(مورفولوجي) ووظيفي (فسيولوجي) ونفساني (سيكولوجي)، فالحاجة أو الوظيفة تخلق العضو وتكيفه بشكل خاص , وكذلك العضو يخلق الحاجة أو الوظيفة ويطبعها بطابعه ,
نرى مما تقدم أن (المورفولوجى) مرتبط (بالفسيولوجى) كما أن الأخير مرهون (بالسيكولوجي) ومن هنا يحق لنا القول بأن البيئة و (المورفولوجى) و (الفسيولوجى) و (السيكولوجي) هي وحدة - كوحدة وادي النيل - لا تقبل التجزئة، ونسج واحد متناسق متجانس لحمة وسدي.
نمو الطفل:
هنالك ظاهرة تسترعى الانتباه وتلفت النظر فيما يتعلق بنمو الطفل، أو بعبارة أخرى ملاءمته لبيئته، وتلك الظاهرة هي طول المدة اللازمة لذلك ولاسيما إذا قارناها بمتوسط عمر الإنسان (نحو خمسين عاماً في الغرب وأربعين عاماً في الشرق) فهو يستغرق أكثر من ثلث متوسط عمره كرجل ليبلغ القمة من نموه الجسمي وهى سن العشرين أو الواحد والعشرين، ومن هنا يمكن أن نستخلص قانوناً عاماً يمكن تطبيقه على الإنسان والحيوان، وفحواه أنه كلما كان الحيوان دقيق الصنع معقد التركيب كانت المدة اللازمة لنموه طويلة بالنسبة لمتوسط عمره.
ويمكننا أن نعتبر بأن الطفل يمر بأربعة أطوار:
1 - الطور الأول منذ وقت ظهوره إلى عالم الوجود إلى الثانية من عمره.
2 - الطور الثاني منذ أول العام الثالث إلى السابعة من عمره.
3 - الطور الثالث من أوائل العام الثامن إلى آخر الحادي عشر.
4 - والرابع منذ آخر الحادي عشر إلى آخر الثامن عشر.
الطور الأول:
يبلغ متوسط وزن الطفل عند الولادة نحو ثلاثة كيلوجرامات وهذا الوزن يبلغ ثلاثة أضعافه بعد نهاية العام الأول، وأربعة أضعافه لما يكمل الطفل عامين من عمره، ومن هنا نرى أن هذا الدور من عمر الطفل يمتاز بسرعة النمو ولا سيما من حيث الثقل، ويأتي بعده الطور(793/5)
الرابع فيما يتعلق بسرعة النمو وخصوصاً من ناحية طول القامة، أما الثاني والثالث فهما أقل أهمية من سابقيهما إذ يبطؤ فيهما النمو نسبياً.
طور المراهقة:
يبدأ لدى الطفل في نحو العام الثاني عشر ويستمر إلى السابع أو الثامن عشر من عمره، ولدى الطفلة من الحادي عشر إلى السادس عشر، ولكن هذه الحدود والمقاييس نسبية تختلف اختلافاً كبيراً بالنسبة للأجناس والأماكن، وهى عندنا في الشرق أكثر بكوراً منها في الغرب. يسرع النمو في ابتداء المراهقة من حيث القامة والأطراف وخاصة السفلي منها، وفى هذا الطور يضعف الطفل ويعتريه شئ من الهزال والكلال كما تقل مناعته وتختل توازن الجسم، ومن هنا كان هذا الطور أخطر الأطوار إذ هو دور انقلاب جسماني وعقلي ونفساني مما يحتم على الوالدين والمربين ملاحظة الطفل والعناية به من حيث الغذاء والرياضة البدنية والنفسانية!
تظهر على الطفل عوارض وسمات الجنس تدريجياً - من رجولة أو أنوثة ويبدأ التناسق في أعضاء الجسم كما تبطؤ حركة النمو الجسمي من السابع عشر أو الثامن عشر إلى العشرين أو الواحد والعشرين على وجه التقريب وهو الحد الأعلى للنمو الجسمي.
تمركز اهتمام الطفل حول ذاته:
هو بدء الحياة العاطفية والعقلية لدى الطفل وهو شعور غريزي وغير واع لا يميز الطفل في بدايته بين ذاته وبين ما يحيط به بل يخلط بينهما خلطاً. بيد أن هذا الخلط نفسه آت من ارتباط الطفل ببيئته وتكوينه وحدة معها، كما أن هذا الشعور نفسه يقع تحت بند ظاهرة الإخضاع والحيازة إذ الطفل يحاول أن يجتذب كل شئ ويمتلكه وليس في ذلك من شذوذ، ولكنها تخضع لقانون حيوي، ثم يتطور ذلك الشعور ونقصد به تمركز اهتمام الطفل حول ذاته ويبدأ بالتفريق ما بين ذاته وغيرها مما يحيط بها، كما تبدو عنده الظاهرة الثانية ونعني بها الخضوع و (التكييف) ال وعند ظهورها فقط يمكن أن نقول بأن الطفل بدأ يلائم بيئته ملاءمة حقيقية.
تطور عقلية الطفل:(793/6)
يقول (بياجيه) في كتابه (الحكم والاستنباط لدى الأطفال) وكتابه (فهم الطفل للعالم) وكتابه (بدء الحياة العقلية عند الأطفال) بأن أهم ما يميز عقلية الطفل ثلاثة خواص هي: (الواقعية) و (الحيوية) و (الاصطناعية)
فالواقعية لدى الأطفال ليست بواقعية الكبار، بل تختلف عنها اختلافاً كبيراً، فهي نظرة مغرضة متحيزة لما يحيط بهم من أشياء، وكل ما يقع تحت حواسهم - وما يكون منها خاصاً لتلك الحواس فقط - ينظرون إليه بلغة عواطفهم وبما يشتهونه أن يكون، كأنما كل شئ خلق لهم ومن أجلهم، وبعبارة أخرى لا يفرقون بين ما لهم وما لغيرهم.
والحيوية استعملها لأول مرة بعض علماء (الأنثروبولوجي) أي علم الإنسان، إذ وصفوا بها عقلية بعض الشعوب الفطرية التي لم تتطور عقليتها بعد، بل وقفت عند هذا الحد الصبياني؛ والذين يعبدون الجماد من أصنام وتماثيل أو الشمس والقمر، ويعتبرونها كائنات حية ذات حول وقوة.
كذلك الطفل في أول طفولته ينظر إلى بعض الأجسام من جماد كأنها كائنات حية ذات إرادة، فالقمر ينظر إليه ويتبعه، والسيارة تنقله من مكان لآخر لأنها منقادة مطواعة تقدم له خدمات عن وعي وإرادة. وقد يصطدم رأسه بالحائط فيتألم من ذلك وتثور ثورته فينهال على الحائط ضرباً عقاباً له على ما اقترف من ذنب، كما يغضب لأن لعبة من لُعبه لم تطاوعه ولم تسر على هواه فينهال عليها ضرباً ويوقع بها العقاب، وربما حطمها وهو يعتبرها كائنات حية ذات إرادة.
كذلك المعنويات لدى الأطفال ما هي إلا كائنات حية، فقد يتخيل الله كرجل وقور ذي لحية بيضاء وسيما جسيما، وليس فيما نذكر من غرابة أو شذوذ إذا علمنا بأن الإنسان الأول مر على هذا الطور، وما زالت بعض الشعوب البدائية تقف عنده في تطورها العقلي. فقدماء الإغريق والمصريين كما ورد في الإلياذة وما ارتسم على الجدران وأوراق البردي من نقوش، كانوا يتصورون الآلهة في صورة بشرية مجسدة حية لها خواص البشر إلا أنها تختلف عنهم في بعض الأوجه كالسيطرة والسلطان المطلق لتصريف أمور الكون وتنعم بنعمة الخلود والحياة السرمدية!.
أما الاصطناعية فهي تتلخص في اعتقاد الطفل أن كل ما يحيط به ويقع تحت حواسه ما(793/7)
هو إلا اصطناعي من خلق الإنسان ولا سيما والديه وهو شعور منشؤه الحياة الاتكالية وتمركز اهتمام الطفل حول ذاته. فالشمس صنعت لإنارته ودفئه، والبقرة صنعت لكي تدر عليه اللبن كما لو كان لسان حاله يقول (من بعدي الطرفان).
العواطف عند الطفل:
هي وليدة الحاجة تتكون من مجموعة انفعالات عمياء غير واعية، ومن هنا كان الاضطراب الذي يسودها، كما أنها تنمو مع الطفل وتتهذب وتصقل ويتوجه كل منها في اتجاه معلوم، كما تلتقي الانفعالات المتشابهة المتجانسة في (بؤرة) واحدة، وفي هذه الحالة فقط يصح لنا تسميتها (بالعواطف)، وهذه العواطف الطفلية ترمي إلى غرضين مختلفين: أولهما عامل النمو والتطور وتتحكم فيه الأنانية والاستيلاء على كل شئ، وعدم الاعتراف بما يخرج من محيط (الذات) كما يمتاز بالخلط ما بين وغيرها مما يحيط بها. والثاني هو عامل ملاءمة البيئة ملاءمة حقيقية لتميزه عن العامل الأول حيث الملاءمة لا تكون إلا جزئية، ومن ناحية واحدة هي ناحية الحوز أو الإخضاع أو التمثيل، وفي هذا الطور يحدث عند الطفل ما يشبه التضحية وإنكار الذات لحد ما، إذ يبدأ التفريق ما بين ذاته وغيرها، ويعترف بوجود ما حوله. ويسمي الاجتماعيون الطور الأول بطور الحيوانية والثاني بطور الإنسانية
عاطفة الأنانية:
هي أثر من آثار تمركز الاهتمام حول الذات لأن هذا الاهتمام لم يتطور أو يتبدل إلا جزئياً وهي عاطفة غريزية وضرورة (بيولوجية) لازمة لنمو الطفل وحفظ النوع، كما أن آثارها تبقى حتى عند الكبار، تتفاوت في الدرجات ولكنها لا تزول نهائياً حتى في نفوس أكثر الناس تضحية وإنكاراً للذات، وما هذا الإنكار إلا نسي، وأن المبالغة في إظهاره وتجسيمه ما هو إلا نوع من حب الظهور تمليه عاطفة دفينة هي الأنانية نفسها التي نحاول أن نخفيها ونظهر عكسها والمضاد لها من الصفات. ويزعم الكاتب الاجتماعي (دانتك) بأن الأنانية هي الترياق الشافي لذلك السم الاجتماعي ونقصد به التطفل والحياة الاتكالية التي تعتمد على الغير، وقد ذهب هذا الكاتب إلى أبعد من ذلك في زعمه، وألف كتاباً في هذا(793/8)
الصدد عنوانه (الأنانية هي الأساس المتين الذي يجب أن تقوم عليه الهيئة الاجتماعية).
والأنانية تتطور عند الطفل وتأخذ صورة اجتماعية معينة هي بدء الشعور بعزة النفس والكرامة؛ يشعر الطفل في هذه الفترة بحاجة ملحة إلى الإطراء والثناء من جانب الغير، فتراه تواقاً لعرض ما يمتلك من أدوات اللعب وما يرتدي من ثياب في شئ من الزهو والمباهاة، ثم يقوم أمامك بما يحسن وما لا يحسن من ألعاب، أو يلقي على مسمعك ما وسع اجتهاده وما وعت ذاكرته الضعيفة من دروس أو أغاني، وهو في كل ذلك حريص كل الحرص على أن ينال منك أكبر قسط من الثناء والتهاني، كما يسيئه أن تمتدح أمامه طفلا آخر فيشعر بشيء من الغبن ويتألم لجرح كبريائه.
هذا والشعور بالكرامة نفسه يتطور إلى غيره من الصفات، فهو إذا صادف تشجيعاً من الغير وسلم من عوادي التجريح سما إلى شئ من الاعتماد على النفس والشجاعة والكبرياء، وهي صفات مصدرها الشعور بالقوة؛ أما إذا حال حائل دون نموه الطبيعي بمعنى أن أصيب بالكبت والقهر من جانب القساة من الوالدين او وجه توجيهاً خاطئاً بواسطة الجهلاء من المربين، فإن هذا الشعور ينحرف ويشذ ويصبح الطفل خجولا أو جباناً كما تولد في نفسه عاطفة الحسد والحقد على الغير وهي صفات منحدرة من الضعف وعدم الاعتداد بالنفس.
ظهور الشخصية واكتمالها عند الطفل:
يبدو هذا الطور عند الطفل في نحو الثالث من عمره كشخصية قائمة بنفسها ويمر الطفل أثناءه بطورين متضادين:
الطور الأول سلبي: يكون فيه الطفل عصياً شديد العناد يعمل في معظم الأحيان بعكس ما يلقى عليه من تعليمات على حد المثل (خالف تعرف) ويجد في ذلك لذة نفسية تنتج عن شعوره بشخصية مستقلة عن الغير تعمل حسب ما يوافق هواها، كما يبدأ التفريق بين ماله وما لغيره وهو شديد الضن والحرص على ما يمتلكه إذ تلك الممتلكات خاصة بشخصه يرى فيها مكملا لتلك الشخصية ومساعداً لبروزها.
والطور الثاني إيجابي: يحاول الطفل فيه جلب أنظار الغير بشتى الطرق، ثم يبدأ بتقليد الغير لا من الصغار أو من هم في مثل سنه ولكن بالكبار من مختلف الأوساط والهيئات(793/9)
تشبهاً بهم.
ثم يستجد في حياة الطفل حادث له أهمية كبيرة من حيث الشخصية، وذلك حين يبلغ السادسة من عمره وهي سن التي يغادر فيها (مدرسة الأم) المنزلية ويختلف بغيره من الأطفال في المدارس الأولية، إذ تضطره قوانينها للخضوع كما يشعر بشيء من تلاشي الشخصية وضعفها لحد ما، ويقل تفكيره في (الأنا) وتطغى ظاهرة الخضوع والمطاوعة على ظاهرة الإخضاع ويستمر الحال كذلك إلى أن يبلغ العاشرة من عمره، وهي السن التي يحصل فيها على شئ من التوازن.
بيد أن هذا التوازن لا يدوم طويلا إذ يختل ويضطرب في طور المراهقة الذي يبدأ في نحو العام الثاني عشر إذ تتغلب ظاهرة الإخضاع مرة أخرى ويشعر المراهق بحاجة شديدة لإثبات شخصيته وفرضها على الغير مثل ما يحدث عنده وهو في الثالثة من عمره ولكن بصورة أوضح، وكذلك يمر على طورين:
الطور الأول سلبي: وهو طور العصيان والتمرد، ولكنه تمرد أكثره على المعنويات منه على الناس والأشياء ينتقد فيه آراء غيره، ويتوق إلى الهدم ويخالف العرف كما يجنح إلى (المثالية) كذلك تكثر عنده أحلام (اليقظة).
والطور الثاني إيجابي: يعتني فيه المراهق بهندامه كما يكون شديد الغرور بمحاسنه الجسدية أو المعنوية والرغبة في إظهارها للغير كلما وجد إلى ذلك سبيلا.
اكتمال الشخصية:
لا يمكن للشخصية أن تكتمل إلا إذا تم التوازن في شكل متآزر متناسق بين ما ذكرنا من مظاهرات وانفعالات وصفات، ومن خطأ الرأي أن نعتمد على الطبيعة كل الاعتماد لتهب لنا ذلك التوازن المنشود، بل يجب علينا أن نعينها على أداء وظيفتها بكل ما في وسعنا وهي المسئولية الجسيمة التي تقع على عاتق الوالدين والمربين والمرشدين، فيجب عليهم - والحالة هذه - أن يكونوا أهلا للقيام بها على أحسن وجه.
وليس المجال هنا بمتسع لسرد ما يجب اتباعه حتى ينشأ الطف متزن الشخصية كاملها وبارزها، وقد عالج ذلك علماء التربية الحديثة والاجتماعيون بمقدرة تامة وليدة التجارب والعقل الذكي.(793/10)
هذه نبذة مختصرة ولمحة خاطفة من سيكولوجية الطفل وبدء سوف يعقبه عود قريب والعود أحمد.
(باريس)
فضل أبو بكر
بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا(793/11)
2 - الاتجاهات الحديثة وظهور الإسلام:
القانون والمجتمع
للأستاذ هـ. ا. ر. جب
من وجهة النظر الدينية الحديثة للمعارضين في أضيق معانيها، نتجه نحو الغايات الاجتماعية للنهضة الإسلامية. لما كانت التقاليد والأوضاع الاجتماعية والقانون - في الأصل - مظاهر للنظام الدينى في الإسلام، فإن كل هذه المسائل ترتبط بالفقه الديني إلى حد أكبر مما هي عليه في حضارتنا الغربية. وعلى ذلك فأحدث التيارات الفكرية حول هذه المسائل، تفيض في جدولين مختلفين يمكن تمييزهما - ولو نظرياً على الأقل -: جدول الإصلاح، وجدول المعارضة. بيد أنه من الناحية العلمية، يصعب أحياناً أن نقرر ما إذا كان ما يتراءى لنا معارضاً، ليس حقاً مجهود خداع تجاه الإصلاح؛ وفكرة للدفاع عما يؤكده الكاتب من أنه رأى الإسلام الأصل) في الشئون الاجتماعية.
وكثيراً ما يوصف الإسلام بأنه دين عام شامل؛ ولكن جميع الأفكار الدينية التي شكلت النظرة الخيالية والعقلية في ذهن الإنسان، وقررت الأعمال الإرادية الإنسانية، تميل إلى أن تكون شاملة. فهي يجب أن تعمل على أن تسير قواعدها على مختلف نواحي النشاط الاجتماعى، لكى تسيطر على الحكومة. وعلى هذا الأساس فالدين اليهودي عام، وكذلك المسيحية. ولئن نسينا ذلك فإنما نفعل لأن المسيحية منذ فجر حياتها، كانت مضطرة إلى قبول السلطة والقانون الروماني؛ ولأنها - عند ما كان يظهر أنها على قاب قوسين أو أدنى من النصر، في كفاحها المرير مع نظام الإقطاع في العصور الوسطى - كان عليها أن تتحمل صدمات عدوين جديدين هما: الإنسانية والعلم. والعلم نفسه آخذ في الاقتراب من الانقلاب إلى فكرة التعميم، بعد أن حطم معارضة الدين، وذلك باتحاده مع الإنسانية وارتباطه بالتحرر الاقتصادي. وإذا حكمنا بطلائعها في ألمانيا والروسيا، فإن التعميم العلمي يعمل على إيقاع العالم في مأزق ضيق، شديد وصعب، بعيداً عن كل شئ، إلا ما جربه الجنس البشرى.
وبالمقارنة نجد أن التعميم (الشمول) في العقيدة الدينية طريق سهل واضح. فمهما تكن عليه السلطات الدينية من غفلة، فإنها على الأقل تعرف قيمة الفرد وشخصيته، فتكفل له قدراً(793/12)
معقولا من الحرية. وفى الإسلام كان لهذه الحرية حد بعيد، يزيد بعداً بفقد التنظيم، وغياب القيادة، ولكنها - كما في كل النظم العامة - تحاول أن تتحكم أو تمنع انتقال (الأفكار الخطرة) وانتشارها.
وإنه لجدير بنا أن ننظر نظرة فاحصة في أثر مبدأ (الأفكار الخطرة) خطرة على من؟ على نستقبل الفرد؟ وإذا رأى الإنسان - بعد كل شئ - أن يخاطر فيما يجلب له العقوبة الأبدية في جهنم، فإن هذا هو شأنه الخاص. أم خطرة على تنقية المعتقدات وخلاص المجتمع الذي يكون في خطر السوء؟ ربما! ولكن هذا إجماع ضئيل في مجتمع ينظر إلى (الإجماع) كما ينظر إلى التنظيم الطبيعي. ولكن الاختلاف في المعتقدات قد يؤدي إلى الانقسام والقتال، وهذا هو بيت القصيد. ولقد جرى العرف على أن المجتمع لا يمكن أن يكون ثابتاً غير مزعزع، إلا إذا كانت الأخلاق شائعة فيه؛ تنشرها عقيدة دينية صارمة، ولن تصبح الأخلاق ثابتة راسخة إلا إذا كانت العقيدة الدينية في حرز حريز من المؤثرات المعادية للإيمان وخالصة منها، إذن فليست صيانة الأخلاق بأكثر أهمية من تثبيت المجتمع فحسب، بل إنها الحالة الوحيدة التي يستطيع أن يتقدم في ظلها المجتمع نحو الطريق المستقيم؛ مثلا نحو مرتبة عالية من التكامل الاجتماعي، وحياة أكثر ملاءمة للفرد.
أي أن نوع المجتمع - الذي تشيده الجماعة لنفسها - يعتمد أساساً على معتقداته مثل طبيعة الكون وغايته، ومكانة النفس الإنسانية فيه. وهذا اعتقاد طبيعي يتكرر في الكنيسة أسبوعاً بعد أسبوع. ولكن الإسلام هو الدين الوحيد الذي رمى على الدوام إلى تشييد. مجتمع على هذا المبدأ، وكانت العدة الأساسية لهذا الغرض هي القانون. و (علم القانون) - على حد تعبير أحد المفسرين المسلمين المشهورين - (هو معرفة الحقوق والواجبات التي تمكن الإنسان من أن يبصر الأحوال الصحيحة في هذه الحياة، وأن يعد نفسهُ للعالم الآخر.)
وبعكس الحال في القانون الذي ورثه العالم المسيحي عن روما، نجد القانون الإسلامي يرعى العلاقات بجميع أنواعها، مع الله ومع البشر. ويشتمل على أمور كثيرة، مثل تأدية الواجبات الدينية ومنح الصدقات (أداء الزكاة)، وكذلك النظم المنزلية والمدنية والاقتصادية والسياسية. وهو بجوهره وطبيعته وغرضه متعلق تماماً بالمثل الدينية. والواقع أن الأحكام الخلقية تعني بالحقائق الظاهرية لفعل وقع أقل من عنايتها بالعواطف والغايات. وأن أي(793/13)
قانون وضعي ينبغي بوجه عام أن يهتم بالحقائق الخارجية. ولكن الروح والقواعد النهائية واحدة في كل، فكلاهما يرفض الجدل الذي يرى صحة أفعال بعينها بسبب نتائجها الاجتماعية، حتى ولو كانت نتائج مرغوباً فيها. وقد تبع ذلك أن القانون الإسلامي لم يكن معتبراً - مثل القانون الروماني والحديث - أنه الخلاصة التدريجية لتجارب الناس التاريخية. وإن أولى مظاهرة هي ترتيب الأعمال في مستويات مطلقة للخير والشر، وما تثبيت العقوبات لأحكام المستوى سوى مسألة ثانوية.
إن المستوى الصحيح للخير والشر ليس بالشيء الذي يمكن أن يتحكم فيه عقلياً. ولقد رأينا في الفصل الأول، كيف أن العقلية الإسلامية رفضت كل تلك النظريات العامة التي تخرج منها بمستويات مطلقة. وكانت الوسيلة الوحيدة التي يمكن معرفتها بها هي العلانية. إذ أن الله وحده هو الذي يعلم ما هو خير أو شر مطلق. ولذلك كان النظام القانوني في الإسلام يبدأ مع القرآن، ويتطور جنباً إلى جنب - وبنفس الطريقة - مع التنظيم النظري. إن الأمثلة الموجودة في القرآن أو التي استخرجت منه، قد اكتملت بسنة النبي صلى الله عليه وسلم السائدة، وأتمها الإجماع الثابت للمجتمع. وإن المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، مذاهب قانونية، أكثر منها دينية، ثم إن الجماعات التي تعنى بالنظريات، قد شيدت نظمها على خطوط متشابهة.
ولسنا هنا في حاجة إلى أن نتعمق كثيراً في مبادئ هذه النظم القانونية وأساليبها، فإن أهم ما يعنينا، هو أن نحيط علماً بقيمة التأثير المتبادل بين القانون الإسلامي والمجتمع الإسلامي. فكل تنظيم يفترض - بادئ بدء - أن هؤلاء الأشخاص الذين يعمل لخدمتهم يرغبون في قبول سلطانه، ويفهمونه على أنه محيط بهم - حتى ولو خاطروا من حين إلى آخر - وتعدوا حدوده. إذن فقبول القانون الإسلامي كان مترتباً على قبول دين الإسلام. وقد دخل في دين الإسلام عدد كبير من الشعوب التي كان لكل منها تراث اجتماعي شرعي. وباتخاذها الإسلام ديناً لها، قبل أعضاء هذه المجتمعات مبدئياً سلطان القانون الإسلامي.
ومهما يكن من شئ فإن من الواضح أنه ليس من السهل القضاء على التراث الاجتماعي العتيق. وقد كان على زعماء الدين في الإسلام - في الواقع - أن يكافحوا في سبيل توسيع مدى السلطة الأصلية للفقه الإسلامي، ونشره بين هؤلاء الناس. وقد لاقوا في هذا الكفاح(793/14)
حظاً موفوراً من النجاح؛ على الرغم من أنه لا تزال هناك جماعات - مثل البربر في شمال غرب أفريقيا - غالبيتها مسلمة في الشعور، بيد أنها حافظت على قانونها التقليدي أمام كل مجهودات العلماء. وقد أفلح العلماء - إلى حد نجاحهم في فرض القانون الإسلامي - في توحيد المجتمع الإسلامي؛ إذ أن القانون - كما سبق أن قررنا - كان المعول الذي رسخت به الأخلاق الاجتماعية.
على أنه يوجد هنا بعض اختلافات واضحة ينبغي بسطها. فعلى الرغم من أن القانون يشتمل نظرياً، وحسب شرح العلماء على كل نوع ومظهر للعلاقات الاجتماعية، إلا أنه كان هناك (مناطق كثيرة) في حياة الجماعة مجهولة من الناحية العملية. وإن الأوضاع السياسية والحكومية، وجزءاً كبيراً من سلطان العقوبة، ومعظم التجارة ذات النطاق الواسع، كل هذه قد وسعت مدى أثرها الفعلي - حتى ولو كان القائمون بأمرها مرتبطين - كما حدث أحياناً بأساسها بواسطة تقليد رسمي. وأنه لحق أنه في هذه المناطق، وبين الطبقات التي فيها - قد حدث الشعور بالمؤثرات الأوربية من بادئ الأمر، وانتشر نفوذها. وهذه الحقيقة تذهب بعيداً في تفسير ضعف المقاومة - في المجتمعات الإسلامية ذات الدساتير - أمام إدخال نظم حكومية وتجارية ومدنية مؤسسة على نماذج أوربية. حتى أنه لم يبق ليومنا هذا إلا المملكة السعودية - وإلى حد ما - أفغانستان تسيران على الأوضاع القانونية الإسلامية القديمة. وقد يساعدنا هذا في بيان السبب في أن المجددين الأحرار (إذ أن مكانتهم قد أصبحت أرقى من تلك الطبقات التي لم تكن سلطة القانون الديني بينهم مطلقة) سبب وقوف هؤلاء المجددين مواقف غربية - بل نقول حرجة. . . ودنيوية - تجاه مسائل في القانون الإسلامي. . .
ترجمة محمد محمد علي(793/15)
تصحيح تصحيف وتحرير تحريف
للأستاذ أحمد يوسف نجاتي
كم للتصحيف والتحريف في اللغة العربية من جنايات على هذه اللغة! وكم لهما من آثار سيئة في الأدب والتاريخ! وكم أفسد كلاهما من عبارة، وشوَّه من معنى، وأوقع في لبس وإبهام، وترك القارئ يخبط في عشوة وظلام. اطلعت على الكتاب القيم الممتع (ظهر الإسلام) تأليف العلامة المحقق الأستاذ الجليل (أحمد أمين بك) فرأيت في صفحة 117 من الطبعة الثانية منه ما يأتي:
وهذا أبو على القالي البغدادي، ضاقت به الحال قبل أن يرحل إلى الأندلس، حتى اضطر أن يبيع بعض كتبه وهي أعز شئ عنده فباع نسخته من كتاب الجمهرة، وقد كان كلفا بها، فاشتراها الشريف المرتضى، فوجد عليها بخط أبي علي:
أنست بها عشرين حولا وبعتها ... فقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهل جفوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة ... مقالة مكوي الفؤاد حزين
(وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... ودائع من رب بهن ضنين)
وأقول إن هذه الحادثة إنما وقعت لأبي الحسن على بن أحمد ابن على العالي. فكنيته أبو الحسن لا أبو علي، ونسبته الفالي (بالفاء الموحدة التي هي من الحروف المهموسة والشفوية، لا بالقاف المثناة إحدى الحروف المجهورة التي مخرجها بين عكوة اللسان واللهاة في أقصى الغم) وقد ساق هذه الحكاية على صحتها العلامة المؤرخ الثقة الأديب شمس الدين أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه الحجة المعروف باسم (وفيات الأعيان)، قال رحمه الله تعالى في ترجمة الشريف أبى القاسم المرتضى ما نصه:
وحكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن على التبريزي اللغوي أن أبا الحسن على أحمد بن علي بن سلك الفالي الأديب كانت له نسخة كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم المذكور بستين ديناراً وتصفحها فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبى الحسن الفالي المذكور وهى:(793/16)
أنست بها عشرين حولا وبعتها الخ
فأرجع النسخة إليه وترك له الدنانير رحمه الله تعالى. وهذا الفالي منسوب إلى (فالة) بالفاء، وهى بلدة بخوزستان قريبة من أيذج، أقام بالبصرة مدة طويلة، وسمع بها من أبى عمر ابن عبد الواحد الهاشمي وأبى الحسن بن النجار وشيوخ ذلك الوقت، وقدم بغداد واستوطنها وحدث بها؛ وأما جده سلك فهو بفتح السين المهملة وتشديد اللام وفتحها وبعدها كاف، هكذا وجدته مقيداً؛ ورأيت في موضع آخر بكسر السين وسكون اللام والله أعلم.
وكانت وفاة الحسن الفالي المذكور في ذي القعدة سنة 448 ليلة الجمعة ثامن الشهر المذكور، ودفن في مقبرة جامع المنصور، وكان أديباً شاعراً، روى عنه الخطيب أبو بكر صاحب تاريخ بغداد وأبو الحسن الطيوري وغيرهما رحمه الله تعالى. انتهى من تاريخ ابن خلكان.
(أقول) وقد ترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بما يأتي: علي بن أحمد بن علي بن سلك أبو الحسن المؤدب المعروف بالفالي من بلدة تسمى فاله قريبة من أيذج، أقام بالبصرة مدة طويلة وسمع بها من أبى عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها وحدث بها، كتبت عنه شيئاً يسيراً وكان مؤدباً ثقة، مات في ليلة الجمعة الثامن من ذي القعدة سنة 448 ودفن في يوم الجمعة في مقبرة جامع المنصور.
وفى الأنساب للسمعاني ما يأتي:
(الفالي) بفتح الفاء وفى آخرها اللام، هذه النسبة إلى فالة قال أبو بكر الخطيب أظنها من بلاد فارس قريبة من أيذج، والمشهور بالنسبة إليها أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن سلك المؤدب الفالي، سمع بالبصرة القاضي أبا عمر القاسم بن جعفر الهاشمي وأبا الحسن علي بن القاسم النجار وأبا عبد الله أحمد بن اسحق بن حزبان النهاوندي وغيرهم، أقام ببغداد إلى آخر عمره، وكان أديباً شاعراً فاضلا، روى عنه أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب وأبو الحسن المبارك بن عبد الجبار الطيوري وغيرهما ذكره أبو بكر الخطيب في التاريخ الخ) اهـ.
وذكر ترجمته أيضاً ياقوت في كتابه معجم الأدباء، قال: على بن أحمد بن سلك (الفالي) بالفاء وليس بأبي على القالي بالقاف ذلك آخر اسمه إسماعيل له ترجمة في بابه، وكنية هذا(793/17)
أبو الحسن، يعرف بالمؤدب من أهل بلدة فالة، موضع قريب من أيذج، انتقل إلى البصرة فأقام بها مدة، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة، له معرفة بالأدب والشعر، ومن شعره قوله:
تصدر للتدريس كل مهوس ... بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
(لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
ومنه ما رواه عنه تلميذه الخطيب التبريزي:
لما تبدلت المنازل أوجهاً ... غير الذين عهدت من علمائها
ورأيتها محفوفة بسوى الألي ... كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشدت بيتاً سائراً متقدماً ... والعين قد شرقت بجاري مائها
(أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها)
ثم ساق حكاية بيعه كتاب الجمهرة نقلا عن الخطيب التبريزي أيضاً وفيه شئ يخالف ما في ابن خلكان، قال وحدَّت أبو زكريا النبريزي قال: رأيت نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد باعها أبو الحسن الفالي بخمسة دنانير من القاضي أبي بكر بن بديل التبريزي وحملها إلى تبريز، فنسخت أنا منها نسخة فوجدت في بعض المجلدات رقعة بخط الفالي فيها:
(أنست بها عشرين حولا. . .) إلى آخر الأبيات.
فأريت القاضي أبا بكر الرقعة والأبيات فتوجع وقال: لو رأيتها قبل هذا لرددتها عليه، وكان الفالي قد مات، اهـ.
أقول لعل الفالي رحمه الله باع هذه النسخة في صفقة ثانية بعد أن أعادها إليه الشريف المرتضى. والبيت الأخير من أبياته تضمين لما قاله أعرابي باع لحمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام جملا بخمسين ديناراً، فلما نقده ثمنه جعل الأعرابي ينظر إلى الجمل ويقول:
(وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين)
فقال له حمزة: خذ جملك، والدنانير لك، فانصرف بجمله وبالدنانير. ومن شعر الفالي أيضاً في شهر الصوم:
رمى رمضان شملنا بالتفرق ... فيا ليته عنا تقضَّى لنلتقي(793/18)
إذا سر أهل الأرض طراً قدومه ... فإن سروري بانسلاخ الذي بقي
وفي معجم البلدان لياقوت ما يأتي:
(فالة) بزيادة هاء بعد الفاء والألف واللام بلدة قريبة من أيذج من بلاد خوزستان، ينسب إليها أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن سلك الفالي المؤدب سمع بالبصرة من القاضي أبي عمرو أحمد بن اسحق بن جربان وحدث بشيء يسير، اهـ.
وقال في تاج العروس شرح القاموس: (فالة) بلد بخوزستان قريبة من أيذج منها أبو الحسن علي بن أحمد (بن سليمان) المؤدب روى عن أبي عمر القاسم بن جعفر الهاشمي وغيره، وروى عنه أبو بكر الحطيب، وأبو جعفر الطيوري، مات سنة 448 اه.
وقد نقل هذه الحكاية صاحب كتاب الفلاكة والمفلوكين موجزة وصحف فيها الفالي بالقالي، ونص عبارته:
(الفالي) أبو الحسن علي بن أحمد بن علي القالي كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد، وكان كلفاً بها فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها فاشتراها الشريف المرتضى فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبى الحسن القالي المذكور:
(أنست بها عشرين حولا وبعتها. . .) إلى آخر الأبيات كما في كتاب (ظهر الإسلام وروايته).
ونقل هذه الحكاية أيضاً صاحب الذهب في ترجمة الشريف المرتضى نقلا عن ابن خلكان فسلم من التصحيف، غير أنه وقع فيه كذلك في ذكره من توفوا سنة 448 (وهي سنة وفاة أبى الحسن الفالي) فقال: وفيها أبو الحسن (القالي نسبة إلى قالي قلا من ديار بكر) علي بن أحمد بن علي المؤدب الثقة روى عن أبي بكر عمر الهاشمي وطبقته اهـ. فصحف كما ترى (الفالي) إلى (القالي) وزاد من عنده تلك الزيادة الخاطئة التي بين القوسين.
أما أبو علي القالي: فهو إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سلمان الفاليّ اللغوي صاحب كتاب الأمالي المشهور، ولد سنة 288 بمنازجرد من ديار بكر ودخل بغداد سنة 305 وأقام بها إلى سنة 328، ثم خرج منها قاصداً الأندلس، فدخل مدينة قرطبة في أواخر شهر شعبان سنة 330 وتوفي بها سنة 356، وإنما قيل له (الفالي) لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قالي قلا فبقي عليه الاسم: وهي من أعمال ديار بكر - ومن كل ما(793/19)
تقدم يظهر أن صاحب الحادثة يكنى أبا الحسن لا أبا علي، وأنه الفالي لا القالي، وأن وفاة أبى علي القالي كانت قبل وفاة أبى الحسن الفالي باثنتين وتسعين سنة، بل توفي القالي قبل مولد الفالي، وأن مولد الشريف المرتضى ببغداد في سنة 355 يعني قبل وفاة أبى علي القالي بقرطبة بسنة واحدة. وقد عرفت أنه رد إلى أبى الحسن الفالي ثمن كتابه كما أعاد إليه كتابه الجمهرة متأثراً بأبياته وكان كلاهما مقيما ببغداد، وتوفي الشريف بها قبل وفاة أبى الحسن الفالي بها باثنتي عشرة سنة، على أنه لم يعرف أن أبا علي القالي بلغ من البؤس والفاقة إلى أن يبيع نسخة من كتابه الجمهرة، تأليف أستاذه ابن دريد المتوفى 321 وكان ذا ثراء واسع ومال جم وإن كان رحمه الله متلافاً مفيداً مبيداً، ولقد أفاد من بني ميكال أموالا عظيمة ونال منهم ثروة طائلة رحمه الله وعفا عنه.
هذا ومن التحريف أو التصحيف أو خطأ الطبع في ذلك الكتاب القيم (ظهر الإسلام) ما في بيتي ابن المعتز صفحة 26.
أما ترى ملك بني هاشم ... عاد عزيزاً بعد ما ذلا
يا طالباً للملك كن مثله ... تستوجب الملك وإلا فلا
ولعل صواب القافية في البيت الأول (بعد ما ذللا) لأن القصيدة من بحر السريع من عروضه الأولى المطوية المكسوفة التي ضربها مثلها على وزن فاعلن، وعلى ضبط (ذلا) يكون الضرب في البيت وحده أصلم (على وزن فعلن) وهو ضرب آخر لهذه العروض لا يجمع بينهما.
وفي صفحة 23 كتب البيت هكذا:
أيها الترك تلقون للدهر ... سيوفاً لا تستبل الجريحا
وهو بهذا الشكل والضبط غير مستقيم الوزن ولا مفهوم المعنى، والذي في تاريخ المسعودي المنقول عنه:
أيها الترك سوف تلقون للدهر ... سيوفاً لا تستبل الجريحا
وفي صفحة 69 البيت:
فيبردها كأن لها ... وإن خفيت سنا لهب
أظن الصواب (فيبرزها) كما يقتضيه السياق ويتطلبه المعنى.(793/20)
وفي صفحة 80 السطر السابع: ليوسعنكم ضرباً وتشديداً وأظنها محرفة عن (تشريداً).
وفي صفحة 136 بيت للشريف الشريف الرضي في الغزل في سوداء:
أحبك يا لون الشباب لأني ... رأيتكما في العين والقلب توءما
صوابه: فأنني، أو لأنني، بزيادة نون الوقاية قبل ياء المتكلم ليستقيم الوزن.
وفي صفحة 140 في السطر الثاني البيت:
ومنفق مشفق إذا أنا ... أسرفت وبذرت مقتصد
والصواب:
ومنفق مشفق إذا أنا أس ... رفت وبذرت فهو مقتصد
لأن القصيدة من بحر المنسرح ولا يستقيم الوزن إلا بذلك.
والبيت سطر 4:
وصيرفي القريض وزان ... دنانير المعاني الرقاق منتقد
غير مستقيم الوزن، وصوابه:
وصيرفي القريض وزان ... دينار المعاني الرقاق منتقد
(فدينار) في البيت مفرد لا جمع وآخر الشطر الأول الياء منه لا النون، (والرقاق) في البيت نعت للمعاني لا للدنانير.
وفي صفحة 155 بيت أبي العلاء المعري:
وما شعراؤكم إلا ذئاب ... تلصص في المدائح والشباب
(أرى) أن (الشباب) مصحفة عن السباب.
يريد أن كلا من شعراء المديح الذين يكتسبون بالمدح وشعراء الهجاء الذين يتقيهم الناس فيفدون أعراضهم منهم بالمال إنما هم لصوص يستولون على أموال الناس بغير حق رغبة في مديحهم أو رهبة من هجائهم.
وفي صفحة 184 البيت:
أنت إذا جدت ضاحك أبداً ... وهو إذا جاد باكي العين
لعل (الصواب دامع العين) برفع دامع خبر المبتدأ هو.
وفي صفحة 210 سطر 4 البيت: هي قلت عن العزيز عداه(793/21)
لعل صوابه: قد أقلت (أو هي أقلت) ضد كثرت في عجز البيت.
وفي صفحة 287 آخر الصفحة، البيت من قصيدة البيروني:
فلا زال للدنيا وللدين عامراً ... ولا زال فيها للغواة مواسيا
أرى أن الصواب (للعفاة) وهم طلاب المعروف جمع عاف فليس مما يمدح به المرء أن يكون مواسياً للغواة، وإنما يواسي العافون وطالبو الجدوى.
ثم أقول بعد ذلك: أنه بمناسبة ذكر أبى علي القالي اطلعت على صفحة 742 من كتاب (سمط اللآلي) في المجلد الآخر منه ويحتوي على شرح الجزء الثاني من أمالي أبى علي القالي، للوزير أبى عبيد البكري المطبوع بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1354هـ - 1936م والذي نسخه وصححه وحقق ما فيه الأديب العالم المحقق الأستاذ عبد العزيز الميمني أستاذ اللغة العربية بجامعة عليكرة بالهند، فرأيت في أولها ما يأتي: (وهو من رجز لهيمان بن قحافة مشروح هناك):
والبكرات اللقح الفوائجا ... بصفنة تزفي هديراً نابجا
ترى اللغاديد بها حوابجا
الصفنة: مثل العيبة، شبه بها شقشقة البعير، ويقال صفن فإذا ألحقت الهاء فتحت الصاد. (وتزفي): كما تزفي الريح شيئاً تسحفه، ويقال لأحد العدلين إذا استرخى (قد أسبح) يقول فهديره منصب مسترخ (واللغاديد) باطن أصول الأذنين (وحوابج) منتفخة، يريد أن نصف الشقشقة خارج من حلقه ونصفها باق فيه اهـ. وقد علق حضرة المصحح على قول البكري قد أسبح بقوله في الهامش (1) كذا في الأصلين، وقد أعياني أمر تصحيحه اهـ. أما أنا فأقول إن (أسبح) مصحف عن (استنثج) وإن (نابجا) في الرجز مصحف عن (ناثجا) قال في لسان العرب في مادة (نثج). ويقال لأحد العدلين إذا استرخى قد استنثج، قال هميان:
يظل يدعو نيبه الضماعجا ... بصفنة تزقى هديراً ناثجا
أي مسترخياً (والله أعلم) اهـ.
وقال في مادة ضمعج (الضمعج) الضخمة من النوق، وامرأة ضمعج قصيرة ضخمة، وكذلك البعير والفرس والأتان، قال هميان بن قحافة السعدى:(793/22)
يظل يدعو نيبها الضماعجا ... والبكرات اللقح النواثجا
وأعاد هذا البيت في مادة (فثج): وناقة فاثج سمينة حائل أو هي الفتية اللاقح، ويروى (الفواسج بالسين، والفاسج من الإبل أيضاً اللاقح أو اللاقح مع سمن، أو هي الحائل السمينة فهي بمعنى الفاثج بالثاء المثلثة).
وينبغي أن أعترف بالفضل لحضرة العلامة أحمد أمين بك فإن كتابة (ظهر الإسلام) مرآة صافية ترى فيها بجلاء ووضوح الحياة الاجتماعية والعقلية والأدبية من عهد المتوكل إلى آخر القرن الرابع الهجري. ثم أذكر بهذه المناسبة أن خير كتاب قرأته يمثل الحياة الاجتماعية في العصر العباسي (وخاصة من الجهة السياسية والاقتصادية) هو كتاب (العصر العباسي) للأستاذ المحقق والمؤرخ الموفق المدقق الدكتور (عبد العزيز الدوري) العراقي أستاذ التاريخ الإسلامي بدار المعلمين العليا ومعهد الملكة عالية العالي بمدينة بغداد وقد طبع منه جزءان قيمان أحدهما في العصر العباسي الأول، والآخر في العصر العباسي الثاني، وإنه ليخدم التاريخ أجل خدمة إذا قدم له الجزء الثالث الذي يمثل بقية العصر العباسي، وقد رجع في كتابيه المفيدين إلى كثير من المراجع العربية وغير العربية من عدة لغات، ورجع من نفسه بعد ذلك إلى عقل ناضج كبير، وفكر عال صحيح، وذهن ثاقب جديد، ورأى قويم سديد. وكذلك أقول إن خير كتاب رأيته في أدب اللغة العربية في عصر صدر الإسلام هو كتاب الأستاذ الدكتور محمد مهدى البصير الذي سماه (عصر القرآن) تكلم فيه على الأدب العربي في صدر الإسلام وعصر بنى أمية فأحسن وأجاد، وأمتع وأفاد، دل فيه على اطلاع واسع وعلم جم وأدب غزير، ورد الزائف البهرج وقبل الثمين المصفى، وكان له فيه رأى صائب وفكر قويم. ولنا في هذا الكتاب وغيره من مؤلفات الدكتور السيد محمد مهدى البصير عودة في مقالات موعدنا بها الأعداد المقبلة من الرسالة الغراء إن شاء الله تعالى.
أحمد يوسف نجاتي(793/23)
غناء الطيور
بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
فتن شعراء الطبيعة بغذاء الطيور وسحروا بهديلها وزقزقتها في السحر وعند الأصيل في الأشجار المتشابكة وعلى الأنهار والسواقي حيث يمتزج خرير المياه بهديل الطيور وقد حبت الطبيعة البساتين موسيقاراً لا يكل ولا يعجز عن توقيع ألحانه العذبه، ولايفتر عن ترديد أغانيه المشجية والمطربة أحياناً؛ وقد هام أغلب الشعراء بأغاريد الطيور فتركت صدى عميقاً في نفوسهم وخلدوا في مطارحتها روائع ساحرة. وقد زاد ولوعهم بها ما جلبوا عليه من تقديس الجمال والافتتان بالتواقيع الموسيقية فكان كثير من الشعراء العباقرة يجنون إذا جمعتهم الرياض بالحمائم والطيور المغردة فيطربون لها ويهيمون إعجاباً بسحرها الأخاذ، فيهجر بعضهم المدن لينعم بقرب الطيور في الرياض المؤتلقة.
من ذلك رأينا هذه الأشعار الكثيرة في دواوين شعراء العرب وكلها افتتان بغناء الطيور، ولم يقتصر عليهم ذلك الهيام بالطبيعة وجمالها الفاتن فقد حدث مؤرخو حياة الفيلسوف الإسلامي الكبير أبى نصر الفارابي أنه عندما سافر من بغداد إلى دمشق كان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس، وكان مدة إقامته بدمشق لا يكون غالباً عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض؛ ويؤلف هناك كتبه وينتابه المشتغلون عليه، وقال في (وضات الجنات) يحكى أن الآلة التي تسمى القانون من وضعه وهو أول من ركبها هذا التركيب، وهذا يدلك على مدى افتتانه بالألحان الموسيقية، ولعل غناء الطيور أوحى له دروساً فياضة في الموسيقى.
وكما ترى فيما سنعرضه عليك أن هناك اختلافاً بين علماء الحيوان ودعاة نظرية التطور من دارون واتباعه، وبين شعراء العرب الذي نظموا في غناء الطيور وفسروه، كما ظهر لهم حسب أفكارهم إذ يرى علماء الحيوان أن الغناء هو من خصائص ذكور الطيور، وأن هذه تغرد وتغني لتجتلب الإناث بهديرها وتغريدها فالأغاريد أسلحة أدبية تصول بها الطيور في غمار معارك غرامية صخابة تعج بالتنافس بين ذكرانها، والتغالب لاقتناص زوجات يتمتعون بالقرب منها وينعمون بالاستئناس بجمالها الأنثوي.
وأتذكر أن الصحف المصرية نشرت (تصريحاً) للأستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب(793/24)
يتحدى به الآنسة أم كلثوم قائلاً: إن الغناء في عالم الطبيعة من خصائص الذكور، ولا ريب أن الحق معه من وجهة التاريخ الطبيعي وحقائق علم الحيوان ولكن من الذي يفضل أن يسمع الغناء من رجل خشن على أن يتمتع به من فم فتاة رقيقة تفيض جمالا وفتنة، وعلى كل حال فإن علماء التاريخ الطبيعي يقررون أن الغناء ميزة للتفوق، وسلاح للغلبة واجتذاب للإناث جهز بهما ذكران الطيور، وفق نظام الكون المستهدف لإدامة الحياة، وبقاء النوع وتكثير النسل فهو من جملة المشهيات والمغريات المؤدية إلى تلك الغايات النبيلة.
وقد أخضعت نظرية التطور التي جاء بها العالم الإنجليزي دارون - غناء الطيور وهديلها لعامل الانتخاب الطبيعي. فقالوا إن خاصة الغناء الجميل التي تتحلى بها بعض الذكور من الطيور تتركها تتفوق في معارك الانتخابات التزاوجية لأجل الفوز بالإناث ويشجعها ذلك الفوز والانتصار على التناسل بكثرة. وهذا يؤدى إلى وفرة ذريتها التي تحمل خصائصها، ومن جملتها القدرة على أحداث الأصوات الجميلة الغنائية فتشيع هذه الميزة في الأجيال القادمة حسب قانون الوراثة. وإليك بعض كلمات علماء التطور.
قرأت في كتاب عن نظرية التطور تأليف العلامة الفرد والاس.
قال تحت عنوان الخصائص الجنسية المسببة بالانتخاب الطبيعي: (علاوة على تسلح الذكور بما يعدهم للنضال مع الذكور الآخرين توجد بعض الخصائص الجنسية المسببة بالانتخاب الطبيعي وذلك كالأصوات والروائح المختلفة الخاصة بالذكور التي تكون دعاء للإناث أشعاراً لهن بحضورهم، ومن الواضح أن هذه إضافات ذات قيمة في وسائط تمييز الجنسين، وزيادة على ذلك أنها إشعار بحلول فصل التزاوج. ومن الواضح أن توليد وتفريق هذه الأصوات والروائح هما ضمن نطاق قدرة الانتخاب الطبيعي، والتمييز بين الجنسين من فصائل الطيور، ولإغراء ذكرانها للإناث، وتشهيتها للفساد.
وعند ما انتشرت أفراد فصائل الطيور بصورة واسعة على وجه الأرض أصبح هذا الدعاء في غاية الأهمية لجعل التزاوج يقع بصورة مبكرة ويسرع به ما أمكن.
وهكذا قد أصبح وضوح وعلو وتميز شخصية غناء الطائر خاصة نافعة، وبالنتيجة يتحقق الانتخاب الطبيعي (أي أن الطائر الذي توجد فيه هذه الخاصة النافعة يكثر نسله فتشيع هذه الميزة الصوتية في الأجيال التالية وفق نظرية التطور والوراثة) وهذا هو الواقع خاصة(793/25)
بالنسبة لطائر الوقوق ومع كل الطيور التي تعيش منفردة.
ولا شك أن صنيع الغناء عمل مبهج وجالب للسرور، وربما استخدمه الطير كمنقذ للفائض الزائد من الطاقة العصبية والتهيج النفسي، على حد ما يقوم به الإنسان من الرقص والغناء، والألعاب الرياضية المسلية. وهذا التعليل لغناء الطيور يرى أن رياضة القوة الصوتية مكملة لتطور الريش الثانوي الذي ليس له أهمية أساسية في الطيران، ومتممة لزخارف الزينة والتجمل في الطيور.
ويلاحظ المؤلف الفرد روسل والاس) أن كل طيورهم البديعة الغناء بسيطة التلوين، وليس لها عرف ولا يوجد في رقابها أو ذيولها من ريش التباهي، والظهور بمظهر فاتن جذاب، في حين أن الطيور المزخرفة ذات الجمال الزاهي في الناطق الاستوائية ليس لها المقدرة على الغناء، وتلك التي تصرف طاقة كبرى لتتبرج وتزهى بالريش الجميل تطورت أصواتها تطوراً طفيفاً لا يذكر إذا قسناها بالطيور الأخرى. وخذ مثلاً لذلك الديك الرومي، والطاووس، والطائر الطنان، وطيور الجنة وهذه فصيلة من طيور غينيا الجديدة وما يجاورها من الجزائر.
وتشتهر طيور الجنة بجمال ريشها وبهاء ألوانها، ولا يمتاز ببهاء اللون وحسن الريش إلا الذكور، وريش الذكران على حسنه أملس ناعم حريري فيه براقة المعادن الصافية والخلاصة أن أغاريد الطيور وأغانيها حسب الظاهر مذكرات وإشارات ورسائل غرامية مختصرة لإشعار الأنثى بوجود الذكر ولدعوتها إلى التزاوج، وهذه القابلية للغناء تفيد الفصيلة لأنها ذات علاقة بأهم وأجل وظيفة حيوية، وهى حفظ النوع بالتناسل).
وقال العالم الطبيعي دارون في كتابه أصل الأنواع إن المنافسة بين الطيور على امتلاك الإناث أقل قسوة منها بين الحيوانات التي تعيش على الأرض؛ وكل من له إلمام بالموضوع على اعتقاد تام أن هذا التقاتل لا يبلغ منتهى القسوة والشدة إلا بين الأنواع التي تجتذب ذكورها الإناث بحسن أصواتها الغنائية.
وذكر أن بعض الطيور التي يسكن جزائر (جيانا) وطيور الجنة وغيرها من صنوف الطير قد تجتمع وتتقاتل قتالا عنيفاً ثم تخرج الذكور الفائزة في المعركة وتنشر ريشها البهي اجتذب إليها الإناث، ومن ثم تأخذ في التضاحك بشكل عجيب والإناث على كثب يرمقنها(793/26)
ثم تنتخب ما كان أشد جاذبية إليها.
وقال باحث آخر إن جمال ذكور الطيور بأصواتها أو ريشها يلعب دوراً عظيما في الحب النسلي، ولعل للطيور أعظم نصيب من الجمال، فلذلك قلما تتنازع ذكورها بالقتال، وإنما تعتمد في الأكثر على فتنة الإناث بجمال ريشها وألوانه الجميلة، وبعضها يعتمد على الرقص على الأرض أو في الهواء وبعضها يعتمد على الزقزقة والهديل.
وهكذا تعد الطيور على أعظم جانب من الجمال البصري والصوتي ولها ذوق عقلي في الجمال كالإنسان تقريباً، ولذلك يطرب الإنسان بزقزقة العصافير وهديل الطيور، ولكن الطيور المغنية قد تلتجئ إلى العراك للفوز بالإناث.
فقد روى العلامة دارون أن نوعاً من الطيور في الولايات المتحدة يجتمع نحو عشرين من ذكوره في بقعة حيث تتنافس بالزقزقة، وحالما تميل الأنثى لذكر تقتتل الذكور، والأضعف يحيد عن القتال، حتى إذا لم يبق إلا واحد ذهبت الأنثى معه. وقد بلغت مسألة الانتخاب عند الطيور حداً فصيا حتى أن بعضها لا يتزاوج لأن الإناث لم يرقها ذكر من الذكور التي تنافست في إغرائها وإثارة عواطفها.
وروى (جوير) أن مغازلة الطيور تستغرق وقتاً طويلاً وقد ينقضي الفصل كله ولا تنجح الذكور والإناث في إثارة الحب فلا تتزاوج.
ولبعض الطيور حب مبرح بحيث إذا فقد إلفه حزن عليه طويلاً ذكر دارون أن ذكر الببغاء وأنثاه يتعاشقان ويتلازمان طويلاً حتى إذا مات أحدهما أسف الآخر عليه أسفاً شديداً، وإذا قنص أحدهما بقى الآخر مدة طويلة ينادي نداء محزناً.
وللحمام أيضاً ألفة قوية كألفة البشر، فقد لوحظ أن زوجي حمام عادا إلى عشرتهما بعد فراق تسعة أشهر متذكراً كل منهما الآخر. وكثير من الطيور يختار إناثه الذكر الذي تحبه دون سائر الذكور من غير أن تتنازعهما الذكور بقتال.
فقد روى (أودوبون) الذي قضى ردحاً من الزمن في أحراج الولايات المتحدة يدرس طبائع الطيور أن الأنثى لا تقبل على أي ذكر يعرض لها بل تتئذ جداً في اختيار عريسها وتراقب منازلة كل ذكر حتى يروق لها واحد فتذهب معه. وكل ذلك يدلك على أن للطيور ذوقاً حاداً في تمييز الجمال والإعجاب والانفعال به كما أن لها قوة غريبة في التفنن بالمغازلة.(793/27)
وهذا الذوق العجيب الذي يضاهي ذوق الإنسان هو علة ارتقاء الجمال الصوتي والنظري في الطيور كما علله دارون بسنة الانتخاب الطبيعي والتناسلي إذ الذكر الأجمل شكلاً أو صوتاً ينجح في المزاوجة، والأقل جمالاً يفشل، ذاك يكون له نسل وهذا ينقطع نسله، وبفعل ناموس الوراثة تتجه السلالة إلى إنتاج الأجمل.
قال دارون ولا شك أحد ممن لا حظوا أنواع الطير حال أسرها واعتزالها مركزها الطبيعي المطلق فإنها تفضل بعض الأفراد على بعض، فإن السير (ر. هيرون) قد وصف كيف أن طاووساً مزرقشاً قد اجتذب إليه كل الإناث وتفرد بها.
وإنه وإن كان لا يتسنى لي الإفاضة في هذا الموضوع فإني على يقين بأن الإنسان إذا استطاع أن يحسن في وقت قصير أنواع (البنتام) وهو ضرب من الدجاج الداجن - بحيث يجعلها بديعة الألوان رشيقة الصور فلست أرى مانعاً يحول دون القول بأن إناثه إذا انتخبت خلال آلاف من الأجيال أشجى الذكور صوتاً وأحسنها شكلاً وفاق ما يلوح منها من معاني الجمال فقد يحتمل أن يحدث فيها تأثيرات من التغاير ذات بال.
غير أن دائرة المعارف البريطانية تجعل من أسباب الغناء رغبة الطائر أن يشعر باقي الطيور بوجوده في المنطقة التي يغرد فيها وبذلك لا يقرب إليه ما يزاحمه على ما فيها من المواد الغذائية (راجع تفصيل ذلك في مادة
وهذا حديث يطول، إنما الذي وددت أن أقرره رأي علماء الحيوان في تعليل تغريد الطيور بأنه لأغراء الإناث وجلبها إلى السفاد ودعوتها إليه وأنه إعلان بمجيء فصل التزاوج وإن الأغاريد مغازلات غرامية، وإذا كانت أغاني الطيور أحابيل لصيد الإناث ووسائل إغراء وإقناع في غمار معارك غرامية كما بين دارون ووالاس وإخوانهما من علماء الحيوان وأفادا أن هديل الطيور شباك صيد ينصبها الهياج الجنسي فلا تلم عشاق الشعراء إذا تهيجوا وأصباهم الحمام بهديله لأنه ضرب على وترهم الحساس ونطق بلغة قلوبهم الولهى فأثارهم وهيج إحساسهم وإن لم يعرفوا كيف تسلطت تلك الأغاريد عليهم.
قال بعض الأعراب أنشده اسحق الموصلي.
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت
تغنت بصوت أعجمي فهيجت ... من الوجد ما كانت ضلوعي أجنت(793/28)
فلو قطرت عين امرئ من صبابة ... دماً قطرت عيني دماً فألمت
فما سكنت حتى أويت لصوتها ... وقلت ترى هذي الحمامة جنت؟
ولي زفرات لو يدمن قتلنني=بشوق إلى نأي التي قد تولت
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي(793/29)
طرائف من العصر المملوكي:
العلاقات الإخوانية وصلتها بالأدب
للأستاذ محمود رزق سليم
نزعة الأدب في نفس الأديب المطبوع، أشبه شئ بالغريزة الإنسانية. فهي قوة كامنة فيها، تتحرك من تلقاء نفسها، وتقوم بعملها الحيوي في حياة الأديب. فتقرأ وتستقرئ وتطلع وتتصفح، وتختزن وتقرن، وتمزج ثم تلد وتصور وتلون، وتهب لأجنتها ما تشاء لها مقدرتها من أسباب القوة والبقاء. ثم تدفع بنتاجها إلى اللسان فينفثه سحراً حلالا، أو إلى القلم فيبعثه زهراً وضيئاً، ترى من خلاله حياة نابضة، وروحاً متحركة، تلعب دورها، وتؤثر أثرها.
والغريزة بحاجة إلى التربية والتهذيب والتثقيف، حتى توجه إلى خير السبل لإسعاد المرء وإسعاد مجتمعه. ولا يبعد عنها في ذلك، نزعة الأدب، فهي بحاجة إلى أن تتعهدها يد التربية والتهذيب والتثقيف، وإلى أن يسلك بها مسالك ثقافية خاصة، حتى تفره وتحذق، ويتسع أمامها المدى ويرحب أفقها، ويلطف حسها ويدق إدراكها. وكلما كان الأديب أكثر من غيره ثقافة، اتسع رحابه، وسما إنجابه، وأشرق وأمتع فنه.
غير أن النزعة الأدبية، مهما كانت طاغية باغية، ثائرة فائرة، يقظة ساهرة، قد يصيبها العثور ويغشيها الفتور، فيخبو زندها، ويكبو جوادها، ويتطامن إنتاجها، وتقل الروعة في فنها. حتى تتاح لها منشطات تنهض راكدها، وتنبه راقدها. وتثير فيها من جديد مظاهر الحياة الصحيحة والحركة. ولعل هذه الناحية أقوى وجوه الشبه بينها وبين الغريزة، إذ لولا ما يعرض للغريزة من مثيرات ودوافع، لعانت ألواناً من الكبت، قد تفضي بها إلى الموت.
وتتشبث النزعة الأدبية - ككل كائن حي - بأسباب بقائها. وقد درجت الطبيعة على أن تبذل لها بين الحين والحين، من أسباب البقاء ما يذكى فيها عوامل الأمل والرجاء. وحينذاك تندفع في طريقها جادة نشيطة مجاهدة مجالدة، حتى تؤدي رسالتها في الحياة.
وقد درجنا، ونحن ندرس تاريخ الأدب العربي، على أن نسمع بين الآن والآن، بضروب من التشجيع - أو قل بألوان من أسباب البقاء - تتاح للنزعات الأدبية؛ فمن عطية أمير، إلى منحة وزير، إلى ثقافة حافلة إلى آذان صاغية وقلوب واعية، إلى حوافز من صداقات(793/30)
ومودعات، إلى غير ذلك.
والعلاقات الإنسانية كانت وما تزال، ذات أثر بعيد المدى، في حياة النزعات الأدبية. فالأديب لا يعيش في الدنيا وحيداً. حتى ولو آثر العزلة، فجميع ما حوله ومن حوله، ذو أثر فعال في حياته واتجاهاته، وعواطفه وانفعالاته. ومن أوثق هذه العلاقات، العلاقات الإخوانية.
ونعني بالعلاقات الإخوانية، صلات الود ووشائج الصداقة بين الأنداد والنظراء. وهى من العوامل الدائمة المشتركة بين كل العصور الأدبية، ومن مسعرات نزعاتها، وحافزات روحها، وموجهاتها. وهى بتأثيرها في الناحية الأدبية، بحاجة إلى دراسة مستقلة خاصة مستفيضة، تتلمسها في كل عصورها، وتبرز آثارها في كل عصر منها، وتوازن بين آثارها في عصر وعصر، وتوازن بين آثارها وآثار غيرها من العوامل.
ولعل العلاقات الإخوانية أقوى أثراً في النزعات الأدبية، وأبعد توجيهاً لها في العصر المملوكي، بالقياس إلى غيرها من عوامل النهوض الأدبي فيه. ففي العصر المذكور قلت عوامل التشجيع وأسباب الحفز الأدبي، في جملتها، بالنسبة إلى ما سبقه من العصور. واتجه الكثير منها إلى الحركة العلمية البحتة، فجذب بضبعها ومد في بقائها، وهيأ لها أسباب الحياة والنمو. أما الحركة الأدبية فقد نالها منها صبابة يسيرة، وثمالة متوارية، لا تبعث نشوة ولا تهز عطفاً. لقد صوحت عوامل التشجيع الأدبي، ويبس عودها وذبل زهرها، وأصبحت لا تبهر عيناً. فلا نوق هرم، أو عصافير بنى جفنة، ولا دنانير هشام أو بدر الرشيد، ولا مجالس المأمون أو محافل المتوكل، ولا أريحية بني حمدان أو ذهب العبيديين، بمغرية جنان شاعر، أو مجرية لسان ناثر في هذا العصر.
وككل كائن حي، أخذت النزعات الأدبية فيه، تتلمس لنفسها أسباباً أخرى من أسباب البقاء. فصادفتها العلاقات الإخوانية، فاتخذت منها إلى الحياة سبباً، وإلى البقاء وسيلة. وتشبثت بها أو اصطنعتها أداة لمعالجة عملها وإبراز فنها. والفن هنا قد تنقصه الدقة ويخطئه العمق، ولكن لا تنقصه الصراحة ولا يجافيه الصدق. إذ هو نتيجة علاقات قلبية، ورجع مودات نفسية، لا حاجة بها إلى الزيف والتلفيق.
وقد ظللت الكثيرين من أدباء العصر المملوكي رايات المودة والصحبة الحسنة، فعاشوا(793/31)
إخواناً متحابين في الأدب، يسعد أحدهم الآخر كما يسعد الغريب الغريب. وقد نوهنا في بعض مقالاتنا السابقة بشيء من هذه العلاقات، وآثارها، كعلاقات السبعة الشهب. وصحبة الجزار والوراق.
وقد روى صاحب فوات الوفيات أن الأديب كمال الدين بن العديم كان إذا قدم مصر يلازمه أبو الحسين الجزار. حتى كانت هذه الملازمة مثاراً لتندر بعض أهل العصر عليهما، فقال، وفيه تورية:
يا ابن العديم عدمت كل فضيلة ... وغدوت تحمل راية الأدبار
ما إن رأيت ولا سمعت بمثلها ... نفس تلذ بصحبة الجزار
وبهذه الصحبة فتح الأدباء مغالق أبواب أدبية واسعة، ما بين منثور ومنظوم. وأكثر الشعراء من التهاني والتعازي، والتشوق والحنين، والمعاتبة. وتقارضوا الثناء، وأفاضوا في المعارضات والمطارحات والمساءلات، وجدوا في المماجنة والمفاكهة والملاغزة والمحاجاة، ونهضوا للإجازة والاستدعاء، إلى غير ذلك.
والحق أن الشعر - بخاصة - قد ظنت به حينذاك الظنون، وأرجف الناس من حوله. حتى إن بعض أهله أوجس خيفة، فنعوا عليه، وندبوا أنفسهم، وشكوا كساده، وفضلوا عليه الحرف الدنيا. وهذا أبو الحسين الجزار المصري الشاعر، يقول - وقد هجر الشعر والتكسب به، واحترف الجزارة:
كيف لا أشكر الجزارة ماع ... شت حفاظاً وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجيـ ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
ولعل أبلغ رد عليه، وهو رد يؤيدنا في أن الشعر ربح في هذا العصر حياة فيها صراحة وصدق، قول ابن الوردي:
قالوا لقد كسد القريض فقلت بل ... عاشت ضراغمه ومات ضباعه
الآن طاب سماعه وتقطعت ... أطماعه وتعززت صناعه
نقول إن العلاقات الإخوانية كانت خير معين للشعراء على إبراز شاعريتهم دون زيف، وإظهار فنهم دون تلفيق. فكان صدى لنفوسهم ومرآة لحوادثهم. وقد حدث صاحب مسالك الأبصار عن أبى الحسين الجزار المصري السابق ذكره، فقال:(793/32)
(حكى أن السراج الوراق وأبا الحسين الجزار، خرجا في عهد صباهما، والشباب أعقد حباهما، يريدان النزهة. فوجدا غلاماً زامراً، يتمنى منه اللقاء ويجتمع فيه الغصن والورقاء. يتلفت بصفحة القمر المنير. ويطرب كأنما زمره مما أوتى آل داود من المزامير. فلفتاه إليهما لأمر. وظنا أنه ستلينه لهما الخمر. فأتيا به دير شعران وصعدا إليه. فوجدا راهباً يصدع حبه الفؤاد. ويطلع قمره ولا شئ أحسن منه في ذلك السواد. فزاد سرورهما بحصول الزامر والراهب. وأيقنا ببلوغ المآرب. فلما حميت فيهما سورة الحميا. وظن كل منهما أنه قد حصل له فراشه وتهيا. فطن الزامر والراهب لمرادهما، فتركاهما ومضيا قبل التمام، وتركاهما وكل واحد منهما يشكو ضجيعاً لا ينام. فقال السراج:
في فخناً لم يقع الطائر ... لا راهب الدير ولا الزامر
فقال أبو الحسين الجزار:
فسعدنا ليس له أول ... ونحسنا ليس له آخر
فقال السراج:
فالقلب في إثرهما هائم
فقال الجزار مكملا:
والقلب من أجلهما حائر)
وفى هذه القصة ما يصور حياة هذين الماجنين، وهما مثل لغيرهما أو لكثير غيرهما من أدباء العصر.
ويقرب من هذه الحادثة ما رواه صاحب قوات الوفيات قال:
(حكى أن نور الدين على بن سعيد المغربي صاحب المرقص والمطرب، مر مع جماعة من الأدباء بالديار المصرية، ومنهم أبو الحسين الجزار، فمروا في طريقهم بمليح نائم تحت شجرة، وقد هب الهواء فكشف ثيابه عنه. فقال أبو الحسين الجزار، قفوا لينظم كل واحد منا في هذا شيئاً. فما لبثوا حتى قال نور الدين على بن سعيد:
الريح أقود ما تكون لأنها ... تبدى خبايا الردف والأعكان
وتميل بالأغصان عند هبوبها ... حتى تقبل أوجه الغدران
فلذلك العشاق يتخذونها ... رسلا إلى الأحباب والأوطان(793/33)
فقال السراج الوراق:
ما أعلم أن أحداً منا يأتي بمثل هذا. سيروا بنا.)
نقول: وهذه مطارحة لم تتم أدوارها، ومباراة لم تبلغ مداها وقد نظم الصاحب فخر الدين بن مكناس قصيدة طريفة فكاهية، داعب بها صديقه الأديب الشيخ بدر الدين البشتكي، ووصفه فيها يوم (أنس الهمايل)، وكان الشيخ بدر الدين في اليوم المذكور قد وضع الثور من الساقية ودار بها، فقال ابن مكناس:
دورة البدر في سواقى الهمايل ... تركت أدمع العيون هوامل
آه من للرياض ثور أديب ... مظهر من كلامه سحر بابل
فاق سعياً على بنى عجل في الجو ... د وأغنى عن الولي الهاطل
وقد مزج ابن مكناس في أبياته بين ألفاظ الرياض والري والماء، وألفاظ الأدب والشعر مزجاً لطيفاً، واستعار من إحداها للأخرى، ووصف الرياض خلال ذلك، وما فيها من أزهار وأغصان، مع توريات جميلة، وتلميحات بارعة، تناسب الموضوع فمن أبياته يخاطب صديقه:
يا سعيداً أثرى من النظم والنث ... ر فأنسى الورى زمان الفاضل
قد سقيت الرياض ياشيخ بالدو ... ر فها غصنها من السكر مائل
وقوله:
وغداً بالظلال كل أديب ... في هجير الرمضا بفضلك قائل
وبروحي عيون نرجس روض ... تفتح العين بالندى وتغازل
أنت شنفتها بشعرك زهراً ... وبعثت المياه فيها خلاخل
وقوله:
أنت لو لم تكن بحار علوم ... ما جرت في الرياض منك جداول
أنت عندي أجل قدراً من الثو ... ر - وقد درت - للوجود الحامل
وغدا الفن بين لفظك والرو ... ض على الحالتين عندك بأقل
ومن الإخوانيات ما تبادله صفى الدين الحلي، وجمال الدين بن نباته، من شعر تعاتبا فيه وتقارضا الثناء، فلقد أرسل صفى الدين إلى صديقه قصيدة في هذا المعنى، قال في مطلعها:(793/34)
من لصب أدنى البعاد وفاته ... إذ عداه وصل الحبيب وفاته
فاته من لفا الأحبة عيش ... كان يخشى قبل الوفاة فواته
كان ثبتاً قبل التفرق لكن ... زعزعت روعة الفراق ثباته
ومنها يقول:
كنت مستنصراً بأسياف صبري ... فنبت بعد فرقة ابن نباتة
فاضل ألف الفصاحة والعـ ... لم وضمت آراؤه أشتاته
رَبُّ شعر لم يتبع ما روى الغا ... وون لكن بالفضل يهدى غواته الخ
وقد أجابه ابن نباته بقصيدة طللية في المعنى، ومن البحر والروي، قال في مطلعها شاكياً متغزلا في رقة:
ما لظبي الحمي إليه التفاته ... بعد ما كدر المشيب حياته
لهج بالهوى وإن نفرت أيـ ... دي الليالي غزاله ومهاته
كلما قيل قد سلا عن فتاة ... عاده الحب فاستجد فتاته
ومنها:
بأبي فاتر اللحاظ غرير ... رام تشبيهه الغزال ففاته
صائل الحسن إن رنا وتثنى ... سل أسيافه وهز قناته
ومنها يخاطبه:
يا مفيد الورى لآلئ بحر ... يعرف الذوق عذبه وفراته
وصل العبيد من قريضك بر ... سر أحبابه وساء عداته. . الخ
وعلى ذكر ابن نباتة نقول إنه كان قد وقع بينه وبين صديقه صلاح الدين الصفدي جفاء، ولعل ذلك بسبب سرقات الصفدي الشعرية من ابن نباتة، والتي جمعها ابن نباتة في كتابه (خبز الشعير). فتعاتبا عتاباً شعرياً قاسياً، وقد ضمن كل منها قصيدته إعجازاً من معلقة امرئ القيس، وسلكاها في نظمها مع توافق في المعاني، حتى لكأنها أصيلة فيه.
قال الصفدي:
أفي كل يوم منك عتب يسوءني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
وترمى على طول المدى متجنياً ... بسهميك في أعشار قلب مقتل(793/35)
فأمسى بليل طال جنح ظلامه ... على بأنواع الهموم ليبتلى. الخ
فقال ابن نباتة متقبلا صافحاً:
فطمت ولائي ثم أقبلت عاتباً ... أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
بروحي ألفاظ تعرض عتبها ... تعرض أثناء الوشاح المفصل
فأحييت وداً كان كالرسم عافياً ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
تعفى رياح العذر منك رقومه لما نسجتها من جنوب وشمائل الخ
وقد بعث الصفدي بعد حين إلى ابن نباتة يستجيزه رواية آثاره الأدبية، فأجازه ابن نباتة وكتب له (إجازة) بعبارة أدبية هي نموذج لنثر هذا العصر.
ومن يقرأ كتاب (الحان السواجع) للصفدي، يجد فيه نماذج عدة للإخوانيات الشعرية في عصره. ودواوين الشعراء فيه ملأى بهذا الضرب الشعري.
ومما يذكر أن الصحبة كانت قد عقدت أواصرها بين ناصر الدين بن البارزي أحد كتاب العصر البارزين، وابن حجة الحموي الشاعر الكاتب الناقد. وبوحي من ابن البارزي نظم ابن حجة بديعته في مدح الرسول عليه السلام. وأبرز في أبياتها ألواناً عدة من البديع، وعارض بها بديعيتي عز الدين الموصلي والصفي الحلي. وكان كلما نظم بيتاً قرأه على صديقه ابن البارزي حتى يصير صالحاً. ولما أنتي ابن حجة من نظم بديعيته، شرحها ووازن بينها وبين بديعيتي الموصلي والحلى، دارساً أنواع البديع مستشهداً عليها بكلام المتقدمين من نثر ونظم موازناً بينها أيضاً، مبيناً مذهب البعض في البديع، متكلما عن شعراء عصره وأدبائه ومذاهبهم فيه أيضاً، وهكذا ترى أن ابن حجة قد ألف كتاباً ممتعاً فيه علم وأدب وتاريخ ونقد، وهو (خزانة الأدب).
وبعد فلعلنا بهذا الحديث الموجز، وبهذه الحوادث المقتضبة ألمعنا إلى الدور الهام الذي أدته العلاقات الإخوانية على مسرح الأدب في العصر المملوكي.
(الإسكندرية)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(793/36)
يا بنت وايزمان. . .
للأستاذ إبراهيم الوائلي
ماذا وراء يا رمال البيد ... أعزيف جن أم زئير أسود؟
دوَّي الفضاء فأي حشد زاحف ... غمر اليفاع، وأي خفق بنود!
دنيا من التاريخ ريع جلالها ... فتنفست عن عدة وعديد
وتحفزت فإذا السرايا طلع ... تطوى الجبال ليومها المشهود
هبت فأية أمة لم يثنها ... ما كان من عسف ومن تهديد
وتفجرت حمما فذوقي بأسها ... يا من عبثت بسلمها المنشود
وتفاءلي بالنحس يا مولودة ... بين القبور فأنت شر وليد
في التيه كان أبوك يفترش الحصا ... ويطوف بين الشوك والجلمود
ويعيش في دنيا الظلام، ولم يكن ... كأبيك أجدر بالليالي السود
وأتيت أنت، وما ضحكت لحادث ... إلا لطيف شبابك المؤود
يا بنت (وايزمان) أي براقش ... أنت التي قوضت كل مشيد؟
هذا المشرد في المفاوز هل له ... غير الصحارى الجرد والصيخود
قذفت به الآفاق شر مطارد ... فأراح بعد الذل والتشريد
واستطعم البلد الكريم فما رأى ... غير النعيم وظله الممدود
فإذا به يسعى ليصبح سيداً ... من لم يعش في الأرض غير مسود!
يا بنت (وايزمان) لم أر طفلة ... إلاك منذرة بشر وعيد
ولدتك في مهد الجحيم سياسة ... شوهاء، ما أشقاك من مولود
هذى القنابل وهي تمطر ثرة ... عن جانبيك وصرخة البارود
والمدفع الضخم المجلجل صوته ... في جنب كل مجلجل عربيد
والزاحفون عليك في هبواتهم ... من كل جبار الجنان عنيد
والطائرات تشق آفاق الدجى ... وتئز صارخة أزيز رعود
وافتك أحنى من عواطف مرضع ... تحميك بين سواعد وزنود
وأتتك من شتى الجهات أنامل ... حمر تداعب منك حمر مهود(793/38)
فترقبي سيل الكتائب عارماً ... أوفى على تاريخك المهدود
واستقبلي زمر الجنود تلاحقت ... غاراتها موصولة بجنود
من كل خواض الدماء إذا ننتخي ... لبس الحديد على أمض حديد
أبناء يثرب والفرات وجلق ... والنيل، يا للزاحفين الصيد
الذائدين عن الديار غزاتها ... والحارسين تراث خير جدود
والقائلين إذا استثيرت عزمة ... للأرض يا ذات الشوامخ ميدي
يا بنت (وايزمان) أية قصة ... خطتك فوق الماء كف بليد!
وخرافة العصر الحديث أما رأوا ... إلاك ضحكة (مجلس) محشود؟
هم قهقهوا فخرجت من أفواههم ... زبداً تناثر فوق (تل) جليد
ماذا لإسرائيل يا لك نبأة ... مكذوبة حتى على التلمود؟!
قد لفقتك عصابة منبوذة ... ما بين مهزوم وبين شريد
وتعهدتك عصائب أمثالها ... من (عابد) ذهباً ومن (معبود)
ألزمرة العجل المجوف يبتنى ... ملك وقد عاشوا أذل عبيد؟
أم للذين تعاهدوا وتحالفوا ... ألا يدينوا باحترام عهود؟!
الغادرين وتلك أم طباعهم ... تصل الطريف بأوليات تليد
لكنه الغرب المدل برأيه ... يملي على حنق وغل حقود
المستعز بقوة ما شوهت ... غير السلام وطيفه المكدود
والحاكم العاتي، ورب مسلط ... يقضي بحكم ليس بالمردود
فإذا العدالة قهقهات معربد ... عبثت بجفنيه ابنة العنقود
وإذا الضمير العالي مطية ... باتت تصرفها شراذم (هود)
يا حاقدين تذكروا تأريخكم ... بالأمس إن الأمس غير بعيد
أيام كان الموت يجثم فوقكم ... والنار في الآفاق ذات وقود
والأرعن المجنون يشعل زيتها ... في الأرض، في الأجواء، فوق البيد
وجراحكم وهي العميقة لم تنل ... لولاه من برء ولا تضميد
لكنه طبع القراصنة الألي ... جبلوا على غدر وكذب وعود(793/39)
هم أرهقونا غاصبين وكبلوا ... أوطاننا بسلاسل وقيود
واستنزفوا منا الدماء فما شفوا ... غلا ولا نقموا حشا المفئود
في كل يوم ألف حر ترتوي ... منه الرمال دماً، وألف شهيد
فى مصر، في بغداد، في سورية ... في المغرب الأقصى وكل صعيد
وعلى فلسطين استفزوا عصبة ... ما بين آفاق وبين طريد
وتآمروا ألا يروها حرة ... تحيا بلا كدر ولا تنكيد
فإذا الحثالة في الظلام يقودها ... للخزي كل مذمم رعديد
وإذا الخناجر لم تجد غمداً سوى ... أحشاء مرضعة ونحر وليد
وب (دير ياسين) وأي جريمة ... كان الجزاء لها ب (دير سنيد)
وحشية لو أنها من مخلب ... هانت ولكن من أكف قرود
يا مشرق التأريخ لست بمشرق ... أضفى على التاريخ كل عتيد
إن لم تثر كالنار شب ضرامها ... وتصاعدت حمراء بعد خمود
وتهب كالريح الغضوب تنفست ... واستيقظت هوجاء بعد ركود
فالصمت طال بنا وخزي أن نرى ... عبث السنين بمجدنا المفقود
عمرت ميادين النضال وحان أن ... تهتز دنيا الشرق بعد همود
أرض السلام وما شجيت لموطن ... إلاك أو ذوبت فيه نشيدي
إن طال ليلك عابساً فترقبي ... بسمات فجر في الظلام جديد
(القاهرة)
إبراهيم الوائلي(793/40)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
كرسي شوقي:
كتب الأستاذ توفيق الحكيم في العدد الأخير من (أخبار اليوم) مقالاً بعنوان (كرسي شوقي) بين فيه أهمية إنشاء كرسي في الجامعة للمغفور له أحمد شوقي بك، واستحث أولى الأمر أن ينفذوا القرار القاضي بإنشاء هذا الكرسي في جامعة فؤاد والذي اتخذ من قبل ولم ينفذ إلى الآن. ثم تساءل عمن يصلح للتعين في هذا الكرسي، ورأي (أن الاختيار يجب أن يكون في نطاق أساتذة من خارج الجامعة، لما في هذا الكرسي من لون خاص يحتاج إلى أسلوب خاص في البحث والتدريس) ثم قال: (ما هداني البحث إلا إلى رجل واحد اجتمع له كل ما يراد من صفات، هو الأستاذ أحمد حسن الزيات، فهو قد اشتغل طويلا بتدريس الأدب العربي في مصر وخارجها، وله بشوقي معرفة، وهو أديب كبير ذواقة للشعر والنثر، حام وحارس للبلاغة، ومؤلف تاريخ الأدب العربي في مجلدات لا تخلو منها مدرسة ولا يستغني عنها مدرس، وله بعد من طول الباع ورسوخ القدم، والرغبة في البحث والدأب على الاستقصاء، ما يجعل لهذا الكرسي قدراً ويكفل له مقاماً في المحيط الفكري والأدبي في مصر والبلاد العربية).
وهذا الذي يشير به الأستاذ الحكيم من اختيار أستاذ من خارج الجامعة لم يحدث بعد عندنا، فلا تزال الجامعة قاصرة أمرها على أساتذتها، ولست ادري هل فكرت في الانتفاع بأعلام الأساتذة (غير الرسميين) أو لم تخطر لها هذه الفكرة بعد؟ والواقع أن هؤلاء الأعلام أساتذة في جامعة ليس لها مكان محدود ولا نظام موضوع.
وهي تضم طلبة من خريجي الجامعات الرسمية النظامية وغيرهم، وهم يبلغون فيها ما توجه إليه الجامعات والمعاهد. . . وسم هذه الجامعة إن شئت بما تشاء من الأسماء، وحسبي أن أقول إن أساتذتها هم هؤلاء الأعلام الذين يقرئهم الناس في الكتب والصحف والمجلات.
فهل تقبل الجامعة الرسمية أن تتعاون مع هذه الجامعة التي قدمت صفتها دون تسميتها، فتندب بعض أساتذتها ولو على سبيل (التطعيم) لكرسي شوقي ولغيره. . .؟(793/41)
أما كرسي شوقي فالأليق به خاصة أستاذ من خارج الجامعة، لأن شوقي نفسه من خارجها، وقد كان من أساتذة (الجامعة العامة) إن راقك هذا الاسم. . . فمن التناسق أن يكون أستاذ كرسيه من لونه.
اللغة العربية في هيئة الأمم:
أذاعت وكالة الأنباء العربية من لندن أن الأوساط العربية هناك لم تقابل بالارتياح النبأ الوارد من القاهرة بأن الدول العربية ستطلب قبول اللغة العربية لغة رسمية في هيئة الأمم المتحدة، وأرجعت عدم الارتياح هذا إلى أمرين: الأول أن (مساومة الكتلات) لبلوغ هذه الغاية ستضعف من مقدرة العرب على المساومة في مسائل أهم من ذلك. والأمر الثاني أنه لو تركت جانباً مسألة الكبرياء والزهو القومي، فالمعروف أن مندوبي العرب يجيدون اللغات المتداولة في هيئة الأمم، فإذا تحدثوا بالعربية فلن يكون لسماع خطبهم مترجمة الأثر الذي تحدثه براعتهم في الإنجليزية أو الفرنسية.
والأمران كلاهما لغو وكلام فارغ. . . فادخار الجهد من مساومة لمساومة عجز وكسل، على أن ظفر العرب بقبول لغتهم رسمية في هيئة الأمم يقوى مركزهم الأدبي فيها، وليست مسألة الكبرياء والزهو القومي مما يترك جانباً، فإن لها أثراً نفسياً في استشعار العرب عزتهم وكرامتهم ومواصلة كفاحهم، ولها نفس الأثر في نظر مندوبي الغرب إلى العرب نظرة الند إلى الند، لا نظرة المتسلط إلى الضارع. ومن هنا ينعكس الأمر كما يقدره أولئك المقدرون، فتسهل المساومة في المسائل الأخرى.
وما دامت المسألة مساومات وكتلات فماذا تجدي البراعة في الإنجليزية أو الفرنسية التي يقال إنها ستفقد في الترجمة؟ إن مندوب روسيا - مثلا - يتحدث بالروسية في هيئة الأمم، وينام سائر المندوبين حتى ينتهي، ثم يترجم كلامه (فاقداً) البراعة. . . فهل تخسر روسيا بذلك شيئاً؟ وهل يفوتها غنم من غنائم أهل البراعة؟
إذن دعوا العربية تسير، فلن تعوق إن لم تبلغ، وإذا خسرنا الإنصاف من ذئاب الغرب وكسبنا الكبرياء والزهور القومي فلم نخسر شيئاً، لأن الشعور بالكبرياء والزهو سيعيننا على انتزاع الإنصاف منهم بغير الخطابة والبراعة.
نزهة إذاعية:(793/42)
قرر مجلس الإذاعة الأعلى في اجتماعه المنعقد يوم الأربعاء الماضي، إيفاد كل من محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة، وكريم ثابت بك مستشارها، لحضور مؤتمر الإذاعة الذي سيعقد بإيطاليا فيما بين 14 و19 سبتمبر الحالي، وزيارة محطات الإذاعة في إنجلترا وفرنسا وسويسرا، لاقتباس النظم التي تلائم الإذاعة في مصر.
وفي هذا القرار مسألتان: الأولى حضور المدير والمستشار المؤتمر، وليست هذه المسألة بدعا، فما أكثر المؤتمرات، وما أكثر من يوفدون إليها من كبار الموظفين، وما أكثر ما تنفقه الحكومة في هذا السبيل! وليس يذهب كل ذلك سدى. . . فإن لم تظهر له نتائج عملية فيكفي أن يتمتع حضرات المندوبين بالرحلات، وأن يستجموا، كي يواصلوا بعد عودتهم جلائل الأعمال.
أما المسألة الثانية التي يشتمل عليها ذلك القرار، فهي زيارة المدير العام للإذاعة ومستشارها محطات الإذاعة بالبلاد المذكورة. وتستلزم هذه الزيارة طبعا السفر إلى تلك البلاد والتنقل بينها والإقامة في كل منها أياماً أو أسابيع. وسينفقان في كل ذلك مبلغاً من المال لا بد أن يكون كبيراً، تصرفه خزانة الإذاعة دون أن تصطنع في صفه ما تصطنعه في أجور الفنانين والمحدثين بها من التمهل والإبطاء.
والغاية من هذه الرحلة الطويلة الباهظة، اقتباس النظم التي تلائم الإذاعة في مصر، كما يقول القرار، فالغرض لا يتعلق بالناحية الهندسية الفنية الآلية، وإلا كان من يوفد غير المدير والمستشار، واستحق الأمر أن ينتقل الوفد من مصر إلى تلك البلاد؛ وإنما يتعلق الغرض بالبرامج، والبرامج يمكن سماعها في مصر واقتباس ما يلائم مصر منها، فلم إذن زيارة محطات الإذاعة؟ الوقوف على نظام الحجرات والمكاتب بها، أم للاطلاع على أصول ما يذاع. .؟
على أن الأستاذ محمد قاسم بك رجل كبير ممدود له في الخدمة بعد سن المعاش، أفلا ينبغي أن يستبدل به من يمكن أن يستفاد منه طويلا بعد أداء هذه (المهمة) إن صح أنها مهمة. . .؟
أو لست ترى في هذه الزيارة عدم اعتراف بالعمل الإذاعي من حيث أن الغرض منه أن ينقل إليك كل شئ في مكانك، ولا يجشمك أن تنتقل إلى مكانه؟!.(793/43)
للدولة شخصيتان في الأدب والفن:
قال محدثي: أتعلم لم فازت قصة (البغل والإبريق) التي ذكرت شيئاً من أمرها، بالجائزة الأولى في مسابقة القصة بمهرجان الشباب؟
- أثمت شيء غير تقدير المحكمين لها؟
- هو تقدير المحكمين طبعاً، ولكن دخل في هذا التقدير عنصر آخر غير قيمة القصة الفنية، فلم تكن أحسن قصة قدمت على الإطلاق، وإنما رأتها اللجنة خير القصص الخالية من (فتاة الحب).
لم أكن في حاجة إلى المزيد لأدرك ما يرمي إليه محدثي، فمهرجان الشباب الأدبي نظمته وزارة المعارف، فهي أذن تحرص على الوقار والاحتشام في هذه المسابقات الأدبية، كما تحرص عليهما فيما يقدم إلى التلاميذ في المدارس من نصوص الأدب، فالمتبع في اختيار هذه النصوص أن تكون من أغراض غير الغزل كالمدح والرثاء والفخر والحكم والأمثال، وإن كان الحال قد تغير قليلا في السنوات الأخيرة إذ صار بعض الأساتذة لا يجد بأساً في قطع من الغزل (المعتدل) يجتذب بها التلاميذ ويحببهم في الأدب، ويسري عنهم عناء الحكم والأمثال والنصائح وما إليها.
جال هذا بخاطري على أثر ذلك الحديث. ثم قلت في نفسي: إن بعض المعاهد التي تشرف عليها وزارة المعارف، تقيم في بعض الأحيان حفلات عامة فيها تمثيل وغناء ورقص، وفي بعض هذه الفنون يختلط الفتيان والفتيات، وقد تقتضي الحال تمثيل الحب. ووزارة الشؤون الاجتماعية تشرف على المسرح والسينما والإذاعة وتكاد هذه الثلاثة تقوم على الحب من تمثيل وغناء ورقص، وكثيراً ما يكون فيها الحب الذي هو أكثر من الحب! والوزارتان تشتركان في استقدام الراقصات من أوربا كفتيات (الباليه) للتمثيل والرقص على مسرح الأوبرا.
ثم قلت في نفسي أيضاً: يا عجباً! للدولة شخصيتان، إحداهما متزمتة وقور والأخرى عصرية (اسبور)؟ ولم كانت الأولى من قسمة الأدب وظفر بالثانية سائر الفنون؟ قد يكون ذلك من طبيعة المشرفين على الأدب في الوزارة ومن طبيعة المشرفين على الفنون الأخرى في الحكومة وفي خارج الحكومة.(793/44)
ولكن ألا ترى أن الأدب أولى بالشخصية الثانية، فهو كلام، وجوه أكثر أمناً من غيره، وقد كان بعض أسلافنا الذين لم يدركوا اختراع كلمة (الصدق الفني) يتغزلون ويصفون الحسان ويقولون في الخمر (غير ما قال مالك) ويصفون فعليها بالنفوس، ولم يذق أحد منهم طعماً للحب أو للخمر. ولم ينكر عليهم أحد ما يقولون، بل كان منهم من يعد من الفقهاء والصالحين. أما الفنون الأخرى غير الأدب وخاصة التمثيل فالحب فيها عملي. والأدب لا يفهمه إلا الكبار (العقلاء) أما المسرح والسينما والإذاعة فهي في متناول الجميع من صغار وكبار، وخاصة الإذاعة، فهي لا يمكن المنع منها، وهي تقتحم كل بيت بكل بذئ من الأغاني و (المنلوجات) لا بالتعبير عن العواطف المهذبة فقط، وفي جملة من يسمعها التلاميذ والتلميذات الذين تحرص وزارة المعارف على (وقايتهم) من الحب في الأدب.
فهل ترضى الدولة بما ينطبق عليها من (تعدد الشخصية أو ترى تراجع نفسها لتتلافى هذا التعدد؟.
اللجنة الثقافية بلبنان:
بدأت اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية اجتماعاتها يوم 28 أغسطس الماضي في بحمدون بلبنان. وقد عقدت إلى وقت كتابة هذا أربع جلسات نظرت فيها في مسائل هامة وانتهت فيها إلى قرارات، ولا تزال توالي اجتماعاتها لنظر بقية المسائل.
ومما نظرت فيه شؤون الإذاعة والسينما الثقافية، فقررت توصية مجلس الجامعة بمشروع إنشاء محطة إذاعة عربية كبرى، وتقوية الإذاعات الحالية ريثما يتم تنفيذ المشروع، كما تقرر الدعوة إلى عقد مؤتمر لمديري محطات الإذاعة للبحث في أنجح الوسائل التي تكفل تنسيق البرامج الثقافية العربية المشتركة وتنظيمها. وتقرر أيضاً الدعوة إلى مؤتمر للخبراء الفنيين في السينما للبحث في ترقية السينما العربية وإنتاج أفلام دعاية للبلاد العربية في الخارج وقد اشتكى الأعضاء من أن الأفلام العربية ليست في المستوى الراقي الذي ينشد منها وأنها تنافي أحياناً الأخلاق العامة والمبادئ القومية ورجوا توصية الحكومات العربية لإصلاح هذا النقص.
وقررت اللجنة تنظيم مهرجان حافل يقام في أجدى العواصم العربية تخليداً لذكرى ابن سينا، ووضعت برنامجاً لتنظيم هذا المهرجان، وقررت تأليف لجنة لنشر آثار ابن سينا،(793/45)
كما قررت إنشاء مؤسسة علمية تذكارية يطلق عليها اسم الفيلسوف العظيم لتخليد ذكراه.
ونظرت اللجنة قضية الأساتذة والطلاب ورجال الفكر الفلسطينيين، واتخذت فيها قرارات هامة ستعرض على الجهات المختصة لإقرارها. ومما تضمنته توصية الدول العربية لاستخدام الأساتذة الفلسطينيين الفنيين، وقبول الطلاب الفلسطينيين بالمجان في معاهد الحكومات العربية، وفتح مدارس في الأماكن التي يكثر فيها الفلسطينيون خارج فلسطين؛ وقررت أن تطلب إلى اللجنة السياسية العمل على تأمين النفقات للطلاب الفلسطينيين في أوربا وأمريكا.
عباس خضر(793/46)
البَريُد الأدَبيَ
المفعول معه، وواو المعية:
كتب الأستاذ عبد الستار فراج كلمة حول (واو المعية، والمفعول معه) أورد فيها أموراً في حاجة إلى المناقشة.
1 - قال في مقام الاستشهاد على إفادة الواو معنى مع. أن قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان) أنهم تبوءوا الدار مع الإيمان.
وقد أورد الصبان في حاشيته على الأشموني هذا الشاهد، لكن النسفي فسره بقوله و (أخلصوا) الإيمان يعني بتقدير فعل مناسب كقوله:
(علفتها تبناً وماء بارداً) يشير بهذا إلى أن ما بعد الواو لا يصح اشتراكه في الحكم (الحدث) مع ما قبلها لاختلاف المدلول.
وقد سار على ذلك التأويل الفراء والفارس، وأما المازني، والمبرد وأبو عبيدة، والأصمعي، واليزيدي؛ فقد قدروا فعلا يصح انصبابه عليهما وهو (أنلت).
وعلى القولين يمكن تخريج الآية بأن (الإيمان) إما أن يكون منصوباً (يلزموا)، أو (ألفوا وأخلصوا)؛ فسياق الأستاذ بعيد عن الدقة لأن الواو تقتضي معاني متعددة؛ فهي تفيد الاشتراك، أو المعية، أو الدلالة على العطف من دون تأويل، أو بقاءها مع حذف المعطوف عليه لاختصاصها هي والفاء العاطفة به.
2 - غير أننا حين نفارق بين واو العطف، وواو المعية يلزمنا التقريب إلى إيضاح مرادنا في صورة بينة، ونحن نظاهره على نقده تعريف المفعول معه، لكن الأمثلة توضح القاعدة وتحدد معا هي الألفاظ الاصطلاحية. فنقول لتلاميذنا في (خرجت والأصيل، وسرت والشاطئ، واستذكرت والمصباح): إن ما بعد الواو لا يصح أن يقع منه الحدث، إذ الأصيل لا يخرج، والشاطئ لا يسير، والمصباح لا يستذكر، وإنما حصلت الأحداث مقارنة لهذه الأشياء، وبهذا الأسلوب الإفهامي نستدني القاعدة إلى الأفهام!.
3 - قال: إنه يحيل قول الشاعر: (لا تنه عن خلق وتأتي مثله إلى الحال، وقد تجوز في رأيه تجوزاً بعيداً، فقد فرق (الرضى) بين واو الحال، واو العطف، واو المعية بما يفيد أنهم - أعني النحاة - لما قصدوا معنى المصاحبة نصبوا المضارع بعدها ليكون السياق مرشداً(793/47)
في أول الأمر إلى أن الواو ليست للعطف، أما واو الحال - وأكثر دخولها على الاسمية -؛ فالمضارع بعدها في تقدير مبتدأ محذوف الخبر وجوباً، فمعنى (قم وأقوم): وقيامي ثابت.
على أن الطلب: (ما يتوقف تحقق مدلوله على النطق به)؛ فكأن بينه وبين ما بعده ارتباطاً فيه ترتب حكم؛ فالنهي عن الخلق مرتبط بملابسه فعله - أما جملة الحال؛ فيقصد منها الكشف أو بيان الهيئة فإذا قلت: (لا تقع في اللبس وأنت غلطان) كان المعنى النهي عن الوقوع في اللبس في حال الغلط؛ فقد يقع اللبس سهواً على خلاف (لا تقع في اللبس وتغلط)؛ فإنه يقتضي النهي عن وقوعهما أو وقوع اللبس وحده مع ملابسة الغلط.
وبعد؛ فهذا ما بدا لنا سقناه للعلم والحق - على قدر ما نعلم - (وفوق كل ذي علم عليم)!
أحمد عبد اللطيف بدر المدرس ببور سعيد
هاأنذا:
اشتهر بين المتأدبين أن الضمير المسبوق بها التنبيه يخبر عنه وجوباً باسم الإشارة الذي يناسبه، ومثاله قول الله تعالى: (هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا) وقوله جل وعلا: (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم). وقول الشاعر:
إن الفتى من يقول هاأنذا ... ليس الفتى من يقول: كان أبي
وقد غلا كثير منهم في تطبيق هذا الحكم غلواً كثيراً؛ مع تخلفه في مواطن شتى من كلام البلغاء والعلماء الذين يقتدي برأيهم؛ كالعلامة (ابن هشام) فإنه أورد هذه القاعدة في (المغنى) ولكنه جريا وراء فطرته فرقَّ بين ما يجب فيه ذلك وما لا يجب فقال في مقدمة الكتاب قوله (وهاأنا بائح بما أسررته) بدون أن يخبر باسم الإشارة؛ وقال (البحتري) وهو من هو في صفاء الأسلوب:
ها هو الشيب لائماً فأفيقي ... واتركيه إن كان غير مفيق
ولا يمكن وقوع (البحتري) في هذا الخطأ إن كان الحكم السابق مطرداً في جميع الأحوال؛ والحق أن النحاة لم يوجبوه ولكن كثيراً من الواقفين على شاطئ العلوم لا يفرقون بين أسلوب وأسلوب، ولا يتعمقون المباحث العلمية حتى يقفوا على أسرارها، فيقضوا في الأمور على بينة، وإني - ولا أزكي نفسي - أستطيع أن أعرض على القارئ ما أراه سبباً(793/48)
لتخلف هذه القاعدة في بعض الحالات؛ يبدو لي أن الأساليب المقرونة بالتحدي هي التي لا تخلو من أسماء الإشارة؛ فالآيتان الكريمتان فيهما إنكار شديد، وعتاب لاذع للمؤمنين الذين لا يزالون يجادلون عن المنافقين وأمثالهم، والذين لا يزالون يوادونهم ويحبونهم مع استبانة البغضاء في أفواههم، وتماديهم في معاندة الإسلام والكيد للمسلمين؛ ولما كان هذا اللوم شديداً على نفوس المؤمنين ومظنة لمحاولة التنصل منه حسن الإخبار باسم الإشارة زيادة في تصوير موجب اللوم حتى كأنه مصور محس لا يمكن التنصل منه؛ وكذلك الشأن في البيت فإن معنى التحدي واضح فيه كل الوضوح. (وزيادة في الفائدة يحسن الإشارة إلى أن بعض المفسرين يعتبر اسم الإشارة في الآيتين منادى مع حذف حرف النداء). ثم نرجع إلى صميم البحث فنقول: أما إذا خلا الكلام من معنى التحدي فقد حسن (أو جاز على الأقل) تجريد الكلام من اسم الإشارة؛ وبهذا يكون (البحتري) على العهد به في تفهم مقتضى الحال، والإتيان بما يطابقه من الكلام، فيكون كلامه جارياً على سجيته: من الجودة والرصانة، كما كانت الآيتان الكريمتان في الذروة من البلاغة لأنهما طابقتا كل المطابقة مقتضى الحال.
(الإسكندرية)
محمود البشبيشي
كتاب مفتوح إلى صاحب الفضيلة الشيخ أحمد محمد آل شاكر
كنا عند ظهور كتاب الأغلال لعبد الله القصيمي وتداول آراء بعض العلماء فيه ننتظر رأي فضيلة الشيخ أحمد بن محمد آل شاكر إلا أن فضيلته لأمر لا ندريه، تذرع بالصمت ولم ينبس ببنت شفه في أغلال القصيمي والآن بمناسبة ظهور رد جديد على الأغلال نفسها من الشيخ محمد بن عبد الرزاق آل حمزة ومقدمة من الأستاذ الغمراوي نرى أن الفراغ لا يزال موجوداً لم يسد ولا يصلح ولن يصلح لسد هذا الفراغ إلا كلمة فضيلة الشيخ الشاكر فيه إذ لا يدعى للجلي إلا أخوها. وعليه نرجو في إلحاح من فضيلة الشيخ الشاكر بيان رأيه الثاقب وكلمة العلم في الموضوع وله من الله الأجر والمثوبة، ومنا طلبة العلم الشكر الجزيل وإنا لكلمته منتظرون.(793/49)
(الرياض)
عبد الرحمن بن سلوم(793/50)
الكُتبُ
فنون الإسلام
نقد ودراسة
للدكتور أحمد موسى
تفضل الدكتور زكي محمد حسن وكيل كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول وأستاذ الآثار الإسلامية فيها، فأهدى إلى نسخة من كتابه (فنون الإسلام) وهو الكتاب الذي بدا لي عندما قلبت صفحاته أنه ليس من الكتب التي يسهل درسها ونقدها في وقت قصير، مما ألزمني التأني في قراءته بإمعان يتناسب مع قيمته وخطره!
والحق أشهد أنى وجدت في الكتاب كل ما تصبو إليه نفس القارئ من المتعة والتثقيف الفني، أما المتعة فلأنه تناول تاريخ فنون الإسلام ونشوئها وتطورها من أقدم عصورها حتى آخر عصر النهضة الأوربية، وهو موضوع يلذ لكل قارئ الاطلاع عليه، وأما التثقيف فلأنه حافل زاخر بدراسة محيطة لهذا الموضوع العظيم الشأن من جميع نواحيه، في أسلوب الأديب، فجاء بعيداً عن الجفاف العلمي الخالص، مع توافر أصوله في كل صفحة من صفحاته، مما جعل منه مرجعاً لكل باحث.
والأستاذ الدكتور زكى غنى عن التعريف إلا أنه يهم القارئ أن يعلم أن مؤلف الكتاب (الذي بين أيدينا) حائز على دبلوم الآثار الشرقية والإسلامية من مدرسة اللوفر، ودبلوم اللغة الفارسية من مدرسة اللغات الشرقية بباريس، فضلاً عن أنه حائز على ليسانس الآداب من الجامعة المصرية ودكتوراه الآداب من السربون.
أما من حيث الناحية العملية فقد كلن مساعداً علمياً بمتحف برلين كما كان أميناً لدار الآثار العربية بالقاهرة، وهو بهذا وبما سبق له تأليفه من كتب في الفن الإسلامي يدفع بالقارئ لكتابه إلى الاطمئنان الكامل.
ولا أبالغ في القول بأنه لولا مؤلفه المذكور وما سبقه من مؤلفاته لكان ما أخرج للناس في لغتنا العربية خاصاً بالفن الإسلامي قليلا ضئيل النفع، ولعل مما يؤيد هذا، المراجع التي ذكرها في ذيل كتابه والتي بلغت 270 مرجعاً بالألمانية والإنجليزية والفرنسية، اللهم إلا(793/51)
تسعة عشر مرجعاً جاءت باللغة العربية معظمها في موضوعين اثنين هما العمارة والخزف، أما ما تبقى بعد ذلك من الموضوعات فلا توجد له مراجع معتبرة في اللغة العربية.
ولسنا في مجال البحث عن الأسباب التي أدت إلى الركود العجيب في الدراسات الفنية بالبلاد الشرقية عموماً وبمصر على وجه الخصوص.
على أن هذا لا يمنع من أن أذكر أنه قد ظهرت بضعة مؤلفات باللغة العربية عدا تلك التي جاء ذكرها ضمن مراجع الدكتور زكى، كان مؤلفوها من غير المتخصصين، فكانت كتاباتهم لا تخرج عن محاولات، فضلاً عن ظهورها في عالم المطبوعات، في وقت كان إقبال الناس فيه على دراسة الفن ومعرفة أسراره ضئيلاً يكاد يكون معدوماً.
ولما كانت مهمة تاريخ الفن هي الاستعراض العلمي لنشوئه وتطوره وارتقائه وأثره، على أساس التاريخ العام مع تطبيق أصول علوم أخرى، ولما كان الأسلوب العلمي في التاريخ العام هو تقسيمه إلى الأقسام الثلاثة المعروفة بالقديم والمتوسط والحديث، فإن تاريخ الفن مع كونه استعراضاً لنشوء الفن وتطوره وأثره كما ذكرت، يخضع لنفس القاعدة بغية التبسيط، ولإيجاد الرابطة الوثيقة بين التاريخ العام وتاريخ الفن، على اعتبار الإنتاج الفني مقياس الحضارات الصادق.
هذا بيان يدفع بى إلى الخروج عن موضوع الكتاب؛ فأذكر شيئاً عن تاريخ العلوم والفنون الإسلامية عند الغربيين وعن الدوافع التي حفزتهم إلى العمل في هذا المجال الفسيح.
فعندما قصد رجال كنيسة روما نشر الديانة المسيحية بين شعوب آسيا وأوربا وشمال أفريقية رأوا أنه لامناص من معرفة لغات هذه الشعوب لأنها المفتاح الأوحد إلى قلوبهم، فتجد أنه لم ينتصف القرن الثالث عشر الميلادي حتى كان البابا (اينوسنس) قد أصدر أمره بإنشاء كراسي (جامعية) لتعليم اللغة العربية، وهو الأمر الذي حافظ على تنفيذه (كليمنس) الرابع و (هونوريوس) الرابع. أما في عهد (كليمنس) الخامس، فقد تقرر في المؤتمر الكنسي بمدينة فيينا إعداد معلمين لتدريس اللغة العربية في كل من روما وباريس وأكسفورد وبولونا وسلامنكا كطريق إلى غزو الشرق بما فيه من الكنوز العلمية والأدبية والفنية وغيرها، وتطور الحال فلم تقتصر هذه العناية على معرفة اللغة العربية لذاتها، بل(793/52)
ازداد الاهتمام بمعرفة أسسها وإدراك ما كتب بها من مؤلفات في مختلف العلوم والفنون، لا للدرس والمعرفة فحسب؛ بل كذلك للاستيلاء على تلك المؤلفات نفسها كلما سنحت الفرصة؛ وهى المؤلفات التي ترجمها العرب عن الأغارقة وغيرهم عدا ما ألفوه، لكي يتمكن العقل الأوربي من الوقوف على مصدر حضارة العرب، وعلى ما تركه أرسطو وغيره من رجال المدرسة الأثينية والسكندرية من المؤلفات الزاخرة بالمادة العلمية للإفادة منها جميعاً.
وهكذا انتهى الأمر بظهور الكثير من الكتب القيمة باللغة اللاتينية أصلها عربي من تأليف علماء المسلمين ومن اشتغل إلى جانبهم من الشرقيين خلال القرون الوسطى الزاهرة في تاريخ الإسلام.
وجاء دور الانقلاب الديني في أوربا، وأهم ما يعنينا من آثاره انتشار الدراسات الشرقية وزيادة العناية بمعرفة اللغة العربية عندما كان (علم التفسير) من العلوم التي ترجع في أصولها إلى المصادر الشرقية لإيضاح نصوص الكتاب المقدس.
هذا إلى جانب الدور الخطير الذي لعبته البعثات التبشيرية الكاثوليكية لنشر المبادئ المسيحية في الشرق، فخصص البابا (أربان) الثامن في عام 1627 لبعثة الدعاية الدينية فريقاً من رجال اللاهوت لدراسة اللغات الشرقية وفى مقدمتها اللغة العربية.
وصفوة القول أن الدراسة العلمية السليمة لهذه اللغات وعلى رأسها لغة الضاد لم تبدأ إلا منذ منتصف القرن الثامن عشر بعدما خرجت عن نطاق الكنيسة ودخلت في نطاق الاستعمار المنظم، فنذكر وليم جونز الإنجليزي الذي وجه نظر بلاده (بلغة السياسة) إلى الدراسات الشرقية وما ينتظر من ورائها من فوائد، وذلك في مقاله الافتتاحي بمناسبة إنشاء الجمعية الأسيوية في عام 1784، كما نذكر سلفستر دي ساسي صاحب المجهودات البارزة للانتفاع بالمؤلفات العربية وكتاب العرب!
وإذا كانت الدراسات الشرقية في مختلف العلوم قد سارت على غير نشاط متشابه نتيجة الاهتمام بفروع منها دون الأخرى؛ فإن فجر القرن التاسع عشر قد عرف بأنه فجر النشاط الشامل لمختلف نواحي تلك الدراسات، فبدأ التخصص يظهر في أفق العلم ولا سيما بعد تأسيس الجمعيات العلمية في كل دولة من الدول العظمى التي اهتمت بالشرق، فنجد جمعية(793/53)
العلوم الشرقية الألمانية تأسست في سنة 1845 بمدينة ليبزج، ومعهد اللغات الشرقية ومدرستها في سنة 1887 ببرلين، على حين تأسست جمعية فيينا قبل ذلك باسم الأكاديمية الشرقية، أما في باريس فقد عرفت باسم وعدا هذه جمعيات لندن وبطرسبرج وغيرهما.
كل هذا من أجل الشرق بما حواه، ولم تكن هناك وسيلة لغزوه أفعل من وسيلة العلم، فلن تجد في أوربا من ينكر الخير العميم الذي جاء كالغيث على أهل أوربا نتيجة لتأسيس تلك الجمعيات التي هب الكثيرون من أعضائها للرحيل إلى الشرق للدرس الجامع الشامل والقيام بأعمال الحفر الأثرى استكمالاً لما شاهدوه منها ظاهراً يسحر الألباب!
ولهذا فلا عجب عند ما نجد كل المراجع الحديثة ذات القيمة العلمية في البحوث الشرقية والإسلامية باللغات الأوربية.
ولكن الموضوع لا يقف عند هذا الحد، إذ اتضح بعد وضع المؤلفات عن الشرق وما فيه افتقارها إلى الأسلوب العلمي الذي لا يكون إلا بالتخصص، ولما كانت هذه المؤلفات قد اشتملت ضمناً على التراث الفني المجيد، وفيه مجال فسيح الأفق لا يصل إلا الدارس، رأينا هؤلاء الأوربيين يعطون القوس باريها!
وهنا أراني مضطراً مرة أخرى إلى التعريج على قصة تاريخ الفن مادمنا في معرض الكلام عن (فنون الإسلام):
فقد بدأ الكاتب الروماني بلينيوس كتابه عن الفن وتاريخه (في العصر القديم) في القرن الأول المسيحي، ووضع الكاتب الإغريقي بوزانياس في النصف الثاني من القرن الثاني المسيحي كتابه الشامل لبيانات وأوصاف وإيضاحات فنية نافعة كانت بأسلوب أقرب إلى السرد منه إلى النقد.
ولم يكن الأسلوب مختلفاً عن ذلك كثيراً في القرون الوسطى فلم يكن ما كتب يزيد عن وصف عام للعمائر، وإيضاح لما استنفد في إنشائها من مجهود.
وقد ظهرت بعدئذ كتب في تاريخ الفن العام في ثوب علمي نتيجة لإقبال الناس على مؤلفات الأقدمين ودراسة آثارهم والنقل عنهم، فقام فريق من أهل العلم بتفسير ما حرره فيتروفيوس، على حين اشتغل فرق آخر بتسجيل الكتابات والنقوش التي وجدت على كثير(793/54)
من الآثار مع تفسيرات وشروح.
ومهما يكن نوع هذه المجهودات والطريقة التي سار عليها أصحابها، فإنه لا يمكننا أن نرجع المحاولات الصائبة في مضمار تاريخ الفن إلى أبعد من القرن السادس عشر، عندما كتب لأول مرة المؤرخ اللاتيني (فاسارى) الذي تتلمذ في الفن على ميكلانجلو؛ والذى يعد بحق إمام مؤرخي الفن، كتابه القيم الذي حوى تراجم مفيدة لرجال الفن في إيطاليا.
وهناك مؤلفات جديرة بالذكر، منها كتاب (المشاهدات) لكارل فان ماندر، وكتاب أكاديمية العمارة والنحت والتصوير ليواخيم فينكلمان مؤسس علم الأركيولوجيا سنة 1745 وجاء بعد هؤلاء كثيرون لا يتسع المقام لذكرهم.
إلى هذا الحين كانت كل المجهودات فردية، كلما كان اتجاه كل مؤلف اتجاهاً خاصاً ولفن بعينه، فكان الراغب في المعرفة الفنية العامة لا يستطيع الوصول إلى بغيته، حتى آن الأوان وتكاتف فريق من علماء الألمان كسابق تكاتفهم في مضمار تاريخ الفلسفة وغيرها - على إخراج مؤلف شامل، فظهر في الأفق كتاب (شنازه) وبعده بقليل كتاب (لوبكة) وبعده كتاب عظيم الشأن هو (تاريخ الفن العام) لمؤلفه أنطوان شبرنجر، والذي يطبع حتى اليوم بإضافات مستمرة في مجلدات ستة تعتبر مرجعاً طيباً لكل مؤرخ فني.
وقسموا كتبهم التي أخرجوها في مجلدات إلى عصور، والعصور إلى مراحل، ووزعت المراحل على الشعوب توزيعاً جغرافياً حرصاً على استبقاء آثار التجاور وتشابه الأجواء والبيئات على الإنتاج الفني فضلا عن سهولة التناول، فجاءت المؤلفات ومنها ما يخص الفن القديم من شرقي وغربي، فمصر وبابل وآشور والعراق والفرس والهند والصين في كفة، والإغريق والرومان في كفة أخرى.
وهكذا كان التقسيم لفن العصر المتوسط ولفن العصر الحديث من حيث المنهج والأسلوب الدراسي.
هذا إلى جانب تقسيم الإنتاج الفني نفسه إلى عمارة ونحت وتصوير وفنون رفيعة الخ.
وظل البحث الفني في تقدم مستمر بتقدم أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار إلى جانب ترميم وإصلاح العمائر والمباني من كنائس وقصور ومساجد الخ، فوجدنا كتباً عن فن قائم بذاته كالفن الإغريقي وحده، كما وجدنا مجلدات تخص فن النحت دون سواه. ولم تقف الحال عند(793/55)
هذا، بل ترى فريقاً من عشاق الفن وقد اشتغل بتأريخ حياة مثال بعينه؛ فتجد بحثاً قائماً بذاته عن فيدياس مثلا.
أما التقدم في إخراج هذه الكتب فكان من ثلاث نواح، الأولى أن تأليفها كان مبنياً على أصول البحث العلمي وما يحتاج إليه هذا من الإفاضة في الموازنة والمقارنة، وفي ذكر المراجع والمصادر عند عرض رأي من الآراء الفنية أو مناقشته، والثانية تزويدها بالصور الفوتوغرافية القيمة التي أماطت اللثام عن كثير من الدقائق التي لا يمكن فحصها في مكانها الأصلي، إلى جانب تكاليف السفر ومشقته وما يستنفده من وقت ومجهود، والثالثة تقدم فن الطباعة تقدماً عجيباً جعل في الإمكان الجمع بين لوازم العلم من ناحية تنويع حروف الطباعة لملاءمة البحث وتمييز فصوله وأبوابه، وتلوين الأشكال والصور بألوان تحاكي الأصل - وبين الدقة والعناية، بل والأناقة في الإخراج، فأصبحت كتب الفن في كل من أوربا وأمريكا أنموذجاً للكمال.
هذا إلى جانب ما أخرج للراغبين من معاجم ودوائر معارف وموسوعات ومجلات ونشرات وتقارير سنوية وغير سنوية للدراسات والاكتشافات الفنية والأثرية وأصول النقد الفني والتقدم في النقد المقارن.
كانت كل هذه المجهودات تسير قدماً ونحن في نوم عميق! على أن هذا النوم العميق لم يمنع من ظهور بعض الكتب المترجمة عن الفن المصري حيناً وعن الفن في القرون الوسطى. وفي عصر النهضة وما بعده حيناً آخر، وهي كتب أكثر ما يمكن أن يقال فيها أنها محاولات وترجمات لكتب فنية لا تتفق أصلا مع حاجة المصريين ولا مع سابق دراساتهم إلى ذلك الحين على الأقل، كما كان بعضها أقرب إلى (كتالوجات) الصور منه إلى الكتب الدراسية ذات الأسلوب النافع. ولهذا جاءت ضعيفة الإخراج قليلة المادة ضئيلة النفع، لا لشيء سوى عدم تخصص مترجميها أو مؤلفيها من ناحية وعدم وجود القارئ للكتب الفنية القيمة التي تدفع بالمتخصصين إلى العمل من ناحية أخرى.
ولقد ظهرت بعد الثورة المصرية بعض كتب قيمة إلى جانب مقالات وبحوث ظهرت في مجلات محترمة عن الفن واتجاهاته ومدارسه. فإذا ما ظهر اليوم كتاب (فنون الإسلام) لتنوير الأذهان نحو موضوع من أخطر موضوعات الثقافة الفنية الإسلامية؛ فإنه لا يسعنا(793/56)
إلا تهنئة القراء الشرقيين عموماً والمصريين على وجه الخصوص بهذا الكتاب الجامع الشامل!.
والحق أشهد أنه من أشق الموضوعات التي تحتاج إلى التريث وطول الأناة وسعة الاطلاع، فعندما يتصدى الكاتب لفنون الإسلام جميعاً إنما يجابه موضوعاً عسيراً، لا يتغلب عليه إلا القادرون.
جاء الكتاب في نحو 750 صفحة من القطع المتوسط شاملا للعمارة والنحت والتصوير وأعمال النجارة والقاشاني والفنون الزخرفية بأوسع معاني الكلمة، وذلك في الأقطار الإسلامية مرتبة ومبوبة تبويباً خاضعاً للأسلوب العلمي.
وإذا علمت بأن فنون الإسلام في مجموعها تقف أمام الفنون الوثنية الكلاسيكية موقف المناهض، وأنها قامت على أكتاف الفنون المسيحية في أول أمرها ثم أخذت تستقل رويداً رويدا حتى تم لها الوجود والكيان القائم بنفسه؛ استطعت تقدير المشقة والمجهود المبذولين لبيان هذا الاتجاه بقلم كاتب مصري مسلم!.
ولعل من الخير أن نذكر أن المحور الذي تدور حوله الفنون المسيحية المبكرة وما بعدها كان دينياً خالصاً؛ فأقيمت الكنائس مزودة بالتماثيل الآدمية وغير الآدمية ومحلاة بالتصاوير الدينية وما إليها، على حين كان المحور الذي تدور حوله الفنون الإسلامية هو إنشاء المساجد والجوامع مجردة من النحت الآدمي والصور الدينية، وهذا موضوع تناوله المؤلف بالبيان في كتابه.
وقد اختص الدكتور زكي موضوع التصوير الإسلامي بأكبر عدد من الصفحات (78 صفحة) تناول المؤلف فيها ضمناً ما قيل من الأسباب التي جعلت منه فناً جامداً - وأخذ يناقش مختلف الآراء بأسلوبه الممتع. كما اختص الفنون المعدنية بعناية تجلت في نحو 73 صفحة، أما المنسوجات فقد جاءت في 53 صفحة، والحفر على الخشب في 51 صفحة، ثم بلى ذلك الخزف والسجاد والزجاج والبلور الخ. وهي أبواب كما ترى تصلح لأن تكون كتباً مستقلة، ولكن المؤلف شاء أن يكون كتابه مرجعاً لكل باحث ومثقفاً لكل مريد.
نعم جاءت بعض الصور التي بلغ عددها جميعاً 750 صورة على غير الدرجة المرجوة من الدقة والظهور وهي المرقومة 152 و208، 216، 219، 225، 239، 250، 288،(793/57)
289، و295، 298، 299، 380، 451، 506، 513، 524، و534، 539، 564، إلا أن هذا لا يمنع من تسجيل النجاح فهذه كلها لا تزيد عن 4 في المائة من مجموع صور الكتاب التي جاءت شرحاً وإيضاحاً للموضوع.
أما الأساليب الفنية الإسلامية فقد تناولها المؤلف منذ نشأتها في القرن الأول الهجري حتى غزته الأساليب الفنية الأوربية في القرن الثامن عشر الميلادي بإفاضة وبيان شامل.
وربما كان من أوجه الكمال لو أن الدكتور ذكر أمام كل مرجع المكان الموجود فيه، ذلك لأن عدد المراجع وقد بلغ 270 يعد في ذاته مفتاحاً لكل باحث، فإذا علم ما يوجد منها بدار الكتب المصرية، وما بالجمعية الجغرافية وما تضمن منها مجموعة المعهد المصري، ومكتبة الجامعة ومكتبة كلية الآداب؛ فإنه ولا شك يختصر الطريق ويصل إلى ما يبتغيه.
وقد حرص المؤلف على تذييل كتابه بكشاف في نحو 23 صفحة وبخريطتين تخطيطيتين أولاهما لإيران، وثانيهما للشرق الأدنى وبلاد المغرب.
فلعلي ألمس في القريب إقبال الناس على قراءة هذا الكتاب الذي أعده باقة زهر يانعة قدمها المؤلف إلى أبناء اللغة العربية، في أنسب الأوقات.
أحمد موسى
كبير المفتشين بمصلحة المساحة المصرية(793/58)
العدد 794 - بتاريخ: 20 - 09 - 1948(/)
صديقي الأستاذ توفيقالحكيم
مهما يكن من حرصي على ألا أدخل في حديث يدور لي أو علي، فإني لا أجيز لنفسي بعد ما قرأت في (أخبار اليوم) تحيتك الكريمة أن أدعها تمر دون أن أتقبلها بالغبطة وأردّها مع الشكر.
تفضلت فرشحتني لكرسي شوقي في كلية الآداب من جامعة فؤاد، وأيدت ترشيحك بحسن ظنك بي وجميل رأيك في. وليس الترشيح في ذاته هو الذي هيأ نفسي للكلام وحرك يدي بالكتابة؛ فإنك تعلم من نفسك ومن تجاربك أن الترشيح لمثل هذه المناصب تتنازعه عوامل مختلفة من المنصب إلى المال والمجد ومن لهما يستحق، ولا ينظرون فيه إلى الفضل والكفاية ومن بهما يتصف. وإني أعلم من نفسي ومن طبعي أنني لا أقبل هذا الكرسي وإن ذُللت عقابه وسهِّلت صعابه؛ لأني أفضل أن أظل بقية حياتي كما كنت جنديَّا متطوعاً في القوة الخفيفة من قوى الأدب العربي: أرود وأنتجع وأكتشف من غير نظام أتبعه ولا قائد أطيعه ولا جزاء أبتغيه. . . ولقد عرض علىَّ في العام الماضي عميد كلية الآداب السابق أن أكون أستاذاً زائراً في الكلية، فقلت له والأسى يهدج صوتي ويقطَّع كلامي: شكراً يا صديقي وعذراً! لقد تقدمت السن وتأخرت الصحة وأوشك الماخر في عباب الحياة أن يبلغ الساحل! وماذا تبتغى من عامل مكدود أدرك سن المعاش، أو من فرس مجهود قارب نهاية الشوط؟ إن من حق ذلك أن يسترقه، ومن حق هذا أن يستجم. وما على الجواد من بأس إذا أخطاءه الرهان بعد أن جرى مِلء فروجه وبذل غاية جهده حتى بلغ ما بلغ من غير سوط يحث ولا حقنة تثير ولا حيلة تساعد. ولكن صديقي ألح في العرض وألححت في الرفض ووقف الأمر بيني وبينه عند ذلك.
فالموضوع إذن يا صديقي أهون على من قطرة المداد التي تسيل بالحديث عنه، وإنما هيأ نفسي للكلام وحرك يدي بالكتابة تلك الروح الطيبة التي أملت عليك ما كتبت؛ فإن كلمة الخير من أديب في أديب، أو شهادة الحق من عالم في عالم، لم يسجلها تاريخ الأدب إلا في باب النوادر! ولعلك تذكر أننا تشاكينا مرة داء الضرائر بين الأدباء فقلت لك: لا أدرى لماذا يظن الكاتب أو الشاعر أو الفنان أن الأرض لا تتسع إلا له، وأن الناس لا يقبلون إلا منه، وهو يعلم علم اليقين أن الأدب ألوان وطعوم، وأن الذوق أشتات ودرجات، وأن مثل الأدباء والفنانين في العصر الواحد والبلد الواحد كمثل الجوقة الموسيقية تؤلف بأصواتها المتنوعة(794/1)
وصورها المتعددة لحناً واحداً يطرب النفوس المختلفة، ويرضى الأذواق المتباينة، ونجد مع هذه الوحدة وذلك الانسجام لكل عازف مكاناً، ولكل صوت آذاناً، ولكل قطعة فناً، فلا تغنى آلة عن آلة، ولا يجزى صوت عن صوت.
وإني لأذكر أنك صوبت هذا الكلام وزدت عليه أن رجال الأدب والفن هم صفوة الناس في سمو النفس والحس، فلا ينبغي أن يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من أوزار الغيرة وأضرار الحسد. وإنهم باتحادهم وتوادّهم أحرياء أن يخففوا عن نفوسهم بعض ما يكابدون من عامية الخاصة وأمية العامة ومادية الحكومة.
والحمد لله والشكر لك! لقد رأيتك تعنى ماتقول، وتريد ما تَعني، وتفعل ما تريد!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(794/2)
لو أصبح لليهود دولة. . .
للأستاذ نقولا الحداد
إنه إذا لم تمحق جماعة إسرائيل المزيفة - ولا تمحق إلا بالسلاح - كان أولى كوارثنا أن الجامعة العربية تفقد هيبتها وتسقط قيمتها وتنحل كما تنحل قطعة السكر حالا في الماء الساخن بعد أن كان متوقعاً أن تتحول إلى ممالك متحدة على حد الاتحاد السويسري أو الأمريكي، بحيث تتضاعف قوتها أضعافاً.
الثانية: متى انحلت الجامعة العربية ضعف جداً استقلال كل دولة بحيث تستطيع جماعة إسرائيل أن تستغل هذا الضعف بسهولة كلية، إذ يمكنها أن تلقى شباكها الاقتصادية، فتتصيد الدول العربية واحدة بعد واحدة، بأية حجة حتى بالقتال، ثم تتحكم فيها، إذ تأسرها باللطف الاقتصادي، وبالتخلف السياسي وبحنو الصرافة وإذا اقتضى الأمر فبدلال بنات إسرائيل، كرفقا وراحيل.
وثالثة الأثاقي: أن ما كنا نتبجح به من الإجماع على مقاطعة المنتجات اليهودية، والإعراض عن معاملة اليهود إلى أن يضيق بهم العيش، وينضب الرزق (ويطفشوا) من البلاد رويداً حتى تصبح جماعة إسرائيل بلا أهالي ولا رجال - إن هذا الظن يذهب حينئذ مع ريح الإغراءات الصهيونية المتنوعة.
الرابعة: لا نلبث أن نرى الصناعات الصهيونية قد ترعرعت وجعلت تزاحم صناعاتنا ومرافقنا، وتقتل أسباب عيشنا واحداً واحدا حتى نصبح حينئذ عالة على الإنتاج الصهيوني فلا نستطيع أن نعيش إلا تحت رحمة أبناء صهيون وهم خالون من الرحمة.
الخامسة: يتغلغل رأس المال اليهودي في جميع البلاد العربية وتصبح هذه البلاد مكبلة بالديون الإسرائيلية. ولا تلبث أن تصبح الأملاك والعقارات رهائن في بنوك إسرائيل وفروعها في جميع البلاد العربية - هكذا تنتقل ثروات البلاد إلى بنى صهيون، فيفتقر العرب، ويثرى اليهود. والنتيجة القصوى هي استبعاد هؤلاء لأولئك.
والسادسة: أن ما نستبشر به الآن من ازدياد الغلال المعدنية التي تبشرنا بها جيولوجية بلادنا: كالبترول والفحم والحديد حتى الأورانيوم وغير هذه من خيرات الأرض الدفينة سيكون لشركات اليهود كما هي الحال الآن في أملاح البحر الميت. ومهما تحوطنا حتى لا(794/3)
تقع هذه الثروات في أيديهم، فلا بد أن تؤول إليهم بفضل حكامنا الذين تغريهم الشركات اليهودية بالرواتب الوافرة لكي يكونوا أعضاء في مجالس إدارتها ولكي يساهموا فيها إن أمكن، ولكي يقال أن الشركة وطنية - مصرية أو سورية أو لبنانية أو عراقية الخ. لأن وظيفة هؤلاء الحكام (الوطنيين) أن يمسكوا البقرة بقرنيها لكي يحلبها شعب الله المختار (الجوييم) كما هو حادث الآن، وبعض من الوزراء السابقين، أو وجيه مصري ذي نفوذ، إلا وهو عضو في عدة مجالس إدارات لشركات يهودية بمكافأة بضع عشر مئين من الجنيهات، في مقابل أن يسهلوا لها وسائل الرواج والكسب. هل يصدق القارئ الكريم أن أحد هؤلاء (الوطنيين) هو عضو في 42 شركة، وإن وجيهاً عظيماً يتقاضى من بعض الشركات 22 ألف جنيه سنوياً. ولا يخجلون من أنهم بنفوذهم الوهمي يربّحون هذه الشركات اليهودية الملايين، ومن أين هذه الملايين؟ طبعاً هي من دماء هذه الأمة المنكوبة بغيرة حكامها.
السادسة: إن جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، لا يلبث أن يشعر بعد قليل من رسوخ قدم الإسرائيليين، أن الشركة الأمريكية التي تستغل بترول بلاده بقاء بضعة ملايين من الجنيهات قد أصبحت يهودية قلباً وقالباً من غير أن يعلم السوابق واللواحق. وحينئذ يعلم الماليون الأمريكيون أن هذا البترول الذين يقتتلون لأجله، أصبح يتسرب إلى موسكو؛ لأن تعاقداً سرياً بين موسكو وتل أبيب قد تم على نية أن تتبادل الصهيونية والشيوعية المنافع الضخمة. وحينئذ يعض ماليو أمريكا وساستها المغفلون أناملهم ندماً على تفريطهم بصداقة العرب، وعلى تأييدهم الصهيونية في الشرق العربي.
هذا المصير الذي يصير إليه بترول الحجاز، سيكون مصير بترول العراق أيضاً ومصير بترول مصر وبترول البحرين ومصير كل بترول جديد يظهر في الشرق العربي. ومتى صارت منابع البترول في أيدي اليهود فلا يعود نصيب جلالة الملك عبد العزيز السعود ونصيب حكومة العراق ونصيب أمير البحرين ونصيب أية حكومة عربية إلا قشر البيضة من ثروة البترول.
إن ثبتت قدم الصهيونيين (لا سمح الله) فسيكون كل هذا بعد عشرين أو ثلاثين سنة. وحينئذ سيقول من يبقون أحياء إلى ذلك الحين ممن قرءوا هذا المقال: (رحمة الله على(794/4)
نقولا الحداد (قال وقوله صدق). وحينئذ لا تعود تنفع نهضة العرب ولا يقظتهم ولا غضبتهم، بل تفتر كل حماسة وطنية لهم، ويبقون كسالى تخدرهم الدعاية اليهودية، وبدر الأموال اليهودية وتقتل كل تحفز لانقلاب عربي لإنقاذ العروبة من بين براثن الصهيونية.
أتمنى أن أعلم ماذا يفهم أقطاب الساسة العرب من القول أن هذه الهدنة أبدية لا نهاية لها. إذن ماذا ينتظرون؟ أينتظرون أن يستمر اليهود ينقضون الهدنة، وأن يواظب برنادوت على القول أنه راض عن الحالة وأنه متفائل خيراً وأن الهدنة سائرة بانتظام - كذب وستين ألف كذب.
وهل يروق هذا القول لساستنا العظام؟ إذن كيف تكون الهدنة غير مرضية لبرنادوت. أيحسبها شؤماً إذا كان العرب يدافعون حينما اليهود ينقضون؟.
وإذا كان ساستنا العظام يصرون على القول لبرنادوت (ليس عندنا حل لهذه المشكلة العقيمة إلا أن لا تقوم قائمة للصهيونيين بتاتاً - إذا كان هذا هو قولهم الذي لا يحيدون عنه بتاتاً، فلماذا لا يسألون برنادوت ماذا في دماغه من مشروع تسوية يوافق قول العرب هذا.
وإذا كان الأمر كذلك فحتى يصبر ساستنا على هذه الهدنة الفاهية التي ليس من ورائها إلا استفحال اليهود وتثبيت أقدامهم وتوسيع فتحهم وزيادة تسليحهم، ثم بقاء عرب فلسطين مشردين في غير بلادهم يعيشون عيشة الطوى على إحسان الخيرين ويموتون ببطء. وأخيراً لا يبقى إلا فلسطين اليهودية - إلى هذا يرمي اليهود ويمالئهم برنادوت فيما هو يتنقل بين مصيفي رودس وفلسطين.
إلى الآن لا أفهم معنى لهذه الهدنة التي لا نهاية لها. إذا كانت بلا نهاية. فالمعنى أن الحرب انتهت. فإذا كانت قد انتهت عند برنادوت واليهود، فهل انتهت عند العرب على هذه الحال البليدة؟.
أليس عجباً غريباً أن غرباء أشباه الناس جاءوا من آخر الدنيا وطغوا بوحشيتهم وبإرهابهم الحيواني وطردوا أهل البلاد من بلادهم وأقاموا هم فيها ونهبوا كل ما فيها من قوت وأثاث ولباس وغلال ومال واستولوا على أبنيتها: وأغرب من هذا أن يقف العرب عند هذه الحال مترددين صابرين يتوقعون الكروبيم من السماء أن ينزلوا إلى الأرض ليحرسوا فلسطين لأهلها، كما كان الكروبيم يحرسون جنة عدن حين طرد الله منها آدم وحواء.(794/5)
لا أفهم ماذا ينتظرون إذا كانوا يعلمون جيداً أنه يستحيل عمل برنادوت أن يتوفق إلى حل للمشكلة غير إلغاء ما يتمناه الصهيونيون أيصبرون إلى أن يضجر العرب كلهم من دوام هذه الحالة البليدة ويتركوا صهيون لليهود.
وإلى الآن لا أفهم ماذا يعني من يرتئون (حتى من ساسة العرب) أن يعود اللاجئون إلى بلادهم والمشكلة، لا تزال قائمة.
لماذا هرب اللاجئون من بلادهم؟ أليس لأن اليهود اعتدوا عليهم. فهل تغيرت طباعهم الحيوانية وصاروا بشراً يؤمن شرهم فما عادوا يفتكون بالأطفال والنساء والشيوخ؟ على أي أساس يعود العرب المشردون إلى بلادهم وأولئك لا يزالون وحوشاً يتوحدونهم للفتك بهم.
وإنه لغريب أن يقترح برنادوت عودتهم إلى بلادهم وهو لا يقترح الوسيلة الضامنة سلامتهم من فتك بهم. وأغرب من هذا وذاك أن بعض أقطابنا يقبلون هذا الرأي من غير أن يقدروا العواقب.
وأغرب وأعجب أن يقبل أقطابنا أن يعيش هؤلاء اللاجئون المنكوبون على إحسان الأجانب. وإلى متى يبقون عالة هكذا والهدنة لا نهاية لها - يا للعار. يا للشنار.
عجبت أن يهتم برنادوت وأعوانه (بالشحاتة) اللاجئين العرب ويستغيث بمجلس الأمن تارة وبالمؤسسات الخيرية أخرى كالصليب الأحمر وغيره - عجبت أن يهتم هذا الاهتمام الذي يشكر عليه قليلا، وأعجب من ألا يخطر بباله أن أشباه الناس اليهود هم كانوا سبب هذه الكارثة. وأعجب وأغرب أنه وهو يترك الحبل على الغارب لليهود لا يطلب من مجلس الأمن بكل شدة أن يرغم (إن كان عنده قوة للأرقام) جميع يهود العالم أن يدفعوا أثمان جميع الأرزاق والأموال والأملاك وكل ما كان في حوزة العرب - كل هذه التي نهبها اليهود من بيوت العرب وأملاكهم وحوانيتهم، وهي تقدر بنحو ثلاثمائة مليون جنيه إسترليني، هي الآن في ذمة اليهود إن كان لليهود ذمم.
عجبت أن يسكت برنادوت ومجلس الأمن وهيئة الأمم وحاخامات اليهود عن المائة والاثنين والسبعين مليوناً من الدولارات الأمريكية التي تصدق بها نصارى أمريكا على منكوبي اليهود في أوربا، وما كانوا ملزمين لولا أن مسيحهم قال لهم: (احسنوا إلى من أساء(794/6)
إليكم)! وإذا هؤلاء اليهود الأدنياء ينفقون تلك الملايين على محاربة العرب لأنهم لم يكن عندهم منكوبون يستحقون الإحسان، بل عندهم جميع أموال العالم!.
أنستغيث نحن بالأمم لكي نقوم بأود منكوبينا ويكون لنا عند اليهود 300 مليون جنيه.
نذكر الجامعة العربية بهذا الحق الضائع لكي تطالب به برنادوت ومجلس الأمن وهيئة الأمم، فقبل أن يحكم مجلس الأمن بدولة إسرائيل يجب أن نستخلص من بني إسرائيل هذا الحق إن كانت تعرف الحق وتحترمه!.
وعلى إنكلترا أولا وأمريكا ثانياً حتى جميع الدول التي أقرت التقسيم أن تحصل هذا الدين من اليهود للعرب، وعليها أيضاً أن تطالب اليهود بغرامة مائة مليون جنيه على الأقل لأنهم هم الذين انتدبوا العرب للحرب، فعليهم أن يدفعوا ما وقع على العرب من خسارة بسبب الحرب.
ثم إن هذه الغرامة وجميع المنهوبات التي نهبها اليهود من العرب تخول جميع الحكومات العربية أن تحجز جميع أملاك اليهود وأموالهم في بلادها لكي تستوفي ما تستطيع استيفاءه من هذه الديون الملقاة على عاتق جميع يهود العالم بالتضامن، لأنهم كلهم كانوا يجمعون الأموال للصهيونيين، وهي أموال مبتزة من البلاد التي يقطنونها بطرق غير منتجة وغير قليل منها مبتز من العرب!.
إذا كان عند الدول العظمى ذرات من الشرف كما عندها ذرات للقنبلة، فتحصل هذه الحقوق من اليهود للعرب!.
نقولا الحداد
تصويب:
وقع في افتتاحية العدد الماضي من الرسالة خطآن مطبعيان نصححهما فيما يأتي:
(وبكينا حتى نضب الدم) وصوابه الدمع.
(بالمخادعة والغش)، وصوابه الفيش، وهو بمعنى (الفشر) و (المعر) في لغة العامة.(794/7)
محاكمات
للدكتور جواد علي
كان امتحان (الحجاج بن يوسف الثقفي) لأهل العراق في إيمانهم أشد وقعاً عليهم من السيف الذي سلط عليهم في معركة (دير الجماجم) والمعارك التي تلتها.
دخل الحجاج الكوفة بعد انتصاره على ابن الأشعث فعقد مجلساً عظيما لامتحان الناس ولإذلال أهل الكوفة. فجلس هو في الصدر وأجلس (مصقلة بن كرب بن رقبة العبدي) إلى جنبه وكان خطيباً جهوري الصوت. وقد قال له:
إشتم كل امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره ولؤم عهده، ومن علمت منه عيباً فعبه بما فيه وصغر إليه نفسه.
وقد أدى هذا الخطيب الشتام عمله على خير ما يكون. فجاء بأقبح الشتائموأخرج آخر ما عرف من إحداث في هذا الفن. فكان الشخص يعرض عليه وبعد أن ينال نصيبه من الشتم على وجه يرضى الحجاج، يتعرض إلى مقالة الوالي وتقريعه، وبعد أن يشبع (الثقفي) نفسه يطلب منه التوبة والإقرار بالكفر بخروجه عليه ونقضه البيعة لأمير المؤمنين وإلا فالقتل.
وكان حرّاس الحجاجيقدمون الناس إليه واحداً واحداً، وكل رجل ونصيبه. فإما الإهانة والذل والإقرار بالكفر، وإما الفصل بين الرأس والجسد دون كلام ولا مناقشة. هذا رجل من خثعم قد جاوز الثمانين وقد كان معتزلا للناس جميعاً فيما وراء الفرات جاء به الحظ إلى الحجاج فيسأله الحجاج عن حاله فيجيب:
ما زلت معتزلا وراء هذه المنطقة منتظراً أمر الناس حتى ظهرت فأتيت لأبايعك مع الناس.
الحجاج: أمتربص؟ أتشهد أنك كافر؟.
الرجل: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر!.
الحجاج: إذاً أقتلك.
الخثعمي. وإن قتلتني فو الله ما بقي من عمري إلا ظمئ حمار وإني لأنتظر الموت صباح مساء.
الحجاج أضربوا عنقه.(794/8)
فضربت عنقه أمام الحجاج، وقريش وأهل الشام يترحمون سراً على هذا الشيخ المسكين.
وهذا كميل بن زياد النخعي ينال حصته من الشتم ثم يعرض على الحجاج فيبادره الثقفي بقوله:
أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلاً.
كميل: والله ما أدري على آينا أنت أشد غضباً عليه حين أقاد من نفسه أم عل حين عفوت عنه؟.
أيها الرجل من ثقيف: لا تصرف على أنيابك، ولا تهدم على تهدم الكئيب، ولا تكشر كشران الذئب. والله ما يبقى من عمري إلا ظمئ الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة. أقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب.
الحجاج: فإن الحجة عليك.
كميل: إن كان القضاة عليك.
الحجاج: بلى كنت فيمن قتل عثمان وخلعت أمير المؤمنين. اقتلوه. فيحتضنة الجلاد أبو الجهم بن كنانة الكلبي ويذبحه أمام سيده الحجاج ذبح النهاج.
ويدخل الحرس برجل آخر من طراز جديد، من أصحاب الدنيا، ممن يعرفون كيف يهربون من عزرائيل.
الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر.
الرجل: أخادعي عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون ذي الأوتاد؟.
فيضحك الحجاج، ويشعر في نفسه بأن الرجل قد غلبه، وإنه ممن لا يستقرون على حال. ويأمر بإطلاق حريته.
ثم يأتي أهل الشام (بأعشى همدان) الشاعر الذي انضم إلى (ابن الأشعث) طمعاً في ماله والذي ينضم إلى كل أحد حتى إلى الشيطان إذا ما وجد عنده المال. الشاعر الذي كان يسير بين يدي (عبد الرحمن) في زحفه على العراق للقضاء على الحجاج وهو يقول:
شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القِرى والريحان
من عاشق أمسى بزابلستان ... إن ثقيفاً منهم الكذابان
كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان(794/9)
يوماً إلى الليل يسلي ما كان ... أنا سخونا للكفور الفتان
الحجاج: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك: بين الأشج بين قيس. . . أنفذ بيتك.
أعشى همدان: بل أنشدك ما قلت لك.
الحجاج: بل أنشدني هذه.
أعشى همدان ينشده:
أبى الله إلا أن يتمم نوره ... ويطفئ نور الفاسقين فنحمدا
ويظهر أهل الحق في كل موطن ... ويعدل وقع السيف من كان أصيدا
إلى أن يقول:
فكيف رأيت الله فرق جمعهم ... ومزقهم عرض البلاد وشردا
فقتلاهم قتلى ضلال وفتنة ... وحيهم أمسى ذليلاً مطردا
ولما زحفنا لابن يوسف غدوة ... وأبرق منا العارضان وأرعدا
قطعنا إليه الخندقين وإنما ... قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا
وهي قصيدة تزيد على الثلاثين بيتاً من شر ما تكلم في ذم أهل العراق وأحسن ما قيل في مدح الحجاج وأهل الشام حتى اهتز أهل الشام طرباً وصاحوا: أحسن، أصلح الله الأمير. وظن الشاعر أنه تغلب على غضب الحجاج بهذه القصيدة ونجا، وأنه سيعيش. ومن يدري فلعله كان يأمل هجاء الحجاج من جديد وقد تعود من قبل مدح الناس وهجاءهم في آن واحد.
الحجاج: لا، لم يحسن. إنكم لا تدرون ما أراد بها.
يا عدو الله! أنا لسنا نحمدك على هذا القول إنما قلت نأسف أن لا يكون ظهر وظفر. وتحريضاً لأصحابك علينا وليس عن هذا سألناك. أنفذ لنا قولك: بين الأشج وبين قيس قيس بأذلخ.
فينشد أعشى همدان إلى أن يصل إلى قوله:
بخ بخ لوالده وللمولود.
الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبداً. أضربوا عنقه. فتضرب عنقه. ويفصل رأسه عن جسده وينال جزاء تقلبه وتلوثه وهجاء الناس ومدحهم طمعاً في الدنيا والمال.(794/10)
ويدخل الحاجب بالأسرى ممن أرسلهم يزيد بن المهلب.
الحجاج: جئني بسيدهم:
الحاجب: قم يا فيروز، وكان رجلا غنياً من أصحاب الملايين له ثروة عريضة لا تقدر بثمن:
الحجاج: أبا عثمان! ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم!.
فيروز: فتنة عمت الناس فكنت فيها.
الحجاج: اكتب لي أموالك.
فيروز: ثم ماذا؟
الحجاج: اكتبها أول.
فيروز: ثم أنا آمن على دمي؟
الحجاج: اكتبها ثم أنظر.
فيروز: اكتب يا غلام: ألف ألف ألفي ألف وذكر له مثلاً كثيراً، وهو يقصد من وراء ذلك إغراء الحجاج ودفع غائلة الموت عنه.
الحجاج: وقد استهوته هذه الأموال: أين هذه الأموال؟
فيروز: عندي.
الحجاج: أدها.
فيروز: وأنا آمن على دمي؟
الحجاج: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك.
فيروز: والله لا تجمع مالي ودمي.
الحجاج للحاجب: نحه.
الحجاج: ليدخل أسير آخر.
يدخل محمد بن سعد بن أبي وقاص:
الحجاج: أيها! باطل الشيطان أعظم الناس تيهاً وكبراً. تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتشبه بحسين وابن عمر ثم صرت مؤذناً لابن كناز عبد بني نصر (يعني عمر بن أبي الصلت).(794/11)
وأخذ الحجاج عوداً وصار يضرب به رأس محمد حتى أدماه.
محمد: أيها الرجل ملكت فأسجح.
فكف الحجاج يده.
محمد: إن رأيت أن تكتب إلى أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكاً في ذلك وإن جاءك غير ذلك كنت قد أعذرت.
يطرق الحجاج ملياً كأنه يفكر في أمر هام ثم يتغلب عليه طبعه فيخاطب الجلاد:
- اضرب عنقه. فضربت عنقه.
الحجاج: يدعى آخر.
(يدخل عمر بن موسى)
الحجاج: يا عبد المراءاة! أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك وتشرب معه الشراب في حمام فارس، وتقول المقالة التي قلت؟.
لتضرب عنقه.
ثم أدخل (ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن سمرة) وكان علاماً حدثاً فدخل وهو مرتبك خائف:
أصلح الله الأمير! مالي ذنب، إنما كنت غلاماً صغيراً مع أبي وأمي لا أمر لي ولا نهي وكنت معهما حيث كانا.
الحجاج: وكانت أمك مع أبيك في هذه الفتن كلها؟
الغلام: نعم.
الحجاج: على أبيك لعنة الله.
الحجاج: ليدخل الهلقام بن نعيم:
الحجاج يخاطب الهلقام:
اجعل ابن الأشعث طلب منك ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟.
الهلقام: أملت أنه يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك.
الحجاج: قم يا حوشب فاضرب عنقه. وليدخل عبد الله ابن عامر.
عبد الله: لا رأت عيناك يا حجاج الجنة إن أقلت ابن الملهب بما صنع.(794/12)
الحجاج: وما صنع؟
ابن عامر:
لأنه كاس في إطلاق أسرته ... وقاد نحوك في أغلالها مضراً
وفي بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطرا
يطرق الحجاج ملياً وقد وقرت الكلمة في قلبه. ثم تتغلب عليه روح الانتقام فيقول: وما أنت وذاك؟.
اضرب عنقه، فتضرب عنقه.
ثم أمر الحجاج بتعذيب (فيروز) بعد أن يئس من الحصول على ثروته وأخذ أمواله. فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق ثم يمر عليه حتى يخرق جسده ثم ينفضح عليه الخل والملح. فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أني قد قتلت، ولي ودائع أموال عند الناس لا تؤدى إليكم أبداً، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال. فأعلم الحجاج، فقال أظهروه فأخرج إلى باب المدينة. فيروز: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن أنكرني فأنا فيروز حصين؛ إن لي عند أقوام أموالا فمن كان لي عنده شئ فهو له وهو منه في حل، فلا يؤدين منه أحد درهماً. ليبلغ الشاهد الغائب.
الحجاج: وقد اغتاظ وهاج لحرمانه من ثروة (فيروز) تضرب عنقه. تضرب عنقه.
وبينما الحجاج في مجلس من مجالسه إذ بعامر بن شراحيل الشعبي يدخل عليه، وكان ممن طلبهم الحجاج وأراد قتلهم لأنه كان ممن يحرضون القراء على حرب الحجاج، وهو القائل في وسط المعركة:
يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فو الله ما أعلم قوماً على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجود منهم في الحكم، فليكن بهم البدار.
الحجاج متعجباً: الشعبي!!؟
الشعبي: نعم أصلح الله الأمير.
الحجاج: ألم أقدم البلد وعطاؤك كذا وكذا فزدنك في عطائك ولا يزاد مثلك؟.
الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.
الحجاج: ألم آمر أن تؤم قومك ولا يؤم مثلك؟(794/13)
الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.
الحجاج: ألم أعرفك على قومك ولا يعرف مثلك؟
الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.
الحجاج: ألم أوفدك على أمير المؤمنين ولا يوفد مثلك؟
الشعبي: بلى، أصلح الله الأمير.
الحجاج: فما أخرجك مع عدو الرحمن؟
الشعبي: أصلح الله الأمير، خبطتنا فتنة فما كنا فيها بأبرار أتقياء، ولا فجار أقوياء، وقد كتبت إلى يزيد بن أبي مسلم أعلمه ندامتي على ما فرط مني ومعرفتي بالحق الذي خرجت منه وسألته أن يخبر بذلك الأمير ويأخذ لي منه أماناً فلم يفعل.
الحجاج إلى يزيد: أكذلك يا يزيد؟
يزيد: نعم أصلح الله الأمير.
الحجاج: فما منعك أن تخبرني بكتابه؟
يزيد: الشغل الذي كان فيه الأمير.
الحجاج للشعبي: أولا انصرف.
وانصرف الشعبي. وعاش عيشة راضية حتى وافاه أجله المحتوم.
وكان سعيد بن جبير (سيد التابعين) ممن انضم إلى حركة ابن الأشعث وحرض القراء والناس على الحجاج وشهد معركة (دير الجماجم) مثل سائر فقهاء العراق أمثال عبد الرحمن بن أبى ليلى وأبو البحتري والشعبي وغيرهم. وهو القائل مخاطباً جيش أهل العراق: (قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة).
وكان معروفاً بصلابته وصراحته وعدم مبالاته، وهو القائل (لا تقية في الإسلام). ولو استعمل بن جبير شيئاً من المرونة لكان من الناجين بأنفسهم من عقاب الحجاج حتما. غير أنه لم يكن من الراغبين في هذه الدنيا. وقد طلب منه حارسه الذي جاء به من مكة إلى الحجاج أن ينجو بنفسه وأن يهرب والحارس راض في ذلك شاكر، ولكن ابن جبير لم يقبل أن يكون من الهاربين ولا من الذين يكونون سبباً في نكبة الغير.(794/14)
ولما مثل بين يدي الحجاج قال به الحجاج: ما اسمك؟
سعيد: اسمي سعيد بن جبير.
الحجاج: بل شقي بن كسير.
سعيد: أبي كان أعلم باسمي منك!
الحجاج: لقد شقيت وشقي أبوك!
سعيد: الغيب إنما يعلمه غيرك!
الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً غيرك.
الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟
سعيد: لست عليهم بوكيل.
الحجاج: اختر أي قتلة تريد أن أقتلك؟
سعيد: بل اختر يا شقي لنفسك! فو الله ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الآخرة بمثلها!.
الحجاج: ليقتل، فلما ولى ضحك، فأمر الحجاج برده وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك! فأمر به فذبح! فلما كب لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله، اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي! فذبح واحتز رأسه!.
لقد قتل الحجاج ما يزيد على المائة والعشرين ألفاً. ولكنه لم يتأثر بمقتل أحد تأثره بمقتل سعيد بن جبير. لقد التبس عقل الحجاج كما يقال منذ اللحظة التي شاهد فيها رأس سعيد ينفصل عن جسمه. فلم يذق النوم بعد ذلك فكان يرى في منامه سعيد ابن جبير وهو يقول له: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فكان الحجاج يصرخ ويستغيث قائلا: يا قوم مالي ولسعيد بن جبير؟ كلما عزمت على النوم أخذ بحلقي. وصدقت نبوءة سعيد فلم يعش الحجاج بعده إلا خمس عشرة ليلة.
أراد الحجاج أن تستقيم الأمور عن طريق الضغط والإكراه وإجبار الشعب على التسليم، وأبت الأمور أن تستقيم عن هذا الطريق فأفلت الأمر بعد وفاة الحجاج.
(دمشق)(794/15)
جواد علي(794/16)
من ذكريات الطفولة:
ظننته يوم القيامة ولكن الله سلم
للأستاذ كاملكيلاني
لعل هذه أول صورة انطبعت في ذاكرتي منذكريات الحياة كلها. أذكر أنني وجدتني جالساً في مكتب (كتاب) قريب جداً من داري إلى جانب ابن أختي، ولست أدري لماذا أستصحبني إلى مكتب الفقيه وأنا في مستهل نشأتي وفجر طفولتي؟ وكان الأطفال في هرج ومرج لا أعرف لهما سبباً، بل لعلي عرفت السبب فيما بعد، فقد كان غياب الفقيه فيما أظن سبب ذلك الاضطراب، ولم يكن عريف المكتب على ضخامته وطول قامته بقادر على السيطرة على أولئك الأشقياء الخبثاء، ولعل الأطفال كانوا يسخرون به لأنه أشل (أعني أن إحدى يديه ولعلها اليسرى شلاه)، ولا أدري كيف حاول أن يثبت مسماراً في الحائط فلم يجد شيئاً يدقه به، فلما ضاقت به الحيل عمد إلى محبرة سميكة، وكأنما خيل إليه أن ضخامتها ستحميها من الكسر، ولعله نسي أنها من الزجاج المفرغ، وأنها لن تقوى على دق المسمار، على أنه لم يكد يبدأ الدقة الأولى حتى خرق المسمار المبحرة وسال مدادها الأسود على وجه العريف ويديه وثوبه!.
فهلل الأطفال وصيحوا وصفقوا من فرط سرورهم بما رأوا، ولا زالت صورة العريف ماثلة أمامي، منطبعة في ذاكرتي، وأنا أملى هذه السطور، كأنما رأيت منذ لحظاتيسيرة وهو يحاول جهده أن يهدئ من ثائرة الأولاد، فلا يزيدهم ذلك إلا تمرداً وصخباً، وقد زادتهم حيرته وارتباكه نشاطاً ومرحاً. وهنا يدخل الفقيه، وهو شيخ رائع السمت، فارع الطول، متجهم الوجه، قوى الشخصية، فيسود الصمت والفزع، ويستولي علينا الخوف والهلع، ويتبدل كل شئ في لحظة واحدة من الضد إلى الضد، فلا يكاد يجرؤ أحد على التنفس خشية أن تسمع نأمئه فتجلب عليه شراً مستطيراً، ويأمر الفقيه بإحضار (الفلقة)، ولا يكاد ينتهي من خامس الأولاد في الصف الأول، حتى تعتريني القشعريرة، فقد جاء الدور على، وإني لأترقب إشارة الفقيه بوضع رجلي في حبل الفلقة، وقد استولى الذعر على نفسي، إذا بجلجلة أشبه بقصف الرعود، وصيحات عالية مدوية تأخذنا من كل مكان وإذ بسقف المكتب يطير كل مطار، وقد تناثرت ألواحه وتطايرت أركان الجدران وقواعده، واختفى(794/17)
الشيخ والعريف وصبية المكتب في لحظة واحدة عن عيني فلم أدر أين فروا!
وما أذكر بعد ذلك إلا أنني كنت أمشى مع ابن أختي في طريقنا إلى البيت والأحجار تتناثر من حولنا في كل مكان، فتقتل من تقتل ونحن لاهيان لا ندرى من أمرنا شيئاً. فلما بلغنا الدار - وهى قريبة من جبل المقطم - إذ بالهلع يستولي على كل من فيها، وإذ بزجاج النوافذ محطم. وأذكر أنني سألت ابن أختي عما حدث فقال لي: إن القيامة قد قامت! ولم أفهم حينئذ معنى هذه الحملة، ولا عرفت ما هي القيامة، ولا كيف تقوم، ولعلى لم أفهم معناها الغامض أكثر مما يفهم السامع الخالي الذهن حين يقال إن نائماً صحا، أو صاحياً نام، أو زائراً قدم، أو قاعداً قام. ولم أفهم حقيقة ما حدث إلا بعد سنوات عدة، فقد عرفت والعهدة على من حدثني، فلم أستق الخبر حينئذ إلا من حوذي كان عندنا، وقد كان رحمة الله عليه نصف أمي إذا وزنته بميزان الثقافة والإطلاع، ونصف فيلسوف إذا وزنته بميزان الفهم والإدراك. حدثني ذلك الفيلسوف الأمي قال: (كان يشتغل في مخزن الذخائر الحربية الملاصق لجبل المقطم أحد العمال، فألقى على غير انتباه بما تبقى من لفافة التبغ، فلم تلبث أن علقت بما حولها من البارود، فوقعت الكارثة وأطارت من حجارة المقطم ما أطارت، وقتلت من الأناس والحيوان من قتلت، ودمرت من الآثار ما دمرت. وكان الحوذي يشير بإصبعه إلى رؤوس المآذن التي طاحت بها وهى قريبة من دارنا. لقد كان هول القيامة يتمثل لي حينئذ في عصا الفقيه وقد فرحت بنجاتي منها، فلما كبرت تبين لي أنني فرحت بالنجاة من خطر موهوم، لأنني كنت أصغر من أن يعاقبني الفقيه أو يهم بضربي، فلم أتجاوز الثالثة من عمري حينئذ، ونسيت أنني نجوت من هلاك محقق بأعجوبة من الأعاجيب. وعلى ضوء هذا الحادث الهائل فهمت في قابل أيامي دقائق الصورة البيانية الرائعة التي أبدعها خيال المتنبي شاعرنا الأكبر حين قال لسيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
كامل كيلانى(794/18)
2 - طاغور وغاندي بين الشرق والغرب
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
إن آراء طاغور التي توحد بين الشرق والغرب، آراء مفكر مثالي، عاش بوجدانه يستلهمه الحكمة، ويستوحيه المعاني الإنسانية، فلم يتعثر بمفاسد الحياة الدولية، ولم يختبر سوء نية الحكومات الاستعمارية إلا عن بعد؛ فاستطاع أن يدرك ما في المدنية الغربية من مثالب، وما في عادات الهند القديمة من ضعف وأن يصور لنا أنموذجاً فكرياً خالياً من شوائب الماضي والحاضر ولكن هذا النموذج المثالي ينقصه الاتجاه التنفيذي والناحية الإلزامية، كما لم يضع وسائل عملية، يستعان بها في تحرير القرب من المادية والأثرة وحب السيطرة، ولم يسن أساليب جديدة، تخرج الهنود من عزلتهم، وتدمجهم في تيار الحياة الحديثة بخلاف غاندي الذي عرك الحياة السياسية، واحتك بخبث الحكومات الإنجليزية، فتكشف له خداعها وغدرها، وتبين له بجلاء أنها تهدد باسم الدفاع عن الحرية، وباسم الشرف والحق جميع الأنظمة الخلقية التي تحدد علاقات الأمم بعضها ببعض، وتلهي الشعوب الخاضعة لسيطرتها بالوعود الكاذبة، لتنال منها ما تريد. فاتضح لغاندي أن الروابط الدولية لا تستند على أي أساس خلقي، وإنما تخضع للأهواء والمصالح، وتستند على الغش والخيانة. وأن الدول الغربية لا تجعل للحياة إلا غرضاً واحداً، هو النفع المادي أو الإصلاح المادي أو الرقي المادي، ولا تعترف بالحياة الروحية أو بالقيم الإنسانية. فاستعبدتها المادة لدرجة أنها لا تحجم عن ارتكاب ذي جريمة تتنافى وكرامة الإنسانية في سبيل الحصول على هذه المادة الحقيرة. وأخذت تسترق الشعوب وتسلبها مواردها الطبيعية، وتتلف حيويتها وتفسد أخلاقها، حتى لا تنتبه للذي يسرقها.
فأدرك غاندي بثاقب بصيرته أن مدنية الغرب ليست بالمدنية المثالية، ومن الجرم أن تعتمد عليها الهند في نهضتها، لأنها لن تفوز بمجد، إلا إذا رجعت إلى تراث حضاراتها القديمة وبعثته من جديد في صورة تلائم روح الهنود العصرية؛ ورفضت أن تأخذ من الغرب شيئاً؛ وعملت على أن تتخلص تدريجياً من كل ما شاع بين أبنائها من الغرب، لتتحرر نهائياً من تأثير حضارته المادية الضار بحياة الهنود. فلم يدع غاندي إلى اتحاد الشرق والغرب، لأنه وجد الغرب يستعبد الشرق، ويستغل خيراته، ويستنزف أرزاق أهله. ولم(794/19)
يثق في صدق نواياه في التعاون، لأن اصطدامه بالمستعمر البريطاني أظهر له عيوب الأخلاق الدول الغربية، وأراه الإنجليز الذين أخلص لهم الولاء حض شعبه على مساعدتهم أثناء الحرب العالمية الأولى، يحنثون في وعودهم المتنكرة، ويرفضون منح الهند استقلالها، ويكبلونها بأنظمة قاسية توطد سيادتهم عليها. ولذلك لم يفكر غاندي في تقريب وجهات النظر بين الشرق والغرب كما فعل طاغور وإنما لبى نداء الوطن، وهب يخط للهنود خططاً عملية مستمدة من تقاليد الديانات الهندوكية، لمحاربة المستعمر المادي الأناني الطاغي حتى يتبين له أن مقدماته العقلية والفنية والخلقية، لا يمكنها أن تسحر روح الهند وتخدرها، ثم تغريها بمجاراة الحياة الغربية، فتتنازل على ما جبلت عليه من تعاليم وعادات، وتقبل أن تهدم كيانها الروحي من أجل محاكاة ما توصلت إليه المدنية الحديثة من رقي مادي، فيسهل على الغرب فرض نفوذه على شتى نواحي الحياة الهندية.
فوقف غاندي كالصرح العتيد أمام الغرب، يحمي تراث الهند الروحي من الضياع والتلف، ويستنهض همم الهنود لمقاومة طغيان الإنجليز. ولجأ إلى طرق فذة ناضجة في مناضلة الاستعمار في الهند، هداه إليها مزاجه الهندي السليم، وطبيعته الروحية الشرقية التي تعشق السلام والخير، وتولع بالتسامح والحب، وتكره العنف والقسوة. فاستنجد بمقومات الروح الهندية الأصلية، واستغل كلف الهنود بالزهد والمجاهدة من أجل تخليص الروح من أدران الحياة، وإعدادها للتلاشي في روح الله الكبرى التي تشمل كل محتويات الكون. وأخرجه من كهف الزاهد إلى ساحة الجهاد السياسي، وتقل مقدرة الهنود النادرة على تحمل الآلام الجسمية ومقاساة تعذيب النفس، من نطاق القوانين الدينية إلى نطاق التضحية الوطنية. ولم يكلف ذلك غاندي كبير جهد، لأنه يعلم أن الزاهد الهندي تهود منذ القدم أن يحارب شهواته بأساليب سلبية هادئة، يقومها الحب والخير والسلام. فكان يعتزل الحياة التي تشغل الإنسان بالأرض والمادة، وتلهيه عن الاتحاد بالله الذي يتحمل الزاهد في سبيل الفناء فيه كل ألوان العذاب النفسي والجسمي. فاستنتج غاندي بعبقريته الروحية أن الهندي العادي في نضاله مع الإنجليز يمكنه أن يحاكي الزاهد القديم في محاربته الشهوات والأهواء وملاذ الحياة بوسائل سلبية سلمية قاسية. وعزم على أن يعلم الهندي أن يقاوم المستعمر بسلاح سلبي سلمي، قد يعرضه للاضطهاد والتنكيل، ويتطلب منه إيماناً بالحق الذي يدافع عنه،(794/20)
وتضحيةً وعزماً وثباتاً في سبيل الفوز به. وهذا السلاح يتفق مع المزاج الهندي الروحي، لأنه لا يخرج على التسامح والحب والسلام، ولا يعتمد على العنف أو القسوة، ولا حتى يثير العداوة والبغضاء في النفوس وإنما ينشد إزالة قوانين جائرة، أو تحقيق استقلال شعب مستعبد عن طريق معاناة الألم والمشقة، كما كان يعاني الزاهد قديماً مثل هذه الآلام في سبيل فناء ذاته في الله. وبذلك استطاع غاندي أن يطلق الطاقات الروحية الكامنة في أعماق نفوس الشعب الهندي، ويفسح لها الطريق لتخوض مضمار الحياة السياسية، ويشهر في وجه الإنجليز سلاح (الستياجراها) أيْ سلاح (المقاومة السلبية) الذي ينقسم إلى قسمين أحدهما: العصيان المدني، والأخر: اللاتعاون.
أما عن العصيان المدني: فهو نوع من الإضراب العام السلمي، يمتنع الشعب أثناءه من أداء أي عمل خلاف الصلاة والصوم. ويستخدم كوسيلة لنيل حقوق مهضومة، أو لفوز باستقلال مسلوب، وكطريق لإلغاء مشاريع ظالمة أو لرفع ضرائب فادحة، مثل ضريبة الملح وقانون احتكار الإنجليز لصناعته. وقد يكون هذا العصيان كذلك نوعاً من المعارضة الدستورية، تبدو في صورة رفض طاعة قانون من القوانين الجائرة وعدم تنفيذه أو الخروج عليه، مثل صناعة أحد الهنود للملح المحذور صناعته على أهلي الهند. ويشترط غاندي في من يشترك في العصيان، أن يكون مالكا زمام نفسه مسيطراً على أهوائه، بحيث لا يضطر إلى أن يثير أي عنف أو يثيره أي عنف، حتى يخلو العصيان من الشغب، ويسير حسب الآداب المرعية، محافظاً على الأمن، محترماً للنظم المتبعة في البلاد. ولكي يضمن غاندي سلمية العصيان، حرص على إعداد الشعب له تدريجياً، علماً منه بأن الشعب حديث العهد به وغير تام الأهبة له، وليس من الحكمة أن يطلب منه مثل هذا العصيان، قبل أن يألف نظمه وأساليبه، وقبل أن يملك أمره النفس. فسن قواعد دقيقة لتنظيم حركات العصيان، وحصرها في ميادين يخصصها لهم غاندي، يشرف عليها منظمون مدربون على العصيان السلمي، وقادرون أن يمرنوا الشعب على تجنب العنف في عصيانهم وأن يحبطوا ما يمكن أن يحدثه الرعاع من شغب، قد يسبب اضطرابات وفتنا، تبيح النفوس، وتثير الفوضى، فتندلع نيران ثورية دموية، لا يعرف مدى نتائجها الوخيمة. ولا يكفي اجتناب الشعب الشغب ليضمن حسن سير العصيان وهدوئه، بل يتطلب كذلك قدرة نفسية على تحمل كل(794/21)
ما يمكن أن يقع على الهندي من عذاب واضطهاد، نظير عصيانه هذا الذي لا يرضى عنه المستعمر، بل يغضبه. وكذلك يجب ألا يبالي الهندي بما قد ينزل به من ألم، بأن إهانة المستعمر أو سبه، يجب عليه أن يتحمل ذلك بصبر وأناة، ولا يثور أو يقابل الإهانة بالإهانة والسب بالسب، ويسامحه. وإن أرادت السلطات الحاكمة أن تقبض عليه وتدفع به إلى السجن، يجب أن يسلم نفسه من غير مقاومة، غير مهتم بما سوف يذوقه من تنكيل في الغد. وإن جلد بوحشية، وركل بالأرجل، وصفع بالأكف، يجب أن يظل ثابتاً على سكينته غير آبه بما يقع عليه من ضروب القسوة المهينة. وإن أرهب بالقتل، وهدد بالموت، يجب أن يتمسك برابطة اليأس، ولا يجزع من فقدان حياته، ويرحب بالتضحية بها في سبيل الغاية السامية، ولا يلجأ مطلقاً إلى العنف، بأن العفو أشرف من الانتقام فلا يجب أن يقابل عنف الخصم بالعنف وإنما يواجه بنور الحب الذي يسطع من إيمانه بحقه وتفانيه في الدفاع عنه، ويتبع من آلامه التي احتملها طواعية فإن عدم العنف لا يدل على ضعف أو خوف أو استسلام للمسيء وإنما يدل على رضاء النفس بالعذاب في سبيل الحق الوطني، ورغبتها في مقاومة المستعمر بقوة الروح للحصول على الاستقلال.
وبالرغم من دقة هذا الاحتياطات، وجمال هذه التعليمات، فلم يخل عصيان من عنف، وذلك لأن الشرطة كانت كثيراً ما تتحرش بالشعب وتستفزه، وسريعاً ما تنقلب سلمية العصيان إلى همجية بربرية وفوضى بهيمية يطلق فيها الرصاص، وتراق الدماء، وتشعل الحرائق، وتنهب البيوت والمحال التجارية، وتتحطم المرافق العامة. وكل هذا كان يؤلم غاندي ويغضبه أشد الغضب، وحاول أول الأمر أن يمهد للعصيان المدني السلمي الشامل بتمرين الهنود على اللاتعاون مع الإنجليز، ومقاطعتهم سياسياً واقتصادياً وثقافياً، حتى يدركوا كنه العصيان السلمي، ويتشربوا بمبادئه. ولكنه وجد أن من العسير أن يتحقق عصيان بدون عنف، ولذلك فضل عليه اللاتعاون الذي لا يتخلله أي شغب أو اضطراب.
واللاتعاون هو سلاح المقاومة السلبية الثاني، قصد به غاندي مقاطعة الغرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً من ناحية، وتقوية روح الهنود المعنوية ورفع مستوى المعيشة وترقية الحياة العامة عن طريق استغلال مقدمات الهند القديمة لصالح البلاد من ناحية أخرى. ولجأ إليه بعد أن بلغت حماسة الهنود الوطنية حد الانفجار، فأراد أن يخفف من شدة هذه الحماسة(794/22)
بحثهم على مقاطعة الإنجليز وعدم التعاون معهم، حتى لا ينقلب التذمر من سوء الحالة السياسية إلى ثورة دموية. واستطاع غاندي بذلك أن يشغل حماسة قومه بضرب من المقاومة السلمية، ألهتهم عن اتباع أى أسلوب عنيف يكرهه، وأن يعطى في الوقت نفسه فرصة لمبادئه في المقاومة السلبية لتتسرب إلى نفوس الهنود، وتستقر في قلوبهم، فيألفون روح النضال السلمى، ويؤمنون بقوة اللاعنف، وقدرة الحب على رفع ظلم الإنجليز واستعبادهم للبلاد.
وطلب غاندي من الهنود ألا يتعاونوا مع الإنجليز سياسياً وحربياً وقضائياً واقتصادياً وثقافياً. يقصد من اللاتعاون السياسي أن يتناول كل فرد عن الألقاب والرتب الشرفية التي منحتها له الحكومة الإنجليزية، وأن يمتنع عن الاكتتاب في فروض الحكومة، وأن يتجنب التوظف في الوظائف الحكومية، وأن يقاطع مجالس الإصلاحات الدستورية، حتى يقطع الهنود أية علاقة تربطهم بالحكومة، فيشل دولاب العمل ويتحرج مركزها، وتضطر في النهاية إلى مهادنة الهنود وتلبية مطالبهم.
كذلك يجب أن لا يتعاون الهنود والإنجليز حربياً، ويرفضون أي منصب عسكري، يكون مدعاة لتثبيت أركان الاستعمار في البلاد.
أما عن عدم التعاون القضائى، فينبغى أن يمتنع جميع القضاة عن الاشتغال بالمحاكم الحكومية، وأن يتوقف رجال القانون عن المرافعة بها، وأن ينقل الفصل في الخصومات بين المحاكم الأميرية إلى التحكيم الأهلي. ذلك لأن المحاكم في الهند آلة بيد السلطة البريطانية، تحاول أن توطد بها نفوذها في البلاد عن طريق إذكاء نار الشقاق بين الهنود، ونشر النزاع بين الطوائف وهى لا تعيش إلا على إيذاء الناس، بينما تجادل بلجاجة عند دفع الحقوق، وتسوف عند طلب الوفاء بالتعهدات. فأصبح تعطيل المحاكم الحكومية أمراً ضرورياً لضمان توحيد كلمة الهند وتعاون أفرادها.
وتتلخص المقاومة الاقتصادية في أن الهند بأجمعها، يجب أن تقاطع المنسوجات البريطانية، لأن الشركات الإنجليزية سيطرت على الحياة الاقتصادية في البلاد، وقضت على الصناعات الأهلية وامتصت موارد الثروة الهندية، فهي تسلب سنوياً قطن الهند، وتصدره لها بعد حين منسوجات، تفرض عليها شراءها بأثمان باهظة. ولكي تحمى الهند(794/23)
اقتصادياتها من الإنجليز يجب أن تكفى نفسها بنفسها وتستغني عن خدمات الغرب، وتبادر إلى تنظيم مصانعها الأهلية، وتتخذ من الغزل اليدوي وسيلة لحل مشكلة الفقراء في الهند. إن ثمانين في المائة من سكان الهند فلاحون، لا عمل لهم خلال أربعة شهور من السنة، وعشر الأهلين صناع جياع، بينما الطبقة الوسطى لا تجد كفايتها من الغذاء، وإنجلترا لاهية عن كل ذلك، لا تعمل على معالجة هذه الحالة بل تزيدها سوءاً، فإن المغزل اليدوي هو المنقذ الوحيد للهند من الفقر، فإنه يشغل هؤلاء العاطلين الجائعين ويوفر لهم ملابسهم، ويضمن لهم قوتهم اليومي بتكاليف بسيطة. ولم يرض غاندي أن يدخل النظام الآتي في الهند، ويتلذذ منه وسيلة لحل مشكلة البطالة، لأنه لو يرد أن تصاب الهند بأمراض الغرب المادية، وحارب من مواطنيه من يحرض على إدخال النظام الآلي في الهند، حتى لا يسمح لأصحاب المال بتسخير فقراء الهنود في مصانعهم، التي تدر عليهم الربح الوفير، وخوفاً من أن يصبح قلب الهند من حديد يعبد الآلة التي تدير المصانع، وتجلب المال ذلك الوطن العظيم الذي يقدسه الغرب، بأن الآلة مطية فاحشة ووسيلة شيطانية تسترق الشعوب لحفنة من الناس يستعبدهم المال فيجب حماية الهند من شرها، وإبعاد خطرها عنها، حتى لا يزداد نفر الهنود على ما هو عليه.
ولكي يشمل عدم التعاون والغرب كل شئ، دعا غاندي إلى مقاطعة الطلبة والمعلمين المدارس الأميرية، والجامعات الحكومية، التي في صيانة الإنجليز وقت مراقبتهم مثل جامعة عليكرة الإسلامية، وجامعة خلصا السيخية، وجامعة بنارس الهندوكية، لأنها تهمل دراسة الثقافات الهندية واللغات القومية وتلقن الطلبة ثقافات عقلية، ولغات أوربية، تفسد مشاعرهم الوطنية، وتتلف مزاجهم الشرقي، وتبعدهم عن ثقافتهم الأصلية فشب الهنود يفضلون ثقافات الهند، مع أنها غرست في نفوس ميولا غربية عنهم، وعلمتهم الجدل واللجاجة، وحرمتهم من التربية الخلقية والروحية، التي تصفى القلب، وتطهر النفس. كما نشئوايتكلمون اللغة الإنجليزية، ويجهلون لغاتهم القومية، هذا فضلاً عن تجاهل المدارس الحكومية والجامعات الإنجليزية أهمية العمل اليدوي، وإغفال تدريسه في بلاد ثمانون في المائة من أهلها فلاحون وزراع، وعشرة في المائة منهم صياغ، وينشرون دراسات أدبية، لا تفيدهم في حياتهم، ولا تتفق ومصالحهم، ولا تساعدهم في أعمالهم. ولذلك يرى غاندي(794/24)
أن تعتني شتى الهيئات التعليمية في البلاد، بتدريس جميع الثقافات الأسيوية التي دخلت الهند منذ القدم. لأن ضرورة معرفتها للشخص المثقف لا يقل عن ضرورة معرفة الثقافات الغربية التي تسيطر على الحياة العلمية في الهند، وتحتكر الأسواق الثقافية، وتفضي على رغبة الهند في تعلم ثقافات الهند الأصلية، مع أنها أصلح لهم من أية ثقافة أخرى، لأنها تتفق وميولهم الفكرية، وتهتم بالتربية الروحية والتثقيف الأخلاقي، فوق أن دراستها يحيى العزة القومية، وينمى روح الهنود المعنوية، فينبغي أن يبحث مفكرو الهند عما في السنسكريتية والعربية والفارسية والبالية والماجدية من مخلفات علمية، لعل بحثها يهدى إلى كشف ثقافات جديدة مبتكرة، تستمد أصولها من هذه الثقافات التي دخلت الهند، وأثرت فيها، وتأثرت بها، وتشييد حضارة حديثة من مختلف الحضارات التي فعلت في الهند وانفعلت بروح الإقليم. لتحرر العقلية الهندية من سيطرة الفكر الغربى، وتنقذ روح الهند من نفوذ الثقافة الغربية، وتظهر تفوق الهنود في الروحية، كما تهدى دراستها إلى أدراك أسرار السيادة الوطنية ومعرفة وسائل السؤدد القومي، التي تقودها إلى الحرية والاستقلال.
(للكلمة بقية)
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات(794/25)
غناء الطيور بين العلم والأدب
للأستاذ ضياء الدخيلي
(بقية المنشور في العدد الماضي)
وظن بعض الشعراء غناء الحمامة نوحاً لفقد إلفها الذي فارقها فأخذ يطارحها الزفرات ويواسيها بنواحه قال الشبلي.
رب ورقاء هتوف في الضحى ... ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت إلفاً وعيشاً سالفا ... فبكت حزناً فهاجت حزني
فبكائي ربما أرقها ... وبكاها ربما أرقني
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني
غير أنى بالجوى أعرفها ... وهى أيضاً بالجوى تعرفني
أترها بالبكا مولعة ... أم سقاها البين ما جرعني
وقال ابن عبد ربه.
فكيف ولى إذا هبت الصبا ... أهاب بشوق في الضلوع دفين
ويهتاج منه كل ما كان ساكنا ... دعاء حمام لم تبت بوكون
وإن ارتياحي من بكاء حمامة ... كذي شجن داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت ... حزين بكى من رحمة لحزين
وقال ابن سنان الخفاجي.
وهاتفة في ألبان تملى غرامها ... علينا وتتلو من صبابتها صحفا
عجبت لها تشكو الفراق جهالة ... وقد جاوبت من كل ناحية إلفا
ويشجى قلوب العاشقين حنينها ... وما فهموا مما تغنت به حرفا
ولو صدقت فيما تقول من الأسى ... لما لبست طوقا ولا خضبت كفا
وقال مجنون ليلى.
ألا يا حمامات اللوى عدن ... عودة فإني إلى أصواتكن حزين
فعدت فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأشجاني لهن أبين
فلم تر عيني مثلهن بواكياً ... بكين ولم تذرف لهن عيون(794/26)
وقال ابن عبد ربه.
ونائح في غصون الأيك أرقني ... وما عنيت بشيء ظل يعنيه
مطوق بخضاب ما يزايله ... حتى تزايله إحدى تراقيه
قد بات يشكو بشجو ما دريت به ... وبت أشكو بشجو ليس يدريه
وقال شيباني وقد طالت غربته في الرأي.
وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو الشوق الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفراخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك الفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟
أفق لا تنح من غير شئ فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكى والفؤاد جريح
وقال ديك الجن.
حمائم ورق في حمى ورق خضر ... لها مقل تجرى الدموع ولا تجرى
تكلفن إسعاد الغريبة أن بكت ... وإن كن لا يدرين كيف جوى الصدر
وقال ابن دريد خرجنا من عمان في سفر لنا فنزلنا في أصل نخلة فنظرت فإذا فاختتان تزقوان في فرعها فقلت.
أقول لورقا وين في فرع نخلة ... وقد طفل الأمساء أو جنح العصر
وقد بسطت هاتى لتلك جناحها ... ومال على هاتيك من هذه النحر
ليهنكما أن لم تراعا بفرقة ... ومادب في تشتيت شملكما الدهر
فلم أر مثلى قطع الشوق قلبه ... على أنه يحكى قساوته الصخر
وقال عبد البر الغساني يخاطب طائراً مغرداً ضم أفراخه إليه.
أعدهن ألحاناً على سمع معرب ... يطارح مرتاحا على القضب معجما
وطر غير مقصوص الجناح مرفها ... مسوغ أشتات الحبوب منعما
مخلى وأفراخا بوكرك نوماً ... ألا ليت أفراخي معي كن نوما
وقال حميد بن ثور الهلالي.(794/27)
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت (ساق حر) نزهة وترنما
تغنت على غصني عشاء فلم تدع ... لنائحة من نوحها متألما
إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلا ومقوما
قال الجوهري الحمام عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت والقماري وساق حر والقطا والوراشين وأشباه ذلك وقال الأصمعي إن كل ذات طوق فهي حمام والمراد بالطوق الحمرة والخضرة أو السواد المحيط بعنق الحمامة في طوقها ونقل الأزهري أن الحمام كل ما عب وهدر وإن تفرقت أسماؤه والعب شدة جرع الماء من غير نفس.
وقال ابن سيده يقال في الطائر عب ولا يقال شرب والهدير ترجيع الصوت ومواصلته من غير تقطيع له قال الدميري في (حياة الحيوان) الورشان هو ساق حر وهو ذكر القماري وسمي ساق حر حكاية لصوته.
وقال أمين المعلوف الحمام الكثير في مدن العراق والذي يألف المساجد يدعى الحمام الطوراني ويسمونه في مصر الحمام الأزرق.
وقال ابن سنان.
أتظن الورق في الأيك تغنى ... إنها تضمر حزناً مثل حزني
لا أراك الله نجداً بعدها ... أيها الحادي بها أن لم تجبني
هل تباريني إلى بث الجوى ... في ديار الحي نشوى ذات غصن
هب لها السبق ولكن زادنا ... أننا نبكي عليها وتغني
وقال الأرجاني.
ومما شجاني وقد ودعوا ... بكاء الحمام على ساقها
تنوح على بعد ألافها ... وتظهر مكنون أشواقها
لبسن حداداً ومزقته ... فلم تدخر غير أزياقها
وضاقت صدوراُ بأنفاسها=فغضت مجامع أطواقها
وقد نزفت في الهوى دمعها ... فلم يبق ماء بآماقها
وقال بعض الأعراب.
وقبلي أبكي كل من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار البلاقع(794/28)
وهي على الأطلال من كل جانب ... نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجة الأعناق غر ظهورها ... محطمة بالدر خضر روائع
مزبرجة من الزبرج وهو الزخرف والزينة ومخطمة من الخطم وهو منقار الطائر أو من خطمه بالخطام أي جعله على أنفه وهو حبل يجعل في عنق البعير ويثنى في خطمه أي مقدم أنفه وفمه.
ترى طرراً بين الخوافي كأنها ... حواشي برد زينتها الوشائع
الوشائع جمع وشيعة وهي الطرائق في الثوب والخوافي ريشات من الجناح إذا ضم الطائر جناحيه خفيت.
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء منها الأصابع
وقال الشبيي من شعراء العراق اليوم.
يشكو الصبابة كل يوم مدع ... وأحقنا دعوى بها من ذاقها
لو أنصفت تلك الحمائم لوعتي ... نضت الخضاب ومزقت أطواقها
يا هذه حتى الغصون لما بها ... نثرت على وجه الثرى أوراقها
مثل التي لزم الخفوق جناحها ... أصبحت مرتكض الحشا خفاقها
وقال الشرقي وهو شاعر عراقي يخشى اليوم أن يطبع ديوانه لما في من ثورات فكرية على السياسة والاجتماع دفعه في تياراتها جموح الشباب ومال به عن تبعاتها حذر الشيخوخة وهواجسها.
أنا يا حمامات الأراك مغرد ... لكن برغم حلاك لا أتطوق
طوباك خلصك الجناح فما استوى ... روح مقيدة وروح مطلق
ضاعفت وجد الحائرين فليتهم ... إذ لم يكونوا طائرين تعلقوا
وقال أيضاً.
حمام الدير هل في الدير رهط ... يدل الظامئين على الزلال
وقال السيد حيدر الحلي وهو من شعراء العراق الذين توخوا الجزالة وروعة السبك وكان معجباً به شوقي (رحمهما الله) فيما تحدث الرواة وجل شعره في رثاء سيدنا الحسين وباقي شهداء كربلاء رضوان الله عليهم.(794/29)
وادعت حولي الشجاذات طوق ... مات منها على النياح الهجوع
شاطرتني بزعمها الداء حزنا ... حين أنت وقلبي الموجوع
يا طروب العشي خلفك عني ... ما حنيني صبابة وولوع
وقال الأخرس البغدادي.
يا ورق أين غرام قلبك من شج ... جعل النواح لشجوه معتادا
أو تشبهين الصب عند نواحه؟ ... ولقد بخلت بمدمعيك وجادا
وقال محمد سعيد الحبوبي من المتأخرين وهو شاعر بلغ الغاية في رقة الغزل وقد جارى الأندلسيين في موشحاتهم فاتى بالبدائع وفي آخر حياته رحمه الله رفع لواء الجهاد المقدس ومات مسموماً في حروب العراق ضد العدوان.
أحمامة الوادي عداك هوى ... لو حل فرعك أحرق الفرعا
أني اتخذتك لي منادمة ... ولقد شربت فغردي سجعا
وقال:
يا حمام الدوح بالله أعد ... سجعك اليوم لصب وأجد
إن تكن مثلي مهجوراً فزد ... ربما يطفي غليلي ربما
سجعك اليوم بلحن مطرب
يا حماماُ أن في وادي العقيق ... لا أرى لي غيرك اليوم صديق
فمتى من سكرة الحب تفيق؟ ... وإلى ما فيه تخشى اللوما؟
وتراعي نظرة المرتقب؟
يا حماما لم ترعه بالفراق ... جيرة تعقد بالهجر النطاق
أنت والغصن بضم وعناق ... وبأسر الريم أصبحت وما
دفعت عني سرايا العرب
وله من موشحه أخرى.
وحمام البشر غنى وتلا ... سير اللهو ينادي الطرب
قد رقى منبر بان واعتلى ... في مروج كمروج الذهب
فهو لا ينفك يملي للملا ... أعنقت بالحزن عنقا مغرب(794/30)
بغنا ناهيك فيه من غنا ... خمرة اللهو به لم تمزج
أترى معبد القي المدنا ... لحمام السقط والمنعرج
أعنق أسرع والعنق نوع من السير وعنقاء مغرب طائر معروف الاسم مجهول الجسم وقيل طائر يبعد في طيرانه وكنى بذلك عن عدم وجود الحزن والمدن خمس طرائق من الغناء اخترعها نفسه وسبب تسميتها بذلك أن قتيبة أحد الفاتحين في أخريات القرن الأول من الإسلام فتح خمس مدن في إحدى غزواته فقيل لمعبد المغنى ذلك. فقال وأنا اخترعت خمس طرق من الأغاني تعادل عندي تلك المدن الخمس راجع الكامل للمبرد تجد تفصيل ذلك والسقط معظم الرمل والمنعرج منعطف الوادي.
وقال محمد مهدي الجواهري شاعر العاطفة الفياضة والوصف الرائع ومتزعم الفكرة التقدمية في العراق:
وهاتفه راعها مقدمي ... فلاذت بأغصانها الميل
أيا ورق لا تذعري إننا ... شربنا العواطف من منهل
وقال ابن الدمينة:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد؟ ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غصن النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ... جزوعا وأبديت الذي لم تكن تبدي
وقال الخباز البلدي:
ذرى شجر للطير فيها تشاجر ... كأن صنوف النور فيها جواهر
كأن القماري والبلابل فوقها ... قيان وأوراق الغصون ستائر
شربنا على ذاك الترنم قهوة ... كأن على حافاتها الدر دائر
وقال محمد بن علي العاملي:
في ربوع كأنهن جنان ... عطفت جورها على الولدان
ورياض كأنهن سماء ... أطلعت أنجما من الأقحوان
بين ورق كأنهن قيان ... ركبت في حلوقهن المثاني
وغصون كأنهن نشاوي ... يترقصن عن قدود الغواني(794/31)
وقال ابن خفاجة:
وإراكة سجع الهديل بفرعها ... والصبح يسفر عن جبين نهار
هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة الأنوار
وقال ابن وكيع:
غرد الطير فنبه من نعس ... وأدر كأسك فالعيش خلس
سل سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرى الصبح من ثوب الغلس
وقال أبو الحسن المجريطي:
ألا حبذا نوح الحمامة سحرة ... وقد شق جيب الليل عن لبة الفجر
وسال نجيع الفجر من ثغرة الدجى ... وخمش ثكل الليل من صفحة البدر
وقال السري الرفاء:
وصاحب يقدح لي ... نار السرور بالدح
في روضة لبست ... من لؤلؤ الطل سبح
يألفني حمامها ... مغتبقاً ومصطبح
أوقظه بالعزف أو ... يوقظني إذا صدح
والجو في ممسك ... طرازه قوس قدح
يبكي بلا حزن كما ... يضحك من غير فرح
غير أن المعري يتردد في شكوكه قائلا:
أبكت تلكم الحمامة أم غن - ت على فرع غصنها المياد؟
وقد أصاب في تشككه وعدم اعتباره غنائها نواحاً كما ظن كثير من الشعراء ولكنه فاته أن الغناء من الذكور وليس من الإناث كما أوضح ذلك دارون وعلماء الطبيعة الآخرون إلا إذا اعتبرنا التأنيث هنا لفظياً قال في المنجد الحمام طائر معروف والواحدة حمامة ويقال حمامة للذكر والأنثى لأن الهاء هنا ليس للتأنيث بل للدلالة على أنه واحد من جنس وربما قالوا حمام للواحد جمعه حمائم وحمامات.
وقال بعض الأندلسيين:
انظر إلى النهر فيها ... ينساب كالأفعوان(794/32)
والطير تخطب شكراً ... على ذرا الأغصان
والقضب تلتف سكراً ... بمائس القضبان
والروض يفتر زهواً ... عن مبسم الأقحوان
والنرجس الغض يرنو ... لو جنة النعمان
وقال الشرقي من قصيدة احتفال الطيور:
ما ترى أيها الحمام الكئيب؟ ... كل شئ حتى الحجارة باسم
كل آن هزيمة وهروب ... أحياة الطيور ملأى هزائم
قال لي وهو خائف مستريب ... الخوافي تهيب بى والقوادم
عجباً كيف يطمئن الأريب ... لأناس تخاف منها البهائم؟
قال السيد علي خان في كتابه (أنوار الربيع في علم البديع) في فصل الاستعارة وكان شديد التهور كثير البطش ذاهباً بنفسه كل مذهب قال ابن سعيد صاحب القدح المعلى سمعته مرة وهو في محفل يقول يقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي، وفى عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه، فأهوى له شخص له قحة وإقدام فقال: يا أبا جعفر فأرنا برهان ذلك ما أضنك تعنى إلا نفسك. قال نعم ولم لا؟ وأنا الذي أقول ما لم يتنبه له متقدم ولا يهتدي لمثله متأخر.
يا هل ترى أظرف من يومنا ... قلّد جيد الأفق طوق العقيق
وأنطق الورق بعيدانها ... مرقصة كل قضيب وريق
والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكؤوس الشقيق
فلم ينصفوه في الاستحسان، وردوه من الغيظ إلى أضيق مكان. فقلت له ياسيدى هذا هو السحر الحلال فبالله إلا مازدتنى من هذا النمط فأنشد:
أدرها فالسماء بدت عروساً ... مضمحة الملابس بالغوالي
وخد الروض أحمره صقيل ... وجفن النهر كحل بالظلال
وجيد الغصن يشرق في لآل ... تضئ بهن أكناف الليالي
فقلت زد وعد، فعاد والارتياح قد ملك عطفه، والتيه قد رفع أنفه، وأنشد:
لله نهر عندما زرته ... عاين طرفي منه سحراً حلال(794/33)
إذ أصبح الظل به ليلة ... وجال فيه الغصن شبه الخيال
فقلت زد فأنشد:
فلما ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جددت ذكرا
أراد لقاءكم إنسان عيني ... فمد له المنام عليه جسرا
فقلت إيه! فقال:
ولما أن رأى إنسان عيني ... بصحن الخد منه غريق ماء
أقام له العذار عليه جسراً ... كما مد الظلام على الضياء
فقلت أعد، فأعاد وقال حسبك لئلا تكثر عليك المعاني فلا تقوم بحق قيمتها ثم أنشد:
هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فرداً بغير شبيه
فالصبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائم فيه
(بغداد)
ضياء الدخيلي(794/34)
الشعر بين الوثنية والإيمان
للأستاذ عطية الشيخ
لاحظ نقاد الأدب العربي من قبل خمود الروح الشاعري بين العرب إثر ظهور الإسلام، وإن الضعف الذي طرأ على الشعر لا يقتصر على الشعراء الذين ظهروا إبان عصر النبوة والخلفاء الراشدين فحسب، بل أدرك الشعراء المخضرمين أنفسهم، فسكت أكثرهم وضعف قويهم.
واتخذ هؤلاء النقاد من الموازنة بين شعر لبيد وحسان في الجاهلية والإسلام برهاناً على صدق دعواهم، وعللوا ذلك بأسباب شتى منها: انبهار شعراء الجاهلية ببلاغة القرآن الذي أفحمتهم فصاحته، ومنها تغير الموضوعات التي اعتادوا النظم فيها بعد أن أصبحت منكرات يحرمها الإسلام: كالفخر بالنسب، وتمجيد العصبية، والحض على الثأر. . . الخ، ومنها اشتغال العرب بالحروب ضد الإسلام أولا، ولنشر سلطانه في الآفاق بعد أن آمنوا به ثانياً؛ ومنها أن الشعراء المخضرمين أدركوا الإسلام في شيخوختهم فشاخ شعرهم وخبت أرواحهم، كما شابت وضعفت جسومهم؛ ومنها أن القرآن العظيم نال من قدر الشعر والشعراء في مثل قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. . . الآيات)، إلى غير ذلك من العلل المعروفة لطلاب الأدب.
وعندي أن هذه الأسباب مع وجاهتها إنما هى أعراض لعلة كبرى، وأن ما لاحظه نقاد الأدب العربي لا ينحصر في عصر صدر الإسلام وحده، ولا في شعراء العربية فحسب، وإنما هو حالة عالمية للشعر والشعراء في كل زمان ومكان، خلاصتها أن الوثنية والزندقة والإباحية من عوامل نمو الشعر، وأن الإيمان والاستقامة والفضيلة من عوامل ضعفه، وأن البيئات الوثنية أخصب للشعر من بيئة الإسلام والإيمان بمعناهما الأعم، وبذلك تستطيع أن تعلل فحولة الشعراء الوثنيين في الهند عن الشعراء المسلمين هناك مع اتحادهم في البيئة والجنس؛ وخلو أوربا في العصور الوسطى أيام تغلب سلطة الكنيسة من شعراء مجيدين كهوميروس قبل المسيحية وكهيجو وجوته بعد عهد الإحياء، وتغلب روح الشك وضعف الكنيسة، وعدم ظهور شاعر يهودي يؤبه له لعراقة هذا الشعب في الإيمان بتعاليم دينه، وجمال شعر الأندلس وقوة خياله في عصر ملوك الطوائف بعد ضعف الشعور الديني(794/35)
وشيوع التحلل والإباحية، وظهور شعراء مجيدين في لغة الضاد بعد غزو الآداب والعقائد والعلوم والجيوش الأوربية للبلاد غزواً زعزع الإيمان بالقديم، وضعف الشعر العربي في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وقوته قبل ذلك العصر في الجاهلية، وبعده في أيام الأمويين والعباسيين عندما ضعف الوازع الديني ودخل في حمى الدولة الإٍسلامية كثير من الشعوب الأعجمية، وأشاعوا في العرب عاداتهم وعقائدهم وتقاليدهم وأمراضهم الاجتماعية؛ وعدم ظهور الشعراء الكبار في روسيا السوفيتية لإيمان الروس العميق بمبادئ الشيوعية واتخاذهم منها ديناً هم أحباره وحواريه؛ ويمكن تعليل ذلك بأسباب منها:
1 - الشعر فن جميل يتأثر بالعاطفة وينبع منها، ويؤثر فيها، ويقف عندها؛ والإيمان مرتبة تتجاوز العاطفة إلى الفكر والإرادة، وهو نوع من المعرفة والتفكير محصور في نطاق العقيدة والناموس، ومتى تحكم العقل وأحيط بالفكر وقويت الإرادة وأخلد القلب إلى يقين العقيدة، فلا مجال لخيال ولا جموح لعاطفة، والجب جميعه موجه للمعبود المعلوم المجهول. . . ولذلك تزدهر الفنون الجميلة كلها - لا الشعر وحده - في الوثنيات أكثر من ازدهارها في ظلال الإيمان واليقين، وكنف الإسلام والتوحيد، فالنحت والتصوير والغناء والموسيقى والتمثيل والأناشيد أسس وأصول للديانات الوثنية وطقوسها، وليس الأمر كذلك في الإسلام واليهودية والنصرانية، وإذا رأيت في هذه الأديان شيئاً من ذلك، فهو أثر من آثار الوثنيات السابقة للأمم التي اعتنقت هذه الأديان.
2 - يعلم الشادون في الأدب أن الاشتغال بالعلم والفلسفة يضعف الشاعرية، وأن شعر الفقهاء والفلاسفة والعلماء خال من الجمال الفني، يكاد يفوح منه ثقل الفقه، وجفاف العلم، وتعقيد الفلسفة، ذلك لأن الإنسان يعسر عليه أن يعيش في حياتين فكريتين مختلفتين: إحداهما يسودها التفكير المنطقي، وأخراهما يسيرها الوجدان والعاطفة، ولأن ألفاظ أية لغة من اللغات قسمان قسم محدود المعنى محصورة، وقسم يشتمل بجانب معناه الأساسي على معان فرعية يثيرها في النفس جرس حروفه، أو لفظ آخر متعاقب معه فيها، أو أصل المادة التي اشتق منها هذا اللفظ، أو دلالته على معنيين، فيراد أحدهما أصلا، ويبقى الآخر فرعاً.
والأصل في الأسلوب العلمي أن يستعمل الألفاظ المحدودة المعاني، كما أن الأصل في الأسلوب الأدبي أن يستعمل الألفاظ ذات المعاني الفرعية، وقد أشار علماء اللغة إلى(794/36)
المعاني الفرعية حينما ذكروا أنه لا يوجد في المترادفات لفظان متحدي المعنى تماماً وإنما تكون بلاغة الشاعر في تجنب الألفاظ المحدودة الصلدة القاحلة، وتتبع الألفاظ ذات الظلال التي تضم إلى أصل معناها فروعاً وأغصاناً وأوراقاً وأزهاراً تكسب الشعر حياة وجمالاً وحركة وتصبغ عليه السمو، وقد لاحظ ذلك قديماً بعض أدباء الأندلس، وإن كان لم يعلل السبب ولم يزد عن ملاحظة أن بين الحروف أنساباً وقرابات تجعل لفظاً في الشعر أجمل من لفظ آخر متحد معه في معناه، ومثل لذلك بكلمة (خفاتا) في قول الشاعر:
لعمرك إني يوم بانوا - فلم أمت ... خفاتا على آثارهم - لصبور فذكر أن كلمة (خفاتا) لها
من الجمال الفني، ما لا تصلح له كلمة (سريعاً).
3 - ذكر علماء النفس أن النمو في أية ناحية من نواحي العقل الثلاث (الفكر والإرادة والعاطفة) يضعف الناحيتين الأخريين، بمعنى أن التفكير الكثير يضعف العاطفة والإرادة، وضربوا لذلك مثلا: الفيلسوف الذي حضر في أخريات أيامه حفلة موسيقية فلم يفقه لها معنى، ولم تتحرك مشاعره، ولم تتأثر بها عواطفه، فنذر أن لو عادت حياته كرة أخرى لخصص جزءاً من وقته لممارسة الفنون الجميلة، كما ذكروا أن الإرادة تضعف العاطفة، واستنبطوا أن قواد الجيوش لا شفقة عندهم، وأن المرأة تطغى عاطفتها على التفكير فيكون ضعيفاً فيها.
والإيمان فلسفة يقينية معها شك، ولا ينبت في مرعاها مستحيل، ولها منطق خاص يسيطر على ملكات النفس وقواها، فلا يبقى لغيره مجال، ولا يزحمه شعر ولا فن إلا ما يتصل بمنطق العقيدة ويوائمه، ويكون إذ ذاك شعراً محلياً لا يسيغه إلا من شارك الشاعر في عقيدته فيفقد الجمال العبقري للفنون الجميلة الذي يجعلها لغة عامة مفهومة للناس كافة، إذ لا يخفى أن النفوس البشرية تتحد في إدراك الجمال الرائع، بحيث ترى أن التماثيل والقصائد والتصاوير والمقطوعات الموسيقية العالية مقدرة عند جميع الشعوب، محترمة في كافة الأقطار والأعصار.
ومثال الشعر المحلي الجمال قصائد البوصيري في مدح النبي عليه الصلاة والسلام، فهي عند المسلمين من أروع الشعر، مع أن غيرهم لا يحس لها بجمال.
4 - من شأن الإيمان غرس الطمأنينة والرضا في النفوس فترويض العواطف الجنسية(794/37)
الجامحة، ومطاردة ما يساور النفس من وساوس وألم وحيرة، وإنما ينبع الشعر من الحب والألم، وما أحفل حياة الوثنيين والزنادقة بألم منبعه الحيرة، والفوارق بين الطبقات والتقاليد البالية التي لا يقبلها الأديب إذا قبلها البليد، وما أكثر دواعي الحب والهيام في حياة زمامها بيد العاطفة والوجدان، ولا قيود لها من فكر أو شريعة، ولا مجال للذة عندها إلا في الحياة الدنيا، ولا أمل لها في آخره، فراحت تستوفي حظها من النعيم، وتستمتع ما وسعها الاستمتاع بما في الدنيا من جمال وبهاء، منشدة قول الشاعر:
تمتع من شميم غرار نجد ... فما بعد العشية من غرار
أما المؤمن، فقد اشترى أخرته بدنياه، وجعل حياته الأولى مجازاً لحياته الثانية، ورأى في جمال الدنيا مفاتن يستدرج بها الشيطان الغاوين إلى مهاوي الجحيم، وهو مطمئن إلى السعادة في الأخرى إن فقد السعادة في الدنيا. وقد لاحظ هيرودوت من قبل عدم نبوغ الشعراء في مصر لخلو بيئتهم من الحب والألم.
5 - أضف إلى ذلك أن الوثنيات إذ كانت لا تؤمن إلا بمتاع الدنيا، فتحت الباب على مصراعيه للاستمتاع بها، وتركت للإنسان إشباع شهواته منها، واستعانت على التمكن من القلوب بالتأثير على العاطفة، إذ كانت عاجزة عن البقاء باستعمال الفكر والمنطق، فأصبحت تربة خصبة لنمو الفنون الجميلة التي منها الشعر.
أما أديان التوحيد، فقد استعانت في انتشارها بالدليل والبرهان إذا كانت قادرة على ذلك، بل إن روح الإسلام يدعو إلى النظر والتفكير ويجافي الفنون الجميلة كلها من شعر وتصوير وتمثيل وغناء وموسيقى ونحت، وكان أتقياء المسلمين ينظرون إلى محترفيها نظرة استنكار قد تصل إلى المقاومة والمحاربة.
6 - معلوم أن العواطف تنشأ في الفرد قبل نشوء الفكر، وأن عبادة آلهة متعددة تنشأ قبل عقيدة التوحيد، وأن الإنسان كلما تقدم خرج من حكم العاطفة إلى حكم الفكر، ومن عبادة الآلهة الكثيرة إلى عبادة الإله الواحد؛ ومثل ذلك تماماً في الأمم إذ يسبق عصرها الوثني عصر التوحيد فيكون مسايراً للعاطفة لا للفكر، حتى تصل الأمة إلى طور التفكير والإيمان، ولهذا يكون العهد الوثني معاصراً العهد العاطفي في الأمم، ولهذا أيضاً تجد شعر الشاعر الواحد في شبابه - أيام تأجج العاطفة - أقوى من شعره في شيخوخته عندما ينضج(794/38)
تفكيره.
عطية الشيخ(794/39)
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
اقتراح للإذاعة:
عادت الإذاعة أخيراً إلى برنامج (أعلام الأدب العربي) الذي كانت قد بدأته ثم قطعته منذ شهور. وهى تجرى في هذا البرنامج على تقديم البارزين في تاريخ الأدب العربي ابتداء من العصر الجاهلي، كامرئ القيس والأعشى وعنترة والمهلهل والنابغة الذبياني، وتختار للتحدث عنهم كبار الأساتذة، تعين لكل منهم من يتحدث عنه. وقد لوحظ أن الأساتذة المتحدثين يسلكون في تقديم تلك الشخصيات المسلك التقليدي المعروف في كتب تاريخ أدب اللغة العربية المتداولة في المدارس وغيرها، وقد وفى مؤلفو هذه الكتب تلك الشخصيات من الدراسة ما يربو على المطلوب للإذاعة، فلا يحتاج تقديمها للمستمعين إلى كبير عناء.
وفى الإذاعة برنامج آخر يشبه هذا البرنامج في شهرة أعلامه وقرب منالهم، هو برنامج (أعلام الإسلام) ويقدمه أيضاً كبار الأساتذة.
وأضم إلى ذينك البرنامجين أحاديث الصباح الدينية التي يقدمها الأعلام من علماء الأزهر، وهى مثلهما في سهولة الإعداد ووفرة المصادر، فقد جرى هؤلاء الأساتذة على أن يشغل متحدثهم خمس دقائق بشرح حديث من الأحاديث النبوية الشريفة، المختارة من كتب الحديث المعروفة وهى مخدومة في شروح وافية.
تلك البرامج الثلاثة لها قيمتها الأدبية والعلمية والدينية، ولها أثرها في التثقيف والتقويم والتهذيب، فلا يتبادرن إلى ذهنك أني أهون من أمرها بذلك الوصف، إنما أقصد إلى الاقتراح التالي:
أرى أن تطلب الإذاعة إلى كليات الجامعة وكليات الأزهر، أن تختار لها من طلبتها من يصلحون لتقديم تلك البرامج؛ ولا شك أن الطلبة الذين يختارون لن يجدوا أية صعوبة في القيام بهذا العمل لتوافر المصادر وخاصة المؤلفات الحديثة المنظمة السهلة الأسلوب.
ولهذا الاقتراح ثلاث فوائد: الأولى تدريب الشباب وإفساح المجال أمامهم، ولا بد أن تظهر من بينهم (وجوه جديدة) فمن العدالة إتاحة الفرص لمواهب الناشئين. الثانية مساعدة الطلبة على مواجهة أعباء المعيشة وخاصة في هذه الآونة التي استشرى فيها الغلاء. الفائدة الثالثة(794/40)
لخزانة الإذاعة، فإن الطالب يكتفي بجنيه واحد تدفعه إلى بدلا من عشرة لأحد الكبار الذين لن يغضبهم أن ينتفع أبناؤهم مهما كانت تضحيتهم.
وهذا الاقتراح أقدمه بالمجان لإدارة الإذاعة، فلا أكلفها ما يتقاضاه منها عضو بالمجلس الأعلى لقاء جلسة يقترح فيها مثل هذا الاقتراح، وهذه فائدة مادية ثانية للإذاعة. ومن الله الأجر والثواب.
ارسمي شجرة الزقوم:
نشرت جريدة (الأساس) مقالا بتوقيع (أمين صفوت) حمل فيه على صعوبة الامتحانات، وأورد أمثلة من الأسئلة الصعبة، منها سؤال في الرسم لطالبات السنة الثانية بالمدرسة السنية، نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم. أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين. إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رءوس الشياطين. فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون. ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم. ثم إن مرجعهم لا إلى الجحيم. . .
(ارسمي ما تتخيلينه بعد قراءة الآيات السابقة عن الجحيم وشجرة الزقوم وعذاب المجرمين في الآخرة).
فماذا يتخيل هؤلاء الطالبات المسكينات عن الجحيم وشجرة الزقوم وما عليها من رءوس الشياطين؟ إنه لخيال لو قرأناه في (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، أو في (الكوميديا الإلهية) لدانتي اللاجيري - لعددناه من الإعجاز الأدبي، فما بالك بطالبات في أول المرحلة الثانوية يطالبن بهذا الخيال وبرسمه؟.
ويدافع بعض أساتذة الرسم عن مثل هذه الأسئلة بما هو أعجب منها، فيقولون إنهم لا يريدون أن يقفوا بفن الرسم عند (القلة والزير) وإنما يريدون أن يرضوا الطلاب على التعبير عن العواطف وتصوير الانفعالات، أو هم يريدون على الحقيقة أن يأتي الناشئون بالخوارق والمعجزات فيصورون عالم الغيب غير مكتفين بعالم الشهادة. . .
ولو أن هذا النمط من الأسئلة أو من تعليم الرسم، يؤخذ به طلاب تحققت لديهم الميول الفنية، لهان الأمر؛ ولكنهم في تعليم عام يحتشد فيه الجميع من ذوي الميول والاستعدادات المختلفة، وليس يطلب من جميعهم أن يكونوا فنانين في الرسم مقتدرين على التعبير(794/41)
والتصوير، بل يكفي في هذا التعليم العام أن تفرض الأصول والخطوط الأولى في الرسم. وليس تكليف الناشئ العادي أن يكون فناناً معبراً في الرسم، إلا كمطالبته بإنشاء قصيدة من الشعر أو كتابة موضوع من الأدب الرفيع أو قصة من القصص الإنساني، وليس كل ذلك إلا كمطالبته بإضافة أو وضع نظرية في في العلوم الطبيعية، وقل مثل ذلك في سائر ما يتلقاه من العلوم والفنون.
أما بعد فقد سمعنا أن مشيخة الأزهر ستنشئ معهداً للبنات، وإني أشير عليها أن تستعير من المدرسة السنية الأستاذ الفاضل الذي وضع سؤال (شجرة الزقوم) وتسند إليه تدريس (رسم مشاهد القيامة) لبنات المعهد الأزهري لأنهن سيكن، بمشيئة الله، أقدر من تلميذات السنية على الخيال المستمد من آيات القرآن الكريم.
وهذه الصحافة:
ذكرت في الأسبوع الماضي أن أعضاء اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، اشتكوا في أثناء الاجتماع الذي نظروا فيه مسألة ترقية السينما العربية من أن الأفلام العربية ليست في المستوى الراقي الذي ينشد منها وأنها تنافى أحياناً الأخلاق العامة والمبادئ القويمة، ورجوا توصية الحكومات العربية لإصلاح هذا النقص.
ولست أرى تدخل الحكومات في ذلك مجدياً أو ناجعاً إلا أن يكون (تأميما) وأن يكون لدى الحكومة فنيون قادرون مخلصون للعمل، يستطيعون أن يقوموا بتنفيذ هذا التأميم على الوجه المنشود. أما بغير ذلك فإن عمل الحكومة المباشر لا يتعدى حذف ما ينافي الأخلاق والآداب العامة وهاهي وزارة الشؤون الاجتماعية تؤلف اللجان للنهوض بالسينما، فتجتمع وتنفض، وتنظر وتقرر، وكل شئ في السينما كما هو: أفلام بلا موضوع، وقصص تجرد من قبعاتها، وتسلية فارغة، ومجون مسف. . الخ.
ولست أدعو إلى تأميم السينما، فلست الحال ملائمة له، وإنما أريد أن أقول إن الجمهور - من حيث إقباله أو إعراضه - هو أهم عامل في ترقية السينما أو استمرار تفاهتها وسخفها. وقد ثار الرأي العام المستنير على هذه الأفلام، وبدأ الجمهور يعرض عنها إعراضاً يدخل فيه الوعي والملل من تكرر الحوادث المتشابهة، إلى جانب سوء المعيشة. وأحس السينمائيون بكل ذلك إحساساً يرجى أن يؤدى إلى الأخذ في التحسن.(794/42)
ثم لأنتقل بعد ذلك إلى شئ آخر غير الأفلام التي شكا منها أعضاء اللجنة الثقافية كما يشكو منها الجميع، ذلك الشيء هو نوع من الصحافة عندنا، أقرنه بتلك الأفلام لأنه يماثلها في أن كلا منها (دون المستوى الراقي الذي ينشد منه، وأنه ينافى أحياناً الأخلاق العامة والمبادئ القويمة) وأقصد هذه المجلات التي لا ترمي إلا إلى كسب القراء عن طريق التسلية الفارغة والمجون المسف كالأفلام حذواً. . . فكل شئ يكتب للترفيه الخاوي والإضحاك الهابط، ولا شئ وراء هذا أو ذاك من متعة فنية أو ثقافة نافعة، وفتيات هذه المجلات لا تقل إغراء ولا فتنة عن كواكب تلك الأفلام، وكثيراً ما تكون هذه هي تلك. . .
وإني أسأل بعد ذلك، وأنا أنظر إلى من خلف هذه الصحف من المخرجين والمشرفين عليها: ما هي رسالتهم؟ ويقف السؤال مشفقاً من استخذاء الجواب. . . فكل ما يبغون هو الربح المادي، أي أنه ليس لهم رسالة ثقافية أو فنية أو إصلاحية. وننظر إلى الوراء فنعبر السنين الماضية لنرى ما كانت عليه الصحافة من قبل، كان كل من يصدر صحيفة أو مجلة لا بد أن يرمي إلى غاية من تلك الغايات ولو مكرها بدافع الحياء من الناس. . . وحتى المجلات الفكاهية كانت ذات موضوع، فلم يكن هزلها خالياً من الأهداف الجدية.
وقد تقدمت الصحافة اليوم تقدما كبيراً يغتبط له وإن كان فيه ما يؤسف، وهو ما يشغل بعض الصفحات من الهذيان الذي يقدم منسوباً إلى الآداب والفنون، ثم ذلك اللون التافه المسف من المجلات التي لا غاية لها تحمد عليها.
وقد ثار المستنيرون على هذه الأفلام وازور الجمهور عنها. وهذه الصحافة لا تقل عن تلك الأفلام جدارة بالشكوى منها. . . فمتى تنال من الاستنكار والإعراض ما يجعلها تحس إحساساً يؤدي إلى الأخذ في التحسن؟.
اللجنة الثقافية واليونسكو:
ختمت اللجنة الثقافية للجامعة العربية اجتماعاتها بلبنان يوم الأربعاء الماضي، وتوجه على أثر ذلك إلى دمش أعضاء الوفد المصري في اللجنة برياسة الأستاذ محمد شفيق غربال بك، تلبية لدعوة وزارة المعارف السورية، وعاد الوفد بعد ذلك إلى مصر.
وقد أتيت في الأسبوع الماضي بأهم قرارات اللجنة في الشؤون الثقافية العربية، وكنت ذكرت قبل أن ستعرض على اللجنة في اجتماعها بلبنان مسألة موقف الدول العربية من(794/43)
مؤتمر اليونسكو وما يلابسه من طلب تأجيله وسعى اليهود للاشتراك فيه. وأذكر اليوم أن اللجنة رأت أن تسير في طريق الإعداد للمؤتمر، فدرست المسائل التي تتعلق باجتماعه في بيروت وأقرت خطة المساهمة فيه وتنظيم مظاهر النشاط الثقافي والعلمي والأدبي والفني الذي سيصحب المؤتمر طوال مدة اجتماعه، ويطلق على هذه المدة (شهر اليونسكو).
ثم اتخذت اللجة قراراً يقضي بتأييد الحكومة اللبنانية في تمسكها بعقد المؤتمر ببيروت في موعده المحدد في أكتوبر القادم. ومن مصر كتب معالي السنهوري باشا وزير المعارف إلى سفير مصر في فرنسا أن يطلب باسم الحكومة المصرية مؤازرة الحكومة اللبنانية في خطتها بشأن عدم تأخير عقد مؤتمر اليونسكو عن موعده الأصلي وعدم تغيير بيروت كمقر للمؤتمر.
ولا يسع المتتبع للظروف المحيطة بهذا الموضوع إلا أن يتساءل: هل يجتمع مؤتمر اليونسكو حقاً بلبنان في موعده الأصلي؟ ويبعث على هذا التساؤل ما قرره المجلس التنفيذي لليونسكو بباريس من قبول إسرائيل المزعومة في مؤتمر لبنان بصفة عضو مراقب إذا طلبت ذلك. . . وهي لا بد ستطلب. ولن يقبل العرب الاشتراك في المؤتمر وفيه الصهيونيون بأي صفة من الصفات؟ لذلك يبدي بعض أعضاء اللجنة الثقافية شكه في أن يتم اجتماع اليونسكو في لبنان ما دامت المشكلة الفلسطينية قائمة.
طلائع الأدب في الحجاز:
وقع في يدي أخيراً كتاب (أريد أن أرى الله) فسررت به، لأنه كتاب واحد من إخواننا أدباء الشباب بالحجاز، وما أخال أدباء الحجاز إلا شباباً. أولئك الذين وجدت البذور الكامنة في تلك البلاد منافذ في ثقافتهم الحديثة، فنبتت وترعرعت، وجعلت تبهر الأنظار بما تؤتي من الثمرات الطيبات.
ومن أولئك الشباب الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار صاحب كتاب (أريد أن أرى الله) وهو مجموعة أقاصيص يفتح بها باباً جديداً في الأدب الحجازي الحديث. وتحتوي هذه المجموعة على قصتين اختار أولاهما وهي (أريد أن أرى الله) من قصص تولستوي، والثانية من تاجوو. ثم خمس قصص مؤلفة بدت فيها موهبته وقدرته على العرض والتحليل، وتبدو في هذه القصص صور ظريفة من البيئة المحلية، رسمها المؤلف بدقة،(794/44)
وأشاع فيها كثيراً من الظرف والدعابة.
ليس المقام للاسترسال في الحديث عن تلك القصص، وإنما أريد أن أعبر عن اغتباطي بنفحة من نفحات الحجاز.
من طرف المجالس:
أقبل صاحبنا فاتراً، وأخذ مجلسه متهالكا، ثم أرسل الصعداء. . .
- مالك؟
- محاضرة!
- ألست قد فرغت من إعدادها؟
- أتظن أني أعد محاضرة لألقيها؟ كلا، لقد ألقيت علىّ محاضرة. . . صبت علىّ. . . إنني أعلم وقع هذه المحاضرات التي يحسب أصحابها أن ما يقولونه لا يعلمه إلا هم، فيبدءون ويعيدون، ويطيلون ويثقلون، ولا يحسبون حساباً لما يشعر به السامعون من ملل وأسف لضياع الوقت. ولا أطيل عليكم كما يطيلون، فقد رأيت بالأهرام أن الدكتور فلان سيلقي محاضرة بنادي كذا. ولست سريعاً إلى تلبية الدعوات إلى المحاضرات. ولكن الدكتور فلان محدث طلي صاحب فكرة، وهو صديقنا، فذهبت لألقاه هناك وأستمع إليه ساعة. فما راعني إلا اعتذاره من عدم الحضور وقيام أحد الحاضرين ليحل محله. وانهال علينا المحاضر (المتطوع) فأطال وأمل، وأنا أتململ. . . ومنعني الحياء أن أغادر المكان. وهكذا وقعت في الفخ، ومن مأمني أتيت. . .
قال له أحد الجلساء: تعيش وتسمع غيرها!
وقال آخر: لقد كانت إذن محاضرة (مبرحة)!
عباس خضر(794/45)
البَريدُ الأدَبيَ
خواطر مسجوعة:
(مهداه إلى الأستاذ حامد بدر)
في الناس قوم لا يرون إلا الذهب، ولا يسمعون إلا رنينه، لا يبالي أحدهم أن يئد الأدب، ويبيع في سبيل العار وطنه ودينه. همه أن يقال شجاع جرئ، وهو - في الحق - صغير بذئ، أو ينال الزلفى والجاه، وإن عفر على الأعتاب الجباه.
يتظاهرون بأنهم مصريون، ومصر عليهم براء، ويتماجدون بأنهم ألمعيون، وهم - في الحق - رقعاء. المال أعمى أبصارهم، وأخمد نارهم، فأنكروا دارهم، وتجاهلوا جارهم، ولجئوا إلى المغالطة والكذب، وما ألجأهم إلا الذهب.
كم ظهر الفرح على وجوههم حين تنال مصر بشر! وكم بدت الشماتة على ألسنتهم حين يمسها الضر! في القلوب حقد دفين، يخفيه الطمع في برها، ويظهره الطمع في غيرها. وفي الأخلاق داء مكين، يجعل المنفعة أساسها، ويجعل النفاق رأسها. مسكينة مصر، تلقى منهم كل ضر، يأكلون من خيراتها، وينسبون إليها، وهم ألد عداتها، بل أقسى من عداتها عليها.
ومن عجب أن مصر تعرف كل ذلك، ولكنها تغض الطرف عما هنالك. في الصحف طعن عليها وسباب، وفي المجالس نيل منها واغتياب، ولكن الكرم الحاتمي أخص صفاتها، والحلم الأحنفي رفيق حياتها،
والنفس تأكلها الحسرة، وتخنقها العبرة، حين ترى المحسن يساء، والمسيء يأخذ ما يشاء، هل جاءكم نبأ موظف مصري لا يعجبه في مصر شئ، ويعجبه في غيرها كل شئ؟ وهل سمعتم برجل من رجال العلم هو أداة طيعة في يد المال يصرَّفه كيف شاء، ولا يبالي أحسن أم أساء؛؟.
نحن نعيش بين العبر، ولا نعرف المبتدأ من الخبر، وعلى ألسنتنا القول ولا نقول، وما غناء القول إذا تغابت العقول. . .
علي العماري(794/46)
مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بأم درمان
حول شعراء وأدباء في جيش الفاروق:
قرأت في عدد الرسالة الأخير (892) كلمة للأستاذ محمد خليفة التونسي عن كتابي (شعراء وأدباء في جيش الفاروق) فرأيت من (العدل) أن أعقب عليها بغية تبيان الحقيقة.
1 - قال الناقد في صدر حديثه (إنني ضابط، ويعلم الله أنني لم أحظ بشرف الجندية. . .
2 - قال الأستاذ خليفة - نقلا محرفاً عن تعريف الناشر بي - (ينأى بنفسه عن إغراء المرأة حتى استأثرت به أخيراً (قديسة) تراه يفنى في تقديسها، فهو تعريف (تقديري) للقراء أن يفهموا منه ما يفهمون كما يفهمون) ولو تحرى حضرته الدقة لأدرك أن الناشر يعني (والدة) المؤلف!.
3 - وصم الناقد المقدمة التي تصدرت كتابي والتي قررت في خلالها أن الأدب والجندية لا يتنافران بأنها (صرخات في الهواء) وكان أولى به بدلاً من أن يلقى القول (جزافاً) أن يقدم الأدلة والبراهين. . .
4 - حين وضعت هذا المؤلف عن الشعراء والأدباء في جيش الفاروق المعظم لم أبتغ إلا تقديمهم خارج النطاق العسكري. وكان مثلى مثل (التاجر) الذي يقدم (بضاعته) و (يروج) لها بشتى السبل. . .
5 - في حديث الناقد عن (ذوق) الكاتب في أخبار (النماذج) كان مسرفاً في التعبير. . . ولو تحقق الناقد لأدرك أننا لم نقدم نماذج لليوزباشي سيد فرج، والبكباشي محمد عبد الفتاح إبراهيم.
6 - وكلمتنا الأخيرة تعنى بأنه ينبغي أن يعرف (الناقد) رسالته على حقيقتها فيكون على حد تعبيرنا أشبه ب (جندي المرور) الذي يوجه الحركة ولا يكون ك (الكونستابل) الذي يحرر (المخالفات) فحسب!!
محمود عيسى
سكرتير تحرير مجلة الجيش(794/47)
ليس في اللغة (شغوف):
كان بيميني العدد 784 من الرسالة الغراء وكنت أقرأ فيه مقالا ممتعاً للشاعر الناثر الأستاذ الجليل محمود رزق سليم مدرس الأدب بكلية اللغة العربية، فما إن بلغت ممن القراءة إلى لفظة (شغوف) في قوله في صحيفة 779 (جلس في ظلالها جلوس الواله (الشغوف) حتى أمسكت لساني عن متابعة القراءة، ووقفت حيالها هنيهة أستذكر بقايا ما أحفظه من أبيات فيها ألفاظ تؤدى نفس هذا المعنى، ليس من بينها هذه اللفظة غير العربية التي نحن بصدد الكلام حولها. وهذه الأبيات ليست في كثرة وهى - قال البحتري:
ولمة كنت (مشغوفاً) بجدتها ... فما عفا الشيب لي عنها ولا صفحا
وقال المتنبي:
كأن الحزن (مشغوف) بقلبي ... فساعة هجرها يجد الوصالا
وقال الشاعر:
قوم ترى أرماحهم يوم الوغى ... (مشغوفة) بمواطن الكتمان
وقال الشاعر:
(مشغوفة) بك قد شغفت وإنما ... حم الفراق فما إليك سبيل
وتقصياً من الشك وسداً لثغرة الاحتمال بعد هذه الأبيات على رغم قلتها، وإن كان فيها غنية أي غنية فكنت قد اقترأت فريقاً من معاجم اللغة في اهتمام تام، وفى تيقظ وتحفظ فلم أعثر للفظة (شغوف) هذه على أثر البته، وإنما الذي ألفيت هو (المشغوف) بالغين المعجمة (والمشعوف) بالعين المهملة أيضاً ليس غير، فيتضح إلى ذلك أن هذه اللفظة الغربية ليست من اللغة العربية، وإنما تسربت إلى أقلام بعض الكتاب من سبيل الصحف التي لا سلطان لأدب اللغة عليها.
فالويل كل الويل للصحف من هذه اللغة الرائعة البارعة فإنها لا تحفل في أكثر الأحايين إلا بالمعنى فقط؛ وأما اللفظ - ولا معنى بغير لفظه - فإنها ترسله على عواهنه إرسالا من غير احترام للأدب اللغوي.
(طرابلس الغرب)(794/48)
محمد مهدى أبو حامد
كلية أحمد باشا
لا أزال:
قرأت في العدد 790 ص 967 مقالاً للأستاذ أحمد أحمد العجمى اعترض فيه على دخول (لا) على (أزال) المضارع إلا في الدعاء واستشهد بشعر ذى الرمة. وقد وهم الأستاذ في اعتراضه فإن القاعدة قاصرة على الماضي فقط (زال) تدخل عليه (لا) في الدعاء فقط وفى غيره تدخل ما.
قال الله تعالى: (فما زالت تلك دعواهم) سورة الأنبياء - وأيضاً: (فما زلتم في شك) سورة غافر - وأما المضارع فالأصل فيه دخول (لا) قال الله تعالى: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) سورة المائدة - وقال: (لا يزال بنيانهم). في التوبة - وقال (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم). في سورة الرعد - وقال: (ولا يزال الذين كفروا في مرية). في الحج - وقال: (ولا يزالون يقاتلونكم) في البقرة - وقال: (ولا يزالون مختلفين) في هود - وليس في القرآن الكريم غير ذلك.
ومن هذا ترون أن الأستاذ العجمي لم يوفق في اعتراضه وأن الصواب أن يقال (مازال، ولا يزال) في الماضي والمضارع.
عبد السلام النجار
تعقيبان:
1 - أحب أن تعلم الآنسة الأدبية سعاد كامل أنى لازلت عند وعدى، فسأتكلم قريباً عن الشاعرين الكبيرين محرم والكاشف على صفحات الرسالة، وأظن الآنسة الفاضلة تعرف أنى بعيد عن القاهرة الآن، فلا سبيل إلى دار الكتب المصرية في الريف، وهى بما تحتويه من جرائد ومجلات أدبية، مرجع الباحث عن قريض شاعرين عظيمين، لم يقدر - بعد - لديوانيهما الظهور في سفر شامل محيط، فإلى الغد القريب أن شاء الله.
2 - وقع في قصيدتي (المجاهدة الشهيدة) المنشورة بالرسالة تطبيع أدى إلى اختلاف(794/49)
الوزن وغموض المعنى. وفيما يلي تصحيح الأبيات المحرفة.
كعصافير ظنت الأيك يخلو ... من شريك فبوغتت بالصقور
كل ليث يهيج في صدره البأ - س كنار تشب في تنور
سمعت في الدجى البهيم أنينا ... لجريح يئن تحت الصخور
محمد رجب البيومي(794/50)
القَصَصُ
صفقة!. .
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ مصطفى جميلمرسى
مثل المتهمان (سزار أزيدور برومنت) و (بروسبر نابليون كورنى) أمام محكمة جنايات (السين) لشروعهما عن عمد في قتل امرأة (برومنت) المتهم الأول!. . .
وزُجّ بهما في (قفص الاتهام) فراحاً يقلبان نظرات حائرة، ويرددان أنفاساً مضطربة. . . وكان كلاهما من أهل الريف.
وبدا (برومنت) ربعة قصير الذراعين والساقين. . . قاني الوجه مرصع الديباجتين بالبثور. . . وقد التصق رأسه الأكبس بجسده القميء الكروي. . . وما بينهما من عنق. . . وكان يقطن مدينة (كاشفيل - لا - جوبل) في ولاية (كريكتوت) ويقتات رزقه من رعاية (الخنازير) وإنمائها!. . .
أما (كورني) فرجل ضاوي الجسم غير فارغ القوام. . . يتدلى من كتفيه ذراعان مفرطان في الطوف. . . أشوه الوجه، أضجم الشدقين، أحول العينين. . . يرفل في كساء أزرق كالقميص، يطويه حتى الركبتين. . . وينسدل على جبينه العريض بعض شعيرات مصفرة اللون، تخلع على وجهه سمات بغيضة تعافها النفس ويمجها البصر. . .
وكان القوم يدعونه بالقس لما أوتيه من براعة في ترتيل الأناشيد بين جنبات الكنيسة. . . حتى هام به بعض الناس. . . في (كريكتوت)، وذابوا إعجاباً به وشغفاً بتسابيحه إلى الله! واستقرت في (منصة الشهادة) زوجة (برومنت) وهي فلاحة عجفاء بادية الهزال. . . تكاد أن تخر من الوهن، وتوشك أن تغرق في النوم. . . كانت واجفة واجمة لا تحرك ساكناً، وقد عقدت راحتيها في حجرها وراحت حدقتاها تدوران في بلاهة واضطراب. . . وتجلت في صفحة وجهها آيات من الجمود ودلائل من الخمود!. . . .
ابتدرها القاضي في صوت رفيق رقيق مستأنفاً مسعاه في التحقيق: -
(لقد أدركت - أيتها السيدة الفاضلة - أنهما اقتحما دارك. ثم ألقيا بك في (البرميل) المترع(794/51)
بالماء. . . فدعينا نلم بجلية الأمر في إسهاب. . . تكرمي بالوقوف). . .
فما إن همت قائمة، حتى لاحت في قبعتها كعمود شاهق، وطفقت تجأر بقصتها في صوت ترسله على مهل:
بينما كنت أقشر الفول. . . دلفا من الباب معاً. . . فحدثت نفسي (إن الشر يزمهر في عيونها. . . ما أقبلا إلا لسوء، وما أضمرا سوى الغدر. . . سأمسك حذري منهما) ومكثا يختلسان إلى نظرات شذراء. . . وعلى الأخص (كورني) الذي لا يفتأ يشوب الحول عينيه. . . فأحسست لمرآهما معاً بالكمد يخذني والحسرة تمضني فما كان أحدهما ممن يشرف المرء ويثير زهوه!.
ولم ألبث أن قلت لهما (ماذا وراءكما؟!) فما نبس أحدهما ببنت شفه، بل ظل سادراً في صمته. . . مما دفع الريبة إلى قلبي،
وهاج الظنون في نفسي!. . .)
فصاح (برومنت) المتهم في حرد وجفاء:
- (لقد كنت أترنح وأنا سليب الوعي!. . .) فألقى (كورني) بطرفه إلى شريكه في الإثم، وقال له فس صوت عميق كأنه عزيف الأرغن:
- (ما كنت مجانفاً للحق. . . لو قلت كلانا كان مترنحاً سليب الوعي!. . .)
فانتهره القاضي في عنف ودهشة:
- (أو تقولان أنكما كنتما ثملين مخمورين؟!. . .)
برومنت - (وهل في ذلك من حرج؟!. . .)
كورني - (إنه يقع لكل البشر!.)
فكظم القاضي غيظه، وهو يروم الشاهدة:
- (ناشدتك الله. . . صلي ما انقطع من روايتك. . . أيتها السيدة الفضلى!.) فعادت المرأة تقول في صوتها الأجش وهي ترسله في تؤدة وعلى مهل:
- (ثم سألني برومنت (هل لك في خمسة فرنكات؟!) فوافقته على سؤله. . . لأنك لم تعثر على خمسة فرنكات تحت كل أيكة تصادفها. . . فما لبث أن قال لي (هلمي معي. . . وسوف أريك ما تفعلين!. . .) ثم مضى حيناً. . . وعاد يدفع أمامه (البرميل) الضخم الذي(794/52)
نتلقى فيه ماء المطر. . . ثم أقامه في وسط المطبخ. . . وهو يقول (هلا تملئينه حتى الشفا بالماء).
فشمرت عن ساعد الجد، ولم آل جهداً ساعة، وأنا أسعى بالدلوين بينه وبين البحيرة أحمل مزيداً ومزيداً من الماء. . . فقد كان من الضخامة، حتى لكأنه بئر بعيد الغور. . .
أما هذان الزنيمان (برومنت) و (كورني) فقد مكثا طيلة الوقت يعبان في الخمر. . . ويملان الكأس تلو الكأس. . حتى لم أتمالك أن صحت فيهما (لكأنكما أكثر امتلاء بالخمر من هذا البرميل. .) فأجابني برومنت: لا تبالي بما نحن فيه. . وثابري على عملك أنت. . فلسوف يحين دورك. .) فلم أعره سمعاً. . لأني أعلم بما للخمر من عقبى تسل العقل من إدراكه، وتمنع النفس صوابها.
حتى إذا فاض (البرميل) بالماء. قلت (يا هذا. لقد فرغت من عملي) فناولني (كورني) خمسة فرنكات - كورني وليس برومنت يا صاحب السعادة. . إنه كورني الذي منحني أجري. . ولكن لم يلبث (برومنت) أن قال: (هل لك في خمس فرنكات أخرى!.) فقلت على الفور (نعم. .) حتى لا تفلت من أناملي هذه الفرصة الذهبية. . . فانثنى يقول (هيا انزعي ثيابك!. . .) فصحت فيه وفد أخذتني الدهشة والعجب (أنزع ثيابي؟!.) فأجابني (أجل) فسألته منكرة (أأفّضها كلها؟!) فقال (إن كان هذا يثير انزعاجك. . . فامسكي عليك قميصك. . . إنا لا نبغي نزاعاً. . .)
حسن. . . خمسة فرنكات قدر لا يستهان به. . فما على من بأس لو فادعت هذين السفيهين. فرفعت قبعتي من فوق رأسي. ثم خلعت دثاري. . وسللت قدمي من النعلين!. وحينئذ قال برومنت (ليس ثم داعي للخلاص من جواربك. . نحن قوم ورعون أولو تقي!.) فهتف كورني مرجفاً (أجل. . نحن قوم ورعون أولو تقي!.).
وهكذا قمت أمامهما على شبه من أمنا (حواء)!. فنهضا من جلستهما ترنحهما الخمر. وهما لا يكادان يثبتان على إقدامهما. عفواً يا صاحب السعادة. . قلت لهما (وماذا بعد؟!) فصاح برومنت (أو مستعد أنت؟!) فأجابه كورني (مستعد!).
ثم لم يلبث (برومت) إن امسكني من رأسي، وقبض كورني على قدمي. . . كالشاة التي تهيأ لغسلها!. فما أن هممت بالصياح، حتى زجرني (برومنت) في قسوة قائلاً (امسكي(794/53)
لسانك. . . أيتها المرأة الوقحة!.) ثم رفعاني في الهواء، وقذفا بي في (البرميل). . . فسرت في كياني قشعريرة جعلت الدم يضطرب في عروقي ويتصاعد دافقاً إلى رأسي. . . فتصطك أسناني وأحس الجمد يعتريني من ناصيتي حتى أخمصي!. .
وسمعت برومنت يقول (ولكن رأسها ما برح لا يغمره الماء. إن هذا يدخل في الحساب!.) فرد عليه كورنى (ضع رأسها إذن تحت الماء!.) فلم يلبث أن دفع رأسي في البرميل كمن يعمد إلى إغراقي. . . فاستشعرت الماء يتسرب إلى أنفى. . . وتراءى كأني أوشك أن اتخذ سبيلي إلى السماء!. .
وما أنفك يدفعني. . . حتى غمرني الماء. . . ثم خالجه الخوف فجأة، وساوره الندم، وراودته الرحمة. . . فعاد يرفعني قائلاً: - (هيا جففي جسدك، واخصفي عليك ثيابك. . . يا حقيبة من العظام. . .)
فلم أكد أثوب إلى نفسي وأتمالك مشاعري. . . حتى أطلقت لساقي الريح، وهرعت إلى (راعى الكنيسة) ذلك الرجل الطيب القلب الكريم النفس الوفي الخلق. . . فأعارني دثاراً من ثياب خادمه. . . وطفق يسرى عنى حتى أفرخ روعي!. . ثم انطلق يدعو صاحب الشرطة والسيد (شيكوت) النائب!. .
وعدنا أدراجنا جميعاً إلى الدار. . . فألقينا برومنت وكورنى يتقاتلان كزوج من الكباش!. . وكان برومنت يزمجر والغضب يتقد في عينيه (إن هذا وكس. . . لقد أخبرتك أنها ليست دون (المتر المكعب) لقد أسأنا العمل وأخطأنا الوسيلة!.)
فضج كورنى في حنق (بل أربعة من الدلاء الممتلئة. . . لا تبلغ نصف المتر المكعب. . . إنها حقيقة. . . لا تملك لها إنكاراً ولا تجد منها خلاصاً!. .) فدنا منهما صاحب الشرطة، وحال بينهما في صرامة. . . وما كنت أحير شيئاً!. .)
وتهالكت السيدة على مقعدها. . . فانفجرت في قاعة المحكمة عاصفة من الضحك. . . وتناظر المحلفون، وقد رفت على ثغورهم ابتسامات تحفها الرزانة. . . حتى إذا رانت السكينة وخيم الهدوء خاطب القاضي (كورنى) المتهم:
(يبدو أنك المحرض على هذه المكيدة التي تفيض شناعة وتدر خزياً. أو عندك من الدفاع ما تقدمه بين يدينا جلاء لما قارفته!)(794/54)
فهم (كورنى) على قدميه قائلا: (لقد كنا ثملين تبعث برأسينا الخمر!) فأجابه القاضي في رصانة وهدوء (إنى أعلم هذا صل حديثك!) - (مهلا!. . . سيواتيك ملا تعلم. . . حسن! لقد جاءني (برومنت) في تلك الصبيحة، ودعانى إلى كأس من شراب (البراندي). . . فجلست إليه وأفرغته في جوفي. . . وحفزني الأدب إلى أن أقابل فضله بمثله. . . فدعوت له بكأس آخر. . . فأجابني بكأس ثالث، فرددت عليه برابع. ودالت بيننا الخمر ودارت منا الرؤوس. . حتى انتصف ميزان النهار. . فإذا بنا مخموران نترنح من النشوة!. .
وطفق برومنت يجأر بالصياح. . فخالجني الأسف له وأحسست إشفاقاً عليه!. . . فسألته عن جلية أمره!. . . فقال (لابد لي من ألف فرنك قبل الثلاثاء!.) فانطويت على نفسي. بالطبع. بيد أنه شك غير طويل، ثم قال في مثل هدوئك وشبه وقارك يا سيدي: (سأبيعك زوجتي!.)
حسن. . . كنت ذاهب الوعي عاطل الرشد. . . وكانت زوجتي قد لبت داعي المنون. . فدار بخلدي - وهو مضطرب - أن من الخير أن استحوذ على آمراته. . ما كنت أدرى عنها شيئاً. . . ولكن الزوجة دائماً هى الزوجة. . . فأثنيت أسأله (وكيف تبيعها لي؟!) فتطمئن رأسه وهو يفكر، أو لعله خلع على ذاته سمات التفكير ومظاهر التدبير. . فالمرء إذا عانق الصهباء. . تبلبلت في ذهنه الآراء، وعاثت في جسده الأدواء.
ثم لم يلبث أن أشرق وجهه وانبسط جبينه وهو يقول: (سأبيعها لك بالمتر المكعب!.) فلم يأخذني الدهش، فما برحت نشوة الخمر تعربد بين جوانحي. . كما أنى استخدم المتر المكعب في تجارتي!. . . إن المتر المكعب يقدر بألف لتر. . . فوافقت هواه، بيد أن العقبة التي تنهض في سبيلنا. . هي الثمن، وهو رهين بما يتمخض عنه عديد الأمتار. . وعن لي أن أسأله:
- (وكم تود في المتر المكعب؟!.)
- (ألفى فرنك!. .)
فوثبت من مجلسي كأرنب مروع. . ولكن جال بخاطري أن ليس ثم في الوجود امرأة تجاوز في الكيل ثلاثمائة لتر!. .
قلت له:(794/55)
- (إنك على شطط فيما عرضت!.) فأجابني وهو يهز رأسه:
- (لا آخذ دون ذلك. . فإنها لخسارة تفدحني!.)
كان يساومني كأنه يبيعني إحدى خنازيره، وإنه لبارع قدير على بضاعته. . هه. . هه. . قلت له (: إن كانت شابة فتية فلسوف أغضى ولا أبالي. . أما إن كانت أخت عجز لطول ما أبليتها وأخلقت جدتها. . فما أدفع فيها سوى ألفاً وخمسمائة للمتر المكعب ولن تمس دانقاً مزيداً عليها أو ترضى؟) فارتفع صوته هادئاً رضيت!. هيا نتصافح. .)
فهززت يده شداً على العهد. . وانطلقت متأبطاً ذراعه. . لا بد للإنسان في زحمة الحياة الشقية وموكبها الصاخب أن يمد يد العون لأخيه الإنسان!. . بيد أني ما لبثت أن أغرقت في الحيرة وفاض بي الدهش!!. فانقلبت أسأله: (كيف تسعى لكيلها؟. وما هي بسائل!. . لسوف يعييننا أمرها!.).
فإبان لي عن خاطر ما كان يتجلى من عقل ثقلت عليه وطأة الخمر. وشاعت في صفائه شوائب الثمل. قال: (سآتي ببرميل. ونملأه حتى يطفح منه الماء. . ثم نضعها فيه. . ونقدر ما ينسكب من الماء. . فهو جرمها.) فهتفت في إعجاب: (إنه رأي سديد. وفكرة صائبة!. . ولكن كيف نقدر ما ينسكب من الماء، وما يتناثر من الرشاش؟. ولسنا له بحاصرين!).
فرماني بالغباء، ودعاني بالسخف. وأخبرني أن كل ما نفعله هو أن نملأ (البرميل) تارة أخرى. . بعد أن ننتشل امرأته، ثم نقدر ما نضيفه من الماء بعد ذلك!. إن كان عشرة دلاء فإن نظيرها متر مكعب!. أه. ليس ثم في الوجود أمرؤ أحدّ ذكاء وأمضي فطنة من هذا اللئيم، والخمر ناشبة في رأسه، جاثمة على عقله!. .
وصفوة القول. . . اتخذنا سبيلنا إلى بيته. . . فلما وقع طرفي على المرأة. . . رحت أحدق فيها وأنقضها ببصري في نظرات فاحصة. . . لم تكن على مسحة من الجمال. . . وهاهي ذي أمامكم. . . فنظروها. . وحدثت نفسي. . (لا عليك)!. . . سواء تفيض ملاحة وتسيل قبحاً. فإنهن يؤدين جميعاً الغاية المنشودة!. . .) أليس كذلك يا صاحب السعادة؟!. . . كما أنها كانت عجفاء ضامرة الجسد كأنها العصا اليابسة. . . فساورني خاطر (أنها لن تجاوز أربع لترات!. . .) إني خبير بهذه الأمور. . . فهي سر مهنتي!. . .
وقدمت لكم ما حدث. . لم نجردها من قميصها وجوربها، لما تعمر به قلوبنا من الورع، وما(794/56)
تزخر به نفوسنا من الحياء. . مع ما في ذلك من خسارة لي. . . فلما بارحت (البرميل). . . مرقت من بين أيدينا، وأطلقت لساقيها العنان تسابق الريح. . . فصحت مشدوهاً (وي؟. . . برومنت. . . إنها تفر منا؟. . .) فأجابني في صوت هادئ: (لا تحفل بأمرها. . . فلسوف تنكص على عقبيها سريعاً. . فأمسك بها لك في هوادة. . . دعنا نحسب النقص!. . .)
فلم تتجاوز الدلاء أربعاً. . ها. . ها. . ها. .!. .)
وانطلق السجين في ضحك يهزه هزاً عنيفاً. . حتى ربث على ظهره جنديه الحارس في رفق. . . فثاب إلى هدوئه وفاء إلى سكينته، ثم استأنف حديثه:
(وصفوة القول. . لم تأت الأمور على ما يشتهي برومنت، فصايحنا، ودوي صراخنا!. . ثم تعطلت لغة العلام، فأمسك كل من بتلابيب الآخر يروم ضربه، وطرحه على الأرض. . كنا سكارى. . . فحسبنا أن عراكنا سيدوم إلى يوم الحشد!. . . حتى فرق بيننا صاحب الشرطة. . وقبض على كل منا وزج به السجن. . وإني لأطالب بالتعويض عما لحقني!. .)
وارتد (كورني) إلى مقعده. . . فتهاوى عليه. . . وكان (برومنت) يومئ برأسه بين الفينة والفينة مؤيداً شريكه. . . معززاً لما جرى على لسانه.
وغاب المحلفون ساعة يقلبون الرأي في روية، ويهيئون الحكم عن سداد. . . وقد اكتنفتهم الحيرة. . . ثم أعلنوا للملأ براءة كلا السجينين. . . ولكنهم قرنوا ذلك بحد. . . هو أن الزواج رباط مقدس لا يبيح صفقات التجارة، ولا يحل فيه البيع والشراء!.
وانطلق (برومنت) إلى عش الزوجية، وزوجته في رفقته! وعاد (كورني) طليقاً إلى حانوته!. . .
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي(794/57)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(794/58)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(794/59)
العدد 795 - بتاريخ: 27 - 09 - 1948(/)
في الروتين الحكومي:
إرادة الصغير إدارة الكبير
من العجائب التي قلما يعجب لها أحد أن هذه الأداة الحكومية على ضخامتها وجلائها وخطرها، إنما يحركها صغار الموظفين حيناً بالعقل وأحياناً بالهوى؛ فإذا حدث في أسافلها الخطل أو الخلل - وكثيراً ما يحدث ذلك عن جهل أو عن علم - أصَّعَّد آلياً في أعاليها حتى يبلغ ذرى الرياسة فيدخل على المدير أو على الوزير، مزوداً بالتقارير الشارحة، مؤيداً بالتواقيع المختصة، فلا يسمعه إلا أن يصدق ما بين يديه، فيقبل الخطأ على أنه صواب، ويرد الحق على أنه باطل. وتلك إحدى سيئات الييرْر شية وهي النظام الإداري الذي يقضي بتدرج المناصب في العمال والأعمال والتبعات، فيبدأ الأمر بالأصغر فالصغير، ثم ينتهي إلى الكبير فالأكبر؛ وقلما انتقل الأمر من درجة إلى درجة أسرع النظر فيه، وقلت الرقابة عليه، وخفت المسؤولية عنه.
فالعهدة في هذا النظام كما ترى على الضمير، إذا سلم سلمت الإدارة وانتظم العمل، وإذا اعتل اعتلت الحكومة واضطرب الحكم. أما حياطة القانون (للأوراق الرسمية) بتشديد العقاب على من عبث بها أو زوّد فيها فذلك أمر لا طائل من ورائه إذا خفي العبث أو غفت الرقابة أو اشتركت المنفعة!
تعال أقص عليك بعض ما أعلم على هذه الييررْ شية من سوء عسى أن يكون في قصصه إنعاش لضميرك إن كنت عاملا في هذا النظام وعبثت به، أو تعزيه لنفسك إذا كنت معمولا به وتأذيت منه:
غضب مالك الأرض في قريتنا على شباب من شبابها الأخيار لأنه جرؤ عليه يوماً فطلب منه أن يردم بِرَكه التي تحيط بالقرية إحاطة الغُل بالعنق وأراه أن من الخير له أن يقي فلاحيه حمي الملريا ليظلوا قادرين على ري أراضيه بعرقهم وتغذية خزائنه بدمهم وكان لهذا المالك الغضبان قرابة ببعض أولي الأمر في وزارة الداخلية، فاستعداهم عليه، فألف الإداري الصغير تقريراً غيابياً عن هذا الرجل رماه فيه بتهديد حياة الناس بالإجرام، وتكدير أمن البلاد بالشغب، ووافق المأمور المعاون، وأيد المدير المأمور، وصدق الوزير المدير، وحُكم على البريء حكما عسكرياً بالاعتقال ستة أشهر تجدد لمثل ذلك، إذا لم يرض(795/1)
عنه المالك! فلما علمت بالأمر طلبت الأذن على وزير الداخلية، وكان يومئذ فؤاد باشا سراج الدين، وعرضت عليه القضية، فقال في لغة أنيقة ولهجة رقيقة: إن هذا الرجل من الأشقياء (الخطرين)، ولا أحب أن يشفع مثلك في مثله. فقلت له: يا باشا، إن الرجل من كرام قريتي، وأنا أعرفه كما أعرف أبناء أسرتي. فقال: وماذا أصنع في تقرير رسمي حققه المركز وأيدته المديرية واعتمدته الوزارة؟ فانصرفت حردان أسِفاً على الحق يدمغه تقرير باطل فيزهقه، وعلى العدل يصيبه تقرير جائر فيهلك. ويبقى المسكين في سجنه يقاسي ألم الجور وذل الاعتقال، حتى سقطت الوزارة القائمة، وألغيت العسكرية الحاكمة، فزالت عن الرجل في التوِّ صفات الإجرام، وخرج من معتقله إلى أهله بسلام!
وفُصل من وظيفته محضر شاب كان يعمل في محكمة (عنيبة) من مركز الدر، لأنه غاب عن مكان عمله خمسة عشر يوماً من غير إذن. وسبب غيابه أن المرض أدركه في آخر يوم من أيام أجازته السنوية، وكان يقضيها مع أسرته بالمنصورة، فطلب إجازة مرضية، فأباها عليه مفتش صغير كانت بينه وبينه خصومة، وقرر للرياسة أن الرجل صحيح البدن ولكنه مريض النية، فهو يأبى العودة إلى بلاد النوبة ويتمارض ليسعى. وصدق الكبير فأمره بالعودة إلى العمل بعد انقضاء الأجل، وكانت العلة شديدة والشقة بعيدة، فلم يدخل عنيبة إلا ليقرأ فصله، ويرجع بالشقاء والبؤس إلى أهله!
وقضى المسكين في العطَل أشهراً يطعم أطفاله الأربعة وأمهم بالدين، ويدفع الضر عنه وعنهم بالأمل، حتى عرضت بنفسي ظلامته على صاحب المعالي إبراهيم باشا عبد الهادي وكان يومئذ يتولى وزارة العدل بالنيابة، فاقتنع ببطلان تهمته، وأعاده إلى وظيفته بمرتبه ودرجته ومدته.
وقضى المسكين في العمل أشهراً يجاهد نصب العيش ويكابد وصب الداء حتى أودى به السُّلال على سرير موحش ووساد قلق. وكان في إدارة المستخدمين بوزارة العدل عصبة من صغار الموظفين تتجر بمنح العلاوات والدرجات، فينقضون المبرم ويبرمون المنقوض، والكبار من غير فطنة ولا علم يحلون ما عقدوا ويعقدون ما حلوا، فقررت هذه العصبة أن إعادة الموظف المرحوم إلى عمله بعد فصله كانت تعيينا من جديد يجبُّ أربعة عشر عاماً قضاها في الخدمة! وانتظرت العصابة من ورثة الميت المساومة؛ ولكن اليتامى(795/2)
الأربعة الضعاف، والأيم الصغيرة الفقيرة، كانوا لا يخرجون من مسكنهم النابي، ولا يفيقون من حزنهم الطويل، فأمضى الكبار ما قضى به الصغار، وقدرت المكافأة بجنيهين تقطع منهما الدمغة!!
وبلغتني المأساة فعرضتها على صاحب المعالي أحمد مرسي بدر وزير العدل - وكان قد كشف بفطنته ويقظته سر هذه العصابة - فنظر في هذه القضية بنفسه، وكتب إلى (المالية) كلمة العدل فيها بيده.
وشكوت إلى (مصلحة الطرق والكبارى) بالمنصورة أن ضيعتنا جزيرة في بحر الأمير طوسون لا يصلها بالشاطئ العام إلا طريق وعر غير سالك، وسألتها أن تمهده ولو على حسابي. لكن المهندس الصغير تلكأ لأسباب لا تغني غيره، فلجأت إلى الرياسة العليا فقررت الطريق وأمرت أن يمهد ويصان. فلما جاء الأمر بالتنفيذ ورم أنفه واستطار عناده وأقسم ليقفن دون هذا الطريق مهما يكن الأمر والآمر. وكتب تقريراً زعم فيه أن الطريق خمسة آلاف متر وهو لا يزيد على سبعين قصبة، وأن في بعضه عقبة كأداء وهو وحده هذه العقبة! فلما رأت الإدارة هذا الاختلاف بين ما قررت وقرر أرسلت إلى العزبة ثلاثة من مهندسي القاهرة فوافقوا أمامي على ما قررت، ورسموا الطريق على ما قدَّرت، ولكنهم حين خلوا إليه في مكتبه أصبح الخفيف ثقيلا والممكن مستحيلاً والكذب صدقاً والعام خاصاً والضرورة ترفاً والمنفعة مضرة! ومن هذا الزور الجريء ألف الموظفون الصغار التقرير، ورفعه كبيرهم إلى المدير، فلم يسعه إلا أن صدق الأوراق الرسمية ويعتمد التواقيع المختصة.
ورفعت أنا تقريري إلى صاحب المعالي أمير الأدباء ووزير المواصلات، فهو ينظر فيه نظر القاضي العالم والحاكم الحازم، وسيستشهد بالطريق الناطق على التقرير المكتوب، ويحتج بالواقع الصادق على التقدير المكذوب!
هذه أمثلة ثلاثة مما أعرف. ولعل أمثالها ألوف مما يعرف الناس، سردتها عليك في هذا الإيجاز لتصدق أن إرادة الصغير هي إدارة الكبير، وأن مراقبة الموظفين محال إذا لم تكن للشرف والضمير!
(المنصورة)(795/3)
أحمد حسن الزيات(795/4)
ما أشبه الليلة بالبارحة:
غدر يهود
للأستاذ عمر عودة الخطيب
(إن في الغار الذي يكال رؤوس العرب، وإن في العار الذي
يجلل رؤوس اليهود، لمادة ثرة للخيال المبدع، ومداداً فياضاً
للقلم الخالق)
الأستاذ الزيات
أَذَّن بلال الفجر، وأرسل صوته الندي العذب بنداء الإسلام، وهرع المسلمون للمسجد لأداء الصلاة خلف رسول الله وعلى وجوههم سحابة حزن عميق، وفي عيونهم ذبول هم دفين، فلما التأم عقدهم، جلسوا في المسجد ينتظرون مقدم الرسول، وقد اشتد شوقهم لسماع حديثه الجميل الذي يُبرد غلة أفئدتهم، ويزيل غمة نفوسهم. . . ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى دخل المسجد، وسلم على من فيه، ثم تقدم للصلاة واصطف حوله الأصحاب، فركع الأولى، ثم قام من الثانية، ورفع يديه بالقنوت، ودعا على قبائل (رعل وذكوان وسليم) الذين قتلوا القراء في (بئر معونة) ونكلوا بهم شرَّ تنكيل. . . وأمَّن المسلمون على دعائه، وقد نال منهم مقتل إخوانهم كل منال، ونزلت عليهم بمقتلهم أفدح كارثة، وأنكى مصيبة. . . ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلي ما وجد على قتلي (بئر معونة) لأنه لم يرسلهم لقتال، وإنما أرسلهم ليبينوا شرعته، ويبلغوا رسالته. . . فلم يشهروا سلاحاً، ولم يثيروا حرباً. . .
وخرج الرسول من المسجد يسير مع صحبه في أزقة المدينة، وقد توسطت الشمس كبد السماء، حتى أشرف على الصحراء. وهناك وقف (حسان بن ثابت) بينهم ينشدهم قصيدته في رثاء قتلى (بئر معونة)، وبينما هو يقول:
على قتلي معونة فاستهلي ... بدمع العين سحاً غير نزر
على خيل الرسول غداة لافوا ... ولاقتهم مناياهم بقدر(795/5)
وإذا بالقوم ينصرفون عن حسان، وتطلعون نحو الصحراء ويشيرون بأيديهم نحو خيال فارس بعيد يخب في هذه الرمال المحرقة، ويعدو قاصداً (المدينة) فيخيفه النقع الثائر تارة، ثم تظهره الآكام المرتفعة أخرى، حتى أصبح قريباً منهم، وتعلقت أبصارهم به. ولما أدنا أبطأ في سيره، وشدَّ لفرسه العنان، حتى وقف إزاءهم، فتصايح الجميع. . . عمرو. . . عمرو. . . والتفوا حوله، فترجل ثم تقدم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه، ثم انفتل إلى الأصحاب، فأدَّى لهم التحية. . .
وعرف الجميع أنه (عمر بن أمية الضميري) أحد القرَّاء الذين بعثهم الرسول إلى القبائل لتعليم القرآن. وعقدت الدهشة ألسنة الجميع فلبثوا ينظرون إلى عمرو دون أن ينطق أحدهم بحرف وكأنهم لا يصدقون ما رأوا، وقد أخبروا بأ القراء قتلوا عن آخرهم. . وقطع عليهم حبل الصمت الطويل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسؤال عمرو عن مصير القوم وعن صدق مقالة الناس. . .
قال (عمر بن أمية الضميري): وذهبنا يا رسول الله إلى حيث أمرتنا، وسرنا حيث أشرت علينا، حتى وصلنا (بئر معونة) فبعثنا (حرام بن ملحان) إلى (عامر بن الطفيل) برسالتك فلم ينظر في الكتاب، بل وثب على حرام فقتله. . . واستبطأنا حراماً، فأقبلنا في أثره، فلما شعر بنا (عامر) استصرخ علينا قبائل من بني (سليم ورعل وذكوان) فنفروا معه، فلما رأيناهم أخذنا سيوفهم، وقاتلنا حتى قتل إخواني عن آخرهم، وبقيت وحدي، أنتظر الموت. . . وقد أخذني القوم أسيراً، فلما مثلت بين يدي (ابن الطفيل) قال لي: كان على أمي نسمة فأنت حرٌّ عنها، وجز ناصيتي وأطلقني عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فلما خرجت إلى المدينة صادفت بمكان يسمى (القرقرة) رجلين نزلا معي في ظل كنت فيه، فقلت لهما: ومن أنتما؟. . . فذكرا لي أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما ثم قتلتهما ثأراً لإخواني الذين قتلوا في (بئر معونة). ثم عدوت بفرسي نحو المدينة. . حتى وجدتكم هنا. . . فغضب رسول الله حين سمع نبأ مقتل العامريين، ونظر إليه، وقد ظهر أثر الغضب في أسارير جبينه وقال له:
(بئس ما صنعت! قد كان لهما مني أمان وجوار سوف أدفع ديتهما. . .)
رأى رسول الله أن مصاب المسلمين في (بئر معونة) جعل المنافقين واليهود في المدينة(795/6)
يتربصون بهم الدوائر، ويعملون على الكيد لهم، وقد ضعفت مكانتهم من نفوسهم، وقلتْ هيبتهم في قلوبهم. . ورجعوا بذاكرتهم إلى انتصار قريش على المسلمين بأحُد. . . ففكر طويلاً في أمر (يهود) وأراد امتحانهم، لتتضح له نياتهم، ويعلم ما تخفيه أفئدتهم، فذكر أن اليهود حلفاء بني عامر، وأن خير امتحان لهم أن يسألهم معاونته في دية العامريين اللذين قتلهما (عمرو بن أمية) خطأ، فعزم على الذهاب إلى (العالية) حيث يقيم (بنو النضير) من اليهود على بُعد أميال من المدينة. . .
ولما كان يوم السبت خرج رسول الله إلى مسجد قباء فصلى فيه ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، بينهم أبو بكر وعمر وعلي. . . ثم ذهب إلى (بني النضير) في العالية، فأظهروا الفرح بمقدمه. . . والسرور لزورته. . . ولما ذكر لهم ما جاء فيه تكلفوا الغبطة والبشر وقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت. . . وجلس إزاء بعضهم يتبسطون معه في الحديث، بينما انصرف سائرهم إلى ناحية أخرى يتشاورون فيما بينهم على الغدر بمحمد، والقضاء على صحبه، وذكروا آنئذ مقتل (كعب بن الأشرف) اليهودي. . . وأرادوا أن يثأروا له. . . ودخل أحدهم (عمرو بن جحاش) البيت الذي كان رسول الله يستند إلى جواره، وتبعه ناس آخرون، ولبثوا داخله طويلا، يدبرون المكيدة ثم خرجوا وقد عزموا على أن يظهر (عمرو بن جحاش) على البيت الذي يستند محمد إلى جداره فيطرح عليه صخرة يقتله بها. . . ورأى رسول الله إمارات الغدر في عيونهم، فارتاب في أمرهم، وخشي شرهم، ولذلك انسحب من المجلس تاركا وراءه أصحابه يظنون أنه قام لبعض أمره. . . وذهب تواً إلى المدينة، ولقيه في ظاهرها بعض اليهود، وكان قاصداً العالية. . . ورآه وهو يتجه نحو المسجد. ولما استبطأ المسلمون الرسول صلى الله عليه وسلم خافوا عليه، وقاموا في طلبه، فلقوا الرجل القادم من المدينة وعرفوا منه أن الرسول دخلها وذهب تواً إلى المسجد. . . فلحقوا به. . .
صعد (عمرو بن جحاش) إلى البيت ليلقى بالصخرة على محمد وهو يظن أنه ما زال مستنداً إلى الجدار فإذا بذلك اليهودي الذي رأى الرسول في المدينة يصل فيرى حركة قوامه واهتمامهم فاقترب منهم يسألهم عن الخبر، فأنبئوه بما عزموا عليه، وطلبوا إليه ألا يتكلم. . . فضحك منهم وقال: الآن رأيت (محمداً) في ظاهر المدينة. . . فماذا تصنعون؟!.(795/7)
فأسقط في أيديهم، وحاروا في أمرهم ولم يدروا كيف يعملون، وأيقنوا أن محمداً سينتقم منهم ولبثوا ينتظرون قضاء الله فيهم، وقد رجع كيدهم إلى نحورهم وعادت سهامهم إلى صدورهم. . . ودارت عليهم الدوائر. . .
وصل الرسول المسجد، ولبث ينتظر أصحابه فما عتم أن رآهم مقبلين من بابا المسجد وقد تشوفت نفوسهم لمعرفة الأمر الذي حدا به إلى مغادرة المجلس في العالية والقدوم سريعاً إلى المدينة. فلما أنباهم الخبر، وأفهمهم نوايا اليهود، احمرَّت منهم الأحداق وثارت منهم الحفائظ، وغلت صدورهم كالمراجل من الغيض. . . ولما رأى الرسول ما بنفوس أصحابه من الثورة والسخط نظر إلى (محمد بن مسلمة) قال له: (اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: رسول الله أرسلني إليكم، أن اخرجوا من بلادي فلا تساكنوني بها. . . لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم. . . بما هممتم به من الغدر بي. . . لقد أجلتكم عشراً فمن رأى بعد ذلك ضربت عنقه. . .)
وقع هذا الإنذار على اليهود موقع الصاعقة، فتحيروا في أمرهم، ولم يجدوا لإنذار (محمد) دفعاً، ومكثوا أياماً يتجهزون للرحيل حتى جاءهم رسول من عند (عبد الله بن أُبيّ) ينصحهم ألا يخرجوا من المدينة، وأن يقيموا في حصونهم، ويعدهم بأن يُعاونهم على قتال محمد. . . فآمن بهذا قوم، وكذَّب آخرون , ولم يكن لهم بابن أبي ثقة. . . واختلط عليهم الأمر، وضاقت بهم أسباب الحيلة، وكادت تقع الفرقة لولا أن كبيرهم (حيى بن أخطب) وقف بينهم قائلا: (كلا، بل أنا مرسل إلى محمد أنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا. . . فليصنع ما بدا له. وما علينا إلا أن نرمَّ حصوننا، وننقل الحجارة إليها، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وماؤنا لا ينقطع، ولن يحصرنا محمد سنة كاملة) فأذعن القوم لمقالته، وانصرفوا لشؤونهم.
بلغت مقالة (ابن أخطب) رسول الله، وانقضت الأيام العشرة، دون أن يخرجوا من ديارهم، فاستعد المسلمون للحرب وساروا إلى فناء (بني النضير) يشقون أجواز الفضاء بالتكبير، وقام اليهود وراء حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، فحاصرهم رسول الله وقطع نخلهم، واعتزلهم (قريظة) وخذلهم (ابن أبي) فأيأسوا من النصر بعد حصار دام خمسة عشر يوماً، فاستلموا وأكل اليأس قلوبهم، وملك الرعب عليهم نفوسهم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله(795/8)
عليه وسلم أن يؤمنهم على أموالهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة، فصالحهم على أن يخرجوا منها، ولكل ثلاثة منهم بعير يحملون عليه ما شاءوا من الطعام والشراب والثياب، وأن يتركوا الدروع والسلاح، فرضوا بهذا. . . ولما أيقنوا بالجلاء، حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها بأيديهم (حتى إن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره وينطلق) وصاروا ينقضون العمد والسقوف، وينزعون الخشب والأوتاد، وارتحلوا عن المدينة، وتعفروا بغبار الذلة، وتضرجوا بدم الصغار. . .
ورجع رسول الله إلى المدينة، يحمل ما تركوه من الدروع والأموال والسلاح، وإذا بوحي الله ينزل عليه بهذه الآيات: (سبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم. هُو الذي أخرَج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوَّل الحشر، ما ظننتم أن يخرجُوا، وظنوا أنهم مانعتهم حُصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يُخربون بُيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب. . .)
دمشق - المزة
عمر عودة الخطيب
فتى الفيحاء(795/9)
العبقرية والحرمان
للأستاذ أنور المعداوي
خطر لي أأتعقب بعض العبقريات في أدب العالم لأرى إلى مدى يمكن أن ينتج العباقرة في ظلال الحرمان. . . ولعل شيخاً من شيوخ الأدب هو الذي دفعني إلى أن أقف من هذا الموضوع موقف الباحث المتأمل، حين ذهب في مجلس جمع بيني وبينه إلى أن الحرمان يلهب فيلهم، وأنه أكثر إثارة لمكامن الشعور في النفس الإنسانية مما عداه من أسباب الترف والنعيم. . . ولم يستعرض الأستاذ يومئذ بعض النماذج الإنسانية في الأدب العالمي ليدلك على مقدار ما في هذا الرأي من صواب، ومدى ما فيه من حقيقة؛ ذلك لأن الحديث كان حديثاً عابراً يأخذ بطرف من هنا وطرف من هناك، ولا يكاد يستقر على ناحية بعينها ليناقشها في صبر وأناة.
وانفض المجلس، وخلوت إلى نفسي أقلب الرأي على وجوهه المختلفة. لقد كانت جذوره متأصلة في نفسي ولكنها كانت تترجح بين الشك واليقين. . أما اليقين فمرجعه إلى أني كنت أومن إيماناً عميقاً بأن الحرمان كما قال محدثي، أكثر إثارة لمكامن الشعور في النفس الإنسانية مما عداه من أسباب الترف والنعيم، وكنت أرى أن الفنان الذي يعيش في رحاب الحرمان يعيش متوثب الشعور دائماً، تلتهب أفكاره من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان ولا كذلك الفنان المترف، لأن الترف في أكثر حالاته أقرب إلى الدعة والخمول، منه إلى سبرغور أو بلوغ أعماق.
هذا ما كنت أراه، ولكن الشك الذي كان يلوح بين ثنايا اليقين مرجعه إلى أني حين رحت أستعرض بعض النماذج في أدب العالم، وجدت أن بعض هذه النماذج يهز جانباً من جوانب اليقين الذي كان متأصلا في نفسي. . . إن تولستوي في الأدب الروسي مثلا قد وصل إلى أرفع درجات المجد الأدبي وهو يعيش عيشة الأثرياء المترفين، وإن بيرون في الأدب الإنجليزي قد أبدع أعظم آثاره الفنية وهو يتقلب في بحبوحة من العيش لا تتهيأ إلا لمن كان في مثل مركزه الاجتماعي الرفيع، وتستطيع أن تضيف إليهما بلزاك في الأدب الفرنسي، فقد كان يحيا حياة مترفة أثقلت كاهله بالديون، إلا أنه لم يستطع أن يخرج للناس أروع آثاره القصصية إلا في تلك الساعات التي كان يقبل فيها على متع الحياة وتقبل عليه.(795/10)
وقل مثل ذلك عن جيته في الأدب الألماني، وعن شوقي في الأدب المصري!
هذه بعض نماذج لعبقريات أغدقت عليها الحياة ففجر منها الإغداق ينابيع البيان المشرق، وعيون الحكمة الخالدة، وأنهار الفن الرفيع. . وتعال نستعرض بعد ذلك نماذج أخرى لعبقريات لم تلق من الحياة إلا صنوفاً من الفاقة وألوان من الحرمان، لنرى أن الأثر الذي خلفته هنا لا يقل عن الأثر الذي خلفته هناك. ولا نعني بالحرمان هنا ذلك الذي تعارف عليه الناس حين حصروه في معناه الضيق ولم يتعدوا به نطاق الماديات، كلا. وإنما نتعداه إلى شتى معانيه في نطاق الماديات والمعنويات. . . هناك حرمان يتمثل في ذلك الأعمى الذي لم تشأ له الحياة أن يرى ضوء النهار، وهناك حرمان يتمثل في ذلك الأصم الذي حالت المقادير بينه وبين الإنصات لموسيقي الطبيعة، وهناك حرمان يتمثل في ذلك المصدور الذي ينفث دماً ولا يعرف طعم العافية إلا من أفواه الناس، وهناك حرمان يتمثل في ذلك المجنون الذي قدر له أن يشرف على الوجود بإحساس الفكر التائه والوعي الذاهل!
نعم، هناك مِلتن يرسل أعذب أنغامه وأرق أغانيه وهو محروم من نعمة البصر، وهناك بيتهوفن يدفع إلى سمع الزمان بسحر موسيقاه وهو محروم من نعمة السمع، وهناك كيتس يبعث إلى الصدور بدفء أشعاره وهو صاحب الصدر المحطم الذي لون قصائده بلون دمائه، وهناك موباسان يخرج للدنيا من وراء العقل المفقود ومضات من العبقرية المبدعة قل أن تجد لها مثيلا عند فنان سواه. . .
وكم في رحاب الحرمان المادي من عبقريات أخرى لقيت من ضروب البؤس والشقاء ما يرفض منه الصبر وتخور معه العزائم ومع ذلك فقد كتب لآثارها كل بقاء وكل خلود. . . وما أشبهها بالمعادن الكريمة يصفو جوهرها تحت وهج النار في بوتقة الزمن!
تخرج من هذا كله بأن العبقريات معادن. . . بعضها يتوهج في ظلالها الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال؛ فأديب مثل مكسيم جوركي كان يعاني أبشع ألوان البؤس الإنساني في أيام الحكم القيصري، ولكنه كان في تلك الأيام الحافلة بالشقاء مثلا رائعاً للفنان الملهم. . . ولقد بلغ من الفاقة حداً جعل الكاتب الإنجليزي ويلز يترك له كثيراً من ملابسه يوم كان يزور روسيا ليلقاه ويتحدث إليه؛ لقد ترك ملابسه للفنان الذي أعجب به كما لم يعجب بأحد سواه!(795/11)
ولما قامت البلشفية على أنقاض الحكم القيصري خمدت الجذوة المتوهجة بلهيب الفن، لأن صاحبها قد انتقل من الجحيم إلى النعيم. ويقرر بعض النقاد المعاصرين وعلى رأسهم هربرت ريد أن كتابات مكسيم جوركي في أيام بؤسه وشقائه، لا يمكن أن ترقى إليها كتاباته في أيام الترف وإقبال الحياة. . .!
وهكذا كان حافظ إبراهيم في الأدب المصري. . . كان شعره يتدفق من أعماق الحرمان قوياً، صادقاً، معبراً، نابضاً بالحياة؛ فلما دفع به إلى دار الكتب وذاق جيبه طعم الذهب، واستمرأت نفسه حياة النعيم، نضب فيه معين الشعر وجف نبع الشعور. . ولما حاول بعض عشاق فنه أن ينطقوه كان قد أصفى!
إن العبقريات كما قلت معادن. . . بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال؛ وتلك أمور نقررها على هدى الدليل وفي ضوء المثال.
أنور المعداوي(795/12)
في ذمة الله
زعيم الباكستان
للشيخ محمد رجب البيومي
كانت وفاة القائد الأعظم محمد علي جنه مصيبة فادحة سالت لها الدموع، وقد تلقيت نبأها الفاجع في حيرة بالغة، ودهشة محزنة، وأخذت أتساءل عن مصير دولته الفتية بعد أن فقدت بطلها العظيم، وربانها الحاذق، كما استعرضت - في كآبة قاسية - صوراً من الآمال المشرقة التي يتلمس العالم الإسلامي تحقيقها على يد الباكستان، مذ أصبحت دولة مستقلة تسمى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، وتشعر بما يشعر به أبناء العقيدة المحمدية في جميع الآفاق.
ولقد أتيح لي أن أشاهد الفقيد الكبير أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة، فراقني منه هدوءه المطمئن، ووقفت على صورة كاملة من مزاياه الطيبة التي تنطق بها ملامحه وإشاراته، كما تتبعت في كثير من الاهتمام نشاطه السياسي، وقرأت عن كفاحه واستبساله ما زادني إجلالا له في حياته، وألهب قلبي حزناً عليه غب وفاته.
ولا يقدّر مصيبة الإسلام في زعيم الباكستان غير منْ ألم بتاريخه إلماماً دقيقاً، فقد وهب رحمه الله نفسه للدفاع عن حقوق طائفته المبعثرة المتناثرة، فجعل منها قوة متشابكة متساندة تصل إلى أهدافها في جرأة، وتفصح عن رأيها في قوة وإيمان، وكانت - منذ أمد بعيد - هدفا تتعاوره السهام الخاتلة من كل جانب، وطعمة تتزاحم عليها الأفواه الجشعة من كل صوب.
وتاريخ جنه يرتبط أشد الارتباط بتاريخ الأمة الإسلامية في الهند، فإذا كتب كاتب عن الزعيم الراحل فإنما يتحدث عن مائة مليون من المسلمين كانوا أباديد في مختلف الجهات فوهبهم الله قائداً قوياً يجمع الشمل ويسلم الشعث حتى توحدت الكلمة على يده، ودنت الغاية المأمولة بجهوده. وسنعرض بإيجاز للحركة الإسلامية في الهند وأثر جنه في نجاحها الباهر، وحسبه أن كان التعريف به مقروناً بسيرة أمته، فكفاحها كفاحه، وتاريخها تاريخه.
كان حزب المؤتمر الوطني في الهند ينظر إلى المسلمين بعين الازدراء والمقت فهم أقلية لا يحسب لها حساب في الأمة الهندية، ولئن اصطبغ الحزب بالصبغة السياسية فقد كان(795/13)
أعضاؤه المتعصبون لا يتناسون ما يدب في صدورهم من البغض للمسلمين، فهضموا حقوقهم الأكيدة، وأشاعوا عنهم المفتريات الآفكة، فكانت الفتن الأهلية تندلع في كل وقت مستمدة وقودها المتأجج من الأقلية المهضومة، والحاكم الإنجليزي لا يتوانى عن إشعال الضرام ما استطاع، ليقيم دعائمه الاستعماري على الخلاف الديني والنزاع الطائفي، ولم يجد المسلمون بداً من تأسيس رابطة جامعة تفند مفتريات الهندوكيين، وتقوم بما تراه من الإرشاد والتوجيه
كانت الطائفة الإسلامية تضم نخبة ممتازة من الأحرار الأمناء، وكان الفقيدْ العظيم يبذل لها ما يملك من فكر ثاقب، وقلب جريء. ولا غرو فقد تثقف ثقافة عالية، ونال شهادة الحقوق من إنكلترا، ثم تقلد مناصب قضائية أبرزت جانباً كبيراً من مواهبه وكفايته، واشتغل بالمحاماة فطارت شهرته وذاع صيته. هذا إلى جانب خدماته السياسية المجيدة، تلك التي جعلته - فيما بعد - قائد أمة، وزعيم دولة، ورجل تاريخ، وصاحب خلود.
كانت نفس جنه غنية بكثير من التسامح والود فلم يشأ أن يقطع صلته بحزب المؤتمر بعد تكوين الرابطة الإسلامية، ولكنه ظل منتمياً إليه ليقوم بدور السفير في تسوية ما يجد من تعارض الآراه، واختلاف وجهات النظر. ولعله كان يطمع بتسامحه أن يكون مثلا ملموساً لأعضاء المؤتمر، كيلا يفرطوا كثيراً في المغالاة والتعصب، ولقد وفق بادئ الأمر في سفارته توفيقاً محموداً، حيث عقد اتفاق (لكنو) سنة 1916 وبمقتضاه قدمت من الحزبين مذكرة مشتركة إلى الحكومة البريطانية تطلب منح الهنود قسطاً من الحكم الذاتي.
ولقد ضاق الزعيم ذرعاً بتعصب الهندوكيين، ويئس من اقناعهم بالعدول عن التعسف الشنيع فاستقال من حزب المؤتمر وهيأ نفسه للعمل في طريق شاق تكتنفه المخاوف والمكاره، حيث كانت الطائفة الإسلامية تتلقى ضربات مختلفة من عدة جهات: فالمؤتمر - بأعضائه المتغطرسين - يؤلب عليها النفوس، وحزب (مهاسبها) الذي ألف لمحاربة الرابطة الإسلامية يزاول مهامه الإجرامية في بربرية وحشية، فكانت المذابح الهائلة تسيل بالدماء على أيدي جنوده المتوحشين، وقد أعلن في غير مبالاة أن المسلمين ليسوا من الهند، فهم دخلاء يجب أن يرحلوا إلى البلاد العربية التي تعترف بدينهم الإسلامي. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأرواح التي أزهقت في الهند كانت من جراء هذا الحزب البربري الهائج، ولولا(795/14)
ثبات الرابطة الإسلامية وصمودها العجيب أمام أعدائها المتوحشين، لتقلص ظل الإسلام في هذه البلاد. ولعل من الأدلة القاطعة على بربرية حزب (مهاسبها) أن قاتل غاندي - وهو شاب مثقف راق - كان منتمياً إليه، فلم يرقه تسامح المهاتما وموافقته على تقسيم الهند إلى دولتين، فألف مع بعض أعوانه عصابة لاغتيال زعماء المؤتمر، واحداً بعد واحد. فأذا كان هذا شعورهم المجرم نحو إخوانم الهندوكيين، فمن يحصى النكبات الفادحة التي جرها هؤلاء على المسلمين!
ولقد انتهز حزب المؤتمر نجاحه في الانتخابات التي تلت دستور سنة 1935 فأعلن أنه يمثل الأمة أتم تمثيل وتغاضى عن مائة مليون من المسلمين أقبح تغاض، وراح يروج لنفسه بدعاية براقة خادعة، مدعياً أن الزمام السياسي قد أصبح في يده وحده، ولكن الزعيم الأعظم محمد علي جنه وقف في وجهه باسم الرابطة الإسلامية، وطاف على قدميه في أنحاء المدن الإسلامية بالهند، فنبه العيون وأسمع الآذان، ودعا إلى توحيد الكلمة بين المسلمين ورسم أمامهم ما يتهددهم من المخاطر، وخاصة أن الحكومة الجديدة قد رفضت رفضاً باتاً أن يشترك فيها عضو واحد من المسلمين! وكثرت الفتن الداخلية كثرة أشعلت الأفئدة وألهبت النفوس، فعرف المسلمون تمام المعرفة ما يدبر لهم من الكيد والبلاء، بينما أخذ أعداء جنه يتهمونه بمساعدة الإنجليز، كما أسرفوا في التشهير بزعماء المسلمين إسرافاً لا حد له. ولم تمض مدة يسيرة حتى كان القائد الأعظم قد وفق في مهمته أكبرَ توفيق، فوافق حزب الرابطة سنة 1940 على اقتراحه بصدد مشروع الباكستان، وأخذ يعمل على الوصول إليه من كافة الطرق، وقد تحسن موقف الرابطة كثيراً حين جاءت الانتخابات الجديدة سنة 1946 ففاز المسلمون بجميع المقاعد المخصصة لهم في المجلس التشريعي، وأسقط في يد المؤتمر الهندوكي حيث بان للعالم أجمع أنه ليس وحده الذي يمثل الهند، وأصبح مركز الرابطة يسمح لها أن تستقل بالبلاد الإسلامية مما ترتب عليه شطر الهند إلى دولتين مستقلتين، فارتفع العلم الإسلامي في مملكة وليدة وتحقق أمل بعيد كان يظنه الجميع سراباً يلوح في الصحراء.
لقد كان محمد علي جنه زعيما من طراز فريد، لأن جميع الزعماء ينشئون في أمم مهيأة معروفة فيوجهونها إلى الطريق السوي، ولكن القائد الأعظم قد أوجد أمة من العدم، وسهر(795/15)
على نموها السريع فترعرعت في حقبة وجيزة، ولا وقت من الأعاصير السياسية ما كاد يزعزعها من مستقرها لولا حكمة القائد ونظره البعيد.
أما أخلاق الزعيم الباكستاني فقد كانت موضع الإجلال من أعدائه ومعارضيه إذ كان يعمل في وضح النهار، ولم تسمح له مروءته ودينه أن يحيك الدسائس في الظلام لمناوئيه، وقد رزق من المحاماة مالا طائلا، فلم يضن به في سبيل غايته السياسية، كما كان يعتني اعتناء تاماً بمظهره، فصارت أناقته مضرب المثل، واقتدى به المترفون في إنجلترا والهند، ثقة بذوقه الأنيق. ولقد كان شديد الثقة بنفسه فذهب إلى إنجلترا واحترف المحاماة فيها أربع سنوات كاملة بين أساطين القانون وأعلام التشريع، فكانت قضاياه العديدة تكلل بالنجاح.
أي زعيم الباكستان!! لقد أديت رسالتك في الحياة خير أداء، وقطفت بيدك الثمرة المشتهاة، فنم قرير العين بما قدمت لنفسك من أجر عند الله، وخلود في صحائف التاريخ.
سلام وريحان وروح ورحمة ... عليك وممدود من الظل سجسج
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(795/16)
الشعر في السودان
للأستاذ علي العماري
قلت في مقالي السابق إن التدين ظاهرة واضحة كل الوضوح في الشعب السوداني، وأن الشعراء قد استجابوا لهذه البيئة المتدنية فكانت صورتها فيما نظموا من شعر.
ولكن لا يمكن أن تخلو جماعة من الجماعات البشرية من الطيب والخبيث، والفث والسمين، وفي الشعب السوداني كما في كل شعب نقائص ومثالب دينية واجتماعية، فهل استجاب الشعراء أيضاً لهذا المظهر؟ وهل صوروا العيوب التي تقع عليها أعينهم كما صوروا المحاسن؟
نستطيع أن نلتمس الجواب فيما كتبه الشاعر حمزة الملك في مقدمة ديوانه (الطبيعة) قال: (إننا نجهل أنفسنا فلا أستبعد ألا يرضى بعضنا عن بعض أوصاف صادقة لبعض الأفراد والجماعات وفي هذا كل الخطر.
نحن مرضى، ولا خطر علينا من تشخيص الداء، ووصف للحصول على الشفاء، إنما الخطر كل الخطر في المكابرة والإدعاء، والزعم بأننا أصحاء أشداء. وإنه لمن أجدى الأمور لنا أن نعرف أنفسنا كما هي فنصلح ما فيها من عيوب، وهي وأن كانت عيوباً تمت إلى أسباب بعضها طبيعي، وبعض طارئ استوجبه اضطراب أحوال البلد في السنين الماضية، فإنها كالأمراض التي لا يستعصي علاجها.
ومع ذلك فإنني لا أنسى إن أذكر لهذه المناسبة اننا من أكثر الشعوب تهيؤاً للإصلاح بعد الهنود).
فهو - إذن - يرى عيوباً، وهو يعتقد أن من الصالح له ولقومه أن ينبه على هذه العيوب، وأن يصورها، ويدعو قومه إلى مجافاتها؛ وهو يشعرنا في كلمته بأنه يعتذر عن هذا الذي أقدم عليه من ذكر هذه النفائض، فلا شك أنه كان يشعر بحكم الوسط الذي يعيش فيه - بأنه من غير اللائق أن يتحدث الشاعر عن رذائل قومه، ولكنه يرى الشعر رسول الإصلاح، ويرى الشاعر طبيباً اجتماعياً من واجبه أن يقف من المجتمع - ولا سيما المجتمع المتدين - موقف الناصح الأمين. غير أننا لا نجد الشاعر نفسه عالج بشعره شيئاً مما تراه عيناه، ونجد من الشعراء الآخرين إجفالا عن الخوض في مثل هذا الحديث. نعم نرى من الشعراء(795/17)
من يصيح بقومه أن الدين قد وهى سلكه، وأنتثر عقده، وضعف سلطانه على النفوس، كأن يقول الشاعر الشيخ عبد الله عبد الرحمن صاحب ديوان (الفجر الصادق):
بعدنا عن الدين الحنيف وهديه ... فيا ويلنا إن دام هذا التباعد
أو يقول:
من أين يرجى للبلاد تقدم ... والدين لم ترفع له أعلام
أو يقول:
خذوا بيد الفضيلة وانشروها ... فإن من المعرة أن تهونا
وهنا قد يبدو سؤال لا بد منه، فإننا ذكرنا في مقالنا السابق أن من أظهر صفات السودانيين التدين، فكيف يتفق هذا مع ما يردده شعراؤهم في الحين بعد الحين من الشكوى المريرة والرثاء للفضيلة والبكاء على الدين؟
وليس من الصعب الجواب عن مثل هذا التساؤل، فإننا إذا قسنا حياة الناس اليوم بما كان عليه الشعب السوداني منذ خمسين سنة لوجدنا البون شاسعاً، والفرق بعيداً، فقد كانت أجواء السودان معطرة بأنفاس الزهاد والصالحين، وكانت لهم السطوة الروحية، والهيبة الدينية؛ أما الآن فإذا وجدنا فإنما نجد أفراداً يعدون على الأصابع، فإذا أضفنا إلى هذا أن بعض وسائل المدينة قد دخلت السودان، وأن المحافظين غير راضين عن هذه الوسائل، فالسينما والقهوة، وتعليم البنت، والألعاب الرياضية الكثيرة، كل هذه مما يرى فيه المتدينون المحافظون إبعاداً عن الدين، مع الفوارق - بطبيعة الحال - بين هذه المبعدات.
يبدو أن تعليم الفتاة في السودان كان يلقى جدلا طويلا عريضاً، وأن كثرة كاثرة كانت ترى فيه هدما للدين، فجعلت تجاربه، وتبدى مخاوفها من السفور المنتظر، وأن قوماً كانوا يؤيدون فكرة تعليم الفتاة. وأنا وإن لم أجد صورة واضحة في الشعر لهذا الجدل ألا إني قرأت هذه الأبيات للشاعر الشيخ حسيب علي حسيب في قصيدة عنوانها (دعوها) يقول فيها:
دعو في خدرها ذات الدلال ... فقد أرهقتموها بالجدال
تذوب وقد تناظرتم حياء ... بفحش اللفظ أو هجر المقال
ويعلو خدها خفر ينادي ... ألا ما للنساء من الرجال(795/18)
أحبا في مناجاة الغواني ... ترى أم ذاك زهد في المعالي
عجبت لحلمهم في كل خطب ... وإن ذكر البنات دعوا نزال
وتأخذ الموالد صورتها المعروفة في كل قطر من الأقطار الإسلامية، ويعيا الوعاظ والمصلحون برد القائمين بها عن هذه المخازي التي تكون فيها، فلا نعدم الشاعر السودان الذي يدلي بدلوه في هذا المضمار، فهذا الشاعر محمد القرشي يقول:
أرى بدعا تشيب لها النواصي ... إذا ما جاء ميلاد الرسول
ويتحدث عن مظاهر الاحتفال بهذا المولد من رايات وطبول وأنوار كثيرة، ثم يتحدث عن ساحات اللهو ويمضي فيذكر (ربات القلائد والحجول) ثم يقول:
تجر ذيولها متبرجات ... لتفتك بالتبرج والذيول
بمجتمع القمار مقامرات ... مع الشبان في الجمع الوبيل
مسار للظباء خرجن فيها ... مراسح للخلاعة والخمول
ثم يستطرد في وصف تمسك عنه حتى يقول:
مصائب في بني الإسلام حلت ... وفاجعة تجل عن المثيل
وحديث الشعراء السودانيين عن النفاق مستفيض، والنفاق - في ظني - أبعد الصفات عن الخلق السوداني الذي طبع على الصراحة والشجاعة، ولكن هكذا يقول الشعراء.
وأكثر ما اشكو النفاق فإننا ... لبسناه من دون النفوس ثياباً
تأصل وأستشرى وأمعن مفسداً ... ورد البيوت العامرات خراباً
وأنشب في روح الشباب مخالباً ... وأعمل في روح الشيبة نابا
ويقول الشاعر حمزة الملك:
أمة في غيها غارقة ... بعد أن جرعها الله الشقاء
قسمت أعمالها بين هوى ... ونفاق وخمول وإدعاء
تلك أدواء دهت أخطارها ... أمم الشرق سواء بسواء
ضاع شرع الله فيما بينهم ... مثلما ضاع وفاء وإخاء
أما أنا فأزعم أن هذا الشاعر كان ثائراً حين نظم قصيدته (الدويم) فطاش من يده القلم فقال ما قال مما يعف كاتب عن ذكره:(795/19)
ويحدثنا الشاعر الكبير الشيخ محمد سعيد العباسي عن بعض العيوب التي يراها:
وكائن رأينا من أخ قل خيره ... بطئ عن الجلى كأن به سقما
ضعيف كليل الفهم أكبر همه ... وأكثره ألا يجوع ولا يظما
وإن خف قوم للمعالي رأيته ... يجوس خلال الدور للشادن الألمي
وقد عابني من لا يقوم بمشهدي ... وليس له مثلي الغداة حمى يحمي
وجاء بأموال التعاويذ والرقي ... وأشياء أخرى لا أرى ذكرها حزماً
ونكتفي بهذا القدر في هذه الغرض، وموعدنا بالحديث عن الشعر الاجتماعي، والشعر الغزلي، والشعر الفكاهي، والحديث عن شعر المدرسة الحديثة، أحاديث تالية إن شاء الله.
(للحديث بقايا)
علي العماري(795/20)
دراسات تحليلية:
جلال الدين الرومي
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
في بيت العلم والدين، وبين مظاهر الورع والتقوى، ولد أعظم الشعراء الصوفيين، جلال الدين الرومي بن بهاء الدين سنة 604 بعد الهجرة النبوية في بلخ من بلاد الفرس. وكان أبوه من أكابر علماء الدين في بلاط خوارزم شاه حاكم المدينة، ودرج الصبي في حجر والديه يشهد حلقات الدرس ويرى مظاهر الإجلال والإكبار تحف بوالده، فنشأ مشغوفاً بالعلوم وخاصة ما كان متصلا بذات الله تعالى.
ورأى الحاكم ما عليه من مظاهر الورع والتقي وانصياع الناس له وإطاعتهم لأمره، فداخله منه حسد وحقد وأضمر له السوء، وبلغ ذلك بهاء الدين، فعزم على الرحيل. وفي جوف الليل وقد آوى الناس إلى مضاجعهم يطلبون الراحة من عناء العمل، ويبتغون الهدوء من نصب النهار، خرج بهاء الدين بأسرته خائفاً يترقب. ورأى أن أول شيء يفعله، أن يحج بيت الله الحرام ويزور القبر الشريف يستمد العون من صاحب البيت وساكن القبر، وبينما الركب في الطريق التقى بالشاعر فريد الدين العطار، فلما رأى جلال الدين توسم فيه خيراً، ولمح في عينيه بريق الذكاء، فدعا له بالبركة وأهدى إليه نسخة من كتابه (أسرار نامه).
وفي البيت العتيق مكثت الأسرة ما شاء لها الله أن تمكث، ثم خرجت تطوف بأرض الله، حتى ألقت عصا التسيار في قونية ببلاد الأناضول وكانت تسمى إذ ذاك بلاد الروم، وهذا سبب تسميته الرومي. وفي المقر الجديد جلس والده يعلم الناس كما كان في بلخ.
وكان لمقام الصبي في مكة ولمن لقى هناك من رجال الدين وهيامهم بحب الله أثر كبير في نفسه، فظهرت عليه علامات الورع ولما يزل صبياً لم يبلغ مبلغ الفتيان.
وفي قونية سمع بالشيخ برهان الدين الترمزي، فذهب إليه وتلقى عليه مبادئ التصوف وبدأت نفسه تتفتح إلى الآفاق العليا، تفتح الزهرة تخللتها أشعة الشمس، فقد صادف علم التصوف وكلام المتصوفين هوى من نفسه فأنكب على دراسته. ولما قبض والده، رحل إلى حلب ودمشق وغيرها من بلدان الشرق، ليتزود من العلم ما تتوق إليه نفسه ويهواه(795/21)
قلبه، وطاف بهذه البلاد يزور علماءها ويسمع من نساكها، ثم عاد إلى قونية مرة أخرى، ليجلس مجلس والده في حلقات العلم.
وسمع شمس تبريز الصوفي المعروف، أن في قونية صوفياً مبتدئاً يتألق بالحب الإلهي، فوصل إليه ليدله على الطريق الصحيح ويمهد له سبيل الوصول. وأتصل بجلال الدين، فأتخذه جلال الدين مرشده الروحي، وما زال شمس تبريز ينفخ في هذه الجمرات المتقدة من الحب ويزكي ضرامها حتى جعلها شعلة نيرة، ولازم كل منهما الآخر وقتاً طويلاً، وشغل جلال الدين بمرشده، فنقم تلاميذه على شمس تبريز لأنه حرمهم أستاذهم فأجبروه على قونية ليخلو لهم جلال الدين، ولكن هيهات فقد أستأثر به شمس تبريز وقت وجوده وسحرته تعاليمه بعد فراقه، فزم داره وخلا إلى نفسه يبحث عن طريق الوصول إلى الذات العلية.
وشرح جلال الدين مذهبه الصوفي وأوضحه فيما ألف من شعر غنائي بالغ في الرقة والعذوبة. ويتميز شعره بسمو الفكرة وجمال الأسلوب وإشراق الديباجة ووضوح الخيال مما أكسبه روعة وجمالا.
وجمع ما نظمه في دواوين سمى أحدهما (ديوان شمس تبريز) لأن معظمه كان مما أوحى به إليه مرشده الروحي فسماه بأسمه؛ والآخر (المنثوى) وهو قصيدة واحدة كبيرة، قيل إن نظمها أستغرق أكثر من أربعين سنة، وأنها جمعت في ستة كتب، وفي هذه القصيدة صور مبتكرة متعددة تجمع بين رشاقة الأسلوب ودقة الصنعة.
وحب الروح، والعمل على الأتحاد بذات الله تعالى، والتخلص من شوائب النفس وأدراتها هو بيت القصيد في تعاليمه. فالحب يخلص أصحابه من الغرور والصلف، ويرى فيه الدواء الماجع والطبيب المداوي لأمراض النفس وعلاتها، والإيمان الخالص مصدره الحب، لأن المحب إذا أتحدث روحه بمحبوبة أغفل نفسه وأهمل شأنها وشغل بمن أحب، ولا يضيره أن يتحمل المكاره ويستعذب الآلام ويصبر الإجن لإرضاء محبوبه، ولا يزال هذا حاله من السعي والجهاد حتى تفنى نفسه في محبوبه ويصبح جزءا منه.
فإذا وصل إلى درجة الفناء فقد وصل إلى الكمال، وبذلك يبعث بعثاً روحياً جديداً فيحيا الحياة الخالدة، ويصبر جزءاً من المحبوب فيبقى إلى الأبد. وفي ذلك يقول (فأختر حب(795/22)
الذي يبقى أبداً والذي يسقيك من الخمر التي تنمي الحياة وتهب الخلود).
بالحب تتبدل الأشياء، فيصير الظلام نوراً والألم لذة، ويتحول الحديد ذهباً، ويتغير طعم المر فيصبح حلواً. وبالحب يحيا الإنسان حياة سماوية وهو لا يزال فوق سطح الأرض فيقول: (العاشق) المخلص هو الذي يقول له الله: (أنا لك وأنت لي).
فالعشق الإلهي هو التسامي عن كل أعراض الحياة، والطيران إلى الآفاق العليا، وتمزيق الحجب التي تحول بين العاشق والمعشوق وتحطيم ما يقف سداً بين الإنسان ومن أحب. والعشاق المخلصون في حبهم كالظلال إذا أشرقت عليهم شمس المعرفة تلاشت ظلالهم وأختفت، لأنها لا تقوى على البقاء في النور القوي الذي هو النور الإلهي وفي ذلك يقول: (يا حياة العشاق في الموت، ولن تجد قلباً إلا بعد أن يحطم قلبك).
والغرض من الحب والتضحية بالحياة الفردية وإفناء النفس، هو نشدان حياة أسمى وأرفع، ومن أ {اد إدراك الحقيقة فعليه أن ينكر ذاته ويعتبر نفسه غير موجود. وهو يقول: (أولاً، تنزع النفس من النفس، ثم تفصل قدم عن قدم، وأن تعتبر هذه الدنيا غير مرئية، ولا ترى منظر نفسك).
أما الحياة الدنيا وزخرفها ومتاعها، والنفس ومشاغلها ولهوها، فهي حجب كثيفة تحجب المحب عن بلوغ مأموله؛ فعليه أن يجتاز هذه الموانع ليصل إلى النشوة الروحية حيث ينسى نفسه ويرتفع إلى جلال الحقيقة الخالدة في بهائها وروعتها. وإذا وصل المحب إلى هدفه المنشود وأتحد بالذات الإلهية فقد حصل على الخلود وأنفلق له صبح السعادة وشع نور رب الأرباب في روحه وملأ جوانب نفسه. وفي ذلك يقول (ذلك الذي حصل على مقام ومكان في ملكوت السموات ونورها، لا يزال يغرق في النور دائماً).
والمحب الذي يصل إلى هذا النوع من التوله بحب الله والهيام بجلاله يكون قد حصل على الحياة المتحدة، والإنسان إذا بلغ هذه المنزلة صار عارفاً بالله، ولم تعد به حاجة إلى الوساطات والشفاعات. لذلك يرى جلال الدين أن الأنبياء المرسلين لا يحتاج إليهم إلا الأشخاص العاديون، وأما من أتحد بالواحد وأصبح يسمع الصوت الباطني فقد استغنى عن الكلمات الخارجية لأنه صار من أولياء الله الذين أسكرهم حبه فثملوا بخمره وغرقوا في جلال عظمته، واتحدوا مع البحر اللانهائي للذات الربانية فيقول جلال الدين في ذلك (لقد(795/23)
طردت الاثنين من نفسي ورأيت العالمين عالماً واحداً، وبحثت عن الواحد وعرفت الواحد ورأيت الواحد ودعوت الواحد. هو الأول، وهو الآخر، هو الظاهر، هو الباطن. ولست أعرف آخر سوى (ياهو) أو (يا من هو).
ويتصور جلال الدين الذات الإلهية داخله في جوهر الكون وحالة في مخلوقاته، وأن المتأمل يرى ذات الله في كل الأشياء لأن الكون ما هو إلا مرآة تظهر فيها آثار صفاته وبديع حكمته تعالى فيقول (رأيت الأبد مرآة عامة لك، وفي عينيك رأيت صورة نفسي).
والله تعالى جلت قدرته محيط بالكون مطلع على أسرار خلقه يعلم السر والنجوى وإن كانت لا تدركه الأبصار، ففي نعمة الكثيرة وعطاياه المتعددة أكبر دليل على عظمته وسلطانه القاهر وحكمته السامية، فيقول جلال الدين في إحدى قصائده:
يا خفياً قد ملأت الخافقين، قد علوت فوق نور المشرقين،
أنت سر كاشف أسرارنا، أنت فجر مفجر أنهارنا،
يا خفي الذات محسوس العطا، أنت كالماء ونحن كالرحى،
أنت كالريح ونحن كالغبار ... تختفي الريح وغبراها جهار
ويعتقد أن الروح كانت في البدء إلهية متحدة مع الحقيقة العظمى، ولكن القدرة الربانية انفصلت عن الإنسان لتظهر، ويتجلى الموجود في المعدوم والباقي في الفاني، فبضدها تتميز الأشياء فالمداد لا يظهر إلا في الصحيفة البيضاء، والنور لا يتجلى ألا في الظلام، فيقول جلال الدين: (كنا جوهراً واحداً مثل الشمس، كنا بلا عيب وكنا في صفاء الماء).
والروح مرآة صافية تعكس نفس صاحبها، واحتكاكها بما هو مادي وانغماسها في حب الحياة ولهوها قد عكر صفاءها وشاب رونقها. والنفس أمارة بالسوء ميالة للهوى والمعاصي، فعلى من أراد أن يحظى بالمنزلة عند الله وينال رضاه، أن يتقرب إليه. ولن يبلغ هواه من التقرب إلا إذا كان نظيف الثوب طاهر الذيل خالياً من الأقذار، فليغسل ثوبه من المعاصي ويجل روحه من صدأ الهوى، وليتجمل بالصبر وتأديب النفس ومواصلة جهادها حتى تصفو المرآة فتعكس الصورة واضحة جلية، فإن لم يفعل ذلك فهو الشقي البعيد. (إذا أنت أنفت من كل مسحة فأنى لك أن تصير مرآة مصقولة؟).
وكان جلال الدين كثيراً ما يذكر في هذا المجال ما وقع بين الصينيين واليونانيين ليبين(795/24)
كيف أن الروح إذا صفت أظهرت الشيء في أجمل صورة وأحسن اشكاله.
فيحكي (أن جماعة من الصينيين واليونانيين تخاصما أيهما أجود فناً؛ ولجاً في الخصومة، ثم تحاكما إلى السلطان فحكم بينهما، بأن أعطى كل فريق حجرة ليظهر فيها براعة فنه، وجعل باب كل منهما مواجهاً للآخر وقدم لهما ما يحتاجان إليه من ألوان وأدوات فأخذ الصينيون منها عدداً عظيماً، وأما اليونانيون فعمدوا إلى حجرتهم فصقلوا جدرانها وأزالوا ما بها من صدأ. وأخبراً ذهب السلطان إلى حجرة الصينيين فبهره بديع فنهم، ثم ذهب إلى اليونانيين فإذا بصورة مما نقشه الصينيون قد انعكست على الجدار فأزداد منظرها رونقاً وجمالا فشهد لهم بعظيم فنهم).
فاليونان بعملهم هذا يمثلون العارفين الذين طهروا قلوبهم وصقلوا نفوسهم فوصلوا إلى عين اليقين، فليس الأمر أمر زخارف وألوان وصور وأشكال، بل أمر صفاء وتطهير.
والذين يطهرون قلوبهم ويهذبون نفوسهم ويتخلصون من الأكدار ينجون من مجرد العطر واللون، فيرون الجمال في كل شيء وكل لحظة. وفي ذلك يقول: (إن روح الإنسان كالهواء المختلط بالتراب يحجب نور السماء فلا تستطيع العين أن ترى الشمس، وحين يصفوا الجو وينقشع التراب يصبح صافياً طاهراً.
ومن أغواه الشيطان وأضله الهوى، ثم أراد العودة إلى ملكوت الله وتاب عن ذنوبه، فالطريق أمامه واضح جلي جلاء الصبح، فعليه بتأديب نفسه وزجرها عن الماضي وإمارتها في نشدان المثوبة والغفران فالله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، وفي ذلك يقول جلال الدين:
(ما معنى تعظيم الله؟ اعتبار المرء نفسه حقارة خاوية).
(ما معنى توحيد الله؟ حرق المرء نفسه بين أيدي الواحد ذي الجلال).
فإحياء الروح وخلودها لا يتأنى إلا بإماتة النفس وإفنائها في ذات الله فيقول (إذا لم يسقط الزهر لا يبدو الثمر، وإذا لم يفن الجسم لا تسمو الروح، وإذا لم يكسر الخبر لا يمدنا بالقوة والحياة، وإذا لم تعصر الأعناب لا تعطينا خمراً).
وطريق التوبة طويل الدروب وعر المسالك كثير الأشواك، فإذا لم يكن الساعي إلى الوصل ذا صبر وجلد، سقط في الطريق صريعاً قبل أن يبلغ الهدف ويحظى بنعمة الوصل. فيقول(795/25)
جلال الدين في الحث على مواصلة الجهاد، والاستمرار في السعي إلى كعبة الوصل: (في كل صباح يأتيك صوت من السماء ينادي، إذا أنت نفضت غبار الطريق، فستنطلق إلى هدفك المقصود) ويقول: و (في الطريق إلى كعبة الوصل أنظر تجد في كل ايكة من الشوك ألوفاً من قتلى الشوق ضحوا بحياتهم ببسالة) ويقول: (ألوف سقطوا صرعى على هذا الطريق دون أن يصل إليهم نسيم من عطر الوصل كدليل من جوار الصديق).
هؤلاء هم الذين أضجرهم طول الطريق، ولم يصبروا على مكارهها فذهبت حياتهم قبل أن يبلغوا الهدف الأسمى من كعبة الوصل ونعمة القربى من ملكوت ذي الجلال.
فجلال الدين الرومي صوفي حلولي، وفوق ذلك هو من أعظم الفنانين بإشراق ديباجته، ووضوح خياله، وإبراز معانيه. وهو أول من أنشأ الذكر الصوفي الذي يؤدي على نغمات الناي، والذي نظم له من الشعر الشيء الكثير، وتسمى طريقته (المولوية) وأساسها الحب الإلهي ومبدأها التفاني في حب الله.
وتوفى جلال الدين سنة 673 بعد الهجرة بقونية ودفن بها. ولم يقتصر مشيعو رفاته وأرثوه على المسلمين بل كان من بينهم المسيحيون وغيرهم.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ(795/26)
3 - طاغور وغاندي بين الشرق والغرب
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى، أراد طاغور أن يقوم بعمل إيجابي يحقق به آماله غي وحدة العالم، فذهب إلى أوربا ليجول بين بلدانها ويدعو شعوبها إلى التفاهم والتآلف والتآزر، ويحضها على إقامة وحدة دولية تضم مختلف شعوب العالم، وتريح البشر مما يعانيه من قلق وإضطراب وخوف، ولكن هاله أن يسمع عن الهند، وهو في أوربا التي يدعوها إلى التعاون، أنها تنادي باللاتعاون مع الغرب، وفزع لما رجع إلى بلاده ووجد غاندي يعلم الهنود محاربة الاستعمار الإنجليزي بالعصيان المدني، وعدم طاعة القوانين الضارة بالبلاد، وتحاشى التوظف في المناصب الحكومية سواء أكانت قضائية أو عسكرية، ويشجع الهنود على استعمال المغزل اليدوي ومقاطعة المنسوجات الأجنبية وحرقها حتى لا تحتاج الهند لمساعدات خارجية، ويطالب التلاميذ بهجرة المدارس الحكومية، ويناشد رجال العلم بتدريس تراث الهند الروحي القديم في المدارس والجماعات وإهمال تدريس الثقافات الغربية. فلم يرض طاغور عن اسلوب غاندي في المقاومة السلبية وأقلقه ذلك التغيير الذي أحدثه في أفكار الهنود، وأخذ يتفقد طرق نضاله مع الإنجليز بالرغم من تقديره لسمو نزعاته الروحية، واحترامه لنبل مقاصده الوطنية، وإدراكه لمغزى جهاده السلبي.
ولقد بدأ طاغور نقده لغاندي بإعلان استيائه من اشتغاله بالسياسة، وأسفه على استغلاله الدين في أمور الدنيا، واستعانته بالقوى الروحية في حل القضايا السياسية، والمشاكل الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية؛ وكان يود أن يظل غاندي - ذلك النموذج الكامل للقوة المعنوية، والبطل المقدس التي تضرب سيرته مثلا أعلى للحياة الروحية الفاضلة - بعيداً عن الألاعيب السياسية، محافظاً على رفعة حياته الروحية من قذارة الأساليب السياسية الخبيثة، غير معرض نفسه لتقلب أهواء السياسيين الدهاة، حتى لا يؤذي مقوماته النفسية، أو يضعف قواه الروحية. وكذلك عاب طاغور على غاندي تفريطه في ثروة الهنود الروحية وبذلها رخيصة في سوق الحياة العملية، واستخدامها استخداماً خطراً على نزعات الهنود في مقاومة الإنجليز، وحزن لجناية غاندي على روحية الهنود، وتألم، لأنه حول القوة المعنوية التي تفتخر الهند بحوزتها من قديم الزمن إلى قوة عمياء تسخرها العواطف(795/27)
الوطنية في تحقيق المآرب القومية دون الغايات الإنسانية التي يفرضها الدين الهندوكي على الهنود، وتوصلهم إلى أرفع مراتب الكمال الروحي. . .
ولم يقف نقد طاغور لغاندي عند حد خوضه السياسة وإقحامه الدين في مشاكل الأرض، بل تعداه إلى ذم اساليبه السياسية وطعنه فكرة اللاتعاون مع الغرب، لأنه يؤمن بالأتحاد الحقيقي بين الشرق والغرب، ولم يستسغ مطالبة غاندي الهنود بمقاطعة الإنجليز اقتصادياً، وتضايق من فرضه على كل هندي أن يغزل يومياً وينسج ويحرق ملابسه الأجنبية، ولا يلبس إلا ما غزل بالمغزل اليدوي. ويرى أن خطر هذه الآلات الصغيرة على الهند لا يقل عن خطر الآلات الكبيرة على الغرب، فهي تجمد حيوية الهند وتعرقل تقدمها، فلا يجب أن تتخذ منها الهند وسيلة لمعالجة الفقر والجوع. كما لم يرقه كره قومه الرذيل للثقافة الغربية، وأعتبر مقاطعة المدارس والجامعات التي تدرس هذه الثقافات مظهراً من مظاهر ضيق الأفق وفقر المدارك، ولوناً من ألوان التعصب الإقليمي المنحط.
إن إهمال الهنود بحث الثقافات الهندية خطأ يعيبهم يجب أن يتداركوه، ولا يستحق منهم الإغضاء عن دراسة العلوم الغربية ولا يجب أن يتحرجوا من أن تستفيد الهند من خيرات الغرب الثقافية. ولئن كان غاندي لم يرد بسياسته إلى محو آثار المدنية الغربية من الهند، إلا أن ثورة الأهواء القومية تجعل لمبادئه في اللاتعاون هذه المقاصد الفاسدة. ويخاف طاغور على طهارة الهند من غائلة بربرية أتباع غاندي الروحية.
لا ينكر طاغور أن تحقيق أستقلال الهند أمر خطير ويحتاج إلى نوع من الحماسة والعاطفة أكثر احتياجاً إلى روية الأختصاصيين وتدبر الاقتصاديين وبحث العلماء؛ فان الحماسة وحدها لا تكفي لحل المشاكل الهندية، وإنما يتطلب حلها كذلك الأستعانة بالعلم والكياسة والسياسة والاقتصاد، فإن اتئثار فرد - ولو كان زعيم الحب والحق - من دون الهنود جميعاً في رسم خطى السياسة العليا الهندية من اقتصادية وسياسية وثقافية لثقل تنوء بحمله قوى رجل واحد مهما تعددت مواهبه، ويجب أن يسمح لجميع الكفايات في الهند بأن تساهم بجهودها في خدمة الهند، فيعطى للاقتصادي فرصة لتدبير المال اللازم لرفاهية الشعب، وللصانع فرصة لأن يشتغل بالصناعات التي يمهر فيها، ويطلب من علماء التربية وضع الأسس الصالحة لتربية أبناء الأمة، ومن رجال العلم تعيين البرامج الثقافية الملائمة للطالب(795/28)
الهندي، ويشجع السياسي على أستخدام دهائه وفكره في الحصول على أستقلال الهند. وبغير ذلك لا يمكن أن تنال الهند الحرية وتنجي من العبودية. أما أن ينفرد شخص بمعالجة قضية الوطن، ثم ينادي بقطع كل أتصال بين الهند والغرب، فيلبي الشعب الضعيف دعوته بغير تبصر، ويطيع أوامره في مقاطعة الغرب والقضاء على سبل التعاون معه طاعة عمياء ليدل على نوع من الاستبداد الروحي بشعب هزيل الروح قابل لعوارض غضب هستيري قد يعصف بكيان الهندية.
ربما تكون مقاصد غاندي من وراء المقاومة السلبية شريفة، ولو طبق جميع الهنود مبادئه في اللاتعاون بنفس الروح التي يفهمها غاندي لما تعرضت الهند لأخطار العواطف القومية والثورات والفتن ولكن الخوف من المكلفين بتنفيذ آراء غاندي، فقد يتوهمون أو يوهمون أن اللاتعاون هو الغاية النهائية من حركة غاندي السياسية، وليس وسيلة وقتية، ويؤمنون به كدين قويم في أتباع حرفيته خلاص الهند من الاستعباد.
بينما خلاص الهند من الاستعباد لن يأتي إلا عن طريق التعاون مع بقية الشعوب والاندماج فيها وتكوين أمة عالمية تشمل جميع الشعوب على اختلاف أجناسها وألوانها وثقافتها وعاداتها، لأن مشاكل العالم المتعددة لن يعرف لها حل نهائي ما دامت الأمم متفرقة بعضها عن بعض، تعيش كل منها في نفسها، تود لو تقضي على كل رابطة تربطها بباقي الأمم، لا تثق في جدوى التعاون، وتقبل أن تظل حبيسة حدود الوطن الضيقة خلف حواجز مصطنعة تفصلها عن سائر الشعوب، وترضى أن تحيا على الدوام في حرب مع كل أمة تريد أن توجد بينها وبينها علاقة وطيدة، أو تتدخل في شئونها. ولذلك سيظل العالم على ما هو عليه من قلق واضطراب وخوف طالما لا ترغب الدول في الاتحاد التام، فيجب على الهند أن تلعب دوراً هاماً في سبيل توحيد العالم وتسبق جميع الشعوب في الدعوة إلى التفاهم والتآخي، وتضرب مثلا حياً لدول العالم يسعد بسعيها الصادق في إنجاز وحدة الدنيا، لأن الدين الهندوكي يقوم على حقيقة وحدة الوجود، ويطالب الهنود بتحقيق هذه الوحدة من مشاعرهم وأفعالهم وفي داخل نفوسهم وخارجها، ويحثهم على فناء ذاتهم الفردية في الذات اللامتناهية، حتى لا يشعر أحد إلا بالروح الكلية التي تضم كل شيء في الوجود، ولن يصل هندي إلى هذه المرتبة الروحية العالية إلا عن طريق الحب والوئام والتعاون، فإذا(795/29)
سعت الهند إلى وحدة العالم، فإنها تطيع أوامر الدين، وتلبي في نفس الوقت نداء الإنسانية وتنقذ أهلها من رق التعصب الأناني، وتطلقه من اسر النعرة القومية الهوجاء، وتبرئه من مبادئ اللاتعاون التي تثير الحقد والكراهية في النفوس، وتسلم العالم من أشرار الانفصال، وتوصله إلى بر الاتحاد، لأن الانفصال باطل يدعو إلى التعصب، ويثير الشقاق، ويحض على تهجم الروح الفردية على الروح الكلية فلا تتمتع أمة بسعادة أو تنعم بسلام.
ولا يحقق هندي ذاته، أو يفوز بغايته الدينية، وتصبح أمم العالم في تنابذ وتشاحن، فيضطرب النظام الطبيعي في المجتمع الدولي، ويخلق الظلم والاستبداد، وتشرع القسوة والاستعباد فتعاون قوى العالم ونسيان ما بينها من أحقاد وأضغان ضروري لتفادي كل ما يعرقل وحدة الدول أو يعوق تعاونها، واستمرار الهند في التفكير في الانتقام، والسعي في الانفصال عن الغرب، لن يخلصها من الجوع والفقر، واتخاذها اللاتعاون سبيلاً لطرد المستعمر من البلاد لن ينيلها الحرية الحقيقية، لأن مشاكل الهند مرتبطة بمشاكل الغرب، وحلها يتطلب مقدماً تعاون العالم، فلا مفر من التعاون، لأن واقع الحياة العالمية يميله على الأمم لينقذها من وهدة الظلام التي تعيش فيها. فوق أن الدين الهندوكي يجبر كل هندي على تحقيق الذات اللا متناهية التي تتلاشى فيها ذات الأفراد، ولا يوجد بها إلا الحياة الكلية، والتي تزول فيها القيم الظالمة القاسية، ويبقى بها الحب والوئام والتعاون.
إن انتقادات طاغور لغاندي تدل على أن طاغور ثابت الفكر لا تتلون نزعاته الروحية بتغيير الظروف، فهو رجل يؤمن بقوة الروح، ويعتقد في الحياة الفاضلة، ويثق في الوحدة سواء أكان مجالها حياة الفرد أو حياة السرة أو حياة الأمة أو حياة العالم. ويود أن يحافظ الفرد والأسرة والأمة والعالم بأجمعه على هذه الأصول، فلا تتحول القوة الروحية إلى قوة مادية حسب الأهواء القومية، أو يستغني عن الفضائل المعنوية في سبيل الفوائد النفعية إذا اقتضى مصلحة الأمة ذلك، أو تفضل الوطنية على الإنسانية والانفصال على الاتحاد لعلة من العلل المادية الوقتية. وعلى هذا الأساس وجه طاغور انتقاداته لغاندي، ذلك الزعيم الروحي الذي تنم سيرته السياسية عن خلاف ذلك، فهو يقحم الدين الروحي في السياسة المادية، ويغلب تعصبه القومي على ميوله الإنسانية، ويستبدل التعاون باللا تعاون في محاربة الإنجليز، ويدعو لأنفصال الهند عن الغرب بدلا من الاتحاد معه، فعارضت أساليبه(795/30)
السياسية حياته الخاصة، وخرجت على تعاليم الدين الهندوكي التي تقوم على حقيقة وحدة الوجود. وكان على غاندي أن يرد هذه التهم ويفسر أساليبه ويدفع عن نفسه هذه الشكوك التي أثارها طاغور حول نزعاته الروحية والإنسانية، ويبين أن سيرته الخاصة لا تناقض سيرته السياسية.
فقام غاندي يفند أقوال طاغور ويبرر راءه وطرقه ويوضح أنها تستند على اسس من الدين وتتمشى والمبادئ الإنسانية، فزعم أن حبه للهند أو تعصبه لقومه لا يشهد بأنه خرج على الدين أو نبذ القيم الإنسانية وتعلق بوطنية حمقاء، لأن الوطنية في ذاتها لا تتعارض والانسانية ما دامت لا تضر بالشعوب المادية.
إن وطنية غاندي طاهرة لا تشوبها نقائض الأنانية الاستقلالية، فهي وإن كانت تحثه على خدمة الهند وإصلاح شئون الهنود الخاصة والعامة بمقومات الحضارات القديمة إلا أنها لا تدفعه إلى أن يكسب شيئاً للهند، ويسئ في نفس الوقت إلى إنجليز، أو تغريه على تنمية عواطف حب السيطرة في نفوس الهنود، حتى يقويهم على الاعتداء على الشعوب المجاورة. فوطنية غاندي لا تقوم على الكراهية، إنما تقوم على الحب، ولا تخالف الدين أو تهمل القيم المعنوية، وغنما تستوجبها جميعاً وتعززها.
أما عن اشتغال غاندي بالسياسة، فيقول إن السياسة تلتف حول كل هندي التفاف الأفعى، ولا سبيل للتخلص منها. ولكي يقضي غاندي على سموم هذه الأفعى، أضطر إلى أن يقحم الدين في السياسة. ويقصد بذلك أن حالة الهند وما هي عليه من تفكك وتصدع وذل واستعمار، وظروف الهنود وما هم عليه من بؤس وشقاء وانحطاط، وتطور الحوادث السياسية والاجتماعية في الهند، يلزم أي هندي محب لترقية وطنه، بأن يساهم في تحرير بلاده وإصلاح حياة أهله. وبتأثير هذه العواطف الشريفة، خاض غاندي معترك الحياة السياسية الخبيثة السامة مرغماً. ونظراً لأنه ديني بالفطرة، سياسي بالضرورة، شرع في تطهير السياسة من طرقها الملتوية الحقيرة بإدخال الدين فيها، حتى يسمو بالسياسة إلى سماء الدين. وعلم الهنود الاضطراب الديني السلمي، الذي يعلن بقوة ووضوح، الاحتجاج على الظلم بدون إحداث شغب أو تلف أو إراقة دماء. كما علمهم الارتكان إلى اللا تعاون، كلما نزل بهم جور. فحارب الهنود الإنجليز بأسلحة سلبية لا تعتمد على العنف السياسي(795/31)
على روح تعاليم الدين الهندوكي السلمية التي تكره العنف وتنادي بضرورة التذرع بسلاح الحب.
(البقية في العدد القادم)
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات(795/32)
13 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
النهضة التعليمية في النوبة
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
لعلك تعجب إذا علمت أن منطقة النوبة الآن من المناطق المصرية، التي ارتفعت فيها نسبة المتعلمين إلى درجة عظيمة، لم تصل إليها كثير من بلدان الوجه البحري، وأن الجيل الحديث من النوبيين كله متعلم مائة في المائة تقريباً.!!
ومن النادر أن تجد صبياً لا يذهب إلى المدرسة، يتلقى العالم في شغف وتواضع وطاعة محببة إلى النفوس. وبخاصة نفوس الآباء والمدرسين. . . وإذا كنا نرى كثيراً من الصبية يهربون من المدارس في مدننا وريفنا، وأن كثيراً من الآباء وأولياء الأمور يعلمون الحيلة للتخلص من إرسال أولادهم إلى المدارس في الريف، ليساعدهم في الحقل، ويعاونهم في الحرث والري والحصاد. . وقدينا لهم من جراء ذلك كثير من الغرامات المادية فلا يبالون بها، ولا تردعهم عن مخالفهم وتهربهم من العلم، وفرارهم من التعليم، وعزوفهم عن المدارس مع ما فيها من خير كثير. . إذ كنا نرى هذا، فلن نجد لهذه الظاهرة أثراً في النوبة على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، نرى التزاحم الشديد، والإقبال العجيب، والتنافس في الالتحاق بالمدارس على اختلاف أنواعها. وشتى ضروبها، مما يثير في النفس عوامل الدهش والارتياح، والفرح والاغتباط، ولعل هذا راجع إلى أن أولياء الأمور في النوبة أدركوا الآن قيمة العلم، وأثر التعليم في تهذيب النفوس، والحصول على المراكز السامية، والمناصب الرفيعة، وأنه الطريق الوحيد لسعادة أبنائهم وذرايتهم، وأنهم لا يحتاجون إلى مجهود أبنائهم الضئيل، كما يحتاج إلى ذلك المجهود أولياء الأمور في الريف المصري في غير منطقة النوبة. . .
والمدارس في النوبة أنواع كثيرة، تدعوا اليها الحاجة، وتتطلبها البيئة القاسية، مما لا تتوفر في كثير من المناطق المصرية، فمنها:
1 - قسم ثانوي في عنيبة لم يكمل بعد، ويأمل النوبيون في وزير العلم، أن ينمو هذا القسم نمواً مطرداً يناسب نهضة البلاد، وإقبال أهلها على التعليم الثانوي خاصة، ولتكن مدرسة فاروق الأول الثانوية، قائمة في عنيبة بجانب أختها مدرسة فؤاد الأول الأبتدائية، وهذه(795/33)
أمنية غالية، يعتز بها كل نوبي، ويبني عليها قصوراً من الآمال، ويتمنى أن تتحقق لتكفيهم مشقة الجهد، والانتقال من بلادهم إلى مختلف البلدان وعواصم الأقاليم المصرية، حيث توجد المدارس الثانوية التي تتطلب ثيراً من النفقات وتبعد هذا الجيل الجديد عن موطنه الأصلي. وهو لا يزال في حاجة ماسة إلى الرقابة الشديدة في هذه السن، سن المراهقة، وتطلق له الحرية في بيئة يسهل فيها الفساد واللهو، ولهذا ينحدر كثير منهم إلى هوة الفساد والضلال، مما يبعد به عن الغاية التي يهدف إليها، وينصرف به عن البحث والدرس والتحصيل. . .
2 - مدارس ابتدائية: واحدة في عينبة تضم خمسمائة تلميذ تقريباً، ويشترك فيها البنون والبنات بلا تفرقة، وأخرى في الدكة، وثالثة في قورته. وقد جاهد الأهلون جهاداً عظيماً في سبيل إنشاء هاتين المدرستين الأخيرتين، وقد أنشأت الوزارة مدرسة الدكة سنة 1974، وسرعان ما قامت قيامة أهل قورته فبذلوا مجهوداً مشكوراً عن دل على شيء. فعلى روح التنافس، وتوج أخيرا بإنشاء مدرسة قورته في العام نفسه على إن يكون ذلك بمثابة تجربة، ولتبقى في النهاية على المدرسة التي تثبت وجودها بكثرة ما فيها من التلاميذ، وذلك لأن المسافة بين قورته والدكة حوالي سبعة أميال فحسب. ومن الغريب إن اقبل الاهلون على كلتيهما، بحيث اصبح كل منهما ثمانون ومائة تلميذ تقريباً، ولهذا ستضطر الوزارة دون ريب للإبقاء على المدرستين كلتيهما. .
ويأمل النبيون أن يتم إنشاء مدرستين أخريين، أولاهما في المركز الأصلي، وهو الدر، احتفاظاً بما كان له من مكانة، وأحياء للمدرسة التي كانت به، وهي أول مدرسة في النوبة بأسرها. . . والأخرى في بلانة، لما لهذه من مكانة زراعية ولما فيها من مشروعات كثيرة، أدت إلى ازدحامها بالسكان، مما يعطيهم هذا الحق، ويجعل إنشاء مدرسة ابتدائية في بلدتهم من أوجب الواجبات، وبخاصة وأنها ليست أقل شأناً من الدكة أو قورته، بل أعظم منهما شأناً، وأرفع قدراً. . .!
ولقد بذل الأهلون في سبيل ذلك جهوداً موفقة طوال هذا العام، وإذا تم لهم أصبح في منطقة النوبة مدرستان ابتدائيتان في القسم الشمالي، هما قورتة والدكة. ومدرستان ابتدائيتان في القسم الجنوبي هما الدر وبلانة، ومدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية في عنيبة، وبهذا تضمن(795/34)
النوبة تعليم أبنائها في المحيط الذي تحبه وتؤثره وترتضيه، إلى سن تؤهلهم بعد هذا للتعليم الجامعي والعالي، ولا تخشى عليهم انحرافاً عن الغاية، ولا بعداً عن المقصد. . .
3 - مدارس أولية: يشترك فيها البنون والبنات، والتعليم فيها الابتدائي، نظام كامل طول اليوم، أي قبل الظهر وبعده بيد أنه ليس في مواده لغة أجنبية. وهذه المدارس بعضها تابع لوزارة المعارف، وهما مدرستا، عنيبة، وبلانة الجديدة. والبعض الآخر وعدده تسع وعشرون مدرسة، تابع لمجلس مديرية أسوان، وهي مدارس: (قسطل، بلانة، توشكي شرق والجنينة، عنيبة بحري، إبريم، عافية، توماس قبلي، الدر، الديوان، كرسكو، شاترمه، وادي العرب بحري، السيالة، قورته، العلاقي، الدكة، تشتمنة غرب، وتشتمنة شرق، جرف حسين، مارية، مرواو شرق، مرواو غرب، أبو هور، كلابشه، الأمباركاب، دهميت شرق، دهميت غرب، دابود).
4 - مدارس إلزامية: يتعلم فيها بعض التلاميذ نصف اليوم وبعضهم في النصف الأخر، وكل هذه المدارس تابعة لمجلس مديرية أسوان، وليس فيها واحدة تابعة للوزارة، وهي أثنتا عشرة مدرسة في البلاد الآتية: أدندان، أبو سمبل، أرمنا، توشكي غرب، مصمص، توماس بحري، أبو حنضل، المالكي، وادي العرب قبلي، المضيق، المحرقة، قرشة.
5 - ملحقتان، أحدهما في كوسكو، والآخر في مراواو غرب. . .
6 - أقسام تحفيظ للقرآن الكريم: وهي تابعة لمجلس مديرية أسوان كذلك، وهي ثلاثة أقسام، أولها تابع لمدرسة أدندان، والثاني تابع لمدرسة المالكي، والثالث تابع لمدرسة توشكي غرب.
وما أحوج بلاد النوبة إلى افكثار من هذه الأقسام، لإقبالهم عليها إقبالا كبيراً، فهم يقدسون كتاب الله تقديساً، ويرتلونه ترتيلاً يبعث الخشية في القلوب، والرهبة في الصدور، ويملك على الإنسان مشاعره وحواسه، ولهم في تلاوته روحانية تسمو بالسامع إلى مراتب نورانية نمن الإيمان والخشوع والطاعة والخضوع.
7 - مكاتب إعانة: تعينها الوزارة، فتعطى المدارس عن التلميذ الواحد عشرين قرشاً، أو ثلاثين، أو أربعين، وهي سبعة مكاتب: القصيري بأبي سنبل، نجع تميدي بأبي سنبل، نجع الجلاب، نجع الخفير، الزيداب، البقعة، وادي السيالة. وهذه المكاتب تؤتي أكلها في كثير(795/35)
من البلدان، وذلك لأن المدرسين يبذلون جهداً مشكوراً في جلب التلاميذ من كل حدب وصوب، لما ينالهم من نفع عاجل، وخير قريب، فهذا النوع بالنسبة لمدرسي المدارس الابتدائية والثانوية، فهو إذن نوع من التعاون بين المدرسين وتلاميذهم. . .!!
8 - مكافحة الأمية، وهي نوعان (أ) أقسام مسائية مقرها المدارس، وتقبل التلاميذ ابتداء من سن الثانية عشرة فما فوقها ويتقاضى المدرس جنيهين في الشهر، ويتقاضى الرئيس جنيهين ونصف جنيه في الشهر، والإقبال عليها منقطع النظير، فإذا جن الليل تقاطر الرجال والشبان والشيوخ إلى هذه الأقسام فرحين مغتبطين يتلقون العلم، ويتعلمون مبادئ القراءة والكتابة، وفي النهار تجدهم منكبين على كتبهم وكراساتهم، يعيدون ما درسوا، ويتفهمون ما أخذوا، وقليل من إخلاص المدرسين ونشاطهم، يجعل أهل هذه المنطقة في درجة عظيمة من العلم والمعرفة. . .
وهذه الأقسام في البلاد الآتية: أدندان؛ بلانة القبلية، بلانة الجديدة، أبو سنبل، أرمنا، توشكي غرب، عنيبة الأولية إبريم عافية، توماس قبلي، توماس بحري، الديوان، شاترمه، وادي العرب قبلي، قورته، العلاقي، جرف حسين.
(ب) مكاتب إعانة لمكافحة الأمية، وليس مقرها المدارس بل أي مكان في المسجد أو البيت أو الشارع، ومدرسوها من الفقهاء، ولهم مكافأة سنوية عن التلميذ بعد نجاحه قدرها خمسة وسبعون قرشاً، يصرف لهم خمسة وعشرون قرشاً اولاً، وخمسون قرشاً بعد النجاح. .!!
وهي بالأماكن الآتية: جده بالديوان بلانة. كساب بأبي سنبل، فرقنيت أورجه بأرمنا. أبو راسيا بأرمنا، مرواو بتوشكي غرب، زيدات بتوشكي غرب. وادي السبيل بأبي حنضل. الريجة بكرسكو، النوبات بالسيالة، الشيمة بقورتة. دبنود بدابود.
ومفتش المعارف يلاقي كثيراً من الصعوبات في سبيل القيام بعمله في هذه الجهات كلها، وذلك لتناثر هذه النجوع وتفرقها وبعد المسافة بينها، وكثرة المرتفعات والمنخفضات، فلا بد والحالة هذه من الاستعانة بالباخرة البطيئة، والمراكب الشراعية والمطايا، ولا شيء غير هذا.
وقد يكون هذا الكلام غريباً على بعض الناس، من الذين لا يعلمون شيئاً عن طبيعة هذه المنطقة، أما الذين يعرفون هذه المنطقة، وخدموا فيها فإنهم يدركون تمام الإدراك ما يعانيه(795/36)
المفتشون هناك من جهد وما يقاسونه من نصب وتعب شديدين. .
وإذا أرادت وزارة المعارف خدمة العلم ومصلحة القائمين به وحرصت على نشر المعارف مخلصة في ذلك، فعليها أن تخصص لمفتش المعارف باخرة صغيرة (رفاص) اسوة بما تعمله غيرها من الوزارات، كوزارة الصحة، والأشغال، أما إذا ظل الحال على ما هو عليه، فلن تؤني هذه المدارس أكلها كما يجب، ولن تعظم استفادة الأهلين منها، فعلة ولاة الأمور أن يعطوا هذا الرجاء حقه من العناية والاهتمام. .!!
عبد الحفيظ أبو السعود.(795/37)
الجامعة والأساتذة
للأستاذ وديع فلسطين
أثار الصديق الأستاذ عباس خضر - في تعليقه على كلمة للأستاذ توفيق الحكيم - موضوع اختيار الجامعة المصرية (ونعني جامعتي فؤاد وفاروق) لأساتذتها، فقال إن الجامعة لا تزال تقصر أمرها على أساتذتنا (ولست أدري هل فكرت في الارتفاع بأعلام الأساتذة غير الرسميين أو لم تخطر لها هذه الفكرة بعد؟ والواقع أن هؤلاء الأعلام اساتذة في جامعة ليس لها مكان محدود ولا نظام موضوع).
وللتفكهة أذكر أن معهد التحرير والترجمة والصحافة في جامعة فؤاد فكر من بضع سنين في الأستعانة ببعض كبار الصحفيين المصريين للاشتراك في موسم محاضرات معهدية فيلقى كل منهم محاضرة عن اختباراته وتجاريبه في الصحافة العملية ليكون للطلاب إلى جانب دراستهم النظرية إلمام عملي بالمهنة التي تهيئهم الجامعة لها بعد التخرج.
وأعدت قائمة بأسماء الأعلام من الصحفيين فذكرت فيها أسماء الأساتذة: مريم ثابت بك، وعباس محمود العقاد، وفؤاد صروف، وطائفة أخرى. فأعترض المسؤولون في المعهد على هاته الأسماء الثلاثة قائلين: إن أصحابها لا يحملون مؤهلات جامعية، ولا تقرن أسماؤهم بألقاب مما تسبغه الجامعة على طلابها. وقد أستبعد هؤلاء الثلاثة فعلاً، ولم يدعوا للاشتراك في هذا البرنامج الموسمي!
وبعد ذلك، هل للمرء أن يسأل: كم من الصحفيين اللامعين الناجحين اخرجهم هذا المعهد الذي اقتصرت تبعة التدريس فيه على الأساتذة الجامعيين.
وبهذه المناسبة أذكر أن جامعة أمريكية سمعت أن صياداً بارعاً قريب من دارها، وأنه تضلع في صيد الحيوان البري والحيوان المفترس، حتى سجل في هذا المضمار أرقاماً قياسية غير مسبوقة. فما كان من إدارة الجامعة إلا أن تعاقدت مع هذا الصائد الأمي ليلقى على طلاب علم الحيوان سلسلة من المحاضرات بلغة مفككة متخاذلة وركيكة يبسط عليهم فيها عادات الحيوان ومغامراته في صيده ومقابلات بين القوى البدنية لكل من هذه الكائنات الحية؛ ولم تجد الجامعة ولا مجلس إدارتها ولا أساتذتها في هذا التصرف عيباً ينتقص من قدرها، وإنما عدته سبقاً وكسباً لم يتح مثلهما لجامعة أخرى.(795/38)
ومن يدري، فقد يقوم بين رجال الجامعة من يسأل: وما هي مؤهلات شوقي الجامعية حتى ينشأ له كرسي باسمه في كلية الآداب؟ هل تخرج في كلية الآداب؟ أو هل منح درجات علمية معترفاً بها؟.
إن الحياة كثيراً ما تكون أقدر على إعداد المرء ثقافياً وعلمياً من الجامعة. وقد أعترف جورج برنادشو بأنه لم يدخل جامعة ولا معهداً عالياً، وأنه كان خامل الذكر في دراسته الابتدائية. وعندنا في مصر الأستاذ سلامة موسى، فقد اعترف بأنه لم يهيئ لنفسه دراسة عالية نظامية في جامعة أو في سواها من معاهد الثقافة الرفيعة، وإنما غرف ثقافية من العلم المشاع في المكتبات مرتكناً على قوة ذاتيته وصدق عزيمته.
وأمامنا الأستاذ عباس محمود العقاد، الذي يكفي أن يقدم كتاباً من كتبه - بغير اختيار - إلى الجامعة لينال عليه درجة الدكتوراه. ولكن هذا لن يحدث في مصر، لأن على الأستاذ قبل ذلك إن ينال درجة الليسانس، تتلوها درجة الأستاذية، ثم مرتبة الدكتوراه!
وعندنا كذلك الأستاذ فؤاد صروف الذي كان اول من كتب في مصر عن تحطيم الذرة، وفلق نواتها، وإطلاق الطاقة الذرية من عقالها واستخدامها في شؤون السلم وامور الحرب. وكان من اقدر الذين تعمقوا في درس علوم الطبيعة وسائر العلوم، وله في ذلك مؤلفات تنم عن تأصل وتثبيت واقتدار. وكان من الذين ابتدعوا مصطلحات علمية لمترادفات لها اعجمية، فقال عن الكلوروفيل (اليخضور)، وعن الهيموجلوبين (اليحمور)، وعن الأسمنت المسلح (الأبرق)، وعن الإيستوب (النظير) وما إلى ذلك. . . وكل سفر من مصنفاته يعده بدون أدنى شك للظفر بدرجة الدكتوراه من أكبر جامعات العالم، أما في مصر فلا.
وقد يذكر قراء الرسالة أنني اقترحت من نحو عام على جامعة فؤاد أن تمنح درجة الدكتوراه الفخرية لرواد الحركة الفكرية الحديثة في مصر ولأقطاب السياسة وفقائها المعاصرين. وذكرت يومها أسماء الأساتذة: فؤاد صروف، وأحمد أمين بك، وأحمد حسن الزيات، وأنطون الجميل باشا، وخليل ثابت باشا، وخليل مطران بك، ومحمود تيمور بك، وسابا حبشي باشا، وإسماعيل صدقي باشا، وعبد العزيز فهمي باشا، وقلت يومئذ: إن هؤلاء جميعاً يستحقون الدكتوراه الفخرية اعترافا من جامعات مصر بالخدمات الجليلة التي أسداها كل منهم في ناحية من نواحي الحياة العامة. ولكن الجامعة لم تأخذ بهذا الرأي، وإن(795/39)
كانت قد منحت الأستاذ أحمد أمين بك هذه الدرجة في ما بعد في غير احتفال ولا احتفاء.
وصفوة القول إن الجامعة في حاجة إلى شيء من سعة الأفق في التفكير، فالشهادة لا تقوم صاحبها ولا ترفع من قدره الثقافي الفكري. ومهمة القائمين على هذه المؤسسة العلمية الكبيرة أن ينقبوا عن ذوي الكفاءات ليستغلوها خير استغلال، وليكن هذا التنقيب في مصر اولاً، ثم في الخارج، لأن الفقهاء المصريين كثيراً ما يتميزون على أقرانهم من الذين (يستوردون) من الخارج. ولو ترك الأمر لي، لعينت مثل الأستاذ نقولا الحداد استاذاً لنظرية التطور في ذلك المعهد، وعينت الأستاذ فؤاد صروف أستاذا للعلوم الذرية، وعينت الأستاذ توفيق الحكيم أستاذا للسيكوباتية. . . . وهكذا. . . . فهذه الكفايات المهملة لا ينبغي إن تظل مبعدة عن النطاق الجامعي، ولا يصح إن تظل أما معطلة أو غير مستثمرة استثماراً ينفع الجيل الجديد.
ولقد قال لي الصديق الدكتور إبراهيم ناجي مرة: كان ينبغي إن تأسرني الحكومة مع الأستاذ سلامة موسى والدكتور سعيد عبده في مكتبة علمية وتطلب منا إن نصدر لها دائرة معارف طبية ومصنفات علمية طبية. فحرام أن تشتت الجهود أو توزع القوى هكذا.
إن مهمة الجامعة هي مهمة مزدوجة: التوجيه والإعداد. وفي مصر من ذوي الكفاية من يرفعون قدر البلاد و (يطيلون نحرها). وما على إدارة الجامعة إلا أن تضع هؤلاء في موضعهم ليتمكنوا من إعداد الطلاب إعداداً طيباً.
وحينذاك لن تجد من يختلف على هل يعين الأستاذ الزيات في كرسي شوقي بك استجابة لاقتراح الأستاذ توفيق الحكيم، أم هل يكون شاغله من نطاق الجامعة الحالي؟
وديع فلسطين.(795/40)
رسالة الفن
الزهريات
للدكتور أحمد موسى
هي أوعية وألوان تسمى مشكاة يقابلها باللاتينية ليست لها فائدة عملية تذكر بالقياس إلى قيمتها الفنية لطالبي الفن واللغوية لطالبي اللغة الإغريقية وتطورها. ومع ضآلة فائدتها العملية فإنها من أهم ما عنيت بصنعة الشعوب المتحضرة بغية تجميل الحجرات أو الحدائق، سواء وضعت فيها الأزاهير أو لم توضع.
وعملت كحليات للأعمدة وحيناً آخر وضعت إلى جانب القبور، وكانت من الطين المحروق أو الصيني أو الزجاج، كما أنها صنعت من الرخام أو المرمر أو من حجر الألباستر أو من المعدن.
ولا يعنينا من أنواع الزهريات في هذا المقال سوى النوع الإغريقي الكلاسيكي بالنظر إلى المستوى الفني العظيم الذي بلغه الأغارقة في كل ما تناولوه.
ولا تعرف الدراسات الفنية هذه الزهريات إلا في فجر القرن الثامن عشر عندما بدأ ظهورها بين المخلفات الأثرية بكثرة لفتت النظر اليها والعناية بها، فكانت منذ ذلك الوقت موضع الدرس والتأريخ، لما حوته من مصورات عجيبة فائقة في الدقة والجمال، فضلا عما تناولته هذه المصورات من إيضاح النواحي القصصية والاجتماعية والمدنية والتاريخية إلى حد مثير لكل إعجاب وتقدير، وكانت بذلك أشبه شيء بسجل حافل لكل راغب متأمل.
وتنوعت أشكالها تنوعاً كبيراً ولكنها لم تخرج ابداً على رشاقة التكوين الكلي، على أن العناية بفحصها من الناحية الفنية كانت متأخرة عن فائدتها من الناحية التوضيحية للقصة وللحياة الإغريقية كما سبق التنويه.
وإذا كان تاريخ الفن لم يعرف هذه الزهريات إلا منذ فجر القرن الثامن عشر؛ فإن دراستها وتبويبها من حيث التكوين الكلي والشكل ولون أرضيتها ولون المصورات التي رسمت عليها، والمدارس الفنية التي عملت فيها لم يبدأ بصفة حاسمة إلا منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما توافرت أسباب الدرس والفحص بتوافر العدد الموجود من كل نوع منها(795/41)
وأقدم الزهريات الكلاسيكية جميعاً عثر عليه في طبقات أرض ترويا وهي المدينة القديمة في آسيا الصغرى (منطقة الدردنيل) حيث قامت الحرب سجالا بين الأمير مينيلاوس لأستيراد زوجته وبين باريس الذي اختطفها لنفسه، كما تتضح أخبارها في إلياذة هورميروس.
وكانت هذه الزهريات معمولة بيد الإغريقي دون الأستعانة بقرص الإدارة الذي يستعملونه حتى اليوم في صناعة الأواني الفخارية، كما أنها كانت من الطين المحروق دون تلوين، ذات شكل كروي أو أقرب ما يكون إليه، يعلوه عنق أو رقبة أسطوانية غالباً، كما برز من جانبين منها إصبعان مثقوبان للاستعانة بهما في رفعهما وفي تثبيتها إلى المكان الذي تعلق فيه من حبل مار بالثقبين المذكورين بدلا من المقبضين الذين جاءا في الزهريات المتأخرة (ش1).
وكانت زخارفها في أول الأمر بسيطة لا تخرج عن خطوط حفرت حفراً على سطحها حيناً، أو لصقت بها قطع من الفخار صغيرة للغرض نفسه حيناً آخر (ش1).
وأبسط أشكالها على هيئة كرة ذات عنق غاية في القصر بالقياس إلى أرتفاع البدن الكروي، زودت برسوم بارزة لحيوان أو إنسان أو زخرف من نبات (أنظر الستة الأشكال التالية).
وكان هذا النوع الجدير بالدراسة كثير الصنع في قبرص وله أشباه في سوريا وتبريز في أرجوليس التي تخربت في عام 468 ق. م.
ووجدت منها أنواع قديمة يرجع تاريخها إلى نحو عام 2000 ق. م، ومن العجيب أن هذه مع قدمها صنعت بواسطة القرص الدائر، علاوة على أنها كانت مزودة بنقوش ملونة بألوان غير لامعة، وهي بهذه الصفة تشبه نظائرها مما وجد في ميكينا
وللتفرقة بين هذه الأنواع (الكلاسيكية) قديمها والجديد، نجد أن أبرز الفوارق يتلخص في أن القديمة كانت رسومها غير لامعة أما الجديدة منها (1500 ق. م) فإنها قد تميزت بما ظل مميزاً لكل الزهريات ومصنوعات الفخار الإغريقية بصفة عامة، ألا وهو استخدام الألوان المشتملة على الورنيش في تركيبها -
وكانت الأوان رقيقة صافية نقية على سطح أملس ذي لون مائل إلى الصفرة، بحيث يصبح(795/42)
اللون الزاهي والأسود الداكن على أكمل وجه من الانسجام.
والأشكال الخارجية للزهريات الكلاسيكية الإغريقية عديدة، لم يميز مرحلتها الأولى عن سواها إلا الشكل المقوس على مقبضين جانبيين مقوسين.
وأخذت الزخارف شكل خطوط متوازنة في أتجاهات مختلفة ومتقاطعة، وشغلت جزءاً محدوداً من سطحها حيناً، وحيناً آخر شغلت معظم ذلك السطح، إلى جانب الوحدة الزخرفية المكونة من (الحلزونية) المحببة إلى نفوس الإغريق.
وكذلك وحدات خيالية بديعة للزهر الملتف حول سيقانه، وزهور الماء، والخطوط التي تسير في شكل موجات وأشكال أسماك ونجوم بحرية وأشكال مرجانية وصدفية من مختلف الأنواع.
وأنتشر هذا الطراز من الزهريات في مناطق عديدة نذكر منها على وجه التخصيص منطقة ميكينا والساحل الشرقي لبلاد الإغريق والجزر الإيجية وجزيرة رودس كريت. وهذه كلها يرجع تاريخ الزهريات فيها إلى نحو عام 1500 ق. م كما سبق التنويه
وهناك نوع أشتهر بأسم الزهريات الديبلونية نسبة إلى المكان الذي وجدت فيه عند اثينا وكانت هذه أقل قيمة من ناحية الصنعة والزخرفة الفنية بالقياس إلى تلك التي وجدت في ميكينا، ذلك لأن الفخار الذي صنعت منه كان أكثر خشونة وسطحه أكثر احمراراً، وعملت الوحدات الزخرفية بألوان حمراء بنية مضافة إلى الورنيش المخفف، كما أنها بلغت حجماً كبيراً في كثير من الأحيان، وقد أحاطت بها الزخارف أشبه شيء بحزام التف حولها، وتكونت من خطوط متقطعة أو متصلة وخطوط متكسرة ومجموعات من النقط ودوائر داخل بعضها في البعض أو حلزونية التصميم، أما صور الحيوان أو الطير فقد رسمت في المناطق المربعة الشكل الخالية من الزخارف. وكانت الصور في مجموعها غاية في الباسطة؛ فجاءت الزهريات جافة المظهر لا حياة فيها، على أنها من ناحية تاريخ الفن ذات قيمة لا تنكر لأنها استغرقت المرحلة الزمنية بين الزحف الدوري (1104 ق. م) وبين القرن السابع قبل الميلاد، وهي بهذا تعتبر الأساس الأول الذي أقيم عليه فن عظيم خالد.
وجاءت الزهريات القبرصية متميزة على الأثُينية بنعومة الطين المصنوعة منه، سطحها ذو لون أصفر فاتح، سمت عليها المصورات بألوان الأسود البني والأبيض والأحمر، لبيان(795/43)
الزهور الخيالية والورود الابتكارية التي تعتبر أسلوباً زخرفياً جديداً يسجل الأثر الشرقي والاقتباس من الشرق!
وإذا كانت الزهريات القبرصية قد حملت الأثر في وضوح، المهارة التي تجلت من خلال رسوم الأجسام المختلفة والتي تبين الاتجاه الفني عند الإغريق، وذلك بتأمل الطريقة التي اتبعوها في ملء الفراغ بما لا يتنافى مع إظهار الصور في أروع أسلوب ممكن برغم قيود الشكل التكويني؛ فنجد أن بدن الزهرية قد قسم في مهارة إلى أقسام تفصل بينها خطوط، وتشغل مساحاتها مجموعات من صور حيوانات منها على وجه التخصيص الوعل والماعز الوحشي والأسد واقفاً أو رابضاً كأبي الهول وملئت الفراغات بزخارف وحداتها من براعم الزهر أو من أشكال هندسية كالدوائر الحلزونية وغيرها مما يشابه إلى حد كبير الزخارف التي كانت عند الميكينيين.
وتطور النشاط الفني إلى اقتباس المعاني من الياذة هوميروس والتعبير عنها بالصور التي رسموها على الزهريات، وقد وجدت أسماء المصورين في ركن منها، وأصبحت كتابة الأسماء هي القاعدة فيما بعد، فلا ترى زهرية دون أسم مصدرها إلا فيما ندر.
وكان من الطبيعي أن يصبح أسم المصور لازماً للمؤرخ الذي يريد تبويب الزهريات تمهيداً لدرسها، فضلا عن أنها أظهرت من ناحية لأخرى تطور الحروف الأبجدية الإغريقية.
وصادفت الزهريات الرودسية بالمقارنة بغيرها من الأنواع ذيوعاً وانتشاراً في القرنين السابع والسادس ق. م. في بلدان ساحل آسيا الصغرى وفي الجزر المجاورة، فازدهرت صناعتها وذاع صيتها وامتد سلطانها نحو الغرب حتى بلغ وسط إيطاليا (أثروريا أو توسكانا)، وهذا دليل قوي على ما بلغته من المستوى الفني، سواء من حيث أحجامها أو من حيث مادة صناعتها أو التفنن في زخرفتها، مما سيكون أكثر وضوحاً وأسهل تناولا في المقال التالي.
أحمد موسى(795/44)
موعد. . . .
للأديب محمد محمد علي السوداني.
إذا ما الروض ناجاني ... بأنفاس العبير ضحى
وغناني ربيب الرو ... ض صوتاً ناعماً فرحاً
وهلل خاطري للطير ... يقفز فاتناً مرحاً
بكى جفني بكى قلبي ... بكى روحي لرؤياك
إذا ما الغيم رف على ... شعاع البدر ثم جرى
سريع الخطو لا يدري ... إلام يواصل السفرا
وفاض النور من أبها ... ئه في الأرض وانتشرا
مشت أحلامي الولهى ... تطوف حول مثواك
تعالي ها هو المقعد ... لهيف يرقب الموعد
تذكر فيك عهد الرو ... ح بين غصونه الميد
لهيف ضارع من نفسي ... وأرحمه لذكراك
أغار عليك من نفسي ... وأرحمه لذكراك
سمعتك في خرير الما ... ء جاز الصخر مندفعا
وفي أنشودة الطير ... على هام الربى سجعا
وفي إطراقه الكون ... إذا ما الكون قد هجعا
فإنك في دمي لحن ... يهدهد قلبي الشاكي
رأيتك في طيوف الفجر ... في أندائه السكرى
ترفرف حولك الآما ... ل والأفراح والبشرى
وفي خطراتي المشبوبة ... المذعورة الحيرى
فهل في ليلتي هذى ... ترى عيني محياك
محمد محمد علي السوداني(795/45)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
حب الرافعي:
تلقيت في هذا الأسبوع خمسة أعداد من مجلة (الإحسان) التي أصدرتها في هذا العام الجمعية الخيرية الإسلامية بحلب وهي زاخرة بالموضوعات الأدبية والاجتماعية، يشرف على تحريرها الأستاذ حسنين حسن مخلوف المفتش بوزارة المعارف المصرية والمنتدب استاذاً بالكلية الإسلامية بحلب، وهو من الأدباء الذين يستهلكهم التعليم، وقد رأيت له بالعدد الثاني فصلا عنوانه (في مجلس الرافعي) أتى فيه على محادثة جرت بينه وبين الرافعي، افضى - أي الرافعي - اليه فيها أنه يحب الآنسة (مي) وأنها هي التي أوحت اليه ما كتب في فلسفة الحب والجمال. وذكر الأستاذ أنه قال للرافعي في هذه المحادثة: (أكبر ظني أنك قرأت كثيراً من الأدب الأوربي المترجم في الحب، وعرفت أنه كان سبباً في شهرة الأدب في العالم تصوير العواطف الإنسانية ممثلاً في المرأة، ولقد استفاض هذا الفن ممزوجاً بالفلسفة الاجتماعية التي سرها إيحاء المرأة؛ فأردت أن تحدث في اللغة العربية حدثاً جديراً لم يبرع فيه أحد في اللسان العربي على هذا النحو الأوربي العميق؛ فتعلقت بأذيال هذه الكاتبة الأدبية وكان بيتها منتدى يجتمع فيه العلماء والأدباء في مصر. حضرت مجلسها ثم شغلت بها نفسك لتكتب هذا النوع من أفانين العشق، وكتبت إليها وما بها بأس أن تكتب إليك، فطرت فرحاً بهذا الحب حتى تخيلته حباً خالصاً إليك وتفلسفت ما شئت في تصوير العواطف منها واليها) وقال الأستاذ مخلوف تعقيباً على ذلك: (وعز علي الرافعي أن أصور حبه على هذا النحو وأدور به في هذا المنحني، فلم يحدثني عن حبه بعد ذلك وكان يحدث به الناس).
ويظهر من ذلك أن الأستاذ مخلوف، وهو من تلاميذ الرافعي يرمي إلى إبداء رأى في حب الرافعي، فيقول بأنه حب مصنوع يقصد منه إلى إحداث لون من الإنتاج الأدبي.
وكان على مقربة مني وأنا أقرأ مقال الأستاذ مخلوف، صديقي الأستاذ كامل محمود حبيب، وهو ايضاً من تلاميذ الرافعي، فدفعت اليه المجلة، وقرأ المقال، ثم نظر إلى ونظرت اليه وأنا أتوقع معارضته لرأي الأستاذ مخلوف، وإذا هو يضيف شيئاً آخر، قال: لقد كان(795/46)
الرافعي متديناً شديد التمسك بالدين، وكان يشعر من هذا بجفاف قلبه، فأراد أن يرقق قلبه بالحب، وأن يرقق أسلوبه بقراءة القصة الحديثة (الطويلة والقصيرة) وأراد أن يشعر الناس بهذه الرقة بالكتابة في الحب على أسلوب فحسب، بل كذلك في اللغة، إذ كانت تظهر على أسلوبه المسحة الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم والحديث الشريف.
هذان رأيان في حب الرافعي لتلميذين من تلاميذه، والرأيان - كما يرى - يتجهان إلى غاية واحدة، هي أن الرافعي لم يكن صادق الحب. ولمن شاء بعد ذلك أن يقول إن ما كتب الرافعي في تصوير العواطف وفلسفة الحب والجمال، ينقصه (الصدق الفني).
فهل عند أحد من سائر تلاميذ الرافعي شيء في هذا الموضوع؟. . .
مجلة الإذاعة:
قالت مجلة الإذاعة المصرية: (يدور البحث في دور الإذاعة العالمية وفي الإذاعة المصرية في هذه الأيام حول سؤال على طرافته خطير نطرحه على مستمعينا ليشتركوا معنا في دراسته وتبين وجه الحق فيه: هل تكون مهمة الإذاعة مجاراة ميول الجمهور أم رفع مستوى الذوق العام؟) ثم قالت إن قسم الرغبات بدار الإذاعة المصرية مفتوح الباب لما يقول المستمعون في هذا الشأن.
وأقول إن هذا البحث لا يحل مشكلة إذاعتنا، لأنها ليست ناشئة من مجاراة الإذاعة لميول الجمهور أو من عملها على رفع مستوى الذوق العام، ولو كان الأمر كذلك لرضى عنها الجمهور إن كانت تجارية، أو رضى عنها المثقفون إن كانت مرتفعة عن ذوق الجمهور. والواقع أنها لا ترضى عامة الجمهور فيما تزعم أنها تقدمه ملائماً لهم، ولا تنال رضا الخاصة بما تزعم أيضا أنه للخواص.
إن القائمين بأمر الإذاعة ليسوا من ذوي الأختصاص، وأكثرهم محمول عليها من المهن الأخرى، ويلي مناصب هامة فيها من وصل إليها بغير الكفاية، والعناصر القليلة الصالحة فيها هم بعض الشباب الذين ليس بيدهم شيء من القيادة وأكثرهم الذين تقدمهم الإذاعة يعرفون الطريق إلى توثيق صلاتهم بأولئك المشرفين؛ ومثال هذا العلاقة بين مؤلفي التمثيليات والبرامج الخاصة وبين المخرجين، فالأولون من خارج الإذاعة، والآخرون من موظفيها. ويعرف المؤلف أن (جواز) مؤلفه أن يخرجه فلان أو يقال إنه أخرجه. وينشأ من(795/47)
كل ذلك تقديم غير الصالح على الصالح والتكرير الذي يمل من الحسن ويزيد السخيف سخفاً.
تلك هي العلة الحقيقية في إذاعتنا المصرية، وهي ما يجب أن يعالج اولاً. أما مسألة النزول إلى مستوى الجمهور أو رفع الذوق العام، فتأتي في المرتبة الثانية. على أن هذه المسألة إن كانت تبحثها إذاعات البلاد المتقدمة في الثقافة والتعليم فلأن لها عندهم موضوعاً، لأنهم يتجاذبون الرأي بين مسايرة الجمهور في ثقافته العادية وبين الارتفاع إلى مستوى ذوي الثقافات العليا، أما عندنا فالجمهور عامي والغالبية أمية، فهل تكون مهمة الإذاعة (الدردشة) مع العامة والإبقاء على انخفاض الذوق العام. . .؟
ذكرى سيد درويش:
كان يوم الأربعاء 15 سبتمبر الحالي يوم ذكرى الموسيقى المصري الخالد سيد درويش، وقد مضى على وفاته ربع قرن فأحتفى بهذه الذكرى معهد الموسيقى الشرقي بالإسكندرية إذ أقام في مساء الأربعاء حفلة نقلتها الإذاعة إلى المستمعين. وذد كان من حسنات هذه الحفلة ما تضمنته من قطع غنائية وموسيقية من فن سيد درويش، فكانت خير تحية لذكراه وأفصح دليل على استحقاقه الخلود، وإن قصر القائلون في ذكراه فقد وفى نفسه بنفسه.
لقد جعل سيد درويش الموسيقى والغناء فناً معبراً مصوراً له موضوع، بعد أن كان مجرد أصوات للتطريب، واستوحى الببئة وعبر عنها وارتفع بذوقها. وأحس إحساس الفرد الممتاز بالآم الجماعة وآمالها فجمع في الهتاف بها بين القوة والجمال، وأثبت بعبقريته الفذة أن الفن الحقيقي هو الذي يحيي النفوس وهو يمتعها.
لقد ردد القائلون والكاتبون في ذكرى سيد درويش مآثره وأعماله فقالوا إنه أذكى الثورة سنة 1919 بأناشيده وألحانه، وإنه أدى على المسرح تمثيليات موسيقية كان لها أثر في الوعي القومي والتوجيه الوطني. ونحن الآن نسمع ذلك ونتلمس في حاضرنا ما يشبهه، فنأسى للرجوع إلى مجرد التسلية والتلهية، وانحصار التجديد في تصوير المشاعر المترفة.
ثلاثة عبروا عن الشعب وخاطبوه فأثروا فيه: سيد درويش في الموسيقى، وحافظ إبراهيم في الشعر، والمنفلوطي في الكتابة، وقد عاشوا جميعاً في الربع الأول من هذا القرن، أوائل في منحاهم ولم يتكرروا.(795/48)
عاشوا بأدبهم وفنهم مع الشعب، أخذوا منه موضوعاتهم، ولم يبعدوا عنه بالأداء، بل جذبوه بالطلاوة والسهولة، والروح التي يشعر بها ويجدها فيهم. لم يترفعوا عليه، ولم يبتذلوا بالنزول إليه.
وحظ الوطن بأولئك الثلاثة وإن كان كبير القيمة إلا أنه قليل العدد، لأنهم ثلاثة من عشرات الأدباء والفنانين البارزين، وهذا مع حاجة الوطن إلى ما يلائم العصر من لون إنتاجهم الديمقراطي في الأدب والفن.
شهر اليونسكو:
أشرت في الأسبوع الماضي إلى الخطة التي وضعتها اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية لتنظيم مظاهر النشاط الثقافي والعلمي والأدبي والفني في خلال المدة التي يجتمع فيها مؤتمر اليونسكو ببيروت والتي يطلق عليها (شهر اليونسكو).
وأذكر اليوم أهم مقترحات اللجنة التي ألفت لتنظيم شهر اليونسكو، وقد تمت الموافقة عليها:
تدعو اللجنة الثقافية جميع الحكومات العربية لمشاركة لبنان في تنظيم المعارض والحفلات الفنية وسواها من المظاهر الفكرية والثقافية التي ستقام في بيروت أثناء أنعقاد مؤتمر اليونسكو بها. وتعد الحكومة اللبنانية معرضاً علمياً يمكن نقله بعد أنتهاء المؤتمر إلى أي بلد عربي يرغب في ذلك. ويقام معرض تشترك فيه جميع الدول العربية يقسم إلى ثلاثة أجنحة، جناح للتربية، وجناح للفنون، وجناح للمطبوعات والمخطوطات والصحافة العربية.
وتنظم الحكومة اللبنانية سلسلة من ثماني محاضرات تلقى بالفرنسية أو الإنجليزية؛ وتختار - إذا أمكن - محاضرين عن كل قطر عربي بالاتفاق بينها وبين الحكومات لموضوعي الحضارة العربية، والنهضة الحديثة في الشرق العربي.
وتقرر إحياء ليلتين عربيتين بالموسيقى والغناء والرقص، تحيي لبنان واحدة، وتشترك البلدان العربية في إحياء الثانية. وتنظم الحكومة المصرية حفلة مسرحية، وتعرض بعض الأفلام العربية الجيدة التي تصور مظاهر الحياة العامة في الشرق العربي. وطلبت الحكومة اللبنانية بوساطة اليونسكو بعض الأفلام العلمية والتربوية والثقافية من أوربا وأمريكا.(795/49)
ذكرى ابن سينا:
وقد تقر أيضاً في أجتماع اللجنة الثقافية بلبنان، أن يحتفل بمرور ألف سنة على مولد ابن سينا. وتتخذ لذلك الوسائل الآتية:
1 - حصر مؤلفات ابن سينا ورسائله الموجودة في مكتبات مصر والأقطار العربية الأخرى وتركيا وإيران وبلاد الغرب. ثم تقوم الإدارة الثقافية للجامعة العربية بأخذ صور فوتوغرافية لها، فإن تعددت النسخ أخذت صورة أحسنها، فإذا أجتمع للإدارة الثقافية صور المخطوطات غير المطبوعة من مؤلفات ابن سينا، استخرجت منها نسخاً بعدد الأقطار العربية والتركية والإيرانية وأهدت إلى كل قطر مجموعة منها تودع خزائن خاصة في دور كتبه تخليداً لذكر ابن سينا وإظهار لعظمته.
2 - تعهد الإدارة الثقافية إلى لجنة من المختصين، بنشر آثار ابن سينا نشراً علمياً.
3 - تعهد الإدارة الثقافية إلى لجنة مختارة، بفحص خير الأبحاث التي كتبت عن ابن سينا في اللغات العربية والفارسية والتركية واللغات الغربية، وترجمة ما لبس بعربي منها إلى العربية وجمعها في كتاب تنشره الإدارة الثقافية.
4 - إعداد مهرجان عربي يقام في إحدى عواصم الدول العربية، ويعد له باستكتاب المختصين أبحاثاً عن حياة ابن سينا وآثاره، ويلقى بعض هذه الأبحاث في المهرجان ثم تجمع وتطبع وقد رؤى أن أليق العواصم لهذا المهرجان بغداد، فاستقر الرأي على إقامته فيها.
5 - إنشاء مؤسسة تذكارية علمية تخلد ذكرى ابن سينا في الطب والفلك وغيرهما من العلوم وتنشط الحركة العلمية العربية المعاصرة.
6 - إقامة معرض في المهرجان تعرض فيه آثار ابن سينا المطبوعة والمخطوطة لهذه المناسبة.
من طرف المجالس:
نحن اليوم في جلسة نسائية بين مطربة بيرة وسيدة أخرى قالت الأولى للثانية وقد خلا المجلس إلا منهما:(795/50)
- من هذه الست المكتئبة المتشحة بالسواد؟
- هذه الست فلانة. مسكينة. . . . كانت متزوجة أحد القضاة ومات، وتزوجت فلان بك ومات، تزوجت. . . فقاطعتها مكملة: مات! ثم تمصصت شفتيها وقالت: كل من عليها فان.
عباس خضر.(795/51)
البريد الأدبي
مساواة ضيزى:
في مقال الأستاذ الكاتب الغيور نقولا الحداد (فصيلة المخلوفات الخبيثة) في العدد (791) من الرسالة، الغراء جاء قوله: هل يعلم القراء أنه مكتوب على أبواب بعض الفنادق الأمريكية (ممنوع دخول اليهود والكلاب إلى هذا الفندق)؟
وجوابي الصريح أن هذه العبارة الأمريكية إنما تحمل من المدح أضعاف ما تحمله من القدح لأولئك الذين سماهم الأستاذ بحق - فصيلة المخلوقات الخبيثة. . . ذلك بأنها تسوى - خطأ - بين اليهود والكلاب وتفض الطرف عن أمور كان يجمل أن تأخذ محلها من الاعتبار في سياق المساواة، واليك البيان:
1 - قال الشاعر:
وما يك فيّ من عيبِ فإني ... جبان (الكلب) مهزول (الفصيل)
2 - وقال الآخر:
ألا ليتنا يا عز من غير ريية ... (بعيران) نرعى في الخلاء ونعزب
وددت - وبيت الله - أنك (بكرة) ... هجان، وأنى (مُصْعَب) ثم نهرب!
3 - وقال غيرهما:
يغشون حتى ما تهر (كلابهم) ... لا يسألون عن السواد المقبل
4 - وقال الضليل:
وجيد كجيد (الرئم) ليس بفاحش ... إذا هي نصته، ولا بمعطل
5 - وقال:
نظرت إليك بعين (جازئة) ... حوراء حانية على طفل
6 - وأخيراً قيل في الطير دع النعم:
لو أطلع (الغراب) على [يهود] ... وما فيها من السوءات شابا!. . . الخ
وبعد: فمن محصل أقوال القائلين أو بالصح أبيات الشاعرين يستفاد أن بعض الحيوان الأعجم - وصفاً وحالا - أعظم قدراً وأنفع للناس من فصيلة المخلوقات الخبيثة. . . أولئك الذين بدت سواءتهم للعيان في مجازر دير ياسين وطبرية وحيفا ويافا وغيرها من رقاع(795/52)
فلسطين. . . وشتان بين كلب يحرسك وخبيث منهم يفطم الولد، ويبقر البطن، ويقتل الجنين!!
ثم ماذا؟ ثم يبقى أن نقول إن مساواة العبارة الأمريكية اليهود بالكلاب، وتشبيه الأستاذ صاحب المقال هؤلاء بفصائل الحيوان الأعجم هو مساواة ضيزى وتشبيه مع الفارق. هذا الذي ببنت بعضه أبيات الشاعرين، والبعض قد يغنى عن كل وبخاصة في مثل مقامنا، والسلام.
(الزيتون)
عدنان
إلى أبناء العروبة.
لم يعرف تاريخ مصر الحديث قائداً عبقرياً ولا مجاهداً عربياً ولا فاتحاً مصرياً دامت له عديد الأمصار ورفع علم العروبة خفافاً في العالين كما عرف ساكن الجنان إبراهيم باشا - فلقد استطاع الفاتح المصري العظيم أن يلقى على الدنيا درساً لن ننساه حتى ذهبت سيرته مثلا أعلى في التاريخ تقرأ في الجامعات وتدرس في الكليات التي تخصصت في تفهم سير الأبطال التي غيرت فتوحاتهم مجرى التاريخ. . . وها نحن أولاء على أبواب (المائة عام) التي مضت على انتقاله إلى جوار ربه راضياً مرضياً ونحن اشد ما نكون حاجة إلى إعادة مجده واستذكار فتوحاته وأعماله - فهل للعروبة في مشارق الأرض ومغاربها، وهل للقادة من رجال الفكر ألا يعلموا على إذاعة هذه الذكرى التي تعبق بتاريخ العزة والنصر، وتفعل في النفوس فعل السحر وتدفع بالأمة العربية الباسلة إلى أن تترسم خطاه حتى تكون من تحقيق أمله قاب قوسين أو أدنى.
محمد عبد الوارث الصوفي.
الأمجاد ليست جمعاً للمجد:
طالعت في العدد الأخير من الرسالة الغراء ما دبجه يراع الأستاذ الكبير محمود رزق سليم المدرس بكلية اللغة العربية تحت عنوان: من وحي حماة: وقد أفتتح الأستاذ كلامه بقوله (لا(795/53)
أدري لماذا يهزني شوقي إلى حماة ويهفو قلبي إليها كلما ذكرت ويردد لساني اسمها في كثير من التقدير. وأقف عند ترديده وقفة المتأمل المستلهم. مستعرضاً على ذاكرتي لمحات تاريخها الفياض فتشرق منه في سماه ومضات من أمجادها الماضية) والذي نأخذه على الأستاذ الجليل قوله (امجادها الماضية) وذلك لأن الأمجاد لم ترد جمعاً للمجد ولم نر المجد مجموعاً وقياس جمعه في القلة أمجد مثل سهم وأسهم. نعم قد جاء جمع فعل على أفعال ولكن في كلمات شاذة يجب أن نقف عندها ولا نتعداها. من ذلك فرخ وأفراخ: وزند وأزناد: وفرد وأفراد: اما أمجاد جمعاً للمجد فلم تذكر في كتب اللغة وإنما جاء أمجاد جمعاً لما جد أو مجيد. وفي الحديث (أما بنو هاشم فأنجاد أمجاد).
(الزقازيق)
محمد عبد المقصود هيكل
هاأنذا:
في العدد 793 كتب الأستاذ البشبيشي بجواز مثل هاأنا بائح ولكني هاأنذا أدعوك أن تتبع كل ضمير سبق بهاء التنبيه نجد خبره أسم إشارة بطابقه، والقرآن الكريم لم يخرج عن هذه القاعدة وكفى به شاهد صدق.
وعبارة أبن هشام لغة تأليف لا عبارة تحقيق، ولم لا تكون مما تؤخذ عليه؟ فلا تنهض لنهدم بها قاعدة.
ويبت البحتري لو أن الشعر وسعه أن يقول ها هو ذا لكان اشد تقريعاً لمخاطبته، فلا زالت القضية من وجوب الإتيان باسم الإشارة مطابقاً الضمير المسبوق بهاء التنبيه كما يقوله من يسميهم (المتأدبين) صحيحة.
وإليك عبارة المختار: يقال أين أنت؟ فتقول هاأنذا. والمرأة تقول هاأنذاه. ويقال أين فلان؟ فتقول. إن كان قريباً - ها هو ذا - وإن كان بعيداً ها هو ذاك.
وللمرأة إن كانت قريبة ها هي ذه - وإن كانت بعيدة ها هي تلك أه.
عبد الفتاح عبد الصادق الملامسي
مدرسة الإسماعيلية الأميرية للبنات(795/54)
سودنة:
ليست هي تلك السودنة التي تقشعر منها الأبدان كلما ذكرت، بل هي سودنة خفيفة لطيفة، لم تفرضها السياسة وأساليبها الملتوية، وغايتها المظلمة، وإنما فرضها أمر يدل على وحدة التقاليد بين شطري الوادي، جنوبه وشماله، وخاصة ذات الطابع الديني منها، كتلك التي تحرص على أن تشرك الابن في جزء من أسم أبيه، لينال كل منهما شرف إطلاق (محمد) عليه.
نشرت (الرسالة) الغراء في عددها 792 قصيدة بعنوان (الدوحة الذاوية) وهي قصيدة كان على إن أسودنها قبل أن أدفع بها إليها فاضع بجانب اسمي (السوداني)، ذلك لأن الأستاذ (محمد محمد علي) يشاركني أو أشاركه في الاسم الكريم وقد سبقني إلى الرسالة شاعراً وكاتباً، وإلا لوجب عليه هو أن (يمصر) اسمه وأعفى أنا من هذه السودنة الخفيفة اللطيفة برغم اعترافي له بالسبق في ميدان العلم والأدب.
محمد محمد علي السوداني.(795/55)
من الأقاصيص القصيرة:
الخوخ
للكاتب الروسي تولستوي
لما فرغ القروي (تيكو كوزميت) من جولته في المدينة، قفل راجعاً إلى منزله يحمل في إحدى يديه صرة صغيرة. فلما بلغ إلى صحن الدار نادى أولاده ثم قال لهم:
- انظروا يا أطفال ماذا بعث العم (إفريم) إليكم.!
فهرول الصغار إليه ثم توسطوه، بينما كان - هو - منصرفاً إلى فض الصرة لإخراج محتوياتها؛ فلما تم له ذلك، صاح (فانياُ) - وهو طفل صغير في نحو السادسة من عمره:
- تأملي يا أمي التفاح الجميل، كم هو رائع في احمراره!
فعقب (سيرج) - الابن الأكبر - على الفور:
-. . . بعيد عن الظن أن يكون هذا تفاحاً يا (فانيا)؛ جرب أن تتحسس ملمسه. . . ألا ترى له أثر ملمس زغب الدجاج في يدك! عندئذ قال الأب:
- إنه ليس تفاحاً يا ولدي. . . إنه فاكهة تسمى (الخوخ) أعتقد أنه لم يسبق لكم أن رأيتموها من قبل! إليك يا امرأة أكبر الخوخات؛ أما هذه الأربع، فأنها لكم يا أولادي!
وفي المساء، سأل (تيكو) أبناءه جميعاً كيف وجدوا الفاكهة الجديدة فأجاب (سيرج)، الابن الأكبر:
- لقد وجدتها سائغة المذاق جداً يا أبت، حتى لقد أزمعت غرس نواتها في آنية، لعلها أن تنمو وتثمر يوماً. . . وتصبح شجرة خوخ جميلة، تدر علي - في سخاء - مثل هذه الخوخات المستحبات! فتبسم الأب ثم قال:
- ربما كنت (يا سيرج) في قابل أيامك زرعاً كبيراً!
وقال الصغير (فانيا): أما أنا يا أبت، فقد وجدتها بالغة اللذة، فارطة الحلاوة، حتى لقد طلبت إلى أمي أن تعطيني نصف خوختها! أما النواة، فقد ألقيت بها! فهز الوالد رأسه ثم قال:
- إنك ما زلت بعد غريرا يا صغيري!
وقال الأبن الثاني فازيلي):
-. . . لما ألقى (فانيا) بالنواة. . . سارعت فالتقطتها، وقد وجدتها شديدة الصلابة، ولكنني(795/56)
لم أيأس. . . وعالجت كسرها حتى أفلحت في ذلك أخيراً، وكم كان اغتباطي عظيماً يا والدي، إذ ألقيت داخلها لوزة لها مذاق البندقة! أما خوختي، فقد تدبرت أمرها برهة، ثم اخترت أن أبيعها على أن آكلها، مجتزءاً باللوزة الظريفة. . . . مأكولاً لذيذاً!
فضحك الأب ملياً لمقالة (فازيلي) ثم قال:
- إن الوقت لم يحن بعد لتبدأ أعمال التجارة يا فازيلي!
- أتراك تستعجل امتهان الحرفة التي تؤثر يا صديقي!؟
خيم الصمت برهة، ألفت بعدها (تيكو) إلى (فولوديا) - أبنه الثالث - ثم قال مستغرباً:
-. . . وأنت يا (فولوديا). . . لم تحدثنا كيف وجدت مذاق خوختك!؟
-. . . لا أدري يا والدي!
- لا تدري! كيف؟ إنك لم تأكل واحدتك إذن؟ فأجاب (فولوديا): لقد حملتها إلى (جوشا) إذ علمت أنه مريض طريح الفراش؛ فلما دخلت عليه، وجلست إلى جواره، لم يفعل سوى أن ظل يتأمل الخوخة معجباً، فعرضت عليه أن يأخذها، لعلها أن تعجل شفاءه، بيد أنه رفض. . . ورفض في إصرار؛ فلم أجد حيلة لفسره على أخذها، إلا أن أتركها، وأنا - منصرف من عيادته - على نضد صغير متاخم لوسادة الرأس في فراشه. وقد وضعتها ثمة. . . في رفق، ودون أن يشعر؛ ثم حييته انصرفت. .!
عندئذ جاش صدر الأب تأثراً لهذه العاطفة الكريمة، وقال في نبرة ناعمة حانية وهو يربت على كتف أبنه:
- إنك يا (فولوديا) كملك رقيق الحس. . . . نبيل المشاعر.!
عبد العزيز الكرداني.(795/57)
العدد 796 - بتاريخ: 04 - 10 - 1948(/)
مصرع برنادوت. . .
للأستاذ نقولا الحداد
لو كانت الرصاصة التي صرعت برنادوت عربية لقل العجب، لأنه كان مع اليهود على العرب. ولكن حاشا للعربي أن يغدر. حاشا للعربي أن يقتل من لا يهاجمه. حاشا للعربي أن يقتل أعزل أو شيخاً أو طفلا يهودياً!
كان العرب يحمون برنادوت وهو في ديارهم، ولقد كان النقراشي باشا يبث العيون من حوله لوقايته من غدر اليهود الخونة وهو في مصر.
برنادوت خدم اليهود: أيد التقسيم وغض النظر عن السلاح الذي كان يهرب إلى تل أبيب، وغض النظر عن المهاجرين اليهود الذين كانوا يتسربون إلى فلسطين، وغض النظر مائة مرة عن خرق اليهود للهدنة!
رحمه الله! حابي اليهود كثيراً! ولكن اليهود كانوا يريدون أن يكتب في تقريره بأن كل فلسطين وشرق الأردن هما حق حلال لليهود! فلم يكتب هكذا فقتلوه!.
كان يريد تجريد بيت القدس من السلاح، وهم يريدونه عاصمة دولة إسرائيل فقتلوه! كانوا يريدون مرفأ حيفا مفتوحاً على مصراعيه، وهو يريد أقفاله ريثما تسوي مسألة فلسطين فقتلوه! كانوا يحرمون عليه أن يبعث بتقرير عن نقضهم للهدنة إلى مجلس الأمن، فلم يستطيع أن يمتنع فقتلوه! كانوا يريدون أن يخرج من فلسطين على الإطلاق، فلم يجرؤ أن يترك المهمة التي أنتدب لها فاغتالوه! لماذا؟ لأنه لم يكن يستطيع أن يملكهم كل فلسطين! ما كان يجوز أن يفعله العرب ببرنادوت لأنه أوثقهم بالحبال والحديد فعله اليهود!
إن هؤلاء الأوغاد لم يعودوا يقنعون بحصة من فلسطين، بل صاروا يطمعون فيها كلها وبشرق الأردن معها وبسائر بلاد العرب كلها. فلما مرت طائرة عربية من لبنان إلى عمان تعقبوها وأسقطوها على الرغم من أن قائدها أبلغهم باللاسلكي أنه ينقل ركاباً مدنيين، وكان يظنهم من رجال هيئة الأمم الرقباء قد أخطئوا فحاول أن يصحح خطأهم، ولكنهم كانوا أرذالا يقصدون الشر مجاناً. فحطموا الطيارة وذهب ضحيتها صحفيان، ولا ندري ماذا يكون حكم الصحف التي يمتثلانها؟!.
لقد ثبت أن تقرير برنادوت كان أصلح لليهود من قرار التقسيم ولكن اليهود توقحوا فلم(796/1)
يعودوا يقنعون بتقسيم فلسطين، وإنما يطمعون في كل موضع يحتلونه، وخاصة بعد أن ما رأوا أن الدولة الثعلبة العظمى قد انقلبت من الحياد الماكر إلى جانب التقسيم الصريح، فقوى ظهرهم حتى في مصر، فصار النعاج منهم ذئباً! ذلك أن إرهابيين تسللوا من صهيون إلى مصر وجعلوا يلقنون هؤلاء النعاج العزرائيين دروس الإرهاب والخطف والغدر والتحدي، فخطفوا ثلاثة من رجال البوليس وحبسوهم في معبدهم بحارة اليهود. وجرؤ بعضهم فأطلقوا المسدسات على الحكمدار!
هذه جراءة لم نعهدها من جبناء اليهود الأنذال قبل اليوم!
فماذا جد حتى صارت لهم هذه الجرأة والوقاحة؟!.
لعل وحياً جاءهم من قصر شايو في باريس أن دولة عزرائيل صارت سيدة دول الشرق فتنمروا وتنمردوا!
وإذا كانوا الآن - ولا دولة لهم - يستفحل أمرهم وشرهم هذا الاستفحال، فما عسى أن يكون إن مصر وقنصل وبنك، وصار اهم حاضرة أنيقة على ظهر جبل المقطم، وصارت موطن ملاه ولعب ورقص وشرب ونصب، وكان فيها حسان يلعبن بقلوب الكهول والفتيان، ويستخدمن نفوذ الأكابر والأعيان، فإذا بلغوا هذا المبلغ، فأي حال يكون حالهم، وعلى أي شكل يتغطرسون، وفي أي واد يهيمون، وفي أي سماء يسبحون، وقانا الله شر هذا الفجور!
ترى هل تقتص حكومتنا السنية من هؤلاء الأرذال المتحصنين في حارة اليهود القذرة؟ وتؤدب هؤلاء الأنذال وتقي المدينة شرهم وتقمع فتنتهم، فهم على قلتهم وضعفهم قد أنشأوا شبه حكومة لهم في حارتهم الحقيرة وأقاموا لهم فيها حرساً يمنع مرور الناس، وأن غلط أحد المارة ودخل معقلهم الحقير (بهدلوه) واعتقلوه وضربوه وربما قتلوه!!.
وهم على ضعتهم أشعلوه ثورة كادت تنتشر كالنار في الهشيم، وهم مسلحون بالأسلحة الحديثة وبالقنابل والمتفجرات لا يهابون قانوناً ولا يخشون بوليساً ولا يوقرون حكومة!
فإذا كانت الحكومة لا تحرم عليهم صنع المتفجرات حتى على الصبيانية منها، ولا تطرد الخطرين منهم، كانوا خطراً على الأمن ومبعثاً للقلاقل في البلاد!
نرجو ألا تغض الحكومة النظر عنهم كما غضت هيئة الأمم النظر عن قتلة برنادوت!
لقد قتل برنادوت ودفن جسمه وأسمه، ودفنت معه هيبة هيئة الأمم، وأصبح خذلان مجلس(796/2)
الأمن أمراً واقعاً. وقد استمرأ اليهود سياسة الأمر الواقع، وعادوا يفعلون ما يروق لهم ولا يحسبون حساباً للعواقب، لأن الأمر الواقع ينفي كل عاقبة!
ولقد كان ذنبنا العظيم أننا لم نجنح إلى الأمر الواقع ولا عرفنا كيف نستفيد منه!
لو ألفنا حكومة عربية لفلسطين من أهل فلسطين منذ أعلنت إنكلترا الثعلبة أنها ستلغى انتدابها في أول مايو - لو ألفنا حينئذ الحكومة العربية، وجعلنا مكانها في مصر أو الشام أو بغداد كما فعلت بلجيكا وهولندا ونروج في الحرب الأخيرة من كان يمنعنا لو كان لفلسطين حكومة عربية - أينما كانت - من أن تحتل فلسطين فعلا حالما تركتها إنكلترا؟
أن اليهود فعلوا ما كان يجب أن نفعله، كانوا كلما ترك الإنجليز موضعاً احتلوه هم، ولو كانت حكومة فلسطين العربية الحرة قائمة لكانت أسبق إلى احتلال حيفا من اليهود.
نعتب على الإنكليز أنهم أخلوا حيفا لليهود، فهل كانت حكومة فلسطين على أستعداد لأحتلال حيفا ومنعها الإنكليز؟
أحتل اليهود كل مكان أخلاه الإنكليز، ونحن لم نستطع أن نحمي نساءنا واطفالنا، ففتك بهم أولئك الذئاب، وفر من أستطاع أن يظفر بالسلامة! فختام يا قوم نتبع سياسة التواني، ونعرض عن سياسة الفرصة السانحة، والضربة السابقة، والأمر الواقع؟!.
نقولا الحداد.(796/3)
مصر والعالمفي القرن الثالث عشر الميلادي
للأستاذ عطية الشيخ
المفتش بوزارة المعارف
كنانة الله:
أيها المصري الكريم! إذا ادلهمت حولك الخطوب، واكتنفتك المحن، وطمع الإنجليز في جنوب واديك، وكشر الصهيونيون عن أنياب غدرهم في فلسطين، ومالأت هيئة الأمم ظلم أعدائك وأهملت حقك، فلا يهولنك الأمر ولا ترع، فمن قبل هذه الأقوام كانت أمتك تحتضن الدهر وهو غلام، وتعلم الشعوب وهم رعاع، وتحمل مشعل العلم والمدينة والناس جميعاً في ظلام، ثم قامت عروش، وتكونت دول، وبادت أمم، وتغيرت خرائط العالم مرات ومرات، ومصر هي مصر، كنانة الله في أرضه، وجامعة المبادئ الفاضلة، وملاذ المدنيات وقبلة العالمين. أقرأ إن شئت ما قلت به مصر في القرن الثالث عشر الميلادي وحده، لتعلم كم لبلادك العزيزة من أياد على الناس أجمعين، وأنها بحق كنانة الله في أرضه.
أمة تتحطم:
جاء القرن الثالث عشر الميلادي والخلافة العباسية في بغداد تحتضر، ويقوم بالحكم الفعلي في أرضها (الأتابكة) وهم أمراء سلاجقة، تقسموا الدولة بعد موت ملك شاه سنة 1092 ميلادية. هذا في المشرق، وأما في المغرب، فكانت مدن الأندلس تتساقط أوراق الخريف أمام هجمات الأسبان حتى سقطت (قرطبة) نفسها 1236م وكانت دولة الموحدين في الشمال الإفريقي قد آذنت بزوال، كما كانت سواحل بلاد الشام جميعها لا تزال في ايدي الصليبيين بعد أن أسترد صلاح الدين الأيوبي مدنهم الداخلية، أما في مصر فكان سلاطين الأيوبيين ومن بعدهم المماليك يحكمون من القاهرة مملكة قوية، تضم في معظم أيامها مصر، والنوبة، واليمن، وبرقة، وأكثر بلاد الشام وفلسطين؛ ويمتد ملكها من الأناضول شمالاً إلى بلاد السودان جنوباً، ومن الفرات شرقاً إلى تونس غرباً. وتعاقب على العرش في هذا القرن الملك العادل أخو صلاح الدين (1198 - 1219) ثم الصالح أيوب بن الكامل (1238 - 1249) ثم شجرة الدر زوجة الصالح، وأبنه نوران شاه (1239 -(796/4)
1250) ثم أنتهى سلطان الأيوبيين وورثهم المماليك (1250 - 1517) وكانت مصر في هذا القرن أقوى أقطار الإسلام لأتساع ملكها ووفرة خيراتها، وما انضوى تحت لوائها من ممالك وأمصار، ولما في عنصر هذه الأمة الكريمة من حيوية يشيب الدهر من حولها ولا تزال أبداً فتية، ولأن حكامها آنذاك، من أيوبيين ومماليك، كانوا قواداً عسكريين، قبل أن يكونوا ملوكاً حاكمين نبتوا في كنف المعارك ونشأوا تحت ظلال السيوف.
أخطار ثلاثة:
كان أعداء الإسلام في ذلك القرن ثلاثة: هم الصليبيون، والمغول، والحشاشون.
(1) الصليبيون: قضى المسلمون القرن الثاني عشر كله في جلاد مرير مع الصليبيين، تزعمه عماد الدين زنكي، نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، وأنتهى القرن الثاني عشر ومات صلاح الدين الأيوبي 1193، ولا يزال الصليبيون يملكون سواحل الشام من إنطاكية إلى غزة، وقد علمتهم حروب صلاح الدين أنهم لا يستطيعون الأستقرار في بلاد الشام ما دام في مصر دولة قوية، فوجهوا غزواتهم في القرن الثالث عشر إلى مصر ليفتحوها بعد القضاء عليها، وبذلك يؤمنون مملكة أورشليم. وكانت أول حملة صليبية على مصر في هذا القرن (1218) بقيادة (جان دي برين) واستولوا على دمياط، وأخذوا يزحفون على القاهرة، فمات الملك العادل حزناً، وترك أمر الدفاع لأبنه الملك الكامل الذي ورث البطولة عن أبيه وعمه (صلاح الدين)، فأقام الاستحكامات في المكان الذي سمى فيما بعد بالمنصورة، وجاءته النجدات من اليمن والشام، والمتطوعة من سائر البلاد الاسلامية، وأنتهز فرصة فيضان النيل، فقطع الجسور، وأحاطت المياه بالصليبيين، ورأوا استماتة المصريين في الدفاع، فطلبوا الصلح وانقلبوا خائبين سنة 1221م.
وفي سنة 1228م. استطاع فردريك (إمبراطور ألمانيا وملك جنوب إيطاليا وزوج ابنة قائد الحملة السابقة جان دي برين) بحسن حيلته وبما أشتهر عنه من حب الإسلام والمسلمين، أستطاع أن يعقد مع الملك الكامل اتفاقاً على أن يعطي بيت المقدس بشرط أن يحتفظ المسلمون فيها بأماكنهم المقدسة، وأن يساعد (فردريك) (الكامل) على أعدائه، وأن يمنع النجدات الأوربية عن الإمارات الصليبية الباقية في سواحل بلاد الشام، كطرابلس، وإنطاكية. وقد أنكر هذا الأنفاق المسلمون أشد الإنكار، لأنه أخرج بيت المقدس من أيديهم،(796/5)
كما أنكره الصليبيون لأنه حرمهم سبل النجدات الأوربية، وتركهم فرادى في بلاد الشام، يحيط بهم المسلمون إحاطة السوار بالمعصم، وقد برهن الزمن على بعد نظر الملك الكامل إذ حفظ بهذه المعاهدة مصر من الغزو، وكانت أمل الإسلام والمسلمين في هذا القرن، واستطاع الصالح أيوب بن الكامل أن يسترد بيت المقدس سنة 1244م وأحرق أحياءها الصليبية.
ثارت أوربا لعودة القدس إلى كنف الإسلام فجاءت حملة صليبية بقيادة (لويس التاسع) ملك فرنسا، واحتلت دمياط سنة 1248م. فعسكر المصريون في قلعة المنصورة، وكان الملك الصالح يقود الجيش محمولا على محفة لمرضه، وأستنجد بالمسلمين فجاءوه من كل مكان، حتى اكتظت المنصورة بالعسكر، ورابط الأسطول المصري في النيل تجاهها، ولواؤه معقود (لبيبرس) ثم أشتد المرض على الملك فمات في نوفمبر سنة 1249، وأخفت زوجته شجرة الدر موته، وحملته في تابوت سراً إلى القاهرة في جنح الظلام، وإمعاناً منها في الإخفاء، كانت تمد سماط السلطان كالعادة، وتوقع باسم السلطان على ما تصدره من أوامر، توقيعاً مشابهاً خطه لمهارتها في الكتابة، وأخذت البيعة لأبنه (توران شاه) على الأمراء والقواد، وأرسلت تستدعيه من الشام سراً. مع كل هذه التحوطات من شجرة الدر؛ علم الإفرنج في دمياط بموت الملك، فزحفوا إلى الجنوب براً وبحراً، واستولوا على فارسكور، ووصلوا المنصورة في ديسمبر سنة 1240 يفصل بينهم وبين المصريين بحراً أشموم (البحر الصغير) وبدأت المناوشات وكان المسلمون ينفردون بمعرفة أسرار النار الإغريقية فأصلوا الفرنج بها براً وبحراً، ولم يستطع (لويس) بناء جسر على البحر الصغير، ولكنه وقف من خونة بلدة سلامون (غير المسلمين) على مخائض في البحر الصغير، فعبرته فرقة كبيرة من جيشه إلى بر المنصورة، وفاجأت المصريين على غير أستعداد منهم ولا علم، فقتل القائد المصري ووصل (الصليبيون) إلى أبواب (القصر السلطاني) وشجرة الدر تدير المعركة بجأش رابط فأصدرت أمرها لرجال الأسطول، فأسرعوا بقيادة بيبرس، وكانوا نحو ألف، وأطبقوا على الفرنج ومزقوهم شر ممزق، وقتلوا زهرة شبابهم، فلم يستطع الإفلات منهم الإ القليل. وكانت واقعة المنصورة هذه في فبراير سنة 1250، وبعد عشرة أيام منها وصل توران شاه إلى الصالحية، فأعلن وفاة الملك الصالح لأول مرة،(796/6)
وسلمت إليه مقاليد الملك، بصفة رسمية، ثم جاء إلى المنصورة وتسلم من شجرة الدر القيادة ومقاليد الأمور. وكان الصليبيون لا يزالون معسكرين بجدبلة، في العدوة الأخرى من البحر الصغير، والمؤن تأتيهم من دمياط بطريق النهر، فصنع المصريون سفناً حملوا أجزاءها على ظهور الجمال، وأنزلوها في البحر بعد تركيبها قريباً من دمياط، لتقطع الطريق على جيشه الفرنجة، فقامت بعملها خير قيام، وأشتد الأمر على الصليبيين وساءت حالتهم، ودب إليهم الجوع والوهن، وكانت النيران التي تطلقها عليهم حراقات المسلمين تزيد كربهم. فطلب (لويس التاسع) المفاوضة، ولكن المصريين لم يقبلوا، فأخذ ينسحب بجيشه في جنح الظلام، ولم يدر أن عيون المصريين منه بالمرصاد، فطاردوه طيلة ليله، ولم يسفر الصباح حتى أحاطوا بجيشه براً وبحراً قرب فارسكو، وهزموه شر هزيمة، وقتل من جيشه ثلاثون ألفاً غير من غرق منه في النهر. ولجأ الملك هو وخمسون من خاصته إلى قرية (منية أبي عبد الله). (ميت الخولي عبد الله)، وطلب الأمان فمنحه، وأعتقل بالمنصورة في دار القاضي فخر الدين بن لقمان، وأرسلت البشائر إلى جميع الأنحاء نذكر منها على سبيل المثال رسالة توران شاه إلى نائبه بدمشق يبشر المسلمين كافة بما منّ الله به على المسلمين من الظفر بعدو الدين، فإنه كان قد أستفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد، فنودوا لا تيئسوا من رحمة الله وبذلنا الأموال وفرقنا السلاح، وجمعنا العربان المطوعة، وخلقاً لا يعلمهم إلا الله.
فلما كانت ليلة الأربعاء، تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم وقصدوا دمياط هاربين، ومازال السيف يعمل في أدبارهم عامة الليل، وقد حل بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا قتلنا منهم ثلاثين ألفاً، غير من ألقى بنفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج، والتجأ الفرنسيس (الملك) إلى المنية وطلب الأمان فأمناه وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته، وجلاله وعظمته.
وقد خلد أبن مطروح ما حل بهذه الحملة في قصيدته التي منها.
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال نسح من قئول فصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح
سبعون ألفاً لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح(796/7)
تخلصت مصر من هذه الحملة. . . ولكن مهمتها التاريخية لم تنته بعد، إذ كان الصليبيون لا يزالون ممتلكين سواحل بلاد الشام، فأخذ الظاهر بيبرس بعد أن تبوأ عرش مصر ينازلهم، حتى أستولى منهم على (صفد ويافا وأنطاكية) ثم جاء السلطان خليل بن قلاون من بعد، وحاصر (عكا) وضيق عليها الخناق ففتحها سنة 1291م ولم ينج من حاميتها أحد، وأحرق المدينة، فدب الخور في قلوب الباقين من الصليبيين ببلاد الشام، ولاذوا بالفرار، مخلفين وراءهم قلاعهم وحصونهم، وخلصت مصر المسلمين من شرور الصليبيين الذين دفعهم تعصب البابوات إلى هذه الحرب الطاحنة التي أستمرت قرابة قرنين من الزمان، وعاد السلطان خليل إلى القاهرة يسوق اسرى الفرنج مكبلين، وأعلامهم من خلفهم منكسة، ورءوس قتلاهم على ألسنة الحراب (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).
(ب) المغول: في أوائل القرن الثالث عشر خرج (جنكبر خان) من أواسط الصين على راس جيش من المغول، وهجم على بلاد الاسلام، فأستولى على التركستان، وخراسان، والهند وخرب مدنها سنة 1219، وعاد إلى بلاده بعد أن ترك البلاد التي فتحها في أواسط آسيا وجنوبها قفراً بلقعاً، ثم غزا خلفاؤه بلاد فارس والعراق، ولم تأت سنة 1258 حتى كان (هولاكو) عاهل المغول على فارس، قد استولى على بغداد، وأزال ملك العباسيين وقتل الخليفة المستعصم وأفراد أسرته وعشرات الألوف من البغداديين، في مناظر هائلة، ومشاهد مروعة، من التدمير والتخريب، وتابع سيره نحو الشام كالسيل الجارف، والريح العاصف، فأستولى عليها في سرعة البرق، وأرسل إلى مصر رسالة تهددها فيها بالغزو إن لم تخضع وتسلم؛ وكان على عرش مصر إذ ذاك المملوك (قطز) الذي قابل رسالة هولاكو بما تستحقه فمزقها، وقتل رسله، وكان هذا الرجل المجاهد قد أعلن للمصريين أنه لم يتبوأ العرش إلا لتخليص البلاد من المغول، وأنه سيترك الملك بمجرد الانتصار عليهم، فسار بجيشه لملاقاة التتار، وقابلهم على مقربة من بيسان في موقع يسمى (عين جالوت) ولأول مرة ذاق المغول على يد المصريين هزيمة منكرة فروا على اثرها هاربين إلى ما وراء نهر الفرات، واستطاعت مصر أن تؤدي رسالتها التاريخية في حماية المدنية الإسلامية.
ولما تولى عرش مصر (الظاهر بيبرس) بعد قطز أخذ يعمل على إعادة الخلافة العباسية، وإرجاع المغول إلى ديارهم.(796/8)
ولتحقيق الغرض الأول، أستدعى أحد أبناء العباسيين إلى القاهرة، ونصبه خليفة، ولقبه (المستنصر بالله) وبقيت هذه الخلافة العباسية في مصر حتى فتحها العثمانيون.
ولتحقيق الغرض الثاني سار على رأس جيش كبير وعبر نهر الفرات على ظهور الخيل، وأوقع بالمغول هزيمة شنيعة، وطردهم من تلك الأصقاع.
يئس المغول من التغلب وحدهم على مصر، فأخذوا يراسلون (بابا) روما، وملوك أوربا، لإرسال حملة صليبية، تشاركهم في محاربة المصريين، وكان ذلك في أيام السلطان (قلاوون) (1277 - 1270) فسار إلى المغول وهزمهم هزيمة منكرة عند (حمص) لا تقل عن هزيمتهم في (عين جالوت) كما أن السلطان خليل بن قلاوون قد حارب المغول واستولى على كثير من قلاعهم، وبذلك قضى على الخطر المغولي المهدد لمصر قضاء تاماً.
(ج) الحشاشون أو الباطنيون: أسس مذهبهم الحسن الصباح في أوائل القرن الثاني عشر، وكانوا فرقة إرهابية في بلاد الشام، لها حصون ومعاقل منيعة، تمتد من خراسان إلى سواحل بلاد الشام، وتعيث في الأرض فساداً، وكانوا كما يقول أحد المؤرخين (أداة رائعة للقدر كالوباء والحرب، كارثة على الملوك الضعفاء والشعوب المنحلة).
وكم سفكوا من دماء بريئة، وعاثوا في الأرض فساداًن وتآمروا بملوك وسلاطين مع ترويج لعقيدتهم الزائفة التي يقول فيها الإمام الغزالي (مذهب ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتحه حصر مدارك العلوم، في قول الإمام المعصوم، وعزل العقول عن أن تكون مدركة للحق، لما يعثريها من الشبهات، ويتطرق إليه النظار من الخلافات، وإيجاب طلب الحق بطريق التعليم والتعلم، وأن كل زمان فلا بد منه فيه من إمام معصوم يرجع إليه فيما يستبهم من الدين. والمنقول عنهم الإباحة المطلقة، ورفع الحجاب، واستباحة المحظورات واستحلالها، وإنكار الشرائع).
أتخذ هؤلاء الأشرار عاصمتهم (حصن مصياب) في بلاد الشام بالقرب من طرابلس، وحاولوا غير مرة قتل صلاح الدين وتحالفوا مع الصليبيين على المسلمين، وظلوا في شرورهم المادية والمعنوية، عوامل هدم للدنيا والدين، إلى أن سير الظاهر بيبرس حملة إلى بلادهم سنة 1269 حاصرت قلاعهم وأقتحمهما وفتحت (حصن مصياب) ومزقت(796/9)
الباطنية كل ممزق، فأنهار نفوذهم، وأصبحوا شرازم لا أهمية لها، وأنتهى على يد المصريين أهرهم، وطهرت الدنيا من أرجاسهم.
أيها المصري الكريم! هذه أعمال بلادك في قرن واحد، سحقت جيوش المغول المدمرة، وحملات الصليبيين الجائرة، وخزعبلات الباطنية الفاجرة، منتصرة بذلك على كل ما في آسيا وأوربا، من جند وعدة وعتاد، فهل يخامرك بعد الآن شك فيما ينتظر بلادك من مجد، وما سيلاقيه الصهيونيون من هول وذل. أرجو أن تكون متفائلا بالمستقبل، عالماً أن مصر كالهرم والمقطم والنيل، تقوض العروش وتزول الدول، وهي هي تفنى الفناء وتعي العياء.
عطية الشيخ.(796/10)
طاغور وغاندي بين الشرق والغرب
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
(تتمة)
لم يجد غاندي في مقاطعة الهند للغرب وعدم تعاونها معه ما ستوجب فزع طاغور وخوفه على الوحدة العالمية، لأن مساوئ الحضارة الغربية وضلالاتها، واستعمار الغربيين البغيض للشعوب الضغيفة، واستغلالهم الشره لمواردها الطبيعية، يزهد الهند من ناحية في أن تقيم أية علاقة تربط بهذا الغرب المادي الطاغي ما دام التعاون معه يعرضها لأخطار مدنية لا تعرف إلا صالحها، ويعطي فرصة للدول الاستعمارية لأن تستغل مواردها المتنوعة من دون الشعب صاحب الحق في الاستفادة منها، ويجبرها من ناحية أخرى على أن تعتزل العالم، وتقطع علاقتها بتلك الأمم التي تفسد عليها حياتها المادية والمعنوية، وعلى أن تستغني عن خدمات الغرب وتعتكف في نفسها تستجمع قواها وتجدد نشاطها وتبعث مواهبها وتشحذ ملكاتها، وتنهض بمستوى الشعب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية، وتخلصه من الجهل والبؤس والخوف، وتسمو بنزعاته الخلقية، فيقدر أن يقوم بواجبه نحو الهند والهنود. وحينئذ فقط يطلب من الهند أن تساهم في تأسيس الدولية العالمية، وأن تفنى في العالم، لأن الشعب المتحد القوي المثقف أقدر على تكوين هذه الوحدة من الشعب المفكك الجائع الجاهل الجائف. ومن صالح الهند والانسانية جميعاً أن تعيش الهند لنفسها اولا، حتى تتحد وتتقوى مادياً ومعنوياً، وتتطهر من كل نقص وضعف قبل أن تبذل أي جهد في خدمة الإنسانية، أو تسعى لأن تلاشى كيانها في العالم.
وكان غاندي مخلصاً لمبادئه، فشجع الهند على إن تعتمد على نفسها في رقيها، حتى لا تأخذ من الغرب شيئاً. وعمل على إن يتبع الهنود نفس الأساليب الاقتصادية الهندية القديمة لتدعيم الحياة الهندية المادية، واهتم بأن يستعينوا بالثقافات الأسيوية التي مرت بالهند في ابتكار حضارة روحية هندية فتية تصون مقومات الهند وتخلو من مفاسد المدنية الغربية. فرد أولاً على لوم طاغور في أتخاذ الهنود المغزل اليدوي وسيلة للتكسب بأن ملايين الهنود يوشكون أن يموتوا جوعاً لأنهم لا يجدون عملا يرتزقون منه. فالفقر هو الذي أرغم الهند على أن تستخدم المغزل العتيق كوسيلة تكفل العيش لشعب فقير. بينما كان ما ينادي به(796/11)
طاغور من ضرورة تمسك الشعب بتعاليم الدين وسعيه في تحقيق ذاته حتى يتجلى الله في القلوب، لا يمكن أن يشبع جائعاً، وأن الله لن يتجلى لشعب يتضور جوعاً إلا في صورة العمل والطعام الذي يتقاضاه أجراً عن هذا العمل، فإن أناشيد طاغور الشاعرية الدينية لا يمكنها أن تسكن آلام الجائعين أو تغنيهم عن عمل يستطيعون به أن يجدوا ما يأكلون.
إن المغزل هو الذي ينقذ الهند من قسوة الفقر وآلام الجوع ويمهد لاستقلال حياة الهند الاقتصادية، ويغنى الهنود عن خدمات الغرب المادي الجشع، فعلى طاغور إن يغزل مثله في هذا مثل أي هندي، ولا يعارض، لأن الغزل والنسيج فريضة دينية يشرعها الواجب الوطني على الهنود.
ورد غاندي ثانياً على نعت طاغور الهنود بضيق الأفق وضعف المدارك لتحيزهم السقيم للثقافات الأسيوية بأنه لا يمانع في معرفة الشعب الهندي لأية ثقافة كانت، ويود لو تترك دراسة جميع الثقافات حرة في الهند سواء أكانت أسيوية ام غربية من غير أن تحاول ثقافة من الثقافات أن تفرض سيادتها على الثقافات المحلية، وتدعى الرقي والرفعة، وتقضي على كل ثقافة تنافيها، وتزعم أنها تحاول أن توجد ثقافة موحدة، وتتحكم في الحياة الثقافية في البلاد. فالمستعمر الإنجليزي يلزم الهنود تعلم برامج ثقافية جميع موادها العلوم الغربية وتغفل الثقافات الأسيوية وهي أحق بالأولية من دراسة أي ثقافة غربية، لأنها تلائم المزاج الهندي، وتعرف الهنود مواضع القوة في روحهم، وتساعدهم على تأسيس ثقافة جديدة حية تعبر بصدق عن التفكير الهندي. فما أمر غاندي بمقاطعة الثقافة الغربية إلا ليعطي فرصة للثقافات الاسيوية لأن تثبت وجودها في الحياة التعليمية في الهند ويحمي اللغات القومية والتراث الوطني من الضياع والنسيان.
لم اقصد من عرض مناقشات طاغور وغاندي حول تآزر الغرب والشرق أو عدمه أن أقف بينهما حكما أفضل عالمية طاغور على وطنية غاندي، أو أوازن بين واقعية غاندي ومثالية طاغور. وإنما قصدت أن يستفيد العالم العربي، وهو في ظروفه الحاضرة الملبدة بغيوم الشك وسحب الأرتياب، من غدر الغرب وسوء نيته، وأن أرجع للأذهان مجادلة بين شرقيين عرقيين في الروحية أحسا بما نشعر به من أنفعالات نحو الغرب، أحسب أنها تفيدنا في وضع خططنا العامة الدولية. فطاغور المفكر الإنساني قد بين للشرق ما يجب أن(796/12)
يصبغه من روحية على ما يأخذه من الغرب من علوم وفنون وجد ونشاط، وما يجب أن ينبذه من مادية وأنانية وحب للسيطرة وإمعان في الإباحية واستهتار بالقيم الروحية. فلو سرنا على هديه لأخذنا من الغرب زبده، وتركنا أوساخه وأقذاره، ونهجنا السبل القديمة في تكوين حضارة جديدة طاهرة تؤسس على روحية الشرق ونبوغ الغرب في العلوم والفنون ومهارته في العمل.
أما غاندي الزعيم الوطني، فقد علم الشرق كيف يحارب أنانية الغرب وغروره بغير عنف أو إيذاء، ويتخلص من ضلالاته من غير حقد أو بغض، ويستعين بأبعد الأسلحة عن العنت وإثارة الحقد، ويتخذ من أقرب القوى إلى الحب والتسامح ذريعة فعالة لنيل المآرب القومية. فلو سرنا على هدى غاندي في مقاومته السلبية السليمة، وقاطعنا الدول الغربية، وحاولنا أن نلم شملنا، ونقوي من تعضدنا لأرغمنا الغرب على طلب التعاون معنا، ولتنازل عن غروره وكبريائه، وسلم بضرورة رد جميع حقوقنا التي سلبها منا عنوة وغصباً.
فكل من طاغور وغاندي قام بدور هام في حياة الإنسانية؛ فقد خدم طاغور الهند والشرق بل والعالم أجمع بسعيه في ضم أشتات الدول المتخاصمة، وتأسيس وحدة عالمية لها ثقافة واحدة لا حياة واحدة، كما خدم غاندي الهند والشرق، وعلمهما كيف يتسلحان بالطرق الروحية في مقاومة مادية الغرب، وجعله يشعر عملياً بأن تفيده شيئاً، بل تؤذيه وتضر بمصالحه، وأجبره على احترام الشعوب واحترام حقها في المساواة بالشعوب الغربية. وهذه السياسة الغاندية تجمع بين تقوية الهند وردع الغرب، وتمهد في نفس الوقت لإقامة وحدة عالمية بطرق عملية. فغاندي لا يختلف عن طاغور في هذه الناحية وإن بدا لنا وطنياً. وذلك لأنه آمن بأن إحياء وطنه أمر اساسي لاتحاد العالم، لأن الوحدة لن توجد لها قائمة ما دام هناك دولة تستبعد دولة أخرى.
يجب أن تتحرر شعوب العالم جميعاً اولاً، ثم نعمل بعدئذ على توحيد العالم.
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات(796/13)
أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية
للأستاذ حسني كنعان
كان ذلك منذ خمس وتسعين حجة على وجه التقريب، وفي أمسية الربيع الضاحك الزاهي جلس (محمد أغا أقبيق) والد النابغ الدمشقي احمد ابو خليل القباني في حقوة داره الكبيرة ذات البحرة الدفاقة المعروفة في حي الشاغور، يستقبل وفود المهنئين من وجوه الحي وأعيان الشام بمناسبة احتفائه بختم ولده القرآن من فاتحته إلى خاتمته.
وكان في صدر الدار من الوافدين مفتى الديار الشامية الشيخ محمود حمزة وعالمها الأوحد الشيخ بكري العطار، وكلهم مغتبط مسرور بحفاوة رب الدار بهم وإكرام وفادتهم. وكان من عادة السامرين في هذه المجالس أن تكون الأحاديث فيما بينهم جميعاً تدور حول امتداح المحتفى به على سبيل المجاملة، وإدخال السرور على فؤاد والده، وإيناسه وإثلاج صدره، فشرع الكل يطرى ذكاء أحمد ويمتدح نشاطه وشدة ميله إلى الدراسة والتعلم. فقال مفتى الشام فيما قال:
إني لأعجب يا حضرة الأغا العجب كله لشدة ذكاء ولدك هذا؛ إنه إلى حداثة سنه وصغر مداركه أراه لا يترك حلقة من حلقات التدريس التي يعقدها علماء الشام في المسجد الأموي إلا قصدها وكان من روادها. إنه لا يترك المسجد ساعة من نهار إلا في أويقات الطعام؛ فرواد الحلقات عل كثرتهم وميلهم لطلب العلم لم أر بينهم من يفضله في ذكائه واجتهاده ونشاطه. إنه لا يحل حبوته أمام شيوخ الحلقات، فلا يكاد ينتهي شيخ من درس حتى يزحف إلى شيخ غيره، وهكذا يظل سحابة يومه كالطائر الغرد ينتقل من فنن إلى فنن، ومن دوحة إلى دوحة، يجتني من الأغصان والأدواح الباسقة أطيب الثمار واشهى الفواكه، حتى ينصرف شيوخ الحلقات وروادها ويقفز المسجد، وتتعطل لغة التدريس فيه. ولما سكت المفتي عقب الشيخ العطار على حديثه قائلاً:
أضف إلى هذا أنك تراه في الحلقات دائماً يكثر من تحريك أصابع يديه ورجليه ويكثر من التنغيم والترنيم همساً في فمه، وكثيراً ما يسترسل في عمله إسترسالا يجلب إليه النظر، فيبادر من بجانبه من صحبه وهو ساهم غائب عن الدنيا والعالم يفكر في شئ غير الدرس، فينبهه ويفهمه أنه في المسجد وفي الدرس، ولا في الملهى والمسرح فينتبه فوراً ويصغي.(796/14)
ولعل لهذا الفتى ميلاً خاصاً لاشياء أخرى غير ميله للدروس العلمية والفقهية، وإن صدقتني فراستي فولدك هذا لا بد أن يتردد على مجالس الموسيقى ويعاشر الموسيقيين. فهل يسمع أحداً من أرباب هذه الصناعة، أم أن هناك ميولاً فطرية في طبعه أثرت عليه، فولدت فيه هذه الناحية؟
وكان الأب مغتبطاً مسروراً بما يسمعه عن ولده من مدح وثناء، وقد طال سكوته وإصغائه لمثل هذه الأحاديث السارة البهجة دون أن ينبس.
وبعد تفكير عميق قطع حبل صمته قائلاً: ولهذا أراكتكثر يا أحمد من ارتيادك مقهى العمارة الكبيرة، فبحقي عليك هلا أخبرتني عما تفعله هناك. وأستحي الفتى وأصطبغ لون وجهه بالحمرة وكلل العرق جبينه وغدا كأنه صنم من الأصنام لم يحر جواباً ولم يتحرك. . .
وكان هناك في الحفلة خال له يعطف عليه ويحبه حباً جماً ويعرف روحاته وجياته، وهو واقف على أسراره الوقوف كله. فألتفت إلى أبيه قائلاَ:
أجل إنه يؤم حي العمارة كل ليلة ويسمر هناك في المقهى الكبير مصغياً إلى أهازيج (الكركوزاتي) على حبيب، ويشهد محاوراته مع الصور الخيالية المؤلفة من رسوم عنترة وعبلة والمهلهل والزبر والزناتي خليفة والملك الظاهر، وغيرهم من أبطال القصص التاريخية الموضوعة لإلهاء الدهماء عن البحث في أمور لا تعنيهم في عهد الفاطميين.
وأزيدك يا عم علماً أنه يذهب في كل اسبوع مرة أو مرتين إلى مكان خصصه اين السفر جلاني وأبن الغبرة والأدلي وغيرهم ممن لهم ميل خاص في الموسيقى والأهازيج، ليتمرنوا هناك على الغناء والتمثيل.
ولقد فاجأته أكثر من مرة وهو منفرد في حجرته يقلد السيد علي حبيب في مخاطبته عبلة بإشعار عنترة، ويمثل دلال عبلة على أبن عمها عنترة كما يفعل (الكوكرزاتي) على حبيب خلف الشاشة البيضاء التي أخفى الصور الخيالية خلفها ونثرها على ضوء المصباح الضئيل، وأصغيت إلى صوته الشجي عندما كان ينشد قول الفارس العبسي المدنف في حبيبة قلبه وفاتنة عقله يخاطبها بقوله:
هلا شهدت الخيل يا أبنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
ينبك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم(796/15)
ولما شعر بوقع أقدامي صمت بمقدار ما أنضح صوته في القاعة بدوي؛ وكان يشير بيديه كالمعتوه الذي خولط في عقله صائحاً:
وسيقي كان في الهيجا طبيباً ... يداوي رأس من يشكو الصداعا
ولو أرسلت رمحي مع جبان ... لكان بهيبتي يلقى السباعا
أنا العبد الذي خبرت عنه الخ. . .
فلم أستطع الصبر على تركه وحده في القاعة هكذا يخاطب نفسه كالمجانين، وإنما فتحت عليه الباب الموصد ودخلت فجأة فأسقط في يده وسكت. فصحت به ما هذا يا أبن أختي؟ ما الذي تفعله؟ تقلد (الكركوزاتي)!! أين (كراريسك) ودفاترك وأين كتبك وهنواتك الدراسية؟ أهذه هي الدروس التي تعلمتها في المسجد على مشيخة الشام ونخبة علمائها؟ تلهو بالقشور وتترك اللباب إنك والله لمن الخاسرين الذين يضيعون مواهبهم وذكاءهم في أمور مخزية. ماذا يقول الأغا والدك غداً إذا علم بنزعتك هذه؟ فما كان منه إلا أن جبهني بقوله: أناحر في تصرفاتي، وليس لأحد علي سلطان. فأنا إنما أبني لأهلي وبني قومي مجداً مؤثلا في ارتيادي هذه الناحية. وسترون مني ما يدهشكم من الأعمال الباهرة التي سأقوم بها خدمة للفن أنا وصحبي.
وكان المفتي يصغي مطرقاً إلى حديث الخال المحترم، وعند ما سمع هذا الحديث عن تلميذه الذي كان مكيراً فيه ذكاءه النادر ومواهبه الفذة، فلمس فيه هذه الناحية التي تخالف مبدأه الديني ونزعته الصوفية، لم يطلب المقام له في تلك الحفلة النادرة بعد الذي سمعه، فخف من المجلس على الأثر وهو يتمتم: أعوذ بالله! تمثيل. . . موسيقى. . . غناء، على حبيب! إن هذا المنكر لا نطيق سماعه، ولا نطيق السكوت عنه، أنت يا أحمد مطرود من الدرس منذ الليلة.
قال الشيخ قوله هذا وزحف على قدميه وقد كور جبته وراء ظهره وعقد يديه فوق الجبة وأستلم باب الدار دون أن يودع الحاضرين استنكاراً للأمر وتظاهراً بالورع والتقوى. . .
فتبعه الشيخ العطار وقفى على أثرهما بقية من في الدار من الوجوه والأعيان، وتفوض المجلس وخلا من سماره. وكانت هذه الهنة حافزاً للأب على الأيفاع بولده وغضبه عليه وهجراته إياه.(796/16)
بقى الفتى يقاسي في نزعته الفنية ألم الحرمان والغضب وانقطاع الوشيجة بينه وبين والده وأفراد اسرته مدة حتى توفى الله الوالد وانعتق الفتى من اسر الرقابة وأصبح مالك نفسه وحاكم أمره، وكان قد بلغ سن الرشد فأنقطع لخدمة الفن وتفتحت براعم عبقريته وأمسى يصل ليله بنهاره ونهاره بليله دأباً على التلحين ونظم القصائد والموشحات. وقد ساعده على الإجادة في النظم ما كان قد أخذه عن شيوخه من قواعد اللغة والنحو والصرف حتى قال فيه أحد شيوخه لو ظل هذا الفتى مثابراً على الدرس لتحدثت الشام عن علمه زمناً طويلاً، كما قال أحد الخلفاء العباسيين في أسحق الموصلي: لولا نزعته الموسيقى لوليته القضاء.
(للبحث تتمة)
حسني كنعان.(796/17)
في موسم الحج:
أبو نواس يحج!
للشيخ محمد رجب البيومي.
شغل الحسن بن هانئ اذهان معاصريه، فقد كانت سيرته ذائعة شائعة يتناولها الظرفاء متندرين معجبين، ويتناقلها الزهاد لائمين ناقمين، وهو لا يفتأ يضرم النار ويشعل الوقود بما ينظم من شعر ما جن يتردد صداه في كل ناحية، ويترنم به الحداة في كل ركب. وكثيراً ما يشفع القول بالعمل فيلجأ إلى الديارات الخليعة ويتصدر الأندية الداعرة، يعب الخمر وينادم المرد، ويقود الأسراب الطائرة إلى منابع السكر، حيث تتجاوب الأوتار، وتدور الكؤوس، ويترأس إبليس الحفل، فيفتح باب الغواية على مصراعيه، ويوسوس لكل ما جن بما يسئ المروءة، ويغضب الخلق الكريم.
وشاعر هذه نشأته وسيرته لا يمكن أن يفكر يوماً من الأيام في الحج، بل ربما نفر منه ودعا إلى حربه، حيث لا يعود عليه بفائدة مما يبتغيه. وإذا كان شعراء الغزل في الدولة الأموية قد وجدوا في هذا الموسم الحافل معرضاً فسيحاً للجمال الفائق، فخفوا إلى التمتع ببدائعه الفاتنة، فإن الحسن لا يجد به مآربه المشتهاة، فهو يناغي المرد الحسان ويهيم بالخمر المعتقة؛ أما أسراب الغيد الطائرة حول البيت العتيق فلم تتمكن شباكها الخاتلة - بعد - من اصطياده، ففيم السير إلى مكة؟ وعلام يتحمل الشاعر في سفره المشاق؟ بل إنه سئل عن موعد حجة فقال مستهتراً كعادته (إذا نفذت لذات بغداد) وهيهات أن تنضب موارده اللهو في دار السلام!
ولكن الثابت في التاريخ - على رغم ما تقدم - أن أبا نؤاس قد حج البيت المكرم فطاف مع الطائفين، ولى مع الملبين، وقد غمره شعور سماوي هيمن على عواطفه فأنطقه بتسابيح خالدة، تستمد نغمها الحلو من قيثارة فاتنة، فكيف تسنى ذلك لأبي نواس؟ وكيف ينبع في الصحراء الموحشة نهر دفاق ملئ؟ سؤال يتطلب رداً مقنعاً. ولعل الإجابة تظهر في تاريخ الرجل، فقد شاء له حظه العاثر أن يهيم بجارية تمقته وتزدريه، وترسل قذائفها المحرقة فوق رأسه، وهو سليب العقل، طائر الفؤاد، يسير ورائها أني سارت، ويبعث خلفها الرسل يستعطفون منها قلباً جامحاً، لا ينبض برحمة لهالك، ولا يستشعر حناناً لمدنف. ولقد كان(796/18)
هذا عجيباً منه أي عجيب، فقد أشتهر طيلة حياته بمجانية الغيد، فكيف يتورط إذن في هذا الحب الجديد؟
كانت (جنان) جارية عبد الوهاب الثقفي ساحرة فاتنة، ذات وجه أزهر صبيح، إذا تأملته تعاظمك الإقرار أنه من البشر - كما يقول الحسن - تجمع إلى دل الحديث وسحر الملامح ذكاء وفاداً، وفهما عميقاً للشعر الرفيع، ورواية واسعة للأدب، وقد خطرت ذات عشية أمام الحسن فأخذت عقله من مكمنه، ونقشت صورتها في مهجته، فترك عصابته الماجنة، وسار يتعقبها في كل مكان تحل به، فإذا كان في البصرة عرس واجتمعت النساء، خرج يتلمس صاحبته في اهتمام بالغ، فإذا وقعت عينه عليها لم يطق أن يسارقها النظر بعض الوقت، فيخفض رأسه حزيناً باكياً إلى الأرض، ويهيم في آفاق خياله فيعقد موازنة شعرية بين (جنان) وعروس الحفل، وطبيعي أن يحكم بتفوق صاحبته في مضمار الحسن والملاحة، ثم هو لا يكتم ذلك، بل يلعنه على الناس إذ يقول:
شهدت جلوة العروس جنان ... فاستمالت بحبها النظارة
حسبوها العروس حين رأوها ... فإليها دون العروس الإشارة
وإذا قام في البصرة مأتم حزين وهرعت العذاري إليه كعادتهن ترك الشاعر ما يملأ سمعه من النواح والعويل، وأخذ يتلمس صاحبته في موقفها الدامع، ويسبح في آفاق تفكيره، فلا يوازن بينها وبين عذراء ممن شاهدهن كما فعل يوم العرس، بل يجب الموازنة بينه وبين الميت الفقيد. ولا غرو فقد قتله الحب فهو جدير بأن تبكي عليه صاحبته كما تبكي الآن على الراحل النازح، ثم هو يبلغها ذلك في شعر رقيق هادئ. اسمعه إذ يقول.
يا قمراً أبرزه مأتم ... يندب شجوا بين أتراب
يبكي فيذرى الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب
لا تبكي ميتاً حل في حفرة ... وأبك قتيلاً لك بالباب
وكانت (جنان) تعتقد خاطئة أن أبا نواس غير صادق في حبه لأنها تعرف عنه خلاصته وادعاءه، فكانت تسبه وتؤذيه وتطعنه في رجولته، وتنال من كرامته كل منال، ولم تصف له غير حقبة يسيرة مرت في حياة العاشق مرور الطيف، وتركت وراءها طوفاناً جارفاً من السهد والدمع. وكأن الله عز وجل قد أراد أن يؤدب الحسن بهذا الحب، فقد خلع كبرياءه(796/19)
وغروره وترك وقاحته وهجره، ثم هام كالمشدوه على وجهه، فإذا سأل عن (جنان) قوبل بما يكره من الأنباء الصاعقة، والأخبار الفاجعة وهو في كل دقيقة يتجلد ويتصبر. وقد يدق شعوره فيتصور سبابها المقذع تكريماً جليلا لشخصه، لأنها تذكر أسمه لا محالة، وفي هذا غنم كبير يساق إليه بلا حساب، اسمعه يقول:
أتاني عنك سببك لي فسبي ... أليس جرى بفيك أسمي، فحسبي
تشابهت الظنون عليك في ذا ... وعلم الغيب منه عند ربي
وليت شعري لم يذكر أسم ربه في هذا الموضوع وقد نسيه قبل ذلك؟ أيكون الحب قد جذبه قليلاً إلى روضة الإيمان، أم أنه الضعف البشري يتسلط على المرء فيلجئه إلى الاستعانة بربه، وإن تقطعت السبل، واستبهم الطريق.
ولقد تطايرت الأنباء إلى العاشق المدنف أن (جنان) ستحج مع مولاها إلى مكة وذهب الحسن يتأكد من النبأ ويستوثق من مصادره العلمية، فعرف أنه حق لا مرية فيه، ومن ثم فقد أعد العدة، وأعلن لأصحابه أنه سيخف إلى مكة في قافلة صاحبته. ولم يدهش البصريون لحج الشاعر، فهم يعلمون أنه يقصد به غير وجه الله. ولقد كان يتتبع صاحبته في كل مكان له تتزك بالبصرة، فلا عليه إذا واصل مراقبته الدقيقة في مكة، مهما كلفه ذلك من صحته وماله، والطريف أنه لا يقبل أن يترك الناس في حيرة من حجه المفاجئ، بل يكشف اللثام عن باطن سره إذ يقول:
ألم تر أنني أفنيت عمري ... بمطلبها ومطلبها عسير
فلما لم أجد سبباً إليها ... يوصلني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجت جنان ... فيجمعني وإياها المسير
وأنت لو قارنت بينه وبين أبن برد لأدركك العجب من ثبات بشار وخفة الحسن، فقد خدع الأعمى قومه حين زعم أنه سيحج تائباً إلى ربه وأتجه في أيام الحج إلى (زرارة) وأقام بها مع أحد أصحابه، ثم رجع مع العائدين من مكة في يوم واحد، وجلس يتقبل التهاني، ويقص الأحاديث المسهبة عن زمزم والحطيم، دون أن يفضح نفسه بكلمة واحدة، حتى أماط صديقه القناع، فكشف أمره أمام الناس في أبيات فاضحة، أما أبو نواس فهو لا يريد أن يلبس على القوم حقيقته، فيتستر بالورع والنسك، ويدجل بالطواف والتلبية، بل يذيع شعره(796/20)
الصريح على الناس في جرأة واستخفاف. ومتى أهتم الحسن بالجمهور، وقد جانب المحجة، وخلع العذار!!.
ولقد ظهرت براعته العجيبة في مكة حيث عرف فتاته في لجج طاغية من الزحام الحاشد، فجعل يتبعها خطوة خطوة، ويتعقبها في طوافها تعقباً يدعو إلى الغرابة والدهشة. ومن حيله الماكرة أنه التمس تقبيلها للحجر الأسود فقبله معها في وقت واحد، وطاف بخده على صفحة وجهها الفاتن، وقد شاهده في هذا الوضع المريب محمد بن عمر الجماز فصاح به: (ويحك! في هذا الموضع لا يزجرك زاجر، ولا يمنعك خوف الله، ولا يردك حياء من الناس؟) فقال له الحسن (يا أحمق، وهل حسبت قطع المهامة والسباسب إلا للذي حججت له، وإليه قصدت)، ثم شاد شيطانه الداعر أن يكشف حيلته للناس، فقال هذه الأبيات
وعاشقين التف خداهما ... عند استلام الحجر الأسود
فاشتفيا من غير أن يأثماً ... كأنما كانا على موعد
لولا دفاع الناس إياهما ... لما استفاقا آخر المسند
ظلنا كلانا ساترا وجهه ... مما يلي جانبه باليد
نفعل بالمسجد ما لم يكن ... يفعله الأبرار بالمسجد
ولقد كانت مشاعر الحسن - وهو الشاعر المطبوع - متيقظة منتبهة في طوافه وتلبيته، فلم يكد يسمع الترانيم الشجية يصدح بها الملبون طوائف تتلاحق وتتتابع، حتى حركت أوتار قلبه وأخذ النغم الساحر يسكب في سمعه نشوة راقصة فنسى جنان بضع لحظات وسحره الجمع الحاشد يصيح ويستصرخ، قلبي مع الملبين تلبية هي في الواقع تغريدة عذبة صدح بها فنان موهوب، فهو يقول في رنة حلوة وتوقيع جميل:
إلهنا ما أعدلك ... مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك ... وكل من أهل لك
لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك ... والسابحات في الفلك
على مجارى المنسلك ... ما خاب عبد أمّلك
أنت له حيث سلك ... لولاك يا رب هلك(796/21)
يا مخطئاً ما أغفلك ... عجل وبادر أجلك
وأختم بخير عملك ... لبيك إن العز لك
والملك لا شريك لك ... والحمد والنعمة لك
ولله ما أبدع الحسن! فقد كان شاعراً قبل أن يكون عاشقاً؛ فهو يتأثر بالمنظر الرائع فيبرز صورته الجميلة في مرآة شعره، وإن شغله بعض الوقت عن فاتنته، ولا يعقل أن ينقص هذا من حبه في قليل أو كثير، لأن الشاعر حساس مرهف يتأثر بكل ما يرى ويسمع فيتغنى به في سهولة ويسر. ولئن كان المجنون قد طاف مع الطائفين، وشاهد ما شاهده الحسن، فلم يخض كصاحبه فيما خاض فيه الملبون، ومضي يتساءل عن ليلاه ويرسل زفراته الشعرية المحرقة، فلأن قيساً كان عاشقاً قبل أن يكون شاعراً؛ فهو على النقيض من أبي تواس، ولا تثريب عليه إذا اشتغل بليلى عن كل شاغل، ونسى موسيقى التلبية الفاتنة. وليت شعري كيف يصيخ إليها تأته مجنون!
وكثيراً ما يقف الأدباء أمام مقطوعة الحسن في التلبية وما يشاكلها من أشعاره في الزهد والتوبة حائرين مرتبكين، حيث يستغربون صدور هذه النفثات الصادقة من خليع مستهتر بالشرع الحنيف. لقد فات هؤلاء جميعاً أن لكل نفس مهما غرقت في الخلاعة والفسق سبحات خاطفة تصلها بالسماء فتندم على ما فرطت في جنب الله، وتتجه إلى الخالق مستغفرة باكية، فلا عجب إذا أدركت الشاعر هذه اللحظات الخاطفة فقال أبياته الزاهدة، ولا سيما والحسن برغم مجونه الزائد متصل السبب بالآثار الدينية والمواعظ الروحية؛ فقد صحب في صباه أئمة الدين، وروي الحديث النبوي، حتى عده الجاحظ الذهبي في ميزان الاعتدال من رواته، وإن هجنه ووصمه بما يسقطه ويرديه، كل ذلك يدعوه إلى الندم والحسرة على ما ترتكبه ويأتيه. وأعتقد أن شهرة الشاعر بالخلاعة قد جنت عليه أكبر جناية، فقد طاب له أن يتناقل الناس نوادره وأشعاره وكلها طريف ممتع في بابه - وخيل إليه أنه إذا أنقطع عن غيه، سكت الناس عنه فلم يلهج بذكره ذاكراً. وصاحبنا - كجميع الشعراء كلف بالشهرة مولع بالظهور، بل إنه صرح بذلك لأبي العتاهية حين لامه في تهتكه. وإذا كان الصيت الذائع في رأيه لا يكون بغير الخلاعة الزائدة، فليتطلبه من طريقها الشائن. . . وهذا ما كان!(796/22)
وكيفما كان الحال، فقد رجع الشاعر من مكة كما ذهب إليها، لم يتقرب إلى الله بتوية ترفع عنه سيئاته، وحسبه أن وجد في البيت العتيق طريقاً يوصله إلى جنان بدل أن يوصله إلى الله!! وليته ظفر بما يريد، فإن صاحبته ما زالت برغم جنونه بها تمقته وتزدريه، وعذرها في ذلك أنها لم تصدقه فيما يدعيه، ولا جرم فقد جنت عليه شهرته السالفة بالمرد الحسان، فحق لجنان الماكرة أن تعذبه بالحرمان.
وقد يئس الشاعر من صاحبته في النهاية، فأركب على الشراب وحالف السكر محالفة تنسيه شواغل الوجد ولواعج الهيام، ثم ترك البصرة بما فيها من معارف وأصدقاء وأتجه إلى مدينة السلام، فرأى البصرة لا تقاس بها في الترف والمجون، فقد حوت من المتع والملاذ ما ستخف الوقور ويصبي الحليم، فغرق في الخلاعة إلى أذنه، ونهز بدلوه مع الغواة، وبلغ ما يبلغ المرء بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام!
عفا الله عن الحسن بن هانئ فقد حج إلى البيت العتيق حجاً غير ميرور، ونظم في الزهد والتوبة مالا يحب إزاء آثامه ومخازيه، ولكنه خدع من كتب عنه من المستشرقين في دائرة المعارف الإسلامية، فزعم أنه تنسك وزهد، وما كان الشاعر طيلة حياته من الزاهدين، ولكنه قال قول الزهاد، وفعل أفعال المجان، فكان كصاحبه جميل تذبح العصافير في قسوة، وتدمع عليها في رحمة.
فلا تنظري يابثن للدمع وانظري ... إلى الكف ماذا بالعصافير تصنع
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي.(796/23)
رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر
(الميلادي):
النحلة النصرية في الرحلة المصرية
لمصطفى البكري الصديقي
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
لما دخل شهر جمادى الآخرة من سنة (1132هـ 1719م) أراد الشيخ مصطفى البكري زيارة الخليل ومنها إلى القاهرة، ذات الربوع الزاهرة، وأقام في الخليل أياماً، جاءه فيها الشيخ موهوب مجذوب يكنى بأبي جاعد، فسأله الشيخ بالإشارة عن التوجه إلى مصر، فأومأ بيده نحو السماء، مشيراً بأن العلم لله. وخرج مسرعاً ثم عاد، فكرر الشيخ السؤال فأعاد المجذوب الجواب. وأخبر عن رجل صالح أنه يقول إنه تراءى له سيدي اسحق وقال له قل لفلان يرجع إلى وطنه، فعدل الشيخ عن السفر. ودعاه الأخ الشيخ عبد الرحمن الخطيب بن الشيخ أحمد التميمي إلى كرمه خارج الخليل، وكان قد أتصل بطريقة الشيخ مثل ذلك، فأجابه وكان الوقت قيظاً، فحصل للشيخ من ذلك مشقة.
وعاد الشيخ مصطفى إلى القدس، وأقام إلى أن مضى شهر الصيام. وفي شوال توالت الأخبار بأن جناب الدستور المكرم والمشير المفخم الحاج رجب باشا تولى الديار المصرية، ومراده زيارة الاراضي القدسية والخليلية، ومنها ينزل إلى العريش، وكان له مع الشيخ صحبة ومودة، من مدة طويلة. وتحقق حلول ركابه في مدينة نابلس، فسار الشيخ لاستقباله مع شيخه الشيخ محمد الخليلي، ودخلا عليه، وكان الباشا ينزل عند نقيب أشراف نابلس السيد محب الدين، فدعا الشيخ لصحبته إلى أرض الكنانة، فأحاله على الشيخ محمد الخليلي فوجه إليه الخطاب فتعطل، ولكن الباشا ألح وأبرم فقبلا الدعوة.
وبعد زيارة الخليل، والمعاهد والمشاهد فيها، سارا صحبة الباشا إلى بيت جبريل، ونصب لهما خيمة، وعين لهما ما يحتاجان ' ليه من كثير وقليل، ولم يكن للشيخ في هذا المسير رغبة، لما فيه من المخاطر، وما كان قد استعد لمثل هذه السفرة الشاقة، وودع الذين صحبوه، وشرع لفوره في كتابة رحلته وسماها [النحلة النصرية في الرحلة المصرية](796/24)
وسار في الصباح لغزة وقال فيها من قصيدة:
وأردُ الشوق غز في القلب غزّة ... عندما جئت أبتغي أرض غزة
ثم سار إلى خان يونس، وبات فيها وقال فيها موالياً:
يا فرحتي مذ بدا المحبوب لي يونس ... مسامري بين ندماتي لخان يونس
سألت ما الإسم بدري قال لي يونس ... وقلت والأصل حبي قال لي يونس
وأستأنس باصحابه وبكر نحو العريش وقال من قصيدة:
عرش الحب في الحشا تعريشا ... حين حل الملتاع فيه العريشا
وأقام ثاني يوم ينتظر ذخائر القوم، ثم توجه نحو (بير العبد) ذي الماء الملح، فلم يطق فيه مقاماً، وجهد حتى وصل (قطية) ومال لسهلها ونزل عليه، ورحل إلى (الصالحية) وتلقاه هناك نذر من جند مصر المحمية. وكان رافقة من غزة هاشم الشيخ صالح مفتيها، فتمرض في الطريق ودفن في الصالحية. ونحا بعد ذلك جهة (القرين) والوزير يرمقه والشيخ محمد الخليلي بعين، ويتفقد أحوالهما فيزول عنهما الغين.
ونزل بعد ذلك نخيل (بلبيس) وأرتحل للخانكه وأتاها ليلاً، وأمر الوزير بعض من عول عليه من جند مصر، بإنزالهما داخل المدينة في مكان مناسب، وأرسلهما مع خادمه إلى دار محمد بك المكني بأبي الشوارب، ووعد عليهما للسلام أعيان البلد، وهي دار واسعة الأكناف، ممتدة الجوانب والأطراف، مقسمة إلى بيوت أربعة، كل بيت يسع الصنجق والذين معه. ويقول الشيخ في وصف الدار (وكنا في ربعها نتيه، ونكاد إذا درنا في جنباته أن نتيه).
ولما دخل مصر القاهرة، شهد مدينة بالمباني الفاخرة، ورأى فيها اشياء كثيرة، لم يرها في غيرها من المدن الشهيرة، فتحقق أنها بلدة جمعت محاسن خطيرة، ولم يقل كما قال البعض أنها قرية كبيرة، بل قال كما قال الإمام الشافعي عنها (كنت أظن أن مصر في الدنيا، فرأيت الدنيا في مصر).
وكان الوزير الكبير، سأل الشيخ قبل دخول مصر، عن محل نزوله، فأجابه في محل يكون شيخه الشيخ محمد الخليلي فيه، فسأله (ولم لا تنزل في بيت البكري الوسيع؟) فأجابه (رغبة في صحبة الشيخ الرفيع، وإن دعانا شيخ السجادة إليه أجبناه). ويقول الشيخ (وأقمنا(796/25)
في هذا البيت مدة، وأظهر لنا كبير بيتنا صده، وجعلنا حرفاً منسياً، كمن جاء شيئاً فرياً، فنفرت النفس). وأرتحل إلى دار في الخرنفش صغيرة الدائرة، تحت تصرف صديقه إبراهيم أفندي، القاضي، وهي لصقة قاعة التجلي التي للسادة الوفائية، وكان يتردد عليها، وربما أقام ليلا ونهاراً لديها. ويقول الشيخ إن هذه القاعة نظير قاعة الجلال التي في بيتهم، وقد دخلها شيخه الشيخ عبد الغني النابلسي.
وأول ما أبتدأ به من الزيارات زيارة الحسيبة النسيبة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال المناوي في ترجمتها: ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة ونشأت بالمدينة في العبادة وتزوجت اسحق المؤتمن بن جعفر الصادق، فولدت منه القاسم وأم كلثوم، قدمت مصر ونزلت بها ببيت عمتها سكينة المدفونة بقرب دار الخليفة بمصر، ولها بها الشهرة التامة بالولاية. ماتت بمصر سنة (208هـ) وكانت قد حفرت قبرها بيدها وصارت تنزل فيه وتصلي، ودفنت في قبرها ببيتها بدرب السباع بالمراغة، محل معروف بينه وبين مشهدها الآن مسافة بعيدة. ثم ظهرت في هذا المكان الذي يزار الآن وكان الشافعي يعتقدها ويزورها. قال الذهبي، وكان والدها من سراة العلويين، ولي المدينة للمنصور ثم حبسه حتى مات، فأخرجه المهدي وأكرمه ولم يزل معه حتى مات المنصور في طريق الحج. ولها كرامات كثيرة. ثم توجه للقرافة، فزار مقاماتها. ومنها إلى زيارة مقام الإمام محمد بن إدريس (الشافعي) ولد بغزة أو عسقلان سنة (150هـ) وهي السنة التي مات بها أبو حنيفة، وأجيز بالإفتاء وعمره خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى الإمام مالك فأقام عنده مدة، ثم لبغداد، ولقب بناصر السنة ثم عاد لمكة، ثم لبغداد، ثم لمصر، فاقام بها حتى مات سنة (204هـ) عن أربع وخمسين سنة.
ثم عطف بعد ذلك على زيارة شيخ الإسلام زكريا بن احمد زين الدين الأنصاري السنيكي، ثم القاهري الأزهري ولد سنة (826هـ) وتوفي سنة (921هـ). ثم زار أسلافه الكرام السادة البكرية، ووقف قبالة القطب الكبير سيدي محمد، وقرأ له فاتحة الكتاب.
وتقدم بعد ذلك لزيارة عم والده، جناب العالم أحمد أفندي نجل والد جده الشيخ كمال الدين البكري نزيل دمشق الشام والقاطن بها هو ووالده وجده، وكان وفد الجد المذكور من مصر إليها، ثم إنه أستحسنها وعول في السكنى عليها. وعم والد الشيخ ورد على مصر من(796/26)
الحجاز معزولا عن قضاء مكة، وتوفي ثاني يوم دخوله وذلك سنة (1118هـ).
ثم سار لزيارة أبي الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبن أبي الثنا الفهمي القرقشندي وهو من تابعي التابعين، القائل رأيت نيفاً وخمسين رجى من التابعين. وقال في حقه يحيى بن بكير، الليث أفقه من مالك. وهو شيخ البخاري ومسلم؛ ولد سنة أربع وتسعين وتوفي عام خمس وسبعين ومائة. وزار بعد ذلك جملة صالحة من سكان القرافة لا يمكن عدهم، ولم يزد على التمثيل في العتبات الرفيعة إلا لدى سلطان العشاق سيدي عمر بن الفارض مولده (556هـ أو 560هـ) ووفاته (632هـ).
ثم قصد زيارة سيدي محمد الحنفي نجل علي شمس الدين الشاذلي (ولد سنة 747هـ - وتوفى سنة 847هـ). ثم توجه لزيارة السند الجليل سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه، ولد سنة أربع أو ست أو سبع وأستشهد يوم عاشوراء يوم الجمعة سنة إحدى وستين (بكربلا). وأعلم أنهم اختلفوا في رأس الحسين بعد مصيره إلى الشام أين صار، وفي أي موضع أستقر، فذهبت طائفة إلى انه، طيف به في البلاد حتى أنتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها بها فلما غلب الإفرنج على عسقلان افتداه منهم الصالح طلايع وزير الفاطميين بمال جزيل ومشى إلى لقائه من عدة مراحل، ثم بنى عليه المشهد المعروف بالقاهرة، والى ذلك أشار القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح طلايع. وصار آخرون ومنهم الزبير بن بكار والعلاء الهمداني إلى أنه حمل إلى المدينة مع أهله فكفن ودفن بالبقيع عند قبر أمه وأخيه الحسن. وذهبت الأمامية إلى أنه أعيد إلى الجثة ودفن بكربلا بعد أربعين يوماً من القتل. ورجح القرطبي، الثاني قائلا ما ذكر من أن في عسقلان مشهدا هناك أو بالقاهرة باطل لا أصل له. أنتهى. والذي عليه طائفة من الصوفية أنه بالمشهد القاهري.
ثم زار الشيخ، علم هذه الديار، وأحد أركان مصر، سيدي عبد الوهاب بن أحمد الشعراني يتصل نسبه بسيدي محمد بن الحنيفة نجل علي رابع خلفاء المختار، ولد تقريباً سنة (899هـ) وتوفي سنة 973هـ وقد ترجمه المناوي وغيره وترجم هو نفسه في سننه، وقد طالع الشيخ جملة من مؤلفاته، وكرر له الزيارة فهو أحد أشياخه ثم زار سيدي محمد الكردي الكائن بعد باب الفتوح، ثم مال لرورة الخواص، وضريحه بزاوية الشيخ بركات خارج باب الفتوح تجاه خوص، توفي سنة (939هـ).(796/27)
ولقد دعاه جناب الشيخ علي نجل الحنفي الولي، إلى مكان نزيه ذي أبنية وثيقة، في مصر العتيقة، وكان بحر النيل في ازدياد على المعتاد، فأركبه والشيخ محمد الخليلي، قياسة له صغيرة، وأرسلهما للتفرج على المقياس فسارا ورأيا العمود فيه مغطى بمياه فاقت (علي) الأسفنطا؛ ورأيا الماء نازلا عما عليه كان، لأنه فاض من الدرج الخارج وعم ساحة المكان؛ ثم عادا إلى محل الضيافة، فإن أمواجه كانت كبيرة، واختلاف أهويته كثيرة، وكان كبير ذلك المحفل الجامع والداعي لبيته وضيافته جناب الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، وقطعا ذلك النهار، والداعي الصفي نجل الحنفي والوفي يلاطفهما.
وبعد أيام دعي الشيخ للإصلاح بين الشيخ محمد شنن والشيخ أحمد (اللقدوسي؟) وأقام معهم صفا ووفا، على بركة الرطلي التي تمتلئ إذا النيل وفا، وكان يوماً مشهوداً بالأفاضل المعتبرين ممدوداً بمكارم الكريمي المستقى هو وأخوه قد دعا الشيخ بعد أيام للحضور في داره، وقصد بعد أيام لزيارة مقام زين العابدين.
ثم توجه صحبة الشيخ محمد الخليلي إلى جامع سيدي عمرو بن العاص بن وائل السهمي فاتح مصر، وقد لقب أبوه بالعاصي على أحد الأقوال لأنه كان يتقلد بالعصا عوضاً عن السيف فسمى بالعاص. وكانت زيارته وزيارة سيدي عقبة بن عامر الجهني تقدمت، ورأى الشيخ في الجامع مصحفين ينسبان للأماميين سيدي عثمان وسيدي علي رضي الله عنهما، ويقول (إنه بالبعد عن المدينة، اضمحلت بعض رسومه المتينة)، وصعد المنبر، فوعظ وسار بعد ذلك إلى مصر العتيقة وكر ثانياً إلى المقياس. ويقول الشيخ ومن المترددين عليه الشيخ محمد الحفناوي. وممن دعا الشيخ إلى داره الشيخ محمد العناني ذو النسب العمري والحسب الشمسي القمري، وأغدق عليه المبرات.
ويقول الشيخ (وكنا نستعمل القصب بكثرة غير مختصرة، حتى اتخذنا له من الخشب صغير معصرة، ويقال إن الإمام المطلبي صاحب المذهب، ابن عم النبي كان سبب نزوله القاهرة، حبه في القصب السكري، وفي ذلك يقول الإمام السيوطي:
نزلتُ على القصب السكري ... نزول رجال يريدون نهبه
يجز كجزء رؤوس العدا ... ومص كمص شفاه الأحبة
وكان يتردد كثيراً مع الشيخ الخليلي إلى بولاق لأجل الإطلاق لا من الإملاق، وكذلك(796/28)
لزيارة الشيخ فرج، وصعد طبقة فرأى على جدرانها أبياتاً أثبتها منها:
ومن عجب الأيام أنك جالس ... على الأرض في الدنيا وانت تسير
وسيرك يا هذا كسير سفينة ... بقوم جلوس والقلاع تطير
وكان الشيخ قد زار في أوائل قدومه الولي الشيخ محمد الدمرداش، ودعاه أولاده الشيخ محمد صاحب السجادة والشيخ عثمان، ودخل خلوة الشيخ.
(البقية في العدد القادم)
أحمد سامح الخالدي.(796/29)
رسالة الفن
الزهريات الإغريقية
للدكتور أحمد موسى
- 2 -
كان أول مصنع أقيم لصناعة الزهريات في بلاد الإغريق بمدينة كورينثيا القرن السادس ق. م. وأنتشرت هذه الصناعة حتى بلغت جنوب ووسط إيطاليا وراجت منهما.
وكانت أول الزهريات الكورنثية صغيرة الحجم رقيقة التكوين، صنعت من طين ناعم الملمس، مزودة برسومات بنية حمراء رسمت على أرضية صفراء باهتة، أما نقوشها فكانت عبارة عن خطوط أفقية متجاورة، ألتفت حول البدن، وبين كل مجموعة من هذه الخطوط، وبين ما علاها تركت مسافة ملئت برسوم للحيوان والانسان في أوضاع مختلفة ولكنها بسيطة بالقياس إلى ما سيليها.
وتتلخص الصفة الظاهرة لهذا النوع في أنها مشابهة في مجموعها لتلك التي عملت برودس، من حيث الإخراج واختيار الألوان وأسلوب التصوير؛ فترى غصن شجرة وقد بدا بالقرب من قاعدة الزهرية متجهاً إلى أعلى، تفرعت منه أغصان أدق وأرفع، وزعت في نظام يدل على الخضوع لحظة مرسومة، بحيث جاءت بينها مسافات أو مساحات أستخدمها الفنان لتصوير الإنسان والحيوان كالسد والثور وأبي الهول، وما تبقى من المساحات زوده الرسام بزخارف من بينها الورود الصغيرة التي كانت محببة إلى الأغارقة بصفة خاصة.
على أن المستعرض للزهريات الكورنثية بصفة عامة يخرج بنتيجة صريحة هي أنها ذات احجام صغيرة كما سبق التنويه، وذات شكل كروي غالباً لها غطاء يوضع فوق العنق في بعض الأحيان.
وقد طرأ تغيير ظاهري في صناعتها في اواخر القرن السادس ق. م. فدت اكبر حجما وذات مقبضين ويسمونها (أمفورا) وأصبح لون الأرضية أكثر احمرارا نتيجة لزيادة الحريق في الأفران، ورأى الفنان نفسه مضطراً إلى استخدام نوع داكن من الورنيش(796/30)
يتناسب مع لون الأرضية، فتكون ألوانه أكثر وضوحاً، كما أنه أستخدم اللون الأبيض والأحمر البنفسجي.
وبدأ الفنان يعني بتقسيم مساحة الزهرية كلها إلى اٌسام معينة، بعدما كانت لا تشتمل إلا على فواصل جاءت دون قيد ودون خطة موضوعة. وكان أهم هذه الأقسام مخصصاً لتصوير قصص الأبطال في أغلب الحالات. أما الأقسام الأقل أهمية فكانت مجالا لتصوير الحيوان أو الفرسان على ظهور الجياد أو ما شابه ذلك.
ولعل من أحسن الأمثلة على هذا الاتجاه زهرية مشهورة محفوظة بمتحف برلين تبين فرسان (أمفياراوس) والى جانب المشكاوات الكورنثية وجدت في نفس المرحلة الزمنية مصانع للفخار وعمل الزهريات في إيطاليا، فظهرت في الأفق مجموعة خالكيس تتميز بصور الرجال من الزخارف النباتية التي وجدت بالزهريات الكورنثية.
وشاع ظهور المشكاوات المسماة (أمفورا) ذات المقبضين والتكوين الكروي القائم على قاعدة مستديرة. وقد التف حول وسطها حزام عريض ملئ بصور تمثل سير الأبطال وأحوالهم كعراك هرقليس مع جريونيوس والعراك حول حثة أخيل، والوداع بين هكتور وبين باريس الخ، مما لا تتسع له إلا الكتب.
ولم يدع الحال طويلا على هذا المنوال، فلم يكد يبدأ القرن الخامس قبل الميلاد إلا وكانت أثينا قد بدأت تتغلب شيئاً فشيئاً على المشكاوات التي أنتشرت في إيطاليا وانفردت بالرواج طوال القرن الخامس والنصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد.
أنظر إلى المشكاة رقم (1) وهي المسماة (أمفورا) وتأمل بساطة الزخرفة ثم أنظر إلى مجموعة الرجال وقد أتجه ثلاثة منهم نحو اليسار واثنان نحو اليمين كأنهم في حديث هام، والعجيب أن الفنان استطاع التعبير عما يريد في هذه الرقعة الضيقة بكل إتقان، أما رقم (3) وهي يسمونها (هيلدا) ذات مقبضين أفقيين اشتملت مصوراتها الألوان الثلاثة: الأسود والأحمر والأبيض وقسمت مساحتها إلى ثلاثة اقسام أفقية أوسطها لرجال ونساء وأعلاها لحيوانات وطيور، أما الأمفورا رقم (6) فهي ولا شك أكبر حجماً وأرشق تكويناً - والصور الزخرفية هندسية الطابع إغريقية المزاج، ولعلك تذكر أن الوحدة الزخرفية الموجودة أسفل الصورة مباشرة هي ما يسمونها مياندر نسبة إلى نهر ذي تعاريج يأتي(796/31)
ذكره فيما بعد.
وقد سارت المشكاوات الأتيكية في أول أمرها متأثرة بنظائرها اليونية ثم بالكورنثية حتى أوائل القرن السادس قبل الميلاد حيث استقلت بنوع من التصوير يسمونه (التصوير السود اللون).
وتمتاز الأتيكية المذكورة بجمال اللون الأحمر ورقته ودفئه وكذلك ببريق الورنيش الذي يراه المشاهد لأول وهلة.
هذا من حيث (الصنعة) أما من حيث الإخراج الفني فقد فامتازت المصورات بعناية المصور ومقدرته على تنفيذ الفكرة بأسلوب يدل على المران والتمكن.
كما أنه تفنن في نوع الزخارف فضلا عن عنايته بضبط خطوطها وانحناءاتها وحسن اقتباسه لوحداتها مع التقليل منها ووضعها في أماكن خصصت لها، لا تطغى على المصورات، بل تساعد على توجيه النظر إليها لوجودها في النهايات كأنها إطار يحيط بالمشكاة.
وكان الموضوع المثير لأهتمام الفنان المصور ينحصر في سير الأبطال يستلهم منها مادة فنه، ويلي ذلك مناظر الحياة الاجتماعية والاحداث اليومية يعيش فيها ويتأثر بها ويسجلها في سجله الخالد على الزمن.
ولعل الاتجاه الذي كانت له قيمته الخاصة ذلك الاتجاه نحو تسجيل المناظر الجنائزية في مجموعة عرفت بأسم شكلها على هيئة (الأمفورا) إلا أنها أكثر منها ارتفاعا وأكبر حجماً، وكان الغرض منها تحلية المقابر والجبانات.
والملاحظ أن في هذه المرحلة الزمنية بدأ الفنان يشعر بكيانه وبقيمة عمله فأخذ يسجل أسمه على كل مشكاة يصورها، فجاءت مجموعة (بان أثينا أمفورا) ولا تخلو واحدة منها عن أسم المصور، وهذه المشكاواة كانت تملأ عادة بالزيت لتقدم إلى أوائل المتسابقين اعترافاً لهم بالتفوق والتقدير، في أعياد بن أثينا آلهة المدينة. وبمناسبة كتابة اسماء المصورين أراه لزاما أن اذكر (كليتياس) مصور زهرية فرنسوا المشهورة، وأرجو تيموس وسوفيلوس ونيآرخوس وأولاده الخمسة.
ويتلخص الفارق البارز بين الزهريات (ذات الأجسام الحمر) من (ذات الأجسام السود) في(796/32)
أن الأخيرة رسمت عليها الأجسام بهذا اللون وأحيطت بلون أرضية الزهرية، على حين كانت ذات الأجسام الحمر عبارة عن خطوط تحديدية غطى ما يحيط بها باللون الأسود الدخيل على الزهرية.
وببلوغ الصنعة هذه الدرجة من التجديد، كان فن تصوير المشكاة قد تقدم من حيث السلوب؛ فأصبح التعبير أكثر قوة عن ذي قبل، كما بدت التفاصيل أكثر دقة وأكمل أداء بالقياس إلى سابقتها التي انفردت باللون الأسود وظلت حافظة على مستوى محدود من الإتقان وقفت عنده.
وبعدما كانت الأجسام البشرية اشبه شئ بوسيلة من وسائل التعبير عن فكرة معينة، أصبحت قوية من حيث إنشائها والأسلوب الفني الذي تم به تصويرها، فكانت العنصر إلهام الواضح الأثر.
وتقدم فن تصوير المشكاة تقدماً مستمراً من ذلك الحين أي منذ حكم بيزستراتس حيث ظهرت الأجسام باللون الأحمر، حتى منتصف القرن الخامس ق. م. عندما ظهرت اسماء لامعة في عالم تصوير المشكاوات أمثال أويفورونيوس وزميله إبيكتيت وغيرهما من المحدثين نسبياً أمثال دوريس وبريجوس وهيرون , , , ورسمت بعض المشكاوات مزودة بأسماء وتفسيرات لبعض مناظرها، كما كتبت بعض المعاني الرمزية للتعبير عن مشاعر خاصة. ومن هذا نرى أن تصوير المشكاة كان فناً له خطره وأثره البالغ؛ إذ تكونت منها مجموعة هي سجل حافل بما يميط اللثام عن حياة الأغارقة بين الواقع وبين الخيال.
وبالنظر إلى الزهرية رقم (2) (أمفورا) نجدها تشتمل على أجسام باللون الأحمر رسمت في عناية ودقة ملحوظة تمثل مناظر رياضية رائعة، بدت فيها أجسام اللاعبين رشيقة التكوين.
ولا نستطيع أن نتناول بالوصف كل واحدة منها على حدة، وإنما الذي نستطيعه هو أن نوجه نظر القارئ إلى ناحية هامة وهي أن الأشكال 2، 4، 5، 7، 8، 9 رسمت كلها على أرضية سوداء أي بتحديدها ثم طلاء الارضية بهذا اللون وترك الأشكال دون تلوين؛ فتبدو حمراء بلون الأرضية.
ورقم (4) تبين إبريقاً، و (5) هيدريا و (7) ليكيتوس و (8) كراتر و (9) وكلها تبين(796/33)
مرحلة عظيمة من مراحل تصوير المشكاوات الإغريقية.
بقي بيان عن كلمة ميآندر تعبيراً عن وحدة زخرفية تمثل خطوط متكسرة في زوايا قوائم يدخل بعضها في البعض الآخر [الزهرية رقم (6) أسفل أرجل الحصان مباشرة] سموها كذلك تشبيهاً لها بنهر بهذا الأسم كثيرا التعاريج يصب في بحر أيجة قبالة جزيرة ساموس. أما الزخارف الأخرى فقد اقتبست وحداتها من نباتات ونخيل يسهل فهمهما دون مشقة.
(له بقية)
أحمد موسى
ملحوظة: لأسباب فنية تعذر نشر الزهريات المقول عنها،
فنشرنا هذه بدلا منها، فهي وإن اختلفت في الموضوع، فهي لا
تختلف في الجوهر.(796/34)
بعد خمسة وعشرين عاماً:
سيد درويش
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
دارت الكأس، وألتقى الندماء ... وأعادت أيامها الصهباء
وصفا مجلس الشراب، وطابت ... وصحا في عبيرها الإغراء
وبدت حولها المزاهر تشدو ... ودعا الشرب سامر وغناء
وأستوى الضاربون فيها أفان ... ين، وباتت على الغدير الظماء
الليالي والصفوة الندماء ... وسقاة الملاحن القدماء
باكرتهم في موسم الفن فانثا ... لوا كما يجمع الفراش الضياء
يا نداماي: هذه حان باخو ... س، وهذي أنغامه العذراء
نبضات الأوتار فيها تراني ... ل، وهمس الأعواد فيها دعاء
عصر الشعر كرمها من معاني ... هـ، ودارت بها النغوم الوضاء
فإذا القوم بعد خمس وعشر ... ين نشاوى - كعهدهم - أنضاء
رقصت في أعصابهم نشوة الفن ... وللفن سورة وانتشاء
نغم عاجت، ولحن رَواء ... وهوى ساكب، وطبع رخاء
وتصاوير للوجود كما لو ... شفه الرسم، أو نحاه الشعراء
وتعابير عن معان دقاق ... لم تحوم في جوها الشعراء
أنكرت عالم الفناء وضجت ... في صداها الحياة والأحياء
صانع الخلد لا يموت وإن مد ... ت عليه سجوفها الغبراء
هو في فنه مقيم كما ته ... زأ بالريح القمة الشماء
شاعر ترجم الأحاسيس ألحا ... ناً روتها الطبيعة الخرساء
ساخر يضحك اللحون، غضوب ... تتلظى أنغامه الحمراء
علمته الأنسام كيف البكاء ... وهدير الأمواج كيف الإباء
وعويل الرياح كيف التشكي ... وعبير الورود كيف الغناء
رب لحن كأنه موكب الرع ... د عتياً كأنه الكبرياء(796/35)
ولحون كأنها رقصة النا ... ر تغنيها الزعرع النكباء
ولحون كأنها لحظة الوص ... ل زهتها ملاوة ولقاء
ولحون تصور الناس ألوا ... ناً ففيها الطيوف والأصداء
نغمات ترّدد البدع فيها ... وسققتها البديهة الوطفاء
غال خلاقها الردى فتبنا ... ها خلود، وذاد عنها وفاء
يخفض الدهر عندنا من جنا ... حيه، ويردى البِلى، ويعيا الفناء
هي الخمر كلما شيّخ الده ... ر تناهى بها الصبا والفتاء
ينبض الحب في سناها وتدعو ... ك إلى الله روحها الحسناء
ومن الفن ما يعلمك الحق ... إذا موه الوجود الرياء
ومن الفن ما يبشر بالرحم ... ة دنيا طغا عليها الشقاء
ليس في جوهر الحقيقة إلا أل ... فن شئ. . . وغيره أسماء
والذي صور العوالم فنا ... ن تظّني في فهمه الفهماء
والليالي قصائد عصماء ... وأولو الفن وحدهم أنبياء
ربما استغنت الحياة عن الع ... لم على رغم ما أتى العلماء
وعلى الفن وحده عاش أجدا ... دك دهراً وهم به سعداء
إن من أطقلوا العقول علينا ... لست تدري: أأحسنوا أم أساءوا
والذي ظها تراباً وماء ... هو في نفسه تراب وماء
شدا ما تجنح الحياة إلى الرو ... ح وإن كان في الطريق التواء
طاهر محمد أبو فاشا(796/36)
الأدب والفن في اسبوع
للأستاذ عباس خضر
صانع البؤس:
نشر أن لجنة ألفت لإحياء ذكرى عبد الحميد الديب، فقررت جمع ما قيل في حفلة تأبينه وطبعه في كتاب، وطبع ديوانه، وإقامة حفلة للاحتفاء بذكراه. ونشرت بعض الصحف أخيراً كلمات حث فيها اصحابها على الأهتمام بهذه الذكرى. وفي كل ذلك، وفي كل مناسبة يذكر فيها عبد الحميد الديب، يصفه القائلون والكاتبون بالشاعر البائس، وينحون باللائمة على مصر لإهمالها إياه، وذهب بعضهم إلى أنه أهمل حياً وميتاً، وهم لذلك يمون هذه الأمة بالقسوة والجحود لعدم عرفانها أقدار النابغين من أبنائها!.
قيل كل ذلك، وقيل مثله في حفلة التأبين الماضية، وسيدور حوله المحتفون بالذكرى في الحفلة المزمعة. . . فهل كان عبد الحميد الديب بائساً حقاً؟ أو بتعبير آخر: هل ظلمه المجتمع وحرمه نعمة العيش الرخي؟
إنما يأتي البؤس والحرمان من التعفف مع عدم القدرة على الارتزاق، وقد كان الديب على عكس من يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. . . . إذ كان من العفاة السائلين، وكان ذا حيلة في هذا المضمار تدر عليه الكثير من العطاء، وكان يعاونه على ذلك اصدقاء، منهم من هو معجب بشعره، ومنهم من يتفكه بتصرفاته ومفارقته، وكان بعض هؤلاء لا يبخلون عليه بما يملكون.
وكثيراً ما هيئت له اسباب العمل، فقد وظف عدة مرات في التدريس بمجالس المديريات، وطالما دعى إلى التحرير بالصحف والمجلات؛ فكان يبدأ العمل وينقطع عنه بعد قليل، وفي بعض الأحيان كان يحتال لأخذ المرتب مقدماً، ثم يذهب ولا يعود!
وكان له زملاء في أول العهد قاسموه التسكع في الحي الحسيني، وكانوا يسمونه (الحي اللاتيني)، ولكنهم أخذوا بأسباب العمل، ومنهم الآن صحفيون ناجحون ذوو دخل كبير. ومما يروي من نوادرهم معه في عهد البؤس أن أحدهم - وهو الآن صحفي معروف يكسب حوالي مائة جنيه في الشهر - نازع الديب عدداً قديماً من جريدة الأهرام، إذ أراد كل منهما أن يهيئ به فراشاً على (الرصيف) في حرم المسجد الحسيني، فاقتسماه، ولكن(796/37)
القسمة لم تحسم الخلاف، فقد تمسك كل منهما بأن يأخذ الجزء الذي فيه (افتتاحية) العدد. . . . وكانت موقعة أسمها (معركة الافتتاحية)، ويظهر أن الذي ظفر بهذا القسم غريم الديب، فقد كان له فالا حسناً، إذ صار بعد ذلك يكتب الأفتتاحيات!
وكان الديب يقضي حياته الخاصة في الظلام، يعاشر فيها أنواعاً منحرفة من أخس الآدميين، وكان ينفق على هؤلاء ومعهم ما يجمعه من هنا وهناك. فهو يبدأ الجولة بقصد إحدى القهوات الكبيرة، حيث يلقى بعض الأدباء والمياسير ممن يعطفون عليه، فيسمعهم من شعره، وقد يطرفهم بنوادر من شئونه الخاصة معرضاً القدم من الحذاء، وقد ينشد مدحته لأحد الجالسين؛ ثم يخرج عامر الجيب إلى حيث يفرغه في تلك البيئات المنحطة. . . ثم تنتهي الدورة بفترة البؤس الذي صنعه بتلك المقدمات!.
ولم يكن وفياً للمغدقين عليه، بل كان ينثني عليهم بالهجاء، بعد أن قدم المح على العطاء. . . . ومن غريب أمره أنه كان يهجو على قدر العطية. . وكان يعرف ذلك منه المرحوم أنطون الجميل باشا فكان لا يعطيه في المرة إلا (شلناً) ويقول: لا أريد أن أستكثر من الشتم! ولعل هذا هو الذي أوحى إليه نوعاً طفيفاً من المدح: بضعة أبيات لا يغالي بها في مدح الممدوح، وكان يسمى هذه المدائح (الشلنيات) نسبة إلى ما يرجوه من ورائها. وكان يطلق لسانه - حديثاً وشعراً - على كل من يحسن إليه، قيل له: أهج فلاناً. فقال: ولماذا أهجوه وهو لم يحسن إلي ولم يعطني شيئاً؟ ورآه اصحابه مرة مقبلا عليهم في تيه وكبرياء، فقالوا إنه لا بد أن يكون في جيبه - على الأقل - عشرة قروش. . . فلما سألوه في ذلك، قال: أني لي. . . وهل يترك معي كامل الشناوي شيئاً يا أستاذ!؟ والأستاذ كامل الشناوي معروف بعطفه عليه وأهتمامه بأمره. . . وشاهد بعض أصحابه في ثياب رثة، فقال أحدهم، وهو الأستاذ محمد مصطفى حمام: يعز علينا أن يكون الديب عاري الخلف، لا من (بنطلون) بل من (جلباب)، وتطل أصابع قدميه لا من (جزمة) بل من (بلغة)، فهلموا نواري سوأته. . . وأحضروا له ثياباً نظيفة وحذاء جيداً، فأخذها وذهب، وبعد برهة عاد إليهم مزهواً فيها، ونظر إليهم شزراً. . . ثم قال: ألا ترونني وجيهاً يا كلاب! ولم يكن يليق بهذا السؤال في هذه الحال إلا جواب واحد: بلى يا ذئب!
ولم يشذ الديب عن الجزاء الوفاق بهجاء من يحسن إليه، إلا مع معالي الأستاذ إبراهيم(796/38)
دسوقي أباظة باشا. قال لي الأستاذ محمد مصطفى حمام: مدح الديب دسوقي باشا بقصيدة جيدة منها:
ولو هيأ نمو للديب رزقاً ... لكان بحمدكم صلى وصاما
ومالي لا أرود حمى رحيباً ... تكنف حافظاً ورعى حماما
وصحبته إلى معاليه، فأنشده إياها، فأعطاه خمسة جنيهات (من جنيهات ما قبل الحرب)، وحقيبة كبيرة ملأى بالملابس، وأحاله إلى (الترزي) ليصنعها على قده. . . فكاد يجن من الفرح وراح يقارن بين حاتم الطائي وبين دسوقي باشا مقارنة أنتهى فيها إلى أن الأول أسطورة كاذبة والثاني حقيقة ماثلة. ووالى إنشاء المدائح فيه. ولكن (الذئبية) أدركته مرة، فقال أبياتاً أولها:
أبلغ أباظة عني أنهم ورثوا ... مالا ولم يرثوا ديناً ولا خلقا
وبلغت الأبيات دسوقي باشا، فأبتسم ثم استدعاه، ونفحه نفحة أخرى، وقال: إن يكن قد هجانا، فإني أكافئه على الشعر الجيد. فأستمر يمدحه بعد ذلك حتى كان آخر ما قاله من الشعر في مدحه، ولم يجازه الجزاء (الوفاق)!.
هذه هي الحقيقة في حياة عبد الحميد الديب كما يعرفها خلطاؤه لا كما يحلو لبعض الناس أن يصورها؛ فلم يكن البؤس يأتي إليه قدراً لا يد له فيه، وإنما كان هو يصنع البؤس صنعاً، كان يحصل على المال بتلك الوسائل ويبذره تبذيراً في أدنأ الوجوه، وفي أقذر البيئات، ثم يجوع ويعرى بصنعه. . . وكانت تعوزه الكرامة والأباء والعفة ليكون بائساً حقيقياً. وكان لا يتحرج من أية وسيلة للاستفادة المادية، ولا يتورع عن أية شتيمة، ولم ينج من هجوه أحد ممن عرف سواء أعطاه أم منعه. وقد صب جام هجائه على جميع الأدباء بقوله:
يا رجال الشعر والقول الرصين ... لعن الله أباكم أجمعين
أما الناعون على هذا الوطن جحدوه وإهماله النابغين من أبنائه فليلتمسوا المثال في غير عبد الحميد الديب، ويعفوا التاريخ من التزوير والتزييف.
وأما الذين يحبون أن يصوروا الأديب أو الفنان إنساناً منحى منفكا متحللا تائهاً شارداً. . . فليعفو الأدب والفن مما يحبون.(796/39)
أسبوع شوقي:
اقتربت ذكرى المغفور له أحمد شوقي بك أمير الشعراء، فقد توفى في الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة 1932. وفي مثل هذا الوقت من العام الماضي ثارت عجاجه حول برنامج حفلة وضع إحياء ذكرى شاعر مصر الكبير، لأن البرنامج كان فيه أنحراف عما يليق بهذه الذكرى الكريمة، وكان لنا بلاء في مقاومة هذا الانحراف، انتهى إلى نتيجة مرضية مؤسفة معاً، إذ كان القائمون بالمشروع ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، فعدلوا عما كان موضع المؤاخذة، فكان ذلك عملا مرضياً؛ أما المؤسف فهو أن الحفلة أجلت أشهراً ثم أقيمت متأخرة هزيلة.
ويظهر أن ذكرى شوقي كانت في العام الماضي - على ما كان فيه - أحسن حظاً منها في هذا العام. . . . فقد كان في الأول كلام (والسلام)، أما اليوم فلا نسمع لهذه الذكرى أي حديث مع السف الشديد!
أقول هذا وبنفسي فكرة أوحت إليّ بها كيفية الاحتفال بذكرى سيد درويش، فقد رأينا أن الرجل أحتفى بذكرى نفسه إذ كان أكثر البرنامج من موسيقاه وأغانيه وأناشيده. فأقترح أن يخصص اسبوع لذكرى شوقي (ولا أقل من اسبوع) تشغل لياليه، أو أكثرها، بتمثيل مسرحياته وغناء شعره، ويسمى هذا الاسبوع (أسبوع شوقي)، ويمكن تنفيذه في هذا العام وإن كان الوقت ضيقاً، فمسرحياته لدى الفرقة المصرية للتمثيل، والممثلون مدربون عليها وحافظون أدوارهم فيها. وهذا ديوان شوقي، وهذا عبد الوهاب، وهذه أم كلثوم، فإن لم يستطيعا تلحين جديد، فلديهما ما أخذاه من الديوان من قبل.
ولكن من يقوم بالتنفيذ؟ تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية فهي المشرفة على الفنون والمسارح، وأذكر لها أعضاء اللجنة التي ألفت في العام الماضي لهذه الذكرى، ومنهم الدكتور إبراهيم ناجي الذي ثبت في الميدان بعد أن تخلوا عنه وأصر على الاحتفاء بالذكرى، على قدر ما أستطاع. . . .
وممن تنفق الوزارة على هذا الاسبوع؟ أظن ذلك لا يعجزها. ولو كان الأمر بيدي لأخذت المبلغ الكبير المخصص لاستيراد الفرق الأجنبية وأنفقته على هذا الاسبوع ويسرت على الناس مشاهدة حفلاته، ليزيطوا ويذكروا شوقي. . . .(796/40)
الشعر المعاصر:
صدر أخيراً كتاب (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث) للأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي، وقد بين فيه مذاهب النقد الأدبي ومقاييسه والمذاهب الأدبية وعناصر الشعر وما ينتمي إلى ذلك من أبحاث النقد الحديث؛ وعرض عليها الشعر العربي المعاصر، مستقصياً ببيئاته وألوانه، مبيناً طرائقه وسماته.
ولا يسع متتبع الحركة الأدبية إلا أن يلتفت إلى هذا الكتاب ويهتم به، لأنه كتاب جديد في المكتبة العربية، فهو أول مؤلف عربي - على ما أعرف - في موضوعه بشقية: الكلام في النقد الحديث، وتطبيقه على الشعر المعاصر. ومما يدعو ايضاً إلى الألتفات إليه والأهتمام به، ظهوره في هذا الوقت الذي كاد ينعدم فيه النقد الأدبي، فلم نعد نرى إلا هذه العجالات التي تكتب عن الكتب هنا وهناك، بدافع المجاملات الشخصية، والتي يكتفي كاتبوها - في أكثرها - بإلقاء نظرة عاجلة على الفهرس والمقدمة إن كانت قصيرة. . . وما أسوأ حظ النقد في أدبنا الحديث، فقد أنقلب إلى هذه الحال من الضد، إذ كان فيما مضى شتائم وتجريحات، فصار الآن مجاملات ومبادلة تحيات. . .
وأعود إلى كتاب (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث) فأقول: إنه يبدو فيه ما بذله مؤلفه من جهد شاق مثمر، ومن مميزاته الاتزان واستقامة النهج، ولا أخال المؤلف قصد إلى التطفيف والارجاح في ميزانه، بما لاحظته في الكتاب منها ولا أرجع ذلك إلا إلى ما أرتاه وأكتفي بهذه الإشارة، لأن المقام لا يسمح بالتفصيل والتمثيل. وحسب الأستاذ السحرتي أنه وضع بكتابه هذا لبنة في بناء الأدب العربي الحديث.
التأليف المسرحي:
أتجهت الرغبة منذ أوائل هذا العام إلى النهوض بالمسرح، ولما كانت الفرقة المصرية هي الوحيدة التي تواصل العمل المسرحي الراقي في مصر، فقد كانت هي محور الأهتمام، فضم إليها بعض الممثلين والممثلات وعلى رأسهم الأستاذ يوسف وهبي بك الذي أسندت إليه إدارتها، مع بقاء الأستاذ زكي طليمات مديراً فنياً لها.
وكان أول شئ أستدعى الأهتمام في الأستعداد للموسم القادم هو أزمة التأليف المسرحي(796/41)
التي كانت تضطر الفرقة إلى تكرار المسرحيات الآتية: -
1 - قررت اللجنة العليا لترقية التمثيل إجراء مسابقة عامة للتأليف المسرحي يدخلها المسابقون من مصر وسائر الأقطار العربية، وجعل لها ثلاث جوائز: للمسرحية الأولى 250 جنيهاً، وللثانية مائتان، وللثالثة مائة وخمسون.
2 - وقلت للأستاذ زكي طليمات: لوحظ أن المعتدين بأنفسهم لا يدخلون المسابقات، وأن الإنتاج الذي يقدم فيها ضعيف، فهل تتوقع مع هذا أن تنتج المسابقة نتاجاً يكفي الفرقة؟ فقال: هذا صحيح، ولذلك جعلنا مبلغاً مساوياً لمجموع الجوائز - وهو ستمائة جنيه - لتكليف كبار الكتاب المعروفين بالقدرة على التأليف للمسرح، ومنهم الأستاذ توفيق الحكيم، وهو الآن يعمل في مسرحية بناء على طلب الفرقة، ويوسف بك وهبي يؤلف الآن مسرحية، والأستاذ محمود تيمور بك ألف مسرحية أسمها (الملك الحائر)، وهي تتناول شخصية امرئ القيس، وقد نحا فيها نحو روايته الماضية (حواء الخالدة).
3 - هناك مسرحيات كانت قد قبلتها قديماً لجنة القراءة ودفع ثمنها، وأخرى فازت بجوائز في مسابقة كانت أجرتها وزارة الشئون الاجتماعية، ولم يمثل من هذه ولا تلك شئ، فأختار بعضها يوسف وهبي بك لمواجهة أول الموسم ريثما يفرغ المؤلفون من تأليفهم، ومن هذه الروايات (سر الحاكم بأمر الله) للأستاذ أحمد علي بأكثير، وسيبدأ بها الموسم في منتصف أكتوبر وتجري الآن تجاربها في مسرح حديقة الأزبكية.
عباس خضر.(796/42)
الكتب
في قافلة الزمان
تأليف الأستاذ عبد الحميد جودة السحار
لقد عرفنا الأستاذ عبد الحميد جودة السحار فيما أصدر من مؤلفات
قاصداً مؤرخاً، يكتب التاريخ بأسلوب قصصي شيق ويرسم لنا أبطاله
رسوماً تنبض بالحياة. وقد أخرج لنا (بلال مؤذن الرسول) و (أبا ذر
الغفاري) و (سعد بن أبي وقاص) و (ابناء أبي بكر الصديق) وقال فيها
قسطاً مرفوراً من النجاح وعالج الأقصوصة الحديثة في كتابه (همزات
الشياطين) لكن طابع السرعة وعدم الإتقان، بدأ واضحاً في معظم
أقاصيصه. ثم عالج نقد المجتمع والجهاز الحكومي بكتابه صور فكهة
تصور معايبه في الكتاب الذي أصدره بعنوان (في الوظيفة) فكان
أنموذجاً عالياً في طرافة الأسلوب وروعة التهكم وجمال الأداء.
ولكن الكتاب الذي نتحدث عنه الآن يسلك سبيلاً آخر لنقد المجتمع وعاداته هو سبيل الرواية. فكتاب (في قافلة الزمان) إذن رواية طويلة انتزعت شخصياتها من صميم المجتمع المصري. ولكي يدرك القارئ ما بذل المؤلف من مجهود في تصوير عادات عدة أجيال من أمته ينبغي أن يعلم أنه بدأ الرواية في بداية القرن العشرين وأنتهى بها في أواخر سنيه الحالية. أي أن الرواية سجل لحياة مجتمع في نصف قرن. ولم يكن هذا السجل لحسن الحظ مشوشاً مرتبكاً ناقص المعلومات، بل كان مرتباً منظماً يلم بالشاردة والواربدة، قد دونته يد كاتب ماهر رمى إلى تقديمه بين يدي كل من يتوق إلى معرفة مجتمعه في فترة لم يكتب له فيها الوجود، وبذلك يوفر عليه الإطلاع وإن لم يوفر له الوجود!.
فنجاح المؤلف من هذه الجهة لا ريب فيه. إذ أنه وفق كل التوفيق في نقل عادات الناس، ورسمهما بدقة وأمانة وإخلاص.(796/43)
أما أهيكل الرواية ففيه طرافة وتجديد. ونستطيع أن نلخصه في عبارة قصيرة؛ إنه عبارة عن تاريخ حياة أسرة وأحفادها. فقد بدأت الرواية في التحدث عن الحاج أسعد وهو أبو الأسرة الأكبر ومن حوله أبناؤه الأربعة ولكل منهم زوجة وأطفال. ويظل هؤلاء جميعاً سقف واحد في البيت الكبير الذي يمتلكه الحاج أسعد. ثم نستطرد الرواية في استعراض حياة هذه الاسرة التي تتفرع وتتشعب وتتشابك شؤونها وتتعقد مشاكلها بأزدياد أفرادها وأتصال أعمالهم بأعمال الناس، وبما يواجههم ما يواجه الإنسان في خضم الحياة من مشاغل تستولى على عمره. فهنا بيع وهناك شراء، وهنا زواج وهناك طلاق، وهنا مرض وهناك موت، والى أخر ما يتعلق بالحياة من أمور. على الرغم من أن السيطرة على دفة رواية تعالج نفسيات الناس وعاداتهم وتبسطها على خير الوجوه من الصعوبة بمكان، فإن الأستاذ السحار أمسك بالدفة شأن الربان الماهر، وعالج حياة هذه الأسرة وما تفرعت منها من أسر بدقة وإتقان. حتى أن القارئ ليخرج من الرواية وهو على أتم ثقة أن المؤلف لم يفتعل حادثة من الحوادث ليصور إحدى العادات، وأن الرواية سارت في مجراها الطبيعي دون أن تتعثر بما في طريقها من صخور.
ومع أن الرواية ليست من ذلك النوع الذي يعنى المؤلف برسم مشكلة لها هي العقدة؛ تتشابك الحوادث حولها وتتكاثر الشخوص، ومع أنها ايضاً لا تشتمل على حوادث غريبة مشوقة وإنما هي قطعة من الحياة مليئة بما يقع للمرء وما يشاهده في مجتمعه من الحوادث والعادات على مدار الأيام فإنها مع ذلك تجري في أسلوب لين شيق يأخذ بانتباه القارئ فيستغرق في تلاوتها بلذة وإعجاب. وهذا ولا شك هو المقصود بنجاح الروائي وبراعته.
بيد أن كثرة شخصيات الرواية لم يفسح للمؤلف مجالا كي يرسمها جميعاً بالدقة المطلوبة - كما رسم شخصية مصطفى ونفيسة مثلا - فجاءت صور قسم منها باهتة لا تتسم بميزات وملامح واضحة برغم أهميتها. ومن ذلك القسم جاءت شخصيات سليم وأسعد وماري. ولعل المؤلف في تحليل شخصية مصطفى بنجاحه في تحليل شخصية سليم. مع العلم أن الشخصيتين تتكافأن في الأهمية والدور. حقاً إن الفرق يبدو شاسعاً بين النجاحين. والواقع أن براعة المؤلف كما يتضح لي متجهة إلى غرضين يمكن القول أنهما شغلاه نوعاً عن الأغراض الأخرى: الأول والأهم هو تصوير حالة المجتمع المصري في نصف القرن(796/44)
الأخير وتسجيل عاداته وتقاليده. وقد سبق لي أن ذكرت أن المؤلف توفق في هذا كل التوفيق. فأستطاع أن يكون صورة في أذهاننا عن الزواج - مثلا - في جميع مراحله: كيف تتم الخطبة، ويعد (الجهاز) ويقدم (النيشان) ثم تقام الزفة التي يعقبها بناء الخطيب بخطيبته.
ولكي أكون لدى القارئ فكرة عن دقة المؤلف في تصوير هذه العادات أورد الآن مقطعاً يتعلق بأحد مراحل الزواج الذي يسمى (النيشان). فقد جاء في صفحة (205) من الكتاب ما يلي: -
(وخرجت أمينة وعصمت وسكينة لشراء (النيشان) وهو هدايا يقدمها الخطيب قبل الزفاف، ويتكون (النيشان) عادة من حذاء فضي، وقماش من القصب العنابي، وقفاز أبيض، ومروحة كبيرة من ريش أبيض فاخر، وطرحة بيضاء، وحافظة بيضاء وجورب أبيض من الحرير الغالي، ويطلق على هذه الأشياء (الطقم الأبيض، وهو ما ترتديه العروس ليلة الزفاف. ويحتوي (النيشان) كذلك على شباشب حمراء وصفراء وخضراء وجوارب ومناديل وروائح وصابون ممسك، وصندوق تواليت فاخر، وأقمشة متعددة وثياب داخلية).
هذا عن الزواج، وما يقال عن الزواج، يقال عن كيفية علاج الناس للمرض والعقم واستغنائهم عن الأطباء بأولياء الله من أمثال سيدي البيدق، وأولاد عنان، وسيدي الشعراوي، والسيدة نفيسة، والمندورة. وهم شأن الأطباء، لكل منهم اختصاصه: فسيدي البيدق يشفى من الصداع ويزوره المرضى بعد صلاة العصر، وأولاد عنان يشفون المرضى المهازيل، وسيدي الشعراوي يشفى مرضى النفس والحسد، ولا بد من زيارة ضريحة مريدة في اليوم في الفجر وعند الغروب، أما السيدة نفيسة فيزورها مرضى العيون ولم يحدد لزيارتها وقتما، والمندورة تشفي النساء من العقم.
هذه العادات، إلى غيرها من نظم المجتمع وما يتصل به، حظيت من المؤلف بأكبر قسط من الأهتمام. ولذلك جاءت صادقة دقيقة تنساب في سلالة وبساطة محببة. وبذلك حقق المؤلف هدفه الأول.
أما الهدف الثاني فهو على ما أعتقد دراسة شخصية مصطفى، التي تمثل شخصية المؤلف. وقد نجح الكاتب في هذا الغرض ايضاً، حتى أن القارئ يظن أنه عرف مصطفى هذا قبل(796/45)
أن يقرأ عنه في الروانة، وهو قد عرفه في الحق؛ ولكنه عرفه في خضم الحياة المليئة بأشخاص من طراز مصطفى. وقد أبدع المؤلف خاصة في تحليل حب مصطفى وعواطفه، وعندي أنه إن لم يكن قد بلغ القمة فيه فقد قاربها.
وهناك بعض المؤاخذات على المؤلف أهمها كثرة أبطال روايته. صحيح أن مجال الرواية واسع، وأنها تشمل الحياة بكليتها، ولكن هذا لا يعني أن نعالج نفوس الناس بأجمعهم، بل علينا أن ننتقي منها ما يمثل منها مجموعة بعينها. وحيث أن المؤلف عالج في روايته أسرة معينة تفرعت منها أسر أخرى، فإنه تعرض لجميع أفراد هذه الأسر.
ولكنني لا أتفق معه على طريقته هذه، وأقل ما يقال عنها أنها توقع القارئ في الارتباك فلا يستطيع معرفة الشخصيات معرفة دقيقة وهي على تلك الكثرة. وبالإضافة إلى ما قد ينجم عنها من أرتباك، فأنها دفعت المؤلف إلى تسجيل بعض الحوادث التافهة التي لا تستحق أن يفرد لها مكان في رواية جيدة كروايته. وابسط مثال على ذلك شخصيات أصدقاء سليم وأسعد التي لم يكن لها لزوم في الرواية إطلاقاً، والتي تشعر القارئ دوماً أنها كل على الرواية، قد أقحمت فيها إقحاماً، ومهما حاول القارئ أن يتعرف على لون لها أصطدم بالحقيقة الواضحة وهي أنها عديمة اللون والطعم والرائحة!.
وقد كاد المؤلف من الجهة الأخرى أن يشرك عنصر الفساد في الرواية، لا لذنب جنتة إلا لكونها قد طالت. والظاهر أن ذلك الطول قد أقلق المؤلف، لأنه عمد إلى استغلال قانون السرعة استغلالا مضراً بمصلحة الرواية كل الضرر. ولعل القارئ يستطيع أن يلاحظ ذلك منذ بداية الصفحة الثلاثمائة.
إذ أتجه المؤلف إلى رواية الحوادث بأسلوب بسيط ساذج لا تميزه إلا السرعة، وليس له أية علاقة بأسلوب الروائي الفنان، ثم ما تكاد تأتي النهاية حتى يصطدم القارئ بحقيقة أخرى، تتمثل بيتر الرواية. صحيح أن نهايتها موفقة، ولكن القارئ يشعر شعوراً أكيداً أن المؤلف لم يقل كل ما عنده، وأن عليه الأستمرار فيها لأنها لم تنته بعد.
وفيما عدا ذلك فإن الرواية على نصيب موفور من الروعة في فنها وأسلوبها وأغراضها.
(القاهرة)
شاكر خصباك.(796/46)
من نور القرآن الكريم
تأليف الأستاذ عبد الوهاب خلاف
القرآن ثروة الإنسانية الروحية؛ وذخيرتها التي تعتز بها في اجتماعها واقتصادها وسياستها وخلقها؛ وهو موضع الحفاوة؛ وهدف الدراسة؛ ومثار النشاط العقلي بين ذوي القرائح الخلافة؛ غير أنه لم ينل في البيئة الإسلامية كل ما يتطلبه في هذه المرحلة الفكرية الجديدة، كتحديد أهداف سوره؛ والمحور الذي تدور حوله. مما يعين على تمثل أغراضه؛ والنفاذ إلى مراميه. ولعل أول محاولة يراها - النور - في هذا الميدان هي ما أضطلع بها الأستاذ الجليل في النهج الذي أنتهجه في تفسير الربع الأول من سورة البقرة وآل عمران والنساء. وهذا المنهج يتمثل في أنه يبتدئ بكلمة عامة عن السورة يقدم فيها بين يدي - القارئ - العناصر الأساسية التي يتكون منها هيكل السورة؛ ويهيئ الجو الذي يظله من السورة بظلاله. وهذه خطوة لها أثرها القيم في فهم أسرار القرآن واستلهام روحه صافية غير مشوبة، حتى إذا وصل إلى الربع الذي هو بصدده أخذ يكشف لك عما يتناوله من أغراض. فإذا ما وضع تحت بصرك هذه الأصول فقد أجتاز بك المنطقة الشائكة؛ ثم يأخذ بعد ذلك يصور لك بأسلوبه الفكري وبقلمه البياني، المعنى العام للربع وإذا بك تجدك وقد وصلت إلى أهدافك من أيسر السبل؛ دون أن يجشمك متاعب السفر ولا وعثاء الطريق؛ فها هو ذا يستهل بحثه بكلمة عامة عن سورة - البقرة - ويعلل طولها باشتمالها على تشريع الأحكام العملية. وقد بدأها الله ببيان فرق الناس بازاء الاهتداء بالقرآن، وبين فيها البر وأحكام القصاص؛ والوصية. والصيام. والحج. والنفقة. والخمر. والميسر. والزواج والطلاق. والعدة. والإيلاء. والربا. والمداينة، والتوثيق بالكتابة؛ والاستشهاد؛ والرهن الخ، حتى إذا أستوفى هذا البيان العام وأعطاك الصورة الإجمالية للسورة، أنتقل بك من العام إلى الخاص، وقدم إليك صورة صحيحة دقيقة لفهم روح القرآن وبيان أسراره. وعرض تفسير الربع الأول من سورة البقرة أبدع عرض؛ وعلى هذه السنة أستن عمله في آل عمران والنساء. فيا حبذا لو أخذ علماؤنا يعالجون القرآن تحت هذا الضوء، ويقدمونه على هذا الأسلوب، لقربنا إذن الشقة بينه وبين الأذهان التي بعدت بها ظروفها عن الدراسات(796/47)
الدينية؛ ولظهرت أثاره قوية في أخلاقهم وأفكارهم وحياتهم. فمتى تنتفع بهذه الثروة التي تكلفت بسعادة العالم. متى!.
محمد عبد الحليم أبو زيد.(796/48)
البريد الأدبي
الأديب المدرس:
قرأت في الرسالة الغراء تلك الكلمة القيمة التي يشكر فيها الأستاذ الزيات للاستاذ توفيق الحكيم ترشيحه إياه لكرسي (شوقي) واعتذاره عن هذا المركز الذي يحد من سلطانه. ويقلل من نشاطه. . . وقد أتاحت لي هذه الفرصة الطيبة أن أقارن - في ذهني - بين الأديب المدرس، والأديب الحر، وربما بدا لكثيرين أن يقولوا إنه لا معنى لهذه المقابلة، لأن الأديب في الحالين أديب من غير شك، وأدبه مقيداً بأغلال الوظيفة، أدبه طليقاً حراً. . . وهو كلام إنما يصح إذا تصورنا أن الأدب ألفاظ وجمل، يتنوق صاحبها في رصفها، ويتأنق في صياغتها ويتعمل في تدربيجها. أما إذا تصورنا أنه إلى جانب ذلك أفكار تتسامى ومعان تخلب وتروع، وأن العبارات إذا لم تكن مع الغرض النبيل، اشبه بالمرأة الحسناء في المنبت السوء. . . خصوصاً في عصرنا الذي نعيش فيه، حيث صار الموظف موظف حكومة، لا موظف (مصلحة) أعني أنه يتحتم عليه أن يكون أدبه في حدود اللون الذي تتلون به (الوزارة القائمة) وكم رأينا أدباء قيد (حب العيش) أدبهم بهذا القيد فسقطوا من الأنظار، ولم يكن أدبهم محل أعتبار. . . على أن المدرس إذا لم يكن في (الفصل) كالممثل الذي يستجلب رضا الجمهور، ويستدر إعجاب المتفرجين، لا تقوم له قائمة، وفي سبيل ذلك لا يبالي بسخط الفن، ولا بإغضاب الحقيقة (المرة) وهذا التهريج إنما يروج بمقدار ثم لا يلبث القوم أن يمجوه تمشياً مع قاعدة البقاء للأصلح (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) والاستاذ الزيات في الرعيل الأول من شيوخ الأدب، لا لأنه كاتب فحل، أديب ممتاز، ولكن لأنه يستشعر الحرية فيما يملي عليه لسانه، ويهجس به وجدانه، والشباب يحفظ له الآيات البينات في النقد، والتعليق على الحوادث والأخبار. . . وافتتاحية في (الرسالة) كفاتحة الكتاب نقرؤها للحفظ والتيمن، وإن كان في ذلك كله مقلا فعذره أننا في عهد التموين بالبطاقة ولكل شئ غاية، ولكل بداية نهاية.
إبراهيم علي أبو الخشب.
(الجوييم) بين الأزهر والرسالة:(796/49)
نشرت مجلة الأزهر مقالا تحت عنوان (أسباب تأخر المسلمين) بعدد ذي القعدة سنة 1367هـ لفضيلة الأستاذ الشيخ - عبد الحميد عنتر - المدرس بكلية اللغة العربية. قال صاحب الفضيلة (ولم يحركهم للشر إلا أطماع (الجوييم) يقصد بكلمة (الجوييم) اليهود، وكتب معقباً (الجوييم: أسم رمزي لليهود الصهيونيين الذين يريدون الاستيلاء على العالم كله ويعتبرون كل من سواهم من الناس بهائم. أنظر مقالات الأستاذ نقولا الحداد عن اليهود في أعداد الرسالة: مارس وإبريل ومايو سنة 1948).
والذي قرأناه في الرسالة وفهمناه من مقالات الأستاذ نقولا وأفدناه من مواثيق الصهيونيين، مخالف لما أرتاه الشيخ، بل الذي بمجلة الرسالة أن اليهود أطلقوا هذه الكلمة على غير اليهود من جميع الأمم.
وبعد كتابه ما سلف، قرأت في الرسالة للأستاذ الحداد ص1058 عدد: 79 (لأن وظيفة هؤلاء الحكام (الوطنيين) أن يمسكوا البقرة بقرنيها لكي يحلبها شعب الله المختار (الجوييم) فهذا الرأي الأخير للأستاذ الحداد فيه تأييد لما أرته الشيخ ومخالفة صريحة لمقالاته السابقة وتخطئة لفهمي. فما رأى الأستاذ الكبير (الحداد) بعد هذا؟ فهل كلمة (الجوييم) تطلق تارة على اليهود، وأخرى على غير اليهود من العالم. أم ماذا ترى؟
(كيمان المطاعنة)
محمد أمين الشحات
تحقيق تاريخي:
أتابع ما يكتبه الأستاذ أحمد حافظ عوض بكثير من الأهتمام والحرص، ولقد قرأت المقال النفيس الذي نشره عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مجلة المصور العدد (1232) ص22 فوجدته يقول فيه (ولقد كان شاعر النيل المرحوم حافظ بك من المقربين إليه، وهو الذي ألحقه بالعمل في دار الكتب المصرية وكان يسر كثيراً من فكاهته) فوقفت طويلا عند هذا الكلام لأن المرحوم الشيخ محمد عبده قد توفى في 9 يوليه سنة 1905 مع أن شاعر النيل قد عين في دار الكتب في 14 مارس سنة 1911 بواسطة المغفور له أحمد حشمت باشا ناظر المعارف حينئذ؛ وعليه يقول الأستاذ الإمام بعيداً عن هذه المسألة كل البعد كما(796/50)
ينطق التاريخ الرسمي.
هذا وقد حفظ الشاعر الكبير لحشمت باشا صنيعه الجميل فأشار إليه في رثائه الحزين حيث قال من قصيدة ممتعة لم تنشر في ديوان حافظ وإنما بقيت محفوظة في الجرائد لا يلتفت إليها أحد، قال:
لك سنة قد طوقت عنقي ... ما إن أريغ لطوقها ترعا
مات الإمام وكان لي كنفاً ... وقضيت أنت وكنت لي درعا
فليشمت الحساد في رجل ... أمست مناه وأصبحت صرعى
قد كان في الدنيا أبو الحسن ... يولي الجميل ويحسن الصنعا
سلني فإني من صنائعه ... وسل المعارف كم جنت نفعا
تالله لولا أن يقال أتى ... بدعاً لطفت بقبره سبعا
قد ضقت ذرعاً بالحياة ومن ... يفقد أحبته يضق ذرعا
رحم الله الإمام والشاعر والوزير وأمدّ في حياة الكاتب الكبير
(الزقازيق)
إبراهيم عبد المجيد الترزي
تصحيح تصحيح:
جاء في مقال الأستاذ المحقق اللغوي الفاضل أحمد يوسف نجاتي (تصحيح تصحيف وتحرير تحريف) وذلك في العدد (793) من الرسالة الغراء ص 2039 قوله (ومن التحريف أو التصحيف أو خطأ الطبع في ذلك الكتاب القيم (ظهر الإسلام) ما في بيتي أبن المعتز صفحة 26:
أما ترى ملك بني هاشم ... عاد عزيزاً بعد ما ذلا
يا طالباً للملك كن مثله ... تستوجب الملك وإلا فلا
(ولعل وصاب القافية في البيت الأول (بعد ما ذلا) لأن القصيدة من بحر السريع من عروضه الأولى المطوية المكسوفة التي ضربها مثلها على وزن فاعلن، وعلى ضبط آخر لهذه العروض لا يجمع بينهما).(796/51)
وأقول: إن أبن المعتز حين قال أبياته ما كان ينظر أو يلتفت إلى (العروض) بقدر التفاته إلى المعنى المراد تأديته على الوجه المطلوب. فهو حين أورد (عزيزاً) في شطره الثاني أعقبه وقابله بضده الذي هو الذل (ذلا) وبه تمام المعنى، وإن خانه المبنى. وفي المأثور (ارحموا (عزيز) قوم (ذل)).
ولو افترضنا صحة تصويب الأستاذ (بعد ما ذللا) معنى، لما كان ثمة موجب للتشبيه بالمثل في البيت الثاني حتى يستوجب الملك طالبه. أو يستأهل الدر حالبه!
وفي موضع آخر يقول. . . وفي صفحة 184 البيت:
أنت إذا جدت ضاحك أبداً ... وهو إذ جاد باكي العين
(لعل الصواب (دامع العين) برفع دامع خبر المبتدأ هو).
وأقول: البيت صحيح بصورته وزناً ومعنى، وظهور حركة الفتح على الياء من (باكي) لا يفيد الحال وإنما الرفع مكانها على أنها خبر المبتدأ هو، والاستثناء الشعري يجيز إظهار حركة في غير موضع حركة، كما يجيز حذف حركة من موضع جوازها، كقول من قال:
يا باري القوس برياً لست تحسنه ... لا تفسدنها وأعط القوس باريها
هذا، والأستاذ - في البيت السابق - لم يلتفت إلى المقابلة اللطيفة بين (ضاحك وباكي) واستعاض عن البكاء بالدمع، وإن كان الدمع من دلائل البكاء.
وبعد فالذي رأيناه أثبتناه، والله الموفق إلى الصواب والسلام.
(الزيتون)
عدنان.(796/52)
القصص
التاريخ العالمي
للكاتب الفرنسي أناتول فرانس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الكرداني
عندما خلف الأمير الشاب (سمير) أباه على عرش العجم، أستدعى جل علماء مملكته، ثم قال لهم في نبرة جادة مؤثرة:
- إن أستاذي - الدكتور سعيد - علمني أن السلطان يتورط في أقل ما يمكن من الخطأ، وإذا ما توخى في تصريف شئونه وإبرام أموره، أن يستهدي مثَل الماضي وأن يستلهم عبر التاريخ؛ ولهذا. . . فإني قد أرتأريت - بعد تدبر - أن أكلفكم بمهمة جليلة الشأن خطير، هي أن تتوفروا على إعداد دراسة شاملة في تاريخ الشعوب. . . وبخاصة روادها وقادتها. . . . فما قولكم أيها السادة الأماثل في هذا التكليف الخطير؟!.
فتبادل العلماء النظر، ثم أنهى واحد منهم إلى الأمير - بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن زملائه - أستعدادهم للاضطلاع بهذا العمل الجليل.!
فما إن آبوا إلى دورهم، حتى شرع كل منهم يكتل جهوده ويشحذ ملكاته توطئة للقيام بإخراج هذا (التاريخ العالمي) الجامع. وبعد عشرين سنة انقضت في كد متلاحق وكفاح موصول، عاد أعضاء (الأكاديمية) إلى الملك في قافلة تتألف من أثني عشرة جملاً مثقلة ظهورها بأجزاء هذا السفر العظيم!
وتقدم (سكرتير الأكاديمية) من الملك، ثم أنشأ يتحدث في هذه الكلمات:
- إن أعضاء (الأكاديمية) الموقرين، ليشرفهم أن يضعوا عند درجات عرشكم المكين، هذا المؤلف الفذ، الذي يضم تاريخ الشعوب والرجال، والذي لم يكن ليخرج إلى نور الوجود، لولا التفات جلالتكم إلى ضرورة التأليف في موضوعه؛ ولقد خرج هذا التاريخ العالمي - يا مولاي - مستم الحلقات، مستكمل الفصول، فليس من المغالاة أن نقول: إنه سفر - في بابه - فريد!
- إنني لعاجز - بحق - عن التنويه بالجهد الذي استنفذتموه يا سادة! ولكن. . . ألا ترون(796/53)
معي أن رعاية شئون حكومتي، تقتضيني ألا أتشاغل عنها بالانقطاع لاستظهار مثل هذا التاريخ الكبير؟!.
ومن ناحية أخرى. . . ألا ترون معي أنني - بعد انسلاخ هذه السنوات الطويلات التي كنتم اثناءها تعلمون - قد بلغت (منتصف طريق الحياة) على حد تعبير أحد الشعراء الفارسيين!
وبافتراض أنني كنت من المعمرين، فإن ذلك لا ينفي استحالة قراءة سفر بالغ الضخامة كهذا السفر الجليل!
ولا احسبني قد جانبت الصواب، حين قدرت - للوهلة الأولى التي استعرضت فيها عيناي أجزاء هذا الكتاب - أن مصيره القبوع كالجثة الهامدة في خزانة كتبي!
لهذه الأسباب متآزرة - وددت لو تكرمتم بمحاولة اختصاره، مستهدفين أن تجعلوه في مقداره في مضاهاة الحياة البشرية القصيرة!
فأشتغل العلماء - عشرين سنة أخرى - بالتضييق - قدر الطاقة - من مشتملات الكتاب الضخم. . . الهائل الحجم، نزولاً منهم على رغبة الملك؛ واذ حققوا ما أراد، توجهوا إليه - للمرة الثانية - في قافلة صغيرة من ثلاثة جمال، محملة أسنمتها بألف وخمسمائة جزء من السفر العظيم!
وقال (سكرتير الأكاديمية):
هذا هو يا مولاي عملنا الجديد، نقدمه بين يديكم الساعة، ونحن على بينة من أن هذا الاختصار، لم يمس قط جوهر الكتاب، ولم يهبط قط بمستواه.
فأجاب الملك:
- هذا بديع. . . ولكن، يؤسفني، ويحز في نفسي أن أصارحكم القول باستحالة قراءة هذا التاريخ الجامع بالرغم من هذا الاقتضاب. . . ذلك أنني قد هرمت، وغدا مما يهبط شيخوختي ويوهن من أنسجة بدني، أن يفرغ ذهني الكيل للجهود الكبيرة، فعسى ألا أكون قد كلفتكم شططاً لو رجوتكم - للمرة الثانية - أن توجزوا. . . وتمعنوا في الإيجاز، وأن تجعلوا بالكم إلى تركيز المباحث وحذف العقول!
لم يسع هؤلاء الرجال المثابرين إلا الإذعان، فاشتغلوا - للمرة الثالثة - بإخراج السفر(796/54)
الكبير، إخراجاً جديداً، وسلخوا في ذلك عشر سنوات، هبط بعدها عدد أجزائه إلى الخمسمائة.
وقال (السكرتير مبتهجاً):
- أعتقد يا مولاي أننا قد نجحنا - هذه المرة - في مهمتنا فقال الملك مبتسماً:
- لا يبتعثن في قلبك اليأس أيها السيد أعتقادي عكس ما تظن - إنني اليوم في خريف العمر أبهذا العالم الجليل، فإذا، رغبت إليك - للمرة الأخيرة - أن تنصرف وزملائك إلى معاونتي في تحقيق أمنيتي في مراجعة تاريخ عظماء الرجال قبل أن يداهمني الموت، فعسى أن تنهضوا بتكرار المحاولة غير آسفين ولا قانطين! وإني لفي الانتظار.!
تجرمت خمس سنوات، عاد بعدها (سكرتير الأكاديمية) إلى قصر الملك. كان قد هده الكبر وقوست ظهره السنون؛ وكان - وهو يرقى سلاليم القصر - يضم إلى صدره - بذراعين معروقتين واهنتين - سفراً كبيراً ضخماً!
ولقيه أمين الملك، فصاح به في نبرة لهيفة. . . حزينة:
حث الخطى أيها الشيخ؛ إن الملك يحتضر. .!
كان الملك يرقد على فراش الموت، في رعاية أملاكه، يعالج آخر سكراته؛ فسيستدار في إعياء، ونظر بعينين خبأ فيهما بريق الحياة. . . إلى العالم وسفره الضخم، ثم غمغم في تثاقل وصدره يموج بالتنهدات: هأنذا أموت، دون أن ألم بتاريخ الرجال!
فسكت العالم برهة، إجلالاً لرهبة الموت، ثم رفع رأسه في بطء وعيناه مخلتان بالدمع، ليقول للملك المحتضر. . . آخر ما صك أذنيه من كلمات:
- ايها الملك لقد ناشدتنا - غير مرة - أن نجمل لك تاريخ الرجال الأبطال الذي قضوا كما تقضي أنمت الساعة. ألا فأعلم - أيها الملك العظيم - أن تاريخ هؤلاء الأبطال ليوجزون في هذه الكلمات: لقد ولدوا، وتألموا، ثم ماتوا!
عبد العزيز الكرداني(796/55)
العدد 797 - بتاريخ: 11 - 10 - 1948(/)
حكم من أحكام الله!
قضى القضاء العراقي العسكري العادل بالقتل شنقاً وبغرامة مقدارها خمسة ملايين دينار، على فقيدها الربا، وشهيد الخيانة، وعميد الصهيونية، وعهيد الشيوعية، وسليل شيلوك، وصهر شرتوك، ومالك القناطير المقنطرة من العروض والذهب في البصرة، وصاحب الملاين المصدرة من النار والحديد إلى تل أبيب، المأسوف على حياته، الخواجة شفيق عدس؛ لأنه فر بالعراق الذي نشأ ورباه، ثم أمنه ورعاه، ثم رفهه وأغناه فاشترى بما نال من كرمه وأدخر من نعمه ألوف الأطنان من مختلف السلاح والعتاد وأرسلها خفية إلى أوغاد اليهود في فلسطين ليقتلوا بها إخوانه في الوطن وأعوانه على الثراء؛ فكان هذا القضاء وحياً من قضاء الله، وكان هذا الحكم هدياً من ضياء العدل، صفق له الوطنية، واغتبطت به العروبة، وتمنى كل قطر من الأقطار التي منيت باليهودية الماكرة والصهيونية الغادرة أن يحكم كل قاض بمثله على كل يهودي يقف بين يديه وقفة المجرم. واليهودية هي الصهيونية محتجبة أو سافرة، والصهيونية هي الفوضوية محتشمة أو داعرة. إذا عنيت باليهودية أقبح ما تعلم من مساوئ الدناءة والنذالة والإباحية والعصبية، فإنك تعني بالصهيونية أسوأ ما تفهم من معاني للشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية.
أقسم بالله جهد اليمين ما شفى صدري وأرضي وجداني كهذا الحكم الحازم الحاسم. فلعله يوقظ في قضائنا الرءوف الرحيم شعور القسوة العادلة على مجرمي هذا الجنس العجيب الذي تحدى كرامة الإنسانية منذ تحملت اوزاره هذه الدار، وأعتقد أنه هو وحده شعب الله المختار.
لم يبق في مصر ضمير يهودي لم يخن مصر؛ ولم يبق في مصر قلب
يهودي لم يهو إلى إسرائيل؛ ولم يبق في مصر مال (يهودي) لم
يحارب في فلسطين؛ وتقبض حكومتنا القادرة اليقظى على الكفار
الفجار من سلالة يهوذا الذي باع المسيح بدوانق معدودة، وفي نفوسهم
نية الخيانة، وفي أيديهم أداة الجناية، وفي بيوتهم مادة العدوان، فتنزلهم
المعتقل على الرحب والسعة، وتكفل لأموالهم وأهليهم الأمان والدعة.(797/1)
فإذاعجبت أن ترى اللئيم الممعن في لؤمه يكرم، والظلوم المفحش في
ظلمه يرحم، حاولوا أن يخففوا من عجبك بدعواهم أن لليهودي
المصري رعاية المواطن، ولليهودي الأجنبي حق الإنسان؛ كأنهم
يريدون أن يقولوا إن اليهودي يشارك المصري في وطن، أو يشارك
الآدمي في جنس!!.
لا، يا سادة! إن اليهودي لا يعرف وطناً غير صهيون، ولا يألف جنساً غير يهوذا، فمن يزعم غير ذلك فليسأل كل أمة في الأرض وكل عصر في التاريخ، ماذا جنت اليهودية على الإنسانية. ألم يكن لها في كل ثورة وقود من الدسائس والاضاليل؟ ألم يكن لها في كل عقيدة مفسدة من البدع والأباطيل؟ ألم يكن لها في كل دولة جاسوسية تؤرث العداء والحرب؟ ألم يكن لها في كل أمة أسواق تنشر الغلاء والكرب؟ ألم يكن لها في كل مدينة (حارة) تشيع الفحش والفجر؟ ألم يكن لها في كل صحافة لسان يذيع البذاء والهجر؟
قولوا بلى، كان لهم كل أولئك؛ ولكن الله أوعدهم ووعدنا أن يحبط أعمالهم، ويبطش آمالهم، ويديم إذلالهم، فحققوا وعيد الله ووعده بمثل هذا الحكم، واتقوا يوماً يجوز أن يتولى الشيطان فيه أمر الأرض، فيجعل لهم القضاء عليكم، فيقيموا لكم محاكم كمحاكم التفتيش، ويومئذ لا يجدر بالعربي الأبي أن يعيش!.
أحمد حسن الزيات(797/2)
إميل لودفيج
للأستاذ عمر حليق
مات إميل لودفيج في 18 من هذا العام بعد أن ترك ثروة أدبية في نوع فريد. ولودفيج من الكتاب الألمان القلائل الذين احتفظوا بسمعة عالمية بالرغم من الويلات والمصائب التي ألمت بالحياة الأدبية في نصف القرن الحالي في تلك البلاد التعسة.
وثروة لودفيج خليط من المقالات السياسية في قالب التراجم وفي المسرحيات السياسية والتاريخية والاجتماعية، وله كتاب من نوع فريد أرخ فيه تاريخ ثقافة في حياة نهر، فكتابه (النيل) يجمع بين الطرافة الأدبية والدقة التاريخية ولمحات من التحليل العميق للحضارات العتيقة والحديقة التي أوحى بها هذا النهر الأزلي. وقد أختار لودفيج تراجمه من الشخصيات المعقدة التي تحتاج إلى تعمق في الدراسة، لا بسبب ما بها من عقد نفسية فحسب، بل للظروف والملابسات التي أحاطت بها، وبالأدوار التي لعبتها في تاريخ الحضارة والانسانية. فكتبه عن السيد المسيح، وعن جوته وبيتهوفن وبسمارك أثارت مناقشات في الأوساط السياسية والأدبية والدينية معاً، وهذه من مزايا الأعمال الخالدة التي لا تنفرد بطابع التفكير الذي لا يتقيد بالمألوف ولا يجاري الاتجاهات التقليدية. وليست هذه الكلمة تحليلا لأعمال لودفيج ولا هي تعريفاً بإنتاجه الأدبي، وإنما هي عرض لحياة رجل من المثقفين الذين تركوا لمكتبة الأدب والتاريخ ثروة حافلة بالإبداع الفني والتعمق الفلسفي ولمحات صادقة من تطورالسلوك الفردي وتباينه في مراحل نمو العظماء والبارزين الذين جعلهممواضيع لآثاره الفنية.
ولد إميل لودفيج في برسلو بألمانيا عام 1881 ثم رحل إلى سويسرا وأصبح في سن الثانية والثلاثين مواطناً سويسرياً وأعلن أنه أختار سويسرا منفى له طواعية بعد أن أثار بعض الجدل في المحافل الأدبية والسياسية بسبب كتاباته عن بسمارك والعقلية الألمانية.
وكان والد لودفيج أستاذاً في جامعة برسلو، وهو يهودي أسمه هرمان كوهين اختار لأبنه أميل كنية غير يهودية ليدفع عنه أذى المعادين لليهود في ألمانيا.
والواقع أن يهودية لودفيج التي كان يفخر بها قد أفادته في حياته الأدبية إلى أبعد حد، فإن سيطرة اليهود في كل دولة أوربية وفي أمريكا الشمالية على ألسنة الرأي العام ودور النشر(797/3)
وتجارة الكتب كانت سبباً هاماً في توفير الإمكانات للودفيج ولعشرات الكتاب اليهود في ألمانيا وغير ألمانيا وتقديمهم إلى الأسواق العالمية ورعاية نموهم الأدبي كأحسن ما تكون الرعاية. وندر أن تجد في الأوساط الأدبية العالمية من يتعرف أو يتعرف بالأدباء والمثقفين الألمان من غير اليهود وندر أن تجد في مكاتب أوربا الغربية وأمريكا من المنتجات الألمانية إلا إذا كانت صادرة عن أدباء يهود أو يمتون إلى اليهودية بصلة - كما هي حال الكاتب الألماني الشهير توماس مان الذي ساعد زواجه من امرأة يهودية على كسب رعاية اليهودية العالمية التي تعمل في الحقل الأدبي والأوساط الثقافية الدولية. ومن الجدير ذكره بهذه المناسبة أن الأوساط الأدبيةوالفنية في أمريكا تشعر بهذا التكتل اليهودي وتنفر منه؛ فإن سيطرة اليهود في أمريكا على الحياة الأدبية في مصادر الإنتاج جعلت حظ الأمريكان من النجاح مقيداً بالنعرة اليهودية الضيقة التي تسهل الرقي والنجاح للأدباء والفنانين من اليهود الأوربيين الذين يستوطئون الولايات المتحدة على حساب الناشئة من الكتاب والشعراء والفنانين الأمريكان. إنفرد لودفيج من بين الكتاب المعاصرين بمعالجة أدب التراجم فكتب دراسات عميقة عن نابوليون، وهند نبرغ رجل ألمانيا العسكري، وعن مازاريك السياسي التشيكوسلوفاكي، وعن كليوباترا، وعن فرانكلين روزفلت، والرئيس بوليفار أحد كبار الشخصيات السياسية في أمريكا اللاتينية، وله مؤلفات عن ستالين وسيجموند فرويد - صاحب نظرية التحليل النفساني المعروف. ولم يقتصر لودفيج على التراجم فعالج القصة والرواية والموضوعات الأدبية البحت في النقد الأدبي ومشكلات السلوك الفردي، فمن قصصه (الفن والقدر) (هبات الحياة) و (ديانا) و (عطيل). وله أيضاً دراسة في (العبقرية والخلق). ودون تاريخ حياته في كتاب دعاه (نظرة إلى الوراء).
ومن بحوثه السياسية كتاب (أحاديث مع موسوليني) (والغزو الأخلاقي لألمانيا) (وكيف تعامل الألمان).
ومن مؤلفاته الأخيرة كتاب عن (البحر الأبيض المتوسط) ودراسته لنهر (النيل).
وكان لودفيج يشتغل في وضع كتاب عن الملك داود عندما وافته المنية. ولم يترجم إلى الإنجليزية إلا القليل من أشعار لودفيج ومسرحياته التي أستهل بها مطلع حياته الأدبية حتى سن الثلاثين.(797/4)
وكان لودفيج من مناصري الحركة الصهيونية في سويسرا وإيطاليا لتسهيل النشاط الصهيوني عبر القارة الأوربية في تجنيد الرجال والعتاد للغزوة الفلسطينية ملتقى رؤساء حركة التهريب الصهيونية كما ذكرت بعض الصحف الإيطالية منذ بضعة أشهر.
(نيويورك)
عمر حليق.(797/5)
انحراف المواهب
للأستاذ أنور المعداوي
قلت في عدد مضى وأنا في معرض الحديث عن الشخصية الأدبية إن من عناصر هذه الشخصية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه، فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر؛ عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، ويغنى الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابه القصة فلا يوفق، وهذا لقاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء. . . كل هؤلاء ينقصهم هذا العنصر من عناصر الشخصية الأدبية، عنصر الدراسة لقيم المواهب والملكات!.
كلمات قلتها بالأمس وما أحوجها اليوم إلى شئ من الإفاضة والتطبيق، والخروج بها من دائرة انحراف المواهب في ميدان خاص إلى انحرافها في ميدان آخر يتسع فيه المدى، ويرحب الأفق، ويمتد مجال البحث والدراسة، وترد فيه الظواهر الملموسة إلى ما خفى من الدوافع والأسباب. . .
جورج ديهامل الكاتب الفرنسي الكبير وعضو الأكاديمي فرانسيز، كان يعمل في الحرب العالمية الأولى كطبيب في المستشفيات الحربية، وهو من الذين درسوا الطب في بدء حياتهم واشتغلوا بهذه المهنة جرباً وراء الكسب المادي كما يفعل الكثيرون، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها هجر ديهامل الطب إلى الأدب فنبغ فيه نبوغاً أهله لأن يكون عميداً من عمداء الأدب الفرنسي المعاصر. . . ظاهرة تستوقف النظر، وتغرى بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة، وأعني بها ظاهرة انحراف المواهب!.
ولقد كنت أبحث هذه الظاهرة عند عباقرة ثلاثة غير ديهامل يمثلون ثلاثة ألوان من الأدب العالمي الرفيع؛ جمع بينهم في مستهل حياتهم ميل إلى العلم وانصراف إليه، ثم تحولوا عنه إلى الأدب فتهيأ لهم من النبوغ في ميدانه ما لم يتهيأ لهم في ميدان العلم. . . . اول هؤلاء الثلاثة وهو الشاعر الألماني جيته، كان عالماً يبحث في الألوان، ويضع الأصول للرسم والنحت، ويعالج التأليف في الأزهار وفلاحة البساتين. وثانيهم وهو الكاتب النرويجي(797/6)
إبسن، كان في شبابه عالماً في الكيمياء. وثالثهم وهو الكاتب الإنجليزي ويلز درس الكيمياء ايضاً في شبابه، ثم التحق بجامعة لندن ونال منها درجة في العلوم ثم عين بها استاذاً للباتولوجيا!.
ليس عجيباً أن يكون الرجل منوع المواهب فيكون عالماً وأديباً وفيلسوفاً في وقت واحد، ذلك لأن بعض المفكرين يمتازون بالجمع بين ألوان من العلم متعددة، وضروب من الفن مختلفة، لأنهم وهبوا من سعة الأفق وخصوبة الذهن وصدق الإحساس ووفرة التجارب ما يؤهلهم لأن يشقوا طريقهم في هذه الميادين جميعاً، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن الموهبة الأصيلة تطبع ناحية من نواحي التفكير بطابعها القوي المتميز فتطفي على كل ما عداها من مواهب، ويتجلى فيها الإعجاز في أروع مظاهرة وأخص مزاياه. . . والدليل على ذلك أن يتحول رجل مثل جيته من العلم إلى الأدب، فيصل بنبوغه فيه إلى الحد الذي دفع كارلايل إلى وصفه بأنه أعظم أدباء العالم بلا أستثناء، وأن يهجر رجل مثل إبسن العلم إلى الأدب ويعالج كتابه الدرامة فيعده النقاد واضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث، وأن يشفف رجل كويلز بالدراسات الأدبية، فتكون مؤلفاته في ميدان هذه الدراسات سلمه الوحيد إلى معارج الشهرة والنبوغ!
إن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: لماذا تهيأ لهؤلاء الأدباء من النبوغ وذيوع الأسم في رحاب الأدب ما لم يتهيأ لهم في رحاب العلم؟. . . ليس هناك غير جواب واحد هو أن مواهبهم الأصيلة كانت أدبية لا علمية، والدليل على ذلك أنهم انحرفوا بها في بادئ الأمر عن طريقها الطبيعي فلم تنتج الإنتاج المرتقب الذي يناسب ذكاءهم، وذلك في ميدان العلم. . . فلما عادوا بها إلى ميدانها الأصيل وهو ميدان الأدب، استطاعوا أن يشقوا طريقهم في قوة حتى وصلوا إلى مرتبة الخلق والإبداع! ومثلهم في رأيي كمثل البذور التي يلقى بها في تربة لا تلائم طبيعة نموها، فهي قد تنبت وتنمو ولكنها في الغالب لا تثمر. . . فإذا ما ألقى بها في التربة الصالحة نمت واشتدت أعوادها وأثمرت الثمر الشهي المرتقب في مثل حالتها هذه الجديدة، ومن الممكن أن نصف هؤلاء العباقرة الذين تمثلت فيهم ظاهرة انحراف المواهب في شبابهم، بأنهم كانوا بذوراً أدبية ألقى بها في العلم فلم تكتب لها الحياة.
وسؤال آخر يتبادر إلى الذهن في انتظار الجواب. . . لماذا ينحرف بعض أصحاب(797/7)
المواهب من الأدباء والفنانين عن طريقهم الطبيعي ليسلكوا طرقاً أخرى لا يجنون من ورائها إلا بعد الشقة بين ميدان لم يخلقوا له وميدان ما كان أحوجهم إليه؟!.
إن الجواب الذي يقبله العقل على هذا السؤال هو أن المواهب تستغل في غير ميادينها جرياً وراء المادة. . . وهذه الحضارة التي نعيش فيها قوامها المادة تبدأ منها وتنتهي إليها، وتدفع الناس إلى أن يتلمسوا الوسائل لكسب العيش عن طريق غير طريق الأدب والفن في كثير من الأحيان، لأنه طريق غير مرجو الفائدة ولا مأول العواقب في ميدان النضال مع الحياة. ومن هنا يتجهون باستعدادهم وملكانهم اتجاهاً يبغون من ورائه الكسب المادي والمكان الموموق، والفن في رأي الماديين لا يحقق لهم شيئاً من هذا؛ وماذا تجدي الشهرة في رأيهم مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان؟!.
إن صوت هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) ليضيع وسط ضجيج المادية الأهوج حين يقول: (يجب أن ننظر إلى الفن نظرتنا إلى كل شئ لا يستغني عنه، مثله كمثل الخبز والماء، وعلى أنه جزء من حياتنا اليومية لا يتجزأ. . . وينبغي ألا يعامل الفن كضيف عابر، ضيف يدفع أجر ضيافته، ولكن كواحد من أفراد الأسرة سواء بسواء!
أن الحضارة الحديثة وتعقد مشكلاتها قد استبدت بالمواهب والعقول فوجهتها تبعاً لهذه المشكلات، وما فيها من تعقد لم يدع لها من لحظات الفراغ ما يمكنها من استلهام الوحي في الفنون الرفيعة. . . وما أبعد الفرق بين الفنون في ماضيها الغابر وحاضرها المشهود! لقد كان الناس في الماضي يعيشون للفن ويطربون له، ويشجعون المواهب على أن تمضي في طريقها فلا انحراف ولا اعوجاج، وإنما اتصال مطلق بالطبيعة واستلهام لمظاهرها وروائعها، فلما تعقدت الحياة وطغت المادية على كل شئ طغيانها القوي الجارف انحرفت المواهب عن ميادينها الأصيلة وانحرفت معها الأذواق جرياً وراء المادة. . . وماذا تجدي الشهرة كما قلت في رأي الماديين مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان؟.
أنور المعداوي.
-(797/8)
صلاة عصر في مسجد قرطبة عام
1368 هـ
للدكتور محمد موسى
منذ فرغت من عملي في (السوربون) وأنا أحلم بزيارة للأندلس أرضي بها العقل بالتنقيب في مكتبة (الأسكوريال) والروح بالعيش فترة من الزمن في الأرض التي ذللها أجدادنا وقامت فيها عواصم للعلم والسياسة في الإسلام. وكان كل ما شاهدت من مدريد إلى اشبيلية حيث أنا الآن يؤكد لي أن أسبانيا بلد ليس بالغربي ولا بالشرقي، بل هو بين بين. هو حقاً بين الشرق والغرب بما أحتفظ من تقاليد الأول وعادته، وبما تمكن فيها عن الآخر من المسيحية التي تتعصب لها تعصباً شديداً؛ والارض نفسها تمثل هذا ايضاً بما تنبت من الزيتون والنخيل وقصب السكر والموز، إلى جانب مزروعات الغرب التقليدية.
لكن قرطبة عاصمة الأمراء والخلفاء شئ غير هذا كله. لقد كان القطار يسير بي من مدريد وأنا في شغل عما حولي! كنت أعيش بخيالي وعاطفتي في قرطبة الإسلام، في قرطبة التي صارت مقبرة لعصر من اكبر العصور الإسلامية أزدهاراً، في قرطبة عبد الرحمن الداخل وأعقابه الاماجد، في قرطبة ابن رشد وكبار العلماء الاسلاميين. لقد أستبد بي الخيال، وأسرتني العاطفة حتى خلفني مقدماُ على بلد إسلامييموج بعلماء الإسلام موجاً؛ ولكني وصلت إليها فإذا الأهل غير الأهل، والوجوه غير الوجوه، وإذا العجمة والمسيحية هي الحاكمة المستبدة في كل شئ!
وأخيراً، هاأنذا في المسجد الذي يمثل الشيء الوحيد الحري بالزيارة في المدينة: هذا هو (صحن البرتقال) مجمع حلقات العلماء؛ وهذا هو (اللّوان) أو الدهليز اليميني حيث مجلس أبن رشد يشرح أرسطو ويقربه للناس؛ وهذا هو الدهليز الشمالي حيث كانت تقام العدالة وتفصل الخصومات؛ وبعد هذا ها هو ذا المسجد نفسه الذي يحس المرء فيه بقبس من الخلود، حيث كان العلماء من المسلمين واليهود والنصارى يتدارسون لغة واحدة هي العربية، ويتعلمون ويعلمون علماً واحداً هو العلم الإسلامي كما ينقل (رينان)! كل ذلك ذهب وصار تاريخاً بعد أن كان حقيقة تملأ الأذن والبصر!.
وفي وسط المسجد أقيمت الكاتدرائية! إلا أنها على ضخامتها لم تنل من الأثر الإسلامي(797/9)
الخالد حتى كأنه لا يحس بها! ومنارة المسجد التي تذهب إلى السماء ناحية الأزلية والخلود، نحواً من خمسة وستين متراً جعلها التعصب برجاً للكنيسة بما أقيم في جناباتها من نواقيس وما علاها من الصليب. إلا أن كل هذه المظاهر لم تنزعني من الجو الذي أعيش فيه، حتى لقد صعدت المنارة وأذنت فيها بصوت سمعه من كان معي للعصر، ثم أديت الصلاة في داخل المحراب بعد أن فتح لي خاصة! وأظن أن رفيقي، وهو أستاذ فاضل مستعرب قرطبي، ظن بي الظنون! وعلى كل فقد أحترم عاطفتي ووقف هو وآخرون من المتفرجين على مبعدة!.
وبجوار المسجد مقر الخلافة والخلائف الذي صار الآن مقر كبير رجال الدين. وقد نفس عني قليلاً ما تذكرته من قول شارلكان وقد زار المسجد سنة 1526 حين رأى الكنيسة وسطه: لقد (بنيتم هنا أثراً كان يمكن أن يبني في أي مكان، وأفسدتم أثراً وحيداً في العالم!).
والمسجد ومقر الخلائق يطل كلاهما على (الوادي الكبير) التي لا تزال مياهه تجري في استحياء! وقد عبرت القنطرة على هذا النهر إلى الجهة المقابلة التي كان العرب يسمونها أو الريف في الجهة المقابلة. وبهذا النهر تنتهي المدينة القديمة.
بعد هذا خرجت من المسجد وزرت محلة اليهود على مقربة جداً منه؛ وبها منزل صغير يحمل الآن رقم 18 رأى أبن ميمون الفيلسوف اليهودي الأشهر فيه النور؛ وبها معبد من معابدهم بني بعد أبن ميمون، وإن كانت الحكومة أقامت في مدخله لوحة تذكارية لمرور 800 عام على ولادته (1135 - 1935م) لماذا لا تقام لوحة أخرى تذكارية لأبن رشد معلم وشيخ أبن ميمون!
حسبي من زيارة قرطبة هذا المسجد، وحسبي أني عشت فيها فترة لذيذة ومؤلمة في جو إسلامي خالص حتى كنت أؤدي فيها الصلاة في وقتها في أغلب الأحوال في الفندق الذي نزلت فيه.
انتهى الآن وأنا على سفر إلى الجزيرة، جزيرة طريف، لعلي أستطيع منها العبور إلى طنجة ومراكش، ثم أعود إلى الأندلس لرؤية غرناطة والله المستعان.
محمد موسى.(797/10)
أعلام الفكر في عصر الحروب الصليبية:
عز الدين بن عبد السلام
577 - 660هـ
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
نشأ في شظف من العيش، ورفعته ثقافته إلى أن أصبح ينادي الملوك بأسمائهم، ولم يعمه المجد عن الحق، فنادى على رءوس الأشهاد بخطئه يوم بان خطؤه، ولم يدعه حب السيطرة والسلطان إلى النزول عن كرامته أو الرجوع عن معتقده، ولم تهيأ له وسائل الثقافة صغيراً، ولكنه جد حتى صار أستاذ عصره وأعلم أهل زمانه.
ولد بدمشق حيث تفقه على فخر الدين بن عساكر، وجمال الدين بن الحرستاني، وقرأ الأصول على سيف الدين الآمدي، وأخذ الحديث عن القاسم بن عساكر، ودرس النحو، ورحل إلى بغداد، فأقام بها أشهراً. ونبغ العز في أصول الفقه، وأصول الدين، والتفسير؛ وبرع في الفقه حتى صار أعلم أهل عصره فيه، قالوا: وأنتهى به الأمر إلى مرتبة الاجتهاد فصار يفتى بما يؤدي اليه اجتهاده؛ وكان موفقاً سديداً في فتاويه.
ولي في دمشق خطابه الجامع الأموي والإمامة فيه؛ قال أبو شامة أحد تلامذته: (وكان أحق الناس بالخطابة والإمامة)؛ فأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان، وفي طبقات الشافعية للسبكي (ج 5 ص 105) نص فتواه في تلك الصلاة، وبيان الأسباب التي حملته على القول بإبطالها. وما كان عز الدين يسجع في خطاباته، بل يقولها مترسلا، وأجتنب فيها الثناء على الملوك، واستعاض عن ذلك بالدعاء لهم.
ودرس عز الدين بالزاوية الغزالية بجامع دمشق، حيث قصده الطلبة من الآفاق، يقتبسون منه ويأخذون عنه، وارتفعت مكانته حتى راسله عيسى بعض ملوك عصره وأحبوا لقاءه؛ فهذا الناصر داود بن المعظم عيسى يرسل اليه قصيدة يحزن فيا على ما أصاب الإسلام عندما أغارت الإفرنج على نابلس ويقول له فيها:
أيا ليت أمي أيم طول عمرها ... فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل
ويا ليتها لما قضاها لسيد ... لبيب أديب طيب الفرع والأصل(797/12)
قضاها من اللاتي خلقن عواقرا ... فما بشرت يوماً بأنثى ولا فحل
ويا ليتها لما غدت بي حاملا ... أصيبت بما ضمت عليه من الحمل
ويا ليتني لما ولدت وأصبحت ... تشد اليّ الشدقميات بالرحل
لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام ما فيه من خل
وكان الأشرف موسى يلهج بذكره، ويؤثر الاجتماع به، وقد دار بينهما نقاش أنتهى باقتناع الأشرف برأي عز الدين وعقيدته، وغرامه بكتبه وتأليفه، ودعوة الناس إلى قراءتها والعمل بفتاويه، فلما مرض الأشرف مرض الموت أرسل إلى العز يستزيره فجاء اليه، فلما أستنصحه الأشرف نصحه العز بأن يولي وجهه إلى حرب التتار، لا إلى حرب أخيه الكامل، وكانت جفوة قد حدثت بينهما، فقبل الأشرف نصيحته وأستزاده، فطلب منه العز أن يرسل إلى نوابه يحرم عليهم شرب الخمر والفسق وفرض ضرائب على المسلمين، فأطاع أمره. ثم أمر له الأشرف بألف دينار، فردها قائلاً: (هذه اجتماعه الله لا أكدرها بشيء من أمور الدنيا)؛ وعندما ملك الكامل دمشق، وكانت بعدما أشترط عليه عز الدين شروطاً كثيرة قبلها الكامل. فلما ملك الصالح إسماعيل خوفاً منعه المنام والطعام والشراب، وصالح الإفرنج على أن ينجدوه على الصالح أيوب، ويسلم اليهم صيداً والشقيف وغير ذلك من حصون المسلمين. ودخل الإفرنج دمشق لشراء السلاح ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين، فشق ذلك على الشيخ مشقة عظيمة، وعلى المتدينين من بائعي السلاح، واستفتوا الشيخ في بيع الإفرنج السلاح؛ فقال: (يحرم عليكم البيع لهم؛ لأنكم متحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين)؛ ويظهر أن عز الدين قد أثاره هذا الأمر، فنال من الصالح إسماعيل على المنبر ولم يدع له، وجدد دعاءه على المنبر، وكان يدعو إذا فرغ من الخطبتين قبل نزوله من المنبر بقوله: (اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً تعز فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهي فيه عن معصيتك)؛ والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على أعداء الله الملحدين، فعلم السلطان بذلك، فأصدر أمره بعزل الشيخ وأعتقاله، فبقى مدة معتقلاً، ثم أطلقه على أن يغادر بلاده، فخرج عبد العزيز من دمشق؛ ثم بدا للصالح إسماعيل أن يعيده، فأرسل خلفه رسولا أخذ يسوسه، ويلين له القول، وقال له: (بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا(797/13)
غير)؛ فقال: والله يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده. يا قوم، أنتم في واد وأنا في واد، والحمد لله الذي غافاني مما ابتلاكم به). وبينما هو في طريقه إلى مصر مر بالكرك؛ فسأله صاحبها الإقامة عنده، فرأى العز أن الانتفاع به سيكون محدوداً في مثل هذه المدينة، فقال له: بلدك صغير على علمي، ومضى إلى مصر فقدمها سنة 639، وأستقبله علماؤها بالإجلال والإكبار، وبالغ عبد العظيم المنذري حافظ مصر في الأدب معه، وأمتنع من الفتيا لأجله، وقال: كنا نفتي قبل حضوره، أما بعد مجيئه فمنصب الفتيا متعين فيه. وتلقاه الصالح أيوب عدو الصالح إسماعيل خير لقاء وأكرمه؛ وولاه خطابه جامع عمرو بن العاص بمصر والقضاء بها وبالوجه القبلي، وفوض إليه عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة، فقام بالمنصب أتم قيام، وتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم. وكان يسلك في الإرشاد طريقاً عنيفاً. قال تلميذه الباجي: (طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته، وأخذ الأمراء يقبلون الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: (يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: (هل جرى هذا؟) فقال: (نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة؟ ّ يناديه كذلك بأعلى صوته، والجند واقفون، فقال: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي)، فقال: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة. فرسم السلطان بأبطال تلك الحانة. قال الباجي: سألت الشيخ لما جاء من عند السلطان وقد شاع هذا الخبر: يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه؛ فقلت: يا سيدي، كيف الحال؟ فقال: (والله يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان قدامي كالقط). وحدث أن أستاذ دار الصالح وهو فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ عمد إلى مسجد بمصر فعمل على ظهره بناء لطبل خانة، وظلت تضرب هنالك، فلما ثبت هذا عند الشيخ عز الدين أمر بهدم ذلك البناء، ومضى بجماعته وهدمه، وأعلم أن السلطان والوزير يغضبان، فأسقط عدالة الوزير، وعزل نفسه عن القضاء. فعظم ذلك على السلطان، وقيل له: أعزله(797/14)
عن الخطابة، وإلا شنع عليك على المنبر كما فعل في دمشق فعزله. وقد أمضى الخليفة المستعصم ببغداد حكم عز الدين في فخر الدين، فلم يقبل رسالة عن السلطان كان راويها للرسول أستاذ الدار.
أقام عز الدين في منزله يشتغل عليه الناس، ويدرس، وأخذ في التفسير في دروسه، حتى إذا بنى السلطان المدرسة الصالحية فوض أمر تدريس الشافعية بها إلى عز الدين.
وكان العز مع الفقهاء الذين قدموا على المعظم توارن شاه، وناظرهم السلطان، وشهد معركة المنصورة سنة 648 مجاهداً في سبيل الله، ولم يزل مرعى الكرامة في عصر السلاطين، يعتمدون عليه ويستشيرونه، ويأخذون برأيه، ومن ذلك أن التتر عندما هاجموا البلاد الإسلامية جمع المظفر قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه في أمر التتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، فحضروا في دار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين والقاضي بدر الدين السنجاري قاضي الديار المصرية، وغيرهما من العلماء وأفاضوا في الحديث، فكان الأعتماد على ما يقوله أبن عبد السلام. وخاصة ما قال أنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الترعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى في بيت المال شئ، وتبيعوا ما لكم من الأدوات المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر الجند على مركوبهم وسلاحهم، ويتساووا هم والعامة. وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في ايدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.
وكان الظاهر بيبرس يعظمه، ويقف عند أقواله وفتاويه، وأقام الخليفة بعد استشارته، ومما يدل على منزلته الرفيعة أن الظاهر لم يبايع المستنصر والحاكم إلا بعد أن تقدمه عز الدين ثم تلاه السلطان ثم القضاة.
وفي عهد الظاهر بيبرس في 10 جمادي الأولى سنة 660 مات عز الدين بعد إن أكثر من عشرين عاماً قضاها في مصر يحيط به الإكبار والإجلال. ويقال: إن السلطان ارسل اليه لما مرض، وقال له: عين مناصبك لمن تريد من أولادك، فقال عز الدين: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة الصالحية تصلح للقاضي تاج الدين ففوضت اليه. وشهد الظاهر بيبرس جنازته، وصلى عليه، وحضر دفنه، كما شيعه الأمراء والخاصة والأجناد وطبقات(797/15)
الشعب. ومما يدل على ما وصل اليه عز الدين من النفوذ ما يروي من أنه لما مرت جنازته تحت القلعة، وشاهد الملك الظاهر كثرة الخلق الذين معها قال لبعض خواصه: الآن أستقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو أمر الناس في بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره.
ولعز الدين بن عبد السلام مؤلفات في الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام والتصوف.
ففي الفقه له كتاب القواعد الكبرى الذي قال عنه تاج التراجم: ليس لأحد مثله. وقال عنه السبكي: هذا الكتاب وكتاب مجاز القرآن شاهدان بإمامته وعظيم منزلته في علوم الشريعة. وأختصر القواعد الكبرى في قواعد صغرى. وله في الفقه ايضاً كتاب الغاية في أختصار النهاية. وكتاب الإمام في أدلة الأحكام، والفتاوي الموصلية، والفتاوي المصرية، وهي مجموع مشتمل على فنون من المسائل والفوائد.
وله في التفسير كتاب سماه بحار القرآن (بدار الكتب رقم 32 تفسير) ورسالة تسمى فوائد العز بن عبد السلام وهي اسئلة وأجوبة متعلقة بالقرآن الكريم (مخطوطة بدار الكتب رقم 77م تفسير) وأخرى دعاها كشف الاشكالات عن بعض الآيات، وهي أجوبة عن أسئلة مشكلة في آيات من القرآن الكريم (مخطوطة بدار الكتب رقم 836 تفسير).
وأختصر في الحديث صحيح مسلم.
ووضع في علوم الكلام كتاب الفرق بين الإيمان والاسلام، وكتاب بداية السول في تفضيل الرسول.
وفي التصوف - وكانت له يد طولي فيه - ألف بيان أحوال الناس يوم القيامة، وفوائد البلوى والمحن، وكتاب حل الرموز ومفاتيح الكنوز تكلم فيه عن بعض أحاديث وألفاظ من كلام القوم، وكتاب مسائل الطريقة في علم الحقيقة.
ولم يترك عز الدين كتباً فحسب، ولكنه ترك تلاميذ صاروا من أعلام الأئمة، ومن نوابغ العلماء، نذكر منهم أبن دقيق العيد، وهو الذي لقب استاذه بسلطان العلماء، وعلاء الدين الباجي، والحافظ الدمياطي والدشناوي، وهبة الله القفطي.
أما أخلاقه فأظهرها الصلابة في الحق والجهر به، يحاسب غيره عليه ويحاسب نفسه، ولا يمنعه من الرجوع إلى الحق الخوف من أن يقال أخطأ؛ فقد أفتى مرة يشئ، ثم ظهر أنه أخطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: من أفتى له أبن عبد السلام بكذا، فلا يعمل به(797/16)
فإنه خطأ. قالوا: وكان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنادرة والشعر يستشهد به، وإن كان لم يقل من الشعر سوى بيت واحد هو:
لو كان فيهم من عراه غرام ... ما عنفوني في هواه ولاموا
قالوا: إنه أنشده لطلبته، قال لهم: أجيزوه فقال عمر بن عبد العزيز بن الفضل الأسواني:
لكنهم جهلوا لذاذة حسنه ... وعلمتها لما سهرت وناموا
وأنشد قصيدة طويلة منها:
مولاي عز الدين عزّ بك العلا ... فخراً فدون حذاك فيه الهام
لما رأينا منك علماً لم يكن ... في الدرس قلنا: إنه إلهام
وآخرها:
جاوزت حدّ المدح حتى لم يطق ... نظماً لفضلك في الورى نظّام
فعليك يا عبد العزيز تحية ... وعليك يا عبد العزيز سلام
كما مدحه الجزار بقصيدة أولها:
سار عبد العزيز في الحكم سيراً ... لم يسره سوى أبن عبد العزيز
عمّنا حكمه بعدل بسيط ... شامل للورى ولفظ وجيز
وكان معاصروه من العلماء يضمرون له أعظم الإجلال فكان شديد الإعجاب به، متفقاً معه في لوم الصالح إسماعيل الذي أخرجهما معاً من دمشق، وكان أبن الحاجب يرى العز أفقه من الغزالي. وكان عز الدين وأبو الحسن الشاذلي يعجب كل منهما بصاحبه، يحضر العز عند الشيخ ويسمع كلامه في الحقيقة ويعظمه، وقال أبو الحسن الشاذلي: قيل لي: ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وما على وجه الأرض مجلس في الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكي الدين عبد العظيم، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحقائق أبهى من مجلسك. ووضع القاضي عز الدين الهكاري مصنفاً في سيرته. كما ترجم له السبكي ترجمة كلها إعجاب به بدأها بقوله: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، وإمام عصره بلا مدافعة، والقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، والعارف بمقاصدها، ولم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علماً وورعاً وقياماً في الحق وشجاعة(797/17)
وقوة جنان.
(حلوان الحمامات)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول(797/18)
رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر
(الميلادي):
النحلة النرصية في الرحلة المصرية لمصطفى البكري
الصديقي
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
في يوم السبت سابع جمادي الثانية، ودع القرافة وتوجه لزيارة سلطان الرجال أحمد المكني البدوي العلوي، صحبة الشيخ محمد الحفناوي وأخيه الشيخ يوسف، والشيخ حسن، والسيد عبد الله السلفيتي نجل المرحوم السيد حسن، والأخ إبراهيم الحرستاني المعروف بالبلاصي، وما زال يسير إلى أن عدى في المعدية إلى القرية المرحوم وبات ليلة، وجاء السراق في الليل، يسطون على الخيل فخيب الله مسعاهم، وسار في الصباح مع إخوانه إلى القرية (مليج) وزار سيدي علي المليجي صاحب المقام وتملى بالجامع الذي عمره إسماعيل بك أبن إيواز ونزل دار صديقه الحاج عمر، ثم استمر في السير إلى أن لاحت قبة السيد المزور، فنزل في البلد جوار سيدي أحمد، وقرأ الفاتحة، وكان معه الشيخ محمد الأحمل الحفني، وبقية الرفاق، وورد عليه المحب الشيخ محمد الأسقاطي وأخبره أن والده قام للزيارة مع جماعة، وأستفسر عن نية الشيخ للتوجه إلى دمياط وطلب أن يرافقه. وفي الصباح سار لزيارة سيدي عبد الوهاب الجوهري، صاحب المقام وأخبر أن جناب الشيخ محمد البديري بن الميت في قريته فتوحه اليه وأجتمع عليه وطلب أن يرفقه الشيخ في المعدية إلى دمياط، فقال له إنه وعد بذلك الشيخ محمد الشناوي، فأجابه لذلك. وعاد إلى المنزل فوفد عليه العالم والد الشيخ محمد جناب الشيخ أحمد الأسقاطي، وأكد كلام ولده، ثم ودعه، وعاد عند الظهر إلى الجامع الأحمدي، وبعد العصر، حضر لعنده فاضل، يدرس في الجامع قريباً من الإمام، وهو شريك الأخ الشيخ محمد علي المرحوم جناب الشيخ أحمد الخليفي فدعاه لداره. وودع الداعي بعد قيامه بأمر الضيافة فلما وصل فناء مسجد الشيخ،(797/19)
رأى شاباً ممسكاً للشباك، وهو يبكي والناس حوله يهدون الفواتح للسيد، فإذا هو ليده ممسك مقيد، فسأل الشيخ عن قصته، فأخبر أنه سرق حمارة، ففطن به، فأنكر، فأتى به إلى الشيخ لعله يتوب، فوضع يده على الشباك ليحلف، فأمسك الشيخ بيده فتاب وبكى، فلم يطلق إلا بعد ساعتين أو أكثر حتى شفع فيه جميع من حضر. وبات ليلته وجاءه الأخ محمد بما تيسر من المزاد، وحضر الشيخ محمد الأسقاطي بالدواب فتوجه معه إلى أن لحقوا بالشيخ محمد البديري، ونزل قريباً من زاوية الشناوي، وما زالوا يسيرون حتى وصولوا المحلة الكبرى، ونزل الشيخ في وكالة الحرير، وكان الشيخ احمد الأسقاطي نزل عند محب قديم يقال له الحاج إبراهيم رضوان فأرسل ولده يستدعي الشيخ، فذهب وبات عنده. وفي الصباح توجه يوم الخميس إلى قرية (سمنود) وركب والشيخ أحمد في قياسه حتى وصل (المنصورة) وقصد زيارة الشيخ عبد الله الرفاعي، وبعد صلاة العشاء أقلع والريح غير مريح، فوصل قبل دخول صلاة الجمعة إلى (سربين) وبعد الصلاة زار مقام سيدي شمس الدين محمد الشربيني. وسأله الشيخ يوسف الزين شقيق الشيخ محمد الحفناوي تخميس بيتين ففعل.
ولما وصل (فارس كور) توجه إلى زيارة الشيخ أبي مدين الحدادي، وكانت ليلة مولده يسعون إليه من كل نادي، فقرأ له الفاتحة وزار على أثره الشيخ إبراهيم الأحمدي، فقدم له رز حليب فأكل منه لقيمات وصلى الصبح في جامعها الكبير، وتوجه إلى مدينة دمياط ودخلها مع الظهر يوم السبت. وزار أبا علي الصياد، ونزل في خلوة شيخه الشيخ محمد البديري التي في جامع البحر للعدة للوارد على الدوام، وصار الشيخ يتردد عليه، ودعاه لداره وأكرمه. وكذلك أضافه عنده الشيخ احمد الأسقاطي، وأوقفه على بعض ما له من الحواشي. وجاءه بعض الإخوان برسالة للسيوطي وطلب نظمها، فنظمها في مائة بيت. وسماها النظام (البسط التام، في نظم رسالة السيوطي الهمام) وأخبره الشيخ أحمد الأسقاطي أن عنده على الرسالة شرحاً، وأوقفه شيخه البديري على قصيدة أمتدحه بها الشيخ عبد الغني النابلسي وطلب منه أن ينسج على منوالها فتردد ثم فعل. وكان الشيخ البديري لا يفطر إلا لديه، ويصحب معه الفطور والقهوة، ويجلس في مؤانسته إلى الضحوة. ثم توجه به إلى زيارة الشيخ ضرغام، فذهب في قياسه وصحبه السيد احمد الطرابلسي، وخاله(797/20)
الحاج مصطفى وبعض الأحباب، وبعد الزيارة دعاه لداره وأراه سبحة الشيخ المزطاوي، وقال أن الشيخ أعطاه إياها غب الإجازة وأخبره بما سطره عنه في (السيوف الحداد في ترجمة سيدي محمد مراد النقشبندي) وسأله الإجازة فأجاب وذلك في غرة رجب سنة 1133، وقد ذيلها بإمضائه ونسبه وهو: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البديري الدمياطي الشافعي الأشعري الشاذلي النقشبندي.
وقصد زيارة الشيخ علي السقا، ثم زار سيدي الشيخ فتح، ومر على الشيخ جمال الدين العجمي، فقرأ له الفاتحة، وحضر عند الشيخ فتح مجلس ذكر، ثم ذهب إلى بستان السيد كمال النقيب سابقاً ومكث فيه إلى قبيل الغروب، ثم رأى أنه ذكر سيدي إبراهيم المتبولي، فأخبر بذلك الشيخ قاسم نجل الشيخ يوسف، وقال له عن مراده في زيارة السادة المتبولية، وبعض المقامات، فزار جناب الشيخ محمد العصيفراتي وجناب سيدي أبي العباس الحريثي، والشيخ الضيروطي وسيدي حسن الطويل، وسيدي محمد المواجه له، وزار سيدي محمد العياشي وأبا الطيب والشيخمحمد هارون والشيخ يوسف المغربي. وكان يخدم شيخه البديري رجلاً اسمه صبح وكان بعض الناس يمازحه بقوله: بالله يا صبح لا تزرني، يا صبح الله أنا دخيلك، وهذا موشح قديم فقال الشيخ:
حبي جفاني، فطال ليلي، وقد كواني، وهد حيلي، ومذ سباني، بفرط ميل، ناديت يا ليل بالمثاني أدخل فإني دخيلك. . الخ. وممن دعا الشيخ وكرر الدعوة صديقاه الحاج محمد والحاج مصطفى وهما خالا السيد أحمد الأدهمي، وكان بصحبه في البعض شيخه الشيخ البديري. ثم إن الشيخ المذكور عزم أوائل رجب على التوجه إلى مصر لأن له عادة في النزول لأوائل الأشهر الثلاثة وأقرأ الحديث الشريف فتوجه فتألم الشيخ لفراقه.
وكان قبل هذا التاريخ أجتمع بالعالم الشيخ حسن المفتي الحنفي، وجاءه للخلوة، ودعاه لداره، فسر بالاجتماع به، وممن أصطحب معه في الخلوة الشيخ محمد الهنيدي.
كان الشيخ قد سمع وهو في الديار الشامية أن دمياط فيها سلطان الناموس فلا ينام فيها إلا بناموسية فقال لما لم يجد ذلك:
وقد قيل للناموس فيها سلاطة ... ولم أر ما قد قيل في جامع البحر
ويمكن أن البحر لما به ثوى ... وذاك ذكي الدين فر من البحر(797/21)
وكان لحقه إلى القاهرة أخ أسمه عثمان، وجاء من غير إذن من الشيخ، فخالف المشورة، وأمره الشيخ أن يركب من المغفر في شيطية، فركب في قياسة فأسرت دون غيرها وأخذ إلى ملطية، فحزن قلب الشيخ عليه، ولم يطق رد ما أوصله مولاه اليه، ولم يسعه أهله إلى شراته من الأسر، ولكان اشتراه الشيخ بالنقود، ولكن لم يتم له ذلك.
وأنشد صديقه السيد أحمد بن صالح الطرابلسي الأدهمي مصراع مواليا وطلب من الشيخ أن يضيف اليه وهو: بالله يا بدر خذ لي في طرف عينك فقال الشيخ:
فإن مضناك يشكو سيدي بينك
ما فيك من شين غير الهجر يا حينك
لا أبعد الله ما بيني وما بينك
وأنشد شطراً آخر وقال له أجز فأنشد الشيخ:
بالله منيتي أرفق بهذا الصب
رشأ بحبك لقد صب المدامع صب
يهواك طفلاً رضيعاً يافعاً بل شب
وكلما شاخ حبك في حشاه شب
وأرسل الشيخ حسن إلى الشيخ زوادة لطيفة لما بلغه قرب سفره وكان ينتظر قدوم (البليك) فتعذر ذلك.
وجاء المشار اليه مصاحباً معه سنده في حديث المصافحة وقال له: أردت أن أتحفك بهذه التحفة، وصافحه وقال (صافحتك كما صافحني شيخنا الشيخ أحمد البنا، كما صافحه شيخه سيدي أحمد بن عجيل اليمني في منزله، كما صافحه شيخه تاج الدين النقشبندي، كما صافحه الشيخ عبد الرحمن المشتهر بحاجي رمزي، كما صافحه الشيخ محمود أسقرازي، كما صافحه أبو سعيد الحبشي الصحابي، كما صافحه سيد الأولين. وهذا سند شيخنا البديري، كما هو مسطر في ثبته مع زيادات فانتبه) وودعه مسروراً.
وكان قد وفد رجل طرابلسي أستأجر (شطية) مغفرة إلى البلاد فأجتمع به أصحابه السيد أحمد وأخواله وكلموه في نزول الشيخ معه فأظهر القبول. ثم عزم الشيخ على التوجه إلى العزبة مع الرفاق وحضر لوداعه الشيخ أحمد الأسقاطي، فاستجازه بمروياته فأجازه، وبعد(797/22)
أن ودع الإخوان توجه إلى العزبة، وبات بها ليلة.
وفي الصباح تعوقت (القياسة) حتى طلع الريح، فلما يمكن للمعدية أن تقطع العتبة فأحتاج أن ينام عند برج الشيخ محمد،
وكان قد قصده للتنزه والتفرج مع شيخه البديري، ويقول الشيخ (وهذا البرج فيه بعض مدافع، ترهب العدو، إذ الأمر الإلهي ما له مدافع، ولقد تمنيت أن لو مكنت فبنيت أبراجاً عدة، على سواحل البحر، يكون فيها للتغور نجده وعدة وعدة، وليست إلا حماية الله هي الواقية، وكفاية الله هي اللاقية، وجماعة العزبة صندهم رهبة للعدو وفي الفرار رغبة، فلا يستعمل على المراكب، إلا كل مغربي متين السيوف راكب، فإن لهم معرفة بالحرب، وحب في الطعن والضرب، وبغض في الكفرة اللئام، واقتحام في ميدان الأهوال العظام (كذا) فصعدنا البرج نهاراً، وثبنا لديه إلى أن زاد الفجر إسفاراً، وقطعنا العتبة أول النهار، والبحر ساكن، والقلب بعون الرب راكن، ووصلنا (الشيطية)، وأجلست في القمرة التحتية، وأعددت نزولي فيها من الذنوب السوالف، حتى جرى الدمع على الخدود والسوالف، ولقد كنت أتطير من النزول في المغفر، لما أسمع من تعاطيهم المنكسر، ولما عرف مستأجر المركب قبطانه فينا، أخذ يلاطفنا ويصافينا، حتى أنه أذاب ماء وسكراً ممزوجاً بماء الليمون، وأتاني به فلم أقبله خوفاً من نجاسة الماعون، فنادى المستأجر وأخبره بطهارته، فأعلمه بعدم شربه، ومن مهارته أمره أن يغسل آنية، وأن يتعاطى تذويب السكر بيده علانية، ففعل كما أمر وجاءني بها الريس، وأظن أسمه عمر، فشربت بعض شربي، حيث طاب قلبي، وصار يتلطف بي، ويدعى ودي وحبي، وأنا برئ منه ومن وداده، وفي غنية عن حبه وانقياده).
ونام أول ليلة وهو يتأمل سرعة الوصول إلى يافا، فتراءى له في المنام أحد شيوخ دمشق الشام وأسمه أحمد سراج، ونشر أصابعه الخمس، فاستفاق الشيخ مذعوراً، وبان أن المراد الإقامة في البحر خمسة أيام، ومكث الريح المريح أربعة أيام يهب ويستريح وقابل هو وإبراهيم البلاصي الحريشي الرسالة المرسومة (بالمنهل العذب السائغ لوارده، في ذكر صلوات الطريق وأوراده) وقابل (الألفية في طريق السادة الصوفية). وضاق الشيخ ذرعاً لطول الإقامة في البحر، من أمر النجاسة، فإنهم أي أهل المركب كانوا غارقين فيها حساً(797/23)
ومعنى ولأنهم لا يعرفون أنها من الخساسة.
وفي ليلة الخميس ويومه، طالت كربة الشيخ ومن معه، فتوسل بسيدي أحمد البدوي أن يسوق له صبيحة الجمعة (الريح الملثم ليخلص من القبطان وجنوده، جنود الشيطان، وجاءه القبطان يشكو قلة الماء، وأقسم بدينه أن الماء لا يكفيه غير اليوم مع التدبير، ولم يبق عنده إلا أواني الخمر. فأغتاظ الشيخ من كلامه وتأثر، وقال للمستأجر وكان هو الترجمان بينه وبين القبطان: إن الله سيسهل بالفرج ويزول الضيق، فقال له قل له بأمر الركاب يجتمعوا ويدعوا الله عسى يجيب. فأجابه الشيخ قائلاً للترجمان قل له أن في هذا اليوم المبارك بعد الظهر بيسير، يأتي الريح وندخل يافا قبل الغروب ولا أبات الليلة الداخلة إلا في يافا ذات الوجه النضير). ففهم القبطان ذلك وسر ولم يقطع بقول الشيخ. ولما زالت الشمس هب النسيم، ثم زاد على المعتاد حتى خال الشيخ (الشيطية) تطير في المسير، وخاف له فوق قمرته للتفرج على البحر، وكشف البر عقيب العصر وزال الضيق، وألقى المرياة ونزل الشيخ في (قياسة) صغيرة وبات في جامع البحر ليلة السبت وقد سر سروراً عظيماً. ورأى القافلة متوجهة إلى الديار، فحمد الله على تسهيل قرب المزار. وبلغ الوطن. ولما أستقر به المقام ورد عليه كتاب من الشيخ محمد البديري فلم يجب عليه إلا في بلاد الروم وأودعه في الرحلة الرومية، وبعد ذلك أرسل كتاباً إلى مفتي ثغر دمياط الشيخ حسن، وآخر إلى الشيخ محمد الحفناوي، ثم مرض الشيخ وأمتد أمر سقامه نحو سبعة أشهر وأيام، وفي هذه الأثناء جاءه كتاب من الشيخ محمد المذكور. وكانت والدة الشيخ وردت عليه للزيارة.
ثم اقتضى أمر أوجب سفر الشيخ إلى حلب الشهباء ذات الخفر، ولم ير بداً من التوجه لأمر اقتضاه الحال فعزم على المسير بعدما استخار الله، وكان قبل ذلك بشهر، قال له الدرويش يعقوب الهندي إن في نيته الذهاب إلى حلب فنفى الشيخ ذلك، فقال له الهندي بل بعد ذهابك اليها ستتوجه إلى بلاد الروم، فأجابه الشيخ ما الذي يصنع في بلاد الروم ولا غرض له فيها؟ فقال له إنها بلدته، ولما أراد السفر توجه معه إلى حلب ومنها فارقه إلى بغداد.
وتوجه بعد مدة إلى بلاد الروم وسطر ذلك في رحلة سماها (تفريق الهموم وتغريق الغموم في الرحلة إلى بلاد الروم) وأبقى الوالدة في داره في بيت المقدس، وقد حزن على فراقها ولكنه رضخ لحكم الأقدار (أنتهى).(797/24)
أحمد سامح الخالدي.(797/25)
حب المنطق
للأستاذ ثروت أباظه
صاحبي شاب تواتيه الحياة بأبهى ما يرجو شاب من الحياة. مال وافر، وسمت جميل. وهو بعد ذو روح فنانة عذبة. لم تمل به كل هذه المقومات إلى ما ينزلق إليه الشباب، بل كان منذ مطلع شبابه كبيراً على اللهو، يرى فيه طفولة غير جديرة به. وما زال كذلك حتى بلغ سنا يفاخر فيها الشباب بآثامهم؛ فكان يجلس إلى أترابه، يقص كل منهم عليه ما أرتكب في زهو. بل كان منهم من يخلق لنفسه جرائم كان يعلم صاحبي أن محدثه براء منها. ولكنه كان يسعده بتصديقها فيسعد. ثم يقبل هؤلاء الأتراب على صاحبهم يسألونه ما فعل وما يفعل، ظانين أنه سيقص عليهم ما يعجزون هم منه. . . وهو ذو السمت الجميل والمال الوافر. وكم تفيد هاتان الخلتان إذا شاء صاحبهما منهما إفادة! ولكن صاحبي كان دائماً يخيب ظنهم، ويعلمهم أن أمره غير أمرهم، فيعتقدون أنه كاذب في ادعائه، ويظن بعضهم أنه شديد الدرجة والمران. ومن تمام المران ألا يخبرهم بما فعل. ويحاول بعضهم أن يظن بصاحبي سذاجة؛ ولكن سرعان ما يرده عن تفكيره بديهة فيه متوثبة، وسخرية لاذعة كان يقابل بها كل من يحاول من أمره عبثاً.
كنت وحدي أعلم السر في ذلك، وما كان لي أن أدعي بهذا معرفة لولا أنني عرفت الصديق طفلا حين كنت أنا طفلاً، ثم درج ودرجت معه متلازمين لا نفترق إلا الفترة الوجيزة، فهو في غير حاجة إلى أن يطلعني على سر استقامته. لقد نشأ الطفل في بيئة تجعل من الطفل صبياً، ومن الصبي شاباً، ومن الشاب كهلا. فتراه في طفولته يجلس إلى قوم يكبرونه في السن. ولم تكن الطبيعة قد هيأت له إذ ذاك أن ينظر نظرة منحرفة. . فإذا مال بهم الحديث رأى في كلامهم وجهاً غير الذي يجرونه عليه حتى إذا كبر قليلاً وفهم ما كان يقال على وجهه، كان رفاق ندوته قد ملوا هذا الحديث وشبوا عنه، فسار معهم حايسا كلاما، كابتاً شعوراً. . . لا يفضي إذا أفضى إلا لنفسه.
هكذا كانت الحياة ترتفع به عن مكان سنه؛ وهكذا اضطرته أن يرتفع عما يفعله أترابه. فكان في شبابه كهلا واسع الأفق، يجيد كلام الرجال، ويحس ما يحسنون. ولكن أمراً واحداً كان يحيرني فيه. . . قد يستطيع الشاب أن يستقيم فلا يلتوي به الطريق، ولكن هل يطيق(797/26)
قلبه هذا الخمود؟ ألم يحب؟ ألم يجمح؟ إن صديقي على استقامته واقعي يفهم الحياة كما هي، ولا يحب أن يخدع نفسه عن نفسه. فهو يعلم أن لا حياة له إذا لم تقم بينه وبين الجنس الآخر صلة.
أقبل علي ذات يوم ضاحكاً كعادته، وكنت أفكر في أمره فسألته في مجابهة.
- ألم تحب؟
فأربد منه ما كان ضاحكاً، وغامت عيناه، وأطرق يخفي ما ألم به، ثم تماسك قليلا ورفع إليّ وجهاً باهتاً وقال:
- حتىأنت تسألني؟ ومن أحب؟ النساء يا أخي نوعان. . . شريفة أرهب مفاتحها بحبي، وساقطة أرغب عن حبها الميسور لأنني أخشى.
- وهل يعرف الحب هذه الحدود؟ أو لك علىقلبك كل هذا السلطان؟
- إسمع. . . أنا أعلم الناس بنفسي. . . إنني شاب تخطيت سن البدء في اللهو، وأعرف في قلبي رقة وإجدابا، وهذان أمران إن وجدا في قلب وأحب، فهو بين أمرين: إما أن ينتهي بصاحبه إلى السعادة كل السعادة، أو إلى موت لا قيامة له منه. فإذا أحببت من لا أعرف وأثق أنها تحبني - معتمداً على نظرة أو بسمة يثبت لي بعدها أنها قد منحت عن غير قصد - فأنا إلى فناء. فتراني أمنع قلبي كلما أوشك أن يبدأ. . . أمنعه بإرادة تظن أنت أنها قوية، وهي في الواقع مع القلب خائرة. . . لأن كل ما تفعله هو أن تمنع هذا الحب قبل أن يبدأ. . . أما إذا بدأ، فلا إرادتي ولا منطقي بمستطيعين له ردا. . . إنني إذا أحببت فسأحب بقلبي وإرادتي ومنطقي جميعاً. . ولن يكون هذا حتى أسألها وحتى تجيب.
- وأين لك مثل هذا ما دمت ترهب الشريفة وتنفر عن الساقطة؟
- أنا لا أحتم الإجابة الصريحة.
- أنا الآن أسألك كيف تستطيع أن تسأل، لا كيف تجيب هي.
- إن اعتمادي يا صاحبي على الظروف.
- إنني لم أر في حياتي رجلا يحكم منطقه في قلبه كل هذا التحكم. . . ويرجو بعد هذا أن يحب. . . إن الحب يا صديقي قلب يتأجج وتتضرم به النار. . . لا يعرف العقل ولا يسأله، ولا يطيق العقل أن يقحم نفسه في أمر لم يخلق له. . . الحب يا صديقي هو(797/27)
السعادة. . . شقاؤه سعادة، والحرمان فيه سعادة. . والوصل فيه سعادة. . والهجر فيه سعادة. . الحب. . .
- كفى كفى. أمحاضرة هي؟ أنت تعلم مقدرتي على رواية الشعر. إنك في كل قولك هذا لم تأت بجديد. . . كل هذا كلام قرأناه وحفظناه حتى مللناه. . إنني شخصياً أحب الحب. . ولكني حتى الآن لم أجد من أحول إليها عاطفتي، وأخشى أن تنحرف العاطفة فتنحرف معها حياتي أجمع. . وثق أنني يوم أحب سوف يكون حبي أعمق من كل حب قرأت عنه أو سمعت به، لأنني سوف أحب يوم ذاك بمنطقي كله، وقلبي كله، ولا أظن واحداً ممن خلد الحب أسمهم قد حكم المنطق في حبه؛ ولذا ترى معظمهم قد فجعوا في حياتهم، وأنتهى بهم الحب إلى ما لم يريدوا لأنفسهم، ولم يخطر بمنطقهم يوم بدأ القلب يقوم بمهمته. وثق أنهم لو فكروا كما أفكر، لكان الحب لهم نعيما كما سيكون لي إذا شاء الله. . . أقسم أنك لم تفهم شيئاً مما قلت، لأنك لا تحاول ذلك. . . قم الآن فانثر ما قلت أو انظمه على من يطيب لك أن يسمعه. أما أنا فغنى عنه. . . هيا.
- حسبك حسبك. . تزعم أن حبك سيكون أقوى حب في التاريخ. . لقد والله انتهزت فرصة صداقتي وأسمعتني هذرا لا يسمع لك به إلا مجنون مثلك.
- ألم أقل إنك لم تفهم ما أقصد إليه. لم يكذب ظني بك.
ومرت على هذا الحديث فترة لم ألقه فيها، عاد بعدها تنضر وجهه ابتسامة لم أرها من قبل.
- ماذا؟ أحدثت المعجزة؟
فلم يزد على قوله.
- نعم.
- كيف؟ ومتى؟ وماذا قلت؟ وماذا قيل لك؟ وماذا تم؟ وماذا تنوي أن تفعله؟ وماذا تحس؟ أجب أجب.
- لا جواب. . كل هذا مضى، ولا شأن لك به. ولكن أعلم أن للعقل كما للقلب عاطفة، وإن العقل بهذه الآصرة يتحكم في القلب، وإن الحب الصحيح هو حب القلب والمنطق جميعاً.
- والله لن أصدق حتى أجرب أو تقص.(797/28)
- أما أن أقص فلست بذاك وأنت تعلم. وأما أن تجرب فهاأنذا أدعو الله أن يهيئ لك هذا الحب. . حب القلب، وحب المنطق.
ثروت أباظه.(797/29)
رسالة الفن
الزهريات الكلاسيكية
للدكتور أحمد موسى
- 3 -
مما يبعث السرور في النفس وسط ما يحيط بنا في هذه الأيام من مصاعب ومنازعات أنم نرجع إلى محكمة جاءت على لسان ماتيو آرنولد الفني العظيم حيث يقول:
مثل الرجل الذي يميل الى الفن ثم يبتغي لهذا الفن غذاء في غير مخلفات الإغريق، وكذلك الذي يميل إلى الشعر من غير أن يستعين في تنمية هذا الميل بهوميروس وأبي العلاء وشكسبير وجوته، كمثل من يلتمس التهذيب والخلق القويم في غير الكتب السماوية!
وعلى ذلك يقرر آرنولد أن من الكتب السماوية ومن هوميروس وأبي العلاء وشكسبير وجوته، ومن الفن الإغريقي، مجموعة تلك المخلفات القديمة العظيمة الخالدة، هي التي ستبقى أبداً الباعث القوي والمثال الحي والمعين الذي لا ينضب لأعمال الإنسان!.
أكتب هذا بمناسبة خطاب وصلني من (قارئ) يعتب على الكتابة في فن الإغريق، في وقت ظهرت فيه القنبلة الذرية - ويقول أنه يرى من الخير معاصرة باحث الفن وناقده ومؤرخه للوقت الذي يعيش فيه؛ فيكتب في الفن الحديث وفي اتجاهاته ومدارسه.
وهذا قول لا غبار عليه لو أردنا الكتابة لمجرد الترفيه عن القارئ بكتابة ما يلذ له أن يقرأ، ولكن (مجلة الرسالة) التي كافحت ستة عشر عاماً في خدمة الأدب والعلم والفن الرفيع ولم يزل صاحبها مرة إلى السوق ليعرف مطالبه، بل ظل رابضاً كالأسد يرفع من مستوى الناس ولا يهبط هو إليهم، حتى ولو عاد عليه هذا الهبوط بالرواج العظيم - ليست المجلة التجارية التي تريد اكتساح السوق!
ولما كنت أعتقد أن الخير كل الخير هو تثقيف القارئ تثقيفاً فنياً يعود عليه بإدراك معنى الفن إدراكا سليما فيرى ويسمع ويفرق بين الجيد وغير الجيد؛ رأيت أن أكتب عن الإغريق غير مهتم بتسلية القارئ والترفيه عنه.
ولا أنكر أن معظم الناس يعتقد في هذه الأيام بعد ظهور الاختراعات الحديثة كالقنبلة الذرية(797/30)
والرادار والتليفزيون والبنسلين أنهم أحسن بكثير من السلف، وإنه لا داع بعد اليوم للتعلق بأهداب أعمالهم، وهذا راجع ولا شك إلى ما أحدثته الحرب الأخيرة - وكذلك الحرب التي قبلها - من قلق واضطراب وتعلق بالماديات لم يعهد له مثيل في سابق العصور، حتى في بلاد الشرق التي لم تدر فيها المعارك الحاسمة!.
وأراه مناسباً في هذا المقام أن أبين في كل اقتضاب السباب التي من أجلها لا يزال الفن الإغريقي سيد الفنون جميعاً. فنحن معشر المصريين لم يبلغ تقديرنا للفن مبلغ تقديرنا للشعر والأدب والفلسفة، ذلك لأن لنا في مجال الشعر والأدب والفلسفة إنتاجا قومياً عرف قدره في الشرق كله وفي معظم البلاد الأوربية، أما في الفن، فإن جهودنا ضئيلة تكاد لا تذكر، ولعل المقارنة بين الفن المصري القديم وبين ما ننتجه الآن يحقق هذا القول.
ومهما يكن من شئ؛ فإن المقرر أنه لولا ما للفن الإغريقي من التأثير المتواصل لما ارتفع الفن كثيراً في كل أنحاء الأرض عن مستوى الفن الهندي أو الصيني أو الفارسي.
ففي المائة السنة السابقة على حروب الفرس التي وقعت بين عامي 500، 480 ق. م. كانت بلاد الإغريق بقسميها الأيوني والدوري أشبه شئ بشجرة أنبتت أغصاناً ناضرة انبعثت في نواحيها المتباينة، وما أنبثق فجر القرن التالي لتلك الحروب، حتى جاء هذا الغرس بأطيب الثمرات، وأخرج لنا الأغارقة الآيات البينات، التي ظلت حتى اليوم المثال الذي يحتذى به الإنسان، والأفق العظيم الذي يمكن للعقلالبشري الوصول اليه!
والميزة الكبرى في الفن الإغريقي أنه فن بسيط متوازن في تناسق، يحاكي الطبيعة ويستلهمها في طموح مستمر نحو الكمال، فهو فن إنساني بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان.
وإذا كنت قد كتبت على صفحات الرسالة منذ عشر سنوات عن نواح مختلفة في الفن الإغريقي؛ فإني أكتب اليوم ولا زلت مصراً على ألا أبدأ إلا به.
نعم كان في مصر فن وفي بابل وآشور فن، وكذلك في كريت، ولكنه لم يكن إنسانياً بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة؛ ذلك لأن فناني مصر وبابل وآشور وكريت أنصرف اهتمامهم نحو تصوير عبادة الآلهة وتصوير الحروبوالحياة البيتية والزراعية، أما الصور الإنسانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان كما قلت، فإنها لم تأت فيما ذكرت إلا رموزاً(797/31)
متواضعاً عليها خالية مما يثير الشعور، بل إنها كانت خالية مما يبعث في النفس حب الجمال أو ما يسمو بالمشاهد فوق المستوى العادي.
عرف الإغريق آثار الفن الأولى، ولكنهم أبوا أن يجتذبهم ما أجتذب الفينيقيين والإنرسكانيين الذين اقتصروا على تقاليدها والنسج على منوالها. ذلك لأنه قد قامت في نفوس الإغريق عقيدة هي في طبيعتها أقرب إلى الوجدان منها إلى العقل وهي استحداث فن إنساني كامل!!.
وللبيئة الطبيعية والأجتماعية آثار ظاهرة في نهضة الإغريقي، وسواحلهم الممتدة وكذلك مرافئهم ونهضتهم التجارية، كل هذا مما زاد في جدهم لا سيما في منطقة الشواطئ الشرقية حيث كانت فينيقية ومصر وغيرها من الشعوب الشرقية ذات المدنية واقعة بالقرب منهم.
وهكذا كانت طبيعة البلاد وأحوال الأجتماع مما مهد السبيل إلى إيقاظ الفكر الإغريقي النابت في أرض أوربية ذات جو (شرقي) معتدل.
هذا بيان لم يكن منه بد - وفي اعتقادي أن مرسل الخطاب لم يستمع الراديو إلى حديث حضرة الأستاذ الكبير شفيق غربال بك في معرض الكلام عن الكتب الأوربية الحديثة، فلو أنه أستمع إليه عندما أشاد بذكر الإغريقوالعقلية الإغريقيةوفضلها الدائم على العمل البشري لما وجه اليّ خطابه.
والآن أقول إن مصانع الفخار في أثينا انتهت فجأة عقبة الحروب الفارسية التي ألهبت العقل الإغريقي وأيقضت أحاسيسه الدفينة مما عاد على الفن الإغريقي بالخير العميم!
وإذن لم يكن غلق مصانع الفخار في أثينا نتيجة لاستحالة تصدير المشكاوات إلى وسط - يتبادر إلى الذهن، بل نتيجة لأتجاه المصور إلى المساحات الفسيحة على الحيطان بدل المساحات المحدودة على الزهريات، فعلى حيطان المعابد الأثينية وردهات المباني العامة صورت المناظر العظيمة (سيكون للتصوير الإغريقي بحث خاص) وأخذ موضوع الإنشاء الفني يظهر كامى في الأفق، والأنسجام بين أجزاء القصة الواحدة متوافراً.
ولكن هذا - مع الاعتراف بأثره الانقلابي العظيم - لم يكن قضاء مبرماً على فن المشكاوات، ولكنه قضى على مبدأ تسجيل أسماء الفنانين عليها كما لو كان الفنان يترفع عن كتابة أسمه على مساحة بسيطة محدودة بالقياس إلى الصور الحائطية الهائلة.(797/32)
والذي يهمنا على وجه التخصيص أنه قد نشأ عن انتشار التصوير الحائطي الاقتصار في صور المشكاوات على المناظر العاطفية الحية، فترى ما يسجل الوداع بين حبيبين أو لقاء بين عاشقين أو ممرضة تضمد جراح محارب تحنو عليه، وغير هذه وما يمت اليها بصلة، هذا إلى جانب تصوير الورود والأزاهير والفاكهة.
أما إذا سجل الفنان مناظر قصصية فإنه يقتطف أحد مواقفها ويكتفي به للتسجيل، فظهرت المصورات بسيطة الموضوع ظاهرة الغاية على نقيض المراحل الأولى، وطبيعي أنه كلما كانت الفكرة محدودة وكان المعنى ظاهراً؛ كلما أمكن الحكم على مقدرة الفنان وتقدير مدى نجاحه، لأن المساحة وإن تكن محدودة إلا أنها تسمح عندئذ بإظهار قوة الفنان من خلال رقة الخطوط التحديدية وقوة تعبيرها فضلا عن بيان الأجسام في مرتبة من الإتقان تفصح عن رشاقتها وقوة تأثيرها على المشاهد المتأمل.
واستخدم في هذه المرحلة لون الذهب واللون الأزرق والأبيض، وخصصت لأجزاء معينة من صور الجسم الإنساني على الزهريات الصغيرة التي كانت تستعمل في تجميل الحجرات.
ولم يبق من نماذج المشكاوات الملونة شيئاً حفظ مستواه الفني حتى القرن الرابع ق. م إلا النوع المسمى وهي التي كانت توضع في الجبايات والى جانب المقابر.
ومنذ منتصف القرن الرابع وبعده بقليل أخذت زهريات أتيكا تختفي، وحلت محلها مشكاوات جلبتها أثينا بغية تصديرها إلى الخارج لا سيما إلى الجزء الجنوبي الغربي من روسيا، وأهم المدن مثل ياستوم وأبوليا وكانوزا وكايو , , , وقد تشابه الإنتاج الفني للزهريات التي عملت بهذه المدن مع نظائره التي عملت في اتيكا - ولكن هناك فوارق فنية جديرة بالتنويه، إلا وهي خشونة الطين المعمولة منه، وظهور المصورات ضعيفة الخطوط مع الإكثار من الزخرفة لتغطية الضعف، مثلها في ذلك مثل المغني الذي يلتزم الاختفاء بصوته وسط الدربكة الموسيقية! وظهرت الزخارف الخطية والخيالية التي تذكرنا بالمشكاوات المبكرة، على حين ظلت الأتيكية على جانب كبير من الذوق الفني، ولعل زهريات أبوليا كانت أبدع ما نذكره، فمن بينها ما لا يزال مشهوراً بجماله وحسن تكوينه وطول عنقه في انثناء كعنق البجع.(797/33)
ومهما يكن من شيء فإنه لم ينته القرن الثالث الميلادي إلا وكانت الآثار الباقية من هذا الفن ضئيلة، وحلت محلها الزهريات المعدنية، وعليها رسومات بارزة ذات بريق ولمعان، انتقلت إلى بلاد الرومان وظلت فيها حتى اندثار دولتهم.
وتباهى روما ونابولي وفلورنسا مدائن باريس ولندن وبرلين وميونيخ وكارلزروه وفينا وكبنهاجن وبطرسبرج بمجموعتها الفريدة التي تكون سلسلة متصلة الحلقات لمن يريد مواصلة الدرس.
أحمد موسى(797/34)
الفتوة عند الصوفيين
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
(مهداة إلى الأستاذ ضياء الدخيلي، لمناسبة ما كتبه من أبحاث قيمة عن الفتوة في الإسلام وفي كتب اللغة والأدب وحياة الفتيان في الجاهلية والاسلام؛ أوحت إلى كتابة هذا المقال) ع. ع
الفتوة: فعولة من لفظ فتى، كالإنسانية من الإنسان والمروءة من المرء، والفتى هو الشاب حدث السن، قال الله سبحانه وتعالى عن يوسف عليه السلام (ودخل معه السجن (فتيان) - وقال (لفتيانه)) وقال عن قوم إبراهيم عليه السلام إنهم (قالوا سمعنا (فتى) يذكرهم يقال له إبراهيم) وقال عن أهل الكهف (إنهم (فتية) آمنوا بربهم) من هذا نرى أن الفتى أسم لا يشعر بمدح أو ذم كالشاب والحدث.
وللصوفيين رأيهم في الفتوة كما لغيرهم من اللغويين والأدباء والشعراء آراؤهم، وكل يستعملها حسب هواه، ويلبسها الثوب الذي يعجبه ويهواه، فهم يستعملونها فيما يوافق تعاليمهم ويساير مذاهبهم، في معاملة العبد لنفسه وصلته بغيره من الناس وصلته بخالقه جل شأنه، وقد اصطلحوا على أنها منزلة من منازل الإحسان إلى الخلق، وكف الأذى عن الغير، والصير على ما يصدر منهم من أذى وسوء فعل، وأنها الطريق الموصل إلى الذات العلية والحضرة الربانية، وأنها نوع من أنواع المروءة: والمروءة ترك العبد ما يشين أخلاقه أو يعود بالضرر على سواه، والتحلي بمحاسن الأخلاق وحميد الصفات وكريم السجايا. فالفتوة عندهم كما قال قائلهم (الفتوة أن يكون المرء أيدا في أمر غيره) وهم يجعلونها منازل ودرجات كالأكثرية من تعاليمهم، فهي عندهم ثلاث منازل أو ثلاث درجات.
المنزلة الأولى، وتخص معاملة المرء لنفسه دون غيرها، فيلزم من يتجلى بصفة الفتوة، أن يترك الخصومة فلا يخاصم أحداً من عباد الله، ولا يجعل نفسه خصماً لأحد سواها، فهي خصمه الذي يجب عليه أن يخصمه بالمخاصمة ويقف منه موقف الحذر والترقب ولا يجعل لها سلطاناً عليه ولا يتبع هواها، لينجو من سوء ما تأمر به وعاقبه ما تسول له. وفي ذلك قال بعضهم: (الفتوة أن لا ترى لنفسك فضلا على غيرك، وأن لا تتخذ لك عدواً(797/35)
سواها). وقال الشبلي: (الفتوة أن لا تكون خصماً لأحد سوى نفسك والشيطان).
والفتى لا يخاصم بلسانه ولا ينوي الخصومة بقلبه - كما يفعل البعض الآن وما عليه الغالبية العظمى اليوم - ألسنتهم رطاب، وبطائنهم أكباد صوادي - ولا يخطرها بباله وإن خاصم أو حاكم، فيجب أن يكون خصامه أو تحاكمه في الله والى الله، وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فقد كان يقول في دعاء الاستفتاح: (وبك خاصمت، واليك حاكمت).
- وأن يتغاضى عن هفوات غيره، ويتغافل عن زلاتهم. وإذا رأى من أحدهم هفوة، او أخذ عليه زلة توجب الأخذ بها، أظهر أنه لم يلحظ منه شيئاً حتى لا يعرضه للوحشة والخجل، ليفيه من تحمل مشقة العذر.
حكى أبو عثمان الدقاق رحمه الله قال: إن امرأة أتت حاتما فسألته عن مسألة، وفي أثناء وجودها خرج منها صوت، فظهر الخجل عليها وبان في وجهها، فلما رأى ذلك منها قال لها ارفعي صوتك، ليوهمها أنه أصم لم يسمع ما تقول، فسرت المرأة وسرى ذلك عنها وقالت إنه لم يسمع الصوت، فلقبوه من ذلك الوقت بحاتم الأصم.
وحكى غيره أن رجلا بني بامرأة، فلما دخل بها رأى بها الجدري فقال، اشتكيت عيني، وتصنعت العمى، وبعد عشرين سنة ماتت زوجه ولم تعلم أنه بصير، فقيل له لم فعلت ذلك؟ قال كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها، فقيل له: سبقت الفتيان.
- وأن ينسى إيذاء الناس له، ويجاهد نفسه في نيسان ما ناله من الضرر وينظر إلى من ناله بأذى نظر الصديق المتسامح واسع الصدر كريم النفس، إلى صديق له زل أو هفا، حتى لا يستوحش الناس وينفروا منه. قال عمر بن عثمان: (الفتوة حسن الخلق) وقال الجنيد: (الفتوة كف الأذى وبذل الندى).
ولا يبلغ درجة الفتيان ويدخل في زمرتهم من نسى إساءة الناس له وتغاضى عن هفواتهم، إلا إذا نسى كذلك إحسانه إلى من أحسن إليه وأسدى إليه معروفاً حتى يعتقد أنه لم يحسن إليه ولم يصدر منه ما يستوجب الشكر، لأن ما أحسن به هو عند الله. فالواجب أن يشكر هذا المحسن إليه لأنه جعله يشكر الله الذي وهبه هذه النعم وأفاض عليه من خيرة وبره. وهذا النوع من النسيان أعظم درجة وأرفع منزلة من السابق، وفيه قال بعضهم:(797/36)
ينسى صناعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
المنزلة الثانية هي منزلة الإحسان إلى الغير، وهي أعلى مرتبة من الأولى، لأنها تلزم المتحلي بها أن يقرب من أقصاه عن مجلسه وطرده من حضرته، وأن يحسن إلى من أساء إليه ويكرم من أهانه ويعتذر إلى من أعتدى عليه، ولا يتصف صاحب هذه الفعال بصفة الفتوة إلا إذا كانت فعالة هذه عن تواد وسماحة لا عن مصابرة وكظم، وعن قوة وقدرة لا عن جبن وضعف، وفضلوا هذه المنزلة علىسابقتها، لأنها تتضمن التغلب على عدوين، النفس ومقابلة الشيء بضده، فيكون خلق الفتى الإحسان والعفو، وخلق غيره الإساءة والإيذاء، وفي هذا قال قائلهم.
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
حكي أن رجلاً من حجاج بيت الله ذهب لزيارة القبر الشريف ونام في المدينة ففقد مالا له، فلما صحا من نومه فزع لضياعه، ووجد جعفر بن محمد قريباً منه فعلق به وقال به: أخذت مالي! فقال: كم هو؟ قال: ألف دينار. فأخذه جعفر حتى أدخله داره ووزن له قدر ماله. ثم إن الرجل عثر على ماله، فعاد إلى جعفر يرد له المال ويعتذر عما صدر منه، فأبى جعفر أن يقبله منه، وقال: من هذا؟ فأخبره أنه جعفر بن محمد رضى الله عنه فقال: إنه خير الفتيان. ثم قيل لجعفر: كيف تعتذر لمن جنى عليك، وتحسن إلى من أساء إليك، ولم يصدر منك ما يوجب الاعتذار. ألم يكن كافياً أنك لم تؤاخذه؟ ألست باعتذارك إليه أنزلت نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه، والجاني خليق بالعذر. فقال لهم: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).
فهو يعزو ما أصابه إلى ذنب منه وأن هذا هو الانتقام الإلهي الذي يجب أن يناله كل مذنب. ومن كانت هذه حاله فهو بالاعتذار أولي وأحق اليّ من جني عليه، وشكره والإحسان اليه. فمن كانت هذه حالة مع من أساء إليه عفا عنه وأحسن إليه مع ضعفه وفقره وحاجته إلى سواه، فبأعظم من هذا يكافئه الفتى الذي وسع ملكه السموات والارض وشمل إحسانه المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فيعفو عن إساءته كما عفا عن إساءة عبده، فالجزاء من جنس العمل.
وقال أبن عياض رحمه الله (الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان) وقال غيره (من أحوج(797/37)
عدوه الى شفاعة ولم يخجل من المعذرة إليه لم يشم رائحة الفتوة) ومعنى هذا القول أن من أساء إليك ونالك ضرره، إذا علم أنك متألم مما وقع منه، أحتاج إلى أن يتقدم إليك معتذراً، أو يلجأ إلى شفيع يشفع له عندك ليزيل ما في قلبك من كدر، ويغسل ما علق به من زعل. فالفتوة كل الفتوة أن لا تظهر له العتب. ولا تغير ما كان منك له قبل الذي صدر منه، ولا تحول عنه وجهك حتى لا تحوجه إلى طلب الصفح والشفاعة؛ وأن لم تفعل ذلك وتخجل من قيامه بين يديك مقام الذلة والاعتذار لم يكن لك من الفتوة أوفي نصيب.
فالفتى الحق من تغاضى عن عثرة غيره ولم يأخذه بذنب أتاه أو جرم أقترفه، بل يجب أن يكون معه سمحا كريما يعامله معاملة صادرة عن سماحة خلق وطيبة نفس وانشراح صدر، ولا عن ضيق وكظم غيظ ومصايرة، لأن هذا يعتبر تكلفاً وتصنيعاً يوشك أن يزول وتبدو الأخلاق واضحة، وتظهر الصفات جلية فيفتضح أمره بين الناس، فإن التخلق يأتي دونه الخلق.
والمقصود من هذا أن يصلح الفتى باطنه كما يجمل ظاهره، وأن ينفي نفسه من الشوائب كما ينظف ثوبه من الأقذار. كان بعض أصحاب شيخ الإسلام أبن تيمية رضى الله عنه يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، ما رأيته يحمل حقداً لأحد منهم قط، وما سمعته يدعو على أحدهم، بل كان يدعو لهم ويطلب لهم من الله العفو والغفران. ثم قال: جئته يوماً أبشره بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأكثرهم إيذاء له، فنهرني وتنكر لي وأشاح عني واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت الميت فعزى أهله وقال لهم: أنا لكم مكانة، لا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة أو عون إلا ساعدتكم فيه وعاونتكم عليه، ونحو هذا الكلام، فسروا به ودعوا له وأعظموا هذه الحال منه. ولما سمع أحد المتصوفين بخبر هذه الواقعة قال: (خير الفتيان من كانت له في هذا أسوة وبه قدوة).
(للكلام بقية)
عبد الموجود عبد الحافظ(797/38)
أوراق مطبوعة:
عندما يأتي الربيع!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
قلت لليأس الذي خيم في قلبي العليل
فكساه وحشة الليل، وأحزان الأصيل
أيها اليأس تمهل، يا ضباب المستحيل
وترفق بشبابي، وتأهب للرحيل
وكفى أزهار عمري ما عراها من ذبول
فتمطت ظلمة اليأس، وقالت في ذهول:
عندما يأتي الربيع!
قلت للأحزان. . . أحزاني! وقد جاء الصباح
وترامى الضوء نشوان على صدر الأقاح:
أنت يا أحزان في قلبي دماء وجراح!
أنت في عمري دموع وأنين ونواح
فمتى تمضين عن قلبي الحزين المستباح؟
فأجابت في سكون: سوف أمضي كالرياح
عندما يأتي الربيع!
قلت للآمال إذ لاحت بآفاق الخيال
كعذارى عاريات، أو كأطياف الجمال:
عانقي قلبي؛ فقد رانت على قلبي الظلال
عانقي روحي؛ فقد خيم في روحي الملال
فمضت ترقص من حولي: وقالت في دلال:
عندما يأتي الربيع!
قلت للأفراح، والأفراح أزهار الحياه
أنت في عمري تسابيح، وفي روحي صلاه(797/39)
وأنا عمري عباب قد تناءى شاطئاه
وأنا روحي شراع ضلل الموج خطاه
فتعالى إنما قلبي غريق في أساه
فأجابت وهي تنأى: سوف آتى في الغداه
عندما يأتي الربيع!
وتحدثت إلى نفسي، وقد جاء المساء
قلت: يا نفسي غداً تمضي كآبات الشتاء
وغداً يأتي الربيع السمح نشوان الضياء
ويرف الزهر في عمري، ويشدو بالغناء
فإذا صوت عميق شق أجواز الفضاء
لست أدرى كيف وافى، لا، ولا من أين جاء
قال: يا شاعر يا مستلهما روح الخفاء
يا صدى الآلام في الدنيا، ويا رجع الشقاء
إنما تحيى على الدنيا حياة الشهداء
لا تؤمل في سراب هو من وهم الظماء
كل ما قيل خداع، فاستمع صوت القضاء:
لن يغيب اليأس والحزن، ولن تلقي الرجاء
عندما يأتي الربيع!(797/40)
من جحيم الواقع
البدر العاشق
للشيخ محمد رجب البيومي
(قصة عاشقين فرقت بينهما عوامل البيئة، وقسوة المجتمع،
ونكد الطالع)
أبصر البدرُ سناها يترامى ... فغدا بالشمس صبّا مستهاما
عاشق ألقى الهوى في نفسه ... ذلة أعرفها عند اليتامى
جن بالشمس ومن هذا الذي ... لمح الشمس ولم يفتن هياما
ذو حياء لم يشاهد مثله ... عند خود تلزم الخدر احتشاما
يتوارى إن بدت مستخذيا ... فإذا ما أدبرت ألقى اللثاما
كم خطا بين الثريا ساهما ... كمريض يشتكي داءُ عقاما
زحل يبكي له من رحمة ... وسهيل يطلق الدمع سجاما
عجبي للبدر، أمسى وجهه ... شاحب الطلعة لا يمحو الظلاما
نظرة يا ويلها من نظرة ... ذاق من جرائها الموت الزؤاما
كم شكا للشمس ما قد شفه ... من سقام، قاتل الله السقاما
وأنبرى يسألها في ذلة ... كيف ترضين لمثلي أن يضاما
تاه ظني فيك يا شمس الضحى ... أدلالاً غبت عنيّ أمْ خصاما
زهرتي أودى بها لفح النوى ... فإلامَ الهجر يا شمس إلاما؟
آه لو تدرين نجوى مهجة ... ترك البعد بقاياها حُطاما
كبدي تصرخ من أعماقها ... إذ مضى العمر ولم تطفئ أواما
أي عيب ضائر تخشينَه ... لوْ تفضّلت بإتياتي لماما
أحسد الزهر إذا طفت به ... ساجي الطرف فداعبت الكماما
أحسد اليّم وقد غطيته ... بسناً كان على الماء وساما
سرت في الأرض فأضحى وجهها ... كثنايا الغيد نوراً وابتساماً(797/41)
كل ما في الكون لاقى حظه ... منك لكن أنا لم أبلغ مراما
لي رجاء فيك إن خيبته ... حبذا بعدك أن ألقى الحماما
قالت الشمس له في رعدة ... قدك، قد أشعلت في قلبي الضراما
صير الحب كياني هدفا ... يتلقى طيلة العمر السهاما
أرسل الرفرة حراً لافحا ... كجحيم موقد يشوى الأناما
أنظر الأفق إذا ولى الدجى ... أترى للجمر في صدري اضطراما
أنظر الأفق إذا حان الدجى ... شفقاً تلقى عليه أم كلاما
قلب الطرف أصيلا كي ترى ... لاصفرار الوجد في وجهي ارتساما
مقلتي لاذقت يوماً دارها ... حرم الشوق عليها أن تناما
أنظر الغيث تجده أدمعا ... فارقتها لم تطق فيها مقاما
هأنا الأخرى تفانيت أسى ... فعلام العتب يا بدر علاما؟
أنت في الأفق مكين ثابت ... وأنا أحبو على الأرض دواما
حولك الأنجم في أفلاكها ... تتفانى فيك حباً واحتراما
كيف ترجو زورة مني إذن ... أيزور البدر من يغشى الرغاما
هاك عرف الناس، من لم يرضه ... تركوا أعظمه فيهم رماما
كلما أرقب وصلا قيل لي ... جعل الرحمن لقيانا حراما
ما صنيعي في آله قادر ... صير اليأس لقلبينا لزاما
ليته إذ مد أحبال النوى ... صير الاشواق برداً وسلاما
هذه قصة حب ثائر ... كشف الشعر لنا عنها اللثاما
أنت أنت الشمس ما أحظى بها ... رغم وجدي وأنا البدر تماما
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(797/42)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الدكتور طه حسين في المغرب:
نشرت الصحف أخيراً أن الدكتور طه حسين بك سيسافر من فرنسا إلىإسبانيا تلبية لدعوة إلى إلقاء محاضرات بجامعاتها. وقد علمت أن الدكتور بعد أن يفرغ من مهمته في إسبانيا سيسافر منها إلى شمال إفريقية لإلقاء محاضرات ببعض المعاهد المغربية.
ولا شك أنك ستدهش لذلك كما دهشت أنا له. . . فبلاد المغرب التي يحكمها الفرنسيون، والتي سيتجه إليهاالدكتور طه حسين بطبيعته الحال - تعد مغلقة أمام الثقافة العربية المشرقية الحديثة، فلا يكاد يدخلها من مصر وما يليها من الأقطار العربية صحيفة ولا كتاب! فكيف يدخلها طه حسين ويحاضر فيها وهو في الصف الأول من منتجي هذه الثقافة؟ ولكن ماذا أصنع وقد استقيت الخبر من مصدر عليم أثق به، كما يقول زملاؤنا الصحفيون، ولم يبعث على التصديق.
ثم قرأت في العدد الأخير من مجلة (الاثنين) ما يلي:
(قال لنا أحد الحجاج المغاربة الذين مروا بمصر في طريقهم إلى الحجاز: إن الكتاب المصري أصبحت له سوق سوداء في شمال أفريقيا لندرة الحصول عليه، وأن هنالك مجاعة ذهنية بسبب خلو المكتبات من آثار مصر الفكرية).
قرأت هذا فازدادت دهشتي من السماح للدكتور طه بدخول تلك البلاد، وخطر لي خاطر أستبعدته، لأنه لا يمكن إن يعاهد على التحدث عن الثقافة الفرنسية دون العربية!
إنها لمعجزة حقاً أن ينجحالدكتور طه حسين في (تهريب) الثقافة العربية إلى مناطق النفوذ الفرنسي في شمال إفريقية. . .
كرسي شوقي أيضاً:
أفضى الأستاذ مصطفى عامر بك وكيل جامعة فؤاد الأول إلى مجلة (البشير) بتصريح في مسألةكرسي شوقي، فقال: (يسر الجامعة ملء هذا الكرسي بدون توان، وإنما الذي لا بد منه هو اختيار الشخص الذي يتذوق الأدب الحديث عامة، المتشبع بشعر شوقي وروح(797/43)
شوقي وفلسفة شوقي خاصة، حتى يتمكن من ملء الكرسي وإعطاء شوقي حقه ومكانه من أدباء العصر الحديث. وإذا تيسر الحصول على هذا الشخص، فكلية الآداب لا تترد في اختياره) إلى أن قال: (أولى بنا أن نترك الكرسي شاغراً حتى يتيسر لنا الشخص المطلوب). ولم يتعرض لنقطة اختيار الأستاذ من الجامعة أو من خارجها.
ويفهم من تصريحه نصاً أن الجامعة لم تقع عينها إلى الآن على شخص يصلح لهذه الأستاذية، ولكن هل يفهم منه - عن طريق الاستنتاج - أن الجامعة لا تجد في أساتذتها - وهم تحت عينها - من يصلح؟ أما غير أساتذتها من الأدباء، فهل بحثت عمن يصلح منهم؟ على أن هذا السؤال يجب أن يسبقه إقرار المبدأ وهو الاستعانة بأساتذة من خارج الجامعة.
والسؤال الأخير: هل صحيح أنه لا يوجد - في الجامعة أو في غيرها - من يتذوق الأدب الحديث ويلم بدقائق شوقي؟
وما كان يصح أن يتكون هذا السؤال لولا تلك المقدمات، فليس شوقي وشعره معضلة إلى هذا الحد!.
اجتماع بجوار (كشك الموسيقى):
شاء صديقي الأستاذ وديع فلسطين أن يفرع الحديث في موضوع اختيار الجامعة أساتذتها، فأرسل الكلام في شعب هذا الموضوع، دائراً حول المحور الذي يظهر من قوله: (إن الحياة كثيراً ما تكون أقدر على إعداد المرء ثقافياً وعلمياً من الجامعة. وقد أعترف جورج برناردشو بأنه لم يدخل جامعة ولا معهداً عالياً، وأنه كان خامل الذكر في دراسته الابتدائية).
وأذكر - لهذا - ما رأيته بعدد من جريدة (المؤيد) يقع تاريخه قبيل سنة 1908، فقد كنت أتصفح أعدادها منذ سنوات بدار الكتب المصرية، فلمحت هذا التوقيع (عباس محمود العقاد) تحت أسطر تتضمن دعوة الراسبين في الشهادة الابتدائية إلى الاجتماع بجوار (كشك الموسيقى) بحديقة الأزبكية. . ولعل التلميذ عباس محمود العقاد كان يريد بهذا الاجتماع أن يتزعم زملاءه للمطالبة بعقد امتحان (ملحق) لهم، وقد يكون الأمر غير ذلك. ولكن المعروف في تاريخ الأستاذ الكبير أنه لم يستمر في دراسة مدرسية بعد التعليم الابتدائي، لحسن حظه! فقد كسب بذلك وقتاً طويلاً من عمره كان يضيع في تعلم ما لا يرد ولا يفيد،(797/44)
فأستغل وقته ووجه همه إلى ما أراد. وهو يعبر عن ذلك في مقال بالعدد الأخير من مجلة الهلال بقوله: (ومما أحمد الله عليه أن أساتذتي جميعاً قد اخترتهم بنفسي، ولم يفرضهم علي أحد يملك سلطة التعيين والفصل دون غيره، لأنهم كانوا جميعاً مؤلفين مشهوداً لهم برسوخ القدم في صناعة التأليف أقرأ منهم من أشاء وأعرض عمن أشاء، وأطلبهم حين أريد وحيث أريد).
وقد بلغ العقاد في الأدب والفكر ما بلغ، ولست أقول كما قال الأستاذ وديع إنه يكفي أن يقدم كتاباً من كتبه - بغير اختيار - إلى الجامعة لينال عليه درجة الدكتوراه. ولا أذهب إلى ما ذهب اليه من المطالبة بالدكتوراه لرواد الحركة الفكرية الحديثة في مصر. فالدكتوراه لا تزيدهم شيئاً، إلا أن يكون المطلوب مساواتهم بعشرات الدكاترة من الخريجين العاديين.
إنما تمنح الشهادة أو الدرجة الجامعية لتدل على قيمة صاحبها العلمية أو الفنية، فإذا ما ظهرت هذه القيمة وأصبحت معروفة بين الناس فما الحاجة الالدليل عليها؟.
مؤسسة الثقافة الشعبية:
تلقينا من مؤسسة الثقافة الشعبية التي كان أسمها الجامعة الشعبية، بياناً ضمنته خلاصة ما قامت به منذ إنشائها سنة 1946، جاء فيه أن من أغراض المؤسسة (تنظيم دراسات عقلية وفنية لتكوين الشخصية، وترقية الملكات، ورفع المستوى الثقافي، والعمل علنشر الثقافة العامة بين طبقات الشعب على أساس من الرغبة الشخصية دون اشتراط مؤهلات معينة).
ويبدو أن الكبار أحسن من الصغار حظاً بهذه المؤسسة، ففي هذا الوقت الذي يواجه فيه الآباء مشقات إلحاق أبنائهم بالمدارس، الناجمة من عدم وجود محل، أو عدم توافر الشروط، أو العجز عن أداء (المصروفات) وما يصحب ذلك في الغالب من الوساطات والشفاعات - في هذا الوقت يستطيع الكبير الذي لا تقل سنه عن 16 سنة، والذي أتقن القراءة والكتابة، وقد حرم من الزود بما يميل إليه من ألوان الثقافة وأنواع الفنون أن يستدرك ما فاته ويحقق رغباته في وقت فراغه، لا يتكلف غير رسم زهيد مائتي مليم في السنة.
وبالمؤسسة عشر شعب، نذكر منها شعبة الدراسات الأدبية، وشعبة الدراسات الاجتماعية، وشعبة الفنون الجميلة وتشمل الرسم والتصوير والزخرفة والموسيقى والأغاني والتمثيل،(797/45)
وقد أنشئ للعام القادم شعبة اللغات الحية. وللمؤسسة فروع في الأقاليم يشمل كل فرع منها جميع الشعب، وقد بلغ عدد الطلاب في العام الماضي بالقاهرة والأقاليم 10504 منهم 4828 سيدات وآنسات أكثرهن في شعب الثقافة النسوية.
نظرة في منهج الشعبة الأدبية:
وفي زيارتي المركز العام للمؤسسة أطلعني سكرتيرها الأستاذ محمود الغزاوي على منهجالشعبة الأدبية، وأذكر اولا ما جاء في آخر هذا المنهج من أن هدفها هو (أن تجعل من طالبها إنساناً متذوقاً للجمال الأدبي، وقارئاً يقرأ عن فطنة ويدرك عن وعي، وكاتباً يحسن التعبير عما في نفسه، ومتحدثاً يزن الكلام إذا نطق، وأن تقضي على العامية اللغوية والفكرية وأن تحبب الشعب في القراءة المجدية التي هي أهم وسائل المعرفة، وأن تساهم في الإعلام من قدر الأدب الرفيع ومحاربة الأدب الهزيل الرخيص).
وهذا كلام طيب، وهو الهدف الذي يجب أن يرمي اليه. ولكن هل المنهج المرسوم يؤدي اليه؟ يحتوي المنهج إجمالا على: تعريف وتحليل للكتاب العربي، تراجم وتحليل للشخصيات الأدبية، ودراسة علمية للأسلوب مع التفرقة بين الأساليب المختلفة، تحليل وعرض لنصوص من جيد النثر على أن تكون تطبيقاً على ما في الدروس العلمية.
وأنا أعتقد أن دراسة هذه الموضوعات لا تسير في الطريق إلى تحقيق ذلك الهدف، بل إنها تصد الناشئ في الأدب عنه، وكان يعد الموضوع الأخير، وهو عرض النصوص، من الاتجاه الصحيح، لولا ما أفسده من أن المقصود به أن يكون تطبيقاً على الدروس العلمية.
إن هذه الموضوعات تدرس في المدارس الثانوية وما يماثلها، وتسخر أذهان الطلاب في حفظ التعريفات وإحصاء الخصائص والفروق والصفات، وليس وراء شئ من ذلك أي طائل، فمثلا يحفظ الطالب في السنة الثانية سبب تأليف أبي الفرج كتاب الأغاني ويحفظ وصف الطريقة التي أتبعها في تأليفه وغير ذلك، ولكن ليس في ذهنه فكرة واضحة عن الكتاب، ولو رآه ما عرف أنه المقصود بذلك الدرس الذي حفظه. . .
يخيل الىّ أن الذين يضعون هذه المناهج إنما يريدون أن يدلوا على علو كعبهم في فنون الدراسات الأدبية، كما تدل على علو كعبهم ايضاً تلك الكتب المدرسية التي يؤلفونها وفق هذه المناهج، ولكنك إذا نظرت إلى هذا كله من جهة أخرى هي تعريفهم أنفسهم للبلاغة(797/46)
بأنها مطابقة لمقتضى الحال، وتأملت الفرق الكبير بين حال الطلبة الناشئين وبين اسلوب هذه المؤلفات ومستوى تلك المناهج، علمت ما في عملهم هذا من مجانبة للبلاغة ودلالة على ضد (علو كعبهم) فيها. . .
كنت وما زلت أود أن تخرج المؤسسة الشعبية على تلك المناهج الرسمية الجامدة، فتقدم لطلابها الأدب نفسه خالصاً من تلك الدراسات، تعرض نماذج سهلة منه وتيسر لهم قراءة الكتب الدانية من إفهامهم، مع شرح من الاساتذة، وتحليل طفيف يقصد منه إلى الإساغة والتذوق، لا إلى معرفة الخصائص والاصطلاحات العلمية والبحث عن أسباب الصعود والهبوط في (بورصة) الأدب!
إن الذين يطلبون الأدب في مؤسسة الثقافة الشعبية ينبغي أن يكون أهم ما يقدم لهم رحيق الآداب المصفى، لأنه هو الذي يستجيب لميولهم التي دفعتهم إلى طلبه، وهو الذي يلائم شهيتهم البادئة. وهم بعد أحرار في إقبالهم وإعراضهم، لا تملك المؤسسة من أمرهم كما تملك المدارس من أمر تلاميذها. . . وأخشى إن دأبت على هذا المنهج أن تضطر إلىإلغاء الشعبة الأدبية بعد أن تدل (التجربة) على عدم نجاح الدراسة فيها. . . .
عزيزتي السيدة بديعة مصابني:
قرأت في إحدى الصحف أنك تفكرين في إحضار فرقة (باليه) راقصة من باريس للعمل في مسرح (كازينو أوبرا) في الشتاء القادم. فسررت لهذا الخبر، ولا يسعني إلا أن أشكرك بالنيابة عن الحكومة المصرية وعن دار الأوبرا الملكية لأن استقدامك فرقة الباليه من شأنه أن يعفى الدولة من الجهود والأموال التي تبذلها لاستقدام هذه الفرقة وأمثالها، من شأن عملك هذا يا سيدتي أنيعفى مدير الأوبرا من الترحال والأسفار والتنقل بين البلدان الأوربية للبحث عن هذه الفرق والتعاقد معها، ومن شأن هذا العمل الجليل ايضاً أن يعفى خزانة الأمة المسكينة من تلك الأموال التي تدفعها إلى تلك الفرق والتي ينفقها المدير في رحلاته.
ومما يضاعف الشكر لك (يا ست بديعة) أن تكوني قد أردت معاونة الدولة في أعبائها الكثيرة المرهقة، إذ رأيتها تعمل جاهدة على استكمال ما ينقص هذا الشعب المسكين فتجلب الفرق الراقصة لعلاج أمراضه ومحاربة أعدائه الثلاثة المشهورة المعروفة بالفقر والجهل والمرض!(797/47)
ورأيت من جهة ثانية أن الدولة مرهقة بأعباء أخرى جدية. . . كتدبير الخطط السياسية الخارجية وإيفاد الوفود إلى الهيئات الدولية، فأردت - مشكورة - أن تقولي لها: خل عنك عبء الترفيه عن ذوي الهموم المترفة! وتفرغي لغيره مما يليق بك. . .
وسواء أصح ذلك الخبر أم كان من خيال زميل بارع، فهو على كل حال يلقى ضوءاً على جهة الاختصاص فيتبين (باري القوس) ليعطاها. . . وه أيضا فرصة طيبة لأكتب لك هذا وأحييك تحية فائقة. . .
عباس خضر(797/48)
البريد الأدبي
اصطلاحات فنية:
في افتتاحية الرسالة (ع 795)، عبر الأستاذالجليل الزيات عن ألـ بـ (اليبرْشية)؛ ولقد كنا نؤثر لو أن الأستاذ الكبير أصطفى لفظ (الرئاسية) ترجمة لهذا الاصطلاح الفني، متمشياً في ذلك مع فقهاء القانون المصرين الأعلام. .
وفي اعتقادنا أنه لفظ مناسب تماماً لمفهوم الـ أجمله الأستاذ في هذه الكلمات: (النظام الإداري الذي يقضي بتدرج المناصب في العمال والأعمال والتبعات، فيبدأ الأمر بالأصغر فالصغير، ثم ينتهي إلى الكبير فالأكبر).
ولقد يكون من المفيد - في هذا المجال - أن نشير إلى أن هذه (الرئاسية) هي اسلوب النظام الإداري الموسوم بالمركزية وهو نظام بمقتضاه تنعقد السلطة الإدارية بيد الحكومة المركزية، بينما لا يصير لما عداها من الهيئات والشخوص المعنوية الإقليمية أو المصلحية، سلطة جوهرية محسوسة الأثر بالقياس إلى سلطانها الواسع الكبير.
وعلى العكس من ذلك نظام (اللامركزية) الذي يتضمن أقتطاع (بعض) من هذه السلطة - بداءة -، وفي حدود رقابة خاصة - بمباشرة وظيفتها الإدارية الإقليمية أو المصلحية.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر - كما يقولون - فقد يجمل بنا التنبيه إلى (لَبْسِ) تقع فيه الصحف هذه الايام، حين تعبر عن النظام الإداري القائم الآن بوزارة المعارف المصرية - وأعني به (اللا وزارية) بـ (اللامركزية)
وهو (لْبسُ) أدى إليه الأعتقاد - خطأ - بأن ترك المراقبين والمفتشين ونظار المدارس ومن إليهم من الرؤساء الإداريين بالأقاليم، يبتون نهائياً - في بعض أحوال خاصة - في شئون وظيفتهم الإدارية، دون الرجوع في ذلك إلى مكاتب وزارتهم القائمة بالعاصمة. . . يعني أن الأسلوب المختار في الإدارة في وزارة المعارف المصرية هو الأسلوب اللا مركزي
وقد فات هذه الصحف، أن الشرط الأساسي والجوهري لقيام (اللامركزية)، هو أن تستمد الهيئات الإقليمية سلطاتها المحلية من طريق الانتخاب لا التعيين، وأن يكون الانتخاب - غالباً على الأقل - في تكوين الهيئات. فأين هذا من النظام القائم الآن في هذه الوزارة،(797/49)
والذي لا يعدو أن يكون (صورة مخففة) من المركزية المطلقة (الوزارية يطلق عليها - أي على هذه الصورة المخففة - في الاصطلاح الفني لفظ: (اللا
وهكذا يتضح من هذا البيان أن النظام المعمول به اليوم في وزارة المعارف المصرية، هو نظام مركزي في صورة مخففة (لا وزارية)؛ وعلى ذلك. . . فمن الخطأ - فنياً - إدماجه في دائرة اللامركزية.
عبد العزيز الكرداني
(الرسالة) آثرنا كلمة الييررشية كما آثر من قبلنا كلمات
الديمقراطية والأرستقراطية والتيوقراطية الخ. . لأن كلمة
الرياسة وأشباهها لا يؤدي المعنى الكامل الرفيق للفظ الأجنبي
إلا بقوة الوضع وكثرة الاستعمال وطول الزمن.
يدعو إلى الإسلام
ورد لي خطاب عن يد مجلة الرسالة من الأديب أحمد عادل يثني فيه عليّ لما أكتبه في الرسالة عن الصهيونية وفلسطين ثم يدعوني إلى الاسلام، فأشكر له هذه الدعوة لأنه طبعاً يريد بها لي الخير. ولكنني عجبت من أنه يختصني بهذه الدعوة، وفي البشر نحو 1500 مليون نسمة ليسوا مسلمين فهم ايضاً خليقون بدعوته. فهل يظنني حضرته ملحداً أو وثنياً؟ لا. يا عزيزي. إن لي ديناً لا يقل عن الإسلام في فضائله. دع ما يلابسه في بعض الأحوال والأزمان من ترهات رجاله، كما يلابس كثيراً من عقائد البشر. في أمريكا طائفة نصرانية يقال لذويها (الموحدون) فهي تنبذ من المسيحية كل ما هو غير معقول كالتثليث والمعمودية الخ. . ويعتنقها جلة أهل العلم والفضل وتتمسك بتعاليم المسيح التي تصلح لكل امة من ملل العالم كقوله: أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من اساء إليكم. أغفروا للمذنبين إليكم الخ. ربما قابلها في القرآن الشريف ما في سورة (فصّلت).
فإنا إلى حد ما، من هذه الطائفة. وقد جمعت عقيدتي في مطلع قصيدة للشيخ نصيف البازجي في كتابه مجمع البحرين:(797/50)
الحمد لله الصمد ... حال السرور والكمد
الله لا إله إلا ... الله مولاك الأحد
لا أمّ للهِ ولا ... والدُ له ولا ولد
أول كل أول ... أصل الأصول والعمد
الحول والطول له ... لا درع إلا ما سرد
إلى آخرها كلها من هذا الطراز العاطل (لا نقط في حروفه) والاستاذ أحمد عادل بارك الله فبه يحثني على قراءة القرآن الكريم. فليعلم أن عندي مصحفين. وقد قرأت القرآن كله وقرأت بعض سوره مراراً. وأومن بكل فضائله ومحامده، ولكنني لا أرى لماذا أنادي باعتناقي الإسلام ولي من العقيدة الدينية العالمة ما أتمنى أن يكون لملايين غيري حتى لجانب من المسلمين أنفسهم. وربما كنت أقرب إلى الإسلام من كثيرين من المسلمين. فليطمئن أخونا أحمد أني لست بعيداً عنه لا كثيراً ولا قليلا. اللهم إذا كان أعتقاده نظيفاً من الخرافات والترهات
بقيت بعض نقط أخرى في كتابه لا محل لها في الرسالة فإذا أنبأني بعنوانه كاتيته بها.
نقولا الحداد
حول حب الرافعي:
قرأت في العدد من (الرسالة) كلمة بسط قائلها فيها رأيي الأستاذتين حسنين مخلوف وكامل محمود حبيب في حب الرافعي.
والرأيان يرميان إلى أن حب الرافعي لم يكن صادقاً - كما قال صاحب الكلمة - وليس في هذين الرأيين جديد، فقد قرأنا من قبل رأي تلميذ من تلاميذ الرافعي لعله أقربهم إليه وهو الأستاذ محمد سعيد العريان، وقد أورد رأيه هذا في كتابه عن الرافعي فقال: (إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع. ولكنه عند الرافعي هو حيلة النفس إلى السمو والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول. . . هو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس وينبوع الرحمة وأداة البيان. . . كذلك كان الحب عند الرافعي، ولذلك كان يحب). . .(797/51)
ويقول بعد هذا بقليل. (وبلغ الرافعي (بعصفورة) إلى غايته وأشتهر شاعر الحسن) وترنم العشاق بشعره وما بلغت عصفورة إلى غايتها، ثم مضى كل منهما إلى طريق، وأتم الرافعي طبع ديوانه، وكما ينتهي الحب الذي هو حيلة الحياة لإيجاد النوع إلى الزواج أو الغاية الأخرى، ثم يبدأ في تاريخ جديد، كذلك أنتهى حب الرافعي وعصفورة وأنجب ثمرته الشعرية، ثم كان تاريخ جديد. . .
وعلى مثال هذا الحب كم كانت له حبيبات، وكم أنجبت ثمرات، وإنه ليخيل إلي أن الرافعي كان كلما أحس حاجة إلى الحب راح يفتش عن (واحدة) يقول لها: تعالي نتحاب لأن في نفسي شعراً أود أن أنظمه أو رسالة في الحب أريد أن أكتبها! ولقد سمعته مرة يقول لإحداهن. . . وسمعت إحداهن مرة تقول له: متى أراني في مجلسك مرة لتكتب عني رسالة في (ورقة ورد)؟.
ويتضح من هذا أن الرافعي - رحمه الله - كان يبحث عن الشعر والفن في الحب، فالحب عنده وسيلة إلى تصوير عواطفه، وتسجيل خواطره، فلم يكن الرافعي يبحث عن الحب نفسه، وإنما لغاية فيه.
على أن هذا لا يمنع أن يكون الرافعي قد أحب حباً صادقاً إحدى هؤلاء اللائي كتب عنهن، فلا نحكم حينئذ جملة بأن حب الرافعي كان مصنوعاً كله. ويؤيد هذا كلمة قالها الأستاذ العريان في (حياة الرافعي): (. . . وسعي إلى الحب أول ما سعى على رجليه، منطلقاً بإرادته ليبحث في الحب عن ينبوع الشعر، فلما بلغ أغلق الباب دونه، فظل يرسف في أغلاله سنين لا يستطيع الفكاك من أسر الحب).
وإذن فقد أحب الرافعي، وظل يرسف فلال الحب سنين طويلة. . فلا يمكن بعد هذا أن يقال إن كل ما كتبه الرافعي في فلسفة الحب والجمال شعراً أم نثراً غير صادر عن عاطفة صادقة وحب خالص.
ولا حاجة بنا ايضاً إلى سؤال تلاميذ الرافعي أو غيرهم عن توفر (الصدق الفني) فيما كتب أم عدم توفره.
حسن صادق حميدان(797/52)
القصص
الأنموذج
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
ترجمة الأديب محمد فتحي عبد الوهاب
كانت بلدة (أترات) الهلالية الشكل ذات الجرف الأبيض، والبحر الأزرق والرمل الذهبي، تنام في هدوء تحت شمس شهر يوليو المشرقة، وقد برز على طرفي الهلال قوسان من الصخور مدليان على الماء السكن، أصغرهما واقع إلى الشمال كأنه قدم قزم، وأكبرهما إلىالجنوب كأنه ساق عملاق.
واحتشد الناس على طول الساحل راقدين على الرمل يتأملون المستحمين، وازدحمت شرفة (الكازينو) بالقاعدين أو السائرين المتنزهين، فبدت ملابس السيدات المزركشة ومظلاتهن الحريرية الموشاة كأنها حقل منسق الزهور. وأبتعد البعض عند آخر الشرفة يتجول هنا وهناك ويتمتع بالطقس الهادئ اللطيف بعيداً عن ثرثرة البعض الآخر.
ومشى جان سمر الرسام الشاب المعروف بجانب مقعد متحرك يدفعه الخادم، جلست عليه زوجه المقعدة تحدق في حزن إلى صفاء السماء تارة، والى الحشد المبتهج الجالس تحت الشمس الزاهية تارة أخرى. كانا صامتين لا ينظر أحدهما إلى الآخر.
وأخيراً قالت السيدة إلى زوجها - دعنا نقف هنا لحظة. كان كل من مر عليهما ويراهما صامتين ينظر اليهما نظرة إشفاق. كانوا يعرفون قصة غرامهما، تلك التي أصبحت أسطورة البلدة. لقد عقد عليها الرسام على الرغم من عاهتها.
وجلس على مسافة غير بعيدة منهما رجلان يتحدثان ويتطلعان إلى البحر، وتابع أحدهما حديثه قائلاً كلا، هذا غير صحيح. إني أعرف جان سمر جيداً.
- إذا لماذا تزوجها؟ لقد كانت مقعدة عندما عقد عليها أليس كذلك؟
- أجل، أنها الحقيقة. لقد تزوجها. . . حسناً. . . تزوجها كأي رجل يتزوج، لأنه كان مجنوناً.
- ولكن لا بد وأن هناك سبباً آخر.(797/53)
- سبب آخر يا صديقي؟! لا يوجد هناك سبب آخر. إن الرجل مجنون لأنه مجنون. أنت تعرف أن الرسامين مشهورين بالغريب من الزواج. إنهم غالباً ما يتزوجون الفتيات اللاتي يرسمونهم، وقد كن قبل الزواج خليلات لغيرهم من الرجال. أنهن سلع قديمة بمعنى الكلمة!.
لماذا يتزوجونهن؟ سؤال لا يستطيع أحد أن يجيب عليه إجابة شافية. وقد يظن المرء أن الاختلاط الدائم بهن يجعلهم يعافون مثل هذا النوع من النساء. ولكنه ظن غير صحيح. فانهم بعد أن يرسمونهن يتزوجونهن. حبذا لو قرأت كتاب (زوجات الفنانين) لألفونس دوديه إنه كتاب ثمين واقعي قاسي النقد
ان زواج هذين الاثنين قد حدث بطريقة محزنة غير مألوفة. وفي الحق، لقد مثلت الفتاة مهزلة أو قل مأساة، وقامرت بكل شئ في ضربة واحدة. هل كانت تحب جان؟ لا يستطيع أحد أن يتكهن بذلك في مثل هذه الحالات. من ذا الذي يستطيع أن يتحدث عن مقدار عنصر القسوة، ومدى عنصر الإخلاص اللذين يدخلان في أعمال المرأة؟ إنهن دائماً لغز لا يستطيع الرجل حله. فنحن طالما نسأل أنفسنا. هل هن مخلصات، أم هن يغلبن علينا دوراً؟ يا رفيقي العزيز، إنهن مخلصات وغير مخلصات لأن ذلك جزء من طبيعتهن. فكر في الوسائل التي يتخذها أمهرهن للحصول على كل ما يرغبنه منا. أنها وسائل نستنتجها، وبسيطة لأننا بعد ما نقع في الشرك لا نملك إلا أن نتعجب دهشة ونسأل أنفسنا (حسناً. . . هل هن حقيقة خدعتنا بمثل هذه السهولة؟ وهن دائماً يسلكن الطريق الذي رسمنه لأنفسهن. خصوصاً عندما يرغبن في الزواج. على أية حال إليك قصة سمر).
(كانت الفتاة أنموذجاً عنده. وكانت حسناء ساحرة ذات جمال فتان. ووقع الرسام في شراك حبها كأي رجل يقع في حب فتاة جذابة كثيرة التردد عليه. وخيل إليه أنه يحبها حقيقة. إن تلك ظاهرة عجيبة. فإنه حالماً يرغب رجل في امرأة يقتنع في قرارة نفسه اقتناعا تاماً أنه لا يستطيع من بعدها عيشاً. ولكن الرسام كان يدرك تمام الادراك أن ما حدث قد حدث له من قبل، وأنه عندما تشبع الرغبة يعقبها التقزز. وكان يعرف أنه لكي يقضي سني حياته مع مخلوق بشري آخر، فإنها ليست العاطفة الحيوانية البدائية الزائلة هي ما يحتاج اليه، وإنما التشابه الروحي والتآلف في الشعور والطباع، وأنه يجب عليه أن يكون قادراً على(797/54)
التمييز - وسط الجاذبية التي تؤثر عليه - فيما إذا كان ذلك الانجذاب نتيجة عوامل طبيعية محصنة، أو هو نوع من الخيال، أو نتيجة اتحاد روحي متين.
ومع ذلك فقد ظن الرسام أنه يحبها، وتعهد مئات المرات وأقسم على الاخلاص لها وألا ينظر إلى امرأة غيرها وكانت في الحق رشيقة؛ رشاقة فتيات باريس. وكانت تثرثر وتتحدث بعبارات جنونية في صور مسلية. وتومئ إليه بحركات جذابة؛ وتف أمامه وقفات فاتنة تسر كل فنان.
ولم يدرك جان مدة ثلاثة أشهر بأنها في قرارة نفسها لا تختلف عن أية فتاة أخرى من طرازها. بل أستأجر لها داراً في (أندرس) لقضاء فصل الصيف. وكنت هناك ذات مساء عندما ابتدأت أولى الشكوك تفرض نفسها فرضاً على نفس صديقي. كانت ليلة بديعة، فقررنا التنزه على ضفة النهر. وكان القمر يرقص على صفحة الماء المتألق، فتلألأ صورته بتأثير تيار الماء الجاري.
كنا نسير على طول الضفة، وقد تملكنا شعور مبهم من السعادة، تلك السعادة التي كثيراً ما تغمرنا في مثل ذلك المساء الكامل. وشعرنا بأننا نستعرض منظراً ساحراً، وبأننا وقعنا في حب سماوي مع ما صورته لنا مخيلتنا الشاعرية. كنا ندرك في عجب هذه الأحاسيس الغريبة المثيرة. وسرنا صامتين متأثرين من هذا الهدوء وبهجة هذه الليلة. وظهر القمر كأن ضوءه يخترق ذاتنا؛ يخترق الجسد فيغرق الروح في حمام شذي من الرضا. وفجأة انفلتت من جوزفين - وكان هذا أسم الفتاة - صيحة وهب تقول - هل رأيت السمكة الكبيرة وهي تقفز هناك؟
فأجاب الرسام دون أن ينظر إليها أو يعي كلماتها - نعم يا عزيزتي.
ففقدت هدوءها وقالت: كلا إنك لم ترها؛ فأنت تستدبرها
فأبتسم وقال: إنك على حق. إن المساء من الجمال حتى لا أستطيع أن أفكر إلا فيه.
فلم تفه بكلمة فترة من الزمن، ثم قالت أخيراً وكأنها شعرت بأنها في حاجة إلى الكلام - ألن نذهب غداً إلى باريس؟
- لست أدري.
فقطبت قائلة - هل تعتبر ذهابك إلى نزهة دون أن نتحدث نوعاً من التسلية؟ حتى الأغبياء(797/55)
يتحدثون!
فلم يجبها. ثم أدركت ببديهة المرأة المتمردة أنها أثارته، فطفقت تغني أغنية شائعة. فتمتم قائلاً - أصمتي أرجوك.
فردت في حنق - ولماذا أصمت؟
فأجاب - إنك تفسدين علينا لذة التمتع بجمال الليلة.
ثم حدث ما لا يستطيع تجنبه في مثل هذه الظروف، ذلك المنظر الكريه. ابتداء بتوبيخات أعقبتها اتهامات ثم بكاء. وأخيراً عادا إلى الدار وتركها تصيح دون أن يقاطعها.
وظل ثلاثة اشهر يناضل في يأس في سبيل الفكاك من الأغلال التي كانت تقيده بها. وكانت قد استغلت عاطفتها المسيطرة عليه لتجعل من حياته بؤساً وجحيماً. . ولذلك كانا يتشاجران ليل نهار. . وأخيراً قرر أن يضع حداً لكل ذلك ويهرب. . . فباع لوحاته وأقترض مالاً وتركه وخطاب وداع على حافة المدفأه، ثم التجأ إلى منزلي.
وقبيل الساعة السادسة بعد الظهر قرع الجرس فذهبت وفتحت الباب. . . فبدأ لي وجه امرأة نحتني جانباً ثم اقتحمت طريقها إلى مرسمي. كانت جوزفين. وهب الرسام واقفاً عند ما دلفت إلى الغرفة وألقت برسالته والنقود تحت قدميه في اشمئزاز ظاهر، ثم صاحت في جفاء - إليك نقودك -. لست في حاجة إليها.
كانت ترتجف وقد شحب لونها وهي في حالة تدفعها إلىارتكاب أي شئ. أما الرسام فكان منفعلا شاحب الوجه غيظاً وكمدا. فسألها - ما الذي تريدينه؟
فأجابت - إني لا أود أن تعاملني كعاهرة. لقد أردتني فاستجبت لرغبتك. ولم أطلب منك شيئاً. إنك لا تستطيع أن تندبني.
فضرب الأرض بقدمه وقال - كلا. . إن هذا لكثير. إذا كنت تعتقدين أن. . .
فأمسكت بذراعه وقلت له - لا تقل شيئاً يا جان. دع الأمر لي.
وجعلت أتحدث معها في لباقة، واستعملت كل ما وعاه عقلي من مناقشة خليقة بهذا الموقف، فاصغت إليّ دون أن تتحرك وهي تحدق أمامها صامتة عنيدة. أخيراً بعد أن قلت كل ما استطعت قوله، وبعد أن أيقنت أنه لا توجد ذرة من الأمل في السلام، فكرت في إطلاق آخر سهم من جعبتي فقلت:(797/56)
- إنه لا يزال يحبك يا عزيزتي. ولكن عائلته ترغب أن تزوجه. أنت تعرفين ما أعني.
فاضطربت وقالت - آه. . . لقد بدأت أدرك الآن.
ثم التفتت إليه وقالت - إنك. . انك ستتزوج؟ فأجاب قس شراسة - نعم.
وتقدمت خطوة نحوه ثم قالت - إذا تزوجت سأقتل نفسي. أتفهم ذلك؟
فهز كتفيه وقال - حسناً. . . اقتلي نفسك.
أتقول. . . أتقول. . أعد ذلك مرة أخرى.
فردد قائلا - حسناً. . . أقتلي نفسك إن أردت.
فقالت وقد أزداد شحوب وجهها - لا تعتقد أني لا أعني ما أقوله. سألقي بنفسي من هذه النافذة. فجعل يضحك، ثم ذهب إلى النافذة، وفتحها. وأخيراً انحنى لها في احترام قائلاً في أدب ساخر - من هذا الطريق. . . بعدك يا سيدتي.
فنظرت إليه هنيهه وقد ظهر وميض من الجنون في عينيها. ثم. . . ثم اسرعت كأنها في سبيل اجتيازها سياج حقل، وانطلقت أمامنا، ثم تخطت حاجز الشرفة، واختفت عن أنظارنا.
لن أنسى ما حييت تأثير تلك النافذة المفتوحة، عندما شاهدت الفتاة تسقط أمامي. وتراجعت بدون وعي إلى الخلف خشية أن أنظر إلى أسفل، كأني سأسقط أنا الآخر. ووقف جان دون حراك ينظر في ذهول.
وحملت الفتاة مكسورة الساقين، وأصبحت عاجزة عن السير بعد ذلك. وجن عشيقها تحت تأنيب ضميره. وكأنه شعر بأنه مسئول عما حدث، فعاد إليها وتزوجها.
. . . هذه هي القصة بحذافيرها يا صديقي)
كانت الشمس على وشك المغيب، وشعرت الفتاة ببرودة الجو، فرغبت في العودة إلى الدار. وأبتدأ الخادم يدفع المقعد صوب البلدة. وسار الرسام بجانب زوجه بعد أن مكثا ساعتين دون أن يفوه أحدهم بكلمة.
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب.(797/57)
العدد 798 - بتاريخ: 18 - 10 - 1948(/)
تشبه. . . . وشفاعة!
للأستاذ نقولا الحداد
دهش العالم العربي في الشهر الماضي من حكم محكمة الجنايات العراقية على المليوني اليهودي شفيق عدس بالموت ثم بغرامة خمسة ملايين دينار (جنيه). كانت الجريمة أن هذا العراقي الذي اكتسب هذه الملايين من العراقيين بالأحابيل المالية المعروفة عند اليهود كان يشتري من مخلفات الجيش الآلات والأدوات الحربية من دبابات ومركبات ضخمة ومدافع وطائرات الخ، ثم يفككها ويشحنها إلى إيطاليا بوصفها حدايد (خردة) ومن هناك ترسل إلى تل أبيب، ثم يعيد الصهيونيون تركيبها كما كانت!
بهذه الحيلة الخبيثة اكتسب الصهيونيون في فلسطين قدرا كبيرا من السلاح الذي كانوا يحاربون به العرب، ومنهم العراقييون، فكأن المال كان يسفك الدم العراقي!
وكيف تكون الخيانة العظمى غير هذا؟
وقصاص الخيانة العظمى الموت!
ومنذ عهد موسى إلى اليوم كان اليهود يعتبرون كل عمل لا يقبله شعب الله المختار خيانة عظمى يستحق فاعله الموت بوضعه في الغائط المغلي. كذا ورد في التلمود الأصلي. أما حكومة العراق فاكتفت بالشنق!
ذلك ما فعلته لا حكومة العراق في أحد الخونة من رعاياها. . . فماذا فعلت سائر الحكومات العربية الأخرى؟ أليس عندها خونة من اليهود الذين جمعوا الثروات الطائلة في جميع البلاد العربية؟ لو تيسر لنا إحصاء ثروات البلاد العربية لوجدنا ثلاثة أرباعها لليهود، واليهود أقلية في البلاد قد يناهزون الواحد في الألف، ثم إذا تحققنا من مصير هذه الثروات وجدنا جانبا منها قد تسرب إلى تل أبيب لكي ينفق في محاربة أولاد ناوناسنا، أليست هذه خيانة عظمى؟ دعك من الحكم بالإعدام في مغلى الغائط.
لا نطلب حما بالإعدام على من يستحقون الإعدام فذلك شأن القانون، إنما نطلب تجريد اليهود من المقدار الأكبر من هذه الثروات التي استنزفت من البلاد، نطلبها لكي نعول بها إخواننا الفلسطينيين الذي شردتهم الأسلحة القتناة بأموال اليهود المختلسة من البلاد!
إن أكثر من نصف مليون عربي فلسطيني طردهم اليهود طرداً من بلادهم وشردوهم شرقا(798/1)
وجنوبا وشمالا، ونهبوا أموالهم وغلالهم وحوانيتهم واحتلوا بيوتهم ونسفوا بعضها. . فكم يساوي هذا الذي اغتصبه اليهود؟ ألا يساوي على الأقل 50 مليون جنيه؟
أفيعد ظلما أن تسترد هذه الملايين من أغنياء اليهود المقيمين في البلاد العربية وهم يستنزفون أموالهم، قبل أن يقدموها هدايا سخية لدولة إزرائيل الملفقة؟ أليس حقا ان يمون بها هؤلاء المشردون ريثما تتيسر لهم العودة إلى بلادهم آمنين!
من مهازل بعض اللبنانيين أنهم يقترحون على المطران مبارك الذي نفى بسبب مهازله السياسية، ثم غفر له قداسة البابا فعاد إلى ميدانه، يقترحون عليه أن يشفع عند اليهود للعرب اللاجئين لكي يسمحوا لهم أن يعودوا إلى بلادهم. ذلك لأن مساعي المطران جورج الحكيم، مطران فلسطين، لإعانة للاجئين لا تعجبهم؛ فسألنا أحد هؤلاء المقترحين: ولماذا تطلبون شفاعة المطران مبارك؟ فأجاب لأن اللبنانيين أصدقاء اليهود فهم يقبلون شفاعتهم ويراعون خاطرهم!
ما شاء الله! إلى هنا وصلنا؟ نطلب وساطة مطران اليهود لدى اليهود لينعموا على العرب ببيوتهم!
من قال للمطران مبارك وللمقترحين الشفاعة عليه أن العرب يقبلون هذه الصدقة منهم؟!
سيعود العرب - بقوة الله - إلى بلادهم مرفوعة الرأس مرهوبي الجانب عندنا تنكسر شوكة الطغاة الأزاذل!
كنا نظن أن أصدقاء اليهود في لبنان يقترحون على المطران مبارك أن يجمع الإعانات للاجئين إذا كان له نفوذ بين شعبه. وإذا كانت له هذه المكانة عند اليهود، فلينقذ القرى اللبنانية التي غزاها اليهود وطردوا منها. أليست هذه القرى في دائرة إبرشيته؟!
وهل يستطيع المطران مبارك أن يدفع الذئاب من اليهود عن العرب لو أتيح له أن يعيدهم إلى بلادهم. لماذا (طفشوا)؟ أليس لأن أطفالهم ونساءهم العزل لا يستطيعون أن يقاوموا ذئاباً. فماذا أعد لحمايتهم من هؤلاء الذئاب؟!
إن من البلايا التي نزلت بفلسطين أن بعض أثرياء اللبنانيين كانوا سببها، لأنهم باعوا لليهود أملاكهم التي في فلسطين، فوجد الصهيونيون رحابا فسيحة يزرعون فيها مستعمراتهم، ويمدون منها أيديهم وأرجلهم إلى ما حولهم، حتى يطغوا في المستقبل على(798/2)
لبنان، ويومئذ يصبح المطران مبارك حاخاما لا مطرانا - فليهنأ هو وقومه حينذاك!
فإذا ذكرت نكبة فلسطين، وذكرت إغاثة أهلها، فليخرس الجانب الصهيوني من اللبنانيين!
حسبهم خزيا أنهم لم يفعلوا شيئا في حرب اليهود، ولم يحموا بعض القرى اللبنانية منهم!
نقولا الحداد(798/3)
معاهد العلم في عصر الحروب الصليبية:
الجامع الأزهر في عصر الحروب الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
الجامع الأزهر أول مساجد القاهرة، أنشأء جوهر الصقلي بأمر المعز لدين الله أول خلفاء الفاطميين في مصر وتم بناؤه سنة 361هـ، ومنذ ذلك الحين ظفر الأزهر بعناية الفاطميين جيلاً بعد جيل.
وكانت الغاية الأولى من تشييده إقامة الصلاة فيه، ولكن لم يمض على إنشائه وقت قصير حتى سأل الوزير يقعوب بن كلس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق؛ وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة، كما كانوا موضع عطف الخليفة يخلع عليهم في عيد الفطر.
صار الأزهر منذ ذلك التاريخ من أهم مواطن الثقافة في مصر، ولكن التعليم قد اصطبغ فيه ولا ريب - بالصيفة المذهبية؛ فكان العفة يدرس فيه على مذهب الشيعة، وتقرأ فيه كتب هذا المذهب، من مثل كتاب الاقتصار الذي وضعه أبو حنيفة النعمان بن محمد القيرواني قاضي المعز لدين الله في فقه آل البيت، وكتاب دعائم الإسلام، وكتاب الأخبار في فضل الأئمة الأبرار له أيضا، كما كانت تقرأ فيه الرسالة الوزيرية، وهي كتاب الوزير ابن كلس في الفقة الشيعي على مذهب الإسماعيلية، وأفنى الناس بما فيه.
كانت الصبغة الدينية هي الغالبة على الأزهر، أما العلوم الفلسفية فقد نهضت بها دار الحكمة، وإن كان يبدو أن هذه العلوم أيضا كانت تدرس بالأزهر في حدود ضيقة؛ فقد كان الدعاة وهم أساتذة دار الحكمة يجلسون للتدريس في الجامع الأزهر أحيانا كثيرة، وكان داعي الدعاة يدرس فيه درسا خاصا للنساء.
ولست ادري إن كان غير مذهب الشيعة الإسماعيلية في الفقة وغيره قد وجد سبيله إلى الأزهر في الأوقات التي كانت تضعف فيها حدة الدعوة الإسماعيلية كما حدث في عهد الأفضل الأمامي المتسامح وزير الآمر، والعادل بن السلاء السنى وزير الظافر.(798/4)
غير أنه مما لا شك فيه أن مذهب الشيعة قد اختفى تدريسه من الأزهر يوم قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية، وأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، ذلك أنه قلد وظيفة القضاء صدر الدين بن درباس، وهو شافعي، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين في بلد واحد؛ فأبطل الخطبة من الجامعالأزهر وأقرها بالجامع الحاكمي لكونه أوسع، والظاهر أن ذلك لم يكن إلا تبريراً لما أراده صلاح الدين من إهمال أمر الأزهر وصرف عناية الناس عنه، لأنه أقدم موطن لنشر دعوة الشيعة في البلاد، ولولا ذلك لأمكنه أن يجمع فيه مرة وفي الجامع الحاكمي أخرى، ولكن إهمال الأزهر كان خطه رسمها صلاح الدين وخلفاؤه من بعده، فأنشئوا المدارس المختلفة التي نافسته، وأقبل عليها المدرسون أكثر من إقبالهم على الأزهر، لكثرة ما تدره هذه المدارس وطلبتها، ولما كانت تظفر به من رعاية أولى الأمر؛ ولكن التدريس لم ينقطع من الجامع الأزهر برغم انقطاع خطبة الجمعة فيه، وإهمال السلاطين أمره، وها هو ذا عبد اللطيف البغدادي يأتي إليه في عصر العادل ويتردد عليه عشر سنين، مستمعا إلى الأساتذة المحاضرين حيناً، وقائما بتدريس الطب والفلسفة والمنطق طرفي النهار وحينا آخر.
وظل الجامع مهملاً من سلاطين الدولة، والجمعة فيه معطلة زهاء مائة عام إلى أن سيكون بجواره الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في عهد بيبرس، فانتزع كثيرا من أوقاف الجامع كانت مغصوبة بيد جماعه، وتبرع له، وأصلحه وأقام فيه منبراً، وأذن القاضي الحنفي بإعادة الخطبة فيه، فأعيدت يوم الجمعة 18 ربيع الآخر سنة 665هـ، وعمل الأمير فيه مقصورة رتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء على مذهب الشافعي، ورتب محدثا يسمع الحديث النبوي والرقائق، ورتب سبعة لقراءة القرآن، ووقف على ذلك أوقافا دارة تكفيه، ولم يلتث الأوهر أ، ظفر بمكانة سامية يدل عليها أن الذي تولى أمر خطابته في عهد المنصور قلاوون وابنه هو عبد الرحمن ابن بنت الأعز، قاضي قضاة الشافعية، ومن بعده كذلك محمد بن إبراهيم بن جماعة، وذاع صيت الأزهر منذ ذلك الحين، وأصبح معهدا علمياً معهداً علميا يؤمه الناس من كل فج، ولقى الأزهر من العناية الشئ الكثير، وزاد في مجده أن عزوات المغول في المشرق فضت على معاهد العلم فيه، وأن الإسلام أصابه في المغرب من التفكك والانحلال ما أدى إلى دمار مدارسه الزاهية.(798/5)
وحفظ التاريخ من أسماء مدرسيه في عصر الحروب الصليبية محمد بن بركات بن هلال الصوفي، أحد فضلاء المصريين وأعيانهم أخذ النحو والأدب عن أبي الحسن بن بايشاذ فأتقنهمها، وله أيضا معرفة حسنة بالأخبار والأشعار، ولكنه كان منحطا في الشعر، يقول السيوطي عنه: ليس له احسن من هذين البيتين:
يا عنق الإبريق من فضة ... ويا قوام الغصن الرطب
هبك تجافيت وأقصيتني ... تقدر أن تخرج من قلبي؟!
والظاهر أنه كان مضيقا عليه في الرزق، يدلنا على ذلك ما روى من أنه وقف للأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، وهو راكب في الطريق فأنشده:
يا رحمة الله التي ... واسعها لم يضق
لم يبق إلا رمقي ... فاستبق مني رمقي
وعن قليل لا أرى ... كأنني لم أخلق
فسأل الأفضل عنه، فقيل له هذا بحر العلم ابن بركات النحوي، فقال له الأفضل أنت شيخ معروف، وفضلك موصوف، وقد حملنا عنك الوقوف وأمر له بشيء. ويبدو أنه اتصل بالأفضل بعدئذ، وألف له كتاب الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ، ولعل هذا الكتاب وما ألفه في النحو من تصانيف من بين ما قرأه في الأزهر على طلبته، كما أنه وضع كتابا في خطط مصر أجاد فيه، وتوفى في ربيع الآخر سنة 520 وله مائة سنة وثلاثة أشهر.
ومنهم الحسن بن الخجطير أبو علي النعمان الفارسي المعروف بالظهير؛ وقد اشتغل زمنا طويلا بالتدريس في الأزهر، روى عنه ياقوت أنه قال: أنا من ولد النعمان بن المنذر، ومولدي بقربة تعرف بالنعمانية، ومنها ارتحلت إلى شيراز، فتفقهت بها، فقيل لي الفارسي، وأنتحل مذهب النعمان وأنتصر له فيما وافق اجتهادي. قال ياقوت: وكان عاملا بفنون من العم، قارئا بالعشر والشواذ، عالما بتفسير القرآن وناسخه ومنسوخه والفقه والخلاف والكلام والمنطق والحساب والهيئة والطب، مبرزا في اللغة والنحو والعروض والقوافي ورواية أشعار العرب وأيامها وأخبار الملوك من العرب والعجم. ومما ساعده على معرفة ذلك كله أنه كان يحفظ في كل فن من هذه الفنون كتابا، فكان يحفظ في التفسير كتاب لباب التفسير(798/6)
لتاج القراء، وفي فقه الشافعي كتاب الوجيز للغزالي، وفي فقه أبي حنيفة كتاب الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني، نظم النسفى، وفي الكلام كتاب نهاية الإقدام للشهر ستاني، وفي اللغة كتاب الجمهرة لابن دريد، وكان يسردها - كما قيل - كما يسرد القارئ الفاتحه، وكان يحفظ في النحو كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وفي العروض كتاب الصاحب بن عباد، وكان يحفظ المنطق أرجوزة أبي علي بن سينا، وكان قيما بمعرفة قانون الطب له، وكان عارفا باللغة العبرية ويناظر أهلها بها وقد ظل يحفظ متون هذه العلوم مدة أربعة عشرة سنة كان يكتبها الواحا، ويحفظها كما يحفظ القرآن.
وكان الغالب عليه الأدب واللغة يجلس بين يديه شيخ الديار المصرية عثمان بن عيسى النحوي، ويسأله سؤال المستفيد عن حروف من حوشي اللغة. وفي مرة سأله عن كلمة منحوتة، ففسرها له، وأملاه كلمات على مثالها في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسمى ماأملاه كتاب تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب. وكان ابن سناء الملك يسأله عن كلمات غريبة كلام العرب وهو يجيب عنها بشواهدها. وقد كانت معرفته باللغة سبا في انتصاره على المجير البغدادي عندما دخل خوزستان؛ فقد بدأ مناظرته إياه بألفاظ حوشية أحب المجير أن يستسفر عنها؛ رتبة الأمامية يجهل لغة العرب. . . والمناظرة إنما اشتقت من النظير، ليس هذا بنظيري، لجهله بأحد العلوم التي يلزم المجتهد القيام بها. وكثر لغط أهل المجلس وانفض، (وشاع في الناس أنى قطعته).
وكان الظهير قد أقام بالقدس مدة، فأغراء العزيز عثمان ابن صلاح الدين بالحضور معه إلى القاهرة، وأجرى عليه كل شهر ستين ديناراً أو مائة رطل خبزا، وخروفا وشمعة كل يوم ومال أليه الناس والعلماء، وصار له سوق قائمة، إلى أن قرر العزيز المناظرة بينه وبين شهاب الدين الطوسي، ولكن الطوسي في يوم عيد انتهز كلمة مجامله قالها الظهير للعزيز في أثناء الكلام، ولم يبرر الطوسي النطق بها فأصماه، وانكسرت حرمته عند العزيز، وشاعت القصة بين العوام، وانتهى أمره بأن انضوى إلى المدرسة التي أنشأها تركون الأسدي يدرس بها مذهب أبي حنيفة إلى أن مات سنة 598.
وكان قد أملى كتابا في تفسير القرآن وصل فيه إلى تفسير قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض. في نحو مائتي ورقة، ومات ولم يختم تفسير سورة البقرة. وله كتاب(798/7)
في شرح الصحيحين، اختصره من كتاب الإقصاح في تفسير الصحاح للوزير ابن هبيرة، وزاد عليها أشياء وقع اختياره عليها، وكتاب في اختلاف الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ولم يتمه، وله خطب وفصول وعظمية مشحونة بغريب اللغة وحواشها.
ومن أساتذة الأزهر يؤمئذ نصرين محمود المظفر الأديب النحوي اللغوي، قرأ الأدب على ابن الخشاب والكمال الأنباري، وسمع بمصر من البوصيري، ولعله قرأ بالأزهر رسالته في الضاد والظاء، ومات سنة 630.
وممن تصدر للاقراء فيه شيخ الإقراء بالديار المصرية ابن يوسف الشطنوفي المولود بالقاهرة سنة 647، وقد تكاثر عليه الطلبة وكان الناس يكرمونه، وينسبونه إلى الصلاح ويحمدون سيرته، وانتفع به جماعة في القراءة، كما كان معدودا من النحاة، وله اليد الطولى في علم التفسير، أملى فيه تعليقا على طلبته، وكان أستاذه الروحي عبد القادر الجيلي، جمع أخباره ومناقبه في ثلاثة مجلدات، وسمى كتابه البهجة، ولشدة إعجابه به دون كل ما سمعه عنه ولو كان الراوي غير أهل للثقة، فدخل في الكتاب حكايات كثيرة مكذوبة. وقد ولى الشطنوفي أيضا تدريس التفسير بالجامع الطولوني والإقراء بجامع الحاكم، ومات بالقاهرة سنة 713.
ومن أعلام الصوفية الذين جلسوا بالجامع الأزهر، وتحدثوا بمبادئهم فيه يومئذ تاج الدين بن عطاء الله السكندري المتوفي سنة 709، كما كان يقيم عمر بن الفارض الشاعر الصوفي المشهور.
(حلوان الحمامات)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(798/8)
3 - الاتجاهات الحديثة في الإسلام:
القانون والمجتمع
للأستاذ هـ. ا. ر. رجب
. . . كانت هناك من الجهة الأخرى حق واحد - كان التشريع الاجتماعي في الإسلام حازما فيه، ومشدداً، هو حق العلاقات الشخصية التي تشتمل على الزواج والطلاق والإرث. وليس السبب في هذا الحزم أن هذه العلاقات عامة يمتد تأثيرها إلى كل فرد في المجتمع فقط، بل أيضا لأن تنظيماتها الأساسية واضحة في القرآن. وليس هناك - كما رأينا - مسلمون - إلا قليلا - يرغبون في الجدل في أن القرآن هو الكلام الحقيقي لله. ولئن كانت الثغرة التي بين الاعتقاد في ضرورة التغير، وبين التغيير الحقيقي في القانون، لا يمكن وصلها بسهولة وسرعة في أي نظام، فإنها ستتأثر قطعا بالثورة؛ كما قد حدث في تركيا. ولذلك نجد في كل دولة إسلامية - ما خلا تركيا - أن القانون الفردي للمسلمين لا تنفذه المحاكم الأهلية، وإنما تنفذه المحاكم الدينية أو الشرعية. بل كان لكل طائفة من الطوائف الدينية المختلفة محاكم تنفذ قوانينهم، طبقا لنظمهم المرعية في تقاليدهم الدينية.
وفي الحق أن ميدان العلاقات الشخصية هذا، هو الوحيد الذي طالب المجددون فيه بالإصلاح، وقد بلغ الخلاف أشده بين الأحرار والمحافظين. فليس من شك في أن الوعي الاجتماعي عند الطبقات المثقفة قد أيقظته المساوئ التي صبحت انتشار الطلاق وتعدد الزوجات، فهم قد تنبهوا إلى نتائج قانون الميراث في القرآن وقانون الأوقاف والصدقات. . . .
ويصف القرآن في تفصيل دقيق، الأنصبة والنسب التي توزعبمقتضاه التركة بين الورثة والمستحقين فأعطى لمن يرث من النساء بوجه عام - نصف ما يخص زملاءهن من الورثة المذكور. وليس من الصعب أن نلمس مدى عدالة هذه القاعدة، عندما تطبق على الملكية المنقولة (آلت يكانت الشكل البدائي للملكية في بلاد العرب) بيد أنه حينما تطبق على الملكية الزراعية، أو رأس المال في الصناعة، تكون النتائج وخيمة من الناحية الاقتصادية. فأوقاف الأسر المعوزة وهباتها كانت سببا في التدهور الأخلاقي والخسارة الاقتصادية. لزمن مضى كانت هناك حركة جامحة في مصر وبعض الأقطار الأخرى(798/9)
لوضع حد لها.
ومن السهل أن نفهم المصلح المسلم الملخص ونواسيه في المأزق والذي قد يجد نفسه واقعا فيه؛ فليس هو معاديا لمجرد سلطان التراث الاجتماعي الذي مضى عليه اكثر من ألف عام من الحكم المطلق، بل هو معاد كذلك للمعارضة الطبيعية للرجل العادي، في التنازل عما يتمتع به من امتيازات. ثم إن عليه - بعد ذلك - أن يواجه الحقيقة، وهي ا، هذه التقاليد والعادات الاجتماعية في حاجة إلى أن تغذيها نصوص واضحة مباشرة من القرآن. وهذه الصعوبة ليس لها نفس الأهمية عند غير المتدين، على الرغم من أن المدنيين من غير رجال الدين يلقون نصبا في منعهم الجدل الديني، لدرجة أن الإنسان لا يستطيع أن يتأكد دائما من أن كتابا أو مقالة عن (المسألة النسائية) في الإسلام، هي من وضع عالم دنيوي أو مصلح حديث!
وليس من شك في أن الأمثلة على الجدل الدنيوي يمكن أن نجدها في الأدب التركي الحديث، وفي الأدب الهندي ايضا؛ ولكن لاشك في مدى ما تظهره هذه الأمثلة من رأي إسلامي عام - إلا في تركيا. وإنه لعلي جانب كبير من الأهمية هنا أن ننظر في بعض السبل التي اتبعها المصلحون المسلمون لمواجهة المشكلات.
ففي قصيدة من أشهر القصائد التي نقلها إقبال نادي الشاعر الاجتماعي بالمساواة الشرعية للنساء:
هناك المرأة؛ أمي، وأختي، وابنتي.
إنها هي التي تناجي العواطف المقدسة من أعماق نفسي.
هنالك محبوبتي؛ شمسي وقمري ونجمي.
إنها هي التي تعلمني كيف أفهم شعر الحياة!
كيف استطاع القانون السماوي أن يحط من قدر هذه المخلوقات الجميلة؟
لعمري إن المتعلمين قد أخطئوا في تفسير القرآن:
أساس الأمة والدولة هو الأسرة.
وما دامت المرأة من غير اعتبار تبقى حياة الأمة ناقصة غير كاملة.
إن الأسرة يجب أن ترعاها العدالة.(798/10)
لذلك كانت المساواة ضرورية في ثلاثة؛ في الطلاق والانفصال وفي الوراثة!
وربع الرجل في الزواج، فما أبعد الأسرة والأمة عن الرقى والعلا. . .!
على أن زيا جوك ألب لم يقنع باحتجاجاته الشعرية، فقد أخذ على عاتقه - كاجتماعي - أن يستنبط مبادئ تفسير القانون، من جديد. ولهذا الغرض نجده قد ميز بين العوامل (الآلهية) والعوامل (الاجتماعية) في الشريعة، فالعوامل (الاجتماعية) في رأيه، لم تكن مؤسسة على نصوص واضحة، بل كان أساسها (العرف). وهذه الكلمة - التي تعني القانون التقليدي في عرف العلماء - عرفها هو بأنها (القرارات القيمة للناس بأية وسيلة يطالببها (الرأي الجمعي) أو (الشعور الوطني) وعلى كل حال فمن الواضح أن هذه المحاولة لبسط الاختلافات ذاتية خالصة، وأن وضع القانون التقليدي على قدم المساواة مع القانون السائر - ولو اعتبر خلاصة للتجارب التاريخية - يتعاض مع أسس الفكر الإسلامي.
ولست أعرف في أية كتابات للمجددين العرب الذين نقلت عنهم، أسلوبا مشابها لهذا في المناقشة.
ولقد ألح ممثلوا الحركة النسائية العربية القديمة، في القضاء على نواحي الضعف الاجتماعي - أكثر من القانونية، وكان الشاعر العراقي: جميل صدقي الزهادي، أحد الأبطال الأوائل الذين نقدوا عزلة النساء الاجتماعية، وصرحوا مرارا وتكرارا بميوا أعظم نبلا نحوهن قال ما ترجمته:
إن المرأة والرجل سواسية في الجدارة.
فعلموا المرأة، لأن المرأة عنوان الحضارة!
وأعظم القصائد انتشارا قصيدته: (السفور):
اخلعي الحجاب يا ابنة العرب! لأن الحجاب داء يفتك بالمجتمع. كل شئ يسمو إلى التجديد، فلماذا تظل هذه الأعجوبة جامدة! لم يناد نبي بالحجاب بشكله هذا، لا، ولا فاهت به أية حكمة!
إنه جدير باللوم في نظر القانون السماوي والطبيعة، والذوق والعقل والضمير!
لقد ادعوا أن في الحجاب وقاية، بل كذبوا لأنه في الحق يجلب العار!
لقد أدعو ان في التبرج مخل بالآداب، بل كذبوا لأنه أفضل طهر ووقار!(798/11)
ليس الحجاب هو الذي يرعى شرف الفتاة!
إنما تحرسها تربيتها ومشاركتها في الثقافة!
فهذبوا عقول العذارى، حتى تظل أجساد العذارى في مأمن من الشرور والآثام!
ومهما يكن من شئ، فإن الزهاوي لم يفعل أكثر من التلميح والإشارة إلى قوانين الزواج والطلاق. وأعظم من ذلك. الكاتب الاجتماعي التونسي طاهر الحداد الذي نشر في عام 1930 كتابا عن (نساؤنا في الشرع وفي المجتمع). وقد ذكر فيه أن قوانين القرآن وأصول التشريع الإسلامي لا ينبغي أن تعتبر نهائية، وثابتة لا تتغير، بل يجب أن ينظر إليها بعين التطور، ورأى أن روح الحضارة الإسلامية تتطلب عمليات مستمرة من هضم مميزاتها الخاصة للرقي الحضاري.
كما أن الأدب العربي في مصر - في تصويره وتحليله للمشكلات الاجتماعية - قد دخل فيهنقد مفهوم ضمنا للعقبات القانونية التي تقف في سبيل المساواة التامة للنساء. وكان من بين الاقتراحات الأولى التي حيرت وزارة الشئون الاجتماعية الجديدة - نشئت في مصر عام 1929 - تقييد تعدد الزوجات، وتحديد حالات الطلاق. ولكن على الرغم من أن الحلول التي وضعتها الوزارة لم تشتمل على أكثر من جزء معقول من الإصلاحات التي يرغب فيها الرأي العام المثقف، فإنها قد تسببت في ظهور شكوى ممثلي الرأي العام في الأزهر، من أنها كانت تناقض الشريعة، وأن الأجدر بالوزارة أن تنتبه إلى سباق الخيل والميسر وسائر المساوئ الاجتماعية الأخرى التي نهى عنها القرآن والسنة.
إن المجدد الحقيقي لا يمكنه أن يتخلص من مأزقه، بتشتيته الشمل بسهولة؛ إذ أ، القرآن ينبغي أن يكون حقيقيا ونهائيا. ومع ذلك فليس من السهل أن نشعر بوجود شئ من الخطأ في السلوك الاجتماعي السائد بين المسلمين. ثم إن مما يجرح شعوره كمسلم، أو يخدش كرامته كرجل، أن يرى أن الشيء الوحيد الذي يعرفه رجل الغرب العادي عن الإسلام، هو أن المسلم قد يكون له أربع زوجات! ويزيد آلامه استفادة إرساليات التبشير من مشكلاته. فليس لديه سوى مخرج واحد؛ فإن المثل العليا في الإسلام لا تقع في أي طريق من المستويات العليا، وعلى ذلك فلا بد أن علماء القرون الوسطى حادوا عن الروح الحقيقي للقرآن والإسلام.(798/12)
وهذه الأخطاء يجب أن يقتفى آثارها إلى منابعها، ويشك فيها. وعندما تصبح واضحة فإن تعاليم القرآن والسنة، ستظهر عدالة هذه القواعد تجاه الرجال والنساء. وستعنى هذه التعاليم - قبل كل شئ - باتجاهات العامة، وتحدد ما يجب أن يكون عليه روح التفكير في القانون وتنفيذه. وهذه الروح - فيما يتعلق بالنساء - لا يمكن أن تكون سوى جزء من المواساة الإنسانية، واحترام الشخصية، واجتهاد لدفع المساوئ التي خلفتها طبيعة المجتمع القاسية الغاشمة.
وبعد فهم هذا الاتجاه ومعرفة قيمته وهضمه تماماً، فأن التشريع القرآني سيفهم على وجهه الصحيح. ويرى المحدد أنه عندما يحدث كل هذا، فإن موقف المسلمين تجاه المرأة، ونظرتهم إلى شخصيتهم ومركزهم الاجتماعي، والتشريعات الخاصة بحمايتهم، كل هذه ستكون أعظم وأكثر سماحة في نوعها، بل إنها تفوق مثيلاتها في سائر الأديان.
إذن فهذا هو العمل أمام المجدد. أن تكون القول بأن أول أعمال المجدد المعارض هو إعادة مجد العقيدة في الإسلام، بين المسلمين الجاحدين؛ وذلك بإثبات أبهى محاسن دينهم بجلاء. ثم إقناع المسلمين المتأخرين (الطراز القديم) بأنهم بمحافظتهم الاجتماعية، وتمسكهم بنصوص القانون الحرفية، إنما يطفئون النور! وإلى جانب ذلك لا يستطيع المجدد أن يقاوم الفرصة للقضاء على الابتسام الكاذب في وجه المبشر، بمهاجمة التقاليد الجنسية في المسيحية. وعلى ذلك ففي مناقشة المسائل الدينية قلما يختلف المعارضون والمخالفون. وليس عجيبا أن المسلمين الذين يعرفون الغرب عن طريق الحياة في المدن الكبرى، والأفلام والقصص والمجلات؛ إن هؤلاء المسلمين ينظرون بازدراء إلى المستويات والتقاليد الجنسية في المجتمع الغربي.
(يتبع)
محمد محمد علي(798/13)
من صميم القلب:
لك الله أيها العربي!. . .
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
لك الله أيها العربي! كم ثارت في وجهك الشدائد فصمدت لها في بطولة، واعتراضت طريقك العقبات فذللتها برجولة! وكم أتى الدهر بنيانك من القواعد فاستأنفت البناء، وداهمت حياتك النائبات فصبرت على القضاء!
لك الله ما أفقر دنياك وأغنى قناعتك، وما أقسى عيشك وأسمى غايتك، وما أبخل زمانك واسخي راحتك!
أنت للفقر تدافعه، وللبؤس تصارعه!
أنت للضعف تغالبه، وللذل تحاره!
أنت للعدو تجاهده، وللدهر تعانده!
أنت لوزرائك تدينهم على التكاسل، ولزعمائك تحاسبهم على التخاذل، ولعلمائك تشكو ما هم فيه من تجاهل!
أنت لأغنيائك تألم من بخلهم، ولفقرائك تبكي على ذلهم، ولنفسك تتوجع على ماأصابهم من حرمان، وما تجرعت من كؤوس الهوان!
بل أنت للمصائب كلها، وللخطوب جمعها. . . فما أعظم ما تلقاه، وما أقل حظك في الحياة!
كأني بفتن الدنيا تبحث عن محتمل لها فلا تظاهر إلا عليك، وبمحن الزمان تنشد صابرا عليها فلا تداعي إلا إليك، فإذا عسف القوى يلقى الأشواك في دربك، وإذا ضعف الموروث يدفن الاستغاثة في قلبك!
فلك الله من شاك كظيم لا يجد سميعاً!
ولك الله من مجاهد عظيم لا يلقى تشجيعاً!
أين رجالك الذين وعدوك الكرامة فأذلوك، وزعماؤك الذين لبسوا مسوح الرهبان فأضلوك، وأغنياؤك الذين شربوا دمك ثم استأكلوك، وعلماؤك الذين اتخذوا آلهتهم هواهم ثم أهملوك؟
أين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم ليقاتلن صفا كالبنيان المرصوص أو يحرروا فلسطين ولينهض نهضة واحدة للغاصبين الغادرين، وليعاقبن بالطرد أنذال الشعوب، جرائم الفساد،(798/14)
لصوص العالمين؟
أين الذين أشعلوا بنارهم حماستنا ثم أطفئوها بمائهم، وفتحوا بهتافهم عيوننا ثم أطبقوا برقادهم، وما زالوا يعالجوننا بالعاطفة ونحن إلى العقل أحوج، ويأخذوننا بالارتجال ونحن نروم النظام، ويرقدوننا بالمسكنات ونحن نلتمس الشفاه!
إن هؤلاء سواء عليهم أدللتهم أم لم تدلهم لا يكترثون، وسواء عليهم أذكرتهم بتقصير أم لم تذكرهم لا يأبهون، وسواء عليهم أصرحت لهم أم عرضت بهم لا يبالون.
ولو أنك أكثرت الصراخ المختنق، ومزقت الصدر الحرج، وقطعت الحنجرة المكروبة، وأطلقت الحشرجة المكبوتة، فلن تسمع منهم إلا ألسنة بليلة، وأصواتا ندية، ربما أرضت البيان الرفيق، ولكنها لا ترضى الحق الصريح!
ولكن. . . هون على نفسك، فلا تريض باليأس قلبك، ولا تعصر بالقنوط فؤادك، بل اصرخ أيها العربي في النفوس الراقدة علها تفيق، وفي الأروح الهامدة علها تتحرك، وفي الضمائر الميتة علها تحيا، وفي المشاعر الساكتة علها تنطق، فقد اقتربت النار وقضى الأمر، وقد داهمك اللصوص بالخيانة والغدر، وقد سرقوا متاعك بالخداع وبالمكر. على أنك إذا وثبت وثبك، وأطعت قلبك، أطفأت النار قبل أن تلتهم الديار، ولحقت باللصوص الجبناء قبل أن يولوا الأدبار، واسترجعت متاعك قبل أن يتواروا عن الأبصار!
وإنى لأحذرك أيها العربي قوما كالثعالب، أنت تعرفهم بلحنهم الكاذب، فقد لدغت من جحرهم مرات (والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) ولقيت من مكرهم وبلات، والمكر لا يخفى على ذي عنين. . .
حذار من أولئك الثعالب لا تبذل لهم مقادتك، فإنهم لا أيمان لهم، ولا عهود عندهم، ول مواثيق لديهم (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).
فثق بنفسك، وتوكل على ربك، واستعنبإخوانك العرب في مصر التي تعلم سهولها الكرامة، وفي سوريا التي تلقى بطاحها دروس الشهامة، وفي لبنان الذي تعود جباله الشم على الصبر، وفي الحجاز الذي يهدى صعيده الطيب إلى الطهر، وفي العراق التي تلهم واحاتهم الشجاعة، وفي الأردن الذي توحي وديانه البسالة، وفي اليمن التي تحبب رياضها بالإيمان،(798/15)
وفي الجزائر التي تزين رمالها الكفاح، وفي كل قطر عربي لا ينام عن حقه، ولا يفقد ثقته بنفسه، ولا يزيد - إذا ما بهرته الشدائد، وعصفت به الأهوال - على أن يهتف بملء صوته، ومن أعماق قلبه، هتاف فخر العرب وسيد الخلق محمد بن عبد الله صلوات الله عليه يوم قال لعمه أبي طالب: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
فلتأس جراحك بهذه الكلمة النبوية الطاهرة فإنها خير بلسم؛ ولتمسح بها الدموع عن وجنتيك ولا تضرب بكفك ولا تلطم. ثم إذا بقى الدهر وظل العدو يجالدك، فلك الله أيها العربي وهو خير الناصرين.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح(798/16)
الفتوة عند الصوفيين
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
أما المنزلة الثالثة فهي تختص بما يكون من الفتى نحو خالقه، وهذه المنزلة تشتمل على أمور ثلاثة:
أما الأمر الأول: فهو أن الفتى يجب ألا يتعلق في السير للوصول إلى الحضرة الربانية بدليل، فالسائر في طريق الوصول إلى هذا المقصد بسير على قدم اليقين ويستدل في طريقه بالبصيرة والمشاهدة، ويسترشد بما تقععليه من آيات باهرة تدل على قدرة ألله وكمال ذاته، فاسترشاده بغيره هذا وسيره مع الدليل آية على عدم نفاذ بصيرته وسلامتها، ودليل على أنه لم يخلص في طلبه ولم يشتم رائحة اليقين؛ وفي هذا قال بعضهم (من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم تحل له الفتوة أبدا). والمعرفة عندهم ضرورية لا استدلالية، لأن الرسل عليهم السلام لما أرسلهم الله سبحانه وتعالى إلى عباده دعوهم إلى عبادته وتوحيد ذاته ولم يدعوهم إلى الإقرار بالله سبحانه، بل دعواهم دعوة من لا يشك في وجود القدرة الإلهية، وأن الله هو الصانع الحكيم، وخاطبوهم خطاب من ليس عنده أدنى شبهة في الإقرار به، وأن وجوده ليس في حاجة إلى الاستدلال عليه، ولا مرشد للسير في طريق الوصول إليه، فخاطبوهم قائلين: (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض؟)
وكيف يدعى الفتوة من يطلب الاستدلال على من هو أظهر من دليله بل هو الدليل والمدلول؛ فالقاصد له من نوره ودلائل قدرته وآثار حكمته أكبر دليل، ومن خلص قلبه وكمل إيمانه وتفتحت بصيرته وضح أمامه الطريق وظهرت له معالم الشهود فيرى المشهود بغير دليل، ولا ينال هذه المرتبة إلا من أفنى نفسه في ذات مشهوده وترك ما سواه؛ وهذا هو معنى الأثر الإلهي (إذا أحببت عبدي كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، فبي يسمع وبي يبصر).
أما توقف طالب الوصول وتقيده بالدليل الذي يهديه الطريق، دليل على الشك في إخلاصه. ومن يطلب الاستدلال على الوحدانية ومشيئته وقدرته - فليس له أدنى درجة من الفتوة بل يكون مخالفاااا لها من كل أوجهها.(798/17)
سئل أحدهم عن ذلك فقال: لو أن رجلا بعث لك رسولا يدعوك إلى داره فقلت للرسول: لا أقوم معك حتى تقيم الدليل على وجود من بعثك، وأنه مطاع في أهله وأنه أهل لأن يقصد ويغشى بابه، لكنت في الفتوة دعيا) فكيف تطلب الدليل على ن وجوده ووحدانيته وقدرته وربوبيته أظهر من كل دليل تطلبه، وأقوى من كل برهان تستدل به، فما من دليل يطلب للاستدلال عليه إلا ووحدانيته وكماله وعفوه وإحسانه اظهر من كل دليل. فأبعد الناس عن الفتوة من طلب الدليل على من هو دليل على نفسه.
وليس يصح في الأذهان شئ ... إذا احتاج النهار إلى دليل
فالسالك الصادق صاحب اليقين الذي وهبه الله نور البصيرة وكشفه له عن جوهر الحقيقة لا يحتاج إلى دليل، لأن تقيده بالدليل يفرق عزمة قلبه، وهذا انقطاع وخروج عن الفتوة، وفي هذا قالوا: إن الدليل يفرق والمدلول يجمع، فالسالك يقصد الجمعية على المدلول، فما له ولتفرقة الدليل. وشبهوا المتقيد في سلوكه بالدليل بالمتكلم الذي يغنى حياته بحثا في الزمان والمكان والجوهر والأعراض، ويقصر همه على هذه الأشياء لا يتجاوزها للوصول منها إلى خالق الكون وعبوديته وتقرير وحدانيته بمقتضى أسمائه وصفاته، لا يشتغل قلبه بسواه ولا يطلب دليلا على من هو أقوى دليل، قال الحلاج: (إن المتكلم مستغرق في معرفة حقيقة الزمان والمكان، والعارف قد ضن بالزمان أن يذهب ضائعا في غير السير إلى رب الزمان والمكان).
والأمر الثاني: أن تكون وجهة الفتى صادقة، وإجابته لداعي الحق خالصة، لا يشوب محبته يعوض، ولا يطلب من الحظوظ غير الاستغراق في محبة معبوده والفناء في ذاته؛ فإن فعل ذلك فقد نال كل حظ وفاز بكل عوض كما في الأثر الإلهي:
(ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شئ، وإن فتك فاتك كل شئ. أنا أحب إليك من كل شئ).
فالفتى من يعبد ربه حق العبودية لا يطلب منه أحرا على إخلاصه، فإذا طلب العبد من سيده أجرا على قيامه بخدمته له سقط من عين سيده وصار عنده أحمق يستوجب العقوبة؛ إذا أن عبوديته تقتضي خدمته، والذي يخدم بالأجر لا عبودية للمخدوم عليه، ولا بمكان لسيده عنده؛ وهذا إما أن يكون حرا سيده انسه أو مملوكا لسواه.(798/18)
والخلق جمعا عبيد الله المتصرف فيه، فهم يخدمونه بحق عبوديته لهم وملكيته إياهم، فطلبهم للأجر خروجعن محض العبودية وخلاف لناموس الخضوع؛ فالعبد الذي لا يشوب خدمته بطلب العوض هو المقرب من مولاه الأثير عنده.
سئل أحدهم عن معنى هذا فقال: (إذا كان لك من العبيد أربعة، أولهم لا يريدك ولا يريد منك، بل قلبه متعلق ببعض عبيدك فله يريد ومنه يريد، والثاني يريد منك ولا يريدك، فهذا إرادته مقصورة على نيل حظوظه منك، والثالث يريدك ويريد منك، فهدا يخدمك ويتقرب إليك لنيل ما يبغي فإرادته لك وسيلة. والرابع يرد ولا يريد منك، فإرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك، فهو لا شك آثر الجميع وأقربهم منزلة منك وأحبهم إلى قبلك والمخصوص من إكرامك وعطاياك).
ويظهر إخلاص العبد لسيده في القيام بواجب الشكر على ما أولاه من نعم ووهبه من عطايا؛ لأن حقيقة الشكر عبادة الشكر والشكر مبنى على قواعد خمس.
خضوع الشاكر للمشكور، والفناء في حبه، والاعتراف بنعمه ظاهرها وباطنها والثناء عليه بهذه النعم - أي الإحسان منها إلى عباده واتفاقها في أوجه الخير، وهذا هو الثناء بالنعم على المنعم - وألا يستعملها العبد فيما يكره سيده، والأعراف بأن هذه النعم قد تفضل بها السيد على عبده وهو ليس أهلالها. قال الجنيد: (الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة) ومن أنواع الشكر أن يفنى العبد نفسه في ذات المنعم عن رؤية النعمة فلا تحجبه رؤيتها عن مشاهد المتفضل عليه والمنعم بها. قال الشبلي: (الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة).
والشكر درجتان: شكر العامة ويكون على المأكل والمشرب والملبس وقوة الأبدان وأعراض الدنيا، وهذا ليس من الفتوة في شئ؛ وشكر الخاصة، ويكون على التوحيد والإيمان وقوة القلب وصفاء النفس. ومعنى هذا أن يكون بالقلب خضوع واستكانة، وباللسان اعترافا وثناء، وبالجوارح طاعة وانقيادا، وهذا من خصائص الفتوة، وكلما ازداد العبد شكرا ازداد المنعم عليه تفضلا ومنه تقريبا؛ ففي الأثر الإلهي: (أهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي) ويزيد بعضهم نوعا ثالثا من الشكر وهو أن يكون على ابتلاء الله الذي ينزله بعبده، فيعتبرون هذا البلاء نعمة يذكرهم الله بها فهم دائما في حضرته.(798/19)
سال رجل جعفر الصادق رضى الله عنه عن الفتوة، فقال له ما تقول أنت؟ فقال الرجل إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت فقال جعفر: الكلاب عندنا كذلك. فقال له السائل: يا ابن رسول الله فما الفتوة عندكم؟ قال له: إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا أو ابتلينا صبرنا) وقال آخر: (الفتوة هي إظهار النعمة وإسرار المحنة).
أما الأمر الثالث من هذه المنزلة: فهو إعراض الفتى عن نفسه وعدم انشغاله بها، وإهماله مطالبها، وإذلالها في سبيل الوصول إلى مقصودة الأسمى وغرضه الأعلى وأن يتهمها دائما بالتقصير وبأنها العائق في طريق وصوله، فيخاصمها في الله فيكون كما قال محمد بن علي الترمذي: (أن تكون خصمك لربك على نفسك) فيضعها دائما موضع التهم ليطامن من كبريائها ويحطن هذا الصنم الذي بينه وبين ربه ليصفو قلبه ولا ينشغل بسوى حبه والفناء في حضرته. قال الجنيد: (الفتوة كسر الصنم الذي بينك وبين الله تعالى، وهو نفسك) كما قال عمرو بن عثمان المكي (حرون خداعة رواغة فاحذرها وسقها بتهديد وخوف يتم لك ما تريد).
وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه كسر الأصنام لله إذ جعلهم جذاذا، فانفتى من كسر صنماواحداً في الله. وقد قيل (الفتوة ألا تكون خصما لأحد) وذلك فيما يتعلق بحقوق العباد، أما في حقوق الله وابتغاء مرضاته، فالفتوة أن تكون خصما لكل ما سواه وإن كان الحبيب المصافي، فالسائر إلى المحبوب لا يقف مع حظوظ النفس، بل يفنى ذاته في ذات من أحب لأن طريق السالكين والفتوة السائرين على دروب الغناء، الخروج عن نفسهم فضلا عن حظوظها، لأن الفتوة، العمل على أن يكون الفتى بالله لا بنفسه، والرضى بأحكامه ساءته أم سرته. والخروج عن النفس، هو حبسها على مراد الله وبذلها في أقامه دينه وتنفيذه بين أهل المعارضة والبغي والعتاد، يصيح فيهم بالنصائح جهارا لا تأخذه في جهادهم في الله لومة لأئم؛ وهذا تعذيب للنفس في حب اله وإفنائها في ذاته، وهذا عند الفتى الصادق أعظم العيش وأغر الحظ.
ولو ذهبنا نتقصى أقوال القوم في الفتوة ونحللها لطال المقام وتشعب بنا الأمر فنكتفي بهذا القدر. ونسأل الله التوفيق، وللأستاذ ضياء الدخيلي من الله حسن الجزاء ومنا وافر الشكر.
(أسيوط)(798/20)
عبد الموجود عبد الحافظ
مراجعه.
1 - الأعلام الذين ذكروا في هذا المقال سنفرد لكل منهم بإذن الله بحثا خاصا به.
2 - المراجع التي استقينا منها هذا المقال
1 - مدارج السالكين.
2 - الرعاية لحقوق الله.
3 - مكارم الأخلاق.
4 - التعرف لمذهب أهل التصوف.
5 - صيد الخاطر.
6 - المواقف.
7 - التصوف الإسلامي.(798/21)
شعوب القوقاز
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
(مهداة إلى الأستاذ محمد أسامة عليية تعقيبا على ما نشره في العدد 784 ص797 من الرسالة الغراء).
سيدي الأستاذ: قرأت - وأنا على أهبة السفر إلى الإسكندرية في طريقي إلى دمشق، ما كتبته تحت عنوان: (نصوص تاريخية في الرد على تعقيب) فلم يكن في الوقت متسع، ولا في البال فراغ، فلم أستع الكتابة يومئذ، ثم تلاحقت المشاغل، وتواردت الموانع، واتصلت حتى استطعت أخيرا أن أختلس بعض الفراغ لأبعث إليكم بهذه الملاحظات التي أرجو أن تلقى لديكم بعض العناية والرعاية والصدر الرحب.
إنكم نقلتم عن تاريخ الجراكسة للأستاذ محمد بك فكري ما نقله عن المؤرخ الفرنسي (س لامار) من أن الكرج، والجركس، وللزكي والحجبي فروع أصل واحد، ثم نقلتم عنه أيضا قوله: دلت التدقيقات العلمية والتاريخية على ان الجركس والكرج ينتميان إلى (حد) مشترك.
وأحب أن أوجه نظركم الكريم إلى أن موضع النزاع بيني وبينكم - إن كان هناك نزاع - هو أن يكون الكرج، والجركس، واللزكي، والحجب شعبا واحداً، لا أن يكونوا (فروع) أصل واحد، أو منتمين إلى (جد) مشترك! كيف ونحن - معشر المؤمنين بوحى السماء - مازلنا نعتقد أن الشعوب كلها تنتمي إلى جد مشترك؟ أما من هو هذا الجد المشترك، أو الأصل الذي تفرعت عنه هذه الفروع وفي أي عصر كان؟ فهذا مالا أحب أن أعلق عليه أو ألقى إليه بالا!. ويبدو لي أنك شعرت بينك وبين نفسك أن ما نقلته عن (س لامار) لا يجدي عليك في دهوك فتيلا، ول يغني عنك شيئا، فنقلتما جاء في كتاب الجراكسة عنوان عام يشمل القبائل الأصلية القوقازية، فيكون الجركس يؤدى مؤدى القوقاس) فمن أين للأستاذ محمد بك فكري هذا، وما سنده من التاريخ القديم؟.
وكيف اتسحتم نقل مثل هذه الدعوى الخيالية من أي سند في معرض التدليل؟.
وهل هذه إلا المصادر المعروفة عند الجدليين؟!.
على أن من الطريف أن محمد بك فكري ادعى في تاريخ الجراكسة (ج1ص6) (أن لفظ(798/22)
الجركس عنوان عام يشمل القبائل الأصلية القوقازية) ثم رتب على هذه الدعوى هذه النتيجة: (فيكون الجركس يؤدى مؤدى القوقاس) قبل أن يدلل عليها، ثم نقل في (حـ1ص12) عن (س لامار) أن الكرج، والجركس، واللزكي، والحجب، (فروع) أصل واحد، وفي (حـ1ص22) قال: (دلت التدقيقات العلمية والتاريخية على أن الجركس والكرج ينتميان إلى جد مشترك).
فهل هذا الذي نقله في (حـ1ص12، وحـ1ص22) يتفق مع ادعاه وقرره في (جـ1ص6)؟.
ويظهر أنكم شعرتم باضطراب موقف صاحب تاريخ الجراكسة، فغيرتم ترتيبه، فنقلتم ما كتبه في (حـ1ص12، وحص22) أولا، ثم نقلتم ما كتبه في (حـ1ص6) أخيرا. ولكن هل هذا التقديم، وذلك التأخير غيرا من أصل الموضوع شيئا؟. والظاهر أنك شعرت بهذا الاضطراب في نصوص كتاب تاريخ الجراكسة وأنها لا تؤدى إلى ما قصدت فأوردت أسطورة - إن شئت سمها احجية - (أركس، وآس، وتركس، وكسا) نقلا عن (عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان) للبدر العيني.
ولهذه الأسطورة عندي تاريخ قديم، وحديث عجيب، ما كنت أحب أن اعرض له ولولا أنكم أوردتموها واثقين بها معتمدين عليها، فرحين بها، مغتبطينين لها، فقد حدثني بها من عهد بعيد أستاذ جليل القدر، كريم المنزلة، أعزه وأحترمه وأحفظ له في نفسي تقديرا واحتراما، وإكبارا وإجلالا، ولا حاجة الآن إلى ذكر اسمه الكريم، وإن كنت اعتقدأنه هو الذي أخبركم بأسطورة البدر العيني أيضا، فصارحته برأيي في قمية هذه الرواية التي لم يعرفها أحد قبل عصر البدر العيني، والتي لم تظهر إلا في ظل سلطان المماليك وفي مقر دولتهم، ومركز عزهم في مصر، وأذكر أني قلت له يومئذ: إنها أشبه بأسطورة أو أحجية وضعت وضعاً لإرضاء السلطان وتزلفا إلى أصحاب النفوذ. وألا فكيف لم يطلع على هذه الرواية - إن كان لها أصل - أحد من المؤرخين قبل البدر العيني، وخفيت عليهم جميعا حتى أوحى بها إلى البدر العيني في الزمن الأخير في عهد صولة المماليك - وجعلهم أو كلهم من الجراكسة المنتشرين في القوقاز الشمالي الغربي - وسلطانهم المبسوط في مصر والشرق؟
كان هذا رأيي في رواية البدر العيني هذه من عدة أعوام، وأن الأيام لم تزدني إلا إيماناً،(798/23)
واستمساكا بهذا الرأي، فهي رواية ولدت وترعرعت في ظل حكم المماليك الجراكسة من غير أن يكون لها سند من تاريخ، أو مرجع تعتمد عليه.
ومن هذا القبيل ما شاع في كتب بعض المؤرخين الذين عاشوا في عهد المماليك واتصلوا بهم مثل ابن خلدون من إطلاقهم اسم جبال الشركس على جبال القوقاز أو تسميتهم شعوب القوقاز جميعا شراكسة فإنه اصطلاح حديث نشأ في ظل سلطان المماليك الشراكسة، وانتشر في عهدهم.
وفي ظني أن هذه الرواية التي أوردها البدر العيني، وهذا الاصطلاح على تعميم اسم الجركس على جميع القوقازيين ما هو إلا من قبيل التقرب إلى السلطان الجركسي والتزلف إليه، لأن معظم هؤلاء المماليك - أو كلهم - كان من أتى بهم من سواحل البحر الأسود حيث مساكن قبائل الجراكسة. ومن هذا القبيل أيضا تلك الدعوى الطويلة العريضة التي كانت تزعم أن الجراكسة من قريش! وألفت في يوم من الأيام لاثباتها الرسائل؟!
على أن البدر العيني - حسب رواية الأستاذ - يبدأ كلامه بدءاً غير موفق إذ يقول: ومن الترك الجركس الخ. فهل يسلم الأستاذ مع البدر العيني أن الجركس من قبائل الترك؟
ثم إنك - يا سيدي الأستاذ - بعد أن تفرغ من رواية أسطورة البدر العيني وشرحها وتوجيهها كما تشتهي قلت:
(واتبع البدر العيني المصطلح القديم، وهو إطلاق الجركس على القبائل الأربع التي في جوانب جبل القوقاز).
فأي مصطلح قديم هذا الذي تشير إليه؟ ومن الذي ذكره وقال به قبل البدر العيني؟
وأما تفسير كلمة (جركس) وادعاء أن اصلها الكريم جهاركس. ومعناها في لغة الفرس الرجال الأربعة فإنه لا يهمنا في الموضوع الذي نحن بصدده قليلا أو كثيراً؛ لأن هذه الدعوى وهذا التخرج مهما قيل فيهما لا يزيدان ولا يرجحان على محاولة سابقة لشرحه كلمة (الجركس) فقد زعم زاعمون من قبل أن أصلها مركب من كلمتي (جرا)، (كسا) وأن المرحوم (كسا) كان من أشراف قريش، فجنى جناية وهرب إلى القوقاز، وأقام بها، وعلى هذا يكون أصل الجراكسة من قريش!
هذا تعليق حاولت أن أجعله وجيزاً جهد الطاقة على ما دعوته نصوصا تاريخية، وما هي(798/24)
من التاريخ في شئ.
وبعد هذا أضع بين يديكم بعض الأسماء التي كانت معروفة في التاريخ القديم لسكان جبل القوقاز، والتي أطلقها عليهم قدماء المؤرخين، وأبدأ ذلك بأن المؤرخين العرب الأقدمين كالسعودي وغيره كانوا يسمون جبال القوقاز بلاد القبج أو جبال القبج لا جبال الجركس أو بلاد الجركس كما نص على ذلك المرحوم شيخ العروبة أحمد زكي باشا في قاموس الجغرافيا القديمة. هذا بالنسبة إلى منطقة القوقاز جملة.
وأما أسماء سكان البلاد تفصيلا، فإن سكان الجهات الشرقية الشمالية من القوقاز - حيث مساكن الداغستان، والحجب، وشروان الآن - كانوا يسمون في بعض الكتب القديمة ألبانيين وكانت بلادهم تدعى ألبانيا. كما ذكر ذلك أيضا المرحوم زكي باشا في كتابه السابق.
وإن اسم الحجب كان معروفا قديما، وكان يطلق على الشعب الساكن في الشمال من بلاد الداغستان حيث مساكن الحجب إلى يومنا هذا.
كما أن اسم الأورا - وهم أسلاف اللوزكيين الحاليين من الداغستان - كان معروفاً حول القرن الرابع الميلادي، وقد أطلق على شعوب القوقاز الضربين في الجانب الشرقي للقوقاز أسماء مختلفة منثل الخزر، قوميق، ألان. وهذا الاسم الأخير يظهر لي أنه اسم اللزكيين القديم، فهو يطلق في الكتب القديمة على شعب مقيم في مساكن اللزكيين الحاليين، وأن ظن بعض الكتاب أنه اسم الأوسيت. ذلك أن الأوسيت معروفون باسم الأوسيت من قديم، ويسكنون في جهة تقع في الشمال في قلب منطقة الجبال على الشمال الغربي من واقع اللزكيين.
هذا في القسم الشرقي من القوقاز، أما في القسم الغربي منه فإن اسم الأديفة كان معروفا من قديم، وما زال يطلق على سكان الجزء الشمالي الغربي من القوقاز، ويمكن اعتباره اسما جامعا لشتات قبائل الجركس المنتشرة في تلك الجهة مثل: أبهاسو، الأوبنج، الشبوغ، الأبزاخ، القبرطاس، الأبازة. مع ما بين قبيلة الأبازة وبين بقية قبائل الجركس من اختلاف في اللغة يتعذر معه التفاهم بين هؤلاء وأولئك.
هذه هي الأسماء التي كانت تطلق قديما على سكان القوقاز الشمالي شرقيه وغربية، ثم(798/25)
ظهر فجأة اسم الجركس في العصور المتأخرة، وصار يطلق على بعض - وأحيانا على كل - القبائل الساكنة في القوقاز الشمالي الغربي، ثم انتشر هذا الاسم وصار يطلق - من غير تحقيق أو تدقيق - على جميع سكان القوقاز في عصر المماليك كما فعل البدر العيني، ومال إليه ابن خلدون، ثم شاع هذا الاستعمال في الشرق الأدنى في فترة أخرى من التاريخ على أثر تلك الهجرة الواسعة النطاق التي قام بها الجركس إلى الممالك العثمانية على أثر تغلب الروس عليهم واحتلالهم لبلادهم.
ولكن هذا كله لا يجعل هذا الإطلاق صحيحا أو دقيقا، بل لا يعدو أن يكون ضربا من ضروب التساهل من الكتاب أو عدم وقوف على حقيقة الحال من تنوع الشعوب في تلك الأقطار الشاسعة، واختلاف أصولها وتنوع أجناسها،
وإن الحديث عن شعوب القوقاز، وكثرتهم واختلاف السنتهم وألوانهم حديث قديم طويل، حتى كان المؤرخون القدماء من العرب يسمعون القوقاز بلاد الشعوب والجبال، وكان زاعمهم يزعم أن في تلك البلاد نيفا وسبعين شعبا لكل شعب لغته الخاصة به!. كذلك كان صنيع مؤرخي الرومان واليونان، فاسترابون يؤيد نيف وسبعين شعبا، وهكذا بقيت هذه الأسطورة عالقة بالأذهان إلى عصور متأخرة جدا حتى جاء علم اللغات المعاصر، وأعار هذه القضية أهمية هاصة، وبحث مسألة تعدد لغات القوقازين بحثا علميا دقيقا، واستطاع أن يهدم تلك النظريات، والآراء الشائعة المبنية على معلومات غير دقيقة، ففي أواخر القرن السابع عشر الميلادي ابتدأ العالمان الألمانيان: (تليدن أسناد) و (بالاس) الأبحاث العلمية عن أصول اللغات القوقازية، واستطاعا إرجاعها إلى الأصول الآتية:
1 - اللغة التتارية: وهي لغة الشعوب التركية الأصل.
2 - (اللزكية: وهي لغة الداغستان.
3 - (الكستينية: وهي لغة الحجانيين.
4 - (السركسيانية: وهي لغة الأديفة.
5 - (الأوستينية: وهي لغة الأوسيت من الشعوب الإيرانية القديمة.
6 - اللغة الكرتفليانية: وهي لغة الكرجيين.
وأصبح هذا التقسيم للغات القوقازيين أساس علم اللغات القوقازية فيما بعد استند عليه(798/26)
علماء القرن التاسع عشر واعتمده.
وفي القرن العشرين أكد العلمان (الفونس دير) و (نقولامار) نتائج أبحاث أسلافهما في تقسيم اللغات القوقازية ويرى عالم آخر من علماء القرن العشرين أن اللغات القوقازية يجب أن تقسم إلى فصائل أربع وهي:
1 - اللغة اللزكية: وهي لغة الداغستان
2 - (الججانية.
3 - (الكرتفليانية: وهي لغة الكرج.
4 - (الإبهاسية: وهي لغة قبائل الجركس.
ويعد بعضهم لغة الداغستان ولغة الججان من فصيلة واحدة وبناء على نتائج هذه الأبحاث العلمية يمكن تقسيم شعوب القوقاز الشمالي إلى قسيمين أساسيين:
1 - سكان القسم الغربي من القوقاز وهم: الأبهاسو، والأوبنج، والشيوغ، الأبزاخ، القبرطاس، الأبازرة. وهي جميعا قبائل جركسية.
2 - سكان القسم الشرقي من القوقاز الشمالي وهم: الداغستان والججان. وإلى هذين القسمين الرئيسين يمكن إرجاع بقية الشعوب والقبائل المتتشرة في القوقاز مثل: قره جاي، بالكار، قوميق، نوغاس، وهذه كلها من الفصيلة التركية، وأوستين. وهي من الفصيلة الإيرانية، التي منها الفرس والكرد والأفغان.
هذا وقد سلك العلامة الدين سامي بك في قاموس الأعلام مسلكا آخر في تقسيم شعوب القوقاز، فهو يقسمهم أولا إلى سكان أصليين وأقوام طورانيين، وأمم آريه، ثم يقسم السكان الأصليين فيقول:
أما سكان القوقاز الأصليين، فهم أقوام وأجناس وشعوب كثيرة، ويكن إرجاعهم إلى هذه الأقسام الرئيسية:
1 - الجركس الذين يسكنون حوض نهر قوبان وبالقرب من منابع نهر ترك الغربية في القسم الغربي الشمالي من القوقاز، ويكن أن يضم إليهم الأبازة الساكنون في منحدرات سلسلة الجبال الغربية الجنوبية على القرب من سواحل البحر الأسود. والججن الساكنون إلى الشمال من بلاد الداغستان.(798/27)
2 - سكان بلاد الداغستان الأصليين، وهم اللزكيون الساكنون في المناطق الشمالية من جبال القوقاز، وهؤلاء اللزكيون من سكان القوقاز الأصليين، كانوا يسكنون هذه البقعة من أقدم العصور حتى إن (هردوت) ذكرهم بهذا الاسم في تارخه الذي كتب في حدود 450 قبل الميلاد. ويحتمل أن يكون لهؤلاء اللزكيين صلات نسب وقرابة مع الكرج والجركس واللاز وغيرهم من أمم القوقاز الأصليين، غير أن إثبات هذه الصلة بين هؤلاء الأقوام يفتقر إلى ما يثبته، فهو مجرد احتمال لا دليل عليه.
3 - سكان المنطقة الجنوبية من سلسلة الجبال أمثال الكرج والإيمرت والمنكرلي. وإذا كان بعض المحققين من العلماء حاول عد الكرج من الأمم الطوارنية أو الآرية إلا أن الأدلة التي ساقوها إثبات ذلك لا تعد كافيه.
على أن بعض الأبحاث التي أجريت حول لغة الكرج تدل على أن الكرج مثل بقية أمم القوقاز لا يمتون بصلة إلى الآربين أو الطورانيين او الساميين، بل يغلب على الظن أنهم بقايا أمم قديمة منقرضةكانت اجتازت هذه المناطق في أثناء هجراتها من آسيا إلى أوربا، ومن أوربا إلى آسيا.
4 - أمة الأوسيت، وسوآنت الساكنون بالقرب من منابع نهر ترك.
هذه خلاصة وافية لما ذكره العلامة شمس الدين بك سامي في قاموس الأعلامعن شعوب القوقاز، ومنه ومما قبله من بينات وآراء للعلماء والمؤرخين الموثوق بآرائهم يتبين أن الداغستانيين والكرج، والججان، والأوسيت، والجركس أمم قائمة بذاتها لك واحدة منها لغتها أو لغاتها الخاصة بها، ولها كيانها المستقل. وعلى ذلك أرى أني حين قلت في الرسالة (العدد 783 ص770): إن اللاز يمتون بصلة النسب أو القرابة إلى الكرج، وأن الكرج غير الجركس لم أكن مجانبا الحقيقة، ولم أكن أحاول تسيير التاريخ حسب الهوى والغرض كما أردت أن تصوني أمام قرائك، بل كنت اقرر حقيقة علمية ثابتة لا سبيل إلى إنكارها، أو التحايل على طمسها.
وبعد: فإني أشكرك - يا سيدي الأستاذ - جزيل الشكر على أن أتحت لي هذه الفرصة للتحدث عن شعوب القوقاز بشيء من الإفلضة والتفصيل. والسلمام عليك ورحمة الله.
(دمشق)(798/28)
برهان الدين الداغستان(798/29)
رحلات في ديار الشام في القرن (الثامن عشر
الهجري)
اردان حلة الاحسان في الرحلة إلى جبل لبنان
لمصطفى البكري الصديقي
(1099هـ - 1163هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
لا شك أن الدافع لرحلة الشيخ هذه وغيرها من الرحلات، ولتنقلاته المستمرة في المدن والقرى، إنما كان حرصه على نشر الطريقة الخلوتية والاتصال بأعوانه ومريديه. ولقد كان الشيخ مكثارا في النظم والنثر، بل إنه أؤلف الكتاب أو الرسالة في أية مناسبة. ولا شك أن نظمه ونثره يمثلان عصره أصدق التمثيل فقد امتاز هذا القرن بالسجع، والركاكة في الأسلوب، كما تبين من دراسة رجال هذا القرن في كتاب أعيان القرن الثامن عشر للمرادي.
ولقد انتقل الشيخ من دمشق إلى القدس وتزوج فيها وتتلمذ على شيوخها وامتد نفوذه فيما بعد إلى جمع أنحاء فلسطين، وإلى سوريا بل وحتى إلى مصر والعراق.
وقد ساهم في الحياة العامة في فلسطين فعمر الحرم القدسي خلوة، وبئراً، وحاول أن يصلح البراغتة شيوخ بني زيد وكانوا قد اختلفوا فيما بينهم، كما شوق الحاج حسن بن مقلد الجيوش لزراعة الأشجار المثمرة، حول قبة الصحابي سراقة في (كور) من أعمال قضاء بني صعب.
ويستدل من رحلته هذه أن حالة الأمن لم تكن مرضية في زمنه، فقد جاء ذكر تعدى الأعراب على القوافل بين الخليل وعسقلان، كما تعدوا على الشيخ القاقلاني مفتي الديار القدسية، فسلبوه بعض ثيابه وما كان يحمل من الكتب.
ويلاحظ أيضا أن الشيخ كان يغير طرق سيره، فبدلا من أن يسلك الجادة السلطانية بين القدس والخليل ماراً بيرك سليمان، غير طريقه إلى بني حسن وهي ناحية إلى الجنوب(798/30)
الغربي من القدس مخافة قطاع الطريق.
ويستدل من وصف الشيخ لبعض المدن التي اجتازها أن (حاصبية) كانت حينذاك قرية يقطنها الدروز وهي الآن مئة وخمسون ألفا، لم تكن سوى قلعة حصينة على ساحل البحر المتوسط. ووصفه هذا لحيفا ينطبق على وصف معجم البلدان، بعض الشيء. فقد جاء في معجم البلدان (ج2 - ص382): (حيفا غير ممدود، حصن على ساحل بحر الشام قرب يافا، لم يزل في أيدي المسلمين إلى أن تغلب عليه كندفري الذي ملك بيت المقدس سنة (494هـ) وبقى في أيديهم إلى أن فتحه صلاح الدين في سنة (573هـ) وخربه).
ويصف لنا الشيخ زيارته أكثر من مرة للخليل، ويذكر كرومها، ويستدل من هذا أنها كانت محاطة بكروم العنب وهو حالها اليوم.
ويذكر الشيخ فيما يذكر أن الأمر السلطاني صدر باسم والدته لتعير قناة الماء إلى الحرم القدسي. وهذه القناة ليست حديثة فقد جاء في الأنس الجليل ج2 - ص387 عند ذكر الأمير تنكر الناصري نائب دولة المماليك في الشام (وهو الذي عمر قناة الماء الواصلة إلى القدس، وكان ابتداء عمارتها في شوال سنة (727هـ) ووصلت إلى القدس ودخلت إلى وسط المسجد الأقصى في أواخر ربيع الأول سنة (728هـ) وعمل البركة الرخام بين الصخرة والأقصى) وتعرف هذه الآن بالكأس، ويظهر ان هذه القناة خربت، فعمرت مدة ثانية كما يذكر الشيخ. وهذه القناة تمتد من برك سليمان إلى الحرم وتسيل بالانسياق لعلو برك سليمان عن الحرم القدسي، وهي من حجر.
والظاهر أن الشيخ كان أباً عطوفاً، فقد سر كثيراً بابنته (علما) وحزن حزنا عميقا عند وفاتها وهي لا تزال طفلة، فقد سر وقد رزق ولده محمد كمال الدين في القدس. ولقد كان الشيخ يزور مقام (علي بن عليل) وهو من نسل عمر بن الخطاب، ويعرف بسيدنا علي بن عليم عند العامة، وله موسم يقصده الزوار كل عام.
ويسجل الشيخ بألم ظاهر في هذه الرحلة وفاة فطبين عظيمين تتلمذ عليهما، وكان يحترمهما أبلغ احترام أولهما الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي القطب الكبير وصاحب الرحلة إلى القدس سنة (1101هـ) ويعتبر الشيخ من أخلص تلاميذه، والثاني العمراني، والمؤلف القطب، وهو من أبرز رجال القرن الثاني عشر في فلسطين.(798/31)
وفي الرحلة فوائد أخرى على رغم ركاكة الأسلوب، وتكرار السجع الممل، وانصراف الشيخ إلى نزعته التصوفية القوية، وفيها بعض معلومات عن أصل سكان (الطيبة) من أعمال طولكرم، ونسب البراغثة في جبل القدس، وعن وقف قرية (عابور) في بني زيد للحرمين الشريفين، وما إلى ذلك.
ومن لطائف المصادفات أن يحضر إلى الديار القدسية الرحالة المصري الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي، سنة (1143هـ) وينزل عند الشيخ، ويأخذ عنه الطريق ثم يصف لنا لقاءه الشيخ في رحلته المخطوطة، (سوانح الأنس في رحلتي لوادي القدس) وقد أثبتنا رأى اللقيمي في الشيخ البكري.
وخلاصة القول أن هذه الرحلة المخطوطة التي لم تزد معلوماتنا كثيراً عن لبنان الجنوبي، شيقة برغم جميع مآخذها، فإنها تمثل القرن الثاني عشر، وهو قرن تنقصنا عنه المعلومات والمصادر الوافية، فتصف لنا بعض نواحي الحياة الفكرية، وبعض أحوال البلاد القدسية وعمرانها، ورجالها ولو كان أكثر من اجتمع به الشيخ من رجال التصوف والزهد.
ويظهر أن الملاريا (الحمى الربيعية) أصابت الشيخ لردده على مقام سيدنا علي، وهي منطقة موبوءة بهذا المرض إلى عهد قريب، فضايقته وأنهكته، وحاول أن يتلخص منها بالدعاء والالتجاء إلى مقام سيدي داود!
ونحن بعد ذلك نترك الشيخ أن يتكلم، إذ أنه بعد أن ختم الرحلة الرومية وبدأ في العراقية أراد أن يبتدئ برحلة بقاعية لبنانية فأسماها (ارادن حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان) فيقول: (اعلم أيها الأخ الواقف على هذه المواقف أن هذا الجبل المعظم المبجل المقصود بالزيارة، جبل مبارك له خواص عند الخواص أهل الإشارة، إذ من المعلوم، لدى أرباب الفهوم والاختصاص، إن الله تعالى اختص بعض الأمكنة والأزمنة والأشخاص، وقد طرق السمع، من أهل المعرفة والسمع، أن لهذا الجبل، الذي ينفي الخبل، حلا ظاهر الرجحان، وإنسا باهر الميزان، وأن كل من حوله ممن له قدم في الولاية يأتيه زائرا ولو بالروحانية وهذه على فضيلته آية)
وكان كثيرا ما يجول في الخاطر، ويتكرر وروده على الضمير المخاطر، أن يشد الشيخ الرحل على عيسى السري إليه، لعله يحظى من بر أهله ومما لديه، ولكن الأقدار كانت(798/32)
تمنع. ولما آن الأوان، قصد البقاع العزيز ملتجئا لحمى المهيمن الملك العزيز، وبعد ما ودع الخلان والأصحاب والإخوان والأخدان يقول:
(وتوجهت مستعينا بالديان، نحو الديماس، مع رفقة حسان يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة عا أربعين ومائة ألف (1717م) وقصدت حمى الصالحية. وقرأت الفاتحة لسكانها أهل الرتب الفلاحية، ثم صعدت إلى جبل قاسيون، وحصلت نفحة إقبال من هداة فتحه وتجاوزت فيه السيارة الشائقة، التي تحت قبة المصر الشاهقة وممن رافقنا لهذه الزيارة والقدس الفياح، الصديق الشيخ عبد القادر الموصلي ثم البغدادي السياح، المنتمي للعصابة السهروردية المتصلة أنسابهم بالأسرة الصديقة، والأخ السيد محمد السليفتي العباسي، المحب الآسى والصديق المواسي، أول آخذ للطريق في الخطرة الأولى، وقد ذكرته في الخمرة المحسية في الرحلة القدسية، وفي غيرها من الرحلات الأنسية، وكان الأخأكبر مساعد ومعين على إظهار الطريق في الديار المقدسة، وكنت قبل هذا التوجه الطويل المسافة أدنت له بلبس الكسوة والإرشاد لطلاب الإضافة. وممن صحبني أيضا زوج الوالدة، لا برحت في الجنان خالدة، والأخ من الرضاع، الحاج إبراهيم جميل الأوضاع، المستقيم على قدم الحب من الصغر، كأنما نقش على فؤاده نقش الججر، فلم يتغير بتوالي الزمان، لأنه ذوباع فيه طويل، قد عرف بابن الطويل في النسب. وممن صحبني أيضا الأخ الواعي، الشيخ محمد البقاعي، خفيف الحركة، ثقيل البركة، فجعلته للنسبة الوطنية دليل الركاب، وسرنا نتملى بشهود وجوه أولئك الأحباب، ولما أظلنا وادي برذ (بردى) الظليل، قابلنا بعده أول قتيل هابيل النبيل، فقرأنا له الفاتحة. وأفسدت الدليل قرب الديماس. مرتجلا بقصيدة مفيد الإيناس:
قد أتينا لقربة الديماس ... نرتجي رشف حمرة الإقباس
ونزلنا بها مع الرفاق (زاوية بني تغلب) وبعد أداء الصلاة الوسطى وختام ورد العصر البسام، ورد كتاب من الصهر الهمام الشيخ إسماعيل العالم النبيل المقدام، مصدراً له بأبيات جسام وهي:
فرقة للحبيب يوم الخميس ... أورثت في الجنان رعب الخميس
أهل ودي زاد التلهف مني ... حيث فارقتكم لدى التفليس(798/33)
وتوجهنا للبقاع وهو جمع بقعة موضع له يقال له بقاع كلب قريب من دمشق. قال في المراصد: وبهذا البقاع قبر إلياس ولما وصلنا باب وادي القرن أنشدت مواليا:
لقد قرنا الصفا بالبسط أيا قرن ... لما أتينا صباحاً باب وادي القرن
ومذ عذول الحشا قد غاب ذاك القرن ... دام التصافي لي ما بعد نفح القرن
وجاءني الأخ البقاعي، بشيخ نشره عابق للبشر داعي، فكتبت وأنا على الدابة أسمعه ما يجري على القرطاس
يا خليليَّللبقاع فسيحا ... تزيا مربعاً هناك فسيحا
واسقياني كأس المدام لديه ... وانشقاني فيه خزاماً وشيحا
ولما أشرفت على الجبل، إذ زال الخبل قلت:
يا ساكنين السفح من لبنان ... هيجتمو بسناكم أشجاني
حولتمو قلباً أحب وقالباً ... فأبيتكم أسمى على أجفاني
وقد اقتفينا من الدليل العزيز الجليل الإبر، الأثر، لأنه أسلم وما زال يصعد بنا العقاب التي هي صعود للجوزاء بلا سلم، لكن راقيها بإمداد من حل فيها للعناية والرعاية والحماية والكفيةاية يسلم، حتى أتينا قرية نبي الله زريق فقلت:
يا نديميّ من منام أفيقا ... علَّ أن تلتقيا لوصل طريقا
وانهجا منهج الحماة وسيرا ... للمعالي كي تنشقوني عبيقا
ثم زرنا في القرية مقاما للخضر أبي العباس، وسب تعدد مقاماته، شهوده فيها لكثرة تطوراته، وهذه علامة على حياته، خلافا لمن دندن بوفاته، وللدليل قريب في القرية ثغره بسام، أنزلنا لديه فقدم ما قدر عليه من من إكرم، وعزمنا في الصباح أن ينزل سهل البقاع، فرأيت مناماً دل على توديع السكان، من ذلك المنزل لعارض حر وعدم أركان، فأتيت مع الرفاق إلى تل مشرف، وأهديت النازلين من عمد وأركان الفواتح، وقلت:
يا سراة نحو العزيز الخفير ... بلغوه سلام سب حقير
خبروه بأنني مستهام ... في هواه بحرقة وزفير الخ
وبعد أن ودعنا المضيف بالأمس، جزنا إلى الشيخ يعقوب المنصوري، وهذا الدى صنع البركة الإبريزية للملك الرشيد نور الدين الشهيد فعمل منها أوقافا على عد عين تورا(798/34)
ويزيد، ومنها قاعة الفقراء في الربوة بين ثورا ويزيد، وزرنا أولاد شيخنا الجيلاني، ثم تقدم بي الدليل بعد الزيارة إلى قرية (كوكب) قاصدا فيها صلة رحم وقرب أحباب، فأنشدته مرتجلا لما غيم الكدر اتجلى:
إنني في سفرتي هذى التي ... فاق محياها سراجاً كوكبا
لم أزل أرقى العلا مع رفقتي ... ولهذا قد رقينا كوكبا
وسرنا إلى (الذنبة)، بهمة طيبة الحضور والغيبة، ولما امتلأت بالسرور العيبة، فتقت بالحبور الموفورة الجيبة، قصدنا بجمعنا قرية (حاصبية) فإذا هي قرية كبيرة مملوءة الأكتافبالطائف الدرزية، ومضينا للخان ونزلنا لديه، وعنه جدينا السري حتى أتينا قرية (ميس)، الحاملة أهلها لواء ربيعة لا قيس، الشعة المائسين بحب الآل أي ميس. وهذه القرية من بلاد بشارة فأنشدت:
جاء ممن أحب ليلا بشارة ... مذ حللنا يوماً بأرض بشارة الخ
وصعدنا محلها العالي ذو الامتناع، ونزلنا عند صديقنا الغالي على بقاع، وأمسكنا لديه معاملا باكرام، وسرنا للدير والقاسي بأنس تام، ونزلنا عند أحبابنا في القاسي، وحبب لي أن أمدح أهل الدير والقاسي، لأنهم أهل قرب وقرابة كل منهم لا يرى تشفيعا فقلت:
إذا رمت أن بسقيك سمعان في الدير ... أنخ جمل الترحالي في القاسي والدير الخ
وأشرت بصالحها صالح أكبر أولاد مراد فإنه صالح.
(لها بقية)
أحمد سامح الخالدي(798/35)
أذلاء صهيون. . .
للأستاذ حامد بدر
أذلاء صهيون يريدونها غصبا ... فهل قنصوا العنقاء أم خطبوا الخطبا؟
أما طوا عن الغدر اللئام فأيقظوا ... أسوداً تصب الموت فوق العدا صبا
(فلسطين) أرض لا ترام لغاصب ... وهل يطعم الرئبال من لحمه الكلبا
ومن يبتغ يعلن غباءه ... وإن أخا (صهيون) في بغيه أغبى
وما وعد (بلفور) سوى وهم واهم ... به قومه أغرى فأضرمها حربا
وما الحرب إلا مصرع البغى وحده ... ونصر لمن لله والحق قد لبى
ولست أرى في مجلس الأمن منفذا ... لأمن ولكني أرى الخوف والرعبا
ولم أر يوماً دولة ذات صولة ... تنيل الضعيف الحق أو تضمر الحيا
ومن تخذ الخصم الألد مواليا ... كمن تخذ الشيطان من جهله ربا
ومن سالم الطاغين يوماً فإنه ... هو الحمل المسكين قد صادق الذئبا
وليس يرد البغى إلا بمثله ... فويل لأهل البغى من فانك هبا
وويل لهم من كل ظمآن زاحف ... يعب دم الأعداء يوم الوغى عبا
وويل لهم من غضبه عربية ... إذا التهمت نيرانها الرطب والصلبا
وويل لهم من ثورة لا ينيمها ... سوى قعطعم طعنا وتمزيقهم ضربا
وهل نسى الباغون حرباً غنيفة ... وقد ركب الباغون مركبها الصعبا!؟
فلم يتقوا سخط الحليم إذا انتضى ... من الغمد صمصاما وجرده عضبا
وكل جبان يحسن القفز آمنا ... وعند وثوب الليث لا يملك القلبا
وما حظهم من هدنة يخرقونها ... سوى أنهم يبغون في ظلها الوثبا!؟
وقد أمنوا الآساد لما تفيدت ... يعهد عليها وحدها حرم الحربا
كأنهم الأطفال هاموا بلهوهم ... فلم نلم الأطفال أن عشقوا اللعبا
ألا أيها الصنديد في حومة الوغى ... عدوك رعديد على الذل قدشبا
يهيم بجمع المال طول حياته ... فيعشقه عشقاً ويعبده ربا
ومن يعبد الدينار لم يك باسلا ... ولم يعل رأساً من على النشب انكبا(798/36)
أذلاء صهيون يبيعون ما به ... يضن الجواد السمح تبا لهم تبا
ولا نقص فيم بيع يزعج بالهم ... إذا العرض النامي على العرض قد أربى
همو يحسبون المال من أي مورد ... غنى ومن الخسران قد طلبوا الكسبا
وقد زعموا في الشرق نهبة ناهب ... وضاقوا بيأس الشرق فاستظهروا الغربا
وأنصارهم في الغدر من يعتصم بهم ... فقد ثكل الأنصار والآل والصحبا
يريدون إطفاء الشموس جهالة ... بأفواههم والله سبحانه يأبى!
حامد بدر(798/37)
الأدب والفن في اسبوع
للأستاذ عباس خضر
حب الرافعي:
عزيزي الأستاذ عباس خضر:
قرأت كلماتك في العدد 795 من (حب الرافعي) وما كتبه في إحى المجلات السورية حول هذا الموضوع صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف (الأديب الذي استهلكه التعليم)، وما عقب به صديقنا أيضا. . . الأستاذ كامل محمود حبيب (الأديب الذي استهلكته الوظيفة) وما علقت على ذينك الرأيين، أو ذلك الرأي الواحد المعروض على القراء في صورتين؛ ثم سؤالك من بعد: (هل عند أحد من سائر تلاميذ الرافعي شئ في هذا الموضوع)؟.
وقد فهمت من سؤالك هذا يا صديقي أنك تعتبني، ولعل هذا ما فهمه أكثر قرائك أيضا. . . فلولا أنني مشغول الآن بما يكاد (يستهلكني) أنا أيضا من أسباب الدفاع عن حريتي في الفن، وعما ينالني به بعض أهل الأدب من أسباب الكيد - لرأيتني سريعاً إلى جوابك، ولكنه موضوع لم يفت أوانه على كل حال. . .
أما أن الرافعي كان يحب (مى) صدرا من كهولته وإلى آخر عمره، فشئ لا أنكره ولا شك فيه، وليس ينكره أو يوشك فيه الصديقان الأدبيان مخلوف وحبيب، ولكن الذي ينكرانه أو يشكان فيه هو (ما هية هذا الحب) هل كان حباعقلياً، أو حبا فنياً، أو حباً إنسانياً، أو حب كل رجل لكل امرأة. . .!
هذه هي القضية كما عرضها الصديقان فيما رويت عنهما؛ وليس أمرا ذا بال - والمسألة بهذا الوضع - أن أخالفها أو أوافقها؛ فإن المخالفة أو الموافقة في (الرأي) لا تمحو حقا ولا تثبت باطلا، وإنما يمحو ويثبت أن تختلف (الرواية) وأنا قد (رويت) أن الرافعي كان يحب (مي) وقد (رويا) مثلي هذه الرواية، ولكنها بعد ذلك تناولا الأمر على نحو فلسفي، فراح كل منهما يصف هذا الحب في رأيه ويحاول استكناه حقيقته، فزعما أن حب الرافعي لمي لم يكن حباً انفعالياً، بل كان حبا إراديا يقصد إلى هدف وغاية. . . وهو نحو من التعليل قد يكون موفقا، وقد يكون التعليل الصحيح غيره؛ فهذه قضية سيكولوجية وفنيه يحتاج بحثها والفصل فيها إلى مقدمات، وإلى دراسة نفسية مقعدة تستند إلى أسانيد من (الرواية) وإلى(798/38)
خبرة عملية في الحب. . . واسمح لي أن استخدم هذا التعبير. . .
وأنا قد حرصت منذ أول يوم حاولت فيه تأريخ الرافعي أن أكون (راوية). . . رواية فحسب، لا فراراً من تبعة الرأي، بل مبالغة في التجرد عند تأريخ حياة لم يزل صداها يرن في أذني وأنفاسها تعبق في جوى؛ ولكني مع هذا الحرص على التجرد الخالص لم أدع شاردة ولا واردة من ذكرياتي، أو من مذكراتي، عن حياة الرافعي، إلا ذكرتها؛ لتكون مقدمات الحكم ماثلة تحت عيون الباحثين من أهل الأدب حين تتقادم السنون ويصير الرافعي تاريخا خالصاً لا تخلتط به أصداء الذكريات الحية في نفوس بعض الذين عاصروه أو استمعوا إلى حديثه أو اتصلوا بحياته من قريب أو من بعيد، وستجد يا صديقي في الفصل الطويل الذي تحدثت فيه عن (حب الرافعي) من كتاب (حياة الرافعي) من أسباب العلم بهذه (الحادثة) ما يهئ لك أن تحكم وأن تكون في هذه القضية صاحب رأي.
أما (رأيي) أنا؛ فأني حتى اليوم - وقد مضى على وفاة الرافعي - أحد عشر عاماً وأشهر - ما أزال أشعر أني منه قريب قريب بحيث لا يتهيأ لي أن أكون في قضية من قضاياه صاحب رأي مجرد. . .
ولكن ما أزال مع ذلك أصر على أن الرافعي - رحمه الله - كان يحب مي صدراً من كهولته وإلى آخر عمره، حبا ما. . . وأنها أحبته ذات يوم. . . حباً ما؛ ولكن حبها إياه قد انتهى قبل أن ينتهي حبه، أعني قبل أن ينتهي عمره!
والسلام عليك.
محمد سعيد العريان
هذا ما تفضل بكتابته إلى صديقي الكبير الأستاذ محمد سعيد العريان، وحقا كنت أعنيه، فهو مؤلف (حياة الرافعي) ولكني كنت أطمع أن يبدي رأيه من حيث كتابة الرافعي في الحب ودلالتها على صدق العاطفة أو عدم صدقها، مع الملابسات الواقعية التي يعرف دقائقها، ولكنه آثر التجرد. . . وأود أن تتاح الفرصة ليتجرد من هذا التجرد ويكتب (أدب الرافعي) الذي لا بد أن يتضمن فصلا في حب الرافعي، وعندئذ لا يستطيع أن يتجرد من الخبرة العملية في الحب. . .
أبن الأديب الحر؟:(798/39)
أثار الأستاذ إبراهيم على أبو الخشب، مسألة الأديب الموظف والأديب الحر، فعبر عن الأول بأنه (يتحتم عليه أن يكون أدبه في حدود اللون الذي تتلون به الوزارة القائمة) واتخذ الأستاذ الزيات مثلا للكاتب الذي يستشعر الحرية فيما يكتب.
وأقول أولا إن المثل لابد له من أمثال، وأستاذنا الزيات له ظروف خاصة ليس لأحد مثلها، هياها وبلغها بجهده وقلمه، وأصبح قلمه بهذه الظروف محررا مما يقيد الأقلام، فهو لذلك لا يصلح مثالا. وإذا تجازناه فإننا نبحث عن الأديب الحر بمصباح ديوجين. . . سواء أكان موظفا في الحكومة أم غير موظف، فإين هو. .؟
إن الأدباء غير الموظفين - إي اللذين كان ينبغي أن يكونوا أحرارا - تتقاسمهم شتى القيود، فمنهم المقيد بالسياسة الحزبية، ومنهم من يؤثر المنافع التي يملكها أصحاب السلطة فيكتب لهم ويغضي عنهم، ومنهم من يحكمه لوه من الصحافة يدر عليه الرزق الوفير. . . وهذا هو فلان الأديب الكبير الذي ترك الحكومة ليكون حرا في عالم الكتابة. . . هل صار حراً؟ كان الله في عونه، ويسر له الرجوع إلى الوظيفة، ليخرج في ظلها الفن المصفى الذي كان يخرجه.
ثم انظر في انتاج الأدباء غير الموظفين وفيما يكتب الكتاب الأحرار. . أترى فيه شيئا - فيما عدا السياسة الحزبية - كان يمكن أن تمنع وظيفة حكومية من حيث التحرر التقيد، وأين هو الأديب الذي أدى رسالة لا تتفق مع قيود الوظيفة الحكومية؟ قد يكون هناك من آثر الصحافة مثلا على العمل الحكومي، استجابة لميل شديد إلى الصحافة أو رغبة في ريح مادي منها، أو للعمل مع حزب من الأحزاب، أو إباء تحكم الرؤساء؛ ولكن من هو الذي رغب عن الوظيفة للحرية الأدبية فكان أدبيا حراً؟ ولعلنا نخلص من كل ذلك إلى قضية جديرة بالنظر، وهي: هل فيما وراء أدبنا مجال وقف الأدباء عند شاطئه متهيبيين أو عاجزين، أو إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؟
من أخطاء الإذاعة:
أخطاء المذيعين في اللغة وفي غير اللغة، لاأول لها ولا آخر، وهذا مما يؤسف له أشد الأسف، لأن الإذاعة لسان مصر الناطق حقا لا مجاز فيه، فلايليق أن يلحن هذا اللسان في(798/40)
نطقه ويهلهل لغة البلاد، ولا يليق أن يكون مدى علم المذيعين بشئون الأدب والثقافة ما يدل عليه خبطهم في هذه الشئون خبط عشواء. . . ولكن أي شئ لائق في الإذاعة؟
وكثيرا ما أتذرع بالصبر حيال تلك الأخطاء، ولكن الذي لم استطع الصبر عليه حذلقة بعض المذيعين والمذيعات بقولهم بعد انتهاء جزء من البرنامج: (سمعتم في هذه الربع ساعة كذا) ويظهر أنهم مفتنونون بهذا التعبير افتنانهم بإعلان أسمائهم مقرونة بإخراج البرامج والتمثيليات. . يظهر أنهم يستلحون ذلك التعبير فيكررونه ويتناقلونه مزهوين به كأنه (ذيل الذئب) الذي تنسب البطولة إلى من يأتي به. . ولا يدرون أنهم يصكون به أسماع أهل الذوق العربي السليم. وآخر ما سمعته كانت تنطق به مذيعة تجتهد أن تعرب في أكثر الأحيان، وتلحن أحيانا. . قالت: (سمعتم في هذه الربع ساعة تقاسيم على الكمان من حضرة صاحب العزة مصطفى بك رضا) وقد أوقعها التقليد في هذا الخطأ وإن كانت تحرص على الصواب، ولذلك أصححه لها هكذا: (سمعتم في هذا الربع الساعة) أو (سمعتم في ربع الساعة الماضية) والأحسن أن تدع هذه الحذلقة كلها وتقول: (سمعتم كذا) وتخلص نفسها نن هذه الوطة، وتخلص صوتها الرقيق من تلك الشائبة. أما المذيعون (الخناشير) فليخطبوا كما يخطبون. .
ومن أخطاء المذيعين التي لا حصر لها، نسبة الأغنيات إلى غير قائلها، فما لعلي طه ينسب إلى محمود حسن إسماعيل، وتصور ما لإيليا أبو ماضي مثلا ينسب إلى محمد الأسمر!
وأشنع ما سمعت من هذا القبيل أن قدم أحد المذيعين أغنية لأم كلثوم من شعر شوقي فقال إنها من تأليف (محمد شوقي بك)! ولا أظن هذا المذيع يخطئ في اسم (محمود شكوكو) كما يخطئ في اسم أمير الشعراء.
ومن أخطاء الإذاعة في تنظيم البرنامج، هذه الأناشيد الحماسية التي تلقيها الأصوات المزعجة في منتصف الليل أو قبيله، فهل يطلب من المستمعين أن يأخذوا قسطهم من الحماس قبل النوم؟! وعلى من بكر منهم في النوم أن يهب مذعورا على صوت راديوا الجيران او القهوة المجاورة، ليأخذ نصيبه من ذلك الحماس! وعلى هؤلاء وأولئك أن يكونوا جميعا وطنين متحمسين في أحلامهم طول الليل. .(798/41)
افتتاح دورة المجمع اللغوي:
افتتح مجمع فؤاد الأول للغة العربية، الدورة الحالية يوم الاثنين الماضي، فانعقد مجلس المجمع برياسة الأستاذ أحمد حافظ عوض بك باعتباره أكبر الأعضاء الحاضرين سنا، وذلك لمرض صاحب المعالي لطفي السيد باشا رئيس المجمع.
ومما أقره المجمع في هذه الجلسة التوسع في تعزيز اللجان بالخبراء الفنيين الذين يندبون للعمل بلجان المجمع لقاء مكافآت، فيعملون مع الأعضاء إنجاز الأعمال الفنية.
وعرض على المجلس موضوع اختيار أعضاء مراسلين للمجمع من لبنان والجزيرة العربية، فأجل النظري فيه؛ والمقصود من هذا الموضوع استكمال تمثيل البلاد العربية في المجمع من حيث عضوية المراسلة، فقد سبق أن اختير أعضاء مراسلون من سائر أقطار العروبة ما عدا هذين القطرين الشقيقين. والرأي متفق على هذا الاستكمال، أما موضع النظر فهو تعيين الأشخاص.
اليهود دائما:
جاء في تقرير كتبه عن اجتماع مؤتمر المستشرقين في باريس، الدكتور إبراهيم بيومي مدكور ممثل المجمع في المؤتمر - ما يلي: (لقد حاولنا أن نظفر بتقرير عقد الاجتماع المقبل للمؤتمر في القاهرة، وكان لنا بين الأعضاء أنصار كثيرون، ولكن الأمر انتهى للأسف عقد الاجتماع المقبل في استنبول، ومرد هذه النتيجة إلى أسباب أهمها):
(1 - التأخر في وصول الدعوة الرسمية بحيث لم تبلغ إلا قبيل انعقاد الجلسة الأخيرة.
(2 - تأثير مشكلة فلسطين على العلاقة بين الشرق والغرب عامة وبين مصر والدول الأوربية والأمريكية بوجه خاص، والجهود الكبيرة التي بذلها المستشرقون اليهود وأنصارهم في سبيل حمل المؤتمر على عدم تقرير اجتماع المقبل في القاهرة.)
وهكذا يحارب اليهود الجهود العربية في كل محال، حتى في الهيئات العلمية، وهكذا يستجيب لهم الغربيون حتى ذوو (الأرواب) العلمية.
عباس خضر(798/42)
البريد الأدبي
الجوييم:
وردت هذه الكلمة في محاضر المؤتمر السري الذي عقده شيوخ اليهود في القرن الماضي، وهو الذي لخصته في مقالات في الرسالة وعلقت عليه. وقد ذكرت اللفظة مراراً بنصها هذا كما ذكرها مترجم تلك المحاضر عن الروسية إلى الإنكليزية وفسرها بقوله أنهم يطقونها على جميع الأمم غير اليهودية، وعلى النصارى على الخصوص. وفي أثناء نشر مقالات في الرسالة علمت من خبير أن كلمة جوييم تعني (الأنجاس) والجوى (نجس) وهم يعنون أن جميع الأمم غيرهم (أنجاس).
وفي العبارة التي نقلتها مجلة الأزهر عن الرسالة، ونصها: (لأن وظيفة هؤلاء الحكام الوطنين (أعني باشاواتنا) أن يمسكوا البقرة (اقتصاديات مصر) بقرينها لكي يحلبها شعب الله المختار (الجوييم) قصدت بأن (الجوييم) نعت لشعب الله المختار (كما يسمون أنفسهم) أعنى أني نعتهم بما ينعتون به سائر الأمم لأن تصرفاتهم وسلوكهم وأخلاقهم تثبت أنهم أنجس الأنجاس كما يعلم كل إنسان على وجه الأرض.
نقولا الحداد
عقيدة جلال الدين الرومي:
اتهم الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ في مقالة (جلال الدين الرومي) المنشور في العدد الأخير من مجلة الرسالة الزاهرة بأنه (حلولي) وذلك بدن إبداء أسباب مقبولة أو إيراد أقوال صريحة عنه تؤيد أن هذا الاتهام.
ومع الأسف الشديد أؤكد أنه ما من باحث إلا ويلقى الكلام في الصوفية جزافا ويرميهم بأحد المذاهب المضلة الباطلة التي لا يقرها عقل ولا يؤمن بها قلب ولا يعتنقها إلا كافر بالله أو ملحد لم يشم رائحة الإسلام الذي هو في روحه ومعانية بقدر موضع العبد من خالقه الذي ليس كمثله شئ.
ونعيذ المتصوفة أن تكون من الفئة المارقة الخارجة على الدين الإسلامي الحنيف. وإنى أسأل: هل شققناعن قلوب هولاء المتصوفة فرأينا أنهم كانوا على الباطل في حياتهم وأنهم(798/43)
تركوا الدين وراء ظهورهم فلم يؤدوا ما أمر الله به ولم ينتهوا عما انهى الله عنه أو انسلخوا عن الدين فاعتقدوا أن الرب عبد والعبد رب. إن هذا قول لا يقره عقل ولا دين. وإني إذ أبرئ المتصوفة من مذهب الحلول تطيب نفسي أن تشهد بأن جلال الدين الرومي من هؤلاء الصفوة المختارة الذين كان لهم أثر محمود في إظهار نور الشريعة قولا وفعلا واعتقاداً. فلله هؤلاء الصوفية البؤساء الذين لم يسلموا من ألسنة الناس في حياتهم وبعد مماتهم، ورحمهم الله.
(شطافوف)
محمد منصور خضر
المفعول معه وواو المعية:
تعرض الأستاذ أحمد عبد اللطيف لمناقشة ما كتبته حول المفعول معه وواو المعية، فأورد أمورا رأى إنها تحتاج إلى المناقشة فقال:
1 - إن سياق الآية (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم) بعيد عن الدقة لأني قلت إن الإيمان منصوب على أنه مفعول معه. والرد على هذا من وجوده.
(أ) لست في كتابتي للموضوع أبحث عن ترجيح إعراب للآية دون إعراب، ولم أمنع أن فيها أوجها أخر، والأستاذ متفق معي على أن الصبان في حاشيته على الأشموني اوردها على الرأي الذي ذكرته، وأزيده أن السيوطي في كتابه همع الهوامع أوردها كذلك فقال (وجاز النصب على المعية وعلى إضمار الفعل الصالح نحو فأجمعوا أمركم وشركاءكم ومثله تبوءوا الدار والإيمان. فالإيمان مفعول معه أو مفعول به باتعقدوا مقدراً) فإذا كان للآية أو للشاهد عدة أوجه - وكل وجه منها صحيح - كما في الآية واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، بجر الأرحام عطفا أو مقسما بها، وبنصبها عطفا به، ألا يجوز للكاتب أن يذكره في معرض الاستدلال وبخاصة إذا كان سليما من التأويل والتقدير؟
(ب) الآية وردت في الأنصار. فمن قال بتقدير فعل مناسب احتاج إلى أن يقول: تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان من قبل المهاجرين. ثم احتاج إلى أن يقول تبوءوا الدار من قبل هجرة المهاجرين. وذلك لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين وإنما بعدهم وإن كانوا(798/44)
آمنوا قبل هجرتهم. ومن قال بتقدير فعل انصبابه على الاسمين احتاج إلى أن يقول: لزموا الدار والإيمان من قبل المهاجرين ثم لزموا. . . من قبل هجرة المهاجرين. أو قالوا في الحالين تبوءوا الدار من قبل المهاجرينوأخلصوا الإيمان. أو لزموا الدار من قبل المهاجرين ولزمو الإيمان. أوعلى كليهما اضطررنا إلى تأويل وتقدير أو تقديم أو تقديم مع أن هناك قاعدة مشهورة وهي أن ما سلم من التقدير أولى مما احتاج إلى تقدير.
(ج) أما من يرى أن الإيمان مفعول معه فقد تجنب أكثر هذا التكلف، فال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط: قال ابن عطية والمعنى تبوءوا الدار مع الإيمان وبهذا الاقتران يصح معنى قوله - من قبلهم - فتأمله. . . اهـ
(د) يوهم ما كتبه الأستاذ أن الفراء والفارسي والمازني إلى آخر من ذكرهم قد تعرضوا للآية عند المتكلم على التوضيح إذا امتنع العطف والمفعول معه كقوله:
علقتها تبناً وماء بارداً ... حتى غدت همالة عيناها
وكقوله:
إذا ما الغانيات برزن يوماً ... وزججن الحواجب والعيونا
أضمر فعل ناصب للاسم الواقع بعد الواو وهذا قول الفراء والفارس ومن تبعهما. وذهب الجرمي والمازني والمبرد وأبو عبيدة والأصمعي واليزيدي إلى أنه لا حذف وأن ما بعد الواو في (البيتين) معطوف على ما قبله، وذلك على تأويل العامل المذكور قبلهما بعامل يصح انصبابه عليهما معا فهو من باب التضمين (ومثل ذلك ذكره السيوطي في الهمع. فالشاهد الذي يعارضني به الأستاذ وقد استمده من النسفي - وأزيده أنه قد ذكره غيره - إنما هو فيما لا يحسن أن توضع فيه واو المعية ولا يجسن فيه العطف فاضطروا إلى التأويل والتقدير أما الآية فهي فيما يجوز فيه النصب على واو المعية واضمار الفعل الصالح. فالتنظير غير تام بين الآية والبيت. ومن كل هذا نخلص إلى أنني لم اكن بعيدا عن الدقة وإنما كنت أقرب إليها منه، هذا في الوقت الذي لم أكن أقصد في بحثي الأسبق إلى ترجيح إعراب على إعراب وإنما كنت أقصد إلى أن الواو في المفعول معه نص في المعية بدون تجوز أو تأويل، وشواهدي التي سقتها صريحة في هذا ومنها الآية الكريمة. ولا يكفي في الرد أن يقال هذا بعيد كل البعد او أن هذا ضعيف من غير تبيان وجه البعد(798/45)
أو الضعف، فإذا ذكر بعض المفسرين أن المفعول معه في الآية ضعيف بدون حجة يبديها، لا يكفي في الإبعاد والإضعاف ما دام التعبير سليما واضح المعنى.
2 - يظاهرني الأستاذ على نقدي تعريف المفعول معه ومن العجب أنه مع ذلك يريد أن يعتبر - بدون قصد - استذكرت والمصباح وأمثاله صحيح مع أنني قد بينت أنها أمثلة خاطئة إذ أنك لا تقول في كلام عربي استذكرت مع المصباح وإنما تقول استذكرت على ضوء المصباح، ولعل الأستاذ لم يتنبه إلى مرادي في بحثي الأسبق فكان منه ما اعترض به.
3 - إن أسلوب الأستاذ الإفهامي 0الذي ذكره - ليستدني القاعدة إلى إفهام تلاميذه إنما هو الواقع أسلوب يستبعدها. ألا ترى أن التلميذ وهو في الرابعة الابتدائية لا يتابعك حين تقول: (استذكرت والمصباح، إن ما بعد الواو لا يصح أن يقع منه الحديث إذ أن المصباح لا يستذكر. وإن المصباح مفعول معه وليس معناها استذكرت مع المصباح أي مصاحبا المصباح وإنما حصل (الحدث) مقالنا للمصباح) ولكن يفهمك من أول الأمر إذا قلت خرجت والأصيل، اي مع الأصيل. وهذا ما قلته سابقا وما جعلني أخطئ مؤلفي كتب القواعد التي ابتدعوا فيها أمثلتهم فلجئوا إلى تعريف يوضح ابتداعهم العجيب.
4 - قال الأستاذ إني أحلت قول الشاعر (لا تنه عن خلق وثاني مثله إلى الحال وأنني قد تجوزت في رأيي تجوزاً بعيداً. وأنا من جهتي أعجب للأستاذ ألا يتنبه إلى أن قولي إنما كان (تهميشاً) وضعته ليكون ضابطا لمعرفة واو المعية السببية، ولن تجد شاهداً صحيحا يخرج عن رأيي، فالآية: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، معناها والله أعلم أنهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا مع حالة كونهم غير مكذبيين بالله ومع حالة كونهم من المؤمنين، ومثل هذا يقال في الأمثلة والشواهد التي ذكرتها في بحثي الأسبق. وإني لشاكر للأستاذ أن أتاح لي فرصة الإيضاح، ولعله تنبه إلى ما أردت وذلك على قدر ما أعلم وأختم بما ختم به وفوق كل ذي علم عليم.
عبد الستار فراج
محرر المجمع اللغوي(798/46)
شجرة الزقوم في امتحان الرسم:
نشرت (الرسالة) مقالا للأستاذ عباس خضر، انتقد فيه السؤال الخاص برسم الجحيم وشجرة الزقوم ورءوس الشياطين. إلى آخر ما ترمز إليه الآيات الشريفة. وأرى أنه من الواجب قبل النقد أن يقف حضرته على الأسس التي بنى عليها هذا التطور المفاجئ في طرق تدريس هذه المادة والغاية التي تسمى إلى تحقيقها، هناك أمران مهمان:
أولا: يجب أن تخاطب الصورة المطلوب التعبير عنها (قلب) الطفل ونفسه فيمتلئ بها شعوره وإحساسه، بصورة خاصة أدركها فكره الخاص، فإذا ملأت الصورة قلبه وفاضت بها روحه واستحوذت على مشاعره، كان لها عليه سلطان شديد. فإذا أعطى الفرصة للتعبير عنها، جاء تبعيره ترجمة صادقة لما يجول في عوالم نفسه، وما دام قد فاض الينبوع من صدره وتفجر من أعماق نفسه. ففي تعبيره هذا تأكيد لنفسه ولشخصيته، وفيه شفاء لغليله وريا لظمأه. وهذا يختلف عما إذا خاطيت الصورة المطلوب التعبير عنها (عين) الطفل، فهو في هذه الحالة يحاول أن ينقلها لنا نقلا جيداً فيصبح ذلك المقلد الماهر لما يراه لا المعبر الصادق لما يجول في نفسه. . وشتان بين هذا وذاك، كما أن الصورة المنقولة عن العينتخاطب (العقل) شأنها في ذلك شأن المواد الدراسية الأخرى التي يحيا فيها الطفل طول الأسبوع. أما الصورة المنقولة عن القلب فتخاطب (العاطفة) ويجب أن نذكر أن في هذا التنويع ضرورة لحياة الطفل فهو عقل وروح.
ثانيا: الصورة التي تخاطب العين تكون واضحة في ذهن الطفل فهي دائما أمام عينيه واضحة كل الوضوح، مما يجعل الدافع النفسي عند الطفل إلى التعبير عنها ضعيفا أو معدوماً، فلا حاجة به إذا، ولا دافع كذلك في نفسه يدفعه إلى التعبير عنها حتى يراها أمام عينيه على ورقة الرسم. على العكس من الصورة التي تخاطب القلب فهي غامضة في ذهن الطفل، شديدة التأثير في نفسه كما يبدو ذلك جليا في الأحلام مثلا فيكون الدافع النفسي عند الطفل للتعبير عنها قويا شديداً، محاولا في ذلك أن يزيح النقاب عن وجه الصورة التي يحسها - فغموضها في ذهنه يدفعه إلى محاولة إيضاحها في الرسم، وقوة تأثيرها في قلبه تدفعه إلى التعبير عنا بالرسم - ليرى في النهاية ما أحسه بنفسه غامضا قد أصبح واضحا(798/47)
أمام عينيه على الورق. . كالحاجة الملحة التي تدفعنا إلى تذكر الحلم في الصباح.
ولست أوافق الأستاذ عباس خضر في أن يقصر (مقدرة التخيل) على العباقرة كأبي العلاء ودانتي ولكنها عامة عند الجميع.
ولعل في ذكر الجحيم وشجرة الزقوم ورءوس الشياطين صوراً غامضة تثير نفس الطفل نحو التعبير عنها.
ولسنا نبغي من وراء هذه الخطة أن نكلف الناشئ العادي أن يكون فنانا كما ذهب حضرته في ذلك، وإنما رائدنا تكوين شخصية نامية مستقلة عند الطفل، يحس بها إحساسا ذاتيا معتمداً عليها في كل ما يعترضه في الحياة. إذ يجب ألا يكون العالم الخارجي هو النماذج الأعلى عند الطفل يقلده فيحس بصغر شأنه إزاءه، ولكن يجب أن يحس الطفل عمليا بقيمة نفسه، وبأنه النموذج الأعلى في هذا الوجود.
كامل بطرس عصفور
مدرس الرسم بمدرسة المنصورة الثانوية للبنات
وحدة الأسماء:
كتب الشاعر الرقيق - أحد من تشرفت بمشاركته في الإسم الكريم - الأستاذ محمد محمد علي (السوداني) كلمة في العدد الماضي من الرسالة، عن اشتراك أكثر من واحد في اسم واحد! وقد عرفت من مطالعتي المستمرة للرسالة، أن هناك - في محيط الرسالة على الأقل - ثلاثة يحملون اسمه الكريم، أما الأول فهو مترجم السادهانا (كنه الحياة) لطاغور (وهناك مترجم آخر لها وهو الأستاذ طاهر الجبلاوي (تحقيق الحياة). وأما الثاني فهو الشاعر (السوداني). وأما لثالث فهو العبد الضعيف كاتب هذه السطور، الذي نال شرفا عظيما باشتراكه في الإسم مع كرام أفاضل، وقد نشر له في الرسالة الغراء فصول في التاريخ والاجتماع، مترجمة عن هاتزكوهن والأستاذ جب وهو طالب بليسانس الجغرافية بكلية الآداب.
لقد كان الصديق الشاعر على حق في سودنة اسمه (سودنة) خفيفة لطيفة) ليس اخف من قصيدته ولا الطف. .(798/48)
محمد محمد علي
قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد(798/49)
الكتب
الاسكندر الأكبر
تأليف الأستاذ أرثر ومجال
نحن اليوم نستقبل الصبح من نهضة فنية مباركة، تسرع شمسها نحو الشرق لتملأ الدنيا نوراً ودفئا، ونحن اليوم أشد ما نكون رغبة في دراسة سير الأبطال ممن جاد بهم التاريخ - والإسكندر رسيفااتتشخصية دائمة الدوي في أسماع الزمن، فلا يكاد التاريخ يحدثنا عن ملك اجتمعت له كل أسباب الشهرة كما اجتمعت للإسكندر، فلقد شغل الكتاب والمؤرخين، والباحثين، والعلماء في كل زمان ومكان، ومن هؤلاء من رافقه من المهد إلى اللحد، ومنهم من كان في ركابه لما خرج من مقدونيا غازيا فلم تعظم عليه أشد البلاد بأسا وعنادا، ومهم من اضطلع معه بشئون السياسة والإدارة فخبر أساليبه وما قدر لها من نجاح أو فشل، ومنهم من عنى بتدوين يومياته ومذكراته الخاصة وأقواله، فكان منهم المقسط وكان منهم المتحامل المتعصب الذي يرى فيه شابا حالفته الشهرة ولم يسمع لها سعيها وهو مؤمن على أنه يكد ينتصف القرن الأول الميلادي حتى نشر الاسكندر أربعة بحوث هامة كتبها ديودور الصقلي ويومي وأرفوس ولكن أرفاها كتبه بلوتارخ.
والمؤلف الذي بين أيدينا كتبه أستاذ كان مفتشا عاما للآثار بمصر وهو ممن تخصصوا في دراسة تاريخ حياة شخصيات التاريخ اللامعة، فنحن نعرف من مؤلفاته حياة أخناتون، الخاصة) وهو أمام الموحدين في العالم القديم، (وحياة كليوباترا الخاصة) فاتنة الأجيال، ونيرون ومارك أنطونيو. . . وهو يتناول سيرة الاسكندر يعنى بنسبه وموطنه، ويصاحبه طفلا غريراً، وفتى يافعا، وشابا طموحا، ومحاربا بطلا، وسياسيا فذا، وعاشقا متزنا، لا يصرفه الغرام عن الواجب وقائدا منصورا لا يدفع به الظفر إلى الإسراف في البطش.
ويشير المؤلف إلى النقطة التي بدأ عندها بحثه فيقول: بدأت بحثي من النقطة التي ظل يعتريها الغموض أجيالا طوالا فلم أرها واضحة كل الوضوح فيما قرأت من مؤلفات، تلكهي المشكلة ولادته. فلقد ظل يعتقد بأنه ابن للإله الإغريقي المصري (زيوس آمون). ولعل هذا الاعتقاد قد أضفى على شخصه لونا من القدسية ظلت عالقة في أذهان الناس قرونا بعد وفاته، ففي بعض بلدان العالم كان ينظر إليه كاله حق مبين. . . وفي بلاد(798/50)
الإغريق والرومان كانوا يعتقدون أنه الإله الثالث عشر لأسرة الأولميب، وتروى عنه أحاديث اليهودأنه كان خادما ليهوه المبشر بالمسيح، وصاحب عرش سليمان، والمسلمون يرون فيه بطلا وفقه الله ليحق الحق ويمحق الضلال، وفي بعض كنائس المسيحيين كانوا يعتقدون أنه واحد من قديسيهم متجاهلين بذلك السبق التاريخي.
وينتقل بنا المؤلف إلى صبا الاسكندر، ويوضح لنا كيف كان في صباه فارسا مشغوفا بالركوب والرياضة، مليئا بالثقة بنفسه، كثير النقد لكبار رجال الدولة، يطعن في تصرفاتهم، ويثبت اخطاءهم، وهي صفات يقول عنها رجال التربية اليوم إنها من صفات النجباء المبرزين.
ويوضح لنا المؤلف ناحية دقيقة من حياة الاسكندر وأبيه، والمجتمع الذي نشأ فيه، فيقول: (ويلحظ الأب على ابنه الصبي إمارات الأنوثة) - لا يخطئها الناظر إلى تمثال الاسكندر الشاب المحفوظ بالمتحف البريطاني - (فهو مليح المحبا، وضاح الجبن، تجري في وجهه الأبيض حمرة خفيفة رائعة كالتي يراها المرء على وجوه فتيات الإغريق) أعتاد أن يميل برأسه بلطف ورقة له عينان ناعستان جذابتان، يحب أشعار هوميروس حتى أطلقوا عليه (عاشق هوميروس). . . يهوى الموسيقى ويلعب بأنامله الرقيقة على أوتار القيثارة فيخرج بها أنغاما لينة ناعمة.
كان كل هذا مما يقض مضجع الأب، فقد كان أشد ما يخشاه أن يمس ابنه واحد من غلمان مقدونيا ممن يتسرى بهم رجال الدولة، ولو أنه هو نفسه كان أحد هؤلاء الرجال. ففكر ودبر، وهداه طول التفكير والتدبير إلى أن يدفع به إلى أيدي أرسطو ليؤدبه ويعلمه الفلسفة والحكمة والعلوم المعاشية.
ويصاحبنا المؤلف إلى جلسات التلميذ من أستاذه الفيلسوف ويبين لنا جانبا من تعاليم أرسطو للاسكندر، وكيف هضم الاسكندر هذه التعاليم وتشبث بها واستخدمها وصار يفضي بها للناس كلما حانت ساعة الإفاضة.
وفي سنة 335ق م كان الاسكندر قد بلغ الحادية والعشرين من عمره، وكان قد خلص من توحيد ممالك شبه الجزيرة تحت التاج المقدوني، وكان قد فرغ من حشد حملته التاريخية التي خلدت اسمه، وانطلق بها بغزو إمبراطورية الفرس في شرق الأرض.(798/51)
ومن ادق ما صوره لنا الأستاذ ويجال في كلامه عن الاسكندر السنة الأخيرة من حكمه، فقد أحصى المؤلف على الاسكندر حركاته وسكناته، وساعاته ولحظاته، وأورد لنا نصوصا من خطبه في جنده المتمرد، وكيف تمكن بلباقته وحسن أدائه وسرعة خاطره من كبح جماحهم دون أن يذلهم، وكيف كان الرجل صاحب فكرة، فسلم يكن فاتحا تدفعه شهوة الفتح، ولم يكن ملكا يبغي الملك ويعشق السلطان، بل كان هذا وكان بدين بمبدأ الأخوة العالية والاندماج العنصري بين الشرق والغرب فاعد لجنوده حفلا كبيرا لتزويجهم من الفارسيات بالجملة، واتخذ له بطانة من قادة السيف والعلم من الفرس وقربهم إلى نفس فقرب إلى نفوسهم، واحبهم فعظم إخلاصهم له مما احقد عليه أجناده المقدونيون.
ويحدثنا المؤلف عن بناء الاسكندر لأسطوله العظيم في ثغور المشرق ليدور به حول أفريقيا ويعود من بوغار جبل طارق إلى الإسكندرية، فيكون قد كشف ما خفي من أقاليم العالم، ويتم له توحيدها تحت تاجه. وكان الأسطول يرقب يوم السفر حينما أصيب الاسكندر بالحمى - لعلها الملاريا - وألحت عليه العلة وهو يصارعها بما جبل عليه من حب الصراع. إلا أن الاسكندر قد رقد ولم يطل رقاده اكثر من ثلاثة أيام ودع بعدها الدنيا وهو اكثر ما يكون شبابا وحيوية وأملا في إقرار عدل عالمي، ما أحوجنا اليوم قبس منه. . .
والكتاب بحث من البحوث العلمية الدسمة، فهو لا يترك شاردة ولا واردة من حياة الاسكندر إلا أحصاها، وينقد المراجع القديمة والحديثة نقدا علميا منزها ويخرج بالقارئ برأي المؤلف واضحا لا غموض فيه، وهو كتاب تاريخ لمن يحب التاريخ، وكتاب أدب لمن يعشق الأدب، وصفحة بطولة ومجد وفخار تهوى إليها كل الأفئدة.(798/52)
القصص
وحيدة
للكاتب الإنجليزي دوق آفنيل
ترجمة الأديب حسن فتحي خليل
كانت الحجرة الطويلة تلمع فيها الأضواء المنعكسة من زجاج النوافذ العالية، وضوء شمس الربيع الزاهية يلامس رؤوس المدعوين إلى حفل الزواج وقد انتشروا جماعات في اركان الحجرة.
وابتسمت السيدة تريل وهي واقفة وحدها على السلم الذي يفضى إلى تلك الحجرة. . . وتذكرت فجأة أشياء غريبة. . . فها هي حلقة جديدة من حياتها تبدأ اليوم.
لقد كان أول ما بدأت تلك الحياة تزوجت من ريتشارد، ثم لحقها تغير آخر حين مات زوجها بعد عشرين عاما. . والآن. ها هي ابنتها قد تزوجت، وقذفت الحياة أمها نحو مستقبل مجهول ولأول مرة ستغدو وحيدة.
ولقد حدثتها نان في ذلك قبل هذا بيومين وهي تحيطها بذراعيها وقالت: (أرجو أن تكوني بخير في وحدتك يا أماه. . لقد كنا معا دائما لمدة طويلة، أنا أعرف أنك ستفقدينني) فاتسمت السيدة تريل وقالت (لا تنزعجي يا نان، سأتغلب على هذا).
فقالت ابنتها: (في استطاعتك دائما الإقامة معنا أنا وتوم يا أماه) فاجابتها (سنرى ذلك)
ووقفت تراقب زوج ابنتها وهو ينتقل بين المدعوين.
ستغدو وحيدة، لا تطهي طعاما لأحد، ولا ترتب حجراتها لشخص ما، ستعود إلى منزلها في الغروب وتتناول عشاءها بمفردها. . وسيبقى الباب مغلقا حتى الصباح.
منذ عشر سنوات وهي لم تشعر بانفرادها ابدا، لقد كانت تحس بوجود نان بجانبها دائما، حتى وهي تحتسي القهوة مع صديقاتها أو وهي جالسة في ظلام دار السينما. لقد كانت فتاة طيبة، فحين توفي والدها أصرت على أن تبحث عن عمل، وكانت حينئذ في الثانية عشرة من عمرها. وباجتهادها وتوفرها على عملها امكنها بعدسنتين ان تغدو سكرتيرة لرئيس العمل.(798/53)
وبعد خمس سنوات تغيرت حال عائلة تريل فإذا هم يذهبون لقضاء أيام العطلات في وركواي وينزلون في الفنادق الفخمة ويقيمون حفلات الشاي والكوكتيل الأنيقة.
ولقد قالت السيدة تريل يوما لابنتها ثان (أليس من الأوفق يا عزيزتي أن نقيم في أماكن أقل تكاليف، فأنا أعتقد أن نقودك لن تحتمل كل هذا، وأنا لا أرغب في كل هذه الكماليات كما تعرفين).
ولكن نان ابتسمت وهو تقول (يجب أن نتمتع قليلا يا أماه. أني أوفر لك السعادة وما عليك إلا أن تستريحي وتتركي لي أنا التصرف في أمورنا المالية).
ولم تتناول السيدة تريل هذا الموضوع بالحديث ثانية. إن نان فتاة طيبة. إنها تتذكر حين كانت تصحبها وهي طفلة إلى شاطئ البحر. كان زوجها ريتشارد ما يزال على قيد الحياة حينئذ، كانتا تتمشيان على الشاطئ فتهمس إليهما الأمواج ويداعب الماء أقدامها، ويستمتعان بتلك الأنوار السحرية التي تلمع في أركان السماء الداكنة، ثم يقفان خلف المقاعد يستمعان إلى الموسيقى النحاسية تعزفها الفرقة العسكرية. . وكانا يحرصان خلال هذه الأيام على كل بنس يمتلكه.
ولكن نان بدلت من كل هذا، فلقد اصبح منزلهما أنيقا. وهي تذكر دائما كلما وضعت قبعتها ومعطفها صوت نان تسألها:
- (أخارجة أنت يا أماه)؟
- (نعم يا عزيزتي)
- (أتقصدين مكانا معينا)؟
- (كلا. . . سأتمشى قليلا في الحديقة).
- (سأصحبك. . فلا يجب أن تذهبي وحدك أبدا، وسنحتسي القهوة معا حين نعود).
وهكذا. . كانا يذهبان إلى كل مكاناً معا، وكانت تحرص نان على ألا تكون والدتها وحيدة.
وسار الحال على هذا المنوال حتى العام الماضي، حينئذ ظهر اسم توم بيرنز في أحاديث نان، كان رئيسها، وهو شاب طويل أنيق ذو ابتسامة جذابة.
وأصبحت نان ترتدي ملابسها في أوقات الغروب وهي تقول لوالدتها:
- (أتسمحين لي بالخروج)؟(798/54)
- (طبعاً). . .
- (أقصد أنك ستبقين بمفردك هذا المساء).
فتبتسم السيدة تريل لابنتها وهي تقول - (أنت فتاة طيبة يا نان. . اخرجي وتمتعي).
وحتى في هذه الأوقات وبالرغم من وجودها في المنزل بمفردها، كانت تشعر بوجود نان معها دائما، وكنت تعرف بأأن المفتاح سرعان ما يدور في ثقب الباب بعد الحادية عشرة بقليل. . وعليها أن تقوم بتحضير القهوة وترتيب البهو فربما جاء توم مع ابنتها.
ولقد كان توم فتى لطيفاً، وحينما طلب يد نان ابتسم في خجل وهو يقول:
- (أنا أعرف أنكما متلازمتان. . وأنا لا أرغب في أن تشعري بالوحدة حين تتزوج نان، وأرجو أن تعتقدي أننا نرحب
بك للإقامة معنا دائما).
ولكن السيدة تريل كانت تخشى دائما التدخل في حياة أي فرد. إن الشابين الصغيرين سيرغبان في الانفراد، وعليهما أن ينعما بحياتهما الخاصة، لذلك قالت (سنرى ذلك يا توم).
والآن قد بدأت الحلقة الجديدة، وسيظهر أفق حديث في حياة السيدة بريل. وكانت ما زالت واقفة في مكانها على السلم وهي تبتسم لهذا الطوفان من الذكريات.
وتجمع الضيوف ولاحظت توم هو يشير إليها ويصيح بكلماته التي لا تسمعها وسط الضجيج، وبدأت تهبط السلم، ثم سلكت طريقها بين المزدحمين. كان شعورها يبعد بها عن الضجة والمرح إن سعادتها يشوبها الجد وإحساس دقيق من الأسى لمرور الوقت وانتظاراً للحظة - الفاصلة -.
وأخذت ثان بيدها وهي تنظر إليها بعينين لا معتين ثم قالت:
- (الوداع يا أماه).
- (باركك الله يا ثان).
- (آه. . . يا أماه. . . أرجو ألا تشعري بالوحشة، بل يجب ألا تستسلمي لذلك الشعور).
- (الوداع يا عزيزتي ثان).
وفتح الباب فانتشر ضوء الشمس وتعالت الأصوات المرحة حول السيدة تريل الواقفة في هدوء على عتبة المكان وأشارت إليها نان بيدها وهي جالسة داخل السيارة. وضحك توم. .(798/55)
ثم تحركت السيارة. . وزادت سرعتها حتى اختفت في منعطف الشارع.
وظلت السيدة تريل واقفة وقد غمرها شعور من الأسى ولم يقطع خيط تأملاتها سوى صوت يقول:
- (يا عزيزتي السيدة تريل. . كم ستفتقدين ثان!)
كانت جارتها في المنزل، فابتسمت قليلا ثم قالت في هدوء:
- (سيبدو الأمر غريبا بدونها)
- ستغدين وحيدة، لقد قضيت معها أوقاتا طيبة. أيام العطلات في توركواي. . مآدب العشاء في المنزل، كل هذه أشياء ستثيرك. . ومع هذا. . هل ستقيمين بمفردك؟)
فهزت السيدة تريل رأسها وهي تقول (أعتقد أنه يجب أن أسافر لبضعة أيام أولا. .)
وكانت ما زالت تبتسم في هدوء والسيارة تنقلها خلال الشوارع المزدحمة إلى منزلها.
هبت نسمة دافئة حين وصلت السيدة تريل إلى تلك البلدة على شاطئ البحر التي اعتادت أن تزورها وابنتها وزوجها حينما كان على قيد الحياة، وسارت السيدة تريل في بطء بمحاذاة الشاطئ، كانت الأضواء تتلاعب فوق رأسها، وجعلت تراقب الصيادين وهم يقومون بعملهم. . وتمشت على الرمال. . . وكانت معالم الناس تختفي في ظلال الظلمة الهابطة. . وأحست بانفرادها لا يواجهها سوى البحر، وسرحت نظرها في الشاطئ من أوله إلى آخر ما يحده بصرها. .
كانت غارقة في ذكرياتها. . لطالما مرت بها كل هذه المناظر من قبل، وإذا بالماء يداعب قدميها، فتشعر بإحساس من الغبطة يملأ نفسها بالرغم من وحدتها).
حسن فتحي خليل(798/56)
العدد 799 - بتاريخ: 25 - 10 - 1948(/)
أول ما عرفت شوقي
(بمناسبة ذكراه السادسة عشرة)
عرفت شوقي عن عيان سنة 1927 في المهرجان الذي أقيم لتكريمه في القاهرة. عرفني به صديقي الأستاذ محمد كرد علي، وكان قد وفد فيمن وفدوا من أقطاب الأدب وأعيان العرب ليشاركوا مصر في تكريم شاعر العربية العظيم؛ فذهبت إليه في فندق الكنتنتال أزوره، فوجدته بالشرفة جالساً في قلادة من أولى الفضل يتوسطها شوقي، فلما رآني مقبلا هش لي ورف على، وقال لشوقي وهو يبتسم ويتهلل: هذا هو الرجل الذي أنصفك! فلما استسماني الشاعر النابه عجب الأستاذ كرد على ألا يكون بيننا تعارف ونحن نعيش في بلد واحد ونسير في طريق واحد. وسماني له، فتلقاني ببشره وشكره وأنسه، ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة سنتين كاملتين رحلت بعدهما إلى العراق. وفي أثناء مقامي ببغداد اصطفاه الله لجواره، فلم أره بعد ذلك إلا رؤيا، ولم أتمثله إلا ذكرى!
كان الأستاذ كرد علي يشير بإنصافي إلى مقال نشرته يومئذ في العدد الخاص بتكريمه من (السياسة الأسبوعية) عنوانه (ما لشوقي وما عليه)؛ وكن كثر ما كتب في هذا العدد عن شوقي أقرب إلى النكير وأدنى إلى الجراح، فداخل شوقي ظنون من إخراج هذا العدد، وحك في صدره أشياء من جهة هيكل؛ وأرهج بعض الناس بين الصديقين بالفساد حتى كاد أن تقع بينهما جفوة.
قال لي شوقي وقد أخذ بذراعي والقوم منصرفون: إني أشكرك على نقدك وتقريظك على حد سواء، فان الحق فيما أخذت لي ظاهر، والعدل فيما أخذت علي صريح. وإني أسلم لك ما عددت من هفواتي وأرده إلى اختلاف الأثر بين عصرين وثقافتين وذوقين. وليس من السهل أن يتجرد الشاعر أو الكاتب جملة أو فجأة من عوامل الوارثة والدراسة والبيئة ولكن ما رأيك فيما كتب فلان وفلان؟ وهل كان من مقتضيات الحال أن تنشر مجلة صديقي هيكل آراء خصومي في عدد تكرمي؟ فقلت له: إن رئيس تحرير السياسة كاتب يعرف قيمة النقد. ويرعى حرمة الرأي؛ وقد طلب إلى طائفة من أعلام الأدب أن يدلوا بآرائهم في الشاعر من غير تحديد لجهة، ولا تعين لقصد، ليكون العدد الخاص على ما أعتقد دراسة فنية شاملة لنواحي الشاعر تتعارض فيها الآراء، وتتقارع فيها الحجج، فتتألف من هنا ومن(799/1)
هناك صورة تامة لفن الأمير تكون في وسط هذا المهرجان تمثالا فيه الجمال والجلال، ولكن فيه كذلك الصفات الطبيعية الأخرى التي يريدها الخالق الكامل للمخلوق الناقص. فقال شوقي بصوته الخفيض وابتسامته الوديعة: يظهر أنك لا تقرأ ما بين السطور ولا تعرف ما وراء الستور. فقلت له: ربما!
ووقفت بنا سيارته على (كرمة ابن هانئ)، وكانت ليلتئذ تتلألأ بالنور والسرور، وتزدان بالزهور والحضور. فأصاب القوم ما شاءوا من مرئ الطعام وهنئ الشراب، ثم تجمعوا زمرا فوق أرائك وكراسي الردهة، يستمعون إلى الملحن الناشئ والمغني الحدث محمد عبد الوهاب وهو يغني بصوته الرخيم الخافت (أنا أنطونيو وأنطونيوا أنا). وكان شوقي آنس الله وحشته يؤثرني بالرعاية ويخصني بالحديث، شأنك مع الصديق الجديد والزائر المحتشم.
وفي أصيل اليوم التالي بعث إلى بسيارته الفخمة تحملني إلى داره؛ وكانت الدار حين دخلتها ساكنة كالصومعة، رهيبة كالمعبد؛ فمن رآها ليلة الأمس ثم رآها عصرية اليوم تذكر حال السكران الطافح ترنحه الخمر فيعربد، ثم يهوده الخمار فينام.
كان شوقي جالسا في ركن من الشرفة ومعه على المائدة الصغيرة حافظ وعبد المطلب وحنفي محمود، فلما أخذت موضعي من المجلس قال شوقي إنما دعانا هذا الوضع من اختلاف السن والذوق والثقافة لنقرأ تونيته التي نظمها للمهرجان. وأخذ حافظ يقرأ القصيدة فنقف عند كل بيت، ننظر في سياقه وموسيقاه، ثم نروي في معانيه وألفاظه، فربما استبدلنا لفظا بلفظ، وآثرنا عبارة على عبارة، وذوق الشاعر العبقري من وراء أذواقنا جميعا، ينقد ويوازن ويفاضل ويختار، حتى استوى القصيدة على فنه الرفيع منضد اللفظ نقي المستشف. وأردنا بعد ذلك أن نسمع حافظا، يرد الله بالرحمة ثراه، فاعتل بعلة لا أذكرها؛ ولكنه رأى من خلال المناقشة تجانسا بين ذوقي وذوقه فسألني أن أصحبه في العودة. وفي قهوة بميدان الأبرا كانت موضع ملهى (بديعة) اليوم، جلست أنا وحافظ رأسا إلى رأس، يقول في شوقي وأسمع، رويفتن في النكات وأضحك، حتى قال: سأنشدك قصيدتي لترى فيها رأيك. وأخذ شاعر النيل يقرأ لي عينيته المشهورة بصوته الفخم وإلقائه المعبر حتى فرغ منها؛ ثم نظر إلى نظر المستفهم المطمئن المعجب، فقلت له: هنيئا لك التصفيق الحاد(799/2)
والاستعادة المتكررة يا حافظ! قصيدة شوقي للقراءة وقصيدتك للسماع، ومعانيه للخاصة ومعانيك للجمهور! فقال في لهجته الساخرة الفكهة: وهي يعنيني غير الجمهور؟
توالى اللقاء بيني وبين شوقي بعد ذلك اليوم، مرة في داره، ومرارا في (صولت). وكان كلما أنشأ عبقرية من عبقرياته أقرأني إياها؛ وذلك في جميع أطوار عمره: يعرض ما يقرض على الآذان المتباينة والأذهان المتفاوتة ليعلم موقعه من كل ذوق، وأثره في كل نفس. وكان أشد ما مكن الألفة بيني وبينه مشابه في الطبع من فرط الحياء، وحب العزلة، وقلة الكلام، والانقباض في الندى الحافل، والابتعاد عن الحفل الجامع؛ فكأني كلا منا كان يرى في الآخر عزاء عن نقصه وعوضا من حرماته.
كان شوقي يرى كأكثر الناس أن الرجل إذا لم يعمل في الحكومة كان أشبه بالمتشرد. لذلك كان قلقا على من هذه الناحية، فهو يستكبرني على العمل الحر، ويعجب ألا يكون لي مكان في وزارة المعارف. ثم أخذ يسعى من وراء علمي لدى وزير المعارف علي الشمسي باشا ويمهد لي السبيل للقائه. وفي ذات ليلة من لياليه قال لي ونحن في ركن من أركان صولت: سأنتظرك غداً هنا في الساعة الحادية عشرة، فتعال ومعك مجموعة من كتبك لنزور وزير المعارف: فقلت له: وما شأني بوزير المعارف؟ فقال إنه يود أن يراك، ولعل من الخير أن تراه. فلما دخلنا على الوزير في الموعد الموقوت قدمني وكتبي إليه، فسلم الرجل تسليم البشاشة، وشكر شكران الغبطة. وجرى في حضرته حديث عني استجاز شوقي فيه ما لا يجوز إلا للشاعر من المبالغة في المدح والمجاملة في الثناء. ولما خرجنا من عنده ربت على كتفي وقال وهو مبتهج: لقدوعدني الوزير أن يضمك إلى الوزارة! فقلت له ولم أدهش لأني حزرت ذلك من قبل: ألهذا جشمت نفسك يا سيدي ونفسي؟ حد الله ما بيني وبين الحكومة! لقد حاول هذه المحاولة منذ أربع سنين طاهر باشا نور وعبد الفتاح باشا صبري فجذبت عناني من يديهما ومضيت. وأراد صديقي طه حسين وأستاذي لطفي السيد أن يدخلاني الجامعة منذ سنتين فلذت بالفرار بعد صدور القرار. أنا يا سيدي أستاذ في الجامعة الأمريكية، مرتبي ضخم ومكاني مرفوع ورأي مسموع وحريتي مطلقة. فهل نافعي ان أدع الطريق الذي قطعت أكثره إلى طريق أبدأ من جديد، وأن أعمد إلى رجلي الطليقتين فأضعهما في قيد من حديد؟(799/3)
ولكن شوقي الصديق الشفيق لم يرضه هذا المنطق، فظل مشفقاً على من الحر حتى رحلت عن هذا البلد، فودعني راضيا وما كنت أدري وا أسفاه أنه وداع الأبد!
(القاهرة)
احمد حسن الزيات(799/4)
اليهودية=الصهيونية=الشيوعية
للأستاذ نقولا الحداد
سألني الأستاذ حكمت على من بغداد عما إذا كان ثمة فرق بين اليهودية والصهيونية. . . اجل يا سيدي، الصهيونية يهودي واليهودي صهيوني ولا فرق، وإنما استنبطوا كلمة صهيونية لقوم أفاقين جاءوا من الآفاق إلى فلسطين لكي ينشئوا دولة صهيونية، أي يهودية، أي إسرائيلية. وكلمة صهيونية في الأصل كانت اسما لجبل أو تل في الجنوب الغربي من مدينة أورشليم (القدس) ثم أطلقت على كل أورشليم عاصمة فلسطين.
وإنشاء مملكة يهودية أو إسرائيلية هو أمنية كل يهودي سواء كان ساميا أم آريا. . . لما حكم فلسطين الولاة الرومانيون وخربوا هيكلها العظيم سنة 70 ميلادية تشتت اليهود في العالم. والآن يحل محل ذلك الهيكل الذي لم يبق منه طل، جامع قبة الصخرة. ولم يبق لليهود في أورشليم إلا جدار يبكون أمامه هيكلهم وماضيهم.
من ذلك الزمان إلى اليوم يتوق اليهود إلى مملكة فلسطين وإلى بناء هيكلهم فيها من جديد. أينما يكن اليهود يتمنوا هذه الأمنية ويبذلوا كل غال ورخيص في سبيلها. ولا يغرنك قول اليهودي إنه ليس صهيونيا؛ فإنما يقوله للتمويه فقط، إذ يخشى أن يتهم بأنه يخالف قوانين البلاد العربية في تحريم إرسال مال إلى الصهيونية في تل أبيب. وهم يرسلون الأموال من أمريكا جهارا ومن البلاد العربية سرا لهذا الغرض. وشفيق عدس الذي شنق في بغداد مثل من أمثلة الخونة الذين يهربون الأموال والعتاد إلى يهود فلسطين. فأينما رأيت يهوديا فقل إنه صهيوني، وإنه يتحين الفرص لكي يعمل للصهيونية.
بقي على العرب أن يعلموا - إذا كان الإنكليز والأمريكان لا يعلمون - أن الصهيونية أخت الشيوعية بل أمها، لأن اليهود الذين قبلوا الحكم القيصري كانوا كلهم يهوذا ما عدا لينين. ولما أنشئوا دولة البلشفية جحدوا الدين وطردوا الأكليروس النصارى واليهود والمسلمين من كنائسهم وجوامعهم وصاروا كلهم يدينون بدين كارل ماركس الاشتراكي، فلم تعد تفرق بين اليهودي وغير اليهودي، ولم تع د تعرف من هو اليهودي ومن هو المسلم. ولكن الذي كان في القلب بقى في القلب. وبقى اليهود يتحينون الفرصة لكي يملكوا روسيا ولو بصفة كونها اشتراكية. ولكن ستالين فطن لمؤامرتهم التي كانوا يدبرونها لكي يقلبوا سلطته فأباد(799/5)
كثيرين منهم. ومن يعرفهم فلعل جروميكو وفنشنسكي منهم.
قد يظن بعض الناس أن اليهود لا يمكن أن يكونوا اشتراكيين أو شيوعيين لأنهم رأسماليون، والشيوعية نقيض الرأسمالية؛ ولكن فليعلم من لم يعلم أن اليهود كالحرباء يتلونون بكل لون لكي يصلوا إلى أغراضهم. فيكن اليهودي أن يكون أرستقراطيا أو ديمقراطيا ويهوديا أو مسلما أو نصرانيا. يمكن أن يكون أي شئ إذا كان يظفر بالسيطرة؛ فإذا كان اليهود اشتراكيين ثم قبضوا على زمام الحكم الاشتراكي أو الشيوعي العالمي، أفلا تصبح أموال العالم كلها في أيديهم؟ - هذا ما يسعون إليه الآن، وسيرى ستالين أو خلف ستالين أطال الله بقاءه أن الشيوعية صارت في قبضة الصهيونية. وحينئذ تصبح موسكو تحت سيطرة تل أبيب تتلقى أوامرها منها؛ وحينئذ تصبح أوربا كلها وبعدها أمريكا شيوعية، وكلها واقعة تحت سيطرة موسكو، وبالتالي تحت سيطرة تل أبيب. وكل آت قريب.
فهل يعلم الأمريكان أنهم هم يناهضون الشيوعية يخدمونها في تأييد دولة إسرائيل المزعومة؟(799/6)
صديقي الأستاذ توفيق الحكيم
للأستاذ أنور المعداوي
أشكر الظروف الطيبة التي هيأت لنا أسباب اللقاء، وتلك اللحظات الممتعة التي جمعت بيني وبينك حول مائدة الأدب والفن تحدثني وأحدثك، وتصغي إلى وأصغي إليك، ونغترف معا من شتى الطعوم والألوان. . .
ولقيتني لقاء الصديق، وكأننا كنا على ميعاد، وأشهد لقد أكبرت فيك كثيرا من نواحي الشخصية الإنسانية، تلك التي كنت أجهلها قبل أن ألقاك. ولقد قلت لنفسي بعد أول لقاء: ليتني قد عرفتك من قبل، لتستقيم لي النظرة إلى فنك على هدى الخصائص الأصيلة في شخصيتك. . . ومع ذلك قد هيا لي هذا اللقاء أن أبلغ منتصف الطريق إلى الغابة، وأن أكشف الغطاء عن كثير!
وكان لقاء آخر طويت فيه الطريق كله حتى بلغت منتهاه، والفضل في ذلك منسوب إليك؛ لأنك حدثتني عن نفسك وعن فنك حديثا طويلا لمست فيه حرارة الصدق المنزه عن الأغراض.
لقد هاجمتك في الأيام الأخيرة مرة هنا ومرات هناك، وعلى الرغم من هذا كله فقد أدبك أن تشد على يدي، وأن تثني على قلمي، وأن تلقني لقاء الصديق. . . ويشهد الله أنني ما هاجمتك إلا لأنني أقدرككل التقدير، وأحمل لك في نفسي رصيدا مذخورا من الذكريات الغالية. أنت في عالم معدن نفيس، ومن حقي أن أزيل بيد الناقد ما علق بالمعدن النفيس من غبار الحياة. . .
هذا ما كنت أقوله لك من يلقاني معاتبا على موقفي منك، وكنت أزيد على ذلك قولي: لقد عودني توفيق الحكيم أن ألقاه في القمم، فإذا ما هبط مره عن مستواه، فمن حقي أن أثور عليه لأرده بهذه الثورة إلى مكانه الطبيعي!
قلت لك هذا فقدرت الدافع وشكرت القصد، وملأت نفسي إعجابا برحابة صدرك وسماحة طبعك، وتقبلك النقد بروح مثالية هي روح الفنان.
وخضنا أيها الصديق الكريم في حديث طويل خرج منه الأدب والفن بنصيب كبير، وخرجت منه (أخبار اليوم) بتلك الكلمة القيمة التي كتبتها على أثر لقائنا وبوحي من نقاشنا(799/7)
حول طبيعة الفن ورسالة الفنان. . .
أما حديثنا، فقد التقينا فيه حول الكثير، وافترقنا حول القليل، والفضل في ذلك أيضاً منسوب إليك؛ لأنك حين رحت تقص على كثيراً من المؤثرات النفسية والدوافع الوجدانية، تلك التي يستجيب لها قلمك ويخضع لها فنك، وضعت بين يدي كثرا من الوثائق التي يحتاج إليها الناقد، إذا ما أراد أن يقيم الميزان للعمل الفني مرتبطا بشخصية صاحبه، ومتصلا بأسباب النفس والحياة. . . ومن هنا حلت نظرة جديدة إلى فنك محل النظرة القديمة، تلك التي لم يكن أمامها لنتظر إليك غير طريق واحد، كل معالمه سطور وكلمات!
ما قصدت من وراء هذا المقال إلى أن أسجل ما دار بيني وبينك من نقاش حول طبيعة الفن ورسالة الفنان، وحول أمور أخرى تطرق إليها الحديث، لأنها تتصل بنقاش من قريب أو من بعيد، إن لذلك كله مناسبة أخرى أرجو أن أعرض فيها لكثير مما اتفقنا أو اختلفنا عليه. . .
كل ما أقصد إليه هو أن أكشف لقراء الرسالة عن ناحية من نواحي شخصيتك الأدبية والإنسانية تركت أثرها البعيد في نفسي؛ ومن حقك على أن أشير إليها في كثير من التقدير والإعجاب، وهي دعوتك المخلصة إلى توثيق عرى الصداقة في الأدب، وإيمانك العميق بجدوى الصفاء بين الأدباء. . .
واذكر أنك كتبت في هذا الموضوع مرة في (الرسالة)، وتعرضت في سبيل تلك الغاية الكريمة لهجوم بعض أصحاب الظنون ممن لم يؤمنوا بصدق دعوتك!
أما أنا، فقد لمست حرارة إخلاصك ونبل مقصدك في موفقين لن أنساهما لك: أولهما موقفك من الصديق النبيل صاحب (الرسالة) حين قلت فيه كلمة حق لا أدري لم غصت بهاحلوق فلم تنطق بها شفاه! وثانيهما موقفك من الدكتور طه حسين، حين لم يجد كلمة عزاء تنسيه وحشة الطريق وتنكر الصديق؛ لقد وفقت وحدك لتصافحه بروحك من وراء الآماد والأبعاد. . .
إنك بكلمتيك هاتين قد أقمت الدليل على أن الدنيا ما زالت بخير، وأن أصحاب الفضل لن يعدموا من يقول فيهم كلمة الحق، ولو حال بينها وبين الجهر بها كثير من الدوافع والأغراض!(799/8)
لقد كان حديثنا في آخر لقاء يدور حول هذا الموضوع لا يكاد ينأى عنه حتى يعود إليه. . . ولقد قالت لك فيما قلت: ليتنا يا صديقي نملك كثيرا من أمثالك؛ أولئك الذين يحفظون عهد الصديق، ويلتمسون سبل الخير، وينشدون وجه الحق، ولكن أين هم؟ أين من يطلق رأيا كرأيك بكلمة صدق تقال في الزيات؟ وأين من يرفع صوتا كصوتك بكلمة عزاء توجه إلى طه؟! لقد انتظرت رجع الصدى لما كتبت، فضاع الأمل وخاب الرجاء! أما أنت فقد أخجلتني حين قلت لي: يا أخي، حسبي أنك تقف إلى جانبي. . .
وحين رحت أقص عليك بعض ما أعلم وتعلم من جدوى الصداقة على الأدب، متمثلا ببعض النماذج الإنسانية في أدب العالم، عقبت على ذلك بقولك: يا أخي، إن الأدب الرفيع حق كله، وخير كله، وجمال كله. . . فلم نشوه الحق بالضغائن، ونطمس الخير بالسخائم، ونفرش طرق الجمال بالأحقاد؟! إننا نقبل هذا في دنيا السياسة، لأن رجالها قوم مشدودون إلى الأرض، ينظرون إلى يومهم وما فيه من أسلاب، ولا يتطلعون إلى غدهم وما فيه من أمجاد!
أما في دنيا الأدب، فما أوسع الشقة وأبعد الفارق، إن رجال الأدب قوم تربطهم بالسماء خيوط إلهية غير منظورة، وما أحرى المتصلين بالسماء أن يكونوا قدوة حسنة لهذا الجيل الصاعد في صفاء النفس ونقاء السريرة وشرف الغاية. . . .
ترى لو فقد الجيل الصاعد إيمانه بنا، نحن الذين أقمنا من أنفسنا هداة ندله على مواطن الخير ونرشده إلى معالم الطريق، فماذا يبقى له ليؤمن به؟!
لو تحقق الصفاء في الأدب لما أنكر حق من الحقوق، ولما ضاع قدر من الأقدار، ولما اختل في تحديد القيم ميزان!
يا صديقي توفيق، مرة أخرى أعود فأقول لك: ليتنا نملك كثيرا من أمثالك، أولئك الذين يحفظون عهد الصديق، ويلتمسون سبل الخير، وينشدون فيما يقولون وجه الحق.
أنور المعداوي(799/9)
مسألة تاريخية
للدكتور جواد علي
بهذا العنوان حرر الأستاذ ساطع بك الحصري مقالة نشرها في مجلة الثقافة كانت بمثابة رد على ما كتبه (شمس الدين كون التاي) أحد الأتراك في مجلة (مجمع التاريخ التركي) التركية بمناسبة الاحتفال التذكاري الذي أقيم في سنة 1937 في كابل وطهران واستانبول لمناسبة مرور تسعمائة عام على وفاة الفيلسوف الحكيم (ابن سينا) وقد تنازع على أصله الإيرانيون والأتراك والأفغان وكتبوا في ذلك الكتب والمقالات. كل يدعي أنه منهم. ولم يتنازع النا عليه يوم كان حياً؛ ولكنها الدنيا لا تعرف قيم الأشخاص إلا بعد الوفاة
وقد تعرض الأستاذ (أبو خلدون) في جملة ما تعرض له من نقاط إلى موضوع (الأتراك) وأثرهم الثقافي في البصرة و (معبد الجهني) وأثره في (الجبر والاختيار) وعلم الكلام. فقد زعم (شمس الدين كون التاي) في جملة ما زعمه أن (عبيد الله بن زياد الذي كان قد ولى على خراسان مأموراً للاستيلاء على ما وراء النهر في عهد الخليفة معاوية كان قد أعجب إعجابا شديدا بالثقافة العالية والمهارة العسكرية التي يتحلى بها أهل بخارى فانتخب من بينهم ألفي شاب من المهذبين المثقفين، وأرسلهم إلى العراق بغية جعلهم معلمين للعرب وأسكنهم البصرة. وإن هذه المعلومات التي ينقلها لنا أقدم مؤرخي الإسلام البلاذري تحل اللغز الذي كان يكتنف مسألة منشأ الحركة الفكرية الأولى في الإسلام).
وقد تساءل الكاتب التركي: لماذا نشأت هذه الحركة في مدينة البصرة أولا؟ فأجاب (لأن الذين أثاروا هذه الحركة الفرية الأولى كانوا هؤلاء الشباب المنقولين من بخارى هم وأولادهم، وإن الشخصين اللذين كانا وضعا الحجر الأساسي في بناء المذهبين المتعارضين في اللاهوت كان كلاهما من أهل ذلك القطر. إن معبد الجهني الذي أسس المذهب القائل بحرية الإرادة البشرية كان قد ولد في بلدة جهينة الكائنة في نواحي جرجان وطبرستان، كما أن جهم بن صفوان الذي أسس المذهب المعارض لذلك هو أيضا كان تركيا من أهل بلخ وكان قد تقدم بآرائه هذه لأول مرة في مدينة (ترمذ) من ديار الأتراك).
ولقد لفتت هذه الدعاوى نظر الأستاذ (ساطع الحصري) - وهو من المحامين عن الثقافة العربية الذابين عنها - فراجع المصادر التي استند عليها (شمس الدين) فلم يجد فيها ما(799/10)
يشير إلى ما ذهب إليه هذا الكاتب من نقل المثقفين والعلماء الأتراك من طبرستان إلى البصرة لا تصريحا ولا تلميحا وإنما تحدث عن سبى من السبايا الذين نقلوا كالعادة من طبرستان إلى جنوب العراق. وبهذا دل المؤرخ التركي على أنه لم يكن يستند في قوله هذا على أي سند أو دليل.
ثم عرج (ساطع الحصري) على قضية (معبد الجهني) ونسبته إلى الأتراك فاستعرض الآراء في (جهينة) وفي نسبة (معبد) فيها ثم خرج من كل ذلك إلى أن (الجهني) من (جهينة) القبيلة العربية المعروفة؛ وقد استند في نهاية حديثه إلى ما رواه السمعاني في كتابه (الأنساب) حيث قال: الجهني - هذه النسبة إلى جهينة وهي من قضاعة: نزلت الكوة ومنها محلة ينسب إليها جماعة. . . منهممعبد بن خالد الجهني كان يجالس الحسن البصري، وهو أول من تكلم بالبصرة في القدر. فسلك أهل البصرة بعده مسلكه فيها).
وما كان الأستاذ - في نظري - بحاجة إلى إثبات أو نفي نسب (معبد) وتعيين منزلته في العرب أو الأتراك. وفي القرآن الكريم والحديث النبوي، وفي خطب الصحابة مثل خطب الإمام علي المدونة في نهج البلاغة، وفي أسئلة الصحابة للرسول، وفي الأسئلة الكثيرة التي كان يوجهها العراقيون إلى زعيمهم الإمام عن الحرب والفتنة، أكان ذلك بعلم الله وقضائه وفي بحث التابعين في هذه المواضيع قبل نشوء (معبد) وقبل تفوه (جهنم ابن صفوان) زعيم (الجهمية). نعم في كل ذلك ما يغنى عن الرد على صاحب هذه المقالة. اللهم إذا زعم (شمس الدين) أن القرآن تركي وأن الرسول تركي وأن (الحديث النبوي) تركي بلغة التاي).
وقد أعادت هذه المقالة إلى ذهني ذكريات (المؤتمر اللغوي الثاني) الذي عقده الأتراك في الأستانة بين 18 - 23 آب والذي رأسه المرحوم (أتاتورك) وحضرة ما يزيد على (600) شخص من أرقى طبقات الأتراك كان منبينهم فخامة الرئيس الحالي (عصمت إينونو) وكاظم باشا رئيس المجلس الوطني الكبير ورجب بك السكرتير العام لحزب الشعب.
وقد افتتح المؤتمر معالي وزير المعارف في ذلك العهد فذكر أن الأمة التركية أقدم الأمم تمدناوحضارة، وأنها هي التي نقلت الحضارة من أواسط آسيا إلى أوربا الشرقية والشرق الأدنى، فأصبحت سببا في تحضر الأمم الأخرى وتمدنها. وادعى أحمد جواد بك أ؛ د(799/11)
أعضاء المؤتمر أن اللغات الهندية والجرمانية والسلافبة واليونانية واللاتينية والقفقاسية والفنية (لغة فنلندة) هي من أصل يرجع إلى اللغة التركية القديمة المسماة لغة (التاي) وهي لغة الأتراك القديمة.
وتكلم عضو آخر هو (نعيم حازم بك) عن (علاقة اللغة السامية) فزعم أن المدينة التركية كانت بمثابة خميرة للمدنيات العالمية، وأن اللغة التركية كانت الأصل لجميع اللغات، وأن الأقوام السامية إنما أصبحت ذوات لغات واسعة غنية باحتكاكها بالأتراك. وضرب مثلا على ذلك اللغة العربية فقال إن العرب كانوا قد استمدوا كثيرا من الكلمات من اللغة التركية تصرفوا بها وعربوها وصقلوها في جاهليتهم وفي أيام إسلامهم، وجاء بأحد عشر قاعدة في كيفية أخذ العرب قديما للكلمات التركية وتعريبها لها. وذكر أمثلة على هذه القواعد.
وأيد هذه النظرية لغوي آخر هو (يوسف ضياء بك) نائب اسكيشهر إذ بحث عن الكلمات التي انتقلت من لغة (التاي) أي اللغة التركية القديمة إلى اللغات السامية ولغة العرب على الأخص.
وساقت العاطفة بعضهم إلى الإدعاء بوجود علاقات قوية بين لهجة (مايا) في المكسيك ولغة الأتراك وطلبوا لذلك الاهتمام بدراسة هذه اللغة ودراسة لغة أخرى تشبهها هي لغة (تولنك) لمعرفة أنساب الأتراك والحصول على كلمات تركية منسية من جهة أخرى.
وبعد فإني أعتقد أنك بعد أن وقفت على هذه الآراء الرسمية المجملة التي أخذتها من المحضر الرسمي للمؤتمر سوف لا ترى في مزاعم (شمس الدين) شيئا كثيرا بالنسبة إلى تلك المزاعم.
ظن أولئك الذين أرادوا إحياء الأمة التركية أن الإحياء يكون عن طريق التبجح بالماضي والتباهي بالأجداد والترفع عن الشعوب الشرقية التي ساهمت في تكوين التاريخ التركي، وطرد الكلمات العربية والفارسية التي تمثل التفاعل العقلي بين الأتراك وبين العرب والفرس، والاستعاضة عن تلك الكلمات بكلمات فرنسية، فلم يزدهم ذلك في نظر الغربيين منزلة، ولم تخرجهم تلك المقالات الطويلة العريضة من عالم التفكير الشرقي، ولم يجعلهم التاريخ الذي ادعوه لهم أمة من الأمم المعظمة التي لها ي مجلس الأمن وفي المجالس الدولية كرسي ثابت وصوت مسموع. لا زالت تركية الحديثة التي ظن زعماؤها أنها(799/12)
ستأخذ مكانها تحت الشمس بابتعادها عن العرب والشرق الأدنى، لا زالت في نظر الغربيين تركية القديمة لا يحسب لها حساب إلا عند النظر في كفة الميزان وفي أهميتها من حيث أنها بقرة حلوب يستفاد منها؛ لأن المنزلة لا تأتي عن طريق التبجحبالأجداد وبأجداد الأجداد وبالابتعاد الناس والانضمام إلى السباع إذا لم تكن لديه قوة السباع. والذي يتكل على الماضي ويترك الحاضر ولا يعمل له، يهمله الزمان ويتركه يعيش في عالم الماضي. فلنعمل بعقلية الحاضر ولنجعل أنفسنا أقوياء حقا، أقوياؤ في تفكيرنا وفي صناعتنا وفي معاملنا ولنقدم على علوم الطبيعة التي استبدلت بالحديد الذرة، حينئذ يقول العالم انهم عقلاء وأنهم ناس وأن لهم شأنا بين الناس، وحينئذ يقول العالم إن تاريخهم كان خير تاريخ وأنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس.
(دمشق)
جواد علي(799/13)
مرصد مراغة ومكتبتها
اللذان شيدهما نصير الدين الطوسي في بداية العصر المغولي
(صور لدنيا العرب والإسلام في ذلك العهد الرهيب)
للأستاذ ضياء الدخيلي
يقول الأستاذ قدري حافظ طوقان في كتابه (تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك) الذي نشرته مجلة (المقتطف): إن نصير الدين الطوسي أحد الأفذاذ القليلين الذين ظهروا في القرن السادس للهجرة، وأحد حكماء الإسلام المشار إليهم بالبنان وهو من الذين اشتهروا بلقب (علامة). ولد في بلدة طوس سنة 597هـ الموافقة 1201م ودرس العلم علي كمال الدين بن يونس الموصلي وعين المعين سالم بن بدران المعتزلي الرافضي، وكان ينتقل بين قهستان وبغداد وتوفي سنة 682هـ ببغداد حيث دفن في مشهد الكاظم.
ويقال إن الطوسي نظم قصيدة مدح فيها الخليفة العباسي، وإن أحد الوزراء رأى فيها ما ينافي مصلحته الخاصة فأرسل إلى حاكم فهستان بخبره بضرورة مراقبته - وهكذا كان - فإنه لم يمضي زمن إلا والطوسي في قلعة الموت، حيث بقى فيها إلى مجيء هولاكو في منتصف القرن السابع للهجرة. وفي هذه القلعة أنجز أكثر تأليفه في العلوم الرياضية التي خلدته وجعلته علما بين العلماء. (وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو وكان يطيعه فيما يشير به عليه والأموال في تصريفه. . .) وقد عهد إليه هولاكو مراقبة أوقات جميعالممالك التي استولى عليها.
عرف الطوسي كيف يستغل الفرص فقد انفق معظم الأموال التي كانت تحت تصرفه في شراء الكتب النادرة وبناء مرصد مراغة الذي بدئ في تأسيسه سنة 657هـ. وقد اشتهر هذا المرصد بآلاته وبمقدرة راصديه. أما آلاته فمنها (ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس: الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض، ودائرة معدل النهار، ودائرة منطقة البروج، ودائرة العرض، ودائرة الميل. والدائرة الشمسية التي يعرف بها سمت الكواكب) وأما عن راصديه فقد قال الطوسي: (. . . أني جمعت لبناء المرصد جماعة من الحكماء منهم المؤيد العرضي من دمشق والفخر المراغي كان بالموصل والفخر(799/14)
الخلاطي الذي كان يتفليس والنجم دبيران القزويني وقد ابتدأ في بنائه سنة 657 بمراغة. . .) ويروى كتاب آثار باقية أن محي الدين المغربي كان أيضاً أحد أعضاء لجنة المرصد، وكيفية مجيئه هي ان هولاكو لما استولى على حلب مقر حكومة الملك الناصر سمع رجلا يصيح أنا منجم، فأمر بالإبقاء عليه وبإرساله إلى مراغة حيث يقيم نصر الدين.
أما المكتبة التي أنشأها في المرصد فقد كانت عظيمة جدا أكثرها منهوب من بغداد والشام ولجزيرة، ويقدر ما كان فيها بـ400000 مجلد مكتوبة باليد. ونصير الدين من الذين كتبوا في المثلثات والهيئة والجبر وإنشاء الاسطرلابات وكيفية استعمالها
ومراغة التي أقام بها الطوسي المرصد والمكتبة يحدثنا عنها ياقوات الحموي (المتوفى سنة 626هـ) في المعجم أنها بلدة مشهورة عظيمة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان طولها 13 73 درجة وعرضها 13 37 درجة؛ قالوا وكانت المراغة تدعى (افرازهروذ) فعسكر مروان بن محمد بن الحكم وهو وجيلان بالقرب منها وكان فيها سرجين (زبل) كثير، فكانت دوابه ودواب أصحابه تتمرغ فيها، فجعلوا يقولون ابنوا قرية المراغة، وهذه قرية المراغة فحذف الناس القرية وقالوا مراغة، وكان أهلها قد لجأوا إلى مروان فابتناها وتألف وكلاؤه أهلها فكثروا فيها وعمروها. ثم إنها صودرت مع ما صودر من ضياع بني أمية وصارت لبعض بنات الرشيد. فلما عاث الوجناء بن رواد الأزدي وافسد وولى خزيمة بن أرمينية وأذربيجان في خلافة الرشيد بني سورها وحصنها ومصرها وأنزل بها جندا كثيفا. فلا ظهر بابك الخزمي لجأ الناس إليها فنزلوها فسكنوها وتحصنوا فيها، ورم سورها في أيام المأمون عدة من عماله، ثم نزل الناس بربضها (في المنجد الربض على وزن الذهب هو ما حول المدينة من بيوت ومساكن وهو ايضا سور المدينة). وينسب إلى المراغة جماعة من المحدثين والفقهاء وبها آثار ومدارس وخانقاوات حسنة، وقد كان فيها أدباء ومحدثين وفقهاء وقد ابتنى الطوسي (كما يحدثنا ابن شاكر في فوات الوفيات، وقد توفى عام 764هـ أي بعد وفاة الطوسي باثنين وتسعين عاما) بمراغة قبة ورصداً عظيما (واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء وملأها من الكتب التي نبهت من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمع فيها زيادة على اربعمائة ألف مجلد وقرر بالرصد المنجمين والفلاسفة وجعل له الأوقاف.(799/15)
وكما يحدثنا ابن الفوطي في كتابه (الحوادثالجامعة) أن الطوسي استمر مدى حياته يجمع لمكتبة المراغة الكتب، فقد نقل أن الطوسي ورد بغداد عام 662هـ وجمع من العراق كتبا كثيرة لأجل المرصد الذي وضعه بمراغة عام 657 هـ وعين فيه جماعة يتولون عمله إلى أن أنجز سنة 672 (راجع حوادث سنة 675 من كتاب الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابقة لابن الفوطي)
وابن الفوطي هذا هو أمين مكتبة مراغة. قال العزاوي في كتابه (العراق بين احتلالين) نقلا عن شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي: إن ابن الفوطي صاحب الكتاب المعروف (الحوادث الجامعة) أسر في واقعة بغداد وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف وزير الملاحدة فلازمه واخذ عنه علوم الأوائل وبرع في الفلسفة وغيرها وأمده بكتابة الزيج وغيره من علم النجوم واشتغل على غيره في اللغة والأدب حتى برع ومهر في التاريخ والشعر وأيام الناس، وأقام بمراغة مدة ولى بها كتب الرصد بضع عشرة سنة وظفر بها بكتب نفيسة وحصل من التواريخ ما لا يزيد عليه. وفي الوقت الذي يثني فيه بعض المؤرخين على جهود الطوسي في جمع تلك الكتب من التلف ولم شتاتها في مكتبة مراغة كما ترى العزاوي يقول في ترجمة الطوسي ص278 وهنا تقول إن أعمال هذا الرجل مصروفه إلى مناصرة العلماء والحكماء وأنه حينما ورد بغداد عام 662هـ تصفح أحوال بغداد ونظر أمر الوقوف والبحث عن الإجناد والمماليك، وفي هذه المرة جمع من العراق كتبا كثيرة لأجل المرصد الذي وضعه بمراغة فها أنت تراه يشايع ابن الفوطي في أن تكوين مكتبة مراغة ورفع قواعدها وجمع الكتب لها كان من عمل الطوسي وأن الأستاذ محمد كرد علي في كتابه (الإسلام والحضارة العربية) ج1ص302 بعد أن يعرض مأساة سقوط بغداد بصورة مؤلمة ويستعرض نهب نفائس دار الخلافة العباسية يذكر من ذلك نهب مكتبات بغداد وغيرها قال: (وبينما كانت في هذا الشرق القريب كتلة صغيرة تدافع الصليبيين عن سرة بلاد الإسلام مصر والشام فتخرب مدن وحصون وتندك معالم كان جنكيز يخرب في أواسط آسيا بلاد المسلمين. ولم تكد تدفع الشام عنها عادية الحروب الصليبية حتى جاء هولاكو بغداد يخربها ويقتل الخليفة المستعصم ويقضي على جلة الفقهاء ورجال الدولة بضع السيف في دار السلام أربعين يوما ويستخرج الأموال والتحف بأنواع(799/16)
العذب ويحرق معظم تلك المدينة الساحرة وزادت عدة القتلى عن ثمانمائة ألف عدا الأطفال ومن هلكوا في السراديب والقنى والآبار وأحرق قبور الخلفاء ونبش عظامهم وبنى بكتب العلماء إسطبلات الخيول وطوالات المعالف عوضا عن اللبن. وقيل إن ماء دجلة تغير لونه لكثرة ما ألقى فيه التتر من الكتب والأوراق، وقيل إنه أقام بكتب العلم ثلاثة جسور على دجلة هذا عدا ما نهب من البلاد التي احتلها فملافي (مراغة) خزانة عظيمة من الأسفار نهبها من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد.
أما عن المرصد فإن محمد باقر الخونساري في كتابه (روضات الجنات) يحدث نقلا عن كتاب (محبوب القلوب) لقطب الدين الأشكوري وعن صاحب (مجالس المؤمنين) إن هولاكو خانبعد أن قضى على الخلافة العباسية ببغداد أمر بالرصد واختار محروسة مراغة في أعمال تبريز لبناء المرصد فرصد فيه، واستنبط الطوسي عدة من الآلات الرصدية، وكان من أعوانه على الرصد من العلماء وتلاميذه جماعة أرسل إليهم الملك هولاكو خان، منهم العلامة قطب الدين محمود الشيرازي صاحب شرف الأشراف والكليات وهو فاضل حسن الخلق، ولسيرة مبرز في جميع أجزاء الحكمة محقق مدقق مفيد ومستقبله في صحبة الطوسي، ومنهم مؤيد الدين العرضي الدمشقي وكان متبحرا في الهندسة وآلات الرصد توفي بمراغة فجأة سنة 604، وفخر الدين كان طبيبا فاضلا، حاذقا ونجم الدين القزويني وكان فاضلا في الحكمة والكلام، ومحي الدين الحلاطي وكان فاضلا مهندسا في العلوم الرياضية، ومحي الدين المغربي وكان مهندسا فاضلا في العلوم، وضبطوا حركات الكواكب، ومات المحقق الخواجه نصير الدين وبان النقص في كتاب الزيج ولنقصهم عن ذلك لم يتموه وقد أضاف إليهم عباس بن محمد رضا القمي في كتابه (الكني والألقاب) نجم الدين الكاتب البغدادي قال وكان فاضلا في أجزاء الرياضي والهندسة وعلم الرصد.
ونقل ابنشاكر في فوات الوفيات وصلاح الدين خليل ابن أيبك الصفدي في الوافي بالوفيات (ج 1ص112) قلا شمس الدين الحريري (وفي الوافي أنه الجزري) قال حسن ابن أحمد الحكيم صاحبنا سافرت إلى مراغة وتفرجت في الرصد ومتوليه صدر الدين على بن الخواجة نصير الدين الطوسي وكان شابا فاضلا في المنجم والشعر بالفارسية، وصادفت شمس الدين ابن المؤيد العرضي وشمس الدين الشرواني والشيخ كمال الدين الأيكي وحسام(799/17)
الدين الشامي فرأيت فيه آلات الرصد شيئا كثيرا منها ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض ودائرة معدل النهار ودوائر منطقة البروج ودائرة العرض ودائرة الميل ورأيت الدائرة الشمسية التي يعرف بها سمت الكواكب وإسطرلابا تكون سعة فطره ذراعا وإسطرلابات كثيرة وكتبا كثيرة.
وأخبرني شمس الدين العرضي أن نصير الدين أخذ من هولاكو بسبب عمارة هذا الرصد ما لا يحصيه إلا الله تعالى خارجا عن الجوامك (المرتبات) والرواتب التي للحكماء والقومة (يقصد القائمين على الأمر والقيم على الأمر هو متوليه كقيم الوقف ونحوه).
وإن هذه الزيارة التي قام بها حسن بن احمد الحكيم لا شك في أنها كانت بعد وفاة الطوسي وتولى شئون لرصد ابنه صدر الدين وكذلك بعد وفاة مؤيد الدين العرضي وأخذ مكانه من قبل ابنه شمس الدين كما سنبين ذلك عند نقل ما ترجمته أنا من كتاب جورج سارتون (المقدمة إلى تاريخ العلوم) ولنصغ إلى الطوسي نفسه يحدثنا عن المرصد فقد قال في كتابه (الزيج الا يلخان) إنني جمعت لبناء المرصد جماعة من الحكماء منهم المؤيد العرضي من دمشق والفخر المراغي كان بالموصل والفخر الخلاطي الذي كان بتفليس والنجم دييران القزويني وقد أتبدأ في بنائه سنة 657 بمراغة والأرصاه التي بقيت قبلي وعليها كان الاعتماد دون غيرها هي رصد أبرخس وله مذ بني (1400) سنة وبعده رصد بطليموس بـ (285) سنة وبعده في ملة الإسلام رصد المأمون ببغداد وله (430) سنة والرصد البتاني في حدود الشام والرصد الحاكمي بمصر ورصد بني الأعلم ببغداد ولهما (250) سنة.
وقال الأستاذون إن أرصاد الكواكب لا تتم في أقل من ثلاثين سنة لأن فيها تتم دورة هذه السبعة (الكواكب) فقال هولاكو أجهد في أن رصد هذه السبعة يتم في اثنتي عشرة سنة قلت اجتهدت في ذلك.
قال ابن شاكر وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه كثير من تلامذتهوأصحابه فأقام ببغداد ومات وخلف ثلاثة أولاد.
وقد نقل العزاوي في كتابه (تاريخ العراق بين احتلالين) في الملحق ناقلا عن كتاب تركي (إسلامده تاريخ ومؤرخلر) إن الطوسي حين ورود هلاكو إيران اتصل بعلماء الصين وأنه(799/18)
يأمر من هولاكو اقتبس الزيج الايلخاني من عالم صيني جاء إلى ايران يدعى (توميجي) وكان قد استفاد منه كثيرا مما يتعلق بقواعد النجوم فكان بينهما تبادل علمي واتصال وثيق
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي(799/19)
طرائف من العصر المملوكي:
البردة وأثرها في الأدب العربي
للأستاذ محمود رزق سليم
البردة هي القصيدة البارعة المشهورة التي نظمها شرف الدين البوصيري المتوفى عام 695 هـ في مدح النبي عليه الصلاة والسلام. وقد ولد البوصيري عام 608هـ في (دلاص)، ونزح منها صغيرا مع أمه إلى (بوصير) وكلتا القريتين من بني سويف. وقد نسب البوصيري وأهل الإسكندرية الآن يقولون: (الأباصيري).
وقد عاش البوصيري متكسبا بالكتابة في دواوين الدولة، متنقلا فيها من مدينة إلى أخرى وعاني في هذه الدواوين كثيرا من عنت كتابها ورؤسائها. وقد سجل ألوانا من فسادهم في إحدى قصائده، فأصبحت بذلك ذات قيمة تاريخية ثمينة.
وكان بالبوصيري ميل إلى النسك والزهد، ويبدو أن هذا الميل هو الذي أغرى به رؤساءه فمنعوه أحيانا مرتبه. وقد كانت خاتمة مطافه بالإسكندرية حيث مات ودفن وبها قبره ومسجده الشهير.
والبوصيري من أصل مغربي، يمت إلى صنهاجة إحدى القبائل البربريه بالمغرب الأقصى ولكنه مصري المولد والإقامة. وقد قرض الشعر حتى عد من مشهوري شعراء مصر في القرن السابع الهجري ولم يكسب هذه الشهرة من لفظ رائع أو أسلوب بارع أو معان يلفتك جمال صورتها، ويأسرك رونق جدتها؛ ولكنه كسبها من خصوصيات ومزايا ندرت نظائرها في غيره من الشعراء. . . كتسجيلاته الشعرية لبعض حوادث عصره، وصورة الاجتماعية.
والبردة أحد هذه الخصوصيات. فإن تلك الصوفية التي بدت فيها وفي غيرها من مدائحه النبوية، أثر من آثار الحياة الروحية التي نزع إليها بعض الناس في هذا العصر امتدادا لنظيرتها في العصر الأيوبي الذي عاش فيه ابن الرفارض الشاعر المتصوف المشهور. وقد كانت تلك الحياة بمثابة رد فعل لما انتشر بين المسلمين من مفاسد كثيرة. غير أن ابن الفارض اتجه بشعره إلى الغزل الإلهي، بينما انصرف البوصيري إلى الغزل النبوي. فبردته بما فيها من وجد وحنين ولهفة وشوق، ودموع وذكر ديار، أقرب إلى باب الغزل(799/20)
منها إلى باب المديح أو الشعر الذهبي. وهذا هو الفن الشعري الجديد الذي ولده البوصيري في الشعر العربي، فكان بذلك فذا بين شعراء المديح النبوي من لدن الأعشى وكعب وحسان ومن بعدهم.
ونزعة الحب التي نلمسها في نفس البوصيري تفسر لنا في يسر وسهولة تلك الأوصاف التي تشهدها في ثنايا البردة وغيرها، يقدس بها الرسول، ويضفي عليههالات من السمو، وبخاصة إذا قرن اسم الكريم باسم غيره من أنبياء وملائكة، وقد يعيبها عليه بعض النقاد ويعتبرونها مبالغات لا داعي إليها، بينما هي في قرارة نفس الشاعر، أضيق الألفاظ وأيسر الأساليب التي تعبر عما فيها من إحساس صادق وشعور دافق، هو وليد الحب الخالص الصراح الذي لا شائبة فيه. فقدسه المحبوب والتسامي به. أبسط مظاهر الحب الصادق.
لم يكن البوصيري - فيما اعتقد - شاعراً طماحاً إلى الشهرة يسعى إليها عن طريق شعره، ولذلك لم يتكسب به، ولم يسع إلى باب من أبواب الرؤساء. وكذلك لم يكن يعنيه أن يكون شعره جيداً بديع النظم رائع الأسلوب، بقدر ما كان يعنيه أن يكون صدى لما في نفسه، ورجعا لهجسات فؤاده. فأغلب شعره شعر شخصي يسجل خواطره الشاعر وأحاسيسه النفسية. وقد خرج البوصيري مرة عن طبيعته، فنظم قصيدة غزلية وروى حكاية له مع جارية حسناء، فدل ما فيها من الغزل الساذج وحيله البدائية، على أن الرجل مقلد في غزله، أن الغزل ليس أصيلا في نفسه. - أما غزله النبوي وبخاصة في البردة، فإن شخصيته تبدو فيه ناطقة وثابة في كل بيت. فالبردة منظومة نفسية حاشت بها نفس الشاعر في الباطن، وعلق عليها آمالا، قبل أن يتحرك بها لسانه ويجنح إليها في الظاهر - وهذا أيضاً يفسر لنا الرؤى التي رآها البوصيري وأصحابه، متصلة بها هذا الرجل أن يعالج نفسه من فالجه الذي أصابه. فإنه لما حار في علاجه فكر في نظم قصيدة نبوية، يستشفع بها الله أن يعافيه. فنظمها وكرر إنشادها ثم بكى ودعا وتوسل ونام، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام في نومه فمسح بيده المباركة على مكان دائه، وألقى عليه (بردة) فانتبه من نومه وفيه نهضة وأحس بالشفاء.
ونحن لا نرتاب في صحة الأحاديث النبوية المتصلة برؤيته الشريفة، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، ومن رآني في(799/21)
المنام فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وبعد فهل كان البوصيري كاذبا في دعوى الرؤيا؟ هذه مسألة يخشى من ينصف نفسه أن يجازف بالحكم فيها على غير ظاهرها، وبخاصة أن البوصيري يعلم أن من كذب على النبي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
ليس هناك ما يمنع البوصيري من أن يرى النبي في نومه، وليس هناك كذلك ما يمنع من أن يشفى من فالجه بسبب قصيدته؛ وقصيدة البردة - وبعضهم يسميها البرءة - لا تشفى ولا تبرئ من سقم. فالله سبحانه وحده واهب البرء والشفاء. ولكن إذا اخلص مريض النية، واتجه إلى الله بقلب مؤمن ودعاه واستشفع بالنبي عليه السلام، أو بتلاوة القرآن، أو قراءة البردة او نحوها، فليس هناك ما يمنع أن الله يستجيب الدعاء. والمريض في حاجة قصوى إلى مثل هذه المعنوية يعين بها طبيبه على علاجه.
وأطلق لفظ (البردة) على قصيدة البوصيري، لما لابس نظمها والاستشفاع بها من ذكر بردة النبي عليه السلام. وقد روى أن الصاحب بهاء الدين بن حنا - وكان صديقا للبوصيري - أحتفظ نسخة من القصيدة لديه. ثم أصيب سعد الدين الفراارقي برمد اشرف منه على العمى، فرآى في المنام هاتفا يدعوه إلى الصاحب بهاء الدين ليأخذ منه (البردة) ويضعها على عينيه فيشفى بإذن الله، فذهب إلى الصاحب وطلب منه (البردة)، فقال له الصاحب (ما أعرف عندي من أثر النبي صلى الله عليه وسلم بردة). ثم تذكر قصيدة البوصيري، فقال لعلها المراد بالبردة، وأعطاه إياه. ومن ثم سميت القصيدة بالبردة.
وبعد، فأبيات البردة نحو مائة وستين بيتاً. وهي أجود مدائح البوصيري وأسلسلها أسلوبا وأرقاها عبارة وأكثرها رونقا، وأجمعها أغراضاً وأروعها أمثالاً وأوفرها معاني تنشدها العامة وتكرر إنشاءها في مناسبات كثيرة تيمنا بذكر ممدوحها، ومن شأن التكرار في مثل هذه المناسبات أن يعقب الملل، ويورث النفور، ويبعث على الإبتذال، ومع ذلك لا تزال القصيدة محبوبة أثيرة عند العارفين.
وقد تناول الشاعر فيها - فضلا عن ذكر الديار والأحبة ووصف الشوق والحنين، والنزع الصوفي والدعوة إلى الزهد والتحذير من الهوى إلى غير ذلك - موضوعات السيرة النبوية وما امتاز به الرسول الكريم من عظيم الصفات، وهذه الموضوعات منثورة في(799/22)
كتب السيرة، فليس الشاعر هنا فضل ابتكار، وإنما فضله في نظمها هذا النظم السائغ حتى انحدرت إلى الأسماع جميلة الإيقاع، ورددها اللسان رائعة الألحان. وقد زودها الشاعر ببعض الحلي البديعة التي لا يمل وسواسها ولا يثقل جرسها.
قال في المطلع:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من أضم
فما لعينيك إن قلت اكففا هتما ... وما لقلبك إن قلت استفق يهم
وقال في التحذير من هو النفس:
وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصما ولا حكما ... فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
وقد تناول الحديث عن (النفس) في عدة أبيات تصلح للدراسة النفسية، يتناول فيها الدارس مسألة الغرائز وتربيتها، والعادات وتكوينها، بما لا يقل في جملته عن الدراسات النفسية الحديثة. ومن هذه الأبيات قوله عن النفس بعد أبيات عن المشيب:
من لي برد جماح من غوايتها ... كما يرد جماح الخيل باللجم
فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها ... إن الطعام يقوى شهوة النهم
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ومن أبياته في وصف الرسول عليه السلام قوله:
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضر من ورم
وشد من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحاً مترف الأدم
وراودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراها أيما شمم
وبعد، فإن الحديث لا يتسع لإيراد أبيات هذه القصيدة الفريدة، التي كان نظمها فتحا مبينا في الأدب العربي، أفاء عليه ثروة لولا هـ ما فتحت مغالق كنوزها. لا تغلو في ذلك ولا نبالغ. والحق أ، البردة بحاجة إلى رسالة مستقلة تتحدث عنها وعن أثرها، وقد تناولها الدكتور النابه زكي مبارك بالحديث في كتابه الممتع (المدائح النبوية)؛ ولكن إذا علمنا أن البردة قد وضعت لها شروح عدة، وعورضت، وشطرت، وخمست، وسبعت، ووضعت(799/23)
شروح أخرى لكثير من هذه المنظومات الناشئة عنها، علمنا أي ولوع ذلك انتاب الشعراء والكتاب بالبردة من لدن عهد البوصيري إلى عهد أمير الشعراء شوقي بك، وعملنا أي إيجاز مخل ذلك الذي نتوخاه هنا في هذه العجالة ونحن نتصدى للحديث عن أثر البردة في الأدب العربي.
وفي دار الكتب المصرية، ودور الكتب في الأقليم، وفي كشف الظنون وكتب التراجم وتاريخ آداب العربية لجورجي زيدان، وفي غير ذلك من المظان إشارات إلى مؤلفات شعرية ونثرية، كانت البردة سماء وحيها ومتنزل إلهامها. وهي في انتظار البحث وترقب التمحيص. ولا تضاهي البردة في هذا الفتح قصيدة أخرى.
وفي الحق أن بعض القصائد العربية حظيت بنصيب من مثل هذه العناية فشرحت أو عورضت أو نحو ذلك، مثل (بانت سعاد) ولامية العجم، ولامية ابن الوردي. ولكن لم تبلغ إحداها شأو البردة، ولا شقت غبارها. - وتذكر هنا بعض هذه المؤلفات على سبيل المثال والاستدلال. منوهين قبل ذكرها، بان هذا الفن الشعري الجديد - وهو الغزل النبوي - قد سرت روحه في كثير من شعراء المديح النبوي بعد البوصيري، بل في جميع الشعراء، وقد قضى نهجه الجديد على نهج من تقدمه من شعراء هذا المديح، وتأثر به - بلا ريب - ابن نباته وابن حجر وغيرهما في نبوياتهم. هذا وممن شرح البردة: الشيخ الباجوري المتوفى (1198هـ) وحاشيته مشهورة، والشيخ خالد الأزهري المتوفى (905هـ)، ومن شراحها الجلال المحلي المتوفى (814هـ) وشمس الدين بن الصائغ (776هـ) وزين الدين زكريا الأنصاري (926هـ) شهاب الدين الأقفهي المعروف بابن العماد (808هـ) وعلاء الدين مصنفك (775هـ) وشهاب الدين القسطلاني (923هـ) وأبو عبد الله المرزوقي المغربي (781هـ).
وقد عارض البردة كثيرون، ومن أبرزهم في العصر الحديث: البلوودي في قصيدته (كشف الغمة) وهي نحو 450 بيتا، وشوقي في قصيدته (نهج البردة). - ومن أبرزهم في العصر المملوكي وما بعده ايضا، أصحاب البديعيات. والقصيدة البديعية - كما نعتقد - منظومة عارض بها ناظمها بردة البوصيري، فالتزم بحرها ورويها وعرضها، على أن هذا الغرض - وهو المديح النبوي - ليس الهدف الأول من المعارضة، وإنما إيراد الأنواع البديعية هو(799/24)
الهدف الأول المقصود.
أما المديح فقد كان من أهم المشهيات التي جذبت أصحاب البديعيات إلى النهج البوصيري والنظم على نمط البردة. وقد التزموا أن يضمنوا كل بيت من أبيات البديعية ضربا من ضروب البديع، وزاد عز الدين الموصلي هذا الالتزام بأن التزم التوربة بكلمة ما عن اسم الضرب البديعي المضمن. فأصبحت قيود البديعية خمسة، غير أن القيد الخامس لم يلتزمه كثير من البديعيين. وفي الوقت نفسه ترى أبياتا في بديعية عز الدين اقتصر فيها على التورية باسم النوع البديعي دون ذكر مثاله.
وقد نظم بعض الأدباء فيما بعد، بديعيات لم يلتزموا فيها بحر البردة ورويها وغرضها، وهذا في رأينا انحراف عن الشروط الأولى للبديعية، وخروج بها عن جادتها الأصلية.
ومن أصحاب البديعيات: صفي الدين الحلي (750هـ)، وابن جابر الأندلسي الضرير (780هـ) وعز الدين الموصلي (789هـ) وتقي الدين حجة الحموي (837هـ) وشرف الدين بن المقري اليمني (837هـ) وتاج الدين بن عربشاه (901هـ) والجلال السيوطي (911هـ) وعائشة الباعونية (930هـ) ولها بديعيتان وعبد الغني النابلسي (1143هـ) وله بديعيتان ايضا.
ومبتكر فن البديعيات، صفي الدين الحلي، وقد صرح بذلك في مقدمة بديعيته، وروى رؤيا ذات شبه برؤيا البوصيري، وذلك أنه عرته علة طالت مدتها واشتدت شدتها، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام في نومه، يتقاضاه المدح ويعده البرء. فنظم على إثر ذلك بديعيته. ومن يقرأ ديوان الحلي يشعر أن الرجل قد طاع له من البديع ذهبه، ولان حديده، فاستطاع أن يبتدع في صوغه حلى قل أن يجاريه في صوغها شاعر.
وهذا مما يؤكد دعواه في ابتكار فن البديعيات._على أن الدكتور زكي مبارك في كتابه (المدائح النبوية) رأى أن مبتكر هذا الفن هو ابن جابر الأندلسي، ولم يقم وزنا لهذه النزعة البديعية الجارفة التي طغت على نفس صفي الدين ودعنه إلى التجديد في البديع، ولا لسبقه ابن جابر في الوفاة بنحو ثلاثين عاما. وقد عقب على ما ذهب إليه الدكتور، زميلنا الفاضل الأستاذ أحمد موسى المدرس في كلية اللغة العربية، فكتب فصلا ممتعا عن البديعيات، في رسالته الشائقة (الصبغ البديعي). وقد كشف كشفا في هذا الموضوع له خطره؛ إذ وجد أن(799/25)
الشاعر أمين الدين السليماني الأربيلي المتوفى عام 670هـ، قد نظم قصيدة غزلية في ستة وثلاثين بيتا، في كل بيت منها نوع بديعي، وعزز الأستاذ كشفه بما رواه ابن معصوم المتوفى عام1120هـ شرحا على بديعيته من (أنه كان يظن أن صفي الدين أول من نظم أنواع البديع على هذا الأسلوب حتى وقف على قصيدة أمين الدين السليماني).
ورأى الأستاذ أن أمين الدين المذكور هو مبتكر فن البديعيات. - على أني أعتقد أن المسألة لا تزال عند موقفها الأول، وأن كفة صفي الدين لا تزال الراجحة. وأن الفارق بين أمين الدين وصفي الدين في ابتكار فن البديعيات، كالفارق بين زهير وأبي تمام أو المتنبي في أبتكار الحكمة، وأنتترى صفي الدين في مقدمة بديعيته يقول إنها نتيجة لدراسة سبعين كتابا في فن البديع.
وبعد، فأي خطر للبديعيات، حتى نعني بها كل هذه العناية؟ البديعيات - على أي حال - فن شعري جديد في حينه بلغت به النزعة البديعية فمنها شعرا، كما بلغتها بالمقامات نثرا.
هذا إلى أن البديعيات نمط من شعر العلوم والفنون، لم يطرق قبل هذا العصر. ومنزلة البديعية في علم البديع، كمنزلة ألفية أبن مالك - مثلا - في علمي النحو والصرف. - هذا إلى أن كثيراً من البديعيات وضعت لها شروح قيمة فأضافت بذلك ثروة جديدة إلى علوم البلاغة والأدب، ومن أجل شروحها (خزانة الأدب) لتقي الدين بن حدة الحموي.
هذا. وقد شطر البردة كثير من الأدباء. منهم في عصرنا الحديث: عبد العزيز باشا محمد، ومحمد بك فرغلى، ومنهم الشيخ أحمد بن شرقاوى الخلفى (1316هـ) والشيخ أحمد بن عبد الوهاب الجرجاوى (1254هـ) وأحمد بن عثمان العوامي الزبيري، فرغ من تشطيره عام (1201هـ) والشيخ أحمد الحفظي اليمنىـ كان حياً عام 1293هـ ـ. وخمسها بعض الأدباء ومنهم محمد بك فرغلي، ومنهم زين الدين طاهر بن حبيب الحلبي (808هـ) ومجد الدين إسماعيل الكناني القاهري (802هـ) وبرهان الدين البهنسي (846هـ) وفتح الدين بن الشهيد (793هـ) وزين الدين القرشي (828هـ) وشمس الدين محمد الفيومي ـ لعله من أدباء القرن التاسع ـ وعبد الرحيم السيوطي المالكي الجرجاوي توفي بعد عام (1320هـ) وفي دار الكتب المصرية مجموعة خطية بها تسعة وستون تخميسا من بينها تخميس لابن حجة الحموي. ومجموعة أخرى خطية بها ثلاثون تخميسا.(799/26)
وسبعها بعض الأدباء، ومنهم الشيخ محمد الملطي المصري الخلوتي، من علماء القرن الحادي عشر الهجري. وقد التزم أن يبدأ كل تسبيعة بلفظ (محمد) والقاضي ناصر الدين اليضاوي (696هـ) والتزم أن يبدأ كل تسبيعة بلفظ الجلالة.
وهناك شك في نسبة التسبيع إلى البيضاوي، فقد نسب إليه مرة، ونسب إلى الأمير عثمان بك؟ مرة، ونسب إلى شهاب الدين احمد بن عبد الله المالكي المكي مرة أخرى. وقد قرأت هذا التسبيع نفسه في دار اكتب بالمنصورة منسوبا إلى أديب اسمه صلاح الدين احمد بن محمد الرفاء الدمشقي، وهو بها مخطوط (رقم 1172هـ) فمسألة هذا التسبيع تحتاج إلى شئ من التحقيق.
وبعد، فها نحن أولاء نرى من حديثنا الوجيز عن البردة أنها استطاعت وحدها أن تنشئ دولة كبرى لها جنودها وعتادها. وأن الدولة كانت ذات صوله في العصر المملوكي. ثم اخذ ظلها يتقلص شيئا فشيئاً، حتى كادت أحداث العصر الحديث الجارفة تعفي آثارها وتطمس أخبارها.
محمد رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(799/27)
الشعر في السودان
للأستاذ علي العماري
- 4 -
لم يعد للشعر في العصر الحديث ما كان له في العصور القديمة من سيطرة وقوة وإيحاء، ولم يصبح - كما كان - مرآة صادقة تظهر فيها حياة الأمم، وتخلد فيها مآثرها ومثالبها، ولئن كنا نستطيع أن نستخرج من الشعر الجاهلي - مثلا - صورة صادقة لحياة العرب في باديتهم فترى فيها مضارب خيامهم، ومعامع حروبهم، وأسراب ظبائهم ونسائهم ونعمهم وشائهم تضطرب في صحرائهم إلى غير ذلك مما حفلت به حياتهم، واصطبغت به معيشتهم، لئن كان ذلك في مقدورنا فإننا لا نستطيع أن ندعي أن أمة من الأمم الحديثة كان شعرها (ديوان حياتها)، ولذلك أسباب كثيرة تختلف باختلاف الأمم.
ولا شك أن من الأسباب القوية في هذا الشأن قصور الشعراء وتقصيرهم، وإن كان ذلك لا يرضي بعض المدارس الحديثة التي ترى أن الشاعر لم يخلق ليكون حاكيا لأحوال المجتمع، وإنما خلق ليرسم للناس صورة نفسه، فالشاعر الذي يودع شعره الأحداث السياسية والاجتماعية ليس بشاعر، إذ أ، الشاعر لم يخلق ليكون واعظا أو مرشدا للجماعات، وإنما خلق - زعموا - للفن وحده، وليرسم نفسه بهذا الفن البديع، فيتحدث عن أفراحهم وآلامها، وعن عواطفها ورغباتها، وقد كان لهذا المذهب أثره القوي في ناشئة الشعراء، فرأينا هم لا يكادون يتعدون دائرة خواطرهم الضيقة، بل ذهبوا إلى ابعد من ذلك فزوروا على أنفسهم، فأخذوا ينوحون وهم يضحكون ويشببون تشبيبا عذريا وهم في اللذات غارقون، وهكذا أرادوا أن يصدقوا فكذبوا، وهربوا من تصوير حياة الجماعة فصورا أنفسهم مشوهة!
لهذا ولأسباب أخر فقد الشعر مكانته، ولم يستطع أن يكون سجلا لحياة الجماعة، نستطيع أن نقول هذا في الشعر المصري، ونستطيع أن نقوله في الشعر العراقي، وتستطيع أن تقوله في شعراء الشام والحجاز، ونستطيع أن نقوله في الشعر السوداني، وإن كان هروب الشعراء السودانيين من حياة المجتمع أوضح، وربما اعتذر الشعراء الذين عاشوا في أوائل هذا القرن عن تخلفهم يقول الشاعر.(799/28)
قلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت، ولكن الرماح أجرت
ولكن ما عذر هؤلاء الشعراء الذين رأوا رماح قومهم تنطق الأخرس، حتى هذه الرماح التي أجرت كان على الشعراء أن يبكوها، وان يستنهضوها، كما يقول أحدهم.
أنظر إلى السودان إن ... به شباباً ناهضين
قعد الزمان بهم وما ... هم بالشباب القاعدين
غير أن الذي يعزونا أن الشعر العامي لا يزال يحتفظ بقوته في هذا المعنى، فلو هيئ لباحث أن يدرس الشعر العامي وأن يتبيناتجاهاته لظفر بشيء كثير من صور الحياة التي يحياها هؤلاء. ولقد اطلعت على شئ من شعر السودان العامي فرأيت فيه تصويرا دقيقا لبعض ما يكتف القوم، وخيل إلي أني لو استطعت أن أظفر بمجموعةمن هذا الشعر لتمكنت أنأنقل عنها كل مظاهر الحياة في الريف السوداني.
أما الشعر المعرب فالبون شاسع بينه وبين ما تضطرب به الحياة من شتى المظاهر والاتجاهات ولا سيما في أوائل هذا القرن، فإن الشعراء الذين عاشوا منذ ثلاثين سنة حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة جدا أكثرها احتذاء للشعر القديم في في أغراضه، ولكن حين تقدم الزمن، وبدت مظاهر النهضة تأخذ طريقها إلى الحياة، وكانت بقية من هؤلاء الشعراء لا تزال تنعم بنسائم السودان البليلة الرخية، وتشرب من ماء النيل العظيم، لم تجد هذه البقية بدا من أن تشارك ناشئة الشعراء في الحديث عن هذه المظاهر، وإن بقيت من ناحية الأسلوب والمعنى وكثير من الأغراض متشبثة بأذيال القديم. والدارس يلاحظ أن هؤلاء الشعراء كانوا يصلون إلى هذه الأغراض بطريقة ملتوية، فكانوا يتخذون المناسبات الدينية والمدائح النبوية سلما إلى ما يريدون، فينفسون بذلك عن بعض الرغبات المكبوتة في نفوسهم، وإن بقيت أقلامهم مجفلة عن تصوير المجتمع، بل منهم من كان يرى أنه من غير اللائق أن يتحدث الشاعر عن مثالب قومه، ثم تقدم الزمن خطوة أخرى فرأينا الشعراء يدخلون المجتمع من باب أوسع فيتنا لونه من نواح كثيرة، أرهفوا آذانهم، وفتحوا أعينهم، لما يحدث أمامهم من خير وشر، فصوروا بعضا وأمسكوا عن بعض وكان للتعليم نصيب كبير من عنايتهم، فلا تفتح مدرسة، ولا يتخرج فوج جديد من كلية حديثة، ولا تنشأ فرقة تمثيل إلا قالوا، وهنأوا البلاد، وتمنوا لها الخير والتقدم، كما كان للغة العربية قدر وفير من(799/29)
اهتمامهم، وكذلك ألمحوا إلماحات خفيفة إلى بعض ما يسطر على العقول من خرافات. وهنا اعتب على شعراء الأمصار عتبا شديداً. وأرى أنهم أغضوا عن تقاليد غير طيبة كان يجب أن يحاربوها كما حاربتها الحكومة، وكما حاربتها الأذواق السليمة، وأهمس في أذن الشاعر الصالح الشيخ عبد الله عبد الرحمن الذي يقول:
سأبلغ جهدي في القصائد حرة ... على أن الشعر في الشعب ضائع
فروض أؤديها وشكوى أبثها ... وما أنا ذو بأس وما أنا طامع
والذي يقول:
خذوها بني أمي قوافي عاتب ... عليكم بها (لا عن جفاء ولا صد)
فواق ألقاها من الوحي صادقاً ... وأرسلها من حيث تجدي ولا تجدي
أهمس في أذنه كيف فاته أن يؤدى فروض الشعر في هذه التقاليد، وكيف لم يرسلها دون أن ينظر أتجدي أولا تجدي؟ وأين جهده الذي بلغه في هذا الذي أشير إليه؟ كما بلغ جهده في نواح أخرى كثيرة.
أليس بعجيب أن يقف الشعراء على الشاطئ، ويجفلوا عن الخوض في آمر هي القذى في الأعين، والشجي في الحلوق.
بعد هذا نريد أن نستخرج بعض مظاهر للمجتمع السوداني من دواوين الشعراء، وأنا أحصر طرفي هنا في ديوانين اثنين، وبعض مقطوعات أخرى، وأنا مضطر لهذا، فن جهة لم يهيأ بي أن أحصل على كل الدواوين التي خرجت، والشعراء لم يساعدوني بإرسال شئ من أشعارهم منذ بدأت اكتب هذا البحث؛ ومن جهة أخرى لم أجد فيما اطلعت عليه من شعر ما يعينني في هذه الناحية إلا هذان الديوانان، فالأول ديوان (الطبيعة) للشاعر حمزة الملك، فإن فيه صورا صادقة، من ذلك صورة (الحاوي) وقد التفت حوله الناس فخدع أبصارهم، بل خدع الشاعر نفسه حيث يقول:
قد رأيت المحال رأى عيان ... ليس في حاجة إلى برهان
رجل كالرجال جاء بما يع ... جز عن فعله بنو الإنسان
بأمر الماء بالوقوف فينص ... اع، وإن شاء لج في الجريان
بضع الشيء في يديك فتل ... قاه على الرغم منك في يد ثان(799/30)
وبعد أن يعدد ألاعيب أخرى من فعل الحاوي، وهي كلها غريبة عجيبة يقول:
هذر ما نراه أم هو جد=ومن الناس أم من الشيطان؟
زعموا أنه الخداع ولكن=كيف في الشيء تخدع العينان؟
ثم ينتقل بعد كل هذا طفرة واحدة، فيسوق إليك حجة على أن للكون إلها فيقول:
أيها الملحدون هذى أمور ... من صنيع الجهال والغلمان
عللوها فإن قدرتم فقولوا ... إنه لا إله للأكوان
ونترك هذه الصورة لنأخذ صورة أخرى حيرت الشاعر أيضا، لعبث لبله، وانتهى أمره فيها إلى أن يبقى في حيرته، تلك هي صورة صاحبة (الودع)، (فأم عباس) قد أنبأته بالغيب وقد وقع ما أنبأته به، وقد كان ينكر عليها أن تعرف شيئا من عالم المستقبل، فراهنها، ونذر لها نذراً، ولكنها فازت بالرهان، واستحقت النذر، غير أن للشاعر عقلا لا يخضع لهذه الترهات، وهكذا يحار بين عقله، وبين الواقع الملموس:
أرت أم عباس أعجوبة ... تضل كبير الحجى (بالودع)
وما أم عباس إلا عجـ ... وز تقي بها نزعة للورع
تجادل أن أنا جادلتها ... كمن هو في فنه قد برع
وتحلف أن لم أنل ما ترى ... فليست تعود (لحط الودع)
فواعجبي كيف نبأتها ... وُديعتها بأمور تقع
وواعجبي كيف في عصرنا ... تصح الخرافات في المجتمع
وإن كنت صدقتها ما ادعت ... هـ فما أنا إلا لعقلي تبع
أمور أرى بعض أسراره ... ن صدقاً به من رآه اقتنع
أصدق منها صحيحاتها ... وليست تجوز على الخدع
ولكن من الحمق أن نترك الل ... باب مشايعة للبدع
وهكذا لا يصل الشاعر إلى قول فصل في هذا الموضوع، فيقي في ظلام دامس يخبط يمنة ويسرة، ولا يهتدي.
ويتحدث هذا الشاعر عن نماذج بشربة رآها في حياته، فمن فتى كالذئب باسم السن يظهر الإخلاص ويسر الغدر، ومن شيخ شاب في اللؤم، وحرم زوجه بألف طلاق ولكنه لا يزال(799/31)
يعاشرها، ومن رجل يظهر في زي النساء ويفخر بالقوم الرشيق، والخد الأسيل، ومن دعي موغل في كبره، يدعي الجود وهو سليل بيت البخل والشح، ومن جاهل يدعي العلم، وما هو إلا ببغاء تهرف بما لا تعرف، ثم ينتهي به المطاف إلى أن يقول:
فخر كل منهم أن له ... ألف وجه بين صبح ومساء
وفي قصائد (سافرة) و (لقيط) و (سأم قاتل) و (زميل) صور ناطقة في المجتمع.
أما الديوان الآخر فهو (الفجر الصادق) للشيخ عبد الله عبد الرحمن، والحق أن صاحب هذا الديوان من المخضرمين فهو يأخذ خير ما في المدرسة القديمة، ويتناول أشياء كثيرة من المدرسة الحديثة، وفي هذا الديوان مجتمع سوداني، وأهم ما يأخذ القارئ في هذا الديوان أمران.
عنايته بالتعليم، وهذا الموضوع قد استغرق جزءاً كبيراً منه، فيتحدث عن المدرسة الأهلية، وعن مدرسة الأصفاد، وعن كلية غردون، وعن تكريم البعثات العلمية، وعن يوم التعليم، إلى أشياء كثيرة من هذه الموضوعات.
ونستطيع أن تقول أنه يندر أن يفلت من بين يديه أمر يتعلق بالتعليم دون أن يقول فيه، ومن شعره في كلية غردون.
لها علينا وإن ضنت بموعود ... قديم عهد وحق غير مجحود
كم خرَّجت من فتى حلو شمائله ... مشمر الساق في الأتراب محسود
كأنما الجهل طوقان يحيط بنا ... وهي السفينة قد أوفت على الجودي
يا معهدا طاب ماضيه وحاضره ... لا كان ربعك يوما غير معهود
لا أنت في واجب السودان وانية ... ولا مقامك فيها غير محمود
قالوا وفود على أبوابك ازدحمت ... وهل سمعت بعذب غير مورود
وعناية باللغة العربية، وشعراء السودان يولون هذه الناحية نصيبا من جهودهم، ولكن الشيخ عبد الله صريح كل الصراحة حين يتناول هذا الموضوع. قرأت قصيدة طويلة للشيخ عبد الله البنا عنوانها (دمعة على اللغة العربية) بكى فيها حاضرها وأشاد بماضيها، وللشيخ عبد الله أبيات كثيرة، يسوقها كلما سنحت له الفرصة، يقول في قصيدة نبوية:
بنى وطني أن قمت للضاد داعياً ... فإني أدعو للتي هي أقوم(799/32)
أرى الضاد في السودان أمست غريبة ... وابتاؤها أمست لها تتجهم
تولت وما دمع عليها بفائض ... وما أحد منهم لها يتألم
ونبئت بالسودان قوما تآمروا ... على اللغة الفصحى أساءوا وأجرموا
ويقول مخاطبا قومه وعشيرته بعد أن أشاد بجهود مؤتمر الخريجين في التعليم.
بنى عمنا لبوا النداء فحسبكم ... تنازع مأموم بها وأمام
فلستم بأحياء ولستم أعزة ... إذا الضاد لم يؤذن لها بقيام
وعلى ذكر الخلاف نقول إن صاحب الديوان قد أشار إليه غير مرة، ودعا إلى اتحاد الكلمة، ومن كلماته الرقيقة في ذلك
أفي الدار مصغ للحديث فسامع ... أم الدارقد سدت عليها المسامع؟
توهمت آيات لها فعرقتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
وطوفت استبكي عيون قصائدي ... عليها، وقد تبكي القصيد الفجائع
مشى بين أهليها الخلاف فأصبحوا ... تصدهمو عن كل خير موانع
أرى النار شبت في نواح كثيرة ... ولم ينج متبوع ولم ينج تابع
إذا القوم لجوا في الغواية كلهم ... فقبح مدفوع وقبح دافع
ولا نختم هذا الحديث حتى نشير إلى هذه الصورة التي رسمها الشاعر الشيخ حسيب علي حسيب، وهي صورة طالما رأيناها وألمنا لها:
عجباً أرى المقدام أصبح مذنباً ... يقصى وذا الوجهين أضحى مكرما
إني عرفت الدهر حتى خلتني ... إياه فاسمع سائلي ثم احكما
إن شئت أن تحيا سعيداً بينهم ... كن تابعا ما يشتهون معظما
حتى إذا قالوا الظلام أجننا ... والشمس مشرقة، فقل ما أظلما
وهذا شارع يئس من المجتمع، ونظر إليه نظرة كلها حسرة. وألم، وما له لا يفعل وهو الذي يقول، وتقول معه؟
ماذا أعاتب يا زمان وأتقي ... أهلي أم الأيام أم حسادي؟
ويقول عن قلبه:
ألف الهموم برغمه وألفنه ... فغدا بواد والسرور بوادي(799/33)
ويقول عن أقاربه:
هم مزقوا عرضي لغير جريرة ... وقضوا علي بأن يطول سهادي
يسمعون في خفضي وأطلب رفعهم ... شتان بين مرادهم ومرادي
(للحديث بقايا)
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان(799/34)
النيل والسودان
للأستاذ محمود غنيم
سائلاه أأنت نبعَ الجنان؟ ... أم النحل أم رضاب الغواني!
أم رحيق طالت عليه الليالي ... لم يعَّتق أمثاله في الزمان؟
يا نديمي إنما أنا صب ... بابنة النيل لا ببنت الحان
أترعا من منابع النيل كأسي ... واهتفا باسمهن ثم اسقياني
يا نديمي تلك ساعة صفو ... سنحت فاختلستها من زماني
اسقياني سلافةُ عصرت من ... قبل خلق الكرم في البستان
خمرة لم تطش بلب لبيب ... شربها شعبة من الإيمان
عصر الناس كل خمر وخمري ... عصرت كرمها يدُ الرحمن
سائلاه أبين عبره ماء ... أم لجين وعنب رسائلان؟
شِيب آذيه فكان عقيقاً ... وصفا فهو ذوب حب الجمان
وأطافت به الرياح رخاء ... فهو حلم في خاطر الوسنان
وأطافت به الأعاصير هُوجا ... فهو طيش الشباب في عنفوان
وسخا فهو حاتمي العطايا ... وطغى فهو عارم الطغيان
واستوى فهو كالقدود اعتدالا ... وتثنى تثنى الخيزران
وتلوى في سيرة أفعوانا ... لا يمج السموم كالأفعوان
مثل صدر الحليم في الرحيب أوفى ... ضيق صدر المدلل الغضبان
يرد الناس حضه أبد الده ... ر يشتكى من النقصان
هو طِب الجسوم من كل داء ... هو طهر لها من الأدران
كاد أن يغسل القلوب من الحق ... د ويمحو كوامن الأضغان
شق مجراه وابتنى شاطئيه ... بيديه مهندس الأكوان
أنا أهواه ما سقى يانع الرو ... ض وما بل غلة الظمآن
أنا أهواه ما حييت فإن مت ... فحوكوا من عشبه أكفاني
أيها النيل كم لبثت؟ ومن أيـ ... ن تفجرت؟ ما درى الثقلان(799/35)
سابق أنت للمجرَّة أم أح ... دث عهداً أم أنتما توءمان
يا سجل التاريخ حدث بما عا ... بنت ليس السماع مثل العيان
كيف حاد المؤرخون عن القص ... د وجاءوا بالإفك والبهتان
قد شهدت الإنسان يأوي كهوفه ... ويؤاخي فصائل الحيوان
وشهدت الإنسان ينتطح السح ... ب ويؤوى رفاته الهرمان
حدث الناس عن فراعين حصر ... كيف بذوا الشعوب في البنيان
كيف دانت لدولة الفرس مصر ... كيف دانت لعاهل اليونان؟
هات يا نيل ليلة من ليالي ... (كيلبطرا) وقيصر الرومان
حدث الناس عن بسالة عمرو ... وجنود الفاروق في الميدان
أنت يا نيل معرض للحضارا ... ت وشتى الشعوب والأديان
أفأبصرت كالحنيفة دينا ... أو رسولا يحكى فتى عدنان؟
يا رفيق البنان كيف حفرت الص ... خر بالظفر يا رفيق البنان؟
كيف دانت لك الهضاب العواتي ... كيف لانت صلابة الصوان؟
كيف جبت الفلا بغير دليل ... وملأت الصحراء بالعمران؟
حوَّلت كيمياؤك الترب تبراً ... ونفخت الحياة في الصفوان
ليت شعري أساحر بعصاه ... أنت أم أنت عالم روحاني؟
كم نسجت الثياب من غير نول ... ثم وشيتها بألف دهان
رب حقل كسوته بعد عرى ... فإذا الحقل أخضر الطيلسان
ما بكت أو غنت سواقيك لكن ... لك رثلن آية الشكران
أنت يا نيل فاتح فتح المد ... ن بغيرالحديد والنيران
سائر لا تحيد فوق صراط ... كقطار يمشى على قضبان
دائر بين لجة وبخار ... كنجوم السماء في الدوران
لك في الأرض والهواء مدار ... حار فيه مقَّوم البلدان
قربوا الشاه للسماء ورفت ... كلُّ خود إليك في مهرجان
ليت شعري أأحسنوا لك صنعا ... أم أساءوا بذلك القربان؟(799/36)
أقلوب الأرباب مثل قلوب الن ... اس تهوى فواتر الأجفان؟
فيك حييتَّ كل ذات شراع ... تتهاوى تهادى النشوان
وبنات البخار إذ هي تعدو ... عدْو خيل الطراد يوم الرهان
الجواري روائح وغوادٍ ... فيك يرقصن كالجواري الحسان
أرسل الفلك في القضاء صفيراً ... رن في مسمعي رنين الأذان
ومشى يمخر العباب ويلقى الم ... وج سكانه على الشطان
فإذا الموج فوقها يترامى ... كترامي الولدان في الأحضان
رقصت موجة وغنت سواها ... بخرير منظم الألحان
قلت - والموج راقص ومغن ... ليت شعري أذاك حفل قران
وتهادى النسيم ألين مسا ... من رفيف الندى على غصن بان
وتوالت على العيون المرائي ... مرهفات للحس والوجدان
صور تبعث التأمل والشع ... ر وتوحي برائعات المعاني
وشخوص تلوح إثر شخوص ... كرسوم في لوحة الفنان
وكأن الهضاب تومي إلينا ... بتحايا الإخوان للإخوان
وتكاد الأشواق تدفع بالفلـ ... ك وتحتل موضع الربان
أيها الفلك إن بلغت بنا السو ... دان فاهدأ فقد بلغنا الأماني
بلد قاته وقاننَي الني ... ل ورواه مثلما رواني
جمعتني به شريعة طه ... وهداه منهاجه وهداني
بلد ردّدت لياليه شعري ... وشجاها من لحنه ما شجاني
نحن خلان، رب روح وروح ... في سماء القريض يلتقيان
رشفة من منابع النيل تربى ... حسناتي في كفة الميزان
ووقوفي بهن يمحو الخطايا ... ويجيب الذنوب بالغفران
أتراني في موسم الحج يم ... ت حاكم أطواف بالأركان؟
أم تراني حسبت زمزم يجري ... ماؤها حيث يلتقي الرافدان
كل مغنى من بين تلك المغاني ... حرم قد أجله الحرمان(799/37)
جيرة النيل أرضكم فوق ظهر الأ ... رض نفح من جنة الرضوان
سحب دمعها يسيل سجاما ... يا لدمع يجري بلا أحزان
وشعاع تزجيه شمس ضحوك ... ذات دل ومبسم فتان
وكنوز لم يكشف الستر عنها ... وأراض عذراء غير عوان
أيها النيل إن شطك رمز الخ ... لد في ذلك الوجود الفاني
أيها النيل حول شطك شعب ... يتحلى بسمرة الأبدان
ذو خصال مثل القواضب بيض ... ووجوده في سمرة المرّان
سمرة اللون في محياه تزري ... باخضرار الرياض في (نيسان)
ولو أن القلوب صارت وجوها ... كنتمو كالبدور في الألوان
علم السحب كم كيف تهمي ... وأمدّ النيلين بالفيضان
من أياديك يا زمان - وما أنـ ... درها - رحلتي إلى السودان
أنا فيه في منزلي وعشيرتي ... آنس بالمكان والقطان
شر ما تبتلي به نفس حرَّ ... غربة الحر هو في الأوطان
إن مصرا وإن سودان مصر ... في رضاع وفي دم أخوان
وهما منذ كوَّن الله هذا أل ... كون شعب ولا أقول: اثنان
أمة أمها الطبيعة والني ... ل أبوها الأب الأبر الحاني
ربط الله بيننا برباط ... ين وثيقين الضاد والقرآن
لن يحل الإنسان ما عقدته ... قدرة الله خالق الإنسان
محمود غنيم(799/38)
الجمال النائم
للأديب محمد محمد علي السوداني
مّرْقد حفته أمال ظماء ... رفت الفتنة فيه والصفاء
وتمشي في دمائي نشوة ... حلوة الهمس وأحلاماً وِضاء
شاد في أعماق نفسي معبداً ... أفرغت أسرارها فيه السماء
فاض منه الطهر وإستذرت به ... مهج حيرى بها جاش الرجاء
سجد الدهر على أعتابه ... خاشع السجدة مهموس الدعاء
رعشة الهيمان في محرابه ... تفعم الدنيا نزوعاً وبكاء
كونه الصوفي روض حالم ... ساحر النضرة نشوان الجواء
خالد البهجة فجرى الرؤى ... في الربيع الطلق أو برد الشتاء
كله حسن وشوق ضارع ... وأمان ظمئات ودعاء
وظلال رقصت أحلامها ... تحت سوق الدوح رمز الكبرياء
وفراشات طراب نهلت ... من رحيق الزهر صرفاً ما تشاء
قبست من لونه ألوانها ... ونضت في حانة ثوب الرياء
فهي شَرب ممعن في غيه ... وهي زهر طائر ملء الفضاء
خضرة المرج غناء عطر ... في فم البلبل مشبوب الغناء
وهدير الماء شكوى عاشق ... وحفيف الروح أنغام الوفاء
عالم كالوهم إلا أنه ... عالم الحسن بأفق الشعراء
ترتمى فيه الأماني زورقاً ... مشرق الطلعة جذاب الرواء
زفه اللحن إلى شط الهوى ... فتهادى في عباب من ضياء
مرت الأحقاب في موكبه ... تنهب المجداف نهباً في خفاء
قرت الظلماء في آفاقه ... وتغشتها سيول من ذُكاء
لست تدري أصباح غارق ... في شفوف الغيم أم ذاك المساء
أيها النائم رفقاً أننا ... لهفة حيرا وأنضاء شقاء
ما لنا في الحسن إلا وحيه ... ومجانيه لقوم سعداء(799/39)
أصرف الأغراء عني مشفقاً ... واحجب الفتنة عنيّ بالرداء
محمد محمد علي السوداني(799/40)
رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر
الهجري:
2 - اردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان
لمصطفى البكري الصديقي
(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
كان صديقنا والد الأولاد المرحوم مراد توفي في شهر ربيع الأول فعملنا عند قبره خثما، وطلبليلة المسيير الكبير الاندراج في السلك مع أخواته فأجبته، فأخذ صالح الدأب على الخير، وتبعه أخوه خير وأخوتهما ومصطفى وعلي وخالد وعمر وأولاد صالح، وسرنا بعد أن ودعنا الإخوان وصلينا الجمعة في (سحمواته) وجاءنا من صفد، من له الغرام بالتحريك أوثق صفد، وبتنا في (قلعة معليا) الرفيعة، وفي الصباح عاد أهل صفد وصحبهم الأخ الشيخ عمر البقاعي وأرسلت معه كتاباً للصهر. ومنها توجيهنا بمن معنا إلى الساحل، وقبلنا لدى النون المصري المقيم الراحل، فقلت:
ومررنا بلصق جدران (عكة) ... بلدة في الثغور ثورت عكه
وحديث بمدحها فضعيف ... بكها الجسم لا تقسه ببكة
وقطعنا نهر الدعائم سرعاً ... وأصبنا لدى المقطع ركة
ونزلنا قريب قلعة حيفا ... وصككنا الجفا على العنق صكة
وسألنا الإله تقريب قدس ... وارتحالا لطيبة ثم مسكة
وبتنا في قرية (صدفند) بعد مشقة، ومنها أتينا حمى (عتيل) وعزمنا في الصباح على الرحيل، ونلنا من أهلها إكراما له حال ثقيل، وحثثنا المطي بلا وقوف، إلى (الطيبة) الخلوف، وهذه القرية من قرايا بني صعب التي يأمن بها الخائف ويهون الصعب، وهم بطن من كندة ومن بجيلة، وكندة بالكسر، قبيلة من اليمن، وقيل الكندي لقب ثور بن عفير أبي حي باليمن لأنه كند أباه النعمة ولحق بأخواله. قاله القاموس. وفي الصباح المنير(799/41)
يجعله قبيلة من اليمن والنسبة إليها بجلي بفتحتين، مثل حنفي في النسبة إلى بني حنفية، وبجلة مثل تمرة قبيلة، والنسبة إليها على لفظها انتهى. ومنها حول نبأ الدليل السلفيتي، إلى قرية (كور) فقدر بها مبيتي، لدى الأخ الحاج حسن بن مقلد وسرنا إلى الخربة الطيبة الماء والتربة، وفيها ورد علينا الأخ الشيخ نور الدين (الهواري) ضحوة النهار، وفي صباح يوم الخميس، أول ذي الحجةالأنيس، سرينا حتى أتينا (صنبر)، عازمين أنا بعد الغدا نسير، والقصد التوجه إلى جنة (الذاوية)، لدعوة رضوانها المنتمي لهلال مرابعها المداوية، فبتنا لديه، وأدخلنا صهره السيد محمد الطياري على ابنته الصغيرة. وبايع بعد العشاء جماعة تفوق على العشرين، وتقدمنا إلى (دير غسان)، وبتنا فيها بليلة حسان، ودعانا الشيخ إبراهيم الرابي للغداء، فتوجهنا لزيارة (الخواص) سيد أبراهيم وافر الندى، فقلت:
أيها الواردون للخواص ... إن هذا المقام نزل الخواص
وتوجهنا صبحا إلى قرية (عابود) لدعوة أهلها ففتحنا باب الوفود، ورقينا تلك المنازل ذات الصعود، وبتنا فيها وحبل السرور ممدود، ومنها سرينا نجد في السير إلى (بيتلو) للاصطباح ولم نبت إلا لدى (نبي الله شمويل) ولما أرسينا بشطه وأمسينا فيه، وفد علينا من المقادسة من نصطفيه، فكانت الوراد من المنزل المقدس نتوف على العشرين، وفي ضحوة نهار الثلاثاء سادس الحجة عمدنا الديار المقدسة صحبة الأحباب، وتلقانا أناس أطهار أخيار، وإخوان صفا أولى ادكار وأذكار، ودخلنا مصاحبين الفاقة والذلةوالانكسار، رجاء الانجبار نتلو البردة الشريفة على عادة أهل الديار، إلى أن وصلنا السلسلة المرفوعة الأطوار، وزرنا بعد ختم الذكر المغارة والصخرة الشهيرة الأنوار، واجتمعت بالأهل والبنية صانها الستار، وحصل بالاجتماع كمال السرور للحضار).
وقد استغرقت هذه الرحلة من دمشق إلى القدس عن طريق البقاع ولبنان تسعة عشر يوما. وأخذ الشيخ بعد ذلك يدور في فلسطين، يزور مشاهدها ويدون لنا في رحلته ما شاهده من الآثار، ومن اجتمع به من السادة الأخيار.
ويقول الشيخ: (ودخل العيد ونحن في صفاء ما به أكدار، ووردت علينا بعد أيام مكاتبات من أحباب أخيار فخام، وأرسلنا الجواب البار، إذ شاقنا التذكار لأهل حلب والشام، وبقية خطاب كرام، وحصل بعد الحضور فتور قريحة فلا نثر ولا أشعار، وكان الأخ السلفيتي(799/42)
توجه إلى مربعه، وبعد أيام من الإقامة وجمع جامعه لكل مرة مداحة، حصل رمل عين، أورث نكد عين، ثم اتبعها أختها وحصل الشفا. وحين هل هلال محرم الحرام، سنة (1140هـ) استقمنا على نظام واحد في الخيام، هاجرين منهج النظام قهرا ولما آن أن يدنو منه التمام، بشرت بحمل وقيل أنه غلام، قلت ما جاء هدية من السلام، فهو لدينا مقبول ولا ملام، وعسى أن تكون بنية ذات حال سما، لا سميها باسم والدتي الشريفة علما. وفي صغر الخير اتضحت البشارة، وزال في شهر المولد لبس الستارة، وكان الأخ السيد محمد (السلفيتي) وعد بالعود، لأجل أن يرافقنا في الزيارة العليلية فعزمنا على المسير إليها، ورافقنا الأخ الشيخ رضوان نجل رضوان الزاوي، والأخ الشيخ نور الدين الهواري، وغيرهم من الإخوان ما لهم مساوي. وذلك نهار السبت السادس من شهر ربيع الأول شهر المولد).
الزيارة العليلية:
(حين واجهنا سيدنا (شمويل) قرأنا لجنابه فاتحة الكتاب، وبعد هنيهة في المسير، أنشد رضوان الزاوي:
شوش الجمال قلبي ... حين نادى بالرحيل
قلت للجمال خذني ... قال لي حمل ثقيل
(وما زلنا على نجد نحب الأرض حبا والوقت أدلى اردان بسطة علينا وذوقنا قضباً وحباً وفاكهة، ونزلنا للاستراحة وقت الضحى، ولم نعقل الدار طي تلك المسافة إلا في (عابود) ونزلنا غب استقبالهم المضافة. وفي يوم الاثنين غلساً سرنا وللاستراحة في (نزلة) نزلنا، وانعطفنا على زيارة سيدنا يهودا وهو أحد أولاد سيدي يعقوب. فقلت:
يا خليلي متلف الوجد عودا ... وانشقاني نداً عهدت وعودا
وبتنا بقربته المأنوسة، في دعوة الصديق الشيخ إبراهيم الخليلي القاسمي، وفي الصباح أتينا (يا زور) وزرنا مقام سيدنا حيدرة المنسوب لسيدناعلي بن أبي طالب، ودخلنا (ساقية). وفي الضحى سرنا إلى (يافا)، وقد تلقانا أحبة، لهم صدق خلوص وفي (الجامع الجديد) حلينا به، إذ الرفاق جمعهم جمع، ودعانا الأخ السيد صالح محرم الدار، وبتنا عند أخينا العواد، نافين الأكذار، وتوجهنا للحرم العليلي، وحضره قبلنا الأخ الحاج حسن مقلد، وجاءنا(799/43)
نفر من أهل يافا، وصحبتهم الشيخ خاطر المجذوب، وختمنا بعد العصر الربعة الشريفة، وعملنا المحيا ليلة الجمعة وأقمنا فيه يومها).
العودة عن طريق نابلس
وبعد العشا، وبعد الغشا، توجهنا إلى (بنيامين) وقرأنا الورد السحري لديه، وأتينا (كور) وأقمنا بها ليلتين، ثم وردنا نابلس المحمية، ونزلنا بساخة (الدرويشية) ودعانا المحب، الحاج حمدان الطويل، وأخذ ولده الدخيل الشيخ يوسف وصالح للتكميل، وقام بما يلزم من إكرام جانب صالح باشا بن توقان (طوفان)، وزرت مع الأخ السلفيتي في جبلها الشرقي سيدي الشيخ غانم المقدسي، وتوجهنا بمن معنا إلى قرية (عينبوس)، وأخذبها العهد الشيخ عمر مملوء الطسوس، وحضر الأخ المأنوس السيد محمد وقال ما أثرت في مبايعة أحد من أخواني، مثل ما أثرت في مبايعة هذا الأخ الجناني، ولا سمعت ذكرا أحلى من ذكرك حال التلقين الاحساني، فاني بمجرد قراءتك الآية الكريمة خشعت أركاني، وهمت أجفاني، فقلت (كان الوقت طيبا مغمورا بحضور أهل النور الصمداني.
(وسرنا إلى قرية (جماعين) وبتنا بها ليلة الأحد ذات السحاب المعين، وقرأنا الورد السحري في الجامع على جمع من الأعيان. ونحونا نحو (مردا) لم نجد عنها مردا، وبعد ما أظهرنا مضينا إلى قرية (كفر عين) راجين صلح بين زيد، عسى المعين عليه يعين، وبتنا بها في دار على جلباتها السرور دارا، ونهجنا منها إلى (دير غسان) بوجد نام، وقلب رهين منهان، وأقمنا فيها لأجل الإصلاح، إذ بدا شربتلك البطاح، وأخذنا عطوا شهر للراحة، وسرنا للمنازل بنفوس مرتاحة، ولدي (بيت ريما) أنزلنا قصراً للإكرام، وفي (تبتلو) نمنا وبها مدت موائد أنعام، ولم نصل الظهر إلا في بيت الحرم، الكائن عندي في الدار المعدود من النعم، ورجع أخونا السيد محمد ومن معه للمنازل وأرسلت للصهر المحترم كتابا جعلته عن كتب جوانا. وصدرته بقصيدة.
سيف الهوى ما أفله ... بعد بلى ذاك سله
وأرسل جواب هذا الكتاب مصدرا بنظم مستطاب مطلعه
غضب الهوى ما أسله ... يا ويح من رام سله
به الفؤاد عليل ... ياليته ما أعله(799/44)
فصار جسمي نحيلا ... من الضنا كالأخله
وقد سرى في عروقي ... مثل الدما وأحله
حتى كساني وجداً ... قد صار للقلب حله الخ
وجاءني منه كتاب ثان ينبئ عن الحب الرفيع الشأن، وذكر فيه موشحا للسيد يعقوب الكيلاني، نجل السيد عبد القادر الحموي الداني، وهو على طريقة الأندلسيين. وبعد أيام من ورود الكتاب القندي، وجاءني الدرويش الحاج يعقوب السندي، وطلب مني حال عزم على السفر مكاتبات أربعة أحدها لشيخنا الشيخ عبد الغني (النابلسي) ومطلعه:
يا لقوم من لصب ما غفا ... طرفه فدام نادي القدس
صافعا هم الثنائي في العفا ... إذ تملى بالجمال الأنفس الخ
وكنت أجبت الدرويش يعقوب لما طلب المكاتبات الأربعة إني منذ أتيت هذه الديار، أتكلف لكتابة مكتوب حروفه مجمعة وأن أردت النظم والنثر العادي، أراه متعسرا علي، ولو تعمل له فؤادي. فما زاده الاعتذار إلا إلحاحا وإلزاما في الطلب، فدفعت له مكاتبة الأستاذ الملاذ (أي الشيخ عبد الغني النابلسي) فقال إنه يهديك هدية سنية تفوقي لديك الملاذ، ثم كر على طلب البواقي، فعملت له مكتوبا لشيخنا الساقي ياسين الحموي الجيلاني فقلت:
وكذا نهدي تحايا قد سمت ... وزكت أين ذكا منها أخي
وثنايا سحبها فيضاً همت ... بسطها للقبض يزوى أي وي الخ
وأرسلت للصهر الأمجد كتابا مصدرا بموشح:
أصبحي أريجي أرجحي ... لو ذعي المعي أجمعي
أفوجي أروحي أنجحي ... ارفعي اشجعي ارتقي
أنصحي إبطحي إسمحي ... أبدعي اطوعي اجرعي
ثفرة بن البخاري وأنا ... مسلم كأس الموطأ محتسى
ولكم اذهب عنا من عنا ... وعياء وعلى ذا فقس الخ
وكتبت كتابا للأخ الحميم الشيخ عبد الكريم المشهور بنسبه الكريم، بالشراباتي وصدرته بموشح:
أيها السيار سر بي للحمى ... واسقني من صرف صافي الاكؤس(799/45)
وإذا ثنيت ثلث فالظمأ ... قد غابي للمقر الأنفس الخ
ولما أتممت المكاتبات المطلوبة، وأحضرتهم على كيفية مرغوبة، تأخر الدرويش يعقوب عن السير، منظراً للأذن المحبوب للقلوب عند الطروب، وكان قدم علينا غب العودة من الزيارة رجل مصري يدعى موسى انتمى إلينا فيها، وقصده التجارة لكنه مغلوب نفس، منهوب حدس، محجوب عبارة، ملسوب حية أمارة؟ (وفي يوم الأربعاء من أواخر شهر ذي الحجة توفي الأخ الأمجد الأوحد السيد محمد السلفيتي وسيأتي تاريخ وفاته وبعض ترجمته في حال زيارة ترتبه ومرثية قلتها فيه، ما زالت الرحمات توافيه).
(يتبع)
أحمد سامح الخالدي(799/46)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الدروس الخصوصية:
يهتم معالي عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف بمشكاته الدروس الخصوصية. ويعمل مع رجال الوزارة على أيجاد حل حاسم لها. وداء الدروس الخصوصية قد تغلغل في السنوات الأخيرة حتى تسرب إلى رياض الأطفال هابطا وبلغ الجامعة صاعدا. وقد احس معالي الوزير بخطره منذ العام الماضي فأصدر قراراً بان يكون الحد الأقصى لكل مدرس في الدروس الخصوصية تسع حصص في الأسبوع، يكون ذلك عن طريق ناظر المدرسة ولكن أحدا لم يتقيد بهذا الحد وظلت الحال على ما هي عليه، وقال النظار أنه لم تقدم لهم طلبات في شأن الدروس الخصوصية، وبدت المشكلة بهذا الوجه تحاول أن تستعصي على العلاج.
والواقع أن الدروس الخصوصية تجني على الطلاب وأوليائهم كما تجتي على المدرسين أنفسهم، وإذا نظرنا إلى الأفكار الحديثة في التربية التي تؤيدها المشاهدة والتجارب، والتي ترمى إلى تكوين شخصية الناشئين عن طريق استقلالهم في مواجهة التبعات والصعاب مع الملاحظة والتوجيه عند الاقتضاء - إذا نظرنا إلى ذلك نجد أن هذه الدروس الخصوصية إنما هي رجعية منكرة في التعليم. وهي بعد تغري الطالب بالتكاسل والتشاغل عن الدروس في المدرسة، اعتماداً على أن (بابا) سيتفق مع المدرس في آخر السنة على كذا من الحصص بكذا من الجنيهات، ويتم النجاح بفضل هذه الجنيهات!
ثم هؤلاء الأطفال الذين نحملهم إلى الرياض ليلعبوا ويمرحوا ويحيوا حياة اجتماعية تناسبهم، ولتنتهز المربيات الفرص لتنمية ملكاتهم وأذواقهم وتنشيط أذهانهم وإمدادها بقليل من المبادئ ما ذنبهم حتى نزعجهم بطلعة المدرس في المنزل ونستبدله لهم بما يحبون من الدمى واللعب! ونغرس في نفوسهم منذ الصغر كراهية التعليم؟
وأنا لا أستطيع أن أتصور إثما في التعليم أشنع من إعطاء الدروس الخصوصية لطلاب الجامعة، لأنه إخلال بوظيفتها الأولى والأخيرة وهي التعويد على البحث وتكوين الفكر المستقل، على أن من شر الدروس الخصوصية في التعليم العام أنها تدليل علمي للطالب(799/47)
يفسده على الدراسة الجامعية، فما بالك إذا دلل الكبار في الجامعة؟
أما آباء التلاميذ وأولياؤهم - من أبناء هذا الشعب المكدود - فهم مساكين. يوشكون أن يلقوا في المدارس ما يلقى الناس في المستشفيات من أطباء يتراخون في المستشفى وينشطون في العيادة!
وأما المعلمون فهم أشد مسكنة من الجميع، لأنهم يجدون أنفسهم مضطرين إليها مع ما تصيبهم به من الإرهاق وما تسببه لهم من قعود عن الاطلاع وتزويد أفكارهم وأذهانهم بما يفيد ويمتع من ألوان الآداب والعلوم والفنون.
إن المعلم على رغم ما ناله في السنوات الأخيرة من تحسن طفيف، لا يزال يلقى العنت في حياته المادية، فهو قلق في هذه الحياة التي لا يوصله فيها مرتبه إلى مطالب عيشه الضرورية، فهو إذ يلجأ إلى الدروس الخصوصية لا ينبغي أن يواجه بالمنع أو العقاب ويسكت على ذلك، بل يجب أن ييسر له العيش الكريم تيسيراً يحفظ عليه كرامته يصل به إلى مستوى يستطيع فيه أن يستغني عن هذه الدروس الخصوصية، فإذا سعى إليها طامع جشع ردع بما يستحق من العقاب.
ولا يكفى في حل هذه المشكلة أن يحدد ما يباح لكل مدرس من عدد الدروس الخصوصية، بل يجب أن تحسم بالتحريم القاطع، إلا فيما عسى أن يكون من ضرورة تلجئ إليها حالةالتلميذ. وثمة نقطة لابد من الالتفات إليها، وهي أن المعلم لا يعطى دروساً خصوصية لأن عنده فضلا من جهد ونشاط، فهو مرهق في المدرسة ولا شك، وإنما تبعثه إليها الرغبة في رفع مستوى عيشه، فلا يصح أن يكون من علاج مشكلة الدروس الخصوصية أن يزاد عمله في المدرسة وتضاف حصص إلى (جدوله) بل أنا أذهب إلى عكس ذلك فأقول بالتخفيف عنه ليتاح له أن يعالج في نفسه مشكلة الاطلاع والتزود الفكري، وأبيح لنفسي ـ ولست بعيداً عن المعلمين ـ أن أقول صراحة إنهم يعيشون في اجداب فكري يهدد مستقبل الثقافة في هذه البلاد، وهم يدورون في المدارس دورات آلية تتكون كل منها في حجرة المدرسين حيث يبدأ بنقل ما في الكتب المدرسية إلى دفاتر التحضير ثم يلم التلاميذ شعثها ويضعونها في كراساتهم التي يحملها المعلم إلى حيث بدأ للتصحيح. . . ويتم كل ذلك بطريقة آلية مكررة لا تجديد فهيا، وأكاد أقول: ولا تفكير!(799/48)
وليس ذلك لأن العلم عاجز أو تنقصه الكفاية، فقد درس وحصل وتخرج في الكلية وفي أعلى معاهد المعلمين، ولكنه أرهق بالعمل وحرم الفراغ الذي يستغله في مداومة الاطلاع، فاضطر أن يحيا في شبه انقطاع عن زاد العقول، كما اضطر أن يؤدى عمله على الطريقة الآلية السابقة.
حول صانع البؤس:
تلقيت رسالة من أستاذ جليل ضمنها رأيا في (الخلق والفن) لا يتفق - من حيث العرف الاجتماعي والاعتبار الرسمي - مع مكانه من المجتمع والرسميات. ولهذا قال في أول رسالته: (أنا - كما يعلم كثير من الأدباء - يزعجني أن يطرح اسمي مطرحاً يجعله موضوعا لحديث عام؛ وربما جاشت النفس بالخاطر يثيره رأي منحرف، أو نظر حصيف، واعيا أمام شهوة الكتابة، فأسترها مبالغاً، حتى أوفق بين العاطفتين المختصتين. لذلك أضع هذا الخطاب الخاص بين يديك على أنه أمانة لا يحل التصريح باسم صاحبها، ولا وصفه وصفا محدداً، إن أنت عرضت له في أسبوعياتك؛ وغضب الله عليك إن خنت هذه الأمانة).
ولذلك ابتعدت عن الوصف المحدد، وعن غضب الله. . . . وأقدر للأستاذ الكبير حريته - المقيدة بمركزه - في إبداء رأيه، واشكره على ما أضفاه على من عبارات التقدير والثناء، وإنه ليسرني أن أكون عند مثله كما وصف.
وأعرض بعد ذلك الموضوع الذي عرض له، قال: (أخذت عليك رأيك في (صانع البؤس)، فإن صانع البؤس ليس الديب، ولكن انحرف مزاج اليب، الذي ما كان يملك تقويمه، ولا يستطيعه لو حاوله. وفي الشاعر الحاذق النواسي، الذي ما كان الديب ولا غير الديب يتعاق بغباره، والذي يقول فيه النقاد: إن الشعر كان أقل أدواته، ما يقرر مذهب الديب في الحياة؛ ثم فيما قاله هو عن نفسه: (أي شاعر يتبعله ابن الحباب) ما يقطع بأن الانحلال الخلقي ليس معوقا عن الفن الرفيع؛ بل ربما بما جازفت ب. . . . . . فقلت: (إن الخلق الكريم والفن الرفيع قلما يلتقيان. وعلى الجملة كل ما قلته صحيح، ولكن الحكم على فن المنحلين بما حكمت في حاجة إلى استدراك).
وأقول: أولا إنني لم أحكم على فن عبد الحميد الديب، وإنما أردت أن أصحح خطأ شائعا(799/49)
يتعلق بحياته فقلت: إنه لم يكن بائسا حقيقياً، وإنما كان يصنع البؤس، وتضمن السياق ما يدل على انحلاله. وسواء أ: ان الديب هو صانع البؤس أم انحرافه، فهو وانحرافه (متضايفان)، وقد تعلمنا أن الإسناد إلى أيهما صحيح
أما مسألة الانحلال، فقد كان لكلامي فيها إشارة إلى لون من الناس يحلو لهم أن يصطنعوا الانحلال دلالة على أنهم أدباء وفنانون! ألم يكن الديب الشاعر منحلا؟ وهم منحلون، فهم إذن في الأدب والفن عباقرة العصر في مصر!
وأنا إن كنت أوافق الأستاذ على أن الانحلال الخلقي لا يعوق الفن إلا أنني أقف عند قوله: (إن الخلق الكريم والفن الرفيع قلما يلتقيان) فلا أسلم بهذه القضية.
إن النابغين من ذوي الانحلال الخلقي يجيدون حقا في التعبير عن ميولهم وتصوير تجاربهم، وهم كثيرون، ولكنهم لا يغلبون على ذوي الخلق الكريم، وأنا لا أميل إلى التعبير الخطابي، وإنما أريد أن أفرق بين الانحراف في الخلق والشخصي وبين الانحلال في الصفات الإنسانية الرفيعة، وقد اجتمع الاثنان الديب، ومن النوع الثاني فيه الحقد وعدم الوفاء ومقابلة الإحسان بالمساءة، وهذا النوع لا يقبله الفن الرفيع. وعلى ذلك أقول الآن: إن الديب لم يكن ذا أدب رفيع.
الشخصية السليمة:
ألقى الدكتور إبراهيم ناجي محاضرة نفسية موضوعها (الشخصية السليمة) بنادي رابطة الأدباء يوم الأحد الماضي، فعرف الشخصية بانها التجاوب المنسجم بين البيئة وين العقل والشعور المتماسكين، وشرح التماسك بأن وحدات العقل واتجاهات الشعور قد تختلف فيما بينها ولكنها كمجاذيف السفينة تختلف اتجاها وتتحد في الهدف، فالعوامل النفسية تتنازع، ولكنها تتفق على الغاية فتمضي إليها كالتيار الجاري. ويقابل التماسك الصراع وهو أن تتعارض العناصر ويعمل كل منها ضدالآخر، فينفك بناء الشخصية. وقال إن في متناول أيدينا أن نجعل من اتجاهات نفوسنا طرقا قوية متلاصقة متلاحمة متوازية، وأول عامل في بناء الشخصية هو ما يسمى (قبول النفس) وهو أن يقبل الإنسان نفسه كما هي، لا يجزع من عيوبه ولا يعدها مهانات بل قيودا عليه أن يحطمها، ولا يعدها عوائق بل حوافز تدفع إلى الأمام، فيواجه نقائصه ولا يهرب منها، كما فعل سقراط إذ ألف أرستفانيس مسرحية(799/50)
تندر به فيها، وكان سقراط حاضرا يوم تمثيلها فلما عرضت شخصيته وقف لكي يراه الجماهير. فليس الشعور بالنقص عيبا فهو أمر طبيعي، وإن أول سبب لاعتلال الشخصية هو اعتبار الصفات الغريزة عاهات يجب تغطيتها بمختلف الوسائل، فالواجب تحويل انقص إلى كمال، فصاحب الحياء أو محب العزلة يمكنه أن ينتفع بعزلته في البحث والتأليف، وصاحب الفضول والتطلع ينتفع بطبعه هذا بأن يكون شرطيا سريا أو صحفيا.
ثم تساءل الدكتور ناجي: هل البيئة الواحدة تخلق شخصيات واحدة؟ فأجاب بأن البيئة تضع من يعيشون في دائرتها في قالبها العام ولكنها لا تجبر كل واحد على نفس ذلك القالب، على أن لكل فرد أسلوبه الخاص في الحياة. وتحدث عن علاقة الغدد بالشخصية فقال إن الغدد تؤثر في الأمزجة والطباع حقيقة، ولكن الشخصية قد تتكون رغم ذلك، ولا لزوم للحكم على شخصية الإنسان من شكله الذي أدى إليه تركيب غددي خاص. ثم قال: إن مميزات الشخصية السليمة أن يكون لها ظل خارجي ممتد، وعندما يصير الهدف إنسانيا أو اجتماعيا يكون فجر الشخصية قد انبثق، فإذا صار الهدف روحانيا فقد بلغنا مستوى أعلى هو مستوى الإيمان، وهو تلك القوة الخارجية التي تشع في داخلنا الجلد والصبر والعزيمة.
الشخصية المعتلة:
وأعقب الأستاذ وديع فلسطين الدكتور ناجي، فألقى محاضرة عن (الشخصية المعتلة) قال: اعتلال الشخصية أنواع نقصر حديث اليوم على نوع منها يسمى (السيكوباتية) وهي السلوك المرضي، والسيكوباتي عدو المجتمع ولا يسلم هو من عداوته لنفسه، ولا يصدر سلوكه المرضي عن وعبي أو إرادة، وإنما ينساق في تصرفاته انسياقا أعمى مشبعا بطفولته في الاتجاه الفكري واستغراق في لذات عارضة هدامة، وسير في الحياة بال هدف أو وراء هدف صوري لا وجود له. فقد يشعل النار في نفسه لا رغبة في الانتحار بل حبا في رؤية النار تحصدجسمه، وقد يسرق، لا رغبة في المسروق، بل لمجرد الإيذاء والعدوان. وهو لا يقدر على التكيف والانتظام في عمل. ولا ينفع فيه التقريع والعقاب، لأن فطرته عودته على الاضطراب والخلل.
ثم قال إن المريض بالسيكوباتية لا ينبغي أن يسلك مع المجرمين، لأن المجرم المحترف يدبر لنفسه ويقدر جميع الاحتمالات لينجو ويفلت من العقاب فله إرادة ومنطق وغاية؛ إما(799/51)
السيكوباتي فهو يقترف جريمته دون قصد أو تعمد، وكثيرا ما يكون أول من يصاب بجرمه ويلحقه أذى تصرفه المنحرف. ومن المؤسف أن هؤلاء المرضى يعاملون في مصر إما معاملة المجرمين فيزج بهم في السجون، أو يحسبون مجانين فيحالون إلى مصحات عقلية لا تجديهم نفعا، وجدير بنا، وقد استطاع الأطباء العقليون أن يشخصوا داء السيكوباتية ويعينوا أعراضه ومظاهره، أن نفكر تفكيرا جديا في تهيئة الوسائل التي من شأنها مساعدة هؤلاء المرضى على أن يألفوا الحياة الاجتماعية شيئا فشيئا، وعلى أن يصبحوا أداة نافعة في المجتع، أو يجنب المجتمع آثارهم السيئة.
ارسم (أبو رجل مسلوخة):
قرأت الكلمة التي أورد فيها أحد معلمي الرسم الأستاذ كامل بطرس عصفور، أن يعلمني الأصول التي كان يجب أن أقف عليها قبل نقد السؤال الذي طلبفيه من تلميذات المدرسة السنية أن يرسمن شجرة الزقوم ورؤوس الشياطين؛ وأهم هذه الأصول أن تخاطبالصورة المطلوب رسمها قلب الطفل وتملأ نفسه. وهأنذا قد وقفت على هذه الأصول. . . بفضل معلمي الفاضل. . . ولكني لا أرى فيها شيئا ينقض ما قلت، فأين شجرة الزقوم وأين رؤوس الشياطين من قلب الطفل ونفسه؟! وما هي تجربته إزاء هذه الأشياء حتى يعبر عنها. .؟ فليطلب الأستاذ من تلاميذه رسم (البعبع) أو (أبو رجل مسلوخة) أو ما ماثل ذلك مما ينطبق على أصوله. . . أما الجحيم وشجرة الزقوم ورؤوس الشياطين فلا.
وهو يقول إنه لا يوافقني على قصر التخيل على العباقرة وأنا ما قصرته عليهم إطلاقا، إنما قصرت تخيل الجحيم وما فيه على أولئك العباقرة. أما دون ذلك فللأستاذ أن يجول فيه بتلاميذه أو تلميذاته كما يشاء.
عباس خضر(799/52)
البريد الأدبي
رأى الدكتور يعقوب صروف في أسلوب الآنسة مي:
بمناسبة ما نشر الكاتب الفاضل طاهر الطناحي في نسخة شهر أكتوبر سنة 1948 من مجلة الهلال عن الآنسة مي وأثر الدكتور يعقوب صروف في حياتها. وقوله في رسالة إليها، (إنها تفكر بلغة أوربية قبل ما تعبر عن رأيها بالعربية) أرى خدمة للحق والتاريخ أن أنشر على صفحات الرسالة الغراء كتابا من الدكتور صروف كتبه إلى منذ أربع وعشرين سنة أبان فيه عن رأيه في أسلوب الآنسة مي في إنشائها، وكشف عن أشياء لم تنشر بعد عنها.
ولقد كان هذا الكتاب جواباً عن خطاب مني سألته فيه عن سبب تقديم نشر مقالات في المقتطف على مقالات بعض كبار الكتاب وتحدثت عن أسلوبها وما بعض معانيه من غموض وأجود الكلام كما يقول أهل الفن (ما يكون جزلا سهلا لا ينغلق معناه ولا يهبهم مغزاه).
وقد كنت يومئذ أتولى تحرير جريدة التوفيق وأشارك في تحرير جريدة المنصورة وأراسل جريدتي السياسة والمقطم.
وهذا كتاب الدكتور صروف من خطه لم أغير منه حرفا ولم أخرم منه كلمة:
مصر في 8 سنة 1924
حضرة الرصيف الكريم
سلاما واحتراما، وبعد فقد تلوت ما تكرمتم به وفيه أمران، الأول ترتيب المقالات فهذا يراعي فيه زمن ورودها أو وصول يدي إليها إذا كانت عندي، فليس في تقديمها وتأخيرها نظر إلى فاضل ومفضول. والثاني ما تكتبه الآنسة (مي) وأنا أعرف كثيرين من الذين لهم الكعب الأعلى في الإنشاء مثل المرحوم إسماعيل باشا صبري، ومثل السيد مصطفى الرافعي، يجلون قدرها ويمدحونها بالكلام والكتابة؛ وقد رأيت إسماعيل باشا صبري يقبل يدها في بيتي، ورأيت له ولولي الدين يكن ولخليل مطران قصائد في مدحها. وأظنني رأيت للرافعي أيضاً كتابا لها يطنب فيه في مدحها، فهل نسفه كل هؤلاء وهم من أئمة الأدب العربي أو نتهمهم بأنهم يقولون في الحضرة شيئا وفي الغيبة ضده؟ ثم إنني لا(799/53)
أستحسن هذا النوع من الإنشاء بدليل أنني لا أجرى عليه، ولكنني أفهمه لأنني أحسن لغة أوربية. وأرجح أن أكثر الذين يحسنون الفرنسوية أو الإنكليزية يستحسنونه. وقد جرى عليه الآن أكثر أدبائنا في أمريكا الشمالية والجنوبية وبعض أدباء الشام. وسيمكث الأصلح في ضروب الإنشاء.
هذا وأشكر فضلكم على حسن ظنكم بالمقتطف خاتما بأطيب تحية
يعقوب صروف
هذا هو كتاب الدكتور يعقوب صروف وهو ولا ريب وثيقة تاريخية مهمة تنفع كل من يعنى بتاريخ الآنسة مي ويحرص على درس تاريخها.
(المنصورة)
محمد أبو ريه
الأزهر ومعهد القراءات:
دأب القراء المحدثون على أن يرتلوا كتاب الله بالأوجه التي تواترت في كتب القراءات كالشاطبية والطبية. يتلقونها تلقينا ويأخذونها مشافهة.
وأكثر القراء الآن مع الأسف لا يفهمون السر في أوجه التغيير التي قد تطرأ على الروايات ولا يدركون اختلاف الأعاريب وعللها، ذلك لأن مقصدهم عند تلقيهم إنما هو الإسماع والتطريب لا الدراسة والتحليل.
ومع أن القرآن الكريم - بأوجه قراءاته - هو أصل الأصول للدراسات العربية والمصدر الأول للتشريع فإننا لا نجد معهدا علميا خصص له دراسة مستقلة لقراءاته. ولا أعني بالدراسة المستقلة تلقين المدود ومذهب القراء في الإمالة مثلا، وإنما الذي أعنيه هو أن تخصص له دراسة في الكليات العربية كدار العلوم واللغة والآداب تتجه إلى أمثال ما يأتي:
1 - دراسة اللهجات العربية دراسة مستفيضة.
2 - الإلمام بتاريخ القراء ومبلغ تأثرهم باللهجات.
3 - أثر القراءات في التفسير.
4 - أثر القراءات في النحو والبلاغة.(799/54)
5 - أثر القراءات في التشريع. إلى غير ذلك من الموضوعات التي كان للقراءات فيها أثر كبير. وليس من المعقول أن يلم بأمثال هذه الدراسة أولئك الذين حفظوا القرآن فحسب، وإنما يستطيع أن يتابعها من ألموا باللغة العربية والشريعة إلماما واسعا لا يقل عن شهادة الأزهر الثانوية، فهم الذين يمكنهم أن يفهموا ما يلقى عليهم من محاضرات علمية جامعة. وأمثال هذه الدراسات ليست من السهولة بمكان، ولا يكفي أن يقوم بتدريسها من حفظ الشاطبية والطبية والنشر مثلا، بل لابد من أن يلقيها أساتذة لهم من الدراسات العلمية، واللغوية ما يؤهلهم لفهمها وإفهامها. وكنت أحسب أن الأزهر الشريف حينما أنشا معهد القراءات التابع لكلية اللغة العربية أراد هذا اللون من الدراسات غير أنني حينما قرأت وسمعت عن الدارسين بهذا المعهد وجدته لا يشترط فيهم إلا ما يشترط في معلمي (المكاتب) بزيادة أن يجوزوا امتحانا في الشاطبية والدرة وأمثالهما، فكأن معهدالقراءات (مكتب) منظم لتخريج مقرئين فقط. أما الغابة الكبرى فليست من منهج هذا المعهد. فه تجعل كليات دار العلوم واللغة والآداب للقراءات في مناهجها نصيبا، أو أن الأمر سيظل ضئيل الأهمية لا يجد من العناية ما يليق بكتاب الله وأوجه قراءاته؟ لعلي إن شاء الله أقدم أنموذجا لبعض هذه الدراسات إن وجدت - كما أعتقد - من أستاذنا الزيات ورسالته صدرا رحيباً
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي
يهودي في المعتقل:
ورد في مقال صاحب الرسالة (حكم من أحكام الله) تعليقا على حكم قضاء البصرة العادل: (فتنزلهم) (والهاء يعود الحكومة المصرية والميم على اليهود على الرحب والسعة وتكفل لأموالهم وأهليهم الأمان والدعة).
وليت الأستاذ الزيات يعرف ما تصيبه طائفة اليهود من مغانم في المعتقلات المصرية.
وإني أوفر على نفس التدليل والبرهان وأكتفي بسرد القصة الآتية: في كلية الصيدلة يطلب شاب يهودي العلم في السنة النهائية، وهذا الطالب يعيش عيشة ضنك وحرمان، وفي أوقات(799/55)
فراغه يزاول عشرات الحرف ليحصل على طعامه. وقد ذكر في حديث له أن أخا له كان ينفق عليه وتخلى عن نفقته؛ ومن منظره وهندامه يتبين أنه مبالغ في قوله فلا اعتقد بأنه خرج من أم وأب وله أخوة وإنما هو ابن الفقر الأوحد
وشاء حفظه الحسن ان تعادى مصر الصهيونية وسمع بأنها تقبض على كل من تشتم فيه رائحة العداء، فأطلق لسانه بكلام وما قصد إلا الخير وهو أكل القوت في المعتقل، وتم له ما ابتغى وغاب عن الكلية أشهراً ثم عاد إليها مخفوراً ليؤدي الامتحان، وإذا بابن الفقر قد أصبح عاقا لوالده، ولعله هجر صحبته من يوم أن دخل المعتقل فخرج في وجه ولبوس غير اللذين دخل بهما، وسأله زميل له: من أين لك هذا النعيم وأنت معتقل؟
فتبسم اليهودي قائلا: ليت مصر حاربت اليهود من يوم أن خرجت للدنيا! ولو أن الجنة كانت كالمعتقل كما يصفها المسلمون لأسلمت من الآن. وما كنت قبل حديث هذا اليهودي أتصور بأن الحكومة تعاملهم في المعتقل بكادر وتجري عليهم راتبا يوميا وتدعهم أحرارا ينفعون أموالهم كما يشاءون! فطوبى لكل يهودي يعيش تحت سماء مصر!
عبد الرحمن فراج
إلى الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ:
قرأت في عدد الرسالة 797 في مستهل مقال الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ الفتوة عند الصفويين هذه العبارة (والفتى هو الشاب حدث السن) وقوله حدث السن تركيب لم يرد في فتون اللغة، بل نص في بعض الكتب على منعه، فقد ورد في الأمالي للقالي (ح1ص26) في مطلب أسماء الرجل يحب محادثة النساء ما يلي:
(الحدث: الشاب؛ فإذا أضيف إلى السن قالوا: حديث السن ولم يقولوا حدث السن).
وفقنا الله إلى الاستعمال الصحيح الفصيح.
إسماعيلأبو ضيف
الأزهري(799/56)
القصص
القلب الواشي
للكاتب الأمريكي ادجار الان بو
حقا، لقد كنت عصبيا، ولا زلت في حالة عصبية مخيفة. لكن. . لماذا تقول إني مجنون؟ إن الداء قد أرهف حواسي - لم يدمرها - ولم يضعفها، ولا سيما حاسة السمع الحادة. لقد سمعت أصوات من في الأرض ومن في السماء، حتى من في الجحيم. فكيف إذن أكوان مجنونا؟ أصغ لي، ثم لاحظ كيف أقص عليك القصة بحذافيرها وأنا في تمام الصحة وفي غاية الهدوء.
إنهلمن المستحيل أن أعير كيف أثرت تلك الفكرة على عقلي بادئ ذي بدء. ولكنها اصبح تلازمني ليلا ونهار. أما عن الدافع فلقد كنت احب ذلك الكهل. إنه بم يخطئ في حقي البتة، ولم يوجه إلي أية أهانه ولم اكن أرغب في ماله. ولكن عينه هي السبب، ونعم كانت هي السبب. إنها تشبه عين الطائر. . عين العقاب. كانتزرقاء تغطيها طبقة شفافة ومعه. وكنت في كل مرة تلتقي عيناي بها، تثور ثائرتي، ويهيج هائجي. ولهذا قررت أن أنهي حياة الكهل، وبذلك أتخلص من تلك العين إلى الأبد. هذا هو الدافع. إنك تتخيلني مجنونا. ولكن ليتك رأيتني أقوم بالعمل وأنا في كامل وعي. ليتك شاهدتني وأنا أنجزه في حيطة وحذر. كنت أشفق على الكهل في أيامه الأخيرة أكثر من إشفاقي عليه في أيامه السابقة. وكنت في منتصف كل ليلة أدير أكره بابه وافتحه في هدوء. وياله من هدوء! ثم اطل برأسي عليه أن أقلل من ضوء المصباح تدريجيا حق يشع نوره داخل الغرفة. كنت أحرك الباب في بطء حتى لا أزعج نوم الكهل، فيستغرق ذلك مني وقتا طويلا. هل يمكن لرجلمجنون أن يكون عاقلا إلى هذا الحد؟ فإذا ما أطللت برأسي داخل الغرفة، أزيد من ضوء المصباح باحتراس، بكل احتراس، فأسمح لشعاعه ضئيلة تسقط على عين العقاب. كنت افعل ذلك سبع ليال متتالية، ولكني كنت أجد العين دائما مغمضة ولذلك كان من المستحيل على أن أنجز عملي. لأنه لم يكن الكهل هو الذي يثيرني، بل كانت عينه الشريرة. وكنت في كل صباح، عندما تشرق الغزالة، أذهب إليه في شجاعة وأتحدث معه في جرأة، وأدعوه باسمه في لهجة ودية وأساله كيف قضى ليلته. وهكذا ترى أنه لم يشك فيما كان يحدث كل ليلة(799/57)
وهو نائم ما لم يكن بعيد النظر!
وأقبلت الليلة الثامنة، وكنت أكثر حذرا في فتح الباب. كنت أسيطر على شعور الانتصار في قوة عجيبة وأنا أفكر في ذلك الكهل الذي يجهل ما الذي أفعله وما الذي أفكر فيه. وابتسمتثم ضحكت. وسمعت حركة في الفراش. لعله سمعني أضحك فقام فزعاء ولعلك اعتقدت أني تراجعت. ولكن. . كلا، فقد كانت الغرفة حالكة الظلام ولا يستطيع رؤيتي وأنا أفتح الباب. لذلك ظللت أدفعه في انتظام. وأطللت برأسي. كنت على وشك إضاءة المصباح عندما انزلقت يدي فأحدثت صوتا، وهب الكهل من فراشه صائحا (من هناك؟) ظللت ساكنا ولم أفه بكلمة. ومكثت ساعة كاملة دون أن تتحرك عضلة في جسمي. ولم أسمعه يرقد ثانية. كان لا يزال جالسا في فراشه يتسمع مثلما كنت أتسمع ليلة إثر أخرى.
ثم طرق أذني أنين خافت، أنين من الرعب المميت. لم يكن أنين ألم أو شجن. . . كلا، كان صوتا خافتا مخنوقا يرتفع من أعماق روح امتلأت رعبا ووجلا. وكنت أعرف ذلك الصوت جيدا، وأدرك ما يشعر به الكهل ولذلك كنت أشفق عليه وأنا أقهقه من أعماق قلبي! وتصورته راقدا مستيقظا تزداد مخاوفه كلما تقلب على الفراش، ويحاول أن يتغلب عليها وهو يوهم نفسه بأن ما حدث مجرد أوهام. وتخيلته يتحدث إلى نفسه قائلا (إنه حفيف الريح داخل المدخنة - إنه فأر صغير يعبر الغرفة) نعم، كان يحاول أن يسري عن نفسه بشتى الافتراضات دون طائل، دون جدوى، ألأن الموت كان يقترب منه رويدا رويداً ويطارده بشبحه الأسود، ويحيط به من كل جانب. وكان تأثير ذلك الشبح عليه هو الذي جعله يدرك وجود داخل غرفته دون أن يراني او يسمعني. وانتظرت وقتا طويلا بصبر عجيب دون أن أسمعه يرقد. ثم عزمت على إضاءة المصباح قليلا. قليلا جدا، وخرجت شعاعة واحد ة. . شعاعه كأنها خيط العنكبوت. خرجت من فتحة المصباح فتسقطت على عين العقاب. كانت مفتوحة تماما، فصف بي غضبي من رؤيتها، وكانت واضحة أمامي بلونها الأزرق وغلالتها الشفافة، فأصابتني رعدة شديدة تغلغلتفي ذات نفسي حتى وصلت إىل عظامي ولم أر من وجه الكهل أو جسمه سواها، وكأنها وجهت الشعاعة بشعور غريزي لا إرادي إلى تلك العين الملعونة بالذات. ألم أخبرك أن ما تعتقده جنونا ليس إلا إرهاف الحواس؟ ثم وصل إلىسمعي صوت خافت سريع التردد. كأنه صوت ساعة مغلقة(799/58)
بالقطن. فعرفت ذلك الصوت. إنه نبضات قلب الكهل، فاستشطت غضبا وامتلأ قلبي غيظا وحقدا. ومع ذلك ظللت ساكناً وحبست أنفاسي. وأمسكت بالمصباح دون أن أتحرك وقد سلطت الشعاعة على عينه. كانت ضربات قلبه تزداد وترتفع صوتها في سرعة غريبة. واستنتجت أن الكهل قد وصل رعبه إلى أقصاه. وارتفع الصوت، وتعالى. ألم أخبرك أنني عصبي؟ نعم لقد كنت في حالة عصبية شديدة. وولد ذلك الصوت في نفسي، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وبين ذلك السكون المطبق الموحش، ولد في شعورا من الرعب لا يقاوم. ومع ذلك ظللت صامتا ساكنا. وكانت الضربات تتعالى ثم تتعالى حتى خلت أن قبله على وشك الانفجار. ثم تملكتني ثورة جديدة! ألا يجوزأن يسمع الجيران ذلك الصوت؟ إذن فقد حانت ساعة الكهل!
وصحت صيحة مدوية، وأضأت المصباح ثم قفزت إليه. فصرخ صرخة واحدة! وفي لحظة كنت قد سحبته إلى الأرض وألقيت فوقه الفراش. ثم ابتسمت في رضاء. لقد أنجزت أخيرا مهمتي. لقد مات الكهل. وأزحت الفراش وفحصت الجثة. نعم كان ميتا كالحجر. ووضعت يدي على موضع قلبه وتركتها لحظة. لم يكن هناك نبض. لقد مات حقا، ولن تعود عينه تضايقني بعد الآن. إذا كنت لا تزال تظن أني مجنون، فإن ما قمت به من احتياطات وما فعلته لإخفاء الجثة سوف يبدد هذا الظن. كان الليل على وشط الرحيل فبذلت همة ونشاطا، وقمت بإنجاز العمل في سكون. قطعت أطراف الجثة، ثم انتزعت ثلاثة ألواح خشبية من أرض الغرفة، وحفرت في موضعها، ثم أخفيت الجثة فيها، وأخيرا وضعت الألواح في مكانها. وعادت الغرفة إلى ما كانت عليه.
كانت الساعة قد أشرفت على الرابعة عندما انتهيت من كل شئ، وكان الظلام لا يزال مخيما. وعندنا دقت الساعة دقاتها سمعت صوت طرق على باب الدار، فنزلت أفتح بقلب مطمئن - فماذا يخيفني الآن؟ وجاء ثلاثة من رجال الشرطة، وشرحوا لي أن تحدا ابلغهم سماع صرخة صادرة من الدار. وابتسمت، ما الذي يخيفني الآن؟ ورحبت بهم، وقلت إن الصرخة صدرت مني أثناء نومي وأنا أحلم. وادعيت أن الكهل على سفر. وطلبت منهم أن يفتشوا الدار. . يبحثونها جيدا. وأخيرا أوصلتهم إلى غرفة الكهل. وأطلعتهم على ثروته دون أن يمسها أحد. كنت واثقا من نفسي كل الثقة، ولذلك أحضرت إليهم مقاعد وأجلستهم(799/59)
في الغرفة حتى يستريحوا من عناء البحث. وجلست أنا المنتصر في وقاحة على أحد المقاعد بعد أن وضعته على المكان الذي ترقد فيه الضحية. وكنت أجيب على أسئلتهم في سرور. وجعلوا يتحدثون ويثرثرون وأنا أستمع إليهم في رضاء. ولكن لم تمض فترة طويلة حتى شحب وجهي، وآلمني رأسي وسمعت طنينا في أدني، فتمنيت عندئذ أن يرحلوا، ولكنهم ظلوا جالسين يتجاذبون الحديث، وعلا الطنين وازداد وضوحا، واستمر يتعالى ويتعالى. وارتفعت عقيرتي بالحديث حتى أتخلص من هذا الشعور المؤلم، ولكنالطنين زاد وضوحا، فتيقنت أخيرا أنه لم يكن مبعثه أدني. ولم يكن هناك أدنى شك في أني كنت شاحب الوجه. ولذلك طفقت أتكلم في طلاقة وبصوت حاد ومع ذلك ارتفع الطنين. ما الذي أستطيع فعله؟ لقد كان صوتا مروعا كأنه (صوت ساعة مغلقة في قطن!) وأسرعت أنفاسي ونظرت إلى رجال الشرطة فظهر لي أنهم لم يسمعوا ذلك الطنين. وجعلت أهذي في حديثي وأثرثر وازداد صوتي حدة. ولكن الطنين كان يرتفع في انتظام. وقمت وتجادلت في شتى المواضيع التافهة بصوت عال وإيماءات متعددة، ولكن ذلك الطنين كان يطغى على صوتي. وسألت نفسي لماذا لا يرحلون؟ وذرعت الأرض جيئة وذهابا بخطى ثقيلة. ولكن الصوت ذلك الصوت! أواه. . يا الهيمال الذي أستطيع عمله؟ وعلى مرجل غضبي. وتمتمت وأقسمت وضغطت بالمعقد على الأرض وصررت به على الألواح الخشبية. ولكن ذلك الصوت. . كان لا يزال يرتفع تدريجيا. . وأستمريتعالى في شدة. . في شدة. . في شدة! وما زال الرجال يتحدثون ويمزحون ويتضاحكون. هل من المحتمل أنهم لا يسمعون شيئا! يا الهي! كلا. . كلا! لا بد أنهم سمعوه! واشتبهوا! وعرفوا! إنهم يسخرون من وعي! ذلك ما ظننته وذلك ما أظنه. وما أفظعن من عذاب! وما أبشعها من سخرية! إني لا أستطيعاحتمال هذه الابتسامات المنافقة بعد ذلك! وشعرت أنه يجب على أن اصرخ. . ولكن هذا الصوت كان يزداد وضوحا. . وصرخت فيهم قائلا (أيها الأشرار انفضوا. . إني أعترف بارتكابي الجرم! انزعوا الألواح هنا! هنا! هذا الصوت هو خفقان قلبه. . . قلبه الواشي المختبئ هناك!).
محمد فتحي عبد الوهاب(799/60)
العدد 800 - بتاريخ: 01 - 11 - 1948(/)
فكاهة لها مغزى
لا أدري ما الذي أخطر ببالي في هذه الأيام هذه الواقعة المضحكة وقد
مضى على وقوعها ثلاثون سنة دون أن تجري على لساني أو تدور
بخاطري؟ اسمعها أولا ثم حاول بعد ذلك أن تعلل ورودها بما تشاء:
كان بلدينا الشيخ عبد الجبار خادم المسجد شموس الطبع طائش الحلم، يده أسرع من لسانه، ولسانه أطوع من عقله؛ ولكنه كان كسائر النزقين أبيض القلب سليم الصدر، لا تبطئ ريحه أن تسكن، ولا تلبث أناته أن تعود. ذهب ذات يوم إلى المنصورة يقبض مرتبه من مأمورية الأوقاف، ويمتاز لعياله من سوق المدينة. فلما كان عائدا إلى القرية، فوقه مظلته العتيقة، وتحته جحشته الريضة، قابله في مضيق الطريق حماران يسيران متوازيين وعليهما سماد الزبل والسرجين، فاقتحم العقبة من بينهما فصدم خرجه الأبجر أحد الحمارين فزال عن ظهره الغبيط. فاستشاط سائق الحمار وقال للشيخ في فوره غضبه: لا عجب ولا ملامة، خرج فوق خرج!! فوقف عبد الجبار دابته وصعر خده وقال للمتهكم الغضبان بلهجة المتحدي: ولم لا تقول حمار وراء حمار؟! فأجابه الفلاح وقد تنمر له وهم به: مخطئ وتسفه! ثم جذبه من ذراعه بقوة فسقط في حفرة، فبرك فوقه وأعانه شاب آخر وانهالا عليه طحنا بالصدر وعجنا بالأيدي، والمسكين تحتهما ملقى على ظهره، يضرب الهواء برجليه، ويحاول أن يدفع اللكم بيده؛ ولكنه كان أشبه بالسلحفاة المقلوبة، تحرك أطرافها ولا تتحرك، وتقلب رأسها ولا تقوم، حتى شاء الله الذي يؤخر النفس إذا لم يجئ اجلها أن يمر به في هذه اللحظة الشيخ عبد الرحمن، أخوه في القرآن، وزميله في الحرفة، وجاره في الحارة؛ فلم يكد يراه على هذه الحال حتى ترجل وانقض على الرجلين انقضاض النسر، فأزاح هذا بيمناه وذاك بيسراه، ثم أعمل فيهما يديه جميعا. ورأى الشيخ عبد الجبار صدره خفيفا فنهض كأنما نشط من عقال، وأسرع إلى حمارته فوثب عليها، وانطلق دون أن ينفض التراب عن ثوبه، ودون أن يقول للشابين بارك الله فيكما، وللشيخ عبد الرحمن السلام عليكم. . . وشفى غليله من الأنان فانحنى عليهما سبا باللسان وضربا بالعصا وطعنا بالمنخاس ولكزاً بالفخذين حتى بلغ الدار وصك رأسه الجدار.
وفي المساء أقبل الشيخ عبد الرحمن وعلى إهابه وجلبابه آثار المعركة فجمع له الناس(800/1)
وقال: يا شيخ عبد الجبار كيف أنصرك وتخذلني، وأحييك وتقتلني، وأرفع عنك العبء فتلقيه علي، وأنقذك من الرجلين فتتركهما إلي؟!
فأجابه بلهجة خليط من الخزي والبلادة والمكابرة: كان بيني وبين فلان وعد في صلاة العصر. ومعاذ الله أن أخيس بوعد أو أحنث في يمين!
فقال له: أمرك يا مولانا عجيب! تحافظ على وعد وتفرط في روح، وتنظر إلى مصلحة وتغضي عن كرامة!!
فقال له الشيخ عبد الجبار وقد غلى دمه وهو لا يغلي إلا في السلم: سبحان الله يا أخي! لماذا تتجهمني هذا التجهم، وتعنفني هذا التعنيف؟ من قال لك انزل؟ هل كنت مغلوباً فانتصرت لي، أو مكروباً ففرجت عني، أو ضعيفاً فأشفقت علي؟ وهب الأمر كان كذلك، فهل بعد خرجي مأرب، أو بعد حمارتي مركب، أو بعد روحي حياة؟!
أحمد حسن الزيات(800/2)
من قصص العصر الفاطمي:
خاتمة حياة
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
خذ يا نصر، فليس هذا بكثير عليك.
قال ذلك خليفة مصر الظافر بأمر الله وهو يقدم إلى نصر بن عباس عشرين طبقا من الفضة مملوءاً كل واحد منها بعشرين ألف دينار. فأجابه نصر: شكرا يا مولاي، إنني لم أزد على أرحتكم من وجه كنتم تبغضونه، وإن سرور مولاي هو كل ما أسعى إليه وأبغيه. قال الخليفة: ذلك قليل يا نصر، لقد قضيت أكثر من أربع سنين وأنا احمل هذا الوزير شجي في حلقي، وقذى في عيني، ومن الغريب انه كان يسمي نفسه الملك العادل، وأي ظلم أكبر من سلب حقي واغتصاب سلطاني! هذا أول يوم أشعر فيه بمجد الملك وعظمة الخلافة، وستكون تلك الليلة تذكارا لهذا العهد الجديد السعيد.
وما إن أقبل الليل حتى كان قصر الخلافة جوهرة غارقة بالنور، وجاء الندماء يمنون النفس بليلة سارة وساعات شهية، ولم تلبث جنبات القصر أن تجاوبت بأصداء الغناء، ودارت الساقيات الجميلات ببنت الكروم تلعب بالرءوس وتفعل ما تشاء بالألباب، ولما انقضى من الليل أكثره تفرق الجمع، ولكن الخليفة لم يرد أن تنقضي تلك الليلة من غير إنعام جديد على قاتل وزيره ابن السلار، فوهب نصراً مدينة قليوب، وأوصاه أن يبكر في الحضور إليه، فإنه ما كان يصبر على البعد عنه.
خرج نصر فرحا بما أعطي، ولما قابل أباه عباسا (وقد صار وزيرا) أخبره بأمر هذه الهبة، فما زاد أسامة بن منقذ أحد جلساء الوزير على أن قال: (ما هي في مهرك بكثير يا نصر).
وهنا أربد وجه الفتى، وغلى الدم في عروقه وأقبل يدافع عن نفسه في حماسة وقوة، حتى قال له والده: (نحن لا نصدق يا بني ما يقال، ولكن الناس يلوكون عرضك وعرض الأمير، فبالله إلا غسلت هذا العرض. إن جمال الوجه كثيرا ما يجلب على صاحبه الأقاويل، ولقد خجلت لكثرة ما سمعت عنك وعن مولاك). فخرج نصر وقد صمم على أمر.
لم يبد على صلة الصديقين فتور، بل اطردت كما هي: يقضي نصر معظم وقته مع(800/3)
الخليفة، حتى إذا كان يوم اشتد فيه إقبال الظافر على نصر، قال له نصر: (لقد نلت منك يا مولاي كل أنواع التكريم؛ فهل يضيف سيدي إلى نعمه تشريفه إياي في وليمة خاصة بنا في منزلي الليلة، وسوف أفاجئ مولاي بما يلذ له من جيد الغناء، وعتيق الخمر، وأجمل النساء). ولم يكد نصر يسمع من الخليفة ترحيبه بالدعوة وقبولها قائلا له: (ذلك هو العيش يا نصر)، حتى خرج يعد للأمر عدته.
وفي الليل الساجي، والظلام الذي لا تتبين فيه شخوص السائرين، خرج الخليفة الشاب من قصره مستخفيا، لا يصاحبه غير خادمين، ولا يكاد يتميز عمن حوله من الناس، حتى إذا دخل منزل مضيفه، أنقض عليه وعلى أحد خادميه من أعدهم نصر للانقضاض، وبعد بضع دقائق كانت جثة الخليفة ملقاة في بئر هناك، ومضى نصر يخبر والده بما فعل!
تنفس الصبح فشاهد الناس في البكور الوزير عباس ميمما قصر الخلافة يتبعهم ألف جندي شاهرون سلاحهم، ودخل القصر، وطال جلوسه، فاستدعى زمام القصر وقال له (إن كان لمولانا ما يشغله عنا في هذا اليوم عدنا إليه في الغد)؛ فمضى الزمام وهو يبحث عن الخليفة في كل مكان، ثم عاد ليقول لعباس: (خرج الخليفة البارحة لزيارة ولدك نصر فلم يعد! فقال عباس تكذب يا عبد السوء! لقد دبرا أخواه قتله حسدا على الخلافة، واتفقتم على هذا القول)؛ فقال الزمام: (معاذ الله!)؛ قال عباس: (فأين هما؟)؛ فخرجا إليه، فسألهما عن أخيهما، فأنكرا معرفة مكانه، فأمر غلمانه بقتلهما، فقتلا بين يديه!!
وفي ليلة حزينة ثقل فيها الهم على عباس وابنه، فقد آذاهما أن يشتركا في قتل ابن مصال وزير الظافر الأول، وقتل ابن السلار وزيره الثاني، وان يقتلا الخليفة وأخويه، ثم يبحثا حولهما فيجدا السلطة التي جدا في الحصول عليها تكاد تفلت منهما وتمضي، فأقبل أحدهما على صاحبه ودار بينهما حديث:
- أرأيت يا نصر: إن الأمر لم يصف لنا كما كنا نؤمل، وإن الجمهور لم يجز عليه ما أحكمناه من حيلة وتدبير!
- الذنب في ذلك ذنب رجالي يا أبي، فإن خادم الظافر الذي أفلت من يدهم هو الذي أذاع سر الجريمة، وكشف ما كنا نحرص على ستره.
- وهذا الشعب الذي ألفنا منه الطاعة أصبح ثائرا متمردا يسمعنا أنى سرنا أوجع الكلام(800/4)
وأحط أنواع السباب، ينادي بالثأر، ويهتف بالانتقام.
- ليت الأمر يا أبي وقف عند الهتاف والكلام، فإن الفتنة قائمة، والأنصار الذين كنا نعتمد عليهم قد انفضوا من حولنا، وأصبحت لا أرى إلا وجوها عابسة، ونفوسا متبرمة، وجوا ينذر بعاصفة.
- لقد كنت يا بني سائرا بالأمس فرأيت هاوناً ألقي علي، ولولا حظي الحسن لحطم رأسي. وأول أمس ألقي علي ماء مغلي كاد يحرقني لولا فضل الله!
- وهل جاءك نبأ طلائع بن رزيك، لقد بعث إليه الأمراء يستنجدون به ليأخذ بثأر من قتلناه. أما أخوات الظافر فقد بعثن إليع بشعورهن في كتب سوداء، وأطلعني جاسوس لا يزال مخلصا لنا على قصيدة طويلة أرسلها إليه القاضي الجليس يحثه فيها على الانتقام، ولا أخال طلائع إلا منتهزا تلك الفرصة النادرة، وقادما إلى القاهرة ليجلس على كرسي الوزارة الذي ينتظره، ويثأر منا غن ظفر بنا.
وهل ننتظر حتى يظفر بنا لابد من الهرب يا بني!
- وإلى أين يا أبي؟
- إلى الشام عند نور الدين محمود، وسنطلعه على ما وصلت إليه مصر من الضعف والانحلال، ونزين له فتحها ونكون له عمالا عليها، وسوف يمهد لنا الطريق إليه الأمير أسامة بن منقذ رفيقنا في رحلتنا.
حث الرسل الخطى إلى طلائع فاستشار من حوله من رجاله، وأجمعوا أمرهم بينهم على الزحف السريع إلى القاهرة، وانضم إليهم قبائل كثيرة من العرب والسودان، حتى إذا دنوا من القاهرة لبسوا جميعا ملابس سوداء ورفعوا رايات سوداء، ونشروا شعور السيدات على أطراف الرماح، وخرج أهل المدينة لاستقبال الجيش الزاحف هاتفين بالثأر من القاتلين.
لم ينتظر نصر ووالده ومن معه حتى يدهمهم عدوهم في عقر دارهم، بل جمعوا ما بقي لديهم من رجال، وحملوا كل ما يملكونه من متاع ومال، ولما جن الليل فروا من القاهرة مهطعين، غير إن عيون بنات الظافر سرعان ما نقلوا خبر فرارهم إليهن، ففكرن في الأمر مليا: هل يتركن الأسير يفلت؟ وهل يدعن الانتقام ممن حرمهن الأخ الصغير والأخوين الكبيرين؟ وأهان عرش الآباء والأجداد؟ أو يكتفين بأن يذهب العدو ويدعهن أحرارا في(800/5)
بلادهن؟ وهل يأمن جانب هذه الأفعى وهو رأس المؤامرات وأساس الفتن والدسائس؟ إنهن لا يأمن جانبه ولا يعرفن قصده ونواياه. ومن يدري ماذا تكون النتيجة ذا ترك حيا، فربما كان في بقائه خطر جديد يهدد الأسرة والعرش.
والآن، لابد من التفكير السريع قبل أن يطير العصفور من القفص، وتفلت الفرصة من اليد. سيهرب نصر ووالده إلى الشام وسيمران بأرض الصليبين في طريقهما، وإذا كان الصليبيون أعداء مصر فلا بأس من الاستعانة بهم في القبض على القاتل الفار؛ ولما كان المر يتطلب سرعة في التنفيذ، أرسلن رسول يثقن فيه كل الثقة، وطلبن منه أن يسابق الريح حتى يصل هدفه قبل أن يفر نصر.
وجد القائد الصليبي لقلعة عسقلان فيما عرض عليه الرسول ما يغريه ليقابل بمقابلة نصر وأبيه، فالقائد مطمئن إلى الظفر والنجاح بما مع الفارين بما مع الفارين غنيمة باردة وبما وعدت بتقديمه أخوات الظافر من المال، فأصدر أمر إلى الجند بالتأهب لمقابلة الفارين. وبينما كان نصر وعباس يمنيان النفس بكبار الآمال ابصرا جند الصليبين يحيطون بجمعهما، فلم يجدا بدا من الدفاع عن أنفسهما في معركة خاسرة، مات فيها عباس وابن له صغير، بينما حرص الجند على إن يظفروا بنصر حيا ليثابوا - كم وعدوا - بأجزل الصلات، فلما سقط في أيديهم وضعوه في قفص من جديد.
الركب سائر إلى القاهرة وقلب نصر قد ملئ بما شغله من الهم، فظل قابعا في قفصه يفكر في ماضيه، ويتخيل الوزير ابن سلار وهو ينقض عليه من غير ذنب جناه، والخليفة الظافر وقد انساب إليه الرجال يغتالونه على مرأى منه وفي داره، وهاهو ذا يفقد أباه وأخاه ويقاد إلى مصير لا شك في قسوته وشدته.
لقد جاءت رسل من القاهرة تتعجل قدومه فأنبأته بأن جثة الخليفة أخرجت من بئر في بيته، وأن طلائع بن رزيك وضعها في تابوت سائر خلفه حافيا حاسر الرأس، وتبعة الأمراء والقادة والشعب حفاة حاسري الرأس، وأن الجميع في انتظار نصر على أحر من الجمر.
كل ذلك وأسير القفص لا ينبس ببنت شفة طول الطريق، حتى إذا أشرف على القاهرة وبدت لعينيه أبوابها الضخمة ومآذنها العالية تنهد وقال:
بلى، نحن كنا أهلها، فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر(800/6)
ومرت برأسه ذكريات مجده القريب، وذكر المواكب التي كان يختال فيها على جواده، تعقد عليه الآمال، وتستعظمه العيون والنفوس، أما اليوم، فها هو ذا يدخل القاهرة مقيدا مغلولا، وما أن لمحه الجمهور حتى هاجت المدينة وماجت كل يريد أن يراه في قفصه الحديد، ولم يدع الشعب إهانة ولا سخرية لم يلحقها بنصر ووالد نصر. أما أخوات الظافر فما كدن يسمعن بقدومه حتى أرسلن يستعجلن حضوره، وقد سمح لهن طلائع أن يفعلن به ما يشفي غليلهن، وكم حزن عندما علمن أن الموت حال بينهن وبين الانتقام من عباس!
لم تستقبل أخوات الظافر نصرا إلا بالأخفاف والقباقيب، حتى إذا تعبن من ضربه وأدمين وجهه وجسمه ورأسه، أرسلن إلى أحد الأطباء، فصلم أذنيه، وجدع أنفه، وأخذت هذه الأشياء فطهيت، وأجبر نصر على أكلها، ثم وضع في قفصه الحديدي، وطيف به في القاهرة لم يترك شارع ولا حارة ولا درب إلا شهد الأصلم الأجدع واشترك في إهانته والسخرية منه، فإذا تم طوافه بالقاهرة أخذ حيا وعلق على باب زويلة، وظل هناك عدة أشهر حتى مل الناس رؤيته، فانزل وأحرقت جثته وذريت في الهواء.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول(800/7)
المصحف المبوب
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
عصرنا هذا عصر تجديد في كل شيء، وكان من الواجب علينا - معشر المسلمين - أن نجعل لطابع هذا العصر أثرا في مصحفنا، لأنه يحوي بين دفتيه أعز شيء عندنا، وهو القرآن الكريم الذي نسعد به في دنيانا وأخرانا، فلا يزال هذا المصحف يظهر بيننا بشكله القديم، لا شيء فيه إلا ما في هامشه من بيان أجزائه الثلاثين وأحزابه الستين وارباعها، وليس في هذا أثر للإخراج العلمي الذي يبذل في عصرنا عند إخراج الكتب البشرية، إذ تلحق بها أشياء كثيرة ترغب في الاطلاع عليها، وتساعد في الاستفادة منها.
ولا شك أن جمودنا بازاء ما يلزم لمصحفنا في عصرنا يخالف كل المخالفة حال سلفنا الصالح بازاء هذا المصحف، فقد كان القرآن الكريم مفرقا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في العسب واللخاف وصدور الرجال، وقد مات وهو على هذه الحال، فلما كانت وقعة اليمامة في خلافة أبي بكر أتاه عمر فقال له: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن. فقال له أبو بكر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر هو والله خير. ولم يزل يراجعه حتى شرح الله صدره لذلك، وأحضرا زيد بن ثابت فقال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن، أجمعه. فتتبعه زيد يجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى جمعه في صحف مكتوبة، ثم أخذها فأعطاها أبو بكر، وقد ائتمروا ما يسمون ذلك؟ فقال بعضهم: سموه السفر، فرد عليه بأن هذا تسمية اليهود، فكرهوه فقال بعضهم: رأيت مثله بالحبشة يسمى (المصحف) فاجتمع رأيهم على أن يسموه (المصحف)، وكان هذا أول تجديد في ترتيب المصحف وتسميته.
ثم اختلف الناس في قراءة القرآن على عهد عثمان، حتى أقتتل الغلمان والمعلمون بالمدينة، وكانوا قد قرءوه بلغاتهم على أتساعها فبلغ ذلك عثمان فجمعهم وقال لهم: عندي تكذبون به وتلحنون فيه! فمن نأى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا، يا أصحاب محمد، اجتمعوا فكتبوا للناس إماماً. فجمعوا أثنى عشر رجلاً من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الصحف التي كتبت في عهد أبي بكر فأتوا بها، وكانت محفوظة في بيت عمر عند ابنته حفصة، فأعادوا كتابتها(800/8)
على لغة قريش وحدها، لأن القرآن نزل أولا بلغتهم، ثم وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فلما حصل ذلك الخلاف رؤي أن الحاجة إلى تلك التوسعة قد زالت فاقتصر في كتابته على لغة واحدة، وكان هذا ثاني تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم فسد اللسان العربي باختلاط العرب مع غيرهم بعد الفتوح الإسلامية، وظهر اللحن والتحريف في الألسنة وفي قراءة القرآن، لأنهم كانوا يكتبون بلا إعجام ولا شكل إلا قليلا، اعتماداً منهم على معرفة المكتوب إليهم باللغة، واكتفائهم بالرمز القليل في قراءة اللفظ، فلما ظهر ذلك الفساد أشفق المسلمون على تحريف ألفاظ القرآن، فوضع أبو الأسود الدؤلي من التابعين علامات في المصحف بصبغ مخالف لما يكتب به، فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة اسلفه، وجعل علامة الضمة نقطة من جهة اليسار، وجعل التنوين نقطتين، وذلك في عهد معاوية، وكان ثالث تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم وضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر نقط الإعجام بنفس المداد الذي كان المصحف يكتب به لتتميز الحروف المتشابه بعضها من بعض، وكانا تلميذين لأبي الأسود الدؤلي، وقد فعلا هذا بأمر الحجاج بن يوسف، وفي عهد عبد الملك بن مروان، وكان هذا رابع تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم اخترع الخليل بن أحمد الشكل المستعمل الآن، لأن نقط الإعجام كانت تشتبه أحيانا بنقط الشكل، وإن كانتا تكتبان بصبغين مختلفين، وكان من الصعب وضياع الزمن كتابتهما بمدادين، فجعل الضمة واوا صغيرة فوق الحرف، وجعل الفتحة ألفا صغيرة، وجعل الكسرة ياء صغيرة، وجعل الشدة راس شين، وجعل السكون رأس خاء، وجعل همزة القطع رأس عين، وقد أتى بعد الخليل من اختزل في هذا الشكل وزاد عليه حتى صار في حاله المعروف الآن، وكان هذا خامس تجديد في ترتيب المصحف وكتابته.
ثم وقفت كتابة المصحف عند هذا الحد، إلا ما حصل من كتابتهم بهامشه بيان أجزائه الثلاثين وأحزابه الستين وارباعها، وهو عمل قليل النفع، ضئيل الفائدة، لا يدعو إليه إلا ما اعتدناه من العناية بالقرآن بالحفظ دون الفهم، فقسمناه إلى تلك أجزاء والأحزاب والأرباع،(800/9)
لتكون لنا منها أوراد نتلوها للتبرك، لا للعظة والاعتبار، لأنه لا يوجد في ذلك التقسيم ما يلفت إلى الفهم في القراءة، ولا تمكن عظة بقراءة من غير فهم.
فيجب أن نعدل عن ذلك التقسيم الذي لا فائدة فيه إلى تبويب السور بهامش المصحف تبويبا يعتمد فيه على الغرض المقصود من كل سورة، فيقسم إلى أقسام مرتبة متميزة، تلفت القارئ إلى ما ينطوي تحتها من المعاني، وتوجهه في قراءته إلى ما تشير إليه من المقاصد، لتكون قراءته نافعة مفيدة مؤدية إلى ما أنزل القرآن لأجله، وهو الهداية.
وسيكون هذا تجديدا عظيما في ترتيب المصحف وكتابته، تظهر به سورة متسقة المعاني، منتظمة المباني، فلا يظن ظان أنه ينقصها شيء من اتساق معانيها وانتظام مبانيها، وقد وقع في هذا الظن الآثم بعض المستشرقين، لأنه لم يجد أمامه مثل هذا المصحف الذي تبوب سوره بهامشه ذلك التبويب، وتقسم فيه إلى تلك الأقسام المرتبة المتميزة، ولو انه وجده لم يقع في ذلك الظن، ولعرف إن سور القرآن متسقة المعاني منتظمة المباني على خلاف ما ظن، ولقد مهدت لهذا المصحف بكتابي (النظم الفني في القرآن)، وسيظهر قريبا هذا الكتاب، ولعلنا نرى قريبا بعده هذا المصحف المبوب.
عبد المتعال الصعيدي(800/10)
طرائف من العصر المملوكي:
الزجل والزجالون
للأستاذ محمود رزق سليم
أطلق الزجل على الشعراء العامي الذي اختلفت قوافيه، وتنوعت أوزانه في القصيدة الواحدة، وأهملت حركات إعرابه، وروعيت فيه العامية في بيانها ومسالك حديثها، وما يغشيها من لحن وتحريف وقلب ودخيل، وأمثال سوقية، إلى غير ذلك.
وقد كانت الموشحات الفصيحة بما أتيح لها من حرية في الوزن والقافية، مرحلة انتقال بين الشعر الفصيح والعامي: غير أن السبب الأصيل الذي هيأ السبيل لظهور الشعر العامي هو فساد ألسنة العوام وانحرافها في تخاطبها من الفصيحة إلى العامية.
والشعر العامي له أهميته وخطره، وبخاصة بعد أن سلخ من عمره سنين، ونضج في معظم العصور نضجا مرموقا. فإذا جاز لنا أن نقول أن الشعر الفصيح يمثل الأمة خير تمثيل، فإنه يمثل خاصتها تمثيلا أدق. أما العامة، ولا سيما بعد فساد لسانها وتأبيه على الفصيحة، فإن الشعر العامي أصبح يمثلها إلى حد بعيد. إذ هو منظوم بلغتها، محكي بأساليبها في تأدية المعاني، محتو على كثير من تصوراتها وأخيلتها وطرق تفكيرها ومظاهر شعورها. فهو لذلك بحاجة إلى العناية بنتاجه ودراسة هذا النتاج. واعتقادنا أن هذه العناية تفيد الفصحى ولا تضرها، فضلاً عما تضفيه على التاريخ والأدب من معونة، تلقى - على الأقل - ضوءا على مدى تحول العامية بين عصر وعصر.
والقصيدة الزجلية تسمى (حملا) تشبيها لها بحمل الداية، لانقسام شطورها - غالباً - إلى قسمين، وينقسم الحمل إلى عدة مقطوعات تحتوي كل مقطوعة منها على عدة أبيات، وتسمى المقطوعة (دورا) أما المقطوعة الافتتاحية فتتألف عادة من بيتين، وتسمى (مذهبا)، ويلتزم شيئاً من قوافيها - غالباً - في الأبيات الأخيرة من كل دور. وعرفت القصيدة الزجلية أيضا في مصر باسم (البليقة) وجمعها (بلاليق) وربما كانت تطلق على الموشحات القصيرة.
وتعددت أوزان الزجل وتنوعت قوافيه، حتى قيل في بلاد الأندلس: (إن من لا يعرف ألف وزن ليس بزجال). وقد ذاعت منه أنواع، عرفت في مصر الشام وغيرهما. ومنها:(800/11)
الدوبيت، والقومة، وكان وكان، والمواليا. وتعتبر هذه الفنون الثلاثة الأخيرة - عند البعض - مستقلة عن الزجل. ومهما يكن من شيء، فإنها جميعا تجمعها صفة العامة، ومغايرة الشعر الفصيح.
وقد برز الزجل - على ما رواه ابن خلدون - في بلاد الأندلس أولا، على عهد الأمويين ملوك قرطبة، وذلك بعد فساد اللسنة وظهور الموشحات، والتحلل من قيود الوزن والقافية. ونفقت سوقه في دول البربر لمكان أمرائها من العجمة، وقرب فهمتهم للعامية. واشتهر في إحدى دولهم وهي دولة الملثمين، إمام الزجالين (أبو بكر بن قزمان).
وقد سرت عدوى الزجل من المغرب إلى بلاد المشرق، ومنها مصر، فلقي بها رواجاً عظيماً، فتعددت أنواعه وأغراضه وذاع خاصة في العهد المملوكي وأقبل السلاطين والأمراء والناس على سماعه وإنشاده؛ وذلك للعجمة أو الاستعجام واستبداد العامية بالألسنة وضعف الثقافة الأدبية بعامة. وبذلك عبد السبيل أمام أهل الزجل، فنشطوا نشاطا ملحوظا، واحتفلوا بفنهم، وشاركوا الشعراء في كل ميدان تقريبا، وزاحموهم في أخص أغراضهم الشعرية بل شأوهم في بعضها، وأربوا عليهم، وسجلوا من الحوادث من الشعور ما لم يبده أو يسجله شاعر.
طرق الزجالون إذا أبواباً شعرية عدة، فنظموا الغزل البديع والخمريات الصافية، والنقد المر اللاذع، ووصفوا مناظر الطبيعة وسجلوا الحوادث العامة، والحروب الناشبة، وحمسوا ورثوا، ووقفوا على أعقاب المدن الزائلة، والأحياء الدارسة، والدول الذاهبة، فدونوا أحداثها وذرفوا الدموع على أحداثها، واستخرجوا دور الحكمة من ثناياها، هذا إلى مجون صريح، وتفكه مليح، إلى غير ذلك.
لا بدع حينذاك أن يحتفي الناس بهم ويحتفلوا بنظمهم، وأن تتقدم منازلهم عند الرؤساء والعامة. وللعامة إقبال على كل ما يمس مشاعرها، ويترجم عن خواطرها، من الأغاني والأناشيد ونحوها.
وقد روي أن النيل في عام 922هـ بلغ حد الوفاء في فيضانه، قبل شهر مسرى، على غير عادته منذ زمن طويل، فكان هذا مثار الاستبشار ومبعث الابتهاج والفرح، فنظم بعضهم أغنية بهذه المناسبة مطلعها:(800/12)
يا حبيب اهنا وطيب ... النيل أوفى من أبيب
وقد بقينا في هنا ... يا فرحنا
وعكس ذلك وقع في عام 709هـ، فقد شح النيل وتمنع عن الوفاء، وكان السلطان الناصر بن قلاوون - وكان بعه عرج - قد عزل نفسه عن السلطنة، فوثب إليها الأمير (ركن الدين بيبرس الجاشنكير) وكانت العامة تلقبه (بالركين) وكان نائب سلطنته هو الأمير سلار، وأصله من التتار، وكان أجرد تغشي فاه بعض شعرات، فشاع بين العامة زجل تفكهوا به عليهما، وضمنوه عواطفهم نحوهما ونحو سلطانهم المعزول، قالوا:
سلطاننا ركين ونائبو دقين ... يجينا الماء مين
هاتوا لنا الأعرج ... يجيء الماء يدحرج
وقد غشيت الزجليات لوثات البديع، ولحقت بها علاقاته، ما بين توريات لطيفة وتلميحات طريفة، إلى تضمين وجناس وطباق ونحو ذلك. ونحن هنا نأسف أشد الأسف لعدم معرفتنا الفنية برسم الأزجال المأثورة، وعدم علمنا بلهجات نطقها، وهذا من شأنه أن يضع صعوبات جمة في سبيل فهمنا الحق لكافة معاني الزجلية، وإدراكنا التام لجميع صورها. وكأني بابن حجة قد شعر سلفاً بهذه الصعوبات فنوه بها فقال (الزجل فن فمن يتمكن الناظم فيه من المعاني، لجولانه في ميادين الأغصان والخرجات، وهو لايحسن رسمه في الكتابة إلا من عرف اصطلاحه، وقد روى زجلا فريدا لعلي بن مقاتل، يتغزل في شاب مليح خياط. ومطلعه: (نهوى خياط سبحان تبارك من الجمال جملوا) ثم قال معقبا بعد روايته (كأني بمتأمل نظر في رسم كتابة هذا الزجل، فأنكره، لبعده عن رسم الألفاظ المعربة الخالية من اللحن، ويعذر في دلك لأنه ليس له إلمام بمصطلح رسمه. ومن رسمه على غير هذا الطريق لم ينفذ له مرسوم، فإنه يؤديه إلى خطأ وزنه وإعراب لجنه. ومصنفه أبو بكر بن يحيى بن قزمان الوزير. قال في خطبته: وقد جردته من الإعراب، تجريد السيف من القراب، ولم يطلب من الزجل غير عذوبة ألفاظه وغرابة معانيه).
هذا وقد أورد ابن خلدون في أحد فصول مقدمته نماذج من الزجل، كثير منها من نظم زجالي مصر والشام في العصر المملوكي ولم ينسبه لقائله. ويفهم من حديثه أن الزجال كان يقال له (شاعر) ونقول إنه كان يطلق عليه (القيم) أيضاً. وبهذه المناسبة نذكر أن بعض(800/13)
كبار الشعراء في العصر المملوكي مثل محي الدين بن عبد الظاهر، وابن الوردي، وابن حجة الحموي، نظموا أزجالا، وكذلك قرض كثير من الزجالين الشعر. ومما رواه ابن خلدون قول بعضهم في الشكوى الغزلية وهو من المواليا:
يا من وصالو لأطفال المحبة بح ... كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو والتصبر بح ... كل الورى كخ في عيني وشخصك دح
هذا ونذكر إن ابن آياس الحنفي المؤرخ الكبير صاحب كتاب (بدائع الزهور) سجل لنفسه في كتابه أزجالا عدة كل منها بمناسبته، ومنها ما نظمه يصف فيه جور السلطان الغوري حينما أرغم القاضي شهاب الدين أحمد بن يوسف، على أن يعطيه قطع الرخام المثمن التي تزدان بها قاعة أبيه المسماة (نصف الدنيا) ليجمل بها قاعته البيسرية. فقال ابن إياس موريا:
سلطاننا الغوري قد جار ... والصبر منا قد أعيا
وصار في ذا الجور عمال ... حتى خرب نصف الدنيا
ولزين الدين العجمي مواليا يصف فيها ارتياعه وقت البين، رواه ابن الحجة في كتابه (كشف اللثام). قال:
شدوا المحامل فصرت ساعة التحميل ... ملهوف لا حمل يعنيني ولا تحميل
والعين قد حلفت يا بدر في التكميل ... لا تكتحل بالكرى إن غبث عنها ميل
وترجم السخاوي في الضوء لمجذوب يدعى (أحمد حطيبة) توفي بدمياط عام 808هـ، ويبدو أنه كان أديبا عاشقا، وقد جن غيرة. ومن زجله في المعنى:
سري فضحته وأنتم سركم صنت ... فقصدي رضاكم وأنتم تطلبون العنت
ذليت من بعد عزي في هواكم هنت ... يا ليت الخلق لا كنتم ولا أنا كنت
ومن الشعراء الزجالين: صدر الدين بن المرحل، وهو محمد بن عمر، ويعرف في الشام بابن الوكيل. عاش بين سنتي 665هـ، 716هـ، وقد توفي في القاهرة. كان من فقهاء الشافعية ذكيا عجيب الحافظة مجادلا كثير الإطلاع شارك في علوم كثيرة، واشتغل بالتدريس في قبة الشافعي والمسجد الحسيني وغيرهما. ونظم الشعر الرقيق والموشحات الرائعة والأزجال العامرة. واعتبره ابن إياس شاعر عصره، وعده من الفحول، وطرق(800/14)
أغراضاً شعرية كثيرة، وترجم له السبكي في طبقاته، وابن شاكر في فواته، وابن حجر في الدار، ولم يرووا شيئاً من زجلياته، على الرغم من شهرته، على الرغم من شهرته بالزجل والبلاليق، فإليك شيئاً من شعره، قال من خمرية.
لتذهبوا في ملامي إنهم ذهبوا ... في الخمر لا فضة تبقى ولا ذهب
والمال أجمل وجه فيه تنفقه ... وجه جميل وراح في الدجى لهب
لا تأسفن على مال تمزقه ... أيدي سقاة الطلا والخرد العرب
وتغزل في مليح فقال:
تلك المعاطف أم غصون ألبان ... لعبت ذوائبها على الكثبان
وتضجرت تلك الخدود فوردها ... قد شق قلب شقائق النعمان
ما يفعل الموت المبرح في الورى ... ما تفعل الإحداق في الأبدان
ويبدو أن صفي الدين الحلي تأثر بألفاظ هذه الأبيات، في قصيدته البارعة التي مطلعها:
خلع الربيع على غصون ألبان ... حللا فواضلها على الكثبان
ومن أشهر زجالي العصر المملوكي قيم الزجل الكبير (خلف الغباري) الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري، وتوفي في أوائل القرن التاسع في عهد السلطنة الثانية للناصر فرج بن برقوق. وكان حاذقا في صناعة الزجل، أدخل إليها خصوصيات الشعر وسماته في التصوير والتعبير، وولج بها أبوابه وفنونه، فتغزل ووصف ومدح وهنأ ورثى وسجل الحوادث، إلى غير ذلك. وحسنت صلته ببني قلاوون وبخاصة الأشرف شعبان، ثم بالظاهر برقوق، وهو طويل الباع مديد النفس، تبلغ زجلياته أحياناً ثمانين بيتاً أو تزيد.
وفي مطلع غزلية يقول، وفيه توريات لطيفة:
جاز حبيبي فقلت دا الحجاج ... حا يجور أو يزيد
لو عدل عشت بو مسرور ... ويكون الرشيد
وعندما اعتلى الأشرف شعبان حفيد الناصر بن قلاوون سلطنة مصر عام 714هـ هنأه الغباري بقصيدة زجلية منها:
حب قلبي شعبان موفق رشيد ... وجمالو أشرق ومالو حدود(800/15)
وأبوه الحسن وعمه الحسن ... وارث الملك من جدود لجدود
سل لحظك صارم لقتل العدى ... وأنت منصور طول المدى والسنين
زعق السعد بين يديك شاويش ... فرح القلب بعد ما كان حزين
ونصب لك كرسي على مملكة ... وظهر لك نصره بفتحو المبين
والعصايب من حولك اشتالت ... خفقت في الركوب عليك بنود
فاحكم احكم في مصرنا سلطان ... فجميع الملاح لحسنك جنود
ولما قتل الأشرف المذكور رثاه الغباري رثاء حارا طويلا بقصيدة لا نبالغ إذا قلنا بليغة، ومن أبياتها قوله في أحد أدوارها:
ضم الأشرف قبر يا ليت شعري ... هو لقنديل نور ضياء جامع
أو صدف فيه خالص الجوهر ... أو ذلك فيه غاب قمر طالع
أو نقول غاب فيه أسد ضاري ... أو حفير جواه حسام قاطع
أو كناس فيه أحسن الغزلان ... أو حمى فيه أفرس الفرسان
أو جسد فيه روح من الأرواح ... أو سواد مقلة وفيه إنسان
ونلاحظ في زجليات الغباري أن (المذهب) وهو مطلع الزجلية ينظمه في موضوعها، فليس تقديما ولا غرضا إضافيا وهو عادة يجمع خلاصة وجيزة لتفاصيل القصيدة. وقد هنا برقوق مرة، أيام أن كان أتابكيا أي قائدا للجند، وقبل اعتلائه السلطنة، بقصيدة وصف فيها انتصاره على عدوه الأمير (بركة) فسجل بذلك موقعتهما. وذلك عام 871هـ. وفي نفس العام اعتدى عرب البحيرة على مدينة دمنهور فسلبوا ونهبوا، فهب لهم الأمراء والجند من القاهرة وأثخنوا فيهم وأسروا منهم، فسجل الغباري هذه الحادثة في حمل وصفي بديع، وفصل دقائقها وخوافيها في نحو 72 بيتاً لا تجد لها ضريبا في بابها بين الشعر الفصيح وأولها:
باسم رب السما ابتدى ... فارج الهم والكرب
ويفيد للذي حضر ... قصة الترك والعرب
(راجع الزجليتين في ابن إياس ج1 ص247، 252)
ومن أئمة الزجل علاء الدين علي بن مقاتل الحموي الذي أشرنا إليه فيما سبق، وهو من(800/16)
أدباء القرن الثامن ولد بحماة عام 674هـ، وعاصر ابن نباتة والصفي الحلي، وكان يفد على الملك المؤيد صاحب حماة كما كانا يفدان، وأنشد بحضرته وهما بين يديه غزلية فريدة ثلاثية الأدوار أعجبوا بها أيما إعجاب جانس في البيت الأخير من كل دور من أدوارها بين ضربه وعروضه فضلا عن الدقائق الأسلوبية التصويرية التي راعاها. وهذا دأبه في غزلياته وقد أثبت ابن حجة في خزانته الغزلية المذكورة. وفي مطلعها يقول:
قلبي يحب تياه ... ليس يعشق إلا إياه
فاز من وقف وحياه ... يرصد على محياه
بدر السما لو يطبع ... من رام وصالو يعطب
صغير بحير في أمرو ... غزال قهر بسمرو
ليث الهوى ونمرو ... فاعجب لصغر عمرو
ريم ابن عشر وأربع ... أردى الأسود وأرعب
واشتهر بفن الزجل في أخريات العصر، ومنذ عهد الأشرف قايتباي، الأديب اللبق البارع (بدر الدين الزيتوني) وهو أبو النجاء محمد بن محمد العوفي. ولد عام 831هـ وتوفي عام 924هت بعد أن شهد عهد الغوري، وعاصر مصرعه. وقد سجل في زجلية رحلة السلطان قايتباي إلى الديار الشامية عام 882هـ، وذلك على نمط فريد مفصل بدقائق الحوادث ومذهبها:
سلطاننا الأشرف خرج في أربعين ... من العساكر حين سافر حماه
ومن حلب عدا يروم الفرات ... فاسقي الخيول من ماه وربه حماه
وسجل حوادث الطاعون الجارف الذي أصاب البلاد عام 897هـ ورثى في تسجيله أهل مصر رثاء بليغا مليئا بالحكمة. وعلى هذا الغرار رثى قايتباي مشيرا إلى بعض وقائع عصره. وفي 922هـ وقعت فاجعة (مرج دابق) المشئومة. فهزت كيان مصر، واضطربت بها قفارها، وفزعت لها أعماقها، وقد قتل في هذه الموقعة سلطانها الشهيد الأشرف الغوري، وفتحت السبل أمام الغزو العثماني البغيض. يصور لك بدر الدين الزيتوني هذه الخواطر والمخاطر في زجلية عصماء تبلغ نحو 120 بيتا يرثي بها دولة الغوري وليس لها ضريب في الشعر الفصيح، ونلاحظ أن هذا الأديب كان يعنى بذكر(800/17)
اسمه وشيء عن نفسه في كل زجلية ينظمها.
وعلى نمط منه شب ابنه بدر الدين محمد، وقد رثى أباه بزجل أغر، عدد فيه مناقبه، وذكر محامده.
ومن الزجالين: الشاعر الحسن بن هبة الله الإدفوي ذكره صاحب الطالع السعيدو وتوفي بقوص عام 720هـ ومنهم شرف الدين بن أسد المصري، الخليع الماجن المتوفى عام 738هـ، وله زجلية ماجنة تفكه فيها بشهر الصيام ونوه به صاحب الفوات. ومنهم إبراهيم الشاعر الأمي، وله أزجال بارعة، توفي عام 871هـ ويضيق المقام دون ذكر أخبارهم وأشعارهم، فحسبنا ما روينا.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(800/18)
حب المنطق
للأستاذ ثروت أباضة
بعد أن ظهر مقالي بالرسالة يحمل هذا العنوان، جمعتني بالرفاق ندوة جرى فيها حديثهم حوله. قال أحدهم:
- عرضت لنا في هذا الأسبوع شخصية غريبة لم نر لها مثيلا في المجتمع! وقد عرض صديقك آراء عجيبة من الحب وأطلقها في جرأة تدفعها ثروة الشباب، وإن حاول هو أن يكسوها وقار الشيوخ.
قلت: لا تنس أني لم أعلن موافقتي على رأيه. . وأنا عرضته متخففا من تبعته.
- يزعم صديقك.
- لا تناقشني. . فأنا معه على موعد هنا.
وحان الموعد، وجاء الصديق، وعرفوه وعرفهم، وطمأن بنا المجلس، ولكن لم يكد يطمئن حتى التفت إلي الصديق يكسو وجهه عتب وغيظ وقال:
- ماذا؟ أأصبحت تؤثر قلمك على صداقتك؟ قلبي أأفتحه لك وأنا ضنين بما يحوي، وأنت تعلم، فلا تعف بك الأمانة عن إظهاره للناس جميعا. ثم لا تكتفي بذلك، بل تعرفني بأصدقائك، وتخبرهم أني صاحب ما قرءوه من الآراء! هل أصبحت الأسرار. . .
- هون عليك. إن الجالسين أصدقاء قدماء، لم تواتني الفرصة لأعرفهم بك. ولكنني عقدة الصداقة بينكم منذ أن عرفتهم؛ فسرك عندهم في أمان. أما أنني أعرض قلبك، فو الله ما قصدت إلى ذلك، وإنما هي آراء جديدة لم أسمعها، ولابد لها أن تسمع، ولا أحد من القراء يعرفك.
هدأ صديقي بعض الشيء. وكاد أن يجري الحديث إلى غير ما كانوا آخذين فيه، لولا أن تشجع أحد الأصدقاء وعاد إليه يقول
- الآن وقد أوضح لك صديقك مكاننا منه ومكانك منا. فهل لنا أن نسألك بعض الإيضاح لآرائك. . . قلت إن العقل عاطفة يتحكم بها القلب فهل تعني أن القلب إذا أحب يذهب إليه العقل قائلا: لا؟ إن هذه لا تنفعك. . إن تلك التي اخترتها لا تصلح لك، إنها ليست من طبقتك فيطيع القلب ويسلم القياد، وينحرف عما اندفع إليه وسيبحث عن غيرها؟؟ إذن لا(800/19)
تعترف أنت بما تراه من كوارث الحب، ثم إن هذا القلب الهادئ المستكين كيف تجسر فترميه بأنه أحب؟؟ أيحب ويقبل النصيحة؟؟
قال الصديق: إن العاطفة الجياشة القوية التي يزخر بها القلب المحب هي التي تنشأ عن معرفته بالحبيبة ودراسته لها، فلا يمكن أن أصدق إنسانا وقع في الحب منذ النظرة الأولى، لأن الجمال وحده في هذا النوع من الحب سيكون العماد. ولو كان الأمر كذلك لأحببنا كل الجميلات اللائى يمررن بنا في الشوارع، ولتدلهنا في ممثلات الشاشة. الحب وليد خبرة ومعرفة ودراسة. والخبرة والمعرفة والدراسة أمور يختص بها العقل وحده. والعقل يتدخل أيضا ليعرف إذا كان صاحبه محبوبا أم لا. وعلى هذا الهدى يتجه القلب.
قال صديق آخر: لعلك محق فيما ذهبت إليه، ولو أن الواقع لا يؤيدك.
- إن الواقع لا يؤيد هذا لأن الفكرة السائدة عند القوم إن الحب لا يكون إلا من النظرة الأولى. وذلك ما يجرهم إلى هذا الحب. إنهم يعتقدون أنهم أحبوا وهم في الواقع براء من الحب
- حسن. . ولكن ما مسألة حب المنطق هذه؟ أأن بعدت الحبيبة أحسست بالشوق ليها في عقلك؟ كيف يتهيأ للعقل أن يحب؟
- إنني لم أقل هذا. ويظهر إنك لم تحسن قراءة المقال.
بل إنني أرى أنه لا شيء في الإنسان يحب غير قلبه. ولكن كيف يبدأ هذا الحب؟ بالقلب وحده؟ أم أن العقل يتدخل في هذا الأمر؟ إنني أرى أن العقل والإرادة يتدخلان، حتى إذا تم الحب، فإنهما يبتعدان كل البعد ولا أرى لهما في الأمر بعد هذا. بل إت المحب إذا أحب يفكر بقلبه. . وبقلبه وحده، ولهذا يخشى عليه إذا كان لم يحسن الاختيار في بادئ الأمر. هذا ما قصدت إليه. لعلك فهمت. فإن لم تكن فأنت مثل صديقك هذا لا تريد أن تفهم
وأشار إلي مغيظا، فقد خيل إليه أنني أنا الذي دبرت له كل هذا الهجوم. ولكنه رأى اقتناع الجالسين فارتاح إلى ذلك، والتفت إلي ساخرا
- وماذا تنتظر؟ قم إلى ورقك وقلمك. وسجل الحديث قبل أن يند منه حرف أو كلمة.
وهاأنذا أصدع بأمره. فما عودته إلا الطواعية والامتثال.
ثروت أباظة(800/20)
مرصد مراغة ومكتبتها اللذان شيدهما نصير الدين
الطوسي في بداية العصر المغولي
(صور لدنيا العرب والإسلام في ذلك العهد الرهيب)
للأستاذ ضياء الدخيلي
(بقية ما نشرناه في العدد الماضي)
ويتفق المؤرخون على أن الطوسي كان قد شيد في مراغة حياة علمية خصبة بالإنتاج وشجع الفلاسفة والحكماء وكفل لهم أرزاقهم؛ وكان يتعصب للفيلسوف ابن سينا ويرد عنه هجمات خصومه: قال الصفدي: وشرح الطوسي إشارات ابن سينا ورد في شرحه على الإمام فخر الدين الرازي وما قاله في شرحه القديم وقد قال هذا به جرح، وما هو بشرح.
وقال عن شرحه أنه ألفه في عشرين سنة وناقض فخر الدين كثيرا.
وقال المؤرخ الفقيه أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ في كتابه شذرات الذهب الجزء الخامس: وفي سنة 672هـ توفي أبو عبد الله نصير الدين محمد بن حسن وكان رأسا في علم الأوائل ذا منزلة من هولاكو. وقال العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان) ما لفظه: لما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والإلحاد وزير الملاحده النصير الطوسي وزير هولاكو شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينهم فعرضهم على السيف حتى شفى إخوانه من الملاحدة واشتفى هو فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصته وأولياءه ونصر في كتبه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب جل جلاله من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره واتخذ للملاحدة مدارس ورام جعل (إشارات) إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك، فقال هي قرآن الخواص وذلك قرآن العوام ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين. فلم يتم له الأمر. وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحرا يعبد الأصنام انتهى بلفظه.
وهذا تحامل غريب سنعرض عليك بعده إعجاب مفكري الغرب وكبار علمائه بالطوسي وما(800/22)
تركته كتبه من انقلاب فكري وأثر بعيد في الحضارة الأوربية الحديثة؛ وكلمة هذا المتعصب تريك عقلية أولئك الذين كانوا يقاومون الفلسفة ويضطهدون الفلاسفة؛ فإذا كان الشيخ ابن سينا إمام الملحدين فعلى الإسلام السلام.
والذي ينقله المؤرخون عن الطوسي أنه كان بارا بالعلماء والفقهاء هذا العزاوي يقول في كتابه ص274 (في سنة 672هـ (1273م) وصل السلطان أبا قاخان (ابن هولاكو وخليفته في السلطان) إلى بغداد وفي خدمته الأمراء والعساكر والخواجه نصير الدين الطوسي وعبر دجلة وتصيد وعاد إلى بغداد، فلما انقضى الشتاء عاد إلى مقر ملكه.
وأما الخواجه نصير الدين الطوسي فإنه أقام ببغداد وتصفح أحوال الوقوف أورد أخبار الفقهاء والمدرسين والصوفية وأطلق المشاهرات وقرر القواعد في الوقف وأصلحها بعد اختلالها.
وقال ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات والصفدي في الوافي نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب علم الرياضي كان راسا في علم الأوائل ولا سيما في الأرصاد والمجسطي فإنه فاق الكبار وكان ذا حرمة وافية ومنزلة عظيمة عند هولاكو وكان يطيعه فيما يشير به عليه والأموال في تصريفه وكان حسن الصورة كريما حسن العشرة غزير الفضل.
وولاه هولاكو جميع الأوقاف في سائر بلاده. وكان له في كل بلد نائب يستغل الأوقاف ويأخذ عشرها ويحمله إليه ليصرفه في جامكيات (مرتبات) المقيمين بالرصد وما يحتاج إليه من الأعمال بسبب الأرصاد.
وكان للمسلمين به نفع وخصوصا الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم. وكان يبرهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم. وكان مع هذا كله فيه تواضع وحسن ملتقى.
وقد كان منجما لأبغا (أبا قاخان بن هولاكو وقد ولى السلطان بعد أبيه) بعد والده. وكان يعمل الوزارة لهولاكو من غير أن يدخل يده في الأموال احتوى على عقله حتى إنه لا يركب ولا يسافر إلا في وقت يأمره به أفلا يكفي هذا شاهدا.
وكان هولاكو شديد الاعتقاد بعلم النجوم فكان هذا مدخلا للطوسي ليستولي على فكره وطبعا ليس الفضل في نجاحه في السيطرة عليه وصواب ما يشير به عليه في استشارات هولاكو(800/23)
له كان لعلم التنجيم الخرافي الطافح بالخزعبلات.
وإنما كان الأثر لدهاء الطوسي وبعد نظره وإن ظن هولاكو المغولي جهلا أن إصابة الطوسي للأهداف مرجعه علم التنجيم. وقد استغل الطوسي هذا النفوذ وتلك الهيمنة على ذلك السفاح في إغاثة الناس وحمايتهم من شرور هذا الجلاد المغولي الظالم ذ يحدثنا المؤرخون أنه خلص ابن الغوطي من أيدي التتار ونقل العزاوي أنه عندما أراد هولاكو الاستيلاء على داخل المدينة ببغداد أمر الخواجه نصير الدين أن يقف عند باب الحلبة ويؤمن الناس للخروج من هذا الباب. فأخذ الناس يخرجون جماعات كثيرة.
وقال أيضا وفي سنة 651هـ وصل التتار إلى بلده تون ثم استولوا على بلدة شهرستان وتوجهوا نحو طوس ففتحوها وتوجهوا إلى دامغان وخربوا (الموت) عاصمة الإسماعيلية. وفي هذه الأثناء لازم الخواجه نصير الدين الطوسي هولاكو خان. وكان في خدمة علاء الدين محمد بن الحسيني الإسماعيلي فحظي عنده وأنعم عليه فعمل الرصد بمراغة ثم توجه نحو خورشاه ملك الإسماعيلية للاستيلاء على قلاعه وبلاده.
وكان من محاسن الصدف - كذا قال الخواجه رشيد الدين - مرافقه نصير الدين الطوسي لهولاكو في هذه الحملة وكان هو السبب في حقن الدماء وتسليم البلاد لهولاكو لأن الناس كانوا لا يستطيعون الحوب معه فسعى في مسالمة وخذ ينصح خور شاه بطاعة هولاكو والانقياد له فقبل خورشاه النصيحة.
وكان يتماهل في إظهار الطاعة إلى أن حاصروه من جميع الجهات حتى اضطروه إلى التسليم وقتل فافتتحت بلاد الملاحدة.
فترى من هنا بداية اتصال الطوسي بهولاكو.
قال ابن الغوطي في الحوادث الجامعة (ص313) ثم أرسل السلطان إلى متولي (قلعة الموت) يعرفه نزول ركن الدين إليه ويأمره بالتسليم فأبى وامتنع فسير إليه الجيوش فأحاطوا به وحاصروه وضيقوا عليه فسأل الأمان فأجيب فسلم القلعة فهدمت.
ولما فتحت قلعة الموت خرج الإمام العلامة نصير الدين محمد الطوسي. وكان في خدمة علاء الدين محمد بن الحسن الإسماعيلي وحضر بين يدي السلطان فحظي عنده وأنعم عليه فعمل الرصد بمراغة.(800/24)
ونقل في روضات الجنات عن صاحب (صحيفة الصفاء في ذكر أهل الاجتباء والاصطفاء) أن الطوسي كان من حملة عرش التحقيق في الفلسفة والرياضي والكلام.
وكان محبوساً في حصن الديلم بأمر خورشيد شاه القرمطي فلما غلبت الترك عليه وقتلوه وأخذوا حصن الديلم أطلقوا الفيلسوف الإلاهي من الحبس وأكرموه لعلمه بالنجوم وكان في عداد وزرائهم وقصته مع ابن الحاجب مجعولة لبعد بعيد بين زمانيهما
والحق أن الطوسي قد خدم الحضارة الإسلامية خدمات جلى كان منها استنقاذه الكتب العربية وحفظها للأجيال وأبقى قبساً من نتاج العلماء المسلمين في فجر النهضة الإسلامية فجعلها متصلة الحلقات موصولة الأسباب.
ولنذكر ناحية ثانية استنقذت بها كتب بغداد عند دخول التتار وقتلها وقد لوح إليها ابن الغوطي إذ قال ص331 قيل إن عدة القتلى ببغداد زادت عن ثمانمائة ألف نفس عدا من ألقي من الأطفال في الوحول ومن هلك في القني والآبار وسراديب الموتى جوعا وخوفا ووقع الوباء فيمن تخاف بعد القتل من شم روائح القتلى وشرب الماء الممتزج بالجيف. وكان الناس يكثرون شم البصل لقوة الجيفة وكثرة الذباب فإنه ملأ الفضاء. وكان يسقط على المطعومات فيفسدها. وكان أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة وصغر المطعم وغيره من الأثاث بأوهى قيمة فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير.
قال ووضع السيف في أهل بغداد ومازالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب للناس بأنواع العذاب واستخراج الأموال منهم باليم العقاب مدة أربعين يوما فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال فلم يبق من أهل البلد ومن التجأ إليهم من أهل السواد إلا القليل.
قال وسلمت دار ابن العلقمي وسلم بها خلق كثير وسلمت دور آخرين كدار صاحب الديوان ودار حاجب الباب ودور النصارى وما عدا هذه الأماكن فإنه لم يسلم فيها أحد إلا من كان في الآبار والقنوات وأحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد. وكانت القتلى في الدروب والأسواق ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول فاستحالت صورهم وصاروا عبرة لمن يرى؛ ثم نودي بالأمان فخرج من تخلف وقد تغيري ألوانهم وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يعبر عنها بلسان وهم كالموتى إذا(800/25)
خرجوا من القبور يوم النشور من الخوف والجوع والبرد.
وأما أهل الحلة والكوفة فإنهم انتزحوا إلى البطائح بأولادهم وما قدروا عليه من أموالهم وحضر أكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين بن طاوس العلوي إلى السلطان وسألوه حقن دمائهم فأجاب سؤالهم.
وفي هذه المجازر كان موقف الطوسي حرجا حتى كاد مرة أن يبطش به هولاكو. وكان يستعمل الحيلة ويبتكر الأساليب لتخليص الناس من بطش هولاكو.
قال ابن شاكر في فوات الوفيات والصفدي في الوافي بالوفيات دهاء الطوسي ما حكى أن حصل لهولاكو غضب على علاء الدين الجويني صاحب الديوان فأمر بقتله فجاء أخوه إلى النصير وذكر له ذلك فقال النصير هذا الخان أن أمر بأمر لا يمكن رده خصوصا إذا برز إلى الخارج. فقال له لا بد من حيلة في ذلك فتوجه الطوسي إلى هولاكو وبيده عكاز وسبحة ثم اصطرلاب وخلفه من يحمل مبخرة وبخوراً وناراً فرآه خاصة هولاكو الذين على باب المخيم، فلما وصل أخذ يزيد في البخور ويرفع الاصطرلاب ناظراً فيه ويضعه فلما رأوه يفعل ذلك دخلوا على هولاكو وأعلموه، ثم خرجوا إليه فقال لهم الخان أين هو؟ قالوا جوا (أي داخل المخيم) قال طيب معافى موجود في صحة؟ قالوا نعم، فسجد شكرا لله تعالى، ثم قال لهم طيب في نفسه؟ قالوا نعم، وكرر ذلك مرارا وقال أريد وجهه بعيني، فدخلوا فأعلموه، وكان في وقت لا يجتمع به أحد فقال علي به؛ فلما دخل ورآه سجد وأطال السجود فقال له ما خبرك؟ قال اقتضى الطالع في هذا الوقت أن يكون على الخان أمر فظيع عظيم للغاية فقمت وعملت وبخرت بهذا البخور ودعوت بأدعية أعرفها أسأل الله تعالى صرف ذلك عن الخان. وينبغي الآن أن يكتب الخان إلى سائر ممالكه بإطلاق من في الاعتقال والعفو عمن له جناية لعل الله عز وجل يصرف هذا الحادث العظيم ولو لم أر وجه الخان ما صدقت، فأمر في تلك الساعة هولاكو بما قال، وانطلق علاء الدين صاحب الديوان في جملة من الناس. قال ابن شاكر وهذا غاية في الدهاء بلغ مقصده ودفع عن الناس أذاهم. وبعد فإنك واجد الطوسي كان يسير هولاكو إلى العفو عن المسلمين من طريق علم التنجيم وقد استغل إيمانه بخرافات المنجمين وأكاذيبهم - في بناء مرصد مراغة ومكتبتها العظيمتين اللذين خدما الثقافة الإسلامية خدمات عظمى وتقدما بعلم الفلك والهيئة،(800/26)
ولنسمع الأستاذ قدري حافظ طوقان يحدثنا عن الطوسي ومرصد مراغة في كتابه (تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك وهو كتاب يبحث في أثر العرب في تقدم الرياضيات والفلك وسير أعلام رياضييهم وكبار فلكييهم) وقد نشرته مجلة (المقتطف) كهدية سنوية لتستمع إلى حديث ابن طوقان عضو الجمعية الملكية الأسيوية بلندن وعضو جمعيات العلوم الرياضية في إنجلترا وأمريكا وعضو مجلس التعليم العالي في فلسطين ومساعد مدير كلية النجاح بنابلس وأستاذ الرياضيات فيها: إن هذا الرجل قد غذى الروح القومية والغرور العربي بشعلة متأججة من وطنيته، فمن يقرا كتابه يخرج رافعا رأسه اعتزازا بآبائنا العظام فإلى مثل هذا الكتاب نحظ المؤلفين فإنه تأليف به تتألف جيوش الأمة لتندفع في سبيل المجد ومضمار الرقي، هكذا اكتبوا وألفوا يا حملة الأقلام العربية ولا تزجوا الشباب في مساقط الرذيلة ومهاوي الشهوات العمياء برواياتكم المترعة بالخيانات الزوجية النتنة بروائح الخمور والفجور أصغوا إلى ابن فلسطين يتحدث عن الحضارة الإسلامية العربية فهو ابن بجدتها وفارس حلبتها، وسوف أشفع حديثه بما ترجمته أنا من المصادر الإنجليزية قال: ص65 عن المراصد وآلاتها وأزياجها:
لاشك أن العرب لم يصلوا بعلم الفلك ما وصلوا إليه إلا بفضل المراصد، وقد كانت هذه نادرة جدا قبل النهضة العلمية العباسية. وقد يكون اليونان أول من رصد الكواكب بآلات وقد يكون مرصد الإسكندرية الذي أنشئ في القرن الثالث عشر قبل الميلاد هو أول مرصد عنه ويقال أن الأمويين ابتنوا مرصدا في دمشق، ولكن الثابت أن المأمون أول من أشار باستعمال الآلات في الرصد وقد ابتنى مرصدا على جبل قيسون في دمشق وفي الشماسية ببغداد وفي مدة خلافته وبعد وفاته أنشئت عدة مراصد في أنحاء مختلفة من البلاد الإسلامية، فلقد ابتنى بنو موسى مرصدا في بغداد على طرف الجسر وفيه استخرجوا حساب العرض الكبر من عروض القمر، وبنى شرف الدولة أيضا مرصدا في بستان دار المملكة ويقال أن الكوهي رصد فيه الكواكب السبعة. وأنشأ الفاطميون على جبل المقطم مرصدا عرف باسم المرصد الحاكمي وكذلك أنشأ بنو الأعلم مرصدا عرف باسمهم، ولعل مرصد المراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي من أشهر المراصد وأكبرها وقد اشتهر بآلاته الدقيقة وتفوق المشتغلين فيه واشتهرت أرصاد هذا المرصد بالدقة اعتمد عليها علماء(800/27)
أوربا في عصر النهضة وما بعده في بحوثهم الفلكية: وهناك عدا هذه مراصد أخرى في مختلف الأنحاء كمرصد ابن الشاطر بالشام ومرصد الدينوري بأصبهان ومرصد البيروني ومرصد الغ بك بسمرقند البتاني بالشام ومراصد غيرها خاصة وعمومية في مصر والأندلس وأصبهان.
وكان للراصد آلات وهي على أنواع وتختلف بحسب الغرض منها وقد وضع الخازن كتابا سماه (كتاب الآلات العجيبة) اشتمل على كثير من آلات الرصد غياث الدين جمشيد رسالة فارسية في وصف بعض الآلات وأتى تقي الدين الراصد على ذكر الآلات التي اخترعها هو وقد اعترف الإفرنج بأن العرب أتقنوا صنعة هذه الآلات (كما في تراث الإسلام).
وفي هذه المراصد أجرى المسلمون أرصادا كثيرة ووضعوا الأزياج القيمة الدقيقة.
ومن أشهر الأزياج زيج إبراهيم الغزاوي وزيج الخوارزمي البتاني وأزياج المأمون وابن السمح وابن الشاطر وابن البلخي والأيلخاني وعبد الله المروزي البغدادي والصنعاني والشامل (لأبي الوفاء) والزيج الشاهي (للطوسي) وشمس الدين وملكشاهي والمقتبس لأبي العباس أحمد يوس بن الكماد وزيج العلائي وزيج المصطلح في كيفية التعليم والطريق إلى وضع التقويم والزيج الكبير الحاكمي وزيج الهمداني وزيج الآفاق في علم الأوفاق الخ. . . وبالجملة فإن للعرب فضلا كبيرا على الفلك لأنهم (أولا) نقلوا الكتب الفلكية عند اليونان والفرس والهنود والكلدان والسريان وصححوا بعض أغلاطها وتوسعوا فيها - وهذا عمل جليل لا سيما إذا عرفنا أن أصول تلك الكتب ضاعت ولم يبق منها غير ترجماتها في العربية وهذا طبعا ما جعل الأوربيين يأخذون العلم عن العرب فكان العرب بذلك أساتذة العالم.
و (ثانيا) في إضافتهم الهامة واكتشافاتهم الجليلة التي تقدمت بعلم الفلك شوطا بعيدا و (ثالثا) في جعلهم علم الفلك استقرائيا وفي عدم وقوفهم فيه عند حد النظريات كما فعل اليونان
و (رابعا) في تطهير علم الفلك ادران التنجيم وكانت هذه خطة اغلب علماء الفلك المسلمين وفق تعاليم الإسلام.
(بغداد)
ضياء الدخيلي(800/28)
رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر
الهجري:
3 - أردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان لمصطفى
البكري الصديقي
(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
انشغال الشيخ بعمارة داره بالقدس وولادة ابنته:
(وكنا لما اشترينا الدار شرعنا في العمارة، فاشغلنا الأخ بنقل التراب ورفع الحجارة، لكي تلين منه نفسه الغدارة المكارة. ولما دخل شهر الصيام والقيام الموجب النضارة تأهل المحل السفلي للجلوس فيه، دون إتمام القصارة.
(وحين ودع وسار بمسار سحبها غزار، وقد وفدت علينا من الغيوب العزية البنية الرشيدة السعيدة الفريدة والجوهرة الوحيدة، التي وقعت لتسميتها الإشارة الشريفة (علما)، جعلها الله ممن قدرها لديه سما، وذلك في السادس والعشرين من شوال المبارك، فتلقاها الفؤاد فرحا بها لكونها هدية المولى تعالى وتبارك ورأيت كعبها كقصيدة كعب بن زهير لازالت مظهرا للبر حسنة السير كثيرة الخير.
(وقد حضر إلينا رابع يوم ذي القعدة الحرام الأخ السعيد محمد سعيد البصري ذو الإقدام، وكان ذلك يوم عقيفة ابنتي، المذكورة المحروسة، وكان قدومه من البصرة إلى حلب المأنوسة. ولما وصل كنا مع الإخوان خارج البلد.
الزيارة العلية الثانية عن طريق الخليل وعسقلان:
ولما دخلت سنة (1142هـ) عزمنا على زيارة الخليل، ومن هنا يفقد الزيارة العليلية، وحين دخلت عاشورا اجتمع لدينا من الإخوان أخدان، وتوجهنا عن طريف (بني حسن) لأنه طريق أمين ومسلك وعر بالأمان حسن، وثبنا عند الحلاحلة في (معنين) وسرنا صباحا للمدينة بقلب رهين وعندما أشرفنا على الحرم قرانا على الإقدام فاتحة الكتاب وتقدمنا إلى(800/30)
المقام وزرنا الأنبياء، وبدأنا بوالدهم شيخ المرسلين العام (إبراهيم الخليل) وثنيت بولده سيدي اسحق الغيور، ثم أثنيت مقام سيدي يعقوب الغوث وختمت بسيدي يوسف بدر التمام، ونزلت في التكية القادرية عند باب الحرم الشريف، لنحظى في أغلب الأحيان بالزيارة المنتجة التشريف. وكانت الكروم على أوائلها لم تتكامل حلاوتها في غلائلها. وبعد ما أقمنا ثلاثة أيام في الجوار نتردد صباحا ومساء على السادة الأطهار ودعنا، وقصدنا مسجد اليقين، وتوجهنا إلى مقام سيدنا لوط. وعندنا في الصباح على مدينة الفلاح وزرنا حماة تلك البطاح ونجدنا (بيت جبريل) وبتنا فيها، وسرنا إلى (الفالوجة) وزرنا أحمدها النزيل، وصلينا الجمعة فيها وخطيبنا الأخ المراعي الشيخ عبد الجماعي وكان وكان مرادنا زيارة عسقلان فأخبرنا بخراب ما حولها من عمران، وفي الصباح طرنا بلا جناح وطلبنا دليل في تلك المسالك يعرفنا إلى (المسمية) بالدرب السالك، فانتحى المجذوب الشيخ ديب لذلك، ولما توسطنا البرية، مثل هذه قبة سيدنا صالح فقرأت الفاتحة، وتجارت علينا من بعد خيل أعراب بهم في تلك الصحارى أذية أغراب، فقلت لمن يحمل الإشارة سر على الجادة ولا تخف غارة، فسقط عن دابته كبيرهم وانتكس وشرد مركوبه، وبقصده انعكس، ثم لحقونا (للقسطينة) وجاءوا معتذرين وثبنا في (المسمية) بنفوس سمية، وجد بنا إلى قرية (يبنى) المقول فيها أن مثلها ما يبنى، وعمدنا إلى جامع سيدي عبد الرحمن أبو هريرة، واختلف في اسمه الشريف، المحدثون، والذي رجح صاحب القاموس عبد الله. وبعد ما صليت الضحى، قلت:
قصور الولا من رامها أن له تبنى ... عليه بابن يثنى الركاب إلى يبنى
وبعد الزيارة توجهنا إلى (يازور) وزرنا سيدي حيدرة المنسوب لسيدي علي المطلبي، وبتنا بالقرية داخل الجامع المأنوس المعمور اللامع، وفي الصباح قصدنا قرة العين الحصن الأمنع سيدي سلمة بن الأكوع الصحابي المهاب، وغب الزيارة.
ارتقيت الطبقة طارقا من باب الالتجاء الحلقة، فانفتح الباب بمعونة الوهاب فقلت في مدحه:
شرف بدكر الحب خلى مسمعي ... واعد على حديثه يا مسمعي
وأدر كؤوس خمور سلمى جهرة ... فلعلها تشفى فوارا موجعي(800/31)
وإذا سكرت فلا تلمني أنني ... في حال شربي لا أفيق ولا أعي
وعدنا إلى (يازور) حيث البسط يفور، وما مكنا خليلها الخ من المسير نحو (يافا) ذات الوجه النظير، وفي صباح يوم الثلاثاء حللناها واللحظ ينبعث انبعاثا وبتنا في دار أبي سليمان العواد وثنى الأخ الخواجه احمد المنجاز العواد إلى الوداد. وسرنا يوم الخميس قبل بزوغ الشمس إلى المقام العليلي، ووفد بعد الاستقرار، الحاج حسن بن الشيخ مقلد وبات معنا. وأقمنا في ذلك المقام المبارك الأنور ثاني يوم ووفد علينا قوم أحبة، وختمنا الربعة الشريفة تلك الحضرة المنيعة، وأهدينا ثوابها للمزور المشهور، وللأخ السيد محمد السلفيتي المشكور، وتوجهنا بعد صلاة الفجر ووداع الهزار إلى (كفر سابا) وزرنا خباب بنامين شقيق سيدي يوسف الصديق، وكذلك السيد الصحابي سراقة؛ وعند الوصول إلى (كور)، ووفد علينا يزور الحاج يعقوب السندي، وقصدنا في الصباح شرب أقداح اصطباح، عند بستان تسامى ضمن هاتيك البطاح، وامتد زمان الانشراح إلى أن قرأنا ورد العصر، داخل قبته الصغيرة، الكبيرة المراح، وكان الحاج ممن حضر وناح، وتذكرت الأخ المرحوم السيد محمد العباسي (السلفيتي).
(وأشرت على الأخ الحاج حسن منح في الحب فهما، أن يغرس في صفحاته كرما، وبعض أشجار تين فأبدى عزما، وجمع في الأمر جزما، وفعل ما به أشرنا.
(وبعد أن استوفينا أيام الإقامة فيها توجهنا إلى نابلس المحمية، ونزلنا على عادتنا في (الدرويشية) والأخ الحاج حسن معنا، وبعد أيام الإقامة، ودعنا، وتوجهنا (جماعين) وقصدنا قرية (سلفيت) وزرت ضريح الأخ المرحوم السيد محمد السلفيتي، وختمنا الربعة الشريفة لديه. وقلت:
ما هذه جار البقاء روحي ... روحي إلى باب اللقا المفتوح
(وأتينا دير غسان، بعزم راجح الميزان لنوفق الخ. بين الزيود، فما تيسر الإصلاح، وتوجهنا إلى زيارة رجال (سوفا) المشهورين وبت لديهم ليلة الجمعة في العشر الأول من صفر. ولم نلبث أن سرنا إلى (عابود) ومنها إلى (شقبة) ثم أتينا مزار (عنير) وجلسنا في محله النير، وعدنا للديار المقدسة في نصف صفر الخير.
(وكان الأخ محمد سعيد البصري ألح في طلب مقامة عراقية على نمط غط الرومية(800/32)
فشرعت فيها وسميتها (المقامة العراقية والمدامة الإشراقية، وتمت في شهر ربيع الأول، وجاءني زائرا بعض المغاربة بصلوات سيدي علي بن محمد وفا، وكنت شرعت في شرح عليها في الديار الرومية (أي التركية) ولكن النسخة تهدم بناء بعض حروفها، فأجبته إلى طلبته وسميتها (جريدة المآرب ومزيدة كل شارب شارب). وجردت الهمة وشددت العزمة في منتصف هذا العام إلى تبيض الجزء الثاني من (شرح الورد السبحاني المسمى بالضيا الشمسي على الفتح القدسي) وعرضت كراسا منه على الأخ محمد سعيد ليتأمل فيه وجاءني في الصباح ومعه معترفا بعجزه.
ورأيت الأخ محمد سعيد عنده بعض فتور، ونحن مع جماعة في جبل الطور، فخاطبته وبلديه موسى ناصحا وقلت:
خليلي عن الشوق ركابكما حثا ... إذا رمتما في الروع أن تدركا نفثا
ولقد جاءني الأخ محمد سعيد مرور الفرار فمرقت سطورا في قرطاس ورفعتها له:
وجوه الورى من واجهوا اشرف الورى ... وللأثر السامي اقتفوا حالة السري الخ
(وجاءني من مدينة الخليل الشيخ محمد النزعاني فرآني داخل بستان في الحرم الداني، فقال لو وسعته كان حسنا وأمر الدنيا فاني، فقلت هذا في خاطري معنى يبدي لعياني، فيسر الله في مطلبه تلك الأيام، وثم على وجه حسن جميل وأكمل نظام وكان المجمع التحتاني في دارنا تم، والمولى جل وعلا طم إنعامه علينا وعم، ولما انضم إلينا زكريا بن الحاج يحيى نسببه، وجماعات أخر من أحباب منحوا فتحا يملأ العيبة، حصلت منهم مساعدة جسيمة في أمر العمارة الحرمية. وبعد ما كمل عام (1142هـ) ونمت أيامه ولياليه ذات المدد المكين.
أحمد سامح الخالدي(800/33)
أقصوصة شعرية:
الحسناء والبلبل
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(هذه الأقصوصة الشعرية تصور ما قد ينشئ بين الإنسان
وغير الإنسان من عواطف نبيلة، ومشاعر سامية. وهي مهداه
إلى الذين يقدسون معاني الحب والوفاء في هذا الزمان)
هي حسناء في ربيع الحياة ... تتراءى كأجمل الذكريات
حسنها قبلة العيون جميعا ... ومراد الأحلام والأمنيات
وصباها أرق من طلعة الفج ... ر، وأبهى من روعة الزهرات
وعلى وجهها الجميل من الفك ... ر سمات أنعم بها من سمات
هي شوق إلى معانقة المج ... هول يبدو في حيرة النظرات
ومعان عميقة لست أدري ... ها، ولكن أحسها في حياتي
عندها بلبل يغني غناء ... يجعل القلب هائما حيث شاء
ويثير الأحلام في كل نفس ... تبصر الحلم كوكبا وضاء
كلما زادها من الشدو والأن ... غام زادته روحها إصغاء
وهي مفتونة تكاد تراه ... عاشقا يملأ الحياة بهاء
فتراها تضمه إن أتاها ... وإذا غاب أتبعته النداء
وأماني النفوس تبدو رموزا ... حينما تستكن فيها حياء
وجدته في بيدر مهجور ... يتغشاه مثل صمت القبور
وهو من جرحه يئن أنينا ... يترامى على الثرى في فتور
فانثنت نحوه، وخفت إليه ... وانحنت فوقه بقلب كسير
وأست جرحه، وعادت به تس ... عى إلى بيتها الجميل الصغير
ثم جاءت له بحب وفير ... مثلما يشتهي، وماء نمير
وأقامت له هنالك عشا ... مهدته له بزهر نضير(800/34)
أتراه لما تقوى وطارا ... ترك العش خاويا وتوارى؟
كيف ينسى من أنقذته وقد كا ... ن يرى الموت ليله والنهارا؟
إن أضاع الذمار والعهد إنس ... فمن الطير ما يصون الذمارا
كان يمضي كما يشاء قريبا ... أو بعيدا يسابق الأطيارا
ثم تدعوه بالصغير فيهفو ... ثائر الشوق لا يطيق انتظارا
كغريب نائي الديار دعته ... فمضى مسرعا يؤم الديارا
علمته الغناء والألحانا ... فشأ الطير منطقا وبيانا
فإذا ما سمعته يتغنى ... خلته في غنائه إنسانا
وإذا ما رايته وهو يهفو ... بجناحيه حولها نشوانا
خلته عاشقا يطوف بمعشو ... ق يغنيه حيه الحان
يا له من هوى يؤلف ما بي ... ن الغريبين خلقة ولسانا
يا لهذا الغناء ترسله الرو ... ح، فيلقى من إلفها ترجمانا
حين يأتي المساء كان يغنى ... فيثير المنى بحلو التغني
فتناغي شقيقها كل نفس ... وتناجي رفيقها كل عين
وهي مسحورة تضم من الشو ... ق فراش الهوى، ومهد التثني
فإذا ما انتهى من الشد ونامت ... وبأعماقها صدى كل لحن
ثم راحت تهيم في عالم السح ... ر، ودنيا الهوى، وأفق التمني
حيث تحيا كما تشاء الأماني ... حين يسمو بها الربيع المغنى
وإذا ما الصباح هل عليها ... وهفا قلبه الرقيق إليها
فاستفاقت من حلمها غير ذكرى ... لم تزل تستكن في ناظريها
أرهفت سمعها فطارت من البل ... بل أنغامه إلى مسمعيها
فإذا قلبه يحركه الشو ... ق فيذري الدموع من مقلتيها
وإذا ما استراح قامت إليه ... وهي مسحورة تمد عينيها
فغذته بالحب من راحتيها ... وسقته بالماء من شفتيها
هكذا ظلت الحياة زمانا ... تتجلى سعادة وأمانا(800/35)
وتمد الحسناء بالحل والشو ... ق، فتفتن في الأماني افتتانا
غير أن الزمان من شأنه الكي ... د ومن ذا الذي يكيد الزمانا؟
والليالي إلى المودة آنا ... والليالي إلى العداوة آنا
وأرى العمر ساحة ينبت الده ... ر عليها نباته ألوانا
فهو إن شاء بنيت الفرحة الكب ... رى، وإن شاء ينبت الأحزانا
في مساء من أمسيات الشتاء ... تدرك النفس فيه معنى الفناء
وتنوح الرياح نوح الثكالى ... فتضج الجبال بالأصداء!
أخذ البلبل الجميل يغني ... أغنيات تهيم في الظلماء
وإذا صوته يسيل دموعا ... فكأن الغناء رجع بكاء
أتراه يحسن خطو المنايا ... حين تسري بركبها في المساء؟
أتراه يرى الحياة تتهاوى ... في وهاد سحيقة الأرجاء؟
وأتاها الكرى مثير الخيال ... فانتشت روحها بخمر الليالي
فرأت في منامها أن نسرا ... محكم الخلق، مدمج الأوصال
أبصر البلبل العزيز يغني ... وهو يمضي محلقا في الأعالي
فانثنى نحوه، فانشب فينه ... مخلبا حده كحد النصال
ومضى مصعداً، وللبلبل الشا ... دي صريخ يغني كطيف الخيال
فجرت خلفه تولول حتى ... أبصرته يغيب خلف الجبال
وتراءى الصباح جهم المحيا ... تعصف الريح فيه عصفا قويا
فاستفاقت من نومها وهي تشكو ... ألما كامنا، وحزنا خفيا
أرهفت سمعها لتسمع منه ... نغمة حلوة ولحنا شجيا
لم تجد صوته فهبت من الرو ... ع تنادي من ليس عنها قصيا
فإذا البلبل العزيز المغني ... جعل الموت صمته أبديا
وجمت ساعة، وفي القلب منها ... حرقات تطوي الجوانح طيا
وجرى دمعها فأنت أنينا ... يجعل الموت خاشعا مستكينا
ثم راحت تضمه في حنان ... وتنادي به نداء حزينا:(800/36)
أيها البلبل العزيز أما تب ... صر قلبي يسيل دمعاً سخينا؟
كنت في هذه الحياة طليقا ... كيف أمسيت للفناء رهينا؟
سوف تبقى معي هنا أبد الده ... ر، وغن كنت تستثير الحنينا
سوف تحيا ذكراك في قلبي البا ... كي، وإن كنت في التراب دفينا
لم يا بلبلي ارتضيت الفراقا ... فشببت الحنين والأشواقا؟
ما لهذا الظلام يغمر نفسي ... فيبيد الضياء والإشراقا؟
ما غناء الحياة من غير إلف ... يجعل القلب واثبا خفاقا
سوف أبكيك طيلة العمر حتى ... يأتي الموت مسرعا سباقا
سوف أمضي مع الحياة بقلب ... ليس يبغي من الهموم انطلاقا
كلما مرت الليالي عليه ... لم تزده إلا هوى واشتياقا
دفنته - وليس ذاك عجيبا - ... حيث قضى حياته تطريبا
كيف ترضى بأن يكون بعيدا؟ ... كيف ترضى بأن يكون غريبا؟
فإذا أقبل المساء تراها ... تؤثر الصمت أو توالي النحيبا
وترى طيفه يغني مهيبا ... فغدا قلبها ينوح مجيبا!
وإذا اقبل الصباح تراها ... تسأل الليل أن يعود قريبا
لترى حولها من الصمت والوح ... شة ما يشبه الفناء الرهيبا
لم تزل هكذا زمنا طويلا ... وهي تزداد من أساها نحولا
وتنادي الفناء حتى أتاها ... عاصف الداء من لدنه رسولا
ثم جاء الفناء يسعى رهيبا ... فطواها، وسار عنها عجولا
فثوت في مكانها حيث كانت ... تسمع البلبل العزيز الجميلا
وتلاقى الروحان بعد افتراق ... في مكان لما يزل مجهولا
ومضى عنهما الزمان، فصارا ... قصة للوفاء، تروى فصولا
إبراهيم محمد نجا
صلاة(800/37)
للأديب رشيد ياسين
رب أنزل على ضميري السكينة ... وقني هاجسات نفسي اللعينة
واطو ما تنشر الرغائب من جور ... وما يخلق الهوى من ضغينة
وأنر لي دربي ولا تنس عبدا ... تائها في الظلام يقفو ظنونه
واغتفر عثرتي فما كنت شيئاً ... غير ما شئت - خالقي - أن أكونه
أنا ما كنت غير رسم شقي ... أنت ظللت بالهوان جبينه!
طينة صورت - كما شئت - قلبا ... مستبدا، وعزمة موهونه. .
أعلى ما برت يداك يقاضي ... عدلك السرمدي تلك الطينة؟!
(بغداد)
رشيد ياسين(800/38)
رسالة الفن
تنسيق الزهور
للدكتور أحمد موسى
ليس من الغريب أن يكون تنسيق الزهور فنا، ولكن الغريب أن يتصور البعض أن الأزاهير وما يتعلق بتنسيقها لا يهم إلا فريقا معينا من الناس؛ والحق هو أن هذا الفن الذي قد يبدو ضئيلا عند النظرة الأولى يهم كل مثقف وكل متعلم لأن الاستمتاع بمرأى الزهر في أكمل واجمل صورة له من شان الراغب في التذوق، ولا يوجد مثقف أو متعلم لا يرغب في هذا التذوق!.
والتذوق بذاته لا يتم إلا بدراية الفن ولو في أبسط معانيه وصوره، لذلك نعني في هذا المقال بإيضاح الموضوع بغية الوصول إلى النتيجة المرجوة التي تتلخص في فهم الوسائل والطرق التي يسير الناس عليها في تنسيق الزهور في بيوتهم وفي حجرات جلوسهم وغرف استقبال ضيوفهم، ينظرون إليها على اعتبارها جزءاً متمماً للجو البيتي الذي ينشدون فيه الجمال.
ولتذوق جمال الزهر تاريخه القديم وتاريخه المتوسط وتاريخه الحديث، ولكنا لسنا في مجال تاريخ الفن في هذه المرة وإنما نحن في معرض تذوق جمال الزهر نتيجة تنسيقه؛ فإذا رجعنا إلى معابد المصريين ومقابر ملوكهم رأينا عجبا، ففي ممفيس وطيبه ودندره وأبي دوس وغيرها مناظر تسجل افتتان المصريين بالزهر وإمعانهم في تنسيقه.
ولا يقل الحال شأنا عند الإغريق الذين اتخذوا من وحدات الزهر والنبات مادة لزخارفهم ونقوش مبانيهم، والرومان من لم يكونوا أقل اهتماما من أساتذتهم.
والمستعرض للفن الإسلامي يجد فيه الكنوز الحافلة بما يسجل عشق المسلمين للأزاهير، وفي اشعارهم القدر الكافي مما يؤيد ذلك، وحتى في غزلياتهم كانوا يقتبسون من حسن قوام الغصن ولون الزهر صفات طبقوها على المحبوب اعترافا منهم بما للأزاهير من جمال وبهاء.
فكأننا أمام موضوع له خطره وله قيمته! وعليه فلا بد لنا من إن نعرف كيف نحب الزهر وكيف نحافظ عليه منتعشا أطول مدة ممكنة.(800/39)
والذي يجب أن نعرفه مبدئيا أنه لا يشترط لجعل الزهور بادية في أجمل وضع لها أن تكون سيقانها موضوعة داخل زهرية جميلة في ذاتها، أو قيمة من ناحيتها المادية، ذلك لأن من الجائز جدا أن تكون المشكاة بسيطة التكوين قليلة الألوان ليس فيها ما يبهر النظر، ومع هذا تكون مناسبة لإبراز معالم جمال الزهر ولفت حاسة الانتباه إليه، وهذه مسألة فاتت الكثيرين الذين يضعون الزهر في مشكاة ثمينة رائعة الألوان؛ فيطغى جمال الصناعة على جمال الطبيعة، ويكون الإعجاب والاستمتاع موزعا.
وربما كانت أبسط القواعد لمعرفة طبائع الزهر وأنواعه وعلاقة لونه بتأثيره في مكان أو ركن معين من البيت خير رائد لنا للوصول إلى الغاية.
فمما لا شك فيه أن لون الحائط خلف الزهرية ولون المائدة وكذلك لون الزهرية نفسها، كل هذه الألوان متجمعة تلعب دورا هاما في إظهار الورود والزهور في أجمل صورة وأقوى وضع لها، أو على النقيض تبعد النظر عنها وتضعف من قيمتها.
هذا إلى جانب الدور العظيم الذي يلعبه الضوء بقوته حيناً وضعفه حينا آخر، إلى جانب وقوعه على الزهر مباشرة أو انحرافه عنه.
وإذا كان لون الحائط والمائدة، والنور وزاوية وقوعه على الأزهار ذات أثر بالغ، فمما لا نزاع فيه أن مساحة الحجرة ومساحة المكان المخصص للأزاهير لا يمكن إغفالها، وهذا معناه أنه لا يجوز وضع مجموعة كبيرة من الزهور في حجرة صغيرة والعكس بالعكس.
وعلى ذلك تكون القاعدة الأولى هي التنسيق والتناسب مع المكان وليست غنى المظهر، وأنت تعلم أن شقة حجراتها معدودة في نظام فنيو خير من مبنى متسع الأرجاء لا نظام فيه ولا ارتباط بين أثاثه.
وربما كان من الضروري أن نذكر أنه لا بد من اختيار الأزهار ذات الألوان المنسجمة مع طراز الأثاث ولونه، وهذا القول وإن بدا على شيء من الغرابة فإنه صحيح، فإذا وضعت زهر عباد الشمس وهو شديد الصفرة متوهجا، داخل حجرة أثاثها من خشب الفرو وهو لون باهت أقرب إلى الصفرة، فإنك تجد هذه الزهور الجميلة فاترة ضعيفة على الفور، على النقيض وضع هذه الزهور نفسها في حجرة أثاثها من خشب المهاجوني الداكن اللون، على مائدة تعلوها سجادة داكنة أيضا، على أن تكون بالحجرة نافذة كبيرة يدخل منها نور(800/40)
قوي.
ولتكوين سيقان الزهر وطولها قيمته الفنية، للسيقان وطولها علاقة وثيقة مع الزهرية، فلا ينبغي وضع أزهار ذات سيقان رفيعة قصيرة في مشكاة طويلة واسعة.
وليس من الغريب أن يكون قانون التماثل أو التناظر أو ما يسمونه (قانون السيمتري) باطل الأثر بالنسبة إلى فن تنسيق الزهور. بل إن الخضوع له وتطبيقه يؤديان إلى التقليل من الجمال المظهري لها، لما ينطوي عليهما من وجوب وضع زهريتين متشابهتين في مكانين متقابلين وما يؤدي إليه هذا من التكرار الممل
ولكل وقت من أوقات النهار ما يناسبه من الزهر، فعلى مائدة الإفطار ذات المفارش الخاصة بها يمكن وضع زهر الجرونيا أو منقار الغرنوق والأقحوان أو كحلة الجنائن والتيولب أو الخزامي والنستوريوم أو زهر أبو خنجر وهي أنواع إذا نظرت إليها وجدت أن تأثيرها على المشاهد ينحصر في وضعها متقاربة غير منثورة قي الزهرية، على حين يناسب مائدة الغذاء خليط من مختلف ألوان الزهر يوضع في زهرية واطئة أشبه شيء بطبق، بحيث لا يحول بين وجوه الجالسين حول المائدة، هذا فضلا عن عدم قابلية الطبق للسقوط على المائدة أو ميله على أحد جوانبه عند أقل حركة أثناء الجلوس أو القيام. أما الأزهار الملائمة لمائدة العشاء فهذه تكون عادة ذات أغصان طويلة رقيقة تمتد رؤوسها إلى أعلى وليس إلى اليمين أو اليسار فيتخللها النور الساقط من المصابيح المثبتة بسقف الغرفة فتبدو في أروع مظهر، على أنه لا ينبغي أن تكون متعددة الألوان، ولعل الورود أحسن من غيرها في هذه الحالة.
ومما لا ينبغي الوقوع فيه وضع بعض الأوراق أو الأغصان على المفرش سواء أكان العشاء لأصحاب البيت أو لزائريهم. وقد رأينا البعض يضع لوحا من البلور أو زهرية أمام مرآة المشجب وهذه لا غبار عليه، ما دامت الأزهار لا تمتد كثيرا إلى أعلى فتحجب المرآة. ولون الزهرية وموضوع اختياره من المشاكل الجديرة بالدرس، فالثابت أننا إذا نظرنا في ضوء الشمس الساطع إلى الأزهار ذات اللون الأحمر والأزرق والأصفر وإلى جانبها جميعا اللون الأخضر وهو لون الورق والأغصان والحدائق والحقول، فإنها عندئذ تبدو في حلتها الطبيعية، حالة كونها تبدو على نقيض ذلك في النور الخافت نهارا والضوء(800/41)
الضعيف ليلا، ونجد لونها ليس طبيعيا، وعلى ذلك يجب مراعاة هذه العوامل عند التنسيق. واللون الأصفر مما يناسب معظم الحجرات والأماكن، وهذا هو السر في أن معظم العارفين يتخيرون الكالندولا أو كحلة الجنائن في غالب الأحوال، على حين نجد أن الزهور الزرقاء مجردة عن رونقها في الأركان القليلة النور، وهذا لا يمنع من اعتبارها جميلة ذات تأثير محبب إلى النفس متى وضعت بالقرب من شباك يدخل منه النور القوي، أما في الليل فهي تفقد رونقها وتبدو كالحة اللون رمادية أو سنجابية.
على أن أوراق الشجر وأغصان الزهر تلعب دورا هاما بوضعها إلى جانبها، فالالتفات إلى إيجاد الانسجام بين هذه الأوراق والأغصان وبين الأزهار نفسها أمر لا مناص منه. فوضع الورق الأخضر الداكن إلى جانب الأزهار الباهتة يميت لونها، كما أن وضع الورق الباهت إلى الزاهي من الأزاهير يضعف من رونقها
وكأننا أمام قاعدة ثابتة تتلخص في وضع اللون السمني إلى جانب الحمر الدافئ واللون الأبيض إلى جانب الرمادي. واللون الوردي إلى جانب الأبيض!
ومما لا يحتاج إلى بيان أن ذوي الذوق الجميل يجدون فرصة مواتية للتصرف حسب ما يمليه الذوق عليهم، فتكون لديهم المقدرة على حذف زهرة وإضافة أخرى أكثر انسجاما، هذا إلى جانب ما يكتسبه المرء من المران والاختبار للوصول إلى الغاية المثلى.
مما تقدم يمكن أن نصل إلى القول بأنه إذا أريد تنسيق بعض الأوراق الخضر مع لزهر الأحمر والصفر والأبيض فإنه يجب والحالة هذه الاعتناء التام باختيار الموضع الملائم لكل منها في الزهرية، ذلك لأنك إذا وضعت الأزاهير الداخلية بل ينصرف عنها إلى خارجها لشدة لونه وقوة شخصيته.
ومن بين الأزهار ما يبدو في أجمل صورة له عندما يكون مستقلا قائما بنفسه إذ استثنينا بضع أوراق خضر تعين المشاهد على التركيز النظري. والزهور كائن حي رقيق الحس ولذلك لا مناص من معرفة بعض القواعد عن كيفية قطفها ومعاملتها والمحافظة عليها أطول مدة ممكنة فيطول بذلك أمد الاستمتاع بها.
فأنسب وقت لقطفها وقت بزوغ ألوان الفجر أو عند الصباح الباكر وقتما تكون قطرات الندى قد رصعت تيجانها وبدت فوقها كحبات اللؤلؤ. أما القطف فلا يكون كما اتفق بل(800/42)
نلاحظ فيه أن تكون السيقان طويلة بقدر الإمكان ليمكن تنسيقها حسب الإرادة ووفقا لعمق الزهريات التي ستوضع فيها والواني المخصصة لها.
كما ينبغي عدم تجريدها كلية من أوراقها تمهيدا لتنسيقها. والقطف لا يكون قاصرا على الزهور المفتحة فحسب بل يجب أن يشتمل على درجات النضوج الثلاث وهي بدء التفتح وتوسطه وكماله، كما أن من الأوفق كثيرا استخدام المقص المخصص لهذا الغرض أو على الأقل استعمال سكين حادة، على أن يكون القص أو القطع مائلا كثيرا بقدر المستطاع وليس قصا أو قطعا أفقيا وذلك لتمكين ساق الزهر من امتصاص الماء وهو غذاؤه داخل الزهرية.
وأول عمل نجريه عند وصول الزهور إلى البيت هو غمرها في الماء البارد داخل إناء كبير يتسع لها دون ثنيها أو كسرها بحيث يصل الماء قمة العنق، مع تركها بعض الوقت بحالتها هذه في مكان قليل النور رطب الهواء بقدر المستطاع.
ولا يتسع المجال لذكر كل أنواع الزهور ومعالجتها بالوصف الخاص - والإجمال لا يخل بالموضوع ما دمنا نستعرض أكثر الزهور استعمالا، فزهر الخنجر يقطع بمجرد بدء الزهرة الثانية على الساق في التفتح، لأن البقية تتفتح بعدئذ في ماء الزهرية خلال الأسبوع الذي تعيشه في البيت. وعندما يلاحظ أثناء تغيير الماء - وهو أمر لازم يومياً - إن نهاية السيقان قد أصبحت لينة لزجة، فإن الضرورة تقضي بقص هذه النهاية بعد عصر الساق.
أما زهرة الداليا فهي من الزهور الطويلة العمر إذا قطفت عندما يقرب تفتحها من الكمال ويكون القطف فوق الوصلة مباشرة حتى تكون الساق مفتوحة من أسفلها، فلا تقابل الماء عقبة أثناء مروره للتغذية.
وفصيلة السوسن أو الزنبق تقطع عندما يبدأ أول زر في التفتح، وذلك لن التي تفتحت يوما أو يومين قبل القطع تكون قصيرة العمر.
والورود تقطع بسيقان طويلة قدر الإمكان، بعد ترك جزء من ساقها في الأرض لاستكمال نموه. ويضع بعض المغرمين بالأزاهير قطعة من الفحم النباتي في قاع الوعاء ليكون الماء عذبا أطوال مدة ممكنة. وهناك فريق يضع قرصا من الأسبرين لإنعاش الزهر. وغير هؤلاء وهؤلاء نجد من يمزج فنجانا من السكر على لتر من ماء توضع فيه زهور(800/43)
الكريزانتينم فتظل حافظة نضارتها أسبوعا كاملا.
أما ضرورة قص أطراف السيقان يوميا إكمالا لعملية تغيير الماء فهذه مسألة يعرفها معظم الناس ولكن هناك ما يدعو إلى التنبيه وهو أن عملية القص يجب أن تجري تحت حنفية الماء مفتوحة يتدفق ماؤها على السيقان حتى يحول هذا العمل دون دخول الهواء إلى ساق الزهر فيقضي عليه. ولا يصح وضع الكثير من الزهور في زهرية ضيقة العنق لأنها بهذه الكيفية تختنق إذ لا يمر الهواء من بينها ولا يستطيع الماء الوصول إلى قممها.
وأنواع الزهريات كثيرة وألوانها متباينة وطرزها بين قديم وحديث لا حصر لها، فالعبرة بحسن الاختيار والتفرقة بين ألوان الزهر وبين ألوان الزهريات ووضع ما يلائم واحدة منها في مكانها المناسب لها. وكلما كانت الزهور رقيقة كانت الأوعية الزجاجية الرفيعة اكثر صلاحية لها.
والفن داخل البيوت موضوع قديم عند كل الأمم المتمدينة وإن يكن حديث العهد في بلادنا، وهو في وقتنا الحاضر يتلخص في البساطة والبعد عن الزخرفة والزركشة والازدحام، مما أدى إلى الاستعانة بالزهر على تجميل البيوت، التي إن عرفنا كيف نجملها لما احتملنا البعد عنها.
ويستعين العارفون بما يسمى (الماسك) أو القابض على سيقان الزهر للربط بينها لتظل في وضعها المرغوب، وغير هذا توجد قطع مستديرة من البلور ذات ثقوب وهذه القطع توضع في قاع الزهرية التي تكون عادة متسعة العنق أو على هيئة طبق ذي قطر كبير، وذلك لتثبيت السيقان في أوضاعها المختارة بوضع نهاياتها السفلى في تلك الثقوب. ويلعب الرمل النظيف دورا هاما في المساعدة على تنسيق الزهر، فبوضعه في قاع الزهرية يعين على التثبيت، فضلا عن أنه لا يعوق وصول الماء إلى السيقان لتغذية الزهر الذي يكون غالبا من النوع الرقيق القصير كزهرة البانسي والفيوليا ويسمونها زهرة الثالوث وهما من فصيلة البنفسج، وزهرة الزعفران وزنبق الوادي على أنه لا ينبغي أن يبدو الرمل ظاهرا أمام عيني المشاهد.
ومما تحسد عليه بلادنا العزيزة أن الزهر لا ينقطع طوال أيام العام على حين تجده في اوربا نادرا لا سيما في الشتاء القارس. والعقبة التي تصادف هواة الزهر في الأقطار(800/44)
الشرقية هي سرعة ذبوله في الأوقات الحارة، ولكنا إذا عالجناه كما ينبغي أمكن البقاء عليه مدة كافية.
وكقاعدة عامة نقول أن كلما قل الزهر عددا وحسن تنسيقه كلما كان مظهره بسيطا جميلا. والعجيب أن تجد الفنان الياباني يأبى إلا يسير على هذه القاعدة؛ فتراه حتى في لوحاته المصورة لا يأبه إلا بغصنين أو غصنين تعلو كلا منهما زهرتان، يصورها في أروع ما يكون من الجمال وحسن التنسيق وإبداع الإنشاء الفني
وإذا كان القارئ من المحظوظين اللذين يملكون بستانا، فإن عليه أن يختار الأغصان ذات الأنثناءات فهي في الزهرية تكون رشيقة كالحسناء ذات القوام الممشوق، وتبدو الأغصان مائلة بعضها نحو بعض كأنها تتحدث حديث حب وغرام.
فأغصان الرمان المزهر وأغصان الليلك (لعلى) والكمثرى لها تكوين ساحر خلاب يحمل أزاهير يانعة رقيقة إن تأملتها عن كثب زدت إعجابا بقدرة الخالق وعملت بأن الطبيعة هي ام الفن وأننا مهما اوتينا من العلم فلن نصل إلى قطرة من ذلك الخضم اللانهائي
أحمد موسى(800/45)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أحاديث الرهبان في قصص العريان:
دأب الأستاذ محمد سعيد العريان، في قصصه التاريخية، على اللجوء إلى ما يرجى عنده من معرفة الحوادث قبل وقوعها، من التنجيم وأحاديث الرهبان، واستخدام الأحلام استخداما غير طبيعي، وقد تعقبته في هذه النقطة بالرسالة غير مرة، ففي قصة (قطر الندى) جعل المربية العجوز تحلم وتموت دون أن تفضي إلى أحد بحلمها، وذكر تفصيل الحلم! وفي قصة (شجرة الدر0 أنطق المنجم بما وقع فعلا! وصنع شيئاً من ذلك في قصة (على باب زويلة).
وأخذت عليه كل ذلك، وقلت فيما كتبته عن (شجرة الدر): إن كان لا بد من الاستعانة بالتنجيم في تصوير البيئات والعصور التي كان للتنجيم فيها شأن وذيوع - فأني أرى عند الإتيان به أن تسلط عليه أشعة تكشف أباطيله أو تشكك فيه على الأقل.
وكأن الأستاذ أراد العناد. . . فتوسع في ذلك المجال بقصته الجديدة (بنت قسطنطين) التي حلل فيها شخصية مسلمة بن عبد الملك وما أحاط به من ظروف وسبب عدم توليه الخلافة على رغم جدارته بها، وصور فيها البطولة العربية وجهادها الرائع بين سواحل الشام وثغور الروم، فبلغ غاية في التحليل والتصوير.
فإنه لم يكد يمضي في هذه القصة حتى ساق رجلين من أبطالها، هما مسلمة والنعمان بن عبيد الله أحد المجاهدين، إلى راهب بأحد الأديار، وكان مسلمة يعد العدة لفتح القسطنطينية، فيقول له الراهب فيما يقول: (يدنو 9يعني مسلمة) حتى يكون قاب قوسين، فيقف بين بين، ثم يفلتها بعد أين؛ بينه وبين ما يأمله مائتان ومائتان وثلاثمائة؛ ثم يكون ما أراد، حين لا متاع له بشيء من ذلك الزاد، إلا عين جارية وسيرة باقية؛ ويذكر أبو أيوب، وأبو سعيد، ومحمد بن مراد!. .)
ثم يحاصر مسلمة القسطنطينية حتى يكاد يفتحها، ولكنه (يفلتها بعد الأين0 وبعد سبعمائة سنة (200و200و300) يفتحها محمد بن مراد العثماني!
وليس هذا وحسب، بل ينبئ الراهب عما يقع من الحوادث في القصة بعد ذلك، ويكون(800/46)
حديث الراهب محورا يدور عليه الحوار فيما يأتي بعده. . ويتصل بهذا المحور محور آخر، هو تلك الرؤيا العجيبة التي رآها مسلمة والنعمان في وقت واحد وفي طريق واحد وعلى صورة واحدة (كنسختين بالكربون)!
والأستاذ العريان يتخذ ذلك، لحبكة السياق، ولإبراز الخواطر التي تختلج في نفوس أبطال القصة، ولبث بعض الطلاوة في الحوار. ولا أثر لذلك الصنيع في القصة غير هذه الأغراض وما يشبهها، أما بناء القصة فهو قائم بغير طلائه، وحوادثها جارية لا يعوقها منه شيء؛ وقد يتأنى للأستاذ أن يحقق تلك الأغراض، من حبكة السياق الخ، من غير تلك الخرافات. . . وأنا أساله أخيراً: هل يعتقد صحتها؟ ولا أنتظر منه جواب هذا السؤال فهو معروف، وإذن فلم يحشوها وكأنها حقائق مسلم بها، في قصص مؤلف من وقائع الحياة فيما مضى وتخيل ما يماثل هذه الوقائع؟
وغاية ما أرجو أن يخلو من ذلك ما يؤلفه بعد من هذه القصص التي يجلو فيها التاريخ في صور من الفن الممتع. وأنا لم أتعب من تعقبه، ولن اتعب ما أمهلتنا الحياة.
الجيل الجديد:
تلقيت كتابا من الأديب المصري صبري حسن علوان، فأذكر أولا أنني اغتبطت بما تضمنه من الثناء على (الأدب والفن) ولا داعي للرياء. . .
وأقول ثانيا إنني استبشرت به، لأنه يعزز أملي في الجيل الجديد على الرغم مما يبدو من عوامل اليأس. وصبري طالب في الجامعة قد (عدت له عجلة الحياة من السنين ثمانية عشر ولما تتم دورتها الأخيرة) وهذا نص تعبيره في كتابه. وقد حدثني في بعض الموضوعات الدبية حديثا يدل على فطنته وحسن تذوقه، كما يدل على أن الجيل الجديد - غن كان لصبري أمثال كثيرون - مفتح عينيه لما يجري الآن في الحياة الأدبية، فهو يقول إنه يقرأ (الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية فيرى فيها شيئاً لا يرتاح له. نعم إن النشر ليس مقياس الجودة. ولكن الذي يستحق التنويه أن الأسماء التي لها سابقات في الأدب والفن تأتي بالغث الهزيل الذي تأباه الأذن وتضيق عنه القلوب. .!)
وأفسح قليلا لهذه الملكة الناقدة المتفتحة، فأنقل النقد الآتي بنصه كما جاء في ذلك الكتاب:
(ومن الأسماء المشهورة ما قاله أحدهم عن (ذكرى شهداء فلسطين) في جريدة الأهرام.(800/47)
لسنا بمن يذري الدموع على الدم ... بل نحن أبناء المنايا فاعلم
كأني به في كتاب من كتب العلم القديمة يقول مؤلفه: فاعلم وفقك الله أن. . . وأن. . . والله أعلم!
ثم يقول بعد أبيات:
ظلم (اليهود) الناس ثم تظلموا ... منهم فمن للظالم المتظلم؟!
إن قلبي الذي كان يتوقع النور من الفن أحدق به الظلام حتى إنه تظلم إلى الأدب والفن. . من تكرار الظلم المرذول. إنه يخيل إلي أن كلمة (ظلم) هذه تمن على اليهود بشيء من الرحمة والرافة)
وقد تلقيت عدة رسائل يشكو أصحابها من (عدم النشر0 وكل ما عندي في هذا الموضوع قلته في العدد (790) من الرسالة غير أني رأيت بعضهم كالأديب كيلاني حسن سند (يتواضع) فيفرض أن من لا ينشر له جهل نفسه فرفعه حب الشهرة إلى معالجة فن لا يحسنه، ويقول: (ألم يكن من الخير له وللأدب أن ترشدوه وتوجهوه وتعرفوه حقيقة المنبع الذي تفيض به نفسه ليستغله وينتفع به؟).
فهل من العمل الصحفي - في الأدب وغيره - أو هل من مهمة الكاتب، الإرشاد الشخصي؟
نعم إن الكاتب يتناول الظاهرة العامة ويكتب فيها للجميع، أما أن يتناول الأفراد واحداً واحدا فيوجه هذا ويرشد ذاك، فهذا من عمل المدرس الخاص، وأظنك في الأسبوع الماضي على رأيي في الدروس الخصوصية، ولعل المطالبة بالإرشاد من آثارها. .
والذي لا يعرف أين يتجه، مما يقرأ ويشعر ويلاحظ، فليرح نفسه.
وبعد فإن قلبي مع هؤلاء الشباب وإن كنت لا أستطيع لهم شيئاً.
دراما وكوميديا:
انضم الأستاذ يوسف وهبي بك أخيرا إلى الفرقة المصرية مديرا لها، وهو بلا شك ممثل كبير ومحبوب لدى الجمهور، وانضمامه للفرقة كسب لها ومدعاة لإنهاض المسرح المصري من الغفوة التي طالت مداعبتها لأجفانه.
ذلك كله لاشك فيه، وقد استبشر محبو المسرح بالنشاط الذي أبداه يوسف وهبي في مفتتح(800/48)
هذا الموسم، ولكن اقترن بحركة دعاية واسعة ظفر منها يوسف وهبي بنصيب الأسد، فقد ملأت أحاديثه الرنانة أنهار الصحف والمجلات، وعاد النقاد من زياراته يكتبون الفصول فيما يوشك أن يقع من معجزات الفن ولم يكتف هو بذلك ولا بالإعلانات التي نشرت في كل مكان وقد تضمنت أن يوسف وهبي يقوم في رواية (سر الحاكم بأمر الله0 بدوره التاريخي العجيب، فرأيناه بالصحف فصلا يتضمن نبأ افتتاح الفرقة موسمها، موشى بتمجيد بطل الرواية مدير الفرقة في دوره العظيم، وقد نشر في عدة صحف بنص واحد.
ولو أن الأستاذ يوسف صاحب فرقة خاصة لكان له أن يعلن عن نفسه كما يريد، ولكن الفرقة المصرية لها كيان مستقل، وهو موظف فيها، والمال الذي ينفق في الدعاية من خزانتها؛ فأين هي وما نصيبها من كل هذا الطبل والزمر. . .؟ ولنفرض نه تركها وقد طغى عليها بالدعاية لنفسه، فكيف يكون حالها؟
هذه هي (الدراما) أما 9الكوميديا) فهي أن الأستاذ يوسف وهبي معروف بظهوره في الأدوار العنيفة وتمثيل الشخصيات الكبيرة، فيخطب ويبطش ويكتسح. . وهذه الطبيعة متأصلة فيه، ومما يدل عليها أنه لما جاء إلى الفرقة المصرية جعل يبحث في محتوياتها حتى عثر على رواية (مركونة) كانت قد فازت في مسابقة قديمة، وهي رواية (سر الحاكم بأمر الله) فوافقت هواه، إذ رأى فيها ما يوصله إلى القمة. . . فطالما كان زعيما وعبقريا ومصلحا كبيرا، ولكن كل ذلك في حدود (البشرية) أما في هذه الرواية فيمثل الحاكم بأمر الله الذي ادعى الألوهية. . . وهكذا يصل الممثل الكبير إلى نهاية الخط. . .
المشاكل الدولية:
كانت الإذاعة تقدم مساء الأحد من كل أسبوع، الأستاذ محمد رفعت بك، ليعقب على الشؤون الدولية في سلسلة أحاديثه (مصر تطل على العالم) وقد رؤى أخيرا أن يتناوب معه في الحديث عن هذه الشؤون الدكتور محمد عوض بك أسبوعا بعد أسبوع.
وقد بدأ الدكتور عوض بك يوم الأحد الماضي، فتحدثت عن المشاكل التي تشغل بال مصر وبال العالم في هذه الأيام، فتناول أولا مسألة فلسطين من حيث غدر اليهود في الأسبوع الماضي بحشد قواتهم في الجنوب ومحاولة الهجوم على الجبهة المصرية، فقال إنهم أرادوا بذلك أن يستولوا على جنوب فلسطين، فغن تم لهم ما أرادوا زحفوا شمالا. ولكن القوات(800/49)
المصرية أحبطت خطتهم وحطمت آمالهم فردتهم على أعقابهم خائبين مدحورين. وقال إننا نستخلص من ذلك أمرين، الأول أن ما يهولون به من استعدادات اليهود وقوتهم ليس بشيء إزاء القوة العربية، فقد جمعوا كل ما أمكنهم جمعه في هذه المعركة فلم يستطيعوا شيئاً. الأمر الثاني أن اليهود سيدأبون على الغدر فيجب أن نعمل حساب غدرهم في كل وقت؛ وهم يعلمون أن هيئة الأمم المتحدة لن تستطيع أن تمنعهم ما دامت غير مستندة إلى قوة عسكرية، والأمم الغربية لا ترضى أن تبعث إلى فلسطين بقوة عالمية فيها روسيون.
ثم تحدث عن مشكلة برلين، ومما قاله إن الدول الغربية لما لم تستطع الاتفاق مع روسيا عرضت الأمر على مجلس الأمن، ومعنى ذلك أن الدول الكبيرة عجزت عن التفاهم فاحتكمت إلى الدول الصغيرة. .
وبعد أن تحدث عن مشكلة إضراب العمال في فرنسا، لم يفته في ختام الحديث أن يهنئ الأمم المتحدة بعيد ميلادها الثالث ويتمنى لها أطيب التمنيات. . . وقد نطق بهذه العبارات الأخيرة بنبرات صوت تدل أبلغ الدلالة على انصراف القلوب عن هذه الوليدة الكسيحة. .
مسابقة المجمع اللغوي الجديدة:
وافق مجمع فؤاد الأول للغة العربية في جلسة يوم الاثنين الماضي - على نظام المسابقة الأدبية لسنة 1949 - 1950 الذي وضعته لجنة الأدب، وتشمل هذه المسابقة البحوث الأدبية والقصة، ولم يدخل فيها الشعر كما كان في مسابقات السنوات الماضية، إذ رأت اللجنة إبعاده حتى يجد في آفاقه ألوان جديدة. وقد جعلت مسابقة القصة لجميع أدباء العرب، وخص بالبحوث الأدبية أدباء وادي النيل، وقد عدل هذا التعبير بعد أن كان (أدباء مصر والسودان) على أثر مناقشة طريفة قيل فيها إنه لا ينبغي أن يتوهم أن السودان قطر آخر منفصل عن مصر كما أن في شمول المسابقة لأدباء وادي النيل توكيدا لمعنى الوحدة، وكان ذلك بمثابة تحية للعضو السوداني الزائر الذي حضر الجلسة وهو السيد عبد الله عبد الرحمن الأمين.
وقد خصصت للبحوث الأدبية ستمائة جنيه، مائتان لكل بحث من البحوث الآتية:
1 - أحسن تحقيق لكتاب عربي قديم وضع أساليب النشر الحديثة طبع أم لم يطبع.
2 - أحسن دراسة لرفاعة بك الطنطاوي واحمد فارس الشدياق ومحمد قدري باشا وأثر كل(800/50)
منهم في وضع المصطلحات الأدبية أو القانونية.
3 - أحسن بحث في نقد الشعر العربي من منتصف القرن التاسع إلى الآن، ولا يدخل في ذلك نقد الشعراء الأحياء.
وخصص مائتا جنيه لقصة تدور حول أحد الموضوعات الآتية:
1 - بحث مشكلة اجتماعية عربية من مشاكل العصر الحاضر.
2 - حياة بطل من أبطال العرب.
3 - موقف من مواقف العرب الحاسمة في التاريخ.
وسيذيع المجمع بعد قليل بيانا للمسابقة يتضمن شروطها ومواعيد التقديم وما إلى ذلك.
عباس خضر(800/51)
البريد الأدبي
أنت في واد وأنا في واد:
عاد الأستاذ أحمد عادل يرغبني بالإسلام ويحببني به بانتقاد الإنجيل، ثم يسفه بعض أقوال المسيح، ثم بالطعن بالنصرانية ثم بالتقريع بزعماء النصارى - ذلك في رسالة لي منه أشغلت 12 صفحة، ومن أصعب الأمور قراءة خطها السقيم. وفي النبذة التي نشرتها (الرسالة) لي قبل العدد الماضي أفهمته بالمعقول وبالمفتوح أن ديني يمتاز على جميع أديان البشر بأنه يقال بكلمات معدودة: الله محبة، وهو يأمرنا بان نحب بعضنا بعضا، وأن نسامح بعضنا بعضا، وأن نغفر لمن أساء إلينا. هذا هو الدين الإنساني العملي الذي لو عمل به كل فرد من النام لما وجد من يضربك على خدك الأيمن لكي تحول له خدك الأيسر، ولا وجد من يسيء إليك لكي تسامحه وتغفر له، ولو صار كل الناس من هذا المبدأ وساروا عليه لانتفت الخصومات من العالم وتعطلت المحاكم وأقفلت دور الشرطة وانطفأت نيران الحروب.
هكذا أعتقد، وهكذا أجتهد أن أسلك في هذا العالم المملوء آثاما وشرورا، فلو فهم الأستاذ جيدا هذا لما جعل يجادلني في الدين، ولفهم أني لست نصرانياً ولا مسلماً ولا بوذياً ولا مجوسياً؛ بل أنا مسيحي بحت، وديني دين إنساني يصلح لكل أمة وكل قبيلة من الناس!
وليعلم الأستاذ أحمد أن الأناجيل لا تريه صورة خالية من الشوائب عن يسوع وحياته وتعاليمه.
وكنت أظن أني والأستاذ أحمد نعتقد عقيدة واحدة إذا جردنا الدين من الترهات والخرافات، والمعتقدات المخالفة للمعقول فإذا هو في واد وأنا في واد، فلا محل للجدال في الدين بيني وبينه وعسى أن تكون هذه الكلمة مقنعة له، وتغنيه عن تسويد الصفحات في دعوته لي إلى الإسلام.
أرجو أن يعلم بغض القراء عنواني إذا كانوا يجهلونه حتى لا يزعجوا إدارة مجلة الرسالة بتحويل رسائلهم إلي: 2 شارع البورصة الجديدة. القاهرة
نقولا الحداد
حسين شفيق المصري:(800/52)
(كتب أديبنا الكبير السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله وصف هذا الصحفي القدير، وكان قد كتب هذه الكلمة منذ ربع قرن يقرظ بها جريدته (الناس))
(المنصورة)
محمود أبو ريه
الأستاذ حسين شفيق المصري الذي يمتع الأمة بهذه الصحيفة (جريدة الناس) ماجن ظريف، ولو تقدم به الزمن لتهاداه الملوك والأمراء، فقام على بساط منشدا، وجلس على آخر نديما، وتقلب على الثالث مضحكا. وعربد على رابع، وجلد على خامس - ولعل الله أخره إلى دهرنا رحمة به أن يأمر أحد الملوك فيملئوا فاه ذرا بعد أن فرغ من إنشاده المعجب المطرب - ويشره هو إلى الثروة والغنى فيفتح فمه إلى أقصى الحلق فتدخل اللآلئ وتخرج الحياة.
وهذا الأديب في عصرنا غنما هو بقية فن من أبدع فنون الدب، كما كان لا ينبغ فيه إلا عقول معدودة لا تقصر في حكمة الكلام عن غاية، ولا تتخلف في ظرف البلاغة عن شأو، ولا تجيء بما تأتي إلا على الأسلوب الذي يهز النفس من طرفيها، كأن الله قد وهبها سر القدرة على ما يعسر وما يؤلم فلا تتناول معنى إلا انشق لها عن فنون غربية تهديها إلى ما فيه من الضحك الذي لا ينكشف إلا للنفس الشاعرة، والتهكم الذي لا يظهر إلا للنفس الحكيمة، والمزاج الذي لا يبدو لغير النفس الظريفة. وما الشعر والحكمة والظرف إلا أسرار ذلك الأسلوب النادر الذي لا ينقاد إلا لأعقل العقول متى أريد به استخراج المعاني المجنونة من الطرب.
فالبلاغة الظريفة الماضية التي بعضها التي من سياسة وخز الإبر، وبعضها من سياسة الظهر والعصا. . . قلما تستجيب إلا للعقول المبتكرة التي خلقت متسلطة على النفوس من اقرب جهلتها، وهذه العقول لا تسرف القوة الأزلية في خلقها، بل هي حين ترحم الناس بهاو فتجعلها قليلة نادرة. وإنك لتجد أهنأ الضحك ذلك الذي ينفجر من القلب ولكنه إن طال انفجر القلب، ولست أعرف تلك العقول إلا في كبار رجال السياسة الذين يدبرون أمر الممالك، وفي كبار رجال الأدب الذين يدبرون أمر العواطف، وفي كبار رجال الفلسفة(800/53)
الذين يدبرون كل شيء ولا يدبرون شيئاً! فمن أي أولئك نعد (حسين شفيق) هذا الذي لو تألفت من رؤوس الأدباء صيدلية لطب الكلام لكان هو (دولاب السموم) فيها. . لا نعرف من أمثال كاتبنا هذا في تاريخ الأدب على تقادم الزمن إلا قليلين يسمونهم أصحاب النوادر، وقالوا إن المشهورين منهم: ابن أبى عتيق وأشعب وأبو الغصن وجحا وأبو العبر وأبو العنبس وابن الجصاص ومزيد المدني. وهم ثمانية، فإذا توسعنا وأضفنا إليهم الشعراء الماجنين أبا الرقعمق وصريع الدلاء وأبا الحكم الجاهلي والأسطرلابي وابن حجاج، فلا نكون قد زدنا في القليل إلا قليلا، فإذا استقصينا بغاية الاستقصاء وتممنا عليهم بأصحاب الأجوبة المسكتة كأبي العيناء ونظرائه، فلا نزال حيث كنا. ولا يذهبن عنك إننا لا نعد إلا المشهورين الذين أوتوا ملك النادرة لا بالرقاعة والحمق، ولكن بالأدب والبلاغة والشعر والحكمة وتوجيه كل ذلك إلى الجهة الضاحكة المسفرة من الحياة ثم إن لهذا الأديب بعد ذلك فضلا كثيرا على العربية إذ يمكن لها بين قرائه من العامة وهم ألوف كثيرة، وينشر الفكاهة بمقالاته القصيرة في أذواقهم وألسنتهم. ولا سبيل إلى إحياء العربية في هذا العصر إلا أن نجعل العامة أشبه بالعرب الملوحين لا ينكرون الفصيح ولا يأبونه لمكان طباعهم وإن كانوا لا يستطيعونه على وجهه لمكان ألسنتهم.
(فجريدة الناس) صحيفة من الصحف ولكنها مع ذلك ناموس اجتماعي عظيم دائب في ترقية الطباع والأذواق، ولو أن لها من القراء عدد من عندنا من العامة لكان ذلك من فضل الله علينا وعلى (الناس).
مصطفى صادق الرافعي
تعليق وتحقيق:
اطلعت في عدد (الرسالة) 798 على ما كتبه الأستاذ الداغستاني عن (شعوب القوقاز)، فرأيت أن أنقل كلمات في الموضوع من تعليق العلامة العبقري الشيخ محمد زاهد الكوثري في (ترجمة دائرة المعارف الإسلامية) العدد9 ج6 ص345:
إن الكتب المؤلفة في القوقاس والقوقاسيين إلى الآن غير كافية ولا شافية في الاطلاع على جلية أحوال تلك البلاد وأهليها لأن أمم جبل القوقاس كانوا أقوياء أشداء لا يسمحون(800/54)
للأجانب أن يطئوا أرضهم وديارهم، ولا أن يتوغلوا خلالها بعلة إجراء بحوث علمية، واستمر ذلك إلى سنة 1127هـ عام انهزامهم النهائي بعد حروب دامت نصف قرن، ولم تمض منذ ذلك التاريخ مدة تتسع لبحوث شاملة عنهم، ولا هناك حافز قوي يحمل الباحثين على تجشم المشاق في سبيل اجتلاء حقائق عن أمة باسلة قاربت حافة الفناء، ولذا نجد كلام من يتحدث عنهم من الأجانب لا يعدو حد الحدس والتخمين إلا في الندرة. وليس بمستبعد أن يأتي يوم يغوص فيه الباحثون على ما يتعلق بذلك الجبل، ولا سيما لهجات القبائل التي أنجبها عهد الجنس الأبيض القوقاسي المنتشر في بقاع الأرض، حرصا من هؤلاء الباحثين على تعرف صلة لغات أمم أوربة اليوم بلغات تلك القبائل القديمة.
والمعلومات الوثيقة عنهم هي ما في بطون الكتب المؤلفة في عهد الدولة الجركسية بمصر، لأنها مستمدة من أبناء القوقاس مباشرة في ذلك العهد. ثم إن لبعض الباحثين من أهل تلك الجهات بعض مؤلفات عن الجبل وقبائله تنير كثيرا من أحوال القبائل. وأبناء القوقاسيين لها أدوار تجب دراسة كل دور منها بعناية خاصة، منها ما قبل التاريخ الميلادي إلى أقدم عهد، ثم من أول التاريخ الميلادي إلى الفتح الإسلامي في عهد الفاروق، ثم القرون الإسلامية في العهدين الأموي والعباسي، إلى استيلاء المغول على القوقاس، ثم صلتهم بالدولة الأيوبية، ثم تأسيسهم الدولتين البحرية والبرجية بمصر، ثم صلتهم بالعثمانيين قبل استيلائهم على البلاد العربية وبعد استيلائهم عليها وصلاتهم بشتى الدول في القوقاس وغيره. وتلك مباحث متشعبة تتطلب جهودا جبارة. ومما يجب على من يريد الإلمام بذلك أن لا يهمل المصادر الصينية وما كتبه مؤرخو الصين عن اللان والهون، لأنه سبق للصينيين أن اتسعت رقعة حكمهم إلى الجهات الشرقية من بحر الخزر. وكذلك لا بد لمن يريد أن يعرف تاريخ القوقاسيين من الإطلاع على التواريخ القديمة التي ألفها مؤرخو بزانطة لأنها تشتمل على أخبار الأقوام الآسيوية القديمة الذين اجتازوا إلى أوربة عن شمال القوقاس أو جنوبه، وهؤلاء الزاحفون من الطريقين ما كانوا كلهم من عنصر واحد ولا كلهم أتوا من الشرق الأقصى أو من جهة الشمال، بل كان القوقاسيين الذين هم في طريقهم اثر مهم في توجيههم وقيادتهم حتى أصبحت أسماء قبائل المتزعمين على هؤلاء كأسماء لجميعهم، وها هي اللانة من أسماء جبل القوقاس فيما حكاه ملطبرون وخونيه قبيلة فرعية(800/55)
من القبائل الأربع للجراكسة، والآوار قبيلة في الجبل يقطنون فيه منذ قديم محتفظين بسحنتهم الخاصة ولهجتهم الخاصة وهم وايبر أخوان في عداد الآص.
محمد أسامة عليبة(800/56)
القصص
الطالع
قصة للكاتب الإنجليزي اندروز روبرتسن
قال له وهو يعد له طعام إفطاره - هذه رسالة لك.
- أشكرك ولكن ما الذي أعددته لي هذا الصباح؟
- كما ترى، بعض الكعيكات والبيض والخبز والشاي.
وجعل يتناول الطعام وهو يتساءل، من الذي بعث بهذه الرسالة؟ وتأمل الغلاف، لقد حول إليه من محل إقامته السابق. من الذي يراسله في هذه الساعة؟ لعله أحد الدائنين يطالبه بما له من مال. أن مثل هؤلاء لا يتركون الإنسان في راحة أبدا!
ولكنه كان قد عزم على أن لا يفسد عليه شيئاً لذة تناوله الطعام لكم تحسن الطهي عن أيامه السابقة. وتذكر، كان لا يعتقد أنه سيستسيغ هذا الطعام يوما ماز ولكن، كم كانت دهشته عندما وجد معدته قد تهيأت له واعتادت عليه.
وانتهى من طعامه، فقرر أن يقر الرسالة. ففض الغلاف وقرأ:
(سيدي الفاضل - أبعث إليك بطالعك كما أردت. وقد اختصرت من المصطلحات الفلكية قدر استطاعتي، وجعلت رسالتي قاصرة على مستقبلك.
(حقا إنك رجل مجدود. ذلك ما أثبته طالعك. وأود أن أقول أنه قل أن أجد مستقبلا باهرا بين من اكشف عن طالعهم مثل مستقبلك. فدعني أهنئك تهنئة حارة.
إني شديد الأسف لتأخري في الرد عليك. ولكن رسالتك كانت قد وصلتني متأخرة، ولعل ذلك يرجع إلى خطأ من البريد.
أخيرا دعني أشكر الفرصة التي واتتني لدراسة مستقبلك المخلص. . . أستاذ علم العرافة.)
كان قد انتهى من شرب قدح الشاي، فأشعل لفافة بعد أن قدم غيرها لآخر، ثم جعل يقرأ طالعه وهو ينفث الدخان من صدره.
(أن تاريخ ميلادك وهو، 4 فبراير كما تقول رسالتك تدل على انك من مواليد برج (الدلو) تحت علامة (حامل الماء)، العلامة الحادية عشرة من منطقة الأبراج. وهي علامة تصاعدية ترمز إلى الجيل المقبل، الجيل العظيم.(800/57)
(وأهم ما يميز مواليد هذا البرج أنهم لا يبالون بالتقاليد، بل كل همهم ينصب في البحث عن الحقائق. ولذلك تجدهم يتحلون بشجاعة لا نظير لها، وعقلية مرنة متزنة. ويميلون إلى العمل جماعة، وفي اتحاد متين.
(وهم مثاليون في علاقاتهم الغرامية، وأسخياء في حبهم، يجودون بكل شيء في سبيل ذلك الحب.
(ومواليد هذا البرج يفضلون العمال الذهنية ويبرزون في أعمال الجيش والحكومة. وهم معرضون للنقد، ولكنهم يواجهونه في شجاعة فائقة.)
(واكتفى من قراءة هذا القدر من الرسالة. ثم أعطاها إلى الآخر، فألقى عليها نظرة، وأخيرا أعادها إليه قائلا - إنها لا تفيدني في شيء، فأنا من مواليد شهر يوليو.
وتناول منه الرسالة وعاود القراءة) لقد اجتزت حياتك الأولى في مشقة. ويبدو أنك الآن في مركز حرج. ولكنك سرعان ما ستتغلب على المصاعب، وتبدأ في طلب ما تتمناه من الحياة. . .
(إنك تميل إلى الناحية العلمية. والعمل الجدي في هذه الناحية سيولد لك العجائب. لقد سبق لك أن فكرت في ذلك، واهتممت بالمخترعات. إن النجوم تشير إلى انك ستقوم باختراع ما، يغير من مستقبلك. وستأتيك الثروة بعد أن تجتاز الكثير من الصعاب. وسيأخذ منك اختراعك بعض الوقت. ولكنك ستصبر وتصبر لأنك تدرك بأنك ستصل حتما إلى ذروة المجد. وعندما تعتقد أنك فقدت الأمل ويتملكك اليأس ينقلب كل شيء انقلابا مفاجئا في صالحك، وعندئذ تقبل عليك الثروة، ويأتيك الجاه.
لقد شقيت كثيرا في حياتك الأولى، ولذلك ستحافظ على كل قرش تكسبه. وفي الحق، فإن المال يجلب المال. وستهتم بالناحية الصناعية اهتماماً يؤدي بك إلى أن تصبح ملك الصناعة.
أما عن حياتك الخاصة، فإن علامتك تدل على أنك في صحة جيدة. ولكنك في حاجة إلى الرياضة لتظل كما أنت. ولحسن الحظ يبدو انك تقوم بذلك عن طريق التعود. ولكن يجب أن توجه عنايتك إلى عينيك وعنقك وقدميك والدورة الدموية في جسمك. وستنتابك بعض السقام وسرعان ما ستتغلب عليها. وهناك من الدلائل ما يشير على أنك ستعيش عمراً(800/58)
مديداً.
(وأما عن حياتك الغرامية فإن النجم يشير إلى إنك ستتزوج خلال شهر يونيو، وهو الشهر المفضل لديك. أن حياتك الزوجية ستكون في مد وجزر، ولكنها - على أية حال - ستغمرك بالسعادة. والنجوم تشير أيضاً إلى أنك ستكون رب عائلة وستنجب ذرية - أربعة أولاد - سيكون لها شان كبير في الحياة. وستفتخر بك عائلتك، وستعيش زوجك من بعدك، ولكنك ستعيش حتى ترى ذريتك في أوج شبابها.
(وستسمع أثناء حياتك الطويلة عن حروب ولكنك لن تشترك وعائلتك فيها. وستتغير أحوال العالم الاقتصادية ولكنها لن تؤثر عليك.
(وعندما يحين الحين وتقابل باريك، فالنجوم تبين أن نهايتك ستكون نهاية هادئة. أن كل الدلائل تشير إلى أنك ستموت أثناء نومك.
(وأخيرا دعني أهنئك تهنئة حارة بحسن طالعك)
وانتهت الرسالة، وانتشرت على وجه قارئها ابتسامة فاترة. ثم أشعل لفافة أخرى، وأخيرا ناول الآخر الرسالة قائلا - ما رأيك في هذه الرسالة؟ فقرأها ثم أجاب - أنها مسلية للغاية!!
وما أن انتهى من كلامه حتى سمعنا صوت وقع أقدام تسير في الممر، ثم فتح الباب ودلف منه حاكم السجن ورئيس حراسة والطبيب والكاهن. وخاطب صاحب الرسالة قائلا - هل أنت على استعداد للقيام بنزهتك الأخيرة؟
فأجابه وهو يرمقه بنظرة باردة عميقة من عينيه الزرقاويين نعم، إني على استعداد.
وسار وبجانبه حارسه الذي كان يلازمه في سجنه وقد أحاط بهما الركب حتى أدى بهما السير إلى فناء السجن في صباح يوم من شهر يونيو، واقتربوا من تلك المنصة الخشبية التي أقيمت عليها. . . المشنقة؟
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب(800/59)
العدد 801 - بتاريخ: 08 - 11 - 1948(/)
أسرة طيبة
كنا في سنة 1920 نسكن حي الغمرة في شمال القاهرة؛ وكان يساكننا في العمارة التي نحن نعيش فيها أسر مختلفة الجنس والدين والطبقة تعيش كل أسرة منها في انعزال عن الأخرى فلا يتلاقى الجيران إلا على السلم أو لدى الباب. وربما لقي الجار جاره في بعض الطريق فلا يعرفه، إلا إذا كان ممن يعلق شخصه بالذهن لسمة تميزه من سائر الناس كحسن يخترق البصر، أو قبح يسترعي النظر، أو شذوذ يشغل البال. . . من هؤلاء الذين يدخلون في هذا الاستثناء المعلم فهمي رزق أستاذ الدروس الخصوصية في حي (الظاهر)، ومدرس الدين والعربية في مدرسة (التوفيق)، فلا تجد أحدا من سكان العمارة ولا من قطان الحي ينكره إذا رآه، أو لا يذكره إذا عرفه! كان يسكن الشقة المقابلة لشقتنا، وكانت هذه الشقة لا تفتح في اليوم كله إلا أربع مرات: مرتين حين يغدو هو وأخوه الأصغر في الصباح، ومرتين حين يروحان في المساء، ثم لا يدري إلا الله أتغلق بعدهما على أم أو زوج أو أخت أو خادم. لا يستطيع بشر أن يعرف ذلك، لا بالعين لأنه لا يرى إنسانا في نافذة، ولا بالأذن لأنه لا يسمع صوتا في غرفة. أما الشذوذ الذي يغري به الطرف ويجمع له البال فهو شكله العجيب: كان مفرط القصر واسع البطن دقيق الأطراف أو قص العنق مخروط الوجه أغوص العين أكزم الأنف أهرت الشدقين غليظ الشارب والحاجبين. ومالي أطيل عليك بالوصف، وأنت تستطيع أن تخفف مئونته على قلمي إذا تصورت كرة أرضية من الخشب أو من غيره قطرها متران، وضع فوق قطبها الأعلى وجه عليه طربوش، وتحت قطبها الأسفل قدماني هما حذاء، ثم تدلى من الجانب اليمن ذراع قصيرة في آخرها مذبة عاج، ومن الجانب الأيسر ذراع أخرى في طرفها جريدة (الوطن)، ثم اكتسى الظهر والذراعان جاكتة كحلاء، واكتسى البطن والساقان بنطلونا أبيض؛ فإذا تخيلت بعد ذلك هذه الكرة تمشي فتدب في البطء دبيب السلحفاة، وتخطو في السرعة خطو الأوزة، اجتمعت في ذهنك صورة مقاربة للمعلم فهمي حينما رأيته لأول مرة يتدحرج هابطا في السلم؛ وكان قد علم من قبل أن جاره مدرس الأدب في الإعدادية الثانوية، وناقل الآم فرتر هذا العام إلى العربية، فلما أبصرني صاعدا حياني وعرفني بنفسه، ثم سألني أن يجلس إلي في القهوة قليلا ليعرض علي مسائل في الإعراب له فيها رأي. فقلت له: ولماذا نجلس في القهوة وبين بيتي وبيتك خطوتان إذا شئت خطوتهما إليك في أي وقت تحدده. فقال: أفضل أن(801/1)
أزورك في عشية الغد.
وفي الجلسة الأولى جرى بيني وبينه حديث في السياسة ونقاش في النحو تبين من خلاله أن الجل طيب القلب، وآفة الطيبة أنها تصيب أحيانا بالغفلة فتوقع صاحبها في الزهو وتورطه في الدعوى؛ فهو يفخر بأنه خطأ قول الشنقيطي في اللغة، وزيف رأي اليازجي في النقد؟ ويدعي أن مصطفى كامل كان يستشيره في خطبه قبل أن تلقى: وأن سعد باشا كان يستشيره في بياناته قبل أن تنشر.
وفي الجلسات الأخر علمت أن الرجل لم يتم التعليم الابتدائي، وأنه بحث عن مرتزق لا يضر به الجهل فلم يجد غير التعليم والصحافة، فاختار التعليم في المدارس الابتدائية، وتخصص في تدريس اللغة العربية، فكان يعلمها مشاهرة في المدرسة بجنيه، وفي البيت بريال. ومن هذا اليسير ينفق على كسوته وقهوته وتبغه، ثم يعتمد فيما جاوز ذلك على مرتب اخيه، وهو موظف بالابتدائية في وزارة المالية، وعلى تدبير أخته وهي تخيط في بيتها لبعض البيوت التجارية. وهو وهذا الأخ وهذه الأخت، هم الأقاليم الثلاثة التي تتألف منها هذه الأسرة المسيحية الطيبة؛ ففهمي هو الأب، وشحاتة هو الابن، وعابدة هي روح القدس! ثلاث أرباب وثلاثة عبيد، كل منهم لأخويه إله بالاحترام وعبد بالحب. وثلاثتهم يعيشون على الإيثار والتضحية؛ فالأخ الكبير قد نيف على الأربعين ولا يريد أن يتزوج لأن أخته لا تزال آنسة! والأخ الصغير قد أربى على الخامسة والثلاثين ولا يبغي الزواج لأن أخاه لا يزال أعزب، والأخت قد هدفت للسادسة والعشرين، وهي تدفع الخطاب عن يديها لأنها لا تحب أن تترك أخويها أعزبين.
وكل أخ يؤثر أخويه على نفسه؛ فالمعلم فهمي يحنو على عايدة وشحاتة حنو الأب الوالد الحدب: يقوم عنهما بشؤون البيت مع الناس، ويجلب لهما حاجة المطبخ من السوق، ويقبل مكرها أن يخصه أخواه ببعض المال لأنه بكر الأبوين ومظهر الأسرة
وشحاتة أفندي يؤدي مرتبه إلى أخته أول كل شهر فلا يأخذ منه إلا شهرية الحلاق. وماذا يصنع بالنقود؟ إنه لا يركب الترام لأنه لديه قدمين قويين تحملانه إلى الديوان ثم إلى البيت، وإنه لا يشتري الطعام لأنه يأخذ فطوره معه كل صباح: رغيفا في منديل، وطعمية في علبة، أو ملوخية في قارورة. . . فإذا رجع من عمله، تولى كنس الغرف ونفض الأثاث(801/2)
وغسل الآنية. ثم يجلس بعد ذلك إلى أخته فيدير لها آلة الخياطة، أو يرفه عنها بأحاديث المدينة، أو يذهب إلى التجار بالمخيط ليعود من عندهم بالقماش.
أما الآنسة عايدة فتشبل على العزبين أشبال الأم العطوف: تدبر لهما المنزل، فتطهي وتغسل وتكوي؛ وتدبر منهما الجسم، فتقي وتعالج وتمرض؛ ثم لا تكلفهما بعد لباس البيت إلا فستانا بسيطا كل عام تذهب به أيام الأحد إلى القداس.
وكان مرض الواحد مرض الثلاثة، إذا شكا أحدهم علة شكا الآخران ألمهما معه. وقد حرص المعلم فهمي على أن يقيس حرارة أخويه إذا لحظ عليهما فتورا أو سمع منهما شكوى. وفي ذات ليلة من ليالي الشتاء طرق علي الباب في أخريات الليل، فانتبهت فزعا وفتحت فإذا هو ينتفض انتفاض المحموم وينشج نشيج الطفل. فقلت له: خير يا صديقي، ما الذي يبكيك؟ فقال: أختي في نزاع الروح، وإن حرارتها ثلاثة وأربعون درجة وقد بعثت أخي في طلب الطبيب القريب؛ فلما أخبره بأن حرارتها ثلاث وأربعون أغلق الباب في وجهه وهو يصيح: اذهب يا مجنون إلى الحانوتي ولا تضع وقتك!
قال هذا المعلم فهمي وهو يجذب يدي حتى دخل بي إلى غرفة المريضة، فوجدتها راقدة في سريرها العالي، لحافها دائر على خصرها، ويداه مشبوكتان على صدرها، ونفسها يتردد هادئا كنفس الطفل، ووجهها يشرق نديا كوجه الصبح. وكان على مقربة من سريرها منضدة عليها مصباح كبير من طراز المصابيح التي كانت تضيء الصوارين في الأعراس والمآتم قبل أن تعم الكهرباء، فلما وقفت إلى جانب سريرها جست يدها ومسست جبينها وجدت حرارتها توشك أن تكون طبيعية؛ ولكن أخاها أراني الميزان فوجدت زئبقة على الآخر. فنفضت الميزان ووضعته في فم المريضة المستسلمة ثم قراءته فإذا هو سبعة وثلاثون درجة ونصف! فلما نطقت بالرقم دبت الحياة في عايدة ففتحت عينيها، وعاد الهدوء إلى فهمي فكف دمعه، وأخذ شحاتة الدهش فغفر فاه، وسرى النشاط من الغرفة إلى سائر البيت فقفزت من تحت الكنبة أرنب، وقامت من فوق المائدة دجاجة، وتمطت من بين الفرش هرة. ولكن المعلم فهمي أراد أن يتأكد مما قلت، فأخذ الميزان وأدناه من المصباح لضعف بصره، ثم أخذ يقلبه وينظر، ثم يقلبه وينظر، حتى مضى على الميزان دقيقتان بجانب المصباح المشتعل، ثم اهتدى أخيرا غلى الزئبق الصاعد فإذا هو في آخر الطرف(801/3)
الأعلى من الميزان. فقال وهو يرتجف: أنظر! ها هي الدرجة ثلاثا وأربعين! فقلت له وأنا أبتسم ابتسامة عريضة: هذه يا صديقي درجة المصباح لا درجة المريضة!
أحمد حسن الزيات(801/4)
الخلاف على القنبلة الذرية
للأستاذ عمر حليق
قنبلتان ألقتهما طائرتان يقودهما نفر من الطيارين الأمريكان على جزر اليابان فقتل 115 ألف شخص وأصيب 110 آلاف آخرون بجراح مختلفة، وزالت من الوجود معالم مدينتين كانتا تعجان بالحياة. وأصبحت كارثة هاتين المدينتين اليابانيتين (ناكي ساتي) و (هيروشيما) علما على البعبع الذري الذي يهدد الحضارة والإنسانية.
لم يكن وزن هاتين القنبلتين يزيد على بضعة أرطال، ولكنهما كانتا مشحونتين بقوى متفجرة تعادل 40 ألف طن من أشد الديناميت والبارود تفجرا، وتحتاج إلى عشرة آلاف طائرة ضخمة لتنقل هذه الأطنان وتلقي بها على هاتين المدينتين.
هذا تقدير للفظاعة الكامنة في القنبلة الذرية - التي حاولت هيئة الأمم المتحدة معالجتها خلال السنوات الثلاث الماضية فلم تفلح حتى الآن.
إن مراقبة الطاقة الذرية على نطاق دولي مشكلة لا تعطيها الصحافة العالمية وألسنة الرأي العام الدولي ما تستحقه فعلا من أهمية ودراسة، وأن الروس والأمريكان وحلفائهم قد اختلفوا اختلافا شديدا لخطورة هذه المراقبة، ولخطورة الطاقة الذرية وما تنتجه من قنابل ومهلكات جهنمية. وسبب هذا الاختلاف لا يعود إلى عجز في التقدير، ولكن لأن المصالح الشخصية للدول الكبرى قد طغت على مصلحة الإنسانية والحضارة وصدت مندوبي الدول الكبرى وصناع السياسة فيها عن تضحية منفعتهم الفردية العاجلة المؤقتة في سبيل الحضارة والمدنية التي تهددها الذرية وأسلحتها الجهنمية بالمحق والإبادة.
وقد أحال مجلس الأمن الدولي قضية مراقبة الإنتاج الذري على الجمعية العمومية في دورتها الثالثة الحالية بباريس وأردف هذه الإحالة بتوصية فحواها أن هذه القضية تحتاج إلى اهتمام خاص ومزيد من الجهد والعناية والرغبة في التعاون والإخلاص وحسن النية.
ومن سخرية القدر في شؤون الطاقة الذرية أن اختلاف الدول الكبرى على مراقبة الإنتاج الذري قد حال بين الإنسانية وبين أن تستفيد إفادة لا حد لها من هذه الطاقة الهائلة التي لولا القيود على إنتاجها لاستطاعت الآن أن توجه توجيها فيه خدمة للصناعة السلمية وما يلحق بها من نواحي الحضارة والتقدم الآلي والفني في عالم يعاني أزمة في الغذاء والمواصلات(801/5)
وتزايد السكان ومشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة. فإن الطاقة الذرية إذا أنتجت لمنفعة الصناعة السلمية ستحل مشاكل الوقود البترول والكهرباء والفحم الحجري وهي مواد يشتد التنافس الدولي عليها وتدفع إلى الحروب وتعاني الدول الفقيرة الحرمان منها.
كان أول خطوة في سبيل هذه المراقبة الدولية اجتماع تمهيدي عقدته حكومات بريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية في منتصف نوفمبر 1945 في مدينة واشنطون عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية. وقررت هذه الحكومات الثلاث في ذلك الاجتماع بأن مصلحة السلم العالمي تتطلب مراقبة الإنتاج الذري على نطاق دولي واسع وبالتعاون الوثيق بين حلفاء الغرب وروسيا السوفيتية وحلفائها. ثم كانت الخطوة الثانية في شهر ديسمبر من عام 1945 نفسه ولكن الاجتماع كان في موسكو هذه المرة لمناسبة انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الدول الكبرى. وأقر موسكو نفس المبدأ الذي أقره اجتماع الحلفاء الأنجلوساكسون في واشنطون في اجتماعهم الأول. وقررت الدول الثلاث الكبرى (روسيا وبريطانيا وأمريكا) في اجتماع موسكو هذا دعوة فرنسا والصين وكندا لوضع مشروع دولي لمراقبة الطاقة الذرية وتقديمه إلى الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة في دورتها الأولى بلندن في مطلع عام 1946. وقررت الجمعية العمومية في تلك الدورة تأليف (لجنة الطاقات الذرية) لتحقيق مشروع مراقبة الإنتاج الذري على نطاق دولي.
وهذه اللجنة مؤلفة من 11 عضوا هم أعضاء مجلس الأمن الدولي مضافا إليهم كندا، لأن كندا إحدى الدول الثلاث التي تملك سر القنبلة الذرية.
وأعطيت الصلاحية للجنة الطاقة الذرية هذه أن تضع مشروعات عملية لتحقيق المراقبة الدولية على جميع أنواع الإنتاج الذي تستعمل فيه الطاقة الذرية والتأكد من أن الدول التي تستطيع الإنتاج الذري لا تستعمله لبناء أسلحة، بل لخدمة الصناعة السلمية والطب وما إلى ذلك من نواحي الحضارة والعمران، وكلفت اللجنة باتخاذ خطوات عملية لمساعدة هيئة الأمم المتحدة لتثبت من صرامة المراقبة الدولية ومفعوليتها بالتفتيش والاستقصاء وما إلى ذلك.
واجتمعت لجنة الطاقة الذرية هذه لأول مرة في نيويورك في صيف عام 1946 ووضع أمامها اقتراحان لمراقبة الإنتاج الذري أحدهما قدمته أمريكا وهو يشمل وجهة نظر الحلفاء،(801/6)
والآخر قدمته روسيا السوفيتية. وقد مضى على اللجنة عامان كاملان دون أن تصل إلى الموافقة النهائية على أحد الاقتراحين في أحضان الجمعية العمومية التي تجتمع بباريس أما فحوى الاقتراحين فهي كما يلي:
1 - الاقتراح الأمريكي يدعو إلى إنشاء سلطة دولية لتحسين الإنتاج الذري ليخدم الصناعة السلمية والطب والمواصلات وما إلى ذلك. ويكون لهذه السلطة حق الإشراف على جميع وسائل الإنتاج الذري في جميع الدول ويكون لهل الحق كذلك في أن تمنع أي دولة من الدول من صنع المنتجات الذرية الفتاكة.
ولهذه السلطة الدولية أن تصل إلى فرض مراقبتها على خطوات إلى أن تستطيع نهائيا منع إنتاج القنابل الذرية منعا باتا وعلى نطاق دولي واسع. وقد نص الاقتراح الأمريكي على التخلص من القنابل الذرية الموجودة الآن بحوزة بعض الدول الكبرى، كما نص حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الدول الكبرى في هيئة الأمم المتحدة يجب أن لا يطبق على الدول التي تخالف هذه السلطة الدولية لمراقبة الإنتاج الذري. وبالإجمال فإن الاقتراح الأمريكي يدعو إلى التعاون الدولي لمراقبة التسلح الذري على أسس عملية تتطلب حسن النية والرغبة في خدمة السلام.
2 - أما الاقتراح الروسي فهو يختلف اختلافا جوهريا عن الاقتراح الأمريكي في جميع النقاط. ويدعو إلى تحطيم القنابل الذرية الموجودة في حوزة حلفاء الغرب. ومنع إنتاج الأسلحة الذرية من قنابل وغيرها منعا باتا، ويدعو الاقتراح الروسيالأمم المتحدة لمؤتمر دولي يسن القوانين لمنع التسلح الذري ويضع أسس المراقبة الدولية على نطاق عالمي. وأصر الروس على الاحتفاظ بحق الفيتو فيما يخص بشؤون الإنتاج الذري.
ولم يوافق الروس على الرأي الأمريكي القائل بضرورة وضع جميع مشاريع الإنتاج الذري التي تقوم بها الدول تحت سلطة عالمية واحدة تسيطر على جميع وسائل الإنتاج وحدها وتمنع جميع الدول من العمل في الإنتاج الذري منفردين. ورأى الروس أن تظل حرية الإنتاج الذري في يد الدول، ولكن يجب أن يأخذ عليها عهد بعدم استعماله للتسلح وصنع القنابل الجهنمية.
وظلت لجنة الطاقة الذرية تبحث هذين الاقتراحين الروسي والأمريكي سنتين، وكانت(801/7)
نتيجة مراحل البحث أن وافقت أكثرية أعضاء اللجنة ومن بينها - سوريا - على الاقتراح الأمريكي ولم يصوت مع روسيا سوى حليفتها أوكرانيا.
ويقول مناصرو الرأي الروسي أن الاقتراح الأمريكي لمراقبة التسلح الذري وإنتاج الطاقة الذرية يرمي إلى جعل الولايات المتحدة صاحبة النفوذ الأعظم في الإنتاج الذري، خصوصا وأن أمريكا هي الدولة الوحيد التي أتقنت صناعة هذا الإنتاج، وأن رغبتها في تقييده الآن يرجع إلى رغبتها في منع الدول الأخرى عن بلوغ المستوى الذي بلغته هي في التقدم الفني والصناعي في شؤون الطاقة الذري. وينتقد أنصار الرأي الروسي الاقتراح الأمريكي أيضا بأنه يشتمل على التدخل في شؤون الدول المستقلة وهو اعتداء على سيادتها واستقلالها الداخلي.
ويجيب أنصار المشروع الأمريكي على ذلك قائلين أن أمريكا بموجب اقتراحها قد تنازلت عن حقوقها في احتكار إنتاج الطاقة الذرية ووضعتها في يد سلطة دولية تستطيع روسيا المشاركة فيها في إخلاص وحسن نية. أما أن الاقتراح الأمريكي يتضمن التدخل في شؤون الدول المستقلة سيادتها فهو لا يتفق مع روح التعاون الدولي، وأن أي مشروع يتطلب التعاون الدولي لا يجب أن يكلف الدول التنازل عن بعض حقوقها في خدمة السلام والتعاون الدولي.
هذه بإيجاز مشكلة مراقبة الطاقة الذرية - وهي مشكلة خطيرة، وهي في ظروف دولية تضع الشعوب على أهبة الاستعداد العسكري، وهي مشكلة مخيفة لعلها أهم المشاكل الدولية قاطبة.
وهي الآن معروضة على الجمعية العمومية بباريس. ترى هل تستطيع الثماني والخمسين دولة المجتمعة هناك أن تحلها؟
يقول الخبراء أن هذا مستحيل - لأن في المشكلة نقاطا فنية وعسكرية لا يحلها الجدال السياسي، وليست الجمعية العمومية إلا برلمانا دوليا محصوله السياسة والجدل القانوني.
وأغلب الظن أن مشكلة الطاقة الذرية ستظل شوكة في حلق هيئة الأمم - وستعاد إلى لجنة الطاقة الذرية من جديد لعلها تقنع الدول الكبرى المتنافسة بأن تتفق على حماية نفسها من ويل هذه الذرة الجهنمية.(801/8)
عمر حليق
سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية بنيويورك(801/9)
كتاب البرهان في وجوه البيان
للدكتور علي حسن عبد القادر
(تصحيح خطأ علمي، وتحقيق شخصية كتاب ورد اعتبار
مؤلف طغى على اسمه الزمان)
كتاب (البرهان في وجوه البيان) لأبي الحسن اسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب، طبع جزء منه قدر ثلثه باسم (نقد النثر)، حرره وأخرجه الدكتور طه حسين، والأستاذ عبد الحميد العبادي، منسوبا إلى أبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي المتوفى سنة 337 هـ. وقد اعتمد مخرجا (نقد النثر) على مخطوطة بمكتبة الأسكوريال رقم 243 من فهرس درينبرغ.
وقد عثرنا على مخطوطة لهذا الكتاب بمكتبة تشسترببتي رقم تحت عنوان (كتاب البرهان في وجوه البيان)، وعند المقابلة بينها وبين كتاب (نقد النثر) المطبوع وجدناهما يتفقان في القدر المطبوع، وتزيد المخطوطة التي بأيدينا على المطبوعة بمقدار ثلثي الكتاب تقريبا. ولم نشك في أن هذا هو جزء أصلي من الكتاب قد سقط منه في المخطوطة الأمكوريالية، وذلك أن المؤلف قد بنى كتابه على أربعة وجوه للبيان: -
البيان الأول الاعتبار، البيان الثاني الاعتقاد، البيان الثالث العبارة، البيان الرابع الكتاب. والبيان الرابع (الذي هو الكتاب) غير موجود في النسخة المطبوعة، وقد علل محقق هذه النسخة المبتورة هذا النقص بادعائه أن المؤلف قد ضمن الباب الثالث (وهو العبارة) الكلام على الوجه الرابع وهو الكتاب.
وجعل بهذه الدعوى الكتاب كاملا بذاته، وهي دعوى قد فرضها المحقق على الكتاب فرضا وجزم بها من غير فحص له، فإنه لو كان قد فحص الجزء الذي بيده من الكتاب لرأى أن المؤلف قد نبه في أثناء الكتاب على أشياء سيذكرها بعد، ومع ذلك لم يأت لها ذكر. فمن ذلك قول المؤلف (صفحة 118 من طبعة دار الكتب): (وأما الحديث، فهو ما يجري بين الناس في مخاطبتهم ومناقلاتهم ومجالسهم، وله وجوه كثيرة: فمنها الجد والهزل والسخف والجزل، والحسن والقبيح والملحون والفصيح، والخطأ والصواب والصدق والكذب والناف(801/10)
والضار والحق والباطل والناقص والتام والمردود والمقبول والمهم والفضول والبليغ والعيي؛ ثم جاء الكلام بعد ذلك عن الجد والهزل والسخيف والجزل والحسن والقبيح والملحون والفصيح والخطأ والصواب، ولكن القول في الخطأ والصواب لم يتم، كما أن القول في الصدق والكذب والوجوه الأخرى الباقية لم يأت قط. ومن أمثلة ذلك أيضا ما جاء في باب تأليف العبارة (ص44 - 45 من طبعة دار الكتب): (وقد ذكر الخليل وغيره من أوزان الشعر وقوافيه ما يغني من النظر فيها. . . إلا أنا نذكر جملة من ذلك في باب استخراج المعمي تدعو الضرورة إلى ذكرها فيه أن شاء الله).
وليس في نقد النثر كما نشر أي ذكر أو إشارة إلى باب المعمي وذكر العروض والقافية. ومن أمثلة ذلك أيضا أنه جاء في آخر النسخة المطبوعة هذه العبارة: (وأما مراتب القول ومراتب المستمعين له، فقد تقدم القول فيه وبالله التوفيق).
وإذا تصفحنا كل ما جاء في النسخة المطبوعة لم نجد ذكرا أو إشارة (لمراتب القول) ولا (لمراتب المستمعين له) على الحقيقة؛ وبهذا يظهر أن المخطوطة الأسكوريالية والكتاب كما طبع ناقصان نقصا كبيرا، وأن محقق الكتاب لم ينتبه إلى هذا النقص الواضح أو لعله أغمض عينيه عن هذا النقص، وتلمس في بعض الأحيان تعللات لا تقوم وفرضها في الكتاب، وبدليل أننا نجد كل هذا المفقود قد جاء بالنسخة المخطوطة التي بأيدينا، فقد جاء فيها ذكر البيان الرابع وهو الكتاب، واستغرق من اصل الكتاب جزءا كبيرا أصليا، كما جاء فيها الكلام على باب المعمي وذكر العروض والقافية بتفصيل كامل واف. وكذلك جاء فيها ما بقي من وجوه الحديث وجهاً وجها. وكذلك مراتب القول ومراتب المستمعين له مرتبة مرتبة، فكانت مخطوطتنا بهذا التحقيق هي النسخة الكاملة للكتاب. ويظهر أن مخطوطة الأسكوريال كانت ناقصة أو نسخت من أخرى ناقصة فزاد فيها كاتبها ما يشعر بالتمام وهو قوله (وقد تقدم القول فيه وبالله التوفيق)، وهي عادة معروفة عند الوراقين كما حصل مثل ذلك في كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري مثلا.
وأهمية مخطوطتنا لا تنحصر في أنها النص الكامل للكتاب كما كتبه مؤلفه (أي أكثر من ضعف النص المطبوع)، بل أن لها أهمية أخرى أكبر من ذلك، وهي معرفة مؤلف هذا الكتاب على التحقيق. فقد ذكر المؤلف في مخطوطتنا اسمه كاملا في أثناء كتابه على عادة(801/11)
المؤلفين القدامى، فقال في أول البيان الرابع، وهو الجزء المقود من النسخة الأسكوريالية: (قال أبو الحسن اسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب قد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا هذا بنعمة الله. . .). وهو تصريح يبطل نسبة الكتاب إلى قدامة بن جعفر، ويضع حدا فاصلا للنزاع في مسألة مؤلف الكتاب، كما أن مخطوطتنا زيادة على هذا تحمل الاسم الصحيح للكتاب، وهو كتاب (البرهان في وجوه البيان).
وإنه وإن كنا لم نعثر على اسم هذا الكتاب، أو اسم مؤلفه مذكورا في أي مرجع من المراجع المعروفة عندنا، فقد وصلنا إلى أن هذا الكتاب ليس لقدامة وتحققنا من نسبته لأبي الحسين، وليس ذلك فقط من اجل أن المؤلف قد ذكر اسمه في أثناء كتابه بل من اجل أدلة أخرى مضمومة إلى هذا الدليل:
أولا: يذكر مؤلف الكتاب في أثناء كتابه أربعة كتب له: وهي: الإيضاح، وأسرار القرآن، التعبد، الحجة. وهذه الكتب الأربعة لم يذكرها أحد من مؤرخي قدامة في فهرس كتبه أو ما يشبهها في الاسم أو الموضوع، كما أنهم لم يذكروا له كتابا باسم (نقد النثر).
ثانيا: وقد نسب إلى قدامة كتاب في الكتابة، ولكن هذا الكتاب لم يسمه قدامة باسم (البرهان) أو (نقد النثر) وإنما سماه (كتاب الخراج وصناعة الكتابة)، وهو غير الكتاب الذي بأيدينا، فإن كتاب قدامة هذا، أو على الأصح النصف الثاني منه معروف، وأوجد مخطوطة منه بمكتبة كويرلي بالآستانة، وقد استنسخ شارل شيفر هذا المجلد الباقي من كتاب قدامة، وهذه النسخة محفوظة بدالا الكتب الوطنية بباريس وقد استخرج دي فويه نبذا منها وطبعها تحت عنوان (كتاب الخراج) وهذه النبذ هي الأبواب الثاني والثالث والرابع والخامس والحادي عشر من المنزلة الخامسة، والبابان السادس والسابع من المنزلة السادسة. واسم هذا الكتاب في هاتين النسختين (الأصلية والمنقولة) (الخراج وصناعة الكتابة)، وقد وصف ياقوت هذا الكتاب في ترجمة قدامه بقوله: (وله كتاب الخراج وصناعة الكتابة)؛ وله كتاب الخراج رتبه مراتب وأتى فيه بكل ما يحتاج الكاتب إليه، وكان على تسع منازل، وكان ثمانية فأضاف إليه تاسعا). ويقول المطرزي في كتاب الإيضاح شرح مقامات الحريري (مخطوطة المتحف البريطاني) (وله تصانيف كثيرة منها كتاب (الألفاظ) وكتاب (نقد الشعر)، وهو حسن للغاية طالعته ونقلت منه أشياء، وقيل هو لوالده جعفر. ومنها كتاب(801/12)
صناعة الكتابة ظفرت به وعثرت فيه على ضوال منشودة، وهو كتاب يشتمل على سبع منازل، وكل منزلة منها تحتوي على أبواب مختلفة ضمنها خصائص الكتاب والبلغاء: (وقال ابن الجوزي في المنتظم في حوادث سنة 337 بمناسبة موت قدامة ما نصه: (وله كتاب حسن في الخراج وصناعة الكتابة).
ويتضح من كل ذلك أنه كان لقدامة كتاب على منوال كتابنا، وأن هذا الكتاب يسمى (الخراج وصناعة الكتابة) وأنه كان على تسع منازل أو سبع منزل وفي كل منزلة أبواب. وهذا الوصف لا يتفق مع تبويب كتاب (البرهان) أو (نقد النثر) إذ أنه على أربعة أبواب تناولت كل ما قصد المؤلف كتابته عن الخراج وصناعة الكتابة؛ وفضلا عن هذا فنحن إذا قارنا الجزء المطبوع من كتاب قدامة الخاص بالخراج ألفيناه مختلفا عن القسم الخاص بالخراج في كتابنا (البرهان) والنتيجة البديهية هي أن قدامة وأبا الحسين كتب كل منهما كتابا في الموضوع ولكن كلا منهما سلك مسلكه الخاص في علاج الموضوع.
ثالثا - وقد رجح دي غوبه في مقدمته الفرنسية لكتاب الخراج المستخرج من كتاب قدامة في صناعة الكتابة أن قدامة ألف كتابه هذا بعد سنة 316 بقليل، وذلك أن قدامة تحدث في أثناء كتابه عن مليح الأرمني على انه معاصر له، ويشير أيضا إلى إغارة أسفار الديلمي على قزوين في سنة 316، وإلى الشنائع التي جرت على يد مرداونج وأتباعه في السنين التالية كحوادث قريبة الوقوع. ونحن نعلم مما يقوله أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة (ج3 ص145 - 146) أن قدامة عرض كتابه هذا سنة 320 على علي بن عيسى حيث يقول (وما رأيت أحدا تناهى في وصف النثر بجميع ما فيه وعليه غير قدامة بن جعفرفي المنزلة الثالثة من كتابه. قال لنا علي بن عيسى الوزير عرض علي قدامة كتابه سنة 320 واختبرته فوجدته بالغ وأحسن وتفرد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يشاركه فيه أحد من طريق اللفظ والمعنى). فهذا الكتاب قد تم الفراغ من تأليفه قبل سنة 320 قطعا. أما كتاب (البرهان) فلم يكن موجودا في هذا الوقت ولنا على هذا ثلاثة أدلة.
أ - يقول أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم في البرهان: (وقد رأيت شيخنا علي بن عيسى رحمه الله يكاتب أم المقتدر) وإشارة أبي الحسين في كتابه إلى وفاة علي بن عيسى تدل(801/13)
قطعا على أن علي بن عيسى لم يعش حتى يرى هذا الكتاب، وقد مات علي بن عيسى سنة 235، وهو أمر يدل على أن أبا الحسين ألف كتابه بعد سنة 335.
ب - ويقول أبو الحسين أيضا (ومنه ترجمة لآل مقلة ولأبي الحسن بن خلف بن طياب رحمه الله) وقد كان أبو الحسن بن خلف هذا حيا إلى سنة 330 (راجع أخبار الراضي والمرتضى للصولي ص230 - 231).
ج - ويقول أبو الحسين في (البرهان) أيضا مشيرا إلى مقتل المقتدر على يد غلامه مؤنس: (وكان نتيجة هذا الإهمال وثمرة هذه الأفعال أن خرج السلطان في جيشه على أحسن زينة لقتال غلام من غلمانه فقتل وحده من بين أهل عسكره وتفرق عنه الباقون ورجعوا موفورين). وقد حدث هذا في سنة 320 (راجع المنتظم ج6 ص243) وأبو الحسين يقص هذه الحادثة على أنها قصة معروفة للعبرة وضرب المثل فيما يصيب ولاة الأمر عند إهمالهم، ولا بد أن تكون قد مرت عليها سنوات أصبحت بها مثالا للعظة وضرب الأمثال، فكتابه لا بد أن يكون قد ألف بعد هذا التاريخ.
والنتيجة التي نجمعها من كل ذلك هي أن قدامة ألف كتابه قبل سنة 320 وأن أبا الحسين ألف كتابه بعد سنة 335 حسب ما جاء من نصوص تاريخية في ثنايا الكتابين.
رابعا - من الكتب المعروفة على وجه التحقيق لقدامة كتابه (نقد الشعر) وقد عالج فيه الشعر وفنونه بوجه خاص. وقد عالج صاحب (البرهان) في كتابه الشعر أيضا، فلو أنه كان لقدامة لما احتاج إلى معالجة هذه الموضوعات مرة أخرى بمثل هذا البيان الكافي، وفضلا عن ذلك فإن معالجة الشعر في (البرهان) تختلف اختلافا جوهريا عنها في كتاب (نقد الشعر) من الناحية الفنية والموضوعية، وما قصيدة الأستاذ العبادي في تحقيقه من مقارنات إنما هو مجرد افتراضات لا تقوم أمام الفحص. ومما يستحقأن نذكره من المقارنات أن قدامة في (نقد الشعر) حينما يسوق أقوال المتقدمين من الفلاسفة يذكرها مجملا: (فلاسفة اليونان)، في حين أن صاحب (البرهان) يذكرهم بأسمائهم كأن يقول (قال أرسطوطاليس).
خامسا - وقد كان مؤلف (البرهان) فقيها شيعيا من غير شك. ودليل ذلك منشور في أثناء الكتاب. فمن ذلك اهتمامه بنقل أقوال أئمة الشيعة وذكره لهم دائما عند كل استشهاد بما(801/14)
يشعر بتشيعه كقوله (الأئمة عليهم السلام. الأئمة الصادقين. الأئمة المستودعين علم القرآن. وروى عن الصادق عليه السلام) اهتمامه بنقل فقه الشيعة كاملا في تعرضه لأقوال الفقهاء، وترجيحه لآرائهم في بعض الأحيان ظاهرة تدل على تمكنه في نحلته الشيعية. وقدامة بن جعفر لم يكن من الشيعة ولا من فقهائهم كما هو معروف وكما يدل عليه ما كتبه عن الخراج، وإنما كان نصرانيا في الأصل وأسلم على يد الخليفة المكتفي بالله، وإذا أسلم نصراني على يد خليفة عباسي - وذلك إنما يكون عادة طمعا في مناصب الدولة - فمن المستبعد أن يصير علويا متشيعا مرة واحدة. وما أورده الأستاذ العبادي في توجيه مسحة التشيع الظاهرة في الكتاب من أن قدامة قد جارى بني بويه بعد دخولهم بغداد سنة 334 يرده النقد التاريخي، وقد كتب قدامة كتابه في الكتابة قيل هذا التاريخ بأربعة عشر عاما على الأقل، ومات بعد دخولهم بغداد بوقت قصير.
سادسا - وصاحب كتاب (البرهان) يصر في كل مناسبة على ذكر الرجال المشهورين من آل وهب معظما لهم فخورا بهم كأن يقول (وقد كان شيخنا أبو علي الحسن بن وهب رحمه الله. . .) وقال أبو أيوب رضي الله عنه: (وقد ذكر أبو أيوب رحمه الله رجلا مشهرا بالبلاغة. ولو لم تتقدم من ذكر البلاغة إلا بهذا القول من شيخنا رحمه الله لكفى وأجزى) وأبو أيوب هذا هو سليمان بن وهب عميد آل وهب وجد المؤلف.
سابعا - وهناك أمر يجب التنويه إليه وهو أن البطليوسي في كتابه (الاقتضاب شرح أدب الكتاب) قد كتب فصولا طويلة بنى عليها مقدمته في شرح الكتاب (ص66 - 90) وهذه الفصول تتفق في لفظها في معظم الحيان تمام الاتفاق مع بعض فصول كتاب البرهان، وفي بعض الأحيان تتفق معها مع تعديل طفيف، ولكن البطليوسي لم ينسبها إلى أبي الحسين ولا إلى قدامة، وإنما اشعر بنسبتها إلى علي بن مقلة (المتوفى سنة 327)، ولا يمكن أن يقال أن هذا الكتاب (البرهان) هو لابن مقلة، وأن البطليوسي نقل عنه بعد أن أثبتنا أن (البرهان) ألف بعد سنة 335 وبعد وفاة ابن مقلة بنحو ثماني سنين، كما أن شيوخا لعلي بن مقلة ولم تكن له بهم صلة قريبة ولم يكن علي بن مقلة شيعياز والقدر المتيقن أن البطليوسي لم يحتسب على أي حال قدامة بن جعفر مؤلفا لهذا للكتاب الذي نقل عنه على فرض أنه نقل فصوله من كتابنا هذا. ومن المحتمل أن يكون البرهان قد نسب(801/15)
مرة إلى علي بن مقلة كما نسب إلى قدامة بن جعفر وجهل أمر صاحبه. ومن المحتمل أيضا أن يكون البطليوسي ومؤلف كتابنا هذا من قبل كلاهما قد نقل نقولا من كتاب لابن مقلة في هذا الموضوع، وهو أمر لم تساعدنا الظروف على تحقيقه.
وجملة القول أن مؤلف كتاب (البرهان) يجب أن تتوفر فيه الشرائط:
(1) كونه شيعيا. (2) أن تجمعه أواصر القربى بآل وهب. (3) أن يكون قد ألفه بعد سنة 335. (4) ألا تزيد أبواب كتابه على أربعة أبواب كاملة.
وهذه الأحوال لا تجتمع في قدامة بن جعفر، ولكنها يمكن أن تجتمع في مؤلف آخر. وفي يدنا مخطوطة قديمة كاملة للكتاب ذكر المؤلف فيها اسمه في متن الكتاب، هكذا (أبو الحسين اسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب) فنحن على أن ننسب الكتاب إليه إلى أن يظهر لنا خلاف ذلك. ولم نجد ذكرا لهذا الكاتب أو لمؤلفاته في المراجع والمظان المعروفة لنا. ومن غريب الأمر أن هذا الكتاب قد نسب إلى قدامة بن جعفر في طرة المخطوطة الإسكوريالية، وكذلك في طرة المخطوطة التي بأيدينا مع ورود اسم المؤلف في أثناء الكتاب وهو أمر غفل عنه الناسخ، وتفسير هذا التناقض يسير، فإن الوراقين كانوا يعرفون قيمة قدامة الأدبية ويعرفون شهرة كتابه في الأدب فلا يستبعد عليهم أن يضعوا اسمه على هذا الكتاب ذلت سهيل بيعه وتداوله، وهذه طريقة معروفة عند النساخ والوراقين لا تخفى على المحققين. ونذكر مثلا قريبا لذلك كتاب (أسرار البلاغة) نشر بمصر وجاء في خاتمة الكتاب أن مؤلفه أتمه في سنة 855 ومع ذلك نسب طرة الكتاب لبهاء الدين العاملي المتوفى سنة 1003 وعرف باسمه لذي الوراقين. وفي كتب الفهارس، وغير ذلك كثير.
وبعد فإنصافا للعلم والعلماء، وإنصافا لأنفسنا كذلك، لا يسعنا إلا أن ننوه في ختام هذه الكلمة بأن عالمين جليلين كانا قد أظهرا الشك في نسبة كتاب (نقد النثر) إلى قدامة بن جعفر، وإنه لا بد أن يكون لكاتب آخر مجهول من أهل القرن الرابع. فهذان العالمان الفاضلان هما الدكتور طه حسين بك والأستاذ محمد كرد علي، فاستحقا منا التقدير والثناء. زها نحن أولاء قد قمنا بما تمليه علينا الأمانة العلمية بتقديم أدلتنا على أن الكتاب اسمه (البرهان) وأنه من تأليف أبي الحسين اسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب، وأن(801/16)
الجزء الذي نشر منه تحت اسم (نقد النثر) ليس إلا ثلث الكتاب الأصلي الذي قد حررناه ونقدمه للطبع الآن ليكون بين أيدي العلماء في القريب أن شاء الله ليصبح موضوع بحثهم ونقدهم.
ولست أنسى هنا أن أقدم للعلماء الأستاذ مجتبى مينوي بلندن زميلي في تحقيق هذا الكتاب وإعداده للنشر، فهو يشاركني مسئولية إخراج الكتاب بما يتبعها من قبول أو نقد.
علي حسن عبد القادر.(801/17)
أحمد الزين (الإنسان)
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
في 5 نوفمبر من العام الماضي روعت الدوائر الأدبية بفقد الشاعر العالم الراوية (أحمد الزين). وما أظن أحدا من عشاق الأدب يجهل قيمته الأدبية؛ ويكفي أن نقول أنه شارح وضابط ومصحح العقد الفريد، وإمتاع الأسماع، ونهاية الأب وما إليها من أمهات الكتب بمفرده حينا وبالاشتراك مع آخرين من الفضلاء أحيانا. كذلك يكفي أن نقول انه كان في مقدمة (الرواة) في العصر الحديث، بل ربما يكون قد انتهى بموته عهد (الرواية الأدبية). . .
ومع هذا فلست أريد في هذا الحديث أن أتكلم عن أدبه مرجئا ذلك لفرصة أخرى؛ وإنما أريد أن أحاول تصوير بعض ملامح شخصيته الطريفة النادرة تصويرا سريعا قبل أن تغمرها موجة النسيان؛ فقد كان الفقيد نموذجا فريدا في الحياة من طراز خاص وأسلوب خاص ومزاج خاص منقطع النظير.
الزين الظريف:
كان رحمه الله ظريفا إلى أقصى حدود الظرف في كل حركاته وسكناته. وقد تجلى ذلك في معظم منظوماته حتى في المراثي!! ولا زالت أذكر يوم اشترك في تأبين شاعر النيل (حافظ إبراهيم) بقصيدة مطلعها:
أفي كل حين وقفة إثر ذاهب ... وصوغ دم أقضي به حق صاحب
أودع صحبي واحدا بعد واحد ... فأفقد قلبي جانبا بعد جانب
بالرغم من هذه البداية الحزينة التي لاءمت المناسبة الحزينة فإن ظرفه سرعان ما غلب عليه ونقله من الحزن الخالص إلى التهكم الذي أضحك الحاضرين على من سماهم (المجددين) فقال مقارنا شعر (حافظ) بشعرهم:
فذاك جلال الشعر لا شعر عصبة ... يطالعنا تجديدهم بالحواصب
دواوين حسن الطبع موه قبحها ... وهل يخدع النقاد نقش الخرائب
فيا ضيعة الأوراق في غير طائل ... ويا طول ما تشكو رفوف المكاتب
كذلك في قصيدته في ذكرى (تيمور باشا) غلب عليه طرفه فنقله أيضا إلى التهكم على(801/18)
الناقلين عن اللغات الأجنبية بلا فهم لدقائقها ولا تمكن من لغتهم الأصيلة بأبيات جاء قيها:
من كل ألكن نابع في عبه ... لهج بدعوى العلم وهو جهول
ويكاد يرشح عقله أمية ... حتى عليه يشكل التشكيل
إن رام شعرا لم يقم ميزانه ... ورويه قيد عليه ثقيل
أو رام نثرا عي دون مراده ... لفظ يطول وما به معقول
وإذا يترجم كان في تعقيده ... قبر به المعنى البريء قتيل
لا نجحد الغربي سحر بيانه ... لكن سوء النقل عنه يحيل
سفراء سوء باعدت ما بيننا ... ولربما جلب الشقاء رسول
كان طبيعيا أن يتجلى ظرفه أكثر من هذا في ألوان الشعر الأخرى حيث تتسع الفرصة للتهكم والسخرية.
أذكر أنه أراد ذات مساء أن يعتذر تلفونيا عن موعد هام واتفق أن ظل التلفون مشغولا بأحد الثقلاء اكثر من نصف ساعة. . . إذ ذاك نظم قصيدته (المسرة) التي يقول له فيها:
فجد في أذنها أو أهزل ... وقل ثناء بها وثلبا. . .
فلا تراها تسد أذنا ... مهما تطول لو قرأت كتبا
وكم ثقيل الحديث لولا ... جمودها أوسعته سبا
تكاد مما يطيل فيها ... تفر مما دعا ولى
فيالها آلة تربى ... ذا الجهل ممن بالذوق يربى
وذات ليلة دعاه أحد أصدقائه لسماع مغن وكان - كالمنتظر - سقيم الصوت، فنظم بهذه المناسبة أبياته المشهورة التي يقول له فيها:
حمار لا يمل من النهيق ... يضيق به التجلد أي ضيق
مغن يجلب السلوى ويفنى ... بقايا الشوق في قلب المشوق
منى الوتار لو أمست سياطا ... يصب بها على الجلد الصفيق
بطانته - حماك الله - رهط ... كأن صياحهم جرس الحريق
وكانت ليلة يا ليت أني ... دفعت بها لقطاع الطريق
جزى الله المغني كل خير ... عرفت به عدوي من صديقي(801/19)
إلى غير ذلك من النوادر التي لا حصر لها.
الزين والمجتمع:
كان معظم الناس عنده (خلائق) لا يرتفعون عند حسن ظنه. وكان يقسمهم إلى أقسام عجيبة في دلالاتها: (بلاوي - حميد الضفات - علامة - سبع)!
فكل (باشكاتب) يجلس في الأماكن العامة متحليا بخاتم ثمين وساعة ذهبية وياقة منشاة و (يحشر) نفسه في الأدب والفن دون دراية فهو (بلاوي)!
وكل (مخلوق) حلو الشمائل وديع الصوت سليم الطوية ولكن لا علاقة له بالأدب فهو (حميد الصفات)!
وكل أديب يعرف من أين تؤكل الكتف فينتسب - بالإلحاح - إلى جريدة كبيرة أو يتقرب - بالزلفى - إلى عظيم أو وزير ويصل من وراء ذلك إلى ما يبتغيه فهو (علامة)!
وكل أديب لا تعدو وظيفته أن تكون من الدرجة السادسة أو أقل فهو (سبع)!
وغرضه من ذلك وصف الأديب بالقدرة على البطش والقناعة مع هذا (بلقمة العيش). .
ولا غرو فقد كان رحمه الله (سبعا كبيرا) أي موظفا باليومية لولا أن أسعفه قرار (الإنصاف) ثم (التنسيق) فرقي في آخر شهر من حياته إلى الدرجة الخامسة.
الزين والأدباء:
وكانت علاقته بمعظم المحدثين من الأدباء مضطربة لصراحته في إبداء رأيه في أدبهم، بل إنه كان يكره أحيانا أن يستمع إلى شعرهم الذي كان يصفه بقوله:
عناوين كالألغاز حيرت النهى ... وما تحتها معنى يلذ لطالب
هم جدري الشعر آذوا جماله ... بما ألصقوا في حسنه من معايب
وكم دافعوا عن مذهب العجز جهدهم ... فما غسلوا أسواء تلك المذاهب
وكم ملئوا بالزهر والنهر شعرهم ... بلا طيب مستاف ولاري شارب
وكم يذكرون اللأيك والطير صدحا ... عليها فلم نسمع سوى صوت ناعب
وكم هاتف بالخلد منهم وشعره ... توقى سقطا قبل عقد العصائب
وشاك أداة الخب أطفأ جمره ... بشعر كبرد الثلج جم المثالب(801/20)
فأقسم لو يبغي وصالا بشعره ... لجانبه من لم يكن بمجانب!!
أما علاقته بشيوخ الأدباء وكهولهم فكانت مشبعة بالصفاء والوفاء لمحض المودة من جهة وتقديرا لأدبهم من جهة أخرى. فمثلا كان يوقر حضرات أعضاء لجنة التأليف (وبخاصة أحمد أمين وأحمد زكي). . . مكان يعشق أسلوب (الزيات) ونظم في هذا الصدد قصيدة بائية رائعة لم احفظها للسف ولم تنشرها (الرسالة) حتى لا تتهم بمحاباة رئيس تحريرها فيما أظن.
وكان يعجب بطه حسين إعجابا بالغا بدا بعضه في تقريظه لكتاب (مع أبي العلاء في سجنه) بأبيات بارعة جاء فيها:
يا مؤنس المسجون في سجنه ... وسلوة المحزون من حزنه
من كنت في السجن له صاحبا ... فسجنه الجنة في حسنه
أساء بالعالم ظنا. . . ولو ... أدركته حسن من ظنه
أقسم لو خير في عينه ... وفيك لأختارك عن عينه!!
إحساس الزين:
ولعلي لم أصادف كثيرين في مثل دقة إحساسه. وبالرغم من تسامحه الملحوظة مع معارفه فقد كان ينفعل وأحيانا ينزوي في بيته عن الناس جميعا أياما بل أسابيع إذا أحس بإهانة صغيرة من أحدهم. وربما كانت دقة إحساسه من أهم أسباب استمرار غبنه لخجله من الشكوى.
أذكر أنه طلب مقابلة أحد الوزراء يوما ما ليرجوه في انتشاله مما لحق به من غبن، فتذكر الوزير كصديق قديم واحتفل به وأخذ يردد له بعض ما يتعلق بماضيهما فآثر (الزين) أن يقصر المقابلة على استعادة الذكريات دون أن يخدش إحساسه برجاء!
الزين المحب!
وعلى كثرة ما باح به لأخصائه من أسراره فإنه لم يبح لأحد بشيء عمن أحبها وإن كان دائم البوح بطهارة حبه وطهارتها.
كانت هذه مصدر شعره الغزلي الجيد من نحو (عاود القلب حنينه) و (علينا بالأماني) و (ما(801/21)
غناء الروح). الخ.
والغريب أنه كثيرا ما يرتاب في حبها له ويخشى أن يكون منها ضربا من الشفقة والمواساة. و (الزين) إذا ارتاب تغالي فاستحال عليه الاطمئنان. . . وقد رحمها الله من هذا الارتياب العنيف إذ ماتت قبله بنحو سنتين وحاول هو أن يرثيها فلم يستطع ومات وفي صدره قصيدتها.
الزين الوالد:
ومن المؤلم أنه نكب في أولاده فماتوا في طفولتهم. وأخيرا رزق طفلا هو الآن في الثامنة من عمره، ولكنه مع الأسف نكب فيه حيا بأفظع مما نكب في أخوته أمواتا! فقد اكتشفت مدرسته الأولية ضعفا في نظره بالرغم من حسن منظر عينيه؛ وهرع (الزين) إلى الطبيب، وحينئذ علم أن الولد مصاب بمرض وراثي له أثره الخبيث في شبكة العينين وأنه من المحتمل أن يفقد الأبصار في مرحلة الشباب!
وخرج من العيادة ضرير الماضي يجر في يده ضرير المستقبل.
الزين العائل:
كان يعول الفقيد العزيز بخلاف ولده هذا زوجة كريمة تقية ولست ادري شيئا عن مصيرهما بعده.
والرأي لأولي الأمر لعلهم أن يعملوا على تقرير معاش لهما. . فلقد أفنى الرجل نضارة عمره في الإنتاج الدبي المثمر أكثر من عشرين عاما بين جدران (دار الكتب) دون أن يحظى بالتثبيت في وظيفة دائمة بسبب عاهته، بينما حظي به آلاف من ذوي العيون التي لم تقرأ كتابا واحدا!!
عبد الفتاح البارودي(801/22)
محمد إقبال
شاعر الشرق والإسلام
للأستاذ مسعود الندوي
1389 - 1873 1357 - 1938
يعرف قراء العربية شيئا كثيرا عن زعيم الهنادك غاندي وزعيم الهند الإسلامية دفين الحرم القدسي الشريف محمد علي رحمه الله، وشاعر بنغال طاغور وغيرهم من رجال الهند وزعمائها. ولكن معرفتهم بشاعر الشرق والإسلام الدكتور محمد إقبال ضئيلة جدا. والتبعة في ذلك علينا، إذ لم ننقل أفكاره إلى لغة الضاد، حتى فاضت قريحته بهذه الشكوى اللطيفة:
نواث من به عجم آتش كهين افروفت ... عرب زنغمة شوقم هذوزب جراست
لقد أذكى شعري النار الخامدة في قلوب العجم، ولكن العرب لا تزال تجهل ما أبثه من آيات الوجد والشوق.
لذلك رأيت أن أتحدث إلى قراء الرسالة - وهم الصفوة المختارة من قراء العربية - عن محمد إقبال، الشاعر الحكيم الذي أوتي نورا من القرآن الكريم، وقبساً من أسرار الكون، ومنحة الله نظرة ثاقبة في حوادث المستقبل، وبصيرة نافذة في حقائق الأشياء.
نعم، أريد أن أتحدث عن الرجل الذي يقظ في شباب الأمة وشيوخها فكرة الاعتزاز بالقومية الإسلامية، وجعل من هذه الأمة البائسة المسكينة أمة قوية الشكيمة، متعصبة العزيمة، وثابة إلى المجد، حريصة على تراث أسلافها.
أني أود أيها القارئ العربي، أن أعرفك بالشاعر الحكيم الذي جعل من الشبيبة المسلمة الهندية، وهم متعمقون في القوية الملعونة، مسلمين صادقين مؤمنين بالوحدة الإسلامية محاربين لنزعات الإقليمية والجمود والإلحاد، وما أكثر عددهم؛ فكم من متسكع في ظلمات الزندقة والإلحاد ورد ماء شعره، فوجد فيه ما يثلج الفؤاد، وينور العقل، ويهذب النفس. وكأين من متشكك في عقيدته دخل حديقة شعره الغناء، وهو يريد أن يتنزه بين جداوله وأنهاره فشاهد فيها الزهرة الباسمة التي علقت بفؤاده، والنرجس الغض الذي أسر فؤاده بجمال عينها الصافية بين آونة وأخرى، حتى يشرب في قلبه بعض ما اشرب صاحبها من(801/23)
حب الإسلام والثقافة السلامية.
- 1 -
تخرج محمد إقبال في الكليات العصرية، ودرس فيها علوم الفلسفة والتاريخ إلى أن نال الشهادة العليا في الفلسفة. فعين معلما للفلسفة في الكلية الأميرية بلاهور، وذلك في السنوات الأولى من هذا القرن؛ ثم سافر إلى لندن، وأقام في جامعة كيمبردج زمنا يدرس الفلسفة والحقوق إلى أن منح شهادة المحاماة - ثم سافر إلى برلين لدراسة الفلسفة ومازال بها حتى نال لقب ورجع إلى مسقط رأسه سالما غانما.
نشأ إقبال مفطورا على التأمل والتعمق في حقائق الكون، وبدأ يقرض الشعر وهو في عهد الطلب. وظهرت من أول قصائده إمارات النبوغ والكمال، مع أنها كانت منسوجة على منوال شعراء العصر في الغزل والنسيب؛ ثم اخذ يقرض مقطوعات شعرية في الطبيعة وذكرى بعض الشعراء ورثاء بعضهم حتى ترقت فكرته الشعرية وأخذ يحس بما ناب وطنه وأهله من النوائب، فبدأ يجيش صدره بأبيات في الوطنية تأخذ بمجامع القلوب وتحرك النفوس الخامدة. ومن احسن قصائده في هذا العهد وابلغها أثراً في القلوب قصيدة نفثة مصدور، (تصوير درد) التي صور بها حال الهند السيئة وما فيها من تطاحن وشقاق بين أبنائها. وهي أول شعر مع عرف به الناس أن ناسج برده شاعر مطبوع يلهم القول إلهاما. وكذلك نجد كلمته (بلال) الروح الديني الذي امتاز به الشاعر، والذي جعله في ما بعد يتبوأ كرسي شاعر الإسلام الخالد الذي كان فارغا منذ مئات السنين. وجملة القول أن شاعرنا في أول عهده بالقريض، كان شاعرا مطبوعا وكنيا يترقرق الإخلاص في كل ما يجيش به صدره؛ لكنه لم يكن إذ ذاك الشاعر الحكيم الذي يشعر بتفكك أوصال الرابطة الإسلامية، فيدعو أمته إلى الاستمساك بعروتها الوثقى، وينظر في مساوئ الحضارة الغربية فيحذر أهل الشرق من الوقوع في شركها والانخداع بمظاهرها الخلابة. . .
- 2 -
سافر محمد إقبال، أستاذ الكلية الأميرية في لاهور إلى لندن وبرلين ليتخصص في الحقوق والفلسفة، وقد شاهد الناس هذا الشاب الهندي في جامعات كيمبردج زبرلين مكبا على(801/24)
دراسته، مشتغلا بالبحث والتنقيب؛ لكنهم قلما تنبهوا للروح الإسلامي الذي بقي يضطرب طول إقامته بلندن وبرلين، ولم تقع أنظارهم على ذلك الشاب المسلم الذي ظل يراقب أحوالهم عن كثب، ومكث يعمل بصيرته في اكتناه أسرار رقيهم، حتى إذا رجع، رجع إلى وطنه مسلما صادقا، قد زادته التجارب قوة إلى قوته الإيمانية وأطلعته الأيام على مصير المسلمين وأسباب تقهقرهم وانحطاطهم.
ذهب صاحبنا إلى أوربا سنة 1905 وقفل منها عام 1908 فكث بها ثلاث سنين، مكباً على دراسته العلمية ما اشتغل في ظلالها بالشعر إلا قليلا. ولكن ذلك النزر القليل الذي فاضت به قريحته في تلك الفترة قد جاء، وعليه مسحة من الشعور الديني العميق، والاشمئزاز من مظاهر التمدن الحديث، والتبرم بالمتفرنجين من أبنائنا. وعلى ذلك فقد أحس أول مرة في أوربا بالجامعة الإسلامية وشعر بأن الوطنية الجغرافية لا تزيد المسلمين إلا تماديا في الغي وبعدا عن منهج الإسلام الصحيح. فتحولت فكرته الوطنية إلى فكرة دينية إسلامية، شاملة لكل من يدين بكلمة الإسلام. ومن هنا ترى أن شعره في هذه الفترة وعلى قلته وابسق فرعا، وأعلى جنى، وأطيب ثمرا منه في دوره الولد فتراه يقول:
نرالا سارى جهال سي اس كو عرب كي معمارني بنا ... بنا مهارب حصار ملت كي اتحاد
وطن يس الله
قد اتخذ (أي دار الإسلام) البناء العربي فنا فريدا ممتازا عن سائر أبنية العالم، فليست الوحدة الوطنية أساسا لبناء قوميتنا.
وكذلك نجده يشكو المتفرنجين المفتتنين بأوربا وبعدهم عن الدين، ويقول بأسلوبه الشعري القديم الآخذ بالألباب نعرب معناها ومجردة عن اللطائف الشعرية:
(بالأمس كان رجل ثائر يبكي ويصرخ على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن مسلمي الهند ومصر يريدون أن يهدموا بنيان الإسلام، ومهما أراد زوار حرم الغرب هؤلاء أن يرشدونا إلى الخير، فغناهم لا يمكن أن يكون لهم أي سلطان علينا، لنهم طالما غفلوا عن اتباع سننك والاهتداء بهديك).
ثم يقول في هذه المقطوعة ما يبكي له قلب كل مسلم:
(ومن يصغي إلى كلامك يا إقبال؟ فغن الزمان قد تغير وغنك تقص علينا الأحاديث البالية(801/25)
في هذا العصر الحديث).
ولله دره إذ يقول من كلمة له، يخاطب بها القافلين من سفر الحج:
يا ليت من يسأل الحجاج القافلين من بيت الله الحرام: ألم يجدوا هنالك شيئا يهدونه إلينا غير كاس من ماء زمزم؟
وأجود شعره في دوره الثاني، كلمته الموجعة التي رثى بها صقلية حين عودته إلى الوطن. فإنه حينما مرت باخرته على تلك الجنة المفقودة عاودته الذكرى ولم يكد يملك فؤاده وعينه، فبكى ملء عينه وجاد طبعه بأبيات أبكت جما غفيرا من الناس ولا تزال تبكي ألوفا من الشبان.
ولله در تلك القريحة المبدعة التي جادت بهذه الكلمة العصماء التي أولها:
تعالي، ساعديني أيتها العين الثرثارة وابكي ما شئت دموعا ودماء فغن تربة المدينة الحجازية ماثلة أمام أعيننا.
ثم تطرق إلى ذكر العرب فهزته العاطفة وجعل يعدد مفاخرهم التاريخية:
كانت هذه البلاد يوما ما مركزا لأولئك العرب الذين كانت البحار ملعبا لسفنهم في سالف الأزمان
والذين زلزلوا عروش الكاسرة والقياصرة ... والذين كانت سيوفهم مخدعا للبرواق والرواعد
ثم تفنن في القول وقال: غن بلبل شيراز (سعدي) بكى على أطلال بغداد، وسكب (داغ) سجال دموعه على (دهلي) الشهيدة، وأدمى (ابن بدرون) فؤاده رثاءه للأندلس المرحومة، ومني إقبال الحزين بالبكاء على أطلالك وتذراف الدموع على تربتك، فكأن القدر اصطفى القلب الذي كان حريا لحبك محرما
وفي ختام الكلمة بيت، هو مروءة الشاعر وبيت فيه بيان الحقيقة، وبها تنتهي الكلمة، قال سقى الله ثراه ونضر وجهه يوم القيامة. يناجي صقلية:
اشرحي حالك وبوحي بما تكنه جوانحك من تباريح الشوق، فإني رجل قتله الحب وأضناه هوى مثلك، وبقية من الركب الذين كنت منزلهم ومحط رحالهم، سأذهب بهديتك إلى الهند وأبكي فيها أناساً، كما أنا ابكي هاهنا أمامك.
مسعود الندوي(801/26)
دراسات تحليلية:
الجنيد
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
في حاضرة الخلافة العباسية مدينة العلم والنور وبين مجالس الزهد والتقوى ومراتع اللهو والمجون، ولد العالم الأديب المحدث الفقيه الصوفي المتنسك أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، ودرج في بيت أبيه لا يرى فيه من مظاهر النعمة والثراء شيئا مذكورا، ولا تسمع أذناه سوى ارتطام القوارير التي كان أبوه يبيعها. ولما بلغ مبلغ الصبيان صار يذهب إلى دكان أبيه، فكانت كثيرا ما تقع عيناه على موكب من مواكب الخليفة يسير في شوارع بغداد خارجا لصيد أو ذاهبا إلى مسجد لأداء الصلاة تحف به مظاهر الأبهة والملك وتحيط به حاشية من وزراء وقراء وجنود وسحاب، فكانت تستهويه هذه المواكب، وتسحره هذه المظاهر، ويتمنى - شأن كل من في مثل سنه - أن يكون كأحد هؤلاء الذين يحيطون بالخليفة ويحفون به. أو يمر على حانة من حانات القصف واللهو تختلط فيها رنة الكأس بأصوات المغنيات، وتتعالى فيها صيحات الاستحسان من قوم سلبتهم بنت الحان عقولهم، فيقف ينصت لما يقولون ويسمع ما به يترنمون، فيود لو جلس بينهم وشاركهم لهوهم وفرحهم، فإذا آب إلى بيت أبيه في أحد أزقة بغداد هالة الفرق البعيد وأخرجته مرارة الحقيقة التي تتجلى له والتي هو رازح تحت كلها، من تصوراته البديعة وتخيلاته العريضة التي كان سابحا في ملكوتها، إلى واقع حياته وحياة من يحيطون به.
ولما صار فتى ألحقه والده بحانوت خزاز ليتعلم صنعة تكون له غناء في حياته ووقاية له من الفاقة، وكان كثيرا ما يسمع عن أسماء بعض الفقهاء والعلماء، وأقوالهم ومجالسهم وما حباهم الله به من نور وعرفان، فتاقت نفسه إلى مشاهدة مجالسهم وسماع أقوالهم. وذات مساء ذهب إلى إحدى الحلقات التي يؤمها كثير من طلاب العلم، وهناك جلس في ركن من زمانها قانتا خاشعا في وقار وتهيب وخشية وخوف، يسمع ما يقال ولا ينبس ببنت شفة، وسخره القول وأعجبه الحديث، فصار يتردد على هذا المجلس حتى تفتحت بصيرته وانشرح قلبه لنور به، وبدأ يفهم ما يقال ويتأمل ما يسمع.
ثم سمع بإبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه، فورد عليه(801/28)
وأنصت لما يقول فجذبه قوله واستأثر به حديثه فلزم مجلسه. واسترعت مواظبة الجنيد وحضوره مبكرا نظر الكلبي فقر به إليه وأدناه من مجلسه، وأعظم فيه مظاهر الورع والتقى على صغر سنه، ورأى علائم النجابة بادية عليه، فاتخذه تلميذا له يرعاه ويحدو بعنايته. ولم يقتصر الجنيد على الفقه بل أخذ من كل علم بطرف، فكان في الأخلاق تلميذ معروف الكرخي، وفي التوحيد تلميذ الحارث المحاسبي. . .
وصار الجنيد قبلة الأنظار وهو في سن العشرين. وفي أحد الأيام قال له خاله السري السقطي وكان من أساتذته، تكلم على الناس وعظهم حتى تفيد وتستفيد، ولتعظ نفسك قبل أن تعظ الناس، فامتنع عن ذلك لأنه كان يرى نفسه ليس أهلا لذلك، فراى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة الجمعة، فقال له النبي عليه السلام: تكلم على الناس. قال فانتبهت من نومي وأتيت باب السري قبل أن ينبلج الصبح، فلما دققت الباب قال لي: لم تصادفنا حتى قيل لك. قال: فقعدت في هذا اليوم للناس بالجامع. ثم صار له أتباع ومريدون وأصبح أوحد أهل عصره. فقد كان يفتي في المسألة الواحدة وجوها لم تخطر على بال العلماء. سأله أحد الفقهاء عن مسألة فأجابه فيها بأجوبة لم تخطر له، فقال يا أبا القاسم لم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت فأعدها علي، فأعادها بجوابات أخرى، فقال والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده على، فأعادها بجوابات أخرى، فقال لم أسمع بمثل هذا فأمله علي حتى أكتبه. فقال الجنيد: لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي أن الله هو الذي يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني؛ وإنما هذا من فضل ربي يلهيه ويجريه على لساني. وسمعه بعض المعتزلة فقال: رأيت في بغداد شيخا يقال له الجنيد ما رأت عيني مثله. كان الكتبة يحضرون لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم.
وبينما هو يسير في الليل في درب من دروب بغداد سمع غناء في دار فعاد به الحنين إلى عهد الطفولة فأنصت، فإذا الجارية تقول:
إذا قلت هذا أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت هذا القلب أحرقه الجوى ... تقولين: نيران الهوى شرف القلب
وإن قلت ما أذنبت قلت مجيبة ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب(801/29)
فصاح وخر مغشيا عليه ولما أفاق ورجع إلى بيته أخذ يطيل الفكر فيما سمع، وترن في أذنيه قول الجارية (حياتك ذنب لا يقاس به ذنب) فبدأ يتخلف عن مجلسه ويطيل وحدته ويتأمل صنائع الإله وما أبدع في الكون وبذلك انتقل إلى مرحلة التصوف
والميثاق الذي ورد في كتاب الله جل شأنه والذي بمقتضاه أقسمت الأرواح أن تؤمن به قبل أن تحل في أبدانها وقبل أن يخلق الله هذه الأجسام، وهو مذهب الجنيد الذي اعتنقه ونادى به. وصاحب هذا المذهب يؤمن بوجود حقيقة الإنسان في الوقت الذي تعهدت فيه الأرواح بالإيمان لخالقها، وان البدن باطل لا وزن له ولا يساوي أية قيمة؛ وأما الحقيقة الإنسانية فهي تنحصر في الجوهر الروحاني الذي لا تشوبه شوائب المادية، وفي هذا اليوم الذي تعهدت فيه الأرواح لخالقها بالإيمان تفرر مصير الإنسانية وتحدد نهائيا. ومن هذا اليوم اختار الله السعداء من خلقه فاصطفاهم لحضرته فانكشفت لهم الألوهية في ذلك الوجود النقي الصافي الذي كان يحتويهم قبل عالم الأشباح، ثم بعد أن صاروا في عالم الأشباح لازال الله يجذبهم إلى العودة إليه من ثنايا هذه الحياة. ولهذه العودة درجات كثيرة مختلفة ومتعددة، ولكن أعلى هذه الدرجات وأولاها المعرفة، وأول مبادئها التوحيد، ثم تحديد الوحدانية الإلهية، ولا يكون هذا التحديد حقيقيا إلا بالتنزيه وهو جحود الكيف والحيف، ولا يحظى بهذه المنزلة إلا من شاء الله له ذلك عن طريق السكر التنسكي وهو نوعمن الجنون الفجائي يمن الله به على من اصطفاه فيصبح بواسطته في حال يصدر فيها عن القول والفعل دون أن يكون مسئولا عما يقول أو يفعل، ومن يمنحهم الله المعرفة، ويتجل عليهم بهذه المنزلة خصهم الله بقربه واصطفاهم لحضرته (هؤلاء هم الذين اعتزل الله بهم).
والمعرفة عنده معرفتان: معرفة حق، وهي إثبات وحدانية الله تعالى على ما أبرز من الصفات وما أظهر من آثار قدرته في الأنفس وفي الآفاق. وهذه المعرفة هي معرفة المؤمنين عامة. ومعرفة حقيقة: وهي مشاهدة السر من عظمة الله وتعظيم حقه وإجلال قدره وتنزيه ربوبيته عن الإحاطة، لأن الصمد لا تدرك حقائق نعوته وصفاته؛ فالحق سبحانه وتعالى يشاهد من عظمته. وفي هذا يقول: (المعرفة تردد السر بين تعظيم الحق عن الإحاطة وإجلاله عن الدرك). أما من اكتفى بمظاهر الحياة وما يشاهد في قلبه من صور، واعتقد أنه بهذا وصل إلى المعرفة فقد خانه التوفيق وجانبه الصواب والجنيد يقول:(801/30)
(المعرفة أن تعلم ما تصور في قلبك فالحق بخلافه). لكنه وجود يتردد في الكون ويحكم تدبيره، لا تتهيأ العبارة عنه، ولا تؤدي الكلماتالمقصود منه. فالإنسان مسبوق، والمسبوق غير محيط بالسابق، فصاحب الحال قائم موجود عيانا وشخصا وصفة ونعتا.
والمعرفة تجعل العارف الذي تعلق بحقيقة الخالق لا يشهد حاله، بل يشهد سابق علم الحق فيه وأن نهايته صائرة إليه ومصيره إلى ما سبق له، ومن لم ينعم الله عليه بشهود ما سبق له من الله تحير، لأنه لا يدري ما علم الحق فيه ولا ما جرى القلم به، ومن عرف ما سبق له من القسمة لا يتقدم ولا يتأخر وتعطل عن الطلب، فقد عرف أن الله متولي أمره. ومن عرف أن الله متولي أمره تذلل له في أحكامه وأقضيته وسار في طريقه مستقيما متذللا. وفي هذا يقول (المعرفة شهود الخاطر بعواقب المصير، وأن لا يتصرف العارف بسر ولا تقصير). والعارف هو من لبس لكل حال لبوسها فيكون في كل حال بما هو أولى وما يناسبه فلا يرى بحال واحدة، لأن أمره ليس بيده ومصرفه غيره. ولما سئل عن صفة العارف قال: (لون الماء لون الإناء) وكثيرا ما كان يحكي في هذا المقام ما حدث لأبي بن كعب. قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب (إن الله أمرني أن أقرأ عليك) فقال أبي: أ، ذكرت هنالك يا رسول الله! قال نعم: فبكى ابي ولم ير حالا يقابله بها، ولا شكرا يوازي نعمه، ولا ذكرا يقوم بما يستحقه المولى جل شأنه، فانقطع فبكى فقال له النبي عليه السلام (عرفت فالزم).
وذكر الله هو سبيل الوصول إلى الحضرة الربانية، والهيام به هو تصريح المرور إلى مجلس الأنس الأسمى، ولا يكون حقيقة من القلب إلا إذا استروح الذاكر حب الله وعاين الحق وثمل من كأس الحبيب وسكر بخمره. وهو قوت القلوب الذي تحيا به، وزاد الأرواح التي تتزود به، وأنس النفوس الذي يذهب عنها الوحشة ويزيل همها وكربها، والماء الذي يطفئ ظمأ الفؤاد ويخفف من حدة اشتعاله، وهو الدواء الشافي من العلل والأسقام، والبلسم المطهر لجراحات القلوب، وهو حبل الوصل بين الذاكر والمذكور، وسبيل القرب بين المحب والمحبوب، وكلما ازداد الذاكر في ذكر محبوبه استغراقا وهياما، ازداد الحبيب المذكور إلى ذاكره قربا وإلى لقياه اشتياقا. والذكر عنده نوعان: ذكر اللسان وهو أيسر النوعين وأقلهما مشقة وأخفهما عناء، وهو ملك للجميع وفي هذا يقول:(801/31)
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
فإذا وافق القلب في الذكر اللسان، نسي الذاكر في جنب الله كل شيء وهان عليه كل شيء وحقر في نظره متاع الدنيا وزينتها، وطرح مباهجها وراءه ظهريا، وتعلق بذكر محبوبه وهام به وغرق في بحر ملكوته القدسي. ومن كانت هذه حاله حفظ الله عليه كل شيء وعوضه بلذة ذكره عن كل شيء، ومن وصل إلى هذه الدرجة فهو الذي من الله عليه بعمة الوصل والتعرف؛ لأن من بلغ هذا المقام فقد عرف الله حق معرفته؛ ففي الأثر الإلهي: (إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه) وفي هذا يقول الجنيد (من ذكر الله عن غير مشاهدة فهو مفتري)
والذكر بالقلب هو أصل المحبة وعنوان التقرب لأنه يغزو قلب الذاكر وفي هذا يقول: (المحبة ميل القلوب) فالذاكر إذا أحب من يذكره مال إليه قلبه وانجذب إلى حضرته وفني في ذاته، فيكون حبه من غير تكلف، وهيامه مصدق وإخلاص. وما دام الذاكر قد مال قلبه إلى من يذكره واتصلت به محبته فإنه يرى اللذة والسعادة في الخضوع له والتذلل في حضرته وإطالة الوقوف ببابه طلبا للمثول بين يديه، والطاعة فيما يأمره به من أعمال، ويبتعد عما بنهاه عنه، ويرضى كل الرضا بحكمه فلا تثور نفسه ولا يضجر قلبه إذا نزل به مكروه أو حاقت به نازلة، يفعل كل ذلك ليحظى بالقرب وينال الرضا من المحبوب، فإن حظي بمراده وبلغ مأموله فقد طابت له الحياة وصفا عيشه؛ لأن المحب يتلذذ بكل ما يرد عليه من المحبوب من خير أو شر. وفي هذا يقول: (المحبة لذة والحق لا يتلذذ به لأن مواضع الحقيقة دهش واستبقاء وحيرة).
وإذا ملك الحب شغاف القلوب، وتكشف الحال بين الحب والمحبوب، وأصبحت المحبة تعظيما يحل الأسرار، وقربا يحيي موات القلوب، فإذا سمع المحب ذكر محبوبه اضطربت منه الجوارح طر بالذكر محبوبه فيصبح في حال من الوجد والهيام، والمحب غذاء كان ضعيفا إيمانه ضعف وجده، وضعف الوجد ينتج حالا من التواجد وهو ظهور علامات الهيام على المحب، وأما القوي الإيمان الراسخ القدم الصافي القلب الصادق الحب، فيكون وجده من السكر لا يفيق منها أبدا، وهذه الحال حال العارفين. ولا شك أنها خير حال من الأولى لأن كتمان الحب دليل على قدرة المحب وصبره على تحمل ما يلقى في سبيل حبه.(801/32)
وفي هذا يقول الجنيد:
الوجد يطرب من في الوجد راحته ... والوجد عند حضور القلب مفقود
قد كان يطربني وجدي فاشغلني ... عن رؤية الوجد من في الوجد موجود
والجنيد صوفي متنسك وهو زيادة عن ذلك عالم فقيه محدث وله كثير من المؤلفات منها (كتاب التوحيد، وكتاب الفناء، وكتاب الميثاق، وكتاب دواء الأرواح، وكتاب آداب الفقر، وكتاب سر أنفاس الصوفية، وغير ذلك كثير) كما أن له رسائل هامة وأجوبة على كثير من الأسئلة التي كانت توجه إليه. وكان ورده في اليوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة. ولما حضرته الوفاة جعل يصلي ويقرا القرآن فقيل له لو رفقت بنفسك في مثل هذا الحال؟ فقال: لا أجد أحوج مني إلى ذلك الآن، وهذا أوان طي صحيفتي. ثم فاضت روحه، وكان ذلك سنة 298 للهجرة النبوية، فبكاه الأمراء والعظماء وسارت وراء نعشه بغداد كما كانت تسير وراءه أيام حياته، وحزن عليه الأصحاب والمريدون.
أسيوط
عبد الموجود عبد الحافظ(801/33)
الأزهر والإصلاح
للأستاذ محمد سيد أحمد الشال
قرأت ما كتبه الأستاذ محمود الشرقاوي في العدد سنة 786 من الرسالة الغراء، وما علق به الأستاذ سليمان دنيا في العدد 789 من المجلة المذكورة. ومقالة الأستاذ الشرقاوي كما وصفه الأستاذ دينا قد صور الأهداف العليا التي ينبغي أن يتجه إليها المصلحون للأزهر حتى يتحقق له أن يكون قواما على نهضة دينية أساسها الفهم والإدراك وسعة الأفق ليقاوم ما ينتاش العالم كله من إباحية وإلحاد.
هذه ناحية، والناحية الأخرى أن يخرج الأزهر طائفة من الرجالي يحسون ويدركون علة هذه الأمة الإسلامية وأسباب جمودها تخلفها، وجهالة العوام فيها وتواكلهم وضعف إيمانهم وانصرافهم عن المفيد النافع من شئون الحياة، واستهتار الخواص وأنانيتهم وجحودهم.
ولقد عتب الأستاذ الشرقاوي أنه ألم يرسم الخطوط ولم يبين المعالم للإصلاح. وأنا بدوري اعتب على الأستاذ دنيا أنه لم يحاول أن يكون له فضل السبق إلى بيان الطريق الموصل إلى الإصلاح بعد قوله: فمن الأزهر بين كثير من المعنيين بالإصلاح في الأزهر يجاهدون ما وسعهم الجهد لإفساح المجال فيه لسياسة علمية صحيحة. ولست أدعي أنهم نجحوا في محاولاتهم ولكنهم دائبون حريصون؛ ومن الأزهريين كثير من المشغوفين بالحديث وهمهم الذي يتذاكرونه في غدوهم ورواحهم وفي خلواتهم ومجتمعاتهم ولهم في هذه السبيل نشاط مذكور.
وأنا لا اشك في أن الأستاذ دنيا من هذا النفر الكريم الذي يعملون في هدوء ويفكرون في سكينة ولا يطلع أحد على مجهودهم أو إلا يحبون أن يقف أحد على مجهودهم. ولا أدري إلى متى يظلون يفكرون ويقلبون الرأي ويمحصونه ويستخلصون من وراء ذلك كله ما لا يطلع علبه أحد أو ما لا يريدون أن يطلع عليه أحد.
وعلى هؤلاء وحدهم ممن يشعرون بالمسؤولية ويلمسون النقص وبين جوانحهم ضمائر حين تفكر في النهوض بالأزهر إلى المستوى اللائق به تقع التبعة أمام الجيل الحاضر والأجيال القادمة بل أمام الله وأمام رسوله.
وإلى متى يظل هؤلاء في تفكيرهم وسكوتهم. ألم يسمعوا المرسوم الصادر بإنشاء قسم(801/34)
للشريعة الإسلامية في كلية الحقوق لدراسة فقه القرون والسنة والفقه الإسلامي وأصوله وغير ذلك من المواد؟ ألم يسمعوا بما اعتزمته الجامعة العربية من إنشاء معهد للفقه الإسلامي ودراسته مع ما يتعلق بذلك من دراسة القوانين الوضعية والمقارنة بين القوانين؟
وإلى متى يظل التفكير في الإصلاح وطرقه؟ وأظن أنه سيظل إلى أن ينفذ المرسوم بإنشاء قسم للشريعة في كلية الحقوق، وبإنشائه تكون السبيل قد مهدت لتوحيد القضاء الشرعي وهو المظهر الضيق الباقي من آثار التشريع الإسلامي. وإلى أن تنفذ الجامعة العربية ما قدرته من إنشاء معهد للفقه الإسلامي تتوسع فيه كل التوسع وتعتز به كل الاعتزاز وتؤازره كل المؤازرة حتى يخرج رجالا لهم دراسات واسعة مطابقة للأوضاع الحديثة والإصلاحات الجديدة في الاستنباط والتطبيق والاجتهاد.
وأظن انه لا يشك أحد أن تنفيذ ما تقدم سلبا لكثير من حقوق الأزهر واختصاصه واعتداء على ما هيأ نفسه له.
وأي شيء يبقى له بعد ضم دار العلوم للجامعة وبعد إنشاء قسم الشريعة ومعهد الفقه الإسلامي؟ وأي باعث على ضم دار العلوم للجامعة وهي تأخذ طلبتها من أبناء الأزهر وقد توحدت أو كادت البرامج بينها وبين كلية اللغة وتشرف وزارة المعارف على الامتحانات في كلية اللغة.
أفما كان الأولى أن تضم دار العلوم للأزهر بدلا من ضمها إلى كلية الآداب فالأزهر أمس بها رحما وأقرب صلة من الجامعة. ألم يكن في ضمها للأزهر قضاء على المنافسة التي تتجدد بين الحين وآخر واستتباب للأزهر بتقوية إحدى دعائمه وافر للحكومات المختلفة على أن توليه الكثير من العناية لاعتمادها عليه في تخريج معلم اللغة العربية التي قام بحراستها منذ ألف عام.
وأي شيء للأزهر بعد إنشاء قسم الشريعة ومعهد الفقه؟ وهل عقم الأزهر أو استعصى على الإصلاح حتى يفكر أولو الأمر في هذا الانشاء؟ ولم لم يتجهوا إلى الأزهر ويشتركوا مع رجاله في رسم خير الطرق لهذه الدراسات. وهل امتنع الأزهر ورجاله عن مشاركتهم ومدارسة الأمور حتى يرسموا لإصلاحه ما ينهض به لمجاراة العصر مع المحافظة على كيانه وطابعه. وأغلب الظن أن المراد بإنشاء معهد للفقه الإسلامي هو العمل على سلب(801/35)
جزء آخر من اختصاص الأزهر حتى إذا ما استوى ذلك المعهد تقرر ضمه للجامعة أيضا كما ضمت دار العلوم. وبذلك لا يبقى للأزهر من الاختصاص إلا ما يمس دراسة أصول الأديان وطرق الدعوة وهذا أمر هين. وليس بغريب أن ترى عما قريب اقتراحا آخر بإنشاء هذا القسم وضمه إلى كلية من كليات الجامعة، وبذلك يسلب الأزهر جميع اختصاصه ولا يبقى لوجوده أي مسوغ ما دامت الجامعة قد قامت برسالته في فروع مختلفة. وأظن أن هذا تنفيذ لما رسمه الدكتور طه حسين بك في كتابه مستقبل الثقافة من توحيد البرامج في الابتدائي والثانوي والاستغناء عن الأزهر بإنشاء قسم اللاهوت وإلحاقه بإحدى كليات الجامعة كما هو الحال في جامعات الغرب وبخاصة فرنسا. وإذا لم يكن تنفيذ هذه السياسة سافرا فمظاهر الخطوات المتقدمة توحي بأن العمل جار على تحقيقها إذا لم يتدارك رجال الأزهر الأمر بالعمل السريع على إصلاح الأزهر إصلاحا عاما شاملا يتناول ما يتصل بالمعلم والطالب والكتاب.
(للكلام بقية)
محمد سيد أحمد الشال
مندوب الأزهر لتدريس الشريعة
بكلية المقاصد الإسلامية ببيروت(801/36)
رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر
الهجري:
4 - اردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان
لمصطفى البكري الصديقي
(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
سنة 1411هـ وفيها قدم الرحالة المصري الشيخ مصطفى
أسعد اللقيمي إلى بيت المقدس:
(تمت علينا بركات سنة (1143هـ) فعملنا عاشورا وتألفنا للسير إلى الزيارة، وتأهب معنا جمع أخيار منهم الأخ الأمجد العديم الأنظار الشيخ أحمد المراغي سالف الإعصار، والأخ محمد سعيد البصري البار، وزكريا النسيبي السيار، وجملة حضار وبتنا في السيد (شمويل) ومن حماه كمن للأوكار طار، وإن استقر منا للراحة في بعض العمار قدار إلى بلدة (لد) المعمورة الجهات والأقطار، بالمدرات المسرات المار من أخطار، واجتمعنا بصديقنا الفاضل المسعود الشيخ أبي السعود، فأكرم وحيا، وزرنا أخاه المرحوم الشيخ حسين رحمه الله، وسرنا صباحا إلى يا زور ونزلنا دارا تعزى إذ تنسب للملاح وبتنا ليلة الخميس يبسط ما عليه مقيس، وفي ذلك اليوم الجالب التعيس، سادس عشر محرم توجه الأخ زكريا (نسيبه) ليغتسل في البحر، وما درى السباحة يقيس، فغاب فيه روحا وجسما عن العين، وما ظهر إلا يوم الجمعة فكدر رائق وقت أنيس، ثم أنا استرجعناه ودفناه في مقبرة الجامع الجديد التأسيس، وسرنا إلى الحرم نترحم على المفقود وعملنا له ختمة قدها يميس، وأهديناه تهليلة جليلة، وكان الحاج حسن المقلدي (الجيوسي) وفد علينا الاسكلة، وأقمنا في الزيارة ليلتين، وودعنا وسرنا إلى أن دخلنا قرية المذكور (كور) ومنها تعلقت بنا حمى الربيع الجالية الأجور، لسابق قضاء وقدر مسطور، وولجنا نابلس المحروسة الطلول(801/37)
والدور، وأقمنا ثلاثة أيام أنسها يمور فلا يغور، وأتينا (جامعين) ونزلنا المحلة الفوقية ومنها عمدنا (الزاوية) ونزلنا منها إلى دير غسان لإلحاح الإخوان بها ووقفنا على تلك الآثار، وفي الصحاح وغسان اسم ماء نزل عليه قوم من الزاد فنسبوا غليه، منهم بنو جفنة، رهط الملوك، ويقال غسان اسم قبيلة. انتهى. وفي لب الألباب في تحرير الأنساب للسيوطي، الأزدي بفتح فسكون فمهملة إلى إزد شنوءة بن الغوث. . . إلى إسماعيل وفي اللب، الغساني بالفتح والتشديد إلى غسان بن جذام بطن من الصدف، قال فيه الصدفي بفتحين وفاه إلى الصدف، بكسر الدال قبيلة من حمير. انتهى.
وأهلها المقيمون فيها الآن ينتسبون إلى جدهم برغوث ولذا لقبوا بالبراغثة، وهم مشايخ بني زيد الآن وجباة وقف الصخرة والخليل، وفي تلك الأوطان، لكنهم بقلة الحكم وضعف ولاة الزمان جبوا لأنفسهم، وأكلوا ما للوقفين استبان حتى مال منهما القبان، إلى الخفا بعد العيان، وتوجهنا إلى (عابود) بلدة سيد الأكوان الداخلة في وقف الحرمين من غابر أوان، ومنها ختمنا مقابلة (العرائس القدسية) المفصحة عن الدسائس النفسية بحضور إخوان في واديها المصان وعدنا إلى الأوطان، وسلينا والد المفقود بما أمكن وبشرناه بحلوله جنة الأمان. وأرسلت كتابا إلى الشيخ محمد المكتبي، وأرسلت آخر إلى الأخ الأمجد الشيخ أحمد نجل سمية خطيب الخسروية. وكتبت آخر للأخ الحميم عبد الكريم الشراباتي، وقلت:
سر للمنازل يا نديمي ... تسقى من الخمر القديم (الخ)
ولما دخل شهر ربيع الأول ورد علينا من صديقنا الروحاني الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي كتاب يطلب فيه التداني من حينا القدسي، ويتشوق لقي النفسي الحسي الأركاني، وطلب كتابة كتاب لوالده نترجى منه الإذن بالمسير فأجبته وصدرته بقولي:
راح الحشا والروح والريحان ... وصل سما روحا مع الريحان
وكتبت له، ولوالده، طلبا لإذن للولد بالزيارة وأن يعود أن شاء الله في أقرب مدة.
(وقدم علينا الديار عقب هذا المكتوب الصديق القديم الشيخ داود الدمياطي وسألناه عن المكاتبة فأخبر بوصولها، وأن الأخ المكاتب عن قريب يجوب، وفي هذه الديار يتملى بالأنوار ولوطنه يؤوب، ولما عزم على المسير إلى الشام، طلب إجازة، فكتبت له. ثم ورد علينا من الصديق الشيخ مصطفى كتاب يعلم بقرب الجواز. فأرسلت له كتابا وقلت:(801/38)
سلام على أهل وادي الهوى ... أناس فؤادي إليهم هوى (الخ)
وأرسلت للصديق السيد أحمد الأدهمي نجل السيد صالح الطرابلسي السمي، جواباً عن كتابين أرسلهما إلي بحال همي والمذكور له صحبة تؤذن بمدد نمى في دمياط لما أتيتها والفؤاد محتمي فقلت.
لفتى الصبابة يا سعاد ترحمي ... مضني لغير جمالك لا ينتمي (الخ)
وجواب الكتاب الثاني، صدرته بقولي.
أيها النفس باختيارك موتي ... واخرجي عن ملابس الناسوت
الحمى تنتهك الشيخ، وينتظر مولودا جديدا:
(ولما تمادت الحمى في غيها، وزادني كرب عيها الواصل إلي، ولم يفد فيها ساعة دواء، ولا أنجع قلم له وصف ارتوى، ورد على الفؤاد وارد، وهو امتداح جناب الخليفة السيد المعمود سيدي داود، فقلت غب زيارته يوم الخميس المشهود.
إن قلبي نحو الحظائر نودي ... حين فوجي بلمع نور وبودي
إلى أن قال.
فلهذا ناديت والجسم أضحى ... ضمن نار كالنار ذات الوقود
يا حبيبي داود كن لي شفيعا ... إن دائي قد كاد يفنى وجودي
وقد استجاب الله دعاء الشيخ ثم يقول:
وكان أواخر ذي القعدة الحرام من سنة (1142هـ) تبين حمل وفي ذي الحجة عاد كاليقين، وفي محرم اتضح ذلك الإبهام، وكانت البنية السعيدة الجنانية الفريدة، بلغت عاما ونصف أو أقل بأيام، فخفنا عليها الغيلة، فحميناها بالفطام.
وكنت كثيرا ما أسمع قصيدة شيخنا جناب الشيخ عبد الغني (النابلسي) التي مطلعها البسام:
يا أشرف الرسل ضاقت فأرسل الفرجا ... فإنني فيك قد أملت ألف رجا
فأحببت أن أقتدي بهذا المولى فقلت:
يا سيد الخلق أن القلب مبتهجا ... أضحى بحبك للتقريب منتهجا
المولود الجديد محمد كمال الدين:(801/39)
ولما هل هلال شعبان المبارك، ومضى منه ثلاث ليال، ولد الولد المحمود محمد كمال الدين وكنيته أبا الفتوح، منح الرفد التام السعيد أن شاء الله تعالى وتبارك، أنشأه الله نشوء عبد الله بن المبارك.
وعندما دخل شهر الصيام كنت أبيض الجزء الثاني من (شرح الورد السحري). فنجز في يوم الاثنين ختام العشر الثاني من شهر رمضان سنة 1143هـ.
قدوم الشيخ مصطفى أسعد اللقمي الدمياطي الرحالة:
وحين دخل العيد الصغير، ومضى منه يوم أول وثاني وثالث توجهت لزيارة سيدي داود، وبت في جوار الخليفة داود، مع أنفار أمنوا العمار كل خيفة، وذلك في أواخر القعدة، لداع دعا للمبيت في تلك الخيام، وفيه قدم الأخ الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي، ولما تلاقينا معه بسطنا بساط المباسطة، واختلينا واجتلينا عرائس الأنس وما بيننا واسطة، في بيتنا المعمور. ولما أخذ وانتسب وأقبل ما احتجب أقام في خلوة حرمية واستقام في حلوة كرمية، مشمرا ذيل الاجتهاد، معمرا اللب بالاستمداد. وكنت في أواسط شوال المبارك، شرعت في عمارة دارنا الفوقية فتم منها المراد، ونزلت أشطح معه في السطح الحرمي، وتارة أسبح ناحية المهد في يم البسط البهمي، وما برح يتلقى ويستقي سلاف الأسلاف ويسقى ويأتي المنزل مجدا لم يهزل، فنحيك معه ثوب المؤانسة ونغزل، ونطلب له من ربه الجميل عطاء يجزل بكل بر جميل.
وصف الشيخ مصطفى أسعد اللقمي لقاءه الشيخ البكري
والاجتماع به:
وإننا ترك الآن الشيخ اللقيمي الحسني بسط بن غانم المقدسي السعدي الخرجي يصف لنا في رحلته (كتاب سوانح الأنس برحلتي لوادي القدس سنة 1143هـ) اجتماعه بالشيخ البكري ببيت المقدس قال (ثم دخلنا المدينة من باب الخليل، وجاء الأنس بالسعد لنا دليل، فنزلنا بمنزل دائرة الأفلاك الحسنية، واسطة عقد الهصابة الهاشمية، خلاصة السادة الأشراف، وصفوة بني عبد مناف، من قال بحسن سيرته النجوم الزواهر، وبجميل طلعته البدور النواضر، الراسخ في العلم الآلهي، المكاشف عن أسرار الحقائق كما هي أستاذ(801/40)
وملاذ كل ملاذ، مولانا السيد مصطفى البكري الصديقي قدس الله سره الشريف، وأسكرناه من كأس خمره الرحيقي فبرؤيته وردت علي واردات السرور من كل جانب، وأيقنت ببلوغ المآرب والمطالب، وعند ذلك جاد الجفن بالدمع وسمح، لما اعتراه من المسرة والفرح، فتلقاني أستاذنا المذكور قدس الله سره الشريف، بمظهر الجمال في أرفع محل منيف، مع لطف بلغ غاية الكمال، وحسن خلق وفضل وأفضال، فو النجم إذا هوى، إنه لجميع المحاسن قد حوى، وهو الذي يقتدي به المقتدون، وبسمته يهتدي المهتدون، وبمحاسن الصفات محلى، رفع الله له في العلا محلا.
مولى تحلا بالفضائل والتقى ... وأشاد من طرق الحقيقة معهدا
ودعى إلى النهج القويم مسلكا ... لطريقه منها شهدنا المشهدا
انتهى كلام اللقيمي).
وفاة الشيخ عبد الغني النابلسي:
(وفي أوائل شوال ورد خبر وفاة شيخنا الهمام المفضال بركة الديار وشامة الشام جناب الشيخ عبد الغني المقدام فشرعت في عمل ترجمة مختصرة على المكاتبات التي كتبتها لجنابه مقتصرة، وسميتها: (الفتح الطري الحبني في بعض مآثر شيخنا عبد الغني)، وعملت في آخرها مرئية مطلعها السني المختوم بالكؤوس الأنسية:
سلام على عيش صب هني ... لقد سار مذ سار بدر سني
ومذ مات بالحي أرخ وهم ... لقد عاش بالحق عيشا هني
ومازال الأخ اللقيمي المقدم في مدة إقامته التي فيها
يتقدم يستعمل أورادا فيجد أمدادا ويفتح أبوابا شدادا،
فيمنح أحوالا سدادا، إلى أن قرب عيد الأضحى،
فلقنته الاسم الثاني فصحى غب، ما حبا انمحى، ونحا
التقريب لا حيا لاحي فرحا ورأيت معه رسالة(801/41)
للحاتمي، ذكر فيها مبشراته النبوية، فاقتفيت أثر
مناهجه المرضية، وسميت الكراسة (بالدر المنتثرات
من الحضرات العندية، في غرر المبشرات بالذات
العبدية المحمدية).
بئر للخلوة البيرمية في الحرم القدسي:
(وكنت قلت للأخ الحاج حسن حبي، لماطلب في الحرم أثرا ينتج الميرمتني، أن الخلوة (البيرمية) تحتاج إلى بئر صغير فانتدب له طالبا من النصير التيسير ولما أحضرت ما يلزم من الأحجار والجير، أمرت بإحضار، فعلة لأجل الحفير، وألهمت أن أشرت بحفر محل معين بمعونة الخبير، فحفر خندق، وباشره من حضر من أجير، فظهرت ثاني يوم مصفاة بئر قديم التعمير، ثم عثرنا بعد ذلكبفضل القدير، فتوفر علينا يوجدانه شيء كثير ورأينا ما دورته تزيد على الكأس الشهير، ورفعنا بناءه نحو ثمانية أذرع لجمع الماء النمير. ولما رآه شيخنا الشيخ محمد الخليلي، قال هذه كرامة من غير نكير، لفلان وعلامة تهوين وتيسير، وإلا كان يمكنه أن يشير في الحضير إلى غير هذا المحل لاتساع كبير، قلت ووقع لهذا التسهيل نظير عندنا في الدار حال التعمير، فلم نستر لأجل الستارات الكبا شيئا بقطمير، واحتجنا إلى روزنة في المطبخ لأجل التنوير، فقال البناء أين أحفر قلت هنا وتوكل على القدير، فظهرت روزنة قديمة فعجب وقال هذا حال خطير، قلت بل اتفاقية أبرزها التقدير.
دخوله سنة (1144هـ)، الزيارة العليلية، السنوية وظهور
الطاعون ببيت المقدس:
(وعندما دخل العيد الكبير وتمت بعدها عمارة البير، بقي من لوازمه العصارة، وهي تحتاج(801/42)
إلى إتقان ومهارة، فأحضرت لها ما يلزم، ووافقنا عليها رجلا على المباشرة عزم، ولما نوى العام المؤرخ على الرحيل، ودخلت سنة (1144هـ) بتكبير وتهليل، حضرنا بقية الشهر في المسجد، وتوجهنا غرة صفر الخير إلى زيارة علي بن علي نرتجي المير، وكان حضرنا الأخ الشيخ رضوان الزادي والشيخ إبراهيم العرابي، وسرنا معهم جملة إخوان منهم الأخ الشيخ مصطفى أسعد (اللقيمي)، وكانت الحمى الربعية لم تفارق، لأمر إلهي نوره بارق، وبتنا في القر الشمويلي الأنزه، وقلت: ألا أيها الطلاب سيروا إلى اللقا عساكم يه تسقون كأسا مروقا وتوجهنا على بني جمار ومنها إلى (سبطاره) التي تشن العرب حولها الغارة، وجلسنا فيها مع الأخ اللقيمي نتذاكر بأنس يأتي بكل قرية خير. وكان الأخ المذكور أثر فيه برد البلاد فتغير مزاجه وفي (يازور) زاد، وتوجه صحبة شريكه النجار إلى (يافا) ولحقناه فيها نتصافى، ثم سرنا منها إلى المقام العليلي الندي، ووردت علينا فيها الخ الحاج حسن المقلدي، وبعض مضى أوقات الزيارة، سبقنا الأخ اللقمي لوادي نابلس الفياح وتنقلنا إلى أن وصلنا (كوثر) والقلب مشتغل، والفكر فيه بالحمى فتور، وجاءنا الخبر أن الشيخ عبد الرحمن السمان جاء نابلس للزيارة القدسية وصحبته المنلا عباس تلميذ شيخنا المرحوم المنلا الياس المتوفى سادس عشر شعبان سنة (1138هـ). ثم أن ورد علينا بمن معه (كور)، وعدنا جميعا إلى نابلس في حبور، وبعد ثلاثة أيام من الإقامة فيها ودعنا الخ اللقيمي وبقية الأحباب وسرنا إلى (جماعين). ورأى جامعها السمان فسر به وقال إنه وعهد واف لجامع في قاف، لكن ذلك كبير واسع وماؤه فيض له هتان. قلت له: أتدري إمامه الذي فيه يصلي مفره يصان. قال: نعم، رأيته والقوم كلهم له في ذي المقام. ثم عدنا للديار المقدسة، وبقي خاطرنا عند الأخ اللقيمي، وجاءنا الخبر بتوحهه إلى وطنه الصبيب (أي مصر). وكان ورد البلاد العالم الفاضل المراد الشيخ عقيلة المكي الوطني اليمني الأصل والمولد، يوم الخميس من شهر ربيع الأول الأنيس، واجتمعت به في منزله للسلام، وحضرت درسه العام باستسلام، وأخبر عن تأليفه الإحسان. ولما اوقفني عليه قرظته:
يا راقيا لمدارج الإحسان ... أحسنت في الإحسان بالإحسان
أحمد سامح الخالدي
(النهاية في العدد القادم)(801/43)
في موكب العيد:
من وحي اللاجئين
للأستاذ إبراهيم الوائلي
لكم العيد نعيما وهناء ... ولنا العيد جحيما وشقاء
لكم العيد كأنفاس الضحى ... ألقا يبسم حسنا وبهاء
ولنا العيد ظلاما دامسا ... لم نطالع فيه للفجر ضياء
لكم العيد نشيدا ورؤى ... وأهازيج ولحنا وغناء
ولنا العيد حنينا واسى ... ومناحات وشجوا وبكاء
لكم العيد ابتهاجا ومنى ... ضاحكات وانطلاقا وازدهاء
ولنا العيد قلوبا ذوبت ... فأذالتها مآقينا دماء
لكم العيد قرى فارهة ... وبيوتا تملأ النفس رجاء
ولنا العيد تهاويل دجى ... تبعث الرعب صباحا ومساء
نحن ما نحن أفي أوطاننا ... نلبس التشريد والذل رداء؟!
نحن ما نحن أعن تربتنا ... للطريدين غدونا طرداء؟
الطفولات عراها ما عرا ... من أذى اليتم ولم تلق عزاء
والأيامى سلوا تاريخها ... هل أباحت لسنا الشمس سناء
هيمن الثكل عليها ومضت ... تعبر البيد وتطويها حفاء
هي بالأمس تزى سيدها ... حارس البيت كما شاءت وشاء
وهي اليوم تراه شبحا ... لثم التربة واشتاق الثواء
كلما نادت به لم تستجب ... غير دنيا القفر للثكل نداء
زمر باتت على مسغبة ... تحصد الشوك وتقتات الغثاء
فيتيم أفلت اليتم به ... من وحوش ملئوا الليل عواء
وفتاة أسندت راحتها ... طفلة تبكي وأما نفساء
ورضيع كلما اشتد به ... ألم الجوع احتسى الدمع غذاء
لم يجد في الثدي - إذ يلمسه ... بيد واهنة - إلا ذماء(801/45)
لكم العيد مروجا تزدهي ... ونسيما في مجاليها رخاء
ولنا العيد رمالا تلتظى ... وأعاصير وشوكا وعراء
لكم العيد تضحون به ... ما تشاءون من الضأن فداء
ولنا العيد وما فديته ... غير أحرار تفانوا شهداء
كتبوا تأريخ جيل ثائر ... ما ونى يوما ولا ارتد وراء
واستجابوا لأماني وطن ... كافح الظلم وداس الكبرياء
البطولات وما أعظمها ... قد خبرناها رجالا ونساء
والميادين وكم قد حجبت ... بدخان الثورة الكبرى سماء
قد ولدنا نحن والحرب معا ... واحتملناها فلم نشك العياء
وخضدنا شوكة (البغي) التي ... غرستها (لندن) في الشرق داء
وتسابقنا فلم نخش الردى ... يوم أن أثرنا ولم نحذر فناء
ثورة الشرق وما ازدادت لها ... شعل إلا لنزداد مضاء
أيها التأريخ هذى صفحة ... سوف تطويك خلودا وبقاء
قد كتبناها ولكن بدم ... ونشرناها على الدهر لواء
ونضال طال لكن ما رأى ... غيرنا فيه الضحايا الأبرياء
عبر الوحش فألفى تربة ... خصبة المرعى وأفياء وماء
ومضى يكرع ما شاء وقد ... كان يشكو في التيهات الظماء
وعلى (المانش) يد عاتية ... كلما أوغل زادته احتماء
يد (جنبول) ويا دنيا اشهدي ... كم أساءت يد جنبول وساء
هذه التربة ماذا كابدت ... منذ أن كانت تقل الدخلاء
صيروها مزقا خاوية ... وأحالوها عظاما ودماء
فإذا نحن حيارى فزعا ... نستجير البيد والفقر الخلاء
ونرود الماء لكن ما نرى ... غير أوشال فنرتد ظماء
أيها العدل سلاما فلقد ... صيروا عهدك في الكون هباء
ملئوا العالم رعبا ومضوا ... يدعون الحق كذبا ومراء!(801/46)
فإذا (الأمن) خيال كاذب ... وطيوف تتجافانا ازدراء
جفت الأرض من الري فيا ... خالق النبتة أمطرها السماء
إبراهيم الوائلي(801/47)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
سر الحاكم بأمر الله:
مسرحية تاريخية، ألفها الأستاذ علي أحمد باكثير، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، ومثلتها الفرقة المصرية على مسرح الأوبرا في مفتتح موسمها التمثيلي. وتدور القصة حول الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي، وتصور شذوذه وغرائب أفعاله، والحادثة الهامة فيها أو (العقدة) هي ادعاء الحاكم بأمر الله الألوهية، وقد تخيل المؤلف - لكشف سر هذا الادعاء - أن (المجمع الفارسي) بعث جماعة على رأسهم رجل اسمه حمزة الزوزني، للعمل على هدم الدين الإسلامي في مصر، فراقب حمزة الحاكم حتى ألم بأحواله وعرف أنه يروض نفسه على الحرمان من طيبات العيش والتخلص من الرحمة وسائر العواطف الإنسانية التي يسميها ضعفا بشريا، فيتصل به ويوهمه أنه إله ويستعين على ذلك بتلفيق كتاب يدعي حمزة أنه مخطوط قديم ورثه عن آبائه، وينبئ الكتاب بظهور ملك في مصر يحل فيه روح الله، وتنطبق أوصافه على الحاكم بأمر الله، فيضطرب الحاكم أولا ثم يقتنع بأنه إله، ويتخذ حمزة رسولا له. وتسير الحوادث على هذا الخط حتى يفتضح أمر الفارسي بوقوع رسالة آتية إليه من المجمع الفارسي في يد الحاكم بأمر الله، فتتكشف له الحقيقة ويكفر بنفسه. .
ويبدو للمتأمل أن المؤلف لا يريد بيان سر الحاكم بأمر الله، وإنما يرمي إلى تحليل شخصيته، فتخيل خداع الفارسي للحاكم لا يتجه إلى حقيقة تاريخية، من حيث إبداء رأي تاريخي في الباعث للحاكم على ما كان منه، وإنما هو حبكة مسرحية غايتها خلق المواقف وترتيب الحوادث للوصول إلى تصوير هذه الشخصية الغريبة وبيان ما أحاط بها، واستغلال كل ذلك في تقديم فن ممتع.
هذه هي غاية القصة كما أفهم، وقد وصل فيها المؤلف إلى درجة لا بأس بها، فقد صور الصراع بين الحاكم بأمر الله وأخته ست الملك، وصور الصراع بين الحاكم وبين نفسه، ووجه طاقته إلى إبراز الأحاسيس وخوالج النفوس، فنجح في كل ذلك، وإن كنت ألاحظ أنه جانب الألوهية وقوى حجة ما سماه التخلص من الضعف الإنساني، فأظهر - مثلا - الحاكم بأمر الله في ذبحه الغلام بمظهر الفيلسوف المنطقي، وكان لا بد من عمل شيء(801/48)
للسخرية من هذا المنطق. ومن ذلك أيضا الحجة الدامغة التي أجراها على لسان حمزة الزوزني عندما رد على الرجل الذي اعترض على الحاكم لأنه يسأله ويجب أن يكون عالما بما يسأله عنه أن كان إلها حقا. . . رد حمزة بأن الله يسأل عباده يوم القيامة عما فعلوا بدنياهم وهو عالم به!
وما هو (المجمع الفارسي) الذي يعمل لهدم الإسلام في مصر؟ أليس إبهامه في الرواية يوهم بأنه كان هيئة رسمية في الدولة الفارسية الإسلامية!؟.
وحقا أن الشعب المصري كان إذ ذاك ضعيفا مسكينا مسالما، ولكن لم إبراز ذلك على المسرح والتنويه به على أنه صفة دائمة له وفضيلة راسخة فيه؟
وتنتهي المسرحية بختام يبدو غير طبيعي، فإن ست الملك أخت الحاكم بأمر الله التي كانت تقاوم جبروته وتعمل على أن ترده إلى صوابه ولما يئست منه دبرت قتله - تلتقي به في خلوته بجبل المقطم فيجري بينهما حوار يبدي فيه الحاكم ندمه ويستغفر ربه ويطلب منها الصفح عما بدر منه في حقها، وكان هذا يقتضي أن ترق له وتحول دون تنفيذ القتل بعد ما بان لها صلاح أمره. ولست أدري هل المؤلف هو الذي جعل الحاكم يصحح موقفه أمام أخته ثم تقتله، وهي عنصر خير في الرواية، أو حدث تعديل هذه النهاية في الإخراج ليكسب يوسف وهبي (ممثل الحاكم) محبة الجمهور وعطفه. . .؟
ويدل الإخراج والتمثيل على الكفايات المختلفة التي تضمها الفرقة المصرية الآن، وقد أعجبني بل أطربني أن ممثلي الفرقة ينطقون اللغة العربية نطقا طبيعيا كأنها اللغة اليومية العادية، فلا تكلف إلقاء ولا نبرات خطابة ولا تعثر في التلفظ، وهذا شيء آخر غير النطق السليم فلا تخلو الحال من بعض الخطأ في الضبط مما لا يسلم منه لسان. وقد أثبتوا أن الفصحى هي لغة المسرح الراقي وأنها تفي بكل أغراضه حتى التهكم والتفكه، مما يزعم بعضهم أنه لا يؤدى إلا بالعامية، وقد برع فؤاد شفيق في ذلك حنى تكاد عربيته تقطر ظرفا وفصاحة. أما رنين جرس العربية على ألسنة الممثلات فهو المطرب حقا. . ولله در أمينة رزق! فهي عروس هذه المسرحية، وقد أدت دور (ست الملك) فأجادت في مواقفه المختلفة، وخاصة عندما دخلت على الحاكم مع قواد الجيش، وطعنها الحاكم في شرفها، فمثلت الانفعالات النفسية أدق تمثيل. وأعتقد أن أمينة رزق أجدى على اللغة العربية من المجمع(801/49)
اللغوي! وهي في ذلك قوة لا يستهان بها ولا تقل عن أم كلثوم في غناء شعر شوقي.
وقد تعاون المؤلف والممثل (يوسف وهبي) في تصوير شخصية الحاكم بأمر الله وتحليل نوازعه. وقد تحول يوسف وهبي في هذه المسرحية، عن طريقته المعروفة، تحولا محسوسا، وذلك لطبيعة الدور، فهو يمثل شخصية جبار متألمة يتكلم في رقة ممزوجة بالاستخفاف لأنه يملك كل سيئ ولا يحتاج إلى العنف والتهريج، وقد كان يوسف وهبي يكتسح ويتغلب بالكلام والصياح، أما الآن فهو يطيح بالرؤوس ويزهق الأرواح وهو هادئ وديع رقيق، ولماذا يصخب وهو القادر على كل شيء؟! وهذه هي طبيعة الموقف ولا شك. ولكن لم لم يستخدم يوسف وهبيأو الحاكم بأمر الله قدرته في (تكبير) الممثلة الفتاة التي مثلت (أم الحاكم)؟ لقد كانت تسرع إلى حضنه رشيقة لفاء خفيفة الحركة. . له في ذلك حكمة!
والغلام الذي أتى به الحاكم ليذبحه في أثناء رياضته للتخلص من الضعف البشري - لم يكن يشبه ابنه عليا كما اشترط ذلك إمعانا في الرياضة، ولم يكن يشبهه تمام الشبه كما قال عندما شاهده. وأظهر فرق بين علي وبين الغلام (مرجان) أن الأول أبيض والثاني أسود فاحم؛ وقد مثل الاثنين بنتان. . . وكان صوت علي صوت بنت هي التي مثلته.
وثمة كلمة أخيرة يقتضيها إنصاف المؤلف، فقد نشرت الإعلانات عن الرواية بالصحف والمجلات وعلقت بالجدران، وأظهر ما فيها يوسف وهبي وصورته في دور الحاكم بأمر الله ثم اسم زكي طليمات مخرج الرواية. أما المؤلف فلم يبد اسمه إلا في بعض الإعلانات. . . وفي الآخر وبـ (بنط) صغير. . . حتى الإذاعة. . . لما أذاعت الرواية لم تكتب في برنامجها اسم المؤلف!
وأذكر أن يوسف وهبي أعلن أنه يمد يده إلى الأدباء ليعاونوه بالتأليف على النهوض بالمسرح، فهل هو يمد يده إلى الأدباء ليبتلع إنتاجهم ويطوي أسماءهم، ويأكل لحمهم ويرمي عظامهم؟. . .
ذكرى الزين:
في مثل هذا الأسبوع من العام الماضي توفي الشاعر الراوية الأستاذ أحمد الزين. وطالما لقيت هذا الصديق الفقيد في خلال هذا العام. . .(801/50)
نعم، لقيته ولا أزال ألقاه في كل مكان صاحبته فيه، وعند كل ما يذكرني به. تحوم ذكراه على نفسي، فآنس بها، وأستوحش لبعده المادي أنسا ووحشة مجتمعين. . . وكثيرا ما أتمثله يحدثني حديث المحلق فوق الحياة، الساخر من سخف الأحياء وتفاهة مراميهم، ولا أكاد أجد ما أحدثه به، إذ أراه واقفا على كل ما هنالك. . . وأستغرق في هذا الشعور حتى تتجلى عني الذكرى لأمر مما يشغلني، فأنصرف إلى ما أنصرف إليه وفي نفسي من الأسى طعم شديد المرارة!
كنت أسير في يوم من الأيام الماضية بشارع يقع فيه منزل رجل من الأعلام ممن كان الزين يسعى لزيارتهم مدفوعا بدافع الصداقة، وإذا هو كأنه يسير بجانبي وقد أحطت ذراعه بذراعي، وكأننا نقصد منزل ذلك العلم كما كنا منذ سنوات. ولكنه يقول لي: لا. لن نزوره، قلت فيه شعرا، ثم تقطعت الأسباب!
وبهذا الإيجاز أدرك ما يعنى، فقد كان الزين يحرص على مودة أصدقائه من أهل الفكر والأدب، وكان ينفق عليهم من شعره وهو الضنين به على غيرهم من ذوي الجاه والسلطان، وكانوا يحتفون به ويحسنون استقباله. . . ثم مضى. . ومضى معه كل شيء. . . تقطعت الأسباب!
ومضى عام ولم يوف حقه من تأبين ورثاء، ولم يطبع ديوانه المخطوط، ولم يصنع لليتيم شيئا ذو بال. ولم يكن للزين ذنب إلا أنه كان شاعر كبيرا، وكان موظفا (باليومية) في دار الكتب المصرية، وقد ظل بها أكثر من عشرين عاما يخرج لها وللناس كتب الأدب مصفاة دانية القطوف، فلم تفكر هذه الدار في أن تصنع له شيئا، ولم يكن أقل من حفل للتأبين أو للاحتفاء بذكراه بعد مرور عام على وفاته.
والديوان المخطوط قررت لجنة التأليف والترجمة والنشر طبعه بالمجان لابن الشاعر الفقيد، وراح الصديق الوفي الأستاذ إبراهيم الابياري يطلبه، فوجد أن أخاه الشيخ محمد الزين قد أخذه، فاتصل به وأبلغه قرار اللجنة، فوعد بتسليمه ولا يزال لديه إلى الآن. وفي الديوان قصائد لم تنشر، وفيه قطع رقيقة فيها وصف دقيق وتعبير طريف، فهي من أحسن ما يقدم لتلاميذ المدارس.
ويسرني أن أذكر أن وزارة المعارف الآن (استمارة) لإعفاء أسامة أحمد الزين التلميذ(801/51)
بإحدى المدارس الابتدائية من المصروفات اليومية. وسترسل مذكرة إلى مجلس الوزراء للموافقة على تعليمه بالمجان في جميع مراحل التعليم. وهي تحية طيبة من معالي السنهوري باشا لذكرى الشاعر الكبير.
من طرف المجالس:
نحن اليوم مع جماعة من الأدباء أغشى مجلسهم في بعض الأحيان بإحدى القهوات الكبيرة. وأكثر ما يكون حديثهم عن الأشخاص في نواحي النقص التي ينفذون إليها فيمن يتحدثون عنه، وكثيرا ما يكبرونها على طريقة (الكاريكاتير) وعدتهم في هذا التفكير أو هذا التشنيع ألسنة ذلقة حداد. . ولا يعفون من لواذع هذا (الفن) صاحبا غائبا ولا جليسا قام فمضى. . وإنه ليخيل إلى وأنا منصرف عنهم وقد صرت في الطريق أني أسمع ما يقولون عني. . وأتذكر من كان يحدثنا أنه طلب إليه أن يكتب مقالات لإحدى للصحف الكبيرة، وألح عليه صاحب الصحيفة، فكتب مقالتين دفع إليه لقاءهما عشرة جنيهات. . وانصرف المتحدث، فقال واحد من الجماعة: إني أشك في صحة هذا الذي قال. فتحفز آخر للكلام، وخلته قد تحمس للغائب، وإذا هو يقول. إني أجزم بأن فلانا (صاحب الصحيفة) لا يعرفه!
وأصغيت مرة إلى أحدهم يتحدث عن شاعر من (أصدقائه) بأنه تزوج فتاة من غير مهر، وأراد المتحدث أن يعبر عن انخداع الفتاة فقال إنها اغترت بما في شعره من ألفاظ كالظلال. . والحرور. . ومد ألف الظلال وواو الحرور حتى خلتهما يصلحان مهرا. . .
وفي الجلسة الأخيرة (وقع) ذكر شاعر (صديق) فقال قائل: تصور أنه تغزل في امرأته! وقال آخر: حسبك. . إنه ليس شاعراه وقال شاعر من الحاضرين: أنا قد هجوت زوجتي! وأنشد ما قال وفيه إقذاع، فقالوا: هذا هو التعبير الصادق، وهو الشعر لا ذلك الزيف. وروى أحدهم أن أعرابيا سئل: كيف بغضك لزوجتك؟ قال: تكون بجانبي وتكد يدها علي فأود لو أن أجرة من السقف فقدت يدها وضلعا من أضلاعي!
ثم قال الأول: أتدرون كيف يتغزل الشاعر في زوجته؟ إنه يتغزل فيها كما يحرص على ألا يسهر في الخارج ويعود إلى المنزل متأخرا. . وإن كان بالأول يستجلب العطف ويتقي بالثاني سوء العاقبة. . .
استقبال عضوين جديدين في المجمع اللغوي:(801/52)
انتخب مجمع فؤاد الأول للغة العربية في دورته الماضية، عضوين جديدين به هما الأستاذ محمد رضا الشبيبي عن العراق مكان المغفور له الأب أنستاس ماري الكرملي، والأستاذ خليل سكاكيني عن فلسطين ولم تكن ممثلة من قبل في المجمع فرؤي أن يحل عضو منها محل المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق.
وقد قرر المجمع أن يحتفي باستقبال العضوين الجديدين في حفلة افتتاح مؤتمره السنوي، وهو الذي يحضره الأعضاء إلى الأجانب من شرقيين وغربيين، وسيكون ذلك في يوم السابع من ديسمبر القادم، وسيقدم الأستاذ العقاد الأستاذ الشبيبي، ويقدم الدكتور منصور فهمي باشا الأستاذ سكاكيني، ويتناول كل منهما صاحبه بتعريف ودراسة شاملة. ويتحدث كل عضو من العضوين الجديدين عن سلفه، وقد أرسل المجمع إلى كل منهما بذلك.
عباس خضر(801/53)
البريد الأدبي
بين توفيق الحكيم وقرائه:
تحت هذا العنوان تلقيت عن طريق مجلة الرسالة إحدى الرسائل التي تحمل توقيع (عبد الحميد فاضل المحامي)، ولقد تفضل المحامي المهذب فخصني بفيض من التجريح الرخيص بمناسبة المقال الذي كتبته في عدد مضى من الرسالة عن الأستاذ توفيق الحكيم!. . أما نص الرسالة التي وجهها إلي فأنا على استعداد لنشرها والتعقيب عليها، ولكنني أود قبل أن أقدم على النشر والتعقيب أن يتفضل الأستاذ المرسل بذكر عنوانه الذي تعمد أن يغفله، لأنني أشك في أن يكون له في نقابة المحامين مكان!
إن مما يضاعف من شكي في ما ذهبت إليه أن الرسالة التي وجهها إلي مكتوبة على الآلة الكاتبة وليس بها من خط يده غير توقيعه. . . ولقد عودنا المحامون أن تحمل رسائلهم أسمائهم مطبوعة وإلى جانبها عناوين مكاتبهم وأرقام التليفونات، ولكن هذه الرسالة العجيبة تخلو من هذا كله خلوا مقصودا يثير الظنون!. .
وليصدقني القراء إذا قلت لهم إنني تعودت أن ألقى كل ما يكتب بحس الناقد قبل أن ألقاه بحس القارئ؛ ومن هنا فقد قرأت هذه الرسالة المريبة مثنى وثلاث ورباع. . . يخيل إلي أنني وصلت من وراء أسلوبها إلى أشياء هزت جوانب اليقين في نفسي، ومن ناحية أن يكون مرسلها هو صاحب التوقيع!. . مهما يكن من شيء فأنا أرجو أن يتفضل علي الأستاذ المحامي بذكر عنوانه لأتحقق من شخصه، وإذا لم يفعل فأغلب الظن أن هذه الرسالة من أديب تخلت عنه شجاعته حين راح يخاطبني من وراء الأسماء المستعارة!
هل يستطيع المحامي أن يذكر لي عنوانه حتى لا أذهب في الظن إلى أنه ذلك الأديب المعروف، الذي يستطيع كل متذوق للأساليب الأدبية أن يحكم بأن هذا هو أسلوبه؟!. . وسواء أكان الذي كتب إلي هو ذلك المحامي الذي لا اعرفه أم ذلك الأديب الذي يخيل إلي أنني قد عرفته، سواء أكان هذا أم ذاك فأنا استحلفه بحق الشجاعة الشهيدة أن يواجهني بحقيقة شخصه لأستطيع أن أنشر رسالته وأعقب عليها.
أنا في انتظار شيء من الضوء يبدد هذا الظلام. . . ومعذرة، فقدت تعودت أن ألقى خصومي في وضح النهار!(801/54)
أنور المعداوي(801/55)
القصص
المهرج
للكاتب الروسي ماكسيم جوركي
كانت النافذة المستديرة المرتفعة لزنزانتي تطل على فناء السجن. فإذا ما نظرت منها بعد أن أعتلي منضدة بجوار الحائط، أشاهد كل ما يحدث في هذا الفناء، وأراقب الحمام يبني عشه على الحافة العليا من النافذة، وأسمع هديله يتعالى فوق رأسي. وكان لدي من فسيح الوقت ما يسمح لي بالتعرف على نزلاء السجن كلما أطللت عليهم. وهكذا عرفت بوتش أكثر السجناء مرحا. كان رجلا وسطا، ضخم الجثة، أحمر الوجه، عريض الجبهة، براق العينين، يرتدي قلنسوة على مؤخرة رأسه، وقد التصقت أذناه على جانبي وجهه في شكل يلفت الأنظار. وكانت كل حركة من حركات جسمه تبين في جلاء أنه يمتلك روحا لا تبالي بالكآبة والحزن. لقد كان دائم المرح، كثير الضحك، محبوبا لدى رفاقه، يحوطونه فيمازحهم بمختلف الدعابات، ويضفي على أيامهم الباهتة، جوا من البهجة والسرور.
وفي ذات يوم خرج نوتش من زنزانته وقت النزهة وقد قيد ثلاثة جرذان بخيط، وجعل يعدو وراءها في الفناء وكأنه يقود مركبة. فاندفعت الجرذان وقد أرعبها صياحه، اندفعت منطلقة في ذعر وجنون. وضج السجناء بالضحك يشاهدون ذلك الرجل البدين وهو يقود (مركبته).
كان نوتش يعتقد أنه ما خلق إلا ليجذب إليه الأنظار. وكان لا يعوقه عائق في سبيل ذلك. لقد استطاع ذات مرة أن يلصق شعر أحد السجناء بالغراء بحائط الفناء. كان السجين صبيا مستلقيا على الأرض بجوار الحائط وقد أخذته سنة من الكرى. وعندما جف الغراء، أيقظه نوتش فجأة، فهب الصبي من نومه مذعورا وقام على قدميه، ثم أمسك رأسه بيديه المتخاذلتين، وأخيرا سقط على الأرض يبكي. وقهقه السجناء من ذلك المنظر وابتسم نوتش في رضاء. ولكني شاهدته بعد أن ابتعد رفاقه يرفه عن الصبي ويطيب خاطره.
وكان هناك هر سمين نحاسي اللون، محبوب لذى السجناء، ومدلل منهم. ينتهزون وقت نزهتهماليومية فيداعبونه فترة طويلة، ويمر الهر من يد إلى أخرى، ثم يعدون وراءه، ويدعونه يخدش أيديهم وأرجلهم وهو يلاعبهم.(801/56)
وكان الهر محط أنظارهم عندما يبدو في الفناء، فيوجهون إليه اهتمامهم وينسون نوتش ومهازله. وكان نوتش إذا رأى ما رأى ذلك يجلس في ركن من الفناء يراقبهم وهم في غفلة عنه. وكنت أشاهده من نافذتي وأشعر بما يختلج في صدره من شعور وأحاسيس، فأعتقد أنه سيضطر أن عاجلا أو آجلا إلى قتل ذلك الحيوان عند أول فرصة سانحة تسنح له ولذلك كنت آسفا عليه. أن رغبة افنسان في أن يكون محط الأنظار غالبا ما تصبح وبالا عليه. فإنه لا يوجد ما يقتل الروح كتلك الرغبة في إدخال السرور على النفوس.
إن أتفه الحوادث عندما يكون المرء وحيدا، منفردا، حبيسا في سجن، لتسترعي انتباهه، فيوليها اهتمامه. لذلك كان من السهل أن تفهم سبب اهتمامي بما أتتبعه من حوادث من وراء نافذتي، وتلهفي إلى معرفة نتائجها.
وفي ذات يوم صفت سماؤه، اندفع السجناء إلى الفناء. فلاحظ نوتش دلوا به طلاء أخضر، كان قد تركه من يقومون بطلاء سقف السجن. فتوجه إليه، وحام حوله، ثم غمس إصبعه فيه، ثم صبغ شاربه بالطلاء. فأثار منظره ضحك السجناء. وعمد صبي من الزمرة إلى تقليده، فجعل يدهن شفته العليا. وإذا نوتش يغمس يده كلها بالطلاء ويصبغ وجه الصبي، ثم جعل يرقص حوله. وضج السجناء بالضحك وهم يشجعون نوتش في صيحات تدل على رضائهم عما يفعله.
وفي ذات اللحظة أقبل الهر يتهادى في الفناء وقد رفع ذيله غير هياب ولا وجل، وسار بين أقدام الحشد المتزاحم حول نوتش والصبي الذي كان يحاول أن يزيل ما علق على وجهه من طلاء.
فصاح أحدهم - أيها الرفاق، أن ميشكا هنا!
وصاح آخر - آه أيها الأفاق الصغير!
ثم أمسكوا به، ومر في أيديهم الواحد تلو الآخر وهم يربتون على ظهره. .
وقال أحدهم - انظروا كم هو سمين!
- وكيف ينمو بسرعة!
- إنه يخدشني. يالك من شيطان صغير!
- أتركه. دعه يثب.(801/57)
- سأحني ظهري له. اقفز يا ميشكا.
ونسوا نوتش، فوقف وحيدا يمسح الطلاء العالق على شاربه، وينظر إلى الهر يقفز على أكتاف زملائه. أخيرا قال في نبرات تشوبها التوسل والرجاء - أيها الرفاق، دعونا نطلي الهر.
فصاح واحد - ولكنه يموت.
فقال - من الطلاء!؟ هراء!
فقال رجل عريض الكتفين ذو لحية حمراء - يا لها من فكرة غريبة! إنك لشيطان حقا!
ولم ينتظر نوتش موافقتهم، بل حمل الهر بين يديه وسار به نحو الدلو وهو ينشد أنشودة مضحكة يصف فيها الهر. ويبتسم السجناء وابتعدوا يفسحون له طريقا. وشاهدته وقد أمسك بالهر من ذيله ثم غطسه في الدلو وهو يرقص وينشد. وقهقه الجميع، واهتزت الأجسام، وأطل النساء السجينات من جناحهن يبتسمن، وشاركهن الحراس الضحك. وأخيرا صاح ذو اللحية الحمراء - كفى أيها الرجل. فليأخذك الشيطان!
وازدادت حماسة نوتش بعد أن ألتف حوله رفاقه، وبعد أن أصبح محط أنظارهم ومبعث سرورهم. وغمر المكان ضحكات جنونية كانت الشمس تضحك وهي تشرف على البناء، والسماء الزرقاء تبتسم فوق السجناء، وحتى الحوائط القذرة فقد بدت وكأنها مهيجة بما كان يحدث في الفناء. وافترت ثغور النساء فتلألأت أسناهن تحت أشعة الشمس. وانزاح ذلك الفتور القابض الذي كان يبعث في المكان جوا من السأم والملل، وأصبح مشرقا تترد في أنحائه صدى الضحكات.
وأخيرا وضع نوتش الهر على الأرض، ثم واصل مرحه وهو يلهث والعرق يتصبب منه، وشيئا فشيئا تلاشى الضحك بعد أن تعب السجناء منه، وأخيرا ران على المكان الصمت لا يقطعه إلا صوت نوتش وهو ينشد ويرقص، وماء الهر وهو يزحف على الحشائش، ويتعثر في سيره بأقدام مرتعشة، ويقف بين الفينة والفينة كأنم التصق بالحشائش الخضراء التي اصبح من المتعذر تمييزه عنها.
وصاح ذو اللحية الحمراء - ما الذي فعلته أيها الوحش؟
وتطلعت إلى نوتش الأنظار شرزا. وصاح شاب وهو يشير إلى الهر - أنه يموء. فجعلوا(801/58)
يراقبونه في صمت.
وقال آخر - أيظل أخضر اللون بقية حياته؟
فأجاب رجل ممشوق القامة أشيب الشعر وقد اقترب من ميشكا - أنه جف في الشمس، وسيلتصق شعره، وسيموت.
وظل الهر يموء فيثير بذلك شفقة السجناء؛ وسأل الصبي قائلا - أيموت؟ إلا نستطيع أن نغسله؟ فلم يفه أحدهم بكلمة. كان الهر قد ارتمى تحت أقدامهم عاجزا عن التحرك. وتهالك نوتش على الأرض وهو يقول (لقد غرقت عرقا!)، فلم يأبه أحد. وانحنى الصبي على الهر وأخذه بين ذراعيه. ولكنه سرعان ما أن لاقاه على الأرض وهو يقول - إنه ساخن جدا. ثم نظر إلى رفاقه وقال في حزن - مسكين يا ميشكا! لن يكون هناك ميشكا بعد اليوم. لماذا تودون قتل ذلك المسكين؟
فقال ذو اللحية الحمراء - لعله يتغلب على الموت.
وواصل الهر زحفه على الحشائش تراقبه أعين عشرون. ولم يبد على وجوه القوم أي أثر لابتسامه. كانوا جميعا صامتين واجمين في حزن كأنما اتصلت بهم آلام الهر وشعروا بما يشعر به من عذاب. وقال الصبي - لا أظنه يتغلب على الموت. هالك ميشكا الذي كنا نحبه. لماذا تعذبونه؟ أنه لمن الأفضل وضع حد لآلامه.
فقال السجين ذو الشعر الأحمر غاضبا - ومن الذي فعل ذلك؟ أنه ذلك المهرج. ذلك الشيطان. فقال نوتش محاولا أن يهدئ من ثائرتهم - ألم نشترك سوية في ذلك الفعل؟ ثم احتضن نفسه كأنه يشعر بالبرد.
فقال الصبي - كلنا! عظيم جدا! إنك وحدك الملوم.
فحذره نوتش قائلا - لا تهدر أيها الثور!
والتقط السجين الكهل الهر وجعل يتفحصه جيدا ثم اقترح قائلا - ألا نستطيع إزالة هذا الطلاء إذا ما جعلناه الهر يستحم في البترول؟
فقال نوتش وهو يتكلف الابتسام - خذه من ذيله واقذف به من فوق الحائط. أن ذلك أبسط حل للمشكلة. فزمجر ذو الشعر الأحمر قائلا - ماذا؟ لنفرض أني قذفت بك أنت فوق الحائط، أيعجبك ذلك؟ وصاح الصبي - أيها الشيطان.(801/59)
ثم أمسك بالهر وعدا به. وتبعه بعض الرجال. وظل نوتش وحيدا بين البقية الباقية من السجناء وهم ينظرون إليه شزرا. فصرخ فيهم مستغيثا لست أنا وحدي أيها الرفاق.
فقاطعه ذو الشعر الأحمر وهو يلتفت يمنة ويسرة - صه، لست أنت. إذا من؟
فصاح المهرج قائلا - ولكنكم مشتركون جميعكم في المسألة.
فقال الرجل - أيها الكلب. ثم لكمه على وجهه. فتراجع نوتش إلى الخلف ليتلقى ضربة أخرى في عنقه. وجعل يصيح فيهم متوسلا (أيها الرفاق. .) ولكنهم التفوا حوله بعد أن تأكدوا من بعد الحراس عنهم وأسقطوه على الأرض يشبعونه ضربا. كان كل من يراهم مجتمعين يعتقد أنهم مشتركون في حديث ودي، ورقد نوتش تحت أقدامهم، وكنت تسمع من وقت لآخر صوتا مكتوما كانوا يركلونه فيضلوعه، يركلونه في تؤدة وهدوء، وينتظرون حتى يظهر منه وهو يتلوى على الحشائش كأفعى فرجة تسمح لهم بركلة مرة أخرى. واستمر ذلك ثلاث دقائق صاح بعدها أحد الحراس فجأة: لا تبتعدوا كثيرا أيها الشياطين!
ولم ينفض السجناء في الحال، بل تركوا نوتش يركله الواحد تلو الآخر، وظل نوتش راقدا بعد أن رحلوا منبطحا على الأرض وكتفاه يهتزان، كان يبكي في حرقة، وظل يسعل ويبصق، ثم حاول أن ينهض في حذر كأنما يخشى السقوط وقد أرتكن على ذراعه اليسرى، ولكنه نبح كالكلب المريض، ثم تخاذلت ساقاه، وأخيرا تهالك على الأرض. وصاح ذو الشعر الأحمر مهددا: إياك أن تتظاهر!
فتحامل نوتش على نفسه وقام على قدميه، ثم سار يترنح في خطوات ثقيلة، وأخيرا أرتكن على الحائط، وقد انحنى ظهره ورأسه، وكان يسعل باستمرار، فشاهدت قطرات قاتمة تتساقط من فمه على الأرض وتتناثر على الحائط. وحاول نوتش جاهدا أن يمنع قطرات الدم من أن تلوث الحائط، فجعل يمسحها بطريقة مضحكة. وإذا بالابتسامة تعود فتشرق على وجوه من يراقبونه وإذا بالضحكات تعود فترن في أنحاء الفناء.
ولم أر الهر بعد ذلك. . . وأصبح نوتش محط أنظار رفاقه دون أن يكون له مزاحم آخر!
محمد فتحي عبد الوهاب(801/60)
العدد 802 - بتاريخ: 15 - 11 - 1948(/)
أسرة طيبة
- 2 -
أقلعت الحمى المزعومة عن جسد عائدة الرشيق الغض، فشعرت شعور الفتاة الصحيحة بأن رجلاً أجنبيا في غرفتها فنهضت بحكم الغريزة تتعهد مواضع احتشامها، وتجمع بيدها ما تشعث من هندامها. ثم نظرت إلىَّ بطرفها الساجي نظر المطمئن الشاكر.
فقلت لها: كيف تجدينك الآن يا آنسة؟
فأجابت في ابتسامة خجلة وصوت خريد:
- أجدني والحمد لله كأن لم يكن بي شئ. وأنا لنعتذر إليك يا سيدي من إزعاجك في مثل هذه الساعة. والحق أني لا أعرف كيف جرى ذلك! شكوت أول الليل فترة في جسدي لعلها مسة من البرد؛ فلما قاس أخي حرارة جسمي وقال إنها ثلاث وأربعون درجة اعتقدت أني مشرفة على الموت، لأن فهمي لا يمزح في مثل هذه الحال، والميزان لم يغشنا قبل هذه المرة؛ وحينئذ شعرت بدمي يفور، وبنفسي يتتابع، وبنبضي يسرع، وبروحي تذوب، وبجسمي ينحل؛ ثم نزلت بي غشية الموت فرأيت ثلة من القديسين وفي أيديهم الأناجيل. يرتلون من حولي آيات الغفران وأدعية الرحمة. فلما أوشك السرج أن ينطفئ سمعت قديسا من بينهم يقول ضاحكا: إن حالتها تكاد أن تكون طبيعية، وإن حرارتها سبع وثلاثون درجة ونصف! ففتحت عيني فإذا بك واقف على سريري وفي يدك الميزان؛ ثم فهمت من الحديث الذي جرى أن حرارة المصباح الشديدة هي التي رفعت الدرجة حين أدناه أخي من لهيبه وقلبه طويلا على حره. حينئذ فتر الدم الغالي وأبطأ النبض السريع وتماسك الروح والقلق وخف الجسم الثقيل، فنهضت أشكر عائدي الكريم وأعتذر إليه، وجلست أطمئن بيتي المرتاع وأسري عنه.
فقلت: نحمد الله على أن جعل مرضك وهما لا حقيقة، ونسأله ألا يصيبك المرض إلا بهذه الطريقة. ثم هممت بالانصراف، فأقسم المعلم فهمي ألا أخرج حتى أشرب قدحا من شاي شحاتة، أو كأساً من عرق (عزور).
فقلت له وأنا أمكن لنفسي في الكرسي المخلع:
- لا بأس أن أيز يمينك بأخف الضررين. هات الشاي نشربه على صحة الآنسة.(802/1)
فذهب شحاتة يطبخ شايه وسرعان ما رجع خزيان يعتذر بأن زجاجة المصباح الأصفر قد تحطمت في الفزعة التي سببها المصباح الأكبر.
فقلت لهم: وماذا يضطركم إلى الاستضاءة بالنفط والعمارة كلها تستضئ بالكهرباء؟
فأجاب المعلم في لهجة الأستاذ وهيئة العبقري:
- خلاف بيني وبين شركة النور على التأمين الذي نأخذه مقدما من المشترك، هي تريد أن (أدفعه)، وأنا أريد أن أمنعه. ومعاذ الله أن أكون مغفلا كجميع مشتركيها فأنزل لها عن بعض مالي بغير حق. إن التأمين مال ميت، لأنك لا تستفيد منه ما دام النور، والنور لا تستغني عنه ما دامت الحياة. وقد تحدثت في ذلك إلى رئيس الوزراء فاقتنع ووعد بن يطلب من الشركة إما أن تأخذ التأمين بأجر، وإما أن تكتفي منه بالتأمين على استهلاك شهر.
ومنذ تلك الليلة تفتحت بيننا الأبواب وتكشفت دوننا الحجب، فأصبحنا نتذاكر فضول النحو في مكتب فهمي، وأمسينا نتناقل شهي الحديث في مجلس عائدة. وأنفقت لي مع الآنسة الطيبة خلوات أنست فيها النفس بالنفس، واطمأن عليها الضمير إلى الضمير، فعلمت من دفائن صدرها أنها أحبت، وأن حبيبها كان من أهل الرؤاء الباهر والثراء القليل، كان يعمل في تقطير (العرق) وجلب (الملوحة)، ويطمع منها في صداق ضخم يوسع به معمله، ويبني عليه مستقبله؛ وكانت هي ترجو أن تدبر له هذا الصداق من تجارة أبيها الرابحة في القطن والزيت. ومضى على هذا الحب العنيف العفيف ثلاثة أعوام كانت في خلالها تلقى فتاها في إيابها من المدرسة، أو في ذهابها إلى الكنيسة، فيضحان هواهما المكظوم المحروم بما تيسر من أناشيد الغزل وأحاديث المنى، ويتشاوران في مستقبل هذا الحب الجائش النامي: متى يعرف الأبوان، ومتى تعلن الخطبة، ومتى ينعقد (الجبنيوت)، ومتى يكون الزفاف؟ وانتهى التشاور بينهما ذات يوم إلى أن يتقدم الخاطب في الأحد القريب إلى أبويها فيطلب يدها ويعلن خطبتها. ومضت هي تهيئ سمع أمها إلى هذا الخبر؛ وكانت الأم قد عرفت عن طريق غريزتها وأمومتها سر هذا الحب فلم تدهش حين صارحتها ابنتها به. ووعدتها أن تظفرها في وقت واحد برضا الأب وضخامة الصداق. ولكن أمها مرضت في ذلك الأسبوع مرض الموت فتأجلت الخطبة. ولحق بها أبوها بعد عام فتجدد التأجيل. ولم يمل الخاطب(802/2)
الحبيب هذا الانتظار، لأن حظ عائدة من الجمال يتسع له الصبر، ونصيبها من تركة أبيها يستحيل منه العوض، ولكن تركة المرحوم تكشفت بفضل المضاربة في البرصة عن دين فادح كان يستره بجمال المظهر وحسن السياسة، فلم يجد بنوه شيئا في البنوك ولا في الدفاتر. فخرج فهمي من المتجر وتبطل، وانقطع شحاته عن المدرسة واشتغل، واعتكفت عائدة في بيتها عن الناس فلم تزر أحدا ولم تقبل أن يزورها أحد. ثم قصرت جهدها على أخويها وحبها على المسيح؛ فهي تعمل طول الأسبوع في البيت ولا تخرج إلا يوم الأحد إلى الكنيسة. ثم استعاضت عن عشرة الناس بعشرة الحيوان، فهي تربى الأرانب في المطبخ، وترعى الدجاج في بالصالة، وتقتني كلبها في الغرفة، وتصطحب هرة في السرير. ولكنها منذ عرفتها وتألفتها نظفت البيت ونظمت الأثاث وجملت المنظر واكتفت من خلطائها العجم بالكلب والهرة.
ثم تعاقبت السنون وتبدلت الأحوال فانتقلنا من حي إلى حي، وتحولنا من ناس إلى ناس، فانقطع علم ما بيني وبين هذه الأسرة الطيبة، فلم أعد أرى فهمي البطين، ولا شحاتة الأعجف، ولا عائدة الرشيقة.
وفي يوم من عطلة الأضحى الماضي كنت واقفا أجيل النظر في المعرض الزجاجي لمكتبة من مكاتب الفجالة، فرأيت بجانبي رجلا أشمط الرأس معروق العظام، يحمل قرطاسا من البلح الأمهات ويديم النظر إلى وفي عينه استفهام وعلى شفته كلام. فلما حدقت ببصري إليه عرفت فيه شحاتة أفندي، فسلمت عليه بشوق، وسألته عن أهويه بلهفة. فقال لي والأسى يقطر من وجهه ويظهر في كلامه: قضى فهمي بالشلل، وقضت عائدة بالسل، وقضى الله أن أعيش بعدهما لأبكي عليهما وحدي، ثم لا أجد من يبكي عليهما ولا على بعدي!
فشجعته ثم ودعته وانصرفت وفي نفسي أن أحي ذكرى هذه الأسرة الطيبة بهذه الكلمة في (الرسالة).
أحمد حسن الزيات(802/3)
من معاهد العلم في عصر الحروب الصليبية:
المدرسة الصلاحية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
كان التعليم في مصر قبل مقدم صلاح الدين إليها، في الجوامع والمساجد، وأول ما عرفت مصر إقامة درس من قبل الخليفة بمرتب ثابت كان في عهد خلافة العزيز بالله الفاطمي، فقد سأله وزيره يعقوب بن كلس صلة رزق جماعة الفقهاء، يقومون بالتدريس في الجامع الأزهر، فأطلق الخليفة لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة، كما كانوا موضع عطف الخليفة وحبه.
ثم أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة وجعلها أشبه بجامعة نلقى فيها الثقافة العالية من فقه ونحو وحديث وأدب ولغة وهيئة وطب ورياضة ومنطق وفلسفة، وأجرى على أساتذتها الأرزاق الواسعة وجهزت بمكتبة ضخمة.
وكان الهدف من التعليم في الجامع الأزهر ودار الحكمة مبادئ الشيعة ونشر مذهبهم. ولم تذع المدارس في مصر في عهد الفاطميين، بل لم ينشأ فيها سوى هذه المدرسة التي أنشأها ابن السلار وزين الظافر العبيدي وكان من غلاة السنيين، فبنى بالإسكندرية سنة 546 مدرسة للشافعية أسند أمرها إلى العالم الشهير أبي طاهر السلفي. وقبل هذه المدرسة أنشأ أحد وزراء الحافظ مدرسة لتعليم الشريعة بالإسكندرية أيضا.
فلما جاء صلاح الدين عمل على تأسيس المدارس المختلفة، ليشيع في البلاد مذهب أهل السنة ويعيدها إلى طريق الجماعة؛ فأنشأ بجوار الجامع العتيق مدرستين: إحداهما للشافعية والأخرى للمالكية، وحول قصر الوزير المأمون البطائحي مدرسة للحنفية اتخذت اسم المدرسة السيوفية؛ لأن سوق السيوفيين كان حينئذ على بابها، وبنى مدرسة مجاورة للمشهد الحسيني، وأخرى بالإسكندرية ومدارس بالقدس ودمشق.
ويظهر أن أعظم ما شيده هو المدرسة الصلاحية التي أقامها بجوار قبر الإمام الشافعي؛ ولعل صلاح الدين، وكان شافعيا، أراد بإنشائه هذه المدرسة أن يحي بها ذكرى الشافعي من(802/4)
ناحية، وأن يكون انبعاث مذهبه قريبا منه حيث يرقد؛ فوكل أمر إنشائها إلى نجم الدين الخبوشاني، فنهض ببناء مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها؛ لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء؛ وكان يخيل لمن يطوف بها أنها بلد مستقل بذاته، بازائها الحمام وغيره من مرافقها، فكانت أشبه بمدينة جامعية؛ ولم يضن عليها صلاح الدين بمال، بل كان يقول لنجم الدين: زد احتفالا وتألقا، وعلينا القيام بمئونة ذلك كله. ووقف عليها حماما بجوارها، وفرنا تجاهها، وحوانيت بظاهرها، والجزيرة التي كانت تسمى جزيرة الفيل بالنيل خارج القاهرة. ولعلها بعد أن تم بناؤها سنة 572 أصبحت أعظم مدرسة في العالم الإسلامي كله، فكانت لذلك تدعى: تاج المدارس.
وجعل صلاح الذين أمر التدريس، والنظر فيها لنجم الدين الذي تولى أمر بنائها، ورتب له في الشهر أربعين دينارا عن التدريس، وعشرة دنانير عن النظر في أوقاف المدرسة، وجعل له من الخبز في كل يوم ستين رطلا، وراويتين من ماء النيل، ولما مات وليها شيخ الشيوخ محمد بن حمويه الجوبني في حياة صلاح الدين. فلما مات السلطان ولى النظر في وقفها بنو السلطان واحدا بعد واحد، ثم خلصت بعد ذلك، وعاد إليها الفقهاء والمدرسون.
ويدلنا على ما لهذه المدرسة من القدر أن جماعة من أعيان العلماء قد تولوا التدريس فيها، نذكر من بينهم شيخا الأول نجم الدين الخبوشاني، وهو فقيه شافعي ولد بناحية نيسابور سنة 510، وتفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكانت له معرفة بنجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين، وعندما قدم إلى مصر نصب نفسه لذم الفاطمين وثلبهم، وجعل تسبحه سبهم؛ ويقال إن الفاطميين حاولوا استمالته فلم يقبل. ولما عزم صلاح الدين على قبض العاضد وأشياعه واستفتى الفقهاء أفتوه بجواز ذلك، وكان أكثرهم في الفتيا نجم الدين الخبوشاني، كما كان أول من خطب بن العباس.
ولنجم الذين كتاب تحقيق المحيط في شرح الوسيط الذي ألفه الغزالي في فقه الشافعية، وكتب الشرح في ستة عشر مجلدا وقد اختلف المؤرخون فيه؛ فالسبكي يراه إماما جليلا ورعا آمرا بالمعروف. وشاهده ابن جبير وأثنى عليه. وابن خلكان يقول: رأيت جماعة من أصحابه وكانوا يصفون فضله ودينه، وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا. وابن أبي أصيبعة يراه ثقيل الروح متقشفا في العيش يابسا في الدين يأكل الدنيا بالناموس.(802/5)
والذي يظهر من أعماله أنه كان شديد المغالاة فيما يعتقد، وكان بينه وبين الحنابلة فتنة قائمة يكفرونه ويكفرهم؛ رمسه الذي كان بجانب قبر الشافعي قائلا لا يتفق مجاورة زنديق لصديق. ولكن كرهه للفاطميين وشدة إخلاصه للأيوبيين هي التي جعلت صلاح الدين يثق به ويكرمه ويقربه؛ برغم أنه مات وجدت له ألوف الدنانير، فلما سمع ذلك صلاح الدين قال: يا خيبة المسعى! وتوفي نجم الدين سنة 587.
وفي عهد صلاح الدين أيضا درس فيها محمد بن هبة الله البرمكي الحموي، وهو فقيه فرضي نحوي متكلم أشعري العقيدة مرجع أهل مصر في فتاويهم، وله نظم تعليمي كثير: ألف أرجوزة في العقائد لصلاح الدين وأخرى في الفرائض أهداها إلى القاضي الفاضل.
ودرس بها كذلك سيف الدين الآمدي أذكى أهل زمانه وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية والمذاهب الشرعية والمبادئ المنطقية.
وأفضل الدين الخونجي ممن قام بالتدريس فيها، وهو فقيه شافعي يقول عنه ابن أصيبعة: (سيد العلماء والحكماء أوحد أهل زمانه وعلامة أوانه، قد تميز في العلوم الحكميه، وأتقن العلوم الشرعية)؛ وجعله الصالح أيوب قاضي قضاة مصر؛ ولنميزه في المعقولات كانت أكثر آثاره فيها؛ فله مقالة في الحدود والرسوم، وكتاب الجمل في علم المنطق، وكتاب كشف الأسرار في علم المنطق أيضا، وكتاب الموجز فيه كذلك. وكان الخونجي عالما بالطب أيضا وله فيه: شرح ما قاله ابن سينا في النبض، وكتاب أدوار الحميات. ولما مات سنة 646 رثاه عز الدين الإربلي بقول:
قضى أفضَّل الدنيا فلم يبق فاضل ... ومات بموت الخونجي الفضائل
فيأبها الحبر الذي جاء أخرا ... فحل لنا ما لم تحل الأوائل
ومستنبط العلم الخفي بفكرة ... بها اتضحت للسائلين المسائل
فليت المنايا عنه طاشت سهامها ... وكانت أصيبت عن سواه المقاتل
فإن غيبوه في الثرى عن عيوننا ... فما علمه خاف ولا الذكر خامل
ومنهم قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز الذي ولى المناصب الجليلة، واجتمع له منها ما لم يجتمع لغيره، فأسند إليه نظر الدواوين والوزارة وقضاء القضاء وتدريس قبة الشافعي، والصلاحية والصالحية، والخطابة. وكانت له منزلة كبرى عند الظاهر بيبرس(802/6)
ومات في رجب سنة 665.
ودرس بالصلاحية، وتولى قضاء القضاة أيضا ابنه عمر، فسار على طريقة أبيه، بل أربى عليها شدة هيبة. وسلك في ولايته طريق الخير والصلاح، وتحرى الحق والعدل، وتصلب في الأحكام. قال السبكي: (ولا يوجد أهل بيت بالديار المصرية أنجب من هذا البيت، كانوا أهل علم ورياسة وسؤدد وجلالة)؛ ثم عزل نفسه واقتصر على تدريس الصلاحية وتوفى سنة 680.
ولما مات ولى أخوه عبد الرحمن المدرسة الصالحية والتربة الصالحية عوضا عن أخيه مضافا لما بيده من نظر الخزائن. وفي أيام قلاوون عرضت على عبد الرحمن الوزارة فأبى ثم قبلها بعد إلحاح، فلما نقلت عليه تركها. وكان للكارهين للملك الأشراف خليل، وبينه وبين وزيره ابن السلعوس تنافس وعداء، فعمل الوزير وسعى حتى عزله عن كل ما بيده من المناصب، وكانت سبعة عشر منصبا، وبالغ في إهانته؛ ثم سعى له بعض الأمراء فعين بالمدرسة الصلاحية، ولكن ذلك لم يرض ابن السعلوس فعقد له في ذي العقدة سنة 691 مجلسا وندب له العلم ابن بنت العراقي الذي نسب إليه كثيرا من العظائم فاعتقل ووعد بالقتل، وظل في بلاء إلى أول شهر رمضان سنة 692، حيث أفرج عنه، ومضى مع الركب إلى الحج، وزار النبي صلوات اله عليه، وأنشده قصيدة يمدحه بها ومات عبد الرحمن سنة 195.
ووكل أمر التدريس فيها سنة 678 إلى قاضي القضاة محمد ابن الحسن بن رزين بعد عزله من وظيفة القضاء؛ لأنه توقف في خلع الملك السعيد، وقرر له نصف المرتب الذي كان يتقاضاه الخبوشاني.
ولما مات ابن رزين وليها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد على أن يأخذ ربع المقرر، فلما عين بها الصاحب برهان الدين الخضر السنجاري قرر له المرتب كله، وقد عين الخضر قاضيا للقاهرة والوجه البحري، وجلس للحكم في المدرسة المنصورية بين القصرين، ورسم له أن يجلس في دار العدل فوق قاضي القضاة ابن بنت الأعز، ومات فجأة في 9 صفر سنة 686.
وكانت هيئة التدريس في هذه المدرسة مكونة من مدرس وعشرة معيدين، ومر بها ثلاثون(802/7)
سنة خلت فيها من مدرس واكتفى بالمعيدين. ولسنا ندري بالضبط تحديد تلك الفترة التي خلت فيها المدرسة من المدرسين، ولعلها سبقت تولية تاج الدين ابن بنت الأعز أمر التدريس فيها؛ لأن سلسلة مدرسيها متتابعة منذ ولايته، كما لا ندري السبب الذي دفع أولى الأمر إلى الاستغناء عن مدرس بها.
وعرفنا من بين من قام بالإعادة في هذه المدرسة محمد بن علم الدين بن القماح الذي استقر معيداً بتوفيع شريف سنة 680، وجعفر ابن يحيى التزمنتي الذي كان شيخ الشافعية بمصر في زمانه وأخذ عنه فقهاء عصره، وألف شرح مشكل الوسيط، وكان مدرسا بالمدرسة القطبية وتوفى سنة 682؛ وشمس الدين الأصفهاني العالم المشهور في المنطق وأصول الدين وأصول الفقه والمؤلف فيها، والمعروف بالهيبة والوقار في دروسه. وقد أنف هذا الأستاذ أن يكون معيدا بالمدرسة عندما عين ابن دقيق العيد مدرسا بها. قال لاسبكي: (ونحن نقيم عذره، من جهة مشيخته وقدم هجرته، وإلا فحقيق به وبأمثاله الاستفادة من إمام الأئمة تقي الدين).
ومن المعيدين فيها عماد الدين عبد الرحمن بن أبي الحسن الدمنهوري وهو فقيه شافعي ألف على التنبيه في الفقه كتاباً له دعاه النكت وتوفي سنة 694.
وبقيت هذه المدرسة عامرة بالدراسات المتنوعة إلى أن لاشتها الحوادث في أوائل القرن التاسع.
(حلوان الحمامات)
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول(802/8)
4 - الاتجاهات الحديثة في الإسلام:
القانون والمجتمع
للأستاذ هـ. ا. ر. جب
(تتمة)
ولما كان من الواضح أنه يستحيل مناقشة الآلاف من الكتب والنشرات، وتلخيص محتوياتها؛ فإن الأفضل شرح الاتجاهات العامة، وتلخيص الفصل الذي كتبه سيد أمير علي عن مركز النساء في الإسلام.
والحق أن الكاتب كان شيعيا، واتخذ وجهة نظر عقلية تجاه القرآن، بيد أنه أظهر عمليا ما بلغة المجدد المعارض حول الموضوع، وقد اتبعه كثير من الكتاب المتأخرين الذين كرروا تأكيداته في كل لغة إسلامية بدرجات أقوى وأشد. قال سيد أمير علي: (في مراحل خاصة من التطور الاجتماعي، يكون هناك ما يبرر تعدد الزوجات، فلا يمكن تجنبه. وإن حروب القبائل المتكررة، وما يعقبها من مذابح تقضي على الذكور من السكان، مع السلطة المطلقة التي يملكها الرؤساء، كل هذا خلق تلك العادة التي نعتبرها بحق شرا لا يطاق في الأزمنة الحديثة).
إن النزعة العلمية في العبارة الأولى خطيرة، تتبعها مجموعة ملاحظات موجزة عن تقاليد الزواج عند مختلف الأجناس القديمة، ثم مناقشة حول سماح الكنيسة المسيحية الأولى بمزاولة تعدد الزوجات سراً وعلانية، (حتى أن القسس استفادوا من عادة الإبقاء على عدة زوجات ثانويات (غير شرعيات) بواسطة الحصول على ترخيص من المطران أو الأسقف).
وقد كان أعظم خطأ ارتكبه الكتاب المسيحيون، هو قولهم إن محمداً صلى الله عليه وسلم، خلق تعدد الزوجات أو جعله قانونياً، فإنه لم يجده منتشراً بين العرب فحسب، بل كنت منتشراً بين اليهود مع سائر العادات والتقاليد الكثيرة التي تحط من قدر النساء.
(إن نبي الإسلام (ص) قد أوجب احترام النساء كقاعدة عامة من أحكامه الرئيسية المقدسة؛ وحباً في ابنته الشهيرة وتخليداً لها قد أطلق أتباعه عليها (سيدة الجنة) كممثلة لبنات جنسها.(802/9)
إن سيدتنا هي جماع كل ما هو مقدس في النساء، وكل طهر وقدسية في جنسها. إنها أنبل مثل للخلق الإنساني (لا تنس أن أمير علي كان شيعياً) وقد اتبعها سلالة طويلة من النساء اللائى شرفن جنسهن بفضائلهن. من ذا الذي لم يسمع برابعة الطاهرة، وألف من أترابها؟).
ثم يذهب المجدد ويضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمن النساء حقوقاً لم يكن يملكهن من قبل. أي أنه وضعهن على قدم المساواة التامة مع الرجال أمام القانون، كما حد من طغيان تعدد الزوجات، وذلك بتحديده النهاية الكبرى للزوجات المشتركات بأربع، ولكن إذا تعذرت عليك المساواة والعدل بين النساء وجب عليك أن تتزوج واحدة فقط. وهذا الأمر هام جداً، إذ أن العدل المطلق في المسائل العاطفية من الأمور المستحيلة؛ فجاء القرآن وفصل فيها.
لكن تعدد الزوجات يعتمد على ظروف كثيرة. . . وإن تلاؤم القوانين أعظم اختبار لمدى فائدته ونفعه.
(هذه أحكام القرآن، وهي لا شك - ملائمة لمعظم المجتمعات المتحضرة وغيرها. أما الضربات والسهام التي صوبت نحو الأمم الإسلامية، فمرجعها سوء استخدام مبدأ الاجتهاد. وليس ببعيد ذلك اليوم الذي يتبع فيه كلام الله في حل المشكلة. سواء اتبع المسلمون محمداً (ص) أو مشايخهم الذين أغضبوا الله ليشبعوا رغباتهم أو يستجيبوا لمطالب الخلفاء والسلاطين - وكانوا خدما لهم).
وهذا ينتج من التنوع في نظرة الحقائق، والفهم الصحيح للسنة النبوية: وقد أصبح الشعور ضد تعدد الزوجات عقيدة اجتماعية أكثر منها أخلاقية. وجرى العرف بين مسلمي الهنود على أن يشترطوا شرطا في عقد الزواج من شأنه أن يمنع الزوج من استخدام حقه في الزواج الثاني أثناء استمرار الزواج الأول. وفي الوقت الحاضر يشيع الزواج بالواحدة (مونوجامي) بين 95 % من مسلمي الهنود. والأمل أن يعلن شيوخ المسلمين نظرياً، أن تعدد الزوجات - مثل الرق - يعارض أحكام الإسلام.
وأعقب هذه المناقشة صفحات عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعارض وكذب ما قيل عنه من أنه يرجع إلى إشباع رغبات النفس، ثم اتجه نحو الطلاق، واتبع نفس الأسس التي اتخذها في مناقشة موضوع تعدد الزوجات قال:(802/10)
(ليس من شك في أن أحكام القرآن في معاملة النساء في الطلاق (وليس في الطلاق نفسه) رحيمة تتمشى مع العدالة).
ومع أن النبي (ص) كان يكره الطلاق، وجد أنه يتعذر القضاء على التقاليد نهائياً في ظروف المجتمع السائدة. وبالتدريج سمح للأزواج بأن يطلقوا زوجاتهن بشروط خاصة. وقد أبرزت الإصلاحيات المحمدية مرحلة جديدة في تاريخ التشريع في الشرق. فينبغي أن تقرأ نصوص القرآن في ضوء اتجاه المشرع. ولقد تجاهل أئمة المسلمين مبادئ كثيرة في العدل الإلهي. ومهما يكن من شئ فإن هذه القوانين أكثر عدالة ورفقا بالنساء من نصوص القانون الروماني الذي نشأ في رعاية الكنيسة (المسيحية).
وأخيرا يهاجم حجاب النساء أو البررة كما يسعى في الهند. وبدأ بأنها من بقايا التقاليد العتيقة التي من شأنها أن تعوق نهضة الأمم الإسلامية. مع أنه يقرر أن هذه البردة لها مزايا مختلفة عند المجتمعات غير المتحضرة، والبدوية.
(ولم يجئ في القرآن أي نص على أن الحجاب جز من أحكامه الجديدة. ولما ظهرت البروتستنتية، قضت على جميع القوانين الاجتماعية، والاختلافات في نظرة المشرعين إلى مركز المرأة. وقد عامل المسيح (عليه السلام) المرأة بكل رفق ورحمة، في حين أن أتباعه أخرجوها من نطاق العدالة. وهذا الاتجاه الذي شاع في الأزمنة الحديثة يرجع إلى فرسان الصحراء وقد انتقل إلى الغرب بواسطة الصليبيين والتروبادور، وأنتشر في عصر المتبربرين في أوربا، وفي القرون الأولى للإسلام. كانت المرأة تشغل مكانها اللائق - كما في المجتمع الحديث. ومع التحسينات التي أدخلت على المركز الاجتماعي للغربيات، فإن مركزهن الشرعي لا يزال منحطاً في أعظم المجتمعات تمديناً في العالم المسيحي).
إن المشرع الذي يعطى حقاً للمرأة، عذراء أو متزوجة، أما أو زوجة - في عصر ليس فيه مجتمع ولا دولة ولا نظام - قد حرمت منه في الأمم المتمدنة، هذا المشرع جدير بأسمى صفات الإنسانية. ولو أن محمداً (ص) لم يفعل أكثر من هذا لكان بلا جدال مصلح الإنسانية.
فإذا كانت هذه الخلاصة لم توضح شخصية أمير علي في مناقشته، فليس هذا مقصوداً.
وفي محاضرته السادسة يناقش التفاعل بين القانون والمجتمع، وبعد أن يشير إلى (النظرة(802/11)
الديناميكية للقرآن) التي لا تتعارض مع فكرة التطور، يقرر أنه في مجتمع كالإسلام لا يزال استعادة التعاليم القديمة قائما. وقد نجح الإسلام إلى حد كبير - بأحكامه الواضحة - في خلق ما يشبه الإدارة أو الشعور الجمعي، بين مختلف الجماهير من معتنقيه.
ثم يقول إقبال ويقول:
(إني أعلم أن الإسلام يحتجون في النهاية بالمدارس العامة للشريعة الإسلامية؛ ولكن ما دامت الأشياء قد تغيرت، وأثر في العالم الإسلامي قوى جديدة، نشأت من تطور التفكير البشري في جميع الاتجاهات، فأنى لا أرى سبباً في أن يظل هذا الاتجاه ثابتا للآن).
ثم يرجع إلى موضوعنا ويترك مسألة الطلاق ليناقش مشكلة الميراث، مشيراً إلى قصيدة زيا جوك ألب، التي سبق نقلها:
. . إن المساواة في الطلاق والانفصال وفي الميراث، ليست ممكنة في الشريعة الإسلامية. ولست اعلم ما إذا كان للنهضة النسائية في تركيا، مطالب لا تناقش من غير تفسيرات خاصة وأسس ثابتة. وقد ارتبط القضاة من الهنود المحافظين بالأعمال المفتنة، والنتيجة أن الناس يتحركون، في حين يظل القانون ثابتاً!.
وبالتأمل في مطالب الشاعر التركي، فإنى أخشى أنه يجهل قانون الأسرة في الإسلام، وأنه لم يفهم الأهمية الاقتصادية لقانون الوراثة في القرآن. فما ينبغي أن تفهم من عدم المساواة هذه أن القانون يفرض تفوق الذكور على الإناث، فإن مثل هذا الفهم لا يتفق وروح الإسلام؛ فقد جاء في القرآن: ولهن مثل الذي عليهن. فليس نصيب البنت في الميراث على أساس التقليل من شأنها أو تحقير أمرها، ولكن باعتبار الفرص الاقتصادية التي أمامها، ومركزها الذي تشغله في الجماعة، وهي جزء منها.
ولا بد أن يلاحظ - كما قلت - أنه يمكن استخراج حكم عام من رأي إقبال وهو (أنه مع عدم المساواة الظاهرة في الميراث، فإن المشرع قد ضمن المساواة التي ينشدها الشاعر التركي). ولكن إذا حاولنا أن نثبت ذلك، لا نحصل من القرآن على نص يضع من شأن الإناث بجانب الذكور. وقد غض الطرف عن الحقيقة. وهي أن العبارة الآتية التي وضعت لهذا الغرض هي: (وللرجال عليهن درجة).
فإذا اتجهنا إلى الناحية العملية عند المجددين، وجدنا بعض اختلافات. فإني أشك فيما إذا(802/12)
كان يوجد في العالم الإسلامي - خارج تركيا - أي طبقة محترمة من المجتمع، تتمتع نساؤها بما يشبه المساواة الاجتماعية التي ينشدها المجددون - إلا الطبقات المتوسطة المتفرنجة في مصر! حقاً إن تعليم البنات في كثير من الأقطار الإسلامية يخطو خطوات واسعة، وأنه يوجد اتجاه عام نحو التحرر الاجتماعي للنساء، ولكن حتى في مصر، لا يزال مجال الفرص الاقتصادية محدودا. ولا يزال النقاب محتفظا به قال مستر سميث. بل إن عدداً كبيرا من المثقفين، والمسلمين الأحرار والأثرياء الهنود، ينظرون إلى البرقع بعين الإجلال والإكبار، ويجعلون نساءهم وبناتهم يحتفظن به. وعلى ذلك فالتراجع من تعدد الزوجات إلى الحجاب يقف في مرحلته الأخيرة؛ عندما يصل إلى انفصال الجنسين
ولم يكن إقبال شاذا في هذه القاعدة العامة.
(وقد عارض هؤلاء الذين يعتقدون أن النساء قد يشاركن في العالم المغامر الجديد. وقد تصور الأوربيات بلا قلوب، يكرهن الأمومة والحب والحياة! أراد أن تظل النساء (طاهرات) في حماية وأمن، ولم يرد لهن نشاطاً ولا حرية. . يجب أن تظل المرأة كما كانت في صدر الإسلام محتجبة في عزلة، مطيعة للرجال. . . يجب أن تبقى وسيلة إلى غاية. ولقد جعل إقبال نساءه يحتفظن بالبردة، وأخرج للعالم رأيه في المرأة المثالية فاطمة الزهراء:
هي ربة الشرف الرفيع، ... خير النساء وفخرهنه
والأمهات كما أرى ... في النبل فاقت جمعهنه
وكأنها بفعالها حص ... لت على سر النار والجنة
وببعلها تبدو لن ... اخير النساء أبرهنه
كانا كفرد إن بدت ... لهما على الأيام محنه
أيما تكون ترنمت ... بكلام ربك مطمئنة
ومع ذلك فإن إقبال وجب عليه أخيراً أن يعترف بخطئه في أمر النساء. وقد ختم قصيدة صغيرة له بقوله.
لقد ظلت المرأة، ... لذلك أعتذر لها
غير أن المشكلة معقدة ... فلم يكن في الإمكان حلها(802/13)
وليس من شك في أن منطق التاريخ سيغير تغيراً شاملا موقف المجتمع الإسلامي من هذه المشكلات. فقد تبين للمحافظين والأحرار على السواء، أن حرية الطلاق هي السبب في الأخطار المحدقة بالمجتمع الإسلامي. ومما يجدر ذكره أن المجددين - في معارضتهم للمدنيين الذين يرغبون في فصل التقاليد الاجتماعية عما يربطها بالأحكام الدينية - ظلوا يعترفون بالعلاقة الأساسية بين السلوك الاجتماعي والاعتقاد الديني، فأعلنوا أن المجتمع إذا أصلح، فينبغي أن يأتي الإصلاح من طريق ديني، أولا يكون مستقلا عن الدين أو معارضا له. وقد جهلوا الاختلافات بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الغربية في النشأة والأحوال الجغرافية والظروف الاقتصادية والاتجاهات الثقافية. وعندما تتطور مثل هذه التيارات الاجتماعية في الإسلام - بتأثير التطور المحلي، ستظهر للمشكلات حلول، ليس من الضروري أن تتفق مع الحلول في الغرب، بل ستؤسس على التجارب وحاجات المسلمين.
ترجمة
محمد محمد علي(802/14)
محمد إقبال
شاعر الشرق والإسلام
للأستاذ مسعود الندوي
1389 - 1872 - 1357 - 1938
- 3 -
1908 - 1933
سحب من الدمار متراكمة تريد أن تمطر على طرابلس الغرب، وأخرى كسف من الغمام بدأت ترسل النجيع الأحمر مدراراً على سهول أدرنة، وفي الجو طائرات تريد أن تنقض على الدولة العلية - ودولة الخلافة - فتسلبها البقية الباقية من تراث أسلافها؛ وأجساد من شيوخ المسلمين وشبانهم مضرجة مطروحة على شارع من شوارع (كان يور) محمية بالجند ورجال الشرطة. . . مشهد مؤلم في طرابلس الغرب أهاب بالمجاهد العربي فهزته الحمية الإسلامية وجعل يهتف: الله أكبر، سيف الحق مسلول؛ ومأساة فاجعة في أدرنة أنطقت شاعر الكنانة وجعلته يرسل أنغامه درراً منظومة:
يا أخت اندلس عليك سلامٌ ... هوت الخلافة عنك والإسلام
نزل الهلال عن السماء، وليتها ... طُويت وعمَّ العالمين ظلام
وهذه المآسي المحزنة، وتلك الفجائع المؤلمة؛ وأخرى من مهازل الاستعمار في طول الهند وعرضها، جعلت صاحبنا شاعراً إسلاميا يتألم لك ما يصيب المسلمين من أذى أو مكروه، فتجود قريحته المطبوعة بما يربط جأش المجاهد ويعير الفقيه المنعزل في زاويته ويرشد المعتوه الأبله المنخدع بأضاليل الغرب وترهاته. وهو بين هذا وذاك مؤمن بالله لا يتسرب إلى نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان. فهو يقول:
إنك مسلم، فاجعل قلبك معموراً بالأماني والآمال واذكر دائماً وعد الذي قال: (إن الله لا يخلف الميعاد)
وتراه لا يجزع للنوائب والملمات:
(عشية الألم تسفر عن صباح العيد؛ هاهو ذا تبلج فجر الأمل من بين دياجير اليأس).(802/15)
ولله قريحته حيث جاءت بهذا البيت النفيس:
هلم ننشر الأزهار=والرياحين على قبر الشهيد
الذي فعل المسفوح من دمه بأمتنا، فعل الغيث بالشجرة النابتة
وهذا المعنى - أي معنى الحياة بعد الممات والفرج بعد الشدة والنجاح بعد اليأس - مثله كمثل غرض تعاوره الرماة، فمنهم من هو مقصر دونه، ومنهم من هو واقع يمينا وشمالا، ولم أر أحدا أصاب المرمى كصاحبنا ممن تقدم وتأخر. ولكن من أين لي ذلك البيان الذي يضاهي بيان شاعرنا، شاعر الإسلام. وهذا عذري إلى من وجد الترجمة ركيكة. فمن أبياته الراقية في هذا المعنى:
ما لنا نحزن ونكتئب، إذا تتابعت النوائب على العثمانيين فإن الفجر لا ينبثق إلا بعد ما تهراق دماء مئات الألوف من الكواكب.
رجع محمد إقبال من أوربا، والهند الإسلامية تكاد تحس بتقهقرها في ميادين العمل والكفاح؛ ولزعمائنا المتفرنجين في دينهم وأخلاقهم والرجعيين في سياستهم، سلطان عليهم، فأتخذ من شعره البليغ المعجز آلة لإيقاظ النائمين من سباتهم وتثقيف الشبان العاملين وصرفهم عن الاغترار بمظاهر التمدن الحديث، ووسيلة لتربية ملكات المتعلمين النفسية والخلقية وتطهير نفوسهم من أدران الإقليمية واللون والنسب. وبدأ يقرض القصائد ويطبع الدواوين حتى أنبتت بذرته وأثمرت وآنت أكلها. وما هذا النهضة التي نشاهد اليوم آثارها إلا وميض من بروق إقبال وصنيعه من صنائعه:
صنائع فاق صانعها، ففاقت ... وغرسٌ طاب غارسُه فطابا
وكان من حسن حظ الشاعر الحكيم - أجزل الله مثوبته في الدارين - أن قد شاهد هذا الغرس ينمو ويكبر أمام عينيه إلى أن أصبح شجرة باسقة الفروع، وهو حي يرزق.
في الطور الثالث من حياته الشعرية جاش صدر إقبال بشعر قومي بليغ، ممتلئ حكمة وقوة، نبه النائمين من غفلتهم القاضية عليهم وأرشدهم إلى الصراط السوي في حياتهم السياسية. ومن خصائص هذا الشعر أن صاحبه يفرغه في قالب من التحدي بليغ كأني به يلهمه إلهاما. أما معانيه السامية فمما لا يستراب فيه أنها لا تتسنى إلا لمن فتح الله قلبه لأسرار الطبيعية، وحوادث المستقبل. وأحسن كلمة له في هذا الطور (منارة الساري) أو(802/16)
(دليل الطريق) (خضرراه) التي بين فيها الشاعر الحكيم بلسان الخضر مشاكل السياسة الأوربية وأسرارها، وحذر المسلمين وأهل الشرق من الوقوع في شركها، وأنار لهم فيها الطريق السوي الضامن لسعادتي الدين والدنيا، إلى غيرهما مما جاء في ثناياها من دور الحكم وغررها. وهاك ترجمة بعض أبيات منها. قال - برد الله مضجعه - يكشف النقاب عن وجه الجمهورية الغربية الدميم:
(ما هذه الجمهورية الغربية إلا تلك القيثارة العتيقة التي لا يظهر من أوتارها غير أصوات الهرقلية والكسروية؛ وهذه الملابس الجمهورية المزركشة يمرح فيها شيطان الاستبداد ويختال، وأنت تزعم أن عروس الحرية الجميلة تمس في برديها؛
وهذه مجالس التشريع والإصلاح ولجان الحقوق كلها أدوية حلوة المذاق، اخترعها الطب الإفرنجي للتنويم والتخدير) وسقى الله تلك القريحة المبدعة التي أرادت أن تصور حال العالم الإسلامي بعد الحرب العظمى فأحسنت وأبدعت:
(قد ذهب أبناء التثليث بتراث إبراهيم وأصبحت تربة الحجاز أساسا لتبيان الكنائس الأوربية؛
(وأضحت دماء المسلمين رخيصة كماء النهر الجاري؛ وما بكاؤك لهذه الحال المؤلمة إلا لأنك لا تعرف حكمة الله في عباده)
وفي الختام يصف دواء ناجعا لجميع أدواء الأمة:
(لا يمكن تخليص الشرق من براثن الاستعمار ونجاته منم سلطته إلا إذا اتحد المسلمون، واجتمعت كلمتهم، ولكن أهل آسيا لا يزالون يجهلون هذه الحكمة البالغة. وحذار أن، تبقى متلهياً بالنظريات السياسية الباطلة، وادخل في حمى الدين من جديد، فإن المملكة إنما هي ثمرة من ثمرات الدفاع عن الحرم.
فليتحد المسلمون وليكونوا كتلة واحدة متضامنة للذود عن بيت الله الحرام من شاطئ النيل إلى أرض كاشغر.
والذي يفرق في ذلك بين اللون والدم، سوف ينعدم وجوده من وجه الأرض.
سواء في ذلك التركي الأبي والعربي النبيل.
وإن آثرت أيها المسلم عنصرك وسلامتك على دينك، فلن يبقى لك عين في هذه الدنيا ولا(802/17)
أثر).
وجدير بالاستماع والإدكار، رأي صاحبنا في الحضارة الجديدة من هذه الكلمة، لأنه ممن قتل بحثا ونخل علومهم نخلا. قال (لله دره):
(تعجبكم هذه الحضارة الحديثة ويبهر عيونكم جمالها وما هي إلا كفصوص موهتها يد الصناع وجلتها فاختطف الأبصار لمعانها الكاذب.
والحكمة التي يفتخر بها حكماء الغرب ويتشدقون ببركتها ها هي قد عادت بأيديهم سيوفا تقطر دماً.
أترون أن هذه الحضارة يكتب لها الخلود بالحيل التي يدبرها لها ساستها؟ لعمر الحق، أن كل حضارة أسس بنيانها على التنافس في الأموال والتكالب على الشهوات سوف تنهار ويتبدد شمالها).
وفي هذا الدور من شعره كلمات أخرى مأثورة مشهورة في (طرابلس الغرب) و (فاطمة الشهيدة) و (الشكوى إلى الله) وغيرهما القصائد المنثورة في ديوانه (نداء الرحيل) (بانك درا) لا يتسع المقام للاقتطاف من أزهارها.
بلغ الشاعر في المرحلة الثالثة من حياته الشعرية قمة مجده في الأدب، رحل من محل قلوب المتأدبين يتنافس فيه المتنافسون، وذلك أن شعره في هذه المرحلة كان مرآة لعواطف الأمة وأمانيها، وصورة صادقة لنهضاتها السياسية والدبية، فوجدت الأمة في زفراته وتأوهاته، صدى لآلامها المتتابعة والنوائب المتوالية المنصبة على رؤوسها، وفي دعوته وعظاته، ضالتها المنشودة وأمنيتها. وهو بعد كل ذلك شاعر يهز مشاعر النفس، وخطيب يذكى في أعماق الفؤاد جذوة العمل والكفاح، وحكيم يقيهم مهالك الغرب وخزعبلاته، ويرشدهم إلى طريق الخير والسعادة.
قد أدى شاعرنا مهمة كبيرة من حياته في هذه المرحلة الشعرية، حيث أبلغ الأمة دعوته أو رسالته؛ لكنه ما وهبه اله هذا البيان والحكمة ليكون شاعر شعب دون شعب، وإنما أراد ربك أن يكون شاعر الأمة الإسلامية جمعاء، يدعوها إلى التكاتف والتعاضد، ويريهم سبل الحق والسلام، وينير لهم المحجة البيضاء في ظلمات المادية الحالكة. أما شعره في الأردية فما كان ليخترق حدود الهند، فاختار اللغة الفارسية واتخذها وسيلة لتعميم دعوته أولا،(802/18)
وتثقيف المتأدبين من أهل الهند ثانياً. وأول شعر نشره باللغة الفارسية مجموعة (أسرار خودي) (أسرار فلسفة الذاتية التي يؤمن بها (إقبال) ويدعو الأمة إليها دائماً). وهذه المجموعة من شعره تحتوي على أسرار وحكم مفرغة في قالب الأدب. تبين السبيل التي يمكن بها من ترقية ملكاته النفسية حتى تخضع الطبيعة لإرادته، وينزل القدر عند مشيئته. وهذه هي فلسفة (خودي) (تربية الملكات الذاتية) التي جعلها الشاعر قطبا تدور حوله جملة كبيرة من شعره البليغ في هذه المجموعة وغيره من الدواوين. فإنه اهتم به (خودي) كثيراً ورأى أنه لا يكرم في الدنيا إلا الذي يكرم نفسه، ويرى للعالمين ما في نفسه من إباء وسموهة وعلو فكرة. ويكفيني مؤونة التطويل في شرح الذاتية (خودي) ما بينه الشاعر من ثمراتها في بيت له:
اشحذ قوتك الذاتية (خودي) وأزردها في مكانة من القوة والعلو حيث يسأل الله العبد عن مرضاته قبل أن يجعل لشيء أجلا.
لا يريد الشاعر أن الله تعالى يسأل العبد عن مرضاته في الحقيقة؛ وإنما جعل ابتغاء الله لمرضات عبده مثلا في تربية القوة الذاتية. وإنما يريد صاحبنا من المسلم أن يربى قواه النفسية تربية تخضع لإرادته الأرض وما فيها من القوى المادية والأدبية. وليس معنى ذلك أن يختار المسلم في ترقية مواهبه سبيلا غير سبيل الكتاب والسنة. وبما أن فلسفة الذاتية (خودي) من أهم أجزاء دعوة حكيم الشرق، عنى بها أهل الشرق والغرب، وترجم الدكتور نكلسن، أستاذ صاحبنا، ديوان أسرار (خودي) بالإنجليزية. وكذلك عنى بها جميع من أهل الغرب في مسلمي الهند وقادة أفكارهم. وهاك في ما يلي نبذة من أقوال الدكتور (تائيتس) في كتابه الإسلام الهندي، أكثر المعاصرين نفوذا وأبلغهم تأثيراً في إسلام الهنود، هو الشاعر الفلسفي السر محمد إقبال الذي أبلغ أبناء دينه رسالة كان لها أثر في نفوسهم، فإنه بين لهم إمكان التجديد الفردي وترقية القسم العالي من الشخصية بتقوية الإرادة وبتأدية اسمي ما يمكن للمرء أداؤه في هذه الحياة الدنيا حسب ما أمر به الله ورسوله.
وكذلك جاء في كتاب دين الإسلام للعالم النزيه الشهير الدكتور آرنكد، وهو من أعرف الناس بمسلمي الهند ورجالهم ما تعريبه، وبذلك يعرف القارئ ما في شعره من فلسفة:
ووجدت الحركة الجديدة في الهند لسانا فصيحا في شعر السر إقبال، أحد من درسوا الفلسفة(802/19)
الغربية بجد واهتمام وأحاطوا بها، ولقد أثر في الناشئة تأثيرا بليغاً، ولكن شعره ما استطاع أن يكون بطبيعة الحال أساسا لحركة دينية عامة منظمة للصبغة الفلسفية التي اصطبغت بها دعوته، ولعل ذلك لم يكن قط من إرادة الشاعر ولا مرماه.
(يتبع)
مسعود الندوي(802/20)
الأزهر والإصلاح
للأستاذ محمد السيد أحمد الشال
- 2 -
تكلمت في المقال السابق عما أراه يحاك للأزهر مما ظاهره أنه توسع في التعليم وتشعب في الثقافة وإني لا أعتب على القائمين بشئون التعليم أن يفكروا مثل هذه التفكير ويتجهوا مثل هذا الاتجاه، فلهم في هذا بعض العذر أمام وقوف الأزهر وعدم مسايرته للتطورات الحديثة في الدراسات وطرقها، وإنما أعتب العتب كله على رجال الأزهر أنهم لم يرسموا لأنفسهم نهجا من الإصلاح يسيرون عليه. ولا يكفي أن يفكروا فيه في غدوهم، ورواحهم وأن يكون شغلهم الشاغل كما ذكر الأستاذ دنيا ما دام يظهر لهذا التفكير وهذا الشغل أثر ينم عليه.
ولقد بدأ الأستاذ المراغي عليه رحمة الله الإصلاح ورسم له من الطرق ما أعتقد أنه ينهض بالأزهر ويجعله يؤدى رسالته؛ ثم مرت مدة من الزمن وقف فيها رجال الأزهر على الكثير من المآخذ على هذه النظم مما تسمع حديثه في الكثير من مجالسهم وترى آثار التبرم والسخط بادية على الكثير من رجال. ولكن هذه الأحاديث لا تعدو أن تكون تفريجا عما في النفوس ثم لا يكون لها من الأثر ما يتجاوز هذه المجالس. وقد يكون هناك فريق إذا ما ذكر أمامه الإصلاح أراح نفسه من حديثه بقوله أنه لم يمض على هذه النظم من الوقت ما يكفي للحكم عليها. وإذا استعرضنا قانون الأزهر كما قدمه المرحوم الأستاذ المراغي وصدر به المرسوم الأخير للإصلاح ونظرنا ما وضعه من النظم في مراحل التعليم المختلفة نجده بصفة إجمالية قد أثقل طالب الابتدائي بالعلوم الرياضية بعد أن منعها من القسم الثانوي. وفي رأيي أنه لو بقيت الرياضة موزعة بين الابتدائي والثانوي كما كان الحال قبل صدور المرسوم الأخير لكان أفضل وأجدى على الطالب وأنفع له. وأما توزيع باقي المواد سواء منها المواد الأزهرية أو المواد الاجتماعية في القسمين فهو توزيع حسن يتناسب مع مقدرة الطالب وكفايته في المرحلتين.
بقى علينا أن ننظر إلى توزيع المواد في الكليات المختلفة، فأقول أن هذا التوزيع قد راعى فيه واضع القانون جهة الاختصاص فقط وأهمل ناحية أخرى هامة وهي شدة الصلة وقوة(802/21)
الارتباط بين المواد الأزهرية بحيث لا ينفعك البحث في إحدى من أن يجر الباحث إلى أن يتعرض إلى قضايا مختلفة من المواد الأخرى لا غنى له عن استيعابها حتى يمكن الباحث ملما إلماما تاما بما يعترضه من قضايا المواد الأخرى لا يمكنه أن يتم بحثه على الوجه الذي يتطلبه التحقيق العلمي. والأمثلة على هذا كثيرة يدركها جميع رجال الأزهر. فدارس التفسير لا يمكنه أن يستغني عن دراسة الأصول فضلا عن دراسة مواد اللغة. ودارس الأصول لا يستغني عن دراسة المواد اللغوية أيضا. وطالب كلية الشعرية وأصول الدين لا يكفيه في دراسة اللغة ما حصله في المرحلتين الابتدائية والثانوية، ونحن نعلم أن الدراسة فيهما تكاد تكون تلقينية. أضف إلى ذلك تركه في هذه المواد في مرحلة الكلية، مما يجعله ينسى الكثير من قضاياها. والدارس في كليتي اللغة وأصول الدين لا يستغني عن دراسة الأصول بل هو في أمس الحاجة إليه حينما يدرس شيئاً من التفسير والحديث. ولا يكفي ما هو مقرر فيهما من المذكرات الموضوعة في هذه المادة فهي لا تعدو سرد القضايا دون التعرض لتفهمها وعرضها عرضا يتذوق منه الطالب جمال هذه المادة ويدرك حاجته إليها في الكثير من المواد.
ولا يليق بطالب كلية اللغة والشريعة أن يتخرج وهو لا يعلم شيئاً عن أصول الأديان والعقائد مكتفيا بما عرفه من دراسة القليل من علم التوحيد في كتبه الموروثة في المرحلتين السابقتين وهي كتب لا تشفي غلة ولا تبل صدى.
هذا من ناحية القصور العام في توزيع المواد في الكليات؛ وإذا انتقلنا إلى الدراسة في التخصصات ونظرنا إلى المواد المقررة في تخصص التدريس مثلا عجبنا كيف يرضى رجال الأزهر لناشئته أن يضيع من سني حياتهم سنتان في دراسة طرف من علم النفس والتربية وتاريخها وبعض المواد الأخرى مما يمكن أن يستوعبه الطالب بأقل مجهود أو بدونه في سني الدراسة في الكليات، وكان الأولى أن ينظم هذا التخصص وأن يزاد في سني دراسته سنة ثالثة وأن يقرر فيه دراسة بعض المواد الأساسية في الكليات المختلفة دراسة تمتاز عن دراسة الكليات بسعة البحث والتعمق فيه وتنوع طرقه مما يعد الطالب إعداداً كاملا؛ وأظن في وجود هذا التخصص على هذا النحو استغناء عن تخصص المادة.
وهكذا لا يعدم الباحث في شأن التخصصات الأخرى جميعها من أن يرى بعض النقص(802/22)
الذي يستوجب تداركه.
وإني إن اذكر ذلك لا أدعو إلى إدماج الكليات والرجوع بالأزهر إلى نظامه القديم، ولكني أقول أن اللازم أن يراعي في تقسيم الكليات صلة المواد بعضها ببعض فوق ما هو مراعي من جهة الاختصاص، فلا يقطع بين الطالب وين جميع المواد الأساسية في كلية أخرى؛ بل يدرس في كل كلية ما لا يستغني عنه عالم أزهري رسالته الأولى الدعوة إلى هذا الدين والدفاع عنه. فيعمم في جميع الكليات دراسة أصول الأديان جميعها وما طرأ على فروعها المختلفة من تغيير أو انحراف أو جمود وأسباب ذلك، وحال المسلمين الآن والوسائل الناجعة لتوحيد كلمتهم ورجوعهم إلى دينهم. كما يدرس في كل كلية من القضايا الأساسية في كل مادة أصلية في كلية أخرى تمس الحاجة إليه دراسة توسع وبحث واستيعاب لا دراسة سرد قضايا وتعداد أحكام كما هو الحال في دراسة الأصول في كليتي اللغة وأصول الدين. وتدرس جميع المقررات في الكليات ولا يكتفي بدراسة البعض والامتحان فيه كما هو الحال الآن. بل تقسم المادة إلى قسمين قسم يقوم بدراسته أستاذ المادة يتناسب مع الزمن المقرر لها بحيث يلتزم الأستاذ بالانتهاء منه، وقسم يترك للطالب تحصيله واستيعابه بحيث يكون الامتحان في جميع المادة. وهذا العمل فوق فائدته التامة للطالب من ناحية دراسته لكل المادة له فائدة أهم وهي تعويده الاعتماد على نفسه في دراسة ما يترك له مما يكون له شخصية مستقلة لا تركن في كل ما يعن لها إلى السؤال والاستفهام. بل تركن إلى البحث والتنقيب.
ورأيي أيضاً أن ينظر إلى الكتب المقررة نظرة فاحصة ليختار لكل مادة من الكتب ما تكون بعيدة عن الحشد والتعقيد والاستطراد وسرد المسائل التي لا يستفيد منها الطالب إلا تضييع الوقت وتعويده التشكك في كل ما يعن له من بحث. وأى فائدة تعود على الطالب الذي يريد دراسة مادة من المواد من صرف جل وقته أو كله في تصحيح عبارة أو الوقوف على خطأ تعريف أو معرفة الأولى إلى غير ذلك مما يضيع عليه الكثير من معرفة قضايا المادة وحقيقتها. ولو كان هذا بقدر حتى ينبه الذهن إلى تجنب الخطأ لكان حسناً، أما أن يكون هذا سبباً في صرف كل المجهود إليه فهذا ما لا يقره منطق.
ونحن الآن نرى تطلع المسلمين إلى الأزهر وحاجتهم إلى علمائه يبصرونهم بدينهم(802/23)
ويهدونهم إلى شريعتهم. وليس كل المسلمين ولا غالبيتهم ممن يعرفون العربية أو يفهمونها. فالأزهر الآن في أشد الحاجة إلى دراسة اللغات الأجنبية في جميع سني الدراسة حتى يمكنه أن يؤدى رسالته على الوجه الأكمل سواء في المحيط الإسلامي أو في المحيط العالمي. فالعالم الآن على متفرق الطريق يتطلع إلى خير النظم التي تكفل الاستقرار والسلامة لجميع الناس، ويتخبط المفكرون منهم في بيداء التفكير والبحث علهم يقفون على طريق يوصل إلى الغاية؛ وليس هناك من طريق موصل إلا طريق الإسلام.
وأني للعالم أن يهتدي إلى ذلك إذا لم يقم رجال الأزهر بنشر دعوته وتبيين حقيقته ودحض المفتريات التي يذيعها المغرضون أو الجاهلون عن الدين مما ينشر كل يوم باللغات المختلفة ولا نعلم من أمره شيئاً.
وفي السكوت على نشر مثل هذه المفتريات وعدم تجلية حقيقة هذا الدين للعالم تقصير عن أداء رسالة الإسلام. ولقد اتخذ كثير من كتاب الغرب حال المسلمين وما هم عليه من جهل بدينهم وانحراف عنه وتأخرهم وانحطاطهم حجة يقوون بها مفترياتهم ويؤيدون بها دعاواهم في أن هذا الدين لا يصلح لتنظيم المجتمعات ولا لإسعاد الجماعة.
هذه ناحية أخرى وهي أنه يوجد بين أضابير المكتبة الأزهرية كثير من الرسائل في المواد المختلفة تقدم بها إما طلاب منتهون لنيل الشهادات النهائية، وإما أجلة العلماء للحصول على عضوية هيئة كبار العلماء. ولقد عفى على هذه السائل الزمن وعلاها كثير من الغبار ولا يسمع أحد بها ولا يطلع أحد على ما فيها؛ ولم لا تتخذ هذه الرسائل نواة لإصلاح الكتاب؟ وهل هذه الرسائل لا يرتفع قدرها إلى قدر ما كتب منذ ثمانية قرون أو يزيد على طرق من البحث وأساليب من التفكير تتناسب والعصور التي كتبت فيها.
وإذا لم يكن لهذه الرسائل من التقدير ما يجعلها أرفع شأناً مما كتب في تلك العصور فلم قدرت من اللجان التي نظرتها تقديراً استحق صاحبها بسببه أن ينال شهادة أو يظفر بشرف العضوية؟
ولا أدري سبباً لإهمال هذه الرسائل اللهم ألا أن تكون هناك عقيدة لتقديس الآثار فظن من تمسك بها أن الخير كل الخير في التعليق بها، وأن الشر كل الشر في الخروج عليها، وأتباع ماجد من البحوث والأفكار. ولعل في الرجوع إلى هذه الرسائل وبعثها وتقدير ما(802/24)
يصلح منها للدراسة تشجيعا لمن يريد البحث وحثا له على بذل كل في وسعه لوضع ما يقدر عليه فيما يرزفية فيكون في هذا العمل تشجيع للتأليف والمؤلفين وتوسعه للبحث وإنهاض للباحثين فيتسع مجال التفكير ويكثر الإنتاج الأزهري كما كثر الإنتاج الجامعي.
هذا قليل من كثير مما يتعلق بالبرامج العامة للدراسة وما يتعلق بالكتاب.
أما إصلاح الطالب فيكون بإصلاح نظم الامتحانات والرجوع به إلى رفع درجة النجاح إلى 60 % وعدم السماح للطالب بدخول الدور الثاني إذا قصر في أكثر من مادتين. وفي المادتين لا يسمح له بالامتحان إذا لم يحصل على نصف النهاية الصغرى لكل مادة. وأخذه بالحزم والشدة في جميع التشكيلات ويكون هذا بالعقوبات الرادعة النافذة.
وأما إصلاح المدرس ففي إصلاح البرامج ونظم الدراسة والكتاب ما يكفي لإصلاحه. وهناك ناحية كان لها شأنها في العصور الخالية واستمرت إلى عهد قريب وهي الصلة العلمية بين الطالب وأستاذه حتى كان الطالب يفخر بأنه تلقى العلم على فلان. وكان لكل أستاذ من الصبغة العلمية والفكرية ما يظهر أثره في مدرسته وتلاميذه. وخير شاهد على ذلك المدرسة القريبة العهد بنا وهي مدرسة الأستاذ جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الإمام الشيخ محمد عبده. ولقد امتازت مدرسة الشيخ محمد عبده بما امتاز به أستاذها من استقلال الفكر وتعمق البحث والتحرير من الجمود وعدم التقيد بالموروث. فإذا أمكننا أن نحيي هذه المدارس فأحياؤها لا يكون إلا على يد هيئة كبار العلماء بتكليف رجالها بإلقاء دروس للعلماء الناشئين، ولا يقل ما يلقيه كل منهم عن درسين أو ثلاث في الأسبوع يتخذ كل منهم مادة من المواد يدرسها دراسة توسع وبحث دون تقيد ببرامج أو خضوع لزمن، ويكون له في دراستها طابع خاص يمتاز به.
وفي هذا العمل من الفوائد ما لا يخفى على من أدرك الأستاذ الإمام وساعده الحظ بالجلوس في مجالسه والاستماع إلى دروسه.
ولا زالت الصلة العلمية بين الأستاذ وطلابه المنتهين موجودة في النظم الجامعية الغربية. وكانت هذه الصلة سببا في المحافظة على الطابع العلمي والجامعي وهذه بضاعتنا نبت زرعها وترعرع بين جدران الأزهر واستمر حقبا طويلة ثم تركها الأزهريون ففقدوا كثيراً من طابعهم الجامعي! فهلا رجعنا إليها حتى نصل ما انقطع ونجني ما درس.(802/25)
ولا يكفي ما يقال من أن كل عضو من أعضاء الهيئة الموقرة يقدم بحثا في كل عام، وأي أثر ظاهر لهذه البحوث؟ وهل سمع بها أحد أو أطلع عليها أحد أو استفاد منها أحد؟ وهل هذه البحوث أصلحت كتابا أو هذبت مادة أو تعرضت لما يعن للعالم من مشاكل اقتصادية أو اجتماعية أو كشفت ما غشاه من إلحاد أو هدته إلى الخروج من حيرته.
وهل يكفى أن يقال إن تراثنا التشريعي غني بما حواه من أفكار القدامى وأبحاث السلف. وإذا كان غنياً فلم لم يتخذ منه الباحثون أداة للإصلاح التشريعي العام؟ ولم لم يعملوا على عقد الصلة بين هذه الأبحاث وبين ما يعرض للناس من نظم مالية واقتصادية وصلات عمرانية واجتماعية وتطورات أخلاقية؟
وهل يكفي أن نتغنى بأمجاد السلف ونأسف على أيامهم، ونقف حيارى لا نهتدي إلى سبيل والعالم بتقدم ويجد فيه من الأحداث ما يقتضي تطور التشريع وتغير الحكم؟ ونكتفي بأن نقول إن التشريع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان. وأي صلاحية تبقى له إذا تركناه كما هو يسرد قضايا قد ذهب زمنها وبعدد أحكاماً قد ولى رجالها وتختلف فيما بيننا هل باب الاجتهاد مفتوح أم ذهب زمنه ورجاله؟ لا، لا يليق بمن يبغي البقاء أن يقف والعالم يتطور. ولو بقى على حالة أخشى أن يذهب به إعصار أو يتخلف عن الركب.
ولعلي بهذا أكون أديت بعض ما يجب على نحو الأزهر الذي أعتز بالانتساب إليه وحققت بعض دعوة الأستاذ دينا. هدانا الله وإياه إلى معرفة طرق الإصلاح والأخذ بأسباب النجاح
محمد سيد أحمد الشال
مندوب الأزهر لتدريس الشريعة بكلية المقاصد الإسلامية
بيروت - لبنان(802/26)
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
تمهيد:
لكل قبيلة أو جهة عادة لغوية تميزها عن غيرها وهي ما تعارف الناس الآن على تسميتها لهجة: تتحكم فيها عند نطقها بالألفاظ وأدائها للكلمات ويلحظها من استمع إلى المتكلمين بها فلا يكاد يخطئ في إلحاق المتحدث بقبيلته أو جهته إذا أوتي شيئا من الدراية بتلك اللهجات، وهذه العادة كانت تندرج قديما تحت كلمة اللغة حيث أطلقوها في الصدر الأول على عدة معان.
1 - على الخلاف بين القبائل في إعرابها الكلمات وبنائها وصيغها؛ حكى علي بن محمد النوفلي قال سمعت أبي يقول لأبي عمرو: خبرني عما وضعت مما سميته عربية أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال لا. فقلت كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة؟ قال أعمل على الأكثر وأسمى ما خالفني لغات.
2 - على تباين الألفاظ التي تترادف على معنى واحد. وذلك مثل ما يرد في معاجم اللغة كقولها: الزمهرير القمر بلغه هذيل.
3 - على طريقة أداء الكلمات وإعطائها نغمة أو غنة تميزها عن غيرها من القبائل كالإمالة والتسهيل والتفخيم والترقيق. وذلك مثل ما يروى في كتب اللغة والأدب من قولها: وليست الإمالة لغة جميع العرب، وأهل الحجاز لا يميلون، وأشدهم حرصا عليها بنو تميم.
وفي الحديث عن صفوان بن سالم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يحيى قيل له يا رسول الله تميل وليس هو لغة قريش؟ فقال هو لغة الأخوال بني سعد.
ويروى أن أبا عمرو كان أوسع علما بكلام العرب ولغاتها وغربيها، وأن سيبويه أخذ النحو عن الخليل ويونس وعيسى ابن عمر وغيرهم وأخذ اللغات عن أبي الخطاب الأخفش الكبير.
أما اللغة باصطلاحنا الحديث فقد كانت تسمى اللسان. والقرآن الكريم لم يستعمل غيرها عند إرادتها.
(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) سورة إبراهيم. (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي(802/27)
وهذا لسان عربي مبين) سورة النحل.
(التكون من المنذرين بلسان عربي مبين) سورة الشعراء.
(ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم). سورة الروم.
(وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا) سورة الأحقاف.
وقد سمى ابن منظور كتابه (لسان العرب) وسميت المدرسة التي كان يرأسها رفاعة بك الطهاوي (مدرسة الألسن).
هذا وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يقرءوا القرآن بلهجات العرب.
وتلك الإباحة تفهم من الحديث الذي رواه صفوان بن سالم ويرشد إليها الحديث المرفوع (اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها).
وقد جاءت تلك الإباحة لأنها في الواقع لا تؤثر في المعنى ولا تخل بنظم الآية، وهذا النطق من القبائل مترتب على عادتهم اللغوية وطرية أدائهم للألفاظ؛ فالقبيلة التي اعتادت ألسنتها على الإمالة يكون العسير عليها أن تنطق بالفتح، التي تسهل الهمزة يكون من الشاق عليها تكلف النبر.
فليس من الممكن إذن التضييق على القبائل العربية يجعلها على نهج واحد وتسلك طريقا يعينها مخالفة بذلك عادتها اللغوية أو لهجتها؛ ودين الله يسر لا عسر؛ إلا أن اللهجات المستكرهة التي فيها إبدال حرف مكان حرف أو زيادته كطمطمانية حمير وكشكشة أسد وعنعنة تميم واستنطاء هذيل وسعد بن بكر والأزد والأنصار وغير ذلك من مستكره اللهجات تعتبر القراءة بها شاذة من الناحية الشرعية حيث لا تصح بها الصلاة والعبادات؛ أما من الناحية اللغوية والأدبية فلا خلاف في أنها منهل مورود لطلاب اللغة وآدابها.
ويرجع الخطر من الناحية الشرعية على اللهجات المستكرهة إلى ما اشترطه أئمة الشريعة في القراءة الصحيحة من أنها يجب ألا تخرج عن كونها.
1 - صحيحة السند.
2 - ووافقت العربية ولو بوجه.
3 - ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا. فإذا جمعت هذه الشروط تعد واجبة القبول سواء كانت من القراء السبعة المشهورين أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين.(802/28)
والذين انتهى إليهم من الصحابة سند القراء هم عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عباس والحسين بن علي وعبد الله بن عياش المخزومي وعبد الله بن السائب المخزومي وهم قرشيون، وعبد الله ابن مسعود من هذيل، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وهم من الأنصار، وأبو موسى الأشعري من الأشعرين وهي قبيلة يمنية، وأبو هريرة من الأزد، ثم صارت مكة والمدينة والبصرة والكوفة ودمشق مقراً لشيوخ القراءات في صدر الإسلام.
فبمكة عبد الله بن كثير من القراء السبعة، ومحمد بم محيصين من الأربعة عشر؛ وبالمدينة نافع من السبعة، وأبو جعفر من العشرة؛ وبالكوفة عاصم بن أبي النجود، وحمزة، والكسائي من السبعة، وخلف من العشرة، وسليمان الأعش من الأربعة عشر وبالبصرة، أبو عمرو من السبعة، ويعقوب من العشرة، والحسن البصري واليزيدي من الأربعة عشر؛ وبدمشق عبد الله بن عامر من السبعة.
وقد اشتهر غير هؤلاء جماعة بالأمصار الخمسة السابقة كحميد بن قيس بمكة، وشيبة بن نصاح بالمدينة، ويحيى بن وثاب بالكوفة، وعبد الله بن أبي اسحق الحضري بالبصرة، وعطية ابن قيس الكلابي بالشام. إلا أن رواية قراءاتهم كاملة لم تدون كما دونت قراءات الأربعة عشر ولا يعرف عنهم إلا ما تناثر في كتب التفسير والتراجم؛ وما كان لهم من استاذية على بعض القراء المشهورين حيث اختاروا من قراءاتهم لأنفسهم ما وافق شروط الاختيار.
وأول من تتبع وجوه القراءات وتقصى الأنواع الشاذة فيها وبحث عن أسانيدها من صحيح ومصنوع هو هرون بن موسى القارئ المتوفى سنة 170هـ إلا أنه لم يؤلف باستقصائه كتابا. ثم جاء أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ فكان أول من استقصاها في كتاب، يقال إنه أحصى منها خمساً وعشرين قراءة مع السبع المشورة.
أما أول من اختار السبعة المشهورين في عهدنا هذا فهو أبو بكر بن مجاهد وذلك في أواخر القرن الثالث الهجري ومفتتح الرابع.
ولم يكن الكسائي معدوداً من السبعة قبل عهد المأمون؛ وقد كان من الأئمة قبل ابن مجاهد من أخرج حمزة والكسائي من السبعة وأدخل بدلا منهما أبا جعفر ويعقوب؛ فلما جاء الإمام الشاطبي اختار من اختارهم ابن مجاهد وألف منهم منظومته حرز الأماني المسماة الشاطبية(802/29)
فاقتصر عليهم المتأخرين تبعاً له اختصاراً واختيارا.
وقديماً كانت ثقافة القراء واسعة فلم ينصب أحد نفسه للإقراء بعد استنباط النحو ما لم يكن عالما بالعربية وأوجه الخلاف فيها، كما أنهم لم يعدوا المرء عالماً بالعربية ما لم يكن ملماً بالكثير من القراءات.
وفي بدء الإسلام لم تكن هناك حاجة إلى علم القارئ بالنحو الذي لم تستوف أصوله بعد وإن كان له مع ذلك إلماماً واسع بمأثور العرب في حين أن اللسان العربي صحيح والسليفة لم تفسدها العجمة. فإذا سرنا مع الزمن وجدنا كل قارئ إماما في العربية بجانب إمامته في القراءات.
فهذا أبو عمرو بن العلاء كان حجة في كلام العرب ولغاتها وغريبها.
وهذا الكسائي جمع إلى إمامته في القراءة إمامة الكوفيين في النحو.
وهذا ابن مالك صاحب الألفية صارت مرجع كل عالم في النحو كان حجة في القراءات وإماما. قدم الشام من الأندلس وصار الشيخ لإقراء بالمدرسة العادلية بدمشق وألف قصيدة دالية في القراءات السبع؛ أما الإمام الشاطبي صاحب المنظومة المشهورة في القراءات فقد كان أعلم الناس بالعربية وعلومها.
هذه نبذة مختصرة رأيت الإلمام بها قبل أن أعرض للقبائل ولهجاتها وأثرها في القراءات.
قبيلة تميم:
هي من أشهر القبائل التي كان للهجاتها أثر في القراءات والعربية أقامت قديماً بتهامة ثم نزحت في أواسط القرن الثاني قبل الهجرة نحو العراق واستقرت في باديته وما يليها جنوباً آخذة جزءاً من نجد، وتجاورها من ناحية الغرب قبائل أسد شمالا وقيس جنوباً، وتجاورها من ناحية الغرب بنو حنيفة من بكر بن وائل وعبد القيس من جديلة، وتفصل بين بعض بطونها قبائل من بكر ابن وائل. وقد توزع كثير من التمميمين في الفتوح الإسلامية وشملت البصرة والكوفة في مبدأ إنشائها عدداً كبيراً منها.
ديانتها:
كانت الوثنية شاملة لجزيرة العرب قبل الإسلام، وقد اتخذت القبائل بيوتاً للعبادة وأصناما(802/30)
خاصة بها بجانب احترامها للكعبة. والأصنام المشهورة اللات والعزى ومناة، فما كانت تتفرد به تميم صنم اسمه تيم ولهذا قيل لتميم كلها في الجاهلية عبد تميم؛ وكان لها بيت للعبادة اسمه (رضاء) ولها يقول المستوغر بن ربيعة حين هدمها في الإسلام.
ولقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها قفر بقاع أسحما
وقد دخل جماعة من التميمين أيام الجاهلية في المجوسية لقربهم من العراق التابع للفرس. وعبد جماعة منهم نجما يسمى الدبران، وأسلمت تميم في حياة الرسول، فلما قبض إلى الرفيق الأعلى ادعت سجاح بنت الحارث فيهم النبوتة فتبعوها ثم عادوا إلى الإسلام مرة أخرى وأسلمت متنبئتهم سجاح.
نسبها:
تميم قسمان: الصغرى وهم أبناء تميم بن عبد مناة بن أد بن طانجة ابن إلياس بن مضر، ومنهم قطام صاحبة عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب التي اشترط في مهرها.
ثلاثة آلاف وعبد وقينسة ... وضرب على بالحسام المصمم
والكبرى وهي صاحبة الشهرة التي تراد عند الإطلاق وهي التي نعنيها بالبحث والمقصود دائما في جميع الكتب هم أبناء تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، ولها بطون وعشائر كثيرة أصبحت شبه مستقلة في منازعتها ومفاخرتها بل وفي بعض لهجاتها.
عاداتها:
كان للعرب في الجاهلية عادات مختلفة شملتهم جميعا، منها وأد البنات وزجر الطيور والاستقسام بالإزلام، والعقر على القبور؛ غير أن أهل نجد ومنهم تميم قد يخالفون الحجازيين في بعض العادات كما يخالفونهم في اللهجات، فالسانح من الطير والظباء وهو ما مر من مياسرك إلى ميامنك تيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح وهو ما مر من ميامنك إلى مياسرك بعكس الحجازيين فيهما قال ذو الرمة وهو نجدي:
خليلي لا لاقيتما ما حييتما ... من الطير إلا السانحات وأسعد
وقال النابغة متشائما بالبارح وهو نجدي.
زعم البوارح أن رحلتنا غداً ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود(802/31)
وقال كثير وهو حجازي ممن يتشاءم بالسانح.
أقول إذا ما الطير مرت مخيفة ... سوانحها تجري ولا أستثيرها
هذا هو الأصل عندهم؛ ثم قد يستعمل النجدي عادة الحجازي فمن ذلك قول عمرو بن فميئة وهو نجدي.
فبيتي على طير سنيح تحوسه ... وأشأم طير الزاجرين سنيحها
رجالاتها:
اشتهر من تميم كثير من الحكماء والزعماء والعلماء والشعراء وغيرهم في الجاهلية والإسلام منهم أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية ومن قوله:
أيتها النفس أجملي جزعاً ... إن الذي تحذرين قد وقعا
ومنها: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا ومن قوله:
ولست بخابئ لغد طعاماً ... حذار غد، لكل غد طعام
ومنهم أكتم بن صيفي حكيم العرب في الجاهلية، ومن حكمه: مصارع الرجال تحت بروق الطمع، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، ومقتل الرجل بين فكيه. ومنهم حاجب بن زرارة من مشاهير فصحاء زمانه وفد على كسرى وضمن قومه برهن قوسه عنده، ولذلك قصة مشهورة. ومنهم الأقرع بن حابس وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد فتح مكة وحنينا والطائف. ومنهم الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة وعروة بن جرير أول خارجي قال: لا حكم إلا الله يوم صفين، والمنذر بن ساري صاحب هجر وقطري بن الفجاءة الخارجي الأزرقي ومن قوله:
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لا ترعي
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
ومنهم عبد الله بن أباض رئيس الأباضية من الخوارج، وعبد الله ابن صفار رئيس الصفرية وجرير والفرزدق الشاعران ورؤبة ابن العجاج الراجز والسليك بن سلكة من العدائين المشهور بن ومية صاحبة ذي الرمة وسجاح المتنبئة.
أما علماؤها فمنهم زفر الفقيه الحنفي وأبو عمرو بن العلاء وسنفرد له ترجمة خاصة، وأبو(802/32)
عثمان المازني النحوي والنضر بن شميل النحوي ويحيى بن أكثم قاضي المأمون غلب عليه حتى لم يتقدمه أحد من الناس جميعا، ولى أول الأمر قضاء البصرة وهو صغير فاستصغره أهلها وقالوا كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استصغر فقال أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على اليمن.
(للبحث بقية)
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي(802/33)
نفاق المخلص
للأستاذ ثروت أباظه
رجل أصابه الدهر بنكبات تصيب إحداها الشديد فتصرعه، غير أنه كان أقوى من الشدة فثبت، ومرت به الزعازع لم تصب منه مكسراً، ولم تقصف له عوداً، ولكن نفسه دون أن يمر بها الخطب ولا يؤثر فيها. . فانعقدت بها العقدة، وكره أن يرى السعادة؛ فحصص حياته الباقية لحرب الخير، ومناهضة الرفاهة، وتدعيم الشر، ومباركة الشقاء.
عرفته وهو يستقبل المصائب، وكان إذ ذاك لا يفرح لفرح الناس، ولكنه كان أيضا لا يفرح لحزنهم، ثم شهدته والمصائب تعتوره من كل جانب حتى لم يعد فيه مكان لإصابة، فصار إلى ما هو عليه.
ولنا صديق رأى سعادته وسعى إليها، فسارع إليه الرجل ذو العقدة يثنيه عما يروم، باذلا في سبيل ذلك ما شاء من خسة وكذب. وكان الصديق يعرف في الرجل عقدته وخسته، ولكنه لم يفكر يوما أن تصيبه هو هذه الخسة وهو الذي يبذل له الود الصادق والعطف الكريم. . . وظل يحسن به الظن حتى انكشف له لؤمه وكذبه، فرمى بقوله عرض الأفق، وأتم ما كان مقدماً عليه، وكفأ الرجل ذو العقدة على مرجله غطاء من ود ظاهر.
ظننت أن صديقي سوف يشيح عنه بحبه وعطفه، وأنا أعلم فيه صدقاً في وده، فلا يمنحه إلا صادرا عن قلبه. ولكن الصديق أخلف ظني، وراح يظهر للرجل مثل ما كان يظهر، حتى احتسبت الله في صفائه، واعتقدت أن الحياة علمته خداعاً كان يجهله، ولكنني لم أطق أن أودع فيه خلالا حمدتها زمناً قبل أن أسأله:
- أراك ما تزال تحبه، وهو الذي فعل ما فعل. وأعرفك لا تبذل حبك من لسانك!
- إن ما فعل لا يعرفه إلا أنا وهو أنت. فإذا تغيرت عليه ظهر ما لا أحب إظهاره.
- وتنافق!؟
وماذا في ذاك!؟
- كأني أكلم شخصا لا أعرفه. . . ألا تعرف ماذا في النفاق؟. . فيه أنه نفاق. خداع وكذاب، وإجراء نفسك على غير ما تحب، وظهورك بغير ما تظن.
- لعل دهشتي من كلامك أكبر من دهشتك. إن ما تقوله لفظ أنيق تخلى عنه منطقك(802/34)
الواقعي. . إن النفاق شر إذا هدف إلى الشر، أما إذا حدث إليه عواطف الخير فهو خير هادف إلى خير. . أما اعتقادك أني أجرى نفسي على غير طبيعتها، فأني مرتاح إلى ذلك ما دمت لا أحمل في نفسي غضاضة الشر.
- وكيف أعرف نفاقك من إخلاصك ما دمت هكذا؟. كيف يتسنى إن أميز بين ودك خالصا وبين ودك مشوباً؟ - ودعني أسميه نفاقاً مهما يكن هادفا إلى خير - كيف يمكنني ذلك ما دمت تقدم على الإخلاص وغيره بهذا السمت البريء الذي عرفت به؟
- إن مقياسك في ذلك هو نفسك. . فإن كنت تضمر لي الشر وتبديه حتى أحسه منك، ثم تراني بعد هذا أقدم لك من الود ما عودتك فأنا معك منافق، أبقى على احترام الناس لك، وأخشى عليك قالتهم، راجياً منك الخير بعد الشر، والوفاء بعد الغدر.
- أولا تعتقد أن الرجل شاعر بأنك تبدي له هذا الود عن غير إخلاص. . هل بلغ به الجمود حداً لا يعرف به أنه أساء إليك وأنت تحسن إليه!؟
- لا. . بل إن الرجل يعلم علم اليقين أن هذا الود الذي أبديه له أصبح وداً غير حقيقي، ويعلم أيضاً أنني أذكر له كل الشر الذي قدم.
ألا تعتقد أن صلتك إياه تؤلمه أكثر من قطيعتك له؟
- ربما جال هذا بنفسه إن كان بها بقية من ضمير، ولكنه من الذكاء بحيث يعلم أنني أفعل ما أفعل لأبقى عليه الستار الذي أسدله أمام الناس. . أما إذا كان ضميره قد انجلى عنه، فهو مسرور بما أفعل، مرتاح إليه، مقبل عليه كما كان يقبل.
وهكذا لم أودع في الصديق ما عرفت له من الخير، بل استقبلت منه تمرساً بالحياة، ومجاراة لها، وتحويلا من شرها إلى خير، ومن نفاقها إلى إخلاص. . إنه ينافق لا شك، ولكنه نفاق المخلص.
ثروت أباظه(802/35)
رحلات في ديار الشام في القرن الثامن عشر
الهجري:
4 - ارادن حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان
لمصطفى البكري الصديقي
(1099هـ - 1162هـ - 1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
(تتمة)
إتمام البئر وانتشار الطاعون:
وبعد ما تم بناء البئر أردت أن أدخله في الحضير، فشرعت في تقييم الستارة، وابتدأنا يوم الاثنين في العمارة، وكان أفرط عند الطاعون، أحوج لاستعمال ما في الماعون، وتمرض الأخ محمد سيعد ليلة الثلاثاء بوارد شديد، وما زال الأمر يزيد إلى أن اصطفاه إليه ليلة السبت الحادية والعشرين من ذي الحجة شهيد، وترجمته في كراسة وسميتها (العقد الفريد النضيد في ترجمة محمد سعيد) وحصل له مشهد فريد، ودفن في مأمن الله.
سنة 1145هـ
ولما دخل عام (1145هـ) توجهنا والأحبة على عادتنا للزيارة (مقام علي بن عليل شمالي يافا) وأقمنا بعد ما قطعنا بلاداً مع السيارة وبتنا لدى المزار ليلتين، ومنه أتينا بعد التنزه في المروج ذات الزهور، مع الجموع قرية (كور) وكنا تخلصنا بامداد الشكور، من الحمى ذات العبور، إلى تجوم الجسد المنخور، وعطفنا على (نابلس) المحروسة، ولم ننزل إلا الدرويشة، لاتساع مبرور، وكان الحاج حمدان، قصد جامع النصر المعمور، والخلوة التي لديه وأذنا لولده الشيخ يوسف بالحضور، وسرنا بعد إكرام تام، وما زلنا بالبداءة والختم بالأوراد إلى أن وصلنا المنازل المقدسة. وكنا قد أكدنا مع الأخ الحاج حسن مقلد أمر الحج، ورجونا أنا بعقد جواهر نتقلد؛ وفي أوائل رجب جاءنا رجل مغربي سمى نفسه محمد(802/36)
السابع، وزعم أنه عائم في بحر المعارف سائح، وحدثنا بعجائب من بنيات صدره، ووعدنا مواعيد عرقوب صانها في قدره.
وحين اشتد العزم على السير نحو الحجاز، وصله مودعاً إلى جيوض (السيلة) وفارقناه. وذكرت ما وقع في هذه الحضرة الكريمة في رحلة سميتها (الرحلة الإحسانية الحجازية الثانية) ولما عدنا إلى الديار المقدسة صحبنا الأخ الشيخ محمد المكتبي الحلبي وكان بعد ما توجهت من حلب للقدس أرسل كتابا للفقير مطلعه:
ذاب من حرَّ فؤادي جسدي ... وغدا فوأدي بياضاً مفعما
وبعد ما زار الأنبياء العظام والأولياء الاماجد، أقام لدينا نفسه مسلماً مصاحباً منادماً متيما ووالهاً في حبه هيما، وفي أثناء إقامته، ورد أول كتاب من الأخ مصطفى اللقيمي مطلعه:
وأمنيت للمسجد الأقصى وللحرم ... بعد انقضاء أداء النسك بالحرم
وقد ذكر فيه أنه أحرم، ثم دخل من باب السلام، وطاف بالكعبة سبعا، وأسرع إلى عرفات، وبات بمزدلفة، وأصبح في المنى، ثم رمى بالجمرة، ثم قدم مكة وطاف طواف الإفاضة، ثم سعى، وحلق، ومضى لمضيء عمرة، وختمها بطواف، وسعى وتوجه تلقاء مدين قرب جدة، وعاد إلى المسجد الأقصى.
(ولما أقام الأخ الشيخ محمد المكتبي مدة أيام، وتلقن بعض أسماء حضر من الشام صديقنا الشيخ عبد الرحمن السمان، ومكث قليل أيام وزار المشاهد، وبعدها هم على الرحيل لوطن المقام وعزم على السير معه الأخ المكتبي فكتبت له إجازة بالإذن كما أرسل إجازة للأخ اللقيمي.
سنة 1146هـ
ولما هل شهر رجب 1146هـ ورد علنا الأخ الحاج ابراهيم بن حسن البكاني الحرستاني، وحرستي بلدة سيدي محمد بن الحسن صاحب النعمان (الرياني) ومعه رفيق من أهالي (بيت سوا) يدعى عبد الغني، وبعد أيام دخل الخلوة، ثم تشفع برجوعه بابنتي علما فقبلت شفاعتها فيه، وأجزته لما مدة إقامته انتهت.
وفي أواسط شعبان طلب الأخ الشيخ عمر العنبوسي عمل معراج نبوي مختصر مسميا له (اليم الفدا المواج في ذكر أحاديث الإسراء والمعراج) وشرعت في تسويد شرح على(802/37)
المنفرجة المنسوبة لأبي عبد الله النحوي، وكان ذلك عن طلب السيد علي الحنفي، وسميته (الفقه النضيد المشيد الحجة، على القصيدة المسماة بالمنفرجة) وقابلته مع الشيخ محمد بن السيد عيسى الكردي، وأرسلته مع الشيخ المذكور، إذ مراده المسير إلى تلك القصور.
وكنت بعد العود من الحج بأشهر وأيام أرسلت للأخ الشيخ محمد الحفناوي (في مصر) إجازة وإذناً عاما بالإرشاد. وقد وردني في أواخر ذي الحجة منه كتاب جواباً على كتابي والإجازة.
صدور خط سلطاني بإصلاح قناة الماء للحرم القدسي:
في أوائل سنة 1146هـ صدر خط سلطاني معربا معجمه بأن الوالدة أثابها الله في الجنان، انتدبت لعمارة ما يلزم القناة القدسية، فعينت أحد أعيان الدولة، ووجهت له ما يحتاج إليه فوفد بصوله والمذكور (قبله لي زاده) فتوفى قرب حصول ما أراده، وكان حسن النية والإرادة، ثم ورد مباشراً على أغا بن حمود، وبعد تمام بعض نظام رجع لوطنه للزهو يقود، كتب أهل الولاية له محضراً بما جرى، شاهدين فيه أن ماء الكأس لمحله جرى، وحصل للناس فرج وفرح.
سنة (1147هـ) وفاة الشيخ محمد الخليلي:
وكان ورد على كتاب من الأخ الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي في عشرين محرم سنة (1147هـ) مصدرا بقصيدة ثانية مطلعها:
عيون بنى الصديق بالصحو قدَّت ... عيون أولى التصديق بالمحو فدَّت
وفي اواخر ربيع الأول أرسلت كتاباً للأخ الشيخ مصطفى العمري مصدراً بقصيدة:
أيها المصطفى من الخلان ... كن بمولاك داعياً للعيان
واجتمعت ليلة الحادية عشر من شهر ربيع الثاني (سنة 1147هـ) بالشيخ يسن الغزي الخلوتي، وكان الأخ الشيخ إبراهيم الشهير بابن صفر أغا أخبر أنه كان منكراً عليه ما يظهر منه من مخالفات تنسب إليه حتى استبان له الأمر فانقاد وزاد منه فيه الحب والاعتقاد.
وفاة الشيخ محمد الخليلي:(802/38)
وفي منتصف جمادى الثاني ليلة الخميس، انتقل شيخنا العالم العامل المحدث الفقيه الشيخ محمد شمس الدين أبو الوفاء الخليلي إلى المقام الأرفع، فكانت ليلة ليلاء على أهل إيلياء، كان رحمه الله جاور في الجامع الأزهر، ثم ورد إلى بيت المقدس، فانتفع به أهلها، وقد أخذت عنه الإجازة في الحديث سنة 1122هـ لسند عال، ثم تأكدت المحبة بيننا وبينه لتكرر الخطوات القدسية، ثم نمت وزادت سنة (1131هـ) لتأهل في الديار القدسية، وقد ذكرته في النحلة النصرية في الرحلة المصرية) وقد تكررت صحبته في زيادة الخليل، والكليم، وقلت مرتجلا في امتداحه:
أيها الذات في حمى الذات قيلى ... فلقد لدَّ لي لديها مقيلى
وبعد وفاة الشيخ بثلاثة أيام اندرج بالوفاة إلى رحمة الله صديقنا الشيخ برهان الجعفري الرفاعي الخليلي الأوطان، وكان المذكور اجتمع علينا في ثاني خطرة للزيارة الخليلية وأظهر المحبة كأخيه الشيخ أحمد السابق للمنازل الإحسانية، وقد ظهرت لهما على أخبر به بعض أتباعه، كرامات تعرف بمقامه.
وفي أواخر هذا الشهر ورد على كتاب من الأخ اللقيمي وفيه:
شوقي إلى علينا جنابك طافح ... أخفيه وهو خفي سر فاضح
فأجابته بكتاب:
للعارفين خواتمٌ وفواتح ... أنداؤها في العالمين فوائح
وفي أوائل شهر رجب شرعت في عمل مقامة مشيرة لفن الأدب سميتها (المدامة الشامية في المقامة) أودعت فيها من القصائد الجامعة، وشرعت في أخرى (مغربية) وسميتها (الغمامة الغربية في المقامة المغربية).
ثم شرعت في شرح قصيدة الإمام الحجة صاحب المنهاج.
الرحلة إلى الديار الرومية:
وفي ذي الحجة تحرك الخاطر إلى الديار الرومية، وما زال والعزم يتقوى إلى أن دخل محرم، فتوجهت إلى الشام لأجل أن يكون المسير مع ركب الحجاج، وشرعت في الرحلة الرومية الثانية وأسميتها (الخلة الغانية الدانية، في الرحلة الرومية الثانية) وعدنا منها ثاني(802/39)
يوم من شهر الصوم.
مرض ابنته علما ووفائها:
وعدت فوجدت بنتي المحمية لسرى وقلبي، المقربة إن شاء ربى، متمرضة بأمر جرئي، فقاد كلبا ذيله طويل، وبعد أيام غابية لا قليلة، أحبت مجاورة مولاها بنفس ذليلة. فحصل بفراقها ألم مؤلم، وذلك في الليلة التاسعة من شهر رمضان.
وترجمتها في رسالة أسميتها: (الغيوب الملجمة، والغيوث المسجمة، في ترجمة ابنتي المنفية قدرا سما، الشريفة الصديقة العباسية علما) وقد كتبت على شاهدة قبرها مؤرخاً:
قصر الجنان من يدي ... جدي هنا تسلماَّ
رضوان ربي دائما ... يهمي عليها كالسما
وما زالت المدامع بعد بعدها سخية إلى تمام ذلك العام
سنة 1149هـ البدو يسلبون الشيخ التافلاتي:
وبعد دخول العام الجديد سنة 1149 ورد علينا الأخ الشيخ محمد التافلاتي، وأخبر أنه جاءنا على طريق التيه وأخذ منه أعراب الطريق بعض أثواب، وكتابا من الصديق الشيخ محمد الحفناوي في أوائل شهر ربيع شرعت في تأليف مولد نبوي وسمته (المولد الدري في المولد النبوي) وقرأته ليلة المولد على الإخوان متبركا
وجاءنا في هذه الأثناء السيد علي من بيت كريم الدين صاحب الجدود الخرفغببفاخرة، والحسب، وكان مجيئه في جمادى الأول بعدما طلع لأرض الروم، ونزل وتوجه من القاهرة، بوجود غير سافرة، ووصل إلينا مفصول العرا، كمن قرا ولكنه ما درى، وكنت أرسلت للأخ الشيخ محمد الحنفي كتابا محرضا له على الحضور لنزل قدس وافر السرور، فتيسر الأمر عليه وقدم والسعد بين يديه، منتصف جمادى الثاني سنة 1149 مصحوبا بالتهاني. وأرسلت ولدي يستقبله فرحا بقدومه، واشتغلت بنظم أبيات، أسمعتها له غب الإتمام فسر بها، وكانت ساعة التلاقي ميمونة. ومطلعها:
در كؤوسي من الرحيق الشهيَّ ... ثم ثنى من العتيق البهي. الخ
ولما استقر به المقام، وحل الرحاب منه، سار ذكره كالمثل السائر، وكنت أكتب في شرح(802/40)
الهمزية، المسمى (باللمح الفردية العزية، في شرح القصيدة (الهمزية)، فصرت مهما كتبت أعرضه على أسماعه، وقلت:
عروسة صوان بدا عطفها ... على صبها مذ هدا عطفها
وقابلت معه المعراج، والمولد النبوي، وشرعت في أوائل شعبان في مقامة يمينة، وعرضتها عليه مقابلة فأحب أن ينسخها لنفسه، وسميتها (العمامة اليمنية في المقامة اليمنية)، وألحقت بها (المقامة الموسومة بالحمامة الورقا القصرية في المقامة العنقا المصرية) وأتبعتها (بالصمصامة الهندية في المقامة الهندية) وكنت وصفت (الكمامة النرجسية السندسية، في المقامة الأنسية القدسية).
الختام:
ولما دخل شوال تحرك المحب الرحال السيد موسى الكريمي إلى المسير ناحية (غزة) وطن الصبابة، ونزل الأعزة، فطلب الأخ الشيخ محمد التوجه صحبة المذكور، إلى الوطن الأصلي المشهور، فأردت إبقاءه إلى أن يقع لي الإذن بالذهاب، ثم خشيت أن أطول عليه أدان الفراق، والاغتراب، لعدم ظهور وقت المسير، إلى تلك الديار، على أني كنت وعدت الزائر بالعود لدياره صحبة الأهل والعيال وطول الإقامة في جواره، فرغب في إنجاز الوعد، فقلت لم يأت الإذن بعد، وحصل التوجه أواخر شوال المطير بمياه الأشجان، وخرجت معه للوداع إلى القرشي والدجاني. ولم يقسم له نصيب في زيارة الكريم والخليل، فقرأنا لهم الفواتح، وحرضت الأخ على إظهار خفي الطريقة في الديار المعزية والمصرية ذات الأطوار العبيقة، وكان يوم الفراق لدغ إحراق. ولما رجعنا من وداعه بقينا أياما في توحش اجتماعه، وما طال أمل الإذن بالتوجه إلى ذلك المنتزه النزيه وأقمنا نتدارك أمر السفر إلى أوائل صفر، واتضح لنا الإذن المشير بالمسير، وجاءتنا نصاح لنعدل عن الرواح، فاعتذرنا، ولما سهل الحق الأسباب، توجهنا غلس صبيحة يوم الاثنين الثالث من صفر المبارك إلى جهة فلسطين المسماة (بالرملة) البيضاء، ومنها القصد إلى (غزة) ذات اليد البيضاء.
وفي التاريخ ختمنا (الأردان) بطابع ختامه مسك وهكذا كان، فإن التوجه والنية المقصودة الحج. وهاتيك المعالم المشهودة.(802/41)
وأن ممن ساعد وما قصر، لا كمن في ساعديه عنها قصر، إخواننا المنتمين للعصابة النجمية والخيرية وبعض أصحاب لهم محبة في الأمور الخيرية، وبدأنا من هذا الحين في جمع رحلة سميتها: (الرحلة الثالثة للرياض المصرية والحجازية والشامية، ذات الإمدادات النصرية السامية الإنجازية) والحمد لله. . .
أحمد سامح الخالدي(802/42)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
على هامش مسابقات المجمع اللغوي:
1 - رأت لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية إبعاد الشعر من المسابقات الأدبية لسنة 1949 - 1950، وقصرتها على القصة والبحوث الأدبية، لأنها لا ترى في الإنتاج الشعري الحالي ما يستحق أن يجاز. ويبدو لي أن هذا الرأي يتصل بما حدث في العام الماضي حين احتفل المجمع بإعلان نتيجة مسابقات سنة 1947 - 1948 بدار الجمعية الجغرافية، إذ وقف الأستاذ المازني عضو لجنة الأدب يقدم الفائزين في الشعر فقال: إن الشعر كسائر الفنون لا يخلد فيه إلا الأعلون، وذاكرة الدنيا لا تعي غير الأفذاذ، والوسط كالرديء في ميزانها، ثم قال: إن الدواوين التي تلقاها المجمع كلها من الشعر الوسط، وإنه آثر التشجيع وتسامح فأجاز أربعة دواوين منها.
وبين يدي اللجنة الآن بضعة دواوين مقدمة في مسابقات العام الحالي (48 - 1949)، وهي (آخر دفعة) من الشعر في مسابقات المجمع حتى يرد إلى الشعر اعتباره. . . .
ويرى المتأمل أن موقف المجمع من الشعر غير سليم، لأنه إما أن يكون قد حكم على جميع الإنتاج الشعري، ما يعرف منه وما لا يعرف، وما يقدم إليه وما لا يقدم، وهذا غير ممكن ولا ميسور له؛ وإما أن حكمه نتيجة النظر فيما قدم إليه، وهنا يسأل سؤالين
الأول: أليس من الجائز أن يقدم إليه في مسابقة العام القادم التي أخلاها من الشعر إنتاج يستحق الإجازة، فلم إذن يقفل الباب؟
والسؤال الثاني يأتي بعد ذكر حقيقة ملموسة، وهي أن هناك شعراً جيداً كثيراً لا يقدمه أصحابه للمجمع، وبعد ذلك يسأل: لم ضعف الإقبال على مسابقات المجمع حتى صار لا يقدم إليه إلا هذا الذي لا يعجبه وهو مع هذا قليل؟!
أرجو مخلصا أن ينظر المجمع في هذا السؤال مليا ويعالج علة ذلك الإعراض، فالأمر يوشك أن ينتهي بالقصة والبحوث إلى مصير الشعر. . . .
2 - واشترط المجمع في مسابقة القصة لسنة (1949 - 50) أن تبحث مشكلة اجتماعية عربية من مشاكل العصر الحاضر، أو تعرض حياة بطل من أبطال العرب، أو موقفاً من(802/43)
مواقف العرب الحاسمة في التاريخ. وهذا الاشتراط يوعز بتحويل العمل الفني إلى دراسات اجتماعية أو تاريخية، وأنا لا أدرك الحكمة في تحديد موضوعات القصة، أو ليس المطلوب قصة فنية ناضجة؟ وماذا يضير إن كانت ذات فكرة أو موضوع غير هذه الموضوعات ما دام المقصود هو التشجيع على الإنتاج الجيد؟
3 - عمم المجمع مسابقة القصة فجعلها لجميع أدباء العرب، وهذا حسن؛ ولكنه خص بمسابقة البحوث أدباء وادي النيل، فلم لا تكون المسابقات كلها لجميع العرب؟ قيل إن هناك (لائحة) تنص على أن يخص أدباء مصر ستمائة جنيه من الثمانمائة المخصصة للمسابقات الأدبية كل عام. وأقول: لم هذه (اللائحة)، أولم لا تغير؟ وقد أمكن التوسع في منح الستمائة الجنيه فأصبحت في المسابقة الجديدة تشمل جميع أدباء وادي النيل. وكم أود أن يكون (مجرى الضاد) أوسع من مجرى النيل.
أساطين الإذاعة:
قام الأستاذ محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة المصرية، برحلته في أوربا وزار محطات الإذاعة في روما وباريس ولندن وقد عاد أخيرا من هذه (النزهة الإذاعية) ونشرت مجلة الإذاعة الأوربية فكان من أهم المسائل التي تناولها الحديث بل أهمها مسألة الكفايات المطلوبة فيمن يشرفون على الإذاعة؛ قال: (إن مسألة الآلات والبرامج وما إلى ذلك من الأمور التي تخطر على الذهن عادة، إنما تأتي في المرتبة من الأهمية، بعد أن أدركت أن المسألة الرئيسية في تنظيم الإذاعة هي اختيار الرجال الأكفاء للإشراف على أعمال الإذاعة المختلفة، وتحملهم المسئولية الكاملة في إدارة الأقسام أو الإدارات التي يعهد إليهم بها).
وهكذا عرفنا أن (النزهة الإذاعية) لم تكن عبثا. . . فقد استفاد سعادته منها حقيقة مهمة في مسألة الإذاعة الرئيسية. وأعترف أني يوم تساءلت عن فائدة هذه الزيارات وقلت إن البرامج يمكن سماعها في مصر - كنت غافلا عن أن زيارة سعادته ستتيح له الوقوف على أن المسألة المهمة هي اختيار الأكفاء لإدارة الإذاعة. . ولا اعتبار لما قد يقوله المحرمون أمثال هذه النزهات من أنه يمكن معرفة ذلك في مصر، وهو شئ لا زم لكل عمل لا للإذاعة فحسب، لا اعتبار لذلك لأن الحقائق المتعوب في الحصول عليها وجلبها من وراء البحار غير التي نصل إليها هينة بالبداهة في مصر!!(802/44)
ثم لندع هذا وندخل في صميم المسألة الرئيسية في الإذاعة، وهي اختيار الأكفاء، فيفهم من كلام المدير أن إذاعتنا ينقصها الأكفاء، وهو مهتم بسد هذا النقص تطبيقا لما إستفاده من الرحلة. . وإن أريد إلا مصلحة إذاعتنا التي نرجوها لخير البلاد.
يشرف على تنظيم الإذاعة ثلاثة، هم المدير العام، والمراقب العام، والمراقب المساعد؛ أما المدير العام فهو من رجال التعليم قضى دهرا في وظائف التدريس ومناصب التربية عرف في خلاله بالخلق والكفاية، ولم تعرف له مشاركة ولا إنتاج في الأدب والفنون ولا ملابسة لشيء مما يتصل بالإذاعة التي تولى إدارتها أخيراً.
وأما المراقب العام فهو ذو ثقافة تجارية متوسطة، نشأ في محطة الإذاعة موظفا كتابيا صغيراً، وقد وصل مرتبه أخيرا إلى حوالي سبعين جنيها. وكان يحاول أحيانا أن يعزز مكانه ببعض نشاط إذاعي لم يوفق فيه بمقدار ما وفق في التقريب من الرؤساء.
وأما المراقب المساعد فهو من إخواننا الشعراء، يقول الشعر على نحو يسرح به مع عرائس الخيال ويبعده عن التمرس بفنون الإذاعة واداتها، ويشكو الأدباء المتصلون بالإذاعة من بعض تصرفاته.
أولئك هم أساطين الإذاعة المصرية الذين يشرفون على تنظيمها ويوجهون دفنها، وأنا لا أغمط أقدارهم، وإنما أقول - بعد أن بينت من صفاتهم - إنه حين ينظر في (المسألة الرئيسية) للإذاعة يجب أن يشملهم النظر. . فلا ينبغي أن تظل الإذاعة في مصر محرومة من كفايات أبنائها متخلفة عن نواحي النهوض فيها؛ وهذه وسائل الاتصال الثقافي والفني بالجمهورية في مصر قد ارتقت وتقدمت تقدماً كبيرا جذب إليها أنظار الشقيقات العربيات، وأصبحت فهيا مثلا تحتذى؛ وذلك على عكس الإذاعة فان الإذاعات العربية الأخرى أرشد من إذاعتنا، وما أحوجنا إلى احتذائها في كثير.
ومما يدعو إلى الأسف أن الإذاعة المصرية على تلك الحال ومصر تزخر بالعناصر والجهود الفكرية والفنية التي لم يتح للإذاعة إلى الآن أن تستفيد منها، لا في تنظيم الإدارة ولا في استغلال المواهب. ومما يضاعف الأسف أن ذلك واقع مع أهمية الإذاعة وبعد أثرها، باعتبارها أوسع أدوات التثقيف والإمتاع الفني انتشارا، وأقدرها على التنويع في تقديم الإنتاج، وأيسرها منالا للجمهور.(802/45)
شاعر وثلاث من الحسان:
قال الدكتور إبراهيم ناجي (في مجلة الأستوديو) يمدح المطربة شهرزاد:
شهرزاد ويا ضياء الأهلة ... زهرة أنت من خميلة مطله
ليلة أنت من جمال وحسن ... قرأنها القلوب في ألف ليله
وقال سبعة أبيات في سامية جمال، ثم قال يمدح سهام رفقي:
إذا غفرت لشعري ... فقلبي واستعيدي
ترين فيه (سهاما) ... فان أردت فزيدي
مما يصيب ويدمى ال ... قلوب قبل الجلود
وقد نفست عليه - والحق يقال - لانفراده بالثلاث الحسان. . . قرأت الشعر فوجدت فيه بعض الهنات، فرأيت في التعقيب عليه نوعا من المشاركة قد يغنى. . وكنت أتجاوز عن هذه الهنات لولا خطر المقول فيهن.
في بيتي (شهرزاد) عيب من عيوب القافية وهو نوع من السناد ففي أحد البيتين حرف ردف وهو الياء خلا منه الآخر. والشطر الثاني من البيت الأول غير مستقيم الوزن.
وفي أبيات (سهام رفقي) يستزيدها من السهام، ويحدد النوع الذي يريده منه بأنه الذي يدمى القلوب (قبل الجلود) والمتأمل يرى هذا النوع من السهام لا وجود له، أعني التي تدمى القلوب ثم تدمى الجلود، وهو بطبيعة الحال يريد سهاماً تدمى القلوب فقط. وأقول - على طريقة أسلافنا من النقاد - إنه لو قال (دون) بدل (قبل) لا سقام وسلم.
ومعذرة إلى الدكتور ناجي إذ وقفت منه موقف (العذول)
مؤتمر اليونسكو:
تنعقد الدورة الثالثة لمؤتمر اليونسكو ببيروت في 17 نوفمبر الحالي. ويمكن الجزم الآن بأن دولة إسرائيل المزعومة لن تشترك في هذا المؤتمر، وذلك بفضل الموقف الحازم الذي وقفته الحكومة اللبنانية، فقد أبدت تشددها في ذلك وأنها لن تسمح لممثلي اليهود بدخول لبنان. فوقعت بذلك هيئة اليونسكو أمام الأمر الواقع، إذ كانت قررت نهائيا عقد المؤتمر ببيروت، ولا سبيل لليهود إلى بيروت وسيجتمع مندوبو البلاد العربية في بيروت قبل(802/46)
انعقاد المؤتمر وسيجتمع مندوبو البلاد العربية في بيروت قبل انعقاد المؤتمر لتوحيد الخطة العربية وبحث بعض المسائل كانتخاب أعضاء المجلس التنفيذي للهيئة والاتفاق على العضو العربي فيه بعد انتهاء مدة الأستاذ محمد شفيق غربال بك في هذا المجلس، فإما أن يجدد انتخابه أو يرشح بدله عضو عربي آخر.
وستشغل مصر جانبا كبيرا في المتاحف والمعارض التي ستقام في شهر اليونسكو ببيروت، فقد أعدت وزارة المعارف كثيراً من الأعمال المدرسية الفنية، وبعثت دار الكتب المصرية بمجموعة وافية من المطبوعات والمخطوطات والمنقوشات، وكذلك أرسلت بعض دور النشر في مصر مجموعة من الكتب التي أخرجتها، وستحتل الصحف والمجلات المصرية من معرض الصحافة جانبا هاماً
أما إقامة الحفلات الساهرة، فقد اتفق بشأنه على أن تقوم لبنان بحفلات الغناء والرقص، وأن توفد مصر الفرقة المصرية للتمثيل لتحي ثلاث ليال من 22 - 24 نوفمبر، تمثل في إحداها مسرحية حواء الخالدة لتيمور، وفي الليلة الثانية انتقام المهراجا، وفي الثالثة ثلاثة فصول من مسرحيات عالمية مثلتها الفرقة قبل ذلك
ويتألف وفد مصر المؤتمر من الأستاذ محمد شفيق غربال بك رئيساً، والدكتور أحمد زكي بك، وأحمد عبد السلام الكرداني بك، ومصطفى عامر بك، والدكتور محمد عوض محمد بك أعضاء أصليين، وستة أعضاء احتياطيين، وخمسة خبراء وثلاثة سكرترين.
وقد جاء في الأنباء الواردة من بيروت أن الحكومة اللبنانية شيدت مدينة ثقافية لتكون مقراً لاجتماعات اليونسكو، على مقربة من العاصمة تطل على البحر وتشرف على المدينة، وقد بذلت في إنشائها وتجميلها جهود فنية كبيرة، وأعدت فيها وسائل الراحة وما تتطلبه الاجتماعات من أدوات وأجهزة، ومكاتب للصحافة، وقاعات للمعارض، ومحطة للإذاعة، وغير ذلك.
وقد أصدرت هيئة اليونسكو في بيروت العدد الأول من نشرة (رسالة اليونسكو) باللغة العربية لمناسبة انعقاد المؤتمر في إحدى البلاد العربية، وقد نشر في هذا العدد مقالات لكبار كتاب الشرق والغرب كالدكتور شارل مالك، والدكتور طه حسين، والمستشرق لويس ماسينيون، وفيه مقال للسيد حميد فرنجية وزير التربية والخارجية اللبنانية، ومقال للمستر(802/47)
جوليان هكسلي المدير العام لليونسكو
وقالت أنباء ببيروت إنه تقرر دعوة الأدباء العالميين مع الوفود الدولية لحضور المؤتمر، على أن يحلوا ضيوفاً على الحكومة اللبنانية، وكذلك رؤساء تحرير الصحف العالمية الكبرى. ولم يذكر هل تشمل هذه الدعوة أدباء العرب ورؤساء تحرير الصحف العربية أولا؛ ولا شك أن اجتماع كبار الكتاب والصحفيين العرب بأمثالهم من الغرب فرصة طيبة للتعارف وتبادل الأفكار، مما هو بسبيل تحقيق أهداف اليونسكو في التقارب والتعاون الفكري العالمي.
أمير غير لائق
نقل المذياع احتفاء (رابطة القراء) بعيد الهجرة من المسجد الحسيني، وهذا عمل صالح باعتبار المقصود منه وهو إذاعة ما يرتل القرآن الكريم، وما يترنم به من الموشحات الدينية بذلك الحفل في تلك الليلة المباركة. ليتسنى استماعه للجميع. ولكنا نسمع قارئ القرآن يقرأ فما يكاد يقف حتى ترتفع الأصوات وتتعالى الصيحات بمثل: (اللهل يا شيخ عمر) وما إلى ذلك من العبارات والكلمات.
وتدرك من سياق القراءة وطريقتها وصيحات أولئك الصائحين، أنهم ليسوا مأخوذين بمعاني الآيات وأغراضها، وإنما هم مأخوذون بالتطريب أو يقصدون (التمليح) فيثنون على القارئ ويدعون له. . .
ونتيجة ذلك هذا المظهر غير اللائق بقراءة القرآن خاصة وكرامة الدين عامة، من حيث التصايح المنكر والتخليط الذي يدل على جهل فاضح، والناس يستنكرون مثل ذلك في محافل الغناء، فما بالك بمجالس القرآن؟
وانظر أي (صورة سمعية) للمسلمين في مصر تنقلها الإذاعة بذلك إلى حيث يترامى صوتها في أرجاء العالم. .
عباس خضر(802/48)
البريد الأدبي
1 - إلى الأستاذ الفاضل نقولا الحداد:
تحيتي إليك وسلامي؛ وبعد فإن العروبة قاطبة لتعتز بقلمك الذي حملته وشهرته في وجه الصهاينة الباغين. ولقد كان دفاعك عن فلسطين دفاع العربي الأبي الذي يأبى الضيم والذل ويذود عن وطنه العربي.
لقد دافعت يا سيدي فأحسنت الدفاع وسللت الحسام من غمده وشحذمته.
وما حسام الكاتب إلا قلمه وبيانه إذا ما ادلهم الخطب ونزلت الفادحة.
ولقد كنت للعروبة لساناً وللحق مؤيداً ونصيراً، وكنت وما زلت بل وما
تزال وهذا عهدي بك للحق على الظلم معينا. ولقد صدق أستاذنا الكبير
عباس محمود العقاد حينما رأى دفافعك عن العروبة وحملتك الشعراء
على الصهاينة، وقد وقفت في الميدان وحيداً ترتدي جلد النمر وتكشر
للباغين عن أنياب الليث وتكيل لهم الضربات وترد على الادعاءات. .
وكان العقاد وهو يعلم جد العلم أن أدلة الصهاينة لا تستند على أساس،
وأن حججهم واهية، وأن قضية العروبة مكسوبة، فأشفق عليك ونصحك
بأن ترفع مطرقة من مطارقك إلى حين حتى تكون قد صنعت بهم كما
صنع الحداد. وقد كان.
فو الله أنت للعروبة سند وللحق داع. وما أنت يا سيدي إلا عربي شهم كريم، وتقبل مني شكري مضاعفا على ما بذلت وتبذل لخدمة قضية العروبة من جهد.
2 - الهدنة في الإسلام:
كتب الأستاذ الفاضل محمد أسامة عليية في العدد 738 من الرسالة الغراء كلمة عن الهدنة ووقف القتال فلم يتعرض للهدنة في التاريخ الإسلامي حتى بكلمة واحدة بل افاض في الهدنة من الناحية القانونية الدولية. وللحقيقة والتاريخ أقول (ليست الهدنة بجديدة على(802/49)
التاريخ الإسلامي فلقد أطال أبو العباس أحمد القلقشندي في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشا الكلام عنها وذلك في الجزء الرابع عشر من الصفحة الأولى إلى ص78 أي في قرابة ثمانين صفحة من الحجم الكبير، فذكر منشأها وتكلم عن أول هدنة في الإسلام وكانت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وذكر كذلك أقول الفقهاء فيما يتعلق بشروط الهدنة في الإسلام. ثم تكلم في الشروط التي تستقيم بها الهدنة وذكر عدة من الكتب التي تبودلت بين ملوك الإسلام وملوك النصارى ورؤسائهم ولا سيما طائفة الاستبادية وهي طائفة من الفرسان. ومن هذه الكتب العديدة التي وردت في الكتاب تستطيع أن تقول (أن الهدنة في التاريخ الإسلامي كانت لمصلحة المسلمين وكان المسلمون يخرجون دائما منها فائزين دون خسارة ولم يلحقهم بعقدها حيف أو ظلم وكانت تنفذ شروطها بقة وعناية. وها نحن اليوم وفي القرن العشرين نشاهد مهزلة الهدنة وإهمال مراقبي هيئة الأمم المتحدة وتحيزهم الظاهر ضد العرب. نعم إن في التاريخ لعبرة ولعل التاريخ يعيد نفسه يوم ما! وإن الظالم والاعتداء لن يطول.
شفيق أحمد عبد القادر
كلية الآداب - قسم التاريخ
مسابقات مجمع فؤاد الأول للغة العربية:
قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية توزيع جوائز لتشجيع الإنتاج الأدبي سنة 1949 - 1950 على النحو الآتي: -
أولا - لأدباء وادي النيل
تخصص مائتا جنيه لكل بحث من البحوث الآتية بشرط ألا يقل البحث عن مائتي صفحة من القطع المتوسطة (الذي لا تنقص كلماته الصفحة عن 180 كلمة): -
1 - أحسن تحقيق لكتاب عربي قديم وضع على أساليب النشر الحديث سواء اطبع ام لا يطبع، على ألا يكون تاريخ المطبوع هقه سابقا ليناير سنة 1945.
2 - أحسن دراسة لرفاعة بك الطهطاوي أو أحمد فارس الشدياق أو محمد قدري باشا وأثر كل منهم في وضع المصطلحات الأدبية أو القانونية.(802/50)
3 - أحسن بحث في نقد الشعر العربي في الفترة التي تبدأ من النصف العاني للقرن التاسع عشر إلى اليوم (ولا ينقد شعر الأحياء).
ثانيا - لأدباء العرب في وادي النيل وغيره
تخصص مائتا جنيه لأحسن قصة بالعربية الفصحى مخطوطة أو مطبوعة. بشرط ألا يكون تاريخ المطبوع منها قبل يناير سنة 1947، على ألا تقل القصة المقدمة عن مائتي صفحة من القطع المتوسطة (الذي لا تقل كلمات الصفحة عن 180 كلمة).
ويشترط أن يكون مدار القصة حول أحد الموضوعات الآتية:
1 - بحث مشكلة اجتماعية عربية من مشاكل العصر الحاضر:
2 - حياة بطل من أبطال العرب.
3 - موقف من مواقف العرب الحاسمة في التاريخ.
وعلى الراغبين في الحصول على هذه الجوائز أن يرسلوا إلى المجمع نسختين مطبوعتين أو مكتوبتين على الآلة الكاتبة من الموضوع المقدم للحصول على الجائزة في موعد لا يتجاوز أول أكتوبر سنة 1949 وسيحتفظ المجمع بنسختي الإنتاج الفائز. وللمنبارين أن يذكروا أسماءهم أو يختاروا أسماء مستعارة وعليهم أن يكتبوا عنوانهم واضحاً ويوقعوا على كل نسخة يقدمونها. ولا يجوز أن يدخل مسابقات المجمع الأدبية من سبق أن أجازه المجمع على انتاج له في فروع المسابقة المتقدم إليها، ولا أن يعاد تقديم أي إنتاج أدبي سبق أن، قدم للمجمع.
وترسل الموضوعات بعنوان: (لجنة الأدب - بمجمع فؤاد للغة العربية - شارع قصر العيني - القاهرة).
إلى الأستاذ المعداوي:
ماذا يعينك بمن أرسل إن كان لا يضيرك ما أرسل؟
واجه الحقائق، وثق بأنه (لا يهوش) وثق أيضا بأنه يشتغل في شركة موجود بها - والحمد لله - آلة كاتبة وكتبة و. . . إلخ! ولك العذر إن كنت تريد أن تجعل من الحبة قبة!
ومرة أخرى: واجه الحقائق!
عبد الحميد فاضل(802/51)
ليانسية في القانون من ست سنوات
تعقيب
في العدد (274) من جريدة (الزمان) كتب الأستاذ الفاضل محمد محي الدين عبد الحميد - المفتش بالأزهر - كلمة حول بيت عنترة:
فيه اثنتان وأربعون حلوبةً ... سوداً كخافية الغراب الأسحم
فقال عن الخزانة (يروى بنصب (سود)، صفة لحلوبة).
وأقول: لو صح نقل الأستاذ وكان السواد صفة للحلوبة المفردة - لفظاً ومعنى - لكان الصواب أن يقال (سوداء) وصفا للمفردة وليس (سودا) وصفا للجمع. ومن ثم لا يكون (سود) - في البيت - صفة للحلوبة، وإنما هو صفة للجمع على المعنى، وهو اثنتان وأربعون؟ لأن التمييز المفرد إذا وصف جاز أن يؤتى بالوصف جمعا تبعا للمعنى المتضمن عليه الكلام والسلام.
(الزيتون)
عدنان(802/52)
القصص
الإشارة!. . .
للكاتب الفرنسي جي دي موبسان
كان المضجع الوثير، الناعم، يضم مدام مارجيونسي دي ريندون في كثير من الوله والحب!. . . وكانت المطلقة الحسناء: قد فتحت عينيها على صخب وضجيج ينتهيان إليها في غرفة الاستقبال، فأصغت بقليل في الانتباه، فإذا هي تميز صوت صديقها البارونة الصغيرة دي جرانجيريه مشتبكا في نقاش حاد مع الخادمة، تلك تريد مقابلة صديقتها لأمر خطير، هام، وهذه تأبى عليها مقابلة سيدتها، وإزعاجها في مثل هذه الساعة المبكرة!. . وعندئذ تسللت من فراشها، وأخرجت رأسها اللطيف، المكلل بثروة من الذهب الخالص، وهتفت متسائلة:
- ما بك يا عزيزتي. . . . لم قدمت في مثل هذه الساعة المبكرة؟ إنها لم تبلغ التاسعة بعد؟!
وأجابت البارونة الصغيرة الشاحبة الوجه الذابلة العينين من الانفعال، المرتجفة غضباً وانزعاجاً:
- أريد أن أحدثك يا عزيزتي عن مسألة خطيرة. . . لقد وقع لي ما لا يتصوره العقل!
- تعالي يا عزيزتي. . . تعالي.
ودخلت البارونة المخدع وراء صديقتها. . وتبادلتا العناق والقبل. وعادت مارجيونسي إلى مضجعها الوثير. بينما كانت الخادمة تزيح السجف الثقيلة عن النوافذ، ليتجدد في الغرفة الهواء، ويدخل إليها النور. . . ولما انصرفت الخادمة، قالت مدام رليندون: والآن يا عزيزتي. . . هات ما عندك من حدث!
وانفجرت مدام جرانجيريه باكية. . وانهمرت من عيناها الدموع. . هذه الدموع التي لو ترقرقت في عيون المرأة لزادتها فتنة على فتنة، وحسنا على حسن!. . . ولم تمد منديلها إلى عينها لتجفف دموعها، خوفا عليهما من الاحمرار. . . وقالت:
- إن ما حدث لي يا عزيزتي فظيع. . . فظيع، لم تغمض له عيناي طول الليل. . حتى ولا دقيقة. . أتسمعين؟. . ولا دقيقة آه. . ضعي يديك هنا على قلبي. رباه! إنه يخفق(802/53)
ويضطرب! وأخذت يد صديقتها، ووضعتها على موضع القلب من صدرها هذا الصدر الجميل، الذي يفتن ويغرى. . ولكن قلبها الآن، كان حقا شديد الاضطراب والخفقان. ثم قالت
- حدث ذلك نهار الأمس. . . كانت الساعة الرابعة. . . أو النصف بعد الرابعة، لا أتذكر تماما. أنت تعرفين منزلي، وتعرفين غرفة الاستقبال منه، حيث تعودت أن أجلس، وانفرج بمراقبة الناس. وهم يروحون ويجيئون في شارع لازار. وبالأمس كنت أجلس في الفراندة على كرسي منخفض، وكانت النافذة مفتوحة، وأنا خالية البال من كل ما يشغل البال، ويبلبل الخاطر، أوه. . لعلك تذكرين كم كان جو الأمس لطيفا، والمناخ معتدلا.
وفجأة، رأيت امرأة ترتكز على مرفقيها، في نافذة البيت المقابل. . . وكانت ترتدي المايوه. . لباس البحر الجذاب.
لم يسبق لي أن رأيت هذه المرأة ذات الثوب الأحمر الخليع. ولكنني عرفتها جيداً لأول نظرة. كانت امرأة من ذلك الصنف الذي يتجر بنفسه!!
ووجدت نفسي أتابع حركاتها. كانت تنظر إلى الرجال، والرجال يبادلونها النظرات، وكانت تدعوهم إليها: ألا تشرفنا يا سنيور؟ فكان بعضهم يرد عليها: متأسف. . . الوقت ضيق!
- في فرصة أخرى.
- لا. . . ليس الآن
وكان بعضهم يردعها، ويعنفها: اخسئي. . . . حقيرة!
لو تستطيعين يا عزيزتي، أن تتصوري، كم كان عملها هذا مثيرا للضحك! وفجأة رأيتها تغلق النافذة. . . لقد وقع في صنارتها واحد من المغفلين!. . . ووجدت لذة كبيرة في مراقبة هذه المرأة الوضعية، وهي تقوم بعملها العجيب! وأحسست برغبة ملحة تدفعني لتقليدها. . . أتكون هذه الحمقاء، أقدر مني على اجتذاب الرجال؟. . . هيهات!!
وقلدت حركاتها، وغمزاتها، وإذا أنا أوديها أحسن منها بكثير. . . وعندئذ اتخذت مكاني من النافذة.
وانتصرت عليها. . . وجذبت نحو كل الرجال من كل صنف، بعضهم أجمل من زوجي. . . بل أجمل من زوجك. . . أقصد آخر أزواجك. . إيه يا عزيزتي. . . نحن النساء لنا(802/54)
بعض عقول القردة المقلدة. . . هكذا قال لي أحد العارفين بالنفس. . . ألا نحب تقليد بعضنا بعضاً؟!
قلت لنفسي: لأجرب مرة واحدة. . . لمجرد التغيير. . . ترى، ما الذي سيحدث لي؟. . . لا شئ على كل حال. . . وسأنساها!
وبحثت عن رجل. . . رجل جميل. . . . أجمل من كل الرجال. وفجأة رأيت النموذج الكامل للرجل الذي أردته.
رشقته بنظرة ساحرة، وابتسمت له بطريقة خاصة، ففهم إشارتي، وإذا هو يتجه نحو الباب الكبير!!
وجننت. . . وتملكني خوف شديد، فإذا هو يتحدث مع الخادم يوسف. . يوسف المخلص لزوجي، فسيظن أنني على صلة بهذا الرجل من قبل!. . ماذا أستطيع أن أفعل يا عزيزتي. . . ماذا أفعل إذا طرق الباب؟
فكرت في أن أقابله بنفسي، وأخبره بأنه مخطئ، وأرجوه أن ينصرف. . . لعله يعطف على امرأة. . . ضعيفة، مسكينة:
وذهبت إليه أقول:
- انصرف بربك يا سنيور. . . أنصرف من هنا. . . أنت مخطئ يا سنيور. . . . أشفق علي يا سيدي!
- صباح الخير يا آنسة. . . لم كل هذا الدلال؟. . . فلست اجهل قصصكن. . . ستقولين إنك زوجة لرجل غيور وإنك معي لفي خطر شديد، وستطبين أربعين فرنكاً بدلا من عشرين. . ولكن لا بأس. . . سأدفعها لك، إذا أفسحت لي الطريق.
ولكنه لم ينتظر جوابي. . . بل دفعني إلى غرفة الاستقبال، وظل يتفحصها في دهشة، وقال:
- ما أجمل هذه الغرفة. . . لا شك أنك موفقة في عملك، وتكسبين كثيراً، وتوسلت إليه
- أرجو يا سنيور، تفضل بالانصراف. . أن زوجي سيكون هنا بعد دقائق. . . أقسم لك انك مخطئ.
فأجابني في برود شديد:(802/55)
زوجك؟!. . سأمنحه خمسة فرنكات، يشرب بها كأسا من النبيذ في الحانة المقابلة.
ثم وقعت عيناه على صورة زوجي راؤول، فقال:
- أهذا هو زوجك؟
- نعم
- أوه. . رجل لا بأس به، ومن هذه؟. . واحدة من صديقاتك! كانت هذه صورتك - نعم. . . واحدة من صديقاتي!
- جميلة. . لعلك تقدمينها إلي
- في فرصة أخرى.
وعندئذ دقت الساعة خمس دقات. . . . لقد حان موعد قدوم زوجي إلى البيت. . . رباه. . . ماذا يحدث لو جاء راؤول ورأى عندي هذا الرجل؟
وفكرت في أن أحسن طريق للتخلص من هذا أن. . . أن أرضيه بأسرع وقت، وأصرفه عني. فهمت ما أعني يا عزيزتي هل فهمت ماذا حدث؟!!
وضحكت مدام ريندون. . واهتز السرير تحتها لشدة ضحكها، ثم قالت والدموع تترقرق في مآقيها:
- ولكن. . أكان منظره جذابا حقاً؟
- كان رائعاً. . . في غاية الروعة.
- من حسن حظك. . . ولكن، إذا كان رائعا كما تقولين، فلماذا جئت تشتكين؟!
- لأنه. . . لأنه سيعود ثانية، في نفس الوقت وأنا شديدة الخوف، فماذا أفعل لو نفذ وعده، وجاء مرة أخرى؟!!
- دعيه يعود
فتملكت المسكينة دهشة عظيمة، وتساءلت:
- ماذا؟ ماذا تقولين؟. . كيف أدعه يعود؟
- هذا شئ بسيط. . . اذهبي إلى مدير البوليس، وأخبريه بما حدث، وقولي له أن هذا الرجل يضايقك منذ مدة طويلة، وعندئذ سيبعث إليه ببعض رجاله، ويقبضون عليه متلبسا بالجريمة!(802/56)
- ولكن يا عزيزتي. . . ربما اعترف.
- من يصدقه. . . أنت سيدة معروفة في البلد.
لا. . . لا أستطيع.
- أن لم تخبري البوليس. . . فسيعود إليك كل يوم!
- طيب. . . . والفرنكات التي تركها لي؟. . . ماذا أصنع بها؟
وبعد أن فكرت مدام ريندون قليلاً، قالت ضاحكة:
- عزيزتي. . يجب أن تخلدي هذه الحادثة في هدية صغيرة لزوجك العزيز راؤول. . نعم، هذه أحسن فكرة!!!
(البصرة: عراق)
يوسف يعقوب حداد(802/57)
العدد 803 - بتاريخ: 22 - 11 - 1948(/)
هل نجح خادم اليهود؟
للأستاذ نقولا الحداد
لم ينجح ترومان ولم يفشل دبوي. وإنما نجح الحزب الديمقراطي وفشل الحزب الجمهوري؛ لأن أكثرية الشعب الأمريكي الساحقة هي ديمقراطية المبدأ. إن المبدأ الجمهوري يميل إلى تعضيد الرأسمالية، وجميع أعوانه ماليون وممن يلوذون بالماليين وأصحاب الأعمال الكبرى المساهمون والمضاربون وكل من يشتغل بتثمير المال. وأما المبدأ الديمقراطي فيعضد العمل وأعوانه الزراع والصناع وأهل الحرف والمهن والصناعات والمستخدمون ومتوسطو الحال. وهم لاشك السواد الأعظم من الشعب. ومع ذلك صوت كثيرون منهم مع دبوي اعتباراً لشخصيته لا لمبادئه. ولكنهم لم يكفوا الترجيح كفنه.
ولطالما غرس الصهيونيون الأفاكون في عقول الناس أن الرعاية الأمريكية في أيديهم وأنهم إذا راعوا ترومان كان ترومان، وإذا راعوا غيره كان غيره. . . ولعل ترومان كان يظن هذا أيضاً. ولكن لما حميت معركة الانتخابات انحاز يهود ولاية نيويورك (وتعدادها 18 مليوناً ويهودها ثلاثة ملايين وهم لصف يهود أمريكا كلها) انحازوا إلى دبوي لأن مصالحهم المالية تكون مضمونة في عهد رياسة دبوي ولاتهمهم فلسطين عشر معشار ما تهمهم ماليتهم. وكان رجال العلم والسياسة والأعمال والمال والاقتصاد يراهنون مائة إلى واحد مع دبوي ليقينهم أن دبوي رجل الساعة. وهو أكفأ ألف مرة من ترومان. ولذلك صوت معه كثيرون من الديمقراطيين (من خصوم حزبه). ومع ذلك خاب وخسروا الرهان. وقد نسى هؤلاء المراهنون عواطف الأمة. الأمة لا تسعى وراء العلم والمقدرة السياسية ونحوهما، وإنما تسعى لمن يضمن لها مصلحة الفرد أولا ومصلحة الجمهور أخيراً. ولذلك انتخب ترومان بل لأنه كفيل بتنفيذ المبادئ الديمقراطية. فليس ترومان هو الذي انتصر، وإنما الديمقراطية هي التي انتصرت. وستظل تنتصر مادام الحزب الجمهوري يناصر المال وأصحاب المرافق وأسباب الأرزاق يتحكمون فيه.
هذه سنة الاجتماع الأخيرة. والحزب الجمهوري لن تقوم له قائمة بعد الآن إلا إذا نقح مبادئه وعد لها كثيراً بحيث تستهوي طبقة المتعيشين بكدهم وكدحهم.(803/1)
كان الحزب الجمهوري متفوقاً على عهد تيودور روزفلت السابق الذي تولى رئاسة الجمهورية مرتين، وكان في سياسته يخالف مبادئ حزبه أحياناً ليمالئ الحزب الديمقراطي. وكان كثيرون من الرؤساء السابقين جمهوريين لأن الصولة كانت للماليين وأرباب الأعمال الكبرى أيام كانت سياسته الولايات المتحدة الأمريكية عرضة للرياح السياسية الخارجية ويخشى عليها منها يوم كانت الولايات المتحدة لا تزال الثالثة بين الدول الكبرى فكانت تحتاج إلى قيادة رأسماليين وأرباب أعمال - قيادة متيمة قوية. ولكن لما خرجت من الحرب الكبرى الأولى وأسطولها الثاني شرعت تستقل في كيانها وتطغى في بنيانها. وما شبت الحرب الثانية الأخيرة حتى صار أسطولها البحري الأول وأسطولها الجوي الأول وقوتها البرية ترعب. حينئذ صارت تطمح إلى الاستعمار التجاري والبترولي. فلم تعد تستند إلى حزب جمهوري رأس مالي بل إلى حزب شعبي عملي صناعي زراعي. فقويت فيها الديمقراطية. فمن يكن مرشح الحزب الديمقراطي يحرز قصب السيق ولو كان مغفلاً.
ولعل القارئ يعجب ويتساءل: لماذا صوت يهود ولاية نيويورك لدبوي وهم نصف يهود أمريكا؟ والجواب أن اليهود رأسماليون، فيهرعون إلى حيث تكون خيانة المال. فصوتوا مع الجمهوريين لأن الضمانة هناك أشد، وما كان تشدق الصهيونيين بأن ترومان يسترضيهم لكي يصوتوا له إلا أفكا وبهتاناً. ودعاية في الشرق فقط.
ولا ريب أن ترومان كان يراعي خواطرهم إلى حد ما لكي يكسبهم في معركة الانتخابات؛ ولكنه لم يحتج إليهم وعنده معظم الشعب وأخيراً عرف نفاقهم حين صوتوا لدبوي. فهل يا ترى يبقى مغفلاً يخدم أغراضهم كما يزعمون، أم أنه يشيح بوجهه عنهم بعد الآن وينظر إلى مصلحة بلاده قبل مصلحتهم وأمامه أربع سنين هو فيها غني عن اليهود، على فرض أنهم ينفعونه بشيء؟
مع كل ذلك لم يخدمهم الخدمة الجلي كما كانوا يتوقعون. كانوا ينتظرون أن يجهز لهم قوة عسكرية كافية لتنفيذ مشروع التقسيم. ولو فعل لتم التقسيم فعلا في يوم واحد. ولكن لم يشأ أن يفعل ولم يستطع أن يفعل لأن الكونجرس لا يوافقه على أن يرسل أبناءه الشبان الأمريكان لكي ينشئوا دولة لبني إسرائيل.
أما الآن فلا ندري هل يصر ترومان على أن يحول دون مشروع العقوبات لنا قضي الهدنة(803/2)
وهو يعلم أن اليهود لا العرب كانوا ولا يزالون ينقضونها. فكان يود أن ينقذهم من العقوبات.
على أن الأمر المضحك في هذه الهدنة أنها تنقض كل ساعة ومجلس الأمن يتهدد كل ساعة ناقضيها بالعقوبات. وإلى الآن لم نر عقوبة وقعت على ناقض هدنة.
وأغرب من كل غريب أن مندوب أمريكا في مجلس الأمن يقترح تأليف لجنة لبحث إجراءات تنفيذ الهدنة، حتى إذا خالفها أحد الطرفين كان على الجنة أن تبادر إلى دراسة ما تراه إجراءات تأديبية لتوقعها على المخالف. ووجه الغرابة هو وضع الحصان وراء العربة لا أمامها؛ لأن العادة في كل تشريع أن يكون إعلان العقوبة قبل ارتكاب الجناية أي بعد أن يعلم أي الفريقين نقض الهدنة.
والهدنة تنقض كل يوم ويبلغ خبرها إلى مجلس الأمن ولا تكون نتيجة البلاغ إلا تكرار دعوة مجلس الأمن العرب واليهود إلى احترام الهدنة، وهو يعلم أن اليهود لا العرب هم الذين ينقضونها. وإلى الآن لم يعترف مجلس الأمن بأن الهدنة غير محترمة. فما معنى إصدار أوامر لا تحترم يوماً بعد يوم؟ والله لو كان صبيان يتولون الأمر لربأوا بأنفسهم أن يكرروا إصدار هذه الأوامر السخيفة.
وختام نذكر الهدنة بالخير ولم نعرف الهدنة ساعة واحدة. ما نحن إلا في حرب. فعلى جامعتنا العربية إن كانت تحسن عملا أن تنعى الهدنة لمجلس الأمن وتبلغه أننا في حرب ما دام اليهود يتهجمون ونحن مضطرون أن ندافع - حتام تمثل هذه المهزلة؟
والمهزلة الكبرى أن مجلس الأمن (الموقر) لا يريد أن يلتفت إلى مسألة اللاجئين الذين أشفوا على الهلاك كأن آمرهم لا يعنيه وكأن نكبتهم ليست من نتائج القضية التي ينظر فيها أو يتولى أمرها أو كأنها ليست من مخلات الأمن التي هي في دائرة اختصاصه.
اليهود الملاعين طغوا وبغوا وقتلوا ونكلوا وأخرجوا الناس من بيوتهم إلى العراء ومجلس الأمن الموكل بالأمن يترك أمر المشردين لأهل البر والإحسان.
فما هو الأمن الموكل به مجلس الأمن؟
إن أقذار اليهود واقعة على رأس مجلس الأمن وقد تورط كل بدنه فيها. ومع ذلك لا يزال يزعم أنه يحافظ على الأمن.(803/3)
أي أمن هذا يا هؤلاء؟ أليس لكم عيون تبصر وآذان تسمع وقلب تفقه؟ ألا تخجلون أن يركبكم الصهيونيون وينخسوكم بالمناخيس؟
أن كان في عروقكم دم يجري بالنخوة والمروءة فحصلوا من يهود العالم المتضامنين الأموال التي نهبها الصهيونيون من العرب وأنفقوها على اللاجئين والمشردين، وإلا فمجلس الأمن وهيئة الأمم لليهود شركاء، وهم جميعاً في العدوان والطغيان سواء.
نقولا الحداد.(803/4)
قصة شاعر.
للأستاذ علي الطنطاوي.
لقد وعدت الأستاذ أنور العطار بهذه المقدمة منذ خمس وعشرين سنة من يوم أسمعني أول مقطوعة له. قلت له ستصير يا أنور شاعراً كبيراً وسأصير أنا كاتباً وأكتب مقدمة ديوانك.
ولقد صار أنور شاعراً كبيراً فهل صرت أنا كاتباً؟ إنني كتبت إلى اليوم أكثر من خمسة آلاف صفحة، أنشأتها إنشاء ولم أجمعها جمعاً، ونقلتها عن قلبي لم أنقلها عن الكتب، ولكني لم أصر كاتباً. لأنني أعجز الليلة عن إنشاء أحب الفصول إلى، وأوجبها علي: هذه المقدمة التي وعدت بها أنور من خمس وعشرين سنة!
لقد قعدت لأكتبها، فأحسست أنها قد عادت لي أيامي المواضي التي افتقدتها وأيقنت أنها لن تعود، ورفع لي الستار عن عالم كله حب وطهر وجمال. عالم عشت فيه أنا وأنور أمداً، ثم أضعناه وضللنا طريقه. عالم كان حقيقة فصار (مع الأسف) ذكرى، وكان واقعاً فغدا خيالا، وكنا فيه فصرنا غرباء عنه، لا نراه إلا بقلوبنا من خلال ضباب الماضي.
فتحت على أبواب الذكريات، وكر علي هذا الماضي، كأنما هو (فلم) حافل بكل جميل ونبيل، فلم طويل عرض في لحظات وقد تصرمت في تأليفه وإخراجه ثلاثون سنة، فلم كنا نحن أبطاله وكنا نحن ممثليه، فصرنا نرى فصوله تعرض علينا من بعيد:
رأيت الفصل الأول من هذا الفلم وكان في المدرسة الثانوية الوحدة في دمشق (مكتب عنبر) في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما أبصرت أنور العطار أول مرة. أبصرت تلميذاً رقيق العود، دقيق الملامح، أنيق المظهر، من غير أن يبدو عليه أثر الغنى، شارد النظرات، يمر في ظلال الجدران خفيف الوطء، حالم الخطى، كأنه طيف يمر على خيال نائم، يعتزل التلاميذ لا يكاد يثب وثبهم، ولا يلعب لعبهم، فسألت عنه من يعرفه، فقال: هذا تلميذ شاعر اسمه أنور العطار. وما كنت يومئذ أومن بغير شعراء الجاهلية والشعراء الإسلاميين ولا أرضى لنفسي أن أقرأ شعر المتنبي ولا يرضى ذلك لي مشايخي، لئلا تفسد (قالوا) ملكتي، ولم أسمع بعد باسم شوقي ولا باسم المنفلوطي، فما أبهت لهذا الشاعر الذي اسمه أنور العطار، ولا طلبت صحبته، ولا ظننت أنه سيكون بيني وبينه اتصال، حتى كانت تلك المصادفة المسعدة التي كان لها في حياتي وفي حياته أبلغ الأثر:(803/5)
كانت هذه المصادفة على باب (المدرسة البادرائية) في ليلة من ليالي رمضان، أيام كان رمضان يزور دمشق حقاً، وكانت تدري دمشق بزيارته وتحتفل بلقياه، وكنت خارجاً منها فواجهت أنور داخلا إليها، فوقف يحييني ووقفت أحييه، وكلمني وكلمته، واتصل الحديث ونحن قيام تحت مصباح الشارع، حتى جاء ذكر شوقي، فأنشدني قصيدة له، قرأها بصوت عذب حالم حنون، فأحسست أنه كان يمس بكل كلمة من القصيدة حبة القلب مني، فأحببته. وأنت تلقى المرء أول مرة فتحس بأنك تحبه أو أنك تكرهه، لا تدري لحبك ولا لكرهك سبباً. سر ركبه الله في نفس الإنسان.
وفهمت منه أنه يسكن في (السمانة) وكنت أقيم في (الديمجية) فاصطحبنا، وذكرت له موت والدي في تلك الأيام، فطفق يحدثني عن موت والده وهو صغير، واجتزنا سوق العمارة، والعمارة في دمشق كحي الحسين والأزهر في مصر، إن ضاع منك رمضان ببهائه وجماله وجدته في الحسين أوفي العمارة، وإن خفيت عنك معالم حسنه في كل مكان وجدتها في العمارة أو في الحسين، ولكن ما أدركت تلك الليلة شيئاً من هذا البهاء: لقد كان ما أسمع من أنور أبهى عندي مما أرى، وجعلنا طريقنا على (الدحداح)، وهنالك، على قبر أبيه وقبر أبي، ولدت هذه الصداقة التي أثمرت شعراً وحباً وإخلاصاً، وكانت من أسعد الصداقات. وهنالك في مدينة الأموات، عاشت هذه المودة التي لا يستطيع أن يعدو عليها الموت، لأن الأدب أكسبها الخلود.
وكرت فصول الفلم تتتالى، فرأيتني غدوت صديقه وغدا صديقي، يبثني شكاته وأبثه شكاتي، ويجد في حياتي مشابه من حياته وأجد في حياته مشابه من حياتي، قد ألف بيننا الأدب وألف بيننا اليتم، وإننا كنا مستورين، على حالة هي فوق الفقر ودون الغنى. . حتى كأنني هو وكأنه أنا.
وصار يسمعني شعره، فأجد بواكير شاعر متمكن، لا محاولات طالب مبتدئ، وأجد في هذه (البواكير) قوة في التعبير، وجدة في التفكير، وأبياتاً سائرة، وصوراً رائعة، فهو يقول في الدموع:
عجبي من لغة غامضة ... تطرب الناس على شتى لغاها
وهو بيت نبيل في مبناه وفي معناه.(803/6)
ويقول في وصف العمر (عمر البائس):
والعمر يحكي مستغيثاً علا ... أنينه ثم تولى صداه
وطفق أنور يرسل قطع الشعر، شعر القلب، تتراً. يستقيه من معين صاف لا ينضب، فتتناقله الألسنة، وتمشي به الصحف، وتستقبل فيه العربية شاعراً جديداً ملهماً، ويفتح له أستاذنا محمد كرد على أبواب المجمع، فيقيم له ولإخوانه الثلاثة حفلة تكريمية ينشد فيها أنور قصيدة من الشعر الجيد، عنوانها (الشاعر)، يحسن اختيار موضوعها وألفاظها ومعانيها، وتشق له هذه القصيدة الطريق إلى مجلة (الزهراء) التي كان يصدرها في مصر خالي محب الدين الخطيب، والتي كانت أرقى مجلة أدبية في تلك الأيام، وكنت أود أن ينشرها الشاعر في هذا الديوان (الذي لم يضم إلا الأقل من شعره) ليعرف منها القراء كيف كان أنور ينظم الشعر قبل عشرين سنة، وكنت أود إذ لم تكن في الديوان أن أرويها كلها، ولكنها طويلة تملأ صفحات من هذه المقدمة.
وشعر أنور في تلك الفترة آهات أبدعها الفن صوراً، ودموع صاغها البيان شعراً، ومقطعات حلوة، ما أدري ماذا زهد الشاعر فيها فلم يثبت منها في هذا الديوان إلا مقطوعة (الحمامة).
ورأيت فصول (الفلم) تتتالى. . . فرأيت فيها كل دقيق وجليل من حياة أخي في الصغر وفي الكبر، ورفيقي في السفر وفي الحضر، وأنيسي في المسرة وفي الكدر: أنور.
رأيت أيامنا في المدرسة، ونحن تلاميذ نعيش من الأدب في دنيا الخيال، إذ أعجزتنا دنيا الواقع أن نجد فيها ما نصبو إليه ونتمناه؛ لا نصدق متى ينقضي النهار، وننجو من هذيان جماعة الرياضيات، وطلاسم أصحاب الكيمياء، حتى نفر إلى كتب الأدب، نقرأ كل بارع من القول، ونتدارس كل رائع من البيان.
ورأيت أنور وقد بذ الأدباء جميعاً في (العلم. . .) بالرياضيات، حتى لقد عرف قطر الدائرة، وأضلاع المثلث، ولم يبق عليه ليبلغ نهاية العلم إلا أن يعرف القاسم المشترك الأعظم الذي لم يسمع به امرؤ القيس. . رأيته دائباً يكد ذهنه، ويمسح عرقه، يحاول أن يفهم سر المعضلة الكبرى التي لا يفهم لها سر، ويحل المشكلة التي لا يعرف لها حل: الجذر التكعيبي. وأشهد أني جزت الأربعين من عمري، ورأيت أياماً سوداً ولقيت شدائد(803/7)
ثقالا، وسلكت البوادي المقفرة، وركبت البحار الهائجة، وعلوت متون السحب، فما رأيت في البر، ولا في البحر، ولا في الجو، شيئاً اشد ولا أصعب، من هذا الجذر التكعيبي.
ورأيتنا قد فرقت بيننا الأيام أمداً، فاشتغلت أنا بالصحافة، وغامرت في السياسة، وآثر أنور التعليم، فكان مدير المدرسة الأولية في (منين)، في هذه القرية النائمة في حجر (القلمون) الأدنى، نرى مواكب الأحلام بأجمل (عين) وأشدها سحراً، وأكثرها فتوناً: عين منين من لم عين منين، ما عرف سحر العيون، ولا رأى جمال الينابيع، ولا رشف خمر الجمال على مائدة الطبيعة. . فكنت أزوره فأقضي ليلة أو ليلتين في جنة قد جمعت فيها النعم، أسكر فيها سكرين: سكر الجمال، وسكر البيان؛ وأخضع فيها لسحرين: سحر الطبيعة، وسحر الشعر؛ وأجمع فيها الماضي البهي ذكرى حلوة، والأتي الشهي أملا مرتجى، في حاضر ضاع في نشوة اللذة حتى لم يبق لنا منه حاضر نحسه وندركه. نقضي الإصباح نستمع إلى أشعار السواقي المتحدرة من الينبوع وأشعار أنور، ونقطع الأماسي عند الصخور التي أفضنا عليها من قلوبنا الحياة فصارت تحنو علينا، وتولينا الحب؛ وأرقنا عليها البيان فأمست تحدثنا، تتلو علينا أحاديث الغابرين، وتقص قصص الأسلاف، من غسان أصحاب المجد المؤثل، فنحس أن قد عاد الماضي، ورجعت (القصور البلق) عامرة، وبعث المجد، وعاش الحب، حتى لكأننا نسمع همس العشاق وآهات نشو اتهم ووسوسة قبلاتهم، ونرى خيالات العناق من وراء الأستار!
أيام سعدنا بها، وما سعدنا بالصخر ولا بالماء، ولكن بأحلام الشباب. رحمة الله على شبابنا، وعلى تلك الأيام!
ورأيتنا وقد صرت أنا معلماً في الجبل من دمشق (في المهاجرين)، وصار هو معلماً في السفح (في الصالحية)، فكنا نرتقب المساء ارتقاباً، فإذا حل انحدرت أنا من هنا، وانحدر هو من هناك حتى نلتقي عند (العفيف)، نفرح بهذا اللقاء فرح حبيبين التقيا بعد طول الفراق!
ورأيت أيام العراق، زهرة أيامنا أنا وأنور وزينتها، أيام بغداد! سلام المحبة والوفاء منا على بغداد! وسلام على أهاليها! وسلام على الأثري والجوادي وروح الراوي وعلى إخواننا وعلى تلاميذنا فيها. . . ويا ما كان أحلى أيام بغداد، ويا ما أبهى لياليها، ويا ما أطيب ما(803/8)
حملنا منها من ذكريات. . . على دجلتها سلام بردى، وعلى نخيلها سلام الحور، وعلى أبوذيتها سلام العتابا، وعلى أعظميتها وكرادتها ورستميتها سلام الربوة والمزة والشاذروان.
لقد كنا فيها معاً أبداً، يدرس أنور في صف وأنا في صف، وربما دخلت فدرست مكانه وقعد فاستمع؛ وربما دخل فدرس مكاني وقعدت فاستمعت. ونمشي على الجسر معاً، وما في الأرض مكان أحفل بذكريات المجد والشعر والغرام من جسر بغداد - ونتبع الشط، ونرتاد الرياض، نزور قصور الخلفاء، ومواطن الشعراء، وخلوات المحبين، نؤم الديارات والأطلال والمقابر، نتنسم عرف الأجداد، ونستروح رائحة الماضي، نستنطق دجلة، ونستخبر الآثار، ونسأل النخيل، ونسمع من الأرض ومن الناس أخبار الماضي الفخم، وأحاديث الجدود العبقريين، وقصص المجد الذي لم ترى عين الزمان ولم يحمل متن الأرض مجداً أجل منه ولا أعظم، ولا أرسغ أساساً ولا أعلى ذرى. ولم يكن يرانا الناس إلا معاً، ولا يقولون إلا أنور وعلي، وعلي وأنور، وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي. . .
لقد كانت أيام بغداد أجدى الأيام على أنور، ففيها أختزن في نفسه أجمل الصور، وفيها نظم أروع القصائد، وفيها ابتدأ في حياة الشاعر عهد جديد هو عهد الشعر القومي: شعر الحماسة الوطنية، فازدادت بذلك هذه القيثارة السحرية وتراً جديداً، خرجت منه أطيب النغمات.
رأيت هذا كله فأحسست أن الدنيا تدور بي، واختلطت عليّ الصور وتداخلت المشاهد، فلم أعد أستطيع أن أتبين شيئاً، ولم أستطع أن أكتب شيئاً. . .
ورأيت فصول (الفلم) تتتالى، فإذا نحن في سنة1930، وقد بقيت بلا عمل (عقب عودتي من سفرتي الثانية إلى مصر)، فأخذني أنور إلى إدارة فتى العرب، فقدمني إلى معروف الأرناؤوط لأعمل معه في الجريدة، وقد عملت معه شهوراً، وصارت الجريدة ملتقانا أنا وأنور، وصارت مدرستنا الثانية نأخذ فيها من نفس معروف، ومن أدب معروف. وما رأينا في الأدباء من هو أحلى حديثاً، وأظهر صفاء، وأملأ بالأدب الحق من فرعه إلى قدمه من معروف، إذ كنت تشعر وأنت معه أنه يعلو بك عن المادة، ويسمو عن المطامع، ويوصلك بحديثه وابتسامته وطفولته إلى عالم كله وعاطفة وتجرد. وشيء آخر كنت أحسه ولا أملك التعبير عنه، شيء مثل الذي تحسه وأنت تقرأ في رواية معروف (عمر بن الخطاب)،(803/9)
ومثل الذي تحسه وأنت تسمع حديث أنور، عندما يكون أنور في سبحاته الشعرية.
ورأيتنا، ونحن في مطلع سنة 1933، وقد لقيت أنور، فقال لي: لك عندي مفاجأة تسرك. قلت: وما هي؟ قال: لا، إلا أن تتغدي معي في الدار، فذهبت معه فإذا هي مفاجأة تسر حقاً: العدد الأول من مجلة الرسالة.
ومن ذلك اليوم دخل بيننا (نحن الاثنين) صديق ثالث، أحببناه وأحبنا، وهو الزيات ورسالته، وصارت الرسالة مدار أحاديثنا، وصارت مستقر أدبنا، وصار الزيات أخاً لنا كبيراً، وصديقاً عزيزاً، وإن كنت لم أره إلا بعد ذلك بثلاثة عشرة سنة، ولم يره أنور إلى الآن.
ورأيت أيام المعجزة التي ظهرت على يد الصديق منير العجلاني وكانت تظن من باب المستحيلات، أيام المجمع الأدبي، حين ألف بين رجال ما كنا نتخيل أنها تؤلف بينهم الأيام، لاختلاف مذاهبهم في الأدب وتباعد مسالكهم في التفكير، وتباين طرقهم في الحياة، وكانت أيام ألفة ونشاط وأمل، فأعقبها أيام افتراق وكسل ويأس. . . فيا ليت منيراً الوزير يكمل ما بدأه منير المحامي!
رأيت هذا كله، فحرت ماذا أصف وعم أتكلم، وكيف أستطيع أن أجمع في كلمات دنيا من العواطف، وعالماً من الذكريات، وآلافاً مؤلفة من المشاعر، كانت أثبت من الزمان لأنها بقيت وقد ذهب الزمان، وكانت أجمل من العمر لأنها هي جمال العمر؟
رأيت (هذا) كله وما (هذا) إلا تلخيص لحياة أنور الشاعر الذي عاش حياته كلها كما يعيش الشعراء الخلص الملهمون شعراء القلب والروح واللسان، لا شعراء الألفاظ وحدها والبيان الشاعر في قلبه المتفتح أبداً للجمال المترع بالخير الممتلئ بالحب، وفي لسانه الذي يفيض أبداً بالبيان، وينفث السحر الحلال.
وفي هذا التلخيص تحليل شاعرية أنور، فإذا أخذتم عليه أنه كان حليف الحزن صديق الأسى، قد وقف شعره على تقديس الألم العبقري فبكى الأحلام الضائعة كما بقي الأوراق المتناثرة في (الخريف). وخلد مظاهر الأسى في النفس وفي الطبيعة؛ فاعلموا أنه لم يكن يستطيع غير ذلك، وأن الشاعر لا يطبع نفسه كما يشتهي ولكن يطبعه الله بطابع البيئة والزمان، ويكون مشاعره في طفولته، قبل أن يشعر هو ليكون مشاعره كما يريد؛ ولو(803/10)
استطاع أن يصغر فمه أو يجمل أنفه لاستطاع أن أن يبدل قلبه ويحول عواطفه.
وقد نشأ أنور مثلما نشأت أنا، وفتح عينه على الدنيا والحرب العالمية قائمة، ودمشق في أشد أيامها، ومظاهر البؤس والألم في كل مكان، فكان يرى الازدحام كل صباح على الفرن، ولم يكن يفتح منه إلا كوة صغيرة يبرز منها رأس الخباز ليعطي السعيد من الناس كتلة سوداء لا يعرف ما هي على التحقيق وإن كان يعرف أن اسمها (الرغيف)، والجياع ينبشون المزابل ويأكلون قشور البطيخ، والنساء يعملن من دون الرجال لأن رجال دمشق قد أكلتهم الحرب، والاسم المرعب أسم جمال باشا يملأ القلوب فزعاً. ثم رأى المشانق وشهد المآتم، فامتلأت نفسه بهذه الصور القاتمة حتى لم يبق فيها مكان لغيرها. وإذا هو رأى الأعراس والأفراح أيام فيصل، فان هذه الأيام لم تكد تبدأ حتى انتهت، ولم نكد نستمتع بفرحة الاستقلال في حفلة التتويج، حتى ذقنا غصة الانتداب في مأساة (ميسلون).
فلا تلوموا أنور إن كان الحزن طابع شعره، وأن الفرح فيه مثل الفجر الأول لا يكاد يبدو بياضه في الأفق حتى تبتلعه بقايا الليل فهذا هو السبب.
ولا تلوموه إن تغزل، فتكلم عن الرؤى والأحلام، وترك الحقائق وعلا إلى سماء الخيال ولم ينزل إلى أرض الواقع، وأنه عمم وجمجم، فلم يخصص ولم يصرح، فإن البيئة التقية التي نشأ فيها أنور لم تكن ترى في الحب إلا (ذنبا) على صاحبه أن يستغفر الله منه، وأنا أؤكد أن أنور، كنصيب الشاعر الذي سمى قوسه ليلى ليتغزل بها. إن أنور لم يتصل في حياته بفتاة على نحو ما يفعل شباب اليوم، وإنه كان أعف وأِشرف من أن يفكر في هذا أو يحاوله، فمن هنا جاء الذي تلومونه عليه.
ولا تأخذوا على أنور أنه حبس نفسه في هذه الدائرة الضيقة وقصر عليها شعره ولم يخرج إلى الفضاء الأرحب، ولم يعش في الدنيا الواسعة التي يعيش فيها أكثر الشعراء والناس، فإن أنور أمضى صباه كما أمضيت صباي في عالم ضيق كانت حدوده تلك المسالك الملتوية الموصلة إلى مكتب (عنبر)، وتلك الساقية الصغيرة المطيفة بمقبرة الدحداح، وذلك الطريق الموحش الذي كان ينتهي عنده العمران، ويبدأ منه عالم الظلام والفزع واللصوص، والذي كان أسمه (قفا الدور) فصار يسمي اليوم (شارع بغداد) أفخم شوارع دمشق الجديدة.
إن أنور يخشى اليوم أن يفارق عالمه الشعري الذي أحبه، أو يتجاوز حدوده كما كان يخشى(803/11)
من قبل أن يتجاوز (قفا الدور)، أو يتخطى (مكتب عنبر) ولكن عالم أنور الشعري، عالم واسع على ضيقه لأنه عالم القلب، ولأنه متصل بالله؛ وقد تضيق على المرء الأرض كلها إن أقتصر عليها، ولا يضيق عليه شبر واحد سما حتى اتصل بالسماء.
وعاش أنور في عهد جد ويقظة، وإقبال على العلم والعمل، وحفظ أنور أكثر من عشرة آلاف بيت من جياد أشعار العرب،
فجاء أسلوبه كالماء الصافي فيه عذوبة ولين، وفيه إن تدفق قوة ومضاء. وكان شعره أثر الجد ومؤهلات الخلود، لا كأشعار أصحاب المناسبات وطالبي لعجاب العوام. وكان نسجه كالحرير المتين المفوف المنقوش النقش البارع، لا كالنسج الرخيص الذي يتمزق من اللمس، وتذهب ألوانه من رؤية الشمس.
ما مشى أنور على الطريق الذي فتحه له من قبله، بل على طريق شقه هو لمن بعده. وكان أنور إمام جماعة الشباب ولم يكن مؤتماً تابعاً. ولولا نفس من شعر شوقي في مثل (ليل الحزين) من بواكيره، وروح من الأدب الفرنسي في بعضها، لقلت بأن أنور لم يقلد في أسلوبه أحداً أبداً، وهل لشاعر مثل الذي لأنور في وصف الطبيعة وفي وصف البلدان وفي وصف الرؤيا والأحلام، حتى يقلده أنور؟
وبعد فهذا ديوان الوفاء للعربية: نخل مفرداتها فاختار أطيبها، وعرض أساليبها فاصطفى أحلاها؛ وديوان الوفاء لأقطارها: جرى بردى منذ الأزل، وقام لبنان، فهل قال شاعر في بردى مثل الذي قال أنور؟ هل نظم في لبنان مثل ما نظم؟ وهل يعرف القارئ في الشعر العربي كله قصيدة في وصف الطبيعة أعظم من (لبنان) التي اشتمل عليها هذا الديوان؟ أنا لا أبالغ ولا أغالي، وهذا الشعر العربي بين أيدي الناس فمن عرف أعظم منها فليقل. . . ولكن المعاصرة حرمان، وأزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، وستمحص السنون هذا الشعر وهذا النثر، وتميز الزجاج من الجوهر، والنحاس من الذهب؛ وهنالك بعد أن يذهب الرجال، وتنقطع الصداقات والعداوات، ولا يبقى إلا الأدب الذي يستحق الخلود، تعرف قيمة (لبنان) وقيمة (بردى)، وهنالك بعد أن يعفى النسيان على أسماء كثيرة تملأ اليوم الأسماع، وتشغل الناس، يحتل اسم أنور العطار مكانه مع أسماء الشعراء الخالدين.
(دمشق)(803/12)
علي الطنطاوي.(803/13)
دفاع عن الأدب
للأستاذ أنور المعداوي.
الأدب الذي أعنيه هنا هو أدب الاعترافات، أو أدب التراجم الذاتية، أو أدب البوح والإفضاء كما يسميه الفيلسوف الإيطالي بندتو كروتشه.
ومن العجيب أنني حين تناولت القلم لأكتب عن أدب الاعترافات، وقعت على رأي لكروتشه يهاجم فيه هذا الأدب هجوما عنيفاً، ويرميه بالتأنث والسفاهة وقلة الحياء والضعف والانحلال!. . ولو أن رجلا غير كروتشه قد أبدى هذا الرأي في مثل هذا اللون من الأدب لما أثار في نفسي شيئاً من العجب أو شيئا من الإنكار؛ ذلك يبدو أمام المتتبعين لنظرياته في فلسفة الفن متناقضاً مع نفسه، مترجحاً بين اليمين والشمال، لا يكاد يستقر على رأي ينادي به حتى يعود فيتحول عنه. . . إن من يقرأ رأيه في أدب الاعترافات منفصلاً عن رأيه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، ليتبادر إلى ذهنه أن كروتشه من أنصار هذا المذهب والداعين له، مع أنه من أكثر خصومه إلحاحا في الخصومة، وإغراقاً في التحامل، وإسرافا في الهدم والتشهير!.
يقول كروتشه في تعليل ازدياد عدد الكاتبات من النساء: وعندي أن علة ذلك الحقيقية هي هذا الطابع الإعترافي الذي اصطبغ به الأدب الحديث، فبهذا الطابع إنما فتحت أبواب الأدب على مصراعيها أمام النساء اللواتي يمتزن بالانفعال والنشاط، فإذا قرأن كتب الشعر لاحظن فيها ما ينطبق على مغامراتهن الشخصية وفواجعهن العاطفية، فلم يصعب عليهن أن يفرغن ما في قلوبهن بدون أن يعنين بالأسلوب (والأسلوب كما قال بعضهم بحق لا يأتي من امرأة). فلئن أصبح للنساء إذن نشاط ملحوظ في حقل الأدب فلأن الرجال قد تأنثوا بعض الشيء من الناحية الفنية؛ ومن علامات هذا التأنث قلة الحياء في عرض مبائسهم، وهذه الحمى من الصدق التي ما دامت حمى فليست صدقا، وإنما هي شيء من التصنع الذي يوصل المرء بالسفاهة إلى اكتساب ثقة الناس على نحو ما فعل روسو لأول مرة). . .!
هذا هواري الفيلسوف الإيطالي في أدب الاعترافات. . . تأنث وسفاهة وقلة حياء، ويزيد على ذلك قوله بأن هذا اللون من الأدب يتسم بالضعف في طريقة التعبير، فهو على(803/14)
التحقيق أدب لا أسلوب له! وقبل أن أعرض لرأي كروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، كاشفا عما فيه من تناقض مع رأيه في أدب روسو وكل أدب آخر يحمل ذلك الطابع الاعترافي، قبل هذا كله أود أن أقول إن تلك الحملات التي شنها الفيلسوف الإيطالي على هذا اللون من الأدب تبعد كل البعد عن جوهر الواقع الملموس؛ لأننا لو وضعنا اعترافات رسو أو يوميات أندريه جيد في ميزان النقد، لاكتملت لها كل الصفات التي ينشدها الباحثون عن حقيقة الفن. . . الفن في كلمات هو أن يعيش الفنان في أعماق الحياة، وأن يستخدم كل حواسه في تذوق هذه الأعماق، وأن يملك القدرة على التعبير الصادق عما شهد وأحس حين يتناول ريشته ليسجل انعكاس الحياة على الشعور، وتلك أشياء يلمسها الناقد في اعترافات روسو ويوميات جيد.
الاعترافات واليوميات صورة واقعية من حياة الكاتبين الكبيرين، تعد في حقيقتها لوناً من الترجمة الذاتية التي تضع في يد القارئ والناقد مفتاح شخصيتهما الأدبية والإنسانية؛ فإطلاق الرأي فيها بضعف الأسلوب أمر لا ينطبق على الواقع؛ لان الصدق في التعبير صفة من صفاتها الرئيسية وسمة من سماتها الأصيلة. . . وليس هناك أسلوب مهما اتصف بالقوة أو بالجمال يستطيع أن يشق طريقه إلى القلوب والآذان، ما لم يستند إلى أقوى دعامة يمكن أن يستند إليها، ونعني بها الصدق في التعبير! ومع ذلك فأن صدق التعبير وجماله يتهيآن لروسو في أكثر فصول كتابه، وبخاصة في تلك المواضع التي تشير إلى علاقته الوجدانية بمدام دي فارنس.
ولعل في رمي الأدب الاعترافي بالتأنث كثيرا من الإغراق في التجني والإسراف والتحامل، وذلك لأن كتاب الاعترافات يقدمون إلى الناس صفحات من سجل الحياة سطرت بمداد الصراحة والأمانة والصدق. . . صفحات عاربة لا تكاد تتشح بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي وتملق عواطف الجماهير. ولعمري أن الكاتب الذي يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما فعلت من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من لذة وألم، دون أن يخشى في ذلك نقدا أو ملامة أو زلزلة لمكانته الأدبية والاجتماعية، هذا الكاتب في رأيي ورأي الحق رجل قوي جدير باحترام الأقوياء وليس متأنثا كما يدعي كروتشه. . . إن هناك كتابا يتظاهرون في كتاباتهم بحب الخير والتمسك بأهداب الفضيلة وهم غارقون(803/15)
في حمأة الموبقات، فهل نستطيع أن نسمي أدبهم أدب قوة؟ كلا! ولا نستطيع أن نرفع قيمة هذا الأدب إذا ما قسناه بمقياس الفن الصادق، مقياس صدق التعبير عن الحياة؛ لأنه أدب يعبث بالحقائق، ويشوه الوقائع، ويكذب على الحياة والناس!. . . إن أندريه جيد لو لم يكن متأثراً في كتاباته بفيلسوف القوة نيتشه، لما تهيأ له أن يتناول قلمه ليكتب ما كتب في اليوميات!.
ونعود إلى تهمتي السفاهة وقلة الحياء لنرد عليهما بكلمات من نقد كروتشه للمذهب الأخلاقي في الفن ومنها يتبين مدى التناقض الذي وقع فيه الفيلسوف الإيطالي حين دافع عن حرية الفن في مكان، ثم عاد فهاجم الحرية في مكان آخر. . .
يقول كروتشه: (إن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً منحطة، فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه يعبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولكن لن يكون فناً أبداً!).
ويقول: (لئن كانت الإدارة قوام الإنسان الفنان، فليست قوام الإنسان الفنان؛ ومتى كان الفن غير ناشئ عن الإدارة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي. . . إنك لا تستطيع أن تحكم بأن فرانسسكا دانتي منافية للأخلاق، ولا أن جوردليا شكسبير أخلاقية، وما هما إلا لحنان من روحي دانتي وشكسبير ليس لهما إلا وظيفة فنية، إلا إذا استطعت أن تحكم على المربع بأنه أخلاقي وعلى المثلث بأنه لا أخلاقي!. . . إن من تفرعات المذهب الأخلاقي قولهم أن غاية الفن أن يوجه الناس نحو الخير، ويبث فيهم كره الشر، ويصلح من عاداتهم، ويقوم أخلاقهم، وإن على الفنانين أن يساهموا في تربية الجماهير وتقوية الروح القومي أو الحزبي في الشعب، أو إذاعة المثل الأعلى الذي يفرض على المرء أن يحيا حياة بسيطة جاهدة وما إلى ذلك. . . والحق أن هذه أمور لا يستطيع الفن أن يقوم بها أكثر مما تستطيع الهندسة ذلك. فهل عجز الهندسة هذا يجردها من حقها في الاحترام؟ فليت شعري لم يريدون إذن أن يجردوا الفن من مثل هذا الحق في مثل هذه الحال؟!).
هذه الكلمات التي يسوقها كروتشه ليدافع بها عن حرية الفن لا تنفق بحال وما ذهب إليه في نقده لأدب الاعترافات. . . ومع ذلك فلا يمكن أن نجد خيراً منها في مجال الدفاع عن(803/16)
اعترافات روسو ويوميات جيد!.
أنور المعداوي.(803/17)
كتاب جديد لتوماس مان:
(دكتور فاوستس)
للأستاذ عمر حليق
هذا الإنتاج الفني الرائع لأمير البلاغة الألمانية مقالة عن الحضارة الألمانية المعاصرة كتبها عقل يمثل هذه الحضارة خير تمثيل ويستوحي فيها ألواناً من التحليل الفلسفي العميق لمناحي العظمة والضعف في العقلية الألمانية والخلق الألماني.
وأكبر الظن أن الشعب الألماني لن يقرا هذا الكتاب، ولن يتأثر به كما يريده مان أن يتأثر. فهؤلاء التيوتونيون الذين يملكون القول الفصل في حضارة أوروبا وسلام أوروبا وعظمة أوروبا مشغولون الآن بالجوع والحرمان والبلبلة السياسية والفكرية والسعي لإزالة هذا الحطام الذي تركته قنابل الأنجلوسكسون وجحافل الروس في أزقة المدن وحقول الأرياف، وفي الأنفس البشرية التي تحطمت معنوياتها في موجات متلاصقة من زوابع سياسية تعصف بهم تارة من موسكو وطوراً من العلم الجديد.
فكتاب مان الجديد أسطورة في تاريخ الأخلاق الألمانية وسجل لهذا الوضع المحزن الذي يكتنف الألمان من كل جهة فيسد عليهم منافذ الفكر والإبداع الفني مؤقتاً على الأقل.
وأكبر الظن كذلك أن الشعب الألماني لن ينتفع بالكتاب لأن مؤلفه اختار الوطن الأمريكي مقراً، وكان قد أستقر به في أوائل النازية لاختلافه معها على حدود الدولة في حرية الفرد وتفكيره وما يؤمن به ويدعو إليه من مبادئ، وما يفسر به شؤون العقل والحياة مما لا يجد في الفلسفة النازية مكاناً. وإذا صلح الحكم المطلق لتنظيم الفوضى السياسية والتفكك الاقتصادي في فترة من حياة أمة فإنه لا ينبغي مطلقاً أن يقيد الفكر كما يقيد الإنتاج الصناعي، ويحدد كما يحدد اتجاهات السياسة.
وفوق ذلك فإن توماس مان ظنين الولاء لوطنه. كان المعجبون بعبقريته (وألمانيته) ينتظرونه ليعود فيشارك هذا الشعب النشيط مسئوليته الجسيمة في فترة عويصة يحتاج فيها إلى رسالته الفنية كما تحتاج إلى رسالة (شاخت) الاقتصادية، ولكن مان - ولعله بتأثير زوجته اليهودية - لم يعد لألمانيا بعد، ويبدو أنه لن يعود، وهو يقطن الآن على بعد دقائق من هوليود مدينة السينما.(803/18)
على أن ولاء توماس السياسي لا يعرف حدوداً إقليمية كمعظم المثقفين الممتازين، ولكن ولاءه الثقافي لا يزال ألمانياً، ولا يجاري هؤلاء اللاجئين من كتاب أوروبا الوسطى - ومعظمهم يهود - في تهالكهم على الاندماج في الثقافة الأمريكية المزدهرة اندماجاً فيه كثير من النفاق، وفيه كثير من (المادية) التي تفسد مقاييس الإعجاب الفني والإنتاج الفني.
هذا الكتاب الجديد دراسة للعلة الألمانية، وتوماس مان حريص على أن لا يوصي بمعالجتها أو بإيجاد حل لها، فإذا قرأته - وقراءته من أمتع القراءات في الأدب الغربي المعاصر - خرجت منه بشيء واحد، وهو أن هذه العلة الألمانية حقيقة ثابتة، لم تستمد وجودها من النازية ولكن من صميم الثقافة الألمانية والخلق القومي الألماني.
هو حوار بين توماس مان ونفسه، وهو تحليل لهذا الانفعال العقلي الشديد الذي ألم بتوماس مان بعد أن شاهد المحنة تلم بالثقافة التي ولد فيها وأحبها وأنشد روائعها في قوة وإجادة. وهذا الحوار قصة بطلها فنان ألماني معاصر هو (أدريان ليفركون) وهو مجدد موسيقي توفي في أوج المجد النازي عام 1940 قصها على القارئ أستاذ في مدرسة ألمانية أختلف مع النازية حول فلسفة التربية فأنزوي في الأرياف يكتب ويفكر، فلا هو منقطع عن الحياة الألماني - فإن له ولدين في الجيش - ولا هو قانع بالاتجاه الذي تسير فيه هذه الحياة الألمانية.
والظاهرة الخالدة التي تكرر في إنتاج توماس مان هو هذا التوازن في الوضعية، والصراع العقلي الذي ينشأ عن هذا التوازن - صراع الأمن في عزلته في الأرياف، والفنان الثائر على الوضع يحمل على أكتافه عبء المعرفة، الصراع بين (الصحيح) و (المعتل). خذ أي قصة من قصص توماس مان (جبل السحر) (بود نبروك) (يوسف وأخوته) يأسرك هذا الصراع، إذ أنه سبيل إلى تعليل كلا الوضعين في اتزان العقل الألماني المدقق الذي جعل من قصص مان إنتاجاً فلسفياً بالإضافة إلى كونها روائع أدبية خالدة.
ولقد حبك توماس مان هذه القصة في مهارة تنتزع منك الإعجاب.
فراوي القصة (الأستاذ المتقاعد) يعبد عبقرية بطل القصة أدريان، وهذه العبادة ليست وليدة التقدير الحق لهذه العبقرية، ولكن من قبيل عبادة الأبطال، وهي ظاهرة متأصلة في العقلية الألمانية تعمد توماس مان إبرازها لأنها من الأسس الراسخة التي تدفع الألمان أن لا(803/19)
يسلكوا على نحو ما سلكوه مع هتلر ومع غير هتلر ممن تعاقبوا على الزعامة في التاريخ الألماني.
هذه العبادة هي مزيج من العقل والعاطفة، وهي المسؤولة عن هذه الولاء الشديد، هذا التفاني في المطاوعة والامتثال والتي تتأصل في الخلق الألماني.
فأدريان فنان مترفع - يعلم مقدار عبقريته وينزع إلى الغلظة والشراسة بفضل هذا العلم، وذلك لأنه تواق لأن يوفي هذه العبقرية الفنية حقها لا أن يجاري المعجبين.
وأدريان رجل يعيش في المجتمع ولكنه لا يتقيد به؛ ذلك لأنه نذر نفسه لأن يخدم هذه العبقرية وأن يوفي الفن حقه في الإنتاج والإبداع. فألقى في نفس أدريان أن يحل الإبداع إلى أبعد ما يستطيعه الخيال. وهذا الوضع الذي صاغ فيه توماس بطله أدريان وهو وضع العقلية الألمانية التي تميل إلى العزلة عن المجتمع الإنساني لأنها فخورة بهذا العمق الثقافي وهذه المهارة المادية، ولأنها تود أن تستغل هذا العمق وهذه المهارة لأنها تعتقد بأن البروز والتجلي يستلزمان واجبات للمضي قدماً في إعلاء هذا البروز وهذا التجلي.
ولك أن تفسر النداء الهتلري (ألمانيا فوق الجميع) بأنه خلاصة لهذا الاتجاه العقلي لدى الألمان لدى الألمان صبغ في لغة شعبية.
استمع إلى أدريان يحدث صديقه المدرس (راوي القصة) عن حرب ألمانيا الأولى (1914) ويدافع عنها بأنها الوسيلة الوحيدة لألمانيا لأن تحقيق ما هي خليقة به بحكم كيانها ومقوماتها العقلية والنفسانية والمادية:
(إن في قرار العالم مشكلة واحدة، وهذه المشكلة هي العالم نفسه، كيف يمكن للمرء أن ينفذ منه؟ وكيف يخرج منها إلى الفضاء؟ ما السبيل للمرء أن يشق الغشاء ويخرج إلى النور كالفراشة؟).
والجواب عن كل هذا راسخ في عقل أدريان ومستمد منه. فلم يشأ توماس مان أن يصيغ الجواب في شيء أقل عنفاً من مرض الزهري الخبيث.
فأدريان على ترفعه وعمق ثقافته وعبقريته أحب عاهرة نقلت إليه المرض. كانت الشيطان يزين له الخروج من محنته فآمن بها وتمتع ووجد مخرجاً ولكن إلى حين - وبثمن باهظ. استمع إلى أدريان يقول:(803/20)
(إننا لا نخلق من العدم شيئاً جديداً - فذلك من شأن الآخرين. إننا نفرج عن أنفسنا فقط، ونطلق الحرية. إننا ندع العوج والشعور بوطأة النفس والشكوك وسواها تذهب إلى الشيطان. فعليك أنت أن تمهد السبيل، فاضرب في الأرض وشق الطريق إلى المستقبل فإذا الصبية يتبعونك، فهم ليسوا بحاجة إلى جنون ليفعلوا ذلك، فجنونك أنت كفاهم شر الجنون. فعلى جنونك يعيشون أصحاء، وعلى أكتافهم تعيش أنت صحيحاً. أفهمت؟ فإنك لن تشق لنفسك الطريق وسط صعاب الزمن، بل إنك تشق الطريق وسط الزمن نفسه. . . واحرص على أن تكون بربرياً مضاعفاً لأنك آت في أعقاب اللطفاء).
هذه محنة ألمانيا وسوادها مستمد من صميم القوى الألمانية نفسها.
وقصة توماس مان ليست على هذه البساطة، فالحبكة الفنية فيها بارعة. وهذه المحنة ليست محنة النازية فإن مان يكاد يتجاهلها. فهي محنة العقلية الألمانية كما هي وكما كانت، ولعل الألماني حين يتساءل كما تساءل أدريان:
(لماذا يبدو لي كل شيء في هذا الكون مشوه الأوضاع؟)
لا يصور انفعالاته فقط، بل يصور نفسه كذلك ومعه المجتمع البشري بأسره.
(نيويورك)
عمر حليق
سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية(803/21)
طرائف من العصر المملوكي
رسالة الدار عن محاورات الفار
أو فن القصة
للأستاذ محمود رزق سليم
هذا عنوان طريف حقاً يثير الطرب، ويدفع السامع إلى تلمس الأثر واستطلاع الأثر. فكم للفار بين الدار من آثار، وكم للدار عند الفار من أخبار، وما ينبئك مثل خبير. فهو ربيب فتوقها ودعي شقوقها. أتخذ من أحجارها مأمنه، وبين جدارها مسكنه. فحفظ أخبارها وكتم أسرارها. والدور تتقلب بها الأيام كما تتقلب بالرجال. فتشقى مرة وتسعد أخرى. وتفيض تارة بالخير، وتبوء تارة بالفراغ منه. وعليها من خارجها طلاء يغشي جدرها، يبهر العين ويخدعها عما رواءها.
أما الفأر فهو بها الضيف المقيم، والزائر الذي لا يريم. يشاركها في سرائها وضرائها. يسعد إذا هبت عليها انسام السعادة، ويشقي إذا عصفت بها ريح الشقاء.
وكثيراً ما تضم دور الكرماء طوائف الفيران وجماهير الجرذان. ولها مما فضل نصيب، تمد منه الموائد، وتتنادى إليها ضيافن، لم يوجه لها نداء ولم يرسل إليها استدعاء، فحسبها أنها في دور الكرماء! فتملأ البطون وتعبئ الحصون، وتسهد إلى وقت سامرة، وتنقلب إلى مخادعها شاكرة ذاكرة - أما دور البخلاء - جنبت جنابها ووقيت أعتابها - فإنها لا فضل فيها لجائع، ولا ثمالة لظامئ، ولا ستر لمحروم. طالما نصب أهلها للفأر المصائد، ودبروا المكائد. فأنقلب عنهم ساباً شاتماً يذكرهم بكل قبيحة، ويرميهم بكل مذمة: ونفسه فياضة منهم بالعجب لأنهم يختزنون - فضلاً عن المال - ألواناً من الطعام والشراب. فإذا لم يكن للفأر فيها نصيب، فلمن يختزنونها، ولأي شيء يقتنونها؟
والعجب كل العجب أن يلتئم الغنى والبخل، وينسجم الفقر والبذل! أما الأغنياء فبخلاء، لا ينون بأس الأناقة والنظافة، والخوف من الداء وانتشار الوباء، يرأبون الصدوع، ويسدون الفرج، ويغلظون الدهان، ويبثون الفخاخ. وإذا طعموا فبالقسطاس، وإذا شربوا لا يبقون في الكأس. وإذا افضلوا فاليسير من الفتات الذي لا يصلح للأقوات؛ فلا يقوى عليه الضعيف،(803/22)
ولا يسمن منه النحيف.
أما الفقراء فكثير منهم كرماء. ينضحون بالبر على بني الحيوان من الإنسان وغير الإنسان. يتهاونون في الحرص على أطعمتهم وأشربتهم، ويهملون الجدار حتى يمتلئ بالأحجار، فتعج بالزائرين من كل أمة.
والفأر بينهم من الأعيان، يجد في الدار مسرحه، وفي الجدار مطرحه. وله بين هذا وتلك ما شاء من طعام وشراب. . .
وتنعقد بينه وبين الدار صحبة يمتها المقام ويمكنها الألف، فلا يني كلما بان عنها يذكرها، وهي لا تفتأ كلما غاب تتفقده. . . ولو على رضا منه، وكره منها.
وكثيراً ما تنتقل الصحبة بينهما من الدار إلى أصحابها، ومن الجدر إلى أربابها. فتزول الوحشة، ويقوى الأنس، وتستأنس العين. حتى ترى وفود الفأر ترى زرافات لا تهاب ولا توجل. وتدير أعينها ف الحاضرين كأنما تتقاضاهم أجر الحراس وثمن الإيناس. . .
وهذه الدار التي تنشر رسالتها وتقص للناس قصتها، وتحب أن تحدثهم عن الفار ووفوده إليها، وتبسط لهم ما دار بينها من الحوار عن عهد رخائها وبؤسها، وأيام عزها وليالي تعسها، هي دار شاعر! عاش في العصر المملوكي. وهو عصر، كما علمنا، لم يدر للشعراء دره، عاشوا فيه عيش الحرمان، بينما سال سيل خيره في غير مجاريهم، وفاض ثريره دون وديانهم.
أما الشاعر فهو صفي الدين الحلي الذي طوحت به الأيام فنزح عن بلاده، وحمى آبائه وأجداده، إلى ملوك بني أرتق بماردين، وتنقل في مساكنها من دار إلى دار، حتى استقر في (دار ابن الدكناس) وكتب على لسانها هذه الرسالة.
ولهذه الرسالة أو المقامة سبب اتخذه الشاعر الناثر وسيلة لأن يكتبها على لسان داره.
وقد أفصح عن هذا السبب بقوله:
(وأنشأ عن لسان الدار التي أسكنها بماردين، وتعرف بدار ابن الدكناس، إلى القلعة الشهباء. وأرسلتها إلى السلطان الملك الصالح أبي المكارم شمس الدين. أشكو بفحواها مماطلة نائب له بدين، كان بضعه لي، وبعضه على يدي، بمبلغ طائل كتبه على نفسه، وأخرجه على مصالح الدولة، وتعذر عليه وفاه. ولم أؤثر مخاشنته لسابق صحبة بيننا. فأنشأتها على سبيل(803/23)
الخلاعة والمزاج. فلما وقف السلطان عليها أطلق المال من خزانته العالية.) الخ.
وقد بدأت الرسالة بأن تكلمت الدار. فسمت، وتقدمت وتسمت. وأخذت تخاطب القلعة الشهباء مقام الملك الصالح فمدحتها وأثنت عليها. ثم انتقلت إلى الشكوى مما أصابها من هجر مالكها الأول، بعد أن رأت ضروباً من العز والنعيم والتمتع. ثم مما كابدت من بعده من هم وبؤس. حتى هال فيرانها بؤسها، فتحدثت عنه فيما بينها، وأهمها أمرها، فتناقشت فيه واتخذته موضوعاً لجدال جاد.
فقام من بين الفيران خطيب سرد قصة الدار على سامعيه، ثم أوصاهم بالساكن الجديد خيراً - والساكن الجديد هو صفي الدين! - ثم تحدثت الدار عما كان من أمر صفي، وكيف أنه أعاد إلى رحابها عهد السرور والأنس، ومد فيها موائد الحبور والبهجة، حتى ضاقت ذات يده، وتغيرت به الأحوال، وتقلب عليه الليل والنهار. حتى جأرت الدار بالشكاية له ورثى لحاله فيرانها، وعاد أمره بنها مثاراً لجدل جديد. . .
ثم بينت أن سبب نكبته، ذلك الدين الذي أقرضه لنائب السلطان. . . وتضرع الدار في الخاتمة إلى القلعة الشهباء أن ترثي لحالها وتقبل شفاعتها في ساكنها، حتى يرد إليه دينه فتسعد حاله.
هذا ملخص سريع لمقامة صفي الدين. ومما قالته الدار في مفتتحها:
(بسم الله الرحمن الرحيم. المملوكة والمحرومة المرحومة، الموحشة بعد الإيناس، دار ابن الدكناس، تقبل الأرض بين يدي القلعة الشريفة، والذروة المنيفة. العزيزة الثناء سيدة القلاع، وواسطة عقد البقاع، وإنسان عين اليفاع، التي قلائدها النجم، ومطارفها الغيوم، وقرطاها الفرقدان، وقلباها السما كان. ونطاقها الجوزاء. وعجولها العواء. وفرقها المجرة، ونثر إكليلها إلا كليل والنثرة، حصن النجباء وكهف الغرباء وكعبة الأدباء. القلعة الشهباء.). . . الخ ومن شكواها قوله:
(وتنهى أن المملوكة، والمظلومة المضنوكة، يسكتها الحياء والأدب. وينطقها الإعياء والنصب. وشكوى الجماد إلى الجماد، كشكوى العباد إلى العباد. وإن المعهود، من تقادم العهود، أن الله إذا خص مخلوقاً بنعمه، عم بها أبناء جنسه، وأشركهم فيها مع نفسه). إلى أن قالت نصف حالها بعد ساكنها: (فلما طوحت بساكنها الأيام، إلى أقصى الشام، جفاها(803/24)
الإخوان حيناً طويلاً، وهجرها الرفاق هجراً طويلاً، فكابدت بعده هما وبوسي، وأقامت فارغة كفؤاد أم موسى. لا تجد أنيساً في عراصها القفار، ولا تسمح حسيساً غير صهيل الفار. حتى رثت لها أكثر البيوت، وخيم على وجهها أسرة العنكبوت). . . الخ.
ومن كلا م الجرذ الخطيب في إخوانه، قوله بعد حمد الله والصلاة على النبي بتطويل وتنويع، موصياً إخوانه بحسن لقاء الساكن الجديد - صفي الدين - راسماً لهم سياسة هذا اللقاء: (هذه الدار المباركة أول تربة بركم أترابها. وأول أرض مس جسمكم ترابها. فلا يمكن على أيديكم خرابها. ألا وإنها منذ خلا مسكنها من ساكنها، وتمكن العفاء من أماكنها، جعلتموها ندوة نهاركم وليلكم، وحلبة رجلكم وخيلكم، والآن فقد أنجابت عنها أيام البئوس، وأفلت طوالع النحوس، ولحظها الدهر بعين الرضا، وقضى بسعدها فصل القضا. وتولاها نعم المولى. وابتدر لسكناها الصفي الحلي. وفي يومكم هذا يرسل إليكم من يلم شعتها، ويطهر خبثها. ومتى رآكم بها ساربين وفي قرارتها راسبين. كره مغناها، واتخذ لنفسه سواها. فعاد ربعها كالرمس. ومتى تقبلها إذا قابلها، أخصب ربعها، وتعدى إلينا نفعها. ألا وإن من استرشد بحكمتي، واتبع كلمتي، أثبته في أمتي، وأتممت عليه نعمتي). . .
والرسالة تقع في نحو سبع صفحات من القطع المتوسط. وهي فكاهية المنزع إلى حد كبير، جميلة الأسلوب رقيقة العبارة تمتاز عن رسائل صفي الدين الأخرى، بالوضوح والسلاسة بالرغم من قيود البديع التي راعاها؛ ولكنها سلمت من التعسف والثقل. وبها بعض الملتزمات اللفظية التقليدية المرعية في رسائل العصر من نحو (المملوكة) و (تقبل الأرض)
و (تنهى). واجتمعت بها أغراض كتابية عدة منها الدعاء والشكوى والمدح والوصف والمجون والحكمة0
وقد عرضنا في هذا المقال لهذه الرسالة لكي تبرز إحدى خصوصياتها الهامة، وهى القص والحوار0 ونستطيع أن
نفهم منها أن فكرة النثر التمثيلي كانت تتراءى في مخيلات بعض الكتاب في ذلك العصر0 وان نقصها شئ من الإطالة ,
والتناسق وحسن الترتيب وقوة الحبكة وروعة الوقائع ودقة الاتصال بينها.(803/25)
حقا! أصبحت القصة في عصرنا الحديث في مقدمة فنون القول , وكذلك التمثيليات. وألف من هذه وتلك، وترجم عدد
لا بأس به. وتناولها النقاد على اختلاف نزعاتهم بالنقد والتنويه والتعليق والتوجيه. وهم يبذلون محاولات جاهدة لكي يقننوا نقدهم، ويضعوا له الأسس والمناهج، حتى يعاونوا على تشييد صروح القصة والتمثيلية على دعائم متينة تسمق بفضلها إلى الكمال المنشود.
غير أننا نكلف الأيام ضد طباعها، ونرهق الزمن بما لا يطيق إذا نحن حاسبنا الأقدمين وفق شروطنا، ووزنا أعمالهم بموازيننا، ضاربين الذكر صفحاً عن الفروق بين ملابساتنا وملابساتهم، واتجاه الزمن بنا وبهم.
والذي نحب أن ننوه به هو أن القصة كانت لها حياة، وكان لها وجود، في العصر المملوكي، ولو إلى حد ما. وأن من مظاهر حياتها - فضلاً عن القصة الصريحة - المقامات والمحاورات والمفاخرات والموازنات والرسائل والوصفية، وتراجم الرجال والأبطال.
وفي مقدمة ما نشير إليه من ذلك كله كتاب (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء).
ومؤلف هذا الكتاب هو شهاب الدين أحمد بن عربشاه الطبيب والمؤرخ الأديب صاحب كتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور) أصله دمشقي أنصاري، ولد بدمشق عام 791هـ، وقد هاجر مع أسرته منها حينما دهمها تيمور لنك التتري، وطوحت به الأيام حتى طاف بآفاق أسيوية عدة، ثم عاد إلى بلاد الأتراك العثمانيين واشتغل في ديون إنشائهم، وأتقن عدة لغات، ومهر في جملة علوم. واعتزل العمل بأخرة، وعاد إلى وطنه. ويمم شطر حلب، وزار في عهد سلطانه جقمق العلائي وقال السخاوي إنه لقيه بها عام 850هـ. وقد لبث بمصر حتى وافاه أجله عام 854هـ ودفن بالخانقاه الصاحية.
نعود بعد هذا إلى كتابه (فاكهة الخلفاء). فهو مؤلف قصصي بديع، اجتمعت فيه الأمثال واكتنزت به الحكم وتجلت لبه ضروب الدهاء والحيل، وغير ذلك من عدالة وصدق وأخلاق إنسانية، لا بأسلوب فج جامد خشن صريح، ولكن بأسلوب قصصي جذاب ممتع فيه خيال وتصوير، فروي على ألسنة الحيوان مما يمشي على أربع، ومما يطير بجناحين، ومما يزحف على بطنه، فهو إذاً غير مبتكر لهذا الضرب من القص، فقد سبقه به في(803/26)
العربية عبد الله بن المقفع أول من سن هذه السنة الحسنة لمن جاء بعده من الأدباء والقصاصين في كتابه (كليلة ودمنة) غير أن ابن عربشاه كان مبتكراً في صلب القصص ومتن الحكايات. وقسم الكتاب إلى عشرة أبواب في كل منها قصة طويلة يستطرد خلالها إلى قصص جزئية أخرى. ومن أبوابها - على سبيل المثال - باب في نوادر ملك السباع ونديميه أمير الثعالب وكبير الضباع. . .
وقد جمع ابن عربشاه في أسلوب قصصه بين طريقة ابن المقفع وطريقة كتاب المقامات وبخاصة الهمذاني والحريري.
فابن المقفع ابتدع - شخصية (دبشليم) الملك أحد ملوك الهند، يجلس في محفله ويطلب إلى شخصية أخرى هي (بيدبا) الفيلسوف أن يحدثه ويضرب له الأمثال، فيحدثه بيدبا ويقص قصصه على ألسنة الحيوان. وكذلك فعل ابن عربشاه فإنه افترض ملكاً عظيماً يحدثه رجل حكيم. ولكن بفارق يسير. ذلك أن الملك والحكيم كليهما أخوان لأب واحد كان من قبلهما ملكاً عظيماً خلف أبناء خمسة. وملك من بعده كبيرهم هذا وعاش الأربعة تحت ظله في وئام وطاعة، حتى عصفت بينهم ريح الشقاق والخلف. فتنافرت القلوب وتجافت النفوس وتفرقت الأهواء، فهال الأمر أصغرهم واسمه (حسيب) وكان حكيماً فيلسوفاً زاهداً. ولك يتركه أهل النم والوقيعة حتى أفسدوا ما بينه وبين أخيه الملك. فجمعه الملك في حفل من أعيان دولته، وأخذ يستطلع علمه وحكمته رغبة في التشهير به وتسفيهه. ففاض بينهم بحكمه وأمثاله، وساق قصصه على ألسنة الحيوان، وتكرر الحفل وتعدد القص، حتى اعترف له الجمع بالفضل والنبل.
(البقية في العدد القادم)
محمود رزق سليم
مدرس بكلية اللغة العربية(803/27)
القبائل والقراءات
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
- 2 -
تكلمت في المقال السابق عن تميم مشيراً إلى أنها كانت تسكن جزءاً من نجد.
وأذكر أنها مع القبائل التي تجاورها يشتركون في بعض اللهجات، وإذا ما وردت لهجة في كتب النحو والقراءات واللغة خاصة بنجد كانت شاملة ضمناً لها. كما يغلب أن تشترك القبائل النجدية الأخرى فيما يذكر لهذه القبيلة، لتجاورهم في المسكن وقرب اتصالهم. وتميم شاركت أحياناً قبيلة أسد لمجاورتها لها من ناحية وشاركت بكر بن وائل من ربيعة لمجاورتها لها من ناحية أخرى وشاركت لخماً لا متأثرين بالفرس لمجاورتها لهم من ناحية ثالثة، وما ذلك إلا لأن تميما منها بطون كثيرة كيربوع وطهية ودارم ومازن وحنظلة. وقد تنفرد كل قبيلة مجاورة لتميم بما يؤثر عنا من لهجات وذلك ما نراه حادثاً حتى الآن في بلدين متجاورين من اختلاف في معاني الألفاظ أو طريقة أداء الكلمات.
وسأعرض للهجة كل قبيلة مستقصياً ذلك ما أمكن مشيراً إلى ما كان للهجتها من أثر في القراءات أو اللغة ونحوها وصرفها وأولى اللهجات التي سأذكرها هي لهجة تميم.
1 - ما الحجازية وما التميمية
تعمل (ما) عمل ليس في لهجة الحجازيين فترفع الأسم وتنصب الخبر بشروطها. أما عند التميميين فلا تعمل ويكون الاسمان بعدها مرفوعين. وجاء في القراءات على لغة الحجازيين: (وما منكم من أحد عنه حاجزين) (ما هذا بشراً) و (ما هن أمهاتهم) وقد قرأ عبد الله بن مسعود على لغة التميميين برفع بشر وقرأ المفضل عن عاصم برفع أمهاتهم على لغتهم. وقد تظرف أحد الشعراء النحاة حيث يذكر لنا أنه طلب من محبوبه الانتساب إلى قبيلته فلم يجبه بصريح القول، وإنما ذكر له تعبيراً فهم منه القبيلة التي ينتسب إليها فقال:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب: ما قتل المحب حرام
فإجابته (ما قتل المحب حرام) أفادت أنه تميمي لأنه لم يجعل (ما) تنصب الخبر، ولو قال: ما قتل المحب حراماً، لفهم منه أنه حجازي.(803/28)
2 - لغة تميم وكثير غيرهم عدم الفك في المضارع المضعف المجزوم والأمر: مثل شد ولم يشد قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وفي القرآن قوله تعالى: (من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) في قراءة القراء ما عدا نافعاً وان عامر وأبا جعفر الذين قرءوها بفك الإدغام وقوله تعالى (لا تضار والدة بولدها) في قراءة من جعل (لا) ناهية وتضار من الضرر وهم ما عدا ابن كثير وأبا عمرو ويعقوب وابن محيصين واليزيدي الذين جعلوا (لا) نافية فرفعوا وأبا جعفر في بعض طرقه الذي جعل تضار من ضار يضير وما عدا الحسن الذي فك الإدغام فقرأها لا تضارر. وقوله تعالى: (وأن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) بالجزم وتشديد الراء رواية أبي زيد عن المفضل عن عاصم، أما الباقون فبالرفع أو جعلوا الفعل من ضار يضير وجزموا، وقرأها أبي بن كعب يضرركم مجزومة، بفك الإدغام.
وقد ورد كثير في القرآن علة لهجة الحجازيين، منه قوله تعالى: (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) (أن تمسسكم حسنة تسؤهم. أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. أشدد به أزري. واغضض من صوتك. واحلل عقدة من لساني. . .).
وهناك من بني تميم من يحرك آخر الأمر في المضعف بحركة فاء الكلمة فيقول مُدُّ بضم الدال تبعاً للميم وعضًّ بفتح الضاد تبعاً للعين وعزَّ بكسر الزاي تبعاً لعين. إلا أن القبائل العربية جميعها اتفقت على الإدغام في هلم وحركت آخرها بالفتح ما عدا قبيلتي كعب وغني فإنهما حركتاه بالكسرة غاية ما في الأمر أن الحجازيين استعملوا هلم للمفرد والمثنى والجمع تذكيراّ وتأنيثاً بدون إلحاق ضمائر وبنو تميم ألحقوا بها ضمير المؤنثة والمثنى والجمع بنوعيه. كما اتفقت قبائل العرب على فك الإدغام في صيغة التعجب التي على وزن أفعل به فيقولون أحبب بمحمد.
3 - يجوز الإبدال عند التميميين في الاستثناء المنقطع التام المنفي، والمنقطع هو ألا يكون الاسم الذي بعد إلا من جنس ما قبلها ومنه قول الشاعر:
وبنت كرام قد نكخنا ولم يكن ... لنا خاطب إلا السنان وعامله
وقوله:(803/29)
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
فالسنان مرفوع وهو بدل من خاطب، واليعافير مرفوع وهو بدل من أنيس.
قال الزمخشري في قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) إنه استثناء منقطع جاء على لغة بني تميم أما غير التميميين فيوجبون النصب في مثل هذا الاستثناء.
4 - بعض بني تميم ومثلهم بنو عامر يجعلون إعراب الملحق بجمع المذكر السالم في آخره ويلزمونه الياء وينونونه إذا كان نكرة ولا يحذفون النون في الإضافة وذلك فيما عدا عشرين وأخواتها فإنها تعرب كجمع المذكر السالم وقد جاء عليه قول الشاعر:
دعاني من نجد فان سنينه ... لعين بنا شيبا وشيبننا مردا
لكن القراءات جاءت على الأكثر: وما أدراك ما عليون الذين جعلوا القرآن عضين. عن اليمين وعن الشمال عزين. فلبث في السجن بضع سنين.
5 - يربوع وطهية بطنان من تميم يبنون حيث على الفتح دائماً يقولون: حيث التقينا ومن حيث التقينا بفتح الثاء فيهما وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) بفتح الثاء والمشهور في حيث البناء على الضم وبعض القبائل تعربها.
6 - لغة تميم ومثلهم في ذلك قيس وأيد وربيعة كسر حرف المضارعة إذا كان الهمزة أو التاء أو النون. وقد قرأ زيد بن علي ويحيى بن وثاب وعبيد بن عمير إياك نعبد بكسر النون، وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين العقيلي وأبو نهيك (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) بكسر التاء فيهما، أما بعض قبيلة كلب فإنهم يكسرون جميع أحرف المضارعة.
7 - الإمالة لهجة تميم وعامة نجد من قيس وأسد، وهي الإنحاء بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء لأسباب تكفلت بها كتب النحو والقراءات وأشد القبائل حرصاً على الإمالة تميم وفي الحجازيين إمالة قليلة إلا أنها في الإنحاء بالفتحة نحو الكسرة وجميع القراء الأربعة عشر أمالوا ماعدا ابن كثير وابن محيصين المكيين. واللذين أمالوا لهم شروط خاصة وقد يتفقون وقد يختلفون. والفتح يقابل الإمالة في اصطلاح القراء. وفي القراء من تقل إمالته كابن عامر وفيهم من تكثر وألم(803/30)
كثرون منهم من يميل إمالة صغرى كطريق الأزرق عن ورش ومنهم من يميل إمالة كبرى كحمزة والكسائي وخلف ومنهم من يكون بين الصغرى والكبرى كأبى عمرو، فمثلا حمزة والكسائي وخلف أمالوا كل ألف منقلبة عن ياء حيث وقعت في القرآن في اسم أو فعل وكل ألف تأنيث على فعلى بضم الفاء وكسرها وفتحها كطوبى والسلوى وذكرى، وألحقوا بذلك موسى وعيسى ويحيى وكل ما كان على وزن فعالي بالضم أو الفتح كسكارى ونصارى وكل ما رسم في المصاحف بالياء نحو بلى ومتى واستثنوا من ذلك حتى وإلى وعلى وما زكى فلم تمل بحال وأمالوا من الواوى ما كسر أوله أو ضم كالربا والضحا وأمالوا وأمال غيرهم من القراء غير ذلك مما لا يحصره بحثنا الآن.
8 - النبر والتخفيف في الهمز:
أحرص العرب على تحقيق الهمزة تميم. وأهل الحجاز أكثرهم تخفيفا قال ابن منظور في لسان العرب (أهل الحجاز وهذيل وأهل مكة والمدينة لا ينبرون وقف عليها عيسى بن عمر فقال ما آخذ من قول تميم إلا النبر وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا). وفي الرضى على الشافية (فخفف الهمزة قوم وهم أهل الحجاز ولا سيما قريش) هذا وبعض تميم في الهمزة التي تكون آخر الكلمة وقبلها ساكن عند الوقوف عليها يبقون الهمزة ويتبعون العين الفاء في الرفع والنصب والجر فالبطء بضم فسكون والردء بكسر فسكون والخبء بفتح فسكون يقولون فيها هذا البطؤ بضم الباء والطاء والردىء بكسر الراء والدال والخبأ بفتح الخاء والباء، ومن تميم من يبقي الهمزة ويلقي حركتها إلى ما قبلها إذا كان ساكناً وذلك في حالة الوقف فيقولون هذا البطؤ بضم الباء والطاء ورأيت البطأ بضم ففتح ومررت بالبطيء فكسر، أما الحجازيون فإنهم يحذفون الهمزة وينقلون حركتها إلى ما قبلها إذا كان ساكنا إذا كانت آخر الكلمة حذفوا الهمزة ووقفوا على ما قبلها إذا كان ساكنا وفي حالة التنوين في المنصوب وقبل الهمزة ساكن يقلبون التنوين ألفا لا غير ويحركون السكون قبلها يقولون رأيت بطا وردا وخبا. والتي قبلها متحرك تدبر بحركة ما قبلها فالخطأ تقلب ألفا دائما رفعا ونصبا وجرا وأكمؤ تقلب واوا دائما وأهنئ تقلب ياء دائما وقد روى أن قوما من جهينة جاءوا إلى النبي صلى عليه وسلم بأسير وهو يرعد من البرد فقال لهم (ادفوه) أراد عليه السلام أدفئوه من البرد فحسبوا أنه يريد الإجهاز عليه من قولهم دفوت الجريح(803/31)
أدفوه دفوا إذا أجهزت عليه فذهبوا به وقتلوه فدفع الرسول صلى الله عليه وسلم ديته.
وإن اختلاف القراء في التخفيف والنقل واسع جدا وأكثر ما يرد التخفيف من طريق القراء الحجازيين كابن كثير وابن محيصين المكيين ونافع وأبي جعفر المدنيين وأبي عمرو التميمي البصري لأن مادة قراءته عن أهل الحجاز. ومما يلحق بهذا أن التميميين يقولون في الأمر من سأل اسال وقد وردت كثيرا في رواية حفص عن عاصم: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب. واسأل القرية. فاسأل بني إسرائيل. فاسأل به خبيرا. واسألوا الله من فضله). أما الحجازيون فيقولون في الأمر سل، وقد جاءت في رواية حفص أيضا (سل بني إسرائيل. سلهم أيهم بذلك زعيم) وبعض القراء كابن كثير، يقرأ ما جاء في رواية حفص بلغة الحجازيين فيحذف الهمزة وينقل حركتها إلى ما قبلها فمثلا: (واسأل القرية يقرؤها سل القرية).
9 - لغة تميم تسكين الوسط المتحرك تخفيفا قال السيوطي في كتابه الإتقان: قال أبو عبيدة: أهل الحجاز يفخمون الكلام كله إلا حرفا واحدا وهو عشرة إذا ركبت مع إحدى واثنتين إلى التسع فانهم يجزمونه، وأهل نجد يتركون التفخيم في الكلام إلا هذا الحرف فانهم يقولون عشرة بالكسر: وقد قرأ جمهور القراء بسكون الشين وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى بن عمر ويحيى بن وثاب وابن أبى ليلى والمطوعي عن الأعمش بكسر الشين وذلك في قوله تعالى (اثنتا عشرة عينا). هذا وقد ورد في القرآن كثير من الألفاظ قرئت بإسكان وسطها وتحريكه كرسلنا وخطوات ونهر ولا يمكن حصرها وحصر قرائها في مقال، وقال جرير على طريقة التميميين:
سبروا بني العم والأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فما تعرفكم العرب
بإسكان الفاء من تعرفكم مع أنه لم يسبقه جازم.
ومما يلحق بهذا الإسكان ضمير الغائب والغائبة هو وهي، فالتميميون إذا سبقوا الواو أو الفاء أو اللام أو ثم، يسكنون الهاء. وهي تجري بهم. وهو بكل شيء عليم. فهو خير لكم. فهي خاوية. لهى الحيوان. ثم هو وقد قرأ أبو عمرو والكسائي ونافع من رواية قالون والحسن واليزيدي بالإسكان وأبو جعفر في أغلبها بالإسكان، أما الحجازيون فإنهم يتركون الهاء على حركته بدون تسكين وهو ما جرى عليه باقي القراء.(803/32)
هذا ولا يفوتني أن أذكر أن إسكان الوسط يكون عند اجتماع ثلاث حركات وأن قبيلة أسد وبعض سكان نجد يشاركون تميما في ذلك كما أن بعض القراء لا يسكن الحرف ولا يحركه وإنما يجري على ما يسمونه اختلاسا وهو الإتيان بأكثر الحركة فمثلا (بارئكم) قرئت بكسر الهمزة وبإسكانها وباختلاس الكسرة.
10 - لغة تميم في (أنا) ضمير المتكلم إثبات ألفه وصلا ووقفا أما غيرهم فإثبات الألف وقفا وقد قرأ نافع وأبو جعفر مع أنهما مدينان بإثبات الألف في الوصل في مثل قوله تعالى: (أنا أحيي وأميت). أما باقي القراء فبالحذف وصلا.
11 - (هيهات) لغة تميم فيها بناؤها على الكسرة، وكذلك قبيلة أسد وبها قرأ أبو جعفر (هيهات)، أما لغة الحجازيين فبناؤها على الفتح، وبها قرأ الباقون.
12 - اللذان واللتان وهذان وهاتان لغة تميم فيها تشديد النون وكسرها وبها قرأ ابن كثير مع أنه مكي أما باقي القراء فبكسر النون بدون تشديد.
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي(803/33)
محمد إقبال
شاعر الشرق والإسلام
1389 - 1873 1357 - 1938
للأستاذ مسعود الندوي
- 4 -
نعم، شعره منقسم إلى قسمين: نوع لا يدرك كنهه إلا الدين أوتوا حظاً وافراً من العلم، والذوق الأدبي، وهو الذي أخرجه للمتعلمين والمتأدبين خاصة، وفيه فلسفة وشعر وحكمة وانتقاد لنظريات فلاسفة الغرب وآرائهم. وقسم فيه الدعوة إلى الجهاد وإيقاظ النائمين من سباتهم وإماطة اللثام عن وجه الحضارة الغربية والسياسة العصرية وغيرهما من العظات وأسرار الطبيعة؛ وهذا يمكن فهمه والانتفاع به لكل من له إلمام بالشعر والأدب. وفوق ذلك أن بعض كلماته كالشكوى إلى الله (شكوه) وشكاة الأمة إلى نبيها (فرياد أمت) تنشدها العامة وتهتز لها طرباً، لأن الشاعر أعرب فيها عن عواطف جمهور الأمة فصادفت هوى في قلوبهم. وأضرب لك مثلاً بكلمته الشهيرة السائرة الشكوى إلى الله (شكوه) التي شكا فيها الأمة ورفع شكاتها إلى الله تعالى من إنعامه على الكافرين وإغداق النعم عليهم وسوء حال المسلمين في العالم وغيرهما من أمور يشكو منها المسلمون في هذا العصر ويتذمرون عليها في هذه الحياة الدنيا. وقد بدأها الشاعر بقوله:
(ربنا اسمع قليلا شكوى عبادك الأوفياء المخلصين، واستمع هنيهة لشكاة الذين تلهج ألسنتهم دائماً بالثناء عليك، ولا ريب أننا معروفون بالصبر والاستسلام للقضاء، لكنا نسمعك الآن نفثات القلوب المكلومة لأن نوائب الأيام أجبرتنا على ذلك).
إلى أن رفع عقيرته قائلا:
(كان يسكن هذه المعمورة السلاجقة والطورانيون، وكذلك كان أهل الصين في الصين والساسانيون في بلاد فارس وأيضاً كان يقطن اليونانيون بهذه الأرض الواسعة. ولكن قل لي بنفسك: أيهم تناول السيف بيده لإعلاء كلمتك؟ وأيهم قام لإصلاح المجتمع وقطع دابر الفساد من الأرض؟).(803/34)
وهكذا ذهب به كل مذهب في هذه الشكوى حتى خاطب ربه متألماً:
(رحمتك تتوالى على الأجانب ودورهم، أما المسلمون فليس من حظهم إلا رعود النوائب وبروقها؛ والبلية كل البلية أن الكفار ينعمون بحور مقصورات وقصور مشيدة، والمسلمون المساكين يعللون بوعود الحور فقط). وتخلل هذه الشكوى كثير من مزايا الأسلاف وخصائص أعمالهم الجليلة التي افتخر بها الشاعر أمام ربه كقوله في وصف المجاهدين الأولين: (وكلما حانت الصلاة أثناء صليل السيوف، ولت الأمة الحجازية وجهها شطر القبلة وسجدت لله تعالى شاكرة.
ووقف محمود (الأمير) وإياز (المملوك) في وصف واحد فلم يبق هنالك عبد ولا مولى، وأصبحوا جميعاً عبيداً لله؛ واتحد العبد والمولى والفقير والغني، ولما وصلوا في حضرتك، صاروا وحدة جامعة وكتلة متراصة).
وكلمة (شكوه) هذه سائرة مسير المثل في طول بلاد الهند وعرضها. وكذلك يضاهيها في الشهرة والقبول جواب الشكوى (جواب شكوه) التي رد فيها الشاعر على كل بيت من شكواه وذلك بلسان الله عز وجل، وكلتاهما أشهر من (قفا نبك)، وقد ترجمت بلغات عديدة. ولكن العارفين بدخائل الكلام يرون أن الشاعر لم يكن موفقاً في الرد مثل نجاحه في عرض الشكوى. وذلك غير بعيد من شاعر مطبوع متألم من مصير بني قومه، وهو في ريعان شبابه. وعلى كل فإن الشاعر نجح إلى حد بعيد في إرشاد إخوانه إلى مواطن ضعفهم في الدين والأخلاق.
هذا وقد عرفت ما بلغه الشاعر الحكيم من علو الفكر، وسمو البيان في الدور الثالث من حياته الشعرية، نريد أن نعرف القراء بشيء من غرر شعره وفرائد حكمه في الدور الرابع من شاعر يته حينما جاوز حد الفتوة، وأصبح في عداد الحكماء أكثر منه في الشعراء. ولكن حكمه منتثرة في مطاوي دواوينه، كثيرة متنوعة في مواضيعها، بحيث لا يمكن تقدير إحاطتها وتنوعها بعدة من الأمثلة، ولذلك يجدر بالمقام أن نبتدئ أولا بذكر دواوينه والإشارة إلى مواضيعها، ليكون القارئ على بينة من كثرة منظومة وتنوع أفكاره وحكمه، ثم نلخص نتفاً من آرائه السديدة وحكمه البالغة. أما دواوينه الشعرية، فهاك بيانها:
باتك درا (صوت الجرس): مجموعة شعره (باللغة الأردية) في الأدوار الثلاثة الأولى،(803/35)
وأكثرها دعوة إلى الجهاد وتذكير بالماضي واستهزاء بالحضارة الجديدة في التعليم العصري ونتائجه السيئة.
أسرار خودي (أسرار فلسفة الذاتية أي فلسفة الاستقلال بالرأي والعزم): وقف الشاعر هذا (المثنوي) (نوع من الشعر الفارسي) لإيضاح فلسفة (خودي) وبيان نتائجها، مستدلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية. وفيه تفسير لسورة الأخلاص نفيس في تبيين هذا المعنى، وذلك بلسان سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد ترجم هذه المجموعة الدكتور نكلسن بالإنجليزية وهذا الديوان أيضاً من آثار شبابه.
بيام مشرق (رسالة الشرق): نظم الشاعر هذا الديوان رداً على (الديوان المغربي) للشاعر الألماني الشهير (غوته) وبين فيه الحقائق والحكم التي تساعد الأمم على تربية عقولها وتثقيف أبنائها بثقافة ناضجة محكمة. وقد أضاف اليه الشاعر مقدمة ممتعة بين فيها ما كان للأدب الفارسي من تأثير في الأدب الألماني، وأن ديوان غوته المعروف (بالديوان المغربي) أيضاً نتيجة من نتائج هذا التأثير. وهذا أول الدواوين التي نشرها في الدور الرابع من حياته الشعرية. وقد تلقاه أهل الأدب في الشرق والغرب بالقبول. وكان الشاعر أهداه إلى الملك أمان الله خان، ملك بلاد الأفغان وقتئذ، حيث كانت الأمة قد عقدت عناصرها عليه وكان صاحبنا يرجو منه شيئاً كثيراً في سبيل أحكام أواصر الأخوة الإسلامية وتوطيد دعائم المجد الإسلامي.
زبور عجم (زبور العجم) للناس أقوال في تفضيل بعض دواوينه على بعض، حتى إن بعض الشبان الثائرين يفضلون ديوانه الأول (بانك درا) على جميع دواوينه لكونه مشتملاً على روح الثورة والجهاد. ولكن جميع الناقدين متفقون على أن (زبور عجم) شعر، كما أن (أسرار خودى) فلسفة و (بيام مشرق) حكمة. وفي هذا الديوان من مكنونات أسرار الحياة وغوامض الحكم ما تهش له النفس ويفرح به القلب،
(جاويد نامد) سلك فيه الشاعر مسلك المعري في رسالة (الغفران) و (دانتي الإيطالي في ديوانه حيث صاحب الحكيم العرف بالله جلال الدين الرومي وارتقى معه درجات السماء في عالم الخيال، فلقي هنالك أرواح المجاهدين وأسر إليها بذات نفسه ووصف لها أدواء الأمة واستفسر عن دوائها، فوصف له الدواء الناجع أمثال السيد جمال الدين الأفغاني و(803/36)
(والسلطان الشهيد) (تييو سلطان ملك ميسور الشهيد) وسعيد حليم باشا، وحمل حملة شعواء على اللورد كتشنر بلسان المهدي السوداني وأنبه على نبش قبره تأنيباً شديداً. وفي الديوان كلمة حكيمة حماسية من السوداني إلى ملوك العرب، ابتدأها لسان الشاعر بقوله:
(فؤاد وفيصل وابن سعود). والتي قال فيها: (ذاك بطحا ديكر بزاي). يا ليت أرض الحجاز أنجبت خالداً آخر.
وكذلك الشاعر حد الإعجاز في تصوير الخيانة والغدر في أبشع صورة، حينما ذكر جعفراً وصادقاً، وقال إنه رآهما مطروحين من وراء النار، لأنها استنكفت من دخول الخائنين فيها. وأي بيت أبلغ في ذم الخائنين من قوله فيهما:
جعفر إذ بنكال وصادق أزدكن ... ننك آدم، ننك دين وطن.
جعفر البنغالي وصادق الدكني ... كلاهما عار للإنسانية والدين والوطن.
يتبع
مسعود الندوي.(803/37)
عودة
للأستاذ حسين محمود البشبيشي.
إني رجعت وكل إحساس فؤاد شيق
في جانبيَّ تلهف وبناظريَّ تشوق
وعلى المحيا بسمة بحنين قلبي تنطق
ويفيض من عيني هيام جامح يتدفق
ويكاد قلبي بالتشوق والتوجع يشرق
وأكاد من فرط الصبابة يا حياتي أصعق
هيهات بعدك يا حبيبي فرحة تتألق
مذ غبت عني لم يزل قلبي بعهدك يخفق
والى ظلالك يا حبيبي لم يزل يتشوق
واليوم وحدي قد رجعت على سماك أحلق
ورجعت لست بمبصر شيئاً ولست بشاعر
تعتادني أوهام إحساسي وومض خواطري
ويهزني شوق تدفق ثائراً بذواكري
وتسوقني أصداء أيامي وعطر أزاهري
وتحيط بي ذكَرُ العهود توثبت بمشاعري
فهنا تضرعُ عاشق. وهنا تدلُّل ساحر
وهنا رماد الذكريات الزْهر عفو ناظري
ورجعت ليتك قد رجعت معي لعهد غابر
كانت لنا دنيا وكنت بها سعادة شاعر
واليوم وحدي قد رجعت فيا لقب سادر
في كل ركن ها هنا ذكرى تجن لمقدمي
وأكاد ألمس لفحها يجري ويصرخ في دمي
فبكل غصن كنت تبصره تلفت مغرم(803/38)
وبكل طير كنت تسمعه حنين متيم
إني رجعت وفي دمي شوفي وشعري في فمي
وعبير ثغرك لم يزل يسري بعطر مبسمي
وحنانك الدفاق غامرُ قلبَي المتحطم
وسنا عيونك رغم بعدك لم يزل كالأنجم
شقت دواكن وحدتي وسرت بقلب مظلم
فكأنها الأمل البعيد بدا بأفق مبهم
سل عن سهادي كل نجمٍ في سمائك ساهر
الليل يصحبني وأصحبه لو هم سادر
وأبثه شوقاً بقلبي كاللهيب الساعر
ويلفني بسكونه وألفه بمشاعري
وأحس بين نجومه طيفاً يضيء بخاطري
ويعيد أيامي ويغمر بالعبير أزاهري
أنا واهم يا ليل، رفقاً بالشريد الحائر
أنا واهم أحسوا السراب بخاطري وبناظري
أنا واهم، أنا واهم، من لي بهدْى غامر
يلقي إلى قلبي الرجاء فلا تضل سرائري
أنا واهم. هل هذه الأطلال تعلم ما بيه؟
أنا واهم. ثارت بقلبي ذكريات ضاريه
وطغى على عيني السراب وطوقتني الغاشية
فحسبت أنك قد رجعت، وإن روحك حانية
يا ليت إني ما رجعت إلى ظلالك ثانيه
لم ألق غير توجعي. لم ألق غير الهاوية
لم ألق غير عهودنا تبكي وتصرخ ناعيه
في مهجتي خدع الظنون على سرابك جاريه(803/39)
وبناظري لجج التشوق نحو ظلك ساريه
وأنا هنا. . . وظلال حبي في الفؤاد كما هيه
حسين محمود البشبيشي(803/40)
الأدب والفن في الأسبوع
للأستاذ عباس خضر
أسلحة من براغ:
نشرت إحدى الصحف الأسبوعية لمراسلها من براغ، أن اللغة العامية المصرية وغيرها من اللغات العامية بالأقطار العربية تدرس في كثير من جامعات العالم وفي براغ، كما تدرس فيها اللغة العربية (الكلاسيكية) واسترعى انتباهي ما قصد إليه الكاتب من تعظيم شأن العامية على حساب الفصحى. . وخاصة قوله:
(ويعتقد كثير من إعلام المستشرقين الأوربيين أن اللغة الدارجة المصرية سوف تكتسح اللغة الفصحى وتحل محتها يومياً ما فتصدر الصحف وتطبع الكتب باللغة الدارجة التي يتكلمها الشعب وتبسط الكتب الدراسية وتنال اللغة العربية نفس نصيب اللغة اللاتينية وحظها بعد أن تفرعت عنها اللغات الإيطالية والفرنسية والأسبانية والبرتغالية).
وأنبه أولاً على أن هذا الكلام من (براغ) عاصمة تشيكسلوفكيا أو العاصمة الصهيونية الثانية بعد تل أبيب. . . كأن لم يكفها إمداد اليهود في فلسطين بالأسلحة والعتاد الحربي لمحاربة العرب، فأراد دعاة الصهيونية هناك أن يصوبوا سهماً إلى لغة العرب الجامعة بينهم، لتحقق أحلامهم في تفريق العرب، فهذا حلم يبدوا لهم جميلاً، وأي شئ أجمل لديهم
من أن تتهزم العربية وتتقهقر لتحل محلها اللغات العامية، ولكل شعب من الشعوب العربية
عاميته، فيصدر بها الصحف ويؤلف الكتب، فتنال اللغة العربية نصيب اللغة اللاتينية، وتنحل
رابطة اللغة بين أقطار العرب؟. . .
وذلك من غير شك سهم طائش، وليس هذا أول كلام قيل في هذا الموضوع، فقد سبقته محاولات خائبة، تتحد معه في الغاية والمرمى، وإن كان لكل منها مصدره وباعثه. . . فالغاية أن تنمحي اللغة العربية وتتفرع عنها لغات كالإيطالية والفرنسية. . . الخ، والبواعث شتى، فمن أعجمي لا يبين، ومن عامي يريد أن يكون شيئاً، ومن متظاهر بالتقدمية
الحمقاء، ومن شاعر في أحشائه بلذعة الفلفل من العروبة. . . فيتبرد مرة بالفرعونية،(803/41)
ويتذرع أحياناً بالعامية. . . ثم جاءت الصهيونية في آخر الزمن تريد أن تساهم في هذه الخيبة. .
ولاشك في حسن نية الصحيفة التي نشرت ذلك الكلام أو - على التدقيق - في غفلتها. . . وكان عليها أن تتنبه له ولبض العاملين في تحريرها من ذوى المحاولات القديمة الخائبة. ومن يدرى فقد يغزو صحفاً أخرى مراسلون من براغ. .
ولتدرس جامعة براغ أو أي جامعة أخرى ما تدرس، ولتعلم بها العامية نفر من أبناء بلادها أو غيرهم، فهل هؤلاء هم الذين سيصدرون الصحف ويؤلفون الكتب باللغة الدارجة المصرية ويكتسحون ويفرعون؟. ثم من هم المستشرقون الذين يعتقدون أن اللغة الدارجة المصرية سوف تكتسح اللغة العربية الفصحى. . الخ؟ لم يذكر لنا الكاتب أسم واحد منهم، وأكبر الظن أن هؤلاء الذين سماهم (أعلام المستشرقون الأوربيين) أنا أنهم صهيونيون وأما أنهم أشباح تمثل أحلام ذوي المحاولات الخائبة والسهام الطائشة.
وبعد فكيف تنال اللغة العربية نفس نصيب اللغة اللاتينية؟ لقد تفرعت اللغات الأوربية الحديثة عن اللاتينية القديمة مع النهضة التي قامت اللغات الجديدة بأعبائها، وكانت مظهراً من مظاهرها، وهذا يختلف عن حال اللغة العربية كل الاختلاف، إذ وسعت اللغة الفصحى النهضة العربية الحديثة واستقلت بها، فهي لغة الآداب العصرية ولغة الكتابة والتأليف في سائر الفنون والعلوم، أي أنها واجهت النهضة وقامت بأغراضها وعبرت عنها وأصبحت لغتها وانتهى الأمر، فلم تخلي مكانها لتحل محلها لغات متفرعة؟ من أجل سواد عيون الوعول التي تكسرت قرونها. . أم لتحقيق أحلام الصهيونية في تمزيق الأمة العربية؟
عزيزتي الآنسة أم كلثوم
قرأت في أخبار اليوم أن محطة الإذاعة يتجه تفكيرها إلى الاتفاق معك على أن تدفع لك ألف جنيه في الشهر مقابل إذاعة أغنياتك المسجلة حسبما ترغب، بدلاً من أن تدفع خمسين جنيهاً عن إذاعة كل مسجل من هذه الأغاني.
ولم أتبين مقصد الإذاعة من ذلك، أهي تريد الاقتصاد. . . لأن عدد إذاعة المسجلات في الشهر مضروباً في خمسين جنيهاً يساوي أكثر من ألف جنيه. . . أم أن حاصل الضرب أقل من ذلك وتريد زيادة التقدير أو تلبية رغبة في الزيادة؟.(803/42)
والواقع على أي حال أنها تدفع لك مبلغاً كبيراً لا يقل كثيراً عن الألف في الشهر مقابل أغنيات أخذت ثمن كل منها ثلاثمائة جنيه عند التسجيل.
وأنت تستحقين كل خير، وفنك العالي لا يقدر بمال. ولكن محطة الإذاعة. . . محطة الإذاعة مسكينة (غلبانة) أعني هؤلاء الفنانين والفنانات الذين يأخذ أحدهم مقابل الحفلة الغنائية خمسة عشر جنيهاً يقاسمه فيها أفراد (التخت) والمؤلف، وأعني الذين لا تعطيهم المحطة أجراً على إذاعة مسجلاتهم كما تصنع معك وحدك، وأعني الذين تضيق بهم المحطة رجالها وأن كانوا ممتازين في فنهم، وأعني كل فكرة أو مشروع إذاعي نافع يقف في سبيله ضيق الميزانية، ثم أعني هؤلاء الذين يسعون لإرضائك ويرضخون لقوة شخصيتك. فارحمي كل أولئك المساكين وكوني عادلة مقتصدة في معاملة الإذاعة، عامليها مثلاً كشركة (بيضافون) التي كان تعطيك ثمن التسجيل، ثم تبيع (الاسطوانات) ولا يدفع إليك كل من يدير (اسطوانة) في (الفونغراف) أي شيء.
يا كروان الشرق، أن كنت تريدين المال فبعض هذا يكفي، وأن كنت تريدين إعلاء الفن فلست في حاجة إلى إعلائه؟ فقد أعليته حتى بلغت به سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم. . وأعلمي أنك من الأعلام الخالدين وأنك لا تقلين إن لم تزيدي عمن خلدهن أبو الفرج في (الأغاني) مع الفاروق الذي به تفوقينهن، من حيث ما أضفاه عليك روح العصر من استقلال الشخصية والكرامة العامة.
فأسألك بالله وبحق الفن، أن ترأفي بحال الإذاعة، فهي لك مطواعة، وتبذل من أجلك ما فوق الاستطاعة، وغيرك لا ينال إلا بالشفاعة. وتفضلي بقبول تحيتي واحترامي.
(حسونة) الإنسان:
هو ذلك الشاب الأعرج بياع الصحف الذي ظهر في فلم (اليتيمتين) إنساناً ينبض قلبه بالعطف والحب والخير، برغم سوء بيئته ورقة حاله. يرى فتاة ضريرة ضالة فيشفق عليها. وتقع هي فريسة في يد أمه الشريرة الضارية، فتستغلها في بيع ورق (اليانصيب) وتعاملها بقسوة ووحشية، فيتألم لها حسونة أشد الألم ويبذل وسعه في التخفيف عنها ومقاومة أمه وأخيه الذي يعاونها على قسوتها، حتى يستطيع آخر الأمر أن ينقذها من براثنهما. وكم كان مشهده رائعاً وهو يحضر لها ما يقدر عليه من طعام ويهيئ لها شيئاً من(803/43)
الفراش ويصنه لها على السلم درابزيناً لتتحسسه وليقيها السقوط في صعودها وهبوطها. كان حسونة في هذا الفم نبضة إنسانية رائعة، من النبضات التي تخلد الفنون، وهو مثل ينبغي أن ينظر فيه السينمائيون المصريون ليروا كيف يمكن أن تكون السينما فناً رفيعاً لا مجرد استعراض للتهتك الذي يتخلله الوعظ المكشوف.
وفلم اليتيمتين الذي عرض بسينما الكوزمو، لم يذكر له مؤلف، وأكبر الظن أنه مقتبس ممصر، من تلك الأفلام التي تنسب إلى المخرج فقط، وأن كانت حادثته تبدأ بلقيطة وتنتهي بلقاء الوالدة وابنتها بعد ما كبرت وجرت عليها حوادث القصة، فهذا قالب من القوالب المعروفة التي يتكرر صب القصة في كل منها بالأفلام المصرية؛ فإن كان هذا الفلم ممصراً فقد أجيد تمصيره حتى بدت فيه ملامح البيئة المحلية وقوامها كأنه مصنوع على قدمها. . . أما أن كانت القصة إنشاء مصرياً فمن هو المؤلف الفنان الذي أبدع حسونة الإنسان؟.
مؤامرة نفرين تتكرر:
ألقى البكباشي عبد الرحمن زكي محاضرة يوم السبت الماضي بنادي الاتحاد الثقافي المصري، عن لإبراهيم باشا في تأريخ مصر الحربي، فبين مزايا البطل العظيم في الناحية العسكرية بإلقاء نظرات على ميادين القتال التي خاضها، وعرض لحملته على الموره وبلاء الأسطول المصري في مياهها، فقال أن الجيش المصري كان يحارب في بلاد الموره أوربا كلها التي كانت تمد اليونانيين بالرجال والأسلحة والعتاد، وانتهزت إنجلترا وفرنسا وروسيا فرصة انشغال إبراهيم باشا بتنظيم الجيش البري وتآمرت على السفن المصرية فكانت موقعة نفرين المشهورة التي كانت في الحقيقة مؤامرة ولم تكن موقعة، لأن أساطيل هذه الدول أخذت الأسطول المصري والتركي على غرة.
والواقع أن موقعة نفرين حادث من الأحداث التي بدا فيها التعصب الغربي ضد الشرق، ومن قبلها الحروب الصليبية، ومن بعدها معارك فلسطين الجارية، فالغرب في القرون الوسطى هو الغرب في القرن التاسع عشر، وهو هو في القرن العشرين؛ وهو بعد الذي يرمي الشرق بالتعصب. .
عوائق الفكر المصري:(803/44)
قال الأستاذ إبراهيم المصري في مقال بالعدد الخاص بعيد الجهاد من أخبار اليوم: (إن هناك ثلاثة أخطار تهدد مستقبل الفكر المصري هي: إغراء السهولة، وضعف النقد، ونقص الحرية) ثم فصل ذلك بقوله إن الكاتب قد شعر بقوة الصحافة فأصبح لا يحفل في الغالب بالفكر المتئد الناضج العميق، قدر احتفاله بالفكر البسيط السهل يذيعه في مختلف الصحف ويتقاضى عليه أجراً كبير لا يكلفه طويل عناء. والفكر لا ينهض بدون نقد، وظل النقد قد تقلص اليوم في مصر، فمعظم الصحف والمجلات تشير إلى الكتب الجديدة دون أن تبحثها وتحدد قيمتها وقيمة أصحابها، وحرية الفكر المصري ما تزال مقيدة، فهو إن مس التقاليد سخط عليه المحافظون، وإن نقد نظام المجتمع ثار عليه البيروقراطيون واستبدوا به واضطهدوه شر اضطهاد.
المعجم المفهرس لألفاظ الحديث:
يشرف (الاتحاد الأممي للمجامع العلمية) على إصدار (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي رتبه ونظمه لفيف من المستشرقين من مختلف الأقطار يبلغ عددهم اثنين وأربعين مستشرقاً، وتولى الدكتور أ. ي. ونسنك طبعه بمطبعة بريل في مدينة ليدن بهولندة، ونشر منه أحد عشر فصلاً يحتوي كل منها على تسعين صفحة من أكبر قطع، وبعد وفاته أستأنف العمل الدكتور ي. أ. ب. منسنج فوصل إلى لفصل السابع عشر.
وهذا المعجم موضوع عن كتب الحديث الستة المعروفة وثلاثة أخرى هي مسند الدارمي وموطأ ابن مالك ومسند الإمام أحمد بن حنبل. وطريقته وضع جزارة لكل نقطة من ألفاظ الحديث الواردة في هذه الكتب التسعة ضمن الجملة التي هي فيها، ثم الدلالة على موقع هذه اللفظة من هذه الأصول التسعة بتوضيح أسم الأصل ثم أسم الكتاب ورقم الباب أو رقم الحديث سواء أكانت هذه اللفظة في أصل واحد أو أكثر. أما فيما يختص بمسند أحمد فبما أنه لم يطبع إلا طبعة واحدة، ففيه الدلالة على الحديث بتعيين رقم الجزء ورقم الصفحة.
وقد وصل العمل في آخر جزء ظهر إلى مادة صبر من حرف ص. ويقدر إتمام المعجم في مثل ما ظهر من الأجزاء أي نحو سبعة عشر جزءاً أخرى. وقد احتاج المشرفون عليه إلى إعانة مالية تمكنهم من مواصلة العمل، فجاء الدكتور منسنج إلى مصر في أغسطس سنة(803/45)
1947، وقابل فيمن قابل معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا رئيس مجمع فؤاد الأول للغة العربية، بقصد أن يرعى هذا العمل ويمده بالإعانة، ثم سافر بغتة دون أن يتم الاتفاق ولما افتتح المجمع مؤتمره السنوي في أول هذا العام ذكر لطفي باشا في جلسة الافتتاح أن من ضمن أعمال المجمع القيام بعمل المعجم المفهرس للقرآن وللحديث. وعلى أثر ذلك تحدث معه الأستاذ فؤاد عبد الباقي، فأشار إلى أن الأولى بالمجمع أن يعين على إتمام معجم المستشرقين بدل أن يتكلف إنشاء العمل، فطلب منه الباشا أن يكتب إلى المشرفين عليه ليبينوا ما يلزم لإتمام طبع المعجم وما يحتاج إليه العمل من المال سنوياً ونصيب مصر مقابل الاتفاق على طبعه، فكتب، ولم يرد الرد المطلوب إلى الآن.
وفي انتظار الرد أحيل الموضوع إلى مكتب المجمع، فاعتذر بعدم كفاية الميزانية للقيام بالإعانة المطلوبة، ولكنه كتب إلى وزارة المعارف والجامعتين والجامع الأزهر، مقترحاً على كل منها شراء عدة نسخ من الأجزاء الصادرة على سبيل التشجيع، وكل ما تم من الإجراءات الإيجابية العملية في هذا الموضوع هو قرار الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف شراء خمسين نسخة.
عباس خضر(803/46)
البريد الأدبي
سئلت ولم أجب فلا بد أن أعترف:
سألتني يا سيدي عما يوجه الشرع في زكاة مالك - وقد كثر عدده وطال أمده - فلم أجبك وسكت وفي نفسي من الخجل والخزي ما الله يعلمه نعم سكت ولم أجبك؛ وكيف أجيبك عن زكاة مالك ولا عهد لي بجنيهاتك في كتب الزكاة - لقد درست المتون والشروح والحواشي حنفيها وشافعيها، وعرفت (الدرهم والدينار والدانق والمثقال، وعرفت حكم الرائجة والصحاح، والبهرجة والستوقة) ولا تبحث عن هذه النقود عبثاً يا سيدي فهي لا توجد في غير خزائن الأزهر، أعني في مقصراته ومطولاته التي حملتها معي من مكتبة جدي الأكبر يوم أن دخلت الأزهر وما زلت أقرأها كتباً مقررة إلى الآن.
أما أوراقك الخضر، فلا تسلني كم نصابها وكم زكاتها؛ ولا لوم علي ولا تثريب.
- أنا واحد من آلاف طلاب الأزهر، ندرس الدين في أسفار أجدادنا الأقدمين كما حملت إلينا بدون تهذيب ولا تنقيح وبدون احترام لشريعة الرقي والتطور. أين نقود فجر الإسلام التي نحسب نصابها ونعدد زكاتها - وقد صارت في جوف التاريخ - من نقود عصرنا الحاضر التي لم يرسم قرش منها في كتاب لدينا.
- ويحي ما أحمقني! أقضي سنين طويلة في الأزهر، أجهد فيها ما أجهد، من أجل دراسة لآثار بالية لا تنفع ولا تشبع!؟
أجل. كتب الفقه في الأزهر ملأى بمسائل باهتة رثة، تحتاج إلى تنقيح وتوضيح. انشر أي كتاب من كتب الشافعية، وتجلد في مطالعته بعض الوقت فإنك لا بد قارئ: (وكثير الماء قلتان، والقلتان خمسمائة رطل بغدادي تقريباً في الأصح) ثم يتكرم الشارح ببيان هذا الرطل البغدادي فيقول (والرطل البغدادي مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم تقريباً) وما أدري غفر الله له أنه فسر الماء بالماء كما يقولون، وسواء أدركت مقدار الماء الكثير أم لم تدرك، فحسبنا هذا الخيال البارع: قلة تزن مائتين وخمسة رطلاً!!
وكتاب العتق؛ الكتاب الأسود - كما يسميه بعض إخواننا - ما قيمة دراسته في هذا الزمان وجعله خاتمة كتب الشافعية؟ أليست خاتمة بيضاء؟ ذكروا فيه (أن الشارع متشوف إلى العتق) وقد عتق العبيد بحمد الله ولم يبق منهم واحد إلا في كتبنا وأدمغتنا كأنا لم نعرف بعد(803/47)
أن أحط صنوف البشر قد أصبحت أحراراً طلقاء؛ أو كأنا نرجو أن يبعث الشارع (المتشوف إلى العتق) دولة العبيد ثانية فنطبق عليها الأحكام.
وبعد. فتلك ثورة هادئة أرجو بعدها الله أن يوفق أولي الشأن في الأزهر إلى تطهير موارد العلم وتنقيتها من القذى والفضول وذلك أمر سهل أن كانوا جد حريصين على تأدية رسالة الأزهر بصدق وإخلاص. وكم في الأزهر من جهبذ تحرير يعوزه التشجيع والتعضيد ليخرج للناس آيات بينات في التصنيف والتأليف.
إسماعيل أبو ضيف
في كتاب (النقد الأدبي):
قرأت للصديق الناقد الكبير الأستاذ سيد قطب كتابه الجديد في النقد (النقد الأدبي) ولا أغلو إذا قلت إنه كتاب فريد في بابه وأسلوبه وطرقته في تناول موضوعاته وعرضها عرضاً كله الروية والاتزان وحسن البيان.
وليس غرضي من كلمني هذه حول الكتاب البحث في محتوياته وبيان قيمته - تلك التي لا يلمسها إلا القارئ قراءة العين لا سماع الأذن - وإنما بحسبي أن أشير وألفت الأستاذ الصديق إلى مواضع زايلها الصواب نتيجة التطبيع أو التصنيع، أجملها فيما يلي:
1 - من التطبيع ما جاء في قول القائل:
فأصبحت في الإثراء أزهد (زاهداً) ... وإن كنت في الإثراء أرغب راغب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ... ومن أين؟ (الغايات) بعد المذاهب
والتطبيع فيهما ظاهر؛ والأصل (زاهد) وفي الثاني (والغايات) بالواو.
2 - ومن خطأ النقل نتيجة السهو قول من قال:
وسنان (أيقظه) النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وصوابه.
وسنان (أقصده) النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وكذلك قول الآخر:
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة (والنديم)!(803/48)
وصوابه:
وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذُّ من المدامة (للنديم)
وقول الثالث:
يقول بشعب بوان حصاني ... (أمن) هذا يسار إلى الطعان؟!
وصوابه:
يول بشعب بوان حصاني ... (أعن) هذا يسار إلى الطعان؟!
إذ ليس مراد الشاعر السير (من) محلة إلى نحلة، وإنما غرضه (التحول) عن شعب بوان إلى الطعان.
4 - بيت ابن الرقاع:
وعلمت حتى (لست أسأل عالماً) ... عن (حرف) واحدة لكي أزدادها
روايتها عندي وهي الرواية الثابتة المقبولة:
وعلمت حتى (ما أسائل واحداً) ... عن (علم) واحدة لكي أزدادها
وكذا البيت:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف (يلتقيان)
وفي الأصل وهو الصواب على قرب الملتقى:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف (يجتمعان)
5 - وقع في البيت:
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم. . ليست تزول
تطبيع بالحذف، وصوابه:
. . . . . . . . . . . .=أن نجوم (الليل) ليست تزول
6 - وهذان البيتان كل على حدة:
وغر الصدور إذا (وكنت) لهم ... نظروا إلي بأعين خزر
ذكر الصبوح بسحرة فارتاعا ... وأملَّه ديك الصياح (صياحا)
أحفظ لهما في صدري روايتين لست أزعم أنهما الأصل، ولكنهما يحتاجان إلى تحقيق ومناقشة لجزم بصواب الأصل أياً كان، والروايتان هما:(803/49)
وغر الصدور إذا (ركنت) لهم ... نظروا إلي بأعين خزر
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا ... وأمله ديك الصياح (فصاحا)
7 - أوردة الأستاذ المؤلف عن صاحب الوساطة لأبي تمام البيت:
ألم يقنعك فيه الهجر حتى ... (بكلت) لقلبه هجراً يبين
ثم قال (يقول الشارح أنه لم يعرف لهذه اللفظة (بكلت) معنى ولم يجدها في ديوان أبي تمام ولم نجدها نحن!). وأقول يغلب على الظن أن تصحيفاً لحق باللفظة فأخرجها عن المعنى، ولعل الأصل (وكلت) إن لم يكن (ثكلت).
وبعد: فتلكم هنات عرضت لنا فألمحنا إليها مذكرين وليس منتقدين. ولعل الصديق الأديب يوليها بعض الاهتمام في الطبعات التالية للكتاب، والسلام.
(الزيتون)
عدنان
عود على بدء:
كنت قد أشرت في كلمتي (تحقيق تاريخي) المنشورة في عدد قريب من (الرسالة) الغراء إلى مرثية شاعر النيل حافظ بك إبراهيم في فقيد المعارف أحمد حشمت باشا، وقلت إنها من الشعر الذي لم يسجل في ديوانه المبتور!!
ولقد حدثني بعض الأدباء متعجباً لخلو الديوان من هذه القصيدة الفذة وما درى أن في باب المراثي وحده قصائد عديدة لشاعر النيل لم تسطر في ديوانه، ومن العجيب أن الذين ملأوا الصفحات بذكر شعره المنسي لم يقفوا عليها فيما رأوه، وأهم هذه القصائد ما يلي:
1 - قصيدة في رثاء السيد مصطفى لطفي المنفلوطي ومطالعها:
رحم الله صاحب النظرات ... غاب عنا في أحرج الأوقات
2 - رثاء شهداء العلم والغربة الذين اصطدم بهم القطار في أوربا ومطلعه:
علمونا الصبر نطفي ما استعر ... إنما الأجر لمحزون صبر
صدمة في الغرب أمسى وقعها ... في ربوع النيل مشئوم الأثر
3 - رثاء كريمة حشمت باشا ومطلعه:(803/50)
يا درة نزعت من تاج والدها ... فأصبحت حلية في تاج رضوان
وغير ذلك كثير!
علي أني أعجب كل العجب من أن الديوان قد أعيد طبعه عدة مرات وهو لا يضم قصيدة من القصائد المنسية التي يكتشفها القراء بين حين وآخر! فما فائدة التنبيه على الشعر المنسي إذن؟ ولم لا يلتفت إليه القائمون بإعادة طبعات الديوان؟ وهل كان حتم عليهم أن يحافظوا على طبعته الأولى فلا تلحق بما يكملها من روائع حافظ المغبون؟!
(الزقازيق)
إبراهيم عبد المجيد الترزي
المصحف المبوب:
قرأت ما كتبه الجليل عبد المتعال الصعيدي عن المصحف المبوب وقد صدر فضيلته مقاله بقوله:
(عصرنا هذا عصر تجديد في كل شيء وكان من الواجب علينا - معشر المسلمين - أن نجعل لطابع العصر أثراً في مصحفنا).
فهل يسمح لي فضيلته - وهو من نعلم عنه سعة في الصدر - أن أقول له: إن من الخير لنا أن نترك المصحف الشريف على حالته، وأن لا تمتد إليه أيدينا بشيء من التغيير في الطبع والإخراج - وإذا كان ذلك قد جاز لسلفنا الصالح فلأن مصلحة القرآن كانت تقتضي ذلك إذ كان مفرقاً فجمعوه. ومهملاً فأعجموه. واخترع الخليل الشكل للحاجة إليه. ونحن اليوم نقرؤه صحيحاً في طبعات جيدة أنيقة.
أقول هذا لأني أود أن يشعر المسلمون بأن كتابهم مقدس وليس عرضة لكل مبتكر؛ إذ من الجائز أن يختلف التعريب والتبويب فيظهر المصحف في عدة طبعات؛ فإذا بوبه اليوم فلان فسيبوبه غداً غيره. فيقولون قرآن فلان، ومصحف فلان وتكون فتنة. ويتبع ذلك أن يقول قائل فلنكتبه على الرسم الإملائي وكلما تفلسف شخص أضاف فكرة جديدة ما دمنا قد فتحنا هذا الباب.
فخير لنا أن نترك الكتاب الكريم، وأن تولي وجهنا شطر تعاليمه، فنجاهد في سبيل تحقيقها(803/51)
ونعمل على نشرها والدعوة إليها في كل مكان، وأن نعتني باللب ونترك القشور، وإن الله لا ينظر إلى الصور وإنما ينظر إلى الأعمال. وما يضر المسلمين بعد أن يحققوا رسالة كتابهم أن يكون على ما هو عليه؟
وإذا تنطع مستشرق وفهم خطأ فالذنب ذنبه فأمامه كتب التفسير أن جهل شيئاً.
وبعد فأود أن لا أكون قد جاوزت حدي مع أستاذي الكبير.
عمر إسماعيل منصور
أزمة معلم اللغة العربية في المدارس المصرية:
تفيض جداول الصحف اليومية بأن هذه الأزمة يلفت حداً لا يصح أن يسكت عنه، لا من المسئولين فحسب بل من ذوي الرأي في العالم العربي؛ إذ أنها تتصل بلغته وهي ميراث الآباء والأجداد! فقد روت إحداها بقلم مدرس رمز إلى أسمه بالحروف أن أربعة فصول ثانوية بإحدى مدارس الشرقية لها معلم عربي واحد مما اضطر ناظرها إلى أن يشرك معه في تعليمها مدرسي (الأعجمية) من الرياضة وغيرها! وأنا كمعلم أعرف أن من مضاعفات هذه الأزمة إن لم يكن عاملها الأول هو سلخ وزارة المعارف تفتيش مكافحة أقسام الأمية عن تفتيش التعليم الأولي بالمراكز وتعيين معلمي العربية بالمدارس مفتشين خاصين بها! وفي وسع هذه الوزارة أن تعمد في الحال وبدون إمهال إلى أن تعيد هؤلاء إلى عملهم الأصلي في المدارس وأن تسند تفتيش المكافحة إلى (المعلم الأولي) فهو بمرانه وتجاريبه العملية أكثر خبرة في هذه الناحية من أي موظف آخر مهما تكن ثقافته العلمية والفنية. . . (ومجلة الرسالة) الحفيظة على تراث العربية المجاهدة في سبيل نهضتها وإعلاء شأنها مسئولة إلى جد كبير إذا لم تلق لم تلق دلوها لتفريج هذه الأزمة وإزالة تلك الغمة!!
خورشيد عبد العزيز
معلم دميرة
بيان:
تود الإدارة الثقافية بالأمانة العامة للدول العربية أن تلفت الأنظار إلى أن مسابقة التأليف(803/52)
التي سبق الإعلان عنها في مطلع هذا العام، والتي أختبر لها الموضوعان التاليان:
أ - تأريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى خروج العرب منها، وما يتصل بذلك من الحوادث في بلاد الغرب.
ب - تأريخ الأمة العربية (العراق - الشام - مصر والسودان المغرب - جزيرة العرب) من سقوط بغداد إلى أول القرن الهجري (التاسع عشر الميلادي).
وقدر مبلغ 500 جنيه مصري جائزة لأحسن ما يكتب في كل من الموضوعين، قد امتد آخر موعد لتقديم الرسائل المكتوبة فيها إلى أول مايو سنة 1949 بدلاً من الموعد المحدد سابقاً وهوة أول مايو سنة 1948.(803/53)
القصص
رجل وامرأة
للكاتب الفرنسي لوي جربيو
(هذه ليست قصة بالمعنى المقصود منها، ولكنها صورة
صادقة من صورة الحياة التي نجدها في كل بقعة من بقاع
العالم وفي كل زمان من أزمنته)
(المترجم)
كان الدرج يؤدي إلى الفناء، وقد جلست المرأة بأسفله تبكي وتنتحب طول الصباح. كانت في منتصف العقد الرابع من عمرها سمراء ممشوقة القد ضعيفة البنية، وظلت تنشج بالبكاء، وتتمتم بكلمات مبهمة كأنها تتوعد من حولها. وكم ذهب إليها الجيران يحاولون الترفيه عنها وإرشادها إلى عين العقل دون جدوى. كانوا يقولون لها: لا يصح أن تثوري كل هذه الثورة. من الأفضل لك أن تصعدي إلى شقتك. إنك ستصدعين رأسك ببكائك المتواصل. (وهل يجدي البكاء؟) ولكها كانت تجلس وكأنها لا تعي كلماتهم. ما شانهم في ذلك؟ أليست هي حرة تفعل ما تشاء؟ وصاحت في أعماق نفسها (لقد سئمت كل شيء).
وكانت أحياناً ترتكن برأسها على السور الحديدي للدرج تحاول النوم دون جدوى. ثم تخفي وجهها بين يديها وتبكي في حرارة، فيسيل الدمع من بين أصابعها كما يسيل الماء من نبع لا ينضب. وتأوهت، ثم انتابها موجة من الصمت وهي تتلفت حولها بلا غاية. وأخيراً جلست دون حراك وقد أرتكن ذقنها على راحة يدها، ومرفقها على ركبتيها في ذلك الوضع الذي يفضله الرجل عندما يؤوب من عمله. أن هذا أول ناحية من نواحي انتقامها. لقد طافت بها الأفكار منذ أن بدأ الشجار إلى أن تحول هذا التحول على أية حال، ليس الآن إلا التفكير فيما قد حدث.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي لجأت فيها إلى الدرج. كم كان ذلك يغضبه أشد الغضب. ولكن. . . أليس هذه ما توده هي؟. . لم تستطع الإجابة على هذا السؤال. لقد كان من(803/54)
المستحيل عليها أن تقوم بأي عمل آخر، فالتجأت إلى الدرج. إنه بالطبع يستطيع أن يهددها بأن يعتد عليها بالضرب. ولكنها كانت واثقة بأنه أن ينفذ تهديداته التي تصدر منه أثناء غضبه. فمهما فعلت فإنه لن يهجرها أبداً. لعل هذا هو السبب في أنها تزداد تهوراً.
كان الناس يصعدون ويهبطون ويمرون أمامها، فيلقون عليها نظرة إشفاق، أو يرنون إليها في دهشة، أو يهزون أكتافهم. وكانت تتظاهر بعدم رؤيتهم، ولا تتحرك، حتى لو اندفع شخص نحوها وتخطاها، ولطم إحدى يديها، لظلت ساكنة دون أن تتحرك. ولعلها كانت تود ذلك. قالوا لها إنه قد أزف الوقت لتعود إلى شقتها، فلم تجب، ولماذا تعود؟ وهل جلست هنا لتجيب على مثل هذه الأسئلة؟ وهل مكثت لتكون موضع شفقتهم؟. . كلا. . . أن شفقتهم لا تعنيها في شيء. لقد جلست هنا ليشاهدوها، وليعرفوا كيف أوصلها هو إلى هذه الحالة، وأي نوع من الحياة تحياها، وحتى يعرف هو الآخر أنهم قد شاهدوا وأدركوا حالها. نعم أن هذا هو ما ترغبه الآن. . . على الأقل. أن أول جزء من برنامج انتقامها. وكانت في كل مرة يتحدثون معها، تجيبهم بإطلاق العنان لعبراتها وهي تحاول أن تجد موضعاً صريحاً تسند عليه (رأسها المسكين) بشعره المهوش الذي لم تهتم حتى بترتيبه.
كان الشجار قد بدأ مبكراً، ولم تمر الساعة الثامنة إلا وكانت على الدرج. ولن تبرح مكانها فإنه لا يوجد ما يؤدي بها ال التفكير في مبارحته. ها هو ذا الظهر د أقبل، وسيعود هو بعد لحظات. ما الذي سيقوله لها؟ لعله سيحدث ما حدث في المرة السابقة، فيمر عليها دون أن يعيرها انتباهه. ولكنه لن يظل وحيداً في الشقة أنه لم يحتمل هذه الوحدة - آخر مرة - أكثر من ربع ساعة ثم عاد يبحث عنها. ومما لا شك فيه أن ذلك سيحدث ثانية.
لقد تركها والغضب يعصف به. وصفق الباب وهو يقسم أن هذه هي المرة الأخيرة. . . المرة الأخيرة. أنه لا يستطيع احتمال هذا المسلك الجنوني. ولكنه سيجد عندما يصل إلى مقر عمله من فسيح ما يسمح له بالهدوء والتفكير في تؤدة.
وفتح باب الفناء، وميزت وقع أقدامه. ولم تتحرك عضلة من عضلات جسمها، وانقلب كل شيء فيها ساكناً، وقد تركز كل كيانها في الاستماع إلى وقع خطواته، وبدت كأنها لا تشعر بما يدور حولها. واقتربت الخطوات. سرعان ما ستراه. ولكنها ظلت دون حراك وقد أرتكن رأسها على سور الدرج. وأغمضت عينيها نصف إغماضه وهي تنتظر. وكاد أن(803/55)
يتعثر فوقها، وعرته دهشة بالغة، ثم تراجع وهو يحاول أن يستعيد رباطة جأشه وقد أغمض عينيه كان رجلاً بديناً في الحلقة الرابعة من العمر، يرتدي زي الكتبة، وقد أمسك بمظلة.
وتمتم قائلاً في صوت خال من الغضب - ما الذي تفعلينه هنا؟ فلم تجبه وابتدأ القلق يساوره، وغاض الدم من وجهه، وارتجفت اليدان وهما تقبضان على المظلة. ثم اكتسحه شعور من الضعة لا نهائي وإحساس بالاحتقار لا حد له. ووقف دون حراك بجوا المدخل. كان الضوء يسقط عليه من الخارج، فلم تستطع تمييز ملامحه. وظهر لها كأنه شبح بدين يحمل مظلة. ثم ردد في صوت خافت وكأنه يتحدث إلى طفل - ما الذي تفعلينه هنا؟ فلم تجب. لا بد أنها مكثت هنا ساعات. وهز كتفيه. إذن لا توجد نهاية لذلك. وجعل يفكر في شجارهما هذا الصباح، ويلوم نفسه. . . ولكنه كان يأمل.
- أتعتزمين البقاء هنا؟ فلم تجب. وكانت لهجته تنذر بانفجار بركان غضبه. وكان يلاحظ ما يختلج في نفسه من عواطف ثائرة، ويعرف أن غضبه ينهكه، فقال - هيا. . . دعينا نصعد إنه أنه لغباء. . .
وولدت كلمة (الغباء) في عينيه نظرة من الشراسة. وتنهد في حزن وقال: (يا لها ن حياة! كل ذلك لأجل ماذا؟) وجعل يتفحصها بنظراته بإمعان. وكأنما عزم أن يعمل ما في وسعه ليحل المشكلة فهز رأسه يمنة ويسرة ثم قال - حسن. . . ماذا؟ ما الأمر؟ ولم يكن هذا ما يود أن يقوله، ومع ذلك سيان عنده أقال ما قاله أو تفوه بشيء خلافه. وابتدأ يصعد الدرج. ولكنه سرعان ما استدار فجأة وصاح في صوت جفلت منه: (والطفلة؟) وانحنى فوقها، وشعرت بأنفاسه تهب على شعرها. الطفلة؟! لم تكن قد أعارتها أدنى اهتمام. أن نسيانها الطفلة كان ولا شك جزءاً من انتقامها. ومع ذلك شعرت بالقلق يستحوذ عليها.
- ما الذي فعلته بالطفلة؟
وخيل إليها أنه سيهم بضربها، ولكنها كانت قد صممت على ألا ترد عليه. ثم شعرت برأسها يدور. إنها حقاً لم تهتم بالطفلة.
- أجيبي! ها هو ذا قد انفلت منه زمام غضبه. ونزل الدرج، ثم وقف أمامها، وأسند مظلته على الحائط، ومد يده تلمس طريقها إلى وجهها التي تخيفه. ثم قال في صوت هادئ -(803/56)
متى، متى ستكفين عن تعذيبي؟ متى. . . متى - أواه، يا إلهي؟. . .
كانت ثورة نفسه لا تحتمل. وعادت به الذاكرة فجأة إلى الليلة التي هربت فيها. تلك الليلة التي ظل يبحث عنها طويلاً وهو يخشى أن تكون قد ألقت بنفسها في النهر. .
- تكلمي! ووضع يده على ذقنها، فلم تقاوم، ورفع وجهها. وطغى على نفسه شعور من الشفقة، فقال لها - لماذا أنت هكذا؟ وابتدأت شفتاها ترتعشان، وارتفع كتفاها، وتمتمت بكلمات تعذر عليه سماعها فسألها - ماذا تقولين؟ فأجابت - لا شيء.
وفجأة تغير كل شيء، فقال. . . لا شيء! حقاً؟ إذن لماذا؟ لماذا؟ ألا تخبرينني بالله لماذا؟ ما الذي تقصدينه بما حدث في الصباح؟ وما الذي فعلته بالطفلة؟ لقد كنت عازمة على ذلك منذ الصباح.
وهزها وهو يصيح بعد أن عصف به غضبه، وقد كان يظن أنه ملك زمامه. إن هذه الانفجارات، وهذه التأسفات: هذا التحول من الشفقة والحنان إلى القسوة والشراسة تلتي تصحب دائماً مشاجراتهما، كانت كأنها تمثيل مرحي. وكم كانت تهده هداً وتستنفد قواه. ها هو ذا قد جرح شعورها، فهبت واقفة، تبتعد عنه وهي تصيح (أيها الوحش!).
وصاح صوت من أعلى الدرج قائلاً - أن الطفلة معنا. لا داعي للقلق. سنعطيها غذاءها.
ولم يجب في الحال على الرغم من شعوره بالطمأنينة. إن فكرة وجود جيرانه واقفين بأعلى الدرج يستمعون ويراقبون.
هدأت من غضبه. قالوا - ألا تسمع؟
فصاح - لقد سمعت. . . شكراً!
وبحركة آلية التقط مظلته وهو يتمتم قائلاً - (لقد عيل صبري، عيل صبري!) فالتفتت إليه زوجه بوجه متقلص وعينين جامدتين وقالت في صوت مختنق ورأسها يهتز (عيل صبرك، عيل صبرك، ممن؟) وكأنه قد عزم على الصمت، فظل ساكناً لا يفوه بكلمة.
- حسن، أني في انتظار ردك.
فقال - لقد سئمت الشجار.
- هل هذا كل شيء.
- نعم.(803/57)
- إذن. . . هل أنا المسئولة عما حدث؟
فقال في تهكم - كلا. . . إنه صبي الجزار!
ثم انفجر ضاحكاً. كم كان جوابه مضحكاً! وسرعان ما تلاشى ضحكه عندما قالت - ماذا يهمك إذا كنت أتعذب؟
فأجاب - ليس هناك ما يجعلني أهتم. . . فتنهدت وتمتمت قائلة - إني أعرف ذلك. . .
وران عليها الصمت. هدوء مستمر. كان قد نسى تماماً أنهما لا يزالان على الدرج، وانه يشعر بالجوع وأنها لم تستعد بعد. . . نعم، لقد استسلمت نفسه مرة أخرى إلى سحر المشاجرة وسقط في الشرك طواعية. وأنشأ يتحدث ويشرح لها كم هو تعس، ويصف لها لواعج قلبه. وود لو استطاع أن يقنعها.
- ألا ترين؟. . . إنها لغباوة أن يحدث ما حدث. . . وكم هو مضيعة للوقت! ألا تكفي مشاكل الحياة المعقدة؟. . إذن. . لماذا؟ لماذا؟. . . خبريني؟
ووضع يده على كتفيها وجذبها إليه قائلاً - هل انتهينا من الشجار؟
فوضعت خدها على خده وأخذت تبكي.
- كفى. . . كفى لا تبكي. لقد انتهى النزاع.
إن هذا الهدوء والحنان، وذلك الحديث عن الحب، هو كل ما توده منه. لقد نسيت تماماً كل شيء عداها. وقالت - هنري. . . فربت على خدها قائلاً - هيا نصعد. . . لماذا نظل واقفين هنا؟
فتبعته وهي تقول - أليس من الأفضل أن نستحضر الطفلة؟
- دعيها. . . من الأفضل تركها حيث هي الآن.
كانت الشقة على حالها منذ الصباح دون نظام أو ترتيب، ولم تزل النوافذ مغلقة، وروائخح الليل تفوح في الشقة المظلمة. وخلع قبعته وظل ممسكاً بها لحظة، وتملكته الحيرة. . . أين يضعها؟ وأخيراً ألقى بها والمظلة على مقعد. ثم وهو يراقبها تتوسط الغرفة وقد تدلى ذراعاها (حسن. . . حسن. . . ماذا؟).
وعبست عبوسة صبيانها، كأنها على وشك البكاء مرة أخرى. ومرت بيدها على جبينها.
- لقد أصابك الصداع!(803/58)
- نعم، إنه مؤلم.
- ألم ننته بعد؟
فبكت من قلبها وهي تقول - أواه. . . نعم.
وأخذها بين ذراعيه وضمها غليه في حنان. كان يود أن يظل ساكناً دون أن يفوه بكلمة. ولكنه انشأ أن يتكلم مدفوعاً بنزوة لا تقاوم. فقال في حنان - لماذا تفعلين ذلك. . . لماذا. . .
فقال - وأنت؟
- أنا؟!
- نحن اثنان. . . فإذا كانت هذه الهفوات من جانب واحد فقط.
- ولكنها ليست غلطة أحد منا ذلك هو السبب.
- السبب في وجود الشجار؟
- نعم، ربما.
- على أية حال، لقد انتهى الغضب.
فقالت في لهفة: أوه. . . نعم.
- أتستطيعين أن تذكري ما الذي دار عليه الشجار هذا الصباح؟ أني لا أستطيع أن أتذكر. إنه لم يكن إلا كلمات، كلمات تافهة. لقد نسيتها تماماً. . . تكفي مشاكل العالم المقبلة.
لقد كانت تعرف طريقته في الجدال فقالت:
- لننس ما حدث!
وتراخت أذرعتهما، وابتعد عنها. ثم تهالك جالساً على مقعد وقال وقد ابتدأ يعود غليه غيظه.
- إنك امرأة لطيفة. . . ألم تقرأي صحف الصباح؟
يا له من سؤال! لكأنها تهتم دائماً بالصحف!
واستطرد يقول: بالطبع هناك مشاكل. أني أقول الحقيقة.
- أعرف ذلك. . .
فانفجر قائلاً: حسن، إذا كنت تعرفين ذلك جيداً، فما الذي تعنيه من. . . من مكوثك بهذا(803/59)
الشكل بالدرج تبكين على شيء لا يعلمه إلا الله. . .؟
- أوه. . اصمت.
ولكنه كان قد صمت قبل أن تتكلم، وجعل يفكر في كل ذلك وهو يتأملها. لقد كرهها. . . حقاً لقد كرهها. وأصبح يعافها ويشمئز من تهديداتها.
وسألها وهو يخرج ساعته من جيبه: ما الذي سنأكله؟
ثم هز رأسه قائلاً:
- لقد تأخر بنا الوقت.
فقالت: أستطيع تحضير بعض البيض والخضر أيكفي ذلك؟
- نعم.
واختفت في المطبخ، وتمدد على الفراش ينتظر. ما الذي قاله لها هذا الصباح حتى أثارها وجعلها على تلك الحالة؟ وجعل يفكر ويفكر دون أن يتذكر. وسمعها تقوم بأعداد الطعام بالمطبخ فناداها: مارسيل.
فأجابت وقد توقفت لحظة من عملها: نعم.
- ما الذي قلته هذا الصباح حتى. . .؟
ولم تفه بلحظة ثم قالت: لا شيء.
- بل هناك أشياء. . . خبريني!
- كلا. . . وما الفائدة؟
- فقال كنت أرغب. . .
فقاطعته قائلة: ألا يستحسن عدم التحدث عن ذلك؟
ولكنه ظل منتظراً. لماذا لا تريد أن تخبره؟ وشعر بحب استطلاع غريب يدفعه عدم تذكره ما حدث.
- ألا تتذكرين يا مارسيل؟
- أجل!
- حسن. إذن أخبريني!
- لماذا! إنه من الغباء أن نعود إلى ترديد هذه النغمة ثانية.(803/60)
وأدرك إنها لن تخبره أبداً، فتمتم قائلاً: حسن على أية حال.
نعم، على أية حال. . . من الأفضل ألا يتذكر. فهو مرتاح إلى. . إلى هذه المعيشة!!
محمد فتحي عبد الوهاب(803/61)
العدد 804 - بتاريخ: 29 - 11 - 1948(/)
مثل المهذبين من بني آدم
عندنا في دارنا الريفية عصبة من كلاب الحراسة مختلفة الأسنان والألوان والجنس تعيش في حال مدينة عجيبة: في الليل تتعاون على النباح وتتساعد في الهجوم، فإذا نبح أحدها سواد إنسان أو ريح ذئب استنبحها جميعاً واستعدادها جميعاً، لا تسأله ماذا نبح ولا لماذا عدا. وفي النهار تركض متقابلة في ظلال الشجر، أو ترقد متجاورة على قش الأرز، تتهارش حيناً وتتفلى حيناً، والصغير يعمد إلى الكبير فيعضه وهو هادئ مستسلم، والضعيف يجرؤ على القوي فيركبه وهو وادع مستكين.
ثم هذبناها فتهذبت، ودربناها على النظام فتدربت؛ وألقى في روعها أن تأخذ بطرف من مدينة الكلاب الأوربية فأحسنت لثم الفم، وأتقنت ملق العين، وأجادت بصبصة الذيل؛ ثم أسرفت في الرقة وأغرقت في التظرف حتى ليكاد كل كلب منها أن يقول: ضعوا على رأسي القبعة!!
تلك حال كلابنا ما دامت خارجة من سلطان البطن عالية وسافلة؛ فإذا قدم إليها الكلاب وجبة الغداء، أو عثر أحدها على عظمة في حواشي الفناء، انقلب التراحم قسوة، والتعاطف جفوة، والتهارش حرباً، والتفلية عضاً، والمدنية وحشية، والإيثار أنانية؛ فالأم تنكر ولدها، والأخ لا يعرف أخاه، والطعام الوافر المختص والمشترك تتنازعه المخالب الحداد والأنياب العصل، فيخرج بالخطف من فم إلى فم، وينتقل باللقف من يد إلى يد؛ والكلاب الضعاف والجراء الصغار يقفن منكمشات على بعد، يسألن بالحق ويتوسلن بالقرابة فلا يرين إلا النظر الشزر، ولا يسمعن إلا الزئير المهدد؛ حتى إذا غاب الطعام في الأجواف، ولعقت الألسن آثاره على الخراطيم، أقبلت الأم على ولدها، وأقبل الذكر على أنثاه، وعطف الأخ على أخيه، وعادت إلى الكلاب حياتها المدنية من مرح الهراش وحنان التفلية وألفة النباح!!
ذكرت بهذه العصبة عصباً أخرى في (ليك ساكسس) وفي (قصر شايو) تلبس الفراك، وتحذق المواضعات، وتحفظ الرسوم، وتفتن في الظرف، وتبالغ في المجاملة؛ فإذا لمس أحدهم ثوب الآخر من غير قصد اعتذر، أو لفظ جملة من غير ابتسام تأسف! يقضون أيامهم في التشاور الرقيق، ويمضون لياليهم في التزاور البهيج؛ ويأدب بعضهم لبعض المآدب الفخمة، يتساقون فيها الوسكي على نقل (الكافيار) ويتناوبون الرقص على نغم(804/1)
(الجاز)، ويتبادلون باللسان المعسول ألفاظ السلام والأمن والعدل والإنسانية والحرية والديمقراطية والعهود والمواثيق؛ حتى إذا جلسوا إلى مائدة السياسة، وقدم إليهم الطعام العربي المريء والشراب الشرقي الهنيء، تحلبت الأشداق، واحمرت الإحداق، وانقلبت حلل الفراك جلود نمور، وتحولت الأصابع في القفافيز مخالب صقور، ووقف المتسلحون بالحق والمنطق على بعد من المائدة ينظرون بالأعين العبري إلى مالهم المنهوب وتراثهم المغصوب، ولا يملكون إلا أن يحتجوا راغمين، ثم يقولوا نادمين: يا ويلتنا! ما لسيف الحق لا يقطع، وما لبرهان المنطق لا يفيد؟!
يا قوم، لقد قلنا لكم: إن القوة هي الحق وما سواها باطل؛ وأن ابن آدم على الرغم من دينه وعلمه ومدنيته لا يزال عبد العصا وضيعة الدينار. فمن شاء أن يعيش مرهوب الجانب محفوظ الحق فليدع سماحة موسى وبلاغة هارون، وليتخذ قوة شمشون وغنى قارون!
أحمد حسن الزيات(804/2)
أين كنا وأين صرنا؟
للأستاذ نقولا الحداد
كنا قبل عصر برنادوت لا نقبل دولة إسرائيل المزعومة ولا حديث لنا إلا عروبة فلسطين فإذا بنا الآن لا لنا إلا الهدنة. وكل يوم نذهب إلى مجلس الأمن باكين ناحبين صارخين: (اليهود خرقوا الهدنة). نسنا مشروع التقسيم ونسبة اليهود أيضاً. نحن رضينا بالهدنة الدائمة، واليهود لم يرضوا بالهدنة المؤقتة. الهدنة علينا لا عليهم. الهدنة لهم لا لنا.
لنا وفود سبع دول رسمية في مجلس الأمن وليس لليهود وفد واحد رسمي، لأن دولة إسرائيل لا تزال مزعومة، وقد نسينا مشروع التقسيم الذي كنا نجحده ونرفضه رفضاً باتاً وأصبح همنا الآن هل نقبل مشروع برنادوت أو نقبل هدنة بونش الأبدية التي تسمى صلحاً.
أن مصيبتنا هذه جاءت أولاً وأخراً من الإنجليز - فتباً لها من دولة فاسقة مارقة.
كان جيشنا المصري على أهبة أن يحتل تل أبيب؛ وإذا اليهود يستغيثون لأنهم أصبحوا على شفا الهلاك، فأنجدهم مجلس الأمن بأن أقترح هدنة 36 ساعة، وإذا المندوب الإنجليزي كادوجان يقول لا 36 ساعة لا ماذا تنفع؟ يجب أن تكون الهدنة 4 أسابيع. وإذا بها صارت أسابيع، لأن إنجلترا تهددت بأنه إذا كان العرب لا يقبلونها فيحرمون السلاح فقبلوها ولا سلاح واليهود لم يقبلوها وهم يخرقونها كل يوم وهم طلبوها لكي يقبلها العرب ويخرقوها هم. وهكذا كان.
وانتهت الأربعة أسابيع ولكن اليهود لم يبلغوا كل مأربهم فالتمسوا تجديدها فجددها لهم برنادوت هدنة دائمة. ففعلوا فيها ما شاؤوا لمصلحتهم حتى إنهم قتلوا برنادوت لأنه ارتأى أن يكون النقب للعرب وهم لا يريدون أن يبقى شيء للعرب حتى ولا بقعة الرمل هذه.
ففي الهدنتين جاءتهم الأسلحة من كل ناحية حتى صاروا في مأمن والعرب صابرون ويقولون لا نقبل إلا عروبة فلسطين ودولة فلسطين العمومية ولا دولة لإسرائيل. وبنو إسرائيل يصادقون على هذا القول بالقول. ولكنهم بالفعل هم على غير هذا القول. والإنجليز يقولون لنا: لا بأس، أقبلوا هذه الهدنة الدائمة واعتبروها صلحاً، ولكن لا توقعوا على شروط صلح.(804/3)
لنظر هذه البراعة البريطانية. اقبلوا الهدنة كما هي وخلوا جيوشكم في أماكنها ولا تتقدموا. يوم كان اليهود ينهبون سلاح الألمان وغير الألمان بعد معركة العلمين ويرسلنه تحت ذقوننا إلى فلسطين كنا نقول للإنجليز أن هؤلاء اليهود اللئام ينهبون السلاح من معسكراتكم وأنتم غاضبون الطرف. لماذا؟
أليس لكي يحاربوننا به؟
ولكن الإنجليز كانوا يرمون إلى هذا بدليل أنهم إذا أمسكوا عربياً معه بندقية شنقوه، وأما يهودي يسوق مركبة مصفحة ملأى بالسلاح فيقولون له باسمين مبروك.
والآن يستورد اليهود السلاح من كل مكان رغم أنف مجلس الأمن، وإذا استورد العرب سلاحاً من أي مكان حال الإنجليز وغير الإنجليز دونهم.
إذا قلت لكم أيها العرب أن العالم كله يحاربكم، فهل ظننتموني مهولاً؟ ها قد وصلنا لها.
أيها العرب عيب أن تنوحوا وتنحبوا لمجلس الأمن. وعيب أن تتذمروا من دول أوربا لأنها تمنعكم أن تتسلحوا، وأن تتغيظوا من دول أوربا لأنها مستبدة بكم ولأنها غير منصفة لكم.
نعم دول أوربا وأمريكا غير منصفة، ولا يمكن أن تكون منصفة، لأن لإنصاف ليس من مصلحتها. تقولون أنها لا تخجل أن تكون جائرة. نعم لا تخجل ولا تستحي ولا يهمها أن تعيروها بقلة الحياء. كان يجب أن تعلموا هذا الدرس؛ وأن تضحوا بكل شيء في سبيل مصلحتكم لأنكم في وسط هذه أخلاقه. . . نعم العالم كله ضدكم لأنكم أكلة دسمة سهل طبخها. فلماذا أنتم هكذا؟ أتتوقعون من إنجلترا أن تسلحكم؟
لماذا لا تنشئون آلات ومعامل لصنع السلاح؟ أليس عندكم مال؟ أليس عندكم عقول؟ أليس عندكم عضل؟.
أمس كتب الملحق التجاري للسفارة الأمريكية أن بترول الشرق الأوسط هو 60 بالمائة من بترول العالم. فهل هذا قليل وأي سلاح أمضى من البترول. هل تطير طائرة أو تسير سيارة أو تدب دبابة أو تتحرك سفينة إلا بهذا البترول.
بعد 3 سنين تتهافت المدنية الشائخة على بترول العراق والحجاز والبحرين وإيران وبترول الصحراء الذي لم يستنبط بعد تهافت النمل على قصعة عسل أو تهافت الذباب على المزابل. بعد بضع سنين يرتقع ثمن لتر البترول من شلنين إلى عشرة شلنات. ولو(804/4)
شاء أصحاب البترول لأمكنهم أن يرفعوه الآن ولا أحد يمتنع عن دفع الثمن لأنه ضروري للحياة وللحرب.
يا ناس عندنا سلاح قوي جداً ولا نستعمله - ليس في أمة تخاذل كهذا التخاذل وجبن كهذا الجبن.
واليهود من أين يأتون بالبنزين لسياراتهم وطياراتهم و. . . الخ أليس من بترول العراق والحجاز. يأخذون بترولنا ويحاربوننا به.
يا قوم تيقظوا. أن الويل اليهودي القادم عليكم لا تحسون به الآن لأنه لم يقع بعد. ومتى وقع فلا ينفعكم لو ولا ليت.
قيل أن اللاجئين في شرقي الأردن أصبحوا في درجة من اليأس لا يحتمل وهم يفكرون في مفاوضة اليهود. وهذا ما يتوقعه اليهود. فإذا حدث سقطت فلسطين كلها في أيدي اليهود، ثم تلتها شرق الأردن. ثم. . . ماذا وماذا؟ الويل ثم الويل. . .
نقولا حداد(804/5)
لمحة من سيكولوجية الطفل
عود على بدء
للدكتور فضل أبو بكر
شرحنا في المقال السابق باختصار - آمل ألا يكون مخلاً - ناحية من سيكولوجية الطفل ووعدنا القارئ الكريم بالعود على ما بدأناه. ولما كان وعد الحر دين - كما يقولون - فأنا نفي بوعدنا في مواصلة البحث حتى يكون القارئ فكرة واضحة جلية على قدر الإمكان عن هذا النوع من الدراسات النفسانية.
أن إدراكنا لحقائق الأشياء يأتي عن طريق الملاحظة والتجارب بواسطة الحواس كالسمع والبصر، أو عن طريق المقارنة والاستنباط بواسطة العقل والبصيرة. وهذه التجارب مادية كانت أو معنوية تكتمل عندنا شيئاً فشيئاً كقطرات الماء تتساقط على الإناء الفارغ فتحتل فراغه وتفعم سعته. وكما أن الأواني تختلف من حيث السعة والطاقة كذلك التجارب عند الناس مختلفة فمنها الواسع المترامي ومنها الضيق المحدود الجوانب.
والتجارب نفسها لا بد لها من أسس ودعائم ترتكز عليها ومن ضمن تلك الدعامات نذكر اثنتين هما الذاكرة والخيال وهما موضوع بحثنا في هذا المقال الموجز.
الذاكرة عند الطفل:
ذكرنا فيما سبق كيفية ملاءمة الطفل - أو غيره من الأحياء - للبيئة التي يعيش فيها وقلنا أن ذلك لا يتم إلا عن الإخضاع والتمثيل وطريق الخضوع والتكييف
والذاكرة - كما سيتضح لنا - يكون عملها عن طريق الإخضاع كما أن الخيال يكون مفعوله من ناحية الخضوع.
وذاكرة الطفل - كما هو متوقع - تختلف اختلافاً أساسياً عن ذاكرة الكبار لأن الذاكرة جزء من (كلية) العقل والعقل محدود الجوانب، صغرها عند الأطفال يتناسب مع صغر أعمارهم وأجسامهم وهي ظاهرة فسيولوجية طبيعية.
وطريقة عمل الذاكرة على وجه العموم تكون بواسطة الطرق الأربع الآتية:
1 - تثبيت الذكريات
2 - بقاء الذكريات(804/6)
3 - مكان الذكريات
4 - استدعاء الذكريات
هذه هي العوامل الأربعة اللازمة للذاكرة حتى تؤدي وظيفتها وسنشرح فيما يلي كل عامل على حدته:
1 - تثبيت الذكريات: إذا عرضنا أمام ناظر الطفل بعض الأشياء أو الصور أو روينا له حكاية بسيطة مسلية وطلبنا منه بعد حين قصير أن يصف لنا ما شاهده أو يقص علينا ما سمعه تبين لنا أن قوة التثبيت ضعيفة عنده كما أن الماديات تكون أثبت في ذاكرته من المعنويات وأنها تعتمد كل الاعتماد على الحس.
2 - بقاء الذكريات: يكون عنده بطريقة غير متساوية من حيث المدة فقد ينسى ما تقصه عليه منذ ساعات قلائل ثم يتذكره بعد مضي بعض الوقت كما أن بقاء الذكريات يكون مرهوناً بغريزة تمركز اهتمام الطفل حول نفسه ويبدو الطفل هنا أنانياً مغرضاً كما هو الواقع بدليل أن الأشياء التي تهمه دون غيره أو يرى فيها إرضاء لرغبته تكون أبقى في ذاكرته وإن كان هذا البقاء نفسه قصير الأمد، ولكنه عند الأطفال يخضع لسلطان (الوعي) بخلاف الحال عند الكبار إذ يكون بقاء الذكريات عن عمل (اللاوعي).
3 - مكان الذكريات: ونقصد بذلك المكان الذي تحتله بالنسبة لزمن حدوثها وتتابعها وفقاً لدرجة أسبقيتها، وفي هذه الحالة يتضح لنا ضعف ذاكرة الطفل لأنه يجهل فكرة (الزمن) ومن هنا يتعذر عليه ترتيب الذكريات ومن هنا كان لغطه وخلطه للحوادث، ولا ينتظم ترتيب ذكريات الطفل وإحلالها المكان اللائق لها إلا ما بين العام السابع والحادي عشر من عمره إذ يكون وقتئذ قد كون فكرة عن الزمن.
4 - استدعاء الذكريات: هو نوع من الاجترار لما يختزنه مستودع الذاكرة إذ يتسنى للكبار أن يستدعوا ذكرياتهم، وقد تسعفهم في كثير من الأحيان لأنه في استطاعتهم أن يوجهوا تفكيرهم في ناحية خاصة ويتحكموا فيه بخلاف الحال عند الأطفال إذ يكون بطريقة تلقائية غير إرادية كالببغاء وهذا ما يحدث عند الطفل ما بين سن الثانية إلى الخامسة وهو ما نشاهده عند الأطفال حينما يسمعون قطعة من المحفوظات فيكون إلقاؤهم لها بصوت على وتيرة واحدة لا تتغير نبراته بطريقة حرفية تلقائية خالية من الفهم والوعي لما يلقونه.(804/7)
أسباب ضعف ذاكرة الطفل:
قلنا أن تثبيت الحوادث وبقاءها وترتيبها حسب الزمن واستدعاءها عند اللزوم في ذاكرته كل ذلك إنما يكون بطريقة بدائية غير مكتملة، وذكرنا الأسباب المؤدية لذلك. وهنالك عاملان يؤديان إلى ضعف ذاكرة الطفل وهما: (1) النسيان. و (2) تشويه الذكريات وتبديلها في ذاكرته.
1 - النسيان: يحدث عند الكبار لعدة أسباب: منها (الفسيولوجية) بمعنى أن يعتري الذاكرة نوع من (التأكسد) وعدم القابلية للاستيعاب بسبب التعب الجسمي أو العقلي. وهنالك أسباب (سيكولوجية) كالصدمات النفسية العنيفة التي تحدث في النفس نوعاً من القبض فينشل التفكير ويغيض معين الذاكرة. وأسباب (باثولوجية) كما يحدث في بعض الأمراض العقلية كالذهان والعصاب، أو بعد نوبة الصرع، أو لأمراض معدية أو وبائية كالحمى التيفودية والالتهاب السحائي، كل هذه الأمراض تسبب ضعفاً في الذاكرة ينتج منه النسيان.
كل ما ذكرنا من أسباب إنما هي شخصية تعتري الشخص نفسه فتسبب له النسيان. وهنالك أسباب أخر خاصة بالأشياء تتصف بها تلك الأشياء فتسبب أو تساعد على نسيانها. مثال ذلك تفاهة الأشياء والأثر الضعيف الذي تتركه في الذاكرة فلا يلبث أن يزول وتختفي معالمه. ومنها كون الأشياء بغيضة على النفس غير محببة لها فتلفظها لفظ النواة وتسقطها من حسابها.
أما عند الطفل فأكبر سبب للنسيان ناشئ عن انحطاط درجة تفكيره الذي يشمل الذاكرة أيضاً ولأن إدراكه للأشياء خاطئ وقد سبق أن شرحنا ذلك وبينا الأسباب المؤدية للنسيان عند الكبار.
2 - تشويه الحوادث وتبديلها في ذاكرة الطفل: تأخذ الحوادث والأشياء صورة ممسوخة مشوهة في ذاكرة الطفل وهو يعتقد بصحتها، كما أنه من الصعب بل المتعذر في كثير من الأحيان الوصول إلى تغيير هذا الوضع الخاطئ في ذاكرته.
ولنضرب لهذا مثلاً وهو إذا روينا قصة لطفل ورجوناه بعد قليل من الوقت أن يروي لنا ما سمع أو يقصها على طفل آخر ورجونا هذا الأخير أن يقصها على طفل ثالث تبين لنا في النهاية أن القصة الأولى قد مسخت وكادت معالمها أن تزول؛ وذلك أن كل طفل يزيد عليها(804/8)
من الحواشي والتعاليق بما يتفق وهواه؛ كما نلاحظ ظاهرة أخرى وهي نزعة الطفل إلى (الخرافة) كما قد تبقى آثار هذه الظاهرة عند الكبار ولكنها تصدر منهم عن (وعي) بخلاف ما يحدث عند الأطفال إذ تصدر من (اللاوعي).
الخيال عند الأطفال:
علمنا مما سبق بأن الذاكرة عامل لا بد منه لملاءمة البيئة وهي عند الطفل تخضع لظاهرة الإخضاع ملؤها التحيز والأنانية والمادية، وهي صفات فسيولوجية وسيكولوجية لأزمة لنمو الطفل.
إن الذاكرة والخيال يعملان معاً ويكمل كل منهما الآخر؛ ولكن في بدء حياة الطفل يكون أثر الذاكرة أوضح ظهوراً وأقوى مفعولاً من أثر الخيال الذي يكون في بادئ الأمر ضئيلاً جداً، ثم ينمو بنمو جسم الطفل وعقله وهو بلا شك أسمى مرتبة من الذاكرة، ويعد خطوة واسعة إلى الأمام في سبيل التطور العقلي، وهو بالعكس من الذاكرة يخضع لظاهرة الخضوع والمصانعة وهو العالم الثاني اللازم لملاءمة البيئة، وظاهرة الخضوع والمصانعة هي ظاهرة شاقة عسيرة على الطفل وفيها نوع من التضحية من جانبه.
والخيال - على وجه العموم - هو المقدرة على رسم صور لما وعيناه أو تأملناه من فكر وأشياء، ثم الربط بين تلك الصور والأفكار وإبرازها جليه واضحة في مخيلتنا في شبه (لوحة) كاللوحات الزيتية التي يصورها ويرسمها الفنانون والرسامون.
والخيال ضد الواقع، وإذا قيل عن إنسان إنه خيالي فمعنى ذلك أنه ليس واقعياً، وكما يعرف الفيلسوف الفرنسي (باسكال) بأنه قد يكون مصدراً للأخطاء والأغلاط.
يختلف خيال الكبار عن خيال الأطفال لا في وسعه وخصوبته وذكائه عند الكبار فحسب، ولكن في نوعه وطريقة عمله، فهو أجنح إلى المادية يعنى بها أكثر بكثير من عنايته بالمعنويات كما أنه تلقائي يصل إلى الهدف عن أقرب طريق.
فإذا ما شاهد الطفل مثلاً قطرات الندى في الصباح الباكر تكلل الحشائش أو تتدلى من أعطاف الورد فقد يتبادر إلى ذهنه فوراً بأن الورد حزين باك يذرف الدمع؛ وإذا رأى فراشاً ملوناً يتطاير في الحقول فقد يظنه زهوراً طائرة.
فمن هنا نرى أن خيال الطفل يصل إلى هدفه من غير كبير عناء. وقد يتراءى لنا في هذه(804/9)
الحالة بأن الطفل مسحة شاعرية لأن الشاعر مثل هذه المواقف وبعد أن يكد خياله ويتذوق ما في المشهد من جمال وروعة لا يقول أكثر مما قاله الطفل بأن الورد قد أحمر خجلاً أو بكى حزناً، أو أن الزهور تتطاير فرحاً أو هلعاً، وكل ما هنالك من فرق هو أن الشاعر يحلم ويتذوق والطفل يجزم ويجسد ما يقع تحت ناظره ويرتسم على خياله.
يقول الفيلسوف (أوجست كمت) مؤسس مذهب الإيجابية بأن الخيال يمر بثلاثة أطوار:
الطور الأول: هو الطور الديني فقد تخيل الإنسان الأول فكرة الدين والآلهة، وهي فكرة مرماها الفسيولوجية، والسيكولوجي هو ملاءمة الإنسان لبيئته وأمله في الخلود تتجلى فيها ظاهرتا الإخضاع والخضوع بصورة جلية واضحة. يخضع للآلهة ويتقرب إليها حتى إذا ما فاز منها بالخطوة والرضا استعمل بدوره تلك الخطوة وذلك الرضا في إخضاع بيئته من طبيعية واجتماعية وأصبح أقوى نفساً وأشد مراساً في حربه الدائمة السرمدية مع تلك البيئة.
ذكرنا أيضاً في المقال السابق بأن (الحيوية) هي من مميزات عقلية الطفل يشاركه الإنسان الأول في هذه الصفة إذ كان يعير الأصنام والجمادات شيئاً من الحيوية والإرادة والتفكير ومن هنا كان يخشى بأسها ويرتجي معونتها. كذلك الطفل في سنه المبكرة يرى في بعض الجمادات حياة وإرادة، فأنظر إليه يناجي لعبته ويناغيها حيناً، ثم لا يلبث أن تتغلب عليه صفة القلق السريع والتحول المفاجئ فينبذها ويقصيها. وقد تتغلب عليه غريزة (الإخضاع) والسيطرة وحب الذات إذا لم تسر على هواه أو تتكيف على صورة خاصة كما لو كانت ذات وعي وإرادة.
الطور الثاني: هو أن الطور (الرومانتيكي) والوهمي يظهر فيه الطفل تقدماً محسوساً، فبعد أن كان في الطور الأول يعتقد في حيوية بعض الجمادات من أدوات لعبه تتضح له ماهيتها الحقيقية، ولكنه في هذا الطور يلجأ إلى (الغرض) ويستعمل (المجاز) فيتخيل مجازاً بأن لعبته كائن حي لأن في ذلك لذة شاعرية نفسانية وهذا الغرض نفسه إنما ينتج عن (الوعي). ويمكننا أن نعتبر هذا الطور بداية الشاعرية والخيال الحقيقي. كذلك بعد أن كان الطفل في الطور الأول يعتقدون في وجود (بابا نويل) ولا يرتابون في أمره وبأنه هو الذي يهبط من السماء في صبيحة رأس السنة الميلادية وعيدها ويأتيهم بالهدايا والتحف يبدءون(804/10)
يتشككون في أمره بل ينكرون وجوده وإنما هي حيلة ودعاية من والديهم وذويهم يقصد منها جلب السرور إلى أنفسهم. غير أن هنالك نوعاً من خيبة الأمل تحدث للأطفال حينما تتبين لهم حقيقة (البابا نويل) أو غيره من الأشياء التي كانوا يتخيلونها على هواهم؛ لهذا يفرضون مجازاً وبمحض وعيهم وخيالهم بأن (البابا نويل) يهبط من أعلى السماء ويأتيهم بما يشتهون لأن في الوهم الرومانتيكي لذة نفسية، كما أن في ذلك يحلو للكبار ويشعرون بشيء من السرور لبقاء آثار هذا الطور الرومانتيكي عالقة في أذهانهم وأن كنا لا ننكر بأن غبطة صغارهم هي العالم المباشر لجلب السرور إلى أنفسهم. وهذه اللذة النفسية يشعر بها مؤلفو قصص الأطفال والأمثال الخرافية مثل أمثال لافونتين الخرافية.
الطور الثالث: يتولد فيه عند الطفل كبير من الوعي وينقد فيه ما كان يسلم به تسليماً آلياً تلقائياً كما يجنح إلى الواقعية ويصبح خياله مرتبطاً منظماً بعد أن كان مفكك الحلقات مفقودها في أغلب الأوقات وهو ما يظهره خطأ أو يتراءى للإنسان وسعه بالنسبة لعقلية الطفل هذا الخيال الذي كان واسعاً سطحياً - لتفككه يصبح عميقاً - لتركزه وربطه - محدود الجوانب. كما تبدو عند الطفل آثار قوة الملاحظة.
كما أن آثار الطور الثاني لا تزال تبقى لدى الطل ولكنها تضمحل شيئاً فشيئاً ويحل محلها الخيال العلمي وهو كما يلقبونه (بطور البناء) هو بداية الإنتاج والابتكار لدى الطفل.
هذا وقد يعتري الخيال نوع من الشذوذ في سن المراهقة وهي كما نعلم أخطر الأطوار في نمو الطفل جسمياً وعقلياً ونفسياً نذكر بعضها باختصار.
1 - (الميثومانية) وهي نزعة يجنح فيها لخلق الأكاذيب والقدرة على حذفها وتصبح له عادة وهواية لا ينفك عنها بل تلازمه طيلة حياته إذا لم يبادر بعلاجه منها.
2 - (البوفارزم) نوع من (الميقالومانيا) هو تخيل المراهق بأنه ذات مصونة وشخصية مرموقة.
3 - (الشزويدية) وهو أخطر أنواع الشذوذ والأمراض النفسانية التي قد يصاب بها المراهق. ومن خواصها وعوارضها أن المراهق يستسلم (لأحلام اليقظة) ويستحل الاستغراق فيها يطلق لخياله العنان ويسبح في ملكوت الأوهام ثم يجنح إلى العزلة يهاب المجتمع أو يحتقره في بعض الأحيان ويبني (قصوراً في الهواء) كما يقول المثل.(804/11)
هذا الشذوذ قد يصاب به بعض الفلاسفة والفنانين ولكنه يقف عندهم عند هذا الحد. أما لدى الطفل فقد تشتد وطأته ويفضي به إلى ما هو أدهى وأمر، ونقصد بذلك داء (الفصام)
ومن علامات ظهوره عند المراهق هي اشتداد عوارض (الشزويدية) فينطوي الطفل على نفسه انطواء تاماً ويبدو خجولاً متكتماً ولا سيما في حضرة من هم مثل سنه، وإذا أرغم على مجالسة غيره فقد يفضل أن يكون ذلك مع الكبار.
يصور له خياله آفاقاً بعيدة وأهدافاً عالية تصبو نفسه إلى تحقيقها ولكنه لا يبدي مجهوداً لتحقيقها لأن المجهود يتطلب مواجهة الواقع ومصارعة الصعاب وهو ما يفر منه فراراً فيفضي به الحال إلى الإخفاق فيحز ذلك في نفسه ويريد من فصامه في شكل (دائرة خبيثة) وكلما ازداد تحفزه وطموحه وتوثبه ازداد إخفاقه وابتعاده عن غايته على حد قول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
أو كما تقول الحكمة القائلة (السائر على غير هدى كلما ازداد جداً ازداد عن غرضه بعداً).
هذه لمحة مختصرة من سيكولوجية الطفل علّ القارئ أن يجد فيها بعض الفائدة.
(باريس)
فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا(804/12)
بين البحتري وشوقي
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
انتهت المؤامرة التي دبرها المنتصر مع الأتراك، بقتل الخليفة المتوكل سنة ثمان وأربعين ومائتين من الهجرة، وكان البحتري الشاعر في المجلس الذي تم فيه ذلك الاغتيال، فثارت عواطفه، فأنشأ قصيدة يرثي بها مولاه القتيل، ويقرع فيها ابنه ولي العهد رأس هاته المؤامرة، ويقول:
أكان ولي العهد أضمر غدرة ... فمن عجب أن ولي العهد غادره
فلا ملّى الباقي تراث الذي مضى ... ولا حملت ذاك الدعاء منابره
ولا وأل المشكوك فيه ولا نجا ... من السيف ناضي السيف غدراً وشاهره
فكانت تلك القصيدة من عوامل الجفوة، بينه وبين الخليفة الجديد. والظاهر أن الشاعر قد اضطهد في بدء ذلك العهد، فنبت به بغداد وسر من رأى، وأزمع الرحيل حتى يعود إلى الجو نقاؤه وصفاؤه، وحتى ترجع حياته إلى سابق عهده بها، لينة سهلة وادعة، فاختار أن يرحل إلى المدائن عاصمة دولة الفرس القديمة، راجياً أن يجد في تلك الرحلة العظمة والتسلية. ولقد أثمرت رحلته تلك القصيدة رائعة قل نظائرها في الأدب العربي كله، وكان لها صدى في نفس شاعرنا المغفور له شوقي، فقد نفى في أيام الحرب العظمى الماضية إلى الأندلس، وظل بها حتى وضعت الحرب أوزارها، فرأى واجباً عليه قبل العودة إلى وطنه، أن يزور آثار العرب التي خلفوها بتلك الديار، وكان البحتري رفيقه في الترحال، وسينيته التي خلد بها إيوان كسرى تملك من شوقي نفسه، قال (فكنت كلما وقفت بحجر، أو أطفت بأثر، تمثلت بأبياتها، واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها، وأنشدت فيما بيني وبين نفسي:
وعظ البحتري إيوان كسرى ... وشفتني القصور من عبد شمس
ثم جعلت أروض القول على هذا الروي، وأعالجه على هذا الوزن، حتى نظمت هذه القافية المهلهلة.
بدأ الشاعران قصيدتهما محنقين مما رمتهما الأيام به؛ أما البحتري فسر حنقه خوفه على رزقه أن يطفف، وخشيته على عيشه أن ينقص:(804/13)
بلغ من صبابة العيش عندي ... طففتها الأيام تطفيف بخس
وبعيد ما بين وارد رفه ... علل شربه ووارد خمس
وكأن الزمان أصبح محمولاً هواه مع الأخس الأخس.
وهنا يثور فيه الحنين إلى وطنه الشام، فيرى أنه لم يكن حكيماً، يوم باع هذا الوطن، واشترى به العراق، ولكنه لا يسرف في هذه الثورة، ولا يطيل، بل يكتفي بقوله:
واشترائي العراق خطة غبن ... بعد بيعي الشآم بيعة وكس
أما شوقي فيبدأ بالحنين إلى الشباب وملاعب الشباب، والحنق على هؤلاء الذين حرموه الإقامة في وطنه، وأبعدوه عنه، ويرق شوقي في حديثه عن قلبه الذي لم يسل بلاده، فهو متنبه مستطار، إذا استمع إلى البواخر مقلعة أو عائدة، فيقول:
وسلا مصر، هل سلا القلب عنها ... أو أسا جرحه الزمان المؤسي
كلما مرت الليالي عليه ... رق، والعهد في الليالي نفسي
مستطار إذا البواخر رنت ... أول الليل أو عوت بعد جرس
راهب في الضلوع للسفن فطن ... كلما ثرن شاعهن بنفس
فهذا القلب يكاد يطير من بين أضالعه كلما أصغى إلى باخرة تصيح في هدأة الليل، وهو كالراهب المتبتل يدق ناقوسه، كلما ثارت سفينة، تزمع الرحيل؛ وهنا يأسى شوقي لحرمانه من وطن ينعم به حتى غير أهله وذويه:
إحرام على بلابله الدوح، حلال للطير من كل جنس.
وإذا كانت ثورة البحتري على بعده عن وطنه قد وقفت عند حد إعلانها، فلم يحدثنا عن هذا الوطن قليلاً ولا كثيراً، فإن الذكريات تتهال على شوقي، وصورة بلاده تتمثل أمامه، فيطفئ شوقه بالحديث عن طبيعتها حيناً، وعن آثارها حيناً آخر، وإنه ليسمو إلى أبعد الغايات في تصوير هذا الشوق إذ يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ... ظمأ للسواد من عين شمس
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
وينتقل خيال شوقي بين الإسكندرية، وعين شمس، والجزيرة، والنيل، والجيزة، وبين(804/14)
الأهرام وأبي الهول، وإذا كنت لا أستسيغ بعض أخيلة شوقي هنا: كتصوير الجزيرة عرساً:
قدها النيل فاستحت فتوارث ... منه بالجسر بين عرى ولبس
أو تشبيه الأهرام بميران فرعون.
أو قناطيره، تأنق فيها ... ألف جاب وألف صاحب مكس
فإن حديثه عن أبي الهول حديث معجب حقاً، يبعث في النفس تعظيم الأثر، ومقيمي الأثر.
ورهين الرمال أفطس إلا ... أنه صنع جنة غير فطس
تتجلى حقيقة الناس فيه ... سبع الخلق في أسارير إنسي
ثم يقف شوقي مستلهماً العظمة من حوادث الأيام، فيرى دولاً تقوم، وأخرى تسقط، وملوكاً ينهضون بالملك ثم لا تلبث شمسهم أن تتوارى. وهنا ينتقل انتقالاً طبيعياً إلى حديث إلى الحديث عن دولة العرب في الأندلس، فيقف عند آثارهم الأكاسرة يستلهمها، وهنا يبدو تأثير البحتري واضحاً في شوقي، فقد وصف البحتري ما رأى بعينه، وصور له الخيال ماضي تلك الآثار، فرسم ما تخيل، ووازن بين الماضي والحاضر، وكانت تلك الموازنة مصدر التأسي والاعتبار، وعلى هذا النسق سار شوقي في قصيدته الأندلسية.
راع البحتري ما رأى من خالد الأثر، فأنطلق يعلن إعجابه، معترفاً بأن تلك الآثار الجليلة لا يمكن أن يوزن بها أطلال العرب ولا آثارهم في صحاريهم المقفرة:
حلل، لم تكن كأطلال سعدي ... في قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة مني ... لم تطقها مسعاة عنس وعبس
ولقد كان البحتري متفنناً مارهاً، يحاول أن ينقل إليك الأثر الذي أحس به عندما وقف أمام آثار الفرس، فيلجأ إلى التشبيه حيناً، والى تصوير ما رآه حيناً آخر، والى الخيال يكمل به الصورة، حتى تصبح واضحة مؤثرة: فهذا الجرماز - قد صار مقفراً مهجوراً، يوحي إلى النفس بالوحشة التي تملؤها عند رؤية القبور، وإن في هذا القصر من العجائب ما يدل على عظمة منشئيه، ومن بن ذلك صورة تسجيل معركة حربية دارت بين الروم والفرس عند مدينة أنطاكية، وقد وقف الشاعر أمام هذه الصورة مذهولاً لما فيها من الدقة والإحكام؛ فهذا أنوشروان يقود الجيش، مدفوعاً إلى القتال بهذا العلم المنصوب، ويحفز الهمم ويحث(804/15)
العزائم، وقد ارتدى المليك لباساً أخضر، وامتطى صهوة حصان يزدهي عجباً، ويختال تحت راكبه، وهذا الجيش قد أقبل على المعركة يصطلي نيرانها، ولا تكاد تسمع إلا صوت السلاح، فهذا جندي يقبل على عدوه بالرمح، وذاك يثقي السنان بالترس، ولقد بلغ من أحكام تلك الصورة أنها تخيل لرائيها أن ما يراه جيش حقيقي لا صورته، كما ملأ الوهم نفس البحتري، فأقبل يلمس الصورة بيده، ليتأكد أنها صورة لا حقيقية، قال:
فإذا ما رأيت صورة أنطاكية ... ارتعت بين روم وفرس
والمنايا موائل، وأنو شروان ... يزجي الصفوف تحت الدرفس
في اخضرار من اللباس على ... أصفر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجال بين بديه ... في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوي بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جد أحياء ... لهم بينهم إشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
وهذا الإيوان في القصر الأبيض عجيب الصنعة تراه فيخيل لهذا الكآبة التي تغمره أنه مزعج بفراق إلف عزيز عليه، أو مرهق بتطليق عرس، فكأنه يشعر بأحداث الزمان، ويحس بثقله عليه، ولكنه يحتمل متجلداً، وبرغم ما أصيب به من استلاب زينته، وعرائه من بسط الديباج، وستور الدمتس، لد يزده ذلك إلا عظمة وجلالاً؛ وبجمل الشاعر إعجابه الذي لا حد له في قوله:
ليس يدري، أصنع إنس لجن ... سكنوه، أم صنع جن لإنس
وهنا يسبح الخيال بالبحتري، فيعود به إلى عهد العظمة والمجد، الذي ظفر به القديم هذا القصر الموحش الضخم، فها هو ذا المليك بين حاشيته، وقد جلسوا في مراتبهم، يستقبل الوافدين عليه في إجلال وخشوع، بينما القصر يموج بمن فيه: قيان يملأنه بالغناء، ويعمرنه بالسرور؛ أما اليوم فقد انقضى كل شيء، وصار موضع عظة وعبرة، ولا يبخل البحتري على القصر بدموع يذرفها، برغم أن الدار ليست داره، ولا الجنس جنس قومه، ولكنه يحفظ للفرس هذه اليد التي أدوها إلى اليمنيين أهله، يوم أعانوهم على التخلص من غزو الجيش الذي بعثوا إليهم بجيش يقوده أرياط، ونشتم رائحة الشعوبية من بعض أبيات(804/16)
القصيدة كما مضى، ومن هذا البيت الأخير الذي ختمها به، وفيه يعلن إعجابه بالأمجاد من جميع الأجناس، لا فرق بين عربي وعجمي، قال:
وأراني بعد أكلف بالأشراف طراً من كل سنخ وأس ويسير شوقي هذا النهج تقريباً؛ يصف الأثر في حاضره، ويمضي به الخيال إلى الماضي، فيصف ما كان له من أبهة وجلال.
زار شوقي قرطبة فراعه ما آل إليه أمر تلك العاصمة القديمة فقد انتقص الدهر أطرافها فعادت قرية حقيرة لا شأن لها، بعد أن كانت في القديم على عهد العرب، أعظم بلاد أوربا وأرقاها، يقول شوقي:
لم يرعني سوى ثري قرطبي ... لمست فيه عبرة الدهر خمسي
يا وقي الله ما أصبح منه ... وسقى صفوة الحيا ما أمسي
قرية لا تعد في الأرض كانت ... تمسك الأرض أن تميد وترسي
غشيت ساحل المحيط وغطت ... لجة الروم من شراع وقلس
وإذا كان البحتري قد تخيل قصور المدائن وجلالها، فقد تخيل شوقي قصور قرطبة وأبهتها، وقلده في تصويره الناصر تحت الدرفس. ويعود البحتري إلى يقظته فيرى الدار خلاء، كما عاد شوقي إلى يقظته فوجد الدار ما بها من أنيس، وخص البحتري الإيوان بجزء من قصيدته بمجده، وشوقي قد خص المسجد العتيق بجزء من شعره يخلده، وأرى هذا الجزء أروع أجزاء القصيدة وأقواها، إذا استثنينا تشبهه أعمدة المسجد بألفات ابن مقلة، إذ هو أشبه بوزن الجبلة بالنملة. أما الأثر الذي أحس به شوقي عندما وقف أمام هذا المسجد العتيق، فقد نجح في تصويره تصويراً ينقل هذا الأثر إلى نفوسنا، إذ يقول:
ورقيق من البيوت عتيق ... جاوز الألف غير مذموم حرس
أثر من (محمد) وتراث ... صار (للروح) ذي الولاء الأمس
بلغ النجم ذروة وتناهى ... بين (ثهلان) في الأساس و (قدس)
مرمر تسبح النواظر فيه ... ويطول المدى عليها فترسى
وسوار كأنها في استواء ... ألفات الوزير في عرض طرس
فترة الدهر قد كست سطرَيها ... ما اكتسى الهدب من فتور ونعس
ويحها، كم تزينت لعليم ... واحد الدهر واستعدت لخمس(804/17)
وكأن الرفيف في مسرح الع ... ين ملاء مدنرات الدمقس
وكأن الآيات في جانبيه ... يتنزلن من معارج قدس
منبر تحت (منذر) من جلال ... لم يزل يكتسبه أو تحت (قس)
ومكان الكتاب يغريك رياً ... ورده غائباً فتدنو للمس
صنعه الداخل المبارك في الغرب، وآل له ميامين شمس ومما لا ريب فيه أن الذي أصبح خلاء مقفراً، خلده شوقي في شعره؛ ويقف شوقي حزيناً كئيباً، يتخيل العرب وهم يغادرون بلاد آبائهم في ذله وضعف فيقول:
خرج القوم في كتائب صم ... عن حفاظ كموكب الدفن خرس
ركبوا بالبحار نعشاً وكانت ... تحت آبائهم هي العرش أمس
رب بان لهادمٍ، وجموع ... لمشت، ومحسن لمخسّ
إمرةُ الناسِ همة لا تأتي ... لجبان، ولا تسنى لجبس
وإذا ما أصاب بنيان قوم ... وهي خلق، فإنه وهي أس
وكما ختم البحتري قصيدته بشكر الفرس على ما كانوا قد أسدوه إلى قومه اليمن، من سابق اليد، ختم شوقي قصيدته بشكر الأندلس على ما قدمت إليه من كرم الضيافة له ولا بنيه.
أحمد أحمد بدوي(804/18)
محمد إقبال شاعر الشرق والإسلام 1389 - 1873
1257 - 1938
للأستاذ مسعود الندوي
(تابع)
6 - (مسافر): مجموعة شعره الذي قاله أثناء سفره إلى أفغانستان سنة 1932 على دعوة من مليكها الشهيد الغازي نادر خان. وفيه نصائح لشبان بلاد الأفغان ورجالهم. ومما يسرنا ذكره بهذه المناسبة أن شباب الأفغان يدرسون شعره ويستفيدون من حكمه مثل شباب الهند. وقد بين لنا ذلك أستاذنا الجليل، العلامة المحقق السيد سليمان الندوي - أمتعنا الله بطول بقائه - الذي كان زميل شاعرنا في هذا السفر. وذكر لنا الأستاذ - أدامه الله - شيئاً كثيراً من مزايا محمد إقبال مما لا يتسع المقام لذكره. ومما ذكره الأستاذ برجه خاص أنه حينما زار محمد إقبال جلالة الملك نادر أول مرة في كابل جعلا يبكيان ساعة من الزمن، والقوم صامتون ينظرون إلى مسلمين مخلصين، أحدهما حكيم والآخر ملك، يتكلمان بدموع العين، لقد صدق من قال:
لساني عيى في الهوى وهو ناطق ... ودمعي فصيح في الهوى وهو أعجم
7 - بال جبريل (طير النا جبريل): كان الشاعر بادئ ذي بدء يقرض في الأردية، ولذلك ترى جميع عيون شعره من الأدوار الأولى في هذه اللغة. ولما سمت فكرته ونضجت آراؤه اتخذ من الفارسية آله لإبداء أفكاره وجعلها وسيلة لإداعة شعره في جزء غير يسير من أنحاء العالم الإسلامي، ولذلك جاءت جميع دواوينه بعد (بانك درا) في اللغة الفارسية. وقد شدا يذكرها في بيت له من (؟؟ مشرق) ولله دره حيث قال:
تنم كلي زخيا بان جنت كشهر ... دل أز حريم حجاز ونواز شهر ازاست
إن جسمي ريحانة من رياض الجنة الأرضية كشمير، والقلب منيته بلاد الله الحرام وأفانين الكلام مقتبسة من ألحان شهراز.
لكن اللغة الفارسية، حينما وسعت نطاق المعجبين بشعره في خارج الهند، قللت من قرائه والمستفيضين من ينبوع حكمته في داخل البلاد، وطالت شكوى أهلها من شاعرهم، حتى(804/19)
أن بعض حماة الأردية أرادوا أن يغضوا من شعره الفارسي، وتقول غيرهم أن الشاعر أختار الفارسية ليكون في مأمن من قوانين الحكومة الصارمة. لأجل هذا وذاك أراد الشاعر أن يعود (والعود أحمد) إلى الأردية، فنشر سنة 1932 هذا الديوان الذي بذ جمع دواوين شعره في الحكمة وتعمق الأفكار ومعظم كلماته فيه نتيجة ما شاهده وتأثر به خلال أسفاره إلى بلاد أوربا. . . لندن وباريس وروما والأندلس. . . وبلاد العرب عام 1931، ولقد أجمع النقاد على أن صاحبنا كان شاعرنا أو فلسفياً في مجاميع شعره السابقة، لكنه حكيم في هذا الديوان، لا غيره. ومن خصائص هذه المجموعة أن صاحبنا تناول المشايخ (المعروفين بـ (ملا) في الهند) والمتصوفين بالنقد اللاذع في غير واحدة من كلماته. شيء لم نره في مصنفاته السابقة. ومن ميزاته أنها تشتمل على معجزات القصائد التي ألهمها صاحبنا في الأندلس وفلسطين حينما تكشفت لعينيه الحجب الظاهرية ورأى بعينه ما لا يتيسر لغيره أن يراه. لكن هذا الديوان، على ما فيه من بدائع الحكمة ومشاهدات الأندلس وفلسطين، ينقصه شيء عظيم، وهو أن معظم المولعين بشعره لا يقدرون على إدراك مغزى كلامه، لكونه مصبوباً في قالب من الشعر المتأنق والحكمة العميقة البالغة، وإنما يتذوق المتأدبون والذين لهم ذوق في الشعر متأصل.
8 - ونظراً إلى ذلك عني بنشر ديوان آخر سماه (ضرب كليم) (ضربة موسى كليم الله) أودعه آراءه في جميع شعب الحياة العصرية، مجردة عن الفلسفة وزخارف الشعر، بحيث يفهمه كل من له أدنى إلمام بالدب، أن كان له حظ في المسائل الدينية والسياسية المعروضة على بساط البحث والنقد.
وقد فسر الشاعر الحكيم بنفسه أسم هذا الديوان (ضرب كليم) بأنه (إعلان حرب على العصر الحاضر) وقد صدق رحمه الله، في هذا التفسير، لأنه فند فيه آراء أهل الغرب والمتفرنجين وقطعها إرباً إربا، وانتقد جميع نظرياتهم السياسية؛ فلا ريب أن (ضرب كليم) (إعلان حرب على العصر الحاضر) وقد أجمع المتأدبون بأدبه والمتذوقون لشعره وحكمه على أن شارع الإسلام لم يجمع هذه الأفكار الثمينة في كتاب واحد. ومن خصائص هذا الديوان أن حكيم الإسلام تعرض فيه لانتقاد القاديانيين وغلامهم الكذاب، فذكرهم غير مرة وكشف الغطاء عن دجلهم وكيدهم للإسلام والمسلمين. وذلك بأسلوبه المعجز المدهش.(804/20)
9 - ارمغان حجاز (هدية الحجاز): عنوان ديوانه الذي ظهر بعد وفاته، رحمه الله، (باللغتين الفارسية والأردية)، وقد سماه هدية الحجاز، لسبب خاص. وبيان ذلك أنه سافر إلى بلاد أوربا مراراً وزار بعض بلاد العرب أيضاً، لكنه ما قدر له أن يتشرف بزيارة الحرمين الشريفين، على ما به من تباريح الوجد والشوق إلى زيارة بيت الله الحرام وقبر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من أمنيته أن يتمتع بها، وقد وطد العزم على ذلك، وجعل يقرض أبياتاً ومقطوعات شعرية، مواجهاً بها بيت الله الحرام ومثوى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكأني به كان يعد عدته لذلك السفر الميمون ويهيئ الزاد الذي يقدمه إلى عشاق أدبه والمفتتنين بحكمه، حين قفوله من الزيارة المباركة، إلا أن مرضه الأخير قد أنهك قواه، وبقى يتقلب على أحر من الجمر زهاء عامين يتجرع غصص النوى حتى وافاه الأجل المحتوم، ولما يقض لبانته. وفي أيام المرض العصيبة قد جادت قريحته بأبيات ومقطوعات لا تنسى أبد الدهر. وإن ننس لا ننس البيتين اللذين رثى فيهما نفسه، وأنبأ المولعين بأدبه وشعره بدنو أجله:
سرود رفته باز آيد كدنه آيد ... نسمي از حجاز حجاز آيد كدنه آيد
سر آن روزكار أين فقري ... دكر وأنات راز آيد كدنه آيد
ليت شعري، هل للنغمة المفقودة من رجعة؟ ولا أدري، هل أجد بعد اليوم نسيم الريح التي تهب من جانب البطحاء؟
أما هذا الفقير إلى الله فقد آن أوانه ودنا أجله، فلا يعلم إلا الله، هل ينبغ في هذه الأمة حكيم آخر عالم بأسرار الكون ودقائق الأمور؟
وكذلك قوله على فراش المرض قبل وفاته بأيام:
بيشتي بير أرباب يمم آست ... بيشتي بير با كان حرم آست
بكوبا مسلم هندي كدخوش باش ... بيشتي في سبيل الله بيم آست
هناك في الدار الآخرة جنة للذين يجودون بآمالهم ويضحون بذات يدهم، وجنة للزهاد والنساك المتقطعين إلى ذكر الله. وقل للمسلم الهندي أن لا يحزن ولا يتألم، فإن هناك جنة أخرى غيرها، ألا، وهي التي ينعم بها على الذين يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون.
- 5 -(804/21)
آراؤه وأفكاره:
نريد الآن أن نترجم بعض آرائه في مختلف المسائل في ديوانه (ضرب كليم)، ليعرف الفراء وجهة نظرة في السياسة والدين والأخلاق، إلا أنه لا يمكن أن يبقى في الترجمة عشر معشار الروعة والتأثير اللذين امتاز بهما شعره.
الاجتهاد:
أني لأحد أن يتعلم أسرار الدين في الهند
لأن العمل والأفكار العميقة مفقودة فيها؛
فلا تجد في المشتغلين بالعلم والتعليم حرية الفكر والتفكير السديد.
فتباً وتعساً للعبودية وعدم التحقيق؛
لا يغيرون أنفسهم فحسبُ، بل يريدون أن يبدلوا كلام الله ويحرفوا الكلم عن مواضعه؛
ما أبعد عن الحق هؤلاء الشيوخ والفقهاء وما أضل سبيلهم!
يرى هؤلاء (العبيد) أن كتاب الله ناقص
لأنه لا يرشدهم إلى طريق العبودية.
المسلم الهندي:
يقول الهنادك إنه خائن لوطنه ... ويرى الإنكليز أن المسلم متسول ومتكفف
وشريعة أصحاب النبوة، تفتي ... بأن هذا المسلم (العتيق البالي) كافر
فلا أدري متى يرتفع صوت الحق ومن أي وجهة؟ وقلبي حائر قلق أمام هذه الأقوال المتضاربة.
الجهاد:
لقد أفتى الشيخ بأن هذا عصر القلم، وأما السيف فلم يبق له اليوم عمل يذكر؛
ولكني أسائل حضرة الشيخ: أولاً يعرف أن هذه الموعظة لا تجدي اليوم بشيء في المساجد، فأين السيوف والمدافع بأيدي المسلمين؟
وأن كانت فالقلوب قد ذهلت عما في الموت من لذة؛(804/22)
ومن لي بالذين قلوبهم خشية الموت؛
حتى لا يرضوا أن يضحوا بنفوسهم تضحية الكفار؛
من لي بهم أن ينفضوا عنهم غبار الجبن والخمول؛
ويبذلوا مهجهم وأرواحهم بذل المسلمين المخلصين؟
وما أحرى الذين يرتعد العالم خوفاً من آلاتهم الجهنمية، أن يلقنوا الأمن والسلام ويدعوا إلى ترك (الجهاد)، (جهادهم) الباطل.
أو لا ترى أن أوربا قد غرقت في بحار من حديد
للمحافظة على الباطل وجنوده، واستعداداً للحرب الضروس القادمة
ونحن نود أن نسأل الشيخ المتزلف إلى الكنيسة الغربية والاستعمار الغربي: أليست الحرب شراً في الغرب، إذا كانت كذلك في الشرق؟
وأن كنت تريد الحق، فهل يليق بك أن تحاسب الإسلام وتضرب صفحاً من أعمال أوربا وفظائع مقترفاتها؟
الإسلام الهندي:
حياة الأمة منوطة بوحدة الأفكار،
وما الوحي الذي يمزق هذه الوحدة إلا ضلال وخرافة، ولا ضمان لهذا الوحدة إلا القوة؛
أما العقل والحكمة فلا يحركان في هذا الشأن ساكناً، لأن المسألة القوة؛
ولكنك أيها المسلم، لست في شيء من تلك القوة، فاجمل بك أن تلتجئ إلى كهف أو مغارة، وخير لك أن تجتهد في إيجاد إسلام آخر، يدعو إلى الفقر، والعبودية، واليأس الدائم. وبما أن الملا، (الشيخ) قد أبيح له في الهند أن يركع ويسجد.
يزعم الأبله أن الإسلام حر في هذه الديار (كأني به لا يعرف من الدين إلا الركوع والسجود فقط).
محمد علي الباب:
كانت خطبة (الباب) بين يدي العلماء غريبة؛
كان المسكين يحرف أعراب (السماوات) عن موضعه؛(804/23)
وكان العلماء يبتسمون، ساكتين على خطأه؛
فأجابهم إنكم لا تعرفون درجاتي العالية؛
كانت آي القرآن محبوسة في قفص (الأعراب)؛
والآن حل إسارها لوسيلة (إمامتي).
(البقية في العدد القادم)
مسعود الندوي(804/24)
طرائف من العصر المملوكي:
رسالة الدار عن محاورات الفار أو فن القصة
الأستاذ محمود رزق سليم
بقية ما نشر في العدد الماضي
اتبع كذلك المؤلف طريقة الحريري والهمذاني في ابتداع شخصيتين في القصة، شخصية راوٍ هو (حسان) ومروي عنه وهو (الحكيم حسيب) الذي أشرنا إليه فيما سبق. فيقول مثلاً (قال الراوي حسان. معدن الظرافة والإحسان: فتوجه الحكيم حسيب الأديب الأريب إلى إيراد الأخبار. عن الهداة الأخيار. فحكى أن ملكاً من ملوك الأمصار. وسلاطين العجم يدعى (شهريار). . . الخ). وذلك شبيه بما كان يقوله مثلاً أبو قاسم الحريري: حدثنا الحارث بن همام. . . ثم يقص قصته عن أبي زيد السروجي.
وقد توخى المؤلف في كتابه، مفاكهة الناس على اختلاف درجاتهم وتباين مشاربهم، من الحديث المشوق الذي يجذبهم إلى سبل الخير. وأسلوبه وإن كان مزدحماً بالبديع وبخاصة السجع، لأنه من المولعين به، من الحق علينا أن ننصفه، وأن نذكر أنه أخف مئونة من أسلوب المقامات العباسية حين بلغت أوجهاً على يد الهمذاني والحريري. وهو أكثر حكمة وأوفى مثالاُ وأدق تعبيراً وأكثر تحليلاً لخفايا النفوس، وإظهاراً لهواجسها، فلم يقتصر على الأوصاف الحسية بل حلل وتعمق وأمعن ودقق. فليست البراعة الأسلوبية رائدة الأول أو دافعة الأكبر على تدبيج قصصه وتأليف كتابه. وبهذا كله يفترق عن كتاب المقامات.
أما المقامات فقد عرفناها منذ عصر بني العباس، قصصاً وصفية يعني فيها بإظهار البراعة في الصناعة البديعية. وقد اتجه من أدباء العصر المملوكي إلى إجادة هذا الفن من القول. وقد تعددت موضوعاتها واتسع نطاق الوصف فيها، وخرجت عن سمت الاستجداء، واستوت المقامات فأصبحت في مقدمة الأغراض الكتابية في العصر المذكور، ومظهراً من مظاهر الصناعة البديعة، مع قلة تعسف، وخفة مئونة. وقد قرأت أربع مقامات لزين الدين بن الوردي (748هـ) التزم في أولها أن يقول: (حدث إنسان. من معرة النعمان) أو نحو ذلك. ولعله يقصد بالإنسان نفسه، وأولى هذه المقامات (المقامة الصوفية) وقد صور لنا فيها(804/25)
رجلاً لقي عشرة رجال كانوا يتجادلون في أمر الصوفية فطفق الرجل يشرح لهم ما خفي عنهم من أمور الصوفية وأسرارهم وشروطهم وما إلى ذلك. فكأنما هي درس تعليمي لا قصة كما نفهم القصة في العصر الحديث. وضمن منثوره شيئاً من النظم المناسب للمقام. وفي مقامته الثانية (الأنطاكية) حدث عن مدينة إنطاكية وما فيها من مظاهر طبيعية جميلة، وقد لقي فيها وإليها، فجلس إليه، وأخذ الوالي يبثه شكواه من البغيظة الضاربة الرواق بين عجم المدينة وعربها. وخلل نثرها على عادته بأبيات عدة. ومن وصفه فيها قوله عن المدينة: (سورها منيع، وعاصيها مطيع. وأطيارها تحن إلى نغماتها الجوارح. وأنهارها مطردة وعيونها سوارح. ونسمها يبطل رائحة المسك السيق. وساكنها يزهي على الغصن الوريق. يصدأ بهوائها السلاح، وتجلى به القلوب والأرواح برية بحرية. سهلية جبلية. منثورها منثورها:
متكامل فيها السرور لمن بها ... يوماً أقام كما تكامل سورها
وخلت قلوب قصورها فاستضحكت ... إذ عاش شاكرها ومات كفورها. . . الخ
وأنت ترى أن هذه مقامة وصفية. وعلى هذا النسق تقريباً جرى في مقامتيه الأخريين (المنبجية) و (المشهدية). وله مقامة أخرى تعرف (بصفو الرحيق في وصف الحريق) بدأها بقوله (حدث غيث بن سحاب عن ندى بن بحر) واشتملت على وصف حريق شب في مدينة دمشق.
ومن كتاب المقامات صلاح الدين الصفدي (754هـ) وله مقامة وصف حريق أيضاً. وبدو من سياق حديثه فيها أنه نفس الحريق الذي وصفه ابن الوردي في مقامته.
ولتقي الدين بن حجة الحموي (837هـ) مقامة عارض بها المقامة الزورائية للحريري. وللشاب الظريف (688هـ) مقامة وصف بها شاباً برح به الغرام. ولشرف الدين أسد المصري (738هـ) مقامة فكاهية روي فيها حكاية أحد النحاة مع أحد الأساكفة. . .
ومن فرسان المقامات جلال الدين السيوطي (911هـ) الذي ضرب في كل فن بسهم. وله عدد ضخم من المقامات فمنها (بلبل الروضة) وصف فيها جزيرة الروضة. والمقامة (الوردية) وهي قصة تمثيلية أبطالها الأزهار! فقد افترض الكاتب أن الأزهار اجتمعت عساكرها وعقدت مجلساً حافلاً للجدل والمناظرة لاختيار أحقها بالملك فصعد كل منها المنبر(804/26)
وحاور وجادل. فتحدث الورد أولاً ثم النرجس فالياسمين فالبان فالنسرين فالبنفسج فالنيلوفر فالريحان، ورشح كل منها نفسه وزكاها ببيان أوصافها وذكر مزاياها. . . ثم أسلم الجميع للريحان وخضعوا لسلطانه.
وعلى نمط مقامته الوردية دمج عدة مقامات أخرى وصف فيها أنواعاً من الثمار أو الأحجار الكريمة أو نحو ذلك مثل المقامة (المسكية) و (التفاحة).
ومن أطراف مقامات السيوطي مقامته (رشف الزلال من السحر الحلال) وتسمى أيضاً (مقامة النساء) وقد وصف فيها عشرون عالماً في فنون مختلفة - ما بين نحوي ومفسر وفقيه وأصولي. . . الخ - ما جرى لكل منهم بينه وبين عرسه ليلة دخوله. . . دوري كل منهم في حديثه بمصطلحات علمه وفنه. . .
وعلى نمط المقامات تعددت وتنوعت مظاهر القصة الأخرى من رسائل ومحاورات وموازنات ومفاخرات كالموازنة بين النار والتراب، والمفاخرة بين السيف والقلم.
أما سير الأبطال وتراجم الرجال فما أكثرها في هذا العصر وما أجلها وأعظم شأنها، غير أنها أقرب إلى النزعة التاريخية منها إلى النزعة الدبية. ومن بينها موسوعات ضخمة، ومن بينها تراجم فردية مستقلة. ومن أمثلة الأخيرة وهي التي تقص سيرة رجل واحد، كتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور) لشهاب الدين بن عريشاه (854هـ) الذي أشرنا إليه من قبل. و (التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر) وهي سيرة السلطان جقمق كتبها ابن عريشاه أيضاً. وكتاب (تاريخ الناصر بن قلاوون) لمؤلفه شمس الدين الشجاعي و (ترجمة الأوزاعي) لابن حجر العسقلاني (854هـ) و (سيرة نور الدين زنكي) لبدر الدين بن الشهيد الدمشقي كتبه عام (874هـ). وغير هذه المؤلفات كثير.
وقبل أن نختم هذا المقال نحب أن ننوه بشيئين هما من القصة بسبيل: أحدهما الشعر القصصي، والثاني الشعر التمثيلي وهما من الأدب العربي - إلى عهد قريب - نادران. ومن العجيب أن ترى في العصر المملوكي نشاطاً من القراء في ميدان القص، وقد نوهنا في مقالتنا عن (البردة) عن مجهود أصحاب البديعيات، وعن أدباء البردة الذين عارضوها، ومنظوماتهم عبارة عن قصة الرسول عليه الصلاة والسلام. وللشعراء في غيرها جهود محمودة، فمن منظوماتهم (سيرة بيبرس) لمحي الدين بن عبد الظاهر (692هـ) و (سيرة(804/27)
برسباي) لبهاء الدين الباعوني (910هـ) وهي أرجوزة في 557 بيتاً. والجوهرة في سيرة المؤيد شيخ نظمها بدر الدين العيني (855هـ). والعجيب أن ترى هذه النزعة القصصية لدى الزجالين، وقد نوهنا بذلك في مقالنا عن الزجل والزجالين وأشرنا إلى جهود القيم خلف الغباري، والقيم بدر الدين الزيتوني.
أما الشعر التمثيلي فليس له وجود بالمعنى الذي نفهمه في العصر الحديث أو عنه في العصور القديمة في الآداب الأجنبية. غير أن بعض أدبائنا عثروا عن كتاب (طيف الخيال) لمؤلفه الشاعر الناثر الماجن الطبيب شمس الدين بن دانيال الموصلي (710هـ) الذي كان يعيش بالقاهرة، وقد تصفحنا هذا الكتاب في دار الكتب المصرية. وهو مطبوع في أوربا وبه مقدمات مكتوبة بالألمانية. ولعل المطبوع منه قسم من المؤلف الأصيل. ونستطيع القول إنه عبارة عن مقامة تمثيلية طويلة يصف فيها المؤلف لعبة (خيال الظل). وينطق فيها أبطال التمثيل على مسرح أمام النظارة، خلف ستار يضاء بالشمع. أما الأبطال فشخوص متعددة منها ما يمثل آدميين، وما يمثل حيوانات. ومن الآدميين: الريس، وطيف الخيال وهو شخص أحدب، وحويش الحاوي، وعسيله المعاجيني، ونباتة العشاب. . . الخ ومن الحيوانات. الأسد والدب. . . الخ. ولكل من هؤلاء جميعاً دور يؤديه وحديث يلقيه. يتقدم فيحدث ويحدث ويحاور ثم يتوارى ويترك الميدان لغيره، وهكذا دواليك. ويتخلل الحوار المنثور أبيات وأغاني وأناشيد عدة. والقطعة المطبوعة من طيف الخيال تتألف من جملة فصول أو مناظر، لكل منها حديث وحوار. واعتقادنا أن ما أورده أبن دنيال في طيف خياله هذا، ما هو إلا نمط من أنماط عدة كثيرة، ورواية من روايات مختلفة كانت تمثل بين الناس في تلك العصور الخالية للهو والتسلية والعظة والاعتبار؛ فالكتاب على ما فيه من مجون وفكاهة فيه أيضاً مثل وحكمة. وعلى أية حالة فهو يومي إلى أن التمثيل المسرحي والرواية التمثيلية والشعر التمثيلي كانت كلها تدور في مخيلات القوم في ذاك الزمن السحيق، ولو إلى حد ما.
ولا يتسع حديث واحد كحديثنا اليوم لاستيعاب القول عن مظاهر القصة في العصر المملوكي. فكل مظهر منها يحتاج إلى دراسة، فلعلنا - أو لعل غيرنا - يعود إليها في فرصة أخرى.(804/28)
محمود رزق سليم
مدرس بكلية اللغة العربية(804/29)
أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية
للأستاذ حسني كنعان
- 2 -
شاع في الفيحاء ما بين سمار الأندية ورواد المجالس، أن الفتى الشاغوري نابغة بني أقبيق قد أقصاه شيوخه عن دروس المسجد الأموي، وطرده والده من داره لنزعته الموسيقية والتمثيلية لئلا تكون هذه الأسرة المرموقة المنظور إليها في حي الشاغور المحافظ على تقاليده وعاداته غرضاً للنقد والغميزة الممضة.
وانتشر ذلك كسرعة البرق بين رواد الحلقات، فأسف على حرمانه من الدرس أناس وفرح آخرون، أسف الذين كانوا يرقبون له مستقبلاً لامعاً من انصرافه إلى العلم، وفرح الذين كانوا ينفسون عليه نبوغه، ويعدون وجوده بينهم حائلاً دون ظهورهم، وكان من أشد الناس أسفاً على حاله، خاله أبو سعد النشواتي. فأدناه من مجالسه، وكفل معيشته، وجعله وكيلاً عنه في قاعة النشا، ولما ارتاش وانتعشت حالته المادية عند خاله بدا له أن يستقل في عمله، فاشترى من وفره (قباناً) واستأجر محلاً في سوق البذورية وهو من أشهر أسواق دمشق التجارية، وجعل يتكسب من هذه الصناعة، وأمسى يكنى بالقباني، فتغلبت هذه الكنية، فيما بعد على أسرته وغدا يطلق عليها أسرة القباني، وكان خاله يعتقد أن إزالة صخرة كبيرة من مكانها أهون عليه من إزالة هذه التحيزة المتأصلة في نفس هذا الفتى النابغ العجيب. ومما جعله يعطف عليه هذا العطف كله أن أبصره أكثر من مرة يجمع حوله في مقام الحسين في القسم الخارجي من الأموي جماعة المؤذنين والمذكرين، وأبطال المراسلات في آذان الفجر وفي الأسحار في ليالي رمضان، فيعلمهم الأذان والمراسلات من نغمة الصبا، والحجاز، والجهاركاه، والسيكا، وكانوا لا يعرفون سوى نغمتي الراست والبياتي، وكان ذلك وهو في الثانية عشر من سنى حياته، وكان صوته على مأذنة عيسى القائمة في جانب من جوانب المسجد الأموي يفتن السامعين وقت السحر وهو في هذه السن ويجعلهم في حيرة من أمره وذهول. والى هذه المواهب التي لا ينضب معينها، نراه منصرفاً إلى العلم والتجارة والكسب، حيث لا تمر عليه ساعة من نهار دون أن يفيد منها.
وكثيراً ما كان يرى في أوقات الفراغ ممسكاً بيده مطرقة من حديد يطرق بها جانب قبانه(804/30)
طرقات موقعة على الأوزان الموسيقية ينشد الموشحات والأهازيج على حسب الإيقاع إنشاداً يفتن به الألباب ويخلب عقول أهل السوق، فيتكونون حوله يرقصون كأنهم سكارى لعبت إبنة الحان بعقولهم، فيصفقون ويستديرون على أنفسهم بدون شعور من شدة النشوة والطرب، مما جعلت هذه المواهب القلوب على محبته وجلبت إليه الرزق فذاع أسمه في المدينة وتحدث عنه الخاص من؟؟ والعام.
وكانت تقام له حفلات السمر لدى صحبه وعاشقي فنه في كبريلت الدور، يمتد فيها وصحبه المجاورات والروايات الساذجة المؤلفة من أربعة أشخاص أو خمسة، تعرض فيها فصولاً بالمفاضلة ما بين الكسلان والمجتهد، والتاجر والعامل، والعالم والجاهل، ولما طال الأمد عليه وهو يدب في هذه الصناعة دبيب الطفل الزاحف الذي يحبو على يديه ورجليه ويتحفز للوثوب خطر بباله أن يأخذ دور عنترة ويجعل دور عبلة لصديق من أصدقائه مقلداً في ذلك أستاذه الأول علي حبيب الذي كان يتخذ من الصور الخيالية أشخاصاً فيكلمهم خلف الشاشة ويحاورهم ويداورهم كما مر معنا في البحث الماضي، فنجح في هذا الباب نجاحاً كتب له فيه الظفر، وفاق فيه أستاذه. إذ أن ذاك كان يحاور صوراً خيالية، وهذا يحاور ويمثل مع أشخاص حقيقيين.
وفي عهد ولاية المرحوم الوالي (صبحي باشا) حضرت إلى دمشق من فرنسا فرقة تمثيلية ومثلت في مدرسة (العزارية) روايات اجتماعية وأخلاقية في باب توما، وهي أقدم مدرسة لدينا كانت تقوم ولا تزال قائمة حتى الآن بتعليم اللغة الفرنسية، وكان القباني قد شهد هذه الروايات جميعها وأخذ فكرة عن المسرح والتمثيل والممثلين وتوزيع الأدوار (والمكياج)، فتمم بذلك ما كان ينقصه من فكرة التمثيل والمسرح، وأمسى أكبر همه أن يؤسس في دمشق مسرحاً، ويؤلف فرقة، بيد أن الذي عاقه عن المضي في سبيله، قضية ظهور الفتيات على المسرح، وما يعتور هذه الفكرة من طرق شائكة وصعاب وعقبات.
فالمرأة التي كانت حبيسة بيتها. وكان لا يسمح لها في الخروج منه سوى مرة واحدة في العمر تلك هي المرة التي تخرج فيها من البيت مزفوفة إلى بيت بعلها، ومرة واحدة بعد الموت، تلك هي المرة التي تخرج فيها محمولة على الأعناق إلى مقرها الأخير. . . فكيف تستطيع أن تظهر على المسرح وحالتها حالتها، ومحبسها محبسها، أن دون ذلك خرط الفتاد(804/31)
وإراقة الدماء وإسالة النفوس.
بقى القباني يفكر في تذليل هذه العقبة وتسهيلها مدة من الزمن حتى بدا له أن يمضي في طريقه غير وجل ولا هباب، ويستعيض بدلاً عن النسوة الفتيان (الغرانق) ذوي الشارات الحسنة والمياسم المغرية. ولما شرع في عمله، ورأى الإقبال عليه والتشجيع والتنشيط من كل صوب وناحية وأصبح العارضون أنفسهم عليه من الفنانين أصحاب المواهب ومن الفتيان ما يفيض عن الحد المطلوب طار من إهابه فرحاً، لا سيما وأكثرهم عرض نفسه عليه بدون أجرة تشوقاً ولذاذة، فألف على الفور فرقة تمثيلية كانت تمثل الروايات في بدء عهدها، في البيوت والقاعات، الخاصة، فذاع خبر هذه الروايات في الشام حتى بلغت مسامع (الوالي) التركي (صبحي باشا)، وكان ممن يقدرون الفن والمواهب، فحضر بنفسه تمثيل رواية من الروايات في حفلة أقيمت على شرفه بصورة خاصة في بيت ثري من أثرياء الشام وهو كثر في ذلك العهد، فدهش مما سمع ورأى، وهام بحب أحمد كل الهيام وأدناه من مجالسه، وجعله موضع عنايته، فصار شفيعاً ووسيطاً ما بين الحاكم والرعية، ما من أحد عرضت له مهمة لدى الوالي وقصد أحمد بها إلا قضاها له.
رأى الباشا في هذا النابغ الدمشقي الشروط المتوفرة للقضاء على الجمود الفكري في الشام وتهذيب النفوس الجامحة بواسطة التمثيل والموسيقى، فأوعز إليه أن يؤلف جوقة وأن يقيم مسرحاً في المكان الذي يختاره.
ولقد رمى الوالي بهذه الفعلة إلى غاية سياسية الجملة تملك أهمية صرف الشعب المتوثب عن الحياة الطليقة التي كان أوجد نواتها في البلاد قادة الثورة الفكرية الشيخين المصلحين الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
فتم له بذلك ما أراد، وكان إقبال الشعب على مشاهدة روايات القباني يفوق حد الوصف ويشب عن الطوق، فأقام مسرح في خان من خانات البذورية، وأول رواية عرضها على الجماهير الحاشدة رواية ناكر الجميل، فأحرزت شهرة فائقة ونالت نجاحاً عظيماً في الأوساط، ثم اتبعها برواية وضاح فلم يكن افتتان الناس بهذه الرواية أقل من افتتانهم بسابقتها، وهكذا دواليك أخذ هذا النابغة الموهوب يتدرج بفنه من حسن إلى أحسن ومن جيد إلى أجود، حتى طارت شهرته في جميع الأنحاء السورية، وتخطتها إلى الأقطار المجاورة،(804/32)