردتها.
وإن لدى العرب الآن من قوى معنوية ومادية راهنة، تتزايد على مر الأيام، لكفيلة إذا صمم العرب وتيقظوا وعملوا، أن تحطم هذه الأفعى، مهما تألبت لنصرتها قوى الشر والظلم، وإن أصوات شعوب العرب وساستهم ورجال حكوماتهم قد أصبحت كلها تتنادى في كل قطر بوجوب استئناف الكفاح في الميادين كلها وتعبئة القوى جميعها. وقد تساوى رأي المتطرفين والمعتدلين في البلاد العربية في وجوب أخذ الأمر باليقظة والعمل الدائم والكفاح المستمر، بعد أن تكشفت الرغوة عن الصريح في سياسة الأمم المتحدة!(806/24)
دعونا من حديث الماضيومسئولياته، فإنه حديث يبلبلنا ويفرقنا، ولننظر شعوبا وحكومات إلى الحاضر والمستقبل بروح السخط والاحتقار لروح الغرب وضميره ومنظماته التي سمحت لنفسها أن تمكن السارق في دار المسروق، مما لم يحدث له مثيل في التاريخ، ولنتفاءل ونأمل ولا نيأس من روح الله، ولكن تفاؤلا غير غافل ولا آبه في هذا الصراع الذي ربما يطول، ولنحذر حرب الإشاعات الكاذبة التي هي من أسلحة عدونا، وليكن شعارنا: هو الإيمان بحقنا، والإصرار عليه، والعمل على نواله بكل قوانا المادية والمعنوية!
عبد المنعم خلاف(806/25)
شاعر وعصفور
(في أحد الأيام استفاق الشاعر من قيلولته، على صوت عصفور صغير دخل غرفته، وراح يسف بجناحيه على أرضها وهو يحاول الطغيان. فآواه الشاعر عنده أياماً ريثما قويت جناحاه ثم أطلقه. وقد أوحت هذه الحادثة القطعة التالية):
أهلاً بعصفور صغير لاجئ ... قذفت إلي به يدُ الأقدارِ
ماذا أتى بك يا صغير لغرفتي ... أحسبتني طيراً من الأطيارِ
هل أمك البلهاء للطيران قد ... ساقتك لكن قبل حين مطارِ
كم ذا ترفٌّ لكي تطير مسارعاً ... والهر منتظر بأرض الدارِ
فاشكر إلهك إذ هداك لساحتي ... فكفاك عطف الوالدين جواري
وحللت من كنفي بعش آمن ... أسمى وأمنع من ذرا الأشجارِ
لك من خيالي إذ تطير مرافق ... ومتى صدحت أجبت بالأشعارِ
أرفقت لي فأتيت تؤنس وحشتي ... يا ألطف الخلان والزُّوَّارِ
حسبي وحسبك جو شعر آمنٌ ... فالجو ممتلئٌ من الأخطارِ
عجباً كِلانا طار قبل أوانه ... ونأى الطموُح بنا على الأوكارِ
فبدأت بالأسفار مثلي يافعاً ... وأنا بلغت نهاية الأسفارِ
فوقاني الله الوحوش أناسياً ... ويقيك ربك كل طير ضاري
مرِّن جناحك في فدائي طائراً ... ثم انطلق لتطير دون عثارِ
لا تخشى من أسري ففيه لك البقا ... ما إن ترى حريةً كإساري
(دمشق)
أحمد الصافي النجفي
حب المنطق
(مهداة إلى الصديق الكريم الأستاذ ثروت أباظة)
تعشَّقْتها حسناء يحرس حسنها ... وتحمى جناحها حارس من ضميرها
يرف ضياء النُّبل فوق جمالها ... ويأرج عطر الطهر فوق عبيرها(806/26)
لقد أقبلت تختال في ثوب عفة ... فيا حسنه ثوباً سما عن حريرها
إذا ضمَّنا صفو اللقاء تمثلت ... لعيني ملاكاً من سمو شعورها
فأنهل من كأس يضاعف نشوتي ... شمائل ساقيها ولطف مديرها
توفيق عوض(806/27)
الصداقة في رأي ابن المقفع
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
في رأيي أن تشدد عبد الله في اختيار وصفائه قد جعلوا في جنة ورافة من إخوانه ومحبيه، فكانوا قوة عينه وبهجة فؤاده، يهيم بأحاديثهم ويهيم بأخبارهم، ولم يؤثر عنه أنه ارتاب يوما من الأيام في أحدهم فظن الظنون، وهذه مزية التحفظ الشديد، ونحن نسمع في كل مكان من يندبون الوفاء، ويبكون النبل في الحياة، زاعمين أن الصداقة سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، فكل قرين يشكو من قرينه في الكثير الأغلب، وسبب هذه الضجة المفتعلة، أننا لم نفهم الفرق الواضح بين الصداقة والصحبة، فإذا صاحب إنسان زميلا وقدم إليه بعض المعونة الأخوية، قم وجد منه نفورا لا يتفق وما أسلف إليه من نفع، قام يندد بضياع المروءة والوفاء وأولى به أن يندد بنفسه، إذ لم يختر من يجزيه الإحسان بالإحسان، بل عمد إلى طينة سنجة، فغرس فيها بره ثم تعهده بالري فمات الزرع، وجف الماء، ولو أنه غرس معروفه في تربة مختارة منتقاة، لآتت أكلها ولم تنقص منه شيئاً، ولأبصر نفسه - كابن المقفع - في جنة مورقة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولكن فاته ذلك في حينه فهب من فوره يبكي المروءة ويندب الوفاء!!. . لا يا هؤلاء. . .
ونحن نعلم أن الأديب أو الفيلسوف أو كل ذي موهبة فنية، في حاجة ماسة إلى من يجاذبه أطراف الحديث، ويخوض معه في شتى الأبحاث، ولقد تألقت في عصر ابن المقفع كواكب لامعة في سماء الأدب، وكانت صلته بها صلة مودة وحب، فهو صديق الجميع يؤثرهم ويؤثرونه، وأنت تعجب كل العجب حين تراه يجمع بين صداقة المتناصرين والمتباغضين، فهو صديق حماد وبشار ووالبة وإبان ومطيع، ولا ريب أن عبد الله كان يلاقي كثيرا من الإرهاق والعنف بين أمزجة متباينة، ونفوس متصاولة، وكنت أسأل نفسي مرارا ألا يكون الجمع بين صداقةالأضداد مما يحدث لديهم الريبة في نفس عبد الله؟ وهل يطيب لبشار مثلا أن يبوح بسره لصاحبه وهو يعلم أنه صديق حماد؟ سؤال دقيق يتطلب إجابة دقيقة، وكأني بابن المقفع وقد أدركه تمام الإدراك، فأجاب عنه في ملاطفة هادئة حيث قال (وإذا رأيت صديقك مع عدوك فلا يغضبنك ذلك، فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك لشر يكفه عنك أو(806/28)
لعورة يسترها منك، أو غائبة يطلع لك، فأما صديقك فما أغناه أن يحضره ذو تفتك) وهذا كلام مقبول من بعض نواحيه، وإن كنا لا تميل إلى الأخذ به، لأن كل خصيم من بني الإنسان يسلق خصيمه في غيبته وحضوره بلسان حاد، وخاصة إذا كان من طراز حماد وبشار، فلو أن ابن المقفع تصدى دائما للدفاع عن أصحابه لثقل كثيرا على أعدائهم وما استطابوا ذلك منه في كثير أو قليل، وما كان أغناه عن هذا المأزق الحرج! على أنه - في الواقع - لم يثبت على رأيه الأول فقد اتضح له تطرفه الزائد فأتى بما يناقضه حين قال في موضع آخر (إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، ولعدو صديقه عدواً، وليس لي بصاحب ولا صديق من لا يكون لصديقي محباً وإنه يهون علي قطيعة من كان كذلك) وإذن فقد اتفق معنا الكاتب، وتحلل من رأيه الأول، بعد أن خطأه الواقع المرير.
ولقد كانت المجالس الأدبية - كما هي الآن - لا تخلو من نقاش حاد يتطاعن فيه الأصدقاء، وكل يؤيد رأيه بما يسعفه خاطره ويرتاح إليه ضميره، ولكن من الناس من لا يراعي حرمة الحديث ولايصون كرامة الصديق فيندفع في تنقصه اندفاعا يخرج به عن حدود الياقة والذوق، وكان عبد الله يضيق بهذا الطراز من الأصدقاء منتهى الضبق، ولقد كتب الفصول الممتعة في أدب الحوار وطريقة الحديث، فكان مرشداً حكيماً لأصدقائه ومريديه. اسمعه يقول في نصح وتوجيه (لا تلتمس غلبة صديقك والظفر عليه في كل رأي، ولا تجترئن على تقريعه بظفرك إذا استبان، وحجتك عليه إذا وضحت، فإن إخوانا قد يحملهم حب الغلبة وسفه الرأي في ذلك على أن يتعقبوا الكلمة بعد ما تنسى، فيلتمسوا فيها الحجة ثم يستطيرا بها على الأصحاب، وذلك ضعف في العقل ولؤم في الأخلاق) والناس هم الناس في كل زمان فما يشكو منه ابن المقفع أشكو منه الآن، بل ربما وجد في زماننا من يفوق من تقدمه، في مضمار التوقح والسفه، ليختلق الرأي الدنيء اختلاقا، ثم ينسبه إلى غيره مندداً مشهرا، وهناك قوم من المتناظرين لو أطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منه رعبا، فمتى يعتصم هؤلاء بحبل من الخلق القويم؟!
ويلوح لي أن الكاتب كان ملتهب الصدر من هذه الناحية - وحق له أن يلتهب - فلم يكتف بما سطره في الأدب الكبير والأدب الصغير مما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بل عقد في (كليلة ودمنة) فصلا مسهبا يدور حول هذا الموضوع، وقد جعل فيه(806/29)
اللسان أساس المصائب، ومفتاح النوائب، فهو يقذف بالكلمة الواحدة صغيرة ضئيلة فتبدد الشمل، وتفرق الجمع، وتوقد نار الحرب، وأمام القارئ باب (البوم والغربان) وفحواه أن معركة حامية قامت بين الفريقين بسبب غراب طائش تكلم في حق البوم بما لا يليق، وبعد أن فصل الكاتب قصته تفصيلا منطقيا يستشرف إلى النتيجة الحاسمة، عمد إلى هدفه الأصيل، فقال على لسان بوم يتوعد الغراب الأحمق، ويهدده بعاقبة لسانه، وما جره على قومه من كوارث فادحة يتفجر لها براكين العذاب.
قال الكاتب الحكيم (اعلم أن السيف يقطع به الشجر فيعود فينبت، والسيف بقطع اللحم ثم يعود فيندمل، واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسي مقاطعه، والنصل من السهم يغيب في اللحم ثم ينزع فيخرج، والنصل من الكلام إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج، ولكل حريق مطفئ، فللنار الماء، وللسم الدواء، وللحزن الصبر، ونار الحقد لا تخبو أبداً. وقد غرستم معاشر الغربان بيننا وبينكم شجر العداوة والبغضاء)
وأنت لو فتشت في كتب التربية والأخلاق ما وجدت توجيها أفضل من هذا التوجيه. وليت شعري من يبلغ مبلغ ابن المقفع؟ وقد رسم القاعدة أولا ثم ثنى بالدليل المسكت، وعقب أخيراً بالمثال الحكيم.
بقيت مسالة دقيقة تجول في خاطر كل صديق، وهي تحديد العلاقة بين الصداقة والمنفعة، ونحن نرى كثيرا من الكاتبين يلقون القول على عواهنه فيحكمون أن الصداقة تتعارض مع المنفعة تعارضا تاما، وأن الذي يصادق ليقطف ثمرة، أو يحصد ذرعا فهو نفعي وصولي، مع أن هناك ناحية لا يجب أن يغفل عنها غافل، وهي أن المنفعة والصداقة صنوان متلازمان لا يفترقان، وأن الخلاف لا ينبغي أن يتجه إلى المفاضلة بينهما كعضوين منفصلين، إذ ما من صديق إلا وينتفع به صديقه إن ماديا وإن أدبيا؛ فهو على الأقل يرفه عنه همومه، ويتحمل جانبا من سره، ويزيل ما بنفسه من كبت داخلي قتال، وكل أولئك منافع غالية لا تقدر بمال أو عتاد، ولكن ينبغي أن يتجه الخلاف إلى ناحية أخرى تأتي بعد التسليم بحدوث المنفعة من الصداقة؛ ولعلها تنحصر في السؤال الآتي: هل تكون الصداقة وليدة المنفعة؛ أو تكون المنفعة وليدة الصداقة؟! فإذا كانت الصداقة وليدة المنفعة فهي الصداقة الوصولية المادية التي يحتقرها المثاليون، ويزدريها الأخلاقيين، والتي ندد بها ابن(806/30)
المقفع أشد تنديد في مواضع عدة من كاتباته. وقال عن أصحابها في تبرم واضح (ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا فإنما مثله فيما يبذل ويعطي كمثل الصياد وإلقائه الحب للطير، لا يريد بذلك نفع الطير، وإنما يريد بذلك نفع نفسه؛ فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد).
أما إذا كانت المنفعة وليدة الصداقة فهي بلا ريب مودة مثالية فاضلة ينشدها عشاق الفضيلة وأرباب المروءة، إذ أن الإنسان مهما عظم جبروته وطغى سلطانه، في حاجة قوية، إلى من يطلع على خبيئة سره، ويستكشف ذات صدره، فيشاركه الرأي ويقاسمه التفكير، وهذه هي الصداقةبمعناها الصحيح، وقد حبذها ابن المقفع بكل قواه، وله فيها حكم بينة، كأن يقول (أعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، وهم زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة على خير المعاش والمعاد، فإذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية، فأعلم أنك قد ابتليت معه إما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما في الخذلان فتحتمل العار، وأن أول أهل الدنيا بشدة السرور من لا يزال ربعه من إخوانه وأصدقائه من الصالحين معموراً، ولا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه ويكون من وراء حاجاتهم وأمورهم بالمرصاد، فإن الكريم إذا عثر لا يأخذ بيده إلا الكرام، كالفيل إذا وحل لا تخرجه إلا الفيلة).
وباب الحماسة المظوقة في كتاب (كليلة ودمنة) يدور حول المنفعة المتولدة من الصداقة، بل أن ابن المقفع جعل مزية الصداقة الوحيدة هي ما يعقبها من معونة الأصدقاء، ومساعدة الإخوان، فالحمامة لم تنج من الشرك إلا بفضل صديقها الفأر، والظبي لم يفلت من الصياد إلا بمعونة صديقه الغراب، والسلحفاة لم تتمتع بالحياة إلا بمساعدة الجرذ، وهكذا يضرب الحكيم النابغة أمثاله للناس (وما يعقلها إلا العالمون).
وإذا كان الرجل قد أجادفي الحديث عن الصداقة إجادة محمودة، فإنه أبدع في الكلام عن العداوة إبداعا يستدعي الانتباه، ويقيني أنه لم يلح في إكبار الصداقة إلا بعد أن حيكت له الدسائس، وذاق من الأعداء صنوفا أثيمة من الكيد والختل، وليس بغريب على نابغة كابن المقفع أن يكثر حساده ومبغضوه، وهل يحسد من الناس غير المبجل في عشيرته، العظيم في دولته؟ وهل يتعرض الشانئون لغير من يبزهم في المنزلة، ويرتفع عنهم في المكانة،(806/31)
ألم يطعنوا على الرجل في دينه وخلقه وتقواه!! محن مظلمة غشيت النابغة العظيم كقطع الليل فعلمته كيف يجيد الحديثعن الوشاة والأعداء، بل إن أعظم فصل في كليلة ودمنة وهو باب الأسد والثور يدور حول الأفاكين من الوشاة، وكيف يبذرون بذور الشقاق بين الأحبة والأصفياء، وقد اصطبغ فيه حديث الكاتب بصبغة شاحبة مشجية حتى لتتصور كلماته أنيناً يتردد في قنوط وحرمان!!
وقد يبدو لمن يطالع ابن المقفع في باب العداوة والكيد أنه عفو صفوح يتبع السيئة الحسنة، لأن له من العبارات ما ينطق بالتسامح والحنو كأن يقول (ابذل لصديقك دمك ومالك، ولعدوك عدلك وإنصافك، وللعامة بشرك وتحننك) ولكن من يتعقبه تعقبا جديا يدرك مقدار يقظته وانتباهه، وما أحب أن أحلل أقواله تحليلا يتشعب معه القول في فجاج شاسعة بل أنقل إلى القارئ بعض ما أثر عنه في مؤاخذة الأعداء، قال ابن المقفع
1 - إن كنت مكافئا بالعداوة والضر فإياك أن تكافئ عداوة السر بعداوة العلانية، وعداوة الخاصة بعداوة العامة؛ فإن ذلك هو الظلم. ومن الحيلة في أمرك مع عدوك أن تصادق أصدقاءه، وتؤاخي إخوانه، فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتلاعن حتى ينتهي ذلك بهم إلى القطيعة والعداوة له.
2 - قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك، ويضعف جندك وتذل نفسك ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس إذا أملتها قليلا زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظل.
3 - الحازم لا يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيدا لم يأمن سطوته، وإن كان مكثبا لم يأمن وثبته، وإن كان وحيدا لم يأمن مكره. . . وإن صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالا للعدو من صرعة المكابرة، فإن النار لا تزيد بحدتها وحرارتها إذا أصابت الشجرة أن تحرق ما فوقها، والماء ببرده ولينه يستأصل ما تحت الأرض منها.
وقد يوجد من يؤاخذ ابن المقفع على اختراع هذه الأسلحة الفتاكة في حرب العدو، وربما ظن الظنون بنابه الأزرق، وشك في دخيلة نفسه ونحن لا نتردد في تبرئة الكاتب مما قد يعلق ببعض الأذهان حيث لا نرى جناحا في الكيد لمن يسوء، بل أن على الرجل الذي يحترم رجولته أن يضرب أعداءه ضربة قاصمة حتى لا يسمح للعقارب المؤذية أن تنفث(806/32)
سمومها في الظلام!
لقد اجتهد عبد الله في تحديد قوانين الصداقة والسمو بها إلى أفق ملائكي تهب فيه النسمات العاطرة، ولكنه اصطدم بغرائز دنيئة تدعو إلى الهبوط في وهدات مظلمة منتنة، فلم يجد بداً من محاربتها محاربة صارمة حتى يهيئ لمثله العليا أن ترفرف في جوها الرفيع، ولقد مات الكاتب وترك من أقواله في الصداقة ظلا وارفا يفيء إليه المخلصون، فيأكلون من ثمره الحلو، ويستنشقون نسيمه المنعش في لذة وارتياح.
حسب ابن المقفع وفاء أن تتقطع أحشاؤه شوقا إلى أصدقائه، وأن يأرق في حنادس الظلام ليسائل البرق الخاطف عن أصفيائه الأعزة، ثم يعمد إلى قلمه الرشيق فتسجل عواطفه الجياشة الموارة، في سطور عبقة يتضوع أريجها مدى الأحقاب المتتاليات!
أي نابغة الفرس العظيم، لقد دعوت إلى مكارم الأخلاق في دنيا وضيعة دنيئة، وناديت بالوفاء في معشر جبلوا على الخيانة والغدر، فهنيئا لك كفاحك المرير في حومة الشرف، وجهادك الشاق في ساحة النبل والوفاء.
فقل للذي يبغي مداه منافساً ... طمعت لعمر الله في غير مطمعِ
(جزيرة الروضة)
محمد رجب البيومي(806/33)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
على هامش اليونسكو
لقد بذل لبنان منتهى النشاط في الإعداد لمؤتمر اليونسكو، وأنفق كثيراً في الأوجه المختلفة المتعلقة به من تشييد وتأثيث وضيافة وغير ذلك. ودعت مصر أعضاء المجلس التنفيذي لليونسكو إلى عقد دورة فيها عقب انتهاء مؤتمر بيروت العام، فلبوا الدعوة وسينزلون ضيوفا على الحكومة المصرية من يوم 12 إلى 16 ديسمبر الحالي، ويزورون في خلال ذلك المتاحف والآثار، والدور العلمية، وتقام لهم بعض الحفلات، ويشاهدون التمثيل في الأوبرا.
ولاشك أننا - لبنان ومصر - نقصد إلى الدعاية لبلادنا، ونسير في وسائلنا لذلك على ما عرفنا به من الكرم والسماحة، ولا علينا أن للدول الغربية عندما تدعو إلى عقد المؤتمرات العالمية لا تبذل لها ما تبذل بل لعلها ترمي إلى الاستفادة الاقتصادية من وجود أكبر عدد ممكن من مندوبي الدول فيها، فنحن أحفاد حاتم الطائي، ونحن أبناء الشرق الروحيون. . .
ولكن عندما يشاهد أولئك المندوبون الضيوف الكرام منشآتنا وبناياتنا الفخمة الضخمة، من تليد وعتيد، ويرون الأنوار الساطعة في ميادين عواصمنا - لا ينبغي أن نغتر بظاهر ثنائهم، فإن لهم عيونا نافذة تلمح ما وراء هذه المظاهر جزءا صغيرا جدا منها. . . فبناء الجامعة - مثلا - بالغ الروعة، وبها عدد من الأساتذة الأعلام لا يقلون في مستواهم العلمي والفكري عن أمثالهم في أرقى الأمم، ولكن هذه قمة الهرم والباقي سفح لا يشرف ما به من نسب الأمية والجهالة، ومسرح الأبرا يتيم في القطر وأرستقراطي، والأنوار الساطعة لا تعشي البصر عن رؤية الأكواخ ومساكن الفقراء. . . الخ.
وأنا أريد أن أفرض أن ضيوفنا سينخدعون بما نغرقهم فيه من ضباب الحفاوة والمظاهر، وما أحب إلينا ذلك، ولكن أخشى أن ننخدع نحن بصنعنا. . . فنظل على ما نقوم بتمثيله ونحن في أشد الحاجة إلى أن نعيش أكثر الوقت في واقعنا، نواجهه ونرفعه حتى نصل إلى الحد الذي نستمد فيه تمثيلنا من واقع الحياة.
التعليم المصري في السودان(806/34)
وهذه مسألة من صميم اختصاص منظمة اليونسكو، فليت وفد مصر يثيرها في المؤتمر، أليس من مبادئ اليونسكو نشر التعليم في أرجاء العالم؟ فلتقل للإنجليز لم يقفون في وجه انتشار التعليم في السودان ويعرفون الجهود المصرية في هذا السبيل؟
فقد تضمن خطاب العرش افتتاح الدورة البرلمانية الحاضرة أن الحكومة المصرية تعمل على إنشاء مدرسة ثانوية في الأبيض ومدرستين ابتدائيتين إحداهما في كسلا والأخرى في بور سودان ومدرستين أوليتين إحداهما في واو والثانية في بور. فبلبل ذلك الخاطر الإنجليزي في السودان، لأنهم يعطون التعليم للسودانيين بقدر وعلى النحو الذي يريدونه، من حيث تهيئته تهيئة آلية، وتشبيعه بالروح الموالية لهم، أما المدارس المصرية فهي الخطر كله، وأقل ما فيها أنها تجمع أبناء الوادي على ثقافة واحدة، وهي تشعر السودانيين بأن للحكومة السودانية الإنجليزية شريكا في النفوذ هناك، وحكام السودان من الإنجليز يحرصون على أن يقروا في أذهان إخواننا بالجنوب أنهم - أي الإنجليز - كل شيء هناك، وليس لمصر معهم حول ولا طول.
فما كان من الخاطر الإنجليزي المبلبل في السودان إلا أن أفضى لسانه في مؤتمر صحفي بالخرطوم - على الطريقة الإنجليزية الرقطاء - أن حكومة السودان تشكر مصر على شعورها نحو التعليم في السودان إلا أنها ترى أن تتعاون وزارة المعارف المصرية مع مصلحة المعارف السودانية على إنشاء هذه المدارس المقترحة والإشراف عليها بدلا من أن تكون تابعة رأسا لتلك الوزارة، لأنه ليس من مصلحة البلاد إقامة نظامين للتعليم فيها لكل منهما برنامجه الخاص.
ومعنى ذلك أن إدارة المدارس المقترحة تكون (ثنائية) ومعنى الثنائية في العرف الإنجليزي بالسودان أن ينفرد الإنجليز بكل شيء هناك دون مصر، طبقا لخرافة (الحكم الثنائي) المشهورة. .
ثم كيف كان من مصلحة البلاد إقامة نظامين للتعليم يوم أنشئت مدرسة الملك فاروق في الخرطوم ومدرستان أوليتان في جبل الأولياء وملكال، ثم اصبح ذلك الآن مخالفاً لمصلحة البلاد؟ أكان من المصلحة لأنه وقع في سنة 1943 في خلال الحرب يوم كان (الخلفاء) يخطبون الود ويبذلون الوعود ويستجدون الثقة والمعونة، ثم صار الآن من غير المصلحة.(806/35)
؟ على أن النظامين قائمان، حتى قبل إنشاء المدارس الحكومية المصرية، فهناك منذ زمن مدارس أهلية برنامجها مصري، ويقبل أبناء السودان على هذه وتلك على رغم العقبات التي تضعها الحكومة السودانية في سبيلهم، والتي منها عدم الاعتراف بالشهادات المصرية في التعيين بالوظائف، والالتحاق بالمدارس العالية التابعة لحكومة السودان، وغير ذلك.
وبعد فإذا كان الهدف الأول لليونسكو القضاء على أسباب الحروب في عقل الإنسان، فهذه هي عقول الإنجليز في السودان.
الصهيوني والفرقة المصرية:
(الصهيوني) مسرحية ألفها، وأخرجها، وقام بدور البطل فيها، الأستاذ يوسف وهبي بك؛ ومثلت في هذا الأسبوع على مسرح الأوبرا الملكية. وهو يقدم لنا فيها شاباً ماجناً خليعاً مدللاً متعطلاً على الرغم من أنه درس الهندسة الميكانيكية ونال فيها أعلى الشهادات، وهو ابن (باشا) عسكري قديم: يسخط عليه أبوه لأنه ولد (خسران) وفجأة يهبط على المنزل بطائرة ويعلن أنه أصبح ضابطاً في سلاح الطيران بالجيش المصري تلبية لنداء الواجب في حرب الصهيونيين بفلسطين، وفي هذا الموقف نرى البطل الطيار (يوسف وهبي) يقلب الجو الذي كان ينبغي أن يكون رائعاً، إلى مهزلة. . يسخر فيها من أبيه (الرجل العسكري) ويتندر عليه. وتسود هذه الروح وهي تكلف الظرف والفكاهة في غير موضعها - أكثر مواقف الرواية، ومن ذلك ما يحدث عند ما يفاجئ الأسرة شاب يدعي أنه (سامي) ابن الباشا من زوجته الأجنبية التي خرجت به من مصر صغيراً، وأنه لما علم بأمر مصر تحارب في فلسطين أسرع إليها ليؤدي واجبه، ويظهر فيما بعد أنه جاسوس صهيوني، وهو المقصود بعنوان الرواية، يدخل هذا الشاب على أسرة الباشا فيستقبلونه ويدهشون للسانه المصري فيقول لهم: إنه كان يدرس اللغة العربية في كلية اللغات الشرقية بألمانيا، وينطق بعبارات فصيحة، فيقول له (عزت) المهندس الضابط الطيار: (دا بيكلم نحوي كمان. . . دا ينفع فقي!) وهذا كلام ليس بائخاً فحسب بل هو من فكاهات الطبقة العامية البحتة. . .
هذا وقد أجاد فؤاد شفيق الذي مثل دور الباشا، في دعابته، وهو ممثل مطبوع على الظرف بإلقائه وحركاته وتعبير ملامحه.(806/36)
وأجادت أمينة رزق في تمثيل (منى) بنت أخي الباشا، أجادت في القيام بدور الفتاة الكريمة ذات الإحساس النبيل، التي تتألم إزاء إعراض (عزت) عنها، ووالداه يلحان في زواجه منها. وقد رفعت المسرحية في دورها عن مستواها المسف. . . وكذلك فعلت سامية رشدي التي مثلت الزوجة التركية المطيعة والأم التي تكاد تهلك أسى على مصير ولدها.
وقد توالت في أواخر الرواية المفاجآت وازدحمت المصادفات مما كاد يخرجها عن مألوف الواقع في الحياة، فقد كشف أمر الجاسوس الصهيوني بعدة مصادفات محكمة، كأن الأقدار تشترك في تأليف الرواية. . . وقد أفرغ يوسف وهبي المؤلف طاقته الصاخبة في التأليف، حتى لم يبق له منها شيء في التمثيل. . . فقد مثل (عزت) فصغر حتى صار شاباً في الخامسة والثلاثين، صغر (بالمكياج) ولكنه ظل جامد الحركة، تتعاقب عليه الأحداث وهو هو لا تغيير ولا تعبير. ويوسف وهبي إنما يعبر بالحنجرة والصوت الجهير والتلويح باليد وما شابه ذلك، وهو ينجح في هذا اللون من التمثيل حتى يبلغ القمة، ولكن دوره في هذه الرواية لم يكن كذلك.
والمسرحية ترمي إلى الإشادة بالوطنية المصرية، ولكن الموضوع شيء، وطريقة معالجته وأدائه ونصيب ذلك من الفن الراقي شيء آخر. فالرواية تشبه (الاسكشات) التي تقدمها الفرق الاستعراضية، وما أشك في أن (شكوكو) كان أليق من يوسف وهبي بدور (عزت).
ومما يؤسف له أن الفرقة المصرية بعد أن بدأت موسمها بمسرحية (سر الحاكم بأمر الله) وكان يرجى أن تسير في هذا المستوى، وقد ألف لها محمود تيمور وتوفيق الحكيم مسرحيتين جديدتين لم تظهرا بعد أقول مما يؤسف له أنها أخذت بعد ذلك في برنامج لا يبشر بنجاح الموسم النجاح المرجو من المسرح في مصر بعد أن انحصر في الفرقة التي ترعاها الحكومة. وقد أعلن أن الفرقة ستمثل بعد (الصهيوني) روايات أخرى قديمة ليوسف وهبي، وقد تكون هذه الروايات نجحت في وقتها. ولكن هل تصلح الآن للنهضة المرجوة، وهي تحتاج إلى التجديد، وإلى الفن الراقي؟
لا أقول إن يوسف وهبي يستند إلى رعاية الدولة وإعانتها للفرقة المصرية، فيعمد إلى إظهار نفسه كل شيء في كل شيء. . . في التأليف، وفي الإخراج، وفي التمثيل، وفي النقد بالحكم على براعته في الإعلانات التي يصدرها باعتباره مديراً عاماً للفرقة، وهذا(806/37)
(أنه مدير عام) الطرف الخامس للأطراف التي يريد أن يجمع المجد منها كلها - لا أقول ذلك إلا خوفا على الفرقة المصرية أن تعصف بها هذه الجهود المترامية ونحن في عصر الاختصاص، فليكبح يوسف وهبي جماح عبقريته الشاملة ويترك التأليف على الأقل ويفسح للآخرين من أهله أن يساهموا في خدمة المسرح وتغذيته ورفعته.
الحادثة الهامة:
قرأت الكلمة التي كتبها الأستاذ أحمد عزيز بيتوغن بعنوان (أوهام لغوية) ونسب إلي وهما منها في بعض ما كتبت، وهو (والحادثة الهامة في القصة أو العقدة فيها، ادعاء الحاكم بأمر الله الألوهية) قال: (واستعمال كلمة هامة في هذا المكان للدلالة على أهمية الحادثة وهو لغوي! وكان الصواب أن يقول الحادثة المهمة، ففي قاموس الصحاح للجوهري ما يلي: المهم: الأمر الشديد، وأهمك من الأمر: ما أقلقك وأحزنك).
وفي هذا الكلام وهمان لغويان، أتاه الأول من وقوفه عند (الصحاح) فاعتمد (أهمه) وأنكر (همه)، ولو أنه فتح معجماً آخر لوجد أنهما موجودان بمعنى واحد، ففي القاموس المحيط (همه الأمر هماً ومهمة حزنه كأهمه). وفي المصباح المنير (أهمني الأمر بالألف أقلقني وهمني هماً من باب قتل مثله) فالهامة من وهم والمهمة من أهم، واستعمال كل منهما كاستعمال الأخرى، ويبدو لي أن استعمال أيهما في الدلالة على الأهمية آت من حيث أن الأمر المقلق يدعو إلى الاهتمام.
الوهم الثاني في قوله: (قاموس الصحاح للجوهري) لأن القاموس علم على الفيروز أبادي مأخوذ من القاموس بمعنى البحر، وليس كل معجم قاموساً كما وهم حضرته.
ويظهر أن السيد بيتوغن يريد أن يكون معقباً لغوياً، فأنصحه بالحذر من (الأوهام) وأتمنى له أطيب التمنيات.
عباس خضر(806/38)
رسالة النقد
اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا
تأليف الدكتور جمال الدين الشيال
إن الذين يحملون العلم إلى الناس بالتأليف أو النشر أو الترجمة أو المجلات، إنما يحملون إليهم من نور الله ليستضيئوا به وليزدادوا نوراً. وحملة العلم سواء كان أدباً أو علوماً طبية، أو غيرها، وسواء كان أصحاب مجلات يتخذونها ندوة للفكر وأصحابه إنما يفترضون على أنفسهم رياضة علمية طويلة شاقة قبل أن يبلغوا مرتبة العلماء. وفي هذه الرياضة العلمية يشترط الإخلاص الذي هو جماع الفضائل وطريق الراغب السالك طريق العلم. وكم من مشتغل بالعلم يمضي ويطويه الزمان الغشوم في غير رحمة بجهوده الطويلة وآماله العريضة؛ فإذا انزل الله نوره على عبيده فتح له من أبواب العلم ونشره ما يرفع له ذكراً.
ومن الذين فتح الله عليهم وهداهم في التاريخ إلى جوانب طريقة فجعلهم مرجعاً للأجيال التي تلتهم والتي تليهم المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي صاحب كتاب اتعاظ الحنفا الذي نشره الدكتور جمال الدين الشيال. فقد امتاز المقريزي بنظرات طريفة وملكات مواتية، وجلد على العمل وتوفيق رباني عجيب فيما ألف. وترك من بعده أخباراً تاريخية طويلة تقع في مجلدات عديدة ضخمة، بعضها معروف منشور وبعضها مخطوط ينتظر النشر. وقد عنى بنشر كتب المقريزي جماعة كبيرة من أجلة المؤرخين منهم الأستاذ فيت مدير دار الآثار العربية الملكية المصرية الآن، ومنهم الدكتور زيادة أستاذ التاريخ المصري بجامعة فؤاد، ومنهم ناشر كتاب ألفاظ الحنفا الدكتور الشيال، الذي نتحدث عنه اليوم.
وليس هذا أول كتاب ينشره الدكتور الشيال للمقريزي، فقد نشر له من قبل كتابين قيمين، الأول كتاب كشف الغمة الجامع لأخبار الأزمات الاقتصادية، وهو على حجمه جليل القدر عظيم النفع، والثاني: نحل عبر النحل. وهو كتاب قيم بثروته اللغوية الضخمة، كنا نود لو لم يهاجر الدكتور أبو شادي إلى أمريكا حتى يعرف الجمهور ويعرف أمثالنا ممن لا يعرفون عن النحل إلا القليل قيمة هذا الكتاب. أما من الناحية التاريخية، فذلك الكتاب يحوي أخباراً تاريخية قليلة. ثم هذا الكتاب الثالث الذي نعرض له اليوم، وهو كتاب اتعاظ(806/39)
الحنفا. . في تاريخ الدولة الفاطمية. .
وللنشر أصول صارمة تجعل نجرد النسخ مهمة دقيقة مضنية. فإذا انتهى النسخ عنه المخطوطات المختلفة ابتدأت مهمة جديدة هي إقامة النص وإصلاح خلله. فإن كثرة نسخ الكتاب تدخل عليه كثيراً من الأخطاء. ومن الناشرين من يلتزم بعد ذلك توضيح النص بالهوامش.
ولكن مهمة الدكتور الشيال تعقدت لأن المخطوط في برلين ولا سبيل إليه، فرجع إلى نشرة الكتاب القديمة. وكانت مليئة بالأخطاء فأصلح ذلك كله بمقارنة النص المنشور بالنصوص التاريخية الأخرى، ثم إنه التزم التعليق حتى تضخمت الهوامش وبلغت حداً كبيراً. وقد كان ربع هذا كافيا. ومن الخطأ أن يتصور الناشر نفسه شارحاً، فمجال الشرح طويل لا يحتمله النشر. ودليل ذلك إن الدكتور الشيال لم يشرح نقطاً كثيرة تجل عن الحصر كما شرح أشياء كثيرة فوق الحصر. فأنت تتحير حين تقرأ النص بين هوامشه الكثيرة، وقد تهمل هذه الشروح لكثرتها. فإذا صبرت فقرأت كل ذلك وجدت شيئاً غير مشروح إلى جانب شيء مشروح. ولعل أنفع شيء للناشر والكتاب والجمهور جميعاً أن توضع كافة الشروح والتعليقات في مقدمة بأول الكتاب، فيستطيع المستعجل أن يكتفي بها ويستطيع غيره أن يهتدي بها في قراءته الكتاب. وقد جرى على ذلك المنهج كثير من الناشرين حتى أصبح لزاماً علينا أتباع منهجهم إلا إلى منهج أحسن.
وقد كنا نحب أن ينبه الدكتور الشيال قراءه وقراء المقريزي إلى أن هذا الكتاب لا يعد من أئمة كتبه، وأن صبر المقريزي على جمع الأخبار خانه هذه المرة، وأن جزءاً هاماً جداً من الكتاب قد ضاع حتى ليعد الجزء الباقي منه شيئاً يسيراً إلى جانب الضائع. وقد ذكر الدكتور الشيال هذا الفقد، ولم يعلق عليه؛ وقد نلتمس له أعذاراً كثيرة منها أنك إن ألححت في ذلك زهدت القراء أولاً وعدمت الناشر الطابع؛ وفي ذلك كارثة محققة تصيب العلم قبل أن تصيب العلماء. والناس أحوج إلى من يشجعهم ويشوقهم إلى تراثنا العلمي القديم.
ومن حق الناس مع ذلك أن يعلموا أن الكتاب قد يكون مسودات جمعها المقريزي وفي نيته أن يرجع إليها ثم لم يأذن له وقته بذلك. وإنكان من حقهم أن يعلموا أيضا أن ذلك فرض أرجحه أنا، وقد لا يرى الأستاذ الشيال ذلك، وقد يضع هذا الكتاب في مصاف كتبه(806/40)
الأخرى. وقد كان عليه أن يعرفنا بقيمة الكتاب لعله يلفت نظرنا إلى ما لم نلتفت إليه.
فإذا عرفت أنه كتب مقدمة طويلة في خمس عشرة صفحة لم تتسع لذلك التمست له العذر، لأنه يحرص على أن لا تطول المقدمة. ونحن على عكسه كنا نريد أن تتسع المقدمة لذلك وأن تتسع أيضا لكثير من الشرح المودع في الهوامش إيداعا شبيها بالتستر والاستخفاء.
وكل ما مضى ملاحظات عن المقدمة وما كنا ننتظره منها. وهي بعد ذلك مقدمة ممتازة حقا واضحة وضوحا تاما في أسلوب رصين معتنى به. نفهمها بمجرد قراءتها وتستوعب ما يريد صاحبها أن يقول في رفق ولذة، فنحمد له ذلك وتنشط نفسك له.
وإذا كان الأستاذ حريصا على الأسلوب هذا الحرص فإني أرى أن يتجنب المضافات إليها قبل ذكر المضاف؛ فإن للصحفيين أن يستطيبوا ذلك التركيب الخاطئ، أما مثله فلا يقع في مثله. فإن تكرار المضاف إليه مستثقل في العادة وهو لا يجوز في النحو إلا في عطف مل يكثر اصطحابهما مما يرجع إلى صنف واحد، فنقول يد ورجل زيد؛ ولكن لا نقول دار وغلام زيد. ومثل هذا التركيب قد يرد في الشعر للضرورة، ولا يباح في النثر وقد ركب الأستاذ هذا التركيب ثلاث مرات اجتمعت في صفحة واحدة هي صفحة س.
ولنقفز بعد ذلك إلى آخر الكتاب. نجد فيه ملحقات كثيرة منها ما قدمه الناشر على أنه استكمال لنص الكتاب ويدل من الجزء الفاقد، ومنها جداول وضعها الناشر نفسه، وهذه الملحقات كما ترى مختلفة في طبيعتها، بعضها للمؤلف وبعضها للناشر. ولهذا كان من الواجب أن تختلف التسمية باختلاف الملحقات، كأن تسمى ما ينسب منها للمقريزي ذيلا أو صلة وهي تسمية مألوفة معروفة عند القدماء، وكأن تسمى ما ينسب للناشر ملحقا. وشيء آخر، هو أن الناشر جعل كل جدول ملحقا فتكاثرت الملحقات تكاثرا يكاد القارئ يضل في ثناياه. وشيء ثالث، وهو أن أحد هذه الجداول وضع لشرح قسم خاص من الكتاب فإذا طابقت بينهما وجدت الناشر أقام جدوله على رواية واحدة وأهمل سائر الروايات.
ومن قلة الإنصاف للناشر مع هذا أن تجرح هذهالملحقات شيء من النقد. لأن الناشر وفق في جمعها ونصب في البحث عنها وصور بها الجزء الفاقد خير تصوير. ولكنه مجرد تصوير للجزء الفاقد لم يقصد به الحصر. ففي كتب المقريزي عن الفاطميين شيء كثير لم يوضع ضمن الملحقات. غير أن الدكتور الشيال إنما اقتصر على كتاب خاص من كتب(806/41)
المقريزي هو - المواعظ والاعتبار، فنقل عنه، وقد ذكر سببا دعاه إلى ذلك لا نقره عليه، ولكن هذا القسم الملحق قد أحيا الكتاب وصوره لنا فوضع أمام أعيننا الجزء الموجود ورسم لنا تخطيط المفقود منه.
ولنرجع بعد ذلك إلى الكتاب نفسه لأننا لم نعرض إلى الآن إلا لمقدمته وملحقاته.
الكتاب منشور نشرا صحيحا سليما. نظر فيه الأستاذ الناشر فأمعن النظر، وجبر أخطاء النشر القديم، وتكلف في سبيل هذا التصحيح عناء وجهدا يستحقان كل الحمد والثناء، فرجع إلى مراجع كثيرة ضبط بها النص: والمعروف أن التزام النص دون مسه إلا بالاختصار قاعدة جرى عليها القدماء، لاعتبارهم التاريخ علما نقليا لا يجوز التصرف فيه إلا بأقل قدر مستطاع. وضبط الدكتور الشيال كذلك أسماء الأعلام وأسماء الأماكن ضبطا تاما، وعرف بها، فرجع في ذلك إلى المصادر التاريخية والجغرافية القديمة. وقد كان ينبغي عليه أن يزيد على ذلك فيضع في الكتاب خريطة جامعة. ثم حسنة أخرى: هي أنه فصل النص إلى فقرات، وأضاف إليه عناوين دون أن يتجاوز الحد. ولم يضع هذه العناوين جزافا، وإنما أخذها من مصادرها. فاستقام له النص استقامة محمودة، وأصبح مفهوما واضحا. وهذا غاية ما ينتظر من الناشر الأمين، والمؤرخ المثبت.
غير أن الكمال لله وحده، هو وحده المنزه عن السهو والخطأ. وقد تورط الناشر في أخطاء قد يحسن التنبيه إليها. أما بعضها فيتصل بقراءة النص وهو قليل جدا. أما بعضها الآخر فلا نشك أن المطبعة هي التي ورطته فيه. ومثل هذه الأخطاء المطبعية مما يقع فيه الناس جميعا، ومما يقع فيه الناقد نفسه أيضا. ولكن ذلك لا يبررها.
وقد كانت مطبعة بولاق الأميرية تحسن ضبط الطبع؛ والمطابع في أوربا اليوم تعنى بضبط الطبع أكبر عناية، وتتخذ المراجعين على حسابها، ولا تقتصر على تصحيح المؤلف. بل قد تنبه المؤلف على أغلاط منها عنها. فإن خلل الضبط يمس سمعة المطبعة أكثر مما يمس غيرها. وقد وضع الناشر قائمة طويلة للتصويبات، إلا أنه لم يصوب غير الأخطاء الظاهرة، وترك ما عداها لذكاء القارئ.
والقارئ لا يحب في العادة أن يتعدى دور القراءة والاستفادة؛ فإذا كلفته فوق ما ينبغي من القراءة أضجرته وأثقلت عليه. ومن حقي أن آخذ له بحقه وأن ألوم المطبعة والناشر.(806/42)
وكيف لا أولم وقد سمح الناشر لنفسه أن يلوم صاحب النشرة الأولى، وأن ينبه على أغلاطه واحدةً واحدة. ووجد هذه الأغلاط رغم اليقظة وتحرى الضبط توضح لك ما قلته منذ حين: وهو أن كثرة النسخ تدخل على النص من الأغلاط ما لم يكن فيه. ولهذا كان النشر فنا من الفنون التي تحتاج إلى طبيعة خاصة، وكان الناشر جديرا باحترام القارئ وتسامحه واحتمال ما يقع فيه من سهو. وإليك الأخطاء التي وقعنا عليها:
لعلي بن أبي طالب ولدان سماهما عمر، وميز بين العمرين بالأكبر والأصغر، فلما جاء ذكر أحدهما (ص6) أصلح لفظ الأكبر وجعله الأصغر، ثم جاء ذكر الأصغر (ص7) فلم يدخل عليه تعديلا ولم ينبه عليه، فترك في النص عمرين أصغرين.
وفي ص8: فولد الحسن. . . وحسنا وإبراهيم وجعفر، (بدون النصب في جعفر) وشبيه بهذا أو من قبيله ص10 س4.
وقد ترك النص غير مستقيم ص99 س7، 8، وكان إصلاحه ميسورا. ومن هذا القبيل أيضا ص112 س12، 13 لو حذف: (فتح سوسة بالسيف) لاستقام النص. وشبيه به لفظ (فوقع) ص122 س15، ثم ص123 س6، فإنه غير مفهوم.
وفي ص124 س13 ذكر قلعة كتامة نقلا عن ابن الأثير وهي قلعة كيانة. والفرق بين. وقراءته على ماأراد الناشر فوقع في خطأ أكبر.
وفي ص186 س6 قال: (دخل المعز لدين الله أفريقية) وصوابها: رحل المعز لدين الله (عن) أفريقية. والتاريخ المذكور لحركة المعز هذه هو الذي يحتم تصحيحنا.
وقد يريد الناشر التنبيه على قراءة مخالفة، ثم نجد القراءة المخالفة في الهامش كالأصل في المتن مثل ص106 هـ5، ومثل ص144 هـ2، ص130 هـ2.
ثم إن من الهوامش ما يطول من غير مبرر ظاهر مثل هامش ص2، وقد كان يكفي الإشارة إلى صفحتي و، ز، من المقدمة. ومثل هذا هين، وقد يستلطف التكرار. غير أنه في ص35 أحال في الهامش رقم 1 إلى الذي يليه مع أن الذي يليه لا يتصل به إطلاقا.
أما الأخطاء المطبعية اليسيرة فكثيرة العدد، وقد تقدمنا بلوم المطابع ووفيناها حقها من اللوم والفائدة من التنبيه على هذه الأغلاط ضئيلة ليسرها. ولذلك نضرب عن ذكرها.
ولنلخص ما قلنا: مقدمة رصينة واضحة، ونص أقيم خير إقامة، وملحقات بعضها تذييل من(806/43)
كتب المقريزي، وبعضها جداول من وضع الناشر. ثم شروح مستفيضة. فإذا استثنينا الأخطاء التي وقعنا عليها، لم نجد غير انتقادات على الشكل في ذاته وتوزيع الشروح في كل مكان.
وحسب الأستاذ الناشر أننا نثني على ضبط النص، فذلك أساس عمله. أما ما عداه فهو متفضل به على القارئ رغبة في معونته وحرصا على نفعه.
ولنا إلى ذلك ملاحظات على قائمة المراجع وعلى الفهرست الأبجدي، ولكنها ملاحظات تتصل بطريقة العرض. وليس لها محل ما دمنا لم نتفق في الشرق العربي بعد على أوضاع ثابتة عامة لها
فالكتاب كما ترى مضبوط مشروح، فلا يهولنك ما ترى من كثرة الملاحظات فإنها لا تمس إلا الشكل ونحن إنما نريد بذلك التنبيه على خلل التنسيق.
والدكتور الشيال بعد هذا قد وقف نفسه على تاريخ مصر كما فعل المقريزي وجعله مادة للدروس التي يلقيها في كلية الآداب بالإسكندرية. وقد دفعه حبه لأستاذه عبد الحميد العبادي بك إلى أن يهدي إليه الكتاب، والواقع أن هذا الإهداء قد وقع موقعا حسنا من تلاميذ العميد المؤرخ؛ فإن فضله على أجيال المؤرخين المعاصرين لا ينكر. فهو أول من خرج عن التقليد القديم في دراسة التاريخ الإسلامي، ونحا به إلى الناحية العلمية الصرفة، ثم تبعه تلاميذه وزملاؤه فوجدوه قد شق لهم الطريق وقرب بين منهج الشرقيين والمستشرقين. والعبادي بك في نفوس الآلاف الذين تتلمذوا عليه منذ ربع قرن أو يزيد منزلة كبيرة وتقدير عظيم. فهو شيخ المؤرخين غير منازع. وإن له من تلاميذه كتبا حية. وله مقالات تعد نماذج في ذاتها وصورا رائعة وهي التي نشرها في المجلات، وقد جمع منها ثلاثين مقالة نتناول كلها العصر الأول وعصر بني أمية، وسماها: (صور من التاريخ الإسلامي). أما مقالاته عن العصر العباسي فستظهر قريبا إن شاء الله. ولكن العبادي بك أهل بغير ذلك لكل إهداء وتكريم من تلاميذه الكثيرين. . .
محمد عبد الهادي شعيره
أستاذ مساعد بكلية الآداب بالإسكندرية(806/44)
البريد الأدبي
إلى درناوي صريح:
ورد لي ما لا يقل عن 32 خطابا من نواح مختلفة من البلاد العربية بمناسبة ما كتبته عن الصهيونية ثم عن دعوتي إلى الإسلام. إلا أن أمامي خطابا من أديب من درنة من برقة في ليبية. وهو موقعه بهذا الاسم المستعار (درناوي صريح). وهو الوحيد الذي لم يصرح باسمه وبإمضائه، وأنا مضطر أن أجاوبه عن طريق الرسالة، وهذا ما أقتطفه من رسالته قال:
(وددت لو سكت حضرة الأستاذ أحمد عادل وعدل عن دعوتكم إلى الإسلام. ما فائدة المسلمين يا ترى في هذا العصر (إذا زاد عددهم واحدا) وهم يربون على خمسمائة مليون نسمة. (ما نفعهم) بعد الذي جرى في فلسطين المقدسة وسيجري عما قريب في مكة المكرمة (يعني إذا كان المسلمون لا يمدون أيديهم للإنقاذ) إن الإسلام بالإشارة لا ينفع ولا يضر. والإسلام الحقيقي دين قول وعمل معاً، وما ضر المسلمون في هذا العصر إلا أنهم يعرفون الله (ولكنهم) لا يتبعون ما أمر به. وإذا استثنينا الخلفاء الراشدين والصحاب والتابعين والأولياء الصالحين من عباده المخلصين وأحصينا الإسلام وغربلناه لوجدنا الإسلام الصحيح قليلا من هذا العدد الكثير. نحن اليوم في حاجة ماسة للعربي المجاهد من أمثال الأستاذ نقولا الحداد والذي سن قلمه الكاوي وقت اللزوم وجعله وقفا لخدمة العروبة والإسلام وإنقاذ فلسطين، وذلك بتنبيه العالم على صفحات المجلات والجرائد إلى الصهيونية وتبيين حاضر اليهود وماضيهم (الزفت) مع الأنبياء والمرسلين ونياتهم السيئة نحو العالم العربي) الخ. . .
فأولا، أشكر الأستاذ الدرناوي الذي يقاسي الآن تحت نير الاستعمار الأجنبي الذي يعتبره سلعة تمنح لوصاية أجنبية - أشكر له حسن ظنهبي عظيم الشكر. وما أكتبه في القضية الصهيونية لا يساوي قطرة دم مما يسفكه أولادنا في ميادين القتال في سبيل إنقاذ فلسطين. وبكل أسف أقول إن هذه الدماء تسفك في ذمة بعض العرب الزعماء الذين ظهر أخيرا أن فيهم خونة (الخيانة العظمى) يشترون السلاح من مال أمتهم ثم يبيعونه لليهود. إني آسف كل الأسف أن أضطر إلى أن نفضح أنفسنا. ولكن الصبر على المضض يضاعف البلوى.(806/46)
لا أريد أن أتمادى في هذا الموضوع المؤلم. . .
وثانيا، أن أحد الأدباء فتح علي بابا كنت أتحاشاه طول حياتي وهو عرضه الإسلام علي. وقد أفهمته بصراحة أني أقرب منه إلى الإسلام، فلم يقتنع. واقترح علي آخر أنه ما دمت اعتقد أن الإسلام كالنصرانية فلماذا لا أعلن إسلامي؟
عجباً! ألكي أزيد ملايين المسلمين واحداً وأنقص ملايين النصارى واحداً؟ (إني أخرج من قضاء الله إلى قضاء الله).
يا عزيزي، إن الدين الإسلامي كالدين النصراني عقيدة للعمل لا للقول. وما دمنا نتجادل بالأقوال وننسى الأعمال فنحن إلى الوراء، في حين أن العالم كله ومنه اليهود إلى الأمام.
كدت أيأس من تقدمنا في ميدان الكفاح العالمي، ميدان بقاء الأفضل والأقوى. أكثر الله من أمثالك أيها الدرناوي (من درنة) لعلكم تنهضون بالأمة العربية وتدفعونها إلى الأمام.
نقولا الحداد
2 شارع البورصة الجديدة بمصر
النسبة إلى فلسطين:
نشرت جريدة الأهرام الغراء كلمة لأحد مدرسي معهد طنطا تحت عنوان (فلسطي) خطأ فيها استعمال النسبة الشائعة (فلسطيني) إلى فلسطين معتمداً على ما جاء في (القاموس المحيط) في فصل الفاء باب الطاء، وهو فلسطون وفلسطين. . . كورة بالشام. . . تقول في حال الرفع بالواو، وفي النصب والجر بالياء، أو تلزمها الياء في كل حال، والنسبة فلسطي
وأقول: اختلف اللغويون في النسبة إلى فلسطين أهي فلسطيني أم فلسطي وهذا الاختلاف فرع عن الاختلاف في حقيقة فلسطين أهي مفردة وجميع حروفها أصلية أم لفظها لفظ جمع المذكر السالم فتنزل منزلته وتجري مجراه فتعامل معاملته، فمن قال بالأول نسب إليها على لفظها بدون تغيير فيقول: هو فلسطيني وهي فلسطينية، ومن قال بالثاني عاملها معاملة هذا الجمع فرفعها بالواو فيقول مثلا: عاشت فلسطون عربية، ونصبها وجرها بالياء فيقول: دخلت الجيوش العربية فلسطين لتحريرها من الصهيونية العالمية، وتآمرت الدول الأجنبية(806/47)
على فلسطين لتحقيق المآرب الاستعمارية، وطبق عليها قاعدة النسب إلى الجوع وهي تفضي بالرجوع إلى مفردها وهو هنا فلسط وإن كان لم ينطق به أصلا فقال: هو فلسطي وهي فلسطية وإليك النصوص التي تثبت صحة ما قلت:
جاء في لسان العرب في الكلام على (قنسرين) ما نصه: قنسرين وقنسرون كورة بالشام فمن قال قنسرين فالنسب إليه قنسريني، ومن قال قنسرون فالنسب إليه قنسري لأن لفظه لفظ الجمع، ووجه الجمع أنهم جعلوا كل ناحية من قنسرين كأنه قنسر، ولم ينطق به مفردا. . . والقول في فلسطين والسيلحين وبيرين ونصيبين وصريفين وعاندين كالقول في قنسرين
وجاء في القاموس وشرحه وقنسرين وقنسرون وهو قنسري عند من يقول قنسرون. . . وقنسريني عند من يقول قنسرين إلى آخر ما سبق من اللسان.
وجاء في اللسان وشرح القاموس في الكلام إلى (نصيبين) ما نصه: ونصيبين اسم بلد وفيه للعرب مذهبان منهم من يجعله اسماً واحداً ويلزمه الإعراب كما يلزم الأسماء المفردة التي لا تنصرف فيقول هذه نصيبين ومررت بنصيبين ورأيت نصيبين والنسبة نصيبي، ومنهم من يجريه مجرى الجمع فيقول هذه نصيبون ومررت بنصيبين ورأيت نصيبين قال: وكذلك القول في بيرين وفلسطين وسيلحين وياسمين وقنسرين والنسبة إليه على هذا نصيبني وبيريني وكذلك أخواتها؟
قال ابن بري رحمه الله ذكر الجوهري أنه يقال هذه نصيبين ونصيبون والنسبة إلى قولك نصيبين نصيبي وإلى قولك نصيبون نصيبني قال والصواب عكس هذا لأن نصيبين اسم مفرد معرب بالحركات فإذا نسبت إليه أبقيته على حاله فقلت هذا رجل نصيبني، ومن قال نصيبون فهو معرب إعراب جموع السلامة فيكون في الرفع بالواو وفي النصب والجر بالياء، فإذا نسبت إليه قلت هذا رجل نصيبي فنحذف الواو والنون قال وكذلك كل ما جمعته جمع السلامة ترده في النسب إلى الواحد.
فنقول في زيدون اسم رجل أو بلد زيدي ولا تقل زيدوني فتجمع في الاسم الإعرابين وهما الواو والضمة.
وجاء في شرح القاموس قال الأزهري في التهذيب: نونها (فلسطين) زائدة، وقال غيره بل(806/48)
هي كلمة رومية والعرب في إعرابها على مذهبين الخ.
وجاء في (معجم البلدان) قبل إنها سميت بفلسطين بن سام ابن أرم بن نوح عليه السلام. أو بفلسطين بن كلثوم، أو بفليشين ابن كسلوخيم من بني بات بن نوح. . . ثم عربت إلى فليشين الخ.
بعد هذه النصوص الواضحة لا أرى وجها لتخطئة فلسطيني وفلسطينية تلك النسبة الدقيقة الصحيحة المألوفة، ولو أنصف اللغويون فذكروا هذه النسبة بجوار النسبة (فلسطي) كما صنعوا في قنسرين ونصيبين. . . فنجوا من القصور والتقصير وأرشدوا القراء إلى الحقيقة ولعلهم تركوها لأنها واضحة أو لفهمها من نظائرها.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
فارس الخوري:
(فارس الخوري) من الشخصيات الخالدة التي لا تنسى، خدم وطنه وأمته، وضرب في ميدان السياسة الدولية بسهم وافر بيض فيه وجه سوريا ووجده الأمة العربية جمعاء، ولهذا الرجل في سوريا احترام بالغ من مختلف الطبقات، فهو بين السياسيين شيخهم وإمامهم، وبين العلماء والمثقفين أستاذهم وزعيمهم، وبين رجال الحكم صديقهم وكبيرهم، وعند الناس جميعاً (فارس الخوري) وكفى. . .
قالت عنه مجلة (المصور) الغراء بأنه من فرسان الثورة العربية وممن نجح في استغلال الاحتكاك الإنجليزي الفرنسي المتخلف عن الحرب في سوريا، وأضافت بأنه اختلف - بعد التطهير والنجاح - مع أنداده فكان ممن جوزي جزاء صبار. . وقالت بأنه لا يستند إلى عصبية حزبية تجعل منه صاحب نفوذ في بلده، ولذلك فهو قانع بما أصاب من نجاح، وهو قانع بدوره الهادئ خارج الحدود. . .
وأفهم من هذا أن (فارس الخوري) لم يقدر حق قدره وإنه ما زال بحاجة إلى عصبية تؤيده، وحزبية تسانده، ليبلغ مكانه اللائق في بلاده، ولذلك قنع بأن يكون مندوباً عن سوريا ورئيس وفدها في مجلس الأمن، واجب أن ألفت نظر (المصور) الغراء إلى أن (فارس(806/49)
الخوري) قد بلغ مكانه اللائق، وقدرته الأمة، وأحسنت له الجزاء، فانتخبته (نائباً) عنها وهو في أمريكا، ولم يتقدم لمنازعته مرشح آخر فانتخب بالتزكية، ثم انتخبه المجلس النيابي رئيساً له في هذه الدورة وفي الدورة السابقة، وكان في حقبة مضت رئيساً للوزراء.
وفي نظري أن (فارس الخوري) لا يطمع إلى أبعد من هذا، وهو قانع بما أصاب من صيت ذائع واسم لامع وشهرة تسامق الفرقدين، وحسبه أنه في عداد العباقرة الخالدين.
(القاهرة)
عمر الخطيب
(فتى الفيحاء)(806/50)
القصص
الضالة
للأستاذ عبد المغني علي حسين
كانت دار الحاج إبراهيم، بطرف القرية الصغيرة الهادئة، تشهد مرحا فوق العادة من صغار ساكنيها وأحاديث اهتمام من كبارهم. فهذا أحد أبناء الحاج إبراهيم، في العاشرة من عمره، لبس جلباباً جديداً، وراح ينظر مبتهجاً إلى خطوطه الزاهية الألوان، ويجد في هشاشة جدته أعظم نشوة وطرب، وعلى رأسه طاقية من القماش نفسه، وفي رجله الحذاء الذي يلبسه في الأعياد. وهذا أخوه محمود، يصغره بسنتين، وهو صورة مصغرة منه في الجسم والثياب. وهذه أختهما الصغيرة سعدية، تضحك فرحة بجلبابها الأحمر، وعلى رأسها المنديل الجديد الفاقع الاصفرار.
وجلس الحاج إبراهيم على المصطبة بمدخل الدار، يبرم مغزله بإصبعيه، ويلاحق استطالة الفتلة بالصوف المنقوش، ويخاطب امرأة فيلقي إليها بأوامره ويبادلها الرأي والجدل في اهتمام واغتباط.
إنهم معتزمون السفر إلى مصر، يعني القاهرة لزيارة آل البيت بمناسبة مولد السيدة زينب، وليوفوا نذراً عليهم لها طال تأجيلهم إياه عاماً بعد عام، وليقضوا بضعة أيام عند قريبة لهم نزحت إلى القاهرة واستوطنتها منذ بعيد.
فلما دخلوا على قريبتهم ومعهم مقادير من الزاد ذي الروائح الشهية والطعوم اللذيذة من فطائر ريفية وقشدة وما إليها رحبت بهم أعظم ترحيب. ثم جلسوا يتذاكرون الماضي، ويستعرضون أحوال الأقارب والأنسباء واحداً واحدا وواحدةً واحدة، ثم أخذ الضيوف يبدون إعجابهم بما رأوا في المدينة الكبيرة من عجاب وجمال، يراه الحاج إبراهيم للمرة الثانية في حياته وتراه امرأته وأبناؤهما للمرة الأولى، تلك الأضواء المتلألئة والعمائر الباذخة والمتاجر الزاخرة وزحمة مواكب المركبات والخلائق التي لا تني ولا تنتهي، وكل ما فيها مسرع عجل كأنما يسابق الذي أمامه ويفر مما وراءه، وكأن حياته على الأرض ليست سوى ثوان فهو يستغلها على هذا النحو طيراناً ونهباً.
وفي الصباح بكر الضيوف إلى الخروج، ليؤدوا الزيارة ويفوا النذر، ويملأوا عيونهم من(806/51)
مناظر المدينة. ثم عادوا آخر النهار ومعهم بعض حلوى المولد من عرائس ولعب.
فلما كان آخر يوم لهم بالقاهرة، وقد اعتزموا الرجوع إلى قريتهم في الغد، خرجوا لقضاء حوائج لهم وليستمتعوا بفرجة أخيرة على زحمة المدينة وقت الأصيل وبهجة أضوائها بالليل. فلما قضوا أربهم وقفوا بمحطة للترام ليستقلوه عائدين.
وكان الزحام شديداً، والمركبات تأتي غاصة، كأنها أكداس بشرية تتحرك. وجاءت المركبة التي يريدونها بعد طول انتظار لكن ليس فيها موضع لقدم أو مسكة ليد، فلما أراد الحاج إبراهيم أن يركب هو وأهله صاح فيهم (الكمساري) ليبتعدوا ونفخ في زمارته بشدة وانطلق.
وجاءت مركبة ثانية وثالثة ولا يمكنهم الركوب، حتى عيوا من طول الانتظار. وجاءت مركبة آخر الأمر تريثت في وقفتها بعض الشيء فاستجمع الحاج إبراهيم نفسه وأهله ليحشروا بين الراكبين بأية طريقة، ورفع ابنته الصغيرة بين يديه فاندست وغاصت في داخل المركبة بين الواقفين وهم بأركاب امرأته وابنه. ونظر الكمساري فرأى أربعتهم يريدون الركوب وليس لهم موضع، والوقفة طالت، ولم يكن رأى الطفلة التي أركبت، فصاح فيهم صيحته ونفخ نفخته وانطلق، وجرى الحاج إبراهيم وراء المركبة وهو يصيح بالكمساري مستوقفاً لينزل ابنته أو يركبوا معها، وصاح بعض الراكبين بالكمساري ليفعل ذلك ولكن الكمساري لم يفطن إلى ما حدث بالضبط إلا بعد أن كانت المركبة قد استكملت سرعتها والرجل يجري ليلاحقها بين السيارات المندفعة بسرعة مخيفة من كل ناحية.
وزمر الكمساري مستوقفاً السائق لكن السائق أصم أذنيه عن زمره وقال في نفسه إن الذي فاته النزول في المحطة السابقة يضيره كثيراً أن ينزل في المحطة القادمة.
وعجز الحاج إبراهيم عن ملاحقة المركبة، وأشفق على امرأته وابنيه أن يجروا وراءه فيصيبهم شيء فتوقف وعاد إليهم، وأمرهم بأن يبقوا في موضعهم ولا يبرحوه أبداً حتى يلحق بالبنت ويعود بها إليهم.
وكانت المركبة قد بلغت المحطة الثانية فأنزل الكمساري الطفلة الباكية وقال لها: اجري عودي لأبيك.
وجرت الطفلة عائدة متتبعة شريط الترام، لكنها لم تمش إلا قليلاً حتى رأت شريط الترام(806/52)
يتفرع إلى فرعين في شارعين مختلفين، فوقفت متحيرة في أي الطريقين تمشي لتجد أهلها. ثم تخيرت أحدهما. . . وكان الطريق الخاطئ!
وجاء الحاج إبراهيم مسرعاً صوب الترام مؤملاً أن يجد ابنته واقفة عندها. فلما لم يجدها غاص قلبه إلى رجليه، ووقف ينظر حوله طائر اللب. ثم أخذ يسائل عنها من يلقي من الناس فلم يجد أحداً يعرف من أمرها شيئاً.
ومشى واسع الخطى إلى المحطة التالية لعل ابنته تكون أنزلت عندها، ثم وقف هناك يحوقل ضارباً كفاً بكف.
ومشى محطة ثالثة ورابعة. . . حتى يئس من هذا الهيام على غير طائل. وذكر الذين تركهم واقفين في غربة مخيفة وقلق ممض فصاد أدراجه إليهم.
والطفلة أين ذهبت؟!. . لقد أخذت تسير وتبكي، وتقف تنظر حولها باحثة عن أهلها؛ ثم تسير وتبكي. . . حتى يئست من لقائهم فقعدت تعول وتنتحب.
وكان الناس يمرون بها رائحين غادين، لكن لدى كل من شئونه ما يشغله عن طفلة تبكي وما قد يكون أبكاها من تافه الأسباب. لم يكن يقف عندها إلا بعض الصبية بدافع الفضول وليضحكوا من طريقتها الريفية في العويل والبكاء. ومر بها رجل استلفته بكاؤها فوقف يسائلها عن خطبها ثم نفد صبره وشيكا لما أبطأت في الجواب ومضى لشأنه.
ثم أقبل رجل في مقتبل العمر يمشي الهوينى، فليس لديه كغيره من الناس عمل معين يقصد إليه. واستلفته بكاؤها فوقف برهة ينظر إليها. وفهم بسرعة ما حدث لها فلمعت عيناه بذكاء شرير وافتر فمه عن ابتسامة كريهة وأسنان ذهبية.
وناداها (سعدية!!). وكان قد سمعها تسمي نفسها لبعض الصبية الواقفين.
- سعدية!!. . أبوك أرسلني إليك. . . تعالي!. اجري! وانتبهت الطفلة كغريق لمست يده شيئاً، ونظرت إلى الرجل وكفت عن البكاء.
واستطاع الرجل بقليل من اللباقة والحنان المصطنع أن يستهوي الطفلة الملهوفة فأسلمته ذراعيها وانطلقا.
وركب وإياها الترام - كما قال له أبوها! - ثم نزل وإياها في مكان ما. ومشى إلى باب فطرقه وفتحت الباب فتاة طويلة نحيلة، في عينيها المرهاوين كحل كثير، وعلى وجهها(806/53)
الضامر أصباغ دامية. ونظرت الفتاة فلما رأت أنه هو أدخلته، وهي تبادله تحيات غير طيبات، وتتحفه متلطفة ببعض السباب. ونظرت إلى الطفلة، وضحكت ضحكة صارخة، فغمز لها الرجل بعينه أن تسكت. قالت الطفلة (أين نحن؟!) قال لها الرجل (في بيت خالة لك) ثم مشوا إلى حجرة تجلس فيها امرأة بدينة. قال الرجل للطفلة (هذه خالتك) اقعدي هنا، وسأذهب لآتي بأبيك) ونظرت المرأة البدينة من الطفلة إلى الرجل ونه إليها ولم تقل شيئاً. ووقفت الطفلة تنظر حولها في دهشة وريبة، لكن الأمل كان أغلب عليها وهي تنظر إلى الرجل الذاهب ليأتي بأبيها.
وقعدت كما قيل لها. وجاء لها بعشاء حسن فأكلت منه، فلم تلبث أن أحست بخدر، وراحت في نوم عميق.
وعاد الرجل في آخر الليل. . . قالت له المرأة البدينة (ما الذي أتى بك؟!)
- لآخذ أتعابي. . . كلام جميل!. . . ما الذي أتى بي!!
- أي أتعاب؟!. طفلة لا تصلح لشيء!
- طفلة!. . . إنها شجيرة بازغة سوف تثمر جوهرا. . . إنها دجاجة صغيرة ستبيض ذهباً. . . انظري إلى جسمها السوي وقسماتها الحلوة. . . سلام عليها حين تطول وتكتمل، ويعلو نهداها، ويشكو خصرها من ردفها!. . ستكون النظرة إليها عندئذ بكذا. وسيهوي إلى بيتك ألوف الرجال مسلوبي القلوب مملوئي الجيوب. هيا انقديني مائة جنيه، ولا أقول ألفاً مما ستأتيك به من ألوف.
- مائة!! مائة من الجن يركبونك!! مائة!!
وجرى على هذا النحو الحوار، والسلعة المسكينة راقدة في خدرها العميق.
من لأبيها وأمها في ذلك الوقت بجرعة من مخدر!. . . عندما عاد الرجل المسكين إلى المرأة المسكينة بغير البنت دقت صدرها، ووقفا ينعتان الليلة السوداء. وأرشدهما الناس إلى إبلاغ البوليس ففعلا، ثم عاد إلى قريتهما بقلبين ينفطران.
وعبثاً سألوا، وعبثا نادوا. إن ابنتهم زالت من الوجود المعروف. لقفها الشيطان وغاص بها في عالم الظلمات.
كان أسوأ الفروض عندهم أنها لقيت حتفها على صورة ما. وكان يهدهدهم أمل في أنها عند(806/54)
بعض كرام الناس. لم تكن تخطر ببالهم، من لطف الله بهم، تلك المباءات العفنة بجسم المجتمع المريض.
قالت المرأة الثكلى لزوجها: حاج إبراهيم! السيدة زينب غضبت علينا لتأخيرنا وفاء نذرها.
ونذروا للسيدة نذراً آخر، لكن يظهر أن السيدةزينب لم تكن راغبة في نذرهم الثاني. . . لو كانت السيدة زينب تملك من أمور دنيانا شيئاً لكانت غيرت منها الشيء الكثير، ولو كانت تغضب من الناس حقاً لما أغضبها إلا هذا الاعتقاد العجيب، والقول بأنها من أجل ذلك السبب التافه تلجأ لمثل هذا الانتقام الفظيع.
واستيقظت الطفلة في اليوم التالي، وجلست تفرك عينيها وتنظر حولها مشدوهة. قالت (أين أبي؟!) قالوا لها صح النوم!. جاء وأنت نائمة، ولما لم تستيقظي قال أبقوها هنا تتعلم وتتمدن، وسأحضر من البلد لأراها من حين لحين، وكانت لا تزال تحس ثقلاً برأسها، فعادت إلى نومها العميق المريب تتخلله مباهج ولذائذ عجيبة.
وأخيراً زال عنها الخدر والنعاس، وأفاقت إلى الوحشة الموجعة، والريبة في المكان والسكان كما يفيق الذي أجريت له جراحة على آلام الجرح الكبير. فعولجت في الحال بمزيج مناسب من الإبهام والإغراء والإرهاب. قيلت لها مختلف الأكاذيب، وجيء لها بلذيذ المأكولات وبهيج الملموسات، أما انتفاضاتها ومحاولاتها الإفلات فقمعت في الحال بعقوبات رهيبة حتى استسلمت للذي ليس منه بد.
كانت تبكي أهلها سراً عندما تخلو لنفسها ثم أخذت تسلو شيئاً فشيئاً، وتنسى قليلاً قليلا، ثم اعتادت ما يحيط بها، ثم أخلدت إليه، ثم ألفته، ثم لم تعد ترى الحياة إلا سهر الليل ونوم النهار وأحاديث الدنس ومشاهده وكل ما يتعلق بصناعته.
تخرجت سعدية في معهد الشيطان، فلما اكتملت أنوثتها واستوت لم تكن بحاجة إلى إغواء وكانت هي المغوية.
لم تعد تبكي أهلها. بل لم تعد تذكر منهم إلا ظلالا حائلة طافت بناظريها أيام الصغر، ومشاهد القرية والدار والحقل صارت أطياف أحلام لا تخطر لها إلا في منام. إنها اليوم امرأة حضرية تجيد التزين والمشي في الطرقات بخطوة ونظرة وبسمة يتهاوى لها كثير من الرجال. حياتها سهر وخمر ولهو وعبث ونقود كثيرة تأتي وتذهب، ورجال كثيرون(806/55)
يجيئون ويمضون. متعة متصلة فيما يبدو، لكن آه كم هي مملة ومضنية. أين هي من خفقة حب حقيقية، وخلجة حنان طبيعية. إنها متعة الجسد وحده والروح في حرمان، وما أتعسها متعة.
ثم آه من صناعة كل عدتها رواء الشباب، وكل يوم يمر يحدث في السدة ثلمة ليس لها التئام. كل الصناعات يزداد صاحبها على مر الأيام قدراً إلا هذه الصناعة فلا تزيد الأيام صاحبها إلا رخصاً.
إن سعدية كانت ولدت لتكون امرأة قروية تتزوج رجلاً قروياً وتلد له بنين وبنات وتمشي إلى الحقل حافية في أثواب بسيطة سوداء وتأكل الخبز المقدد وتافه الأدام. حياة شظف وخشونة، لكن آه! إن فيها قلبين يتجاوبان، ونعمى الأمومة لا تعدلها نعماء.
أي الحياتين أفضل؟!. . لكن ما جدوى المفاضلة بينهما؟. وهل كان لسعدية في أمرها أي اختيار؟. . إن الذي هي فيه قد أريد لها وكان.
نعم لا أحد يمنعها الآن أن تخلع زينتها، وتغسل أصباغها، وترمي عنها أثوابها الفاضحة، وتخرج تائبة منيبة وتتزوج رجلا إن وجد، أو تقضي بقية العمر متبتلة طهوراً عاملة لكسب عيشها بعرق الجبين. لكن الذي يستطيع أن يخلق نفسه هكذا خلقاً جديداً لا يكون إلا ملاكاً أو قديساً، وسعدية لم تكن ملاكا ولا قديسة بل كانت امرأة عادية كغيرها من ملايين النساء.
هذه الخواطر كانت تطوف بنفس سعدية في بعض الأحيان فلا تلبث أن تنفضها كلها عنها بهزة كتف وتنصرف إلى شيء آخر وهي أن تلوك بشدقيها مضغة اللاذن.
وذات يوم وهي تتخطر في الطريق رأت رجلين قرويين أحدهما يكبرها بسنتين ويصغرها الآخر بمثلهما، ومعهما قروي عجوز مهدم وقروية عجوز لا تكاد تبصر. لم تكفها منهم كغيرهم من الناس نظرة عابرة بل علقت بهم عيناها لا تستطيعان عنهم حولا. ودارت بهما الدنيا وهي تهوي بذاكرتها عبر السنين إلى أعماق الماضي البعيد وتبعتهم عن كثب وقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان.
ورأتهم يدخلون ضريح السيدة زينب. لقد عادوا يتوسلون إليها كي تعود إليهم ابنتهم المفقودة. وماذا تصنع السيدة زينب فيما أقيم فيه العباد؟ إن الله ربها وربهم لا يغير شيئاً بهم(806/56)
ما لم يأت التغيير من جانبهم. ما حيلة السيدة زينب فيما لا يريده الله.
وطفرت من عيني سعدية دموع حرى. دموع لم تعرفها منذ فقدت أهلها أول مرة. وهؤلاء هم أهلها على بعد خطوات منها. هل تذهب إليهم وترتمي عليهم؟ إن ثيابها وزينتها وسحنة وجهها ونغمة صوتها كلها مطبوعة بطابع داعر. وهي إن ذهبت إليهم فسينكرونها حتماً ولن يعرفونها أبداً، وإن استطاعت أن تعرفهم بها فلن يمحو عنهم عارها إلا قتلها. خير ألف مرة لهم ولها أن يبقوا على ظنهم من أنها لقيت حتفها صغيرة على براءة وطهر، أو أنها، إن كانت تعيش، فعلى أي حال غير هذه الحال.
وأشاحت بوجهها عنهم وولت مدبرة.
لقد كانت طفلة ضالة، وهي اليوم امرأة ضالة.
عبد المغني علي حسين(806/57)
العدد 807 - بتاريخ: 20 - 12 - 1948(/)
في سبيل سياسة إيجابية للجامعة العربية
للأستاذ عمر حليق
من الأخطاء التي ارتكبها العالم المتمدن اعتقاده أن العلة الأساسية التي جعلت تاريخ الإنسانية في الخمسين سنة الأخيرة سلسلة من الحروب الداخلية والخارجية هي فساد المذاهب السياسية، وأن الدواء الوحيد لها هو تغيير هذه المذاهب. ومن هنا تولدت الأنظمة النازية والفاشية والشيوعية والديمقراطية المعاصرة والاشتراكية، ومن هنا كذلك تألفت عصبة الأمم المنحلة، وهيئة الأمم القائمة.
هذا الاعتقاد خاطئ لأن التجارب المريرة التي مرت بها الإنسانية في ظل هذه النظم - نازية أو ديمقراطية أو شيوعية في عصبة الأمم أو في هيئة الأمم المتحدة - كلها لم تُشف الإنسانية من علة الحروب ومن علة الشقاق الداخلي ومن علة التناطح في العلاقات الدولية.
هذا الاعتقاد خاطئ لأنه يعالج النظم قبل أن يعالج الفرد الذي يتبنى هذه النظم ويتولى تنفيذها أو يعمل على تقييد نفسه بالتزاماتها. وهو خاطئ لأنه في حماسته لتحقيق الأهداف ينسى أو يتجاهل خطورة السبل والوسائل.
فمصيبة النازية والشيوعية والديمقراطية الغربية، ومصيبة عصبة الأمم وهيئة الأمم ليست فقد في المبادئ والفلسفات التي بنيت عليها، فكلها مبادئ تتوخى - نظريا على الأقل - إسعاد المجتمع الذي تعمل فيه وتوفر له الاستقرار والرخاء.
ولكن المصيبة في الأفراد الذين تولوا ويتولون العمل لها، ومصيبة الوسائل والسبل المتخذة لتحقيقها.
وجامعة الدول العربية هي واحدة من هذه المذاهب السياسية التي شعر سكان الشرق العربي بحاجتهم إليها في هذه المنطقة الخطيرة من العالم؛ وفي هذه الفترة الدقيقة التي تمر بها المجتمعات الصغيرة المتقاربة المتشابكة التي تنطق بالضاد.
وفي هذه الأزمة النفسانية العاصفة التي تجتاح العالم العربي، وفي أعقاب هذه النكسات السياسية في هيئة الأمم العسكرية في الميدان تتناول ألسنة الرأي العام الجامعة العربية بالنقد اللطيف حينا والعنيف أحيانا. وفي هذه الأزمة تتعرض المبادئ والفلسفة التي بنيت عليها الجامعة العربية لخطر جسيم. ولعل هذا الخطر هو أو هي ما يواجه الشرق العربي(807/1)
في تاريخه الحديث، وفترة فاصلة في مستقبله.
وفي هذه الأزمة النفسانية قد يقع العرب في نفس الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون حين ألمت بهم أزمات مشابهة، فهم في بلبلتهم الفكرية والعاطفية يميلون لأن يجسموا موطنا واحدا من مواطن الضعف في نظرة ضيقة، بل هم أميل إلى البحث عن لون من الحياة جديد. وتكرر المأساة من جديد وهكذا دواليك.
فليس من الغريب إذن أن يتخذ بعض الناس هذه النظرة نحو جامعة الدول العربية وفكرة الوحدة العربية إجمالا فأن هذه النزعة وليدة شعوبية متأصلة، ولكنها في أغلبها مخرج من أزمة نفسية.
ولهذا، فإن الأزمة التي تواجهها الجامعة خطيرة خطورة الفكرة التي تحملها. ولنقرر قبل كل شيء أن الفكرة والبادئ التي بنيت عليها وتدعو إليها الجامعة العربية هي مبادئ سليمة. هذه أمور أساسية مستمدة من صميم الفكر السياسي والاقتصادي المعاصر، ومن صميم المقدمات الثقافية (وهي تشمل السياسة والاقتصاد والعاطفة) التي يعيش عليها الناطقون بالضاد في الشرق الأدنى.
هي مستمدة من صميم الفكر السياسي المعاصر لأنها دعوة إلى التآلف الإقليمي والتكتل السياسي، على أساس المصلحة الحيوية المشتركة في السياسة والاقتصاد والعصبية الثقافية وجميعها دعائم ضرورية للحياة الشريفة.
والجامعة العربية هي أول محاولة جدية للتعاون الإقليمي على أحدث ما أنتجته الفلسفة السياسية المعاصرة. والتعاون الإقليمي منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، ويحتل مكانة بارزة أشد البروز في تكوين هيئة الأمم المتحدة الداخلي وفي نشاطها ونشاط فروعها والوكالات الخاصة الملحقة بها.
فمحاولة حلفاء الغرب توحيد أوربا الغربية ومحاولة الروس في شرقي أوربا، ودول العالم الجديد في مشروع الحلف الأمريكي مسبوقة بمحاولة الجامعة العربية للتكتل على دعائم أمتن وأبعد شأوا وأرفع في مقاييس الخبر والشر في العلاقات الدولية.
ومع ذلك فإن الجامعة العربية تواجه أزمة من طراز حاد، والسبب في ذلك لا يرجع إلى مبادئها وأهدافها ولكن إلى الأفراد والسبل التي تحمل الدعوة إلى هذه المبادئ وتعمل(807/2)
لتحقيقها.
وقد أصبح التنديد بالزعماء والقادة من قبيل الكلام المبتذل، ولقد جسمته ألسنة الرأي العام العربي، فجعلته السبب الوحيد في هذه الأزمة التي يمر بها العرب اليوم، ومن النادر أن نرى في هذا التنديد دراسات منتقدة للسبل والوسائل وللنواحي الاجتماعي والاقتصادية والثقافية التي تتحداها هذه الأزمة.
وعلة الجامعة العربية هي في افتقارها إلى إدارة رشيدة وخطط عملية ووسائل مرضية لتحقيق الهدف والفكرة التي تعمل لها فإنك لن تستطيع بلوغ هدف قبل أن تضع للوصول إليه خططاً وبرامج عملية وجهازاً إدارياً حازماً لتنفيذها.
والجامعة العربية في حالتها الحاضرة تحتاج إليهما جميعاً.
ولقد اعتدنا في الشرق العربي أن نتناول القادة من حيث (وطنيتهم) وما إلى لك من بقايا عهد النضال ضد الحكم الأجنبي. وقل أن نتناول القادة والزعماء من حيث مقدرتهم وصلاحيتهم ومؤهلاتهم العلمية واستعداداتهم النفسية. وكل توجيه سياسي لا يتوخى دراسة القادة على مثل هذا الضوء توجيه مشوه ضعيف.
والجزء الأكبر في هذه المقدمة الحادة التي جلبتها الجامعة العربية على نفسها التي خلفتها ظروف وملابسات طارئة، هي فقدان الكفاية والمؤهلات والاستعداد العلمي والنفساني في الجهاز الإداري ومراكز التوجيه والمسئولية فيها.
فالجامعة لا تزال تنظر إلى نفسها، ولا يزال الناس ينظرون إليها على أنها رمز للوحدة العربية، بدل أن تنظر إلى نفسها كبرنامج للوحدة وكمشروع إنشائي.
والجامعة عربية (بدوية) من حيث أنها تتناول الأشياء في نظرة شاملة على حين يتجه العالم نحو التحليل والتخصص. والجامعة في نظرتها هذه لا تجاري النزعة (العلمية) التي أخذت تتمكن من العقلية العربية المثقفة.
في هذه السنوات الثلاث التي مرت على الجامعة منذ تأسيسها أحرزت تقدماً سياسياً ملحوظاً وملموساً، ولكنها قصرت تقصيراً مخجلا في الاقتصاد والمواصلات الفكرية والتعاون الثقافي والاجتماعي، وذلك لأن المشرفين عليها يبدو أنهم لا يقدرون قيمة هذه النواحي في التعاون الإقليمي الصحيح، والسياسة ليست وسيلة للتعاون الاقتصادي والفكري(807/3)
ولكنها نتيجة لها.
هذه الأصوات الناشزة التي تصدر هنا وهناك وهذا الركود السياسي البادي في المملكة السعودية واليمن هي وليدة قصور الوسائل في الجهاز الإداري للجامعة العربية.
وهذا القصور لا يرجع إلى الصخور الشماء التي تقف في سبيل برامج الدوائر الثقافية والاقتصادية في الجامعة. ولكنه يرجع إلى فقدان هذه البرامج.
لقد عجز مثلا الإدارة الاقتصادية في الجامعة عن أن تضع لها إصبعاً رفيعاً في هذه الثورة الصناعية التي تجتاح نجداً والكويت وتكاد تفصل شرقي العالم الغربي عن غربة وأواسطه، اقتصادياً واجتماعياً. فلا غرابة إذن أن سياسة البترول (وهي سلاح خطير في العلاقات الدولية) في الجامعة العربية مقيدة باعتبارات سياسية محلية.
إن طائفة من الدراسات وسلسلة من المؤثرات وثغرات الخبراء تفيد الجامعة في هذه الثورة الصناعية الخطيرة في طهران والبحرين والكويت فوائد جسيمة للتعاون السياسي والاقتصادي ولمستقبل الوحدة العربية إجمالاً.
فهو أولا: محاولة لتعريب آبار الزيت تدريجياً فتوفر العمل والانتفاع المادي والمهني لألوف السعوديين والسوريين والمصريين وغيرهم من العرب في هذه المنشآت التي يمتص بها الأمر الأمريكان ذهب الصحراء، ولربط قلب الجزيرة بالهلال الخصيب ووادي الكنانة من طريق استيطان هؤلاء العمال. وأي خطر على المستقبل الاجتماعي والثقافي - ولا نقول السياسي - للوحدة العربية وللتعاون الإقليمي جاثم في هذه الألوف من العمال الأمريكان والطليان وغيرهم الذين أنشئوا في قلب نجد والكويت قطعة من أمريكا ومستعمرات إيطالية و (جوالي) أجنبية الثقافة والولاء لا تبدو خطورتها إلا حيث ترسخ جذورها هنا وهناك كما رسخت في الإسكندرية وفلسطين.
وهي ثانياً: تحيط البيت السعودي بمجموعة عربية مستنيرة تعرف ما يفعله الاستغلاليون الأمريكان في ذهب الصحراء وترقبهم في ذكاء العالم الخبير بدل أن تترك البترول والبيت السعودي المالك والمجتمع السعودي إجمالا والتعاون الاقتصادي العربي فريسة في يد الاستغلاليين العالميين ومعهم حفنة من المرتزقة العرب الذين ضربوا نطاقاً حديدياً على البلاد السعودية وأثار هذه العزلة الاقتصادية في البلاد السعودية علاوة على أضرارها(807/4)
السياسية الوخيمة (كما تشهد قضية فلسطين) كونها نقطة أمريكية استراتيجية فإن لها خسائر اقتصادية جسيمة على باقي أقطار العالم العربي؛ هذه الخسائر لا يقدرها إلا الذين أتيح لهم الاطلاع على فخامة التبادل التجاري الذي تمتص به عشرات الشركات التجارية في نيويورك الدخل القومي للملكة السعودية في جميع أوجه التبادل التجاري وبعملة صعبة كالدولار الأمريكي الذي يحتاج إليه الاقتصاد العربي في سوريا ومصر والعراق ولبنان وفلسطين حاجة ماسة. والقصور في هذا التعاون الاقتصادي ملموس في أكثر من ناحية، وليست سبب موانع سياسية فقط. ولكنه في أساسه قصور في التعريف بفوائد ودراسة لفوائده المادية والعلمية دراسة علمية وتعميمها بنباهة وعلى نطاق واسع. هو قصور في الوسائل والسبل. والواقع أن الجامعة العربية قد أهملت استعمال أمضى الأسلحة لتدعيم كيانها والأهداف التي تدعوا إليها، وهي دعائم الرخاء والاستقرار في هذا الجزء الهام في العالم.
هذه الذئاب التي تجثم على أطراف الشرق العربي لتنهش منه وتعيش على خيراته ما الذي يدفعها إلى ذلك؟ ما سر تنافس الروس والأمريكان والبريطانيين على هذا الشرق؟ وهذه الثعالب الراقدة بين ظهرانينا تستثمر الملايين في الشركات (المصرية) وفي مشاريع اليهود في فلسطين، أليست وليدة المعرفة بالإمكانيات المغرية الكامنة في الشرق العربي؟ كم يعلم المواطن العربي عن هذه الإمكانيات؟ لمحات خاطفة في الصحف السيارة لا تشفي الغليل ولا توقظ في النفس وعياً اقتصادياً صحيحاً. الفائدة التي تجنبها الجامعة العربية والفكرة التي تعمل لها عظيمة لو أن الدوائر المختصة في الجامعة جمعت أو كلفت من يدرس هذه الإمكانيات في إسهاب ودقة لتعممها على أوسع نطاق؛ ولم تترك ألسنة الرأي العام العربي والمثقفين العرب في معلوماتهم عن الوضع الاقتصادي في الأقطار العربية فريسة للمعلومات المشوهة المغرضة التي تصدرها المصادر اليهودية والشركات الأجنبية في عشرات البحوث والنشرات. ولماذا يكون المواطن العربي أجهل الناس بوضع بلاده وخطورتها في الاقتصاد الدولي؟ قد لا تلام الجامعة العربية وحدها على هذا التقصير. فالخبرة الفنية متوفرة في معاهد العلم والدوائر الحكومية والحكومات والأوساط العلمية العربية والمثقفون الخبيرون يشاركون الجامعة وزر هذا الإهمال الضار.(807/5)
وخذ مهزلة التعاون الثقافي. كأن الثقافة صرف ونحو وترجمة. ليس للجامعة العربية نشرة واحدة محترمة تحمل رمز هذا التعاون ورسم المناهج له، وليس لها وسيلة واحدة في وسائل المواصلات الفكرية لتنقل إلى بيروت وبغداد أنباء البحث ونجد والكويت، والصحف العربية لا تزال فريسة الدعاية الأجنبية الخبيثة عن طرق وكالات الأنباء الأجنبية حتى فيما يتعلق بالشؤون العربية الصرفة. وكم من بلبلة أوجدتها هذه الوكالات في الحياة العربية الداخلية بوسائلها الخبيثة. وشكراً لمصر التي تكاد تحتكر الإنتاج الفكري والصحفي فتؤلف نوعاً مشوهاً من الوحدة في الاتجاهات الفكرية والعاطفية، مشوهاً لأنه يفقد عناصر التوجيه القومي المنظم الذي يجب أن يقع عبثه على الدوائر المختصة في الجامعة العربية. وفي نشاط جامعة الحلف الأمريكي (الولايات المتحدة وجاراتها اللاتينية الجنوبية) في هذا المضمار دروس وخبرة تصلح للاقتباس والقدوة المفيدة. وبعد، فهذه وغيرها من أوجه العجز لا تنفي مطلقا متانة المبادئ التي تدفع العرب إلى الوحدة والتعاون الإقليمي إلى أبعد حدود التعاون. ولكنها ألوان في القصور مرجعها فقدان الاستعداد لدى القائمين على شئون هذه المنظمة الإقليمية التي تحتل اليوم على الرغم من كل ذلك مكانة خطيرة في الأوساط الدولية. والذين أتيح لهم الاتصال عن كثب بهيئة الأمم والوكالات الفنية العالمية يقدرون هذه الخطورة حق التقدير. هو قصور في الاستعداد وضعف في الوسائل والسبل لتحقيق هذا التعاون.
وإذا كان التحدي سبيل إلى الرقي والتقدم، فإن هذا القصور - الذي هو جزء من الأزمة التي تواجه الجامعة ومعها العرب في مختلف أقطارهم - هو نوع من التحدي. والأزمات في جملتها أنواع من التحدي. وتاريخ التمدن كما قال المؤرخ توينبي تحد وإجابة
نيويورك
عمر حليق(807/6)
أول أبطال الحروب الصليبية:
عماد الدين زنكي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم يكن الصليبيون يستطيعون أن يحدوا وقتاً أنسب من هذا الوقت الذي اختاروه للانقضاض فيه على بلاد الشام؛ فقد كان النظام الإقطاعي يومئذ يمزق وحدة هذه البلاد، ويوهن من قواها؛ فلم يستطع أمراء الإقطاعيات المتفرقون أن يصدوا هذا الجيش اللجب الذي بعثت به أوربا لالتهام تلك القطعة من الأرض، فسقطت فلسطين وجزء من سوريا بين أيديهم، وأسسوا بها إمارات صليبية هي إمارة الرها وأنطاكية وطرابلس وبيت المقدس؛ وبرغم ما بذله أمراء البلاد مجتمعين حيناً، ومتفرقين حيناً، من الجهود في حرب الصليبين لم يستطيعوا استخلاص البلاد من أيديهم، أو صد عدوانهم؛ ورأينا الفرنج وقد امتدت حدودهم من ماردين وأنطاكيا في الشمال إلى مدينة العريش لدى حدود مصر. وأخذت جيوشهم تضخم وقسوتهم على من بجوارهم من العرب تشتد، وتهبهم ما يطيقون نهبه يزيد في كل يوم، وأصبحوا يرتكبون كل عظيمة لا يهابون قصاصاً ولا عقوبة، واحتملت البلاد المجاورة لهم كل ما لا يستطاع حمله من الذي والإرهاق، ففرضت عليها الضرائب الثقيلة لا تميز في لك بين مسلم ومسيحي.
تلك كانت حال البلاد عندما ولى عماد الدين زنكي إمارة الموصل. وقد لوحظ في اختياره لهذه الإمارة ما عرف عنه من الكياسة وحسن الإدارة، والشجاعة في حرب الصليبين؛ فرأى الأمير الجديد أنه لا يستطيع النهوض بهذا العبء، وشمل الأمة ممزق، ووحدتها مبعثرة، فوضع نصب عينيه أن يوحد البلاد تحت قيادته، ويجمع أمرها في يديه، حتى يحمل على عدوه حملة رجل واحد، ويستخلص من بين براثنه الوطن المغتصب؛ فضم إلى إمارته معظم بلاد الجزيرة، ثم عبر الفرات واستولى على حلب وكثير من بلاد الشام، وحاول الاستيلاء على دمشق حتى تتم له وحدة البلاد ولكنه لم يوفق.
ورأى عماد الدين أن إمارته - وقد اتسعت رقعتها - في حاجة ماسة إلى الإصلاح الشامل؛ فنصب نفسه أباً لشعبه وسهر على إصلاح شئونه المالية، حتى يستند إلى دعامة قوية من المال فيما صمم عليه، وكانت البلاد قد خربت قبله، لطول غارات الصليبين عليها، وصار(807/7)
كثير منها غير مزروع، وانقطعت التجارة لتعرضها لنهب الفرنج، فبذل زنكي جهوداً جباوة في إحياء الزراعة، وإعادة الرخاء إلى إمارته؛ فرجع الفلاحون إلى أرضهم، وبنيت المدن المخربة، وعاد إلى التجارة الحياة، كما أخذ العابثين بالنظام، وقطاع الطرق بالشدة والقسوة، وحكم إمارته بعين يقظي تنقل إليه عيونه كل ما يجري فيها وفيما حوله من البلاد، حتى لا يؤخذ على غرة. ونهض بالبلاد نهضة ثقافية، فكان هو ووزيره جمال الدين الجواد من حماة رجال العلم والثقافة. وأحاط نفسه بنخبة ممتازة من الرجال أغدق عليهم خيره، ولم يكن من صفاته التلون والتغير على أصحابه، فكانوا لذلك يخلصون له في النصح، ويبذلون نفوسهم في سبيله، وبهذا كله استطاع أن يجمع قوى هذه الإمارة ويوجهها إلى الصليبيين يحطم بها ما استطاع من قوتهم
كان الفرنج ينظرون إلى هذه الإمارة الناشئة بعين الريبة، فما هو إلا أن صمم عماد الدين على لقائهم عند حصن الأثارب سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وهو حصن قريب من حلب، اشتد ضرره على أهلها، فلا يكاد يمر يوم من غير غارة عليهم، أو نهب لأموالهم. حتى جمع الفرنج فارسهم وراجلهم يريدون أن يسددوا إلى تلك الإمارة ضربة قاضية، لا تقوم لها بعدها قائمة. ولعل الخوف من هذا الحشد الذي جمعوه قد داخل نفس بعض أصحاب العماد؛ فأشاروا عليه بالعودة، ولكن الحماسة المتدفقة في صدره ملأت نفوس جنده همة وإقداماً، فأقبلوا على أعدائهم في إيمان وبسالة يريدون أن يظفروا بالشهادة في سبيل الله. ولقد صبر الفريقان وأبلوا في المعركة أشد البلاء، ثم ظفر المسلمون بأعدائهم وانتصروا عليهم، وانهزم الفرنج هزيمة منكرة. قتل منهم عدد ضخم، ووقع الكثير من فرسانهم في الأسر وأذاقهم المسلمون من بأسهم ما أدخل في نفوس عدوهم الرهب والوهن، فلم يستطع الفرنج لقاء عماد الدين عندما مضى مجداُ بجنده إلى قلعة حارم بالقرب من أنطاكيا، وبذلوا له نصف دخل المدينة على أن يعقد بينه وبينهم هدنة، فأجابهم إلى ذلك، حتى يعطي جيشه الناشئ فرصة للراحة والاستعداد، وعاد بعد أن رأى الفرنج أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب وصار قصارى همهم أن يحفظوا ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك جميع البلاد.
رأى الفرنج هذا الخطر فأرادوا تحطيمه، ومضى ملك بيت المقدس إلى أعمال حلب(807/8)
يهاجمها، وجاءت طائفة من فرنج الرها تغير عليها، فاستقبلهم عامل حلب وهزم الأولين، وأباد الآخرين. وأراد عماد الدين أن يثأر من عدوه، فانقض بجنده على اللاذقية وأثخن في الفرنج قتلا، وأسر منهم سبعة آلاف أسير، وكانت الغنائم أكثر من أن تحصر، وأخذت الروح المعنوية تقوى عند المسلمين، بينا دب الوهن والخوف إلى نفس أعدائهم، فلم يثأروا لأنفسهم، ومضى زنكي يكيل لهم الضربات المتلاحقة، ويأخذ منهم القلاع والحصون، ويسترد المدن والقرى، ويمنح أهلها الأمان والسلام حتى ضج الفرنج، وأرسلوا إلى ملك القسطنطينية يستصرخون به، ويحرضنه على أن يصل لينقذ البلاد قبل أن تملك، فأقبل على عجل، ثم مضى إلى حلب يريد أن يستولي عليها فلم يجد فيها مطمعاً، فذهب إلى قلعة شيرز، ولم تكن خاضعة لزنكي، يريد أن يجعلها قاعدة يشن منها هجومه. ولعل ملك الروم ظنها سهلة المنال، وأن العدو اللدود زنكي لا يعني بأمرها فحاصرها، ونصب عليها سبعة عشر منجنيقاً، ولكن صاحبها أرسل يستنجد بعماد الدين فجاء إليه مسرعاً بجيشه؛ غير أن ملك الروم كان قد جمع من الجند عدداً ضخماً؛ فرأى العماد أن يستخدم الحيلة في هزيمته؛ فكان يسير كل يوم إلى شيزر هو وجنده، ويقفون بحيث يراهم الروم، ويرسل سرايا تأخذ من ظفرت به منهم، ثم إنه أرسل إلى ملك الروم يقول له: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فانزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم، وإن ظفرتم بي استرحتم، وأخذتم شيزر وغيرها. فأشار فرنج الشام على ملك الروم بلقائه، فلم يفعل، وقال: أتظنون أن ليس له من الجند إلا ما تريدون؟ إنما هو يريد أن تلقوه فيجيئه من نجدات المسلمين مالا حد له. وكان زنكي يرسل إلى ملك الروم يوهمه أن قلوب الفرنج متغيرة عليه وأنهم سينفضون من حوله إن هو أقبل على الحرب، ويرسل إلى الفرنج يخوفهم من ملك الروم، ويقول لهم: إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً. فخاف كل من صاحبه، ورحل ملك الروم عن شيزر وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها؛ فتبع زنكي جند عدوه وظفر بالكثير منهم، ووقع في يده جميع ما تركه الفرنج غنيمة باردة، وقد بهر هذا النجاح شعب عماد الدين وخلده الشعراء في قصائدهم.
وكان أعظم ما قام به عماد الدين، أنه حطم إمارة كاملة من إمارات الصليبيين، تلك إمارة الرها، ففي جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة سقطت المدينة في يده بعد أن(807/9)
حاصرها حصاراً عنيفاً. وقد فكر في أن ينزل عقوبة مخيفة بالصليبيين انتقاماً لما اقترفوه من مذابح عندما دخلوا بيت المقدس وأنطاكيا وغيرهما، ولكن إنسانيته غلبت غضبه، فلم يقتل عدا المحاربين أحداً، ولم يأسر رجلا ولا امرأة ولا طفلا. ولم يستول على ممتلكات أحد، وأمر جنده بإعادة ما أخذوه فعاد البلد آمناً عامراً
كان لسقوط الرها دوى عظيم في جميع الأرجاء. وكان فتحاً عظيماً ملأ قلوب المسلمين غبطة وبهجة، وأقبل الشعراء يهنئون عماد الدين بهذا الفتح وأكثروا وأطالوا؛ فمن ذلك ما قاله ابن منير:
صفات مجدك لفظ جل معناه ... فلا استرد الذي أعطاكه الله
يا صارماً بيمين الله قائمة ... ووفي أعالي أعادي الله حداه
أصبحت دون ملوك الأرض منفرداً ... بلا شبيه، إذ الأملاك أشباه
فداك من حاولت مسعاك همته ... جهلا وقصر عن مسعاك مسعاه
أين الخلائف عن فتح أتيح له ... مظلل أفق الدنيا جناحاه
فتح أعاد على الإسلام بهجته ... فافتر مبسمه واهتز عطفاه
أبقاك للدين والدنيا تحوطهما ... من لم يتوجك هذا التاج إلا هو
ترك عماد الدين الزنكي حامية قوية في الرها، وأخذ يتابع انتصاراته على الصليبيين ويستخلص من أيديهم ما بقي من إمارة الرها، وبينما هو يحاصر إحدى القلاع اغتاله وهو نائم أحد مماليكه بإغراء أعدائه وذلك في ربيع سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
كان زنكي إلى جانب شجاعته وبسالته سياسياً ماهراً، يهادن عدوه، ويلين إذا رأى ذلك ضرورة أو كان محتاجاً إلى وقت يجمع فيه شمله، وبعد عدته فإذا رأى الفرصة مواتية انقض لا يلوي على شيء، ويفرق بين خصومه بالحيلة والمكر حتى يأخذ كلا على حدة، وساعده على النجاح في حروبه ما بثه من العيون في بلاد عدوه تأتيه بالأخبار وتنقل إليه حقيقة الحال.
مات عماد الدين وألقى عبء إكمال جهاده على عاتق ولده نور الدين، وأرجو أن أوفق في كلمة أخرى إلى بيان المدى الذي بلغه الابن العظيم في تحقيق آمال والده البطل الكبير.
أحمد أحمد بدوي(807/10)
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(807/11)
علم النفس والقضاء الجنائي
للأستاذ حسين الظريفي
ما من أحد يحضر مجلس القضاء إلا تملكه الشعور بالحرمة والكرامة اللتين تغمران جو المكان. لا فرق في ذلك بين من كان من المتقاضين أو السامعين والقاضي نفسه، وهو على منصة القضاء، ليمازجه نفس الشعور الذي يشعر به سواه ويدخل مع الداخلين في ذلك الجو الخاص الذي تفرضه طبيعة القضاء على كل من حضر مجلسه. فالجميع سواء في تلقي المعنى الخالد الذي يوحي به حكم القانون فيما يعمل العاملون.
إن هذه الحرمة التي كانت وما تزال؛ وستبقى إلى الأبد، وهي أقوى شعور يمتلك أنفس الناس وهم وقوف أمام عدل القانون - قد صاغت الكلمة القديمة التي تقول بأن روح القضاة من مصدر إلهي، وجعلت قضاة القرون يعتقدون في أنفسهم القدرة على استجلاء غوامض الأشياء، مهما تعقدت العقد، وامتد بها الأمد، ولم يقوا عليها من أحد. ولكننا نجد اليوم أن تلك الكلمة القديمة قد أصبحت كلمة جوفاء لا تدل إلا على معنى تاريخي ولا تزال إلا إلى لك الشعور الذي كان يمتلك الإنسان في زمن كان. فعصمة القضاء من الأخطاء لم تعد مما يدعيها أحد على أحد. والقضاة أنفسهم لا يدعونها على الناس ولا يرتضون أن ينسبها لهم الناس. وهم في أعماق نفوسهم يشعرون بثقل أمانة العدل المودع إليهم توزيعه على المتقاضين، ويحققون ويدققون فيما يحكمون، لعلهم أنهم مثل غيرهم عرضة للخطأ، وإنهم قد يضلون السبيل، ويفقدون الدليل، وينوءون بالعبء الثقيل.
والقوانين الأصولية تفصح في إجراءاتها عن مدى حفظ حقوق المتقاضين من أخطاء القضاة، فالحكم لا يصدر إلا وله معقب ممن صدر عليه، ومحكمة أعلى يلوذ بها ذلك المعقب لتفادي أخذه بما لم تقدمه يداه. ثم إن الحكم يعلن في جلسة علنية وعلى ملأ من الناس، ومن حق كل سامع له أن يستعرضه ويعرضه وأن يبدي الرأي فيه، وتلك تعليقات الفقهاء على أحكام القضاة دلائل مواثل على مدى ما يمكن أن يخطأ فيه القضاة.
والقاضي الجنائي، كالقاضي المدني، قد يخطئ في فهم النص وفي تطبيقه على الوقعة، ولكنه ينفرد عن القاضي المدني بما قد يقع فيه من الخطأ في معرفة الجاني، وفي تعيين مدى أخذه بجريرته ونوع وشدة العقاب الواجب فرضه عليه، فتلك ميادين فسيحة لا يجري(807/12)
فيها القاضي المدني، ويلزم بالجري فيها القاضي الجنائي ليتخطى الخطأ ويصيب الصواب فيما يقضي به على الأضناء.
ومما لا ريب فيه أن الشهادات المدلى بها أمام القضاة وسائر البينات المعروضة عليه، لا تكفي وحدها دليل نفي أو إثبات، فهناك الشخصية التي تدور عليها هذه البينات، وهي شخصية المتهم، ولا بد من إيضاح الخطوط الدقيقة التي تتجاذب أو تتنافر عندها تلك الأدلة مع شخصية المتهم لتقوم حجة له أو عليه، وهذا ما يضطلع به علم النفس وما تسديه يداه. ثم هناك ماهية الجريمة، فإنها هي الأخرى لا تقدر حق قدرها إلا بعد إيجاد نقط اتصالها بشخصية المجرم، وذلك ما يعنى به علم النفس أيضاً ويقوى عليه. بل إن الأدلة نفسها لا بد من النظر إليها على ضوء هذا العلم قبل الأخذ بها أو طرحها، حتى إذا ثبتت إدانة المتهم وعد مجرماً وأريد فرض العقاب عليه، برزت أمام القاضي الجنائي مسألة خطيرة هي تعيين درجة مسئوليته عن جريمته، وهنا تنفتح أما القاضي الجنائي أبواب علم النفس الحديث لتفتح مغالق هذه المسؤولية في الأعماق البعيدة من نفسية المجرم.
والواقع من الأمر أن المجرم يحمل في جوانحه نفسية شاذة معقدة قد ترسبت فيها أعقاب وراثة طويلة، واستقرت عندها تربية منزلية واجتماعية عليلة وبيلة، وبتفاعل هذه بتلك وتلك بهذه، نشأت عنده الميول الإجرامية، ثم أتيحت لها فرصة العمل بشكل اعتداء على المجتمع.
إن العمل مهما كان شكله وموضوعه لا بد أن يكون ناشئاً عن حافز داخلي، ولا بد لتقدير هذا العمل وإعطائه القيمة الحقيقية له، وتعيين درجة مسؤولية صاحبة عنه، من إزالة الستار عن ذلك الحافز الذي يكمن وراءه. والمجرم مهما كان مالكا لروعه وهدوئه عند مقارفته الجريمة، لا بد أن يكون خاضعاً لتأثير خفي في نفسه، فهو رجل شقي غير سوي، ومقدار شقائه يجب أن يقدر بمقدار ما له م حرية إرادة تجاه ذلك العامل غير الشعوري الذي يمكن أن ندعوه بعامل الجريمة.
إن تحقيق العدالة في تطبيق الإجراءات الجنائية على الوقائع والجناة بحيث تؤدي إلى معرفتهم لا تكفي وحدها دون أن تضم إليها العدالة تطبيع قانون العقوبات على الجناة، بحيث تفرض على كل جان العقوبة المؤثرة فيه، فتنزل عنده بمنزلة الدواء وتمنحه الشفاء(807/13)
من علة ما فيه من الميل إلى الإجرام.
وقد يقع الفعل الذي يمنعه القانون ويعاقب عليه دون أن يؤاخذ عليه الفاعل، وذلك فيما إذا كان في حالة يعفى فيها من العقاب، تلك حالة تستوجب حسن تطبيق القانون، ولا سبيل إلى حق هذا التطبيق إلا عن طريق دراسة نفسية الفاعل مضافة إلى دراسة طبيعة الظروف الذي وقع فيه الفعل.
ذلك بعض ما أمكن الإشارة إليه في هذه الكلمة القصيرة، وهي تفصح عن المدى الذي يصل إليه ويتغلغل فيه علم النفس من مباحث المجرم والجريمة في القوانين الإجرائية الجنائية والعقابية. ولاختلاف هذه المباحث في موضوعاتها وتشعب أصولها وفروعها ذهب علماء الفقه الجنائي لا إلى إحداث علم نفس خاص يعني بموضوع المجرم والجريمة، ويتقل بمباحثة عن علم النفس العام، ولكن بتقسيم هذه المباحث إلى موضوعات، وإفراد كل موضوع منها بعلم نفس خاص له أسلوبه وأغراضه ودوره الذي يؤديه في ساحة القضاء.
وهكذا وجد علم النفس القضائي، وهو العلم الذي يحلل فيه القاضي الجنائي نفسيات جميع أفراد الدعوى العامة من شاك بمثل الهيئة الاجتماعية في شخصية النيابة العمومية، ومن متهم، ومجني عليه، وشهود إثبات، وشهود دفاع وخبراء ووكلاء، ثم هو قبل ذلك وبعد ذلك يحلل نفسيته تجاه أدلة الدعوى وتجاه أفرادها ليأمن شر ما يكمن وراء شعوره من منازع ودوافع الانحياز إلى جهة التجريم أو البراءة، فيحتفظ بحياده القضائي في كل مرحلة من مراحل الدعوى وفي كل إجراء من إجراءاتها ولا يغفل عما يفعل.
تلك هي نظرة القاضي إلى نفسه، وأما نظرته إلى أفراد الدعوى الآخرين، فإنها توقفه على حالة المتهم الماثل أمامه أبرئ هو أمسيء، وهل يصدق هذا الشاهد أو ذاك في شهادته هذه أو تلك، أم هو يكذب فيها عن عمد أو غير عمد؟ وهل هناك مؤثرات شعورية أو غير شعورية لامست ولا بست الخبراء والوكلاء فتأثروا بها عن شعور أو عن غير شعور فأعرضا عنها أو استجابوا لها، ومدى تأثير ذلك في أقوالهم وأعمالهم في جميع درجات التحقيق والمحاكمة؟
وُجد علم النفس الجنائي، وهو العلم الذي يفسر الجريمة بالتفسير العلمي، ويحلل نفسية المجرم، ويمج يده إلى جذور الإجرام فيه.(807/14)
ووجد علم النفس القانوني، وهو العلم الذي يضمن للقاضي حسن تطبيق نصوص القانون العقابية على الوقائع الجرمية من حيث تعيين درجة المسؤولية التي يمكن إلقاؤها على عاتق الجاني
وهكذا نجد علم النفس القضائي يسير في ركاب القاضي الجنائي من أول مراحل الدعوى إلى آخرها فيحفظه من مغبة الحكم على البريء والإفراج عن المسيء ويعين من هو الفاعل.
ونجد علم النفس الجنائي يظهر في قاعة المحاكمة عندما ينتهي علم النفس القضائي من تعيين الفاعل فيقوم فيه بدور التحليل ورد الجريمة إلى أصولها وبواعثها لتعيين كونه مجرماً أو غير مجرم، ثم يأتي الدور لعلم النفس القانوني، وهو دور غير حتمي، وفيه يضع القاضي مواد القانون في الموضع الذي أراده الشارع بالقياس إلى تعيين موقف الفاعل من الظروف المبيحة لارتكاب الفعل أو المعفية من العقاب، ويقرر كون الفاعل مسؤولا أو غير مسؤول
تلك هي العلوم النفسية الثلاثة التي لا غنى عنها لكل قاض جنائي يهمه الاضطلاع بأعباء الدعوى العامة على الوجه الذي يحقق العدل ويربح الضمير ويزيد من ثقة الناس بالقضاء.
(بغداد)
حسين الظريفي المحامي(807/15)
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
- 4 -
يرجع السر في أن قبيلة تميم نالت قسطا كبيراً من عناية الرواة وغلب ذكرهم لها ومعرفة الكثير مما انفردت به إلى أنها كما قدمت في مقال سابق كانت تسكن جانب نجد المجاور للعراق.
ومعلوم لنا أن التنافس العلمي والسبق فيه كان ميدانه البصرة والكوفة المواجهتين لصحراء العراق حيث يخرج منهما - وعلى الأخص البصرة - العلماء والمتأدبون إلى البادية ليأخذوا اللغة من أفواه أربابها الذين لم تفسدهم العجمة. وكان إليهما يقصد الراغبون في رواية الشعر ومأثور القول وضبط اللغة وغربيها على أعلام شيوخهما كأبي عمرو وأبي عبيدة، والأصمعي وأبي زيد، وخلف وحماد، والمفضل الضبي وابن الأعرابي، وغير هؤلاء وأولئك ممن كانت لهم في العربية وعلومها قدم راسخة فلا عجب أن كانت تميم - وبطونها كثيرة - هي أول ما يروي لها ويؤخذ عنها. يضاف إلى هذا ما قدمته في المقال الأول من أن البصرة والكوفة قد شملتا في مبدأ إنشائهما عددا كثيرا من تميم، وهذه من تكملة ما خالفت فيه غيرها وبخاصة الحجازيين:
1 - (عسى) من أفعال المقاربة تستعمل تامة بمعنى أن ما وليها يعرب فاعلا لها وذلك إذا ما جاء بعدها (أن والفعل) كقول الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم).
وتستعمل ناقصة بمعنى أن يكون لها اسم وخبر مشبهة (كان) في العمل وذلك إذا ما جاء بعدها اسم ظاهر أو اتصل بها الضمير فيعرب اسماً لها، وبعده (أن والفعل) فيعرب خبراً لها كقول الله تعالى (عسى الله أن يأتي بالفتح). إلا أن أهل الحجاز لا يلحقون بعسى الضمائر ولا التأنيث. يقولون: هند عسى أن تقوم والمحمدان عسى أن يقوما، والمحمدون عسى أن يقوموا. . .، لذلك تعتبر عندهم في مثل هذا التركيب مكتفية بفاعلها غير محتاجة لخبر. أما التميميون فيلحقون بها التأنيث والضمائر يقولون: هند عست أن تقوم والمحمدان عسيا. . . والمحمدون عسوا. . .، فتكون في مثل تركيبهم هذا ناقصة. وإذن فتميم(807/16)
تستعملها ككان الناقصة دائماً، وأهل الحجاز لا يجعلونها كذلك إلا في حالة ما إذا تلاها اسم ظاهر وبعده (أن والفعل).
والقرآن الكريم في أغلب قراءاته لم تقع فيه الضمائر مع عسى إلا في موضعين (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا) و (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراُ منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) بالإضمار فيهما على لغة تميم (عسوا أن يكونوا عسين أن يكن. . .).
ثم إن عسى فيها لغتان: (أ) أن تكون على وزن سمى، (ب) أن تكون على وزن لقي. غير أن الثاني منهما هجر استعماله على إطلاقه واقتصر فيه على اتصاله بتاء الفاعل أو نون النسوة أو (نا). ومن العجب أن أبا حيان في البحر نقل عن أبي بكر الأذفوي وغيره قولهم: إن هذا الكسر لغة الحجازيين. وقد رأينا أن ذلك لا يكون إلا حين الاتصال بالضمائر السابقة وأن الحجازيين لا يلحقونها فإذا صح ما نقله أبو حيان عن الأذفوي يكون إلحاقهم الضمائر بعسى منتقلا إليهم من تميم إذ الأصل في الاستعمال ما قدمته نقلا عن تفسير أبي حيان نفسه وعن الأشموني وليس استعمال قبيلة للغة قبيلة أخرى بالأمر البعيد وعلى الأخص الحجازيين الذين خالطوا كل القبائل واقتبسوا من لغاتهم ما راق لهم. ومواسم الحج وأسواق العرب المشهورة لها أكبر الأثر في تقارب اللغات وتفهم الألفاظ والتراكيب المنتشرة بين القبائل المختلفة. قال أحمد بن فارس بعد أن تكلم في كتابة الصاحبي على اختلاف لغات العرب ما يأتي: (وهي وإن كانت لقوم دون قوم فإنها لما انتشرت تعاورها كل).
هذا وقد قرأ نافع المدني (عسيتم) في موضعيها السابقين بكسر السين وقرأ الباقون بفتحها.
2 - في اسم الإشارة المفرد للمذكر لا تلحق به تميم اللام في حالة البعد بل تلحق به كاف الخطاب فحسب. لكن الحجازيين يلحقون به اللام مع الكاف. فعند تميم (ذاك وتيك) للبعيد وعند الحجازيين (ذلك وتلك) ومن هذا يتبين لنا أن بعض النحاة حين يقولون. هذا للقريب، وذاك للمتوسط وذلك للبعيد، فيه خلط بين لغات القبائل إذ وجدوا صيغا ثلاثا فعللوا لها وفرقوا بينها. ونحن إذا لاحظنا مثلا كلمة (ذاك) في إشارتنا نجدها أوضح في البعد من(807/17)
(ذلك) لما فيها من إطالة لحرف المد وافية بالغرض. وما تزال المهملة في الإشارة البعيدة للمذكر، و (ديك) للمؤنثة البعيدة. والواقع أن الشيء إما قريب منك حسا أو معنى، أو بعيد منك كذلك. وفي اللغة الإنجليزي وفي الفرنسية
ومما يلحق بهذا أيضاً (هناك وهنالك)، فالحجازيون هم الذين يلحقون اللام وتميم لا تلحقها جريا على قاعدتها من أنها لا تلحق اللام. وكذلك أولاء يمدها الحجازيون غير أنهم يلحقون بها الكاف فقط في حالة الإشارة إلى البعيد، وتميم تقصرها وتلحق بها الكاف أما قبائل قيس وأسد وربيعة فإنها تقصر أولاء كتميم لكنها تلحق بها اللام مع الكاف، وقد ورد على لغتهم:
أولا لك قومي لم يكونوا أشابة ... وهل يعظ الضليل إلا أولا لكا
ومما يلحق بهذا أيضاً أن تميما لا تقول (هذه) في وصل الكلام وإنما تقول (هذي) فاذا وقفوا قالوا (هذه)، أما الحجازيون وقيس فيقولون (هذه) في الوقف والوصل. ولم يرد في القرآن الكريم استعمال (هذي ولا ذاك، ولا تيك ولا هناك، ولا أولا لك ولا أولاك) بل كل ما جاء فيه على لغة الحجازيين (إن هذه تذكرة)، (وذلك هو الفوز العظيم)، (الك الرسل)، (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)، (هناك الولاية لله الحق).
ويضاف إلى ما تقدم أن قبيلتي تميم وقيس تقولان (ها هِنَّا) بكسر الهاء وتشديد النون وغيرهما بضم ففتح بدون تشديد.
3 - (إما) التي للتفصيل تنطقها قبائل تميم وأسد وقيس بفتح الهمزة، ففي مثل (أنت كريم وإما بخيل) يفتحون همزتيهما وبعض منهم يقلب ميمها الأولى مع ذلك ياء. وقد روي لرجل من عبد القيس يقال له سعد وكان عاقا لأمه:
يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... أما إلى جنة أما إلى نار
وروي أيضا (أيما إلى جنة أيما إلى نار).
فاذا استعملت تميم (أما) الشرطية المفتوحة الهمزة قلبت ميمها المدغمة الأولى ياء. ويبدو أن الشعراء في صدر الإسلام كانوا - تظرفا منهم أو لانتشار اللغات - يقحمون لغة قبائل أخرى ليسوا منها لشهرتها بين العرب ومعرفتهم لها، لذا نجد عمر بن أبي ربيعة وهو حجازي يروي بيته الآتي على لغة تميم:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشي فيخصر(807/18)
4 - ما فتئ وما يفتأ فلان يعمل كذا - من أخوات كان - تقولهما تميم ما أفتأ فلان وما يفتئ فتجعله رباعيا. ولم يرد في كتاب الله إلا قوله تعالى (تا لله تفتأ تذكر يوسف) ولم يقرأ بها أحد على لغة تميم.
5 - لعل - من أخوات إن - تنطقها تميم لغن بالغين المعجمة والنون قال الفرزدق:
قفا يا صاحبي بنا لغنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام
وليس في القراءات الصحيحة هذا الاستعمال
6 - (الههة): تأثرت بعض بطون تميم بالفرس، كما تأثرت بذلك قبيلة لخم وما جاورها، فبنو سعد بن زيد مناة من تميم ولخم ومن قاربها يبدلون الحاء هاء قال النعمان بن المنذر لرجل ذكر عنده رجلا: أردت أن تذمه فمدهته. وقال رؤبة بن العجاج وهو من بني سعد بن زيد مناة:
لما رأتني خلق المموه ... راق أصلاد الجبين الأجله
بعد غداني الشباب الأبله
ومنها: لله در الغانيات المدة. أراد: الأجلح والمدح.
وقد وردت ألفاظ كثيرة في كتب اللغة مترادفة وليس من فرق بينها إلا أن هذه بالحاء وتلك بالهاء مع أن الوزن والترتيب واحد. فكل ما ورد من ذلك، إنما هو نطق القبائل المتأثرين بالفرس. وفي رأيي أن جميع الألفاظ التي أبدلت حاؤها هاء يجب أن تحفظ كأثر أدبي تاريخي ولا ينبغي أن نستعملها في أساليبنا. ولذلك يجدر أن يلاحظ هذا من يقومون بوضع المعاجم فينخلوها ويضموها إلى أصولها المتفرعة منها، مشيرين إلى عدم جواز استعمالها ولا ينبغي أن يضعوها في مواد مستقلة. وأعتقد أنه لا يجوز لنا أن نقول فلان مليه حينما نريد أنه مليح. ومدهت فلاناً حينما أقصد أنني مدحته ولا معنى لأن نجعل ملح أو مدح في باب الحاء فصل الميم ومله أو مده في باب الهاء فصل الميم في معاجم اللغة وأذكر أنني كتبت في هذا الشأن بحثاً واسعاً نشر أغلبه وفيه قواعد وضوابط يمكن الاسترشاد بها لمن شاء.
7 - العنعنة: تحرص القبائل النجدية على أن توضح الهمزة وبخاصة في أول الكلمة أو آخرها خشية أن يجور عليها بدء النطق أو الوقف فيقوون الهمزة إلى أن تكاد تقارب العين(807/19)
وفي بعض الأحيان ينطقونها عيناً، وهذا ما يسمى حينئذ عنعنة وقد نسب إلى تميم وقيس أنهما تقولان في أن عن وفي أسلم عسلم وقد جاء من ذلك:
فما أبن حتى قلن يا ليت (عننا) ... تراب و (عن) الأرض بالناس تخسف
ويبدو أن تميماً تقلب الهمزة الأخيرة في بعض الأحيان عيناً فقد ورد أن قبيلة تميم تقول في الخباء خباع.
8 - الكشكشة والكسكسة: وكما تحرص القبائل النجدية على توضيح الهمزة تحرص كذلك على إبراز الحركة الأخيرة إذا كان في الوقوف عليها لبس وذلك في كاف المخاطبة إذ أن الوقف عليها بالسكون يجعلها تلتبس بكاف المخاطب فللفرق بينهما قلبوا كاف المؤنثة شيناً ثم توسعوا في ذلك فقلبوها في حالة الوصل أيضاً، وهذا ما يسمى كشكشة، وقد روي لقيس أبن الملوح:
فعيناش عيناها وجيدش جيدها=سوى عن عظم الساق منش دقيق
وأصله عيناك وجيدك ومنك. وفي البيت شاهد آخر وهو همزة أن التي أبدلت عينا. ومن كشكشتهم ما يكون بالحاق شين ساكنة بكاف المخاطبة حين الوقف عليها (رأيتكش). وهه الكشكشة وتلك في قبائل تيم وقيس وأسد وربيعة. وبعض بطون هذه القبائل يجعلون بعد كاف المخاطبة أو بدلها سينا وذلك ما يسمى الكسكسة.
قال الزبيدي في مقدمة شرح القاموس: الكشكشة في ربيعة ومضر والكسكسة فيهم أيضاً. وقال الأشموني: الكشكشة في لغة تميم والكسكة في لغة بكر من ربيعة. وفي شرح الرضي على كافية ابن الحاجب: ناس كثير من تميم وأسد يجعلون مكان كاف المؤنث شينا.
غير أننا نجد صاحب القاموس - وشارحه الزبيدي أيضاً - تارة يقول الكشكشة لتميم والكسكسة لبكر. ومرة يقول الكسكسة لغة تميم لا بكر وقيل الكسكسة لهوازن وهي من قيس، ومرة يقول: كشكشة أسد وكسكسة ربيعة ويوافق في ذلك أحمد بن فارس في كتابه الصاحبي. ومرة يقول الكشكشة في بني أسد أو في ربيعة. ومرة يقول إن إبدال الكاف التي للخطاب شينا لغة بني عمرو من تميم. وعلى كل حال فإن بطون تميم جمعت بين النوعين ما ذلك إلا لمجاورتها كما سبق أن قدمته في مقال سابق - لمختلف هذه القبائل من أسد وقيس وربيعة.(807/20)
لكن أهل اليمن يجعلون الكاف شينا مطلقا وسمى ذلك شارح القاموس (الوتم) وسماه الأستاذ هاشم عطية في كتابه الأدب العربي نقلا عن بعض المصادر (الشنشنة) والقلقشندي في صبح الأعشى، قصر أهل اليمن على حمير، وقصر الكاف على التي للخطاب. هذا ولم تقع في القراءات الصحيحة تلك الأنواع من قلب الكافات شينا أو سينا أو إلحاق شين أو سين. وقد سمع في قراءة شاذة: قد جعل ربش تحتش سريا
9 - العجعجة: اشهر عن قضاعة وهي يمينة من قبائل حمير أنها تقلب الياء المشددة الأخيرة جيما وذلك لضعف الياء فقلبوها حرفا قويا وهو الجيم لكن (فقيما) من دارم من تميم كثيراً ما نقلب الياء وسطا أو آخر مشددة أو مخففة جيما تقول في أيِّل المشدد أجل وفي أزيم المخفف أزجم وفي غلامي غلامج وفي تميمي تميمج ما ذلك إلا حرصاً على إبانة الحروف، وقد سمع في المشدد:
خالي غويف وأبو (علج)، المطعمان اللحم (بالمشج)
وسمع في المخفف:
لا هم إن كنت قبلت (حجتج) ... فلا يزال شاحج يأتيك (بج)
ولم ترد هذه اللهجات المستكرهة في قراءة صحيحة لكتاب الله الكريم.
(للبحث بقية)
عبد الستار أحمد فرج
محرر بالمجمع اللغوي(807/21)
طرائف من العصر المملوكي:
صلاح الدين الصفدي المؤوخ
للأستاذ محمود رزق سليم
إذا عُنينا في هذا المقال بالحديث عن صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي مؤرخاً، فليس معنى ذلك أن هذه الصفة وحدها خصوصيته التي بها امتاز، ولأجلها ذكر وفضل بين أعلام الأدب العربي. ذلك لأنه كان كاتباً مترسلا له منهج، وأدبياً كيساً له ذوق، وشاعراً قادراً ذا نزعة. وهذا إلى جانب أنه من هواة التأليف، بمعنى أنه ذو فن في اختيار موضوعاته، وله ولوع بتلمس مادتها من بين الغرائب التي تند عادة عن الأذهان، أولا تفطن إليها في هوادة ويسر. وكل خصوصية من هذه، جديرة بالدرس والبحث والتمحيص حتى تبرُز نفاستها للعيان.
والصفدي إلى جانب هذا وذاك - مكثار في نثره وشعره وتأريخه، لا يرضى في عمله الأدبي بالموجز المقنع أو القليل النافع، ولم يعمل قط بتلك الحكمة التي تقول: (خير الكلام ما قلَّ ودلَّ). وكأنما كان يشعر أن ليس وراء الإيجاز إعجاز، ولا غب الاقتضاب إعجاب. وأن المقل إما أن يُبقي شيئاً في ضميره، أو يعبر عن عجزه وتقصيره. وإذا كان الأديب بعد أن يبعث خواطره مقالة باهرة، أو ينفث مشاعره قصيدة عامرة، يشعر أنه لم يبعث في جميع ما في فؤاده، ولم ينفث كل ما في نفسه، وأن شيئاً في أعماقه لا يزال يقلقه ويؤرقه، التمسنا العذر لصلاح الدين الصفدي في هذا الإكثار الذي لم يبغ من ورائه إلا أن يبرز أكثر ما يستطيع إبرازه من خفيات خواطره، ومدخرات نفسه، جاهداً في أن لا يبقي في طواياها بقية يقلقه بقاؤها - وهذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الأديب، حتى يمتع الناس بأكثر أدبه وفنه. وفي سبيل ذلك الإمتاع يتناسون له غثه وسقطه. وإن كان الأديب الموهوب معجباً في إكثاره أو إقلاله.
كان الصفدي إذاً مكثاراً، طبعه في ذلك طبع الأديب المليء لا يهدأ لسانه لهجاً بالأدب وترديداً له، وفي نفسه مشاعر تجيش، وفي أطوائه أحاسيس تثور. وكان له مذهب في الكتابة والشعر يلتزم فيهما أموراً وقيوداً على رأسها الجناس، فقد كان متعصباً للجناس مخالفاً في ذلك مذهب أدباء عصره الذين كلفوا بالتورية ولم يشغفوا بالجناس إلا إذا خرج(807/22)
مخرج التورية. وكان مولعاً - كما أعتقد - بمداعبة أدباء عصره، ومن مسالكه إلى تلك المداعبة أن يسطو على شعر أحد أنداده، فيسرق معانيه أو ألفاظه، أو يسلبه شيئاً منها، حتى يثيره ويهيج خاطره. وفي مقدمة هؤلاء الأنداد شاعر العصر وفحله الجمال بن نباتة المصري؛ فكان من جراء لك كله، أن شغل الصفدي أهل عصره وأثار ثائرة أدبائه، بل والأدباء من بعده. فألف فيه ابن نباتة كتابه (خبز الشعير) الذي جمع فيه سرقاته من شعره. وحمل عليه ابن حجة من بعده في خزانته، ونعى عليه جنونه بالجناس حتى ألف فيه كتابه (جنان الجناس). وأنشد ابن أبي حجلة المغربي يقول عن الصفدي وسرقاته مورياً:
إن ابن أيبك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح
وهكذا ترى بين قدامى النقاد من لا يرحمون الأديب، ولا يتكيسون في نقده، ولا يترفقون بسقطاته، ولا يعتذرون لغثه
على أن الصفدي، قد قدم المعذرة لنفسه بين يدي نقاده وقرائه، عما اجترح، فقال في مقدمة كتابه (ألحان السواجع) ما يلي:
(وليعذر الواقف على ما هو منحط العمل، غير راق إلى درجة الكمال بدره، ولم تشرق شمسه في الحمل؛ فإن فيه أشياء لم تهذبها الروية، وأعجلها الارتجال وألقاها الفكر من رأس القلم فجاءت فيه بُنَيَّاتالطريق لعدم الوصول إلى ربات الخدور والحجال
وليس يعاب المرء في يوم جبنه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس)
هذا كله كلام يقال عن الصفدي إذا كان الحديث عن كتابته الفنية أو شعره. أما إذا كان الحديث عن كتابته في التاريخ ومؤلفاته فيه، فإن مسلك الكلام يتغير، ومجرى القول ينحرف. فالمؤرخ المكثار له جلاله وخطره. حقاً قد يسوق مثل هذا المؤرخ قارئه إلى شيء من الشك، يدفعه إلى حسن النظر ودقة التمحيص، كما قد يختلط في قوله، التافه والمرذول، بالنافع والمقبول. ولكنه، حتى في هذه يستطيع الباحث فيه والمعقب عليه أن يستنبط أموراً لها قوتها وقدرتها في مجال الاستدلال التاريخي.
وقد برز في العصر المملوكي جملة من كبار المؤرخين المكثرين الذين لم يقنعوا بالقليل، فوضعوا في تاريخ بلادهم وغيرها الموسوعات الجامعة. منها ما هو في التاريخ السياسي(807/23)
العام، ومنها ما هو في تراجم الأعلام، ومنها ما هو في الخطط والآثار، إلى غير ذلك. ويرى المطالع في مستطرداتها، طرائف جمة معجبة مطربة، في نظم البلاد وإدارتها وآدابها وتقاليدها ومزاج أهلها وروح مجتمعها. وتوالوا على هذا الغرار زمراً بعد زمر، وجيلا إثر جيل. وقد كان من نصيب القرن الثامن الهجري أن لمع فيه نجم الصلاح الصفدي مؤرخاً، فضلا عن لمعانه أديباً وناقداً.
ولد الصفدي بصفد عام 697هـ. وشرع منذ حداثته يتعلم صناعة الخط حتى مهر فيها. ومال إلى الأدب وسماع الحديث. ونبه في الكتابة والنظم. وأخذ يطوف في طلب العلم بين آفاق مصر والشام، حتى برز بروزاً واضحاً بين أدباء البلدان ونهج من دونهم منهجه الخاص الذي أشرنا إلى طرف منه. وراسل وساجل وداعب وعقد لواء المحبة والصداقة بينه وبين كثيرين من أفذاذ جيله. واشتغل بالتأليف وجمع الأدب وبخاصة آثار معاصريه. وولى عدة مناصب منها: كتابة السر بحلب، وتصدى للتدريس بجامع دمشق في أخريات حياته، وتوفى بها عام 764هـ.
وتنقسم مؤلفات الصفدي إلى نوعين: 1 - مؤلفات أدبية 2 - مؤلفات تاريخية. وفي الحق أن من الصعب أن نفرق بين النوعين؛ ولك لأن كتبه الأدبية - وإن كانت فياضة بصنوف الشعر والنر والنقد، يروى فيها ويقرن وينقد وينوع ما شاءت له مجموعاته الفريدة - لم تخلص لوجه الأدب، بل تتخللها السير والأخبار، ويملؤها ذكر الحوادث وقص الوقائع. وكتبه التاريخية - وإن كانت في صلب التاريخ وذكر حوادث الرجال وسرد أنبائهم - لم تخلص لوجه التاريخ، بل يتخللها الكثير من الشعر والنثر. فهي مدد عظيم للأدب، كما أنها معين فياض للتاريخ.
وكتبه التاريخية كلها في تراجم الرجال. وهذا يدلنا على تأصل الروح الأدبية فيه، لأن كتب التراجم تمت - عادة - إلى الأدب بصلة قوية كما تمتُّ للتاريخ. ولولا أن تراجمه تحتوي على سير الملوك والأمراء والقادة ومن لف لفهم من أهل السياسة والإدارة والحل والربط، لعددناها من الكتب الأدبية الخالصة. فهي بلا ريب منهل عذب لتاريخ الأدب ورجاله - وليس معنى ذلك أن الرجل بعيد عن ميدان التاريخ الصراح. لا! بل إننا لنشعر شعوراً قوياً - كلما تصفحنا مؤلفاته - بأصالة النزعة التاريخية فيه.(807/24)
وأفضل ما تمتاز به مؤلفات الصفدي بنوعيها العناية بتراجم معاصريه وتسجيل نصوص من شعرهم ونثرهم مع نصوص من شعر المؤلف ونثره. وهكذا ترى أنها مصادر فريدة لأدب جيله وتاريخ رجاله وأن من كتب بعده في أخبار الرجال اعتمد عليها اعتماداً ملحوظاً عند حديثه عن الجيل المذكور. كما أنها تدلنا دلالة ملموسة على ذيوع الروح الأدبية فيه، وعلى تعدد آفاتها التي سرحت إليها، وذلك لكثرة ما سجل من تلك النصوص فيها، مع تنويعها.
وأبرز موسوعات الصفدي التاريخية كتابه (الوافي بالوفيات) ولعل الصفدي قرأ كتاب ابن خلكان (681هـ). (وفيات الأعيان) وهو جزآن في التراجم، فرآه ضئيلا لم يف بتراجم كثير من الأعلام. فأحب أن يستدرك عليه ويعقب بما وسعه علمه. فألف لذلك كتابه (الوافي بالوفيات) وهو اسم متأثر بتسمية ابن خلكان غير أن فيه دلالة على فكرة مؤلفه.
وقد ذيل ابن شاكر الكتبي كتاب وفيات ابن خلكان، بجزأين صغيرين في كتاب سماه (فوات الوفيات) أقل شأناً من وفيات ابن خلكان في كثير من خصائصه.
ولكننا لا ندري بالضبط أي الرجلين: الصفدي أم ابن شاكر سبقت إليه فكرة التعقيب والاستدراك. ونحن نعتقد أن الصفدي أسبق، لأن ابن شاكر كلما ذكره الصفدي في (فواته) قال (رحمه الله). ونذكر هنا - بهذه المناسبة - أن الرجلين ماتا في عام واحد هو (764هـ). كما جاء في درر ابن حجر. غير أنه من الغريب أن ابن شاكر انتهى من تأليف (فواته) عام 754هـ. فهل مات الصفدي في هذا التاريخ أو قبله وغلط في ذلك ابن حجر؟ أم أن إضافة (رحمه الله) إلى الصفدي من صنع النساخين أو الطابعين؟.
ومهما يكن من شيء، فقد ألف الصفدي كتابه (الوافي) - وهو من أسبق مؤلفاته - ليفي فيه بتراجم الأعلام من كل صنف بدون تفريق بينهم في العصور أو الأمصار أو الفنون أو الحرف. وبلغت أجزاؤه نحو الخمسين، بها من التراجم بين موجز ومطول. ومن سوء الحظ، أن الأحداث بددت هذه الأجزاء وفرقت شملها، ولو جمعت وطبعت لألقت أضواء ساطعة جديدة على أدب مصر والشام وتاريخهما.
وفي دار الكتب المصرية منه سبعة عشر جزءاً بالتصوير الشمسي عن مخطوطة. وبها أيضاً الجزء الأول في طبعة أنيقة ممتازة، طبعت في الآستانة عام 1931م بإشراف جمعية(807/25)
المستشرقين الألمانية.
وقد تحدث المؤلف في خطبة الكتاب عن الأمة الإسلامية ورجالها ومآثرهم. ونوه بالغرض من كتابه. واختتم بذكر أسماء من ألفوا في السيرة مع بيان مؤلفاتهم فيها.
واتبع الصفدي في إيراد التراجم الترتيب الهجائي. غير أنه ابتدأ بالمحمدين ثم الأحمدين تيمناً باسم الرسول عليه الصلاة والسلام. ويهمنا أن ننوه بشيئين: أولهما أن الصفدي قدم مؤلفه بمقدمة عظيمة القيمة جليلة النفع. وهي مثبتة في الجزء المطبوع. وقد رأيتها مطبوعة على حدة في كتيب، وكان طبعها عام 1012م بباريس تحت إشراف (إميل أمار) ومعها ترجمة لها وتعليقات عليها بالفرنسية. وتتكون هذه المقدمة من أحد عشر فصلا، ويبدو أنه متأثر في بعض فصولها بما كتبه أو الفداء في مطلع كتابه (المختصر). وقد تحدث في الفصل الأول عن السنين التي أرخت بها العرب، كموت كعب بن لؤي، وعام الفيل. وانساق في خلاله إلى ذكر اشتغال العرب بالنجوم، وخلق آدم وظهور الاسكندر، وما قيل في ذلك. والطوفان وذي القرنين، وما بين المرسلين من السنين إلى غير ذلك. وفي الثاني تكلم عن مادة (أرخ) من الناحية اللغوية وما اشتق منها وطريقة العرب في التعبير مؤرخين بالأيام والليالي. وفي الثالث تكلم عن كيفية كتابة التواريخ وتحديد الأيام. وفي الرابع تكلم عن (النسب) من الناحية الصرفية، ثم بين أهميته التاريخية مشيراً إلى مفارقات طريفة وقعت للتشابه في صيغ النسب. وفي الخامس تكلم عن العلم والكنية واللقب، وترتب كل منها على النسب. والفصل السادس هو فصل هام في علم الإملاء ورسم الحروف. وتكلم في السابع عن مناهج المؤرخين في ترتيب التراجم أو الحوادث، وعن طرق ضبطهم لحروف المعجم والمصطلحات الخاصة بذلك. وفي الثامن تحدث عن لفظ (الوفاة) وما يشتق منها (والأجل) واختلاف المذاهب في تحديده. وفي الفصل التاسع، تكلم عن فوائد التاريخ من ناحية ضبطه للحوادث، وأورد طرائف تاريخية ظهرت فيه ضرورة تحديد تاريخ كل حادثة. وتكلم في العاشر عن أدب المؤرخ وما ينبغي له من علم وخلق. وفي الفصل الحادي عشر ذكر عدداً ضخماً من كتب التاريخ وأسماء مؤلفيها. فهو سجل هام من هذه الناحية.
أما الشيء الثاني الذي أحببنا أن نشير إليه، فهو أن المؤلف اختص معاصريه بسبعة أجزاء(807/26)
من أجزاء كتابه (الوافي) جعلها على حدة وسماها (أعيان العصر وأعوان النصر) وهو مؤلف ممتع جداً، ترجم فيه الصفدي لمئات من أهل عصره سواء منهم من لقيه ومن لم يلقه. وأودع تراجمهم نصوصاً من أشعارهم أو نثارهم، ندر أن تجدها في سواه. فهو - في نظرنا - أهم كتب التراجم لأعلام النصف الأول من القرن الثامن وإذا علمنا أن ابن حجر العسقلاني ألف كتابه القيم (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) في أربعة أجزاء، وأن مؤلَّف الصفدي (أعيان العصر) ثلاثة أمثاله، بأن لنا قدره وعظيم أهميته. وأجزاء هذا الكتاب، لا تزال مغتربة عن وطنها، وفي دار الكتب المصرية منه ثلاثة أجزاءهي الثالث والسادس والسابع يقع كل منها في مجلدين. وهي مصورة تصويراً شمسياً عن نسخة مخطوطة.
ومن أمتع كتبه التاريخية كتاب (نكت الهميان في نكت العميان). وهو مطبوع وذو موضوع طريف، وهو الحديث عن العميان وبيان أحوالهم شخصية وغير شخصية، وشرعية وغير شرعية، وما يدور حولهم من نوادر وفكاهات وحوادث أدبية طريفة، وترجمة النابهين منهم. ويحتوي الكتاب على عشر مقدمات ونتيجة واحدة. وفي المقدمات المذكورة جملة بحوث نافعة في فنون العربية المختلفة وتعتبر المقدمة الأولى ذات قيمة في فقه اللغة إذ بحث فيها عن مادة (العين والميم) وما يتصل بها من الحروف، وما تدل عليه من المعاني، ورأى أن هذه المادة مهما اتصل بها من الحروف تدل على التستر أو نحوه. وبحث عن مادة (أعمى). وتكلم عن تفضيل السمع على البصر أو العكس وفسر قوله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى)، وقوله (وما يستوي الأعمى والبصير). وتعرض للحديث الشريف الخاص بقصة الأقرع والأبرص والأعمى، الذين آتاهم الله ما يريدون، فلم يشكره منهم إلا الأعمى. وتحدث عن بعض الأحكام الشرعية الخاصة بالعميان كالإمامة في الصلاة، ووجوب الجمعة إلى غير ذلك.
أما النتيجة فهي في صلب التاريخ إذ ترجم فيها لنحو ثلثمائة وخمسين كفيفاً، سواء منهم من ولد أعمى، ومن كف بصره بعد ولادته. وأورد في كل ترجمة الحوادث البارزة في تاريخ صاحبها وشيئاً من شعره أو نثره إذا كان أدبياً وهكذا.
ولهذا المؤلف خصوصيات نافعة فمنها أن فيه تراجم لأعلام معاصرة الصفدي وأنه جرى(807/27)
في ضبط كثير من الأعلام مجرى ابن خلكان في ضبطها، أي أنه ضبط نطقها بالحروف، وأنه حدد مواقع بعض الأماكن , وأنه أودعه شيئاً من آثاره الأدبية وآثار بعض معاصريه.
وعلى نمط من هذا المؤلف، أخرج كتابه (الشعور بالعور) وهو في تراجم هذا الصنف من الرجال. ومنه مخطوطه بدار الكتب. وللصفدي كتاب (التذكرة الصفدية) في أكثر من خمسين جزءاً، في دار الكتب منها خمسة مخطوطة، في خلالها فصل عن تاريخ الآداب العربية وفنونها ونشأتها، وفصل آخر فيمن ولي دمشق من أول عهد بني العباس إلى عصر المؤلف. وهي مليئة - إلى جانب ما تفيض به من النصوص الأدبية بأخبار الأعلام وحوادثهم.
وترى هذه الروح سارية من الصفدي في معظم مؤلفاته، مثل كتابه (ألحان السواجع بين البادي والمراجع) وهو مخطوط بدار الكتب كذلك، وبه أخبار وسير ووقائع بجانب ما يعج به من أنباء المراسلات ونصوصها، مما كان بين الصفدي وأنداده.
وبعد فهذا رجل من رجال العصر المملوكي، يضيق مقال واحد عن أن يستوعب أخباره وأسفاره، آثرنا أن ننوه هنا بإحدى خصوصياته، لعلها تنم عن علمه وفضله، وأدبه ونبله.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(807/28)
التفكير بين الإنسان والحيوان
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
كشفت البحوث النفسية في مجالي الإنسان والحيوان عن حقيقة قد تطامن من غرور الإنسان بعض الشيء، تلك هي أن الحيوان لا يسلك سلوكا آلياً بحتاً كما ظن ديكارت الفيلسوف الفرنسي، بل ولا يسلك سلوكا غريزياً بحتاً كما اعتقد الكثيرون زمناً طويلا، وإنما سلوكه في كثير من المواقف ينم عن قدر من الذكاء العملي يمكنه من التصرف إزاء ما يجد من مواقف تصرفاً كفيلا بتحقيق أغراضه. فهو لا يهتدي بالفطرة وحدها التي تسم السلوك بطابع الجمود؛ وإنما هو يعدل سلوكه ويبتكر الوسائل الجديدة، حتى ليسهل علينا أن نلحظ - لدى الحيوانات العليا على وجه الخصوص - أنماطا من السلوك تتصف بالمرونة وتنم عن قدر من الذكاء لا يقل كثيراً عن ذكاء الأطفال في نفس المواقف. ومن التجارب العلمية ما يثبت قدرة الحشرات على الاستفادة من التجارب الماضية في التكييف للظروف الجديدة، وفي هذا تكمن البذرة الأولى للذكاء.
وكلما صعدنا في السلسلة الحيوانية زاد ذلك القدر من الذكاء العملي الذي يبلغ أقصاه لدى الكلاب والقردة. وبذلك تتلاشى الأسطورة القديمة التي تفصل فصلا حاسماً باتاً بين عالم الحيوان المحكوم بالغريزة، وعالم الإنسان المحكوم بالعقل، وتسفر الحقيقة التي لا مراء فيها: ألا وهي أن الكائنات الحية تنتظم سلسلة متصلة الحلقات من أسفل إلى أعلى، منطقها التطور من الأشكال الدنيا للحياة إلى الأشكال العليا في غير ما اختلاف حاد يكسر وحدة الحياة على ظهر الأرض، وتضيق الشقة الفاصلة بين الإنسان والحيوان. فكلاهما يسلك سلوكا غريزيا وكلاهما يسلك سلوكا عقلياً رائده الذكاء. فما الفارق إذن بين ذكاء النوعين؟
الإنسان من حيث السلوك العقلي في قمة الحيوانات؛ فهو أقدرها على السلوك سلوكا عقليا. هو في حياته يصارع الطبيعة وأحداثها، لا بحكم الفطرة فحسب، بل يفوق الحيوان قدرة على استغلال ذكائه في صراعه هذا مع الطبيعة. تقسو عليه ببردها وقيظها وأمطارها فيهرع إلى الأشجار يتخذ من أغصانها بيوتاً. تتوالى عليه فصول السنة بعضها فيه الخصب ووفرة الغذاء، وبعضها جدب لا طعام فيه، فيبتكر الوسائل يتجنب بها المجاعة، ويهتدي بعد تدبر وإعمال روية إلى ما نعرفه من مختلف أساليب خزن المياه وحفظ(807/29)
الأطعمة، وعدم الاكتفاء بما تدر الأرض بطبيعتها؛ فيزرع ويستغل كامن قواها. يخشى هجمات الوحوش الضاربة، وعدوان القبائل المعادية؛ فيتخذ العدة لذلك بصنع الأسلحة مستخدماً كل ما تقع عليه يده من أحجار وأشجار ومعادن. وهو إذ يفعل ذلك يهتدي بذكائه، بتفكيره العملي الذي يتطور مع الزمن تطوراً يكشف عنه ما لاحظه العلماء المنقبون عن آثار العصور البائدة من تطور الآلة الإنسانية من الآلة الحجرية القديمة إلى الحجرية الحديثة إلى المعدنية؛ والأسلحة من الأحجار إلى النبال فالخنازير والسيوف فالبنادق حتى القنبلة الذرية في العصر الحديث.
وهكذا في كل ميدان من ميادين الحياة يستخدم الإنسان تفكيره وسيلة لتحقيق أغراضه، وهذا هو الأصل في التفكير: وظيفة حيوية عملية تعين الحيوان على الصمود في الحرب الخالدة بينه وبين قوى العالم الطبيعي التي لا تعرف التراجع، وذلك أن الفطرة وحدها لا تكفل انتصاره.
بيد أن اختلاف التفكير الإنساني عن التفكير الحيواني ليس اختلافاً في المرتبة أو الكمية فحسب؛ بل هو اختلاف في النوع أو الكمية أيضاً. فتفكير الحيوان عملي كله، هو برمته وسيلة إلى العمل، إلى الحياة والبقاء. لا يستغل الحيوان قدرته العقلية المتواضعة إلا في إرضاء مطالبه الغريزية: من الاغتذاء، والاحتماء، وحماية الصغار، والتناسل الخ. أما الإنسان فبعد إرضاء مطالبه الغريزية يستغل قواه العقلية في الكشف عن أسرار ما يدركه من ظواهر الكون والبحث عن علل الحوادث التي تقع تحت ناظريه، وتفسير التغيرات التي تطرأ على مختلف الكائنات. ولا شك أن الحيوان كالإنسان فطر على حب الاستطلاع لكل جديد تجنباً لما قد ينطوي عليه من خطر، أو طمعاً فيما قد يدره من خير ونعمة؛ ولكن الإنسان يتجاوز هذه الحدود النفسية فيستطلع أحياناً من أجل المعرفة في ذاتها، ويجني من وراء ذلك لذة لا تقل عن اللذات الجسدية التي يجنيها من وراء إشباع ميوله الغريزية الأخرى.
لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكر أحياناً من أجل التفكير في ذاته، بل والذي يجاوز ذلك إلى التفكير في التفكير: يحصي أساليبه ويفتش عن مصادره، ويسجل أخطاءه، وينقب عن أسباب الوقوع في الخطأ، ويعدد السبل الموصلة إلى المعرفة. والإنسان عند ما(807/30)
يفكر هذا النوع من التفكير نقول إنه يفكر تفكيراً نظرياً لا غرض له إلا المعرفة. على أن هذه المعرفة تعود عليه بالنفع العملي وتزوده بأمتن الأسلحة التي تكفل له النصر في معركة الحياة على قوى الطبيعة الغاشمة التي لا تبالي بغير المضي في الطريق المرسوم وفق قوانين جامدة لا تتزحزح ولا تتزعزع. وسأحاول في مقال قادم أن أكشف عن فارق جوهري آخر هو السر في طفرة الإنسان وتربعه على عرش الكائنات الحية، وتمرده على الطبيعة تمرداً بلغ به حد استغلال قواها لمصلحته والسيطرة عليها بفهم أسرارا وفضح خباياها.
عبد المنعم المليجي(807/31)
من وحي السودان:
أشواق النيل!
(إلى أخي المجاهد في الجنوب!)
أخي يا أخي. . . يا أخي بالجنوبْ
دماءٌ تراقُ وشعبٌ يُهان
لقد صرَخ النيلُ والشاطئان
متى يا أخي ينعم التوأمان
ففي قلب مصر. . . أخي رغبتان
جلاء الدخيل. . . ومجد الجنوب
أخي يا أخي طال عهد الجمودْ
وضلت بنا خادعات الوعودْ
وهل يصدق العهد قلبٌ حقود!
يدسُّ مع الوعد سُمَّ الوعيدْ
أخي يا أخي آن حطم القيودْ
وحان الجلاء. وبعث الجنوب
أخي موكب الدَّهر ماض يسير
وويلٌ لمن لم يجد المسيرْ
ليلحق بالرَّكب قبل المصيرْ
وسيَّان هام العلا. والقُبور!
لمن يا أخي مل عيش الأسير
فثر. يا أخي. يا أخي بالجنوب.
حسين محمود البشيشي(807/32)
أيها العابرون
عبرت والخضم يصخب والمو ... ج مخيف يطبق الأسماعا
ومضت تمخر البعاب وفي الأف ... ق أعاصير تستفز القلاعا
موجة إثر موجة تترى ... كجبال قد اقتلعن اقتلاعا
وعلى الفلك ساهرون ولكن ... لا يطيقون في الخضم دفاعا
أيها العابرون كيف أمنتم ... ثورة البحر فاندفعتم سراعا
دون زاد وفي الطريق خطوب ... جامحات فهل حملتم متاعا
ثورة اليم لا تطاق إذا لم ... تحمل الفلك عدة وشراعا
وقلوباً من الحديد تشظت ... فاكتسحت قوة وجلّت صراعا
لا نفوساً إذا الأعاصير هبت ... فزعت خيفة وطارت شعاعا
أين ربانك يا فلك وأيان المصير
وعلى الدفة من لا يدرك الأمر الخطير
زخر اليم للموج اصطخاب وهدير
فأصبحي كالطير أو عودي كما شاء القدر
إن دنيا البحر، يا فلك، عناء وخطر
وانبرى من مجاهل الغيب صوت ... هادئ النبر خافت الألحان
هاتف مثلما تموج على الثغر ... تسابيح شاعر حيران
أيها العابرون قد عسعس اللي ... ل ثقيل الخطا على الأجفان
والخضم الرهيب كالرعد في الأف ... ق، وكالنار في فم البركان
وطواغي الأمواج تعبث فيالبح ... ر كخيل طليقة الأرسان
ورأى الفلك لا تطيق اتزانا ... بين موج معربد غضبان
سخر اليم من بقايا شراع ... يتلاشى كقبضة من دخان
ومسامير خاويات ولوح ... كشموع تلح في الذوبان
وإذا ما استبد بالفلك موج ... أفلت الحبل من يد الربان
أتراها وهي بين الموج تطفو وتعوم
وعلى الأفق أعاصير ورعد وغيوم(807/33)
ونسور تتلظى كالمنايا وتحوم
تعبر اليم وتطوي موجة البحر الغشوم؟
أم تراها تتوارى بين طيات العدم
فينال الحوت ما شاء وينتاش الرخم؟
إبراهيم الوائلي(807/34)
ألحان الساكن الثائر
بين المآسي ساكن وسنان
يبدو عليه الصبر والإيمان
قد يضاعف الأسى الكتمان
ورب كتمان هو البيان
معذبٌ مستسلمٌ لما به
همومه تصهر من شبابه
وهْو يطيل الصمت غير آبه. .
يقول مفصحاً لسان حاله:
كذلك الزمان معْ رجاله. .
وما جلا أو مرَّ من فعاله. .
لا بدَّ للمرء من احتماله!
تحسبه - يا صاح - في سُباتِ
فلا تعير أيَّما التفات
لغارق في لجة الحياة
يستعرض الأهوال في ثبات!
لا يشتكي لصاحب حميم. .
ولا يئنُ وهْو في الجحيم. .
فلا ترى من سرِّه المكتوم. .
إذا اختبرته سوى الوجوم!
تثورُ في هيكله الرزين
جحافلٌ شتَّى من الشجون
فيلتقي الشدَّة بالتهوين
ويحجبُ الثورة بالسكون!
لم تغتمض في راحة عينَاهُ
فكلها متاعبٌ دنياهُ(807/35)
إذا سعى أخفق في مسماهُ
وإن أوى نبا به مأواه!
حامد بدر(807/36)
نظرات في كتاب الفكر الاجتماعي
للأستاذ كامل كيلاني
- 1 -
في فترة عارضة من فترات السآمة والملل، أعقب ساعات جاهدة من العمل، فتحت هذا الكتاب كما اتفق، فكان أول ما وقعت عليه عيناي تلك الصورة التي قبسها المؤلف، حين عرض لعبادة العرب للأشجار والحجارة، وهي تمثل للقارئ لونا عجيباً من أخيلتهم، وترسم صورة رائعة مما استقر في إخلادهم، وتجلو بعض ما كانوا يتناقلونه من الأساطير عن معبودتهم (العزى) التي كانوا يتخيلونها شيطانة ثائرة، تبدو - لمن يراها في صورة حبشية غضبى -، تأتي ثلاث سَمُرات (شجرات من أشجار الطلح) نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها، وهي تصرُف بأنيابها (تسحقها وتحك بعضها ببعض حتى يسمع لها صوت).
وما كدت أبلغ قول المؤلف المفضال:
(وكذلك كانت عبادتهم لذات أنواط، فقد اعتقدوا أن معبوداتهم الحية كانت تحل تلك الأشجار والأحجار).
حتى طويت الكتاب، على عادتي كلما بلغت من المطالعة فترة يحسن الوقوف عندها، والتفرغ لها. وسرعان ما استغرقني التفكير، وأسلمني التأمل إلى عوالم فسيحة من الحقائق التي تفوق الخيال في غرابتها، ولم أتمالك أن رجعت القهقري حتى بلغت العصر الجاهلي الذي طالما عشت فيه، تارة في صحبة مؤرخي العرب والفرنجة، وتارات في صحبة المبدعين من الشعراء والكتاب ويا طالما نعمت بالتجوال في ذلك العصر الغابر، وأنست بارتياد روائعه في رفاقة أستاذي (المعري). وطالما انتفعت بإشاراته في رسالة الغفران وما إليها من بديع آثاره. كما انتفعت بصحبة العلامة (دوزي) في ارتياد كثير من تلك المجاهل السحيقة، حين ترجمت طائفة من فصوله الممتعة التي أودعتها كتاب: (ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام).
فلا عجب إذا عاودني الحنين والشوق إلى استئناف الدرس حين طالعت تلك الفقرات:
(وذو الشوق القديم - وإن تعزى - ... مشوق حين يلقى العاشقينا)
ولا عجب إذا تواثبت الخواطر، وتدافعت الذكريات، فلم أدر أيها أثبت وأيها أدع، ولا(807/37)
عجب إذا نسيت أن على أكتب مقدمة موجزة في بضع صفحات، لا دائرة معارف في عشرات من الأسفار المطولات:
ورأيتني أستعرض - عن غير قصد - طائفة من أمال هذه الأسطورة العربية الشائقة التي أثبتها المؤلف المفضال في كتابه النفيس، متمنياً أن تعاون معه طائفة من أعلام القصة لاستغلال أمثال هذه الأسطورة العربية البارعة، بعد أن تظاهرهم طائفة من كرام الباحثين على درس هذا التراث الحافل، وتعرف رموزه وحل معمياته، وتجلية ما غمض من حوافيه وأسراره، وأن يُعنوا بإحيائه كما عنى غيرهم من شعراء الغرب وأعلام كتابه وباحثيه، وأفذاذ علمائه وقصاصيه، باستغلال ما ظفروا به من الأساطير الإغريقية وما إليها من أساطير الأمم القديمة.
ولم أتمالك أن شكرت للمؤلف عنايته المحمودة بهذا اللون الفكري البديع. ورأيتني أجري على عادتي في التعليق على هامش ما أقرأ من نفائس الكتب.
وأنثالت المعاني والصور وتتابعت، حتى خشيت - كما أسلفت - أن تدفعني إلى تأليف سفر ضخم. فاجتزأت بإثبات بعض ما قاله (المعري) في هذه الشجرة المحظوظة التي أطلقوا عليها (ذات أنواط)، فقد أشار إليها في رسالة الغفران إشارة نافعة حين عرض للحديث عن أشجار الفردوس فقال:
(وذات أنواط شجرة كانوا يعظمونها في الجاهلية. وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط).
وهنا قبس (المعري) قول أحد الشعراء:
(لنا المهيمن يكفينا أعادينا ... كما رفضنا إليه ذات أنواط)
وفي بعض هذا دليل على ما بلغته ذات أنواط من خطر الشأن ورفعة المنزلة.
وقد شغل المعري - في أكثر من موضع من نفائس كتبه - بهذه الشجرة، التي ظفرت - على حقارتها - بمثل هذا التكريم، وأفردها الحظ بما لم يظفر به غيرها من إجلال وتعظيم، فأضفى عليها عبادها من القداسة هالة باهرة، فتنتهم وسحرت ألبابهم واستعبدتهم. فأكبروا من أمرها ما صغر، ومجدوا من شأنها ما حقر، ولم يكتفوا بعبادتها في جاهليتهم، فراحوا يكاثرون الرسول صلى الله عليه وسلم بها، ويطلبون إليه أن يهيئ لهم شجرة تماثلها(807/38)
وتساميها في قداستها وشرفها.
وهكذا أدركها الحظ - على عمقها من الثمر - كما يدرك بعض الأغمار التفهين من الناس، فيضفي عليهم ألواناً من النباهة والرفعة، على ما ركب في طباعتهم من العقم والحقارة والعجز.
وفي هذا يقول المعري:
(والجد يدرك أقواماً فيرفعهم ... وقد ينال إلى أن يُعْبَد الحجرا
وشرفت ذات أنواط قبائلها ... ولم تباين - على علاتها - الشجرا)
وكانت (ذات أنواط) سمرة (شجرة طلح)، لا تكاد تختلف عن تلك السُمرات الشائكة الثلاث التي كان الجاهليون يتخيلون معبودتهم (العزى) قادمة عليها في صورة حبشية.
ولا تختلف عن السمرات التي أشار إليها امرؤ القيس في معلقته حين قال:
(كأني غداة البين، يوم ترحلوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل)
وشجر الطلح معروف، وقد أشار إليه المرحوم شوقي بك حين قال:
(يا نائح الطلح أشباه عوادينا ... نأسى لواديك؟ أم نأسى لوادينا؟)
كما أشار إليه (المعري) ونبه إلى إجداب هذا الشجر، وعقمه من الثمر، في قوله:
(وأبغضت فيك النخل، والنخل يانع ... وأعجبني - من حبك - الطلح والضال)
وقد ألف العرب أن يطلقوا على شجرة الطلح (أم غيلان) وإلى هذه الكنية أشار (المعري) في تهكم بارع:
(سل أم غيلان الصموت عن ابنها ... وبنات أوبر، من أبوها أوبر؟)
- 2 -
والطلح - فيما يعلم القارئ - شجر عظام من شجر العضاه، الذي لا يثمر غير الشوك، ترعاه الإبل إذا أعوزها الزاد، فلا تكاد تستسيغه إلا مضطرة، وقلما تسلم من غصصه وعلله. فلا عجب إذا اتخذوه رمزاً للشر، وصاغوا من (السُمرة) لفظ: (السمرْ مرة): لقب الغول، وجعلوا من شجرها مزاراً لتلك الشيطانة الحبشية الغضبى التي تقدم السمرات الثلاث - كما تمثلها الأسطورة - نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها، تحرُق الأرَّم (تحك أنيابها حتى يسمع لها صريف) من شدة الغيظ.(807/39)
فلا عجب إذا استخرج العرب - من هذا الشجر وثمره - ألفاظاً تدل على طائفة من معاني الشر، فاشتقوا الطلاح (الفساد) من الطلح، كما اشتقوا من ثمره الشائك ألفاظاً منطوية على طائفة من معاني السحر والإفك والكذب والأذية.
فإذا سأل القارئ: (ولماذا خصوا هذه السمرة بهذا اللقب؟ وكيف أطلقوا عليها: (ذات أنواط)؟ همس في أذنه بعض مؤرخي العرب، ومنهم (ابن الأثير).
(إنها سميت كذلك لأن المشركين كانوا ينوطون بها سلاحهم (يعلقونه) ويعكفون حولها).
وربما همس في أذنه بعض الباحثين: (إنهم أطلقوا عليها ذلك اللقب، لما تميزت به مما كان يتدلى من أغصانها الكبيرة من أنواط).
والنوط - كما يعلم القارئ - هو القفة الصغيرة التي تحمل ثمار هذه الشجرة، السامقة العقيم.
- 3 -
وهكذا أسلمتني هذه الأسطر القلائل إلى طائفة من التأملات أزاحت ما كان مستولياً على نفسي من السآمة والملل، ونفضت عني غبار الفتور والكسل، وأعادت إلي النشاط، فأقبلت على الكتاب أقرأه من أول سطوره، متنقلا بين فصوله الشائقة، من صفحة إلى صفحة، حتى انتهيت إلى خاتمته، وأنا شيق إلى الاستزادة من حديث هذا الباحث الموفق المثمر الذي لا يمل البحث، ولا يمل قارئه من متابعته في عوالمه الفسيحة.
ورأيت المؤلف يتنقل بين مجاهل التواريخ التي طويت على مر الأزمان، وعفي عليها تطاول الأمد ذيول النسيان، فلم يبق الدهر - من آياتها وحقائقها وأحداثها - إلا ظنوناً وأحداساً وأخيلة، لا تكاد تثبت على الاختبار والبحث. ثم لا يزال مؤلفنا يتنقل في فصوله الشائقة حتى يبلغ المدى من رحلته الفكرية، وينتهي إلى عصرنا الحافل بألوان من الحقائق، تكاد - لغرابتها - تفوق عجائب الخيال.
- 4 -
وهكذا صحبت المؤلف وهو يتابع الإنسان، منذ أقدم العصور، حين كان يقيم مع قبيلته بين الأشجار، وفي الكهوف وقد اكتسى جسمه بشعر كث يصارع الوحوش ويطاردها في(807/40)
الأدغال، ويقتات بالبذور، ويعيش على لحوم فريسته التي يمزقها بأظافره ويقطعها بأسنانه، كما يفعل إضرابه من الوحوش.
ثم لا يزال المؤلف يساير الإنسان القديم مرتقياً به، في أسلوب تصويري جذاب حتى يصل إلى العصر الحاضر، في قُرابة مائتين من الصفحات الحافلة بالملاحظات والتوجيهات، بعد أن ضمن التوفيق فيما قبسه وتخيره من الكتب: عربية وأجنبية، وفيما عرض له من تحليل ومناقشة، وتأليف بين أشتاتها، وتمحيص لرواياتها، منذ صحب الإنسان الأول إلى أن أبلغ العصر الحاضر: عصر الآلات والمناجم والبخار والكهرباء والطائرات والسيمى والراديو والتلفزيون. ولم ينسه ذلك المعرض الحاشد - الذي افتن في إقامته وتنسيقه - ما وراء تلك الصور المادية من السجايا والأخلاق الإنسانية ونشأة العادات، وأثر الأديان والشرائع والقوانين في الأفراد والجماعات، وأي قوة أمكنته من قهرها والتغلب عليها، بفضل ما منحه الله من عقل وتفكير. وكيف استقبل الإنسان فجر المدينة وهو - فيما يقول المؤلف -: (يتقدم ببطء من جمع الأطعمة إلى الصيد، ومن الجماعة المشتتة إلى القبيلة ومن ثم يتطور فيشكل نظاما اجتماعيا، ويوزع الوظائف بين الأفراد. كما لم ينسه أن يعرض لنهضات (مصر) و (بابل) و (فلسطين) و (الهند) و (الصين) و (واليونان) و (والفرس) و (روما).
- 5 -
وقد ألم المؤلف - على ذلك - إلمامة بارعة بأنواع الزواج في الجاهلية، وقبس طائفة من الأمثلة تبين اختلاف نظمها وتباين عاداتها ولم يفته أن ينبه إلى ما ألفته بعض قبائل العرب في زمن الجاهلية (من نسبة أولادهم إلى أمهاتهم قبل أن ينهاهم الإسلام، وكان نهيه صريحاً في قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم، هو أقسط عند الله).
وهي - فيما رأى ويرى غيري من الباحثين - عادة جرى عليها الروم في قديم الزمان، واهلهم كانوا أسبق إليها من العرب.
وقد أشار المعري في لزومياته إلى هذه العادة، إشارة ساخرة قاسية، فقال.
(ولحب الصحيح آثرت الرو ... م انتساب الفتى إلى أمهاته
جهلوا من أبوه، إلا ظنونا ... وطلا الوحش لاحق بمهاته)(807/41)
- 6 -
أما بعد:
فقد كانت مفاجأة سعيدة، حين تفضل مؤلف هذا الكتاب النفيس فعهد إلى بتقديمه، ولم يكن عمر التعارف بيننا يزيد على دقائق معدودة، كانت كافية للتآلف. ولا غرو في ذلك فإن الأرواح جنود مجنددة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
وهكذا أغنت اللحظات القليلة عن العشرة الطويلة، وكانت - على قصرها - كافية لانسجام روحينا، فخيل إلينا أننا تعارفنا منذ النشأة الأولى وكان من ثمرات هذا اللقاء العارض أن مرفق شغفت المؤلف بالبحث والاطلاع، وعنايته بتتبع آثار (ابن النديم) صاحب الفهرست والترجمة له في مجلة المجتمع العلمي العربي. وتوفره على درس الدعوة الإسماعيلية في رسائل إخوان الصفا وإقباله على كتابة فصول النقد وأعمال البنوك في كتاب: النظام الاقتصادي في فلسطين.
وكتابه: التطور الاجتماعي والاقتصادي لفلسطين العربية
وهكذا رأيت مؤلفنا ينتقل في بحوثه النافعة، من عالم الاقتصاد إلى عالم الأدب، كما ينتقل في حياته اليومية بين بنك الأمة العربية ومكتبته الضخمة الحافلة بألوان الثقافة والأدب، فيذكرنا قول ابن المقفع:
(أمران يحتاج إليهما من يحتاج إلى الحياة: المال والأدب)
ولا ريب أن الأمم - كالأفراد - لا غنى لها عن بناء نهضتها على أساس متين، يرتفع بناؤه على هاتين الدعامتين.
- 7 -
وكان من ثمرات هذا اللقاء السعيد أن أتاح لي الظفر بقراءة هذه الخلاصة الممتعة التي تأنق مؤلفها في عرض تاريخ الحضارة الإنسانية عرضاً تصويرياً أخاذاً، يخيل إلى قارئه أنه يشهد شريطاً من أبدع ما أخرجته السيمى في العصر الحديث.
وقد علم القارئ مما أسلفت أنني لم أكد أقلب صفحات كتابه حتى رأيت ما تفتحت نفسي له، وشجعني على البدء بقراءته من أوله، فلم تنته الجلسة حتى أتممته، وأنا شديد الأسف على(807/42)
انتهائه، وبودي لو امتد هذا السفر التاريخي الحافل في أضعاف صفحاته، ليؤدي إلى رواد الثقافة أضعاف فائدته، ويحقق لهم الكثير مما تتوق إليه نفوسهم الظامئة إلى أمثال هذه البحوث، التي وفق أصحابها إلى جمع أشتات المعارف، وأحسنوا عرضها، بعد أن أحسنوا استيعابها وفهمها.
- 8 -
وازدحمت الخواطر في ذهني - كما أسلفت - وتواثبت التعليقات، كلما انتقلت من صفحة إلى صفحة، وخشيت أن أعاود قراءة الكتاب مرة أخرى فيضطرني ذلك إلى الوقوف عند كل فكرة طريفة - وما أكثر ما يحويه من طريف الأفكار - وربما اقتضاني ذلك أن أتوسع في الشرح والتعليق فتصبح مقدمة الكتاب أضعاف حجمه.
ورأيت أن مؤلف الكتاب كان قادراً على الاضطلاع بمفرده بهذا العبء الثقافي التوجيهي كله، لو أمكنته فسحة من وقته المزدحم بما ينوء به من شواغل الأعمال، وما يضطلع به من تبعات ثقال ولكنها الظروف القاهرة، أعجلت المؤلف كما أعجلتني ولعله قصد إلى الإيجاز فصداً ليحقق لقارئه في صفحات قليلة ما تستوعبه المطولات المستفيدة، وهو غرض نبيل، والحاجة إلى المختصرات مطلب جليل، لا يقل عن الحاجة إلى المطولات. وربما زاد عليها في بدء عصور النهضات، لترغيب الزاهدين في القراءة، وتعبيد ما توعر من طرائقها أمامهم.
وحسناً صنع المؤلف حين عني بتوجيه قارئه إلى أمهات الكتب ليحبب إليه البحث، بعد أن عني بتوجيهه وإرشاده وفتح آفاق جديدة له.
وأما أجدر المؤلفين بالأخذ بهذا المنهج، فهو من الأهداف النافعة، يتوخاها طالبو الإصلاح في مستهل النهضات، تستقبلها الأمم التي طال عهدها بالنوم، وآن لها أن تنفض عنها غبار الخمول
- 9 -
أكرر القول: إنني وجدت في كل صفحة من صفحات الكتاب بابا للمناقشة وجمالا للاخذ والرد والتعليق، ومثاراً للخلاف حينا، والموافقة أحياناً.(807/43)
وهذه أول مزايا الكتاب المثمر الناجح. وحسبي دليلا على نفاسة ما أقرأ، أن يثير في نفسي ألواناً من البحث والتمحيص، ويحفزني إلى ارتياد مختلف الميادين الفكرية التي صرفتني عنها عوادي الزمن وشواغله.
وقد كان من حسن حظ المؤلف والقارئ أن يتضافر على كاتب المقدمة ضيق الوقت، وزحمة العمل، ووعكة الصحة، وقلة الصفحات المخصصة للتصدير، فتعجله كل هذه الأسباب مجتمعة عن التفصيل والإسهاب اللذين تحاشاهما مؤلف الكتاب.
وكان من حسنات عصر السرعة الذي نعيش فيه، وما أوجبته المطبعة التي لا تعرف التريث والبطء، ولا تبالي الوعكة ولا المرض ولا تحفل الشواغل وزحمة العمل، أن تعد المقدمة في حيز من الصفحات ثابت معدود، وزمن من الساعات مؤقت محدود. ولولا ذلك لامتد بي نفس القول كما امتد بـ (المعري) منذ ألف عام، حين أجاب عن رسالة (ابن القارح) برسالة الغفران، في أضعاف حجمها، وكما امتد نفس القول بالأمير (شكيب أرسلان) حين تصدى لتنديم كتاب (حاضر العالم الإسلامي)، فزادت صفحات مقدمته على مقدمة (ابن خلدون)، وتجاوزت شروحه وتعليقاته أضعاف حجم الرسالة التي عهد إليه مترجمها أن يقدمها.
ولا عجب في ذلك، فأن نفس القول إذا مددته امتد، وتداعى المعاني لا يعرف الوقوف عند حد:
(والفكر حبل متى يمسك على طرف ... منه، ينط بالثريا ذلك الطرف
والعقل كالبحر، ما غيضت غواربه ... شيئاً، ومنه بنو الأيام تغترف)
كامل كيلاني(807/44)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
في مؤتمر المجمع اللغوي
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الثلاثاء الماضي بافتتاح مؤتمره السنوي، وهو الذي يحضره الأعضاء الأجانب وستمر نحو شهرين، واحتفى في هذا الحفل باستقبال عضوين جديدين هما الأستاذ محمد رضا الشبيبي والأستاذ خليل السكاكيني.
افتتح الاجتماع معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا رئيس المجمع بكلمة حي فيها الأعضاء ورحب بالزميلين الجديدين، ومما قاله أن المجمع يعالج مشكلات اللغة وقضاياها باعتباره هيئة علمية بحتة ليس من شأنها أن تنفذ قراراتها إلا ما يكون من عرضها على الهيئات العلمية ونشرها في المطبوعات والمعجمات، وأبدى معاليه السرور بما يلاحظ في المجتمع العربي من الدلائل على الرغبة في تقبل أعمال المجمع بقبول حسن.
ثم ألقى الأستاذ شوق أمين، بالنيابة عن كاتم سر المجمع، كلمة أجمل فيها ما قام به المجمع من أعمال في العام الماضي وبرنامج العمل في هذا المؤتمر.
وبعد ذلك وقف الأستاذ عباس محمود العقاد فألقى كلمته ف استقبال الأستاذ الشبيبي فقال: إنه يدخل هذا المجمع من أكثر من باب واحد، لأنه شاعر ناقد باحث لغوي ناشر للعلم واللغة.
وعند ما تكلم عن شعره اكتفى بالعرض المجمل، فوصفه بفصاحة اللفظ ونصاعة المعنى وسلامة العبارة، وأنه ينظم اشعر في أغراض شتى ولا يقصره على غرض واحد، وألقى أمثلة من شعره بدأها بأبيات قال إنها من قصيدة نونية.
وقال الأستاذ العقاد: إن الأستاذ الشبيبي أعانه البحث الطويل في الأدب واللغة على تمييز الكلام وتصحيح النقد، وأورد ما قال إنه جاء في مقدمته لديوان الحبوبي تعقيباً على مذهب بقراط وابن خلدون في تكوين الطبائع والأخلاق، وهو (والذي أراه أن لاستعداد الفطرة والغريزة تأثيراً أكبر من تأثير البيئة والوسط، ورب سماء صافية الأديم وضاءة المنظر، وتربة جافة الهواء معتدلة الحرارة تنبت رجلا سمج الطبع والخلق. ورب إقليم شديد الحرارة قليل النور بليل الهواء يخرج رجلا سليم الطبع رقيق الشعور).(807/45)
وفي انصرافنا من الحفل قال لي صاحبي الشاعر العراقي الأستاذ إبراهيم الوائلي: إن الشبيبي لم يكتب مقدمة لديوان الحبوبي، وإنما الذي كتب مقدمة هذا الديوان هو الشيخ عبد العزيز الجواهري، ويظهر أن النص الذي أتى به العقاد مأخوذ من (العراقيات)، وهي مجموعة تضم عشرة من شعراء العراق، فيها ترجمة للحبوبي بقلم الشبيبي.
ثم قام الأستاذ الشبيبي فألقى كلمة طيبة في تحية المجمع وشكر الأستاذ العقاد. ومما قاله أن للشعوب العربية في هذه المرحلة من مراحل يقظتها مطالب، من أحوج ما تحتاج إليه ائتلاف في الأرواح وتقارب في المشارب والأذواق، وتجاوب بين العواطف والأفكار، وهذا مطلب جليل لا يتيسر لنا إلا إذا جمعتنا من لغة العرب جامعة أدبية كبرى، واعتصمنا من هذه الفصحى بحصن حصين، وجدير بهذا الأدب العربي الحديث أن يرى عاملا فعالا من عوامل الإنشاء والبناء، وخليق به أن يتغلب على غيره من العوامل المفرقة الهدامة.
وقد جرت تقاليد المجمع على أن يتحدث العضو الجديد في حفلة الاستقبال عن سلفه حديثاً مسهباً، ولكن الأستاذ الشبيبي اكتفى بالإشارة إلى مكانة الأستاذ الكرملي وفضله، واعداً بأن يعود إلى تفصيل الكلام عنه في فرصة أخرى.
ثم كان من قسمة الأستاذ خليل السكاكيني أن يقدمه الدكتور منصور فهمي باشا، إذ كشف القناع عن ناحية قال إن الأستاذ السكاكيني لا يحب إثارتها. ولذلك حذره من الإشارة إلى أي ناحية من جهوده الأدبية الضاربة في ماض بعيد، ربما يستنتج منها مدى عمره المبارك المديد؛ وعلى رغم هذا التحذير مضى الدكتور منصور باشا في هذه الدعاية فروى أن مدرساً كهلا استقبل الأستاذ السكاكيني في حيفا من عدة سنين بخطبة قال فيها إنه سمع عاطر الثناء على فضله وأدبه من المرحومة حماته، وكانت صغرى تلميذات الأستاذ في دار المعلمات. . . ثم قال إن الأستاذ سكاكيني يخفى عمره لأنه يدين بفلسفة القوة في كل أمر من الأمور؛ فهو يناوئ الشيخوخة ويكره أن ينتمي إليها أو يذكر بها؛ فإذا انظر من خلال فلسفته إلى اللغة فإنه لا يروقه منها إلا ما اتسم بالقوة والسلامة. وأفاض بعد ذلك في بيان جهوده في الإصلاح العلمي ومكانته في عالم الأدب واللغة.
وكان الدكتور منصور فهمي باشا قد قال في مستهل كلمته إن حلول السكاكيني، وهو من أهل القدس، محل الشيخ مصطفى عبد الرزاق فيه ما يبشر بأن بركة فلسطين ستلتقي(807/46)
بالآثار المباركة لسفله. . ولكنه لم يلبث بعد هذا الكلام أن رق في مداعبة معلم الغابرين والحاضرين، ومربي الحموات الفضليات. .
وألقى بعد ذلك الأستاذ السكاكيني كلمة طلية أودعها كثيراً من النظرات الفلسفية الرائعة، وقد قال في أولها: إذا كنتم تقيسون العمر بالسنين فقد بلغت من الكبر عتيا، وإذا كنتم تقيسونه بالأعمال فأنا لا أزال في دور الطفولة، وإذا كنتم تقيسونه بما يلقاه المرء من الهناء والسرور فإني لم أولد
ثم أخذ في الحديث عن الشيخ مصطفى عبد الرزاق فحلل صفاته ومواهبه تحليلا وافياً وأفاض عليه بما هو أهله من الثناء والتمجيد، ولكنه جنح في آخر الأمر إلى عبارات مألوفة في التفريظ والمبالغة؛ إذ قال لو لم يسبقه الخليل لكان أول من وضع العروض، ولو لم يسبقه أرسطو لكان أول من وضع المنطق، ولو لم يسبقه ابن خلدون لكان أول من وضع علم الاجتماع. واستمر في هذه الفروض، ماراً بعديد من العلوم والمعارف وأوائل واضعيها. . .
نظرات في أدبنا المعاصر:
أذاعت محطة لندن العربية يوم الجمعة الماضي حديثاً للدكتور طه حسين بك عنوانه (نظرات في أدبنا المعاصر) قال فيه إن الأدب العربي الحديث في مصر مر بثلاث مراحل، الأولى مرحلة الحرية التي دفع إليها الوعي الوطني بعد الحرب العالمية الأولى، وكان الأدب في هذه المرحلة من حيث علاقته بالشعب ذا صبغتين اتصالية وانفصالية، فكان الأدباء متصلين بالشعب حين يعبرون عن مطالبه وحقوقه السياسية، وكانوا منفصلين عنه حينما كانت تتعلق كتابتهم ببعض النواحي الدينية والاجتماعية، ولكن الشعب لم يلبث بعد ذلك أن تطورت أفكاره وأصبح يستسيغ ما كان ينكره. والمرحلة الثانية تبدأ من حوالي سنة 1930 حين مال السياسيون إلى أخذ الأمور بالرفق والاعتماد في حل المشاكل على مضى الوقت، في ذلك الحين بدأ الأدباء أيضاً يتراجعون في ميدان الحرية الذي كانوا فيه يركضون، ويحاسبون أنفسهم فيما يكتبون قبل أن تحاسبهم السلطات، فاعترى الجمود الأدب، ولا يزال رانياً عليه. والمرحلة الثالثة جاءت بعد الحرب العالمية الثانية، وفيها امتداد لجمود المرحلة الثانية ولكنها تتميز بنزوع الأدباء إلى الكتابة في الحال الاجتماعية(807/47)
من حيث تصوير مظاهر الشقاء ومعالجة الأعداء الثلاثة، الجهل والفقر والمرض؛ وهو تصوير يبدو قاتماً لسوء الحال التي يصورها، ويغلب التشاؤم على الأدب لذلك. وهناك مع هذا أدباء هربوا من ذلك الجمود ومن هذا الأدب الاجتماعي البائس، إلى التاريخ: فهيكل يكتب في حياة محمد وحياة الخلفاء، والعقاد يؤلف العبقريات، ويتجاوزها إلى التأليف في الإله، وطه حسين (المتكلم لا يزال الدكتور طه) يكتب على هاش السيرة ويتجاوز ذلك إلى عثمان وأحلام شهرزاد. وذلك لأن الأديب يشعر بالحاجة إلى الراحة، وقد وجد أدباؤنا راحتهم في التاريخ.
بقية الهاربين:
هناك من كبار أدبائنا - غير من ذكرهم الدكتور طه - من هربوا من الأدب كله إلى الرد على رسائل القراء الشاكين من مصلحة التنظيم، وحل معضلات الحب التي تعرض لبعض الشبان والفتيات. .
الشخصية والجريمة:
في يوم الجمعة الماضي انعقدت مناظرة بقاعة يورت التذكارية موضوعها (الشخصية والجريمة) اشترك فيها الدكتور أمير بقطر والأستاذ سلامة موسى والسيدة سمية فهمي والأستاذ مظهر سعيد. وقد دارت المناقشة بينهم في الإجابة عن هذه الأسئلة: ماذا يقصد بالشخصية وبالجريمة؟ وهل الشخصية موروثة أو مكتسبة؟ وهل يورث الإجرام أو يكتسب؟ وإلى أي حد ينبغي أن يعفى المجرم من المسؤولية؟
ومجمل ما اتفقوا عليه أن الشخصية هي مجموعة الصفات الجسمية والوجدانية والأخلاقية وتفاعلها، وأن الشخصية الحسنة هي التي يلائم صاحبها بين تصرفاته وبين المجتمع ويتحمل تبعة أعماله، والسيئة هي غير الملائمة المتخففة من المسؤولية؛ وأن كلا من الشخصية والإجرام يتكون من الوراثة ومن البيئة، وقد اختلف المتناظرون في أيهما - الوراثة والبيئة - أكثر أثراً وإن كانوا متفقين على وجودهما في الشخصية والجريمة.
وقد اختلفوا في تعريف الجريمة، فبدأت السيدة سمية بأن الجريمة لا حقيقة لها، لأن ما يعتبره بعض البلاد جريمة قد لا يعتبره كذلك بلد آخر، وما يستنكر ارتكابه في زمن قد(807/48)
يستساغ في زمن آخر، ومثلت لرأيها بفظائع الحرب ومعاونة العلماء على استحداث المدمرات التي آخرها القنبلة الذرية، مما يوصف بالبطولة والوطنية، وهو في الواقع وحشية منكرة. ووافقها الأستاذ سلامة قائلا إن الجريمة تتبع العرف وإنها ليست إلا الأعمال التي لا يقرها المجتمع. وخالفهما الدكتور بقطر والأستاذ مظهر ذاهبين إلى أن الجريمة كل تصرف يخرج على النظام ويقع منه ضرر على الفرد والجماعة وهي تكون في زمن معين ومكان محدد. واشتد الخلاف بينهم عندما عرضوا للسؤال الرابع وهو الخاص بإعفاء المجرم من المسؤولية، فقالت السيدة سمية والأستاذ مظهر بوجوب النظر في حال المجرم من حيث نوع شخصيته، فلا يعاقب ذو الشخصية المريضة كالذي يسمى (السيكوباتي) وغيره مما كونته ظروف البيئة تكويناً سيئاً، وخالفهما الدكتور بقطر والأستاذ سلامة، فقال الثاني إن المجرم من أي نوع متأثر في إجرامه بالوراثة والبيئة على اختلاف تقدير حظه من كل منهما، فكل مجرم لا بد له فيما يرتكب إذا أخذنا بقاعدة الإعفاء من الإجرام الاضطراري. وقال الدكتور بقطر إنه لاحظ في أثناء وجوده أخيراً بأمريكا، أن الجرائم هناك قد كثرت بفضل علماء النفس الذين يعللون دوافع الإجرام تعليلا يعفي المجرمين من العقاب أو يخففه عنهم، ويفسح القضاة لهذه التحليلات النفسية، ويصدرون أحكامهم بناء عليها.
تعقيب:
لقد تبينت في خلال هذه المناظرة بالمشاهدة والمثل العملي - أن العامية لا تصلح أبداً لغة للأفكار العلمية، وذلك أن المتناظرين وخاصة السيدة سمية فهمي والأستاذ سلامة موسى، كانوا يلجئون إلى التعبير العامي فلا يسعفهم في إبراز ما يجول بخواطرهم، فيستنجدون بالتعبير الفصيح، فم واتاه بلغ به، ومن استعصى عليه اضطرب وملكه العي، وقد وقعت السيدة من ذلك في حرج شديد، وإن بدا - على رغم تعثر لسانه - تمكنها من دقائق الموضوع، وقد كانت تشكو من ضيق الوقت وعدم اتساعه لمعالجة موضوع المناظرة، والواقع أن الوقت كان يضيع بالتلجلج وتكرار العبارات العامية من غير طائل، ولو أنهم أعدوا للمناظرة ودونوا أفكارهم في (تجربة) قبل الظهور على المسرح، لأتوا بما يرجى منهم في مثل هذه المناظرة، فهم معروفون بالدراسة والبحث وسعة الاطلاع، ولكن(807/49)
الارتجال والاستهانة باللغة الصالحة للتعبير العلمي الدقيق، جعلاهم يقضون نحو ساعتين فيما لا يستحق هذا الزمن من أمثالهم، وقد شعر الحاضرون بذلك، وكانوا جمهوراً كبيراً، أتوا ليستمعوا إلى هؤلاء الأعلام، ولم يضنوا على عقولهم بثمن الدخول الذي تتقاضاه الجامعة الأمريكية ولعلها الوحيدة في مصر التي تفرض أجراً على سماع المحاضرات والمناظرات العامة.
عباس خضر(807/50)
رسالة النقد
زوجات
ترجمة الأستاذ أحمد الصاوي محمد
كتاب رائع، ذلك الكتاب الذي يقدمه الأستاذ أحمد الصاوي محمد إلى قراء العربية. وبهذا الكتاب يثب الصاوي وثبة أخرى في الطريق الذي بدأه منذ سنين، حين راح ينقل شتى الألوان من ثقافة الغرب إلى الشرق، ويمزج بين هذه وتلك مزجاً موفقاً يقرب الشقة بين ذوق وذوق، وبين فهم وفهم، وبين شعور وشعور.
و (زوجات) يصدر معه كتابان آخران للصاوي وهما (فوشيه) و (الغيرة من الماضي). . . ثلاثة كتب ومن قبلها بضعة وعشرون كتاباً، تكون في مجموعها ثلاث مدارس كما يحلو للأستاذ الصديق أن يصنف كتبه فينسب كلا منها إلى مدرسة خاصة؛ فهناك مدرسة العبقرية، ومدرسة الحرب والسياسة، ومدرسة المجتمع. . . وإلى هذه المدرسة الأخيرة ينتسب كتاب اليوم (زوجات).
يقدم إليك الصاوي في هذا الكتاب ثمانية ألوان من الطبيعة الإنسانية، في كل لون منها امرأة. . هي زوجة. وعلى اختلاف الميول وتباين الأهواء وافتراق النزعات، تختلف الصور وتتباين الملامح وتفترق السمات، ويتمثل لناظريك معرض من معارض الصراع القوي العنيف؛ صراع العواطف والأفكار. . فيه لوحات نفسية، وفيه نماذج بشرية، وفيه ما فيه من حيرة العقل ولوعة القلب ووقدة العاطفة واشتعال الوجدان!
وأقف بك وقفة متأنية، متأملة، عند الزوجة الأولى صاحبة (الكراسة الحمراء)، تلك التي قضت العمر محلقة بالفكر على أجنحة الخيال، تحلم حلماً طويلا لا نهاية له. . حلم أرض الميعاد! هي قصة من روائع الأدب الفرنسي المعاصر لخصها الصاوي من قبل ثم عاد فنقلها إلى العربية نقلا أمينا، كاملا، احتفظ فيه بروح الفن في لغته الأصيلة؛ أما صاحبها فهو أندريه موروا عضو الأكاديمي فرانسيز وأما اسمها الحقيقي فهو (أرض الميعاد)، ولكن قلم الصاوي شاء أن يخلع عليها اسماً آخر هو (الكراسة الحمراء). . وقبل أن ألخص لك هذه القصة التي تشغل من الكتاب ما يقرب من ثلثيه، قبل هذا أود أن أشير إلى قصة أخرى ظهرت في أفق الأدب الفرنسي، هي قصة (الباب الضيق) لأندريه جيد صاحب(807/51)
جائزة نوبل للأدب عن عام 1948. . في قصتي جيد وموروا ناحية جديرة باهتمام القارئ المتمكن والناقد الذواق؛ ناحية يلتقي فيها الكاتبان ويفترقان بعدها في كل شيء!
أندريه موروا في (أرض الميعاد) فنان، وأندريه جيد في (الباب الضيق) إنسان. . وكلاهما يبلغ القمة في ميدانه: هذا في إنسانيته وذاك في فنه. وكلاهما يمضي بعد ذلك في طريق؛ تنزع القصة الأولى إلى الناحية الموضوعية أكثر مما تنزع إلى العرض والتحليل، على حين تقتصر القصة الثانية على الناحية التحليلية الخالصة، هناك حيث تطغى الألوان النفسية والظلال الإنسانية على كل ما عداها من ألوان وظلال! وبعد ذلك أيضاً يمضي كل منهما في طريق. . . فبينما تجد موروا يصهر العواطف الإنسانية في بوتقة الشهوة الجسدية العارمة، تلقى جيد يصهرها في بوتقة اللذة الروحية الهائمة؛ هناك شيء من الإباحية السافرة المتجردة، هنا شيء من الصوفية القلقة الغامضة. . . وفي كلتا القصتين صراع ملح عاصف عنيف، هو في (الباب الضيق) صراع بين روح وجسد، وهو في (أرض الميعاد) صراع بين روح وأجساد! في نطاق هذا الصراع الروحي الشاذ تتفق القصتان ويلتقي الكاتبان، ولا أقول إنه اتفاق كامل أو التقاء كامل، ولكنه اتفاق والتقاء على كل حال، يتمثلان في شخصيتين وضعهما جيد وموروا تحت مجهر التحليل النفسي وهما (إليسا) بطلة (الباب الضيق) و (كلير) بطلة (أرض الميعاد). كلتاهما خلقت تنشد الحب الذي لا تدنسه شهوة، ولا يشوه من قداسته لذة، ولا يعبث بطهره إثم، وهذا هو الحب المثالي الذي تضيق به دنيا البشر، وكلتاهما لقيت في سبيل هذا الحب آلاماً مبرحة وعذاباً لا يطاق، وتلك حال من يعيشون على الأرض وقلوبهم متعلقة بالسماء، لا شيء غير الصراع. . صراع القلب والعقل، صراع الفكر والعاطفة، صراع الجسد والروح!. . . أما موروافقد شاء لبطلته أن تخضع لمنطق الحياة والناس على ما فيه من قسوة ومرارة، لكنه خضوع المجبر المغلوب على أمره حين تتألب عليه القوى فيلقي السلاح، وتظل المعركة إلى الأبد محتدمة في نفسه وشعوره؛ وهذا هو منطق الفنان!. . أما جيد فقد آثر لبطلته أن تقاوم حتى النهاية، وأن تحمل من الشقاء في سبيل مثلها العليا فوق ما يحمل طوق الأحياء. لقد استحال حبها الإنساني على مر الزمن حباً إلهياً في هـ من شفافية التصوف ما يقرب بينها وبين الله. . . وفي فص اليوميات من (الباب الضيق) تهتف (إليسا) من الأعماق(807/52)
مشيرة إلى (جيروم): (يا إلهي، تمنيت لو نقبل كلانا عليك، تدفع أحدنا قوة الآخر! لو نمشي كل طريق الحياة حاجين يقول أولهما للثاني: استند إلى ذراعي يا أخي إذا تعبت، فيجيبه: حسبي أن أراك إلى حانبي! ولكن لا؛ إن الطريق التي توصينا بها يا إلهي طريق ضيقة، ضيقة حتى ما يستطيع سلوكها قرينان!. . . يا إلهي، لم اخترت لنفسي مرارة الحرمان! أتراني أطلب غير الحب فتنة أعذب وأقوى! آه لو نملك دفع نفسينا معاً بقوة الحب إلى ما وراء الحب نفسه!) وهذا هو منطق جيد. . منطق الإنسان!
وأعود بك مرة أخرى إلى قصة أندريه موروا. . . نشأت كلير منذ صباها المبكر تتطلع إلى الحب بعينين حالمتين وقلب ظمآن، ولكن مربيتها الإنجليزية ذات الطبع البارد والوجدان الفاتر كانت تحذرها دائماً من أخطار الحب، ونزوات العاطفة، وغواية الرجال. . كانت كلما حملتها أحلام اليقظة على جناح الأمل إلى أرض الميعاد، ردها صوت المربية العجوز إلى أرض البشر: إحذري يا فتاة إن الرجال ذئاب، تقودهم إلى مهاوي الرذيلة شهوات وغرائز! وشبت كلير عن الطوق ولا يزال في نفسها وسمعها من دروس المربية العجوز رنين وأصداء!. . . أما أبواها فقد تلقت عنهما من الدروس ما طبع نظرتها إلى الحياة بطابع القلق والحيرة والترجح بين قسوة الواقع ومثالية الخيال؛ كان أبوها ضابطاً كبيراً عوده جنود أن يأمر فيطاع، وعودته الطاعة العمياء أن يرى فيمن حوله آلات يدفعها فتندفع!
وهكذا عاشت كلير. . لا يسمح لها أن تبدي رأياً، ولا يؤذن لها أن نعلق على أمر، ولا يتاح لها أن تعترض على وضع من الأوضاع. . أما أمها فكانت امرأة شاذة غريبة الأطوار، لا تعترف بهذه العاطفة المقدسة التي يسميها الناس حباً، وكثيراً ما كانت تضم صوتها إلى صوت المربية العجوز في تحذير ابنتها من لعنة الحب، وخبث الطوية عند الرجال!. . ومما ترك أثراً عميقاً في نفس كلير أنها كانت كلما قادها الخيال إلى حلم كل عذراء، إلى ليلة الزفاف، ارتفع صوت مربيتها ليقول لها في دهشة مقرونة بالعجب والاستنكار: (ليلة الزفاف؟ ألا تعلمين ما هية ليلة الزفاف؟!. . . تصوري مذلة أن تتجرد المرأة أمام رجل، وأن تظل عارية تماماً رهن مشيئته، وطوع إرادته، وتحت رحمته!. . . آه من شناعة هذا كله!)(807/53)
في هذا الجو الملبد بالقسوة، المفعم بالرهبة، الحافل بالشذوذ، عاشت كلير. . . ومن هذا الجو الخانق خرجت إلى الحياة لتواجه الحقائق بعقلية الأب والأم (ومس برنكر) المربية العجوز، عدوة الرجال! ولكنها كانت أبداً تحلم بأرض الميعاد، أرض العبقرية، أرض النبوغ. أرض الوحي والإلهام. . كانت تتمنى أن تصبح يوماً كاتبة عظيمة أو شاعرة عظيمة، وحين لم يتحقق لها شيء من هذا كله، راحت تحلم بأن تكون زوجة لكاتب عظيم أو شاعر عظيم، وما أجملها من أمان عذاب وهي تتخيل نفسها إلى جانبه، تعطف عليه فتوحي إليه، وتلهبه فتلهمه، ويذوقان معاً أول قطرة من قطرات الخمرة المسكرة. . خمرة الفن والمجد والخلود!
ولكن الأيام تمضي بها في طريق كل معالمه صخور وأشواك. . لقد دفعت بها إلى أحضان رجل لا يفهم لغة الفن، ولا موسيقى العواطف، ولا نبضات القلوب؛ وهكذا قدر لكلير أن تعيش في رحاب زوج لا يكاد يرى المرأة إلا من وراء منظار الشهوة المحترقة، الشهوة التي تنشد الجسد ولا تعبأ بنداء الروح، الشهوة التي لا تصغي لصوت غير صوت الغريزة، صوت الحيوانية المتأججة في الأعماق!. كان (ألبير لاراك) ملكا من ملوك المال، وفي بيته عاشت كلير كما تعيش الملكات، ولكن شيئاً واحداً كان يحيل النور في عينها الساحرتين ظلاماً، ويلهب روحها بسياط العذاب، ويفجر الألم في أعماقها تفجيراً. . . هو تلك العلاقة الجنسية (الشائنة) التي يفرضها عليها منطق الحياة والأحياء!. . . هذه الروحانية الشفافة التي كانت تحلم بها في أرض الميعاد، وهذا الهيام العلوي الذي كان يربطها بالسماء، وهذا الشعور المثالي الطليق المحلق في آفاق الخيال، هذا كله قد تحطم على أرض البشر. . . ويا ويح الخيال حين يرتطم بقسوة الحقيقة ومرارة الواقع! حتى هذا الطفل الذي أنجبته لم يثر في حنايا الضلوع عاطفة، ولم يشعرها يوماً بحنان الأمومة؛ لقد كان يذكرها دائماً بأنه أتى إلى الدنيا عن هذا الطريق الذي كانت تبغضه، وتنفر منه، ويرمض جوانحها بالعذاب. عن طريق العلاقة الجنسية (الشائنة)، علاقة (الشقاء المقدس) لا الرباط المقدس! هكذا كانت تشعر كلير، وتنظر إلى منطق الحياة والناس!
أرض الميعاد، ولا شيء غير أرض الميعاد. . أين من يقودها إلى هذه الأرض التي أقامت لها في معرض الفكر صوراً فاتنات، وحشدت لها الخيال يمدها بكل ما في إبداعه من ألوان(807/54)
وظلال!. لقد وجدته، وجدته أخيراً وكأنهما كانا على ميعاد، وجدته في شخص شاعر عظم فتنها برقته، وغزا قلبهابعبقريته، وسحرها بلطف حديثه، وكان اسمه. . (كريستيان منتربيه)!
وفي هذا الظل الظليل من عبقرية الحب وحنان الحبيب، نسيت كلير أن لها زوجاً وبيتاً وابناً. . كل خلوة مع الشاعر، وكل رحلة مع الشاعر، وله ألف نزهة تهيئها الأحلام تحت ضوء القمر!. وتصل أنباء الزوجة إلى الزوج بعد أن أصبحت حديثاً تجهر به الشفاه، وينتهي الأمر بينهما إلى الطلاق. ويعود هو إلى أشجانه، وتعود هي إلى كريستيان منتربيه!
وفي رحاب الزوج الجديد عاشت كلير. . عاشت في رحاب الرجل الذي ضحت في سبيله بالزوج والإبن وكل نعيم يهيئه للمترفين سلطان المال! وكم عطفت عليه فأوحت إليه، وكم ألهبته فألهمته، ولكنها لم تذق معه تلك الخمرة المسكرة. . . الخمرة التي عتقتها الأوهام في دنان أرض الميعاد!. لقد كان الشاعر وا أسفاه بشراً ككل البشر!! وفي تلك الرسالة التي بعثت بها كلير إلى كريستيان بعد اثني عشر عاماً من زواجهما، يصور أندريه موروا بريشة الفنان المبدع، كل ما كان يعتلج في نفس بطلته من صراع رهيب بين الروح والجسد، ظل إلى أن ودع الشاعر الحياة، أقباساً من وهج اللوعة وفنوناً من عبقرية الألم!.
ونقتطف هنا فقرات من هذه الرسالة الملتهبة:
(يا حبيبي الأعز، إنني منذ مقامي هنا قد بدأت ثم مزقت عشر مرات رسالة كنت أريد وكان ينبغي لي أن وجهها إليك منذ وقت طويل. إن ما لدي وعلي أن أقوله مؤلم لي، وأخشى أن يسبب لك الماً. . . إنني لا أظن يا كريستيان أنك تستطيع أن تتصور إلى أي حد قد تألمت منذ اثني عشر عاماً، لقد كنت معجبة بك، لقد كنت أحبك، لقد كنت غير راغبة في أن أكون لك. لا لك ولا لسواك. وما كان أسعدني لو بقيت إلى جانبك صديقة، أو لو استطعت خاصة أن أكون ملهمة، ولكنك لم ترد ذلك وقد استسلمت خافضة جناح المذلة لأني خشيت إذا أنا قاومتك أن أفقدك. . . لقد توقعت منك إذا أنا فرضت على نفسي تضحية إعطاء نفسي، أن أجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت مما لم يحدث، ولم ينكشف لي الزواج عن الوادي العجيب، ولم ألمح أرض الميعاد يا كريستيان!(807/55)
إني أحبك يا كريستيان ولا أحب سواك، وإن من عناصر مأساتي أنني لك وسوف أكون مخلصة إخلاصاً لا يأتيه الشك ولا ينال منه شيء ولو بلغ بي اليأس والقنوط حد المنون. . إنك لو أردت فوضعت في زواجنا من الشعر بقدر ما تصنع في غراميات الأبطال الذين تخلقهم، فربما كنت أبلغ من الحرارة الدرجة العالية علواً خارقاً، الدرجة اللازمة لتصهر تحفظي وتذيب جمودي. . . إن في الحياة الزوجية - على النحو الذي يخيل إلى وكما أتصورها - شيئاً متكرراً، شيئاً فاحشاً يثلج بدني ? وإني أفترض أنني مخطئة، وأن المرأة الطبيعية العادية تجد شيئاً طبيعياً عادياً هذا (الهوى الجسدي الأعظم) كما هو عندكم أيها الرجال كل مساء، من دون أن تغلف هذه الحركات والإشارات في كل مرة بالشعر والقلق والجمال. لكن ما حيلتي وقد خلقت هكذا؟!. . إن أعصابي تحترق شيئاً فشيئاً من تكرار هذه المعاناة، بل إن عقلي نفسه قد اضطرب! وتتصاعد في كياني أبخرة الضغن والغيرة، وأحياناً الحقد، على تلك المخلوقات البريئة التي كل جريمتها عندي أنها تتذوق لذات تأباها على طبيعتي. . .!
بعد هذه الزوجة الشقية التعسة، تجد ست زوجات أخرى لخص الصاوي حياتهن عن قصص ومسرحيات مطولة في الأدب الفرنسي، وسترى أن واحدة منهن قد لقيت من الشقاء والتعاسة ما لقيت كلير، وهي (زوجة الكاتب). . . وأن أخرى قد لقيت من ذل الحياة وقسوة الأيام أضعاف ما لقيت بطلة أرض الميعاد، وهي (زوجة الضابط). . . وأن ثالثة قد واجهت العاصفة بصبر وثبات ورجاحة عقل حتى بلغت الشاطئ، وهي (زوجة الوالي). . . أما مسرحية (أزواجها الثلاثة) فقد كانت بمثابة البسمة المشرقة وسط مآسي الدموع ?. . . أما الزوجة السابعة والأخيرة فبطلة قصة مصرية كتبها الصاوي بقلمه تحت عنوان (زوجة الطبيب)، ولعل هذه القصة هي الثغرة الوحيدة في هذا الكتاب، الثغرة التي ينفذ منها الناقد إلى شخصية الصاوي الفنية ككاتب قصة. . . لقد كان فيها مجال رحب للخيال المفتن ولكن الصاوي وجه كل عنايته إلى الإطار دون أن يحفل كثيراً بتلوين الصورة، ومن هنا فإن الحركة النفسية قد اعتراها شيء من الهمود، مبعثه تلك اللمسات السريعة العابرة في مواقف تحفل بعنف الصراع وفورة العاطفة!
أنور المعداوي(807/56)
القَصصُ
الخطاب
للكاتب الإنجليزي كولين هوارد
هتف الرجل الصغير قائلا وقد بدت على محياة دلائل الارتباك وهو واقف يجوار الصندوق - أني مسرور لرؤيتك ?
فتوقف وتلقت إليه قائلا - مرحباً. . . السيد سيمسن، أليس كذلك؟
كان سيمسن وزوجه حديثي العهد بالحي، ولم أكن قابلتهما أنا وزوجي إلا مرة أو مرتين.
وأجابني سيمسن قائلا (أجل - هذا صحيح!) وكان يبدو أنه مسرور لتعرفي عليه سريعاً. واستطرد قائلا (أني لأتساءل: هل أستطيع أن تقرضني ثلاثة أنصاف من البنسات؟) فدفعت بيدي أبحث في جيبي، وأنا أسمعه يقول (إن زوجتي قد سلمتني هذا الخطاب لألقيه في صندوق البريد، ولكني لاحظت الآن فقط أن المظروف خال من طابع البريد).
قلت مرفها - خل عنك. . . فكثيراً ما يحدث ذلك.
قال يجب أن يسافر هذا الخطاب الليلة - لابد أن يسافر ?
ولا أظن أني سأجد مكتباً للبريد مفتوحاً في هذا الوقت المتأخر من الليل. أتظن ذلك؟
كانت الساعة قد أشرفت على الحادية عشرة، فأمنت على أقواله.
واستطرد يقول - لذلك فكرت أن أحصل على طابع بريد من هذه الآلة، عندما وجدت أني لا أحمل نقوداً صغيرة
فقلت له بعد أن بحثت في جيبي عبثاً - أني شديد الأسف. أخشى ألا يكون معي مثل هذه النقود.
فصدرت عنه آهة تدل على الأسف، قلت - لعل عابر سبيل يمر. . . فقاطعني قائلا - لا يوجد أحد. . .
ونظرت إلى جهة من الطريق ونظر هو إلى الجهة الأخرى. ثم التفت إلى ناحيتي والتفت إلى ناحيته دون جدوى. وأخيراً هممت بالرحيل. ولكنه يبدو وحيداً مرتبكا وقد أمسك بيده مظروفا أزرق اللون فلم أقو في الواقع على تركه وهو في هذه الحال. فقلت له - دعني أخبرك ما الذي نفعله. من الأفضل أن ترافقني إلى داري. أنه على مقربة من هنا.(807/58)
وسأحاول أن أحصل لك على نقود صغيرة.
فقال سيمسن - أنه للطف منك حقاً!
وفي الدار، استطعت بعد لأي أن أعثر على ثلاثة أنصاف من البنسات فأعطيتها إياه فأخذها مني شاكراً، ثم جعل يدون في مذكرته - بطريقة رجال الأعمال - قيمة القرض، ثم يعود إليّ. وقال لي - إني آسف لإزعاجك مرة أخرى. الحقيقة إني لا زلت غريباً عن هذا الحي، وهأنذا قد ضللت الطريق. لعلك ترشدني إلى مكتب البريد.
وحاولت إرشاده، وقضيت بعض الوقت أشرح له موقع المكتب دون جدوى. وأخيراً وجدت نفسي في حيرة كحيرته عندما صرح قائلا - أخشى أني لم أفهم. . . فقاطعته قائلا - من الأفضل أن أرافقك. فعاد يردد قائلا - إنه للطف كبير منك ?
وسرنا في طريقنا حتى وصلنا إلى مكتب البريد. ووضع سيمسن قطعة من النقود في ثقب الآلة، فسقطت داخلها في صليل عال دون أن يظهر للطابع أي أثر. ونظر إليّ سيمسن نظرة حائرة وكأنه يتساءل ما الذي يستطيع عمله. فشرحت له قائلا (أن الآلة فارغة من الطوابع) فتأوه في أسف. اتضح لنا أن طوابع أنصاف البنسات قد نفد أيضا. ووقف سيمسن مضطرباً حائراً. وإذا بالمظروف يسقط منه ويقع على الأرض فاستعاده وقد تلوث بالوحل. وصاح في انفعال (انظر، لقد تلوث بالوحل!) ثم طرق على الآلة الفارغة في حنق وهو يقول (حسن، ما الذي نستطيع عمله الآن؟) فاستنتجت من سؤاله هذا أنه قد أشركني في حيرته، فسألته) أمن الضروري أن يسافر هذا الخطاب الليلة؟). فأجاب (نعم! نعم إن زوجتي قد ألحت على أن ألقيه هذه الليلة. قالت ولكن من الأفضل أن ألقيه الليلة إذا كنت تعرف ما أعني).
وكنت أعرف ما يعنيه من قوله هذا، أو على الأقل أعرف زوجه مسز سيمسن. وتذكرت فجأة ما جعلني أقول له (أتعرف. أن عندي دفتر طوابع للبريد في داري!)
فقال في لهجة لا تخلو من التقريع (كان يجب أن تفكر في ذلك من قبل!).
فقلت (من الأفضل أن نسرع وإلا فاتنا موعد سفر الرسائل)
وأسرعنا الخطى، وكان هذا من حسن حظنا، لأنه أستغرق بحثنا مدة طويلة قبل أن نجد الدفتر وإذا به خال من طوابع البريد.(807/59)
وجعل سيمسن يقلب الفكر وهو يقول (يا لخيبة الأمل!)
قلت (عجباً ? أكاد أقسم أن الدفتر كان ممتلئا بالطوابع!).
فسأل في حزن (ولكن. . . ماذا أفعل في خطابي؟).
قلت (سنضطر أن نلقبه دون طابع) وكان اهتمامي بذلك الخطاب قد بدأ يقل تدريجيا.
قال وقد عاوده الأمل (أوه - أأستطيع أن أفعل ذلك؟!)
قلت (ما الذي تستطيع عمله خلاف ذلك؟ كل ما هناك أن من يتسلم الخطاب يدفع ضعف قيمة إرساله في الصباح الباكر). قال (إني لا أود أن يحدث ذلك).
قلت (ولا أنا. ومع ذلك. فليكن. أنها متاعبه وليست متاعبنا. أسرع الآن وإلا فاتنا آخر موعد لاستلام البريد.)
وأسرع سيسمن في حماسة، فصحت به (انتظر. . . إن المكتب في الناحية الأخرى من الطريق).
فعاد وهو يلهث قائلا (آسف. أظن أني ضللت الطريق مرة أخرى).
ولم أحاول أن أشرح له ثانية، بل أمسكت بذراعه في قوة وقدته إلى مكتب البريد في اللحظة التي كاد يتم فيها استلام الرسائل - وكنت أعرف أني بمرافقتي إياه سأوفر على نفسي بعض الوقت - ثم ألقى بخطابه بين الرسائل الأخرى، وأخيراً عدت به إلى داره.
وقال وهو يودعني: (أشكرك شكراً جزيلا على كل ما فعلته أني لا أتمالك من التفكير. . . ما الذي كنت أفعله بدونك؟. .
أن ذلك الخطاب. . . أنه لا يحوي سوى دعوة للعشاء موجهة إلي. . . يا الهي!).
- ماذا. . . ما الأمر؟.
- لا شيء. . . لقد تذكرت أمراً. . .
- ما هو؟
ولكنه لم يفه بكلمة، بل اتسعت عيناه وهو يحدق فيّ طويلا؛ وأخيراً حياتي وأسرع إلى الداخل.
وعجبت وتساءلت وأنا أسير عائداً إلى داري ما الذي تذكره؟ ولكن. . . ما لبث أن زال عجبي في الصباح الباكر عندما دفعت لساعي البريد ثلاثة بنسات قيمة استلامي مظروفاً(807/60)
أزرق اللون بغير طابع. . قد تلوث بالوحل!!
محمد فتحي عبد الوهاب(807/61)
العدد 808 - بتاريخ: 27 - 12 - 1948(/)
الأسرة المنبوذة
- 2 -
نعم يا سيدتي أذكر أني كنت وأنا صبي أمر في طريقي إلى الكتاب بمنزل المعلم يوسف النجار فأجده كل صباح جالساً تحت جداره في يمناه قدومه وفي يسراه يد فأس يسويها، أو بسخة محراث يقويها، أو ورش طنبور يجدده؛ وأصحاب هذه الأدوات من شباب القرية قيام من حوله أو قعود ينتظر كل منهم دوره ليقدم آلته أو ليسأل حاجته. وكان مظهر النجار المرح ومنظر حلقته الصاخبة يغريان صبيان الكتاب بالوقوف فيقفون ليسمعوا هذا يستحثه بالسب لأنه عوقه عن الخولي، وذلك يبادره بالعتب لأنه غشه في خشب الزحافة، وبذلك يركبه بالدعاية لأنه غبنه في ثمن النورج؛ ثم ليروا المعلم يوسف مكباً على عمله، ووجهه متهلل بالضحك، ولسانه متحرك بالمزاح، يجزي على السباب بالنكتة اللاذعة، ويحتج على العتاب بالحجة البارعة، ويرد على الدعابة بالسخرية المرة. حتى إذا انصرف الفلاحون إلى حقولهم، انصرف هو إلى دورهم، فتسأله هذه إصلاح المطرحة، وتسأله تلك تثبيت الباب؛ وهو يجيب كل طالب بابتسام، ويؤدي كل عمل باهتمام؛ لأنه يقوم لأهل القرية جميعاً بنجارة البيت والغيط مستأثرة فيأخذ من كل أسرة كيلتين في موسم القمح وكيلتين في موسم الذرة. ومن هذه الجباية السنوية يجتمع له ثروة من الحب تظهر بركتها في عيشه الرضي وباله الرخي وزيه الجميل واستبد النجار الوحيد بخير البلد وارتفع به الغنى إلى طبقة أعيانه. ونظر يوسف في أمره فلم يجد في نفسه حاجة يتمناها على الله غير زوجة تكون لعشه الحالي سكينة وزينة. والتمسها في فتيات القرية فلم يغلها، لأن الفقيرة أقل مما يبني، والغنية أكثر مما يستطيع. فأشارت عليه أمه العجوز أن يتزوج من قرية أخواله وهي على بعد كيلين من قريته؛ فعله نصيبه على فتاة رأيناها بعد زفافها عليه ودخوله بها فإذا منظرها يملأ العين ويشغل الفؤاد: جسم بض ممتلئ يكاد الثوب من ربه يلتصق به، وقوام سبط معتدل يتثنى تثني الغصن الأملد، ووجه مشرق اللون كأن على كل صفحة من صفحتيه وردة جورية، أو تفاحة أمريكية، وساعدان عبلان يحليهما، من الرسغين إلى المرفقين، أساور من الزجاج الأحمر المذهب، ويدان رخصتان تزينهما أسطار من الوشم الأخضر المنمنم وهندام مدني جريء، ظل حديث الدور والمصاطب مدة طويلة!(808/1)
كثر الفضول حول دار النجار، فكل امرأة تريد أن ترى وكل رجل يحب أن يسمع، ومضت الأيام وحال بعض الجارات على بعض يقلن وهن يملأن جرارهن من النهر: إن لامرأة المعلم يوسف لوناً حين يتنفس الصبح، ولوناً حين يمتع الضحى؛ لونها في طلعة الشمس أسمر حائل، ولونها في ميعة النهار أزهر مشبوب!
ثم مضت الأيام وقالت جارة لصواحبها وهن يحملن الحطب إلى البيوت: لقد رأيت بعيني محمد العطار يقف على باب النجار ويعطي زوجه شيئاً في السر فأخذته مسرعة وهي تتلفت، وغيبته في ثوبها وهي تهمس، ومحمد العطار هذا بائع جوال ينتقل بحماره وخرجه بين القرى المتجاورة، فيبيع اللبان اللدن والصابون الممسك والمناديل المزركشة والغوائش الملونة، وسلعاً أخرى تتصل بالزينة والتجميل يسار بها النساء، فينفرن منها ويطول حديثهن عنها.
ثم مضت الأيام وجاءت جارة أخرى تعرض على جارتها وهن يخبزن رغفانهن في الفرن المشترك. حقة صغيرة من الصفيح الأخضر على غطائها المستدير مرآة، وفي جوفها الفارغ آثار من صبغ أحمر؛ وتقول أنها التقطت هذه الحقة خفية من دار النجار؛ وهي تؤكد أن هذا الأحمر هو (حسن يوسف) الذي طالما أغراهن به العطار؛ ونرجح أن هذه المرأة الفاجرة تصبغ به وجهها؛ ولا يجرؤ على تغيير خلقة الله إلا الغوازي في القرى وبنات الهوى في المدن. ولابد أن تكون هي من هؤلاء أو من أولئك.
وانتشر الخبر في القرية انتشار الظلام، فلم يبق من لا يعرف أن زوجة المعلم يوسف تستعمل حسن يوسف.
ثم مضت الأيام وغدوت ذات صباح إلى الكتاب ومررت في طريقي إليه بدار النجار فإذا الحال غير الحال والمنظر غير المنظر: تقوض المجلس وأقفر المكان، فلا الرجل قاعد تحت جداره ينجر ولا الجمع حاشد من حوله ينتظر! وأسأل نفسي وأسائل الصبيان: ماذا صنع الدهر بالمعلم يوسف؟ لم يعد رجل يستأجره لعمل، ولم تعد امرأة تزوره في حاجة! فيقولون لقد قاطعه القريب وتحاشاه البعيد، لأنه تزوج من الخبيزة! والخبيزة كما علمت من بعد، اسم يطلقه أهل المنصورة وضواحيها على المواخير، ولمواخير الفسق ما لمواخير اليهود من تعدد الأسماء في مختلف الأنحاء، على مسماها القذر الواحر.(808/2)
وطال احتباس الرجل في بيته وتعطله عن عمله حتى صدئ قدومه ومنشاره، وبيع في الدين متاعه وعقاره. فاقترحت عليه أمه أن يطلق زوجه إبقاء على سمعته وصحته وصنعته؛ فقال لها في إباء وألم: وما ذنب هذه المسكينة يا أماه، وإنك لتعلمين كما أعلم أنها طاهرة الثوب قاصرة الطرف، وإنما جنى عليها هذه الجناية تقليدها البريء لابنة عمها المتزوجة في القاهرة. وقد حرمت على نفسها منذ أن شاع ما شاع أن تتزين حتى بالزجاج، وأن تتجمل حتى بالكحل. وأرى عندي أن نهاجر تحت الليل إلى عزبة من العزب المنشأة في أطرف بلقاس فنستأنف هناك حياة جديدة وعسى الله أن يجعلها بفضل براءتها واستكانتها موفقة سعيدة.
وأصبح الناس فإذا دار النجار مفتوحة بعد أن ظل بابها مغلقاً أثناء الأنهار سنة وشهرين لم يدخل منه داخل ولم يخرج منه خارج. فنفذ المارون بأبصارهم إلى دهليزها فلم يلحظوا حركة تبدوا ولم يسمعوا صوتاً ينبعث؛ فتسللوا إليها حذرين مستطلعين فلم يجدوا وا أسفاه إلا ربعاً أوحش بعد أن أنس، وروضاً صوح بعد بهجة، وشملاً تبدد بعد اجتماع.
ثم مضت الأيام وتعاقبت الأعوام وفعل الزمن فعله في العقول والميول فأصبحنا فإذا الرجل هو الذي يشتري الأحمر لزوجته لتصبغ، ويخلع المعطف عن ظهر أمه لتعرى، ويشعل السيجارة لأخته لتدخن، ويقدم المراقص إلى ابنته لترقص!!
ما أقربنا من ذلك الزمن وما أبعدنا عن تلك الحياة!! كان الولد يشب ثم يتزوج ثم يولد له ويبتليه الله بالتدخين فلا يستطيع أن يعلن ذلك لأبيه، ولا يجرؤ على أن يدخن في حضرة من يكبره. وكان الأخوة لأب وأم يعيشون في دار واحدة ثم لا يرى أحدهم زوجة الآخر. وكانت المخدرة إذا سهلت من حجابها، أو تبرجت بين أترابها، انتفت منها العشيرة وتحامتها الجيرة. ثم أمسينا فإذا المرأة هي التي تدبر الأمر وتسير العرف وتحجب الرجل. وإن مجلسي منكما هذا المجلس، وظهوركما على هذا الظهور، لشاهدان على هذه الحال!
فقالت جارتاي بلسان أوشك أن يكون واحداً في لفظه: تلك سنة الحياة يا أستاذ! قدم ينسخه تجدد، وتأخر يدفعه تقدم، ورق يخلفه تحور! فقلت لهما إن ألفاظ التجدد والتقدم والتحور كألفاظ الحق والعدل والاستقلال، لها في كل ذهن معنى، وفي كل نظام صورة، وفي كل أمانة دلالة. لقد تقدمنا في التعليم ولم نتقدم في التربية، وجددنا في الصور ولم نجدد في(808/3)
الفكرة، وتحررنا من السوط ولم نتحرر من الهوى، - وهنا سحبت جارتي اليسرى من محفظتها سيجارة أخرى، ثم بحثت عن علبة الثقاب فلم تجدها، فاضطررت إلى أن أقطع الحديث وأدور بين الجماعة، لألتمس لها من بعضهم ثقاباً أو ولاعة!!
أحمد حسن الزيات(808/4)
سيكولوجية الحظ والنجاح
للدكتور فضل أبو بكر
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً=والحظ عني بالجهال في شغل
(الظفراني)
الحظ أو البخت أو الجد أو غير ذلك من المترادفات العديدة التي تعني حسن الطالع والمصادفة الموفقة، إنما هي ألفاظ كثيرة الانتشار تجري على كل لسان بل وفي كل زمان ومكان.
والاعتقاد في الحظ من سعيده أو سيئه ليس مقصوراً علينا نحن معشر الشرقيين دون غيرنا من أمم الأرض؛ فالغربيون بالرغم من دعوتهم بأنهم أكثر منا واقعية - وإن كانوا أجنح إلى المادية - يؤمنون أيضاً بالحظ وربما سبقونا في هذا المضمار.
كلمة الحظ يرددها خاصة الناس وعامتهم. يرددها الغني في لهفة وجشع يود المزيد ويخشى الفقر والإملاق، وهو يشكر للحظ ابتسامته في كثير من الأحيان، لأن الثراء يجذب الثراء من غير كبير عناء، وإنما العناء والمشقة هما في بداية الأمر عند وضع حجر الأساس لصرح ذلك الثراء. والأمل وما فيه من حياة لمحتضر، ومال لعوز، وسعادة لشقي، وأنس لشجي؛ هذا الأمل يخول الفقير المعدم أن يترقب ابتسامة الحظ وإن كانت ابتسامة شاحبة حيناً وعبوساً وتنكراً من جانب في معظم الأحيان فيتبرم بحظه ويشكو من قسوة دهره.
ظاهرة الحظ قديمة كالأزل، فقد ندب آدم - عليه السلام - حظه وشكا من سوء طالعه الذي أوقعه في الخطيئة بأكله من الثمرة المحرمة وما ترتب على ذلك من عقوبة وحرمان هما فقدانه الفردوس وخروجه منه، فكانت جناية جناها على نفسه وعلى بنيه من بعده.
والإنسان من أقدم العصور قد شخص بصره إلى السماء يرصد نجومها ويترقب ما يجري في عالمها، يسائلها عما يخبئه له الغيب من حظ سعيد أو نحس يحل به. وقد تمخض عن ذلك علم (التنجيم) ثم تطوره بمرور الزمن إلى علم ثابت الأساس هو علم الفلك الحديث. ولأسباب مشابهة - إن لم تكن مطابقة - بحث عن (حجر الفلاسفة) الذي إذا ما لامس معدنا ما صيره ذهباً فجلب بذلك السعد والغنى؛ وقد كان ذلك من أكبر العوامل في وجود(808/5)
علم الكيمياء القديم الذي تطور منه علم الكيمياء الحديث. . .
وتلك التمائم والأحجبة التي لجأ إلى استعمالها الإنسان منذ أزمان بعيدة، وما زالت بعض الشعوب البدائية تستعملها إلى يومنا هذا، إنما ترمي كلها إلى غاية واحدة هي جلب الحظ السعيد ودرء النحس والأذى.
كذلك العرب، كانوا في جاهليتهم يتفاءلون ويتشاءمون، يؤمنون بحسن الحظ ويتقون شر النحس وسوء الطالع، يتشاءمون من بعض الحيوانات وخاصة الطيور مثل البوم والغربان. وهاهو شاعرهم يقول من قصيدة يعاتب فيها قومه ويفاخر بتسامحه وبكونه يدرأ السيئة بالحسنة:
وإن زجروا طيراً بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيراً تمر بهم سعداً
بيد أن بعض الناس، برغم فكرة الحظ السائدة - أو ظاهرة كما يحلو لي أن أسميها - لا يؤمنون بالحظ، ويعتقدون بأن الإيمان بالحظ فيه شيء من ضعف الإيمان بالقضاء والقدر وإن كنا لا نشاركهم هذا الرأي، إذ أن الاعتقاد في القضاء والقدر لا ينافي بحال من الأحوال الإيمان بوجود السعد والنحس.
وهناك بعض من الناس يفكرون بالحظ ويحسبونه ضرباً من الخيال والخرافة ورأيهم فيه هو رأيهم في (الفول والعنقاء) وينعتون من يؤمن بالحظ (بالمشعوذين) والمهووسين.
وفئة أخرى تؤمن بالحظ في قرارة نفسها وتنكر ذلك أمام غيرها لأن في ذلك خروجاً عن العرف على سبيل (خالف تعرف) كما أن في ذلك - كما يتوهمون - دليلاً على القوة والاعتماد على النفس والاعتداد بها.
بعض ظواهر الحظ ومتناقضاته:
نشاهد في كثير من الأحيان أن نفراً من الناس قد يلازمهم الحظ السعيد طيلة حياتهم فيفوزون بالجاه والثراء ويصلون إلى القمة من أقصر طريق وبغير عناء شديد، مع أن مؤهلاتهم لا تتناسب مع ما حصلوا عليه بل تتنافى معه في بعض الأحيان، وقد يختلف الناس في تعليل ما يشاهدون ولكنهم يتفقون جميعاً بأن ذلك النفر محظوظ سعيد.
وترى أيضاً بعض ذوي الأعمال من الرجال يغامرون في مشروعات ضخمة ينفقون فيها المبالغ الكبيرة من المال من غير وجل ولا خوف مستبشرين متفائلين، يكاد الواحد منهم(808/6)
يجزم مقدماً بنجاحه في شيء من الإلهام وقد تسفر النتيجة في معظم الأوقات عما توقعوه، مع أن نجاحهم قد لا يكون ناتجاً عن تفكير أو تبصر في عواقب الأمور، ومثل هذا النفر يرسم لهم الحظ خطاً يسيرون عليه سيراً (آلياً) بخطوات ثابتة.
كذلك ما نشاهده حول (الموائد المستديرة) للعب الميسر ترى بعض اللاعبين قد تكاثرت أرباحهم وقد يكون ذلك ناتجاً عن كونهم أمهر من خصومهم، ولا سيما في بعض الألعاب التي تحتاج إلى مهارة مثل النرد والدومينة و (البردج)، ولكن هناك أنواعاً من الميسر لا تحتاج إلى حذق أو دراية في كثير أو قليل مثل أوراق (اليانصيب) إذ من الناس من يفوز بربحها مرات عديدة مع أن غيره قد يكون أكثر مواظبة على شرائها، وقد يشتري منها الشيء الكبير ومع ذلك يخسر على الدوام.
ومن الناس من يلازمهم النحس طيلة الحياة، رغماً عما يتصفون به من كفاية ودماثة أخلاق؛ وإذا حصلوا على شيء من الجاه، فهو أقل بكثير مما يستحقون. والكاتب البلجيكي (ماترلنك) وهو كاتب درامي مشهور نال جائزة نوبل سنة 1913 يضرب لنا مثالاً ناطقاً لبعض منكوبي الحظ في وصف جاء منه: (أتيح لي أن أتتبع عن كثب حياة صديق يائس خانه الحظ ولازمه النحس في كل خطوة خطاها. كان مثالاً لدماثة الخلق ورجاحة العقل، ورغما عن ذلك فقد أخفق في معظم ما تصدى له من عمل، كما كان يجيد العاب الفروسية، ويحسن استعمال المهند القرضاب ومع ذلك فقد هزمه خصم هزيل ثلاث مرات متوالية وجرح في كل مرة، وكان ذلك على أثر خصومة سياسية أفضت بهما إلى المبارزة وألجأتهما إلى تحكيم السيف، كما تخلى عنه معظم أصدقائه رغماً عن وفائه لهم إذ الناس ينفرون ممن ينفر منهم الحظ، ويقبلون على من يقبل عليهم. ولم تكن حياته الغرامية بأسعد حظاً من حياته الاجتماعية، فقد أحب وأخلص في الحب ولكنه لم يجن من حبه إلا الخيانة ولم يحصد غير الغدر).
ظاهرة قانون التسلسل والتتابع:
يقول المثل (إن المصائب لا تأتي فرادى)، وهو يطابق تماماً المثل الفرنسي نشاهد في كثير من الأحيان بأن المصائب تتلاحق ويسبب بعضها بعضاً، كما أن النجاح والسعادة يفضيان إلى غيرهما في شبه سلسلة ذات حلقات سعيدة.(808/7)
ويمكن أن نطبق هذا القانون على سيرة بعض عظماء الرجال مثل هتلر ونابليون وغيرهما من كبار الناس. ولنأخذ مثلاً لذلك نابليون بونابرت.
لما كان نابليون طالباً في المدرسة الحربية بباريس قال يوماً بعض أساتذته: (إن هذا الطالب القرصقي جنسية وأخلاقاً سوف يتبوأ مكاناً عالياً إذا واتاه الحظ). وقد صدقت نبوءة ذلك الأستاذ وسطع نجم نابليون وتألق.
امتاز نابليون في حصار ميناء طولون سنة 1793، وهزم الإنجليز وأنصارهم من الفرنسيين الملكيين، ورقي إلى وظيفة جنرال على اثر ذلك، كما انتصر انتصاراً باهراً في حملته على الإيطاليين سنة 1796 ثم فوزه على النمساويين سنة 1804، ثم هزيمته للروس سنة 1805، وبروسيا الشرقية سنة 1806، ثم هزيمته لإسبانيا والبرتغال بعد ذلك، وهكذا أضحى نابليون سيد أوربا وأعظم رجل بها.
ثم بدأ يخونه الحظ ويأفل نجمه رويداً رويدا وكان بدء ذلك بعد حملته الغير موفقة ضد الروس سنة 1812، إذ حلت بجيوشه هزيمة منكرة في سهول روسيا المترامية الأطراف المكسوة بالجليد ففتك البرد بجيوشه التي لم تجد مأوى ولا قوتاً؛ وبعد ذلك هزيمته في (ليبزج) سنة 1813 واحتلال فرنسا سنة 1814 ونفي نابليون في جزيرة (ألبا)، ثم فراره منها وجمعه لفلول جيوشه التي هزمت هزيمة نكراء في واقعة (واترلو) سنة 1815 ونفيه في جزيرة (سنتهيلانة)، حيث ظل بها يعاني من قسوة الطقس آلاماً جسيمة، ومن قسوة الهزيمة والإخفاق آلاماً نفسية، حتى قضى نحبه سنة 1821.
إن سيرة هذا البطل تخضع لقانون التتابع في صورة واضحة. نجاح متلاحق متواصل يجذب بعضه بعضا حتى إذا ما وصل إلى القمة أعقبه هبوط متواصل أيضاً كما لو كانت الجاذبية تعمل عملها بجذبها إلى مركزها كل جسم من الأجسام، وكما تفعل مع جسم قذفته إلى أعلى طبقات الجو فهو يصل إلى غايته القصوى، ثم بفعل الجاذبية يهبط في خط أقرب إلى الشكل البيضاوي على حد قول الشاعر:
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم
أو قول الآخر:
ما طار طير وارتفع ... إلا كما طار وقع(808/8)
تبدو هذه الظاهرة أي ظاهرة قانون التتابع غريبة حقاً، وأكبر عامل يمكننا أن نعلل به هذه الظاهرة هو الثقة بالنفس والإيمان بمقدرتها. إن الثقة بالنفس أساس كل نجاح، والنجاح بدوره يزيد من تلك الثقة ويقوي الإيمان، فيتضاعف المجهود ويصدق العزم، وهكذا يجذب النجاح بعضه بعضاً في معظم الأحيان كما يحدث عندما تضعف الثقة بالنفس؛ يحدث الإخفاق وتتوالى المصائب والإخفاق بدوره يزيد من إضعاف الثقة بالنفس والروح المعنوية، وهكذا في شبه دائرة خبيثة حتى تنعدم نهائياً الثقة بالنفس حيث لا يكون غير الهبوط والإخفاق.
الأحاسيس التي تبشر بالسعد أو تنذر بالنحس:
هذه ظواهر مشاهدة لدى الكثير من الناس وقد قصت علينا سيدة تشتغل بالتجارة أنها تشعر مقدماً بما إذا كان التوفيق سيحالفها في عملها أم سوف يخونها الحظ، فزعمت أنها في الحالة الأولى تشعر بنشاط يغمرها ويشر يشع من محياها كما تجد في نفسها مقدرة على التعبير والإقناع وقلما يفلت الزبون - في مثل هذه الأحوال - من قبضتها كما أن توفيقها في إبرام صفقة رابحة يرفع من روحها المعنوية ويكثر من تفاؤلها.
كذلك تروي لنا السيدة المذكورة أنها تشعر في أحيان أخرى بانقباض في النفس وقلق - علمتها التجارب بأنهما مقدمة لعدم التوفيق والنحس فيما تقوم به من أعمال، وإنها لتجزم مقدماً - في مثل هذه الأحوال بالخسارة، أو على الأقل بقلة الربح.
ومثل هذه الأحاسيس يشعر بها لاعبو الميسر، بل هم أعرف بها من غيرهم.
وهنالك ظاهرة (التخاطر) التي أثبت علم النفس وجودها كما أعترف وأقر بها (بيرجسن)، وهي أن ترى رأي العين صديقاً أو قريباً بمناسبة حادث خطير وقع لهما أو تسمع صوتهما وأنت في كلتا الحالتين متمتع بجميع قواك العقلية، وفي حالة صحو تام.
كذلك قد يكون هذا التخاطر في صورة أحلام، وقد تنبئ هذه الظاهرة - سواء كانت في حالة يقظة أو في نوع من الأحلام - بما سوف يحدث من خير أو شر.
بعض الطرق المؤدية للنجاح:
1 - الاعتماد على النفس: هو أساس كل نجاح في الحياة وهو ناتج عن القوة والثقة(808/9)
بالنفس، كما أن عدم الثقة بالنفس هو علامة الضعف ومدعاة للتردد؛ والتردد لاشك فاشل على حد المثل الإنجليزي القائل
2 - تجنب سوابق الإخفاق: إن الإخفاق سابقة تجر إلى غيرها لأن في ذلك إضعافاً للثقة بالنفس، وإذا تكررت فقد تخلق عقدة نفسية عصية الحل ومركباً للنقص يصعب الخلاص منه كما يحدث في (فسيولوجية) الهضم مثلاً إذا أصيب إنسان مرتين أو ثلاث مرات متوالية بسوء الهضم فقد يخلق في نفسه نوعاً من الخوف كفيلاً بإحداث اضطراب قد تطول مدته.
لهذا كان على الطالب الذي يريد أن يدخل في امتحان عام - كالمسابقات - ألا يقدم على ذلك إلا بعد تحضير كاف يكفل له النجاح وألا يقول - كما يقول الكثيرون -: دعني اجرب حظي.
دكتور فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا(808/10)
إسماعيل في شعر شوقي
للأستاذ أحمد احمد بدوي
لأسرة شوقي صلة قديمة بإسماعيل سمحت له في إحدى قصائده أن يقول إنه ولد ببابه، وكان لأبيه وجده من قبل، صلة بآباء إسماعيل، وقال الشاعر في مقدمة كتابه الشوقيات: (أخذتني جدتي لأمي من المهد، وكانت منعمة موسرة فكفلتني لوالدي وكانت تحنو علي فوق حنوهما، وترى لي مخايل في البر مرجوة حدثتني أنها دخلت بي على الخديو إسماعيل وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه، فطلب الخديو بدرة من الذهب، ثم نثرها على البساط عند قدميه فوقعت على الذهب أشتغل بجمعه واللعب به، فقال لجدتي: اصنعي معه مثل هذا، فإنه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض قالت: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي؛ قال: (جيئي به إلى متى شئت. إني آخر من ينثر الذهب في مصر) وتلك القصة تدل ما كان بين أسرة الشاعر وعاهل مصر الكبير من رباط وثيق. ومن المؤكد أن لو كان امتد الزمن بإسماعيل في مصر، حتى نضجت مواهب شوقي في الشعر لكان شاعره الأثير، فقد عرف هذا العاهل برعايته للأدب وحبه للشعراء، ولكن الأيام لم تلبث أن أبعدته عن العرش سنة تسع وسبعين وثمانمائة وألف، وشاعرنا طفل لا يعدو العاشرة من عمره بكثير أخذ الزمن يمضي، وإسماعيل مبعد عن بلاده حتى وافته منيته في مارس سنة خمس وتسعين وثمانمائة وألف، واستقبلت مصر جثمانه؛ وهنا يثور الشعر في صدر شوقي أمام هذا المشهد الفذ من مشاهد الحياة، فيضع قصيدة إسماعيل، يحدثنا فيها عن حياته أو عن العبرة في حياته؛ وإن الجو الذي تخلقه هذه القصيدة، وتحيط به القارئ جو حزن وأسى، والشعور الذي تبعثه في النفس شعور أسف على أن تكون هذه الخاتمة خاتمة ملك ملأ عين الدنيا وسمع الزمان حيناً طويلاً من الدهر.
ليت شعري أكانت تلك الحياة غير حلم امتد ما شاء له أن يمتد حتى إذا انقضى الحلم لم يجد صاحبه شيئاً منه في يديه.
حلم مده الكرى لك مداً ... وسُّدى تبتغي لحلمك رداً
وحياة ما غادرت لك في الأحي ... اء قبلاً، ولم تذر لك بعداً(808/11)
ولم لا تكون حياة إسماعيل تلك الحياة، وقد جمعت الضدين: السعادة والبؤس، وعظمة السلطان، وارتفاع الشأن، ثم الانزواء في مكان ناء حيث لا أمر ولا نهي، ولا تاج، ولا صولجان:
لم ير الناس مثل أيام نعما ... ك زماناً ولا كبؤسك عهداً
كنت إن شئت بدل السعد نحساً ... وإذا شئت بدل النحس سعداً
قائماً بالعطاء والسلب فينا ... كالليالي أو أنت أكبر أيداً
يتمشى القضاء خلف نواهي ... ك حديد الأظفار يطلب صيداً
ويظل السراة منك كريم ... رضيت رفده العناية رفداً
ومعز يصير القيد تاجاً ... ومذل يصير التاج قيداً
أنت من مثل السعادة لو لم ... يك ذاك النعيم أخذاً وردًَاً
ولقد أنصف شوقي إسماعيل وكان صريحاً عندما وصف نفسية إسماعيل بأنها نفسية أبية تبغض أن تجد يداً أجنبية تحاول أن يكون لها نصيب في ملكه وسلطانه، فالعاهل العظيم لا يؤوده الدين، ولو كان في ضخامة الجبال، ولكن الذي لا يستطيع احتماله، ولا يطيق عليه صبراً، أن يجد دائنه يحاول أن يقوض عليه سلطانه أو أن يسلبه شيئاً من حرية الرأي والعمل:
قصد الشاعر منك ركن المعاني ... ورمى طودها الذي كان طودا
والأبي الذي أبى العصر في الملك ... شريكاً لو أن ذلك أجدى
لم ينؤ بالجبال ديناً ولكن ... ودَّ منه الغريم ما لم يودَّا
ولقد رجع شوقي القهقرى، فعاد إلى ذلك العهد الذي استقبلت فيه مصر ارتقاء إسماعيل عاقدة عليه كبار الأماني والآمال وهاهو ذا الأمير النبيل يحقق آمال وطنه فيه بتلك الهمة العالية التي تريد أن تحيل الجهل علماً، والضعف قوة؛ فهاهي ذي يده تشيد في كل يوم للعلم صرحاً، وتنشئ للوطن جيشاً، وتقيم مظاهر الحضارة والعمران لتصبح مصر جديرة بأن تنال ما هي أهل له من عظمة وجلال، وهاهو ذا العاهل العظيم يصغي إلى أمنية بلاده في الحكم النيابي، فتنال الأمة ما تتمناه، ويصون لها مظهرها الخارجي، فوفوده تترى إلى الملوك تنبئهم بأن مصر استيقظت تريد أن تظفر بمكانها نبيلة كريمة، وإذا كان لسلاطين(808/12)
الترك على مصر شيء من الأمر، فهدايا إسماعيل تعرف كيف تستخلص حقوق مصر من أيديهم، والمال في سبيل الآمال رخيص مهما كان كبير المقدار. استقبلت مصر إسماعيل يوم ولايته بقلب عامر بالآمال:
لبس الشرق من لقائك تاجاً ... وتلقى أعوام رشدك عقدا
وجرت فيه بالسعود جوار ... لك منشين مصر ملكاً ومجدا
كل يوم صرح مشيد للعل ... م، وظل يمد في مصر مدَّا
ولواء، وعدة، وعديد ... ونظام نرى به للشهب جندا
وغزاة في البيض والسود تبقى ... مصر فيها مجدداً مستردا
وبريد لها تسيل به القض ... ب، وثان بالبرق أجرى وأهدى
وخطوط بها التنائي تدان ... وبخار به الأقاليم تندى
وبيوت لله ترفع فيها ... وقصور تشاد للحكم شيدا
وأماني للرعية توفى ... وحقوق في كل يوم تؤدى
ووفود إلى الممالك ترجى ... وثمين إلى الحوانيق يهدى
وفي هذا البيت الأخير سياسة إسماعيل نحو سلاطين آل عثمان يهدي إليهم ثمين الهدايا، ليظفر منهم بما يحقق آماله وأمانيه.
ولكن إسماعيل يسير إلى غاياته في غير تمهل، ويمضي إلى هدفه غير متلبث ولا وان كأنه كان يخشى - والعمر قصير - ألا يحقق آمال قلبه الكبير، وهنا يتحدث شوقي وكأنه يهمس إلى الأمير العظيم أو يناجيه بأن في التأني السلامة، وما كان أخلق الأناة أن تحفظ التاج لرب التاج، وأن نصون السعادة والمجد للراعي والرعية! وما كان أخلق الحذر بأن يصون العرش من تلك الأيدي التي امتدت رقيقة ناعمة، فلما ملكت أصبحت شديدة عسراء. ولنصغ إلى هذه المناجاة الحزينة:
يا كبير الفؤاد والهم والآ ... راب مهلاً مهلاً رويداً رويدا
لم تكن حقبة أساءت علياً ... في جنى عمره لتحفظ ودَّا
خذلت منه واحد الترك والعرب ... ، وساءت سيف المشارق غمدا
لا غراماً بحاسديه ولكن ... رهباً أن يبلغ الشرق قصدا(808/13)
ولأنت ابنه الذكي فهلا ... جئت بالطلبة الطريق الأسدا
فتأنيت، والتأني فلاح ... وهو يا ثاقب النهى بك أجدى
وحميت الأيدي العوادي أن تد ... نو، وأن تمتلئ، وأن تتصدى
بالغت بعد لينها لك في العس ... ر، وصار الوعيد ما كان وعدا
وإذا العصر والملوك خصوم ... لك، والناس والمحبون أعدا
ويختم هذه المناجاة بهذا البيت الحزين المبدوء بلو:
ولو أنا صنا وصنت، لعش ... نا الدهر في العز والسيادة رغدا
وكأن هذه المناجاة قد أثارت في نفس الشاعر الكبير ذكرى هذا اليوم الذي لا ينسى في تاريخ إسماعيل، وهو يوم افتتاح قناة السويس. وهل شهدت مصر في تاريخها الحديث مهرجاناً مثله، جعل اسم إسماعيل على كل لسان، وذكر مصر في كل مكان. أين هذا اليوم الذي جعل البحرين يلتقيان، وأضافت مصر فيه ملوك الزمن، وعظماء الأمم، يجدون عند إسماعيل، كرماً أندى من البحر، وأعذب من ماء النيل. ما بال هؤلاء الملوك قد تغيروا مع الدهر، وانقلبوا انقلاب الأيام! وما بال تلك الصور قد مرت كأحلام الليل، لا يلبث الصبح أن يتنفس حتى تمضي ولا تعود!
تهضت مصر بالزمان نزيلاً ... وبأهليه يوم ذلك وقدا
خطروا بين زاخرين ولاقوا ... ثالثاً من نداك أحلى وأندى
بين فلك يجري وآخر راس ... ولواء يحدو، وآخر يحدى
وملوك صيد يراح بهم في ... واسع الريف والصعيد ويغدى
صور لم يكن حقاً، وحلم ... فجع الصبح فيه لما تبدى
وهنا لا ينسى شوقي أن هذا الجلال الذي بدت فيه في ثيابه البلاد قد دفعت مصر ثمنه غالياً، قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وكأن عقل الشاعر ضاق عن أن يدرك كيف أنفقت فتسائل قائلاً:
وقناطير يجفل الحصر عنها ... كل يوم تعدها مصر عدا
ليت شعري؟ هل ضعن في الماء، أم هل ... يضمر الماء للودائع ردا
ولكن الشاعر كان عظيم التفاؤل فأقسم ليعودون هذا المال غلينا كما ذهب، ولسوف تكون(808/14)
تلك القناة مصدر سعادة الوطن كما كانت ينبوع بؤسه وشقائه فيقول:
ليعيدنها إلينا بوقت ... زمن طالما أعاد وأبدى
إن ما أجرت يداك لنرجو ... أن سيحيي البلاد من حيث أردى
ويخيل إلى أن سر هذا التفاؤل إنما هو التأدب أمام ذكرى الراحل الكريم، أما الحوادث التي مرت على الوادي بسبب القناة فقد أوحت إليه بالسخط على حظ مصر منها. وهاهو ذا يقول في قصيدته الكبيرة التي يؤرخ فيها لكبار الحوادث في وادي النيل
جمع الزاخرين كرهاً فلا كا ... نا ولا كان ذلك الالتقاء
أحمر عند أبيض لليرابا ... حصة الفطر منهما سوداء
وليس منشأ تلك النظرة السوداء إيمانه بأن تلك القناة عمل باطل لا خير فيه للوطن، بل هي - كما قال في أسواق الذهب - عز الغد، وكنز الأبد. والنجم الأحد، والوقف الذي إن قلت الوالد قلن يفوت الولد.
وإذا كان هذا المجاز - كما قال أيضاً - هو حقيقة السيادة، ووثيقة الشقاء أو السعادة، خيط الرقبة، من أغتصبه اختص بالغلبة، ووقف للأعقاب عقبة - فلن تكون مصر السعيدة الرائجة إلا إذا كان لها خالصاً، وسلطانها عليه تاماً. ولقد كان شوقي صادقاً في ثورته، شأن كل مصري يرى على ضفتي القناة جنوداً وعدة ليس لمصر فيها فتيل ولا قطمير، يقول شوقي لولديه انظرا ترى على العبرين عبرة الأيام، حصون وخيام، وجنود قعود وقيام؛ جنس غيرنا فرسانه وقواده، ونحن بعراته وعلينا أزواره، ديك على غير جداره خلا له الجو فصاح، وكلب في غير داره انفرد وراء الدار بالنباح.
ولازال هذا شعورنا إلى اليوم، فما دامت القناة ليست لنا فهي خطر البلاد الأغير، من التقاء الأبيض بالأحمر. ولعل ما تنبأ به شوقي يتحقق في القريب فتحيا البلاد بالقناة، وتصبح ينبوع عز ومجد ورخاء.
وإذا كان يوم افتتاح القناة من أيام إسماعيل التي لا تنسى؛ فهناك من آثاره الغر المخلدة ما لا ينساه التاريخ ولا تستطيع مصر أن تنساه يوماً؛ فقد أنشأ لها جيشاً مدرباً قادراً، فتح به أرجاء السودان وقسمه ونظمه، وإن أرض السودان لجديرة أن تفتدى بالمال والدماء. وقد امتدت الآمال بإسماعيل، وداعبته الأماني، تغويه أن يملك كل منابع النيل. فلم يكفه خط(808/15)
الاستواء، وراح إلى الحبشة يغزوها، يريد تلك المنابع التي تجلب الخير إلى مصر مع طميها. وكم ود أن يركز فوق تلك المنابع رايته، فكانت غزوة مشئومة أودت بجيش مصر، ولننصت إلى الشاعر يحدثنا بزهو وفخار على جهود إسماعيل في السودان:
وملكت السودان في الطول والعر ... ض، وفي شأنه المعظم عبدا
نلت بالمال والدما منه أرضاً ... بجبال الياقوت والدر تفدى
ثم نظمته ممالك كانت ... نار تنظيمها سلاماً وبردا
فهنئنا به السعادة عمراً ... وأصبنا به للعين المهدا
وطريق البلاد نحو المعالي ... وسياجاً لملك مصر وحدَّا
ولكن هذه النغمة الفرحة لا يلبث أن يشوبها الألم والحسرة عند الحديث عن غزوة الحبشة وما نال جيش مصر القوي فيها.
ليت لم تغش بعده في حماها ... حبش المكر والخديعة أسدا
سلبوا مصر أي جيش كريم ... كان للمجد والفخار أعدَّا
وما أشد الحسرة تنبعث من هذا البيت:
أنت أنشأته فلم تر مصر ... جحفلاً بعده، ولم تر جندا
وهنا تنهار آمال إسماعيل في فتح تلك الديار.
ونفضت اليدين بأساً على الرغ ... م كأن لم تجد من الصبر بدا
وإذا لم يكن من الله عون ... فأطراح الآمال بالنفس أبدى
وحين انتهى شوقي إلى هذا الحد، وقف يتأمل العبرة في هذه الحياة المجيدة التي قلب الدهر لها ظهر المجن، (وما إسماعيل إلا قيصر لو أنه وفق، والإسكندر لو لم يخفق). ولقد راع شوقي أن رأى الناس يشبهون الدهر في غدره وتقلبه، فأين الملوك الذين وفدوا إليهن وأين السادة الذين تربوا ببابه، وأين الأصدقاء الأوفياء؟ لقد اعرض كل هؤلاء وجفوا، وكفر بالنعمة قوم لولا إسماعيل ما عرفوا معنى الحياة.
ما لمصر رآك في العز لا ير ... سل دمعاً، ولا يبلل خدا
أين ود عهدت منه وعطف ... وولاء مؤكد كان أبدى
وملوك له أتتك وسادا ... ت حداها إليك وفداً وفدا(808/16)
أبت الناس فيك للناس إلا ... أن يجاروا الزمان وصلاً وصدا
فرأيت الحميم أول جاف ... ووجدت الولي في البؤس ضدا
ورجالاً لولاك لم يعرفوا العي ... ش أبوا أن يقدموا لك حمدا
ما رأوا بعدك الأمور ولكن ... يحسنون الكفران حلاً وعقدا
ولقد مرت مصر من الأحداث ما كان مدعاة لأن يذكر الناس هذا العاهل، وما كان ينتظر منه لو أنه ظل على العرش يحوطه ويرعاه. ولقد كان الظرف الذي أنشأت فيه تلك القصيدة مدعاة لأن يثير في نفس الشاعر هذا المعنى، وما كان أخلق دهاء إسماعيل أن يمر ببلاده وقت العاصفة بسلام لو أنه لم يقص عن عرشه إقصاء
بان مجد البلاد إذ بنت والصف ... و، وكان الرجاء حياً فأودى
ودعتك الخطب فينا فلم تت ... رك صواباً لنا ولم تبق رشدا
ولقينا من الحوادث ما لم ... يك يعيا به دهاؤك ذودا
فبكى البائسون منك حساماً ... طالما قد هامة الخطب قدا
وبصيراً إذا المشورات لم تنجد ... ذويها ساس الأمور مُسدا
والآن بعد أن قضى حقوق التاريخ، ووقف يستقبل هذا الجسد الهامد، عاد إلى وطنه بعد طول غيبة، ليرقد فيه رقدة الأبد، وليستريح بعد ما قاساه من عناء الغربة، وبعد البنين، وفقدان الصحة والشباب، والجاه والسلطان، وإن مصر لوفية وإن ظن منها الجفاء، مقبلة وإن خيل منها الإعراض، لا تحمل لخادمها بغضاً، ولا تكن له حقداً؛ وإذا كانت الظروف قد جرت على مصر ببعض المحن فقد غفرت مصر لإسماعيل كل شيء؛ فقد كان يبني لها المجد وضخامة السلطان، وترك لها ما خلد من جليل الآثار.
نازح الدار ما لبينك حد ... ولقرب الديار زادك بعدا؟!
هكذا من قضى حنيناً وشوقاً ... وأنيناً مع الظلام وسهدا
شاكياً للبنين والأمر والصح ... ة والجاه والشبيبة فقدا
عد إلى مصرك الوفية وانزل ... في ثراها واسكن من المهد لحدا
لا تقل أعرضت بلادي وصدت ... مصر خير هوى وأكرم عهدا
وقبيح بالدار أن تعرف البغض ... وبالمهد أن يباشر حقدا(808/17)
غفرت مصر ما مضى لعلى ... وبنيه وللحفيد المفدى
ولآثارك الجلائل فيها ... ولجسم من نابها خر هدا
وختم شوقي قصيدته محاولاً أن يظهر سأمه من الحياة ويرمه بها، ولكنه ضعف ونزل عن مستوى قصيدته الأول: ولم يدل شعره على انفعال حقيقي حاد.
لقد أنصف شوقي إسماعيل في تلك القصيدة فذكر بإعجاب مآثره على هذا الوطن، ولم ينس أن يبين برفق فضل الأناة والإصلاح على مهل.
ولشوقي مقطوعة أخرى قالها حين أشرف في مدينة نايلي على الدار التي كان يقيم فيها إسماعيل، وهنا ذرف عبرتين أثارهما فيه هذا الزمن المتقلب وما مر بإسماعيل من إدبار بعد عز ونعيم، فهاهو ذا يضطر إلى مغادرة داره والرحيل عن بلاده، ويستقبل في كل يوم من الدهر آلاماً مبرحة حتى تنتهي متاعبه بالموت:
أبكيك إسماعيل مصر وفي البكا ... بعد التذكر راحة المستعبر
ومن القيام ببعض حقك أنني ... أرثي لعزك والنعيم المدبر
هذي بيوت الروم كيف سكنتها ... بعد القصور المزريات بقيصر
ومن العجائب أن نفسك أقصرت ... والدهر في إحراجها لم يُقصر
مازال يخلى منك كل محلة ... حتى دفعت إلى المكان الأفقر
وشوقي في غير هذا الشعر الذي خصه بإسماعيل وأنشأه من أجله لا يكاد يعرض لذكره إلا مقترناً بأسمى آيات الإجلال والتكريم، فهو وفي لأبناء إسماعيل؛ لأنه ولد ببابه وارتدى آلامه فمن العار أن يخونه في بنيه.
أأخون إسماعيل في أبنائه؟! ... ولقد ولدت بباب إسماعيلا
ولبست نعمته ونعمة بيته ... فلبست جزلاً وارتديت جميلا
وعند افتتاح الجامعة المصرية، وكان الفضل في إنشائها لابنة إسماعيل الأميرة فاطمة لا ينسى شوقي أن يشيد بولائه العظيم فيقول:
شمائل كان إسماعيل معدنها ... قد يخرج الفرع شبه الأصل للناس
وكثيراً ما نراه في حديثه مع المغفور له فؤاد الأول يلقبه بابن إسماعيل ويدعوه أن يقفو في الإصلاح أثر المصلح الكبير:(808/18)
هلم مثال إسماعيل وانسج ... على منواله المنن الجساما
وأحب أن أشير إلى موضعين آخرين أطال فيهما شوقي الحديث عن إسماعيل. أما الموضع الأول فالقصيدة التي ودع بها اللورد كرومر، وقد أقام له رئيس الوزراء يومئذ مصطفى باشا فهمي حفلة وداع في دار الأوبرا، وخطب اللورد في هذه الحالة فأهان الأمة وأهان الخديو إسماعيل في وجه الأمير حسين كامل ولم يراع شيئاً من الأدب ولا المجاملة، فأنشأ الشاعر في ذلك الحين قصيدة ثائرة، تعبر عن نفس كليمة وقلب موتور. وليس المجال مجال تحليل تلك القصيدة الرائعة، ولكنني أكتفي هنا بدفاع شوقي عن إسماعيل، فقد تمدح المحتل بأنه جلب لمصر الغنى ومد لها أسباب الحضارة، وقضى على إسراف إسماعيل وتبذيره فخاطبه قائلاً:
قالوا جلبت لنا الرفاهة والغنى ... جحدوا الإله وصنعه والنيلا
وحياة مصر على زمان محمد ... ونهوضها من عهد إسماعيلا
ومدارساً ببني البلاد حوافلاً ... حظ الفقير بهن كان جزيلا
قد مد إسماعيل قبلك للورى ... ظل الحضارة في البلاد ظليلا
إن قيس في جود وفي سرف إلى ... ما تنفقون اليوم عد بخيلا
أو كان قد صرع المفتش مرة ... فلكم صرعت بدنشواي قتيلا
لا تذكر الكرباج في أيامه ... من بعد ما أنبت فيه ذيولا
وما أجمل هذا التهكم يزجيه شوقي للمحتل الذي يعد من سيئات إسماعيل إكثاره من بناء القصور:
وامدح قصوراً شادهن بواذخاً ... قد أصبحت مأوى لكم ومقيلا
لو أنه لم يبنها لتخذتمو ... منها المضارب والخيام بديلا
والموضوع الثاني قصيدة أنشأها يحيي بها المؤتمر الجغرافي الذي وفد إلى مصر في عهد الملك فؤاد، وكان إسماعيل قد أنشأ في عهده سنة خمس وسبعين وثمانمائة وألف جمعية جغرافية وكان المؤتمر نزل بدارها فكان في ذلك ما يجدد ذكر إسماعيل قال يخاطب رجال المؤتمر:
كفى بدار تبوأتم أرائكها ... من عبقرية إسماعيل عنوانا(808/19)
ولقد هاجت به الذكرى فذكر أنه لو أدرك عهد إسماعيل لنال ما لم ينله المتنبي من سيف الدولة:
ولو مشت بي الليالي تحت كوكبه ... غادرت أحمد نسياً وابن حمدانا
ولقد وجد شوقي المجال لإحياء ذكرى إسماعيل فأخذ يعد مآثره وجليل أعماله:
ذو همة كفؤاد الدهر لو نظرت ... إلى بعيد دنا، أو جامح لانا
باني المآثر يعجزن الملوك بنى ... بكل ارض لكسرى العلم إيوانا
مد الكنانة أطرافاً ووسعها ... ملكاً وأترعها خيلاً وفرسانا
وفجر الماء في جنباتها فسقى ... ما كان بين عيون النيل ظمآنا
ونص في ثبج الصحراء رايتها ... كالنجم يهدي بأقصى الليل حيرانا
لا تبرح الخيل بالسودان ملبسها ... حتى تغازل بالصومال أرسانا
ولا حقيقة من ملك ومن وطن ... حتى ترى السيف دون الملك عريانا
وقد أفصح شوقي في هذه القصيدة فذكر أن الذي أحبط جهود هذا العاهل، فلم يجن ثمار عمله، هو إنجلترا أدعى الممالك وشيطان الدول، فأينما كان يتجه يجد منها ما يفسد عليه غايته:
شيطان ملك وفتح قد أتيح له ... أدعى الممالك والدولات شيطانا
لم يمض في غارة إلا أصاب لها ... كيداً ينازعه الغايات يقظانا
وهكذا ضاعت آمال إسماعيل التي بناها، يريد بناء ملك عريض وطيد:
خيال ملك تلمسنا حقيقته ... فأخطأتنا، وكانت حظر (يابانا)
لم نصح من عرس دنياه وموكبها ... حتى سحبنا على الأحلام نسيانا
وفي تلك القصيدة تعرض شوقي لتهمة إسراف إسماعيل، ودافع عنه بأنه إنما أسرف في سبيل بناء الملك والنهضة والإصلاح.
وبعد فهذه صورة إسماعيل في شعر شوقي الذي كان يرى فيه - فضلاً عن ذلك كله - خالق نهضة الفكر في مصر والشرق وبهذا العنوان أهدى إليه الجزء الأول من شوقياته.
أحمد احمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول(808/20)
الرمزية في التفكير الإنساني
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
مهما سما حظ الحيوان من الذكاء، وأياً كانت قدرته على تعديل سلوكه والتصرف والاحتيال إزاء المواقف الجديدة تحقيقاً لأغراضه، يبقى برغم ذلك فرق جوهري هي السر في تربع الإنسان على عرش الكائنات الحية، وسيطرته على الطبيعة بقدر ما يكشف من أسرارها وقوانينها. وسأحاول في هذا المقال أن أشرح هذا الفارق والفروق الأخرى الفرعية. أما الفارق الأصلي هو: أن الذكاء الإنساني ليس ذكاء حسياً فقط بل ذكاء رمزياً أيضاً، فالوظيفة الرمزية في التفكير الإنساني هي الفيصل الحق بين عقل الإنسان وعقل الحيوان، ولذلك ينبغي أن نذكر أن كلمة تفكير لا تطلق على الحيوان إلا تجاوزاً - إنما التفكير الحق هو التفكير الرمزي.
بيان ذلك أن الحيوان يدرك الموجودات المادية إدراكاً حسياً، أي تتطبع صور الأشياء التي يحسها بحواسه على صفحة الذهن. فهو يدرك كائنات مفردة أو جزئية - حسب التعبير المنطقي - ويستعيد صورها في غيبتها، ويتعرف عليها إن رآها بعد ذلك. الكلب مثلاً: يرى صاحبه فيدركه إدراكاً حسياً، ويرى غريباً فلا ينقطع عن النباح مما يدل على أنه أدرك الغريب، وعلى أن يستطيع التمييز الحسي بين شيئين كما استطاع التمييز حسياً بين صاحبه وبين الغريب. وإذا تغيب صاحبه ردحاً من الزمن وعاد بعده إلى بيته، اندفع نحوه وقد بدت عليه علامات الارتياح التي تنم عن وجود القدرة العقلية الموجودة لدى الإنسان كالإدراك الحسي وترابط الصور، والتمييز والتخيل والتعرف والتذكر، بل إن بعض الحيوانات حتى العصافير تتحرك حركات استدل منها بعض علماء النفس الحيواني على وجود الأحلام لديها. بيد أن هذه العمليات جميعاً لا تتجاوز المستوى الحسي بأي حال، فما يكون في ذهن الحيوان إذ يدرك أن يتخيل أو يحلم ليس إلا صورة أو مجموعة من الصور الحسية لأشياء جزئية مشخصة، تتولى على صفحة الذهن، متداخلة متشابكة متفاعلة، كما تتوالى صور الفلم على الشاشة البيضاء.
إن المادة التي يعالجها عقل الحيوان هي صور الموجودات الجزئية الموجودة في زمان معين ومكان بالذات، والمتصفة بالصفات الحسية كاللون والطعم والرائحة والشكل والحركة(808/22)
والصوت والملمس، وليس بمقدور الحيوان - أيا كان ذكاؤه - أن يسمو إلى إدراك المعاني الكلية التي يستخلصها الإنسان من مدركاته الحسية. فالإنسان لا يقف عند حد إدراك الأفراد إدراكاً حسياً وتذكرها وتخيلها، ولكن يدرك أيضاً ما تشترك فيه من صفات ويسقط أوجه الخلاف، ويجرد بذلك المعنى العام الذي يدل عليها جميعاً. يدرك عمراً وزيداً وفلاناً وفلانا من الناس، ويتغاضى عن الصفات التي يختلفون فيها من طول وشكل ودين وأخلاق، ويدرك فوق ذلك أنهم جميعاً - بصرف النظر عن حالاتهم الخاصة - يشتركون في صفة الإنسانية. لا يدرك الكلب والقط والعصفور فقط، بل ينتزع من أفراد كل نوع من هذه الأنواع معنى عقلياً - لا حسياً - هو معنى الحيوانية الذي ينطبق على أفراد الحيوان جميعاً بنفس الدرجة. يدرك الإنسان تصرفاً آخر ويحكم عليه بأنه شرير، فهو يدرك إذن معنى الخير ومعنى الشر إطلاقاً، أي بغض النظر عن الفاعل وظروف الفعل. يدرك الإنسانية والحيوانية، والخير والشر، واللذة والألم، والموت والحياة، والحرارة والبرودة، والسعادة والشقاء، دون نظر للأمثلة الجزئية التي تدل عليها هذه المعاني، ومن هنا كانت العملية العقلية التي تتغاضى عن الجزئيات بصفاتها المحسة التي تستخلص المعنى العام الذي ينطبق على جزئيات كثيرة تدعى عملية التجريد.
وظيفة التجريد تزود الإنسان بالمعاني التي ترمز إلى ملايين المدركات الحسية، فتوفر عليه مجهوداً جسمياً أكبر. لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يتجاوز عقله المستوى الحسي إلى المستوى العقلي المطلق من قيود الزمان والمكان، وكان اقدر الحيوانات على التصرف والتكيف للظروف، فهو لا يحتاج إذ يفكر إلى تمثل صور الموجودات التي يفكر فيها، بل يكفي أن يستحضر معنى واحداً كالإنسانية يقوم مقام الملايين من الأفراد الجزئية المحسة. الحيوان يتعامل بالمواد المحسة، والإنسان قد يدع الموقف الحسي جانباً، ويرجع إلى عقله متعاملاً بالرموز التي تمثل عناصر الموقف. فهو إذ يريد أن يشيد بناء ضخماً، لا يستحضر المواد الأولية من حجارة وأخشاب وحديد وأسمنت ثم يعمل فكره في هذا الخليط مجرباً بانياً ثم هادماً ليصلح ما فسد ويقوم ما انحرف، ولكنه يتناول القلم والقرطاس ويسطر المربعات والمثلثات والدوائر وغير ذلك من الرموز الهندسية والمعادلات الجبرية والحيل الميكانيكية حتى يتم التصميم. وما التصميم إلا مشروع عقلي صرف، ثم نتيجة(808/23)
التأليف بين رموز عدة، فهو بدوره رمز يمكن تنفيذه في الواقع في أي وقت وفي أي مكان وبأي نوع من المواد. ثم يشرع الإنسان بعد ذلك في تنفيذ التصميم بتشييد بناء هو حالة مفردة جزئية من حالات عدة في حيز الإمكان.
يتفرع عن القدرة الرمزية إذن قدرة إنسانية فريدة هي الاختراع الذي تخطى إن اعتبرناه مستنداً إلى الذكاء العملي اليدوي وحده، وهي السر كذلك في القوة الفكرية العظيمة والإنتاج الإنساني الصميم، أعني به (اللغة) فاللغة مجموعة من الرموز يحملها ما أدرك من صفات وما أحس من مشاعر وما يبغي من آمال، وينقلها إلى غيره عن طريق الإشارة أو الإيماءة أو اللفظ، فيكفي أن أتفوه بلفظ إنسان حتى تبرز في ذهنك الصفات التي ينطوي عليها معنى الإنسانية الذي يرمز إلى جميع أفراد الإنسان، وتتابع على صفحته صور حسية عدة، مختلطة مبهمة، مثيرة مجموعة من الذكريات والأخيلة والأحاسيس لا حصر لها.
طالما ردد الفلاسفة (إن الإنسان حيوان ناطق)، ورددنا نحن قولهم هذا دون تدبر لحكمة اختيارهم لفظ النطق للدلالة على التفكير. وبعد ما أسلفنا تبيين العلاقة الوثيقة بين اللغة وبين الرموز، بين اللفظ وبين الفكرة؛ فاللغة نتاج القدرة الرمزية، واللفظ المنطوق به حامل الفكرة المعقولة موشاة بخليط من المشاعر النفسية التي لا تنفصل بحال عن مجرى التفكير، ويتبين صدق الفلاسفة إذ جعلوا النطق - أي التفكير الرمزي - فيصلاً بين الإنسان وسائر الحيوان، يتبين صدقهم لسببين:
الأول: أنه رفع الإنسان فوق الزمن وحرره من قيود المكان وأكسبه قدرة عقلية قائلة لم تكن لتتيسر له أو اقتصر على التعامل بالجزئيات، وقدرة عملية ممتازة تتضح أكثر ما تتضح في المخترعات والمنتجات الصناعية والفنية المختلفة.
والثاني: أنه شكل حياة الإنسان الاجتماعية تشكيلاً راقياً؛ ذلك أن اللغة يسرت اتصال الناس بعضهم ببعض اتصالاً فكرياً وعاطفياً في آن واحد، فهي أداة التعبير عما يدور في الذهن من معان، ووسيلة الربط بين القلوب بما تنقل من مشاعر.
تؤدى اللغة كل ذلك بأيسر وسيلة وأروعها، وهي لا تربط بين فردين في صعيد واحد فقط، بل تصل بين أفراد وأقوام تفرقوا شيعاً في شعاب الأرض قاصيها ودانيها؛ ولا تربطنا بالأحياء فقط بل بالسلف وفد واراه التراب، وطواه التاريخ في عصوره السحيقة. ألفت(808/24)
اللغة إذن بين القاصي والداني، وبين الأحياء والأموات، وبين الصغار والكبار، وبين المتمدنين والبدائيين. وتيسر بفضلها خزن التجارب والمعارف نقوشاً على جدران المعابد ورموزاً في بطون الكتب سجلاً خالداً يغني عن تجشم الصعاب التي تجشمها غيرنا، ويوفر علينا جهداً هو حقيق أن يبذل في تحصيل معارف جديدة وكسب تجارب مفيدة، نضيف إلى تراث الإنسان ذخائر جديدة. ولما كانت اللغة بمثابة النافذة التي تطل منها على نفوس البشر وعقولهم كانت بحق أداة الوحدة الاجتماعية أو عامل التكامل الاجتماعي - على حد تعبير مدرسة علم النفس التكاملي - عامل التأليف بين عقول البشر وقلوبهم وأذواقهم حتى قال بعض المفكرين إنه إذا كان للأفراد متفرقين عقول خاصة، فلهم مجتمعين عقل عام يسمونه (العقل الجمعي) الذي يتولد عن اجتماع عقول الأفراد ويزيد عن مجموعها. فالأفراد مجتمعين يكتسبون كياناً مستقلاً عن كيان الأفراد، والمجتمعات منطق خاص يعلو على منطق الأفراد، وإرادة تفرض نفسها على إرادة الأفراد الجزئية، ونفوذاً يكسر من شوكتهم.
وغير خاف أن التكامل الاجتماعي، أو متانة البناء الاجتماعي ميزة حظى بها الإنسان - بفضل الوظيفة الرمزية - بينما الحيوان لا يزال في مرتبة دنيا من حيث الترقي الاجتماعي. ألا صدق الفلاسفة الذين فصلوا بين الإنسان والحيوان بوصفهم الإنسان بالحيوانية والمنطق.
عبد المنعم المليجي
مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية(808/25)
أبو خليل القباني
باعث نهضتنا الفنية
وتقويض أركان مسرحه بدمشق
للأستاذ حسني كنعان
(تابع)
نقل الوالي (صبحي باشا) الذي كان يعطف على القباني ويشجعه في عمله الفني والترفيه عنه وتحسين مسرحه، وأقيم مقامه حمدي باشا في دمشق، ثم نقل هذا الباشا وأقيم مقامه غيره، وما من وال أتى دمشق إلا كان مناصراً ومشجعاً وآخذاً بيد هذا القباني.
وكان معجباً بعظيم فنه، ولكن الولاة هنا كانوا متفاوتين ومتباينين في التشجيع، فالبعض منهم كان يشجعه لنصرة الفن ونهضة البلاد وتغذية العقول وتنويرها، والبعض كان يشجعه لمرام وغايات سياسية القصد منها إشغال الشعب ولهوه وصرفه عن النظر للمعايب وكشف العورات، إلى أن آل الأمر في ولاية دمشق إلى الوالي (مدحت باشا) ذلك الداهية التركي المعروف صاحب حادثة الطائف وصاحب المواقف العظيمة في المناداة بالحرية والعدالة والمساواة.
والغالب على الظن أنه أقصى عن دار الخلافة إقصاء وأبعد إلى دمشق خشية استشراء حركته التحريرية وقتئذ.
وخنق في الطائف بتحريض الحاكم بأمره جبار بني عثمان. . .
وكان هذا الوالي من كبار ساسة الأتراك وعظماء رجالاتهم، وقد مكث في دمشق أربع سنوات على التحقيق عمل فيها من الإصلاح والتشييد والبناء ما خلد له في هذه الديار أعظم الذكر، وهو الذي خط (سوق مدحت باشا) جعل بدايته من باب الجابية ونهايته في أول حي الخراب الموصل إلى باب توما وحي اليهود، وإلى هذا فقد أصلح المساجد وعبد الطرقات ووسع الشوارع وأكثر من فتح المدارس، فازدهرت دمشق في زمانه أيما ازدهار، فأحبه أهلها وعرفوا فضله وما فتئوا حتى الآن يذكرونه بكل خير ومكرمة، ويتحدثون عن إصلاحاته وأعماله، ولا تزال السوق التي أقامها هنا تكنى باسمه إلى هذا اليوم وهي من(808/26)
أكبر أسواقنا التجارية، وتضارع بشهرتها سوق الحميدية.
رأى هذا الداهية المجرب أهل دمشق غارقين في ليالي القباني وحفلاته فوجدها فرصة سانحة للإصلاح والعمران، وأراد أن يزيدهم مما هم فيه من لهو ومتعة، فأدنى القباني من مجالسه، وصار يتردد على مسرحه وينشطه كما كان يفعل سلفه (صبحي باشا) وكان يجلسه في مجالسه الخاصة بجانبه ويغدق عليه المنح والأعطيات حتى غدا لديه من أقرب المقربين يستشيره في أمور البلد ويركن له ويعول عليه، لأنه رأى فيه صفات الفنان المخلص لفنه المولع بعمله، وقد لقبه بلقب (كوميدي) الشرق. . .
لم يطل بقاء مدحت باشا في دمشق كما طال أمد سلفه، ولكنه في خلال هذه المدة الوجيزة التي وجد فيها خلف من الآثار العمرانية والأعمال والإصلاحية ما يعجز عن الإتيان يمثلها من أقاموا في دمشق السنين الطوال من الولاة والحاكمين، وفي سرحة من سرحات ذلك الفلم المدنف نقل مدحت باشا من دمشق، وأقيم مقامه (الوالي فاضل باشا).
وكان هذا الوالي ضعيفاً خائر العزائم مفلك الأعصاب يفزع من خياله، فاغتنم خصوم القباني فرصة ضعف هذا الحاكم، وأخذوا يدسون عليه، ويناوئونه في عمله حسداً ولؤماً وغيرة فوجدت وشاياتهم وتخرصاتهم عنده آذاناً صافية، وقلباً واعياً.
وكانوا من الأشرار الذين تآكلت أكبادهم من السل حسداً وخسة ودناءة.
فبدا القباني أن يترضى هذه الفئة الخطوة بالمال والرشوة وبإعطائهم بطاقات دائمية يدخلون بها المسرح من غير أجرة إسكاناً لهم وإخراصاً لأفواههم، فوجدوا بهذا الصنيع باباً للكسب، جرأهم على طلب المزيد منه، وجرأ غيرهم على اقتفاء آثارهم، وبعد أن كان القباني ينفق ثلاثة أرباع دخله على المسرح وترقيته وجلب الناقص إليه غداً ينفق هذا الفائض من الدخل على إسكات الخراصين الهمازين المفسدين، فطمع فيه الناس وهان على خصومه أمره، فأفسدت عليه هذه البادرة عمله، ولم تقتصر هذه الرشوات على تلك الفئة من أنباء البلاد والزكونية والقبضايات أمثال (أبو قاعود، وأبو زطام، وأبو اصطيف) بله تعدتهم إلى الشيوخ الانتهازيين المرتزقين الذين لا يراعون إلا ولا ذمة، فصاروا إذا ما بدا منه قصور في هذا الباب أثاروا الدهماء عليه من سواد الأمة وسوقتها باسم الدين، وقديماً كان وثر الدين في مثل هذه المواقف حساساً يستولي به الخاصة على العامة.(808/27)
أما في هذه الأيام فقد قامت الوطنية مقام الدين في مثل هذه الأيام فقد قامت الوطنية مقام الدين في مثل هذه الحالات وتضاءل تأثير ولذا قال أحدهم في هذا المعنى:
أحبولة الدين راكت من تقادمها ... فاعتاض عنها الورى أحبولة الوطن
وكان الوالي الباشا منهمكاً في تثبيت مركزه وإشغال أهل الشام عنه بغيره، فراق له هذا النزاع القائم في الشام ما بين جماعة القباني ومريديه وما بين خصومه وحساده، فأضرم النار وأذكاها ليلهيهم عنه على قاعدة فرق تسد، فانقسم الناس في هذا السبيل إلى قسمين، قسم بجانب القباني يناصره ويسانده، وهو الطبقة الراقية المثقفة في البلاد، وقسم يناهضه ويعاكسه وهي طبقة الرعاع والجامدين والرجعيين. فاشتد الأمر على القباني وعظم الكرب وحار في أمره.
وكانت المهاترات والتراشق بالحجارة والشتائم توجه إليه وإلى أنصاره كلما أبصره خصومه صبحاُ ومساء.
وكانت كثيراً ما تقع الواقعة ما بين أهل باب السريحة مسقط رأسه وباب الجابية التي نشأ فيها وترعرع، وما بين حي العمارة والقيصرية مواطن خصومه ومنافسيه، فيقتلون من أجله بالحجارة والمدى والخناجر، وتتقلب ساحات هذه الأحياء إلى ساحات قتال تنذر بأفدح العواقب وأسوأ الخواتم. . .
ولقد خرجت هذه الخصومات عن كونها داخلية صرفة، فانتقلت أخبارها إلى الخارج.
ولما رأى المنافسون أن لا قدرة لهم على تقويض أركان مسرح القباني، ودك معالمه ومنع صاحبه من مزاولة العمل نظراً لدفاع الرأي العام الواعي المثقف عنه ألفوا وفداً وعلى رأسه ابن الغبرة الشيخ سعيد، وكان شيخاً متحذلقاً ثرثاراً وهو أشد خصومه عليه قسوة ونقمة وكيداً وحسداً.
ركب هذا الوفد المتظلم المستعدي البحر ووجهته دار الخلافة العثمانية (استنبول) عاصمة الدولة، ولما وصل هذا الوفد إلى دار الخلافة مكث فيها مدة وهو يحتال للوصول إلى مقر السلطان دون جدوى، لأن الوصول إلى (عربسة) الأسد وقتئذ أهون من الوصول إلى مقر عبد الحميد نظراً لكثرة الاحتياطات والرقباء والعيون والأرصاد المنثبة حوله. . .
ولما يئس الوفد من مقابلة الداهية الجبار هم بالعودة من حيث أتى، بيد أن أعصاب رئيسه(808/28)
السيد الغبرة الفولاذية لم تطاوعه على العودة إلى الشام دون أن ينال من صاحبه ويلحق به الأضرار التي ينتظرها له.
وبينما هو يفكر في أمره إذا به يسمع من أحد أطراف الحاشية التابعة (لبلديز) أن السلطان سيصلي صلاة العيد في أيا صوفيا، ففرح هذا المنافس الماكر فرحاً شديداً لهذا النبأ، وأزمع أن يرفع إليه شكواه وهو في طريقه إلى المسجد مهما كلفه الأمر، وقد أعد لهذا الأمر عدته وهيأ له أسبابه.
وبينما كان موكب المليك ماراً في عربته الفخمة التي يجرها الخيول المطهمة الرافلة في أبهى وأجمل أحلاس الدمسق والحرير والأطاس، وفي أعناقها القلائد الذهبية والفضية مدلاة تمشي بنعالها الذهبية مشية الطاووس زهواً وتيهاً بما تحمله، إذا بصوت يدوي كالرعد مرجحناً من أعلى شرفة مطلة على الموكب يجأر صاحب الصوت بقوله:
يا مليك الزمان وصاحب العرش والصولجان، يا خادم الحرمين الشريفين وإمام القبلتين، يا أمير المؤمنين وخليفة سيد المرسلين إن الشام التي أحبتك وذابت أكبادها تحناناً إلى ظليل عرشك أوفدت هذا الوفد إليك تستعديك على عدوك وعدو الله هذا القباني الأفاق المستعبد الذي أحدث خروقاً في الدين بترقيصه الفتيان المرد على المسارح وتهريجه وتمثيله مما لم تطق الشام على مثله صبراً، يحدث في عصر أنت فيه الإمام الأوحد والركن المشيد، فأنقذنا يا رعاك الله من هذا البلاء المحتم، وإذا لم تنقذنا منه لا يعبد الله في أرض الشام بعد هذا اليوم أبداً.
ولما ترجمت كلمة هذا المتحذلق المنافق إلى المليك بالحرف الواحد خشي سوء العاقبة وأصدر إرادته السنية بمنع القباني من العمل وإغلاق مسرحه، فحملها هذا الغبرة الذي غير على القباني ونكد صفو عيشه وعاد بها إلى دمشق يزف لأصحابه البشرى.
(دمشق)
(يتبع)
حسني كنعان(808/29)
الشعر في السودان
للأستاذ علي العماري
- 5 -
على الرغم من وجود عدد غير قليل من الشعراء في السودان، فإن منزلة الشعر غير مرموقة، ورايته غير مرفوعة، وما زال كثير من الناس - حتى بعض المتعلمين - ينظرون إلى الشعر نظرهم إلى شيء ليس بذي بال، وقد كان الظن غير ذلك، فإن علماء السودان الأعلام قد احسنوا إحساناً محموداً حين نزلوا إلى ميدان الشعر، وهم أهل التقوى، وأهل الورع، فقالوه، وتناشدوه، ونشروه على الناس. وحسبنا أن نعلم أن من كبار العلماء أمثال الشيخ أبي القاسم، والشيخ الضرير، والشيخ البنا الكبير، قد قالوا شعراً في النسيب، ومن هذا النسيب نسيب رقيق عذب، ربما كان يظن الجاهلون أنه مما لا يليق بمكانة العلماء. ولقد سرني أن رأيت عالماً فاضلاً هو شيخ علماء السودان الأسبق الشيخ أبو القاسم هاشم يقول نسيباً مستقلاً، على قلة استقلال هذا الغرض في شعر العلماء.
ولقد أحسن الأستاذ الفاضل سعد ميخائيل واضع كتاب شعراء السودان حين قال عن هذا العالم الجليل (ترى صورته وما عليه من برد الجلال والوقار فتظنه فقيهاً سيسمعك الشعر بروح الفقهاء، بينما هو يحمل بين جنبيه مع التقوى والنزاهة قلباً رقيق الحاشية) نعم إن أكثر شعره في المدائح النبوية، ولكن تشبيبه لا يصدر إلا عن نفس ذات أريحية وهزة. والحق أن التزمت ليس من صفات العلماء الفاقهين لحقيقة العلم، وإنما هو حلة أنصاف العلماء. قال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة، وكان من أعقل من رأيت:
يأيها السائل عن منزلي ... نزلت في الخان على نفسي
يعدو على الخبز من خابز ... لا يقبل الرهن ولا ينسي
آكل من كيسي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: أكتب لي هذه الأبيات، فقلت أصلحك الله، هذا لا يشبه مثلك، وإنما يروي مثل هذه الأحداث، فقال: أكتبها، فالأشراف تعجبهم الملح. هكذا. . . الأشراف تعجبهم الملح، ومن تزمت ومن تزمت فإنما يتزمت على نفسه.
وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحداً لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله(808/30)
واليوم الآخر فلا.
وقيل لسعيد بن المسيب رضي الله عنه: إن قوماً من أهل العراق لا يرون إنشاد الشعر! فقال: لقد نسكوا أعجمياً! وأنا فقد أعجبني أن أرى في علماء السودان من يخرج عن الأغراض الجافة المتزمتة إلى أغراض أخرى مقبولة طيبة، قرأت للشيخ أبي القاسم قوله:
سلاها فهل قلبي سلاها وهل جرى ... حديث سواها في فمي ولساني
ألا إنني قد ضقت ذرعاً وشفني ... صدود الذي أحببته فجفاني
وقوله:
ما على عشاقها من حرج ... إن حب الحسن في الطبع كمين
وعدتني وصلها فازداد ما ... بي من الشوق إليها والحنين
إلى أشعار أخرى في وصف المحبوبة، والشوق إليها، والحديث عنها، والحنين إلى وصلها والتمتع بها.
وقديماً مرت سكينة بنت الحسين على عروة بن أذينة - وكان على زهده وورعه وكثرة علمه وفهمه رقيق الغزل كثيره - فقالت له: أنت الذي تزعم أنك غير عاشق وأنت تقول:
قالت وأبثثتها وجدي فبحث به ... قد كنت عندي محب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط. . . فليكن. أليس ابن قتيبة يقول، وهو يتحدث عن الشاعر العربي وابتدائه بالنسيب ليميل نحو القلوب، يعلل ذلك فيقول: لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقاً منه بسبب، وضارباً فيه بسهم حلال أو حرام).
ولكن، هل يمكن أن نعتبر النسيب فيشعر المدرسة القديمة التي نتحدث عنها، نسيباً معبراً عما في النفوس، حاكياً عواطفها وأحوال الوجد والصبابة؟
وقد سبق أن أجبت عن مثل هذا السؤال، فقلت: إن هذا النسيب نسيب تقليدي أكثر منه معبراً عن واقع الحياة، ذلك أن الشعراء في ذلك العصر حبسوا أنفسهم في الشعر القديم، وأطلوا على الحياة من نوافذه، فكانوا صورة منه لا من حياتهم، وقلدوه في الغرض والطريقة، وإن كان البون بعيداً في الديباجة والمعاني. ونحن نضع بين يدي القارئ صورة(808/31)
للنسيب تكاد تكون عامة: ليس من البشر من تجافى الهوى قلبه، فإن الهوى كرم في الطبع، يمثله اللفظ الرقيق، والأخلاق الغر، وهو الحياة، والقلب من دونه بلقع من البلاقع لا ماء فيه ولا شجر، أو هو سرحة جرداء لا ظل ولا ثمر، وأما العاذل فهو غليظ القلب، جافي الطبع، والحبيب. . الحبيب كل المحاسن حارت في محاسنه، فما القمر، وما الكثيب، وما غصن البان؟
وهو مهفهف القد، ضامر الخصر، يكاد من ثقل الأرداف ينبتر، ريقه عذب، وثغره مؤثر، عابث بصبه، حانث في وعده، مسدود غدائره، يلج محاجره، دعج نواظره، في طبعه خفر، وهو يصبي الحليم، ويشفي السقيم، وهي الظبي جيداً ومقلة، وخدها الورد، وعيناها السحر.
وهكذا يدور النسيب كله في هذه الدائرة، ولا يخرج عنها إلا القليل. ولكل شاعر حظ منها قل او كثر، وهذه أوصاف قد ألفناها كلها في الشعر القديم، ولئن كنا نقرأها هناك مسوقة في صور بديعة فيها الصنعة والروعة، فإنا نقرأها هنا - في الأعم الأغلب - ساذجة غفلا.
قلت إن النسيب تبتدأ به القصائد، وقل من الشعراء خرج عن هذا التقليد، وأكثر الشعراء من المشايخ وهؤلاء قل أن يقولوا قولاً غزلاً مستقلاً، ومن عجب أن أكثر تخلصهم إلى أغراضهم يكون بإنكار الحب. هذا شاعر يدعي الهوى، بل يقول إنه لا حياة له بدونه:
فتركتني ما أستفيق من الهوى ... ونصيبتي للعاشقين مثالا
وهذا الذي لا يستفيق من الهوى، والذي كان الغانيات أذنه، ويمتع بهن سمعه وبصره، هو الذي يقول:
أماطت لثاماً دونه الشمس زينب ... ولاح لنا منها بنان مخضب
وحيت فأحيتنا ومال بعطفنا ... حديث من الذي أحلى وأعذب
فأصبحت مشغوفاً وملت إلى الصبا ... على أن رأسي يا ابنة القوم أشيب
لعمرك ما هاجت غرامي خريدة ... ولا قادني نحو الغواية مطلب
ولكن وجداً بالفضيلة هاجني ... فجاء بأبياتي هوى ونصيب
عشقت التي تدعى الفضيلة إنما ... يقال لها في مذهب الشعر (زينب)
نعم. وقد يقال لها ليلى، أو مهدد، أو دعد، أو هند، أو ما شاءوا من هذه الأسماء التي هي من الكتابات في مذهب الشعر، ولا وجود لها إلا في ثنايا السطور.(808/32)
وقد يجيء الشاعر بما لا يصدقه الواقع، فيدلنا بذلك على أن للصناعة في هذا الشعر مكاناً.
نحن نعرف أن المرأة السودانية كهى في صعيد مصر، محجبة متمتعة، دون الوصول إليها أهوال وأهوال، ولكني مع إعجابي بهذه الأبيات وإحساسي بحرارة الحب فيها، أرى أن صاحبها نهج في غير نهجه، وسلك غير الطريق:
أستغفر الله لي شوق يجدده ... ذكر الصبا والمغاني أي تجديد
وتلك فضلة كأس ما دممت له ... طعماً، على كبر برح وتأويد
أرنو لسالف أيام لهوت بها ... مع الأحبة حيناً مورقاً عودي
إن زرت حياً أطافت بي ولائده ... يفدينني، فعل مودود بمودود
وكم برزن إلى لقياي في مرح ... وكم ثنين إلى نجواي من جيد
لو استطعن وهن السافحات دمي ... رشفتني رشف معسول العناقيد
يا دار لهوي على النأي اسلمي وعمى ... ويا لذاذة أيامي بهم عودي
ولهذا الشاعر المبدع الشيخ محمد سعيد العباسي غزل رقيق، بل كل شعره رائع، يقول:
يا بنت عشرين والأيام مقبلة ... ماذا تريدين من موءود خمسين
قد كان لي قبل هذا اليوم فيك هوى ... أطيعه، وحديث ذو أفانين
ولا مني فيك والأشجان زائدة ... قوم، وأحرى بهم ألا يلوموني
أزمان أمرح في برد الشباب على ... مسارح اللهو بين الخرد العين
والعود أخضر، والأيام مشرقة ... وحالة الأنس تغري بي وتغريني
أفديه فاتر ألحاظ وقل له ... أفديه، حين سعى نحوي يضربني
يقول لي وهو يحكي البرق مبتسماً ... يا أنت، يا ذا، وعمداً لا يسميني
أنشأت أسمعه الشكوى ويسمعني ... أدنيه من كبدي الحرى ويدنيني
وفي هذا الشعر تسجيل لتقليد عند إخواننا السودانيين، ذلك أن المرأة - مهما طال عهدها مع زوجها - فإنها لا تدعوه باسمه، فذلك حيث يقول (وعمدا لا يسميني). هذا ما أعرفه عن الزوجة، فهل تستحي العاشقة كذلك أن تدعو صاحبها باسمه؟ العلم عند الحب!!
ومن الشعراء من ينساق مع عاطفته، فيشبب تشبيباً مكشوفاً ويذكر ما نال من المتع مع صاحبته ولكنه يتلفت حواليه فيضطر إلى أن يذر الرماد في العيون، فيؤكد أنه لم يأت ما(808/33)
يسخط المروءة والدين:
كلما استعذب الدعابة مني ... لج في عتبه ليعجم عودي
وإذا اهتاج من حرارة قبلا ... تي، أوما إلي بالتهديد
فإذا ما اندفعت ألثمه أس ... لم لي ثغره الشهي الورود
يتغاضى عن احتكامي في الخص ... ر، ويلتذ عند مس النهود
أليس هذا فعل امرأة صناع في الغزل؟ أليس هو حديث عاشق مدمن؟ ولكنه يسخر من القراء حين يقول:
لا تظنوا بي الظنون فإني ... يعلم الله واقف في حدودي
بخ! بخ! قد عرفنا ... ك فقف حيث شئت!
ولست في الواقع أقضي على الشعر السوداني بالتقليد في النسيب لأن الشعراء خلت قلوبهم من الحب، لا فإن لكل إنسان من الحب نصيباً، كما يقول ابن قتيبة، وإن حب الحسن لكمين في الطباع كما يقول شيخ علمائهم، ولكن شتان بين إنسان يحب حباً هادئاً رزيناً، لا يوحي بشعر، وبين إنسان يلذعه الحب، وتكوى الصبابة قلبه، فيعبر عن ذلك بشعر تحس وأنت تقرأه بأن فيه رائحة كبد تشوى على جمرة الهوى. وعند أكثر هؤلاء الشعراء لم يلق الحب في أشعارهم شيئاً من حرارة الجوى، أو رقة الوصال.
ومما يلفت النظر أنك لا تكاد تجد في هذه الأشعار وصفاً للغادة السودانية، فكل محبوباتهم يخجل البدر منهن، وقد سرق الورد حمرة خدودهن، وربما وجدنا لبعضهم لجة خفيفة. قرأت للشيخ إبراهيم أبو النور، وهو من علماء المعهد العلمي هذه الأبيات:
تخال الوجه منها بدر تم ... وتحسب ثغرها حب الغمام
وقد زادت ملاحتها بشرط ... على الخدين خطط بانتظام
محجبة فلم تبرز لشمس ... ولم تعرف محطات الترام
والذي استوقفني في هذا الشعر أمور، فإنه ذكر الشرط، وهو ما يصنع في أوجه السودانيات من علامات الجمال، ولكل قبيلة من القبائل أشراط معينة، بحيث يمكن معرفة القبيلة بمجرد النظر في الوجه، وهي عادة لا تزال موجودة في كثير من القبائل. وطريقة صنعها أن يؤتى بموسى، فتخط ثلاثة خطوط مستطيلة في كل خد من خدي الطفل، وهذه(808/34)
عامة. وبعض القبائل تضيف إليها شرطاً مستعرضاً أو شرطين، مستقيماً أو مائلاً ويعتدون ذلك من علامات الجمال.
وقد حدثني الشيخ أبو النور هذا - وهو عالم واسع الاطلاع - أنه قرأ في تاريخ عبد القادر الجزائري أنه لما ذهب إلى مكة سئل عن هذه الأشراط، أهي موجودة عند العرب، فأجاب بالإيجاب، وذكر على ذلك شاهداً قول شاعرهم:
رأيت لها شرطاً على الخد حوى ... جمالاً، وقد زاد الملاحة بالقرط
فقلت أريد اللثم قالت بخفية ... فقبلتها ألفاً على ذلك الشرط
ثم قال الشيخ: وتسمى هذه الشروط الشلوخ واللعوط، وهذه الأخيرة من لغة حمير، وأنشد على ذلك قول الشاعر:
وبي حبشية سلبت فؤادي ... فلم يمل الفؤاد إلى سواها
كأن لعوطها طرق ثلاث ... تسير به في النفوس إلى هواها
وعندي أن هذا الشعر أقرب إلى الصدق، من الشعر الذي يصف المحبوبة بأنها بدر السماء، أو زجاجة خمر:
أما الأمر الثاني الذي لفت نظري في شعر هذا الشيخ فقوله: ولم تعرف محطات الترام. وهل محطات الترام هنا كما هي في كثير من البلدان، ملتقى العشاق، ومكان لصيد الظباء الحرام.
وكدت أوقن بأن هذا شعر شاب عصري، لولا أن الشيخ دلني بباقي القصيدة على أنه من العلماء، وحسبك دليلاً على هذا قوله:
فمني بالزكاة على فقير ... ومسكين كثيب مستهام
ولم ينس الشعراء النؤى والأحجار والأطلال، لتتم صورة التقليد للشعر العربي، فهذا شاعر يعيش في عاصمة البلاد يقول:
أما وقد شطت بمهدد دارها ... ولقيت بعد فراقها الأهوالا
فتعال للأطلال نندب ماضياً ... ولى وأياماً مررن عجالا
(وبعد) فإني على أي حال معجب بهذا النسيب سواء كان صدى لنفس مكلومة، أو كان تقليداً للشعر القديم؛ فإنه من حظ الشعر هنا أن يقيض هذا الغزل على ألسنة العلماء، وإنه(808/35)
لكسب للأدب وللشعر، وللتاريخ.
علي العماري
مبعوث الأزهر في المعهد العلمي بأم درمان(808/36)
الأدب والفن في أسبوع
بين أديبين
كان الأستاذ توفيق الحكيم قد كتب في أخبار اليوم كلمة بعنوان (الأديب المنقى)، قبل أن يعود الدكتور طه حسين بك من أوربا، أبدى فيها شعوراً رقيقاً نحو الدكتور، لما أذيع من أنه ساخط على بعض العلاقات والشؤون المتصلة به في مصر.
وبعد أن رجع الدكتور طه إلى مصر تحدث إلى الأستاذ بعض من يشتغلون بالإيقاع بين الناس أن الدكتور أول تلك الكلمة تأويلاً شيئاً وأتهم الأستاذ الحكيم بانعدام حسن النية فيما كتب، فلم يخف إلى لقائه وزيارته بعد العودة. . .
وتطوع الأستاذ أنور المعداوي لتصفية الجو بين الأديبين الكبيرين، فأنهى إلى الدكتور طه وساوس الحكيم، فقال الدكتور: الأمر على عكس ذلك فأنا قد قرأت الكلمة وسررت بها وبالطبع لم أجد فيها ما يحمل على سوء الظن، وإن هذا الذي نمى إلى الأستاذ توفيق هو من الدس الدنيء الذي نشكو من انتشار أصحابه في هذه الأيام. وقد كنت في إسبانيا قبل أن تصل إلي الكلمة، وألقيت في جامعة مدريد محاضرة عن الأدب المصري الحديث، كان لتوفيق الحكيم فيها أكبر من نصيب، فقد أظهرت فضله وسبقه في التأليف للمسرح وشغل ذلك نحو نصف المحاضرة ثم ابتسم الدكتور طه ابتسامته اللطيفة وقال: ألا ترى أن ما بلغ توفيق الحكيم كان يدعوه إلى أن يصحح الموقف ويعمل على إزالة ما علق به من غبار؟
والواقع أن مجالس أدبائنا عامرة بالإخلاص الذين يتقربون إليهم بأمثال تلك الدسائس، وقد يحمل بعضهم على ذلك رغبته في أن يظهر بمظهر المتصل المطلع الذي يعرف ما قال فلان والذي هو من الشأن بحيث يتحدث إليه فلان عن فلان!
ومما يدعو إلى الأسف أن أدبائنا يأخذون بهذه الترهات ويتأثرون بها في علاقاتهم. ومن العجب أنهم كفوا عن الخصومات الأدبية، ولكنهم لم يبرؤوا من الصغائر الشخصية. من أن الأولى هي الأجدر أن تكون من دون الثانية.
وتدل القصة السابقة على أنه من الممكن أن يقضوا على القيل والقال بالمواجهة والتواصل، ويتبينوا حقيقة ما يقال لهم. وهم أولى الناس بذلك، لأنهم الحصفاء الذين يمحصون الكلام ويعرفون زيفه من صحيحه.(808/37)
مؤلف (نحو المجد):
طغيان رجال المسرح والسينما على المؤلفين، داء مفتش يشكو منه الجميع، فكثير من الأفلام لا يعرف الناس لها مؤلفين، كاللقطاء حرموا النسبة إلى الآباء، وكما يتبنى الراغب في الولد لقيطاً يغلب المخرج على الفلم، فيسنده إلى إخراجه ويسكت عن تأليفه. والأصل في ذلك - على ما يبدو لي - ذلك النوع من الإنتاج الذي يلفقه المخرج من الروايات الأجنبية، وتطور ذلك إلى استضعاف المؤلف وإرضائه ببعض النقود، وهذا النوع الضعيف التافه من المؤلفين متوافر في السوق مع الأسف، وقد استراح إليه المخرجون والممثلون ليتسموا بميسم الأدب والثقافة إلى جانب الإخراج والتمثيل، فيشيعون (مركب النقص) كيلا يقال إنهم غير مثقفين. . .
ولكن الأمر تطور بعد ذلك فقد دخل ميدان التأليف نفر من ذوي الكفاية والكرامة، ولا يزال أولئك المخرجون على ما عودوا، متمسكين بحق الانتحال، مدفوعين بدافع القصور الذاتي. . . وهنا بدأ الصراع، ورأى الناس أخيراً أمثلة منه، وتجمع بعض هؤلاء المؤلفين وتحدث بعضهم إلى بعض، قالوا: كيف يغمط حقنا ونحن أصحاب الخلق والإبداع في هذه الفنون؟ وكيف يقدم علينا كل من هب على الشاشة ودب على المسرح، وعملنا هو القلب ولا نخرج أعمالهم عن الإطار والتلوين؟
وآخر مثل من ذلك الصراع ما جرى في فلم (نحو المجد) الذي عرض يوم الاثنين الماضي في يوم الجامعة الخيري، وبدار سينما رويال تحت الرعاية الملكية السامية وبرياسة معالي وزير المعارف. مؤلف القصة وكاتب الحوار هو الأستاذ عبد الحميد يونس المدرس بكلية الآداب، ولكن ظهرت الإعلانات عن الفلم ليس فيه اسم المؤلف، وليس هذا فحسب، بل نجد أنفسنا أمام نوع جديد في ذلك المضمار فالمخرج لم يكتف بالاقتصار على إسناد الإخراج إليه، فأضاف جديداً في (الفن) إذ كتب في الإعلانات (تأليف وإخراج الأستاذ حسين صدقي) ومعنى ذلك أنه يدعي التأليف! فراع ذلك مؤلف القصة وكتب إلى المخرج ينبهه إلى هذا التصرف العجيب وبنذره، إن لم يقف سيل الإعلانات، ويغير (أكليشهاتها) أن يتخذ سبيله إلى القضاء.
ومن حيث أن الفلم تحت الرعاية الملكية السامية وبإشراف معالي وزير المعارف، ومن(808/38)
حيث أن المؤلف مدرس بالجامعة والفلم جامعي يعالج مشاكل طلاب في الجامعة، ومعروض في يوم الجامعة الخيري، فلم يكن من اللائق أن تلابسه هذه المهزلة ويعتدى على حق مؤلفه هذا الاعتداء المنكر.
البكاء الجميل:
سمعت من المذياع في أحد أيام هذا الأسبوع، تمثيلية (الشهداء) وهي تتضمن قصة الخنساء وفجيعتها في أخويها معاوية وصخر، ثم إسلامها واغتباطها باستشهاد أولادها الأربعة في إحدى الحروب الإسلامية. وهي تمثيلية جيدة لست أدري كيف غلطت الإذاعة فقبلتها. . . وليتها تكثر من هذا الغلط. . .
وقد مثلت الخنساء فتاة ذات نطق فصيح وصوت عذب ونبر حلو حتى في البكاء. . . ومما أنشدته من شعر الخنساء هذا البيت:
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
والمعنى الذي قصدته الخنساء مفهوم، فهي ترى بكاءها على أخيها حسناً جميلاً لأنها تستعذبه وتلذه. ولكن الفتاة الممثلة أوحت إلى خاطري معنى آخر، فقد كانت تنشج بصوت لا أثر للحزن فيه لأنها لم تندمج في الدور، وكانت توقع كل بيت وكل كلمة على هذا النشيج المصنوع وهي كما أسلفت ذات صوت عذب حلو، فكان بكاؤها جميلاً في المسامع، لا كجمال بكاء الخنساء.
أو كما قال الدكتور طه حسين في إحدى مقالاته بالأهرام: إن الشاعر يقول البيت أو الأبيات تعبيراً عما في نفسه، ولا يدري ما سيحدثه وما سيثيره بعد ذلك من شتى الخواطر والمشاعر في مختلف النفوس على تعاقب الأزمان والأجيال.
القسم السوداني الإنجليزي:
(أقسم مخلصاً وأعلن صادقاً أنني أؤيد المؤسسات السودانية التي تأسست بمقتضى هذا القانون، وأن أبذل جهدي في كل الأوقات للعمل لمصلحة السودانيين).
هذا هو نص القسم الذي طلب إلى أعضاء الجمعية التشريعية بالسودان أن ينطقوا به. وليس من همي هنا أن أتعرض له، من حيث اعتراض بعض الأعضاء غليه، لأنهم(808/39)
يرفضون التقيد بقوانين فرضت عليهم، وإنما يؤيدون ويحلفون على القوانين التي يضعونها، ولا من حيث غضب الحاكم العام على هذا الاعتراض.
إنما أريد أن أنبه إلى هذه الصيغة الإنجليزية في القسم. . . فالقسم في العربية يذكر فيه المقسم به فيقال - مثلاً -: أقسم بالله. أما الاكتفاء بفعل القسم فهو من عمل الإنجليز.
وهكذا تستهل الجمعية التشريعية السودانية، استهلالاً إنجليزياً حتى في القسم!
الهمزة الحيرى:
من المسائل التي يهتم بها الآن مجمع فؤاد الأول للغة العربية تيسير الإملاء. وتواصل اللجنة المنوط بها هذا العمل اجتماعاتها. لتفرغ من إعداده، وتقدمه إلى مؤتمر المجمع، بغية الموافقة عليه في هذه الدورة.
وفي أحد اجتماعات لجنة الإدلاء حمل الدكتور أحمد أمين بك على أوضاع الهمزة المختلفة حملة صادقة فقال: كيف تنفرد الهمزة بهذا التقلب فلا تستقر على حال، فترسم مرة على ألف، ومرة على واو، ومرة على ياء، ومرة مفردة. ويلقى الكاتب في تقليبها على هذه الأوضاع المختلفة عناء أي عناء. . . وما هي إلا حرف كسائر الحروف التي لا تتغير بتغير الحركات؟
وأذكر أن الأستاذ رفعت فتح الله المدرس بكلية اللغة العربية كان له بحث في هذا الموضوع نشر منذ سنين بجريدة الأهرام تحت عنوان (الهمزة الحيرى) ويغلب على ظني أنه أقترح فيه أن ترسم الهزة على ألف أو تكتب ألفاً في جميع الأحوال. وكم لهذا الاقتراح - لو نفذ - من أثر في كسب الأوقات والجهود التي تضيع في تعليم وتعلم رسم الهمزة التي احتارت وحيرت الناس معها، فأكثر مشاكل الإملاء من هذه الهمزة.
وما أخال المجمع إلا يرحب بمثل ذلك. فهل يرى الأستاذ رفعت أن يقدم بحثه إلى المجمع؟
من طرف المجالس:
كنا في مجلس أستاذ كبير، إذ أقبل أحد المكثرين من التأليف ومعه مجموعة ذات عدد من مؤلفاته، وقدمها للأستاذ الذي أخذ يلقي على كل منها نظرة، ثم فرغ منها والتفت إلى المؤلف قائلاً: أنت كل هذا؟ يظهر أنك (قاضي).(808/40)
وتبادل الجالسون ابتسامة خفية ذات معنى لا أدري هل قصده الأستاذ أو جاءت التورية عفواً على لسانه. . .؟
الإذاعة بين البلاد العربية:
تضع الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، مشروعاً جديداً يقتضي تعاون محطات الإذاعة في الدول العربية على تعريف البلاد بعضها ببعض. وذلك بأن تختار كل محطة طائفة من المحاضرين تتعاقد معهم ليتحدثوا عن بلادهم في كل نواحي حياتهم: من ثقافية واجتماعية وسياسية. ثم تسجل هذه الأحاديث وتتبادل دور الإذاعة السجلات لإذاعتها فيتم بذلك التعارف بين البلاد العربية على نطاق واسع.
ومما يشمله المشروع أن تسجل كل محطة محبة مختارة من الألوان القومية للفنون في بلادها كالموسيقى والغناء والأزجال وغيرها وتتبادل مسجلاتها أيضاً.
عباس خضر(808/41)
رسالة النقد
المآصر في بلاد الروم والإسلام
تأليف الأستاذ ميخائيل عواد
في مطلع عام 1948، أصدر الأستاذ ميخائيل عواد كتيباً صغير الحجم، طريف الموضوع، سماه: (المآصر في بلاد الروم والإسلام). ذكر في مقدمته: (أن مواده نشرت في ستة أعداد من مجلة المقتطف في سنتي 1944 - 1945م، وأنه رجع إليها بعد ذلك، فزاد فيها وهذب حتى استوى منها هذا الكتاب الجديد).
والأستاذ ميخائيل عواد باحث دقيق، واسع الحيلة، كثير الأناة، جميل الصبر على مشاق البحث، ومتاعب التنقيب، يعمل في هدوء وصمت وأدب، وهو مثل أخيه الأستاذ كوركيس عواد من تلاميذ مدرسة فقيد العربية الأب أنستاس الكرملي، أخذا عنه، وورثا طريقته في البحث والاستقصاء، والعناية الفائقة، والدقة والإتقان في كل ما يكتبان، وقد اخرجا منفردين ومجتمعين آثاراً قيمة، ونشر أبحاثاً دقيقة مما يذكرها لهما قراء العربية بالإعجاب والتقدير.
وكتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) الذي أصدره الأستاذ ميخائيل عواد أخيراً صغير الحجم في نحو تسعين صفحة مع فهارسه الخمسة التي استغرقت عشرين صفحة منه، ولكنه مع صغر حجمه بحث قيم، وموضوع جديد على المكتبة العربية. ويظهر من الاطلاع عليه أنه مجهود شاق، وعمل عظيم في بابه، وحسب القارئ الكريم أن يعلم أن مؤلفه رجع - في إعداده - إلى نحو تسعين مرجعاً قديماً بين مخطوط ومطبوع، وأبحاث ومقالات في المجلات.
وقبل أن نعرض لكتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام)، وتبين مقدار التوفيق الذي بلغه مؤلفه في بحث موضوعه نرى أن نضع بين يدي القارئ الكريم موجزاً في مفهوم (المآصر)، ومعناها في اللغة ومبناها من حيث التصريف، ثم ما يقصد منها عند الإطلاق حتى يكون على بصيرة، ويستطيع الحكم - وهو على بينة من أمره - على مجهود الأستاذ صاحب المآصر، ومقدار حظه من التوفيق.
فالمآصر جمع مأصر، والمأصر بفتح الميم وسكون الهمزة وكسر الصاد، اسم مكان على وزن مفعل بكسر العين من أصر يأصر بمعنى حبس يحبس، فالمأصر على ذلك موضع(808/42)
الحبس ومكانه.
هذا معنى المأصر في اللغة، ومبناها في التصريف، ويطلق المأصر في كتب الأقدمين ويراد به مكان حبس السفن في البحار والأنهار، أو مكان حبس السابلة في الطرقات لتستوفي منهم العشور والضرائب، وبأسلوب آخر، فالمأصر قديماً مثل موضع استيفاء ضرائب الدولة في نظامنا الحديث، وقد يكون هذا الموضع على ساحل بحر أو شط نهر، وقد يكون على طريق عام.
ولابد لهذه المآصر - حتى تستطيع حبس السفن والسابلة - من وسائل تساعدها على ذلك الحبس والمنع، فهناك الجبال والسواحل التي تمد على مداخل الموانئ في البحار، أو تمد على عرض النهر، وهناك بعض السفن الصغيرة التي يستعان بها على ذلك الحبس والمنع. حتى يمكن استيفاء الضرائب. إلى غير ذلك من الوسائل التي لابد منها في مثل هذه الأعمال.
وهذه الوسائل التي يستعان بها من جبال وسلاسل وسفن تسمى مواصر. والمواصر جمع ماصر. والماصر اسم فاعل من مصر بمعنى حجز ومنع، ففي تاج العروس للزبيدي، في مادة مصر: والمصر بالكسر الحاجز، والحد بين الشيئين كالماصر، وفي التهذيب: والماصر في كلامهم الحبل يلقى في الماء ليمنع السفن عن السير حتى يؤدي صاحبها ما عليه من حق السلطان.
ومما تقدم يتضح جلياً أن المآصر مواضع حبس السفن في البحار أوالأنهار، أو مواضع حبس السابلة في الطرق العامة حتى تستوفى حقوق السلطان، وأن المواصر وسائل ذلك الحبس من حبال وسلاسل وسفن.
ويظهر أن الأستاذ ميخائيل عواد مؤلف كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) اختلط عليه الأمر، فلم يدرك الفرق بين المأصر بالهمزة، والماصر بالألف، وظنها شيئاً واحداً. يدل على ذلك أنه لم يرجع إلى مادة (مصر) في مرجع من المراجع اللغوية التي نقل عنها واعتمد عليها في مادة (أصر)، مع أن كل تلك المراجع تكلمت على (المأصر) في مادة (أصر) وعلى (الماصر) في مادة (مصر). وإلى القارئ نبذة من تصدير المؤلف تؤكد اعتقاده بأن السلاسل والجبال والسفن تسمى المآصر، مع أنها من الوسائل التي من حقها أن(808/43)
تسمى المواصر. قال: وأهم ما يسترعي الاهتمام في كثير من هاتيك الموانئ وجود سلسلة ضخمة من الحديد تعترض الميناء، فتحده من جهة البحر، رسخ أحد طرفيها في صخرة مرتفعة مشرفة على جانب الميناء، وربط طرفها الآخر بقفل محكم الصنع وضع داخل برج مطل على الميناء من جهته الثانية، ويجلس في البرج المذكور شخص يطلق عليه اسم صاحب القفل بيده الأمر والنهي في خروج السفن من الميناء ودخولها إليه، فيعمل على رفع السلسلة أو على خفضها. وشبيه بهذا ما كان يجري في بعض الأنهار؛ غير أنه كثيراً ما استبدلت السلاسل بالقلوس، والأبراج بالسفن النهرية كما سيجيء تفصيله، ويطلق على هذه كلها (المآصر) وكانت الثغور ذات المآصر تتمتع من جهة البحر بسلام لا يضارعها فيه إلا تلك المدن التي تحيطها الأسوار ويحرسها الحراس، فالمأصر إذن الحصن الحصين لبعض الموانئ، وسدها المنيع تدفع به عنها كل غزو يأتيها من جهة البحر).
وقد جره هذا الاعتقاد باتحاد معنى المأصر والماصر إلى أغلاط كثيرة في ثنايا الكتاب، فإنه قال في ص9: وقد نسب إلى المأصر نفر من الناس. ثم نقل من كتاب الأنساب للسمعاني ترجمة أبي بشر يونس بن حبيب الماصري بعد أن وضع الهمزة فوق ألف الماصر والماصري في تلك الترجمة في نحو عشرة مواضع!.
وصاحب كتاب الأنساب لم يعرض المأصر بالهمزة أبداً، ولم يذكر أحداً منسوباً إليه، وإنما ذكر مادة الماصر بالألف، وذكر أن المنسوب إليه هو يونس بن حبيب الماصري، وأورد ترجمته. ويونس بن حبيب الماصري معروف بهذه النسبة في كل التراجم والأنساب قبل السمعاني وبعده، فلم يقل أحد أنه مأصري منسوب إلى المأصر بالهمزة، بل الكل مجمعون على القول بأنه ماصري منسوب إلى الماصر بالألف. فهذا الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان المعروف بأبي الشيخ المتوفي في سلخ المحرم سنة تسع وستين وثلاثمائة عن خمس وتسعين سنة يذكر غي كتابه طبقات المحدثين بأصبهان يونس بن حبيب على أنه منسوب إلى جده الأعلى قيس الماصر، وترجمة أبي الشيخ ليونس ابن حبيب هي أقدم ترجمة له. ويظهر أن كل من ترجم ليونس بعده أخذ عنه حتى ليغلب على الظن أن نص السمعاني منقول حرفياً عن أبي الشيخ. وابن أبي الشيخ هذا ولد بعد وفاة يونس ابن حبيب بنحو سبعة أعوام، فهو أقرب المؤرخين عهداً من يونس بن حبيب،(808/44)
وأعرفهم بأخباره وأحواله ونسبته.
وهذا مؤرخ آخر هو أبو نعيم الأصبهاني المتوفى سنة 430هـ يذكر يونس بن حبيب الماصري في كتابه أخبار أصبهان على أنه منسوب إلى جده الأعلى قيس الماصر، وترجمته ترجمة قريبة جداً من ترجمة أبي الشيخ.
هذا رأي مؤرخين جليلين ممن سبقوا السمعاني، وإلى القارئ بعد ذلك رأي مؤرخينآخرين ممن أتوا بعد السمعاني.
فهذا ابن الأثير يقول في كتابه (اللباب في تهذيب الأنساب): الماصري بفتح الميم وسكون الألف وكسر الصاد وفي آخرها راء، هذه النسبة إلى الماصر، والمشهور بهذه النسبة يونس بن حبيب الخ.
وهذا السيوطي يقول في كتابه (لب اللباب في تحرير الألقاب): للناصري بكسر المهملة وراء. إلى قيس الماصر الخ.
هذا، ومن المعروف أن نص كتاب الألباب للسمعاني الذي نشره مرجليوت مشحون بالأخطاء.
وقد ورد في النص الذي نقله الأستاذ ميخائيل عواد عن الألباب في ص9 بعض الأخطاء في نص الأصل، فلم ينتبه لها الأستاذ، ومر عليها مر الكرام، وتنبه لبعضها وحاول تصحيحها، فزادها فساداً! وتوهم الخطأ في بعض جمل الأصل مع أنها صحيحة فحرفها وأفسد معناها. فمن النوع الأول: في ص9 س14: العجلى المصري. وهو خطأ وصوابه: العجلى الماصري.
وفي ص9 س20: أمام الحجاج مع الفراء. وهو خطأ في الأصل صوابه: أيام الحجاج مع القراء.
ومن النوع الثاني ما صنعه في نص صاحب الأنساب في ص9 س18 الذي يقول فيه: وكان - الحديث عن قيس الماصر جد يونس بن حبيب - أول من مصر الفرات ودجلة. حيث قال: كذا. والصواب: مأصر الفرات ودجلة، وصنع هذا الصنيع نفسه في نص كتاب لب اللباب للسيوطي الذي نقله في ص10 س4، 5
ونص الأصل هنا صحيح لا غبار عليه، وقد ورد كذلك في طبقات المحدثين بأصبهان لأبي(808/45)
الشيخ، وفي كتاب أخبار أصبهان لأبي اللباب في تحرير الأنساب للسيوطي؛ ومعناه صحيح أيضاً لأن كتب اللغة - كما تقدمت - تذكر المصر، والماصر بمعنى الحاجز، فمعنى مصر الفرات ودجلة خطأ، فأصلحه وجعله: مأصر الفرات ودجلة. فاخترع من عندياته فعلاً لم تذكره كتب اللغة، وليس له معنى صحيح، وأفسد نص الأصل مع أنه صحيح! ومن النوع الثالث ما في ص9 س18، 19، فقد ورد في نص الأصل ما يلي: فهي قليس الماصر. وهي جملة مضطربة يظهر عليها التحريف، فأصلحها الأستاذ ميخائيل إلى: فهي قلس المأصر. ولكن هذا الإصلاح زاد النص تحريفاً جديداً فوق تحريفه. والحديث هنا عن قيس الماصر. وصحة العبارة هي هكذا: وكان أول من مصر الفرات ودجلة، فهو قيس الماصر. فقد ورد في طبقات المحدثين بأصبهان لأبي الشيخ هكذا: وكان أول من مصر الفرات ودجلة، فسمى قيس الماصر، وكذلك وردت هذه الجملة في اللباب في تهذيب الألباب) لأبن الأثير.
وهذا تحريف آخر وقع من المؤلف حرف فيه نص الأصل الصحيح الذي لا يجوز غيره. فقد جاء في نص السمعاني في ترجمة يونس بن حبيب: وهو ابن بنت حبيب بن الزبير الخ. وكذلك هو في طبقات المحدثين بأصبهان لأبي الشيخ، وأخبار أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني، ولكنه تحرف في وكتاب المآصر في بلاد الروم والإسلام ج9 ص15 إلى: وهو ابن أخت حبيب بن الزبير ولم يدركه المؤلف.
ويظهر أن الأستاذ ميخائيل عواد أصبح قوي الإيمان باتحاد معنى المآصر والمواصر، فمع أنه ينقل في ص20 عن كتاب (رسوم دار الخلافة) لهلال الصابي نصاً صريحاً بأن القلوس غير المآصر ذات السلاسل الحديد، والأبراج المنيمة الخ. وهذا صريح في أن الأبراج المنيمة والسلاسل الحديد غير المآصر أقول: مع هذا وذاك، إن الأستاذ ميخائيل عواد يسير في سائر الكتاب على اعتقاد الاتحاد في المعنى بين المآصر والمواصر.
هذا الغلط في الخلط بين المأصر بالهمزة والماصر بالألف عيب كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) البارز الذي يكاد يذهب بكل محاسنه. فإن القارئ لا يستطيع - وهو يقرأ أحد فصول الكتاب - أن يجزم: هل الحديث الذي يقرأه حديث عن المآصر حقاً، أم هو حديث عن المواصر. وإنما جعله الأستاذ المؤلف حديثاً عن المآصر لاعتقاده بأن المآصر(808/46)
هي المواصر؟. وهذا الشك يرد على كل ما أورده الأستاذ في كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام). ويبدو أن أكثره حديث عن المواصر، وإنما جعله الأستاذ حديثاً عن المآصر. وإن الأستاذ ميخائيل عواد ليحسن صنعاً لو أعاد النظر في كتابه هذا، وأفرد المآصر في بحث خاص، والمواصر في بحث آخر حتى يكون عمله ذا قيمة علمية ويؤتي ثمراته الجنية.
هذه نظرة عامة في كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) أردت بها وجه الحق، والنصح للأستاذ المؤلف. وفي الكتاب بعد ذلك هنات هينات لا يمكن أن يخلو من مثلها كتاب. وأنا عارض بعضها فيما يلي عرضاً سريعاً حتى يتداركها الأستاذ المؤلف عند إعادة النظر في الكتاب:
(1) بحث المآصر في كتب اللغة وما إليها. كان حقه أن يكون بحثاُ قائماً بذاته، لا أن يجعل ضمن الباب الأول المفقود للمآصر النهرية بالعراق.
(2) أشار المؤلف في التصدير إلى ميناء أطرابلي العجيب، ونقل شيئاً مما قاله ابن حوقل واليعقوبي عن هذا الميناء، ولكنه لم يعرض له في صلب الكتاب.
(3) وردت كلمة (الموانئ) في ص5، 6، 39 مرسومة هكذا: (الموانئ) وهو خطأ في الرسم.
(4) يقول المؤلف في ص9: إن الجواليقي نبه إلى خطأ شائع في لفظ المآصر - يقصد المأصر - وقع فيه أكثر اللغويين الذين تطرقوا إلى ذكرها، فقال: (. . وهو المأصر بكسر الصاد، وفتحها خطأ الخ) والظاهر أنه نسى أنه نقل مثل هذا التنبيه على خطأ فتح الصاد على الحريري قبل ذلك في ص7.
(5) في ص12 س12: حدثنا شعبة عن ابن اسحق. فقال المؤلف: لعله أبي اسحق. وقد ورد هذا الاسم صحيحاً في ص70، فلو أن المؤلف رجع إلى هذا الاسم هناك لما تردد.
(6) في ص17 نقل النص الآتي: (وقد كان المكاري يبالغ في أذى الناس، وأخذ أموالهم، ويقول: أنا قد فرشت حصيراً في جهنم). فعلق على كلمة (حصيراً) في الحاشية بقوله: (الحصير الحبس: قال الله تعالى (عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) سورة الإسراء الآية 7.(808/47)
وفي هذا التعليق غلطتان الأولى تفسير الحصير هنا بالحبس؛ لأن المقصود بالحصير في كلام المكاري هو ذلك الذي يفرش في المنازل ويتخذ من البردي والأسل. قال في تاج العروس: الحصير سقيفة تصنع من بردي أو أسل، ثم يفوش. سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض. وفي الحديث: أفضل الجهاد وأكمله حج مبرور ثم لزوم الحصر بضم فسكون جمع حصير الذي يبسط في البيوت قال الشاعر:
فأضحى كالأمير على سرير ... وأمسى كالأسير على حصير
والغلطة الثانية في جعل الآية التي أوردها السابعة من سورة الإسراء مع إنها الثامنة.
(7) في ص19 س3 وردت كلمة ملأ. وصوابها ملا بغير همزة مراعاة للوزن.
(8) في ص19، 20، 60، 61، 64 وردت كلمة المصابيء مرسومة هكذا (المصابئ) وهو خطأ في الرسم.
(9) في ص20 س7 قال: ولقد مر بنا غير نبأ. وهو يقصد: وقد مر بنا أكثر من نبأ، وقد تكرر نحو هذا الأسلوب منه في ص14، 11، 53، 62، 72.
(10) في ص34 س4 نقل هذا النص: لما كان الثامن والعشرين من شعبان الخ، ولم ينبه إلى الخطأ في كلمة العشرين. إذ الصواب العشرون.
(11) في ص60 س11 وردت جملة: منها لتثبيت الجسور وصوابها: منها تثبيت الجسور.
(12) في ص12 س5 قال: ونسج البرجمي هذا في استيفاء المبالغ من الضرائب والمآصر ونحوهما. فما معنى المآصر هنا؟
(13) في ص62 س17، 18 وردت جملة: وهو تحريف ظاهر. وصوابها: وهو تحريف ظاهر بغير واو.
(14) في ص63 س11: قلت وراجع. صوابه: قلت راجع. بغير واو.
(15) في ص65 س4: وخرج الطائع لله في تلقيه (لتلقي عضد الدولة). وصوابه أن يقول. (تلقى عضد الدولة) بغير لام.
(16) في ص70 أعاد رواية خبرين عن مسروق سبق له ذكرهما في ص12. ومع أن رواية ص70 فيها زيادة هامة في أحد الخبرين تتمم المعنى، وتصحيحاً لاسم راو تشكك المؤلف في اسمه فيما سبق. فإن المؤلف لم يتنبه لشيء من ذلك ولم ينبه إليه.(808/48)
وبعد فإن في كتاب (المآصر في بلاد الروم والإسلام) على صغر حجمه مجهوداً علمياً، وبحثاً قيماً، وعناء كبيراً، بذل في سبيل إعداده وإخراجه، ولا يقلل من قيمة كل أولئك هذه الملاحظات التي لاحظتها على عمل الأستاذ المشكور، فإنه أول بحث في بابه: لم يطرقه أحد من قبله، فكان حقيقاً أن يكون وعر المسالك كثير المخاوف والمجاهل. وقد وضع الأستاذ ميخائيل عواد بكتابه هذا المصور والمعالم على ذلك الطريق المجهول، فسهل مهمة الباحثين من بعده، فاستحق شكر قراء العربية على هذه الثمرة التي قدمها إلى المكتبة العربية. وإذا كانت هذه الثمرة غير تامة النضج فليس ذلك ذنباً يؤاخذ عليه، وحسبه أن بذل ما في طاقته، واستفرغ الجهد.
برهان الدين الداغستاني(808/49)
العدد 809 - بتاريخ: 03 - 01 - 1949(/)
الإسلام دين القوة
الإسلام دين القوة؛ وهل في ذلك شك؟
شارعه هو الجبَّار ذو القوة المتين؛ ومبلغه هو محمد الصبار ذو العزيمة الأمين؛ وكتابه هو القرآن الذي تحدى كل إنسان وأعجز؛ ولسانه هو العربي الذي أخرس كل لسان وأبان؛ وقواده الخالديون هم الذين أخضعوا لسيوفهم رقاب كسرى وقيصر؛ وخلفاؤه العمريون هم الذي رفعوا عروشهم على نواصي الشرق والغرب. فمن لم يكن قوي البأس، قوي النفس، قوي الإرادة، قوي العزيمة، قوي العقيدة، قوي الإنسانية، قوي الأمل، قوي العدة، كان مسلما من غير إسلام، وعربيا من غير عروبة!
الإسلام قوة في الرأس، وقوة في اللسان، وقوة في اليد، وقوة في الروح.
هو القوة في الرأس لأنه يفرض على العقل توحيد الله بالحجة، وتصحيح الشرع بالدليل، وتوسيع النص بالرأي، وتعميق الإيمان بالتفكر.
وهو قوة في اللسان لأن البلاغة هي معجزته وأداته؛ والبلاغة قوة في الفكر، وقوة في العاطفة، وقوة في العبارة.
وهو قوة في اليدلأن موحيَه - وهو الحكيم الخبير - قد علم أن العقل بسلطانه واللسان ببيانه لا يغنيان عن الحق شيئا إذا ما اظلم الحس وتحكمت النفس وعميت البصيرة؛ فجعل من قوة العضل ذائدا عن كلمته وداعيا إلى حقه ومنفذا لحكمه ومؤيدا لشرعه. كتب على المسلمين القتال في سبيل دينهم ودينه؛ وفرض عليهم إعداد القوة والخيل إرهابا لعدوهم وعدوه؛ وأمرهم أن يقابلوا اعتداء المعتدين بمثله. ولكن القوة التي يأمر بها الإسلام هي قوة الحكمة والرحمة والعدل، لا قوة السفه والقسوة والجور؛ فهي قوة مزدوجة، أو قوة فيها قوتان؛ قوة تهاجم البغي والعدوان في الناس، وقوة تدافع الأثرة والطغيان في النفس.
والإسلام بعد ذلك قوة في الروح لأنه يمحص جوهرها بالصيام والقيام والاعتكاف والأرتياض والتأمل.
وأنت إذا عرضت على الفكر السليم الحكيم مرامي العقيدة الإسلامية، وجدتها كلها تتجه إلى القوة، أو إلى ما تحصل به القوة؛ فالصلاة نظافة جسدية بالوضوء، وطهارة روحية بالذكر، ورياضة بدنية بالحركة. والزكاة تقوية للضعيف بالتصدق، وتنمية المال بالتطهير، وتمكين للمجتمع بالتعاون. والحج قوة اجتماعية بالتعارف والتآلف، وقوة سياسية بالتشاور(809/1)
والتحالف، وقوة اقتصادية بالبياعات والتسوق. وان أشد ما تجتمع به القوة وتتسق عليه الحال هو الوحدة والجماعة، وهما لباب الدعوة الإسلامية. فالوحدة هي الأساس الذي حمل، والجماعة هي الصرح الذي قام. كانت الوحدة هي الأساس لأنها توحيد لله بعد إشراك، وتوحيد للعرب بعد شتات، وتوحيد للرأي بعد تفريق، وتوحيد للغة بعد تبلبل، وتوحيد للقبلة بعد تدابر. وكانت الجماعة هي الصرح لأنها جمعة القلوب التي ألف بينها الله، وجملة الشعوب التي رفع شأنها محمد. ثم قامت سياسة الإسلام على استدامة القوة بالمحافظة على الوحدة والحرص على الجماعة. فالفرد الذي يكفر بوحدة العقيدة والأمة يقتل، والطائفة التي تبغي على جماعة المسلمين تقاتل. والصلاة إنما يعظم أمرها ويضاعف اجرها إذا أديت في جماعة. وهذه الجماعة تتكرر خمس مرات كل يوم، ثم تكبر في صلاة الجمعة كل أسبوع، ثم تعظم في صلاة العيدين كل عام، ثم تضخم في أداء الحج مرة - على الأقل - في كل عمر.
على ذلك كان إسلام محمد وأبي بكر وعمر؛ وعلى ذلك كانت عروبة خالد وسعد وعمرو. كان العرب والمسلمون حينئذ يحملون المصحف للحق والسيف للباطل؛ وكان خلفائهم يجمعون بين أسامة للصلاة وقيادة المعركة، حتى بلغوا من القوة فعل كتاب الرشيد ما يفعل الجيش؛ وبلغوا من المروءة أن سير المعتصم جيشا لإنقاذ امرأة. فلما شتت الوحدة، وتفرقت الجماعة، وصارت سيوف المسلمين خشبا يحملها خطباؤهم على المنابر، ومصاحفهم تمائم يعلقها مرضاهم على الصدور، أصبحت دولهم تبعا لكل غالب، وتراثهم نهبا لكل غاصب؛ وبلغوا من التخاذل والفشل أن الأندلسيين يجلهم النصارى عن أقطارهم بالأمس فلم يجدوا الرشيد؛ وان الفلسطينيين يشردهم اليهود عن ديارهم اليوم فلا يجدون المعتصم!
إن مسلمي هذا الزمن الأخير صاروا من جهلهم بالدين وعجزهم في الدنيا على أخلاق العبيد؛ يطأطأ أشرافهم فلا يندى لهم جبين، وتنقص أطرافهم فلا يحمى لهم انف، وتنزل بهم الشدة فيتخاذلون تخاذل القطيع عاث فيه الذئب، ويغير عليهم العدو فيتواكلون تواكل الاخوة دب فيهم الحسد، وتجمعهم الخطوب فيفرقهم الطمع والهوى، ويلجئون إلى جماعة الدول المتحدة فيخذلهم العدو والصديق؛ كان الإسلام الذي كان عامل قوة وائتلاف، قد انقلب اليوم علة ضعف واختلاف! وكان الذين كنا نقول لهم بلسان الجهاد: أسلموا تسلموا، يقولون لنا(809/2)
بلسان الاضطهاد: تنصروا تنصروا!! ولكن الإسلام دين الله لا يغيره الزمن، ولا تجافيه الطبيعة، ولا يعاديه العلم، ولا تنسخه المذاهب؛ وإنما المسلمون اليوم هم أعقاب أمم وعكارة أجناس وبقايا نظم ورواسب حضارات وربائب جهالات وطرائد ذل، ففسدت مبادئ الإسلام في نفوسهم المشوبة كما يفسد الشراب الخالص في الإناء القذر.
إن جامعة الدول العربية كانت تعبيرا جميلا لحلم ساور النفوس الطيبة حقبة من الزمن. ولكن الحلم قد يقع وقد لا يقع، والتعبير قد يصدق وقد لا يصدق. ولو كان ميثاق هذه الجامعة قبسا من نور الله وهديا من سنة الرسول، لما رأيناها في نكبة فلسطين تعد ولا تنجز، وتقول ولا تفعل. ولو ظل أمرها قائما على الخطب الحماسية والوعود المغرية والتصريحات البليغة والاجتماعات المتعاقبة، أظلت في نفوس العرب والمسلمين مناط الثقة ومعقد الرجاء ومثابة الأمن؛ ولكن طالعها السيئ ابتلاها وهي لا تزال في زهو النشأة وصفو المآدب بحرب الصهيونية المهينة، فتحمست الدول السبع، وسيرت كتائبها المظفرة إلى عصابات اليهود في فورة من الأناشيد والخطب؛ فلما صار الأمر جدا والكلام فعلا وقفوا على أطراف الميدان وقفة الحائر القلق: هذا يتجه إلى بريطانيا وفي يده التاج الناقص؛ وذاك يلتفت إلى أمريكا وفي كفه العقد المبرم؛ والآخرون يهيبون الأمر وينتظرون في ظلال الهدنة المفروضة ما تلده الأحداث ويقرره مجلس الأمن!
وليس من هؤلاء الآخرين المنتظرين والحمد لله مصر؛ فقد قضت عليها حمايتها للإسلام ورعايتها للعروبة وأمانتها للجامعة أن تقف وحدها في الميدان الغادر تكافح في صدق وصبر جيوش اليهود وقواد الروس وأسلحة الأمريكان ومكر الإنجليز؛ ثم لا تتلقى من أخواتها الشقيقات إلا هتافا كهتاف الحمام وحنانا كحنان الإوز: يروق باسمة من غير غيث وصكوك ضخمة من غير رصيد!!
لقد تكشفت مأساة فلسطين - واسوأتاه - عن قلوب شتى ووجوه متعارضة والإسلام - كما رأيت - وحدة وجماعة. فمن فصم العروة بعد توثيقها، ونقض باليمين بعد توكيدها، وفرق الكلمة بعد توحيدها، فهو مسلم من غير إيمان، وعربي من غير شرف، وإنسان من غير ضمير!
أحمد حسن الزيات(809/3)
شفاء الروح
لصاحب العزة محمود بك تيمور
أخي المؤمن:
قصارى ما يطمح إليه فؤادك أن تكون سعيدا، وإنك لتسعى جاهدا غير وان، باذلا كل مرتخص وغال لا قبلة لك إلا أن تحظى بتلك السعادة المنشودة.
ولكنك تظلم نفسك أن عددت السعادة فيما يتراءى لك من عروض الحياة، كالغنى والجاه. فهذه العروض التي يستعصي عليك منالها، والتي تحسب الخير أجمع فيها، ربما كانت هي باعثة الشقاء، ومدعاة العذاب.
وأنت فقد تجاهد وتجالد، حتى تبلغ مأربك من هذه العروض، وما هي إلا أن يتجلى لك ما خفي عنك، فتعرف بعد لأي انك كنت مخدوعا تظن السراب ماء، وان الغنى والجاه وما إليهما من مظاهر الحياة إنما هو زيف زائل وزخرف باطل.
ويوم تقف على القمة بعد أن صعدت في السلم الذي استهواك، ترى انك لم تظفر من جوهر السعادة بطائل، وان من حولك غيوم الحياة وظلماتها مطبقة عليك، وانك لم تنكشف عنك البأساء والضر. . .
ولو سمت نفسك إلى أن تستكنه سر ذلك، لعلمت على يقين أن المظهر قد غرك، فقفوت أثرهم، واسترسلت في طلبه، فلم تعن بالمخبر واللباب!
أخي المؤمن:
إن للسعادة لنبعا فياضا هو (الروح). . .
فمن تنكب عنه، لم يظفر برشفة منه، ولو أدلت إليه السماء بأسباب، ومن فطن له بلغ السعادة من أقرب باب!
ولا تبلغ الروح هذا المبلغ من إسعاد الإنسان إلا إذا توافر لها الصفاء والنقاء، فإذا هي تخف، وإذا هي تسمو إلا آفاق علوية ترفعت عن الشوائب والأدران
فهل لي أن أكاشفك بما اسميه (تجربة) أو (وصفة) تنيلك ما تريده لروحك من صفاء وتطهر، حتى تصل إلى شفاء النفس وتتوافر لك السعادة الحقة؟
لست أفجؤك بما يروعك سماعه، أو يعييك فهمه، أو يتعصى عليك إنفاذه. . .(809/5)
إنها وسيلة بالغة الشيوع، قريبة التناول، بيد أن الناس قلما يلتفتون إلى سرها العظيم، أثرها الناجع، فهم لا يتخذونها على النحو الذي يحقق تلك الغاية العالية. . .
أخي المؤمن:
نصحي إليك أن تضع مصحفا فوق وسادك، لا تتخذه تميمة من التمائم، ولا تعويذة من التعاويذ. . . وإنما تتخذه نبعا فياضا تستقى منه لروحك صفاء، ولنفسك شفاء!
ليكن من دأبك في إصباحك ألا تقع عينك أول ما تقع إلا على هذا الكتاب الخالد، فرتل منه ما تيسر وأملا سمعك بتلك الآيات البينات، تمتعك بسحر البيان، وروعة الإيقاع، واترك حكمتها البالغة تسري في وليجة نفسك، فتضئ من جوانبها ما أظلم، وتجلو منها ما صدئ، فإنك لا تلبث أن تحس روحك قد انسكب عليها فيض يكفل لها الطهر، ويثير فيها الانتعاش. . .
أنعم بذلك بدءا نهارك الوضاح!
لتصبحن وقد شاع في أساريرك بشر، وامتلأت نفسك بالثقة، ولتقبلن على عملك نشطا في تيمن وانشراح
وليكن كذلك من دأبك في ليلك أن يكون ذلك المصحف آخر ما تقع عليه عينك قبل أن تسلم أجفانها للمنام، فرتل من أي القرآن ما وسعك أن ترتل، تطهيرا لنفسك مما علق بها من غبار يومك؛ ونم على وقع تلك الأهازيج القوية سابحا في أحلام طيبة كلها روح وريحان. . .
أعمل بتلك السنة لا تنحرف عنها يوما، وأتخذها لك منهجا وإماما، وانظر كيف تصير من حال إلى حال، وكيف يتكامل لك حظك من سعادة النفس ونعيم الروح. . .
ولا تنس هذا القرآن العظيم في غدو ولا رواح. فإن ألمت نازلة، أو حزب أمر، فاجعل من آيهِ لك مفزعا تستظل فيه من حر ما تجد، وإنك لشاعر من ساعتك بأن الغمة لا سلطان لها عليك وأن لك جلدا لا يهن، وعزيمة لا تخور. . .
أخي المؤمن:
مزية جليلة لك أن يكون ذلك الذخر الخالد من كلام الله تراثا دانيا منك، تلتمس فيه علاج نفسك، وصفاء روحك، وتمتلك به ناصية السعادة بمعناها الأسمى، ذلك لأن هذا القرآن(809/6)
الكريم ينأى بك عن مكاره الأرض، ليصل بينك وبين السماء!
محمود تيمور(809/7)
الرأي العام في تعاليم الإسلام
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد محمد المدني
من أهم الدعائم التي تقوم عليها عظمة الأمة، وتستقيم بها أحوالها؛ أن يكون فيها (رأي عام) ناضج مهيب، يستلهمه قادتها والقائمون بأمرها، ويخشاه من تحدثهم نفوسهم بالبغي عليها، أو الانحراف عن الصراط السوي في تدبير شئونها.
وأهل السياسة، ورجال الاجتماع، يحكمون للامة أو عليها بحسب (الرأي العام) فيها، فإذا كان من عادة الأفراد أن يهتموا بالشئون العامة، ويحرصوا على أن يكون لهم توجيه فيها، ووزن لقيمتها، وتمييز بين الصالح والفاسد منها؛ كانت الأمة بخير، وكانت جديرة بان تعيش وتكافح في معترك هذه الحياة، وتتبوأ بين الشعوب مكانة حسنة. وإذا كان الأفراد معنيين بشئونهم الخاصة فحسب، يقصرون عليها جهودهم، وينفقون فيها كل نشاطاتهم، ولا يعنيهم بعد ذلك أصلحت أحوال المجتمع الذي يعيشون فيه أم فسدت؛ فالأمة على خطر عظيم، وهي صائرة بخطى واسعة إلى الفساد ثم الانحلال ثم الهلاك!
وهذا الأصل العلمي له شواهد من واقع الأمم في القديم والحديث، وله في عصرنا الحاضر على وجه أخص أمثلة من الأمم القوية والأمم الضعيفة لا احسبني في حاجة إلى الإطالة بذكرها. وإنما أريد أن أقول: أن هذا الأصل الذي آمن به علماء الاجتماع، واصبح من الحقائق المسلم بها، قد جاء به الإسلام، فقرره الكتاب الكريم، وبينته السنة المحمدية في جلاء ووضوح منذ أربعة عشر قرنا!
يقول الله تعالى في كتابه العزيز (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).
وهذه الآية هي أساس المسئولية التضامنية بين جميع أفراد الشعب، إذ توجب على الأفراد أن يكونوا دعاة إلى الخير، وآمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، فيؤلفوا بذلك (رأيا عاما) يلزم كل إنسان بالاستقامة على النهج، والتزام الصراط المستقيم، فيما هو مولى عليه من شئون خاصة أو عامة.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن (من) في قوله تعالى (ولتكن منكم) للتبعيض، وأن المعنى على ذلك وجوب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا كفائيا، أي(809/8)
(إنها واجبة على الكل لكن بحيث أن أقامها البعض سقطت عن الباقين، ولو أخل بها الكل، أثموا جميعا) ورأى بعضهم أن (من) في الآية ليست تبعيضية، وإنما هي تجريدية، كما تقول: لقيت من فلان أسدا، وأنت تريد أن تقول لقيته هو، والمعنى على هذا، كونوا أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وهذا الرأي الأخير هو الحق، وهو الذي نصير إليه، ونقول به وذلك لأمور: منها أن الله سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وفي هذه الآية أسند الفعل صراحة إلى ضمير الأمة.
ومنها أن الله ذكر المنافقين والمؤمنين في آيتين من سورة التوبة فقال: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم) (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله).
جعل من صفات المنافقين ودأبهم الذي طبعوا عليه ملتوون عن سبيل الحق، يمقتون الصلاح والخير، ويميلون إلى الفساد والشر، فيأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن أعمال البر والتعاون فيبخلون، ولا يصح أن يكون الكلام على إرادة بعض من المنافقين دون بعض، فإنه في صدد ذكر خصائصهم وما يعرفون به، وفي مقابل ذلك جعل من صفات المؤمنين ولاية بعضهم بعضا، أي الاخوة والمحبة والتناصر والتعاون على البر والتقوى، وجعل من صفاتهم أيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله، ولا يصح أن يكون الكلام هنا أيضاً على إرادة بعض من المؤمنين دون بعض، لاسيما وقد ذكر من الأوصاف إقامة الصلاة وما بعدها من الفرائض العينية التي تجب على كل فرد.
ومنها أن الله تعالى ختم الآية الأولى بقوله: (وأولئك هم المفلحون) أي الفائزون بما قضت به سنته من النجاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة، وختم الآية الأخيرة بقوله: (أولئك سيرحمهم الله) أي سيشملهم برعايته وتوفيقه وفضله، ولا يصح أن يكون الفلاح خاصا بالقائمين بفرض الكفاية دون غيرهم، ولا أن تكون الرحمة مقصورة عليهم، مع أن الله قد أباح للآخرين أن يتركوا الفعل اعتمادا على كفاية حصوله ممن قام به، وإلا لكان بمثابة أن(809/9)
يبيح أمرا لا يتصل به سبب من أسباب الفلاح والرحمة.
ومنها أن الله تعالى قال في سورة العصر (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فجعل الحكم بالخسارة عاما يشمل جميع الناس، ثم أستثنى المؤمنين العاملين المتواصلين بالحق والصبر، والتواصي بالحق هو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن لم يقم بها فهو في خسر، وهذا حكم عام لجميع الأفراد، يقابل الحكم بالفلاح، والوعد بالرحمة في الآيتين السابقتين.
من هذا يتبين أن القرآن الكريم يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شأن المؤمنين ودأبهم، وأن كل مؤمن مكلف به تكليفا عينيا كما هو مكلف بالصلاة والزكاة وإطاعة الله ورسوله، وهذا طبعا في حدود الاستطاعة والقدرة والأمن من ترتب مفسدة أعظم ووقوع فتنة أكبر، وإلا سقط أو وجب الكف عنه.
وقد جاءت السنة المطهرة بما جاء به الكتاب الكريم، فمن ذلك ما رواه المحدثون عن أبي بكر رضي الله عنه من أنه قام خطيبا فحمد الله أثنى عليه ثم قال: أيها الناس. إنكم تقرأون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتد يتم) وإنكم تضعونها غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول: (إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب) وفي رواية (ليس من قوم يعمل فيهم بمنكر، ويفسد فيهم بقبيح، فلم يغيروه ولم ينكروه إلا حق على الله أن يعمهم بالعقوبة جميعا ثم لا يستجاب لهم)، ومن ذلك ما رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي وغيرهم من قوله صلى الله عليه وسلم (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وما رواه مسلم وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
والحديث الأخير يعم بالخطاب سائر المؤمنين ويكلف بتغيير المنكر كلا على حسب استطاعته: باليد أو باللسان أو بالقلب، والتغيير بالقلب عبارة عن مقت الفاعل وعدم الرضى بفعله، وهو وسيلة صحيحة لردع أهل الفساد فإن شعور المفسد بمقت القلوب له ونفور النفوس من فعله، واحتقار الناس إياه؛ كفيل برده عن الإفساد من قريب أو من بعيد، وهو أشبه بعلاج الإيحاء لأنه بمثابة نهي صامت ملح يتمثله المرتكب للقبيح مدويا في إذنه،(809/10)
مثابرا على تبكيته وتأنيبه.
وقد مثل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حال المؤمن لأخيه فقال: (المؤمن مرآة المؤمن) كما مثل لنا حال الأمة بحال راكبين في سفينة أراد بعضهم أن ينقروا فيها، فإن اخذوا على يده نجوا ونجا معهم، وإن تركوه هلكوا وهلك معهم.
هذا كله تربية للأمة وتكوين لشخصيتها، وخلق لقوة المقاومة فيها، تحصينا لها من الفساد، ودفعا بها في سبيل الرشاد. وقد قص علينا القرآن أمر بني إسرائيل لما أتهدم فيهم هذا الأصل، وسامحوا فيه وداهنوا، فقال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) واللعن عقوبة شديدة فظيعة، هي الطرد والأبعاد عن رحمة الله والحرمان من توفيقه ورعايته، ولا شك أن أمة تصاب بذلك هي أمة هالكة بائرة، وقد ذكر الله سبب هذا اللعن الذي عوقبوا به على لسان داود وعيسى بن مريم فبين لنا أنه العصيان والاعتداء وعدم التناهي عن المنكر ثم ذم صنيعهم في ذلك بهذه العبارة البليغة المؤكدة بالقسم: (لبئس ما كانوا يفعلون).
كما قصت علينا السنة النبوية ذلك لنعتبر به، فقد روى أبو داود وغيره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيدة، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) وكان متكئا فجلس وقال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا - أو تقصرنه على الحق قصرا. . . أو ليضر بن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم).
وقد تحدث الله جل علاه عن (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) فقال وعدا، واشتراطا عليهم: (ولينصرن الله من ينصره أن الله لقوي عزيز: الذين أن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).(809/11)
فبعث بذلك في كل فرد من أفراد المؤمنين رغبة النصر والقوة والعزة على شرائط يؤديها من بينها هذا الركن الأساسي العظيم، وقد وفى الله للمؤمنين بوعده حين وفى له تعالى بما شرط عليهم، فلما كان شأنهم قول الحق، والإنكار على الظلم، وبذل النصح، وتقويم المعوج، والدعوة إلى الخير والمعروف، أصلح الله شأنهم، وأعز دولتهم، وأخاف أعداءهم، ولما جاملوا في الحق، وتسامحوا في درء المفاسد، ودفع المنكرات، وضعفوا عن مجابهة المبطلين، ضرب الله بعضهم ببعض، وأصابهم بالانحلال، وأصبحوا أفرادا ممزقين، يتجاورون في الأوطان دون أن يجمعهم وصف الأمة المتعاونة المتكاتفة ذات (الرأي العام) الناضج المهيب.
(وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
محمد محمد المدني
المفتش بالأزهر(809/12)
الإسلام في تركيا
للأستاذ محمد فريد وجدي
مر على تركيا عهد كانت فيه كسائر الأمم الشرقية تحت وصاية رجال الدين. فكان للدولة شيخ للإسلام له رأي مسموع في الشئون الحكومية والسياسة الدولية، وكان له ألوف من الأتباع منبئين في جميع الولايات يؤيدهم الشعب في إملاء إرادتهم على الولاة. وكان يقوم إزاء هؤلاء الممثلين للدين رجال انتحلوا لأنفسهم صفة التصوف، وليس أكثرهم منها في شيء، يطعمون عقيلة الناس بوجهات نظر في الدين قد تنافيه أو تحد من سماحته. وكان الشعب التركي في الثلاثة القرون الأخيرة قد تعب من مواصلة الجهاد، ولكن التارات التي لأوروبا عليه لم تخمد جذوتها، بل زادت اشتعالا انتهازا للفرصة، فكان هذا الشعب الجريء الصبور يتحمل الشدائد ولا تلين له قناة نحو قرنين متوا ليين.
في هذه الأثناء أكثرت تركيا من البعوث العلمية لأوروبا، وأكثرت من حصة ألمانيا في الناحية العسكرية، وألمانيا كانت معشش الفلسفة المادية في القرن التاسع عشر كله، حيث نبع شيوخ الإلحاد وممثلوه، فاقتبس منهم شبان الأتراك أكثر نظرياتهم، ولما عادوا إلى أوطانهم أشاعوا، فوجدت رواجا بين المتعلمين، وساعد على هذا الرواج تشدد بعض الشيوخ قي رجعية ظاهرة البطلان.
فلما حدثت الحرب العامة في سنة 1914 وانتهت بهزيمة ألمانيا وأنصارها، وكانت تركيا منهم، وتقرر الصلح، شعرت تركيا بان خصومها يريدون الإجهاز عليها، فثارت ثورة استبسال تيقظت فيها جميع مصادر قوتها وبسالتها، وتجلت فيها روح عزتها وكرامتها، ووقفت للدول المنتصرة إلى حدود بلادها والسيف في يدها تذود عن وجودها بدماء من حياة بقيت لها. فأخضع الله أعداءها لهذا المظهر الرائع من حوادث البطولة النادرة، وكان جزاؤها أن أعطيت كل ما طالبت به من حقوقها الاجتماعية كافة، وحدودها الطبيعية كدولة. فكان هذا حادثا فذا لم يشهد له التاريخ نظيرا.
أدركت تركيا أن ما كانت قائمة عليه من الأصول، ونايئة تحت أعبائه من التقاليد، لا يصلح أن يقيمها على طريق الأحياء كدولة عصرية، فعمدت إلى إزالته جملة بما فيه من خير وشر، لتنتحل شخصية الأمم الراقية طفرة، وغاب عنها أن ذلك إنما يمكن أن يكون(809/13)
والدماء لم تهدأ من غليانها بعد، ولكن بعد أن يسكن جأش الأمة، ويهدأ بالها، وتطمئن على كيانها، تتيقظ مطالبها الروحية، وحاجاتها الوجدانية، وأخصها الدين، وأين هو؟ ألتمس اليأس حفاظه فوجدوهم قد لبسوا القبعات واندمجوا في الشعب يعملون لكسب قوتهم!
نعم، وجدوا المساجد مفتحة الأبواب تستقبل جماهير المصلين، ولكن أين الدروس الدينية، وأين الوعاظ والمرشدون، وأين القضاة والمفتون، بل أين الطلبة المعممون، وأين أساتيذهم الموقرون؟!
الثورة قد أتت على كل هذه التقاليد، حتى إنك كنت لو سألت عن مصير هذه الحالة، قيل لك أن الحكومة ستصنع للدين وتدريسه نظاما لا يمكن معه أن تستغل سذاجة العامة للدس عليه ما ليس فيه، أو لإظهاره على غير ما هو عليه من النزاهة المثالية، والروح الوثابة، والمظهر المهيب. ثم يعقب ذلك سكوت طويل!
وكانت البلاد التركية غاصة بالملاجئ الدينية، والتكايا المذهبية تأوي إليها عشرات الألوف من أهل البطالة يستغلون بساطة النساء وضعفاء العقول، فكان الناس لا يجدون منهم رجلا يتلكأ في مشيته تحت جبته الفضفاضة، إلا خفوا إليه يقبلون يده، ويتلمسون البركة من الاتصال به، غير مفكرين في الأسباب العادية، والعوامل المادية؛ فكانت هذه الحالة من التعويل على الأوهام سببا رئيسيا في تقاعس الدهماء عن التفكير في معترك الحياة، وعن افتقارها إلى علم ومال ودؤوب. فكان النجاح في نظرهم نابعا للمحفوظ تصيب هذا وتخطئ ذاك، ومن تصب مترفعة إلى أعلى مما يتوق إليه، ومن تخطئ تقذف به إلى مكان سحيق!
هذه كانت الحالة العقلية للشعب التركي على نحو سائر العقليات الشرقية التي ينظمها جميعا رباط وثيق.
فكان رجال الثورة لا يجرؤن على إعادة الحرية الدينية خشية أن تفقدهم كلما حصلوه بجهادهم العنيف. وبعد أن مضى نحو ربع قرن على هذه الحالة نشأ رأي معتدل ناضل عن الحرية الدينية في نطاق حدده المسؤولون عن حفظ كيان الشعب، وإبعاد الغوائل عنه. أول من اقتحم هذه العقبة كان (جلال بايار) الذي كان رئيسا للوزارة وزعيما للحزب الديمقراطي. فطلب إلى الحكومة أن تحترم دين الأمة وهو الإسلام، وان تسمح بالعمل على نشره وبتدريسه في المدارس الابتدائية والثانوية.(809/14)
فقبلت الحكومة هذا الطلب واشترطت شروطا كلها ضمانات قوية لسلامة الإسلام من العبث، فشرطت أن لا يدرس كتاب في المدارس إلا إذا أقرت الحكومة على تدريسه فيها.
واشترطت كذلك أن لا يدرس الدين إلا الذين حصلوا على معلومات دراسية في مدارس الحكومة أو التي تعترف بها. وهذا الشرط وان ظهر مبالغا فيه، إلا أنه يمكن قبوله على اعتبار أن الذهن الخالي من المعلومات، لا ينبغي أن يتسلم إلا ما لابد منه من النطق بالشهادتين، وحفظ آيات من القرآن ليصلى بها. ولعلهم منعوا تسليم الجهال العلوم الدينية لكيلا يتبعوا سبيل قدماء الشيوخ في التحكم بنصوص الدين على كل شيء، وبتكفير المسلمين على أقل ما يتخيل أن فيه مساسا بالعقيدة. هذا فضلا عن مثوله بين المتعلمين على حال لا يتفق والمتفقه في الدين من الجهل ببسائط العلوم الطبيعية، وأوليات الشؤون التاريخية والاجتماعية. ومثل هذا وإن كان لا يخشى منه أقل تأثير على المتعلمين، ولكنه يعتبر كلامه عند العامة من العلم في صميم الصميم.
الخلاصة أن الأتراك بعد أن طال صمتهم عن الشؤون الدينية التي كانوا يعتبرونها شخصية محضة للأفراد، عادوا فاعترفوا رسميا بان دين الأمة التركية الإسلام، واستخدموا هذا التعبير في اكتساب هوى الشعوب العربية. وكل هذا كان من ضروريات الثورة، فإن أخص مميزاتها إحداث انقلابات تعقبها انتقالات. وقد حدث مثل هذا الأمر في كل أمة. ففي الثورة القريبة منا، وهي الثورة الفرنسية أنكروا الدين والخالق جل وعز، ثم عادوا بعد عشرات من السنين إلى ما كانوا عليه، ولكن كانت الثورة أتت على كل ما يخشونه مما يوهن حركة الزياد عن ثمرات الثورة، أو يضيع الحقوق التي اكتسبت منها.
الأمر الذي نريد لفت النظر إليه في الثورة التركية أنها سمحت بتأسيس كلية لتعليم أصول الدين الإسلام ي، ومدارس أخرى لتخريج من يتولون التعليم الديني، ولكنها اشترطت أن يكون طلبتها ممن أتموا دراستهم الثانوية في المدارس الحكومية وحصلوا على شهادة الثقافة منها.
وأحسن من هذا وأعظم أثرا في خدمة الإسلام الحق وحماية الأمة من تسرب التعاليم الضارة إليها باسم الدين أن الحكومة التركية شرطت أن لا يطبع كتاب ديني ويدرس في المملكة التركية إلا بعد أن يعرض على مجلس النواب ليدرسوه ويتباحثوا فيه ويقروه.(809/15)
هذا وحده خير ما أثمرته ثقافة القرن العشرين للإسلام، فإن أي كتاب يكون قد قمش بين دفتيه من حق وباطل، وجمع بين غث وسمين، لا يمكن أن يتغفل مئات من النواب وألوف من رجال الصحافة والكتابة، ويحصل على تصريح بالطبع فيفسد عقيدة المسلمين.
هذه الرقابة الثمينة وحدها سيكون من أخص آثارها قطع دابر البدع التي شاعت بين المسلمين حتى حلت محل الدين نفسه لديهم. ولأول مرة - بعد قليل من السنين - سيشهد مصلحو المسلمين أن شعبا إسلاميا عدد أفراده عشرون مليونا يدينون بالإسلام خالصا من البدع التي شوهت جماله زهاء ألف من السنين في بقاع أخرى من بلاد المسلمين.
محمد فريد وجدي(809/16)
يا أيها العرب!
للأستاذ علي الطنطاوي
يا أيها المستمعون ألي، مقبلين علي، ويا أيها السامعون وهم معرضون، يلهون في القهوات أو يتبخترون في الطرقات، إلى العالم في مكتبه، والعامل في معمله والمرأة في بيتها، والطفل في مدرسته إلى من يتفيأ الظلال من جنات الشام، ويترشف الزلال من نيل مصر، ومن يتنعم بفي النخيل على شط دجلة، ومن يضحي بشمس القفار من فلوات حجاز، ومن شرق من العرب ومن غرب. . .
يا أيها العرب جميعا. . . هل تدرون ما هو أعظم خطب يمكن أن ينزل بنا. وما هي أدهى مصيبة يخشى أن تصيبنا؟ لا، ليست الاستعمار الأجنبي، فسنجاهد حتى لا يبقى في ديار العروبة، ومنازل الإسلام غاصب أجنبي، وليست مشكلة إسرائيل، فسنحارب حتى نسلم (إسرائيل) إلى عزرائيل، ولكن المصيبة أن نكفر بأنفسنا، وان نجهل أقدارنا، وان لا نعرف فوق الأرض مكاننا، وان نحسب إننا خلقنا لنكون أبدا أضعف من الغربيين، وأجهل منهم، وأن ننسى أن أجدادنا لما خرجوا يفتحون الديار، كانوا أقوى منا على عدونا، وأنهم أقدموا بسيوف ملفوفة بالخرق على عدو كان أكثر عددا وأقوى عددا واضخم عمرانا، وأكثر علما ومالا. فظفروا به، وانتصروا عليه. وأن الأيام دول، والدهر دولاب، يهبط العالي، ويعلو الذي هبط، ويذل العزيز، ويعز الذي ذل، وإن دار علينا الدهر حينا، فافترقنا وتباعدنا، ولفنا بعد إشراق النهار ليل مظلم، أغمضنا فيه عيوننا، وأغمدنا فيه سيوفنا، فلم نبصر اللص يدخل علينا، ولم ننهد إليه لنرده عنا، وحسبنا لطول الليل أن لا صباح له، فقد طلع الآن الصباح، وانقضى الليل، وهب النائمون يمشون إلى الأمام. . .
إلى الأمام! وإلا فما هذه الثورات، وما هذه الوثبات؟ وما هذه الوحدة في العواطف، حتى لتهتز الشام لكل حادث في العراق، وتغضب مصر لكل عدوان على الشام، ويثور المشرق لنصرة المغرب، وتقوم مراكش لتأييد أندونسيا، وتهب الباكستان للدفاع عن فلسطين؟
إلى الأمام! وإلا فما لمصر، صارت فيها الفكرة العربية دينا وكانت من قبل تعيش عامتها في ظلام العزلة، وتحيا (بعض) خاصتها في ضلال الفرعونية؟
إلى الأمام وإلا فهل كانت تظن فرنسا ويظن عبيدها أن سيقطع الله دابرها من سورية ومن(809/17)
لبنان، ومن لبنان يا أيها السادة! وهل كان يظن الإنكليز أنهم سيضطرون إلى الخروج من وادي مصر، وان العراق سيقطع اليد التي تحاول أن توقع معاهدة ليس فيها خير العراق، وهل كان يظن أحد أن الهند، الهند ستتحرر وإنها ستكون في الدنيا دوله إسلامية فيها مئة مليون.
أن هذه المظاهرات، وهذه الثورات، حركات السائل الناري في باطن الأرض، إنها الهزة، ثم تكون الرجفة، ثم يكون الزلزال. ثم ينفجر البركان بالحمم، وتفتح أبواب جهنم، فلا يقف أمامها من الشياطين، ولو كان له مال (حاييم)، ودهاء (جان بول)، وقوة (الدب)، وأقدام العم (سام).
لسنا اليوم كما كنا من خمسين سنة، كنا نخاف أوربة لأننا نجهل ما عندها، وكنا نخشاها لأننا ما عرفناها، أما اليوم فقد هتك الستار، وكشفت الأسرار، وعرفنا أن هذه المدنية مدنية الظفر والناب وإنها حضارة الذئاب. . .
فيا أيها العرب، فوق كل أرض، وتحت كل سماء، لقد جئت الليلة، ليلة هجرة محمد، أستحلفكم بقبر محمد، وبالمسجد الأقصى، وبمهد عيسى، وبأمجاد الماضي، وبآمال الآتي، أن تثقوا بربكم، وأن لا تعتمدوا إلا على نفوسكم، وأن تعلموا أن النازلات امتحان للهمم، وتمحيص للأمم، وأن لا تكفروا بالبطولة التي صبها في دمائكم يا أيها العرب، سيد العرب محمد، وأن تأخذوا من سيرة محمد الذي اجتمعتم الليلة للاحتفال بذكراه دروس البطولة والعزم والنضال.
وأن تذكروا موقف محمد يوم كانت المدينة على حافة الخطر وكانت معرضة لأقوى هجوم يمكن أن تقوم به جزيرة العرب، وكان على الطريق إليها ثلاثة جيوش فيها عشرة آلاف مقاتل، والمسلمون كل المسلمين يومئذ ثلاثة آلاف، وأن المدينة قد (تسقط) بين ساعة وساعة، ويقضى على الإسلام، فماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا صنع المسلمون؟
هل تحيروا حتى لا يدرون ماذا يصنعون، فجعلوا يرتجلون الخطط، ويبتدعون الآراء؟ هل كفوا أيديهم عن العدو وأطلقوا ألسنتهم عليه، فرموه بالخطب والتصريحات؟ هل أضاعوا الفرصة وأمضوا الأيام في الاجتماعات والمؤتمرات؟ هل اختلفوا وتنازعوا؟ وهل فكر(809/18)
الأغنياء في أن يستأجروا بيوتا في الأرياف ليفروا إليها، إذا نزلت الملمات وكانت (الغارات)؟
لا يا سادة. . . لم يفكر في الفرار إلا (المنافقون والذين في قلوبهم مرض). أما المسلمون فكانوا يعلمون أن المسلم الذي يفر من بلده إذا دهمه العدو لا يكون مسلما، وأن الإسلام يفرض القتال عند ذلك على الرجال والنساء فرض عين كفرض الصلاة.
لا، ولم يعتكف رسول الله في مسجده، ليدعوا عليهم، ولو دعا لاستجاب الله دعاءه، ولكنه أراد أن يأتي البيوت من أبوابها، ويجر النتائج بأسبابها، ويعلم هذه الأمة كيف تصنع إذا دهمتها المخاوف، وحاقت بها الأخطار، وشرع يحفر الخندق والخندق هو (الملجأ الفني) من (غارات) تلك الأيام، ولم يكن العرب يعرفون الخنادق بل هي من طرائق العجم في قتالها.
وكذلك كان محمد يعد لعدوه أحدث المخترعات الحربية، ويفاجئه ب (أسلحة جديدة) لم يسمع بها. لم يأمر بحفر الخندق وهو مقيم في داره، هادئ هانئ مستريح، بل عمل معهم، يده قبل أيديهم، حمل التراب حتى غطى بطنه التراب، وجاعوا فجاع معهم، وربط على وسطه من الجوع الحجر، وكان أقواهم يدا، وأثبتهم قلبا، عرضت صخرة لم تعمل فيها المعاول، ولم تؤثر فيها سواعد الرجال، فلجئوا إلى محمد، فلم يستطع أن يكسرها إلا ساعد محمد، وهو يعمل بلا قميص شأن الرياضي القوي، لا شأن هؤلاء (المشايخ) الذين يمشون ورؤوسهم محنية، وأطرافهم متخاذلة. . . كان قد هدهم المرض!
أعد الخندق ل (الدفاع السلبي)، ثم خرج مع المسلمون ل (الدفاع الإيجابي)، وولى على المدينة ابن أم مكتوم ما اختاره لعصبية أسرة، ولا لجامعة حزب، ولا لصلة قرابة، بل لأنه أحق بالولاية وأولى بها، ولم ينازعه أحد ولايته لأن الأمة التي تشتغل بالحزبيات، وتتنازع على الكراسي، والعدو على الأبواب لا تستحق الحياة.
وأحاط العدو بالمدينة، واشتد الخطب وعظم البلاء، وقلت الأقوات، وجاءت في خلال ذلك قاصمة الظهر بأن الحلفاء من يهود قريظة، خانوا العهد، وأخلفوا الوعد، وغبت عليهم نجاسة طباعهم، ونذالة أخلاقهم، صفة اليهود أبدا، أينما كانوا وحيثما وجدوا، فلم يفارق محمد ثباته وعزمه، وبعث يتحقق الخبر، وأمر رسوله أن يعلن إن وجده كذبا لتقوي(809/19)
العزائم، وتشتد الهمم، وإن وجده صدقا لحن له به، ولم يخبر به الناس، لئلا تكون الأسرار العسكرية حديث المجالس، وأسمار السمار.
وأحس بالأمر المنافقون، وما تخلو أمة من (منافقين. . .) ومن دعاة الشر وبغاة الهزيمة، فأعلنوا ما كان مضمرا، و (زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنون، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون أن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، أن يريدون إلا فرارا). واجتمع على المسلمين العدو القوي والبرد والجوع وخيانة الحليف وتثبيط المنافق، فقضى رسول الله على (الانقسام الداخلي) وصبر على الحصار، ثم صمد الهجوم، واستعمل كل سلاح، فحفر الخندق، وحارب بالسيف وحارب بالحيلة، فكان الظافر بالحرب الدفاعية، وفي الحرب الهجومية. وفي حرب السياسة، وفي حرب الأعصاب. وكان له النصر المؤزر.
واذكروا بعد ذلك كم جزنا من امتحان، وكم نجونا من خطوب. يوم كر علينا الشرق كله بهمجيته وكثرته وقسوته جيوش التتر يقودها الكلب الكلب: هولاكو. فمرت كالسيل الحاطم، فاجتاحت دول الإسلام (وما كان ينبغي أن يكون للإسلام إلا دولة واحدة)؛ حتى إذا عبثت بالخلافة، وداست بغداد، وفعلت في دنيا المسلمين الأفاعيل، ولم تبق منها إلا ولايات متباعدات ضعيفات. وقف لها شيخ واحد. شيخ لم يتخذ الدين سلما للدنيا، ولا الصلاح شبكة للمال. ولم يكن همه مشيخة يزهى بها، ولا ضياع يقتنيها، ولا سيارة يركبها. ولا وضيفة يحظى بها. لم يكن يمد يده للناس يقول قبلوها وإملأوها مالا، ولا يقول تصدقوا بأموالكم ليأخذ هو الصدقات، قد احتقر الدنيا في جنب ما عرف من نعيم الآخرة، وهان عليه أهلها ملوكهم وسوقتهم لما وقر في نفسه من عظمة الله شيخ اسمه العز بن عبد السلام.
أثار هذا الشيخ مصر، حتى انتصر جيش مصر الضعيف على جيوش التتر القوية، وحفظ الله به في عين جالوت الدين والدنيا، وأنقذ به الإسلام والحضارة. وما انتصر جيش مصر إلا بالإيمان الذي أثاره في النفوس هذا الشيخ.
واذكروا يوم كر علينا الغرب كله. يقذفنا بالجنود من كل لون. ويرمينا بالأسلحة من كل(809/20)
نوع. وكنا دويلات وإمارات متخاذلات متقاتلات. فنصرنا الله على الغرب كله برجلين اثنين وما انتصرا إلا بالإيمان والإخلاص، وان تركة صلاح الدين الأيوبي بطل الدنيا، كانت ستة عشر دينارا، لم يورث غيرها!
يا أيها المستمعون جميعا، سألتكم بالله: انسوا لحظة واحدة جاهكم ومطامعكم، وحبكم وبغضكم، ومشاغل بيوتكم وأسواقكم وفكروا في نفوسكم، فيما كان عليه أجدادكم، وما انتهت إليه حالكم. هل صنعتم مثلما صنع النبي يوم الخندق، هل عندكم اليوم مثل الملك صلاح الدين. هل لديكم مثل الشيخ عز الدين هل أعددتم لليوم العبوس عدته. هل أحسستم إلى هذه الساعة إنكم في حرب؟
يا ناس!
هل تعيش أمة في الحرب مثلما كانت تعيش في السلم. لا تنقص شيئا من لهوها وتبذيرها وغفلتها، وأضاعتها أموال العامة وأموال الخاصة فيما لا ضرورة له، ولا جدوى منه، وأنفاقها في (الكماليات) التي يذهب ثمنها إلى عدوها، فيرجع إليها رصاصا وقنابل تنزل على دورها وصدورها؛ هل تختلف أمة على الصغائر، وتتنازع على المناصب، والعدو قد غشيها في أرضها؟ هل ينفق في الأمم الحية المحاربة قرش واحد إلا في شراء النصر؟
يا ناس!
إني أكون خائنا لديني ولأدبي إذا أنا غششتكم في يوم هجرة نبيكم، أو كتمت الحق عنكم. إنكم طالما تنكرتم لدينكم ونسيتم أقداركم، واحتقرتم نفوسكم، وأضعتم سلائفكم الخيرة، وخلائقكم النبيلة، في تقليد الأوربيين في التافه من شئونهم، وفي إعظام الأوربيين والرعب منهم. ولا سبيل لكم إلى النصر إلا بان تعودوا فتتخلقوا بأخلاق النضال التي خلق بها أجدادكم نبيكم، اجلوا كل اختلاف بينكم إلى نهاية هذه الحرب، وأرجئوا كل نفقة لا ضرورة لها، ولهو لا داعي إليه. وواجهوا العدو صفا واحدا، وقلبا واحدا، قد وقفتم على الظفر قواكم كلها وأموالكم، واعلموا أنه لن ينفعكم والله منصب ولا مال، أن تركتم عدوكم يقوى بضعفكم، ويشتد بتخاذلكم، ويزيد بنقصكم
إن الدنيا مقبلة على غمرات سود، ومرتقبة أحداثا جساما، وستكون معركة لا مخرج منها إلا البطل. فيا أيها العرب: تيقظوا وتنبهوا وثقوا بربكم وعودوا إلى خلائقكم. واعرفوا(809/21)
أقداركم، واعتمدوا على نفوسكم، وأيقنوا (إن فعلتم) إنكم منصورون منصورون منصورون. . .
يستحيل أن تغلبكم كلاب يهود!
علي الطنطاوي
(دمشق)(809/22)
الشهيد
للأستاذ محمود الخفيف
رأى الموت جهما فما أحجما ... وأوحى له الكبرُ أن يَبسِما
فتىً همه كان خوض الردى ... وكم شق موجا له أقتما
وظل على صهوات الحتوف ... إلى أن هوى، البطل المعلما
فتىً كان في الخَلْق أوفى الخصال ... كما شاء أن يتناهى الكمالْ
كما اعتدل الرمح عودٌ له ... وحد الحسام له والصقال
كأن من الصخر قلبا له ... وكم رفَّ قبلُ لسحر الجمال
فتىً ما درى قط معنى القعود ... ولا عرفت روُحه من قيودْ
له همة أن تداعى الرجال ... يقصر عنها العُقابُ الصَّيود
على اللهو ضنَّ بأيامِه ... وبالدم في كل يومٍ يجود
له دعوة المجد أشهى نشيد ... وأحلى الغناء رنينُ الحديدْ
إذا ساورته طيوف الإيمان ... مشى للمنايا بعزمٍ جديد
وإن باح صَبٌ بأحلامه ... عن النصر حُلماً له لن يحيد
فتىً كان في السلم حلو الشباب ... وإن كان مراً غداة الضراب
وضيئ المحيا ترى كبْرَهُ ... وقد مازجته السجايا العِذاب
إذا الليل ضجَّ بِسُمَّارهِِ ... توقدَ روحٌ له كالشهاب
وإن عصف الرأي كان الأريبا ... وكان الرفيق البليغ الأدب
وإن ندبَ الناسُ للصالحات ... تردَّي من الفضل ثوباً قشيبا
فتىً أكمل الحب أوصافَه ... فبات إلى كل قلب حبيبا
وكم رشقته سهام الجفون ... وأومأ حيث استوى السامرون
وقار البطولة في ناظريه ... وإِن ضجَّ في مسمعيه المجون
وتصحو له ناعسات العيون ... ويغفو فما مسه من فتون
فتىً كان وهو الأبيُّ الطليق ... أسيرَ هوى قلبه لا يُفيقْ
وكم ذاقَ من نْشوَةٍ قلبُه ... وكمْ ذاق مثلَ عذاب الحريق(809/23)
وعف هواهُ فما اعتاقه ... إلا صدَّهُ عن سواء الطريق
وهام بها زهرة ناضره ... أسيرته وله آسرة!
ويعصي الضلالة في حبها ... وتوحي هداه له الساحرة!
وفي كل طُهرٍ يرى وجهها ... وينشق أنفاسها العاطرة
فتىً عرفتهُ السهولُ الفِساَحْ ... فكم هام فيها يحِّيي الصباحْ
ويملأهُ السهلُ حُريةً ... وتوحي إليه الرواسي الطماح
وكم أبهجتهُ مجالي الضحى ... ولذ الأصيلُ له في الرَّواح
وكم راعهُ مهرجانُ الربيع ... وأسكرهُ كلُّ لحنٍ بديع
وأوحى له الخُلْدَ مِنْ عيشه ... مُنىً ناضرَاتٍ وشملٌ جميع
عصىٌّ على الرحْسِ مستكْبِرٌ ... خفيفٌ إلى كل حُسْنٍ مطيع
وكم كان يأمل فيه الأمل ... ويرصدُ من عزمه ما أكتمل
وشيخ أب كم تأسي به ... وأم دعا قلبها وابتهل
وتُلقى على غده أمَّةٌ ... رجاها وترقب فيه البطل
أجاب إلى الموت داعي الفداء ... وجن اشتياقا ليوم اللقاء
وخاض المنايا على هولها ... وأوغل في حرها كيف شاء
وكيف تعاف الردى نفسه ... وفي مصرع الحر أقوى البقاء؟
وكم بعث الموت من عاصفة ... بها الأرض من حوله راجفة
وكم جن فيها جنون القتال ... وزلزل من أنفسٍ واجفة
وكم أقدم البطل المستميت ... ومن فوقه رعدةٌ قاصفة
وكم بات تنزف منه الجراح ... وأناته أغنيات الكفاح
ويغفو وفي نفسه ومضة ... تريه المنية نصراً يتاح
فبالموت يحيا موات النفوس ... وتنبعث العزمات الصحاح
(البقية في العدد القادم)
الخفيف(809/24)
لطمة على خد. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 1 -
هذا المجلس الحافل بأسباب الأنس والمسرة، الحالي بالزهر والريحان، وبالقيان والندمان على الربوة المعشبة الظليلة في أعلى (اليرموك) - قد حان أن يطوى بساطه فليس فيه بعد اليوم أنيس ولا سامر. . .
وهذه الأباريق في أيدي السقاة المرد يطوفون بها على ندمان الملك ليفرغوا في كاس كل نديم جرعة من خمر وفي قلبه لذعة من جمر - يوشك أن يفرغ ما فيها من الشراب وتفرغ منها أيدي السقاة والندمان. . .
وهذه الأقداح المترعة في أيدي القوم تتلامس حافاتها كان رنينها ضحكات غانيات سكارى - قد حان أن تتحطم ويراق ما فيها من الشراب فتنتشى الأرض ويصحو السكارى. . .
وهذه النمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكراسي المنضودة عن يمين صاحب العرش وشماله - يوشك أن ينتثر عقدها ويشت جمعها، فليس في أعلى (اليرموك) بعد اليوم عرش ولا تاج ولا صاحب سلطان، وتغدو (مملكة غسان) ذكرى، ويخمل ذكر (جبلة) وآباء جبلة من ملوك قحطان في الشام. . .
كذلك كان (جبلة بن الأيهم) ملك غسان يحدث نفسه وأصحابه من حوله يخالسونه نظرات خاشعة فيها قلق وريبة، قد جمدت في أيديهم أقداح الشراب فلا تدنوا منها شفة، وأعولت في آذانهم رنات المثاني والعيدان فلا تهتز لها نفس هزة طرب، وعبقت أرواح العطر والبخور في جو المجلس خانقة، فلا يكاد ذو نفس من ندامى الملك يملأ رئتيه. . .
أكان قلقهم وانقباضهم لأنهم يعلمون ما تجيش به نفس الملك في تلك اللحظة من الخواطر السود، أم كان ذلك لأنهم لا يعلمون. . .؟
وكانت جارية عاطفة على عودها في صدر المجلس تداعب أوتاره بأنامل رخصة وهي تغني من شعر حسان:
لله درُّ عصابة نادمتهم ... يوماً يحلُق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهمو ... بَرَدى يصفِّق بالرحيق السلسل(809/26)
أولاد جفنى حول قبر أبيهمو ... قبر ابن مارية الكريم المفْضل
يُغشوْن حتى ما تهرُّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبِل
بيض الوجوه أعفَّة أحسابهم ... شُمُّ الأنوف من الطراز الأول
ورفع الملك رأسه وهتف في صوت تتبين فيه مرارة اليأس والأسى:
- حسبك يا فتاة!
وخيم الصمت على المكان، وتعلقت بالملك عيون ندمانه وبطانته؛ وسلل القيان والغلمان واحدا اثر واحد ليهيئوا للملك وأصحابه خلوة ليست كما ألف الملك وألفوا من خلوات الأنس والسعادة. . .
وانحدر الملك على سريره ليقتعد الأرض، ووضع عن رأسه تاجه، وانحدر أصحابه عن كراسيهم وجلسوا بين يديه، وقد أيقنوا أن أمرا ذا بال يوشك أن يحدث أو يسمعوا نبأه. . .
ومضت فترة صمت قبل أن يبدأ الملك حديثه إلى نداماه من أشراف غسان ولحم وجذام؛ ثم نطق:
قد علمتم يا بني العم ما كان من أمر العرب والروم في هذه الأرض، فليس لأصحاب (هرقل) بعد اليوم مقام في الشام بعد أن غلبهم هؤلاء العرب النازحون من البادية على أرضهم وديارهم، وأجلوهم عن أركة، وتدمر، وحوران، وبصرى، ودمشق، واجنادين، وأذاقوهم الهوان عند (اليرموك) وفي حمص وتوشك أن تسقط في أيديهم حلب وقنسرين في الشمال، وبيت المقدس في الجنوب. .
وصمت الملك برهة، وهو يجيل عينيه فيمن حوله، ثم استأنف:
وقد علمتم يا بني العم ما كان لنا من الجاه والسلطان في هذه البقاع، حيث أقمنا لأبناء غسان في الشام عرشا لم يزل يتوارثه آباؤنا ملك عن ملك منذ قرون حتى آل إلينا، لا العرب من أبناء عمومتنا في المشرق يطمعون أن ينالوه، ولا الروم في الشمال؛ فكانت مملكة الغساسنه هي الحجاز بين العرب والروم، وهي لهؤلاء وأولئك سوق التجارة، وموئل السلام والحضارة، قد سالمنا العرب لأنهم اخوتنا في النسب، وشركاؤنا في التجارة، وسالمنا الروم لأنهم منا حيث علمتم من الحلف والمودة، قد رضوا منا بالإتاوة ندفعها كل عام إلى قيصرهم في القسطنطينية، وبالكتيبة من شبابنا يحاربون معهم تحت رايتنا إذا احتاجوا في(809/27)
بعض حروبهم إلى المدد والمعونة؛ ولم يكن يدور في وهمي يا بني العم أن تسخر المقادير منا ومن حلفائنا الروم سخريتها هذه الأليمة؛ فنصبح ذات يوم لنرى عرب المشرق قد دخلوا علينا الشام من أقطارها وباتوا يهددون عرش الغساسنة وعرش قسطنطين في وقت معا؛ ولكن كل ذلك قد كان ولم يكن لنا لدفعه يدان!
قال كبير القوم:
وقاك الله يا مولاي وجنبك العوادي، أن بيننا وبين العرب ما نعلم من النسب، ومن حسن الجوار والمودة؛ وقد علمنا إلى ذلك انهم لم يطرقوا ديارنا غزاة ولا فاتحين، ولكنهم أهل دين يدعون إليه، وأصحاب كتاب يؤمنون بما فيه؛ قد آمنوا بموسى وعيسى ومحمد؛ فليس بينا وبينهم من أسباب الخصام إلا أن نؤمن بما آمنوا، وقد سبقناهم إلى النصرانية، حين كانوا غارقين في الوثنية يتعبدون لآلهة من طين؛ فلا علينا إذا سبقونا إلى الوحدانية وثبا أن نتبعهم ونؤمن بنبيهم؛ فإن ذلك خليق بأن يجتث بيننا وبينهم أسباب الخصام والعداوة، ولأن ندفع الإتاوة لملك عربي من أبناء عمومتنا في يثرب، خير من أن نكون خولا لقيصر الروم في القسطنطينية؛ وإني لآمل يا مولاي أن يكون جبلة بن الأيهم في الإسلام أعز سلطانا منه في الجاهلية ويتسلسل الغساسنة في أبنائك وأحفادك على عرش الشام إلى يوم الدين!
ورفت ابتسامة على شفتي الملك وهو يقول:
هو ما قلت يا أبن العم؛ وإنما بدأت الحديث معكم رجاء أن ننتهي إلى ذلك الرأي؛ فقد عزمت منذ اليوم أن اكتب إلى عمر، أمير المؤمنين في يثرب، اعلمه بذلك وأستاذنه في القدوم عليه مسلما. . .
- 2 -
كان مقدم جبلة بن الايهم إلى المدينة يوما مشهودا، قد احتشد له الخلق من كل فج ليشهدوا موكب الملك الغساني في أبهته وسلطانه، قد لبس ثياب الوشى منسوجا بالفضة والذهب، وعلى رأسه تاج الغساسنة تتضوا خرزاته تحت الشمس، ويتدلى منه قرط مارية جدته الذي تتحدث به أمثال العرب، وقد تكنفه عن يمين وشمال، وأمام ووراء، خمسمائة من فرسان عك وجفنة، يلبسون مثله ثياب الوشى، وتلمع على رؤوسهم بيضاتهم، وتبرق مقابض(809/28)
السيوف في أيديهم.
موكب لم تشهد المدينة مثله منذ كانت، فلم يبق بها يومئذ أحد إلا خرج يتفرج، حتى النساء والصبيان، وحتى الشيوخ والعجزة؛ صورة فريدة من أمجاد غسان، أو هي صورة من أمجاد الإسلام في مطلع فجره لم يزل يتحدث عنها التاريخ حتى اليوم، والى الغد، والى الأبد!
والتقى جبلة بن الايهم وعمر بن الخطاب، وشهد ملك غسان أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله.
وأقام جبلة بالمدينة حتى جاء موسم الحج، فاعد عدته للرحلة إلى مكة ليؤدي الفريضة المكتوبة.
- 3 -
في صعيد مكة - حيث يلتقي المسلمون كل عام من مشارق الأرض ومغاربها يطوفون بتلك البنية التي أقامها إبراهيم واسمعيل منذ القدم - لا يتبين ملك من سوقه؛ كل الطائفين عراة إلا من إزار غير مخيط يستر أبدانهم، ليس على رؤوسهم تيجان ولا عمائم ولا قلانس، حفاة إلا من خفاف لا تستر الأقدام من ظاهر، حشود هائلة قد وفدت من الشام واليمن، ومن عمان والبحرين وحضرموت، ومن مصر وبلاد البربر، ومن المدائن والقادسية، ومن وراء الجبال والرمال والبحار الصاخبة بالموج؛ لا عربي في ذلك الحرم ولا أعجمي، كلهم مسلمون يدينون بهذا الدين الواحد، هو (جنسهم) حين ينتسبون، وهو رباط قلوبهم حين يلتقون وحين يفترقون، تحيتهم حين يلتقون سلام، وحديثهم تلبية وتسبيح، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
مشهد عميق الأثر، بليغ الدلالة على أسمى معنى من معاني الإخاء والمساواة والمحبة. . .
وكان جبلة الغساني يطوف مع الطائفين حول البيت، عاري الرأس ليس عليه تاج ولا ديباج، إلا إزارا غير مخيط قد لف جسده وتدلى عن كتفيه وانجر وراءه. . . وعن يمينه وشماله، وقدامه ومن وراءه، آلاف من الطائفين قد ائتزروا مثل إزاره، يتزاحمون بالمناكب ويطأ بعضهم أقدام بعض، ولهم ضجيج وعجيج وهتاف باسم الله صاعد إلى السماء. . .
وتعثر جبلة في زحمة الطائفين وهم أن يقع، حين وطئ إزاره طائف من فزارة فحله،(809/29)
وحمى انف الملك الغساني فالتفت وراءه مغضبا ليرى الفزارى الذي وطئ إزاره، فبربر بزيرة أصحاب السلطان ولطم انف الفزارى فهشمه. . .
وعبرت لحظة اضطراب لم تطل، ثم استأنف الحجيج طوافه وهتافه؛ لم يقطع ضجيجهم وعجيجهم إلا صيحة هاتف مستصرخ: واعمراه!!
واستمع عمر إلى دعاء المستصرخ فدعاه إليه. . .
من أنت يا رجل؟
امرؤ من فزارة. . .
وما دعاك إلى الصراخ في بيت الله وحين طواف الحجيج؟
طائف من الطائفين لطمني فهشم انفي أسال دمي!
أتعرفه؟
لا اعرفه اسما ولكني اعرفه صفة. . .
إذا نقيدك منه!
ووقف الفزارى والى جانبه غلام عمر يتصفحان وجوه الناس حين منصرفهم من الطواف، حتى مر جبلة فأشار إليه الفزارى: هو ذاك!
وسيق ملك غسان إلى مجلس أمير المؤمنين عمر، فأوقف بين يديه ووقف الفزارى يحاذيه كتفا إلى كتف. . .
ماذا تقول يا أخا فزارة!
هذا لطمني فهشم انفي!
وما تقول يا جبلة؟
أنه وطئ إزاري فحله، فلولا حرمة هذا البيت لأخذت الذي فيه عيناه!
قال عمر مخضبا:
على رسلك يا جبلة! أما أنت فقد أقررت، فأما أن ترضيه وأما أقدته منك!
أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة!
يا جبلة، أنه قد جمعك وإياه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا بالتقوى!
رويدك يا عمر، لقد - والله - رجوت أن أكون في الإسلام اعز مني في الجاهلية؛ وقد(809/30)
كنت من لشرف والمهابة في الجاهلية حيث علمت!
ني لأرجو لك من العزة بالإسلام ما ترجوه لنفسك ولكنه أخ مسلم يطلب قودا من أخ مسلم!
إذا أعود إلى النصرانية. . . لا يلطمني بدوي بوال على عقبيه!
أن تنصرت ضربت عنقك!
انطبقت شفتا جبلة على كلام كثير لم يلفظه، على حين ارتفعت أصوات كثيرة من وراء.
أولئك شيعة الفزارى وقوم جبلة يتلاحون حتى توشك أن تقع بينهم فتنة.
وغامت سحابة من الهم على جبين الملك، وصمت برهة ثم نطق:
أخرني إلى غد يا أمير المؤمنين.
لك ذلك يا جبلة!
- 4 -
لم ينكر أحد في البادية أمر تلك القافلة التي تعد السير في جنح الليل متجهة إلى الغرب؛ ليس في سمات هذا الركب ما يبعث الريبة. . . جماعة من البدو أو من الحضر على ظهور دوابهم، قد جعلوا يثرب وراء ظهورهم إلى غاية يقصدونها، وما أكثر قوافل البدو والحضر على ذلك الطريق في تلك الأيام. لعلهم بعض المتطوعة يقصدون إلى الشام مددا للمجاهدين، أو لعلهم بعض التجار. . . لم يخطر في وهم أحد رآهم انهم أشراف لخم وجذام وغسان، وان معهم جبلة بن الايهم، صاحب القرط والتاج وعرش جلق الفيحاء. . .
وانتهت القافلة إلى تخوم الروم، ثم استأنفت السير إلى القسطنطينية. وفي ضيافة قيصر، أقام جبلة بن الايهم، آخر ملوك غسان، عزيزا مكرما، قد اقطعه القيصر قصرا ملوكيا، وأوقف على بابه القهارمة والحجاب والعدد الجم من الرجال والفرسان؛ وفي مجلسه من ذلك القصر الملوكي كل ما تتوق إليه نفس من أسباب الترف والبهجة، وكل مظاهر العز والسلطان. ملك له عرش وتاج، وقهارمة وحجاب، ووزراء ومستشارون؛ ولكن حدود مملكته لا تتجاوز جدران قصره؛ وماذا يعنيه أن تكون مساحة مملكته، مادام له مجلسه وعرشه وتاجه وكل من حوله يأتمرون بأمره ويعنون بسلطانه وما هي أبهة الملك إلا ذاك؟. . .
وترادفت السنون، وانبسط ملك العرب في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، حتى(809/31)
تآخوا الروم في صميم بلادهم. . .
ووفد رجل من أصحاب عمر بن الخطاب إلى القسطنطينية ذات يوم رسولا إلى قيصر في شان مما يتراسل من اجله الملوك، فرغبت نفس الرجل في زيارة جبلة في قصره ذاك؛ فلم يزل يتلطف في الإذن حتى أذن له. . . فدخل إليه مجلسه. . . ورأى رجلا أصهب ذا سبال، وكان عهده بجبلة اسمر اسود اللحية والرأس؛ فلما نظر إليه أنكره، ثم عرفه ذلك أن جبلة دعا بسحالة الذهب فذرها في لحيته حتى عاد أصهب، وكان قاعدا على سرير من قوارير قوائمه أربعة اسود من ذهب. فلما عرف جبلة الرسول رفعه معه إلى السرير، وجعل يسأله عن المسلمين، وعن عمر، وعما فتح الله على المسلمين من البلدان والممالك، والرسول يجيبه عن كل ما يسال، وجبلة يسمع وشفتاه تختلجان، وعلى وجهه تتعاقب ألوان. . .
ثم أومأ جبلة إلى خادم بين يديه، فذهب مسرعا، وإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت، ونصبت موائد الذهب وصحاف الفضة، فأكل جبلة وأكل ضيفه، فلما رفع الطعام جئ بطاس الفضة وأباريق الذهب، فغسلوا أيديهم؛ ثم أومأ جبلة إلى خادم بين يديه، فمر مسرعا، وإذا خدم معهن الكراسي مرصعة بالجوهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره، ثم اقتربت أصوات ناعمة، وإذا عشر جوار مطمومات الشعر متكسرات في الحلي عليهن ثياب الديباج لم ير مثل جمالهن ذو عينين، فأقعدن عن يمين الملك، ثم اقتربت أصوات ناعمة، وإذا عشر جوار أخرى، فأجلسن على الكراسي عن يساره، ثم سمع صوت رقيق فاتن، وإذا جارية كأنها الشمس حسنا، على رأسها التاج، وعلى ذلك التاج طائر ذو جناحين، وفي يمناها جامة فيها ماء ورد، فأومأت الجارية إلى الطائر، فطار عن رأسها حتى وقع في جامة ماء الورد، فاضطرب فيه لحظة؛ ثم أومأت إليه ثانية، فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما في ريشه من ماء الورد على التاج؛ وابتسم جبلة، ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يمينه، فأندفعن يتغنين: يخفقن بعيدانهن ويقلن من شعر حسان:
لله در عصابة نادمتهم. . . . . . . . . . . .
ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره، فإندفعن يتغنين:(809/32)
لمن الدار أقفرت بمعان ... بين أعلى اليرموك فالصمان
ولمعت دمعتان في عيني جبلة، ثم انحدرتا حتى توارتا في لحيته، واختلجت شفتاه أختلاجة هم واسى. قال له ضيفه العربي دهشا:
أتبكي يا جبلة وأنت من هذا النعيم فيما لا يخطر على قلب بشر؟!
قال جبلة وقد تتابعت عيناه:
هيهات هيهات يا أخي؛ تمنيت لو لم يكن كل هذا كان وعشت بين العرب واحدا من قومي!
قال صاحبه:
ويلطمك فزارى على انفك فيهشمه كما هشمت انفه!
ويلطمني فزارى على انفي أو يلطمني عمر؛ فذاك اعز لي من شتات داري وجوار غير أهلي. . .
ثم غلبه مدمعه، وحضرته أيشجانه؛ فراح ينشد:
تنصرت الأشرافُ من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضررْ
تكتَّنفني منها لجاجٌ ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قال لي عمر
وياليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
وياليت لي بالشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر!
- 5 -
قال عمر، وقد عاد إليه رسوله من القسطنطينية فوصف له ما رأى وما سمع:
رجوت أن يشرح الله صدره للإسلام ويفئ إلى الخير؛ فهلا منيته - لو أناب إلى الله - بأن يكون في الإسلام عزيزا ممتنعا؟
أحسبه - يا أمير المؤمنين - أهلا للإنابة والفئ إلى الله، لو ضمن أن يكون له في الإسلام عرش وتاج، وان يزوجه أمير المؤمنين إحدى بناته ليكون له إلا الإمارة سبب!
فابتسم عمر وقال:
أما صهري فهو - والله - كفء؛ وأما الإمارة فوددت لو أنه علم أنها ليست مغنما يرجى ولكنها تكليف يفدح. اذهب إليه عن أمري فادعه إلى الحضور على شرطه!(809/33)
وعاد الرسول من حيث أتى يريد جبلة في قصره بالقسطنطينية ليبلغه رسالة عمر، ولكنه لم يكد يبلغ حاضرة الروم حتى لقي الناس قافلين من تشييع جنازة جبلة بن الأيهم!
ومات آخر ملوك الغساسنة على الجاهلية وغلبته شقوة الأبد؛ ترفعا بنفسه عن المساواة برجل من قومه!.
محمد سعيد العريان(809/34)
عبقرية محمد الإنسانية
للأستاذ أنور المعداوي
إنسان عظيم. . . وذلك اصدق ما يقال فيه وغاية ما يقال.
محمد الرسول في مواقف الرسالة، ومحمد البطل في مواقف البطولة، ومحمد الصديق في مواقف الصداقة، ومحمد الوالد في مواقف الأبوة، ومحمد في كل موقف من مواقف العبقرية يحتل من نفسي مكانا لا يدانيه مكان. . . ولكن جانبا من جوانب هذا العظيم الذي يعلو أبدا فوق مستوى الأقران والنظراء، يهزني هزا عنيفا، كلما تمثلته في طوايا الخاطر أو بعثته من ثنايا الشعور؛ ذلك هو محمد الإنسان!
قد ينظر غيري إلى الجانب الإنساني في حياة الرسول من خلال المنظار الذي ألفه الناس، حيث يتخيلون الإنسانية مجموعة فضائل يجوز أن يشترك فيها العظيم وغير العظيم. . . هذا المنظار الذي ينظر من خلاله إلى إنسانية محمد ممثلة في الرحمة والمودة والألفة والإيثار والعطف، لا يهدئ لصاحبه أن يضع يده على مفتاح هذه الشخصية الفذة في حقيقتها البعيدة، هناك في اعمق الأعماق وأبعد الأغوار.
إنسانية محمد لا توزن في رأيي بذلك الميزان الذي يقام لكل رجل يمكن أن تجتمع فيه تلك الصفات، لتضع بعد ذلك في مواجهة اسمه كلمة (إنسان). . . وإنما توازن الإنسانية في هذا العظيم بميزان اللحظة النادرة من لحظات حياته، حين يقف وحده متفردا في مجال يعز فيه التفرد على كل شبيه وكل نظير. وما أكثر اللحظات النادرة في حياة محمد الإنسان!
أنا أريد أن انظر إلى عبقرية الإنسانية في شخصية الرسول من خلال منظار آخر؛ منظار يحدد الزوايا التي تفترق في المشهد الإنساني عن نظائرها فيما تعارف عليه الناس. . . إذا قلنا أن محمدا إنسان لأنه رحيم فما أكثر الرحماء، وإذا قلنا أنه إنسان لأنه وفي فما أكثر الأوفياء، وقل مثل ذلك في سماحة الطبع والمودة والألفة والإيثار والعطف؛ فما أكثر ما كان يملك أصحابه من كل هذه الفضائل والسمات. . . ولكن محمدا كان يفترق عنهم جميعا في هذا المجال؛ مجال المفاضلة بين (الإنسان) في صفاته العليا التي تقررها موازين القيم والأوضاع، وبين (الإنسان العظيم) في صفاته المثلى التي يعجز عن تقريرها موازين القيم والأوضاع!(809/35)
محمد الإنسان النادر لا يوزن إلا بميزان يبحث عن الندرة الخلقية التي تضعه وحده في كفة، وتضع في الكفة الأخرى ما شاء لها أن تضع من الناس. . . ولن يتهيأ للباحثين أن ينفذوا إلى أغوار حقيقته الإنسانية، إلا إذا وقفوا طويلا أمام تلك المشاهد الذي تعرض لهم نماذج من حياة ذلك القلب العظيم؛ نماذج لا تتعدد منها الصور وتتكرر الألوان.
سأنظر إلى محمد الإنسان على ضوء اللحظة النادرة من لحظات حياته؛ تلك التي قلت عنها أنه يقف فيها متفردا حين يعز التفرد على كل شبيه وكل نظير. لحظات (الضعف الإنساني) في حياة الرسول هي وحدها دون غيرها التي تهدي السالكين إلى معالم الطريق؛ طريق الوصول إلى حقيقته الإنسانية. . . وانه لضعف الأقوياء والقادرين حين يشرفون على الدنيا من أعلى قمة من قمم الأخلاق، ليخفضوا للناس جناح الضعف من الرحمة.
هذا (الضعف الإنساني) في حياة محمد ناتج من كونه إنسان اعظيما قبل أن يكون نبيا عظيما يحمل مشعل الهداية إلى جيل من بعده أجيال. . . أن الرحمة في موضعها أمر لا غرابة فيه؛ ولكن الرحمة في غير موضعها أمر تكتنفه الغرابة من كل نواحيه. وهكذا كان محمد: فهو في موقف الرحمة حيث تطلب الرحمة (رجل عظيم) ولكنه في موقف الرحمة حيث لا ينتظرها أحد (إنسان عظيم). وهذه هي اللحظة النادرة التي لا يشاركه أحد فيها من الناس، لحظة (الضعف الإنساني) المنبعث من غلبة الإنسانية على طبيعته وتغلغلها في كل خليقة من خلائقه! وهي التي يسميها الباحثون رحمة دون أن يفرقوا بينها وبين الرحمة التي يقدم عليها غير العظيم أو يقدم عليها العظيم وهو غير إنسان. يقول الأستاذ العقاد في معرض الحديث عن إنسانية محمد: (النبي لا يكون رجلا عظيما وكفى. بل لابد أن يكون إنسان اعظيما فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء، وتهيؤه للفهم عن كل جانب من جوانب بني آدم. فيكون عارفا بها وان لم يكن متصفا بها، قادرا على علاجها وان لم يكن معرضا لأدوائها، شاملا لها بعطفه وان كان ينكرها بفكره وبروحه؛ لأنه أكبر من أن يلقاها لقاء الأنداد، واعذر من أن يلقاها لقاء القضاة، وأخبر بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شيء بين الأرض والسماء؛ لأنه يملك مثلها آفاقا كآفاقها، هي آفاق الروح).
هذه الكلمات التي يسوقها الأستاذ العقاد عن محمد الإنسان تنطبق كل الانطباق على (الرجل(809/36)
العظيم) لا على (الإنسان العظيم). . . لأن الرجل الذي يشمل الناس بعطفه، ثم يفسر هذا العطف على أنه أكبر من أن يلقى الأمور لقاء الأنداد واعذر من أن يلقاها لقاء القضاة؛ هذا الرجل إذا وضع في الميزان صاحب طبيعة خلقية تنبع فيها الرحمة من منابع الرحمة النفسية تلك التي تنظر إلى كل شيء نظرة القمم إلى السفوح أو نظرة الكبير إلى الصغير. . . وفرق بين رحمة يفرضها على صاحبها التعاظم والكبرياء، ورحمة يفرضها التواضع الموصول الروابط بالإنسانية في أوسع آفاقها، وأرفع مزاياها.
أما قول الأستاذ العقاد بأن محمدا لا بد أن يكون إنسان اعظيما لأنه نبي عظيم، فهو في رأيي لا يثبت ولا يؤكد إنسانية محمد في كثير ولا قليل، لأن محمدا كان إنسان اعظيما بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولا إلى الناس، والدليل على ذلك من تاريخ حياته مهيأ ميسور لكل من يلتمس الدليل. . . وذلك أمر لا ريب فيه ولا جدال!
بعد هذا نعود إلى المجال الذي يجب أن يبحث في رحابه عن محمد الإنسان، مجال اللحظة النادرة من لحظات (الضعف الإنساني) في حياته! هناك حيث تبدو الرحمة في غير موضعها لترفع الغطاء عن حقيقة هذا الإنسان العظيم:
مات عبد الله بن أبي، زعيم المنافقين في عهد الرسول، ورأس الفتنة التي كانت تنشر سمومها في صفوف المسلمين، عبد الله بن أبي الذي لم يسلم محمد من كيده وشره ولسانه، عبد الله بن أبي الذي نزل فيه وفيمن على شاكلته حكم السماء: (استغفر لهم؛ أولا تستغفر لهم أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم). . .
مات هذا المنافق فصلى عليه محمد بعد موته، ثم تخلى لأهله عن قميصه ليكفنوه فيه! ثم يقول لعمر حين يعتب عليه عتابا بلغ حد التعنيف والإنكار: (أخر عني يا عمر، لو أعلم أني أن زدت على السبعين غفر له زدت)!. . . ثم يقول لمن يسأله لم دفعت إليه بقميصك وهو كافر: (أن قميصي لن يغنى عنه من الله شيئا، وإنني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثيرا بهذا السبب)!. . . ولم يلبث محمد إلا قليلا حتى سمع رأى السماء: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)!
هذا هو محمد الإنسان متفردا في مجاله، متوحدا في فضائله وأعماله. . . لقد كان قادرا على قتل عبد الله بن أبى، ولكنه لم يفعل، وكان قادرا على أن يشيعه باللعنات ولكنه لم(809/37)
يفعل، لأنه إنسان. . . إنسان يتسع قلبه للدنيا بما فيها: من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من إيمان ونفاق، من وفاء وتنكر للوفاء. ويتسع للدنيا بمن فيها: سواء أكان فيها عمر بن الخطاب، أم عبد الله بن أبى، أكان فيها على زوج ابنته فاطمة، أم هبار بن الأسود قاتل أبنته زينب!. . . هذه هي اللحظة التي تتجلى فيها الندرة في الطبيعة الخلقية؛ (لحظة الضعف الإنساني) الذي يدفع الرسول الكريم إلى لون فذ من الصفح والرحمة؛ هناك حيث يأتي الصفح والرحمة على غير ترقب وانتظار. . . أن الرحمة كما سبق أن قلت حين تأتي في موضعها تكون سمة من سمات (الرجل العظيم)، ولكنها حين تأتي في غير موضعها كما حدث هنا تكون سمة من سمات (الإنسان العظيم)، وفي هذا النطاق تجد محمدا ولا تجد سواه! ويدفعنا ذكر هبار بن الأسود إلى أن نورد هنا شيئا من قصته، فيها لحظة أخرى من لحظات التفرد في عبقرية محمد الإنسانية. . . كانت زينب بنت الرسول في طريقها من مكة إلى المدينة، تلبي دعاء الشوق الأبوي المنبعث من قلب أبيها العظيم، وكان برفقتها نفر من أهله وصحبه ليكونوا لها ملاذا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، ولكن قطاع الطريق ممن خرجوا على طاعة الرسول وكلمة السماء قد اعترضوا طريق القافلة المؤمنة والركب الآمن، لتتندى رمال الصحراء بعد قليل بأطهر دم سال على رمال الصحراء. لقد كان دم زينب أراقته رمية رمح من يد الجارم الآثم هبار بن الأسود؛ وحين يبلغ الأمر محمدا الوالد يتلقاه كما يتلقى الآباء مصارع الأنباء؛ بالحزن العميق والأسى الدفين، واللوعة التي تهز في القلب الكبير مكامن الألم والعذاب!. . . ويهدر محمد الزعيم دم هبار بأي مكان وجد، وبأي بلد نزل، وبأي حي من أحياء العرب أو العجم حل متخفيا أو سافرا بغير قناع. وينطلق أصحاب محمد في اثر ابن الأسود لا يتركون فجا من فجاج الصحراء ولا بقعة من بقاع الأرض، ولكنهم يعودون صفر الأيدي من ذلك المعتدي الأثيم. . . ويعود الوالد المفجوع إلى حزنه وأساه!
وفي يوم من الأيام التي لا تنسى في حياة الرسول يقتحم مجلسه رجل يخفي وجهه تحت لثامه؛ رجل لا يملك عينيه من الدمع، ولا قلبه من الوجل، ولا لسانه من طلب الصفح والمغفرة وينظر الإنسان العظيم إلى هذا الذي يستجير به ويفزع إليه فيجده قاتل ابنته هبار بن الأسود، يدفع إليه برمحه ليصنع به ما صنع بزينب جزاء ما اقترفت يداه!. . . وهنا(809/38)
يختفي محمد الوالد المفجوع في اعز ما يملك من دنياه، ول يبقى إلا محمد (الإنسان العظيم) في أكرم ذروى من ذرى (الضعف الإنساني)؛ هناك حين يخفض لهبار جناح الضعف من الرحمة. . . وهناك حيث يخرج هبار وقد غفر له. . . وهناك حيث يقف محمد متفردا في مجال الندرة الخلقية حين يعز التفرد على كل شبيه وكل نظير!
ولحظة ثالثة وما أكثرها من لحظات. . . لحظة قد يمر بها العجالى فلا يقفون أمامها طويلا ليتأملوها تأمل المغرقين في البحث عن جوهر النفوس ومعدن القلوب، حين يصهرها وهج الرحمة في بوتقة (الضعف الإنساني)؛ ضعف الأقوياء والقادرين!
طفل يموت. . . وما أكثر ما يموت الأطفال وغير الأطفال فيتجلد الآباء أمام شبح الموت ووقع المصيبة؛ لا يترقرق في مآقيهم دمع، ولا يعصف بقلوبهم حزن، ولا يذهب بصبرهم وقدة شعور ملتاع، وقد يكون المفجوعون أناسا لا حظ لهم من مقارعة الخطوب ولقاء الشدائد ومغالبة الأهوال! ولكن موت إبراهيم يهز في نفس محمد كوامن الشجن، ويهز في عيني محمد عصى الدموع، محمد الذي لم تهزه الدنيا بكل ما ادخرته له من محن يرفض منها الصبر وتخور معها العزيمة، محمد الذي توكأت على كتفيه عوادي الزمن يسير وراء إبراهيم متوكئا على كتفي عبد الرحمن بن عوف! ومعذور ابن عوف حين يستكثر البكاء على الرسول وينكر البكاء على الرسول؛ لقد كان ينظر إلى (الرجل العظيم) الذي بكى، ناسيا أن الذي بكى هو (الإنسان العظيم)!. . . ومعذور ابن عوف إذ نظر إلى محمد فوجده يبكي على غير ترقب وانتظار؛ لقد كان عهده به جلدا أمام المصائب، قهار للخطوب، ولكنه نسي لحظات (الضعف الإنساني) التي تكشف عن صدق الإنسانية حين تنتفض من جيشان العاطفة أمام اصعب الأمور وأيسر الأمور.
لحظات (الضعف الإنساني) هي وحدها الميزان الذي توزن به إنسانية محمد دون غيره من الناس. . . وهي هنا لحظات ثلاث، وإنها لقليل من كثير، وما أكثرها على قلتها في حاب الشعور والوجدان.
أنور المعداوي(809/39)
حداء الركبان
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
مَنْ هؤلاء الصامتون؟ تَكلموا! ... مَن هؤلاء المحجبون؟ تقَدَّموا!!
ما بالكم تُقضَي الأمورُ بغيركم ... ويكونُ دونكم القضاءُ ويُبرم؟
تتكلم الأسَلاتُ فوق رؤوسكم ... وتعج حولكم الوغى وتُدمدم
وتكاد كفُّ الطامعين تصيبكم ... وتنال ما ترجو المطامع منكمو
الغانمون الأرض بعد محمدٍ ... أضحوا وهم في كل أرض مغنم
مَن هؤلاء الحائرون. كأنما ... طال الطريق بهم فلم يتقدوا
فعَلى غوار بهم ضَنىً وتُّهدمٌ ... وعلى ملامحهم أسى وتجهُّمُ
وكأنهم من سُوء ما صنعتهم ... أقدارُهم في الكون لم يبتسموا!.
صبراً إذا مشت الرياح بِركبكم ... وأناخ كلكلَه الزمانُ عليكمو
صبراً إذا الحادي استبان سبيلهَ ... فإِذا الطريق على الرواحل مُظلم
صبراً إذا انبهر الحداةُ فلا تَري ... في الركب من يشدو ومن يترنم
هذى سبيلٌ سار فيها قبلَكم ... مترسم في إِثرِهِ مترسم
غَلبتْ وتَغْلبُ كَّل من سئم السُّرى ... ويكاد يغلبها الذي لا يسأمُ
ما هذه البيداء أنها ... تِيْه يضل به الدليل المقدمُ
ما هذه الصحراء إلا أنها ... ساحٌ يَخُور بها الكمىُّ المعْلمُ
ما هذه المومَات إلا أنها ... ليل تحاَرُ به النجوم فُتعتم
ما هذه الفيفاءُ إلا أنها ... بحْرٌ تحيط بشاطئيه جهنم
هي قبر كلِّ مجاهد لم يَطوِهِ ... في خمسة الأشبار كونٌ أَعظَمُ
أكلت لحومَ الخالدين الأيام تزل ... يعتادها النَّهم القديم فتنهمُ
بالأمس كان وقودها في حرِّها ... جيشٌ من الشِّرك لأثيم عرمرم
فإذا دعاء الجاهلية خافت ... وإذا ثَراء الجاهلية مُعدم
وإذا الطواغيت التي قد أشركوا ... بالله فوق رؤوسهم تتحطم
مَن هؤلاء الهائمون كأنما ... لم يَهْدِ نَهْجَهُمُ الكتابُ المحكم(809/40)
يبدو العياء من الليالي فوقهم ... ويُرى الغبارُ من السنين عليهمُو
فكأنهم أَنضاءُ ركْبٍ لم يَبِنْ ... للواحة الخضراء فيهم مَعلمُ
تتخبط الأحداث بين صفوفهم ... وتموجُ بالخطب الجسيم وتُفعَمُ
أعياهمو خَبَبُ الطريق فوقفوا ... وأخافهم فَزَعُ الطريق فأحجموا
ما بالهم لم يُجْدِ في أسقامهم ... طبٌّ ولم ينفع لديهم مرهم
عجباً أتبرأُ علةٌ في أمة ... ويصحُّ جسم والطبيبُ المسقِم؟!
يا أيها الركبان أن سبيلكم ... للمجد والعلياء أن تتقدموا
لا يُيئِسَّكم الطريقُ إذا بدا ... وعليه أشواك وفيه تَجَشُّمُ
يكفى الصياحُ فما الحياة عبارةٌ ... جوفاء فارغةٌ يرددها الفمُ
الحق تحميه الصوارم والقنا ... والعدل تحفظه الضحايا والدمُ
والقوة الغلباء ليس يردها ... إلا القوىُّ الغالب الممغلم
محمد عبد الغني حسن(809/41)
الحديث الشريف
هل تنقيحه ممكن؟
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
يموج العالم الغربي اليوم بمتلاطم من المذاهب والنظريات والحقائق التي بلبلته حين تكاثرت عليه، فصار لا يدري ما يأخذ، أو ما يدع.
والعالم الإسلام ي عرضة لتلك الأمواج تتوافد عليه فتحدث فيه بعض ما أحدثت في عالم الغرب من اضطراب في الفكر والاعتقاد، وذلك رغم ما يملكه المسلمون من معايير وثيقة للحق والباطل تتجلى في كتاب الله وسنة الرسول.
ولعل من بوادر البلبلة الوافدة ما يبدو لبعض الناس في بعض الأحاديث الشريفة من مخالفة للعقل يقترح من أجلها تنقيح كتب الحديث القديمة أو تنقيح الأحاديث نفسها في كتب جديدة.
وتمحيص الحديث لا يمكن من الناحية النظرية إلا عن طريقين: تمحيص المتن أو تمحيص السند. فأما تمحيص الأسانيد فقد قام به أئمة الحديث على صورة لم تدع زيادة لمستزيد. ونحل الأسانيد فوق ذلك أمر غير ممكن. وأما نقد متون الأحاديث فلا يزيد على أن يكون تحكيما للرأي في الدين بحيث يصبح الدين رأيا ويصبح الرأي هو الدين.
إن القدماء كانوا على حق حين حكموا أن الطريق الوحيد المأمون في تصفية الأحاديث هو طريق تمحيص السند، لأنه بعد أن قامت الحجة القاطعة على رسالة الرسول صلوات الله عليه، وانه لا ينطق عن الهوى في كل ما بلغه الناس عن الله، لم يبق لتمييز الحق من الباطل إلا أن تثبت القول عن الرسول. وتمحيص الأسانيد المتصلة إلى الرسول هو الطريق البديهي لهذا الإثبات. فمن آيات الله الباهرة في حفظ هذا الدين أن وفق علماء المسلمين للقيام بتلك المهمة الكبرى قبل أن يفوت وقد أمكن القيام بها فلو تأخرت إلى ما بعد تلك العصور التي تمت فيها لأصبح القيام بها مستحيلا، إذ لو وجد العلماء الراغبون في بذل الجهد القادرون على التمحيص، لما وجد ما يفحص أو يمحص بعد موت جميع الشهود.
فمن فضل الله علينا وعلى الناس جميعا أن كان الدين وعلومه شغل العلماء الشاغل عصورا طويلة حتى تم حفظ اللغة، وحفظ القران، وحفظ الحديث، وإلا أصاب الإسلام ما(809/42)
أصاب غيره من التحريف والتبديل والتضييع.
ولست ادري كيف يمكن إذا كان الحديث ثابتا عن الرسول أن يمتد إليه عقل، مهما قدر، بتنقيح أو تعديل! لست ادري كيف يمكن أن يجوز عند العقل أن قولا ثابتا عن الرسول الذي قطع العقل برسالته عن الله يصح أن يكون محل بحث غير بحث يرمي إلى استنباط المعنى منه، لا إلى تصحيح أو تنقيح شيء فيه. أن الدين قد جاء الإنسانية بكثير مما لم تكن تعرف، وكثير مما لا يمكن أن تعرف إلا عن طريقه؛ وكل أخبار الغيب لا يمكن أن نعرف إلا عن طريقه. والمسالة ليست مسالة ماذا نفهم من الدين، أو ماذا نعقل، أو ماذا يتفق مع ما نعرف أو نعلم عن غير طريقه، ولكن المسالة هي أمر الواقع الذي كأن والذي بلغه الرسول للناس عن الله سبحانه. فإذا ثبت أن أمرا قد وقع أو قولا قد صدر عن الرسول وجب قبول هذا الواقع وذاك القول مهما بدا للعقل غريبا أو عجيبا أو غير مفهوم.
إن الدين صادر عن خالق الخلق، وقد تناول جميع الفطرة ماضيها وحاضرها ومستقبلها: بالإجمال فيما اقتضت الحكمة الإلهية إجماله، وبالتفصيل فيما اقتضت تفصيله. والعقل الذي يمكن أن يحيط بالفطرة لم يخلقه الله بعد، وهو على أي حال عقل المجموع لا عقل الفرد والعلم الذي يتسع حتى لا يند عنه شيء من الفطرة لم يوجد، ولن يوجد أبدا. فسيظل الإنسان يعلم ويزداد علما من غير أن يصل إلى نهاية العلم.
وإذا كان الأمر كذلك فهل من المعقول أن يتطلع الإنسان إلى فهم كل سيئ في الدين كان ليس في دين الله ما يسمو عن عقل الإنسان؟ وإذا كان في الدين ما يسمو عن عقل الإنسان ويزيد عن علمه، فهل من المعقول أن يحكم الإنسان عقله وعلمه في الدين، فلا يقبل من الحديث إلا ما طابق ذلك العقل على محدوديته، وذلك العلم على قلته؟ ألا يكون ذلك غرورا يضل الإنسان به عن الله، ويصبح به إلهه هواه؟
ما هو المقياس الذي يمكن أن يقيس به الإنسان متون الحديث ومعانيها ليقبل منها ما يوافقه، ويرفض أو ينقح منها ما يخالفه حتى يزول الخلف؟ أن الحق القاطع لا يختلف. ذلك أمر معروف مقطوع به. فهل يمكن أن يتناقض نص قاطع وأمر واقع عرفه الإنسان بالعلم المستقل عن الدين، كالعلم الطبيعي مثلا؟ أن هذا غير ممكن؛ فالدين من عند خالق الفطرة، واليقيني من العلم الطبيعي هو جزء من الفطرة، بمعنى أنه وصف حقيقي صادق(809/43)
لجزء منها، والفطرة متجانسة متساندة فلا يمكن أن يناقض بعضها بعضا. وإذن فلا يمكن أن يناقض علم دينا أو دين علما إذا كان العلم صحيحا وإذا كان الدين من عند الله. لكن الدين بحكم تناوله جميع الفطرة يجمل القول أو يبهمه فيما لا يتعلق بضروري لسعادة الإنسان الآن، وفيما ضاق عنه علمه الحاضر أو علمه وقت أن نزل القران؛ فيفهم الإنسان من القول المجمل أو النص المبهم بقدر عقله وعلمه؛ بل لعله لا إجمال ولا إبهام هناك إلا بقدر أن يكون في العبارات الكلية عند من لا يعرف جزئياتها، فهي تبدو مجملة أو مبهمه لكثرة ما فيها من المعنى الذي استغلق على الإنسان؛ حتى إذا ازداد علمه باطراد تقدمه، فهم من النص ما لم يكن يفهمه، واطلع منه على دنيا من الحقائق جديدة يتجدد بها له وللإنسانية الحجج عصرا بعد عصر: أن الإسلام دين الله، وان محمدا رسول الله، وان القران كتاب الله، وان ما ثبت عن الرسول لا يجوز أن ينقحه، وان وجب أن يتفهمه، الإنسان.
سيقال طبعا أن الثابت عن الرسول صلوات الله عليه مختلف في درجة الثبوت، فالمتواتر من الحديث قليل أو أقل من القليل، لا يكاد يجاوز أو يبلغ أصابع اليدين عدا. وهذا لا اختلاف في قبوله ولا في أنه فوق التنقيح. والثابت غير المتواتر هو الصحيح على تفاوت في درجة الصحة، وهذا لا يفيد إلا الظن، أي ترجيح أنه من قول الرسول على تفاوت في درجة الرجحان؛ وهذا هو الذي يصح أن يكون عرضة للتنقيح عند اللزوم.
أني أقول أولا إن احتياط علماء الحديث رضوان الله عليهم من الناحية العقلية المنطقية الصرفة، هو الذي جعلهم يضيقون دائرة المتواتر ذلك التضييق. وإلا فكثير من الحديث يلتحق بالمتواتر لتعدد طرقه وسلامة أسانيده. ولئن لم يتواتر هذا الكثير من ناحية اللفظ فهو متواتر أو يكاد من ناحية المعنى ولو دقق علماء التاريخ في ثبوت التاريخ تدقيق علماء الحديث في ثبوت الحديث لما كاد يثبت من التاريخ شيء. فمسلك علماء الحديث في نقد الأسانيد كان غاية في التشديد كانوا يضعفون الحديث إذا عرف عن أحد رواته سهوة، أو أحصى عليه هفوة يرونها تخل بالكرامة. وكانوا ينبذون الحديث إذا عرف عن أحد رواته أنه كذب ولو مرة. وهذا تشديد كبير لأن الذي يكذب مرة ليس معناه أنه يكذب كل مرة، أو أن الكذب له عادة. والذي يكذب على الناس ليس بضروري أن يكذب على الرسول الذي توعد الكاذب عليه بالنار. لذلك لست اشك في أن من بين ما رفضه علماء الحديث صحيح(809/44)
غير قليل، فينبغي أن يكون ما قبلوه بالغا في الصحة كل مبلغ، جديرا أن تتلقاه العقول بالطمأنينة والقبول.
فالرجحان هو اقل ما يمكن أن يوصف به ما صححه أولئك العلماء الأعلام المدققون. أي أن ما وصوه بالضنى والراجح هو في الواقع فوق ذلك بكثير، ولكنهم وصفوه بأقل ما يمكن أن يوصف به، لأن العقل لا يقطع بغير هذا. أي إن الأحاديث الصحيحة عند العقل هي قطيعة الرجحان. وما كان قطعي الرجحان هكذا في الثبوت عن الرسول فأي حكمة يا ترى هناك في القول بتنقيحه؟ أفمن الممكن إنزاله عن مرتبة الراجح مع أن رجحانه مقطوع به؟ أم من الممكن إعلاؤه عن مرتبة الراجح إلى مرتبة اليقيني؟ ليس هذا ولا ذاك ممكنا عند العقل اليوم، وإذا فلا محل هناك للقول بتنقيح صحيح حديث رسول الله صلوات الله عليه.
ويجب ألا يغرب عن البال، أن الأحاديث الصحيحة وان وصفت بأنها راجحة الثبوت عن النبي عليه الصلاة والسلام فإن الإجماع منعقد على العمل بها في الدين: أجمع على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، واجمع على ذلك العلماء عصرا بعد عصر إلى عصرنا هذا. فمن يحدث نفسه يترك حديث صحيح لمجرد أنه لا يفهمه أو أنه يستغرب معناه يعرض نفسه للخروج على إجماع المسلمين ويعرضها الخروج على الإجماع لما في ذلك من خطر حقيقي عليه، لا عند الناس ولكن عند الله:
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى وينبع غير نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). فالإجماع واجب الأتباع بالكتاب بهذه الآية على الأقل، ولسنة بعدة أحاديث. على أن كل إنسان في ذات نفسه في قبول ما يقبل أو رفض ما يرفض، فإن ذلك متعلق بقلبه وبعمله هو. هو أمر بينه وبين الله، بل ونرجى له النجاة ما صدق النية لله في ذلك. لكنه إذا بدا يدعو غيره لي ما يشبه أن يكون خروجا على إجماع المسلمين، فإنه عندئذ يعرض نفسه لأخطار لا يقدم على التعرض لها عاقل من الناس.
محمد أحمد الغمراوي(809/45)
العلوم الدينية
بين القرآن وعلماء الإسلام
للأستاذ عطية الشيخ
المفتش بالمعارف
مصادر الإسلام أربعة، هي القرآن والسنة ولإجماع والقياس، ومن بين هذه الأربعة ثلاثة خلافية بين الفرق والمذاهب الإسلامية، تفاصيلها في علم الكلام لمن أراد البحث، أما المصدر المتفق على نصه فهو القرآن الكريم، والاختلاف في التفسير لا يضر، إذ القرآن الكريم كنز لا تفنى غرائبه، ولا تنتهي عجائبه. وكلما تقدم العلم، وارتقى الفكر، وانفتح مدى المعارف الإنسانية، وزادت تجارب الناس ومشكلاتهم، كلما حدث هذا، وضح ما في القرآن من إعجاز، وتبين للعقلاء أنه كلام رب العالمين (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله).
على أن هناك تفسيرا للقرآن لا يقبل الشك، وهو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت أخلاقه القرآن، كما حدثت بذلك الصديقة رضي الله عنها. ولهذه السيرة تلاميذ، أحاطوا بها ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، وهؤلاء التلاميذ المخلصون، هم نجوم الأمة المنيرة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، انعكست عليهم أضواء شمس القرآن، بعد غروب بدر نبيه، واسترشدت بهم الأمة بعد فقد الصادق الأمين، فهدوها إلى صراط مستقيم، ورفعوا لواء الإسلام في كل حزن وسهل، وطافوا به كل مطرح ونشروه في كل واد، عالمين أنه سلوك يهدي لا جدل يردد، وقلب يصفي لا لسان يلوك، وسنة تتبع لا دروس تتلى، فأعجبت بسلوكهم الشعوب المنحلة، وشغفت بطريقتهم الأرواح المجهدة، واقتدى بهديهم المتعبون والمثقلون، ودخل أهل الدنيا في دين الله أفواجا، ولم يمض إلا عشرون عاما حتى كانت العربية لسان كل سنخ وجنس، والشريعة السمحة قانون كل صقع ودولة، والمسلمون مثلا أعلى لكل متعلم ومسترشد.
ثم أتخم الإسلام بكثرة ما حمل من أوشاب الأمم، ومختلف الحضارات، وما اثر فيه من مشاكل العلوم القديمة، والنحل المختلفة، وما دسه فيه أعداؤه من رجال الأديان الأخرى التي(809/46)
خرت أمام سطوته، وعنت لعظمته، فخلف من المسلمين خلف بعد أن وقفت فتوحه، متأثرين بكل ما ذكر، وجعلوا من عقيدة الفطرة مشاكل ذرية، ومن غذاء الروح عقدا فلسفية، ووضعوا مصطلحات، واخترعوا علوما، وتركوا ميدان الحسام وجاهدوا باسلات اللسان، وهجروا صهوات الخيل، إلى مذاكرات الليل، وطرحوا خصام الكافرين، إلى جدال غيرهم من المسلمين، فأفسدوا من الإسلام مذاقه، وعكروا صفوه، وقسموا الأمة طرائق، وقطعوها خرائق، وكانوا أنكى على الإسلام ممن خاصمه بحد الحسام.
ورضى المستجدون على الإسلام والطارئين عليه من ملوك الأعاجم والترك، بعد أن دالت دولة العرب، بفهم الإسلام بهذا الوضع، لمشابهة العلوم الإسلامية المبتدعة، لما ألفوه من علوم الأديان الأخرى، وثنية وسماوية، فعظموا هؤلاء المبتدعين، ورفعوا شأنهم، ورأوا في تعظيمهم تعظيم الإسلام نفسه. وكيف لا يفعلون هذا، وقد قبله من حولهم من ملوك الروم للقساوسة والرهبان، ومن أعيان اليهود للأحبار، ومن ملوك الهند للكهان؟ أو لعل هؤلاء الحكام الجدد رأوا في هذا السلوك خدمة لعروشهم، بصرف الناس عن خدمة الدين بما خدمه به فقهاؤه الأوائل من جزيرة العرب، إذ أن فهم الإسلام هذا الفهم الأول، يعكر عليهم ما أخذ يحيط بهم من ترف ونعيم ولهو واستماع، ومن كان كذلك يعنيه أن يفصل بين ما لقيصر وما لله وأن يجعل الدين في المساجد والكتب، والملك العضود في الدنيا وزهرتها، وإلا لقام له من يقول: (لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بالسيف)، ومن يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ومن يطبق قول أبي بكر: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم) ومن يقول: (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، إنما اهلك بني إسرائيل أنهم كانوا يقيمون الحد على ضعفائهم دون أقويائهم).
أقول منذ فهم الإسلام هذا الفهم، ووضع هذا الوضع، وجعل علوما جدلية ونظرية علمية، وقواعد جافة، اخذ بناؤه ينقض حجرا حجرا، وعموده يميد شبرا شبرا، وأرضه تنتقص رقعة رقعة، ووحدته تتجزأ فرقة فرقة، حتى لم يبق منه إلا الذماء، أفلم يأن للبقية الباقية من المسلمين، الحرص على استرداد مجدهم، والحفاظ على ما بقى لهم، أن يعيدوا للإسلام جدته ويفروا إلى القران، ويسعهم من الدين ما وسع الصحابة رضوان الله عليهم، ويتركوا كل هذه التركة الثقيلة التي ما فتئوا يسمونها علوم الدين؛ والدين منها بريء، ويضيعون(809/47)
وقتهم في مدارستها ويبنون المعاهد والمدارس لها. ثم لا يكون منهم مثل خالد أو عمرو أو عمر، ولا ينبغ فيهم مثل من نبغ من الأميين؟! لست أول من نادى بذلك الرأي، بل سبقني إليه الغزالي حجة الإسلام، وبرهن بما لا يقبل الشك على أن ما يسميه الناس علوم الإسلام ليست من الدين في شيء، وان معرفتها لا تقرب إلى الله قيد شعرة، وان عامة المسلمين اخلص عقيدة وأصفى قلبا واقرب إلى الله من علماء هذه العلوم. وفي الأثر ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعض أصحابه عن الجدال في الدين، والتنطع فيه، والخوض في النظريات التي أولها كلام وآخرها خصام، والسؤال عما لم يرد.
أقول أن الأمة أحوج إلى فهم علوم الدنيا من كيمياء وطبيعة ورياضة وطب وهندسة. . . الخ، لأنها علوم تعين على الحياة، وكسب الرزق، والقوة وفهم قدرة الله، وهو ما أمر الدين به، بل هذه العلوم مأمور بالبحث فيها بنص القرآن، وما من علم حديث إلا له آيات تحض على البحث فيه، مع ذكر شيء من مبادئه الأولى، حتى وقر في ذهن المسلمين منذ القدم أن القرآن الكريم حوى كل علم يمكن أن يبحث فيه السف أو الخلف، وفسروا قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) هذا التفسير. ولولا الإطالة لأحصينا في هذا المقال الآيات التي تحض وتأمر بالتعمق في العلوم الكونية أما ما يسمونه بالعلوم الدينية، بحسب الوضع الذي صارت إليه، فليس لها سلطان في الكتاب العزيز أو ماضي السلف الصالح، ولم يفد منها الإسلام إلا الضعف والتفرق والضياع. فيا ليت الذين أهملوا مؤلفات ابن الهيثم، وزيجات الخيام، وقانون ابن سينا، وبحوث بني موسى بن شاكر، ومسائل جبر الخوارزمي، ومستحدثات البيروني. يا ليت هؤلاء الذين ضيعوا هذا المجد وحاربوه وجروا وراء الفرق بين المعجزة والكرامة، والواجب والمندوب، والإجماع والقياس، والحيض والاستحاضة. يا ليتهم علموا أن العلوم الأولى اقرب إلى الله من الثانية، وادخل في الإسلام منها؛ إذا لما اصبح المسلمون عبيدا للأوربيين الذين وقعوا على ذخائر العرب فأنفسح أفقهم العقلي، ووصلوا إلى هذه المخترعات التي أثاروا بها الأرض وعمروها، وحددوا الأفلاك وفحصوها، وحللوا العناصر وركبوها، فدانت لهما الأمم، وعنت لهم الشعوب.
القرآن الكريم وهو الأصل المتفق عليه للإسلام، والمصدر القطعي الثبوت والدلالة، ما تعرض للبحوث التي سموها علوم الإسلام إلا لماما، حتى أن الصلاة وهي عماد الدين لم(809/48)
تتبين فيه أوقاتها وطريقتها، لا استهانة بها ولكن لأن أهم أركانها صفاء القلوب، وخشية المعبود، وأما أقوالها وأفعالها فتوقيفية يسيرة المتناول على الذكي والغبي. وكذلك الزكاة، والصيام، والحج، وهي قواعد الإسلام، يشير إليها القرآن الكريم إشارات خفيفة تاركا كل تفصيل وتوضيح للروح لا للعقل، وللذمة والضمير، لا للحدود والأقيسة.
أما القصص التهذيبي الذي أهمل المسلمون طرائقه في التعليم الخلقي فهو أكثر ما في القرآن. وأما الإيمان بالغيب والإسلام لله فهو لب التنزيل. وأما البحث في النفوس وخلقتها، والأجنة ونموها، والأمم وتاريخها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها، والكون وما يصير إليه، والرزق وما يحصل به، والأمم وكيف تحيا ولم تموت، وحسبان الشمس والقمر، وما في الأرض والسماء من قوى وعبر، فهي كل القرآن وهي موضوع العلم الحديث، ومن يتبحرون فيها هم علماء الدين الذين يخشون الله ويخدمون الأمة، ويرفعون شأن الملة.
علوم الإسلام، هي الصناعة والزراعة والطب والهندسة وما لف لفها. وأما علوم الكلام والفقه والأصول وما جاراها، فليست من الإسلام في شيء. وقد بلغت وما أنا إلا حريص على نهوض المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى.
عطية الشيخ
المفتش بالمعارف(809/49)
طبيب أديب
للأستاذ عباس خضر
عاش هذا الرجل ببغداد في القرن السادس الهجري، في الوقت الذي كان قد مضت فيه حقبة طويلة على اكتمال الحركة العلمية في العصر العباسي ونضج ثمارها، وانتقلت من مراحل النقل والترجمة والشرح والتلخيص والتمحيص، إلى طور الإنتاج والاختراع والإنشاء. وكان هذا التقدم العلمي على عكس التدهور ولاضطراب السياسيين، أو قل أن الازدهار العلمي قد عمر أكثر من الازدهار السياسي.
ولا أسترسل في ذلك، فلنعد إلى صاحبنا، وهو أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب الأديب. قالوا: أنه كان أوحد عصره في صناعة الطب، وكان إلى ذلك أديبا، له شعر جيد ورسائل بليغة. ولم يجذبني ما رووا عنه من الشعر والنثر ومن البراعة في فنون العلاج الطبي، بمقدار ما راعتني صفات أخرى فيه، يسمونها في عصرنا (واجب الطبيب الإنساني) وقد عرفه واجبا عمليا قبل أن يأتي زماننا فيردده كلاما طليا. . .
كانت داره بجوار المدرسة النظامية في بغداد، فكان يتفقد معلميها وطلبتها، إذا مرض أحدهم نقله إلى داره وقام عليه في مرضه، فإذا شفى أذن له في الانصراف ووهب له دينارين.
وعرض لبعض الأمراء النائين مرض عضال، فقيل له ليس لك إلا ابن التلميذ وهو لا يقصد أحدا. فقال: أنا أتوجه إليه، فلما وصل أنزله ومن معه في ضيافته، وعنى بمعالجته، فلما برئ الأمير وتوجه إلى بلاده أرسل إلى ابن التلميذ مع أحد التجار مالا كثيرا وهدايا ثمينة، فامتنع من قبولها وقال: أن علي يمينا إلا أقبل من أحد شيئا. فقال التاجر: هذا مقدار كثير. قال: لمل حلفت ما استثنيت. وأقام التاجر شهرا يراوده فلا يزداد إلا إباء. فقال له عند الوداع: ها أنا أسافر ولا ارجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال فتتقلد منته وتفوتك منفعته ولا يعلم أحد انك رددته. فقال: ألست اعلم في نفسي أني لم اقبله؟ فنفسي تشرف بذلك علم الناس أو جهلوا!
وقد اعتاد معاصرونا أن ينتسبوا إلى شرف المهنة، ولكن ابن التلميذ كان الأمر عنده ابعد غورا، كانت أصوله في نفسه، فقد درس الفلسفة ومزج الحقائق الخلقية بنفسه ودرس الطب(809/50)
مقرونا بالفلسفة المكونة للإنسان الجدير بلقب (الحكيم) فكل ما يعنيه هو شرف نفسه الذي يشترك فيه كل إنسان راق، والذي ينبع منه (شرف المهنة) أن كان لابد من هذه التسمية. ولعل إنصاف الأطباء بتلك الأصول الخلقية في ذلك الزمن واقتران دراستهم الطبية بالدراسة الفلسفية، وإطلاق كلمة الحكمة على كل ذلك، لعل ذلك هو الأصل الذي ينزع إليه إطلاق العامة لفظ (حكيم) على الطبيب.
وكان ابن التلميذ رئيس المستشفى العضدي ببغداد وقد فوض إليه الخليفة رياسة الطب فيها، فكان من شأنه الإشراف على الأطباء وإقرارهم على مزاولة المهنة بعد اختبارهم ومعرفة ما عند كل منهم فيها، وفي أحد مجالس الاختبار حضر شيخ له هيئة ووقار، ولم يكن عنده من صناعة الطب إلا التظاهر بها، وان كان له دربة يسيرة بالمعالجة، فلما انتهى السؤال إليه قال له أمين الدولة:
- ما السبب في كون الشيخ لم يشارك الجماعة فيما يبحثون فيه حتى نعلم ما عنده من هذه الصناعة؟
يا سيدنا، وهل شيء ما تكلموا فيه إلا وأنا اعلمه وقد سبق إلى فهمي أضعاف ذلك مرات كثيرة!
فعلى من كنت قد قرأت هذه الصناعة؟
يا سيدنا، إذا صار الإنسان إلى هذه السن ما يليق به إلا أن يسأل كم من التلاميذ له، ومن هو المتميز فيهم، وأما المشايخ الذين قرأت عليهم فقد ماتوا من زمان طويل.
يا شيخ، هذا شيء قد جرت العادة به ولا يضر ذكره ومع هذا فما علينا، أخبرني أي شيء قرأته من الكتب الطبية؟
سبحان الله العظيم. . . صرنا إلى حد ما يسأل عنه الصبيان! يا سيدنا، لمثلي لا يقال إلا أي شيء صنفته في صناعة الطب وكم لك فيها من الكتب والمقالات، ولا بد أن أعرفك بنفسي.
ودنا إلى أمير الدولة وقال له فيما بينهما:
اعلم إنني قد شخت وأنا أوسم بهذه الصناعة، وما عندي منها إلا معرفة اصطلاحات مشهورة في المداواة، وعمري كله أتكسب بها، وعندي أولاد، فسألتك بالله ألا تفضحني بين(809/51)
هؤلاء الجماعة وألا تمنعني التكسب لعيالي.
لك ذلك ولكن على شريطة، وهي انك لا تهجم على مريض بما لا تعلمه، ولا تشير بقصد ولا بدواء مسهل إلا لما قرب من الأمراض.
هذا مذهبي مذ كنت.
ورفع أمير الدولة صوته والجماعة تسمع: يا شيخ اعذرنا فإننا ما كنا نعرفك والآن فقد عرفناك. . .
ومن الظريف ما حدث بعد ذلك، فقد التفت كبير الأطباء إلى أحدهم وقال له:
على من تعلمت هذه الصناعة؟
يا سيدنا، أنا من تلاميذ هذا الشيخ الذي قد عرفته وعنه أخذت صناعة الطب.
وكان أمين الدولة نصرانيا، عاش في تلك البيئة الإسلامية السمحة مكرما مقدرا أكبر التقدير، يحظى بهبات الخلفاء وعطفهم، ويحل المنزلة التي تليق به في نفوس معاصريه من الأشراف والشعراء، ومما وجه إليه من الشعر ما كتب له الطغراني يشكو ألما في ظهره:
يا سيدي والذي مودته ... عندي روح يحيا بها الجسد
من ألم الظهر استغيث وهل ... يألم ظهر إليك يستند؟
وقد حسده طبيب يهودي اسمه أبو البركات على منزلته لدى الخليفة العباسي المستضيئ بأمر الله، فاحتال للدس عليه بحيلة وضيعة، كتب رقعة نسب فيها إلى أمين الدولة أمورا تحط من قدره، وأوعز إلى من ألقاه في طريق الخليفة، فلما قرأها الخليفة رأى أن يتحقق من صدق ما تحتويه، فلما استقصى الأمر وجده اختلافا، وعرف أن كاتبها أبو البركات، فغضب عليه ووهب دمه وماله وكتبه لامين الدولة، ولكن شرف النفس منعه أن يتعرض لخصمه بسوء، فسقط أبو البركات وانحطت منزلته.
وقال أحد الشعراء في الطبيبين، وكانت كنية أمين الدولة أبا الحسن.
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقيض
فهذا بالتواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض
وقد جمع هذا الحكيم المهذب (أمين الدولة) قواعد السلوك السبيل وأسباب الحياة الراقية في(809/52)
رسالة كتبها إلى ولده رضى الدولة، والمتأمل في حياته من خلال ما يروى عنه يراها تطبيقات على ما ضمته رسالته، قال فيها:
(وفز بحظ نفيس من العلم تثق من نفسك بأن عقلته وملكته لا قرأته ورويته، فإن بقية الحظوظ تتبع هذا الحظ المذكور وتلزم صاحبه، ومن طلبها من دونه فأما أن لا يجدها وأما أن لا يعتمد عليها إذا وجدها. ولا تثق بدوامها، وأعوذ بالله أن ترضى لنفسك إلا بما يليق بمثلك أن يتسامى إليه بعلو همته وشدة أنفته وغيرته على نفسه، ومما قد كررت عليك الوصاة به ألا تحرص على أن تقول شيئا لا يكون مهذبا في معناه ولفظه، ويتعين عليك إيراده، فأما معظم حرصك فتصرفه إلى أن تسمع ما تستفيده لا ما يلهيك ويلذ للأغمار وأهل الجهالة، نزهك الله عن طبقتهم. فإن الأمر كما قال أفلاطون الفضائل مرة والورد حلوة الصدر، والرذائل حلوة الورد مرة الصدر. وقد زاد ارسطو طاليس في هذا المعنى فقال: أن الرذائل لا تكون حلوة الورد عند ذي فطرة فائقة، بل يؤذيه تصور قبحها إذ يفسد عليه ما يستلذه غيره منها، وكذلك يكون صاحب الطبع الفائق قادرا بنفسه على معرفة ما يتوخى وما يجتذب كالتام الصحة يكفي حسه في تعريفه النافع والضار. فلا ترض لنفسك حفظك الله إلا بما تعلم أنه يناسب طبقة أمثالك، واغلب خطرات الهوى بعزمات الرجال الراشدين)
وهذا الأسلوب غريب في عصره الذي بدأ بوضع مثله السيئ ابن العميد الذي لم تختم به الكتابة كما قيل، بل ختمت بمن قبله ثم بعثت بابن خلدون.
ورسالة أمين الدولة المتقدمة أشبه بكتابة الأساتذة الأوائل كابن المقفع والجاحظ، فإنت تراه يركب التعبير مطهماً فارهاً إلى حيث يقصد. وبعض الكتاب يركبه التعبير فيتسكع به، وآخرون يركبون التعبير الهزيل فلا يصل بهم إلا مبهور الأنفاس.
ولأمين الدولة شعر جيد، قال في ولد له غير نجيب:
أشكو إلى الله صاحباً شكسا ... تسعفه النفس وهو يعسفها
فنحن كالشمس والهلال معا ... تكسبه النور وهو يكسفها
وتطل الفلسفة من خلال شعره إذ يقول:
لولا حجاب أمام النفس يمنعها ... عن الحقيقة فيما كان في الأزل(809/53)
لأدركت كل شيء عز مطلبه ... حتى الحقيقة في المعلول والعلل
كما تبدو الحكمة في قوله:
لا تحقرن عدواً لأن جانبه ... ولو يكون قليل البطش والجلد
فللذبابة في الجرح المعدّ يٌد ... تنال ما قصرت عنه يد الأسد
وله شعر في الألغاز، على طريقة عصره، وقد أحسن التعبير عن الميزان إذ قال لغزا فيه:
ما واحد مختلف الأهواء ... يعدل في الأرض والسماء
يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يرى الرشاد كل رائي
أخرس لا من علة وداء ... يغني عند التصريح بالإيماء
يجيب إذ ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء
ومن بديع مدحه قوله:
لا يستريح إلى العلات معتذراً ... إذا الضنين رأى للبخل تأويلا
يبادر الجود سبقاً للسؤال يرى ... تعجيله عند بذل الوجه تأجيلا
وله مؤلفات كثيرة في الطب، وقد روى بعض المؤرخين نوادر تدل على حذقه في العلاج وصواب حدسه في معرفة الداء، منها أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات، وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها وصب الماء المبرد عليها صبا متتابعا كثيرا (كالدش) ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفئ قد بخر بالعود والند، ودثرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وتحركت وقعدت، وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها.
ومن ذلك أن دخل عليه رجل منزوف يرعف دما في زمن الصيف، فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي، ففعل ذلك ثلاثة أيام، فبرئ. وقال في تعليل ذلك: أن دم المريض قد رق ومسامه قد تفتحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليظ الدم وتكثيف المسام.
وقد عمر أمين الدولة، إذ بلغ أربعا وتسعين سنة. ومن تجمله في كبره أن كان عند المستضيئ بأمر الله، فلما أراد القيام توكأ إلى ركبتيه، فقال له الخليفة: كبرت يا أمين الدولة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وتكسرت قواريري. ففكر الخليفة في قوله هذا، وانه لا بد يقصد شيئا بتكسر القوارير. ثم علم أن الخليفة السابق كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير، وظلت في يده، ثم وضع الوزير يده عليها منذ ثلاث سنين. فتعجب الخليفة من(809/54)
حسن أدب أمين الدولة وانه لم ينه أمرها إليه، وأمر بإعادة الضيعة إلى صاحبها وألا يعارض في شيء من ملكه.
وبعد فهذا واحد من سلف بنوا صرح الحضارة في العصور الإسلامية، وعنهم اخذ الغربيون أبان نهضتهم العلمية في أعقاب القرون الوسطى. فإن كنا الآن نأخذ من الغرب فإنا نقتضيه دينا عليه لأمثال أمين الدولة بن التلميذ.
عباس خضر(809/55)
من أمجاد الإسلام
أسطول معاوية
للأستاذ محمود غنيم
بلغ أسطول معاوية زهاء 1700 كاملة العدد والعدة، وقد اخضع البحر الأبيض ووصل إلى أسوار القسطنطينية فحاصرها حينا من الزمان.
لمن السفينُ يَلُحْنَ كالأعلامِ ... فوقَ العُباب نواشرَ الأعلامِ
يمخُرنَ باسم الله موجَ حضارة ... واسم الهدى ومبادئ الإسلام
يهتِفن بالتكبير لحناً شاجياً ... فتجيبُ أمواجُ الخضَمِّ الطامي
وَيثبنَ آونةً اسودَ عرينه ... ويطرن آونةً حمامَ سلام
يُمطرن بالجزر الدماَء. وربما ... كان الدمُ الموَّارُ صوبَ غمام
بعضُ الدَّم الموار ليس بمأثمٍ ... لكنه طُهرٌ من الآثام
هذى سفينُ الله سارت عَيلماً ... مترامياً في عيلم مُترَام
لم تدفع الريحُ الهبُوبُ قلاعها ... بل أقلعت بالوحي والإلهام
وحرارةِ الإيمان وهي حرارةٌ ... ما زادها الآذىُّ غيرَ ضِرام
إن تَسْرِ فالجُزرُ الحرام مباحةٌ ... أو تُرسِ فالشُطآنُ في استسلام
أزجى معاويةُ السفينَ تسيرُ أو ... ترسو بكل غَضَنْفرٍ ضِرغام
فكأن بحرَ الروم أصبح مُنبِتاً ... بعد الفلا للغاب والآجام
بدم الشهادةِ خضبوه فضاعَ من ... أرجانه أَرَجُ العباب الدامي
جمح العُبابُ فأسلسوه كأنما ... قبضت عليه أكُّفهم بزمام
جالت سنابك خيلهم في لُجهِ ... جَولانَها في مهْمَةٍ وَرِجام
واهم نفوس صافياتٌ صفوَ ما ... بقراره من لؤلؤٍ وتُؤَام
لله بحرُ الروم وهو بُحَيرَة ٌ ... عربيةُ اللَّهوات والأرحام
ومعاقل اليونان وهي محاربٌ ... مكتظَّة بالصُّوَّم القُوَّام
لله (رووِس) إذ تُصيخُ (وقبرصُ) ... لِصَدَى الأذانِ مرتَّلَ الأنغام
خاض المياهَ كأنما هو حُوتُها ... مَن كان يطوي البِيد بالأقدام(809/56)
ورعى البحارَ ومنُ يقيمُ بهن من ... أمَم رعاةُ النوق والأغنام
حكم البحارَ فما طفى طُغيانَها ... نفرٌ يُجيدُ العدلَ في الأحكام
حسروا ظِلالَ الروم عن أمواجِها ... فتحررَت من رِبقة الأعجام
نفَذُوا إلى أسوار (قُسطنطينَ) في ... عزم كحدِّ السيف غيرِ كهام
ورموا معاقلَه وإن لم تستجب ... لسهامهم. سَلمت يمينُ الرامي
أُطمٌ عزَزن على الحنيفة حقبةً ... ثم استجبن على مدى الأيام
محمود غنيم(809/57)
الدعوة في الإسلام
تبليغ لا إلزام
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لا أريد في هذا المقال أن أرد على من يزعم أن استعمال السيف في الإسلام كان للدعوة إليه، فهذا أمر قد كتب الباحثون فيه قبلي، والكلام فيه يكون معادا لا فائدة فيه، وليس شيء اثقل على نفسي من الكلام المعاد، لأنه يضيع زمن الكاتب والقارئ، والزمن اثمن من أن يضيع في الكلام المعاد، والحديث المكرر.
وإنما أريد في هذا المقال أن انبه إلى إن الدعوة إلى الإسلام لا تكون أيضاً بما دون استعمال السيف مما فيه شائبة إلزام، ولو كان مثل هذا الإلحاح الثقيل الذي استعمله بعض المتنطعين في الدين مع الأستاذ نقولا الحداد، وشكي منه المرة بعد المرة في مجلة الرسالة الغراء.
فالدعوة في الإسلام قد حددت بأنها تبليغ عن الله لا غير، وهذا التحديد قد ورد في الآية - 67 - من سورة المائدة (يأيها الرسول بلغ ما انزل إليه من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس أن الله لا يهدي القوم الكافرين) فلم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية إلا بتبليغ دعوة ربه، والله تعالى هو الذي يهدي إليها بعد تبليغه من يريد هدايته، ويضل عنها من يريد إضلاله، فإذا بلغ فقد أدى رسالة الله تعالى، وليس عليه بعد هذا أن يلح أو يستجدي في الدعوة إلى الإسلام، لأن دعوته اكرم من أن يستعان فيها بالإلحاح أو الاستجداء، لأنهما يعرضان الكريم إلى المهانة والاستثقال، ويؤديان إلى عكس المقصود منهما وهو الاستجابة للدعوة.
وهذا إلى أن أناقد أمرنا أن ندعوا إلى الإسلام بالحكمة، كما قال تعالى في الآية - 125 - من سورة النحل (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة وجادلهم بالتي هي احسن أن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين) فإذا بلغ شخص الدعوة أو كان قد عرفها بنفسه كان الإلحاح في تبليغها إليه من باب تحصيل الحاصل، وهو عبث تأباه الحكمة التي امرنا أن ندعو بها إلى الإسلام، وإنما تقضي الحكمة أن نترك من بلغناه لنشتغل بتبليغ من لم نبلغه، فقد يكون اقرب منه إلى إجابة الدعوة.(809/58)
وإذا رجعنا في هذا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجدناه يكتفي بتبليغ الدعوة لمن لم تبلغه، ويترفع في التبليغ عن كل ما يقف بالدعوة موقف المهانة، فلا يلح فيها على من يجد منه ترفعا عنها، ولا يستجدي فيها من يجد منه استثقالا لها، ولا يضطغن عداوة على من بلغه فلم يستجب له، بل يبقى ما بينهما كما كان قبل أن يبلغه دعوته.
فها هو ذا يبدأ دعوته فلا يبدؤها بالإلحاح على قومه، ولا يعرضها على كل شخص منهم ولو لم يأنس منه الإجابة إلى الإسلام، بل لا يدعو إلا من يأنس منه الإجابة إلى دعوته من أهله وأصحابه، فكان أول من آمن به زوجه خديجة بنت خويلد، وقد دخل عليه ابن عمه علي بن أبي طالب بعد إسلام خديجة بيوم فوجدهما يصليان، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما هذا؟ فقال له: هذا دين الله الذي بعث به رسله، فأدعوك إلى الله، وان تكفر باللات والعزى، فقال له علي وكان غلاما صغيرا: هذا أمر لم اسمع به قبل اليوم. فلست بقاضي أمرا حتى احدث أبا طالب - يعني أباه - فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تردده لم يلح عليه، ولم يقف منه موقف الملح المستجدي، بل قال له: أن لم تسلم فاكتم. وكان لهذا الموقف الكريم أثره في نفس علي، فلم يلبث أن اسلم، ثم اسلم زيد بن حارثة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتبناه، ثم أسلمت أم أيمن، وكانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأربعة كانوا من أهله، وكانوا اقرب الناس إليه، وقد دعا معهم أبا بكر بن أبي قحافة من بني تيم، وهم بطن من قريش، وكان اقرب أصدقائه إليه، ولهذا بدأ بدعوته دون غيره من أصحابه، فأسرع إلى التصديق به، وقال له: يا أبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وهكذا بدأت الدعوة عرضا كريما لا إلحاح فيه ولا استجداء، فكان إسلام من اسلم في ذلك الوقت إسلاما كريما قويا، لأنه كان استجابة خالصة للدعوة، ولم يكن فيه اثر يشينه لإلحاح أو استجداء أو نحوها.
وهذا عمه أبو طالب قام بكفالته وهو صغير، فلما بعث في سن الأربعين قام بحمايته من قومه وهو على دينه، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منه هذه الحماية، واكتفى بان بلغه دعوة الإسلام، ولم يغير ما بينهما عدم استجابته له، بل كان ينزله من نفسه منزلة العم الذي قام بكفالته وهو صغير، ولا يثقل عليه من جهة ما يدعو إليه وهو كبير، ولا يوقعه في(809/59)
حرج ينفره منه أو يبغضه فيه، حتى توفي أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة، والنبي صلى الله عليه وسلم يكتفي منه بحمايته له، ولا يغيره عليه بقاؤه على شركه، بل كان يحبه حب ابن الأخ لعمه، ويتمنى لو يسلم من شدة حبه له، حتى نزل في هذا قوله تعالى - 56 - من سورة القصص (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).
وهذا صفوان بن أمية بن خلف كان من اشد قريش عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ من أمره أن أرسل عمير بن وهب إلى المدينة ليغتال النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا أهدر دمه في فتح مكة، لأنه عد فيها من مجرى الحرب، كالذين يعدون مجرى حرب في عصرنا الحديث، فلما فتحت مكة هرب منها إلى جدة ليركب البحر منها إلى اليمن، فأتى ابن عم له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يؤمنه، فقال له: هو آمن. وإعطاء عمامته التي دخل فيها مكة علامة يعرف بها أمانه، فذهب إليه فأدركه قبل أن يركب البحر، واتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما علم منه أنه قد أمنه طلب منه أن يمهله بالخيار شهرين، فقال له: أنت بالخيار أربعة أشهر.
فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم إلى إجابته إلى ما طلب من الإمهال على الشرك، بل كان طلبه أن يمهله شهرين فأمهله أكثر مما طلب وأعطاه مهلة أربعة اشهر! ولم يستعمل معه إلزاما أو إلحاحا أو استجداء؟ تكريما لدعوته أن تمتهن إذا ألح عليه أو استجداه، وهي اكرم من أن تعرض للامتهان والاستثقال، وإنما شانها أن تكون هي المطلوبة بعد التبليغ لمن يدرك فضلها، ويعرف شهرف ما تدعو إليه؛ ويعلم نبل ما تأمر به.
وهكذا صين الإسلام في عهده في الأول عن العرض المهين، وحفظ الداعون إليه كرامته، وضنوا به عمن لا يعرف له قدرا، ولا يدرك له فضلا، فعز وكرم على الناس، كما يعز ويكرم كل معزز مكرم، واقبلوا علي راغبين من أنفسهم، كما يقبلون على كل عزيز عند أهله، بعيد عن كل ما يدعو إلى امتهانه أو استثقاله.
وقد بلغ من أمر النبي صلى الله عليه وسلم في التلطف في الدعوة أن يقول لمخالفيه فيما أمره الله به في الآية - 24 - من سورة سبأ (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وأنا أو إياكم لعل هدى أو في ضلال مبين) فيلقى إليهم دعوته في هذه الصورة من(809/60)
الشك، ليتأملوا فيها وهم في تؤدة ورفق، فإن آمنوا بها آمنوا بعد إدراكهم لصحتها، ورغبتهم في الإيمان بها، فلا قسر ولا إلجاء، ولا إلحاح ولا استجداء، فمن آمن فلنفسه لا لغيره، ومن ضل فعيها لا على غيرها، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
عبد المتعال الصعيدي(809/61)
استغاثات. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
الله. . . والشرق
ربَّاهُ ضاعَ السِّرُّ من يدَيَّا ... وأَطبقَ اللَّيْلُ على عيْنَيَّا
ولم أجد فوق الحَياة شيَّا ... يُطْفى العذابَ الهادرَ الخفِيَّا
إلاَّ نِدائي في الدُّجَى. . . يا ربَّ!
طَرقْتُ بالأنغام كلَّ بابٍ ... وطُفْتُ بالرَّحيقِ والأكوابِ
ولم أدعْ أنك بلا شراب ... وعُدْتُ لا أحمل في عِيَابي
غيرَ الأَسى يَسْقى الأسَى في قلْبِي!
عبرْتُ بالسُّهولِ والأجبالِ ... وَبالضحَي المُحَيَّرِ الْخيالِ
وبالغُروب السَّاخِر الزَّوالِ ... وبالدُّجى المغَمْغِم السَّآلِ
وباللَّيالي سِرْتُ كلَّ درْبِ
وغُصتُ في الصُّدورِ للأَعماقِ ... وطِرْتُ حتَّى أعوَلَتْ آفاقي
وَضجَّ تَحْتي واشتكَى بُراقي ... واندهشَ الطيرُ لما أُلاَقي
مِنْ عَوْدَتي الكُبْرىَ بغَيْر حَبِّ!
حفَنْتُ من جَنبيَّ هذا الشَّجَناَ ... وصَاحباً في الشَّجوِ يُدْعى أَرغُنَا
ولم نَزَل نَشدُو ونَسقِي الزَّمَنَا ... فَهل رأيْنا لِلأغانِي أُذُناً
تُصْغِى لهَذَا الوَهَج المنصَبِّ!
خَمَّتْ بنا القُيودُ والسلاسِلُ ... وهاجتِ الأوكارُ والبَلابلُ
وراغ فينا الغاصبُ المخَاتِلُ ... واختلَطتْ في لَيلُنا النوازِلُ
يا ربَّ فَجْراً عاجلًا للكَرْبِ!
نحن بَنُو الشَّرق الأُباةُ الصِّيدُ ... نَحْيَا به كأنزال عَبيدُ
يا طَيْرُ هذا خُلْدُكَ الرَّغيدُ ... فكيفَ أنت الحائر الشريدُ
وواردُ النَّبع طريد الغَرْبِ!
لاُُهُمَّ صُبَّ النارَ في السَّواعِدِ ... واضِربْ بها في هَذِه الشدائِدِ(809/62)
أَغلالُنا شابت، وكم مِنْ حاصدٍ ... ومنْجلٍ يَفْرى المنَايا هامِدِ
يا نارُ فينا أن صَبَرنا شُبِّى. . .
ملَّ ثَرانا صدأ القُيودِ ... وقرْيَةَ الميثاق والوُعودِ
وباطِلًا زيَّنَ لِلعُهودِ ... شريعةَ اللاهينَ بالوُجودِ
لهَوَ المراعي بِعُواء الذِّئْب. . .
ويْلاهُ منهُمْ في زمانِ النَّيِل ... سَبعون عاماً خيَّموا في الغِيلِ
عاثوا وخانوا حُرْمةَ النَّزيِل ... حتى دهتْهَمْ صيحةٌ للْجِيِل
فَجَرجَروا أعلامَهمْ في التُّربِ!
ولم تزل منهُمْ لدىُ القَنالِ ... حُثالةٌ حَطَّت عَلَى الرِّمالِ
من يَدر فليرحم جوى سُؤاَلي. . . ... إني بهم من أتعَسِ الُجهَّال!
علاَمَ لم تلْحقْ بباقي الرَّكْبِ؟!
ماذا دهاهم في جَنوب الوادي! ... جُنُّوا فشبُّوا الُخلفَ في البلادِ
وأضرَموها فتنةً تُنادي ... بالظُّلم والتعذيب والفساد
وما لَها إلا الصدى مَلَبِّ
وضفَّدوا في غابة الأحرارَا ... فملأوا قلوبهم أُوَارَا
مِنْ أين جاءُوا شُرَّداً حيَارى؟ ... وكيفَ جاسُو هذه الديارا؟
يا لعنةَ اللهِ عليهم هبِّي!!
من أين يا (هاو) أَلِفَتْ الموكِبا ... فرُحْتَ في الخرطوم تمشي عَجبَا!
حولكَ الأفواهُ تحدو القِرَباَ ... والرايةُ الخضراءُ تنزُو غضباً. . .
لقصةٍ زيَّفتْها للشعبِ
نسِيت عهدَ الثلجِ والقواقِع ... وسيرةَ القُرصانِ والزوابِع
أُمَّةً قامت عَلَى المناقِع ... تريدُ شرْكَ الشمِسِ بِالمطامع
ولو تُطيقُ لا دَّعت في الغيْبِ!
في المسجد الأقصى تراَءت ثعلبَا ... تخفْي وتُعطي لليهود الحطبَا
ذلَّت لهم لما أرَوْها الذَّهبا ... وحذَّروا أيامَها المُنْقَلَبَا(809/63)
فانقلبت تسعى لهم في الدَّرْب.
رباهُ ما في الشرِق جُرحٌ لا يَئِنْ ... ولا عَلَى آلامِهِ قَرَّ وطنْ
في كل وادٍ منهُ من بَغى الزَمَن ... نارٌ وأحرارٌ وبلوى وفِتَنْ
رباهُ زلزِل قيدهُ يا ربِّ!!
محمود حسن إسماعيل(809/64)
تاريخ العمائر والفنون الإسلامية
بيت الرسول ومسجده بيثرب
للأستاذ مصطفى كامل إبراهيم
(إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) قرآن كريم
خرج النبي صلى الله عليه وسلم، مهاجرا في سبيل الله إلى يثرب، وفي رحلته هذه العاجلة المضطربة لم يحمل معه من ماله إلا ما خف وأفاد في مهجره.
ووصلت العبر إلى قباء قرب يثرب ومكث بها بضع عشرة ليلة أقيمت فيها الصلوات في مواعيدها وفي قباء أقيم أول مسجد في الإسلام، وذلك الذي نزلت فيه الآية الكريمة: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين). فلم تكن مكة إذن بالمكان الذي يستطيع النبي أن يقيم به مسجدا، ولا أن يذهب بصحبه إلى الكعبة للصلاة بها. وفي اليوم الخامس على رواية، والعاشر على رواية أخرى، قام موكب الرسول الكريم في رعاية ربه، يحف به المهاجرون والأنصار متجها إلى يثرب، وأهل يثرب تشرئب أعناقهم ليروا القادم الكريم. فرأوا رجلا يملأ العيون والقلوب والأسماع. . . رأوا المثل الكامل للكمال والجلال جميعا.
وحملته راحلته حتى أناخت حيث أمرها الله أن تنيخ؛ فكان مربدا لغلامين يتيمين في المدينة من بني التجار، وسال الرسول: لمن المربد؟ فأجاب معاذ بن عفراء: أنه لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان له وسيرضيهما، ورجا محمدا أن يتخذه مسجدا. فأرسل محمد إلى ملأ من بني النجار وقال لهم: تأمنوني بحائطكم هذا، فقالوا لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فلم يرض إلا أن ابتاعه بعشرة دنانير، وأمر أن تبنى داره في هذا المكان. وأقام فترة بنائه في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري ودأب المسلمون من المهاجرين والأنصار على مشاركته في بنائه حتى أتموه وما كان بناء الدار يرهق أحدا، فقد كانت من البساطة بما يتفق وتعاليم محمد.
- 1 -
وصف الدار:(809/65)
ودار الرسول كدور العرب الرقيقي الحال، التي كانت ولا زالت تبنى في الأنحاء المتواضعة من شبه جزيرة العرب، وقرى الشام، والعراق. فالدار عبارة عن حجرات ضيقة متراصة جنبا إلى جنب، وأمامها فناء مكشوف.
وقد بنى أولا الحجرتان المتجاورتان في الركن الجنوبي الشرقي من الفناء لعائشة وسوداء، لتكونا بمنأى عن مجلس الرسول وأصحابه في الناحية الشمالية من الفناء. ومساحة كل حجرة (7 7) أذرع ينبت باللبن يكاد يسقفها الجريد تمسه اليد. ثم أضيفت الحجرات إليهما من الناحية الشمالية كلما زاد عدد أفراد الأسرة حتى بلغت 9 حجرات. والحجرات جميعا تكاد تتفق في السذاجة، وخلوها من مظاهر الترف - اللهم إلا بيت عائشة كما سنبين بعد - فأثاثها حصير يستعمل للنوم، وقرب بها ماء أو عسل أو لبن معلقة على الجدران؛ ويحجب الحجرات عن الأنظار سجف من وبر أسود معلقة على أبوابها التي تفتح على الفناء.
والفناء مربع الشكل طول أحد أضلاعه 100 ذراعا (51 مترا)، بنى جدرانه - بالحجارة لارتفاع 3 اذرع، ثم اكمل الجدار إلى سبعة باللبن (بالطوب الني وفتح فيه أربعة أبواب، باب الرسول في الشمال، وباب المؤمنين في الجنوب، وباب جبريل (باب عثمان) في الشرق، ثم باب عائكة (باب الرحمة) في الغرب، وقد تم البناء عام 2هـ.
وكان يستعمل الفناء لأغراض الأسرة كالطبخ والغسل وتربية الماشية وما إليه. وليس في حكم المنطق ما يمنع من أن يستخدم الرسول وزوجاته والمؤمنين الجزء الشمالي من الفناء المواجه لبيت المقدس لأغراض دينية: كإقامة الصلاة في مواعيدها، وان يجلس الرسول إلى الناس يحدثهم في الدين ويناقشهم ويفصل في قضاياهم. ثم أن هذا الفناء أدى غرضا إنسان يا آخر: فآوى الفقراء من المسلمين تحت صفة (سقف) أقيمت لهم في الركن الجنوبي الغربي من الفناء، فسموا لذلك بأهل الصفة، وأجريت عليهم الأرزاق إلى بنى لهم دورا.
ولقد شكى المسلمون إلى النبي حرارة الشمس ساعة الصلاة فأقام لهم في الجهة الشمالية من الفناء سقفا من سعف النخل والخصف والأذخر، وغطى بطبقة من الطين يعتمد على قوائم وعوارض من جذوع النخل، ودام هكذا 16 شهرا.
ولما مكر اليهود بالنبي، ونزلت الآية الكريمة على رسول الله وهو قائم يصلي بالناس (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام(809/66)
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) قرأها وتوجه إلى ناحية الجنوب وتبعه المسلمون.
ونقل السقف إلى الناحية الجنوبية المواجهة للكعبة، ونقلت الصفة إلى الركن الشمالي الغربي وسد باب المؤمنين في الجنوب ولم يكن الفناء يضاء ليلا إلا ساعة الصلاة، وذلك بان يوقد في وسط الفناء شعلة من قش، حتى شدت المصابيح بعد 9 سنوات إلى جذوع النخل التي اعتمد عليها سقف رواق القبلة.
ولما التحق الرسول بالرفيق الأعلى في 13 من شهر ربيع الأول عام 11 هـ دفن في حجرة عائشة، وهي الحجرة التي قضى فيها أخريات أيامه.
ولما تولى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ترك الدار كما هي، واتخذ كرسي الخلافة بها على نحو ما كان يفعل الرسول، ولما توفاه الله رقد بجوار الجسد الطاهر في حجرة عائشة ابنته وهي الأولى من ناحية الجنوب.
الزيادة في أيام عمر:
كان لزاما على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يزيد في مساحة المسجد ليواجه الزيادة المطردة في عدد المسلمين والذين يقودون على مقر الخلافة من الأمصار. فأمر عام 17 هـ بهدم حائط الفناء - ولم تمس دور الأرامل - وزاد في أبعاده من الشمال بقدر 30 ذراعا، ومن الجنوب بقدر 10 أذرع ومن الغرب بقدر 20 ذراعا وهكذا اخذ الفناء شكلا مستطيلا طوله 140 ذراعا وعرضه 120 ذراعا وكان ارتفاع الحائط حول الفناء يبلغ قامة الرجل.
وزاد عمر في عدد أبواب الفناء فأصبحت ستة: باب مروان وباب عائكة، وباب الرسول، وباب الفناء، وبابان آخران في الحائط الشمالي. وقد كان المسلمون ينفضون أيديهم من التراب بعد كل ركعة، فكانت تحدث أصواتا أثناء قراءة القرآن الكريم، فأمر عمر بأن تفرش الأرض بالحصى من وادي العقيق.
ولما توفي دفن بجوار سلفيه الكريمين.
الزيادة في أيام عثمان:
ومما يؤثر عن عثمان - رضي الله عنه - أنه كان لا يتحرج من أن يمتع النفس بشيء من(809/67)
نعمة الله. فاخذ يبتعد عن التقشف الذي أرهق نفسه به عمر، فهذب من مقام الخلافة بحيث تتناسب وجلالها واتساع رقعة الدولة التي كانت تستظل بها. وخصوصا أن عماله في الأمصار - والأمويون على وجه الخصوص - كانوا يحيطون أنفسهم بأبهة الملك. فأمر فهدمت جدران الفناء في سنة 24 هـ، وزاد فيه من الناحية الشمالية بقدر 20 ذراعا ومن الغرب بقدر 30 ذراعا، وأصبحت أبعاد البناء 160 ذراعا 150 ذراعا، ولم تمس دور الأرامل، ولم يزد شيئا من ناحية القبلة، وبنيت الحوائط من الحجر المنحوت وغطى بسقف من خشب الساح.
ولما قتل عام 35 هـ (655م) دفن بالغرفة المجاورة للغرفة التي دفن بها الرسول وصاحباه. وتولى الخلافة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - ونقل مقر الخلافة إلى الكوفة في رجب سنة 36 هـ، وبذا فقدت الدار أهميتها الرسمية، كما فقدتها المدينة نفسها.
ولقد عز على أهل يثرب أن ينتزع منهم مقر الخلافة، وهي التي ظلت فيهم طيلة أيام أبو بكر، وعمر، وعثمان، وان تبرحهم العزة والتكريم التي ما برحتهم منذ أن وطئت قدما الرسول الطاهرتان أرضهم، فتعلقت قلوبهم بمسجد الرسول لأن فيه قبره المشرف وقبر أبو بكر الصديق، وقبر عمر الفارون، وقبر عثمان بن عفان، ولأن هذا المسجد إنما يحمل ذكريات الرسول، فجعلوه كعبتهم، وأحاطوه بعنايتهم وتبجيلهم، وما برحوا يقيمون فيه الصلوات ويجلسون فيه إلى فقائهم، واتجهت قلوب المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها إلى مقام الرسول يشدون إليه الرحال للزيارة والتبريك عملا
(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة: المسجد الحرام، بالحديث الشريف: والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا).
قلنا كان عام 54 هـ أقيمت ذكرى الهجرة في الفناء لأول مرة، وقد كانت حفلات ذكرى الحج تقام في قباء ومن ذلك التاريخ اصطبغ هذا المسجد بالصيغة الرسمية بدلا من مسجد قباء.
إعادة بناء المسجد:
ويذكر ابن سعد أن عبد الله بن يزيد شاهد عام 91 من الهجرة دور أرامل الرسول، وكانت تسعة من منزل عائشة إلى دار أسماء بنت حسن، وذكر أنه كان حاضرا أمر الخليفة(809/68)
الأموي الوليد بن عبد الملك لعامله على المدينة عمر بن عبد العزيز، القاضي يهدم المنازل وضم أرضها إلى قباء المسجد، وروى ما شاهده من حزن الناس البالغ ونحيبهم على ضياع آخر آثر من آثار بيت الرسول وتمنوا لو بقى ليرى الخلف تقشف الرسول وقناعته.
وقد أرسل الخليفة إلى المدينة المال اللازم والرخام والفسيفساء والأخشاب وثمانين من العمال الروم والقبط من سوريا ومصر، فأزالوا البقايا القديمة من حجرات نساء النبي وبعض المنازل المجاورة وأقاموا بإشراف صالح بن كيسان المسجد الجديد من الحجر المنحوت، وحملوا سقفه على 6 أعمدة في الاتجاه الشرقي الغربي و14 عمودا في الجهة الشمالية منها 10 أعمدة تشرف على الصحن و4 أعمدة في الرواق وبلغت مساحته 200 في 200 ذراعا.
- 2 -
الأذان للصلاة:
وكان المؤمنون يجتمعون إلى النبي للصلاة حين مواقيتها بغير دعوة، حتى إذا اكتمل عقدهم أقيمت الصلاة. على أن اشتغال الناس بأمور عيشهم قد يفوت عليهم وقت الصلاة أو يؤخرهم عن مواعيدها. . . وليس احسن من أن يؤذن في الناس كلما حلت فيأتون رجالا من كل فج عميق، ففكر في البوق الذي يدعو به اليهود لصلاتهم ولكنه كرهه فأمر بناقوس كناقوس النصارى ولكنه بعد مشورة عمر وطائفة من المؤمنين على رواية، وبأمر الله على لسان الوحي على رواية أخرى، عدل عن الناقوس أيضاً إلى الأذان - وقال لعبد الله بن زيد، (قم مع بلال فألقها عليه ليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك) فارتقى بلال منزلا عاليا لامرأة من بني النجار كان بجوار المسجد، وصار يرسل الدعوة مع كل ريح بصوت ندى جميل:
هناك أذن للرحمن فامتلأت ... أسماع يثرب من قدسية النغم
وهكذا اصبح الأذان صفة لازمة للصلاة الجامعة، وصار لابد للمؤذن من مكان مرتفع في عمارة المسجد يدعو منه المصلين فلما اتخذ المسلمون المعبد الوثني في دمشق للصلاة كان له أبراج في أركانه الأربعة فأمر معاوية باتخاذها مآذن وهذه أول المآذن.(809/69)
محراب القبلة:
لم يكن لمسجد الرسول محراب يبين اتجاه القبلة، والمحاريب بالمساجد، إنما ظهرت بعد اتصال المسلمين بالمسيحيين والأخذ بفنونهم. والمحاريب المجوفة معروفة في كنائس المسيحيين قبل الإسلام، ولكن المحراب المسطح يغلب عليه الابتكار الإسلامي.
وقد كان المسلمون يتحرجون أن تبدو مساجدهم وعليها مسحة وثنية، أو يهودية أو مسيحية، أو أن تبدو مظاهر عبادتهم متفقة، في قليل أو كثير، مع مظاهر عبادات الأديان الأخرى، فحافظوا على شخصية الإسلام وطابعه المميز سواء في مخبره أو مظهره. وقد فطن المؤلفون العرب إلى إن المحراب متخذ من جبنيه الكنيسة فنسبوا إلى الرسول حديثا: (أن ظهور المحاريب التي تجعل المساجد تشبه الكنائس من علامات الساعة).
وكتب السيوطي رسالة سماها (أعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب) ويميل الآثاريون إلى الاعتقاد بأن المحراب الأول في الإسلام صنعه العمال الروم والقبط الذين أرسلهم عبد الملك بن مروان إلى المدينة لإعادة بناء المسجد النبوي أو ذلك الذي صنعه قرة بن شريك، عامل الوليد في مصر عام (89 - 96 هـ) (709 - 715 م).
منبر النبي:
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخطب الناس وهو قائم مستند إلى أحد جذوع النخل التي تحمل سقف المسجد؛ إلا أن هذا الأمر لم يدع طويلا فصنع له منبر خشبي من ثلاث درجات ووضع في صدر حائط القبلة، وكان النبي وقت الخطبة يجلس على الثالثة العليا ويضع أرجله على الثانية، وكان أبو بكر يجلس على الثانية ويضع أرجله على الأولى، إشعارا للناس بهيبة الراحل العظيم، وإقرارا في نفوسهم بأنه هو خليفته ومهما بلغ به التعظيم والتكريم فلن يبلغ مبلغه. ولقد يظهر أن للرجل فكرة دينية تخفى تحت هذا التصرف. . . فقد كانت حركة الردة على اشدها، ومدعوا النبوة في كل واد يهيمون، يؤلبون الناس على الإسلام، فخشي أن يتطلع الناس إليه على أنه صورة ثانية من الرسول فيطالبونه بما لا يستطيعه من وحي أو حديث، فيضطرب الأمر وتفشو الفتنة، أو لعل له هدفا سياسيا فالقوم يعلمون أن الرسول لا ينطق عن الهوى، وانه على خلق عظيم، فأراد(809/70)
الصديق أن يقر في نفوسهم بأنه لا يتلقى وحيا، وان الخطأ جائز عليه فلا يمكن أن يقاس برسول الله على كل حال.
هذا التواضع وهذه السياسة قد ورثها عمر بن الخطاب فخطب الناس وهو جالس على العتبة الأولى للمنبر وجعل رجليه على الأرض إلا أن عثمان بن عفان لم يجد ما يدعوه إلى الجلوس مكان عمر، ولا مكان أبو بكر، وليس لديه ما يمنع جلوسه مكان النبي نفسه. ولا شك بأن إغفال سنة سلفية وصعوده الدرجات إلى مكان النبي أمام الناس قد هزت الناس هزات نفسية عنيفة، لها معزاها في سير الحوادث أيام عثمان.
ومنبر النبي مكرم بحديث الشريف (ما بين منبري وبيني روضة من رياض الجنة).
والمنبر إنما هو كرسي مرتفع أدخل في المسجد للنبي ليكفيه عناء الوقوف مدة إلقاء الخطبة. وقد كان المنبر معروفا في العمائر المسيحية، وكان في كنائس الروم والقبط يجلس عليه القساوسة لإلقاء الوعظ حتى استغنى عنه بالمذبح. ولقد هذب الإسلام من هيئته على مر العصور وأضفى عليه من روحه بما جعل له مغزى وطابعا إسلاميا مميزا وعالجه المفتنون حتى أخرجوه تحفة لها مقامها الكريم بين منتجات الفن الرفيع.
- 3 -
لم تكن يثرب غارقة في البداوة حتى لا يظهر بها اثر من الفن أو الصنعة فوجود اليهود بها - وهم أهل تجارة وحيلة في جلب المال - مما يرجح وجود الفنون بها. وقد كان في حجرة عائشة - رضي الله عنها - بعض التماثيل مما يتلهى به فتيات العرب وستور محلات بالصور يفسره حديث السيدة عائشة قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترن سهوة في بقرام فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلون وجهه، وقال: يا عائشة! أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين). وجاء في ربيع الأبرار للزمخشرى في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
(قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وفي سهوتي ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لي فقال: ما هذا؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جناحان، قال: فرس له جناحان؟ قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت(809/71)
نواجذه).
وبعد، فهذا قبس من نور ألقيناه على المرحلة المبكرة من حياة هذا المقام الكريم وسنحاول في مقال تال أن نجلو صفحة وأخرى من صفحاته الزاخرة الزاهرة.
مصطفى كامل إبراهيم(809/72)
ابن حزم الأندلسي
مجموعة من المواهب والعبقريات
للأستاذ قدري حافظ طوقان
ابن حزم مجموعة من المواهب والعبقريات؛ وزير وابن وزير، ومن أصحاب الجاه الواسع العريض. هذا في ميدان الحياة العامة. أما في المعارف والعلوم فهو فيلسوف لمع في الدين والشعر والأدب والتاريخ.
نشأ في قرطبة في القرن الحادي عشر للميلاد من أسرة قال عنها الفتح بن خاقان: (بنو حزم فتية علم وأدب، وثنية مجد وحسب). وهو من بيت عريق بالمجد حافل بالترف والنعيم. لكن ذلك لم يدم، فقد تنكر له الزمان، وتعرض للنكبات والمصائب، وأصابه الاعتقال والتغريب والإغرام الفادح. لحقه الأذى والكيد من كل جانب، ولم ينعم بالاستقرار والاطمئنان.
انصرف ابن حزم إلى العلم بكل عزائمه، وأخلص له ولم يخلط به مأربا آخر. وهذا ما يميزه عن كثير من الذين يعنون بالعلم والأدب؛ ولم يقف عند هذا الحد، بل (تفرغ لنشره بين الناس فنفع به خلقا كثيرا)؛ ذلك لأنه كان يؤمن بأن للعلم زكاة هي نشره وإذاعته.
نشأ في بداية أمره في جو ساعد على بروز مزاياه النفسية والفكرية، فظهرت عبقريته متعددة النواحي، ونعمق في البحث والدرس فكان المرجع لأعيان الفكر في زمانه والأزمان التي تلت، ومصدرا من المصادر المعتمد عليها التي يستشهد بها رجال الدين والعلماء.
وقد أعترف بفضله وعلمه الأقدمون والمحدثون، فقال عنه أفاضل القدماء: (. . . ابن حزم حامل فنون من حديث وفقه وجدل وما يتعلق بأذيال الأدب مع المشاركة في كثير من أنواع التعليم القديم من المنطق والفلسفة. . .)؛ وقال الذهبي: (ابن حزم رجل من العلماء الكبار فيه أدوات الاجتهاد كاملة)؛ وقال ساعد: (برز ابن حزم على فحول العلماء بالأندلس حتى تفرد دونهم بميزات)؛ وشهد الغزالي بفضله: (وعظم حفظه وسيلان ذهنه). ولقد درس بعض تأليفه المستشرقون ورجال التاريخ أوربا وأمريكا، فأنصفوه بعض الإنصاف واعترفوا بأثره في الفقه والعلوم. قال رينيه بانسيه: (ابن حزم عالم عربي أندلسي، متفنن في علوم جمة، وهوفقيه مشهور ومؤرخ وشاعر مبرز، دقيق الملاحظة، شيق الأسلوب).(809/73)
وتناول آراءه جولد زيهر وشرينر وإسرائيل فرد ليندر ونيكل وبتروف، فشرحوها وعلقوا عليها وأبانوا أثره في الفقه والمنطق والتاريخ. ويعترف سارطون في كتابه مقدمة لتاريخ العلم بفضل ابن حزم وعلمه فيقول: (ابن حزم افضل عالم في الأندلس، ومن أكبر المفكرين المبتكرين المسلمين فيها).
ترك ابن حزم مؤلفات ضخمة تدل على سعة إطلاعه وغزير علمه وعظيم أدبه؛ وقد (ملأ المغرب بعلمه وكتبه ومذهبه، وشغل أهله طرفا صالحا من حياته أحقابا طوالا، حتى كأنه أمة وحده لا فرد من أمة)؛ أعتز به الأندلس وباهى بفضله العراق الذي كان يومئذ يعج بحضارة ما رأى التاريخ لها مثيلا.
ويتجلى من كتبه ورسائله أنه كان يتمتع بفكر ثاقب وبصيرة نافذة وملاحظة دقيقة؛ فهم الشريعة حق الفهم وأفهمها بإخلاص وصدق للناس. وكان صريحا ومخلصا للحق إلى ابعد الحدود؛ وقد ضاق علماء عصره وحكامه بصراحته وإخلاصه، فأشهروا عليه الحرب العوان، فاحرقوا كتبه واضطهدوه شر اضطهاد، وصبوا عليه النكبات والمتاعب. ويمكن القول أنه (ملأ الأندلس حركة فكرية عنيفة آثارها سلبية وإيجابية، وجعل مجالس العلم وأقطاب الفكر معسكرين أنصارا وخصوما).
ولسنا بحاجة إلى القول بان حيوية ابن حزم لم تنقطع بموته، بل أودعها كتبه وتأليفه فاستمرت تعمل عملها زمنا طويلا. وان المتصفح لأدبه وأسلوبه يجد أن فيهما ثورة على التقليد، فلم يتقيد بأسلوب من تقدموه، ولم يلتمس في أدبه طريقهم، وهو يقول في هذا الشان: (وما مذهبي أن أنضى مطية سواي، ولا أتحلى بحلي مستعار). وهذا (كما يقول الأستاذ سعيد الأفغاني): (السر في تأثير بلاغته وأخذها بمجامع القلوب، ونفاذها إلى أعماق النفوس). ولهذا لا عجب إذا امتاز بأسلوب خاص، وأدب له لونه الخاص، وقد حلق به عاليا فجعله (أديبا عالميا سبق عصره قرونا عديدة).
وابن حزم صاحب رأي مستقل يأخذ بالعقل ويخالف بالعقل، لهذا نراه حارب الخرافات وهاجمها بشدة، حتى أنه استعمل ألفاظا نابية لا يليق بمثله أن يأتي بها مما يعطي فكرة عن شدة ألمه من الأخذ بالأوهام والاعتقاد بالخرافات. كان يدعو إلى الأخذ بالعلم الصحيح والاعتماد على العقل، يتجلى ذلك في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) بشان(809/74)
النجوم وأثرها في الناس وهل تعقل؟ قال ابن حزم: (زعم قوم أن الملك والنجوم تعقل وإنها ترى وتسمع. . . وهذه دعوة بلا برهان. وصحة الحكم بان النجوم لا تعقل أصلا، وان حركتها أبدا على رتبة واحدة لا تتبدل عنها. وهذه صفة الجماد المدبر الذي لا اختيار له. وليس للنجوم تأثير في أعمالنا، ولا لها عقل تدبرنا به إلا إذا كان المقصود إنها تدبرنا طبيعيا كتدبير الغذاء لنا، وكتدبير الماء والهواء ونحو أثرها في المد والجزر، وكتأثير الشمس في عكس الحر، وتصعيد الرطوبات (التبخير). والنجوم لا تدل على الحوادث المقبلة).
ومن هذه الآراء يتضح أن ابن حزم لا يأخذ رأيا إلا بعد أن يمحصه ويسلط عليه العقل والبرهان، فإن أجازه العقل وأمكن البرهنة عليه اخذ به، وإلا فهو غير مقبول لديه.
وخالف ابن حزم الأقوال التي تشير إلى أن النيل وجيحون ودجلة والفرات تنبع من الجنة، وتهكم على قائليها. وبعد أن فند هذه الأقوال بين أن لهذه الأنهار منابع معروفة في الأرض على ما هو موضح في كتب الجغرافيا.
ولابن حزم آراء علمية ونظريات فلسفية (هي في الطبقة الأولى من القيمة الذاتية الحقيقية) كما يقول الدكتور عمر فروخ.
ومن هذه النظريات الجديرة بالذكر والاعتبار نظرية المعرفة، وقد عقد لها فصلا خاصا في كتابه: (الفصل في الملل والأهواء والنحل). وتتركز الأسئلة في هذه النظرية على ما يلي:
كيف تعرف الأشياء؟ وما نعرف عنها؟ وما الدليل على صحة المعرفة؟ ولقد بحث في هذه النظرية اليونان، لكن بحثهم لم يكن من العمق والسعة بحيث يجعلها كاملة، إلى أن جاء الفيلسوف الألماني (كانت في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، فبحثها بحثا وافيا شاملا جعل مؤرخي الفلسفة الأوربية يقولون: أن الفضل في إيجاد نظرية المعرفة وفي شرحها، يعود أولاً إلى كانت.
ولكن الدكتور عمر فروخ في كتابه عبقرية العرب درس الآراء التي وردت في كتاب ابن حزم وقارنها بما قاله (كانت) فتبين له أن نظرية المعرفة قد عرضت لابن حزم قبل (كانت) بسبعة قرون ونصف القرن.
يرى ابن حزم أن المعرفة تكون (1) بشهادة الحواس - أي بالاختيار لما تقع عليه(809/75)
الحواس، (2) بأول العقل - أي بالضرورة وبالعقل من غير حاجة إلى استعمال الحواس الخمس، (3) برهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس وأول العقل.
ويرى ابن حزم أن الغرض من الفلسفة والشريعة يجب أن يكون إصلاح النفس حتى تستعمل (النفس) الفضائل وتكون في دائرة السيرة الحسنة المؤدية إلى السلامة في المعاد وحسن السياسة للمنزل والرعية جاء في كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ما يلي: (الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها، والغرض المقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئا غير إصلاح النفس بان تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن سياستها للمنزل والرعية. وهذا نفسه، لا غيره، هو الغرض من الشريعة. هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء في الفلسفة، ولا بين أحد من العلماء في الشريعة. .)
وابن حزم من المقدمين في الظاهرية والمتحمسين لها. ومذهب الظاهرية هو مذهب الجماعة الذين يقبلون ما جاءت به الآيات الكريمة والأخبار الموثوقة من الحديث والسنة، ولا يتأولون شيئا على ما لم تجر به سنة العرب في فهم لغتهم. وقد وضع في الظاهرية تأليف قيمة تعرض فيها لمسائل فقهية ومشاكل دينية وكان فيها مبتكرا، إذ طبق الأصول الظاهرية على العقائد. ومن آرائه التي أودعها كتبه يتبين أنه كان من الذين (انتفضوا على التوسل بالأولياء ومذاهب الصوفية وأصحاب التنجيم). كان يميل إلى المناظرة والهجوم على خصومه والذين يخالفونه في آرائه، لكنه كان يتوخى دائما إنصاف الخصوم ويتجنب التضليل واختلاق التهم.
ولابن حزم رسالة لطيفة قيمة هي رسالة في المفاضلة بين الصحابة، شرح فيها مذهبه في المفاضلة سالكا طريقا منطقية محكمة. ولقد احسن الأستاذ سعيد الأفغاني في نشرها، فقدم بذلك خدمة علمية جليلة يشكر عليها أجزل الشكر.
وفي هذه الرسالة النفيسة كان ابن حزم مبتكرا في الطريقة التي اتبعها في ترتيب موضوعاتها: وكانت على النمط آلاتي: تقرير للأسس ثم بسط الدعوى، ثم استعراض آراء الخصوم وشبههم وأخيرا دفع للشبه وبرهان للدعوى؛ وهي كما يقول الأستاذ الأفغاني (طريقة محكمة كاملة) تعلم الحوار المضبوط، والمناقشة الدقيقة، والجدل الصحيح القوي، وفوق ذلك، فقد دلت هذه الرسالة على (براعة في تحليل النصوص وجودة الاستنباط، ودقة(809/76)
الفهم لها. . .)
يرى ابن حزم في هذه الرسالة أن العامل يفضل في عمله بسبعة اوجه لا ثامن لها وهي العرض في العمل والكيف والكم والزمان والمكان والإضافة. ثم يشرح كلا من هذه الأوجه في قالب جذاب يستهوي القارئ وبأسلوب سهل فيه ابتكار وفيه أحكام ومنطق.
والآن لا يتسع المجال لشرح آرائه ونظرياته، ولكن يمكن القول أنه ترك تراثا ضخما لم يصل إلينا منه إلا القليل، وهي تبحث في الفقه والأدب والأخلاق والفلسفة وأخلاق النفس والأصول، والإمامة والسياسة والمنطق والإيمان والفرق الإسلامية والإجماع والتاريخ. ولعل اشهرها كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل، وكتاب طوق الحمامة، ورسالة المفاضلة وقد مر ذكرها.
وهذه كلها تدل على علم واسع وعقل حصيف وفكر خصيب وانه كما يقول الأستاذ الأفغاني (أحد ذهنية انبثقت عنها الأندلس في جميع عصورها) وهو يمثل العبقرية الأندلسية أروع تمثيل. وقد سما نبوغه وارتفع درجات جعلت المؤرخين والباحثين يعتبرونه من المقدمين في تاريخ تقدم الفكر والعلم ومن أعلام العلماء الخالدين. . .
قدري حافظ طوقان(809/77)
الأندلس الثانية
للأستاذ إبراهيم الوائلي
مواكب النصر ودنيا الظفر ... كيف تلاشى الأمل المنتظر
أيستنيم الشرق مستخذيا ... وفي زواياه يدب الخطر؟
بالأمس كنا نتحدى الورى ... لما زحفنا زحفة واحدة
فاصطبغت بالدم تلك الذرى ... نشهد أنا أمة خالدة
واليوم قد عادت بنا القهقرى ... سياسة موتورة حاقدة
بالأمس كنا ونشيد الكفاح ... أغنية نهفو لأسجاعها
قد رتلتها نبرات السلاح ... فاهتزت الدنيا لإيقاعها
واليوم من قد حصبتها الرياح ... عادت إلى تحقيق أطماعها
بالأمس كنا وصهيل الجياد ... ترن في الآفاق أصداؤه
وحلم (صهيون) بأرض المعاد ... طارت على الساحل أشلاؤه
واليوم عدنا وحديث الجهاد ... طيف وفي (الرملة) أنباؤه
أبعد أن دوّت على (الغوطتين) ... أيام غسان تناجي الهرم
وانتفض التأريخ في الرافدين ... يبعث فينا سيرة المعتصم
نعود من تلك (تخفى حنين) ... ولعنة التاريخ بين الأمم؟!
قالوا: أطل السيف من غمده ... وعاودت (مكة) قرآنها
وانطلق التاريخ من مهده ... يكتب للأمة عنوانها
فضاحك النيل ربى (نجده) ... وصافحت بغداد عمانها
ثم انثنينا بعد ذاك الظفر ... تخدعنا أحبولة الطامعين
وزمرة كنا فصرنا زمر ... تعبث فينا حيل الماكرين
فأين يا أمتنا المستقر ... إن نحن ضيعنا تراث السنين!
ما هكذا تبلغ آمالها=من جانبت خطتها الظافره
ففي غد تندب أوصالها ... وقد أطنّتها اليد الغادره
يا من مشت تحمل أثقالها ... ماذا وراء الخطوة الحائره(809/78)
إنا لنخشى بعد هذا النضال ... في شرقنا (أندلساً) ثانيه
ففي ذرى القدس وخلف الجبال ... قد رصدتنا الفئة الباغيه
وفي ربى (نجد) وحول (القنال) ... ما كان في (الشط) و (حبّانيه)
مواكب (اليرموك) عودي فذى ... أيامنا تستصرخ (ابن الوليد)
وجددي ذاك النضال الذي ... ريع به كل قوي عنيد
فليس غير السيف من منقذ ... يا راية الفتح اخفقي من جديد
حرب أردناها لنشر السلام ... في وطن قد مزقته النوب
فكان منا أن ملكنا الزمام ... حين تلاقينا وشب اللهب
فيا ربوعاً دب فيها الخصام ... تذكري بالأمس دنيا العرب
تذكري تأريخ وادي الفرات ... يوم تحدى صلف (الإنكليز)
فلم تخفه النار والطائرات ... حين مشى وهو قوي عزيز
ودجلة تهزأ بالماخرات ... وحلم (مود) ورؤى (همفريز)
وأذكري ما كان في (ميسلون) ... يوم أتت (باريس) في كبرياء
وخلفها الغرب الأثيم الخئون ... قد بثت الغدرة للأبرياء
فانتفضت (جلو) بعد السكون ... وسجلت تأريخها بالدماء
وإن نسيت النيل وهو الغضوب ... فاستعرضي أمواجه الثائره
ترى بلاداً ماثتها الحطوب ... عما تريد الأمة الساهره
من الشمال الحر حتى الجنوب ... لما تزل جبابرة قاهره
والمغرب الأقصى وأعلامُه ... و (الريف) تحميه الأسود الغضاب
قد روعت (باريس) أيامُه ... وجللت تأريخها بالضباب
وزلزل الغرب وأصنامه ... حين تقرتها أكف الشباب
فيا دماء طويت في الرغام ... تحية الشعر لزاكي الدم
ويا جراحاً نخرت في العظام ... سوف تمرين على بلسم
ويا حياة لفِّعت بالظلام ... لابد من فجر فلا تسأمي
إبراهيم الوائلي(809/79)
(القاهرة)(809/80)
بيت المقدس
في عصر الحروب الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم تكن بلاد الشام يوم هاجمتها جحافل الغرب في أواخر القرن الخامس بمستطيعة أن ترد هذه الجيوش المتدفقة عليها من كل صوب، فلم تكن وحدة تحت سلطان واحد، وإنما كان النظام الإقطاعي يمزق شملها، ويفتت قواها. فسقطت فلسطين وكثير من بلاد الشام في أيدي الغزاة المتعقبين، وقاست البلاد المفتوحة من ويلات التدمير والنهب وسفك الدماء، ما لا يستطيع التاريخ أن ينساه، وكان نصيب بيت المقدس عندما إجتاحوه سنة اثنتين وتسعين واربعمائة من أكبر الأنصباء؛ فقد جرت به مذبحة من ابشع المذابح التي عرفها التاريخ. يقول ميشو المؤرخ الفرنسي في كتابه تاريخ الحروب الصليبية (ج1 ص236) في حديثه عن بيت المقدس: (سرعان ما صارت المذبحة عامة: ذبح المسلمون في الطرقات وفي المنازل، ولم يعد في بيت المقدس ملجأ للمغلوبين؛ فبعض الذين فروا من الموت القوا بأنفسهم من فوق الأسوار، والآخرون جروا جماعات يختبئون في القصور والأبراج، وبخاصة المساجد، ولكنهم لم يستطيعوا أن يفروا من أن يتبعهم الصليبيون، أما وقد صار الصليبيون سادة المسجد الأقصى الذي دافع المسلمون عن أنفسهم حينا فيه؛ فقد جددوا فيه المناظر المحزنة، دخله المشاة والفرسان، واختلطوا بالمنهزمين، وفي وسط أشنع ضوضاء؛ كنت لا تسمع إلا الأنين وصيحات الموت، لقد كان المنتصرون يسيرون على أكوام من الجثث ليتبعوا من يحاول الفرار عبثا. وقال شاهد عيان هو (ريمون داجيل) ارتفعت الدماء إلى ركب الخيل وأعنتها في المسجد، وكل الذين أبقى عليهم التعب من الذبح أو اسروا طمعا في أن يفدوا أنفسهم بفدية كبيرة قتلهم الصليبيون؛ لقد اكرهوا على أن يلقوا أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويكونوا طعاما للنيران، وكانوا يخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الميادين العامة، حيث يذبحونهم فوق أكداس الموتى، ولم يثنهم دموع النساء ولا صيحات الأطفال. لقد كانت المذبحة هائلة وكانت الجثث مكدسة، لا في القصور، ولا في المساجد، ولا في الشوارع فحسب، ولكن في أخفى الأماكن وأبعدها. ولم تنته المذبحة إلا بعد أسبوع. ويتفق المؤرخون الشرقيين والإفرنج على أن عدد القتلى يبلغ(809/81)
سبعين ألفا؛ وبعدئذ أمر من بقى من المسلمين الذين لم ينجوا من القتل إلا ليقعوا في استعباد مخيف، أن يدفنوا الأجساد المشوهة لأصدقائهم وإخوانهم، فاخذوا ينقلون - وهم يبكون - هذه الجثث خارج بيت المقدس، وساعدهم في ذلك بعض الصليبيين الذين دخلوا المدينة أخيرا، فلم يظفروا بكثير من الأسلاب، واخذوا يبحثون عن بعض الغنائم بين الموتى). وقال ابن الأثير في تاريخه الكامل (ج10ص117) وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان، وجاور بذلك الموضع الشريف، واخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا من الفضة وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم، واخذوا تنورا من الفضة وزنه أربعون رطلا بالشامي، واخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلا ومن الذهب نيفا وعشرين قنديلا، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء).
خرج المستنفرون بعد سقوط بيت المقدس إلى بغداد، فحضروا في الديوان وقطعوا شعورهم، واستغاثوا وبكوا، وقام خطيبهم في الديوان، فأورد كلاما أبكى العيون واوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا وبكوا وابكوا، وذكروا ما دهم المسلمين بذلك المكان المعظم؛ من قتل الرجال وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال، ولكن الخليفة لم يكن في يده من الأمر شيء بل كان يعتمد على السلاجقة، فأرسل على عجل ثلاثة رجال من حاشيته إلى السلطان بركياروق وأخيه محمد، وقد كانا معسكرين يتقاتلان عند حلوان، وتوسل إليهما أن يتركا ما بينهما من النزاع، وان يسيروا إلى العدو المشترك. غير أن هذا النداء لم يجد أذنا مصغية، فسرعان ما كان الإخوان يقتتلان تاركين الفرنج يؤسسون لهم ملكا ببلاد الإسلام. ولم يصغ أحد إلى تلك الصيحة التي أرسلها الشاعر:
مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
فإبهاً بني السلام أن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرا بالمناسم
أتهويمة في ظل أمن وغبطة ... وعيش كنوَّار الخميلة ناعم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وتلك الحروب من يغبْ عن غمارها ... ليسلم يقرع بعدها سن نادم(809/82)
ظل بيت المقدس في أيدي الصليبيين أكثر من تسعين عاما. وكان من أكبر أماني نور الدين محمود أن يسترده للمسلمين ولكنه مات قبل أن يحقق أمله. فلما ملك صلاح البلاد واتحدت مصر والشام تحت سلطانه صمم على أن يستعيد الوطن المغتصب فأرسل إلى جميع أجزاء إمبراطوريته يستنفر الناس لقتال الفرنج وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وبلاد الشام يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه، ويأمرهم بالتجهز له، فأقبلت الجيوش من كل حدب، ومضى صلاح الدين على راس جيشه فالتقى بالفرنج عند حطين، ودارت عندها معركة لم يذق الفرنج لها مثلا منذ قدموا من ديارهم ومضوا بين أسير وقتيل. لم ينتظر صلاح الدين حتى يجمع العدو شمله المبدد، بل مضى يتابع انتصاراته، وأخذت مدن العدو تسقط في يده الواحدة اثر الأخرى، حتى إذا سقطت عسقلان والبلاد المحيطة بالمقدس شمر عن ساعد الجد، وذهب إلى بيت المقدس يريد فتحه، وهنا رأى العدو أنه لا قبل له بالجيش الزاحف فاستكان وطلب الأمان، وفتحت المدينة أبوابها لاستقبال صلاح الدين يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة 583، وأباح السلطان لسكانها الروم والفرنج المدنيين أن يعيشوا في بلاده، وان يستمتعوا بحقوقهم المدنية إذا شاءوا، أما المحاربون فعليهم أن يخرجوا بنسائهم وأطفالهم خلال أربعين يوما، على أن يدفع كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة وكل طفل دينار، فإذا لم يستطع واحد أن يدفع فهو أسير؛ غير أن السلطان لم ينفذ ذلك حرفيا، فقد دفع هو نفسه فدية عشرة آلاف، ودفع أخوه الملك العادل فدية سبعة آلاف، بينما مضى عدة آلاف بدون فداء. وقد حمل الناس والكهنة ذخائرهم من غير أن يتعرضوا لأذى ما؛ بل قدمت الدواب لكثير منهم، ممن لا يجدون ما يركبون.
لقد كانت إنسانية صلاح الدين على النقيض من وحشية أولئك الصليبيين الذين غزوا القدس وفتحوه، ومن قسوة أمرائهم؛ فإن كثيرا منهم مضوا إلى إنطاكية غير أن أميرها بيمند طردهم وأبى أن يقبلهم واغلق صاحب طرابلس مدينته في وجوههم، فمضوا إلى بلاد الإسلام حيث استقبلوا هناك احسن استقبال. وقد عدد أنواعا من قسوة الصليبيين ضد إخوانهم اللاجئين من بيت المقدس.
اصلح صلاح الدين ما تخرب من المدينة، ورم ما تهدم من المساجد، وحكم المدينة حكما يسوده العقل والحرية، ثم أمر بإحكام سور بيت المقدس، وانشأ مدرسة ورباطا وبيمارستانا(809/83)
ووقف عليها الأوقاف الدارة.
كان لاستعادة بيت المقدس اثر بالغ في نفس المسلمين، يقصر القلم دون وصفه. وقد اجتهد المؤرخون في وصف دخول صلاح الدين بيت المقدس، ولا زالت خطبة الجمعة الأولى التي خطب بها محي الدين بن الزكي أمام صلاح الدين محفوظة بنصها في كتب التاريخ. أما الشعراء فقد فاضت قرائحهم بتمجيد صلاح الدين فإنشدوه أو أرسلوا إليه ما يعبرون به عن مدى الإعجاب والتقدير ومن ذلك ما قاله الشريف النسابة المصري:
أترى مناما ما بعيني أبصر ... القدس يفتح والفرنجة تكسر
ومليكهم في القيد مصفود الأيام ... ير قبل ذلك لهم مليك يؤسر
قد جاء نصر الله والفتح الذي ... وعد الرسول فسبحوا واستغفروا
فتح الشام وطهر القدس الذي ... هو في القيامة للأنام المحشر
من كان فتحه لمحمد ... ماذا يقال له وماذا يذكر؟!
يا يوسف الصديق أنت لفتحها ... فاروقها عمر الإمام الأطهر
ولأنت عثمان الشريعة بعده ... ولأنت في نصر النبوة حيدر
ملك غدا الإسلام من عجب به ... يختال، والدنيا به تتبختر
ولكن هذا الفتح العظيم على ضخامته لم يله العماد الكاتب عن التفكير فيما بقى بأيدي الصليبيين من بلاد، وان العبء الملقى على عاتق صلاح الدين هو تطهير البلاد كلها من رجسهم فكتب يقول:
قل للميك صلاح الدين أكرم من ... يمشي على الأرض أو من يركب الفرسا
من بعد فتحك بيت المقدس ليس سوى ... (صور) فإن فتحت فاقصد (طرابلسا)
اثر على يوم (انطرسوس) ذالجب ... وابعث إلى ليل انطاكية العسسا
واحتل ساحل هذا الشام اجمعه ... من العداة ومن في دينه وكسا
ولا تدع منهمو نفسا ولا نفسا ... فانهم ياخذون النفس والنفسا
أراد الصليبيون بعد موت صلاح الدين فجمعوا جموعهم ومضوا إلى الشام يعيثون فيه فسادا، ثم رأوا أن افضل طريق للتغلب على عدوهم الملك العادل ملك القدس والشام إنما هو ضرب العادل في مكان حيوي منه، وكانت مصر هي المكان الحيوي المختار. فما أن(809/84)
قوى الصليبيون بأسطول وإمداد جديدة حتى وجدوا في أنفسهم الشجاعة للنزول على دمياط في صفر سنة 615، ولما سقطت المدينة في أيديهم خاف المعظم عيسى أن يسقط بيت المقدس في أيديهم فمضى إليه وخربه، وخرج معظم من كان بالقدس من الناس، ووقع في البلد ضجة عظيمة، وخرجت النساء والبنات والشيوخ وغيرهم إلى الصخرة والأقصى وقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم ثم خرجوا هاربين وتركوا أموالهم وأهليهم، وامتلأت بهم الطرقات، ولم يبق في القدس إلا نفر يسير، ونقل المعظم ما كان في القدس من الأسلحة وآلات القتال وقد شق على المسلمين تخريب القدس واخذ دمياط
عرض الكامل - بعد موت أبيه العادل - أن يرد إليهم مملكة بيت المقدس وجميع ما فتحه صلاح الدين على أن يردوا إليه دمياط فحسب، ولكن هذا العرض المغري قوبل بالرفض من جانب الصليبيين وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب القدس ليعمروه بها.
ويقول لأن بول في كتابه: تاريخ مصر في القرون الوسطى (ص223): أن اعظم فرصة أتيحت الصليبيين قد أضاعوها، وان فيليب أوغسطوس عندما سمع نبأ رفضهم قال: انهم مجانين بلهاء إذ يرفضون مملكة مقابل مدينة ولم يلبث الصليبيون أن انهزموا في مصر وتركوها، فلم تفدهم حملتهم شيئا.
لم يحاول الصليبيون استرجاع بيت المقدس، ولا يعود ذلك لأسباب حربية فحسب، ولكن روح الصليبيين قد تغيرت. فصليبيو سوريا يفضلون مدنهم الساحلية الغنية المليئة بتجار الطليان والتي يحف بها الأراضي الخصبة الزراعية على أراض داخلية خربتها حروب الفرنج مع صلاح الدين، أما الرغبة الملحة في امتلاك مدينة المسيح فقد أطفأتها شهوة الثروة، ومع ذلك لم تمت هذه الروح وظلت حية في نفوس أساقفة روما الذين دفعوا فردريك الثاني إلى إن يشن حربا صليبية جديدة فأقلع إلى الشام ونزل بمدنه الساحلية سنة 625، وكانت هذه الفترة التي نزل فيها فترة نزاع بين الكامل وابن أخيه الملك الناصر، فرأى الكامل بعد مفاوضات بينه وبين الإمبراطور الصليبي أن تعقد بينهما معاهدة، نزل بمقتضاها سفطان مصر عن بيت المقدس بشرط أن تبقى على ما هي عليه من الخراب، ولا يجدد سورها، وان يكون سائر قرى القدس للمسلمين لا حكم فيها للفرنج وأن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الاقصى يكون بأيدي المسلمين لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط،(809/85)
ويتولاه قوم من المسلمين، ويقيمون فيه شعائر الإسلام: من الآذان والصلاة. ويقول باركر في كتابه الحروب الصليبية (ص79): (أن الإمبراطور ظفر بهذه المعاهدة بحسن استخدامه لقواه السياسية وباستغلال لما رآه من نزاع بين الملك الكامل ومنافسيه في سوريا)
أغضبت هذه المعاهدة المسلمين واستعظموها، ووجدوا لها من الوهن والألم ما لا يمكن وصفه، واشتد تشنيع الملك الناصر داود بدمشق على عمه الملك الكامل، ونفرت قلوب الرعية وقد رأوا الفرنج يتسلمون بيت المقدس في أول ربيع الآخر سنة 626 وجلس الحافظ سبط بن الجوزي بجامع دمشق، وذكر فضائل بيت المقدس، وحزن الناس لاستيلاء الفرنج عليه، وشنع على هذا العمل فاجتمع في ذلك المجلس ما لا يحصي عدده من الناس وهم في ثورة عنيفة وانشد الحافظ قصيدة أبياتها ثلاثمائة بيت منها.
على قبة المعراج والصخرة التي ... تفاخرها ما في الأرض من صخرات
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
واضطر الملك الكامل إلى أن ترسل رسولا إلى البلاد والى الخليفة لتسكين الناس وتطمين خواطرهم من انزعاجهم لأخذ الفرنج القدس، بل لقد اضطر الملك الكامل نفسه إلى إن يقنع نفسه بأنه لم يأت أمرا إدَّا، فكان يقول: إنا لم نسمح للفرنج إلا بكنائس وأديرة خراب، والمسجد على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالي المسلمين متحكم في الأموال والضياع. ولكن ذلك لم يقنع أحدا من المسلمين، ولعله لم يقنع الكامل نفسه.
وقد انتهز الفرنج ما حدث من الخلاف بعد موت الملك الكامل فعمروا في القدس قلعة وجعلوا برج داود أحد أبراجها، وكان قد ترك لما خرب المعظم أسوار القدس فمضى الناصر داود وقد علم بما أحدثه الفرنج، وحاصر القدس واستولى عليه عنوة في جمادى الأولى سنة 637 وفي ذلك يقول ابن مطروح:
إذا غدا بالكف مستوطناً ... أن يبعث الله له ناصراً
فناصر طهره أولا ... وناصر طهره آخرا
يريد بالناصر الأول صلاح الدين، ومنذ ذلك التاريخ وبيت المقدس بيد المسلمين.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(809/86)
العدد 810 - بتاريخ: 10 - 01 - 1949(/)
الفقيد الشهيد!
من الخطوب ما يدهم المرء فيصيبه بجمود في الحس وخمود في الذهن فلا يشعر ولا يفكر. ومن الأهوال ما يفجأ الآمن فيرميه بالدهش والتلدد فلا يقدم ولا يؤخر. وتلك كانت حالي حين أقبل عليَّ صديق يقول وهو يقلب كفيه، ولا يملك مسارب عينيه: قُتل النقراشي الساعة برصاص أخ مسلم!! فبرق بصري لما قال، وأقمت شاخصاً لا أطرف، ذاهلاً لا أعي! وتسامع الناس بالخبر المشئوم، فاعتقلت ألسن، واخضلت أعين، ولهفت قلوب؛ وظل أكثر السامعين بين مصدق ومكذب، حتى أسند الخبر إلى مدير الدقهلية، فاستيقنوا جميعاً وقوع الكارثة التي طالما تمناها الإنجليز لمصر، وابتغاها اليهود للعرب. وتجمع أهل المنصورة زمراً في المقاهي والطرق والحوانيت يطيلون في الثناء على الصريع العظيم، ويستعينون بالعزاء على الخطب الجسيم، ويحاولون أن يعللوا هذا الجرم الفظيع فلا يجدون باعثاً عليه لا من واقع الأمر، ولا من عمل الرجل، ولا من مصلحة الوطن، ولا من سياسة الدين!
وثاب إلي وعيي بعد ذهول المفاجأة فشعرت بصدري يضطرم، وبصبري يرفض، وبدمعي ينهل، وبخاطري يتمثل النقراشي الصديق وهو يزورني معزياً في وفاة ولدي؛ ويتمثل النقراشي المجاهد وأنا أزوره مستضيئاً برأيه في مشكلات بلدي؛ ويتمثل النقراشي الوزير وهو يغلب عقله على هواه، ويؤثر رضا الله على رضاه، ويضحي بالصداقة في سبيل العدل، وبالحزبية في سبيل الوطن؛ ويتمثل النقراشي الرئيس وهو ينهج في سياسته نهج الصديق، وبسمت في حكمه سمت الفاروق، فيحدد مطالبنا المبهمة، ويشدد عزائمنا الموهونة، وينشر فضائلنا المطوبة، وينعش آمالنا الذاوية، ويحرر أعناقنا المغلولة، ويطلق أيادينا المقيدة، ويرفع رءوسنا المطأطئة؛ ثم يقف في مجلس الأمن على ملأ من الأمم ومسمع من العالم، يقرع إنجلترا بالحق فتفحم، ويلوي عنقها بالحجة فتكابر؛ ثم يسير جيشنا الأصيل الحر إلى إنقاذ فلسطين وينفخ فيه من روح إبراهيم فيصنع المعجزة ويدني المستحيل على قلة عدده ونقص عدده!
نعم، تمثل خاطري النقراشي في هذه الأحوال وفي هذه الأعمال، ثم تمثل في الوقت نفسه هذا الإنسان العامل الكامل، الشريف العفيف، المؤمن المخلص، الشجاع الحازم، صريعاً بالنار كلص أراده الشرط، ملطخاً بالدم كخائن رماه الجنود! فأسائل نفسي كما يسائل كل(810/1)
مصري نفسه: لماذا قتل محمود فهمي النقراشي؟ ألأنه اشترى دنياه بدينه، أم لأنه مالأ عدوه على وطنه، أم لأنه اتبع هواه في حكمه؟ أم لأنه ضن بجهده ونفسه على خدمة أمته؟ أم لأنه استغل السلطان فأقتنى النضار والعقار على حساب ذمته؟!
لا تستطيع النفس العاقلة أن تجيب صاحبها عن هذه الأسئلة إلا بالنفي، لا فرق في ذلك بين حزب وحزب، ولا بين جنس وجنس، ولا بين عدو وصديق. فلا يبقى إلا أن نرجع إلى تاريخ الشهداء الدامي فنسأل العقل المأفون، والجهل المفتون، والدين المزيف، والطبع الشرير، والقدر الأعمى: بأي ذنب طعن عمر، واغتيل غاندي، وصرع أحمد ماهر، وقتل النقراشي؟!
أربعة شهداء لا أجد لهم في تاريخ الشرق خامساً في عظمة النفس، ونقاء الضمير، ووفاء الذمة، وطهارة اليد، وصدق العهد، وشرف المسعى، ونبل الغاية؛ وإن مصارعهم الأليمة ستظل وصمة في جبين الدهر، ولعنة في تاريخ الإنسان!!
هذه كلمة اليوم وإنها لقطرة دم من فؤاد ينزف أسى على مقتل النقراشي ستتبعها قطرات! وللنقراشي في ذمة كل مصري ديون، فهو حري أن تذرف علية قطرات القلوب لا عبرات العيون!
(المنصورة)
احمد حسن الزيات(810/2)
الجمعية العمومية لهيئة الأمم في دورتها الأخيرة
للأستاذ عمر حليق
فيما يلي عرض موجز لأبرز القرارات التي اتخذتها الجمعية العمومية التابعة لهيئة الأمم في اجتماعها السنوي بباريس، الذي استمر من 22 سبتمبر إلى 11 ديسمبر 1948، وهي تشمل أهم المشاكل التي تواجه العلاقات الدولية، وتتصل اتصالاً وثيقاً بشؤون السلم والحرب.
فلسطين:
أنشأت الجمعية العمومية لجنة التوفيق بين العرب واليهود مؤلفة من الولايات المتحدة وأمريكا وتركيا. وللجنة معظم الاختصاصات التي كانت للكونت برنادوت الذي اغتاله اليهود وتناسته المحافل الدولية بفضل مؤامرة الصمت التي ارتكبتها الصحافة العالمية وتأثرت بها هيئة الأمم تأثراً سلبياً هداماً.
وقرار الجمعية العمومية هذا، يدعو السلطات المعنية بشأن فلسطين إلى الاتفاق مباشرة أو بواسطة اللجنة. وهذا التزام شنيع يفرض على الدول العربية الاعتراف بالكيان الذي أقامه اليهود في المناطق التي يسيطرون عليها في فلسطين. وهو اعتراف آخر بسياسة الأمر الواقع التي تناقض ميثاق الأمم المتحدة والتي لم تكن في يوم ما أساساً لاستقرار سياسي وطيد. والقرار يدعو كذلك إلى جعل مدينة القدس منطقة دولية.
ميثاق حقوق الإنسان:
وافقت الجمعية بأكثرية ساحقة على هذا الميثاق العالمي الذي يحدد الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للفرد تحت أي نظام كان وفي ظل أية سلطة يعيش. والميثاق مقدمة لقانون دولي تنوي هيئة الأمم حمل شعوب العالم ودوله على اتخاذه أساساً للحرية الفردية بموجب التزامات قانونية تتخطى سلطة الدولة وتكون مقيدة بأحكام هيئة قضائية عليا تنشئها هيئة الأمم، للنظر في حوادث التعدي والعبث بالحقوق التي أقرها الميثاق.
مشروع مكافحة الإبادة العنصرية ومعاقبة مجرميها:
وهو قرار كان لضغط اليهودية العالمية الفضل الأول في إقراره؛ إذ أنه يحاول ضمانة(810/3)
الأقليات والعنصرية من بطش الدولة، وهو بطش حاق باليهود في عهود التاريخ القديم والمعاصر بسبب ولائهم المزدوج الذي يتصنع خدمة الدولة التي تأويهم بينما هو يتخذ هذه الدولة وسيلة لتحقيق أهداف أنانية، مستمدة من صميم العقلية اليهودية الانتهازية وهي عقلية رجعية، لأنها لا تزال تعيش في ظلال التلمود وشريعته العتيقة، دون أن تحاول التأثر بالتطور الفكري الذي أولد حركات تقدمية في السلوك الديني والتفكير الديني والنظرة الدينية تجاري التطور العلمي الذي يعيش عليه المجتمع الإنساني المعاصر.
مشكلة البلقان:
اتخذت الجمعية العمومية للمرة الثانية خلال عامين قراراً ضد جارات اليونان لمساعدتهم الثوار الشيوعيين. والقرار يزيد عاماً في عمر لجنة البلقان الدولية التي أوفدتها الأمم المتحدة لتراقب الحالة وتحاول فض النزاع في البلقان. وقد فشلت اللجنة فشلاً ذريعاً وفقدت مهابتها ومهابة الهيئة الدولية التي أوفدتها. واتخذت الجمعية كذلك قراراً بتكليف جمعية الصليب الأحمر الدولية، بالسعي لإعادة الأطفال اليونانيين الذين خطفهم الثوار وبعثروهم في بلغاريا وألبانيا ويوغسلافيا.
تخفيض التسلح:
رفضت الجمعية العمومية المشروع الروسي الداعي لتخفيض التسلح بمعدل الثلث خلال سنة واحدة. ووافقت الجمعية عوضاً عنه على مشروع بريطاني يقضي بتكليف لجنة تخفيض التسلح - التي أنشأها مجلس الأمن منذ عامين وعجزت عن إنتاج أي اتفاق بين الدول الكبرى - بتكليف لجنة تخفيض التسلح هذه بمواصلة مساعيها لتخفيض التسلح بالرغم من هذا الفشل. وكلفت اللجنة بصورة خاصة بوضع مقترحات عملية دقيقة لإحصاء مقدار الأسلحة لدى الدولة لتكون في متناول هيئة دولية ينتظر منها أن تتولى الإشراف على الإنتاج الحربي ومراقبته إذا ما توصلت الدول الكبرى المتنافسة إلى اتفاق مبدئي بشأن تخفيض التسلح. وقد عارضت روسيا وحلفاؤها معارضة نارية هذا القرار.
الطاقة الذرية:
وافقت الجمعية على توصيات لجنة الطاقة الذرية التي تألفت منذ ثلاث سنوات. وهذه(810/4)
التوصيات مبطنة اللغة والمقاصد لا ترمي إلى معالجة جوهر الموضوع. وقد أوصت الجمعية العمومية لجنة الطاقة الذرية هذه بمتابعة أعمالها لإنشاء هيئة دولية لمراقبة الإنتاج الذري وتوجيهه توجيهاً سلمياً.
والخلاف بين الروس وحلفاء الغرب على مسألة مراقبة الطاقة الذرية هو أزمة في الثقة. فروسيا ترغب في أن تدمر أمريكا القنابل الذرية المخزونة لديها ووضع جميع وسائل الإنتاج الذري تحت إشراف هيئة دولية للمراقبة والتوجيه السلمي. وقد رضيت أمريكا بجزء من هذا الاقتراح وهو القاضي بوضع وسائل الإنتاج الذري تحت إشراف هيئة مراقبة دولية، ولكن أمريكا أصرت على أن تذعن روسيا لمراقبة هذه الهيئة دون قيد أو شرط وأن لا تضع في وجهها العراقيل وتحاول المخادعة. وقد رفض السوفيت التقيد بالتزامات المراقبة هذه بدعوى أن في ذلك تعدياً على سيادة الدولة.
الجمعية الصغرى:
وهي بمثابة دمية للجمعية العمومية التي تجتمع مرة في العام. والجمعية الصغرى محاولة يائسة لتعزيز أحداث الدول الصغرى أمام جبروت (الفيتو). وهي تجتمع بصورة مستديمة على غرار ما يفعل مجلس الأمن. وقد اتخذت الجمعية العمومية قراراً يقضي بمد عمر هذه الجمعية الصغرى عاماً آخر، وأعلنت روسيا وحلفاؤها معها أنها ستستمر في مقاطعتها.
الأعضاء الجدد:
قررت الجمعية العمومية إعادة النظر في طلبات الأثنتي عشرة دولة الطالبة الانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة (سبع منها من أتباع حلفاء الغرب، وخمس من أعوان روسيا). وكانت روسيا قد استعملت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن عدة مرات للحيلولة دون دخول الدول السبع، من أتباع المعسكر الإنجلوسكسوني، بينما عجزت الدول الخمس التي زكتها موسكو عن الحصول على الأغلبية المطلوبة من مجلس الأمن بسبب ضغط الولايات المتحدة وبريطانيا على باقي أعضاء مجلس الأمن دون أن يضطر الإنجلوسكسون لاستعمال الفيتو أسوة بالروس.
مناطق الوصاية:(810/5)
كانت مناطق الانتداب موضع انتقاد شديد من لجان هيئة الأمم التي كلفت بزيارتها والتحقيق في وضعيتها والسماع لشكاوى أهلها. وقد اتخذت الجمعية العمومية قرارات تطالب الدول المنتدبة بأن توسع شؤون التعليم والتدرج نحو الحكم الذاتي في خطى سريعة. وقد أوصت كذلك بإنشاء جامعة في مكان مناسب في القارة الأفريقية لتخريج الأساتذة الجامعيين وسد حاجة شعوب المستعمرات للتعليم العالي.
لجنة الشرق الأوسط الاقتصادية:
نجحت الدول العربية في انتزاع قرار يفرض على الأمم لمتحدة الإسراع في تأليف لجنة الشرق الأوسط الاقتصادية التي وضعت الدول الكبرى العراقيل في طريقها خلال الأشهر القليلة الماضية. وهذه اللجنة واحدة من أربع لمناطق جغرافية في أوروبا وأمريكا الجنوبية والشرق الأقصى، تسعى لمساعدة شعوب ودول تلك المناطق على تحسين أحوالهم الاقتصادية عن طريق المعونة الفنية دون أن تتقيد تلك الدول بالتزامات التسرب الأجنبي الاستعماري، وهو تسرب قاست الدول الشرقية من شروره ألواناً. وكان أحد المندوبين العرب قد اقترح وضع بترول المملكة السعودية والعراق وإيران، تحت إشراف هذه الهيئة الدولية لخير الدول صاحبة البترول وإبعاد عملية الامتصاص التي تقوم بها شركات الاحتكار الأمريكية في نجد والكويت والبحرين وغيرها، ولا تنال هذه المناطق العربية من أرباح هذا الذهب السائل إلا نسبة تافهة؛ ولا تكاد تنال من منافعه الاقتصادية الإنشائية إلا بمقدار ما يسمح الاستغلاليون من أصحاب شركات الاحتكار الأمريكية.
مجلس الأمن:
انتخبت مصر لتحل محل سوريا في مجلس الأمن لمدة عامين ابتداء من مطلع عام 1949. وانتخبت كوبا والنرويج لمثل هذا المنصب ولنفس المدة.
محكمة العدل العليا:
أعيد انتخاب مندوبي مصر والصين وكندا وبولندة ويوغسلافيا قضاة في محكمة العدل العليا. واتخذت الجمعية العمومية قراراً يسمح للدول التي ليست منضمة لهيئة الأمم ولكنها وقعت على ميثاق محكمة العدل العليا بالمشاركة في انتخاب القضاة.(810/6)
وألفت الجمعية العمومية كذلك لجنة للقضاء الدولي مؤلفة من 15 عضواً. واتخذت الجمعية كذلك قرارات عديدة أخرى تتعلق بنواح ثانوية من الشؤون الرئيسية. منها التنديد بالتلاعب في المعاملات التجارية، والتجارة بالمواد الغذائية في السوق السوداء. ومنها كذلك إنشاء مركز دولي في هيئة الأمم المتحدة لتدريب بعثات من مختلف الدول على الشؤون الإدارية وفنونها المتشعبة، وهو نوع من التخصص أخذ يحتل مكانة كبرى في معاهد العلم الراقية وأصبحت الحاجة ماسة إليه خصوصاً فيما يتعلق بشؤون التعاون الدولي الذي تمثله هيئة الأمم. واتخذت الجمعية كذلك بروتوكولاً دولياً لمراقبة المخدرات وقيدته بالتزامات أدبية وقانونية قاسية ضد الدول التي تخل باتباعه، وفي البروتوكول نص على استعمال العقوبات في بعض الحالات ضد الدولة أو الدول التي لا تتقيد بقوانين هذه المراقبة.
وقد احتلت الناحية الاجتماعية مكانة ملحوظة في قرارات هيئة الأمم، منها اقتراح بلجيكي يسأل المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للهيئة أن يضع مشروع ميثاق عالمي وضعته الأرجنتين لحماية المسنين من الشيوخ والعجزة وتوفير الطمأنينة الاقتصادية لهم.
وقرار آخر يقضي بأن تقوم دائرة الشؤون الاجتماعية في هيئة الأمم في لايك سكسس بتقديم المعونة الفنية مجاناً للدول والحكومات الراغبة فيها وخصوصاً ما يتعلق بالخدمات الاجتماعية وتنظيمها وتدريب الوطنيين في الشعوب التي لا تسمح ميزانياتها باستخدام الخبراء الأجانب.
هذا ملخص لأبرز قرارات الجمعية العمومية التي قضت شهرين ونصف الشهر في مناقشات حادة تجاوب أصداؤها في أركان العالم الذي يرتبط الآن بشبكة من المواصلات الفكرية السريعة.
ولعل أظرف تعليق على اجتماع باريس هذا وعلى أعمال هيئة الأمم إجمالاً هذا الرسم الكاريكاتوري الذي ظهر في جريدة فرنسية تصدر في العالم الجديد تدعى (لافرانس أميريك).
(نيويورك)
عمر حليق(810/7)
سعار المال
للأستاذ كامل محمود حبيب
هذا هو المال، له ألق براق يخطف البصر ويخلب اللب ويستلب بالفؤاد، وله سحر جذاب يأسر القلب ويستهوي النفس ويطمس على الرأي.
فرويدك - يا صاحبي - فإن سعار المال يوشك أن يركبك فتنزلق فتصبح وما بك طماح إلا جمع المادة. أنت الآن على حافة الهاوية، فتعال أسر إليك حديثاً علك تجد فيه متعة أو زجراً أو لهواً:
إن الكلَب للمادة يصدئ العقل ويشل الفكر ويبلد الذهن وينفث في القلب الفظاظة والغلظة، ويستل الإباء والأنفة، ويورث المهانة والضعة.
إن الكلَب لا يرعى حقاً، ولا يبقى على ود، ولا يتورع عن رذيلة، ولا يرتدع عن دنيئة، ولا يتذمم عن مأثم، ولا يترفع عن صغار؛ غايته أن يجمع المال ويكدسه، ثم لا يعنيه في هذا السبيل أطوقه العار أم استذله المسعى!
وأنت فتى عقد عليك أمل منذ تخرجك في الجامعة، وتعلقت بك الأبصار منذ عينت في وظيفة حكومية، ومنذ صرت بين أخوتك وأهلك رجلاً وإنساناً، فيا ضيعة الأمل إن تلفتوا فلم يجدوا فيك الرجل ولا الإنسان!
يا عجبا! كيف يركبك (سعار المال)، وأنت يا صاحبي رجل، وما بك طماح. . .!
أتذكر يوم كان راتبك الحكومي سبعة جنيهات، يوم كان ميراثك يغل عليك في السنة خمسين جنيهاً فحسب! لقد كنت رضي النفس طيب القلب سمح السجايا، تتأنق في ملبسك ومأكلك ومسكنك، وترف رفيفاً جميلاً على رفاقك، وتفيض على صحابك من كرمك، وتحبو اخوتك الصغار من عطفك؛ فكانت أحاديث الحب والاحترام تحوم حواليك حيث أنت، يتضوع من خلالها عبير الإخلاص والوفاء. وكنت أنت تتهلل بشراً وإيناساً، يفيض وجهك طلاقة ومرحاً؛ وكنا نأخذ عليك كثرة المزاح والمفاكهة ونلومك على أن ترى الحياة هزلاً وهذراً، لا تستأهل أن يعنى المرء نفسه بما تجئ وبما تذر، فسخرت منها حيناً وضحكت عليها حيناً. أفكانت تلك طبيعة ركبت فيك، أم هي أخلاق تخلقتها إلى حين؟!
والآن، حين أرتفع راتبك إلى العشرين من أثر التنسيق، وحين زادت غلة ميراثك إلى(810/9)
المئات من أثر الحرب، وحين سحرك حب الغنى، وحين ركبك (سعار المال). . . نسيت أنك عضو في أسرة، وأنك أخ بين إخوة، وسحبت على الماضي ذيل النسيان، فعققت أهلك وذويك، وأغضيت عن الود والقرابة، وغاض منك البشر والإيناس، وانمحت فيك سمات البشاشة والمرح، وانطويت على نفسك تدفن آمالك المادية في إضعاف أخيلتك، وتطوي خواطرك الأرضية بين ثنايا وحدتك، وحالت ابتسامتك، وأصابك السهوم، فذوت نضارتك وتغضن جبينك، وعشت ساعات طوالاً تتأمل في (خريطة مساحية) تفليها وتقلبها وتضع علامات هنا وهناك وتقول لنفسك: (آه لو اشتريت هذه وهذه وهذه. . . وآه لو استبدلت هذه بتلك وتلك بهذه!) ورحت تسلك إلى غايتك سبلاً مادية وطرقاً ملتوية.
هذا هو شغلك في فراغك وفي عملك، وأنت تعلم يا صاحبي أنك تثقل على نفسك وتحملها ما لا طاقة لها به، فهذه أفانين لن تترفع بك إلى غايتك، ولو حرصت!
نعم، أنا أعرف خلجات نفسك ونبضات قلبك، فلا تقل إنني أستعين على عوادي الزمن - وأنا شاب - خيفة أن تعصرني على حين فجأة؛ ولا تقل إنني أهيئ لأولادي حياة ناعمة وأضمن لهم حق التربية والتعليم، فالمدرسة تبهظ الأب في غير رحمة، والحكومة تسخر من الموظف حين تدفع له راتبه أول الشهر لتتقاضاه - من بعد - أقساطاً ثمناً للكتب والعلم؛ والأب بينهما يستمرئ السغب والعرى ليشتري لأولاده مكاناً في المدرسة. لا تقل ذلك فإن للثراء مسارب أولها التوفيق وآخرها الشح والكزازة!
وأذهلتك أخيلة الثراء فأسففت. وخيل إليك أن زوج أختك قد غلبك على بعض مالك، فذهبت إلى أختك تحاسبها على ذنب لم تقترفه، وأمطرتها بحديث فيه الجفاف والتقريع؛ وأحست هي منك الجفوة والخشونة، فلم تجد في طبيعتها النسائية ما تدرأ به عن نفسها إلا الدمع فأجهشت للبكاء تستنزل عطفك وتستنهض مروءتك، ولكن قسوة المادة قتلت فيك الرجولة فاندفعت تضليها شواظاً من قارص الكلام. . . وراحت هي تبكي!
لعلها - يا صاحبي - كانت تبكي فيك الإنسانية!!
وتحاماك أهلك حين جاءك صاحب دين يستقضي دينه فمطلته ثم أنكرت عليه حقه، ثم سخرت منه لأنه لم يكتبه عليك. وطلب هو الغوث من عميد أسرتك، فما تعوقت في الدفع ولا تمهلت!(810/10)
وأستعانك أحد ذوي قرابتك في شأن حزبه، فطلبت إليه ثمن جهدك!
وراعني - يا صاحبي - أن ينفث فيك سعار المادة سمومه فتطمس على عقلك وتدفعك إلى آخر الشوط، فتتهجم على أخيك الأكبر بكلمات وضيعة طائشة تودعها رسالة، ثم تبعث بها إليه في غير خشية ولا حرج، بعثت إليه برسالة وهو على خطوات منك!
أنسيت أنك عشت عمراً من عمرك ترى فيه الأب والأخ في وقت معاً، فكنت تجد إلى جانبه راحة قلبك وهدوء بالك، وكنت تفزع إليه إن حزبك أمر أو فدحك حادث؟! ونسيت أنك حين أردت أن تتزوج أرسلت إليه - دون أبيك - تسأله الرأي وتستعينه على أن يخطب إليه ابنة (فلان بك) فأسرع إلى أبيها بحتال للأمر، إرضاءً لك، حتى أصاب التوفيق!؟
وتزوجت أنت من ابنة (ألبك) وهو رجل ذو مركز وجاه وثراء، تقلب في وظائف القضاء حتى كاد أن يبلغ، وانعطف على نفسه - منذ نشأته الأولى - فعاش في منأى عن صخب الحياة وضجيجها، فأفاد صحة ومالاً. ولصقت أنت إلى (ألبك) واتخذته مثلك الأعلى، ولكنك كنت منه كالقزم من المارد، وتصاغرت نفسك في عينك فما لك مال ولا جاه ولا مركز إلا صبابات، وتراءى لك أن المال وحده يسمو بك فتتطاول إلى حيث (سعادة ألبك)، فأخذتك شهوة المادة وركبك سعار المال. ولكن كيف السبيل وأنت عاجز اليدين قليل الحيلة! فاندفعت تسلك إلى المال سبلاً فيها الصغار والخسة، أيسرها أنك استخذيت (لسعادة ألبك)، فعشت في داره يعولك ويعول أولادك، وسكنت أنت إلى هذا الوضع الوضيع لقاء دريهمات تدخرها، لا تغنى من كرامة ولا تسمن من إباء، ثم استخذيت مرة أخرى فأقامك على بعض شأنه - احتقاراً لك منه وأمتهاناً - أجر ما أطعمك وأسكنك!
وتهاوت نفسك صغاراً وصفة فما حاولت أن تستشعر رجولتك إلا أمام أختك، وإلا حين كتبت إلى أخيك الأكبر رسالتك تقول: (. . وظننت أن تقدمك عليَّ في السن يخولك السيادة أو يؤهلك للسبق. ولئن كنت أنت بكر أبوينا فما يمنعني ذلك من أن أسبقك في العلم والجاه والمال!
وأنت دأبت على أن تمطلني حقي رغبة منك في أن تستلبه أو تضيعه عليَّ، رغم أننا أعقاب أب واحد نتقسم تراثه على سواء، لي مثل ما لك من حق ومن مال في ما ترك أبي(810/11)
- رحمه الله - وإن مواقفك مني في كل مناسبة توحي إلي بأنك تنفس عليَّ أشياء تورث الحقد بين جنبيك، فإما سلمتني كل حقي في مدى ثلاثة أيام من تاريخه، وإما رفعت أمرك للقضاء. . .)
وسكت عنك أخوك لأن أمتهن رأيك، فما تجنى عليك وما مطلك وما غالك. . . سكت ولكنك أنت لم تسكت!
ماذا عسى أن تكون - بعد هذا - إن جرفك التيار؟
هذه النار أنت وحدك حطبها، فارعو وأحفظ عليك مالك كيف شئت، ولكن لا تغض عن حق الأخوة ولا عن حق القرابة!
وإذا جرفك التيار - يا صاحبي - فستكسب المادة، ولكن بعد أن تفقد نفسك وسيركبك الندم حين لا تستطيع أن تسد الثغرة وقد انفرجت، ولا أن تلم الشمل وقد تشعث!
كامل محمود حبيب(810/12)
في ذكرى المولد النبوي الشريف:
من شئون الموظفين في النظم الإسلامية
للأستاذ لبيب السعيد
يعي التراث الإسلامي في تضاعيف مكتبته الجليلة صحائف عن شؤون الموظفين يجدها الباحث متفرقة هنا وهناك. وهي صحائف تحوي معاني عجيبة عميقة فيها اتجاه راشد قصرت عنه النظم الحديثة في بعض وجهاتها، ومن ثم كانت تلك الصحائف جديرة أن تستقصي وتستلهم وتسترشد.
قامت الجماعة المسلمين فاستوجب قيامها نظاماً يعتمد بالضرورة على موظفين يقومون بواجباته، ويحملون أمانته. لقد أمر النبي أتباعه أن يأمروا عليهم حتى في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات فكأنه نبه على وجوب التولية فيما هو أكثر من ذلك، وقد اضطلع هو نفسه صلوات الله عليه بكل ما يتعلق بولاة الأمور في المدينة، فولى في الأماكن البعيدة والقريبة، وأمر على السرايا وبعث على الأموال الزكوية السعاة.
واقتضت الظروف حتى في بدأ الإسلام تعدد الوظائف على نحو أبعد مما أن يظن؛ فعهد الرسول لم يخل من وظائف الوزارة ووظائف الكتابة بأنواعها، ووظائف السفراء والقضاة وفارضي النفقات ورجال الأمن والتعليم والصحة والمال والحرب والغنائم والمترجمين وغيرها، ولو لم يصطلح على بعض هذه التسميات وقتئذ بل لقد وجدت وظائف هي بطبيعتها مما لا يقوم إلا حيث التمدن ودقة الإدارة كصاحب السر ورئيس التشريفات ورجال الحاشية الخاصة.
والوظيفة في الإسلام تكليف شاق، وجهود محشودة لخير الأمة. يقول النبي (ما من أمير بلى أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة معهم.) والإسلام يقتضي من يلي أية رعية أن يرفق بها؛ يقول الرسول: (إن شر الرعاء الحطمة) يريد العنيف الذي لا يرفق برعيته بل يحطمها.
والراعي إن لم يبسط لرعيته جناح رحمته فهو من دعوة الرسول في خطر؛ يدعو عليه السلام - وكأننا نحس قلبه الرحيم يخفق في دعوته - (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به. وغش الراعي(810/13)
رعيته كبيرة تشقيه في الآخرة: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة). فأما العادلون، فالحديث يشير إلى فضلهم ومنزلتهم بعبارة مضيئة فيها بلاغة مؤثرة: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
ولذلك، ترغب السنة إلى من كان فيه ضعف عن القيام بالوظائف أن يجتنبها، وتقرر أنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه منها، ولكن السنة مع هذا ترغب في ولاية من أستجمع شرائطها وقوي على أعمالها وتعتبر الوظيفة لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب جهد طاقته من أفضل الأعمال الصالحة.
والنظم الإسلامية تتحرى في تعيين الموظفين الأمثل فالأمثل، وتعتبر في صراحة قاطعة العدول عن هذا خيانة كبيرة. ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى عمر بن الخطاب: (من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين).
سنت النظم الإسلامية للموظفين مبادئ تبصر الدنيا على هدى الدين؛ ولهذا نرى عصارات الدين القوية تسري في أعمال الموظفين كبيرهم وصغيرهم فتؤتي أكرم الثمرات. يكتب عمر ابن الخطاب إلى عامله أبي موسى: وإن أسعد الرعاة عند الله من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته. ويقول له: واعلم أن للعامل مرداً إلى الله، فإذا زاغ العامل زاغت رعيته.
والمسلمون يرون التزام الموظفين العدل أصلاً أساسياً في نجاح الدولة لا يغني عنه أي عمل صالح حتى الإيمان؛ فمهما يروى: (الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا بنصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة).
ومما يمثل النظم الإسلامية في آداب الموظف ما عده القلقشندي من آداب الكاتب، قال: ومنها لزوم العفاف والصيانة فيما يتولاه للسلطان من أعمال. . . والتعفف عن المطامع الذميمة والمطاعم الوخيمة والترفع عن المكاسب اللئيمة؛ فإن ذلك يجمع القربة إلى الله تعالى والحظوة عند السلطان، وجميل السيرة عند الرعية، حتى أن الطريقة قد تقدم بها عند السلطان المتخلفون في الفهم والمعرفة، وسادوا على من لا يقاربونه في غناء ولا كفاية،(810/14)
وحصلوا على الأموال السنية والمنازل العلية، وقرب بها من كان بعيداً على من كان قريباً، ومن لا مكانة له ولا حرمة على من كان له مكانة وحرمة، واستدنى لأجلها من لا يترشح لخدمة السلطان
والموظفون في النظم الإسلامية يخضعون لمراقبة بالغة. قيل عن عمر إن علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته كان كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد، فلم يكن له في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيش إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسي ومصبح. وعلى نحو هذا كان الكثيرون من خلفاء المسلمين.
وبعض التصرفات الشخصية البحت لكبار موظفي الدولة الإسلامية لم يكن بمنجاة من تعقب الحكومة؛ تزوج حذيفة ابن اليمان أجنبية، فطلب إليه عمر أن يطلقها على كونها حلالاً لأن (في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم.
والموظف الذي يعفي نفسه من الضمير والواجب عليه وزر عمله. يقول أبو يوسف للرشيد: وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمال وما عملوا به في البلاد. . . إلى أن قال: وإذا صح عندك من العامل والوالي تعد بظلم وعسف وخيانة لك في رعيتك واحتجان شيء من الفيء أو خبث طعمته أو سوء سيرته فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئاً من أمور رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك؛ بل عاقبه على ذلك عقوبة تردع غيره من غير أن يتعرض لمثل ما تعرض له. وإياك ودعوة المظلوم فإن دعوته مجابة.
على أن التقارير التي ترد إلى الحكومة عن الموظفين يجب أن تكون صادقة، فكاتبوها - كما يقول أبو يوسف للرشيد -: ربما مالوا مع العمال على الرعية وستروا أخبارهم وسوء معاملتهم للناس، وربما كتبوا في الولاة والعمال بما لم يفعلوا إذا لم يرضوهم، وهذا مما ينبغي أن تتفقده وتأمر باختيار التقات العدول من أهل كل بلد ومصر فتوليهم البريد والأخبار. . . وتتقدم إليهم في أن لا يستروا عنك خبراً من رعيتك ولا من ولاتك، ولا يزيدوا فيما يكتبون به عليك خبراً، فمن لم يفعل منهم فنكل به، ومتى لم يكن أصحاب البرد والأخبار في النواحي ثقات عدولاً فلا ينبغي أن يقبل لهم خبر في قاض ولا وال.(810/15)
ومع هذا فروح المبادئ الإسلامية تتيح الموظفين حرية للموظفين حرية في السير إلى أهدافهم العليا هي فوق منال موظفي زماننا. ومن النصوص الكثيرة في هذا الشأن ما ورد من أن زياداً كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري: وإن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفى له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهباً ولا فضة وأقسم ما سوى ذلك. فكتب إليه: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين! والله لو أن السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له منهما مخرجاً! ثم نادى الناس فقسم فيهم ما أجتمع له من الفيء.
والإسلام في احترامه للإنسانية وحمايته للحق يقرر وجوب الإنكار على الموظفين - مهما تكن مراتبهم - فيما يخالف الشرع. قال صلى الله عليه وسلم: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضى وتابع) يريد أن الإثم والعقوبة على من رضى وتابع وإنه صلوات الله عليه ليدعو المسلمين دعوة صريحة إلى الصدوف عن مشايعة الحاكم الظالم ورفض معاونته إذ يقول لما ذكر الظلمة: (من صدقهم بكذبهم وأعلنهم على ظلمهم فليس منى ولست منه ولا يرد على الحوض).
ولا ينبغي للموظف أن يزدهيه منصبه، أو أن يغبن حتى فيما دق وهان صغيراً لصغره. كتب علي إلي بعض عماله: واخفض للرعية جناحك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييئس الضعفاء من عدلك. وقد صدق في هذا الشأن عمل المسلمين الأولين قولهم.
والإسلام إذ يفيض على أتباعه جميعاً كريم الرعاية وعظيم الالتفات يحرص على إبلاغ ولي الأمر حاجات كل فرد، لا يمنع من ذلك ضآلة شأن الفرد أوضعته. يقول النبي (ص): (أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانه حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة). ويقول عمر الفاروق في خلافته: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية دولاً، فإني أعلم أن الناس حوائج تقتطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها ألي، وأما هم فلا يصلون إلي.
ورواتب الموظفين في النظام الإسلامي تناسب الحاجة والبلد، ومن دواعي زيادتها أن يبدي الموظف في عمله كفاية وحكمة. والنبي صلى الله عليه وسلم يوصي أئمة المسلمين بعده(810/16)
بموظف أحسن صنعاً في بعض الأمور، فيكتب له بهذا كتاباً ويختمه، فيظل الموظف يأخذ - فيما ذكر ابن سعد في طبقاته - أشياء من خلفاء المسلمين حتى عهد عمر بن عبد العزيز.
والراتب يتسق ومركز الموظف. بلغ المعتضد أن عامله على فارس أظهر أبهة في ولايته وأنفق فوقعت له بذلك هيبة في نفوس الرعية فزاد المعتضد رزق عامله ليستعين به على مروءته.
وكما تستقطع الضرائب الآن من الراتب، كانت الزكوات المستحقة تخصم من الأعطيات.
والحالة الاجتماعية التي لم تلتفت إليها النظم التوظيفية الحديثة إلا متأخراً لها في النظام الإسلامي اعتبار، يروي أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه ألفى قسمه في يومه فأعطى صاحب الأهل حظين وأعطى الأعزب حظاً.
وإنصاف الموظفين ليست نتائجه بالشيء الذي تغضي عنه الحكومة الإسلامية؛ فعلى يوصي أحد عماله أن يسبغ الأرزاق (فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك)
ولعمر بن عبد العزيز لفتة عالية إذ يقال له: ترزق الرجل من عمالك مائة دينار ومائتي دينار في الشهر وأكثر من ذلك؟ فيقول: أراه لهم يسيراً إن عملوا بكتاب الله وسنة نبيه، وأحب أن أفرغ قلوبهم من الهم بمعايشهم. وكان من أهم ما جرت عليه الإدارة في عهد المأمون التوسعة على العمال؛ يراد بهذا حفظ حقوق الرعية والسلطان؛ رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل، وعقد له على الشرق طولاً وعرضاً وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم
ورواتب الموظفين تجري عليهم من بيت مال المسلمين لأنهم في عمل المسلمين. وقد كان الرشيد قال: يجري على القاضي إذا صار إليه ميراث من المواريث، فأجاب قاضيه أبو يوسف: لا إنما يعطى للقاضي رزقه من بيت المال ليكون قيماً للفقير والغني والصغير والكبير، ولا يأخذ من مال الشريف ولا الوضيع إذا صارت إليه مواريثه رزقاً.
وقد وجد في النظم الإسلامية نظام تقرير المكافآت والمعاشات: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيس بن مالك الأرحبي من همذان لما استعمله على قومه عربهم وأعاجمهم ومواليهم، فأقطعه من ذرة (نسار) مائتي صاع، ومن زبيب (خيوان) مائتي صاع، (جار له(810/17)
ذلك ولعقبه من بعده أبداً أبداً أبداً). وعمر بن عبد العزيز أمر أن يرفعوا إليه كل يتيم ومن لا أحد له ممن قد جرى على والده الديوان، فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعونه بينهم بالسوية، وفرض العوانس الفقيرات، وكان لا يفرض للمولود حتى يفطم، فنادى مناديه: لا تعجلوا أولادكم عن الفطام فأنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
والموظفون يجدون رعاية اجتماعية عند العجز؛ كتب عمر ابن العزيز إلى أمصار الشام أن يرفعوا إليه كل أعمى في الديوان أو مقعد أو من به فالج أو من به زمانه تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فأمر لكل أعمى بقائد ولكل اثنين من الزمني بخادم.
والاتجار ليس من شأن موظفي الدولة؛ اجتمعت لأبي هريرة أموال كثيرة فقرر أن خيله تناسلت وسهامه تلاحقت وأنه اتجر؛ فقال له عمر بن الخطاب: أنظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل الآخر في بيت المال.
وقد عرفت النظم الإسلامية مبدأ عدم تكرار الراتب، فعمر بن عبد العزيز أمر أن لا يخرج لأحد من العمال رزق في العامة والخاصة، فإنه ليس لأحد أن يأخذ رزقاً من مكانين، في الخاصة والعامة.
وما ينبغي للموظفين أن يستعملوا شيئاً من وسائل النقل الخاصة بالدولة، فأصحاب البريد يجب أن لا يحملوا على دواب البريد إلا من تأمر الحكومة بحمله في أمور المسلمين فإنها للمسلمين. وفي هذا المقام يذكر أبو سيف أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد، فحمل مولى له رجلاً على البريد بغير إذنه، فدعاه، فقال: لا تبرح حتى تقومه ثم تجعله في بيت المال.
والوظائف العسكرية تقتضي كشفاً طبياً يجرد فيه الشبان من ثيابهم للإطلاع على عيوب أجسامهم، ولم يكن يقبل فيها الصبيان.
والثقة بالموظفين واجبة، يقول طاهر بن الحسين لولده عبد الله: ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم. واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم.
وقد سبقت النظم الإسلامية إلى الأخذ بمبدأ اللامركزية منذ عهد الرسول. روى أن السعاة الذين كان يبعثهم على الزكاة كان الواحد منهم أحياناً يرجع إلى المدينة وليس معه شيء(810/18)
منها إذا وجد لها موضعاً يضعها فيه.
ومن النصوص التي تذكر في هذا المقام فتعجب ما كتبه عمر بن عبد العزيز إلى عامله باليمين: (أما بعد فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم فتراجعني ولا تعرف مسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن اردد على مسلم مظلمة شاة لكتبت أردها عفراء أو سوداء فأنظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني).
وما أجمل ما كتب إلى عامله على الكوفة: (إنه يخيل ألي أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلاً شاة لكتبت إلى: أذكر أم أنثى؟، ولو كتبت إليك بأحدها لكتبت إلي: أصغيرة أم كبيرة ولو كتبت بأحدها لكتبت: أضأن أم معزى؟، فإذا كتبت إليك فنفذه ولا ترد علي.
وبمثل هذا كتب أبو جعفر المنصور إلى مسلم بن قتيبة. والمأثور عن المأمون أنه كان يحرص الحرص كله على الانتفاع برجاله ويطلق لهم حريتهم في العمل.
وامتد الأخذ بهذا المبدأ إلى الوزراء؛ كان العباس ابن الحسن وزير المكتفي يقول لنوابه بالإعمال: أنا أوقع لكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة.
وللشعب حق شكوى الموظفين، حيث يقف وإياهم على قدم المساواة، يسوي الحكم بينهم في الموقف حتى يظهر الحق، فإن توجه قبل الموظف اقتص منه إن كان هناك داع للقصاص، أو عامله بما تقتضي به الشريعة، أو اعزله. وقد وقع للفاروق عمر ولعمر بن عبد العزيز أن مثل كل منهما وهو أمير للمؤمنين مع خصمه أمام القاضي.
ومن آيات عمر بن الخطاب في العدل يوجهها إلى الرعية: (من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له إلا أن يرفعها أليَّ حتى أقصه منه.
والنظم الإسلامية تتجافى عن الوساطة وتتكرم عن المحسوبية في شؤون الموظفين؛ توسط مولى عمر بن الخطاب أن يكتب كتاباً إلى عامله بالعراق ليكرم من قصدوا إليها، فانتهره عمر وسبه، وقال: أتريد أن يظلم الناس؟ وهل هو إلا رجل من المسلمين يسعه ما يسعهم به. وعلي يكتب إلى الأشتر النخعي حين سيره إلى مصر:. . . ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة. . . ولقد انتهى إلى علم معاوية أن ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم عامله على الكوفة أساء السيرة في إمارته فعزله وأقصاه عن(810/19)
الحكم. والهادي في عهده القصير منع أمه الخيزران من التدخل في أمور السلطان لقضاء حوائج الناس.
والنظم الإسلامية تسمو بها مثلها العليا وإخلاصها الأمين فتحارب الخيانة والرشوة بين الموظفين في جميع صورها من غير رحمة. ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول - وهو اصطلاحا الخيانة في الغنيمة - فعظمه وعظم أمره. ولقد أبى على أحد عماله بأسلوب ينضح بالغضب والجد أن يحتجز من الصدقات التي جمعها شيئاً بدعوى أنه أهدي إليه.
وتسد الروح الإسلامية منافذ التحايل، فالهدايا للموظفين هي الرشا، والهدية إذا دخلت من الباب خرجت الأمانة من الطاقة. ولقد حفل تاريخ عمر بن الخطاب بالثورة على بعض عماله كلما رأى تغير حالهم في العمالة عما كانت قبلها، ولم يطامن من ثوراته أن من هؤلاء العمال أمثال أبي هريرة وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري. والموظفون أنفسهم يستبشعون عدم الأمانة وينفرون منه. كتب عمرو إلى عمر محتجاً: معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم والاجتراء على كل مأثم، فأقبض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها.
وصحائف الموظفين المسلمين حافلة بأمثال كثيرة للموظفين الذين لم تشره نفوسهم إلى المال وهو تحت أيديهم وخرجوا من أعمالهم بالصفة التي دخلوها بها. ومن القواعد الكريمة التي استقرت في النظم الإسلامية أن جور الراعي هلاك للرعية، وأن استعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة.
ومن جميل ما وقع لحبيب بن مسلمة أحد قواد المسلمين أنه سار يريد بلداً في أرمينية فجاءه بالطريق رسول بطريقها وأهلها يسأله الصلح وأن يكتب لهم، فكتب حبيب إليهم كتاباً ضمنه قوله: وقد قبلت هديتكم وحسبتها من جزيتكم.
أما بعد: فالموظفون كما تريدهم النظم الإسلامية قلوب واعية وضمائر لا يأخذها الإعفاء. وما أحرانا وتلك روعة نظمناً الإسلامية السالفة، أن نتفقدها ونتعهدها ونتزود منها لنظمنا الخالفة.
لبيب السعيد(810/20)
السيد علي داشتي سفير إيران في مصر
للدكتور يحيى الخشاب
سعدت الأندية العلمية والأدبية في العام الماضي بمحدث من الطراز الأول، برع في فن الطب وأولع بالأدب من مختلف اللغات، وشغف بالبحث العلمي شغف العلماء أصحاب الاختصاص؛ ذلك هو الدكتور قاسم غني سفير إيران الذي حاضر الأطباء في تاريخ الطب، وحاضر الأدباء في الأدب الفارسي وصلته بالآداب الإسلامية، وشكل لجنة لإحياء ذكرى فيلسوف الإسلام ابن سينا، والذي استمع إليه صحبه في كثير من التقدير والاستحسان كما قرأ له أصدقاء الرسالة بحثه القيم في تاريخ الطب عند المسلمين، وقد نشرته الرسالة تباعاً. وغادر الدكتور غني مصر بعد أن ترك فيها جماعة من الأصدقاء المعجبين بعلمه وأدبه وكتابته، وهذا من خير ما يتركه سفير في بلد أدى فيه السفارة.
ومصر إذ تودع الدكتور قاسم غني تستقبل سفيراً جديداً لإيران هو السيد علي داشتي، وهو الصحفي الكبير والزعيم البرلماني الذي يعرفه الإيرانيون، والذي اشتهر عند المشتغلين بالدراسات الشرقية كأحد بناة النهضة الإيرانية الحديثة. فقد اتخذ من الصحافة الحرة وسيلة للدعوة إلى الحرية والعدل والأمن وهو الذي وقف في ثبات وجسارة يطالب بالإصلاح في آخر العهد القاجاري، وظل في كفاحه الصحفي مصلحاً اجتماعياً وداعية إلى ما فيه خير بلاده بكل ما يملك من جهد.
والذين يدرسون تاريخ إيران الحديث، في مصادره الأصلية يعرفون ما كان للسيد علي داشتي من فضل في توجيه سياسة حكومة بلاده نحو الإصلاح الاجتماعي الذي يجعل من كل فرد مواطناً صالحاً لخدمة أمته.
والسيد علي داشتي رجل دين، فقد بدأ حياته العلمية يطلب العلوم الشرعية في كربلاء، حتى إذا حذقها وألم بأصولها وفروعها أدرك أن الرسالة الأولى للصحفي هي أن يبين للشعب الخبيث من الطيب، والزائف من الحق. ولا تزال مقالاته التي جعل عنوانها (الإصلاح الديني) خير ما كتب في إيران لنقد عادات الناس الرذيلة وبعدهم عن لباب الدين وأصوله، وانحرافهم إلى ترهات لا تمت إلى الدين بصلة. وفيها دعا الناس إلى إتباع أحكام القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرة السلف الصالح في صدر الإسلام.(810/21)
ولكن كتابة المصلح لم ترق للشعب فإن الخرافات عنده قد امتزجت بالحقيقة. فقد كان من يفرق بين الغث والسمين، ويفصل بين الحق والباطل، ويدعو الناس إلى سبيل لا عوج فيه؛ كان من يفعل هذا موضع سخط العامة ونقمتهم، ولقي السيد داشتي من هذا السخط ما حمله على الانتقال من شيراز إلى طهران.
وفي طهران أصدر جريدته (شفق سرخ) أي: الشفق الأحمر، وأخذ يناضل فيها عن رأيه ويدعو الناس إلى الخير، تارة باسمه وتارة باسم مستعار. وتمتاز كتابته بهذا الطابع الذي امتاز به في حياته الأدبية وفي منهجه السياسي؛ طابع الصدق في القول والإخلاص في العمل. وقد اتخذ الأحرار من جريدته منبراً يذيعون منه آراءهم وينادون بما يرون من وجوه الخير والإصلاح.
وقد تعرض الرجل في حياته لكثير من الأذى في سبيل أداء رسالته، فكما أن الشعب لم يتقبل دعوته في إصلاح الدين بما ينبغي لها من الأتباع والإعجاب، فكذلك كانت حملته السياسية على حكومة (وثوق الدولة) سنة 1919 سبباً في إبعاده عن البلاد. فقد كانت كتابته في الصحف من أشد ما وجه لسياسة المجاملة للإنجليز، وقد لجأت الحكومة إلى حظر نشر مقالاته في الجرائد فلجأ إلى المنشورات يكتبها وتوزع فتنتشر بين الناس. وقبض على الرجل وسئل عمن يكتب المنشورات فلم يبال وأعلن أنه صاحبها وكاتبها، فلم تر الحكومة من وسيلة لإسكاته غير نفيه من البلاد.
ولم تكن هذه سابقة في الجهاد كافية لأن يعيش الرجل بها ويبني مجده عليها؛ بل ظل صلب العود، شديد المراس، ثابت الرأي، وصمد في شيخوخته صموده في شبابه. وقد حمل منذ سنوات حملاً على أن لا يخرج من داره أربعة أشهر ثم اضطر إلى ترك بلاده فسار إلى فرنسا حيث مكث سنة ونصف سنة.
وقد شارك السفير في الحياة السياسية في بلاده؛ فهو نائب قديم بالبرلمان، وهو زعيم يشار إليه، وقد أفلح بتوجيهه السليم في أن يكون أبرز شخصية في البرلمان الإيراني، وكثيراً ما كان لآرائه الأثر الصالح في توجيه سياسة بلاده.
ولم تصرفه حياته الصحفية وجهاده السياسي عن العلم والأدب فقد أتم ثقافته الدينية بالإحاطة بالآداب الغربية فحذق اللغة الفرنسية وقرأ آثار الفرنسيين الأدبية ونقل إلى اللغة(810/22)
الإيرانية كثيراً من الكتب التي يراها متمشية مع رسالته في الإصلاح الاجتماعي، فترجم مثلاً (سر تفوق الإنجليز السكسونيين) و (سر تطور الأمم) وغيرهما.
وقد رأى جماعة من أصدقائه أن يجمعوا مقالاته التي دبجها في الصحف فجمعوها باسم (سايه) - أي الظلال - وذلك أثناء إقامته الأخيرة في باريس.
ومن كتبه (فتنة) ويحوي ثلاث قصص اجتماعية (فتنة) و (حوادث تلك الليلة) و (رسالة من سيدة).
وقد رأت الحكومة الإيرانية أن تعهد إلى السيد علي داشتي بالسفارة الإيرانية في مصر، فأوفدت رجلاً من أعظم رجالها، وهو خير خلف لخير سلف. وقد أدركت من أول حديث لي معه أنه شديد العناية بأحياء الصلات الثقافية بين مصر وإيران، حريص على (إحياء ذلك العهد الذي طواه الزمن، عهد اتصال الفرس بالعرب اتصالاً قريباً وثيقاً، أيام كان العرب يعنون بنقل آثار الفرس إلى لغتهم ويحرصون على ذلك حرصاً شديداً تمليه عليهم نهضتهم العظيمة ليفيدوا من هذا الأدب القديم الغني كل ما يمكن أن يفيدوه، وأيام كان الفرس ينقلون عن العرب كل ما يمكن أن يحيي أمتهم وأن يرد إليها مجدها القديم).
يحيى الخشاب
رئيس فرع اللغات الشرقية بكلية الآداب(810/23)
النبوة والإلهام عند فلاسفة الإسلام
للأستاذ عبد العزيز الكرداني
تقترن بفكرة النبوة فكرة الوحي - فما من نبي إلا وهو يوحي إليه، وما من نبي إلا وهو يستلهم الله أسرار الملكوت.
ولقد جاءت نصوص الكتب السماوية مؤيدة لذلك ومؤكدة له، غير أن فلاسفة الإسلام لم يقنعوا بمجرد التسليم بالمنقول، بل أرادوا - كدأبهم - أن يفسروا المنقول بالمعقول وأن يدللوا بمنطق العقل على منطق الوجدان؛ فتمخضت عن ذلك نظرية النبوة. . . ومن قبلها نظرية الألوهية؛ نقول (من قبلها) لأن إبداع نظرية للنبوة، يستوجب حتماً بحث فكرة الله باعث الأنبياء والرسل، والكلام في الموحى إليه يستلزم بالضرورة الكلام - بداءة - في الموحي الذي أوحى!
ولقد نظر فلاسفة الإسلام فوجدوا أن (أر سطو طاليس) يتعثر في هذه السبيل تعثراً ملحوظاً. والظاهر أنه شغل بدراساته في الأخلاق والنظم عن حل عقدة الخالق الأعظم موجد الوجود وبارئ الكون - ففضلاً عن أنها تردد بين الوحدة والتعدد مرات، فإنا نراه يصور (المحرك الأول) تصويراً يتنافى مع النظرة الدينية الإسلامية. حقاً لقد أجاد (أر سطو) تعليل الحركة، فبين أن كل متحرك يتحرك بشيء آخر، وأن الكائنات الحية المتحركة بذاتها في الظاهر، يختلف المحرك فيها عن المتحرك من حيث أنها مؤلفة من جملة وظائف تحرك الواحدة منها الأخرى. . . إلا أنه عندما انتهى إلى فكرة (المحرك الأول) تخبط تخبطاً كبيراً، فهو يقول عنه إنه (المحرك الساكن) أو المحرك اسماً لا فعلاً - يعني بذلك أن الله - جل شأنه - لا يحفل شئون الكون ولا يسيره بإرادته، وكل صلة الكون به أنه يتجه إليه في حركته ويستهدفه كغاية.!.
ولقد قال (أر سطو) أيضاً بسرمدية المادة. . . فكيف يتفق ذلك وما جاء بالقرآن من أن الله خالق المادة (فاطر السماوات والأرض)؟
. . . لذلك لم يتردد فلاسفة الإسلام في القول بخلق المادة وإن سلموا مع (أر سطو) بقدمها؛ وقد أدى بهم الاشتغال بهذا الموضوع إلى ابتداع نظرية تعرف بنظرية العقول العشرة. ومن خلال هذه النظرية نستشف تصويراً فلسفياً لفكرة الوحي والإلهام تنجلي به الصلة بين(810/24)
الله وأصفيائه من عباده.
ومجمل نظرية العقول العشرة أن الله بفيضه قد صدر عنه العقل الأول، وعن الأول صدر الثاني، وعن الثاني الثالث. إلى أن نصل إلى العقل العاشر أو العقل الفعال، وهو أدنى هذه العقول جميعاً وأقربها إلى عالمنا الأرضي. عن هذا العقل الفعال صدرت المادة فهي قديمة وهي حادثة في آن، ومن هذا العقل الفعال يستمد الأنبياء والهداة رسالائهم، لأن الله (يفيض) عليهم عن طريق هذا العقل الفعال.
. . . هذا هو التصوير الفلسفي لفكرة الوحي عند فلاسفة الإسلام، ويبقى الآن أن نستعرض الحجة الاقناعية التي ساقها أولئك الفلاسفة للتدليل على صحة ذلك التصوير. والواقع أن المستعرض لبراهينهم في هذا المجال، لا يشق عليه أن يلاحظ عن أسلوبهم في البحث. . . اقترابه - في طرائقه التدليلية. . . من أسلوب علماء النفس المحدثين، عندما يعالجون تعليل الظواهر الجديرة بالتأمل والملاحظة؛ فهم - أعني فلاسفة الإسلام - يقررون أنه باطراد التجربة وتواتر الرواية يمكننا أن نطمئن إلى صحة الزعم بأن هنالك طائفة من الأشخاص تتكشف لهم أستار الغيب حال نومهم، فيحلمون أحلاماً هي في جوهرها صوراً رمزية لحقائق ما تزال في ضمير الغيب مخبوءة. . . بل لقد يحصل أن نتجاوز هذه الرؤى لغة الرمز والتلويح، إلى الإفصاح والتصريح، فيشاهد الحالم الوقائع ويستمع إلى المحاورات والكلمات، كما لو كان يشاهد رواية الغيب تمثل على مسرح القدر! ثم هم لا يكتفون بالوقوف في استقرائهم لهذه الظاهرة الفذة عند هذا الحد، بل نراهم يجهرون بأن هذه القدرة على الاستيحاء. . . ربما واتت أشخاصاً حال يقظتهم، متى كان هؤلاء الأشخاص قد بلغوا - من صفاء الروح ونقاوة الضمير ورهافة الوجدان حظاً عظيماً. ولعل الأنبياء والرسل في الطليعة من أولئك الأشخاص.
يتبين من هذا جميعه أن نظرية الوحي والإلهام نظرية تعتمد على المشاهدة والاستقراء، وظاهرة يؤكدها - عند فلاسفة الإسلام - اطراد التجربة وتواتر الرواية؛ فإذا عن لنا بعد هذا الاستعراض السريع للنظرية، أن نقارن في أذهاننا بين ما يقول به فلاسفة الإسلام في هذا الخصوص، وما يقول به علماء النفس المحدثين في نظريتهم عن العقل الباطن - فإنه قد يخيل إلينا حيال هذه المقارنة أننا أمام رأيين يعارض الواحد منهما الآخر، فينبغي(810/25)
ترجيح واحد منهما على الآخر عند الانتخاب.
. . . غير أننا - في الواقع - لن نرى ما يسوغ عقد هذه المقارنة. . . إذا ما تنبهنا إلى أنه قد ثبت بالبحث العلمي أخيراً أن كلاً من الرأيين ينطوي على جانب من الصواب، ويساهم - بنصيب - في تجلية حقيقة الأحلام وتفسير حقيقة الوحي والإلهام، ذلك أن هناك اتجاهاً يميل إلى الحد من تعميم تطبيق نظرية العقل الباطن على جميع الحالات الفردية على زعم أنه قد ثبت أخيراً بالتجربة والمشاهدة قصور النظرية بمفردها عن تفسير بعض هذه الحالات. ومن الوجه المقابل، لوحظ أن ظاهرة استكناه المجهولات والغيبيات عن طريق الأحلام أو في أحوال الغيبوبة الروحية أو أحوال اليقظة الوجدانية - صارت - في هذه السنوات الأخيرة - موضع رعاية ومحل التفات من طائفة من العلماء الروحانيين والنفسانيين بعد أن كان الرأي عند جمهرة العلماء أنها من قبيل الضلالات والأوهام.
عبد العزيز الكرداني(810/26)
أساليب التفكير:
التفكير الخرافي
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
على أن الحيوانات العليا وعلى رأسها الإنسان لا تسلك سلوكاً غريزياً خالصاً، ولا تتصرف بحكم الفطرة وحدها، بل تستخدم قدراً من الذكاء العملي، بفضله يتحقق التوازن بين الفرد وبين الظروف التي تكتنفه، وبه يتوسل إلى تحقيق رغباته الفطرية كالحصول على الغذاء، أو الاحتماء من الأخطار، أو حماية الصغار، أو اجتذاب الجنس الآخر للتزاوج والتناسل.
والإنسان شأنه شأن الحيوان، يسعى إلى تحقيق نفس هذه الأغراض وإن تعقدت وتعددت، مستخدماً نفس القدرة على التفكير العملي وإن زاد حظه منها.
بيد أنه بعد أن يرضي مطالبه الغريزية هذه فيتغذى ويحتمي ويأمن الخوف والجوع على نفسه وبنيه، ويستمتع بجماعة يهرع إليها ويختلف، ويتبادل وإياها المشاعر والعواطف طبقاً لدافع التجمع الذي غرس فيه؛ بعد أن يشبع هذه المطالب يستغل تفكيره في محاولة الكشف عن علل الحوادث التي تقع تحت ناظريه، واستجلاء أسرار ما يدركه من ظواهر الطبيعة والحياة. فالإنسان إذ يشبع ميوله ورغباته الفطرية لا يقف مكتوف اليدين أمام موكب الحياة والأحياء، ولا يقف مشاهداً سلبياً في عالم تتتابع أحداثه وتتدافع مشاهده في سرعة وتعدد وتداخل وتجدد وتغاير.
وكيف يقف هذا الموقف وقد فطر على حب الاستطلاع لكل جديد غريب لا تفادياً لما قد ينجم عنه من ضر، أو طمعاً فيما قد يفيد من خير فحسب، شأن الحيوان الذي يستطلع من أجل أغراضه الحيوية؛ ولكن الإنسان يستطلع فضلاً عن ذلك من أجل الاستطلاع في ذاته، ويطلب المعرفة للمعرفة، ويشتهي العلم للعلم في كثير من الأحيان؛ وبذلك يستبين لون جديد من ألوان التفكير لا نصادفه لدى العجماوات؛ ذلك هو التفكير النظري نضيفه إلى التفكير العملي الذي سبقت الإشارة إليه.
والإنسان في ذلك سواء: الطفل أو الرجل، البدائي الهمجي أو المدني المتحضر، المجنون أو العاقل. كل منهم قد يسعى إلى معرفة علل الحوادث والظواهر وغاياتها ونتائجها من اجل المعرفة، أي أنهم جميعاً يفكرون تفكيراً نظرياً إلى جانب التفكير العملي الذي يحفظ(810/27)
عليهم حياتهم.
ولكن المرء إذ يفكر تفكيراً نظرياً يذهب مذاهب ثلاثة، أو هو ينهج مناهج ثلاثة متباينة وإن اتحدت في الغاية وأعني بها المعرفة. فهو إما أن يلاحظ الظاهرة ويشاهدها ويفتش عن أسبابها ومسبباتها مستعيناً بالملاحظة المباشرة والمشاهدة الموضعية دون تأثر بالمخاوف والرغبات، أو الاستعانة بالأخيلة والأوهام، أو الخضوع للعقائد والآراء الشائعة؛ وحينئذ يقال إنه يفكر تفكيراً علمياً وينهج نهجاً موضوعياً. وإما إلا يكتفي بهذا التفكير الذي يرجع المعلولات إلى عللها والمسببات إلى أسبابها، بل يتجاوز هذا البحث في الجزئيات إلى البحث في أمور عامة لا ينالها الإدراك العادي كالخير والشر، والخلق والعدم، والروح والمادة، والأصل والمصير، بقصد الوصول إلى تفسير شامل للكون أو لجانب من جوانبه تفسيراً منطقياً لا تناقض فيه، بالاعتماد على الاستدلال أو الاستنتاج العقلي البريء من الخيال وتأثير الأهواء.
إن فعل المرء ذلك قيل إنه يتفلسف. أما الاحتمال الثالث فينصب على امرئ تحكمه أهواؤه، امرئ لا يخضع لمنطق العقل الذي يأبى التناقض، فلا يرجع المعلومات إلى عللها الحقيقية، ولا ينسب المسببات إلى أسبابها الملائمة، ولا يرد الظواهر الطبيعية إلى ظواهر من نفس العالم الطبيعي.
ولكنه امرؤ يفترض لهذه الأمور جميعاً أسباباً أو عللاً من ابتداع مخيلته، ومن نسج أهمته متأثراً بعقائد مغروسة في نفسه، مدفوعاً بأهواء متناقضة.
ولهذا نقول إنه يفكر تفكيراً خرافياً أو تفكيراً دينياً إذا قصدنا المعنى العام لكلمة دين الذي يطلق على أية عقيدة ترسخ في النفس دون مبرر منطقي أو ذريعة عقلية.
بعد هذه المقدمة التي لا مفر منها يحسن أن أتناول أساليب التفكير الثلاثة بالتفصيل مبتدئاً بأدناها، وأقلها قدرة على إصابة الحقيقة، وأسبقها ظهوراً في حياة الإنسان الفكرية: التفكير الخرافي الذي يسود تفكير الأطفال والمجانين والبدائيين من الشعوب أولئك الذين يتشابه أسلوبهم حين يعرضون لتفسير الظاهر.
الإنسان البدائي مثلاً يبدهه عديد من ظاهر الطبيعة يستوقف النظر ويدعو إلى التأمل: العواصف تطوح بمسكنه، والبرق يخطف الأبصار، والمطر يهمي بقوة لا تدفع، والظلام(810/28)
يبتلع كل شيء ثم لا يلبث أن يتقهقر من جديد أمام ضوء النهار، وتواصل الشمس رحلتها اليومية من جديد عبر الأفق؛ والكواكب والنجوم كل في فلك يسبحون، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر بمقدوره أن يبلغ الشمس. تغمر الأرض مياه الأمطار ثم لا تلبث أن تتلاشى في شعابها، وإن من الحجارة والصخر لما يتفجر منه ماء عذب سلسبيل، وإن من البذرة الضئيلة المدفونة في باطن الأرض لتخرج دوحة وارفة الظلال.
وهنالك الزلازل والبراكين والأعاصير تقض مضجعه وتجلب الخراب والدمار دون أن يستطيع لها دفعاً.
والموت يرزأ الكائنات فيخرسها ويسكتها سكوتاً أبدياً؛ وبطون الأمهات تأتي إلى العالم بمخلوقات جديدة من حيث لا يدري ولا يحتسب.
أمور تثير العجب والدهشة، وتدعو الطفل أو البدائي أو المتحضر إلى التأمل بغية الاهتداء إلى سرها.
أما البدائي القديم فيرتعد فرقاً من هذه الظواهر مجتمعة أو من بعضها على أقل تقدير، وذلك لقوتها وحتميتها وضعفه إزاءها وجهله بحقيقتها. ولكنه رغم خوفه منها، مشدوه بجبروتها، معجب بقدرتها، طامع في نعمتها، فناسب إياها إلى فعل إرادة خافية يتصورها على نحو ما يتصور إرادته هو، أو قوة مستورة، أو روح عظيم يحرك العالم دون أن يتبين، ويدبر الكائنات والأحداث على نحو تحريك أرواحنا للجسد، وتدبير نفوسنا للوظائف الحيوية. هذه القوى أو الأرواح أو النفوس أو الآلهة، لا بد أن تعبد ولا بد أن يبتهل لها ويتوسل إليها. ومن هنا كانت الطقوس والسحر والتعاويذ والعادات الغريبة، ومن هنا كان تفسير البدائي للظواهر التي يدركها يستند إلى خيال جامح، ويهتدي بخليط عجيب من المخاوف والرغبات ومتباين العواطف والأهواء، ويتنكب أية محاولة لدراستها دراسة واقعية موضوعية خوفاً وفرقاً من ناحية، واقتناعاً أو بالأحرى إيماناً ويقيناً بما أوحت به مخيلته وما صورت له التقاليد الموروثة من تفسيرات. تجد هوى في نفسه ولدى عقليته الساذجة قبولاً من ناحية أخرى.
وهذا هو السر فيما يتسم به التفكير البدائي من تناقض، وفيما تصادف التفسيرات الخرافية من قبول ويقين مكين لدى الإنسان في بداوته.(810/29)
وليس ذلك عجيباً إذا فهمنا نفسية الإنسان على حقيقتها: إذا تحمس لرأي حماساً لا يقبل النقاش بأي حال فهو رأي أكثر استناداً إلى رغبات وأهواء كامنة منه إلى أسباب ومبررات منطقية، وإذا كان تفكيره مرده إلى عواطف ونزعات نفسية كان الخيال رائده وملهمه.
فالتعصب الأعمى مظهر من مظاهر الأهواء الخافية، والخيال خادم مطواع للعواطف والأهواء والنزعات.
تلك قاعدة عامة تصدق في كل زمان ومكان، لدى الأفراد وبين الشعوب.
تأمل معي طفلاً غريراً في الظلام، يملئوه الخوف والفزع، يسمع نأمة أو يلمح أمراً عارضاً فيندفع نحوك صارخاً مرتعداً ثم لا يلبث أن يحكي كيف رأى مارداً يدق الطبل في الظلام وما الطبل في حقيقة الأمر إلا دق رقيق على الباب؛ وما العيون القادحة بالشرر إلا شعاع من نور ضئيل نفذ من ثقب من خلال الباب، ولكن الخوف في جوانح الطفل والقصص المسمومة التي يحملها في ذهنه عن شياطين الجان ومردة الظلام، ثم رغبته في التهويل، كل هذه تتضافر على إثارة الخيال، والخيال جامح لدى الأطفال جموحه لدى الشعوب البدائية.
فكل جبل ناء، أو غابة كثيفة، أو كهف مظلم، أو شجرة ضخمة متشابكة الأغصان، أو جدول دافق، أو نبع منبجس، مسرح للأرواح التي لا ترى.
الأرواح في كل مكان: هنالك أرواح الأرض، وشياطين الهواء، وجنيات المزارع، وعرائس الماء. وكل ما يحدث في هذه البقاع إنما هو من أفعال هذه الشياطين.
وحيث أن الإنسان البدائي قديماً كان في غابر الأزمان، أو قائماً بيننا في المجتمعات الزراعية، تهدده الطبيعة بأحداثها من عواصف ومجاعات وأمراض، ويحدوه الجهل والخوف، وتسيطر عليه التقاليد والأوهام والخيالات، فلا بد أن يتصور هذه الأرواح أقرب إلى الخبث والمضرة منها إلى الخير والمنفعة، والى الطغيان والجبروت منها إلى الرحمة والوداعة.
ألا ترى إلى جموع الفلاحين في مصر أو غير مصر، أولئك الذين يقضون حياتهم نهباً للمخاوف ومسرحاً للعقائد الوهمية كيف يفسرون الحوادث بردها إلى علل خفية ما أنزل الله بها من سلطان؟ فالبقرة ماتت لأن فلاناً شهق في وجهها شهقة تنفث الحسد والحقد الدفين،(810/30)
وفلان لا يصيبه مرض لأنه يحمل حجاباً حصل عليه من مغربي يجيد السحر وفن التعاويذ، وفلان أصابه شلل عقب اجترائه على ولي من أولياء الله الصالحين، في حين يبرأ غيره من الفالج لأنه رأى ولي الله في منامه يدعوه إلى رحابه فلبى الدعوة وقدم النذر. ومالنا نذهب بعيداً وقد فسر كثير من عامة القوم وباء الكوليرا في العام الماضي بأنه ناجم عن فساد سيرة الناس ونذير بقرب وقوع الساعة، واستعباد الغرب للشرق بانتشار فساد الأخلاق في ربوع الشرق وغير ذلك من التفسيرات التي لا تشير إلى العلة الطبيعية، وهي الجرثومة التي أتت من مكان ما واستقرت في بلدة القرين فكان الوباء، وحاجة الغرب إلى مواد أولية وأسواق بكر ومواقع استراتيجية تحمي هذه المواطن فكان استعباد الغرب المتفوق بعلمه وعدده، للشرق الغني بثروته الدفينة، الفقير في علمه المتخلف في نظمه.
وهكذا كلما زدنا علماً وثقافة قل عنصر الخوف من الطبيعة وحل محله ميل إلى مواجهتها، وتتبع ظواهرها لتلمس عللها الحقيقية بدلاً من الهرب منها واجترار تفسيرات خيالية لها.
فالخوف - خالق الأوهام ومقيد الحريات - يتراجع دائماً أمام سلطان العلم، رفيق الأمن ومحرر العقول من الأوهام والأباطيل.
على أن تفكيرنا اليومي - نحن المثقفين - طالما تتسلل فيه نزعة خرافية خاصة إذا كنا في حالة من القلق النفسي أو الخوف أو الحزن، تلك الحالة التي يكون فيها المرء أكثر ما يكون عرضة للوساوس، وأقل ما يكون تحرزاً من الوهم، والتفسيرات الخرافية يتقبلها ليطمئن قلبه ويرد السكينة إلى نفسه.
فالإنسان مهما سما علمه ودق حسه وزكا عقله إنسان أولاً وأخيراً: ينخلع قلبه من الأهوال، ويخفق فؤاده بالحب والهوى، ويضيق صدره بالغيظ والحزن، فيهرع إلى رحاب القلب الحاني ليستريح من تمرد العقل الجاف ولو إلى حين.
وهنالك ينعم بأحلامه وأخيلته. ناهيك بقصور العقل الإنساني الذي لا يني عن السعي لتفسير الوجود تفسيراً خالياً من التناقض، ولكنه يعجز في كثير من الأحيان عن بلوغ غايته، فيقعد الإنسان ملموماً محسوراً، حائراً إزاء عوالم مغلقة مبهمة، غارقاً في بحر لجي من الظواهر والمشاهد والحوادث - لولا فضل من خيال يسارع إليه يستمد منه التفسيرات الخرافية وقد عزت عليه التفسيرات العلمية الواقعية. فيهدأ الصوت الثائر المطالب بالمعرفة(810/31)
إلى حين يتزود بالوسائل الأمتن والأدوات الفكرية الأقوى يهجم بها على ظواهر الطبيعة ويمزق الأستار ويقتحم ما وراءها من أسرار ليحيل في نهاية الأمر ظلام الرحاب النائية نوراً يبهر الأبصار.
فالتفكير الخرافي إذن - الذي يمتزج فيه التفكير بالخيال - ليس متاعاً تافهاً ولكنه على قصوره عنصر بالغ الأهمية في الحياة الفكرية، ومقدمة لا بد منها في تطور التفكير البشري، بل هو الوثبة الأولى في طريق العلم والعرفان، ومحاولة مجدية لكشف أسرار الطبيعة إذا تهذبت وتخلصت رويداً من تأثير المخاوف والأخيلة برز نور الفلسفة وضياء العلم.
عبد المنعم المليجي
مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية(810/32)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (1)
(1) النفس عند ابن سينا (1)
للأستاذ كمال دسوقي
لعل حظ طلاب المسابقة في كتاب النجاة لابن سينا هذا العام أوفر من حظ زملائهم في كتاب (الإشارات) بالعام الماضي لجملة أسباب:
فليس (النجاة) أولاً كتاب ألغاز ورموز وأحاجي كالإشارات ولم يقصد به ابن سينا إلى التعمية والإبهام والغموض الذي قصد بالآخر؛ لأنه لم يعرض فيه للحكمة المشرقية التي تناولها في الإشارات، بل أجمل فيه ذكر مسائل من الفلسفة اليونانية - والأرسطية خصوصاً - كان قد فصل القول فيها في كتابه (الشفاء) ومن قبل في كتابه (الحاوي للعلوم الحكمية)؛ حيث كان لا يزال لأر سطو على تفكيره سلطان كبير. فأنتم هنا بصدد فلسفة عقلية خالصة - بل كما سأبين لكم - بصدد علم نفس فلسفي.
ثم إن طبعة هذا الكتاب التي بين أيديكم (طبعة الكردي 1938) هي أحسن حالاً بكثير من طبعة غيرها من الكتب في الفلسفة الإسلامية؛ من حيث عناية الناشر بمظهرها وتصحيحها وإمدادها بين الحين والحين بشذرات تفسيرية موجزة، وإن كانت قليلة الفائدة، وتبويب فصول الكتاب ومقالاته، ثم التقديم بين نشرته هذه بكلمة عن حياة الفيلسوف وآثاره؛ رجع فيها - كما يرجع غيره من ناشري كتب ابن سينا - إلى ما دونه الشيخ الرئيس من تاريخ حياته، ورواه عنه تلميذه الجورجاني. وتجدون نصه الكامل في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة (ج 2ص1 - 16) وفي مقدمة كتاب منطق المشرقيين لابن سينا وفي غير ذلك نقل عن ابن أبي أصيبعة المذكور.
واختيار مقالة النفس بالذات من بين مقالاته هذا الكتاب اختيار موفق؛ فإن ابن سينا - فيما أرى - عالم نفس مغمور، ولولا أن علم النفس الحديث قد أصبح لا يقيم لتاريخ تطوره كبير وزن بعد أن أتخذ لنفسه أخيراً صبغة العلم التجريبي؛ لوجب أن يكون لابن سينا فيه شأن كبير. بل لعلكم تلاحظون اتجاهه النفسي هذا حتى في تسميته كتبه: الشفاء، النجاة، الإشارات والتنبيهات. . . الخ.
وقد كتب ابن سينا في النفس وهو ابن ثماني عشرة سنة، فصنف (رسالة في النفس) للأمير(810/33)
نوح بن منصور الساماني الذي ألحقه بخدمته وأطلق يده في مكتبته منذ أن نجح - دون أطباء عصره - في علاجه وشفائه من مرضه، فنحا فيها النحو الأرسطي الكامل تقريباً في كتابه سواء في إثبات وجود النفس، وفي تعريفها وتصنيف ملكاتها، وقد نشر هذه الرسالة إدوارد فنديك في مصر سنة 135 هجرية (وتجدون نسخة منها بقاعة المطالعة بمكتبة الجامعة). كما أنه كتب رسائل أخرى مستقلة عن النفس باسم رسالة النفس الناطقة وأحوالها، ورسالة في أقسام العلوم العقلية؛ هذا عدا قصصه الرمزية الكثيرة التي كتبها أخيراً، والتي لا تعنيكم كثيراً لأنه حين كتبها كان قد تشرب الروح الصوفي المشرقي الذي قلت إن كتاب النجاة يعفيكم منه بما لم يعف (الإشارات) إخوانكم من قبل.
وتناول ابن سينا النفس في كتبه الكبيرة كذلك، وجعل لها في كل منها موضعا ثابتاً من قسم خاص لا تتغير مهما تجددت تواليفه وكتاباته، فإن طريقة ابن سينا في التأليف - كما يظهركم عليه تاريخ حياته وأقوال تلاميذه - كانت أن يحدد أولاً رءوس موضوعاته، ثم يتولى كلاً منها بالشرح والإفاضة؛ لأن مادته كانت حاضرة في ذهنه أبداً منذ أن استوعب حكمة القدماء وفلسفة اليونان حدثاً، مما يجعلك تلمس نفس الروح في مختلف كتبه؛ قبل أن يمزج فلسفة اليونان بالتصوف الشرقي والحكمة المشرقية.
فما هو إذن موضع الحديث عن النفس في كتب ابن سينا؟
تشغل النفس من غالبية كتابات ابن سينا القسم الأخير من الطبعات على حد تقسيمه هو والفارابي من قبله العلوم العقلية إلى نظري وعملي، والنظري إلى علم طبيعي أولي، وعلم رياضي متوسط، وعلم إلهي أعلى (وإن كان هو في كتبه لا يتعرض للرياضيات - العلم الأوسط - بل يضع محلها العلم الطبيعي، ويسبقه بالمنطق كمقدمة. فتصنيفه شيء، وخطته في كتبه شيء آخر) فلن تجد كتاباً لابن سينا لا يبدأ بالمنطق ولا يثنى بالطبيعيات، ولا يختتم بالإلهيات - حتى أن كتابه الإشارات قد سار على هذا النمط، وحتى قال المؤرخون إن القسم المنطقي الذي سقط من كتاب الشفاء هو الذي نشر منفرداً في (منطق المشرقيين).
والحكمة الطبيعية ذاتها تنقسم عنده قسمين: فمنها ما يقوم مقام الأصل، ومنها ما يقوم مقام الفرع، ومنها المبادئ الثابتة والأعراض اللاحقة كالحركة والسكون، والزمان والمكان، والخلاء، والتناهي واللا تناهي، والتماس والالتحام والاتصال، والتتالي. أما ما يقوم مقام(810/34)
الأصل فالنفس آخره، ويسبقها دائماً:
(1) البحث في الأمور العامة لجميع الطبيعيات كالمادة، والصورة، والحركة والمحرك الأول. . . الخ مما هو موضوع (سمع الكيان) عند أر سطو.
(2) والبحث في أحوال الأجسام التي هي أركان العالم، كالسماوات والعوالم المختلفة، مما ورد (في السماء والعالم).
(3) والبحث في الكون والفساد، والنشوء والبلى والاستحالة، والأجسام التي لكل منها والقابلة لها. . . الخ مما جاء في (الكون والفساد) لأر سطو.
(4) والبحث بعد ذلك في العناصر الأربعة وما يعرض لها من حركات التخلخل والتكاتف، ويتناول الشهب والغيوم والأمطار والرعد والبرق والصواعق والرياح والزلازل والجبال والبحار. . . الخ
هذه أربع أقسام رئيسية كبرى من مباحث الطبيعيات الأولى، تتلوها أربعة أخرى تتناول تفصيل القول في الكائنات المعدنية (كما في الآثار العلوية وكتاب المعادن لأر سطو) ثم الكائنات النباتية (كتاب النبات) فالكائنات الحيوانية (كتاب طبائع الحيوان) وأخيراً القول في معرفة النفس والقوى الدراكة (الإدراكية) التي في الحيوانات، وخصوصاً التي في الإنسان وبيان أن التي في الإنسان لا تموت بموت البدن، وأنها جوهر روحاني إلهي مفارق (مما يشتمل عليه كتاباً (الحس والمحسوس) و (النفس) لأر سطو).
وهذا القسم الأخير هو موضوعكم، وإن كان يلزم وضعه في موضعه من الإطار الذي أوجزت لكم للعلوم عند ابن سينا. كما سيلزمكم معرفة موضع النفس ذاتها من سلسلة الموجودات في مذهبه - مما سأشرح لكم في مقال تال. والحديث عن النفس يتناول جزءاً كبيراً من طبيعيات النجاة، ويعرض لموضوعات متشعبة كثيرة، ويذكر تعريفات وتقسيمات مختلفة للنفس وقواها وملكاتها وأفاعيلها ووظائفها - مما هو سمة عامة من سمات البحوث النفسية في العصور الوسطى المسيحية والإسلامية؛ أعني كثرة تفريع الملكات والقوى والنفسية؛ مما كان محل سخط الفلاسفة النفسيين منذ عصر النهضة في العصر الحديث، ومما سيجعل مهمتكم في دراسة هذا الباب شاقة عسيرة شيئاً.
ولعلكم تستطيعون أن تتبينوا معي - من خلال هذه الكثرة المختلطة من الموضوعات - أنه(810/35)
يمكن تصنيفها تحت الرءوس الآتية:
(1) التقسيم الأرستطالي للنفس إلى نباتية وحيوانية وناطقة مع تعريف كل منها وذكر قواها وأفاعيلها، ويلحق ذلك القول في الحواس الظاهرة والباطنة (ص 157 - 163)
(2) الحديث عن النفس الناطقة، وتقسيمها إلى نظرية وعملية، أو عالمة وعاملة، ومراتب كل منهما، وطرق اكتساب النفس الناطقة النظرية للعلوم، والتفرقة بين قواها المختلفة وترتيبها بحسب رياستها (ص 163 - 171)
(3) البحث في النفس من حيث وجودها، أو إثبات وجودها؛ ويشمل الحديث عن جوهرية النفس وتجردها عن البدن ومفارقتها له، والأدلة على ذلك، وأنها حادثة وخالدة؛ لا تقبل الفساد ولا التحلل أو التناسخ، ثم الاستدلال بوحدتها على صلتها بما يسميه العقل الفعال - مما يمهد به للانتقال إلى قسم الإلهيات - كما سترون في ترتيبه للموجودات، فالموضوعات عند أبن سينا متصلة الحلقات، يلحق بعضها ببعض، ويمهد بعضها لبعض. وبتعمل وصناعة غير قليلين سنستطيع اقتطاع النفس من موكب موضوعاته هذه المتدفق، لنلقى عليها نظرة تحليلية في مقالاتنا التالية.
كمال دسوقي(810/36)
إبراهيم باشا في حروبه
للأستاذ كمال السيد درويش
لقد كان إبراهيم باشا قائداً حربياً ممتازاً، كان ميالاً للحروب منذ نشأته المبكرة، وكان كما وصفه معاصروه: (شديد الشغف بالقتال، ولا يطيب نفساً إلا في جو الحروب)، جو المعارك الطاحنة والمواقع الفاصلة، ذلك الجو المملوء بالعمل والنشاط والحركة اضطلع إبراهيم بالحملات التي أسندت إليه منذ شبابه، وكان النصر حليفه في كل ميدان من الميادين التي خاضها. توجه إلى قتال الوهابيين، وكانوا عدواً صعب المراس شديد الحماس، يسيطر على شبه جزيرة العرب، قد أسكرته خمرة الانتصار على جيوش والى العراق، كما أسكره التحرر من حكم العثمانيين، وكان عجز السلطان عن إخضاعهم من عوامل بعث الثقة في نفوسهم وتقوية إيمانهم بمذهبهم الجديد حتى أصبحوا يرون أنفسهم على الحق، والعالم الإسلامي كله على الباطل!
هذا هو العدو الذي توجه إبراهيم لقتاله، وقد نجح في إسدال الستار على تلك الحركة الوهابية، وعلى تلك الدولة الفتية، بعد أن استولى على عاصمتها الدرعية. وعاد قاهر الوهابيين وحاكم بلاد العرب إلى مصر لتتلقاه بأهازيج النصر والفخار.
ونظر إبراهيم فوجد محمد علي قد أسند إلى الكولونيل سيف مهمة إنشاء جيش حديث، فلا يجد غضاضة، وهو القائد المظفر، في الانضمام كجندي عادي إلى الجيش الحديث، وينبهه الكولونيل سيف في لهجة الآمر إلى أن مكانه - لقصر قامته - في آخر الصفوف لا في أولها. ويدرك ذلك إبراهيم فيطيع أمر رئيسه في الحال.
ويذهب إلى السودان بعد ذلك ليساعد أخاه إسماعيل في إكمال فتحه، ثم يحول المرض بينه وبين إتمام مهمته، بعد أن وصل إلى قرب نهر السوباط فيعود إلى مصر من جديد.
وتشتد الثورة في اليونان، ويعجز السلطان عن إخضاعها، فيلجأ إلى تابعه القوي محمد علي باشا الذي يسند قيادة الحملة إلى نجله إبراهيم.
وكانت ثورة اليونانيين كثورة الوهابيين، كلتاهما كانت تلهبه العقيدة ويشعله الحماس. كانت الحرية أنشودة الثوار، بل أنشودة الشعوب الأوربية بأسرها ضد الحكومات الرجعية التي كانت تجثم فوق صدرها. ولذلك كان العدو الذي واجهه إبراهيم في بلاد اليونان كالعدو(810/37)
الذي واجهه في بلاد العرب مستميتاً في كفاحه، مستبسلاً في نضاله، مضحياً بكل ما لديه، ومع ذلك استطاعت الجيوش المصرية تحت قيادة إبراهيم أن تتغلب على قوات الثوار بالرغم من تأييد الشعوب الأوربية لها.
ويعود إبراهيم من حرب اليونان ليستعد لخوض أعظم مرحلة في كفاحه الحربي الطويل، وليسطر أروع الصفحات لا في تاريخه العسكري فحسب، بل في التاريخ العسكري في القرن التاسع عشر.
عاد إبراهيم ليخوض الحرب ضد جيوش السلطان نفسه، فتسقط على يديه مدينة عكا الحصينة، ثم يهزم العثمانيين بعد ذلك في دمشق، ثم يستولي على حمص وحلب، ويقضي على الجيش العثماني في بيلان، ثم ينتصر انتصاراً حاسماً في قونيه، ويتوغل في بلاد الأناضول حتى يصل إلى كوتاهيه، وينزل السلطان مضطراً على شروط الصلح، وعند ذلك تبدأ عبقرية إبراهيم كإداري في الظهور، فيلتفت إلى بلاد الشام لتنظيمها من جديد ولانتشالها من الفوضى والانحلال.
ويعود السلطان إلى دس الدسائس وتحديه، فيتقدم إبراهيم إلى جيش السلطان، ويقابل قائده حافظ باشا في نصيبين، وتبدأ الموقعة ولا تستمر سوى ساعتين حتى كان القائد العثماني قد ركن مع جيشه إلى الفرار.
هذه نظرة عامة نلقيها على حياة إبراهيم التي ملئت بالكفاح والنضال، حتى إذا أنعمنا النظر قليلاً راعتنا عبقريته الحربية وأيقنا أنه لم ينجح هذا النجاح إلا بعد أن أتخذ له من الخطوات ما هو كفيل بتسجيله.
لم يحارب إبراهيم أعداءه فقط بل كان وهو في بلاد العرب يحارب ضد الصحراء المترامية بما فيها من جبال وهضاب وكثبان وأعاصير طالما اقتلعت الخيام فتركت الجند في العراء يصلون حر نهارها الشديد وبرد ليلها القارس. وفي بلاد اليونان حارب ضد الجبال المرتفعة والأنفاق الضيقة والوديان العميقة، والعدو خبير بذلك كله معتصم به وبالجزر المنتشرة في ذلك البحر، تحيط بها أمواجه فتحميها وتحميه وتنتشر بينها قراصنته حتى تترصد العدو لترديه. وكذلك حارب في هضبة الأناضول وفي فصل الشتاء، وحدثت موقعة فونيه ودرجة الحرارة فوق الصفر بقليل.(810/38)
كان ذلك في الحادي والعشرين من شهر يونية سنة 1818 م حين كان أحد الجنود يوقد النار فأطارتها العاصفة على معسكر الجيش فاندلعت إلى خيمة منصوبة على قرب من مستودع الذخيرة فاحترقت الخيمة وامتدت نارها إلى المستودع فانفجر لساعته ونسف ذلك الانفجار من القنابل والرصاص ما ذهب بنصف ذخيرة الجيش، ودب الذعر، واختل النظام، وكاد الموقف الرهيب يودي بالحملة كلها. فالجيش يحاصر الدرعية عاصمة الوهابيين، وصحراء نجد تحيط به من جميع الجهات، والعدو يتنبه على صوت الانفجار فيتهيأ لانتهاز الفرصة وتجديد الهجوم.
ولكن إبراهيم يقابل خبر الكارثة وحرب الطبيعة بصر رحب وثبات عجيب، وينظر لمن حوله من القواد والجند نظرة الواثق من الفوز، المتأكد من النصر، ثم يقول في صوت هادئ عميق: (لقد فقدنا كل شيء، ولم يبق لدينا إلا شجاعتنا فلنتدرع بها، ولنهاجم العدو بالسلاح الأبيض)!
وكان ذلك في يوم 17 مايو سنة 1825 حين تمكنت بعض سفن اليونانيين من الاقتراب من ميناء مودون حيث كانت بعض سفن أسطول إبراهيم راسية، واستطاعت الحراقات اليونانية خلسة إشعال النار في سفينة من تلك السفن المصرية، وكانت الريح شديدة، فاندلعت النار إلى باقي السفن، وتعذر إطفاؤها ولم ينج بحارتها إلا بعد عناء شديد، وخسر إبراهيم معظم سفنه في هذا الحريق، وامتدت النار إلى المدينة، فتناولت مخازن البارود فنسفتها أيضا؛ ومع أن إبراهيم كان يشدد حصاره على المدينة في ذلك الحين، فقد تقبل ضربة الطبيعة وغضبها بنفس الروح التي تقبل بها ضربتها أمام الدرعية، واستمر يقاتل أمام أسوار مودون حتى استولى عليها.
أما بعد، فهذه بعض المواقف التي تجلى فيها ثبات إبراهيم أثناء حروبه، ذلك الثبات الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى الحوادث وإظهار عبقرية إبراهيم كقائد حربي ممتاز.
كمال السيد درويش
مدرس بمدرسة الرمل الثانوية وعضو الجمعية التاريخية
لخريجي جامعة فاروق(810/39)
اسألي سحرك.
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
آه منْ لحن على نهديكِ. لم أعزفْهُ آه!
شاردٌ عن سحر أوتاري كأحلام الحياه
كلما أطلقتُ روحي خلفهُ في الصَّدر تاهْ
وقعيه. واسمعي مِثلي الأغاني مِن هواه
ودَعيني في الليالي السُّود أمشي في خُطاه
واتبعيني، فأنا دربٌ بعيدٌ منتهاهْ
آه من طير على جفنيِك لم يهدأْ بأيكِ
ضاربٌ في أفق الأحلام، مظلومٌ لديك
كلما همَّ، لواهُ صائدُ السِّحر إِليك
اتركيه كيفما شاءَ يُغني في يديك
واتركيني أتلاشى نغمةً في جانبيك
أخطف السرَّ وأَمضى طائراً مَرَّ عليك
آه من ليلٍ رهيب في خيالي من ملالِكْ
مُترعٍ بالشكِّ والأوعاد في جنبيَّ حالك
خيمت منه معانٍ لاهثاتٍ في خيالك
اْسأليها، فهي تدري ما الذي طاف ببالك
واسمعيها، حُرَقاً تعوي على ذكرى وصالك
يوم كنا في سبيل الحب نشتاق المهالك
آه من نهر بأعطافك مرهوبِ النواحي
رحتُ في أَمواجه أُلقي من الشوق جراحي
وأنادي الرِّيح، لو هبت بِناي وصباح
وصلاةٍ لشراعي فوق هامات الرِّياح
اتركي الزِّورق يجري فيه نشوانَ الجناح(810/41)
ودعيه سابحاً ما شاء في تلك البطاح
تسأليني. . . لِمَ لمْ يشغلك عن حبي شاغل؟
اسألي الطير. . . علامَ الأيك في جنبيه هادلُ؟
واسألي النهر. . . علامَ الموجُ في شطيه زاجِل؟
واسألي بحرَكِ من أجراهُ في قلبي جداول؟
واسألي الماضي فما زالت به تغلي المراجِلْ
واسألي نفسَكِ من أغرى على الحبِّ المعاولْ(810/42)
الشهيد
للأستاذ محمود الخفيف
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
محدي الردى لم يدَع موضعا ... إذا الروعُ جدَّ مضى أروعا
تدور إليه قلوبُ الرجال ... إذا قضت الحرْبُ أن تفزعا
وما أوهن الدَّأبُ إصراره ... ولا كدَّه الهولُ أو ضعضعا
وجاهد في الله مستيقنا ... وبشر أصحابهُ مؤمنا
وذكرهم جنة الصابرين ... وكيف أعدت لهم مسكنا
وكيف يخوض اللظي باسما ... ويستقبل الموتَ من آمنا
وما يذكرُ اليوم إلا الجهادْ ... وإن طال عمن أحبَّ البِعادْ
فلا شيء إلا خيالٌ يُلمُّ ... تضيء الوهادُ به والنِّجاد
وينساه حين يضيء الصباحُ ... ويمحو الضحى ما احتواه الرقاد
وينسى الربيعَ ووشى الزَّهَرْ ... وصفو الضحى وسكونَ النهَرْ
وينسى من الصيف آصاله ... وسحر العشايا به والبُكَر
فما غيرُ نارٍ أحاطت به ... وما غير رملٍ يرى أو صخر
ضحوكٌ ووجه الضحي عابِس ... وللموت في نفسه هاجِسُ
توحشت الأرض من حولِه ... وما ضلَّ قلبٌ له آنس
يزيد هدىً عنده الموقنونَ ... ويبرأ من يأسه اليائس
وأحدق يوماً به فيْلقُ ... فرحب بالموت إذ أطبقوا
وقاتل حتى استحال القتالُ ... وحتى هوى البطلُ المرهقُ
فلله جسمٌ له نازفٌ ... ولله روحٌ لهُ تزهقُ!
تبسم إذ يردُ الموردا ... وحين تربد وجْهُ الرَّدى
فتى همه كان خوض الحتوف ... وكم بات يرتقبُ الموعدا
وما زال يركبُ أهوالها ... إلى أن قضى الله فاستُشهدا
على الأرض سالت دماء الشهيد ... فلله موتُ الكمىِّ النجيدْ(810/43)
لئن فاته النصر فليهنه ... بلاءٌ له، ما له من مزيد
هنيئاً له أقربُ الحُسنيين ... إلى قلبه، وعُلى لن تبيد
تندت جفوني لهذا الدم ... يسيل من البطن المرتمى
سقى تربَةً بالنجيع الصبيب ... غريبٌ إلى أهلها ينتمى!
حبست دموعي وكفكفتها ... وغنيت بالأرْوعِ المعْلِم
كمىُّ الوغى جسدٌ هامِدُ ... ألا كم بكى عزمه قائدُ
صريعُ عُلى وأخو عمره ... صريعُ هوى واجدٌ ساهِدُ
وما خرَّ إلا إلى سجدة ... ولا كلَّ يوما له ساعدُ
غدا ينبِتُ العزَّ هذا الدَّمُ ... وقد بلِيتْ تِلْكُم الأعظمُ
إذا الدم جاد الشباب به ... فما يهنُ المجدُ أو يهرم
وقد جاد بالنفس جود السما ... ح حين قضى نحبه يبسم
طواه الردى في ربيع الحياه ... ولم يطْو نوراً له إذ طواه
سينسى اسمه الناس فيما نسوا ... ويمضي وما جفَّ دمعُ النعاه
ولكنما شهداء العلى ... على الدهر فينا النجوم الهداه
غدا فكْرةً في ضمير الزَّمن ... تضوِّيُّ في ظلمات المِحنْ
يسير على ومضها المدلجون ... وينشط من عزمهم ما وهن
ففيها الفداء وفيها العزاءُ ... وفيها لكلِّ فؤادٍ سكن
محمود الخفيف(810/44)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
وميض الأدب:
صدر أخيراً كتاب (وميض الأدب بين غيوم السياسة) لمعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا، وقد نشره الأستاذان أحمد عبد المجيد الغزالي والعوضي الوكيل. وهو كتاب أدب خالص، لا كما قال الناشران في كلمتهما إنه من أدب السياسة، وما أخال المؤلف إلا يعني بعنوانه أنه إنتاج أدبي استطاع أن يفرغ له بعض الفترات في خلال اشتغاله بالسياسة. فأكثره دراسات لشعراء معاصرين، بعضها ألقي في حفلات تأبين وذكرى شعراء فارقوا الحياة، والباقي مقدمات لدواوين شعراء أحياء، بعضها نشر وبعضها لم ينشر.
والكتاب يدل على أصالة أدبية لدى مؤلفه الكبير، ولولاها لما ومض هذا الأدب بين غيوم السياسة. ومعاليه رجل كريم، حتى في الأدب، وقد خيل إلى وأنا أقرأ بعض الفصول أنها (مآدب) يأدب إليها من يتحدث عنهم، وإن معاليه لناقد ذواقة حصيف لولا هذا (الكرم).
وفي الكتاب شيء لا أدري ماذا أسميه، وأكبر الظن أنه من عمل من قام بجمع مواد الكتاب. فيه مقالة كانت قد نشرت في الرسالة بعنوان: (أدباء معاصرون أرشحهم للخلود)، وقد كتب بازائها في الكتاب أن الرسالة افتتحت بها عددها رقم 780 ولكن حدث في الكتاب تغيير وتبديل وتقديم وتأخير وحذف وزيادة. . . ومن ذلك أن جاء في الكتاب: (إذا ما ذكر الناثرون كان في أولهم الأساتذة الأعلام: العقاد وهيكل والزيات والمازني) وبعد الكلام على الأول والثاني جاء عن الثالث (أما الزيات فهو أرق كتاب العصر ديباجة، وأنقاهم أسلوباً وأسلسهم بياناً). وأصل الكلام في الرسالة هكذا (إذا ما ذكر الناثرون كان أول من أذكره، وأول من يستأثر بإعجابي الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات، فهو أقوى كتاب العصر ديباجة وأنقاهم أسلوباً وأعرفهم بالصيغ العربية الصحيحة، ومن أراد البيان العربي في أسمى درجاته فعليه بما يكتبه الزيات).
ولا يخالجني شك في أن الباشا لا يصنع هذا، ولكن هل يعلم به معاليه؟
حدث في الجامعة:(810/45)
أشرت من قبل إلى ما حدث في الجامعة من التحقيق مع أحد خريجي كلية الآداب وهو الأستاذ كمال منصور، لأنه كتب مقالاً في (البلاغ) عن موقف الجامعة من الدكتور طه حسين بك.
وقد عقد له في الأسبوع الماضي مجلس تأديب برياسة مدير الجامعة وعضوية عميد كلية الآداب والأستاذ أمين الخولي الأستاذ بالكلية. وقرر المجلس فصل (المتهم) من معهد الدراسات العليا فصلاً نهائياً.
والمقال الذي حوكم كاتبه وفصل من أجله، يتضمن بيان جهود الدكتور طه في خدمة الجامعة وخاصة كلية الآداب وفضله على أساتذتها، ثم مقابلة ذلك بالتنكر والجحود ومعارضة رجوعه إلى الكلية أستاذاً زائراً، ثم مطالبة الجامعة بأن تعيد الدكتور طه إلى كلية الآداب ليعيد لها الحياة ويرجع إليها مكانتها.
ولا شك أن الجامعة قد ضاقت ذرعاً بذلك المقال، واعتبرته جريمة يستحق مرتكبها حرمانه متابعة الدراسات العليا بها، ولكن أين موطن المؤاخذة في ذلك الكلام؟ لا يجد المتأمل فيه إلا ما عسى أن يفسر به الجزء الخامس بتنكر الأساتذة للدكتور طه ونكران فضله عليهم الذي قال الكاتب إنه فضل مادي وأدبي فإن هذا يمكن أن يفسر أو (يكيف كما يقول القضائيون) بأنه تطاول من طالب على أساتذته، ولكن أما يليق بالأساتذة أن يفسحوا صدورهم إزاء خريج يرى من حقه أن يفضي بما يرى فيضربوا المثل في احترام حرية الرأي؟ ومن أولى من أساتذة الجامعة باحترام حرية القول وإن نالهم منه رشاش؟
ولو أن الجامعة أغضت عما كتب لمرت العاصفة بسلام وقال الناس: كلام. . . ولكنها غضبت فأنزلت العقاب. فأصبح الكلام حادثة في تاريخها. وما الذي يمنع قائلاً أن يقول إن غضب الجامعة على المقال وعقاب صاحبه يؤيد ما تضمنه، لأن رجالها يحاربون حقاً طه حسين فيضطهدون من يؤيده ويقف إلى جانبه، ويذهبون في ذلك إلى أبعد حد فيقضون لأنفسهم بإبعاده عن الجامعة وحرمانه الدراسة فيها.
النهضة الأدبية في العراق:
ألقى معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي محاضرة في الجلسة الخامسة لمؤتمر مجمع فؤاد(810/46)
الأول للغة العربية، عن (النهضة الأدبية العربية في العراق) بين فيها ظروف الحركة الأدبية العراقية في العصر الحديث، وعرض مظاهرها وخصائصها وتحدث عن طبقات الأدباء والشعراء، من عصر الوزير داود باشا إلى الوقت الحاضر. ومما قاله أن مما مني به الأدب أخيراً في العراق فقدان خطة عامة مرسومة للنهوض بالأدب وباللغة العربية في البلاد، ومن نتائج ذلك تشتت في الجهود الأدبية يخشى بعضهم أن يتطور إلى بلبلة فكرية، وقد تباعدت الشقة بين جيلنا الماضي والجيل الجديد، وأصبح حل هذه المشكلة بالتوفيق بين الجيلين شغل المفكرين الشاغل، وقد واجهت مصر مشكلة من هذا القبيل بلا شك ولكنها لم تبلغ حد المشكلة التي نواجهها في العراق وبعض البلاد العربية الأخرى لأن النهضة في مصر سارت منذ عهد محمد علي إلى اليوم في مراحل تدريجية تبعاً لخطة رسمها قادة الرأي في مصر فأدى ذلك إلى نوع من الاستقرار الفكري الأدبي، تغبطون عليه الآن. أما النهضة في العراق فلم تكن تدريجية خاضعة لخطة مرسومة، بل كانت اندفاعاً سريعاً إلى الأمام، على أن في العراق اليوم بالرغم من ذلك كله، طبقة من رجال العلم وأخرى من رجال الأدب والشعر، أما شعراء العصر وشعراء الشباب في العراق، ومثلهم على ما أظن شعراء العصر في مصر والشام، فهم فريقان: فريق يترسم شعراء الجيل في الماضي القريب مع شيء من التجديد. وقد نشرت لعدد من هؤلاء الشعراء دواوين لطيفة، ومنهم أحمد الصافي ومحمود الحبوبي ومهدي الجواهري والمقلد وعلي الخطيب وصالح الجعفري وشعراء الرابطة العلمية الأدبية المعروفة في النجف، ولولا هذه الطبقة الناهضة لخيل إلينا أن القريض العربي قد مات. وأما الفريق الآخر من شعراء الشباب، فهو يميل إلى مجاراة الغربيين ويحاول أن يتعاطى النظم على طريقتهم المعروفة، وعددهم قليل. وقد مالت طبقة تضم بعض حملة الشهادات الجامعية والعالية وغيرهم من الأدباء، إلى فن من فنون الأدب الحديث وهو فن القصة، فراحوا يخرجون القصص ترجمة وتأليفاً، ولا يزال هذا الفن في دور النشوء، وكثير من كتابه مقلدون. وفي البلاد عدد من العلماء والباحثين المنقطعين للدراسات على اختلاف موضوعاتها وكثرتهم في بغداد والموصل والنجف، وفي حواضر عراقية أخرى، ولهم أبحاث تنشر في بعض المجلات المصرية والسورية، نذكر منهم منير القاضي ومحمد بهجت الأثري ومصطفى جواد وعباس العزاوي وداود الجلبي وصادق(810/47)
كمونة.
وقد دار بجلسة المؤتمر نقاش في بعض ما تضمنته المحاضرة، واشتجرت الآراء خاصة في مسألة الخطة التي ترسم للأدب. وهل من صالح الأدب أن يترك ميدانه حراً أو توضع له مناهج؟ ولعلي أستطيع أن آتي بشيء من ذلك في الأسبوع الآتي.
الفرقة المصرية في الفترة الأولى:
انتهى في آخر ديسمبر الماضي موسم الفرقة المصرية بمسرح الأوبرا، وبدأت تعمل به الفرق الأجنبية من أول يناير. وتقوم الفرقة برحلات تمثيلية خارج القاهرة، تعود بعدها إلى العمل في مسرح حديقة الأزبكية.
وقد أمضت الفرقة نصف موسمها في هذا العام إلى الآن، وهي مرحلة يحسن أن نسائل الفرقة ماذا فعلت فيها، وننظر أحققت رسالتها أو شيئاً منها إلى الآن، والغاية من هذا أن نتبين طريقها وما فيه من عقبات، وهل هو طريق طبيعي يؤدي إلى ما تهدف إليه الدول من رعايتها.
الغرض من الفرقة المصرية ترقية التمثيل العربي باعتباره فناً من الفنون الجميلة، وهي بحسب هذا الغرض الفرقة الوحيدة في مصر التي يرجى منها إنهاض المسرح المصري، وأن تكون مركزاً ونواة للتمثيل المسرحي الرفيع. وقد استهلت الفرقة موسمها الحالي ومهدت له بدعاية واسعة، ومضت فيه إلى الآن. وتكشف برنامجها عن رواية مؤلفة جديدة واحدة هي (سر الحاكم بأمر الله) وبعض الروايات المقتبسة، ثم روايات كثيرة قديمة من تأليف المدير العام للفرقة الأستاذ يوسف وهبي بك، كان قد مثلها قديماً على مسرح رمسيس القديم، وهي دون المستوى الفني الذي يلائم الفرقة والذي يتفق مع كلمة (ترقية التمثيل العربي) وإنما تعتمد على تملق عواطف الجمهور تملقاً يؤذي أذواق طلاب الفن الرفيع.
وحقاً إن الحكومة ضنينة على الفرقة ولم تمنحها الإعانة الكافية، فلا تزال إعانتها أحد عشر ألف جنيه في العام، وهو مبلغ ضئيل لا يكفي لمطالب النهوض بالفرقة واتجاهها إلى تأدية رسالتها، لأن الجمهور لا يكفيها نفقاتها، ولكن لا ينبغي أن يفضي ذلك إلى أن تتحول إلى فرقة تهريجية تستجلب الجمهور بالإنتاج الرخيص، فهي لم تنشأ لتكون أداة للربح وإنما يراد بها ترقية فن التمثيل، ولا حاجة بنا إلى أن تهبط ذلك الهبوط بالانحراف عن(810/48)
مستواها، ففي فرق شكوكو وبديعة وغيرهما الكفاية.
على أن يوسف وهبي يستبد بأمور الفرقة استبداداً عجيباً، فهو يأخذ مرتباً شهرياً مائة جنيه وربع إيراد (شباك التذاكر) والباقي ينفذ على مطالب الفرقة ومرتبات سائر الممثلين والممثلات الذين يعملون فيها جنوداً مخلصين مع قائدهم المغوار عميد الممثلين. وهو ينشر الإعلانات في الصحف مشيداً بنفسه على حساب الفرقة أيضاً، وقد استحدث نوعاً باهظاً من الإعلانات وهو مقالات تصدر من إدارة الفرقة في مدح مديرها العام. . . وتنشر هذه المقالات مأجورة! وهو يحرص على أن يظهر بمظهر الزعيم المنقذ، لا الموظف العامل، فمنذ جاء إلى الفرقة دأب على وضعها صفراً على شماله، وإبراز نفسه، المؤلف، والمخرج، والفتى الأول، و. . . الخ، كان وزارة الشؤون الاجتماعية ألغت الفرقة المصرية و (ألفت) يوسف وهبي. ولم يبق إلا أن تسمى الفرقة (يوسف وهبي للتمثيل والموسيقى).
وقد كان الأستاذ زكي طليمات يسير على طريقة ديمقراطية، يعمل في خدمة الفرقة ويقدم أفرادها ويكاد ينكر نفسه. وأخيراً أفسح ليوسف وهبي وتركه يطعن نفسه برواياته، ولكن الطعنات تصيب صميم الفرقة، فهما من هذه الناحية يشتركان في المسئولية عن المصير الذي تنحدر إليه الفرقة الآن.
عباس خضر(810/49)
البريد الأدبي
عيد الجميع:
ورد كتاب من ليبيا. برقة. بإمضاء (الشعب الدرناوي) أي شعب درنة. ولما كانت عادتي أن أرد على كل رسالة تأتيني مهما كان نوعها، فلم أدر لمن أرسل رد هذه الرسالة لأن مرسلها لم يذكر عنوانه. فلم تبق لي حيلة إلا أن أرسل الرد على صفحة من مجلة الرسالة لأن لهذه المجلة نصيباً فيها. وها بعض ما جاء فيها:
جناب. . . الأستاذ. . . نقولا الحداد الموقر
(بعد التحية. الشعب الدرناوي في قطر برقة المعجب بنخوتكم العربية والمعتز بقلمكم السيال الكاوي الصهيونية في مجلة الرسالة. . . (إلى ما هنالك من الثناء والإطراء مما لا أستحقه) يتشرف بتقديم أطيب التهاني لفضيلتكم بمناسبة حلول عيد الميلاد سيدنا المسيح عيسى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. ونرجو الله أن يعيد هذا العيد عليكم وعلى كافة العروبة بالنصر المبين، والاتحاد الدائم. كما أنه يتضرع إليه تعالى بأن يبقيكم لأننا لا زلنا في حاجة ماسة لأمثالكم لنهتدي بنور أفلامكم في مثل هذه الظروف العصيبة والمرحلة الدفيقة. وختاماً تقبلوا من جميع قراء مقالاتكم القيمة على صفحات الرسالة فائق الاحترام).
(ليبيا. برقة. الشعب الدرناوي)
أقول:
أغلى ما في هذه التحية الكريمة من شعب درنة أنها تجعل العروبة دين المسلمين والنصارى (علاوة على دينهما الأصليين) كما هو الواقع اليوم. المسلمون يعايدون النصارى بعيد ميلاد عيسى، والنصارى يعايدون المسلمين بعيد مولد النبي عليه أطيب السلام وعيدي رمضان والأضحى. فالمسلمون والنصارى يتبادلون التهنئة في هذه الأعياد بالتزاور والبريد والجرائد - الأمر الذي يدل على أن كلا الفريقين أدركا أن بين النصرانية والإسلام ليس إلا الزمن والتاريخ.
فالمسيح جاء في وقت كان لا بد من مجيئه فيه لكي يعلم هؤلاء اليهود الجوييم (الأنجاس) أن جميع الشعوب هم شعب الله وأنه لم يختر بني إسرائيل دون سائر الأمم شعباً خاصاً له كما يزعمون. وقد ضرب لهم مثل السامري الذي عني بجريح اعتدى عليه اللصوص(810/50)
واغتصبوا ما معه، بعد أن مر به كاهي ولاوي وفريسي من اليهود ولم يسعفوه وإنما السامري الذي ينبذه اليهود عنى به وأخذه إلى منزله وضمد جراحه الخ. ثم سأل المسيح اليهود من ِمن هؤلاء هو الإنسان الذي يختاره الله. أليس الذي صنع معه الرحمة؟
ولما رأى اليهود أنه يساوي بهم السمر المنبوذين صلبوه. فنظرية أن (الله رب العالمين) ضد عقيدتهم.
ولما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كان زمن آخر يستلزم أن يأتي النبي محمد لكي يطهر البلاد العربية من الأوثان والأصنام وينظم الحياة الاجتماعية للعرب وغيرهم، ولكي يوطد التوحيد ويعلمهم أن (الله رب العالمين) أجمعين. فحاربه اليهود. وأمرهم معه معروف.
عيسى ومحمد عليهما أطيب السلام كانا يرميان إلى غاية واحدة وهي تقويم الإنسانية وإصلاح البشرية. وقد نجحا. وأصبح ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من أتباعهما. أفليس من الجهل المطبق أن يفرق التعصب بين العرب؟ أو ليس نعمة من الله أن تكونت العروبة فربطت بين الفريقين؟
أجل، إن العروبة هي الحصن الحصين لحفظ كيان العرب كلهم يتماسكون تحت لواء العروبة لكي يدرءوا هذا الخطر الذي شرعنا منذ الآن نحسه - يهود يغزون لبنان، ويهود يحاولون أن يغزوا حدود مصر. وغداً وبعد غد يحاولون أن يغزوا كل ما حول فلسطين بين النيل والفرات، لا سمح الله.
فتنبهوا أيها العرب. . .
نقولا الحداد
2 ش البورصة الجديدة مصر
فلسطي فقط:
نشرت مجلة الرسالة الغراء لأحد موظفي المجمع اللغوي رداً على ما سبق أن نشرته في الأهرام الغراء تحت عنوان (فلسطي) نسبة إلى فلسطين.
وليثق حضرته أن ما كتبه لم يكن غائباً عني حين كتبت ما كتبت، وأن النسبة إلى فلسطين - بالرغم من كل ذلك - هي (فلسطي) فقط للأسباب الآتية:(810/51)
أولاً: أن القاموس بعد أن ذكر الحالين الإعرابيتين لفلسطين وأجاز إعرابها بالحروف وإعرابها بالحركات قال: (والنسبة فلسطي). . . وهذا أسلوب صريح في أن هذه النسبة ملتزمة في الحالين، ولو كانت تجوز نسبة أخرى لنص عليها.
ثانياً: أن المتتبع لكلام العرب الذي يعتد بنطقهم، ويحتج بقولهم: لا يجد فيه إلا (فلسطياً وفلسطية) قال الأعشى:
تخله فلسطياً إذا ذقت طعمه ... على ربذات الفي حمش لثاتها
وقال أبن هرمة:
كأس فلسطية معتقة ... شقت بماء من مزنة السبل
وهذا دليل على أنها النسبة الوحيدة التي استملها العرب، وأنها واجبة الالتزام في الحالين، وإن وافقت القياس في حال الإعراب بالحروف، وخالفته في حال الإعراب بالحركات.
وإذا كان حضرته يقول إن استقامة الوزن فحسب هي التي دفعت الشاعرين إلى إيثار هذه النسبة فليأت حضرته بكلام منثور لعربي حجة ورد فيه (فلسطين أو فلسطينية).
ثالثاً: جاء في لسان العرب بعد ذكر حالي الإعراب لفلسطين: (قال أبو منصور وإذا نسبوا إلى فلسطين قالوا فلسطي) ثم استشهد لسان العرب لهذه النسبة بالبيتين السابقين.
وهذه العبارة مضافاً إليها هذا الاستشهاد تدل أوضح دلالة على أن العرب كانوا يلتزمون هذه النسبة في كل حال.
رابعاً: نقل الأستاذ عن لسان العرب بعد الكلام عن قنسرين قوله: (والقول في فلسطين و. و. كالقول في قنسرين) وليعلم حضرته أن اللسان لا يعني بهذا القول النسبة، وإنما يعني جواز إعرابها بالحروف وجواز إعرابها بالحركات.
ولو أنه أراد النسبة لكان أولى أن يفصلها عند الكلام عن فلسطين نفسها؛ وإن سبق التزامه هناك للنسبة الواردة فقط: يحدد ما عناه هنا، ويلتفت إليه.
خامساً: لقد ورد في النسبة إلى قنسرين: (قنسري وقنسريني) وكان من الممكن أن تقاس عليها لو لم يرد في نسبتها شئ عن العرب. أما وقد ورد فيها (فلسطي) فقط فقد أصبح القياس متعذراً.
وبعد:(810/52)
فقد تجنى الأستاذ هلالي - وهو بالمجمع اللغوي - على اللغة واللغويين حين قال: (اختلف اللغويون في النسبة إلى فلسطين أهي فلسطي أم فلسطيني. . . الخ) إذ الحق أن اللغويين لم يختلفوا في النسبة إلى فلسطين، بل لم يختلفوا في النسبة إلى قنسرين. وإن معنى الاختلاف أن كل فريق منهم يلزم نسبة خاصة لا يجيز غيرها، وهو ما لم يحدث في فلسطين التي التزم اللغويين النسبة المسموعة عن العرب وهي (فلسطي). كما لم يحدث هذا في قنسرين التي اتفق اللغويين على جواز (قنسري وقنسريني) تمشياً مع الوارد فيها وتطبيقاً لقواعد النسب عليها.
إبراهيم بديوي
المدرس بمعهد طنطا
حول (كاد أن):
نشر في البريد الأدبي كلمة أشار فيها بأن الفعل المضارع الواقع في موضع خبر كاد لا يقترن بأن وذلك هو القياس المطرد إلى آخره، وهذا القول غير صحيح من عدة أوجه؛ إذ أن الرأي المتفق عليه عند النحاة أن (كاد) يترجح تجرد خبرها من أن كقوله تعالى: (يكاد زيتها يضئ) (وما كادوا يفعلون) فيكون الكثير في خبرها أن يتجرد. كما أنه يجوز اقتران خبرها بأن مع القلة، وهذا بخلاف ما نص عليه الأندلسيون من أن اقتران خبرها بأن مخصوص بالشعر.
وقد جاء مقترناً بأن في غير الشعر كقول الرسول عليه السلام (وما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب)، والحديث الشريف يتفق مع القرآن في أن القرآن لا يأتي باللغات الشاذة وإلا لما كان معجزاً، فكذلك الحديث لا يأتي باللغات الشاذة، والله تعالى يقول (وما ينطق عن الهوى)، وقول الشاعر:
كادت النفس أن تفيض عليه ... مذ ثوى حشو ربطة وبرود
والشعر العربي إذا تعددت فيه الأمثلة فلا يكون ذلك ضرورة ولا شاذاً وإنما هو قاعدة مسلم بها.
فاروق أحمد سلام(810/53)
معهد إسكندرية الديني(810/54)
القصص
كتاكيت العم طون!
في ملهاة لجي دي موباسان
كان كل من يسكن حول مدينة (تورنفنت) يحب العم أنطوني مجيل، طوني السمين، طوني العزيز، أو طون، كمانوا يسمونه عليه تحبباً!
وطون هذا، رجل سمين، منفوخ البطن، أشبه ببرميل نبيذ، منتفخ الأوداج، أحمر الوجه، غائر العينين، لا تستطيع أن تعرف طوله من عرضه، ولا عاليه من سافله!
وكان الناس يتساءلون في دهشة: كيف يستطيع الزبون أن يدلف إلى الحانة، والعم طون، قد وقف على بابها وسد الطريق؟!
كان يبيع الكونياك، وكان ينادي على بضاعته بصوت ناعم - هنا يا رجال، تجدون أحسن أنواع الكونياك!
وكال له زبائن يترددون على حانته، لا ليشربوا الكونياك فقط، ولكن ليستمعوا إلى نكات العم طون، ويأنسوا بظرفه، وخفة دمه، فالعم طون (ابن نكتة!) يستطيع أن يحمل حجارة القبر على الضحك!!
كان من عادته أن يجلس مع زبائنه، يلتفون هم في حوله، وبأيديهم أكواب الخمر، يشربون، ويضحكون، فإذا وجد أن أحدهم لا يضحك لنكتة ألقاها، لكزه في بطنه ليحمله على الضحك! كان يلقي نكاته، ويسخر من هذا وذاك ولكن من غير أن يؤذي أحداً، أو يجرح شعوره!
من أجل هذه الروح المرحة، أحب الناس العم طون. . . أحبوه حباً عظيماً، ووفدوا عليه من ضواح بعيدة ليستمتعوا بنكاته، وليشربوا عنده ما فيه القسمة من أكواب الكونياك التي كان العم طون يقطرها بنفسه!
وكثيراً ما كان يقف على باب حانته، يحي هذا، ويهتف لذاك قائلاً: مرحباً. . . مرحباً يا ولدي!
كان يدعو كل من يراه يا ولدي، ولكن الناس كانوا تسائلون في دهشة، لماذا لم يرزق العم طون أولاداً، وقد مضى على زواجه أكثر من ثلاثين عاماً؟!(810/55)
وقد يترامى إلى أذنيه هذا السؤال الحائر على شفاههم، فيغمزهم بطرف عينه. ويقول لهم هامساً: إن زوجتي، هذه الدجاجة العجوز ليست من العظمة بحيث تستطيع أن تنجب عظيماً مثلي!!
وكانت زوجته تثور عليه، ولم تكن بأقل غرابة من زوجها، فقد كانت امرأة فلاحة، غليظة الطبع، حادة المزاج، لا تبدو إلا غاضبة، مكشرة، إذا مشت، فعلى رؤوس أصابعها، فتبدو، وكأنها تقفز قفزاً، واهتز أعلاها، وامتدت أردافها!
وكانت على شجار دائم مع زوجها، وكان هو يخافها، ويتحاشى وقاحتها، ولكنه لم يكن يكف عن التحرش بها، ليضحك منها!
وكان الزبائن يضحكون لهذا الشجار الدائم، ويغرقون في الضحك، حين يبدأ العم طون يسخر من زوجته! وتبلغ الضجة أعلاها، حين تشير الزوجة الهرمة إلى زوجها المنفوخ، وتقول:
صبراً. . . صبراً، أيها المتكرش الكسول، سيأتيك يوم تنفجر فيه هذه النفخة الكذابة. . . انك والله لرجل كسول، لا تصلح إلا لربطك مع الخنازير!!
والعمة طون، مولعة بتربية الدجاج وتفريخها، وكان لها في هذا المضمار باع طويل وخبرة واسعة، ولم تكن لتخلو أكبر الموائد في باريس من دجاج العمة طون!
على هذه الحالة مضى ركاب الزمن بالعم طون، يمزح ويمرح ويبيع الكونياك، حتى حدث أن أصيب بما أقعده عن العمل، وقلب حياته رأساً على عقب!. دب الشلل في جسمه، ولم يعد يستطيع الحركة، فأعدوا له سريراً في مكان يشرف على ما يجري في الحانة، وأرقدوه فيه
وقلت نكاته، ولكنه لم يتخل عن مرحه وظرفه، فهو ما زال يبادل أصدقاءه النكات وهو راقد على ظهره!. كان يميز الأصوات فيعرف أصحابه!
- مرحبا سلستين، يا ولدي. . . الست أنت سلستين؟
فيرد عليه سلستين: كيف حالك يا عم؟ أوه!. . . لم أعد أصلح للطراد أبداً!!
وتثور العمة طون ثورتها المعهودة، وتقول: انظروا كيف ينام على ظهره كالثور العجوز، ولم يعد فيه نفع ولا فائدة!(810/56)
وكم يكون منظره مثيراً للضحك حين يراها، وهي تقترب منه كالصاعقة، فينكمش في فراشه، خائفاً وجلاً من ضرباتها التي يتلقاها على بطنه الكبير، فيكون لها دوي الطبل!
وذات يوم أراد أن يلعب أحد الزبائن دوراً مضحكاً، على هذه المرأة العجوز التي لا يعجبها العجب، أتدرين ماذا كنت أفعل لو كنت مكانك؟
فرمته بنظرات خبيثة، وقالت له: ماذا كنت تفعل؟
فأجابها متكلفاً الجد: إن جسد العم طون أشبه بفرن تتأجج فيه النار، فلماذا لا تضعين تحته بعض البيض فيفقس كما تفعلين مع دجاجك؟! فهمست متعجبة: أيمكن هذا حقاً؟
- ولم لا؟ ما الفرق بين أن نضع البيض في صناديق حارة وبين أن نضعه تحت فراش يبعث أكثر من هذه الحرارة؟
- وراحت العمة طون تفكر في هذا الاقتراح، وتجهد عقلها المتحجر في التفكير في هذا الاقتراح العظيم!!
وبعد ثمانية أيام، جاءت إلى زوجها تحمل عشر بيضات، وقالت له: لقد وضعت الآن عشر بيضات تحت دجاجتي السمراء، وهذه عشر بيضات أخرى، ضعها تحت ذراعيك، وحافظ عليها لئلا تنكسر! فصاح العم طون - ماذا تعني؟!
- أعني أنك سترقد على هذا البيض كما نفعل مع الدجاج، وسننتظر ما يحدث!
ورفض العم طون بكل إباء وشمم، أن يرقد على البيض كدجاجة صغيرة، وحاول أن يحتج على تصرف زوجته، ولكنها صاحت فيه، ليس من المعقول أن تبقى هكذا نائماً على ظهرك، تأكل وتشرب، ولا تنفعنا بشيء!!
وأمام تهديداتها وغضبها الذي يتحاشاه، قبل العم طون أن يضع البيض تحت ذراعيه! وظل جامداً في مكانه، لا يتحرك خوفاً على البيض أن ينكسر، وبدا عليه الاهتمام العظيم، وقد حمل الأمر على محمل الجد!
وسرعان ما سرى النبأ بين الزبائن، فبدأ عليهم العجب، وراحوا يتساءلون، ترى كيف يفرخ الرجل!!
وما كادت تبلغ الساعة الثالثة، حتى ساءت صحته، وبدا عليه ما يبدو على المرأة التي حانت ساعة وضعها، وتصبب العرق من جبينه، ولم يعد يسمع ضجة الناس المحتشدين في(810/57)
الحانة يترقبون حدوث الأعجوبة!
وأقبلت العمة طون فرحة مستبشرة، وقالت: لقد فقست دجاجتي السمراء سبع بيضات، وفسدت ثلاث!
فخفق قلب العم طون، وسأل نفسه: وأنا. . . كم من البيض سيفسد؟! وأحس بدغدغة تحت ذراعه الأيسر، فخفق قلبه، وبكل احتراس، مد يده تحت ذراعه، وقبض على شئ ناعم صغير، كان يحاول التملص منه بقوة، فخاف عليه، وأرخى أصابعه، فقفز على لحيته، ثم على صدره!
كانت الحانة محتشدة بالناس، فلما رأوا الحيوان الصغير يقفز على صدر العم طون اندفعوا نحوه، والتفوا على شكل دائرة حول فراشه، وشقت الجمع المحتشد العمة طون، وأمسكت بالكتكوت الصغير، وهي أسعد ما تكون!! وصاح العم طون فجأة: وهذا واحد آخر يلعب تحت ذراعي اليسرى!
وشمرت العمة عن ذراعيها، واستعدت كأمهر قابلة، لاستقبال الكتكوت الجديد! وأخذ الحاضرون يفحصون هذه الكتاكيت في كثير من الدهشة والعجب والحيرة!
وقفزت أربعة كتاكيت أخرى، فانتفخت أوداج العم طون لهذا النصر الباهر الذي فاق به الدجاج الممتاز، العريق النسب!. ثم صاح بصوت مرتفع في حين كانت زوجته قد حملت الكتاكيت لتعطيها لدجاجتها السمراء - وهذا واحد آخر. . .
وارتفعت ضجة العجب في جو الحانة. . . وأصر العم طون على الاحتفاظ بآخر الكتاكيت في فراشه. . . فقد كان يشعر بحب عميق لكتاكيته، كما تشعر المرأة نحو وليدها! ولكن العمة طون لم تقتنع، فأخذت منه الكتكوت الأخير بكل قسوة، وأرسلته لعناية دجاجتها السمراء!
انصرف القوم، وهم يفسرون هذه الحادثة الغريبة في بابها، شتى التفاسير، فاقترب صاحب الاقتراح الخبيث في أذن العم طون وهمس فيها: أتدعوني لحفلة العماذ أيها العم. . . أليس كذلك؟! فأجاب العم طون طبعاً. . . طبعاً يا ولدي!
(البصرة عراق)
يوسف يعقوب حداد(810/58)
العدد 811 - بتاريخ: 17 - 01 - 1949(/)
حج غير مبرور
رد جلسائي التحية إلى رجل ألقاها عليهم وهو يدخل القهوة في زي أنيق ورؤاء حسن؛ ثم أتبعوه النظر حتى جلس في جماعة من ذوي الهيئات قابلوه بنشاط وصافحوه بقوة؛ ثم عادوا بأبصارهم وأفكارهم إلى تشقيق الحديث، فقال أحدهم لجاره: أشهدت الحفلة التي أقامها بعد عودته من الحج في الأسبوع الماضي لمستقبليه ومهنئيه؟ فأجابه جاره: أوه! نعم شهدتها. ولقد بلغت هذا العام من ضخامة المادة وفخامة المظهر مبلغاً صغر سوابقها في أعين الناس على كثرة ما كان يجمع لها وينفق فيها!
فقال جاري: إن العجيب من أمر هذا الرجل أنه يحرص كل الحرص على أداء الحج في كل سنة، وهو لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ولا يصوم رمضان، ولا يكاد يتشهد! فكيف يقوم دينه على ركن واحد والإسلام كما نعلم إنما يقوم على أركانه الخمسة، وكلما تهدم منها ركن تقوض من بنيته بناء؟ فرد عليه شيخ مستنير الفكر بأنه اغتر على ما يظهر بقول المتزيدين من جهلة الشيوخ: إن الحج وحده يمحص الذنوب ويمحو الخطايا حتى ليذهب الرجل إلى مكة وهو موقر النفس بالحرائر، مثقل الضمير بالكبائر، فيعود منها وهو نقي الصحيفة كيوم ولدته أمه! وإن كثيراً من مطففي الكيل وقطاع الطرق ورواد الفحش يبسطون لأنفسهم العنان في المنكر اتكالاً على حجة يغتسلون بها فيعودون بزعمهم أبراراً كالأطفال وأطهاراً كالملائكة! ولكن الأعجب في أمر هذا الحاج أنه تاجر وليس له متجر نراه، وغنى وليس له مورد نعرفه. يقضي عامه من الحجة إلى الحجة وهو فارغ البال من هموم العيش، مستريح البدن من مؤونة العمل، يتنقل بالنهار في المدن وبين الناس، ويتقلب بالليل في المواخير وبين الندامى، حتى إذا اقترب ميقات الحج، وهفت النفوس المؤمنة إلى مشرق الدين ومهبط الوحي، فطم نفسه عن رضاع الكأس، وأصم إذنه عن نداء المنكر، وأخذ يعد الجواز والجهاز لأداء هذه الفريضة. وقد لاحظ مخالطوه أن موسم الفيضان في رزقه يبدأ بعد رجوعه من الحجاز، فيبسط أنامله العشر بأوراق النقد، يولم بها الولائم، ويقدم منها الهدايا، ويدرك عليها اللذائذ؛ والمعروف أن الزكاة هي التي تبارك المال وتنميه لا الحج، وأن العمل هو الذي يجلب الرزق ويبقيه لا التبطر؛ ولكن هذا الرجل لغز لا يحل، وسر لا يدرك! فابتسم أحد الحضور وقال: وماذا عندك لي إذا كشفت المخبوء وشرحت الغامض؟ فقال له الشيخ: ثمن القهوة وأزيدك طلباً آخر. فقال الرجل إن حال(811/1)
الحاج إبراهيم كحال كثير من خاصة الحجاج، يذهبون إلى مكة محرمين، ويعودون منها مجرمين! ألم تلاحظ وأنت من جيرة هذا الحاج إنه يجلب من الحجاز مقادير كبيرة من التمر والحلوى على خلاف ما جرت به العادة؟ قال الشيخ: بلى، وما السر في ذلك؟ قال: السر إنك إذا شققت تمرة من يابس التمر، أو فتحت علبة من علب الحلوى، وجدت فيها الكنز الذي ينفق منه طول العام. وهذا الكنز قبل أن تسألني عنه نوع من الحشيش المزمزم المبارك مما يجلبه أتقياء الحجاج من منابت آسية العجيبة، إلى أرض الحجاز المقدسة الحبيبة! فصحنا جميعاً دهشين: والجمرك؟ فعرض الرجل ابتسامة وقال: صلوا على النبي يا جماعة! والله لو كان على حدودنا تفتيش، لما دخل مصر أفيون ولا حشيش!
أحمد حسن الزيات
الميثاق العالي لحماية حقوق الإنسان
للأستاذ عمر حليق
تعتقد لايك سكسس ومعها بعض ألسنة الرأي العام الدولي أن أبرز عمل قامت به الجمعية العمومية لهيئة الأمم في اجتماع باريس هو موافقتها على الميثاق العالمي لحماية حقوق الإنسان.
ولو أننا تناسينا مؤقتاً فقدان السلطة العملية التي ما فتئت هيئة الأمم المتحدة تسعى لتحقيقها، واتخذنا الناحية النظرية مقياساً لهذا الميثاق - لتبين لنا خطورة هذه الخطوة التاريخية التي سجلت فيها الأمم المتحدة - نظرياً على الأقل - حمايتها للفرد أيان كان وضد أي كان - ضد الدولة الغاشمة، وضد الأنظمة الظالمة، وضد النظرة القومية الضيقة التي تحاول أن تنال من حقوق الفرد باسم الصالح القومي فإذا هي تعصف بأهم دعائم القومية الحقة وهي حرية الفرد وحقوقه.
ولا غرابة إذن أن ينفرد بالتصويت ضد هذا الميثاق ممثلو دول أوربا الشرقية الذين يفرضون أنفسهم على الشعب بقوة الحديد والنار؛ ودولة اتحاد جنوب أفريقيا حيث تحول القومية العنصرية الضيقة دون المساواة في الحقوق بين السكان الأوربيين وهم قلة، والسكان الوطنيين الأفريقيين وهم كثرة. وقد صوتت كذلك ضد الميثاق المملكة السعودية(811/2)
لعدة أسباب كلها مستمدة من طبيعة النظام المحافظ الذي يعيش عليه المجتمع السعودي.
وقد احتاط واضعو الميثاق خلال نقاش دام عامين ونصف العام لتدعيم الميثاق بدعائم عملية فأوصوا بإنشاء محكمة دولية للنظر في شكاوى الأفراد ضد الذين يعتدون على حقوقهم سواء كان المعتدون الدول التي يعيشون في ظلها أم دول أجنبية كما هو الحال في المستعمرات والمحميات. وفي الميثاق - ميثاق حقوق الإنسان - نص صريح يعطي الأفراد في المستعمرات والمحميات والمنتدبات في سائر أنحاء المعمورة دون تفرقة في اللون أو العنصر أو المذهب، الحق في رفع مظالمهم إلى المحكمة الدولية إذا وجدوا أن الدول الحاكمة جائرة على حقوقهم الشخصية منتهكة لأسسها ظاهراً أو باطناً. والواقع أن الميثاق الجديد يكرر كثيراً الحقوق التي نصت عليها الدساتير الحرة القديمة والمعاصرة، ولكن في هذا الميثاق العالمي ناحية مستحدثة مستمدة من التطور الذي ألم بالتفكير المعاصر، هذه الناحية هي حماية حقوق الفرد الاقتصادية بالإضافة إلى حماية حقوقه السياسية.
هذه الحقوق الاقتصادية تقر بأن الإنسان خلق حراً له من الحقوق ما لجميع إخوانه في الإنسانية لا يحول بينه وبين هذه المساواة لون أو عنصر أو محتد أو مذهب أو عقيدة فكرية، وأن له مساواة مطلقة في الإمكانيات الاقتصادية يرعاها له القانون ويثبتها له بمجرد كونه إنساناً يعيش. والميثاق الجديد لا يحاول أن يتخذ من الفرد مادة ليصنع منها دولة قوية أو حكومة مطلقة السيادة حرة التصرف في شؤونه سواء كان التصرف متمشياً مع حرية الفرد غير ماس بحقوقه أم كان مخالفا لها كما هو الحال في الدول الدكتاتورية.
الميثاق الجديد إذن لا يتخذ الإنسان مادة تبنى بها الدولة، بل يعترف للفرد بحرية الرأي والتفكير والتعبير تحت أي نظام وفي وجه أي سلطة. والميثاق يتخطى حدود الدولة إلى مرجع دولي أعلى، أحكامه وقراراته تقيد الأمم المتحدة بالتزامات قانونية وأدبية وترغمها على رفع الضيم وإزالة المظلمة. وتدرس لايك سكسس الآن الخطوات العملية لإنشاء هذه المحكمة العليا بعد أن تقر برلمانات الدول المشتركة في هيئة الأمم حقوق الإنسان هذا ليصبح فرعاً من القانون الدولي له سلطة راسخة في أسس النظام العالمي. قلت أن الأمم المتحدة في الجمعية العمومية بباريس وافقت على هذا الميثاق باستثناء روسيا وحلفائها من(811/3)
دول أوربا الشرقية، وباستثناء اتحاد جنوب أفريقيا والمملكة السعودية العربية التي قال مندوبها السيد جميل البارودي أن التقاليد ونظام الحكم القائم في نجد والحجاز يخالف بعض المواد التي نص عليها ميثاق حقوق الإنسان هذا فيما يتعلق بسلطة الحكومة وبعض السلطات المذهبية والأنظمة الاجتماعية.
أما معارضة السوفيات وحلفائهم فكانت تستند إلى نقطتين في الفلسفة الماركسية.
فالميثاق العالمي الجديد يعترف للفرد بالحرية الاقتصادية بمعنى أن لكل إنسان الحق في امتلاك أسباب الرزق ووسائله والسعي لتنميتها بشتى الطرق المشروعة دون أن يتقيد بالتزامات الاقتصاد الموجه الذي تدعو وتعمل له الشيوعية عملاً بالمبدأ الماركسي القائل (من كل حسب طاقته، إلى كل حسب حاجته). ولذلك فأن روسيا السوفيتية وحلفاءها الشيوعيين وجدوا في هذه الحرية الاقتصادية التي نص عليها الميثاق مخالفة للمبدأ الشيوعي فرفضوا الأخذ بها.
ونقطة المعارضة السوفيتية الثانية هي نص الميثاق على أن للفرد الحق في رفع مظالمه ضد الدولة حين تعتدي على حقوقه وتنتهكها إلى محكمة عالمية ستنشأ لهذه الغاية كما أسلفت. وقد احتج الروس بأن في هذا التخطي - تخطي الفرد سلطة الدولة إلى سلطة عالمية - تعدياً على سيادة الدولة، وهذا ما لا يرضى به الروس والغريب في منطق السوفيات هذا إنه يخالف الهدف الرئيسي للعقيدة الماركسية الذي يسعى لإزالة الدولة كنظام اجتماعي بعد أن نتحقق سلطة الطبقات العاملة (البروليتارية
وقد رد مندوب الفليبين الجنرال رومولو على هذه المعارضة الروسية قائلاً أن الميثاق ينص في مقدمته على إنه ميزان العدالة لجميع الشعوب في جميع الأمصار، فإذا أخطرت دولة في مؤتنف الزمن إنها تتنازل عن بعض اوجه سيادتها لتحقق نظاماً عالمياً جديداً يدين بمبادئ إنسانية راسخة لصالح الإنسانية جمعاء، فلا بأس من هذا التنازل. وألا فلماذا تحاول الأمم أن تحل مشاكلها ومشاكل السلم والحرب والرخاء عن طريق التعاون والتكالف الدولي؟
هذا الميثاق الجديد الذي نحن بصدده هو وليد مناقشات - بعضها بلغ منتهى الحدة - استمرت عامين ونصف العام لعب فيها الدكتور شارل مالك مندوب لبنان في هيئة الأمم(811/4)
ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي دوراً رئيسياً اعترف به وقدره مندوبو الأمم المتحدة في عبارات التقريظ التي أعقبت مرور الميثاق في الجمعية العمومية في جلساتها الختامية بقصر شايو بباريس. فقد كان الدكتور مالك مقرراً للجنة التي وضعت الميثاق، وقد صاغ كثيراً من مواده في بلاغة وحكمة استدعت الفخر والإعجاب. لأن الدور الذي قام به المندوب العربي دل على الكفاية الكامنة في الشعوب الصغيرة إذا أعطيت الفرصة وتوفرت لها الرعاية قامت بخدمات فريدة.
وبعد. إنه ميثاق حقوق الإنسان لا يزال حبراً على ورق. ترى هل يقدر له أن يلعب الدور الذي لعبه في تطور الحرية الفردية (الماجناكارتا) وتعاليم الثورة الفرنسية؟
الجواب في مدى التعاون الذي سيسود العلاقات الدولية في السنين القادمة، ومدى رسوخ الاستقرار في عالم مضطرب.
(نيويورك)
عمر حليق(811/5)
الفيلسوف القتيل:
شهاب الدين السهروردي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
شخصية أضفي عليها مصيرها المحزن كثيراً من الخيالات. فمن معجب يدافع عنها ويضيف إلى محاسنها، ومن ناقم يحقرها ويزيد في مثالبها. وقد أختلف مؤرخوه حتى في اسمه؛ فقال بعضهم: هو أحمد، وقيل كنيته اسمه، وهي أبو الفتوح، وذكر ابن أبي أصيبعة أن اسمه عمر، وارتضى ابن خلكان أن اسمه يحيى ابن حبش الملقب بالمؤيد بالملكوت.
ولد في سهرورد، وهي بليدة في العراق المجمي، حول سنة 549، ودرس الفلسفة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة المرافة، من أعمال أذربيجان، حتى برع فيهما. ومجد الدين الجيلي هذا هو شيخ فخر الدين الرازي، عليه تخرج وبعلمه انتفع، وكان بارعاً في فنونه. وقد دارت بين تلميذيه: الفخر والشهاب مباحثات كثيرة. ودرس السهروردي إلى جانب الفلسفة علم الكلام والمنطق. ويقال إنه كان يعاني السيمياء وأبواب النيرنجيات، وهي أشياء تشبه السحر لا حقيقة لها، وأوردوا له في ذلك قصصاً.
والظاهر أنه كان على درجة عالية من الذكاء وفصاحة العبارة والمقدرة الجدلية؛ كان الشيخ فخر الدين المارديني يقول عنه: ما أذكى هذا الشاب وأفصحه! لم أجد أحداً مثله في زماني إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه أن يكون ذلك لتلفه. ويبدو أن نظرة المارديني إليه كانت صادقة؛ فأن اندفاعه في إعلان آرائه كان سبب رداه، فقد مضى إلى حلب، وأعلن آراءه بها وكان ذلك سنة 575، واستمال خلقاً كثيراً تبعوه. ولست ادري إن كان أتباعهم إياه أتباعاً لآرائه الفلسفية، أو أتباعاً لسيميائه ونيرنجياته إذا صح علمه بهما. واتصل بالظاهر غازي بن صلاح الدين. وهنا يختلف المؤرخون؛ فمن قائل: إنه عندما اتصل بالظاهر أعجبه كلامه، ومال إليه، وأحضر أكابر المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث، فناظره العلماء، فظهر عليهم بعبارته، فحسن موقعه عند الظاهر وقربه، فازداد تشنيع العلماء عليه، وكتبوا محاضرة بكفره وأرسلوها إلى دمشق إلى صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا فانه يفسد الملك الظاهر، وكذلك إن أطلق، فانه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك. فبعث صلاح الدين(811/6)
إلى ولده كتاباً بخط القاضي الفاضل يقول فيه إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل إلى أن يطلق أو يبقى بوجه من الوجوه. ومن قائل: إنه عندما حضر إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله، بسبب اعتقاده، وما ظهر لهم من سوء مذهبه، وكان أشد الجماعة عليه الشيخان: زين الدين ومجد الدين ابنا حميد فحبسه الظاهر ثم قتله بإشارة والده.
ويختلفون في طريقة قتله، فقال بعضهم: قتل خنقاً، وقال آخرون: إنه اختار أن يترك في مكان منفرد، ويمنع من الطعام والشراب، حتى يلقى الله تعالى، ففعل به ذلك. وقال بعضهم: إنه قتل وصلب أياماً. والذي أرجحه من ذلك رواية ابن شداد من أن الظاهر قبض عليه لما بلغه من خبره، ثم عرف السلطان به، فأمر بقتله فقتله، وكان ذلك سنة 587 وسنه نحو ستة وثلاثين عاماً.
لم اقرأ كتب الشهاب كلها حتى أستطيع تحديد آرائه المخالفة لآراء الجمهور. ويبدو أن اندفاعه في إبداء أفكاره من غير تقييد لها كان سبب هذا القتل؛ فقد قال له العلماء: إنك قلت في بعض تصانيفك: إن الله قادر على إن يرسل نبياً، وهذا مستحيل. فقال: ما وجه استحالته؟ فأن الله القادر لا يمتنع عليه شيء. فلم يفرق لسائليه بين الممكن في حد ذاته، والممكن الذي أخبر القرآن بأنه لن يقع.
واتهموه بانحلال العقيدة والتعطيل، واعتقاد مذهب الحكماء المتقدمين. ولكن ما أثر عنه ينفي ذلك، فقد رووا من دعائه قوله: اللهم يا قيام الوجود، وفائض الجود، ومنزل البركات، ومنتهى الرغبات، منور النور، ومدبر الأمور، واهب حياة العالمين، أمددنا بنورك، ووفقنا لمرضاتك، وألهمنا رشدك، وطهرنا من رجس الظلمات، وخلصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك، ومعاينة أضوائك ومجاورة مقربيك، وموافقة سكان ملكوتك، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من الملائكة والصديقين، والأنبياء والمرسلين). واثر عنه مناجاة جاء فيها: (إلهي وإله جميع الموجودات: من المعقولات والمحسوسات، يا واهب النفوس والعقول، ومخترع ماهيات الأركان والأصول، يا واجب الوجود، ويا فائض الجود، يا جاعل القلوب والأرواح، ويا فاعل الصور والأشباح، يا نور الأنوار، ومدبر كل دوار، أنت الأول الذي لا أول قبلك، وأنت الآخر الذي لا آخر بعدك. الملائكة عاجزون عن إدراك جلالك، والناس قاصرون عن معرفة كمال ذاتك. اللهم خلصتا عن العلائق الدنية(811/7)
الجسمانية، ونجنا من العوائق الردية الظلمانية. أرسل على أرواحنا شوارق أنوارك، وأفض على نفوسنا بوارق آثارك. العقل قطرة من قطرات بحار ملكوتك، والنفس شعلة من شعلات نار جبروتك. ذاتك ذات فياضة، تفيض منها جواهر روحانية، لا متمكنة ولا متحيرة ولا متصلة ولا منفصلة، مبراة عن الأحياز والأين، معراة عن الوصل والبين، فسبحان الذي لا تدركه الإبصار، ولا تمثله الأفكار. لك الحمد والثناء، ومنك المنع والعطاء، وبك الجود والبقاء، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون).
والظاهر أن نسبته إلى التعطيل جاءت من إنه كان يرى رأي المعتزلة الذين لا يرون الصفات شيئاً خارجاً عن الذات، وهو يقول عن ذلك في كتابه: هياكل النور: (والصفة لا تجب بذاتها وإلا ما احتاجت إلى محلها، فواجب الوجود ليس محلاً للصفات ولا يجوز إن يوجد في ذاته صفات. فإن الشيء الواحد لا يتأثر عن ذاته. ونحن إذا تصرفنا في عقولنا يكون الفاعل شيئاً والقابل شيئاً آخر. فواجب الوجود واحد من جميع الوجوه؛ ولكن ليس معنى هذا نفي الصفات عن واجب الوجود. وقد اثبت لله هذه الصفات؛ إذ قال في هياكل النور: (وله من كل متقابلين أشرفهما، وكيف يعطى الكمال من هو قاصر؛ وكل ما يوجب تكثيراً من تجسيم أو تركيب ممتنع عليه تعالى، والحق لا ضد ولا ند له، ولا ينتسب إلى ابن، وله الجلال الأعلى، والكمال الأتم، والشرف الأعظم، والنور الأشد: ليس بعرض فيحتاج إلى حامل يقوم به وجوده، ولا بجوهر فيشارك الجواهر في حقيقة الجوهرية، ويفتقر إلى مخصص دلت عليه الأجسام باختلاف هيئاتها. فلولا مخصصها لما اختلفت أشكالها ومقاديرها وصورها وأعراضها وحركاتها. وما أوردناه من مناجاته ودعائه، وما قدم به كتابه هياكل النور يدل على أنه يثبت لله صفات الكمال الأسمى. . . . .
والشهاب يسير في إثبات وجود واجب الوجود، وما هو عليه من كمال على طريق الفلاسفة الذين يعتمدون على الدليل العقلي؛ كما ترى ذلك في كتابه المشارع والمطارحات (ص127) وكتابه هياكل النور.
لست ادري كيف نسبوه إلى الإلحاد وما أوردناه من كلامه لا يدل على الحاد ولا زندقة؟ وكيف نحكم بالإلحاد على رجل يقول: (فوحد الله، وأنت بتعظيمه ملآن، وأذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو كان في الجود شمسان، لانطمست الأركان)؛ ويثبت وحدانية(811/8)
واجب الوجود بقوله في هياكل النور (ص5): (لا يصح أن يكون شيئان هما واجباً الوجود لأنهما لو اشتركا في جوب الوجود فلا بد من فارق بينهما، فيتوقف وجود أحدهما أو كليهما على الفارق، ولا يمكن أن يكون شيئان لا فارق بينهما فانهما يكونان واحداً) ويقول (ص12): (ويجب على المستبصر أن يعتقد صحة النبوات)؛ ويرى أرواحنا نوراً حادثاً خلقه الله إذ يقول (ص6 من هياكل النور): (ونفوسنا الناطقة أنوار حادثة ولها مرجح ولا توحدها الأجسام، إذ لا يوجد الشيء وما هو اشرف منه، فمرجحه أيضاً نور مجرد، فأن كان واجب الوجود فهو المراد، وإن أمكن فينتهي إلى واجب الوجود الحي القيوم. وكان يدعو واجب الوجود نور الأنوار، ولست أرى في ذلك اكثر مما أجده في قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض).
أما مذهبه في التصوف فمذهب الإشراقيين الذين يرون المعرفة إنما تنال بإشراق منه تعالى على قلوب مريديه، وله في ذلك كتاب حكمة الإشراق، ويحدثنا عن ذلك بقوله في الهيكل الثامن: (النفوس الناطقة من جوهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذه القوى البدنية ومشاغلها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية، وضعف سلطان القوي بتقليل الطعام والشراب، وتكثير السهر، تخلص النفس أحياناً إلى عالم القدس، وتتلقى منه المعارف والمغيبات، في نومها ويقظتها، كمرآة تنتقش بمقابلة ذي نقش. . . فيشاهد (المريد) صوراً عجيبة تناجيه، أو يسمع كلمات منظومة، أو يتجلى الأمر الغيبي)؛ ومن اجل ذلك يرى أجسادنا المظلمة لا تستطيع أن تلج ملكوت السماوات الذي تصل إليه الروح التي هي نور من أنواره تعالى، منه مشرقها وإليه مغربها، وهي لذلك تحن إلى مصدرها. وله في ذلك شعر قاله على مثال أبيات ابن سينا العينية بدأه بقوله:
خلعت هياكلها بجرعاء الحمى ... وصبت لمغناها القديم تشوقاً
وله أيضاً شعر على مذهب المتصوفة الذين يشتاقون الوصول إلى الحق، والاتصال بالنور الأسمى، كقوله:
أبداً نحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... والى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح(811/9)
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء العاشقين تباح
وإذا همو كتموا تحدث عنهمو ... عند الوشاة المدمع السفاح
وكان الشهاب يؤمن بكرامات الأولياء التي قد يكون منها أن تخضع العناصر لإرادة الصوفي، وقد قال عن ذلك في كتاب الهياكل (ص12). (وقد تطرب النفوس المتآلهة طرباً قدسياً، فيشرق عليها نور الحق الأول تعالى، فتخضع لها العنصريات، ولما رأيت الحديدة الحامية تتشبه بالنار بمجاورتها، وتفعل فعلها، فلا تتعجب إن أشرقت النفس، واستضاءت بنور الله تعالى، فأطاعتها الأكوان إطاعتها للقديسين).
فالشهاب - كما يبدو لي - رجل صوفي، جمع إلى ثقافته الدينية، وعقيدته الإسلامية، ثقافته بفلسفة الإغريق وحكمتهم، من غير أن يخرجه ذلك عن حدود الإسلام، ومن أجل هذا أرى صلاح الدين قد تسرع بإصدار الحكم عليه بالقتل، وأن العلماء الذين أفتوا بذلك، فتبعهم صلاح الدين - كانوا مخطئين؛ فليس ما خالف مذهب أهل السنة يعد كفراً وزندقة. ويقال: إن الملك الظاهر ندم على قتله، وانتقم من الذين أفتوا بإباحة دمه، وقبض على جماعة منهم واعتقلهم.
هذا، ولا بد أن قد كان لهذا القتل أثره في إخفات صوت الفلسفة، وخنق كل صوت لا يدين بمذهب أهل السنة.
وقد اختلف معاصروه في تقديره وفي حياته وبعد مماته؛ فهذا عبد اللطيف البغدادي يقول عندما دخل الموصل: وسمعت الناس يهرجون في حديث الشهاب السهروردي المتفلسف، ويعتقدون إنه قد فاق الأولين والآخرين، وإن تصانيفه فوق تصانيف القدماء، فهممت لقصده، ثم أدركني التوفيق، فطلبت من ابن يونس شيئاً من تصانيفه، وكان أيضاً معتقداً فيها، فوقعت على التلويحات واللمحة والمعارج، فصادفت فيها ما يدل على جهل الزمان، ووجدت لي تعاليق كثيرة لا أرتضيها، هي خير من كلام هذا الالوك.
أما سيف الدين الآمدي فيراه كثير العلم قليل العقل، ويروى أن الشهاب قال له: لا بد أن أملك الأرض، فقال الأمدي: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر. فقال الأمدي لعل هذا يكون اشتهاء العلم أو ما يناسب هذا. ولكن الامدي لم يرجع عما وقع في نفسه. وربما كان ذلك منسوباً إلى الأمدي كذباً، لأنا نستبعد ذلك على رجل مثل(811/10)
السهروردي أو كان ذلك صادراً عن رأيه في كرامات الأولياء، وقد سبق لنا عرضه.
أما بعد موته، فقد كتب كاتب على قبره بعد دفنه بظاهر حلب:
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة ... مكنونة، قد براها الله من شرف
فلم تكن تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرةُ منه إلى الصدف
قال ابن خلكان: وأقمت بحلب سنين، للاشتغال بالعلم الشريف، ورأيت أهلها مختلفين في أمره، وكل واحد يتكلم على قد هواه، فمنهم من بنسبه إلى الزندقة والإلحاد، ومنهم من يعتقد فيه الصلاح، وإنه من أهل الكرامات؛ وأكثر الناس على أنه كان ملحداً لا يعتقد شيئاً.
وللشهاب من المؤلفات كتاب التنقيحات في أصول الفقه، وكتاب الألواح العمادية، وهو عجالة في المبدأ والمعاد على رأي الإلهيين، وكتاب التلويحات في ثلاثة علوم: المنطق، والطبيعي، والإلهي، وكتاب المقاومات، وهو لواحق على كتاب التلويحات، وكتاب هياكل النور، وقد شرحه جلال الدين محمد بن اسعد الدواني، وكتاب علم الهدى وأسرار الاهتداء، وكتاب اللمحات وكتاب المعارج، وكتاب حكمة الإشراق، وهو متن مشهور، شرحه الأكابر - كما قال في كشف الظنون - ومنهم قطب الدين الشيرازي، وكتاب المشارع والمصارحات. وهي كتب في المنطق والفلسفة والتصوف وله رسالة العزبة الغريبة على مثال رسالة الطير لابن سينا، ورسالة حي بن يقظان له كذلك، وقد أشار فيها إلى حديث النفس على اصطلاح الحكماء.
ونختم هذه الترجمة بذكر ما وصفه به بعضهم من إنه كان زري الخلقة، دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوباً ولا جسماً ولا يداً، ولا يقص ظفراً ولا شعراً، وكان القمل يتناثر على وجهه، ويسعى على ثيابه، وكل من يراه يهرب منه. وعندي أن ذلك من وضع شانئيه، ولو كان كما وصفوا ما خشي صلاح الدين منه فتنة أن يتبعه أحد.
وبعد فارجوا أن أوفق إلى دراسة كتب هذا الرجل، فعساي أدرك سر قتله، لأني أرجح - إلى اليوم - إنه قتل مظلوماً.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(811/11)
خواطر سياسية وأدبية
للدكتور السيد محمد يوسف الهندي
إن للأقوام أمزجة وطباعاً كما أن للأفراد ميزات وخصائص. وقد عرفت حينما كنت بالهند أن مما يمتاز به الشعب المصري شدة التأثر بالحاضر، وانشغال القلب بالحال إلى حد تكييف الماضي به وعدم المبالاة بالمستقبل في بعض الأحيان، وربما اتخذت هذه الميزة مظهرين لها اعني قوة الانفجار والوثوب لمكافحة الشر المستفحل الماثل أمام العين، والركون إلى كل قليل أو كثير يبشر بالخير ولو إلى وقت ما.
كنت أعرف هذا على طريق الإجمال قبل ورودي مصر، ثم صادف أن ألقيت عصا التيار بشط وادي النيل وقضيتها معروضة على مجلس الأمن، فحرصت على أن أتتبع الحوادث والتطورات مع آراء الرجال واتجاهات الأحزاب إزاءها، كما اقرأها على صفحات الجرائد وأشاهدها بعيني في الشوارع والأندية. فبينما أنا معجب كل الإعجاب بروح العداء للاستعمار الأجنبي السياسي (أخص بالذكر (السياسي) لأنني مع الأسف لم ألمس نفس تلك الروح في ميادين الاقتصاد والتقاليد الاجتماعية ومنهاج الفكر) التي أيقنت إنها عمت الشعب كافة، إذا بسيل من الكلمات تتدفق على صفحات الجرائد داعية إلى خطة التقرب من الدب نكاية بالأسد على اثر تأييد روسيا لمطلب مصر الخاص بالجلاء (دون اتحاد السودان معها)، فأسهب المحررون والكتاب في التنويه بصداقة روسيا وضرورة استيراد القمح منها وإنشاء العلاقات الاقتصادية والتجارية معها هي ومن تسايرها من الأمم مثل بولندا دون الأمم الانجلوسكسونية.
وقفت حائراً أمام هذا الموقف المفاجئ أفكر في نفسي في مدى جدوى مثل هذه الحماسة البالغة في الاعتراف بالجميل وتقديم الشكر عليه في ميدان السياسة الدولية في القرن العشرين، ولكن الأمر كان بالطبع موكولاً إلى الأيام أن تثبت هل ستستقر سياسة العرب على هذا التحول الجديد أم لا؟
ثم حدث أن رأيت الشبان يثورون على البن ويثأرون من أصله (البرازيلي)، وما لبثت ثائرتهم أن سكنت بمجرد محو اسم البرازيل من واجهة المحل مع بقاء جميع الأوضاع كما هي حسبما أعلم، كما انهم يقتنعون بلصق لافتات (إنقاذ فلسطين) على أبواب المحلات(811/13)
الكبرى بشارع فؤاد وهم يعلمون حق العلم أن أصحابها اليهود هم في الحقيقة عماد الصهيونية في الشرقين الأدنى والأوسط، وانهم إنما يستغلون الوطنية والجنسية المصرية بدون أن يشاركوا المصريين في آمالهم أو يواسيهم في آلامهم.
هذا، ومما زادني دهشة أن اتفق زعماء الأحزاب على ركوب سيارة واحدة تطوف بهم حول القنصليات لتأدية واجب الشكر لبعض الدول والشكاية إلى بعضها الآخر، وخطب ود (أو بالأحرى صوت) جميعاً، وربما كانوا مصيبين في خطتهم هذه تظاهراً بإجماع رأيهم واتحاد كلمتهم، ولا سيما إذا هم عجزوا عن الظهور في مظهر أروع من ذلك، ولكن آلمني كثيراً البيان الذي أدلوا به أمام سفير فرنسا. ومن شاء فليراجع (الأهرام) فقد لهجت ألسنتهم بذكر الآمال الجليلة التي كان العرب عقدوها بفرنسا منذ بداية العصر الحديث، ومن بينها الأمل الضائع (لا قدر الله له أن يتحقق) في مزاحمة فرنسا للاستعمار البريطاني في مصر!
أنا واثق بأن كلاً من هؤلاء الزعماء الكرام لا يريد إلا الاستقلال التام لبلاده، ولكن من الصعب أن يجد أحد أي مبرر ولو في اشد الأوقات حرجاً لتوجيه مثل هذه الدعوة إلى دولة قد ذاق العرب في مختلف الجهات ولا يزال إخوانهم في المغرب يذوقون الأمرين من جراء استعمارها، وعلى الأقل فهي الغاية لقصر النظر في الأحوال والظروف الطارئة من يوم إلى يوم
لم يمض إلا وقت قليل حتى كشرت روسيا عن أنيابها، فكانت من اشد الأنصار لتقسيم فلسطين، وبلغ الحال أن بدأ ممثلو العرب وزعماؤهم يستغلون موقف روسيا العدائي لتخويف أمريكا وبريطانيا بعد أن ضيعوا أنفاسهم واتعبوا أقلامهم يستنجدون بصداقتها ضد تينك الدولتين منذ بضعة أشهر فقط.
وأخيراً لم يتمالك عرب فلسطين أن بادروا إلى رفع أعلام أمريكا على بيوتهم والهتاف بحياتها في الميادين والشوارع حينما خيل إليهم أن أمريكا نفضت يدها من مشروع التقسيم. وما من شك أن مثل هذه المظاهرة لا يمكن أن تكون طبيعية، إنما كانت مدبرة من الزعماء الذين تسرعوا في الاعتزاز بأنفسهم والتبشير لشعبهم والتسليم لأمريكا بما يتاجرون به من صداقة العرب.
لا أدري ماذا صنعوا بتلك الأعلام في اليوم التالي حينما صرح الرئيس ترومان بأن العرب(811/14)
أو زعماءهم جاوزوا الحزم في حمل موقف أمريكا الجديد على التبرؤ من فكرة التقسيم. لا ادري ماذا صنعوا بتلك الأعلام؟ هل نكست ومزقت وحرقت، أو ادخرت لمناسبات أخرى في المستقبل؟ وعلى كل حال فقد تبين أن السياسة القصيرة المدى التي تعيش بها من اليد إلى الفم ربما تؤدي إلى مهازل وفضائح ومآسي، وإنما مرد ذلك إلى أن الزعامة لا تزال بأيدي رجال لا يتعدى فكرهم نطاق التحين للفرص، فهم يتهيبون ويماطلون في كل خطوة إيجابية جريئة ترمي إلى قلب الأوضاع وخلق الظروف المواتية لقضيتهم، وذلك أول الوهن.
إنما سردت ما سردت من تأثراتي لأهم ما وقع في العالم العربي السياسي أثناء البضعة أشهر الماضية لأخلص منها إلى الكلام عن أهم حادث في العالم الأدبي، أعني ظهور (الفتنة الكبرى - عثمان بن عفان) من تصنيف الدكتور طه حسين. وقد أتفق لي أن قرأت انتقاد الأستاذ محمود محمد شاكر لهذا الكتاب قبل أن تتاح لي الفرصة لمطالعة الكتاب نفسه.
نعم، قرأت انتقاد الأستاذ على صفحات (الرسالة)، فعجبت لما بذل من جهد في سبيل إقامة الحجج والبراهين على عداء اليهود للمسلمين والإسلام. وما أغناه عن ذلك فإنها حقيقة أظهر من الشمس لكل ذي عينين نبه عليها القرآن وأكدها النبي وصدقتها التجارب المتكررة، إنما جبن المسلمون فتعمدوا نسيانها والإعراض عن الشهادة بها حينما ذهبت ريحهم فأصيبوا بمركب النقص في تفكيرهم حتى بدءوا يلتمسون الرقي والتقدم في محاكاة الأمم الغربية المتحكمة فيهم، فأقاموا حياتهم السياسية الحديثة على أساس النظريات الأجنبية غير الإسلامية من القومية والوطنية، وأرادوا أن يستمدوا القوة من الاشتراك في الماء والهواء وبعض الأغراض المادية التي هي الأصل عند الكفار، والمشركين الذين لا يعيشون إلا لها. أما المسلم، فإنما يعيش بها لتحقيق المبادئ السامية والقدور العالية والأخلاق الفاضلة ومقاييس الصواب والخطأ والحلال والحرام التي هي المقومات الجوهرية لكل حلف دائم ليتتبع ولاء صادقاً، والتأمين على الغش وطغيان طائفة على أخرى، ولكن أتى على المسلمين زمن سولت لهم أنفسهم فيه أن يخجلوا ويتبرءوا من كل ما ينم عن فكرة دينية، حتى ولو كان من المبادئ المقررة والحقائق التاريخية الثابتة لكي(811/15)
يتسنى لهم الحصول على لقب (المستنيرين) من عدوهم الذي بهرهم بقوته وشوكته.
قد فعل المسلمون ذلك وظنوا ولا يزال كثير منهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، ولذلك استبشرت بخير كثير حينما قرأت مقال الأستاذ محمود محمد شاكر يحدثنا فيه عن العلاقات بين المسلمين واليهود عسى أن تسفر محنة فلسطين عن نعمة عظمى، إلا وهي الانقلاب في للفكر السياسي عند العرب بحيث يتأكدون أن التسامح لا مقام له أي وزن إلا إذا من قوي يقظ شديد المراس مستكمل المدة، مستقل بنفسه، قادر على قلب ظهر المجن عند ظهور أولى بوادر الشر، ولن يتأتى للمسلمين مثل هذه القوة إلا إذا كانت حياتهم منسقة على أسس دينية بحتة، وما من شك في أن كل من يتأمل هذه الحقيقة لا بد أن تختلج بين يديه الحركات والمنظمات السياسية الحالية للعرب بأسرها بما فيها الجامعة العربية
وبمناسبة ذكر الجامعة العربية أقول: أو ليس من العجب أن يتنكب ويتنصل المؤتمر الثقافي العربي من عرض الإسلام كعامل لم يزل ولا يزال، على الرغم من أهواء المستنيرين والمتقدمين، يلعب دوراً هاماً في حياة معظم أفراد الشعب العربي طيلة القرون الثالثة عشرة الماضية؟
ومما يزيدني عجباً أن أصحاب المؤتمر اجترءوا على ارتكاب مثل هذا الخطأ الفني في حين قد بدأ مفكرو الغرب يعترفون علنا بأثر الدين بتكوين النفسية وتزكية العقل وتوجيه العواطف التي هي مبدأ جميع الأعمال الإنسانية. أفلا يستحق الدين أن يلقى عناية من الباحثين العرب ولو من الناحية الفنية؟ ولو فرض جدلاً إنه يحق للزعماء أن يتناسوا الدين لأغراض سياسية في الحال الحاضر فليت شعري من أين استمدوا سلطتهم على الماضي حتى يقترحوا تنشئة الجيل الجديد على ذكرى أمجاد العرب بدون أن يوفوا الإسلام حقه؟ ما أجدرهم أن يدركوا أن التعصب للوطن أو الجنس (وقد بكى شعراء العرب قديماً ضياع الأنساب واختلاط الأحساب) ربما يكون أشنع وأضر بالإنسانية من التعصب الديني! فهل يحتاج أحد إلى التذكير بأن العرب لم يشيدوا ما شادوا من صروح المجد، لأنهم كانوا ينطقون اللغة العربية (وحاشا الله أن أنكر لتلك اللغة، لغة الإسلام - وقاها الله شر اللهجات - فضلها) أو لأنهم تأثروا بالفكر الروماني أو تحضروا بحضارة البحر المتوسط؟ إنما شادوا ما شادوا وبنوا ما بنوا لأنهم كانوا مسلمين قبل ومسلمين بعد، ولن يأتوا بمثل ذلك(811/16)
أبداً إلا إذا أخلصوا للإسلام وجهروا به لا في العبادة فحسب، بل وفي تنظيم حياتهم الاجتماعية والسياسية، وتنسيق شؤونهم المادية والاقتصادية جميعاً.
أما الخطة التي بسطها أخيراً نبيه أمين فارس في كتابه (العرب الأحياء) - وهي مع الأسف الخطة التي تسير عليها الحياة السياسية في الممالك العربية - فهي أخطر على الإسلام والمسلمين من شبح الشيوعية التي لا يتوانى ولاة الأمر في مكافحتها باستغلال العاطفة الدينية بدون أن يصرفوا همهم إلى تنفيذ مبادئ الإسلام الاقتصادية مثل فرض الزكاة وما إلى ذلك.
نعم، إن الخطة التي دعا إليها نبيه أمين فارس، والتي تهدف إلى جعل محمد صلى الله عليه وسلم بطلاً من أبطال القومية (معاذ الله من ذلك) - وبالفعل وصف محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة في الرسالة التي تفضل بها أحد رؤساء العرب بمناسبة عيد الميلاد - ليست إلا ستراً لضعف المسلمين، ومكيدة لحل قواهم، وضربة قاضية على كيانهم، إن محمداً لم يجمع كلمة العرب فحسب، بل جمع كلمة العرب والعجم جميعاً، ثم كيف يفوت أحداً أن يتساءل: على أي شيء جمع كلمتهم؟ العروبة أو الإسلام؟ أقسم بالله أني لم أتألم من قراءة أي كتاب حتى ما كتبه المستشرقون من الطعن في الإسلام بقدر ما تألمت من قراءة هذا الكتيب الذي أعده أحق بالمصادرة من جميع ما تصدر الأحكام بمصادرته من يوم إلى يوم، ولكن ماذا نصنع إذا تخلى الأزهر الشريف عن وظيفته فصار يسير في موكب الساسة وولاة الأمور دون أن يسمو إلى توجيههم وإرشادهم لوجه الله، فهل يصدر الفتوى ضد الشيوعية وضد بيع الأراضي ليهود فلسطين ليساعد الحكومة في بعض أعمالها ويسكت عن أشياء ليتجنب معارضة الساسة وعرقلة الحكومات (حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء)، وليس هذا شأن أهم وأقدم مؤسسة للعلوم والثقافة الإسلامية التي لا تصور فصل الدين عن الدنيا بأي حال من الأحوال. أفلا يجدر بالأزهر والمنتسبين إليه أن يترفعوا عن الحزبية والإقليمية اللتين ربما سببتا إقفال أبوابه، ثم يشنوا حملة شعواء على ما يجدونه في الشوارع والأندية والملاهي من العناصر والمظاهر والتقاليد غير الإسلامية في حياة الأمة بأسرها بما فيها السياسة والحكومة والآداب الاجتماعية والأخلاق الفردية؟!
(البقية في العدد القادم)(811/17)
السيد محمد يوسف الهندي(811/18)
أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وهجرته إلى
الديار المصرية
للأستاذ حسني كنعان
- 4 -
خضع الوالي (فاضل باشا) لإرادة عبد الحميد جبار بني عثمان وأغلق مسرح القباني ومنعه عن العمل على كره منه، ولو توانى وقتئذ في تنفيذ الإرادة السنية، لكان طعمة للأسماك في بحر مرمرة مقبرة الأحرار السلبيين. . . ففرح خصومه الذين كان على أيديهم هذا الصغر، وجزع عليه عشاقه وعارفو فضله وهم الأغلبية الساحقة في البلاد، ولكنها إرادة الجبار المجتثة من إرادة الله. فلم يجرؤ أحد على ردها. وما كان علماء دمشق جميعهم راضين عن إقفال هذا المسرح، لأنهم كانوا يرونه مهذباً للأخلاق معواناً على الوعظ والإرشاد، وبث الأخلاق الفاضلة وتجنب الرذيلة، حتى أن شيوخ القباني الذين كانوا ينكرون عليه هذه النزعة في مطلع حياته إضراب المفتي الشيخ محمود حمزة ذي النزعة الصوفية، والشيخ واعظ السجدة وكبار العلماء المنقضين، كانوا لا يتورعون عن حضور مجالسه ومشاهدة رواياته الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية المأخوذة من صور حياة البيئة التي ولد فيها ودرج في أفيائها، لأنهم ما كانوا ليروا فيها من الأمور المحرمة ما يخالف مبادئهم. أما الذين كانوا يناوئونه من أرباب العمائم الذين اتخذوا من هذه (الخرقة) التي تستر رءوسهم الفارغة وسيلة للتخلص من الخدمة العسكرية في ذلك العهد. . وهم ليسو على شيء من العلم، ولقد لاقى القباني من جور هذه الفئة وعثوها وفتنتها وشغبها ما زهده في الحياة وجعله يقيم في منزله معتزلاً الناس لا يرى أحداً ولا يراه أحد. .
ولقد طال اعتزاله الناس والبعد عنهم حتى كادوا ينسونه، وإذا ما فكر مفكر منهم فيه خاف جفوة السلطان وغضبه. . . وكان هؤلاء الخصوم المرتزقون المتكسون الذين طالما فادوا من أعطيات صاحبهم ومنحه ومبراته يغتنمون فرصة جور سلطانه وكلب زمانه فيركبونه بالشغب والإزعاج كلما أبصروه على سبيل المصادفة في طريقهم حتى أنهم كانوا يتبعونه الصبية المأجورين لهذه الغاية فيترسمون خطاه، ويسمعونه من المدائح (والقريديات)(811/19)
والأهازيج الموضوعة من أجل إغاظته وإزعاجه ما يندى له جبين الفضيلة والأخلاق كقولهم له:
أبو خليل النشواتي ... يا مزيف البنات
ارجع لكارك أحسن لك ... إرجع لكارك نشواتي
أبو خليل مين قال لك ... على الكوميدى مين دلك
ارجع لكارك أحسن لك ... إرجع لكارك قباني
أبو خليل القباني ... يا مرقص الصبياني
ارجع لكارك أحسن لك ... أبو خليل القباني
وكانت هذه الأهازيج تقض مضجعة ومضجع مر يديه، ولكن من ذا الذي يعارض ويدافع عنه وهو مجفو من السلطان والناس في مثل هذه الساعات يظهرون معاداتهم لمثل من يكون هذا شأنه معهم؟
وكان القباني كثيراً ما يبقى شارد النوم موزع الفكر واللب من جراء ما يلقاه إلى أن أخذ يفكر في الخروج من هذا المحيط الضيق الذي ضيقوا عليه فيه واسعاً. وفي ليلة من ليالي الشتاء العابس نبا به مضجعه وند النوم عن مقلتيه لشدة ما عراه من الفكر والهواجس؛ وما أكثر الليالي الطوال التي كان يشرد فيها النوم عن عينيه! وكان قد رنق النوم أجفانه في الفجر فهب بعد ساعتين من هجعته على أثر سماع هاتف خيل إليه إنه يهيب به قائلاً: أيها الراقد المتناوم المؤرق هب من ضجعتك واطرد عنك الهم والحزن، فأن مستقبلاً لامعاً يعد لك وهو ينتظرك في غير هذى البقعة الضيقة. . . قم وأبحث عن غير هذه المواطن التي تدفن فيها العبقريات:. . .
إذا ضاق صدرك من بلاد ... ترحل طالباً أرضاً سواها
فإنك واجد أرضاً بأرض ... ونفسك لم تجد نفساً سواها
فخف على أثر سماعه صوت الهاتف وجعل يخطر في غرفته ذهاباً وإياباً ويصيح بملء صوته: وجدتها وجدتها. . .
فصاحت به ربة الدار حانقة غاضبة ومن هي التي وجدتها يا رجل. . .؟ كفاك كفاك هراء، لقد أمرضتني والله وأزغت عقلي بهذه الموجات الجنونية التي تواتيك الفينة بعد الفينة لا(811/20)
نوم ولا راحة ولا استكانة ولا شغل لك إلا بهذه الهواجس والفكر. إن الذي ألقاه منك ويلقاه بنوك الصغار قد يضيق الصدر منه، ويعز الصبر عليه، لا عمل لك ولا شغل إلا هذه المهاترات. ارجع إلى صناعتك الأولى وأرحنا من هذا العناء وخلصنا من شبح الكوبة، قل لي: بالله ما الذي جنيته من الأموال وما الذي اكتنزته من وراء هذه الصناعة صناعة التمثيل؟ إنك والله ما جنيت منها سوى التعب ومعاداة الناس وجور السلطان، وعار الأبد. إنك منذ مزاولتك هذه الصناعة ألبستني ثوب العار، كما جلبت لنفسك ولرهطك مذلة الأبد بهذه (الضربويات) التي نسمعها والتي درجت على ألسن الناس مدرج الأمثال. وهل إنسان في الكون يطيق سماع عبارات كالتي توجه إليك، وفيها التحقير والتشهير، وأنت إلى هذا لا تستطيع أنت وصحبك أن تصنعوا شيئاً، أرأيت أن عبارة:
أبو خليل يا بومة ... يا بو اللفه الرومي
أعطيني من ذقنك شعرة ... لأصلح ها لبيتوني
لو وجه مثلها إلى أحقر إنسان في العالم أكان يصبر عليها ويرضى هذا الذل؟
وهنا استشاط القباني من الغضب والحنق وصاح بها مجيباً:
على رسلك يا امرأة، وما تضيرني هذه الأهازيج والأقوال، ولو كانت هذه العبارات تضر إنسانا أو تحول دون وصوله إلى غاياته وبلوغ أمنيته، لأضرت بالعظماء وبالنبيين قبلي، لأنهم كانوا يلاقون من عنت الناس وجورهم ما لا يقاس ما لقيته بشيء تجاه ما لقوه، ومع هذا فقد مضوا في عملهم. صابرين مستكينين إلى أن أدوا رسالتهم تامة غير منقوصة، وجنوا ثمار جهودهم بأن خلدوا لهم ولأمتهم أحسن الذكر. فكوني متفائلة يا امرأة. والذي أمله منك التشجيع، وليس كالمرأة الصالحة معوان للرجل. فاستحيت هنا (أم خليل) ولامت نفسها قائلة (وأنا مالي أم علي تندب علي) وهنا نهض القباني المؤرق المتعب المكدود الذهن من فراشه وهو يردد قوله وجدتها والله وجدتها وجدتها. . ثم أمسك بيده قلماً وورقة وكتب بها رسالة إلى صديق له في الإسكندرية يدعى (سعد الله بك حلابو) وهو حمصي الأصل ومن أكبر تجار هذه المدينة الساحلية العظيمة، وله مراكب تجارية تمخر عباب البحر وتنقل البضائع الصادرة والواردة إلى المدن والقرى الساحلية.
يستطلع رأيه في الرسالة بالشخوص إلى الإسكندرية. ولما أطلع حلابو على الرسالة وفهم(811/21)
فحواها طار فرحاً، وجعل يمر بها على أصدقائه ويزف لهم بشرى شخوص هذا النابع إلى الديار المصرية، وكانت شهرته قد بلغت مسامع الكثيرين من المصريين. ولم تكن فرحة صديقه بالتي تذكر أمام فرحة هؤلاء المشتاقين من هواة الفن الذين يرغبون في أجتلاء طلعة هذا النابع الذي طبقت شهرته الآفاق. وفي الحال أجابه صديقه التاجر الحمصي يزين له المجيء إلى الإسكندرية، وأفهمه أن القطر المصري في انتظار قدومه وفي انتظار الخطوة في مشاهدة روائع فنه. وكان على أهبة السفر ساعة أتاه الجواب بلزوم الهجرة إلى القطر العزيز (بوتقة) العبقريين، إذ ما من فنان أو مشرد طريد من بلاده مضطهد أمها إلا لقي في هذا القطر أهلاً يحضنونه ويحدبون عليه، وأنا أعرف كثيراً من الفنانين الطريدين الذين أنكرتهم بلادهم قد بسم لهم دهرهم على جنبات هذا الوادي الخصيب وكانوا من ألمع الشخصيات في فنهم. . .
لم يأخذ القباني معه أسرته ولم يأخذ معه جوقته إلى الديار المصرية يوم نزح إليها مهاجراً مشرداً طريداً كما ترى. . . بل ذهب بمفرده، وكان سرور القوم به عظيماً جداً، وما أستقر قدمه في الإسكندرية حتى خف إليه عشاق فنه من كل صوب، وبلغ من شهرته أن غدت الوفود المهنئة تفد إليه من القاهرة، وكان مغتبطاً مسروراً بما لقي من ضروب الكرم وحسن الوفادة
وأخيراً حبب إليه عشاق الفن أن يؤم القاهرة ويفتح بها مسرحاً. وهناك أقاموا له مسرحاً في الأزبكية، فاستقدم على الفور كبار رجالات جوقته من دمشق وأخذ يزاول العمل بهة لا تعرف الملل والكلل، ثم أستقدم أفراد أسرته وسكن القاهرة ناسياً بما لقيه من تشجيع وتنشيط كل ما لقيه في دمشق من ذل ومهانة. .
وكان التمثيل مجهولاً في هذه البلاد التي قطنها، ولذا أقبل أهلها على مشاهدة رواياته إقبالاً منقطع النظير، وعاد إليه حظه الباسم وحياته المرحة. ومن أشهر رواياته التي فتن المصريون بها رواية عنترة، أنس الجليس، ناكر الجميل، (متريدات) (عفيفة) ملتقى الخليفتين، (الكوكبين) (الأمير محمود) (السلطان حسن) (أسد الشري) (لويسا) وغيرها من الروايات التي سحر الناس بها، وزيادة في الافتتان بهذه الروايات طبعها عازفو فضله وتعاورتها الأيدي، وأمست شغل الناس الشاغل. . .(811/22)
يتبع - دمشق
حسني كنعان(811/23)
الشعر في السودان
للأستاذ علي العماري
- 6 -
لم يكن غرضي في هذا الأحاديث أن أعسر الحساب مع شعراء المدرسة القديمة، ولا أن أتتبع هفواتهم، وأخطاءهم، وإنما أردت أن أكون مؤرخاً. وهذا هو الهدف الرئيسي لهذه البحوث، فإذا صحب ذلك شيء من النقد فإنما هو استطراد وأستتباع، وليس من الأنصاف أن نغوص في ثنايا هذا الشعر محققين مدققين، وحسبنا أن نقف هذا الموقف (السمح) وأن نلمس هذا الشعر لمساً خفيفاً رفيقاً وأن تبرز صفاته العامة، ونكشف سماته المشتركة، دون أن ندخل في التفاصيل فنحكم لشاعر على شاعر، أو نضع الشعراء في طبقات كما كان يفعل بعض النقاد القدامى، فذلك ما لا أريده، أو بالأحرى ما أعتقد إنه عن غرضي بمنأى، وإنما كان الأنصاف في مسلكي الذي سلكته لأنه يكفينا من هؤلاء الشعراء أنهم قالوا الشعر في تلك الأيام الخوالي بل قالوه في أغراض لم تكن البيئة مهيأة لقبول القول فيها. ولعل بهذه الكلمات أكون قد أجبت ذلك الفاضل الذي كتب إلي (يلومني) على أني أكتب بقلم المؤرخ لا بقلم الناقد وأتجاوز عن أشعار كان الواجب يقتضيني أن أكشف للقراء بهرجها، ثم أمضي إلى الغرض.
في حديثي السابق تحدثت عن شعر النسيب، وذكرت أن كبار العلماء قد خاضوا فيه، وفي حديث اسبق تحدثت عن مكانة المدائح النبوية وكثرتها عند السودانيين، وكان وقع في نفسي حين وجهت النظر إلى كتابة هذا البحث إني سأظفر بقصائد رائعة في الغزل على طريقة (ابن الفارض) فإن جميع الأسباب كانت مهيأة لهذا الغزل الإلهي، فكثير من العلماء الزهاد شعراء، وقد بدت رغباتهم في شعر الغزل. ولشعر ابن الفارض مكانة خاصة عند المتصوفين من هؤلاء العلماء، ولكن شد ما أخذ مني العجب حين لم أجد من هذا النوع شيئاً تطمئن إليه النفس، ولاشك أن خلو الشعر السوداني من هذا النوع - وقد تهيأت أسبابه - أمر يدعو إلى العجب.
ولمكان الدين عند الشعراء لا تجد الهجاء غرضاً ذا بال في أشعارهم، والذين قالوا في هذا الغرض لم يطيلوا فيه، بل ربما ذكر البيت والبيتين ومروا به مروراً سريعاً. ومن القليل(811/24)
أن نرى هجاء مستقلاً، وهو - مع ذلك - لا يعدو الطريقة العامة من الرمي بالنفاق والغدر والكبر، وربما رق الهجاء وتبدل ولكنه بعد ليس أليم الوخز، ولا نافذ السهم، يقول الأستاذ صالح عبد القادر يهجو ذليلاً أحدث نعمة فطغى أن رآه استغنى، في قصيدة مطلعها.
لا تفرحنَّ بنعمة ... إن الزمان له انقلاب
وبعد أن وصف الزمان وأنه محكم يرفع الذئاب إلى مرتبة الأسود، وينقل الملك العظيم من سرير الملك إلى أعماق القبر قال:
ولقد رماك الدهر ح ... تى هنت في نظر الكلاب
أنا على ماضيك لم ... نسدل ستاراً أو حجاب
أنسيت نومك في الترا ... ب فصرت تحكم في الرقاب
أنسيت أيام (البلي ... لة) والبسارة والهباب
فغدوت تأكل ما علم ... ت وما جهلت من (الكباب)
جلَّ المهيمن إنه ... يهب الأنام بلا حساب
وإذا وصل بنا القول إلى هذا الشعر الفكاهي فأنا نقول إن الفكاهة ليس لها مكان في البيئات المتدينة، بل إن الشعب السوداني لا يكاد يقبل عليها، وربما كان لذلك أسباب كثيرة غير التدين، ومن الممكن أن نقول إنه ليست هنا فكاهة مستقلة. ولقد دأبت بعض المجلات السودانية على أن تنشر طرائف يتفكه بها القراء فكان اعتمادها على ما ينشر في المجلات المصرية، ونتيجة لهذا قلت الفكاهة في الشعر السوداني، على أنا نلمحها لمحاً في بعض القصائد، فهي لا تكاد تأخذ إليها نظر القارئ ولا فكره. وربما جاءت في أثناء الهجاء، أو في معرض شكوى، أو في رثاء شيء ففقده شاعره، وقد تكون الشكوى مرة عميقة ولكن الشاعر يسوقها في شعر خفيف يظنه القارئ يميل إلى الفكاهة، وما هو إلا الجد في معرض الهزل، يقول الشاعر الشيخ حسيب في (مرتبه).
أمرتبي مالي أراك (م) ... قصرت عن نيل المراد
أشكوك أم أشكو إلي ... ك نوازل المحن الشداد
الشهر باق جله ... وبقاك آذن بالنفاد
أنا إن حييت سأشتري ... حظي بأطراف الحداد(811/25)
أما اليراع فاٍنني ... لم أجن منه سوى الكساد
يا صاحب الدرجات والق ... انون والرأي والسداد
أطلق فداك مرتبي ... بعض القيود لكي يزاد
رفقاً بمن قيدته ... بقيود (ثامنة) شداد
فكأنني وكأنه ... ظمآن آلٍ في وهاد
وكأنني متقلد ... من غير ما سيف نجاد
ولقد أعجبني حقاً هذا التشبيه، تشبيه موظف في الدرجة الثامنة، والحياة عليه قاسية، ومرتبه لا يفي بضروريات عيشه، برجل متقلد نجاداً، ولكن ليس معه السيف، فيخاله الناس صاحب سيف يرد به حوادث الأعداء، فإذا هو أعزل ليس له من السيف إلا حمالته التي لا تدفع عدواً، وهذا يسميه الناس موظفاً، ويرونه يروح ويغدو على عمله، وربما حسدوه، فإذا هجمت عليه عوادي الأيام، وحزبته ضرورات العيش، فتش في جيوبه ليجد ما يردها، ولكنه لا يجد إلا نجاد السيف؛ أما السيف ففي أوهام الناس وخيالاتهم.
وهذه القصيدة في رثاء ساعة فقدها الشاعر فبكاها، وليس لشعراء السودان اتجاه - إلا قليلاً - للقول في الأشياء الصغيرة، وكأنهم لا يرون الشعر إلا ما كان في مدح أو هجاء أو رثاء، ولكن هذا الشاعر تظرف فقال في ساعته:
لي ساعة معروفة ... بالصدق في جنح الظلام
لا البرد يوقفها ولا ... يودي بسرعتها الغمام
اغتالها الدهر الخئ ... ون، وليس سلماً للكرام
لم يغن عنها حصنها ... جيب القباء أو الحزام
أحفيظة الوقت الثم ... ين وخير ساعات الأنام
أصبحت بعدك فوضوي ... اً لا أساس ولا نظام
أبدأ تحث على المض ... ي إلى الأمام إلى الأمام
تفديك ساعات تؤخ ... ر أو تقدم أو (تنام)
أما الجد فهو السمة الغالبة على الشعر السوداني كله، ولا سيما حين يفخر الشاعر أو يصور بعض أحوال قومه، فهذا يقول:(811/26)
أيها الدهر أنا من معشر ... حكموا الرأي وهزوا العلما
فأسال العالم عنا إننا ... أمة كنا وكانوا عدما
من لقومي إنهم قد أهملوا ... ما بنى آباؤهم فانهدما
يا بني قومي أفيقوا أنكم ... ما خلقتم لتعيشوا (غنما)
ليتني أعرف ما أخركم ... سادة كنتم فصرتم خدما
ولقد يحزنني أني أرى ... رأيكم مختلفاً منقسماً
وذاك يقول:
كم وقفة لي أبكيت الجماد بما ... أسمعته وهززت النيل والهرما
حليت عاطل الدهر منه بما ... ود الغواني لو أن جيدها نظماً (كذا)
مضى زمان وقلبي ممتل ألماً ... وفي فؤادي أسى كالنار مضطرما
حزناً على أمة بالنيل نائمة ... تشكو الأوار وأخشى أن تموت ظما
وأما القول في الخمر فهو قليل، وطبعي أن يقل القول في هذا الغرض لسيادة التدين على النفوس، على أنا نجد بعض الشعراء يتغاضى عن عواطف الناس، ويقول فيها ما يحلو له، فهذا عثمان هاشم يجاهر بالقول فيها، مع ما لبيته من مكانة دينية يقول:
أدر الراح علينا باليمين ... تحت ظل الورد بين الياسمين
ضن رب الحان للشرب بها=واصطفاها إذ رآنا قادمين
ملأ الأقداح منها بعدما ... راضها بالمزج من ماء معين
فشربناها غبوقاً في الدجى ... ووصلناها صيوحاً بالأذين
وأنا شديد الإعجاب بهذه الاستعارة الفذة (راضها بالمزج) فأن الخمر - على ما أعرف من قراءاتي - تكون كالفرس الجموح فإذا صب عليها الماء هدأت وسكن بعض سورتها، وكم بين رياضتها بالمزج في قول هذا الشاعر، وبين قتلها بالماء في قول حسان بن ثابت:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
كم بينهما من مشابه يعرفها الخبيرين!
هذا وبقى أن نسرج النظر قليلاً في أسلوب هذا الشعر، فنقول إن الطبائع العربية، واللهجات العربية أظهر ما تكون في سكان السودان، وكثير من الكلمات العربية الفصيحة(811/27)
يستعملها العامة كما يستعملها الخاصة، وهنا - كما في كل مكان - ألفاظ خاصة لها حظوة فهي كثيرة الدوران على الألسن، فإذا فتشنا عن هذه الألفاظ لا نجد لها في الشعر أثراً، كما أنا نفقد الألفاظ الجزلة، والأساليب الضخمة، مع أن كثيراً من الشعراء كانت لهم أقدام رواسخ في اللغة والأدب، لكن الشعراء مغرمون بالبديع، وربما تكلفوه تكلفاً، فالجناس والتورية، وحسن الابتداء وحسن التخلص، من مقاصدهم الشعرية، فمن التورية قول أحدهم في صديق له اسمه شوقي:
إن نسوا ردك يا شوقي فما ... أنا إلا حافظ ما جهلوا
وقول الآخر:
ولست بخائف حصراً وعياً ... وشوقي فيه يمليني نشيدي
ومن الخباس قول الشيخ عبد الله عبد الرحمن يخاطب الأستاذ علي بك الجارم حين زار السودان:
أما استعارات البيان فإنها ... عبء ينوء به الشباب ثقالاً
يجرون أميالاً ولا يجرونها ... ويرون في طرقاتها الأوحالا
ها (عرضحالي) يا علي مقدماً ... ما حائل من دون عرضي حالاً
ومن حسن التخلص قول الشيخ محمد عمر البنا:
وليل بت فيه سمير أنس ... قرير العين مشروح الفؤاد
كأن صفاء أنجمه علينا ... أيادي الشهم عثمان الجواد
وللشعراء ولوع بالتاريخ الشعري، وله أمثلة كثيرة في أشعارهم، وقد ينظمون شعراً يمكن قراءته على وجهين ومن ذلك قول الحبر الجليل الشيخ الأمين الضرير من قصيدة نبوية كبيرة:
حمداً لمن أبدى لنا سبحانه ... من أمنا بهداه إذ قد صانه
نسباً صريحاً عن خنى ومكانه ... في القرب لم يدرك رسول ذوثنا
فيمكن جعل هذين البيتين ثلاثة، فتكون نهاية البيت الأول (أمنا) ونهاية البيت الثاني (عن خنى) وهكذا كل القصيدة.
وبعد فقد امتد بنا نفس القول في شعر هؤلاء الشعراء الذين كانوا الهداة الرائدين، وما بلغنا(811/28)
الغاية، ولكنا سنكتفي بما قلناه، لنفرغ لشعر شباب السودان، ونرى إلى أي شوط جروا في نهضتهم الشعرية، ونأمل أن تبلغ من ذلك وطراً، ونستعين الله، وبه التوفيق والسداد.
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان(811/29)
الصراع الفكري في تركيا
عرض وتلخيص
للأستاذ محمد محمد علي
إن التفاعل بين الأفكار الإسلامية والغربية موضوع على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للعرب فضلاً عن الأتراك الذين احتلوا مركز الصدارة في العالم الإسلامي خمسة قرون. . .
اتصل الأتراك بالإغريق، بعد دخولهم الإسلام في أوائل القرن الحادي عشر، ثم عن طريق الفلاسفة، وفي السنوات الأولى من العهد الإسلامي كان الأتراك في شك من نجاح الإسلام المطرد. بيد أن مقدرة الدولة العربية على تنظيم شئونها الاقتصادية والاجتماعية وقفت أمامهم، ثم إن (شخصية) الإسلام الواقعية والحازمة لاءمت المزاج التركي. ولقد دافعوا في يوم من الأيام بحرارة عن دينهم الجديد.
ويرى البيروني - أكبر رياضي القرن الحادي عشر - أن الحضارة الإسلامية كانت امتداداً للحضارة اليونانية. ومع ذلك يجب أن نقرر أن المؤثرات اليونانية كانت ضعيفة، إذ كتب الفلاسفة وناقشوا المشكلات الفلسفية واللاهوتية، لكن الفكر الإسلامي لم يتقدم إلا بين الجماعات المعارضة وبين هؤلاء الأحرار الذين اشتهروا في تاريخ الإسلام مثل المعتزلة أو العقليين.
ولعل الفارابي - الذي لا ينسى أصله التركي - أحد الفلاسفة الإسلاميين الذين حاولوا شرح الأفكار الإسلامية كما جاءت في القرآن مع فلسفة أرسطو وأفلاطون. فقد كان أول فيلسوف إسلامي أعطى أهمية كبرى للأفلاطونية الحديثة في الفلسفة الشرقية، كما كان أول من عرض مشكلة العلاقة بين الروح والعقل. وجاءت أعمال الغزالي في القرن الثامن عشر مكملة لأعمال الفارابي. وتطورت الروحانية حتى الأزمنة الحديثة واتخذت في النهاية شكلاً مغايراً، وتميزت بتغلب العاطفة على العقل، ثم فقدت طابعها الفلسفي.
بلغ الفكر الإسلامي هذا الطور في القرن الثالث عشر حينما سيطر السلاجقة على هضبة آسيا الصغرى، وهم سلالات الأتراك العثمانيين وأجداد سكان تركيا الحاليين. وكان يدرس في مدارسهم الفقه والإلهيات فحسب، وتشكلت الدراسة دائماً بطابع القرآن الكريم والسنة(811/30)
الشريفة. وفي النصف الثاني من القرن ظهر الشاعر الصوفي والفيلسوف الكبير جلال الدين الرومي فندد بالجهل الذي خيم على الناس تجاه المسائل الفلسفية. ومن الواضح أن العلوم العقلية والفلسفة اليونانية في مظهرها الحقيقي لم تكن قد ظهرت بعد حيث يقطن الأتراك اليوم.
وفي القرن الخامس عشر، بعد تكوين الإمبراطورية العثمانية بقرن ونصف، كان الفكر الإسلامي لا يزال متخذاً الطابع المدرسي من دراسة الأدب والفقه؛ ولئن كانت تناقش الفلسفة والعلوم العقلية وأفلاطون وأرسطو، فإننا لا نلمح أي اثر للروح الفلسفية الانتقادية التي ميزت الفلسفة اليونانية. وفي ذلك الوقت كان الشاب الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره: محمد الفاتح قد اتصل بجيرانه الأوربيين. وقد دخل القسطنطينية عام 1453 على أنقاض الحضارة الغربية في الشرق. واهتم السلطان الفتى بالمدرسة الفلسفية اليونانية التي كانت أساساً لجميع الأفكار في العصور الوسطى في غربي أوربا، وبلغ اهتمامه بدراسة اللاهوت حداً جعله شغوفاً بالمسيحية. وكانت رغبته في الواقع هي الدراسة المقارنة للدينين العظيمين والميتافيزيقا، وذلك ليوحد الاختلاف بين العقل والروح. كان يحاول أن يخلق تفاعلاً وتداخلاً بين الحضارتين الإسلامية والغربية، على أن يكون للنظرة الانتقادية المحل الأول.
لكن ينبغي أن نقرر أن هذه الجهود لم تكلل بالنجاح، وأن تركيا عادت يوماً إلى جمود العصور الوسطى الذي استمر حتى القرن التاسع عشر بل والعشرين، ففي الفترة ما بين فتح القسطنطينية ومعاهدة كارلوتز 1699 وصلت الجيوش التركية إلى وسط أوربا وأنشأت علاقات مع الأمم الغربية. غير أن هذه القوة العسكرية عجزت عن تكوين صلات فكرية بين الشرق والغرب. بل إن النزعة الحديثة في عصر النهضة عادت القهقري أمام روح الجمود التي سادت في البلاد الإسلامية.
وبلغت تركيا شأوا كبيراً من التوسع في القرن السادس عشر، أبان حكم سليمان الكبير. ومع ذلك لم يتقدم التفكير الفلسفي والعلمي خطوة واحدة مع التقدم السياسي في عصر المجد والعظمة هذا. وقد لاحظنا الأستاذ (كريبر) إنه ليس من الضروري أن يتفق العصر الذهبي لحضارة مع التفوق والرقي لوطنها فبعد هذا التوسع لم تعط الفرصة لتطور النهضة في(811/31)
تركيا أمام النزعة التقليدية في الفكر الإسلامي. وقد عبر جغرافي القرن السابع عشر كاتب جلبي عن يأسه من الأحوال التي أطاحت بالمعارف الإنسانية من معاهد التعليم التركية: (وعلى ذلك سينظر الناس إلى الكون بعيون الثيران!). ويوضح ذلك أن نظام كوبرنيكس ذكر لأول مرة عام 1685 في الترجمة التركية للأطلس الأعظم
ويمكن القول إن عام 1716 تقريباً بعين بدء الاحتكاك بالفكر الغربي، عند ما كان هناك تجديد وإصلاح في الجيش التركي؛ إذ أدخلت الرياضيات الحديثة في برامج المدرسة الهندسية العسكرية. وفي عام 1728 أسس الكاتب التركي إبراهيم متفريقاً أول مطبعة، وبدأ ينشر ما يؤلفه ويحرره عن الحضارة والعلوم الغربية.
ولما شبت نيران الثورة الفرنسية ظهر اتجاه علمي جديد. إذ اعجب السلطان سليم الثالث بالحركة الفكرية السياسية - في العالم المتمدن - التي جذبت انتباهه إلى الحضارة الغربية. ففي أوائل القرن التاسع عشر فتحت مدرسة طبية حديثة.
ثم جاء عام 1839 فبدأ عهد إصلاح جديد؛ هو عهد (التنظيمات) أو تنظيم الإصلاح. وقد عم تأثيره كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية. وبالنظر في هذا الاحتكاك بين التفكير الغربي والتفكير الإسلامي فانه يلوح للباحث أن لا بد من وجود تفاعل وتداخل بين وجهات النظر. الإسلامي هذا التقدم لم يظل قائماً، لأن طبيعة الدولة الأوتقراطية والدينية، تعارضت مع تبادل الآراء واحتكاك الحضارات. بل إن هذه الفترة التي استمرت حتى الثورة التركية الصغرى 1908 امتازت بالرغبة في المحافظة على المظهر الديني للإسلام أمام تيار العلوم الحديثة. حتى أن الكتاب المحدثين الذين درسوا في الخارج، لم يترددوا في الذود عن الأفكار الدينية البحتة، والمعارضة للحقائق العلمية. على أن هؤلاء لم يؤمنوا بما كانوا عنه يدافعون؛ إنما دفعهم إلى عملهم هذا ما ظهر من ضرورة الإبقاء على النظام القديم. وفي أواخر عهد عبد الحميد الثاني، كانت موجة العداء للفكر الغربي شديدة، بفعل ثورة 1908، إذ خرجت كلمة (حكمة) من القواميس بأمر الحكومة! وبالرغم من كل هذا فقد كانت الأفكار الغربية تنتشر. وقد ترجم أحمد مدحت كتاب ج. و. درابر. تاريخ الصراع بين الدين والعلم. وفي معرض نقده لأفكار المؤلف، أكد المترجم إن ليس هناك معارضة للعلم في الإسلام.(811/32)
ولئن كان المثقفون في عهد التنظيمات قد حافظوا على العقلية الشرقية، فإنهم اقتبسوا الجانب الفني من الحياة الحديثة، واستطاعت قلة منهم التوفيق بين المعتقدات الإسلامية والعلم الحديث. فكانت الجمعية العلمية العثمانية (1887 - 98) المعهد الوحيد الذي كان مشغوفاً بالأفكار الغربية، إذ جمعت بين المثقفين الأتراك الذين يعرفون لغة أوربية على الأقل، وأخرجوا: (المجلة العلمية) أول نشرة تركية يستطيع المرء أن يطالع فيها أبحاثاً رائعة. وقد اتخذوا وجهة نظر فلسفية علمية، ولم يلقوا بالا إلى الجمود الديني للعلماء الرسميين (علماء الرسوم) ولسوء الحظ لم تعمر هذه الجمعية طويلاً وذهبت معها مجلتها. وباختفائها صادرت الحكومة كل الإنتاج الفكري الفلسفي. وفي نهاية عهد التنظيمات لا يكاد الباحث يعثر على أي أثر لاحتكاك الأفكار الشرقية والغربية في تركيا. ومع ذلك فأن غزو التفكير الغربي كان سائراً إلى الأمام بفضل المدرسة الأدبية التي عرفت ومجلتها
وقامت الثورة التركية الصغرى في 1908 وأمتد لهيبها إلى النواحي السياسية، وتبع ذلك نشاط ثقافي، فأدخلت الفلسفة وعلم الأديان المقارن في دراسات كلية الآداب بجامعة اسطنبول ومهدت الحرية السياسية الطريق لحرية التعبير وأصبح في الإمكان نقد الأديان. وفي أول العهد الدستوري ترجمت كتابات وآراء بعض الماديين في القرن التاسع عشر مثل لدفيج بخنر، وارنست هيكل كما كثرت المناقشات حول آراء فولتير وروسو وباقي الانسكلوبيديين.
كان الصراع الفكري على أشده - وإن لم يكن واضحاً، واتخذ كل جانب موقفاً عدائياً تجاه الآخر. وفي وسط هذه المعركة قام الاجتماعي الفكري زيا جوك ألب بدور الوسيط بين الجماعات المتحاربة، وحاول أن يوفق بين التفكير العملي الغربي وبين التفكير الإسلامي الديني. وهو كتلميذ مخلص لدور كهيم قد ميز بين والحضارة ورأي أن تركيا ينبغي أن تقتبس من المدنية الغربية على أن تحتفظ بشخصيتها القومية. ولطالما نصح مواطنيه بالا يهملوا الإسلام وحضارته ولا يغضوا الطرف عن المدنية الغربية. ولئن كان واضحاً في إعلانه عن ضرورة الاقتباس من العلوم والفنون الحديثة، فأن كان غامضاً في مسألة الفلسفة. رأى أن يكون للأتراك فلسفة قومية لكنه لم يحدد ما يجب أن تكون عليه هذه(811/33)
الفلسفة، إذ كان متردداً بين آراء دور كهيم الاجتماعية وفلسفة برجسون الروحية. إلا أنه لم يعمل على إعادة الوفاق بين الاتجاهين؟ لأن هذا كان عملاً شاقاً.
لقد كان لتعاليم زيا جوك ألب تأثير عميق على تلاميذه وأصدقائه أعضاء جمعية الاتحاد والترقي الصغرى. وفي رأيه أن قانون الأسرة الذي وضعه من قبل فقهاء المسلمين لا يجوز أجراء تعديل فيه. وكان لسان هذه الحركة: مجلة جمعية الاتحاد التي ظهرت رغم طابع الدولة الديني - التي كان يرأسها الخليفة صاحب السلطتين: الدينية والزمنية.
غير أن أسوأ خطر وقع فيه زيا جوك ألب هو ترجمته كلمة (لا ديني)، الأمر الذي أدى إلى نشر العداوة بين شيوخ المسلمين.
وقد عبر عن الاتجاه الإصلاحي في ذلك الحين مجلة (الصراط المستقيم) التي عرفت بعد باسم (سبيل الرشاد) والتي صبت جام سخطها على زعماء الحركة التحريرية التي قادها زيا جوك. وامتازت هذه الفترة من تاريخ تركيا بتغييرات الحكومة الفجائية وبأعمال المعارضة التي كان من هدفها السياسي تحريك الأتراك المسلمين ضد حكومة الاتحاد والترقي وذلك بتغير محاولة الجمعية في الإصلاح بأنها الحاد في الإسلام.
وبعد عام 1912 لم تكن هناك فرصة للنشاط الثقافي بسبب حروب طرابلس والبلقان ثم أوربا. وكانت الحكومة التي أسستها قوات الاحتلال قد قضت على كل العواطف الدينية بين الناس حتى تقضي على بوادر الحركة التحريرية والاستقلالية. إذ تطورت هذه الحركة أخيراً، وأصبحت منظمة قوية حالفها النجاح بعد أربع سنوات من اليأس. وليس من شك في أن الأتراك - باهتمامهم بهذا الكفاح - لم يكن لديهم فرصة لمناقشة المسائل الثقافية.
وأنشأت الحكومة التركية الجديدة في أنقرة، وأطاحت بالسلطنة عام 1923 وتركت الخليفة في اسطنبول بغير سلطة ولا قوة، ثم ألغت الخلافة بعد ذلك بعامين، مع المحاكم الشرعية وكل المعاهد الدينية في أنحاء البلاد. وصيغ الدستور الجمهوري بالصيغة العلمانية، وذهبت جهود المدافعين عن الإسلام مع الريح أمام تشديد الجمهورية في التصريح بهذا التفكير. وكانت التيارات الغربية جارفة، لدرجة إنه كان يصعب على المرء أن يطلق عليها تفكيراً، بل هي (تقاليد رسمية للإلحاد) وبتفسير لغة الأستاذ جب الخيالية، يقال إن تركيا قد أصبحت مقبرة جميلة. . .!(811/34)
ولم تتردد الجمهورية في أن تعلن أنها حامية العلوم والمدارس الفكرية، وحاولت أن تجعل الدراسة في جميع المعاهد على أسس الخير والحق والجمال! وظهر الجيل الجديد بعد عشرين عاماً من غير أن يتذوقوا لتعاليم الدين طعماً. واليوم يحتل الفكر الغربي الجديد محل الفكر الإسلامي القديم. وليس في الإمكان أن نحدد تاريخاً لظهور النزعة الحديثة مع التداخل بين الأفكار الإسلامية والغربية في تركيا، فليس هناك تفاعل حقيقي، إنما هناك طغيان للأفكار الغربية.
وفي ديسمبر 1946 تقدم نائبان في الجمعية الوطنية - أثناء مناقشة ميزانية وزارة الأوقاف - بسؤال عن مستقبل المعاهد الدينية، وخاصة تلك التي يدرس الشعائر الدينية فيها أفراد معينون، إذ أن هذه الدراسات لا ترعاها الحكومة، وأن هؤلاء الأفراد المعينين ليسوا متخصصين في طرق إعداد المعلمين. فأجابت الحكومة إجابة تهرب من السؤال، إذ خشيت رد الفعل الديني الذي قد يهدد نظم الجمهورية الحديثة. وبعد أيام انتقلت هذه المناقشة إلى اللجنة المركزية للحزب الحكومي. وهذا الحادث - الذي لا يعتبر غير غريب في الغرب - ذو أهمية كبرى في تركيا اليوم، لأنه في العشرين سنة الأخيرة لم يكن ممكناً حدوث مثل هذه المناقشة في أي نوع من الاجتماعات السياسية أو الثقافية.
وعندما بزغ نور الروح الانتقادية في تركيا، فإن التفاعل بين الأفكار الإسلامية والغربية سيتخذ شكلاً موحداً واضحاً. وربما ينتج عن هذا التفاعل إصلاح ديني فلسفي في حدود الشكل العلماني للجمهورية. غير أنه عندما يحدث إصلاح من هذا النوع هل تستطيع تركيا أن توجد منابع تراثها الثقافي وتخلق حركة ثقافية متكاملة؟
تلخيص
محمد محمد علي
قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد(811/35)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (2)
(1) النفس عند ابن سينا (2)
للأستاذ كمال دسوقي
حدثتكم في المقال السابق عن موضع دراسة النفس من العلوم عند ابن سينا، أعني أين يقع علم النفس من قائمة العلوم ولوحة المعارف عنده، وأين كان يعالجها في معظم كتبه؛ فربطتها لكم بما يسبقها من الأمور الطبيعية الكلية التي قلت لكم إنها دائما آخرها، وبما يتلوها من القول في الإلهيات؛ التي قلت لكم إنها تمهد لتناولها في نقطة (العقل الفعال). واليوم أحدثكم عن موضع النفس ذاتها من سلسلة الموجودات المادية والروحية، وصلتها بما فوقها وما تحتها - قبل الدخول في تفصيل قواها وملكاتها - فإن النفس تشغل في مذهب ابن سينا في الوجود مكاناً لا يقل دقة واطراداً عن المكان الذي رأيتم أن علم النفس يشغله في تصنيف العلوم العقلية عنده.
وحين نقول فإنما نعني بها ما كان يسميه أرسطو ما بعد فإن الإسلاميين قد حولوا هذا العلم لأرسطى إلى ما يرضي عقائدهم، ويؤيد إيمانهم؛ حولوا ميدانه إلى (النظر في الواحد ولواحقه بما هو واحد) أي النظر في الله الواحد والكثرة التي تنشأ عنه؛ لان كل موجود عند ابن سينا يصح أن يقال له في ذاته واحد (النجاة ص 98)، وكان أرسطو حين نظم هذا العلم وعرض فيه آراء سابقيه يحدد موضوعه بأنه (البحث في الوجود بما هو موجود) فلا يعترض عليه أن يبحث في الواحد ويدلل على الألوهية، بل يترك له تحقيق ذلك إن استطاع.
على أن مشكلة ابن سينا في هذا الصدد لم تكن إثبات الوجود، ولا واجب الوجود بقدر ما كانت مشكلة صدور الخلق عن الخالق، وكيف ينشأ هذا الوجود المتكثر - الذي لاشك في كثرته - عن الإله الواحد - الذي لاشك في وحدانيته؛ خصوصاً وأن الواحد عنده وفي مذهبه لا يصدر عنه إلا واحد، وواحد فقط؟
ولما كان مذهب أرسطو وحده لا يعينه على إثبات هذه النظرية لانتقاله من الكثرة إلى الواحد، ولما فيه من تفسير مادي عقلي قد يتعارض مع الدين - مما يتحاشاه كل فيلسوف متأثر بالدين، فإن مذهب أفلوطين كان أقرب إلى إثبات ذلك منه. وأفلوطين قد ذهب إلى أن(811/36)
الخلق يفيض عن الخالق، وأن الوجود يصدر عنه بمحض الجود. فيتبعه الإسلاميون في هذا، كما تبعوه في غيره؛ سواء من علم منهم أنه لأفلوطين - على اختلاف بينهم - فأوقعهم ذلك في القول بقدم العالم من حيث لا يشعرون.
ويذهب ابن سينا في ذلك إلى تصنيف الموجودات من حيث الجهة إلى واجب الوجود، وكل واجب أو ممكن فهو إما بذاته أو بغيره، ومن هذين التقسيمين الثنائيين مجتمعين تنقسم الموجودات إلى واجب الوجود لذاته، وممكن الوجود بذاته، ثم إلى ممكن بذاته واجب بغيره.
وواجب الوجود عنده - كما تجدون في المقالتين الأولى والثانية من إلهياته هو الوجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال؛ أما ممكن الوجود فهو الذي إذا فرض غير موجوداً أو موجوداً لم يعرض منه محال. فالواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه - يعني في وجوده أو في عدمه - فليس وجوده أولى من عدمه إن انعدم، ولا العكس إن وجد، فهو الذي ليس ضرورياً ولا ممتنعاً. وواجب الوجود - كما قلنا - قد يكون واجباً بذاته وقد لا يكون بذاته، فواجب الوجود لذاته (هو الذي لذاته لا لشيء آخر)، أي أن مجرد افتراض العدم فيه محال. وأما واجب الوجود لا بذاته (فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود). فالأربعة مثلاً واجبة الوجود لا بذاتها بل بفرض اثنين واثنين مجموعتين أو مضروبين. والاحتراق واجب الوجود أيضاً لابذته، بل بفرض تلاقي القوة المحرقة بالقوة المحترقة (ص224).
وأدلته في إثبات واجب الوجود كثيرة ليس عليكم أن تحيطوا بها، وحسبكم أن تتبينوا أن كثرتها إنما جاءت من تسليمه بها قبل البدء في البرهنة على ما يريد. فأعانه (سبق الإصرار) هذا كما يقال في لغة القانون، و (الفكرة الثابتة) هذه - كما يقال في علم النفس؛ على أن ينتزع كثيراً من البراهين يؤيد بها قضيته. وإلا فما كان له أن يثبت - وما كان لقارئه أن يفهم أن (كل شيء يكون كافياً في أن يوجد بذاته، فهو واجب الوجود (لو لم يتمثل في قرارة نفسه صورة الله الذي يؤكد له الوجود والوحدانية والخير وأنه عقل وعاقل ومعقول، وأنه عاشق ومعشوق، وأنه لذيذ وملتذ. . . ولماذا لا يلتذ من يشعر بكماله حين يتأمل نفسه.(811/37)
ذلكم أن تأمل الله لذاته هذا يحدث له لذاته من ناحية، ويحل مشكلة ابن سينا من ناحية أخرى. فمن هذا التأمل يصدر الفيض الإلهي ويكون الخلق. فينشأ أولاً عقل أول هو واجب الوجود بالله ممكن بذاته. وهذا العقل الأول حتى الآن واحد وروحي، ولكنه يتأمل الله من ناحية، ويتأمل ذاته من ناحية أخرى. فمن تأمل العقل الأول لله ينشأ العقل الثاني، وعن تأمله لذاته ينشأ الفلك الأول جسمه ونفسه. ثم إن هذا العقل الثاني من حيث أنه واجب الوجود بالأول يتعقل هذا الأول فينشأ العقل الثالث، ويتعقل من ناحية أخرى ذاته - من حيث هو ممكن الوجود بذاته - فينشأ جسم الفلك الثاني ونفسه، وهكذا يظل كل عقل يتأمل وجوبه بغيره فينشأ عنه عقل أدنى. ويتأمل إمكانه بذاته فينشأ عنه جسم ونفس الفلك المرتبط به حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر المدبر لعالم الكون والفساد، وهو العقل الفعال الذي تتصل به نفوس البشر.
فالعالم العلوي إذن يتركب من سلسلة متراكبة كل حلقة فيها تحتوي على ثلاثة أشياء: عقل، وفلك، ونفس. وعلى رأسها جميعاً واجب الوجود لذاته الذي لا يبدع إلا العقل الأول، وهذا يبدع لأول مرة ثلاثة أشياء. عقلاً ثانياً، وفلكاً نفسياً، وجسمياً. وهكذا تتكرر العملية حتى تخلص لنا عشرة عقول وتسعة أفلاك؛ آخرها فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض
وأترك لكم تصور هذا العالم العلوي كما تشاءون، ولكني أود أن تلاحظوا معي على هذه النظرية الفروض آلاتية:
أولاً: افتراضها منذ البدء أن الله واجب الوجود لذاته، وأنه عقل وعاقل ومعقول.
ثانياً: تسليمها بأنه واحد، وانه لا يصدر عن الواحد إلا الواحد - بالنسبة لله على الأقل.
ثالثا: قيامها على تعقل الله لذاته وتأمله لنفسه - وكذلك الأمر في العقول الأخرى كل بدوره - كأساس للخلق، ومبدأ للجود الإلهي. كما أريدكم أن تقفو بعقولكم طويلاً عند مناقشة مأخذها التالية:
أولاً: أنها - وقد وضعت قانوناً عاماً، هو أنه لا يصدر عن الأحد إلا الواحد - قد قصرت تطبيقه على واجب الوجود وحده ثم تجاوزته في الحال مع العقل الأول فجعله يخلق ثلاثة أشياء بدلاً من شيء واحد. مما يجعلها متناقضة مع ذاتها منذ اللحظة الأولى - إلا أن يكون(811/38)
ابن سينا قد قصد (بالواحد) هنا الله وذلك ما لا يدل عليه قوله هذا الذي سبق أن بينت لكم مرجعه فعودوا إليه، فقد لا تجدون فيه هذا التناقض الذي أجد.
ثانياً: وما قلته في الوجود تنشأ عنها الكثرة، يقال مثله في الروحية تنشأ عنه المادية. فقد أراد ابن سينا من توسيط العقل الأول بين الله والموجودات أن يبعد عنه صدور الكثرة من ناحية والمادة من ناحية أخرى؛ لأن الله ليس بمادي، ولذا كان العقل الأول الصادر عنه غير مادي أيضاً، ولكن كيف يتأتى لهذا العقل الأول أن يخلق بتأمله (الذي هو عقل روحي) مادة الجسم الأول نفسه؟ هذا تناقض وغموض آخر.
ثالثا: أن هذا المذهب يقف بالفيض عند الفلك العاشر، فلك القمر وكرة الأرض؛ أي العقل الفعال. ولا يبين لنا كيف تفيض أشياء هذا العالم عن العقل الفعال، وهل هي تفيض عنه لعلم الله أو بغير علمه، فذلك - فيما أظن - هو الذي حدا بابن سينا إلى أن يقصر علم الله على الكليات دون الجزئيات. (النجاة ص 247). واعتبر الغزالي ذلك كفراً صريحاً؛ لأنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. (كما أنك إذ تعلم الحركات السماوية كلها، فأنت تعلم كل كسوف وكل اتصال وانفصال جزئي، فكذلك الإله يعلم الجزئيات ولا يغرب عنه شيء شخصي) (الغزالي: المنقذ من الضلال، طبعة دمشق الثالثة ص 95)، رداً على ابن سينا (النجاة ص248).
والنتيجة الضرورية لهذا المذهب الأول بقدم العالم - وإن لم يستطع ابن سينا أن يقول به صراحة. فإن الله قديم ولا شك. وما دام العالم ينشأ عنه تعقله لذاته على هذا النحو، وتعقله لذاته صفة لا تنفك عنه، فلا بد أن يصدر عنه هذا الفيض منذ الأزل لا سيما أن العقل الأول واجب الوجود به؛ بمعنى أنه يفترض وجوده منذ افتراض وجود خالقه تبعاً لتعريفه هو لواجب الوجود فوجوب وجوده ضروري لا من حيث أنه ممكن بذاته؛ بل من حيث هو واجب بالله. وبمثل ذلك يكون العقل الثاني ضرورياً بالأول. وهكذا تستمر السلسلة ويتم الخلق بهذا الفيض الأزلي القديم عن الله الأزلي الواجب الوجود.
ومهما يكن من أمر هذه النظرية فهي لا تعدو أن تكون مزيجاً من نظرية أرسطو في عقول الأفلاك، ومن مذهب أفلوطين في فلسفة الإشراقية التي ظلت مورداً يفيض بالخصب والوفرة في كل فلسفات الأديان. وقد جارى ابن سينا هذه الأفلاطونية المحدثة، فقالي بما(811/39)
قالت به من خيرية الله، ونزوع الكائنات إلى أن تنجذب بالشوق، وأضاف إليها ما كان قد تأثر به من قول ارسطو - وما كان شائعا لعصره - من حركة الأفلاك السماوية حركة دائرية حول عقولها لتصل إلى الواحد، وازدياد شوقها أبداً للوصول إليه وإن كان ذلك الوصول بعيداً عنها؛ إذ الكواكب في رأي ابن سينا حيوانات مطيعة لله تعالى (ص 258)، ولكل منها عقل يديره كما أن له نفسا تحركه. وقد ساهم هو في ما كان شائعاً بين معاصريه من أن كل كوكب من كواكب الأفلاك يشبه إلهاً من آلهة اليونانيين، فالشمس للحرارة، والقمر للرطوبة والمريخ للغضب. . . الخ وهذه الأفلاك التسعة أجسام سماوية تؤثر حركتها في نفوسنا وأجسامنا - مما تأثر فيه الفارابي في (مدنيته الفاضلة)، ومما عابه عليه ابن رشد حين طعن الغزالي بأقواله هذه على الفلسفة.
أرأيت إذن موضع النفس في ترتيب الموجودات عند ابن سينا؟ الأفلاك لها نفوس تحرك أجسامها في العالم العلوي، والأجسام النباتية والحيوانية والإنسانية لها نفوس تحركها في العالم السفلي، وبين العالمين يقف العقل الفعال وسيلة وواسطة اتصال. وفوق العالم العلوي كله الجوهر الفارق غير الجسم، والصورة المجردة؛ الذي هو الله، والعقول العشرة المدبرة التي تتأمله وتتعقله، وتحت العالم السفلي كله الهيولى أو المادة الأولى التي هي محل نيل الوجود في كل موجود، وفي كل طبقة فيما بين ذلك جملة موجودات ذات مواد وصور متنوعة شتى.
وحسبكم إذن هاتان المقالتان في التقديم لدراسة النفس عند ابن سينا، ولشرع منذ المقال التالي في تحليل الفصل المطلوب إليكم دراسته.
كمال دسوقي(811/40)
أنشودة منتحر
للشاعر عبد الوهاب البياتي
(ليلى) أحس على فمي شفة ... صفراء تصبع بالدماء فمي
وجناحَ خفاش يطيرُ على ... قبري فيملأ بالرؤى حُلمي
وأرى يداً سوداَء تصفعني ... وتشد شعري شد منتقم
وأرى غطاَء القبر متفتحاً ... وجحافل الديدان والظلم
وأرى عيوناً كلما اختلجت ... أهدابها رفتْ على غسق
الريح معولة كأن صدى ... إعوالها ما زال في الأفق
وأنا وأحلامي وملهمتي ... والحب حول الموقد الحنق
وذوائب النيران راقصة ... في جوفه وسنانةَ الحدق
نتلو عليها وهي حالمة ... أقصوصة أبطالها قتلوا
كانوا على قلع فداهمهم ... جوٌ مطيرٌ عاصفٌ هطلُ
فتحطم القلع الصغير ولم ... ينج الذين إلى المدى رحلوا
فتجود عيناها بلؤلؤةٍ ... وعلى فمي تتهافت القُبَلُ
وبلحظة ما زلت أذكرها ... وعويلها ما زال في أذني
هملت عيون الليل وانتحرت ... بيض النجوم على فم الدِّجن
فتبسمت ليلى وما ابتسمت ... إلا لتحبس دمعة الحزَن
لكنها انحدرت. . . لتقتلني ... وتضيء للديدان في كفني
والنور يعكس ظلها قلقاً ... فأكاد أرشف ذلك الظلا
عبري. . . تقول: أكنت في خدر؟ ... أم كنت في حلم وقد ولى
مالي أراك صغرت في نظري ... لما اغتصبت من الهوى قبُلا؟
وشحبت حتى لم تعد حلماً ... هلا أعدت رسائلي هلا!!
يا لحظة ما زلت. . . أذكرها ... كالخنجر المسموم في كبدي
عودي إلىَّ! لعل ملهمتي ... عادت إليك فتدفئي لي يدي
عودي إلى! فقد عفا كفني ... وأمتد صمت القبر في خَلدي(811/41)
وامتصت الديدان - جائعة - ... حتى خطايا حُبيَ النكِد
ما زلت أذكر موقفي وأنا ... في ظلها متلطف. . غَزِل
ما زلت أذكر ليلة - هربت ... روحي - وتبقى وهي تشتعل
ما زلتُ أذكر دمعَها همِلاً ... وشفاهَها تطفو بها القُبَل
والريح ماطرةٌ. . . وملهمتي ... تُخفي رسائلَنا وترتحل
والعَدْوَةُ السوداءُ. . . والقمر ... ما زال يسخرُ مِنَي القمرُ
والبحر يفتح صدره حدباً ... ويضمني في صدرِه النهر
والموجُ يفهقُ هاصراً رئتي ... حتى تراقصَ وهي تنفجر
والريح تهمس وهي عابرة: ... ظلٌّ على المرآة ينتحر
ما زلت أذكر لحظة هربتْ ... مني وراء الريح والزمن
ما زلت أذكر - والربيع على ... قبري يحوك الورد من كفني -
. . . كفاً مشوهة. . . وساحرة ... شمطاَء تغسل باللظى بدني
ويداً تدحرجني إلى نفقٍ ... خاوٍ فتصفعني يد العفن
(ليلى!) أحس على فمي شفة ... صفراء تصبغ بالدماء فمي
وجناحَ خفاش يطير على ... قبري فيملأ بالرؤى حُلُمي
وأرى يداً سوداء تصفعني ... وتشد شَعري شد منتقم
وأرى غطاء القبر منتفخاً ... وجحافل الديدان والظلم
(بغداد)
عبد الوهاب البياتي(811/42)
الأدب والفن في أسبوع
حرية الأدب:
أمن الأوفق للأدب أن تكون له خطة مرسومة، أم تترك الحرية للأديب في اختيار الخطة التي يجب أن يسلكها؟ هذا هو السؤال الذي أثار به الأستاذ عبد الوهاب خلاف بك نقاشاً حمى وطيسه في إحدى جلسات مؤتمر المجمع اللغوي، تعقيباً على محاضرة الأستاذ محمد رضا الشبيبي في (النهضة الأدبية في العراق) التي قال فيها: إن مما مني به الأدب أخيراً في العراق فقدان خطة عامة مرسومة للنهوض بالأدب وباللغة العربية في البلاد.
قال الدكتور طه حسين بك: أعتقد أن معالي الأستاذ المحاضر لم يرد التحدث عن خطة مرسومة للأدب بل عن خطة للنهوض بالثقافة في العراق، وهذه الخطة - من غير شك - تساعد على نهضة الأدب وتحول بينه وبين التورط في كثير من الأزمات الثقافية.
وقال الدكتور احمد أمين بك: أنا لا أوافق على أن يكون الأدب طليقاً كل الطلاقة، وأرى أن يوضع له منهج لا يصادر حرية الأديب، ولمجمعنا أن ينظر مثلاً أغاية الأدب أن يلتذ به كما يلتذ بلون الزهرة وطيبها، أم ترى غايته خدمة المجتمع والنهوض به؟ فقال الدكتور طه: أنا لا أعرف للأدب غاية إلا التعبير عما في نفس الأديب، والأديب الذي يحترم نفسه قد لا يكتب ليلذ القارئ بل ليغيظه ويحنقه، كما أنه لا يكتب ليخدم غرضاً اجتماعياً بعينه.
وقال الأستاذ الشبيبي: إني آسف لأني طويت صفحة كاملة من صحف هذه المحاضرة تتعلق بموضوع حرية الأدب، وأن الأدب لا ينبغي أن ترسم له خطط، وأنا أوافق على التفرقة بين الأدب والثقافة من حيث حرية الأول وتنظيم خطة للثانية.
ثم قال الدكتور أحمد أمين بك: إنما أريد للأديب توجيهات وللأدب غاية، فقيام النقد الأدبي على أساس صحيح معناه أن هناك عناصر وقواعد عامة يشير عليها النقاد، فالحرية المطلقة التي يدعون إليها هي هدم للنقد الأدبي، وأنا أريد من المجمع أن يضع توجيهات عامة في الأدب يسترشد بها الناقد والأديب، ويصح أن ندخل في حسابنا عند وضع هذه القواعد كون الأدب ذا فائدة اجتماعية أو أنه يطلب لذاته.
وشبه الأستاذ العقاد الأدب بالوردة، فلا يجب أن يخدم المجتمع.
وكان ختام المناقشة في الموضوع قول الدكتور طه: إن القوة التي ترسم خطة للأديب لم(811/43)
تخلق بعد، وأرجو إلا تخلق، فالأديب حر، والناقد حر، وليس هناك ما يصح أن نسميه خطة للأدب ولو كان نقداً.
تعقيب:
تفرعت المناقشة في حرية الأدب إلى المسألة الثانية وهي خدمته للمجتمع، والأمر في مسألة الحرية واضح، فلن يستطيع أحد أن يلزم الأديب بأن يسير على نهج معين أو يتجه إلى غاية مرسومة، وحقاً إن غاية الأدب التعبير عما في نفس الأديب كما قال الدكتور طه، ولكن ما هي نفس الأديب وماذا فيها إن لم يكن الشعور بما يضطرب في حياته التي هي جزء من حياة المجتمع؟ أليست نفس الأديب نفس الإنسان يحس بما يدور حوله ويتأثر به ويعيش مع الناس في بؤسهم ونعيمهم ويشعر نحوهم بتبعات وواجبات؟ أو ليس في نفس الأديب ذخيرة من هذا كله فيعبر عنها بأسلوبه الفني ويؤثر في النفوس بصوره الأدبية ويوجهها إلى مثل عليا؟ وهو في ذلك يتمتع بتمام حريته لم يقسر على شيء ولم يرسم له أحد طريقاً ولم يخرج عن نطاق التعبير عما في نفسه.
لاشك أن الأصل هو ما في النفس، والتعبير صورة له، فإذا كان الأدب لا يخدم المجتمع فمعنى ذلك تجريد النفس من الشعور الاجتماعي أو كبت هذا الشعور، والأول ينفي القيمة الإنسانية عن الأدب، والثاني لا يتفق والحرية في التعبير.
على أن الأديب حينما يستجيب للمجتمع إنما يستجب لنفسه لأنه جزء منه، فإن لم يستجب له كان أدبه أدب عزلة وجمود.
حديث مستشرق عن الشعر العربي:
انتهزت كلية الآداب فرصة وجود مستشرق إنجليزي في رحلة بالشرق الأوسط، وهو الدكتور ألفرد جيوم أستاذ الأدب العربي بجامعة لندن، فدفعه إلى إلقاء محاضرة بالجمعية الجغرافية الملكية، فلبى الدعوة ألقى يوم السبت الماضي محاضرة موضوعها (الشعر العربي) بدأها بالإشارة إلى الصعوبات التي تعترض المستشرق عند قراءة الشعر العربي من حيث الوقوف على معانيه، وقال إنه كثيراً ما يغمض عليه معنى بيت فيبحث ويسأل عنه على غير طائل، فيتذكر قول شاعر إنجليزي سئل عن معنى بعض شعره: عندما قلت(811/44)
هذا الشعر كان هناك اثنان يعرفان معناه الله وأنا، أما الآن فالله وحده هو الذي يعرفه.
وقال إنه لا يقف عند القصائد التي تصور البيئة المحلية فإذا رأى قصيدة في وصف الناقة خطر له أن يسلك مع قائلها طريقة أبي العلاء المعري في رسالة الغفران، وذلك بإحياء الشاعر وأسماعه قصيدة في وصف السيارة تتضمن أسماء أجزائها، وما يتعلق بها من المصطلحات انتقاماً منه. . .
أما الذي ينال إعجابه فهو ما في الشعر العربي من التعبير عن العواطف الإنسانية، والمشاعر الروحية وتصوير جمال الطبيعة، فهذا يسر له كل إنسان يتمتع بالحاسة الفنية في كل أمة، وقال إن القصائد التي تعبر عن ذلك في شعر العرب تعد من روائع الآداب العالمية، وأتى بقطعة من شعر عمرو بن الفارض ووقف عند بعض أجزائها وقفة المتذوق الفطن، وعلق عليها قائلاً: إننا في هذا الوقت الذي يضطرب فيه العالم في خضم المنافع والماديات نستروح بروح الشعر وشعر الروح مما قاله منذ قرون ذلك الشاعر الصوفي العربي الذي يعد من اعظم شعراء الدنيا.
وأتى بقطع لمختلف الشعراء في مختلف العصور، ودل على مواطن الجمال فيها، وقد ذهب في اختياره بعض القطع، واستحسانه مذهب ابن قتيبة في قوله: ليس كل الشعر يختار لجودة اللفظ والمعنى بل لأسباب أخرى منها إصابة التشبيه.
وختم الدكتور جيوم محاضرته بأنه يعتبر نفسه سعيداً لأنه يدرس الأدب العربي لطائفة من شباب الإنجليز بجامعة لندن فيقرب إليهم موارد الشعر الذي يعبر عن روح الأمة العربية التي لا تقيم على ضيم.
وقد كان المحاضر - على التواء لهجته - دقيقاً في التعبير والإعراب، ومما استرعى التفاتي إليه انسجام إلقائه ونبراته مع ما يتحدث عنه، فكان يلقي ما أعده في الورق وكأنه يرتجل بلغته الأصيلة.
محاضرات مزعومة:
لا يزال بنفسي أثر من الروايات (البوليسية)، التي كنا نقرؤها في الصغر، فعلى رغم الزمن الذي مضى مذ (شب عمرو عن الطوق) فإن تلك القراءة لم تمنح آثارها وإن خدعنا الظاهر لأنها غائرة في الأعماق أو في العقل الباطن كما يعبر علماء النفس.(811/45)
ذلك أني ارتبت في اسم من الأسماء، التي تنشر دائماً في (محاضرات اليوم) بالأهرام، فحلت بي روح المغفور له (أرسين لوبين) وجلست في الشرفة انظر إلى الأفق البعيد وأنفث دخان السيجار لترسم خطوطه المتموجة في الفضاء سطور الشك. . . كيف أوتي صاحبنا المقدرة على أن يلقي محاضرة كل يوم والمفروض أن المحاضرة فكرة تحتاج إلى وقت لتنضج في الذهن، وتختمر قبل أن ترتجل إن لم تحبر. . .؟ إلا يمكن أن يكون في الأمر دخل لروح العصر عصر السرعة، فيكتفي بعنوان المحاضرة ليجيز نشر الاسم الكريم ولا حاجة إلى العناء بالتفكير والإلقاء؟
ثم نفذت الخطة، وهي بطبيعة الحال تختلف عن خطط سلفي (أرسين لوبين) فلست احتاج إلى جرأته الخارقة وقدرته الفائقة على سرعة الانفلات من المسدس المصوب إليه. . . والتغلب على جميع أفراد العصابة بقبضة يده. . . كل ما في الأمر أن أذهب إلى المكان المعين لإلقاء المحاضرة، فألفيه مزعوماً، كدولة إسرائيل، حذو النعل بالنعل!
ودلت تحرياتي أيضاً - وأنا لا أزال متقمصاً روح أرسين لوبين - على أن بعضهم لديه بطاقات طبعها، متضمنة إنه سيلقي محاضرة، وقد ترك في الطبع بياضاً لعنوان المحاضرة، فما عليه إلا أن يسود هذا البياض، ويرسل البطاقة إلى الصحف، لتنشر النبأ.
لا شك أن (محاضرة اليوم) في الأهرام باب نافع من حيث ما قصد منه وهو أن يكون دليلاً لطلاب ثمرات العقول والقرائح إلى مجناها في القاعات والأندية، ولكن هذا القصد شيء والواقع شيء أخر، فالزميلة الغراء تخدع بما يرسل إليها فتنشره دون نظر فيما يشتمل عليه من الأعاجيب، ولست ادري - ما دامت مقتنعة بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً يلقون محاضرات كل يوم - لم لا تصنع لأسمائهم (أكلشيهات) بدل أن يتعب عمال المطبعة في صف حروفها كل يوم.
ومن تلك المحاضرة التي يعلن عنها - ما عدا التي لا تلقى - نوع يلقيه في المساجد أئمتها، وفي الكنائس أحبارها، وهي دروس في الوعظ تؤدي بحكم الوظيفة، وهي في ذلك كخطب الجمع أو كالدروس المدرسية، فتصور كيف تكبر المهزلة أن نشر كل مدرس في مدرسة، وكل خطيب في جامع، أنباء الدروس والخطب. .!
وللباحث الاجتماعي أو النفسي أن ينظر كيف يتهافت بعض الناس على الشهرة ولو لم(811/46)
يملكوا أسبابها. . .
فتاة الشعر:
نشرت (المصري)، قطعتين من الشعر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي، تحت صورة فتاة حسناء، لست ادري مكانها من الشعر، أهي صورة التي يقصدها بالغزل، أم هي صورة (عمومية) يبغي بها جذب الأنظار، على طريقة بعض المحال التجارية و (صالونات) الحلاقة. . .؟ على أن الأستاذ وشعره ليسا في حاجة إلى ذلك، فهو أديب معروف، وما أرى الصورة إلا جانية على القطعتين المنشورتين، وهما من الشعر النابض، فالقارئ أما عادي لا يقرأ الشعر، وما لهذا حساب؛ وأما مستنير مثقف فيرى في نشر الشعر مقترناً بالصورة لوناً من الإسفاف ونوعاً من التعويض، فيعرض عنه.
وليست هذه أول مرة ينشر فيها الأستاذ الخميسي شعراً مع صورة، وبعض شعراء الشباب يلجئون إلى هذا الصنيع دون أن تعبر الصورة عن معنى معين يقصده الشاعر، ومن هؤلاء الأستاذ عزت حماد منصور بجريدة (البلاغ) فهل هي فكرة جديدة كفكرة (فتاة الغلاف) و (فتاة الحائط) فهي إذن (فتاة الشعر)؟
من هو الشقي الحزين؟
الآنسة أماني فريد إحدى الفتيات اللائى ينشر لهن في الغزل. . . وهو تطور جديد في أدبنا بصرف النظر عن قيمة هذا الشعر ومكانه من الأدب، وهو شيء طبيعي في هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر التحرر. . .
وقد أنكر محرر جريدة (الزمان) على فتاة متخرجة في كلية الآداب قصيدة غزلية نشرتها لها إحدى الصحف، ذاهباً إلى أن هذا ليس من موروث عاداتنا ولا من طبيعة مجتمعنا ولا من طبيعة المرأة من حيث ميلها إلى أن تكون هي المطلوبة. وختم كلمته بفتح الموضوع للاستفتاء العام.
وأي شيء بقي من عاداتنا وتقاليدنا؟ وهل وقفت المرأة عند طبيعتها تلك؟
أعود إلى الآنسة أماني، فقد نشرت (البلاغ) أبياتا بتوقيعها عنوانها (لوعة) جاء فيها هذا البيت:(811/47)
أراني شقياً حزيناً ... فيا نفس أين الرجاء
وسياق الأبيات أنها هي المتكلمة، فكيف تكون (شقياً حزيناً)؟ هلا راجعت الأبيات وتأملتها قبل أن تدفع بها إلى النشر لتعرف ماذا صنع الشقي الحزين. . .؟
عباس خضر(811/48)
البريد الأدبي
مستقبل الشعر:
تساءل الأستاذ (توفيق الحكيم) في عدد أخير من (أخبار اليوم) عن مستقبل الشعر والشعراء. وهل آن لدولة الشامخة أن تودع العالم بين صخب التطور وجلبة الاندفاع إلى المستقبل الذي تهرول نحوه الشعوب في سرعة لا تعرف البطء، وعزم لا يدركه الكلال.
والذي رفع الأستاذ (الحكيم) إلى هذا التساؤل هو ما يراه من أفول يصيب نجم تلك الدولة الهرمة، ثم حاول أن يعلل له بما كان من أمر هذه الديمقراطية التي جعلت الآداب موجهة إلى الطبقات الوسطى والدنيا قبل أن تكون موجهة إلى الخاصة، وهذه الطبقات في رأي الأستاذ غير موجهة لتلقي هذه الرسالة الرفيعة، وأخيراً هذه السرعة المجنونة التي تلوذ بالسطح وتنفر من الغوص إلى القرار. والشعر فن يعتمد على التركيز والإيجاز، فهو في حاجة إلى شيء من الذكاء وشيء من الاستقرار يهيئان لفهمه والاستمتاع به.
والأستاذ (الحكيم) بعد هذا العرض وذلك التدليل متشائم، ينظر إلى مستقبل الفن الجميل نظرة الأسف المتحسر. فهل لهذه النظرة من أساس؟ وهل منطق الحوادث وأدلة الماضي والمستقبل تقف إلى جانبه؟
يخيل إلي أن الحق بجانب هذه النظرة التشاؤمية. فما هي الدعائم التي ينهض عليها الشعر؟ وما هي الروح التي تنفخ في جذوته المقدسة فتشعلها وتذكي لهيبها؟ وهل آن الدعائم أن تتقوض، أو لتلك الروح أن تلفظ الأنفاس في المستقبل الغريب أو البعيد؟
إذا استطعنا إذا نجيب على هذا السؤال كان لنا في الإجابة غناء عن تشاؤم الأستاذ أو تفاؤل غيره.
دعائم الشعر في نظري تنقسم قسمين:
قسماً يخص الشاعر الذي ينشئ الشعر. وقسماً يتصل بالقارئ. أما فيما يخص الشاعر فأن الدوافع التي تدفعه إلى قول الشعر لن ينضب معينها إلا إذا نضب معين الحياة، واستجابة الأحياء لما تلقاهم به من ألوان الحوادث والتجارب التي تمتنع على العد، وتستعلي على الإحصاء؛ فدوافع الشعر ستظل خالدة خلود الطبيعة والإنسان. وعلى هذا فالشاعر ضرورة إنسانية باقية، وحاجة روحية خالدة. وإن أقفرت بعض الفترات من وجود العبقريون من(811/49)
الشعراء، فليس معنى ذلك أن الزمن سيظل بأمثالهم عقيماً.
وفي التاريخ الإنساني لجميع الأمم شواهد ناصعة على ذلك، وهي شواهد لا تقبل الجدل ولا اللجاج.
ففي الأدب العربي والإنجليزي والفرنسي وسائر الآداب ما يقيم الدليل على أن الشعر لم يمت وإن مرت به عصور أوشكت فيها روحه أن تفيض، وأنفاسه أن تخنق.
وهنا تتراءى لنا مشكلة لا بد من أثارتها في هذا المجال. فقد كان الأسلوب الشعري هو الغالب في العصور القديمة، وكان النثر تقعد به مكانته دون التعبير عن العواطف الجائشة، والإحساس المتدفق الفوار. أما في العصر الحديث فقد نهض النثر نهضة عظيمة، وراح يزاحم الشعر مزاحمة ظاهرة في هذا المجال. فأدب المقالة اليوم هو في الذروة من حيث استيفاء أغراضه؛ وهي أغراض تشترك في كثير من الأحيان مع الشعر
وما يقال عن المقالة يقال عن القصة في هذا الباب. فالأدب التمثيلي عند (شكسبير) قد حلت محله مسرحيات (برناردشو) النثرية، ومسرحيات (شوقي) حلت محلها مسرحيات (توفيق الحكيم)
وهناك شيء آخر له خطورته على تضييق دائرة التعبير الشعري وهو ما شاع في العصر الحديث من وسائل الثقافة الفنية المختلفة التي زاحمت الكتاب سواء ما كان منه شعراً أم نثراً، وأخطر هذه الوسائل هي السينما والصحافة والمذياع.
وهكذا نلاحظ أن مجال الشعر قد أخذ يضيق ويضيق حتى أصبحت دائرته لا تكاد تجاوز التعبير عن الحالات التي لا يغنى فيها التعبير الموزون تعبير سواه.
أما دعامة الشعر الثانية وهي التي تتصل بالقارئ فيبدو أنها الظاهرة التي أخافت الأستاذ (الحكيم) وجعلته يتساءل هذا التساؤل الوجل في (أخبار اليوم)، فنسى أن يذهب بالتعليل إلى أصوله القريبة والبعيدة
فالقراء اليوم مدبرون عن الشعر منصرفون إلى أدب السطوح لا الأعماق - إن صح هذا التعبير -.
وهذا حق. . ولكن هذا لا يعود باللائمة على القراء (الأغبياء!)، لأن المسالة راجعة في أصولها إلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي يحياها العالم اليوم، فنحن نجوز فترة(811/50)
المخاض التي يضطرب لها كيان البشرية، وتميد معها دعائمها وأركانها. فالمشاكل الاقتصادية اليوم تحتل المكان الأول في نفس الإنسانية المعاصرة، وحتى يجيء اليوم الذي تحل فيه هذه المشاكل على نحو يرضي سنة التقدم، ويشبع رغبة التطور، فستظل مشاكل الفن وحاجات الروح مسائل ثانوية في (جدول الأعمال).
إن الإنسان في هذه الحقبة من الزمن محتاج ليكسب عيشه إلى ساعات لا تقل عن الثمان، هذا في الطبقة الوسطى، أما في الطبقات الدنيا فهو في حاجة إلى أكثر من هذا القدر بكثير أو قليل. فكيف نطلب إلى أمثال هؤلاء أن يخلوا إلى ديوان ليتذوقوا فيه قصيدة عصماء؟ وهم مازالوا يكافحون من اجل رغيف (أغر)؟! إننا نطالبهم بالمستحيل. فهل من أمل في تغيير هذه الحال؟ يخيل إلى أن الجواب هنا يجب أن يكون بالإيجاب، فنحن مقبلون - على رغم العوائق - على العصر الاشتراكي ما في ذلك شك. والاشتراكية هي الأمل المرموق الذي نتطلع إليه شعوب العالم، وتتنزى شوقاً إلى تحقيقه.
ويوم يعم العالم النظام الاشتراكي، فأن هذا الصراع من أجل العيش سينتهي إلى قرار، وعندئذ تنطلق القوى الروحية المطمئنة لتعمل في كل أفق من الآفاق، وإنها لرحيبة بعيدة الأغوار.
فنحن نستطيع بعد هذا كله أن نطمئن الأستاذ (الحكيم) على مستقبل الشعر، لأن الرجاء في مستقبل روحي باهر هو رائد الإنسانية المكافحة في هذا الجيل الذي نعاصره، وإن كنا إلى جانب ذلك نعتقد أن الشعر سيضيق مجاله عند الحد الذي لا يغنى فيه إلا القول الموزون. ولا خسارة هناك من هذا الأمر، فأن النقصان في هذا الفن سيزيده في ذاك، وسيظل الشعر مشعلاً من مشاعل الفن المضيئة الملألئة التي يبهر بريقها الأنظار، وإن علاه في هذه الحقبة شيء من الغبار.
ماهر قنديل
بطلخا الابتدائية
صورة طبق الأصل!
كثيراً ما أقرأ مقالاً بعينه أو قصيدة بعينها في أكثر من مجلة واحدة في زمان واحد، ومكان(811/51)
واحد، كما وقع في كلمة الأستاذ أنور المعداوي حول كتاب (زوجات) للأستاذ الصاوي؛ فقد تفضل الأستاذ الناقد فكتب كلمة حول هذا الكتاب في مجلة (العالم العربي) عدد ديسمبر الجاري، ثم أردفها بصورة أخرى (طبق الأصل!) نشرها في (الرسالة) الغراء عدد (807)، وهذا عين ما وقع في قصيدة الشاعر توفيق عوضي (حب المنطق) فقد تفضل بنشرها في (الرسالة) عدد (806)، ثم في (الثقافة) عدد (521). وبعد، فلست أدري الحكمة من هذا التقليد الجديد، كما أجهل أسبابه ومبرراته ودواعيه ونكتة البلاغة فيه
قد يجوز أن أنشر قصيدة في مصر، ثم أنشرها بعينها في الحجاز، أو في أي رقعة من رقاع (الجامعة العربية)، وذلك لبعد الشقة، ونزوح المحلة، ولتوثيق الصلات الأدبية بين أبناء الضاد. . . أما أن ينشر مقال، وتنشر قصيدة، في المكان الواحد والزمان الواحد، في أكثر من مجلة واحدة، فذلك ما لا يجوز، أو قد يجوز، ولكني على كل حال لا أعرف عبرة جوازه. . . فأكون لمن يتفضل بالعبرة من الشاكرين!
(الزيتون)
عدنان
حننت إلى ريا:
قرأت الرسالة الغراء في العدد 806 ص 1397 في مقال الأستاذ أحمد أحمد بدوي قصيدة الصمة بن عبد الله التي مطلعها:
حننت إلى ريا ونفسك ساعدت ... مزارك من ريا وشعباً كما معاً
منسوبة إلى القشيري، والمعروف أنها للصمة بن عبد الله بن طفيل بن الحرث بن قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب، كما ذكر أبو تمام في ديوان الحماسة (ص54 الجزء الثاني الطبعة الثانية)، وهو شاعر غزل مقل من شعراء الدولة الأموية قالها في بنت عم له هويها يقال لها (ريا)، فخطبها إلى عمه، فزوجه إياها على خمسين من الإبل، فسال أباه ذلك، فساق عنه تسعاً وأربعين، فأبى عمه إلا الخمسين كاملة، فلج أبوه ولج عمه فتركها مغاضباً ورحل إلى الشام فتبعتها نفسه، وجاش صدره بهذه القصيد
عبد الجليل السيد حسن(811/52)
تصحيح كلمة:
لاحظت أن الأديب المتمكن الأستاذ عدنان أسعد في تتبعه عشرات الأفلام وتطبيعات الصحف ألف أن يجعل من كلمة - مانع - صفة للشيء المستحسن الجميل حتى لقد ذكرها في تعقيباته أكثر من مرة. في الجزء الخامس من المجلد الأول من مجلة (الكتاب) الزاهرة وفي العدد 782 من (الرسالة) النيرة ويبدو لي أن التوفيق أخطئه إذ وجدت أبا الفرج الأصفهاني في أغانيه ج 2 ص 50 ط دار الكتب المصرية يروي شعراً على لسان المجنون يقول فيه:
أشرن بأن حثوا الجمال فقد بدا ... من السيف يوم لافح الحر مانع
وقد ذكر الشراح أن المانع هو الطويل خلافاً لما ذكره الأستاذ، وله مني تحية إعجاب.
(السباعية)
محمد الشاذلي حسن(811/53)
القصص
الأقدار
للكاتب الأمريكي ن. هاوتورن
أن معرفتنا الحوادث التي تؤثر على حياتنا ومصيرنا في الواقع معرفة طفيفة ضئيلة فهناك من هذه - الحوادث - إذا شئت أن تسميه حوادث - ما يدنو منا، ثم ينزح عنا، دون أن يكون له أي أثر على أنفسنا، أو يفشى قربه، أو يلقي ضوءاً أو ظلاً عن وجوده. وهذا ما حدث لدافيد سوان.
نحن لا يهمنا من حياة دافيد سوان سوى تلك التي تربطه بها منذ بلوغه العشرين من العمر عندما كان قادماً من مسقط رأسه في طريقه إلى مدينة بوسطون ليعمل في حانوت عمه. ويكفي أن نعرف أنه ولد في نيوها مشاير من أبوين محترمين، وأن ثقافته عادية تزيدها دراسة عام في أكاديمية جليمانتون. وكان يشعر بالجهد وعناء السير ووطأة القيظ بعد أن قطع شوطاً كبيراً من الطريق منذ شروق الشمس حتى ظهر يوم من أيام الصيف الحارة. فعزم على أن يستريح في أقرب مكان تكتنفه الظلال وينتظر قدوم مركبة السفر وكأنما تهيأ له هذا المكان، فسرعان ما بدت أشجار باسقة حول خلاء يتوسطه نبع من الماء العذب الدافق فطبع قبلة على صفحته من شفتيه الظمآنتين ثم استلقى على الأرض وقد توسد لفافة تحوي ملابسه الداخلية. كانت الشمس تجاهد في فتح ثغرة بين الأفنان حتى تصل إليه، وإنجاب ستر ذلك الغبار المتصاعد من الطريق بعد أن هطل المطر في الليلة الماضية. وارتاح الشاب لتلك الحشائش التي يرقد عليها وكأنه نائم على فراش وثير. وتمتم النبع يهمس بجواره، وتأرجحت الأفنان تحت السماء الزرقاء. ثم استولى عليه نوم عميق تتخلله أحلام عابرة لا يهمنا أمرها، فكل اهتمامنا موجه إلى ما يحدث بعيداً عن أحلامه.
كان الناس غادين رائحين على طول الطريق راكبين أو مترجلين فيمرون عليه وهو راقد تحت سلطان الكرى في خلوته وقد ألقت عليه الأشجار ظلالها. وكان منهم من لا يلتفت يمنة أو يسرة فلا يدري وجود دافيد، ومنهم من يرمقه وهو يبتعد عنه سارحاً في أفكاره، ومنهم من يضحك عندما يشاهده راقداً يغط في نومه، ومنهم أولئك الذين امتلأت قلوبهم بالبغضاء، فيبعثون إليه فيضاً من كلمات الضغينة والحقد.(811/54)
وأطلت أرملة متوسطة العمر عليه، ثم حدثت نفسها قائلة: إنه يبدو فاتناً في نومه. ورآه مدرس وقور فعزم على أن يزج بالشاب المسكين في موضوع محاضرته التي سيلقيها ذلك المساء، فيشبه حاله بحال سكير أفرط في الشرب حتى نام بجوار الطريق. كانت كل هذه الخواطر بما فيها ذم ومدح، وسرور وغضب، وإعجاب واحتقار، لا تهم دافيد في شيء. فقد كان بمنأى عنها وهو غارق في نومه.
وأقبلت مركبة يجرها زوج من الجياد القوية سرعان ما وقف أمام ملجأ دافيد. كانت إحدى عجلاتها قد انزلقت بعيداً عنها، مما روع التاجر المسافر وزوجه قليلاً، فترجلا عن المركبة، إلى إن يتم استبدال عجلة بأخرى، وقصد إلى ملجأ دافيد تحت الأشجار التي تظلله. وتمتم النبع المتفجر يشكو تطفل الدخيلين، وتأثر الهدوء الشامل الذي كان يرين على المكان، فعادا أدراجهما في خفة وسكون، خشية أن يوقظا النائم. وهمس السيد الكهل قائلاً ما اعمق نومه! انظري كيف يتنفس في هدوء. وددت لو أنام مثل هذا النوم في مقابل تنازلي عن نصف ثروتي. أنه الصحة والسعادة وصفاء الضمير.
فقالت السيدة - ذلك بجانب الفتوة والشباب. إن الرجل الكهل وإن كان صحيح البدن لا ينام مثله.
وكان التاجر وزوجه كلما أطالا النظر إلى دافيد، ازداد اهتمامهما به، وهو نائم في ذلك المكان بجوار الطريق تحنو عليه تلك الأشجار، وكأنه يرقد في مسكن خاص لا ينازعه فيه منازع، وقد انسدلت فوقه ستائر فاخرة من الظلال، وأقبلت الشمس وقد وجدت أشعتها فرجة تنفذ منها خلال الأفنان، أقبلت تقبل وجهه. وشعرت السيدة بحنان الأمومة يطغي على قلبها، فأحنت فنناً تظلل به وجه الشاب، ثم همست تقول لزوجها.
- يبدو أن العناية الإلهية قد وضعته في طريقنا، وقادتنا إليه. أني أرى شبهاً بينه وبين ولدنا الراحل. إلا نوقظه؟
فتردد التاجر هنيهة ثم قال - لماذا؟ إننا لا ندري شيئاً عن أخلاقه.
فأجابت السيدة - إلا ترى هذه الملامح الطيبة؟! ألا تلاحظ هذا النوم البريء؟!
كانت همساتها تردد في المكان، ومع ذلك لم تسرع دقات قلب دافيد، ولم تبهر أنفاسه، ولم تشف ملامحه عن أي اهتمام لما يدور حوله، ولم يشعر (بالحظ) فوقه وعلى أهبة الاستعداد(811/55)
لأن يغمره بالذهب. لقد فقد ذلك التاجر وحيده، ولم يعد له وريث سوى قريب بعيد لا يميل إليه، ولا تعجبه أخلاقه. ولهذا كان دافيد على قاب قوسين أو أدنى من الثروة والغنى.
ورددت السيدة تحاول إقناع زوجها - إلا نوقظه؟
وهنا سمع صوت السائق وراءهما يقول - أن المركبة على أهبة الرحيل.
فجفل الزوجان، واحمر وجههما، ثم أسرعا يبتعدان عن النائم وهما يعجبان ويتساءلان كيف خطر لهما أن يحاولا إيقاظ هذا الشاب. وتهالك التاجر على مقعد المركبة ثم سرحت به أفكاره بعيداً عن دافيد، ودفعته إلى الاهتمام بمشروع ملجأ للعاطلين.
ولم تكد المركبة تبتعد حتى أقبلت فتاة حسناء في خطى رشيقة، تشف عن قلب صغير يرقص في صدرها. ولعل ابتهاجها ومرحها وحركاتها هي التي دعت (وهل هناك ضرر من قولي؟!) إلى تهدل جوربها الحرير (أن كان حريراً؟) فانتحت جانباً بجوار المكان الذي يرقد فيه الشاب، وانحنت تحاول تثبيت جوربها. وسرعان ما علا وجهها حمرة خجل كاحمرار الوردة عندما أبصرت ذلك النائم المستلقي بجوار النبع، وهمت بالهرب في هدوء عندما لاحظت خطراً يهدد الشاب. كانت تحوم فوق رأسه نحلة ضخمة، وتدور حول المكان في طنين عال، فتارة تطير بين الأفنان، وتارة تندفع مخترقة أشعة الشمس، ثم تختفي في الظلال، وأخيراً حطت على جفن الشاب. وكانت الفتاة تعرف ما تسببه لذعة النحلة من ضرر فهاجمتها بمنديلها ونحتها عنه. ثم وقفت تلهث، وقد بدت حمرة الخجل على وجنتيها، وجعلت تختلس النظر إلى ذلك الشاب الغريب، وتمتمت تحدث نفسها ولم تزل حمرة الخجل تعلو وجنتيها (كم هو جميل الطلعة!).
كيف لم يساوره أثناء نومه حلم سعيد، حلم يستطيع فيه أن يلاحظ هذه الفتاة بين أبطال حلمه؟ ولماذا لم تشرق ابتسامة ترحيب على وجهه؟ لقد قدمت إليه تلك العذراء التي وافقت روحها روحه، والتي كان يتوق إلى رؤيتها، ويصبو إلى لقائها. إنها هي الوحيدة التي يتمنى أن يحبها الحب الفريد الكامل، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يتربع في أعماق قلبها. وهاهي ذي الآن قد انعكست صورتها على صفحة ماء النبع بجواره، تلك التي ستختفي عن أنظاره إلى الأبد إذا لم يستيقظ ويرها.
وتمتمت الفتاة قائلة ما اعمق نومه!(811/56)
ثم عادت أدراجها وقد ثقلت خطواتها. كان والدها تاجراً ريفياً ناجحاً، وكان يبحث في ذلك الوقت عن شاب يساعده في أعماله ويشاركه في تجارته. وهكذا اقترب (الحب) من دافيد كما اقترب منه (يلاحظ) دون إن يدري عنه شيئاً.
وابتعدت الفتاة عن المكان عندما أقبل رجلان واقتحما الخلوة. بوجهين قاتمين وملابس رثة قذرة. كانا من أولئك المتشردين الذين يتعيشون على ما يرسله لهم الشيطان. وهاهما قد أقبلا لاقتسام ما ربحاه من المقامرة. وإذ بهما يشاهدان الشاب وهو نائم فهمس أحدهما إلى الأخر قائلا - إلا ترى تلك اللفافة التي تحت رأسه؟.
فأومأ الآخر بإيجاب، وغمز بعينه، ثم نظر شزراً. فقال الأول - أراهن على قدح من الخمر أن لم يكن هذا الشخص يملك محفظة عامرة بالأوراق المالية أو يخفي نقوده الفضية في مخبأ داخل هذه اللفافة، ذلك إذا لم نجدها في جيوب سراويله.
فقال الآخر - وإذا ما استيقظ؟.
فأشار زميله إلى مقبض خنجره المثبت داخل سترته، فتمتم الشقي الثاني قائلا - هذا يكفي!.
واقترب من النائم، وسدد أحدهما الخنجر صوب قلبه، فجعل الآخر يبحث في ثنايا اللفافة التي كان يتوسدها. وكانت ملامحهما تنطق بالشر والجريمة والخوف وهما منحنيان فوق ضحيتهما. حتى ليكاد أن يخيل إلى الشاب - إذا ما استيقظ ورآهما - انهما من الشياطين. ولو كانا قد القيا نظرة إلى صورتيهما المنعكستين على صفحة ماء النبع، لما عرفا نفسيهما وهما في هاتين الصورتين البشعتين. ولكن الشاب كان نائماً في هدوء لم يعهده من قبل.
وهمس أحدهما قائلا - يجب أن أحرك هذه اللفافة.
وتمتم الآخر - إذا ما تحرك سأقضي عليه.
وأقبل فجأة كلب يشم الأرض تحت الأشجار ثم القي نظرة فاحصة على الشقيين، وأخيراً عاد أدراجه.
فقال أحدهما - لن نستطيع عمل شيء بعد ذلك. إن صاحب الكلب بالقرب منه.
فقال الآخر إذاً دعنا نشرب ثم نرحل.
وأعاد الرجل خنجره إلى طيات ثيابه، ثم أخرج قارورة من الشراب، وجعل ينهل منها هو(811/57)
وزميله وأخيراً نزحا عن المكان وهما يضحكان. وبعد ساعات كانا نسيا ذلك الشاب غير مدركين أن الملك الذي يدون ما جرى من حوادث قد سطر في صفحتيها إثماً ضد روحيهما، إثماً دائماً بدوام الخلود. أما دافيد فكان لا يزال غارقاً في سبات هادئ فلم يشعر بشبح الموت وهو يجثم فوقه، ولا بضياء الحياة الجديدة التي منحت له عندما أنسحب ذلك الشبح. ونام ملء جفونه نوماً أبعد عنه الجهد والتعب. وأخيراً أخذ يتململ وتحركت شفتاه ثم تمتم وكأنه يتحدث مع أطياف أحلامه النهارية. وسرعان ما استيقظ عندما سمع صليل عجلات مركبة السفر وهي تنهب الطريق مقبلة نحوه. فنظر إليها ثم صاح - أيها السائق. أتأخذ معك مسافرا؟.
فأجاب السائق - أصعد - فهناك مكان في أعلى المركبة. وصعد الشاب مغتبطاً وسارت المركبة صوب بوسطون. ولم يلق دافيد نظرة على ذلك الببع بما جلبه له من أحلام متقلبة. ولم يعرف أن شبح (الثروة) قد ألقى ظله الذهبي على مياهه، ولم يدرك أن ملك (الحب) قد تنهد في هدوء واختلط صوته بصوت أمواجه، ولم يشعر أن شبح الموت كان على وشك أن يصبغ تلك المياه بدمه. حدث كل هذا في ذلك الظرف الوجيز من الزمان الذي كان فيه نائماً؛ فنحن في نومنا لا نشعر ولا نسمع وقع خطوات الحوادث وهي تمر علينا مراً. أليس في استطاعة قوة إلهية مهيمنة أن تجعلنا قادرين على التنبؤ - ولو بقدر بسيط - بتلك الحوادث الخفية الفجائية التي تلقى بنفسها في طريقنا؟
محمد فتحي عبد الوهاب(811/58)
العدد 812 - بتاريخ: 24 - 01 - 1949(/)
أحمد حسن الزيات(812/1)
أجنحة الجامعة العربية
للأستاذ عمر حليق
في شمالي أفريقيا - أو الجناح الغربي للجامعة العربية كما يحلو لسعادة عزام باشا أن يدعوه - بلبلة نفسانية سيئة إذا لم تعالج فإنها ستصيب النضال ضد الاستعمار في ذلك الجزء من الوطن العربي بنكسة خطيرة.
فقد اطلعت على تقرير وضعته دائرة الوصاية في هيئة الأمم في لايك سكسس عن حالة العرب في ظل السيطرة الفرنسية، فإذا به يذكر صراحة أن فرنسا كانت تنتظر غضبة نارية من عرب مراكش والجزائر وتونس لموقف فرنسا العدائي من قضية فلسطين تكون أشد وأعم من هذه الحماسة وهذا الجود بالمال والمتطوعين الذين بدوا من عرب المغرب منذ أن اتخذ هذا التحدي الصهيوني هذه الخطورة.
وليست هذه الكلمة محاولة للانتقاد، ولا هي كذلك محاولة للدفاع والتبرير، وإنما هي عرض لهذه البلبلة النفسانية التي تجتاح الوعي القومي هناك، والتي دفعت ضعاف النفوس من أمثال فرحات عباس إلى أن يقول في جريدة لامبسيون المغربية:
(إن الوحدة العربية مهزلة ليس فيها من عناصر الجد شيء. إننا جزء من الوحدة الفرنسية فمصلحتنا وكياننا وحتى اتجاهاتنا العاطفية تتطلب ذلك).
والواقع أن التطورات في مجرى الحملة الفلسطينية تركت أثراً لعيناً في مناطق السيطرة الفرنسية والأسبانية في شمالي أفريقيا في موقف السلطات الاستعمارية وفي نشاط حركات التحرر الوطنية.
والحقيقة التي قل أن تعالجها ألسنة الرأي العام العربي هي تشابك الصراع بين حركات التحرر الذي في شمالي أفريقيا وبين مثيلاتها في الشرق الأدنى وخطورة هذا التشابك في معالجة هذه الحركات جميعها. فهو مستمد من حيوية الموقع الاستراتيجي لشمالي أفريقيا العربية في خطط الانجلوسكسون العسكرية التي تعد الآن للفصل في هذه الحرب الباردة التي تدور رحاها بين الروس وحلفاء الغرب.
إن موقع شمالي أفريقيا الاستراتيجي للملاحة البحرية والجوية ومواضع القفز إلى القارة الأوربية، مضافة إلى الموراد الاقتصادية الوافرة من الفحم والأورانيوم والبترول أيضاً -(812/2)
كل ذلك يكاد يعادل أهمية آبار الزيت السعودية من حيث اتصاله بتطورات القضية الفلسطينية وموقف الأمريكان - وهم سادة حلفاء الغرب - منها هذا الموقف الهدام الذي أمعن في التحدي والاستهتار. إن مناطق العمليات السياسية في الشرق الأوسط - وهو في تعريف الجغرافية الحربية يشمل شمالي أفريقيا - موزعة جغرافياً - على ما يبدو - بين الإنجليز والأمريكان بينما ترك لفرنسا مركز ثانوي.
فمجال بريطانيا قلب الشرق الأدنى، ومجال أمريكا جناحاه. ولبريطانيا أوتاد يبدو أنها متينة في الآونة الحاضرة على الأقل في شرق الأردن وبرقة والسودان، ولأمريكا أوتاد كذلك في نجد ومنطقة النفوذ الفرنسية في شمالي أفريقيا ومنها القسم الذي يطل على المحيط الأطلنطي مجاوراً لجبل طارق.
ولذلك فإن إمعان أمريكا في تحدي شعور العرب في قضاياهم القومية الحيوية لن يتأثر إلا إذا شعرت بتزعزع جدي لأوتادها في المملكة السعودية والمغرب العربي.
ذلك لأن سياسة أمريكا الخارجية مشوبة بطابع الارتجال والتقلب ومراعاة الظروف الطارئة بسبب كونها (أي أمريكا) الآن في حرب اقتصادية وسيكولوجية مع اكبر خطر يهدد حاضرها ومستقبلها وهو الشيوعية السوفيتية.
صحيح أن الأمريكان كرأسماليين أصليين شركاء للاستعمار الأوربي؛ وصحيح أن الكيان الاقتصادي للرأسمالية الأمريكية يتطلب توسعاً جغرافياً في أسواق الاستهلاك والمواد الخام؛ وصحيح أن السياسة الأمريكية في الداخل والخارج مشوشة تتأثر بمطامع الانتهازيين من الساسة المحترفين وعقليتهم المادية (البرجماتيزمية) وهي عقلية ترتكب الجرائم باسم الحريات الديمقراطية - كل هذه حقائق مسلم بها، ولكن الذي يجب إدراكه أن في الولايات المتحدة الأمريكية الآن اتجاهات عملية تضع البلاد على أسس المجهود الحربي، وقد وضعتها فعلاً في مجال الإنتاج والتدريب العسكري. هذا المجهود الحربي هو الذي يفرض على سياسة أمريكا في الخارج أن تتأثر بالاعتبارات المحلية (المعنوية والمادية) لمناطق نفوذها وعملياتها ضد الاتحاد السوفيتي. فمشروع مارشال مثلاً يتوخى عن طريق الإنعاش الاقتصادي، تقوية المناعة النفسية ضد مغريات الشيوعية المادية في أنظمة الحكم والعدالة الاجتماعية. والشرق الأوسط - بعد أوروبا الغربية - هو من أهم هذه المناطق في مجال(812/3)
التخطيط العسكري، ولعله أهمها في الاقتصاد الحربي.
وإن الظروف الدولية وما تسميه الصحافة الغربية بالحرب الباردة تفرض على طبيعة التأرجح والتقلب في سياسة أمريكا - هذا التأرجح المستمد من طفولة أمريكا في العلاقات الدولية - تفرض ارتجالاً يجعلها سريعة التأثر بالترمومتر السياسي والنفسي لمناطق عملياتها كما ذكرت. ولذلك فإن جناحي الجامعة العربية في شرقي جزيرة العرب وفي المغرب الأقصى هما أمضى سلاح تستطيع الجامعة أن تشهره في وجه الأمريكان وهم أسياد المعسكر الغربي. والجامعة العربية كمنظمة إقليمية لها خطورتها في السياسة الدولية، وكهيئة تمثل رغبة العرب ومصلحتهم في التكاتف والتعاون ورعاية الاستقرار والرفاهية في الوطن العربي الأكبر تستطيع بل هي ملزمة أن تضع سياسة إيجابية عملية لجناحيها الخطيرين. وللجامعة كذلك مساعدات هائلة متوفرة في ذينك الجناحين، ففورة الشعور القومي، والتعلق بالعروبة، والتطلع إلى الوحدة العربية، متأججة في المغرب العربي؛ وقادته في القاهرة يرتمون في أحضان الجامعة ويلحون في طلب المعونة العملية. وإذا كان من الإنصاف أن نعترف بأن اشتغال الجامعة بمشكلة فلسطين وهي كبرى المشكلات يجعل المعونة العملية المطلوبة صعبة، فإن من المهم أن نعترف بأن الصراع في شمالي أفريقيا وزعزعة الأوتاد الأمريكية من شبه الجزيرة العربية هو جزء رئيسي من الصراع في فلسطين بل هم حيوي له.
والمشاكل القومية حين تكون متحدة الأهداف لا تتبع في معالجتها سياسة إنصاف الحلول، ولعل أضعف نقطة في مسلك الجامعة هو فقدان توزيع العمل في سياستها.
إن حركات التحرر في شمال أفريقيا إذا لم تستطع الآن أن تتخذ شكل حرب ضد الاستعمار فلا أقل من أن تتخذ شكل قلاقل جدية، على النحو الذي شغل به الأمير عبد الكريم الخطابي الفرنسيس والأسبان سنوات طوالاً. ولعل في إثارة هذه القلاقل الآن عواقب جسيمة الأخطار، ولكن الذي يبرر الدعوة لها هي وحدة الصراع العربي الشامل وتشابك القوى الغربية التي تتحد مصلحتها في تفرقته. وقد كان كاتب هذه الأسطر يراقب عن كثب خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة مسلك دول الجامعة العربية في هيئة الأمم المتحدة في قضايا فلسطين والسودان. وكانت هذه الدول تميل إلى الأخذ برأي أثبتت الأيام خطأه، وهو أن(812/4)
الصراع الدبلوماسي في هيئة الأمم يتطلب أن لا تناصب فرنسا العداء مخافة تمضي في عدائها للقضايا العربية (الشرقية). وكذلك كان موقف بعض الدول العربية بادئ الأمر من هولندا في عدوانها على الجمهورية الأندنوسية. وكلنا عليم بأن مواقف كلتا الدولتين في داخل هيئة الأمم وفي خارجها من قضية فلسطين لم تراع مطلعاً هذه الكياسة العربية. وعلى ضوء هذا الجحود، يجب أن يحدد موقف الجامعة من فرنسا تحديداً حازماً. ففتور الجامعة الدبلوماسي على الأقل نحو مصير باي تونس المرحوم محمد المنصف، ونحو قانون الانتخابات للفرنسيين في تونس، وفي فضائح انتخابات الجزائر وفساد قانونها، وفي موقف المقيم العام الفرنسي من سلطان مراكش، هذه السلبية تركت ولا شك أثراً سيئاً في حركات الإخوان العرب في ذلك الجزء من الجسم العربي، كما ولدت فتوراً في حدة الاستنكار الذي كانت فرنسا تنتظرها من المراكشيين والجزائريين والتونسيين لموقف فرنسا من قضية فلسطين ولموقفها من نشاط اليهود في مجهودهم الحربي في فرنسا نفسها وفي المغربي العربي ذاته.
لقد استمدت الجامعة العربية كيانها التي ترعاه أفئدة الملايين من المصلحة العربية المشتركة بالإضافة إلى أسس الشعور الثقافي الشامل المشترك. وعلى ضوء هذه المصلحة الحيوية، وبفضل هذه الشعور الأصيل خطت وستخطو الجامعة قدماً والحق في جانبها، والعدالة رائدها ودستورها، والله والعروبة معها.
وعلى أساس هذه المصلحة وهذا الشعور يجب أن يعالج جناح الجامعة العربية الشرقي في نجد والكويت والبحرين. إن القائمين على الأمر في ذلك البحر من السائل الذهبي، لا يبدو أنهم يقدرون خطورة موقفهم في سياسة الجامعة العربية، فضلاً عن السياسة الدولية إجمالاً. ولعل العذر هو فجاجة الرأي وفقدان المشورة المجردة من الانتهازية الأنانية التي تستغل صفاء النفس البدوية وسذاجة وعيها السياسي في عالم معقد.
بل الواقع أن أمراء المملكة السعودية والكويت والبحرين لا يقدرون خطورة ارتمائهم في أحضان الأمريكان والبريطانيين وهم على مرمى القنابل الروسية في حوض من البترول يستهوي آلة الحرب النهمة.
وإذا كانت مصلحة الهدف الذي تعمل له الجامعة العربية يتطلب تركزاً وسياسة إيجابية(812/5)
لذلك القسم الهام من الجسم العربي فإن صميم الكيان لتلك المناطق العربية يتطلب تحديداً جديداً في علاقاتهم مع الأمريكان. ويتطلب تجرداً من التزامات ثقيلة وعواقب وخيمة. فهذه الالتزامات وحدها قد تكون مبرراً يتخذه الروس فيما يضمرونه من شر لآبار البترول التي يمتصها الأمريكان. هل قدر الأمراء الذين يلهون بحفنة من الدولارات الأمريكية مغبة وضعيتهم الخطيرة؟
إن المصلحة القومية، وحتى المصلحة الشخصية الأنانية لأولي الأمر وللشعب في شرقي جزيرة العرب تفرض الاندماج الكلي في سياسة التنظيم الإقليمي الذي تعمل له الجامعة العربية في صدق وإخلاص، فهذا الاندماج ضروري بل أساسي لتناسق المصلحة المشتركة.
ويبدو أن السعوديين والكويتيين وسكان البحرين وأمراءهم وشيوخهم يسلكون مسلك الذين يعتقدون أنهم الرابحون في إعطاء امتيازات البترول للأمريكان. ولعل السبب أنانية جماعة من المرتزقة العرب الذين يحيطون بأولي الأمر هناك؛ هذا بالإضافة إلى سذاجة الوعي وفقدان التوجيه الذي تستطيع الجامعة أن توليه.
ولا حاجة للإفاضة في شرح سذاجة هذا التفكير؛ فحصة المملكة السعودية مثلاً من أرباح شركات البترول الأمريكية التي تستغل آبارها الغنية تبلغ خمسة في المائة أي 18 مليون دولار حصة السعوديين من الضرائب وغيرها، بينما أرباح الشركة تزيد في 360 مليون دولار! هذا إذا أخذنا أرقام الشركات الأمريكية على أنها صادقة!
وطبيعي أن سياسة الجامعة العربية في جناحها الشرقي لن تتطلع أو تتوخى امتلاك آبار البترول أو حتى إدارتها؛ ولكن النصيحة الرشيدة و (إثبات الوجود) كفيلة بأن تعزز الهدف لرعاية المصالح العربية في هذا المجال الإقليمي. فهناك فائدة مزدوجة تعود بالربح المادي وغير المادي على الحكومات والشعوب على السواء في المملكة السعودية والكويت والبحرين حين تمتلك السلطات المحلية هناك آبار البترول. فهذا الامتلاك يتطلب تحديد الموقف إزاء الشركات المحتكرة، وهذه الخطوة لا تعني ترك البترول يعفن في طبقات الأرض. ففي أمريكا الجنوبية دول وشعوب تنقصها الخبرة الفنية والتقدم الحضري، ومع ذلك فقد أقصت الأمريكان عن منابع الذهب الأسود كما حدث في المكسيك، وابتاعت(812/6)
لاستخراج البترول في بلادها الخبرة الفنية الإدارية، وسلمت من الاستغلال الأجنبي ومن ذيوله والتزاماته الخطيرة، مع العلم بأن المكسيك ودول أمريكا اللاتينية ليست هدفاً مباشراً لقنابل الروس كما هو حال نجد والكويت والبحرين.
والبترول فوق ذلك مادة رائجة كأحسن ما يكون الرواج. والتنافس حتى بين الشركات الأمريكية نفسها على أشده في سبيل الحصول عليه. ألم يفز شيخ الكويت بشروط على إجحافها خير من شروط السعوديين في الامتياز الأخير على امتلاك آبار الكويت أوفر آبار البترول في العالم، وقد تنافس عليها فريقان من الشركات الأمريكية؟
ودول الجامعة العربية في السياسة الدولية، شأنها شأن كثير من الدول الآسيوية تتفادى مناصرة أي المعسكرين المتطاحنين الذين يستعدان لتقويض حضارة الغرب. وإن مصلحة الجامعة بالإضافة إلى مصلحة أولي الأمر في شرقي الجزيرة العربية تتطلب التعاون والتكاتف لتوطيد سياسة الحياد الاقتصادي، لتعزز المصلحة السياسية والقومية.
وعلى ضوء هذه المصالح المتشابكة المتضامنة المتماسكة يجب أن يتجه العرب منفردين وفي جامعتهم نحو امتيازات البترول الأمريكية وهذا يفرض على الجامعة توزيعاً في العمل. فسياسة البترول إذا أخذت مأخذ الجد احتاجت إلى خبرة فنية (تكنولوجية) وفي الإدارة والتوجيه. وهذه نواح على فداحة المجهود لتوفيرها هي في الواقع استثمار جم الفائدة في سياسة عملية فعالة مثمرة.
وسياسة الجامعة العربية إذا تطلبت في جناحها الغربي (شمالي أفريقيا) سياسة تحد فأن النشاط في الجناح الشرقي يحتاج إلى توجيه وتركز فني في خطوات عملية يكون الإخلاص والكفاءة والعلم روادها. وكلا المنهجين جزء من المصلحة الأساسية المشتركة، فهما متممان لعمليات الصراع في فلسطين، وهما متممان لتحرير الخمسة والعشرين مليوناً من المعذبين في ظل الاستعمار الفرنسي الشنيع، ولدفع الأذى عن الإنسانية البسيطة التي تلعب بالنار على مقربة من البارود الروسي.
وهما أساسيان لتدعيم التنظيم الإقليمي والتكتل الجغرافي الذي تعمل له الجامعة. وهما بعد هذا وذاك انتصار للحق والعدالة.
(نيويورك)(812/7)
عمر حليق
سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية(812/8)
جحود. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا اخي، كيف صرت بعدي؟ هاهي الأيام تمر في غير وناء ولا تلبث فلا أراك ولا اسمع عنك؛ وتصلب قلبي وتحجرت مشاعري فما عدت أجد فقدك ولا أحس بعدك. إني أخالك قد فرغت - منذ أن تدابرنا - إلى عملك الحكومي، تبذل فيه طاقتك وتصرف إليه غايتك وتهيأت لمصالحك الخاصة - كما تقول - فاستنفدت جهدك واستغرقت وسعك، فما أصبح في وقتك فضلة تصل فيها ذوي قرابتك أو تزور صحابتك. واغترقت في سراب كاذب فتصنعت بالكبرياء وتخلقت بالترفع، وإني أعجب من أسلوبك، فما أراك تلبس هذا الرياء إلا أمام أهلك فحسب
فأنت في ديوانك الحكومي لقي في ناحية من حجرة بين أكداس من الورق، همل بين همل من الموظفين. ورئيسك يرى فيك المثل الأعلى للموظف المجد! والموظف المجد في رأي رئيسه هو من يعشي عينيه في القراءة والتحديق، ويبري أنامله في الكتابة والتسطير، ويقوس ظهره في الانحناء والخضوع، ويهدر كرامته في الاستكانة والخنوع، ويلغي عقله فلا يتأبى على عمل ولا يجادل في رأي. لهذا فهو يغفلك ويهملك. أرأيت أصحابك وهم يحاولون أن يتحدثوا إليك في التليفون، أن رئيسك يهر فيهم هريراً مفزعاً، ونكر وجودك في إصرار امتهاناً لقدرك، وتجاهل مكانك في عناد واحتقاراً لك!
يا أخي، لقد تصلب قلبي، وتحجرت مشاعري، فما عدت أجد فقدك ولا أحس بعدك؛ غير أني أشعر - حين تحوم خواطري حواليك - بخيبة أمل. . . خيبة أمل الأب يلقي من وحيده وقد اشتد عوده ونما غراسه وبلغ مبلغ الرجال. . . يلقي منه العقوق والجحود جزاء له على أبوته، وعلى أن بذل دمه وماله وعمره ليكونه ابنه رجلاً بين الرجال. أفتصيب الأب حمى الندم حين يحس خيبة الأمل من أثر العقوق؟ لست أدري. . .!
لقد كنت - يا أخي - أمل أسرة: أبي وأنا وانت؛ وقد ماتت أمي عنا صغيرين!
أما أبي - رحمه الله - فقد تنشأ - أول ما تنشأ - في الأزهر، وتنشق عبيره، وذاق حلوه ومره، وانطبع بطابعه. والأزهر يسم بنيه بسمات فيها الورع والتقى والاستسلام إلى القضاء والقدر والرضا بالواقع والعزوف عن لذائذ الحياة وأطماعها. ونمت هذه الخصال(812/9)
في أبي منذ أن كان صبياً واشتد غراسها على الأيام، تغذيها حياة الريف وهي هادئة رتيبة في منأى عن مصطرع الحياة ومعترك النوازع، فما تكالب على المادة من حرص، ولا اندفع في غمرات الدنيا من جشع، ولا تزاحم على نفع من طمع، ولا خلبه المال من شهوة؛ فعاش على حيد الحياة يأخذ نفسه بالزهد والقناعة، ويروضها على التقشف والخشونة، ثم لا يحفل - من بعد - أفاضت غلات أرضه عن جود وسخاء، أم ضنت عن شح وضيق. ونحن - أنا وأنت - فرحة قلبه، وبهجة فؤاده، ونور عينيه، يضمنا حنانه، ويرسلنا عطفه، ومنتهى أمانيه أن يرانا - إلى جانبه - رجلين!
وكنت أنا أكبر ابنيه، وأحس أبي - والسنون تمر - أنه في حاجة إلى من يتخذه رفيقاً وصاحباً وعوناً، فتلفت فإذا أنا إلى جانبه، فالقي بأعباء الحياة بين يدي وقال: (احمل)! فحملت العبء وحدي وأنا ما زلت في سن الصبا وفورة الشباب! حملت العبء وانصرفت عن المدرسة في نشوة وطرب، تكتنفني خواطري الصبيانية، وفي نفسي أنني رجل وأنني رب هذا البيت، وما فيه غير أبي وهو بين صلواته وتسابيحه في شغل، وغيري وبين يدي شئون الدار والغيط أصرفها كيف أشاء، وأنت في المدينة تلميذاً بالمدرسة الابتدائية. وأخذني أبي - رحمه الله - بالنصح في غير غلظة ولا جفوة، وأنا اهتدي مرة وأضل مرة، وهو من ورائي يدفعني إلى غاية!
وعشت فلاحاً بين فلاحين، ابذر الحب وأرجو الثمار من الرب
ومرت الأيام تشعرني بأن أبي هو صاحبي، وأنك أنت - يا أخي - ابني، وأنني صاحب الدار والأرض والغلة جميعاً.
وأحس أبي مني الرجولة، فراح يزين لي أن أتزوج من فتاة من ذوى قرابتي لنجد ريح المرأة في الدار بعد جدب؛ والمرأة تشيع في الدار الحياة والحركة، وتبعث فيها النظافة والنظام، وتنفث فيها السعادة والمرح؛ وهي تشد أزر الرجل وتعينه على شواغله وتمسح عنه وعثاء الحياة وعناء العمل، وأصغيت إلى حديث أبي وفي النفس نوازع جارفة تدفعني إلى أن ألبي رغبته، ولكني رفضت في رفق وأنا أقول: (يا أبي، أن الزوجة تصرفني عن أخي وهو في المرحلة الأخيرة من الدراسة، وأنا أخشى أن تشغلني الزوجة عن أن أوفر له حاجاته - وما بنا ثراء - فينهار البناء أو يوشك وهو أملنا). . . وسكت أبي وسكت. . . .(812/10)
وقضيت سنوات شبابي الأول أبذل غاية الجهد في الغيط لأوفر لك حاجاتك في البيت وفي الجامعة، وهي تزداد رويداً رويداً على حين تعصرنا أزمات عنيفة من الخمود الاقتصادي الذي سبق الحرب العالمية الثانية، ومن هبوط أسعار المحاصيل إلى درك لا تكفي معه غلات أفدنة أن تسد حاجة طالب واحد، وللجامعة طلبات تقول للطالب: إما أن تكون غنياً أو تكون جاهلاً! ورضينا - أنا وأبي - أن نقنع بالقليل ونجتزئ بالتافه، أشعر بالضيق في صبر، وأحس الحاجة في تعفف، وأنا شاب تتجاذبني أطراف الحياة وملذاتها فأدفعها عني، أدفعها لأنك أنت تستنفد كل مالنا في غير شفقة ولا رحمة!
أما أنت - أيها الفتى المدلل - فقد تخرجت في الجامعة، وما تذوقت طعم الحاجة، ولا أحسست مس الضيق، وقضيت أيام المدرسة في هدوء وطمأنينة، نخصك بالشهي من الطعام، وأنا في شظف من العيش؛ ونحبوك بالغالي من اللباس، وأنا أتوارى خلف أسمال؛ وتنعم بالدفء شتاء وبالراحة صيفاً، وأنا أصارع الأجواء في صبر يعركني زمهرير الشتاء ويفريني سعير الصيف. . . ثم توظفت في الحكومة!
ولما مات أبي - رحمه الله - خلت بي تقول: (يا أخي، إنك أنت أخي وأبي في وقت معاً، ولقد نزلت عن رغبات نفسك في سبيلي وأنت في مستهل العمر، والآن لم يبق لي في هذه القرية غير عطفك وحنانك، وغير حبك وإخلاصك، فقم على زراعة أرضي كيف تشاء، ثم اعطني فضل ما يزيد على حاجتك. . .)
وانسرب حديثك إلى قلبي يحفف وطأة الصدمة، ورضينا معاً أن أستأجر منك ميراثك كله (بأجر المثل)، فأكفيك عناء السفر وجهد التحصيل. . .
وبعد سنه واحدة تحدثني حديثاً فيه الرجاء تقول: (يا أخي، إن الأسعار ترتفع في غير هوادة، وإن حاجات العيش في المدينة تكلفني فوق ما أطيق، وأنا أدفع نفسي عن كثير من حاجاتها، فهل ترضى أن نرفع إيجار الفدان إلى كذا وكذا. . . لأجد سعة من المال؟). . . ونزلت عند رأيك، وأنا أحس أن في كلامك شيئاً غريباً علي، وأنه يستر حديثاً بعده، وأن نبرات صوتك تتحدث بأمر. وبرغم أنك تعرف مواسم الدفع والتحصيل، فقد سلكت سبلاً - حين طالبتني بحقك - أشعر معها بالحرج والعنت
وبعد سنة أخرى جئت تقول: (أظنك تعلم - يا أخي - أن إيجار الفدان قد ارتفع إلى كذا(812/11)
وكذا. . . وأن هذا السعر يبهظك ويشق عليك، فهل تنزل لي عن أرضي ليستأجرها غيرك!) قلت: (يا أخي، إن كان الأمر هو أمر السعر فحسب، فأنا دائماً ادفع لك أجر المثل، وإن كان غير ذلك، فاكشف لي عن دخيلة نفسك). . . فأصررت أنت على قولك: (إني أريد أن يستأجرها غيرك شفقة مني عليك، ثم إني اطمع أن أحس بملكية ميراثي من أبي!) ورأيت في تشبثك التافه خلقاً لم أعرفه عنك من قبل! ثم جاء عمك يقنعك، فعدلت عن رأيك، ورضيت أنت ورضيت. وخيل إلي انك ندمت على أن نزلت عند رأي عمك، فأردت أن تفزعني عن أرضك في أسلوب وضيع، فأخذت تتطاول علي - على ملأ من الناس - تريد أن تشعرني بأنني عبد فضلك، فكنت أدفعك عن هذا الرأي في هوادة، وأنزع عنك هذه العقيدة في لين، وأسلوبك يبعث في الغضاضة والضيق! ورحت أوحي إليك بأننا صنوان وأن ما أربحه من أرضك لا يغني من جوع، ولا يرد غائلة العسر، ولا يرتفع بي إلى الغنى، ولكن كبرياء الوظيفة، وزيف المدينة، وبريق الثراء المزعوم، كانت كلها قد كدرت صفاء قلبك، وطمست على صواب رأيك، فتعاليت على أخيك الفلاح، وأنفت أن تكون في لباسك الإفرنجي إلى جانبه، وهو في جلبابه، ونسيت ما كان منه أيام أن كنت. . .
يا أخي، إنك لن تكون شيئاً، أن أنت قطعت وشائج القربى أو صرمت أواصر النسب!
وتماديت في غوايتك دون أن تبادلني الرأي، فأرسلت رجلاً من أوشاب الفلاحين ليستولي على أرضك - وقد زرعتها - ويقول: (هذا حقلي استأجرته من مالكه). . . ومالكه هو أنت يا أخي! وعجبت. . . ولكن الرجل نشر أمامي (عقد إيجار) يدل على أنك أنت كاتبه!
ونظر الفلاحون بعضهم إلى بعض وزمت شفاهم على ابتسامات فيها السخرية وفيها الإشفاق، وشعرت أنا - لأول مرة في حياتي - بأنك قد أدميت قلبي، وجرحت نفسي، وامتهنت كرامتي، وبأنني أصبحت بين الفلاحين شيئاً تافهاً! ورضيت - يا أخي - أن تخول هذا الرجل أن يقتات على حقي، وأن ينازعني ملكية غيط، وأن يقف مني موقف الند للند. . . وثارت ثائرتي. . فطردت صاحبك من الغيط. . . وطردتك من نفسي. . .
كامل محمود حبيب(812/12)
عقيدة وحدة الوجود وأثرها في فكر طاغور
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
إن حقيقة وحدة الوجود هي حجر الزاوية في الديانة الهندوكية مثلها في ذلك مثل التوحيد في الإسلام والتثليث في المسيحية. فلا عجب إذا استلهم طاغور الهندوكي هذه الحقيقة وجعلها محور تفكيره وينبوع مشاعره وانفعالاته. فلقد سبقه متصوفة الإسلام في التأثر بها بالرغم من تعارضها في جهات كثيرة مع تعاليم الدين الإسلامي، وادعى الحلاج أنه الحق أي الله، ووضع ابن عربي تصميم فلسفة تدور حول وحدة الوجود. فإن استقى طاغور أخيلة قصصه وإلهامات أشعاره من معين عقيدته الدينية وجد بفكره في إبرازها في صورة حية بسيطة تشعر بصدق صحتها وسهولة تحقيقها، فليس ذلك إلا لطغيان عاطفة دينية قوية على مشاعره رغبته في التعبير بمختلف الوسائل الفنية والفكرية التي تيسرت له عن عقيدة يؤمن في قرارة نفسه أنها حق، فأنتفع بشتى مقومات الحضارات الشرقية والغربية سواء أكانت قديمة أم حديثة، واتخذ منها أسساً ليدعم بها عقيدة وحدة الوجود، ويوضح ما يكتنفها من غموض، ويرغب الغير في تصديقها، ويحض الهنود على اختلاف مهنهم وأعمالهم على تحقيق اتحادهم بالله والخليقة.
وتقرر عقيدة وحدة الوجود الهندوكية أن الله يستقر في أعماق النفس الإنسانية، ويظهر في الحيوان، ويبرز في النبات ويتجلى في الماء والنار، وينتشر في سائر مكونات الكون. وأن الله حقيقة حية حاضرة في كل مكان، دائمة الاتحاد بالوجود، وتتخذ مظاهر متنوعة تبدو في صور محتويات الطبيعة المتعددة من إنسان وحيوان ونبات وجماد، وتشمل جميع هذه الأشياء وتضمها في وحدة مطلقة أبدية، وتمنحها حقائق روحية خلاف مظاهرها المادية.
ويعلل طاغور حلول الله في الخليقة بأن الله حينما امتلأ بالسرور فاضت عنه الخليقة، فالكون عند طاغور هو الصورة التي يتجلى فيها سرور الله، لأن طبيعة السرور أن لا يبقى على حالة مجردة، ويبحث على الدوام عن قالب مقيد بقانون يصب وجوده فيه فإن الفنان الذي تمتلئ نفسه بالسرور عند اكتمال فكرته الفنية يسرع عادة في استعراضها مثلاً في صورة الغناء الذي يخضع لقواعد الموسيقى، أو في قالب الشعر الذي يخضع لقانون تطور المعاني وقواعد العروض. وكذلك سرور الله يرتسم في صورة النفس الإنسانية التي(812/13)
تتقيد بالقوانين الأخلاقية، كما يبدو في صور مكونات الطبيعة التي ترتبط برباط القوانين الطبيعية.
وعلى الإنسان أن يسعى لمعرفة هذه القوانين لا على أنها غايته القصوى في الحياة، بل لأن معرفتها يبعث في النفس ذلك السرور الذي صدرت بسببه الخليقة عن الله، ومن ثم يعي الله الذي حل في كل شيء ويشعر بتلك الوحدة المتماسكة التي تضم أجزاء الكون
إلا أن المرء لن يحظى بغايته الدينية ما لم يظهر أولاً الله الكائن في قرارة النفس، ويبرزه في عالم الشعور مثل ما تبرزه الشجرة من الحبة. ولن يحصل على كماله الروحي إلا عندما يتلاشى شعوره بذاتيته ويدمجه في كل ما حوله من كائنات، وبغير ذلك لن يدرك أحد حقيقة وحدة الوجود. ولكن إذا تمكن الإنسان من أن يحس بوجود الله في دفينة نفسه فكيف يمكنه أن يعي الله في كل شئ في العالم ويندمج فيه، لأن عدد ما يحتويه العالم من مخلوقات لا يدركه الحصر؟ ولكن يتفادى طاغور هذه الصعوبة على رغم أن الإنسان قبل أن يفنى روحه في الوجود عليه أن يصل إلى أغوار نفسه ويدرك الله الكامن بها. وعن طريق وعي حقيقة كمون الله في النفس الإنسانية واتحاده بها يكشف الإنسان عن تغلغل الله في سائر محتويات الوجود، ويتخذ من تلك الحقيقة مصباحاً يهتدي به في وعي اتحاد الله بمختلف نواحي الكون وإدراك الوحدة الكبرى التي تربط أجزاء الوجود. شأن الإنسان في هذا الإدراك شأن كشف العلم عن قوانين بسيطة عامة عن طريق بحثه مجموعة من الظواهر والحوادث يستعين بها بعدئذ في فهم الظواهر والحوادث المتشابهة التي لم يكن قد بحثها من قبل. فلا بد للإنسان إذن أن يدرك أولاً حقيقة عامة تنير له سبل معرفة كل ما يريد أن يعرفه عن وحدة الكون. فإن عرف مبدأ استقرار الله في أعماق النفس الإنسانية واتحاده بها يمكنه أن يسترشد به في الغوص في مجاهل الوجود تدريجياً إلى أن يتجلى له الله في صور الأشياء جميعاً في صورة بعد صورة، حتى يجد نفسه غارقاً في لا نهايته الفسيحة التي تضم كل محتويات الوجود وتوحدها فيعجز عن أن يميز بين حقيقته الفردية وحقيقة الله الكلية، لأن تدفقه المستمر نحو الله الذي يتوسم في الكون صيره الله وأصبح لا يحس بوجود خلاف وجوده الذي هو وجود الله.
فمفتاح وعي الله ووعي الوجود هو وعي الروح، وأول خطوة يجب أن تخطى نحو تحقيق(812/14)
الكمال الروحي هي أن المرء يعرف أنه روح في جوهره، ولا يستطيع أحد أن يعرف ذلك ما لم يكن لديه نور من ذات نفسه يحدس به صورة الله في النفوس الإنسانية؛ وذلك لا يتأنى إلا بعد خضوع النفس لسيادة قانونها الأخلاقي، وقيام الإنسان بعمل صالح مفيد، ثم أدائه فروض الدين، لأن سيطرة القوانين الأخلاقية على الحياة الإنسانية تحررها من نزوة الشهوة وتخلصها من إغراء مفاتن الدنيا، وتطهر النفس وتعدها لإدراك وحدة الوجود. بينما قيام المرء بعمل يعود على بني الإنسان بالخير، يعبر عما يختلج في نفسه من مشاعر إنكار الذات وقدرة على تعدي ذاته الفردية إلى شيء عام خارج عنها. أما أداء الشعائر الدينية اليومية من صلاة وصوم ودعاء بإخلاص صادق ينم عن إيمان قوي، فإنه يزيل كل ما يعوق اجتهاد النفس في سبيل كشف الله في داخلها، ويمد الوعي الروحي بالتقوى والصلاح والورع التي تفسح الطريق نحو اللانهاية.
وما أن يتم بالروح الطاهرة الخيرة النشيطة إدراك اتحاد الله بالنفس البشرية بالبداهة الروحية والحدس الفطري يجب أن تستنير بهذه الحقيقة في إدراك الله في الطبيعة عن طريق كشف القوانين الطبيعية التي يدخل تحت نطاقها كثير من الظواهر المتشابهة والحوادث المتكررة والأشياء المتماثلة التي أحل الله سروره في كل منها على صورة القانون الخاضعة له، ثم يستضئ بهذه القوانين العلمية في الإحساس بانسجام أجزاء الكون وتوافقها الذي يوحي بتذوق جمال وحدة الطبيعة واتحادها بالله.
ولكن إدراك الله في النفس وفي الطبيعة وإحساس وحدة الوجود أمر جزئي لا يكفي لتحقيق الكمال الروحي الذي لا يتوصل إليه إلا عن طريق الحب الذي يغمر النفس عند الإحساس بذلك السرور الذي يتولد من إدراك حقيقة وحدة الوجود، وذلك يحدث حين تصير فكرة وحدة الوجود حية في النفس واضحة للعقل، ويعيشها الإنسان في كل عمل يأتيه، وفي كل قول يصدر عنه، حتى يصبح إدراك هذه الوحدة أكثر من مجرد فكرة ذهنية، وينبعث من الإنسان وعي يشع نوره من معرفة الله المقيم في كل شيء، فيشمل هذا الوعي سرور مبهج ينجم عنه حب عميق لكل شيء يستقر فيه الله، وحب الغير أسمى ما يصل إليه الإنسانية من درجات الرقي الروحي، ففيه يتلاشى الشعور بالفردية ويختفي التباين بين الله والطبيعة والإنسانية، وتعرف الروح أن حقيقتها تتضمن أكثر من وجودها الشخصي، وتوقن أنها(812/15)
حرزت على وحدتها التامة مع الخليقة التي يتوسم سرور الله في كل وجه من وجوهها.
ولم يتورع طاغور من أن يسير مع الدين الهندوكي إلى آخر مداه، ويؤمن معه بأن الإنسان يجب أن يسعى ليتحد بالله حتى يصير هو والله حقيقة واحدة. إلا أنه حاول أن يخرج نفسه من هذا المأزق، وينفي عن الإنسان أصالة الربوبية بادعائه أن القول بأن الروح يجب أن تصبح الله، لا يقصد به أن روح الفرد هي الله بالفعل، إنما يقصد به أن الله هو المثل الأعلى اللانهائي الذي ينبغي أن يتحول إليه الروح. ومثل الروح في ذلك مثل ماء النهر المتدفق نحو البحر، فإنه يستطيع أن يقول (أنا البحر)، ولكنه لا يستطيع أن يزعم أن البحر جزء منه أو ترعة فيه، وتستطيع الروح كذلك أن تكون الله، كما يصير النهر بحراً، ولكنها لا تستطيع أن تدعي أن الله جزء منها، أو تنكر أن غايتها الأخيرة أن تغوص في لا نهائيته، ثم تنمو وتزداد فيه على الدوام حتى تشمله جميعه وتصير حركاتها متفقة مع أنغام هذه الحقيقة اللانهائية.
وإن استطاع طاغور أن يفلت من هذا المأزق، فلقد واجهته مشكلة أخرى مستعصية، وهي كيف يتحد الإنسان المحدود بالله الغير محدود، فإنهما متناقضان والجمع بينهما مستحيل؟ ولكن طاغور لم يجد صعوبة كبرى في دفع هذا الإشكال دفعاً سلبياً، وبين أن اجتماع اللانهائي لا يظهر ما فيه من تناقض إلا المنطق، أما في الحقيقة، فليس هناك مشكلة على الإطلاق. والمنطق بجدله لا ينفي فقط اتحاد الله بالإنسان والكون، بل يستطيع كذلك بعقد البديهيات ويدلل على أن البعد بين نقطتين مهما تقاربتا يصح أن يكون بعداً لا نهائياً لا يمكن اجتيازه، إذ من الممكن تقسيم هذه البعد إلى أبعاد صغرى لا متناهية العدد يستحيل عبرها إذا أخذت كل منها على حدة. هذا فضلاً عن أن العقل الذي يستعين بالمنطق في كسب معرفته ليس إلا آلة أو جزءاً من الإنسان، ولا يستطيع أن يحصل على معلومات إلا من الأشياء التي تقبل التقسيم والتحليل والترتيب، ففصل العقل بين الله والإنسان والأشياء، ولكنها في الحقيقة متحدة اتحاداً تاماً.
وإن ما يبدو في هذه الوحدة من تناقض لا يحل بهذه الوحدة؛ لأن تناقض الوجود في حد ذاته لا يتعارض مع وحدته، فأن ما يشاهده الإنسان في الطبيعة من تضاد بين الحرارة والبرودة والحركة والسكون يثبت أن في الكون مجموعة من القوة المزدوجة المتضادة تعمل(812/16)
في اتحاد كامل مثل اتحاد اليد اليمنى واليد اليسرى وإن كلاً تعملان في ناحيتين مختلفتين، فإن هذا الاختلاف ألم يسبب أي تنافر في نظام الكون، بل قامت فيه وحدة ناتجة عن ملاءمة قوى الطبيعة بعضها لبعض والتناقض بين اللانهائي والنهائي من هذا النوع، ولا يمنع من اتحادهما، بل لا غنى لأحدهما عن الأخر، فإن الله في حاجة في حاجة لعودة الإنسان إلى اللا نهايته التي انبعث منها حتى تتحقق وحدة الوجود، بينما الإنسان في حاجة إلى الله، لأن كماله لا يتم إلا إذا أفنى ذاته لمحدودة في ذات الله الغير محدودة، وإن ما يوجد بينهما من تناقض ظاهر يزول بالسرور والحب المتبادلين واللذين يوفقان بين لانهاية الله وبين نهاية الإنسان، ويجمعان بين أغراضهما بحيث يصبح هدف الله وهدف الإنسان هدفاً واحداً ألا وهو بلوغ أعلى درجات وحدة الوجود التي لا تتحقق بالإنسان من دون الله، ولا بالله من دون الإنسان، ولكن باتحادها جميعاً.
وبالرغم من أن طاغور ساير الدين الهندوكي في تصويره حقيقة وحدة الوجود، وحاول إزالة ما يكتشف هذه الحقيقة من غموض، إلا أنه في الوقت نفسه لم يساير الهندوكيين مسايرة الأعمى وعمد على ألا تكون حقيقة وحدة الوجود عقيدة جامدة بعيدة عن متناول العامة، وتبلغ من السمو والرفعة بحيث لا يستطيع الوصول إليها إلا خاصة الخاصة، ويتطلب الشعور بها جهوداً شاقة فوق قدرة الإنسان العادي، فأخرج هذه العقيدة من كهف الزاهد النائي إلى حياة عامة الناس، وأعطى لها من الحيوية ولشيوع بحيث مكن الرجل التقي الصالح العالم والفنان ورجل السياسة والمصلح الاجتماعي وأرباب الأعمال الاقتصادية والصانع والزارع من تحقيق هذه الوحدة بعد أن كان تحقيقها قاصراً في العصور القديمة على هؤلاء الزهاد الهاجرين الحياة المعذبين لأنفسهم وأجسادهم.
ويبدو أن طاغور أحس بأن ما كان يبتعه زهاد قدماء الهند من أساليب، أو ما كان يسلكه متصوفة الإسلام من طرق، أو ما كان بحياة المتعبدون المسيحيون من رهبنة، اصبح لا يلائم الحياة العصرية التي تجد وراء الرقي المعنوي والكمال المادي كما يحرم المواطنين من القيام بواجباتهم الاجتماعية، فلو فرضت هذه الاجتهادات الدينية والرياضيات النفسية على الإنسان المعاصر لحمل أكثر مما يطيق، وما ثابر على ممارستها، وقد يدب فيه نوع من اليأس يثنيه عن تحقيق غايته الدينية، وإن قدر أن يحاكي الزهاد القدماء لقصر في(812/17)
مسئولياته العائلية وفي واجباته الوطنية، وما استطاع أن يساهم بأي نصيب في تقدم المجتمع الإنساني.
فسهل طاغور سبل تحقيق الذات بحيث جعل الاتحاد بالله عن طريق الشعور بالسرور الذي يشمل الروح عند خضوع النفس للقوانين الأخلاقية وأدائها الشعائر الدينية وقيامها بعمل نافع خير يدل على صدق استسلام النفس التام لسيطرة القانون الخلقي، ثم ملاحظة أن سرور الله يمتد في الكون في صورة القوانين الطبيعية وإن معرفة هذه القوانين وإحساس ما تنطوي عليه الطبيعة من توافق رائع وانسجام خلاب يتم للإنسان تحقيق وحدته بالوجود الذي حل فيه سرور الله.
وبذلك جعل طاغور الاتحاد بالله على أساس متين من الأخلاق والدين، ويتوصل إليه عن طريق مسوغات الحياة الراقية الحديثة من عمل وعلم وفن، وبين للهندي أن عقيدة وحدة الوجود ليست دين الخاصة، إنما هي دين الجميع.
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات(812/18)
خواطر سياسية وأدبية
للدكتور السيد محمد يوسف الهندي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
كتاب (الفتنة الكبرى) والدكتور طه حسين:
وبما أن الأستاذ محمود محمد شاكر خص اليهود بالذكر وأن إخواننا العرب ربما تفضلوا بالبقاء دروس في القومية والوطنية على مسلمي الهند أود أن أضيف كلمة عن علاقات المسلمين بالوثنين والمجوس حتى أثبت أن الكفر ملة واحدة وأن نظرية الوطنية الحديثة لا تكسر من عدائها وشرها، كما أن التسامح والمعاملة الحسنة لم تؤمن أية حكومة إسلامية في أي عصر من عصور التاريخ من جميع أنواع الدسائس والأعمال الهدامة والجاسوسية لصالح الدول المجاورة المعادية. ولولا خوف مجانية القصد لكان في وسعي أن أقيم الأدلة على أن الإجراءات التي ربما اتخذت ثم أهملت ثم جددت ضد غير المسلمين في مختلف أدوار الحكم الإسلامي - العربي منه والعجمي - لم تكن إلا رد فعل لما تجلى في أعمالهم من عدم الولاء وروح الطابور الخامس. ولم يتعد قدر تلك الإجراءات إلا في بعض الأحوال قدر الأحكام العرفية والخطوات الاحتياطية التي لا تحجم أية حكومة في أيامنا هذه عن اتخاذها ضد رعاية الحكومة المعادية والممالئين لها. وخلاصة القول أن المسلمين أمة مستقلة لا بد أن يعيشوا بهذه الصفة في سياستهم واقتصادهم وجميع شؤونهم حتى يتأنى لهم التعهد بسلامة الأرواح والأموال وحرية العقيدة وحسن الجوار الذين جعلهم الله في ذمتهم، وهذا الوضع أي كون المسلمين فريقاً ذا قوة وشوكة راعياً لحقوق الكفار والمشركين لمجرد الوفاء بالعهد والتمسك بالخلق الكريم لا لضغط اقتصادي أو مالي أو سياسي خارجي أو داخلي مع كونه قادراً على نبذ العهد إلى الخائنين في أية لحظة - هذا هو الوضع الوحيد الذي يضمن عدم اجتراء الذميين على أية حركة مضادة للدولة الإسلامية وحسن تقديرهم للمعاملة الشريفة التي يلاقونها على أيدي المسلمين، فأني وإن كنت أؤيد الشاعر في قوله (ومن لا يظلم الناس يظلم) اعتقد أن كل من بقادر على الظلم لا بد أن سيظلم؛ إذ الإنسان لا يزال بعيداً عن العهد الذي يعترف فيه للحق الأعزل والعدالة التي لا تسندها القوة. أما(812/19)
الوضع الحالي السياسي في الممالك العربية فلا يسعني إلا أن أقول إنه قائم على أساس علاقة الإسلام مع العروبة مثل علاقة الخليفة العباسي مع وصيف وبغا وهو إنما يؤدي إلى تنويم المسلمين وحرمانهم مما هم جديرون به.
أما ما يتعلق بكتاب الدكتور طه نفسه فيجب أن اعترف أني بدأت في دراسته وفي نفسي شئ مما قرأت وسمعت عن العواصف التي ربما أثارتها مجهوداته العلمية السابقة في المحيط الأدبي وأنا متأكد من أن آفة الأديب أن تكون باكورة أعماله متميزة بطابع النقد اللاذع الهدام للآراء المألوفة، فإن مثل هذا العمل وإن يكن وسيلة ناجحة في لفت الأنظار إلى براعته، فأنه ربما يضع الكاتب في موقف حرج بحيث يسمه بسمة الغرابة، فالقراء لا يرضون منه - فيما بعد - إلا أن يأتي برأي شاذ في كل ما يتناوله، وقلما يقبلون منه أن يقرر رأياً سبق أن عرفه الناس، ثم إن مثل هذا الأديب - مع أنه يتحفز إلى النقد مدفوعاً بطبيعته وبنوع من الإيعاز من قرائه فهو يجتهد دائماً في الاحتفاظ بالحياد وعدم المحاباة والترفع عن التعصب حتى لا ينحط قدر الصادر منه. وينتج من ازدواج هذين العاملين أنه ربما يضطر إلى المصانعة مع الغير والقسوة على ذوبه فهو يوجه النقد إلى ما ينتمي إلى نفسه ويلين ويتحذر حينما يخاف أن يتهم بالمجاراة مع عواطف الجمهور فيما يتعلق بالغير. نعم أقبلت على قراءة (الفتنة الكبرى) وأنا مستعد للمفاجآت فدرسته بهم وشوق، وفرغت منه وأنا ملئ بالإعجاب ببراعة المنهج وحسن الترتيب، وسرد الوقائع، واستقصاء الملابسات، وتحليل الظروف، وتفقد الأسباب الخارجية والعلل النفسية، ما عدا الأسلوب النقي الرائع الممتاز. ولئن كان هناك شئ يبرر ما خيل إلى البعض من التعمد إلى التلطيف فما يتعلق بقصة عبد الله بن سبا أرضه لا يسع أحداً أن ينكر السبب الرئيسي للفتنه ألا وهو سوء إدارة الحكومة بيد عثمان الشيخ العطوف السمح، حسن النية، ضعيف التدبير بحيث انفسح المجال أمام بين أمية للتغلب على موارد الدولة والاستئثار بمناصبها، ثم الغلبة على نفس الخليفة ورأيه عن طريق قلبه. ولا شك أن عبد الله بن سبأ وأمثاله لم يكن ليتأنى لهم أن يعملوا ما عملوا - سواء أكان عملهم خطيرا أم ضئيلاً - بدون أن يجدوا أمامهم أحوالاً مهيأة للاستغلال. ويحق أكد الدكتور طه أن عبد الله بن سبأ إنما استغل أحوالاً نتجت عن مصدر آخر.(812/20)
ولكني دهشت حينما رأيت الدكتور طه يعاود مراراً القول بأن الأحوال والظروف طغت على عثمان كما كان لا بد أن تطغي على أي واحد حل محله - يعاود الدكتور طه هذا القول بعد أن تبين أسباب الفتنة بوضوح وجلاء تامين، ولا افهم معنى لاتهام الأحوال والظروف إلا أن يكون محاولة لتبرئة عثمان كما حاول الآخرون إلقاء اللوم على عاتق عبد الله بن سبأ وأمثاله للغرض نفسه ظناً منهم بأن مكانة عثمان الدينية لا بد أن تعصمه من أي خطأ سياسي أو زال إداري. ولنتساءل: ما هي الأحوال التي جدت بعد وفاة عمر؟ أن اعظم مشكلة واجهتها الخلافة الإسلامية في نشأتها هي كثرة الفتوح وتنظيم الموارد وتصريف الربع الوارد من الأمصار، وقد فرغ عمر في حياته من تدبير جميع هذه الأمور تدبيراً عاماً شاملاً بحيث لم يكن على يد يخلفه إلا أن يخطو خطوه، وهذا ما عاهد عليه عثمان عبد الرحمن ابن عوف وقت البيعة، ولكنه لم يستطع أن يهتدي بهدى عمر في تسيير دفة الإدارة ولم يلبث أن سلط آل أبي معيط كما كان عمر قد تنبأ بذلك.
وقد عرض الدكتور طه لنقد بعض التقاليد الدستورية عند المسلمين في ذلك العهد ولكني أخشى أن يكون استسلف لذلك النقد موازين ومقاييس من حياة الأمم الغربية السياسية المعاصرة، أولا ترى الدكتور طه يفرض فرضاً بأن الحكم النيابي الغربي هو المثل الأعلى لكل شعب وكل إقليم وكل عهد فيبادر إلى القول بأن المسلمين كانوا خليقين بأن يفكروا في نظام الشورى (أظن عن طريق عقد المؤتمرات وتنظيم حملات الانتخاب ومساومة الآراء) حتى يجئ اقرب إلى النظام المعمول به في فرنسا أو بريطانيا في أيامنا هذه. انظر إليه يزدري شأن مجلس الشورى بوصفه مجلس المرشحين لا مجلس المشيرين في موضع، ويشكو من (الانتداب بدون توكيل في موضع آخر. ولعله قد تنبه إلى أن واضع نظام مجلس الشورى أعني عمر من الذين لا يؤخذ عليهم خطأ ولو في القرن العشرين فتكلف التماس العذر لنفسه بأن قال: أن عمر إنما هو مستوحى من ضحيم روح المجتمع الإسلامي بما أن الإسلام لا يخول حق التصويت لكل ذي حنجرة بل يجعل مبهمة انتخاب الخليفة من اختصاص أهل الحل والعقد؛ أما الجمهور فليس عليهم إلا الإذعان لما يتفق عليه رأى أهل الحل والعقد. قد ورد ذلك ضريحاً في أقوال الفقهاء والقضاة أمثال الماوردي، كما أنه ثبت أيضاً بالعمل فيما يتعلق بانتخاب الخلفاء الثلاثة الأول؛ وإذن يجب أن لا نهمل الفرق بين(812/21)
الديمقراطية التي تبتني على تعداد الرؤوس فقط والأخرى التي لا تخول حقاً إلا بعد مراعاة التقوى والكفاية وحسن البلاء كما نبه عليه الدكتور طه نفسه، ولا يفوتنا أن النظام الذي وضعه عمر قد نجح نجاحاً تاماً بحيث أن منشأ الخلافات التي نشأت فيما بعد لم يكن هو طريق الانتخاب بل سوء الإدارة فقط. فلنأسف لا على أن نظام الشورى كان ناقصاً من أية جهة بل على أن الظروف حالت دون نموها واتساعها وتوطيدها.
وكذلك يتنافى مع روح الإسلام أن يعترف في النظام السياسي بوجود أية طبقة خاصة كالأنصار وغيرها حتى يراعي (لتمثيلها)، إنما الاعتبار كل الاعتبار بالصفات الشخصية بصرف النظر عن الطبقة التي ينتمي إليها صاحب التقوى والكفاية؛ كما أن المسلم يستبعد منه أن يمقت الثروة في أيدي الصالحين المخلصين للدين أو استغلالها بالطرق المشروعة، إنما يستنكر استخدام النفوذ في الحكومة أو الصلة بالخليفة للحصول عليها والاستئثار بها. فلنحذر من التعبير عن أحداث الفتنة الكبرى بالنزاع بين الطبقات على حد ما عرفناه من دراستنا للنظريات الغربية فأن ما حدث أيام عثمان لم يكن إلا ثورة عامة ضد آل أبي معيط، وإن اتسع نطاقها شيئاً فيما بعد.
وأخيراً تكلم الدكتور طه عرضاً عن الرق في الإسلام، وذلك بلهجة اعتذار ربما يكون منشأها طعن الغربيين في الإسلام من هذه الناحية، ولا شك أن الإسلام اهتم بوضع كل ما يمكن من المشروعات والأوامر لتقصير مدى رق الأسير ولكن النظام - كما اعتقدنا - لم يوضع لحل الرق القائم إذ ذاك فقد بل إنه نظام دائم مستمر كلما استمر المسلمون في حياة الجد والعمل والتعمير والتمدين، والمسلمون في هذا العصر خليقون بأن يدرسوا نظام الرق في الإسلام كأحسن نظام عرفته الإنسانية للشفقة بأسرى الحرب وتحسين حالهم وتوجيههم وإرشادهم وكفالتهم بدون إحداث أي تغيير مفاجئ في اقتصاد البلاد.
السيد محمد يوسف الهندي(812/22)
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراح
(تتمة قبيلة تميم)
- 5 -
(1) من الظاهرات المنتشرة بين كثير من البلاد العربية القاف الصعيدية والجيم القاهرية. أما أولاهما فهي من آثار القبائل العربية عامة وبخاصة النجدية ويستثنى من قبائل العرب قريش الذين ينطقون بالقاف الصريحة. وأما أخراهما وهي الجيم القارية فهي من آثار القبائل اليمينية. فتميم ومن جاورها ينطقون القاف كما ينطقها الآن أهل الصعيد واغلب مديريتي الشرقية والبحيرة. وأهل اليمن كانوا ينطقون الجيم كما ينطقها الآن أهل القاهرة وأكثر الوجه البحري. ولم يرد هذان النطقان للقاف والجيم في القراءات الصحيحة للقرآن.
(2) بنو تميم يقلبون العين والهاء حاءين ويدغمون أحدهما في الآخر في مثل معهم ومع هذا فيقولون: (محم، محاذا) ولم يفعلوا مثل ذلك فيما إذا تقدم الهاء على العين. على أن هذا القلب في مثل معهم وألم اعهد لم يرد في القراءات الصحيحة للقرآن وقد سبق أن التميميين يسكنون الوسط تخفيفاً على طريقتهم إذا سكنوا تاء (وتد) قلبوها دالا وادغموها فيما بعدها فقالوا (ود) بالتشديد. ويبدو أن التميميين ميالون إلى الإدغام فيما تماثلت مخارجه من الحروف أو تجانست أو تقاربت. ولعل هذا يفسر لنا السر في أن أبا عمرو بن العلاء التميمي أحد القراء السبعة اختص في القراءات بما يسمونه الإدغام الكبير، وذلك ما سأشرحه عند ترجمته أن شاء الله.
(3) بعض تميم يقلبون تاء ضمير الفاعل طاء إذا كان لام الكلمة صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء، فيقولون في مثل فحصت وعرضت وأحطت وحفظت (فحعط وعرضط وأحط وحفظط) ويظهر أن الذين يفعلون ذلك منهم يميلون إلى بقوية التاء حتى تشبه الطاء فقد ورد في معاجم اللغة أن كلمة (أفلطني) لغة تميصية قبيحة في (أفلتني) ولكن هذا التضخيم التميمي لم يرد في القراءات.
(4) إذا جاءك فعل لم تسمع مصدره ففي شافية ابن الحاجب قال الفراء: النجديون يقيسونه(812/23)
على فعول دائماً سواء متعدياً أم لازماً. واعتقد أننا على هدى هذا النص يمكننا أن نفسر المصادر المختلفة لفعل واحد، فإذا كان للفعل مصدر واحد أو أكثر نستطيع أن نعرف على الأقل أن ما كان منه على وزن فعول هو من نطق النجديين، وما كان على وزن قعل من نطق الحجازيين فخذ أي جزء من أي معجم فستجد مثلاً (زحف زحفاً وزحوفاً وفتك فتكاً وفتوكاً وودق إلى الشيء ودقاً وودوقاً وعجف نفسه عن الطعام يعجفها عجفاً وعجوفاً. .) وغيره كثير. وإني لأستنتج من هذا - وأعتقد أني على صواب في استنتاجي - أن كل فعل جاء له مصدر واحد فإن كان على وزن فعل - نفتح فسكون - فقط احكم بأن أضل هذه الكلمة حجازي وعنهم أخذته القبائل؛ وإن كان مصدره على وزن فعول - بضمتين - فحسب احكم بأن أصل هذه الكلمة نجدي وعنهم أخذته بقية القبائل.
على أننا في المصباح نجد بعض الاختلاف فيما روى عن الفراء إذ يقول: حكى عن الفراء: (كل ما كان من الثلاثي (متعدياً) فالفعل بالفتح والفعول جائزان في مصدره) فهذا النص يقصر الأمر على المتعدي لكنه يجيز لنا صوغ المصدر على الوزنين. وفي المصباح أيضاً نقلا عن الفارابي: قال الفراء: (باب فعل بالفتح يفعل بالضم أو الكسر إذا لم تسمع له مصدراً فاجعل مصدره على الفعل أو الفعول. الفعل لأهل الحجاز والفعول لأهل نجد) وهذا النص بين القبائل ويقصر الأمر على ما لم يسمع مصدره ويسكت عن كون الفعل متعدياً أو لازماً فهو يكاد يتفق مع نص (الشافية) إلا أنه قيده بما كان ماضيه مفتوح العين ومضارعه مضمومها أو مكسورها، ومع اختلاف هذه النصوص فإن ذلك لا يمنع ما استنتجته أولاً بل يزيده توكيداً.
5 - أهل الحجاز يؤنثون (الصراط والطريق والسبيل والزقاق والسوق والبر والشعير والتمر والبسر والذهب) بمعنى أنهم يشيرون إليها بالتأنيث ويؤنثون لها الفعل ويصفونها بالمؤنث ويعيدون إليها الضمير مؤنثاً فيقول مثلاً: (هذه الطريق كانت واضحة وهي التي سلكتها) أما بنو تميم فيذكرون ذلك كله يقولون: (هذا الطريق كان طريقاً واضحاً وهو الذي سلكته) وإني لأستنتج من هذا ومما ورد غيره منسوباً تأنيثه إلى الحجازين أن كل اسم مفرد استعمل مذكراً ومؤنثاً، فالأصل في تذكيره التميميون، وفي تأنيثه الحجازيون.
هذا والقرآن الكريم استعمل (الصراط) بالتذكير على لغة تميم (اهدنا الصراط المستقيم. هذا(812/24)
صراط مستقيم) وكذلك استعمل (الطريق) بالتذكير على لغتهم (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً. يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) أما (السبيل) فإنه في قراءات القرآن استعمل على اللغتين: بالتذكير والتأنيث: (هذه سبيلي وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر). وقرأ حمزة والكسائي وخلف والأعمش وأبو بكر عن عاصم: (ولسيتبين سبيل المجرمين) بالتذكير ورفع سبيل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصين واليزيدي والحسن وحفص عن عاصم (ولتستبين سبيل المجرمين) بالتأنيث ورفع سبيل. أما نافع وأبو جعفر فبتاء الخطاب ونصب سبيل وليس في قراءتهما هذه شاهد لأي لغة منهما. وجاءت الآية (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) فقرأ ابن أبي عبلة (لا يتخذوها سبيلا). هذا ولم يرد (السوق) في القرآن إلا مجموعاً على (أسواق) فلا يتضح في مفرده تذكير ولا تأنيث. ولم يرد فيه (البر) بمعنى القمح ولا الشعير ولا البسر ولا الزقاق وورد فيه (الذهب) مما لا يظهر فيه تذكير أو تأنيث (ملء الأرض ذهباً) ومن ذهب. من الذهب) وقد قيل في الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) إن التأنيث فيها على لغة الحجازيين.
6 - لغة بني بربوع بطن من تميم يكسرون باء المتكلم إذا أدغمت في باء قبلها فشددت يقولون بني ومصرخي. وقد قرأ حمزة والأعمش (بمصرخي) على لغة بني بربوع، وكذلك قرأ يحيى بن وثاب وحمران بن أعين. وقرأ جميع القراء ما عدا حفصاً عن عاصم (يا بني أنها أن تك. .) على لغة بني بربوع بالكسر.
7 - بلعنبر (بني العنبر) من تميم يقلبون السين صاداً عند أربعة أحرف: (ا) عند الطاء (ب) عند القاف (ج) عند الغين (د) عند الخاء، إذا كن بعد السين ولا يبالي أثانية كانت أم ثالثة أم رابعة. ويقولون في سراط وبسطة وسرقت ومسغبة وسخر (صراط وبصطة وصرقت ومصغبة وصخر) وقد ورد في المعاجم: الصاق لغة في الساق عنبرية. هذا وفي لغة قريش يقولون الصراط في السراط. وقد قرء في السبعة وغيرها: السراط والصراط كما قرء بسطة وبصطة ومسيطر ومصيطر وكباسط وكباصط وبسطت وبصطت. وعلى العموم كل ما ولى السين في طاء قرء بالسين وبالصاد قراءة صحيحة. ولعل قريشاً تشارك في هذا الحرف عند الطاء.(812/25)
أما ما كان بعده قاف مثل (سقر) أو خاء مثل (سخر) أو غين مثل (مسبغة) فلم يقرأ بقلبها صاداً في قراءة صحيحة. على أننا من معرفة هذه القاعدة يمكننا أن نلغي كثيراً من مواد المعاجم التي استقلت بنفسها ونردها إلى أصلها الذي تفرعت عنه فأن كل ما جاء بوزن واحد وحروفه متفقه إلا في السين والصاد وكان في الكلمة قاف أو غين أو خاء أو طاء بعد السين أو الصاد فالأصلي منهما ما كان بالسين وأما ما كان بالصاد فهو متأثر بلغة بلعنبر من تميم فلا داعي لاستقلاله بمادة منفصلة في المعاجم لأنه فرعي ويكفي ضمة إلى أصله المتفرع عنه والإشارة إلى أنه متأثر ببعض بني تميم أو على الأقل إذا جعلناه في مادة منفصلة أشرنا إلى أنه نطق لبعض بني تميم. ولي بحث في مثل هذا نشر منذ أعوام.
8 - أهل الحجاز يضعون لقطة (الزوج) للمذكر والمؤنث وضعاً واحداً أما بنو تميم فيقولون زوج للرجل وزوجة للمرأة قال الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
والقرآن الكريم جرى على استعمال الحجازيين (أسكن أنت وزوجك الجنة. أمسك عليك زوجك. وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج).
9 - لفظة (جبريل) كقنديل لغة أهل الحجاز أما التميميون فينطقونه جبرائيل (بفتح فسكون فكسر فهمزة مكسورة فياء: قال عمران بن حطان.
والروح جبريل منهم لا كفاء له ... وكان جبريل عند الله مأمونا
وقال جرير:
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد ... وبجبريل وكذبوا ميكالا
أما حسان بن ثابت فقد استعمل اللغتين فقال:
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
وقال:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة ... مدى الدهر إلا جبرائيل أمامها
هذا وقد قرأ ابن عامر وأبو عمرو ونافع وحفص جبريل على لغة أهل الحجاز، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر عن عاصم جبرائيل على لغة بني تميم.
10 - أهل الحجاز يقولون (أنا منك براء) على وزن فضاء؛ أما التميميون فيقولون أنا منك(812/26)
بريء على وزن جريء.
والقرآن الكريم استعمل اللغتين (إنني براء مما تعبدون. وأنا بريء مما تشركون).
11 - (الزنا) يتلفظ به مقصوراً في أغلب اللغات. أما تميم وأهل نجد فإنهم يتلقطون به ممدوداً.
قال الفرزدق:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
12 - (الوتر) بمعنى الفرد أو بمعنى الذحل وهو الثأر. فأهل الحجاز يفتحون الواو في الوتر بمعنى الفرد ويكسرونها في معنى الذحل. وقيس وتميم يسوونهما في الكسر. أما أهل العالية فإنهم بالعكس من الحجازيين يفتحونها في الذحل ويكسرونها في الفرد. وقد قرأ بكسر الواو في (والشفع والوتر) حمزة والكسائي وخلف والحسن والأعمش. وقرأ باقي القراء بالفتح على لغة الحجازيين.
13 - لغة تميم وأهل نجد ما عدا قبيلة أسد يقولون حج البيت - بكسر الحاء - ولغة أهل العالية والحجاز وأسد بفتح الحاء. وقد قرأ بالكسر حمزة والكسائي وحفص وقرأ باقي السبعة بالفتح.
14 - استحي يستحي بياء واحدة لغة تميم وقد ورد:
ألا تستحي منا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبأو الدم بالدم
ولغة الحجازيين استحيا يستحي وفي القرآن الكريم (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما) وقد قرأ ابن كثير في رواية شبل وقرأ ابن محيصين ويعقوب (يستحي) بياء واحدة.
15 - صاعر خده يصاعره لغة الحجازيين وصعر بالتشديد وقد قرأ (ولا تصعر خدك للناس) نافع وأبو عمرو والكسائي وخلف واليزيدي والأعمش. وقرأ الباقون (ولا تصعر) على لغة بني تميم.
16 - قشط الشيء (بالقاف) لغة تميم وأسد. وقد قرأ (قشطت) بالقاف ابن مسعود والشعبي وإبراهيم بن يزيد النخعي أما قريش فتقول (كشطت) بالكاف وبها قرأ القراء.
17 - هناك كلمات يحدث في حروفها تقديم أو تأخير بين الحجازيين والتميمين وغيرهما، وهو ما يدخل فيما يسمى القلب المكاني. ويحدث ذلك من السماع الخاطئ أول الأمر ثم(812/27)
ينتشر ذلك المسموع مع خطئه حتى يصبح لغة قائمة بنفسها. ونحن نجد في كتب اللغة كثيراً من هذا النوع وما نص عليه منها قليل، من ذلك أن الحجازيين يقولون (الصاعقة والصواعق، وفج عميق عثى في الأرض وافسد فيها. ولعمري قد حصل كذا. وجذبت الشيء) ويشاركهم في ذلك كثير من القبائل؛ بينما يقول التميميون الصاقعة والصواقع وبها قرأ الحسن (من الصواقع حذر الموت) (ومن كل فج معيق) وبها قرأ ابن مسعود (وعاث في الأرض فساداً. والقراءات كلها على لغة الحجازيين (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) كما يقول التميميون حبذا الشيء. ورعملي قد حصل كذا.
18 - الكلمة لغة تميم فيها على وزن (عبرة) بكسر فسكون وقد قرأ أبو السمال العدوي جميع ما ورد منها في القرآن بلغة تميم. وجمعها عندهم كلم بكسر ففتح. قال رؤية: (لا يسمع الركب بها رجع الكلم) على وزن (عبر) واغلب التميميين يسكنون اللام في جميعها جرياً على عادتهم التي شرحتها من قبل. أما لغة الحجازيين في (الكلمة) فبفتح فكسر وجمعها (كلم) بفتح فكسر. واغلب القراء على لغة الحجازيين فيها. وهناك لغة ثالثة في الكلمة لم تنسب وهي فتح فسكون ففتح على وزن (جملة).
19 - (وكأين من نبي قاتل معه كثير) قرء بفتح الراء من (ربيون) فيما رواه قتادة عن ابن عباس وهي لغة تميم، أما غير تميم فلغتهم فيها إما بكسر الراء وهي الأغلب أو ضمها وهي قليلة.
20 - لغة تميم أرجأه يرجئه ولغة قيس وأسد أرجى يرجي فهو مرج بدون همز وقد قرء (ترجئ من تشاء منهن) وأرجئه وأخاه) بالهمز ابن كثير وأبو عمر وابن عامر ويعقوب وأبو بكر. وقرأ الباقون ترجي وأرجه بدون همز.
21 - لغة تميم آصدت الباب فهو مؤصد بالهمز ولغة غيرهم أوصدت فهو موصد وقد قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم (عليهم نار مؤصدة) بالهمز وقرأ باقي السبعة موصدة بدون همز
22 - (الهدى) وهو ما يهدي في الحج من الذبائح ينطقه الحجازيون على وزن فعل بفتح فسكون أما تميم وسفلى وقيس فينطقونه الهدى على وزن فعيل وقد قرأ مجاهد والزهري وابن هرمز عل لغة تميم (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى(812/28)
يبلغ الهدى محله) وروي ذلك أيضاً عصمة عن عاصم.
23 - في الأمالي: تميم وقيس تقولان شايحت بمعنى حاذرت وفي لغة هذيل بمعنى جددت في الأمر.
24 - في النوادر لأبي زيد: تميم بقول في الأعسر الألفت وفي ألفة وهو العين اللسان الألف.
25 - في تاج العروس مادة (عش) تميم تقول غس في البلاد في معنى دخل ومضى قدماً.
26 - السدقة في لغة تميم الظلمة وفي لغة قيس الضوء.
27 - تقول تميم للقادم من الحج (مبرور مأجور) بالرفع وغيرها بنصبهما هذا وإني إذ أختم الكلام عن أشهر ما روي لتميم مما كان له أثر في القراءات أو اللغة وقواعدها يمكنني أن أستخلص المميزات اللغوية وهي ما يسمونها الخاصة بتميم فهي تحرص على الإمالة وتحقيق الهمزة وقد تبالغ فيه وتسكن الوسط المتحرك في الكلمة وتتجه إلى إدغام ما تماثل من الحروف أو تجانس ويشاركها في أكثر ذلك جيرانها سكان نجد
استدراك:
1 - ذكرت في المقال الأول أن أبا عثمان المازني من تميم والصحيح أنه من مازن ربيعة لا مازن تميم.
2 - روي البيت (اليوم أعلم ما يجئ به. . .) في المقال الثالث وصحته اليوم أجهل ما يجئ به. . .)
3 - ذكر شارح القاموس في المقدمة أن الوتم معناه قلب الكاف شيناً مع أن الوتم هو قلب السين تاء والشنشنة هي قلب الكاف شيناً.
4 - ناقض أبو حيان نفسه في تفسيره حين ذكر أن تميماً لا تلحق بعسى الضمائر عند تفسير قوله تعالى (هل عسيتم إن توليتم) مع أنه قال عكس ذلك عند قوله تعالى (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال. .) إذا ذكر أنها تلحقها بعسى وهو الصواب الذي روته أيضاً كتب النحو، ولعل الخطأ لسهو منه أو من الطباعة.
مصادر البحث(812/29)
يرى المتتبع لهذا البحث أن مصادره التي ذكرت عرضاً في المقالات الخمس هي تسعة وعشرون كتاباً يضاف إليها تاريخ ابن خلكان والكامل للمبرد والمقتضب لابن جني والمفصل للزمخشري وخزانة الأدب البغدادي والنشر لابن الجزري والأصنام لابن الكلبي وبلوغ الأرب للآلوسي والكتاب لسيبويه.
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي(812/30)
مسابقة الطلاب السنة التوجيهية
النفس عند ابن سينا
للأستاذ كمال دسوقي
كان ابن سينا في المقالة الخامسة بصدد الحديث عن المركبات وما تتركب منه من عناصر، وكيف يتم هذا التركيب؛ فتناول النار، فالأرض بطبقاتها من بر وبحر وطين؛ فالهواء ما كان منه بخاراً أو برداً أو دخاناً أو ريحاً. . . فكأن العناصر عنده هي العناصر الأربعة المعروفة لكم منذ الأيونيين: الماء والهواء والنار والتراب. لا توجد صرفاً خالصاً، بل باختلاط وتمازج. والجديد هنا أن هذه العناصر (طوع الأجرام العالية الفلكية)، وأن الكائنات الفاسدة (يعني الفانية المحسوسة) تتولد من تأثير تلك (يعني العناصر) وطاعة هذه (يعني الأفلاك)؛ لأن الفلك وإن لم يكن حاراً ولا بارداً فإنه قد ينبعث منه في الأجسام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه عليها. . .). اربطوا قوله هذا (في صفحة 152 ومنتصف 153) بمطلع فصلكم السادس في النفس حيث يقول:) وقد يتكون من هذه العناصر أكوان أيضاً بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً مما سبق ذكره من المركبات؛ كالنبات والحيوان والإنسان التي نفوسها موضع حديثه في هذا الفصل.
وعند ابن سينا أن الأفعال النباتية والحيوانية والإنسانية تكون من قوى زائدة على مجرد الجسمية وطبيعة المزاج، وأنه كلما حدث اعتدال أكثر في تركيب هذه العناصر وانسجامها كانت أكثر قبولاً لقوة نفسانية أرقى من الأولى. وتلمسون فكرة التدرج هذه في تقسيم النفوس النباتية والحيوانية والإنسانية وفقاً لدرجة كل منها في هذا الاعتدال من تعريفه لهذه النقوس. والنفس هي كمال أول الجسم طبيعي آلي - نفس التعريف الذي قال به أرسطو - فإن كانت نباتياً فهي كماله من حيث التوالد والنمو والغذاء؛ وإن كان حيوانياً فمن جهة إدراكه للجزئيات وتحركه بالإرادة؛ وإن كان إنسانياً فمن حيث هو يفعل الأفعال باختيار الفكر واستنباط الرأي. وتذكركم هذه التعريفات - فينا أرجو - بما بين لكم أساتذتكم من الاطراد العكسي في نقص الما صدق تبعاً لاتساع المفهوم؛ خصوصاً وأن هذه الصفات الواردة في التعريفات المذكورة كلها أساسية وجوهرية تنتقل من العام إلى الخاص؛ مما(812/31)
يترتب عليه أن تكون صفات الأعم، (النبات) موجودة في الأخص (الإنسان)، لا العكس
وهنا نقبل على أقسام كل من هذه النفوس الثلاثة: فقوة الغذاء وقوة النمو وقوة التوالد هي ما تنقسم إليه النفس النباتية، ولن يتعذر عليكم فهم تعريفها واستيعابها. أما النفس الحيوانية فلها فوق صفات النفس النباتية السابقة، وكما ترون من تعريفها قوتان: الحركة والإدراك الجزئي. والحركة إما ببعث الشوق والنزوع للحركة بقوة الشهوة (اللذة) أو بقوة الغضب (الألم)، وإما بفعل الأعصاب يقع عليها التأثير من خارج فيرنه إلى العضلات في حركة رد فعل أو استجابة وكلاهما نظرية علمية لا تزال قائمة في علم النفس إلى اليوم - الأول تستند إلى علم الأخلاق، ويأخذ بها أصحاب الدوافع أو مدرسة القصد في علم النفس والأخرى يؤيدها علم وظائف الأعضاء (الفزيولوجيا) وخصوصاً دورة الجهاز العصبي بطرقه الصاعدة التي توصل التأثير من الحواس إلى المخ والنخاع الشوكي ثم بطرقه الهابطة التي ترتد بالحركة إلى العضلات أو غيرها من مناطق الفعل الحركية مما لا يزال يفسر به كل فعل عصبي أو منعكس شرطي. فابن سينا في هذين القسمين الجزئيين يقدم لنا تفسيراً مزدوجاً للحركة الإرادية وغير الإرادية يسبق به علماء النفس المحدثين بقرون.
ونعود إلى قوة الإدراك في النفس الحيوانية، فنجدها تنقسم إلى إدراك ظاهر وإدراك باطن، أما الإدراك الظاهر فأبوابه الحواس الخمس المعروفة (أبواب المعرفة الخمسة) كما نقلها جون ملتون وهي البصر والسمع والشم والذوق واللمس لأربعة الأزواج المتضادة بنفس ترتيبها حسب أهميتها لدى كوندياك وغيره من علماء النفس المحدثين، وبنفس تفسيرها تقريباً. فالمؤثر من الخارج يقع على عضو الحس فينبهه وينطبع في الذهن فيفسره المخ. وهنا جدل طويل حول الرأي القديم الذي كان يظن بحاسة البصر غير ذلك، وتأييد للرأي العلمي الصحيح. هذه هي الحواس الخمس التي تم بها الإدراك الظاهر، وكان ابن سينا قد قال: الخمسة أو الثمانية - ولكنه لم يذكر إلا هذه الخمسة، فهو إذن يريد بذلك الأربعة الأولى ثم يقسم اللمس إلى الأربعة الأزواج المذكورة: الحرارة والبرودة، واليبس والرطوبة، والصلابة والليونة، والخشونة ونعومة الملمس - بوصفها أربع قوى لجنس اللمس الواحد. وعلى أي حال فقد وجدنا من علماء النفس المحدثين من يقول بثماني حواس(812/32)
فعلاً من خمس، ولكنه يزيد حينئذ على الخمس آنفة الذكر: حاسة التعب، وحاسة الاتزان في الوضع، ثم حاسة الاتجاه. وليست هذه على أي حال ظاهرية.
أما الإدراك الباطن فهو إدراك صور أو إدراك معان: الصور هي التي تدركها الحواس أولاً، ثم تفسرها القوى الباطنة - كالتي ذكرنا، والمعنى تدركه القوى الباطنة وحدها، أي يتمثله الذهن وحده دون إهابه بالحواس. وهو إدراك سلبي بلا فعل ترتسم فيه صورة الشيء فحسب؛ أو إدراك إيجابي فعال فيه تركيب للصور والمعاني وتحليلها - وهو تقسيم فعلي إلى فاعل إيجابي، وقابل أو منفعل سلبي. ثم هو إدراك أول مباشر يقع للشخص من نفسه - أي إدراك ذاتي أو يؤديه إليه شيء آخر يأتي عليه من خارج - إدراك موضعي
تبينوا هذه التصنيفات الثلاثة للإدراك جيداً، وميزوها بوضوح، ثم انظروا إلى ابن سينا وهو يشرح المخ ليوزع فيه مناطقه المختلفة نفوذ هذه القوى الإدراكية. فالمخ ينقسم باعتبار المكان - في موضعه من تجويف الرأس - إلى مقدم ووسط ومؤخرة. في المقدم يوجد الحس المشترك (وهو ينقل كلمة فنطاسيا من اليونانية بمعنى الإبانة أو الإظهار ليدل بها على المخيلة أو المصورة للشيء بعد غيابه. وفي الوسط توجد المفكرة في الإنسان (والمتوهمة في الحيوان) التي تجمع وتفصل هذه الصور وفي المؤخرة توجد الحافظة أو الذاكرة التي تختزن فيها المعاني الذهنية كما يجمع الحس المشترك الصور الحسية.
وأخيراً تأتي النفس الناطقة وتنقسم عنده إلى نفس عاملة (عملية) وأخرى عالمة (نظرية)؛ الأولى تتعلق بالتدبير والتصرف؛ والثانية باكتساب العلوم والمعارف. الأولى مبدأ يحرك بدن الإنسان إلى تدبير أموره الجزئية الخاصة - أي إلى السلوك بحرية واختيار؛ وذلك بفعل قوتي النزوع والوهم. فالنزوع يبعث فيها الفعل والانفعال كالضحك والبكاء والخجل. . . الخ مما يتعلق بمواقف الإنسان ذاتها وكيف يخرج منها. والوهم يبعث على تدبير الأمور والعمل والاختراع. وهذا العقل العملي ذاته يولد - بالاشتراك مع العقل النظري - مبادئ الأخلاق والمعاملات والتصرف، وهي التي يجب أن تكون لها السيطرة على قوى البدن الأخرى حتى يكون سلوك الإنسان فاضلاً، فلو تغلبت القوى الأخرى كالشهوة والانفعال والغضب. . . الخ؛ لنشأن الأخلاق الرذيلة.
تلك هي النفس العملية التي تتعلق بسياسة البدن السفلي وقيادته إلى الفضيلة. فالنفس -(812/33)
وإن كانت جوهراً واحداً - تتجه إلى اسفل لتسوس البدن، فتكون عملية، وتتجه كذلك إلى أعلى لتتلقى العلم النظري وتستفيد به، فتكون حينئذ نظرية عالمة عالية لا صلة لها بالبدن ولا بمؤثراته بأي نوع من الصلات. إذ هي تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، وتجردها منها إن كانت غير مجردة ثم تنطبع بها.
وهذا الفعل النظري بطبيعته قابل لهذه الصور - قابل لها بالقوة لها بالفعل
(1) يقبلها بالقوة قبولاً مطلقاً من حيث أنه محل قبول هذه الصور، وأن لديه الاستعداد لقبولها متى شاء أو صحت الظروف، فيسمى حينئذ عقلاً هيولانياً، لأنه يشترك فيه أفراد النوع باستعداد فطري.
(2) ويقبلها بالقوة قبولاً ممكناً بعد أن يكون قد تهيأ للاستعداد الهيولاني السابق تحصيل هذه الصور والكمالات العقلية، فأصبح مهيأ لفعلها متى أراد بلا واسطة، فيسمى حينئذ عقلاً ممكناً (أو ملكة
(3) ويقبلها بالقوة قبولاً ممكناً كذلك، بأن يكون العقل الممكن في المرحلة الثانية قد تم له تحصيل هذه الصور والكمالات وأصبحت له ملكة كاملة يستطيع بها أن يفعل متى أرد ولو لم يكن فاعلاً في لحظة ما. وتسمى هذه ملكة أو كمال قوة أو قوة كمالية (نسبة إلى الكمال لا الكمالي)
والأولى من هذه القوى النظرية هي التي يمكن أن يقال إنها بالقوة بحق، فإذا ما بدأت تحصل المعقولات الكلية والمقدمات العقلية والبديهيات في المرحلة الثانية (القوة الممكنة) وصارت عقلاً بالملكة؛ ثم إذا تم لها كمال التحصيل والتخزين لهذه الصور المعقولة المدخرة التي تطالعها وترجع إليها في نفسها متى أرادت فتعقلها وتعقل أنها تعقلها - بلا عسر أو تكلف - في المرحلة الثالثة (كمال القوة)، فهنا في هذين العقلين يكون العقل بالفعل لا بالقوة. ومسالة القوة والفعل في هذه العقول الثلاثة نسبية عند ابن سينا، فكل واحد منها يكون بالفعل لما قبله وبالقوة لما بعده. ذلكم أن صفة (الفعل) إنما يكتسبها الواحد من هذه العقول لا من ذاته، بل باستفادته من عقل هو أبداً بالفعل لا بالقوة (هو العقل الفعال الذي سبقت الإشارة إليه) ولذا يسمى ابن سينا العقل في أوج تعقله وإدراكه وكماله العقل المستفاد(812/34)
بل إن ابن سينا يذهب إلى ما هو ابعد من ذلك فيحدثنا عما يسميه العقل القدسي، فيمن كمل استعدادهم من الناس وهم قلة لأن يتصلوا بالعقل الفعال دون عناء، ولأن يحصلوا على هذه المعقولات وكأنها من عند أنفسهم وحاضرة قيهم، وذلك بما لديهم من الحدس والعيان والمكاشفة أرقى وسائل المعرفة الفيضية هذه التي تدرج بك فيها. وحجته هنا مقنعة وبليغة، وهي أنه يتصور أن أية معرفة عقلية تقوم على القياس والمنطق فهي استنباط نتيجة من حد أوسط مشترك بين مقدمتين، كما تعرفون في منطق الأستدلال؛ بينما توجد معرفة أخرى أرقى يقوم فيها الحدس والذكاء المفرط ذاتهما باختصار هذا الحد الأوسط والوصول مباشرة إلى النتيجة. وهذه النظرية في المعرفة هي أصح ما في مذهب ابن سينا في العقل الإنساني بعد تقسيمه إياه إلى نظري وعملي، لا يزال يقول بها من بعده الغزالي والصوفية وبرجسون في هذا العصر الحديث، حين يجعلون الحدس والعيان قوة إدراك مباشرة تنعدم فيها الواسطة. وغاية ما يؤخذ عليه فيها عدم تحديد مصطلحاته واشتراكها في تسمية شيء واحد. فنحن الآن نفهم بالذكاء القدرة على إدراك المواقف خلال الحدود الوسطى، وبالعيان والحدس الوصول إليها عفواً وتجربة وبلا وساطة.
لقد تدرجنا بك مع ابن سينا حتى الآن في سلسلة من الكائنات النفسية عجيبة الترتيب والتصنيف؛ من أقلها شأناً حتى أعظمها قدراً؛ من قوة التوالد في النفس النباتية حتى العقل القدسي في النفس الإنسانية. وعليك بعد هذا أن تقلب هذه السلسلة التصاعدية رأساً على عقب، وتنظر إليها نظرة تتبين منها أن كل قوة من كل نفس من هذه النفوس تقوم على خدمة الأعلى منها، لا يقتصر الأمر على مملكة النفوس هذه، بل إن القوى الطبيعية تقوم في خدمتها جميعاً. والله المسئول أن يعينكم على أن تتسع عقولكم لتدخل فيها عقلية ابن سينا هذه الكبيرة.
كمال دسوقي(812/35)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
خلف اللثام لمحمود تيمور:
ظاهرة في فن محمود تيمور تتكشف للناقد الذي يتتبع آثاره القصصية بعين لا تنام، فهو في آثاره الأولى غيره في آثاره الأخيرة. . . ولو تناولت إحدى قصصه الطويلة أو القصيرة في بدء حياته الأدبية، لرأيتها تختلف اختلافاً واضحاً عن مثيلتها فيما يكتب من قصص في هذه الأيام. قصاص اليوم يختلف عن قصاص الأمس؛ يختلف عنه في الخامة والأفق، ومنهج التصوير وطريقة التعبير. . . وإذا سألتني أيهما خير من الآخر لقلت لك في غير تردد: قصاص اليوم بلا جدال!
محمود تيمور في إنتاجه القديم كاتب قصة (محلية) وخامة هذا اللون من القصص خامة محدودة إذا ما وزنتها بميزان (العالمية) في الفن. . . أعني أنك لو نقلت أدب تيمور القديم إلى لغة أخرى لما نظر إليه قراء هذه اللغة نظرتهم اليوم إلى أدبه الحديث. أما أفق تيمور فهو على التحقيق أوسع مدى مما كان منذ خمسة عشر عاماً، وكذلك طريقته في رسم الشخوص وتشريح النفوس وانتزاع الحوادث من منابعها الأصيلة. . . وأسلوب تيمور هو الآخر قد انتقل من حال إلى حال؛ لقد كان يميل في سابق أيامه إلى أن يكتب بعض قصصه باللغة الدارجة، ولكنه يعود اليوم إلى حظيرة الفصحى عودة شغف وإخلاص وإيثار، وإذا القصة على سنان قلمه قطعة أدبية رائعة تزخر بإشراق اللفظ وسلامة العبارة.
قصاص الأمس متأثر بالقصة الفرنسية، وقصاص اليوم متأثر بالقصة الروسية، والفارق بين القصتين فارق ملموس. . . إذا نظرت في القصة الفرنسية وجدتها تعني في الكثير الغالب بالمفاجأة، ولا تخلو المفاجأة من الافتعال في بعض الأحيان! ومن السمات التي تغلب على القصة الفرنسية السرعة والحركة والمبالغة، ولكن هذه السمات لا تصلح للقصة ذات الفكرة النفسية والسبحات الروحية، تلك التي تحتاج إلى العرض الهادئ المركز المتزن. ولا تعني القصة الفرنسية كل العناية برسم الرتوش الداخلية والخارجية في ثنايا العرض القصصي؛ ونقصد بالرتوش الداخلية ما يصاحب هذا العرض من لقطات تصويرية للنفوس والشخوص، أما الرتوش الخارجية فنعني بها تلك الظلال التي تلف الفكرة القصصية(812/36)
بوشاح من الوصف التخيلي الصادق للجزئيات، في نطاق الملامح والسمات. على النقيض من هذا كله تجد القصة الروسية؛ فهي قلما تحفل بالمفاجأة، وإنما تقدم إليك لوحة نفسية تزخر بصراع العواطف، وظلالا إنسانية يمكن أن يجد القارئ فيها صورة نفسه. وهي حين تمضي في طريقها من رسم النماذج البشرية وصب الفكرة في قالبها الذي ينقل من الخيال إلى الواقع، لا تخطئ حين توزع الضوء، ولا تسرف حين تحدد الظل، ولا تستمد اللون إلا من أعماق النفس وأغوار الحياة. . إنني أتحدث هنا موازناً بين الأدبين الروسي والفرنسي في مجال القصة الفنية القصيرة، أما في مجال القصة الطويلة فقد تعلو القصة الفرنسية عند بعض كتابها من أمثال بلزاك وفلوبير فوق مستوى مثيلتها في أدب القصة الروسية! وثمة فارق آخر بين القصتين:
في القصة الفرنسية قد تجد الفكرة في ذروة النضج الفني ولكنها لا تسعى كثيراً وراء هدف؛ وفي القصة الروسية تجد الفكرة والهدف يسيران جنباً إلى جنب؛ الهدف الفلسفي الذي يصبغ الفكرة القصصية بصبغة النظرات العميقة، تلك التي تحاول جاهدة أن تنفذ إلى ما وراء المجهول.
على ضوء هذه الموازنة نستطيع أن تنظر إلى ماضي تيمور الأدبي وحاضره، وليس معنى ما ذكرت أن تلك السمات التي تتسم بها القصة الفرنسية والروسية هي بعينها التي تتمثل في أدب تيمور بين الأمس واليوم، كلا. . كل ما قصدت إليه هو الإشارة إلى أن تيمور متأثر بتلك السمات هنا وهناك!
من هذا الإنتاج الأخير الذي تنعكس عليه ظلال من أدب القصة الروسية هذا الكتاب الذي أخرجته المطبعة منذ قريب، ونعني به (خلف اللثام). . هو في رأيي خير مجموعة من الأقاصيص قرأتها لمحمود تيمور، ولاأحسبني غالياً إذا قلت إن فيه أقصوصة لم أقرأ خبراً منها عند قصاص مصري حتى ولا عند تيمور نفسه، وهي أقصوصة (المستعين بالله الكابتن هاردي). . هناك كاتب يستلهم قلمه وكاتب يستلهم قلبه، وميزة تيمور أنه يستلهم قلبه دائماً!
إنه في هذه الأقصوصة يحلق في أفق مشرق من الروحانية الوضيئة وهو في الأقصوصة الأولى (خلف اللثام) يحلق في نفس الأفق ويملك ريشة الفنان وقلب الإنسان، ولكنه للأسف(812/37)
قد لجأ إلى طريقة جديدة في معالجة الفكرة القصصية جعلتها تحفل بالغموض والإبهام، طريقة تهب عليك منها رائحة (المذهب السريالي)، وذلك المذهب الذي شاعت تعاليمه أخيراً في الأدب الفرنسي. . . أما خطر هذه الطريقة فيتمثل في انعدام الربط بين الحوادث والأفكار مما ينتج عنه بعض التفكك في البناء الفني للقصة، هذا عدا الغموض الذي اضطررت بسببه إلى أن استفسر من الأستاذ المؤلف عن بعض المواقف التي لم تتضح لي في ثنايا العرض القصصي!. . .
أما تيمور فيعتقد - كما قال لي - أنه لم يتأثر بمذهب السير ريالزم في كتابة هذه الأقصوصة، ومع ذلك فما زلت أحس كلما رجعت إليها أنني أقرأ شيئاً من إنتاج عميد هذا المذهب في الأدب الفرنسي المعاصر. . مسيو أند زيه بريتون! ومهما يكن من شئ فأن هذه الظاهرة قد تمثلت في أقصوصة واحدة من كتاب (خلف اللثام).
وهناك أقصوصة ثالثة نسج تيمور خيوطها من صميم البيئة المصرية وهي (تأمين على الحياة). . . في هذه الأقصوصة نماذج بشرية رسمت الريشة خطوطها في دقة وعناية، وبخاصة تلك الصورة الوصفية التي قدمها تيمور لكاتب المحامي وكذلك الصورة النفسية، ولولا ذلك الموقف الذي خالف فيه تيمور منطق الحياة والواقع لمضت الأقصوصة إلى نهايتها بغير هنات. . .
أما هذا الموقف فأعني به حين يتقدم كاتب المحامي بصنيعته صبي اللبان إلى إحدى شركات التأمين فتقبل أن تؤمن على حياته بمبلغ ضخم من المال، على الرغم من أن حياة الصبي معرضة بين لحظة وأخرى لخطر الفناء. . . من يصدق أن صبياً تحالفت على كيانه عشرات العلل والعاهات يؤمن على حياته الضائعة بألوف الجنيهات؟! وهناك أقصوصة رابعة تتجلى فيها موهبة القصاص المفتوح العينين والقلب والذهن، وهي (شيخ الخفر)، إنها صورة صادقة من حياة الريف، هناك حيث تلقى سذاجة النظرة وإلهام الفطرة وحرارة الإيمان، ولو دبت قدم الشيطان فهو دبيب إلى حين!
بعد ذلك يقدم تيمور خمس أقاصيص أخرى لا يتسع المجال هنا للحديث عنها، فليرجع إليها القارئ إذا شاء ليطبق عليها ما أوردته من دراسة لفن تيمور في بداية هذه الكلمة.
رأي في الشاعر على طه:(812/38)
هذا الرأي للدكتور طه حسين بك. . . أما أين اطلعت عليه ففي آخر عدد تلقيته من جريدة (بيروت المساء) اللبنانية تحت عنوان: (طه حسين يبايع عمر أبو ريشه).
سؤال من بضعة أسئلة وجهها مندوب الصحيفة اللبنانية إلى الدكتور طه، وجواب من الدكتور على سؤال المندوب الصحفي، وبهذا الجواب العجيب أقام الميزان لشاعرية الشاعرين فأنخفض شاعر وارتفع شاعر. . . في ميزان الدكتور طه لا في ميزان النقد المبرأ من تحكم الهوى وغلبه العاطفة! ولولا أنني أثق بجريدة (بيروت المساء) كل الثقة، لارتبت في أن الحديث الذي نشر قد ناله شئ من التصحيف أو شئ من التحريف!
أدلى الدكتور طه بهذا الرأي يوم أن حل ضيفاً على لينان منذ قريب لحضور مؤتمر اليونسكو بدعوة من الحكومة اللبنانية أدلى به كما قلت لك إلى مندوب جريدة (بيروت المساء) حين راح يسأله عن دنيا الشعر العربي بعد أن رحل عنها شوقي وحافظ. وعندما أجاب الدكتور بأن مكان الشاعرين قد ظل مع الأسف شاغراً لم يشغل، سأله المندوب الصحفي مرة أخرى عن رأيه في مكان الشاعر على طه. . . وهنا ابتسم الدكتور طه ثم قال: (بالله لا تحرجني! هذا شاعر ولا يعرف قواعد اللغة العربية. ولقد حاولت عبثاً أن أفهمه بأن فعل الأمر من (سقى) يختلف مع المفرد المذكور عنه مع المفردة المؤنثة، ولكنه لم يفهم. . . هل تصدق أنه يقول في الحالين (إسقنيها)، مع أنه يجب أن يقول للمفرد المذكر (إسقنيها) وللمفردة المؤنثة (إسقينها)؟ ولكنه للأسف لا يعرف قواعد اللغة العربية!
بعد هذا تحول الدكتور طه إلى الشاعر السوري عمر أبو ريشه ليشيد بفنه ومزاياه، وليخصه بعطفه وتقديره. وليتحدث عن أثر شعره في نفسه يوم أن جمع بينهما لقاء أسمعه الشاعر فيه بعض مقطوعاته، وخلص الدكتور طه من هذا كله إلى أنه ليس هناك شاعر عربي معاصر يستحق إعجابه وبيعته غير عمر أبو ريشه! هذا هو الرأي الذي سجلته الصحيفة اللبنانية للدكتور طه حسين وأود أن أعقب عليه فأسأله: هل حدث حقاً هذا الذي دار بينه وبين الشاعر على طه؟ وإذا كان، ففي شرع أي ميزان من موازين النقد يجوز للناقد أن يقدر أقدار الشعراء على ضوء خطأ نحوي أو لغوي يقعون فيه؟!. . . وإذا أبيح للدكتور أن ينظر إلى الشاعر المصري هذه النظرة التي تنكر كل موهبة من واهبه وتلغي مكانه من قائمة شعراء الطليعة لمجرد خطأ واحد وقع فيه، ففي أي مكان يا ترى يمكن أن(812/39)
يضع شاعراً كالمتنبي وقد حفل شعره بكثير من الأخطاء اللغوية؟!
لقد كنت أود أن يكون رأيه في الشاعرين وليد دراسة وموازنة لا وليد هوى ومجاملة، لأن ميزاناً تحرك كفيه العاطفة سيكون مآله كمآل ميزان الآمدي حين أجهد نفسه في الانتصاف للبحتري والنيل من أبي تمام. لقد ذهبت أحكامه وبقى الشاعران كل في مكانه الذي حددته الأجيال! أما الشاعر على طه فلا أعتقد أن مكانه يمكن أن يؤثر فيه مثل هذا الرأي الطائر، أو ينال منه هذا الحكم الجائر. . .
ولو كان في المجال متسع للإفاضة لقدمت لقراء الرسالة نماذج من شعر الشاعرين، مع دراسة نقدية كاملة لتلك النماذج الشعرية دراسة تطيل الوقوف عند طاقة وطاقة، وعند موهبة وموهبة، وعند أفق وأفق، وهذا هو الميزان الذي يجب أن يقام للشاعرين ليحدد الفارق في مجال التحقيق بين قدرة جناح وجناح!.
إنني أدافع هنا عن الشاعر علي طه دون معرفة بيننا ولا سابق لقاء!
مسابقة المصور لقصة القصيرة:
أعلنت مجلة المصور عن مسابقة للقصة القصيرة قدمت لها بكلمة عجيبة، أثارت في نفسي كثيراً من الشك حول فهم القائمين على أمر تلك المسابقة لأصول الفن القصصي، وهذه هي الكلمة:
(القصة القصيرة من أرفع وأروع فنون الأدب التي يزداد اهتمام الغربيين بها يوماً بعد يوم. ولا عجب فهي خير ما يناسب عصر السرعة الذي نعيش فيه، وهو عصر لا يكاد معظم الناس يجدون فيه من وقتهم ما يسمح لهم بمطالعة قصة حافلة بعبارات الوصف، والتحليل، والوقوف عند التفاصيل. وهذا هو الذي نتحاشاه القصة التي تمتاز بسرعة الحركة ودقة الحبكة وشدة التركيز، وعنصر المفاجأة في الختام. ولعل هذا العنصر أهم أركانها على الإطلاق.
وقد رأى (المصور) في عهده الجديد أن يدعو للنهوض بهذا النوع من القصة الذي ما زال يحبو عندنا في المهد؛ بينما نراه ناضجاً مكتملاً عند الغربيين، وقد نبغ فيه من أشهر أدبائهم: مارك توين؛ وإدجار ألن بو، وأوهنري، وسومرست موم، وموباسان وغيرهم. و (المصور) إذ يدعو أعلام القصة الطويلة في مصر والعالم العربي إلى تخصيص جانب من(812/40)
عنايتهم لتحقيق هذه النهضة المنشودة؛ لا يفوته أن ما يبذله كاتب القصة القصيرة من جهد ووقت في حبك سياقها وسبك ختامها، لا يقل - إن لم يزد - على ما يبذله الكاتب في وضع القصة الطويلة) وإذا كانت هذه الكلمة قد حفلت بالعجب في طبيعة النظرة إلى فن القصة القصيرة، وفي طبيعة المعايير التي وضعت لأصولها الفنية، فأن العجب يصبح أمراً عادياً لا غرابة فيه إذا أنعمت النظر وأطلت التأمل في هذا الشرط:
(يجب ألا تزيد كلمات القصة التي تدخل المسابقة على 600 كلمة)
شيء واحد خرجت به من هذه الكلمة التي قدم بها المصور للمسابقة، وهو أن القائمين على أمرها ينظرون إلى فن القصة القصيرة على ضوء الذوق الصحفي دون سواه. . . إنهم يتصورون القصة شيئاً أشبه ما يكون بالربورتاج الصحفي، ذلك الذي خلق للتسلية وملء الفراغ! وهذا واضح من قولهم أنهم يريدون قصة لا تزيد كلماتها على 600 كلمة، لماذا؟ لأن معظم الناس لا يجدون من وقتهم ما يسمح لهم بمطالعة قصة حافلة بعبارات الوصف والتحليل والوقوف عند التفاصيل!. . . ولست أدري من الذي أقنعهم بأن عنصر المفاجأة في ختام القصة يعد أهم أركانها على الإطلاق، ولا من الذي أفهمهم أن ما يبذله كاتب القصة القصيرة من جهد لا يقل إن لم يزد على ما يبذل الكاتب في وضع القصة الطويلة! كلام لا يقوله أبسط الملمين بأصول الفن القصصي؛ لأن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والنزعات لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت، ولكن هناك أناساً ينشدون (الفرقعة) في نهاية كل قصة ولو كانت هذه الفرقعة على حساب الفن!. . . . والقصة الطويلة بعد هذا هي وحدها المقياس الفني الكامل لمواهب القصاص وطاقة القصاص، ولا كذلك الأمر في القصة القصيرة؛ لأن العمل الفني فيها محدود من الصفحات، وكذلك زحمة الحوادث والشخصيات؛ ومن هنا يستطيع كل قصاص أن يقبض على زمام القصة القصيرة بقليل من الجهد الفني، ولا يستطيع الناقد في القصة القصيرة أن يحكم على الطاقة الفنية التي تحدد الفارق بين فنان وفنان، لأنها طاقة تعمل في ميدان ضيق قد تتقارب فيه الملكات القاصة، تقارباً يصعب معه وزن القيم الفنية بميزاتها الدقيق الذي يمكن الناقد من إصدار حكم على الأثر الفني الذي لا رجعة فيه. . . ومع ذلك تسمع من يقول لك إن لهذا الجهد الذي يبذله كاتب القصة القصيرة لا يقل أن لم يزد على الجهد الذي يبذله كاتب(812/41)
القصة الطويلة!
أنور المعداوي(812/42)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الأدب الشعبي
شمل التعقيب على محاضرة الأستاذ الشبيبي في مجمع اللغة، موضوعاً آخر غير موضوع حرية الأدب الذي تحدث عنه في الأسبوع الماضي، ذلك الموضوع هو الأدب الشعبي، فقد قال الأستاذ ماسينيون: سمعنا حديثاً طيباً عن النهضة الأدبية في العراق وأرى أن كلمة نهضة يجب أن ترجع إلى اندفاع غريزي في الشعب كله نحو التقدم والترقي، وأنا أعرف أن في الشعب العراقي قوة غريزية أو شوقاً للشعر والأدب، فهل أمكنت الإفادة من تلك القوة الغريزية وهذا الشوق لتصفية الأسلوب وترقية الأدب؟
وما أحسبه قصد الأدب العامي، فما في هذا تصفية أسلوب وترقية أدب، وإنما يرمي إلى أن يكون الأدب الفصيح نابعاً من غريزة الشعب مصوراً لمشاعره. ولكن الدكتور أحمد أمين بك قال: أن العناية بالأدب الشعبي واجبة، فكل مؤرخي الأدب، أن في العراق أو في مصر، يميلون إلى الأرستقراطية الأدبية ولا يؤرخون إلا للمتعلمين الذين ينتجون على النمط (الكلاسيكي)، ودعا الأباء إلى أن يؤرخون للزجل والموشحات والروايات العامية لأنها تدل على حالة الشعب أكثر مما يدل عليه الأدب الأرستقراطي.
وقال معالي الرئيس لطفي السيد باشا: ربما كان هذا الضرب من الكتابة أقرب إلى علم أحوال الإنسان منه إلى الأدب.
وقال الأستاذ العقاد: أن الأرستقراطية الفنية والفكرية يجب أن تسود، وأنا أشتري أرستقراطية واحدة كهذه بمائة مليون إنسان لا غرض لهم من الحياة إلا أنهم يأكلون ويشربون.
وقال الأستاذ الشبيبي: اعتقد أن أدبنا في الفترة الحاضرة ليس أدباً أرستقراطياً بل هو أدب ديمقراطي يعبر عن الحياة الواقعة، أما أن يعد الأدب أرستقراطياً لأنه مصوغ في لغة فصيحة فقول لا أوافق عليه.
ثم قال الدكتور طه حسين بك: العربية الفصحى للآن هي لغة الأدب، ونحن مجتمعون هنا لندرسها وحدها، وقال أن الإنتاج الأدبي يجب أن يستمد قوته وبعض خصائصه من البيئة(812/43)
التي يعيش فيها أي من البيئة الشعبية، وبعد أن فرق بين أدب الفصحى والأدب العامي قال: نحن حريصون على أرستقراطيتنا الأدبية حرصنا على الديمقراطية السياسية.
وقد نجح الدكتور طه إلى أرستقراطية الأدبية على اعتبار أنها أدب الفصحى، ولكن هل يصح أن تطلق الأرستقراطية على الأدب الذي يستمد قوته من البيئة الشعبية؟ ألسنا نتجه الآن إلى الشعب، نعلمه العربية الفصيحة ونكتب له بها معبرين عن قضاياه ومسائله؟ بل ألسنا نحن من صميم الشعب؟ وماذا نصنع بالأرستقراطية التي نشتريها إذا فرطنا في مائة مليون إنسان بدل أن نرفعهم ونحييهم بأدبنا؟
إنني لا أفهم أرستقراطية الأدب إلا أن تكون ذلك النوع الذي كان يتحلى بأصحابه الحكام والأمراء لقاء ما يرزقونهم، أما الأديب الذي يأكل ويشرب من ثمن أدبه وكتابته، الذي يدفعه إليه الشعب، فما ينبغي له أن يسقط الشعب من حسابه، إن الشعب في الحياة التي نهدف إليها هو كل شئ، فيه نبتنا، وإليه نتجه، وبه يجب أن نرتقي وعنه يجب أن نعبر، حتى ينسب أدب الفصحى إليه فيقال له (الأدب الشعبي)، أما الأدب العامي من زجل وموشحات و. . . الخ فهو شئ آخر، الكتابة فيه (أقرب إلى علم أحوال الإنسان منه إلى الأدب، كما قال أستاذ الجيل.
وأما الأرستقراطية فهي كلمة ممقوته مرذولة في السياسة وفي الأدب وفي كل شئ.
ذكرى باحثة البادية
احتفل الحزب النسائي الوطني يوم الأحد الماضي بذكرى باحثة بادية ملك حقني ناصف بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على وفاتها وقد تكلم في هذا الحفل عدد من النساء وبعض الرجال، ودار كلام السيدات والآنسات كله حول حقوق المرأة وظلم الرجل له وأن المحتفل بذكراها كانت من الماجدات في هذا الميدان؛ ولم تعن إحداهن بأن تجلو شخصية باحثة البادية من جوانبها المختلفة، وخاصة الناحية الأدبية، فلم يكن الحفل إلا مناحة على حرمان المرأة المصرية حق الانتخاب ودخول البرلمان. . .
وأنا أحب أن أقول لهؤلاء السيدان والآنسات: لو كان عندنا عدد من مثيلات باحثة البادية لكان للمرأة المصرية اليوم شأن غير ما هي عليه الآن فباحثة البادية أول امرأة مصرية أمسكت القلم ودافعت عن حقوق المرأة ودعت إلى تعليم البنت، واستعانت على ذلك بأدبها(812/44)
وما أوتيت من البيان، فكن واحدة عندنا ليوم تكتب أو تنظم كباحثة البادية؟ وهذا الحفل المقام لذكراها لولا آنستان من الجامعة لكان مأتماً للغة العربية وبيانها، والآنستان هما نعمت بدر، وعزيزة هيكل، فقد وقفت كل منهما موقف الفتاة المتعلمة التي تتكلم بلغة بلادها
ولا أنكر على النهضة النسائية في مصر ما آتت من ثمرات في نواحي حياتنا المختلفة ولكنها نهضة خرساء وإن كانت تنطق بالهذر. . . فالقلم لا يزال عصياً على أناملهن، وميدان الأدب خال منهن إلا قليلاً. وأقل ما يدل على ذلك أنه ليس لدينا جماعة نسوية تستطيع أن تحتفل بذكرى أدبية كباحثة البادية احتفالاً وافياً لائقاً.
ثم أسال: هل الرجل يظلم المرأة حقاً؟ قد ينكر عليها أمراً من الأمور، ويمنعها شيئاً من الأشياء، وقد يفعل ذلك جاهلاً، وقد يكون له فيه رأي ووجهة نظر، ولكن المحقق أنه لا يريد أن يظلمها، وخاصة لأنها محبوبة لدية أثيرة عنده، فالمسألة مسألة رأى واتجاه لا ظلم وهضم حقوق، والحقيقة الظاهرة أن أكثر ما ظفرت به المرأة من عمل الرجل ودفاعه، فكيف يكون محامياً عنها ومتصباً ضدها في آن؟ ومن الخطأ الشائع أن يعد الرجل والمرأة خصمين متنازعين، فما هما إلا أليفان متعاونان متكاملان.
وقد لاحظت أن جميع من خطبن من السيدات والآنسات بدأن بقولهن: سيداتي وآنساتي وسادتي. والمفهوم أن الرجل يقول ذلك مجاملة للجنس الرقيق أفلا يجدر بالجنس الرقيق أن يكون رقيقاً في مجاملة الرجل وعدم الجور على حقوقه. .؟
ولم يخل الحفل من بعض الطرائف، فقد قال أحد الخطباء إن المرأة اليابانية في الحرب الأخيرة كانت تسأل ابنها وهو ذاهب إلى الميدان: من سيخطر ببالك وأنت تتقدم الصفوف لقتال الأعداء؟ فيقول: لن يكون في خاطري غير الوطن وقد أذكر أمي فتتسرع الأم إلى الانتحار حتى لا تشرك الوطن في خاطره. وأهاب الخطيب بالحاضرات أن تكون المرأة اليابانية لهن مثالاً يحتذينه. . فأجبته:
(لا. . كله إلا الانتحار!)
وقال الأستاذ عبد الحميد حمدي في كلمته إنه وإن كان يؤيد المرأة في المطالبة بحقوقها السياسية إلا أنه يرى الوقت الحاضر غير ملائم لدخولها مجال الانتخابات لما يلابسها من الفوضى، فقالت إحداهن: نعين في مجلس الشيوخ. أقول: ولكن عضو الشيوخ يشترط فيه(812/45)
ألا تقل سنه عن الأربعين فهل هناك امرأة بلغت الأربعين. .؟
الدكتور عمر بن أبي ربيعة
نحن الآن أمام لون جديد من شعر الغزل، فقد كان الشاعر يتغزل في حبيبة لا يعرفها الناس، فأقصى ما يصرح به أنها (ليلى) وإن شئت فقل (زوزو) وكم في النساء من (ليلى) وما أكثر (زوزو)!
وكذلك كانت تصنع من جرؤت على التغزل في الرجال، وإن كانت مرات هذه الجرأة تكاد لا تحصى.
أما الذي جد في هذا الفن من الشعر فقد وقع في هذا الأسبوع، فهذه صفحة من مجلة (العالم العربي) أول ما يطالعك فيها صورتان، كتب تحت أولاهما (أماني فريد الهائمة) والثانية صورة الدكتور إبراهيم ناجي، ولكل منهما قصيدة غزل صريح في الآخر، عنوان إحداهما (إلى الدكتور إبراهيم ناجي) وعنوان الأخرى (إلى الهائمة أماني فريد)
قالت الهائمة للدكتور:
تعال إلى القلب بعد العذاب ... فقد مر عمري وولى سدى
يناديك قلبي هوى واشتياقاً ... فمالك لست تجيب الندى
أبيت على لهفة للقاء ... ولكن أخاف حديث العدا
فكم ليلة يا قرير الجفون ... تركت جفوني بها سهدا
وقبل أن أدع (قرير الجفون) الذي لا يجيب الندا يرد على الهائمة، أقول أن عمرها لم يول سدى بعد. . فهي لا تزال في الريعان. . . وإنها لا تخاف العدا، وهذا ظاهر جداً. . . .
ثم يقول الدكتور ناجي للهائمة به (كما يقول) أماني فريد:
فأنت الوجود وأنت الخلود ... وأنت النداء وأنت الصدى
وكيف بغيرك تحلو الحياة ... وبعذب موردها موردا
وأنت النعيم وأنت العذاب ... وأنت موردها والصدا
ثم يجيب نداءها:
تنادينني! إن قلبي إليك ... غدا هاتفاً، وشعري منشدا
وينفي ما زعمته من أنه قرير الجفون:(812/46)
تظنينني ناعماً بالرقاد ... وإني الذي خاصم المرقدا
وبعد فليعلم الغادي والرائح أن الدكتور ناجي يحب الهائمة أماني فريد، وأنه هو (الملهم) لها. . ولكن هل يدينان بالتوحيد في الحب؟ أو بصريح العبارة - فلم يعد في الأمر ما يمنع الصراحة - ألا يحب كل منهما أو يهيم بآخر أو بأخرى؟ أما الهائمة أماني فلم تصرح بعد في شعر ولا كتابة - فليس يعنينا ما وراء الأدب من خصوصيات - بحبيب غير ناجي، وليس لفضولي أن يسأل لم تحبه، فالهوى ذو أعاجيب على أنها لن تعدم منه الشعر. . . يقوله لها. . . وحسبه منها - كما قال بشار - الحديث والنظر. .
وأما (المهيم به) وهو الدكتور ناجي، فقد غبطته مرة أو قل نفست عليه أن حظي بثلاث من حسان الملاهي جمع بينهن في شعر قاله فيهم بمجلة (الاستديو) وهذه الهائمة أماني هي الرابعة. . . ولا شأن لنا - كما قلت - بما وراء الأدب والشعر من خصوصيات. فهو إذن ليس كشعراء بني عذرة، وما (شهرزاد ومديحة يسري وسهام رفقي والهائمة أماني) إلا كصاحبات عمر بن أبي ربيعة. . .
أدباء العراق
أتينا في عدد ماض من الرسالة على ملخص المحاضرة التي ألقاها معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي في مؤتمر الجمع اللغوي عن النهضة الأدبية في العراق، متضمناً أسماء طائفة من الأدباء العراقيين. وقد اطلعت على نسخة مصححة من أصل المحاضرة فوجدت بها أسماء عدد آخر من أدباء العراق، باحثين وكتاب وشعراء، منهم الأساتذة الأزري والسماوي واليعقوبي ومحمد باقر الشبيبي ومهدي البصير من الشعراء المجيدين، والدكتور جواد علي والدكتور سوسه وعبد الحميد الدخيلي وكوركيس عواد من الكتاب والباحثين.
عباس خضر(812/47)
البريد الأدبي
عبقرية محمد الإنسانية:
قال الأستاذ العقاد في معرض الحديث عن إنسانية محمد: (النبي لا يكون رجلاً عظيماً وكفى، بل لا بد أن يكون إنساناً عظيماً فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء وتهيئه للفهم عن كل جانب من جوانب بني آدم فيكون عارفاً لها وإن لم يكن متصفاً بها، قادراً على علاجها وإن لم يكن معرضاً لأدوائها، شاملاً لها بعطفه وإن كان ينكرها بفكره وروحه، لأنه أكبر من يلقاها لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة وأخير بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شئ بين الأرض والسماء، لأنه يملك مثلها آفاقا كآفاقها هي آفاق الروح).
وعلق الأستاذ أنور المعداوي على هذه الكلمة تعليقين في مقال نشر بالرسالة الغراء (عدد 809). قال في الأول (هذه الكلمات التي يسوقها الأستاذ العقاد عن محمد الإنسان تنطبق كل الانطباق على الرجل العظيم لا على الإنسان العظيم؛ لأن الرجل الذي يشمل الناس بعطفه ثم يفسر هذا العطف على أنه أكبر من أن يلقي الأمور لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة، هذا الرجل إذا وضع في الميزان صاحب طبيعة خلقية تنبع منها الرحمة من منابع العظمة النفسية، تلك التي تنظر إلى كل شئ نظرة القمم إلى السفوح، أو نظرة الكبير إلى الصغير. وفرق بين رحمة بفرضها على صاحبها التعاظم والكبرياء، ورحمة يفرضها التواضع للوصول الروابط بالإنسانية في أوسع آفاقها وأرقع مزاياها). واني أرى أن الصفات التي ذكرها العقاد تنطبق على الإنسان العظيم كما يراه العقاد الذي يفسر الإنسانية العظيمة بأنها الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء الخ. ولا يقصرها على الرحمة في غير موضعها، أو الرحمة حيث لا ينتظرها أحد كما يفسرها الأستاذ المعداوي؛ فهذه الصفة تدخل ضمن الصفات التي ذكرها العقاد للإنسانية العظيمة الشاملة، وليست هي وحدها الصفة التي يصح أن توصف بها هذه الإنسانية؛ ومن ثم كان قول العقاد أشمل وأعم.
وقال الأستاذ المعداوي في تعليقه الثاني: (أما قول الأستاذ العقاد بأن محمداً لا بد أن يكون إنساناً عظيماً لأنه نبي عظيم، فهو في رأيي لا يثبت ولا يؤكد إنسانية محمد في كثير ولا(812/48)
قليل؛ لأن محمداً كان إنساناً عظيماً بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولاً إلى الناس. والدليل على ذلك من تاريخ حياته مهيأ لكل من يلتمس الدليل. . . وذلك أمر لا ريب فيه ولا جدال)
وإني لا أرى في قول الأستاذ العقاد ما ينفي الإنسانية العظيمة عن محمد قبل أن يكون نبياً؛ لأن العقاد لم يقصر هذه الإنسانية على الأنبياء دون غيرهم، وإنما جعلها من خصائص النبي التي يجب أن تكون متوفرة فيه ليكون أهلاً للنبوة، وهي بهذا تكون سابقة للنبوة فيه لاحقة لها.
وعلى ذلك فمحمد إنسان عظيم قبل رسالته، وإنسان عظيم بعد الرسالة.
محمد محمود عماد
محام
الفيروزاباذي لا الفيروزابادي:
أستأذن الأستاذ السيد عباس خضر في نشر ما هو آت:
جاء في رده على السيد أحمد عزيز بيتوغن في الصفحة 1411 من عدد مجلة (الرسالة) 806 عبارة (قاموس الفيروزايادي) وهنا أقول:
ألا يرى الأستاذ الكريم أن الأصح هو كلمة (الفيروزاياذي) كما قال ذلك ابن خلكان لنسبته إلى فيروزاياذ بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحت وضم الراء المهملة وبعد الواو الساكنة راء مفتوحة معجمة وبعد الألف باء موحدة وبعد الألف ذال معجمة بلدة بفارس. ويقال هي مدينة جور. قاله الحافظ ابن السمعاني في كتابه الأنساب. وقال غيره هي بفتح الفاء ج1ص6 وهذا ما اعتمده العالم المحقق المغفور له أحمد تيمور باشا في كتابه المسمى (ضبط الأعلام). وإذا كان لديه ما ينقض هذا أرجو الإدلاء به.
أحمد الظاهر
من أعضاء محكمة الاستئناف - عمان
حول رواية بيت:(812/49)
في (البريد الأدبي) العدد (803) كنت كتبت كلمة حول كتاب (النقد الأدبي) أرد بها ما وقع فيه صاحب الوساطة في قول أبي تمام:
ألم يقنعك فيه الهجر حتى ... (بكلت) لقلبه هجراً يبين
حين قال؛ إنه لم يعرف لهذه اللفظة (بكلت) معنى، وبهذا أيضاً قال الأستاذ مؤلف الكتاب. وكان جوابي عليهما وهو جواب اجتهاد: يغلب على الظن أن تصحيفاً لحق باللفظة فأخرجها عن المعنى، ولعل الأصل (وكلت)
واليوم أعود - والعود أحمد لأقول: رواية البيت الثابتة في الديوان هي:
ألم يقنعك فيه الهجر حتى ... (قرنت) لقلبه هجراً يبين
على أن رواية (بكلت لقلبه هجراً يبين) رواية صحيحة؛ فمعنى بكل خلط. وفي اللسان: البكل: هو الخلط. قال الكميت:
يهيلون من هذاك في ذاك بينهم ... أحاديث مغرورين بكل من البكل
وبكله إذا خلطه وبكل عليه خلط. . الخ
وإذاً فلا تصحيف ولا تحريف، والحق أحق أن يقال فيتبع.
عدنان
الزيتون
حول قصة هبارين الأسود:
كتب الأستاذ أنور المعداوي في العدد الممتاز من الرسالة الغراء مقالاً تحت عنوان: (عبقرية محمد الإنسانية) وأورد في مقاله الممتع قصة (هبارين الأسود) بأنه اعترض السيدة زينب بنت رسول الله وهي في طريقها من مكة إلى المدينة ملبية دعاء الشوق الأبوي المنبعث من قلب أبيها العظيم فرماها رمية أراقت دمها الزكي على رمال الصحراء. فتلقى النبي الكريم مصرع ابنته كما يتلقى الآباء مصارع الأبناء، وحزن حزناً شديداً وأهدر دم هبار بأي مكان وجد وبأي واد حل. . إلى آخر ما سطر الأستاذ. وجاء في كتاب (حياة محمد) للدكتور هيكل باشا ص512 أن هباراً والحويرث أفزعا السيدة زينب رضى الله عنها فزعاً أجهضها فمرضت وظلت متهدمة العافية حتى لاقت ربها. . .(812/50)
وبين الروايتين بون شاسع. واختلاف وخلاف. . . فأي الروايتين يمكن أن يقطع بصحتها عشاق الأدب؟ وخاصة عشاق السيدة الشريفة؟
هذا ما أردت الاستفسار عنه على صفحات الرسالة الغراء.
حسن إبراهيم شقل
المدرس بأدفو
حدث السن:
كتب الأديب إسماعيل أبو ضيف الأزهري في (الرسالة) تعقيباً على تعبيري في مستهل مقالي (الفتوة عند الصوفيين) (والفني هو الشاب حدث السن) قال: حدث السن تركيب لم يرد قي متون اللغة، بل نص في بعض الكتب على منعه. ذكر ما جاء في الأمالي للقالي (الحدث: الشاب، فإذا أضيف إلى السن قالوا: حديث السن ولم يقولو حدث السن).
ويخيل إلى أن الأديب تسرع في تعقيبه وأنه عندما وقع نظره على ما ورد في الأمالي أسرع إلى قلمه يدبج تعقيبه، ولم يجشم نفسه بعض الجهد في الرجوع إلى بعض متون اللغة التي قال عنها لم يرد فيها هذا التعبير وأن بعضها نص على منعه
فقد ورد في القاموس باب الثاء فصل الحاء: (ورجل حدث السن وحديثها بين الحداثة. .)
وكذلك ورد في لسان العرب ج2ص437 فصل الحاء حرف الثاء: (ورجل حدث السن وحديثها ورجال أحداث السن وحدثانها وحدثاؤها. . .)
عبد الموجود عبد الحافظ(812/51)
القصص
أقصوصة تركية
ذات الثوب الأبيض
مترجمة عن التركية
وفقت أمام حديقة البيت سيدة في مقتبل العمر، ذات ثوب أبيض، ولبثت واقفه هناك، أمام البيت، تحدق إليه، وبصرت بها الخادم التي كانت تتنقل آنذاك بين شجيرات الورد تقطف أنضره فتلقيه في سلة صغيرة تدلت من مرفقها، فخالتها قد وقفت تحتلي انظر مما حفلت به الحديقة من الورد. على أن عيني السيدة الشابة الدعجاوين، ظلتا مثبتين بنوافذ البيت، تحدقان إليه، فثار فضول الخادم فأقبلت عليها تسألها:
- هل تريدين أحداً يا سيدتي؟. ولكنها لم تجب، بل راحت تطلع إليها ساهمة كأنها نشوي حلم عميق، ثم اختلجت شفتاها تتممان:
- كلا، لا أريد أحداً، كنت أنظر إلى البيت فقد أعجبت به.
وراحت الخادم هي الأخرى تحدق فيها، وأسرفت في النظر إليها حتى لكأنها تهم بالتهامها، ثم ندت عن شفتيها صرخة، وهوت السلة إلى الأرض، وتناثر ما فيها من الورد، وروعت السيدة، فارتدت خطوة إلى الوراء، وسألتها الخادم بصوت أجش: - ألك يا سيدتي، شقيقة تشبهك؟
- كلا - ولكن مستحيل أن يكون مثل هذا الشبه! فقالت السيدة الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين، وقد رفت على شفتيها ابتسامة باهته تكاد لا تبين:
- هل ترينني أشبه أحداً؟.
فقالت الخادم وهي تشير بيدها إلى الورد المنثور على الأرض.
- نعم، وهذا الورد الذي أقطفه لها هي. . .، ولاح على السيدة العجب فسألتها - حسن، وهذه السيدة، أين هي؟ هل كنت تنتظرينها؟.
فهمست الخادم، وهي تهز رأسها أسى - تلك السيدة. . . ماتت؟. .
- إذن، فأنت حاملة هذا الورد إلى قبرها.(812/52)
وفتحت الخادم باب الحديقة وهي تقول: كلا ليس من يعرف قبرها سواه، سيدي يعرفه وحده. هل تتفضلين بالدخول؟ وترددت الشابة ذات الثوب الأبيض، والعينين الدعجاوين، فقالت الخادم كأنها كانت تتوقع هذا: - لا أحد في البيت، تفضلي، فسيدي في رحلة منذ أشهر.
ودخلت السيدة حديقة البيت، وأقبلت الخادم على وردها المنثور تلمه، وشرعتا تسيران معاً نحو البيت.
وعادت الخادم تسألها - هل تسكنين هنا يا سيدتي؟.
فهمست السيدة الشابة، ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين، وهي غريقة أفكار تتماوج في ذهنها - كلا، كنت أزور أصدقاء لي هنا.
- وهل كنت تسكنين هنا من قبل؟.
- قبل خمس سنوات. . .، وحينما ضمهما البيت كانت السيدة تتطلع إلى ما حولها باهتمام وتأمل. ووقفت الخادم في البهو النير، ذي البسط الوبرية ومقاعد الخيزران، وقالت:
- هل أريك البيت؟
- شكراً، أرجو أن لا أكلفك كثيراً، ولكن.
كلا. أنا أريد ذلك. . . ووضعت سلة الورد على منضدة، ثم فتحت الباب المقابل وقالت - هذا. . . هو مكتب سيدي.
وكان جو الحجرة معتماً، يوحي بالإحساس بالظلمة، برغم النور المنساب منم نوافذها، وكان كل ما فيها يوحي بالكآبة: النوافذ ذات السجف الزرقاء الداكنة اللون، والأرائك القاتمة اللون، والرفوف العالية، تحف بالحيطان وقد رصت عليها الكتب، وكانت السيدة تتطلع إلى ما حولها في سهوم واستغراق والخادم تصل حديثها - يبكر سيدي عادة في اليقظة من نومه، وما أن يغسل وجهه حتى يؤم مكتبه هذا، ويشرع في عمله، حتى انقضت من الصباح ثلاث ساعات أو أربع، ترك حجرته هذه فيستحم، ثم يتناول فطوره. . فإن كان الجو صحواً جلس في الحديقة أو خرج إلى الطريق، وبد تجوال ساعة يعود فيضطجع حتى يحين أو أن الغذاء. . وبعد أن ينهض.
راحت الخادم تحدثها بالتفصيل عن حياة سيدها وشؤونه، وهي تصغي لذلك كله. . . ثم(812/53)
سألتها - أو ليس للسيد عمل خارج البيت؟
- إن لديه عملاً ولكن ليس دائماً، يؤديه بين يوم وآخر أو بين كل ثلاثة أيام. . . وفي كل عام يسافر إلى الخارج للترويح عن نفسه شهرين من الزمن.
- كم مدة قضيتها هنا؟
- أربع سنوات.
- وهل سيدك مولع بالنساء.
- كلا - وهل يشرب الخمر؟
- قليلاً، وفي المناسبات. وخرجنا من حجرة المكتب إلى البهو، وكان أكثر نوراً منها، يحس المرء فيه برطوبة الزوايا التي لا ينفذ إليها شعاع الشمس على أن بسطه الوبرية، ومقاعده الحمراء اللون، والرسوم الزيتية المعلقة على الجدران، كل هذا يبعث إلى القلب بشعور الدفء والغبطة واللذة العميقة. ولم تتحدثا بشيء في البهو، فقد أطبق عليهما الصمت، وكانت الخادم تفكر في أمر هذه السيدة الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين. وأما السيدة فقد راحت في ذهول وحيرة تتأمل كل شئ، المقصف، والخوان الكبير، وجهاز الراديو، والرسوم المعلقة على الجدران؛ كانت تتطلع إلى هذا كله في صمت عميق، ثم اضطربت شفتاها، وقالت في تردد، وفي نبرات صوتها ما ينم عن أسى وحيرة يتلاطمان في أعماق نفسها: هل لي أن أرى الطابق الأعلى؟
- بالطبع. وحينما ارتقتا إلى الطابق الأعلى، قالت الخادم وهي تشير بيدها إلى باب غرفة على يسار البهو - يزور سيدي بين حين وآخر ضيوف، فيحلون هنا. لكل حجرة من هذه الحجرات خزانة ثياب، فيها منامات ومناشف، وفيها كل ما يحتاج الإنسان إليه من أسباب الراحة. أن كل ما ترينه يا سيدتي لينبئك بشغف سيدي بالحياة الرتيبة.
- وهل سيدك وحده هو الذي يفعل كل هذا؟.
- نعم، وهمست كأنها تحدث نفسها. . . يا للعجب! وقالت والخادم تفتح باب إحدى حجرات الضيوف، وقد خالج صوتها نغم عذب يفيض رخامة وعذوبة.
- هل أستطيع أن أرى غرفة نومه؟ - بالطبع.
وفتحت الخادم باباً كبيراً على يسار، وقالت - تفضلي.(812/54)
ولكن الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين، تلكأت في الدخول، إذ لم تجد في نفسها القدرة على ذلك، فراحت تتطلع من الباب. وكانت الحجرة تسبح في نور أبيض، كل ما فيها كان يسطع به، حتى النوافذ، وآلة التلفون. . . وكان جوهاً يغمر القلب سكينة وغبطة، ثم دخلت الحجرة بخطى وثيدة وطفقت تتطلع كشأنها في كل شئ، ولكن عينها علقنا بصورة وضعت على منضدة بيضاء، بين ستارين أبيضين، وقد حفت بها وورد بيضاء، فسارت إليها غير واعية، والخادم واقفة كالصنم، ترقب حركتها، وتتابع خطاها، فقد كشف هذا كله من أمرها ما قوى الريبة في نفس الخادم، ثم دنت السيدة من المنضدة الصغيرة البيضاء، ومالت عليها، وراحت تتطلع إلى الرسم ثم امتدت إليه يدها. لكأنها تحلم، وتناولته، وأدنته من عينيها وكانت الخادم إلى جانبها تقول لها:
هذه زوج سيدي التي ماتت، وفي كل يوم لا بد من تغيير الورد، فليس من شئ يخرجه عن طوره ويحنقه على إلا أن أهمل تغيير هذا الورد الأبيض الذي يحف بصورتها.
وكانت إذ تقول هذا تنقل عينها بين الصورة والسيدة، لشد ما تشابهان! العينان الدعجاوان. . . الأسنان النضيدة كعقد من اللؤلؤ، والفم الصغير، والشفتان الغليظتان كأنها عناب يقطر خمراً وشهوة. . . والأنف الأقني والذقن المستدير! ما أشد ما تتشابهان في هذا كله. . . ولكن محيا السيدة الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين تظلله سحابة رقيقة من أعباء وخور، كان شاحباً قليلاً، كلا. . . هذا التشابه لا يمكن أن يكون بين شخصين إلى هذا الحد. . . وكان قلب الخادم يخفق وهي تحدث نفسها بهذا كله. . . وكان ثمة شعور مهم يعتصر قلبها في قلق وحيرة، ويهتف في أعماق نفسها أن ثمة أمراً يوشك أن يحدث، ولكنها لا تكاد لفرط اضطرابها أن تتبينه جلياً.
وكانت السيدة تتطلع إلى الصورة. . . وعلى حين فجأة صرخت، ولوحت بالصورة ثم ألقت بها في ركن الحجرة. وفزعت الخادم فصرخت هي أيضاً: ماذا؟ فعلت؟ لكن السيدة الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين والمحيا الشاحب الحزين، ألقت بنفسها على حافت السرير محطمة القصب منهوكة القوى، متعبة الحس. . . ثم دفنت رأسها بين يديها، وقالت بصوت أجش محموم.
كلا، سأبقى هنا، لن أخرج. وسأنتظره، والورد الأبيض لن يكون للصورة بعد الآن. . .(812/55)
احمليه إلي.
أنقرة
فيصل عبد الله(812/56)
العدد 813 - بتاريخ: 31 - 01 - 1949(/)
قروية فيلسوفة
كلا يا صديقي! لا أريد أن تبيض صحيفتي! كان العشاق لا يطيقون الرقيب وله عين، فكيف يطيقونه اليوم وله عين ولسان، وقلم سلطان؟ دعنا من حديث شرق الأردن والعراق والجامعة، وتعال أحدثك حديثا رفيقا رقيقا، إن خلا من الفائدة فلا يخلو من اللذة، وإن بعد عما يشغل الناس فلا يبعد عما يشغل النفس:
أم عامر قروية شيخة، تعد الستين في سرها، ولكنها كسائر النساء لا تجاوز الثلاثين في جهرها. وهي في سبيل التدليل على استحارة شبابها واكتمال قواها تتحامل على نفسها، فتحلب الجاموسة، وتملأ الزير، وتخبز الفطير وتكنس الدار وتكسح الزريبة وتعلف الماشية وتطهو الطبيخ، وتحمل في عنقها مفتاح الحبوب والنقود واللبن والكرار، فلا يستطيع أحد من أولادها وأحفادها أن يصل إلى شئ من أولئك إلا عن يدها. فإذا أشفقت عليها كنتاها ورغبتا في أن تعيناها على شان من شؤون المنزل، قالت لهما في كبرياء وأنفة: أنا لا أزال صبية مثلكما! عليكما الغيط، وعلي البيت! والحق أن السيدة أم عامر قوية ذكية: تمرست الشدائد فازدادت مرة، وتصرفت في الأمور فاكتسبت خبرة واضطربت في المعاش على هوى الزمن القلب فتعلمت بالتجربة، وتفلسفت بالسليقة؛ فكلامها حكم، وحديثها أمثال ورأيها حجة. ومن أجل ذلك تميزت شخصيتها في المجتمع الريفي فأصبحت كالعرافة في العهد القديم، تستخيرها كل امرأة، وتستشيرها كل أسرة. وهي إلى ذلك طويلة الأنف تدسه في كل منزل، شرفاء الأذن ترهفها إلى كل مجلس؛ فلا يقع في العزبة حادث أو حديث إلا كان عندها علمه ومن لدنها ذيوعه.
رأيتها صباح يوم من أيام ديسمبر في الجرن تنزع الأغلفة عن أمطار الذرة المنداة وحفيدها الصغير نائم على كتفها، وكلبها الأبقع رابض بقربها، وحمائم البرج القريب ينتهزن غفلتها النادرة فيقعن من وراء ظهرها على جانب المفرش يقتلعن الحب من قوالحه، وكان الفلاحون ونساؤهم قد خرجوا إلى الحقول، صغارهم ليسيموا الأنعام في البرسيم الغض، وكبارهم ليطهروا المصارف من الغرين الراسب، فلم يبق في الضيعة إلا عجوز تستدفئ بالشمس، أو طفلة تلعب في الطين، أو دجاجة تبحث في الأرض. فأغراني هدوء المكان ودفء الجو، وما سمعته عن حال العجوز، على أن أذهب إليها، فحييتها ثم جلست إزاءها على أعواد الذرة اليابسة وسألتها: كيف حالك يا أم عامر؟ فأجابت العجوز بلهجة تنم على(813/1)
الرضا والغبطة: حالي خير حال والحمد لله! العيش مخبوز، والماء في الكوز فماذا أبغي فوق ذلك؟ فقلت لها: وهل يقنع أبن ادم؟ تبغين الأرض المملوكة، والدار المشيدة، والثوب الحرير، والمركب الفاره، واللحم في كل وجبة! فقالت وهي تضحك: هبني يا سيدي أصبحت (بدراوية) عندي الآلاف من الحقول، والمئات من العجول، والقناطير من الذهب والصناديق من الحلي، والأصونة من الثياب، فهل أنال من كل أولئك غير ملء الجوف وستر الجسم؟ أن الحلاوة التي تجدها في قالب السكر الصغير هي بعينها الحلاوة التي تجدها في قمع السكر الكبير. وإن اللذة التي تذوقها في رطل اللحم الذي تشتريه هي نفسها اللذة التي يذوقها البدراوي في الخروف الذي يذبحه. وإن الدائرة الضيقة التي أضطرب فيها أنا وعيالي، تجمع من متاع النفس والجسم ما تجمعه الدائرة الواسعة التي يركض فيها الباشا هو وأهله. فالمسألة إذن مسالة قلة وكثرة، لا مسالة نعيم وبؤس. وما دام القليل يكفيك من الكثير والصغير يغنيك عن الكبير فإن فضول العيش شغل وهم وفتنة. اسمع أقص عليك من بعض أمري ما يثبت فؤاد القانع، ويغير اعتقاد الطامع. . . .
(بقية المنشور في العدد القادم)
احمد حسن الزيات(813/2)
النزاع في البلقان
للأستاذ عمر حليق
من بين القرارات الرئيسية التي اتخذتها الجمعية العمومية في اجتماعها الأخير بباريس مشروع جديد لإعادة السلم في البلقان، والسعي لتصفية الحرب الأهلية في اليونان.
وقرار هيئة الأمم هذا يطلب إلى جارات اليونان الثلاث: ألبانيا وبلغاريا ويوغسلافية، الامتناع عن تزويد الثوار اليونانيين بالأسلحة والمساعدة المادية والمعنوية، ويوصي اللجنة الدولية التي أنشأتها هيئة الأمم لفض النزاع في البلقان بمتابعة أعمالها. وقد خولها هذا القرار صلاحيات جديدة من شانها إذا نفذت أن تضع نهاية مرضية لهذا الصراع المؤسف المزمن الذي ابتدأ بين اليونان وجاراتها منذ أن وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها.
وهذا المشروع الذي نحن بصدده هو من وضع الصين وبريطانيا وفرنسا وأمريكا مشتركين. وقد نال أصوات جميع أعضاء هيئة الأمم باستثناء روسيا وحلفائها في دول أوربا الشرقية
وكان رأي الروس لحل مشكلة البلقان يرمي إلى وقف أعمال لجنة البلقان الدولية التي ألفها مجلس الأمن في السنة الماضية، وسحب الجنود الأجانب من جميع الجنسيات من اليونان، ثم حمل الدول المتنازعة على الدخول في مفاوضاتلإيجاد تصفية نهائية.
وطبيعي أن هدف الروس في هذه الدعوة هو إقصاء الجنود الأمريكيين والبعثات العسكرية الانجلوسكسونية التي تدير الجيش النظامي اليوناني، وترك الحالة مرهونة بالقوة الكامنة لدى الثوار اليساريين اليونان والتي ترعاهم حكومة موسكو في شكل لا يتخذ صورة المساعدة العلنية التي يقوم بها الأمريكان في اليونان وتركيا، والتي تتخذ شكل السيطرة السياسية والاقتصادية التامة، خصوصا في اليونان وقد كبت هانسون بولدوين المعلق العسكري لجريدة النيويورك تايمس الأمريكية منذ مدة يقول إن انتصار روسيا في حرب البلقان يكشف عن وسيلة الصراع التي تدفع فيه روسيا الولايات المتحدة إلى حرب اقتصادية تستنفد القوى الاقتصادية الأمريكية وتعقد العلاقات والتيارات الاقتصادية والتجارية في عالم ما بعد الحرب. وقد عد هذا الكاتب عمليات روسيا في اليونان انتصارا لأن مضي عام على احتلال الأمريكان مكان الإنجليز في اليونان، وإنفاقهم 250 مليون(813/3)
دولار بموجب شريعة ترومان خلال السنة المنصرمة، قد أنتج عكس ما كان يقدر له صناع السياسة في أمريكا. فقد زاد عدد الثوار اليونان من 10 آلاف إلى 25 ألفا، وتراكمت على الإدارة الأمريكية التي تتولى تنفيذ شريعة ترومان في اليونان أعباء مالية جسيمة اضطرتها إلى أن تطلب من الكونغرس تخصيص ضعف هذا المبلغ (500 مليون دولار) للسنة الحالية. أضف إلى ذلك أن اليساريين اليونان قد تمكنوا من التركز في مواقع ستراتيجية جديدة تتوغل في الأراضي التي كانت تسيطر عليها الحكومة اليونانية في السنة الماضية.
ولنعد إلى محاورات هيئة الأمم:
لقد رفض المشروع الروسي بأكثرية ساحقة، وكانت حدة النقاش بين الروس وحلفاء الغرب بصدد المشكلة البلقانية في جلسات هيئة الأمم من أعنف ما شهدته هذه المؤسسة من نقاش. فقد حمل المسيو فيشينسكي وهو قانوني ضليع وخطيب مصقع على لجنة البلقان الدولية وطالب بحلها معددا الأخطاء والتحيز الذي بدا منها بفضل ما سماه (مهزلة التدخل) الأمريكي في أعمالها وتوصياتها وفي سعيها لتوطيد الملكية اليونانية إمام مقاومة ما سماه فيشينسكي العناصر التقدمية الشعبية.
ولعل من الطريف مقارنة فيشينسكي في تعداده أخطاء لجنه البلقان بدفاع زميله ومواطنه يعقوب مالك المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن عندما تعاقب المندوبون العرب بالخطب وبالمذكرات على الكشف عن تآمر وأخطاء لجنة التقسيم الدولية بفلسطين ولجنة مراقبة الهدنة. . .
وحاول المندوب الروسي أن ينفي التهم عن حلفائه البلغاريين والألبانيين واليوغسلافيين فقال إن أزمة النزاع في اليونان ليس مبعثها تدخل جارات اليونان، ولكن مبعثها فساد النظام والإدارة السياسية في حكومة أثينا، وأن أية محاولة لتعزيز هذه الحكومة لن يضمن استقرار السلم في البلقان وهي منطقة في مسيس الحاجة إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وهو إصلاح لا يتم إلا بتوطيد السلم الحقيقي. أما أجوبة اليونان عن ادعاءات الروس فإنها تشير إلى أن اليونان فريسة عدوان منظم من جاراتها الشيوعية، وهذا العدوان يتخذ شكل اعتداء حربي مسلح يشترك فيه الجنود البلغاريون والألبانيون واليوغسلافيون مع الثوار اليونان برعاية حكومة موسكو ومساعدتها المادية والمعنوية. ولذلك فإن مأساة(813/4)
الصراع في اليونان ستنتهي حتما إذا امتنعت روسيا وأعوانها عن تغذية الثوار اليونانيين. ويقول ممثلو حكومة اليونان في هيئة الأمم إن الشعب اليوناني في منطقة الحكومة وفي منطقة الثورة على السواء يرغب في السلم، ولن يتم له تحقيق هذه الرغبة إلا يوقف تدخل الدول المجاورة.
ويعزز رأي اليونان أصوات سادة هيئة الأمم المتحدة وهم الانجلوسكسون، وقد استطاعوا إقناع أعضاء الهيئة بتخويل اللجنة الدولية في البلقان صلاحيات جديدة يعززها من الخلف نفوذ لايك سكسس عسى أن يستقر السلام في تلك المنطقة التي هي برميل البارود في حروب أوربا الشرقية.
ويقول تقرير نشر في لايك سكسس مؤخرا إن اللجنة الدولية المذكورة معززة بقرار الجمعية العمومية قد نجحت مبدئيا في تقريب وجهات النظر بين الحكومة اليونانية وجاراتها على أسس جديدة قد تسفر - إذا استمر هذا الجو الهادئ نسبيا الآن في البلقان - عن خطوات عملية جدية لتصفية نهائية. . . .
(نيويورك)
عمر حليق(813/5)
أبو عمرو بن العلاء
للأستاذ عبد الستار احمد فراج
(لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شيء كان ينبغي أن
يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء)
يونس بن نجيب
القرجة
ما بال هذا الشيخ العلاء بن عمار وأبنه الفتى أبي عمرو يضربان في إحدى صحاري اليمن مصعدين إليها؟
أما أكبرهما فيجلله الشيب ويغشيه الوقار وتنبئ طلعته عن عراقة النسب وكرم النجار وان كانت تبدو عليه رهبة الخائف وخشية المطلوب.
لكن الفتى أبا عمرو - وقد خنق بضعا وعشرين سنة - تتبين في تقاسيم وجهه محايل النجار ولمحات الذكاء، ويطالعك بالبصيرة النفاذة والفكر اللماح، وتتوسم فيه لهفة التعطش إلى انتهال المعارف وارتشاف العلوم.
وبينما الصمت باسط أجنحته على هذا الفضاء المترامي إلا ما تسمعه من همس أخفاف الإبل وهي تلامس صفحة الرمل المنبسطة، انطلق صوت إعرابي يغذ السير وهو ينشد:
لا تضيقن بالأمور فقد تف ... رج غماؤها بغير احتيال
ربما تكره النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
فاقبل الشيخ وهو يغالب لهفة تملك عليه نفسه يسأله عما وراءه فكان جوابه: مات الحجاج.
لك الحمد يا ربي! نطقت بها أسارير العلاء قبل أن يترطب بها لسانه بين فكية، وأخذت وسامة الارتياح تجلو عن صفحته جهامة الإفزاع، وأدار وجه راحلته ليصرفها إلى البصرة بعد أن تقبل التهنئة من فتاه بسلامته من طلب الحجاج مما جعله يركب أهوال الصحراء فيطلب النجاة وقد ضم إليه أبنه خشية أن تمتد إليه يد الإيذاء. أما أبو عمرو فهو - كما يحدث عن نفسه - كان أكثر فرحا بالإنشاد من سماعه بنبأ الوفاة. أليس ذلك الإعرابي يقول: (له فرجة كحل العقال) بفتح الفاء من الفرجة لما كان مخرجا من الهم المعنوي وهو(813/6)
يحفظها من قبل بالضم لما كان بين الشيئين الحسيين؟
نسب أبي عمرو:
اشتهر بكنيته أبي عمرو واسمه الحقيقي زبان بن العلاء بن عمار أبن العريان بن عبد الله بن الحصين، وينتهي إلى مازن من تميم، كان من أشراف العرب ووجهائها مدحه الفرزدق بقوله:
ما زلت أفتح أبواباً وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
وغضب مرة فهجاه ثم جاء إليه معتذرا فقال أبو عمرو:
هجوت زبان ثم جئت معتذراً ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
ويكفي في مكانته من قبيلته أن أباه كان من الرجال الذين اتجهت إليهم أنظار الحجاج فطلبه للقضاء عليه.
نشأته وشيوخه
ولد بمكة في أواخر العقد السابع من القرن الأول الهجري، وبها وبالمدينة كان تلقيه لكتاب الله حيث كان يسارع إلى حفظه كل فتى من أهل الحرمين وغيرهما من الأمصار إذ ذاك. وكان علماؤها يتلقون روايات القرآن المختلفة عن رسول الله ويختارون منها ما وافق شروطهم في الاختيار؛ وكانت رواية هذا أو بعضه تعد - بجانب رواية الحديث - أعظم ما يهتم به المتعلمون وأكرم ما يسعى إليه الراغبون. ولكن أبا عمرو لم يدع أحدا من نابهي القراء وعرضها عليه. وأقدم من أخذ عنه من أهل مكة مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 هـ وعطاء أبن أبي رباح المتوفى سنة 114، وعكرمة بن خالد المخزومي المتوفى سنة 115، وعبد الله بن كثير أحد القراء السبعة المتوفى سنة 120، ومحمد بن محيصين أحد القراء الأربعة عشر المتوفى سنة 23، وحميد بن قيس الأعرج المتوفى سنة 130.
وأخذ من شيوخ المدينة عن يزيد بن رومان المتوفى سنة 120 وأبي جعفر يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة المتوفى سنة 130 وشيبة بن نصاح المتوفى سنة 130 وقد تلقى عن هؤلاء الثلاثة أيضا نافع أحد القراء السبعة. ورحل إلى البصرة والكوفة فأخذ من شيوخ البصرة عن نصرين عاصم ويحيى بن يعمر اللذين توفيا سنة90 القرآن والنحو؛ وأخذ عن(813/7)
الحسن البصري المتوفى سنة 110 أحد القراء الأربعة عشر القرآن، وعن عبد الله بن أبي أسحق الحضرمي المتوفى سنة 117 القرآن والنحو، وتلقى بالكوفة القرآن عن سعيد بن جبير المتوفى سنة 95 وعاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة المتوفى سنة 127 فأبو عمرو وهو أحد السبعة المشهورين إلى عهدنا هذا مع بقية العشرة إلى الأربعة عشر، أخذ عن كل من سبقه في السن وشارك من قاربه إلا أبن عامر بدمشق فانه لم يأخذ عنه ولم يشاركه ولعل أبا عمرو لم يكن - كما يبدو من طلب الحجاج لأبيه - من المقربين إلى خلفاء بني امية، فلم يحاول أن يقدم عاصمتهم ويأخذ عن قارئها عبد الله بن عامر، وبخاصة إذا علمنا انه زار دمشق في دولة العباسيين ثم أستقر به المقام في البصرة إلا ما ندر حيث تهيأت له إمامة القراءات والأدب بعد أن طوف بالأمصار وخاض البوادي.
علمه:
ليس بالكثير على رجل كأبي عمرو، وقد أخذ عن أعلام الإسلام وأجلة العلماء أن تكون له مكانته في العلم ملحوظة، فيقول في تلميذه أبو عبيده: كان أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب والشعر. وأن يقول تلميذه الأصمعي: سألت أبا عمرو عن ألف مسألة فأجابني فيها بألف حجة. وأن يعتز أبو عمرو بما وفقه الله إليه فيقول: لقد حفظت في علم القرآن ما لو كبت ما قدر الأعمش على حمله. ويقول ما رأيت أحدا قبلي أعلم مني. ويزيد الأصمعي على ذلك: ولم أر بعد أبي عمرو أعلم منه. وفيه يقول تلميذه يونس بن حبيب: (لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شيء كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء).
وهو إلى جانب شيوخه الذين فاق بعددهم كل من عاصره كانت دفاتره ملء بيته إلى السقف.
أدبه
يروى أبو عمرو الشيباني: ما سألت أبا عمرو بن العلاء عن حماد إلا قدمه على نفسه. ولا سألت حماداً عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه. وإن كتب الأدب واللغة لتروي شروح أبي عمرو للشعر وروايته له وذوقه الأدبي في تخير أجودها، فأبو الفرج في أغانيه يقول: كان أبو عمرو: يرى أن بشار بن برد أبدع الناس بيتا حيث يقول:(813/8)
لم يطل ليلى ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم
وأنه أمدح الناس بقوله:
لمست بكفي كفه ابتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
وأنه يقول: أحسن شعر قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الصمة:
تقول ألا تبكي أخاك وقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصبر
وأنه لم تقل العرب بيتا قط أصدق من بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وكان يقول: أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج:
وكانت له موازنات بين الشعراء، فهو يشبه جريراً بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة. وكانت له تشبيهات جميلة؛ من ذلك قوله: عليكم بشعر الأعشى فإني شبهته بالبازي يصيد ما بين العندليب إلى الكركي. وكان يقول: إنما شعر ذي الرمة نقط عروس تضمحل عما قليل، أو أبعار ظباء لها شم في أول شمها ثم تعود إلى أرواح الأبعار. وعرض عليه قول عدي بن الرقاع:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده الناس فرنقت ... في عينه سِنة وليس بنائم
فقال: أحسن والله وكان عنده شيخ مدني جالس فقال والله لو سمعت لحن معبد في هذا الشعر لكان طربك أشد واستحسانك أكثر وكان أبو عمرو لكثرة تنقله واتصاله بأهل البادية يعرف فصحاء القبائل فيقول: (أفصح الناس أهل السروات) وقد بلغ من قدرته أن وضع - كما أعترف - بيتا من الشعر دسه في شعر الأعشى وهو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فلم يلمس صنعة إلا بشار.
إقبال الناس عليه وتلاميذه:
إن رجلًا بلغ من العلم والأدب والمكانة ما بلغه أبو عمرو يكون قبلة الناس في مجتمعاته؛ فلقد روي أن الحسن مر بأبي عمرو وحلقته متوافرة والناس عكوف فقال من هذا؟ فقالوا(813/9)
أبو عمرو. فقال لا اله إلا الله! كادت العلماء أن تكون أربابا. كل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل يؤول).
ولقد نبغ من تلاميذه من أصبحوا حجة في الأدب واللغة والنحو والقراءات؛ فأبو عبيده والأصمعي وأبو زيد الأنصاري والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب ويحيى بن المبارك اليزيدي ومعاذ بن مسلم وسيبويه كلهم غرس يده وفيض بحره وثمرة علمه فكل فضل ينسب إليهم يشاركهم فيه، وكل علم إنما هو الذي فتح لهم أبوابه وأنار لهم سبله.
زهده:
إن هذه النفس الصافية التي انقطعت للعلم ونشره قد لجأت إلى بارئها أخلصت له راجية أن يشملها بعفوه شاكرة له توفيقه وجزيل نعمه، فما كان يدخل شهر رمضان حتى ينقطع عن إنشاد الشعر ويختم القرآن كل ثلاث ليال مرة. وكان نقش خاتمه:
وإن امرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
ولما بلغ به النسك مداه أحرق جميع دفاتره التي كانت ملء بيتهإلى السقف لينقطع إلى قراءة القرآن:
أصول قراءته وأثر شيوخه وقبيلته فيها:
كان لشيوخ أبي عمرو في القراءة أثر ولقبيلته أثر.
1 - فتسهيل الهمزة عادة لغوية للحجازيين تخالف قبيلة أبي عمرو، لكنه تأثر بشيوخه فكثيرا ما يشارك نافعا وأبن كثير وأبا جعفر وأبن محيصين وهم قراء مكة والمدينة الذين أخذ عنهم أو شاركهم فيمن تلقوا عنه.
2 - والإمالة عادة لغوية لقبيلته تميم ومن شاركها من سكان نجد؛ لهذا كانت الإمالة من أصول قراءة أبي عمرو إلا أن إمالته لم تكن كبرى، بل هي بين الصغرى والكبرى؛ فليس كقراء الكوفة ولا كقراء الحجاز. بل بين المذهبين. وغالبا ما يشاركه في الإمالة الأزرق من رواية ورش عن نافع إلا أن إمالة الأزرق صغرى وقد يزيد إنه يميل ما لا يميله أبو عمرو، وقد تكلفت كتب القراءات بشروط كل منهم فيما يمال.
3 - تسكين الوسط المتحرك من تخفيف قبيلة أبي عمرو، ولهذا كان التخفيف مما يسلكه(813/10)
في قراءته وقد يشاركه فيه غيره ومع هذا قد يتفق مع نافع وأبن كثير وأبي جعفر وأبن محيصين في فتح ياء المتكلم إذا وقعت بعدها همزة قطع مفتوحة مثل أني أعلم، ويتفق مع نافع وأبي جعفر في فتحها إذا وقعت بعدها همزة قطع مكسورة مثل من أنصاري إلى الله.
4 - الإدغام: يظهر أن الإدغام من عادة قبيلة تميم اللغوية. وللإدغام في القراءات أسباب وشروط وموانع فإذا وجد الشرط والسبب وأرتفع المانع جاز الإدغام. وأسبابه:
1 - تماثل الحرفين بأن يتحدا مخرجا وصفة كالباء في الباء
2 - التجانس: بأن يتفق الحرفان مخرجا ويختلفا صفة كالدال في التاء
3 - التقارب: بأن يتقاربا مخرجا أو يتقاربا صفة أو يتقاربا مخرجا وصفة. وقد اختص أبو عمرو بما يسمونه الإدغام الكبير فهو يحرص عليه ويمتاز به عن غيره من القراء، وقد يشاركه بعضهم في نوع منه، وقد تكفلت بتفصيل ذلك كتب القراءات
أما اختلاف القراء في أن الفعل بالغيبة أو الخطاب، أو أنه رباعي أو ثلاثيأو أن الاسم منون أو غير منون، وما شابه ذلك مما ليس من الأصول العامة ولا يعرف إلا عند فرش الحروف أي تلاوة الآيات فإن أبا عمرو كثيراً ما يوافق شيوخه الحجازيين فيما اختاروه.
وفاته
في سنه 154هـ تقريبا توفي أبو عمرو في الكوفة عند عودته من دمشق حيث كان في زيارة لواليها عبد الوهاب من بني العباس. قال أبو عمرو الأسدي: لما أتى نعي أبي عمرو أتيت أولاده فعزيتهم عنه، فأني لعندهم إذ أقبل يونس بن حبيب فقال: نعزيكم وأنفسنا بمن لا نرى شبها له آخر الزمان. والله لو قسم علم أبي عمرو وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهاداً. والله لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره ما هو عليه. ويروى أبن الجزري إن قراءة أبي عمرو في القرن الثامن ومفتتح التاسع كان عليها الناس بالشام والحجاز واليمن ومصر). ولقد كانت إلى عهد قريب منتشرة بصعيد مصر، ثم طغت عليها رواية حفص عن عاصم. رحم الله أبا عمرو رحمة واسعة.
عبد الستار أحمد فراج
محرر المجمع العلمي(813/11)
الأدب الشعبي في الكويت
للأستاذ أحمد طه السنوسي
إن إمارة الكويت بحكم بيئتها ونشأتها وتكوينها قد خلقت لها أدباً شعبياً مشبعاً بظروف تلك النشأة والبيئة والتكوين، فهي تقع بين بصرة العراق في الشمال والغرب، والمملكة العربية السعودية في الجنوب بعد توسط من المنطقة المحايدة، والخليج العربي (الفارسي سابقاً) في الشرق؛ وهي إمارة حديثة التكوين تاريخها لا يتجاوز الثلاثة قرون، وقد كان أكثر أهلها من القبائل النجدية والأحسائية، وبذلك نرى أن مرتعها عربي قح، كما نرى أن النجدية والأحسائية كان لها أكبر الأثر في أدبها الشعبي، فبدا قوياً صريحاً فيه الإلهام الصحراوي وفيه الصلابة البدوية وفيه شئ من الجفاف، ولكن الصحراء كثيرا ما أضفت عليه الجمال البارع وأمدته بروحها البريئة في غمرات عذبة حنون. وقد طرق الأدب الشعبي الكويتي جميع أغراض الشعر فأجاد فيها وأبدع، ولكنه لم يبلغ في ذلك شأوا بعيداً؛ لأن الكويتيين لا يولونه كثيراً من العناية والتدليل، إذ أن شعراءهم الكبار بأدبهم وأشعارهم الفصحى قد طغوا بها بعض الشيء على ذلك الأدب الشعبي المسكين.
بيد أن هناك ممن أستهوى الأدب الشعبي أفئدتهم وحفزهم على تشجيعه، فقامت في سبيله مدرسة أبن فرج وأبن فوزان، وامتازت تلك المدرسة بإلهام عذب وخيال خصب ومعان سامية ووشى جذاب، وبعد ذلك ولجت الكويت باب التطور والارتقاء وكانت على بابه منذ قليل وتطورت فيها الحالة الثقافية والعلمية والأدبية، وكان قمينا بالأدب الشعبي آنذاك أن يثب بنفسه ويطفر الطفرة الملائمة للتطور، ولكن التطور الحديث أضعف شوكة الأدب الشعبي على عكس ما كان متوقعاً.
وأنا أرى أن السبب في ذلك أن النفوس كانت مهيأة لاستقبال التطور استقبالا أنساها كل شيء، كما أميل إلى القول بأن الأدب الشعبي كان في بدايته قوياً صارماً فيه صلابة وجفاف أن أتستثنينا بعضه، ونفسية الشعب الكويتي نفسه ساكنة وديعة تميل إلى خيال الحقيقة لا حقيقة الخيال، كما أن تطور الحالة الأدبية والعلمية لم يكن تطورا كاملا تم في لحظات، بل ما زال إلى اليوم يدلف في دربه اللاحب ليصل إلى الأنوار والأضواء وبذلك وجد التطور هوى في النفوس الكويتية، هوى فيه مقدمات وتمهيدات تدعو للتطلع(813/13)
والاستطلاع عما يبقى من أضوائه في ثنايا الأفق. هذا وكانت النفوس متعطشة إلى الاستزادة من الثقافة العلم، فوجهت همها لتكملة ما يأتي به التطور ولمساعدة أشعته على النفاذ ولحشد جموع استقباله، فتضاءل الأدب الشعبي وهو ينظر كاسف البال إلى ذلك الأعراض، ولكنه ربما يسره في قرارة نفسه منتظرا ساعة النتيجة السعيدة لحداثة التطور، فتؤوب إليه النفوس وتدفع العلوم الطريفة والفنون الجديدةمريديه لان يحتفلوابه ويهيئوا له الظرف المناسب ليأتي بالثمرة المرجوة منه والتي أتت بعض أكلها حين لاقى الإقبال والابتسام، فكان مهدا لإصلاح النفوس وكان حافزا للهمم وكان دافعا للحماسة وكان موقظا للعزيمة والبسالة كما كان سبيلا للدعاية الصالحة. . .
كان العيد يزهو بدلاله ويرفل في غلائل نخوته، وكان يومه مشرقا مزدهرا، ونظر أحد الفقراء في الكويت إلى مباهجه ومسراته التي حرم منها، ثم أخذ يقول:
وين القماش اللي من الدر جبنا ... الله عليهم وان كلوا من تعبنا
هذي السنة صارت علينا فضائح ... أنتم تبون إفلوس واحنا مفاليس
قل أنتمأهل الجودات وأهل المروة ... مسير شئ حدث فيكم يا ناسي توه
أشوف بالوقت تاخدونا قوه ... يا ما حديتونا بعجر ودبابيس
ونحن إذ نستمع لهذا القول قد نفهمه وقد لا نفهمه وأستطيع أن اشرح بعض المعاني لبعض كلماته على سبيل المثال ليتسنى لنا فهمه والحكم عليه.
فوين: أين، القماش: اللؤلؤ، اللي: الذي، جبنا: أتينا، تبون: تريدون، إفلوس: دراهم، مير: لكن، توه: الآن، حديتونا: سقتونا، والعجر جمع عجر: عصا ملموسة الرأس، والدبابيس جمع دبوس وهو عصا في رأسها قطعة من قار أو حديد ولندع هذا وننظر إلى هذا الشعر الشعبي الذي طالما أحبه الأطفال الكويتيين ورددوه.
يا هل (أهل) الشرق مروا بي على القيصرية (حي كويتي)
عضدوا لي وتلقون الأجر والثواب
واطلبوا دختر (طبيب) العشاق يكشف علي
كود (يمكن) يمسح على جرحي ويبرا صوابي
وقال الشاعر الشعبي الكويتي الكبير (فهد بورسلي):(813/14)
يا طير يلى كلما طار ... زاد العنا والهم فيَّه
من يبتلي بحب البكار (الأبكار) ... ضاجت (ضاقت) عليه ارض وسيعية (واسعة)
وفقت أنا والبال محتار ... يا هل النظر ردوه عليَّه
ما من جريب (قريب) يأخذ الثار ... من ساهي العين السجية
وفهد بورسلي أضعه في مرتبة كبرى من الشعراء الشعبيين في الكويت، ولكن المأخذ الأوحد الذي أخذه عليه هو أن شعره يشوبه قليل من الانحلال في تركيبه، بيد أنه شاعر له من لطف المشاعر وجميل الإشارات وبديع اللفتات وبهيج المعاني ما يقدمه في صفوف الشعراء:
وقال محمد فوزان:
أهلا عدد ما هللوا بالمساجد ... أو عددما ركب سرى يخبط البيد
بكتاب من نظمه سواه القلايد ... ومرصع بالدر يزهي على الغيد
وقال عبد الله الفرج في الغزل:
عزيز لمثلي ما يوني ونينه ... ومسهد بين التجافي والأبعاد
ما يختفي منه غرام بيبنه ... نوحه إذا نام الخليلون يزداد
ويلومك اللي ما بدا بالضغينه ... ولا شفع قلبه من الخود مياد
ولي ملاحظة على أقوال هذين الشاعرين الكبيرين (أبن فرج وأبن فوزان) فكثيرا ما أرى شعرهم محتفظا بالصبغة الفصحى، فتلقى فيه كلمات عربية فصيحة كثيرة لو أنعمت النظر في قراءتها وفي بحثها على حدة ألفيتها ترجع بالفكر إلى كلمات الشعر الجاهلي، إما وقد زار أبن فوزان بعض البلاد الرائعة كلبنان الجميل ووجد الرقة والعذوبة في الألفاظ الشعرية السهلة لا في التضخم الجاهلي، فسوف يتحول وسوف يضفي بدائع لا في التضخم الجاهلي فسوف يتحول وسوف يضفي بدائع الثقافة الجديدة مع الألفاظ الخمرية على شعره الشعبي الرائع فيزداد حلاوة وعذوبة ويبزغ لنا من جديد مختالا حالما تسرح العقول في سكرات من الحنين حين تتلاعب به لوامع الشفاه.
وقال أحد شعراء الكويت النبطيين:
لا تبتلي ذا الناس في شيل الأثقال ... تبلى بهم مثل الطفل في رضاعة(813/15)
لو طاح منهم طايح ما حد شال ... حمله ولو شول لك الله كراعه
رجل بليا مال ما هو برجال ... لو هو على الشدة طويل ذراعه
وقال أحدهم في الهجاء:
شاقول ياهل الهوى شاقول ... وهذا نصيبي من الخلاني
ومضمرا والشمر منسول ... ليجيت احب النحر غطاني
والحب بفتح الحاء عندهم هو التقبيل، ولعل تلك الكلمة مستعملة في الجو الريفي المصري ونستطيع أن نلمس الجمال والبراعة في الشطر الثاني من البيت الثاني إذ قد طغى جماله فتتزاحم في الفكر أخيلة حالمة تشعر المرء بالانتعاش في قرارة نفسه، كما تشعر تلاوة الشطر الأول من نفس البيت.
أما الرثاء فإن الكويتيين كما عرفتهم لا تحتل الأحزان والأشجان مكانا في قلوبهم، وإن احتلت فالصمت والهدوء ديدنهم. ولقد تعجب إذا مات لأحدهم عزيز فتراه ساكنا لا يفعل ما يفعل سواه في متباين الأقطار العربية. وقد تعجب لدهشته من كثرة عباراتك المواسية ورثائك وتفجعك من هول المصاب؛ لأنه يرى الموت أمراً محتوماً ولا راد لقضائه، فهو فيلسوف هذا الظرف الحزين، وبالرغم من ذلك فقد اخترق الأدب الشعبي الطريق ليبن لنا أن الكويتي وإن كان فيلسوفا ساكنا إلا أن في فؤاده من الحزن دمعا لا يتعدى نطاق القلب وسوبدائه، فأجرجالشعراء دوراشعبية في الرثاء تؤثر في النفس تأثيرا عميقاً، من هذا قول أحدهم:
الله من خطب دهانا بالأبكار ... أدعى القلوب تشب فيها السعاير
يا موت حسبك من تسقيه الأحرار ... كاسات ليعات تفت المراير
وسط اللحود وبين ملتف الأحجار ... في ذمة المولى رهين القباير
ولقد احتل الأدب الشعبي مكانة عظمى من الأغاني والأناشيد الكويتية بأنواعها، وأنا أذكر بيتا من نشيد نبطي هو:
لا بتي (يا أصحابي) حنا شبوب الحرايب (الحروب) ... وأنطقت حنا سنا نارها
كما أذكر أغنية من (أغاني العوازم) وهي نوع من الغناءتطرق إليه الأدب الشعبي الكويتي:
وأمسي الضحى باديا فريح (فريق) مصبح(813/16)
جينا المطوع (أتينا الشيخ) يحدث أمي الأبصار
يقول: طرد (أي طالب) الهوى نارن (نار) شمالي
والله لا اسمع حديثه لو يجنه (يجن)
واتبع هوى البيض في هرجن (الكلام) يقالي
وملاحظتي الأخيرة عن هذا الأدب الشعبي أنه لم يتبذل في القول، ولم يتخذ عامي الكلام سبيلا للنكات الفاحشة ولا أغراض طيبة تجني الكويت من ورائها كل خير وكل فائدة.
وما هو إلا قليل من العناية وقليل من التشجيع ومزيد من الثقافة الجديدة التي أفعمت سماء الكويت وأرضها تضفي على الأدب الشعبي حتى يكون في مصاف الآداب الشعبية. وأنا أرى أن الكويت في حاجة ماسة إليه لتتخذه وسيلة لدعايتها الوطنية، وقد جربت فيه ذلك فوجدت الدرع الفولاذي والفكر العبقري.
ولا يغيب عنا أن اللهجة الكويتية الأثر البين في الأدب الشعبي في الكويت، وسأبحث تلك اللهجة في مقال مقبل بحثاً مستفيضاً، إذ أن قراء العربية في حاجة ماسة لأن يعرفوا الشيء الكثير عن الكويت، وقد ارتقت رقيا باهرا في أوقات قصيرة، بيد أن وهن الدعاية وقلة أساليب التعارف ووسائلها بين أقطار العالم العربي يجول دون إبداء الحقيقة والمعرفة الصحيحة، وما أحوجنا إلى إبدائها ونحن في فترات أحوج ما تكون فيها إلى التآزر والتضامن في جميع عناصر الحياة.
أحمد طه السنوسي(813/17)
أساليب التفكير:
التفكير في الشرق القديم
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
كل منا يسعى إلى استكناه أسرار الوجود، وكشف الستر عن خباياه، تتتابع على مشهد منه ظواهر الطبيعة، وتتوالى إمام ناظريه مواكب الأحياء وتتري تحت سمعه وبصره أحداث الإنسان: فيعمل الفكر بغية اكتشاف أسباب هذه الأمور، والبواعث التي تحدثها وتسيرها والغايات التي تتجه إليها والحكمة الكامنة وراءها. وجملة القول أن الإنسان يحاول تفسير ما يبصر وما يسمع وما يعي، وتختلف تفسيراته تبعا لتقدمه الفكري ومرتبته من التطور العقلي.
من أجل ذلك اختلفت تفسيرات الطفل عن تفسيرات الراشد المكتمل، وتفسيرات المجنون عن تفسيرات العاقل المتزن، وتفسيرات البدائي عن تفسيرات المتمدن المتحضر. اتفق الجميع على أمر واحد: هو البحث عن الحقيقة ما امتدت بهم أسباب الحياة، ولكنهم يسلكون سبلا ثلاثا أقصرها وأسلمها سبيل العلم، وأرحبها طريق الفلسفة وأدناها وأكثرها التواءودورانا حول الحقيقة طريق التفكير الخرافي.
وقد حدثت القراء في مقال سابق عن التفكير الخرافي في حياة الفرد، وانتهيت معه إلى أنه برغم بعده عن الحقيقة الموضوعية وانحرافه عن القصد في محاولة بلوغ الواقع، يعد وثبة أولى في طريق العلم والعرفان، ومحاولة ساذجة لكشف أسرار الوجود ومرحلة لازمة في التطور الفكري لا بد مسلمة إلى ما هو أرقى: إلى الفلسفة والعلم.
والبشرية في تطورها الفكري كالفرد في تطوره الفكري. لم تكشف عن قوانين الجاذبية، ومدار الأفلاك، والقوة الكهربائية، والطاقة الذرية، إلا بعد جهاد عنيف، وكفاح فكري شاق دام آمادا طوالا، ومحاولات مضنية كان أولها التفكير الخرافي الذي يسم العقل البشري في طفولته. فالتراث الفكري الذي خلفته أجيال البشر يبين أن أول مرحلة من مراحل التفكير كانت مرحلة دينية صرفة يمتزج فيها التفكير بالخيال.
ونحن نعلم أن الفكر الإنساني بزغ أول ما بزغ في الشرق القديم: عند المصريين والفرس والآشوريين والبابليين والهنود والصينيين. ونظرة عامة إلى ما خلف هؤلاء من محاولات(813/18)
تفسيرية نكشف عن غلبة العاطفة الدينية، وسيطرة التقاليد الموروثة، والجنوح إلى الخيال.
ولا بد لتفكير يصدر عن الأهواء والعواطف، ويستمد المعارف من الخيال والأوهام، ويستهدف السعادة في الدنيا والآخرة، لابد لتفكير هذا شأنه أن ينتج عقائد دينية، وفنونا جميلة، وحكمة أخلاقية كل ذلك في مزيج واحد متفاعل لا فرق فيه بين علم وفن ودين وأخلاق، حتى لنجد علماء القرون الغابرة هم شعراؤها وحكماؤها وكهنتها في آن واحد.
ألا ترى إلى الكهنة المصريين في العهد الفرعوني يرعون الدين، ويحمون الفضيلة، ويحملون رسالة العلم، ويرفعون لواء الحكمة، ويوجهون سياسة الدولة، ويتحكمون في مصير الشعب؟ أو لم يكن شعراء العرب في بداوتهم، وشعراء اليونان قبل عصر الفلسفة قادة الفكر وقادة المجتمع في هذه الربوع؟ فامرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير في جزيرة العرب، وهوميروس وصحبه ممن طمست الأحقاب أسماءهم في بلاد اليونان.
وهل ننسى أن زراد شت حكيم الفرس كان داعية دينية لعقيدة تحمل بين ثناياها فلسفة ناشئة؟
وهل كان بوذا الحكيم الذي خلد في تاريخ الفكر بحكمته الأخلاقية وتحرره الفكري وآرائه السياسية، إلا كاهنا لإحدى القبائل الهندية الكبرى وابنا لشيخها؟
وجملة القول أن التفكير الخرافي في الشرق القديم يتصف بخصائص ثلاث: الخضوع لسلطان الدين أي التقاليد الموروثة المقدسة، والاتجاه الخيالي ومن هنا كانت صلته الوثيقة بالفن، والنزعة الأخلاقية.
وعلينا الآن أن نستعرض أمثلة من الفكر الشرفي القديم مبتدئين بالتفكير في مصر القديمة.
لم يكن للمصريين دين واحد، بل أديان عدة اختلفت باختلاف الأقاليم، وتطورت مع تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في وادي النيل. وقد برزت الديانة المصرية القديمة كعامل هام في حياه الشعب، في عهد مشيدي الأهرام كخوفو وخفرع وأوناس، وفي عهد الملوك الغزاة كتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني.
والذي يهمنا في هذه الديانةهو تصور المصريين للكون، وسذاجة تفسيراتهم لأحداثه: فهذا أمنحتب الرابع، الذي عبد آتون (قرص الشمس) فسمي لذلك (أخناتون) أي روح آتون، ينشد مخاطبا قرص الشمس معتبرا إياه علة لظواهر الطبيعة، وقوة روحية تدبر الكائنات:(813/19)
(يا شمس النهار، يا من تخشاه البلاد القاصية
أنت موجد حياتهم
أنت الذي خلقت في السماء نيلا
لكي ينزل عليهم ولهم.
يتساقط الفيضان على الجبال كالبحر الزاخر
فيسقى مزارعهم وسط ديارهم.
ما أبدع تدابيرك يا إله الأبدية. . .)
هذا ولم يكتف المصريون بعبادة الشمس من حيث هي مصدر الحياة، وإنما قدسوا النيل، واتخذوا من السماء إلها، ومن الكواكب أربابا، كما يتبين من دعاء ورد في إحدى أوراق البردي ذلك نصه: (أنت الإله الأكبر، سيد السماء والأرض، خالق كل شئ، يا إلهي وربي وخالقي، قو بصري وبصيرتي لأستشعر مجدك، وأجعل أذني صاغية لأقوالك. .)
وهكذا يتبين تأليه المصريين لقوى الطبيعة بحكم بداوتها الفكرية، شأنهم في ذلك شأن الطفل: موضوعات الدين في ذهنه صور حسية خيالية، لم ترق بعد إلى المستوى العقلي التجريدي؛ الطفل الذي يميل بحكم طوره العقلي إلى أن يضفي على الكائنات جامدة كانت أو حيوانية صفاته الإنسانية؛ فيرى الشمس والقمر والنجوم حاصلة على صفات الكائنات الإنسانية، من قدرة وإرادة وفهم، المر الذي يجعله حينما يصطدم بحائط أو باب صدمة تؤلمه، ينهال عليه ركلا، مفرغا فيه حتفه كما لو كان الحائط أو الباب ذا إرادة شريرة وكما لو كان يحس الألم كما يحسه هو.
وهذا يذكرنا بأحد الأباطرة القدماء الذي انهال على مياه البسفور ضربا بالسلاسل لأنه اجترا فاكتسح أسطوله.
فسلوك المصريين القدماء إزاء قوى الطبيعة المعبودة، وسلوك الطفل إزاء الباب، وسلوك الإمبراطور الحانق على البسفور سلوك ناجم عن تصور خرافي للحوادث، وتعليل وهمي لها.
آمن المصري القديم بخلود الروح. ولا يسع من يستعرض مقابره ونقوشه ومعابده إلا أن يستوثق من سيطرة هذه العقيدة على ذهنه سيطرة أذهلته عن واقع الحياة، ومن شوقه(813/20)
المتحرق للعالم الآخر شوقا أطلق الخيال يجوب في آفاق هذا العالم المجهول، فيرسم صورة لحياة الروح بعد مغادرة الجسد، صورة هي لوحة فنية لا أثر للعقل فيها، ولا فضل للبرهان في تثبيتها، إنما الفضل كل الفضل للخيال الذي أنتجها، والعاطفة الدينية التي ألهمتها.
هذا (أوزوريس) الإله الصالح (رمز الخير والعدالة) يرأس محكمة العدل الكبرى، يجلس على عرشه في صدر قاعة يكلل سقفها القناديل وعلامات الحق، وأمامه أحفاده أبناء (حورس) وآلهة أركان العالم الأربعة، ومعهم اثنان وأربعون قاضياً، بعضهم برؤوس بشرية، وبعضهم برؤوس حيوانية، وعلى راس كل منهم ريشة نعامة رمزا للمعبودة (معت)، ممثلة الحق والاستقامة والعدل، وفي يد كل منهم سيف لقتل الخاطيء، ووظيفتهم ملاحظة ما يظهر في كفتي الميزان الذي يزن الحسنات والسيئات.
وإمام (أوزوريس) وحش مفترس متحفز لافتراس الميت إذا رجحت كفة خطاياه. ثم يقف الميت على باب قاعة العدل خائفا مرتعدا في الساعة الرهيبة التي يقرر فيها مصيره، ويترافع عن نفسه، ثم يصدر الحكم بالبراءة أو الإدانة؛ حتى إذا انتهت المحاكمة أمر (أوزوريس) بالفائزين إلى الجنة وبالخاسرين إلى الجحيم.
هذه أفكار الخلود والثواب والعقاب، كما يصورها كتاب الموتى تصويرا حسيا خياليا، دون برهان ودون تفكير عقلي خالص. . . إنما هي محاولة فكرية لمعرفة ما وراء الموت، ومصير المذنب ونهاية المحسن، محاولة استخدمت فيها الوسيلة الوحيدة التي يسمح بها ذلك الطور من النمو العقلي: طور الخرافة والعاطفة.
وما دمنا بصدد الحديث عن المذنب والمحسن، أو عن الخير والشر فلننتقل إلى (زرادشت)، أبرز حكماء الفرس، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وخلف دينا لا يزال له أتباع حتى اليوم في ربوع الهند وغيرها.
وقف زرادشت حائرا في عالم متناقض فيه الخير والشر، والجمال والقبح، والسعادة والشقاء؛ وأعمل فكره محاولا تفسير شطري الوجود فتصور العالم نهبا لروحين متصارعين: أورموزدا وأهريمان. الأول إله الخير، صانع السماء والأرض والبشر والملائكة الأبرار؛ والثاني إله الشر، علة الموت ومفشي الرذائل ومحدث الأمراض والشياطين. الأول يؤلف مع ملائكته وأتباعه الصالحين حزب الحق، والثاني يؤلف مع(813/21)
شياطينه والكفار المنافقين حزب الباطل. والحرب بين الحزبين سجال. ولكن زرادشت حكيم متفائل، يدفعه تفاؤله إلى تصور نهاية سعيدة للرواية الكونية، إذ يغلب الخير في النهاية ويصبح العالم كلا واحدا متجانسا إلى أبد الآبدين.
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم عبد العزيز المليجي(813/22)
إن جسمي من بعد خالي لخل
للأديب ناصر الدين النشاشيبي
(بمناسبة ذكرى وفاة العلامة المتشاشيبي)
أبكيك اليوم يا خالي في يوم ذكراك وكأنني فقدتك في أمسي القريب، وأتوجع عليك بعد عام في مرارة القريب وآسى الحبيب فلا أدري أحدثك عن نفسك - وأنت أشد الناس عداوة للحديث عن نفسك. أم أنقل إليك أخبار وطنك وأنباء أمتك - وأنت أحرص أمة محمد على أرض الرسل ومسرى الأنبياء، وأشد الناس فخرا بخير أمة أخرجت للناس. . . فيبكيك حديثي، ويشجيك نواحي وأنيني، ويزعجك في مثواك الأخير صيحات بلدك الممزق، وأمتك المشردة، وتراثك الضائع، وأملنا المفقود!!
كيف أبكيك وما عرفتك إلا جبارا في جميع نواحي حياتك؛ إن تحدثت خرجت كلماتك كالقذائف من أعماق نفسك، وإن خطبت - ما عرفتك خطبت - إلا بكيت وأبكيت. وما سمعتك تحدثت إلا أثرت وتأثرت، وما قرأت لك إلا تمثلتك أحد الصحابة في إيمانك وصوفيتك، وما من مرة ورد ذكرك على لسان الناس إلا رجعوا بذاكرتهم إلى عصر النبي وأيام الجاحظ وأبي عبيده والمبرد وصفوة الأدب الخالد. . . يتجسرون على بحور العلم وقد مسها الجفاف، وموسوعة الأدب والعبقرية وقد احتواها - ويا أسفي - التراب!!
هذا حديثي إليك بل بكائي عليك على صفحات رسالة صاحبك إمام النثر كما كنت تدعوه. وهو يسألني عن (النقل) فلا أجده، وعن الحديث فلا أسمعه، وعن المجلس فلا نبصره، ثم نفتقدك في أيام الشتاء - أيامك في قاهرة المعز - فنجدمكانك المعتاد وقد أقفر من الصحب والخلان، وزوارك العارفين والمعترفين وقد تخلفوا عن الركب وانقطعوا عن الزيارة، وما زالوا في دهشة من أمرك، وحيلة من مصيرك، يسألون ويتساءلون: - كيف. .؟ كيف تخلفت، وكيف غبت، وكيف انقطعت يا أعز الراحلين.؟!
إن قلبي ليبكيك بلسان الكثيرين من تلاميذك وزملائك وقد عشت لهم مخلصا ومتفانيا في أدبك، وجاهدت في سبيلهم بجهادك القوى في سبيل المعرفة، ومشيت معهم نحو دنيا النور والعلم فما كلت لك عزيمة، وما وهنت لك إرادة، وما عرفت معنى للضعف وأنت تصل الليل بالنهار في دراستك وأبحاثك متنقلا بين القاهرة (موئل العرب والعربية) وبيروت(813/23)
(وبيروت مدينة تهذيبي) وحلب الشهباء بلد صديقك إبراهيم (سلام على إبراهيم)! وبغداد حصن السعدون (وأمة منها السعدون لن تموت)! وكنت في كل أطوار حياتك المثل الأول لمن يحيا في سبيل فكرة - فكرة محمد ولغة محمد! ولمن يجاهد في سبيل مبدأ - مبدأ العرب والعربية. وهذه الإشارات تملأ أرجاء قصرك - (يا محمد.!!) وهذه الآيات البينات تزين أسوار بيتك - (أنا عبدك ورسول الله.!) وهذه الضعف في كبرياء القوى وهذه القوة في تواضع المسلم وهذا الإخلاص للغة الكتاب (أنا عبدها. . أنا عبدها. . . أنا عبد كل عبد يسود بعبديتها) وهذه تراثك في محمد ولغته ورجاله وهذا (إسلامك الصحيح) و (بستانك) و (كلماتك) و (نقلك) و (خطبك) وكل ما كتبت ونقلت وصححت وراجعت الدليل الصادق على أنك عشت وما عشت إلا لإسلامك، وعملت وما عملت إلا للغتك ولغة نبيك!
نشأت ثائرا على الدنيا وأنت وحيد أبويك فثرت عليهما وعلى الأهل والقربى. وترعرعت بين الخير والنعيم فدفعته بيديك ورغبت عنه لتشبع نفسك بصوفية الأقدمين، وزهد المؤمنين، ومشيت في خطوات الحياة لا أنيس لك إلا الشاعر أو ديوانه، ولا جليس معك لا الكاتب أو رسالته، ولا شاغل لديك إلا البحث والدرس واستقصاء والتحقيق، فحرمت نفسك الزوج والولد بعد أن حرمت والديك لذة الحرص على صحتك والعناية بنشأتك والفوز بقوتك، وكأنك أردت لنفسك طريقا خاصا في أسلوب حياتك، ونسجت لذاتك منوالا فذا في جوانب تفكيرك، فكنت كما عرفك الناس، فريدا في أسلوب أدبك، وحيدا في تصوير خطك، ذليقا - في عفة - لسانك، ثائرا في انفعالات عواطفك وأعصابك، متوقدا في ذهنك وتفكيرك، بسيطا في ملبسك، منطويا على نفسك البريئة، وروحك العذبة وقلبك الذي ما خفق إلا بالحب والوفاء. هكذا نشأت، وهكذا ترعرعت، وفي سبيل هدفك صرفت وضحيت.
وبيتك كعبة الحجاج من أخل الفضل الفضيلة، ومجلسك قبلة الأنظار من أهل العلم والمعرفة، وأنت. . أنت الروح في كل مجلس، وأنت الحجة في كل حديث، وأنت المتمكن من كل قول، وأنت الرقة في كل سمر، وأنت الراعي لكل تراث! أين أنت؟ ولمن خلفت عزك وعزيمتك؟ ولمن تركت (رسالتك) ونقلك)؟ ومن أولى منك (يا إمام العربية) بتراث العربية؟ وأنت خادمها، وأنت عبدها، وأنت لها، وأنت المدافع في كل حين عنها، وأنت(813/24)
القائل منذ أربعين عاما أو يزيد:
فإني بأرض الشرق أخدم أمتي ... وأرجو لها في كل واقعة نصرا
أخوض غمار الكون بالعلم والتقى ... ولا أسأل القوم العظام لي الأجرا
يا أبا عبيده! إني عليك لمكارم، ولفقدك لحزين، وأن حرمتني الأيام منك في حياتك - وأنا في مهد الصبا، ومقعد الدراسة - ثم حرمتني منك بعد أن حرمك الموت من نعمة الحياة، فإن ذكراك ستبقى حية عندي ما حييت، وستبقى خالدة على مدى الأيام ما بقيت العربية.!
يا خالي. . .
عليك رحمة الله. . . وإلى اللقاء. .!
ناصر الدين النشاشيبي(813/25)
أنانية مجرب
للأستاذ ثروت أباظه
صاحبي شاب رقيق العاطفة، جياش الحس، يلذ له أن يقف منك موقف الناصح، ولكنه إذا فعل سار على نهج لا تكلف فيه حتى لا تملك تلقاء حديثه إلا أن تعيره الأذن الواعية والروح المقبلة. وأنت حبيب إلى نفسه، مقرب إليها، إذا قبلت منه نصحه. وأنت أكثر حبا إلى نفسه وأكثر قربا منها إذا ظهرت أمامه خاليا من التجاريب مقبلا على دنياك إقبال الطفل، إنه إذ ذاك يفرح أن جرب هو ولم يجرب من هو أكبر منه، وأن يقف هو إلى هذا الأكبر موقف الناصح المرشد الذي خبر من الماضي ما يكشف به عن القابل.
لعلي بهذا الوصف أكون قد ألقيت الضوء على عيبه الواحد. فإنك لتراه بعد هذا شفيف الروح، مهذب اللفظ، مرح الدعابة واسع الإطلاع دقيق اللفتة، أما عيبه الذي ذكرت فأمره على يسير. إن صلتي به توثقت حتى لا يزيفها غش أو توهنها مصارحة؛ فتراني إذا نصح ناقشته مقبلا على النقاش في غير ضيق فقد مرن مني على هذا الأمر حتى أصبح بعد لكل نصيحة نقاشا، ولكل حكمة اكتسبها من نثار تجاربه حججا وبراهين وأمثالا. وأنا مع ذلك حبيب إلى نفسه مقرب إليها لا يمل نقاشي ولا أمل نصائحه.
أقبل يوما على مجلسنا تعلو وجهه سمات الجد والرزانة فعرفت أن حالة النصيحة قد أدركته وأنه يريدني على أن أسمع بعضا منها؛ وكم أكون كريما لديه لو سمعتها جميعا. . . عرفت هذا فانتحيت به ناحية وقلت:
- مالك؟
- إسمع، لقد أثبتت تجاربي أن كل الناس أشرار. . وأنه يجب على الإنسان أن يقبل على أصدقائه شاكا في ولائهم، حذرا من شرهم، فليس في الناس صديق، وليس فيهم إلا الخؤون، وإنك إذا توقعت منهم الخير ثم فجئك دكت الواقعة من كيانك مهما تفهمت، أما إذا توقعت الشر ثم طالعك الخير فإن ذلك يفرحك، ولكن حذار مع هذا أن تأمن الجانب وتطمئن فقد يمهد الخير للشر كما يمهد الدفء للحريق. . إبق على شكك وحذرك فالكل شرير.
- حسبك. . حسبك فإنني أرى النوبة قد عادتك، ولكنك في هذه المرة على غير مألوفك من(813/26)
الأدب؛ فها أنت ذا ترميني في وجهي بالشر وسوء الطوية. . ألست واحدا من أصدقائك الأشرار؟ بل إنك لتزيد فتزيدني أن أظن بك السوء بلا موجب أراه أنا! ولكن أتريدني حقا أن أصدقك؟ أجاد أنت فيما تقول! أمشي مع الناس فلا أرى غير الشر ولا يخالجني غير الحذر والخوف! أي تجارب تلك التي أوحت إليك بهذه الشرور؟ أو تكون مجربا حقا إذا فعلت هذا؟ ما أسهل هذا الأمر وما أصعبه! إن المجرب يا صديقي - في رأيي - هو الذي يعرف معايير الناس ويزن كلا بميزان. . يمدحه أحدهم فيصل إلى باعث هذا المديح. . ففي الناس من يبذل المدح ثمنا لخدمة له عندك. ومنهم من يبذله ثمنا لمديح مثله. ومن الناس من يمدح رغبة منه في المجاملة، ومنهم الصادق في مدحه، وهذا هو النوع الأمين النادر، إنك لواجده صادقا في نقده أيضا إذا نقد. . المجرب هو الذي يفرق بين كل هذه الأنواع، والمجرب هو الذي يعطي لكلمن هؤلاء مكانه الحقيق به من نفسه، أما إذا سويت بينهم جميعا ورميتهم كلهم بالشر. فأنت غر لا تعرف الناس، ولم تجربك الأيام ولا جربتها. يعز عليك أن تقتنع. . أعلم ذلك، ولكن بربك ما الذي بعث في نفسك كل هذه الثورة؟ هل من جديد؟
- الجديد هو معرفتي أنني الغيري الوحيد بين هؤلاء الناس. أنت تعرف صديقنا فلانا، كنت أؤثره وأحبه، توطدت بيننا الصداقة فأصفيته ودي، لكنه عرف أنني مقدم على مشروع تجاري فسبقني إليه، واستعان بسلطان كبير أطاح من يدي الفرصة إلى يده. . . أرأيت أنانية كتلك الأنانية؟!
- نعم. . رأيت أكثر منها.
- أين؟
- أنانيتك أنت. . . أنك - والحمد لله - لا تعرف عن التجارة شيئا وهي مهنته. وأنت - والحمد لله - في بسطة من رزقك وبحبوحة من عيشك، وهو يسعى وراء رزقه ويشقى في سبيله لماذا تعترض طريقه؟
- ولكنني صديقه، كان يجب أن يستأذنني.
- أو كنت تأذن!. يا صاحبي إنني أنا وأنت وكل إنسان في العالم أناني بطبعه، أنك لترى الأنانية في كل خطرة ينشغل بها ذهنك، وفي كل خلجة يختلج بها قلبك. . إن الخير في(813/27)
ذاته نوع من الأنانية. إنك إذ تقوم بذلك الخير ترجو شيئا من شيئين: إما ذكرا طيبا في الدنيا، أو مثوى كريما في الآخرة وأنت على الحالين أناني قد يسمو بك شعورك فتفعل الخير ترضى به نزعة في نفسك، وأنت في هذه الحال أيضا تنظر إلى نفسك فتريحها بعمل الخير. . لن تقتنع. . أعلم ذلك ولكنه الحق. وتريد صاحبك على أن يترك قوته لك حتى لا ترميه بالأنانية. . . إنه أناني ولكن دعه يأكل والله ما الأناني إلا أنت.
- ألا تشعر بأنك تمزج. . أتسوي بين التناحر وعمل الخير. . أإن منعني صديقي عن كسب موشك كان في عمله مثل من يقوم بالمعروف. وتدعى بعد هذا انك تعرف المجرب وغير المجرب وتبيح لنفسك أن تلغى هذه المحاضرة الطويلة عن التجربة
- قلت إنك لن تقتنع. . ولكن يجب أن أصح ما قام بذهنك. . لا. . أنا لا أسوي بين العملين لكنني أرى في كل منهما أنانية وإن تفاوتت نسبتها. . إن في كل منهما صورة من الأنانية تختلف قبحاً وجمالاً. . ألا ترى. .
لم يطمئن صدقي أن يصبر أكثر من ذلك ولم تسعفه الحجة فقام عني مغضبا دون أن يسلم، ويعلم الله أين مكاني من نفسه الآن. . ولكنني ما زلت أعتقد أنني حبيب إليها قريب منها.
ثروت اباظه(813/28)
مسابقة الفلسفة لطلاب التوجيهية: (4)
(1) النفس أبن سينا (4)
للأستاذ كمال دسوقي
لا يفوتني قبل أن أتقدم بكم إلى موضوعنا اليوم أن أنبهكم إلى هذه الصلة الوثيقة بين العقل بقسميه النظري والعملي عند أبن سينا وبين تصنيفه للعلوم العقلية. ولما كنت أخشى ألا يتيسر لكم الوقوف على هذا التصنيف في كتابه الشفاء، أو في مقدمة منطق المشرقيين أو في رسالته في أقسام العلوم العقلية، فإني مجمل لكم الحديث عن لوحة تقسيمه للعلوم هذه التي ينبغي أن تقفوا عليها وأن تربطوها بأقسام العقل النظري والعملي التي حدثتكم عنها في المقال السابق.
ذلكم أن العلوم تنقسم عند أبن سينا كذلك إلى نظرية وعملية. فالنظري منها ما كانت غايته حصول الاعتقاد اليقيني بحال الموجودات التي لا يتعلق وجودها بفعل الإنسان، كالله والكواكب، والأرض، والأعداد. . . الخ اعتقادا غايته الوصول إلى الحق والبحث عن الحقيقة أما العملي فيتجاوز حصول الاعتقاد إلى حصول رأي هملي فيما هو من تدبير الإنسان وكسبه؛ حصولا من شأنه أن يؤدي بنا إلى الخير أو فهنا تفرقة الأشياء من حيث وجودها بإرادتنا أو بغير إرادتنا وكيفية علمنا بها على هذا الأساس.
والعلوم النظرية عنده ثلاثة: العلم الأدنى (الطبيعيات)؛ وموضوعه هذه الأمور التي حددوها ووجودها يتعلقان بالمادة والحركة، كأجسام الأفلاك التي تحدثنا عنها، والعناصر الأربعة وكل ما هو جسمي على الإطلاق. مما يتغير عليه الحركة والسكون والكون والفساد والتغير والاستحالة ولهذا العلم مبادئ أصلية نظرية هي التي ذكرناها حين كنا نتحدث عن موضع النفس من مذهب أبن سينا، وتطبيقات فرعية كالطب والتنجيم والفراسة والكيمياء مما يقوم على المبادئ الأصلية السابقة. ثم العلم الأوسط (الرياضيات) وموضوعه أمور يتعلق وجودها بالمادة وأن تجردت حدودها منها، كعلم العدد (الحساب) والهندسة (علم السطوح والأشكال والمقادير) وعلم الهيئة (الأفلاك وأوضاعها وحركتها) والموسيقى (علم النغم والإيقاع واللحن والنفاق. . .) هذه مبادئه الأصلية، وله كذلك فروع تطبيقية كالمساحة والحيل (الميكانيكا) وعلم المناظر والمرايا وجر الأثقال ونقل المياه. . . الخ. وأخيرا العلم(813/29)
الأعلى (الإلهيات) التي ليست أمورها ذات تعلق بمادة أو حركة والتي تبحث في ذات الواحد الحق وصفاته من هوية ووحدة وعليه. . الخ. وله هو الآخر أصول وفروع لا داعي للإحاطة بها.
أما العلوم العملية فهي التي موضوعها الأفعال التي تشترك مع غيرنا أفرادا وجماعات - وهذه بطبيعة الحال أمور من محض فعلنا وإرادتنا. فان كانت لتدبير يختص بشخص واحد بما يحقق له السعادة فهي علم الأخلاق، وإن كانت تبحث في تدبير الإنسان لأسرته وروجه وولده ومملوكة (خادمه) بما يحقق سعادتهم أيضا فذلك تدبير المنزل، وإن كانت هذه الأمور تتناول صنوف الرياسات والسياسات المجتمعات والمدن الفاضلة فذلك هو علم السياسة. . . هذه هي العلوم العملية عند أبن سينا، وهذه تصنيفه العلوم كلها وتصنيفه الفارابي قبله. والمنطق هنا يجعله أبن سينا مقدمة وآلة للعلوم فحسب، وإن كان في تقسيم كتبه فعلا يجعله القسم الأول منها، ثم يتبعه بالطبيعيات فالإلهيات - على نحو ما بينت لكم من قبل - ونكتفي بهذا التقسيم لأبن سينا؛ لأنه أرستطالي من جهة، ولأنه أدنى إلى موضوعنا في تقسيم النفس إلى نظرية وعملية، من جهة أخرى. وإلا فان له تقسيما آخر مختلفا بعض الشيء (في مقدمة منطق المشرقين) لا داعي لذكره.
ويهمني - ويهم أبن سينا كذلك - أن تميزوا بين أنواع الإدراك المختلفة التي تحصلها كل ملكة من ملكات العقل؛ فان له هنا نظرية في المعرفة جديرة بالاعتبار، ونظرا في طبيعة الإدراك من حيث علاقته بالشيء المدرك. فإذا كان الإدراك هو أخذ صورة المدرك مجردة عن المادة أي نحو من التجريد؛ فإن الحس يدرك الأشياء مع لواصقها المادية، كالتكثر، والانقسام، والكم (العدد) والكيف (الخصائص والصفات) والابن (المكان) والوضع. . . الخ. والخيال يجرد صورة الشيء المدرك من المادة تجريدا تاما تقريباً، يستوي معه وجود الأصل أو عدمه ولكنه لا يجردها من العلائق، بل تظل ملابسة لها في الخيال، أما الوهم فأنه يدرك المعاني التي قد توجد في مادة ولكنها ليست في ذاتها مادية كالخير والشر والملائم وغير الملائم، إدراكا جزئيا لا يبرا من لواحق المادة والحس والخيال. وأما العقل - أو الحاكم العقلي كما يسميه - فيدرك الصور مجردة عن المادة من كل وجه وعن علائقها ولواحقها من أي نوع.(813/30)
ولا يخفى عليكم أن أبن سينا يمهد للدخول في إثبات وجود النفس بوصفها جوهراً مفارقاً للبدن، فيقيم لكم التناقض واضحاً جلياً من مادة الشيء المدرك - حتى في غيبته عن الحس - وجوهرية العقل المدرك؛ بين تعلق هذا الأول بالمادة والمكان والجهة، وتجرد ذلك الثاني منها. يريد أن يخلص من ذلك إلى أنه لا شيء مما يدرك الجزيئات المادية إلا وهو مادي، وإن لا شيء أيضاً مما يدرك الكليات العقلية إلا وهو مجرد، وأن يدلل على أن الإدراك الحسي والخيالي والوهمي - نظراً لتعقلها جميعا بصور جزئية خيالية على نحو ما أسلف القول - فهي إنما تقع بالآلة الجسمانية التي ليست مجردة من المادة ولا مقارقة للوضع الجسمي.
أما الجوهر الذي هو محل المعقولات المجردة فمجرد كذلك من المادية والجسمية فهو ليس جسماً ولا حالا في جسم بوصفه صورة أو قوة له. وحجته هنا تقوم على إنكار ما أثبته في الفصل السابق للقوى الإدراكية الجزئية على القوى المدركة العقلية - أعني الانقسام المادي في القوى الحاملة أو القابلة للإدراك، نتيجة لانقسام المدرك ذاته. فلما كانت المدركات الحسية مقسمة ومتجزئة بدليل أنك تدرك الشيء الواحد - كالإنسان مثلا - متفاوتاً في الكبر أو الصغر، وأن هذا التفاوت لا بد أن يكون من جانب المدرك أو المدرك، فقد كانت القوى الدراكة الجزئية منقسمة كذلك. وإذن فهي في مكان ووضع وجهة، وبالتالي فهي مادية كمدركاتها، متصلة بها غير مفارقة.
وطريقة أبن سينا في إثبات تجرد جوهر العقل من المادة أن يبرهن على أن هذا الجسم الذي سيحل فيه المدرك العقلي أن كان جسما - فهو إما غير منقسم (جزء لا يتجزأ كالذرة - باعتبار ما مضى - وكالجوهر الفرد أو النقطة الرياضية) أو مقدار منقسم فعلاً. فإن كان الأول فهو غير معقول؛ لأن النقطة وهي منفردة لا تقبل شيئا من الأشياء وإلا أصبحت ذات وجهات (حجم) ولم تعد نقطة. ولأنها وهي طرف من خط هي نهايته فلا بد أن يكون لجزء من هذا الخط نصيب مما تقبله؛ وحينئذ يكون للنقطة وجهان أحدهما غير الأخر ومخالف له. فالوجه الذي هو نهاية الخط غير الوجه الملاصق له من الناحية الأخرى. وإلا كانت النقطة منفصلة عن الخط ولم تكن هي نهايته، وهذا خلف مع ما أفترضه من قبل، ومع أبطاله في مواضع أخرى للجوهر الفرد فثبت إذن فساد القول بأن جوهر العقل شيء(813/31)
غير منقسم.
ويتضح كذلك فساد أن يكون شيئاً منقسماً تبعاً لانقسام الصورة العقلية التي يدركها مثلا. إذ لو كانت الصورة العقلية منقسمة لم يأت من مجموعها شبيه بها إلا بالزيادة والكم والمقدار مما سبق إن قلنا أنه خاص بالصور الخيالية - كما أن أحد أجزائها لن يدل على معنى الكل وإلا كان هو الكل ولميكن ثمة انقسام. هذا إذا كان القسمان متشابهين؛ إما إذا كان غير متشابهين فإنه يترتب على ذلك أن حد الصورة العقلية (الذي هو الجنس والفصل كما درستم في بابي الكليات الخمس والتعريف) يكون منقسما. وهو عند أبن سينا محال لأنه يبين هنا - وفي قسم المنطق من قبل - أن الأجناس والفصول متناهية وغير منقسمة، كذلك لا تنقسم الصورة العقلية إلى جنس من ناحية وفصل من ناحية أخرى؛ كل على حدة (بعد أن ثبت فساد انقسام كل على نفسه) وإلا كان نصف الصورة العقلية يحتوى نصف الجنس ونصف الفصل، وفي هذا خلف مع ما سبق إثباته؛ أو إذن لحل الجنس والفصل كل موضع الآخر وهو محال. فالصورة العقلية هي إذن مبادئ بسيطة قابلة لتركيب معقولات أكبر، دون أن يكون لها أجناس أو فصول، ودون أن تنقسم في الكم إلى أجزاء متشابهة أو غير متشابهة؛ وبالتالي فهي لا تحل في مقدار، والقابل لهذه المعقولات المجردة فينا هو جوهر غير جسمي أو مادي.
ولأبن سينا هنا حجة أخرى على تجرد الجوهر العقلي من المادة. . . مؤداها أن تجريد الصورة العقلية عن المكان والوضع والكم والأين وسائر المقولات فهو باعتبار وجودها الذهني وتصورها العقلي لا في الواقعي الخارجي، ومثل هذه الصورة العقلية المفارقة لمادتها لا يمكن أن تكون في جسم، وإلا فلو أن هذه الصورة العقلية المجردة قد انطبقت في جسم ذي جهات وأقسام لنتج محال وخلف لما فرضناه في البدء. وخلاصة القول أن محل المعقولات والجوهر القابل للصورة المجردة هو مثلها مجرد - ولا يمكن أن يكون جسماً أو في جسم بحال، على عكس الصورة المنطبقة في المادة والتي هي أشباح لأمور جزئية منقسمة لكل قسم منها نسبة بالقوة أو بالفعل لجزء من الشيء المادي أو لكله.
وإذ برهن أبن سينا بهذين الدليلين على تجرد الجوهر العقلي من المادة والجسمية أنتقل إلى النتيجة المنطقية التي تلزم هذا البرهان بالضرورة، وهي أن تعقل القوى العقلية المذكورة(813/32)
ليس يحدث بالآلة الجسمية. وله في ذلك حجج ثلاث: أولاها أنه لو كان تعقل هذه الصور بآلة جسدية لم تستطع أن تعقل ذاتها وتشعر أنها تعقل (كالحس مثلا أو الخيال والوهم التي تحس أو تتخيل وتتوهم أشياء خارجة عنها - دون أن تشعر بفاعليتها هذه) - إما العقل - فإنه يعقل الصورة الكلية. ويعقل أنه يعقلها - مما يدل على أنه ليس بينه وبين ذاته آلة أخرى وسيطة وبالتالي أنه يعقل بذاته - وحجة أخرى هي أن الحواس وما من شانه أدراك الصورة الحسية الجزئية يوهنها دوام العمل، ويصيبها بالعجز والكلال (وأمثلته هنا كثيرة واضحة) بينما القوة العقلية لا يزيدها التعقل إلا جلاء وجدة، وصفاء وقوة ودربة؛ ما لم يفسد الخيال والحس هذه الملكة. والحجة الثالثة على أن القوة العقلية ليست جسمية أنها ليست خاضعة للضعف أو الشيخوخة شأن سائر القوى البدنية في سن معينة. بل لا تزال قوية فتية بعد هذه السن بكثير ما لم يطرأ عليها طارئ مرضي أو نحوه. فإن صح أن النفس يتعطلفعلها عند مرض البدن كما يتوهم - أو عند الشيخوخة، فما ذلك إلا لأن النفس - كما بينا من قبل - لها فعل بالقياس إلى البدن (أدارته وسياسته) وفعل بالقياس لذاتها (التعقل والتفكير) فبابهما اشتغلت انصرفت عن الأخر لا تجمع بين الاثنين مطلقاً، بل نسبياً؛ كما لا يتم فعلها إلا بالبدن فهو عالة على النفس، وشر لا بد منه.
وآية احتياج هذه القوة العقلية إلى معونة القوى الحسية الحيوانية أنه لا يتم لها معرفة ولا تعقل إلا إذا أمدنها هذه البدنية بمادة المعرفة الغفل (الخام فعندئذ تبدأ النفس عملها على أنحاء أربعة:
(1) التجريد والتعميم وانتزاع الكلي من الجزيئات، واستخلاص التصور الذهني
(2) ومن هذه التصورات الذهنية المجردة تقوم أحكام وقضايا سالبة وموجبة هي التي نسميها في المنطق التصديقات - التصورات تقوم في الحس المشترك والتصديقات في الخيال والوهم.
(3) ثم إن المتقدمات الكلية التي تستقيم عليها الأقيسة والبراهين والعقلية لا بد أن تكون من واقع الحياة والتجربة، وأن يكون سبيلها الملاحظة والمشاهدة والتعميم الذي يؤدي إليه الاستقراء والحواس هي وسيلة الاستقراء الأولى.
(4) وكذلك الخبرة والمسلمات والبديهيات التي نحصلها وتصدق بها لشيوعها وتواترها(813/33)
وجلاء الحق فيها، أي نحصلها بالسماع كما يقول العرب، أو - كما يقول الفرنسيون؛ هذه إنما تكتسبها بالسمع أو التعليم والتلقين أو التقليد وقد لا نصدق بها بعد.
وبهذا يكون أبن سينا قد أقام الدليل واضحًا قوياً على أن النفس الناطقة ليست في ذاتها جسما، وأنها لا تحل في جسم، لأن صورها المعقولة التي هي محلها ليست جسمية. وثبت إذن أن النفس الإنسانية جوهرها روحاني مفارق
كمال الدسوقي(813/34)
شهرزاد!. . . .
للشاعر زهير ميرزا
شهرزاد!. . . . حلمك الفاتن أندى من عبير
ولياليك غرامٌ بين أحضان الدهور
كأسُك الفنُّ. ومغناك أغاريدُ العصور
ونداماك عشيقُ فاتر اللحظ الكسير
صرعتهُ خمرةُ السحر فناما
وارتوى منك بيانا وغراما
وترامى تحتَ عينيك هُياما
وسقاك العُمَر؛ فاسقيه الهوى في كاس نور
وامنحيه اليوم من ثغرك قُبله
ثم. . وارْوي ليلةً من ألف ليلة!
جوُّك العاطر أطيافُ وأشباحُ حيارى
ونداءٌ هامسُ الألفاظ ترويه لحناً لا يبارى
ورواهُ الدهرُ فاستلقاه خفَّاقي وثارا
كلما مّرتْ ببالي شهرزادُ
سكرَ الخاطر واشتاق الفؤادُ
وطوى الأزمانَ يرعاه السُّهادُ
فرأى العاشق والمعشوق في الحب ُسكارى
فارْشفي من شفَة الأزمان نهله
ثم. . وأرْوى ليلةً من ألف ليله!
ما لهذا الليل لا يطويه فجرٌ وضياءُ
أترى يصغي كما يصغي إليك الندماءُ؟
أم تراهُ من حديث السحر أغفى حيثُ شاءوا
ليت مصباحك يا سامرةَ الليل يُضاءُ!(813/35)
كلما أدرْكك الصبحُ ولاحا
صمت الصداح لا يروي الصُّداحا
وأفاق الليلُ من سُكٍر فباحا
ومضى يرقبك السمارُ حيرى والمساءُ
فإذا أقبل. . . هاتي السحر كله
ثم. . وأرْوى ليلةً من ألف ليلة!
حدثي عن شاطئ الفتنة أو عن (سندبادِ)
وابعثي (الصيادَ) للبحر بأحلامٍ غواد
وأجمعي كل حبيبين على أنقى وِساد
وأطوي أيامك يا سامرةَ الليل. . . ونادي:
هذه الفتنةُ من ذاكَ الخيال!
لك عرشان: من السحر الحلال
ومن القصة في ثوب الكمال
من ترى يملكُ أسمى منهما يا شهرزادي؟!. . .
رتلي الآيات في أعذب حلهْ
ثم. . وأرْوي ليلةً من ألف ليلةْ!
(دمشق)
زهير ميرزا(813/36)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
موكب الحرمان
كان لقلبه في محراب فنها صلوات. . وفي محراب فنها كم صلت قلوب، ولكني لا أعرف قلبا أطال السجود مثل قلبه! كان يقدسها وهي ترسل النغم فينصت الوجود، يوم كان في أنغامها أنين وحنين، وفي ألحانها تبريح وتسبيح. . . وكانت حين تغني له وتفني نفسها في غنائها، أشبه براهبة متعبدة، تندت من دموعها صفحات الكتاب المقدس! وأقام لها في معرض الفكر صورا فاتنات، وحشد لها الخيال يمدها بكل ما في إبداعه من ألوان وظلال
كانت إنسانة، وكانت فنانة، وخيل إليه يوما أنها سمت بفنها وإنسانيتها إلى الحد الذي تشعر عنده الكلمات بأنها في حاجة إلى عون الوحي والإلهام!. . . وكانت قصة هواهما أنشودة حلوة: بمثلها لم يحظ في الفن يوما وتر، ولم يشد يوما في اليم ملاح، كلا. ولم يسمع شراع. . . وأسطورة عذبة: بمثلها لم يحط في الوهم يوما خيال، ولم يصدح في البيد يوما رعاة، كلا. ولم يكتب يراع! وكان معبد القديسة يملأ النفوس رهبة وحمة وحنانا. . . كانالترتيل يهز جوانبه بين حين وحين فتهتز المشاعر وتتعلق الأنفاس وتهوم الأرواح. . . . وكانت أغانيها نشوة الشعور في موكب الأفراح، وفرحة القلوب في عرس الحياة!
وفي ومضة البرق لفها الليل، فقد كل شيء. . . معبد القديسة؟ لقد خيم في جنباته الصمت وشاع السكون! معرض فكره وصورة الفاتنات؟ لقد محت ريشة القدر كل ما فيها من ألوان وظلال!. . . وهاهو ذا النبع قد جف، والزهر قد ذبل، والمطر قد ذهب إلى غير معاد! لقد لقيت مصرعها في حادث لا يزال يذكره الناس، وذهبت بأحلامها وأحلامه إلى هناك، إلى وادي العدم. . . والنيل الحبيب الذي بارك أمسياتهما لا يزال يجري، والقمر الساحر الذي رعى حبهما لا يزال يبزغ، والليل الساكن الذي كتم سرهما لا يزال يقبل كلما ولى نهار!
أما هو في أسوء ما فعلت به بعدها الأيام! لقد طوى القلب على أحلامه، وعاش من بعده على أطلال الذكريات. . . ولقد سار وحده في موكب الحرمان: يهتف للأنة الحائرة، ويصفق للزفرة المحرقة، ويعود آخر الأمر وملء نفسه أشلاء آمال!. . . وأما حياته، فيا سوء ما أصبحت: لقد أصبحت أقباساً من وهج اللوعة، وفنوناً من عبقرية الألم، وخريفاً لا(813/37)
يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس!
كتبت هذه الكلمة منذ عام في مجلة (الأديب) اللبنانية، ثم تلقيت عقب نشرها بضع رسائل من هنا وهناك، بعضها يدور حول كلمتين: (من هو؟) و (من هي؟). . . بينما يدور بعضها الآخر حول التوكيد بأن بطلة هذه القصة القصيرة هي فقيدة الفن (أسمهان)، ولكن من هو بطل القصة؟!. . .
وأنا اليوم أعيد نشر هذه الكلمة تعقيبا على ما يكتبه الأستاذ التابعي عن ذكرياته حول هذه الفنانة في (أخر ساعة)، ولأقول لمن كتبوا إلي مستفسرين أن (هي) التي أشرت إليها لم تكن إلا المطربة (أسمهان). . . أما (هو) فليس واحداً من أولئك الذين عرف الناس قصة صلاتهم بها، ولا أعتقد أن واحدا منهم يعلم شيئا عن هذا الغرام العاصف الذي جمع بين قلبها وقلبه، وغلف قصة القلبي بغلاف من الصمت والكتمان!
وكم كنت أود أن أذيع قصتها على الناس من رسائلها إليه، ذلك الإنسان الذي لا يعرفه أحد. ولكنه من أسرة. . . وفي بيته زوجة عزيزة عليه، وأبناء صغار أحباء إلى قلبه!
إيمان عظيم:
قرأت لصديقي الأستاذ علي أدهم كلمة قيمة في (الثقافة) عن الألم والأيمان في حياة الشاعر الألماني هنريك هايني، وقد استوقفني فيها ذلك الحوار الرائع بين هايني الشاعر وإمانويل فخت الفيلسوف، حول حقيقة الله بين الوجود والعدم، أو بين الإثبات والإنكار. . . قال هايني لفخت:
- (قل لي يا أستاذ بصراحة: هل تعتقد بالحياة الأخرى؟ وهل تؤمن بأن الروح خالدة؟ وأجاب فخت في تؤدة ووقار:
- أني أعتقد بوجود عالم الأفكار غير المنظور.
- ولكنك لا تصدق بوجود إله. . . إله حي قيوم؟
فأجاب الأستاذ في غير تردد وقد هز رأسه: لا أصدق به!
فأرخى هايني جفنه المشلول، وارتمى على وسادته، ولاذ بالصمت) ثم أستأنف الصديقان حديثهما مرة أخرى حول وجود الله وكانت دهشة الفيلسوف بالغة حين رأى الشاعر وقد تحول عن نزعة الإلحاد التي عصفت بعقيدته ردحا من الزمن، إلى نزعة إيمان عميق(813/38)
تغلغلت في فجاج روحه، تحت وطأة مرض طويل المزه الفراش وبحت به آلامه! وهنا قال هايني:
(إنني في حاجة إلى الله، ففي الليل حينما تأوي زوجتي إلى فراشها أشعر بالوحدة، وينفر مني النوم، وأظل أتقلب في الفراش وأتحول من جنب إلى جنب، ويغشى جسمي الألم ويدب به من الرأس إلى القدم، وفي كل لحظة أعتقد أن نهايتي قد دنت وحانت منيتي. . . وفي مثل تلك اللحظات يؤنس وحشتي أن أفكر في أن هناك في السماوات - أو في أي مكان آخر - من أستطيع أن ألجأ إليه في كربتي وضائقتي، ومن أتهمه أدينه وألقي عليه التبعة. . .) ولعل هذه الكلمات الأخيرة هي وحدها التي تركت أثرها العميق في نفسي وحسي. إن فيها دفقات هائلة من حرارة الشعور في القلب الإنساني؛ الشعور الذي تنبلج أمامه أنوار الحقيقة والأيمان في لحظات الشدة والضيق وحيرة الرجاء، هناك حيث يتجه الضعفاء بقلوبهم إلى رحاب الله ينشدون العون، حين يعز النصير على أرض البشر! إنها ليست كلمات، بل أنات. . . هتكت ستار الصبر والجلد، وتركت مكانها من حنايا الضلوع وشغاف القلب، وخرجت إلى الناس تروي لهم قصة الألم والأيمان!
إنه هايني الإنسان. . . هايني الذي هتف مرة في غمرة من غمرات عذابه: لن أنتسب بعد اليوم إلى الملحدين والجاحدين، لقد أصبحت أومن بأن أوائل الأشياء وأواخرها هي في الله!
مع الدكتور طه حسين:
كنت أتحدث منذ شهرين مع الدكتور طه حسين بك عن الكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، وكان بدء الحديث سؤالاً مني للدكتور عما إذا كان قد لقي سارتر في خلال تلك الفترة التي تغيب فيها عن مصر ليقضيها في فرنسا، ثم تطرق الحديث بعد ذلك إلى شخصية سارتر الأدبية والفلسفية، وإلى حقيقة المكان الذي يشغله في الأدب الفرنسي المعاصر.
وسارتر - كما لابد أن يعرف المتتبعون لأخباره من القراء - فيلسوف وجودي ملحد، أصدر البابا أمرا بمنع دخول كتبه الفلسفية إلى مدينة الفاتيكان لما فيها من إنكار سافر لوجود الله! وهو بعد ذلك أديب ارتقى سلم المجد الأدبي في وثبة واحدة بدلا من ارتقائه في وثبات؛ ومن العجيب أنه إلى ما قبيل الحرب العالمية الثانية لم يكن شيئا مذكورا يلفت(813/39)
النظر ويثير الاهتمام، ولكنه الآن يحتل مكانة في الطليعة من كتاب فرنسا الأحياء، ويكاد مجده الأدبي يغطي على أمجادهم جميعا عن جدارة واستحقاق!
أما شخصيته الأدبية، فتتمثل في تعدد ملكاته ومواهبه. . إنه كاتب تراجم فذ لا يلحق به، وكتابه الذي أخرجه عن (بودلير) يعد في رأي الفن خير كتاب أخرج في موضوعه، منذ أن أحتل أدب التراجم مكانه إلى جانب الفنون الأدبية الأخرى. وله في ميدان النقد الأدبي نظرية جديدة لا أحسب أن أحداً قد سبقه إليها؛ وهي نظرية تنادي بأن الأدب صورة القارئ لا صورة البيئة كما يقول (تين). . . وهو بعد ذلك كاتب مسرحي يغذي المسرح الفرنسي من وقت إلى آخر بإنتاجه الفريد المتميز!
في هذه الأشياء كلها كنت أتحدث مع الدكتور طه حسين، ولقد قال الدكتور فيما قال: إنه يخشى على مجد سارتر الأدبي بسبب ميله إلى السهولة فيما يكتب في هذه الأيام، وإنه لم يرض عن مسرحيته الأخيرة (الأيدي القذرة) يوم أن شاهدها تمثل في أحد المسارح الباريسية.
وأعقب على هذه الفتة فأتساءل: ترى لو نظرنا إلى مجد سارتر الأدبي هذه النظرة بسبب ميله اليوم إلى السهولة فيما يكتب فكيف تكون نظرتنا إلى هؤلاء الذين يكتبون اليوم في مصر، ولا يهمهم ملء الفراغ الروحي الذي تحسه الجماهير بقدر ما يهمهم ملء الفراغ الذي تحسه أعمدة الصحف والمجلات؟!. . . إن أخطر الخطر على الكاتب أن يظن أنه قد بلغ أوج الشهرة وقمة المجد، وألا ضير عليه من الوقوف على السطوح دون التغلغل إلى الأعماق، وهذا هو ما يلقاه المتعطشون إلى المعرفة في هذه الأيام حين يقرءون لبعض كبار الكتاب فلا يخرجون بشيء!
إن المسألة ضرب من الميل إلى السهولة، ولكنها عندنا ضرب من الاستهانة بالقيم والأذواق!
حديث الدكتور طه حسين بك في (بيروت المساء):
في مكان أخر من (الرسالة) تقرأ الكلمة التي بعث بها إليها الدكتور طه حسين بك، والتي نفى فيها ذلك الحديث الذي نسبته إليه جريدة (بيروت المساء) اللبنانية حول الشاعرين: علي محمود طه، وعمر أبو ريشه؛ ويسرني كما يسر الذين ينشدون حقائق الأمور أن يبادر(813/40)
الدكتور الفاضل بتكذيب ما نشر منسوباً إليه، وأن يكون رأيه في الشاعر المصري منذ أيام هو رأيه فيه منذ سنين، دون أن يغض من قيمة هذا الرأي أخطاء نحوية أو لغوية يقع فيها الشاعر، وما أكثر ما يخطئ الشعراء والكتاب المعاصرون في العربية كما يقول الدكتور طه حسين!
أما حديث الدكتور عن الشاعر علي طه في الجزء الثالث من (حديث الأربعاء)، فقد أطلعت عليه منذ أمد بعيد، وما زلت اذكر كل ناحية من نواحيه في مجال الإشادة بحسنات الشاعر والإشارة إلى سيئاته، ولعل ما كبته الدكتور في (حديث الأربعاء) هو الذي أثار دهشتي عندما أوقعت على حديثه الذي نسبته إليه الصحيفة اللبنانية، لأن الفارق بين رأيه اليوم في الشاعر ورأيه بالأمس فارق بعيد!
وإذا كان أديبنا الكبير قد بادر فذكر في كلمته أن شيئاً مما نسب إليه لم يحدث أن أفضى به إلى (بيروت المساء)، فإنني أبادر بتوجيه الشكر إليه خالصا من الأعماق، وأشكره مرة أخرى على هذه التحية الكريمة التي تفضل فخصني بها في ثنايا كلمته؛ أما دفاعي عن الشاعر علي طه، فهو دفاع عما أعتقد أنه الحق. . . وليثق الدكتور طه أن له في نفسي مكاناً يستحقه رجل له في حساب الشعور أكرم الذكريات. . .
عبقرية محمد الإنسانية:
تحت هذا العنوان كتبت في عدد (الرسالة الهجري) مقالا خالفت فيه الأستاذ العقاد في طبيعة نظرته إلى شخصية محمد الإنسانية؛ وأعتقد أنني أوضحت جوهر الخلاف إيضاحاً لا يحتاج مني إلى أكثر مما أوردت من تفصيل، كما لا يحتاج من غيري إلى تعقيب. . . ولكن الأستاذ محمد محمود عماد يعقب على ما كتبت في عدد (الرسالة) الماضي بكلمة عجيبة تبعد كل البعد عن الأفق الذي أدرت فيه حديثي عن محمد الإنسان!
إن جوهر الخلاف بيني وبين الأستاذ العقاد هو أنه يزن إنسانية محمد بميزان العظمة النفسية، بينما أزنها أنا بميزان اللحظة النادرة من لحظات (الضعف الإنساني). . . فموقف الرسول من عبد الله بن أبي، أو من هبار بن الأسود، هذا الموقف الذي يعز مثيله على الأقران والنظراء، ينظر إليه العقاد من زاوية تنطيق - كما قلت - على الرجل العظيم، لا على الإنسان العظيم، لأن محمداً في أمثال هذه المواقف - كما يرى العقاد - أكبر من أن(813/41)
يلقى الأمور لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة!
هل كان الرسول حين شمل عبد الله بن أبي بالصفح والرحمة والمغفرة، ينظر إليه على أنه أهون من أن يعامله معاملة الند للند، أو معاملة النظير للنظير؟ إن هذا المنظار الذي ينظر العقاد من خلاله إلى معدن النفوس وجوهر القلوب، يجعل من الرحمة المحمدية ضربا من التعاظم والكبرياء، وهذا ما ننزه عنه كمال الإنسانية في هذا الإنسان العظيم!
أما تعليق على قول الأستاذ العقاد بأن النبي لا يكون رجلاً عظيماً وكفى، بل لا بد أن يكون إنساناً عظيماً، فلم أقصد من ورائه إلى أن العقاد قد نفى الإنسانية عن محمد قبل أن يكون نبياً كما فهم الأستاذ عماد. . . وإنما قصدت إلى أن اشتراط الإنسانية لنبوة محمد أمر لا داعي لإثباته، لأن محمد كان إنسانا بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولا إلى الناس! ولم يحدث أنني قصرت إنسانية محمد على الرحمة كما يغالط الأستاذ عماد، ولكنني قصرتها على لحظات (الضعف الإنساني). . . وتحت هذه اللحظات يمكن أن تندرج الرحمة وما يماثلها من شتى الفضائل والصفات.
وإذن فلا مبرر لقوله بأن حديث العقاد عن إنسانية محمد كان أشمل وأعم!
تحية الأدب للرسالة:
كتبت مجلة (الأديب) اللبنانية في عددها الأخير ما يلي:
(لاحظنا كما لاحظ معنا كثيرون - والملاحظة تؤلم - غيبة مجلة (الرسالة) عن معرض الكتاب في مدينة اليونسكو في الوقت الذي رأينا فيه عشرات المجلات التي لا ترتفع إلى مكانة (الرسالة) فكرا وقدرا تحتل صدر الجناح المصري، عرضة لأنظار مفكري العالم!. . . حرام أن يغمط حق مجلة قادت ولا تزال تقود الرأي والفكر في العالم العربي ست عشرة سنة؛ بينما يفسح لغيرها ممن لا يعرف لها في التوجيه أو الأدب أي سبيل يذكر! نحن نفهم أن يمنع عرض مجلة (الأديب) في الجناح اللبناني - بينما تعرض الوريقات الصفراء - لأن الأديب كانت وما تزال تقاوم في هذا البلد لرسالتها التوجيهية السامية، وقد عرف هذا البلد (السعيد) بأنه مقبرة لأبنائه المخلصين النابهين. . . ولكن أن يهمل عرض (الرسالة) في الجناح المصري، فهذا موضع دهشتنا!).
هذه اللفتة الكريمة من الزميلة اللبنانية، وهذه التحية الصادقة، تستحقان من أسرة (الرسالة)(813/42)
كل ثناء وتقدير. أما التعقيب على هذا الأمر الذي يثير الدهشة والعجب، فسنفرد له مكاناً خاصاً في العدد المقبل إن شاء الله.
أنور المعداوي(813/43)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
عد الأمواج في المجمع اللغوي:
استمع الأعضاء في جلسة من جلسات مؤتمر المجمع اللغوي إلى تقرير للجنة اللهجات بالمجمع يتضمن الخطة التي وضعتها لاستقراء الألفاظ والتراكيب الجارية على السنة أهل الأقطار العربية وتدوينها في معاجم وأطالس لغوية، وفي التقرير تفصيل لهذه الخطة لا تنتهي فيه إلى غاية مرجوة من هذه الدراسة.
استمع الأعضاء إلى ذلك التقرير، ثم دارت بينهم المناقشة في موضوعه، فاعترض بعضهم على اهتمام المجمع بهذه الدراسة، ومن هؤلاء المعترضين الجارم والعوامري والشبيبي والمغربي وعبد الوهاب عزام، وتلتقي آراءهم في أنه أولى بالمجمع أن يوجه عنايته إلى موضوعات أهم من هذا الموضوع. وساق الدكتور عبد الوهاب عزام بك حكاية ظريفة، قال: خطر لي عندما سمعت هذا البحث مثل سمعته في مدينة (مارسين) بتركيا، كان رجل جالسا على شاطئ البحر ذات يوم فمر به صاحب له فأساله: متى أتيت إلى هنا؟ قال الأول: أنا هنا منذ الصباح. فأساله صاحبه: وماذا تفعل؟ فأجاب: أعد الموج. عند ذلك سأله صاحبه: كم عددت؟ فما زاد على أن نظر إلى موجة وقال: هذه واحدة. فعد الأمواج قد يكون ذا متعة وفائدة ولكنه يشغل عن أمور أهم منه. ولئن كانت دراسة اللهجات أكثر فائدة من عد الأمواج فان بينهما مع ذلك بعض الشبه.
ويرى الشيخ عبد القادر المغربي أن دراسة اللهجات العامية تنافس عمل المجمع، فعمل المجتمع تثبيت اللغة الفصيحة، فان قام بتلك الدراسة فإنه يعطي العامية بذلك اعتبارا في أعين الناس يعرضون به عما نعلمهم من الفصيح. قال: قد يكون بحث اللهجات مفيداً لأولئك الغربيين المستعمرين الذين ينزلون بالبلاد العربية المختلفة ذات اللهجات المختلفة ليشتغلوا بالتجارة أو ليسعوا بالفتنة، أما اشتغالنا نحن بهذا العمل فحرام حرام.
ودافع عن الموضوع فريق آخر، منهم ماسينيون وطه حسين وأحمد أمين ومنصور فهمي، وقد رأوا جميعاً أن العلم يطلب لذاته ولا يسأل عن فائدته. وتولى الدكتور طه حسين الرد على الدكتور عزام والشيخ المغربي فقال: ليس للعالم عمل إلا أن يعد الموج، فعد الأمواج(813/44)
لا يخيف، أما ما يخشاه زميلنا الشيخ المغربي من تثبيت العامية فخشية مبالغ فيها.
وجنح بعض الأعضاء إلى بيان فوائد ودراسة اللهجات، كالأستاذ فريد أبو حديد الذي بين فائدتها في درس التاريخ، ومما قاله أن اللغة وثيقة الاتصال بالقوم الذين يتكلمونها، فدراسة اللهجات بما تكشفه من اتصال بينها تدل على صلات كانت بين الأقوام الذين يتكلمونها.
ثم انتهى المؤتمر إلى الموافقة بالأغلبية على الخطة التي تقدمت بها لجنة اللهجات.
ويلاحظ أن مؤيدي دراسة اللهجات العامية لم يجيبوا عن سؤال المعارضين: أليس لدى المجمع مسائل أهم من هذه الدراسة وأولى بعنايته وجهده؟ فقد ذهبوا إلى تمجيد البحث العلمي واستنكروا السؤال عن الفائدة، وحتى من بين منهم الفائدة لم يذكر أهميتها بالنسبة لبقية أغراض المجمع.
وعبد الله الفقير إليه، كاتب هذه السطور، يريد أن يحمل نفسه لا على التسليم بقدسية البحث العلمي فقط، بل يفرض أن لدراسة اللهجات العامية فوائد لا تحصى ومنافع لا تستقصي، كما يعبر مؤلف (ثمار الإنشاء) ويريد أيضاً أن يحني رأسه ولو قليلاً أمام عظمة علماء اللغات في فرنسا وفي غير فرنسا، ولكنه يريد مع ذلك أن يعرف هل مجمع فؤاد الأول - للغة العربية أو للبحوث العلمية؟ أليست مهمته الأولى المحافظة على سلامة اللغة العربية وتلبية حاجة الناس إلى التعبير الفصيح بمواجهة المستحدث وتصحيح الخطأ وغير ذلك. فهل فرغ من هذه المهمة، بل أقول هل بلغ شيئا ذا بال من النجاح فيها حتى يعد الأمواج ويسعى وراء الحقيقة المطلقة في عالم البحث غير ناظر إلى الأهم والمهم والفائدة؟
إن الناس يرمون المجمع بالتباطؤ والتثاقل في إنجاز الأعمال ذات المنافع القريبة، فالمجمع حين يوغل فيما وراء هذه المنافع يضيف إلى ما يرمي به العقم وعدم الإنتاج المفيد.
القلم والقنبلة:
دافع الأستاذ عبد العزيز الشوربجي المحامي عن أحد المتهمين في قضية القنابل، فأشار إلى المقالات السياسية التي كان يكتبها المتهم، وتساءل: كيف يتصور أن تلقي هذه اليد القلم وتمسك بدلا منه المسدس والقنبلة، واليد التي تكتب دفاعاً عن مصر تعود فتنكب مصر، واليد التي أسالت المداد من عصارة الذهن وفي وضح النهار تعود فتسفك الدماء في الظلام؟ إلى أن قال: هل رأيتم أن كاتبا أو صحفيا انقلب مجرما فوضويا؟(813/45)
وحقا لم نر أحداً من المشتغلين بالكتابة أو الصحافة قد أرتكب هذا النوع من جرائم القتل وسفك الدماء أو أشترك في تدبيرها. ولكني أنظر إلى الموضوع من جانب غير الجانب الخطابي الذي نظر منه الأستاذ الشوربجي، فليس كل من كتب صاحب عقيدة، وكثيرا ما تشترى الأقلام وتؤجر الصحف.
صاحب القلم لا يحمل القنبلة، وما حاجته إليها وقد أفرغ طاقته بسنان القلم، وسكب جهده على الورق؟ إنه يعبر عن ثورته ولا يختزنها، فليس به بخار مضغوطا تفجره القنبلة أو يطلقه المسدس. يصنع حماسة كلمات من نار، فلا يبقي منه ما يصلح لصنع الرصاص أو (الديناميت)، يصول ويجول ولكنه لا يعرف ميدانا غير القرطاس.
وإن صاحب القلم يضني نفسه بالكتابة والتحبير، ولكنه يجد في قلمه متنفساً يخفف عن أعبائه، وما أجدر الكتابة الحرة أو تحسب فيما يشفى من الأمراض العصبية أو يعصم منها.
ومن هنا ندرك قيمة حرية التعبير عن الرأي في صيانة الأمن العام، وأنك لتجد أكثر الأمم استقرار وخلوا من القلائل، هي التي نالت حظا موفورا من حرية الفكر لأن القوى تتجه إلى اصطراع الأفكار ولا تنحرف إلى التخريب والتدمير.
أمر معكوس:
لمصر في فرنسا ملحق ثقافي يفهم الإنسان من وضعه الرسمي والطبيعي إن مهمته تنظيم العلاقات الثقافية بين البلدين على أن يكون الهدف رعاية جانب بلاده من الوجوه المختلفة، فيدعو إلى ثقافتها ويبرزها ويبين آثارها في الحضارات والثقافات بمختلف الوسائل.
ولكن ملحقنا الثقافي في باريس يعكس الأمر، فقد أذاع من مذياع باريس يوم الخميس الماضي حديثا عن العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا في عهد محمد علي الكبير أشاد فيه بفضل فرنسا مؤيدا بما توصلت إليه همته ونشاطه الفائقان من الوثائق والمستندات.
أثر فرنسا في النهضة الثقافية بمصر معروف لم ينكره أحد، وله مكانه في التاريخ، ولكن ما لهذا نبعث الملحقين الثقافيين، ولو أن هذا من أغراضنا لكفانا مئونته الفرنسيون أنفسهم. ثم هل الظروف الحاضرة ملائمة لمثل ذلك؟
نقد مسرحي:(813/46)
كنت ناوياً في أول الموسم المسرحي الحالي أن أتابع الروايات التي تمثلها الفرقة المصرية فأتناولها بالنقد واحدة واحدة، وبدأت فعلا بالمسرحية الأولى (سر الحاكم بأمر الله) وكتبت عن غيرها، ولكني عندما وجدت مستوى ما تعرضه الفرقة هابطا فتر حماسي، وخمدت رغبتي في المعاونة بالنقد على إحياء هذا الفن الذي تلتقي فيه عدة فنون.
وما كنت أدري، ولم يعجبني الخوخ، أني سأضطر إلى شرابه. . . فأكتب عن (أوبريت الحمار).
هي (تمثيلية) عرضتها فرقة شكوكو على مسرح حديقة الأزبكية، ونقلتها الإذاعة في سهرة ليلة الجمعة الماضية، وهي تتلخص في أن حماراً (يمثله أحد أفراد الفرقة) يظهر على المسرحوعلى إحدى أذنيه عدد وعلى الأخرى (نفير) وصاحبه (شكوكو) يسميه (تكس) ويأتي (واحد خواجه) ويركب (التكسي) ويغني له شكوكو: (يا حوحو. . يا ميمي. . . شي) ثم ينزل الستار.
وهي تعتبر مسرحية غنائية من نوع (الأوبريت) ولا بد أن شكوكو يقصد بها أحياء هذا الفن مع شيء من الإبداع والتجديد يبدو في خلوها من وجهة وطنية أو اجتماعية، مما كان يتجه إليه أهل هذا الفن من الجيل القديم. . . ومما يذكر أن هذه (الأوبريت) يدور فيها صراع عنيف بين (الخواجة) والحمار الذي يزعم صاحبه أنه (تكس) وهو كسائر ما في المسرحيات العالمية صراع خالد. . . وهي لذلك (مؤثرة!) وقد أخرجها شكوكو، واشترك أيضا في التمثيل وألفها مؤلف نسيت اسمه.
يبقى أن أذكر المهم، وهو الذي اضطرني إلى شراب الخوخ ذلك أن مجلس الوزراء قرر من نحو شهر انتقال مسرح حديقة الأزبكية من اختصاص وزارة الأشغال إلى وزارة الشؤون الاجتماعية لاستخدامه في (ترقية التمثيل) وذلك أيضاً أن الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية جادة في نقل روائع الفنون إلى مستمعيها لا في مصر فقط، بل إلى كل من ينطق بالضاد في أنحاء المعمورة، كي يقف الجميع على ما يعرض في مسارح القاهرة من تمثيليات رائعة خالدة. . .
أو ليس يدعو كل ذلك إلى أن تنقد تمثيلية الحمار نقداً مسرحياً يلائم مكانها من (ترقية التمثيل)؟!(813/47)
نقطة الخلاف:
رداً على الأستاذ أحمد الظاهر من أعضاء محكمة الاستئناف بعمان - أقول:
(فيروزاباذ) كلمة فارسية هو علم على البلد المعروف، وقد نطقها العرب بالدال وبالذال، كبغداد وبغداذ. ومن سنن العرب إبدال الحروف في لغتهم، وإبدال الذال دالا إذا جاءت متطرفة في الكلمات الفارسية. وقد وردت كلمة (الفيروزابادي) بالدال المهملة في شرح ديباجة القاموس وتاج العروس وفي معجم فرنسيس الإنجليزي الفارسي المطبوع في سنة 1852 م.
وبعد: فالخلاف بين السيد الظاهر وبيني ليس كبيرا كالخلاف بين القاهرة وعمان. . فليس بيننا والحمد لله (عقبة) وإنما هو خلاف على (نقطة).
وللأستاذ تحيتي وشكري على ما في كلمته من روح طيب وأدب جم.
عباس خضر(813/48)
البريد الأدبي
الدكتور طه حسين بك يصحح ما نشر في (بيروت المساء)
أخي الزيات:
نقلت (الرسالة) في عددها الأخير حديثاً نشر عني في إحدى الصحف البيروتية ونسب إلي فيه أني أغض من شأن صديقي الأستاذ علي محمود طه وأبايع صديقي الأستاذ عمر أبو ريشه، فأحب أن أؤكد أني لم أبايع هذا ولم أغض من شأن ذاك، وما كان لي أن أفعل؛ فأنا أحب الشاعرين جميعاً وأحفظ لهما مودة ثابتة. وإذا لم تخن الذاكرة فقد كتبت فصلاً خاصاً منذ وقت طويل أثنيت فيه، بالحق، على شعر الأستاذ علي محمود طه. ولا يغير من رأيي فيه أنه يخطئ في العربية هنا وهناك. وما أكثر ما يخطئ الشعراء والكتاب المعاصرون في العربية!
وأظنك توافقني على أن صحة اللغة شرط أساسي من شروط الشعر الجيد.
أما الأستاذ عمر أبو ريشه فقد قلت غير مرة وما زلت أقول أني أكبر شعره وأعجب به؛ وليس هنا موضع التفصيل لأسباب هذا الإعجاب، ولكن الإعجاب بشاعر شيء ومبايعته شيء آخر.
وما أعرف أني بايعت شاعراً أو كاتباً قط؛ وما أظن أن سأبايع شاعرا أو كاتبا قط؛ فهذا نوع من السخف لم أشارك ولا أريد أن أشارك فيه.
وقد كنت دائما شديد الحرص على هذه الحرية التي تبيح للناقد أن يقول للأديب أخطأت أن أخطأ وأصيب أن أصاب. وقد جاوزت السن التي ينزل الناس فيها عن حريتهم.
فليطمئن الكاتب الأديب الذي دافع مشكورا عن صديقي الأستاذ علي محمود طه فقد دافع عنه في غير حاجة إلى الدفاع. وليقرأ أن شاء حديثا عن الأستاذ علي محمود طه صورت فيه رائي في جيد الشعر ورديئة وفي صوابه وخطأه، وهذا الفصل منشور في الجزء الثالث من حديث الأربعاء كتب منذ خمسة عشر عاما ولم يتغير رأيي في الشاعر الصديق الآن.
ولك وللكاتب الأديب تحيتي صادقة وشكري خالصا.
(الزمالك)(813/49)
طه حسين
هل الحج يغسل الذنوب جميعا؟
. . . قرأت مقالكم (حج غير مبرر) فأوافقك في جانب منه كل الموافقة ويوافقك معي كل من في قلبه قدر من الأيمان - وأخالفك في جانب أخر كل المخالفة ويخالفك معي كثير.
فأما ما أوافقكم عليه، فهو إنكار ما يفعله ذلك الفاسق الفاجر وتقبيح ما يأتيه، وتنفير المسلمين من أمثاله، وتنبيه أولي الأمر على الضرب على يده.
وأما ما أخالفكم عليه، فتجاهلكم الحديث شاع على السنة المسلمين في شتى العصور والأمصار، وأعتز به كل مؤمن وسكن إليه قلبه، وروته كتب الحديث الكبيرة وغير الكبيرة. ألا وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). رواه البخاري ومسلم والدارقطني وغيرهم كثير مع اختلاف يسير في اللفظ واتفاق في المعنى.
ويرى أبن حجر أن المغفرة بسبب الحج عامة لكل الذنوب. وخصصها الطبري في تفسيره بالمظالم التي تاب عنها صاحبها وعجز عن وفائها. ورأى الترمذي قصرها على حقوق الله خاصة.
ولو كنتم فضلتم رأياً على رأي مما ذكرنا، ما رأينا بأسا قط؛ ولكنكم يا مولاي قلتم: (أغتر على ما يظهر بقول المتزيدين من جهلة الشيوخ: إن الحج وحده يمحص الذنوب ويمحو الخطايا. . . فيعود منها وهو نفي الصحيفة كيوم ولدته أمه) فمن هم الشيوخ الذين تقصد؟ الأزهريون أم أبن حجر ومن ذهب مذهبه؟ طبعا الأزهريون - وما الذي تزيدوه؟ لم يتزيدوا شيئا اللهم إلا أيثار وجهة على وجهة، وزيادة الرجاء في عفو الله.
وأخشى ما أخشاه أن يتجرا من لا صلة له بالدين على إنكار ما لا يوافق مزاجه من الأحاديث وأراء العلماء استنادا على ما فهم أو ما دلت عليه عبارتكم من إنكار حديث سلم به المسلمون ولهجوا به في مشارق الأرض ومغاربها.
ولكم في الختام أطيب التحيات.
محي الدين حمودة(813/50)
المدرس برأس التين الثانوية
(الرسالة): يا سيدي، إن الشيخ الذي قال ذلك لم يورد الحديث ولم يشر إليه حتى تقول إنه أنكره أو شكك فيه، إنما أنكر تزيد القائلين بأن الحج (وحده) يمحص الذنوب ويمحو الخطايا. . وبين أثر هذا التعميم في تأمين المجرم وتهوين الجريمة. ولتزيد ملحوظ في تفسير المتساهلين المبالغين من الحجر بين الذين قالوا أن المغفرة بسبب الحج عامة لكل الذنوب من غير قيد ولا شرط، ففتحوا الباب لكل عاص وسهلوا الحجاب لكل مجرم. أما الحديث بنصه في البخاري ومسلم، وتفسيره للطبري أو الترمذي، فلا تعقيب عليه ولا جدال فيه.
وفاة السيدة زينب:
قرأت في عدد (الرسالة 812) كلمة الأستاذ حسن إبراهيم نقل عن سبب وفاة السيدة زينب فمن دلف أن أنقل كلمات موجزات من كتب الثقات لإزالة الأشكال:
1 - خرجت زينب - صلوات الله على أبها وعليها - مع أبن كنانة من مكة، فخرجوا في أثرها، فأدركها هبار بن الأسود فجعل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، فألقت ما في بطنها وأهريقت دما.
2 - ماتت زينب في سنة ثمان من الهجرة، وكان سبب وفاتها سقوطها من بعيرها لما طعنه هبار، سقطت على صخرة فأهريقت دما، ولم تزل مريضة بذلك حتى ماتت.
3 - خرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، وكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود فروعها وهي في هودجها وكانت حاملا فيها يزعمون، فلما وقعت ألقت ما في بطنها، فبرك حموها ونثر كنانته وقال: والله لا يدنومني رجل إلا إذا وضعت فيه سهما فتكركر الناس عنه. . . الخ.
المصادر: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى للمحب الطبري ص156 من طبعة القاهرة، حيث ترجم لها في خمس صفحات.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين الهيثمي ج 9ص 212 من طبعة القاهرة، حيث بسط ترجمتها في خمس صفحات كذلك.(813/51)
عبد الله معروف
حول كاد أن:
قال الأستاذ فاروق أحمد سلام بمعهد إسكندرية الديني في معرض رده على من قال إن تجرد المضارع الواقع في خبر كاد من أن قياس مطرد، أن الحديث الشريف يتفق مع القرآن في أن القرآن لا يأتي باللغات الشاذة وإلا لما كان معجزاً فكذلك الحديث لا يأتي باللغات الشاذة قال تعالى وما ينطق عن الهوى وقول الشاعر: كادت النفس أن تفيض عليه - والشعر العربي إذا تعددت فيه الأمثلة فلا يكون ذلك ضرورة ولا شاذاً وإنما هو قاعدة مسلم بها.
وأنا أقول: حقا أن الحديث لا يأتي بالشاذ وهذا إذا تأكد صدوره من في فم المعصوم بلفظه فمن الجائز أن يكون مرويا بالمعنى؛ وفي هنا نقل الأمير في حاشيته على المعنى نقلا عن السيوطي قال إن التحقيق أن الأحاديث لا يحتج بها في العربية لدخول المولدين في روائها بل والأعاجم، وعدم الثقة بأن هذا اللفظ النبوي لجواز الرواية بالمعنى. وشنع ملا على قاري بأن الأصل أن الراوي لم يغير اللفظ وحمله على الإصلاح مقدم. وقد استشهدوا بكلام العرب مع أن رواته مولدون؟ ولكن يقال أن الغرض في الحديث المعنى، ولذا صححوا جواز روايته بالمعنى؛ وأما كلام العرب فالمقصود الأهم فيه اللفظ لإثبات اللغة فلا يبعد على هذا تساهلهم في الحديث بما لا يتساهل في مثله.
فعند التحقيق العلمي ترى تعليله واهبا من الوجهة العلمية والاستشهاد بالآية في غير موضعها، فإنه يستدل بها على كمال صدق الرسول عليه السلام فيما يبلغ عن ربه فإذا نطق فإنما ينطق عن إخلاص وحق. ومما لا جدال فيه أنه إذا صح كلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حجة بلا نزاع، فهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء. وحجته بألفاظ القرآن قطعية، لأن المتن مقطوع به فتنظيره بالحديث غير وجيه فانه غير مقطوع به فرد الاستشهاد بالحديث لما طرأ عليه من روايته بالمعنى وعدم الجزم يورده لا التشكك في حجية كلام المعصوم. والعبارة التي كتبها في مجلة الرسالة هي بنصها في أبن عقيل على ألفية أبن مالك ولا يغيب عن الأذهان أن النحويين واللغويين لا يعول عليهم في روايته(813/52)
للحديث فكم من حديث استشهدوا به وهو غير صحيح وإذا تمسك به طالبتاه بتصحيح الرواية، فما قالته الرسالة صحيح لا غيار عليه.
علي الطوبجي
من علماء أسيوط
القصة العربية الحديثة في القرنين الأخيرين:
(يعد الأستاذ محمد نجم، أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية ببيروت دراسة وافيه عن القصة في الأدب العربي الحديث، وهو يرجو الأدباء الذين عالجوا كتابة هذه الفن من الأدب أن يكتبوا إليه نبذاً مفصلة عن حيواتهم وثقافتهم وإنتاجهم الأدبي مع ذكر التواريخ الدقيقة إن أمكن. كما يرجو هؤلاء الأدباء أن يرسلوا إليه نسخا من كتبهم وهو مستعد لشراء الكتب بالأثمان التي يحددها أصحابها، وعنوان المراسلة هو ص ت 2208 القاهرة).
(1) ميلاد أبن عربشاه:
في ص 1321 من عدد (الرسالة) 803 (ولد أحمد بن عريشاه بدمشق عام 791). والذي في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبن العمادج 7ص 283) أن مولده سنة 790.
وفي الصفحة نفسها (ودفن بالخانقاه الصالحية) والصواب (الخانقاه الصلاحية) على ما في ترجمته في (تاريخ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) ج2 ص129.
(2) قبرس:
في ص 1272 من عدد (الرسالة) 801 (قبرص) بالصاد والصواب (قبرس) بالسين. قال المؤرخ عز الدين بن الأثير في كتابه (اللباب في الأنساب) المطبوع بالقاهرة، في ص 240 من الجزء الثاني: قبرس بضم القاف وسكون الباء وضم الراء وفي آخرها سين وهي جزيرة في بحر الروم. . .
محمد أسامة(813/53)
الكتب
عالم الذرة أو الطاقة الذرية والقنبلة الذرية
تأليف الأستاذ العالم نقولا الحداد
ما يستطيع إنسان أن يجهل أن الأستاذ نقولا الحداد عالم أصاب من العلم نصيباً كبيراً، وأديب ضرب في الأدب بسهم وافر، وهو بين هذا وذاك في نشاط مستمر ودأب لا يستقر، يخرج على الناس - دائما - بقصة مستملحة أو بحث طريف، وهو سباق إلى الجلي، فهو أول من نشر باللغة العربية كتابا مسهبا في نظرية النسبية لأينشتين، وهو من أوائل من نشروا بحوثا مستفيضة عن الطاقة الذرية. وكتاب (عالم الذرة) من الكتب الجليلة الفريدة في نوعها، أحاط بتاريخ الذرة منذ أن كانت خيالا في أذهان العلماء، لا تسمو إليها التجارب العملية، ولا ترقى إلى كنهها العقيدة الراسخة، إلا تكهناتفرضية، أو معادلات رياضية، إلى أن أصبحت شرا مستطيرا تعصف بالزرع والضرع والناس في طرفة عين.
ولا يسعني - بعد إذ استوعبت كتاب الأستاذ نقولا كله - إلا أن أهمس في أذنه فأقول: يا سيدي، قد يعجز العالم عن أن يكون معلما، وذلك حين لا يستطيع أن ينزل إلى مستوى تلميذه، أو أن يرقى بتلميذه إلى مستواه هو. وأنت في كتابك أردت أن تكون معلما. . . ولكن. . .
ولقد كان يخيل إلى وأنا أهم أن أقرأ الكتاب أنني سأجده كتابا وسطا على نمط كتبه (كيلاواي) في الذرة، أو ما كتبه غيره من علماء الغرب. ولكن كتاب (عالم الذرة) كان بحثاً عالياً عرض لنظريات العلماء الذريين منذ رثرفورد وموزلي عرضا علميامختصراً. ثم تحدث عن ترتيب العناصر الدوري لندليف دون أن يوطئ لهذا الحديث بكلمات تكون بمثابة المدخل.
وإن القارئ ليحس اضطرابا في الصفحات الأولى من الكتاب وكان الأجدر بالأبواب الثلاثة الأولى أن تكون على النظام الأتي:
1 - العناصر.
2 - الجزيء وتركيبه في العناصر والمركبات.
3 - الذرة وعلاقتها بالجزيء.(813/54)
4 - تركيب الذرة من نوعي الشحنات.
5 - الإلكترون والبروتون.
6 - الأفلاك الذرية.
ولن يجد المرء صعوبة في أن يوفى المواضيع السابقة حقها من الشرح والإيضاح في أسلوب رقيق سهل، فتكون أقرب مأخذا وأسرع إلى الفهم، كما فعل المؤلف حين أراد أن يوضح العلاقة بين مناطق الإلكترونات في الذرة، وبين الخواص الكيميائية الدورية التي نبهت مندليف إلى ترتيب العناصر في جدوله.
ويتمسك المؤلف برأي أينشتين في أن الطاقة والمادة شيء واحد، وهو بحث علمي رياضي يجب أن تغفله في كتاب عام أنشئ ليوضح فكرة جديدة في سهولة ويسر.
وفي ص 68 ينصح المؤلف القارئ فيقول: (ويلاحظ القارئ أن في سياق الحديث بعض النقط الفنية عويصة قد يتعب ذهنه في إنعام النظر فيها. إذ لا يمكن التوسع في تبسيطها لأنه يستلزم مضاعفة صفحات الكتاب، والكتاب مجال محدود لا يسمح بذلك التوسع، فللقارئ أن يتجاوز هذه النقط إذا لم يشأ التريث للفهم). وكان في قدرة المؤلف أن يسد النقص الذي يومئ هو إليه لو أنه أغفل كثيرا من المواد الجافة المعروضة ليحل محلها الشرح الوافي المبسط للنقط الهامة.
وفي الكتاب هنات يسيرة أعرضها في ما يأتي:
1 - خرج المؤلف عن المألوف في ترجمة بعض المصطلحات العلمية. ففي صفحة 29 بالجو المغناطيسي الجاذبي والصحيح المجال المغناطيسي. وترجم بالجو الكهربائي والصحيح المجال الكهربائي. وفي صفحة 34 ترجم بالقوة الدافعة الكهربائية والصحيح القوة الطاردة المركزية
2 - قال المؤلف في ص 52: الجرافيت وهو الفحم الجوى المضغوط. والصحيح أن الجرافيت صورة من صور الكربون توجد في الطبيعة في سيبيريا وسيلان والهند وإنجلترا وكاليفورنيا يمكن الحصول عليه صناعيا من تسخين خليط من الفحم الحجري أو فحم الكوك ومن الحديد بنسبة 3: 97 في فرن كهربائي فينتج نوع نفي من الجرافيت الصناعي ويتبخر الحديد من أثر الارتفاع الشديد في درجة الحرارة.(813/55)
3 - وجاء في ص 15: إذا كانت ذرة ما كذرة الراديوم مثلا تنفث ذريرة (ألفا) التي كتلتها (أي وزنها) 4. . . الخ. فاعتبر الكتلة هي الوزن في حين أن الكتلة هي مقدار ما يحويه الجسم من المادة، أما الوزن فهو مقدار جاذبية الأرض للجسم. وبينهما بون شاسع.
4 - وفي ص 67 كتب: كتلة سرعة=زخما
والصحيح أن الكتلة السرعة=العزم
وفي نفس الصفحة ذكر أن: السرعة هي مدى انقذاف المقدار في الثانية. والصحيح أن سرعة جسم متحرك هي معدل إزاحته في الثانية الواحدة. على هذه الهنات لا تضع من القيمة العلمية والفنية لكتاب هو الأول في بابه صدر عن عالم مختص يقرأه القارئ المثقف واثقا مما يقرأ مطمئنا إلى ما يفهم، وإذا كان المأخذ الجوهري الذي أخذناه عليه هو ارتفاع مستواه عن ذهن القارئ العادي فان معظم القراء أصبحوا اليوم من الثقافة بحيث لا يجدون صعوبة في أدراك الحقائق العلمية مصبوبة في أي قالب؛ فهم يحتاجون إلى الاستزادة أكثر مما يحتاجون إلى الاستفادة. فللأستاذ المؤلف الشكر على ما بذل ويبذل من الجهد العظيم ونشر الثقافة وإفادة النشئ وخدمة الأمة.
كامل محمود حبيب(813/56)
القصص
الحلم
للكاتب الأيرلندي لورد دتساني
رأيت في المنام أني اقترفت جرما فظيعا رفضوا من جرائه أن يدفنوني في الأرض أو في البحر، بل لم يكن لي مكان حتى في الجحيم. عرفت ذلك وأنا في انتظار مصيري عندما أقبل أصدقائي وقتلوني سرا في احتفال ديني أضاءوا فيه الشموع، ثم حملوني بعيدا عن لندن، رحلوا في دجى الليل وساروا في طرق موحشة بين صفين من الديار الصغيرة حتى وصلوا إلى النهر، وكان في صراع مع مد البحر بين الضفاف الموحلة وفي ظلام الليل الدامس، فعرتهما دهشة فجائية من رؤيتهما أصدقائي وقد انعكست أنوار شموعهم على صفحة الماء. أدركت كل ذلك بينما كانوا يحملون جثتي المتيبسة، فقد كانت روحي لا تزال بين عظامي لأنه لم يكن لها مأوى في السماء.
ونزلوا درجا أخضرا موحلا، فدنوت شيئا فشيئا من الطمي المرعب. وهناك حفروا حفرة قليلة الغور وأرقدوني فيها بين المهملات. ثم ألقوا فجأة بشموعهم في النهر، فانطفأت شعلتها وانسابت تندفع معالمد صغيرة شاحبة. وجعلت أراقب شروع الفجر وأشاهد أصدقائي يتسللون خفية الواحد تلو الأخر وقد توشحوا معاطفهم.
وأقبل الطمي وغطى كل شيء عدا وجهي. ورقدت هناك بين المفقودات والأحجار المتداعية والمهملات وكل ما هو في طي النسيان، وقد تخلصت من احساساتي، لأني كنت ميتا - قتيلا ولم يبقى لروحي التعسة سوى الإدراك والتفكير. وبزغ الفجر فأبصرت الديار المهجورة تزخر بها حافة النهر، وقد أطلت على نوافذها الميتة تحدق في بأعين لا حياة فيها، نوافذ يجثم وراءها الشر وقد خلت من أرواح البشر، وازددت جهدا وأنا أتطلع إلى تلك المهملات فاشعر بالرغبة في البكاء دون أن أبكي لأني في عداد الأموات. ثم عرفت ما لم أكن أعرفه من قبل - أن هذه الديار المهجورة كانت تود أن تبكي مثلي طوال الأعوام التي مرت عليها. ولكنها بكماء لا حياة فيها. وكم كنت أود أن تبكي هذه الأشياء المتراكمة المهجورة فأشعر بالراحة لبكائها، ولكنها كانت أيضا ميتة كفيفة البصر، وكان حالي مثل حالها، فقد حاولت البكاء فلم يتساقط الدمع من عيني. وكنت أعرف أن النهر يستطيع لو(813/57)
أراد، أن يعتني بنا، ويحنو علينا، ويغني لنا. ولكنه كان يندفع جاريا دون أن يفكر في شئ سوى ما يحمله معه من سفن فاخرة.
وأخيراً فعل المد ما لم يفعله النهر، وأقبل وغطاني، فانتشت روحي بعد أن رقدت تحت الماء الخصر، وخالجها اعتقاد أنها مدفونة في البحر. وما انحسر الماء حتى رجعت إلى الطمي بين المهملات وعدت إلى مشاهدة الديار المهجورة وعادت إلي معرفتي بأننا جميعا أموات. ثم بدا لي نفق حالك وممرات سرية ضيقة تخترق ذلك الحائط الكئيب الواقع خلفي وقد غطته الأعشاب الخضر، فأقبلت منها الجرذان تتسلل لتقرضني، وابتهجت روحي عندئذ، واعتقدت أنها ستغدو حرة، فتخترق نطاق تلك العظام الملعونة التي رفض دفنها. ولكن سرعان ما ولت الجرذان هاربة مبتعدة عني، ثم جعلت تتشاور فيما بينها، ثم لم تعد إلى بعد ذلك. وهنا عرفت أني ملعون حتى بين الجرذان، وحاولت عندئذ البكاء دون جدوى. ثم أقبل المد وعاد يتأرجح حتى غطى الطمي المهول، وأخفى الديار المهجورة، وواسى الأشياء المهملة، وأراح روحي فترة وهي مدفونة في مياهه. وأخيرا هجرني وأبتعد.
وهكذا أصبح المد يقبل ثم يعود سنين عديدة، إلى أن وجدني بعضهم، فانتزعوني من الطمي ودفنوني دفنا لائقا. وما أن رقدت في أول رمس حتى عاد أصدقائي وأخرجوني منه وأعادوني إلى حفرتي في الطمي.
وكم من المرات تجد عظامي مدفنا لها على كر السنين، وفي كل مرة يكمن أحد هؤلاء الرجال المرعبين، حتى إذا ما أتى المساء يقبل فيحفر ثم يخرجني من رمسي ويحملني ويعود بي إلى حفرتي الأولى.
وفي ذات يوم مات رجل من هؤلاء الذين فعلوا بي هذا الفعل المروع. وسمعت روحه تتصاعد فوق النهر عند الغروب. وحينئذ أشرق في روحي الأمل.
ومرت الأسابيع عندما وجدوني مرة أخرى، فأخرجوني من ذلك المكان المتقلقل ودفنوني في أعماق الأرض المقدسة. وعاود روحي الأمل في أن تظل هناك أبدا. ولكن سرعان ما أقبل رجال متشحون بالمعاطف ويحملون الشموع، وأعادوني إلى الطمي، لقد أصبح ذلك الأمر لهم تراثا وتقليدا. وسخرت مني المهملات في قلوبها الصم عند عودتي، فقد كانت(813/58)
تغار مني لتركي الطمي. وكنت لا أزال أذكر أني لا أستطيع البكاء.
ومرت السنين تجري كما يجري النهر صوب البحر حيث الزوارق ترحل وتعود السفن الهائلة الهائمة يبتلعها الموج، وما زلت راقدا بلا أمل، لأني لا أجرؤ أو آمل دون سبب، نتيجة حسد المهملات المروع وغضبها الشديد.
وفي ذات يوم هبت عاصفة هوجاء، أقبلت جنوبا من بعيد، قادمة من البحر، ثم عرجت على النهر تصاحبها الريح الشرقية العاتية، وتغلبت على الجزر وهي تسير في خطى واسعة فوق الطمي الغافل. وابتهجت المهملات واختلطت بغيرها من الأشياء المبتهجة، وانساقت السفن الفاخرة وهي تطفو من أعماق الماء، وأخذت العاصفة عظامي من مرقدي الموحش، فشعرت بأمل يترعرع في نفسي في أنه لن يعكر على الجزر صفو مرقدي بعد ذلك. وعندما أنحسر المد كانت العاصفة قد ولت تقتفي أثر النهر صوب الجنوب، ثم عادت إلى مقرها بعد أن تعثرت عظامي بين جزر كثيرة على طول السواحل. وكادت روحي أن تتحرر من أغلالها عندما أرتفع المد الدافق تحت ضوء القمر وعبث بما تركه الجزر، ولم عظامي من هذه الجزائر وعاد بها من هذه السواحل، ثم ذهب ينثني صوب الشمال حتى وصل إلى مصب التيمس، وهناك تحول غربا والتقى بالنهر وصعد معه حتى أقبل إلي الحفرة فألقى فيها عظامي. ثم أنحسر المد فشاهدت أعين الديار الميتة، وشعرت بغيرة المهملات التي لم تحملها العاصفة.
ومرت قرون على ذلك التنازع بين المد والجزر، ولا زلت تحت قبضة الطمي بين هذه المهملات الموحشة، وأنا عاجز عن التحرر من أغلاله. واشتقت إلى حنان الأرض الدافئة، وأحضان البحر الخصم.
وكان الناس بعض الأحيان يعثرون على عظامي فيدفنونها. ولما كانت التقاليد لا تزال على حالها من الوجود فقد أصبح خلفاء أصدقائي يقومون دائما بإعادتي إلى الطمي. وأخيرا أنقطع إبحار السفن، وخبا ضوء النهار، ولم يعد يطفو على الماء إلا جذوع الأشجار القديمة وقد اقتلعتها الريح من جذورها. وشعرت مع الزمن بنمو الأعشاب بجواري وأخذت الطحالب تنبت فوق الديار الميتة. جعلت أراقب هذه التطورات سنين عديدة إلى أن تأكدت تماما أن لندن في طريقها إلى الفناء. وحينئذ أشرق الأمل مرة أخرى، مع أني كنت أعرف(813/59)
أن كل من يجرأ على أن يأمل وسط الطمي يثير عليه غضب المهملات الملقاة علىضفتي النهر. وشيئا فشيئا تداعت الديار المخيفة، ووجدت لها مدفنا لائقا لين الأعشاب والطحالب. ثم تفتحت الأزهار البرية واستطالت النباتات المتسلقة، وأطلت فوق الأكمات. وحينئذ عرفت أن الطبيعة قد انتصرت وأن لندن قد أصبحت أطلالا. وأقبل آخر إنسان إلى الحائط بجوار النهر في معطف رث من تلك المعاطف التي كان يرتديها أصدقائي، وحدق ليرى إذا كنت لا أزال هناك ثم رحل ولم أشاهده بعد ذلك. لقد رحلوا جميعا كما رحلت لندن.
وبعد أيام، أقبلت الطيور الشادية، ونظر بعضها إلى بعض عندما شاهدتني، ثم طارت بعيدا عني وجعلت تتشاور فيما بينها، فقال أحدها (أنه لم يأثم في حقنا، وإنما أثم ضد الإنسانية) فقالت (إذن دعونا نحنو عليه).
ثم حطت بالقرب مني وأخذت تغرد. واستمعت إلى شدو المئات منها عند الشروق، على ضفاف النهر، وفي عنان السماء وخلال الغابات، وتعالى عناءها عندما سطع الضوء، وازدحمت فوق رأسي حتى أصبحت آلافاً مؤلفة، ثم ملايين، فلم أرى أخيرا إلا أجنحة تصطفق تحت قبة السماء وارتفعت روحي من عظامي الراقدة في الحفرة الموحلة، وأنا أستمع إلى هذه الأغاريد المشجية، وأخذت تتعالى في عنان السماء مع الألحان. وبدا لي وكأنما قد شق طريق بين الطيور، ارتفعت فيه روحي وظلت ترتفع حتى دلفت إلى الجنة من أحد أبوابها الصغيرة وقد فتح على مصراعيه في نهاية السماء. وعندئذ عرفت أني قد انتشلت من ذلك الوحل ولن أعود إليه مطلقا، فقد وجدت فجأة أني أستطيع البكاء.
وفي نفس اللحظة فتحت عيني فوجدتني في فراشي بلندن، وسمعت الطيور تغرد فوق شجرة في الخارج تحت أشعة الصباح الخلابة. وكانت عيني منداة بالدموع، فإن إرادة الإنسان أضعف ما تكون أثناء النوم. وهببت من فراشي وفتحت النافذة، وبسطت ذراعي فوق الحديقة الصغيرة، وباركت الطيور التي أنقذني شدوها من حلمي الطويل المخيف المزعج.
محمد فتحي عبد الوهاب(813/60)
العدد 814 - بتاريخ: 07 - 02 - 1949(/)
قروية فيلسوفة
- 2 -
قالت أم عامر - والمعنى لها واللفظ لي -: نشأت كما تنشأ القرويات الفقيرات، على التلول كالدجاج وأنا طفلة، وبين الحقول كالذئاب وأنا صبية. آكل الجشب وأستمرئه، وأشرب الكدر وأستسيغه، وألبس الخشن وأستلينه، وأفترش المدر وأستوطئه، وأعالج الصعب وأستسهله، والذي أحلى المر في فمي، وجمل القبيح في عيني، وألان الغليظ لجانبي، صحة كصحة الظبي الشادن لم تجنح يوماً لراحة ولم تحتج أبداً إلى دواء؛ ومرانه على عنف الطبيعة لا تفرق طاقتها بين صبح ومساء ولا بين صيف وشتاء؛ ونفس راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء، فأنا أشارك أمي في عمل البيت ولا تستثن غير الكانون، وأعاون أبي في شغل الغيط ولا تستثن غير المحراث، وفي الفترات القصيرة القليلة بين عمل وعمل، يجدونني في الحارات أمرح أو في القنوات أصيد. . .
أذكر أني كنت ذات يوم جالسة على حافة الجدول المنساب أتغدى أنا وأختي الصغيرة على خوان من النجيل، رأيت ابنة الباشا مالك الأرض وسيد الناس مقبلة، يقدمها كلبها الذئبي الضخم، ويتبعها خادمها النوبي النحيل، وفي يدها شص تطويه على قصبته وتنشره. وابنة الباشا صبية لا تجاوز العاشرة، فهي في مثل سني، تقيم طول عامها في المدرسة بالقاهرة فلا تلم بالريف إلا أياماً في أوائل الخريف. . . أقبلت حتى وقفت بازائي وحيت ثم ألقت شصها في الماء وجعلت تنظر إليه وتنظر إلي. . . فدعوتها إلى الطعام على عادتنا، فشكرت واعتذرت ثم قالت وهي تبتسم:
أتأكلين الحشيش كالبهائم؟
فقلت لها: ليس هذا حشيشاً، وإنما هو بقلة من أحرار البقول نسميها السريس؛ وأنا آكله ليخفف من ملوحة المش ويكسر من حرارة البصل.
فقالت وهي تمط شفتيها الرقيقتين: ولكن اللحم خير منه فقلت لها: نعم خير منه؛ ولكن موسمه لم يحن بعد، فنظرت إلي نظرة المتعجب المهتم وقالت: موسمه! وهل للحم موسم؟
فأجبتها: نعم إن للحم مواسم خمسة لا نأكله إلا فيها: نصف شعبان، وأول رمضان، والعيد الصغير، والعيد الكبير، وليلة عاشوراء. فقالت: وماذا تأكلون بقية العام؟(814/1)
فقلت: نأكل الحبوب والبقول واللبن الرائب والجبن الأريش والمش المعتق. . . فبدت على قسماتها الجميلة مخايل الشك في قولي، وهمت تقول شيئاً لولا أن رأت غماز الشص يغطس ويعوم فشغلت به، وجذبت الشص من الماء، فإذا به يعلق بشبارة في حجم كفها الصغيرة، فاستطارها الفرح، وهزها النجاح، وأخرجت الشص من فم السمكة المضطربة وناولتها الخادم، وأرادت أن تطعمه فلم تجد طعماً فسألتني: من أين يأتون بالثعابين الصغيرة؟ فقلت لها وقد فهمت أنها تريد تلك الديدان الطويلة الحمر التي تعيش في الطين: أنا آتيك ببعضها، ثم حفرت بجانب القناة وأخرجت لها من باطن الحفرة قطعة من الطين وأريتها كيف يجول في أحشائها الدود، فابتهجت لذلك ابتهاجاً شديداً. ومن ذلك اليوم وصلني بها سبب من الأنس والعطف، فكانت كلما زارت القرية افتقدتني وطلبتني، فيرسلني إليها أهلي فخورين مسرورين، فألقاها في حديقة القصر، أو ساحة الجرن، فنعدو على مخضوضر النبات، أو نرتجح على فروع الشجر، أو نصطاد على حواف الماء، أو نستبق على ظهور الحمر، أو نتهادى على مماشي الحقول، وقدرتي على كل أولئك فوق قدرتها، وكلمتي أعلى من كلمتها؛ فأنا أشأوها في العدو، وأمهرها في الارتجاح، وأكثرها في الصيد، وأسبقها في الرهان، وأحملها في اجتياز المواحل، وآخذ بيدها في تخطي الحفر، وهي ترى ذلك كله فتعجب وتقول:
كيف تستطيعين ما لا أستطيع وأنت لا تطعمين اللحم، ولا تأكلين الفاكهة، ولا تذوقين الشكولاته؟
فأقول لها: إن الله يعطينا القوة لأنه خلقنا للعمل، ويعطيكم الثروة لأنه خلقكم للإنفاق!
وترعرعت سيدتي (جيهان) وشبت، فانقطعت عن حياة المدرسة واتصلت بحياة القرية، فكنت عندها في منزلة بين الصديقة والخادمة؛ أقضي معها آخر النهار في حديقتها، أو أول الليل في غرفتها، أطرفها بأخبار القرية، وأطربها بأغاني الريف، وأنا أراها كل يوم تفتر وتضعف وتذوي، وهي تراني كل ليلة أنشط وأقوى وأنتعش، فيشتد عجبها، وتزداد حيرتها، وتحاول أن تعرف الأسباب التي جعلتني قوية على الفاقة والحرمان والكد، وجعلتها ضعيفة على الغنى والسرف والرفاهة، فمن هذه المحاولات أنها طلبت مني أن آتيها خفية بوجبة من المش والبصل والسريس وخبز الذرة، ولم يكن في الأرض سريس(814/2)
يومئذ، فاستبدلت به الجلوين وجئت بما طلبت، وكانت تنتظرني وحدها في كشك الحديقة فلما وضعت بين يديها ما حملت نظرت إليه نظر الهائب، وأقبلت عليه إقبال المضطر، واقتطعت من الرغيف لقمة وغمستها في المش ووضعتها في فمها، فلم تكد تذوقها حتى كرشت من وجهها، وخاوصت من عينيها، كما تفعل الفتاة الساذجة إذا أكرهها الطبيب على جرعة من الكنياك، ثم تحاملت على نفسها فساغت من الطعام بضع لقيمات، ثم تقززت عنه وقالت في اشمئزاز وتكره:
كيف تعيشون على هذا وإن مذاق بعضه لأليم وإن مذاق بعضه لتافه؟
فقلت لها: يا سيدتي، لقد أتيتك بطعامي ولم آتك بشهوتي، ولو أتيتك بشهوتي لاحتجت أيضاً معدتي.
واعتلت صحة الآنسة جيهان من سأم الراحة ومعاناة الترف، فقلبوها بين المصايف والمشاتي، ونقلوها بين الجبال والأبحر، وعرضوها على مصر وطب أوربا، حتى شبا وجهها ونضر عودها، وثاب إليها جسمها، فزوجوها من أحد الباشوات القارونيين فلم تجد عنده أكثر مما وجدت عند أبيها. نعم، وجدت لذتين لم تجدهما من قبل: متعة الزوج وفرحة الولد؛ ولكنهما لذتان شائعتان بين الإنسان والحيوان تجدها كل زوجة تحب وكل والدة تلد. وهاهي ذي قد بلغت الغاية في الثراء الضخم والجاه العريض، أبوها باشا وأخوها باشا وزوجها باشا وأبنها باشا، وكل أولئك لم يعصمها من السكر والروماتيزم والكباد والسمن والرهل والأرق، فلا تأكل إلا أقل الأكل، ولا تنام إلا أيسر النوم، ولا تتحرك إلا أثقل الحركة. وها أنا تي لا أنفك على الحال التي كنت عليها: أبي فقير وزوجي ضرير وابني الأول خفير وابني الثاني أجير. ومع ذلك لا أزال شابة على رغم السنين، قوية على رغم العمل، صحيحة على رغم النصب، سعيدة على رغم الفقر، أدير أسرتي ككل سيدة، وأصيب لذتي ككل حرة، وأرضي قسمتي ككل مسلمة، وما أظن سيدتي جيهان تكره أن أكون أنا في ثروتها وأن تكون هي في صحتي، أليس كذلك يا سيدي؟
فقلت لها وأنا معجب بمنطقها وبيانها: بلى كذلك يا أم عامر! وإن لله في ذلك حكمة، إن صحة الفقراء تعويض من ثروة الأغنياء، وإن السعادة من عند الله يمنحها من يشاء ويمنعها من يشاء!(814/3)
أحمد حسن الزيات(814/4)
من آفات هذه المدينة
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
نحن اليوم في مدنية عجيبة لم يعرفها تاريخ العالم من قبل. هي مدنية تسيطر عليها الآلات الدائرة والسائرة في البر والبحر والجو، وقد اهتدت هذه المدنية إلى كشف أسرار الطبيعة فطوت المسافات وجمعت أطراف العالم. فاليوم يستمع المستمع في القاهرة - مثلا - إلى متحدث أو مغن في أقصى الأرض، وأمريكا أو أستراليا كما يستمع إلى جليسه. ويكلم من هو في أبعد البلاد كما يكلم القريب منه الذي يبصره ويسمعه.
وكل هذه الأعاجيب من الآلات السائرة والطائرة والجهازات الناقلة الأصوات الملغية المسافات - كل هذه يسخرها الإنسان لمقاصده، ولكنها هي كذلك تسخر الإنسان وتذهب بكثير من سعادته وسلامته وسكونه وراحته. وإن ترك أمرها فوضى عاش الإنسان بها شقياً. لا أتحدث في تسخير هذه الآلات للحرب والقتل وما إليهما؛ ولا اذكر ما لقيه العالم من شرها وضرها وفظاعتها وأهوالها، ولكن أقصد إلى أمر واحد أقصر عليه الحديث وهو أمر يبدو يسيراً، أو يخفي خطره وأثره، وهو عند التفكير عظيم وخطير، أعني راحة الإنسان وسكونه في ضوضاء هذه المدينة التي لا تفرق بين بعيد وقريب، ولا تميز بين نهار وليل. الإنسان في شقاء ظاهر وخفي من هذه المدينة، مسلوب أحب الأمور إليه وألزمها له: الراحة والسكون والدعة والطمأنينة، والحرية في تصريف وقته، والاختيار في ترتيب أعماله على الأوقات.
أحسب أن كثيراً مما يصيب الناس في أجسامهم وأنفسهم من علل، وكثيراً مما يقع في أقوالهم وأفعالهم من زلل، يرجع إلى هذا الداء الدخيل - إلى قلق الإنسان وتعبه واضطرابه في ضوضاء هذه المدنية شاعراً أو غير شاعر.
وقد حدثني أحد الأطباء أن أمراضاً كانت نادرة في العصور الماضية فشت اليوم بين الناس بالجهد الجسماني والنفساني الذي تكلفهم به المعيشة في العصر الحاضر.
والناس في هذا الأمر يختلف حظهم من التعب والنكد على اختلاف نفوسهم وثقافتهم وأعمالهم، فمنهم من ينطلق في هذه الضوضاء صائحاً مصفقاً مسروراً لا يقدر أثرها في نفسه وجنايتها عليه. ومنهم من يسأم ويبرم ويشقى قليلا، ومنهم منهو أكثر نصيباً من(814/5)
الشقاء وهو رجل الفكر، فهو يشقي بها على قدر احتياجه إلى الهدوء والسكون ليعمل ويفكر ثم يستريح من عناء العمل والفكر.
ولعل شر ما يبتلي به الإنسان في راحته وسكونه هذه المجاهر (الميكرونات) التي تضاعف هذه الضوضاء كأن الإنسان لم يكفه ما يحيط من جلبة وصخب فهو يزيدهما أضعافاً بالمجاهر ليعيش في أفظع من الضوضاء الطبيعية وهو منها في شر مستطير.
وهذه المذيعات المسلطة على خلق الله بالليل والنهار، تحرمهم القرار، وتمنعهم السكون؛ هي إحدى آفات هذه المدينة ومن أضرها بالإنسان - إن لم يحسن الإنسان تدبيرها - هذا المذياع آلة عجيبة خطيرة تسمع كل ما في العالم من أصوات، وتأخذ منها ما شاءت أو ما شاء صاحبها ففي سلطانها كل الأصوات المذاعة في العالم فتمثل إنساناً جاهلاً أحمق يعطي هذه القوة، ويمكن من هذه المعجزة، يستطيع متى شاء أن يسلط على جيرانه ما يشاء من أصوات العالم مجهوراً بها مدوية، وهذه آلة يسيرة وسيزيدها العلم والصنع يسراً ورخصاً فكل عاقل وأحمق وعالم وجاهل وغني وفقير يستطيع أن يسيطر على الناس بهذه الآلة فيحرمهم الدعة والقرار، وينغص مضاجعهم بالليل والنهار، ويصير بلاء مسلطاً لا حيلة فيه ولا مفر منه ولا قدرة عليه.
تمثل إنسان هذا العصر، هذا المخلوق البائس الذي يعيش في المدن - تمثله في النهار يسير في خطر الترامات والسيارات وما إليها، وقد صبت على رأسه أصوات المنبهات والمخدرات والزامرات والصافرات على اختلاف الأصوات والنغمات، فهو يمشي في خطر أن يداس بهذا السيل المستمر من العجلات وبينه إلى هذا الخطر أن نفع التنبيه بهذه المنبهات المفزعة التي تغلو في رفع الصوت لتسمع السابلة وسط هذه الضوضاء الفظيعة وتتنافس في رفع الصوت ليمتاز صوت كل واحدة من الأخرى والإنسان المسكين يخطو مرة ويقف أخرى وينظر أمامه حيناً وحيناً وراءه وعن يمينه وشماله.
إن هذا البلاء عظيم يحتمله الناس بما اعتادوه وألفوه، وبما استكانوا له واستسلموا وصبروا عليه يأساً من الابتعاد عنه والخروج منه.
وهذا الإنسان البائس يرجع إلى داره مكدوداً - ولا أقول يرجع إلى مسكنه فليس هنا سكون - والدور في المدن متزاحمة متلاصقة ذات طبقات كثيرة فيسلط عليه تاجر من أهل الحي(814/6)
مثلاً مجهراً يعلن به عن بضاعته.
وأشهد لقد سمعت أكثر من مرة إعلان تاجر عن سلعه بمجهر، يسخر قارئاً يقرأ القرآن حيناً، ثم منادياً ينادي في الناس بما عنده من جبن وزبد وزيتون وغيرها.
وقد سألت أين هذا البلاء المبين فقيل بعيد جداً، فقلت هذا ما يصيب البعيدين منه فكيف بالقريبين! تساءلت أليس في البلد قانون؟ أليس لقوانينها سلطان؟ ألا يشعر الناس بما هم فيه من شقاء؟ ألا يعربون عن شعورهم؟ ألا يثورون على هذا العذاب المسلط ويعملوا على الخلاص منه؟
وقد أدخل التجار من حيث لا يشعر الناس بدعة هذه المجاهر في الحفلات ولا سيما في المآتم فترى جمعاً في سرادق يسمعه ويتعداه صوت متكلم أو مطرب؛ ولكن البدعة التي استحكمت سريعاً باتخاذ المجهر فيسلط هذا البلاء على الداني والقاصي من خلق الله، وربما يستعمر ساعات متوالية فلا يستطيع الإنسان أن يستريح أو ينام أو يقرأ أو يكتب، فأي شر أكبر من هذا؟
وقد سمعت مرة صوتاً فظيعاً يسمع على بعد أميال فنظرت فإذا جماعة قد وسمعتهم حجرة واحدة وقد وضعوا مجهراً خارج الحجرة وأرادوا أن يتصدقوا على الناس بإشراكهم فيما يسمعون، والصدقة خير ما كان أعم وأشمل فليرفع هذا المجهر ما وسعه الجهر والتبليغ، وأما من يضيق بهذا الصوت فلا وزن له عند الله ولا عند الناس؛ إن ضاق بصوت القرآن فلا دين له، وإن ضاق بالغناء فلا شعور له.
وسمعت مرة صوتاً عالياً مدوياً في شارع من شوارع القاهرة التجارية المزدحمة وفهمت مما سمعت حفلة لعيد ميلاد طفلة، والخطباء يتبارون في التهنئة وعرفت أن أبا الطفلة لم يولد منذ سنين. ولهذا كان الاحتفال وتبارى الخطباء. هذا يسمعه السابلة في شارع من الشوارع المكتظة التي لها من ضوضائها ما يغنيها عن كل ضوضاء.
ثم تمثل هذا الرجل المكدود الذي تتناوبه أصوات السابلة في الطريق يأوي إلى داره يلتمس الراحة ليلاً - ودع راحة النهار - فإذا جيرانه قد فرغوا من أعمالهم ومن طعامهم وجلسوا إلى المذياع وتنافسوا في الجهر بما يذاع، إما رغبة في الصوت الرفيع، وأما إعجاباً بالغناء أو القصة، وإما تصدقا على الجيران المحرومين من هذه النعمة، فيرسلون أصواتاً تسمع(814/7)
على أميال وقد يكون المستمع واحداً أو أثنين أو فئة قليلة، ومحطة الإذاعة أصلحها الله تعين هؤلاء السفهاء على إقلاق الناس وإزعاجهم وتكدير صفوهم وتنغيص عيشهم، والحيلولة بينهم وبين ما يريدون من استراحة أو عمل بما تمد هؤلاء السفهاء به من أغان وأقوال يرغب فيها الجهلة ويرغب فيها العلماء ويحبها السفهاء ويكرهها الحكماء. ثم تمد لهم الإذاعة في صحبتهم بإذاعة حفلة غناء تدوم ساعات أو نقل قصة تمثيل إلى ما بعد منتصف الليل بساعة أو أكثر أي إلى ما قبل الفجر بساعتين في الصيف.
ولو أن القائمين على الإذاعة فكروا فيما يصيب الناس من هذه الإذاعة لأقلوا منها وجعلوا لها حداً لا تتجاوزه.
ما حاجة الناس إلى إذاعات بعد منتصف الليل؟ بل ما حاجتهم إلى إذاعة بعد العاشرة؟ ألا يفكر القوام على الإذاعة في سوء تصرف الناس بهذه الآلات التي صار أكثر من نفعها، وألمها يربو على لذتها؟ ينبغي أن تعرف أخلاق جمهورنا وعاداتهم حين توضع برامج الإذاعة.
ثم لماذا لا يستعمل الإذاعة في تعليم الناس حسن الاستعمال وحسن الاستماع؟ لماذا لا يذاع على الناس كل أسبوع تحذير من الجهر بالإذاعة وإيذاء الناس بها، ويعرف الناس بالترغيب والترهيب ما يجب عليهم لينتفعوا بما يسمعون أو يلهوا بما يذاع عليهم في غير إخلال براحة الناس، ولا جناية على من لا يريد أن يستمع ومن أحوج إلى إمضاء وقته بالتفكير والعمل أو الراحة.
ثم أين قوانين الحكومات لتحمي الناس من هذا الشر الذي يزداد كل يوم ذيوعاً وإيذاء وإضراراً، أين وزارة الشئون الاجتماعية لتفكر في هذا الأمر وتروي فيه وتصف له دواؤه بالنصيحة أو بالعقاب.
إن الأمر خطير كل الخطورة، وأثره في معيشتنا وفي أحوالنا النفسية بعيد، فليتعاون الناس على درء هذا الشر الذي لا يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم. . .
عبد الوهاب عزام(814/8)
قصة
قصتي يا قوم قصة=صارت الظبية لصة!
للأستاذ نقولا الحداد
تزود السيد ف. م بمائة ألف جنيه دولارات وأستر لينات وليرات إيطالية الخ، ومضى إلى معامل سكودا في تشكوسلوفاكيا فابتاع من أدوات التدمير والهلاك ما ثمنه 75 ألف جنيه، وأخذ فاتورة بمائة ألف!
ثم شحن البضاعة في باخرة تمخر نهر الدانوب، وكان على الباخرة أن تقف في تريستا وأنتظر هناك ثلاثة أيام دون أن تصل الباخرة، فلما أستخبر عنها مكتب وكالة الباخرة علم أنها أصيبت بقنبلة من ناحية مجهولة فاخترقتها وتعطلت ولم يستطيع إلا أن تجنح بميناء تريستا. وقد دخلها الماء وابتلعت البضائع فجعل السيد ف. م يستخرج بضاعته الجهنمية من الباخرة ويجففها ويهيئ ما لم يتلف منها للشحن. وبقي هناك أيام مشغولاً بهذا العمل المضني.
وفي ذات يوم بينما كان يتغدى في مطعم فاخر زاخر بالآكلين إذ وقفت أمامه حسناء والتمست منه أن يإذن لها بالجلوس إلى مائدة خالية تجلس إليها. فرحب بها. وولم تنته فترة الغداء حتى صار معرفتين، ثم صارا صديقين. والتقيا مساء في حالة زاهرة باهرة زاخرة بالحضار والراقصين والراقصات. ولم يخرجا من الملهى إلا عاشقين متعانقين.
وقد علم صاحبنا من حسنائه أنها تسمى راحاب رحماني من بيروت وأنها جاءت مع أخيها إلى تريستا في طريقهما إلى ميلانو لعمل تجاري وأنه تركها هناك مؤقتاً فإذا وفق في المهمة التي جاء لها استدعاها وإلا عاد خائباً، وهي في انتظاره أو انتظار خبر منه.
وقبل أن ينتهي صاحبنا من تهيئة بضاعته للشحن توسطت حسناؤه بينه وبين شار لها بثمن مغر. فرفض أن يبيع. ولما كانت مسمسرة في هذه الصفقة وكانت تود أن تتم، بذلت جهدها في إقناعه أن يبيع وأن يعود إلى سكودا فيشتري غيرها. فتردد، وطلب ثمناً أعلى، فلم تتم الصفقة.
ولما رأت الحسناء أنها لن تنجح في هذه السمسرة أشارت عليه أن يشحن بضاعته في باخرة يونانية صغيرة راسية في تريستا، وهي مبحرة إلى بيروت حيث يريد أن يفرغ(814/9)
شحنته فرضي، لأن الأجرة كانت رخيصة. وشحن البضاعة إلى بيروت.
وأخبرته الفتاة بعد ذلك أن أخاها كتب إليها ألا تنتظره، لأنه لم يوفق في مهمته، وأوعز إليها أن تتبعه إلى بيروت. واتفق الحبيبان على أن يسافرا بالطائرة معاً إلى عاصمة لبنان، وهناك ينتظر الباخرة التي تحمل بضاعته الجهنمية.
ولما حان موعد قيام الطائرة كان صاحبنا ينتظر حسناءه في المطار، وإذا هي قادمة تهرول تقول له إنها آسفة أن لا تركب الطائرة لأن جواز سفرها مع أخيها وقد تلفنت له أن يعود إلى تريستا لكي تسافر معه في طائرة أخرى. ووعدت صاحبنا أنه ستلقاه في بيروت وتبادلا العنوانين. وركب الطائرة آسفاً لهذه الخيبة آملاً أن يعوض عنها في بيروت.
وبقي السيد ف. م في بيروت يترقب قدوم الباخرة التي تحمل فوزه بالسلاح المرجو المنتظر بفارغ الصبر وغنم منه عمولة مقداره 25 في المائة. ومضت ثلاثة أيام وهو يسأل عن هذه الباخرة في وكالات البواخر فما وقف على خبر عنها ولا أثر لها.
وما لبث أن علم من أحد معارفه أن محطة الإذاعة في (عزرائيل) تذيع خبراً غريباً كل ساعتين، فأصغى في الميعاد فإذا صوت رخيم يقول: إن دولة عزرائيل تتشكر لحكومة بردي هدية السلاح الفاخرة التي أهدتها إياها؛ وستكافئها عليها خير مكافأة. وراحاب ترجو من صديقها أن يعذرها لأنها لن تتمكن من لقائه في بيروت، وتشكره له ألف شكر إهداءه إياها تذكرة الطائرة من تريستا إلى بيروت وتحسبها من قيمة السمسرة التي كانت تتوقعها من لو تمت صفقة بيع الأسلحة ثم تهنئه بسلامته لأنه لو صحب البضاعة في الباخرة المظنونة يونانية، لغرق هو في البحر وسلمت البضاعة. لذلك أسدت النصح إليه أن يعود إلى بيروت بالطائرة لأن راية عزرائيل التي كانت تخفق فوق الباخرة لم تكن لتحميه!
وهكذا عاد صاحبنا إلى حكومته بالخيبة، ورضي من الغنيمة بالأوبة، والذنب على الحب الذي يرد البصير أعمى والحكيم أحمق، فيضحي بخدمة الأوطان، في سبيل خدمة الأوطان، في سبيل خدمة الحسان!
نقولا الحداد
2ش البورصة الجديدة بالقاهرة(814/10)
عقوق. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا بني، أي شيطان ثار في دمك وسيطر على رأيك فأعمى بصيرتك وأطاش عقلك وأصم أذنيك، فذهبت تولي أباك العقوق والجحود والنكران بعد البر والطاعة والشكر. لقد كان حديث أبيك - وهو يقص قصتك - يتقطر أسى ولوعة، وإن قلبه ليبكي بكاء يسمع ويرى!
إني لا أخالك تذكر يوم ماتت عنك أمك طفلاً تدرج في فناء الدار، وإن الأبدي لتتلقفك في شفقة حيناً وفي شماتة حيناً والأبصار تحوم حواليك ساعة ثم تنصرف، إلا بصراً واحداً ما يبرح يتعلق بك، هو بصر أبيك، وإن العبرات المصطنعة لتتدفق باردة هينة فيها الكذب والخداع، إلا عبرات إنسان واحد كانت تنكف ساعة وتنهمر ساعات، وهي في الحالين تتضرم وتتوقد لأنها عبرات القلب، تلك هي عبرات أبيك! وإن الأذرع لتنفرج لتضمك في فتور وتراخ، ثم تلقى بك جانباً في غير اكتراث، إلا ذراعين تودان لو استطاعتا بضمة واحدة أن تدفعا بك إلى داخل القلب، هما ذراعا أبيك! وإن الألسن لتتحدث حديثاً طويلاً فيه الثرثرة واللغو، إلا لساناً واحداً لم ينطق بكلمة واحدة لأن حديث قلبه كان يشغله، ذلك هو لسان أبيك!
وكان أبوك - إذ ذاك - فتى في ريق الشباب وعنفوان الصبا لا يستطيع أن يكبت نوازع جسمه، ولا أن يكتم ثورة دمه، وهو أراد التوي عليه الأمر وتعسر، وما به فاحشة ولا فجور وتنازعه أمران: أفيتزوج فيلقي بك في قفر ويضيعك في تيه، أم يقتل شيطانه بين جنبيه وما بذلك طاقة؟ وأصطرع الرأيان في رأسه سنوات حتى بلغت سن المدرسة، فأرسلت إلى المدينة وتزوج هو.
ولم تصرفه الزوجة عنك ولا شغله الأولاد فأحاطك برعايته وعنايته، ورأت زوجة أبيك شدة حدبه عليك، فأمسكت عن أن تتناولك بحديث إلا لماماً خشية أن تجد منه الجفوة والغلطة، وهو صعب المراس وعر المرتقى. فما استشعرت - في يوم ما - فقد أمك ولا افتقدت حنانها.
وعشت عمر المدرسة والجامعة بين أخوتك في الذؤابة لا تجد مس الغربة وأنت في دار أبيك، ولا تحس الوحدة وأنت بين أخوتك، وأبوك يحبوك بعطف الأب وحنان الأم، ويجد(814/12)
اللذة والسعادة في أن يراك قرير العين هادئ البال. وتخرجت في الجامعة، والجامعة تعلم الحذر والحيطة، وتسمو بالعقل ليكون قيداً يغل اليدين والرجلين، وترتفع بالفكر ليكون سداً بين الشباب والحياة، فهي تلفظ الشاب من بين جدرانها لتذره يضرب - على غير هدى - في بيداء مطموسة المعالم، إلا أن يجد إلى باب الوظيفة.
تخرجت أنت في الجامعة، وجلست على حيد الطريق تنتظر أن ينفتح أمامك الباب السحري - باب الوظيفة - وقد عز عليك أن تجد مفتاحه. وأبوك من ورائك يعينك على أمرك برأيه وجهده، ويخفف عنك صدمة التعطل بكلمات فيها الرحمة والعقل.
وطال بك الانتظار وأنت ملتصق بباب الوزير مرة وبباب المدير مرة، ولج بك الشوق إلى الوظيفة فبذلت من ماء وجهك ونزلت عن حياتك وتغاضيت عن كبريائك، ثم بدا عليك الوجوم والضيق من أثر اليأس، ونسيت أن الوهن والضعف قد تسربا إلى العمل الحكومي في غير هوادة ولا لين، وأن الأمر الهين ليقف بين الموظف الحكومي وقرطاسه وقفة ينطوي دونها العمر. والموظف لا يجد إلى العمل دافعاً من نفسه ولا من رئيسه، والرئيس لا يعنيه من العمل إلا أن يحس بالعزة في مكتبه وبالكبرياء في ديوانه، وهو يتلذذ حين يتعبد مرءوسيه في غير سبب، ثم تضيع حاجات الناس بين إهمال الموظف وغطرسة الرئيس
ومضت الأيام وطلبك نائم، فهو لن يتحرك إلا بيد الوسيط، والوسيط أحد الرجلين: رجل يتغفلك ليسلبك من مالك ثم يطير عنك إلى غير رجعة؛ ورجل يساومك ليتقاضى ثمن الوظيفة على دفعتين. . . وكلاهما كاذب محتال!
وعيل صبرك فوقعت على أحد الرجلين يخدعك عن وقتك ومالك فاندفعت إلى أبيك تطلب زيادة من المال في لغة الرجاء والاستجداء، ثم في أسلوب الإصرار والعناد، على حين لم تكشف له عن حقيقة الأمر. وعجب أبوك أن تزيد حاجتك إلى المال زيادة تبعث الشك وتوقظ الريبة، وهو رجل ذو دين وورع، يوقن بأن الإسراف مرض لا يصيب إلا رجلين: رجلاً به لوثة، فهو يطمع أن تكون كل حاجات الأرض ملكاً له، فهو يشتري هذا وذاك ليشبع بهم نفسه فحسب؛ ورجلاً به خلل أخلاقي، فهو يبعثر ماله بين الخمر والنساء، وخشي أن تكون قد ترديت في الهاوية، فأرسل إليك يقول: (إنني أحس منك إسرافاً جاوز(814/13)
القصد، وإفراطاً تعدى الحد، فإما اعتدلت من تلقاء نفسك، وإما قومتك بطريقة لا ترضيك).
وأخذتك العزة بالإثم أن جاءك كتاب من أبيك يتهمك بأمر، وخشيت أن يقبض يده فيبدو عجزك أمام الوسيط المحتال وله عندك حاجات ما تنتهي؛ فما تنفس الصبح حتى كنت قد أرسلت إلى أبيك خطاباً تقول فيه: (أبي، آلان، وقد بلغت مبلغ الرجال، أرجو أن تحدد لي ميراثي من أمي تحديداً لا يدع مجالاً للشك، وأن تنزل لي عنه أشرف عليه بنفسي وأستغله لصالحي. وأظنك لن تجد في ذلك غضاضة على نفسك، فهذا الميراث بين يديك منذ نيف وعشرين سنة، أنال منك فضلة لا تشفي غلة ولا تنفع صدى على حين أن غيري يرتع فيه كيف يشاء، ينعم بغلاته، ويتقلب في نعمائه. وهذا ظلم لن أقيم عليه بعد اليوم. . . لهذا فأنا في انتظار يوم قريب تسميه لي لأستلم أرضي كلها. . .)
لا ريب - يا بني - فلقد كانت كلماتك جافة قاسية أصابت هدفاً من قلب أبيك، فأحس بالأسى ينسرب إلى نفسه أن رأى أبنه الأكبر يغلظ له في الحديث، ويسف في العبارة، ويجازي النعمة بالكفران، ويقابل الإحسان بالعقوق!
لقد كانت كلماتك تتلضى لهيباً يكوي قلب أبيك ويفري كبده، وشعر - والحزن يوشك أن يقتله - أنه يريد أن يفضي بذات قلبه إلى رجل من خلصائه، وخشى - بادئ ذي بدء - أن يتحدث بأمر خطابك إلى واحد من الناس فتكون أنت عاره إلى الأبد، فعزم على أن يطوي عن الناس خلجات قلبه، ولكنه ناء بأن يحمل العبء وحده بعد أن رزح تحته أيام، فجلس إلى أخيه - عمك أنت ينشر خطابك وفي عينيه عبرات، وفي قلبه هم!
وانزعج عمك لما قرأ، وشمله الوجوم والبث، فما تلبث حتى كان إلى جانبك يستوضح الأمر!
وضل عقلك الفج، وانحط منطقك الوضيع، فخيل إليك أن عمك جاءك يستجدي مالك وتراءت الحياة أمامك أعداداً من الجنيه والعشرة والمائة، فأخذت تدفع حجج عمك وبراهينه في ضلال وقحة وأنت تقول: (أما أبي فأنا لا أنكر فضله فهو قد دفعني عن القرية صغيراً لألمس لذع الغربة، ومرارة الوحدة، وقسوة الحياة، وقذف بي بين ناب الخادم، وظفر صاحب الدار التي أسكنها، ثم هو يرسل إلي الطعام والمال، فلا أجد ريح الطعام، ولا ألمس لذة المال، فعشت ضائعاً جائعاً، والخادم وصاحب الدار يستمتعان معاً بالمال والطعام، وأبي(814/14)
لا يراني إلا مرتين في السنة. ولي أنفة لا تسمح لي بأن أشكو. . وهكذا قضيت طفولتي - وهي أسعد أيام العمر - منطوياً على نفسي في ذله وانكسار، أدفن همي - رغم أنفي - في كتاب خشية أن يشي بي الخادم لأبي فيذيقني وبال أمري، وله عصا تفري الجلد وتحطم العظم. . . وساقتني الظروف إلى المدرسة وأرغمتني على أن أفرغ إلى الدرس، ووجد أبي اللذة والراحة في أن أعيش بعيداً عن أهلي وداري وأترابي. . . وأغلقت قلبي على حسرات، ومرت السنون. . . والآن، أراه يريد أن يسلبني مالي، فإن كانت هذه هي الأبوة، فما علي من بأس إن أنا قطعت هذه الوشيجة، أو صرمت هذه الصلة. . .)
وأراد عمك أن ينزع عنك الأفكار السود بمنطقه القروي، فترفع منطق المدينة وعقل الجامعة عن أن يلقيا السمع إلى حديث القلب النابض من أعماق القرية، فانطلق عمك من لدنك في شجوه وشجونه ينفض جملة حديثك أمام أبيك!
ليت عمك أطلع على الغيب فرأي بعيني بصيرته ما تخبئه الأقدار إذن لكتم هذا الحديث عن أبيك!
وسمع أبوك الحديث كله في صمت ثم أنتفض انتفاضة الجزع والخيبة، فأصابته إغماده شديدة، فما انجابت عنه الغمرة إلا ليجد نفسه مصاباً بالشلل! وذهبت أعوده، فقص لي قصتك. . . وإن حديثه ليتقطر أسى ولوعة، وإن قلبه ليبكي بكاء يسمع ويرى على أن فقدك أنت. . . أيها العاق!
الآن أصبحت موظفاً حكومياً، وبين يديك أرضك تستغلها كيف شئت، فهل وجدت السعادة والطمأنينة؟
لقد مات أبوك من أثر صدمة العقوق، فقل لي بماذا كانت تحدثك نفسك وأنت تسير على رأس جنازته لأنك ابنه الأكبر؟ هل ذاب قلبك حسرة حين أفزعتك لذعات الندم؟
واهاً لك يا من يركبك الغرور والشيطان، فيخيل إليك أنك شيء، فتأمن سخط أبيك وغضب إلهك ونقمة السماء. . . وما هي كلها عنك ببعيدة!
كامل محمود حبيب(814/15)
القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 1 -
كون المعز لتثبيت عرشه جيشاً لجباً كان أكثره من قبيلة كتامة التي ساعدت الأسرة المالكة وأخلصت لها في بلاد المغرب، وعلى يديها تم فتح مصر، ولكن جيش الفاطمية لم يحتفظ بوحدة عنصره خوفاً من استبداد هذا العنصر فكون خلفاؤهم فرقاً أخرى من الديلم والأتراك حتى إذا كان عهد المستنصر استكثرت أمه من السودان. حتى بلغوا نحو خمسين ألفاً، وأستكثر هو من الأتراك فلما جاء بدر الجمالي من عكا أقام له جنداً من الأرمن أبناء جنسه، وصاروا معظمهم الجيش، وشبت الحروب الصليبية، والجيش في مصر مكون من هذه العناصر المختلفة، إليها عنصر البدو من بلاد الحجاز، ويظهر أن الفاطميين لم يكونوا من أبناء مصر فرقاً في جيشهم، فلم يرد ذكر لفرقة مصرية في كتب التاريخ، ولم يحدثنا عنها ناصري خسرو الذي وصف الجند في عهد المستنصر؛ وإنما اعتمدوا على هذا المزيج الأجنبي مما يسر لصلاح الدين قلب دولتهم من غير أن ينهض المصريون للدفاع عنها.
كان الجيش في مصر مكوناً من هذه العناصر المختلفة التي ظلت تغذيه في المدة الباقية من الحكم الفاطمي وسميت فرقه بأسماء مختلفة تدل على موطنها حيناً كطائفة البرقية الذين قدموا من برقة أو على من كونها حيناً آخر من خليفة أو وزير كطائفة الحافظية والآمرية والجيوشية والأفضلية، نسبة إلى الخليفة الحافظ والخليفة الآمر وأمير الجيوش بدر الجمالي وابنه الأفضل، أو على جنسها كالفرقة الرومية والسودانية، أو قبيلتها كفرقة المضامرة المكونة من إحدى قبائل البربر، أو زعيمها كطائفة الميمونية نسبة إلى ميمون.
لم تذب هذه العناصر بعضها في بعض لتكوين وحدة متسقة، ولكن احتفظ كل عنصر بشخصيته، وسكنت كل طائفة في حارة خاصة بها ولم تكن الصلة بين هذه الطوائف صلة حب ووئام دائماً وإنما كانت المنافسة هي المظهر السائد بينها. وكثيراً ما أدت المنافسة إلى(814/16)
الاشتباك في حرب بين هؤلاء المتنافسين، كتلك الحرب التي شبت بين الأتراك والسودان في عهد المستنصر والتي لم تهدأ إلا بعد أن جلبت الخراب على مصر. وقد يثير الطامعون في الحكم الفتن بين هذه الفرق ليستنصروا ببعضها على بعض، فتندلع نيران الحرب بين الفريقين كما فعل الأمير حسن ابن الحافظ لدين الله الذي كان يبغي أن يكون ولي العهد يدل أخيه حيدرة، فإنه أثار الفتنة بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية، والتقى الفريقان في معركة قتل فيها ما يزيد على خمسة آلاف نفس؛ وكانت الوقعة هذه أول مصائب الدولة الفاطمية وكما حدث في الحروب التي قامت بين شاور وضرغام.
هذا المزيج إنما يصلح لدفاع الصليبين إذا وجد القائد القوي المدرب، أما وقد ضعف الخلفاء، وأصبح هم وزرائهم الأول الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم، فقد أبقى الوزراء الجيوش الموالية لهم في مصر لتوطيد شوكتهم في البلاد، فلم يكن موقف الجيش المصري من الحروب الصليبية الأولى ناشئاً من قلة كما سنرى وقد حاول الأفضل بن أمير الجيوش أن يستعين بالمغاربة على حرب الصليبين ولكن لم ينجح.
وكان الجيش بالشام في تلك الفترة من الزمن بالإمارات المختلفة مكوناً من العرب ولا سيما البدو، ومن الترك.
والظاهر أن أقوى الفرق بمصر عندما جاء إليها صلاح الدين كانت الفرقة السودانية التي أعتز بها السودانيون، فنزحوا إلى مصر، وصار لهم بها شوكة وقوة، وكونوا لهم في كل قرية ومحلة وضيعة مكاناً مفرداً لا يدخله وال ولا غيره احتراماً لهم، ويبدو أنه عز على الطائفة أن ترى صلاح الدين وجيشه الجديد يغتصب مالها من القوة والنفوذ، فدبر زعماؤها المكائد له، ولكنه بادر بقتل زعيمهم، ومهاجمتهم في حيهم، فهزمهم وخرب حارتهم المنصورية وتتبعهم في بلاد الصعيد حتى أفناهم.
كون صلاح الدين جيشاً معظمه من الأكراد. قال ابن إياس: (لما ملك صلاح الدين أزال ما كان بمصر من العناصر الملفقة وكانوا بين صقالبة وكدانة ومصامدة وأرمن وثنائرة العرب والعبيد السود، فمحا تلك الطوائف جميعها، واتخذ بمصر عساكر من الأكراد خاصة، فكان عدتهم أثنى عشر ألف فارس من شجعان الرجال الذين لا يكلون من الحروب، ولكن يظهر أن الجيش في عهد صلاح الدين أيضاً لم يكن موحد العنصر من الأكراد بل كان فيه ترك(814/17)
وعرب، وربما كان صلاح الدين قد فسح المجال للمصريين فالتحقوا بسلك الجندية وكونوا فرقاً، بل يظهر أن صلاح الدين لم يسرحوا جيش الفاطميين تسريحاً تاماً، بل أبقوا على بعض فرقه، ففي عهد العزيز بن صلاح الدين يسجل التاريخ قتالاً دار بين الطائفة المحمودية واليانسية، وهما من فرق الجيش الفاطمي.
وحافظ خلفاء صلاح الدين على تكوين جيوشهم من الأكراد والترك والعرب، وقسمت الجيوش فرقاً نسبت كل واحدة منها إلى أحد القواد العظام كالفرقة الأسدية نسبة إلى أسد الدين شبركوه، والصلاحية نسبة إلى صلاح الدين، الأشرفية نسبة إلى الأشرف موسى.
وكما لم تذب العناصر بعضها في بعض أيام الفاطميين لم تذب كذلك في عهد الأيوبيين، وكان النزاع يحدث أيضاً بين هذه العناصر والفرق، أو ينحاز بعضها إلى زعيم وينحاز بعضها الآخر إلى زعيم غيره كما حدث ذلك في أيام العزيز، وفي عهد العادل الثاني، غير أن القيادة القوية في عهد الأيوبيين لا تلبث أن تعيد النظام إلى نصابه، وتقبض بيدها القوية على الزمام، فيعود السلام ويسود النظام.
وظل العنصر الكردي هو الغالب على الجيش طوال عهد الدولة الأيوبية حتى عهد الصالح أيوب الذي أستكثر من شراء المماليك، وكان معظمهم من الأتراك، وسبب استكثاره منهم أنه لمس إخلاصهم ووفاءهم له في الشدة التي ألمت به في حرب لأخيه العادل، فإنه عندما أعتقل بالكرك، انفض من حوله جنده من الأكراد، ولم يبق معه سوى مماليكه الذين اشتراهم، فعندما استولى على عرش مصر حفظ لهم ذلك الجميل، واستكثر منهم حتى صار منهم معظم الجيش، وارتفع عددهم في معركة المنصورة إلى عشرة آلاف وظل المماليك حفظة أوفياء للصالح وذكراه ومنذ ذلك الحين إلى أن انتهت الحروب الصليبية والعنصر الغالب في الجيش النظامي الدائم هو عنصر الأتراك المماليك وإن كان في الجيش أكراد وعرب، أما عندما هوجمت مصر وبدا خطر استيلاء الفرنج عليها في عصر الكامل والصالح فقد هب المصريون للدفاع عنها، واجتمع عنها واجتمع منهم عدد ضخم ساهم مساهمة فعلية في الذود عن حياض الوطن، وفي الحملات الحربية التي شنتها في جنوب الوادي أو ضد المغول أو الفرنج في عصر المماليك لم تتكون جيوشها من المماليك وحدهم، بل شاركهم في ذلك المصريون والسوريون والبدو من العرب، وكان عددهم يزيد على عدد(814/18)
المماليك ومن ذلك يبدو لنا أن المصريين والعرب قد ساهموا - ولا مريه في ذلك - بنصيب كبير في الحرب ضد الصليبيين والمغول في عصر الأيوبيين والمماليك فإن هذه الأرقام الضخمة التي يحفظها التاريخ للجيش الإسلامي المهاجم أو المدافع لا يمكن أن تفهم إلا على أساس اشتراك المصريين والعرب في هذا الجيش الذي يجب أن نميز فيه بين جيش نظامي ثابت قد يكون للعرب والمصريين فيه نصيب متواضع، وبين جيش قائم بحملة حربية، يساهم فيه هؤلاء بالنصيب الأوفى.
كان الجيش في العصر الفاطمي مقسماً إلى درجات ثلاث رئيسية: أولاها طبيعية الأمراء وأعلاهم ذو الأطواق الذهبية، ثم حملة السيوف الذين يحرسون الخليفة في موكبه، ثم القواد العاديين. وثانيها رجال الحرس، وأرقاهم الأستاذون الذين يوكل إليهم مهام الأمن، ثم شباب الحرس وهم نخبة ممتازة من شباب الأسر عدتهم خمسمائة، ثم فرق ثكنات الخليفة ويبلغون زهاء خمسة آلاف وثالثهما فرق الجيش كل فرقة تحمل أسماً خاصاً بها كما ذكرنا.
وتكون الجند زمن الأيوبيين والمماليك من طبقتين: هما المماليك السلطانية وأجناد الحلقة. أما المماليك السلطانية فكانوا أعظم الأجناد شأناً وأرفعهم قدراً وأشدهم إلى السلطان قرباً وأوفرهم إقطاعاً ومنهم تؤمر الأمراء رتبة بعد رتبة.
وأما أجناد الحلقة فهم عدد جم وخلق كثير، ولكل أربعين نفساً منهم مقدم ليس عليهم حكم إلا إذا خرج العسكر في الحرب، فإن مواقفهم معه، وترتيبهم في مواقفهم إليه
ومن الأجناد طائفة ثالثة يقال لهم البحرية يبيتون بالقلعة وحول دهاليز السلطان في السفر كالحرس، وأول من رتبهم وسماهم بهذا الاسم الملك الصالح نجم الدين أيوب. وللجيش هيئة أركان حرب كان السلاطين يعتدونها لرسم الخطط وإعداد العدة ولم يكن للسلطان بد من أن يعني برأيهم ويعمل به، وكثيراً ما كان يخبرهم أنه كأحدهم يكفيه فرس واحد وجميع ما عنده لمن يجاهد في سبيل الله.
وكان الجيش مقسماً خمسة أقسام: مقدمة، وتكون أمامه لتبدأ المناوشات وتتعرف الطرق وترتاد المواضع وهي غالباً من الفرسان؛ وقلب وسط الجيش وفيه يتخذ القائد العام مركزه غالباً حتى يراه جميع الجند لتنفيذ أوامره، أو في المقدمة ليثير حماسة الجند ويلقى الفزع في نفوس أعدائه وفي عريش له على ربوة يشرف منها على جيشه. أما الكتيبة الثالثة(814/19)
فتوضع يمنة وتسمى الميمنة، كما توضع الرابعة على يسارها وتسمى الميسرة، ويطلق عليهما الجناحان، وتوضع الكتيبة الخامسة في الخلف وتسمى ساقه الجيش. وكان لكل فرقة من هذه الفرق الخمس أمير يأتمر بأمر القائد يقال له صاحب الميمنة أو الميسرة وهكذا.
ويتكون الجيش من المشاة والخيالة ومن أجل هذا عظمت العناية بأمر الخيل.
يتبع
أحمد أحمد بدوي(814/20)
طرائف عباسية
نخلتا حلوان. . .
للشيخ محمد رجب البيومي
للشعراء إلهام خفي يعرج بهم إلى ملكوت رفيع، فهم يرون الكائنات الماثلة في صور غريبة متخيلة، وقد يقف الشاعر أمام رسم ماحل فيحاوره ويجادله ويجعل منه إنساناً يفصح عن شكاته، ويبين عن طواياه. وإذا كنا نحمد الكاتب الذي يصور مشاعره تصويراً صادقاً فيعرض لقارئه ما يختلج في صدره من إحساس في أسلوب مرسل طليق، فنحن بلا شك نعجب بالشاعر الذي يتصور عواطف غيره فيفصح عنها إفصاحاً مشرقاً، وقد يدق تصوره فيتغلغل فيما حوله تغلغلاً عميقاً، فإذا مر بقصر سامق، أو شاهد دوحة باسقة، منحهما جانباً من الإحساس البشري الدافق، ثم يعبر عما يتخيله من شعورهما المزعوم فيجمع إلى خفة الشعر غرابة المنحي وطرافة التفكير.
والحقيقة أن الشاعر يخلع إحساسه - في أكثر مواقفه - على ما حوله، فإذا كان مبتهج النفس، منبسط الأسارير، تصور ما أمامه من نبات أو حيوان كذلك، فرسمه في صورة مرحة سارة، أما إذا كان ملتاع الفؤاد منقبض الصدر، فإنه يتحدث عن شعور غيره في تبرم وأنفعال، وقد تهتف حمامة على فتن ناضر فيسمعها شاعر حزين فجعه البين في أحبائه، فيتصور هتافها نواحاً مريراً، وقد يسمعها شاعر مرح ممتع بأصفيائه، فيتصور هتافها غناء ساحراً ينعش الأفئدة ويسري عن النفوس.
وسنتحدث عن نخلتين عجيبتين بسقتا في ناحية متواضعة بحلوان (في آخر سواد العراق) وقد، لبثتا حيناً من الدهر يمر بهما الناس في الغدو والرواح، فلا يسترعيان انتباه إنسان، حتى نزل بهما مطيع بن إياس الليثي، وكان شاعراً متمكناً يسلك بقريضه فجاجاً متشعبة، فتحدث عنهما حديثاً جازت به الركاب، وتناقله الرواة فتسامع به الوزراء والخلفاء، وقد ضرب الدهر ضرباته بالنخلتين فطواهما في عنف عن الوجود منذ ألف عام ومائتي عام، ويبقى حديثهما في شعر معطراً بعبير الخلود!
لم يكن مطيع هداراً لجباً يجذب بروعته الأبصار كالإقيانوس الصاخب، بل كان شعره ينحدر رقيقاً عذباً كالغدير المترقرق، وذلك شأن من يقصر فنه الشعري على الغزل الرقيق،(814/21)
والمجون الطريف، فلا يحيد عنهما إلى المدح إلا في ظروف خاصة تفرضها المحاباة، وتقتضيها الطاعة في عصر تطلع فيه الأمراء إلى المدح والإطراء. وكانت حياة اللهو والمرح قد غمرت مطيعاً بمباهجها الفاتنة، فاصطحب الخلعاء، ونادم الظرفاء، وتحفز إلى أسراب الكعاب يسارقهن البسمات، ويخالسهن الصبوات، غير أن الدهر لم يفلته من كيده، فقد أوقعه في غرام جارية فاتنة تحت يده، فملكت عليه فؤاده، وتخطفت أزمة رشاده، ثم حزبه الحطب الملم، فاضطر إلى بيعها اضطراراً، وهام في الآفاق على وجهه فقذفت به النوى إلى حلوان، ثم برح به الشوق إلى حسنائه، واشتعل الحنين في أحشائه فنظر فيما حوله ذات اليمين وذات الشمال فرأى عن كثب نخلتين متجاورتين ترتفعان في الأفق إلى مدى شاهق، وقد هبت بهما رياح منعشة، فرنحت عطفيهما، وحاولت أن تضمها ضماً يبرد الغلة وينقع الشوق، فاشتبكت فروعهما السامقة في أجواز الفضاء وقتاً غير قصير!
منظر عاطفي أخاذ، عصف بالشاعر عصفاً عنيفاً، فتذكر ملاعب الصبوات، وعهود المسرات، وحسد النبات على التئام شمله، واكتمال صفائه، وكأنه تصور للنخلتين آذاناً تسمع، وعقولاً تفهم، فأخذ يحدثهما بضربات الدهر، وفتكات الأيام، ثم استشهد بنفسه على صحة ما ادعاه، فذكر جاريته الحسناء، وكيف كانت تذهب شجونه وتسري همه، غير أن الزمان لا يبقى على أنس، فاستل روحه من جسمه، ووقف له بالمرصاد أنى سار وهو لا بد سيقف للنخلتين موقفه منه، فتبدلان وحشة بعد أنس، وتناءيا غب لقاء. وهكذا يتشاءم الشاعر تشاؤماً يرفه عن خاطره، ويبرد من لوعته، وفي النفوس من يلحقها الألم الممض فتشعل من الغيظ اشتعالاً، حتى إذا لحق بغيرها من الأشياء سرى عنها بعض الشيء وأخذت تبصر وتتأسى بالمصاب الجديد. ولقد علل مطيع نفسه بما سيلحق النخلتين - قبل وقوعه - فبردت جوانحه وطفق يصف شجونه المتحاربة، إذ يقول:
أسعداني يا نخلتي حلوان ... وابكيا لي من ريب هذا الزمان
أسعداني وأيقنا أن نخساً ... سوف يأتيكما فتفترقان
ولعمري لو ذقتما ألم الفر ... قة أبكاكما الذي أبكاني
كم رمتني صروف هذي الليالي ... بفراق الأحباب والخلان
جارة لي بالري تذهب همي ... ويسري دنوها أحزاني(814/22)
وبرغمي أن أصبحت لا تراها العين مني وأصبحت لا تراني وإذن، فقد روح الشاعر عن نفسه، وأزل بوعيده المنكود، ونحسه الأشأم بعض ما يغاديه من الوساوس. وكأن النخلتين قوة أصاختا لشعره فأسعدتاه بما يريد، أو هكذا تخيل ذلك، فخف إلى بغداد بارد الصدر، وقابل صديقه حماداً فأسمعه ما قال في النخلتين من الشعر، وعبر عن سروره بما تخيله من الإسعاد والعون. وتمضي الأيام في سيرها الرتيب فتميل على قوم بالرفاهية والأمن، وتلهب آخرين بسياطها الملتهبة، فتصهر الأفئدة، وتحرق الجلود، ومنهم حماد صاحب مطيع، فقد ثارت به عاصفة هوجاء كادت تطيح بحياته، فتذكر شعر صاحبه، وخف إلى سدرتين مائلتين بقصر شيرين، وهو يظن كل الظن أنهما ستسعدانه، وستمثلانه دور النخلتين أصدق تمثيل. وينظر حماد إلى السدرتين الشاخصتين فلا يحس براحة، فينقلب إلى منزله ساخطاً ناقماً، ويجمجم بحروف حزينة تألف منها هذان البيتان:
جعل الله سدرتي قصر شير ... ين فداء لنخلتي حلوان
جئت مستسعداً فلم تسعداني ... ومطيع بكت له النخلتان!
والواقع أن مطيعاً رغم تحامله على القرينتين الآمنتين، قد أسدى إليهما يداً بيضاء، فقد نبه من خمولهما المستكين، وذاع شعره في الناس فأخلصهما من أزمتين حادثين، فقد مر الخليفة الباطش أبو جعفر المنصور بالعقبة ذات يوم فوجدهما تزحمان الطريق، وتعوقان القوافل المحتشدة عن المسير بضع ساعات، فأمر باستئصالهما في غير هوادة؛ ولكن أبيات مطيع ترن في أذنيه، ويتقدم إليه أحد أعوانه فيقول في تضرع ذيل: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس الأشأم الذي عناه مطيع في قوله:
أسعداني وأيقنا أن نحساً ... سوف يأتيكما فتفترقان!
فيتراجع المنصور الجبار عن قصده، ويخشى أن يزيل النخلتين فيتناقل الناس أنه النحس الأشأم ثم يستعيد الأبيات فيثني عليها في لباقة ويهش لذكرى مطيع، فيخصه بجانب من الإطراء، وذلك ظفر عظيم للنخلتين، وكسب هائل لشاعر مستكين.
وسيعجب القارئ حين يعلم أن خليفة جباراً كالمنصور يرتاح إلى ما جن خليع كمطيع!! مع أنه فوق سيرته الداعرة قد صاحب الخلفاء الأمويين، وغرق في لحج متراكبة من نوالهم الجزيل، مما يهيج عليه أبا جعفر، بل يوجب أن يلتمس من جنونه العابث مقتلاً يرديه،(814/23)
فيمحق نديم أعدائه ونجي خصومه، ولكن القدر قد هيأ للشاعر فرصة مكنته من التزلف للمنصور، فاستل سخائم صدره، وبدد غياهب مقته؛ فقد اختفى الشاعر حقبة طويلة في مطلع العهد العباسي، حتى إذا علم بما اعتزم عليه المنصور من مبايعة ولده المهدي بالخلافة، كشف عن نفسه اللثام، ودلف إلى الحفل الحاشد في جرأة عجيبة، ثم صاح في الناس بأضخم صوت وأعلاه، فروي عن أناس من المحدثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قال: (المهدي منا محمد بن عبد الله، وأمة ليست عربية) والجمهور في كل زمان ومكان كالأطفال يؤمن بالترهات ويدين بالأباطيل، فصفق للراوي والآفك، وصدق ما قال بدون تمحيص، ولم يخف على أبي جعفر افتراء مطيع، ولكنه وجد لكلامه ثمرة نافعة، فغمره بعطفه وأمنه على نفسه، فقر القلب الواجب، ونام الطرف الساهد، وأنس الهائم الشريد.
ولقد مات أبو جعفر، وقام بالأمر من بعده ولده المهدي، وكان ذا شغف بالرحلات المتنوعة، فوصفت له عقبة حلوان، فأصدر أمره بالمسير إليها، فأخذت زينتها ولبست من التنميق حلة زاهية، وبالغ العمال والصناع في زخرفة المكان زخرفة تليق بالزائر العظيم، ثم حانت ساعة القدوم، فحضر الخليفة في ملأ من سماره وندمائه، وامتد بساط الأنس فصدحت المزاهر وعزفت القيان، وكان في المغنيات جارية أديبة تدعى (حسنة) فجالت ببصرها في العقبة فرأت عن كثب نخلتي حلوان، وقد بقيتا على العهد متجاورتين متصافيتين فما جاء دورها في الغناء حتى انطلقت تصدح بقول ابن أبي ربيعة:
أيا نخلتي وادي بوابة حبذا ... إذا نام حراس النخيل جناكما
ودار الخليفة ببصره فرأى نخلتي حلوان، فعلم أن جاريته تعنيهما من طرف خفي، فأراد أن ينغص عليها صفاء الحفل فقال: لقد خطر لي أن أقطع النخلتين فهما تزحمان الطريق، فصاحت الجارية كالمشدوهة (أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس الأشأم الذي تنبأ به مطيع) فتبسم في عجب وقال لمغنيته الجميلة: أحسنت في رأيك، والله لا أقطعهما ما حييت، ولأوكلن بهما من يتعهدهما بالسقيا والإنعاش. ثم عين لهما ساقياً مخلصاً، فما زال موكلاً بهما حتى مات أمير المؤمنين!! وانتهت الأزمة بسلام. ولكن أي شيء يبقى على الأيام؟! لقد عصف الدهر بأطواد شامخة رسخت أصولها في باطن الأرض وناطحت قمتها(814/24)
الجوزاء، فهل يبقى على نخلتي حلوان؟ كلا! فقد فاجأهما النحس المشئوم على يد الرشيد؛ حيث هاج به الدم مرة في حلوان فأشار عليه طبيبه أن يأكل جمار نخلة فارعة، فبحث أعوانه لدى الدهاقين فما تيسر لهم الدواء، ففزعوا إلى إحدى النخلتين فقطعوها في عجلة وأتوا بالدواء للرشيد. ومر الخليفة بالنخلة الباقية في إحدى روحاته فتذكر بيت مطيع، ووقف في مكانه واجماً ساهماً، كمن ارتكب محظوراً خطيراً لا يمكن تلافيه، ثم قال في حسرة كظيمة: عزيز علي أن أكون النحس المفرق، ولوددت أني لم أذق الدواء ولو قتلني الدم بحلوان.
واهاً لمطيع!! لقد جعل الرشيد يتحسر على استئصال نخلة حقيرة، وكأنه قتل - بدون جرم - إنساناً ينبض بالحركة، ويجيش بالحياة، كما أتاح للنخلتين حديثاً يروي مدى الأحقاب، وجعل منهما مادة دسمة للشعراء، فنظم أحمد بن إبراهيم الكاتب في رثائهما أبياتاً دامعة، وارتفع بهما شاعر آخر إلى مرتبة عالية؛ فوازن بينهما وبين عاذلين من بني الإنسان، والتمس لهما العذر في رفق ملموس. فهل كان يدري مطيع حين نظم أبياته أي قصة عجيبة مثل فيها الفصل الأول وختم الرشيد فصلها الأخير؟ أجل لقد كتب الشاعر لنخلتيه تاريخاً يطالعه القراء كما يطالعون ترجمة عظيم مثل دوره السياسي ثم لقي حتفه فترحم عليه الجميع.
ارحم الغصن لا تنله بسوء ... قد يحس النبات كالإنسان
(جزيرة الروضة)
محمد رجب البيومي(814/25)
أساليب التفكير:
التفكير في الشرق القديم
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وبعد فذاك لون خيالي من التفكير؛ بيد أنه يستر وراءه نزعة فلسفية ناشئة تغالب الخرافة؛ وتسعى إلى إيجاد حل معقول لمشكلة الخير والشر في العالم: هل هما من مصدر واحد؟ لا - فذلك ما لا يقبله عقل زرا دشت الحكيم؛ إذ كيف يتسنى أن يصدر النقيضان عن مبدأ واحد!؟ لا بد إذن أن مظاهر الشرور من أمراض وجرائم وموت وقبح وشقاء ترجع إلى علة غير العلة التي ترجع إليها مظاهر الخير من عافية وإحسان وفضيلة وحياة وجمال وسعادة. ولكن العقل قاصر كما قلنا، فهو يفرض وجود العلة ويعجز عن معرفة كنهها، حينئذ يلوذ بالخيال يلتمس عنده ما لم يجده في رحاب العقل، فيخرج بصورة رائعة ترضي نزوعه إلى معرفة إلى حين: تلك هي صورة الصراع المحتدم بين حزبين على رأس أحدهما (أورموزدا) وعلى رأس الآخر (أهر يمان).
ولكن هذه النتيجة لا تشبع العقل، ولا تشفى غليله أللخير أم للشر؟ وهل يعقد النصر لحزب الحق أم لحزب الباطل؟ لو أجاب زرا دشت على هذا السؤال مستنداً إلى الاستدلال البريء من الهوى والرغبة، ودعم إجابته بالدليل المنطقي والبرهان، لقلنا إنه أنتج فلسفة وفكر تفكيراً فلسفياً، ولكنه يحكم طوره المبكر في عالم التفكير، يستجيب لنزعة التفاؤل المتمكنة من نفسه، فيغلب الخير، لا لضرورة منطقية، ولا ليقين عقلي، ولكن لإيمان قلبي، ورغبة نفسية، يحتمان عليه أن ينتصر الخير ويعم الجمال وتسود السعادة في نهاية الأمر. وهكذا نلمس لدى الفرس ما لمسناه في تفكير المصريين. دوافع نفسية تحرك الخيال فيصوغ الآراء صياغة حسية، ويصور العالم صورة خيالية ذاتية لا صورة واقعية موضوعية.
وتقرب من هذه المحاولة الفارسية محاولة هندية يمثلها البراهمة وهم الكهنة الحفاظ على الديانة الفادية التي ترجع إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والتي توزع قوى الطبيعة(814/26)
على آلهة عدة لكل منها دوره في تدبيرها. كان البراهمة كهنة لهذه الديانة جمعوا بين العلم والدين، وليس هذا بعجيب إذا علمنا أن القادية مشتقة من قيداس أي العلم، وقد تطورت الديانة القادية بفضلهم تطوراً اقتضاه تبدل الأحوال، وارتقاء التفكير؛ فخرج المذهب البرهمي في القرن التاسع قبل الميلاد بفكرة فريدة في هذه العصور الخالية التي تسود فيها الوثنية أو تعدد الالهة، هي فكرة الإله الواحد رغم تعدد مظاهره. يراهما الذي أخرج العالم من ذاته، والذي يحفظه ويرعاه، والذي يهلكه ويفنيه. فهو ثلاثة في واحد، أو هو واحد ذو مظاهر ثلاثة، هو براهما من حيث هو مبدأ الوجود، وهو (فشنو) إذا نظرنا إليه من حيث عنايته بالكون والمحافظة عليه، وهو (سيفا) من حيث كونه المهلك. وما براهما وفشنو وسيفا غير أسماء ثلاثة لإرادة واحدة لا حد لها، وقدرة فريدة لا نهاية لها. أما الموجورات أو الجزيئات التي ندركها بحواسنا، فهي مجرد مظاهر حسية مفكرة لحقيقة كلية واحدة هي (براهما) المنبث في أرجاء الكون جميعاً. وهكذا يبلغ البراهمة نظرية فلسفية سوف تصادفنا كثيراً في سياق الحديث عند التاريخ الفلسفة؛ تلك هي نظرية الحلول؛ نصادفها عند متصوفة الإسلام في القرون الوسطى وسبينيوزا في العصور الحديثة. وقد ارتكزوا على هذه النظرية في تفسير الخير والشر والسعادة والشقاء؛ فأرجعوا الخير والسعادة واللذة إلى الوحدة، واعتبروا الكثرة والوهمية والرغبة في الانفصال عن الإرادة الكلية علة الألم والشر والشقاء في الحياة الدنيا؛ وعليه يصبح بلوغ السعادة عملاً يسيراً، فما عليك إلا أن تستجيب لنداء الوحدة والحقيقة، فتتجرد من لذات البدن، وتتجرد من أوهام الحواس التي تفصلك عن الكلي اللانهائي، وتقطعك عن الأصل الإلهي؛ ولا يتأتي ذلك إلا بمجاهدات نفسية، ورياضات جسدية عنيفة، تأخذ نفسك بها كما يفعل اليوم فقراء الهنود الذين يتصلون بسبب قريب بهذه الفلسفة القديمة البدائية وهنا نلمح كيف أدت النظرة الهندية للعالم إلى نظرية عملية، تستهدف تدبير حياة الفرد والجماعة بما يكفل لهم سعادة أبدية. وهذه لعمري ميزة تسم الفكر الشرقي القديم: أعني بها عدم الوقوف عند تفسير العالم الطبيعي وتجاوز ذلك إلى مباحث أخلاقية في الخير والشر، والسعادة والشقاء، واللذة والألم، مباحث أفضت إلى حكمة عملية، ونقصد بالحكمة العملية ذلك الجانب من الفلسفة الذي يتناول بالبحث مبادئ الأخلاق والسياسة.(814/27)
وما دمنا قد ذكرنا الحكمة العملية فلا بد أن نشير إلى زاهد قبيلة سكيا المتوفى سنة477 قبل الميلاد (بوذا) الحكيم الذي جمع من الاتباع، وخلف من الأنصار، ما لم يتيسر لكثيرين من قادة الفكر ودعاة الدين في كثير من العصور. لا بد أن نشير إلى بوذا فهو خير ممثل للحكمة العملية في الشرق القديم، وأقدر مفكري عصره على التحرر من الخرافة، وأقربهم إلى النزعة الفلسفية التي لا تبالي بالموروث، ولا تني عن السعي إلى الحقيقة الخالصة، حتى لنجد لديه بذور مذهب فلسفي شاع في العصور الحديثة، مذهب ينكر وجود جوهر اسمه العقل أو الذات وإنما الموجود ظواهر نفسية، ووقائع شعورية، وأفكار تتابع وتتلاحق دون حاجة إلى جوهر يحمل هذه الأمور جميعاً، فنحن نفكر ونعقل ونتخيل وندرك ونشعر، وتتتابع الأفكار والمعاني والأخيلة والمدركات والمشاعر، فليس ما يدعونا إلى القول بنفس أو عقل أو ذات تحمل هذه الأمور.
ذلك مبحث في صميم الفلسفة يعد وثبة فكرية رائعة، ويضع لبنة من لبنات الميتافيزيقا. وقد أستنتج بوذا من هذه النظرية نظرية في الميتافيزيقا هي إنكار (براهما) أي أصل الوجود عند البراهمة، استنتجها استنتاجاً منطقياً من رأيه في الذات الفردية؛ ولكنه رغم ذلك لا يزال يتصل اتصالاً وثيقاً بالفكر الخرافي الذي يتأثر بالدوافع النفسية، ويستلهم الخيال في كثير من الأحيان، ناهيك بالجانب الأخلاقي في فلسفته الذي يجعل الزهد فضيلة الفضائل، وفناء الشخصية (النيرفانا) غاية الغايات. ولن أترك الحديث عن الملهم الحكيم، قبل أن أشير إلى آرائه في الفلسفة السياسية، من استنكار لنظام الطبقات، وإعلان للمساومة التامة، وإقرار بفكرة التعاطف بين البشر، ومبدأ السلام والمسالمة؛ وجميعها أراء تستهدف نفس الغاية التي أنتجت فلسفته: وإفناء الشخصية الفردية، وتغليب الطبيعة العقلية على الطبيعة الحسية، وإخضاع الإرادة الجزئية للإرادة الكلية.
وآخر مثال أزجيه من التفكير الصيني. ومن أحق بالذكر من بين قادة الفكر الصيني القديم من (كونفوشيوس)، الذي عاش في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. أفكاره عملية أي أخلاقية سياسية. ففي الأخلاق يؤكد فكرة الواجب وضرورة صدورها عن العقل، وضرورة تكميل النفس ويلح على أن الفضيلة اعتدال أي وسط بين الإفراط والتفريط، وينهي عن التطلع إلى المستقبل فهو هم وألم. وأما فلسفته السياسية، فترتكز على عداء للحرب وإيمان(814/28)
بالسلام والعالمية. ويعتبر مثلاً قديماً من أمثلة الدعوات إلى السلام والإيمان بضرورة جعل العالم أسرة واحدة متحابة متعاونة متكاملة، فليتأمل أقطاب هيئة الأمم المتحدة هل أتوا بجديد؟ ولينظر مفكرو الغرب كيف ساهم الشرق القديم في دعم السلام العالمي والأمن الجماعي بفكره ولما يزل في دور الطفولة.
بعد هذا العرض السريع لتراث فكري دفع العقل إلى الأمام بما قدم من غذاء لعصور زكية، نقف هنيهة نتساءل: أليس من الخطأ أن نقول إن الفكر الشرقي في القديم خرافي كله؟ ونجيب عن أنفسنا: إن الخرافة كانت تسود في هذه العصور، ولكن الفلسفة كانت تطل برأسها بين الفينة والفينة، وترسل بارقة مضيئة بين الحين والحين؛ حتى نرى الفكر الهندي والصيني يضرب بسهم في عالم الفلسفة، فقد حاول الهنود والصينيون تفسير بعض جوانب الكون تفسيرات عقلية، كان يمكن أن تصير فلسفة لولا تقيد ببعض أغلال التقاليد، وهروع أحياناً إلى الخيال، وتناثر في الآراء، وإعواز إلى مذهب يلم شتات هذه الأفكار المبعثرة والنظرات المتفرقة، واقتصار على الفلسفة العملية سياسية كانت أو أخلاقية. ولو قد تجرد هؤلاء القدماء من النزعة الدينية الساذجة وأخذوا أنفسهم ببعض التأليف بين النظرات المبعثرة لأمكن أن يخرج اتجاه ميتا فيزيقي عام كما حدث عند اليونان إبان عصر الفلسفة.
(حلوان)
عبد المنعم المليجي
مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية(814/29)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية:
(1) النفس عند ابن سينا
للأستاذ كمال دسوقي
إلى هنا أثبت لكم الشيخ الرئيس وجود النفس، ووجودها مفارقة للمجسمية والمادة. ويهمني أن أنبهكم - أيها المتسابقون البواسل - إلى أن ابن سينا هنا في إثبات وجود النفس على غير عادته - أعني أنه في رسالته في النفس التي قلت لكم إنه ألفها ولم يبلغ العشرين للأمير نوح بن منصور الساماني قد نحا النحو الأرسطي في التصدي لإثبات وجود النفس قبل الشروع في تعريفهما وتقسيمها إلى نباتية وحيوانية وناطقة، ثم في تصنيف قوى كل من هذه النفوس، فقد كان في ذلك الحين مقتنعاً اقتناع أر سطو بضرورة إثبات وجودها أولاً. وفي ذلك يقول في مطلع رسالته المذكورة: (من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولاً أنسيته (يعني وجوده) فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح. فواجب علينا أن نتجرد أولاً لإثبات وجود القوى النفسانية قبل الشروع في تحديد كل واحدة منها وإيضاح القول فيه. . . الخ ص20 وما بعدها من نشرة فنديك للرسالة مصر 1325هـ
هذا ما يقول به ابن سينا حين يكتب في النفس كتاباً أو رسالة مستقلة، أما حين يكتب عنها في كتاب عام شامل كالنجاة فيرى أن يتناولها دائماً في موضعها من سلسلة الموجودات التي سبق أن أظهرتكم عليها، ويتحتم حينئذ ألا يعرض لإثبات وجودها إلا بعد أن يقسمها إلى أقسامها الثلاثة حتى ترتبط بما قبلها وما بعدها في سلسلة الموجودات، وهو بذلك لا يزيغ عن محجة الإيضاح - كما حكم على غيره ونفسه - لأنه هنا أكثر منطقية وأكثر تحرراً من أر سطو. وأياً كان موضع إثباته لوجود النفس؛ فإنه يذهب في هذا الإثبات مذهباً واحداً بعينه: هو التدليل على أن الحركة والإدراك - الذين هما من أخص خصائص القوى النفسية - هما من قوى زائدة عن الجسم، مفارقة للبدن (بدليل أن الأجسام لا تشترك كلها فيها) - ثم يتدرج إلى تقسيم النفوس إلى الأنواع الثلاثة المعروفة من الأعم إلى الأخص فتعريف كل منها وتفصيل قواه وملكاته على نحو ما تبين لكم من قبل.
وإذ أثبت وجود النفس، ينتقل إلى إثبات صفات أخرى تتعلق بهذا الموجود، كالوحدة،(814/30)
والحدوث، والخلود، وعدم التناسخ - فبعد تناول الذات يقرر الصفات، كما تفعل في قسم الإلهيات حين يورد البراهين لإثبات واجب الوجود (الله) ثم يتبع ذلك بإثبات صفاته. وأول ما يتناول من هذه الصفات حدوث النفس أي أنها ليست قديمة ولا أزلية، بل مخلوقة وحادثة ولم توجد قبل البدن بحال - لأنها إن وجدت قبل البدن كانت ذاتاً واحدة أو ذوات متعددة. فإن كانت الأنفس كثيرة ومتعددة قبل حلولها في الأبدان لزم عن ذلك محال؛ لأن تغايرها حينئذ كجواهر مجردة ذات صورة واحدة لن يكون من حيث الماهية أو العدد، بل من حيث القابل أو الحامل لها الذي هو البدن - فقد بطل إذن أن تكون مختلفة الذوات. وبمثل ذلك يبطل أن تكون النفس واحدة، لأنها إن كانت كذلك فكيف تنقسم في أجسام كثيرة أو تحل في أبدان عديدة؟ فالنفس إذن تحدث بحدوث البدن وتولد معه تدبر أمره وتديره. وتظل تعني به وتكمله إلى أن تفارقه.
وحين يموت البدن لا تموت النفس، لأن فساده لا يترتب عليه فسادها، فهي ليست متعلقة به أي نحو من التعلق: فلا هي مكافئة له في الوجود، ولا هي متأخرة عنه في الوجود، ولا هي قبله بالذات أو بالزمن كما سبق أن أوضح ذلك. أما علاقة التكافؤ فباطلة، لأن التكافؤ إن كان ذاتياً كان النفس والبدن جوهرين أحدهما مضاف إلى الآخر، وإن كان عرضياً بطل الذاتي منهما بفساد العرضي ولم يفسد مثله. ولن يكون ثمة تكافؤ على أي حال. وأما علاقة التأخر في الوجود بالنسبة إلى النفس فباطلة أيضاً، لأن الجسم حينئذ سيكون علة وجودها، ويمتنع أن يكون البدن علة فاعلة للنفس؛ لأن الجسم في ذاته غير فاعل، وصورة المادية لا تفعل إلا بالقوى الروحية التي فيها، كما يمتنع أن يكون البدن علة قابلة للنفس، لأن النفس ليست منطبعة في البدن، ولا هو مقصور بصورتها في كله أو في جزء جزء منه - كما بين ذلك في حديثه عن تجرد جوهرها - ويمتنع كذلك أن يكون البدن علة صورية أو مكملة للبدن، إذ العكس أدنى إلى الحق، فليست النفس معلولة بالبدن، وبالتالي لا علاقة لها به على أساس التأخر في الوجود. حقاً إن البدن علة بالعرض لوجود النفس؛ لأنه متى وجد محل وجودها ومملكتها أحدثتها العلة الفاعلة الإلهية (العقل الفعال) لتحل فيه، فالمادة سابقة بتهيئها واستعدادها لقبول النفس، ولكن النفس توافيها حالما يتم لها هذا التهيؤ والاستعداد حتى لا تبقي الآلة معطلة. والذي يعنينا هنا أن وجوب حدوث النفس بحدوث الجسم لا(814/31)
يستلزم وجوب فسادها بفساده؛ فهي من جوهر غير جوهره، وواهب هذه الصورة النفسية (العقل الفعال) غير جسمي كذلك: فهو العلة الفاعلة الحقيقية للنفس. وليس تقدم البدن على النفس في الوجود - إن صح - تقدم علة لمعلول بحال.
أما العلاقة الثالثة: تقدم النفس على الجسم في الوجود - فهو إما تقدم زمني - فلا يكون ثمة علاقة - أو تقدم ذاتي فليزم أن يحصل المتأخر كلما حصل المتقدم بحيث إذا انعدم المتأخر فلا بد أن يكون قد حصل للمتقدم في نفسه شيء أعدمه؛ يعني أن فساد البدن يرجع حينئذ إلى فساد في النفس ذاتها ترتب عليه فساد البدن، ولكن فساد البدن وتحلله - كما تعلم - هما من ذاته، فبطل إذن تعلق النفس بالبدن علاقة تقدم زمني أو ذاتي. ويطلب بذلك أنواع العلاقات الثلاث كلها، وثبت أن النفس لا تموت بموت البدن.
بل إن النفس لا تقبل الفساد أصلاً؛ يعني أنها أبدية خالدة وحجته في ذلك قوية رائعة، فالشيء الذي يقبل الفساد فيه البقاء بالفعل والفساد بالقوة ولا يجوز أن يجتمع هذان المعينان في الأشياء البسيطة المفارقة وبالجملة في أي شيء ذاته واحدة. فإن عرضاً لشيء فلا بد أن تكون ذاته مركبة من شيء إذا حصل كان باقياً بالفعل. وإذا امتنع كان فاسداً بالفعل (ولكي تصلوا إلى فهم ابن سينا هنا اذكروا ما درس لكم من أن أساس الملكة والعدم في المنطق الواحد. وابن سينا يعترض هنا على جعل أساس للملكة وأساس للعدم - أي للبقاء والفساد - هذا بالفعل وذلك بالقوة. وما دامت النفس بسيطة غير منقسمة أو مركبة، وباقية بالفعل؛ فهي لا تفسد، وليس لها قوة فساد. أما الذي يفسد فهو المادة المركبة التي لها قوة أن تقبل البقاء وتقبل الفساد.
والنفوس لا تتقمص ولا تتناسخ. فقد أوضح من قبل أن حدوث النفس إنما يكون نتيجة تهيؤ الأبدان لقبولها، هذا التهيؤ يقتضي وجود النفس أصلاً كعلة مفارقة جديدة لا متنقلة من بدن أخر - ولو كانت النفوس تتناسخ الأبدان واحداً بعد آخر لكان حلولها فيها من قبيل الصدفة العرضية البحت. ولكان التكثر في هذه النفوس يحدث من قبيل الاتفاق والبخت (فارسي معرب يراد به المصادفة بالفرنسية أو بالإنجليزية). بينما إثبات حدوث النفس بالطريقة التي تقدم ابن سينا يجعل علة طول الأجسام في الأبدان بعد تمام تهيئها في الإنجليزية والفرنسية هي ما نقصد هنا بالتهيؤ) علة ذاتية ضرورية لا مجال فيها للصدفة أو الاتفاق(814/32)
العرضي. ثم أن النفس التي تتناسخ جسماً تكون زائدة فيه عن نفسه التي وافته بعد تمام استعداده على النحو الذي ذكرنا - فيكون للجسم نفسان: أحدهما قطعاً لا شغل لها ولا عمل - ولا يشعر بها الجسم ولا تشعر هي بذاتها (لأن كل ذي نفس فهو وهذه النفس شيء واحد) فما عمل هذه النفس الثانية وما قيمتها (إذ أن علاقة النفس بالجسم - كما سبق أن بين - هي علاقة اشتغال وتدبير لا مجرد انطباع وحلول) - فضلاً عن أنه ليس جسم أولي من جسم بأن يكون لهذا نفسان، ولذلك نفس واحدة. فالتناسخ باطل وخلف.
والنفس - رغم كل هذه التعريفات والتقسيمات - ذات واحدة؛ واحدة وإن تعددت القوى وتشعبت الملكات. لأن هذه الملكات والقوى لو لم تكن تؤدي إلى مبدأ واحد لصدر عن كل منها أفعال مختلفة الأجناس. فمثلاً قوتا الإحساس والغضب لو كانتا شيئاً واحداً لكان منهما قوة واحدة يصدر عنها الإحساس والاستجابة بالغضب - مع اختلاف جنسهما كفعلين، وإن كانتا قوتين مستقلتين لكان يستحيل فعل أحدهما باستحالة فعل الآخر. ولما كان فعل كل قوة خاص بالشيء الذي هو قابل له ولا يصلح لغيره، وكانت هذه التأثيرات يرد بعضها لبعض، ويستجيب بعضها لبعض؛ لم يبق إلا أنها تؤدي جميعاً إلى مبدأ واحد.
ويتجرد ابن سينا بعد ذلك لرد شبهات على وحدة النفس، ويأتي في هذا الصدد بحجة يسبق بها الفلاسفة المحدثين في إثبات وجود النفس هي الحجة المعروفة بالأنا ومؤدي هذه الشبهة أن الانفعال بالغضب - في المثال السابق - ليس عن الصورة المحسوسة، وإن يكن نتيجة للحس، وابن سينا يصر على بطلان هذه الشبهة. ويؤكد حدوث الانفعال بالغضب عن تأثير الحس ما دام الإنسان حاساً. ويعمد بعد هذا تحليل قولنا: أنا أحس، فيرى أن هذا (الأنا) إما جسم الإنسان أو نفسه؛ فإن كان جسمه فهو إما جملة أعضائه - وهو محال، وإما بعض أعضائه - فيكون أحدها أحس والآخر غضب - وقد ظهر بطلان ذاك من قبل، وإما عضو واحد أحس فغضب - وهو مردود أيضاً أن أردنا العضو بمعناه الحقيقي - فإن كان ولا بد أن الحاس والغاضب شيء واحد، فهو هذه القوة التي قلنا إن الملكات ترتد كلها إليها - القوة الواحدة التي ليست جسماً ولا في جسم، بل هي النفس.
فأنتم هنا بصدد سبق فلسفي رائع أتى به ابن سينا قبل أن يقول به ديكارت بقرون، وأعني به إثبات وجود الذات بالتجربة الداخلية والتأمل الباطني؛ فالشك يدل على الشاك، والفكر(814/33)
على المفكر، والحس على الحاس، وهو ما نسميه اليوم بالكوجيتو الديكارني (نسبة لعبارته المشهورة: أنا أفكر، فأنا إذن موجود , والفعل (يفكر) هو في اللاتينية التي كتب بها ديكارت وهو سر هذه التسمية). وابن سينا مدرك ما في هذا البرهان من جدة وطرافة، وهو يعلق عليه بقوله: فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب. . . فمن تحقق عنده هذا البرهان وتصوره في نفسه تصوراً حقيقياً فقد أدرك ما غاب عن غيره؛ بمعنى أنه يستطيع أن يستبطن نفسه بحق. واستبطان المرء ذاته، والدخول في نفسه دون حواسه - التي يجب أن تكون مغلقة تماماً - ليس في مقدور كل شخص ولا في كل حين. . . الخ) كما يوضح هذا البرهان بقوله: والإنسان إذا كان متهماً في أمر من الأمور فإنه يستحضر ذاته حتى إنه يقول (إني فعلت كذا أو فعلت كذا) وفي مثل هذه الحال يكون غافلاً عن جميع أجزاء بدنه. . . فالمراد بالنفس هنا هو ما يشير إليه كل أحد بقوله (أنا). وليس المقصود بهذه الذاتية - كما ظن أكثر المتكلمين - الإشارة إلى البدن، فهذا ظن فاسد. (راجعوا رسالته في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لأبن سينا، صفحات 6، 7، 8، 9).
وكان ابن سينا يريد أن يخالف أفلاطون في موضوع هذا المبدأ النفسي الواحد - فيجعله في القلب، ولكنه لم يلبث أن شكك في صحة ذلك لما رأى من مفارقة قوى النفس النباتية والحيوانية والناطقة وتدرجها في النبات والحيوان والإنسان بحيث لا تتعلق قوة منها بأخرى، وعاد ففسر هذا التباين في مظاهر الحياة التي تتمثل في كل من هذه النفوس بأن التضاد في مبادئ ما تحل فيه كل منها بالترتيب يزول شيئاً فشيئاً، وأنه كلما كان هذا التضاد بين هذه المبادئ أدعى إلى التوافق والانسجام كانت النفس أكثر قبولاً لمبدأ نفسي أرقى. يعني أن العقل الفعال يهب الإنسان نفساً ناطقة أرقى: لأن عناصر تركيبه أكثر توافقاً وانسجاماً على نحو ما تفيض الشمس على شيء بمجرد التسخين، وعلى آخر مجرد الإضاءة، وعلى ثالث بالاحتراق تبعاً لمادة كل من هذه الأشياء.
كذلك العقل الفعال مبدأ الفيض وواهب الوجود والصور به تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل، كما تستفاد الصور المعقولة فهو بذاته عقل بالفعل، وما عداه من العقول التي ذكرنا فهي منفعلة به هو لذي تسيح منه قوة إلى أشياء الخيال والوهم والحس التي هي معقولة بالقوة لتصير معقولة بالفعل.(814/34)
وبعد - فهل بقي شيء في النفس عند ابن سينا لم تعرفه أيها الطالب النجيب؟ هناك قصص رمزية كرسالة الطير وقصة سلامان وأبسال وغيرهما - وهناك قصائد وأشعار في النفس أهمها عينته المشهورة التي شرحها المناوي وغيره - وترجمها إلى الفرنسية وشرحها البارون كارادي فو (المجلة الأسيوية. يوليو وأغسطس 1899ص 160 وما بعدها) - ولكن هذه كلها لا تعنيك لما فيها من صوفية وخيال. وحسبك أن وقفت حتى الآن على كل شاردة من مذهب ابن سينا الفلسفي في النفس.
كمال دسوقي(814/35)
ما دمت أنت معي
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ما دمت أنت معي، فلست بآسف ... إن فاتني شيء من الأشياء
حسبي من الدنيا جمالك مونقاً ... متفرداً بالسحر والإغراء
وشبابك الداني القطوف، وإن يكن ... أنأي على غيري من الجوزاء
وربيعك البكر الذي لم تأته ... رؤيا خريف، أو خيال شتاء
وهوى بقلبك قد تفيء ظله ... قلبي، ففاز بلذة النعماء
يا روح أحلامي الذي استودعته ... حبي، وكامن لهفتي، ورجائي
يا سر أشواقي الذي ناديته ... منذ انتفضتُ، بمهجتي ودمائي
يا نبع إلهامي الذي غنيته ... فشدا، وبارك فرحتي وغنائي
وبكيت فانتفض الحنان بقلبه ... دمعاً يواسي أدمعي وبكائي
يا نور أيامي الذي وافيته ... فانساب فجر منه في ظلمائي
أنت التي جعلت شبابي جنة ... قد أيعنت بربيعك الوضاء
شرب العبير بها - فطار مرنَّحا - ... خمر السنا، وسلافه الأنداء
الطير في أفنائها مترنم ... والزهرير قص فوق صدر الماء
والنسمة العذراء تجعل خطوها ... نغماً، ككل مليحة عذراء
أنت التي ملأت حياتي فرحة ... غنى بها قلبي أرق غناء
أنت التي ألهمتني شعر الهوى ... حتى سموت به على الشعراء
كنا معاً طفلين لا ندري الهوى ... إلا حنيناً مبهم الأصداء
ومضى الزمان بنا يصوغ شبابنا ... في قدرة وبراعة وخفاء
حتى انتفضتُ على صبابة آدم ... وأفقتِ أنت على هوى حواء
فعرفت أن الحب أشعل في دمي ... لهباً، وشب النار في أحنائي
وسألتني عن سره ببراءة ... فأجبتُ: تلك طبيعة الأحياء!
ومضى الزمان بنا، فكان زماننا ... سحر الحياة وروعة الأشياء
وعلى يديك شربت من خمر الهوى ... ناراً تحنُّ لمسها أعضائي(814/36)
كان الحياء يذودني عن شربها ... حيناً، وحيناً لا يذود حيائي
وعلى يديك شربت من خمر الهوى ... نوراً أطير به إلى العلثاء
وعلى يديك عرفت أسرار الصبا ... عند اللواتي هن سر بقائي
كم ذا تلاقينا، فكان لقاؤنا ... من لوعة الحرمان خير شفاء
نجني ونقطف ما نريد ونشتهي ... في غفلة عن أعين الرقباء
ونظل نبدع ما نشاء من المنى ... في ظل تلك الجنة الفيحاء
حتى إذا حان الفراق تفجرت ... في القلب نار كآبتي وشقائي
ومضيت عنك، وملء نفسي لوعة ... أخفي ظواهرها على قرنائي
وبمقلتيك مدامع حيرانة ... بين الظهور، وبين الاستخفاء
وعلى يديك ضراعة ملهوفة ... كضراعة الظمآن في الصحراء
أحيا بعيد الدار، يملأ عالمي ... جَزَعُ النوى، وكآبة الغرباء
تهفو إليك نوازعي ومدامعي ... فيردها هذا المدى المتنائي
وأراك في قلبي خيالاً ماثلاً ... يبكي معي في وحدتي الخرساء
وأراك في أفق الخيال حمامة ... حامت على نبع من الأضواء
فيكاد يقتلني الحنين، وقد مشى ... ناراً على كبدي، وفي أحشائي
ويظل يحلم باللقاء وعطره ... قلبي، ولكن لات حين لقاء!
ومضى الزمان بنا، فجمع شملنا ... في عشنا المتألق الأجواء
نحيا به إلفين في ظل الهوى ... وعلى رُبا جناته الخضراء
تتألق الآمال ملء شبابنا ... كتألق الربوات في القمراء
وترفرف الأفراح في أيامنا ... مثل الفراش بروضة غناء
حتى إذا ذهب الشباب، وملؤه ... وهج الحياة، وجذوة الأهواء
وبدا الشتاء كأنما ثارت به ... أيدي الزمان، فضج بالأنواء
ُلذْنَا بدفء من حنان خالص ... ومودة روحية وإخاء
وبذكريات عذبة تحي لنا ... لذات أيام الشباب النائي
تُظل أيامُ المشيب حياتنا ... بسعادة رفافة الأفياء(814/37)
وبألفة نسج الزمان خيوطها ... من روحنا في قوة ومضاء
فنظل طول العمر يغمر حبنا ... أيامنا بسكينة وصفاء
حتى إذا انقضت الحياة. . . حياتنا ... ودعا الفناء بنا على استحياء
طرنا معاً في عالم نحيا به ... روحين من أرواحه السعداء
أيامنا فيه ربيع دائم ... وشبابنا فيه لغير فناء
(الإسكندرية)
إبراهيم محمد نجا(814/38)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مقدمة (الملك أوديب) لتوفيق الحكيم:
بعد غيبة طويلة يعود توفيق الحكيم إلى قرائه. . . ولست أرمي من وراء هذه الكلمة إلى وضع كتابه الجديد فوق مشرحة النقد، فإن موعدي معه الأسبوع المقبل أو الأسبوع الذي يليه، وإنما أرمي إلى تناول هذه المقدمة بالنقد والتحليل، لأنها تستحق من الناقد أن يخصها بكثير من التأمل والعناية.
كتب توفيق الحكيم هذه المقدمة ليصل من ورائها إلى هدفين: أولهما أن يقدم للقارئ عرضاً موجزاً لنشأة المسرحية في الأدب العربي المعاصر ونشأتها في الأدب اليوناني القديم. . . وليقدم له أيضاً بعض العلل والأسباب التي حالت في رأيه بين الأدبين وبين التزاوج في مجال الأدب التمثيلي، على الرغم من هذا التزاوج الذي حدث بين الفلسفة اليونانية والفكر العربي. هذا هو الهدف الأول، أما الهدف الثاني حول هذا العمل الفني الذي أقامه على دعائم الأسطورة اليونانية عند سوفوكليس؛ أسطورة (أوديب الملك).
ولقد تساءل الأستاذ الحكيم وهو في رحاب الهدف الأول الذي أشرت إليه عن سر إحجام العرب عن ترجمه مآسي شعراء الإغريق مع أنهم نقلوا كتاب الشعر لأر سطو وفيه تعريف بالتراجيديا والكوميديا وما إليهما من فنون الشعر التمثيلي، ومع أنهم نقلوا إلى جانب هذا الكتاب بعض الآثار الأخرى في الفكر اليوناني!. . . هل يكون الإسلام هو الذي حال دون اقتباس هذا الفن الوثني؟
إن الإسلام في رأي الأستاذ الحكيم لم يحل بين الناقلين وبين ترجمة كثير مما أنتج الوثنيون. كما أن الإسلام لم ينكر خمريات أبي نواس، ولا نحت التماثيل في قصور الخلفاء، ولا براعة التصوير في (المنياتور) الفارسي!. . . أهي الصعوبة إذن في فهم هذا اللون من القصص الشعري وكله يدور حول أساطير؟ كلا، فإن كتاب (الجمهورية) لأفلاطون قد حفل بأفكار يدق فهمها على العقلية العربية، ومع ذلك فقد نقل إلى العربية وتناوله الفارابي بالبحث والمراجعة!
بعد هذين الفرضين يرد الأستاذ الحكيم علة الإحجام إلى أن التراجيديا الإغريقية في ذلك(814/39)
الحين لم تكن أدباً مهيأ للقراءة والاطلاع، ولكنها كانت أدباً معداً للتمثيل والمشاهدة. . . ومن هنا لم يجد المترجم العربي حين اطلع عليها كبير نفع ولا غناء، لأن الشروح والملاحظات التي كان يمكن أن تنير له الطريق، لا تتضح إلا أثناء التمثيل أمام جمهور من النظارة، وهذا أمر لم يقدر للعرب أن يروه من قريب أو من بعيد!
وأعقب على هذا كله فأقول: إن المسألة لا تحتاج في رأيي إلى كل هذه الفروض. . . فلو أن الأستاذ الحكيم قد حاول أن يختبر معدن العقلية العربية في ذلك الحين، لوجد أن هذا المعدن كان يستجيب لحرارة التفكير العلمي أكثر مما كان يستجيب لحرارة التفكير الفني؛ ومن طبيعة معدن هذا شأنه أن يسيغ كتاباً لأر سطو وأفلاطون، أكثر مما يسيغ تمثيلية ليوربيد أو سوفوكل!. . .
إن العقليات معادن، والعقلية العربية في عصورها الأولى كانت عقلية جدل ومناقشة، يستهويها ويثير اهتمامها ما يحرك في طبيعتها نزعة الجدل والمناقشة. . . لماذا؟ لأنها كانت تسعى وراء الحقائق، تحاول جاهدة أن تكشف عنها على ضوء من نور العقل وحده دون سواه. . . ومن هنا كان هذا الإغراق في العقليات، الإغراق الذي كاد يستأثر بعناية العرب ويستغرق كل وقتهم وجهدهم وطاقتهم الفكرية. أما التمثلية التي تقوم على الأسطورة، فكان من الطبيعي ألا تستهوي عقلية جبلت على السعي وراء الحقيقة! إنها عقلية تريد أن تناقش وتبحث وتجادل وتقرع الحجة بالحجة وتقيم الدليل على أنقاض الدليل، فأين هذا كله من مجال يقوم العمل الفني فيه على صراع النزعات النفسية والعواطف الإنسانية، وأعني به مجال الأدب التمثيلي عند اليونان؟!
هذا التفسير يمكن أن نجيب به مرة أخرى على الأستاذ الحكيم حين يتساءل في موضع آخر: لماذا لم يوجد التمثيل في الحضارة العربية ولم يعرف؟
لقد أرجع الأستاذ هذا الأمر إلى طبيعة عدم الاستقرار في الوطن العربي إبان عصوره الأولى. . . إن التمثيل في حاجة إلى مسرح، والمسرح في حاجة إلى استقرار، والاستقرار أمر لم تهيئه البيئة للعربي الذي كان يسعى وراء قطرة ماء تلوح له هنا أوهناك!
وإذا كان العرب قد تهيأ لهم في العصرين الأموي والعباسي وما بعدهما أن يحيوا حياة مستقرة، فإن ابتعادهم عن التمثيل كان مرجعه إلى أنهم لا يعدلون بشعرهم العربي شعراً(814/40)
آخر، حتى ولا هذا الشعر اليوناني الذي أقيم على أركانه بناء التمثيلية اليونانية!
وفي موضع ثالث ينتقل الأستاذ الحكيم إلى مقدمة (كرومويل) لفكتور هوجو، وهي المقدمة التي يقسم فيها تاريخ البشرية إلى عهود ثلاثة: العهد الفطري وهو عهد الشعر الغنائي، والعهد القديم وهو عهد الملحمة، والعهد الحديث وهو عهد التمثيلية. . . هذه النظرية التي ينادي هوجو بإمكان تطبيقها على أدب كل أمة من الأمم، يرى الأستاذ الحكيم أنها تصلح للتطبيق على الأدب العربي (إذا ما تغاضينا عن (القوالب) واقتصرنا في بحثنا على (الأغراض)؛ ففي العصر العباسي وحده نجد البحتري قبل المتنبي، والمتنبي قبل أبي العلاء، ولو غرس هؤلاء الشعراء في أرض اليونان، لكان البحتري (صناجة العرب) هو (بندار)، ولكان المتنبي الذي دوي في آذاننا على مدى الأجيال بصليل السيوف هو (هومير)، ولكان أبو العلاء الذي صور لنا التفكير في الإنسان ومصيره والملأ الأعلى هو (إشيل). . . فالتطور إذن من حيث الموضوع قد تم).
يبدو لي أن الأستاذ الحكيم قد نسي أن هوجو يدعونا إلى تطبيق نظريته على أدب كل أمة من الأمم على مدار تاريخها كله، لا على مدار عصر بعينه كما فعل حين قصر التطبيق على العصر العباسي. . . إن هوجو ينسب الشعر الغنائي إلى العهد الفطري، فهل كان البحتري من العهد الفطري؟ وينسب الملحمة إلى العهد القديم، فهل كان المتنبي من العهد القديم؟ وينسب التمثيلية إلى العهد الحديث، فهل كان أبو العلاء من العهد الحديث؟!. . .
أما مسألة (القوالب والأغراض)، فأظن أنه لم يبق لها ما يبررها ما دام التطبيق قد بعد عما يهدف إليه هوجو من وراء نظريته. . .
ثم يقول الأستاذ الحكيم في موضع رابع إن فلاسفة العرب قد صبغوا آثار أفلاطون وأر سطو بلون تفكيرنا وطبعوها بطابع عقائدنا. . . في رأيي أن شيئاً من هذا لم يحدث، إن كل ما فعله فلاسفة العرب هو أنهم نظروا في الفلسفة اليونانية فنقلوا بعض ما فيها من آراء ومذاهب نقلاً يحفل بالخلط والتشويه؛ ذلك لأنهم حاولوا أن يوفقوا بين تعاليم الفلسفة اليونانية وبين تعاليم الدين الإسلامي، فكانت محاولة انتهت بأصحابها إلى الإخفاق، أما الإخفاق فمرجعه إلى بعد الشقة بين العقلية اليونانية والعقلية العربية من جهة، وبين منهج الفلسفة اليونانية ومنهج الديانة الإسلامية من جهة أخرى، ومن هنا كانت الفلسفة الإسلامية(814/41)
خليطاً عجيباً من أفكار مضطربة لا تقترب كثيراً من الدين ولا من الفلسعة، ونظرة متأنية إليها فيها الدليل كل الدليل!
أما الجزء الأخير من مقدمة (أوديب الملك)، وهو الذي عرض فيه الأستاذ الحكيم لمن تناولوا أسطورة سوفوكليس في آثارهم الفنية، من أمثال (بيتس) و (هوفمانستال) و (سان جورج دي بوهلييه) و (جان كوكتو) و (أدريه جيد)، هذا الجزء الأخير يحفل بكثير من اللمحات المشرقة، وكم أود أن يرجع إليه القارئ لأنه يعد في حقيقته مفتاحاً لتلك الأعمال الفنية التي أعقبت (أوديب) سوفوكل، ومنها هذا العمل الناضج الذي قام به توفيق الحكيم.
(قطرات ندى) لراجي الراعي:
كتاب نفيس عثرت عليه في سوق الوراقين، وما أكثر ما يجد المرء في سوق الوراقين من نفائس. . . ولقد عثرت عليه عارياً لا يتشح بغلاف يمكن أن يهديني إلى أسم صاحبه! وحين خلوت إليه أقلب صفحاته بين يدي رأيتني أمام كتاب ممتاز لأديب ممتاز، ولكن من هو هذا الأديب الذي هزني وأين مكانه؟ إنه يعرض في الصفحات الأولى من كتابه لبعض الأماكن في لبنان ولبعض رجال الصحافة والأدب في لبنان، ترى أيكون صاحب (قطرات ندى) هو جبران أو الريحاني أو نعيمه؟ لقد وقع في ظني أن يكون واحداً من هؤلاء الثلاثة، لأنه في رأيي لا يفترق عنهم في سعة أفقه وومضات فكره ووثبات خياله
هذا ما وقع في ظني، ولكنني حين رجعت إلى أحد أصدقائي من الأدباء اللبنانيين أسأله عن الكتاب وصاحبه، تلقيت منه رسالة يبلغني فيها أن صاحب (قطرات الندى) هو راجي الراعي. راجي الراعي؟ كيف يكون في لبنان مثل هذا الأديب الممتاز ثم لا أعرفه ولا يعرفه غيري ولم نسمع به من قبل؟! وإذا كان قد انقطع عن الكتابة فأي شأن من شئون الحياة قد شغله عن الأدب وحال بينه وبين ميدانه؟. . ومرة أخرى تلقيت رسالة من الأديب اللبناني الصديق، تحمل إلي الجواب عما أثرت من أسئلة حول صاحب (قطرات الندى). إن راجي الراعي كما يقول الصديق في رسالته أديب كبير من طراز ميخائيل نعيمه، ولكنه انصرف عن الأدب منذ أمد بعيد حيث شغل بالتفرغ لمهنة المحاماة ومنصب القضاء.
لا أدري كيف يستطيع بعض الأدباء الناضجين من أمثال راجي الراعي أن ينصرفوا عن ميدانهم الأصيل وهو ميدان الأدب!. . . إن (إدوار هريو) سياسي فرنسي له في رحاب(814/42)
السياسة شأن كبير ومكان ممتاز، ولكنه في رحاب الأدب أعظم شأناً وأرفع مكاناً عند الذين يقيمون الميزان لحقيقة هذا السياسي الأديب، ومع ذلك فلم تستطع السياسة أن تشغله عن ميدانه الذي أخرج فيه كتابين من أنفس وأعمق ما ظهر في الأدب الفرنسي المعاصر، وأعني بهما كتابيه عن (بتهوفن) و (مدام ريكامييه)!
هذه تحية أبعث بها إلى راجي الراعي على صفحات الرسالة. . ولعله يلبي دعاء الأدب يوماً فيعود إلى ميدانه، لأن مجاله هنا كما أعتقد وليس هناك! وفي العدد المقبل أقدم بعض كلماته وتحليقاته.
رسالة لطفي السيد إلى الشباب:
لطفي السيد أستاذ الأساتذة في هذا الجيل، وهو واحد من هذه القلة التي تزن القول حين تطلقه، وتزن الرأي حين تنادي به وما أجدر الشباب حين يتحدث هذا الرجل أن ينصتوا إليه، وأن يتدبروا كلماته، وأن يتخذوا من نصائحه وخبرته وتجاربه ما يشحذ هممهم، ويقوي عزائمهم، ويسدد خطاهم، في هذا الطريق الطويل الذي تتجإذبهم فيه عواطف الشباب ونزواته!
يقول لطفي السيد في رسالته التي حملتها (الأهرام) منذ أيام إلى ناشئة البلاد من طلاب الجامعة: إن التعليم الجامعي أساسه حرية الفكر، والتربية الجامعية قوامها حرية العمل، ورسالة الجامعة هي أعداد الطلاب لخدمة وطنهم في جميع نواحي الخدمة العامة من سياسية واجتماعية وفنية. ثم يقول لطفي السيد بعد أن تناول هذه الأهداف بالشرح والتفصيل (هذه هي رسالة الجامعة فيما أعتقد أنه المثل الأعلى للجامعات. فإن يكن انصراف عن الجادة المثلى وميل عن سواء السبيل، فمرجع هذه الحال في تقديري إلى اتصال الأحزاب السياسية بالطلبة وصرفهم عن واجبهم العلمي إلى الاشتغال بالسياسة العملية. أنا لا أكره أن يشتغل الشبان بالسياسة على اعتبار أنها موضوع نظري يدرس وتناقش مذاهبه المختلفة القديم منها والحديث. أما السياسة العملية فقد حذرت الشبان دائماً من الإسلاس لقيادة القائمين بها من الأحزاب والهيئات إذ كنت أرى ولا أفتأ أقول: إن السياسة إذا تدخلت في التعليم أفسدته، ولا علم على الوجه الصحيح إلا إذا تفرغ الطالب له وتجرد عن كل غرض سواه)!(814/43)
هذا هو حديث لطفي السيد إلى الشباب، وأنه لحديث يفضي به الرجل في أبانه. . . إننا ننظر اليوم فنجد بعض طلاب العلم وقد تحولوا إلى طلاب دماء، وبعض عشاق المعرفة وقد انقلبوا إلى عشاق هدم وتدمير، وبعض الإشراق الذي كان يشع من نفوسهم وقد انتهى إلى إحراق! ترى كيف تحول وهج العلم في أذهانهم إلى وهج رصاص في أيديهم حتى لقد أصبحنا نشفق على مستقبل الشباب من أزمتين: أزمة الضمير العلمي وأزمة الضمير الإنساني؟
القول ما قال لطفي السيد، وهو أن السياسة إذا تدخلت في التعليم أفسدته، ولا علم على الوجه الصحيح إلا إذا تفرغ الطالب له وتجرد عن كل غرض سواه!
حول تحية الأديب للرسالة:
وعدت القراء في عدد الأسبوع الماضي أن أتناول بالتعقيب خبر اختفاء (الرسالة) من الجناح المصري في معرض الكتاب الذي قامتهأقأأ
أقامته الحكومة اللبنانية بمدينة اليونسكو، وهو الخبر الذي نشرته زميلتنا (الأديب) اللبنانية وعلقت عليه بما شاء لها الأدب الجم والتقدير الكريم. . . ومرة أخرى اعتذر عن ضيق النطاق مرجئاً التعقيب إلى العدد القادم إن شاء الله.
أنور المعداوي(814/44)
الأدب والفن في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
كتاب كريم:
عزيزي الأستاذ عباس خضر
تحية وبعد فقد قرأت ما علقتم به على كلمتي عن صديقي الكاتب الكبير الأستاذ الزيات بك ولم ألحظ هذا الأمر إلا عندما لفتتني إليه كلمتكم. وقد سألت في ذلك أحد الناشرين فاعتذر قائلاً إن الجملة سقطت من المطبعة أثناء الطبع. وأني آسف لهذا كل الأسف مستمسكاً بما قلت مؤكداً له غير منحرف عنه؛ فإن ما قلته هو ما كنت وما زلت أعتقده (إن من أراد الأسلوب العربي الرفيع السليم فعليه بما يكتبه أستاذنا الزيات)
وتقبلوا خالص تحياتي.
المخلص
إبراهيم دسوقي أباظة
25101949
هذا ما تفضل بكتابته إلي حضرة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا، رداً على ملاحظته في كتاب معاليه (وميض الأدب بين غيوم السياسة) أو ما بدا لي، من تغيير فيما جاء خاصاً بأستاذنا الزيات. وهو كتاب كريم من معالي الأستاذ الأديب، يدل على ما يتصف به أدب النفس إلى جانب أدب الدرس، وهو وإن كان من الومضات الأدبية النفسية التي تشع بين غيوم الساسة، إلا أن هذه الومضة تمتاز بالقوة، إذ استطاعت أن تنفذ من خلال سحب السياسة (الخارجية) الملبدة إلى حيث الأدب والفن، تستمد قوتها من نبل الشعور وصفاء الروح.
وكم يحلو لي - ولكل ما يحلو له - أن أتجاوز المنصب الكبير واللقب الرسمي، لأخاطب الأديب الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة، متوجهاً إليه بالثناء والشكر على إيثار مقتضيات الخلق الرفيع والتمسك بالحق، والاهتمام بإزالة ما يعلق به، بهذا الصنيع الجميل والأسلوب النقي المهذب.(814/45)
وللأستاذ الأديب - أيضاً - خالص مودتي وتحياتي.
سؤال وجواب صريحان:
يقول الأستاذ (إبراهيم حسين خالد) المدرس بالمنصورة في رسالة كتبها إلى: (نحن خمسة ولنا ندوة متواضعة نجلس فيها كل ليلة نقرأ الرسالة وما تيسر لنا من كتب الأدب، واسمح لي أن أقول لك في صراحة من القول وجرأة من الحديث، لقد جال بخاطرنا سؤال طالما ناقشناه وقلبنا وجوه الرأي فيه ولكننا لم نظفر بالجواب المرضي والنتيجة المريحة، فهل لك يا سيدي أن تتكرم بمشاركتنا في هذا البحث وتدلنا على وجه الصواب فيه ولك من المولى حسن الجزاء؟ لماذا يا سيدي هجر الرسالة وهي كتاب الشرق وسفر الأدب العربي بعض قادة الفكر وأعلام البيان؟).
سأجيب عن هذا السؤال إجابة صريحة، وأبيح لنفسي أن أفضي بها رغم ما فيها من بعض (الداخليات) لأنها قضية يجب أن تثار ليعلم بها التاريخ الأدبي على الأقل.
ولعل بعض الجواب أو ما يمهد له هو ما أثاره في مجلة (الأديب) اللبنانية جماعة من أفاضل الأدباء منهم الأستاذ نقولا الحداد، والموضوع الذي كتبوا فيه هو (الأدب الرخيص) يعنون به ما تنشره أكثر المجلات المصرية، وقد ألقي الأستاذ يوسف غانم التبعة في كساد الأدب العالي على الأدباء الكبار فقال: (فكبار الكتاب كما لا يخفى يساهمون في تحرير هذه المجلات، فلا غرو إذا فسدت الأذواق، فالمتأدب الذي يلقن منذ الصغر أن طه حسين والعقاد والحكيم والمازني وغيرهم هم مشاعل النهضة الأدبية المعاصرة - يجد لنفسه العذر الكافي في متابعة هؤلاء الكتاب حيثما كتبوا وفي الاعتقاد أن المجلات التي يكتبون فيها هي من أرقى الصحف والمجلات. فما اجدر أدباءنا الكبار أن يقتصروا - في نشر إنتاجهم - على المجلات الأدبية الرفيعة فيروجون للأدب الرفيع الذي قامت شهرتهم على دعائمه)
انتهى كلام الأستاذ يوسف غانم في مجلة الأديب.
والمسألة أن تلك المجلات تغري أدباءنا بالأجور الكبيرة، التي تزيد على ما تستطيع المجلات الأدبية، لأن هذه لا تبلغ شأو تلك في الربح من سعة الانتشار، وهي لا تستطيع أن تتنازل عن مستواها الرفيع وتفرط في رسالتها الأدبية فتصطنع ما تصطنعه تلك المجلات من أدوات الانتشار.(814/46)
وأدباؤنا الكبار قد أبطرتهم تلك الأجور، إذ أصروا في أنفسهم على أن تكون (تسعيرة) لهم. . . ويخيل إلي أنهم في محنة وأنهم يعانون صراعاً نفسياً بعض أسبابه أن يضطروا إلى الكتابة بجوار (المايوهات) وأن يضطروا إلى شيء من التنسيق بين ما يكتبون وبين الأذهان التي تتراقص فيها صور (المايوهات).
ومن أسباب ذلك الصراع الذي يخيل إلي، أنهم ذوو مثل فنية، تجذبهم من طرف، وتشدهم من ناحية أخرى رغبة في الترف.
على أن الرسالة من جانبها تحرص على أن تقدم جيلاً جديداً من الكتاب أو (وجوهاً جديدة) كما يعبر السينمائيون، وقد كان الأساتذة الكبار يوماً وجوهاً جديدة، وسيأتي بعد زماننا وجوه جديدة، ولن تجد لسنة الله تبديلا. والرسالة تحمد الله الذي يشد أزرها ويهب العافية لصاحبها ويبعث التجديد في حياتها ويبقي عليها قراءها، وإن كان منهم من يسأل - لسابق العهد - عن فلان وفلان
الباليه:
انتهى في هذا الأسبوع موسم فرقة (باليه دي مونت كالو) على مسرح الأوبرا، وحلت محلها الفرقة الإيطالية، التي ستعمل في الأوبرا شهراً ثم يختتم الموسم الأجنبي في الأوبرا بفرقة فرنسية.
ويقوم فن (الباليه) على التمثيل بالرقص بحيث تعبر حركات الجسم عن المعاني المختلفة وقد حفلت الصحف والمجلات بصور فتيات (الباليه) في أوضاع متباينة بعضها مسرحي، وبعضها في غرف (التواليت والماكياج) وبعضها في حفلات خاصة مرحة. . . فكانت هذه الصور مادة (طيبة) للصحافة المصرية التي أصبحت تتنافس في تقديم (مشهيات) للغرائز ولا تعدم ناقداً فنياً حصيفاً. . . يكتب إلى جانب هذه الصور فيقول إن هذا الرقص (الباليه) روحي بحت ولا يتصل بإثارة الغرائز بسبب من الأسباب!
وهذا الرقص (الروحي) يقوم به فتيات من أجمل فتيات أوربا يشترط ألا تتجاوز أعمارهن الثلاثين، ويرقصن باديات المحاسن عاريات السيقان والأفخاذ على الأقل، والمستور مجسم. . . ولا بأس على (الروحانية) من ذلك. . . فهن يمثلن البجع أو الحوريات الهواء، وعلى المتفرج أن يكون قوي التصور فيتخيل أن الراقصة بجعة أو شيء آخر غير أنها فتاة!(814/47)
والدليل على أن (راقصات) الباليه غارقات في (الصوفية) أن صحفنا ومجلاتنا تنشر صورهن التي توحي إلى القارئ كل معاني الروحانية السامية. . . وهل تنشر صحفنا ومجلاتنا غير ذلك؟!
وقد أبدى أحد نقادنا الحصفاء ارتياحه للإقبال على فن الباليه في مصر، وعد ذلك نجاحاً للذوق الفني المصري. . . طبعاً يا سيدي، ومن قال لك إن الذوق المصري يتجرد من الإحساس؟ ومن في العالم يستطيع أن يتذوق هذا الفن كالمصريين؟ الرجال رجال. . . والنساء ينظرن هذه البضاعة الجديدة ويتباهين بثمين الحلي والفراء، ومجلة كذا ستنشر صورة قرينة فلان أو ابنة علان، وهي ترتدي فراء فاخراً أو تتحلى بجوهرة فريدة ثم أليس هذا شيئاً من (بلاد بره)؟ ومتى يكون التظاهر بالمدنية والرقي إن فاتت فرصة (الباليه) في الأوبرا؟ ولا بأس ألا يفهم (المتمدن الراقي) شيئاً من تمثيل البجع أو الحوريات، ولا بأس أن تكون عينيه وفؤاده معلقتين بالأجسام التي تتلوى كالخيزران وعقله فارغاً مما يشغل العقول. . .
أليس كل ذلك أسباباً داعية إلى نجاح (الباليه) في مصر؟ وكل عام وانتم بخير.
ضريح سيدي مختار:
نشرت الصحف أن وزارة المعارف قررت بناء ضريح للمثال مختار، ورصدت لذلك ستة آلاف من الجنيهات، والوزارة طبعاً تقصد تخليد ذكرى المثال المصري. ولكن لم اختارت الضريح وسيلة لهذا التخليد؟ إن كان المقصود الجري على سنة الغربيين في دفن العظماء والأعلام ببنايات ضخمة تمجيداً وتقديراً لأعمالهم فإنهم هناك لا يخصون كل واحد بضريح وإنما يجمعونهم في مكان واحد. على أنه لا داعي لتقليد تلك البلاد في ذلك، وخاصة أننا لسنا مثلها في استكمال أسباب الحياة المستقرة من حيث التعليم وغيره، فأمامنا ضرورات لا ينبغي معها إنشاء الأضرحة، وأقرب شيء إلى ذلك حاجتنا إلى نشر التعليم ومحو الأمية. والوزارة تشكو من ضيق الميزانية بأعباء مشروعات التعليم، وهي تواجه أزمة في أبنية المدارس. فلا أشك في أن إنشاء مدرسة يطلق عليها اسم مختار أجدى من الضريح وأخلد لذكر صاحبه.
مؤتمر لغوي عام:(814/48)
عرض في الجلسة الأخيرة لمؤتمر المجمع اللغوي اقتراح اللجنة المؤلفة لوضع برنامج المؤتمر المقبل، إلقاء بحوث ومحاضرات عامة يعد لها من الآن، على أن يشترك فيها العلماء والمختصون في اللغة بمصر والأقطار العربية، ويلقي منها على الجمهور ما تختاره اللجنة التي تشرف على ذلك.
وقد أوضح الدكتور إبراهيم مدكور ذلك الاقتراح بقوله: درجنا في مؤتمراتنا على أن تكون أشبه بلجنة أو جلسة خاصة، وترمي فكرة الاقتراح إلى إشراك الجمهور في أعمالنا؛ إذ أنه توجد مشاكل كثيرة تتصل باللغة العربية ويسر أعضاء المجمع أن يسمعوا آراء غيرهم فيها، فتحدد الموضوعات ويعلن عنها، ثم يلقي في المؤتمر ما يقرر إلقاؤه منها.
وأيد الفكرة الدكتور أحمد زكي بك، فقال: إن المؤتمرات تتيح لكل ذي كفاية في الأمة أن يشترك فيها، وبذلك يخرج المجمع عن انطوائه على نفسه.
وشاطر الأستاذ الشبيبي الدكتور زكي رأيه قائلاً: إن المجمع في حاجة إلى دحض بعض الأقاويل التي تقال بشأنه، فقد لاحظت شيئاً من الاعتراضات على المجمع من حيث البطء في العمل والإنتاج وقد أنهى المجمع الدورة الخامسة عشر ولم ينجز إلى الآن لا المعجم الوسيط ولا المعجم الكبير ولا معجم المصطلحات على ما يقول المعترضون، ولا يقطع ألسنة المتخرصين غير السرعة في الإنتاج.
وهنا سأل الأستاذ زكي المهندس بك الأستاذ الشبيبي عن عمل المجمع العلمي العراقي وموقف الجمهور منه، فقال الشبيبي: لست بصدد المقارنة بين المجامع العلمية، ومع ذلك أقول إن المجمع العراقي لا يزيد عمره على سنة واحدة إلا قليلاً وقد استطاع في هذه المدة أن ينشئ مكتبة غنية بالمخطوطات النادرة، وتعد العدة لنشر هذه المخطوطات، كما تعد العدة لنشر مجلة خاصة بالمجمع، وبه مصلحة فنية مجهزة بأحدث الآلات للنسخ والتصوير.
ورأى الدكتور طه حسين بك الاكتفاء بأن تكون بعض جلسات المؤتمر علنية يلقي فيها بعض محاضرات يستمع إليها الجمهور.
وأخيراً تقرر إحالة الاقتراح إلى مجلس المجمع لمناقشته فيه.
عباس خضر(814/49)
البريد الأدبي
عود على بدء:
بين الأستاذ أنور المعداوي وبيني خلاف حول (إنسانية محمد) مرجعه إلى أن الأستاذ لا يقر التعليل الذي علل به الأستاذ العقاد مواقف النبي الإنسانية؛ وهو أنه إنما وقف هذه المواقف لأنه أكبر من أن يلقي الأمور لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة، وأخبر بسعة آفاق الدنيا التي تتسع لكل شيء بين الأرض والسماء، لأنه يملك مثلها آفاقاً كآفاقها هي آفاق الروح.
فالأستاذ المعداوي يرى أن هذا التعليل ينطبق على الرجل العظيم دون الإنسان العظيم؛ لأنه يجعل النبي صاحب طبيعة خلقية تنبع فيها الرحمة من منابع العظمة النفسية. بينما يرى أن مصدر الرحمة عند الإنسان العظيم هو (الضعف الإنساني) لا العظمة النفسية.
وأنا أخالفه في هذا لأني لا أجد تناقضاً بين العظمة النفسية والعظمة الإنسانية، بل إن الأولى في رأيي لازمة للثانية. لأن الإنسان العظيم الذي يرحم في غير مواضع الرحمة إنما يفعل ذلك لأنه يربأ بنفسه أن يقصر رحمته على مواضعها، شأن الرجل العادي ذي النفسية العادية.
وينصب الخلاف من ناحية أخرى على قول العقاد (أن النبي لا يكون رجلاً عظيماً وكفى بل لا بد أن يكون إنساناً عظيماً) فإذا كان الأستاذ المعداوي لم يقصد بتعليقه عليه سوى قوله (إن اشتراط الإنسانية لنبوة محمد أمر لا داعي لإثباته، لأن محمداً كان إنساناً بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولاً إلى الناس)، إذا كان لم يقصد سوى هذا فأني أخالفه فيه أيضاً. فهل كون النبي إنساناً عظيماً قبل نبوته يمنع من اشتراط الإنسانية له؟ ما دخل إنسانية ما قبل النبوة هنا؟ إننا بصدد تبيين خصائص النبي، فلا يكفي أن يكون رجلاً عظيماً، بل يجب أيضاً أن يكون إنساناً عظيماً. هذا ما قاله العقاد. فما معنى دفعه بأن لا ضرورة لاشتراط الإنسانية للنبي لأنه كان إنساناً قبل أن يكون نبياً؟ هل الإنسانية قبل النبوة تمنع من جعلها من خصائصه بعد النبوة؟؟
وبعد، فهذه كلمة (عجيبة!!) أخرى، ولكنها الأخيرة، أبعث بها للأستاذ المعداوي مع تحياتي.
محمد محمود عماد(814/51)
المحامي
ما أكثر ما يخطئ الكتاب والشعراء المعاصرون في العربية.
قال الشيخ جمال الدين بن هشام الأنصاري في كتابه (مغني اللبيب): (قط) على ثلاثة أوجه (أحدها) أن تكون ظرف زمان لاستغراق ما مضى، وهذه بفتح القاف وتشديد الطاء المضمومة في أفصح اللغات. وتختص بالنفي؛ يقال ما فعلته قط، والعامة يقولون لا أفعله قط، وهو لحن. واشتقاقه من قططته أي قطعته؛ فمعنى ما فعلته قط: ما فعلته فيما انقطع من عمري، لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال.
وقال عميد الأدباء في كلمته المنشورة بعدد الرسالة رقم 813 بالصفحة رقم 152:
(وما أعرف أني بايعت شاعراً أو كاتباً قط، وما أظن أني سأبايع شاعراً أو كاتباً قط). وقال أيضاً في كلمته المذكورة:
وما أكثر ما يخطئ الشعراء والكتاب المعاصرون في العربية
وقلت أنا: لقد حق القول قوله والسلام
(الروضة)
محمد فؤاد عبد الباقي
رواية بيتين:
نشرت الرسالة الغراء بالعدد 807 قطعة من فرائد الشعر للأستاذ الشاعر إبراهيم الوائلي بعنوان (أيها العابرون) جاء فيها هذا البيت:
موجة إثر موجة تترى ... كجبال قد اقتلعن اقتلاعا
وصدر هذا البيت ينقصه (وتد مفروق) قبل قوله (تترى)، إذ أن البيت من بحر الخفيف وكذا في البيت:
وقلوباً من الحديد تشظت ... فاكتسحت قوة وجلت صراعا
زيادة في التفعيلة الأولى من عجزه. وهذه هنات لا تغض من قيمة القطعة ولعلها من آثار التطبيع(814/52)
(فرشوط)
عبد الفتاح حماد
بالمدارس النموذجية
ابن المقفع وكليلة ودمنة:
قرأت في العدد 806 من مجلتكم الغراء مقالة الأستاذ محمد رجب البيومي (الصداقة في رأي ابن المقفع) كان لها أثر كبير في نفسي، وقد لاحظت أن الأستاذ الفاضل يعرض أفكاره ثم يعقبها بشواهد من كتاب (كليلة ودمنة) وينسبها إلى ابن المقفع مع أن الكتاب المذكور - كما يخبرنا التاريخ - ليس لابن المقفع فيه غير الترجمة. أما مؤلفه وصاحب ما فيه من الآراء والأمثال والحكم، فهو (بيدبا) الفيلسوف الهندي الكبير.
هذا ما عن لي، فأرجو إن كنت على حق نشره لأرى رأي الأستاذ صاحب المقال فيه. فلعل عنده من العلم ما نجهله عن كتاب (كليلة ودمنة).
(المدينة المنورة)
محمد العامر الرميح
1 - مكتبة الكيلاني للأطفال:
أخي الكاتب الكبير الأستاذ كامل كيلاني
تحية طيبة مباركة. وبعد، فإني لا أحاول في هذا الخطاب الموجز أن أصف كل ما يخالج نفسي من تقدير بالغ لأدبك العالي وبيانك الرفيع، أو أن أصور فضلك على الأدب والشعر والتاريخ
وماذا أقول في وصفك وقد أجمع العظماء والكبراء، واتفق فحول الكتاب والشعراء على فضلك، والإشادة بعظم ما قدمت لرجال أمتك (وأطفالها) من أدبك، لا أريد أن أتزيد اليوم بالكلام عن فضلك وما سبق من عملك. وإنما أتحدث في عبارة موجزة عن المجموعة النفيسة المسماة (مكتبة الكيلاني للأطفال) تلك التي جعلتها لتأديب الأطفال وتثقيفهم(814/53)
وضمنتها الخيال البعيد والفكر السديد، والحيل الغريبة، والمحاورات المفيدة، وزينتها بالحكم الغالية، والفلسفة العميقة، والفكاهة الحلوة، والنادرة المستملحة، وغير ذلك من الأغراض التي يرمي إليها كبار علماء التربية في هذا العصر، والتي يجب أن تحملها كل كتب التربية، كل ذلك في معرض مشوق أخاذ. والتشويق أنجع دافع إلى القراءة والانتفاع بما في الكتب والأسفار، يستوي في ذلك الكبار والصغار، أما طبع هذه المجموعة والشكل والعرض والأسلوب والصور التي تزينها، فهي كذلك مما لا يكاد يوجد مثله في مطبوعات أخرى.
وإذا كان لي من قول أذكره لأخي بعد تجارب تقرب من أربعين سنة قضيتها في الدرس والتحصيل، فهو اعترافي بأنك قد وفقت أعظم توفيق في إخراج هذه المجموعة النفيسة التي بدت تختال في هذا الشكل الرائق والموضوع الفائق، وأستحثك على أن لا تني في الاستزادة منها ليدوم النفع وتستمر الإفادة.
وإني تلقاء هذا العمل الجليل أتوجه لأخي الكريم بالتقدير العظيم على ما بذل ويبذل من جهد وتعب في سبيل تثقيف الناشئين وغير الناشئين، وبالشكر الجزيل على سائر الممالك الأدبية والعلمية التي أخرجتها وتخرجها كل يوم لنفع الناس أجمعين.
أعانك الله وأدام توفيقه لك، ومتعك بكمال الصحة وموفور العافية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(المنصورة)
محمود أبو ريه
2 - من طرائف حافظ إبراهيم:
كان المويلحي الكبير إبراهيم بك المويحلي يمدح الإنجليز ويثني عليهم، أما حافظ إبراهيم فكان يمقتهم ويثلبهم، ومما قال في ذلك:
وحبيب لي عزيز ... وهو في حرز حريز
ليته يحتل قلبي ... كاحتلال الإنجليز
وفي مجلس بمنزل عبدة الحمولي في سنة 1898 حضره الكاتبان الكبيران الشيخ إبراهيم(814/54)
اليازجي وابن أخته الشيخ نجيب الحداد أنشد حافظ إبراهيم - وكان حينئذ ضابطاً بالجيش - هذين البيتين:
يا ساهر الليل هل للصبح من خبر؟ ... إني أراك على شيء من الضجر
أظن ليلك قد طال الوقوف به ... كالقوم في مصر لا ينوي على سفر
فطرب اليازجي طرباً شديداً، وبخاصة لقوله (على شيء)، وشهد لحافظ بالشاعرية.
(م. أ)
استدراك سهو:
جاء في نقدنا لكتاب (عالم الذرة) للأستاذ نقولا الحداد والمنشور في العدد الماضي من الرسالة الغراء أن:
الكتلة السرعة=العزم، والصحيح أن الكتلة السرعة=الدفع. وإنا نستدرك هذا السهو مع الاعتذار للقارئ
كامل محمود حبيب(814/55)
الكتب
عالم الذرة
للأستاذ نقولا الحداد
أشكر عظيم الشكر لحضرة الأديب الأستاذ كامل محمود حبيب نقده في الرسالة لكتابي (عالم الذرة). وقد استهله بكلمات تقريظ بقصد أن يخفف من لوعة النقد. وكان ينقده باعتبار أنه ثقة في الموضوع. وسرني جداً النقد لأنه ينبهني إلى مواضع الخطأ اللهم إذا كان صواباً ولكن. . .
يقول الأستاذ (أنت في كتابك أردت أن تكون معلماً ولكن. . .)
لا يا سيدي ما كنت إلا تلميذاً أبسط لأساتذتي من أمثالك الدرس الذي تعلمته. ولكن يظهر إني لم أحسن البسط.
وقد أعطاني حضرته ستة نماذج لفصول كتاب كان يتمنى أن تكون فصول كتابي؛ لأنه رأى فصول كتابي الأولى مضطربة. وأنا أرى أن النماذج التي أقترحها جديرة بأن تكون فصول كتاب سيؤلفه هو إن شاء الله، أو أنها مرسومة في ذهنه. وحضرته يعلم أن لكل مؤلف طريقة في تبويب كتابه وتفصيله مستوحاة من دراسته وبغيته في التأليف.
وأما أنا فقد حللت الذرة التي كان يظن أنها بسيطة لا تقبل التجزئة إلى ضلعيها الإلكترون والنواة. ثم حللت النواة إلى أضلاعها البروتون والنيترون والبوزيترون إلى آخره. ثم حللت هذه الأضلاع إلى فوتونات. فلا أفهم كيف يكون هذا التحليل اضطراباً. أترك الحكم إلى القراء.
أما ذكري أن الطاقة والمادة شيء واحد وإيرادي فصلاً بشأنه في آخر الكتاب كملحق له فله سبب، وهو أني ذكرت في مقال في المقتطف أن المادة والطاقة شيء واحد، فشجب هذا القول كاتبان من القدس ومن السلط فرددت عليهما بهذا الفصل ثم انتهزت هذه الفرصة لأنقل هذا الفصل إلى كتابي كتأييد للفصل الرابع في الكتاب وهو فصل عن الطاقة والمادة.
والآن أنتهز هذه الفرصة للاستشهاد بما ورد بهذا الصدد في الفصل الأول من كتاب وزارة الحربية الأمريكية بعنوان (الطاقة الذرية) وهو بنصه: (الطاقة لا يمكن أن تخلق من العدم ولا أن تفنى من العدم، بل يمكن أن تتحول شكلاً. . .)(814/56)
ثم (لقد اكتشفت أخيراً أن الطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة، والمادة إلى طاقة) والمعنى أن المادة والطاقة شيء واحد يختلفان شكلاً.
وأما سكوتي عن النقط الفنية التي وردت الإشارة إليها في صفحة 68 من الكتاب، فسببه أن البحث فيها يستلزم رسوم آلات وعدداً يتعذر فهمها على القارئ ما لم وافقاً أمام الآلات والعالم الفني يفسرها له. والتمادي في دراستها يصل إلى نقط محظور الاطلاع عليها لأنها من أسرار القنبلة الذرية التي يدور النقاش بشأنها بين بعض الدول، وبالطبع لست أنا ممن يدركون هذا الكنه، فلا أبحث فيما أجهله.
بقي أن أرد على الأستاذ في (الهنات) التي صححها وأريه أنه خطأ الصواب فيها.
أنتقد ترجمتي بالجو المغنطيسي وصححه بالمجال المغناطيسي: وأنا في جميع كتاباتي العلمية أستعمل الجو بدل المجال؛؟ لأني أرى أن استعمال المجال خطأ محض، لأن المجال سطح ذو امتدادين طول وعرض فقط، والمغنطيسية (والكهربائية أيضاً) تتوزع في حيز ذي ثلاثة امتدادات: طول وعرض وعمق، وهي امتدادات الجو لا امتدادات المجال. فالجو أصح والمجال خطأ وعلى المجمع اللغوي أن يقرر ترجمتي إن رام الصواب.
وينتقد الأستاذ ترجمتي بالقوة الدافعة المركزية. وهو يصححها أو بالأحرى يغلطها بقوله (القوة الطاردة المركزية) وبين الدفع والمطرد بون عظيم. الطرد هو الإقصاء عن المركز إلى اللانهاية. والقوة الدافعة المركزية هي القوة التي تحفظ الجرم المدفوع في البعد الذي تقتضيه القوة الجاذبة بحيث لا يهبط إلى المركز ولا يشرد عنه. فإذا قذفت قذيفة بقوة أضعف من قوة الجاذبية تنقذف إلى مدى القوة التي قذفتها ثم تهبط نحو المركز. ولكن إذا كانت القوة الدافعة (لا الطاردة) تعادل القوة الجاذبة (بسرعة نحو 5 أميال في الثانية على الأرض) فالجرم المقذوف لا يهبط إلى الأرض نحو المركز ولا يشرد في الفضاء بل يبقى دائراً حول الأرض كأنه قمر ثان له. فانظر ما أعظم الفرق بين الدافعة المركزية والطاردية المركزية! أما عن الجرافيت فتفسير الأستاذ له لم يزده بياناً؛ فما هو إلا فحم حجري مضغوط كما قلت والفحم كربون على كل حال بقي أن الأستاذ لم تعجبه المعادلة:
كتلة سرعة=زخماً(814/57)
بل يصر على أن تكون عزماً بدل زخم. ولو كلف خاطره أن ينظر في أي معجم من معجمات اللغة لرأى بين عزم وزخم بوناً شاسعاً.
الزخم هو الدفع أو الاندفاع بشدة.
والعزم هو توطين النفس على العمل أو الفعل، أو هو القصد أو الإرادة، وليس معنى من هذه المعاني هو المعنى المقصود بشدة الاندفاع أو الدفع. فالعزم هنا خطأ محض كما يرى القارئ.
ثم لم يعجبه القول أن السرعة هي مدى انقذاف مقدار من الكتلة في الثانية، بل يصححها بقوله أما سرعة جسم متحرك هي معدل إزاحته في ثانية. وللقارئ أن يحكم أي القولين أصح. ألا يصح فيه قول القائل (وفسر الماء بعد الجهد بالماء).
كنت أود أن تكون نقدات أستاذنا كامل وجيهة لكي أستفيد منها، فإذا هي نقدات ناقد نواها منذ شرع يطالع الكتاب. وعلى كل حال أشكر له اهتمامه وأتمنى أن يأتينا بكتاب من قلمه في هذا الموضوع العويص فنتعلم منه ما لم نعلمه.
نقولا الحداد
م ش البورصة الجديدة القاهرة
الملك أوديب
تأليف الأستاذ توفيق الحكيم
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وأخيراً تناول الأستاذ توفيق الحكيم بأسلوبه البارع في القصة والحوار مسرحية الملك أوديب، بعد أن تناولها قبله تسعة وعشرون مؤلفاً، من سنة 1614م إلى سنة 1939 هـ، وهي مسرحية قديمة ألفها سوفوكليس اليوناني، ليصور فيها الصراع بين الإنسان والقدر، على نحو ما كان يذهب إليه اليونان من عقيدة المحتوم.
وتتلخص هذه المسرحية في أن لايوس ملك طيبة تزوج فتاة تسمى جوكاستا، وقد رزق منها طفلاً هو أوديب، فجاء إليه ترسياس العراف الذي كان يدعي الوحي من السماء،(814/58)
فأخبره بأن هذا الطفل إذا كبر يقتله ويستولي على ملكه، وأشار عليه بقتله وهو في المهد، فأعطاه هو وجوكاستا راعياً لهما ليقتله. فلما ذهب به ليقتله لم يطاوعه قلبه على قتل طفل بريء، فأعطاه راعياً آخر ليذهب به إلى بلده ويتخذه ولداً، فذهب به ذلك الراعي إلى بوليت ملك كورنت وزوجته ميروب، فتبنياه وربياه في قصرهما إلى أن كبر، ولكنه علم أنه لقيط، فلم تقبل نفسه أن يقيم مهما بعد علمه بذلك، ففر من قصرهما ليبحث عن حقيقة أصله فألقى به القدر إلى طيبة، وكان لايوس قد خرج من طيبة في حاشية له، فزحم أوديب مركبة لايوس عند مفترق الطرق بين دلف ودوليا، وقام شجار بينه وبين الحراس من الحاشية، فتغلب عليهم وقتلهم، وأصابت ضربة منه رأس لايوس فقتلته وكان في الحاشية ذلك الراعي الذي أعطاه لايوس أوديب ليقتله، ولم ينج غيره من الحاشية. فأشيع أن جماعة من اللصوص خرجوا على لايوس فقتلوه، وكانت جوكاستا لا تزال في عنفوان شبابها، وكان لها أخ يسمى كريون، فجعلوه وصياً على العرش، وهنا ظهر وحش خارج أسوار طيبة له وجه امرأة وأجنحة نسر سماه أهلها أبا الهول، وكان كل من تخلف منهم خارج الأسوار بعد الغروب يلقي عليه لغزاً ليحله فيعجز عنه ويقتله، حتى أهلك عدداً كبيراً منهم، فاتفقوا على أن يمنحوا عرش طيبة لمن ينقذهم منه، ويزوجوه جوكاستا، وكان أوديب هو الذي أنقذهم من ذلك الوحش لأنه قدم عليه فسأله عن لغزه: ما هو الحيوان الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟ فأجابه بأنه الإنسان، لانه يحبو في صغره على يديه ورجليه، وفي الكبر يستوي ماشياً على قدميه وعصاه، فأعطوا أوديب عرش طيبة وزوجوه جوكاستا وهو لا يعلم أنها أمه، كما قتل لايوس وهو لا يعلم أنه أبوه وقد قضى معها عيشة طيبة ورزق منها بأولاد ولكن هما كان يثقله من جهة أصله الذي خرج من كورنت يبحث عنه، فكان يهمه أن يصل إلى معرفة حقيقة أصله، وفي معرفته القضاء على هناءة عيشه هو وزوجته لأنها أمه وأولادها إخوته، وهنا شاء القدر في قسوته أن يوصله إلى حقيقة أصله فيسلط طاعوناً على أهل طيبة، ويعجز أوديب عن إنقاذهم منه كما أنقذهم من ذلك الوحش فيرسل كبير الكهان كريون أخا جوكاستا إلى معبد دلف ليسأل الآلهة عما يفعلونه ليرفع غضبه عنهم فيجيبه الإله بأن سبب هذا الغضب إثم يدنس طيبة بدم الملك لايوس ولا مفر من غسل الدم بالدم، ويخبره بأن قاتله هو أوديب،(814/59)
ثم يسوق القدر القاسي الحوادث بعضها إثر بعض، إلى أن يبين لأوديب الحقيقة التي سعى وراءها فإذا هو قاتل أبيه لايوس وإذا هو زوج أمه جاكوستا، وإذا هو أخو أولاده منها، ويثقل وقع الحقيقة على جاكوستا فتذهب إلى حجرتها هرباً منها، ثم يجدونها تتدلى في هوائها معلقة بحبل في عنقها، وقد ماتت مختنقة به، ويراها أوديب كذلك فيبلغ مصابه غايته، ويتنزع مشابك ثوبها الذهبية فيطعن بها عينيه ليبكيها بدموع من دم، ويزال الدم يسيل من عينيه إلى أن يذهبا وتنتهي بهذه الفجيعة تلك المسرحية، وقد تصرف الأستاذ توفيق الحكيم في نقلها إلى العربية ليجعل منها مسرحية توافق البيئة العربية الإسلامية، فلا تكون محض جبرية كما كانت في أصلها اليوناني بل لسعي أوديب في الوصول إلى الحقيقة أثر في مصيرها ليكون القدر فيها وسطاً بين الجبر والاختيار، كما قال أبو حنيفة: إني أقول قولاً متوسطاً، لا جبر ولا تفويض ولا تسليط، والله لا يكلف العباد بما يطيقون، ولا أراد منهم ما لا يعلمون ولا عاقبهم بما لم يعلموا ولا سألهم عما لم يعلموا ولا رضى لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم والله يعلم بما نحن فيه وقد أصاب الأستاذ الحكيم في توجيه مسرحية أوديب هذا التوجيه ولكني أخالفه في أن أوديب سوفو كل بلغت الكمال الفني أوجه بعد مفخرة للذهن فهي ألاعيب كهان وثنيين لا يسمون إلى حقيقة القدر، لانه أسمى من أن يقدر هذه الألاعيب من أولها إلى آخرها ليلهو بها أولئك الكهان وينصبوا ويعزلوا بها ملوكهم ويوقعوا المصائب على شعوبهم وما كان أحرى الأستاذ الحكيم أن يوجه المسرحية إلى مشف هذه الألاعيب لتوافق البيئة الإسلامية موافقة كاملة ولتنتهي إلى تلك الفجيعة التي لا تستسيغها عقليتنا ولا ترى في قتل أوديب لأبيه من غير عمد ولا في زواجه بأمه من غير علم شيئاً يوجب هذا المصير المؤلم، كما لا يوجب ذلك الطاعون الذي أصاب أهل طيبة وهذا إلى أنهم لم يكن لهم يد في ذلك القتل.
وأين القدر في هذه المسرحية من القدر في أمر موسى وفرعون؟ ولعل هذه المسرحية مأخوذة من قصتهما مع الفارق الكبير بينهما فقد أراد القدر أن يربي فرعون موسى ليقتله من أجل غاية سامية، فلما أخبر فرعون كهنته بأنه سيقتل بيد مولود إسرائيلي عمد إلى قتل كل مولود يولد لبني إسرائيل ولكن القدر الإلهي غلبه على أمره وجعله يربي ذلك الطفل الذي سيكون هلاكه على يديه ومع هذا لم يجعل هلاكه على يديه إلا بعد أن أعذر إليه(814/60)
ليكون هلاكه عقاباً له يستحقه، ولاشيء من هذا كله في مسرحية أوديب وإنما هي ألاعيب كهان جهلة يستغلون جهل الشعوب ويلعبون كما يشاء لهم جهلهم بمصيرهم.(814/61)
العدد 815 - بتاريخ: 14 - 02 - 1949(/)
الرجل الذي فقدناه
مضى على استشهاد المجاهد الخالد محمود فهمي النقراشي باشا سبعة وأربعون يوما ولا يزال الأسى على مصرعه يلوع القلوب، والأسف على فقده يرمض الأنفس! وعهدنا بالحزن على الزعماء العظماء أن يشتعل أوسع ما يكون الاشتعال، ويخبو أسرع ما يكون الخبو. ولم يمت زعيم إلا اختلفت الآراء في تعيين مكانته، وتفاوتت الموازين في تقدير كفايته. حتى أبو الأبطال سعد، لم تتفق على سياسته الكلمة، ولم تجمع على عدالته الأمة، ولم يصلّ على جنازته الملك. ولم يكن النقراشي الذي ظفر من الشعب والحكومة والعرش بذلك كله قد أوتي ما أوتي مصطفى كامل وسعد زغلول من ذكاء القلب في الخاصة، وبلاغة اللسان في العامة. ولم يكن الوعي القومي الذي قدره هذا القدر، ووضعه هذا الوضع، وبكاه هذا البكاء، خامد الفطنة كليل البصيرة سلس المقادة، كذلك الوعي الذي افتتن بمصطفى واستقاد لسعد.
وعينا القومي اليوم غيره بالأمس. ولئن نضج في هذا العهد لقد تقلب على أطوار الطبيعة ككل كائن برعما أخرجه دفء الربيع ففتّقه أبو الثورة سعد؛ ثم كان ثمرة سواها حر الصيف فقطفها أبو النهضة النقراشي. فالوعي المصري في هذا الطور يتأثر بالفعل لا بالقول، ويستجّر ُللعقل لا للهوى، ويفاضل بالمنفعة لا بالعاطفة. ومن هنا كان حزن الأمة العميق الشامل على النقراشي الذي كان يعمل ولا يتكلم، ويحارب ولا يخطب، ويصارح ولا يداهي، وينتصر ولا يباهي، وينتصف ولا يجابي، ويقدم ولا يتردد، ويهجم ولا يخاف؛ لأنه كان مقتضى الحال الأليمة التي كانت عليها مصر يوم تولى أمرها. والمصلحون كالأنبياء يبعثهم الله حين يستشري الفساد ويضطرب الحبل ويستبهم الطريق. كانت الحكومة مترددة تريد الحازم، والسياسة مستكينة تريد الأبي، والشهوة متوقحة تريد النزيه، والأمة متحيرة تريد الدليل. والنقراشي شهد الله كان أقدر على تصريف الأمر بعين لا تكسرها ريبة، ويد لا تقصّرها جبانة.
كانت حياة النقراشي ملحمة، وكانت ميتته مأساة! وكما يكون بطل الملحمة عبقري الصفات في خيال الفنان، كان النقراشي عبقري الصفات في واقع الطبيعة. ولكن بطولته كانت نمطا من بطولة الرسل: قوة في الروح تقهر النفس، وقوة في الخلق تقهر الغريزة. ومن لوازم القوة الروحية الصفاء والوفاء والعفة والكرامة؛ ومن لوازم القوة الخلقية العزم والحزم(815/1)
والنظام والصرامة. والصفات الأولى هي عناصر الشخصية الخاصة قي النقراشي الصديق والزوج والوالد؛ والصفات الأخرى هي عناصر الشخصية العامة في النقراشي المعلم والسياسي والحاكم. ومن أجل ذلك كان النقراشي هو الشهيد الوحيد الذي ترثيه بلسان الشعر فتؤثر، وترثيه بلسان المنطق فتُقنع. كانت حياته العاملة في سبيل وطنه وأمته، وموتته الدامية في طفولة ابنه وابنته، إلياذة مجد ألّف ختامها القدر من أنات هانئ وصفية وكتبها بدمه، كما ألف ختام الملحمة العلوية من صرخات علي وفاطمة وكتبها بدم الحسين!
أحمد حسن الزيات(815/2)
السري الرفاء
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
السري بن أحمد الكندي الموصلي المعروف بالرفاء من شعراء القرن الرابع الهجري النابهين.
نشأ في الموصل رفاء يرفو الثياب، وقد ذكر هذا في شعره إذ كتب إليه صديق يسأله عن حاله فأجاب بأبيات
منها:
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقا ... كأنه من ثقبها جاري
يقول الثعالبي في يتيمة الدهر:
(ولم يزل السري في ضنك من العيش إلى إن خرج إلى حلب واتصل بسيف الدولة واستكثر من المدح له فطلع سعده بعد الأفول، وبعد سيطه بعد الخمول وحسن موقع شعره عند الأمراء من بني حمدان ورؤساء الشام والعراق ولما توفى سيف الدولة ورد السري بغداد ومدح المهلبي الوزير وغيره من الصدور فارتفق بهم وارتزق معهم وحسنت حاله، وسار شعره في الآفاق، ونضم حاشيتي الشام والعراق، وسافر كلامه إلى خراسان، وسائر البلدان).
فهذا شاعر عاش في الشام والعراق في القرن الرابع، وشهد حلبة الأدب عند الأمير العربي الجواد الأديب سيف الدولة، واتصل بالوزير الأديب المهلبي في بغداد. فهو يمثل الشعر العربي في عصر من أندر عصوره، وفي أمجد أقطاره. ففي شعره مجال للأديب واسع، وقد صرف القول في فنون الشعر المعروفة في عصره، نافس كثيرا من شعراء زمانه. ولا يتسع حديثنا للقول في تاريخ السري الرفاء وشعره، فأكتفي بموضوعين.
الأول عداؤه للأديبين الموصليين الأخوين محمد وعثمان المعروفين باسم الخالدين، وهجاؤه إياهما بسرقة شعره وشعر غيره وتصريفه القول في غارتهما على الشعر، والولوع بذكر هذا في قصائد مدحه وهجائه. وإن صح ما رواه الثعالبي عنه فقد حملته العداوة على ما لا يحمل بالأدباء. يقول الثعالبي:(815/3)
(ونابذ الخالدين الموصلين وناصبهما العداوة، وادعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره وجعل يورق وينسخ ديوان شعر أبي الفتح كشاجم - وهو إذ ذاك ريحان أهل الأدب بتلك البلاد، والسري في طريقه يذهب، وعلى قالبه يضرب - وكان يدس فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالدين ليزيد من حجم ما ينسخه، وينفق سوقه ويغلي سعره، ويشنع بذلك على الخالدين ويغض منهما، ويظهر مصداق قوله في سرقتهما، فمن هذه الجهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم زيادات ليست في الأصول المشهورة منها وقد وجدتها كلها للخالدين بخط أحدهما).
فهذا مثل ادعاء السري على هذين الشاعرين سرقة الشعر. وأما هجائه إياهما بسرقة من أشعاره خاصة فقد افتن به افتتانا وردده في كثير من شعره وقد سلط الله عليه الثعالب جزاء وفاقا فعقد هذا المؤلف الكبير فصلا في اليتيمة لسرقات السري من الشعراء وأفاض القول فيها. واكتفى هنا بمثالين من شعره في هذا الموضوع:
كتب الخالديان إلى أبي إسحاق الصابي الكاتب المعروف أنهما قادمان إلى بغداد فأنشأ السري للصابي قصيدة أولها:
قد أظلتك يا أبا اسحق ... غارة اللفظ والمعاني الدقاق
فأتخذ معقلا لشعرك تحميه ... مروق الخوارج المراق
كان سن الغارات في البلد القف ... ر فأضحى على سرير العراق
غارة لم تكن لسمر العوالي ... حين شنت ولا السيوف الرقاق
جال فرسانها علي جلوسا ... لا أضلتهم سيوف العناق
إلى أن يقول:
يالها غارة تفرق في الحو ... مة بين الحمام والأطواق
تسمي الفارس السميدع بالعا ... ر وبعض الأقوام عار باني
لو رأيت القريض يرعد منها ... بين ذاك الإرعاد والإبراق
وقلوب الكلام تخفق رعبا ... تحت ثنتي لوائها الخفاق
وسيوف الظلام تفتك فيها ... بعذارى الطروس والأوراق
والوجوه الرقاق داوية الأبش ... ار في معرك الوجوه الصفاق(815/4)
لتنفست رحمة للخدود الس ... مر منهن والقدود الرشاق
وله قصيدة أخرى فيها يخاطب أبا الخطاب والمفضل بن ثابت الضبي وقد سمع أن الخالدين يريدان الرجوع إلى بغداد، في عهد الوزير المهلبي يقول في مطلعها:
بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطاب
ورد العراق ربيعة بن مكدم ... وعتيبة بن الحارث بن شهاب
أفعندنا شك بأنهما هما ... في الفتك لا في صحة الأنساب
جلبا إليك الشعر من أوطانه ... جلب التجار طرائف الأجلاب
فبدائع الشعراء فيما جهزا ... مقرونة بغرائب الكتاب
شننا على الآداب أقبح غارة ... جرحت قلوب محاسن الآداب
لا يسلبان أخا الثراء وإنما ... يتناهبان نتائج الألباب
إلى أن يقول:
نظرا إلى شعر يروق فتربا ... منه خدود كواعب أتراب
في غارة لم تنتظم فيها الضبا ... ضربا ولم تند القنا بخضاب
تركا غرائب منطق في غربة ... مسبية لا تهتدي بإياب
جرحى وما ضربت بحد مهند ... أسرى وما حملت على الأقتاب
ويصف شعره بهذه الأبيات وهو كثير الإعجاب بشعره، مولع بالحديث عنه.
لفظ صقلت متونه فكأنه ... في مشرقات النظم در سحاب
وكأنما أجريت في صفحاته ... حر اللجين وخالص الزرياب
أغربت في تحبيره فرواته ... في نزهة منه وفي استغراب
وقطعت فيه شبيبة لم تشتغل ... عن حسنه بصبا ولا بتصابي
وإذا ترقرق في الصحيفة ماؤه ... عبق النسيم فذاك ماء شبابي
يصغي اللبيب له فيقسم لبه ... بين التعجب منه والإعجاب
جد يطير شراره وفكاهة ... تستعطف الأحباب للأحباب
ثم يعود فيرثي لهذا الشعر الجميل الذي كتبه بماء شبيبته من قارة الخالديين فيقول:
أعزز علي بأن أرى أشلائه ... تدمى بظفر للعدو وناب(815/5)
أفن رماه بغارة مأفونة ... باعت ظباء الروم في الأعراب
إني أحذر من يقول قصيدة ... غراء خدني غارة ونهاب
هذا موضوع فكه طريف يستطيع الأديب أن يتناوله بالبسط والشرح ليبين عما بين السري والخالديين من عداء ويتعرف أسبابه، ويقضي فيما يدعيه السري عليهما من سرقة، وفيما أتهم الثعالبي به السري من دس لشعرهما في ديوان كشاجم، وعن الصلة بين أشعار هؤلاء الأربعة من شعراء القرن الرابع وما يتصل بهذا من قضايا أدبية خطيرة في ذلك العصر المزدهر.
ولم يقتصر إعداد السري بشعره واتهام الناس بسرقته على ما بينه وبين الخالديين، بل تناول غيرهما من الشعراء بهذه التهمة. ومن هؤلاء أبو العباس النامي الشاعر المعروف. قال السري عن النامي وادعى أنه كان جزارا:
أرى الجزار هجيني وولى ... فكاشفني وأسرع في انكشافي
ورقع شعره بعيون شعري ... فشاب الشهد بالسم الزعاف
لقد شقيت بمديتك الأضاحي ... كما شقيت بغارتك القوافي
توعر نهجها بك وهو سهل ... وكدر وردها بك وهو صافي
ويصف قصائده بأبيات يقول فيها:
جمعنا الحسنيين فمن رياح ... منعبرة وأرواح خفاف
ثم يرجع إلى ذكر إغارة النامي على الشعر فيقول:
وما عدمت مغيرا منك يرني ... رقيق طباعها بطباع جافي
معان تستعار من الدياجي ... وألفاظ تقد من الأنافي
وشر الشعر ما أبداه فكر ... تعثر بين كد واعتساف. الخ
وأما الموضوع الثاني من الكلام عن السري الرفاء فموعده المقال الآتي إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام(815/6)
وحدة الوجود
للأستاذ نقولا الحداد
هذا الموضوع طرح على بساط البحث في هذه المجلة منذ أكثر من سنة، وتناقش فيه بعض الكتاب وتشعبت آرائهم فيه في نواحي مختلفة، وما استقرت على نظرية واحدة. واليوم عاد الأستاذ عبد العزيز محمد الزكي يبسطه ثانية عارضا فيه نظرية طاغور الهندوكي. وهي على حد قوله حجر الزاوية في الديانة الهندوكية كالتوحيد في الإسلام (والنصرانية أيضا).
وقد أفاض الأستاذ عبد العزيز في الموضوع في ستة أعمدة من المجلة، ولكنه بكل أسف لم يعرفنا المقصود من (وحدة الوجود). ومعظم ما ورد في مقاله مبهم قلما يستقر الذهن فيه على معنى.
والذي فهمناه من الوجود إن للفلاسفة فيه قولين: وحدانية الوجود وثنائية الوجود ? أما وحدانية الوجود فقد وضحت في فلسفة اسبينوزا وفحواها إن الكون كل واحد، وان كان مكونا من أجزاء، وانه يشمل، أو بالأحرى إن الله يشملهم. وبحسب هذه الفلسفة يكون الله موجودا في كل جزء من الكون، أو إن كل جزء من الكون يعبر عن الله. وبهذا الاعتبار فالله موجود في كل مكان.
وكذلك العقل الذي يدرك الكون (عقل الله مثلا وعقل الإنسان المنبثق من عقل الله بحسب فلسفة المطران بركلي) هو جزء من الكون لا ينفصل عنه والكون لا يوجد بدونه، فإذا لم يكن العقل موجود فالكون لا وجود له، وأن زعمنا إن الكون موجود على كل حال، فبأي عقل يوجد؟ وأي عقل يدركه؟ ما لا يوجد في الإدراك أو في عقل مدرك، فلا وجود له
أما ثنائية الوجود، فقد وضحت في معظم فلسفة الفلاسفة، وهي أن الكون موجود منفصل عن الله وعن العقل الذي يدركه؛ مرتبتان أي الكون المادي هو الكون العقلي، والمقصود بالكون العقلي الله وما أنبثق منه من العقول. وبهذا المعنى يكون الله ذاتية قائمة بذاتها مستقلة عن الكون المادي، وإنما هو بحسب رأي اللاهوانيين حال في كل ذرى من مواد الكون المادي، ولكنه ليس منه البتة
فإذا للوجود كونان: كون مادي وكون عقلي أو روحي، وهذا ليس من ذاك بل هو يدركه.(815/7)
ومعظم الفلاسفة ثنائيون يعتقدون بثنائية الوجود. ولا أدري أي النظريتين تتفق مع طاغور والديانة الهندوكية، وكذلك لا أرى أي النظريتين توافق النصرانية والإسلام. إن هذا يتوقف على ماهية الله. والله في اللاهوت المسيحي روح (لا مادة) أزلي (وأبدي سرمدي) خالق كل شيء (من العدم) وقادر على كل شئ، وموجود في كل مكان وكل زمان، وعالم بكل شيء). وأظن هذا التعريف مقبول في الإسلام. وبحسب هذا التعريف يوافق الرأي الثنائي الإسلام والنصرانية، لأن الوحدانية تستلزم أن يكون الله خاضعا للإدراك البشري. أعني يستطيع العقل الإنساني أن يبحث فيه ويحلله، كما يبحث في الذرة ويحللها، ويفهم مقاصده من غير وحي وإلهام. وهذا لا يوافق الإسلام ولا النصرانية.
وأما كيفية مطابقة (الوحدة) للعقيدة الهندوكية فلم نفهمها جيداً من بحث الأستاذ الزكي واقتباسه نظريات طاغور. فمثلا لا نفهم قوله إن الله حينما امتلأ بالسرور فاضت منه الخليقة، فالكون عند طاغور هي الصورة التيس يتجلى فيها سرور الله الخ)
هذا كلام يحتاج إلى تفسير مستفيض إن كان تفسيره ممكنا. ثم قوله: (إن الإنسان لم يحصل على كماله الروحي إلى عندما يتلاشى شعوره بذاتيته ويدمجه في كل ما حوله من كائنات. وبغير ذلك لم يدرك أحد حقيقة وحدة الوجود). كيف ذلك؟
وهناك فقرات كثيرة من هذا الطراز لا نفهمها. عذرا يا أستاذ!
وقد اتفق بطاركة الفلسفة الأولون - سقراط وأفلاطون وأرسطو - على إن الله موجود مع الكون السرمدي منذ وجد هذى الكون (إن كان لوجوده بداية)، ولكنه لم يخلقه وإنما هو يديره.
هذه العقيدة أقرب إلى المعقول من غيرها، وتطابق نظرية ثنائية الوجود إذا اعتبرنا الله مجموعة من النواميس الطبيعية وعلى رأسها ناموس الجاذبية، فأما إن تكون الجاذبية هي الله نفسه أو إن الله ورائها ممسكها بيده يدير بها عوالم الكون، لأنه بحسب العلم الطبيعي نرى الجاذبية موجودة مع الأكوان منذ الأزل ومنبئة في كل ذرة من ذرات العوالم المادية وجميع حركات الذرات والأقمار والسيارات والشموس والسدم - كل هذه تتحرك في (الزمكان) (زمان مكان) بقوة الجاذبية تتحرك كيمياويا وحيويا وميكانيكيا، هي قوة قصوى موجودة في كل زمان ومكان، ولكنها لم تخلق العوالم من العدم.(815/8)
هذه النظرية ممكن أن تتفق نع وحدة الوجود ومع ثنائيته أيضا - وما أُتيتم من العلم إلا قليلا.
نيقولا الحداد
2 شارع البورصة الجديدة - القاهرة(815/9)
عدل السماء
للأستاذ كامل محمود حبيب
أتذكر - يا رفيقي - يوم إن تخرجت في الجامعة، يوم كنت تدلُّ بقسامة الوجه ونضارة الصفحة، وتختال بصلابة العود وانفتال العضل، وتفخر بقوة الشباب ونشاط لحياة، وتعتز بالسعة في الرزق والإشراق في المستقبل، وتتيه بوظيفتك الحكومية على صحابك وذوي قرابتك، وتزهى بميراثك من أمك وقد اغتصبته من أبيك منذ أن تخرجت في الجامعة ضناً به عليه وعلى اخوتك من أبيك؟
وركبك الغرور والشيطان، فأنت في سعة من المال والعلم، وأنت في وظيفة تدر عليك ما يفيض عن حاجاتك، وأنت عزب تعيش في نوازع نفسك ورغبات قلبك، هي لا تكلفك كثيرا، فما تنزع بك إلى فاحشة، ولا تندفع بك إلى فجور. فقضيت سنوات منطوياً على نفسك، تبيت تحصى ما ادخرت، ثم تودعه درج مكتبك، أو مكتب البريد، فادخرت مالاً.
وجاءك أبوك - ذات مساء - يستعينك على أمره، وقد عصرته الحاجة، وجلس إليك في خلوة يحدثك بذات نفسه يقول (. . . . وأنت تعلم - يا بني - أنني قد ضربت بداء أعضل على الأطباء شفاؤه، وأنا بين الأطباء كالشاة يتجاذبها الذئاب ثم لا يلفظونها إلا رمة. وللطبيب أفانين طبية تبتز مال الفقير، وتستلب ثراء الغنى، ومن ورائه القانون يشد عضه حين يمسك بالمشرط، وحين يسك بالقلم؛ فأبتلع الطبيب والمرض في أشهر ما ادخرت في سنوات، وأولادي كثير بينهم الشاب والصبي والرضيع، وأخشى أن تكشفني الكواشف وأنا في قرية شيدت على البغضاء والشحناء، وبين أهل أنطبعوا على الحقد والضغينة والغل، يخفونها وراء ستار صفيق من الحب والمودة والإخاء، وهم بين صغير يتربص بالكبير أن ينحدر إلى الهاوية، وفقير يتمنى للغني أن ينهار إلى الحضيض؛ وإذا نزلت بواحد نازلة ابتسم الجميع في غل وشماتة، وتندروا به في سخرية وتشفي، ثم قال قائلهم - وهو في يسر وغنى - (آه، لو أستطيع أن أعينه على بلواه!) ثم يتوارى خيفة أن يعين قريبه بفضله من مال. . . . . وأنت، يا بني، رجل ذو مال، ولقد جئتك لتقرضني بعض مال أستر به ضعفي وحاجتي. وهذه (كمبيالة) بالمبلغ الذي أريده).
وكانت كلمات أبيك تتدفق أسى وحزنا، ونفسه تتقطر ذلة وانكسارا، وأحس وهو إلى جانبك(815/10)
يحدثك حديث حاجته أنه ينحط بكرامته وينزل عن كبريائه، وكانت سلوته انك أنت ابنه وله عليك حق. ولما أتم حديثه نظرت إليه في ترفع وصلف ثم قلت: (يا أبي، إن حاجات المدينة لم تدع لي وفرا من المال، وأنا لا اعرف من استقرضه لأدفع لك ما تريد)!
آه، يا قلبي! لقد أحس أبوك بالضعة حين رآك تستعلي عليه، وشعر بأن كلماتك الجاسية تصفعه صفعات قاسية متتالية، وأراد قلبه أن يبكي حسرة وكمدا، ولكن الدوار كان قد غلبه، فترنح حينا ثم سقط بين يديك. . . سقط فما رق قلبك ولا اضطربت نفسك!
وخرج أبوك من لدنك وهو يتمتم بكلمات لم تسمعها أذن. . . ماذا قال؟ ليت شعري! هل كان يستنزل سخط السماء على ابنه العاق؟!
وعاود المرض يعركه عركا شديدا من أثر فظاظتك وخشونتك، وألح عليه السقام فما تركه حتى مات. . . مات أبوك لأنك أنت فقدت إنسانيتك ورجولتك، ولأنك نسيت أنك أبن أبيك!
وظن اخوتك الصغار أنك الأخ الأكبر، وأنك أنت الأب بعد أبيهم، ولكنك كنت قد وجدت في قلبك حلاوة المال ولذة المدينة، فانطويت عن القرية، وابتعدت عن أهلك وأقاربك، ثم انطلقت تنعم بالحياة، وتتلذذ بالرخاء، وترتاح إلى الوفر، واخوتك في القرية يتنازعهم شظف العيش، وجفوة الحياة، وغلظة الأهل، وقسوة الأقارب، فعشت أنت وعاشوا: وما تبض كفك بدرهم وما ينبض قلبك بعاطفة!
وتماديت في قسوتك، فرحت تفزع الطير الآمن عن عشه: هذه دارك ودار أبيك، تقاسمتماها على سواء، لأنها ميراثكما من أمك ن وهي عش اخوتك الوحيد، منذ أن ولد كبيرهم. وها أنت تصر عليه أن يدفعوا أجر نصيبك من الدار التي يسكنون. وأصررت وأصرت المحكمة الحسبية. ثم وافقت المحكمة الحسبية - بعد لأي - أن تباع الدار في مزاد علني، فاشتريتها أنت، اشتريت نصيب أبيك (المرحوم) لأنك تجد المال، ثم قذفت باخوتك خارج الدار، لأنك لا تجد الإنسانية، وأفزعت الطير الآمن من عشه، وهو قد اطمأن إليه منذ سنوات وسنوات. وجاءت زوجة أبيك وابنها الأكبر - أخوك - يسألانك المهلة والرفق، فما أعرتهم أذنا صاغية!
ونسيت أن زوجة أبيك قد كفلتك طفلا، وإنها كانت أحنى الناس ضلوعا عليك يوم أن اصطلحت عليك العلل وأنت صبي، وحين قرر الطبيب أن المرض معد تحاماك كل(815/11)
أقاربك، حتى عمتك رفضت أن تدخل الحجرة التي عزلت فيها خشية أن يصيبها ما أصابك! أما زوجة أبيك فقد قضت أربعين يوما تقدم لك الطعام وتؤاكلك وتجلس معك وتداعبك وتخفف عنك وعكة المرض وقسوة الوحدة، وأبوك ينضر ويبتسم لما يرى من عطفها عليك، وهو يشعر براحة القلب وهدوء البال من أثر ما تفعل. ستقول أنها فعلت لتكسب رضاء أبي ومحبته، ولكنها تحملت - يا رفيقي - في سبيلك ما ضن به أقرباؤك عليك!
ونسيت إن من بين أخوتك من كان يحمل إليك الزاد من القرية لا تزعجه وعثاء الطريق ولا يصرفه عناء السفر، ومن كان يفرج أزمتك وأزمات الطالب لا تنتهي، ومن كان يخفف عنك متاعب الحياة ومصاعب الدرس؟!.
نسيت كل ما كان وأصررت على أن تفزع الطير الآمن عن عشه!
لقد ركبك الغرور والشيطان فتماديت وتماديت، لا ترتدع من دين، ولا تفئ إلى خلق، ولا تسمو إلى إنسانية، ولا تترفع عن مادية. وتململت السماء من وحشيتك فأرادت أن تنتقم من أرضيتك!
يا لله، لقد ضل هذا الفتى حين ركبه الغرور والشيطان فغشي بصره، وشغل عن سواء السبيل، وغفل عن إن في السماء عقاب لا يمهله. . . فماذا كان؟
آه - يا رفيقي - لقد بدأت الروحانية تنتقم منك - أول ما بدأت - في أسلوب حلو جميل، تتضوع من ريح المطر واللذة والسعادة والمال. كان ذلك حين طرقت باب (فلان بك) تخطب إليه ابنته، فما تمهل وما تعوق، وحين زفت هي إليك في ثوبها الأبيض الناصع الجميل، تتألق في ثلاثة منابع من النور: نور وجهها المشرق الجذاب، ونور جواهرها الوضاءة المتلألئة، ونور الكهرباء المتناثرة في المكان؛ وحين جلست إلى جانبك على عرش الورد، والموسيقى ترسل أنغامها الشجية الأخاذة، فتملئ المكان نشوة وطربا. . . حين ذاك نسيت أنك أنت!
ثم مات (سعادة البك) فطرت أنت فرحا، وقضى الناس ليلتهم في حزن ونواح، أما أنت فانزويت في ناحية تحدث نفسك حديث الثراء الذي ورثته زوجك من أبيها ليكون ملكا لك، وسيطرت عليك النشوة فسلبتك وقارك، فرحت تنشر ذات نفسك على رفاق من رفاقك!(815/12)
وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى جاء الدائن يجر الدائن. . . يستوفون ديونهم من ميراث (سعادة البك)، وجلس الكاتب يكتب والحاسب يحسب، فإذا سعادة البك لا يملك ما يسد به دينه، وإذا أنت صفر اليدين. ولكن ابنة (البك) ما تزال هي!
ومرت الأيام وابنة (البك) لا تستطيع أن تكون زوجا لك، فهي في أبهتها وكبرياءها لا تنزل عن حاجة من حاجاتها، وترفعت - بادئ ذي بدئ - عن يبدو عجزك أمامها، فهل استطعت أن تشبع رغباتها وهي تنطلق كل ليلة إلى ضجة الحياة الليلية: تهفو إلى السينما، وتسعى إلى المسرح، تصبو إلى الخمر، وتحن إلى القمار، ثم هي لا تصبر على الدار، لأنها تحب الشارع، وفي الشارع أساليب من الحياة تنزع عنها الملل والضيق؟ هذا المال الذي ضننت به على نفسك وعلى أبيك، وبخلت به على اخوتك وأهلك، ينسرب اليوم من بين يديك في غير مهل ولا روية؛ فأنفقت في يوم غلة شهر، وأنفقت في شهر غلة سنة، وأنفقت في سنة ما ادخرت منذ تخرجت في الجامعة؛ ثم امتدت يدك إلى ميراثك تبعثره، وما هو بكثير!
ثم أسقمك السهر وأضناك التعب وعلقت بك الخمر وشغفت بالميسر. . . ومرت سنة أخرى، فإذا ميراثك كله - وهو عشر فدادين فحسب - قد تبدد وتناثر!
وهكذا - يا رفيقي - لم يبقى لك سوى راتبك الحكومي، وأنت بين أدواء ثلاثة: الخمر والميسر والزوجة. . . وسوّل لك الشيطان - مرة أخرى - فركبك الدين والدائن معا!
وفقدت صحتك ومالك، فتراءيت في نظر زوجك شبحا لا تستطيع أن تكون رجلا، فأخذت تنظر إليك شزرا وتحدثك في احتقار، تمتهن قولك، وتزدري رأيك، وتسخر من جهلك، وتتطاول عليك تثلبك وتثلب أهلك. . . ثم. . . ثم طارت عنك مع واحد من ذوي الثراء، لتذرك على فراش المرض وحيدا، تلتهمك هموم المرض والدين!
والآن. . . هل تذكر تاريخك؟ لقد عجمتك الخطوب، وراضك الزمن، ولكن بعد أن توزعتك الأحداث، وعصفت بك الأحزان، ولزمك المرض والفقر؛ فأنت هيكل يتهادى في مزق بالية، تقتحمك الأعين، وتعافك الأبصار!
يا عجباً، لقد كنت منذ سنوات تدل بمالك وصحتك وعقلك، فتعاليت على أهلك وأقاربك. والآن حين ضربك الفقر والمرض والذهول، ذهبت تستجدي عطفهم ولكن. . .(815/13)
ونظرت الأعين في عجب، وابتسمت الشفاه في سخرية، وتشفَّْت القلوب في صمت، وقال قائلهم: (ليت كل ذي عقل يؤمن بأن في السماء عدلا يهبط إلى الأرض في غير انقطاع! فما أشد حمقك وغباوتك يا من تتناسى عدل السماء!)
ليت شعري هل كان أبوك يستنزل سخط السماء على ابنه العاق حين كان يتمتم بكلمات لم تسمعها أذن؟!
كامل محمود حبيب(815/14)
القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 2 -
كان عدد الجيش المصري في ذلك العهد عظيما ضخما؛ ففي أيام الفائز الفاطمي استعرضت عساكر القاهرة، فكانت نحو خمسين ألف مقاتل، وكان بمراكبه عشر مراكب مشحونة بالرجال والسلاح، وهذا مع تلاشى أمر الخلفاء الفاطميين، وضعف شوكتهم. وقال المقريزي في الخطط (ج1 ص 138) ورأيت بخط الأسعد بن مهذب بن زكريا بن مماتى الكاتب المصري: سألت القاضي الفاضل عبد الرحيم: كم كانت عدة العساكر في عرض ديوان الجيش لما كانت سيدنا يتولى ذلك في أيام رزيك بن صالح؟ فقال أربعين ألف فارس ونيفاً وثلاثين ألف راجل من السودان، مما يدل على أن مصر كان في استطاعتها رد الصليبيين بجيوشها، لولا ظروف أخرى عرضناها فيما مضى.
فلما انقضت الدولة الفاطمية واستولى على الأمر صلاح الدين عنى بأمر الجيش عناية كبرى ليحقق أهدافه ومشروعاته. قال القاضي الفاضل في متجددات سنة سبع وستين وخمسمائة ومشروعاته في ثامن المحرر (أي قبل القضاء على الخلافة الفاطمية بيوم واحد، ولعل لهذا العرض مغزى سياسيا آخر يرمى إليه صلاح الدين) خرجت الأوامر الصلاحية بركوب العساكر قديمها وجديدها، بعد أن أنذر حاضرها وغائبها وتوافى وصولها، وتكامل سلاحها وخيولها، فحضر في هذا اليوم جموع شهد كل من علا سنه أن ملكا من ملوك الإسلام لم يحز مثلها؛ ولم يتكامل اجتياز العساكر موكبا بعد موكب، وطلبا بعد طلب (والطلب بلغة الغز هو الأمر المقدم الذي له علم معقود وبرق مضروب وعدة من مائتي فارس إلى مائة فارس إلى سبعين فارسا) إلى أن انقضى النهار، ودخل الليل، وعاد ولم يكمل عرضهم وبلغت عدة عساكره بمصر اثني عشر ألف فارس، فلما مات افترقت من بعده، ولم يبق بمصر مع الملك العزيز عثمان سوى ثمانية آلاف فارس وخمسمائة، إلا إن فيهم من له عشرة اتباع وفيهم من له أكثر من ذلك إلى مائة تبع لرجل واحد من الجند؛(815/15)
فكانوا إذا ركبوا مظاهر القاهرة يزيدون على مائتي ألف.
واستكثر الصالح أيوب من شراء المماليك حتى كان عددهم في معركة المنصورة عشرة آلاف. ولما قامت دولة المماليك الأتراك حذوا حذو مواليهم بنى أيوب، وبلغت عدة جند بيبرس اثني عشر ألفا، ثلثها بمصر، وثلثها بدمشق، وثلثها بحلب، فإذا غزا خرج معه أربع آلاف يقال لهم جيش الزحف، فإن احتاج استدعى أربعة أخرى، فإن اشتد به الأمر استدعى الثالثة. وكان في خدمة قلاوون من المماليك اثنا عشر ألفا كذلك، وكذلك كانت عدة مماليك ولده الأشرف خليل بن قلاوون
والظاهر أن ذلك كان عدة الجيش النظامي، وفي غير وقت النفير العام. أما الجيش في الحملات الحربية، وعند النفير العام، فإن عدده ما كان يقف عند هذا الحد، فكان جيش قلاوون في معركة حمص التي هزم فيها المغول يبلغ خمسين ألف مقاتل؛ وكان في الحملة التي بعث فيها قلاوون إلى بلاد النوبة سنة 688 أربعين ألف راجل. قال لين بول: احتفظ بيرس باثني عشر ألف جندي نظامي دائم، وهذا بخلاف الاحتياطي من العرب والمصريين، وما تقضي به الظروف من تجنيد الطبقات من المجندين. وفي المعارك الكبرى كان المتطوعون يقدمون من كل فج حتى ليزيد عددهم عن الجند المقيدين. قال صاحب النجوم الزاهرة (ج8 ص 5): اجتمع مع الأشراف خليل علي عكا من الأمم ما لا يحصى كثرة، وكان المطوعة أكثر من الجند ومن في الخدمة.
وهذا الجيش الضخم هو الذي استطاع بمثابرته أن يرد جحافل التتار، وأن يطرد الفرنج من الديار.
ولا غرابة أن تبلغ العناية بأمر الجيش ذروتها في العهد الذي هاجم الغرب فيه الشرق، ووقفت فيه مصر والشام تدافعان عن كيانهما الصليبيين والتتار. وإذا كانت العناية بأمر الجيش في آخر عهد الفاطميين قد وجهها الوزراء إلى ناحية الاحتفاظ بمراكزهم، فإن نور الدين محمود بن زنكي، وأمراء المقاطعات السورية في عهده قد عنوا بجيوشهم وأبلوا البلاء الحسن في حرب الصليبين. ولو إن مصر والشام كانتا متحدتين في يد قوية، ما استطاع الصليبيون تثبيت أقدامهم في الشام. وفي عهد صلاح الدين عنى به عناية فائقة وارتقى فن الحرب في عهده وعهد نور الدين من قبله، وما كان يغفلان يوما عن تقوية(815/16)
جسمهما بالرياضة البدنية. وفي عهد الصالح أيوب بنى لمماليكه بجزيرة الروضة قلعة جهزها بكثير من الأسلحة والآلات الحربية والأقوات، وأسكنهم فيها، وجعل حول تلك القلعة شواني حربية مشحونة بالسلاح معدة لقتال الفرنج إذا طوقوا البلاد. وعنى الظاهر بيبرس بالجيش وإعداده وتمرينه على الأعمال الحربية، وكان ذلك من أهم ما شغله طوال أيام حكمه، حتى اتسم عصره بسمة الجد وشاعت فيه روح الجندية، فكان عندما يئوب من الحرب لا يدع جيشه للراحة والسأم بل يدربه على الأعمال الحرب، ويستعرضه في الحين بعد الحين ليرى أينقصه شيء؟ وكثيرا ما اشترك هو وابنه الملك السعيد في مناورات الجيش وكان موضع الإعجاب والتقدير، وعنى بيبرس بالحياة الخلقية لجنده فحرم عليهم الفسق وشرب الخمر ونودي يوم عيد الفطر وبيبرس والجند على باب صفد: من شرب خمرا أو جلبها شنق ولم تقل العناية بالجيش في عهد قلاوون الذي كان يخرج غالب أوقاته في مواعيد الطعام للمماليك ويأمر بعرضه عليهم، ويتفقد لمهم، ويختبر طعامهم في جودته ورداءته فإن رأى فيه عيبا اشتد على المشرف وإلا استدار ونهرهما، وحل بهما منه ما يكرهان. والزم المماليك الإقامة بقلعة الجبل لا يبرحونها ولكن يظهر أنه لم يكن كبيبرس في شدة تزمته، بل أباح لجنده اللهو البريء، فبينما كان الغناء كالمحرم في عهد بيبرس إذا بنا نرى طائفة من الجند قادمة لقتال على رءوسهم البيض مقلدين سيوفهم وبأيديهم الرماح وأمامهم العبيد تميل على الركائب وترقص بتراقص المهارة، وبأيديهم الجنائب وورائهم، الضعائن والحمول، ومعهم مغنية تعرف بالحضرمية سافرة في الهودج وهي تغني:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... ليالي لا قينا جذام وحميرا
ولما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جردا للمنية ضمرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت اصبرا
وفي عهد ابنه الأشرف عنى بالجيش، ليضرب الفرنج الضربة القاضية، وسمح لمماليكه بمبارحة القلعة نهارا على أن لا يبيتوا في غيره
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي(815/17)
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(815/18)
أحرف القرآن
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
كان حق هذا المقال أن يسبق مقالات القبائل والقراءات ولكني أخرته عن عمد فلما رأيت من تعرض له ومن كتب من المحدثين فيه ومن استفهم عن معانيه كتبت هذا المقال.
معلوم لكل إنسان إن القرآن لم ينزل دفعة واحدة ولا في مكان واحد بل نزل منجما في ثلاثة وعشرين عاما بمكة والمدينة وما حولهما؛ وكانت الآيات ينزل بها جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاها المؤمنون من فم الرسول ويكتبها من عرفوا أنهم كتاب الوحي كما يمليها عليهم الرسول الكريم. وكان الإسلام في مكة محدود الأشخاص فلما هاجر النبي إلى المدينة اتسعت رقعة الإسلام وكثر عدد الداخلين فيه من قبائل مختلفة ولهم عادات صوتية تخضع لها ألسنتهم وتتحكم في ألفاظها، فكان من سماحة الإسلام أن يترك الألسن على سجيتها من إمالة وتفخيم وما شابه ذلك من طريقة أداء اللفظ بنغمة تخضع لها عادة الإنسان اللغوية حيث لا يمكنهم أن ينسلخوا منها بسهولة.
وهذه الإباحة أرشد لها الحديث المرفوع، اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم وفهمت من أن الرسول قرأ فأمال (يحيى) فلما سئل في ذلك قال هذه لغة الأخوال بني سعد.
أما حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف فلم يكن مقصود به اللهجات التي هي عادة لغوية تتحكم في عضلات النطق. وكل توجيه لهذا الحديث على انه يراد به لهجات القبائل، إنما هو توجيه خاطئ أو هروب خاطئ من معناه الحقيقي الذي تظاهره جميع الروايات الصحيحة لهذا الحديث
وآخر ما قرأته متعلقا به هو ما جمعه من عدة كتب الأستاذ عبد الوهاب حمودة في كتابه القراءات واللهجات وما حمله عليه الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه اللهجات العربية متبعا في ذلك رأياً لبعض العلماء - ولي نقد على كتابيهما أرجو أن انشره في الرسالة إنشاء الله - وقد كنت أحسبهما سيطلعان علينا في هذا الحديث - وهما أستاذان مساعدان في الجامعة - ولهما على أستاذية - بالرأي الواضح المستقيم، ولكن الأستاذ حمودة كانت مهمته عرض آراء ومحاولات التوفيق بينها دون أن يكون له مجهود يذكر.
والدكتور أنيس أختار أشهر التأويلات باعتبار أن الأحرف هي اللهجات كالإمالة والتسهيل(815/19)
مع أنها في الحقيقة أضعف التأويلات وينافيها سياق الحديث. وقبل شرح المقصود منه أرى أن أربط بين الحوادث والأحاديث حتى يستقيم الفهم ويتبين الموضوع.
زمن الحديث:
لم أجد - على الرغم مما قرأت - من ذكر العام ولو على وجه التقريب الذي قيل فيه هذا الحديث فرأيت أن أراجع طرقه ورواته من الصحابة ومن ذكروا فيه، وظروفه فتبين لي ما يأتي:
1. ليس هناك شك في أن الحديث كان بعد الهجرة لأن فبه من الصحابة الذين رووه أو وقعت معهم الحادثة. أبا بن كعب وزيد بن ثابت وأم أيوب وهؤلاء أنصار من أهل المدينة.
2. إن هذا الحديث كان بعد العام الثامن للهجرة للأسباب الآتية.
(أ) من رواته أبو هريرة وقد أسلم سنة سبع للهجرة.
(ب) من رواته عمر بن العاص وقد أسلم سنة ثمان من الهجرة.
(ج) ممن ذكروا في طرق الحديث زيد بن ثابت على أنه أقرأ غيرهم، وزيد بن ثابت كانت سنه حين قدم الرسول المدينة أجد عشر عاما، ولا يكون زيد مقرئا لغيره إلا بعد أن يتجاوز حد الحلم وعلى أقل تقدير تكون سنه ليؤخذ عن القرآن في عهد الرسول سبعة عشر أو ثمانية عشر عاما.
(د) من رواة الحديث ابن العباس وهو قد ولد قبل الهجرة بثلاثة أعوام ولا يشترك في الرواية ولا يهتم بها إلا بعد أن يتجاوز العاشرة من عمره على الأقل ولا يتجاوزها إلا بعد سنة سبع للهجرة.
(هـ) وأقوى دليل وأثبته أن النزاع في القراءة بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم وقد أسلم هشام يوم فتح مكة وكان فتحها في العام الثامن الهجري أو في أواخر رمضان ولم يرجع الرسول إلى المدينة إلا في ذي الحجة فعلى أقل تقدير يكون الحديث في أوائل العام التاسع الهجري
(و) من الذين رووا الحديث من الصحابة أبو بكر نفيع ابن الحارث وقد أسلم في حصار الطائف، وقد كان ذلك في أواخر شوال وأوائل ذي القعدة من العام الثامن الهجري.
(ز) يضاف إلى هذه الأدلة القاطعة أن الحكمة التي قصدها الإسلام من الحديث والتي(815/20)
ستظهر لنا بعد الشرح كان وقتها المناسب حينما كثر المسلمون كثرة تجعل من العسير الإشراف عليهم جميعا ولم يكثروا إلا بعد فتح مكة.
وإذن لقد هاجر رسول الله واتسعت دائرة الإسلام وكثر الأتباع وقد مضى عليهم ثلاثة عشر عام في مكة وثمانية أعوام في المدينة يقرءون بعادتهم اللغوية فلم يصل إلينا إن بعضهم أنكر على بعض في القراءة أو شكى بعضهم في تلاوة الآخر. نعم لقد مضى على الإسلام والقرآن في مكة ثلاثة عشر عاما نزلت فيها بضع وثمانون سورة ثم ثمانية أعوام في المدينة نزل فيها كثير من السور فما حدث خلاف بينهم مع إسلام كثيرين ممن لهم لهجات مختلفة من إمالة وتسهيل وغير ذلك وما أتانا خبر عن تنازعهم الذي أدى إلى أن يلبب عمر هشام بن حكيم بردائه وهما قريشيان لهجتهما واحدة ويذهب به إلى الرسول ليستقرئه والى أن يدخل الشك في قلب عمر فيقول الرسول ثلاثا: أبعد شيطانا. وأن يدخل قلب أبى بن كعب من التكذيب ولا إذ كان في الجاهلية فيضرب الرسول صدره فيتصبب عرقا. . .
العرب أمة أمية أغلبهم لم يقرأ كتابا قط ومنهم - كما في الحديث - الشيخ الفاني ومنهم الغلام ومنهم العجوز الكبيرة وهؤلاء تعجز ذاكرتهم عن الحفظ الوثيق وبخاصة القرآن قد كثرت سوره وتعددت آياته والرغبة الدينية في النفوس قوية يحرصون على قراءة القرآن فلا تنزل آية إلا بادروا إلى استماعها وتلقيها. ولكن ما يكادون يمر علهم زمن حتى يشتبهوا أن يكونوا هذا اللفظ أو مرادفه هو المنزل وأكثرهم لم يكتبوه لأميتهم فيرجعوا إلى الرسول والى من كتبوه يستعيدون ما تلقوه ويتكرر ذلك والرسول يشهد ما هم فيه من معاناة وما يبذلوه من جهد، ويعلم - كما قال لهم - أن القرآن أشد انفلاتا من الإبل في عقلها ورأى أفراد الأمة بعد فتح مكة قد كثروا. فمن يرعاهم إذا اختلفت ألفاظهم ومن يردهم إذا نقصوا أو زادوا.
والرسول كما قال الله فيه بالمؤمنين رءوف رحيم يسعى إلى تخفيف عن الأمة ولا يريد أن يشق عليها فقد سأل الله من قبل أن يخفف عنهم الخمسين صلاة حتى صارت خمسة صلوات في اليوم والليلة. فلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله يسأله التخفيف عن أمته والرحمة بها (إني بعثت إلى أمة أميين منهم الغلام والخادم والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة) (فأتاه جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد فقال(815/21)
الرسول أسأل الله معافاته ومغفرته سل الله لهم التخفيف فأنهم لا يطيقون ذلك فأنطلق جبريل ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين قال الرسول أسأل الله معافاته ومغفرته رب خفف عن أمتي فأنهم لا يطيقون ذلك فانطلق جبريل ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على ثلاثة أحرف فقال أسأل الله مغفرته ومعافاته إنهم لا يطيقون ذلك سل الله لهم التخفيف فانطق ثم رجع فقال إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فمن قرأ منها بحرف فهو كما قرأ ما لم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة).
لقد جاءت رحمة الله وصدر الإذن بأن يقرأ القرآن بحروف مختلفة والسبعة لا مفهوم لها بل هي دليل للكثرة يعلمه جبريل الحروف وهي الألفاظ وأداء الجملة - كما تؤيد ذلك اللغة - على شريطة ألا يتغير المعنى ولا يختلف السياق فبدأ الرسول يلقن الصحابة ما انزل الله عليه، هذا يلقنه الآية بألفاظ وذلك يلقنه الآية بالألفاظ مع اختلاف في بعضها وإن كان المعنى واحدا. لقنه كل هذا جبريل بأذن من الله العزيز الحكيم (فأيما واحد أصاب من ذلك حرفا فهو كما قرأ)
فغدا المسلون وقد حفظوا ما لقنهم فدخل عمر بن الخطاب المسجد فسمع هشام بن حكيم وهو قريشي مثله يقرأ سورة الفرقان بخلاف ما لقنه الرسول فكاد يساوره في الصلاة فصبر حتى أسلم فلما أسلم لببه بردائه وقال له من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأها قال أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كذبت فو الله أن رسول الله لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها فأنطلق يقوده إلى الرسول فقال يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان فقال الرسول أرسله يا عمر اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعه عمر يقرأها فقال الرسول هكذا أنزلت ثم قال الرسول أقرأ يا عمر فقرأ القراءة التي أقرأها الرسول فقال الرسول هكذا أنزلت فوقع في صدر عمر شيء فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه فضرب صدره وقال أبعد شيطانا أبعد شيطانا أبعد شيطانا ثم قال يا عمر إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأقرءوا ما تيسر منها إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاب أو عذاب رحمة)(815/22)
وإذا في صلاة أخرى كان أبي بن كعب في السجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرها عليه ثم دخل رجل آخر فقرأ قراءة غير قراءة صاحبة وقال كل منهم إن الرسول أقرأه ذلك فدخلوا جميعا على الرسول فقال أبي يا رسول الله إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه فأمرهما فقرأ فحسن شأنهما فوقع في نفس أبي من التكذيب ولا إذا كان في الجاهلية فلما رأى الرسول ما غشيه ضرب في صدره ففاض عرقا كأمنا ينضر إلى الله فرقا ثم قال له الرسول يا أبي أرسل إلى أن أقرأ القرآن على حرف فرددت عليه أن أهون على أمتي. . . الخ الحديث).
وضل الأمر كذلك وعرف كثير منهم السبب في
الاختلاف والحكمة الإلهية ولكن مازال بعض
الصحابة يذهبون إليه يشكون فهذا رجل جاء إليه فقال
أقرأتني عبد الله بن مسعود سورة اقرأنيها زيد بن
ثابت واقرأنيها أبي بن كعب - وزيد وأبي أنصاريان
خزرجيان نجاريان - فاختلفت قراءتهم فبقراءة أيهم
آخذ فسكت الرسول وعلىٌّ إلى جنبه فقال علي ليقرأ
كل إنسان كما علم كل حس جميل). ثم مازال بعض
الناس يختلف ويشكو فهذان رجلان اختلفا في القراءة
فقال هذا أقرأني النبي وقال هذا أقرأني النبي فأخبر
بذلك فتغير وجهه ثم قال اقرءوا كما علمتم إنما أُهلك(815/23)
من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم فقام كل رجل
وهو لا يقرأ على قراءة صاحبه).
هذا في الواقع هو ربط الأحاديث والتوفيق بينها وتلك مقتضيات ظروفها وملابساتها تؤيدها الروايات المختلفة والطرق المتعددة وليس فيها من التعنت أو الفهم الخاطئ شئ؛ وقد أشار إلى كثير منها أجلة العلماء السابقين من أعلام الإسلام وأن كانوا لم يوضحوها كمال التوضيح.
فليست المسألة مسألة إمالة وتفخيم وترقيق إذ يناقض فهم أنها لهجات لفظ الحديث لأبي بكرة (كقولك هلم وتعال وأقبل) وقول أنس بن مالك خادم رسول الله حينما قرأ (وأصوب قيلا) فقال له بعض القوم يا أبا حمزة إنما هي أقوم فقال أقوم وأصوب وأهدى واحد.
وقول ابن شهاب ولعله الزهري: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام.
وقول الطبري: فقد أوضح نص هذا لخبر أن اختلاف الأحرف السبعة إنما هو اختلاف ألفاظ كقولك هلم وتعال باتفاق المعاني لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام.
وقول عبد الله بن مسعود (فإنما هو كقول أحدكم هلم وتعال. وهذا كله يبين لنا السر في بعض الاختلاف اللفظي في قراءة بعض القراء بالنسبة إلى غيرهم.
حفظ القرآن:
أما حفظ القرآن فيرجع إلى ما يأتي:
أولا: أن جبريل كان يدارس الرسول القرآن كل عام مرة ودارسه في العام الذي قبض فيه مرتين فكان هذا تعهدا للنصوص.
ثانيا: إن كتاب الوحي كانوا يكتبون نص ما ينطقه الرسول ولا يعتمدون على الحفظ فحسب.
ثالثا: إن سيدنا أبا بكر حينما وافق على جمع القرآن كان زيد ابن ثابت يجلس أمام المسجد وهو يحفظ كتاب الله ولكنه يتلقى من الصحابة ما كتبوه على أن يشهد شاهدان أن فلانا هذا(815/24)
سمع هذه الآية من فم الرسول وإن هذا المكتوب هو نفس ما سمعه وانه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع كل هذا الذي شهد عليه لا غير وحفظ هذا المصحف إلى خلافة عثمان فكثر اختلاف الناس في القراءات وكادوا يقتتلون فجمع الناس على مصحف واحد نسخوه من المصحف الذي عند حفصة وكان الناسخون هم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن حارث المخزومي (وقد تركوا ما خالف المصحف الموجود في زيادة أو نقص وإبدال كلمة أخرى بأخرى مما كان مأذونا فيه توسعة عليهم ولم يثبت ثبوتا مستفيضا انه من القرآن) ثم أمر سيدنا عثمان ووافقه المسلمون حرصا على وحدة الأمة وجمعا لكلمتها وخشية أن يدخل في القرآن ما ليس منه فأحرقت جميع المصاحف الأخرى التي لا تتفق مع المصحف الإمام. وإذن فقد أصبحت هذه المصاحف التي اجمع عليها المسلمون هي التي يعول على رسمها في القراءة أضيف إليها شرط صحة سندها وان توافق العربية ولو بوجه من الوجوه واعتبر ما عدا ذلك شاذا فما خالف اللغة العربية باطل من أساسه وما خالف الرسم العثماني شاذا تعبدا حيث خالف اجمع الأمة مع صحة سنده وما لم يصح سنده شاذ حيث لا دليل على قرآنيته. والوقع إن ما يخالف الرسم العثماني قد هجره العلماء السابقون فأنقطع سنده فأصبح مشكوكا في كونه من السبعة فبعد عن أن يكون قرآناً تصح به الصلاة والعبادات وشرط التعبد بالقرآن أن يكون متصل السند صحيح الرواية مقطوعا بقرآنيته.
أما الآراء التي تقول إن السبعة الأحرف هي حلال وحرام وترغيب وترهيب. . . أو أنها محكم ومتشابه وقصص وأمثال أو إنها أمر ونهي. . . الخ فكلها آراء بالغة الضعف لا تستند على أوهى دليل. ولعل في ما كتب تبيانا وتوضيحا سليما مقبولا من كل وجه والله أعلم بكتابه وهو بكل شيء عليم.
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي(815/25)
في التقريب بين اللغتين
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
قرأت في الأهرام كلمتين في التقريب بين اللغتين: أولهما لعبد الحميد عمر أفندي بمحكمة النقض، وثانيها لأحمد عبد الطيف بدر أفندي المدرس ببور سعيد؛ وقد تضمنت الأولى دعوى موجهة إلى الخاصة أن يتركوا اللغة العربية الفصحى وأن يستبدلوا بها في مخاطباتهم ومكاتباتهم ما يستعمله العامة في مخاطباتهم من الجمل والكلم، فيستعملوا مثلا جملة (حضروا الرجال) التي تجري على ألسنة العامة بدلا من (الرجال حضروا) إذ لا مانع عنده من ذلك ما دام مثل هذا الاستعمال قد ورد في التنزيل الحكيم في قوله تعالى (وأسروا النجوى الذين ظلموا) سورة الأنبياءـ وفي قوله تعالى (ثم عموا وصموا كثير منهم) في (سورة المائدة لا العنكبوت) كما قال؛ وقال أنه لا يهمه الاختلاف في أوجه الإعراب في الآيتين ما دامت العبرة في الاستعمال، وليس بعينه أن يكون (الذين ظلموا) في الآية الأولى فاعلا أو بدلا أو غير ذلك. وكذا لا يعنيه ما يقال في الآية الثانية (ثم عموا وصموا كثيرا منهم) من أوجه الأعراب.
وتضمنت الكلمة الثانية أن كاتبها: أحمد عبد اللطيف بدر أفندي يخالف الأول في رأيه لما يترتب عليه من أن يجعل فاعلين لفعل واحد كما في اللغة (أكلوني البراغيث) على زعمه يؤدي إلى تناسى القاعدة الأصلية، ويرى أن يكون التقريب بين اللغتين بإشاعة الألفاظ المحرفة وإحلالها محل الألفاظ محل الفصيحة فتستعمل كلمة (مِن) ولفظ (فين) بدل (أين) و (اشمعنه ومنين) مكان (لِمَ) و (من أين). وزعم أن ورود الآيتين الكريمتين على لغة (أكلوني البراغيث) وهي غير اللغة الفصحى إنما كان للتحدي والإعجاز والدلالة على أن القرآن من صميم لغة العرب على تباين لهجاتها، ولذلك جازت القراءات المتعددة فيه، وأول المفسرون الآيتين بما يدنيهما من اللغة الفصحى الخ.
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت:
وليت شعري كيف يكن التحدي بغير الفصيح للإعجاز أم كيف يتوهم ذو علم أن المفسرين يؤولون القرآن بما يدنيه من اللغة الفصحى وهو في أعلى طبقات البلاغة؟
لقد أخطأ الأستاذ أحمد عبد اللطيف في ظنه أن لغة (أكلوني البراغيث) أتاها الضعف من(815/26)
ناحية أنها تعتمد فاعلين لفعل واحد؛ فما اعتراها الضعف إلا لأنها تلحق بالفعل علامة التثنية والجمع عند إسناده إلى ظاهر مثنى أو مجموع، إذ ليس ثمة حاجة إلى هذه العلامة والواو في الجملة حرف وليس بضمير - كما ظن - حتى تكون فاعلا على هذه اللغة (شرح ابن عقيل قول ابن مالك في باب الفاعل):
وجرد الفعل إذا ما أسندا ... لاثنين أو جمع كفاز الشهدا
وأخطأ الكاتبان القصد، إذ يرى الأول أن تستبدل اللغة العامية باللغة العربية الفصحى، ومعنى ذلك إهمال اللغة العربية وإهدار قواعدها، وإفساد نظامها؛ وإذ يرى الثاني أن تترك المفردات الفصيحة ويستعاض عنها بالمحرف والدخيل، فإنه إذا ضم رأي كل منهما إلى رأي صاحبه كان منهما مزيج قاتل للغة مفسد لمفرداتها وتراكيبها، هادم لقواعدها، مود بنظامها، مقوض لبنائها المحكم الرصين. يقول عبد الحميد أفندي عمر إنه لا يرى مانعاً من أن يستعمل الخاصة ما يجري على ألسنة العامة في المخاطبات والمكاتبات بدلا من الفصيح، إذ قد ورد في التنزيل الحكيم نظير هذا الاستعمال، وإنه لا يهمه الاختلاف في أوجه الإعراب، ولا يعنيه أن تكون كلمة (الذين) وكلمة (كثير) في الآيتين فاعلا أو بدلا ما دام الاستعمال قد ورد به. ولم يدر أن الإعراب هو الذي يفتح مغاليق الكلام ويبين أغراضه ومعانيه ويكشف عن وجه الدلالة فيه فيعرف الحسن المقبول ويتميز المردود المرذول.
وإذا كان لا يدري لم يمنعون أن تستعمل جملة (حضروا الرجال) كما تستعمل كلمة (الرجال حضروا) وأن تكون مساوية لها، فليعلم أنه يمنع من المساواة بينهما أمور بعضها يرجع إلى اللفظ وبعضها يرجع إلى المعنى. فما يرجع إلى اللفظ الثقل الذي جبه حرف العلة الساكن الذي جئ به ليكون علامة على الجمع دون حاجة داعية، فإذا حذف لالتقاء الساكنين بقي الفعل مضموم اللام فيلتبس عند الوقف على الرجال بالاسم الدال على المعنى المقابل للبدء، وذلك خلل لغوي، وإذا ضم الفاعل بقي الثقل الناشئ من توالي ثلاث راءات أولها مضمومة وباقيها مكسور، وهي مع اللام الأخيرة في الرجال تخرج من اللسان، وانتقال اللسان من ضم إلى كسر ثم ضم في حروف متحدة المخرج تقريباً فيه صعوبة لا تخفى. فالجملة الأولى (حضروا الرجال) تشتمل على مخالفة القياس بضم آخر الماضي حيث ينبغي أن يفتح وفيها ثقل قد عرفته وتعقيد قد تبينته. ثم إن فيها وراء ذلك مانعاً آخر(815/27)
يمنع من مساواتها للجملة الفصيحة وهو أنها ليس فيها سوى إسناد واحد، ولا تقال (بعد أن تصحح) إلا لخالي الذهن. أما الجملة الثانية الفصحى فإنها مشتملة على إسنادين ويخاطب بها من يكون شاكا في أن الرجال المعهودين له قد حضروا فلكل منهما مقام يغاير مقام الأخرى. وهذا ما يتعلق بالفرق بين الجملتين.
فأما الآيتان الكريمتان فإن من المقرر أن قراءة القرآن سنة متبعة فلا يجوز القراءة بغير ما روى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مما تسوغه القواعد العربية، ذلك بأن ما روى عن النبي هو العربي الفصيح الكفيل بأداء الأغراض المقصود أداؤها من النظم. وليس كل ما جاز عربية بالذي يفي بذلك؛ فليس كل ما جاز عربية جاز قراءة. ولنسق لذلك مثالا: قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) قريء تطهرهم بالرفع صفة لصدقة، على أن الجزم سائغ عربية في جواب الأمر، لكن لم يقرأ به أحد من السبعة، ذلك أن الجزم في جواب الأمر يقتضي ترتيب التطهير على مجرد أخذ الصدقة منهم كما يترتب الجزاء على الشرط، وليس الأمر على ذلك؛ فقد يؤدي بعض الناس الصدقة وهو الشحيح بها كاره لأدائها فلا تكون صدقة مطهرة له ولا مزكية لنفسه، وإنما تطهر الصدقة معطيها وتزكيه إذا أداها طيب النفس راضياً وجاد بها آناً بعد آن ومرة بعد مرة حتى تبرأ نفسه من داء الشح ووصمة البخل؛ وهذا سر التعبير بالفعل المضارع الإتيان بالصفة جملة فعلية دون أن تكون اسما مفرداً. هذا ولنعد إلى الكلام في الآيتين فنقول:
قد جرى المفسرون على أن يوردوا عند تفسيرهم الآيات ما تحتمل من أوجه الإعراب حسبما تقتضيه الصناعة النحوية دون نظر إلى ما يكون منها مناسباً للمقام ولما تقتضيه البلاغة. بيد أن الخاصة منهم كالزمخشري ومن اقتفى أثره يقدمون الوجه المناسب على غيره في الذكر حسبما أوتوا من ذوق علمي. وقد يقتصر ما أوتوه من الذوق عن إدراك دقائق المعاني والإحساس بلطائفها فيخطئون. وفي هاتين الآيتين قدموا الوجه الإعرابي الملائم للأسلوب البليغ الأعلى على سواه، فقدموا إعراب (الذين) و (كثير) بدلا على سواه من الأوجه وأصابوا. ووجه الصواب فيه ظاهر لمن ألم بقواعد البلاغة وتذوق أساليب البيان؛ فالآية (وأسروا النجوى الذين ظلموا. . .) جاءت عقب الحديث عن الناس والتعجب مما هم فيه من غفلة عن العاقبة وإعراض عن ذكرها وعن التفكير في أمرها مع اقتراب(815/28)
حسابهم ودنو وقت جزائهم وعقابهم على ما فرطوا في جنب الله، وإذا أتاهم ذكر من ربهم استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى استخفافاً واستهزاء بمن يذكرهم مستنكرين أن يكون أهلا لأن يخصه الله بأن ينزل عليه الذكر من بين قائلين (هل هذا إلا بشر مثلكم) فالضمائر كلها جارية على جماعة الناس، ولما كان الخاصة من الزعماء والقادة هم الذين يقاومون الداعي إلى الحق والمذكر به ويتناجون فيما بينه بما يتناجون به من الكيد له والاستهزاء به والعامة تبع لهم فيما يكيدون ويدبرون أسند الأسرار إلى الضمير العائد إلى الناس إشعاراً بأن العامة كفلا من أوزار الخاصة لمتابعتهم لهم. ثم أبدل الاسم الموصول من الضمير لبيان من يصدر عنهم الأسرار بالنجوى وقول الزور على الحقيقة وهم أولئك الزعماء الذين ظلموا أنفسهم بالإعراض عن الحق استكباراً وظلموا الناس بإظلالهم وصرفهم عنه وصدهم عن سبيله استبقاء لنفوذهم وحفظاً لسلطانهم؛ ولم يقل وأسر النجوى الذين ظلموا يؤذن بانقضاء الحديث عن الناس عند (لاهية قلوبهم) وابتداء الحديث عن أناس ظالمين يسرون النجوى في أمر الرسول واتهامه بأنه ساحر الخ فينقطع حبل الكلام ويختل نظمه ولا يتأدى الذي تأدى بإسناد الفعل إلى ضمير ثم إبدال الاسم الموصول منه. هذا إلى أن البدل مؤذن بفعل مماثل للفعل المذكور، لان البدل عندهم على نية تكرار العامل فيفيدنا تأكيد حصول الإسرار بالنجوى من الذين ظلموا. وعلى هذا النحو يسهل على العارف أن يتبين ما في آية المائدة: (أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا وفريقاً يقتلون. وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم، ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون) فيعرف ما فيها من أسرار البلاغة. هذا.
أما بعد غشيت العرب والمسلمين غاشية ليس لها من دون الله واقية، وأزفت الآزفة حتى غدت أبصارهم لها كاشفة، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؛ بل غدوا على حرد قادرين ولأنفسهم ظالمين، وعن دينهم معرضين، ولشريعة الله هادمين، ولكتاب الله ولغة العرب محاربين. يعبث بلغة القرآن صبيانهم، ويجرؤ على الطعن في كتاب الله والقول فيه بغير علم جهلاؤهم وكبراؤهم، ويطفئون نور العلم في معاهده ويأتون بناء الدين واللغة من قواعده، حتى عمت الطامة. واستحكمت الغمة، وحقت(815/29)
الكلمة. فهل في المسلمين لدين الله من صديق، وهل للغة العرب بين أبناء العرب من شفيق أو رفيق! أم هل فيهم من مفيق، وهل يعتبرون بهذه الأحداث، التي ستقذف - إذا لم يفيقوا - إلى بطون الأحداث؟
اللهم احفظ دينك واحم كتابك، وابعث في نفوس العرب والمسلمين روحاً منك تحي به دينهم وتحمي لغتهم وأوطانهم وتدفع عنهم كيد الكائدين وعبث العابثين المفسدين إنك نعم المجيب.
محمود أحمد الغمراوي
من علماء الأزهر(815/30)
الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6):
(2) مشكلات الفلسفة (1)
للأستاذ كمال الدسوقي
يعز علىَّ ألا أستطيع أن أحدثكم في (مشكلات الفلسفة) في أكثر من هذا المقال؛ قبل أن يفجأنا الامتحان - لتواجهوه مواجهة الأبطال الكماة - فقد أنسانا حديث ابن سينا مر الوقت أن نذكره؛ وما أكثر ما كنت أحب أن أقول في برتراند رسل! حسبكم في تاريخ حياة هذا الفيلسوف العظيم وفي كتاباته ما جاء بمقدمة الترجمة العربية لكتابه الذي بين أيديكم، فلن تظفروا في حياة فيلسوف معاصر بأكثر من هذا القدر، إذ قلما تعرف أقدار الرجال وهم ما يزالون أحياء؛ وإن كان فيلسوفنا ليرى مجده وعظمته حياً. . .
والترجمة التي لديكم لهذا الكتاب سهلة واضحة الأسلوب لا تخلوا من روح المؤلف في كثير من المواضع، فهي حسنة ومؤدية الغرض، ومُغنية عن النص الأصلي إن لم تجدوه؛ فيما عدا الكثير من الأخطاء المطبعية، وبعض السقطات النحوية التي تداركها من جانب القارئ.
والمحاضرات التي جمعها رسل في كتابه باسم (مشكلات الفلسفة) تمثل بدء اتجاهه المنطقي والمذهبي أولى من أن تعرض صورة ناضجة للمذهب في نموه واكتماله. لأنه من أوائل كتبه الفلسفية. ويمكن جمع مشكلاته تحت رؤوس ثلاثة. فالمحاضرات الأربعة الأولى تعالج فلسفة الوجود، والأربعة الأخيرة تتناول مشكلة الحقيقة ومدى ما تصل إليه المعرفة الفلسفية، والفصول الوسطى - وهى القسم الأكبر - تعرض لنظرية المعرفة بمختلف أنواعها. وليست الأقسام محددة المعالم، بل تختلط فيها هذه المباحث وغيرها اختلاطاً يظهرك على روح رسل الفيلسوف الرياضي المنطقي المجدد. ولتناول هذه المشكلات في سرعة وإيجاز:
في الفصل الأول والحقيقة بين معطيات الحسن والشيء 15 * 32 الطبيعي الحقيقي الذي هو غير ذاتنا، والذي لا يتوقف وجوده على إدراكنا. وأهم ما في هذا الفصل غير هذا تقرير أن الإدراك للمائدة مثلاً لا يتم بالحواس مباشرة، بل هو استدلال واستنتاج نستخلصهما مما نحس؛ وإلا لم نستطيع أن نتصور وجود المائدة ما لم ندركها، وجوع القطة(815/31)