وينسب بعض الكتاب الذين دونوا سيرة علي بن الطبري إليه أقوالا تعتبر من الحكم والأمثال السائرة (السلامة غاية كل سول - طول التجارب زيادة في العقل - التكلف يورث الخسارة - شر القول ما نقض بعضه بعضاً - الطبيب الجاهل مستحث الموت.
(يتبع)(781/33)
8 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
من التاريخ الحديث
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
منذ أن عرف الإسلام طريقه إلى بلاد النوبة، أشرق في قلوب أهلها، إشراق الشمس تبدد حلكة الظلام وأضاء أفئدتهم، وأفهمفم معنى الوطنية الصادقة، وأنها ليست كلمة تلوكها الألسنة، ثم لا يكون لها بعد هذا أثر يذكر، أو خبر يذاع وينشر، أو عمل تدفع إليه النفس التواقة إلى المجد، والمستطلعة إلى العزة، والسيادة والعظمة،
ويفهم هذا المعنى السامي، بدأ الامتزاج الحقيقي في جميع نواحي الحياة، والمشاركة في أسمى أهدافها، وأنبل غاياتها، وعلموا أن المصريين إخوانهم في الدين، وشركاءهم في العقيدة. والاتجاهات والميول، لا يكادون يختلفون في ناحية من النواحي، أو شأن من الشئون. . . وأن التزاوج والإصهار، ومبادلة المنافع، والمشاركات الوجدانية بين الأفراد، كل أولئك لاشى الفروق، وكان دليلا عمليا على فهم النوبيين لحقائق الدين، وإدراك دقائقه، وأسراره التي تخفي على كثيرين من أبناء وطننا العزيز. . .!!
ومنذ هذا الوقت حمدت في نفوسهم عاطفة التناحر والتواثب، وزالت الرغبة في السيطرة والاعتداء، وتلاشت روح الكراهية والعداء، فأخلدوا إلى الهدوء والسلام، وجنحوا إلى الطمأنينة والاستقرار، وأيقنوا أن الامتزاج بينهم وبين المصريين أمر واقع لا شك فيه، عن إخلاص ونقاء، وحب وصفاء، وليس حديث خرافة أو خيال.
ومن هذا الحين تجلت عواطف النوبيين نحو مصر، سامية نبيلة، كلها الحب الذي لا يعرف البغض، والإخلاص الذي لا يعرف الرياء والمكر، أو النفاق والخداع،
وما أروع النوبي حين يخلص، وهو دائما المخلص الأمين، الذي يحترم العلائق، ويقدس الروابط والوشائج، ويرعى العهد والزمام.!
ومن هذا الحين كذلك استفادت مصر من جهود أبناء النوبة الذين ساهموا جدياً في بناء النهضة المصرية الحديثة، مدفوعين بوازع من ضمائرهم الحية، ودافع من إيمانهم العميق.
وقد اعتمد محمد علي باشا على النوبيين في تكوين الجيش الأول، كما يقول سمو الأمير المرحوم عمر طوسون في كتابه: صفحة من تاريخ مصر. إذا كانت الفرقة السادسة المسماة(781/34)
بالإفريقية، تتركب من جنود نوبيين، وجنود سناريين، كانوا عماد النصر، والظفر في شتى الميادين، ومختلف النواحي.
وكم شهدت بلاد النوبة بفخر عظمة الجيش المصري الحديث، أيام الخديو إسماعيل باشا سنة تسع وسبعين وثمانمائة وألف ميلادية. . . ذلك الجيش الذي درب أحسن تدريب، ونظم خير نظام، ولم يفت في عضده صحارى بلاد النوبة الرحبة وفيافها الجدباء، فكان العتاد الحربي ينقل على ظهور الجمال، ومتون السفن الشراعية والتجارية، حتى يصل إلى مديرية خط الاستواء، التي فتحها المصريون بدمائهم، وبذلوا في سبيلها أرواحهم رخيصة هينة، ويريد الإنجليز الآن انتزاعها ظلما وغدراً باسم العدالة والديمقراطية. وكم باسم الحق تراق الدماء، وتزهق الأرواح باطلا وزوراً.
وقد لعبت بلدة كرسكوا، وهي في منتصف الطريق بين الشلال وحلفا تقريباً، دوراً هاماً أيام إسماعيل باشا، إذ كانت تصل إليها المعدات والعتاد الحربي، ثم ينقل هذا كله على ظهور الإبل إلى بربر والخرطوم.
وقد شهدت توشكي - وهي بلدة قرب حلفا - أهم حوادث الثورة المهدية سنة تسع وثمانين وثمانمائة وألف ميلادية، حين حاول عبد الرحمن ولد النجومي غزو مصر، طامعاً فيها، راغباً في الاستيلاء والسيطرة عليها، فخرج من دنقلا في مايو سنة تسع وثمانين وثمانمائة وألف ميلادية، في جيش لا نظام له، على الرغم من كثرة عدده، وكانت الحكومة المصرية عالمة بحركاته، إذ كان سردار الجيش المصري حينذاك رجلا اشتهر بالحكمة والروية، والحنكة وبعد النظر. ووقعت مناوشات بين الجيشين قرب حلفا، وما كاد يصل جيش السودان توشكي حتى التحم المقاتلون، واشتد القتال، وحمى الوطيس. وتمكن الجيش المصري من القضاء على عبد الرحمن ولد النجومي، ومعظم جيشه.
وسر بذلك الخديو توفيق باشا، فأرسل إلى السردار تهنئة بهذا النصر، وأقيم مقام عظيم في توشكي ضم جميع من مات من الجيش المصري، ونقش فوقه باللغة العربية حفراً:
(شيد هذا الأثر تذكاراً لواقعة توشكي التي حصلت في 6 من ذي الحجة سنة1306هـ، وانهزم فيها جيش العصاة السوداني المرسل تحت إمرة عبد الرحمن ولد النجومي. فشتتوا بعد قتل أميرهم. . وفي هذا القبر دفنت جثث العساكر المصرية الذين استشهدوا وهم في(781/35)
الميدان)
وكأنما كانت هذه الواقعة فألا حسنا على البلاد، فامتدت سلطة الحكومة المصرية إلى سرس (جنوباً)، وزلز هذا الخبر التعايشي وجنوده، فأخذت تتداعى أركان الدولة المهدية، ويتقوض بناؤها حجراً بعد حجر
وقد سار الخديوي توفيق بنفسه بعد الواقعة في بعض معيته إلى توشكي، وهناك في هذه البلدة النوبية الواقعة على شاطئ الغربي للنيل، والتي لا تبعد عن عنيبة أكثر من عشرة أميال تقريباً، وقف الخديوي توفيق أمام قبر شهدائها. وفي نفسه عواطف متباينة، ومشاعر مختلفة. وأحاسيس متضاربة، يتأمل ما أظهره عساكره من شجاعة وإقدام، وما أبداه جنده من جرءة واستبسال وسرعان ما فاضت دموعه ترحما على هؤلاء الأبطال القتلى الذين بلغ عددهم في هذه الواقعة ستة وعشرين قتيلاً فقط. .!!
وفي الدر، وإبرايم، وتوشكي، وأبي سمبل عائلات من المماليك، بيض الوجوه، ضخام الجسوم، يختلفون اختلافاً واضحاً عن بقية الاهلين من النوبيين الأصليين، فلهم من المماليك نعرتهم، وحدتهم، واعتزازهم العجيب بأنفسهم، إلى حد يدفعك إلى العجب، ويوقعك أحياناً في الحيرة والارتباك، ويذكرك تواً بقصة التركي الذي فقد الحكم والسلطان، والصولة والصولجان، فلم يعدمه في مجموعة من القلل ملأها ماء، وجلس بها على قارعة الطريق، يأمر وينهي، ويتحكم دائماً في كل من ساقه حظه العاثر إلى الشرب منها!!. .
وهؤلاء يطلقون على أنفسهم لفظ (كشاف) والواحد منهم كاشف، وهم بقايا المماليك الذين فروا من مصر، عقب المذبحة المشهورة، مذبحة القلعة التي بيتها لهم محمد علي باشا سنة إحدى عشرة وثمانمائة وألف ميلادية - إلى مختلف بلدان الصعيد. ولما أرسل محمد علي باشا ابنه إبراهيم باشا لجمع الضرائب في الصعيد، طارد فلول المماليك، وهاجمهم في أوكارهم التي لجئوا إليها، فأوسعوا الخطا إلى الجنوب، واستقر ببعضهم المقام في بلاد النوبة، وطابت له فيها الإقامة، فألقى بها عصاه، وقرت فيها عينه، إذ وجد الجو خالياً، والأهلين في طبيعتهم الهدوء والطاعة.
وقد كان هؤلاء يحملون كثيراً من الجوهر والذهب، مما خف حمله وغلا ثمنه، وارتفعت قيمته، فأمكنهم أن يسيطروا على النواحي التي نزلوا بها في هذه البلاد بما معهم من أموال،(781/36)
والمال مفتاح كل مغلق، وميسر كل صعب، ومسهل كل عسير. أضف إلى ذلك النعرة التركية التي تطمح دائماً إلى السيادة والعضموت، والقوة والجبروت، والسيطرة والرهبوت، الأمر الذي مكن لهم في هذه الجهات سلطاناً وقوة، وثبت أقدامهم، ورفع شأنهم. . .
وبتوالي الزمن، وانقطاع المماليك عن مبعث السلطان، وموطن العظمة، واضطرارهم إلى الاحتكاك بالأهلين في شتى نواحي الحياة، وبخاصة سبيل الرزق والعيش، وبطول العشرة وما طبع عليه النوبيون من أمانة ووفاء، تزوج هؤلاء من النوبيات، وتزوج منهم النوبيون، وأصهر كل إلى الآخر، فتلاشت بعض خصائصهم، وأصبحوا مصريين مخلصين. . .
ومهما يكن من شيء، فقد ازداد حب النوبيين لولاة الأمور في مصر، وبخاصة أيام المغفور له الملك فؤاد الأول، الذي ملأ بهم قصره. وتضاعف هذا الحب للمليك المحبوب فاروق الأول حفظه الله، فغصت بهم دواوين الحكومة، فكانوا مثال العفة والنزاهة، والأمانة والإخلاص. . . .
عبد الحفيظ أبو السعود(781/37)
المتنبي وكافور
للآنسة نعمت فؤاد
المتنبي شعور ملتهب دفاق، ونفس طلعة لا تهنأ بالجمام. وكان هو في شعره يصدر هذا الشعور ويترجم عن هذه النفس: آلامها وآمالها. شجاه أن يثب ابن خالويه عليه في حضرة سيف الدولة وليه وصفيه والذي أرسل فيه غرر مدائحه وكرائم أشعاره. يثب عليه ابن خالويه في حضرته ويضرب وجهه بمفتاح كان بيده فيشجه، ويرى سيف الدولة ما حدث فلا يدافع عن أبي الطيب! إنها لكبيرة. . .
لينهد إلى مصر إن بها كافوراً، وقد سار إليها قبله أبو نؤاس في إمارة الخصيب فأعطاه حتى رضى.
وفد المتنبي على مصر وحده وتخلف عنها هواه حيث بقى في حلب لا يريم. إن أمير بني حمدان لم يمسسه بسوء ولكنه كبر عليه أن يمس بالسوء وهو حاضر فيسكت فيكون سكوته إقرار.
وكان الأستاذ أبو المسك كافور يحب العلماء والشعراء ويقربهم إليه كما جرت بذكره السير. ولعل نفسه الطموح كانت تهفو إلى شاعر يقصر عليه هواه، ويغني علاه، ويخلد مجده. ومن كالمتنبي صدق شاعرية وبعد صيت؟ أتراه نفس على سيف الدولة شاعره؟ أم أراد أن يقال عنه (عظيم القدر مقصود)؟ كما حكى المتنبي.
إذن لم يكن بدعا من كافور أن يكرم وفادة المتنبي. فما إن نزل أخلى له داراً وخلع عليه وحمل إليه آلافاً من الدراهم. . . يتألف قلبه ويعطفه عليه فهتف المتنبي به كالطير يلذ له التغريد وقد توقر له الماء والحب والشجر.
نحن نعرف المتنبي في مدائحه لسيف الدولة شاعراً مغلقاً جهير الذكر ولكن قد يكون الصوت واحداً وتختلف درجاته. إن المتنبي هنا شاعر آخر. إنه يمدح وكأن به من مدحه غضاضة أتحسب أنه منشرح النفس وهو يستهل أولى مدائحه في كافور بهذا المطلع:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
إنه عند علماء البديع بمطاعه هذا غير موفق. . . وكذلك عندي. . .
اصحب المتنبي في هذه القصيدة تعرف مهمته وتتبين مقصده إنه لم يقصد كافوراً مادحاً(781/38)
بقدر مسترفداً بل لعلك ترى أنه يهدف إلى مرمى أكبر من العطاء. أنصت إليه:
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكا للعراقيين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا ... لسائلك الفرد الذي جاء عافياً
ألم أقل لك أنه شاعر طموح؟
وهذه النغمة لا تقف عند هذه القصيدة بل تطرد في كل قصائده التي نسميها (الكافوريات) وإليك الشاهد:
قالوا هجرت أليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا يمن على آثار موهوب
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
فارم بي ما أردت مني فإني ... أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
أصح عندك ما أقول؟
إن المتنبي هنا في مصر يمدح لينال. . . ينال مالا وينال جاها. إنه يرى نفسه من الملوك وإن رأته الدنيا شاعراً.
ونلاحظ في كافوريات المتنبي أنه حينما يمدح كافوراً فإنما هو مدح كالذم.
بنى كافور دارا بازاء الجامح الأعلى على البركة وطلب من أبي الطيب أن يذكرها فقال يهنئه بها:
مستقل لك الديار ولو كا ... ن نجوما آجر هذا البناء
إنما يفخر الحريم أبو المس ... ك بما يبتني من العلياء
أتظن أنه يستقل له الديار حقيقة؟ إني أحسبه يتهاتف عليه في سره حين طلب منه أن يذكر داراً وقد عوده سيف الدولة أن يسجل أفضالا وإلا فما معنى قوله في البيت الثاني:
إنما يفخر الحريم أبو المس ... ك بما يبتني من العلياء
ألست ترى معي أنه يعرض له أن الفخر إنما يكون بما يكسب حمدا أو يخلد مجداً؟
الفخر بالعلياء لا بالبناء. هذا هو رده على طلب كافور.(781/39)
وقال يذكر قيام شبيب العقيلي على الأستاذ كافور وقتله بدمشق سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
ألست تلمس النكته في الشطر الثاني من البيت الأول ما دمت تعرف أن كافوراً كان عبداً بشع الخلقة؟
أما البيت الثاني فإنه يفضح شعوره إزاء كافور. إنه ينعى على الأقدار حكمتها في أن تملك هذا وتتركه هو مثلا! فلا يجد مخرجاً من حيرته سوى أن يردد القولة الشعبية (له في كده حكم) أو بأسلوبه هو:
(ولله سر في علاك)
ونلحظ عند المتنبي لونا ثالثاً وهو أنه لا يفتأ يذكر كافوراً بسواد لونه وهو يمدحه!
ومن قول سام لو رآك لنسله ... فدى ابن أخي نسلي ونفسي ومالية
يريد أن كافوراً من نسل حام، يريد أنه عبد
وفي قصيدته التي يستقل له فيها الديار يقول:
تفضح الشمس كلما ذرت الشم ... س بشمس منيرة سوداء
إن الشمس لو كانت سوداء لما سميت شمسا ولكنه يريد أن يذكر لون كافور والسلام ليطمئن من كبريائه وإن تظاهر بمدحه ألي في ذكر اللون حط من نسبه؟
بل إن المتنبي صرح بذلك في قصيدته التي مطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
في هذه القصيدة صرح بأن كافوراً لا نسب له ولكن عزاءه أن المكرمات تناهى إليه! يسمى ويذبح!
ويغنيك عما ينسب الناس أنه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب
ولون آخر لا يخفى في كافوريته ذلك هو حنينه المتشوف إلى سيف الدولة وإذا علمت أن سيف الدولة وكافوراً كانا متنافسين أحسست وقع مدح المتنبي بما حمله من ذكر حنينه على نفس كافور:(781/40)
قالوا هجرت أليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب
قد تقول أنه يقصد بالغيث ريق الغمام ولكن صدقني أنه يريد سيف الدولة. إن لفظ (هجرت) لا تقال إلا عن شيء يكون بينك وبينه صلة عزيزة. . . أليس لفظ (الهجر) يقابل لفظ (الوصال) في منطق العاطفة؟
وقاد إليه كافور فرسا فقال يمدحه!
فراق من فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت خير ميمم
إن المتنبي فارق محمود ألا يتطاول الذم إليه. ألم أقص عليك أنه لم يهجره عن قلى؟ جزى الله ابن خالويه.
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفى وقوسي وأسهمي
وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلماً على الجهل يندم
ها هي تي قصة في بيته. هو يعترف أن سيف الدولة لم يتعمده بإساءة فكيف يذمه وهو لو أراد لغل هواه كل سلاح في يده. ليجرب الحلم إذن عله يندم على ما فرط منه. هو يحلم عنه ويحلم بندحه. إن البيت الثاني هو بعينه ما نسميه في علم النفس (أحلام اليقظة).
أرأيت أن المتنبي لم يخلص في مدحه لكافور بل رنق حنعوه بشوائب ذكرتها لك. أو تعده مادحاً ذلك الذي يذكر العيب في ثنايا المدح وكان أولى به أن يخفيه في هذا المقام؟
ولكن العين لا تغض عن العيب إلا وهي راضية والمتنبي لم يكن راضياً عن كافور قط كما قال بنفسه بعد أن تحلل منه وأصبح في وسعه أن يهجوه. لقد نظر إلى شقوق في رجليه فقال هاجياً:
أريك الرضى لو أخفت النفس خافياً ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضياً
تظن ابتساماتي رجاء وغبطة ... وما أنا إلا ضاحك من رجائياً
وإذا أتينا إلى ذكر هجره لكافور فاعلم أنه أوسع كافوراً تعييراً بالسواد وضعه الأصل مما ليس عليه مزيد فلنقف اليوم عند هذا الحد على أن تكون لنا رجعة أخرى إلى أبي الطيب إن شاء الله.
نعمت فؤاد
كلية الأداب. جامعة فؤاد الأول(781/41)
فلسطين
يا أخت عمورية
للأستاذ محمود غنيم
قلنا وأصغى السامعون طويلا ... خلوا المنابر للسيوف قليلا
سقنا الأدلة كالصباح لهم فما ... أغنت عن الحق الصراح فتيلا
من يستدل على الحقوق فلن يرى ... مثل الحسام على الحقوق دليلا
إن صمت الآذان لم تسمع سوى ... قصف المدافع منطقاً معقولا
لغة الخصوم من الرجوم حروفها ... فليقرءوا منها الغداة فصولا
لما أبوا أن يفهموا إلا بها ... رحنا نرتلها لهم ترتيلا
أدت رسالتها المنابر وانبرى ... حد السلاح بدوره ليقولا
ولقد بحثت عن السلام فلم أجد ... كاراقة الدم بالسلام كفيلا
يا آل إسرائيل أين الملك هل ... مضت الرياح بملك إسرائيلا؟
أتحققت آمالكم في دولة ... تمتد عرضاً في البلاد وطولا؟
خدعتكم الأحلام في سنة الكرى ... ما أكذب الأحلام والتأويلا
يا بانياً بالماء حائط ملكه ... فوق العباب أرى البناء مهيلا
هي بنية قامت بغير دعائم ... هي دولة قد أنشئت لتزولا
لما استهلت راح يطلب أهلها ... مهداً فكان النعش منه بديلا
طلبوا القوابل إذ دنا ميلادها ... فاستقبلتها كف عزرائيلا
قل للألي نفخوا بها من روحهم ... هيهات قد ولد الجنين قتيلا
لو أن عيسى جاء يحييه لما ... وجد الجنين إلى الحياة سبيلا
ليس الشرى للشاردين بمسكن ... رحب ولا للمتعبين نزيلا
ولقد يصير لناب ليث طعمة ... من بات في غاب الليوث نزيلا
(حيفا) فديتك ما لجفنك ساهداً ... وللحنك الشاجي استحال عويلا؟
ما بال أهلك شردوا وشراك قد ... أمسى بغير ليوثه مأهولا؟
أعزز على أبناء يعرب أن يروا ... علماً يرف على حماك دخيلا(781/43)
الجو يرقب خفقه مستنكراً ... والطير ينظر نحوه مذهولا
لا جاده الغيث الهتون ولا هفا ... ليلا برقعته النسيم عليلا
يا أخت عمورية لبيك قد ... دقت حماتك للحروب طويلا
ناديت معتصما فكان غياثه ... جيشاً شروباً للدماء أكولا
ما كان بالألفاظ جرس جوابه ... بل كان قعقعة وكان صليلا
وأزيز أسراب تصب شواظها ... فوق الحصون فتستحيل طلولا
لن يغفر العرب الأباة لغادر ... هتك الحرائر والدم المطلولا
غضب الأباة لعرضهم فتخضبي ... يا أرض واجري يا دماء سيولا
إنا لقوم ليس يمحى عارهم ... حتى يرى بدمائهم مغسولا
فليشهد التاريخ (لليرموك) أو ... (ذي قار) في العصر الحديث مثيلا
وليعلم الثقلان أنا لم نزل ... نحمي كما حمت الأسود الفيلا
الصارم العضب الذي فتح الورى ... مازال في يد أهله مسلولا
فلتطلب الأوطان ما شاءته من ... دمنا تجده مرخصاً مبذولا
إنا جعلنا أرضنا للمعتدي ... قبراً وظلا للنزيل ظليلا
النيل لا يرضى هوان أخ ولو ... أجرى الدماء بكل قطر نيلا
لما رأيت النيل عبأ جيشه ... أتبعته التكبير والتهليلا
وذكرت إبراهيم في حملاته ... إذ كان يحدو الجيش والأسطولا
فلطالما دك القلاع بعزمه ... ولطالما رد الجيوش فلولا
جيش الصلاحيين سار كأنني ... أبصرت بين صفوفه جبريلا
وكأنني (بابن الوليد) و (طارق) ... و (أبي عبيدة) يركبون خيولا
قلبت طرفي في الجنود فلم أجد ... إلا فروعاً يتبعون أصولا
يتسابقون إلى اللقاء كأنما ... هو نزهة بين الرياض أصيلا
ويسارعون إلى الحمام كأنهم ... يجدون مر مذاقه معسولا
الطعنة النجلاء تحكي عندهم ... طرفاً غضيضاً جفنه مكحولا
ويكاد يحسبها الجريح بجسمه ... ثغراً فيوميء نحوها تقبيلا(781/44)
فاروق جيشك جال في ساح الوغى ... لا واهناً عزماً ولا مخذولا
داوي جراح الشرق حد سلاحه ... وحمى الذمار وحقق المأمولا
لازلت حصناً للعروبة شامخاً ... يرتد طرف الدهر عنه كليلا
قل للعروبة: لن تراعى إنما ... يحمي حماك حفيد إسماعيلا
محمود غنيم(781/45)
الأدب والفنّ في اسبُوع
قصيدة الجارم في فلسطين:
الحق أن قوى مصر قد بدت في معركة فلسطين بشكل جمع الدهشة إلى الروعة، فما كنا نحن نظن أنا هكذا! وليست هذه القوى في الناحية العسكرية فحسب، بل هي في كل شيء، حتى الشعر الذي كان قد اتخذ له أخيراً وسادة من ريش النعام، هب من رقدته، يشيد بالبطولة، وينطق بما يجيش في القلوب. ولقد حشد الأستاذ علي الجارم بك كل قواه الشعرية في القصيدة التي ألقاها بالمذياع مساء يوم الخميس الماضي، وما أظنه قال أحسن منها أو مثلها، فجاءت آية من الآيات المصرية في معركة فلسطين
قال في مطلعها:
تألق النصر فاهتزت عوالينا ... واستقبلت موكب البشرى قوافينا
ثم قال:
أليس من أحجيات الدهر قبرة ... رعناء، تزحم في الوكر الشواهينا
وتائه ما له دار ولا وطن ... يسطو على دارنا قسراً ويقصينا
فيا جبال اقذفي الأحجار من حمم ... ويا سماء امطري مهلا وغسلينا
ويا كواكب آن الرجم فانطلقي ... ما أنت إن أنت لم ترمي الشياطينا!
ويا بحار اجعلي الماء الأجاج دماً ... إذا علت راية يوماً لصهيونا
العهد عندهم خلف ومجحدة ... فما رأيناهم إلا مرائينا
ما ذلك السم في الآبار؟ ويلكم! ... ومن نحارب؟ جنداً أم ثعابينا؟
وقال:
بني العروبة هذا اليوم يومكم ... سيروا إلى الموت إن الموت يحيينا
وخلفوا للعلا والمجد خالدة ... تبقى حديث الليالي في ذرارينا
لقد صدئنا ودون الغمد منفسح ... فجردوا حدّ ماضينا لآتينا
وقربوهم قرابينا محررة ... للسيف إن يرض هاتيك القرابينا
ماذا إذا فقدنا إرث أمتنا؟ ... وما الذي بعده يبقى بأيدينا؟
وقال:(781/46)
يا جيش مصر ولا آلوك تهنئة ... حققت ظن الليالي والمنى فينا
وصلت آخر عليانا بأولها ... فما أواخرنا إلا أوالينا
أعدتها وثبة بدرية صرعت ... دهاة جيش يهوذا والدهاقينا
شجاعة مزقت أحلام ساستهم ... وعلمت مترفيهم كيف يصحونا
أنشودة ناعمة:
كان الأستاذ علي محمود طه قد أنشأ تصيدة بعنوان (أخي أيها العربي) دعا فيها إلى القتال من أجل إنقاذ فلسطين العربية، وقد وقع اختيار الموسيقار محمد عبد الوهاب على هذه القصيدة فلحنها وغناها وسجلتها محطة الإذاعة. وفي مساء يوم الجمعة الماضي أذيع هذا المسجل، وقدم بأنه (أنشودة فلسطين) وعلى أنه من البرامج الحماسية التي تقدم في هذه الأونة، ولم يخلف عبد الوهاب ظننا به. . فهو فنان مبرز في أغاني الحب الناعمة، وقد جاءت (أنشودة فلسطين) على نسق (بلاش تبوسني في عنيه دي البوسة في العين تفرق)
وغنى عن البيان أن ما يقال لضرب من الحسان غير ما يقال للأخ العربي في الميدان.
من حق عبد الوهاب أن يأخذ (أجازة) في هذه الظروف العصيبة!
الفن المعاصر:
تحدثت فيما مضى عن معرض الفن المعاصر الذي عرض به جماعة من الشبان المصريين أعمالهم في التصوير، وقلت إنهم يتجهون في إنتاجهم الفني اتجاها جديداً يقولون عنه إنه يساير التطور الفكري وينتفع بالثقافات الحديثة ويفهم منهم ومن أعمالهم أنهم ثائرون على الأوضاع والقيم الفنية المعروفة ويسمونها (الفن الفوتغرافي) أي الذي يتجه فيه إلى مجرد تسجيل المناظر
وقد قوبل هذا المعرض بحملات من بعض النقاد، مبنية في جملتها على أنه لا يهدف إلى غاية جمالية من غايات الفنون الجميلة وأنه تكلف مبعثه الشذوذ والرغبة في الشهرة، والحق أن المرء لا يستطيع أن يفهم من تلك المعروضات أو من أحد أصحابها ما يرمي إليه هذا المذهب في وضوح. وإذا طلبت إلى صاحب رسم أن يبين لك مقصده منه فإن كلامه هو والرسم سيان. . ليس هناك إلا أن هذا شيء غير ما كان يرسم (الفوتغرافيون)(781/47)
ولكن ما هو هذا الشيء؟
وقد أبدى رجلان من كبار رجال الفن، رأيهما في هذا المذهب بجريدة المصري، وهما الأستاذ محمد حسن بك مراقب عام الفنون الجميلة بوزارة المعارف، والأستاذ أحمد أحمد يوسف بك مدير مدرسة الفنون التطبيقية العليا.
قال الأول: (والرأي عند أكثر الذين يمارسون أنواع الفنون الجميلة بصفة جدية، أن أغلب مذاهب الفن المعاصر من وضع جماعات ذات طوابع فردية، نشاهد الكثير منها بين آونة وأخرى في أعقاب النكبات التي تلم بالأمم.
وقال الثاني بعد أن بين أن أي عمل فني لم يكن في نتيجته جميلا يسر العين ويرضي النفس، ويؤدي غاية خيرة طيبة، إنما هو عمل سقيم ليس من الفن الجميل في شيء، قال: (ويتضح من هذا أن المسألة ليست إنتاج صور أو تحف يقلد منتجوها عملا سابقاً، أو هي تنتمي إلى مذهب من المذاهب، أو تأتي نتيجة لهو وعب لا خير فيها، أو استهتار مقصود وشذوذ نفساني تدفع به عوامل نابية خارجة عن الأوضاع، ثم حشد هذا الإنتاج في معارض عامة أو خاصة يطنطن لها بالدعاية ويثار حولها بالكتابة والجدال استجداء للإعجاب بها، إنما الغرض الأساسي هو أن يخرج الفنان في صمت ووقار عملا جميلا نافعاً مفيداً له معانيه السامية وأهدافه النبيلة).
ترجمة الآثار الأدبية:
ذكرت في عدد مضى من الرسالة أن الهيئة الثقافية التابعة لهيئة الأمم المتحدة دعت الدكتور طه حسين بك لحضور اجتماع لجنة ترجمة الآثار الأدبية، وأن الدكتور لبى هذه الدعوة وسافر إلى باريس.
وقد عاد الدكتور طه أخيراً بعد أن انتهت اجتماعات اللجنة، وقد حضرها مندوبون من الخبراء العالمين في الشرق والغرب. ونظرت اقتراحاً قدمه الدكتور شار مالك ممثل لبنان في شأن نقل الآثار العلمية والأدبية من لغة إلى لغات أخرى. وانتهت اللجنة إلى الموافقة على نقل الآثار العلمية القديمة والحديثة وأن يكتفي بنقل الآثار الأدبية حتى سنة 1900 نظراً إلى التأثيرات السياسية والاجتماعية فيما بعد ذلك.
ومما أفضى به الدكتور طه أن مصر منذ عهد محمد علي قد اقتفت آثار العباسيين في نقل(781/48)
العلوم والفنون والآداب، وأن بين الآداب العربية الحديثة كنوزاً ثمينة جديرة بالنقل.
مؤتمر المستشرقين:
ينعقد بباريس في خلال شهر يولية القادم، المؤتمر الحادي والعشرون للاستشراق، ويمثل مجمع فؤاد الأول للغة العربية فيه الدكتور طه حسين بك والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، ويمثل الأول أيضاً المجمع العلمي المصري، وستوفد وزارة المعارف وجامعة فؤاد الأول وجامعة فاروق الأول ممثلين لها في هذا المؤتمر
الشيخ أبو العيون وفلم (حياة أو موت):
اتصل الأستاذ الشيخ محمود أو العيون بإدارة المطبوعات في وزارة الداخلية في شأن فلم تعرضه سينما ريفولي بالقاهرة هو فلم (حياة أو موت) لأن فيه مساساً ببعض المعاني الدينية، وقال فضيلته في كتابه إلى مدير المطبوعات، إن القصة تدور حوادثها على أن للحب قانوناً فوق القانون السماوي، وفصل ذلك بقوله: (والرواية في جملتها تمثل خليطاً من الأوضاع المادية الرخيصة للمعاني الروحية في الملأ الأعلى، وترى فيها عزرائيل عليه السلام في صورة رجل فرنسي مخنث - كتعبير الرواية نفسها - ينزل بأمر من السماء إلى الأرض لقبض روح شاب، فيرفض ذلك الشاب تلك المهمة لأنه يهوى فتاة ولا يستطيع مفارقتها ويعود عزائيل فاشلا. ثم يعود مرة أخرى للمهمة عينها، فتنعقد المحكمة السماوية وينتصر في النهاية قانون الحب على قانون السماء) واقترح في ختام الخطاب أن تندب مراقبة المطبوعات في مثل هذه الروايات رجلا من رجال الدين يشاهدها لضمان البعد عن الوقوع في أخطاء تثير الشعور الديني في البلاد.
وقد صدر الأمر بمنع عرض هذا الفلم.
مسابقة الثقافة:
ذكرت في العدد الأسبق من (الرسالة) موضوعات المسابقة الثقافية التي قررت وزارة المعارف تنظيمها، والجوائز التي تمنح للفائزين فيها. وأذكر الآن فيما يلي شروط هذه المسابقة:
1 - التمثيليات القصيرة للمسرح المدرسي، يشترط فيها أن يكون موضوعها مصرياً أو(781/49)
شرقياً ملائماً للعرض أو التمثيل في محيط الشباب بالمدارس الثانوية، وأن يكون في فصل واحد يستغرق أداؤه حوالي 40 دقيقة، أو من فلسطين يستغرق أداؤهما حوالي 80 دقيقة.
2 - التمثيليات القصيرة للإذاعة المدرسية، يشترط فيها أن يكون موضوعها مصرياً أو شرقياً وملائماً للإذاعة على تلاميذ المدارس الثانوية، وأن تستغرق إذاعتها بين 25 و 30 دقيقة.
3 - المسرحيات العامة، يشترط فيها أن يكون موضوعها قومياً أو إنسانياً، يعالج مسألة ذات قيمة حيوية أو فكرة سامية في أي نوع من أنواع المسرحيات، وأن ينحصر في ثلاثة أو أربعة فصول، يستغرق أداؤها حوالي ثلاث ساعات.
4 - القصة الطويلة، يشترط فيها أن يكون موضوعها قومياً أو شرقياً مما يرتبط بحياتنا في الماضي أو الحاضر أو ما نتصوره مستقبلا، أو ما يعبر عن مثلنا العليا تعبيراً أدبياً سامياً ويصور حياتنا وخلجات نفوسنا، أو يصور النفس الإنسانية عامة.
5 - القصص القصيرة، يشترط فيها، من حيث الوضوع ما يشترط في القصة الطويلة، على أن تكون في حوالي 12 صفحة من القطع الكبير بالآلة الكاتبة، وللأديب أن يتقدم بأكثر من قصة.
6 - البحوث الأدبية والفنية، يشترط فيها أن تتناول موضوعاتها الأدب العربي، أو سير العظماء الوطنيين أو العالميين، أو دراسات عامة في مختلف الفنون (الموسيقى أو التمثيل أو التصوير أو الحفر أو النحت) كما يشترط أن تكون الموضوعات قومية، أو يكون لها مساس بحياتنا، أو أن يكون الموضوع إنسانياً عاماً يشارك في الاستفادة منه غيرنا من الأمم والشعوب.
7 - بحوث التاريخ والآثار، يشترط فيها أن يستلهم الموضوع من تاريخنا القومي، القديم أو الحديث، وأن يهدف إلى إثارة الاهتمام بأمجادنا أو بتراثنا القومي وأثره في الحضارة الإنسانية.
8 - الرحلات، يشترط فيها أن يعرض الموضوع وصفاً حياً أدبياً لرحلة أو أكثر قام بها المؤلف في أنحاء وادي النيل أو الأقطار الأخرى، وبذلك يكون تصوير الرحلة ناتجاً عن خبرة شخصية لإقليم أو لعدة أقاليم جال فيها.(781/50)
9 - الموضوعات العلمية المبسطة، يشترط فيها أنه تكون سهلة يفهمها القارئ العادي، وأن تتناول ما تؤديه هذه العلوم من خدمات للحياة الإنسانية العامة في المدن والريف.
ويجب في كل الموضوعات أن تكون مكتوبة بالعربية الفصحى وكل موضوع مقدم للمسابقة يجب ألا يكون قد سبق نشره أو تقديمه في مباراة سابقة. وآخر موعد لقبول الموضوعات هو نهاية نوفمبر سنة 1948.
العباس(781/51)
رسَالة النقد
على هامش كتاب:
سعد زغلول من أقضيته
(إلى القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات تحية شكري
وإعجابي)
للأستاذ عدنان الخطيب
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
9 المعيار الخلقي:
(كان معيار سعد الخلقي صارما) فقد كان يصدر أحكاماً تدل على هذا المعيار الصارم، وتدل على رغبته في سيادة مكارم الأخلاق على علاقات الناس ببعضهم، ولم يكن القانون عنده إلا في المنزلة الثانية بعد الأخلاق، وهو القائل، (إن كل شريعة تؤسس على فساد الأحلام فهي شريعة باطلة).
أسمع قوله في حكم من أحكامه (. . . إن هذا يعد من قبيل خيانة الأمانة، الممقوتة ذمة، المعاقب عليها قانونا) ولاشك أن (الإحساس الخلقي والالتفات الاجتماعي هما اللذان يوجهان سعداً إلى ناحية (الذمة) وقد كان غنياً عن الاجتماع بها اكتفاء بكون العمل (معاقباً عليه قانونا) وسعد في أحكامه جميعها (لا يصور لنا الناحية الخلقية - فحسب - ولكه يجمع بينها وبين المنفعة الاجتماعية) لا بل هو يريد (أن تقوم المحبة بين الناس مقام القانون).
إن سعداً كان الرجل الفذ، الذي لا يعرف إلا الحق، والذي لا يخاف فيه لومة لائم، هو الرجل الذي يقدم الحق ويتبعه بقوله (هذا اعتقادي، وقد عاهدت الله أن أقول ما في ضميري، وهذه لذتي في حياتي).
سعد الأديب:
لقد كان سعد أديباً من الطراز الأول، أديباً يحمل بين جوانحه نفسية الأديب، ثم أضاف إليها(781/52)
ثقافة وميزات أدبية عظيمة، تلمح الإشارة إليها، وتعداد بعضها في كتاب الأستاذ الزيات، منثورة هنا وهناك، خلال دراسته لأحكام صدرت عن الفضاء الأهلي في مصر، يوم كان سعد قاضياً من قضاته؛ إن قرأتها فسوف (تقطع في غير تردد أو تحفظ بأنها أحكام سعد لحمة وسدى، ودماً ولحماً، وفكراً وأداء، المنطق الجبار الآسر، والحجة الوثابة تقفز - كجند يلتف - لتقطع الطريق على المناظر؛ واللفظ المشرف في تركيب مصقول، والأداء المحكم لا يشتكي قصر منه ولا طول. . وهذه التعبيرات المقبوسة من علم المنطق. . وهذا الجمال البياني الذي يستقيم على الطبع، فلا تشعر فيه بالآم النحت والسجع، وعناء (الفاعل) المتصبب تحت نير الصخور، يحمل نفسه فوق ما يطيق، ليزهو بحمله ويسعد أذنيه المفرورتين بكلمة من النظارة قد تكون غباء، وقد تكون رياء، أو قد تساق تهكما، أو قد تساق رثاء).
أما من يحب سماع صوت سعد فليقرأ أحكامه ليسمع (صوت الكاتب صاحب الأسلوب القوي الآسر) وأنا زعيم أنه، وإن جهل صاحبها، سيحكم، إن كان يعرف سعداً، إنها من بناته (فإن شمائله ظاهرة فيها ظهوراً قوياً: منطق قوي يعتمد على قياس المشابهة وقياس الأولوية. . . وصياغة عربية تضامنت أجزاؤها)، لينظر في هذه الأحكام من يجب أن يعرف سعداً ليرى (أسلوبه المتأنق، وبلاغته المخزونة) بل ليرى (ذوقه السليم) ليرى (وضوح الديباجة ونصاعة الأراء) (الأداء العربي. . . والأسلوب المحكم الدقيق) ليقرأ تلك الحيثيات التي خط الأستاذ الزيات تحتها فإنها (تكشف عن قوة العارضة في الجدال) حيناً، وتكشف عن (روح سعد المتهكمة وسخريته الحلوة حين تطمئن نفسه) أحياناً أخرى؛ إنها حيثيات (حكم مسهب، قوي التسبيب، محكم التقسيم).
ليقرأ معي، من يحب أن يعرف سعداً الأديب، هذه الفقرة (إنهن وارثات ضعيفات، وإنها ابنية حقير أشتات، والدائنون تجار أخشاب، يخيل الثراء في أوصافهم) ولاشك أنك أيها القارئ لها ألممت منها، ومنها وحدها، بموضوع الدعوى، وأهم الدفوع فيها، وتجلت لك فيها روح الحاكم وقناعته، بل ما سيحكم به عقبها إنها فقرة كتبها أديب عظيم، لقد صور لنا في كلماتها القليلة العدد قضية لا يستهان بعدد صفحاتها وأهميتها، ألا تعتقد معي، أيها القارئ الكريم، إن كاتبها (مخرج بارع دقيق)؟! عد إى قراءتها، واقرأ ما قبلها وما بعدها(781/53)
من فقرات (فسترى فكراً واحداً ينتظمها كلها، ونظراً واحداً يشيع بينها طمأنينة الانسجمام. إنها نغمة تضطر في غير نشاز، نغمة بغيضة إلى أولئك الذين يأكلون في بطونهم ناراً وسعيراً، جيبة إلى أولئك الصبية الضعاف وإلى الشادين بالعدل والراعين للحقوق)
إن الأديب عند سعد غير غريب عن معدنه، إنه ماء عذب يسيل من منبع صاف فياض، إن سعداً إن كتب أو خطب يكتب ويخطب (وكأنه يتمثل (النهج) الذي طالما نهل من بلاغته) وليس بعد بلاغة (النهج) من بلاغة!!
إعجاب ونقد:
كنت أفكر وأنا أقرأ كتاب (سعد) في التعليق على بعض ما أعجبني فيه، وعلى ما استلفت نظري من (تعليقات) الأستاذ الزيات الطريفة، ولكن إعجابي بالكتاب وبجهد مؤلفه الجبار، جعلني أترك ما أزمعت عليه، أتقدم من قراء (الرسالة) بهذه الخلاصة، فإن وجدوا فيها متعة فهي قبس من بيان صدقي الأستاذ الزيات وشل من فيض أدبه الرفيع، وإن أنكروا منها شيئاً، فهي لآلئ حاولت جمعها من كتاب سعد، وعليَّ وحدي تبعة سوء صياغتها الصياغة التي تعجب المتفرجين والناقدين.
وإني لا أود أن أنهي هذه الكلمة قبل إبداء بعض الملاحظات التي مرت بخاطري وأنا أقرأ الكتاب؛ فالكتاب ينقصه (فهرس) لا للأعلام، ولا للأحكام التي فيه لمعرفة دوائرها وتواريخ صدورها، بل (فهرس) يدلنا، على الأقل، على صفحات الفصول التسعة المقسم إليها الكتاب؛ وفي الكتاب نقص آخر وإنه لنقص في نظري عظيم، فقد خلا من موجز لسيرة سعد، إذ لو وجدت فيه لكانت عوناً كبيراً يرسم صورة سعد في مخيلة كل قارئ، بل لكانت رشداً يعين القارئ على تتبع حياة سعد في القضاء، وتواريخ تنقله بين دوائره العديدة، وعلى معرفة زمن دراسته للقانون، وتاريخ أجازته ومدة تعاطيه المحاماة، وتاريخ تركه للقضاء وسببه، وهذه أمور لها قيمتها، في تاريخ سعد بتتبع أحكامه القضائية، ورسم مناهج لدراستها دراسة لا تختلط اختلاط بعضها في بعض فصول الكتاب!
وليست هذه الملاحظات بمؤثرة على إعجابي وتقديري، ولا يعيب الحكم - كما يقول سعد - إلا يتضمن الإشارة إلى ما كان يحسن به أن يشير إليه، والثوب المتقن البديع لا يعيب لابسه، إن نقصته جيوب، ولو اتفق على أن الجيوب تزيد في كماله وجماله على من فيه.(781/54)
(حمص)
عدنان الخطيب(781/55)
البَريدُ الأدَبي
تحقيقات على هامش حملة فلسطين:
1 - جاء في البلاغ الرسمي العراقي الصادر من بغداد والذي
نشرته الأهرام في صباح اليوم 7 6 1948 ما يأتي:
(أغارت قواتنا على قرية كاكون في شمال غربي طولكرم وكبدت العدو المرابط بها خسائر فادحة).
وصحة الاسم بالعربية قاقون لا كاكون، هكذا ورد في المعاجم المعروفة وفي كتب التاريخ العربية ثم في المؤلفات العسكرية وفي الخرائط التي وضعها الجيش العثماني بالأحرف العربية - راجع خرائط جيش الصاعقة بلد ديم طبعة وزارة الحربية مقياس 250. 000
2 - وجاء هذا الاسم في معجم البلدان لياقوت: قاقون حصن بفلسطين من علم قيسارية من ساحل الشام ينسب إليها أبو القاسم عبد السلام بن أحمد حرب القاقوني إمام المسجد الجامع بقيسارية.
3 - وكان بقاقون قلعة حصينة فأصبحت معقلا من معاقل الإسلام في الحرب الصليبية إذ ورد اسمها مراراً في المعارك وفي عقود الهدنة التي كان يعقدها ملوك مصر مع أمراء الصليبيين: راجع كتاب هدنة الملك المنصور قلاوون مع الإفرنج في ملحق كتاب السلوك وفي كاترمير وفي ابن الفرات.
ومر بهذه القلعة صلاح الدين في طريق عودته من حصار عكا إلى عسقلان بعد نزوله بحيفا.
4 - ويقول المؤرخون إن تقدم الإفرنج كان على الساحل وهم يسيرون بالفارس والراجل وعن يمينهم البحر وعن يسارهم الرمل.
وكانت المعارك تنشب ليل نهار وصلاح الدين يسير بنفسه بين الصفوف ونشاب العدو يتجاوزه. ولدينا أوصاف رائعة بمواقف القتل ونقل الجرحى والأسرى في هذه المرحلة.
5 - وفي عصر الملك الظاهر نازل قاقون جماعة من أمراء مصر منهم الامير الكبير أقوش الشمسي البلط المشهور صاحب المواقف الخالدة في عين جالوت.(781/56)
6 - وفي يوم الخميس 21 رجب سنة 680 وقعت بأبراج القلعة بمدينة القاهرة الرسائل الأولى التي نقلها الحمام الزاجل عن انتصار الملك المنصور قلاوون على التتار في معركة حمص الفاصلة حينما انتصر الجيش المصري أكثر من مائة ألف من جنودهم أرسلت البطائق الجاملة للبشرى من قاقون وكانت مراكز من مراكز الحمام ويحدثنا التاريخ أن أهل القاهرة والشام أمضوا الليالي في تلاوة القرآن والبخاري بالمساجد ابتهالا للنصر؛ فلما وصلت البشائر يحملها الحمام إلى القلعة انطلقوا يوجهون الشكر للعلي الأعلى على ما آتاهم من نصر.
7 - وفي رحلة السلطات قايتباي إلى الديار الشامية ذكر قاقون في عودته إلى مصر فقد نزلها في يوم الثلاثاء 18 شعبان سنة 882 حيث سلك الطريق من صفد إلى كفر كونا - الناصرة - اللجون - قاقون - الرملة - أسدود.
8 - وفي رحلة الأمير يشبك أنه نزلها وأقام بها.
من هذا كله يتضح أن صحة الاسم قاقون لا كاكاون وأن ذكرياتها قديمة في التاريخ الإسلامي العربي خصوصاً لأهل مصر.
أحمد رمزي
خليفة المتنبي:
مدح المتنبي كافورا الأخشيدي بقصائد جياد ومن غرر شعره.
قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضا خلفها ومآقبا
ثم هجاه بأهاج مريرة جاء فيها.
من علم الأسود المخصى مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه السدد
أم أذنه في يد النخاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود
لا تشتري العبد إلى والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
ومضى الزمن على سنته. إخلاص ونفاق، وتصريح وجمجمة حتى رأينا من شعرائنا من سار على نهج المتنبي وحذا حذوه. فمدح وهجاء الممدوح هو المهجر.(781/57)
هجا بعض الشعراء رئيسا فقال:
شبخ مناه صغير مثل منبته ... أقصى المنى عنده لو صار مأذونا
لا رأي يعرضه إلا متابعة ... فرأيه دائماً من رأي (كرسونا)
ثم سار هذا الشيخ رئيساً له يملك نفعه وضره، فما أسرع ما تحول الشاعر وجاء يقول لهذا الشيخ.
عرفت أبى النفس لا تعرف الهوى ... ومن آفة الأخلاق أن يعرف النكر
أهنيك يا مولاي والناس كلهم ... يهنئني حتى سما بك لي قدر
ومثلك لا يزهي بغر قصائدي ... ولكن به تزهي قصائدي الغر
ومنها:
فقل لسكارى التيه موسى أتاكم ... أقلوا من الأدهام قد بطل السحر
وقل لبني المعمور أوسا وخزرجا ... تدارككم مأمونه الطاهر البر
وهكذا يصبح الرجل بين عشية وضحاها إنساناً آخر. فبالأمس كان أمعة لا رأي له وقد يتصرف فيه أحد مرءوسيه، وهو وضيع النشأة والمنى، واليوم صار أبي النفس يشبه بموسى مرة وبمحمد مرة أخرى.
حدثوا أن الخوارج لما جاءهم موت المصعب. سألوا عسكر المهلب وكانوا لا يعلمون. عن عبد الملك بن مروان فقالوا ضال مضل. ثم سألوهم في اليوم الثاني. بعد أن علموا باستقرار الأمر لعبد الملك فقالوا: أما هدى. فقالوا لهم: يا عبيد الدنيا بالأمس ضال مضل واليوم أمام هدى!
وبعد. أليس هذا الشاعر خليفة المتنبي في هذا فحسب. ولكن المتنبي لم يكن عالماً من علماء الأزهر. ولم يكن يدرس التفسير والحديث والأخلاق في كلية عالية.
محمد سرحان
أستاذ في البلاغة والأدب
ومدرس بكلية اللغة العربية(781/58)
الكُتبُ
صور من التاريخ الإسلامي
العصر العربي
تأليف الأستاذ عبد الحميد العبادي بك
تقدم الجمعية التاريخية هذا الكتاب لعبد الحميد العبادي بك عميد كلية الآداب. والكتاب يقع في أكثر من مائتي صفحة ويحوي دراسات قيمة مبتكرة في العصر الأموي: أنشأها صاحبها صوراً، وارتفع بها عما في أسلوب الدراسة العلمية من إملال أحياناً، وأخرجها في ثوب أدبي ممتاز فذ. والعبادي بك جيد الطريقة، جامع في أسلوبه التاريخي بين بلاغة الروايات القديمة، وبين الأسلوب العلمي الدقيق في العصر الحديث.
ولاشك أن الجمعية التاريخية وفقت التوفيق كله في تقديم هذا الكتاب إلى العالم العربي؛ لأنه كتاب المؤرخ المصري الأول في العصر الحديث، ولأنه على الأخص يصور أمجد العصور في تاريخ المسلمين. ولعل الجمعية حين اختارته أحست بحاجة العالم العربي في نهضته الحديثة إلى احتذاء ساسته الأقدمين في سعة آفاقهم، وشمول نظراتهم، وجلال فعالهم، وحرصهم على الإصلاح، وسعيهم إلى الصدارة بين الأمم.
والواقع أن القارئ يحس توثب المؤرخ العميد في حماسته للعصر الأموي، ويحس حرصه على أن ينتفع الجيل الحديث بالتراث العربي القديم. فانظر مثلا مقاله عن بحر الروم، تر كيف كان البحر جزءاً من نفسه، ومجالا لمجد العرب، ومعقد آمال الجيل الحديث. ثم اقرأ: (أيها المصريون. . . لقد استرهنكم المستعمر الأرض، ووضع في أعناقكم أغلالا وفي أقدامكم قيوداً ولا خلاص لكم في ذلك الرق المضروب عليكم إلا بركوب متن البحار؛ هنالك تنشقون فوق ثبج الماء ريح الحرية الصحيحة، وتبرأون من علل أورثكموها لزوم البر أحقاباً طوالا؛ هنالك تنبعث مصر الحرة حقاً، مصر الحديثة حقاً، مصر العظيمة حقاص). ثم شيء آخر تحس أن المؤلف يدعو إليه دعوة صادقة: تلك هي الدعوة إلى استلهام الطبيعة لأنها أصفى من يهدي إلى صالح التقاليد. وكأن المؤرخ إنما ردد بعض أفكار روسو حين قال: (الصحراء تبعث في نفوس أهلها وعشاقها الرجولة الكاملة،(781/59)
والإيمان الصادق، والعبقرية التامة). فالكتاب حي الأسلوب صادر عن نفس يهزها الأمل في المستقبل، فتنقل إلى القارئ ما تحس في صدق وصراحة وتردد أحياناً، كما ترى في هذه العبارة: ترى هل أما الله الأمم الإسلامية، أو ألقى عليها نوماً ثقيلا حقبة من الدهر، ثم تأذن بحياتها عندما غيرت ما بأنفسها من صفات الشر، وأنشأت تتحلى بصفات الخير؟ أكبر ما نأمل أن يكون الأمر كذلك). . .
فإذا أمتعت النفس بهذه الخلجات التاريخية الممتزجة بالوطنية في توثب وحماسة فارجع إلى دراساته التاريخية البحتة التي تزيد على العشرين. وانظر كيف يصور العصر العربي الأول قبيل الدعوة وبعيدها، فيبرز لك تقاليده في الشورى، وحرصه على المساواة والبساطة في الدعوة للحق ودين الإسلام، ثم يعود المؤرخ فيحمل إليك صوت الخلفاء مرتفعاً بالدعوة إلى الإصلاح بعد أن امتد الزمن، وعدا على كل شيء، وابتدأ قرن جديد
أما الشورى فقد صورها في دراستين: إحداهما عن دار الندوة، والأخرى عنوانها (كيف كان النبي يسوس أصحابه) أما المساواة فقد مثل لها بشخصية عمر بن الخطاب، وهي ناحية أهملها الكتاب على كثرة ما كتبوا عن ابن الخطاب، وهي ناحية أهملها الكتاب على كثرة ما كتبوا عن ابن الخطاب. وقد تمثل المؤرخ الإسلامي الجليل بأسلوبه العلمي الفني المساواة في شخصية أبي ذر الغفاري، وهو الصحابي الذي أرسل من منفاه بالصحراء صوتاً من الحق لا يزال يدوي في آذان الأجيال جيلا بعد جيل، ولا يزال المصلحون يرددون أصداءه في بقاع الأرض المتحضرة أما الدعوة أيام النبي فقد صوَّر مؤرخنا المصري مهدها في ورع صادق وخشوع جليل، فصور لنا كيف بدأت الدعوة إيماناً راسخاً في دار بسيطة، هي دار الأرقم المخزومي ثم يدور الزمان وتجري المقادير بما شاء الله ويتم للإسلام السلطان على ملك واسع ويقبل على الإسلام أقوام من كل صنف فتحتاج الأمور إلى دعوة جديدة للاصلاح، وتتطلع الأبصار إلى مصلح يعيد البساطة الأولى ويرد صالح التقاليد. فكان عمر بن عبد العزيز ذلك المصلح الذي أعاد بساطة دار الأرقم، وأقام خلافته على أصلح التقاليد القديمة. وكان مبدؤه في ذلك أن سبيل الإصلاح واحدة في أساسها رغم اختلاف الأجيال والعصور والبيئات، ولله در العرب حين قالوا (إن الأمور إنما تصلح بما صلحت به أوائلها)(781/60)
وقال المؤرخ العميد عن عمر بن عبد العزيز نظرية جديدة وكتاب وحده، لأنه أثبت له شخصية المصلح. وقد يعرف الناس جميعاً وخاصة المسلمين أن عمر كان خامس الراشدين، وأن المؤرخين القدماء جمعوا مناقبه. فأي جدة فيما يقول الأستاذ العبادي؟ الجدة في تدعيم ما جاء في كتب المناقب بالأدلة التاريخية المبينة على التحقيق العلمي السليم. وشتان بين أقوال أصحاب المناقب وجماع الروايات وبين تحقيقات المؤرخين المحدثين المؤسسة على المنهج العلمي الحديث. فإذا أردنا تصوير هذا الفارق طالعتنا شخصية الرشيد كما تبدو في القصص التاريخي وشخصيته التاريخية الحقة؛ وشخصية الحاكم الخليفة الفاطمي بين القصص والتاريخ، وشخصيات أخرى كثيرة تنازعها الخيال الشعبي وخيال القصاص وتصوير المؤرخين.
ولم يقتصر المؤرخ العميد على تصوير الخلفاء، وإنما تجاوزهم إلى الولاة والقواد. فكتب مثلا عن زياد صاحب الخطبة البتراء التي تغني عن النسب، وأخ معاوية بالمؤاخاة، وعامل الإمام علي من قبل وصاحب ابنه الحسين من بعده. فهو شخصية تحتاج إلى بحث محكم لما تثير في النفس من معان متضادة، فيتلطف الأستاذ ثم يتلطف، ويهدأ ثم يهدأ، فإذا هو يخرج صورة لزياد تاريخية، فيها ما فيها من شر، وفيها ما فيها من خير. وكذلك كتب الأستاذ مثلا عن محمد بن القاسم الثقفي فاتح الهند، فجعله رمزاً للمجاهدين.
وهكذا لا تكاد تقرأ مقالة إلا وجدتها تخطيطاً تاريخياً متيناً، وبحثاً عميقاً، ونظراً مبتكراً، يثير في نفسك خلجات شتى ويترك لك مجال تفكير وتعليق. وذلك أن الصور التي يسوقها العبادي تفيض خصباً وحياة قوية نابضة.
والمؤلف قبل كل شيء أستاذ أجيال من المؤرخين مد الله في عمره
محمد عبد الهادي شعيره
أستاذ مساعد كلية الآداب - إسكندرية(781/61)
العدد 782 - بتاريخ: 28 - 06 - 1948(/)
العلم والفن. . . هل يلتقيان؟
للأستاذ محمود تيمور بك
ما أوسع الهوة بين العلم والفن! العلم حقائق مسلمة، وتجارب محكمة، ونظريات تمخض عنها جهد المعامل ووسائل الاختبار، وأوضاع تقوم على أسس هندسية ورياضية رائدها العقل الواعي وحده خالصا من كل شوب.
أما الفن بمعناه الأدبي فهو التماع الخاطر، وبث النفس، ووهج المشاعر، واستجابة المنازع لما يصادفها في الحياة من أحداث ومشاهد ومؤثرات. والكثير من ذلك كله رائده العقل الباطن يستيقظ فيبعث ومضاته في غفلة من العقل الواعي، وتسلل من رقابته الصارمة. . .
ومما يعين على جلاء هذه الفكرة تصور موقفين للأديب والعالم من التاريخ:
يقف العالم أمام الحادث التاريخي وقفة فاحص ممحص، يستكشف الأسانيد ويتثبت من السنين، ويقتنص القرائن، وينتخل الشواهد والأشهاد، وما يزال معانيا ذلك في يقظة وترصد وتحفظ، حتى يطمئن إلى تحرير ما وقع على حقيقته جهد إمكانه. . .
ويقف الأديب أمام ذلك الحادث التاريخي بعينه، فلا يعينه منه إلا روحه وجوهره؟ يجاهد ليعيش فيه، ويترك لأجنحة مخيلته أن تحلق به في سمائه ليستنزل الوحي ويستمطر الإلهام، فإذا هو يظفر بموضوع إن أنكره التاريخ في صومعهة حقائقه وأعلامه، وفي متحف أحجاره وآثاره، لم ينكره الفن حين يطالع فيه صورة إنسانية يحيا داخل إطارها ذلك الحادث التاريخي بشخوصه وما يعتلج في نفوسهم من مشاعر ورغائب واستجابات
ولذلك كان كثيرا ما تتشابه الأحداث والشخصيات التاريخية أقوى التشابه على اختلاف المؤرخين، وتغاير درجاتهم في التأليف؛ ولكن الأدباء الفنانين إزاء تلك الأحداث والشخصيات يختلفون في تصويرهم لها اختلافا يقل أو يكثر، فلكلمنهم جانب استيحاء وقبلة استلهام، وكل منهم يسبغ بصبغة نفسه علمه الفني، ويستمد من ذاته الوقود، وكل منهم يودع قصته ذخيرة من جوهر الإنسانية والحقائق البشرية، على قدر ما يستطيع أن ينفذ إلى ما يتدسس في العقل الباطن، فيواتيه الوحي والإلهام.
ومثل آخر يساق في هذا المقام؛ فقد يقع القارئ في لبس واستراية حين يقرأ تراجم الأشخاص، فيرى بعضها قد اتخذ مسحة دقيقة من النسق التاريخي، والتحقيق العلمي،(782/1)
واستنباط النتائج من أسبابها الصحيحة طوعا لقضايا المنطق؛ ويرى بعضها الآخر ليس إلا صوراً تستند أكثر ما تستند إلى الاستلهام الفني فتطالعه بملامح إنسانية ناطقة تحمل طابع عصرها وجوه.
وإنما يتعرض القارئ لذلك اللبس والاستاربة؛ لأنه لم يفرق بين نوعين متباينين أشد التباين؛ أحدهما: نوع الترجمة التاريخية التي تحتشد فيها الحقائق والإسناد، والآخر نوع الصورة الوصفية التي تتضوأ فيها ألوان من شخصية الكاتب، وقوة تخيله واستلهامه في الوصف والتصوير.
فالمترجم التاريخي عدته أمانة النقل، ودقة التمحيص، والمصور الوصفي عدته إطلاق المخيلة وصدق الإلهام.
فلو تمثلنا أن خمسة من المصورين في مرسم فنان يصورون نموذجا واحدا من النماذج، ولكل منهم موضع أمام النموذج خاص؛ فإننا حين نعرض ما صوره هؤلاء الفنانون الخمسة نجد فروقا بينها جميعا؛ لأن كل مصور رسم صورته على وفق الوضع الذي نظر إليه، واستمد إلهامه فيه، فأسبغ على الصورة من ذات نفسه ما سمحت به، والنموذج واحد ولكن الصور تختلف لأنها صورة فنية لا بد أن تظهر على سماتها أثاره من اختلاف المصورين. . .
وإذا كنا نشير إلى سعة الهوة بين العلم والفن، وتباين منعيهما: العقل والواعي، والعقل الباطن، فإننا لا نعني بذلك أن لا تواصل بينهما على نحو من الأنحاء، فلسنا نغفل أن الحدود القائمة بين الأديب والعالم قد تتداخل فيكون منها مزاج لا هو بالأدب المحض، ولا هو بالعلم الصراح.
ولقد يتجرد مؤرخ لكتابة التاريخ، فتراوحه نسمات من فن البيان تجعل صفحات تاريخية موشاة بالأدب، ولقد يخلص أديب لبعض فصوله في تصوير الحياة ونقد المجتمع فتحضره قواعد مقررة، وأوضاع سائدة، تصل فصوله بمناهج البحث العلمي. . .
وربما توافرت إجادة المزج لذلك المؤرخ أو هذا الأديب فيما يعالجانه حتى ليتعذر على القارئ أن يرد كلا منهما إلى العلم وحده أو الفن وحده. . .
على أن الذي لا نزاع فيه: هو أن الدقة العلمية، والحقيقة التاريخية، لا تشتغل بال الفنان(782/2)
قدر ما تشغله خصائص النفس الإنسانية، وتأثرها بما يساورها من ملابسات الحياة.
فالفن لا طاقة له بالاحتباس داخل أسوار معمل تتحدد فيه الأقيسة وتتعين الأرقام، وإنما يتطلب الفن جوا أسوار معمل تتحدد فيه ويمرح، لا سلطان عليه إلا سلطان الإحساس والشعور.
ذلك لأن الفن الإنساني الخالص ليس مجرد تسجيل مرئيات عابرة، ولا التقاط ظواهر عائضة: وإنما هو انتزاع لأقصى ما في أعماق النفس، واستشفاف لما ينطوي بين الألفاف، وتعرف لأشتات المؤثرات ما يدق منها أو يجل، وما هو قريب أو بعيد.
محمود تيمور(782/3)
وارسو نقطة ارتباط بين موسكو وتل أبيب
للأستاذ نقولا الحداد
قلنا غير مرة إن الصهيونية والشيوعية أقنومان لعنصر واحد فما صدقوا، ونقولها مرة أخرى بالدليل المحسوس.
بين يهود فلسطين القدماء والجدد نحو 45 بالمائة بولونيون، أي نحو 350 ألفا تسربوا إلى البلاد، قليلهم قبل الحرب وكثيرهم في أثنائها وبعدها. وفي وارسوا عاصمة بولونيا المقام الرئيسي للصهيونية. وما الوكالة الصهيونية في فلسطين إلا فرع لتلك. والأصل البولوني أصبح نقطة ارتباط بين موسكو وتل أبيب. لأن الصهيونية لما رأوا أن قضية دولتهم المنتظرة أصبحت في الميزان صاروا كالأخطبوط. يمدون أيديهم إلى كل مكان لكي يتمسكوا ويتشبثوا.
لما رأوا أن بريطانيا لا تستطيع أن تضمن لهم دولة إسرائيل لأنها لا تريد أن تبيع صداقة العرب بخيانات صهيون، رأوا أن يعتصموا بدولة السوفيت لعلها تشد أزرهم، أو أنهم بهذا الاعتصام يتهددون بريطانيا وأمريكا عدوتي روسيا.
ولكن السوفيت عدوة الرأسمالية، واليهود أمراء الرأسمالية، فليس سهلا التوفيق بين إسرائيل والسوفيت. ولذلك
نشأت نقطة الارتباط بين الجانبين في وارسو عاصمة بولونيا، وتولت الوكالة الصهيونية هناك مزج الزيت بالماء. فكانت تعاليمها ليهود فلسطين الجدد أن ينظموا أحوالهم طبقا لاشتراكية كارل ماركس ما استطاعوا إلى هذا سبيلا. ففعلوا ذلك في معظم مستعمراتهم المستجدة. فإذا زرت أية مستعمرة صهيونية في فلسطين رأيت سكانها مشتركين في الإنتاج والإنفاق، حتى إنك تراهم في المستعمرات الصغيرة يأكلون على مائدة واحدة على اختلاف أسرهم، كا فعل الأثنينون القدماء ردحا من الزمن حين كانوا يجربون الجهورية. فعل اليهود هذا في فلسطين، حتى إذا زار مستعمراتهم هذه شيوعيون روسيون أرسلوا تقارير إلى موسكو عن نظامهم هذا إقناعا لحكومة ستالين بأن الشعب الصهيوني ليس رأسماليا.
وكانت الوكالة اليهودية في وارسو تحاول أن تقنع موسكو بهذا الواقع. وكانت عصابة شترن تقوم بالدعاية لهذا الوضع، وكانت فظائع العصابات الصهيونية تتطاول على قوات(782/4)
الانتداب البريطاني كما هو معلوم، فتفظع في الجنود البريطانيين وغير الجنود لكي يظهر لروسيا أن الصهيونيين هم أعدائها. ولهذا سهل على الوكالة الصهيونية الرئيسية في وارسو أن تقنع روسيا بأن إسرائيل إن تكونت، تكون خير نصرائها ضد إنكلترا وأمريكا، وأن بترول الشرق الأوسط الذي يقتتل عليه الشرق والغرب يتسرب إلى موسكو في أنابيب الصهيونية ولما طرحت المسألة الصهيونية في هيئة الأمم كان الارتباط بني موسكو وتل أبيب عن يد وارسو قد تمكن بدليل أنه اقترح مشروع التقسيم المشئوم في الهيئة حتى وثب جروميكو مندوب روسيا وثبة الفهد على الفريسة وأعلن موافعة روسيا على التقسيم. والعقل الأنجلوسكسوني في بريطانيا وأمريكا بطئ الفهم فما حسب حساب هذه الوثبة. لعل كادوجان ممثل إنكلترا حسبه. وأما ترومان فما بالى ولسان حاله يقول: ظفرت بكرسي الرئاسة فبعدي الطوفان. ولكنه غير ظافر بالكرسي والطوفان مغرقه على كل حال.
شعر الساسة الإنكليز باللعبة الصهيونية السوفيتية. فبينما كانت الوكالة الصهيونية في وارسو تعمل علمها كانت بريطانيا قد أوفدت الجنرال كليتن برسالة غير رسمية يطوف بها على العوالم العربية، وهو يعرف اللغة العربية جيدا، ويحاول أن يقنع أساطين العرب أنه خير لهم أن يلوذوا بإنكلترا فهي خير نصير لهم. ولكنهم أفهموه أنهم لا يثقون بكلمة إنكلترا بعد أن كذبت مرارا وقالوا: (الصيف ضيعت اللبن)
على أن العرب عملوا بالقول السائل: (ما حك جلدك مثل ظفرك) فاتكلوا على الله ووحدوا كلمتهم وقابلوا كل قوة ضدهم صهيونية وغير صهيونية بالحزم والعزم، فإذا لم تتخابث الدول الأجنبية فهم منصرون بإذن الله.
إن الارتباط بين موسكو وتل أبيب لا يزال على شئ من الوهن لأن موسكو لا تثق كل الثقة باليهود ولو أرتموا ف يأحضانها، لأنها رأت وترى كل يوم أدلة على خياناتهم، فما يمنونها به من المنافع البترولية والاستراتيجية غير مضمون. ولذلك تعطف عليهم بحساب: حسبهم أنها أول من اعترف بدولة إسرائيل. وكان بعض رجال الدولة المزيفة يزورون وارسو في الآونة الأخيرة ساعين في طلب مساعدة روسيا، ومنهم موسى سنيخ المتطرف فقد قضى أخيرا في وارسو أسبوعين لهذا الغرض.
وعصابة شترن الإرهابية أشد العصابات الصهيونية اعتدادا بالمعونة الروسية واعتزازا(782/5)
بالشيوعية. ولذلك تستنكر أن يكون الزعم ويزمان على رأس الجمهورية الإسرائيلية الملفقة، لأنه لا يجحد الراسمالية بل يؤيد. فيخافون أن رئاسته لجمهورية إسرائيل تنفر روسيا.
وفي أوسط أبريل الماضي احتفل يهود بولندا بذكرى تدمير النازي لحي اليهود في وراسو سنة 1943 وترأس الحفلة أدولف برمان وهو أخو جاكوب برمان أحد وزراء بولونيا. وله وظيفة الرقابة غير الرسمية من قبل المكتب السياسي الروسي.
وقد انتهز المحتفلون الفرصة وعقدوا اجتماعا سريا مثل نحو 20 وفدا، منهم وفد فلسطين برئاسة رومان لامبوسكي ممثل المكتب السياسي في بولونيا.
وأبلغ رومان الحضور أن روسيا لا تدخر وسعا في جعل فلسطين دولة يهودية وأن تكون مرتبطة بها ارتباط الابن بالأب. ثم حرض الحاضرين على مقاومة الاستعمار البريطاني والأمريكي كلما سنحت الفرصة للقاومة.
فإلى أي حد تناصر روسيا الصهيونية؟
سيظهر هذا في الليالي الحبالى القادمة.
نقولا الحداد(782/6)
آثار الملوك والسلاطين المصرين بمدينتبي القدس
والخليل
للأستاذ أحمد رمزي بك
روى عن أنس مالك أنه قال: (إن الجنة لتحن شوقا إلى بيت
المقدس، وبيت المقدس من جنة الفردوس)
مقدمة
لملوك مصر وسلاطينها اليد الطولي في إنشاء المباني العالية بمدينة القدس، إذ لهم المدارس والمساجد وبيوت العلم والرباطات والحصون التي بنوها وأنفقوا عليها من أموالهم وحبسوا على خدمتها الأوقاف ورصدوا لوجوه الخير والأموال والضياع والعمائر مما لا يصدقه الجيل الحالي.
ذلك لما حباهم المولى تعالى من بسطة في الملك والعظمة، ولما رزقهم من نصر يتبع نصرا، ولما اشتهروا به من أنهم خدام الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، وسدنة الحرمين الشريفين بالقدس والخليل. والمتتبع لهذه الحقبة من الزمن يقف حائرا أمام عظمة تلك العهود وأمام عظمة هؤلاء الملوك، وتأخذه الحيرة لماذا أخفى الناس تلك الأيادي البيضاء؟ وما الحكمة في تناسي ماض لنا هو جزء منا لا أقول يكمل شخصيتنا، بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول هو أكبر مظهر لمصر الإسلامية العربية وأثرها في تاريخ العالم.
عود إلى الماضي:
كان ذلك في نهاية عام 1935، هو أول عهدي بفلسطين، حين دعيت إلى العشاء بمنزل المندوب السامي البريطاني، الجنزال السير آرثر ووكوب، فجاء مكاني بجوار المستر ريتشموند مدير مصلحة الآثار، وتناول برفق عدة مسائل تمت بصلة إلى التاريخ والآثار، وعرض لهبة روكفلر التي رفضتها مصر، فقبلتها فلسطين، ورأى في هدوءا واستماعا ورغبة في الاستزادة من علمه، فدعاني لزيارته في متحفه، وكنت مأخوذا بالتعرف إلى الآثار المسيحية، وقد وضع النائب البطريركي للروم الأرثوذكس برنامجاً لي، فرأيت أن(782/7)
أحدثه في ذلك وأن أستعرض معه بعض ما لديه من التحف مما يمت إلى العصور المصرية القديمة. وهنا طفق يحدثني بطلاقة عن دهشته من الثروة الإسلامية التي أنشأها ملوك مصر في أنحاء فلسطين، وما خلفوه فيها. وكنت أنصت لحديثه وهو يقول: إن مصير هذه الآثار إلى الزوال إذا لم تتداركها عناية حكومية إسلامية قوية مثل مصر. وإني لدهش من موقفكم، تقيمون الدنيا لاكتشاف حجر قديم فرعوني، وتنسون ماضيكم القريب. لكم المدارس والمساجد والقباب مما يشهد لملوككم وأمرائكم بحسن الذوق وعظمة النفس وعلو الهمة في تذوق الفن، وتتركون كل هذا وكأن الأمر لا يعنيكم؟
وكنت أجهل الكثير مما يقول ولا أعرف من أثارنا سوى مدرسة قايتباى، فأخذت في إشباع نفسي المتطلعة إلى الاستزادة من المعرفة، وقلت إذا نظر الناس إلى الماضي نظرة تقديس وإلهام، فلم لا أنظر إليه نظرة الباحث المتعلم؟
إن الثمن الذي سأدفعه قد يكون غالبا، إذ أحدث الناس من قومي بما لم تسمعه آذانهم: وقد يتخذ الذين لا يؤمنون بشئ أقوالي هزوا لهم، لأني أحدثهم بما لم يألفوا، ولأني اضع للناس قيما جديدة لبعض الأشياء التي لم يؤمنوا بها ولن يصدقوا بعظمتها وكان أهم ما لدى أن أومن أولا بعظمة ماضينا الإسلامي وأن أعيش فيه، وقد كان ولا يزال مهما غلا الثمن ومهما كانت التضحية فإنه من أسعد الأوقات أن أشيد بهذا الماضي، وأن انتهز الفرص للكتابة فيه. وليس أسعد من أن يسمع العالم انتصار جنود العروبة على عصابات الصهيونية وإخراجهم من داخل مدينة القدس القديمة، فإن هذا النصر جعلني أحن إلى القدس، وهي مدينة من أحب مدن العالم إلى قلبي، ولذلك يلذ لي أن أكتب شئيا عنها في هذا الأيام التاريخية، وأعيد قيم الأشياء كما كانت؛ فأرجو ألا يحمل كلامي على غير ظاهره، أو أن يؤخذ بأنه يرمى إلى أهداف سياسية. لقد عاشت مصر والشام سويا أكثر من ثمانية قرون، وعلى صعيد هذه الأرض كتب أسلافنا بدمائهم قصص الملاحم الكبرى وذاقوا طعم النصر، كما أنشئوا أعظم ما يمكن تصوره من المباني، تقربا إلى الله ولخدمة هذا الدين الحنيف، وكان عامل الخير وحب الناس طابعهم، وكانت تستوقهم عاطفة خالصة نحو هذا، لذلك نجحوا حيث أخفق الغير: فإذا كتبت أشير إلى هذا الماضي العظيم فإنما أدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.(782/8)
سلسلة من أعمال الخير والإنشاء:
كان ولا يزال للمسجد الأقصى ولمسجد الخليل إبراهيم المقام الأسمى في نفوس المسلمين. ولذلك اعتنى بهما ملوك مصر من عهد الملك الناصر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب الذي أتم الله فتح القدس على يديه؛ فإنه اتخذ سنة عمل الخير والعمارة، واتبع سننه من جاء بعده من ملوك بني أيوب.
وفي عهد الدولة التركية من الأمراء البحرية بعد أن اتسعت الفتوحات وتوالت الانتصارات تردد أسم الملك الظاهر بيرس كأعظم القواد العالميين وشبه باسكندر الزمان، وكان أكبر البناة والمنشئين أفرد له الأستاذ كريسويل العالم المشهور كتابا عن آثار بمصر. أما في فلسطين فقد ذكر صاحب الأنس الجليل - قاضي القضاة أبو اليمن مجير الدين الحنبلي رحمه الله - أنه اعتنى بعمارة المسجد الأقصى وجدد فصوص الصخرة الشريفة التي على الرخام، وعمر الخان الكائن بظاهر القدس الشريف من جهة الغرب إلى الشمال المعروف بخان الظاهر، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين، ووقف عليه نصف قرية لفتا وغيرها من القرى.
ولقد كانت أكثر قرى دمشق وأراضي البقاع داخلة في أوقاف الظاهر الذي لم يترك بابا لفعل الخير إلا طرقه وحبس الضياع على ائمة المسجد الأقصى، وعلى تفرقة الخبر وإصلاح حال النازلين والآتين للزيارة من مختلف الجهات.
وفي أيام الملك المنصور قلاوون تمت عمارة سقف المسجد الأقصى من جهة القبلة مما يلي الغرب، وتم إنشاء الرباط المنصوري المشهور بباب الناظر، وهو رباط كان في منتهى الحسن والبناء المحكم، هذا غير الإصلاحات التي اتمها المنصور بالحرم الخليلي وغير الرباط والبيمارستان اللذين أنشأهما هناك.
أما ابنه الملك الأشرف المدفون على مقربة من مقام السيدة نفيسة فقد كان من أعظم الملوك حتى إنه على بديه أتم الله فتح البلاد الساحلية وإنهاء الحروب الصليبية، وفي عهده تم عمل فصوص الصخرة الشريفة التي بدأت منذ أيام الملك الظاهر، وجدد عمارة السور الشرقي المطل على مقبرة باب الرحمة.
وفي أيام الملك المنصور لاجين جددت عمارة محراب داود الذي بالسور القبلي عند مهد(782/9)
عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى.
ثم جاء العهد الناصري، أي حكم الناصر محمد بن قلاوون الأخير الذي استمر حتى وفاته، وكان وزيره بالشام الأمير الكبير تنكز وهو الذي قيل في محاسنه:
إلا هل لليلات تقضت على الحمى ... تعود بوعد للسرور منجز
ليال إذا رام المبالغ وصفها ... لشبهها حسناً بأيام تتنكز
وهو الذي له المنشئات العظيمة بمصر ودمشق والقدس وبيروت، وله الأيادي البيضاء حتى مدينة ملاطية في الشمال حيث أراضي الجمهورية التركية. ففي عهد ولايته عمر السور القبلي بالقدس ورخم صدر المسجد الأقصى ومسجد سيدنا الخليل ابراهيم، وتم فتح شباكين بالمسجد الأقصى، وجدد تذهيب القبتين قبة الصخرة وقبة المسجد الأقصى. ويقول صاحب الأنس الجليل: ومن عجب أن تذهيب قبة الصخرة كان قبل العشرين والسبعمائة، وقد مضى عليه إلى عصرنا هذا أكثر من مائة وثمانين سنة وهو غاية الحسن والنورانية، ومن رآه قضى أن الصانع قد فرغ منه الآن.
ويطول بنا البحث إذا ذكرنا عمائر تنكز كلها في القدس فهي كثيرة متنوعة فيها بناء الأبواب والقنوات وأهمها إيصال المياه من بركة السلطان بظاهر القدس إلى المدينة وهو عمل هندسي عظيم، هذا غير أعمال الترميم في الأسوار والقلاع والحصون والأبراج.
وقد نقشت كل هذه الأعمال على الرخام والحجارة وعليها تاريخ عمارتها. لقد كان عصراً فذا لا يعادله في المعمار عصر من العصور.
ولما ولى السلطان برقوق العرش أراد أن يسير على غرار من تقدمه من ملوك بيت قلاوون فأخذ في عمارة بركة السلطان وأنشأ دكة المؤذنين تحت قبة الصخرة تجاه المحراب للمبلغين، ووقف الضياع التي كان يملكها بناحية نابلس على سماط سيدنا الخليل وشرط ألا يصرف ريعها إلا على السماط الكريم: وأخذ بسنة الملك الظاهر بيبرس فكتب نص الوقفية على باب مسجد الخليل إبراهيم كما كتب الظاهر ومن جاء بعده نصوص الأوقاف على أبواب المساجد فلم يغن ذلك شيئا بل نزعت الأملاك المرصودة لعمل الخير وتداولتها الأيدي، ولم تحمها القوانين الوضعية كأملاك مرصدة للمنفعة العامة فلا يصح تملكها أو وضع اليد عليها ولله في خلقه شئون.(782/10)
مؤلفات العصور الماضية:
ذكر صاحب مسالك الأبصار، أن الصاحب تاج الدين أبو الفضائل أحمد بن أمين الملك، ألف كتابا سماه (سلسلة المسجد في صفة الصخرة والمسجد).
ولا أدري هل أبقى الدهر على هذا المؤلف أم ذهب مع الزمن. والذي يظهر مما أورده صاحب مسالك الأبصار نقلا عنه أن المؤلف لم يترك شاردة من غير أن يأتي بها. وإني لدهش من موقفنا إزاء ماضينا؛ فهذا يكتب عن المسجد الأقصى في حوالي سنة 743هـ، وهذا يقصر عنه الكثيرون، وتعيش نحن في القرن العشرين وقد ملأ أنصاف الرجال الدنيا بدعايتهم عن أنفسهم، ولا نجد بين أيدينا كتابا يعرفنا بالمسجد الأقصى. فلنسر معه قليلا: نجد في كلامه عن قبة الملك المعظم (وبقصد بها جزءا من المدرسة المعظمية) أنه يقرر أن دروس النحو كانت تقام بها، وأن عدد طلبتها كان خمسة وعشرين نفراً من الحنفية؛ وهي من عمل ملوك بني أيوب العظام. وفي كلامه وصف دقيق للرباط المنصوري والأبواب والشبابيك التي بالحرم. ثم انظر إليه حيث يقول:
(لقد مضى على في مجاورة هذا الحرم الشريف الفصول والأربعة، فرأيت له في كل فصل محاسن في غيره لم تجمع، وهو أنه من مبدأ فصل الربيع تبدو فيه من الأزاهر المختلفة الألوان ما يستوقف بحسنه الذكي الأروع، وكل أحد ممن له معرفة بالأعشاب يأتى إليه ويأخذ من تلك الأزاهر ما علم منفعته ومضرته).
ومن حديثه يتبين أن هذا الحرم الشريف والقبة والصخرة، لم تعدم اهتمام أهل الخير من مختلف الناس، فهذا الأمير علم الدين سنجر الجاولي ينشئ مدرسة باسمه، وهذا عالم من العلماء أو تاجر عظيم يتبرع من ماله، وينشئ بئراً أو سبيلا أو باباً، أو يهدي مصحفا أو قنديلا.
ومن قبيل ذلك ما أورده صاحب الأنس الجليل: من أن سلاطين بني عثمان وغيرهم من ملوك المسلمين، شاركوا سلاطين مصر قبل الفتح العثماني في الاهتمام بالمسجد الأقصى: فقد حصل السلطان مراد بن محمد بن بايزيد على ترخيص ملوك مصر بإقامة قراء يقرأون والقرآن في مصحف مهدي منه إلى الصخرة.
وكان بنو قرمان من ملوك التركمان بأرض الروم فحصل فهم السلطان إبراهيم على إذن(782/11)
بالقراءة في الصخرة.
هدايا الملوك:
ولو تتبعنا هذه الهدايا لاتسع بنا البحث ولذا نكتفي بما جاء من حسنات الملك الأشرف ابتاك ملك مصر الذي بعث بالمصحف الكبير الذي وضعه بالمسجد الأقصى تجاه الشباك المطل على عين سلوان، وأوقف له قارئا ورتب ما مقداره ألف ومائتا أردب ترسل سنويا قيمتها أربعة آلاف دينار وثمانية دنانير.
ثم توالت الخيرات والهدايا في أيام السلطان أبي سعيد خشقدم المؤيدي إلى أيام الملك الأشرف قايتباي وفي عهده كان ناظر الحرمين الشريفين الأمير ناصر الدين محمد بن النشاشيبي جد الأستاذ الكبير إسعاف النشاشيبي رحمه الله.
وجاء السلطان إلى القدس مرتين وأقام بها وأنشأ وعمر مما يجعل لرحلتيه إلى الديار الشامية أهمية وروعة تشجعاني على أفراد كلمة خاصة بهما.
أحمد رمزي(782/12)
الفتوة في التاريخ الإسلامي وكتب اللغة
للأستاذ ضياء الدخيلي
في العدد (778) من مجلة الرسالة الغراء يقول الأستاذ محمود رزق سليم: (وقال ابن الوردي في لاميته المشهورة.
واهجر الخمر إن كنت (فتى) ... كيف يسعى في جنون من عقل
وشاهدنا في عبارة (إن كنت فتى) وهي ترادف الاستعمال الشائع الآن وهو (إن كنت جدع) أي إن كنت شهما. وبدهي إن معنى فتى لا يفيد لغة معنى شهم) وقد دفعتني كلمة الكاتب الفاضل إلى تحقيق معنى فتى وفتوة. إذ قد أصبح لكلمة الفتوة في العراق أهمية خاصة، وقد تردد صداها في تاريخنا السياسي والحربي القريب بعد أن جعلها مسيرو وزارة المعارف اسما لنظام تربوي يستهدف بعث جيل قوي في جسمه ومبادئه يدربونه على الحياة العسكرية ويعلمونه الرماية واستعمال الأسلحة الخفيفة. وعاد أسم الفتوة مرادفا للفروسية والشهامة والنبل والعزة القومية؛ غير أني أجد من الغريب إدعاء بعض الأدباء وعلماء اللغة أن استعمال كلمة (الفتى) بمعنى الرجل الشهم النبيل المتحلي بفضائل الرجولة - هو استعمال مولد؛ وهذا هو طرفة بن العبد يقول في معلقته
إذا القوم قالوا من (فتى) خلت أنني ... عنيت فلم أكل ولم أتبلد
قال الزوزاني في (شرح المعلقات) يقول: إذا القوم قالوا من فتى يكفى مهما أو يدفع شرا خلت أنني المراد بقولهم فلم أكسل في كفاية المهم ودفع الشر ولم أتبلد (أي أتردد متحيراً) فيهما. وعنيت من قولهم عني يعني عنيا بمعنى أراد وقال طرفة.
على موطن يخشى (الفتى) عنده الردى ... متى تعترك فيه الفرائص ترعد
قال الرزوزني يقول حسبت في موضع من الحرب يخضي الكريم هناك الهلاك، ومتى تعترك الفرائص فيه أرعدت من فرط الفزع وهو المقام. وقال أيضا فيها.
ولولا ثلاث هن من عيشة (الفتى) ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ماتعل بالماء تزيد
وكرى إذا نادى المضاف مجنباً ... كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمد(782/13)
قال الشارح يقول فلولا حبي ثلاث خصال هن من لذة الفتى الكريم لم أبال متى قام عودى من عندي آيسين من حياتي؛ فالأولى مباكرتي شرب الخمر قبل انتباه العواذل، والثانية عطفي إذا ناداني الملجأ إلى والخائف عدوه مستغيثا إياي - فرساً في يده انحناء يسرع في عدوه إسراع ذئب يسكن فيما بين الغضا إذا نبهته وهو يريد الماء؛ فجعل الخصلة الثانية المستغيث وإعانته اللاجئ إليه؛ أما الثالثة أنه يقصر يوم الغيم بالتمتع بامرأة ناعمة حسنة الخلق تحت بيت مرفوع بالعمد - وهذه مثله العليا التي نحتها قصور تفكيره. والغرض أنه ضمن الفتوة إغاثة الملهوف وتلك هي الشهامة، وقد اعتبرها من الخصال الداخلة في مكونات الفتوة. ولنشرح غريب الأبيات فنقول (الجد الحظ والبخت. خمرة كميت اللون ضاربة إلى السوا د والحمرة قال المتنبي.
إذا أردت كميت اللون صافية ... وجدتها وحبيب النفس مفقود
وكره فرسه عطفه لها، والمضاف الخائف والمذعور، المجنب الفرس في يده انحناء. السيد الذئب. الغضا الشجر. المتورد يرد الماء. الدجن إلباس الغيم آفاق السماء. البهكنة المرأة الحسنة الخلق السمينة الناعمة، المعمد المرفوع بالعمد).
وقال المتنبي.
فلما أنحنا ركزنا الرماح ... بين مكارمنا والعملي
وبتنا يقبل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم أنى (الفتى)
وإنى وفيت وإنى أبيت ... وإنى عتوت على من عتا
وما كل من قال قولا وفي ... ولا كل من سيم خسفا أبى
قال الشارح لديوانه (أنحنا نزلنا. العواصم اسم بلاد. والفتى الحر الكريم. أبيت أمتنعت، وعتوت تجبرت. سام كلف، والخسف الذل، وأبى امتنع) - وبعد فها إنك ترى المتنبي قد استعمل كلمة الفتى فيا يدل على كمال الرجولة والإنسانية الرفيعة ويتضمن الشهامة والإباء وعزة النفس وإليك أيضا قول الشاعر:
إن (الفتى) من يقول ها أنا ذا ... ليس (الفتى) من يقول كان أبي
ولم يغفل علماء اللغة هذا المعنى وإن لم يوفوه بيانا وإيضاحا. قال الجوهري في (الصحاح)(782/14)
والفتى السخي الكريم، يقال هو فتى بين الفتوة. وقد تفتى وتفاتى، وقد تناقل المؤلفون كلمة الجوهري من دون تمحيص أو تحقيق وهذا من عيوب كتب اللغة، فكأنها لتشابه ما فيها - كتاب واحد فلم يكلفوا أنفسهم جهد مراجعة الشواهد للتصرف في التعبير والتباين؛ فقال الفيروزابادي في (القاموس) الفتى الشاب والسخي الكريم؛ والفتوة الكرم. وقد تفتى وتفاتى، وفتوتهم غلبتهم فيها. وقال البستاني في (البستان): الفتى الشاب الحدث والسخي، والفتوة السخاء والكرم والمروءة. وقال في (أقرب الموارد) الفتى الشاب الحدث والسخي الكريم، والفتوة السخاء والكرم والمروءة. وقال في (المنجد) الفتى الشاب الحدث السخي الكريم. (فتايفتو فتواً) الرجل: غلبه في الفتوة أي السخاء والكرم. ها أنت ترى اللغويين هؤلاء قد تعلقوا بأذيال الكرم والسخاء هذه الفضيلة ذات القيمة الغالية في حياة الصحراء العربية المجدية؛ ولكنك تفهم من سياق أبيات المتنبي وطرفة بن العبد معاني بعيدة عما يحوم حوله علماء اللغة، فإنك تحس أنهما يريدان بالفتوة الشهامة والفروسية والرجولة وما يقارب ذلك من مظاهر القوة والصبر على المكاره والشدة وصلابة العود والنجدة؛ وإذن فإننا نكاد نتهم أصحاب المعاجم اللغوية في شرحهم لمعاني الكلمات. وقال في (محيط المحيط) الفتى الشاب الحدث والسخي الكريم، والفتوة السخاء والكرم والمروءة وعند أهل الحقيقة هي أن تؤثر الخلق على نفسك بالدنيا والآخرة. وعند السالكين كف الأذى وبذل الندى وترك الشكوى. وإني أرى أن هذا هو المفهوم لغة من النصوص المتقدمة الذكر. وقال الزمخشري في (أساس البلاغة) هذا فتى بين الفتوة وهي الحرية والكرم. قال عبد الرحمن بن حسان.
إن الفتى لفتى المكارم والعلى ... ليس الفتى بغملجالصبيان
وقال آخر:
يا عز هل لك في شيخ (فتى) أبداً ... وقد يكون شباب غير فتيان
(الغملج هو الذي لا يثبت على حالة، يكون مرة سخيا ومرة بخيلا ومرة شجاعاً وأخرى جبانا ومرة شاطرا وأخرى قارتا أي جامدا ساكتا: كذا في القاموس).
ولكن ابن منظور الأفريقي ينقل في (لسان العرب) عن القتيبي إنه ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال يدلك على ذلك قول الشاعر.
إن (الفتى) حمال كل ملمة ... ليس الفتى بمنعم الشبان(782/15)
وقال ابن هرمة:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
ونقل عن ابن بري أن الفتى هو الكريم.
غير أن شارح (القاموس) يقول في كتابه (تارج العروس) والفتوة الكرم والسخاء، هذا لغة؛ وفي عرف أهل التحقيق أن يؤثر الخلق على نفسه بالدنيا والآخرة. وصاحب الفتوة يقال له الفتى ومنه لا فتى إلا علي وقول الشاعر.
فإن (فتى الفتيان) من راح واغتدى ... لضر عدو أو لنفع صديق
وعبر عنها في الشريعة بمكارم الأخلاق. قال ولم يجئ لفظ الفتوة في الكتاب والسنة وإنما جاء في كلام السلف. وأقدم من تكلم فيها جعفر الصادق ثم الفضيل ثم الإمام أحمد وسهل والجنيد، ولهم في التعبير عنها ألفاظ مختلفة والمآل واجد. ويقال هو فتى بين الفتوة وقد تفتى وتفاتى نقله الجوهري، وفتوتهم أفتوهم غلبتهم فيها أي (الفتوة). وبعد فها أنت تجد صاحب تاج العروس يعزو الفتوة إلى الأمام جعفر الصادق وقد كان في صدر الدولة العباسية وإليه أيضا ينسب علم الكيمياء. وقد وجدت في (مجمع البحرين) للطويحي (والفتى أيضا السخي الكريم وفي الحديث تذاكرنا عند الصادق أمر الفتوة فقال أتظنون أن الفتوة بالفسق والفجور؟ إنما الفتوة والمروءة طعام موضوع، ونائل مبذول، إلى أن قال وأما تلك فشطارة الخ) والشطارة الخبث، والشاطر هو الذي أعيا أهله خبثا. وقد مدح الغزالي الفتوة في إحياء العلوم وذكر بعض المؤرخين أنه كان في أسيا الصغرى جميعات أخوية تتبع نظام الفتوت وتكرم الغرباء وتساعد الفقراء ولها زوايا وألبسة وتقاليد خاصة، وإنها من تقاليد المسلمين القديمة النافعة التي أضعناها؛ فلو أننا احتفظنا بها مع تحسينها لكانت لنا خيرا من الكشافة.
وذكرت الفتوة في (دائرة معارف الإسلام) وقالوا إن للفتوة مبادئ أخلاقية سامية منها تضحية النزعات الفردية في سبيل الصالح العام.
وذكرأحد مؤرخي الحضارة الإسلامية أن الفتوة كانت في العصر العباسي نظاما له صبغة دينية. ومن صفات الفتيان الشجاعة والكرم ومساعدة الغير وللفتوة نظام خاص وألبسة خاصة ولباس الفتوة الخاص سراويل عليها صورة كأس؛ فإذا أراد أحد الانخراط في هذا(782/16)
السلك تقام له حفلة يشهدها إخوانه الفتيان ويلبس سراويل الفتوة ويشرب كأس الفتوة. وكانوا يرمون البندق وهو كرات تصنع من الطين أو الحجارة أو الرصاص أو غيرها؛ وكانوا يرمون البندق عن الأقواس كما يرمون النبال. وكان رماة البندق في العصر العباسي طائفة كبيرة يخرجون إلى ضواحي المدن ويتسابقون في رميه على الطير، ويعدون ذلك من الفتوة. وفي خلافة الناصر لدين الله العباسي المتوفي سنة 627هـ أقبل الناس على رمي البندق وتربية الحمام لأن الخليفة نفسه كان كبير فتيان زمانه، ورغب في هذين الفنين. وقد بلغ من رغبته في ذلك أن جعل رمي البندق فنا لا يتعاطاه إلا الذين يشربون كأس الفتوة ويلبسون سراويلها على أن يكون بينهم روابط وثيقة على نحو ما عند بعض الجمعيات السرية. ثم تفننوا في رمي البندق بالمزاريق أو الأنابيب بضغط الهواء من مؤخر الأنبوب بما يشبه أنابيب البنادق، فلما اخترعوا البارود صاروا يرمون البندق به من تلك الأنابيب وسموا هذه الآلة بندقية نسبة إليه).
ضياء الدخيلي(782/17)
خواطرمسجوعة:
تمثال شاعر
(إلى الملهمين الذين اضطربت حياتهم. وتعثرت خطواتهم. إلى المغمورين الذين مسهم الضيم وهم أباة، وسيسوا الهوان وهم كرام).
كأني بالشاعر وقد عاش تسعين عاما، بين عيون تعامى. . . فلم ينقذه من حياة الأموات، سوى سهم الممات!
عاش سطراً في دفتر العناء، وسرا في ضمير الفناء. ومات فلم يخسر شيئا من الدنيا، لأنه لم يكن قبل الموت حياً!!
عاشفأنكروه، ولم يذكروه. ومات فتباركي الجاحد، وتحازن الحاسد. . .!
عاش يبحث عن الضالة المنشودة، والرحمة المفقودة، حتى دوى يأسا، وقضى بؤساً. .!
عاش هدفا لإجحاف مر، واعتساف مستمر. . . ومات فهشوا لوفاته، وبالغوا في تكريم رفاته!
فقد الرحمة حيا ثم مات، فطلبوا له عيثا من الرحمات! فهل كانت الرحمة للميت لزاماً، وعلى الحي حراماً؟! أم هو الفضل يذكر إن صاحبه ذهب، والحقد يزول بزوال السبب. فمن لم يستطع التحديق في الشمس كان للتعامي مؤثرا، فإذا غربت انقلب مبصرا، فأكبر الدفين في الرميس، وعرف له اليوم مالم يعرفه بالأمس. ورب متجاهل كان تجاهله جهلا، ومتعام كان للعمى أهلا.
وكأني بالشاعر وقد شيعوه إلى القبور، ملتمسين لذويه الصبر! وبعد تراب عليه انهال، أقيم له تمثال.
وإذا العيون قفلت، والقلوب غفلت، فإن التمثال لا يلفت ذوي عمى، ولا يوقظ من ينظرون إليه نظر الأطفال إلى الدمى!
وإذا قضى الشاعر نحبه، وفارق آله وصحبه، فإن التمثال لا ينفع من ذهب، وإن كان من ذهب!
فلعمري إن لم يظفر الحي بأمنيته، قبل منيته، فإن الذكر والنسيان، في الموت يستويان!
ليتهم صانوا صاحب التمثال حيا، فمن مات مذكوراً هو من عاش منسياً!!(782/18)
حامد بدر(782/19)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غنى
سفير إيران بمصر
- 7 -
6 - البيمار ستانات في البلاد الإسلامية:
لقد أشرنا في حديثنا السابق إلى مطالعات الأطباء المسلمين بجانب سرير المريض، ولتوضيح الناحية العملية من الطب الإسلامي وأعمال الأطباء في البيمار ستانات وطريقة تمريض المرضى وعلاجهم وحالة دور الشفاء عندهم لا بدمن أن تلقى كلمة عن هذا الموضوع:
يأمر الدين الإسلامي مثل سائر الأديان السماوية بالرفق والشفقة ويدعو إلى البر بالفقراء والإحسان إليهم ومواساة المرضى والعجزة؛ وقد كان تمريض المجروحين ومواساتهم والعناية بأمرهم من أهم الأمور التي كان يعيرها النبي صلى الله عليه وسلم اهتماما خاصا في غزواته. فقد جاء في سيرة ابن هشام أن سعد بن معاذ أصيب في غزوة الخندق في شوال من العام الخامس الهجري بسهم في الأكحل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوضع في خيمة رفيدة الأسلامية، وكانت تداري الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضبعة من المسلمين قائلا: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعود من قريب. ويمكن اعتبار خيمة رفيدة هذه أول مستشفى حربي متنقل عند المسلمين.
وبعد ذلك ازداد عدد هذه المستشفيات المتنقلة التي كانت تسعى بالبيمار ستانات المحمولة مقابل البيمار ستانات الثابتة.
وهذه البيمار ستانات المحمولة زيادة على استعمالها في الحروب كانت تنقل من مكان إلى آخر، وكانت مجهزة بكل ما يلزم المرضى عادة من أدوات وأدوية وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة وكل ما يعين على ترفيه المرضى والعجزة والمزمنين والمسجونين وكانت تنقل من بلد إلى أخر من البلدان الخالية من بيمارستانات ثابتة.
يقول ابن أبي أصيبعة نقلا عن ثابت بن سنان:(782/20)
إن الوزير علي بن عيسى بن الجراح في أيام تقلده الدواوين من قبل المقتدر بالله وتدبير المملكة في أيام وزارة حامد بن أبي العباس وقع إلى والده سنان بن ثابت في سنة كثرت فيها الأمراض جداً وكان سنان يتقلد البيمارستانات ببغداد وغيرها توقيعا جاء فيه: (فكرت مد الله في عمرك في أمر من في الحبوس وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أما كنهم أن تنالهم الأمراض وهم معوقون عن التصرف في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم ويحملون معهم الأدوية والأشربة وما يحتاجون إليه من المزورات (والمزورات هي حساء من الخضر دون الحم أو دسم أو البهريز ويعالجوا من فيها من المرضى ويريحوا عللهم فيما يصنعونه لهم إن شاء الله تعالى) ففعل سنان ذلك.
ثم وقع إليه توقيعا آخر:
(فكرت في من بالسواد من أهله وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء، فتقدم مد الله في عمرك بإيفاد متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون السواد ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره).
فنفذ سنان هذا الأمر وانتهى أصحابه إلى (سورا) من بلاد العراق وكان معظم أهلها من اليهود فكتب سنان إلى الوزير يخبره أن بعض أصحابه كتب إليه من السواد يستأذنه في المقام هناك لعلاجهم أو الانصراف عنهم إلى غيرهم وإنه لا يعلم بم يجيبهم لأنه لا يعرف رأيه في أهل الذمة. وقد عرض عليه في كتابه هذا أن الطريقة المتبعة في بيمارستان الحضرة هي علاج الملي والذمي؛ فوقع له الوزير توقيعا أخبره فيه أن يقدم معالجة المسلمين على أهل الذمة، فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم - أي أهل الذمة - وقال (فاعمل أكرمك الله على ذلك واكتب إلى أصحابك به ووص بالتنقل في القرى والمواضع التي فيهاالأدباء الكثيرة والأمراض الفاشية).
وكانت عادة السلاطين في دولة المماليك أنهم عند ما كانوا يخرجون إلى القصور التي كانوا قد بنوها خارج المدن للإقامة أياما فيها، أن يصحبهم في السفر غالبا حاشية من الأمراء والأعيان ومعهم كل ما تدعو إليه الحاجة حتى يكاد يكون معه بيمارستان كامل لكثرة من(782/21)
معه من الأطباء والكحالين والجراحين والفصادين والأشربة والعقاقير وغيرها.
وكان الأمراء المسلمون أيضا يستعملون في حروبهم البيمارستانالمحمول وكان يحمل الآلات وأدوات والأدوية والعقاقير اللازمة عدد من الجمال خصصت لذلك أما البيمارستانات الثابتة فهي ما كان بناؤها ثابتا في مكان خاص؛ وكان هذا النوع موجودا في معظم البلاد المهمة ولا سيما في العواصم الكبرى وكان في بعضها اكثر من بيمارستان واحد ولا تزال أثار بعضها باقية إلى الآن كالبيمارستان المنصوري أو (قلاوون) واليمارستان المؤيدي بالقاهري والبيمارستان النوري بدمشق وغيرها.
وكانت هذه البيمارستانات بوجه عام منقسمة إلى قسمين منفصلين قسم للذكور وآخر للإناث، وكل قسم مجهز بما يحتاجه من آلات وعدد وخدم من الرجال والنساء وفي كل قسم منهما قاعات مختلفة فقاعة للأمراض الباطنية وأخرى للجراحة وثالثة للكحالة ورابعة للتجبير، إلى غير ذلك من القاعات.
وكانت هذه الأقسام الخاصة مقسمة بدورها إلى شعب وأقسام فرعية مثل الفرع الخاص بالمحمومين والقرع الخاص بالممرووين أي المجانين، والفرع الخاص بالمصابين بالأمراض العادية والأسهال وغير ذلك. كانت البيمارستانات تقام في إمكان حسنة الموقع طيبة المناح.
يروى بعض المؤرخين في ترجمة محمد بن زكريا الرازي أنه عند ما طلب إليه أن يختار محلا مناسبا لبناء بيمارستان في بغداد أمر أن يعلقوا قطعا من اللحم الغريض في أماكن مختلفة من المدينة ثم اختار المحل الذي تعفن اللحم فيه متأخرا عنه في سائر الأماكن لبناء المستشفى المطلوب.
وكان من شروط انتخاب المحل المناسب لبناء البيمارستان أن يكون فيه ماء جار.
وكان لكل بيمارستان شرايخاناه أي صيدليه (والكلمة محرفة عن شرابخانة الفارسية ومعناه خزانة الشراب) ولكل شرابخاناه (مهتار) أي رئيس (وهذه الكلمة أيضا محرفة عن مهتر الفارسية بمعنى الرئيس أو الكبير) وتحت يده غلمان عندن برسم الخدمة يطلق على كل واحد منهم (شراب دار).
ومما يسترعي النظر كثرة الأسامي والمصطلحات الطبية الفارسية التي كانت شائعة في(782/22)
اللغة العربية ويدل ذلك على نفوذ الأطباء الإيرانيين وأثر مدرسة جند يسابور منذ عهد الساسانيين، حتى أن العرب استعملوا نفس هذه المصطلحات واللغات الفارسية عيناً أو بتحريف بسيط في كتاباتهم ومحاوراتهم؛ فكلمة (بيمارستان) أو مخففتها (مارستان) شائعة ومتداولة في اللغة العربية أكثر من كلمتي المستشفى أو دار الشقاء.
وكانت كلمة (بيمارستان) تطلق في بادئ الأمر على المستشفيات التي تعالج فيها الأمراض بصورة عامة؛ أما بعد ذلك لما أصابتها الكوارث وحل بها البوار وهجرها المرضى أقفرت إلا من المجانين حيث لا مكان لهم سواها فصارت كلمة (مارستان) وهي تحريف بيمارستان لا تنصرف إلا إلى مستشفى المجاذيب.
وكان لكل بيمارستان ناظر يشرف على إدارته، وكان النظر عليه يعد من الوظائف الديوانية العظيمة، وكان تحت إدراته عدد من أرباب الوظائف في البيمارستان وهم:
1 - رئيس الأطباء وهو الذي يحكم على طائفة الأطباء وبأذن لهم في التطبيب ونحو ذلك.
2 - رئيس الكحالين وحكمه في الكلام على طائفة الكحالة حكم رئيس الأطباء في طائفة الأطباء: - رئيس الجرائحية.
وكان لكل طبيب حسب درجته ومقامه مرتب خاص له زيادة على المرتب جامكية وصلات وعلوفة لدابته من الخلفاء والملوك والأمراء.
يقول القفطي وابن أبي أصيبعة أن معدل المرتبات الشهرية للأطباء كان كالآتي:
1 - أطباء الخاص (أس المنقطعون للخليفة أو السلطان) وكان عددهم اثنين لكل منهما في الشهر خمسون ديناراً (وكل دينار حوالي خمسة عشر فرنكا فرنسيا ذهبا أي ستين قرشا مصريا تقريبا).
2 - أطباء الدرجة الثانية وهم ثلاثة أو أربعة، وكان بعضهم يقيم بالقصر ولكل منهم عشرة دنانير؛ وكان بعضهم طبيبا بالبيمارستان أيضا فكان له رزقان أي ثلاثون ديناراً في كل شهر مثل رضى الدين الرحبي طبيب صلاح الدين الأيوبي، فقد أطلق له صلاح الدين ثلاثين دينارا في الشهر ويكون ملازما للقلعة والبيمارستان؛ وكان للبعض الآخر مثل جبرائيل الكحال ألف درهم كل شهر (والدرهم نصف فرنك فرنسي ذهب أو قرشان مصريان).(782/23)
يقول المقريزي إن أول من بنى البيمارستان في الإسلام ودار المرضى هو الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي سنة 88 هجرية وجعل فيها الأطباء وأجرى لهم الأرزاق وأمر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق.
وكان في البيمارستان طريقان للعلاج. علاج خارجي أي أن المريض يتناول الدواء من اليمارستان ثم ينصرف ليتعاطاه في منزله، وعلاج داخلي يقيم المريض في أثنائه في البيمارستان في القسم والقاعة الخاصة بمرضه حتى يشفى.
ففي الطريقة الأولى كان الطبيب يجلس في محل خاص ويعاين المرضى ويعطيهم العلاج اللازم؛ وبما أن هذه المعاينة وهذا العلاج كنا يتمان في البيمارستان غالبا فقد كان يجتمع التلاميذ بحضرة أستاذهم يعاينون معه المريض ويعرفون كيفية استدلاله على المرض من أعراضه وعلائمه، وجملة ما يصفه له، والعلاج الذي يعالجه به، ومقدار الأدوية والعقاقير التي يوصى بها وطريقة استعمالها. يروى ابن النديم وكانمعاصرا لمحمد بن زكريا الرازي نقلا عن شيخ من أهل الرى (أن الرازي وكان شيخ كبيراً كان يجلس في مجلسه ودونه تلاميذه ودونهم تلاميذهم ودونهم تلاميذ أخر وكان يجيئ الرجل فيصف ما يجد لأول من تلقاه فأن كان عندهم علم وإلا تعداهم غيرهم، فإن - أصابوا وإلا تكلم الرزاي في ذلك.
إن هذه الطريقة تشبه إلى حد كبير الطريقة المتبعة الآن أو التي يجب أن تتبع في حالة مداولة الأطباء عن فحص المريض فإن الأطباء بعد أن يعاينوا المريض يجتمعون للمداولة في غرفة خاصة ويبدأ الحاضرون بإبداء آرائهم في حالة المريض متدرجين من أصغرهم سناً إلى أكبرهم؛ وذلك لأن الأطباء الكبار والمشهورين إن أبدوا رأيهم في ذلك ربما خجل الطيب الأصغر منهم بحكم سنه وإجلاله للطبيب الأكبر منه سنا ومقاما من أبداء رأي يخالف ذلك، وقد يكون أحيانا أحسن من رأي غيره وأقرب إلى الصواب.
والخلاصة أن دراسة الأطباء لحالة المريض بجانب سريره ومطالعاتهم في البيمارستانات وأخذهم دروسا عملية كانت تعد في تلك العهود - وكانت العلوم فيها على الأغلب الأعم نظرية ذات أهمية خاصة بالنظر لأهمية الطب والتبعة التي تقع على عاتق المشتغل به وللمهارة التي تستلزمها هذه المهنة.
وإن شطرا هاما من كتاب الحاوي للرازي مخصص لهذه الدروس الطبية (الأكلينيكية).(782/24)
ومنه فصل بعنوان (أمثلة من قصص المرضى)، يذكر فيه الحالات النادرة التي تردد فيها في تشخيص المرضى، وفي كل حالة يذكر اسم المريض وأعراض المرض وطريقة العلاج ونتيجتها.
ويذكر الأستاذ بروان في كتابه الطب الإسلامي
كما يأتي:
(كان يأتي عبد الله بن سوادة حميات مخلطة تنوب مرة في ستة أيام، مرة غب، ومرة ربع، ومرة كل يوم ويتقدمها نافض يسير، وكان يبول مرات كثيرة، وحكمت أنه لا يخلو أن أن تكون هذه الحميات تريد أن تنقلب ربعا، وإما أن يكون به خراج في كلا، فلم يلبث إلا مديدة أعلمته أنه لا يعاود هذه الحميات، وكان كذلك، وإنما صدني في أول الأمر عن أن أبت القول بأن به خراجاً في كلاه أنه يحم قبل ذلك حمى غب وحميات أخر فكان للظن بأن تلك الحمى المخلطة من احتراقات تريد أن تصبر ربعا موضعا أقوى. ولم يشك إلى أن قطنه شبه ثقل معلق منه إذا قام وأغفلت أنا أيضا أن أسأله عنه، وقد كان كثيرة البول يقوى ظنى بالخراج في الكلى، إلا أني كنت لا أعلم أن أباه أيضا ضعيف المثانة يعتريه هذا الدء، وهو أيضا قد كان يعتريه في صحته فينبغي ألا يفعل بعد ذلك غاية التقصى إن شاء الله، ولما بال المدة أكببت عليه بما بدر البول، حتى صفا البول من المدة ثم سقيته بعد ذلك الطين المختوم والكندر ودم الأخوين وتخلص من علته وبرأ برءا تاما سريعا في نحو من شهرين. وكان الخراج صغيرا ودلني على ذلك أنه لم يشك إلى ابتداء ثقلا في قطنه، ولكن بعد أن بال مدة قلت له هل كنت تجد ذلك؟ قال نعم، فلو كان كثيرا لقد كان يشكو ذلك، وأن المدة تنبث سريعا تدل على صغر الخراج. فأما غيري من الأطباء فأما غيري من الأطباء فإنهم كانوا بعد أن بال مدة أيضا لا يعلمون حالته البتة).
(البقية في العدد القادم)(782/25)
أساتذة الجيل:
2 - أحمد تيمور باشا
ندوته في درب سعادة
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
(إلى الصديق الكريم، والباحث المحقق، الدكتور محمد سامي الدهان، وفاء بما وعدته من الإفاضة في الحديث عن أولئك الأستاذة الأماثل الذين مهدوا الطريق أمام هذا الجيل. . .)
كانت منازال الكبراء والعظماء وأهل البيوتات لعهد أدركناه، منازل لأهل الفضل من العلماء والأدباء والشعراء، ومجامع للفحول في كل علم وفن، يلتقون فيها كل ليلة أو كل أسبوع، فيتباحثون ويتجادلون، ويسمرون، ويضحكون، ويذهبون في فنون القول مذاهب، فما شئت من حقيقة علمية خافية، أو أدبية رائعة، أو فكاهة حلوة تروى وتحفظ.
وكان الكبراء والعظماء وأهل البيوتات لعهد أدركناه، والعراقة، فكانوا يفسحون لهم في جانبهم وفي منازلهم، ويبذلون لهم من جاههم ومالهم ما وسعتهم القدرة على ذلك، فكانت هذه المجالس هي مجالي التفكير العلمي والأدبي والتدبير السياسي والاجتماعي وليس من شك في أن هذه المجالس قد أثرت في حياتنا الفكرية أكثر مما أثرت (الصالونات الأدبية) في الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، ولكنها من الأسف لم نجد المؤرخ الذي يدون أخبارها، وبذكر آثارها. .
كانت في دار الأميرة نازلي هانم فاضل ندوة، وفي دار آل البكري ندوة، وفي دار سليمان أباظة باشا ندوة، وفي دار الإمام محمد عبده بعين شمس ندوة، وفي دار آل عبد الرزاق ندوة، وفي دار آل القاياتي ندوة، ولا تزال منها بقية باقية. . . وكان من أحفل هذه الندوات وأعمرها ندوة أحمد تيمور في درب سعادة حيث كانت دار آل تيمور الفسيحة الجنبات المتفتحة الأبواب. . .
ولقد رأيت فيما قدمنا لك أن والد أحمد تيمور باشا قد عكف في آخر حياته على جمع الكتب ومجالسة أهل العلم والأدب في داره، فلما شب الابن جرى على سنة ابيه في هذا، وكانت له به قدوة، ففتح داره لشيوخ العصر وأعلام اللغة والأدب وكل من يمت إلى هذه بسبب،(782/26)
فكان يجتمع في هذه الدار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والشيخ محمد بن محمود الشنقيطي والشيخ حسن الطويل والشيخ أحمد أبو خطوة والشيخ طاهر الجزائري والسيد محمد الببلاوي والشيخ محمد شاكر والشيخ حسن منصور والشيخ أحمد مفتاح ويحيى أفندي الأفغاني وحمد أفندي أكمل والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري، والشيخ عبد الرحمن الكواكبي والسيد عبد المحسن الكاظمي ورفيق بك العظم، والسيد محمد رشيد رضا، ثم كان بعد هؤلاء رعيل آخر من أعلام الأدب واللغة ورجال القلم والصحافة والمستشرفين الذين كانو يتوافدون على مصر للدراسة والتحقيق العلمي والبحث عن المخطوطات النادرة، فكانت ندوة أشبه بجامعة علمية تمت لها كل فروع المعرفة ووسائل الدراسة العلمية والأدبية وامتازت بالتخلص من قيود النظم والقوانين. . .
في هذه الندوة تخرج أحمد تيمور، ودرس وحصل وأفاد، واستطاع أن يقرأ جميع ما جمع من أمهات الكتب ونوادر المخطوطات وأن يعلق عليها التعليقات المفيدة، فبعد أن كان يجلس في هذه الندوة مجلس التلميذ المستفيد أصبح يجلس مجلس الأستاذ المفيد، وأصبح أهل العلم يتوافدون عليه للأخذ عنه والإفادة منه ويرجعون إليه فيما يريدون من تحقيق أدبي أو تعليق لغوي.
لم يدون أحد ما كان يجري في هذه الندوة من المطارحات والمناقشات، ولو جمع هذا التحصل منه علم كثير وأدب كبير، ولكنا نجد تيمور باشا يشير إلى ذلك إشارات عابرة مقتضية فيما كتبه في تراجم أعيان القرن الثالث عشر الهجري، فيقول في ترجمة الشيخ أحمد مفتاح: (ولما انتقل إلى مدارس الأقليم صار يحضر إلى القاهرة في فترات فينزل عندنا، ويجتمع به إخوانه وأصدقاؤه في ليال كنا نحييها بالمطارحات الأدبية وإنشاد الأشعار).
ويقول في ترجمة أستاذه الشيخ حسن الطويل: (ومن غريب المصادفات أنه زارني قبل وفاته بيومين في ليلة مقمرة، فجلسنا في صحن الدار نلعب الشطرنج، وكان مولعا به مع قلة إجادته فيه، فقال لي عندما أراد الذهاب: نحن الآن في الامتحانا وقد قربت الإجازة، وصدري ضيق في هذه الأيام من الناس، ونفسي تجنح للعزلة، فهل تعرف لي مكانا أقضي فيه بعض أيام بعيدا عنهم؟ فقلت: يا سيدي. إذا انتهى الامتحان فالأوفق أن نسافر معا إلى(782/27)
ضيعتنا التي بقويسنا فنخلو فيها بكتاب نقرؤه، فقال: نعم الرأي هذا، وسأستصحب معي ولدي حسنا ليشترك معنا في القراءة. ثم لم يمض يومان حتى نقله الله إلى جواره، ويسر له العزلة ولكن في دار قراره).
ويظهر أن ندوة تيمور لم تكن لها ليلة معينة في الأسبوع، بل كانت مفتحة الأبواب دائما، وكان إخوانه يجتمعون به كل ليلة وكل وقت يروق لهم، فهو يحكى عن نفسه أن أستاذه الشنقيطي أشار عليه بقراءة أمالي أبى على القالي قراءة إمعان وتدبر، فاعتزل الناس ثلاثة أيام لهذا الغرض، فلم ترق هذه العزلة صيقه محمد أفندي أكمل فعاد إليه بعد الأيام الثلاثة ومعه زجل ينحى فيه على الشنقيطي وعلى أبي علي القالي اللذين تسببا في انقطاعه عن الإخوان وفيه يقول:
يا سيد احمد يا تيمور ... يا للي منعنا منأنسك
هو ودادك من بنور ... حتى كسرته من نفسك
أهديك سلام يشحن وابور ... يقطع محطات على حسك
هو الكتاب ده م الجنة ... ولا كلام المجريطي
أبو علي كان لك محنة ... الله يجازي الشنقيطي
بكره يجينا الشيخ مفتاح ... يحلى السهر في القماري
نفضل ندردش للأصباح ... والشيخ بروحه مؤش داري
عبيط خفيف عالم فلاح ... بجوز شوارب هوارى
أوقات كده يبقى زنه ... وأوقات نشوفه رهريطى
أبو علي كان لك محنة ... الله يجازي الشنقيطي
وهو زجل طويل، وكله على هذا النحو من الطرافة والدعابة، وقد أورده جميعه تيمور في كتابه أعيان القرن الثالث عشر.
ويحكى تيمور باشا في ترجمة محمد أفندي اكمل أيضا فيقول:
(وأطلعته على رسالة عندي جمعها الشيخ أحمد الفحماوي وذكر بها كنى وألقابا وضعها لفضلاء أواخر القرن الثالث عشر على سبيل المزاح والدعاية، فلقب كل واحد بلقب شاعر متقدم أو رجل مشهوريوافق اسمه هيئة الملقب به أو شيئا يغلب على أخلاقه وأحواله، فلما(782/28)
اطلع المترجم عيها جن بها جنونا وشرع في وضع رسالة تماثلها في فضلاء عصره، وسألني مشاركته فيها فامتنعت خشية اللوم فانفرد هو بتاليفها وأنى فها بغرائب، فمن ذلك تلقيته للعالم الفاضل على رفاعة بابن المقفع لنحافته ودخول شديقه، وتلقيه للعالم الفاضل يحيى افندي الأفغاني بالقدوري لغرابة شكله وقصر ساقيه تشبيها له بالقدر من الفخار، والقدوري اسم عالم مشهور من الحنفية، ولقب نفسه بابن قتيبة، ثم تركه وتلقب بالمقوقس، ولما لقب صاحبنا وصاحب الشيخأحمد مفتاح لسلامة طويته بالأبله البغدادي غضب منه، وكاد يتفاقم الشر بينهما، وغضب منه صاحب آخر وكان قصيراً ممتلئا يتدحدح في مشيته كما يتدحدح البط لأنه لقبه بابن بطوطة). .
وهكذا كانت ندوة تيمور باشا مجالا للمداعبات الأدبية والفكاهات الطريفة بين الأصدقاء والإخوان كما كانت مجال علم وأدب، ودراسة وتحقيق.
(له بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف(782/29)
النزاع بين الروحانية والماديين
للدكتور فضل أبو بكر
أثارت ظاهرات الطبيعة فضول الإنسان الأول وراعته عواديها فأطلق لخياله العنان ومن بعد ثم شرع يشحذ من قريحته البدائية وتفكيره الساذج يحاول تعليلا لتلك الظاهرات والوصول إلى حل بعض طلاسم الوجود.
ينشد حلا يروى عاش نفسه الظمأى ووجدانه الحائر، ويرضى في الوقت نفسه ولحد ما كبرياءه كحيوان بلغ درجة من التطور العقلي والجسمي ما جعله يلقب بسيد الخلوقات، وهو لقب ناله بجدارة واستحقاق.
غير أن سيد المخلوقات قد عاش في ظلمات من الجهل، وأسدلت بينه وبين نور المعرفة حجب كثيفة حالكة، ولم يبد أمام ناظره بصيص من نور أو وامض من برق إلا متأخرا جداً بالنسبة لبدأ خلقة كانسان - ولا أقول ككائن حي - كما يحدد ذلك على وجه التقريب علم (الأنثروبولوجيا) وكما تدعم ذلك متحجرات (الجيولوجيا) وحفائر (الأزكيولوجيا)
كان لعهد ليس بالبعيد يعتقد في سطحية الأرض ويظنها بساطا ممتدا إلى ما لا نهاية له بساطا لا حراك فيه؛ وكان جهله بالسماء وشمسها وكوكبها أشد من جهله بالأرض التي يعيش فوق أديمها وذلك إلى أوائل القرن السابع عشر، حتى جاء (حاليلي) (ونيوتن) و (لابلاس) فيما بين منتصف القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، فأثبتوا كروية الأرض ودورانها حول الشمس وقانون الجاذبية، ونهضوا بعلم الفلك ووضعوا له أسسا وقواعد علمية متينة، كما أسس العالم الفرنسي (لافوازييه) قواعد الكيمياء بعد ما فند آراء القدماء فيما يتعلق بالاحتراق (والتأكسد) خاصة. كما ظهر غيرهم من العلماء، وكان عصرهم هو عصر النهضة العلمية خطا فيه العلم خطوات المارد في جميع فروعه. لقى الكثير منهم تعتتا واضطهادا بل وتعذيبا من رجال الدين ورؤساء الكنائس، وذلك لجمود أهله في ذلك الحين وس وسطحية تفكيرهم وضيق أقفهم؛ كذلك كان العلم والمعرفة في ذلك الحين موقوفين على أهل الدين فاشتد الخلاف ودب الحقد في نفس العلماء كما خرج بعضهمعلى الكنيسة والدين، وأكبر مثل لأولئك الخوارج المرتدين كان العالم الرياضي الفلكي (لابلاس) الذي تشرف بالمثول بين يدي جلالة الإمبراطور نابليون الأول لأبحاثه القمية في علم الفلك(782/30)
ومؤلفه (الميكانيكا السماوية فهنأه الأمبراطور على اجتهاده وقال له مندهشا مستفسراً (أراك لم تذكر شيئا عن الخالق ولم تمجده في جليل صنعه!!) فأجابه لابلاس على الفور (ما كنت يا مولاي في حاجة إلى مثل هذا الغرض) ,
من هنا يتبين لنا الفرق الشاسع بين المسيحية في ذلك الوقت وبين الإسلام فيما يتعلق بتسامحه وسعة صدره إزاء العلماء والفلاسفة الذين لم يلاقوا من رجال الدين تعنتا ولا اضطهادا إلا القليل بل كانوا على العكس محل احترام وإعجاب الكثيرين كما رعاهم الملوك والأمراء ورغما عما أدعاه كذباً وتمويها للحق بعض المؤرخين الغربيين بأن العرب عندما دخلوا الاسكندرية في القرن السابع حرقوا كنوز العلم والفلسفة والفنون من مخلفات الأغريق التي كانت تعج بها مكتبتها الفريدة وتكتظ بها في ذلك الحين؛ غير أن بعض المنصفين من مؤرخهم نفوا تلك التهمة وبرءوا العرب من جناية لم يرتكبوها، وأثبتوا بأن الرومان وحدهم لما دخلوا الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد هم الذين بددوا تلك الكنوز وعبثوا بنفائسها.
ذكرنا فيما تقدم بأن عهد النهضة العلمية كان حقا العصر الذهبي خطت فيه العلوم والمعارف الإنسانية خطوات واسعة كما تحرر فيه العقل البشري - لحد كبير - من ربقة القيود التي كبلته حينا من الدهر.
تقدم علم الكيمياء والطبيعة والرياضيات والفلك منذ ذلك الحين، وما زالت في تقدم مطرد - تقدما غير وجه الأرض وما عليها وكانت نتيجة ذلك حضارتنا الراهنة التي هي وليدة تطبيق تلك العلوم.
وقد نهض الإنسان بعلمي الطبيعة والكيمياء إلى درجة مكنته من تحطيم الذرة واستخذام القوة الهائلة الناتجة عن ذلك.
قوة - كما يقول علماؤها - إذا سخرت في الصناعة أغنته عن الفحم والبترول وغير ذلك من المواد الخام اللازمة لتوليد القوة وأعطته من الإنتاج أضعافا مضاعفة لما تأتى به تلك المواد، كما أنها إذا استخدمت أداة للحرب والشر عصفت بالعالم ومن عليه وما عليه وجعلته قاعا صفصفا وعليفا مأكولا.
غير أن علم الحياة لم يخط كما خطت تلك العلوم وذلك لتعقيده ووعورة مسلكه شأن كل ما(782/31)
يتعلق بالحياة، فهو لغز الوجود وسر الخالق! فالإنسان المكتشف المخترع لآلات وأجهزة بلغت من الدقة والإتقان شأوا بعيدا، هذا الإنسان عينه نراه في الوقت نفسه عاجزا تمام العجز عن خلق أدنى المخلوقات الحية!! خلق كائن مركب من خلية واحدة مثل (الأميبيا) أو (البكتريا) مع أنه يعرف (تحليلا) وبدقة تامة المواد والعناصر التي تتركب منها ولكنه يعجز (تمثيلا) عن أن يهبها الحياة!!
فلغز الحياة الإنسان بنفسه ككائن حي حير الفلاسفة من عهد سقراط إلى يومنا هذا، وهو ما حدا بسقراط أن يكثر من القول (أعرف نفسك) وهو بيت القصيد من فلسفته والمحور الذي تدور حوله رحاها. وهو هو الذي أعيا الخياموجعله يهرب من ميدان الجدل، ويحتمى بالطاس والكاس يغرق فيهما همومه وحيرته، ويستوحيها لمعرفة السر الرهيب! وهو ما أقلق راحة المعري حيرة وشكا إزاءهما في كروفر؛ فانظر إليه حين يقول:
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد
ومنها أيضا:
حار أمر الإله واختلف النا ... س فداع إلى ضلال وهاد
يقول هذا وربما يطمئن إلى ما يقول حينا فيعاوده الشك وتنتابه الحيرة أحيانا فيناقض نفسه بنفسه كما يذكر ذلك في شعره وتأملاته، ومن هنا كانت بليته وعذاب نفسه.
وقد روى عنه أنه كان (نباتياً) يعف عن اللحوم ويرى في أكلها قسوة من الإنسان على الحيوان؛ وربما كان سبب ذلك عقدة نفسية ومركب نقص مصدره إكبار الحياة في شخص الأحياء!! الحياة التي هزمه لغزها وأعياه سرها: فالإنسان يكبر - من حيث لا يشعر ولا يريد - ما يدق عنه وما يجهله والمجهول ما هو إلا خصم عنيد تغلب عليك وهزمك تكبره وإن كنت في الوقت نفسه تشعر نحوه بشيء من العداء!!
وقف العالم وأسرار الطبيعة في حيرة من أمرهما بسبب الجدل الدائم المحتدم بين المادتين المسمين أنفسهم بالواقعيين، وبين الروحانيين، وذلك من عهد سقراط إلى يومنا هذا.
وقد كان أكبر حجة للروحانية المثاليين عند الإغريق هو (أفلاطون) بلا شك. وكان يمجد الروح والعقل بقد ما كان يحتفل المادة ويحط من قيمتها. كان يؤمن بخلود الروح ويعتقد بأن الجسد ما هو إلا سجن وقيود وأصفاد تكبلها. والروح - كما يعتقدها - أزلية لا بداية(782/32)
لها ولا نهاية، وقد عاشت قبل أن تحل بالجسم كما ستبقى وتخلد بعد فنائه، وأن جوهر الأشياء وحقيقتها لا يعرف عن طريق الحس والمشاهدة، وإنما الوصول إلى الحقيقة يأتي عن طريق هبة علوية روحانية يمكن تنميتها وترويضها عن طريق الجدل المنطقي والتأمل العميق، وهو ما يميز الفيلسوف - الذي هو لا غيره - القادر المقتدر على حكم الدولة حسب قوانين مثالية توحي بها العدالة ويمليها المنطق السليم.
يشارك أفلاطون في آرائه تلميذه وخليفته من بعده (أرسطو) الذي نجح في تدعيم آراء أستاذه بحجج قوية عن طريق المشاهدة والتجارب، ومن هنا كان أقل مثالية من أفلاطون وأقرب منه إلى الواقعيةوالمادية، كما امتاز أرسطو بآرائه في مسألة التطور التي أولاها الكبير من عنايته. أما عن كبار الماديين عند الإغريق فنذكر أهمهم وكبيرهم (ديمرقريط) الذي كان يعتقد بأن المادة تتكون من ذرات متناهية في الصغر في حركة دائمة سرمدية، وأن تلك الذرات غير قابلة للتجزئة أو التحطيم، وكان يعتقد في مادية الروح وتركيبها من ذرات مشابهة لذرات المادة، كما أن حقيقة الأشياء لا تعرف إلا عن طريق الحس والمشاهدة.
ولما كان يعتقد في مادية الروح فقد نفى عنها الخلود وهاجم آراء أفلاطون مهاجمة قوية يتعلق بأزلية الروح.
ظلت الحرب سجالا بين الفريقين إلى أن ظهرت الديانة العبرية بأحبارها، ومن بعد ذلك المسيحية بقسيسها، وشن رجال الدين من الطائفين حربا ضد الماديين، يستنكرون فلسفتهم ويحرمون تعاليمهم، فأفل نجم الماديين إلى منتصف القرن السابع عشر حيث بدأت النهضة العلمية فعادت إليه إلى الميدان من جديد وأهم الفلاسفة الماديين في ذلك العهد هو بلا شك (اسبينوزا) الذي كان من أصل يهودي برتغالي، ولجأت عائلته إلى هولندا حيث ولد وعاش فيها.
تأثر (اسبيتوزا) لحد كبير بفلسفة (ديكادرت) وألف كتابا شرح فيه آراءه في الفلسفة (والمتافزيقيا) وقد ثار عليه رهبان اليهود وطردوه من حظيرة دينهم على أثر مؤلفه (الدين والسياسة).
وفلسفة (اسبيتوزا) المادية فيها كثير من الغموض، بل والتناقض في بعض الأحيان وهاك(782/33)
ملخصها:
المادة - في اعتقاده - شئ قائم بنفسه له خصائص ومميزات بواسطتها نصل إلى معرفة المادة. أما المادة ككائن - حي أو غير حي - فهذا ما نجهله وهو سر المادة نفسها، ويقصد بذلك المادة الكبرى أي الإله.
الإله - هو المادة والكائن اللانهائي، ولكنه ليس يخالق الكون، وما نسميه بالمخلوقات ما هي في الواقع إلا أنواع مختلفة ومحدودة لمادة لا حد لها ولا نهاية هي مادة الله.
أما الروح فهي في نظره جزء من الجسم وفي وحدة معه، وهي الجزء العاقل الحساس، ورغما عن هذه الوحدة فالروح لا تؤثر على الجسم تأثيرا مباشرا كما أن الجسم لا يكون له مثل هذا التأثير المباشر على الروح، وإنما هناك تحدث تغييرات وانفعالات في الجسم يقابلها ما يشابه ذلك في الروح في نظام وتناسق تام.
ومن أكبر الروحانيين المثاليين في منتصف القرن التاسع عشر، نذكر الفيلسوف (أوجست كمت) مؤسس الفلسفة الإيجابية وهي خليط من الدين والفلسفة والسياسة والاجتماع.
يرى (كمت) أن الثقافة الفكرية يجب أن تكوم مؤسسة على دعائم قوية من الدين والمتافزيقيا والفلسفة الإيجابية، كما أنه يرى من الأجدى لعلماء الطبيعة أن يكتفوا فقط بوضع قوانين لعلومهم ويصفوا ما يشاهدونه من ظاهراتها وما بين ذلك من تشابه وتنافر بدلا من التعمق في معرفة الأسباب والقوة الخفية المؤدية لذلك والتي تدق عن إدراكهم في معظم الأحيان؛ لأن مثل هذا العمق فضلا عن عقمه - يوقع في الحيرة والشك - وهما يفضيان إلى المادية والسلبية.
والخلاصة كما يقول كمت هي أن العقل البشري مهما سما واتسعت مداركه لا يمكنه أن يصل إلى معرفة الكثير من الأسرار والقوى الخفية في هذا الكون؛ ولا يقصد بذلك أن هذا العجز يجب أن يشل من تفكيره ويوقعه في اليأس والاستسلام بل على الإنسان أن يكثر من التأمل ويجد في التفكير وإلا يكون أخفاقة - كما هو الحال مع بعض الفلاسفة والعلماء - سببا لتبرمه بالخالق ونكرانه له. ولنتأمل في قول الخالق نفسه: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) وكما يقول الفيلسوف الإنجليزي (هربرت اسبنسر): (من درس الطبيعة دراسة مستعجلة سطحية أغوته وقادته إلى الشيطان، ومن درسها بتعمق وروية سمت به وأوصلته(782/34)
إلى الخالق).
(باريس)
فضل أبو بكر
بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا(782/35)
9 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
بين عنيبة والدر
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
يطلق اسم عنيبة الآن على غير مسماة لأنه يطلق على المكان الجديد الذي أنشأته الحكومة المصرية بعد التعلية الثانية لسد أسوان، والذي يضم المدرسة الابتدائية وثانويتها، والمركز بما فيه مكاتب الصحة والتموين، والمحمة الشرعية والوطنية، والبريد، والتلغراف والتليفون والمستشفى، واستراحة الري. الخ هذه المرافق العامة التي لا بد من وجودها في كل مركز كبير، يكاد يكون صورة مصغرة من مدينة كبيرة. . .
والواقع أن المكان الذي يشمل كل أولئك ليس هو عنيبة، بل (مستعمرة عنيبة) ولعل البعيدين عن المحيط الذي نعيش فيه، يهزون أكتافهم، ويزمون شفاههم، في دهشة وعجب، غير شاعرين بكبير فرق بين التسميتين، ولكنهم لو كانوا بيننا حيث نحيا ونعيش لأدركوا سر هذه التفرقة وقيمتها في نظر النوبيين، إذ أن عنيبة، عبارة عن بلدة تمتد على شاطئ النيل حوالي ثمانية أميال تقريبا، مكونة من نحوع تكاد تكون متصلة متلاصقة، وبيوت كل نجع عبارة عن أكواخ صغيرة، مبنية من اللبن أو الحجارة أحيانا، ولكنها تحمل آثار الفقر والفاقة. وبين المستعمرة الحكومية التي تضم الموظفين - دواوينهم ومنازلهم - وين أقربي نجع من نجوع عنيبة الأصلية مثلان على الأقل!!
فإذا تحدثنا عن عنيبة فلا نعني البلدة الأصلية الزيفية. . التي لا يكاد يقطن بها موظف واحد، وإنما نعني مستعمرة عنيبة التي قامت مقام الدر، المركز السابق، والتي تضم موظفي المركز بأسره، اللهم إلا رجال البريد، والتعليم الأولى والإلزامي فهؤلاء متفرقون في مختلف بلادالنوبة على شاطئ النيل، وكذا موظفو المدرستين الجديدتين الابتدائية في الدكة، وقورته. . .
وإن شئت فقل إن هذه المستعمرة الجميلة التي تفيض حركة ونشاطا، والتي تعتبر عروس بلاد النوبة على الإطلاق، كانت تدعى فيا قبل: (مقابر عنيبة)!!
إي والله، لقد كانت موضع القبور، ومكان القظة لمن أرادها، فأصبحت الآن مدينة صغيرة، آهلة بالسكان، تضم عشرات الموظفين المثقفين في أرقى الجامعات المصرية والأجنبية،(782/36)
وبها الماء والنور!!
ولم يقع اختيار الحكومة على هذه البقعة اعتباطاً، ولكنها اضطرت إلى إنشاء المركز الجديد اضطراراً، ولذلك قصة طريفة، نجملها فيما يأتي!!
كانت بلدة (الدر) قبل سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف مقر المركز، وأهم موضع في بلاد النوبة على الإطلاق، وكيف لا، وبها دور الحكمة، ودواوينها: مدرسة ابتدائية لها قيمتها في ذلك الوقت. . ثم أغرقت بلدة الدر ضمن ما أغرق من البلدان النوبية بسبب التعلية الثانية، وغمرت مياه الخزان بناء المركز وبقية دور الحكمة جمعاء. . وأرادت الحكومة أن تنشئ بنايات جديدة لمرافقها المختلفة في البلدة نفسها ولكن في مكان مرتفع عن منسوب المياه مهما طغت وكثرت. بيد أنها فوجئت من الأهليين بالمعارضة القوية الصارمة، والرفض الشديد، مما أثار الدهشة والحيرة، والتساؤل والارتباك، ولكن الحكومة إزاء هذا التصميم، لم تجد بداً من الالتجاء إلى بلدة أخرى غير الدر، غير أنها باءت بالفشل، ووجدت الرفض نفسه، والمعارضة التي لم يفلح معها إقناع بحال من الأحوال، وهكذا وقف عمد أربعين بلدة من بلدان النوبة هذا الموقف بعينه، ولم يقبل واحد منهم، ووراءه أهل بلدته بما لهم من سطوة ونفوذ أن يكون مقر المركز من نصيب بلدته، وكأنما هو الخطب الداهم، والشر المستطير!!
وغفل كثيرون عن سبب هذا، وفهمه العارفون، أدركوا سره وحمدوا هذا الموقف للنوبيين، لأنه يرهن على اعتزازهم بشرفهم، وحرصهم على حماية أعراضهم، من أولئك الذين لا يفهمون واجبهم نحو ربهم، ونحو أنفسهم، فيستجيبوا دائما لداعي الغريزة، ويلبون نداء الشهوة، ويعيشون في الأرض فساداً، ولا يبالون بأعراض الناس. إن هؤلاء أساءوا إساءة بالغة إلى أنفسهم أولا، وإلى مناطقهم وبلداتهم ثانيا، وكانوا شر قدوة، وأسوأ أسوة!!. .
يا لله! لقد شافهت الكثير من أهل هذه البلاد، وخاطبتهم في هذا الموضوع، فأبرقت منهم العيون، وعادت بهم الذكرى تعيد الصور مكرورة، وتبعث الأشجان محفورة في الأفئدة والصدور، وكأنهم يعتقدون أن الله أنقذ بمياه الخزان بلدة الدر، وطهرها من الرجس، حينما خلصها من شر الموظفين، وإن بعض الأهلين يعتقد أن بلدة الدر خسرت بذلك سوقا رائجة، وتجارة نافعة، وحركة دائبة!!. . .(782/37)
ومهما يكن من شئ فإن هذه الفكرة سائدة الآن بين الموظفين والأهلين على السواء، وقليل ذلك الذي يرى أن اختيار هذه البقعة الصحراوية، والتي لا تشتهر بـ (قبر عنيبة) كما تدل على ذلك الخرائط الكبيرة القديمة، والتي لا يزال المركز يحتفظ بإحداها يزين بها حجرة المأمور - قليل ذلك الذي يرى أن سبب هذا الاختبار مرجعه إلى المقاول الذي رست عليه المزايدة العلنية، وأنه اختار هذه البقعة الصخرية بالذات ليوفر على نفسه مؤونة نقل الحجارة من مكان بعيد يكلفه كثير المشاق، وطائل الوقت والمال!!.
وعلى الرغم من أن عنيبة قد سعدت بمقر المركز الجديد، ونالها بذلك كثير من الرخاء والرواج، لتعدد دور الحكومة فيها، واختلاف دواوينها، فإن (الدر) لا تزال تجاذبها أطراف ذلك الرداء، وتأبى في إصرار أن تستقل عنيبة بهذا الفضل، وتنفرد دونها بذلك المجد الذي كان لها وحدها إلى عهد قريب.
أجل فإن اسم (الدر) لا يزال يحتل أبرز الأماكن في هذه الدور، مما يدعو إلى الدهشة والعجب في نفوس الذين لا يعرفون شيئا عن ذلك التاريخ القديم. . . وأعجب من هذا أن بعض المصالح الحكومية لا تزال تتمسك باسم المركز القديم فتطلق على مركز عنيبة، مركز الدر، وكأنها لا تعترف بكل ما مر بهذا الإسم من حوادث، وناله من كوارث الأيام، ولا تقيم وزنا لهذا الإسمالجديد، أو كأن للاسم القديم لذة ومتعة لا ترضى بغيرهما بديلا. . أو كأن رهبة وروعة، فهي لا تريد أن تذهب بما اكتسبه على مر الأيام، وكر الأعوام، من جلال ووقار، أو بمعنى أدق من تخويف وإرهاب، ونفى وتشريد!!.
وإننا لنحسن الظن بالحومة بهذا التعليل كائنا ما كان، وهو على أسوأ وجوهه خير ألف مرة ومرة من الوجه الآخر الذي يتبادر إلى الذهن من الإبقاء على تسمية المحكمة الشرعية، والمحكمة الوطنية باسمهما القديم، وترد بذلك الإسم المخاطبات والمكاتبات في كثير من الأحابين. . . ولا تزال حركة الإصلاح في مختلف الوزارات تذكر مركز الدر في قرارتها، وتهمل مركز عنيبة!!.
ولا شك أن بلدة الدر أعرق مجداً، وأوفر حظا من عنيبة، ولا يزال فيها السوق التجاري الأصيل، وإن زال مجدها الحكومي بزوال دور الحكومة، ورحيلها عنها، فلا يزال مجدها الحقيقي قائما بشخصيات أهلها، ونفوذ الكثيرين منهم، وبخاصة طلبوا العلم فيها، والذين(782/38)
زاولوا فيها كذلك شتى الأعمال الحكومية، واضطلعوا بمختلف المناصب!!. .
واسم الدر أعلق بأذهان الموظفين من اسم عنيبة الذي لا يعرفه غير المتصلين به من مهندسين ومدرسين وقضاة وأطباء وغير أولئك من طوائف الموظفين، فإذا ذكرت اسم عنيبة أمام أحد لم يفهم منه شيئاً، وخالني ألغز عليه، فإذا رآني جادا غير هازل، وصارما غير مازح، استفسر واستفهم، ولم يذهب فكره إلى أكثر من مديرية الجيزة أو الفيوم، أو بني سويف. فإذا قلت له أبعد من هذا صمت، وشك فيما أقول، فإذا ذكرت له الموقع بالضبط، وأنها بعد الشلال، انقبضت نفسه، وحال لونه؛ فإذا قلت له إنها هي الدر ذات التاريخ القديم الذي لا يجهله أي موظف، زم شفتيه ومطهما، وعقدما بين حاجبيه، وهز رأسه فزعا وهو لا مما سمع، وكأنما لسعته عقرب شائلة، أو لدغة أرقم لعين، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وحوقل مرات، واسترجع في لهجة فزع، وكأنما ذكرت أمامه اسم واد من أودية العذاب، أو طبقة من طبقات الجحيم!!.
مهلا يا سادة. . فما هكذا تكون الوطنية، ولا هكذا يكمن الخوف والرعب في القلوب لمجرد المتع واللذة والبقاء في المدن العامرة، والعواصم الآهلة. .
ولحسن الحظ أن الموظف تعتريه حالة نفسية، ويسرع في قضاء ما أريده، وما أتيت من أجله، قضاء عاجلا ناجزاً، غير مقيد بقيد، ولا مشروط، على خلاف العادة، إذ كان يصرفني كل موظف من أمامه في لباقة أو غير لباقة. . وكأنه حينما يسرع في قضاء مصالحي يشفق بي، ويعطف علي، أو كأنه يريد أن يبعدني عنه، ليبعد عنه الشر!!
ومهما يكن، فإن اسم عنيبة أفادني إلى حد كبير في قضاء كثير من حوائجي حينما كنت أذهب بنفسي لقضائها، وكان خيراً وبركة على الرغم من كل ما يقال، وعلى الرغم من ألسنة بعض الإخوان والزملاء لحداد التي لا تني عن القدح في عيبة، والنيل منها في كل مناسبة، وفي كل مكان!
عبد الحفيظ أبو السعود(782/39)
رقص السماح
للأستاذ حسني كنعان
هو نوع خاص من أنواع الرقص العربي القديم المجهول في أقطار البلدان العربية، اختصت به مدينة حلب وحدها دون سواها من عقيل المنبجي المدفون في ذروة جبل في قضاء منبج يسمى باسمه جبل الشيخ عقيل، ومنبج هذه مدينة تبعد عن حلب 60 كيلا يرجع تاريخ وفاته إلى 400 سنة على الجملة، وكان رحمه الله شيخ طريقة الأحمدية الموهوبين المرموقين ذوي الكرامات والخوارق، اخترع هذه الطريقة من الأذكار التي يلجأ إليها أصحاب الطرق الصوفية في خلواتهم عندما يتحلقون حلقات حلقات في الزوايا يذكرون الله في طرائق شتى، وفي أنغام متنوعة وموقعة على الضروب والأوزان، يرمز إليها بالأرجل، أو بالأيدي، أو بتقديم الصدر أو بتأخيره، وما هي إلا أن تبدأ حلقات الأذكار بإنشاد الموشحات حتى ترى أصحابها يتنقلون على حسب التواقيع ولأوزان، ويروحون ويجيئون في القاعات ويضربون الضرب بالأيدي والأرجل. وبتقديم الصدر وتأخيره في انسجام وترتيب خفة أو تباطؤ في التنقل يبهج الناظر، فما يكاد ينتهي الجمع من إنشاد موشح حتى يبدأ غيره من نغمة أخرى، فترى نفسك أمام هذي الموشحات الأندلسية التاريخية الموروثة كأنك في قاعة من قاعات ابن سراج في الأندلس أو ابن سريح، فتذهل عن الدنيا لشدة ما يداخل فؤادك من أنواع الطرب والشجن والتلهي، فتخالك في عالم غير عالمنا وفي دنيا غير دنيانا. وفي حلب الشهباء مشيخة في هذا الفن اختصاصيون ذاع صيتهم لدينا وغدوا مضرب الأمثال في البراعة، عرفنا من المتوفين منهم الشيخ صالح الجدية، وكان يحفظ عشرة آلاف موشح مع ضروبها وتواقيعها واوزانها، وعبده بن عبده، وأحمد أبو خليل القباني الدمشقي المعروف، وغيرهم من الذين لم تحضرني الآن سماؤهم. . .
وعرفنا من الموجودين على قيد الحياة منهم الشيخ عمر البطش، والشيخ على الدرويش، ومحمد طيقور. وإني أسجل هنا للتاريخ والحقيقة أن حلب قد انتهى إليها هذا الفن في بلادنا، ولأبنائها ميل خاص فيه طغى على جميع الميول، يصلون الليل بالنهار، والنهار بالليل دؤوبا عليه. وبين هذي الرقصات نوع خاص يسمى في عرفهم (إسق العطاش)،(782/40)
وهي سلسلة موشحات من نغمة الحجاز يستغرق معهم إنشادها من المساء حتى مطلع الفجر. ولأمر ما جاء في الأمثال القديمة لدينا إن الدور أو الأغنية تنبع من مصر وتنتشر في دمشق وتخلد في حلب. فأهلها من أكبر المحافظين على القديم، ومن أكبر المتلذذين والمتكسبين من هذه الصناعة إتقانا، وحسبك أن تعلم أن الشيخ علي الدرويش كان من كبار الأساتذة الذين احتاجت إليهم مصر في تعليم هذا الفن في معاهدها الفنية الكبيرة، واحتاجت إليه تونس وغيرها من الأقطار العربية، وأن تعلم أن كبار العازفين على الكمان، كالأستاذ توفيق الصباح، وكريم عزة، ويوسف عزة، وجميل عويس، وسامي الشوا، وفاضل الشوا، جميعهم من الحلبيين. . .
رأت الحكومة السورية في عهدها الوطني الميمون الطلعة أن تنهض بهذا الفن كما نهضت بغيره من بقية الفنون، وأن تحيي مواته قبل أن تفنى البقية الباقية من أربابه وأساطينه، فأسست في دمشق تحت إشراف النائب السيد فخري البارودي الذي يحدب على هذا الفن وأربابه لميله الخاص إليه مدرسة أطلقت عليها المعهد الموسيقي الفني للإذاعة السورية الموقتة، تسلم فرع الموشحات ورقص السماح فيه الشيخ عمر البطش، ويعاونه في ذلك سعيد فرحات وصالح المحبك الذي كان من أعضاء المؤتمر الموسيقي هو والصباغ المنعقد في القاهرة تحت إشراف ساكن الجنان الملك فؤاد. واستقدمت له من تركيا الأستاذ رفيق فرسان لفرع النوتة والسماعيات والبشارف يرافقه زوجته وشوقي بك ذلك الموسيقى الذي كتب عنه صديقنا الطنطاوي منذ أمد قصة الموسيقى العاشق في الرسالة الغراء.
ويعاون هؤلاء في أعمالهم أساتذة بعضهم من مصر وبعضهم من دمشق وحلب. ثم تألقت في المعهد فرقة خاصة جمعت الأساتذة وبعض النوابغ من التلاميذ يعرضون بضاعتهم ومنتوجاتهم على الملأ في الحفلات والعامة، ويعرضونها في محطة الإذاعة الدمشقية، فيسمع الناس فيها السحر الحلال. ويشهدون روعة الفن القديم، ولقد شهدت هذه الحفلات أكثر من مرة، وكنت كلما شهدتها أزداد بها إعجابا وفتنة ورغبة في سماعها، وقد ينتهي العمر وإعجابي لا ينتهي برقص السماح. وكم كنت أتمنى عندما أشاهد الفنية بعد الفنية أن لو يتاح لإحدى الشركات السينمائية المصرية أو غيرها أن تأخذ شريطا عنه فتعرضه على الناس ليشهدوا روعته وإتقانه، وهو فن خالد قد أذهب الأقدمون في إيجاده نور البصائر،(782/41)
عسى بمشاهدته يلقى من التشجيع في الأقطار الشقيقة ما يحفز الهمم على تعميمه وإحيائه بدلا من هذه الرقصات الخليعة الماجنة المخنثة التي سرت إلينا عن طريق الغرب سريان السلأو السرطان وفيها المخاصرة والمعانقة والمعايب. . . .
تصور معي سيدي القارئ كوكبة من التلاميذ الأحداث توحدت ملابسهم وهيآتهم، وانسجمت أصواتهم، واتسقت نغماتهم وحركاتهم، ينشدون كالعنادل الموشحات المقعة في الرقصات والآلات الوترية، وقد تخرجوا على أيدي الصناع الفنيين وحذقوا ومهروا في فهم، تعرض صورهم أمامك على الشاشة، وتصور ما تحدثه هذي المشاهد وهذه الأصوات في نفسك من أثر ورغبة في إحياء موات هذا الفن. ألا ترى معي وجوب تعميمه والدعاية له؟ وإني لأضمن لهذا الفن الرائع الانتشار عن هذه الطرق، فهو يرى كأنه جديد لدى أبناء هذا الجيل، وكل جديد لا بد له من دهشة وروعة وفتنة. وإني لا أزال أذكر ما أحدثته أول حفلة من حفلات هذا المعهد من أثر بالغ في نفوس الشاهدين في صالة سينما دمشق، أخص بالذكر منهم المتشبعين للموسيقى الحديثة الدخلية التي أفسدت عينا قديمنا، وذهبت بأذواقنا، تلك الموسيقى التي محتها الأرض والسماء وهي بعيدة عنا، لا تمت إليها ولا تمت إلينا بصلة أو نسب!
إنها لمأثرة تذكر لمعالي وزير المعارف الشاب الدكتور منير العجلاني بك أن يتم هذا الأمر في عهده وفي ظل صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السورية المعظم الزعيم شكري القوتلي بك الذي له في كل عمل مأثرة، وف يكل نهضة مغخرة، فالنهضة السورية في كافة نواحيها مدينة إليه وإلى رئيس وزارته السيد جميل مردمبك سدد الله خطوات الجميع لما فيه الخير والفلاح لخدمة هذا الوطن المفدى الذي أخذ بهذه الوثبة يشق طريقه في الحياة.
(دمشق)
حسني كنعان(782/42)
الألغاز عند العرب. . . .
للأديب عبد الله نيازي
قال صاحبي، أنا حجياك في هذا اليوم، قلت: في أي شئ؟ قال: في لغز لا أظنك تسطيع حله. قلت: هات عسى أن أدرك كنهه، قال: دخل أحد الأفراد إلى محل تجاري كبير آملا أن يجل له فيه مكانا يكسب منه رزق يومه، ولما دخل إلى مدير المحل أفضى بما جاء من أجله وأبدى رغبة ملحة في توظيفه، فأشار المدير إلى سكرتيره إشارة خاصة ذهب بعدها السكرتير وأتى بقدح مملوء بالماء موضوع في وسط صينية وقدمه إلى الزائر، وفكر الزائر هنيهة ثم رفع قشة ووضعها على سطح الماء الذي في القدح. فعجب المدير لفظنته وذكائه وأوجد له مكانا. . قال صاحبي ما سر هذا اللغز، وإلى أي شئ رمز قدح الماء الذي قدم إليه؟ ثم ما معنى تلك القشة التي وضعها الزائر وكانت سببا في توظيفه؟. ثم سكت صاحبي وارتسمت على وجه سمات الارتياح والنصر معا، ففكرت برهة ثم قلت، إنما القدح المملوء بالماء يعني عدم وجود مكان لكثرة الموظفين الموجودين ولا يوجد أي مكان لطالب جديد. أما القشة التي وضعها الزائر فإنه أفهم المدير بلطف إلى أن القشة لم تزد على الماء شيئا وكذلك لم تنقصه، وأنه إذا أضيف إلى عدد الموظفين الموجودين لا يؤثر فيهم شيئا. فدهش صاحبي وقال: لا بد أنك سمعته من قبل فنفيت زعمه وأبى أن يصدق.
والمطلع على أدبيات العرب يجد الكثير من أمثال هذا اللغز. وتعرف الألغاز والأحاجي وكانت العرب تزيد في إبهامها وغموضها لتفحم سائلها في فهمها وتفاخر بالتفوق عليه، وكانت هذه الألغاز سيلة للتندر وتزجية للوقت معا، والذي يشبه اللغز الذي رواه صاحبي بل ويفوقهمن حيث الوضع والمعنى ما حكاه المدائني من أن رجلا مر بحي الأحوص، فلما دنا من القوم حيث يرونه نزل عن راحلته فأتى شجرة فعلق عليها وطبا من لبن ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم أتى راحلته فاستوى عليها ذهب. فنظر الأحوص والقوم في أمره فلم يدركوا سرما فعل، فقال أرسلوا في قيس بن زهير وكان فارسا شاعرا داهيا يضرب به المثل فجاء. فقال له الاحوص: ألم بخبرني أنه لا يرد عليك أمر ألا عرفت مأتاه؟ قال: فما الخبر؟ فاعلمون، فقال: وضح الصبح لذي عينين، ثم قال: هذا رجل أسره جيش قاصد لكم، ثم أطلق بعد أن أخذت عليه العهود(782/43)
والمواثيق أن لا ينذركم، فعرض لكم بما فعل: أما الصرة من التراب فأنه يزعم قد أتاكم عدد كثير، وأما الحنظلة فأنه يخبر أن بني حنظلة غزتكم، وأما الشوك فأنه يخبر أن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم أو بعدهم إن كان حلوا أو حامضاً. فاستعد الأحوص وورد الجيش كما ذكر قيس.
وتفننت العرب في وضع الألغاز تفننا مدهشا وذهبت بها مذهبا بعيدا وأخذتها الشعر وِأحكمت وضعها وتركيبها. ونسوق مثالا على ذلك مقدام الخزاعي.
وعجوز أنت تبيع دجاجاً ... لم يفرخن قد رأيت عضالا
ثم عاد الدجاج من عجب الدهر ... فراريج صبية أطفالا
وقال: يعني دجاجية الغزل، وهو ما يخرج عن الغزل، ويعني بالفراريج الأقبية. . . ومن الأحاجي هذه ما كان يأتي بأول كلمة من معنى يضمره الحاجي وعلى المجيب أن يأتي به. ومنها ما رووه عن هند بنت الخس وهي قديمة في الجاهلية قالوا وكانت ساحبجة مبتذلة تحاجي الرجال إلى أن مر بها رجل فسألته المحاجاة، فقال كاد. . . فقالت: كاد العروس يكون الأمير، فقال: كاد. . . فقالت: كاد المنتعل يكون راكباً، فقال: كاد. . . قالت: كاد البخيل يكون كلبا وانصرف. فقالت له، أحاجيك؟ فقال قولي، قالت عجبت. . . قال: عجبت للسبخة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها. فقالت عجبت. . . قال، عجبت للحجارة لا يكبر صغيرها ولا يهرم كبيرها. . . ثم أفحمها بكلمة بذيئة فخجلت وتركت المحاجاة.
ومن أطراف ما ذكر في هذا الشأن دخول أبي القاسم القطان على الوزير الزيني يهنئه بالوزارة فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح ورقص، فلما خرج قال الوزير لبعض أهل سره: قبح الله هذا الشيخ! إنه يشير برقصه إلى قولهم: ارقص للقرد في دولته.
وبعض الألغاز كانت تجئ عفوا من طريق المصادفة وما كانت تقصدها العرب وهي نوعان: منها ما يقع الإلغاز فيه من حيث المعاني وكانت لا تفهم من أول وهلة، ومنها ما يقع فيه الإلغاز من حيث اللفظ والتركيب،. . . هذا وللعرب ألغاز وأحاج كثيرة لا يتسع المقام لبسطها هنا فاكتفينا بهذا المقدار ليكون على علم من أن للعرب ألغاز وأحاجي تفوق ما يتناقله الناس الآن
بغداد(782/44)
عبد الله نيازي(782/45)
ليالي الحصاد
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
يا ليالي الحصاد ما أنت إلا ... بهجة العمر يا ليالي الحصاد
فيك دنيا من الجمال تجلت ... لقلوب إلى الجمال صواد
الضياء الذي يرقرقه البد ... ر فيجري على الربى والوهاد
والحقوق التي تهز فؤادي ... رقة في نباتها المياد
وتراءى سنابل القمح فيها ... كعذارى يمسن في الأبراد
كل عذراء في بهى صباها ... تتهادى مع السنا المتهادى
والنسيم الذي يمر على القمـ ... ح رقيقاً كخطرة في فؤادي
أو كهمس الصباح في أذن الكو ... ن لينجاب عنه طيف الرقاد
أو كشدو الطيور في رونق الفجـ ... ر، وفي بهجة الربيع الشادي
أو كصوت الأوتار إذ لمستها ... في حنان أنامل العواد
والحديث الشهي، والسمر الممـ ... تع بين الأتراب والأنداد
والعذارى التي فقدت صوابي ... في هواها، وضاع مني رشادي
ألعذاري التي تحوم عليها ... أخيلاتي في صحوتي ورقادي
ألعذاري التي تضم إليها ... حزم القمح في هوى واتئاد
وتغنى بأغنيات شباب ... عاش رهن الأغلال والأصفاد
كل أنشودة تصور قلبها ... مستهاما بحاضر أو باد
كل أنشودة تذيع نداء ... وهتافا برغبة ومراد
لفظها هزة الصدور، ومعنا ... ها خفوق القلوب والأكباد
وصداها يرن في كل قلب ... وهو في الأفق رائح أو غاد
يا عذارى الحقول أسعدن قلبي ... برقيق الغناء والإنشاد
علني أستعيد ذكرى غرام ... مر في العمر كالشعاع الهادي
كان أنسى، وكان روح شبابي، ... ليته عاد بعد طول البعاد
يا عذارى الحقول يا منية الأر ... واح بهذه الأعواد(782/46)
إنها منيع الحياة لشعب ... ما تربى إلا على الأمجاد
قد غذاها بروحه نيل مصر ... وسقتها روائح وغواد
وروعتها الشمس المنيرة حتى ... هيأتها لمنجل الحصاد
حسبها أنها تمد عروقا ... في ثرى مصر كعبة القصاد
كل نبت وكل شئ عزيز ... حين ينميه موطن الأجداد
يا عذارى الحقول أين غذاء ... الروح بعد الغذاء للأجساد؟
إن تقدمنه تقدمن مجدا ... وسناء وعزة للبلاد
إنما الكون ساحة لسباق ... قوة الروح فيه خير الجياد
يا ليالي الحصد دمت، ول طا ... فت بمغناك طائفات العوادي
ما أحب السهاد فيك، وإن كا ... ن عجيبا في الليل حب السهاد!
يا ليالي الحصاد قد طلع الفج - ر بشيراً باليمن والإسعاد
فاستفاق الوجود، وانتبه الكو - ن، وغنى له الزمان والإسعاد
فاستفاق الوجود، وانتبه الكو - ن، وغنى له الزمان الحادي
يا ليالي الحصاد عودي إلينا ... كل عام على مدى الآباد
إنما أنت بهجة ونعيم ... لمحبيك يا ليالي الحصاد
1 - إلى الروضة
للأستاذ العوضي الوكيل
(قيلت يوم دخل ممدوح الوكيل روضة أطفال شبرا)
بنى غداً تمضى إلى الروضة التي ... تعدك للتيقيف تصفو مناهله
وتعلم منها أنني لك ناظم ... قصيداً كأفق الروض فنت بلابله
أسطره في الطرس حتى إذا استوت ... بك السن تدري ما الذي انا قائله
نشرت به البنوة رائعاً ... فمن لي يشعر مثل شعري أساجله
2 - نجاح
(نجح ممدوح الوكيل في الروضة فهنأناه بهذه القصيدة)(782/47)
هنيئاً لك الفوز الذي نلت. إنني ... ذخرتك للأيام يا أنفس الذخر
ثلاثون عاماً عشتها وثلاثة ... وماذا تبقى لي من العمر؟ لا أدري
ولكنني أدري بأنك وُصلة ... يطول بها عمري وإن غبت في القبر
أرى في أمانىَّ الكريمة صورة ... لمجدك سماقاً على هامة الدهر
وألمح سباقاً إلى الخير ناهضاً ... ولا يبتغي إلا رضائي من الأجر
وألمح مصراً وهي امامك تنحني ... عليك للثم الثغر والخد والنحر
ويا ليت شعري ما تمنيت ضلة ... فغشت سمادير الهموم على أمري
بُنىَّ امض للعلياء وابلغ بروجها ... ولو كان مسراها على ملتظى الجمر
وإن فخر الأبناء يوماً بوالد ... فبي تستطيع الفخر في ساحة الفخر
وحسبك من مجدي وفائي وعفتي ... وماروت الأيام من ذلك الشعر(782/48)
الأدب والفن في اسبوع
الصهيونيون ليسوا من بني إسرائيل:
كان حديثا طريفا حديث الدكتور محمد عوض محمد بك بالمذياع مساء يوم الجمعة الماضي، فقد قال في هذا الحديث إن هذه الشراذم الصهيونية التي تأتي بفلسطين أشنع الأعمال وأدلها على الانحطاط النفسي والخلقي، ليست من بني إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فهؤلاء الذين يقتلون الحوامل ويسممون مياه الشرب ويلوحون بالأعلام البيضاء ريثما يتمكنون من الغدر، لا يمكن أن يكونوا من ذلك العنصر الطيب الذي كان يسكن فلسطين قديما، وإنما هم من أمم مختلفة وأكثرهم من العنصر الجرماني اعتنقوا اليهودية في العصور التي نشط فيها التبشير اليهودي. ومما يدل على ذلك اختلاف سحنهم وألوانهم وتكويم أبدانهم، فلا يعقل أن يكون كل هؤلاء المتباينين أبناء سلالة واحدة، واستشهد الدكتور بأقوال بعض علماء اليهود التي تنص على دخول كثير من الأجناس في الديانة اليهودية في عصور مختلفة. وقد كان نصف سكان الإسكندرية في بعض العصور القديمة يهوداً، كما انتشر الدين اليهودي في بلاد اليمن في عصر سحيق، فهل صار أولئك القدماء من المصريين واليمنيين بذلك من بني إسرائيل؟!
وقال الدكتور عوض إن هذا الخلط بين الدين والعنصرية بادعاء اليهود أنهم من بني إسرائيل، خلط عجيب، أنه يحصر الدين في سلالة البيت النبوي، ولا يقول بذلك عاقل، فليس معنى الدين الإسلامي مثلا الهاشمية أو القرشية. ومما لا شك فيه أن قبيلة بني إسرائيل قد تفرق دمها، كأي قبيلة أخرى، فالقبائل لا تبقى. والخلاصة أن هذه العصابات الصهيونية التي تدعى باطلا أنها من بني إسرائيل. إنما هي أشتات من الأجناس والأمم، وهي أشتات منحطة الفضائل الإنسانية تنم عليهم أفعالهم التي تباعد بينهم وبين السلالة الإسرائيلية. فليست دولتهم التي أعلنوها بفلسطين هي فحسب المزعومة، بل هم أنفسهم مزعومونوهم دخلاء في النسب كما أنهم دخلاء في فلسطين.
عملية الأدب من الوجهة النفسية:
ألقى الدكتور إبراهيم ناجي محاضرة برابطة الأدباء يوم الأحد الماضي موضوعها (رسالة الأدب)، وقد أفاض في بيان معنى الأدب وطبيعته ورسالته، حتى استغرق في ذلك نحو(782/49)
ساعتين استأثر في خلالهما بانتباه الحاضرين من الأدباء والمتأدبين على رغم الإطالة والحر. . .
ومما تناوله الدكتور ناجي في هذه المحاضرة شرح العملية الأدبية من الوجهة النفسية، إذ قال:
(نحن نعيش في ثلاثة عوالم: العالم الخارجي، والعالم الشعوري، والعالم اللاشعوري؛ أو عالم الحقيقة، وعالم الشعور، وعالم الخيال. وهذه العوالم في دنيانا العملية تكاد تكون منفصلة تماما، أو على الأقل بينها اتصال غير كامل. أما العالم الخارجي، ففيه المواد التي تستمد منها التجربة، ولكن وجود التجربة وحدها لا يكفي بغير أن يزول ما بينها العقل الواعي من فواصل، فيؤدى ذلك إلى اندماجها بالشعور حتى يحدث ما يسمى لحظة انفعال. على أن هذه اللحظة تستوعب التجربة صورة موحدة وأنموذجا كاملا، فلا يلتقطها الشعور متفرقة مبعثرة؛ فإذا انزاحت الفواصل بين الشعور واللاشعور، فإن اللحظة الانفعالية تصير انفعالية ممتدة الزمن، وزيادة على ذلك يستوعب الانفعال التجربة كخليط معقد متعدد الجوانب، وهذا ما يجعله مثيراً ومشتملا، ويجعل الأدب متوثبا لاستيعاب الانفعال والسيطرة عليه، ومنتهزاً فرصته لكي يتاح له أن يستعيد هذه الصورة الحسية الغنية بالألوان، ولن يتاح له ذلك إلا في وقت يحس فيه انه على وشك وقت اختلاط الشعور باللاشعور. . . الشعور يغزو اللاشعور، واللاشعور يطفو بأحلامه وضبابه في الشعور، هذه لحظة تحرر كاملة تفسر لنا السرور الذي نشعر به إذ ذاك. أما الشعور فهو تحليلي في نزعته، وأما اللاشعور فهو تركيب. فالشعور يتسلم التجربة ويحيلها قطعا، ثم يسلمها إلى اللاشعور الذي يعيد تركيبها، ولكنه يعيدها ومعها فروق وتدريجات وألوان وأصباغ وأضواء وظلال، كالآفاق التي تبدون في الحلم تماما. وذلك لأن اللاشعور طبقات وإمكانيات، وهو يعطي بالتدريج، ويغري باقتحامات جديدة. وقد يسأل السائل: ألم يكن من الجائز انتهاز فرصة التجسد الشعوري لخلق عمل فني؟ فنجيب بأن التجسد الأول إنما هو تضخم متعب قد يؤدي إلى الانتحار أو الجنون، أما التجسد الأخير فهو تجسد مخفف تدريجي يطفو في وسط الألوان والأضواء، وفيه شعور بالتحرر المنظم، وفيه كذلك شعور بالتحرر من قيود العرف، ولذلك يصلح التعبير دائما في هدوء الليل وفي الوحدة البعيدة عن العالم. ويتضح(782/50)
من ذلك أن في طبيعة العمل الأ دبي قسم كبير متعلق بالصنعة ما دام العقل الواعي مشتركا اشتراكا كبيراً في تنظيم العمل، ولكن الجزء اللاشعوري له أهميته العظيمة. ومن ثم يتضح أنه لا يوجد عمل عبقري لا تدخل فيه الصنعة. والذين يقولون بالسليقة إنما يجهلون المعاني السيكولوجية للأعمال الفنية. ويبدو من هذا التحرر السيكولوجي أن المسألة محاولة إزالة فواصل، فمن الباطن إلى الوعي إلى الخارج. . . ومعنى ذلك أنها عملية إفضاء إلى الغير، أو بعبارة أخرى الخروج عما هو شخصي إلى ما هو إنساني. وهذا هو غرض الأديب ورسالته. ويتضح كذلك الفرق بين طبيعة العصبي والعبقري، فالأول يهتم بتحقيق رغبة مكبوتة، أما العبقري فهمه التعبيرعنها، وشتان ما بين الاثنين!
الكاريكاتور في شعر ابن الرومي:
كان الأستاذ كامل كيلاني ألقى محاضرة بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية موضوعها (الكاريكاتور في شعر ابن الرومي)، وقد عن له أن يستوفي هذا البحث ليخرجه في كتاب، وهو يعمل الآن في إنجازه.
ويتكون هذا البحث من جولات في متحف الكاريكاتور الذي يضعه شعر ابن الرومي، والذي يتألف من أقسام مختلفة؛ فهذا معرض الأنوف، ومن تحفه صورة لأنف (كنيزة) المغنية، هي قوله.
(فيه لفرخين عش)
وذاك معرض الدواب الآدمية، ومن محتوياته وجه (الحريثي) في صورة ثور:
للحريثي أبي بكر غيب ... وله قرتان أيضاً وذنب
وتحين منك التفاتة إلى ركن في أحد الأبهاء، فإذا صورة كاريكاتورية فذة يرسمها الفنان ابن الرومي لنفسه في براعة عجيبة:
من كان يبكي الشباب من جزع ... فلست أبكي عليه من جزع
فإن وجهي بقبح صورته ... ما زال بي كالمشيب والصلع
أشب ما كنت قط أهرم ما ... كنت فسبحان خالق البدع
إذا أخذت المرآة سلفني ... وجهي وما مت هول مطلعي
شغفت بالخرد الحسان وما ... يصلح وجهي إلى لذى ورع(782/51)
كي يعبد الله في الفلاة ولا ... يشهد فيه مشاهد الجمع
آفة البرامج
استبشرت مجلة (الإذاعة المصرية) بما تلقته الإذعة من المقطوعات في مباراة الأغاني التي نظمتها، فقالت: يبدو أننا مقبلون على فجر عهد جديد من الغناء الرفيع، لأن بين هذه المقطوعات من يقول المحكمون إنها من الطراز الأول في عالم الشعر الثنائي، وتتوقع أن ترفع مستوى البرامج.
وأعربت المجلة عن اغتباطها بظاهرة تدعو حقا إلى الاغتباط، وهي أن كثيرا من الأغاني التي وقع عليها الاختيار من إنتاج بعض العمال والصناع الذين يرسلون المعنى على سجيتهم وينظمون الشعر الغنائي بالسليفة في موضوعات قومية ظاهرة الصدق صادقة الإحساس.
والحمد لله الذي وفق الإذاعة إلى هذه الثغرة التي تخرج بها عن النطاق المضروب حولها من المؤلفين المتصلين بموظفي الإذاعة، فهؤلاء (المؤلفون) هم آفة البرامج، ولا شك أن انقشاع لياليهم عن الإذاعة بما فيها من التأوهات ونداء الحبائب، وما يشيع فيها من السخف والتفاهة - هو المبشر باننا مقبلون حقا على فجر جديد.
أدركة الحرفة:
تحدث بعض الصحف عن الوضع الشاذ الغريب لموقف الخبير الاقتصادي المصري بالسودان، من حيث اضطراره - إزاء تصرف الحكومة السودانية فيما يختص باعمال وظيفته - إلى الفراغ التام لعدم وجدان ما يعمله في مصر أو في السودان.
والطريف في الموضوع أن إحدى المجلات قالت إن الخبير لما لم يجد ما يشغله قرر أن يشتغل بالأدب!.
وأذكر أن موظفا مصريا آخر في السودان هو مراقب التعليم المصري هناك، أبت الحكومة السودانية أن تسمح بدخوله السودان، ولا يزال إلى الآن وفي وظيفته رسميا مع هذا المنع، فماذا يصنع هذا أيضا؟ لقد كان قبل ذلك عميدا للرسم بوزارة المعارف، فهل يشتغل هو أيضا بالرسم؟(782/52)
مصائب السياسة في الفنون فوائد. . .
مؤتمر اليونسكو:
توالى لجنة (اليونسكو) بوزارة المعارف، النظر في موضوع اشتراك مصر في مؤتمر (اليونسكو) الذي سيعقد ببيروت في أكتوبر القادم. وقد أرسلت إلى وزارت معارف الدولة العربية الشقيقة بالأسس التي ستبنى عليها تقريرها للمؤتمر لتضع في ضوئه تقاريرها توخيا لتوحيد وجهة النظر العربية في شئون الثقافة العالمية.
ومن المسائل التي يتضمنها تقرير وزارة المعارف المصرية، مسألة القدر المشترك من التعليم الكل مواطن، هي من المسائل التي أوصى بالاهتمام بها مؤتمر الهيئة الذي عقد بالمكسيك في العام الماضي، على ألا يقتصر الأمر فيها على تعليم الكتابة والقراء، بل يجب العمل على تزويد المواطن بقدر من الثقافة العلمية والاقتصادية، ومما قالته الوزارات أنها أخذت في سبيل تحقيق الثقافة الاقتصادية بإنشاء مدارس الصناعات الريفية، ومدارس المعلمين الريفية، التي يقصد منها تعليم الناشئ الصناعات الملائمة لبيئاتهم.
ومما يذكر أن هذا المؤتمر الذي سيعقد ببيروت هو المؤتمر الثالث للهيئة، وكان المؤتمر الأول بباريس سنة 1945، والمؤتمر الثاني كان في المكسيك سنة 1947.
الألفاظ والأساليب في المجمع اللغوي:
ذكرت من قبل أن لجنة الألفاظ والأساليب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، أعدت قرارات في ستة عشر لفظا وأسلوبا، رأت صحة استعمالها بدل ما يجري على الأقلام وألسنة المثقفين مما ليس بصحيح.
والخطة الموضوعة أن يعرض ما تقرره هذه اللجنة على مجلس المجمع للنظر فيه ومناقشته ثم يذاع عقب إقراره على الجمهور في الصحف.
والستة عشر لفظا وأسلوبا الآنفة الذكر هي باكورة عمل اللجنة في هذا الصدد، وقد عرضت على مجلس المجمع فناقش بعضها، ثم انفض على أن يستمر في مناقشتها بالجلسات التالية، ولكن الذي حدث أن الجلسات التالية، ولكن الذي حدث أن الجلسات التالية لم تنعقد، لأن عدد الأعضاء الذين كانوا يحضرون لم يبلغوا في كل مرة النصاب(782/53)
المعين لانعقاد المجلس، فينعقد الحاضرون لجنة. . واستمرت الاجتماعات (لجنة) نحو أربعة أسابيع، ثم أعلن انفضاض الدورة. وعلى ذلك اضطررت (الدفعة الأولى) من الألفاظ والأساليب إلى انتظار الدورة القادمة في أكتوبر القادم.
جناس:
لما كان المغفور له الملك فؤاد بباريس في أثناء زيارته لأوربا - زار جامع باريس، فاستقبله الشيخ قدور بن غبريط شيخ الجامع بخطبة قال في مطلعها:
الله أحمد، وأصلي على نبيه أحمد، وأحبي ملك مصر أحمد.
العباس(782/54)
البريد الأدبي
حول (رائد التراث العربي) للأستاذ صلاح الدين المنجد:
ظهر كتاب (رائد التراث العربي) منذ حين، وهو كتاب بعضه ترجمة وبعضه تأليف، وعنوانه مخالف لعنوان الأصل المترجم عنه. ولعل الأستاذ المنجد اختار هذا العنوان الطريف اللطيف الجرس ليستر شيئا. بل لقد أراد أن يشهد قراء العربية على أنه أليس الكتاب ثوبا جديدا فاحتاج إلى عنوان جديد. وموضوع كتاب (رائد. . .) غير موضوع الكتاب الأصلي: لا يحوى من الأصل إلا النصف الأخير؛ ولم يكن له أن يقيم هذا النصف مشطورا مظلوما، يصرخ حسرة على نصفه الأول.
وقد نشرت مجلة (الرسالة) نقداً للكتاب، فيه بعض مآخذ على المؤلف وبعض مآخذ على المترجم، إن كان الأستاذ المنجد يعد مترجما (أنظر الرسالة عدد 31 مايو الماضي) والرسالة تفسح لنقد الكتب مكانا تشكر عليه، وتوليه من الاهتمام ما يؤثل لها الفضل على العلماء والباحثين.
ولكن لهذا الكتاب قصة طريفة نحب إشراك القراء فيها، ليتفكهوا بسير بعض العلماء، فلعل في هذه القصة عبرة لمن شاء أن يبلغ الشهرة بأيسر جهد. وقد بلينا في زماننا بجماعة يقعون على كتب أساتذتهم فيأخذون بعضها ويضيفون بعضا مهلهلا حبا في الصيت، ومفاخرة بعدد الكتب، وإدعاء للعلم الرخيص. وأتم هؤلاء كبير لأنهم يسدون الطريق على العاملين المخلصين في العلم. أخرج الأستاذ المستشرق العام جان سوفاجيه عام1942 كتابا بالفرنسية عنوانه (مقدمة في تاريخ الشرق الإسلامي (المراجع الأساسية)) ثم أعاد نشره عام 1946 بعد أن أدخل عليه إضافات وتصحيحات استغرقت ست صفحات.
والكتاب نفسه كتاب قيم عظيم الفائدة لطلاب التاريخ جميعا متبدئين وعلماء، وإنه ليذكر الحقائق البسيطة التي يدركها العالم بالمران ثم لا يجد لها ضابطا حتى ليعجز عن تلقينها جملة واحدة إلى تلاميذه؛ فالكتاب كله تواضع لأنه يذكر الحقائق المعلومة التي نمر عليها كراما فلا نعيرها ما تستحق من الالتفات مع عظم أهميتها. ولقد جعل المؤلف من هذه الحقائق مادة خصبة فأرانا كيف يكون جلال البسائط.
قسم المؤلف كتابه قسمين تناول في الأول طبيعة المصادر في التاريخ الإسلامي بالنسبة(782/55)
لمثلها في فروع التاريخ الأخرى، وعرض للمصادر المختلفة التي يجب الرجوع إليها من الروايات الشفوية والقصص التاريخية والحديث وكتب التاريخ والرحالة والجغرافيين ورجال الفعة، ومن النقوش والنميات والآثار، فبين لنا إلى أي حد نستطيع الاعتماد على كل مصدر من هذه المصادر، وحظ كل منها من الوثوق. فهذا القسم كما ترى خاص ببيان مناهج البحث التاريخي وبنقد المصادر.
وقد أجمع النقاد في أوربا على أن هذا القسم من أهم أقسام الكتاب وأعظمها فائدة وابتكارا؛ فإذا قرأت راعك ومنهج الأستاذ المستشرق العليم بطموحه إلى بناء التاريخ الإسلامي على أساس علمي متين دقيق. لأنه يرسم منهاجا علميا سلميا، ويصور لك ما يجب أن يتجلى به العالم من وسائل البحث والدرس والتمحيص والعرض. ولن تجد مؤلفا قبله تناول جمع المصادر الإسلامية فنقدها هذا النقد العلمي السليم. فجاء كتابه دعوة إلى منهج علمي دقيق جديد يخالف الطرق الارتجالية القدية، ويؤذن بابتداء الدراسة العلمية في التاريخ الإسلامي واتباع أمثل طرائق البحث والنقد والمقابلة. وإنما دعا الأستاذ إلى منهج طبقة بنفسه تطبيقا أدى إلى ابعد النتائج العلمية أثراً في التاريخ الإسلامي وأحراها بإظهار هذا التاريه في صورته العلمية الحقيقية. فمن من المتعالين في عصرنا قرأها؟
أما القسم الثاني من الكتاب فيتناول المراجع الأساسية العربية والإفرنجية ويعرضها عرضا شيقا حسب العصور التاريخية؛ فيبين كيفية الاستفادة منها، ووجوه النقص فيها، واتجاه الباحثين في درسها، ويبين ما درس وما لم يدرس، وقيمة ما ظهر من الدراسات. ولم يترك من المراجع الأساسية شيئا، أما المراجع الفرعية فلها مظانها المعروفة الكثيرة. وإنما أراد المؤلف بذكر الأصول تصوير علمنا بتاريخ وما بلغناه فيه فأظهر في ذلك براعة تدل على سعة العلم، وحب للتاريخ الإسلامي، وازدراء للبحث السطحي.
ثم جاء الأستاذ المنجد، فحذف القسم الأول الهام كله لم يكد يبق منه شيئا، وترجم القسم الثاني ثم أضاف أليه ما شاء من عنده، وجعل هذا كتابا!
فالأستاذ المنجد مسئول عن كتابه وحسده، والأستاذ سوقاجيه برىء منه كل البراءة. وقد تبرأ منه بنفسه علنا، ونشر رأيه في المجلة الأسيوية هذا العام. وكان يجب على ناقد (الرسالة) أن يطلع على المجلة الأسيوية ليعلم أن أستاذنا سوقاجيه لم يأذن للأستاذ المنجد(782/56)
بترجمة. وذنب المترجم أعظم لأنه مسخ الكتاب، فلم يكن بارا بنفسه ولا بأستاذه.
وكنت عرضت على الأستاذ المنجد أن نشترك في إخراج الكتاب كاملا، لأني ترجمته فعلا، وراجع المؤلف ترجمتي ولكني لم أنشرها بعد. غير أن الأستاذ المنجد أبى واستكبر واعتبر ما ترجم ومسخ جزءا من حلقة علمية طويلة نرجو أن تمتد لها أيامه، وإن كانت طلائعه لا تنذر بخير كثير.
فإن يجد النقاد مآخذ على (رائد التراث الإسلامي) فكتاب سوفاجيه منها برئ.
محمد عبد الهادي شعيرة
أستاذ مساعد بكلية الآداب بالإسكندرية
مباراة في القصة:
نظمت مجلة (الأديب) البيروتية مباراة في القصة أعلنت عنها في عددها الصادر في مستهل الشهر الحالي (يونيو - حزيران) ويمنح الفائز فها 150 ليرة لبنانية تبرع بها الأستاذ أحمد عويدان.
وتتضمن شروط المسابقة ما يلي:
1 - الاشتراك مباح للجميع.
2 - يجب ألا تزيد القصة عن أربع صفحات من (الأديب) ولا تنقص عن اثنتين على أن لا تكون نشرت أو أذيعت قبل الآن.
3 - تكتب القصة على الآلة الكاتبة أو تكتب بخط واضح من ثلاث نسخ.
4 - تنتهي مدة قبول الاشتراك في أول سبتمبر (أيلول) 1948 وتذاع النتيجة في عدد شهر أكتوبر (تشرين الأول) من مجلة الأديب.
5 - تحكم بين المتبارين لجنة تختارها (الأديب) وتعلن أسماء أعضائها مع إعلان النتيجة.
6 - للأديب أن تختار من القصص ما تشاء للنشر على صفحاتها بعد إعلان نتيجة المباراة.
7 - ترسل القصص إلى (الأديب) ص. ب رقم 878 بيروت - لبنان ويكتب على الغلاف الخارجي (مباراة القصة) وتذيل القصة بإمضاء مستعار ويوضع الإسم المستعار والإسم(782/57)
الحقيقي في غلاف صغير يرفق بها.
والمجلة ترحب باشتراك الأدباء وكتاب القصة المصريين في هذه المسابقة ويمكن الاطلاع على شروطها الكاملة في عدد شهر يونيو.
وديع فلسطين
وكيل الأديب في مصر
في قصيدة:
في عدد الرسالة الغراء (779) قصيدة مانعة للأستاذ الشاعر حسن الظريفي بعنوان في أخريات الشباب) مطلعها
أصبحت لا غضاً ولا ذاوياً ... أحيي شبابا لم يعد زاهيا
ولقد استوقفني منها قوله:
سقياً لشرخ من سباب مضى ... ما كنت في يوم (له ساليا)
إذ لا يقال (سلا - أو سلي - له) وإنما يقال (سلا عنه).
قال المتنبي:
فقلت إذا رأيت أبا شجاع ... (سلوت عن) العباد وذا المكان
وحروف الجر والتعدية وإن كان ينوب بعضها عن بعض، إلا أن المقام هنا ليس مقام نيابة على كل حال، والسلام.
(الزيتون)
عدنان
تصحيح:
وقع في قصيدة الأستاذ محمود غنيم (يا أخت عمورية) المنشورة في العدد الماضي، هناك مطبعية يدركها القارئ بفطنته، ولكن قافيتي المبينين الآتيين حرفت تحريفا بعيداً عن الأصل، وصححتهما:
ليس الشرى للشاردين بمسكن ... رحب ولا للمتعبين مقيلا(782/58)
يا اخت عمورية ليك قد دقت للحروب طبولا(782/59)
الكتب
1 - أذان وعين
تأليف الأستاذ سلمان الصفواني
مجموعة من المقالات (الخفاف) القصار تقارب الخمسين كل منها في صفحتين وقلما تزيد أو تنقص عنهما بضعة سطور. بدأ الأديب العراقي الأستاذ سلمان الصفواني صاحب جريدة (اليقظة) العراقية بنشر مقالاته هذه متوالية في صحف العراق بعد خروجه من المعتقل في بغداد سنة 1944 وكانت الرقابة يومئذ تحد من الحريات بسبب الحرب العالمية الثانية، قال الأستاذ في مقدمته: (وكانت معالجة القضايا العامة بصورة جدية وصريحة من أصعب الأمور على كاتب مثلي في ذلك الحين، فالحرب ما زالت قائمة، والأفكار الحرة خاضعة للرقابة السياسية، وهذه الرقابة لا تتورع عن كيل التهم لمن لا يجارونها في اتجاهاتها من الوطنيين الأحرار، وكان مجال (التأويل) وسعا في هذا الشأن إلى حد صارت معه الكتابة بمنطق سليم ورأى سديد من الأمور العسيرة) فالمؤلف يكتب هذه المقالات بقلم) الصحافي) الذي عاقته الرقابة عن الصراحة والجرأة، ولا يكتب بقلم (الكاتب الأديب) الذي يحفل بموضوعه ويصوغه بكل قوته وبكل وسعه في التفكير والتعبير. وقد كتبت المقالات (عفو الساعة) لا لتنشر في كتاب بل لتنشر في (صحيفة) يقرؤها (جمهرة) قراء الصحف للمتعة والتسلية والفائدة، وربما كان ذلك بعض السر في (خفتها) ويسرها، وشفيع الأستاذ عند قرائه ما أوجزنا الإشارة لمقالاته حين نشرها عنوانها (أذن وعين) لأنه كما قال أراد أن يروى فيها ما تسمعه (الأذن) يوصف فيها ما تراه (العين) وبهذا العنوان نشر مجموعته هذه وهي (المجموعة الأولى) من تلك المقالات.
ولست هناك فكرة (جامعة مشتركة) بين مقالات هذه (المجموعة) وتكاد كل مقالة تستقل بموضوع، والمؤلف يعالج موضوعه في حيز ضيق علاجا هينا قلما ينفذ إلى الصميم، وقصاراه لمسة رفيقه هنا ووخزة سائرة هناك بال تأن ولا استقصاء في الدرس سواء في ذلك الموضوعات التي روى فيها ما سمعته أذنه والموضوعات التي رأتها (عينه) بل مثلها أيضا الموضوعات الفكرية التي لم يتقيد فيها المؤلف بعنوانه (أذن وعين)
وليس من همي هنا أن أعرض على القراء الموضوعات التي تناولها الأستاذ في مجموعته(782/60)
لا بالتفصيل ولا بالإجمال، وحسبي الإشارة إلى بعضها. فمنها اتحاد الأمة العربية، والتنظيم السياسي، وآثارة، وسياسة التوجيه في الأمة، ومعنى العروبة ومن تشملهم، والقومية العالمية وأسسها، والدعوة إلى معرفة حق الأديب، والقومية والمالية، وبعض نواحي المشكلة الفلسطينية، وتدوين الأدب الشعبي في العراق وحرية الأقلام. ونرجو أن تكون المجموعة الثانية) أنضج وأعمق لتكون جديرة بجمعها في كتاب.
2 - كأس ومصباح
تأليف الأستاذ محمد أديب نجوى
هذه مجموعة من عشر أقاصيص نشرت في صحف حلب، سماها كاتبها باسم الأقصوصة الأولى منها (كأس ومصباح كما جرت عادة القصصيين أخيراً اقتداء بقصصي فرنسا دون إضافة (وقصص أخرى) ويتراوح طول الأقصوصة منها بين اثنتي عشر صفحة وأربع صفحات؛ والمجموعة مصدرة بقصيدة جيدة للأستاذ عمر أبو قوس مدير مطبوعات حلب يقدم بها المجموعة إلى القراء، ويليها إهداء كتبه صاحب المجموعة على قبر أبيه يهدي إليه مجموعته لأنه هو الذي تقبل أولى قصصه بالرضا والإكبار ثم مات وتركه يناضل الأيام.
وربما كانت محنة النفس الغضة بهذه الفاجعة وما تلاها هي منشأ ما تنبض به أقاصيص المجموعة جميعا من قلق وكآبة وسخرية عابسة، وبنية الأقصوصة في هذه المجموعة سليمة يعززها الصدق في الإحسان، والاستقامة في التفكير، والقصد في الخيال، وأسلوب التعبير عربي صحيح تغلب عليه الأناقة مع إفراط في الاستعمارة لا يوهن من تماسكه ولا يحجب ما يريد صاحبه التعبير عنه من معان وصور، ومع ميل الغموض ناشئ عنالاكتفاء باللمسات السريعة الخاطفة المتفرقة عن الاسترسال لملء كل فراغ في الصورة، ومن شأن هذا الأسلوب أن يثير الشعر والخيال فينطلقان لملء هذه الفراغات على أي نحو يناسب ما حولها
محمد خليفة التونسي(782/61)
العدد 783 - بتاريخ: 05 - 07 - 1948(/)
نقلة مستحبة في تاريخ البلاد الأمريكية
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا كان الأستاذ محمود الخفيف يطيب له أن يعود إلى حديث لنكولن فنحن لا نكره العودة إليه، أو يكره العودة من أحاديث أمريكا الحاضرة إلى أحاديث أمريكا في أي عهد من العهود، فضلاً عن العهد الذي كان رئيسها فيه اعظم رئيس تولى أمورها، أو كان على الأقل واحداً من ثلاثة على الأكثر بين اعظم هؤلاء الرؤساء.
أنها نقلة مستحبة لأنها بغير شك نقلة من اصغر رئيس تولى أمور الولايات المتحدة أو يمكن أن يتولاها فيما نظن، إلى رجل من اكبر رؤسائها ومن اكبر ولاة الأمر في أمم العالم الحديث.
أخذنا على كتاب الأستاذ الخفيف عن أبرا هام لنكولن بعض ملاحظات، وقلنا أن الملاحظة على كتاب يؤلف عن لنكولن أمر لا مناص منه كائناً ما كان الكاتب، وكائناً ما كان منهج الكتاب. لأن آفاق الحياة الفردية أفاق الحياة الاجتماعية التي تفصل بسيرة هذا الأرجل العجيب أوسع من أن تستوعب في كتاب واحد، ولا سيما كتاب يوضع بالعربية ويحتاج المؤلف فيه إلى اطلاع القراء في لغتنا على مراجع ومناسبات تعد من تحصيل الحاصل في عرف ألا كثرين منم القراء الأميركيين والأوربيين.
وكانت خلاصة ملاحظاتنا أن الكتاب خلا من تعريف كاف بأسلاف لنكون من جانب أبيه وأمه، وليس فيه إلمام كاف بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رئاسة الجمهورية، وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه يشرح هذه الجريمة شرحاً يناسب مكانها في تاريخ الإجرام عامة وفي تاريخ الولايات المتحدة على التخصيص.
وقد اعتقد الأستاذ الخفيف أن البيان الكافي عن أسلاف لنكولن غير ميسور لان الرجل كان كما هو معلوم عصامياً خامل الباء والأجداد. ولكن الواقع أن اللغز يعرض لنا من أمر آياته المعروفين ونستطيع حله من تاريخهم المعروف. وقد قال الأستاذ الخفيف أن ثمة شيئاً كان يجذب الصبي إبرا هام إلى أمه: (وذلك هو معرفتها القراءة والكتابة ثم رغبتها في أن يتعلم الصبي على الرغم من مجادلة زوجها إياها في ذلك ـ إذ كان يرى الصبي أحوج إلى الفأس منه إلى القلم، وحجته انه لا يعرف من الكتابة إلا أن يرسم اسمه ومع ذلك فهو(783/1)
يكسب بفأسه ما يقيم أود أسرته).
وربما كان تاريخ لنكولن كله رهنا بسر هذا الاختلاف بين نزعة المعرفة في أمه، ونزعة المرح في أبيه، ولا شك أننا نعرف الشيء الكثير عن هذا السر متى عرفنا أن هذه النزعة في أمه موروثة متأصلة، لأنها من سلالة غير شرعية لفتاة نسيت في سبيل المعرفة نفسها ومستقبلها. وقد أشار هر ندون - وهو حجة في تاريخ لنكولن - إلى هذه القصة وظهر بعد ذلك كتاب (لنكولن المجهول) لديل كارنيجي فزادها تفصيلاً وجاء قيها بما يغنى في هذا المقام
أما مصرع لنكولن فالكلام فيه عن القاتل أهم من الكلام عن الحادث - لان حادث القتل قد يقع في كل قطر من أقطار الأرض، وقد تكون الخصومة السياسية سبباً في اغتيال الساسة في كل ثورة من ثورات الأمم، ولكن الدوافع التي نزعت بقاتل لنكولن إلى فعلته لا تعهد في غير الحياة الأمريكية وفي غير بدورات المغامرة التي اشهر بها طلاب الظهور في القارة لا جديدة ولا يزالون يشتهرون بها لحد ألان.
فقد كان للرئيس العظيم أعداء كثيرون يودون قتله لتحقيق مطالب أهل الجنوب، ولكن المثل الفاشل الذي قتله - وهو جون ويلكزبوث - لم يكن صاحب رأي ولا صاحب غيرة وطنية، ولا كلن من همه فض الاتحاد الجمهوري أو توسيع حقوق الولايات؛ ولكنه كان فتى وسيماً وممثل عظيم، وكان أبوه جونيوس بروتس اقدر المثلين لأدوار شكسبير، وكان إلى جانب ذلك مثلاً في الصلح والاستقامة والرحمة بجميع خلائق الله، وكان من اجل ذلك يحرر أكل اللحوم ويتجنب إزهاق الحياة ولو كانت حياة أفعى أو حشرة مؤذية. فإذا بولده يقتل اعظم رجل في بلاده لان وسامته جفت عليه وصرفته عن إتقان التمثيل على المسرح إلى إتقان التمثل في موقف الغرام، فتخلف عن زملائه فخطأته الشهرة في ميدانه واحب أن يعوض ما فاته منها بمسرحية تاريخية تطفي على كل مسرحية فنية ينبه بها شأن نابغة من نوابغ لا تمثيل. ولم يكن من قصده في بادئ الأمر أن يزهق حياة الرئيس، وأما خطر له انه يستطيع أن يختطفه ويحمله إلى الجنوب ويسلمه إلى الولايات لا جنوبية لتملى شروطها على ولايات الشمال كما تريد.
وما هو إلا أن فرغ من تدبير هذه المسرحية حتى فوجئ بتسليم قادة الجنوب وضاع كل(783/2)
رجائه في مؤامرة الاختطاف فخطر له يومئذ أن يقتل الرئيس في دار من دور التمثيل ثم يلوذ بالهرب لعلمه بمخارج هذه الدور ومداخلها وخبرته بمواضع النور الظلام فيها.
ولولا انه ممثل فاشل لما خطر له هذه المؤامرة، ولولا اعتماده على معرفته بمسارح التمثيل ملا اختار المسرح لتنفيذها. فهل كثير على تفصيل هذا الحادث صفحتان من كتاب عن حياة الرئيس القتيل؟ وهل يكون مصرع هذا الرئيس مفهوماً وموقعه من طبيعة الحياة الأميركية واضحاً بغير هاتين الصفحتين؟
ويأبى الأستاذ الخفيف أن يصدق انه أهمل بعض المصادفات التي كان لها الأثر الأكبر في ارتقاء لنكولن إلى رئاسة الجمهورية فيكفي أن نذكر له في هذ1 الصدد أن مصادفة واحدة من هذه المصادفات كانت سبباً لتحول الحزب الجمهوري من وليوم سيوارد إلى لنكولن في المؤتمر الكبير الذي عقده الحزب بمدينة شيكاغو سنة 1860 لاختيار مرشحه لرئاسة الجمهورية.
فقد حدث الاجتماع في يوم ميلاد سيوارد، وكان الإجماع بين المندوبين أن ينعقد على اختياره. ولكن مصادفة واحدة غيرت مجرى التاريخ في ذلك اليوم. . . لماذا. . .؟. . . بسبب بسيط، غاية في البساطة. . . وهو أن عامل المطبعة لم ينجز أعداد الأوراق التي كانت لازمة للاقتراع، فاتفقوا على تأجيل البدء بالاقتراع، وتم التأجيل فعلاً، وحدث الانقلاب المفاجئ في هذه الأثناء. فأن الصحفي النابه هو رأس جر بلى - عدو سيوارد اللدود - تمكن في تلك الفترة من تحويل معظم المندوبين عن رأيهم، فرجحت كفة لنكو لن على غير قصد من جر بلى ومن شيعته، لأنهم لم يكونوا مع لنكو لن على وفاق.
ولولا أننا لا نستطيع أن نعيد تاريخ لنكو لن وتاريخ ترشيحاته في مقال واحد لفصلنا الكثير منت أمثال هذه المصادفات.
ولم يكن نصيب المصادفات التي كان لها اكبر الأثر في الترجيح بين الأحزاب نفسها وبين جيوش الشمال وجيوش الجنوب أو في نصيباً من هذه المصادفات التي صعدت بلنكولن إلى رئاسة الجمهورية فأن كثيراً من الأحداث التي ارتفعت بحزب على حزب ونصرت جيشاً على جيش، ترجع إلى مصادفات لم تذكر في الكتاب.
ومن الطريف أننا نأخذ على الأستاذ الخفيف أن ميزانه المشترك بين أبطال كتبه ناقص،(783/3)
فيقول في مناقشة هذا النقد: (أني لست اذكر أني عنيت بالميزان المشترك. فقد كنت اصف كل شخص على حدة، ولم اصدر حكماً على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره).
وهذه هي العقدة وليس هذا هو حل العقدة كما رأى الأستاذ الخفيف. وإلا فهل يرى أن تأريخاً يقوم على الكفاح بين الشخصيات والقادة ثم لا يصدر فيه حكم على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره يمكن أن يقال انه وافى الميزان من جميع الوجوه؟
وإنني انتهز فرصة الكلام على الميزان المشترك فأصحح هنا خطأ مطبعياً عرض لجملة من مقالي حيث جاء فيه من أمثلته في تاريخ احمد عرابي انه لم يحرر الميزان كل التحرير عند الحكم على عرابي ومن يمده مثلاً) وصوابها (على عرابي ومحمد عبدة) لان المقصود هنا هو الأستاذ الأمام رحمه الله.
وبعد فلست أظن أن الأستاذ الخفيف يرى أن كتاباً يوضع في تاريخ لنكولن وتاريخ الولايات المتحدة في عصره يصدق القائل فيه ذا قال انه يخلوا من ملاحظات.
فإذا كان كلام كهذا لا يقال في مثل هذا الكتاب فهل هناك من ملاحظات على تاريخ لنكولن الذي كتبه الأستاذ الخفيف أهون من هذه الملاحظات!
عباس محمود العقاد(783/4)
حجة خيط العنكبوت وقد فات وقتها
للأستاذ نقولا الحداد
يدعي اليهود أن أهيه (وعناه: أكون الذي أكون) وما لبث آل
سمى أيضاً يهوه (أي يكون) وهو اسم علم لإله الإسرائيليين
كما هو مذكور في سفر الخروج الإصحاح الثالث والعدد 14
- يدعون أن يهوه وعددهم وهم خارجون من مصر انه يملكهم
من بحر سوف (أي البحر الأحمر) إلى بحر فلسطين (أي
البحر الأبيض)، ومن الجزيرة (برية سينا) إلى النهر
(الأردن). أنظر خروج ص23 عد31، كذا قال يهوه الذي
لقبوه بعد إذ برب الجنود، خروج ص3 عد14، وقد وعد
موسى قائلاً أن ملاكي يسير أمامك (وملك شعبك طبعاً)
ويجيء بك إلى الأمويين والحثيين والكنعانين والحوييين
والببوسيين فأبيدهم. خروج ص23 عد23.
بعد أن خرج موسى بشعبه من مصر إلى برية سينا صعد إلى جبل سينا لكي ينقل وصايا الرب. وتأخر طويلاً إلى أن نفذ صبر شع بإسرائيل، فاضطروا هارون أخا موسى أن يصنع لهم عجلاً من الذهب الذي كان في أعناق نسائهم مما استلفنه من المصريات قبل أن يخرجوا من مصر لأنهم يريدون إلهاً من ذهب لا من حجر ولا من خشب، فهم عبدة المال المعبر عنه بالذهب، فغضب يهوه لأنهم تركوه وعبدوا العجل الذهبي. وقد اقتبسوا هذه العبادة من مصر، وتهددهم بان يبيدهم. فعاد موسى يسترضيه ويذكره بوعده لأجداده: إبراهيم وإسحاق ويعقوب بقوله لهم: انه يجعل نسلهم كنجوم السماء بالكثرة، وانه يعطيهم(783/5)
تلك الأرض فيملكونها إلى الأبد. خروج ص32 عد13، 14 فا اااااااستعطفه موسى إلى أن ندم على الشر الذي يقال انه يفعله بشعبه. خروج ص32 عد13 14 - هذا ما ورد في الثورات التي كتبها اليهود.
فاليهود يقدمون هذه النصوص حججاً مسجلة لهم في التوراة بملكية فلسطين كما نعرفها اليوم، ويزيدون على هذا الميراث الأملاك التي بين النيل والفرات.
والأنكى أن هناك فريقاً مغفلاً من النصارى يستشهدون بالتوراة في إثبات هذا الميراث لليهود. فلنر ما قيمة هذه الحجة.
إلا يقولون لنا من أعطاهم هذه الحجة، ومن سجلها لهم في التوراة؟ ومن كتب التوراة؟
خرج موسى بالإسرائيليين من مصر في سنة 1250 تقريباً قبل المسيح أي منذ 32 قرناً. وفي ذلك الوقت لم يكن فن الكتابة بالحروف الذي اخترعه الفينيقيون. كان الكهنة والحكام في مصر ينقشون على الحجارة بالرسوم الهيرغليفية أسماء الملوك وسني حكمهم ونحو ذلك. وكان البابليون ينقشون على الأجر النيئ مثل ذلك بالحروف المسماري ثم يحرقونه. فلم يكن لا في الخط الهيرغليفي الذي هو رسوم أشياء تدل على أشياء، ولا في الحرف المسماري الذي ليس أرقى من الخط الهيرغليفي، ما يحتمل أن تكتب به أسفار التوراة الضخمة. والذين بحثوا في هذا الموضوع وصلوا إلى نتيجة لا تقبل الشك وهي: أن الأسفار الخمسة التي أسندت إلى موسى ولا كتب في زمن موسى لان حروف الكتابة لم تكن قد اخترعت بعد.
والمجمع عليه ألان في هذا الموضوع: أن اليهود الذي عادوا من سبي بابل سنة 527 قبل المسيح أي منذ 1773 سنة من خروج موسى بشعبه من ارض مصر، يعني بعد نحو 18 قرناً هم الذين شرعوا يكتبون تلك الأسفار الخمسة مقتبسين فيها أساطير البابليين وشرائعهم وخرافاتهم وعاداتهم. وقد طبقوها على ملتهم من أسطورة الخليفة إلى أسطورة الطوفان إلى غيرهما. وشريعتهم في سفر تثنية الاشتراع تكاد تكون حرفاً بحرف من شريعة حمورابي العربي الذي غزا أشور وبابل، وحكم هو وخلفاؤه فيهما نحو مائة سنة.
فهذه الحجة التي يتمسك بها اليهود لم يكتبها موسى ولا كتبها أحد لعهد موسى، بل هم اليهود الذي عادوا من السبي كتبوها بسنين بعد موسى بثمانية عشر قرناً. وليس عندهم سند(783/6)
واحد يثبت أن ما نسبوه إلى موسى هو قول موسى، ولا سند واحد يؤيد أن ما نسبوه إلى يهوه قاله يهوه. فهم كتبوا ما شاءوا مما تسلسل إليهم من أقوال الأجداد ومما تصوروه مناسباً لهم من تقاليد ما بين النهرين وما تخيلوه يؤيد عقائدهم الدينية والاجتماعية ووعدوا أنفسهم ما شاءوا أن يكون ميراثاً لهم وملكاً وفي إمكاني أنا أن اكتب حجة لي بفندق شبرد أو ميناهوس وغيرهما حتى انه يمكنني أن اكتب حجة بملكية سراي عابدين وبعد قرن أو قرون يقوم حفدائي يطالبون بهذه الأملاك بموجب هذه الحجج. فمن يقبلها؟
وهب أني أخذت حجة من صاحب فندق ميناهاوس، فمن يقبلها بعد ثلاثة آلاف سنة؟
فالتوراة كما وصلت ألينا على يد اليهود ليست حجة بان يهوه قالها وموسى كتبها إذ ليس عندنا إسناد بهذا.
ولما رأي اليهود أن حجة التوراة أصبحت واهية بعد تشتتهم وخيبة آمالهم في ارض الميعاد ودولة إسرائيل ولا سيما بعد أن سارت بين أيدي النصارى والمسلمين تنكبوا عنها كأساس لديهم واخترعوا التلمود فصار أساساً لديهم، ونقحوه مراراً حسب مقتضيات الزمن. وأخيراً لما رأوا أن التلمود ليس أقوى حجة من التوراة جمعوا أسا طينهم في مؤتمرات متعاقبة ووضعوا (مواثيق شيوخ صهيون) (البرتوكولات) التي كتبت بعضها في (الرسالة) وعقبت عليها.
والغريب انه ليس في تاريخ مصر ولا في غير مصر أن شعباً غريباً يدعى شعب إسرائيل خرج من مصر بقيادة زعيم اسمه موسى اقنع فرعون بمنجزاته أن يسمح لهم الخروج.
ليس لهذا الحادث ذكر في تاريخ من تواريخ الأمم ولا إشارات أليه إلا ما ورد في التوراة التي كتبت بعد 18 قرناً لخروجهم كما زعموا.
مع ذلك لم تنطبق حوادث اليهود على تلك الوعود المنصوصة في التوراة.
فأولا لم يفتح اليهود بعد دخولهم ارض الميعاد ألا بعض بقاع منها بعد حروب عنيفة. فلماذا لم يطرد يهوه من أمامهم الكنعانيين والجرزيين الخ كما وعدهم.
ثانياً: لم يقيموا في ارض كنعان اكثر من قرنين ثم سبوا مراراً إلى بابل وغيرها. فما أقاموا فيها مدة تملكم البلاد بحق اليد.
ثالثاً: أن نسلهم لم يكثر كنجوم السماء. والمعروف ألان أن نجوم المجرة تبلغ نحو ثلثمائة(783/7)
ألف مليون نجم وهم لا يبلغون بعد 36 قرناً اكثر من 16 مليوناً.
رابعاً: أن اليهود منذ خرجوا من مصر ودخلوا ارض كنعان (أن كانوا دخلوا أو خرجوا) ما كفوا عن عبادة البعل (الذهب) واغضبوا يهوه مراراً. هارون صنع لهم عجلاً من ذهب وهم يصنعون كل يوم ألف عجل. سلهم هل حفظوا شيئاً من وصايا الله؟ هل يوجد الربا الفاحش عند غيرهم؟ هل هم أنسا نيون كما يريد الله؟
خامساً: تشتتوا على وجه الأرض. فلماذا تشتتوا إذا كانت ارض كنعان لهم بموجب صك منم الله؟ لماذا لم يبقوا فيها فلا ينازعهم أحد عليها؟ اصبحوا حيثما نزلوا كانوا رغم أنوفهم من مواطني ذلك المهجر مكروهين لأنهم كارهين لكل من ليس يهودياً وأبوا أن ينتموا وإلا أن يكونوا من رعايا دولة صهيون القائمة في الهواء.
فهل بعد مرور هذه القرون كتبت لهم ملكية في فلسطين؟ وهل تقوم لهم حجة بملكية بملكيتها.
اليهود يفهمون هذا كما نفخمه نحن، وإنما يريدون أن يتمحكوا بهذه السخافات ما دام بين نصارى أمريكا المفلفلين من يقولون أن الكتاب المقدس يعطيهم هذا الحق، ومن قدس هذا الكتاب. ومن كذب عن لسان الله غيرهم؟ وقد حقق الله وعده لهم فأدخلهم ارض كنعان فلماذا هجروها؟
واليهود أنفسهم لم تبلغ بهم السخافة أن يقدموا هذه الحجة (الحجة التاريخية المقدسة) لقضاة هيئة الأمم لان هؤلاء يتورعون أن يكونوا أضحوكة الأمم وان لم يتورع بعض سخفاء نصارى أمريكا عن الاعتراف بهذه السخافات.
ولكن هل يجسر هؤلاء اليهود الأفاكون أن يقدموا هذه (الحجة الكتابية) للكونت برنادوت؟ وهل يعبرها أذنا إلا بالتحقير لقائليها؟
أن أهل فلسطين الحاليين هم سكانها الأصوليون. كثيراً منذ عهد موسى إلى عهد المسيح يهوداً ووثنيين. ولما جاء المسيح تنصر بعضهم. ولما جاء الإسلام اسلم معظمهم فما خرجوا من أرضهم. وأما القادمون من الغرب فما كانوا إلا وثنيين، فلما احتكوا باليهود المشتتين ورأوا أن اليهود يعبدون إلهاً غير منظور رأوا أن عبادة الأصنام سخافة فتهود بعضهم، ومنهم أسلاف الغزاة البولونيين وأمثالهم.(783/8)
أن هؤلاء اليهود لا يعرفون غير إله المال فلا ننتظر منهم صدق ولا حفظ عهد، فقد مضى على الهدنة نصف عمرها وهم يصلبونها كل يوم عشرين صليباً.
ولا ندري ماذا يعني برنادوت بقوله لهيئة الأمم انه مرتاح إلى تنفيذ الهدنة كل الارتياح، إلا إذا كان مسروراً من استغلال اليهود لها.
ولا ندري لماذا يطلب سفناً وطائرات إلا إذا كان ينوي أن يمكن اليهود من الاستغلال، وإدخال بعض اليهود إلى البلاد وحفظهم في المعتقل إلى أن يتدربوا ثم يطلق سراحهم لكي ينظموا إلى الهاجاناه.
وما معنى أن يستعد لاستسلام حيفا من الجيش البريطاني؟ هل وطد العزم على الإقامة في فلسطين لكي يحرس دولة إسرائيل؟
إن هذه الألاعيب إذا جازت على الدول العربية فلا تجوز على الشعوب العربية، الشعوب العربية تغلى ألان وتفور، لا على اليهود، بل على الجامعة العربية الصابرة حتى ألان على رذالة اليهود فقد ردت انتصار العرب عدة فراسخ إلى الوراء.
(القاهرة)
نقولا الحداد(783/9)
العلاج بالطرق النفسية
للدكتور فضل أبو بكر
بدأت الظواهر النفسية منذ خلق الإنسان فهي جزء منه صادرة عنه، وكانوا يطلقون عليها في ما مضى العلوم الروحانية وهي عبارة عن بعض الظاهرات النفسانية والروحانية مثل الوساطة وهي المصدر من وسيط وهو شخص موهوب يملك المقدرة بان يكون حلقة الاتصال بين الموتى والأحياء، إذ يناجى الحي روح ذوي رقابته وأصدقائه ممن توفاهم الله عن طريق ذلك الوسيط. ومنها ازدواج الشخصية التلقائي ومثال ذلك أن ترى رأى العين شخصاً بعيداً عنك بمناسبة حادث خطير وقع لذلك الشخص، وتسمع صوته تماماً، وهي رؤية وسمع يختلفان كل الاختلاف عما يراه ويسمعه بعض المجانين والمصابين بعصاب أو ذ ' هان أو باختصار فأن تلك الظاهرة ليست (بالهلوسية) البصرية أو السمعية وإنما هي ظاهرة ازدواج الشخصية التلقائي.
وقد اهتم بدراسة هذه الظاهرة بعض الإنجليز مثل (جيرني) و (ميرز) وهما عضوان في جمعية الأبحاث النفسية (البسيوكولوجية) الإنجليزية، ومن الفرنسيين (فلاماريون) و (لانسلن)
كل هذا كان معروفاً لدى القدماء ولا سيما الشرقيين مثل الهنود والصينيين وقدماء المصريين كما كانوا يطلقون على تلك العلوم التي تختص بدراسة مثل هذه الظاهرات الروحانية والنفسية العلوم المحجوبة حيناً، والعلوم البدنية العلوية في بعض الأحيان ما يشبه المعجزات ويستشف حجب الغيب الكثيفة.
وظهر في مستهل فجر النهضة العلمية بعض الفلاسفة ممن انقطعوا لدراسة الظواهر النفسية والروحية مثل (بلين) و (بازيل) والفيلسوف ابن سينا و (باراسلز وزعم هذا الأخير بان من الممكن أن يؤثر عقل في عقل آخر بواسطة ما سماه وقتئذ (بالسائل المغناطيسي).
وفي عام 1770 جاء (مزمر) بنظرية المغناطيسية ولقيت استعداداً في النفوس ضمن هلا نجاحاً باهراً. وفحوى (المغناطيسية) أو (المزمرية) كما كانوا يسمونها، أن كل حسم من الأجسام جماداً كان أو حيواناً تنبعث منه موجات مغناطيسية تكون في الحيوان اشد مما هي(783/10)
في الجماد، وفي الإنسان اشد مما هي في الحيوان. وكلما كان الإنسان قوياً سليماً كانت قوة الإشعاع عنده اكبر، وما الأمراض إلا اضطرابات يعتري توازن تلك المغناطيسية في الإنسان، كما أن لبعض الناس المقدرة - بواسطة اللمس - على أن يعيدوا توازن مغناطيسية المريض ومن ثم يحدث الشفاء.
وقد سادت نظرية المغناطيسية العام اكثر من نصف قرن، وكانت تستعمل في التنويم وفي علاج بعض الأمراض. وظهر من بعد (مزمر) (لافونتين) الذي نسج على منوال مزمر إلى أن جاء في سنة 1841 الطبيب الإنجليزي (بريد) وحضر ذات يوم جلسة خاصة بعمليات المغناطيسية التي يقوم بها (لافونتين) فقام (بريد) بدوره بعدة عمليات ووصل إلى نتائج مشابهة مع انه لم يستخدم الطرق التي استعملها لافونتين، أنكر في الوقت نفسه وجود السائل المغناطيسي والمغناطيسية الحيوانية التي كان يعتقد فيها من سبقوه كمزمر ولافونتين، والتي سادت العام مدة طويلة. وسمى بريد تلك الظاهرة بالنوم وطريقة الحصول عليها (بالتنويم) واعتنق مذهب بريد كل المشتغلين بعلم النفس والو حانيات في ذلك الحين، كما أقرته الجامعات رسمياً أدخلته دراسته في كليات طبها ولاسيما في باريس.
ثم جاء العلم الفرنسي الأستاذ الفاضل (شاركو) ومساعده الأستاذ (بيبرتر) في كلية الطب بباريس ومستشفى (السالبتريير) الخاص بالأمراض العصبية، كما أن شاركو ومدرسته استعملوا ظاهرة التنويم في الكثير من مرضاهم واستعانوا بها في العلاج وخاصة لمن كان مصاباً بالهستريا والصرع وفي بعض الأمراض العصبية والذهنية الأخرى.
وقد برزت في الميدان مدرسة (نانسي) بفرنسا تزاحم مدرسة باريس وكان على رأسها الأستاذ (ليوبول) الذي خطأ بهذا النوع من الدراسات النفسية خطوات واضحة ودعمه بأسس ثابتة متينة كما طبعه بطابع علمي واثبت أن التنويم ما هو إلا وليد الإيحاء المباشر وهو ما سماه (بالتنويم النفسي) ليميزه بذلك عن تنويم شاركو (الحسي) أي الذي يؤتي به عن طريق الحواس مثل البصر والسمع واللمس.
والإيحاء كما يعرفه (برنهايم) وهو عبارة عن ظاهرة نفسية يوحي للإنسان بفكرة أو رأي يقبله عقله فيستولي على نفسه ومشاعره. ولكي نعطي القارئ فكرة أوضح نقول أن النشاط النفسي (البسيوكولوجي) يشمل عاملين مختلفين متضادين هما عامل (الشعور أو الوعي،(783/11)
(اللاشعور) - فالأول هو عامل التفكير والتمييز والكم على الناس والأشياء، وهو طوعي إرادي يتغلب على الثاني في حالة الصحو، وأما الثاني أي اللاشعور فهو آلي غير أداري، وهو أداة للحب والهوى ومكمن للعواطف والمخاوف والخيال والذاكرة.
أما اثر الأحياء في النشاط البسيولكوجي أي في الشعور واللاشعور فهو أضعاف الأول وشل نشاطه مع أيقاظ الثاني أثارته لأكبر درجة ممكنة. وهذا ما يحدث تماماً في النوم العادي الطبيعي إذ يضعف الشعور رويداً رويدا حتى إذا ما وصل النائم إلى سبات عميق زال اثر الشعور بتاتاً، أما اللاشعور فيكون في هذه الحالة في حالة نشاط عظيم ويقظة تامة.
وإثارة الإحياء ومداه والانتفاع من ذلك من العلاج، كل ذلك يتوقف على عوامل كثيرة من جانب الموحى والموحى اليه، فيجب على الأول أن يكون ملماً بأوليات علم النفس، كما يجب أن يكون بارز الشخصية قوي الإرادة صبوراً، كما يتوقف على مبلغ حساسية الموحى إليه واعتقاده بل ثقته بمقدرة الموحى. ويتفاوت الناس بدرجة الحساسية. وكان (شاركو) يعتقد بان مرضى الهستيريا والعصاب والذهان هم الذين يسهل تنويمهم. والواقع انهم اشد حساسية من غيرهم. وان كان الأصحاء - إذا توفرت في الموحي والموحى إليه الشروط المذكورة - قلما يخرجون عن محيط سلطانه ويقيمون تحت براثنه.
أما تطبيق هذه الظاهرات على العلاج فقد اهتدى الإنسان إليه بالسليقة منذ عصور عريقة في القدم، ومازالت تلك الطرق بدائية لدى الشعوب البدائية مثل التمائم والتعاويذ لجلب النفع ودفع الأذى وقضاء الحاجة، والسحر والحسد لجلب الأذى وإلحاق الضرر، والعرافة للكشف عن ما يخبئه الغيب وعن ما يتمخض عنه المستقبل، كل ذلك عوامل وطرق نفسية من غير صقل ولا تهذيب وان كان من المغالاة أن ننكر على تلك الطرف بعض النتائج الباهرة التي يحصل عليها بعض من يمارسونها.
هذا، وقد ثبت عملياً واصبح في حكم البديهيات معرفة الصلات الوثيقة التي تربط الانفعالات النفسية بالظواهر الفسيولوجية وتأثيرها تأثير اً مادياً وعضوياَ؛ ومع ذلك فليسمح القارئ بان نضرب له بعض الأمثلة: إذا فوجئ إنسان بخير محزن وصدمة عنيفة، فقد يشعر في جفاف في حلقومه إذ يغيض معين سائله اللعابي ويقف إفرازه؛ أو في حالة الفزع(783/12)
والخوف يصاب بإسهال ويشعر بحالة ملحة للتبول؛ أو أن يسيل فيض من الدمع على خده في حالة الحزن، كل هذه الأمثال المعروفة المألوفة وكثير غيرها يؤيد سلطان العوامل النفسانية إلى الجسم وفسيلوجيته.
وألان اذكر للقارئ بعض الأمثلة التي تستعمل فيها الظواهر النفسية كعوامل للعلاج.
1 - استخدامها في التحذير الجراحي:
هناك بعض الحالات الجراحية لا يمكن فيها استعمال مخدر كيمائي؛ إذ أن بعض المرضى لا يتحملون تخديراً كلياً ولا موضعياً لان أجسامهم من حيث القلب والرئة مريضة هزيلة، وقد كنت شاهد عيان سنة 1935، في إحدى مستشفيات مونبلييله حين أتريد اتجرا عملية في الحال لفتاة صغيرة في الثانية عشر من عمرها أصيبت بالتهاب حاد في مصيرها الاعور، وكانت ضعيفة القلب هزيلة الرئتين لحد لا يسمح بتنويمها بالمخدر، ولا بد من إجراء العملية في الحال لإنقاذ حياتها المهددة، فلم ير الأستاذ إنيين وكان أستاذاً لجراحة الأطفال، بداً من الالتجاء إلى التنويم النفساني عن طريق الإيحاء والخطوات التي وضل بها إلى ما أراد هي: حدج الفتاة بنظرات قوية ثاقبة لمدة لا تتجاوز بعض الثواني، ثم صاح بها في صوت جهوري متزن مطمئن ثلاث مرات بنها سوف لا تشعر بأقل ألم، ومن ثم وضع على وجهها القناع الخاص بالتخدير العادي لإيهامها فقط، ولم يصب عليه نقطة واحدة من المخدر وأمرها أن تعد من واحد إلى عشرة. وما أن وصلت إلى الرقم السادس حتى اختفى صوتها، ووقعت في نوع هادئ وعميق، أجريت العملية في ظروف مؤتية أنقذت حياتها. وقد قرأت عن بعض حالات مشابهة في طب جراحة الأسنان.
2 - استخدام الإيحاء في تخدير الآلام الجسدية:
نجحت طرق الإيحاء عن طريق التنويم أو بدونه في تخدير الآلام المبرحة بل في أزالتها نهائياً في بعض الأحيان. ويذكر الأستاذ (جاجو) وهو من المشتغلين بعلم النفس انه دعي ذات ليلة في ساعة متأخرة لرجل كان يسكن الطابق الأعلى من البيت الذي كان يقطنه، وكان الرجل يتلوى من ألم مبرح في ضرسه لم يقو على احتماله إلى حد أن سمح لنفسه بإزعاج الأستاذ في مثل تلك الساعة مع علمه بأنه ليس طبيب اسنان، ولكنه كان يؤمن(783/13)
بمقدرته النفسانية، فهب الأستاذ إلى نجدة الرجل أمكنه إزالة آلامه وإعادة الطمأنينة إلى نفسه عن طريق الإيحاء.
3 - العلاج النفساني لعضو فقد ووظيفة
مثل هذه الحالات كثيرة. وسأذكر مثلاً شاهدته هنا بنفسي في هذه الأيام وهو ما أثارني في كتابة هذا البحث، وقد وقع في إحدى مستشفيات بوردو مع الأستاذ العالمي الكبير (جورج بورتمان) وهو يعد اكبر حجة في العالم اجمع لأمراض النف والأذن والحنجرة - أتت صباح يوم سيدة تصحب ابنتها وكانت تشعر ببحة في الصوت على اثر صدمة نفسية غرامية أفضت إلى قبض الصوت وفقدانه تماماً وقد فحصها الأستاذ بدقة تامة شانه مع كل المرضى كما فحصناها من بعده فلم نر غير حنجرة سليمة، ليس بها علامة لمرض أو التهاب؛ وأوتار الحنجرة كذلك بحالة طبيعة، فأدركنا أن هذا النوع ليس عضوياً وإنما هو وظيفي أو هستيري كما يسمونه، فاستعمل معها طريقة الأحياء، وكانت دهشتنا شديدة إذ رأينا الفتاة وقد تم شفاؤها وعاد صوتها في اليوم الثالث إلى حالته الأولى.
وأظن القارئ قد سمع شيئاً عن مدينة لورد بفرنسا وهي مدينة صغيرة يقال أن العذراء مريم ابنة عمران قد ظهرت فيها. وقد يكون ذلك عن ظاهرة ازدواج الشخصية كما أسلفنا في مستهل المقال. وقد حدثت الرؤيا لفتاة سميت فيما بعد بالقدسية (برنادوت) وكانت في حالة تامة من اليقظة متمتعة بقواها العقلية. فأصبحت مدينة (لود) على اثر هذا الحادث أرضاً مقدسة وموطناً للحج يؤمه الزوار و (الحجاج) من المسيحيين من كل حدب وصوب بقصد التبرك وقضاء الحوائج وشفاء الأمراض، وان بعض الحالات المرضية قد تم علاجها في تلك المدينة - ولا مريض هنالك يحضر تحضيراً خاصاً قبل ذلك بأيام وتعرض عليه الصور الفوتوغرافية للمرضى الذين شفوا من مرضهم ولا سيما من كان منهم مصاباً بداء المريض الذي ينشد الشفاء. كما تلقى عليه دروس خاصة وكل ما من شانه أن يضاعف اعتقاده ويقوي أيمانه، ومن ثم يسمح له بالاستحمام في حوض يحوي (الماء المبارك). وقد دلت الإحصائيات على أن بعض المرضى قد تحسنت حالتهم، كما تم شفاء البعض - أني من غير أن أتعرض للناحية الدينية من الموضوع أقول بان العامل النفساني من أيجاء وغيره يلعب دوراً هاماً في مثل هذه الأحوال.(783/14)
4 - العلاج البسيوكولوجي في التربية:
وهو ما يسمونه بالثقافة النفسية. استعملت هذه الطرق في تربية الناشئين بل والكبار في علاج الكثير من الأمراض النفسية مثل ضعف الإرادة والتردد وفرط الحياء الجبن والتهور وضعف الذاكرة، وغير ذلك من الأمراض النقائص؛ وقد أتت بنتائج مشجعة كما استخدمت في عالم الفن والتمثيل، وخلقت من بعض فنانين تبدلت شخصياتهم تماماً عما كانوا عليه من قبل مما أدى إلى نجاحهم وشهرتهم في مهنتهم.
وخلاصة ما تقدم أن العلاج النفسي حقيقة لا ريب فيها، وليس نوعاً من الدجل والشعوذة كما كان يظن البعض؛ وهو يزداد أهمية يوم بعد يوم، ويتطور بتطور علم النفس والوصول إلى غوامضه، كما انه من المعقول أن نعقد عليه آمالاً كبيرة في المستقبل القريب.
(باريس)
فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا(783/15)
مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث
للأستاذ سليمان دنيا
عرض الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) لفكرة البعث عند الفارابي وابن سينا وروى عنهما انهما يقولان باستحالة البعث الجسماني، لأنه لا يمكن في نظرهما إلا على واحدة من صور ثلاث:
الأولى: (أن يقال: الإنسان عبارة عن البدن، والحياة - التي هي عرض - قائمة به). ثم ابطل هذه الصورة أساهم قائلاً: (وهذا ظاهر البطلان، لأنه مهما أنعدمت الحياة والبدن، فاستئناف خلقهما أيجاد لمثل ما كان، لا لعين ما كان).
الثانية: (أن يقال: النفس موجودة، وتبقى بعد البدن، ولكن يرد البدن الأول بجمع تلك الأجزاء بعينها). ثم ابطل هذه الصورة على أساهم قائلاً: (لا يخلو: أما أن تجمع الأجزاء التي مات عليها فقط، فينبغي أن يعاد ألا قطع ومجدوع الأنف والأذن وناقص الأعضاء كما كان، وهذا مستقبح، ولا سيما في أهل الجنة. وان جمع جميع أجزائه ألي كانت موجودة في جميع عمره فهو محال من وجهين:
أحدهما: أن الإنسان إذا تغذى بلحم إنسان وقد جرت العادة به في بعض البلاد، ويكثر وقوعه في أوقات القحط، فيتعذر حشرهما جميعاً لان مادة واحدة كانت بدناً للمأكول وصارت بالغذاء بدناً للأكل ولا يكمن رد نفسين إلى بدن واحد بل لا يحتاج في تقرير هذه الاستحالة إلى أكل الناس الناس، فانك إذا تأملت ظاهر التربة المعمورة أعلنت بعد طول الزمان أن ترابها جثث الموتى قد تربت وزرع فيها وغرس، وصارت حباً وفاكهة وتناولها الدواب فصارت لحماً، وتناولناها فصارت أبداناً لنا، فما من مادة يشار إليها إلا وقد كانت بدناً لا ناس كثير، فاستحالة وصارت تراباً، ثم نباتاً، ثم لحماً، ثم حيواناً.
والثاني: أنه يجب أن يعاد جزء واحد، كبداً وقلباً ويداً ورجلاً، فأنه ثبت بالصناعة الطبية أن الأجزاء العضوية يتغذى بعضها بفضلة غذاء البعض، فيتغذى الكبد بأجزاء القلب، وكذلك سائر الأعضاء.
الثالثة: (إن يقال: المعاد هو رد النفس إلى بدن أنساني، من أي مادة كانت، وأي تراب اتفق). ثم ابطل هذه الصورة على لسانهم قائلاً: (وهو محال من وجهين:(783/16)
أحدهما: أن المواد القابلة للكون والفساد محصورة في مقعر فلك القمر، لا يمكن عليها مزيد، وهي متناهية، والأنفس المفارقة للأبدان غير متناهية - أي بناء على نظرية قدم العالم عندهم - فلا نفي بها.
والثاني: أن التراب لا يقبل تدبير النفس، ما بقي تراباً، بل لا بد تمزج العناصر امتزاجاً يضاهي امتزاج النطفة. ومهما استعد البدن والمزاج لقبول النفس، استحق من المبادئ الواهبة للنفوس حدوث نفس، فيتوارد على البدن الواحد نفسان - أحدهما هي نفسه الأصلية، والأخرى هي التي استحقها حين صار من جديد بدناً ذا مزاج؛ فأن من شان العقل الفعال عندهم أن يفيض على المادة، حين تصبح ذات مزاج، نفساً مناسبة لذلك المزاج: نباتية، أو حيوانية، أو إنسانية - وبهذا بطل مذهب التناسخ. وهذا المذهب هو عين التناسخ، فأنه رجع إلى اشتغال النفس، بعد خلاصها من البدن بتدبير بدن آخر غير البدن الأول، فالمسلك الذي يدل على بطلان التناسخ، يدل على بطلان هذا المذهب).
هذا ما يريده الغزالي عن الفارابي وابن سينا، ولكنا إذا رجعنا (الشفاء) لابن سينا وجدناه يقول فيه: الفن الثالث عشر، إلهيات ص634 ط الهند: (يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو مقبول من الشرع - ولا طريق إلى إثباته إلا من طريق الشريعة، وتصديق خبر النبي، وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تعلم، وقد بسطت الشريعة ألحقه التي آتانا بها نبياً نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله، حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن.
ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتان بالقياس اللتان للأنفس، وان كانت الأوهام منا تقصر عن تصورها ألان لما نوضح من العلل
والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة اعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفون إلى تلك.
فلنعرف حال هذه السعادة، والشقاوة المضادة لها؛ فأن البدنية مفروع منها في الشرع. . .).
وورد كذلك في النجاة ص477 ط الكردي هذا النص بلفظه وحروفه.
ومن كل هذه النصوص يظهر لنا تناقض واضح بين ما يقوله ابن سينا عن نفسه في(783/17)
(الشفاء) و (النجاة) وما يقوله الغزالي عنه في كتابه (التهافت)، فهو يقول عن نفسه: أن البعث الجسماني ممكن وواقع؛ والغزالي يقول عنه: أن البعث الجسماني مستحيل.
وهنا يطرأ على بال الباحث المتفحص سؤال لا بد منه، هو:
هل الغزالي متقول على الفلاسفة غير أمين في نقله عنهم؟! أم أن لهذه المالية عند ابن سينا سراً خفياً يتطلب الصبر والأناة حتى يوقف على غوره ودخيلته؟ أعني: هل المسالة عنده ظاهر وباطن، ظاهر يكشفه للعامة، وباطن يحتفظ به لنفسه، ولمن يؤهلهم استعدادهم لفهمه، وعن هذا الظاهر تحدث الشفاء والنجاة، وعن هذا الباطن نقل الغزالي؟!
كلا الأمرين جد خطير، لا ينبغي أن يصار أليه عن طريق الظنون والتخمينات، افن الضنون والتخمينات لا توصل إلى العلم الصحيح وإنما ينبغي أن يصار أليه عن طريق التثبت واليقين.
قد يحتال لإزالة هذا التعارض فيقال: أن ابن سينا نفسه نزع الوثوق من كتاب (الشفاء)، ولم ير فيه معبراً عن أفكاره ومعتقداته، لب يراه معبراً عن أفكار المشائين نزعاتهم. ومتى صح ذلك لم يجدر بنا اعتبار ما ورد فيه مصوراً لأفكار ابن سينا وذلك حيث يقول في مقدمة (منطق المشرقيين):
(. . وبعد، فقد نزعت الهمة بنا إلى أن نجمع كلاماً فيما اختلف أهل البحث فيه، لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى، أو عاد أو إلف، ولا نبالي من مفارقة تظهر منا لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين إلفاً عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة بالمشائين، الضانيين أن الله لم يهد إلا إياهم، ولم ينل رحمته سواهم!
ولما كان المشتغلون بعلم شديدي الأعتزاء إلى المشائين من اليونانيين كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور، فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائيين، إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم، وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه، أغضينا عما تخبطوا فيه، وجعلنا له وجهاً ومخرجاً ونحن بدخلته شاعرون، فأن جاهرنا بمخالفتهم، ففي الشيء الذي لم يمكن الصبر عليه، أما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل.
فمن جملة ذلك ما كرهنا أن يقف الجهال على مخالفة ما هو عندهم من شهرة بحيث لا يشكون فيه ويشكون في النهار الواضح؛ وبعضه قد كان من الدقة بحيث نغمش عنه عقول(783/18)
هؤلاء الذين في العصر.
وما جمعنا هذا الكتاب - يعني فلسفة الإشراقيين - لنظهره إلا لأنفسنا، اعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا، وأما العامة من مزاولة هذا الشان، فقد أعطيناهم في كتاب الشفاء ما هو كثير لهم وفوق حاجتهم)
وكتاب النجاة صورة مصغرة لكتاب الشفاء وتلخيص له اثبت ذلك البحث والتمحيص، قالوا وثق به من نوع الوثوق بكتاب الشفاء وفي درجته.
وأكثر من ذلك أن ابن سينا في نفس الشفاء ص647، والانجاة ص501، صرح بان نصوص الشرع في مسالة المعاد يجب أن تتلقى بحيطة وحذر، إذ أنها تنزلت عند مستوى عقول العامة، فصورت لهم أمر المعاد بالصورة التي يستطيعون فهمها، لا بالصورة التي هو عليها في نفس الامر، استمع أليه يقول: (وكذلك يجب أن يقرر عندهم - أي يجب أن يقرر النبي عند العامة - أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته وتسكن أليه نفوسهم ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونه ويتصورنه
وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمر مجملاً، وهو إن ذلك شيء لا عين رأته ولا آذن سمعته، وان هناك من اللذة ما هو ملك عظيم، ومن الألم ما هو عذاب عظيم).
والنص بنفس هذه الحروف وارد في الكتابين.
أضف إلى ذلك أن ابن سينا صرح في الإشارات بما يفيد أن المعاد بالروح وحده دون الجسم، قال في ص195 ط ليدن: (والعارفون والمتنزهون إذا وضع عنهم دون مقارنة البدن وانفكوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتعشوا بالكمال الاعلى، وحصلت لهم اللذة العليا).
وفي ص196: (وأما أليه فانهم إذا تنزهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم، ولعلهم لا يستغنون فيها عن جسم يكون موضعاً لتخيلات لهم، ولا يمنع أن يكون ذلك جسماً سمائياً أو ما يشبه، ولعل ذلك يقضى بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتصال المسعد الذي للعارفين).
وفي ص191: (فلا ينبغي لنا أن نستمع إلى من يقول: أنا لو حصلنا على حالة لا نأكل فيها ولا نشرب ولا ننكح، فأية سعادة تكون لنا؟! والذي يقول هذا، فيجب أن يبصر ويقال له: يا مسكين! لعل الحالة التي للملائكة وما فوقها الذي وأبهج وانعم من حالة الانعام، بل(783/19)
كيف يمكن أن تكون لإحداهما نسبة إلى الأخرى نسبة يعتد بها؟)
بل انه صرح في (الشفاء) و (النجاة) مثل ما جاء في الإشارات. قال في النجاة ص485: (فإذا فارقت - يعني فارقت النفس البدن - ولم يحصل معها ما تحصل به بعد الانفصال إلى التمام، وقعت في هذا النوع الشقاء الأبدي، لان أوائل الملكة العلمية إنما كانت تكتسب بالبدن لا غير، وقد فات).
وقال في ص488: (وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية، وليس عندها هيئة غير ذلك، ولا معنى بضاده وينافيه، فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها، فتعذب عذاباً شديداً بفقد البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق أليه، لان آلة ذلك قد بطلت، وخلق التعلق بالبدن قد بقى).
ونفس هذا النص قد ورد في الشفاء.
من كل هذا يخلص لنا:
أولاً: إمكان اعتبار ابن سينا قائلاً بالبعث فقط، وفي هذه الدائرة يصدق نقل الغزالي عنه.
ثانياً: أن ابن سينا غير متناقض في حديثه عن البعث، ولكن له فيه ظاهر وباطن، ومن لن يفطن لهذين الجانبين فيه ظنه متناقضاً، وليس الأمر من التناقض في شيء.
ولكن ليس هذا كل ما يهم الباحث المتفحص في هذا المقام، فليست إزالة التناقض في نصوص ابن سينا المختلفة وإزالة التناقض بين حديث الغزالي عن ابن سينا وحديث ابن يسنا عن نفسه - وإن أدخلت على تاريخ الفلسفة تكميلاً كان يتطلبه - هي كل شيء في هذا المقام.
ذلك أن الغزالي لم يدع في كتابه (التهافت) أن ابن سينا منكر للبعث الجسماني وكفى، إذ لو كان الأمر كذلك لكان في إزالة التناقض على الوجه السابق - وهو نتيجة بحثنا الخاص - غناء وأي غناء، ولكن الغزالي أتضاف إلى ابن سينا مع هذه الدعوة أدلة شققها تشقيقاً وفرعها تفريعاً، فكان لا بد لتاريخ الفلسفة أن يعرف أمرين على جانب كبير من الأهمية:
أحدهما يتصل بابن سينا نفسه ليعرف التاريخ هل هذه الأدلة المعزوة إلى ابن سينا في كتاب (تهافت الفلاسفة) صحيحة النسبة أليه؟ فإنه أن صحت نسبتها أليه، جاز للتاريخ أن يقول على وجه القطع - استعداداً من هذه الأدلة وحدها - أن ابن سينا قائل استحالة البعث(783/20)
الجسماني.
وثانيهما يتصل بالغزالي، إذ قد عرض لكثير من الفق المختلفة وناقشها وساق أدلة ودعاوى غزاها إليها، وقد لا يتيسر ألان الرجوع إلى المصادر الأصلية لهذه الفرق. فهل الغزالي ثقة فيما ينقل ويروي؟ أم تتسرب إلى نقله الريب وتحوم حوله الشكوك؟ وهذا جانب هام يعنى تاريخ الفلسفة أن يقف على وجه الحق فيه.
هذه ثغرة لم أجد - فيما قرأت - من حاول صدها في تاريخ ابن سينا وتاريخ الغزالي على السواء.
ابن سينا: هل قال ما نسب أليه الغزالي من أدلة إنكار البعث الجسماني؟!
والغزالي: من أبن استقى هذه المعلومات؟!
ومما يزيد الأمر خطورة أن المسالة أم تقف عند ابن سينا والغزالي، بل جاوزتهما إلى من اخذ عن الغزالي من علماء الكلام والى من دافع عن ابن سينا، كابن رشد. فكان على علماء الكلام أن يعرفوا - قبل أن يرددوا - من أي المصادر استقى الغزالي هذه الأدلة التي يعزوها إلى ابن سينا، فهل عرفوا؟!. وكان على ابن رشد أن يعرف - قبل أن يناضل ويدافع - هل ما نسب إلى ابن سينا صحيح النسبة اليه، فهل عرف؟!.
ثغرة أدركتها أول الأمر ضيقة، ثم ما زالت تتسع أمامي حتى وصلت إلى ما رأيت. ولشعوري القوي بحاجة تاريخ الفكر الإسلامي إلى سدها، حاولت أن أسدها على أي وضع كان، فقلت معلقاً على هذه الأدلة التي يعزوها الغزالي إلى ابن سينا، وان اخرج كتاب (تهافت الفلاسفة) (هذا المثال - اعني قوله: أن الإنسان إذا تغذى بلحم إنسان. . . الخ - وغيره، نجده موجوداً في كتب الكلام لم يرجعوا إلى كتب الفلاسفة نفسها - نظراً لأني لم أجد فيما لدى من كتب الفلاسفة وقتذاك شيئاً من هذا الكلام - وإنما عولوا على هذا التصوير الذي اضطلع به الغزالي. على أني أطارد اجزم بان الغزالي في تصوير وجهة نظر الفلاسفة ما كان يقف عند الحد المنصوص عليه في كتبهم، وإنما كان يفترض افتراضات ويذكر احتمالات ويناقشها ليخلص له: إنما كل ما يمكن أن يقال على لسانهم فهو مدفوع مردود).
وظل الأمر واقفاً عند هذا الحد: ثغرة تتطلب سداً محكماً من الفولاذ، وضعت فيها لفافة من(783/21)
الخيش إلى أن تكفل هذا المخطوط بهذا السد الفولاذي.
وإلى اللقاء في مقال تالٍ - أن شاء الله - نحلله فيه ولتعرف محتوياته.
سليمان دنيا
مدرس الفلسفة وعلم العقيدة بكلية أصول الدين(783/22)
نداء الفداء
أو أنشودة الجهاد في حومة فلسطين
نص الغنائية الحماسية التي هتف بها الشاعر علي محمود طه
وألف منها الموسيقار محمد عبد الوهاب لحنه الجديد (أنشودة
فلسطين)
أخي! جاوز الظالمون المدى ... فحق الجهاد وحق الفدا
أتتركهم يغصبون العروب ... ة مجد الأبوة والسؤددا
وليسوا بغير صليل السيوف ... يجيبون صوتاً لنا أو صدى
فجرد حسامك من غمده ... فليس له بعد ' أن يغمدا
أخي! أيها العربي الأبي ... أرى اليوم موعدنا لا الغدا
آخي! اقبل الشرق في أمة ... ترد الظلال وتحي الهدى
أخي! أن في القدس أختا لنا ... اعَد لها الذابحون العدا
صبرنا على غدرهم قادرين ... وكنا لهم قدراً مرصدا
طلعنا عليه طلوع المنون ... فطاروا هباء وصاروا سدا
آخي! قم إلى قبلة المشرقين ... لنحمي الكنيسة والمسجدا
(يسوع) الشهيد على أرضها ... يعانق في جيشه (أحمدا)
آخي! قم إليها نشق الغمار ... دماً قانياً ولظى مرعدا
آخي! ظمئت للقتال السيوف ... فأورد شَباها الدم المصعدا
آخي! أن جرى في ثراها دمي ... وأطبقت فوق حصاها اليدا
ونادى الحمام وجه الحسام ... وشب الضرام بها موقدا
ففتش على مهجة حرة ... أبت أن يمر عليها العدا
وخذ راية الحق من قبضة ... جلاها الوغى ونماها الندى
وقِبل شهيداً على أرضها ... دعا باسمها الله واستشهادا
فلسطين يفدى حماكِ الشباب ... وجل الفدائي والمفتدى(783/23)
فلسطين تحميكِ منا الصدور ... فأما الحياة وأما الردى!
علي محمود طه(783/24)
السيدة غريغوري
للأستاذ نجاتي صدقي
قال لي أحد معارفي ذات يوم: اذكر أنني قرأت لك منذ سنة تقريباً قصة بعنوان (الأب غريغوري) وقد ختمتها بان (كلاره) كانت تذهب كل يوم أحد إلى مقبرة صهيون بالقدس لتبكى القسيس الراحل.
قلت - نعم. . . وهل من عيب في هذه الخاتمة؟
قال - كلا. .
قلت - إذن ما هي رغبتك؟
قال - أتشوق إلى معرفة مصير هذه السيدة. وهل هي باقية على قيد الحياة؟. وهل تزوجت أم لا تزال على العهد الذي قطعته لزوجها الشيخ وهو على أبواب الأبدية؟.
قلت - أتريد أن أضع ملحقاً للقصة؟.
قال - كلا، ولكني أحس برغبة ملحة في معرفة ما تم لهذه السيدة التي وصفتها بأنها السحر الحلال، والأنوثة المغرية قلت - لا تزال السيدة غريغوري مقيمة على عهدها إلا تتزوج أحداً بعد الأب غريغوري، فتمثاله ما فتئ معلقاً في صدر غرفتها، وصورة السيد المسيح لم تتزحزح عن مكانها منذ خمس سنوات، وقنديل الزيت يواصل إضاءة أيقونة العذراء ليلاً ونهاراً. أما خطاب السيدة غريغوري فكثيرون، واعرف منهم أربعة، وإليك قصصهم:
الخاطب المثال:
جاءها في بادئ الأمر مثال وقال لها: أتسمحين أيتها السيدة أن اصنع تمثالاً نصفياً لزوجك الراحل؟
فأظهرت كلاره ارتياحها لهذا العرض الكريم، وأذنت له بصنع التمثال، فصنعه، وكان ابرز شيء فيه لحية الأب غريغوري، ونصبته في صدر غرفتها. ثم قال لها المثال: أتسمحين أن اصنع تمثالاً جانبياً (بر وفيل) لوجهك الجميل؟. فأبدت ارتياحها وموافقتها، أخذت تزوره كل يوم في أستوديو عمله إلى أن تم له صنعه، وقد ظهرت فيه السيدة غريغوري بوجهها النحيف الكئيب، وقد تدلى شعرها المشعث على صدغيها، وكان تمثالاً أخاذاً مما حدا بأحد السياح الأميركيين أن يبتاعه بثمن باهظ.(783/25)
وقال لها المثال يوماً: أتسمحين لي أن اصنع تمثالاً لجسمك بأكمله ليكون مثالاً حياً لصنع الخالق جل جلاله؟.
قالت - هذا لم يكون. . فالمرحوم الأب غريغوري هو الشخص الوحيد الذي كنت اظهر أمامه كما خلقت، وكثيراً ما كان يتحسس جسمي كالضرير ويقول: (سبحانك ربي على قدرتك في تكوين الجمال!). أما الآن فما قيمة هذا التمثال الذي تود صنعه لي؟. . كلا، ودع عنك هذه الفكرة.
قال التمثال وقد ركع على ركبتيه: وهل لفنان مثلي أن يحتفظ بتمثالك الحي لنفسه؟!. انك ضرورية لي لاستوحي منك الفن الرفيع. هاك يدي يا كلاره فلا ترفضيها، أتوسل إليك.
فأنهضته كلاره قائلة: لن أتتزوج بعد الأب غريغوري أحداً. أما أنت فكفاك فجراً انك صنعت تمثالاً نصفياً للأب غريغوري حاز إعجابي. وصنعت لي تمثالاً جانبياً (بر وفيل) حاز إعجاب أحد الأمريكيين. وهذا وذاك احسن دعاية لك كفنان كبير. فاذهب الآن ترافقك السلامة، وخير لك أن لا تعود إلا بعد هذا اليوم.
الخاطب كاتب العرائض:
أما الخاطب الثاني الذي تردد على السيدة غريغوري فكان أحد كتاب العرائض وهو من معارف المرحوم زوجها، فكان يزورها بين حين أخر معزياً فيحمل لها بعض الهدايا ويجلس صامتاً ل يجرؤ على الإفصاح عما يخالج نفسه نحوها، خشية أن تصده وتجرح شعوره، إلا أن عينيه كانتا تتحدثان عن أمر ما.
وفي فجر أحد الأيام اقترب كاتب العرائض خلسة من مسكن السيدة غريغوري واسقط رسالة في صندوق رسائلها وفر. ولما التقطتها قرأت فيها ما يلي:
(كلاره!)
لدي ما أقوله لكِ ولكني لم اجرؤ، حينما كنت أتتردد إلى بيتك، على مفاتحتك بما كنت أفكر فيه من خطط ومشاريع.
والذي كنت أريد أن أبوح به إليك دون موارية هو أنني أهيم بك يا فتاة أحلامي. إنني أعجبت بك في حياة المرحوم الأب غريفوري، ثم أحببتك بعد وفاته. كم يؤلمني دائماً أن أراك مطرقة حزينة. فما الداعي إلى حزنك هذا؟ وهل تتوقعين أن يعود القس إلى قيد(783/26)
الحياة؟ انسيه كما نسي هو زوجته وابنته من قلبك!. فكري في مستقبلك وشبابك ونضارتك.
كلاره!.
أنت وحيد وان وحيد. فلماذا ما نعمل معاً على إزالة آلام وحدتنا هذه؟. أن اكسب من عملي شهرياً خمسة عشر جنيهاً، وأنت تكسبين من عملك شهرياً عشرة جنيهات. فلماذا لا تصير معاً خمسة وعشرون جنيهاً؟!.
أجيبي أيتها العزيزة. أجيبي هذا القلب الكسير. وآمل أن أتلقى ردك بالبريد حتى أتحمل الصدمة، السارة أو المؤلمة، برباطة جاش).
من المخلص لك أبداً
(. . .)
وبعد أن قرأت السيدة غريغوري هذه الرسالة ذهبت بنفسها إلى حيث يعمل مرسلها وقالت له: تلقيت رسالتك، أما جوابي فهاكه. وعركت الرسالة بيدها، ثم قذفت بها في الهواء، وانصرفت تاركة كاتب الرسائل في حيرة وذهول شديدين.
الخاطب القيصري:
وكان الخاطب الثالث ضابطاً روسياً من ضباط القيصر نيقولا الثاني، يدعى إيفان بوغاتيرسكي، وهو رجل في حدود عمر الأب غريغوري تقريباً، وشاربان طويلان، ولحية متدلية من الحدين دون الذقن.
فبينما كانت السيدة غريغوري في عصر يوم تجلس إلى جانب النافذة تقلب ما تركه المرحوم زوجها من آثار أدبية، إذ بباب دارها يقرع قرعاً خفيفاً. ولما فتحته وجدت نفسها أمام ضابط روسي قديم، يحمل بيد علبة حلوى وباقة زهور، ويحمل باليد الأخرى بقعته ومنديله. وبادر السيدة غريغوري قائلاً: وقد اشتركت معه في معركة تاننبرغ سنة 1918، وتذوقنا البؤس معاً في أزقة مونمارتر بباريس سنة 1925. ورحلنا إلى فلسطين في باخرة واحدة، فصار هو قساً، وبقيت أنا آمني النفس بالعودة إلى روسيا.
فاضطربت السيدة غريغوري قليلاً، وأذنت لهذه الشخصية الغامضة بالدخول.
وبعد أن قدم الزائر الزهور وعلبة الحلوى لصاحبة البيت، اطرق قليلاً، ثم انحدرت دمعة على خده فمسحها بمنديله وقال وهو يتنهد: رحمك الله ياغريغوري! لقد كنت اعز صديق(783/27)
لي، ثم قضى علينا أن نفترق ولا مرد لقضاء الله وقدره. ولكن ثق يا أخي باني لم أنساك وستبقى ذكرياتك الطيبة عالقة في خاطري ما حييت.
وساد الغرفة صمت، ثم قطعة الزائر بمخاطبته السيدة غريغوري قائلاً: بلغني يا سيدتي أن عندك غرفة تودين تأجيرها، فهل تجدين مانعاً يحول دون تأجيري اياها؟. أنت بحاجة إلى رجل ليدافع عنك ويعينك على تخطي مصاعب الحياة. . . أنت بحاجة إلى مال، وما من ريب في أن معاشك لا يسد بعض نفقاتك. أرجو أن تأذني لي باستئجار غرفة في مسكنك وسأدفع أي مبلغ تطلبينه، يضاف إلى ذلك انك ستجدين إلى جانبك من يحدثك باللغة الروسية التي كان يعلمك إياها المرحوم غريغوري.
وساد الغرفة الصمت مرة ثانية، ثم نهضت السيدة غريغوري وأحضرت باقة الزهور وعلبة الحلوى أعادتهما إلى السيد إيفان قائلة: اذهب وضع هذه الباقة على قبر صديقك إذا كنت توده حقاً، ووزع هذه الحلوى بين الفقراء ليترحموا على روحه.
وشيعته إلى باب الدار الخارجي. . .
الخاطب الفاسق:
أم الخاطب الرابع فكان يهودياً بولونياً صاحب خطة جهنمية. فقد طرق بيت السيدة غريغوري عصر يوم وبرفقته امرأة وفتاة في الثانية عشرة من عمرها. فاستقبلتهم ربت البيت مرحبة بهم، وبعد لحظات تبودلت فيها النظرات والابتسامات استهل الرجل كلامه بان ترحم على روح المرحوم زوجها، وذكر محامده ومآثره، ووصفه بأنه كان مثالاً للنزاهة والإخلاص بين الناس، غير أن الموت الذي اختطف روحه لا يتردد في اختطاف روح أي إنسان إذا ما حانت ساعته.
ولما قدمت السيدة جريجوري الشاي لضيوفها قال لها الرجل وهو يحرك الملعقة في قدحه: تجول في خاطري فكرة أود عرضها عليك، وربما تجدين فيها بعض الغرابة والجرأة، ولكنها مبنية على شعور عاطفي، لا تتنافى مع ناموس الاجتماع. انظري إلى هذه السيدة فهي زوجتي، وانظري إلى هذه الفتاة فهي ابنتي. إلا أنني غير راضي عن حياتي الزوجية هذه، وقد عقدت النية على أن أطلق زوجتي طلاقاً لا رجعة فيه، وزوجتي توافقني على هجري اياها، اليس كذلك يا راحيل؟.(783/28)
فطأطأت راحيل رأسها وأومأت بالإيجاب.
ثم أن ابنتي سونيا تفضل طلاق أمها على أن يظل سوء التفاهم سائداً في منزلنا. أليس كذلك يا سونيا؟.
فطأطأت الفتاة رأسها وأزمات بالإيجاب أيضاً.
وهكذا ترين أيتها السيدة إنني آتٍ لأطلق زوجتي أمامك، ولأخطبك أمامها وابني شاهدة. وقد انتهجت هذه الخطة لاختصر الطريق، ولأزيل كل العقبات التي يمكن أن تعترض سبيل زواجنا.
وتناول الرجل جرعة كبيرة من الشاي، ولعق ما علق على شاربيه من قطرات وتابع حديثه قائلاً: لقد أدركت مقدماً انك ستقولين لي انك متزوج. وان لك ابنة لا ترضى عن هجرك لامها، فقررت أن أحضرهما أمامك لأضع النقاط على الحروف كما يقول المثل. فما أنا إلا طالب حلال، وبيتك الجديد في انتظارك، والقول الفصل لكِ.
كانت السيدة جريجوري تستمع إلى كلام هذا الزائر وهي تقرض شفتيها بأسنانها وقد انفعلت انفعالاً شديداً، لكنها تمالكت نفسها وقالت للرجل بهدوء ورزانة أنها غير مستعدة لسماع مثل هذا الهذيان، ونصحت الرجل أن يبحث عريس لابنته وأشارت إليهم بالانصراف.
وقد اتضح للسيدة جريجوري فيما بعد أن هذا الخاطب هو صاحب بيت الدعارة السرية، وان زوجته وابنته تعينانه على نصب حباله وشباكه. وإن (البيت الجديد) الذي كان في انتظارها ليس إلا بيت الفسق والموبقات.
قلت لمحدثي - هؤلاء هم الخطاب الأربعة الذين توددوا إلى السيدة جريجوري، وكانت تصدهم الواحد تلو الآخر. ولعلك ترى فيهم نماذج بشرية مختلفة.
قال - أود سماع كلمة منك تفسر سلوك هذه المرأة من نفسها، وسلوك هؤلاء الخطاب الشاذين منها.
قلت - السيدة جريجوري هذه مشكلة سيكولوجية، فهي صبية مثقفة، وفاتنة، وفيها الشيء الكثير من الجاذبية الجنسية، عاشرت قسماً اكبر من أبيها ومات.
فهل وقعت هي فريسة للأب جريجوري عندما كانت في حالة من أللاشعور الجنسي؟.(783/29)
هل ثابت هي إلى رشدها بعد أن مات القس ورأت أنها ارتكبت حماقة بمعاشرتها إياه، لكنها تكابر وتحاول أن تظهر بمظهر المرأة المخلصة للزوجية المثالية؟
هل تشعر هي بأنها فشلت في هذا الزواج الذي آثار حولها الكثير من اللغط وتخشى السقوط مرة ثانية في زواج مماثل له؟
هل تتوقع هي زوجاً يكون له من القوة، والذكاء، والجمال، ما يعوض عليها معاشرتها لذلك الرجل الضعيف، الخامل، البشع.
وأخيراً ما الذي يحدو بها إلى الاحتفاظ حتى يومنا هذا، بتمثال القس النصفي، وبصورة المسيح معلقة على الحائط، والى جانبها أيقونة يعلوها قنديل زيت مضيء. . .
هذه أسئلة محيرة حقاً. . .
أما خطابها فقد تكونت عندهم فكرة محدودة عنها، مصدرها القس الراحل، وهي أنها تميل إلى معاشرة الكهول والشاذين من الرجال. . .(783/30)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
(تتمة)
قد استنبط الأستاذ براون من بيان هذه الحالة أن ابتلاء المريض بالحميات المخلطة مع وجود قشعريرة تتقدم الحمى كان سبباً في أن ظن الرازي في بادئ الأمر مرضه الحمى (الملاريا) ولا سيما انه كان في بلاد كانت تكثر فيها هذه الحمى. والحال أن هذه الأعراض لم تكن أعراض حمى الملاريا بل كانت نتيجة لمرض عفن، وان الرازي غير رأيه عندما شاهد المدة في بول المريض وتحقق لديه أن المرض خراج في الكلى.
والغرض من استشهادنا بهذه الحادثة هو أن نبرهن على أن الأطباء كانوا يدرسون حالة المريض واعرض المرض درساً وافياً دقيقاً وبهذه الطريقة كان طلاب الطب يتلقون من أساتذتهم درساً عملياً تجريبياً عن الطب وعلاج الأمراض المختلفة وفي نفس الوقت كان الطبي يداوي المرضى ويزداد تجربة ومهارة في عمله وكان الجميع يخدمون صناعة الطب ويساهمون في ترقيتها بالدرس والبحث والتجارب المنظمة في القسم الداخلي من البيمارستانات عندما كان يصعب تشخيص مرض مريض في قاعة من القاعات وتدعوا الحالة إلى استدعاء طبيب أو اكثر من القاعات الأخرى غير القاعة التي فيها المريض للاستشارة كان يدعي عدد منهم فيتداولون في الأمر.
وكان الأطباء يشتغلون في البيمارستان بالنبوة، فجبرائيل ابن بختشوع كانت توبته في الأسبوع يومين وليلتين.
وكانت دروس الطب تعطى على الأغلب في البيمارستان فيجلس الطبيب ليفحص المرضى ومعاينتهم فيصف العلاج اللازم للمريض ويكتب له ويشرح كيفية استدلاله على المرض للحاضرين، وكان بين يديه المشارفون والعوامل لخدمة المرضى وكان كل ما بكتبه لكل مريض من المداواة والتدبير ونوع الطعام يوضع بجانب فراشة للرجوع أليه في تنفيذه وأجرائه.(783/31)
وكان الطبيب يدور على المرضى بالبيمارستانات ويتفقد أحوالهم ويصف لكل منهم علاجه وبعد فراغه من ذلك فيجلس في مجلس خاص في البيمارستانات ويحضر كتب الاشتغال وكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون أليه ويقعدون بين يديه ثم يجرى مباحث طبية ويقرئ التلاميذ ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب مدة ثم يركب إلى داره.
وكانت هذه الطريقة للتدريس هي للتلاميذ المبتدئين؛ أما المشتغلين في الطب والمطلعون على كتبه ومن لهم بعض الاختبارات في البيمارستانات فكانوا يحضرون مجلس درس الأستاذ ساعات كل يوم فيجري البحث عن المواضيع الطبية المشكلة أو النادرة ويتداولون فيها علمياً وفنياً بكل حرية.
وقد كان النظر في بول المريض، وكانوا يسمعونه (القارورة)، والاستنتاج من نظره ويسمونه (التفسرة)، من الأمور الشائعة ولم يكن الأطباء يغفلون عنه.
وكانت للأطباء العرب في هذا الباب مهارة كبيرة تدل على قوة استدلالهم وحسن استنتاجهم.
يقول ابن أبي أصيبعة: (أراد الرشيد أن يمتحن بختيشوع الطبيب أمام جماعة من الأطباء فقال الرشيد لبعض الخدم: (أحضره ماء دابة حتى نجربه) فمضى الخادم فاحضر قارورة الماء، فلما رآه قال: (يا أمير المؤمنين ليس هذا بول إنسان) قال له أبو قريش وقد كان حاضراً: كذبت هذا ماء حظية الخليفة) فقال له بختيشوع (لك أقول أيها الشيخ الكريم، لم يبل هذا إنسان البتة، وان كان الأمر على ما قلت فلعلها صارت يهيمة) فقال له الخليفة (من أين علمت انه ليس ببول إنسان؟ قال بختيشوع (لأنه ليس له قوام بول الناس ولا لونه ولا ريحه) ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع فقال له (ما ترى أن نطعم صاحب هذا الماء) فقال: (شعيراً جيداً) فضحك الرشيد ضحكاً شديداً أمر فخلع عليه خلعة حسنة جليلة ووهب له مالاً وافراً وقال (بختيشوع يكون رئيس الأطباء كلهم وله يسمعون ويطيعون).
والخلاصة أن البيمارستانات لم تكن أعمالها قاصرة على معالجة المرضى فحسب، بل أنها كانت تقوم مقام مدارس الطب يتخرج منها الأطباء والكحالون والجراحون والمجبرون.
وكان لكل بيمارستان خزانة كتب أو مكتبة تحوي كثيراً من الكتب كانت في متناول كل(783/32)
طالب علم؛ وكان طالب الطب في أول عهد الدولة الإسلامية بعد أن يتلقى أصول الطب على بعض مشاهير الأطباء ويقوم باختبارات شخصية وتجارب عملية كافية ويجد في نفسه القدرة على مزاولة الطب يباشرها بعد أن يجيزه بعض الأطباء النابهين في زمانه أو رئيس أطباء البيمارستان الذي كان يشتغل فيه.
ولم تكن هناك في تول الأمر قيود خاصة أو امتحانات منظمة لإعطاء إجازة التطبب؛ وان أول من نظم هذه الصناعة أتخضعها لنظام خاص في تأدية امتحان للحصول على إجازة التطبب هو المقتدر الخليفة العباسي، وكان ذلك في سنة 219هـ. والسبب الذي يدعى الخليفة إلى هذا العمل حَسَبَ رواية ابن أبي أصيبعة هوانه اتصل به غلطاً جرى على رجل من العامة من بعض المتطببين فمات الرجل، فأمر الخليفة المحتسب بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت بن قرة رئيس الأطباء وطبيب الخليفة الخاص، وكتب له قطعة بخطه بما يطلق له التصرف فيه من الصناعة. وبلغ عدد من ترددوا إلى سنان وامتحنهم أطلق لكل واحد منهم ما يصلح التصرف فيه من الصناعة ثمانمائة رجل نيفاً وستين رجل في جانبي بغداد سوى من استغنى عنه عن محنته باشتهاره بالتقدم في صناعته وسوى من كان في خدمة السلطان.
وكان سنان بن ثابت يمتحنهم فيسال كلاً منهم بعض الأسئلة الطبية ويعرف معارفه ودرجة تمكنه في الصناعة، فيحدد له حدوداً يجيزه أن يتصرف ضمنها لا يتجاوزها.
وكانت الامتحانات الطبية في ذلك العهد بسيطة جداً فيها كثير من التسامح والتساهل. يروى انه دخل يوماً في مجلس سنان بن قرة كهل موقر مهيب الطلعة عليه سيماء أهل العلم ولباسهم فاخذ مكانه في جانب من المجلس، وكان مظهره يدل على انه من أجلة العلماء. وبعد أن انتهى سنان من درسه ومعالجة المرض خاطب تلاميذه قائلاً: (علنا الآن الاستفادة من فضائل نولانا الشيخ، ولنستمع لجوامع كلمة لتبقى لدينا تذكاراً لتشريقه هذا المجلس). ثم سال الشيخ عن اسم أستاذه فأخرج الشيخ من جيبه بدرة من المال وضعها أمام سنان وقال لست يا سيدي من العلماء؛ لكني رب أسرة أريد أن أعيلها عن طريق التطبب. فاشترط عليه سنان أن يكون محتاطاً في عمله فلا يفصد أحداً ولا يعطي من المسهلات إلا الأنواع الساذجة البسيطة منها. فقال الشيخ كانت هذه ولا تزال طريقتي في التطبب فأني لم(783/33)
أعطي أحداً غير السكنجبين والجلاب، فأعطاه سنان إجازة التطبب في هذه الدائرة المحدودة التي ذكرناها.
وجاءه غداة ذلك اليوم ضمن جماعة حضرت المجلس لأخذ إجازات التطبب - شاب سأله سنان عن اسم أستاذه كما هي العادة فذكر اسم أبيه، وكان الشيخ الذي ذكرنا قصته، فأساله سنان عما إذا كان يسير على نهج واله. ولما رد عليه بالإيجاب أجازه أيضاً للتطبب في نفس تلك الحدود.
كان هذا في بادئ الأمر لكن الحال لم تستمر على هذا المنوال وصار النظام بعد ذلك أن الطالب بعد أن يتم دروسه يتقدم إلى رئيس الأطباء برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة في الاشتغال به له أو لأحد مشاهير الأطباء قد أجاد دراستها فيختبره فيها الطبيب ويسأله أسئلة عدة عن هذا الموضوع، فأن استطاع اجتياز الامتحان إعطاء إجازة تطلق له التصرف في حدودها.
ويذكر المرحوم الدكتور احمد عيسى بك مؤلف كتاب (تاريخ البيمارستانات في الإسلام) في كتابه القيم المذكور الذي نشرته جمعية التمدن الإسلامي بدمشق سنة 1357 هجرية. انه عثر في خزانة كتب المرحوم العَلامة احمد زكي باشا على صورتين لإجازتين طبيتين من القرن الحادي عشر من الهجرة منحت أحدهما لصاد والأخرى لجراح. وها نحن أولاء نذكر هنا ملخصهما: -
(وهذه صورة ما كتبه الشيخ الأجل عمدة الأطباء، ومنهاج الأباء، الشيخ شهاب الدين ابن الحنفي رئيس الأطباء بالديار المصرية إجازة للشباب المحصل محمد عزام أحد تلامذة الشيخ الأجل والكهف الأحول الشيخ زين الدين عبد المعطى رئيس الجراحين على حفظه لرسالة الفصد كما سنبينه: -
الحمد لله ومنه اسند العناية.
الحمد لله الذي وفق من عباده من اختاره لخدمة الفقراء والصالحين وهدى من شاء للطريق القويم والنهج المستقيم على ممر الأوقات الأزمان إلى يوم الدين. وبعد فقد حضر عندي الشاب المحصل شمس الدين محمد بن عزام. بن. . . بن. . . علة المؤذن الجرداني (أو الجرداء إني نسبة إلى جر داءان وهي محلة بمدينة أصبهان بإيران) المتشرف بخدمة(783/34)
الجراح، والمتقيد بخدمة الشيخ الصالح بقية السلف الصالحين العارفين وشيخ طائفة الجراحين بالبيمارستان المنصوري وهو الشيخ عبد المعطى المشهور بابن رسلان نفعنا الله ببركاته، ورحم أسلافه العارفين الصالحين، وعرض على جميع الرسالة اللطيفة المشتملة على معرفة الفصد وأوقاته وكيفته وشروطه وما يترتب عليه من المنافع المنسوبة. والرسالة المذكورة للشيخ العلامة التمام شمس الدين محمد بن ساعد الأنصاري شكر الله سعيه ورحمه واسكنه بحابيح جناته بمنه وكرمه، عرضاً جيداً دجل على حسن حفظه للرسالة المذكورة، وقد أجزته أن يرويها عني بحق روايتها وغيرها من الكتب الطبية (وباقي الإجازة مفقود).
والإجازة الأخرى أيضاً من القرن الحادي عشر الهجري وهي صادرة من رئيس الجراحين من دار الشفا المنصوري (قلاوون)
وخلاصتها بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام على آله وصحبه انه وقف على الرسالة الموسومة (ببرء الآلام في صناعة الفصد والحجام) نظم لوضعي زمانه وألمعي عصره واوانه، الشمس شمس الدين قيم شهرة، الجراح صنعة ومهرة، التي اصلها للشيخ الفاضل حاوي الفضائل الشيخ شمس الدين الشربيني الجراح الموسومة (بناية المقاصد فيما يجب على المفصود والفاصد) وقد قرأها عليه قراءة إتقان وإمعان فلم ير بداً من أن يبسطها ليتيسر حفظ تلك الفوائد. وقد أجاد نظامها في تحقيقها، وبذل الجهد في تحريرها وتدقيقها. إلى أن يقول استحق راقم وشيها وناسج يردها أن يتوج بتاج الإجازة فاستخرت الله تعالى أجزت له أن يتعاطى من صناعة الجراح، ما أتقن معرفته ليحصل النجاح والفلاح، وهو أن يعالج التي تبرأ بالبط، ويقلعه من السنان ما ظهر له من غير شرط، وان يفصد من الأوردة ويبتر الشرائيين، وان يقلع من الأسنان الفاسد المسوسين (كذا) إلى أن يقول ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياه لصالح الأعمال في كل حال ومآل).
وإمضاء هذه الإجازة كما يأتي: -
(رقعة بقلمه أحقر عباد الفتاح، الفقير بالحق على بن محمد بن محمد ابن علي الجراح، خادم الفقراء الضعفاء بدار الشفا بمصر المحروسة ومصلياً ومسلماً ومحمداً ومحوقلا(783/35)
ومستغفراً بتاريخ صفر الخير من شهور سنة إحدى عشرة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها افضل الصلاة والسلام، والحمد لله وحده).
وقد كان الصيادلة أيضاً خاضعين للرقابة في أعمالهم يؤدون امتحاناً خاصاً قبل اشتغالهم بهذه الصناعة حتى يوثق من علمهم بالأدوية والعقاقير، ويؤمن مغبة غلطهم في إعطاء الأدوية والعقاقير. . .
يذكر ابن أصبيعة في الجز الأول من مؤلفه طبقات الأطباء ضمن شرح حال زكريا الطيفوري الطبيب - وكان من مشاهير الأطباء في زمن الخليفة المعتصم - قصة خلاصتها (انه بينما كان ألا فشين في معسكره وهو في محاربة بابك سنة221 هجرية وكان معه زكريا الطيفوري الطبيب أمره بإحضار جميع من في عسكره من التجار وحوانيتهم وصانعة كل رجل منهم، فرفع ذلك أليه؛ فلما بلغت القراءة بالقارئ إلى موضع الصيادلة قال ألا فشين لزكريا الطيفوري (يا زكريا ضبط هؤلاء الصيادلة عندي أولى مما تقدم فيه، فامتحنهم حتى نعرف منهم الناصح من غيره) فقال زكريا (أن يوسف لقوة الكيميائي) قال يوماً للمأمون (إنما آفة الكيمياء الصيادلة؛ فأن الصيدلاني لا يطلب الإنسان منه شيئاً من الأشياء كان عنده أم لم يكن إلا اخبره بأنه عنده، ودفع إليه شيئاً من الأشياء التي عنده، وقال هذا الذي طلبت. فأن رأى أمير المؤمنين أن يضع اسماً لا يعرف ويوجه جماعة إلى الصيادلة في طلبه لتبتاعه فليفعل) فقال المأمون (قد وضعت الاسم وهو شقطيثا (وهي ضيعة تقرب من مدينة السلام) ووجه المأمون جماعة من الرسل يسألهم عن شقطيثا فكلهم ذكر انه عنده واخذ الثمن من الرسل ودفع إليهم شيئاً من حانوته، فصاروا إلى المأمون بأشياء مختلفة، فمنهم من أنى ببعض البذور، ومنهم من أنى بقطعة من حجر، ومنهم أنى بوبر. فاستحسن المأمون نصح يوسف لقوة واهتم بأمر الصيادلة ومراقبتهم.
وبعد ذكر هذه الحكاية أشار زكريا الطيفوري على ألا فشين أن يمتحن الصيادلة، فاعجب ألا فشين برأي زكريا ودعا بدفتر الأشرو سنة فاخرج منها نحواً من عشرين اسماً ووجه إلى الصيادلة من يطلب منهم أدوية مسماة بتلك الأسماء، فبعضهم أنكرها وبعضهم ادعى معرفتها واخذ الدراهم من الرسل ودفع إليهم شيئاً من حانوته. فأمر الاثنين بإحضار جميع الصيادلة، فلما حضروا كتب لمن أنكر معرفته تلك الأسماء منشورات أذان لهم فيها بالمقام(783/36)
في عسكره ونفي الباقين عن العسكر ولم يأذن لواحد منهم في المقام. ونادى المنادى بنفيهم وبإباحة دم من وجد منهم في معسكره.
وكان من جملة وظائف المحتسب - وكانت يده مطلقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مراقبة الأطباء والكحالين والجراحين والمجبرين.
جاء في كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط ويحلفهم أن لا يعطوا أحداً دواء مراً، ولا يركبوا له سما، ولا يذكروا للنساء دواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، ولا يفشوا الاسرار، ولا يهتكوا الأستار، إلى غير ذلك من الأمر التي يجب على الأطباء مراعاتها في عملهم.
كما كان المحتسب أن يمتحن الأطباء بما ذكره حنين في كتابه المعروف (بمحنة الطبيب) وأما الكحالون فقد كانوا يمتحنون بكتاب العشر المقالات في العين لحنين أيضاً، وكان على المجبرين أن يؤدوا امتحاناً في المقالة السادسة من كناش بوليس الأجانيطي في الجبر الذي قام بنقله إلي العربية حنين بن اسحق.
وأما الجراحون كفان عليهم أن يكونوا ملمين بكتاب جالينوس الخاص بالجراحات والمراهم وان يعرفوا التشريح وما يتصل به.
وكان للمحتسب أيضاً مراقبة الصيادلة بمساعدة الأطباء والمتخصصين في معرفة الأدوية والعقاقير وإرشاداتهم.
إن وصف شتى البيمارستانات التي كانت منتشرة في مختلف البلاد الإسلامية وتبيان تاريخ بنائها بناتها وطريقة إدارة أو قافها وذكر أسماء أطبائها والطلبة الذين كانوا يتلقون العلم فيها يحتاج لبحث خاص، وقد وفي الموضوع حقه المرحوم الدكتور احمد بك عيسى في مؤلفه القيم (تاريخ البيمارستانات في السلام) وفيه يذكر رحمه الله أسماء ثمانين من هذه البيمارستانات التي كانت تدار في مصر وإيران والجزيرة وسريا وجزيرة العرب وبلاد الروم أي آسيا الصغرى واستنبول وبلاد المغرب والأندلس بتفصيل وافٍ فليرجع إليه من أراد التفصيل فهو خير مرجع في هذا الباب.
قاسم غني(783/37)
الأدب والفن في أسبوع
الملك الأديب
كانت زيارة جلالة الملك فاروق في الأسبوع الماضي - مظهراً رائعاً من مظاهر الاخوة العربية، وقد تحدثت الصحف عن الملك عبد الله حديثاً ندياً تضمن كثيراً من شمائله وسجاياه. ومما يجعل أن يذكر هنا عن جلالته، رعايته للنهضة الأدبية في شرق الأردن، ومشاركته الفعلية فيها، فهو أدب ممتاز يطرب للأدب الرفيع، ويروي الشعر ويقوله، ويكتب بأسلوب بليغ، ولا يكاد مجلسه يخلو من الأدباء والشعراء، يطارحهم الشعر ويناقلهم حديث الأدب، وقد ولى كثيراً من الأدباء أهم المناصب في الحكومة.
وجلالته يعطف على الشعراء الشاب الذين عبروا بالشعر في بلاد شرق الأردن الشقيقة إلى مجال المذاهب الحديثة وأوجدوا هناك نهضة أدبية مرموقة.
والجيل الأردني الجديد يتابع النهضة الحركة الأدبية في مصر ويقبل إلى قراءة الصحف المصرية، ولا سيما المجالات الأدبية.
التعبير الحماسي والأناشيد:
يقول (البسام) في كتاب منه: (قرأت ما كتبته عن أنشودة فلسطين التي غناها عبد الوهاب والتي سميتها أنشودة ناعمة أتريد أن يقوى حنجرته ويعلى صوته كما يصنع البكار؟!)
لا، أيها البسام. أن التعبير الحماسي القوي إنما يكون في التاليف، أو التلحين، أو الإلقاء. ما يتكلم الرجل الذي يملك أعصابه ويضبط نفسه، بنبرات هادئة قوية معبرة عن باسه وسطوته، وهو غير اللين المائع، وغير الصاخب الصارخ. وأنا لم اسمع إلى الآن من الإذاعة المصرية نشيداً حماسياً، تتبعي وكثرة ما تذيع من الأناشيد، وعلى رغم الحوافز الحاضرة، وإنما قسم منها الناعم والمائع، أو الصراخ الذي يقلق النائمين ويزعج الآمنين، واكثر ما تقدم من النوع الأخير، ومثله هذه البرامج المأخوذة من التاريخ الإسلامي والتي يراد فيها أن يؤدى الحماس بالجلبة والأصوات المنكرة. ولن تؤدى هذه الأصوات ولا تلك الأناشيد الصارخة إلا إلى تصديع الرؤوس وإقلاق الراحة.
وقد قرأت في بعض الصحف شكايات مؤلفين وملحنين معروفين في الإذاعة المصرية لأنها لا تقبل إنتاجهم، ومنهم: بيرم التونسي وزكريا احمد، إذ ألف الأول نشيداً، ولحنه الثاني(783/38)
وأخذته إذاعة القدس بعد أن أعرضت عنه الإذاعة المصرية. ونحن نستمع في الإذاعات العربية الأخرى أناشيد قوية لا نسمع منها من الإذاعة المصرية، وكثير من هذه الأناشيد من إنتاج مصريين.
الآفة هي - كما قلت في الأسبوع الماضي - في النطاق المضروب حول الإذاعة من المتصلين بموظفيها، فأنت تسمع أن النشيد أو البرنامج من تأليف فلان أو إخراج فلان، ولا يتغير هذا الفلان ولا يجدد شيئاً يحسن به علاقته بالمستمعين!
أهي سودنه أم جلنزة:
من أبناء السودان أن الحاكم العام أعلن الدستور السوداني الذي أراده الإنجليز، وتنص المادة (45) من هذا الدستور على أن (تكون الإجراءات في الجمعية ا (التشريعية) اللغة العربية ولكن بدون إخلال بما تدعو أليه حالة استعمال اللغة الإنجليزية متى كان ذلك)
وما دام الإنجليز هناك، فستكون اللغة العربية مخلة دائماً (بما تدعو أليه حالة استعمال اللغة الإنجليزية، وليس هذا جديداً، فالإنجليزية هي لغة التعلم في المدارس السودانية فيما عدى تعليم اللغة العربية، وهي لغة الحكومة السودانية في دواوينها ومكاتباتها وكل أعمالها، وذلك لان اللغة العربية تخل بحالة استعمال. الخ.
وهم يقولون انهم يقصدون السودنة من هذه الإجراءات. والسودان بلاد عربية لغتها العربية فهل من السودنة أن تهمل لغة السودان القومية. أو هي (جلنزة)؟.
ولك أن تقيس على ذلك سائر مشروعات السودنة.
من طرف المجالس:
كان موضوع الحديث هو مقال (أدباء معاصرون أرشحهم للخلود) لمعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا، وكان اكثر من بالمجلس من الأدباء الذين لم يذكرهم معاليه مه من رشحهم للخلود، وكان بعضهم ممن ذكروا ولم يرضهم الترتيب. وبدأ الحديث بالاحتجاج والتساؤل عن بعض الأسماء التي وردت في المقال، وذكر أسماء لم ترد فيه وكانت حرية بتقدير الباشا، ولكن سرعان ما انقلب الحديث إلى مجرى فكاهي سرت فيه روح الدعابة والمرح، عندما قال أحدهم:(783/39)
لا عليكم. أن هذا (الكدر) لا بد أن يليه (تنسيق)
واستمرت المناقشة على هذا النحو أو على هذه (القافية) فمن قال انه من (المنسيين) وقال انه أحق من فلان (بالأقدمية) وقال ناشئ انه وان كان لا يطمع في التنسيق، ينتظر دوره في (تنميق التنسيق) وقال من يرضه أن يذكر مؤخراً: انه وان كان قد شمله حسن تقدير الباشا إلا انه يريد تصحيح الوضع حتى لا يتكرر في (الحركة) التالية تقديم من هو احدث عليه.
واستقر الرأي اخسراً على مطالبة معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا بإصدار تنسيق الأدباء فانهم يعرضون القضية على (مجلس الدولة) مع تكليف (العباس) بان يبلغ معاليه هذا القرار على جناح الرسالة.
صرخة في واد:
أصدرت لجنة البيان العربي ديوان الأستاذ غنيم (صرخة في واد) وهو الديوان الذي فاز بجائزة الشعر الأول في مسابقة مجمع فؤاد الأول للغة العربية سنة 1947
وقد أهدى صاحب الديوان نسخة منه إلى السدة الملكية الكريمة، فتلقى من معالي رئيس ديوان جلالة الملك خطاباً يبلغه فيه شكر جلالته وتقديره السامي.
وشعر محمود غنيم يمتاز بعذوبة التعبير ووضوح الفكرة. وهو شاعر يحس إحساس الجماعة، فهو اكثر شعرائنا تناولاً المسائل القومية وتصويراً لأحوال المجتمع؛ وهو يتجه إلى هذا المذهب حتى فيما يصور فيه حياته الخاصة وما يحيط به، إذ يربط ذلك بالمائل الاجتماعية العامة؛ ويمزج كل ذلك بروح شعرية محببة إلى النفوس.
لذلك لم يكون ديوان غنيم، كما سماه، صرخة في واد.
الأدب والبلاغة في المدارس الثانية:
في سنة 1945 ألف وزارة المعارف لجة لبحث وسائل ترقية اللغة العربية في المدارس الثانوية والابتدائية، والنظر في البرامج والكتب المؤلفة وتيسير قواعد النحو، وشكلت اللجنة برئاسة الأستاذ احمد أمين بك وعضوية الأساتذة الجارم بك وإبراهيم مصطفى وبعد الحميد حسن ومحمد خلف الله ومحمد علي مصطفى، وعقدة اللجنة بعد تشكيلها بعض(783/40)
الجلسات ثم وقفت أعمالها إلى أن تعيد تأليفها في فبراير سنة 1947 مع ضم الأستاذين منصور سليمان وزكي المهندس بك، والدكتورين عبد الوهاب عزام بك وعبد العزيز القوصي - إلى عضويتها. ووالت اللجنة عملها، ووضعت تقريراً ضمنته خلاصة أبحاثها ومقترحاتها في أغسطس الماضي. وعقد بعد ذلك المؤتمر الثقافي العربي الأول في لبنان، وكان هذا التقرير أساس مناقشات المؤتمر في مجموعها متفقة مع آراء اللجنة.
ورأت الوزارة أن تعرف آراء المشتغلين بتعليم اللغة العربية ومدرسيها الأوائل بالمدارس الثانوية ونخبة من مدرسيها، ليبدوا ملاحظاتهم عليها. وعقد رجال اللغة العربية بالوزارة مؤتمراً عاماً لهذا الغرض في فبراير الماضي، وانتهى المؤتمر إلى تأيد مقترحات اللجنة مع بعض التوصيات والرغبات التي رآها كفيلة بتنفيذ تلك المقترحات على الوجه الأكمل.
وأخيراً قدم الأستاذ إسماعيل القباني بك المستشار الفني لوزارة المعارف إلى معالي الوزير مذكرة لخص فيها محتويات التقرير ولا ملاحظات التي أبديت عليه في مؤتمر رجال اللغة العربية، كما ضمنها رأيه في تنفيذ تلك المقترحات، وقد وصف الأستاذ القباني بك ذلك التقرير بأنه ينم على جرأة في الأخذ بوسائل الإصلاح وميل إلى التجديد ولكن من غير طرفة.
وقد كانت اللجنة جريئة حقاً فنفذت إلى صميم مشكلات تعليم اللغة في المدارس، وقد خصت الأدب والبلاغة بأكبر قسط من التغيير فأدخلت على مناهجهما تعديلاً شاملاً يتناول أسسها، قالت اللجنة في تقريرها أنها (لاحظت أن دراسة الأدب تبدأ في المناهج الحالية بدراسة التاريخ دون أن يكون للتلميذ محصول كافٍ من الأدب ترتكز عليه وأنها قد شغلت مكاناً فسيحاً من مناهج الدراسة ونالت قسطاً كبيراً من جهود المعلمين والتلاميذ حتى طفت على دراسة الأدب فأصبحت الفائدة منه قليلة. الطريقة الطبيعية في الدراسة الأدبية أن تبدأ بدراسة الأدب نفسه وتجعل له الحظ الأوفر من الجهد والاهتمام) وعلى هذا الأساس وضعت اللجنة منهج الأدب في سنوات التعليم الثانوي بحيث يكون النص محوراً للدراسة، ويعتبر التاريخ على هامش الأدب.
واستعرضت اللجنة تطور النقد العربي وصلة النقد بالبلاغة، ووصلت إلى أن تدريس البلاغة بشكلها المألوف لا يحقق الهدف المقصود من هذا اللون من الدراسة وهو تربية(783/41)
الذوق الفني عبد التلاميذ أعانتهم إلى حسن فهم الجمال الأدبي وتذوقه وإنارة الطريق أمامهم في نواحي الخلق والإبداع الأدبي. لهذا رأت اللجنة أن تعود بالنقد إلى وظيفته الأولى وان تجعله جزءاً عملياً أصيلاً من دراسة النص، ورسمت له منهاجاً مدرجاً مرتبطاً من ناحية بمنهج النصوص ومناسباً من جهة أخرى للتطور الذهني عند التلاميذ، وجعلت اللجنة في السنتين الرابعة والخامسة مكاناً لبعض النواحي النظرية الأصيلة في النقد كدراسة الكلمة والجملة واثر كل منهما في أداة المعنى، وكدراسة طرق التصوير المختلفة وبيان ما فيها من جمال دون كثير تعرض للتفصيلات، وكدراسة الفنون الأدبية النثرية والشعرية وشروط جودتها وعرض نماذج منها.
وواضح من ذلك أن اللجنة إزالة هذه (البلاغة) التي تسخر فيها بالمنهج الحالي عقول التلاميذ، ووضعت مكانها (النقد الأدبي) بشكل مبسط مفيد، مما دعي بعض المتمسكين بتلك (الرياضات الذهنية) العقيمة إلى معارضة ما جاء فيه المنهج متعلقاً بذلك، وقد وافق مؤتمر رجال اللغة العربية على ما جاء قيه المنهج مع التوصية بان تكون دراسة البديع عملية في خلال دراسة النصوص الأدبية.
معرض الفنون الجميلة:
أقام اتحاد خريجي الفنون الجميلة العليا، معرضه الأول بمتحف الفن الحديث بشارع قصر النيل. وقد افتتحه في هذا الأسبوع سعادة إلهامي حسين باشا.
ويضم هذا العرض مجموعة مختلفة من أعمال خريجي مدرسة الفنون الجميلة العليا في التصوير والنحت، ويتجه أصحابها في إنتاجهم اتجاهات مختلفة بحسب الشخصية الفنية لكل منهم، ولكنهم جميعاً يسيرون على مقتضى الأصول والثقافة الفنية التي تلقوها بمعهدهم. وهم يمثلون الجبة المحافظة بالنسبة لجماعة الفن المعاصر الذين يقتفون مذهب (السريالزم). وقد زرت معرض الفن المعاصر ثم زرت هذا المعرض، فوجدت الاختلاف بينهما بيدو على الأقل في وضوح الفكرة وظهور الجمال الفني في المعرض الثاني معرض الفنون الجميلة. ومما يذكر في أنصاف هؤلاء انهم يعيدون عن (الفوتوغرافية) ونقل الطبيعة كما هي، بل هم يتجهون في اكثر أعمالهم إلى رسم الخطوط المؤدية إلى الفكرة بصرف النظر عن الواقعية البحتة. وقد وقفت أمام كثير من تماثيلهم ولوحاتهم مأخوذاً بقوة(783/42)
الأداء فيها، كالبنت المسكينة المشردة التي نحتها جمال السجيني، وليالي الكرنك لعبد السلام الشريف، والعامل الكدح الذي صوره محمد عبد الرحمن، ووادي الملوك لصلاح الدين طاهر، وعجوز لصبري عبد الغني، وزنوبا لعباس شهدي، وصورة الدكتور محمد ولى بك لعبد العزيز درويش. أما تمثال الأستاذ إسماعيل الأزهري فهو محتاج إلى أن يقال لمن يعرف الأستاذ الأزهري أن التمثال صنع له. .
ومما لاحظته أيضاً قي هذا المعرض وجود بضع صور تشبه صور جماعة الفن المعاصر في التحرر والغموض.
العباس(783/43)
من هنا ومن هناك
الهدنة ووقف القتال:
الهدنة حلف سياسي وعسكري يعقده مندوبون سياسيون، ولا يبرم إلا بموافقة الحكومات علي، ما لم يكن المندوبون مفوضين في ذلك. والغرض من الهدنة التمهيد لعقد الصلح.
والهدنة نوعان: عامة وخاصة فالعامة توقف القتال في كل الجهات، والخاصة توقفه في بعض الجهات.
وهي سواء أكانت عامة أم خاصة لا مندوحة عن تحديد وقت لها تنتهي بانتهائه. وقد تبرم الهدنة الخاصة لساعات موقوتة. ويجب العناية التامة في تحديد الأيام والساعات تحديداً لا يحتمل التأويل، ذلك لان الحرب تستأنف بال إنذار عند مضي الزمن الموقوت.
وعلى الحكومات أن تخبر قوادها بالهدنة فوراً خشاة أن يقع خطاً منهم لا يمكن استدراكه.
وإذا وقعت معركة بعد عقد الهدنة وقبل أن يصل خبرها إلى القواد ردت الأسرى وأعيدت الغنائم، على ما في المادة 36 من معاهدة لاهاي.
وتوجب الهدنة عادة وقف الهجوم ومنع إطلاق النار وإرسال الجنود، إذا لم يكن في صك الهدنة ما يخلف ذلك. ولا يمكن حصر الأعمال الممنوعة في غضون الهدنة لان النظريات والعمليات متضاربة في هذا الشان. فبعض رجال القانون يوجبون الامتناع عن كل عمل فيه منفعة للعدو، وعلى ذلك فلا يجيزون ترميم الحصون المحاصرة أو زيادة المدافعين عنها ولا نقل الجيوش من مكان إلى احسن منه. وبعضهم لا يرون تحريم هذه الاعمال، بل يسمحون بنقل الجيوش وحشدها وإنشاء الخنادق ونحوها والتهيؤ لهجوم مقبل وغير ذلك من الاستعدادات، على أن يكون ذلك وراء خطوط الحرب.
ونظريتهم هذه هي المتبعة في الحروب.
فعلى الدول التي تريد تحريم عمل من العمال الحربية في غضون الهدنة أن تنص عليه في صك الهدنة.
ويجب أن يعاني بأمر تنظيم العلاقة بين الجيوش والآهلين أثناء الهدنة. ولا عادة أن تعين بقعة منعزلة (حيادية) بين الجيشين منعاً للهجوم، وان تكون المسافة بين المخافر الأمامية بعيدة، وان يمنع المرور فيها.(783/44)
وأما الميرة والذخيرة فلا يسوغ إرسالها إلى الحصون المحاصرة عند رجال القانون الذين يوجبون المحافظة على الحالة الحاضرة، ولكن حرمان الجيوش المحاصرة من الميرة جعل الهدنة بلاء عليهم، وقد قيل أن الهدنة واحدة تكفي لتسليم اعظم القلاع. فالأنصاف ولا عدل يوجبان أن يرسل المحاصر إلى الجيش المحاصر ما يحتاج أليه من القوت أثناء الهدنة، لتكون حاله عند انتهاء الهدنة كما كانت عند إبرامها، فألمانيا سمحت بإرسال الميرة إلى حصون بوهميا سنة 1866 ولكنهم لم يبيحوا إرسالها إلى باريس سنة 1870.
وإذا نقض أحد الفريقين الهدنة حق للفريق الآخر أن ينقضها، على رأي بعض رجال القانون. ويرى غيرهم، أن على الفريق الآخر أن يدفع العدوان ثم يخبر عدوه بفسخ الهدنة ويستأنف الهجوم عليه إذا لم يكن هناك داعٍ للإسراع. ونقض الهدنة خيانة، على ما في الشرع الدولي كما في المادة 40 من معاهدة لاهاي؛ أما إذا أخل بضعة جنود بأحكامها فأنها لا تفسخ بل يعاقب المخالفون، على ما في المادة 41 من العاهدة المذكورة.
وهنالك ما يسمى (وقف القتال) وهو حلف يعقد لمدة قصيرة بين قوات الجيوش والفيالق بواسطة رسل الحرب، وينحصر في مواضع محدودة، وذلك لدفن القتلى ورفع الجرحى من ساحات القتال، ونحو ذلك.
صهيون كبرذون:
ينطق (صهيون) بعض كبار الأدباء في المذياع وغيره بفتح الصاد وضم الياء. وفي القاموس المحيط: صهيون.
في استجار الخراج:
من وصايا أهل الحكمة للملوك: المال قوة السلطان وعمارة المملكة، ولقاحة الأمن ونتاجه العدل وهو حصن السلطان ومادة الملك. والمال أقوى العدد على العدو، ومن حقه أن يؤخذ من حقه ويوضع في حقه. ولا يؤخذ من الرعية إلا ما فضل عن معاشها مصالحها، ثم ينفق ذلك في الوجوه التي يعود عليها نفعها. أيها الملك! مر جباة الأموال بالرفق ومجانبة الخرق، ومن جاوز في الحلب الدم، ومثل السلطان إذا حمل أهل الخراج حتى ضاعفوا على عمارة الأرضيين مثل من يقطع لحمه ويأكله، فهو وان قوى من ناحية فقد ضعف من(783/45)
ناحية ومن ادخل على نفسه من الوجع والضعف اعظم مما دفع عن نفسه من ألم الجوع.
وما زال أهل الإسلام ظاهرين على عدوهم في الأندلس وأمر العدو في ضعف وانتقاض لما كانت الأرض مقطعة في أيدي الأجناد فكانوا يستغلونها يرفقون بالفلاحين ويربونهم كما يربي التجار تجارته، وكانت الأرض عامرة والأموال وافرة والأجناد متوافرين والكراع والسلاح فوق ما يحتاج أليه، إلى أن كان الأمر في آخر أيام ابن أبي عامر، فرد عطايا الجند مشاهرة بقبض الأموال على النطع، وقدم على الأرض جباة يجبونها فأكلوا الرعايا وأجتاحوا أموالهم واستضعفوهم، فتهارت الرعايا وضعفوا عن العمارة فقلت الجبايات المرتفعة إلى السلطات، وضعفت الأجناد وقوي العدو على بلاد المسلمين حتى اخذ الكثير منها. ولم يزل أمر المسلمين في نقص وأمر العدو في ظهور إلا أن دخلها المتلثمون فردوا ألا قطاعات كما كانت فبي الزمان القديم.
من شؤون الحرب في الإسلام:
درأت حرب في الأندلس بين المسلمين والكفار، ثم افترقوا فوجدوا في المعترك قطعة من بيضة الحديد قدر ثلثها بما حوته من الراس، فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم، فكانوا إذا عيروا بانهزامهم يقولون: لقينا أقواماً هذا ضربهم، وكان أبطال الروم يرحلن إليها ليروها.
قال تعالى (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وهذا مشتمل على كل ما في مقدور البشر من العدة والأدلة والحيلة، وأول ذلك أن يقدم بين يدي اللقاء عملاً صالحاً من صدق ورد مظلمة وصلة رحم ودعاء مخلص وأمر بالمعروف وتغير منكر وأمثال ذلك وكان عمر راضون الله عليه يأمر بذلك ويقول: إنما تقولون بأعمالكم. وروي أن بريداً ورد عليه بفتح للمسلمين فقال له عمر: أي وقت لقيتم العدو؟ قال غدوة، قال ومتى انهزم؟ قال عند الزوال. فقال عمر أنا لله وأنا إليه راجعون! وقام الشرك بالأيمان من غدوة إلى الزوال!! لقد أحدثتم بعدى حدثاً أو أحدثت بعدكم حدثاً.
والشأن في استجادة القواد وانتخاب الأمراء وأصحاب الولاية فلا ينبغي أن يقدم على الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة والشجاعة ولا جرأة، ثبت الجنان صارم القلب جريئة، رابط الجأش صادق البأس ممن قد توسط الحروب، ومارس الرجال ومارسوه ونازل(783/46)
الأقران وقارع الأبطال عارفاً بمواضع الفرص خبيراً بمواقع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، وما الذي يجب شحنه بالحماة والأبطال من ذلك، بصيراً بصنوف العدو ومواقع الغرة منه ومواقف الشدة، فأنه إذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كان جميعهم كأنهم مثله.
وليخف قائد الجيش العلامة التي هو مشهور بها، فأن عدوه أن يستعلم حيلته وألوان خيله ورايته، ولا يلزم خيمته ليلاً ونهاراً، ولبدل زيه ويغير خيمته ويعمي مكانه كي لا يلتمس عدوه. وإذا سكنت الحرب فلا يمشي في النفر اليسير من قومه خارج عسكره، فأن عيون عدوه قد انكبت عليه، وعلى هذا الوجه كسر المسلمون جيوش أفريقيا عند فتحها.
وقالوا: حسم الحرب الشجاعة، وقلبها التدبير، وعينها الحذر، وجناحها الطاعة، ولسانها المكيدة، وقائدها الرفق، وسائقها النصر.
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. أطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتنشلوا وتذهب ريحكم، واثبروا أن الله مع الصابرين) وهذه جماع آداب الجرب.
وقد أوضح الله لنا في كتابه العزيز علة النصر وعلة الهزيمة والفرار، فقال تعالى (أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) يعني أن تنصروا رسوله ودينه. وأما الهزيمة فعلتها المعاصي، قال تعالى (أن الذين تولوا منكم يوم التقي الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) أي بشؤون ذنوبهم.
واستوصوا قوم أكثم بن صيفي في حرب أرادوها فقال: اقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح فشل، ولا جماعة لمن اختلف. وتثبتوا فأن احزن الفريقين الركين.
أسامة(783/47)
البريد الأدبي
خليفة مسيلمة:
نشرت (الرسالة بعددها رقم 781) كلمة منسوبة لي بعنوان (خليفة المتنبي) نضح فيها من ضعة نفسه ولؤم طبعه وحشاها بالإقذاع والفحش ومحاولة الدس والوقيعة والتطاول على ذي مقامٍ كريم تخفق القلوب بمحبته وإجلاله، ويعرفوا له الأزهر وأبنائه ماضياً مجيداً وحاضراً كريماً وديناً متيناً وخلقاً قويماً وميلاً عن الهوى وحباً للخير واعتصاماً بالله وبالحق، وحسبه انه قد اعتز بالله وحده، فاعزه وأيده أرضاه، فرضى عنه ورعاه وسدد خطاه، واصلح به ما فسد، أقام به ما اعوج وجمع به ما تفرق
وعزيز علينا أن تسمح (الرسالة) - وهي مجلة الأدب الرفيع - بنشر هذا الأسلوب الرخيص؛ ويغلب على ظني أن الأستاذ الزيات - وهو من هو - لم يتطلع على اصل هذه الكلمة، ولو اطلع عليها لما أجاز نشرها.
محمد سرحان
المدرس بكلية اللغة العربية
و (الرسالة) تسال الأستاذ: ماذا كان يصنع له كان في مكان المحرر؟ كلمة في نقد خلق من الأخلاق جاءتنا باسم عالم من علماء الدين، عمد فيها إلى التلويح لا إلى التصريح، وقصد منها إلى التهذيب لا إلى التجريح، فكيف يخطر ببالنا أن الكلام فيها على خلاف مقتضى الظاهر، وان في ورثة محمد من يفتري الكذب ويفتعل الشعر وينتحل الأسماء ويقصد السوء؟ وإذا كنا لا نطلب من أي كاتب أن يصدق على إمضائه شيخ الحارة ومأمور القسم، فكيف نرتكب مع حراس الدين ونماذج الخلق هذا الثم؟
رأي شاذ:
سمعنا من الإذاعة المصرية في يوم ماضي حديثاً في (شرع الله) لمدرس بحاث، نقل فيه رأياً شاذاً للنجم الطوفي يقدم فيه المصلحة على النص والإجماع، فرأيت من الواجب أن انشر كلمة مما قاله المترجمون لهذا الشيخ المتهم:
قال أبن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) ج6ص39: نجم اليد(783/48)
سليمان الطوفي الحنبلي. شيعياً منحرفاً في الاعتقاد عن السنة. ووجد له في الرفض قصائد، ويلوح به في كثير من تصانيفه. واشتهر عنه الرفض والوقوع في أبي بكر وابنته عائشة رضوان الله عليهما، وفي غيرهما من جلة الصحابة رضوان الله عليهم، وظهر له في هذا المعنى أشعار بخطة نقلها عنه بعض من كان يصحبه ويظهر موافقة له فرفع ذلك إلى قاضي الحنابلة سعد الدين الحارثي وقامت عليه بذلك البينة فتقدم إلى بعض نوابه بضربه وتعزيزه وإشهاره، وطيف به ونودي عليه بذلك، وصرف عن جميع ما كان بيده من المدارس، وحبس أياماً ثم أطلق.
وقال ابن رجب الحنبلي كذلك في طبقات الحنابلة: لم يكن له يد في هذا الحديث، وفي كلامه فيه تخبط كثير. ولقد كذب هذا الرجل وفجر فيما رأى فيه عمر - من منعه الناس من تدوين الحديث -. ولما جاور في آخر عمره بالمدنية صحب السكاكيني شيخ الرافضة ونظم ما يتضمن السبب لأبي بكر. ذكر ذلك عن المطري حافظ المدينة ومؤرخها. وفي الدرر الكامنة للحافظ بن مجر قريب من ذلك. وإنما نقلت ما قاله فيه الحنابلة لان أصحابه اعرف به
محمد أسامة عليبة
إلى الأستاذ العباس:
حياك الله يا عباس وجعل أيامك كلها باسمة. فقد بلغت ما في النفس وشفيتها مما كان يعتلج فيها، وأبدت عما كانت تكنه من ألم لم أستطع أن تبدى به كلما مر بالسمع ما يطرب به ويردده الموسيقار محمد عبد الوهاب من شعر المرحوم شوقي بك في الثورة السورية حين صب الفرنسيون حمم مدافعهم على مدينة (دمشق) الخالدة، فأنظر إلي ما في قول الشاعر:
إذا عصف الحديد احمر أفق ... على جنباته واسود أفق
من وصف حق ولفظ جزل وتصوير بدع يبعث في النفس الرهبة والروعة حين تستشعر حقيقة الواقع، وما يفعله عصف هذا الحديد الذي يحمر منه أفق ويسود آخر، ثم انظر ماذا تحس وأنت تستمع إلى الموسيقار حين يتخلع ويتفكك بهامة الألفاظ ذاتها، فيجعل من عصف الحديد ما يشبه عصف الحب أو الريحان؟(783/49)
فحياك الله يا عباس على ما دعوت إليه عبد الوهاب، وحياه الله وبياه أن هو استجاب.
(دمشق)
أحمد أبو الطيب
لاظ أو غلى أيضاً:
قال الأستاذ محمد إسامة عليبة في كلمة وجيزة أراد بها زيادة التعريف بلاظ أو إلى - الرسالة عدد 780 - . واللاظ قوم من القوقازيين يسكنون على ساحل البحر الأسود، وهم قبيلة من الجركس.
والواقع أن اللاظ أو اللاز - كما ينطقها الأتراك - جيل من الناس يقيم على الساحل الجنوبي الغربي للبحر الاسود، في حين أن الجركس يقيمون على الساحل الشرقي الشمالي لذلك البحر، ويفصل بين هؤلاء وبين أولئك مساكن الأرمن والكرج، وليس الاظ من الجركس في قليل أو كثير، بل هما شعبان مختلفان.
يقول العلماء: إن اللاظ من الشعوب القوقازية، نزحت من القوقاز إلى هذه البقعة من الأناضول من قديم، ولهم لغتهم الخاصة بهم إلى جانب اللغة التركية، ولهم صفات ومميزات تكون قوميتهم.
والثابت علمياً أن اللاظ يمتون بصلة القرابة إلى أمة الكرج القوقازية، لا الجر اكس كما يقول الأستاذ محمد أسامة عليبة.
على أن بعض الشاذين من الكتاب يعتقدون أن كل قوقازي جركس، وان كلمة الجركس تساوي كلمة القوقازي، كما أن هناك من تدفعه العصبية إلى مثل هذه الدعوى الواضحة البطلان.
وأنا أعيذ الأستاذ محمد أسامة عبيلة أن يكون من هؤلاء أو أولئك، فاللاظ شعب قوقازي، ولكنه ليس من الجركس، بل هو يمت بصلة القرابة إلى أمة الكرج القوقازية.
ولست أظن أن بأحد من القراء حاجة إلى بيان أن الكرج غير الجركس وان كنا شعبين قوقازين.
(حلوان)(783/50)
برهان الدين الداغستاني
أهو تجديد في الشعر؟
في جريدة (الزمان) المسائية العدد 185 اطلعت على قصيدة بعنوان (المصريون) للأستاذ الشاعر محمد الأسمر محرر ركن الأدب بها، استوقفني منها بيتان وقفت حيالهما موقف السائل المستريب. قال في سياق القصيدة:
(جيوش تراها كالظلام إذا دجا) ... وما هي إلا في الحقيقة نور
ثم قال بعد أبيات:
(جيوش تراها كالظلام إذا دجا) ... رأيت عليها الموت وهو منير
أقول - أنا السائل المستريب - ما الحكمة الغالية من تكرر شطر برمته، ويتردد لحن بنغمته، في قصيدة لا تزيد أبياتها على العاشرة؟!
أهو قوة البيت في معناه، أم هو جماله في مبناه، أم هو شيء جديد يراد منه التجديد في بناء القصيد؟!
(الزيتون)
عدنان(783/51)
القصص
جناية وصية!
عن الإنجليزية
- 1 -
في بقعة من بقع الريف الجميل، جلس المفتش البوليسي (باول) في مجلس من الأصدقاء، بين أشجار الحديقة الباسقة وأزهارها الباسمة ذات الشذا المسكي. وقد عبث بها النسيم الرطب. فبعثت الطبيعة الجذابة في الجالسين حب الحديث؛ فاقترح أحد الجالسين على المفتش أن يمتعهم بسرد أغرب قضية حققها في حياته. فتظاهر المفتش بالكلال، إلا أن زوجته همست بصوت رقيق النبرات لتبعث في زوجها الشجاعة والأقدام على سرد القصة فقالت له:
- لماذا لا تقص عليهم قضية (سيرفين)؟؟. أنها في الواقع قضية غريبة في بابها.
فنزل المفتش على حكم زوجته. فاعتدل في مجلسه أشعل غليونه. . وأرسل أفكاره في جو القصة وشعر أخيراً يقول:
- تبدأ هذه القصة على وجه التحديد في غرفة شبه معتمة، بها عجوز شمطاء مسجاة فوق سريرها. جاوزت التسعين من عمرها. وقد تغلل المرض الفتاك في جسمها الهزيل، فكانت تتنازع أنفسها بمجهود كبير. ولم يكن بجانبها غير رجلين كانا يتطلعان إلى العجوز في لهفة وترقب. كانت العجوز تحتضر في تلك الليلة، إلا إنها كانت تصارع الموت فغي يأس وعناد. ولم يكن حبها للحياة هو الدافع إلى مقاومة الموت بهذا الإصرار. وإنما دافعها إلى ذلك حبها للمال ومعزتها له. فقد كانت اشد ما تخشاه أن تفارق ذلك الصم الذي أثرت عبادته على عبادة الله. فقد كان في العام المنصرم تتمتع بصحة موفورة. فما بال الموت يدهمها في النهاية ويغمرها على ملازمة الفراش، وانتظار الموت. وفقدان المال. وتركه في أياد تبعث به وتفنيه في أيام وقد جمعته في سنين!! على أن الطبيب كان يتوقع موتها بين لحظة وأخرى - ولكن حبها للحياة - أو حبها للمال - بعبارة أخرى، ظل يدفع عنها الموت إلى أن حانت الساعة وقبل ملك الموت يتحدى الحياة. . .(783/52)
وأما الرجلان فما كانا يرقبان إلا موتها ليضعا يديهما على ثروتها الضخمة. فقد طال عليها انتظار موتها حتى امتد إلى الثلاثين عاماً. . ذاقا خلالها ألواناً من العذاب، وضروباً من الإهانات التي كانت تمطرهما بها عمتهما القاسية الشحيحة. حتى تبدد أملهما وظنا أن موتهم سوف يسبق موتها!.
وبينما هما يدمنان النظر إليها وهي تتابع أنفاسها المتلاحقة. إذ بجسمها يختلج، وصدرها ينقبض. فابتسم أحد الرجلين وهمس في آذن أخيه:
- أكبر ظني أنها في النزاع الأخير يا (موريس) فيرد عليه موريس شقيقه الأصغر:
- نعم، يا (شارلس) - لم يبق غير دقائق معدودة. فعلى ما يبدو لي أن ما نسمعه من أنين هو حشرجة الموت!. وفي هذه اللحظات، فاضت روح العجوز، فتنفس الشقيقين الصعداء. وغمر الفرح صدريهما، حتى كادا يبديان سرورها بالتهاني لولا أن اعتراهما الخجل. حينما أعلن الطبيب موتها بشيء من الألم.
- 2 -
وما كادت جثة العجوز تواري التراب في صباح اليوم التالي، حتى أسرع الأخوان إلى مكتب محامي عمتهما للاطلاع على وصيتها. وقد أدهشهما أن استقبلهما ابن المحامي مبدياً اعتذاره عن والده إذ قال:
- إن أبي مريض منذ شهور. أظنكما أبناء أخي السيدة (سيفرين) لقد كنت أتوقع قدومكما وسآتيكما بالوصية بعد لحظات.
ابتسم ألا رجلان، وجلسا ينتظران عودة ابن المحامي. وكانت الدقيقة كأنها ساعة. حتى ابن المحامي يحمل غلافاً مختوماً، فقال وهو يفض أختامه.
- هل تريدان أن أقرا لكم الوصية أو أعطيكما إياها لقرأتها ودراستها؟؟. فأشارا بقراءتها:
فقال إذاً فسأصرف النظر عن القسم الخاص بمكافآت الخدم.
وأقرأ الشطر الخاص بكما فأمن (موريس) (وتشارلس) على رأيه. فاستطرد ابن المحامي يقول:
- أقول لكما أن شروط الوصية فيما يختص بكما من الغرابة بمكان؛ ولهذا أرى أن تقراها بأنفسكما. ودفع لهما الوصية. فأخذها (تشارلس) واخذ يقرا ما يلي:(783/53)
(وأما ابنا أخوى اللذان انتظرا موتي بصبر وجلد، فأن حديثي أليهما قصير. يقولون أن الصبر فضيلة. ولا بد له من حسن الجزاء، ومع أن أبني أخي سيحصلان على جزائهما الحق في جهنم، فيجب أن يحصلا على جزائهما في الأرض قبل السماء.
لقد فكرت في أن ادعهما يتقاسمان ثروتي. ولكن لم ألبث أن خطرت ببالي فكرة افضل كثيراً من ذلك. لقد انتظرا طويلاً. وصبرا كثيراً، أفلا يكون (من بواعث رضاي في مثواي أن أرى أيها اعظم صبراً واكثر جلداً؟.
لهذا فكرت بان أوصي جميع ثروتي وعقاري لابن أخي الذي يستطيع أن يعمر في الحياة اكثر من احيه. فإذا مات أحدهما تؤول جميع ثروتي لمن بقى منهما على قيد الحياة. وفي أثناء حياة الاثنين احرم عليهما الحصول على قرش واحد من ثروتي!!.)
شهق الأخوان طويلاً. واحمر لونهما. وراح كل منهما يتطلع إلى الآخر في ذهول عظيم.
كانت الوصية بشروطها تحوي إيحاء وتحريضاً على أن يحاول كل من الأخوين قتل الآخر حتى يفوز بالثروة. لقد أرادت عمتهما الشيطانة أن تحطمهما بضربة واحدة. فافترق الأخوان. وعاش كل منهما على بعد من أخيه!.
- 3 -
وتحولت حيلتهما منذ ذلك اليوم إلى جحيم دائم، وقلق مستمر. تسرب الشك إلى كل منهما إلى الآخر. وكان الشيطان اللعين يوسوس لكل منهما أن يفتك بالآخر ليظفر بالثروة. وهزل جسماهما من فرط السهر واصبحا كشبحين لهما هيكل محطم لا حياة فيه ولا حراك!.
واتفق أن عثر (تشارلس) على موسوعة (بريطانيا) الطبية. فكان يسهر لياليه ساهدا لا يغمض له جفن. وهو فمسك بيده ذلك الكتاب يقتله قراءة ودراسة. وقعت عينه في الموسوعة على فصل عن (الأعشاب السامة) واسكنه نموها في إنجلترا. فخطرت (لتشارلس) فكرة شيطانية. فراح من ساعته يجد في الحصول على بعض الأعشاب السامة، فطحنها، ودس المسحوق الناتج في طعام أخيه (موريس) بخطة جهنمية - حتى تمت بالنجاح.
فحدد يوماً لارتكاب الجريمة. وبعد الانتهاء من خطته، سافر إلى بلدة مجاورة. فتناول (موريس) طعامه الممزوج بالسم. ولما عاد (تشارلس) من لندن في صباح اليوم التالي.(783/54)
وجد أخاه في اشد حالات المرض. فاستشعر شيئاً من الندم. إلا أن بريق المال أطفأ تلك النار المتأججة. ولطالما بذل طبيب الأسرة مجهوداً جباراً لشفاء (موريس) إلا أن جهوده ذهبت أدراج الرياح. فذهب ضحية لشروط الوصية!.
على أن (تشارلس) لم يجد صعوبة كبيرة في إقناع الطبيب بان الوفاة كانت طبيعية. ولزم بعد ذلك الصمت بضع أيام. قلم يطالب بالإرث مباشرة خشية أن يثير ذلك الريب، ويحرك الظنون. وفي ذلك الظرف الذي كان (تشارلس) مقسم الفكر بين وخز الضمير وجاذبية المال اخذ الناس يتكلمون ويتهامسون. وسرى بينهم الشك والارتياب في أمر (تشارلس) وانتشرت الإشاعات في كل الأمكنة بان وفاة (موريس) لم تكن طبيعية. وانه مات مقتولاً بسبب شروط الوصية. ولم يمض وقت طويل حتى تلقى البوليس رسائل من مجهولين فيها، اتهام صريح (لتشارلس)، وأصدر قاضي المقاطعة أمراً باستخراج الجثة وتشريحها. وسرعان ما اكتشف أثار السم في أمعاء الميت.
وما كدت أواجه تشارلس بالاتهام حتى خارت قواه، واعترف بما جنت يداه. وقدمته للمحاكمة. فكان مصيره الإعدام. ولم يزداد قلي حرقة ونفسي ألماً حينما أتذكر ساعة قيادته إلى الإعدام. فقد استحال في تلك اللحظة إلى شبح مخيف.
- 4 -
كف المفتش (باول) عن سرد القصة. فنظر أحد الجالسين إليه بحزن وقال:
- إنها قصة غريبة ومحزنة في وقت واحد!!.
- فنظر إليه المفتش باسماً متألماً. . وقال:
- في الواقع أن الباعث الأكبر على غرابة القصة لم يذكر بعد. فاستطرد يقول:
ومضت شهور. ونسى الناس كل شيء عن هذه القضية. إلى أن جاء يوم تلقيت فيه رسالة من رجل كان يعاني سكرات الموت في إحدى المستشفيات. قال الكاتب ف رسالته:
(أريد مقابلتك حتماً، فإن لدي معلومات خطيرة عن قضية (سيفرين). فاسبق بالمجيء اجلي. فقد يقول الأطباء. أن ساعتي محدودة.
وكان الخط من السقم بحيث لا يقرأ مما أكد لي أن حالة كاتبه جد خطيرة. فنظرت عجلان إلى التوقيع فإذا بي اقرأ (ستيفن دريك) وهو اسم لم يطرق سمعي قبل إلية. فركبت(783/55)
سيارتي. ومضيت إلى المستشفى، ولما استعلمت من كاتب المستشفى عن (دريك) إلا لي انه نقل إلى المستشفى في صباح ذلك اليوم مصاباً بجروح قاتلة على اثر تصادم شديد بين سيارة كان يركبها، وسيارة نقل كبيرة، وان حالته تدعوا إلى اليأس!
ودخلت عليه في الحجرة. فإذا أرى بي شاباً ممدوداً فوق الفراش. يئن أنات الألم. ويتلوى كالأفعى من آلام الجروح. فلما رآني سكن ورسم على شفتيه ابتسامة الهزيل الياس، فابترني بقوله:
آه! إذاً فقد جئت أخيراً أيها المفتش بأول. يبدو أن الدهش يمتلكك لأنني اعرف اسمك، وأشار ألي بالجلوس. لقد كان شاباً جميل الوجه، مشرق الجبين، إلا انه كان بادي الإعياء من فرط ما ناله من آلام وما نزف من دمه. فاستطرد يقول لي:
(أنا (دريك) محامي قضية (سيفرين). أن بيني وبين الموت دقائق. ولكني اشعر برغبة ملحة في إشراك شخص آخر في سري قبل أن انطلق للاجتماع بعميلي في السماء؛ وقد هداني تفكيري إلى اختيارك لأبثك سري، وأوضح لك أمري، ولا سيما وأنت الرجل الذي قدم (تشالرس) إلى يد العدالة.
وأطال الشاب النظر إلى وجهي. ثم ابتسم بسخرية واستطرد:
- (يخيل إلى انك بدأت تفطن إلى ما أنت بسبيل قوله. نعم، أنا هو الرجل الذي كان يجب أن يوضع في حبل المشنقة بدلاً من (تشارلس) المسكين، ولكني لا اعني بذلك إنني الذي دسست السم لأخيه. كلا؛ أن (تشارلس) هو الذي فعل هذا، ولكني أنا الذي دفعته إلى ذلك، فقد كانت الوصية التي قرأتها على الرجلين مزيفة. كان المحامي المحتضر يتكلم بلهجة الساخر المتحدي، لا بلهجة النادم الباكي. ولا عجب فقد كان يعلم انه أصبح في مأمن من يد العدالة.
وواصل حديثه بقوله:
(أجل. لقد كانت الوصية مزيفة، فقد كتبتها بعد طوال تفكير. كتبتها على أمل أن تجني، وفعلاً جنت على نفسين لا ذنب لهما. لقد جعلت في محتوياتها شرطاً يكفي لحض (موريس) و (تشارلس) على أن يجني أحدهما على الآخر فيقتله. وهذا هو متمناي أن يقتل أحدهما الآخر. أما لماذا كنت أسعى لذلك، فالأمر جلي بسيط. ذلك أنني كنت قد بعثرت(783/56)
إرثهما في المضاربات المالية، وما يماثلها من ضروب المراهنة. ولم يكن ثم خطر يتهدد ني عندما كانت العجوز (سيفرين) على قيد الحياة. إلا أن الموقف تغير بعد موتها واصبح خطير الجانب، مرهوب الظهر!. فقد كان من المحقق مطالبة الأخوين بإرثهما. وعندئذ تتجلى الحقيقة، وتسوء العقبى.
ثم توقف (المحامي) قليلاً. وتنفس طويلاً. ثم أردف:
- إنك بالطبع تعرف بقية القصة. فعندما ماتت (سيفرين) اضطررت ' إلى تزيف الوصي الجانبية العاتية، وأنا آمل أن تدفع شروطها أحد الوارثين إلى قتل الآخر، فقد مضى أسبوعان بعد وفاة العجوز ولم يقدم أحد الرجلين على جريمة القتل؛ فلجأت إلى حيلة أخرى لأحثهما على ارتكاب الجريمة. فوضعت (الموسوعة البريطانية) في متناول يد (تشارلس) وأنا آمل أن يلجأ إلى استخدام أحد السموم المذكورة فيها للتخلص من (موريس).
وقد نجحت خطتي بالتخلص من (موريس) فرحت أبت الدعايات وأنشر الإشاعات، في طول المدينة وعرضها، مؤداها أن (موريس) مات مسموماً. وقمت أيضاً بإرسال الكثير من الرسائل المجهولة إلى البوليس ألقي فها تهمة موت (موريس) على أخيه (تشارلس).
(وانتهى الأمر كما تعلم بإعدام (تشارلس) المسكين!. ولكن. حل بي انتقام السماء.)
ثم كف بعد ذلك عن الكلام. فأدهشني انفجاره في الضحك. وبعد لحظات همد جسمه.
سيد أحمد قناوي(783/57)
العدد 784 - بتاريخ: 12 - 07 - 1948(/)
أدبنا وهذه الحرب
كان أدباؤنا في الحرب العلمية الثانية إذا سئلوا: ما بالكم تظلون (محايدين) والعلم من جهاته الست قد أخذته جنة الحرب ونفضته حمىَّ الهلاك؟ أجابوا: ومالنا ولأمر لا جارَّة لنا فيه، ولا رادَّة علينا منه؟ ليست هذه الحرب لنا فتزهونا العزة، وليست علينا فتهزنا الحميَّة. إنما نحن منها كمن يشاهد من جانب الغاب معركة بين الوحوش، يصيبه من شظاياها الناب المخلوع أو المخلب المقطوع أو المفصل الطائر، فلا يعنيه إلا أن يسب الضارب والمضروب، ويلعن الغالب والمغلوب. وهذا ما نهض به فن المقالة في ميدان واسع، وتحرك له فن الشعر في مجال ضيق.
ذلك ما كانوا يقولونه بالأمس في حرب الألمان والطليان للإنجليز والأمريكان، فماذا عسى أن يقولوا اليوم في قتال العرب لليهود، وجهاد القرآن للتلمود، وكفاح الإسلامية للشيوعية، ونضالالحرية للرأسمالية؟ أيقولون إن هذا الشعب الكريم الذي يجود بنفسه وماله، في سبيل عزته واستقلاله، ليس شعب النيل؟ أم يقولون إن هذا الجيش الباسل الذي قهر العدو ببطولته وإقدامه، وبهر الصديق بخطته ونظامه، ليس جيش الفاروق؟ أم يقولون إن هذه الحكومة الحرة التي دافعت بشجاعة الحق في مجلس الأمن، وهاجمت ببراعة القوة في ميدان الحرب، ليست حكومة مصر؟ أليس فيما يرفع الجباه ويعطر الأفواه مما تسجله الصحف كل يوم لقوادنا وجنودنا وطيارينا، من مواقف البسالة والشهامة والتضحية والإيثار والنجدة والنبل، ما يوحي للشاعر الحماسي بالملحمة، وللكاتب القصصي بالقصة؟ أو ليس فيما يزكم الألوف ويكظم الصدور مما جنته على فلسطين وعلى المسلمين، وغادةُ اشترن، وخيانة أرجون، وفسولة الهاجنا، ونذالة يهود، ما يفتح للروائي الساخر باب الملهاة، وللفنان الشاعر باب المأساة؟ بلى، إن في الغار الذي يكلل رءوس العرب، وإن في العار الذي يجلل رءوس اليهود لمادةً ثرَّة للخيال المبدع، ومداداً فياضاً للقلم الخالق. ولقد أدت الصحافة حق الأدب والتاريخ، وحاولت الإذاعة أن تقضي حاجة العقل والروح، وأخذ الشعر يجيب داعي الغناء والموسيقى، فلم يبق إلا الشاعر الطويل النفس الذي يسجل المفاخر في القصيد، والكاتب البارع الذهن الذي يصور المآثر في الرواية. وعما قريب يجري في الفلك المصري كوكب عطارد فينبض اللسان الساكن ويجيشالقلب القَرور.
لقد كانت القبيلة تغزو القبيلة، فيُقتل بعض الرجال، وتنهب بعض(784/1)
الجمال، فتثور ثائرة الشعر، وتقوم قائمة الخطابة، ويسمع الدهر
العجلان فيقف مصغياً للبدوي الجلف ليروي للأجيال المقبلة مناقب
قومه، ويخلد على الأباد المتعاقبة حوادث يومه. فهل نقول إن حرب
فلسطين التي احتشدت لها دول العرب السبع أضعف تأثيراً في النفوس
من غزوة، أم هل نقول إن شعراء العروبة اليوم أقل تأثراً بالمجد من
السُّليك وعروة؟
إن حرب فلسطين ليست كما يقال مبدأ نهضة ومفتتح عصر؛ إنما هي أشبه بحروب الفتح في عصر الإسلام الأول: كانت نتيجة لتأليف الله بين قلوب العرب فتوحدت اللغة والكلمة والعقيدة والثقافة والخطة والغاية؛ وكان من وراء أولئك كله سلطان لم يطاوله سلطان، وعمران لم يماثله عمران، وأدب لم يعادله أدب.
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(784/2)
من سجايا اليهود، نقض العهود
للأستاذ علي العماري
كان موقف الصهيونيين من الهدنة مثيراً للعجب عند الخبيرين ببواطن الأمور، والجاهلين بها، فالعالم كله يعلم أن الدول الغربية إنما أرادت من الهدنة أن تحمي ظهور اليهود، وأن تبقى على البقية الباقية من قواتهم التي مزقتها الجيوش العربية، وأن تهيئ لهم الفرصة للاستجمام والراحة لعلهم يستطيعون أن يثبتوا وجودهم، وأن يمحوا العار الذي لحقهم، ويزيلوا الخجل من الدول التي ناصرتهم، وتساءل الناس، ما بالهم - وهذه حالهم - لم يصبروا على الهدنة ساعة من نهار؟ وما بال عصاباتهم ترتكب كل يوم حادثا جديداً؟ وربما اختلف الناس في الإجابة عن هذا السؤال الذي يبدو غريباً، وربما ذهبوا مذاهب شتى في التعليل والاستنتاج، ولكن الذي أؤكده أن مرجع ذلك ومرده إلى أن الغدر ونقض العهد من طبائع اليهود المتأصلة فيهم.
يؤيد ذلك تاريخهم الطويل المملوء بالمضحكات والمبكيات، مذ أذاقوا كليم الله موسى عليه السلام الأمرين، إلى أن لفظتهم جميع الدول من أرضها في العصر الحديث. ويؤيده ما سجله القرآن الكريم عليهم. ولهذه الطبيعة في نفوسهم لا أظن أن أحداً يرضى أن يركن إليهم، أو يثق بمواثيقهم وعهودهم، ولا أظن (برنادوت) بالغاً شيئاً مما يريد. وكيف، وقد أعيوا جميع الأنبياء والمصلحين الذين أرادوا لهم الخير؟! فما كان منهم إلا أن التووا على الجميع، وأصموا آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا، واستكبروا استكبارا. شكا منهم موسى عليه السلام فقال فيما حكاه القرآن عنه: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الظالمين). وشكا منهم هرون عليه السلام: (قال يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين). وشكا منهم أنبياء الله يوشع بن نون، وصمويل، وزكريا، ويحيى، وفي القرآن الكريم (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ليئس ما كانوا يفعلون).
ولقد عنى القرآن الكريم عناية ظاهرة بأخبارهم، والحديث عن سوء أخلاقهم، وكشف مطويات ضمائرهم، حتى كانت السورة بأكملها تنزل في حادثة من حوادثهم، كما نرى في(784/3)
سورة الحشر التي سجلت مخزاة بني النضير. ومن مظاهر هذا الاهتمام أن أول سورة نزلت بالمدينة وهي سورة البقرة جاء في صدرها نحو الثمانين آية مما يتعلق باليهود وآبائهم، وأن الدارس ليستطيع أن يستخلص أهم المظاهر الأخلاقية التي كانت فاشية فيهم من بخل، وجهل، وعناد، وخيانة، وغدر، ودعاوي طويلة عريضة، ونفاق ورياء إلى آخر ما حفلت به الآيات الكريمة، ولكني هنا أريد أن أتحدث عن صفة واحدة من صفاتهم تلك هي (نقض العهود).
وقد ذكر جار الله الزمخشري في كشافه عند تفسير قول الله تعالى (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم) قال: (واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود. وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا). . .
نعم قد أخذ الله منهم مواثيق كثيرة، ذكرت في القرآن، ولكنهم نقضوا جميع هذه المواثيق، وقد عاهدهم النبي غير مرة، ولكنهم كانوا ينقضون عهدهم في كل مرة.
فإنه صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة وجد نفسه بين نارين: نار اليهود في المدينة، ونار المشركين في مكة، لذلك كان حريصاً على أن تحسن العلائق بينه وبين اليهود، فعقد معهم عهدا سياسيا خطيراً، بين فيه حقوق الطوائف كلها من مهاجرين وأنصار ويهود، ونص فيه على شروط الدفاع والهجوم، فقد كان يفكر في مهاجمة مكة، كما كان يتوقع أن تهاجمه يوماً ما، وقد أمن اليهود على كيانهم الاجتماعي، وترك لهم حرية الديانة. ومما جاء في هذا العهد (وأنه من تبعنا من يهود فإن له النضرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين).
وعاشوا في ظل هذا العهد آمنين مطمئنين حتى تكشف نواياهم، ونزلوا عند حكم طبائعهم، فقد كانوا يريدون أن يستميلوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانبهم، وكانوا يجدون رَوحا واطمئنانا في استقبال المسلمين بين المقدس في الصلاة، فلما رأوا أن بعض أحكام القرآن لا تتفق وأحكام التوراة، وجاء للنبي الأمر بالتوجه - في صلاته - إلى الكعبة بدرت منهم السوءة السوءاء، وقالوا: لو كان نبياً حقاً ما ترك ملة إبراهيم، وهم يزعمون أن بيت(784/4)
المقدس كان قبلة إبراهيم، فنزل قول الله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وقد حاول النبي أن يفهمهم أن لله المشرق والمغرب، ولكنهم سفهاء، فما يهتدون (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك، وما أنت بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض). ثم كان انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى، فدخل الحق والحسد إلى قلوبهم، وقال كبراؤهم: (بطن الأرض اليوم خير من ظهرها) ثم نقضوا العهد.
ثم عاد النبي بني قريظة ألا يمالئوا عليه فنكثوا وأعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا، ومالوا مع المشركين يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم، فأنزل الله فيهم قواصم الظهور (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) وهكذا يدمغهم في وضوح وقوة، فهم كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، وهم ينقضون عهدهم في كل مرة، فليس على النبي ولا على المؤمنين من حرج إذا مزقوهم كل ممزق (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون، وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين).
وكيف يرجى من هؤلاء اليهود الخير، أو يوثق لهم بعهد، وهم يتنكرون لدينهم ويفضلون الوثنية على التوحيد في سبيل مطامعهم الدنيئة، ومآربهم الخسيسة، حتى وقعوا فيما لا يقع فيه ذو عقل وخلق. ذكروا أن وفداً من قريش جاء إلى اليهود وحادثهم في شأن الدين (وقالت قريش لليهود: يا معشر يهود! أنتم أهل الكتاب الأول، وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قال اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه!) وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا).
ولم يرض مؤرخ يهودي عن هذا الموقف المخزي من اليهود، ذلك هو الدكتور ولفنسون مؤلف كتاب (تاريخ اليهود في بلاد العرب) فقد علق على ذلك بقوله: (كان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في مثل هذه الخطأ الفاحش، وألا يصرحوا أمام زعماء قريش(784/5)
بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم. . . هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة إلى توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام، والوقوف معهم موقف الخصومة).
(وبعد) فإن نقض اليهود للعهود موضوع طويل الذيول، ولست أريد - هنا - أن أستوفيه، وإنما هي إشارة عابرة.
ولا أختم هذه الكلمة حتى أروي النفس بهذه الآية الكريمة: (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).
وعد الله لا يخلف الله وعده.
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان(784/6)
من مآثر الأمير عبد القادر
(مهداة إلى حفيده الأمير سعيد الجزائري)
للأستاذ محمد أسامة عليبة
لمناسبة قيام الدول العربية بتأديب العصابات الصهيونية في فلسطين رأيت نشر ذَرْو من أخبار هذا الزعيم المجاهد:
في وقعة (خنق النطاح) الأولى سنة 1247هـ كان الأمير بين الصفوف يحرض المحاربين على الثبات ويأمرهم بالتقدم، فحمل عليه أحد فرسان العدو برمحه فمر من تحت إبطه الأيسر فشد عليه بعضده وهوى بسيفه على الفارس فقدَّه نصفين. ولما تولى النهار وقعت الهزيمة في عسكر الفرنسيين فولوا مدبرين واتبعهم المسلمون واستولوا على ذخائرهم. وفي هذا اليوم طُعن فرس الأمير، وكان أشقر اللون، ثماني طعنات بحربات العدو، ثم رماه أحدهم بالرصاص في رأسه فوقع به، فلم يبال الأمير بذلك بل قام في مكانه ثابتاً إلى أن قدَّم إليه جنده غيره فامتطاه، وظل يقاتل إلى أن انتصر المسلمون، وأشار إلى ذلك الأمير في بعض شعره بقوله:
توسد بمهد الأمن فدمرت النوى ... وزال لغوب السير من مشهد الثوى
وعرِّ جياداً جاد بالنفس كرّها ... وقد أشرفت مما عراها على النوى
وكم قد جرت طلقاً بنا في غياهب ... وخاضت بحار الآل من شدة الجوى
وإنا سقينا البيض في كل معرك ... دماء العدى والسمر أسعرت الجوى
ألم تر في (خنق النطاح) نطاحنا ... غداة التقينا كم شجاع لهم لوى
وكم هامة ذاك النهار قددتها ... بح حسامي والقنا طعنها شوى
وأشقر تحتي كلمته رماحهم ... مراراً ولم يشك الجوى بل وما التوى
بيوم قضى بحباً أخي فارتقى إلى ... جنان له فيها نبي الرضي أوى
فما ارتد من وقع السهام عنانه ... إلى أن أتاه الفوز يُرغم من غوى
ومن بينهم خلصته حينما قضى ... وكم رمية كالنجم من أفقه هوى
ويوم قضى تحتي جواد برمية ... وبي أحدقوا لولا أولو البأس والقوى
وإنا بنو الحرب العوان بها لنا ... سرور إذا قامت وشانئنا عوى(784/7)
وفي وقعة خنق النطاح الثانية استشهد السيد احمد ابن أخي الأمير وهو ابن خمس عشرة سنة بعد أن بدا من بسالته ما أذهل العقول. ولما وقع عن جواده ميتاً بين الصفوف هجم الأمير في طائفة من وجوه الأبطال جعلهم ردءاً له، فخرق صفوف العدو وانتشل ابن أخيه من بينهم، فعجب الأعداء من ذلك وأيقنوا أن القتيل أمير فحاولوا منعهم من أخذه فخابوا. . .
وفي معركة برج (رأس العين) أخذ العدو يرسل قنابله على جيوش المسلمين كالمطر، فلم يزدهم ذلك إلا شدة وحماسة، وجعل الأمير يسير بين المشاة والفرسان وسائر الصفوف يحرضهم على الثبات والصبر في مجال الموت ويذكرهم بأيام الله، وبينما هو على ذلك إذ عدا عليه أحد فرسان العدو بسيفه فحاد عن سرجه فجاءت الضربة في الفرس فوقع لحينه، فركب غيره واستمر على ما كان فيه من الحض على القتال. وبلغه أن المشاة فرغت أيديهم من الرصاص فأسرع إليهم بما يكفيهم منه، ولم يحفل في ذهابه وقفوله بقنابل العدو المتصلة وصواعقه المتتابعة من البرج والبلد.
وفي غزوة (المقطع) التي شنها الجنرال تريزيل ناقضاً بها المعاهدة بينه وبين الأمير، خرج الجنرال من وهران في خمسة آلاف راجل وفرقة من الفرسان وأربع قطع من المدافع الجبلية وعشرين مركبة للتموين عدا المركبات الاحتياطية، فنهض له الأمير في نحو ألفي فارس وألف من المشاة فاحتل (بسبك) عازماً على الإقامة هناك إلى أن يتلاحق الناس بالجيش، ولكن تريزيل عاجله بالزحف إليه، فعبأ الأمير كتائبه ورتب جنده، وعين للميمنة قائداً وللميسرة كذلك، وثبت هو في القلب، وتزاحف الجمعان واحتدم القتال واستمر يومين فارتدت عساكر الفرنسيين على الأعقاب، وقتل منهم على ما ذكره (روا) في تاريخه جم غفير، فيهم الكمندان أودينو ابن المارشال دوك دي تريجو، وكان قتله سبباً في هذه الهزيمة النكراء. وكان الظمأ والتعب أنهكا الجيش الأمير فتفرقوا، ثم شعروا بأن العدو بات قريباً منهم فرجعوا أفواجاً أفواجاً، وتوجه الأمير في ألف فارس اختارهم من جنده وأردف كل فارس جندياً من المشاة، وخفوا إلى (المقطع)، وسدوا على الجنرال سبيله، وأحاط جيش الأمير بجيش الجنرال وأضرموا عليه نار الحرب، فاضطرب الجيش الفرنسي وقتل كثير منه وأسر عدد كبير وغرق في نهر هبره أكثر، وغنم المسلمون ذخائره، وانسل الجنرال(784/8)
إلى ساحل البحر بمن بقي معه. ثم أرسلت فرنسة المارشال كلوزيل والدوك دورليان ولي عهد ملك فرنسة إلى الجزائر مع الجند والعتاد نجدة وإمداداً لمن هناك ممن عجزوا عن مكافحة الأمير، فكانت الحرب بينهم سجالا في عدة وقائع، ثم تغلب عليه العدو لوفرة عَدده وقوَة عدده، فاستولوا على حاضرة الأمارة. ثم لمَّ الأمير شعثه واستجمع قوته، ونازل عدوه واسترد الحاضرة، ثم ظهر عدوه عليه مرة ثانية وغزا تلمسان، فحصره الأمير وانقض عليه
ويذكر المؤرخ إسكندر بالمار شديد عجبه من استجماع الأمير قوته ورجوعه إلى حاله الأولى بعد أن اضمحلت ثلاث مرات، وكل واحدة منها كافية لسقوط أعظم سلطان راسخ القدم.
وقال تشرشل في تاريخه: بعد أن سرد تاريخ حروب الأمير مع فرنسة: إن هذه الأعمال كبيرة جداً بالنسبة إلى سن الأمير وكان في الخامسة والعشرين مع عدم الاطلاع على أحوال العالم، لكنها صغيرة بالنسبة إلى ذكائه الفريد. ويعجب العاقل متى سمع أن دولة فرنسه احتاجت إلى مائة ألف عسكري تقاتل بها الأمير عدا المساعدات الداخلية والخارجية. . . مع أن الأمير لم تزد قواته على عشرة آلاف مقاتل.
ولما تواطأ العدو مع جيران الأمير على خذلانه، وتوالت النجدات للجيوش الفرنسية التي تقاتله مع فيض من السلاح والذخيرة ضعف أمره، واستولى العدو على المدن والقلاع، فاتخذ الأمير عاصمة كبيرة متنقلة مؤلفة من خيام كثيرة ومضارب وثيرة، وسمى ما يخصه منها (الزمالة) وما يخص الأعيان والعامة (الدائرة) وما يخص الجند (المحلة)، واتخذ جملة مضارب لمصانع السلاح، وأعد فسطاطاً واسعاً لاجتماع المجلس العام، وآخر جعله مسجداً ورتب مضارب للباعة وأهل السوق، تضرب بعيدة عن الزمالة والدائرة. . .
ويقول روا في تاريخه: إن الأمير عبد القادر كان لا يمل من التعب ولا يكل من الحرب ومشقاتها، وكان يشاهد انتصارات فرنسة، ولا يرى نفسه مغلوباً لها. واستمال بحكمته قلوب كثير من القبائل رغبة ورهبة وصاروا في جيوشه. وقال تشرشل: لما رأى الفرنسيون ذلك بادروا بذر الذهب والفضة رشوة لزعماء القبائل، فلم يجدهم ذلك نفعاً. . .
وكان في بضع معاركه يقيم مع كثير من فرسانه في جهات بعيدة عن جيوشه، وينفد زادهم(784/9)
فيضطروا أن يقتاتوا بالبلوط، ثم يعثرون على خروف فيقدمونه إلى الأمير فيؤثر جنوده به مع أنهم في المخمصة سواء. وكان العدو يبذل كل شيء في سبيل نقض الزمالة مقر الأمير وبيت ماله فركبوا الأهوال من أجل ذلك. وبعد معارك عنيفة وبعد أن انتقل بها الأمير إلى أراض قاسية استطاعوا أن يكتسحوها، فحزن الأمير لذلك ولكنه لم يهن بل قال: سبحان الله! كل شيء كنا نحبه وتعلقت أفكارنا به كان يعوق حركاتنا ويحول دون الوصول إلى مطلوبنا، والآن صرنا أحراراً متجردين لا شغل لنا إلا مقارعة الأعداء ومصاولتهم ومن فقدناه من الرجال فهم شهداء في الفردوس ونعيمه، وأما الأموال فسيخلفها الكريم الوهاب، ويجب أن لا نجبن بل نكون أشد ما كنا أملا.
وبعد استيلاء العدو على حاضرة الأمير (معسكر) خطر للأمير مرة أن يدهمها فزحف عليها بجيش قليل من عدده، كبير في شجاعته وإيمانه، فخرج إليه الأمير الاي جيري بجيشه وانضم إليهم الجنرال بيدو والأمير الاي تاميور ومعهما الفرق التي كانت في تلمسان، ولحقت بهم الفرق التي كانت في قسطنتينة، والأمير في قلة من الجيش والذخيرة، فحمى وطيس الحرب بينهم فطوقوا جيش الأمير، فأبلى الأمير ومن معه بلاء حسناً، فأصيب جواد الأمير، فدافع عنه قومه واستشهد بسبب ذلك عدد منهم، وركب الأمير جوداً آخر ونجا مع بعض قومه، وحال الليل بينهم وبين باقي جند الأمير، فأشاع المرجفون أن الأمير استشهد فقالت شقيقته لوجوه القوم: إن فقد شقيقي وذهب فإن كفاحكم ودفاعكم عن الدين والوطن باق في عنقكم إلى الأبد. فأثارت فيهم روح الشجاعة والفتوة.
وكان من عادة الأمير أن يلقى العدو وهو في طليعة الجيش، ومع ذلك فلم يصب في جسمه سوى مرة واحدة؛ فقد مسحت رصاصة طرفاً من أذنه اليمنى، فصلى لذلك ركعتي الشكر لله على ما أصابه في سبيله. وكان بعضهم يظن أنه يتخذ حجباً وتعاويذ تقيه الأذى فأخبرهم أنه لا يعوذ نفسه إلا بما ورد في السنة من الأذكار المشهورة.
ولجأ الأمير في عاقبة أمره إلى حرب العصابات فكان يظهر في اليوم الواحد في غدوته في مكان، وفي عشيته في آخر بعيد عنه كل البعد. قال تشرشل: لقد عجب الفرنسيون من بسالة الأمير عبد القادر وسرعة اختفائه هو ومن معه، وذكرت ذلك في بعض المحافل السياسية مدهوشاً من أمره فشهد له بعض القواد بعجيب البسالة والحماسة والثبات مع(784/10)
السرعة في الحركات الحربية.
وقد أفرد تشرشل الإنكليزي الفصل السادس عشر من تاريخه لذكر حسن معاملة الأمير للأسرى ورحمته بهم والشفقة عليهم، وكان يكافئ من يأتيه بالأسير حياً أكبر مكافأة، وكانت والدة الأمير تعنى بأسيرات النساء عناية تنسيهن ما هن فيه. وجاءه مرة أحد أعوانه بأربع من أسيرات النساء، فحول الأمير وجهه وقال: الأسد يقنص الحيوان القوي، وأما ابن آوى فيقع على الضعيف. وقال فاليوت في تاريخه: كان الأمير عدواً كريم الأخلاق فإن كل من كان أسيراً عنده قد أثنى عليه.
واضطر الأمير في بعض معاركه إلى الأمر بإحضار جملين فشدوا على كل واحد حزمتين من الخلفاء بعد أن لاشوهما بالقطران والزفت، وأمر أن تضرم النار فيهما حين الحمل على العدو، فلما أحسن الجملان بالنار نفرا وذهبا يجوسان خلال خيام العدو، والجيش من ورائهما، فما راع العدو إلا مشاعل النار تجول بين الخيام، ومطر القذائف تنزل عليهم من حيث لا يحتسبون، فلم يسعهم إلا الفرار مخلفين الذخائر والمتاع. ولما اضطر الأمير إلى التسليم بشروط وافق عليها الجنرال لامورسيير، ومنها أن يذهب بأهله وحاشيته إلى بلاد المشرق، خدعته فرنسة وحملته إلى بلادها ولامت الجنرال لامورسيير وأنبته على عدم أسر الأمير بدلاً من قبول تسليمه، فقال الجنرال: لو حاولت أسر الأمير وزحفت عليه لهذا الغرض ما رجعت بغير خيمته وسجادته. وإنه ليذهب إلى الصحراء بحيث لا أستطيع الوصول إليه، لأن عبد القادر ذو صلابة في دينه مشتهر بالصدق والأمانة في وطنه شديد التمسك بمبادئه، وهذا هو السبب الذي جمع القلوب عليه، والظفر الذي أحرزه في حربه معنا هو ثمرة ما قررناه، فلو ترك في بلاده لكان خطراً علينا، وما فعلت أنا غير الصواب، وأرجعوه إذا شئتم إلى موطنه وردوا إليه القوة التي بقيت معه واقبضوا عليه عنوة إن قدرتم، وما قبلت أنا والحاكم العام تسليمه على شروطه إلا حرصاً على راحة فرنسة وجنودها التي أنهكها الحرب، وضنا بأموالها الكثيرة التي تنفق في هذه السبيل.
ثم طلبت فرنسة من الأمير أن يتخذ فرنسة وطناً له على أن تمنحه أملاكاً واسعة تجعله من كبار أغنيائها. فأجابهم بأن الحرية أفضل عند من أموال فرنسة كلها.
ومما نظمه في تلك الأيام قصيدة طويلة، منها في حنينه إلى الأوطان:(784/11)
ومن عجب صبري لكل كريهة ... وحملي لأثقال تجل عن العد
ولست أهاب البيض كلا ولا القنا ... بيوم تصير الهام للبيض كالغمد
ولا هالني زحف الصفوف وصوتها ... بيوم يشيب الطفل فيه مع المرد
وأرجاؤه أضحت ظلاماً وبرقه ... سيوفاً وأصوات المدافع كالرعد
وقد هالني بل قد أفاض مدامعي ... وأضنى فؤادي بل تعدى عن الحد
فراق الذي أهواه كهلا ويافعاً ... وقلبي خلى من سعاد ومن هند
وبعد إقامته في بلاد الشرق سار مرة إلى باريس لبعض الشئون فرار قصر فرساي ودخل إلى مكان فيه صور الوقائع التي جرت بين جنوده وجنود فرنسة وكان النصر فيها لهم، فقال للجنرال المحافظ على القصر: لماذا لم تثبتوا صور الملاحم التي كانت الهزيمة فيها لجيوشكم والديرة عليهم؟ فضحك الجنرال ومن حضر من الأعيان وأيدوا كلام الأمير.
ودعاه إمبراطور فرنسة إلى معسكر شالون ليشهد معه موسم عيده، فكلمه في شئون كثيرة، ثم قال له: إن الإمام الشيخ شامل السجين عند ملك الروس يود الذهاب إلى بلاد الإسلام وقد قاربت سنه السبعين. ولما كنت في الآستانة كلمت سفير روسيا في شأنه، فقال إن الملك وعده بإطلاقه في نهاية الحرب في الداغستان، وقد انتهت، ولكن لابد من انتظار انتهاء هجرة الجراكسة من بلادهم إلى بلاد الدولة العلية. وتحدثت في الآستانة إلى الصدر الأعظم ووزير الخارجية في هذا الشأن فقالا إن الدولة العلية تقبل إقامته في بلادها. وأنا لم أعن بأمر الشيخ شامل إلا لأنه قام بما قمت به، والإنسان يميل بطبعه إلى شبيهه.
طيب الله ذكرى هذا الأمير الباسل، وأجزل له من مثوبة المجاهدين. . .
محمد أسامة عليبة(784/12)
طرائف من العصر المملوكي:
في ظلال السرحة
للأستاذ محمود رزق سليم
في فوره من فورات الشاعرية، وسنحة من سنحات الفن، وحين هجعة من هجعات الحس الظاهري ولمعة من لمعات الخيال، وبين لمحة من اللمحات التي تنسجم فيها العاطفة وانفعالها بالذهن في صفائه، واللسان في وفائه، جلس الشاعر المبدع الوصاف (فخر الدين ابن مكانس)، في ظلال سرحة من سرحات النيل، كرم في جواره منبتها، وطاب في كنفه غرسها، ورسا أصلها في أدم شاطئه، وسما فرعها على صفحة كوثره، حلا لها المقام حيث تقيم، فلبثت في مكانها لا تريم؛ فهي وليدة النيل أو حبيبته، رضيت ألا تبرح داره، وأقسمت لا تمل جواره. إذا صفا من تحتها ماؤه، ووفى لها حباؤه، ضحكت له بنورها الألاق، وزهرها البراق، وانثنت عليه بالأغصان اللدان، والأفنان الحسان. مثنية شاكرة، مرسلة تحيتها العاطرة.
تلك هي سراحة ابن مكانس التي أطلقت من حوله أرجا عبق بالأرجاء عطره، وضاع في الآفاق نشره، فجذبته إليها به اجتذاباً، واقتضبته اقتضاباً، وأثارت في نفسه وساوس الشياطين، وأهاجت في خاطره أبالسة الشعر فأتاها في بيتها، وناداها من تحتها، وناجاها بقصيدة فريدة، فخلدها بين اللدات، وجعلها في الخالدات.
جلس في ظلالها جلوس الواله الشغوف، شفه منها جمالها، وراعه جلالها، وأعجبه سموقها إلى السماء، في أنفة وكبرياء. حتى ليرتد الطرف عنها وهو كليل. أليست بنت النيل، وسليلة العذب السلسبيل؟
وطفق ينعت قوامها من الأخمص إلى الرأس، ومن القدم إلى الذؤابة، كأنها وهي العجوز الشمطاء كاعب حسناء وخلع عليها من نفسه نفساً، ومن روحه قبساً. وصور ما أشاعته حولها من نشاط، وما نشرته من جذل ومرح. فإذا كان المشيب قد اجترأ فطرق عليها الخباء، ودب في اللحاء، فلا يزال ماء الشباب، يجول منها في اللباب؛ فهي قريرة العين، راضية القلب، إذا راح نورها يبسم من الفرح، غاداه من الغيم كل بكاء، وإذا داعبتها الأنواء، فاكهتها السحب بالماء؛ وإذا توهج القيظ فاستشرى داؤه وعزا دواؤه، طبته عن علم(784/13)
وخبرة، وشفته من الرمضاء في رفق وقدرة فهي لذلك مقيل ندمان، ومغنى حمائم، لا بل مرتع ظباء وفناء درماء، يطيب في ظلتها الصيف كما يحلو تحت عطفها الشتاء.
وهي قائمة في مكانها راضية كأنها سيدة دار شرقية، أضفى الإسار عليها من الكرامة ثوباً، ومن العزة ذوباً. وبحسبها أن يحبوها النيل تبرا فتنفثه زهراً. وتهزها الصبا فتصبو، وكأنها إليك مقبلة تتهادى في مطارفها، وتختال في خفائفها. تخطو خطو المرهاء، بغير عين كحلاء. وأغصانها الرشاق أعطاف وطفاء
وإذا صفق الموج من تحتها طرباً، نقطته بأزاهيرها ما بين صفراء فاقعة، وبيضاء ناصعة. وإذا جاسن بالنهر خريره، مالت إليه، كأنها أذن مصغية تسمع سره، وتتعرف أمره، فيريها في مرآته محاسنها، وفي صفحته مفاتنها.
وقد خلع عليها القدم قدسية فأصبحت كدير راهب، إذا اعتلى بلبلها ذرا غصن فيها وراح يملأ سواد الليل بتطريبه وترتيلاته خلته مسبحاً داعياً، ومصلياً منادياً.
على هذا الضرب الفريد من الوصف، نظم ابن مكانس سرحيته العصماء، وقد بدأ مطلعها بمناجاتها والدعاء لها وتذكر ما كان بينه وبينها فقال:
يا سرحة الشاطئ المنساب كوثره ... على اليواقيت في أشكال حصباء
حلت عليك عز إليها السحاب إذا ... نوء الثريا استهلت ذات أنواء
وإن تبسم فيك النور من جذل ... سقاك من كل غيم كل بكاء
رحماك بالوارف المعهود منك فكم ... لنا بظلك من أهوا وأهواء
ومنها:
يا طبة بدواء القيظ عالمة ... أنت الشفاء لدى الرمضا من الداء
لا صوح الدهر منك الزهر وانبجست ... عليك كل هتون الودق سوداء
ومنها:
خمائل الروض منشاها ومرضعها ... ضرع النميرين من نيل وأنواء
فاستمهدت دوحها المخضل وافترشت ... نجم الربا ورمت عرشاً على الماء
قريرة العين بالأضواء باردة ال ... قلب الذي لم تنله غير سراء
مقيل ندمان بل مغنى حمائم بل ... كناس آرام بل أفناء درماء(784/14)
قديمة العهد هزتها الصبا فصبت ... فهي العجوز تهادى هدى مرهاء
لا يدرك الطرف أقصاها على كلل ... حتى تعود له لحظاً لحولاء
وصوت بلبلها الراقي ذرا غصن ... في حلة من دمقدس الريش دكناء
يقرع ناقوس ديري على شرف ... مسبح في سواد الليل دعاء
والقصيدة - وتقع في أكثر من ستين بيتاً على هذا النسق - وصفية عاطفية. لم يقتصر الوصف فيها على الناحية الحسية فحسب بل خلع الشاعر على سرحته ضروباً من الاحساسات النفسية والانفعالات العاطفية. فكما وصف ارتفاعها وكلا البصر دونه، ونشأتها بين خمائل الروض، ورضاعها من النميرين: النيل والأنواء، وأغصانها وما فيها من لين، وأزهارها وما بها من وضاءة، وظلها وماله من وروف؛ وكما وصف تصفيق الموج من تحتها وترقرقه، وخرير النهر إليها وجيشه، وصفحة مائه وصفاءها، إلى غير ذلك، نسب إليها ألواناً من الأوصاف المعنوية، فنورها يبسم، وظلها يطب من القيظ، ويشفى من داء الهجير، وقلبها لم تنل منه غير السراء، إلى غير ذلك. وقد وصفها بمعنويين متناقضين، اقتضى كل منهما المقام، أحدهما أنها تصبو كما تصبو العجوز فقال (قديمة العهد هزتها الصبا فصبت، فهي العجوز. . . الخ). وشأن الصابية امتلاء القلب بالشجو، وترنح العطف من الهوى. وبخاصة إذا هبت الصبا وانية رفيقة، فإنها تبعث في النفس الولوع، وتثير فيها الذكريات. ثم عاد الشاعر ففي عن سرحته صبوها وامتلاء قلبها، وذلك حينما راح يوازن بين ما في نفسها وما في نفسه، وبين ما تحتمله في ضلوعها، وما يئوده بين حناياه، فبدت له حسناء خالية الفؤاد من الهوى. والحسناء إذا وثقت بجمالها واطمأنت إليه، ولم يعبث الحب بقلبها ولم يتسلم زمامه، استطاعت بدورها أن تعبث بالقلوب، وأن تسخر من المحبين! وهكذا استطاعت سرحة ابن مكانس أن تتهكم به، وأن تميل إلى سواه، وأن تبعث في فؤاده الغيرة. قال:
خلية حين أحنيت الضلوع على ... نار لشجوي بها لا حب لمياء
تهكمت بي فما أحنت أضالعها ... على الهواء وأحنتها على الماء
ويمتاز ابن مكانس في قصيدته هذه بأنه عنى بوصف سرحته هذا الوصف الحسي والمعنوي، وعنى بوصف ملابسها من الحوادث اللصيقة بها، وما دار حولها من المرائي(784/15)
والمظاهر المختلفة. وبعض الشعراء قد يجنح في قصائده الوصفية، عن وصف موضوعها إلى ملابساته البعيدة. أما ابن مكانس فقد نظم في صميم موضوعه، ولم يخرج عنه إلا نادراً، ولم يخرج عنه إلا إلى ما يتصل به، ولم يخرج عنه إلا ليعود إليه.
ونستطيع أن نعدد الموضوعات الجزئية التي طرقها بوصفه، فمنها: المناجاة والتذكر، وذكر الظل، ونعت المنبت وما فيه من خمائل، وما يجوده من ماء، ولين الغصون واهتزاز القوام، وارتفاع الفروع، وتغريد البلبل، وتصفيق الموج، وتساقط الزهر، وتفضن اللحاء، إلى غير ذلك مما يتصل بالسرحة اتصالا مباشراً.
وقد أبدع ابن مكانس بعد ذلك في وصف النهر بعدة أوصاف منها أنه مرآة بدا فيها الحسن واللألاء، وبأنه يزري بنهر الأبله، وأنه عند تحريك النسيم له يبدو كفرند السيف، إلى غير ذلك. ومن هذه الأبيات قوله:
مالت على النهر إذ جاش الخرير به ... كأنها أذن مالت لإصغاء
كأنما النهر مرآة وقد عكفت ... عليه تدهش في حسن ولألاء
ذو شاطئ راق غب القطر فهو على ... نهر الأبله يزري أي إزراء
كأنه عند تحريك النسيم له ... فرند سيف نضته كف جلاء
ومنها:
كأنه حين يهدا زرقة وصفاً ... راووق عين بوجه الأرض شهلاء
ومما يذكر بهذه المناسبة أن التقي بن حجة روى في أحد كتبه هذين البيتين للأرجاني وهما قوله:
كم طعنة نجلاء تعرض بالحمى ... من دون نظرة مقلة نجلاء
فتحدثا سراً فحول قبابها ... سمر الرماح يملن للإصغاء
ثم رجح أن الفخر بن مكانس ولد منهما المعنى الذي يتضمنه بيته في السرحة وهو قوله:
مالت على النهر إذ جاش الخرير به ... كأنه أذن مالت لإصغاء
وقد انتقل ابن مكانس بعد وصف النهر إلى ذكر الحمامات الشادية على أراكها، بين هذه الحدائق الفيح، حتى أطربت عيدانها وأرقصت أغصانها. قال من ذلك:
من كل ورقاء في الأفنان صادحة ... بين الحدائق في فيحاء زهراء(784/16)
وُرق تغنت بتحنان رقين على ... عيدانها فاله في مغنى وغناء
ثم عاد إلى السرحة يذكر خطاب ظلها، وأحباب ناديها، وقد برئت قلوبهم في رحابها من الحقد، وخلصت من الشحناء، فليس يربطهم إلا الوداد، وليس يجمعهم إلا اللهو الذي لا مكر فيه، والمجون الذي لا ندم بعده. قال:
يا كرمها في سراه من أصاحبها ... لا ينطوون على حقد وشحناء
يداعبون بمعنى شعرهم فأروا ... رد الأحبة في ألفاظ أعداء
من كل شيخ مجون في شباب فتى ... يقري المجون بقلب غير نساء
يسعى إليها على جرداء جارية ... من آلها كهلال الأمن حدباء
ونلحظ في البيتين الثاني والثالث إحدى عادات المصريين في المداعبة والمماجنة. وهي عادة لا تزال ماثلة حتى اليوم وبخاصة بين العوام؛ ذلك أن يترامي الأصدقاء بالهجر من القول، والمنكور من اللفظ، وباللغو من الحديث، وبما يكون بين الأعداء من السباب، ويعدون ذلك دليلاً على عمق الود وتمكن الصفاء بين النفوس
ونلحظ كذلك أن الشاعر انتقل انتقالا لطيفاً إلى وصف السفينة التي يمتطي الأحباب المرتاضون متنها في أمانة النهر وحراسة تياره. وبث في الوصف الرقيق من التورية، والدقيق من التشبيه. وقد أنصف السفينة بتشبيهها بهلال الأمن لا بهلال الشك. فقد استسلم اللاهون فوقها للمجون استسلام المؤمنين للأقدار، في وداعة ورضا واطمئنان. ثم إن السفينة بعد ذلك قديمة العهد لأنها (نوحية الصنع)؛ ولعل الشاعر هنا ينعتها بالقدم ليثبت لها بيض الأيادي على العشاق والمحبين، وفضلها الكثير المتتابع على المجان واللاهين. فكثيراً ما حملتهم إلى غاياتهم، وحفظت الخفي من مكنوناتهم. وآدوا ظهرها، وأثقلوا منكبيها، وما اشتكت عناء، وما بكت إعياء. وهي بذلك تزهو على الجياد الغر، والعتاق الضمرة. ويبدو لنا أن زوارق النيل حينذاك وقد كانت في مقدمة وسائل الرياضة واللهو - كانت تتراءى في أثواب شتى ذات أشكال وألوان بديعة، فتتهادى بها تهادي العروس في جلوتها، والرود في زينتها. وهي بذلك تضفي على روادها جواً سابغاً من البهجة والأنس والانسجام. وقد كان مظهرها هذا معيناً للشاعر ابن مكانس على تشبيه السفينة بحمامة الروض، ونسبتها إلى العنقاء لما فيها من غريب البزة وعجيب الزينة، وفي هذا ما يدل على ما كان في(784/17)
ملبسها من مبالغات وتهاويل أربت على غيرها. قال ابن مكانس في وصفها:
نوحية الصنع والإحكام منشأة ... تسير ما سيرت من غير إعياء
سوداء تحكي على الماء المصندل شا ... مة على شفة كالشهد لعساء
ساجية ألبستها الصانعون لها ... من التدابيج ما يزهو بصنعاء
غريبة ذات ألوان وأجنحة ... لم أدر تعزى لروض أو لعنقاء
لم يستطع شأوها أو سيرها عنق ... غر الجياد على كد وإنضاء
وكما تخلص إلى وصف السفينة في رفق وهوادة، تخلص منه إلى أبيات خمرية طريفة، في لين وكياسة. وقد أبدع في وصف خمره ما شاء له إبداعه. فجمع فيها بين الشمطاء والعذراء، لنفاستها وقدم عهدها، ولأنها مختومة لم تفض، وبكر لم تقرب، ورصع بنعوتها أحد أبياته. وأجاد في وصف إبريقها الذي إذا انحنى فركوع دعاء، وإذا صوت فتسبيح فأفاء. قال بعد الأبيات السالفة:
كم قد نعمنا بها عيشاً بساقية ... شمطا تجلى على الجلاس عذراء
مما تخيرها كسرى وأودعها ... رب الخورنق في قوراء جوفاء
حمراء صرفا وصفرا إن مزجت لها ... كم من يد في سواد الليل بيضاء
راحا إذا ركع الإبريق يمزجها ... سمعت من صوته تسبيح فأفاء
أم السرور التي أبقى الزمان بها ... جزء الحياة وقد ألوى بأجزاء
فعاطينها على طل الندى سحراً ... فإن ترياقها موتى وإحيائي
وقد اختتم بن مكانس قصيدته بعدة أبيات ذكر فيها شيئاً من لهوه بين الشادي والشادية وبين العود والناي، وبين الحدائق ذات البنفسج النفاح، منوها بأنه يأخذ من اللهو بنصيب، وأنه لا ينوح كغيره من الشعراء على طلل، ولا يندب خليطاً، ولا يبكي أحياء.
وبعد! فلعلنا وفقنا إلى التنويه بهذه القصيدة ولو بعض التوفيق، وظفرنا بلغت النظر إلى شيء من نفاستها، ولو بعض الظفر. ويبدو لنا أها كانت مشهورة مروية يتناقلها الأدباء ويرويها الظرفاء في العصر المملوكي، وقد أشار إليها ابن حجة في خزانة الأدب، وروي بعض أبياتها. ونود لو يعذرنا القراء إذا وجدوا منا في عرضها تقصيراً، فقد اعتمدنا في نقلها على ديوان ابن مكانس وحده. وأغلب الظن أنها لا توجد كاملة في سواه. والديوان لا(784/18)
يزال مخطوطاً مقيما في دار الكتب، يعاني القارئ فيه ما يعاني في فك طلاسم الخط، وترجيح ما يراه في المشكل من حروفه. ولرداءة رسمها أو غرابته ند عن الفهم معاني بعض كلماته، فضاعت بهجة أبياتها واضطربت معانيها.
وبعد فمن فخر الدين بن مكانس؟ هو أحد شعراء العصر المملوكي، عاش بين سنتي 745هـ، 794هـ. وهو من أسرة ابن مكانس القبطية الأصل، المصرية الصميمة في مصريتها، الواسعة في جاهها. واسمه عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن إبراهيم. وإبراهيم هذا هو المعروف بابن مكانس، وينتمي إليه أبناء هذه الأسرة المجيدة، وقد سعدوا بالإسلام، ونبغ منهم رجال خدموا العلم والأدب والدولة أجل الخدمات، ومنهم صاحب السرحة الوزير الصاحب أبو الفرج فخر الدين، الأديب البارع، الكاتب النحرير، الشاعر المجيد، الفكه الطروب.
ويعتبر فخر الدين بن مكانس من حلبة برهان الدين القيراطي التي نبغ رجالها في النصف الثاني من القرن الثامن، ومن أندادهما ابن أبي حجلة، وعز الدين الموصلي، وشهاب الدين بن العطار.
وقد اتصل حبل الصداقة بينه وبين كثيرين من أدباء عصره، ومال منذ الحداثة إلى الآداب، وكان له بالإنشاء والشعر ولوع أي ولوع. فكتب ونظم وراسل وساجل وتغزل وغازل، وجنح للمجون واللهو. ذكروا أن السلطان برقوقا غضب عليه مرة فضربه وعلقه من رجليه بسرياق فلبث نصف نهار منكس الرأس، ولعل ذلك كان بسبب لهوه وعبثه. وقد قال في ذلك:
وما تعلقت بالسرياق منتكسا ... لزلة أوجبت تعذيب ناسوتي
لكنني مذ نفثت السحر من غزلي ... عذبت تعذيب هاروت وماروت
وقد نظم فخر الدين الشعر في أغراض عدة، وغلبت على أسلوبه الرقة والسهولة والوضوح مع العناية بالبديع. وقد يرق أسلوبه حتى يصير مبتذلا، وتبدو فيه أخطاء قليلة لا ترضي النحو ولا اللغة واعتبره ابن حجة مبتكراً في معانيه مخترعاً في أوصافه. . . وهو بارع في التضمين. سخر من أنف أحد أصحابه - وكان ضخما - فوصف هذا الأنف وصفاً فكاهيا في أبيات عدة ضمنها أعجازاً بل أبياتاً من معلقة امرئ القيس! فأخرج المعلقة(784/19)
بذلك عن طريقها إلى طريق آخر، حتى لكأنها له لا لامرئ القيس. وتلك براعة نادرة. ولفخر الدين منظومة مجونية رقيقة في الاستدعاء وآداب المنادمة، واسمها (عمد الحرفاء وقدوة الظرفاء) وله (المزدوجة) وهي في الدعوة إلى المرح. و (وصية ابن مكانس) وهي منظومة في السياسة والنصائح. وله ديوان شعره.
وبعد فهذا أحد الشعراء الذين يمثلون الروح المصرية الخالصة والأدب المصري الصميم، اتخذنا (سرحيته) وسيلة إلى التنويه به وإثارة الخواطر إلى دراسته.
(حلوان)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(784/20)
ترجمة وتحليل:
الغروب!. .
لشاعر الحب والجمال لامرتين
بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
استلقى الشاعر على الرمال والريح بليل، فما كان أمامه إلا البحر الغضوب والشطُّ الجميل، ولا كان فوقه إلا السماء تسعى فيها إلى المغرب شمس الأصيل. . وراح يتأمل هذا البحر الهائج المضطرب تصطخب أمواجه وتتلاطم، وتعلو رءوسها وتهبط، وترغى أشداقها وتزبد، فخيل إليه أنه أمام قدر تغلي مياهها فتعلو أزبادها، وأن من تحت البحر ناراً تسجره، كما يكون تحت القدر مرجل تسعره؛ فاستشعر حلاوة هذا التأمل واستغرق فيه، فما أفاق على نفسه إلا وقد هدأ البحر بعد اضطرابه، وسكن موجه بعد اصطخابه، فقد خبت ناره فما تسجره، كما يخبو مرجل القدر فلا يسعره؛ ونهض الشاعر يريد العودة إلى منزله فما راعه إلا منظر جديد يتقلب تحت بصره. فلقد هب البحر هبة واحدة، ثم سحب من الشاطئ موجه الدافق المتلاحق، كما تسحب الغانية عن الأرض ذيول ردائها الفاتن، وأقبل والموج في استرخاء، على سرير سابح في الفضاء، ينشدان طيب المنام، بعد يوم شديد الخصام!
وكان حقاً للامرتين أن يظل مستلقياً على الرمال ليشهد هذا المنظر الجذاب، فيسجله بهذه الأبيات:
1 - (هدأ البحر كقِدر علا زَبَدُه،
ثم ذهب جُفاءً لما خبا موقده. . .
وهبَّ يسحب من الشاطئ موجه المتدافع،
كأنه يريد المنام في سريره الواسع!)
وفي الأفق البعيد، فوق هذا البحر الذي أخذته سِنة من النوم، وبين الغمام المخيم على البحر، كانت (ذكاء) تمشي على استحياء، وتهوي في خَفَر من سحاب إلى سحاب، وتُمدّ في تردد ظلها على الأمواج، فكان ظلا مرتعشاً مرتاباً، يطفو على وجه البحر تارة ويختفي بين(784/21)
طياته أخرى. . ثم اشتد خجلها من تردد ظلها وارتيابه، فاحمر وجهها حتى أضحى كوجه غانية مخضب بالدماء؛ وأبت أن تشمت الطبيعة بما عراها من اضطراب، فوارت في حجاب الأفق شطراً من وجهها القاني الذي ظل شطره الآخر براقاً يخطف الأبصار، وجلا يتأهب للتواري عن الأنظار، فكان كسفينة جميلة اشتدت بها الريح في يوم عاصف، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، ثم غرقت في الأفق البعيد؛ فانطوى منها شطر في أعماق الماء، وبدا شطرها الآخر على وجهه تندلع منه ألسنة اللهيب في حمرة الدماء!
2 - (والشمس التي كانت تهوي من سحاب إلى سحاب،
مدّتْ على الأمواج ظلَّها المرتاب. . .
ثم وارت شطراً دامياً من وجهها البراق،
كسفينة غرقت في الأفق بعد احتراق!)
وكأنما أسفت السماء لغياب الشمس، فشحب منها الجانب المواجه لما احتجب من ضيائها، وظهرت عليها إمارات الحزن والاضطراب؛ على حين غارت الصبا من الشمس فظنت تواريها في حجاب الأفق رشاقة ودلالا، فاستترت مثلها ببرقعها الشفاف، وأنشأت شفتاها الرقيقتان تنفحان من خلاله نفحات ألطفً من حفيف الورق، وأنعم من لمس الحرير؛ بينما كانت الظلال تدنو من أمها الشمس وتقترب، وتجتمع بأمرها وتتحد، ثم تعدو بين يديها وتستبق، وتمحو تحت ألوانها الداكنة السوداء كلَّ ما يدب على الأرض أو يجري، وما يسكن في مساربها أو يسري، ولك ما يطفو على وجه الماء أو يسبح، وما ينطوي في أعماقه أو يعوم.
3 - (وشحب شطر السماء. أما الهواء اللطيف
فتوارى في الحجاب ناعماً كالحفيف. . .
وعَدَتِ الظلال فمحتّ في ألوانها الدكناء؛
كلَّ سارب في الأرض أو سابح في الماء!)
وليت شعري، ماذا يصنع الشاعر أمام هذه المناظر؟
بحر يهدأ بعد اضطراب، وينام بعد اصطخاب. وشمس تمر بين السحاب، ثم تتوارى في الحجاب. . . وسماء تشحب وتصفرّ، وريح تسكن وتقرّ. . . وظلال تعدو وتستبق، وعوالم(784/22)
تنمحي وتختنق!!. .
أجل. . . ماذا يصنع الشاعر أمام هذه المناظر؟
لقد هدأت بعد ذهاب النهار كلُّ ضوضاء، وسكنت كل حركة، وسكت كل صوت إلا صوت باك من فؤاد حزين، أو متضرع بقلب سليم، أو شاك ظلم الأقدار، أو ناشد حقائق الأسرار!.
ألا وإن للشاعر روحاً تشحب إذا شحبت السماء، وفؤاداً يبكي إذا تذكر البكاء، ونفساً تشكو بألم الآخرين قبل شكواها، وعقلا ينشد الحقيقة ولو من صداها. وهذا ما صنعه لامرتين ووصفه في هذه الأبيات:
4 - (وفي أعماق روحي التي أمست بدورها شاحبة،
قرت بعد ذهاب النهار كل ضجة صاخبة.
وساور نفسي شيء كما ساور الخليقة؛
يبكي ويدعو ويشكو وينشد الحقيقة!)
ولو كنت تجلس مجلس الشاعر لرأيت في ناحية المغرب - وسط قرص الشمس الهلالي الأحمر - باباً واسعاً مفتوحاً على مصراعيه، تسطع منه الأنوار تتلوها الأنوار، وهاجة كالذهب، دّفاقة كالموج، فتصطبغ السحابة من فوقها بلون أرجواني جذاب، فتحسب هذه السحابة خيمة ضُربتْ أوتادها على نار يضطرم أوراها؛ ويشتد سعيرها، لتغطيها وتمنع الريح من إطفائها؛ وأن ليس هذا اللون الأرجواني إلا صبغة اللهيب، ارتسمت على الخيمة فلاحت من خلالها، في روعة مدهشة وجلال عجيب!
5 - (وفي ناحية المغرب باب واسع مفتوح،
ترك الأنوار كأمواج الذهب تلوح. . .
والسحابة الأرجوانية شابهت خيمة،
تغطي - ولا تطفئ - نيراناً مضطرمة!)
ومثل هذا المنظر الأّخاذ جدير أن يجذب إليه الظلال والرياح والأمواج، فإذا هي تعدو جميعاً صوت هذا القرص الجمري الملتهب، وتود لو تحول دون غوصه في الأفق، لأن شعاعه العسجدي هو الذي يمدها بالحياة، وأنها لتخشى الموت إذا فارقها الشعاع.
6 - (وبدت الظلال والرياح وأمواج البحر،(784/23)
كأنها تعدو صوب هذا القرص من الجمر،
كما لو كانت الطبيعة وكل ما يمدها بالحياة
يخشى الموت بعد أن فقد ضياه!. . .)
ومن عجب أن غبار المساء، أبى إلا أن يطير عن الأرض منتشراً في السماء، وأن زبد الموج آثر أن يطفو على وجه البحر رغوة بيضاء؛ فما بقى على الشاطئ إلا الشاعر حائراً أمام هذه المناظر، يرجع البصر في هذا السكون العميق، فتنحدر الدموع من عينيه على غير حزن، وتنهمر على خديه من غير أسى، فلا يدري ما الذي أبكاه، ولا يفهم كيف ذرفت عيناه. . .
7 - (وطار عن الأرض عِثْيَرُ المساء،
وطفا الزبد على الموج رغوة بيضاء؛
فأْتبعتها بصري الحائر المنكسر،
ودعوعي - من غير ما يحزنني - تنهمر!.)
بلى أيها الشاعر أن حري أن تعرف ما الذي أبكاك!
أبكاك هذا السكون المفعم بالأسرار، وروعة الليل بعد ذهاب النهار!
أبكاك شعورك بالوحدة إذ رأيت الأفق البعيد خالياً ليس ليس فيه شيء، مضروباً عليه الحجاب لا يكشف من دونه سر، وكان فؤادك الذي عذبه طلب الحقيقة وأضناه طامعاً فيما يحيط بالأفق من أسرار؛ فلما اختفى من أمامك كل شيء تحركت شجونك، وأحسست لوعة تحرقك، فجادلت عيناك بالبكاء، لتلهمك الصبر والعزاء.
ولكن. . . أما يزال فؤادك فارغاً لا تجول فيه الأفكار، أم أوحت إليك هذه المناظر بفكرة جديدة تناجي بها هذه الطبيعة التي تصلى في محرابها القدسي؟. .
كلا. . إنك تفكر. . . ولكنك لا تشعر بما يتلجج في صدرك، فحاول أن تصف حقيقة شعورك، لترى صورة من تفكيرك.
8 - (واختفى كل شيء. فبقى فؤادك المعذب،
فارغاً خالياً كالأفق المحجَّب. .
ثم تمثلت لي فكرة واحدة. . .(784/24)
كأنها هرم في واحة راقدة. . .)
وإن هذه الفكرة التي هبطت عليك هبوط الوحي، ومثلت في ذهنك الخالي مثول الهرم في واحة ليس بها أنيس - لفكرة جليلة ما في ذلك ريب: فلقد ناجيت بها هذه الشمس التي ما تنفك تسبح في فلكها ما تستقر، وتدور حول العالم ما تعرف السكون، وتسعد بشروقها قوماً حين تشقى بغروبها آخرين، فإذا هم يعيشون على غير نور، أو يمشون في ضوء القمر المستمد من ضيائها، وهم يرتقبون طلعتها سافرة لا يسترها برقع، ووجهها براقاً لا يخفيه حجاب.
وناجيت بها السحب المتنقلة، والأمواج المتدفقة، والأعاصير المتلاحقة، إلى أين تسير، وعم تبحث، وماذا تروم؟
وناجيت بها الغبار الذي رأيته يتطاير، والزبد الذي شهدته يطفو، والليل الذي راقبته يدخل، وعينيك اللتين أبصرتها كل شيء، وروحك التي سبحت في الوجود، إلى أين الرحيل، وأيان السفر، وفيم الإسراع؟
فهل سمعت رداً، وهل تلقيت جواباً؟!. . .
9 - (يا فلكا ما انفك يدور، والعالم بعده بلا نور!
يا سحباً وأمواجاً وأعاصير: نبئيني أين المصير؟
أيها الغبار والزبد والليل! يا عيني وروحي خبرين
إلى أين رحيلنا أجمعين؟ هلا تعلمين؟)
دعها أيها الشاعر إن كانت تعلم أو لا تعلم، فبحسبك أنك لا تشك لحظة في أن كل شيء مردود إلى خالقه، وأن الشمس ما شحب لونها ثم احمر وجهها ثم غاص شطرها إلا من هيبة ربها؛ وأن الليل ما أقبل، والنهار ما ارتحل، والأرواح ما بكت وتضرعت وشكت إلا لأنها تمشي بخطى واسعة نحو بارئها: فهو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي مد الظل، وهو الذي مرج البحر، وهو الذي سخر الشمس والقمر، وهو الذي جعل الحياة البشر خضماً يضطرب ويهدأ كهذا الخصم الذي تراه، ليمخر الناس عبابه فيصلوا إلى شاطئ السلامة.
ألا فلتطأطأ الرأس خشوعاً بين يدي ذي الجلال، فما أنت إلا سابح في موج كالجبال.(784/25)
10 - (إليك يا رب. . . فالشمس من بهاء نورك شاحبة،
والليل والنهار والأرواح نحوك ذاهبة!
تقلب الكون كما تشاء في حياة شاملة،
كأنها خضم يغيب كل شيء في أمواجه الهائلة!)
وهنا يقوم الشاعر من مقامه، ويعود إلى منزله وفي عينيه صورة (الغروب)، صورة ما رسمتها ريشه فنان كما ارتسمت على صفحة الروح.
صبحي إبراهيم الصالح(784/26)
هل اندفع ملوك العرب إلى الحضارة بتأثير الفرس؟
للأستاذ ضياء الدخيلي
يحاول سعادة الدكتور قاسم غني سفير إيران بمصر في بحثه عن تاريخ الطب الإسلامي في مجلة الرسالة الغراء - أن يثبت تصريحاً وتلويحاً أن الحضارة العربية شيدها الفرس وهي وليدة عبقرياتهم في الأغلب، وأن إدخال العلوم إلى بلاد العرب في العهد العباسي كان بتأثير النفوذ الفارسي، فهو يقول (إن النهضة العلمية الحقيقية بدأت في العصر العباسي، وكان للإيرانيين حينذاك نفوذ كبير وشأن في الدولة عظيم) ويقول (وإن أكثر المترجمين كانوا من أمم غير عربية وأحيانا من غير المسلمين كالسريان والعبريين، وفي الإيرانيين المسلمين منهم والنصارى واليهود والمجوس) ويقول (ففي هذا العصر ترجمت كتب علمية على درجة كبيرة من الأهمية، ولا سيما في زمن خلافة المأمون، وكانت أمه وزوجته إيرانيتين، وكان نفوذ الإيرانيين قد بلغ في عهده غايته) ثم قال في العدد الأخير (781): (في هذا العهد ظهر كثير من الأطباء الكبار من أصحاب التآليف المهمة في المسلمين كانت آثارهم ومؤلفاتهم تدرس في المدارس، وكتب العلماء مئات من الشروح والحواشي عليها، وترجمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية، ودرست في مدارس أوربا الطبية، وكانت مدار الطب عندهم، وكان كثير منهم من إيران، وقد بلغت شهرة خمسة منهم حداً عظيماً، وخلدت أسماؤهم في تاريخ الطب وهم. .) ثم أورد خمسة من الفرس ليستمر في دراسة حياتهم. . . وإني أريد أن أناقشه اليوم على أولى دعاويه: فهل العباسيون كانوا مدفوعين من قبَل وزرائهم الفرس على أن يبنوا ببغداد مدنية عربية أحجارها من تراث مختلف الأمم السابقة إلى الحضارة والعلم قبلهم مع التسليم بتأثير ما للسنن الاجتماعية، ولكن حتى في استعراضه لهذه العامل يقول حفظه الله: (أصبحت اللغة العربية بالتدريج لغة العلم والعلماء بين المسلمين، وكان العلماء والمسلمون من كل قوم ولغة يؤلفون مؤلفاتهم بها ليستفيد منها جميع المسلمين، وبتوالي الزمن أصبحت كالنقد الرائج يتلقاها الجميع بأحسن قبول) وإذن فإن التأليف والمؤلفات العربية لا فضل للعرب فيها لأن الأقوام الأخرى اضطرها الزمن لأن تكتب بهذه اللغة، وليس النتاج العلمي المدون بلغة الضاد نتاجاً لعبقرية عربية، وإنما ذلك الزمن الساخر العابث هو الذي جعل هذه اللغة أممية عالمةي، فانجر العباقرة الأجانب(784/27)
للتدوين بها الخ. فلنتساءل الآن: لماذا أدخل العرب مدنيات الأمم إلى لغتهم؟ يورد بعض القدماء رؤيا رأي المأمون فيها أرسطو فاستيقظ وقد تملكه حب لهذا الفيلسوف، فاندفع يبحث عن آثاره. ولا ريب أنك قانع معي بضعف هذا التعليل وركة اتخاذ هذه الأسطورة سبباً للعمل الجبار الذي عج به صدر الدولة العباسية. إن النصوص التاريخية التي سأدلي بها تحدثنا عن طموح ملوك العرب وتطلعهم إلى الرقي والنهوض بأممهم إلى المستوى اللائق بهم مما دفعهم إلى البحث عن منابع الثقافات المختلفة، وإن تفكيرهم العلمي ودقة آرائهم ونضوجهم أمور كانت تدفعهم ألا يرتضوا في الحالات المرضية بالتعاويذ والرقي، إنما كانوا يبحثون عن أرقى الأوساط الطبية وينقبون عنها ليطلبوا كبار أطبائهم، ولم يكونوا يكترثون بالاختلافات الدينية، فإنهم اتخذوا أطباءهم من مختلف النحل والملل، وهذا نفسه دليل على رقي عقولهم وسلامتها من الجهل والتعصب الذميم، وتحريرها من ربقات القيود والتقاليد الرجعية. يقول ابن أبي أصيبعة: إن المنصور في عام 148 للهجرة مرض وفسدت معدته وانقطعت شهوته، وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه، فتقدم إلى الربيع (من رجال البلاط) بأن يجمع الأطباء في سائر المدن - طبيباً ماهراً؟ فقالوا ليس في وقتنا هذا أحد يشبه جورجس رأس أطباء جنديسبور، فإنه ماهر في الطب وله مصنفات جليلة. فأنفذ المنصور في الوقت من يحضره الخ، وقد كانت هذه البعثة الطبية فاتحة اتصالات البلاط العباسي ببغداد بمدرسة حنديسابور الطبية وهي مدرسة أسسها الأكاسرة (كما يخبر القفطي) وظلت قائمة في ظل الحكم العربي لإيراني إلى القصر العباسي، وقد قال ابن أبي أصيبعة إن رسول المنصور لما وصل إلى عامل البلد أحضر جورجس وخاطبه بالخروج معه، فقال له عليَّ هنا أسباب ولابد أن تصبر عليَّ أياماً حتى أخرج معك فقال له إن أنت خرجت معي في غد طوعاً وإلا أخرجتك كرهاً، وامتنع عليه جورجس فأمر باعتقاله، ولما اعتقل اجتمع رؤساء المدينة مع المطران فأشاروا على جورجس بالخروج فخرج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان (المستشفى) وأموره التي تتعلق به هناك، وأخذ معه إبراهيم تلميذه وسرجس تلميذه، فقال له ابن بختيشوع لا تدع ههنا عيسى بن شهلا فإنه يؤذي أهل البيمارستان، فترك سرجس وأخذ عيسى عوضاً عنه وخرج إلى مدينة السلام) وإذن فقد كان في عهد الحكم العربي لفارس - كيان قائم لمدرسة جنديستابور، وكان فيها(784/28)
أساتذة وتلاميذ ومستشفى تعليمي يتدربون فيه، فقد قال جورجس للخليفة، ههنا معي تلامذة قد ربيتهم وخرجتهم في الصناعة حتى إنهم مثلي، فأمر الخليفة بإحضارهم. وإن المنصور كان أول من فتح مجرى هذه الثقافة ليصب في مدينة السلام، وقد اتبعه خلفاؤه من بعد. قال في عيون الأنباء: لما مرض موسى الهادي أرسل إلى جنديسابور من يحضر له بختيشوع بن جورجس. وقال أيضاً ولما كان في سنة 171 مرض هرون الرشيد من صداع لحقه فقال ليحيى بن خالد: هؤلاء الأطباء ليس يحسنون شيئاً، فقال يحيى يا أمير المؤمنين أبو قريش طبيب والدك ووالدتك، فقال ليس هو بصيراً بالطب، وإنما كرامتي له لقديم حرمته فينبغي أن تطلب لي طبيباً ماهراً، فقال له يحيى بن خالد: إنه لما مرض أخوك موسى أرسل والدك إلى جنديسابور حتى أحضر رجلا يعرف ببختيشوع. فقال له أرسل بالبريد حتى يحملوه إن كان حياً. ولما كان بعد مديدة وافى بختيشوع الكبير ابن جورجس ووصل إلى هرون الرشيد. فها أنت ترى أن الرشيد يلح على وزيره الفارسي في طلب الأطباء وبارزيهم، أما عيسى الذي استهان به فهو ابن ماسة، وقد عده ابن أبي أصيبة في طبقات الأطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور الدولة العباسية. وفي ضحى الإسلام أن الرشيد أمر جبريل بن بختيشوع أن يعمل ببغداد بيمارستاناً على نمط بيمارستان جنديسابور (نقل الأستاذ أحمد أمين ذلك عن القفطي ولم أجده في ترجمة جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد في طبعة مطبعة السعادة. وقج قال الأستاذ في ضحى الإسلام أن مدرسة جنديسابور الطبية أسسها كسرى أنوشروان. والذي في أخبار الحكماء للقفطي أن سابور بن أردشير عندما بنى المدينة لابنة قيصر التي تزوجها نقلت معها إليها أطباء أفاضل؛ ولما أقاموا بها بدءوا يعلمون أحداثاً من أهلها. ولم يزل أمرهم يقوى في العلم ويتزايدون فيه ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم حتى برزوا في الفضائل، وجماعة يفضلون علاجهم وطريقتهم على اليونانيين والهند لأنهم أخذوا فضائل كل فرقة فزادوا عليها بما استخرجوه هم أنفسهم، فرتبوا لهم دساتير وقوانين وكتباً جمعوا فيه كل حسنة الخ. وإذن فإن مدرسة جنديسابور تأسست في عهد سابور بن أردشير لا في عهد كسرى أنوشروان كما تفضل الأستاذ أحمد أمين، فهل يرشدنا الدكتور قاسم غني إلى وجه الصواب وأهل مكة أدرى بشعابها؟(784/29)
ولنعد إلى حديثنا الأول فنقول إنك واجد مما تقدم أن الخلفاء العباسيين قد إنبعثوا إلى الاستفادة من أساتذة مدرسة جنديسابور بحثاً عن المراحل العليا لهذا العلم ولوعا بالاستزادة من أنواره، وأن تطلبهم الطب لمعالجة مرضاهم بأسلوب علمي خال من الشعوذة جرهم إلى الاستكثار من باقي العلوم الطبيعية؛ والحديث بعضه يأخذ برقاب بعض فقامت النهضة العلمية ببغداد وكانت لها جذور من قبل في دمشق.
وهناك مدرسة ثانية للثقافة اليونانية كانت في حران، وقد حدث القفطي أن ثابتاً بن قرة كان من أهل حران وانتقل إلى مدينة بغداد واستوطنها، وكان الغالب عليه الفلسفة، وكان في دولة المعتضد، وله كتب كثيرة في فنون من العلم كالمنطق والحساب والهندسة والتنجيم والهيئة، وأن محمد بن موسى بن شاكر وصله بالمعتضد، وأن ثابتاً هذا قد جر علماء حران إلى بغداد فثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم، وقد بلغ ثابت من المعتضد أجل المراتب وأعلى المنازل. ثم يستمر القفطي في رعض مؤلفاته. ويقول ابن أبي أصيبعة أنه لم يكن في زمن ثابت من يماثله في صناعة الطب ولا غيره من جميع أجزاء الفلسفة. وله تصانيف مشهورة بالجودة. وكذلك جاء جماعة من ذريته ومن أهله يقاربونه فيما كان عليه من الفضل. وكان ثابت جيد النقل إلى العربية حسن العبارة، وكان قوي المعرفة باللغة السريانية وغيرها. وقال ابن خلكان إن لثابت تآليف كثيرة في فنون من العلم مقدار عشرين تأليفاً، وأخذ كتاب أقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي فهذبه ونقحه وأوضح ما كان مستعجماً فهي، وكان من أعيان عصره وأن محمداً بن موسى (الذي رباه المأمون وأنشأه في بيت الحكمة) وصله بالخليفة المعتضد العباسي فأدخله في جملة المنجمين. وبعد فإنك واجد الخليفة العباسي هو الذي شجع هذا الحراني على أن يقيم في بغداد ونشر لواء العلم حتى جذب إخوانه من سدنة الثقافية اليونانية في مدرسة حران. قال في ضحى الإسلام كان هؤلاء الحرانيون منبعاً كبيراً من منابع الثقافة اليونانية في العهد الإسلامي، وقد اتصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيين بعد اتصال مدرسة جنديسابور وأول من اتصل منهم ثابت بن (221 - 288هـ) وصله بالمعتضد بنو موسى بن شاكر الدين رباهم المأمون والقفطي أوصله واحد من الاخوة الثلاثة هو محمد كما ذكر ذلك ابن خلكان وابن أبي أصيبعة(784/30)
ومن ذلك الحين قرب الحرانيون من الخفاء ثم من بني بويه، وإن مدرسة حران كان لها الأثر الأكبر في الرياضيات وخاصة الهيئة، وأبناء موسى بن شاكر هؤلاء رباهم المأمون وأنشأهم في بيت الحكمة ببغداد. قال القفطي كان والدهم موسى بن شاكر يصحب المأمون والمأمون يرعى حقه في أولاده هؤلاء فقد مات وخلف هؤلاء الأولاد الثلاثة صغاراً فوصى بهم المأمون إسحق ابن إبراهيم المصعبي وأثبتهم مع يحيى بن منصور في بيت الحكمة، وكانت كتبه ترد من بلاد الروم إلى إسحق بأن يراعيهم ويوصيه بهم ويسأل عن أخبارهم حتى قال جعلني المأمون داية لأولاد موسى بن شاكر. وقد خرج هؤلاء نهاية في علومهم، وقال وهم ممن تناهي في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب، وقد أتعبوا نفوسهم فيها وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبدل السني، فأظهروا عجائب الحكمة. وكان الغالب عليهم من العلوم: الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم، وإذا عرفت تاريخ حياتهم علمت أن الفضل فيما آتوه من خدمة المدنية العربية وتغذيتها بالثقافات الأجنبية يعود لمن رباهم وأنشأهم، فاقتدوا بسيرته ذلك هو المأمون واضع قواعد النهضة العلمية ببغداد. وبعد فأنا إن استعرضنا كيف أن الخلفاء العباسيين أنفسهم كانوا المشجعين لأن تستفيد الحركة العلمية ممن جاؤوا بهم من العلماء لتغذيتها من مدرسة جنديسابور وحران بقى علينا أن نصغي لابن أبي أصيبعة يحدثنا كيف اتجه الرشيد إلى مدرسة الإسكندرية، قال في عيون الأنباء عند تحدثه عن مشاهير الأطباء في مصر أن الرشيد أهديت له جارية مصرية وكانت حسنة جميلة وكان الرشيد يحبها حباً شديداً فاعتلت علة عظيمة فعالجها الأطباء فلم تنتفع بشيء فقالوا ابعث إلى عاملك بمصر ليوجه إليك واحداً من أطباء مصر ليعالج الجارية، فأرسل له بليطيان بطريرك الإسكندرية فعالجها وشفيت فوهب له الرشيد أموالا كثيرة. وقد تقدم بعد بليطيان جماعة لخدمة أمراء العرب مثل سعيد بن نوفيل طبيب أحمد بن طولون ونسطاس في دولة الأخشيد وبقى مصدر آخر للثقافة العربية في صدر الدولة العباسية هو الثقافة الهندية، وقد حدثنا القفطي في أخبار الحكماء أن المنصور هو الذي فتح مجراه ليصب في مدرسة بغداد إذ نقل أن ابن الآدمي ذكر في زيجه الكبير المعروف بنظم العقد أنه قدم على أبي جعفر المنصور رجل ماهر في معرفة حركات النجوم وحسابها وسائر أعمال الفلك، وكان معه كتاب في ذلك(784/31)
يحتوي عدة أبواب فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية ليعمل كتاب تتخذه العرب أصلا في حساب حركات الكواكب وما يتعلق به من الأعمال، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الغزاري وعمل منه زيجاً اشتهر بين علماء العرب حتى إنهم لم يعملوا إلا به أيام المأمون حيث ابتدأ مذهب بطيموس في الحساب والجداول الفلكية. وهذا يدلك أن العرب وملوكهم اندفعوا إلى الحضارات من أنفسهم لا بتأثبر الفرس أو غيرهم لأنهم من شعب يتعشق المعالي ويجد في نيلها، وقد أصبحوا بعد فتحهم المعمور وتدويخهم الأقطار حكام الأرض وقادة الشعوب، فكيف يرضون لأنفسهم بالجهل والانحطاط، لذلك رأيت ملوكهم بدافع من غرائزهم وجبلاتهم - كلما سمعوا بعلم أمروا بنقله إلى لغتهم وأكرموا العلماء وأعطوهم الحرية الكاملة وجاروهم في عاداتهم وعقائدهم تطميناً لهم ليسخوا في تعليم العرب، فهذا المنصور يأمر الربيع أن يوفوا الخمر لجورجس ويستثنيه من الحظر الإسلامي فيذهب الربيع إلى قطر بل ويحمل منها إليه غاية ما أمكنه من الشراب الجيد. وقال أبو إسحق الصابئ الكاتب إن ثابتاً بن قرة كان يمشي مع المعتضد في الفردوس وهو بستان في دار الخليفة للرياضة، وكان المعتضد قد اتكأ على يد ثابت بشدة، ففزع ثابت، فإن المعتضد كان مهيباً جداً. فلما نثر يده من يد ثابت قال (يا أبا الحسن سهوت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها، وليس هكذا يجب أن يكون؛ فإن العلماء يَملون ولا يُعلون) وكان الخلفاء العباسيون والأمراء يعادلون الكتب التي يترجمها حنين بن إسحق العبادي بالذهب، وقد قيل إنه كان يكتب ما يترجم على ورق ثخين وبحرف كبير ليكثر وزنه ويزيد ما يتناول من المال. وقد كان إقبال ملوك العرب وأمرائهم على العلوم قبل أن يتنفذ الفرس في دولتهم. هذا عمر بن العزيز في الدولة الأموية بدمشق يأمر بنقل كتاب أهرن بن أعين في الطب إلى اللغة العربية، وقد سبق خالد بن يزيد بن معاوية إلى ترجمة كتب الفلاسفة والنجوم والكيمياء والطب والحروب والآلات والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي والسرياني، وخالد بن يزيد هذا أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام (كما ذكر في كتاب الإسلام والحضارة العربية)
أما عن إقبال ملوك الأندلس على العلم فقد نقولا أنه في عام 1948 أهدى إمبراطور القسطنيطينة إلى الخليفة الناصر في الأندلس كتاب ديوسقوريدس باليونانية مزيناً بالرسوم(784/32)
وهذا كتاب في النبات والأقراباذين كان قد ترجمه اصطفن بن باسيل في أيام الخليفة المتوكل وقد ترك بعض الألفاظ التي لم يعرف لها مقابلا في العربية على أصلها اليوناني أملا أن يأتي بعده من يعرف مرادفاتها في العربية. ولما كان لا يوجد في الأندلس حينئذ من يعرف اليونانية، فقد طلب الناصر من الإمبراطور أن يرسل له شخصاً يعرف اليونانية واللاتينية، فأرسل الراهب نقولا الذي وصل إلى قرطبة عام 951 وقد كتب الطبيب الأندلسي ابن جلجل في مطلع القرن الحادي عشر - كتاباً عن الأشياء التي أغفلها ديوسقوريدس. فجاء الكتابان مؤلفاً كاملا، وطبعاً أن ذلك ثمرة جهود الخليفة الناصر المتقدمة وقال ابن أبي أصيبعة أن أبا مروان بن زهر كان جيد الاستقصاء في الأدوية المفردة والمركبة حسن المعالجة قد شاع ذكره في الأندلس وفي غيرها من البلاد، واشتغل الأطباء بمصنفاته، ولم يكن في زمانه من يماثله في مزاولة أعمال صناعة الطب، وكان قد خدم الملثمين ونال من جهتهم من النعم والأموال شيئاً كثيراً. وإن أبا محمد بن الحفيد ابن زهر كان كثير الاعتناء بصناعة الطب والنظر فيها والتحقيق لمعانيها، واشتغل على والده ووقفه على كثير من أسرار هذه الصناعة علمها وعملها، وقرأ كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري على أبيه وأتقن معرفته، وكان الخليفة أبو عبد الله محمد الناصر يرى له كثيراً ويحترمه ويعرف مقدار علمه، وأنه لما توجه إلى الحضرة خرج منه فيما اشتراه لسفره ونفقته في الطريق نحو عشرة آلاف دينار ولما اجتمع بالخليفة الناصر بالمهدية لما فتحها خدمه على ما جرت به العادة، وقال إنني بحمد الله بكل خير من أنعامكم وإحسانكم عليّ وعلى آبائي. وقد وصل إلى ما كان بيد أبي من إحسانكم ما يغنيني مدة حياتي وأكثر، وإنما أتيت لأكون في الخدمة كما كان أبي وأن أجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه أبي بين يدي أمير المؤمنين، فأكرمه الناصر إكراماً كثيراً وأطلق له من الأموال والنعم ما يفوق الوصف، وكان مجلسه إذا حضر قريباً منه في الموضع الذي كان يجلس فيه والده الحفيد ابن زهر. فهل كان هذا الإقبال من ملوك العرب في الأندلس على العلم وأهله بتأثير من الفرس أو غيرهم، أم ذلك لما جبل عليه العرب من حب العلم وتعشق الكمال والفضيلة.
أما ما نقلوا عن احترام ملوك مصر للعلماء وتشجيعهم لهم فقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن ابن الهيثم كان متفننا في العلوم لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه،(784/33)
وكان دائم الاشتغال كثير التصنيف، وقد لخص كثيراً من كتب أرسطو طاليس وشرحها وكذلك لخص كثيراً من كتب جالينوس في الطب، وكان خبيراً بأصول صناعة الطب وقوانينها وأمورها الكلية إلا أنه لم يباشر أعمالها، ولم تكن له دربة بالمداواة وتصانيفه كثيرة الإفادة قال: وكان ابن الهثيم في أول أمره بالبصرة ونواحيها وبلغ الحاكم صاحب مصر من العلويين - وكان يميل إلى الحكمة - خير ما هو عليه من الإتقان لهذا الشأن فتاقت نفسه إلى رؤيته ثم نقل له عنه أنه قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص. فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال هو في طرف الإقليم المصري فازداد الحاكم إليه شوقاً وسير إليه سراً جملة من المال وأرغبه في الحضور فسافر نحو مصر ولما وصلها خرج الحاكم للقائه والتقيا بقرية على باب القاهرة المعزية تعرف بالخندق (ويقول صاحب فلاسفة الإسلام وهو مصري أن موضعها الآن الضاحية المعروفة باسم (كوبري القبة) وأمر الحاكم بإنزال ابن الهيثم واحترامه إلى آخر الخبر ويقول الأستاذ محمد لطفي جمعه لم يكن ابن الهيثم يقصد سوى صنع خزان في موضع خزان أسوان فكر بذلك قبل أن يفكر فيه المهندسون المصريون والغربيون لاسيما الإنجليز منهم - بعشرة قرون، وقد حال دون تنفيذ فكرته ما رآه من صعوبة مباشرة وكثرة نفقات المشروع وعدد ما ينبغي له من الأيدي العاملة والآلات المعدنية الضرورية للحفر والبناء في مجرى النهر وما يقتضيه ذلك من تحطيم الصخر في الموضع المعروف بالجنادل.
وبعد فها أنك ترى كيف كان يحترم الحاكم رجال العلم، وقد ذكر في عيون الأنباء جملة من الأطباء في مصر نالوا حظوة كبرى عند ملوكها فمنهم البالسيّ الذي ألف كتاب التكميل في الأدوية المفردة - لكافور الأخشيدي ومنهم موسى بن العازار الإسرائيلي، وكان مشهوراً بالحذق والتقدم وكان في خدمة المعز لدين الله، وألف له الكتاب المعزى في الطبيخ وله كتاب الأقراباذين ومقالة في السعال ومنهم سعيد بن البطريق كان مشهوراً متقدماً في الطب، وقد صيره القاهر بالله في أول خلافته بطريقاً على الإسكندرية، وله كتاب في الطب علم وعمل، ومنهم محمد التميمي، كان ذا خبرة فاضلة في تركيب المعاجين والأدوية المفردة، واستقصى معرفة أدوية الترياق وركب منه شيئاً كثيراً على أتم ما يكون من حسن الصنعة،(784/34)
وقد كان مختصاً بالحسن بن عبيد الله المستولي على مدينة الرملة وما انضاف إليها من البلاد الساحلية وكان مغرماً به وما يعالجه من المفردات والمركبات وعمل له عدة معاجين ولخالخ طيبة ودخناً دافعة للأوباء، وسطر ذلك في أثناء مصنفاته، ثم أدرك الدولة العلوية عند دخولها إلى الديار المصرية وصحب وزير المعز والعزيز وصنف له كتاباً كبيراً في عدة مجلدات سماه (مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء والتحرر من ضرر الأوباء) ولقي الأطباء بمصر وحاضرهم وناظرهم، واختلط بأطباء الخاص القادمين من أهل المغرب في صحبة المغز عند قدومه والمقيمين بمصر من أهلها، وقد ألف عمار بن علي الموصلي للحاكم كتاب المنتخب في علم العين وعللها ومداواتها بالأدوية والحديد، وكان عمار كحالا مشهوراً ومعالجاً مذكوراً له خبرة بمداواة أمراض العين ودربة بأعمال الحديد، وقد وصف الموصلي في كتاب هذا طريقة عملية الكتركت الساد) بواسطة مصها بإبرة مجوفة، وربما كانت هذه الطريقة قديمة استعملها غيره قبله منذ زمن بعيد فقد قال صلاح الدين في كتابه (نور العيون) أن ثابتاً بن قرة كان معارضاً لهذه الطريقة لأن الإبرة قد تمص أغشية أخرى ولكن الموصلي يقول أنه مارس هذه العملية بنجاح تام.
ونظن القارئ الكريم بعد كل ما تقدم يخرج معنا بأن دول العرب على اختلاف أصقاعها كانت تشجع الحركات الفكرية وتمد العلماء ببالغ عنايتها، وإنه لم تكن النهضة العلمية ببغداد ثمرة التدخل الفارسي وبإيعاز من نفوذ الفرس مباشرة أو بصورة مباشرة، وقد إنهدمت صروح الفكرة التي تغلبت على قلم الأستاذ الفاضل صاحب السعادة الدكتور قاسم غني هذا، وإني أسجل إعجابي بمقالاته القيمة، راجياً أن يواصل بحوثه الفنية بالفوائد، وإن كانت لي بعض ملاحظات عسى أن أبينها قريباً، والله ولي التوفيق
(العراق - بغداد)
ضياء الدخيلي
الطيب المتمرن في المستشفى التعليمي سابقاً(784/35)
طريق تحقيق الذات عند طاغور
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
إن تعاليم الديانة الهندوكية تسلم بوحدة الكون، وتفرض على كل هندوكي أن يعمل على إدراك هذه الحقيقة بحيوية حتى يؤمن بها عن صدق شعور. ولذلك كانت أسمى غايات الديانة الهندوكية أن يجد كل هندوكي في تحرير روحه من نواقص الحياة، وتنقية نفسه من شوائب الشهوة، وتطهير عقله من أدران الكفر، وتخليص أفعاله من دناءة الشر، حتى يتسنى له أن يظهر الله الكامن في قرار النفس، ويحس بوحدة الكون الشاملة، فيرتقي إلى أعلى درجات الكمال الروحي ويحقق ذاته.
وتختلف المذاهب الهندوكية القديمة في نوع الطريق التي تحقق الذات، فمنها من يرى أن مجرد حفظ القيدا وإتقان تلاوتها، وأداء الشعائر الدينية يكفل الوصول إلى الكمال الروحي، بينما لا يكتفي مذهب آخر بالأخذ بظاهر الفيدا، ويطلب التعمق في نصوصها، إذ هذا التعمق يساعد على معرفة حقيقة اتحاد الله بالنفس، ويقود إلى تحقيق الذات. ويرى مذهب ثالث الكمال الروحي في التمييز بين الروح والجسد، وإدراك أن مطالب الروح مطالب حقيقية، وأنبل وأرفع من مطالب الجسد الخادعة، ثم تغليب سيادة الروح على الجسد. ولا يعترف مذهب رابع إلا بالطرق العملية، فلا يتخذ إلا المجاهدات من تعذيب النفس وإيلام الجسم وسائل لتحرير الروح من الرغبات والشهوات. ويعتقد مذهب خامس أن تحقيق الذات يكون عن طريق تفسير مظاهر الكون وأحداث الطبيعة ومعرفة العلاقة التي تربطها بالله. ويعتبر مذهب أخيرا التأمل في الوجود وإدراك وحدته هي الغاية القصوى التي يجب أن يقصدها كل فرد.
إن كل هذه المذاهب بوسائلها المختلفة لتحقيق الذات تدلنا على أن الديانة الهندوكية تسمح لكل هندوكي أن يبرز الله الكامن في نفسه بالطريقة التي تتفق مع ميوله سواء أكانت دينية خالصة أم أخلاقية تهذيبية أو عقلية تأملية. ولقد بعث طاغور هذه الطرق في صورة تلائم الحياة العصرية، وتجعل تحقيق الذات متاحاً لكل فرد عن طريق العمل أو المهنة أو الفن الذي يزاوله. كما جعل من العلم والفن والعمل - وهي الأسس التي نهضت بالمدينة الحديثة - الطرق الحية التي تتولى تحقيق الذات. ويمكن أن تلخص طرق تحقيق الذات عند(784/36)
طاغور في أربع طرق وهي:
أولاً: الزهد والتقوى والورع والمجاهدة.
ثانياً: البحث العلمي والكشف عن القوانين.
ثالثاً: الفن باختلاف فروعه.
رابعاً: العمل بتنوع مجالاته الخيرة والنافعة.
أولاً: أما عن الزهد والتقوى والورع والمجاهدة، فإنها تطهر الروح، وتصفي القلب، وتنقي النفس من همجية الغرائز وبهيمية الشهوات. إلا أن طاغور لم يعد يستسيغ اعتزال الزهاد الحياة العامة، واحتقارهم الأعمال الدنيوية، لأنه يرى أن المجاهدات القاسية، وتعذيب النفس التي تحرر الروح من عوائق المادة، وتخلصها من أدران الحياة، وتهيئ النفس لمعرفة حقيقة وحدة الكون، لا تتعارض مع قيام الزاهد بعمل ما يعود على البشر بالخير والنفع. فضلا عن أن الزاهد لا يستطيع أن يعيش حر الروح في عالم مجهول من الاحساسات الغامضة، والمشاعر المبهمة، والأفكار المظلمة المحبوسة جميعاً داخل النفس لا يسمح لها بأية فرصة للظهور في عالم الأعمال الجلي الواضح. فكان الزاهد من دون جميع البشر لا عمل له يسعى به لتقدم الحياة الأرضية، بينما يقوم كل إنسان ممتاز بعمل ممتاز. فالعالم يعبر عن أفكاره بالقوانين العلمية التي لها فضل كبير على المدنية. ويشغل الفنان احساساته ومشاعره بالموسيقى أو الغناء أو الأدب أو الرسم فيشيع في النفوس لذات روحية وسروراً طاهراً، ويبذل كل رجل صالح جهوداً عظيمة لكي يخدم أهله أو وطنه أو الإنسانية، فلم يشذ الزاهد عن أفذاذ القوم ولا يقوم بعهل إنساني يطلق به ما يحبسه في نفسه من أفكار واحساسات ومشاعر، ويقنع بأن يحقق ذاته وهو بعيد عن الحياة، كارهاً أن يخوض مشاكلها، نافراً من أن يساهم بنصيبه في خدمة ركب الحضارة الإنسانية!
ثانياً: يؤكد طاغور أن العالم الذي يعمل على كشف القوانين الطبيعية يمكنه أن يحقق ذاته، وذلك إذا تحررت بواعث البحث العلمي من أي فضول ثقافي يطلب مجرد معرفة سير حوادث الطبيعة وتطورها معرفة منطقية، أو إذا خلصت من كل مأرب استقلالي يرمي إلى استخدام ما يتوصل إليه من قواني في المنافع الشخصية أو الفوائد المادية، إذ مثل هذه البواعث تحجب عن العالم حقيقة الظواهر الطبيعية، فيغيب عنه ما وراء قوانين هذه(784/37)
الظواهر من حقائق، ولا يتوصل إلى معرفة علاقة قوانين الطبيعة بحقيقة اتحاد الوجود، فيجهل أنها ملامح مختلفة لقانون واحد، أو أنها حقائق صغرى متعددة لحقيقة كبرى واحدة هي قانون اتحاد الكون بكامل محتوياته بالله. أما إذا خلصت بواعث البحث العلمي من كل غرض ما عدا طلب معرفة الحقيقة الكبرى، فإن بحث العالم وراء قوانين الطبيعة يقوده حتما إلى كشف الوحدة التي تربط هذه القوانين بقانون الحياة الأول، ويعلم باتحاد شتى مضمونات الطبيعة المتنوعة، ويحس بأن هناك جسما عالمياً واحداً يشمل كل ما في الطبيعة بما فيها جسمه، ويشعر بأن جسمه ما هو إلا امتداد لجسم الطبيعة، وليس هناك إلا حقيقة واحدة. وبذلك يحقق البحث العلمي ذات العالم، كما أنه يهدي كل من يلم من عامة الناس بالقوانين الطبيعية إلى إدراك وحدة الوجود ويساعده على تحقيق ذاته.
ثالثاً: إن موضوعي الفن عند طاغورهما جمال الطبيعة وجمال الروح. أما عن جمال الطبيعة فلا ينعم به إلا من صفت بصيرته، وتحررت روحه من سيطرة الرغبات المادية وإلحاح الشهوات الاستقلالية التي لا ترى في الأشياء غير النفع والفائدة فَتحرم الروح من التمتع بالجمال البادي في الكون، وتخفي عنها حقيقة ذلك الجمال الذي بعثه الله في الأشياء ليكون رسوله للناس في الأرض، وعلامة على اتحاده بالطبيعة، حتى إذا ما تأمل بشر وهو طليق الروح طاهر النفس أي شيء في الوجود أحس بما فيه من جمال، وما بين أجزائه من انسجام، فيشعر بجمال توافق الكون، وبروعة حقيقة وحدة الوجود. وكلما قوى شعور فرد بهذه الوحدة في عالم الطبيعة عظم إحساسه بسرور يلهب عواطفه الطاهرة ويثير وجدانه النقي، فيعبر عنه بالموسيقى إذا كان يؤلف الألحان، وبالشعر إذا كان شاعراً، وبالرسم إذا كان رساماً، ويترجم الناس موسيقاه أو شعره أو رسمه إلى ما يحسه الفنان من سرور سرمدي، ثم إلى ما يدركه من حقيقة وحدة الكون، فسيرى السرور في نفوس الناس، ويحسون بدورهم حقيقة اتحاد الخليقة بالله.
كما أن الفنان لا يستطيع أن يدرك جمال الطبيعة على حقيقته إلا إذا سمت نظرته إلى الأشياء، فإنه لا يستطيع أن يدرك جمال الروح إلا إذا سيطر قانون طبيعته الأخلاقية على نفسه، وخلصت من طغيان كل غريزة وشهوة، وصفت من شوائب كل نقص وضعف، حتى يمكن أن تظهر له مزايا الروح في ثوب خلاب بديع ينسجه الخير والحب، وينجلي(784/38)
في ثناياه روح الله الكبرى التي تربط كل روح بأخرى وتشملها جميعاً. ومن يتم له ذلك يشعر بسعادة تغمره بالسلام والأمن، وتحثه على أن يعبر بفنه عما يشعر به من غبطة وحبور، فيكشف عن جمال الفضائل الروحية ويشجع الناس على تثقيف الروح، ويدعوهم إلى فعل الخير وتجنب الشر، ويصف لهم سمو استقامة الخلق ونبل تشبث المرء بالمثل الإنسانية، ويرفع من قيمة تضحية الفرد في سبيل المجموع، ويشيد بذكر الحب الذي يجمع بين القلوب ويفيض على الإنسانية بالطمأنينة والهدوء، وذلك كله يطهر روح المحبين للفنون ويهيئ لهم سبل تحقيق اتحادهم الصادق بالله. فالفن إذا مدرسة معلموها قوم توصلوا إلى تحقيق ذاتهم، ويعلمون الناس كيف يفوزون بوحدتهم مع الله.
رابعاً: يلزم طاغور كل فرد بأن يقوم بعمل مفيد أو خير، إذا أراد أن يحقق ذاته. ولا يغني عن أداء ذلك العمل طهارة روحية أو سيادة القوانين الأخلاقية على النفس، لأن الطهارة الروحية والتمسك بالأخلاق والتمثل بالفضائل، وإن كانت ضرورية لتحقيق الذات، ليست كافية، وتتطلب عملا يؤكد وجودها، ويصدق على صحتها. ولذلك وجب على كل هندوكي أن يؤدي عملا مفيداً في سبيل الله، ويعود بالخير على أهله أو وطنه أو الإنسانية جمعاء بدون أن ينتظر من ورائه نفعاً شخصياً، ولا يقبل على فعله خوفاً من تهديد جوع أو قوة الفقر أو بضغط أي دافع مادي آخر، وإلا أصبح علما باعثه رغبات نفعية وشهوات غريزية تفوق تحقيق الذات.
فكل من يطلب الله يجب أن يعمل عملا باعثه شريف يفيد به الناس لأن العمل الشريف المفيد يخرج الفرد من دائرة أنانيته ويدفعه لخوض معترك المجتمع الإنساني، فيعرف ما يربطه به من علاقات وثيقة، فتنمو فيه غيرية روحية تشعره بأن له جسما يضم المجتمع البشري بأكمله، يجب أن يسعى لإسعاده مهما تحمل من كفاح متعب قد يعرضه لمختلف الآلام، وينزل به أفدح الخسائر كما تشعره بأن له نفساً تشمل الحياة الإنسانية من جميع نواحيها يجب أن يبذل حياته رخيصة من أجل مصلحتها، ويرحب بالاضطهاد والسجن والحرمان والعذاب حباً في خيرها.
ومن يؤد مثل هذه الأعمال العظيمة، فقد صار في الطريق القويم الذي يظهر له حقيقته الكبرى المقيمة داخل نفسه، فتأخذ روحه في الارتقاء في سلم الكمال الروحي، وتعلوا إلى(784/39)
أرفع درجات الحياة التي تنتمي فيها الحقائق المتناقضة فتستعذب النفس الألم في سبيل الإنسانية، وتسعد بالحرمان في سبيل الخير، وهكذا يتعادل السرور والألم، ويصبحان حقيقة واحدة في حب الإنسانية، كما تتساوى المتعة والحرمان في فعل الخير. وحين تبلغ النفس هذه المرتبة من السمو تكون قد تحررت تحريراً تاماً من كل ما يتصل بالحياة الدنيوية، ووعت أن هناك وجوداً أكبر خارجاً عن وجودها، فتعرف الحقيقة الخالدة، حقيقة وحدة الكون الشامل الذي يتجلى الله في جميع أجزائه.
فالدين والعلم والفن والعمل الخير كلها وسائل طيبة تحقق الذات، وعلى الهندوكي أن يختار منها الطريق التي تلائم مزاجه ويسلكها، فإنه حتما سيصل إلى غايته الدينية إذا كانت بواعث سلوكه فاضلة، لا تفسد على النفس سعيها إلى الكمال، أو تحجب عنها معرفة الله الموجود في أعماقها. وإذا حاولنا أن نبحث عن الشخصيات التي سلكت هذه الطرق وحققت ذاتها، فإنه من الصعب أن نجدها خارج مواطن طاغور نفسه. إن زهاد الهند القدماء يمثلون لنا بلا شك تلك الشخصية التقية الورعة الصالحة الخيرة، التي تتحمل طواعية آلام الجسم وعذاب النفس تطهيراً للنفس، وإعداداً لإفنائها في الله الذي يوجد في قرارها وفي جميع المخلوقات. أما عن شخصية العالم الباحث عن القوانين الذي نجح في تحقيق ذاته فليس له وجود. وأحسب أن طاغور قد تصور العلم على ما يجب أن يكون عليه، لا كما يوجد بيننا الآن، لأنه يرى أن سبب كلف العلماء بكشف قوانين الطبيعة، إما أن يرجع لمجرد فضول علمي يرغب في معرفة سير أحداث الطبيعة وتطورها والوقوف عند حد هذه المعرفة بدون محاولة التدرج منها إلى حقيقة اتحاد الوجود الشامل، وإما أن يرجع لشغفهم بفرض سيادتهم على الطبيعة، فيسيئون الاستفادة من القوانين الطبيعية، ويسخرونها في اختراع آلات الحرب والتدمير والتخريب التي تنشر الخوف والقلق في النفوس، بينما تتمثل لنا شخصية الفنان في طاغور نفسه، لأن كتاباته لا تتناول غير ما يبدو في الكون من جمال، أو ما تتصف به الروح من طهارة الخصال، فتغرق قارئها في عالم روحي يحوطه الجمال من كل جانب، وتنشر في نفسه الأمن والسلام، وتحثه على قصد الخير وبلوغ الكمال. وإذا بحثنا أخيراً عن شخص حقق ذاته عن طريق العمل الصالح، فإننا لا نجد مشقة في تعيينه، فلقد اغتيل غدراً منذ مدة على أثر صوم أراد به حسم النزاع بين(784/40)
الهندوكيين والمسلمين. ولا أحسب أن هناك من يجهله، فهو (غاندي) زعيم الهند الروحي وبطلها السياسي الذي ناضل من أجل حريتها واستقلالها فاستحق أن يطلق عليه قومه (المهاتما)، أي صاحب الروح الكبرى التي طهرها الجهاد الطويل الشاق من أجل الهند، ونقتها الأخطار والمحن التي صمد أمامها بعزم وشجاعة، فاستطاعت روحه البشرية أن تندمج في روح الله الكبرى، وتحقق ذاتها في أكمل المراتب
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الأدب بمدرسة صلاح الدين الابتدائية بكفر الزيات(784/41)
الأدب والفنّ في أسبوُع
لعنة الفراعنة على ألمانيا
أثار مندوب مصر في مؤتمر النقاد الفنيين المنعقد بباريس في الشهر الماضي - مسألة (رأس نفرتيتي) وطالب بإعادته إلى مصر، وقد جرت مناقشة بينه وبين بعض الأعضاء في هذا الموضوع انتهت بإعلان المؤتمر حق مصر في استرجاع رأس نفرتيتي. وهو تمثال لرأس الملكة نفرتيتي، كانت قد كشفته سنة 1913 إحدى البعثات العلمية الألمانية مع مجموعة من الآثار في تل العمارنة، وقد احتال رئيس البعثة على أخذه إذ قال إنه حجر عادي لإحدى الأميرات، ووضع في متحف برلين وظل به إلى أن نقل في أثناء الحرب الأخيرة إلى مدينة فيسبادن للمحافظة عليه من الغارات الجوية، وما يزال بها إلى الآن.
وقصة غرام هتلر برأس نفرتيتي قصة مشهورة، أخذت مكانها بين القصص الخالدة في عالم الحب والغرام، وقد راح هتلر ضحية رأس نفرتيتي كأي محب قتله الهوى. . . إذ حقت عليه (لعنة الفراعنة) المعروفة في عالم الآثار. . . كما حقت على كارنرفون كاشف قبر توت عنخ أمون بلدغة بعوضة في هذا القبر قضت عليه. ولم يصب رأس نفرتيتي لعنة الفراعنة على هتلر وحده، بل محق بها ألمانيا في الحرب الأخيرة، بعد أن لم تعتبر بهزيمتها في الحرب العالمية الأولى ولم تلتفت إلى التمثال (الحرام) الموجود في حيازتها. . . ومن الخير لألمانيا أن ترد ملكة مصر القديمة إلى بلادها، فلن تقوم لها قائمة ما دامت فيها. وأخشى أن يتنبه (الحلفاء) إلى ذلك فيعلموا على بقاء رأس نفرتيتي بألمانيا لتظل هدفاً للعنة الفراعنة!
وقد وقف ولع هتلر برأٍ نفرتيتي حائلا دون تنفيذ الاتفاق الذي تم بين الحكومتين المصرية والألمانية بعد مباحثات طويلة، على أن يعاد الرأس إلى مصر لقاء أن تقدم مصر إلى ألمانيا بدلا منه تحفتين أخريين، هما تمثال كبير للكاهن رع نفير وتمثال آخر من الجرانيت للكاتب المصري أمينحوتب، ولم يسع مصر إزاء هذه إلا أن تقرر عدم الترخيص لأية بعثة ألمانية بالحفر والتنقيب عن الآثار في مصر إلا إذا أعيد رأس نفرتيتي إلى المتحف المصري.
وينتظر أن يثير هذا الموضوع مندوبو مصر في مؤتمر المتاحف الدولي المنعقد الآن في(784/42)
باريس برعاية هيئة (اليونسكو) ويمثل مصر فيه الدكتور الديواني بك الملحق الثقافي بالسفارة المصرية بباريس والأستاذ توجو مينا رزق الله مدير المتحف القبطي في القاهرة.
هل عندنا شاعرات؟:
تلقت وزارة المعارف كتاباً من إحدى دور النشر بمدريد في أسبانيا بأسماء الشاعرات المصريات القديمات والمعاصرات، ودواوين الشعر التي وضعنها أو نماذج من شعرهن، مع صورهن الشخصية، لأن هذه الدار تعمل في إعداد موسوعة تصدر قريباً عن الشاعرات في مختلف بقاع العالم.
وليت شعري بماذا تجيب الوزارة! وأين هن الشاعرات المصريات اللائى يستحققن التعريف العالمي؛ الواقع أن مصر فقيرة في الشاعرات قديماً وحديثاً، فلست تجد في تاريخها الأدبي غير عائشة التيمورية وباحثة البادية، أما الآن فإنك لا تكاد تعثر على شاعرة، إذ ليس عندنا إلا من تقول أشياء نسميها شعراً من أجل تاء التأنيث المرعية الجانب. . . ومع ذلك فهي أشياء قليلة جداً. ومما يذكر مع هذا أن بعض البلاد العربية الأخرى قد نبغ فيها شاعرات من فتيات الجيل الجديد كنازك الملائكة في العراق وفدوى طوقان في فلسطين.
تشجيع التأليف:
جرت وزارة المعارف على أن تعهد إلى بعض الأدباء المصريين ترجمة بعض المؤلفات الأجنبية إلى اللغة العربية استكمالا لنشر الثقافة العامة بين جمهور قراء العربية. وأخيراً طلبت اللجنة العليا لتشجيع التأليف والترجمة بالوزارة، إلى بعض كبار الأدباء والمفكرين في مصر والبلاد العربية، أن يدلوها على المؤلفات التي يجدر بالوزارة أن تعنى بترجمتها، لتكون في مقدمة الكتب التي يترجمها الأدباء.
هذا ويشكو من يعهد إليهم بالترجمة من قلة الأجر الذي تدفعه الوزارة لهم، إذ هي تحاسبهم على عدد الكلمات باعتبار كل كلمة بمليم. .
ولكن حظ الترجمة مع ذلك أحسن من حظ التأليف، لأن كثيراً من المؤلفين يودون لو ربحوا مليما في كل كلمة. . والذي تتبعه الوزارة في تشجيع التأليف هو تقرير بعض(784/43)
الكتب للقراءة بشراء نسخة أو نسختين من الكتاب لمكتبة كل مدرسة من المدارس التي يلائمها الكتاب، وأكثر من يستفيد من ذلك هم الناشرون الذين اشتروا حق النشر أو أكثره من المؤلف، ومعنى شراء أكثر الحق أن للمؤلف نصيباً قليلا من الربح إلى الثمن المتفق عليه. ويستفيد من ذلك أيضاً كبار المؤلفين الذين ليسوا في حاجة إلى التشجيع لرواج مؤلفاتهم في السوق
ويبقى بعد ذلك طبقة من المؤلفين تستحق التشجيع ولا تناله وهم الذين لا يستطيعون أن يجازفوا بتحمل نفقات الطبع، ولا ترحب بهم دور النشر لعدم شهرتهم أو لعدم بريق مؤلفاتهم مع جودتها. ويكن تشجيع هؤلاء بأن تنظر الوزارة في مؤلفاتهم المخطوطة لتطبع ما تراه نافعاً منها. وقد فكرت الوزارة في شيء قريب من هذا، وهو أن تطبع ما لديها من كتب أدبية وثقافية عامة فاز أصحابها في مسابقات نظمتها، ولكنها لم تنفذ ذلك، والمرجو أن تكون الفكرة موجودة، وأن تتسع حتى تشمل غير ما فاز في المسابقات من الكتب الجديرة بالتشجيع، فهذا هو أجدى عمل في تشجيع التأليف.
اتجاه الباكستان نحو العربية:
كتبت من نحو شهرين عن جماعة الثقافة العربية بالباكستان ومما قلته إذ ذاك (وشعور المسلمين في الباكستان يتجه الآن نحو البلاد العربية، وقد بدا أخيرا في تأييدهم لقضية فلسطين، ولاشك أن اللغة العربية وآدابها وثقافاتها، هي أهم ما يربطها بالبلاد العربية، وهي وسيلتها إلى كتلة الجامعة العربية)
كتبت ذلك وأنا ألمح اقتراب هذه الدولة الناشئة من الفكرة واللغة العربيتين، وأرصد أبناءها كما يرصد الفلكي حركات نجم جديد. . . وقد قرأت عنها مقالا للأستاذ عبد المنعم العدوي في (البلاغ) يوم الخميس الماضي، جاء فيه (لم يسبق في تاريخ الهند الحديث أو القديم أن رجال الحكم فيها أدلوا ببيانات رسمية عن أهمية اللغة العربية، وحث أبناء المسلمين على تعلمها وفهمها فهماً صحيحاً كما هو الحال اليوم في حكومة باكستان الإسلامية الحديثة) والمقصود من هذا الكلام وهو بيان اهتمام رجال الدولة بنشر اللغة العربية، يدعو إلى الارتياح والسرور، ولكن ينبغي أن يذكر بجانب ذلك ما كان من إقبال مسلمي الهند على تعلم اللغة العربية منذ الفتح الإسلامي وقد نبغ منهم فيها كثيرون في الأدب وعلوم الدين.(784/44)
ومما تضمنه مقال الأستاذ أن حكومة الباكستان قررت إنشاء كلية عربية كبيرة في حيدر أباد، وأن رئيس الوزراء أصدر بياناً يحث فيه أهل البلاد أن يهتموا بها وأن يبعثوا بأبنائهم إليها، كما قررت إنشاء كلية عربية أخرى في كراشي وقررت أن يكون تعليم اللغة العربية إجباريا في مدارسها، وأن كثيراً من الوزراء بدءوا بأنفسهم فأخذوا في تعلم العربية، وأن من مظاهر اهتمام الحكومة بذلك تأسيسها جمعية باكستان العربية الثقافية.
العربية تصارع:
كان قد نشر أن مؤتمر البريد العالمي الذي انعقد أخيراً في فرنسا، قرر اعتبار اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية التي تحرر بها صحيفته. ولكن جاء أخيراً من جنيف أن مكتب مؤتمر البريد العالمي في برن، قرر استبعاد اللغة العربية من تحرير صحيفته الرسمية، وقصر تحريرها على اللغات الفرنسية والإنجليزية والروسية والاكتفاء بإصدار نشرة مفصلة عنها تحرر بالعربية. وهذا القرار يخالف قرار المؤتمر السابق وقد علقت (أخبار اليوم) على ذلك بأن المكتب ليس له أن يصدر مثل هذا القرار لأنه مكتب إداري يستمد نفقاته من جميع الدول المشتركة في المؤتمر وفي مقدمتها الدول العربية. ولا ندري ماذا يكون رأي الدول العربية في هذا القرار وهل تنسحب من المؤتمر ومعاهداته إذا لم يصحح هذا الوضع.
هذا ومصلحة البريد المصرية تحرر تذكرة إثبات الشخصية التي تعملها للإفراد بناء على طلبهم، باللغة الفرنسية. . . ويقولون في تبرير ذلك إن اللغة الفرنسية هي لغة البريد العالمي، ولكن هل يمنع ذلك من كتابتها أيضاً باللغة العربية إلى جانب اللغة الفرنسية؟ وإذا كنا نطالب بتحرير صحيفة البريد العالمي باللغة العربية إلى جانب اللغات التي تحرر بها، فلا أقل من أن تحرر مصلحة حكومية مصرية ما يصدر عنها بلغة عربية
من طرف المجالس:
ترامى إلى أسماع الجالسين، قول المذيع: (وبعد استراحة قصيرة نوالي إذاعة البرنامج).
قال أحدهم: ما معنى هذه الاستراحة! ولمن هي؟ أهي لصاحب الإذاعة السابقة وقد فرغ فلن يستأنف؟ أم هي للمذيع وقد كان ساكتا؟ أن هي لصاحب الإذاعة التالية ولم يبدأ بعد!(784/45)
قال صاحب النكتة:
هي يا أخي استراحة للمستمعين. . .
من طرف الإذاعة:
في يوم من أيام هذا الأسبوع، كان المذيع يعلن عن العدد الجديد الصادر من مجلة الإذاعة، فذكر من محتوياته: قطعة من ديوان (ابن المعز).
وقع هذا الاسم (ابن المعز) في سمعي موقعاً عريباً. فمن هو ابن المعز؟ أهو شاعر قديم لا نعرفه؟ أم هو شاعر معاصر من شعراء الإذاعة؟ ولكن الاسم غير عصري، وشعراء الإذاعة معدودون معرفون.
وبعد البحث والتحري علمت أن (ابن المعز) ما هو إلا (أين المفر) الديوان الذي صدر حديثاً للأستاذ محمود حسن إسماعيل!! والذي يتمم طرافة الموضوع أن الأستاذ صاحب ديوان (أين المفر) من القائمين بشئون الإذاعة، ولعله كان على خطوات من المذيع وهو يحرف اسم ديوانه.
الأدب والصحافة:
ألقى الأستاذ خليل جرجس محاضرة برابطة الأدباء يوم الأحد الماضي، عنوانها (الأدب والصحافة) شرح فيها معنى الأدب وتكلم على الصحافة كلاماً حسناً، ثم عقد مقارنة بين الأديب والصحفي بيّن فيها خصائص كل منهما.
وقد مر سريعاً ببعض نقط في صميم الموضوع لم يوفها حقها كالعلاقة بين الأدب والصحافة من حيث تأثير كل منهما في الآخر. وليته بسط القول في تطبيق ما بينه من معنى الأدب والصحافة على ما تنشره صحافتنا اليوم من ألوان من الكتابة ينسبونها إلى الأدب، ليستبين موقعها من الأدب أو الصحافة إن كان لها موقع من أيهما.
ومن مقارنته بين الأديب والصحفي أن الأديب ينتج حين ينتج من وحي الخاطر الصحفي الحق يتزود بعلم النفس الاجتماعي ليكون إنتاجه ملائماً لأذواق القراء ومتمشياً مع عقلية الجماهير، وأن الأديب يكتب عندما تواتيه لحظات التجلي والظرف الملائم، والصحفي يكتب كل وقت ويستجيب للظروف بالسرعة المطلوبة، وأن الأديب يكتب للأدب ولا يكون(784/46)
نقد المجتمع إلا عرضاً من غير قصد، والصحفي يكتب أيضاً للإمتاع ومؤانسة القارئ، ولكنه يقصد إلى إصلاح المجتمع ونقده والتأثير في الرأي العام.
الإنشاء في المدارس الثانوية:
أتيت في الأسبوع الماضي على ما تضمنه تقرير لجنة النهوض باللغة العربية بوزارة المعارف من آرائها في منهاج الأدب والبلاغة في المدارس الثانوية. وهذا التقرير موضع نظر معالي وزير المعارف المعارف الآن، وينتظر أن يبت فيه قريباً للشروع في تعديل مناهج اللغة العربية في المدارس على مقتضاه.
وقد جاء في التقرير عن الإنشاء في المدارس الثانوية أن اللجنة لاحظت أن الطريقة المتبعة في تعليمه تكاد تقتصر على إعطاء التلاميذ موضوعاً يطالبهم المدرس بالكتابة فيه، وقد تسبق الكتابة مناقشة شفوية، وكتابة التلاميذ تسير سيراً سطحياً متكلفا لا يساعد على الابتكار.
وترى اللجنة أن الأساس الأول للإصلاح في هذه الناحية الربط بين التعبير وبين النواحي الأخرى من النشاط المدرسي والاجتماعي، واستغلال كل الفرص الطبيعية الممكنة لتنمية قوى التعبير عند التلاميذ في جميع سني الدراسة، مثل حل النصوص الأدبية وشرحها، وتلخيص الكتب والقصص والتعليق على الحوادث الجارية، وكتابة تقارير عن الرحلات والمشروعات الدراسية وأشرطة الخيالة، وإعداد المقالات والأخبار لمجلة المدرسة، والخطابة والمناقشة والمناظرة، وغيرها مما يدخل في نشاط الجمعيات الأدبية.
وأشارت اللجنة إلى أنه من اليسير أن تكون اللغة العربية لسان المعلم والتلميذ في المدارس الثانوية، فإن التلميذ في هذه المرحلة قد يصل إلى قسط من التحصيل اللغوي يستطيع معه أن يفهم حديثاً عربياً، وان يتابع دروسه بالعربية الصحيحة إذا سار المعلمون معه على هذا المنهج
العباس(784/47)
البَريدُ الأدَبي
في أنشودة فلسطين:
الشاعر الصديق الأستاذ علي محمود طه، أصبح في الرعيل الأول من شعراء الشرق العربي، لا من شعراء مصر فحسب؛ وأنشودته هذه أنشودة فلسطين الحبيب، همّ كل عربي منذ اليوم؛ فكل ما يتصل بها مهوى الأفئدة، وشرك العيون.
وموقف كهذا الموقف يتبوءه شاعرنا المجيد، كان جديراً أن يتقاضاه حظاً من دقته وعنايته بأنشودته في أسلوبها ومعانيها أوفى مما ظفرت به منهما.
ولعل أظهر ما أخطأته الدقة في هذه الأنشودة:
1 - وصفه (يسوع) بالشهيد؛ ويسوع في نظر المسلمين الذين منهم الشاعر ليس شهيداً.
2 - إجابة الصدى في قوله: (يجيبون صوتاً لنا أو صدى) فالمعروف أن الصدى يجيب لا يجاب.
3 - قراءة (استشهدا) بالبناء للفاعل؛ والذي في معاجم اللغة: (واستشهد) قتل شهيداً، بالبناء للمفعول لا غير. ولولا أن الشاعر العظيم ألقاها في المذياع - مجوداً محتفلا - بالبناء للفاعل، لنسبت الخطأ إلى غيره.
4 - هذه (الأخت) التي أعد لها الذابحون المدى في القدس، ما هي؟ أهي فلسطين؟ ولكن فلسطين ليست في القدس، بل القدس في فلسطين؛ أم هي أخت على الحقيقة؟ ولكن إخواننا هناك - مع الأسف القاتل - لا تعد المدى لذبحهن، وإنما تذبح أعراضهن بأسلحة الخسة والنذالة والوحشية
5 - ولا أكتم الصديق الكريم أن أحمد ويسوع صلوات الله وسلامه عليهما، أجل وأكرم على الله، وعلى الناس، من أن يقودا جيشين لمحاربة أخس خليط عرفه الوجود منذ كان الوجود؛ ولو ذكر الشاعر (السلاح الأحمر) سلاح العقارب والحشرات، لأصاب مشاكله الصواب
أما بعد، فإنما أغراني بهذه النقدات الخفيفة، حرصي على المجد الأدبي لشاعرنا الكريم المهندس.
وله مني تحيات مزاجها الإخلاص والإكبار.(784/48)
مدرس أدب
في الأزهر الشريف
1 - نصوص تاريخية في الرد على تعقيب:
رداً على ما جاء في ص 769 من عدد (الرسالة) 783 نورد ما يأتي:
قال الأستاذ محمد بك فتكري في تاريخ الجراكسة (ج 1ص 12) نقلاً عن المؤرخ الفرنسي (سن مارتن): أن الكرج والجركس واللزكي والججن فروع أصل واحد، وهم متحدد الأصل، وهم أقدم سكنه القوقاس. وقال أيضاً (ج 1 ص 22): دلت التدقيقات العلمية والتاريخية على أن الجركس والكرج ينتميان إلى جد مشترك. وقال كذلك (ج 1 ص38): قد ثبتت إقامة الججن منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد حيث يقيمون الآن، وكذا اللزكي. وقال أيضاً في (ج 1 ث 6): أن لفظ الجركسي عنوان عام يشمل القبائل الأصلية القوقاسية فيكون (الجركس) يؤدي مؤدي (القوقاسي). وفي (عقد الجمان في تارخي أهل الزمان) للبدر العيني المؤرخ الكبير في (ج 1 ص 170) المحفوظ في دار الكتب المصرية (رقم 71 م): ومن الترك الجركس، وأصلهم أربع قبائل وهم (تركس) ويقال (سركس) و (أوركس) و (الآص) و (كسا) ويتفرع منهم بطون كثيرة. ثم سرد أسماء تلك البطون، وتلك القبائل الأربع في جوانب جبل القوقاس الأربعة، ففي الجنوب الشرقي (أركس)، وفي الشمال الشرقي (تركس)، وفي الجنوب الغربي (أس) - وبهم سمي الجبل (قوقاس) أي (جبل أس)، وفي الشمال الغربي (كسا) وهم الذين يسميهم الروس اليوم (سرقسيان) كما يسمون قبائل أركس اليوم (داغستان)، واتبع البدر العيني المصطلح القديم وهو إطلاق (الجركس) أصلها (جهاركس) ومعناها (الرجال الأربعة) في لغة الفرس. وتخصيص إطلاقه على قبائل (كسا) هو اصطلاح روسي حديث.
وحين قال ابن خلدون: (والجركس غالب عليهم) أراد غلبة إطلاق اسم (الجركس) عليهم. ونود أن نرى الأستاذ البرهان يتحدث ببرهان من الأسانيد التاريخية، فالتاريخ لا يكون طوع بنان أحد.
2 - مغيب شهابين:(784/49)
في ص 539 من عدد (الرسالة) 775 أن الشهاب بن صالح مات عام 873هـ. والصواب 863 على ما في تاريخ (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي ج 2 ص 115) و (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد ج 7 ص 302). وجاء في الصفحة نفسها أن الشهاب بن أبي السعود توفى في مكة والصواب أن وفاته كانت في طيبة على ما في (شذرات الذهب ج 7 ص 310) وعلى ما في تاريخ (الضوء اللامع ج 1 ص 233) حيث قال: ثم رجع إلى المدينة أيضاً فأقام بها حتى مات. . . ودفن بالبقيع بين السيد إبراهيم والإمام مالك رضوان الله عليهم.
3 - الحاوي في دار الكتب:
جاء في ص 645 من عدد الرسالة 779 في ترجمة أبي الحسن الماوردي: ومن كتبه الضائعة الحاوي في الفقه. والحق أن (الحاوي) موجود منه في دار الكتب المصرية نسخة كاملة في 24 مجلداً، عدا عن 14 مجلدة من نسخ أخرى. وقد قال الإمام الأسنوي عن هذا الكتاب: لم يصنف مثله. على ما في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد ج 3 ص 285) حيث ترجم له في صفحة كبيرة وزيادة.
محمد أسامة عليبة
سبق فلم:
في مقال الآنسة الفاضلة نعمت فؤاد في العدد (781) من الرسالة الغراء حول (المتنبي وكافور) قالت تستشهد بأبيات المتنبي على طماحه حين قال:
قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا يمن على آثار موهوب
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
وقام في روعها أن الأبيات من قصيدة واحدة، ولم تلتفت إلى أن كل بيتين منها الأول والثاني - والثالث والرابع) ينسب إلى قصيدة قائمة بذاتها. وقوي الظن عندها أن حروف الروى - وهو الباء - في الأبيات كلها واحد. . ولكنها لم تشأ أن تلتفت إلى أن البيتين(784/50)
الأولين من - البسيط المردف - وأن البيتين الأخيرين من الطويل الخالي من الردف. .
والمقال - بعد - لا يغض من قيمته الأدبية سبق قلم. . والسلام. . .
(الزيتون)
عدنان
تعقيب:
في العدد (782) من مجلة الرسالة الغراء يقول الأستاذ ضياء الدين الدخيلي في مقاله (الفتوة في التاريخ الإسلامي وكتب اللغة): -
(غير أني أجد من الغريب إدعاء بعض الأدباء وعلماء اللغة أن استعمال كلمة الفتى بمعنى الرجل الشهم النبيل المتحلي بفضائل الرجولة - هو استعمال مولد، وهذا هو طرفة. . .) إلى أن يقول. . . وقال المتنبي: -
فلما أنخنا ركزنا الرماح ... بين مكارمنا والعلا
(الأبيات)
والاستشهاد بأبيات طرفة لا غبار عليه، وأما استشهاده بقول المتنبي ثم بقول ابن هرمة فبدهي أن بعيد عن الصواب، لأن المتنبي وابن هرمة من الشعراء المولدين، وكلامه في الاستدلال على أن استعمال الفتوة بمعنى الشهامة عربي غير مولد.
وهذا مما يوقع القارئ في شك من أمر الأبيات الأخرى التي لم ينسبها الكاتب لقائلها، هل هي مولدة أم غير مولدة؟
محمد عبد القادر الجمل
المعلمين العليا(784/51)
القَصَصُ
من الأدب الإيطالي:
الأرنب
قصة للكاتبة الإيطالية جرازيا دليدا
ترجمة الأديب محمد فتحي عبد الوهاب
قامت الجزيرة الصغيرة وسط النهر العريض، وقد توسطتها بحيرة صغيرة، أو بالأحرى غدير تحيط به الأشجار والحشائش الطويلة الناعمة، مرصعة بأزهار عباد الشمس الأرجوانية، على صفحته كل صور الطبيعة، فظهرت أكثر جمالا وأرق خيالا.
وأضفى على المكان، حيث سماء الخريف المتجددة الألوان المتغيرة السحب نهاراً، وحيث البدر المضيء والنجوم المتلألئة ليلا، وأشباح الأفنان المتمايلة تنعكس على مرآة البحيرة العميقة، أضفى كل ذلك عليه جواً من الخيال الرائع.
وفي ذات يوم أرسى الصياد قاربه على الشاطئ الرخو للجزيرة المهجورة، وانطبعت آثار أقدامه على الرمل الأملس. ورأى البدر يظهر خلال الأفنان فينعكس نوره اللازوردي على ماء الغدير الصغير، فبهر بجمال ذلك العالم المجهول، وتلك السماء الشاسعة الغامضة التي ظهرت على صفحة الماء كأنها خارجة من قلب الأرض ذاتها.
ورأت أرنب عجوز كانت تعيش بين الأشجار على ضفة الغدير رأت الصياد عدوها اللدود، فولت هاربة في خفة وسكون، وقد رفعت أذنيها كأنهما سلاح تذود به عن نفسها.
وغرق الرجل في أحلامه، وفقدت الأرنب أحلامها. وعندما وصلت وسط الغابة ربضت تحت شجرة قائمة وانتظرت وقتاً طويلا وهي ترهف السمع وتشم الهواء بأنفها الصغير المرتعش وقلبها يدق دقات قوية لم تستمع إلى مثلها منذ شهور وشهور.
لقد ظنت الأرنب العجوز عندما اختفت جميع الأرانب من أرض الجزيرة بعد الفيضان السابق أنها المالكة الوحيدة لهذا المكان، وكم حلمت بالعيش هنا بقية أيام حياتها عيشة هادئة، وحيدة لا ينازعها أحد، بعد أن هرمت وهجرها أولادها وتخلى عنها الذكور، ولكن. . .(784/52)
وتذكرت، لقد عاشت بين جذوع الأشجار التي اكتسحها الفيضان وألقى بها على الضفة المرتفعة للغدير الصغير. وأضحت الجزيرة القاحلة لا يهتم أحد بارتيادها، وحتى بعد أن جف رملها ونبتت الحشائش على ضفاف الغدير، لم يزرها الصيادون، ولم يبق فيها إلا الهدوء والوحدة. ولم يعكر ذلك الصفو سوى تغريد البلابل على أشجار، إلى حفيف الأغصان وهي ترحب بالماء يجري تحت ضوء القمر فتهتف قائلة (وداعاً أيها الماء، إنه من الأفضل أن تجري من أن تظل ساكنا) فيرد عليها الماء مندفعاً نحو البحر (وداعاً، أنه خليق بك أن تظل ساكنا من أن تجري وتجري على الدوام).
وكانت الأرنب تستمع إليهما فتشعر بالسعادة تغمر كيانها. إنها أقوى من الأشجار وأسرع من الماء. لقد كان في استطاعتها أن تظل ساكنة، أو تظل جارية.
ومرت الشهور، وصمتت البلابل، وتساقطت أوراق الأشجار، وأصبحت الأرانب العجوز في سعادة وهدوء وطمأنينة لم تشعر بها من قبل. أما الآن، فقد أقبل ثانية ذلك الشبح الداكن المرعب. . . ولماذا يعود؟
ورقدت الأرنب منطوية على نفسها بين الأشجار، وعيناها تحدقان تحت جفونها المحمرة. كانت ترى أمامها امتداداً من الرمل اللامع تحت ضوء القمر، وقد أحاطت بالدغل تلك الساحة التي كانت مرتعاً وملهى لها زمن الصبى والشباب. كانت إذ ذاك تثب وتتعقب ظلها أو ترتقب حبيبها في الليالي التي يشرق فيها البدر. . .
وتحرك خيال على الرمل أعقبه آخر، فظنت الأرنب أنها تحلم. ولكن سرعان ما عاد الخيالان إلى الظهور وجعلا يلعبان ويمرحان لم يكن هناك أدنى شك في حقيقة وجودهما. كانا أرنبين. وعندئذ أدركت المخلوقة العجوز سبب عودة عدوها الداكن، ذلك الصياد، وظهوره في الجزيرة ليلا. وعندئذ انفجر بركان غضبها. لقد انتهكت رفيقاتها حرمة هذه الجزيرة، جزيرتها، واحتلتها دون وجه حق. . .
إن السن والوحدة قد خلقا منها مخلوقة متوحشة أنانية. وكان غضبها، عندما شاهدت الأرنبين أكثر من غضبها عند رؤيتها ذلك العدو الداكن. وعندما اندفعت من مخبئها وتحركت صوب الفضاء الرملي ورأت الأرنبين العاشقين، زاده حدة غضبها واشتد سعيره.
ولكن ذلك لم يحل بين العاشقين وبين اللهو والقفز والعدو. كانت الأنثى ممتلئة الجسم شفافة(784/53)
الأذنين. وكانت تعدو حول الذكر وكأنها لا تراه، ثم ترقد على الرمل، حتى إذا ما اقترب منها هبت واقفة وجعلت تعدو. وكان الذكر نحيل الجسم مشبوب العاطفة. وكانت كل أنظاره تتجه إلى أنثاه، فتبعها واندفع نحوها كانا سعيدين مبتهجين خالي البال.
ولم تتعب الأرنب العجوز من النظر إليهما، واستمرت تراقبهما حتى اختفيا عن أنظارها بعد أن أجهدهما اللهو اللعب. وارتعشت أذناها كأنهما ورقتا شجر تتلاعب بهما الرياح.
ومرت الأيام والليالي، واختفى القمر وأظلم المكان، ولما ترجع الأرنب العجوز بعد إلى ضفاف الغدير. كانت تخشى مقابلة الصياد. ورقدت في أعماق الغابة المظلمة ولكنها كانت تجازف في بعض الأحيان فتخرج إلى العراء ليلا لتشاهد العاشقين يمرحان في بهجة وسرور.
وفي ذات يوم سمعت صَوت طلقة نارية أعقبتها أخرى ثم ثالثة على بعد كأنها ترداد لصدى بعيد. وأقبل الليل الدافئ وانحدر القمر خلف الأشجار العالية دون أن يظهر العاشقان في تلك الليلة الشاعرية التي تليق للعشاق.
لابد أن العدو الداكن قد اقتنصهما. وعندئذ طغى على الأرنب العجوز شعور من الفرح الشديد جعلها تقفز على الرمل الذي ما زالت تنطبع عليه آثار أقدام العاشقين المسكينين.
وسرعان ما سمعت وقع أقدام بشرية فولت هاربة. واخترقت الغابة حتى اقتربت من الضفة الأخرى للنهر، ورقدت هناك منزوية حتى مطلع الفجر في مكان لم تعهده من قبل.
وعندما أشرقت الشمس قامت من مرقدها. كانت الغابة قد أسدل عليها ستار من الضباب، وتساقطت قطرات الماء البارد من الأشجار. وذهبت الأرنب تستكشف، واندفعت في حفرة صغيرة. فرأت ما أثار عاطفتها على الرغم من أنها كانت جامدة العواطف. لقد وجدت عشا لصغار الأرانب رقد فيه أرنبان صغيران ممتلآ الجسم، يحملقان إليها بأعين ملتمعة. لابد أنهما نسل الأرنبين الذي اقتنصهما الصياد.
كان أحدهما يلعق رأس أخيه، وعندما رأى الأرنب العجوز نظر إليها، ثم جعل يشمها بأنفه المرتعش ثم انكمش خائفاً من جرأته هذه.
وتركتهما الأرنب العجوز وسارت في طريقها. ولكنها رجعت إليهما ثانية فرأتهما يمرحان ويلعق كل منهما الآخر.(784/54)
كان ذلك اليوم قاتما باردا. وعندما أقبل المساء بدأت السماء تمطر. فرجعت العجوز إلى عشها القديم بين جزوع الأشجار على الضفة المرتفعة للغدير. واستمرت السماء تجود مطراً مدرارا. إن المطر معناه نهاية الطقس الجميل، وبدء الطمأنينة والوحدة، فسرعان ما يصير الرمل رخوا، ولن يجرؤ الصياد على عبور الغابة المنداة العارية.
ولكن. . . ما مصير هذين الأرنبين الصغيرين؟ وما الذي يحدث لهما هناك في عشهما الصغير؟ هل تذكرت الأرنب الوحيدة أولادها الصغار، ودفء عشها، وعطف الآباء؟ إنه من المعتذر معرفة ما جال في خاطرها في ذلك الوقت، ولكنها على أية حال تركت مخبأها عند الفجر وذهبت لترى الصغيرين. كان المخلوقان المسكينان نائمين وقد احتضن أحدهما الآخر. وكانا وهما مستغرقان في النوم كأنهما يتوقعان قدوم أمهما، فإنه عندما أقبلت عليهما الأرنب العجوز مدا أنفيهما وحركا آذانهما.
ونظرت إليهما العجوز بعينين مندتين بالدموع ومدت هي الأخرى أنفهما كأنها تشم رائحة العش.
وعادت السماء تهطل مطراً غزيراً. . . واستمرت سبع ليال وثمانية أيام حتى أحاطت الجزيرة غلالة قاتمة من الضباب والماء. وارتفع الماء وظل يرتفع حتى شارف مأوى الأرنب العجوز.
حاولت أن ترجع لتشاهد الأرنبين ولكنه تعذر عليها السير بقرب ملجئها من الرمال المتداعي المشبع بالماء. وأصبح من المستحيل عليها أن تصل إلى الوادي الصغير. وعادت السماء تمطر وتمطر، واستمعت الأرنب إلى صوت داو قادم من بعيد كأنه ضوضاء جيش معاد غاز يمر مخترقا الأرض مدمرا ما يصادفه.
كانت الأرنب تعرف ذلك الصوت جيداً. إنه هدير النهر المغتصب. فلم تجرأ على مغادرة عشها على الرغم من شعورها بالجوع ونفاذ ما تقتات به اللهم إلا أوراق الشجر الجافة. فاضطرت أن تظل دون طعام بعد أن وصل الماء إلى جذوع الشجر وأصبح من الخطر عليها أن تتحرك قيد أنملة.
وارتفع الماء وظل يرتع في سكون وحلكة. وظهرت الأرض والسماء والهواء كأنها كتلة واحدة من البرد والماء المضطرب.(784/55)
وفي اليوم الثامن أقلعت السماء وانقشعت السحب عن زرقتها فبدا القمر يلمع ضوءه الفضي وغيض الماء وظهر كأنه يتراجع مجهدا من النصر حاملا معه غنائمه وأسلابه من الأغصان وأوراق الشجر والطمي والرمل والمخلوقات الميتة. . .
وفي اليوم التالي أشرقت الشمس على المكان المقفر، فتركت الأرنب مخبأها وجعلت تتطلع حولها.
لقد اختفى الغدير وحل محله تيار بطيء من الماء المشرب بالوحل يجري تحت الضفة العالية حاملا معه ضحاياه.
وفجأة لاح للأرنب العجوز بين الأغصان العارية وأوراق الأشجار الجافة وآلاف الفقاعات الصغيرة كأنها حبات عقد انفرط لاح لها الأرنبان الصغيران، جثتين هامدتين، نحيلين طويلين مفتحي الأعين مرتفعي الآذان، يسبحان ويسبحان في الماء الجاري، الواحد بجانب الآخر وكأنهما شقيقان صغيران لا يود أحدهما الافتراق عن الآخر حتى بعد الموت.
وهكذا عادت الوحدة والوحشة تطرقان قلب الأرنب العجوز وهكذا عادت الجزيرة إلى حالها من الهدوء والسكون.
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب(784/56)
العدد 785 - بتاريخ: 19 - 07 - 1948(/)
قضية مكسوبة
للأستاذ عباس محمود العقاد
يحمل صديقنا (الأستاذ الحداد) مطارقه كلها في هذه الأيام.
ويضرب بهذه المطارق كلها على رؤوس الصهيونيين!
فتارة يتناول التلمود ويكشف عما فيه من الوصايا الخفية، وتارة أخرى يتناول المجامع العليا وما تأتمر به من مؤامراتها الجهنمية، ويعرض أحياناً للماسونية التي تتخذ هيكل سليمان شعاراً لها ولا تخلو من صلة بسياسة إسرائيل، ويعرض أحياناً أخرى لدسائس القوم في العصر الحديث وهي نمط منقح من دسائسهم في كل تاريخ قديم.
وحسناً صنع الحداد.
فإنه على الأقل ليضرب بمطارقه حيث تنزل مطارق الله.
وما نزلت مطارق الله على قوم كما نزلت على هؤلاء (شعبه المختار). . . فكأنهم شعبه المختار بمعنى واحد، وهو معنى الاختيار للنقمة والعقاب.
وآخر ما قرأته له في هذه الحملة الحدادية كلامه عن كتابة التوراة العبرية في عهد موسى عليه السلام.
فهو ينفي كتابة الأسفار الخمسة التي تنسب إلى موسى عليه السلام في عهده، ويستدل على ذلك بتاريخ الكتابة بين العبرانيين.
ومن المحقق أن هذه الأسفار الخمسة كتبت بعد عصر موسى عليه السلام بزمن طويل، وليس أكثر من الأدلة التاريخية القاطعة التي لا تدع لذرة من الشك موضعاً في ثبوت هذه الحقيقة؛ ولا حاجة بنا ولا بالأستاذ الحداد إلى سرد هذه الأدلة التاريخية المطولة؛ فإنه نصوص الأسفار الخمسة نفسها تغنينا عن كل دليل.
إذ تروي هذه الأسفار فيما تروي نبأ ملك قديم قام في بني إسرائيل. ومعنى ذلك أن هذه الرواية كتبت بعد قيام الملك فيهم على عهد شارل وداود وسليمان: أي بعد موسى بثمانية أو تسعة قرون.
ومن أعجب العجب أن تنسب هذه الأسفار إلى موسى وفيها وصف موته ودفنه، ومقارنة بينه وبين التابعين له من الأنبياء.(785/1)
ففي الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية: (فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب. ودفنه في الجوا في أرض موآب مقابل بيت قغور ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم).
وفي ذلك الإصحاح أنه لم يقم بعد موسى في إسرائيل نبي مثله، ومعنى ذلك أن الإصحاح كتب بعد قيام أنبياء كثيرين تنعقد المقارنة بينهم وبين موسى عليه السلام.
فمن الثابت قطعاً أن هذه الأسفار العبرية كتبت بعد عصر موسى عليه السلام بعدة قرون.
ولكنني أكتب هذا المقال لأبسط فيه الرجاء إلى صديقنا الحداد أن يرجئ حملته على هذه (المستندات) العبرية، لأنها قد تنفعنا في قضية مكسوبة إن شاء الله. وهذا هو خط سير القضية التي نعتمد فيها على تلك المستندات، حتى ينكرها الصهيونيون فنكسب، أو يعترفوا بها فنكسب، ونحن الكاسبون على الحالتين.
فتحت محكمة العدل الدولية عن مندوب مصر يطالب عصابة إسرائيل بعشرين مليوناً من الجنيهات الذهبية.
قال القاضي لمندوب مصر: علام تستند في دعواك؟
قال المندوب على وثيقة لا يطعن فيها الصهيونيون!
قال القاضي: أين هي؟
قال المندوب هي هذه، ودفع إليه بنسخة من التوراة العبرية.
ويظهر أن الأوربيون والغربيين لا يقرءون التوراة في هذه الأيام؛ لأنهم لو كانوا يقرءونها لعرفوا منها تأريخ هؤلاء القوم، وعرفوا منها أن أنبياءهم كانوا يصفونهم مرة بعد مرة بالتمرد والعصيان وغلظ الزقاب، وأنهم ما يرحوا منذ كانوا على شقاق وشغب واضطراب.
قال القاضي: وماذا في هذه الوثيقة مما يثبت دعواك؟
قال مندوب مصر: في الإصحاح الثالث من سفر الخروج: (يكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين. بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبنائكم فتسلبون المصريين).
قال القاضي: هذه نية. هذا شروع، فهل تمت الجريمة.
قال مندوب مصر: نعم تمت. فقد جاء في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج أيضاً(785/2)
(إن بني إسرائيل ارتحلوا. . . نحو ست مئة ماش من الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيف كثير أيضاً مع غنم وبقر مواشي وافرة جداً).
وجاء في الإصحاح قبل ذلك (أنهم طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً، وأعطى الرب نعمة في عيون المصريين حتى أغاروهم فسلبوا المصريين).
فسأل القاضي مندوب مصر: ولكن علام بنيتم تقديركم للمبلغ المطلوب؟
قال المندوب: ثابت يا حضرات القضاة من هذه الوثيقة أن عدد رجال فقط من بني إسرائيل كان ستمائة ألف رجل، عدا النساء والأولاد، فلا يقل عددهم جميعاً إذن عن ثلاثة ملايين.
وثابت من هذه الوثيقة أنهم كان معهم لفيف كثير.
وثابت منها أن المواشي التي أخذوها كانت كثيرة جداً.
وثابت منها أنهم أخذوا أمتعة ذهب وفضة وثياباً موشاة مما يلبس في الأعراس.
فإذا قدرنا هذا - مع الفوائد المستحقة في نيف وثلاثين قرناً - فليس هنالك أقل مبالغة في تقديره بعشرين مليوناً من الجنيهات الذهبية.
فتداول القضاة قليلاً فيما بينهم ثم سأل رئيسهم مندوب عصابة إسرائيل:
ما قولك في الدين المطلوب؟
قال المندوب الصهيوني: إني أنكره ولا أعترف به.
قال رئيس القضاة: ولك؟ هل تطعن في الوثيقة؟
قال: كلا. لا أطعن في الوثيقة.
قال القاضي: إذن، هل تطعن في التقدير؟
فالتفت المندوب إلى مستشاريه، وتداولوا الرأي فيما بينهم ملياً، فتبين لهم أن الطعن في التقدير ينتهي إلى الحكم بمبلغ كثير أو قليل على كل حال. ثم عاد مندوبهم إلى الكلام وهو يقول:
إننا يا حضرات القضاة لا نطعن في الوثيقة ولا نطعن في التقدير، ولكننا نطلب الحكم بسقوط الدعوى لمضي المدة.
فنظر القاضي إلى مندوب مصر سائلاً:(785/3)
ما جوابك على هذا الدفع؟
قال المندوب: جوابي أن المدة التي مضت على هذا الدين المعترف به هي المدة التي مضت على حق القوم المزعوم في ملك فلسطين. فإن سقطت الدعوى هناك.
ولم يسع القاضي إلا أن يسأل الطرفين:
أتوافقون إذن على إسقاط الدعوى جملة في هذه الوثيقة؟
قال مندوب إسرائيل على عادة القوم في كل مطلب وفي كل دعوى: بل تعتبر القضية قائمة في دعوى صهيون، وتسقط القضية في دعوى المصريين!
أنت ترى (خط سير القضية). . . وأنت رجل كيمي ورجل أديب، ولكنك لا تجهل أن الدعوى مكسوبة على الحالتين، وأن ساورتك الظنون كما تساورنا في محاكم الدول وهيئات التحكيم.
فهلا رفعت من مطارقك التي تهوي بها على هؤلاء القوم مطرقة واحدة إلى حين؟
هلا رفعت عتهم مطرقتك التي تهوى بها علي (مستندهم) القديم؟
ارفعها قليلاً. وتكون يومئذ قد صنعت بهم ما صنع الحداد.
عباس محمود العقاد(785/4)
هذا يوم الحساب
التعويضات والغرامات على اليهود
للأستاذ نقولا الحداد
ينص البند 9 الأخير من مقترحات برنادوت على أن (يعترف عنصراً الاتحاد بحقوق سكان فلسطين الذين اضطرتهم ظروف القتال إلى مغادرة بيوتهم وممتلكاتهم في العودة إليها دون قيد وفي استعادة كل أملاكهم).
كثر الله خيرك يا سيد برنادوت جزاء إذنك بعودة العرب المشردين من بلادهم بسبب وحشية اليهود وفظائعهم، ومنحك إياهم حق استعادة أملاكهم! فهل لاح في خاطرك أن العرب ليس لهم في الرجوع إلى بيوتهم وفي استرداد أملاكهم ولكنك تتفضل أنت بمنحهم هذا الحق؟
هل تعني أن تعاد لهم بيوتهم منسوفة متهدمة مدكوكة إلى الحضيض ولم يبق منها إلا أرضها مغطاة بالركام؟ وهل تعني أن تعود لهم بيوتهم فارغة من كل أثاث ورياش وسجاد فاخر إلى آخره، ومن كل مؤونة كما تركوها وكانوا قد ملئوها أغذية حاسبين حساب الارتباك وفقدان الأطعمة من الأسواق؟ وهل تعني أن تعاد لهم دكاكينهم فارغة من السلع الثمينة وغير الثمينة أو متهدمة كمنازلهم، أو أن تعاد إليهم مرافقهم ومصانعهم وجميع أسباب رزقهم وقد دمرت تمام الدمار ولم يبق لهم رسم الدار؟ وهل تعني أن تعاد لهم مدارسهم وقد خربت وجعلت مرابض للبغال والمدافع ومكامن للذخائر وأوعية للأقذار - أقذار الجوييم (أي الأنجاس)؟ وهل تعني أن تعاد لهم معابدهم، وقد تدنست بأدناس الصهيونيين الفحشاء، وأرجاسهم الداعرة، ونجاساتهم (الآرية). وهل تعني أن تعود لهم مزارعهم تالفة الزراعات محصودة الغلات، وبساتينهم مقطعة الأشجار والأغصان ومأكولة البرتقال والأثمار؟
إن الذين غادروا بلادهم هم العرب وحدهم، وقد هربوا من طغيان اليهود العتاة، ففروا إلى إخوانهم العرب مستنجدين. أما اليهود فلم يغادروا مدنهم ومستعمراتهم لأن العرب لم يضطروهم إلى الهرب بأي سبب. والى أين يهربون وحولهم خصومهم من كل صوب، فإلى أي جهة فروا وجدوا أنفسهم في (أحضان العرب الخصوم يعاملونهم معاملة الخصم(785/5)
الكريم.
سمعاً يا سيد برنادوت. لم تكن كارثة الفلسطينيين المشردين في مغادرة ديارهم وتخريبها ونهبها فقط. بل في ضياع أسباب معايشهم جميعاً وفقد أموالهم وإضاعة كسبهم ومتاجرهم في حين أنهم كانوا عالة على إخوانهم عرب مصر وشرقي الأردن وسوريا ولبنان والعراق على الرغم من أن هؤلاء الإخوان رحبوا بهم وما استثقلوا ضيافتهم بل قدموا لهم كل إعانة كأنهم أهل البيت ولكن النفوس الأبية لا تحتمل طول هذه الضيافة.
لا ندري كم من ملايين الجنيهات (لا الدولارات) خسر العرب في هذا التشريد فضلاً عن الأنفس الزكية والأرواح الثمينة التي أزهقتها فظاعات اليهود. كل هذه لم يحسب لهاالسيد برنادوت حساباً في تعطفه على العرب. ولكن العرب لا يصبرون على هذا الضيم مهما تناهوا في كرم الأخلاق لأن ضيفهم الجنس الصهيوني ساقط الأخلاق، معدوم الضمير، فلا يستحق سماحاً ولا مغفرة.
لذلك كان على الدول العربية جميعاً أن ت حصل حقوق العرب الفلسطينيين المادية (علاوة على الحق الوطني) من هؤلاء اليهود الطغاة الذين بلغ بهم الصلف كل مبلغ. وهذا التحصيل ليس بالصعب بل هو أسهل من السهل. أما أن نعتمد على قضاة برنادوت أو مجلس الأمن في تحصيل هذه الحقوق من يهود فلسطين أنفسهم فهو عبث، لأن اليهود لا يدفعون حقاً من تلقاء أنفسهم.
ولكن لإخوانهم في سائر البلاد العربية أموالاً وأملاكاً وأسهماً وأوراقاً مالية لا تحصى. وقد استنزفوها من ثروة البلاد بلا جهد ولا عناء. وكانوا يساعدون بشيء كثير منها الصهيونيين في تل أبيب - الصهيونيون الذين صنعوا هذه الكارثة الأليمة فلا يتعذر على الدول العربية أن تحصل تلك الغرامات والتعويضات من هؤلاء اليهود الأعوان. وللدول العربية عذر وجبه جداً في أحقية هذا التحصيل. وهو أن حوادث التفتيش عن الأشخاص الخطيرين في البلاد فضحت هذا العنصر الخطير (الجوييم) الذي يهيئ ثورة محلية يراد بها قلب الحكم الحاضر بحيث تكون عاقبته امتداد الصهيونية إلى مصر وجميع البلاد العربية. فكل يوم يظهر من تفتيش البوليس أشخاص يملكون أسلحة وقنابل ومنشورات بالعبرية والعربية تدل على أن في عزم الصهيونيين (الأبيبيين) أن يغزوا مصر حالما(785/6)
ينتهون من غزو فلسطين. والانفجارات التي حدثت في حارة اليهود أخيراً تدل على أن هناك معمل الشيطان الصهيوني؛ فإن أولئك الذين نسفهم الانفجار كانوا يصنعون قنابل شديدة الانفجار جداً. فلماذا كانوا يصنعونها؟ ولمن؟ وعلى حساب من؟ وقيل إنهم كانوا يرسلونها إلى تل أبيب. وأخيراً جاءهم بلاغ من هناك أن احفظوا هذه المتفجرات عندكم إلى أن تذهب إليكم لأننا ذاهبون.
وكلنا يعلم أن بعضاً من الأشخاص الذين قبض عليهم كخطرين ووجدت عندهم منفجرات هم كبار أغنياء إسرائيل والقابضون على أعنة مالية البلاد. فكل هذه الأمور تبرر للحكومة المصرية وكل حكومة عربية أن تصادر أموال كل صهيوني ثبتت عليه شبهة الخطر، وأن تفرض ضريبة ثقيلة على كل صهيوني غيره استرداداً لما كان يرسله من المال إلى تل أبيب سراً لإعانة الصهيونية.
فإذا جرت الحكومة على هذه الخطة أمكنها أن تجمع التعويض اللازم للعرب الفلسطينيين، والغرامة التي هي جزاء فظاعات الصهيونيين. وليس في الشرائع المدنية أو الإلهية ما يمنع هذا الإجراء، فهو حق وأقل من الحق. فعسى أن تفكر الحكومة في هذا الموضوع، فهو جدير بأن يأخذ من اهتمامها كل مأخذ.
لا بد أن تنتهي الثورة الفلسطينية بالنصر إن شاء الله. فإذا رغبت الحكومات العربية أن تسترد خسائر العرب وتغرم الصهيونيين الغرامة اللازمة لثورتهم فلا تجد وسيل لتحصيل هذه التعويضات والغرامات غير هذه الوسيلة؛ فيحسن بها جميعاً أن تشرع في هذا العمل تواً. . .
نقولا الحداد(785/7)
من أهداف الصهيونية
للأستاذ محمد أسامة عليبة
أنشأ الحركة الصهيونية في لندن سنة 1896 الدكتور هرتزل اليهودي النمساوي، واشتهرت باسم الصهيونية لأن أبرز من سعى إليها هي (جمعية صهيون) في النمسا، وهي جمعية تسمت باسم جبل في صحراء سينا عسكر فيه بنو إسرائيل لإقامة الصلاة بعد نجاتهم من فرعون.
وقد دخل بالتبشير بدينهم كثير من أمم شتى كالسيفرديم الذين انحدروا من سلالة الإسبانيين والبرتغاليين، والإيشكينازيم وهم يهود روسيا والنمسا وألمانيا والمجر، والمنفصلون وهم من آباء رومانيين وأمهات من يهود. . .
ولهم في الحركات السرية أعظم يد، ومن أبرزها (الماسونية).
وقد عقدت الجمعيات الصهيونية في (بال) في سويسرة مؤتمراً سنة 1897 وضعت فيه أسس نظام فتوحاتها في المستقبل على ضوء ما نجحت فيه من خططها، فكتبوا 24 محضراً تضمنت جماع الخطة والهدف الذي يبلغ باليهود إلى السيطرة على العالم معتمدة على المال والمؤامرات والاغتيالات والدعايات وبث القلق والاضطرابات خلقياً وعملياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وهم القائمون بإدارة السياسة اليهودية، العابثون بسياسة العالم تمهيداً لعودة ملكهم.
وذاعت هذه المحاضر وكان من شدة وقع ذلك أن استيقظ العالم الغربي النصراني لما تبيته له الصهيونية من سهام مسمومة. وأولى من وصل إلى هذه المحاضر هو اليكس نيقولا نيفتش عميد أشراف شرقي روسيا، فسلمها إلى سرج نيلوس وطلب إليه الاستفادة منها بما يحمي مصالح الوطن وعقائد أبنائه، فنشز كتابه عنها سنة 1919 فارتاع الصهيونيون لذيوعها وشكاً هرزل رئيسهم من اطلاع (الكفار) على أسرار هذه المحاضر، وقد حاولوا إنكارها، وحذر آخرون من أغراضها، وهذا مما يثبت أن اعتماد اليهود على الجمعيات والدعوات السرية كاعتمادهم على المال والرشوة واستخدام الوسائل الإرهابية في سبيل مطمعهم بالسيادة العالمية.
موجز المحضر الأول:(785/8)
القوة الوحشية الغاشمة هي وحدها التي أخضعت الوحوش الضاربة التي تدعى بشراً، ثم خلفها القانون وهو نفس القوة، إلا أنها مقنعة. فالحق كائن في القوة. والذهب في عصرنا أعظم نفوذاً من الحكومات. والصفات السامية كالصدق والنزاهة هي عيوب ونقائص لا تصلح لنا هدفاً، وإنما القوة هدفنا، ويجب أن نتسلح بها للانقضاض على الأنظمة والشرائع وقلبها رأساً على عقب. وبسبب ضعف جميع السلطات في الوقت الحاضر يدوم سلطاننا لأنه مشيد على أسس متينة لا يمكن أن تنال منها الخدع والدسائس وقوة الشعب عمياء لا شعور لها وتنقاد إلى جميع الجهات ولا تقوم للمدنية قائمة إلا إذا قام فيها الحكم المطلق حكم الفرد. وعمالنا من معلمين وخدم ومربيات في دور الأغنياء ومستخدمونا في كل مكان، ونساؤنا في قاعات الملاهي يسوقون الشعوب إلى مهامي الانحلال الحلقي الذي يمهد لنا الوصول إلى أهدافنا. ويجب أن نتخذ العنف مبدأ والمكر والرياء قاعدة. ويجب أن لا نحجم عن الالتجاء إلى الرشوة والخداع والخيانة في سبيل بلوغ مآربنا. وينبغي الإقدام على اغتصاب ملك غيرنا إذا كان في ذلك ما يحقق سلطاننا. والقسوة التي لا تعرف اللين هي أول عامل في قوى دولتنا، وبها سنخضع جميع الحكومات لحكومتنا العليا.
موجز المحضر الثاني:
من مصلحة اليهود نقل الحروب إلى الميدان الاقتصادي لترى الأمم عظيم تفوقنا في هذا المضمار فيضطر الفريقان المتحاربان أن يكونا في يد عملائنا الدوليين، فنقبض على توجيه الشعوب إلى حيث أردنا. ولكي لا نقع في أخطاء سياسية وإدارية يجب أن لا تفوقنا العناية بآراء الشعوب وأخلاقها وميولها العصرية، مع المقايسة بين نتائج الماضي والحاضر.
وللصحافة قوتها التي لا تنكر، ولكن الدول لم تحسن الاستفادة من هذه القوة فوقعت في أيدينا، وقد استطعنا بواسطتها أن تحرز جانباً مدهشاً من النفوذ وأن نجمع الذهب الوهاج في قبضتنا.
موجز المحضر الثالث:
يجب أن نصل إلى فصل قوة الحكم البصيرة عن قوة الشعب العمياء لتفقد القوتان أثرهما،(785/9)
وتصبحا عاجزتين كعجز الأعمى الذي يفقد عصاه. ولكي ندفع ذوي المطامع إلى إساءة استعمال السلطة وضعنا جميع القوى المتعارضة وجهاً لوجه وقوينا ميولها الحرة إلى الاستقلال، وشجعنا كل مشروع يؤدي إلى هذا الغرض وحولنا الممالك إلى ميادين للهرج والمرج. ومتى آن الأوان لأن نخلق بفضل وسائلنا السرية وذهبنا النضار ضائقة اقتصادية عامة، نقذف في نفس الوقت بجموع العمال الفقيرة إلى الشوارع في جميع البلدان الأوربية، فتقدم هذه الجماهير بلذة على قتل من هم في نظرها الساذج موضع حسدها وغيرتها وعلى نهب أموالهم، ولكنها لا تمس أتباعنا بسوء لعلمنا بساعة الهجوم ولاتخاذنا الحيطة للمحافظة على بني قومنا وإذا عدتم بالذكرى إلى الثورة الفرنسية وجدتم أن سر إعدادها لم يكن يخفى علينا لأنها كانت كلها من صنع أيدينا. ونحن الآن كقوة دولية في وضع منيع بحيث إذا هوجمنا في دولة دافعت عنا الدول الأخرى.
موجز المحضر الرابع:
يجب علينا أن نهدم الإيمان، وأن ننزع من النفوس المبادئ الإلهية والروحية، وأن نغرس بدلها حب الحسابات والحاجات المادية، وأن نشغل الناس بالأعمال التجارية والصناعية لتتجه الأفكار والمساعي إلى تحقيق المنافع الخاصة، فلا يشعرون بفتن عدوهم العام. ولتفكيك أوصال الجماعات المسيحية وتدميرها يجب أن تتخذ المضاربات قاعدة للصناعة فتخرج جميع الثروات التي تنتجها الصناعة وغيرها من حوزة أربابها إلى فوهة المضاربات فتبتلعها. وما هذه الفوهة إلا خزائننا.
موجز المحضر الخامس:
سيادة الاتحاد المسيحي علينا لا تطول مدتها لأننا بذرنا أصول الشقاق في كل مكان وأوجدنا التنافر بين مصالح المسيحيين المادية والوطنية، وأثرنا النعرات الدينية والعنصرية في بيئاتهم، وعلى كل حال لا تستطيع الدول اليوم عقد أي اتفاق مهما ضؤل شأنه بدون استطلاع رأينا وموافقتنا. يقول أنبياؤنا أن الله اصطفانا لنسود العالم ووهبنا النبوغ لتكلل أعمالنا بالنجاح. ولو كان لغيرنا مثل هذا لاستطاع مقاومتنا، ولكن القادم الجديد لا يساوي الساكن القديم. وسيكون القتال بيننا عنيفاً جداً بلا رحمة ولا شفقة مما لم يشهد العالم مثله.(785/10)
أما أدعياء العبقرية فسيصلون متأخرين لأن المحرك الذي يدير الجهاز الحكومي غداً في قبضتنا، وما المحرك سوى الذهب، وحكماؤنا الذين وضعوا على الاقتصاد السياسي عرفونا تأثير الذهب العجيب في العالم. وهذا الذهب يجب أن يجمع الصناعة والتجارة في احتكاره، وهذا ما نحن ساعون إلى تحقيقه بواسطة أيد خفية لها اتصال بجميع أنحاء العالم. ومما يجب أن نعني به في حكومتنا العتيدة إضعاف الرأي العام بوسائل النقد والتقريع والمر، مع الاستمرار على هذا إلى أن تضمحل عادة التفكير، لأن التفكير يولد المعرضة. ويجب كذلك أن نشغل القوى العقلية بمناوشات خطابية عقيمة. والطريقة المثلى للاستيلاء على الرأي العام تنحصر في العمل على إقلاقه بأن يغمر بفيض من الآراء المتناقضة تأتيه من كل جانب باستمرار، فينتهي الأمر بضلال المسيحيين وغيرهم. ويجب أن نتخذ ما يجب لبلبلة الآراء واختلاف مسالك تربية النشء ليكون في كل أسرة اتجاهات متناقضة بحيث لا يستطيع الواحد فهم مراد الآخر، وبحيث لا يقوى كائن من كان على إعادة المياه إلى مجاريها، ومن تأثير هذه الطريقة وقوع الشقاق بين الأحزاب، وتفرق القوى المتجمعة ضدنا. أما ما يتعلق بثقافة البيئات المسيحية فعلينا أن نقبض على إرادتها بيد من حديد، ونتصرف في شؤونها بما يضممن وصولنا إلى أهدافنا.
موجز المضر السادس:
سننشئ مؤسسات للاحتكار تكون كخزائن للثروات الضخمة، ويكون لماليات المسيحيين الكبرى وللاعتمادات المالية للدول أوثق علاقة بها ليسهل ابتلاعها في غد أول نكبة سياسية ولما كانت الأرستقراطية المسيحية من حيث هي قوة سياسية قد اضمحلت فقد بقيت أملاكها العقارية، فهي تستطيع ما دامت موارد حرها أن تعرقل أهدافنا، فلا بد إذن من الاستيلاء على هذه الأملاك وحرمانها منها، وأنجح طريقة لذلك هي زيادة الضرائب. وللقضاء على صناعة غيرنا يجب تنشيط المضاربة واستثارة شهوة البذخ والترف، تلك الشهوة التي تلتهم الأموال بأقرب وقت. ثم نزيد أجور العمال، ولكنها زيادة لا ينتفعون منها، لأننا قد اتخذنا الحيطة لذلك برفع أثمان الحاجات الضرورية. ثم ندير معاولنا شطر الإنتاج لهدم أسسه، متوسلين ببعض الوسائل التي تمكننا من تعويد العمال الشغف بالمسكرات وخلق الفوضى. ولكيلا تنكشف حقيقة أغراضنا قبل الأوان يجب نتظاهر بالغيرة على خدمة طبقات العمال،(785/11)
وبنشر المبادئ الاقتصادية.
موجز المحضر السابع:
إثارة الفتن والشغب والشقاق والبغضاء في جميع البلاد ستكون داعية إلى الاعتراف بمقدرتنا على بث روح الاضطراب أني شئنا ونشر أعلام النظام حيث أردنا. ودسائسنا المعتمدة على سياسة العقود الاقتصادية والمالية تزيد في تعقيد الشرك الذي نكون قد نصبناه في دوائر الدول. وأما في الشؤون التي تدخل في نطاق ما يسمونه (اللغة الرسمية) فنتخذ خطة معارضة تظهرنا بمظهر أهل الصلاح والإصلاح. وإزاء كل معارضة تثار ضدنا نكون على استعداد لدفع البلاد المجاورة إلى إثارة الحرب على من يجرؤ على معاكستنا، وإذا ما خطر لهذه البلاد نفسها أن تتحد مع عدونا عمدنا إلى دحرها بإعلان حرب عامة، وعضدنا في هذه السبيل هو الرأي العام الذي وضعته (السلطة العظمى) سلطة الصحافة في أيدينا. وهدفنا هو إظهار قوتنا للحكومات تارة بوسيلة التعديات الجنائية وطوراً بواسطة المدافع الأمريكية والصينية واليابانية.
موجز المحضر الثامن:
من الواجب أن يحاط نظام حكمنا بجميع قوى الحضارة من كتاب سياسيين وشراع محنكين وإداريين وغيرهم من أهل التخصص في العلوم العليا للوصول إلى أغراضنا. ولما كانت العلوم الاقتصادية لها شأن كبير وجب أن نعني بتعليمها لليهود، ويجب أن يكون حولنا جماعات من الصيارفة وأرباب الصناعات والرأسماليين، ولا سيما أصحاب الملايين لأن الحكم في النتيجة سيكون للأرقام.
موجز المحضر التاسع:
حكومتنا العليا وأن لم يكن لها صفة شرعية اليوم، لكن القضاة أصبح الآن في أيدينا نضع الشرائع ونصدر الأحكام، ولنا سلطة القائد العام، بل نحن نمارس الحكم بيد من حديد. ونحن مصدر الإرهاب المنتشر في كل صقع، وفي خدمتنا رجال ينتمون إلى مختلف العقائد والمبادئ من ملكيين وجمهوريين واشتراكيين وشيوعيين، ومن جميع أنواع الخياليين، يعملون في سبيل مصلحتنا، وجميع الدول تعاني المشقات والأهوال من جراء(785/12)
هذه الحال، وتسعى جهدهم لاقرار السكينة وتبذل ما وسعها البذل في سبيل السلام. ما لم تعترف بحكومتنا العليا، وانقسام الشعوب إلى أحزاب دفعها بجملتها إلى أحضاننا، لأن النضال الحزبي لا يقوم إلا على المال وهو في قبضتنا. والذي كنا نخشاه هو قيام الألفة بين قوى الطبقة الحاكمة المثقفة وقوى الشعب الغاشمة؛ ولكننا احتطنا لذلك فأقمنا جداراً وحالة ذعر بين الفريقين.
موجز المحضر العاشر:
يجب أن نقاوم النزعة إلى البروز الشخصي بدفع الشعب إلى مكافحة من يطوح به الغرور إلى إشهار نفسه بالفعل والكلام، والشعب لا ينقاد لسوانا مادمنا نكافئه على طاعته ويقظته. ويجب أن تكون خططنا سديدة، ولذلك لا نسمح بعرضها على جماعة يتناقشون فيها كالمجالس التشريعية فتخرج منها وفي طياتها آثار جميع الآراء الخاطئة. ويجب أن نتوصل إلى جمع الحكومات كلها تحت سيطرتنا لإلغاء جميع الدساتير القائمة، ومما يجب التوسل به لبلوغ هذه الأهداف إثارة الشقاق والعداء والبغضاء بين الشعب والحكومة، وخلق المجاعات وبث جراثيم الأمراض وتعميم البؤس في كل مكان.
موجز المحضر الحادي عشر:
يجب أن نطرح من قاموس البشرية: حرية الصحافة وحرية الضمير ومبدأ الانتخاب لنستطيع بسط سلطاننا المعصوم الذي لا يرجع إلى صواب ولا يعترف بخطأ. ويجب أن نقمع كل حركة تثار ضد هدفنا هذا: والله قضى علينا ونحن شعبه المختار بالتشتيت الذي سبب ضعفنا، ولكن هذا الضعف هو الذي ولد هذه القوة التي قادتنا إلى أبواب السيادة العالمية.
موجز المحضر الثاني عشر:
للحرية عند الناس معان شتى، فيجب علينا أن نحصرها ونحدها بقولنا: هي حق التصرف بما يجيزه القانون. وفي وسع القانون أن يبدع أو ينقض كل ما من شأنه أن يغاير روح بربامجنا وأغراضنا: وأما الصحافة فيجب أن نكمح جماحها ونجعل منها مورداً لدولتنا فنسن الضرائب الصحفية، ونفرض ضماناً مالياً على كل صحيفة أو مطبعة، ثم نفرض(785/13)
غرامات نقدية باهظة على المخالفات فنأمن شر الحملات الصحفية.
موجز المحضر الثالث عشر:
سعينا إلى اقتناص الرأي العام يمهد السبيل لإتمام أغراضنا، ولكي نحول أنظار الذين تهمهم السياسة إلى نواح أخرى، يجب أن نثير البحث في شؤون جديدة كالشؤون الصناعية وندعهم يتحمسون ويغضبون ما طاب لهم ذلك. ونقترح لنشغل الشعب عن شؤونه المهمة فتح أبواب الملاهي والألعاب ونقيم لها دوراً حافلة. كما يجب أن نشوق الأفكار إلى ابتداع أنواع النظريات الخيالية.
موجز المحضر الرابع عشر:
يجب أن لا نعترف بغير ديننا لأننا الشعب المختار، فيتحتم علينا أن نهدم جميع المذاهب الدينية، وأحياء الديانة الموسوية التي تستقر فيها القوى التهذيبية والأخلاقية، وستولى فلاسفتنا نقض العقائد المسيحية وغيرها، وقد نشرنا في البلاد التي يدعونها متقدمة أدباً إباحياً قذراً وسنواظب على دعمه.
موجز المحضر الخامس عشر:
يجب أن نكون سلطتنا قائمة على الإرهاب الذي سيرفعها إلى مرتبة المصطفين من لدن العزة الإلهية على نمط الأوتوقراطية الروسية عدوتنا اللدود في هذا العالم هي والبابوية معاً. اذكروا مثل إيطاليا الدامية التي أغرقها (سيلا) بالدماء، وأذاق الشعب الموت الأحمر، فأكبر الشعب فيه البسالة فمنحه مزايا العصمة والحصانة. والى أن نرتقي سدة الحكم يجب أن نضاعف عدد المحافل الماسونية في العالم، ونتخذها مقراً للاستخبارات ووسيلة لتسيير أعمالنا، ويكون من أعضاء هذه المحافل جميع رجال الشرطة لأن لهم شأناً خطيراً لاستطاعتهم كبح جماح من يعن له التمرد علينا، وفي وسعها أن تستر أعمالنا. وكل من سعى في عرقلة أعمالنا حل اغتياله. ولا يجوز في قضائنا اغتيال الأحكام لكيلا يفهم الشعب خطأ أحكامنا. وإذا وضع ملك إسرائيل التاج الذي تقدمه إليه الممالك الأوربية وغيرها على هامته المقدسة أصبح أباً للعالم أجمع.
موجز المحضر السادس عشر:(785/14)
الجامعات العلمية القائمة الآن هي قوة مجتمعة متضامنة، فيجب تقويضها وتشييد غيرها على أن تحيا بروح جديدة، ويعد لها في الخفاء رؤساء وأساتذة يزودون بمناهج مفصله للتمهيد لأغراضنا، ويجب أن نطوي من المناهج مادة الحقوق المدنية وكل ما له صلة بالشؤون السياسية، ولا تعلم هذه العلوم إلا لبضعة عشر طالباً يختارون من ذوي المواهب، ثم يكونون تحت أمرتنا.
موجز محضر السابع عشر:
نقابات المحامين توجه مجهوداً دائماً إلى صالح الدفاع، فيجب وضعها ضمن إطار ليتسنى جعل أعضائها عمالاً للتنفيذ. وقد وجهنا جهودنا إلى إفساد رسالة الأكليريكية المسيحية التي تؤخر وصولنا إلى بعض أهدافنا فأخذ نفوذها يتداعى في نفوس الأمم، وعما قريب ستموت الديانة المسيحية، ثم تموت الأديان الأخرى نتيجة لمساعينا. ومتى حان الوقت لهدم الصرح البابوي جعلنا ملك اليهود البابا الصحيح للعالم والبطريرك الوحيد للكنيسة العالمية.
وسيكون قدوتنا في الحكم (فنشو) فتقبض كل يد من الأيدي المائة التي نمتلكها على لولب من لوالب الجهاز الاجتماعي فنستطيع الاطلاع على ما نريد بلا مساعدة من الشرطة الرسمية، والجاسوسية والوشاية لا يعدان من الأمور المشينة بل من الواجبات لنبلغ ما نريد بعونهما.
موجز المحضر الثامن عشر:
حينما نحتاج إلى تعزيز قوى الشرطة، نلجأ إلى افتعال الاضطراب والمظاهرات وإعلان سخط الشعب بلسان أشهر الخطباء، وحينئذ نتخذ من هذا ذريعة لإصدار الأوامر بمضاعفة المراقبة. والحكام القائمون الآن سنضطرهم إلى الإقرار بعجزهم عن حماية أنفسهم فيتخذون الحيطة لحماية أنفسهم جهاراً فنقضي بذلك على نفوذ السلطة. وأما حكومتنا فيتولى المحافظة عليها حرس خفي لأننا لا نقبل أن نسلم بوجود أعداء لا تقوي الحكومة على إخضاعهم. ويجب أن يظهر حاكمنا بمظهر من لا يستخدم السلطة لمنافعه الشخصية، فالتجمل بمثل ذلك يرفعه في نظر الشعب.
موجز المحضر التاسع عشر:(785/15)
من الواجب علينا أن نشوق الشعب إلى رفع الشكاوي والاقتراحات إلى الحكومة لتحسين حاله، فيتسنى لنا بذلك الاطلاع على نقائص الشعب وأهوائه. ولكي يقلع الشعب عن تكريم الباسلين في مضمار الجرائم السياسية نعامل المجرمين السياسيين كمعاملة اللصوص والقاتلين فينظر الشعب إلى هؤلاء وأولئك نظرة الاحتقار والاستنصار.
موجز المحضر العشرين:
خلاصة أعمالنا ستتحول إلى قضية أرقام، فيتمتع الملك في حكومتنا بحق شرعي على الأملاك والأموال الخاصة بالشعب، فله حق المصادرة للمال اللازم لتسوية نظام التداول النقدي في البلاد، ولما كان جميع أموال الدولة ملكاً للجالس على العرش وجب أن لا يكون له ملك خاص لأنه لا يحق لمن يمتلك أموالاً خاصة أن يتمتع بملك الجميع. ولقد أحدثنا أزمات اقتصادية في البيئات المسيحية بقصد سحب النقود من التداول فاضطرت الحكومات إلى الرأسماليين تقترض منهم فصارت أسيرة لديهم، وهؤلاء الرأسماليون بوضعهم أيديهم على الصناعات الكبرى قضوا على الصناعات الصغرى فاضعفوا الشعب والدولة معاً.
والذهب بسبب سحبنا أكثر من التداول أصبح لا يكفي حاجات الناس، فيجب إصدار نقد من الورق أو الخشب حسب حاجة الشعب وزيادة عدده. والقرض الخارجي دليل على ضعف الدولة وعجزها، فالقروض كسيف (داموقليس) مصلت دائماً أبداً فوق رؤوس الحكام الذين يعجزون عن سد حاجات الدولة فيسرعون إلى التماس الصدقة من صيارفنا.
موجز محضر الحادي والعشرين:
دولتنا لا تحتاج إلى الخارج. وما فعلناه مع الدول من قرضها الأموال ثم استردادها مضاعفة لن يستطيع أحد أن يفعله معنا. بل سنلجأ عند الضرورة إلى القرض الداخلي، وفي غد الاكتتاب لهذا القرض نصعد الأسعار صعوداً مصطنعاً ليتوهم الناس كثرة الإقبال على الشراء، ثم نعلن أن صناديق الخزانة العامة قد امتلأت. وسنبطل نظام البورصات المالية ضناً بكرامة سلطتنا في أن نتعرض للنيل منها بسبب تقلبات أسعار السندات الحكومية، ونقيم بدلها مؤسسات كبرى للصداقة يكون عملها تحديد أثمان الأسهم التجارية بمقتضى نظرية الحكومة ويكون باستطاعتها أن تطرح في الأسواق يومياً من الأسهم(785/16)
التجارية ما قيمته خمسمائة مليون.
موجز المحضر الثاني والعشرين:
في حوزتنا أعظم قوة حديثة في العالم: هي الذهب، ونستطيع في كل ساعة أن نخرج منه المقدار الذي يكفي لذهول العالم، فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل في أن حكومتنا مختارة من لدن الله ومعدة منذ الأزل للحكم. وحكمنا سيؤسس على دعائم قوية ثابتة مستقلاً في إدارته لا ينقاد إلى الخطباء الخياليين الذين يكثرون من الكلام التافه وينادون بالمبادئ السامية الوهمية.
موجز المحضر الثالث والعشرين:
الشعب لا يخضع خضوعاً أعمى إلا ليد حديدية مستقلة تدرأ شر الغوائل الاجتماعية، وليس من هم الشعب أن يرى على رأس الحكم ملكاً بروح الملائكة بل هو يرهب الملك ذا السطوة والقوة والصولة. وعلى الملك أن يخمد اللهب بقتل كل مذنب ينتمي إلى الجمعيات السرية الثورية ولو اقتضى ذلك إلى فيضان الدماء. وهذا الشخص المصطفى من لدن الله هو الذي توكل إليه العزة الإلهية أمر سحق القوات التي تستفزها الغريزة البهيمية فتدعي إلى الحرية والحقوق الإنسانية، ثم نقول للشعوب بعد محق هذه القوى: احمدوا الله العلي واحنوا رؤوسكم لمن يتسم بسمة الأصفياء الذين اصطفاهم الرب لينقذكم هو وحده من برائن القوى الوحشية ومن جميع الشرور.
موجز المحضر الرابع والعشرين:
ملوكنا تختارهم لجنة مؤلفة من أعضاء ينتمون إلى النبي داود لا على أساس حق الوراثة، بل على أساس الصفات الممتازة والكفاية ويلقنونهم أسرار السياسة الخفية، ويطلعونهم على خطط الحكومة على أن يكتموا كل ذلك. وعلى ملكنا عماد البشر وسيد العالم أن يترفع عن الملذات الجسدية.
محمد أسامة عليبة
لخصت ما تقدم من كتاب أهداف الصهيونية تعريب فردريك(785/17)
زريق(785/18)
مصطفى البكري الصديقي
الدمشقي المقدسي الحنفي الرحالة
(1099هـ - 1162هـ1687م - 1748م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
هذه شخصية من رجال القرن الثاني عشر الهجري، نشأت في دمشق، وترعرعت في بيت المقدس وانتهى بها المطاف إلى مصر، وقد تركت لنا عدداً من الرحلات في الديار القدسية، وسوريا، والأناضول ومصر والحجاز. ومع أن هذه الرحلات ليست شيقة، ومع أن أسلوبها يمثل أسلوب القرن الثاني عشر الركيك، وبالرغم من انصراف صاحبها إلى الوعظ والإرشاد عن طريق التصوف، شأن حملة العلم من رجال ذلك القرن، إلا إنها تلقي نوراً على كثير من الحوادث، وتصف لنا حالة البلاد التي زارها في ذلك العهد المظلم. ونرجو أن نتمكن من تلخيص بعض هذه الرحلات للقراء الكرام , وقد سبق أن نشرنا رحلتين قام بها صاحب الترجمة من دمشق إلى القدس وبالعكس في كتاب رحلات إلى ديار الشام، وذلك في سنة 1122هـ. وقد كتب ونظم الشيء الكثير. ويقول السيد حسن بن عبد اللطيف الحسيني المقدسي في كتابه (أعيان القدس في القرن الثاني عشر) أن مؤلفاته زادت على المئة. ويروي لنا المرادي في درره أن كلمته ظهرت في أرض الكنانة، وأن تلامذته ومريديه لما بلغوا مئة ألف أمر بعدم كتابة أسمائهم، وقال هذا شيء لا يدخل تحت عدد!.
وهو ابن كمال الدين بن علي بن كمال الدين عبد القادر محي الدين الدمشقي البكري الأستاذ الكبير والعارف الرباني ترجمة المرادي وأفرد له عشر صفحات ونعته (بأحد أفراد الزمان وصناديد الإجلاء من العلماء الأعلام والأولياء العظام العالم العلامة الأوحد أبر المعارف قطب الدين صاحب العوارف والمعارف والتآليف والتحريرات والآثار التي اشتهرت شرقاً وغرباً، وبعد صيتها في الناس محجماً وعرباً). كما ترجم له السيد حسن بن عبد اللطيف الحسيني في كتابه (أعيان القدس في القرن الثاني عشر).
ولد بدمشق سنة 1099هـ وتوفي والده وكان عمره ستة أشهر، فنشأ يتيماً في حجر ابن عمه، واشتغل بطلب العلم على شيوخ الشام وأجاز له محمد بن محمد البديري الدمياطي ولازم(785/19)
الشيخ عبد الغني النابلسي وأخذ الطريقة الخلوتية ثم سكن بعد ذلك إيوان المدرسة الباذرائية وأخذ يدرس فيها فكثر طلابه ومريدوه.
وقام في سنة (1122هـ1710م) برحلته الأولى من دمشق إلى القدس وهي تشبه كثيراً رحلة أستاذه الشيخ عبد الغني النابلسي التي قام بها (1101 هـ1689م) وقد وصف فيها لنا الطريق، وما مر عليه من القرى والدساكر، وحالة الأمن ومرافقته الركب والغفرية، وخان عيون التجار الذي بناه سنان باشا، وهو خراب الآن يقع بالقرب منقرية شخبرة، ثم مدينة جنين لا حنين المحصنة، ثم تعرض اللصوص للركب، ثم طواحين وادي نابلس وكانت تسير على المياه وهي خراب الآن، ثم القدس، والحرم القدسي، وباقي المزارات، واجتمع وهو يدور مقام الإمام علي بن عليل العمري على ساحل البحر شمالي مدينة يافا بالشيخ نجم الدين بن خير الدين الرملي وكان نجم الدين مفتي مدينة الرملة حينذاك فدرس عليه الموطأ للإمام مالك. وقد جيء للشيخ بزنبق بري طيب الرائحة فقال إن والدي أي خير الدين قال فيه:
وزنبقة قد أشبهت كأس فضة ... برأس قضيب من زمردة عجب
سداسي شكل كل زاوية له ... على رأسها الأعلى هلال من الذهب
وعاد بعد ذلك إلى دمشق، ومنها إلى حلب ثم بغداد وانتقل سائحاً في البلاد الشامية، ثم دخل القدس ثانية سنة 1126. وكتاب رحلته الثانية، كما ألف كتابه ورد السحر المعروف (بالفتح القدسي والكشف الإنسي) وعمر بالقدس الخلوة التحتانية وكانت تقام بها الأذكار، ولها تعيين من خبز وأكل على تكية السلطان لمن أقام بها. وتزوج في القدس؛ وأرخ بعض رفاقه زواجه بقوله (زفت الزهراء للقمر).
وقدم من جهة دمشق وإلى مصر لزيارة القدس وهو الوزير رجب باشا، فزار صاحب الترجمة وصار له فيه اعتقاد، واصطحبه معه إلى مصر، فدخل مصر وأقام بها مدة، وأخذ عنه العلم والطريقة خلق كثير من أجلهم النجم محمد بن سالم الحفني. ثم زار السيد البدوي، ومن هناك إلى دمياط وأقام في جامع البحر وأخذ عن علامتها محمد البديري وأجازه إجازة عامة. ثم رجع إلى بلدة بيت المقدس عن طريق البحر وأقام فيها إلى سنة 1135 هـ. ونوجه إلى طرابلس الشام عن طريق البر ومنها إلى حمص وحماه، ونزل في بيت يسن القادري(785/20)
الكيلاني شيخ السجادة القادرية وأخذ عنه الطريقة القادرية ومنها إلى حلب وكان واليها الوزير رجب باشا المتقدم ذكره. وأخذ عنه جماعة منهم الشيخ أحمد خطيب الخسروية الشهير بالبني. ثم توجه إلى دار السلطنة العلية فيها، وكان يتنقل بين مدارس، ويعكف على التأليف والإرشاد، وكلما سكن في جهة وشاع خبره يقصده الناس فيرتحل إلى غيرها. وفي سنة 1139هـ رجع عن طريق البر إلى حلب ونزل في الخسروية ثم توجه إلى بغداد ونزل في القادرية. وجاءه كتاب من شيخه عبد الغني النابلسي يحثه على العودة إلى الشام لأجل والدته فعزم وتوجه إلى الموصل فحلب فدمشق وحن إلى الأرض المقدسة فرحل متوجهاً إلى القاع العزيز وبلاد صفد سنة 1140 هـ وفي تلك السنة ولد له ولد هو الشيخ محمد كمال الدين.
وأقام في القدس يرشد ويصنف إلى سنة 1145هـ حين عزم على الحج مع رفقائه ومنهم (حسن بن مقلد الجيوشي) (الجيوشي الآن) شيخ ناحية بن صعب (قضاة طولكرم وأصلها طور كرم وهو الأصح) فتوجه إلى المزيريب ومنها إلى المدينة فمكة وعاد مع الركب الشامي إلى القدس.
وفي سنة 1148هـ سار للبلاد الرومية (تركيا الآن) فمر على بلاد صفد ودمشق، ثم دار السلطنة، وتوجه منها بحراً إلى الإسكندرية فوصلها في ثمانية أيام، ومنها إلى مصر. وعزم بعد ذلك على الرجوع للشام فدخل القدس، وكانت له بنت رآها مريضة وقد توفيت بعد ذلك فحزن عليها كثيراً. وفي سنة 1149هـ وجه إلى أرض الكنانة وصحبه جمع كثير، وظهرت كلمته، ولما جاوزا المائة ألف لم يعد يحصيهم. وحج وعاد إلى دمشق، وكان واليها إذ ذاك سليمان باشا العظمى (العظم) فنزل قرب الخانقاه السمساطية وتحول بعد ذلك إلى نابلس فمكث فيها مدة. وفي سنة 1152هـ توجه إلى القدس وبقى بها إلى سنة 1160هـ. ثم سار إلى مصر والساحل الشامي، فوصل مصر ونزل قريب الأزهر. ولما وصل قرية الزوابل تلقاه الأستاذ الحفني مع خلائق كثيرين من علماء مصر، وأقام يرشدهم ويزدحمون على بابه وقل من يتخلف عن تقبيل يديه. وفي سنة 1161 عزم على الحج. وأذ الطريقة النقشبندية عن مراد الأزبكي النجاري النقشبندي، وكان ينفق عن سعة، مثل أرباب لثروة وأهل الدنيا، ولم تكن له جهة يعرف منها كيف يفي بأدنى مصرف من نفقاته. وتوفي سنة 1162هـ بعد(785/21)
عودته من الحج مبكياً عليه، ورثاء الشعراء وحزنت عليه مصر والشام وألوف من مريديه وأتباعه. ودفن بالقرافة في تربة المجاورين وقبره مشهور يزار ويتبرك به.
هذا هو الأستاذ الصديقي، الدمشقي، المقدسي، دفين مصر الذي ترك لنا في رحلاته الكثيرة تراثاً دفيناً نرجو أن نكشف لقراء العربية بعض آثاره تنويراً للأذهان عن قرن لا نعلم عنه إلا القليل أو ما هو أقل من القليل. . .
أحمد سامي الخالدي(785/22)
من وحي الصوم:
هيام المتصوفين
للشيخ محمد رجب البيومي
(إلى أخي الأستاذ محمود فهمي البيومي، وصديقي الروحاني الأستاذ عبد اللطيف عيسى)
الحب! معنى ثائر عاصف، شعر به كل إنسان تتأجج في صدره لوعة، وتشتجر في جوانحه عاطفة، وهو على تباين أنواعه وتعدد ألوانه، مؤرق مفزع، يطوي بساط الأنس والدعة، ويغرس أشواك الضجر والتبرم. وسل الوالد أي حنين مشبوب يمزق أحشاءه حين يتشوف إلى نجله النازح راجياً آملاً. وسل الصديق أية لهفة حارة تضطرم في إحساسه حين يتطلع إلى أنباء صديقه الغائب، ويتلمس أسباب الحديث عنه في لذة وشغف. وسل الصب العاشق كم يذرف من الدموع الملتهبة إذا وقفت الحوائل في وجهه، وقامت السدود دون مبتغاه. بل وسل العارف بربه كم قاسى من المصاعب وتكبد من المشاق حتى رفرفت روحه في أجواء الملائكة، فنعمت بلذتها الكبرى، وظفرت بسعادتها الباقية؟
والحب الإلهي أسمى أنواع المحبة وأقدسها، وأن كان يكلف صاحبه من دمه وروحه ما تقشعر له الأبدان، فيقضي سحابة يومه وسواد ليله، شارد العقل، مبلبل الخاطر، يخاطبه الناس فلا يسمع، ويستعطفه ذووه فلا يجيب، فهو - في نظرهم - حاضر كغائب، وحي كميت، وما يزال يذيب نفسه ويعذب أحاسيسه حتى يصير شبحاً هائماً يرى في الوهم ولا يكاد يصدقه العيان. وهكذا الروح إذا قوى اتصالها، وشع ضياؤها، تمرست بالجسد الضيق فأنحلته وأسقمته، وهذا كله قليل غير كثير في جانب ما يبتغي العارف من لذة الوصل، ونعيم المشاهدة، ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر. . .
وليس التصوف حدثاً طارئاً في الشريعة الإسلامية، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم من كبار المتصوفين، وكانوا من النقاء والصفاء في درجة سامية. ثم خلف من بعدهم خلف لزموا نهجهم السوي وساروا في طريقهم العلوي، وإذن فقد كان التصوف بمعناه الفطري من صفات المسلم الأول يقبل عليه في ارتياح، وينجذب إليه في حنين، حتى تبدلت الحال وأنغمس المسلمون شيئاً فشيئاً في ما جلبته الحضارة من الترف والنعيم، وهنا بدأ التصوف يظهر بصورة جديدة، فقد أغضب هذا المصير قوماً عرفوا الله حق معرفته فاعتزلوا الناس،(785/23)
ولاذوا بقمم الجبال ومطارح الفلوات، نائمين عما يغمر الحضريين من لذة ومتاع، وفي هذه الخلوات الهادئة هبطت عليهم أشعة السماء، فغمرت أرواحهم بالنور، ومدت اجتحتهم بالقوة، فحلقوا كالنسور في آفاق رحيبة، ورزقوا عيوناً بصيرة نافذة، وترى ما لا يراه الناظرون.
والشريعة الإسلامية لا تنكر الاتصال السماوي، بل إنها تذهب إلى تأييد بما تذكره عن كرامة الولي وحرمه العارف، وقد أسهب أئمة الإسلام في الدفاع عن المتصوفين، مستدلين بفيض زاخر من الآيات والأحاديث، وممن برزوا في هذا الميدان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وقد نصصت عليه بذاته لأني أرتاح كثيراً إلى منطقه الواضح، فهو لا يتمسك بالأدلة الظنية، ولا يلتفت إلى الموضوع من الأحاديث والأساطير وجاء ابن خلدون فأيد القوم تأييداً لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، فقد سلم لهم جميع ما يدعونه من كشف واتصال، وخوارق وكرامات. وإليك ما ذكره في مقدمته، قال: (ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم، وسبب ذلك الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعف أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً، ويكشف حجاب الحس فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية، والعلوم اللدنية، وتقرب ذاته من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الروح ما لا يدرك سواهم، ويتصرفون بهمتهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم، والعظماء منهم لا يعتبون هذا الكشف ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يأمروا بالتكلم فيه).
وما دامت الروح قد اتصلت بالله هذا الاتصال، فلا عجب إذا هامت في حبه، ونسيت العالم الأرضي بما يدرج فيه من إنسان وحيوان، بل إن من القليل عليها أن تهيم هياماً متصلاً في سلوكها الروحي، فقد قطفت الثمرة الحلوة، ومنحت الوسام الرفيع.
والحب الإلهي كالحب الإنسي، منطقته القلب، ونافذته الإحساس، فإذا قويت دواعيه، واشتدت دوافعه، فإنه يسيطر على الجسم سيطرة تامة، فتتحول الأعضاء جميعها إلى ألسنة ناطقة بذكر الحبيب، فهي من شغلها الشاغل في هيام متصل وسكر دائم، وأنت تنظر -(785/24)
مثلاً - إلى عاشق الفتاة، فتجده شارد اللب، نحيل الجسم، ممتقع اللون، فلا تستكثر أن ترى عاشق الذات العلوية تصفاً بهذه الصفات، بل إن المنطق يقضي أن يكون أكثر نحولاً، وأشد ذهولاً، حيث كان ذا مقصود أعظم، وأمل جامح طموح.
ولا يسعنا وقد تعرضنا لهذه الناحية أن نذكر أن الحب الإلهي يكون في غالب أمره تطوراً لحب إنساني، فكثير من العارفين قد ذاق في مقتبل شبابه مرارة الحب الأرضي، وعانى ما يعانيه العاشق من منع وحرمان، وهو بذلك قد مرن على السهر والنواح، فإذا ما هطل الفيض السماوي على روحه، بعد وقت قريب أو بعيد، كان على استعداد تام للسير في طريقه المملوء بالعرق والدموع، حتى ينتهي منه السلام.
يذكر الكاتبون أن تصوف الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي كان خاتمة لرحلة لذيذة قام بها في عالم الصبوات الحسية، فقد شاهد في مكة فتاة فارسية ذات عقل راجح، وذكاء متوقد، ثم هي على جانب فائق من الحسن، فطارحها الأحاديث، وتساقيل كؤوس الجدل العلمي، وما يزال يحن إلى سمرها الشهي، حتى سرقت قلبه، وملكت زمام مشاعره، فساق بها إلى القصائد الرائعة ولم يشأ أن يخفي أمره معها بعد تصوفه، بل كتب عنها فصلاً ممتعاً جاء فيه: (وهي طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، أن أسهبت أتعبت، وأن أوجزت أعجزت، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، أشرقت بها تهامه، وفتح الروض لمحاورتها أكمامه). . .
والذي يقرأ مقطوعات ابن عربي يلمس إخلاصه في حبه، ويحمد له أن تعلق بذات علم وفضل، فوقع الطير على شكله، وانجذب الشبيه إلى شبيهه، والعجيب الغريب أن الشيخ الأكبر قد حاول أن يشرح قصائده في صاحبته شرحاً لا يتفق مع ما صرح به فيما سبق أن نقلناه عنه، فهو يحول أبياته إلى ميدان آخر غير ميدانها الأصيل، مع أن القارئ العادي لا يمكن أن يطمئن إلى شرحه الملفق، فما ظنك بمن يتعقبونه من أذكياء الناقدين، وإذا كان ابن عربي قد أعلن غرامه الإنساني في نثره، فلم يلجأ ثانية إلى اللف والدوران في شعره الجميل؟!
هذا قول يحتاج إلى دليل ملموس، فليسمع القراء أولاً هذه الأبيات:(785/25)
مرضي من مريضة الأجفان ... عللاني بذكرها عللاني
بأني طفلة لعوب تهادي ... من بنات الخدور بين الغواني
من بنات الملوك من دار فرس ... من أجل البلاد من أصبهان
لو ترانا برامة نتعاطى ... أكؤساً للهوى بغير بنان
والهوى بيننا يسوق حديثاً ... طيباً مطرباً بغير لسان
لرأيتم ما يذهل العقل فيه ... يمن والعراق مجتمعان!!
ثم ليسمعوا ثانية ما قاله الشيخ في شرح البيت الأول - على سبيل المثال - (المرض، الميل، أقول لما مالت عيون الحضرة المطلوبة للعارفين من جانب الحق سبحانه بالرحمة والتلطف إلينا أمالت قلبي بالعشق إليها). فليت شعري ما هذا الالتواء، وعلام التستر بعد الوضوح؟ وإذا كنا نعلم أن صاحبته الأولى فارسية من بنات الملوك في أصبهان، فكيف يمكننا أن نفهم هذا الفهم الغريب؟ وهل يعيب الصوفي أن يسجل صبابته الأولى بشعر يتغنى به الناس؟! لعل الشيخ قد أراد يبرز للناس مقدرته العجيبة في التأويل والتخريج جرياً على ما أشتهر من ادعائه العريض!!
إن الذي يتعبنا كثيراً في غزل المتصوفين هو أننا نحمله حملاً على المعاني الروحية المقدسة، سواء أنطق بذلك أم لم ينطق، وهنا توجد المشكلة العويصة، فكثير من الأبيات تصدم العقول بأحجار ثقيلة، فلا يمكن أن تنطبق على الحقيقة الإلهية التي يعنيها العارفون، وهذا ما دفع بعض الشراح إلى التحامل الزائد على ابن الفارض رضي الله عنه، ولو أننا أوجدنا الفوارق بين النسيب الإنسي والغزل الإلهي لأرحنا عقولنا من التعب الشديد. وهل يعيب المتصوف أن يكون ذا لونين في غرامه ما دامت عاطفته ملتهبة في كلتا الناحيتين. وما دامت هناك فوارق زمنية تفصل بين النوعين، حيث أن المسلم به أن الهائم بربه لا يمكنه أن يلتفت إلى غيره بحال من الأحوال؟ وهل نقول لشاعر تصوف بعد أن قضى شبيبته في الغزل الحسي: مزق نسيبك الأول على حقيقته الإنسانية؟! لم كل هذا أيها الناس!!
على أن العواطف الآدمية في الغزل الإلهي تختلف عنها كثيراً في النسيب الإلهي، فالعاشق يذكر الغيرة والنحول، والسهد كما يذكر ذلك العارف، ولا ريب فالينبوع الدافق للشعر(785/26)
الغرامي هو الشعور، وهو هو في شتى الأوضاع لا يختلف توهجاً واشتعالاً عن المحبين، ومن هنا كانت لنتيجة واحدة عند الرجلين فالجنون والصرع والتيه قواسم مشتركة بين المدفنين، وإذا كان الأصمعي قد تجول في الصحاري الشاسعة، وتنقل بين الخيام النائية ليسمع آهاته المدلهين ويروي أشعار المتيمين من عشاق البادية، فلم يفته أن يدلف إلى الغارات السحيقة، ويتسلق القمم الشاهقة ويطوف بالبيت المعظم ليرى بعينيه دموع العارفين تتساقط، وزفرات الواصلين تتصاعد، علماً منه أن هؤلاء لا يقلون عن غيرهم، لذة حديث، وغرابة اتجاه، بل أن سائلاً سأله عن الحب فلن يسمعه كلام قيس أو عروة أجميل، بل ذكر له حديث هائم عارف، وقد مهد له بقصة طريفة وصف في آخرها الحب فقال: (جل أن يحد، وخفي أن يرى، كمن كمون النار في الأحشاء، إن قدحته أورى أو تركته توارى). وأمثال هذه النوادر لا تندرج تحت حصر، ولولا أنها وجدت ظلاً من الحقيقة ما كان لها هذا النصيب الوافر من الذيوع.
ولقد كان الهائمون الواصلون يعتزون بغرامهم الإلهي اعتزازاً يفوق كل اعتزاز، بل عدوه مفخرة عالية وميزة سامية لا تتاح إلا لمن حباه الله بالفضل الجزيل، وهذا صحيح لا اعتراض عليه، ولكن تنافس هؤلاء فيما بينهم قد دفعهم إلى مغالاة لا تسلم من الاعتراض، فكل محب واصل - إلا من عصم الله - قد ادعى في أكثر من مناسبة أنه فاق غيره في محبة ربه، ووصل إلى ما لم ينله أحد من الخلائق، فليت شعري ما مبلغ هذا الادعاء من الصحة؟ وهل يمكن للمدعي أن يقيم البينة على صحة ما يقول، وهو يرى الأنبياء والملائكة والسابقين من الإنس والجن، كل أولئك يتزاحمون بالمناكب ويتدافعون تدافعاً شديداً في مضمارهم الخطير، نعم قد يكون إخلاصه الزائد وتفانيه الشديد من عوامل هذا الادعاء، ولكن أليس من الحسن الجميل أن يتواضع في حبه ويتنازل عن كبريائه في مثل موقفه العظيم، فينال تقدير مريديه وسامعيه، بل ربماجرهم تواضعه إلى تقدير منزلته تقديراً يصل بها إلى ما يريد. وأذكر أني حين قرأت قول ابن الفارض:
كل من في حماك يهواك لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا
شعرت كأني محنق مغيظ، وما زلت أنقب وأحلل، وأنتقل من تعليل إلى تعليل حتى انتهيت إلى قوله:(785/27)
ولقد يجل عن اشتياقي ماؤه ... شرفاً فوا ظمئي للامع آله
فارتحت كثيراً لتواضعه، وكأني نسيت ما سلف من ادعائه، فأقبلت علي مطالعة ديوانه بلذة وشغف، ولا ريب فقد قام البيت الثاني من البيت الأول مقام الاستغفار من الذنب العظيم!!
وإذا تركنا ابن الفارض وانتقلنا إلى الشيخ الأكبر محي الدين نجده قد جال في ميدان الادعاء جولات خطيرة عاصفة، فقد عز عليه أن يفهم الناس أن النبي المرسل في درجة تفوق منزله الولي الواصل، فانبرى يوازن موازنة جريئة بين النبي والولي، ثم أعلن - في غير تريث - (أن الرسول لا يمتاز إلا بالتشريع، أما الولي فميزته الكبرى هي الاطلاع على أسرار الوجود). وهذا ادعاء أي ادعاء، ولكنه من شطحات القوم. وكم للصوفيين من مزالق محرجة؟! فهل تكون مفقودة لدى معشوقهم الحبيب؟!
إن الرسول قدوة مثل الناس، فكل ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، فنحن ملزمون بالتمسك به، أما الولي فليس من ذلك في كثير أو قليل، بل إن فريقاُ كبيراً من رجال الدين قد نصوا على وجوب التحفظ الشديد مع الأولياء، وخاصة بعد أن اتسعت هوة الخلاف في المسائل الكلامية، وانتشر على يد فريق من التصوفة القول بمبادئ غامضة لا تدركها الإفهام. ومهما يكن من شيء، فقد جعل رجال الشريعة للقوم حالتين: حالة الصحو، وحالة الغيبوبة؛ أما الأولى فهم ينطقون فيها بما يتفق مع الشريعة، لأن العارف مستيقظ منتبه، فهو مؤاخذ على كل ما يصدر منه كما تؤاخذ العامة سواء بسواء. وأما الحالة الثانية وتسمى بحالة السكر عند بعض الكاتبين، فلا يلام فيها الواصل على رأي، أو يؤاخذ بجريرة قول، لأنه غائب عن وعيه، وقد ستر إدراكه بغواش متلاحقة لا يعلم لها كنه. ويدركون أن أبا بكر الشبلي رضي الله عنه قد دخل على الجنيد ومعه زوجته، فأرادت أن تستتر عنه، فقال لها الجنيد: تمهلي تمهلي. . . فهو في حالة سكره لا يدرك شيئاً مما أمامه! وحين مضت مدة غير يسيره أشار لها بالاستتار حيث قد انتقل صاحبه من حال إلى حال. والمعلوم أن الجنيد رحمه الله من القلائل الذين يتمسكون بتعاليم الشريعة، فلا يرون أنفسهم من فصيلة أخرى ترتفع عن الناس، ومع ذلك فقد عرف صاحبه في خحالتيه، ومن عسى أن يكون أنبه منه في الإدراك والتمييز؟!
وكنت أوثر أن نعتبر المتصوفين في حالة واحدة مدى الحياة، وهي حالة الغيبوبة والسكر،(785/28)
فلا نجعل لهم من الصحو وقتاً نؤاخذهم فيه على الأقوال والأفعال، وإلا فقد أدت هذه المؤاخذة إلى الإطاحة برءوس مفكرة. وكتب التصوف مليئة بأخبار من استشهدوا في هذا الميدان. وكم يقع القارئ في حيرة شديدة حين يرى الصوفي العارف ينطق بما يعتبر بعيداً عن الحق، فيساق إلى مصرعه السريع ثم يأتي - بعد - من رجال الدين وأعلام الشريعة من يبرر قوله ويوجه مذهبه توجيهاً لا يخرج عن المنطق السديد - كما فعل الغزالي مع الحلاج مثلاً - فبأي جريرة إذن سفك هذا الدم، وكيف غاب هذا التأويل عمن أثاروا الغبار، وأيقظوا السيوف من الأغماد؟ الحق أنها حيرة شديدة أتلمس الخروج منها فلا أستطيع!!
إن التصوف محنة قبل أن يكون نعمة؛ فالعارف يكابد من الأهوال ما يقض المضجع ويسيل المدامع، وثم هو بعد ذلك يتهم في دينه، ويساق إلى حتفه الشياه!!
ولكن أي هول يكابد؟ لا يقدر ذلك غير من سار في الطريق بضع خطوات، فعرف كيف تحارب النفس، ويضطهد الجسد، وتندلع في القلب ألسنة اللهيب!!
إن الشاب في عنفوان قوته يصوم اليوم الواحد في ألم وامتعاض وما يكاد يسمع الآذان عند الغروب حتى يهجم كالليث على المائدة الحافلة بما لذ وطاب، فما يذر من شيء أتى عليه، وهؤلاء المساكين يصومون الأيام الطويلة ولا يفطرون بغير الماء وكسر يابسة من الخبز لا تقوى على تحطيمها الأنياب!!
إن الشاب الفني لا يتسلق الجبال إلا في وضح النهار، قوة مجندة مع رفقائه، وعدة مذخرة من الأسلحة الفاتكة، يتقي بها الهوام والسباع، وهؤلاء المساكين يسعون في حنوس الليل إلى التلال والهضاب فيتفكرون في ملكوت السموات والأرض فإذا حطمهم اللغوب، هجعوا قليلاً في الكهوف والمنارات!!
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي(785/29)
في آفاق حافظ إبراهيم
بمناسبة ذكرى وفاته
للأستاذ حسين مهدي الغنام
الشاعر الحق هو من ينظم في كل ما يوحي إليه ترجمة عواطفه، سواء كان ذلك عاقلاً أم جماداً.
ولقد يقتصر شاعر من الشعراء على غرض واحد من أغراض الشعر، ينظم فيه طبلة حياته، فيبلغ الذروة في هذا النمط الواحد وقد لا يستطيع أن ينظم في غرض آخر، ولكنك لن تستطيع إلا أن تعده شاعراً من أكابر الشعراء، وإن قصر في غير الناحية الواحدة.
وقد يحكم لشاعر بقصيدة واحدة!
وكثيرون من الشعراء ينظمون في مختلف الأغراض، ويعددون أنماط شعرهم ونظمهم، وقد يكونون رابع الشعراء الذين يقصدهم ابن رشيق في كتابه العمدة!
وقليلون من أجادوا في تلك النواحي والأغراض المختلفة. . .
ومن هذا النمط من الشعراء كان شاعرنا حافظ إبراهيم.
فلقد تعددت آفاقه في نظم الشعر، وأسهم في كل فن من فنونه، صادق القول، قوي التعبير، جميل الأداء، مرهف الإحساس، ومتدفق البيان.
ولم يكن حافظ شاعرا فحسب، ولكنه كان كاتبا أيضا، وإن لم يكن نثره في مرتبة شعره.
وهذه بعض آفاق حافظ التي حلق فيها شاعراً مرهفاً، وناثراً بليغاً.
1 - شاعر مصري:
كانت البيئة العربية التي نشأ فيها حافظ مليئة بما يؤز جوانب المخلصين من أبناء البلد ويقض مضاجعهم، فقد كان الانحطاط سائداً في كل ناحية من نواحيها.
فالجهل يخيم على الشعب كله تقريباً.
والاحتلال البغيض يقيد الشعب ورائديه، ويكم أفواه هؤلاء، ويلقي بهم في غيابات السجون.
وهنا ظهر حافظ.
ظهر حافظ فكان لسان الشعب الناطق، يصف شعور الجمهور ويذكيه، وأن يشعر أن لسانه(785/30)
مقيد، وقلمه مراقب، وسيف الجلاد يلمع أمام ناظريه، ولكن هل يصمت، كما قال:
إذا نطقت فقاع السجن متكأي ... وأن سكت فإن النفس لم تطب
كان شعور حافظ في هذه الفترة ممثلاً في هذا البيت خير تمثيل. ولم يكن هذا شعور حافظ وحده، ولكنه كان شعور المصريين بل الشرقيين جميعاً!
من الواضح أن حافظاً تأثر بالبارودي تأثراً شديداً في حياته ومنهجه. . .
ويعتبرالبارودي أمام المدرسة الحديثة في الشعر المصري التي خرجت على أساليب المتزمتين في الجيل السابق له، فعاد البارودي ومن خلفوه بالشعر العربي إلى بعض عصوره الزاهية إبان النهضة العربية.
وقد قامت الثورة العرابية أيام البارودي، بل كان البارودي بطلاً من أبطالها المعدودين، ولكنه لم يساهم فيها بقلمه وشعره، بل ساهم فيها بسيفه ورأيه الفني. وهو الحد الفاصل بين مدارس الشعر القديمة، وفاتح أبواب المدارس الحديثة، بل إمامها ورائدها. . .
ولقد جاء حافظ من بعد البارودي فكان الحلقة المتوسطة بين المدرسة التي وضع أساسها البارودي، وبين المدارس التالية التي أنشأها شعراء الجيل الجديد.
إلا أن حافظ لم يسره سيرة البارودي في ثورته، فلقد أسهم حافظ في ثورات المصريين التالية بشعره، ولم يكن رائداً فيها بسيفه. . .
ومن هنا كان حافظ بحق أول شاعر مصري حديث ينطق بلسان شعبه، وبلسان الأمم الشرقية الشقيقة.
فهو يستحث الشعب على مقاومة الغاصب، ومحاربته، ويستنهض الهمم، ويستنفر النفوس، ولم يقتصر على السياسة فحسب، وأن كان له في السياسة والوطنيات ديوان ضخم قائم برأسه، ولهذا لا أريد أن أنقل منه شيئاً هنا، فقصائده عديدة ومشهورة.
ولكن حافظاً طرق أبواب الإصلاح كلها، وحث المصريين على إصلاح عيوبهم الداخلية، وحياتهم الاجتماعية المتأخرة، ونعى عليهم عاداتهم السخيفة، وتقاليدهم المزرية، وشتى نواحي حياتهم، المظلمة الراكدة، وتكاسلهم وتوانيهم وقعودهم عن العمل والهجرة في طلب الرزق، فهو ينقد الألقاب، والتكاسل، وغيرها، إذ يقول:
وهل في مصر مفخرة ... سوى الألقاب والرتب(785/31)
وذي إرث يكاثرنا ... بمال غير مكتسب
وفي الرومي موعظة ... لشعب جد في اللعب
أمة قد فت في ساعدها ... بغضها الأهل وحب الغربا
تعشق الألقاب في غير العلا ... وتفدي بالنفوس الرتبا
وهو والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعباً
ثم هو يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي الشامل في كل شيء، فأقرأ قصائده في جمعيات رعاية الأطفال، وقصيدته في مدرسة بور سعيد للبنات:
لا تهملوا في الصالحات فإنكم ... لا تجهلون عواقب الإهمال
من لي بتربية النساء فإنها ... في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق
ربوا البنات على الفضيلة أنها ... في الموقفين لهن خير وثاق
وعليكم أن تستبين بناتكم ... نور الهدى وعلى الحياء الباقي
لو وفى بالزكاة من جمع الدنيا ... وأهوى على اقتناء الحطام
ما شكا الجوع معدم أو تصدى ... لركوب الشرور والآثام
راكباً رأسه طريداً شريداً ... لا يبالي بشرعة أو زمام
سائلاً عن وصيه الله فيه ... آخذاً قوته بحد الحسام
فهؤلاء هم الذين ينشئون لصوصاً!
ثم يقول في الجامعة المصرية القديمة:
حياكم الله حيوا العلم والأدبا ... أن تنشروا العلم ينشر فيكم العربا
ولا حياة لكم إلا بجامعة ... تكون أماً لطلاب العلا وأبا
وهو ينعى انحلالنا الاقتصادي كانحلالنا السياسي، فيقول في الشركات وفي اليهود:
وما الشركات السود في كل بلدة ... سوى شرك يلقي به من تصيداً
لقد سعدت بغفلتنا إذا احتواها ... بنو التاميز، واحسر اللثام
وفرج أزمة الأموال عنا ... بما أوتيت من رأي سديد(785/32)
وسل عنها اليهود ولا تسلنا ... فقد ضاقت بها حيل اليهود
ارحمونا بني اليهود كفاكم ... ما جمعتم بحذقكم من نقود
فمصر هي في نظره وفي خلده:
لا مصر تنصفني ولا ... أنا عن مودتها أريم
وإذا تحول بائس ... عن ربعها فأنا المقيم
ولا تظن أبياته القادمة إلا أنها ستظل خالدة يرددها المصريون ما داموا في نكباتهم السياسية والاقتصادية يتخبطون، لأنها تصور أحوالنا الحاضرة خير تصوير، وتنطق بلسان كل مصري مخلص:
متى أرى النيل لا تحلو موارده ... لغير مرتهب لله مرتقب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت ... جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب
كأنني عند ذكرى ما ألم بها ... قرم تردد بين الموت والهرب
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ... ونحن نمشي على أرض من الذهب
والقوم في مصر كالأسفنج قد ظفرت ... بالماء لم يتركوا ضرعاً لمحتلب
2 - شاعر شوقي:
ولم تقف آفاق حافظ عند مصر فحسب، ولكنها شملت الشرق كله، قاصيه ودانيه
فكان يتوجع للأمم الشرقية السليبة، كما قال شوقي: كلنا في الهمم شرق!.
ومن هذا قصائده في الترك، والمغرب، وسوريا. . .
وكان يفخر بالأمة الشرقية الناهضة، كفخره باليابان الفتية المتجددة، وقصائده فيه معروفة. فليته حي ليقول فيها اليوم قولاً. . .
ثم إنه يجب أن يرى الوئام سائداً بن الشرقيين جميعاً، ولا يتخذ الغاصبون من تنابذ الشرقيين بالأديان سبيلاً إلى التفرقة بينهم. قال في عيد الدستور العثماني:
تحالف في ظل الهلال إمامه ... وحاخامه - بعد الخلاف - وراهبه
خذوا بيد الإصلاح والأمر مقبل ... فإني أرى الإصلاح قد طر شاربه
وقال في غزو الطليان لطرابلس:
بارك المطران في أعمالهم ... فسلوه بارك القوم على ما(785/33)
أبهذا جاء إنجيلهمو ... آمراً، يلقي على الأرض سلاماً
كشفوا عن نية الغرب لنا ... وجلو عن أفق الشرق الظلاما
وقال في تحية العام الهجري 1327هـ:
سلوا الترك عما أدركوا فيه من منى ... وما بدلوا في المشرقين وغيروا
وإن لم يقم إلا (نيازي) و (أنور) ... فقد ملأ الدنيا (نيازي) و (أنور)
في هذه القصيدة وحدها سجل ما مر على الشرق كله في عام، فقد جمع ما قامت به دولة من نهضات، وما لمح فيها من بوارق نهضات وتقدم، وفيها إهابه بالشرق أن يسير دائماً إلى الأمام، وفيها أمان بعيدة عالية، إذ يقول:
مضى زمن التنويم يا نيل وانقضى ... وفي مصر أيقاظ على مصر تسهر
وقد كان (مرفين) الدهاء مخدراً ... فأصبح في أعصابنا يتخدر
ثم يناشدهم فيقول:
رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى قادة تبني وشعب يعمر
ويمضر في هذه المناجاة والإهابة حتى يبلغ قوله:
فما ضاع حق لم ينم عنه أهله ... ولا ناله في العالمين مقصر
لقد ظفر الأتراك عدلاً بسؤلهم ... ونحن على الآثار لا شك نظفر
وكذلك قصيدته في العام الذي يليه. . .
وإنك بمقارنتك بين هاتين القصيدتين تدرك آمال حافظ التي ظل يتغنى بها في مصر والشرق جميعاً طيلة حياته.
ففي الأولى تسجيل للأمل الذي بدا بنهضة الأمم الشرقية، وفي القصيدة الثانية ثورة، لأن كل ما أمل حافظ في تحقيقه لم يتحقق!
يقول في الثانية:
أشرق علينا بالسعود ولا تكن ... كأخيك مشؤوم المنازل اخرقا
قد كان جراح النفوس فداوها ... مما بها وكن الطبيب موفقاً
هللت حين لمحت نور جبينه ... ورجوت فيه الخير حين تألقا
وهززته بقصيدة لو أنها ... تليت على الصخر الأصم لأغدقا(785/34)
فنأي بجانبه وخص بنحسه ... مصراً وأسرف في النحوس وأغرقا
لو كنت أعلم ما يخبئه لنا ... لسألت ربي ضارعاً أن يمحقا
ولكنه يعود فلا ييأس، ويخاطب شباب البلاد:
أهلاً بنابتة البلاد ومرحبا ... جددتمو العهد الذي قد أخلقاً
لا تيئسوا أن تستردوا مجدكم ... فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى
ولقد كان حافظ يريد أن يرى الشرق ناهضاً حياً، ذا قوة ترهب الغرب. . .
ولكن. .!
إلا إنه يتفاخر بأية أمة شرقية قوية، ناهضة، تطاول الغرب وتهزمه.
قال في حرب طرابلس ما قال، كما تقدم، ولكن قف عند هذا البيت من تلك القصيدة:
أيها الحائر في البحر اقترب ... من حمى (البسفور) أن كنت هماما
إن هذا البيت من شعر حافظ يصور لي حافظاً كالأسد السجين في قفص!
فبمن يتفاخر حافظ؟
إنه لا يجد أمامه غير تركيا، فيتحدى بسفورها أسطول الطليان، ويطلب أن يقترب من حماه أن كان شجاعاً، فسيضربه الترك، وأن عجز عن ضربه المغاربة. . .
وشيء خير من لا شيء. . .
ولكنه حافظ السجين الطليق، الذي يأمل ويتمنى ويريد، ولكن الأقدار لم تسعده فتسعفه بما أراد!
ويظل حافظ بين عاملي الأمل والياٍ والتفاخر والاستنهاض فإذ تسمعه يقول:
يا ليتني لم أعاجل ... بالموت قبل الأوان
حتى أرى الشرق يسمو ... رغم اعتداء الزمان
ويسترد جلالاً ... له ورفعة شأن
وليعلم الغرب أنا ... كأمة اليابان
لا نرتضي العيش يجري ... في ذله أو هوان
تراه يقول أيضاً:
فاطمئني أمم الشرق ولا ... تقنطي اليوم فإن الجد قاما(785/35)
إن في أضلاعنا أفئدة ... تعشق المجد وتأبى أن تضاما
- شاعر ساخر:
3 - شاعر ساخر:
ومن النواحي البارزة في شعر حافظ سخريتة اللاذعة، فقد كان يصب غضبه وثوته في أبيات من الشعر ساخرة شديدة المرارة، وأن جاءت في معرض النصح والجد والوطنية!
قال في قصيدة (آلامنا وآمالنا) المرفوعة إلى البرنس حسين كامل باشا:
فلا تثقوا بوعد القوم يوماً فإن سحاب ساستهم جهام
وخافوهم إذا لانوا فإني ... أرى السواس ليسلهم ذمامفكم ضحك العميد على لحانا=وغر
سراتنا منه ابتسام
وقال إلى روزفلت في زيارته لمصر:
يا نصير الضعيف مالك تطري=خطة القوم بعد ذاك النكير
لم تطيقوا جوارهم بل أقمتم ... في حماكم من دونهم ألف سور
أنت تطريهمو وتثني عليهم ... نائياً آمناً وراء البحور
وعجيب يفوز هذا بانطلاق ... وهذا في ذله المأسور
يا نصير الضعيف حبب إليهم ... هجر مصر تفز بأجر كبير
أن يهجروا وعلى المصري ... ذكر المتيم المهجور
والأبيات الآتية من قصيدته في استقبال السير جورست:
قتيل الشمس أورثنا حياة ... وأيقظ هاجع القوم الرقود
\ فليت كرومرا قد دام قفينا ... يطوق بالسلاسل كل جيد
ويتحف مصر بعد آن ... بمجلود ومقتول شهيد
لتنزع هذه الأكفان عنا ... ونبعث في العوالم من جديد
بحمد الله ملككم كبير ... وأنتم أهل مرحمة وجود
خذوه فأمتعوا شعباً سوانا ... بهذا الفضل والعلم المفيد
إذا استوزت فاستوزر علينا ... فتى كالفضل أو كابن العميد
لحي بيضاء يوم الرأي هانت ... على حمر الملابس والخدود(785/36)
وفرج أزمة الأموال عنا ... بما أوتيت من رأي سديد
وسل عنها اليهود ولا تسلنا ... فقد ضاقت بها حيل اليهود
كما قال ساخراً من سكوت المصريين على الضيم:
فيا ليت لي وجدان قومي! فأرتضي=حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه
وقوله:
وإذا سئلت عن الكنانة قل لهم ... هي أمة تلهو وشعب يلعب
واقرأ كذلك قصيدته في وداع اللورد كرومر، فإن فيها من السخرية ما ينم عن روح حافظ في هذا الضرب.
ومن سخريته القاتلة قوله في حرب طرابلس:
قد ملأنا البر من أشلائهم ... فدعوهم يملئوا الدنيا كلاما
خبروا (فكتور) عنا إنه ... أدهش العالم حرباً ونظاما
أدهش العالم لما أن رأوا ... جيشه يسبق في الجري النعاما
لم يقف بالبر إلا ريثما ... يسلم الأرواح أو يلقي الزماما
حلتم الطليان قد قلدتنا ... منه نذكرها عاماً فعاما
أنت أهديت إلينا عدة ... ولباسا وشرابا وطعاما
وسلاحا كان في أيديكمو ... ذا كلال فغدا يفرى العظاما
ففي هذه الأبيات يصف حافظ الطليان على حقيقتهم، كما عرفناهم، حتى في الحروب الأخيرة!
(البقية في العدد القادم)
حسين مهدي الغنام(785/37)
مخطوط لم يعرف من قبل ابن سينا والبعث
للأستاذ سليمان دنيا
(تتمة)
انتهينا في مقالنا إلى أن ابن سينا يمكن اعتباره قائلاً بأن البعث روحي فقط؛ وأبنا أن المطاف حول نصوصه في هذا المقام - أخذا من الشفاء، والنجاه، والإشارات - ينتهي، رغم تضاربها إلى إنكار البعث الجسماني.
لكن في تأريخ الفكر الإسلامي، ما كان ليقنع ابن سينا في موضوع خطير كموضوع البعث، بادعاء قصاراه الإمكان والتجويز، أو الترجيح وغلبة الظن. ليس معه من الشواهد والأدلة - حتى في نظر صاحب الادعاء - ما يسمو به إلى مصاف النظريات العلمية.
وقد كان ابن سينا عند ظن العلم به، فلم يقنع هو من نفسه، كما لم يقنع منه العلم، بهذه الوقفة الحائرة، فراح يشرع قلمه ليديح عصارة فكره في هذا المقام.
وقد دلنا البحث والتنقيب على أن له في هذا الموضوع كتابين:
أحدهما يعرف ب (رسالة في المبدأ والمعاد).
وثانيهما يعرف ب (رسالة أضحوية في أمر المعاد)
وإذا كان ابن سينا قد أفرد كتابين لموضوع كهذا جرت عادة غيره بأن يتكلم عنه كلاماً، يعد وافياً في بابه، ضمن كتاب لا في كتاب مستقل ولا في كتابين، كان الأمل قوياً في أن يتكشف ابن سينا على حقيقته في هذه المسألة، وأن ينجلي الموقف عنده فيها انجلاء، لا يبقى معه مجال لهذه البلبلة الفكرية التي أوحت بها كتبه الأخرى، بما تحمل من أفكار متضاربة، وأراء متنافرة متعارضة.
رجعت إلى أول الكتابين فإذا هو يقول في مقدمته: (. . . وبعد فإني أريد أن أدل في هذه المقالة على حقيقة ما عند المشائين، بين المحصلين من حال المبدأ والمعاد، وتقربا به إلى الشيخ الجليل أبي أحمد بن إبراهيم الفارسي. . . الخ).
ولما كانت قد عرفت رأي ابن سينا في المشائين، وأنهم عنده من عامة المتفلسفة، لا من خاصتهم، وأنه كان ينجو نحوهم ويؤلف على غرارهم حين يكتب للعامة؛ أما الخاصة فإنه يدخر لهم أراء أخرى مخالفة لأراء المشائين كثيراً من المخالفة، يودعها كتباً يختصهم بها(785/38)
- انظر المقال السابق، نص منطق المشرقيين -، فقد نزعت الثقة من هذا الكتاب كمصدر يؤرخ منه لأبن سينا، وأن صح اعتباره مصدراً يؤرخ منه للمشائين كما يفهمهم ابن سينا إذ ليس يكفي أن يوضع اسم المؤلف على لا لكتاب، ولا أن يكون صحيح النسبة إليه، ليتخذ مصدراً يؤرخ منه له، بل يجب أن يتحرى وراء التثبت من صحة النسبة، عن أمر آخر ليس دون صحة النسبة أهميه؛ ذلك هو قيمة المؤلف في نظر صاحبه، أعني لمن ألفه؟! هل ألفه ليصور به فكرته وعقيدته؟!. . . أم ألفه لأناس آخرين تنزل فيه إلى مستواهم؟! وفي ضوء هذا يمكن اعتبار الكتاب مصدراً يستمد منه التاريخ لمؤلفه، أو عدم اعتباره كذلك.
ولا شك أن إغفال هذه النظرة يوقع في خلط واضطراب شديدين، وقد تبينت ذلك واضحاً في دراستي للغزالي؛ إذ تضارب الكاتبون عنه تضارباً شديداً، وتأدوا في بحوثهم إلى أحكام متعارضة، واعتصم كل منهم في تأييد وجهة نظره، بكتاب من كتبه صحت نسبته إليه؛ مما حير العقول وبلبل الأفكار، ومن أجل هذا اعتبر شخص الغزالي مشكلة من مشاكل العلم التي تتطلب الحل والإيضاح، قال (ديبور): (إن أمثال الغزالي معضلة في نظر العلم، فأشخاصهم حقائق روحية تحتاج إلى توضيح).
وكان ذلك من غير شك نتيجة لإهمالهم هذا المبدأ الذي هو الطريق الوحيد، لإضافة الفكرة إلى المؤلف مع الوثوق من أنها تصور رأيه وتعبر عن عقيدته؛ فلما أخذت في دراستي له بهذا المبدأ، أبرزته في كتابي عنه (الحقيقة في نظر الغزالي) شخصية واضحة مفهومة، لا تضارب فيها ولا تعارض.
ومن حسن حظ العلم أن المؤلفين الذين لهم جوانب متعددة ومظاهر متباينة قد عنوا بالدلالة على الكتب التي تصور آراءهم التي يرتضونها لأنفسهم، تمييزاً لها من غيرها التي تصور أفكاراً أخرى لا يدينون بها.
فمثلاً نجد الغزالي يقول في كتابه (الأربعين في أصول الدين) ط الكردي ص25:
(ومعرفة أدلة العقيدة قد أوردناها في الرسالة القدسية في قدر عشرين ورقة، وهي أحد فصول كتاب قواعد العقائد من كتاب الإحياء.
وأما أدلتها مع زيادة تحقيق وزيادة تأنق في إيراد الأسئلة والإشكالات، فقد أودعناها كتاب(785/39)
(الاقتصاد في الاعتقاد) في مقدار مائة ورقة، فهو كتاب مفرد رأسه يحوي لباب علم المتكلمين، ولكنه أبلغ في التحقيق، وأقرب إلى قرع أبواب المعرفة، من الكلام الرسمي الذي يصادف في كتب المتكلمين.
وكل ذلك يرجع إلى الاعتقاد، لا إلى المعرفة، فإن المتكلم لا يفارق العامي معتقداً، بل هو أيضاً معتقد، عرف مع اعتقاده أدلة الاعتقاد، ليؤكد الاعتقاد ويستمده، ويحرسه من تشويش المبتدعة، ولا تنحل عقدة الاعتقاد إلى انشراح المعرفة.
فإن أردت أن تستنشق شيئاً من روائح المعرفة، صادفت منها مقداراً يسيراً مبثوثاً في كتاب الصبر والشكر، وكتاب المحبة، وباب التوحيد، ومن أول كتاب التوكل؛ وكل ذلك من كتاب الإحياء.
وتصادف منها مقداراً صالحاً يعرفك كيفية قرع باب المعرفة في كتاب (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) لا سيما في الأسماء المشتقة من الأفعال.
وإن أردت صريح المعرفة بحقائق هذه العقيدة، من غير محجمة ولا مراقبة، فلا تصادفه إلا في بعض كتبنا المضنون بها على غير أهلها. وإياك أن تغتر وتحدث نفسك بأهليته فتستهدف للمشافهة بصريح الرد، إلا أن تجمع ثلاث خصال:
الأولى: الاستقلال في العلوم الظاهرة، ونيل رتبة الإمامة فيها.
والثانية: إقلاع القلب عن الدنيا بالكلية. . .
والثالثة: أن يكون قد أتيح لك السعادة في أصل الفطرة الخ.
وهذا هو ابن سينا يقرر في مقدمة كتابه (رسالة في المبدأ والمعاد) أنه ألفه على مذهب المشائين، فيجب - قبل الحكم بأن ما جاء في الكتاب يصور رأي ابن سينا أو لا يصوره - أن يعرف رأيه في المشائين، وهل هو يوافقهم؟ أو يخالفهم؟! وهذا هو نصه في مقدمة منطق الشرقيين صريح في أنه لا يدين بكل ما يدين به المشاءون، ومن المحتمل أن يكون أمر البعث من المسائل التي اختلف فيها معهم، فلا بد إذن من البحث عن مصدر آخر.
وفضلاً عن ذلك فقد جاء في عبارات الكتاب ما يدل على أن للمسألة عنده غورا، وأن لها سراً لم يفض به في هذا الكتاب كقوله (وهذا كلام مغلق، تحته معان كثيرة، في شرحه على الحقيقة تكون النجاة).(785/40)
أصبح الأمل بعد هذا معقوداً بالكتاب الثاني - رسالة أضحوية في أمر المعاد -، فلندرسه لنرى قيمته في نظر ابن سينا، بعد ما أجمع الباحثون على صحة نسبته إليه.
والقرائن المحيطة بالكتاب تدل على أن ابن سينا صور فيه رأيه، وأبان معتقده:
أما أولا: فلأن ابن سينا وهو يتحدث في الإشارات عن البعث، أحال استكمال القول فيه على كتاب آخر فيه سعة من القول؛ والإشارات كما هو معلوم للباحثين يصور آراء ابن سينا التي يدين بها ويعتقدها، فإذا أحال فيه على كتاب كانت قيمة الكتاب المحول عليه، خصوصاً بالنسبة للبحث المشترك بين الكتابين، من قيمة الكتاب المحول فيه، وقد علمنا أنه نفض يده من الشفاء والنجاة ورسالة في المبدأ والمعاد، فلم يبق من الكتب التي تصلح أن تكون مرجعاً استوفى البحث واستكمله حتى يصلح للإحالة عليه إلا كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) وهاك نصه في الإشارات ط ليدن ص197 (ثم أبسط هذا، واستغن - وفي نسخة: واستعن - بما تجده في موضع آخر لنا).
وأما ثانياً: فلأن الغزالي قد استمد رأي ابن سينا في البعث من هذا الكتاب، والغزالي دارس متعمق، وقريب عهد بابن سينا وبكتبه، فهو أعرف بما يصور رأيه وبما لا يصوره واتهام الغزالي بأن خصومته لابن سينا من التعويل على رأيه فيه؛ يدفعه أن المدافعين عن ابن سينا ضد الغزالي أمثال ابن رشد - بأنه استقى معلماته عنها من مصادر لا تعبر عن وجهة نظر ابن سينا التي يدين بها.
وأما ثالثاً: فلأن الكتاب نفسه، ليس فيه شيء مطلقاً، يدل على أن لبن سينا لم يعبر فيه عن رأيه، ولم يصدر فيه عن معتقده؛ والأصل في الكتاب - متى صحت نسبته لصاحبه - أنه يصور رأيه، إلا إذا وجد من القرائن والدلائل ما يصرف عن ذلك.
وفضلاً عن هذا فالكتاب يتلخص في مرحلتين:
إحداهما: التعريف بكل الآراء التي قيلت في المسألة.
والثانية: نقد كل هذه الآراء، إلا رأياً واحداً استبقاه واستصفاه، وساق على صحته كثيراً من الأدلة. ويحس قارئ الكتاب أن ابن سينا أفرغ في هاتين المرحلتين كل قواه، فلم يدخر جهداً في هدم ما هدم، ولم يدخر وسعاً في تأييد ما أيد.
وعملية النفي والإثبات على هذا النحو من التتبع والتقصي ناطقة بأنها المنهج الصحيح(785/41)
للإبانة عن مذهب المؤلف ورأيه الشخصي.
وفي كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) هذا، نجد ما حكى الغزالي عن ابن سينا من أدلة إنكار البعث الجسماني، وعند ذاك نجد ما نسد به تلك الثغرة التي كانت شاغرة في تأريخ الفكر الإسلامي. وكنا قد أبنا في مقالنا السابق أن لهذه الثغرة جانبين:
أحدهما: يتصل بابن سينا، أعني هل قال ما نسبه إليه الغزالي في كتابه التهافت من أدلة إنكار البعث الجسماني، أم لا؟!، ضرورة أنه أن كان قائلاً بها، يكون قائلاً بإنكار البعث الجسماني على سبيل القطع، دون أن يفسح المجال لشك أو تردد. وقد ثبت أنه قائل بها.
وثانيها: يتصل بالغزالي، أعني هل هو ثقة حين يتحدث عن فرق خاصمهم ورد عليهم، ممن طال لعهد بهم بحيث لا يتيسر لنا الرجوع إلى مصادرهم الأصلية؟! أم هو في موضوع الشك والاتهام؟!، وقد ثبت أنه ثقة خصوصاً في تلك المسألة التي أجرينا امتحانه فيها.
وبعد فلعلنا أيها القارئ الكريم قد شوقناك إلى كتاب (رسالة أضحوية في أمر المعاد) وما وراء كمن سمع، وقريباً أن شاء الله يكون في يدك، فلقد تفضل مشكوراً الأستاذ البحاثة مدير المعهد الفرنسي باستحضار صور لجميع مخطوطاته الموجودة في مكتبات العالم، ليستعان بها على إخراج نص صحيح، وقد راجعنا هذه الأصول كلها، وعلقنا عليها، وقدمنا الكتاب للطبع، وهو الآن بالمعهد ينتظر دوره.
سليمان دنيا
مدرس الفلسفة وعلم العقيدة بكلية أصول الدين(785/42)
الأدب والفن في أسبوع
حول الأنشودة الناعمة:
تلقيت من الأستاذ عباس السيد أبو النجا المحامي بدكرنس، كتاباً يدافع فيه عن عبد الوهاب وتلحينه لأنشودة فلسطين، وهو بعد التحية:
(قرأت ما كتبتموه عن اللحن الرائع الذي وضعه موسيقار الشرق عبد الوهاب للأنشودة القوية التي نظمها الأستاذ الشاعر علي محمود طه عن فلسطين. ولست أتفق معكم في رأيكم، فإن القراءة الهادئة للقصيدة وتفهم مراميها ومعانيها فهم أناة وروية، ثم تنغيمها بعد ذلك التفهم من أي إنسان أوتي حظاً من رقة الحس، ودقة الأذن، ورهافة الوجدان لا يمكن أن يأتي إلا على هذا الغرار، وفي هذا القالب الشجي من الإيقاع والتلحين.
فالقصيدة تخاطب كل عربي في أرض العروبة، تحثه على الانتفاض على ظلم اليهود، ونبذ سياسة الصبر، وتجريد الحسام دفاعاً عن الأرض المقدسة، تخاطب القصيدة في كل ذلك خطاباً تريد أن تصل به إلى عقله وقلبه حتى ينفض عن التمسك بالأناة، ومجاراة أمم في سياسة السلام.
فليست القصيدة إذاً خطاباً إلى جيش يخوض المعامع فهي تستزيد حماسته، وتلهب حميته، إنما هي خطاب إلى المسالمين يستنفرهم إلى اطراح السلام، ونداء إلى الوادعين يستنهض هممهم - بعد أن يبين لهم - ويستثير - عن إقناع - عزماتهم إلى دفع الخطر المحدق بهم، دون تلبث أو انتظار.
وبعد: ألستم معي في أن هذا اللحن ليس مائعاً، وإنما هو لحن رائع اقتضاه مبني القصيدة كما استلزمه معناها؟
ثم ألستم معي في أن عبد الوهاب لا ينبغي له أن يأخذ (إجازة) في هذا الظرف العصيب. . . بل إن على الشعراء والناظمين أن يقدموا له من نتاج القرائح ما يقتضي اللحن العاصف والنغم الثائر، والإيقاع المثير، وعندئذ ينطلق صوت عبد الوهاب عاصفاً، ثائراً، مثيراً).
حقاً أن القصيدة تخاطب كل عربي في أرض العروبة، تحثه على نبذ سياسة الصبر وتجريد الحسام إلى آخر ما قال الأستاذ وأضيف إلى ذلك أن القصيدة نفسها قوية في غير جلية ولا ضوضاء، وهي من قبيل ما أدعو إليه من التأليف الذي يؤدي الحماس في هدوء،(785/43)
خالياً من الطنطنة والمبالغات. ولكن هل أدى التلحين والغناء ما في القصيدة من القوة والحماس؟ أو هل هما يسيران معه في هذا السبيل؟ هذه هي المسألة أو القضية التي يريد الأستاذ المحامي أن يكسبها. . وبلح في ذلك بسؤاله إياي أن أكون معه في أن اللحن رائع اقتضاه مبنى القصيدة كما استلزمه معناها. . ويؤسفني ألا أكون معه في ذلك.
وحقاً إن القصيدة خطاب إلى المسالمين لاطراح السلام، ونداء إلى الوادعين لاستنهاض هممهم، واللحن والغناء كذلك خطاب للمسالمين والوادعين. . ولكن ليظلوا ناعمين وادعين. . لحن جميل، وموسيقى حلوة، وغناء رقيق عذب، تتسلل إلى الأذن في طرب يسلم إلى السكون ويبعث إلى وادي الأحلام.
إنه حين يغني:
أخي قم إليها نشق الغمار ... دماً قانياً ولظى مرعدا
يحيل الدم إلى (شربات) ... ويجعل اللظى برداً وسلاماً!
وهو حينما يغني:
فلسطين يفدي حماك الشباب ... وجل الفدائي والمفتدي
يذرو هباء ما فيه من المفاداة وحماية الحمى، ويضيع الشباب مع من ضيع في الأوهام عمره. . .
إن عبد الوهاب فنان عظيم ما في ذلك من شك، ولكن مجال فنه إنما هو العواطف الرقيقة الناعمة، وهو يبدع فيه لأنه يصدر عن طبع أصيل، فيستطيع أن ينقل إحساسه في أنغامه إلى القلوب فيطربها ويأسرها، ويشركها معه في الشدو والترديد أما العواطف الحماسية، فليست في طبعه الفني، وهو إلى الآن لم يأت في هذا الباب بشيء على وفرة إنتاجه في عالم الغناء والموسيقى.
وأنا لا أدعوه إلى مخالفة طبعه بالتلحين الحماسي، لأنه يكون إذن متكلفاً، والتكلف يفسد الفنون. ولو أنه تلقى من نتاج القرائح ما يقتضي اللحن القاصف والنغم الثائر، كما يرى الأستاذ أبو النجا أن يفعل الشعراء والناظمون، لما انطلق عاصفاً ثائراً مثيراً إلا إذا جاوز الفن إلى تهريج.
وإني لأرى أن أم كلثوم أقدر من عبد الوهاب على التعبير الحماسي، ويبدو هذا في غنائها(785/44)
قصيدة (سلوا قلبي) فقد استطاعت أن تجعل الجمهور يغلي ويفور في بعض مواضع هذه القصيدة.
وأذكر أن عبد الوهاب كان يدافع عن نفسه، حين وجه إليه اللوم لعدم المشاركة في الأغاني الحماسية، بأن الشعب يردد أغانيه ذات الطابع العاطفي الرقيق، ولا يسمع من أحد صدى لحنه هو أو غيره من أناشيد. وهذا يؤيد ما قلته، لأنه يصدر في النوع الأول عن طبعه فينتج إنتاجاً حياً، أما الأناشيد المتكلفة فهي تموت على أثر إلقائها. ومن الخطأ المبين ما كان يقال من أن الشعب المصري ميال بطبعه إلى اللهو فهو لا يقبل على إنشاد جدي فهذا هو الشعب كما تراه اليوم يسبق الفنون في حماسه وقوته، وهي تحاول أن تلحق به. .
ويماثل عبد الوهاب في الغناء والموسيقى، أحمد رامي في النظم والتأليف فهو يسجل خفقات القلوب ويتتبع الأطيار على الأشجار ولكنه ظلم نفسه ب (نشيد الشباب) الذي وضعه أخيراً وغنته أم كلثوم، والذي يبدأ هكذا:
نادى المنادي يا شباب ... لبوا الندا=ردوا العدا عن الوطن
ثم يعظ هكذا:
تضامنوا ... الشرق يدعوكم=إلى طرد العدا
تعاونوا ... الله يهديكم=إلى نور الهدى
ثم يختم بإرسال الحكمة هكذا:
من غاش منا فاز بالعيش الرغيد.
ومن يمت مجاهداً مات شهيد.
كلام عادي فاتر، وتهبط الحرارة عن درجة الفتور عندما يأمر بالتعاون ليهدي الله إلى (نور الهدى).
وأم كلثوم هي التي تنطلق قوية مثيرة لو قدم لها المنظوم القوي النابض بالحياة، وهي التي تستطيع أن تدرك تل أبيب ب (وصله) واحدة. . . ولكنها لا تغني إلا ما تلفقه من شعر شوقي، وما يوضع لها خائراً واهناً، وهي تكثر من ترديد أغانيها القديمة، مثل أغنية (فضلت أصالح في روحي) التي غنتها في حفلة بور سعيد التي أقيمت للترفيه عن جنود الجيش، والتي لم تغني فيها شيئاً جديداً مناسباً للحال الحاضرة. ولست أدري إلى متى تظل(785/45)
تلك المصالحة.؟
التمهيد لمؤتمر اليونسكو:
كان المقرر أن تجتمع اللجنة الثقافية بالجامعة العربية، في الإسكندرية يوم 21 أغسطس القادم لوضع خطة مشتركة بين الدول العربية وتوحيد وجهة نظرها في الشئون الثقافية التي ستكون موضع نظر مؤتمر الهيئة الثقافية العالمية (اليونسكو) الذي سينعقد بلبنان في أكتوبر القادم.
وقد حدث أخيراً أن أبدت الحكومية اللبنانية رغبتها في أن تنعقد اللجنة الثقافية بلبنان لتكون على مقربة من مركز المؤتمر. وقد أجابت اللجنة إلى هذه الرغبة فقررت أن يكون اجتماعها هناك.
ومن الموضوعات التي ستنظر فيها اللجنة في هذا الاجتماع، موضوع نشر الأفلام السينمائية التي ترمي إلى تقوية الروح القومية العربية وشعور التضامن والاتحاد بين العرب، ومن ذلك المساعدة على إعداد أفلام في البلاد العربية بقصد تعريف بعضها ببعض، والمساهمة في وضع أفلام ثقافية شعبية ومدرسة في البلاد العربية، وفي ترجمة نطق الأفلام الثقافية الغربية إلى اللغة العربية.
السينما والدعاية:
تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك بزيارة ميدان القتال بفلسطين في هذا الأسبوع، وقد سر جلالته بما رأى هناك وما وقف عليه من المعلومات والحقائق التي تتعلق بنظام الجيش وخطته في القتال. وقال جلالته في صدد التعبير عن سرر إنه يود لو كان المصريون جميعاً موجودين ليشاهدوا ما شاهد جلالته.
قلت في نفسي: ليست هذه الأمنية الملكية الكريمة ببعيدة التحقيق. ففي الإمكان أن تنقل السينما هذه المشاهد الرائعة إلى جميع الناس.
وإن مما يؤسف له أنه قد مضى على حرب فلسطين قرابة شهرين تحدثت فيها الصحف وأذاعت الإذاعات عن انتصارات العرب وقصت قصص البطولة العربية فيها، ووصفت أفلام المراسلين المعارك وصفاً رائعاً، ولكن لم يعرض بأحد دور السينما منظر واحد لشيء(785/46)
من ذلك على حين تترامى إلينا من هوليود أنباء تنمي بنشاط الصهيونيين في الدعاية بوساطة الأفلام لقضيتهم الخاسرة. وقد أمرت وزارة الشئون الاجتماعية بمنع عرض الأفلام التي يظهر فيها الممثلان من هوليود يقومان بالدعاية الصهيونية.
فهل يكفي أن نمنع أفلام الدعاية اليهودية من العرض في مصر؟ وماذا فعلنا نحن في هذا السبيل؟ ماذا فعلنا لنقل مشاهد المجد العربي على الشاشة البيضاء؟ وأين السينمائيون المصريون؟ أما شبعوا من عرض المباذل والخيانات الزوجية. وإذا كانت وسائلهم قاصرة فأين وزارة الشئون الاجتماعية التي تحرص على الإشراف على الشئون الفنية؟
إن هذا الموضوع لجدير بنظر اللجنة الثقافية بجامعة الدول الغربية، لأنه يحقق الأهداف التي ترمي إليها من نشر الأفلام السينمائية بالبلاد العربية، بل يجب أن يبدأ به ويوجه إليه كل الاهتمام، فينفق في إنجازه كل المال المعد لنشر الأفلام السينمائية المتقدمة.
مصر تطل على العالم
تناول الأستاذ محمد رفعت في حديثه (مصر تطل على العالم) بالمذياع يوم الأحد الماضي موقف مجلس الأمن من قضية فلسطين، فقال إن هذا المجلس الذي يرغي ويزبد الآن لأن الأمم العربيةلم تقبل مد الهدنة، هو الذي يغضي عن تصرفات الأمم الكبيرة المخالفة لميثاق هيئة الأمم المتحدة، في حين أن الدول العربية لم تخرج عن هذا الميثاق لأنها تدافع عن كيانها وتعمل لاستتباب الأمن في جزء منها طبقاً للمادة الثانية والخمسين من الميثاق.
وقال الأستاذ إن الأمم الكبيرة شكلت هيئة الأمم المتحدة لتنهي آثار الحرب وتحل المشكلات العالمية، ولكنها إلى الآن لم تستطع أن تعقد الصلح مع ألمانيا والنمسا واليابان بل لم تستطع أن تحل المستعمرات الإيطالية، ومع أن هذا لا يحتاج إلى مفاوضات مع الأعداء بل يفرض عليهم فرضاً، وذلك للخلافات بين الأمم الكبيرة الناشئ عن مطامعها الاستعمارية. وفي الوقت الذي تعجز فيه الهيئة ومجلس أمنها عن كل ذلك، تريد أن تجعل من هذا المجلس أداة تخويف وإنذار للدول الصغيرة والمتوسطة، فنرى لأعضاء فيه من أولياء الصهيونية يهددون العرب بالقوة ويلوحون بالعقوبات، ولكن هذا المجلس المهيض الجناحين لن يستطيع الطيران وإذا هو حاول فسيسقط سقطة لا قيام له منها، لأن العرب أصروا على تخليص فلسطين من الصهيونية مهما كلفهم ذلك.(785/47)
مواكب رمضان:
أذاعت الإذاعة المصرية في أول يوم من شهر رمضان برنامج (مواكب رمضان) من تأليف الأستاذ طاهر أبو فاشا وإخراج الأستاذ محمد محمود شعبان، ومعظم هذا البرنامج أغنيات رمضانية تمثل ألواناً من أغاني الشعب في رمضان، يتخلل هذه الأغنيات حوار قليل يقصد منه الانتقال من جو أغنية إلى أخرى، ولكنه جاء مع ذلك مسبوكا محبوكا.
ولدى الإذاعة برامج خاصة كثيرة، نفضت عنها الغبار، وشرعت تقدمها في فترات مختلفة إلى جانب هذا البرنامج الجديد، فبدا الفرق واضحاً بينه وبينها، فأغنيات (مواكب رمضان) تمتاز بالجمال الفني وتقوم على المعاني الرفيعة، لأن المؤلف لم يعمد إلى الأذكار و (وحوي) وغير ذلك لينقله كما هو بل هو يضفي من نفسه على الصور الشعبية ما يرضي الذوق الخاص إلى الإمتاع العام، فبدل أن تسمع في أحد تلك البرامج (حنن علينا يا كريم حنن علينا) تسمع في مواكب رمضان (هل الهلال وبان) وقد برع الملحن في هذه الأغنية وأداها (الكورس) أحسن أداء.
من طرف المجالس:
كان من شجون الحديث في هذه الجلسة، كتابات بعض كبار الكتاب في هذه الأيام، من حيث إسفافهم وعدم عنايتهم بالتجويد كسابق عهدهم، فحكى الأستاذ كامل كيلاني الطرفة الرمزية الآتية:
كان أحد العمد بالقاهرة، فذهب إلى دكان للحلاقة، ولم يعبأ الحلاق به لمظهره القروي، فحلق له دون عناية. ونهض العمدة وأعطى الحلاق جنيهاً وخرج لسبيله.
وبعد أيام عاد العمدة إلى الدكان، فاستقبله الحلاق أحسن استقبال، واجتهد أن يعوض تقصيره في المرة السابقة، فبذل له غاية العناية. ونهض العمدة وأعطى الحلاق مليماً. فدهش الحلاق وبسط يده بالمليم متسائلاً، فقال له العمدة، هذا المليم للحلاقة الماضية، وذلك الجنيه لهذه الحلاقة.
العباس(785/48)
الكتب
نموذج جديد م قصص قومي
إدريس
(قصة مغربية بالفرنسية - للأستاذ علي الحمامي)
للأستاذ محمود تيمور بك
ثلاثة عناصر، متى توافرت لعمل فني مكنت له، وأبلغته ذروة الإجادة، فأسلست له أهواء النفوس. . .
تلك العناصر التي أعنيها، هي:
قوة الإحساس، وصدق التعبير، وموهبة الأداء. . .
وقد اتسقت ثلاثتها في هذه القصة التي ألفها الأستاذ (علي الحمامي) في اللغة الفرنسية، وسماها: (إدريس)، وصور بها الحياة المغربية وما يضطرم فيها من آلام وآمال. . .
في تلك القصة تنبسط صحف من التاريخ، وننصقل مرآة للحاضر، وتتجلى أحوال سياسية واجتماعية قائمة، وتترسل روح من الوطنية تثير الأفئدة وتهز المشاعر. فالكتاب بفضل ما حواه من ذلك كله - يعد نموذجاً من القصص القومي، جديراً بالتقدير والإعجاب. . .
ومما هو مسلم به عند البصراء من نقادالأدب أن الفن لا يجود ولا يؤتي جناه إلا أن تركت له حرية التحليق والانطلاق، لا نزعة تملي عليه، ولا مبدأ يتحكم فيه. ومن ثم كانت القصص الفني، لأن كتابها مقيدة أقلامهم بما حدد لهم من أغراض، وما عين لهم من أهداف.
ولكن الأديب (الحمامي) في قصته القومية، ينجو من تبعة هذا النقد، على تلك الملاحظة، وذلك لأنه لم يخضع قلمه لمنحي مسوق إليه، ولم يرد فنه على غرض دخيل عليه. وإنما أحس في قوة، وعبر في صدق، وأدى قادراً على الأداء.
لقد عايش المؤلف أمته، وشهد ما تعانيه من كوارث، وما يعوق خطاها من أغلال، وشعر بما يعتلج بين حناياها من منازع الحرية والعزة، وكان لذلك أثر في نفسه لم يلبث أن دفعه إلى التعبير، فجرى قلمه طلقاً يصور حياة قومه، ويكشف عن آلامها وخوالج نفسها في(785/49)
إيحاء فني قويم.
وأنت تساير (إدريس) بطل هذه القصة، وهو يروي لك أحداث حياته، وما تعاقب عليه من أحوال، فإذا بك - وأنت مسترحل معه - نطالع الحياة المغربية في عصرها العتيد، فترى كيف صنعت سياسة الاستعمار بذلك الوطن المغلوب على أمره، وتعلم كيف يسام الخسف والعسف في جحيم تلك السياسة الغشوم، وكيف تتوق نفسه إلى عيش الحرية والكرامة، فهو يكافح ويجاهد ما وسعه الكفاح والجهاد.
فقارئ هذه القصة لا يملك سكينته إزاء ما يمر به من صور تفصح له عن نفسية شعب أبي يتعزى في الحديد والنار، وتشعره بما يكمن في سريره ذلك الشعب من فتوة وحمية، وما يغلي في عروقه من دماء أسلافه الذي كانوا في طليعة بناة الحضارة وسادة الأمم.
والقصة في جملتها مزاج طريف من التاريخ والسياسة والوطنية والاجتماع، أو طاقة مزهرة تجمع تلك الأفانين المختلفة؛ وبراعة الكاتب تتجلى في تأليف هذا المزاج، وتنسيق تلك الطاقة. فهيهات أن يلمح القارئ في اطواء القصة حديثاً لا يستدعيه الموقف، أو موقفاً ينبو عن سياق، أو إغراقاً في وصف وتصوير تتجافى به القصة عن سبيل التأثير والإقناع.
ما أكثر ما كتب الغربيون عن الأمم الشرقية والإسلامية بلغات العرب، ولكن ما كتبوه لا يصور نفسية هذه الأمم وعقليتها حق تصويرها، ولا يستوفي حقائقها كما هي عليه، وذلك لأن أولئك الكتاب إما أن تحدوهم نية سيئة ونزعة مغرضة، وإما أن يقعد بهم عجز عن التحقيق وصدق التصوير.
وإذن فقد أحسن صاحب الصورة (إدريس) صنعاً، إذ كتب قصته بلغة عربية، سدا لذلك النقص، وإطلاعاً لقراء الغرب على حقائق أمة إسلامية فتية تنشد سلامة وكرامة.
وما أجمله توفيقاً أن تكون تلك اللغة العربية التي كتبت بها لا قصة هي اللغة الفرنسية. . فالقصة ليس إلا صفحة من اضطهاد المستعمر الفرنسي. فمن الخير أن يقرأها الفرنسيون بلغتهم، دانية المنال، حق يتبين لهم: كيف يؤدون في بلاد المغرب رسالة الحرية والسلام!
محمود تيمور(785/50)
القصص
اليوميات
قصة للكاتب الألماني أرثر شنتزلر
بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب
كنت عائداً إلى منزلي ليلة أمس عندما جلست فترة من الوقت على مقعد بحديقة المدينة، فلاحظت فجأة سيداً جالساً على الطرف الآخر من المقعد لم أشعر بوجوده من قبل. وأثار ظهره الفجائي دهشتي وشكوكي لأنه لم يكن في حاجة إلى الجلوس على نفس مقعدي، لخلو المقاعد من رواد الحديقة في ذلك الوقت المتأخر من الليل.
وهممت بالرحيل عندما خاطبني ذلك الغريب. كان يرتدي معطفاً رمادياً طويلاً وزوجاً من القفازات أصفر اللون. وناداني باسمي بعد أن رفع قبعته يحييني. وعندئذ أدركت في دهشة من هو. إنه الدكتور جوتفريد فيفالد، ذلك الشاب المهدب ذو المقام الممتاز. وكان قد نقل منذ أربع سنوات من الخدمة المدنية في (فينا) إلى ضاحية بالنمسا. لذلك لم أر موجباً للتعبير عن دهشتي من رؤيتي إياه في ذلك الظرف من الزمان والمكان، على الرغم من أني لم أكن قد شاهدته منذ عيد الميلاد الأخير.
ورددت تحيته بابتسامة فاترة، ثم هممت أسأله عن سبب جلوسه هنا عندما قال لي فجأة وهو يبدي بيده حركة اعتذارية.
- أرجو المعذرة يا سيدي العزيز، ولكن وقتي محدود. ما أتيت إلى هنا إلا لكي أسرد عليك قصة غريبة. ذلك إذا لم يكن لديك مانع من الاستماع إلي.
فسارعت إلى التصريح باستعدادي لسماع ما سيقوله وأنا في دهشة ما تفوه به. ولم أتمالك من سؤاله لماذا لم يقابلني بالمقهى، وكيف استطاع أن يجدني هنا، ولماذا وقع اختياره علي بالذات لأستمع إلى قصته؟
فأجاب في صوت أجش غير عادي - أما عن السؤالين الأولين فسأجيب عليهما أثناء سردي القصة، وأما اختياري لك يا سيدي العزيز (ولم يلقبني بأي لقب خلاف ذلك) فهو لأني أعرف فيك الكاتب الأديب الذي أستطيع الاعتماد عليه في نشر قصتي العجيبة بالطريقة التي تلائمه.(785/51)
وبدون أن ينتظر تعليقي على ما فاء به، انشأ يقص قصته دون تمهيد، قال:
تدعى بطلة قصتي رديجوندا. وكانت زوجة البارون ت. الكابتن في فرقة س. إحدى فرق (الدراغون)، وكان مقرها بلدتنا الصغيرة. (ولم يذكر في الواقع من الأسماء سوى الأحرف الأولى ومع ذلك عرفت البلدة واسم الضابط الفارس ورقم فرقته).
واستمر الدكتور فيفالد يقول (كانت رديجوندا ذات جمال باهر، وقعت في حبها من النظرة الأولى - كما يقول الناس - ولسوء الحظ لم تسنح لي الفرصة التي تتيح لي التعرف بها، فضباط الفرقة وعائلاتهم قليلو التعارف بالمدنيين، ولذلك كنت أقنع بالنظر إليها عن بعد، أراها وحيدة أو بجانب زوجها أو بصحبة الضابط الآخرين وزوجاتهم وهم يسيرون في شارع البلدة.
وكنت أحياناً أحظى برؤيتها تطل من إحدى نوافذ دارها، أو ألمحها داخل عربة تتأرجح بها قاصدة إلى المسرح الصغير في المساء وهناك أشاهدها جالسة في مقصورة من مقعدي بأعلى المسرح، فيخيل إلي إنها تعطف علي فترميني بنظرة عابرة لا أجرؤ أن استنتج منها ما يشف عن الغزل أو التعارف. وبدأت أيأس من استطاعتي وضع قلبي تحت قدميها عندما قابلتها فجأة وعلى غير انتظار في صباح يوم من أيام الربيع الجميلة بالحديقة الصغيرة الممتدة من باب البلدة الشرقي إلى الريف. مرت أمامي وعلى شفتيها شبه ابتسامة دون أن تلحظ وجودي. وسرعان ما اختفت بين الأشجار دون أن يمر على خاطري أن أحييها أو أتحدث إليها. ولا أدري لماذا لم أشعر بالأسف بعد ما توارت عن أنظاري في أني لم أقم بمثل هذه المحاولة، ولكن كل ما أدريه أنه حدث لي شيء غريب. لقد شعرت بنفسي فجأة أندفع وراء الخيال وأتصور ما الذي يحدث إذا ما كانت قد تمالكت شجاعتي واعترضت طرقها أخاطبها. وجعل خيالي يصور لي كيف لم تخف سرورها بجرأتي هذه، وكيف طفقت تحدثني وتشكو وحدتها وحاجتها إلى من تبثه لواعج نفسها وقلبها، وكيف شعرت بالبهجة عندما وجدت في ذلك الرفيق الذي تنشده. وكانت نظرتها إلي عندما ودعتها نظرة تحوي كل معاني الود والتفاهم حتى لخلت - على الرغم من يقيني بأن كل هذا كان مجرد خيال - بأني عندما أراها مرة ثانية بمقصورتها بالمسرح في المساء سأشعر بأن في صدري كنزاً مدخراً من العواطف لا يشاركني فيه أحد سواها.(785/52)
لعلك لا تعجب يا سيدي العزيز إذا ما قلت لك بأني وجدت نفسي منساقاً وراء ذلك الخيال الذي لا أدري كيف بعث، ولعل منشأة قوة خفية في نفسي لا أدري كنهها. فسرعان ما أعقبت أولى مقابلات غيرها، وازداد شغفي برد بجوندا، حتى أقبل اليوم الذي وجدتها بين ذراعي وتقدم بي خيالي، وابتدأت تزورني في شقتي الصغيرة بأقصى البلدة، وعندئذ تذوقت كل أنواع البهجة التي لم أتذوقها في حياتي الواقعية والتي لا أعرف طعمها إلا في خيالي الرائع.
وأقبل علينا الخريف عندما علمت أن فرقة (الدراغون) الذي ينتمي إليها زوجها قد أمرت بالرحيل إلى جاليشيا. فشعرت باليأس القاتل يملأ نفسي - بل يملأ نفسينا - ولم نترك شيئاً مما يقوله العشاق في مثل هذه المناسبة إلا تحدثنا عنه. تكلمنا عن الهرب معاً، والموت معاً، وعذاب الخضوع لحكم القدر. وأقبلت الليلة الأخيرة ولما نصل إلى قرار بعد. وانتظمت رديجوندا في غرفتي المزدانة بالزهور وكنت قد حزمت أمتعتي وحشوت مسدسي وكتبت رسائل الوداع استعداداً لما قد يحدث. كل هذا يا سيدي العزيز كان حقيقة نتجت عن خيال غريب. إن وقوعي التام تحت سحر ذلك الخيال جعلني أعتقد تمام الاعتقاد توقع ظهور محبوبتي أمامي في آخر أمسية قبل أن ترحل الفرقة. كنت أشعر بقوة خفية لم أحسب لها حساباً تدفعني إلى البقاء بالدار. وكنت أتوجه مئات المرات إلى الباب الخارجي فأنصت علني أسمع وقع خطواتها، ثم أنظر خلال النافذة آملاً أن أراها مقبلة نحوي. ثم شعرت بالقلق واليأس ينتابان نفسي حتى أوشكت على الاندفاع خارجاً، لأبحث عن رديجوندا وأختطفها من زوجها مطالباً بحقي في الاستحواذ عليها، حق حبنا المتبادل.
وأخيراً تهالكت على مقعدي وأنا أرتجف رجفة من أصابته بالحمى. وفجأة - قرب منتصف الليل دق الجرس الخارجي، فشعرت حينئذ بأن قلبي يكاد يكف عن الخفقان. إن دق الجرس - كما تعلم - لم يكن وليد الخيال. واستمعت إلى صوته وأنا مذهول، وشعرت برنينه يطرق أذني، فأيقظ في الإحساس الكامل بالحقيقة. كنت أدرك أنه حتى هذا المساء لم تكن مغامرتي سوى سلسلة من الأحلام العجيبة؛ ولكني شعرت عندما سمعت ذلك الرنين بأمل جريء يستيقظ في ذات نفسي، ذلك الأمل في أن رديجوندا وقد أثر في أعماق قلبها تلك القوى الخفية التي أحيت خيالي، واستجابت إلى دعوتي بقوة رغبتي فيها، سوف أراها(785/53)
واقفة أمامي بلحمها ودمها على عتبة داري، وأنه في اللحظة القادمة سأتناولها حقاً بين ذراعي.
وذهبت إلى الباب وفتحته، ولكن. . . لم تكن رديجوندا هي الواقفة أمامي، بل كان. . . زوجها! كل ذلك كان حقيقة كحقيقة وجودك بجانبي على هذا المقعد.
وقف الضابط لحظة يتأمل وجهي، ووقفت أمامه مذهولاً، ثم دعوته إلى الدخول والجلوس. ولكنه ظل واقفاً وقال في ازدراء أنت تتوقع قدوم رديجوندا. من سوء الحظ أنها لا تستطيع الحضور. لقد ماتت! فرددت قائلاً: ماتت!
وخيل إلي حينئذ أن العالم قد توقف عن الحركة.
وطفق ضابط (الدراغون) يقول في هدوء - لقد وجدتها منذ ساعة بمكتبها وأمامها هذا الكتاب، وها أنذا قد أحضرته ليسهل علينا وضع الأمور في نصابها. لقد قتلها الرعب على ما أعتقد عندما دخلتن عليها في حجرتها بغتة. هذا هو آخر ما سطرته. اقرأه من فضلك.
وناولني كتاباً مغلفاً بجلد بنفسجي اللون، فقرأت الكلمات الآتية (. . . والآن سأترك منزلي إلى الأبد. إن حبيبي في انتظاري).
وأطرقت إطراقه من يدرك ما الذي تعنيه هذه الكلمات.
واستمر الضابط يقول - لا شك أنك أدركت أن ما تحمله في يدك هو يوميات زوجتي. من الأصوب أن تلقي عليها بنظرة، حتى تدرك أنه لا يجديك الإنكار.
وقلبت الصفحات وطفقت اقرأ وأقرأ حوالي الساعة، وأنا مرتكن على مكتبي وهو جالس على المقعد دون حراك. قرأت قصة حبنا كاملة؛ تلك القصة الغريبة بكافة تفاصيلها منذ التقائي بها في ذلك الصباح من يوم الربيع، وتحدثي إليها في الحديقة. ثم قرأت عن أولى قبلاتنا، وسيرنا معاً، وذهابنا إلى الريف، وساعات نشوتنا في غرفتي المزدانة بالزهور، وخططنا التي وضعناها للهرب أو الموت، وسعادتنا وبأسنا. كان كل ذلك مسطراً في هذه الصفحات؛ هذا الذي لم يكن فيه مسحة من الواقع ولكنه كل ما اتفق لي وقوعه في الخيال، وشعرت بعجزي عن تفسير أمر هذه اليوميات. ولكن تبلج في نفسي ضوء نمن الحقيقة هو أن رديجوندا قد أحبتني كما أحببتها، وأنها قد حصلت على تلك القوة الغامضة فمنحتها موهبة الخيال وبذلك شاركتني كل حوادث مغامراتي تلك.(785/54)
ثم ظهر لي شيء آخر. . إن هذه اليوميات لم تكن سوى وسيلة للانتقام مني بسبب ترددي الذي منع أحلامي - أحلامنا - من جعلها حقيقة واقعة، وحتى موتها الفجائي كان من صنع إرادتها. بل كان في نيتها أن تضع هذه اليوميات في يد زوجها بهذه الطريقة، ولم يكن لدي من الوقت ما أستطيع فيه أن أستعرض كل هذه المعضلات وأحاول تفسيرها، ولكن وجود زوجها هنا كان إحدى التفسيرات، بل التفسير الطبيعي لكل ما حدث، ولذلك عملت بما تتطلبه الظروف، ووضعت نفسي تحت تصرف الضابط في كلمات تناسب الموقف).
فصحت قائلاً - دون أن تحاول.
فقاطعني الدكتور فيفالد في خشونة قائلاً - حتى لو كان هناك أدنى نوع من النجاح لمثل هذه المحاولة فإنها لتظهر لي شيئاً مشيناً. أني أشعر نفسي بأني مسؤول عن كل هذه النتائج التي أوجدتها مغامرتي الخيالية هذه - تلك المغامرة التي كنت جباناً لأني لم أحققها.
(وقال الكابتن - إني أحب أن أضع الأمور في نصابها قبل أن يعلم الناس عن موت رديجوندا إننا الآن في الساعة الأولى صباحاً. ففي الساعة الثالثة سيتقابل شهودنا. وفي الخامسة سنسوي أمورنا.
وأومأت بالإيجاب في برود، ثم غادرني: ورتبت أوراقي، ثم تركت الدار أبحث عن صديقين فوجدتهما في فراشيهما، وأطلعتهما على الشيء الضروري حتى يدركا المهمة الملقاة على عاتقيهما ثم جعلت أذرع الطريق أمام نوافذ دارها، دار رديجوندا المسجاة الآن على فراش الموت، وتملكني حينئذ شعور اليقين بأني أسير نحو نهاية مصيري المحتوم.
وفي الساعة الخامسة صباحاً واجهت الكابتن وواجهني والمسدس في يد كل منا في الحديقة الصغيرة بالقرب من المكان الذي خاطبت فيه رديجوندا للمرة الأولى.
فقلت - وهل قتلته؟
قال - لا. . إن رصاصتي مست صدغه، ولكنه أصابني في قلبي، وسقطت ميتاً في التو واللحظة كما يقولون.
فالتفت إلي جاري العجيب وكلي دهشة واستغراب، فإذا به قد اختفى من ركن المقعد فذهلت. . . وأخيراً سألت نفسي ألا يجوز أنه لم يكن موجوداً على الإطلاق، وأن كل ما حدث لم يكن إلا وليد خيالي؟ ولكني تذكرت أني سمعت بعضهم كان يتحدث بالمقهى في(785/55)
الليلة السابقة عن مبارزة سقط فيها الدكتور فيفالد ميتاً وعن اختفاء السيدة رديجوندا في نفس اليوم، والاعتقاد إنها هربت مع ملازم شاب من الفرقة دون أن تترك وراءها أثراً.
وتوالت علي الأفكار والأسئلة. أكان ما حدث وما سمعته حقيقة واقعة؟ ولكني تراجعت أمام التفكير الذي يخالف المنطق. فقد أجشم نفسي مشقة تأييد نظريات لا قبل لي على تصورها، كالتصوف وعلم الروح.
إنه لا يمكنني إثبات حقيقة مثل هذه القصة، إذ تنقصني الأدلة المادية على صحتها. ووجدت لو أني اعترفت بها لواجهت مشكلات لا تعد ولا تحصى، ولاعتقد الناس أني إما ساحر أو دجال. ومن ثم قررت في النهاية أن أقص تلك الزيارة الليلية كما حدثت دون تعليق عليها، وأنا واثق من اعتراض الكثيرين على صحتها، فإن شعور الثقة عند الناس عن الكتاب وما يكتبونه أقل بكثير من شعورهم نحو غيرهم.
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب(785/56)
العدد 786 - بتاريخ: 26 - 07 - 1948(/)
الفريقان المتحاربان في فلسطين الحق والباطل
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
سفير مصر لدى المملكة السعودية
يحترب في فلسطين فريقان: فريق العرب يذود عن ذماره، ويدفع عن حقه، ويدعو إلى النصفة والعدل، وإلى أن يعيش هو وخصمه أمة واحدة في بلد واحد، لكل حقه وعلى كل واجبه وفريق آخر من شذاذ الآفاق وخبث الأقطار، يلجون على العرب ديارهم بأيديهم المال والسلاح، وما أورثهم تاريخهم والعيش الذليل في أوربا من ختل وغدر، يظنون أنهم صاروا أمة لأن باطلاً يجمعهم، وعدواناً يربط بينهم، وكل فرقة منهم تنمي أمة، وكل جماعة تنتسب إلى بلد، وكل فرد يحل سحنة تنافر سحنة أخيه ولا تشبهها إلا في سمات اللعنة فيها، ومياسم الخزي عليها ويقول هؤلاء الأرذلون: لا نرضى نصفه معكم ولا مساواة بكم ولكنا نريد وطناً ودولة وأنف الحق راغم، ودعوة العدل صاغرة وإن لنا قوة من سلاحنا ومالنا وحيلنا وغدرنا وخيانتنا. ولنا أعوان في أوروبا وأمريكا يسخرون بالمال ويسخرون بكل الوسائل رؤساء الدول، وأئمة الساسة، وأصحاب الصحف، وبيدهم المصارف، ودور السينما وكل وسائل النشر والتضليل، فيا أيها العرب المساكين! أفسحوا المجال لدولة إسرائيل!
ويقول العرب: لا لا بل تعالوا إلى كلمة سواؤ، نسويكم أيها الطراء المتطفلون بأهل البلاد الذين أقرهم التاريخ فيها لا يعرفون غيرها وطناً، ولا يتخذون غيرها داراً، فهلموا إلى الدولة الواحدة، والشريعة العادلة، والتآخي والتناصف.
فتقول هذه الوجوه الملعونة، وهذه الفئات الطريدة: لا لا إن أرضكم لنا، ودياركم لدولتنا، فانزلوا على حكمنا صاغرين. . .
ويحمي العربي، وهو سمح لا خنوع، وجواد لا جبان، وحليم لا ذليل، ويستنصر حقه، ويتوكل على ربه ويستمد سجاياه وشيمته، وأخلاقه ومكارمه، ثم يستوحي تاريخه ويحشد مآثره فيستبق إليه من أحداث تاريخه ومآثره أمته ما يثبته في المحنة، ويوقره في الشدة، وينثال إليه من عز ماضيه ومجد سلفه ما يهون عليه كل خطب، ويقحمه كل هول.
ويصول عليه عدوان اليهود ومن ورائه مدد من قوى أوروبا وأمريكا، وتدور به خدع(786/1)
المخادعين وتهاويل المهولين، وهو العربي الذي يعرف نفسه ويعرفه التاريخ، ويهزأ بالشدائد إذا جد الجد. ويحق الأهوال إذا اشتد البأس.
فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها: من تحت أخمصك الحشر
أن العربي يعرف ما في أيدي أعدائه وأعوان أعدائه من مكر، وما لديهم من سلاح، وما عندهم من علم وفن؛ ولكنه يعرف كذلك ماله من حق، وما عنده من كرامة، وما فيه من إباء وما يمده به تاريخه من ثبات في الأزمات، وصبر في الخطوب. فيقدم على الأهوال ذاكراً قول سلفه.
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
فيتقدم فيزيده الهول مضاء، والنار صفاء، منشداً:
فإن تكن الأيام فينا تبدلت ... بنعمي وبؤس والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبية ... ولا ذللتنا للذي ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوساً كريمة ... تحمل مالا تستطيع فتحمل
وقينا بحسن الصبر منا نفوسنا ... فصحت لنا الأعراض والناس هزَّل
حسب الصهيونيون أن الأمم مال وربا، وأشكال وألوان، وهياكل وجدران، وبغي وعدوان، وغفلوا عن حقيقة الإنسان وما وراء ذلك صور وزخارف، وخدع وأباطيل، تذوب إذا وقدت النار، وتبوخ إذا حمى الوطيس.
ألا ساء فأل الأوغاد، وخاب ظنهم حين زينت لهم أموالهم وزخارفهم أنهم للعرب أكفاء وأنداد. فلتبطل دعواهم الوقائع، ولتكذب ظنونهم المعارك.
ألا أنه إن تحدى الصهيونيين حق العرب، وجرؤ شذاذ الآفاق على خير الأمم، ولم يلفوا كفاء بغيهم من ردع، وجزاء عدوانهم من خزي.
فيا موت زرا إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي أن دهرك هازل
أيها العرب الأباة! أنه يوم له ما بعده؛ فاصدعوا الأهوال بقلوب متفقة، وأيد مجتمعة، وامضوا إلى الغاية التي هي بكم أجدر، وبتاريخكم أليق. إنكم تقاتلون حيث قاتل آباؤكم في اليرموك وأجنادين وحطين، وقد حطموا الباطل في كبريائه، وردوا البغي في غلوائه، فزلزلوا بهؤلاء البغاة الديار، وردوا جند الصهيونيين بالخزي والدمار. واتركوها على(786/2)
التاريخ مأثرة إلى مآثر آبائكم، وسجلوها على الأيام مفخرة إلى مفاخر أسلافكم.
(ولا تهنوا ولا تحزنوا انتم الأعلون والله معكم.)
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(786/3)
مشاهدات وملاحظات:
تحية العلم. . .
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
المستشار الثقافي لجامعة الدول العربية
كانت جزيرة (كورفو) منتهى المرحلة الثانية من مراحل سفرتي من بغداد إلى المغرب الأقصى قبيل الحرب العالمية الأخيرة.
هبطت بنا الطيارة المائية المطار البحري في المضيق البحري الذي يفصل الجزيرة من البر، وقت العصر؛ ثم نقلتنا السيارة من هناك إلى فندق في المدينة لنقضي الليلة فيه، على أن نعود في فجر اليوم التالي إلى المطار لنستأنف السفر نهاراً.
والطريق الذي يمتد بين المطار والمدينة كان طويلاً، يمر من بين مزارع جميلة وقرى صغيرة؛ شاهدنا فيها عدداً غير قليل من الرجال والنساء والأطفال، كلهم في ملابس أنيقة كأنهم في يوم عيد. وكلما اقتربنا من المدينة رأينا علائم الزينة تزداد شيئاً فشيئاً. . . إلى علمنا أن ذلك اليوم كان فعلاً من أيام الكرنفال.
كنت قد زرت هذه الجزيرة الجميلة مراراً؛ غير أن تلك الزيارات كانت قديمة العهد جداً؛ لأنها كانت تتصل ببداية حياتي التدريسية في حاضرة (الأيبر) - يانيا - التي كانت يومئذ مركز ولاية تابعة للدولة العثمانية.
فكان من الطبيعي أن أشعر برغبة شديدة في التجوال في المدينة قبل حلول الليل، بغية تجديد تلك الذكريات القديمة ومشاهدة الجزيرة - في عهدها الحالي - بعد مرور هذه السنين الطويلة. فما كدت أعرف غرفتي واضع فيها حقيبتي، حتى خرجت من الفندق إلى الشوارع التي تعج بضجيج الكرنفال. وأخذت أسير في الطرق والميادين دون أن أسترشد بدليل، غير مواكب التهريج نفسها. . إلى أن وصلت إلى الميدان الفسيح الذي يقع في ظاهر المدينة، حيث تلتقي شوارع عديدة فتمر منه جميع المواكب في روحاتها وغدواتها المتكررة.
رأيت القوم - كعهدي بهم سبقاً - يملئون الجو ضجيجاً والميدان حركة؛ ويتسابقون في(786/4)
الضحك والإضحاك بأقنعتهم الغريبة، وأزيائهم العجيبة، ورقصاتهم السريعة، وأغانيهم الخفيفة، وأجواقهم المهرجة. وكان وصول كل موكب من المواكب إلى الميدان يستثير عاصفة من القهقهة والهتاف والصياح. . تندفع من حناجر آلاف المتفرجين المجتمعين هناك.
وقفت مدة في زاوية من زوايا الميدان التي تطل على شوارع عديدة، فتمكنت من مشاهدة المواكب الكثيرة؛ وأخذت أتتبع حركات القوم بكل اهتمام.
وأتفق أن وصل مرة أربعة مواكب غريبة دفعة واحدة من شوارع مختلفة؛ فزاد نشاط الجميع زيادة هائلة. وصارت الجماعات التي تؤلف المواكب تندفع في العزف والرقص والتهريج اندفاعاً جنونياً؛ وأخذت جماهير المتفرجين تغرب في القهقهة إغراباً عجيباً، كأنهم أصيبوا بنوبات عصبية تهز جميع أبدانهم هزاً عنيفاً.
وفي الوقت الذي كان هذا الهرج والمرج قد بلغا الحد الأقصى، وأخذت حواسي تعجز عن تتبع هذه الحركات العجيبة، وعن تمييز هذه الأصوات الخليطة، توقعت كل الحركات بغتة، وانقطعت كل الأصوات فجأة. . وظننت - في بادئ الأمر - أنه حدث حادث مروع جمد الرفح في النفوس، فأدى إلى هذا الوجوم العميق.
فأخذت أجيل بصري كل الجهات، لاستجلاء أسباب هذا التحول الفجائي إلى أن شاهدت في آخر الميدان فيمحل بعيد جداً، علماً ينزل من فوق سارية كبيرة؛ ولاحظت في الوقت نفسه بوق - صوت لم أنتبه إليه قبلاً - وفهمت عندئذ كل شيء.
كان ذلك وقت الغروب، وقد حان موعد إنزال العلم من سارية الثكنة العسكرية التي تقع في آخر الميدان، والبوق كان يدوي إيذاناً بذلك، والناس قد توقفوا عن السير والحركة احتراماً لذلك العلم!.
وكان صوت هذا البوق قد قضى على كل الحركات والأصوات التي تصدر من تلك الألوف المؤلفة من الجماهير، حتى في وسط مهرجانات الكرنفال، وقد أصخب صفحات التهريج؛ مع أن معظم أفراد المواكب كانوا قد أصبحوا شبه سكارى من شدة الفرح الذي استولى على جوانحهم من جهة، ومن كثرة الكئوس التي ارتشفوها في مختلف الحانات من جهة أخرى.(786/5)
أن صوت البوق الذي يرافق إنزال العلم كان قد حمل الجميع على التوقف بغتة، كأنهم كلهم جنود في ثكنة عسكرية يأتمرون بأوامر قائد يحترمونه كل الاحترام.
أكبرت عندئذ كل الإكبار قوة (التربية المدنية والوطنية) المتأصلة في نفوس هذا الشعب. . هذه التربية التي تحمل الناس على عدم التقصير في أداء واجب (الاحترام للعلم) حتى بين ضجيج مواكب التهريج!.
تذكرت هذه الواقعة - بعد ذلك - عدة مرات، في عدة مناسبات. . وكانت الأخيرة منها، قبل بضعة أيام:
كنت أسير مساء إلى (دار الرسالة) لزيارة صديقي الأستاذ أحمد حسن الزيات؛ وكنت قد وصلت إلى رأس ميدان عابدين عندما سمعت صوت بوق يدوي بنبرات متقطعة متساوقة. فالتفت حالاً إلى الثكنات فرأيت العلم المصري الذي يرفرف فوق سارية البناية المرتفعة أخذ ينزل بخطوات بطيئة، بصورة متساوقة مع نفخات البوق المتقطعة. . فوقفت هناك متوجهاً نحو الثكنات، لأمتع البصر بتتبع سير العلم باهتمام.
ولكن لاحظت بغتة أنني كن الوحيد في هذا الموقف وهذا الاهتمام. . وأما الذين كانوا يمرون مثلي في هذا الميدان، فكانوا يواصلون سيرهم وكلامهم وعملهم. . كأنه لم يكن هناك شيء يستحق الالتفاف: هنا جماعة من الأطفال يلعبون، وهناك طائفة من النساء يتصايحن؛ وفي كل الجهات عربات تمر ببطء، وسيارات تسير بسرعة؛ وعدد كبير من الناس يسيرون في اتجاهات مختلفة، ولا أحد منهم يلتفت إلى الثكنات، أو يرفع البصر إلى سارية العلم القائمة فوقها. . كأن كل ذلك لا يهمه أبداً ولا يخص أحداً غير الجيش وحده. .
وتذكرت عندئذ - بكل تفاصيله - ما كنت شاهدته في كورفو، أيام الكرنفال. . وتأملت - في أمل مرير - البون الشاسع بين ما حدث هنا وما حدث هناك.
بعد أن غاب العلم المصري عن عيني وانقطع صوت البوق عن أذني. . واصلت السير، أنا أقول في نفسي:
أن الوقوف لتحية العلم - بالصورة التي شرحتها آنفاً - قد يبدو للمرء - في الوهلة الأولى - كمظهر من المظاهر المادية التي لا تستحق الاهتمام. غير أن هذا الوقوف - في حقيقة الأمر - من الأعمال التي تتصل بتربية النفس اتصالاً وثيقاً؛ فأن هذه الوقفة التي تضطر(786/6)
الإنسان إلى الخروج عن عالمه الخاص، ولو لمدة قصيرة. . . وتحمله على الانقطاع عن السير وراء نصالحه الشخصية، ولو لثوان معدودة. وتجبره على الاهتمام بالعلم الذي يمثل وطنه وتاريخه ودولته ولو لفترة وجيزة. .
أن هذه الوقفة المادية، لمثل هذه الأغراض المعنوية، لا بد من أن تؤثر في النفس تأثيراً عميقاً، ولا بد من أن تساعد على إيقاظ الشعور القومي وإشاعته مساعدة كبيرة.
أبو خلدون ساطع الحصري(786/7)
ما أحبها من نقلة
للأستاذ محمود الخفيف
أحبب إلى نفسي بهذه النقلة إلى تأريخ أمريكا في سيرة زعيمها العظيم (أبراهام لنكولن)، فإنه لمن أعظم ما يسر القراء لا ريب حديث صاحب العبقريات عن أشبه العبقريين في الغرب بابن لخطاب وما أولى لنكولن بنصيب مما يكتب العقاد؛ ولو تفضل كاتبنا الكبير فعقد فصلاً أو أكثر من فصل، فوازن بين لنكولن وعمر، وهو خير من يفعل ذلك، لعددت هذا من أفضل ما بلغت بكتابي من خير. . .
وبعد، فأرجو من أستاذنا الجليل أن يصدقني أن عنايتي بتاريخ لنكولن هي التي حفزتني إلى كتابة هذا الفصل والذي سبقه، إذ لا زلت من بعض الملاحظات التي أبداها الكاتب الكبير غير مطمئن النفس، وما كان ذلك دفاعاً عن كتابي بقدر ما هو رغبة مني في الاهتداء إلى الصواب.
لا زال تأريخ أسلاف لنكولن سراً في أطواء الزمن، وأكبر الظن أنه سوف يبقى كذلك، وماذا عسى تحويه الكتب عن أبيه النجار، وعن جده لأبيه، وقد كان كذلك نجاراً بين أحراج الغابة قتلته رصاصة أطلقها عليه أحد جنود الحمر؟ وماذا عسى أن يعرف عن أمه وهي ابنة سفيحة لرجل مجهول من أهل الجنوب؟ ولولا أن تحدث بذلك لنكولن إلى صاحبه هرندن ما عرف حتى هذا القدر من سيرتها. . .
بذلك رددت على ما أخذه على الأستاذ الكبير من خلو كتابي من تعريف كاف بأسلاف لنكولن من جانب أبيه وأمه؛ وكان ما ذكر الأستاذ تعقيباً على ذلك الرد قوله: (وقد اعتقد الأستاذ الرجل كان كما هو معلوم عصامياً خامل الآباء والأجداد؛ ولكن الواقع أن اللغز يعرض لنا عن أمر آبائه المعروفين ونستطيع حله من تاريخهم).
إذا فلا سبيل لنا إلى أسلافه، بعد ذلك آباؤه المعروفون وما نعرف إلا أباه وأمه. ولقد ماتت أمه وهو في العاشرة من عمره فحرم من تأثيرها في نفسه، ذلك التأثير الذي أشرت إليه في كتابي بقولي: (كان الغلام ينتقل ببصره وخياله من أمه إلى أبيه، وكانت أمه في أقاصيصها جادة، تحس نفسه الصغيرة شيئاً من الحزن يطوف بنفسها ويتسرب إلى حكايتها؛ أما الأب فكان يميل إلى المرح والفكاهة، ويتدفق إذ يحكي تدفق من لا تنطوي نفسه على شيء مما(786/8)
تنطوي عليه نفس الأمن وما كان شيء من ذلك ليخفى على فطنة الغلام، وأحدثت القصة الدينية أثرها في نفس الصبي وظلت عالقة بلبه وخياله، وجرت في كيانه مجرى الدم في عروقه، واختزنت حافظته ألفاظها بنصها حتى ليتحرك بها لسانه وإن لم يقصد).
ولم يكن لأبيه أثر في نفسه ولا من صفات نستطيع أن نردها إلى آبائه فنعرف، ولو بما يقرب من اليقين شيئاً عن أسلافه فنحل اللغز بعض الحل؛ أما ذلك الذي كانت تنطوي عليه نفس الأم، فمرده في الأكثر إلى أنها كانت تجهل أباها؛ على أني لم أسه عما يكون للوراثة من أثر في حياة لنكولن، فأوردت في صفحة 151 من كتابي ما قصة على صديقه هرندن إذ قلت: (وإنه ليفضي إلى صاحبه هرندن ذات يوم بحديث عن أقاربه وصلته بهم، ويتطرق الكلام أثناء هذا الحديث إلى منشأه فيكشف لنكولن لصاحبه عن سر يتصل بأمه، وذلك أنه لا يعرف أجداده لأمه، فقد كانت أمه التي أحبها والتي يجل ذكراها ابنة رجل مجهول، وسيظل هذا الرجل مجهولاً أبداً، وكل ما يستطيع أن يعرفه عنه أنه من أهل الجنوب، وبيان ذلك أن جدته لأمه كانت تعيش وهي فتاة في ولاية فرجينيا في الجنوب فأصبحت ذات حمل وأن لم تتزوج، ووجدت نفسها بعد أشهر الحمل تضع أنثى، وكانت هي وحدها التي تعرف والد هذه الأنثى، ولقيت من أهلها أشد الغضب لزلتها، ولكنهم احتضنوا بنتها فنشأت بينهم تنتسب إليهم وليست منهم. ذلك هو السر الذي يفضي به لنكولن إلى صاحبه على ما فيه مما يوجب الكتمان، ويردف أبراهام قائلاً لصاحبه إنه كان ثمة من ميزة فيه لا يوجد مثلها في أحد من ذوي قرباه، فمردها لا ريب إلى أجداده المجهولين من أهل الجنوب).
أما عن المصادفة في حياة لنكولن، فإني أخشى أن يكون الذي يخرج به القارئ مما كتبها الأستاذ الكبير في هذا الصدد أن لنكولن مدين للمصادفة بكل شئ، فقد قال الأستاذ في مقاله الأول: (وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح)؛ وقال في مقاله الثاني: (ولم يكن نصيب المصادفات التي كان لها الأثر في الترجيح بين الأحزاب نفسها وبين جيوش الشمال وجيوش الجنوب أوفي نصيباً من هذه المصادفات التي صعدت بلنكولن إلى رئاسة الجمهورية).(786/9)
وأرجو ألا أثقل على أستاذنا العلامة حين أقول له إني لا زلت أخاصمه في هذا، وإني لا زلت كل ما أصاب لنكولن من فوز إلى شخصيته، فما أعرف في العصاميين رجلاً مثله اتكأ على نفسه في جميع أطوار حياته، وما أعرف مثله من كانت الظروف كلها عدوة. وكيف لعمري تصعد المصادفات بنجار ابن نجار إلى رياسة الجمهورية، وكان في هذه الجمهورية آلاف النجارين غيره؟ ذلك ما لا أستطيع أن أحمل خيالي على تصوره، أن هذا الرجل الذي بات يحزم متاعه بيده آخر ليلة قبل سفره إلى العاصمة ليجلس فوق كرسي واشنطون قد بنى نفسه بنفسه. وأنا لنرى اعتماده على نفسه واضحاً في كل أطوار سيرته حتى في هذا العمل الذي يبدو هيناً في ذاته وهو عظيم في معناه، فقد سهر الرئيس ابراهام لنكولن يملأ حقائبه بيده ويحزم متاعه دون معونة من أحد!
إني أفهم أن تأتي المصادفة لخامل أو لدعي بشيء من اليسار أو الفوز مرة أو أكثر من مرة، كما أفهم أن تحول المصادفة بين ذي جدارة وبين ما يريد مرة أو أكثر من مرة؛ ولكني لا أستطيع أن أرد ما يبلغه العظيم الحق من مكانه أو ما يصيبه من فوز إلى المصادفة، وإلا فما معنى عظمته، وما معنى العظمة الفردية على الإطلاق؟ أن هذا يقتضينا أن ننكر عنصر الاستعداد الفردي، أو ما نسميه العظمة الشخصية، ونجعل تأريخ البشرية سلسة أو سلاسل من المصادفات لا ندري كيف تجري مجراها. ألا أن الرجل العظيم نفسه لهو المصادفة، فما هو إلا أن يتطلب عصره وجوده ويتهيأ لاستقباله حتى يستعلن السر وتشمل العصر كله، وتسيطر عليه روح الرجل العظيم، وهذا وحده الذي يفسر بوزه وسيطرته على غيره من الناس.
وما كان لنكولن بدعاً من العظماء، فمنذ اشتغاله بالسياسة اقترن اسمه بالمشكلة الكبرى التي شغلت بلاده، ألا وهي مشكلة الرق، ثم ما زالت آراؤه في هذه المشكلة تتضح وتتسع دائرتها حتى أشتهر أمرها. وأن له المقدرة في الخطابة تسلكه في أفذاذ هذا الفن من الموهوبين؛ واغتدى لنكولن أحد رجال الحزب الجمهوري المعدودين، وكانت الغلبة لهذا الحزب لأسباب كثيرة أهمها حسن سياسته في مشكلة الرق، ولقد اشتغل بالسياسة واهتم بمشكلة الرق غير لنكولن من كبار الجمهوريين، ومع ذلك أخذ صيته، وهو المحامي الفقير الذي لا جاه له يعظم يوماً بعد يوم حتى أغرقهم جميعاً؛ وما لمصادفة من أثر قط في هذا،(786/10)
وبهذا وحده اتجهت القلوب إلى لنكولن وبخاصة بعد ما كان من جدال طويل على أعين الناس بينه وبين دوجلاس أحد قادة الديمقراطيين، وأن اتجاه القلوي إليه لهو (الترشيح) الذي تحسه الأنفس قبل وقوعه رسمياً. . .
فإذا كان هذا جميعاً من المصادفات، فيجب إذا أن نتفق على معنى المصادفة، وإلا عددنا حوادث التاريخ جميعاً مصادفات، وجعلنا أعمال بونابرت مثلا وسعد زغلول أو غيرهما من المصادفات، وما هي إلا تلك القوة التي يمتاز بها الرجل العظيم، أو تلك (الروح) التي لا تدرك ولا تنكر.
وهل نعد قضية الرق في ذاتها مصادفة، واشتغال لنكولن بها مصادفة؟ وما قيمة هذه المصادفة إن عددناها مصادفة؟ والمهم هنا هو كيف علا صوت لنكولن فيها على جميع الأصوات؟ وكيف نفذ إلى القلوب دون غيره؟ وهل نعد مواهبه وفي مقدمتها الخطابة كذلك من المصادفات؟ وإذا فماذا يبقى من (الرجل)؟
ولقد فشل لنكولن في السياسة اكثر من مرة، فأين كانت المصادفة؟ هل نعد فشله كذلك مصادفة كما نعد نجاحه لو أنه نجح؟ ولقد فاز دوجلاس بمقعد الشيوخ دونه بعد صرعهما الطويل، وعاد هو إلى عمله في المحاماة!؟
ودعي لنكولن بعد هذا الفشل إلى نيويورك فخطب الناس هناك فسحرهم بيانه بعد أن سخروا من منظره ومن هندامه ومن شعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير كأنه ألفاف الغابة. وقد قال الصحفي النابه جريلي وهو من خصومه: (ما من رجل ستطاع أن يبلغ بخطابه لأول مرة ما بلغه لنكولن من عظيم الأثر في جمهور السامعين في نيويورك).
ونشرت كبريات الصحف خطابه وبدأ اسمه يظهر بين أسماء المرشحين لرياسة الجمهورية. ولما عقد الجمهوريون مؤتمرهم العام في شيكاغو في شهر مايو لاختيار أحد رجالهم ليرشحوه للرئاسة، كان سيوارد واثقاً من نفسه قليل الاكتراث بلنكولن، وقدم زعماء المؤتمرين خمسة أسماء غيرهما وجرى الاقتراع على دفعات، وأعلنت نتيجة الدفعة الأولى من الولايات، فإذا سيوارد يزيد على لنكولن بسبعين صوتاً وصوت، ثو أعلنت نتيجة الدفعة الثانية فإذا لنكولن لم يبق بينه وبين منافسه القوي إلا ثلاثة أصوات، ثم تعلن نتيجة الدفعة الأخيرة، فإذا إبراهام يظفر على صاحبه ببضعة أصوات فحسب. وإذا فالأمر هنا(786/11)
أمر اختيار وتمحيص وليس للمصادفة دخل فيه. وما يقال عن عدم إعداد الوراق اللازمة للاقتراع ونشاط جريلي وتحويله معظم المندوبين عن رأيهم فهو من قبيل ما يروي عن المعارك الانتخابية مما يشبه القصص بقصد التسلية والتشويق أو بدافع المبالغة، إذ لا شك أنه مما ينبغي أن يأخذ في كثير من التحفظ أن تتحول آراء المندوبين في فترة قصيرة في أمر عظيم كاختيار رجل للرياسة في غير سبب من شأنه أن يفضي إلى هذا التحول الخطير. ولقد كان جريلي من أشد خصوم لنكولن طيلة حياته، وظل على لدده حتى بعد أن ظفر لنكولن بالرئاسة. ولم تكن خصومته لسيوارد إلا مفضية إلى نجاح منافسه، وهذا مما يجعلنا نرتاب فيما نسب إليه يوم ذلك المؤتمر العام. هذا إلى أنه لو فرض وقوعه كما ذكرنا فأنه أقل من أن يحول آراء المندوبين بالقدر الذي يؤدي إلى نجاح لنكولن.
لقد مكن لنكولن لنفسه قبل ترشيحه، وسبق هذا الترشيح نشاط وتنافس في القول والكتابة بين أنصار سيوارد وأنصار لنكولن، وجاء انتصار لنكولن بعد ذلك متفقاً مع مكانته التي ظل عاملاً عليها، لا طمعاً في الرئاسة، ولكن استجابة لما كانت تهجس به نفسه.
ومع ذلك كله، فقد كان من الجائز أن لا يظفر لنكولن بالنصر في معركة الرياسة وإن رشحه الجمهوريون، ولكنه ظفر ونال مائة وثمانين صوتاً من أصوات مندوبيه الولايات الذين ينتخبون الرئيس وفق الدستور، وكان عددهم ثلاثمائة رجل وثلاثة، وهذا العدد قلما ناله رئيس من قبله.
لقد شق لنكولن طريقه إلى الرياسة في مشقة، وتحمل من عنت الأيام ومن قسوة الظروف ما يزيد في معنى عصاميته، وما المصادفات هي التي صعدت به إلى رياسة الجمهورية، ولقد ظل يشتغل بالسياسة أكثر من عشرين عاماً حتى نبه اسمه وذهب صيته في طول أمريكا وعرضها، وهو الذي خرج من بين أحراج غابة من غاباتها فقيراً معدماً على نفسه بنفسه، ولم يتكئ منذ كان طفلاً إلا على نفسه. . .
وبعد، فإني أعود فأشكر للأستاذ الجليل ما أبداه من ملاحظات على كتابي كانت سبباً في هذه النقلة المستحبة في تأريخ البلاد الأمريكية، ولعلنا نظفر منه بأمثالها، وإني لسعيد إذا صدقني كاتبنا الكبير أني لم أرد بالرد على ملاحظاته القيمة دفاعاً عن كتابي، وإنما الصواب طلبت؛ وما أبرئ نفسي من الخطأ، ولست أرى أن كتاباً يوضع في تأريخ لنكولن(786/12)
وتأريخ الولايات المتحدة في عصره ويصدق القائل فيه إذا قال إنه يخلو من ملاحظات جلت أو هانت تلك الملاحظات.(786/13)
صوم غاندي السياسي
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
الصوم تعليم ديني فرضته جميع الشرائع السماوية، وسنته مختلف الأديان الأخرى. وجعلت من أدائه طاعة لله وتقرباً منه، ومن مخالفته خروجاً على أوامره. ويعتبر الدين الهندوكي من بين تلك الأديان التي تشرع الصوم في أوقات محدودة، وتلزم الهندوكيين بقضائها تزلفاً لله. وكن الشعب الهندوكي العريق في الروحية لم يكتف بصيام الأيام التي يفرضها الدين، ويقدم طواعية قربان صومه لله كلما نزلت به محنة، أو أشقته مصيبة، أو كلما ارتكب آثاماً يود التفكير عنها. وكانت أم غاندي من أولاء الهندوكيات الورعات المتقشفات التي لا تهمل صيامها الديني، فضلاً عن أنها كانت تنذر في مناسبات مختلفة أن لا تأكل إلا إذا رأت الشمس. ويحدث أن تمضي الأيام تباعاً دون أن تأكل شيئاً لأنها لم تستطع رؤية الشمس خلف سحب الهند الكثيفة. فتعود غاندي منذ صغره أن يرى أمه تصوم صوماً طويلاً شاقاً، ترك في مخيلته أثراً مطبوعاً ظهر مفعوله في حياته العامة.
فابتدأت نزعة غاندي الروحية تتربى في أحضان تلك الأم التقية الصالحة التي تتمسك بفروض دينها. ثم أخذت تنمو حينما تلقن أول مبادئ الديانة الهندوكية، ولمس من مواطنيه تعلقهم بها، ووجدهم شعباً يؤمن بدين يحرم أكل اللحوم، وينبذ لذيذ الطعام، ويعيش على النبات، ويشتهر بالزهد والتقشف. فشب غاندي نباتياً لا تثيره شهوة الأكلن ولا يغريه فاخر المأكولات، ويحترم تقاليد دينه. فغرست حياته الأولى مع أمه، ثم نشأته في ربوع شعب ديني، المبادئ الروحية في نفسه. وأصبح فكره ينزع دائماً إلى الناحية الدينية والروحية، ويغلب الحقائق الدينية على أي حقيقة تخالفها. وظهر كل ذلك واضحاً حينما خاض معترك الحياة الاجتماعية، فكان يحاول أن يحل كل ما يقابله من مشاكل بالطرق الدينية. وكان الصوم أول هذه الطرق.
كان غاندي في أول الأمر يصوم صيامه الديني، أو يزيد عليه أياما معدودة، كلما طرأت مناسبة شخصية تدفعه لذلك. ولكن حينما أخذ نفوذه يقوى في جنوب أفريقية، وأصبح له أتباع مسئول عن سلوكهم وتصرفاتهم؛ حتى إذا ما صدر عنهم أي فعل يخالف تعاليم الدين، أو يتعارض مع أصول الأخلاق، أو يغاير ما ينادي به من مبادئ سياسية، حق عليه أن(786/14)
يحزن لحدوثه ويتألم، ويشعر أنه مسئول عما أتوه من أثام، وينذر صوم عدة أيام أو بضعة أسابيع ليكشف عذاب الصوم ما يحسه من وخز الضمير وكآبة الروح، أو يخفف ضغط الشعور الأليم بالمسئولية من ناحية، وليكفر عن آثام أتباعه من ناحية أخرى. فكان صومه يؤثر في نفوس أتباعه فيتألمون لألمه، إلا أنهم في الوقت ذاته كانوا يجلون مقاساته آلام صوم متواصل من أجلهم بدون أن يقترف ذنباً يستحق أن يطلب عنه الغفران. ولذلك حرصوا على ألا يقترفوا من المخالفات والأوزار ما يؤلم غاندي، فيضطر إلى أن يلجأ إلى صوم يسبب له ما يكرهون من العناء والتعب.
فلما وجد غاندي ما لصومه من أثر عميق في نفوس الهنود، أدرك بفطرته النفاذة، وفهمه السليم لروح شعبه أنه يمكن أن يتخذ من الصوم ذريعة روحية مفيدة، يخدم بها أغراضه الإصلاحية من تقويم أخلاق قومه، وإصلاح حياتهم المادية والاجتماعية، وترقية مستواهم السياسي؛ كما أدرك أن قوة مفعول الصوم في نفوس الهنود سببه أنهم قوم لا يرهبون إلا قوة الروح، ولا يخضعون إلا لسلطان الدين، فتعمد مخاطبتهم باللغة التي يجيدون معرفتها ويصدعون إليها. فاستعان بالصوم لخدمة مصالحهم، لأنه يعبر عن قوة دينية، وعن مظهر من مظاهر القدرة على تحمل الآلام ومقاساة الجوع، فضلا عن أنه وسيلة من وسائل تطهير الروح. فسهل عليه السيطرة به على قومه، ونجح في استخدامه إلى أبعد حد بحيث أصبح الصوم أمضى سلاح سياسي يعتمد عليه غاندي بصفته الشخصية للقضاء على الاضطرابات والقلاقل التي كثيراً ما تحدث في الهند، ولتهدئة ثورات النفوس الهائجة حتى يشملها الحب والوئام، أو لتفادي ما تتعرض له من أزمات سياسية، وما يهددها من كوارث اجتماعية. ويرجع توفيق غاندي في استخدام هذا السلاح الديني في السياسة إلى أسباب أهمها:
فهم غاندي العميق لمزاج شعبه الروحي، ومعاملته بالأسلوب الوحيد الذي يصدع له دائماً.
ثم دقة حساسية غاندي وصدقها في تلمس خطايا الشعب الحقيقية، وقدرته الروحية ونفاذ بصيرته التي تخترق شغاف قلوب الجماهير، وتشعرهم بأن خطاياهم قد مست أعماق نفسه، فسببت له ألواناً مؤذية من الحزن والألم، فرضى أن يحتمل عناء الصيام ليعفو الله عنهم. وذلك يوجد الفزع في قلوب الشعب الذي يخاف على حياة الزعيم الذي يحبونه كل(786/15)
الحب فيضطرون للاستماع لنصائحه والأخذ بآرائه السياسية والاجتماعية، حتى لا يعود إلى صوم قد يكلف غاندي حياته، وتفقد الهند بطلها المقدس.
ولقد صام غاندي حوالي خمسة عشر صوماً خلال الخمس والثلاثين سنة الأخيرة من عمره أذكر منها على سبيل المثال ثلاث مناسبات صام فيها غاندي، لأوضح بعض الظروف المختلفة التي كان يصوم من أجلها غاندي. ولنبدأ بصوم سببه أخلاقي تذره عندما كان في جنوب أفريقية يشرف على التعليم في المدرسة التي أنشأها بمزرعة العنقاء، وتسمح باختلاط الصبيان والبنات بالرغم من تباين نشأتهم واختلاف أوساطهم. فحدث أن اعتدى أحد التلاميذ على عفاف فتاة، فلما سمع غاندي بهذا النبأ الأثيم تألم وشعر أنه كمشرف على هذه المدرسة مسئول عما ارتكب، فعاقب نفسه بصوم تسعة أيام ليخفف بها وطأة وخز الضمير وتأنيبه من جهة، وليطلب المغفرة من الله لهذين الآثمين من جهة أخرى. فكان لصيامه وقع أليم في أهل المزرعة طهر ما علق بالنفوس من أفكار سوداء، كما حرر نفس غاندي من كل ما انتابها من قلق واضطراب، وأحل محل غضبه على المجرمين إحساساً بالعطف والشفقة عليهما، فتوثقت العلاقة بينه وبين الأولاد والبنات.
أما عن الصوم الثاني فصامه غاندي بعد أن نزح عن جنوب أفريقية ورجع إلى الهند بصيته المعروف بمحاربة الاستعمار البريطاني؛ فاستطاع بعد أن درس حال الهند من جميع النواحي أن يتولى زعامة الشعب الهندي. ثم أخذ يطالب باستقلال الهند الذاتي الذي وعدت إنجلترا أن تمنحه للهند بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، نظير ما قدمته لها من مساعدات حربية. فلم تكتف الحكومة الإنجليزية بمراوغته، بل أخذت تشدد الرقابة على الهنود كما فرضت عليهم أحكاماً عسكرية صارمة. فعزم غاندي على أن يحاربها حرباً سلمية، أي يحاربها بسلاح العصيان المدني الذي حاربها به من قبل في جنوب أفريقية، واستطاع أن يلغي ضريبة الثلاث جنيهات المفروضة على الهنود هناك. إلا أنه شعر بصعوبة قيام شعب يقرب من أربعمائة مليون نسمة، يختلف فيما يبنه من حيث الدين العادات واللغة، يعصيان إجماعي قبل أن تتشبع روح كل فرد بأساليب العصيان، حتى تبتعد عن العنف والشغب والفوضى وحوادث السرقة والتحطيم والحرق. فأخذ غاندي يمرن الشعب بادئ الأمر على العصيان، بأن طالبهم بمقاطعة كل ما هو إنجليزي. فقاطع الشعب(786/16)
التوظف في المحاكم الحكومية الظالمة، والتعلم في المدارس والجامعات الإنجليزية التي تفسد عقلية الهنود، وشراء السلع البريطانية. كما طالبهم بمخالفة كل قانون جائر يضر بمصالحهم. وبعد أن تغلغلت مبادئ المقاومة السلبية في النفوس، وبعد أن بلغت حماسة الهنود من القوة بحيث لا يستطاع إغفالها، أعلن غاندي العصيان المدني العام في جميع أنحاء البلاد، وكان يظن أنه لن يحدث شيئاً يعكر صفو سلمية هذا العصيان، ولكن حدث أشد ما يبغضه إذ اصطدم الأهالي برجال الشرطة، فهاج الشعب، وأطلق الرصاص، وأشعلت النيران، وأريقت الدماء، فانتشرت الفوضى، وكثرت حوادث النهب والإتلاف. فأرغم غاندي على أن يوقف هذا العصيان ويعلنه ثلاث مرات متتالية، وعلى أن يصوم أربعاً وعشرين ساعة من كل أسبوع تكفيراً عن الدم الذي أريق، وقصاصاً لنفسه على فظائع بني قومه، حتى يشعرهم بهمجية عنفهم، ويلزمهم حد اللاعنف الذي يجب عن طريقه أن تنال الهند استقلالها.
وكان الصوم الثالث سببه ما بين الهندوكيين والمنبوذين من نزاع من أولى المشاكل الاجتماعية الهندية التي وجه لها غاندي كثيراً من عنايته. وذلك لما وجد الهندوكيين يحتقرون المنبوذين أشد الاحتقار، ويعتبرونهم أنجاساً، ويحرمون معاشرتهم أو الاتصال بهم. فحاول غاندي أن يمحو الفوارق الاجتماعية بين جميع الطوائف الهندية، ويعطي المنبوذين من الحقوق السياسية مثل ما لأي هندي آخر. فكان يظهر في كل مكان يؤاكل المنبوذين أو يعانقهم، حتى يشجع غيره من الهندوكيين على أن يتشبهوا به ويحسنوا معاملتهم. إلا أنه لم يقدر أن يقضي نهائياً على اضطهادهم للمنبوذين. ولكن حين قبلت الهند سنة 1935 المشروع الإنجليزي الذي ينص على خضوع البلاد لحكم نيابي مؤلف من مجلسين أحدهما تشريعي والآخر للمقاطعات، تكون الحكومة مسئولة أمامها، ثم بدئ في توزيع المناطق الانتخابية لتأليف هذين المجلسين النيابيين، طالب المنبوذون بمناطق انتخابية منفصلة. فأيدهم الإنجليز في هذا الطلب؛ إلا أن غاندي رفضه مصرحاً بأن إعطاءهم مثل هذه المناطق يعقد مشكلة المنبوذين ويجعل حلها عسيراً، ويقضي ببقائهم على ما هم عليه من ذل وهوان، وهذا فضلاً عن أنه يزيد الشقاق بين الطوائف الهندية، ويقوي الخلافات الدينية التي تشكو منها الهند، وأعلن الصوم حتى الممات. وما كاد يمضي سبعة(786/17)
أيام على صيامه حتى انتهى الخلاف بتسوية تسلم بانتخاب المنبوذين في مناطق الهندوكيين، على أن يكون لهم عدد معين من المقاعد في المجالس الإقليمية التشريعية.
وإذا حاولنا أن نتكلم عن كل صيام صامه غاندي، استعرضنا مختلف مشاكل الهند الحديثة سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو طائفية أو دينية، لأن غاندي لم يترك مشكلة لم يتعرض لحلها، فإذا ما أحس أن هناك مشكلة ستحل بطريقة تتعارض مع مصلحة الهند والهنود فإنه يتفادى مقدما نتائجها الوخيمة، ويعلن الصوم حتى تحل هذه المشكلة حلا يقع نفعه على الهند، أو إذا ما تصادم المسلمون والهندوكيون أو اندلعت نيران الثورة الطائفية، وهاجت النفوس، أكثر واشتدت المجازر فإن صيامه يبعث الذعر في قلوب ملايين الهنود مما يبعثه وابل من القنابل، فيضع حداً للمذابح، ويسكن النفوس الهائجة، ويستحيل بفضله الحقد إلى حب. وذلك كله يؤكد زعمنا بأن غاندي أخرج التعاليم الدينية من عالم المعابد إلى عالم الحياة الواقعة، وأعطى الصوم الديني حقيقة عملية، وجعل له وظيفة نافعة في الحياة الاجتماعية والسياسية، واتخذ منه سلاحاً يقوم به أخلاق الناس، ويهدئ من هياجهم، ويمحو الحقد والبغضاء من قلوبهم.
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات(786/18)
الأزهر والإصلاح
للأستاذ محمود الشرقاوي
سيقول كثير من إخواننا الأزهريين حين يقرؤون هذا الذي أكتب عن الأزهر والإصلاح: لماذا ولمه؟.
سيقول كثير من هؤلاء لماذا كتب هذا ومن يريد بكذا وماذا يقصد بكذا؟ لأنهم لابد - في اعتقادهم - أن يكون لكل شئ ظاهر وباطن، ولابد أن يكون وراء كل عمل أو قول أمر مستور يسأل عنه بماذا ولمه.
فهم يقولون في علومهم ودروسهم لماذا ولمه وماذا يراد بكذا وهذه محمدة، وهم يقولون عند ما يرون لأحد رأياً أو سعياً لماذا ولمه وماذا يراد بكذا، وهذه مذمة.
وأعلم أن كثيرين منهم سيقولون لماذا أو لمه، وهم يعلمون أن هذا الذي أكتب اليوم قد بدأته قبل أن أبدأ سن العشرين. وأني كتبته في السياسة والسياسة الأسبوعية منذ عشرين من السنين، وأن الأزهر وإصلاحه كانا شغلي وشاغلي منذ أجريت قلمي على قرطاس، وإني دأبت عليه وكان وكدي في (الرسالة) أول ما ظهرت الرسالة إلى هذا الوقت القريب وفي (البلاغ) ثماني سنين دأباً.
هؤلاء الكثيرون يعلمون ذلك وقد يعلمون غيره، ولكنهم سيقولون لماذا كتب هذا وماذا يريد وماذا يقصد؟.
ولكن هذا التساؤل وهذا التأويل وهذه الظنون حسنة أو سيئة، طيبة أم خبيثة، لن تحول بيني وبين أن أكتب ما أريد، ولن تمنعني أن أقول ما تجيش به نفسي عن الأزهر وإصلاحه.
والذي أريد أن أقوله إن الأزهر لم يصلح، وأن بينه وبين الإصلاح شأواً بعيداً وبوناً واسعاً ومرحلة طويلة جداً، ولست أدري هل إلى هذا الإصلاح سبيل؟
وأنا حين أزعم أن الأزهر لم يصلح لا أريد أن أتوجه بهذه التهمة إلى أحد ولا إلى عهد، فالواقع أن الأزهر قد التوت به وبأهله سبيل الإصلاح وبعدت بهم عن أهدافهم ومراميه؛ والواقع الذي هو أعجب من هذا كله أن الحديث عن الإصلاح في الأزهر حديث لا يصغي إليه أحد ولا يشتغل به أحد من قريب ولا من بعيد. وليس هذا شيئاً جديداً بل هو شيء يمتد(786/19)
إلى سنين مضت غير قليلة، وقد جرى بيني وبين المرحوم الشيخ المراغي حديث في هذا منذ سنين لعلي راجع إليه في (الرسالة) في يوم قريب أو بعيد، ويوم أعود إلى هذا الحديث سيعلم من لم يكن يعلم أن إصلاح الأزهر لم يشتغل به أحد ولم يفكر به أحد. اللهم إلا المتفائلين والمثاليين والخياليين الذين يعيشون يبن الأماني والأحلام، وقد عشنا بها زمناً رغداً، ثم ذهبت عن أعيننا الغشاوة.
مني أن تكن حقاً تكن أعذب المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
كان المصلحون يرغبون أن يكون الأزهر قواماً على نهضة دينية أساسها الفهم والإدراك وسعة الأفق حتى يقوم بها ما ينتاش العالم كله من إباحية وإلحاد وتهجم على فكرة الدين وعلى مجرد الإيمان، وكانوا يرغبون أن توجد في الأزهر هذه البيئة الدينية المؤمنة المدركة لما يقع فيه العالم كله اليوم من أزمة روحية يحسها كل رجل مستنير ويدرك خطرها على القيم الروحية وعلى الأديان كافة، فإن توجد في الأزهر هذه البيئة الدينية المدركة فسينهض منها لا محالة من يحول بين هذه العواصف العاصفة بالإيمان وبالقيم الروحية أن تنزع من صدور الناس وأن تذهب هذه العواصف بما بقى في هذه الصدور من أيمان.
وكانوا يرغبون أن توجد في الأزهر بيئة علمية مدركة مستنيرة تخرج للناس هذا التراث العلمي الإسلامي الفريد، فتجلوه لعيونهم وإفهامهم، وتبرز هذا الركاز العظيم المطمور من علوم العرب والمسلمين في كل فن وعلم، هؤلاء يدرسون هذا التراث بعقولهم المدركة المستنيرة، فيظهرون الناس على ما فيهم من عمق ومن سعة ومن دقة ومن شمول، وهؤلاء يبرزون هذا الركاز المطمور بما ينشرون ويخرجون من كتب ومن مذاهب وآراء ومن شروح وفهارس ومن تبويب.
وكانوا يرغبون في أن يخرج الأزهر للناس طائفة من العلماء منيرة عقولهم شجاعة أفئدتهم (يدركون مسافة البعد بين روح الأزهر وحياة الناس، ويملكون - كما يقول الأستاذ الزيات - تزييف (الأباطيل المقدسة) التي اتسمت بسمة الحق وتسمت باسم الدين).
وكانوا يرغبون في أن يخرج الأزهر للناس طائفة من رجاله يكونون للناس مثلاً في كرم الخلق والحرص على أداء الواجب والزهد في زخرف الحياة وما يطمع الناس فيه من مجد(786/20)
ومن مال ومن صدارة.
طائفة من الناس شعارهم المحبة والتسامح والمودة وكرم النفس والترفع عن الصغيرة والشجاعة في الحق وعفة القلب واليد واللسان، ويجعلون خير الناس مقدماً على خير أنفسهم، والعمل للناس قبل العمل لذواتهم وأشخاصهم وأطماعهم.
طائفة من الناس تقوم حياتها على الإيثار والتضحية، والنصيحة بالعمل قبل القول وبالمثل والقدوة قبل الدعوة والتمثيل.
طائفة من الرجال يحسون ويدركون علة هذه الأمة الإسلامية وأسباب جمودها وتخلفها وجهالة العوام فيها وتواكلهم وضعف إيمانهم وانصرافهم عن المفيد النافع من شؤون الحياة، واستهتار الخواص وأنانيتهم وجحودهم، ويعملون على خلاص هذه الأمة الإسلامية مما هي فيه من جمود ومن جهالة ومن أنانية وجحود.
هذا هو الإصلاح للأزهر وهذه سبيله.
فهل أنا مخطئ إذا أقول أن الأزهر لم يصلح؟. .
وهل أنا متشائم إذ أقول متسائلاً إن بين الأزهر وبين الإصلاح شأواً بعيداً وبوناً واسعاً ومرحلة طويلة جداً، وأني لست أدري هل إلى هذا الإصلاح سبيل؟. .
أما الخطأ فأني لست مخطئاً، ولا أعتقد أن أحداً يرى غير ما أرى وهو منصف مدرك.
وأما التشاؤم والتفاؤل فليس عندي عليهما جواب، وقد تجيب عني الحوادث والأيام.
محمود الشرقاوي(786/21)
معركة صبيان
للأستاذ نجاتي صدقي
كانت المواصلات بين أحياء القدس العربية اليهودية منقطعة انقطاعاً تاماً. . . وإذا ما تخطت سيارة من سيارات الطرفين الحدود فمعنى ذلك أنها موفدة؛ (مهمة) لا عودة لها بعد أن يتم لها إنجازها.
إلا أن هناك نوعاً من سيارات الشحن اليهودية كان يحق لها أن تخترق أحياء القدس العربية على شكل قوافل أربع مرات في اليوم، هي سيارات (البوتاس).
والسيارات هذه تابعة لشركة البوتاس التي تقع معاملها على ضفة الأردن الغربية، في بلدة (كاليه) اليهودية الصناعية، وهي تستخرج ملحه البوتاس من رواسب البحر الميت، ثم تعبئه في أكياس وترسله إلى القدس في سيارات شحن ضخمة، حيث تتولى وكالة لها تصدير هذه المادة الكيماوية الهامة إلى خارج فلسطين.
ففي بدء الحوادث كانت سيارات البوتاس تسير بحماية عدد من البوليس. . . ثم جعلت مقدمة كل سيارة مصفحة بالفولاذ لا يظهر منها سوى ثلاث كوات، إحداها أمام السائق اليهودي، واثنتان عن يمينه وعن يساره. . . ثم صارت مصفحات الجيش ترافق هذه السيارات. . . ثم أخذ فريق من الجند بكامل معداته يصحبها في طريقها الممتد من أريحا إلى وادي موسى، إلى قرية العازرية، إلى باب الأسباط في القدس فمحلة وادي الجوز، فباب الساهرة، فالشيخ جراح، فالأحياء اليهودية.
وكانت هذه السيارات تتعرض في كل سفرة إلى استقبال حار من العرب، لكنه عديم الجدوى، لأن الرصاص كان يستكين في الأكياس أو يتدحرج على أضلاع المصفحات حاني الرأس منكسر الخاطر!. .
وذات يوم عقد جماعة من صبيان وادي الجوز وباب الساهرة اجتماعاً سرياً في حديقة المتحف الفلسطيني بالقدس، وكان موضوعه رسم خطة للاشتباك مع سيارات البوتاس في معركة!. .
قال حسن، وهو أجير بقال: أنني ارتأى أن نرش الطريق بالمسامير!. .
فهزأ منه صحبه قائلين أن عجلات هذه السيارات من المطاط المسكوب لا المنفوخ.(786/22)
فقال سليم، وهو صبي ميكانيكي: أنني ارتأى أن نسد الطريق بالحجارة، وحين يخرج القوم من سياراتهم لإزالة ما نضعه من عوائق أمطرناهم بوابل من الحجارة!. .
فاستخف الأولاد رأيه قائلين سيتولى الجند إزالة الحجارة ويذهب مجهودنا سدى. .
فقال شكري، وهو تلميذ في الصف الثاني الابتدائي: أنني ارتأى أن نغتنم فرصة مرور السيارات من هذه الناحية ونقفز عليها ونثيرها ضجة تلقى الهلع في قلوب السائقين، فيضطرب حبل توازنهم، ويصدم بعضهم بعضاً!. .
فضحك زملاؤه من اقتراحه هذا قائلين: وماذا يحل بنا في هذا الصدام ونحن ممتطون ظهور هذه السيارات؟!. .
فقال عبد، وهو أجير فران: أنني ارتأى أن نضع قشاً في طريق السيارات ومتى اقتربت منها أضرمنا فيها النيران. . . وسأتولى إحضار القش من الفرن أثناء غياب معلمي!. .
فقال له المجتمعون: كلامك هذا غير موزون، أتظن أن هذه السيارات هي أرغفة خبز وأنها ستنتظرك حتى تشعل فيها النيران؟
ثم ما هي كميات القش التي ستحضرها من الفرن؟. .
فقال موسى، وهو أبن أحد الجنود العرب الذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية: أنني ارتأى يا أولاد أن نقذف السيارات بالزجاجات المحرقة!. .
فدهش الصبية وقالوا بصوت واحد: وما هي هذه الزجاجات؟
قال: أنا أصنعها.
قالوا: وكيف تصنعها؟. .
قال: أحضر زجاجات (كازوزة) فارغة، وأملأها بنزيناً. ثم أخرق سدادة كل زجاجة وأضع فيها فتيلاً يمتد إلى البنزين. . . وأشعل الفتيل وأقذف الزجاجة الهدف، فتنكسر ويلتهب البنزين!.
فأعجب الصبية بهذه الفكرة الجبارة وأقروها، ثم وزعوا فيما بينهم إحضار المواد اللازمة. فأجير البقال تبرع بالزجاجات الفارغة، وأجير الميكانيكي تبرع بالبنزين، وغيرهم تبرع بالفتيل والكبريت.
ورسمت الخطة. . . وهي أن ينتشر الصبية على سور المتحف الفلسطيني، وعندما تمر(786/23)
السيارات البوتاس بهذا السور يصرخ موسى: (عليهم)!. . فيقذفون الزجاجات دفعة واحدة، وينتهي الأمر.
وهكذا كان. . . إذ بينما كانت تسير السيارات في حمولتها بالقرب من سور المتحف الفلسطيني قذفها الصبية بزجاجات البنزين، فسقط بعضها في الطريق واشتعل، وسقط غيرها على جوابن السيارات والتهب. . . وسقط غيرها على أسطحه غرف السواقين واحترق.
ولما رأى من داخل السيارات أن النار تشتعل هنا وهناك قفزوا منها ظانين أنهم وقعوا في شرك مرعب. . . وفي هذه اللحظة تقدمت بعض مصفحات الجيش لإنقاذ الموقف، وضرب المشاة طوقاً حول مكان الحادث، وراح غيرهم يبحث عن المهاجمين في حديقة المتحف الفلسطيني فوجدوهم مستلقين في نواويس رومانية قديمة. .
واكتفى الضابط باعتقال موسى، فوضعه في مصفحة وسار به مع القافلة متجهاً نحو الأحياء اليهودية، وكان كلما مر به على جمع من اليهود أمره بأن يطل عليهم من الكوة. . . ثم يأخذ أذنه بين إصبعيه قائلاً: إذا عدت إلى ارتكاب مثل هذه قبضت عليك ثانية وأنزلتك في هذه الأحياء. . ثم أعاده إلى أهله.
وفي صباح اليوم التالي رؤى الصبية مجتمعين في مكان ما في القدس، وقد أغرقوا رؤوسهم في جريدة صباحية يفتشون فيها عن أنباء معركتهم. .
نجاتي صدقي(786/24)
من وحي الصوم
هيام المتصوفين
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
مَن مِن الناس غير المتصوفين يلوذون بالمقابر الموحشة في الغياهب الحالكة، وكأنهم يخفون إلى رياض مونقة يداعبها عاطر النسيم؟
اقرءوا ما سطره البهلول في سكون الأجداث، وتعالوا معي نتساءل كيف أوحت إليه من المعاني الممتازة ما توحيه الجنان الضاحكة لشعر مطبوع؟! أليس هذا من العجيب؟
وما تقولون في الأحلام الساحرة التي يشاهدها القوم في تلك الأماكن الباكية؟ وهل علمتم أن منهم من رأى في منامه قبوراً تنشق وتخرج منها طيور مجنحة تملأ الأفق، ثم يسطع نور علوي من السماء فيلبس الأجداث حللا بيضاء، ويهب نسيم عاطر فينعش الأموات!!
خيال غريب، وتزداد غرابته حين نعلم أنه أستمد أصوله من الأشلاء المتناثرة، والظلام الدامس، والحجارة الصماء!
أضف إلى ما تقدم كله، ما عرف عن القوم من السهر الطويل ومحاربتهم النوم بشتى الوسائل، ولعلهم يجدون في سكون الليل سلماً إلى التحليق في أجوائهم العالية، فقد شاع لديهم أن أعمال المؤمن تتبدد وتتلاشى إذا عرفها الناس، أما الأعمال المستترة فهي الباقية الدائمة، ومن ثم لاذوا بالظلام وتسربلوا ثيابه السوداء، فنشطوا للعبادة نشاطاً يغبطون عليه!! وتفرغوا للركوع والقيام فإذا نشر الفجر أجنحته تحسروا كثيراً لرؤية الضياء!!
أي سلاح كانوا يستعينون به في مصارعة هذه الأهوال؟!
لا شيء غير الصبر الجميل؛ فقد وطنوا أنفسهم على تحمل كل مكروه؛ وهم يرحبون بالأذى في الله ترحيباً يفوق كل ترحيب؛ ولهم في ذلك روائع مدهشات. قال ذو النون المصري: دخلت على مريض أعوده فسمعته يئن فقلت له: ليس بصادق في حبه من لم يصبر على ضربه. فصاح من أعماقه: لا ولا صدق في حبه من لم يتلذذ بضربه! وهذا رد مسكت بليغ وقد صفقت بدون وعي وأنا أطالعه في مصارع العشاق.(786/25)
وشبيه ذلك ما حكاه علي بن سعيد العطار قال: مررت بكفيف مجذوم وفوقه زنبور يقع عليه فيقطع لحمه! فحمدت الله أن عافاني مما ابتلاه، فصاح في وجهي: (ما دخولك فيما بيني وبين الله؟ فوعزته لو قطعني إرباً، وصب علي العذاب صباً، ما ازددت له إلا حباً) فما رأيكم في هذا الرد الآخر؟ أن صحائف المتصوفين لتزدحم ازدحاماً بأمثال هذه الروائع. وهي عبر تخلق من الثكلى الصارخة حجراً صلداً لا ينبس بنت شفة وإن فارقها أعز الأبناء!
أن العارفين بالله يرون الأذى الجسمي امتحاناً سماوياً، ولا تصدق محبتهم إلا إذا قابلوه مقابلة طيبة ووقع من نفوسهم أطيب موقع وأرضاه، وقد يبدو لبعضهم أن يمتحن أصحابه بالإيذاء كما يمتحن المولى عبيده بالأوصاب، فقد زار أبا بكر الشبلي جماعة من أحبائه وهو مريض بالمارستان، فسألهم عن مجيئهم، فقالوا إنا محبوك يا أبا بكر، فرماهم بحجر كان في يده، فلاذوا بالفرار وصاح بهم الشبلي: يا كذابون، لو صدقتم في محبتكم ما هربتم! وكأني به وقد رأى في ربه أعظم مثال للاقتداء!!
ولنا أن نتساءل: أكان المتصوفون يشعرون شعوراً تاماً بشدة ما يكابدونه من أنواع الإيذاء؟ أما أن فيهم من وصل إحساسه إلى درجة يهون معها التعذيب كما تنطق بذلك بعض الروايات؟
أرجو أن يكون القارئ واسع الصدر فلا يتعجل بتكذيب ما نعرضه بين يديه، فلن نرسل الكلام إرسالاً بدون تعليل وتدليل، وإن كنا نتكلم في خوارق بعيدة، تفعل بالعقول - بادئ ذي بدء - ما تفعله الزلازل في قنن الجبال.
فهل صحيح ما روي عن أحد الأقطاب أنه كان يسير على الماء وحوله الموج المتلاطم يتراكب بعضه فوق بعض، وكأنه يسير في طريق ممهد يدرج عليه الناس!!
وهل صحيح أن الشبلي كان ينتف اللحم من وجهه بمنقار حاد، فإذا سئل عن ذلك قال: ظهرت الحقيقة ولست أطيقها فأنا أدخل على نفسي الألم لأحس به ولكن هيهات هيهات!!
وهل صحيح أن أبا الحسن النووي سمع منشداً يقول:
ما زلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحير الإفهام دون نزوله
فتواجد وهام في الصحراء ثم وقع في أجمة قصب قد قطع وبقيت أصوله كظبا السيوف،(786/26)
فكان يمشي عليها وبعيد البيت إلى الغداة والدم يسيل من قدميه، ولا يشعر بشيء من العذاب!
أن في كتب التصوف أقاصيص عديدة من هذا الطراز؟ فهل نحكم عليها بالوضع والاختلاق؟!
سنجد كثيراً من الناس يلوون ألسنتهم ويقولون في تهكم بالغ: خرافات كاذبة، ما كان لكاتب أن يسطرها في صحيفة الرسالة الغراء!!
ونحن - في الرد على ذلك - لا تستشهد بما سطره المتقدمون في بطون الأسفار، ولكننا ننتقل إلى القرن العشرين لنرى ما يجد فيه من خوارق العادات.
لقد نقلت مجلة الهلال بعددها الصادر في أغسطس سنة 1947 عن مجلة (انتير) الفرنسية، حوادث مدهشة تفوق ما قدمناه؛ وقد أعترف بها كثير من أساطين العلم الحديث، ولم يعدموا لها التعليل العلمي ولو أنها سطرت في كتب المتصوفين لقوبلت بكثير من الاستخفاف. ولا نحب أن نطيل على القارئ، ولكن نضع أمامه هاتين الحادثتين - مما ذكرته الصحيفة الفرنسية - وله أن يقول فيهما ما يشاء.
1 - كان (ريشادسون) الفرنسي يضع الجمر في فمه ويمضغه فلا يصاب بأذى، وقد وضع على لسانه جمراً فوقه قطعة لحم ثم قدمها ناضجة بعد دقائق إلى من شاهدوه من العلماء!!
2 - قام الهندي (كودابوكس) بتجربة رائعة في إنجلترا أمام رهط من رجال العلم والصحافة أثبت فيها قوته الخارقة على مقاومة الاحتراق بالنار، فقد حفروا حفرة طولها أربعة أمتار وعرضها متر ونصف وقد ملئت بالخشب والحطب، وأضرمت فيها النار حتى ارتفع لهيبها، وجعل الهندي يمشي في ذلك الأتون الملتهب ذهاباً وجيئة من أول الحفرة إلى آخرها، وفحصت قدماه بعد ذلك فلم يظهر بهما أثر من آثار النار!!
فما رأى القراء في هذه الخوارق؟ وإذا صحت على يد أناس لا يتصلون بالسماء، فكيف ننكر أشباهها على الأولياء!
إن الإنسان العادي قد يوجه تفكيره إلى ناحية هامة تستولي على إدراكه فلا يشعر بشيء سوى ما يفكر فيه. وقد قرأت في الصحف ذات يوم، أن النار قد شبت في حجرة ريفية وكان بها طفل صغير، فاقتحمت أمه النار، وأنقذت ولدها ثم خرجت إلى الناس واللهب(786/27)
يمزق قدميها وهي لا تشعر به حتى نبهها الحاضرون فليت شعري هل يحس بألم جسدي من يرى بعينيه أنوار السماء مهما مزق جسده الرصاص؟!
أفشوا إلى قلوبكم أيها القوم فأن الحق يتسرب إليها بدون استئذان؟
لماذا نسير في طريق معوج ولا نلجأ إلى الصراط المستقيم؟ ألسنا نعرف أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فماذا قال هذا الكتاب؟!
لقد ذكر أن امرأة العزيز جمعت صواحبها واعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكيناً، وقالت (ليوسف) أخرج عليهن؛ فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم. فهل نمتري في ذلك بعض امتراء.
لقد أبدع اليافعي رحمه الله حيث قال في التعليق على هذه الآية الكريمة (وهذا في محبة مخلوق فكيف في محبة الخالق، ولا ينكر ذلك إلا من لم يذقه) وأنا أقول زيادة على ما تقدم، إن عدم الإحساس بتقطيع الأيدي كان تعله لامرأة العزيز وهي حينذاك مدعية كاذبة، فكيف ننكر نظائره على البررة من الأولياء، أما معجزة يوسف فهي تأويل الرؤيا بدون نزاع.
إذن فقد آن لنا أن نعترف بما قدمناه عن المتصوفين فنجزم أن الشبلي لا يحس بتقطيع لحمه، وأن النووي لا يشعر بتقاطر دمه؛ ونصدق قول الجنيد رحمه الله (كنت أسمع السري يقول: قد يبلغ بالعبد إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به. وكان في قلبي من ذلك شيء حتى بان لي أن الأمر كما قال).
والواقع أن هذه الخوارق العجيبة هي التي جذبت الخاصة والعامة إلى هؤلاء المتصوفين فكانوا أقوى سلطاناً من الملوك، وكان العارف يعتصم بجبل نازح فتخف إليه الوفود تلو الوفود، وقد يقول الرجل كلمة فترفع الخامل وتسقط النابه، بل أن أمراء المؤمنين كانوا لا يستنكفون من الخضوع لما يمليه الزهاد، وأخشى أن أعرج على شيء من ذلك، أخوض في حديث معاد!.
هل أتاكم نبأ أبي سعيد أبي الخير؟ لقد كان مريدوه يتضاربون بالسيوف حرصاً على ماء وضوئه، والسعيد من حصل على قطرة واحدة يضئ بها جبهته. ويذكرون أن قطعة صغيرة من قشر البطيخ قد سقطت منه، فتهالك عليها الناس واشتراها أحدهم بعشرين ديناراً. فهل بلغ هذه المنزلة في النفوس أمير أو وزير!! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(786/28)
ولقد ظهر انكباب العامة على العارفين في حلقات السماع، حيث كان لكل متصوف مجالس إنشاد تقام في أوقات معينة، فما يحين ميعادها حتى تتدافع عليه الناس من كل حدب وصوب، وطبيعي أن يكون المنشد ويسمى (بالقوال) حسن الصوت، لطيف الذوق، فيختار من الأبيات الرقيقة ما تطرب له المشاعر وتهيج به القلوب، حتى كان بعضهم يصيح من وجده، وأحياناً تأخذه النشوة، فيهيم على وجهه في الأفاق كأنما نشط من عقال.
إن للصوت الجميل أثره البالغ في الإحساس، فما ظنك إذا اقترن بمعنى سماوي رائع، ثم سمعه صب ذواق يدرك ما يهدف إليه تمالم الإدراك؟ أليس من القليل عليه أن يترنح ذات اليمين وذات الشمال كمن دارت برأسه العقار.
وقد يرق شعور المتصوف فيسمو إلى مالا تحيط به عين، وإذ ذاك يقف في مكانه لا ينطق بشيء. وليس ذلك في مجلس السماع فحسب، بل في كل موقف تهطل فيه سحائب الرحمة، فقد وقف أبو بكر الشبلي على عرفات مدة طويلة فلم تتحرك شفتاه بشيء، وللحجاج حوله ضجيج وعجيج، فهل يكون هؤلاء أكثر رغبة منه إلى الله؟ أم أنه شاهد ما خفي عن غيره فعقد الموقف لسانه، ورجع إلى مقره شارد العقل متقد الضلوع.
إن كثيراً من المتصوفين يتخيلون أنفسهم تحلق في عالم آخر وتشاهد أضواء متألقة لا تتاح لأحد. وقد سئل بعضهم في ذلك فقال: والله لو غاب عني لحظة لتقطعت (وهم يجزمون أن العارف الصادق يصبر عن كل شيء عدا رؤية مولاه. وقد وقف رجل على الشبلي رحمه الله فقال له أي الصبر أشد على الصابرين؟ فقال الصبر لله! فقال الرجل: لا. فقال الشبلي: الصبر مع الله، فقال الرجل لا، فغضب أبو بكر وقال: ويحك فأي شيء إذن؟ فقال الرجل: بل الصبر عن الله عز وجل. فصرخ الشبلي صرخة كادت تتلف روحه، وكأنه رأى صاحبه قد سبقه في الطريق فعنف نفسه أحر تعنيف وأقساه!!.
وكثير منهم من يذرف الدموع الغزار حين يخطر بباله أنه غير أهل لمحبة ربه. كيف وقد وقر في نفوسهم أن ما على الأرض من حيوان ونبات وجماد يسابقهم مسابقة شديدة في الافتتان بخالقه، فهم يتنافسون فيما بينهم منافسة حادة تضطرم فيها الأحشاء. ولهم في هذا الصدد نوادر غريبة، فقد حكى سهل ابن عبد الله أنه قابل دباً في فلاة فحادثه وناقشه!! وعلم منه أنه - مع فريق من الوحش - هائم في ذكر ربه!! فما منشأ هذه النادرة؟ وهل(786/29)
استنبطها سهل من قول الله (وإنَ من شيء إلا يسبح بحمده) وما موقفه بعد ذلك بيد يدي نفسه حين يرى أنه بالنسبة إلى غيره ليس في العير أو النفير! مسكين مسكين!!
وإذا غرق العارف في لجج الصبوة لم يجد في قلبه فرغاً يسع شيئاً آخر غير ما هو في سبيله، ولذلك كان الصوفيون رهباناً لا يتزوجون ولا يتنعمون، مع أنهم ينضوون تحت لواء الإسلام؟؟
هل سمعتم تحذير مالك بن دينار من لزواج؟ وهل فكرتم في علة ذلك؟ لأنه يرى اللذة الجسدية سبة نكراء لا يميل إليها غير الدهماء، أم ترى ماذا يكون.
إن القوم مكبلون لما ورد في الكتاب والسنة من الترغيب في الزواج فبأي سلاح دافعوا عن مبدأيهم الغريب؟.
لا يستطيع السامع أن يظفر منهم في هذا الموضوع بغير الأساطير، وللأساطير في نفوس العامة فعل السحر، فهي تقوم مقام الآيات والأحاديث، إن لم تفقها عندهم في بعض الأحايين، وفي آدميين من سلبوا العقل الناصح فهاموا كالدواب!!
وأقرأ هذه (الخرافة) أمام عامي ساذج فستجده ينجذب إليها أتم انجذاب، وربما ندم على ما فرط في جنب الله حين أقدم على الزواج.
(قال بعضهم كنت في زاوية بمصر فخطر بقلبي أن أتزوج، وقوي عزمي على ذلك. فخرج من القبلة نور لم أرى مثله، وإذا بيد فيها نعل من ياقوته حمراء وشراكها من زمرد أخضر مرصع باللؤلؤ، ثم سمعت هاتفاً يقول: هذه نعلها، فكيف لو رأيتها! فذهبت عني شهوة النساء).
فما معنى هذه الأسطورة؟ وهل يحرم من الحور في الجنة من يتصل اتصالاً شرعياً بالنساء؟ هذا جائز جداً في منطق البلهاء.
أن القلب لا يتسع لأكثر من واحد، فلا على الصوفي إذا قنع بمحبة ربهن ولكن ما ذنب العامة من الدهماء؟
أن للقوم شطحات وشطحات، ولا حيل لهم فيما يشطون به من الآراء، فقد تفرد الله وجده بالكمال. ومن ذا الذي ترضى جميع سجاياه؟
وبعد فقد حاولت أن أروح عن نفسي بكتابة هذا البحث، فقد حبب إلي أن أقوم بجولة(786/30)
خاطفة في ميدان التصوف النظري فأطالع الأسفار، وأستنطق السطور، بعد أن أخفقت في ميدان التصوف العملي، فقد أعددت العدة، وسرت خطوة واحد، ثم وقفت كالمقيد المكبول، فلا أستطيع أن أتقدم، ويعز علي أن أرجع حيث بدأت وأنا في الاضطراب والحيرة كأسير أم عمرو الذي قال فيه أحد كبار الهائمين.
سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها ... تحل الأسارى دونه وهو موثق
فلا هو مقتول ففي القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيطلق
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(786/31)
في آفاق حافظ إبراهيم
بمناسبة ذكرى وفاته
للأستاذ حسين مهدي الغنام
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ومن أمثلة سخريته المستترة ما كان بينه وبين شوقي. فقد وقف شوقي بين حافظ وبين القصر كالعارض الضخم، لا يستطيع حافظ أن ينفذ منه إلى صاحب القصر حتى يستطيع أن يصيب بعض ما أصاب شوقي، ولكن شوقياً لم يترك له مجالاً ينفذ منه.
فقد حاول حافظ أن يتملق شوقياً، بل قد تملقه فعلاً، فقال في بعض شعره يمدح الخديوي:
لم أخش من أحد في الشعر يسبقني ... إلا فتى ما له في السبق إله
وفي قصيدته الثانية:
إلى سدة العباس وجهت مدحتي ... بتهنئة (شوقية) النسج معطار
ومنها:
معان وألفاظ كما شاء أحمد ... طوت جزل بشار ورقة مهيار
ويعلل أحمد بك أمين في مقدمته لديوان حافظ هذا البيت بقوله: الظاهر أنه يريد المتنبي بهذا البيت.
ولكني أراه يقصد شوقياًن كما قال فيما تقدم. والسخرية في هذه الأبيات واضحة.
ومن سخريته بشوقيقوله يمدح الخديوي في قصيدة أخرى:
واليوم أنشدهم شعراً يعيد لهم ... عهد النواسي أو أيام حسان
أزف فيه إلى العباس غانية ... عفيفة الخدر من آيات عدنان
من الأوانس حلاها يراع فتى ... صافي القريحة صاح غير نشوان
ما ضاق أصغره عن مدح سيده ... ولا استعان بمدح الراج والبان
ولكنهما تصافيا وتصادقا بعد. . .
والأمثلة على هذا كثيرة لا تكاد تحصى.
4 - شاعر إنساني(786/32)
من الأمثال العجيبة الدارجة في الطبقات المصرية البسيطة قولهم: فلان هذا رجل إنسان!
فتسأل: كيف؟
فيقال: إنك لا تسأله شيئاً ويرفضه مطلقاً. ثم هو دائم الاهتمام بغيرهوبمن هم أقل منه!
وهذا الوصف الصادق السائر بين الطبقات المصرية ينطبق على حافظ إبراهيم في جملته، وإن ابتسم البعض لهذا الوصف الرفيع. . .
فحافظ إبراهيم كان رجلاً (إنساناً) بكل معاني هذه الكلمة.
ولم تقتصر (إنسانيته) أو عطفه على من هم أقل منه فقط، بل شملت من هم أكبر منه، وشملت الأمم والشعوب المنكوبة جميعاً.
وليست إنسانية حافظ إبراهيم في أنه كان دائم الإحسان على غيره، حتى ليجود بكل ما معه لمعدم أو فقير، ولو بقى جائعاً هو نفسه وإنما إنسانيته في العطف على العالم المنكوب، حتى لتراه - مثلاً - يواسي أمه ويعطف عليها ويستدر عطف الغير على هذه الأمة في نكبة ألمت بها، ولكنه يعود في اليوم الثاني فيحمل عليها حملة شعواء لأنها جارت على أمة غيرها أضعف منها، كما سترى في قصائده عن إيطاليا بعد.
ومن المعروف أن حافظاً ذاق البؤس واليأس والجوع والحرمان والتشرد، فهذا مشهور في سيرته.
ولقد قال أبياتاً في هذا المعنى في إحدى قصائده في حفلة رعاية الأطفال:
لم أقف موقفي لأنشد شعراً ... صب في قالب بديع النظام
إنما قمت فيه والنفس نشوى ... من كؤوس الهموم والقلب دامي
ذقت طعم الأسى وكابدت عيشاً ... دون شربي قذاه شرب الحمام
فتقلبت في الشقاء زماناً ... وتنقلت في الخطوب الجسام
ومشى الهم ثاقباً في فؤادي ... ومشى الحزن ناخراً في عظامي
فلهذا وقفت أستعطف الن ... اس على البائسين في كل عام
ولم تكن إنسانيته من نوع إنسانية أبي العلاء المعري الذي يقول:
تسريح كفك برغوثاً ظفرت به ... أبر من درهم تعطيه محتاجاً
فإنسانية أبي العلاء هنا إنسانية متطرفة، هي أقرب إلى السخرية والتهكم منها إلى(786/33)
الإنسانية، فإنه هنا لا يفرق بين الطيب والخبيث، والنافع والضار، وحسبه أن يعطفك على الأضعف منك، رديئاً كان أم جميلاً!
وليست هذه بالإنسانية العليا. . .
أما إنسانية حافظ إبراهيم فإنسانية عليا.
إنه يعطفك على المعوز والمحتاج، ويعطفك على المنكوب والمكلوم، سوء كان ضعيفاً أم قوياً، ولكنه لن يعطفك على الظالم والخبيث.
على أن هذا لا يعني أن أبا العلاء لم يكن شاعراً إنسانياً عالياً في نواحيه الأخرى، فأبو العلاء كان ولا شك شاعراً إنسانياً عالي الإنسانية مرهفها، وهو الذي لم يتزوج حتى لا يجني على أبنائه، ثم قال: هذا جناه أبي علي، وما جنيت على أحد.
ويلتقي حافظ إبراهيم وأبا العلاء في هذه الناحية، وإن كان تزوج لأيام لا تعدو الأربعين، ثم أنفصل عن زوجه، ولكنه يقول:
وددت لو طرحوا بي يوم جئتهمو ... في مسبح الحوت أو في مسرح العطب
لعل (مانيَّ) لاقى ما أكابده ... فود تعجيلنا من عالم الشجب
فحافظ إذن يلتقي مع أبي العلاء في ناحية ويخالفه في أخرى.
قال حافظ في إحدى قصائده في جمعية رعاية الأطفال:
قد مات والدها وماتت أمها ... ومضى الحمام بعمها والخال
وإلى هنا حبس الحياء لسانها ... وجرى البكاء بدمعها الهطال
فعلمت ما تخفي الفتاة وإنما ... يحنو على أمثالها أمثالي
فهو يحس أن له رسالة إنسانية كبرى، تحنو على الفقير والضعيف والمريض.
ويقول في رثائه تولستوي:
ولست أبالي حين أبكيك للورى ... حوتك جنان أم حواك سعير
فإني أحب النابغين لعلمهم=وأعشق روض الفكر وهو نضير
دعوت إلى عيسى فضجت كنائس ... وهز لها عرش وماد سرير
قضيت حياة ملؤها البر والتقى ... فأنت بأجر المتقين جدير
وسموك فيهم فيلسوفاً وأمسكوا ... وما أنت إلا محسن ومُجبر(786/34)
وما أنت إلا زاهد صاح صيحة ... يرن صداها ساعة ويطير
حياة الورى حرب وأنت تريدها ... سلاماً وأسباب الكفاح كثير
أبت سنة العمران إلا تناصراً ... وكدحاً ولو أن البقاء يسير
تحاول دفع الشر والشر واقع ... وتطلب محض الخير وهو عسير
ألم تر أني قمت قبلك داعياً ... إلى الزهد لا يأوي إليَّ ظهير
أطاعوا (أبيقورا) و (سقراط) قبله ... وخولفت فيما أرتئي وأشير
ومت وما ماتت مطامع طامع ... عليها ولا ألقى القياد ضمير
أفاض كلانا في النصيحة جاهداً ... ومات كلانا والقلوب صخور
هذه هي دعوته للحق وتحكيم الضمير والعمل للخير المطلق، بين الناس والأمم جميعاً، لا فرق بين دين ودين، كما قال في حرب طرابلس، مخاطباً البابا:
بارك المطران في أعمالهم ... فسلوه بارك القوم على ما
أبهذا جاء إنجيلهمو ... آمراً يلقى على الأرض سلاماً
ثم أسمعه يقول في زلزال مسينا، بعد أن وصف نكبة الطليان، واستدر عليهم عطف العالم جميعاً.
وسلام على امرئ جاد بالدمع وثنى بالأصفر الرنان
ذاك حق الإنسان عند بني الإنسان لم أدعكم إلى إحسان
فاكتبوا في سماء رجيو ومسين وكالبريا بكل لسان
هاهنا مصرع الصناعة والصوير والحذق والحجا والأغاني
إنه يستعطف بني الإنسان من كل لون وجنس ولسان، وإن كان يقول أن هذا ليس إحساناً، لأنه حق الإنسان عند أخيه الإنسان، وكأنما يثأر حافظ للضعيف هنا، وينتصر للمغلوب، حين ثار الزلزال والبحر فأهلك مسينا وأهلها.
ولكنه في قصيدته عن حرب طرابلس، يحمل على الطليان حملة عنيفة شعواء ويسخر منهم سخراً مراً، ويستعدي عليهم العالم، فما سبب ذلك؟
سبه إنسانيته أيضاً، وانتصاره للضعيف المغلوب.
ومن هذا أيضاً شعره الرثائي، فشعر الرثاء في ذاته من أعلى ضروب الشعر الإنساني!(786/35)
وغير هذا كثير. وهذه أعلى مراحل الإنسانية.
5 - شعر حافظ
من الأقوال المأثورة عن الأسلوب قول سانت بيف، على ما أذكر، ما معناه: إن الأسلوب يعبر عن صاحبه.
أي أنه يعبر عن روحه.
ولقد أمتاز شعر حافظ بأنه يعبر عن شخصيته، أي روحه، تعبيراً قوياً. . .
والمعروف عن حافظ أنه كان شديد المرح في حياته الخاصة، مع أن شعره وأدبه، في مجموعه، كان شعراً وأدباً رزينين جادين.
فكيف نوفق إذن بين ذلك الرأي وهذه الحقيقة؟
وهل كان حافظ ذا شخصيتين مزدوجتين كما قال أحد الكتاب كلا. . .
فإن نفسه الحزينة - التي عرفت الحياة جيداً - سخرت منها سخرية هائلة فأصبحت كما قال المتنبي تتكسر نصالها على نصاله.
والنكتة التي اشتهر بها حافظ كانت ستراً لآلامه وأحزانه وإمعاناً في السخرية من الحياة.
ولهذا برز حافظ في ناحيتين من شعره:
الوطنية والرثاء
ويعلل حافظ نفسه هذا بقوله، عن شعره الرثائي، في قصيدة تحية الشام:
إني مللت وقوفي كل آونة ... أبكي وأنظم أحزاناً لأحزان
إذا تصفحت ديواني لتقرئني ... وجدت شعر المراثي نصف ديواني
وهناك ناحية فنية نحب أن نقرر أن حافظاً كان من أوائل السباقين إلى طرقها والتجلية فيها.
تلك هي الناحية القصصية في شعره.
وإذا كان حافظ لم يسرد قصصاً في شعره بالمعنى القصصي المفهوم، إلا أنه نظم قصائد اجتماعية وطنية نحا فيها نحو القصة بلغ بها الغاية مما أراد. . .
وإذا لم تكن القصيدة التي سماها المنظومة التمثيلية في ضرب الأسطول الطلياني لمدينة بيروت - قصة بالمعنى المألوف، إلا أن له قصائد فيها قصص ساحر بليغ، مثل قصائده(786/36)
في رعاية الأطفال وحرب اليابان، ومراثيه!
ويجمل بنا هنا أن نقف قليلاً نناقش رأي أحمد بك أمين في شاعرية حافظ، في مقدمته لديوانه:
(وقد سلم لشاعرنا من هذه الأمور ثلاثة، قوة العاطفة، وحسن الصياغة، وجمال الموسيقى. وأعوزه أمر منها وهو قوة الخيال.
(فأما عاطفته فقوية فياضة، وأكبر مظهر لقوتها إثارة نفس السامع والقارئ، فما يسمع شعره سامع، ولا يقرؤه قارئ إلا توثبت نفسه، وهاجت مشاعره، وعواطفه صحيحة لا مريضة والعاطفة الصحيحة هي التي تدعو لأن تكون حياتنا أسعد وأقوى الخ. . .
(وأما خياله فكان مع الأسف - خيالاً قريباً - قلل حظه من الابتكار، وقلل حظه من التصوير، قصر خياله عن أن يغوص في باطن الشيء فيصل إلى مكان الحياة منه، ثم يخرجه إلى الناس كما يشعر به، وقصر عن أن يحلق في السماء فيصور منظراً عاماً يجذب النفوس إليه)
ثم ضرب مثلاً قصيدته في مدح البارودي وقصته في ضرب الأسطول الطلياني لمدينة بيروت.
إن حكم الأستاذ أحمد أمين على عاطفة حافظ وحسن صياغته وجمال موسيقاه حكم صحيح:
ولكن حكمه على خيال حافظ، حكم مرتجل يحتاج إلى (نقض) وهو أشبه بالرأي الفطير، لا يقبل صدوره من رجل كالأستاذ أحمد أمين:
لقد قلنا عن قصيدته في ضرب الأسطول الطلياني لمدينة بيروت أنها ليست بمستوى شعر حافظ، مع أن لها ما يبررها، ولكن لا يصح أن نأخذها مقياساً لشعره وسنداً نحكم بمقتضاه لحافظ أو عليه.
وإذا كان أحمد بك يقصد من الخيال القصة بمعناها الصحيح فليست كل القصص خيالاً، وإن كان حافظ نحا نحواً قصصياً في بعض قصائده كما قدمنا.
ورب بيت واحد من الشعر فيه من الخيال أروع قصة!
فإذا تركنا (هذه القرينة) التي أتخذها أحمد بك أمين سنداً لإدانة شاعرية حافظ بالقصور والضحولة، وفتحنا ديوانه لنقرأ أي قصيدة فيه، راعتنا منه خطرات موغلة في الخيال(786/37)
البعيد، ولنأخذ مثلاً باب (الوصف) من ديوانه، كما قسمه أحمد بك أمين نفسه.
فاقرأ له وصف كساء، حيث قال مرتجلاً:
لي كساء أنعم به من كساء ... أنا فيه آتيه مثل الكسائي
حاكه الغر من خيوط المعالي ... وسقاه النعيم ماء الصفاء
وقصائده في الشمس، والسيف، والمدفع، وليلة عيد الجلوس، وزلزال مسيناً، إذ قال:
إذا سرت يوماً حذر النمل بعضهم ... مخافة جيش من مواليك يخشاه
أو حتى قوله المفحش في الهجاء، الذي لم يثبته أحمد بك في ديوان حافظ:
أخس من دب على ظهرها ... ودبت الناس على ظهره!
بل أفتح ديوانه وأقرأ ما يقع عليه نظرك وتمعن فيه، سواء كان سياسياً أم اجتماعياً أم رثاء أم في أي غرض آخر. . .
فلعل الخيال الذي يقصده أحمد بك أمين إذن هو التغني بجمال الطبيعة. أو الغزل وهم الضربان من ضروب الشعر اللذان تخلف فيهما حافظ، لأنه منصرفاً إلى ناحيتين أساسيتين في شعره هما شعره السياسي، وشعره الإنساني النزعة.
على أن التغني في جمال الطبيعة بحد ذات ليس خيالاً كله!
وناحية أخرى في شعر حافظ.
تلك هي براعته في اختيار اللفظ، وفي تحديد المعنى الذي يريده، وفي التصوير.
ومن أقرب الأمثلة على ذلك قوله إلى روزفلت، التي لم تذكر في ديوانه أيضاً:
إنما شوقها لقولك يا روزفلت شوق الأسير للتحرير فما هي أعلى مراحل الشوق عامة؟
أن أعلاها هي بلوغ المشتاق ما يريد.
ولقد حدد حافظ مراحل الشوق وأهدافه في هذا الموضع - بكل هذه البساطة، فهو شوق الأسير للتحرير، والمصريون يشتاقون لسماع قول روزفلت حتى يدافع عن حرية هذا الشعب، الذي شبهه بالشعب الأمريكي، أيان احتلال الإنجليز له!
وهذا أبلغ ما يمكن أن يقال في مثل هذا الموضع.
ومثل قوله عن الإنجليز وسعد:
النسر يطمع أن يصيد بأرضنا ... سنريه كيف يصيده زغلول(786/38)
6 - حافظ الكاتب:
عرف حافظ كاتباً أيضاً، وقد أتسم نثره بالبلاغة والمحسنات اللفظية والبديع، ولكن نثره لم يكن في مستوى شعر.
ولقد ترجم بعضاً من البؤساء لفكتور هيجو، عني فيه بالأسلوب، فتكلف، ولكن أحدث بهذا الكتاب أثراً محموداً في الصحف وفي الترجمة على الأخص، إذ وجه إليها أنظار الكتاب الذين يعرفون لغات أجنبية.
وألف كتاب ليالي سطيح، وهو أحسن كتبه النثرية وقد عني فيه بالأسلوب أيضاً، ولكنه حمل فيه حملة اجتماعية وفكرية ووطنية، لعلها أحدثت بعض الأثر المطلوب في إبانها!
وله كتاب في الاقتصاد السياسي، بالاشتراك مع آخر.
وكتاب في الأخلاق.
وإذا كان نثر حافظ، كما تقدم، في مستوى أقل من شعره إلا أن فيه ما يجل تن يصان كتراث لشاعر عظيم فقدناه، وكاتب مجاهد يجب أن تخلد جميع آثاره، فتبقى أثراً حياً بيننا، وإن كان مثله لا يمكن أن ينسى، فكلما مر عام أحست مصر وشقيقاتها العربية مرارة فقده، بحاجتها الملحة إليه، فهو كما قال حافظ نفسه في صديقه شهيرين:
مضيت ونحن أحرج ما نكون ... إليك فمثل خطبك لا يهون
هذه عجالة من آفاق شاعرنا حافظ إبراهيم.
وسنعود إليه في مناسبات أخرى، لنوفيه حقه من الدراسات.
حسين مهدي الغنام(786/39)
عتاب شاعر
طرقت بابك يا صاحب الرسالة حتى كلت كفاي، وقدمت بين يديك نخبة من أشعاري، فكان نصيبها الإهمال؛ وما زال يعاودني حنين إلى طرق بابك من جديد، ولكن اليأس أخذ على كل سبيل. وبين ثورة الحنين وهدأة اليأس، أخذ لساني يتمتم بهذه الأبيات:
ما بياني؟ لقد نكرت بياني ... وعراني من أمره ما عراني
قال لي صاحبي: بيانك فجر ... يبسط النور في الصوى والمغاني
كم نهبت الأسرار من عالم الغي ... ب وصوتها دُمى للعيان
فلسفي الحطْرات محتدم القل ... ب نزوع إلى شموس المعاني
ولك العالم الرحيب بجني ... ك ودنيا الهوى ودنيا الأماني
أن تعش حائل الرواء كئيباً ... ناكس الرأس دائم الأحزان
فلمن تبسم الحياة وتبدي ... عبقرياً من وشيها الفتان
إنها غادة تَبرج للنا ... س لتحظى باللحظ من فنان
انفض النوم من جناحك وانهض ... وازحم الطير في ذرى الأفنان
أنت شبابة الحياة على الأر ... ض فهدهد شعابها بالأغاني
قلت: دعني فقد نكرت بياني ... وعراني من أمره ما عراني
طاش سهمي لدى (الرسالة) ... بالأمس وأضحى قريبها غير دان
كان حلماً فبادرته الليالي ... كاشرات فمات في العنفوان
وهو صرح من الأماني بنينا ... هـ قوياً بالروح والوجدان
أرعشت سفحة الرياح اللواتي ... زلزلتني وطوحت بجناتي
في خضم الظنون والزبد الطا ... في تهاوت بزورقي موجتان
موجة اليأس ترتمي في مداها ... موجة الشك في سمو بياني
أين يا قائد الشباب إلى المج ... د طريقي وأين منه مكاني
أين يا باعث الطموح من الشر ... ق جناحي فقد مللت هواني
جئت أشكو إليك نفسك فاسمع ... ني فإنا يا ظالمي أخوان
أنت أيقظت بالروائع إحسا ... سي ففاض المستور من أشجاني
رضت بالفن مهجتي فتسامت ... عن قيود الدنى وسجن الزمان(786/40)
فاغترفت الرحيق من حانة النف ... س طروباً وصحت بالندمان
موعدي منكم (الرسالة) يا قو ... م فبشرى بالري والإدمان
واستبقت الصباح أحمل أحلا ... مي جميعاً وفرحتي ودناني
جئت للمرهف الشعور بأشعا ... ري ووجدي للموقط الوجدان
ثم كان الذي علمت من الأمر ... وكان القضاء بالحرمان
هل أرقت الدنان يا مسكر الشر ... ق بآي نورية التبيان؟!
وأذبت الأحلام والفرحة ال ... كبرى دموعاً موصولة التهتان
هل من العدل أن تداس أناشي ... دي وتلقى في علام النسيان؟
وهي من نورك المفاض نجوم ... وهي زهر من روضك الفينان
لا أراني دون اللذين أقاموا ... دولة الشعر من بني عدنان
سل إذا شئت من أردت من النا ... س وسائل صحائف السودان
والجموع التي تخف إلى صو ... تي وسائل منابر المهرجان
يشهد النيل ذو النضارة والمج ... د ورب الوثبات والإحسان
والهزار الذي يرف بواديه ... ويشدو في شطه النعسان
عندما ترقد السكينة في المو ... ج وتسري الأحلام في الكتبان
ينكر الفن والحياة أبا الفن ... وحسبي أن تستخف بشأني
أين أين الحنان واحسراتاه ... من بني الإحساس والوجدان؟
محمد محمد علي السوداني
الطالب بكلية دار العلوم
و (الرسالة) تعتب الشاعر المجيد، وترجو أن تظفر منه بمثل هذا القصيد.(786/41)
الفاروق في أرض السلام
(فاروق) مجدت الجهاد بآية ... هزت فؤاد الشرق من إعجابه
زرت المجاهد في عرين جهاده ... فشحذت من عزماته وحرابه
أبرأت أوجاع الجريح فلم يعد ... يشكو بما قد ناء من أوصابه
وجعلت تسأل عن شهيد قد فدى ... أرض السلام بروحه وشبابه
في كل حصن آية أبدية ... من صنع جيشك خطها بحرابة
ما أوقف الفولاذ أبطال الحمى ... هم نسل (فرعون) ومن أصلابه
اليوزباشي جمال الدين حماد
المدرس بالمدرسة الحربية الملكية(786/42)
الأدب والفن في أسبوع
الكاريكاتور في الأدب:
كتب الأستاذ توفيق الحكيم في العدد الأخير من أخبار اليوم، مقالاً بعنوان (الجاحظ والكاريكاتور) قال فيه إنه كان يقرأ في كتاب (التربيع والتدوير) للجاحظ، فخيل إليه أنه يصنع فناً طريفاً في زمانه دون أن يدري، وأني بوصف الجاحظ لرجل يعرفه جسم فيه عيوبه تجسيماً (كاريكاتوريا) بالنثر، وأتى ببيتين لابن الرومي من هذا اللون الكاريكاتوري، ثم قال: (وهكذا زاول العرب فن الكاريكاتور شعراًونثراً. . حيث لم تتح لهم الظروف أن يزاولوه رسماً ونقشاً. . كل شئ خطر على بال عبقريتهم. وأنهم ليعوضون دائماً ما يفوتهم في جانب بالإجادة في جانب آخر. . قانون التعويض الطبيعي كان رائدهم الخفي في حضارتهم. . . حضارة كاملة شاملة أبى الغرب الظالم المجحف أن ينظر إليها بعين التقدير والتوقير).
ويذكر قراء الرسالة ما كتبته عن محاضرة الأستاذ كامل كيلاني (الكاريكاتور في الأدب العربي) التي ألقاها بدار الاتحاد النسائي منذ شهور، ثم محاضرته (الكاريكاتور في شعر ابن الرومي) التي ألقاها بعد ذلك في كلية الآداب بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية. وأذكر أنه أفضى إلي عقب المحاضرة الأولى بقوله: كان بعض الغربيين ومن يحاكيهم يعيبون الأدب العربي بالمغالاة، وهذا هو نوع من المغالاة نراه مطابقاً في التعبير لطريقة فن من الفنون الحديثة.
فمن الأنصاف وتسجيل الحقائق أن يذكر سبق الأستاذ كامل كيلاني في هذا المجال.
أسماؤنا والنحو:
حضرت يوم الخميس الماضي مناقشة رسالة بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول، قدمها طالب من قسم اللغة العربية بالكلية للحصول على درجة (الماجستير).
ومن طريف المآخذ التي وجهت إلى الرسالة، أن الأستاذ مصطفى السقا أحد أعضاء لجنة المناقشة طلب من مقدم الرسالة أن يعرب تركيباً ورد فيها أوله (أن الأستاذ أمين الخولي. . .) ويقصد الأستاذ كلمة (أمين) يريدها متصوبة منونة مرسومة بالألف. . .
ويذكرني هذا باعتراض وجهه معقب لغوي منذ سنين بجريدة الأهرام إلى المرحوم الشيخ(786/43)
حسين والى، لأنه كتب مقالا وقعه باسمه هكذا (حسين والى) وكان عليه - كما رأى المعقب اللغوي - أن يكتب (وال) دون ياء.
ولو تنبه مقدم الرسالة إلى اسم الأستاذ مصطفى السقا لاعترض عليه - جزاء وفاقا - لقصر الممدود فيه وهو (السقاء) من غير ضرورة.
تصور أننا تعقبنا كل أسمائنا العصرية بمثل ذلك، وخاصة لخلوها من كلمة (ابن) ما عدا (عبد الرحيم بن محمود)! تصور فقط. . .
السجل الثقافي:
يعلم قراء الرسالة أن وزارة المعارف أنشأت في العام الماضي إدارة التسجيل الثقافي لإخراج سجل ثقافي سنوي يحوي مظاهر النشاط الثقافي في عام.
والإدارة الآن تعمل في إعداد أول عدد من السجل، وهو الخاص بسنة 1948 الحالية، وقد أتمت قسما منه يشتمل على بيان النشاط الثقافي من أول السنة إلى آخر بونية الماضي، وتتخذ الإجراءات الآن لطبع هذا القسم، على أن يكون في ضمن السجل العام الذي يصدر في أوائل سنة1949 عن سنة1948 كلها.
ويحتوي القسم المنجز على إحصاء للكتب المؤلفة والمترجمة في مصر سنة1947، وبيانات وافية للتأليف والترجمة والصحافة ودور النشر والهيئات الثقافية والمحاضرات العامة وأحاديث الإذاعة والمؤتمرات والمسرح والسينما، وغير ذلك من الشئون الثقافية، عن الفترة الماضية من السنة الحاضرة.
ويؤخذ من تلك البيانات إنه قد صدر بمصر في خمسة الشهور الماضية 217 كتاباً مؤلفاً منها 50 في الأدب، و41 كتاباً مترجماً منها 19 في الأدب. ورقم الأدب في كل من التأليف والترجمة أكبر الأرقام.
بين قصيدتين:
أشرت فيما مضى إلى قصيدة الأستاذ علي الجارم بك التي قالها أخيراً في (فلسطين) وألقاها بالمذياع. وقد تناولت أحاديث المجالس هذه القصيدة مشيرة إلى قصيدة شوقي المعروفة بالأندلسية والتي مطلعها:(786/44)
يا نائح الطلح أشباه عوادينا ... نأسى لواديك أم تأسى لوادينا
وذلك لاتحاد القصيدتين في الوزن والقافية، وفيما هو أكثر من الوزن والقافية، ومن ذلك قول الجارم:
عشنا أعزاء ملء الأرض ما لمست ... جباهنا تربها إلا مصلينا
فقد قال شوقي في أندلسيته:
لفتية لا تنال الأرض أدمعهم ... ولا مفارقهم إلا مصلينا
الجامعة والمؤسسة:
صدر أخيراً قرار بتغيير اسم الجامعة الشعبية إلى (مؤسسة الثقافة الشعبية) ووجهت إدارتها العامة إلى مناطق التعليم المختلفة والمعاهد الثقافية الإقليمية كتاباً أشارت فيه إلى ضرورة مراعاة ذكر الاسم الجديد في المكاتبات الرسمية بدلاً من. (الجامعة الشعبية)
وأنا لم أفهم حكمة هذا التغيير، ولم استسغ الاسم الجديد. لقد كان الاسم الأول عذباً مغرياً، فقد كان الطالب يقول إنه ذاهب أو آيب من الجامعة وهو معتز مسرور بالفرصة التي أتيحت له إشباع رغبته فيما يميل إليه من أنواع الثقافة.
أما الآن فهو ذاهب إلى المؤسسة وعائد من المؤسسة وحدث كذا في المؤسسة! اسم ثقيل ولا معنى له، لأن الشيء المؤسس هو الذي جعل له أساس وهو أصل البناء، فكيف تصح هذه التسمية؟ وعلى أي (أساس) تقوم؟
وما عيب الاسم الأول وقد كان حسن اللفظ والدلالة؟ يبدو أنهم ضنوا على (الشعبيين) أن يشركوا (الجامعيين) في الاسم. أو لم تكن تكفي الصفة للتفريق؟
العربية تصارع:
لاحظ أعضاء لجنة تقدير درجات اللغة العربية في امتحان الشهادة الابتدائية بالدقهلية، إن ظروف أوراق الإجابةالتي ترد إليهم من لجنة مراقبة الامتحان تستخدم في بياناتها الحروف والأرقام الإنجليزية لتمييز المجموعات، كما أن الترقيم على أوراق لإجابة بهذه اللغة أيضاً، وكذلك ترقيم بطاقات التلاميذ. وقد كتبوا بذلك إلى مراقب منطقة التعليم منبهين إلى أن هذا غير لائق والى وجوب تداركه في المستقبل.(786/45)
والواقع أن هذه التصرف عجيب، فهو مخالف للرسميات التي تقضي باستعمال اللغة العربية، وهو مناف للكرامة القومية، وأنا أريد أن أسأل هؤلاء الذين تجري أيديهم بالحروف والأرقان الإنجليزية دون العربية على الظروف والأوراق والبطاقات: هل يمكن أن يكتب إنجليز عل أوراق امتحاناتهم بالعربية؟ والجواب لا قطعاً لأنهم يحترمون أنفسهم ويشعرون بذاتيتهم.
يظهر أننا لسنا محتاجين إلى الجلاء عن الأراضي فحسب، بل نحن في حاجة أيضاً إلى الجلاء عن بعض العقول!
ذكرى حافظ:
تقع هذا الأسبوع ذكرى شاعر النيل حافظ إبراهيم، فقد نعى في الواحد والعشرين من يوليه سنة 1932، فهذه الذكرى هي السادسة عشرة. وقد جرينا على عدم الاهتمام بذكرى شعرائنا وأدبائنا، ومن نهتم به لا نحتفي بذكراه الاحتفاء اللائق.
ولم يبد إلي الآن ما يدل على الاهتمام بذكرى حافظ؛ وقد كانت محطة الإذاعة تحيي ذكراه بأن (يغرد) أحد مذيعيها بعض أشعاره. . . ولكنها في هذا العام نسيته نسياناً تاماً.
حافظ وشوقي:
وقد أخرج - في هذه المناسبة - الأستاذ حسن كامل الصيرفي كتابه (حافظ وشوقي) الذي درس فيه الشاعرين دراسة مقارنة فصل فيها القول في النواحي التي اشتركا فيها أو تقاربت صورة المشاركة، فتحدث عن ديباجة الشاعرين، وثقافتهما، وشعرهما السياسي، والطبيعة في شعرهما، والمرأة وأثرها في كل منهما؛ وصدى الحوادث عند الشاعرين، كحادثة دنشواي، ووداع كرومر، ووفاة مصطفى كامل؛ وأثر التاريخ المصري القديم والتاريخ الإسلامي في شعر كل منهما، وما إلى ذلك من الموضوعات التي طرقها الشاعران.
أكاديمية العلوم التاريخية:
تلقت وزارة المعارف من رئسي مكتب البعثات المصرية بلندن، نص الكتاب الذي أرسله إليه رئيس لجنة المراجع في أكاديمية العلوم التاريخية، وفيما يلي ترجمة هذا الكتاب:(786/46)
في الجلسة الأخيرة للجنة المراجع التي عقدت بباريس تحت إشراف اليونسكو، اتجهت الرغبة إلى أن تحوي نشراتنا قائمة موجزة أو بياناً مفصلاً للمخطوطات العربية الموضوعة في تأريخ العلوم. .
وقد طلب إلى أن أكتب إليكم لأسال عما إذا كانت حكومتكم ستوفد أحد الباحثين ليقوم بهذا العمل. وينبغي أن تعلموا أن قائمة المخطوطات الموضوعة في تأريخ العلوم باللغة اللاتينية واليونانية في بريطانيا العظمى وأيرلندا، والتي كتبت قبل سنة 1500، توجد الآن في المتحف البريطاني تحت أيدي الطلاب، كما توجد أشرطة سينمائية لهذه القائمة في معهد واربورج والمبنى الإمبراطوري بلندن ومكتبة الكونجرس بواشنجتون.
وليس من شك في أنه لو استطاعت حكومتكم أن تتعاون في هذا العمل الآخذ الآن في الانتشار بالبلاد الأوربية الأخرى فإن المراجع العربية الموجودة في مكتباتكم سوف تضم إلى الكثير من الكتب التي لا تعرف الآن إلا في اللغة اللاتينية.
فلم فلسطين:
انحت باللائمة في الأسبوع الماضي على السينمائيين المصرين، لأننا لم نشاهد إلى الآن بإحدى دور السينما مشاهد المجد العربي في فلسطين على الشاشة البيضاء ويسرني أن أذكر اليوم أن استديو مصر يعمل الآن في إعداد فلم كبير تعرض فيه مناظر الحرب الفلسطينية، وكان قد أوفد بعض الفنانين إلى ميدان القتال لتسجيل هذه المناظر. وستكون حفلة العرض الأولى في سينما استديو مصر يوم 27 يوليو الحالي. وقد رأت وزارة الشئون الاجتماعية ألا يقصر عرضه الأول على هذه الدار، فتقرر عرضه في ست دور للسينما بالقاهرة في وقت واحد، كما يعرض في نفس الوقت ببعض المدن الأخرى، وذلك لتتسنى مشاهدته لأكبر عدد ممكن من المصريين في القطر كله.
من طرف المجالس:
حضر المجلس جزار بالقاهرة معروف بميله إلى غشيان مجالس الأدب والفن، وجرت مناقشة أدبية أقحم نفسه فيها، فقال له أحد الأصحاب:
- مالك وللأدب. . . أما يكفيك الحم والكبد والطحال؟(786/47)
فأجابه على الفور:
- ألا تعلم أن هذه هي المعلقات.
تعريف للفلسفة:
عرف الفلسفة كاتب ساخر بقوله:
الفلسفة هي البحث ليلاً عن قط في حجرة مظلمة ولا قط في الحجرة.
العباس(786/48)
رسالة النقد
أين المفر
تأليف الأستاذ محمود حسن إسماعيل
بقلم الأستاذ أنور المعداوي
شاعر. . . كلمة أقولها بكل ما يحويه مدلولها من معان يدخل فيها الطبع، والموهبة، وسعة الأفق، وقدرة الجناحين على التحليق؛ أقولها أنا عن صاحب هذا الديوان حين يطلقها غيري على كل ناظم، وكل ناحت، وكل مصنوع.
قرأت له أكثر ما قال من شعر إن لم يكن كل ما قال، وفي هذه الفترة الطويلة بين إنتاجه الأخير لم يتغير رأيي فيه. . لقد ظل على مستواه من الشاعرية التي صقلها الطبع وشحذها التأمل، وغذاها الخيال؟، ونحن حين نقرر هذا كله، تقرره بميزان الوعي الفني؛ الوعي الذي تعينه مقاييس الذوق والفن على تحديد الأوضاع والقيم.
ولا بد من وقفة قصيرة عند تلك الكلمة التي قدم بها الشاعر لديوانه، وعرض فيها للشعر العربي الحديث في شتى فنونه وألوانه وكيف تعددت هذه الفنون والألوان على أيدي أصحابها من الناظمين والشعراء.
وكيف تباينت مصائرها تبعاً لما ينال المعادن الشعرية زيف في الفن أو أصالة؛ وقفة قصيرة لأقول للشاعر إنني كنت أود ألا تظهر تلك الكلمة كمقدمة لديوانه، حتى لا يتهمه النقاد بأنه، اكتبها إلا تزكية لشعره وانتصافاً لنفسه. . . على الأستاذ محمود حسن إسماعيل أن يقدم لنا شعره لنحكم له أو عليه، ولا يحق له بعد ذلك أن يقيم الميزان لنفسه ولغيره في الوقت الذي يقدم فيه إلى النقاد عملاً من أعماله الفنية!
هذه لفتة أسجلها قبل أن أمضي في عرض شعره، وقبل أن أقول إننا نعاني تخمة في الشعر وأزمة في الشعور. . . إن نظرة واحدة إلى ما تخرجه المطبعة من دواوين الشعر في هذهالأيام؟، تنتهي بك إلى الإيمان بهذا الحكم؛ الأيمان به كحقيقة ملموسة، ونظرة فيها التذوق والتمعن تسلمك إلى حقيقة أخرى هي أنك لو رحت تبحث وسط هذه التخمة الشعرية عن آثار أدبية ترضي الفن حين تحفل بصدق الشعور، لما وجدت غير ثلاثة(786/49)
دواوين هي (أين المفر) لمحمود حسن إسماعيل و (طفولة نهر) لنزار قباني و (الشروق) لحسن كامل الصيرفي؛ ونظرة فيها التأمل والنفاذ تقنعك بأن أزمة الشعور عند الكثرة الغالبة من شعرائنا مرجعها إلى أن التجربة النفسية قد تمر بهم فكأنما تمر بفراغ موحش لا تلقى فيه إلا مجموعة حواس معطلة، لا تستجيب لأحداث النفس والحياة.
أترك هذا لأسجل ظاهرة تلفت الحس الفني عند قارئ هذا الديوان، أقصد القارئ المتذوق لا القارئ العجلان. . . وهي ظاهرة تتركز في الحركة النفسية التي تشيع في الكثير الغالب من قصائده؛ هذه الحركة النفسية هي (المرصد) الذي يتلقى (الهزات) الشعورية من هنا وهناك ثم (يسجلها) في بيت من الشعر أو أبيات. . . هذه الهزات متفرقة ثم متجمعة تنصهر في بوتقة الوجدان النابض لتضع بين يدي الناقد نموذجاً كاملاً للشاعر الإنساني. . .
محمود حسن إسماعيل في (أبن المفر) مثال صادق لهذا الشاعر، ولست أجد في وصف فنه خيراً من تلك الكلمات التي قلتها من قبل عن الفن الإنساني، وهو أن يكون الفن انعكاساً صادق من الحياة على الشعور، وأن يكون الشعور مرآة تلتقي على صفحتها النفس الإنسانية في صورتها الخالدة بكل ما فيها من اشتجار الأهواء والنزعات. . . هنا تتحقق المشاركة الوجدانية التي تتمثل في ذلك التجاوب الروحي بين الفن وصاحبه، وبين الفن ومتذوقه، وبين الفن والإنسانية بكل ما فيها من اختلاف الصور والألوان.
الشاعر الإنساني هنا يقف من وراء هذه الأبيات، وأن شئت فقل من وراء هذه الأنات. . . في (أغاني الرق):
ألقيتني بين شباك العذاب ... وقلت لي غن
وكل ما يشجي حنين الرباب ... ضيعته مني
وهذا جناحي صارخ لا يجاب ... في ظلمة السجن
ونشوتي صارت بقايا سراب ... في حانة الجن
أواه يا فني
لو لم أعش كالناس فوق التراب!
جعلت زادي من عويل الرياح ... وغربة الطير(786/50)
ومن أسى الليل ووجد الصباح ... وشهقة النهر
وسقتني ظمآن بين البطاح ... إلا من السحر
وقلت لي رفرف بهذا الجناح ... واشرب من السر
والسر في صدري
قيدت ساقيه بتلك الجراح!
هذه كلمات شاعر ينظر إلى الحياة من خلال (عدسة) فكرية مكبرة، تكشف الطريق إلى كل خفي من شعاب النفس، وكل تعريجة في منعطف الشعور هي كلمات فنان وأن شئت فقل كلمات إنسان؛ واستمع مرة أخرى لخفقة من خفقات القلب الإنساني، في لحظة من تلك اللحظات التي تمر لكل نفس ألهبتها سياط العذاب، وألهمتها فلسفة الحرمان. . . هناك في (مقابر السحر):
وهفا بالنفس ما يهفو بغصن في يد الإعصار يعول
ثم قالت كيف عن دمعي ومنك الدمع يا حيران تسأل؟
أن أكن فيك سكنت الجسم والجسم تراب يتنقل
فأنا طير بعرش الله لي عش، وبستان، وجدول
إنما أبكي لهذا القفص الداجي الكئيب المتململ
لم يجد أي عزاء في وجودي. . . كيف يغدو حين أرحل؟!
ولما طال المسير بشاعر الإنسانية، آمنت دموعه وكفر جفنه، ومن التقاء الكفر بالإيمان انبعث الهتاف الملتاع، وانطلقت الزفرة المحرقة، في طريقهما إلى الله. . هناك في (التراب الحائر).
رباه! ما أنا؟. . . هل وجدت على زمان الناس سهواً!
سويتني روحاً تمرد، لا يطيق الأرض مثوى
وأنا التراب! فكيف صرت هوى وتعذيباً وشجواً!
شرفات غيبك لا يتحن لغير من يبكي دنوا
وأنا إليك ذرفت أيامي فزاد دمي عتوا
ووقفت أحفر للجراح طريقها. . . فتعود شدوا!(786/51)
ونقلة أخرى تقف بنا عند ظاهرة أخرى لا تقل عن الأولى استئثاراً باهتمام الناقد ولا إثارة لملكته الناقدة، ونعني بها ظاهرة الرمزية في شعر الأستاذ محمود حسن إسماعيل. . . هذه الرمزية هي التي تدفع بعض الناس إلى وصف شعره بغموض العبارة حيناً وجموح الخيال حيناً آخر؛ والحقيقة التي نقررها أنه لا غموض هناك ولا جموح، وإنما هو عجز العجالي عن التحقيق في أفق الشاعر، وقصور احساساتهم عن التجاوب والجو النفسي الذي عاش فيه، ذلك لأن الرمزية هنا تأتي مطبوعة لا مصنوعة، وأصيلة لا مقصودة. . . الرمزية المطبوعة هي أن يعبر الفنان عن طريق المعنويات، أما الرمزية المصنوعة هي التعبير عن الماديات بما وراء المعنويات، وفي هذا اللون الأخير من الرمزية يكون السخف والدجل والتضليل!
الرمزية في شعر هذا الشاعر تصدر عن منبعين أصيلين: التأمل العميق المنعكس من الحياة على النفس وهو ما يعبر عنه يا (الاستيطان النفسي)، وهذا هو المنبع الأول. . أما المنبع الثاني فهو (الفيض الشعوري) المنبعث من قوة الشخصية الشعرية أو رحابة الحقل الشعري؛ ومن هنا تطغي التهويمات الروحية التي تصبغ الشعر بصبغة الرمزية الأصيلة لا الرمزية المتكلفة، تلك التي لا تهدف إلا إلى الغموض والإبهام! استمع له يقول في (العزلة):
صلت بها عيدان ... لا تعرف الأديان
واستغفرت أغصان ... لكن بلا ذنب
خميلها حران ... ونبعها ظمآن
وصمتها ولهان ... شوقاً إلى الغيب
تفجرت أنهار ... فيها من الأسرار
يجري بها إعصار ... في عالمي الرحب
وهذه أنفاس ... في صمتها الوسواس
تدق كالأجراس ... في معبد القلب
وهذه حيات ... تسعى من الساعات
كأنما الأوقات ... غاب نما قربي(786/52)
هنا لون من الرمزية لا يعجزك فهم مراميه حين تلقاه بشيء من الرويه وإمعان الفكر. . . كل ما في العزلة من خلجات النفس وخفقات القلب وهزات الشعور، تلك الانعكاسات المادية المحسة قد عبر عنها في هذه الأبيات بأشياء معنوية؛ (فالعيدان المصلية) بلا دين، و (الأغصان المستغفرة) بلا ذنب، و (الأنهار المتفجرة) من الأسرار، و (الأنفاس الصامتة) التي تدق كأجراس في معبد القلب، و (الحيات الساعية) من الساعات، كل هذه المعنويات التي تنبع من العقل الباطن يمكنك أن تردها إلى وقع العزلة على العقل الواعي؛ ذلك الميزان الشعوري الذي يسجل ما في الوحدة من مظاهر الرهبة والصمت، والرغبة في اختراق حجب الغيب، وبطئ النقلة في خطوات الزمن، وامتلاء الجو بالأسرار، واستجابة الوجدان لدعاء مجهول يوحي بالتعبد والصلاة. . .
وبمثل هذا التطبيق ينجاب ذلك الغموض الذي يطالعك في بعض قصائد الأستاذ محمود حسن إسماعيل حين تلقاه هنا أو تلقاه هناك. . في (عرفت السر) و (نهر النسيان) و (الخريف) و (جلاد الظلال) هاتان ظاهرتان أو ناحيتان؛ ويبقى أن نسجل ناحية أخرى لها وزنها عند الكلام عن الفن التصويري في الصياغة الشعرية، هذه الناحية تتمثل في الربط بين أجزاء الصورة الوصفية تتمثل في الربط الشعوري كما تتمثل في الربط التعبيري. . . ومن اتصال هذا بذاك، ومن التوفيق في اختيار الزوايا وتحديد النسب تكتمل الوحدة الفنية التي تخلق من الصورة الكاملة لوحة نابضة تتناسق فيها الجزيئات في نطاق المدركات الحسية والنفسية. . . هذه الظاهرة تستطيع أن تلمسها في (الشك) و (نشيد الأغلال) و (خمر الزوال) و (المعبد المرجوم) و (الانتظار)، وتعال نستمع له وهو يصف لحظة من لحظاته:
انتظر هنا. . . وطال انتظاري ... وهي في أعيني التفات وذعر
وسؤال لكل شيء حوال ... ي وإيماءة لكل طيف يمر
وانتباه، وغفلة، وربيع ... وخريف، وشيب زهر وعطر
وجناح يهفو، وآخر يهتاج وم ... ن بين ما يرفان طير
وأنا سبسب توهج منه ... لخطاها أيك رطيب وزهر
وهي لا أقبلت ولا عاد منها ... لشقائي بعودة الكأس خمر(786/53)
هذا هو الشاعر الإنساني، وشاعر الرمزية المطبوعة، وشاعر الصورة لوصفية الكاملة، فما هي الفجوات الشعرية التي يتعثر فيها الناقد ولا يستطيع المضي في طريقه دون أن يشير إليها؟.
هي فجوات قليلة ولكنها تعترض سالك الطريق على كل حال؛ يجدها في غلبة اللفتات الذهنية حين تخمد الومضات الروحية. . هناك في (اللحن المقهور):
ليتني كنت رياحاً ... تهتف الآباد منها
أنا أهواها ولكن ... رغم أنفي لم أكنها
أنظر إلى هذا التعبير النثري في قوله (رغم أنفي). . . ألا تشعرها هنا بشيء من الهبوط في الإحساس بالجو الشعري؟! إن هذا التعبير في رأيي يصلح لمقالة من المقالات لا لبيت من الأبيات.
واستمع له مرة أخرى حين يقول في (أغاني الرق):
يا سارق القوت نزعت الحجاب ... عن هذه اللقمة
ما كنت أدري فتكها بالرقاب ... أو أنها نقمة
والجوع أن صاح يصيح الخراب ... وتصعق الأمة
ألا توافقني على أن أفق الخيال في البيتين الأول والثاني أفقشاعر، وأنه في البيت الثالث أفق ناثر؟. . .
وأن القالب الشعري في قوله: (وتصعق الأمة) تصبغه صبغة الخطب المنبرية أكثر مما تصبغه صبغة التهويمات الروحية؟
واستمع له مرة ثالثة حين يهتف في (الرداء الأبيض):
عشقت فيك الحزن والسوادا ... وسمرة الخدين والحدادا
وجد ولا تحت الدجى تنادي ... يا ساقي الحب أغث لي وجدي
وهنا أيضاً يصدمك هذا التعبير (أغث لي وجدي). . . إنه هتاف ينبعث من قريحة اعتراها الهمود بعد وهج التوقد وحرارة الانفعال!
وتأمل مني هذه الصورة الوصفية لوقدة القيظ ولفح الهجير:
وألسنة بيض لهن رطانة ... بمثل لغاها كاهن لم يتمتم(786/54)
كأن عفاريت الظهيرة طنبوا ... خياماً على هذا البساط المضرم
إن الصورة هنا تبلغ القمة وتصل إلى مدى الإبداع، ولكن كلمة (عفاريت) قد أفسدت ألوانها الزاهية!
هذه المآخذ التي تنتثر في مواضع قليلة من (أين المفر)، لا يمكن أن يخلو منها أثر من الآثار الفنية. . .
وأعود فأقرر أن هذا الديوان يثب بالشعر العربي الحديث وثبات قل أن تجد لها مثيلاً في ديوان آخر.
أنور المعداوي(786/55)
البريد الأدبي
حكمة سليمان:
إلى صديقي الأستاذ العقاد المحترم
في التوراة مطارق كثيرة لتكبر جماجم الصهيونيين الأنذال
في الإصحاح الثالث من صفر الملوك الأول قصة فحواها أن امرأتين وقفتا بين يدي الملك سليمان تتنازعان طفلا فقالت الأولى أني وهذه المرأة نسكن في بيت واحد، وقد ولدت كل منا ولداً، وفي هذا الصباح صحوت فإذا الطفل الذي على ذراعي ميت، وإذا هو أبن هذه المرأة، ورأيت ابني على ذراعها. وأنما الطفل أبنها مات لأنها أضجعت عليه. وقامت وسرقت أبني وادعته لنفسها، فالطفل الميت هو طفلها، والحي طفلي. وأنكرت المرأة الأخرى هذا الكلام وقالت بل الحي هو طفلي.
فقال الملك سليمان أتوني بسيف. فآتوه بسيف. فقال: اشطروا هذا الطفل شطرين وأعطوا كلا من المرأتين شطراً. فصاحت الأولى: رحماك يا سيدي الملك! لا تشطروه! أعطوه كله لها. وقالت الأخرى: بل أشطره وأعطوني نصفه! فقال سليمان الملك: أعطوه للأولى فهي أمه.
فلما سمع جميع إسرائيل بهذا الحكم خافوا سليمان لأنهم رأوا حكمة الله فيه لإجراء الحكم.
فأين سليمان يحكم بقضية فلسطين؟!
هيئة الأمم قطيع غنم يرعاه ذئاب؟
ومجلس الأمن جمعية لصوص متآمرين!
فما بقي إلا محكمة العدل في لاهاي. . . فهل فيها سليمان؟ أجل، فيها البدوي باشا رئيسها، وهو مصري عربي.
ولكن، ألا تنبت هناك رؤوس أفاعي الصهيونية؟ أو عبيد الصهيونية مثل ترومان؟!
قضية فلسطين أوضح من قضية المرأتين المتنازعتي الطفل! الصهيونيون يقولون: اشطروا فلسطين شطرين: لنا شطر وللعرب شطر!!!
والعرب يقولون: لا تشطروها هي لسكانها المقيمين فيها. . عرب ويهود على السواء!
فأين سليمان يحكم؟ هل يتقمص في برنادوت؟!!(786/56)
نقولا الحداد
في محيط النحو:
جرى النحاة على اعتبار كلمة (أشياء) ممنوعة من الصرف، التمسوا لذلك الحكم عللاً غريبة؛ فمنهم من أعبرها اسماً مفرداً منتهياً بالألف الممدودة ليبرر منعها من الصرف؛ وهذا غريب جداً، لأن قصد الجمع واضح كل الوضوح في هذه الكلمة. ومنهم من قرر أنها محولة عن (شيئاء)؛ ومنهم من تعسف فأدعى أنها جمع (شيء) على وزن (سيئ) وقال أنها في الأصل (أشيئاء) على وزن (أدعياء) ثم حصل فيها ما ادعاه من قلب وحذف مما لا محل لعرضه على القارئين.
والذي استطعت أن أهتدي إليه بعد روي وتأمل أن الكلمة جمع (شيء) ووزنها (أفعال) ومثالها جمع (فيء) وهو (أفياء) وحقها أن تكون مصروفة كما صرفت (أفياء) وأمثالها ولا حجة لمن منعها الصرف بورودها غير منونة في الشعر، لأن الضرورة الشعرية تبيح صرف الممنوع والعكس؛ ولكنهم وجدوها في القرآن الكريم في صورة المائدة غير منونة، فقد جاءت في قوله تعالى (لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكم تسؤكم) ويخيل إلي أن عدم تنوينها ليس نتيجة علة من العلل التي أوردوها ولكنه نتيجة القاعدة العامة التي أتفق عليها النحاة وهي جواز صرف من ع الصرف وصرف الممنوع للتناسب والضرورة، وما التناسب إلا مراعاة الانسجام في جرس الكلمات وأتلاف النغم بين أجزائها؛ ولذلك قرء في المتواتر (سلاسلاً وأغلالاً وسعيراً) وكلمة (سلاسلا) ممنوعة من الصرف لأنها صيغة منتهى الجموع، ولكنها صرفت لتنسجم مع (أغلالاً وسعيراً) وقرء (ولا يغوثا ويعوقا ونسراً) و (يغوث ويعوق) ممنوعان من الصرف للعلمية ووزن الفعل، ولكنهما صرفا في هذه القراءة المتواترة لينسجم جرسها مع (نسراً) وكذلك (كانت قواريراً من فضة قدروها تقديراً). فأن قوارير الأولى نونت لتناسب فواصل الآيات.
فالمحافظة على حسن الجرس والانسجام من عادة العرب، والقرآن الكريم نزل على رسول الله بلسان عربي فلما لا نقول أن كلمة (أشياء) لم تنون لظرف خاص في محيطها في الآية الكريمة إذ لو نونت لتوالى مقطعان من لفظ واحد يحدث منهما شيء واضح من الثقل الذي(786/57)
يأباه تآلف النغم في القرآن الكريم وهذا التآلف من أسرار الإعجاز؛ فقرأت كلمة (أشياء) غير منونة لأنها مرتبطة بجملة الشرط بعدها ارتباط الموصوف بالصفة وذلك يقتضي وصلها، وهذا يوجب تكرار لفظ (إنْ) مرتين متواليتين، فمن أجل ذلك لم تنون (أشياء) ومن هنا جاءت فروض النحاة، والحق أنها مثل كلمة (أفياء) في الوزن والأعراب.
محمود البشبيشي
المفتش بمنطقة الإسكندرية التعليمية
في اللغة:
في جريدة (البلاغ) سأل ساءل الدكتور زكي مبارك فقال: أيقال: وكان القارب مقطوراً إلى المركب، أم يقال: وكان القارب مقطوراً بالمركب؟
وتفضل الدكتور بالإجابة، فبين أن الزمخشري في أساسه يقول: إبل مقطورة. . وهي مقطور بعضها إلى بعض، وقطر البعير إلى البعير) ثم أردف هذا برأيه فقال: وأنا أقول أن عبارة (القارب مقطور بالمركب) لها وجه صحيح. ونحن نرى بعيوننا أن القارب يشد إلى المركب بحبل غليظ.
وأقول: الصحيح قول الزمخشري لا رأي (الزكي) إذ لو سأل سائل: ما المقطور؟ كان الجواب: القارب. ولو سأل: وما المقطور به. كان الجواب: الحب الغليظ. والحال أن السائل إنما يسأل عن المركب وهو المقطور إليه لا المقطور به.
ولو أردنا التوفيق بين قولي الزمخشري والزكي اللغوي لكان الصواب هو (وكان القارب مقطوراً إلى المركب بحبل غليظ) وكفى الله اللغويين شر القتال، وسوء المقال. . والسلام.
(الزيتون)
عدنان(786/58)
القصص
المجنونة
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
للأديب جمال الدين الحجازي
قال المسيو داندالين لأصدقائه وهو ينفث دخان سيجارته في بيت البارون رافوت شاتو: (سأقص عليكم أيها الرفاق قصة مخيفة وقعت حوادثها في الحرب البروسية الفرنسية) أنكم تعرفون البيت الذي كنت أسكنه في (فابورج دي كورميل) كانت جارتي هناك امرأة مجنونة لطيفة! وقد فقدت شعورها أثر نكبات شديدة نزلت بها، ففي العقد الثالث من عمرها توفي والدها وزوجها وطفلها الذي ولد حديثاً توفي جميع هؤلاء خلال شهر واحد! وكأن الموت استطاب الرجوع إلى بيتها لاختطاف جميع أفراد عائلتها دون إعطاء مهلة كافية! فتغلبت عليها الأحزان، وانتابتها الأزمات الشديدة، ومكثت في فراشها ستة أسابيع بهذيان دائم كانت خلالها لا تأكل شيئاً إلا ما يسد رمقها، ومكثت في فراشها لا تقوى على الحركة وما أن أبصرها البروسيون حتى تملكتهم الحيرة وحاولوا مراراً إنهاضها من فراشها، فكانت تصرخ في وجوههم وقد ظنت بأنهم سيقتلونها، فلم يجدوا بداً من تركها في فراشها إلا أنهم أخرجوها أخيراً من البيت لإزالة ما علق على جسمها من الأوساخ ولتغيير ملابسها الكتانية. ومكثت بجانبها خادمة صغيرة لإعطائها بعض ما تحتاجه من طعام من وقت لآخر.
ترى ما هي الأحداث التي ألمت بتلك المرأة حتى أصابها الجنون واليأس من الحياة! ذلك ما لم يدرك كنهه أحد، أتراها كانت تحلم بالموتى وتتراءى لها خيالاتهم، أم أصبحت ذاكرتها ضعيفة واهية كالماء الراكد الآسن؟ لم يدري أحد، ومكثت خمسة عشر عاماً على هذه الحالة التعسة.
نشبت الحرب، وفي أوائل شهر ديسمبر احتل الألمان كورميل وأني لأذكر ذلك كأنه حصل البارحة كان الطقس بارداً بل متجمداً وكنت جالساً على كرسي لم أستطع الحركة، عندما سمعت صوت أقدمهم الثقيلة الخطوات المنتظمة الصفوف، ورأيتهم من النافذة يمرون في الشوارع وقد انتظموا في صفوف كثيرة، وبعدئذ أمر الضباط جنودهم بأن ينزلوا في بيوت(786/59)
سكان البلدة فنزل في بيتي سبعة عشر رجلاً، وكان من نصيب جارتي أثنى عشر، وكان القائد من بينهم. وفي اليوم التالي وصلت الأنباء إلى الجنودالذين كانوا يقيمون في بيت المرأة المجنونة بأنها مريضة، إلا أنهم لم يقيموا وزناً لمرضها ولم يأبهوا له، ولما سألوا عن سبب مرضها علموا أنها طريحة الفراش منذ خمسة عشر عاماً وذلك لتوالي النكبات التي نزلت بها والأحزان التي تغلبت عليها فأورثتها الأمراض، إلا أنهم ولا ريب لم يقيموا لذلك وزناً، واعتقدوا أن تلك المرأة متكبرة وأنها ملازمة فراشها لكي لا يقع بصرها عليهم، أليسوا أعداء بلادها، ذلك ما فكروا فيه.
أصر القائد على رؤيتها ولما وصل إلى غرفتها قال لها غاضباً: يجب أن تنهضي من فراشك وتنزلي إلينا (فلم تجبه، فواصل القائد حديثه قائلاً: أنني لا أحتمل هذه الغطرسة والكبرياء، فإن لم تنهضي من فراشك فسأضطر إلى إنزالك بالقوة) ولكنها لم تجبه ولاذت بالصمت. وحينئذ رجع الضابط إلى غرفته وقد أشتد غضبه وأتخذ من صمتها أداة لاستعمال الشدة معها.
وفي صبيحة اليوم التالي، أرادت الخادم تغيير ملابس المجنونة، إلا أن المجنونة بدأت تصرخ صراخاً عالياً وقاومت ذلك ما استطاعت، وما أن سمع القائد ذلك الصراخ حتى ذهب إليها، ولما رأته الخادم رمت نفسها على قدميه باكية وقالت له: أنها لا تستطيع النزول يا سيدي، لا تستطيع، أرجو أن تسامحها فهي مسكينة).
ولما رأى القائد ذلك، ضحك ضحكة خبيثة وألقى بعض الأوامر إلى جنوده، فأقبلوا وهم يحملون بين أيديهم فراشاً اتجهوا به نحو تلك المرأة المجنونة. أقترب أحد الجنود من فراشها وقال لها متهكماً وهو يفرك يديه: سنرى الآن هل تخلعين ملابسك وتستبدلينها بثياب نظيفة وتسيرين في نزهة قصيرة أم لا! ثم سار الجنود في غابة (أموفيل) وبعد ساعتين رجعوا وحدهم. لم يدري أحد ماذا حصل للمجنونة ولم يعثر لها على أثر، ترى ماذا صنع بها أولئك الجنود وأين أخذوها، لم يعلم بذلك أحد.
بدأ الثلج يتساقط، وغطى السهول والغابات فجاءت الذئاب وهي تعوي واقتربت من بيوتنا، مكثت مدة أفكر في تلك المجنونة الضائعة! وحاولت مراراً الاستعلام من السلطات البروسية عن مصيرها دون جدوى. ولما عاد الربيع أنسحب جيوش الاحتلال وبقي بيت(786/60)
المجنونة مغلقاً، وكانت خادمتها قد توفيت في الشتاء الماضي! ولم يهتم بالحادث أحد سواي إذ كنت أفكر في مصير تلك المرأة أناء الليل وأطراف النهار، ترى ماذا صنع بها أولئك الجنود وهل هربت إلى الغابة، أو عثر عليها أحد من الناس وأخذها إلى المستشفى رغماً عنها، ولم أجد ما يزيل شكوكي ولكن المصادفات والمقادير تدخلت في الأمر فأزالت هذه الشكوك، إذ بينما كنت غي الغابة وكان الفصل خريفاً اصطاد بعض الطيور الجارحة، وقع أحدها جريحاً في حفرة مليئة بالأغصان ولما نزلت إلى الحفرة لالتقاطه رأيت حطام جثة آدمي في الحفرة، يا إلهي. . . ترى من يكون صاحبها، وحينئذ تذكرت حالاً تلك المرأة المجنونة، قد يكون كثير من الناس ماتوا في الغابة أثناء النكبات التي حلت بهم في تلك السنة، ولكنني لا أدري لماذا كنت متأكداً، بل متأكداً جداً بأنني أرى رأس تلك المجنونة وأن هذه الجثة جثتها!
وعرفت بعدئذ أن الجنود قد تركوها في هذه الغابة وأنها نظراً لتمسكها بمبادئها التي أخلصت لها لم تعبأ بموتها في تلك الغابة الموحشة، لقد مزقتها الذئاب وبنت الطيور أعشاشها من بقايا فراشها الصوفي الممزق!
ولما رأيت هذه المناظر البشعة المحزنة كدت أبكي من شدة تأثري ودعوت الله مخلصاً أن يبعد شبح الحرب عن أولادنا، فلا يرونه أبداً.
(القدس)
جمال الدين الحجازي
الندوة الأدبية(786/61)
العدد 787 - بتاريخ: 02 - 08 - 1948(/)
أدب المقالة
للأستاذ عباس محمود العقاد
نشر الكاتب المطبوع الدكتور زكي نجيب محمود جملة من مقالاته في مجموعة سماها باسم إحدى هذه المقالات، وهي (جنة العبيط).
ولو شاء الكاتب المطبوع لسماها (جهنم الحصيف)، ولم يكن في تسميته خطأ ولا خروج عن صدق الدلالة، لأن هذه المقالات في جملتها تدل على هذه (الجهنم) التي يعانيها الحصيف في حياته، فيترجم عذابها وآهاتها في أسلوب يلوح للقارئ كأنه غير أسلوب العذاب والآهات، وهو منه في الصميم. وذاك هو أسلوب السخرية والمزاح.
لا جرم جعل الدكتور زكي شرط المقالة أن يكون الأديب ناقماً، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل. فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثيرا أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة. و ' ن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنجليزية أدسن ما كتب، فلن تجده إلا مازجا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح).
وإذا كانت المقالة كذلك فسم أد المقالة جنة العبيط أو جهنم الحصيف، فأنت على صواب.
ولكننا نريد أن نقول إن (المقالة) أنواع وليست بنوع واحد، وإن اسمها في العربية لا يحصرها في هذا الغرض الذي أحب الأستاذ أن يقصرها عليه، ونريد أن نتفاهم على اسم يطابق المقالة كما يعرفها في مقدمة هذه المجموعة على التخصيص.
يقول الأستاذ: إن المقالة يشترط فيها (أن تكون على غير نسق من المنطق: أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الحوشية، منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة). . . ويقتبس رأي جونسن الذي يرى: (أنها نزوة عقليه لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام). . . قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شئ).
ومما لا خلاف عليه أن هذا التعريف يصدق على نوع من المقالة يزداد شيوعا بين الغربيين كلما شاعت الصحافة وشاعت معها أساليب الكتابة العاجلة، ولكنه لا يحصر جميع(787/1)
المقالات الأدبية، ولا يصدق على جميع الفصول التي تكتب في حيز المقالة المستقلة.
فالكلمات التي تطلق على المقالة في اللغات الأوربية يوشك أن تفيد كلها معنى المحاولة والمعالجة. فكلمة وكلمة وكلمة بل كلمة وهي تترجم أحيانا بمعنى الدراسة لا يعدو القصد منها في بداية وضعها أن تفيد معنى المحاولة التي يعوزها الصقل والإيجاز، وكلها مستمدة من أساليب معامل النحت والتصوير، يريدون بها الرسم الذي يخطط الصورة قبل تلوينها، أو النموذج الذي يصب التمثال على مثاله، وينقلونها إلى الموضوعات الأدبية على سبيل الاعتذار لا على سبيل الاشتراط. كأنهم يتقون نقد الناقد بهذه التسيمة، فلا يحاسبهم على كتابتهم بحساب العمل المتمم الذي استوفى نصيبه من الإتقان، كما فعل الفيلسوف مونتاني أبو المقالة الأدبية، حين سمى فصوله بالمحاولات، لأنه يراها دون ما ينتظر من مثله من التحقيق والاستيفاء، لا لأنه يحقق بها شرطا يتقيد بها الكاتب ولا يجوز له أن يخرج عنها.
وكلمة وهي أبعد قليلا من هذا الغرض، تفيد معنى الفاصلة أو الجزء، ويقابلها عندنا معنى (الفصل) الذي يستقل بموضوعه، ولا يشترط فيه أن يكون فصلا في كتاب مطول تتممه فصول.
لكن هذه المعاني لا تستوعب أغراض المقالات كلها في الكتابة الأوربية أو في الكتابة العربية.
فمقالات باكون وماكولي وأرنولد وسان بيف ليست كلها من هذا القبيل. بل مقالات (وليام هازليت) نفسه على مساهمته في أدب المقالة كما يعرفها الدكتور زكي نجيب، لا تجري كلها على هذا النسق، وفيها ما هو أشبه بالبحوث والرسائل في حيز صغير.
ولا يخفى أن البحث لا يشترط أن يكون كتابا ضخما أو كتابا صغيرا في عدد الصفحات، فإذا جاز أن يتم البحث في حيز مقالة، فليس ما يمنع انتظامه في عداد المقالات.
لهذا نقول: إننا في حاجة إلى اسم غير اسم المقالة للدلالة على نوع المقالات التي يعينها الأستاذ نجيب.
فهل نسميها العجالة؟ أو نسميها النبذة؟ أو نسميها الأحدوثة؟ أو نسميها الأملية؟ أو نسميها المسامرة؟(787/2)
إن اسماً من هذه الأسماء أدل عليها من اسم المقالة على إطلاقه، وقد عرفنا الأمالي والمسامرات والنبذ والعجالات في الأدب العربي فرأينا فيها مسحة من أسلوب المقالة كما شاع بين الأوربيين في العصر الحديث.
على أنني لا أدري هل أقرظ (جنة العبيط) أو أنقدها حين أقول إنها تشتمل على مقالات لا تنطبق عليها الصفة التي قيد بها كاتبها موضوع المقالة الأدبية. ومنها مقالة (أعذب الشعر أصدقه)، ومقاله (عن أدب المقالة) بعد المقدمة. . . فإنهما بريئتان من فضيلة التشعث والخلود من النسق المنطقي وضابط التنظيم إن صح أنها فضائل مشروطة جميع المقالات.
إلا أن فيلسوفنا عدو الفلسفة قد استطاع أن يحرص على هذه الفضائل وأن يتجنب المنطق والنظام في بعض المقالات الأخرى فلم يخطئه التوفيق، لأنه قد استطاع مع ذلك أن يقول شيئا تلذ قراءته ويستجيش الذهن إلى التفكير.
قال في مقال (النساء قوامات):
(إذا عشت في أمة هازلة حملك الناس محمل الهزل إن كنت جادا، وأخذوك مأخذ الجد إن كنت مازحا).
ثم قال: (ولست أرى لك حيلة سوى أن تقسم لهم في مستهل الحديث بالذي بسط لهم الأرض ورفع السماء أنك فيما تحدثهم به إنما قصدت إلى الجد ولم تقصد إلى المزاح).
وأحب أن أقول للكاتب الفاضل إنني أعرف هذه الخصلة جد المعرفة، لأنني كثيرا ما كنت من ضحاياها.
ومن ذاك أنني اقترحت مرة على مسمع من شيوخ عقلاء أن تعمد الحكومة إلى تجربة نافعة في كفاح الشيوعية، وهي إخراج الشيوعيين مرتين في كل يوم (طابورا) واحدا يمر كل يوم في حي من أحياء المدينة، ليرى الناس بأعينهم أي (خلق مقبلة) هذه التي تريد أن تقلب العالم على من فيه.
فضحك الشيوخ العقلاء!
وكتبت ذلك من قبل ومن بعد، فضحك القراء الألباء. مع أنني والله جاد؟؟ أقترح، ولا أزال مصرا على هذا الاقتراح.
أيرى صديقنا الدكتور نجيب أن هذه مقدمة مطمئنة في صدد الكلام على مقترحاته؟(787/3)
ليتمهل قليلا. . . أقل من لحظة واحدة، لأنني سأقول له على الأثر إنني أحسبه مازحا فيما كتب، واحسبه محققا لشرط المقالة في تمهيده، ولن يثنيني عن هذا الحسبان قسم بباسط الأرض ورافع السماء، ولا إنذار يلوح به في خاتمة أو ابتداء.
فالأستاذ نجيب يقترح أن تسلم النساء زمام الأمور في الأمة مائة سنة ليعلم الناس بعدها أنهن قوامات على الرجال.
ولا حاجة هنا إلى سؤال أكثر من السؤال عمن يعلق الجرس!
هل تتقدم النساء فيستولين على القوامة أيديهن؟ إن استطعن ذلك فلا حاجة إلى اقتراح، وسقمن بالأمر متى استطعته مئات السنين وأبد الآبدين، ولا ينزل عنه بعد مهلة الاقتراح!
أم يعجزون عن ذاك ويكن مع هذا قادرات على القوامة؟
لا منطق هنا ولا نظام، ولكنه مزاح على شرط المقال في تمهيد (جنة العبيط). . . وحق باسط الأرض ورافع السماء!
وإنما أسوق هذا التعقيب لأخلص منه إلى نتيجة لا تجافي المنطق ولا النظام، فأقول للأستاذ نجيب: اكتب على شرطك أو على غير شرطك، ما دمت على الحالين تقول ما يطيب وتقول ما يصيب.
عباس محمود العقاد(787/4)
أيها العرب اعلموا أن العالم كله يحاربكم
للأستاذ نقولا الحداد
أشرف لكم أن تشرب الأرض دماءكم من أن تنزف نزفا بطيئا بين براثن الصهيونية.
رأينا أن الدول في لايك سكسس ترجمنا بالحجارة كلما بسطت قضيتنا في مجلس الأمن أو هيئة الأمم. ونحن نتمرمر من أن هذه الدول عميت عيونها عن حقنا في حين أن حقنا ناصع كالشمس راد الضحى في هذه الاجتماعات الدولية. وكلما شددنا أنفسنا قلنا (سننتصر لأن الحق معنا).
لا يا سادتي. لا تعتمدوا على الحق. لأن الحق لا يكونسلاحا ماضيا إلا في عالم الأخيار حيث يتجلى الحق الإلهي فيسجد له الأبرار. وأما عالمنا هذا فهو عالم الشرار حيث يتجلى الظلم والاستئثار. فلا تعتمدوا على سلاح الحق فهو سلاح الخيال ولا وجود إلا لحرفيه (ح. ق). وما هذه الاجتماعات التي تعقد في لايك سكسس إلا مؤتمرات شيطانية يعقدها أبالسة السياسة فيما هم يتقاسمون مغانم الحرب من دماء الأمم الصغيرة. والحمد لله إن الدول المتناهبة الغنائم غير متفقة فيما بينها وإلا سحقت جميعالأمم الصغيرة سحقا في بطونها الكبيرة.
فلا تعتمدوا يا سادتي على سلاح الحق. لا سلاح لكم إلا عزمكم وحزمكم وأنفتكم وحصافتكم ثم سواعدكم. فإن انتصرتم فزتم بكيانكم الشريف. وإن هلكتم سلمتم من مذلة العبودية لشياطين الصهيونية ويا لها من مذلة أليمة وعبودية لجنس ليس من البشر وليس له رحمة ولا رأفة ولا إنسانية.
رأيتم أن مجمع المتآمرين في لايك سكسس قد عرف واعترف أن الهدنة كانت في مصلحة اليهود، وأنه لم يحترمها إلا العرب. وقد ثبت أن اليهود غنموها فرصة لإدخال فريق من المهاجرين إليهم ولاستقبال أسلحة وطائرات ودبابات لم تكن موجودة عندهم، والطائرات الضخمة التي غزت القاهرة بالأمس ما كانت إلا إحدى الطائرات التي دخلت تل أبيب في شهر الهدنة. وظهر لكم جليا أن الهدنة الثابتة تقررت لأجل غير معين - أستبقى إلى أن تتوطد دله إسرائيل المزيفة ولو طالت اشهرا وسنين؟ وقد ظهر لكم أن برنادوت كان أخبث من صل وأروغ من ثعلب؛ فكان يغض نظره عن اليهود فيما هم ينقضون الهدنة ساعة بعد(787/5)
ساعة، وما وسعه إلا أن يقول إني لم أذهب إلى فلسطين لكي أوطد حقا أو أقيم عدلا، بل لكي أوفق بين فريقين مختلفين. ولكنه أخفق في عمل هذه الأعجوبة، لأنها أعجوبة مزج الظلمة بالنور. وما تورع أن يطلب من مجلس الأمن 2500 جندي لكي ينفذ الهدنة بالقوة. وإن لم يكف هذا العدد طلب أيضاً عدداً مثله. ويظل يطلب إلى أن يصير عنده مائة ألف. أو يأتي أخيرا بقوات أمريكا وإنكلترا. وربما طلب أخيرا قنابل ذرية.
أفليست كل هذه التصرفات والاستعدادات لإقامة دولة صهيونية بالقوة القاهرة؟ فإذا ليستالهدنة هذه هدنة بالمعنى الحقيقي المفهوم ولا سيما أن أحد الفريقين لا يريدها، وما طلبها إلا الفريق الذي رأى نفسه مغلوبا على أمره.
وما جرى في لايك سكسس ليس كل ما تفعله الدول الكبرى اللئيمة ضد العرب. بل هناك مساع إبليسية لمنع بعض الدول الصديقة للعرب من مساعدتهم في الحصول على سلاح.
فأولا: إن الدولتين الكبيرتين اللئيمتين تهددتا تركيا بأن تكفا عن مساعدتها ماليا إذا كان تسهل للعرب الحصول على السلاح. ولكن هل يمكن إنكلترا وأمريكا أن تقطعا المساعدة المالية عن تركيا وهما قد ترجتاها أن تقبل هذه المساعدة لكي تكون ترسا لهما ضد روسيا. فهل جنت هاتان الدولتان حتى تضيعا هذا الترس لأجل سواد عيون اليهوديات أو زرقتها؟ لا نظن أن تركيا تخاف هذا التهديد.
ثانياً: تهددتا اليونان بأن تجعلا بلادها أتون ثورات إلى أن تضمحل فيه إذا كانت تسهل للعرب الحصول على السلاح. ولكنا لا نحن ولا اليونان نصدق أن إنكلترا وأمريكا تتخليان عن اليونان لكي تقع في إحبولة السوفيات.
ثالثا: أغرتا فرنكو سيد إسبانيا أن تزيلا الجفاء الذي بينه وبين هيئة الأمم لكي تقبله الهيئة في حظيرتها. هذا إذا كان لا يساعد العرب في الحصول على السلاح، ولكن هل يعبأ فرنكو بوعدهما، وهل هو لا يعبأ بهيئة الأمم أكثر مما أعبأ بمؤتمر الدول الخمس حين دعته هذه الدول لكي تفاوضه بشان موقفه فهز كتفيه وقال لا أحضر مؤتمركم. فمن يريدني فليأت إلي. لا ثقة لفرنكو بعدالة هذه الهيئة أكثر من ثقته بقوة جمعية الأمم المرحومة.
هذا بعض ما ظهر من لؤم الدولتين الكبيرتين في مقاتلة مصلحة العرب وفي معاونة صهيون. زد على هذه المساعي الشريرة التي تسعاها الدولتان الكبريان ومن مالأهما فإنهما(787/6)
تهدداننا بالعقوبات الاقتصادية. هل إحداهما الأكثر نفاقا تعلم أننا لا تعبأ بالعقوبات الاقتصادية لأن عندنا عقوبات لهما أقوى منها. وتعلم أيضاً إننا نستغني عن استيراد أي شئ من الخارج. فعندنا أرض تنتج الغلال، وإن احتجنا إلى غذاء نأكل الحجارة. وعندنا قطن وصوف ومعامل لغزلهما ونسجهما. وإن احتجنا إلى كساء ننسج من الخيش ملابس. وعندنا النفط والقطن وهم لا يستغنون عنهما. فواحدة باثنتين.
أيها العرب لا تيئسوا فلكم من الله ما يقيكم شر أولئك الأشرار. اصمدوا ولا تجبنوا ولا تحسبوا حسابا لتهديدهم لا تتكلوا على سلاح الحق فخصومكم لا يقيمون للحق وزنا. ومجلس الأمن ليس محكمة لوضع الحق في نصابه، ولا هو ميزان العدالة.
إني أكاد أنشق غيظا حين أرى أعداءنا يقيمون بيننا يقاسموننا رزقنا، ولهم النصيب الأوفر منه. وهم يكيدون لنا ويغدرون بنا. وكل يوم عندنا ببينات على خبثهم وغدرهم، ليس في فلسطين فقط بل في سائر البلاد العربية. وقد تمادى كيدهم حتى رموا القاهرة بقنابلهم.
كيف نسمح لألد أعدائنا أن يعيشوا بيننا ويغدرون بنا ونحن سكوت لا نتكلم ولا نعمل؟! يجب طردهم ومصادرة أموالهم. فهم قوم لا إنسانية عندهم ولا رحمة ولا شفقة. لقد رأيتم ما كان من توحشهم في دير يس وطبريا وغيرهما. فاعلموا إنكم سترون أضعافه إذا ثبت لهم قدم في وسط البلاد العربية.
أما أنتم أيها الأمريكان المغفلون والإنكليز البلداء وأمثالكم فبعد عشرين سنة ستقولون: حقا أننا عادينا العرب ظلما وعدوانا. وستكرهون اليهود كما كرههم الألمان قبلكم. وسيقوم فيكم هتالرة يفعلون بهم أكثر مما فعله هتلر الألمان فيهم - غفر الله له!
نقولا الحداد(787/7)
الاتجاهات الحديثة في دراسة التاريخ
للدكتور جواد علي سكرتير المجمع العلمي العراقي
تحتل نظرية التطور مكانا بارزا بين النظريات التاريخية، وقد تقوى مركز هذه النظرية بعد تطور مفهومالتاريخ، وظهور ما يسمى بفلسفة التاريخ. وقد ابتدع هذه الاصطلاح الفيلسوف الفرنسي الشهير (فولتير) الذي كبت بحثاً طريفا في عام 1765، وتناول فيه عادات ونفسيات الشعوب، والحضارة البشرية بصورة عامة، وفلسفة التاريخ الإنساني العام، وجعل عنوان هذا البحث أو (فلسفة التاريخ) ومنذ هذا شاع هذا الاصطلاح حتى أصبح عنوانا لموضوع دراسة قائمة بحد ذاتها، ومذهبا من مذاهب التاريخ.
وخلاصة نظرية فولتير أن التاريخ البشري عبارة عن كفاحمستمر نحو عالم أرقى وبشرية أسمى، وتطور دائمي نحو عالم أكمل، أي أنه سار مع أصحاب نظرية التطور، وساير المتفائلين على الرغم من روح التشاؤم التي عرف بها هذا الفيلسوف. وقد استخدم الفيلسوف الألماني (هيردر) هذا الاصطلاح الذي أوجده فولتير في كتابه القيم الذي سماه (آراء في فلسفةالتاريخ الإنساني) وشاع منذ هذه الحين بين الألمان، ثم انتقل إلى سائر اللغات الأوربية الأخرى.
وشاعت (فلسفة التاريخ) في أوربا وحاول أصحاب هذه الدراسة وضع قواعد وأسس كالتي نراها في العلوم الطبيعية لتحويل التاريخ إلى علم مثل سائر العلوم؛ حتى طغت على الطريقة المألوفة في كتابة التاريخ العام، وظهر منهم من رأى وجوب إخضاع (التاريخ العام) لقواعد فلسفة التاريخ، وتحويل (التاريخ) إلى فرع من فروع الفلسفة أو طريقة من طرق (علم النفس) بحيث نتمكن من الإطلاع على النفس البشرية وروحية الإنسانية منذ عرفت إلى ما شاء الله. وقد وجدت هذه النظرية أنصارا ًوأتباعاً في النهاية القرن التاسع عشر وكونت لها مدرسة كبرى كان من أساطينها الفيلسوف (ريكرت و (سيمل) و (ترولش) و (ديلتاي) و (هايدكر) وعلى رأس هؤلاء جميعا الفيلسوف الكبير (ويندلبند) صاحب المؤلفات المعروفة في الفلسفة وفي فلسفة التاريخ.
والتاريخ في الواقع أهم العلوم التي تتأثر بالعواطف والميول الفردية والجماعية والسياسية العامة للدولة والشعوب، ويمكن أن نقول إنه مرحلة تمهيدية للسياسة العملية، ولذلك تحرص(787/8)
الحكومات بجميع أنواعها على الهيمنة عليه وعلى الطرق التي بدون بها هذا العلم، ومن أهم الطرق المعروفة والتي دونت بها كتب التاريخ الطرق الآتية:
1 - الطريقة الثنائية الثيوقراطية في التاريخ، وهي من أقدم الطرق الشائعة حتى اليوم في تدوين التاريخ. وهي الطريقة الرسمية للكنيسة الكانوليكية، ولآباء الكنيسة منذ عهد القديس أوغسطين (354 - 430م) منظم هذه النظرية وواضعها، وقد سيطرت على عقول المؤرخين المسيحيين طيلة القرون الوسطى. ولا زالت تسيطر على عقول كتاب الكنيسة حتى اليوم.
والسبب في تسميتها (ثنائية) أنها تصورت وجود مملكتين (مملكة الله) ومقرها السماء، و (مملكة الشيطان) ومقرها العالم السفلي أو الأرضي، ورئيسها (الشيطان) وهي دولة معادية للخالق وفي حرب مستمرة مع أنصار الله. وقد تأسست هذه الدولة بسقوط لوسفر السماء إلى الأرض، وكان (قابيل) قاتل أخيه (هابيل) أول مواطن في هذه المملكة؛ لأنه استجاب داعي (إبليس) فقتل أخاه، وهو بهذا أول قاتل على وجه الأرض. وأما (هابيل) المقتول فإنه من مواطني مملكة اله. إذ غفر الله له الخطيئة التي ارتكبها آدم وشمله بعفوه ورحمته وأودعه مملكته في المساء.
ودولة (إبليس) على سطح الأرض قائمة ولا زالت تحاول بسط نفوذها على ممالك الكرة الأرضية، وكانت أولى الدول التي استجابت نداءه دول آسية والقيصرية اليونانية - الرومانية. وقد تمكن إبليس بفضل أساليبه المغروفة في الإغراء والهيمنة على العقول من السيطرة على عقول حكام هذه الدول إلى أن ظهر (المسيح) الذي جاء لإنقاذ البشرية وإعادة مملكة الله على هذه الأرض ولرفع (الخطيئة) عن أعناق البشر. فأبى أعداء الله إلا إجابة دعوة إبليس، وقد انتقلت دعوة المسيح إلى الكنيسة فهي التي ترعاها وتدافع عنها وتسعى لتأسيس مملكة الله من جديد ونشر مبادئ الله بين المذنبين.
وقد قسمت هذه النظرية البشر أفراداً وجماعات إلى طائفتين: طائفة أبناء الله) وهي التي آمنت بالله وعملت وفق أحكامه وأوامره وسعت لنشر مبادئه بين الأمم الأخرى، وهي تحب الأمن والسلام وترجو العافية في كل مكان وتبتغي حياة الاستقرار ونشر المحبة، وطائفة (أبناء إبليس) أو (أبناء الشيطان) وهي التي استجابت لدعوة الشيطان وتحزبت له وتجندت(787/9)
في صفوفه، التي وهي قلقة مضطربة لا يستقر لها قرار، تريد الفوضى والتخريب والنزاع فيما بين البشر وسفك الدماء، شأنها في ذلك شأن سيدها الشيطان الذي يحاول بكل ما عنده من حيل ووسائل، العمل على تقويض (مملكة الله) ومساعدة أعمال (الدجال) وتحبيذ فعله ومحاربة (الكنيسة) وتشجيع (الخطيئة) غير أن نجاحه هذا وقتي وستزول مملكته في النهاية وينتصر جنود الله. وعندئذ يكمل التاريخ البشري وتسود المحبة كل الشعوب، وتنقي الخطيئة وتشمل رحمة الله عباده المؤمنين.
فالغاية من هذه التطور التاريخي وفق هذه النظرية مرور البشرية في هذه الأدوار الحرجة التي يكون فيها المؤمن كالقابض على جمرة النار فيمتحن الله فيها عباده، إلى أن تتداعى مملكة إبليس فيحصل (أبناء الله) على شرف (المواطنة في مملكة الأب) ولا يتحقق هذا الهدف إلا إذا دان الإنسان بمبادئالكنيسة، واعتبر كل ما هو موجود على سطح الأرض زائلا لا يدوم، وإن الدوام لله، وإن الأموال واسطة للقربى من مملكة الله، فيجب التصرف فيها وفقا لأوامره ولأحكام التي وضعتها الكنيسة، يشمل ذلك الأفراد والجماعات.
وتسري هذه الأحكام على الدول خاصة، وعلى الحكام أمناء الله على العباد، لأن وظائف الدولة هي وظائف عالية، وبيدها مقدرات ملايين الناس، وقد اختار الناس بمجرد حريتهم أمثال هذه المؤسسات الاجتماعية لخدمة مصالحهم وحقوق الله، فلا يجوز للحاكم أن يحيد عنها ويتعداها فتصبح الدولة دولة من الدول الممثلة لإرادة الشيطان ويكون الحاكم طاغية من الطغاة فيحرم من حق المواطنة في مملكة الله. وتصبح الدولة التي يديرها آلة من آلات الشيطان مسخرة لتنفيذ مبادئه يجب الأخذ بناصر الكنيسة ورجال الدين أولياء الله على الأرض.
ومن هذه النظرية استمد البابوات سلطانهم وحاولوا فرض إرادتهم في القرون الوسطى على الحكام الزمنيين. باعتبار انهم يمثلون السلطات الشرعية التي هي ارفع السلطات وانهم ينفذون أوامر الله بين الناس، وأن ذلك لا يعني العبودية ولا الخضوع لإرادة الكنيسة التي لا تعرف الرق بل تعني التسليم عن اختيار، والإيمان المحض مع الشعور بما يترتب على ذلك من مسئوليات. وقد كانت هذه النظرية مصدر نزاع بين الحكام الذين كانوا يرون في هذه العقيدة سبباً من أسباب التدخل في الأمور الدنيوية التي يجب أن يبتعد عنها رجال(787/10)
الدين، والتي تتنافى مع مبادئ الدين نفسه.
إن هذا التفسير للتطور التاريخي هو تفسير ديني، وهو تفسير يتقارب في الأفكار العامة مع تفاسير رجال الأديان وإن كان يتعارض مع التفاصيل ومن له مصدر هذه السلطات. ويتقارب (البروتستانت) في التفسير التاريخي مع هؤلاء على الرغم من اختلافهم عن الكاثوليك في سلطة (البابوات) ورجال الدين. وربما كانوا أقرب إلى نظرية (أوغسطين) من إخوانهم الكاثوليك.
وممن دافع عن هذه النظرية المؤرخ (بوسويه) (1627 - 1704م) في كتبه التي ألقاها في التاريخ؛ فعنده أيضا ان نهاية التاريخ هي تحرير الإنسانية من (الخطيئة) إقامة حكومة الله. وقد اعترف في كتبه سلطتين في العالم سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، وسلطة الكنيسة بالطبع هي العليا لأنها تمثل مبادئ الله على هذه الأرض. وعالم آخر إيطالي هو (ويشو) (1668 - 1744م) وهو صاحب أبحاث قيمة في التاريخ؛ وعنده أن تطور كل أمة يخطو خطوات ثلاثا (ثيوقراطية) و (مرحلة القوة والبطولة) و (المرحلة الإنسانية). حيث تسود فيها قوانين الله وشريعة العقل، ويسير الله في كل هذه المرحلة وعند جميع الأمم هذه الأدوار بحكمته وإرادته ويربط فيما بنيها؛ ولذلك يسير التاريخ على الرغم مما نراه من استقلال ظاهري متضامنا يؤثر بعضه في بعض، والكنيسة هي أعلى مؤسسة ثقافية ظهرت في التاريخ البشري، وسيكون النصر لها. وهنالك مؤسسات ثقافية أخرى ظهرت عند البشر هي الثقافة العبرانية واليونانية والرومانية وقد أزالتها الحضارة المسيحية سيدة الحضارات.
وقد صيغت هذه النظرية المسيحية للتاريخ في أسلوب واضح حديث عند بعض المؤرخين مثلدمستر (1754 - 1821م) وهو إداري وفيلسوف فرنسي، وكان بمثل الكاثوليكية المحافظة في نظريته عن الدولة وأثناء ممارسته للسياسة. وكان يرى أن سلطة البابوية فوق سلطات الملوك والحكومات يجب أن تكون كذلك لأنها تمثل إرادة الله التي هي فوق كل إرادة والفيلسوف فو جورس (1776 - 1848م)، وهو الكاتب السياسي الذي أيقظ الروح الكاثوليكية وصبغها بالصبغة (الرومانتيكية) ودعا وهو بلاط الملك (ليدويك) ملك (بافاريا) إلى إرجاع السلطة المقدسة العليا إلى مكانتها السابقة وإلى الاعتراف بها على أنها أهم مرجع يجب الركون أليه حل المشكلات.(787/11)
وقد اصطبغت هذه النظرية الدينية بصبغة (رومانتيكة) صبغها بها الكتاب الذين تأثروا بالمذهب (الرومانطيقي) أمثال (فريدريك شليكل) (1722 - 1829م) في كتابه (فلسفة التاريخ). وهو من كبار أصحاب المذهب (الرومانطيقي في ألمانيا) وبالمس (1810 - 1848م) والفيلسوف البروتستانتي روشول و (كروب)
وكان من نتائج تقدم العلوم الطبيعية وشيوع الآراء العقلية التي تطرد كل ما لا يقبل التصديق عن العقل ولا تؤمن إلا بالتجربة وشيوع المذاهب المادية ومحاولة العلماء تطبيق القوانين والنتائج التجريبية حتى على العلوم العقلية البحتة. وقد قوت الثورة الفرنسية هذه الحركة وساندتها نظرية داروين المعروفة وما أعقبها من آراء طبقت في التاريخ وفي علم الاجتماع وعلم النفس.
وكانت الطرق التاريخية المعروفة تعتمد إلى درجة كبيرة في سرد الحوادث على ذكر (الأفراد) الموهوبين الذي كانوا يصنعون التاريخ على حد قول أكثر المؤرخين. وقد خالف القائلون بالمذهب المادي في التاريخ هذا الرأي، وأشادوا على العكس بفعل الجماهير وأثرها العظيم في تكوين الأفراد. وقد تولد من هذه النزعة المادية التي دخلت التاريخ ما يعرف بالمذهب المادي في التاريخ.
والفكرة المادية قديمة جداً في الواقع؛ فهنالك أناس نادوا بها في عالم اليونان مثل وكان من المعاصرين للفيلسوف (500 قبل الميلاد) والذين كان من تلاميذه (ديمقريط) ومثل (أبيقور) الذي أرجع أصل كل شئ إلى المادة. وكان هنالك جماعة آخرون.
غير أن المسيحية وقفت هذه الحركة المادية، وعرقلت انتشارها طيلة القرون الوسطى وما تلاها ذلك إلى أن كتبت لها العودة ثانية في القرن الثامن عشر الميلاد، فأخذت توجد لها أنصاراً وأعواناً إلى أن شملت جماعة من أصحاب العلوم العقلية، كالفلسفة والتاريخ، وقد ظهرت في التاريخ على شكلين: شكل يقال له (المادية البيولوجية) وشكل يقال له (المادية الاقتصادية) أو (المادية الاجتماعية وأحيانا (الديالكتيكية المادية).
(البقية في العدد القادم)
جواد علي(787/12)
كتاب النوادر لأبي عبد الله محمد بن الأعرابي
إملاء أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي
(مخطوط عالمي نفيس)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
عثرت في خزانة الكتب الخالدية في بيت المقدس على الجزء الأول من كتاب (النوادر لابن الأعرابي) أما الجزء الثاني فمفقود وقد بحثنا طويلاً فلم نعثر على أثر. وقد أسرعتفكتبت إلى البروفيسور برو كلمان العالم الشهير في مدينة هال، ووصفت له الكتاب، فكان سروره عظيماً بهذا الخبر، وقد أجابني قائلا إن الكتاب نادر الوجود على ما تعلم، وحثني على دراسته وإخراجه لأنه من أنفس كتب الأدب وأجلها قدراً. ومعلوم أن ابن الأعرابي عاش في القرنين الثاني والثالث وكان من كبار أئمة اللغة والمشتغلين فيها، وعاصر كبار رجال عصره وأخذ عنهم، وهو ربيب المفضل الضبي صاحب المفضليات.
ومما يزيد في قيمة هذا المخطوط النادر أن النسخة التي بين أيدينا هي من إملاء أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي (ثعلب) وقد نسخت لخزانه صاحب الحبس أبي عبد الله الكناني من نسخة بخط أبي علي الآمدي كتبها للوزير أبي الفضل بن الفرات من خط أبي موسى الحامض، وعورضت بها، وعارض بها الوزير نسخة بخط ابن الكوفي وبخط ابن الحداد عن أبي العباس ثعلب. عن ابن الأعرابي، وقد دونت هذه الزيادات في الحواشي ثم فرشت بعد ذلك على ابن خرزاز فصحت.
وصف المخطوطة:
تقع المخطوطة في 287 صفحة وهي مكتوبة على ورق صقيل جيد يميل إلى الصفرة، وقد كتبت بالخط النسخي الواضح بالحبر الأسود. وقد شكلت حروفها وزيدت عليها زيادات في الحواشي بالحبر الأحمر، فما كان عليه فهو من نسخة ابن الكوفي وما كان عليه جاء فهو من نسخة ابن الحداد.
وطول الصفحة 21 سنتمتراً وعرضها 16 سنتمتراً وقد بدأت السوسة تأكل صفحاتها.
تاريخ النسخة:(787/14)
نسخت هذه النسخة لخزانة صاحب الحبس أبي عبد الله إبراهيم ابن محمد بن حسين بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الحكم الكناني.
وقد انتقلت النسخة بعد ذلك إلى (أحمد بن محمد بن عبد الكريم) ثم (سلمان بن إبراهيم بن سلمان) وانتهت إلى وقف السيد أحمد الموقت المقدسي المتوفى سنة 1171هـ، وكان للسيد المذكور خزانة كتب نفيسة، وآلت في النهاية إلى خزانة الكتب الخالدية منذ أوائل هذا القرن.
ومما لاشك فيه أنها نسخة معتبرة لأنها نسخت عن نسخة بخط الآمدي كتبها للوزير ابن الفرات وهو قريب عهد بالمؤلف. كما أنها عورضت بنسخ أخرى معتبرة.
من هو ابن الأعرابي؟
يصفه لنا ابن النديم في فهرسته ص 102 وابن النديم من رجال القرن الرابع ألف كتابه العجيب سنة 377هـ وتوفى سنة 385هـ.
فيقول (إن أبا العباس ثعلب وهو تلميذه شاهد في مجلس ابن الأعرابي وكان يحضره زهاء مئة إنسان، فكان يسئل ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب، وقد لزمه بضع عشرة سنة، ولم ير في يده كتاباً!).
ويقول إنه مات (بسر من رأى) وقد أعلى على الناس ما يحمل على جمال. ولم ير احد في الشعر أغزر منه، وقد قرأ على القاسم ابن معن وسمع من المفضل وذكر أنه ربيبه وكانت أمه زوجة المفضل وإنه ولد سنة 150هـ وهي الليلة التي مات بها أبو حنيفة ومات 231هـ، ثم ذكر كتبه على ما سيأتي في آخر المقال.
أما عبد الرحمن بن محمد الأنباري المتوفى سنة 577هـ صاحب نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص207 - 213) فقد قال إنه كان مولى لبنى هاشم، وإنه من أكابر أئمة اللغة، وإنه أخذ عن الكسائي كتاب النوادر وعن أبي معاوية الضرير، وأخذ عن ابن ثعلب أحمد بن يحيى وهو الذي أملى هذا الكتاب. وإذا أخذنا بقول الأنباري، جاز أن تكون هذه النوادر للكسائي أخذها عنه تلميذه ابن الأعرابي ولا بد من مقابلة هذه النوادر بنوادر الكسائي في كتبه الثلاث لتصح هذه النظرية.(787/15)
وفي رأي ابن الشعراني أن سفيان الثوري كان رأسا في الحديث وأبو حنيفة في القياس والكسائي في القرآن وابن الأعرابي في كلام العرب.
أما ياقوت في معجم أدبائه. فقد ذكره في صدد ترجمة أبي سعيد الضرير (ص118) فقال إنه أقام بنيسابور وأملى المعاني والنوادر ولقي ابن الأعرابي، وفي (ص119) يقول إنه صحب بالعراق أبا عبد الله محمد بن زياد ابن الأعرابي وأخذ عنه.
وأما ابن خلكان المتوفى سنة 681هـ فقد ترجمه في (ص492) وقال إنه من موالي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب، وقيل من موالي بني شيبان وقيل غير ذلك والأول أصح.
وابن خلطان يكشف لنا عن جنسيته فيقول إن أباه زيادا كان عبداً سندياً، وإن ابن الأعرابي كان أحول، وكان رواية لأشعار القبائل.
ويقول إنه لم يكن في الكوفيين أشبه برواية البصريين منه. ثم يذكر لنا علاقته بالفضل الضبي، وأسماه بعض أساتذته مما مر ذكره، ويقول إن من تلاميذه، أبا العباس ثعلب وابن السكيت. وقد ناقش العلماء واستدرك عليهم وخطأ كثيراً من نقلة اللغة وكان رأساً في الكلام الغريب.
وكان يزعم أن أبا عبيده والأصمعي لا يحسنان شيئاً.
وكان يقول جائز في كلام العرب، أن يعاقبوا بين الضاد والظاء، فلا يخطئ من يجعل هذه في موضع هذه وأنشد:
إلى الله أشكو من خليل أدوه ... ثلاث خلال كلها لي غائض
وقل في كشف الظنون ص (616) تحت باب النوادر، إن الأقدمين ألفوا كتباً في النوادر العربية والفقهية سوى ما ذكر منهم أبو عبد الله بن زياد المعروف بابن الأعرابي اللغوي وهو أي كتاب النوادر (رواية أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي ويونس النحوي المذكور في الأمثال وعليه رد لأبي سعيد حسن بن محمد السيرافي النحوي).
تصانيفه:
وقد عدد ابن النديم تصانيفه في فهرسته ص 103: ومنها كتاب النوادر، وكتاب الأنواء، وكتاب صفة النخيل، وكتاب صفة الزرع، وكتاب النبات، وكتاب الخيل، وكتاب مدح(787/16)
القبائل، وتفسير القبائل، وكتاب معاني الشعر، وتفسير الأمثال، وكتاب الألفاظ، وكتاب نسب الخيل، وكتاب نوادر الزبيريين، وكتاب نوادر بني فقمس، وكتاب الذباب، بخط السكري، وكتاب النبت والبقل.
ويضيف ابن النديم أنه روى عن جماعة من فصحاء العرب منهم الصمروتي والكلاني وأبو المجيب الربعي.
نموذج من كتاب النوادر:
نقتصر الآن على إيراد صفحتين من أول الكتاب، وصفحتين من آخره لندل بذلك على أسلوبه. وليس للكتاب فصول ولا أبواب، وإنما هو إملاء لنوادر العرب، وقصصهم، ثم شرح هذه النوادر، وما جاء فيها من الكلام الغريب مع مجموعة زاخرة من المترادفات: قال في الصفحة الأولى: (بسم الله الرحمن الرحيم، حسبي الله معيناً - قال أبو العباس أخبرنا ابن الأعرابي قال بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالس مع أصحابه إذ نشأت سحابة، فقيل (يا رسول الله هذه سحابة) فقال عليه السلام (كيف ترون قواعدها؟) قالوا (ما أحسنها وأشد تمكنها) قال (كيف ترون رحاها؟) قالوا (ما أحسنها وأشد استدارتها) قال (فكيف ترون بواسقها؟) قالوا: (ما أحسنها وأشد استقامتها) قال: (فكيف ترون برقها أوميضاً أم خفيا أم يشق شقاَ؟) قالوا (بل يشق شقاً) قال: فقال صلى الله عليه وسلم (الحيا) قالوا (يا رسول الله ما أفصحك! ما رأينا الذي هو أفصح منك) فقال (ما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلساني، بلسان عربي مبين).
قال: قواعدها، أسافلها، ورحاها وسطها ومعظمها، وبواسقها أعاليها، وإذا استطال فيها البرق من طرفها إلى طرفها وهو في أعاليها فهو الذي لا يشك في مطره وجوده، وإذا كان البرق في أسافلها لم يكد يصدق.
قال رجل من العرب وقد كبر وكان في داخل بيته وكان بيته تحت السماء (كيف تراها يا بني؟) قال (أراها وقد نكبت وتبهرت وأرى برقها أسافلها) قال (أخلفت يا بني).
والومض أن يومض إيماضة ضعيفة، ثم يخفى، ثم يومض وليس في هذا بأس من مطر قد يكونولا يكون. وأما المسلسل في أعاليها فلا يكاد يخلف. والاقتداء نظر الطير ثم إغماضها تنظر نظرة ثم تغمض، ثم تنظر نظرة ثم تغمض، قال حميد بن ثور:(787/17)
خَفىْ كاقتذاء الطير والليل ملبس ... بجثمانه والصبح قد كاد يسطع اهـ
وإليك أيها القارئ الكريم نسوق مقالا آخر وهو ما جاء في آخر الكتاب: رمأ على الستين، وأرمأ ورمث وطلث وزاحمها وداهمها وحباها وحبا لها إذا بلغها وقدعها جازها.
وقال قلت للكيلاني (كم أتى عليك) فقال (قد ولت لي الخمسون ذنبها. وقلت لآخر (كم أتى عليك) فقال (أنا في قرح الثلاثين) وقال آخر (وقد أخذت بعنق الستين، وأردأت على الستين وجر دمتها إذا جازها وجردم ما بالحفنة أتى عليه.
وقال الكلب الغزل الذي يصيد ظبياً فإذا صار إلى الثالث لاعبه ولم يعرض له، فيقال غزل إذ رآه. ويقال فيه تخنيث. وطرقة وحلة. وقال الدفر النتن متحركة، والدفر بسكون الفاء الذل ويقال دفر في عنقه ودفع في عنقه ومنه قول عمر واد فراه! أي وأذلاء!
ويقال هو معروف سوء، وثلة سوء، وبيئة وجبية سوء. وقال نثطل ونآطل دهم الدواهي.
قال وقلت امرأة ورأت رجلا عهدته شابا جلداً: أين شبابك وجلدك؟ فقال من طال أمره وكثر ولده ورق عدده، ذهب جلده. وقوله رق عدده أي سنوه التي يعيدها، ذهب أكثرها وبقى أقلها وكان عنده رقيقا وأنشد:
لم يختر البيت على التغرب ... ولا اعتناف رجلة عن مركب
فهو ممر كمسقاط القنب
الاعتناف: الكراهة.
يقول لم يخثر كراهة الرجلة فيركب ويدع الرجلة ولكنه اشتهى الرجلة وأنشد:
إذا اعتنقتني بلدة لم أكن لها ... نسباً ولم تسدد على المطالب
وقال الورق ورق الشباب، نضرته وحداثته، والورق قطع الدم، والورق ورق الدنيا وأنشد:
ترى ورق الفتيان فيها كأنهم ... دارهُم منها مستجاز وزائف
(نجز الجزء الأول من كتاب نوادر ابن الأعرابي والحمد لله حمد الشاكرين، يتلوه في الجزء الثاني: قال الفند اسمه سهل بن شيبان بن بيعة)
أحمد سامح الخالدي(787/18)
خليل مطران
بمناسبة صدور الكتاب الذهبي لمهرجان تكريم
للأستاذ وديع فلسطين
قليل تالله كل ما قيل في الخليل!
وضئيل وأيم الحق ما بذل في تكريمه.
خليل مطران من الماهدين في الشعر الحديث، ومن معبدي الطريق أمام النهضة الثقافية والفكرية في العالم العربي المعاصر، ومن الدعائم الأولى في بناء الأدب المسرحي في لغة الضاد، ومن ذوي الفضل في استحداث تعبيرات عربية لمصطلحات وعبارات أعجمية كانت مجهولة مغفلة حتى وضع مطران يده عليها وأشاعها وأذاعها.
وخليل مطران أديب له تميزه الخاص، تفاعلت فيه ثقافات شتى، وذابت في ذهنه آداب من المشرق ومن المغرب، وتهافتت على عربيته الأصيلة قطوف غربية متباعدة الأطراف ففتقت ذهنه، ونشرت أمام عقله المتفتح مجال المعرفة فسيحاً، وجعلت منه ركنا ركينا في صرح ثقافة الشرق، وقطبا يخطب المستشرقون ود شعره، ويلقى فيه المعنيون بالأدب ذي الطابع الإنساني الخالد معينا لا ينضب، ومنهلا لا تغيض غواربه.
أنشد الشعر من خمسين عاما أو تزيد، فكان أبداً مجلياً مجلو البيان، وكان دأبا في الطليعة يؤاخى لا (شوقي) ويزامل (حافظ) ويأخذ عنه ومنه شعراء نصف قرن، وستهتدي بنظمه ونثره أجيال لما تأت.
أمعن في الكتابة، وأوغل في تدوين (المحبرات الطوال) فما خلف بابا من أبواب الرأي إلا طرقة، وما ترك موضوعا يشغل الذهن إلا جاهر فيه بمستقده، وما هجر منحى التفكير لعله ارتآها أو ذريعة تذرع بها.
الشعر، نظمه.
والمسرحيات، ترجمها وألفها.
والاقتصاديات، تضلع منها وحياها بالكثير من وقته وجهده؛ والصحافة، مارسها واشتغل بها وحمل أعباءها فما ننكر لها وما تنكرت له.
والمنبر، ارتقاه منشدا وخطيبا، فلم تذهب نحولته و (دقة) حجمه بقدرته على امتلاك أفئدة(787/19)
المصيخين له.
فخليل مطران موسوعة حية متنقلة، جالسته كثيراً، فكان دائما صاحب زمام الحديث، يديره بمنة ويسرة، ويعرج به على القديم، ثم يقفز إلى الحديث بل إلى المستقبل البعيد. يعالج فنون الأدب والعلم علاج مقتدرا اصل قواعده، وثبت قدميه. ينظر إلى شؤون الحياة نظرة مشارفة مستلية فلا تبهره المظاهر، ولا يحول البهرج دون أن يبدي في الشأن حكما سديداً. فقد حلب الدهر أشطره، واستوعب غاية ما يستطيعه فرد من قراءة واطلاع وبحت. وخبر الناس طبقات طبقات، وشهد مواكب المدينة تتري أمامه، ورأى أصولا ثابتة تتداعى، وقواعد مؤثلة تهوى ونبلى، وجالس وطوف، وأقام فعرف الباقيات الخالدات من الفانيات الذاهبات. واستجمع هذه الذخيرة كلها في رأسه يرتد إليها في النظم، ويعود إليها في المحادثة، ويغرف منها كلما اشتهى قلمه الكتابة. . . وتلك شهوته المفضلة الأثيرة المقدمة على سواها
خليل مطران، وإن كان قد تسم قنة المجد، وارتقى درجات الرفعة السامقة وشهد ملوكا مضفون عليه من صنوف التقديرألوانا ورؤساء جمهوريات يتسابقون في تكريمه والاحتفاء به، وشعوبا تهتف باسمه وتردد شعره في كل صقع ناطق بالضاد، وأقطابا مرموقين يجتمعون من كل حدب ليسدوا له الثناء موفورا على مسمع من الحشود، وعلى ملأ من المعجبين. . . وإن كان مطران قد قرأ كتباً ألفت في إطرائه وتقريظه، ومقالات دبجت في مديحه والإشادة به، وشعرا أنشد في تمجيده وتخليده، غير أن هذه جميعا لم تفلح في بث روح الكبر في خليل مطران، ولم تجد في حمله على الشموخ والاستعلاء.
فقد ظل الخليل لأصدقائه خليلا، وأبقى على خلة الاتضاع والوداعة، حتى لقد افرط في هذا إفراطا تجاوز المدى. وكثيرا ما حدثني عن (تفاهته) وصغر شأنه وعجبه من أن يكون موضوع ذكر من قومه.
وهذا شعره يردد فيه آيات الدعة فيقول:
أخاف من سوء تأويل لرأبكم ... في الفضل لو قلت إني لست بالقمن
يقول:
سادتي، جاز فضلكم آمالي ... أجدير شأني بأدنى احتفال(787/20)
أي شئ أنا الذي نال هذا ال ... عطف منكم، ما صحتي، ما اعتلالي
ما يرجى من مشهدي أو مغيبي ... ومكاني إلا من الطيف خالي
عندي الحائلان دون رفيع ال ... قدر من قلة ومن إقلال
بل لقد يذهب به تواضعه إلى افتقاد رقيق الحال من الأدباء. وسلوا أحياء القاهرة تجبكم أن خليل مطران أعرف الناس بدخائلها يزور كل أديب، ويبحث عنه أينما كان مأواه، ليعرف أفي مسرة هو أم في معسرة، أبه حاجة إلى عون يسدى إليه أم إلى هم يرفع عنه، أم إلى قلب كبير يواسي قلبه، أم إلى كلمة تشجيع يحفز بها همته، أم إلى رفقة تؤنس وحشته، أم إلى حديث شهي ينسيه علته. وحسبي في هذه السانحة أن أقول أن خليل مطران أن كان القلة القليلة التي أحاطت بالشاعر إبراهيم الدباغ يوم ألمت به أسقام البدن ويوم حرمته الدنيا بهجة الإبصار، فكان يقصد صومعته في زورات متتالية منتظمة غير متحرج ولا متردد وال معاند، وكان يؤثر مجالسة هذا الأديب على مسامرة الكبراء وذوي اللقب والجاه.
وخليل مطران قوة دفعة للأدباء. يرى هذا يوشك على التعثر فيقيمه، وذاك يسرف في انحرافه فيقومه، لا يبخل بالتشجيع ولا يضن بالثناء، ولا يدخر وسعاً في سبيل بعث الهمة التي تبطت، ورد روح النشاط التي خمدت.
أتيته يوما بكتاب ترجمته وقلت له: إني عليم بأمراضك مدرك أنك من طلعة الشمس إلى طلعتها في صبيحة اليوم التالي تبرح بك الآلام وتخضع لنظام دقيق عينه لك الأطباء؛ فهذه إبرة تحقن في جسمك مرات في اليوم، وهذه أنواع شتى من الأدوية تتعاطاها شرباً واحتلاباً وابتلاعا عدا الحمامات الساخنة وأعباء التدليك والتدهين. ورجوته بعد هذا أن لا يكلف نفسه عناد تلاوة هذا الكتاب، وحسبي فخرا أن أراه موضوعا في مكتبته.
فما كان من مطران إلا أن قضى الليلة ساهراً ليتلو الكتاب كلمة كلمة، غير مشفق على بصره ولا على صحته المتهالكة، ولا مترفق بيديه الكليلتين اللتين لا تقويان على حمل شئ، حتى إذا ما أوشك الصبح على البزوغ، كان صاحب القلب الكبير قد أتى على الكتاب جميعه.
أتدرون لم فعل مطران هذا، ولم عرض نفسه لخطر قد يصيب حياته أو يرد حالته الصحية القهقرى؟؟ لقد فعل الخليل ذلك ليستطيع في اليوم التالي أن يفوه لناشئ بكلمة تشجيع(787/21)
وإطراء، فيرضى ضميره ويريح نفسه، وإن كان ذلك يؤدى على حساب الصحة والبصر والإجهاد الذهني.
وللاستدراك أقول إن خليل مطران وصف حالته الصحية يومذاك ببيت من قريض مألوف في قرى لبنان، نصه:
وجسمي صار نص ميت ونص حي
ونص الحي باقي للعذاب.
هذه صفحة عن خليل مطران رأيت أن أنشرها اليوم في مناسبة ظهور الكتاب الذهبي لحفلات تكريمه. وليت المجال يسعف، فأدع القلم يتحدث عن مطران الذي عرفته فعرفت فيه إباء في النفس، وكرما في الخلق، وسعة في الصدر، وسداداً في الرأي، وبصيرة نافذة في الأمور، وعفة في اللسان والقلب، وجرأة في القول والفعل، وسخاء في العطاء والإحسان، ووفاء لا يبرهه، وإخلاصا يستمده من قلبه العامر بالإيمان، ومجالدة تدعوه إلى احتمال كل عناء. بل لقد رتب خليل مطران على نفسه واجبات تعهد بالنهوض بها، فما أخل بوعده، ولا منعته علة عن تأدية هذه الواجبات جميعا عن رضاء وراحة ضمير.
ولئن كانت هذه المحامد بأسرها قد اجتمعت وتبلورت في خليل مطران، وأسبغت عليه الشخصية الفريدة التي يزدان بها هذا الأديب الجليل الكبير، فليس يسع المرء إلا أن يضرع إلى الله أن يلطف به وبصحته، ويبرى بدنه من الأدواء التي تكالبت عليه، ويمنحه من فيض رحمته ما يخفف عنه أوجاع المرض، ويكلأ برعايته في أيام تمر عليه كالسنين والدهور.
فليس عند العروبة سوى (خليل مطران) واحد، ونحن نراه لازمة بل ضرورة لأنه بناء لم يعرف الهدم، ولأنه مجدد مصلح كله وفاء ومكرمات.
وديع فلسطين(787/22)
الشعر في السودان
للأستاذ علي العماري
كنت أود أن يكون عنوان هذا البحث (النهضة الأدبية في السودان) فأتناول فيه من حديث الشعر والنثر ما يرسم صورة صحيحة أو قريبة من الصحيحة للحياة الأدبية هنا، ولكن يبدو أنه سيمضي وقت ليس بالقصير دون أن يجد الباحث المادة الضرورية لمثل هذا البحث؛ فإن نثرا مستقلا يكون أدبا لم يتح بعد لباحث.
ومن عجب أن يجد الإنسان مادة غير نزرة ولا قليلة للشعر، ولا يجد شيئا يمكن أن يعتمد عليه في النثر، وربما كان لذلك أسباب كثيرة هي في الغالب أسباب سلبية، وقد يكون من الخير التغاضي عنها، حتى إذا كان من الخير أن نقول في هذا الشأن قلنا، ولهذا أرى من الحسن أن أقصر بحثي على الشعر وحده.
وطبعي أن يكون في السودان شعر، وأن يكون فيه شعر وفير، فإن أسباب الشعر ودوافعه قوية مستفيضة غالبة، ولو استجاب الشعراء لها، ولو لم تشغلهم شئون أخر عن التأثر بها، والتنبه إليها، لجاءنا شعر وخير كثير.
وإنه لتروعك الرغبة القوية في دراسة الآداب، واستظهار المنظوم والمنثور عند كثيرين من أبناء السودان فإنك تجد عددا غير قليل يحفظ الآلاف من أبيات الشعر، ففضيلة زميلنا الشيخ محمد العبيد الأستاذ بالمعهد العلمي بأم درمان يحفظ شعر شوقي كله، لا يند عنه بيت منه؛ وفضيلة الشيخ أحمد العاقب - وهو شاعر - ال يكاد يمر بمسألة، أو يأخذ في حديث حتى يستشهد بأكثر من بيت من الشعر القديم، أو من الشعر الحديث. ولقد لاحظت أن دواوين: شوقي وحافظ والبارودي والعقاد هي الدواوين المفضلةعند الأدباء السودانيين. أما القراءة فهم مغرمون بها، وأكثر ما يقرأون للأساتذة المصرين من كبار الكتاب أمثال طه حسين والعقاد والزيات وهيكل، وآثر المجلات الأدبية عندهم وأحبها إليهم مجلة الرسالة.
ولا مندوحة لمن يريد الدقة والإنصاف في الحديث عن الشعر السودان، أن يقسمه إلى قسمين، شعر المدرسة القديمة، وشعر المدرسة الحديثة، وكلتاهما تعيش في هذا القرن. وتستطيع أن تقول إن المدرسة القديمة سيطرت على الشعر منذ ابتداء هذا القرن أو قبله بقليل، وبقيت سيطرتها إلى عهد قريب، وبعض أساتذتها لا يزالون يرفدون الأدب(787/23)
بأشعارهم، وإن أخذت أشعة المدرسة الحديثة تبدو في الأفق.
وطابع المدرستين جد مختلف، فبينما نجد سمة التقليد، والتمسك بالتقاليد، والسير على النهج القديم، غالبة على المدرسة القديمة، نجد شيئا كثيراً من التحرر والطموح والاستقلال في المدرسة الحديثة. وقد تأخر - ولا شك - ظهور هذه المدرسة ولم يستقر لأصحابها منهاجهم بعد، ولكني أعتقد أن الخطة الجديدة في نشر التعليم، وإرسال البعوث إلى مصر وإلى غيرها ستؤتي أطيب الثمار في هذه النواحي، نعم لا يزال الشعراء المحدثون في أول الطريق، ولكن بواكيرهم تبشر بأنهم يسيرون بخطى حثيثة نحو الكمال والنضوج.
وسأقصر حديثي في هذا المقال على مقومات المدرسة القديمة ومنهاجها، وطابعها، وشعرائها.
التقليد - في الواقع - هو السمة الأصلية في أساتذة هذه المدرسة. التقليد لشعر القديم وطرائقه، تقليد في الأغراض، وتقليد في المعاني، وتقليد الأساليب، كما أن من السمات الغالبة على هؤلاء الأساتذة سمة الوقار والرزانة والتحفظ. ولا غرو فأكثرهم من (المشايخ) بل إن منهم من وصل إلى أعلى المناصب التي يصل إليها الشيوخ في السودان. نعم من شعراء هذه المدرسة من تخرج في كلية غردؤن، ومن تعلم تعليما مدنيا، ولكن هؤلاء - أيضا - لا يقفون بعيدا عن طائفة المشايخ، لأن روح الدينية أبرز مظاهر الحياة في السودان، وهي قوية مسيطرة، والشعر - ونحن نتحدث عنه من الناحية الفنية - في حاجة شديدة إلى الانطلاق والتحرر والاندفاع.
الشعراء ينظمون كثيراً في المدائح النبوية، وفي المدح، والهجاء، والرثاء، وقل منهم من يخرج على هذه الأغراض. أما معانيهم فهي هي التي نشأت مع الشعر العربي؛ فالشجاع أسد هصور، والجميل بدر منير، والممدوح أندى من الغمام كفا، وأجود من البحر يدا، والفقيد تعزى فيه المروءة والندى، والعاشق لا يزال يقف على الأطلال، ويستوقف الصحب، ويبكي الديار، وأما الأساليب فقلما تميل إلى شئ من الخروج عن منهج الشعر القديم، فلا تجد شاعراً نظم في غير البحور المعروفة بل إنك لتجد أكثر ما ينظم من الشعر على أوزان البحور المشهورة من الطويلوالكمال والبسيط، هذه الأبحر التي تمثل الوقار والشيخوخة والهدوء، ولا أثر في هذه الأشعار لظل الحياة الجديدة الناعمة المتألقة، فهي(787/24)
أكثر تأثرا بما يقرأ أصحابها من الشعر القديم، وهم يجلونه فلذلك يحتذونه.
وأبرز ما يصور لنا النهج هو ابتداء القصائد بالغزل، الغزل المصنوع طبعاً، فالمدائح، والتهاني، والتوديعات، وأشعار المناسبات، لا بد من بدئها بالغزل، ولا بد - مع ذلك - من إظهار المهارة في حسن التخلص، وجودة الانتقال. على أن بعض الشعراء يترك هذه السنة ليحبى سنة أخرى، فيبدأ قصيدته بذكر الخمر وسقاتها وندمائها، أو يذكر النوق وحثها على المسير كأن يقول الشيخ محمد عمر البنا، وهو يمتدح عثمان دقنه وأعوانه
ما ضرني أن لو حثثت العيس في ... أثر الحمول، وإن علا التأنيب
وزجرت للبكرات دامية الخطا ... قد مسها نحو الحبيب لغوب
أوجعتها سيراً فصارت ضمراً ... كهلاك شك، ينجلي ويغيب
ثم تسأله هذه العيس إلى أين المسير؟ ومن تريد - وأنت تذرف الدمع -؟ فيجيبها بأنه يمم الزهادة والتقى، فعساه يلقى نفحة من سر من زهد الدنيا وطلقها:
(عثمان دقنة) من رقي أوج العلا ... بفخارة، والطاهر المجذوب
ومن الابتداء بذكر الخمر قول الشيخ عبد الله عبد الرحمن يهنئ أحد أصدقائه بزواج:
هات اسقني حلب العصير ... حمراء كالخد النضير
وادع الخلاعة والصبا ... واهتف بحي على السرور
وأقم (لأحمد) من بيوت الشعر أمثال القصور
وهذا ابتداء واضح الدلالة على الصنعة والتقليد، فالشيخ عبد الله هذا العالم الوقور الذي نشأ في بيت العلم والتقى، ال يطلب الخمر، ولا يدعو الخلاعة، ولا يستطيع أن يشبه الخمر بالخد إلا وهو مأخوذ بما في فكره من شعر القدامى، ثم ما هذه المفارقة العجيبة؟ دعوة للخلاعة، وحي على السرور، ولكن الشيخ - وهو من شعراء السودان المعدودين - لا يجد أنسب لذكر الخمر - التي لم يذقها طبعا - من تهنئة بزواج، على أ، هـ يبتدئ مدحه نبوية يذكر الخمر فيقول:
أديري علىَّ الكأس يا ربة الشعر ... وجودي بمعسول الرضاب من الثغر
لعلي بهذي الكأس يا عز انتشى ... فاسموا بإدراكي إلى العالم الشعري
وأنا - في الحقيقة - حائر في هذه الكأس، أي شئ فيها؟ أهو خمر؟ أم شعر؟ أم رضاب(787/25)
عزة؟
وكقوله في مطلع قصيدة ألقاها في حفلة الميلاد النبوي:
أدرها بعد نومات العشى ... كميت اللون كالخد الوضي
مشعشعة بماء المزن رقت ... كما رقت شمائل أريحي
حواليها نواعم آنسات ... نواعس، ذات لحظ بابلي
وعلى ذكر الابتداء بالخمر أقول إن وصف الخمر ليس غرضا أساسيا في الشعر السوداني، وإن كنا نجد بعض الشعراء يتسلى بها، كما يقول الشاعر صالح عبد القادر.
اسكب الراح، وناول من طلب ... وأدر كأسك، فالدنيا طرب
وأسقنيها بنت كرم عتقت ... تطرد الهم، وتشفى من تعب
يا رفاقي لا تلوموني على ... حبها، فالعيش في بنت العنب
ما علينا أن شربناها وقد ... كتب الله علينا ما كتب
أما الابتداء بالغزل، فهو - كما قلت آنفاً - اللازمة التي لا تنفك لكثير من القصائد، ومن ذلك قول الشيخ عمر الأزهري يمدح صاحب مجلة الجوائب حيث يقول في أولها:
سلوا عن فؤادي مسبلات الذوائب ... فقد ضاع من بين القلوب الذوائب
فلا سلمت نفس من الحب قد خلت ... ولا كان جفن دمعه غير ساكب
سبا مهجتي لدن المعاطف أهيف ... له لفتات دونها كل ضارب
ولا عيب فيه غير أن جفونه ... بنتها على كسر جميع المذاهب
هذا شعر جيد، لولا ما ذكر فيه من هذا الاصطلاح النحوي، وإن كان ذلك يعد ملحة ملفتة، وهكذا يمضي في غزله حتى يقول متخلصاً.
وحبي له يخف في الكون أمره ... كحب العلا مصباح أفق الجوائب
ولا نعدم في هذه الناحية من يستن سنة أخرى أيضاً، فيبتدئ شعره بانكار الغزل، كقول الشاعر عبد الرحمن شوقي يمدح سيادة الحسيب النسيب السيد علي الميرغني.
وقفت ولم أنسب ولم أتغزل ... ولم أشك حالي في الهوى وتذللي
ولم أبك دارك قد عفت وتغيرت ... وصحبا كراماً بت عنهم بمغزل
ومثلي إذا جن الظلام رأيته ... يقوم قيام الناسك المتبتل(787/26)
يقولون حب الغيد تيم قلبه ... وما حب ربات الخبا عنك مشغلي
وما في فؤادي موضع لمحبة ... لغيرك حتى قال ذلك عذلي
على أني سأوفي هذا المعنى حقه عند الحديث عن الغزل، وإن كنت أبادر فأقول: إن جريان الغزل على ألسنة كثير من هؤلاء الشعراء، وخاصة أولئك العلماء الأعلام، من أمثال شيخ علماء السودان سابقاً الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، والشيخ عمر الأزهري، والشيخ البنا وغيرهم، أقول إن هذا مما لا يدع شكا في سلطان التقليد على الشعراء.
ولست أريد من هذا أن أحط من قيمة الشعر السوداني، ولكني أقصد أن السمة الغالبة عليه في هذه الحقبة سمة الاحتذاء والمتابعة، والتقليد فيه خير كثير، وفيه كذلك شر كثير. وإن في هذا الشعر لوثبات طيبة، وملامح مشرقة، سنكشف عنا في أثناء هذا الحديث، كما أن سير الشعراء في ركاب القدامى جعلهم يبعدون بأشعارهم عن تصوير الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يجعل لوصف الطبيعة السودانية الحلابة مكانها البارزة في أشعارهم.
(للحديث بقايا)
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان(787/27)
(حياة) بلابسي
للأستاذ نجاتي صدقي
عثر رجال الهلال الأحمر، بعد مجزرة دير ياسين على جثة فتاة في قميص النوم، ملقاة بالقرب من طريق فرعية مؤدية إلى القرية، فتعرف عليها بعضهم فإذا هي المعلمة حياة بلابسي.
عرفتها في أواخر سنة 1947 وقت أن قدمت للإذاعة موضوعاً أدبيا أرفقته بكتاب تقول فيه: (أرجو أن أتمكن من إذاعة حديثي هذا في أقرب فرصة ممكنة).
وبعد أيام من ورود هذا الحديث قابلت أحد قضاة القدس فذكرني (بحياة) وأوصاني بها خيراً. . . ثم قابلت أحد مفتشي معارف فلسطين فنبهني إلى حديث (حياة) وضرورة الاعتناء به. . . ثم قابلت أحد أدباء القدس فقال لي: ألا تهتم بحياة وأحاديثها فهي فتاة تحتاج إلى مساعدة وتشجيع. . . ثم قابلت مديرة مدرسة في يافا فسألتني إذا كنت قد تلقيت حديثاً من (حياة) واستفسرت عن مدى استعدادي لمساعدتها.
فساءلت نفسي: من تكون حياة بلابسي هذه؟. . وما الداعي إلى كل هذا الاهتمام بها؟. . وأخذت أترقب الفرصة لمقابلتها والتعرف إليها عن كثب.
وفي عصر أحد أيام يناير من هذه السنة، وكان الثلج يتساقط بكثرة في القدس، والرياح الباردة العاتية تعصف بشدة، دخلت على حياة وقد تدثرت بمعطف بسيط، ولفت رأسها بمنديل من الصوف وقد رصع بقطع صغيرة من الثلج، فظهرت وكأنها إكليل من زهر الليمون، رمز العفة والطهارة، يطوق رأسها الجميل. وفي هذه المقابلة عرفت منها مأساتها:
لقد فقدت أباها منذ أمد غير بعيد، ووالدتها كسيحة طريحة الفراش، وأختها صغيرة غير قادرة على العمل، فوقع على عاتقها عبء الاعتناءبوالدتها وأختها، والقيام بجميع شؤون البيت، والعمل في الوقت ذاته على كسب المعاش إذ لا مورد لأسرتها تعتاش منه، كما أن والدها لم يترك أي مبلغ من المال، أو أي نوع من العقار.
وهكذا رأت نفسها مضطرة إلى ترك المدرسة قبل أن تحصل على شهادة (المتريك)، وأن تسعى إلى العمل كمعلمة إضافية في مدرسة ابتدائية، فقيل لها في دائرة المعارف: ليس بوسعنا أن نجد لك مكانا شاغرا في القدس لكننا نحتاج إلى معلمة إضافية لقرية دير ياسين،(787/28)
فقبلت حياة العمل لقاء راتب شهري قدره ثمانية جنيهات.
وقرية دير ياسين تقع إلى الغرب من القدس وعلى بعد عشرة كيلومترات منها، وطرق المواصلات إليها غير متوفرة فكانت حياة تضطر للذهاب إليها والعودة منها سيراً على قدميها، فتترك القدس في الساعة السادسة صباحا مجتازة في طريقها بعض أحياء القدس اليهودية وهي ميا شعاريم، وبيت إسرائيل، ومحنا يهوديا، وروميما. . . ثم تمر بواد وعر إلى أن تصل مستعمرة بيت هاكيرم، ومن ثم تتجه رأساً إلى دير ياسين.
هذا هو طريق الآلام الذي كانت تعبره حياة مرتين في اليوم صيفاً وشتاءً.
وهي مع أنها صبية جريئة كانت تشعر أحياناً برهبة عند مرورها في الوادي، فتخشى أمرا لا تعرف كنهه. . . فتنتظر بعض الوقت إلى أن تمر بها القرويات الذاهبات إلى القرية أو العائدات منها فترافقهن. . . إلا أن هذه الخشية أخذت تتلاشى قليلاً قليلاً، وصارت حياة تعبر الوادي بمفردها محيية الحراثين والرعاة، فيجيبونها محيين مرحبين، مستفسرين منها عن أولادهم ومقدار تقدمهم ونجاحهم في دروسهم، سائلين الله أن يكلأها بعين عنايته ورعايته.
ولم تحصر حياة عملها في القرية على التعليم وإنما كانت تعمل في فترات من النهار ممرضة أيضا، فتمد من هو بحاجة إلى الإسعاف الأولي بمختلف الأدوية، وتعود المرضى في أكواخهم، وإذا رأت أن فيهم من تتطلب حالته دخوله المستشفى اتصلت على الفور بدائرة الصحة القدس تلفونياً، أو ذهبت بنفسها إلى تلك الدائرة عند عودتها إلى بيتها.
وما إن أتمت حياة السنة الأولى من عملها في دير ياسين حتى غدت معبودة سكانها يترادف اسمها مع التربية والطهارة والوطنية الصحيحة.
وفي يوم عادت الفتاة إلى القدس فوجدت إنها فارقت الحياة، فتحملت الصدمة بقلب قوي، ولم تنهزم أمام صروف الدهر القاسية، وثابرت على عملها في دير ياسين بنا طبعت عليه من عزيمة وثبات، فحمل ذلك دائرة المعارف على أن تزيد راتبها الشهري جنيهين آخرين.
وأعلنت هيئة الأمم المتحدة تحقيق ما حلم به هرتزل سنة 1895 في كتاب (الدولة اليهودية)، فهب العرب يدافعون عن أراضيهم ومواطن معيشهم، وانتصب ملاك الموت والمحصد في يده يجني الرؤوس آحادا، ثم عشرات، ثم مئات. . . وكان على حياة أن(787/29)
تختار أحد أمرين: إما أن تقبع في بيتها تنتظر حظها من الزواج، وإما أن تسكن دير ياسين لتتابع كفاحها في سبيل العلم والصحة.
ولم تتردد والفتاة كثيراً فحملت بعض أمتعتها ورحلت إلى القرية، وسكنت في غرفة من غرف مدرستها.
وفي هذه الغرفة عانت المعلمة أنواعا شتى من الحرمات وشظف العيش. . . أما الضوء فكان مصباح الزيت. . وأما التدفئة فكان الحرام تلفه على نفسها وهي تراجع الدفاتر، وتعد الدروس.
وانتشرت الحوادث بسرعة إلى أن شملت دير ياسين أيضا. . . ولما كانت هذه القرية محاطة بأربع مستعمرات يهودية. خشيت خيانة جيرانها فألفت من فتياتها وفتيانها حامية وكانت حياة من أركانها.
قالت لي ذات يوم: حدث بينما كنت أتدرب على إطلاق النار من البندقية أن أخطأت الهدف وراحت الرصاصة تزغرد في مستعمرة مجاورة!. .
ومضت أيام وأسابيع تأزمت في أثنائها العلائق بين دير ياسين والمستعمرات التي حولها، ولم يدر القرويون أن القيادة اليهودية قد اختارت قريتهم كبدء مرحلة جديدة في خططها (العسكرية).
وعند الساعة الثالثة من صباح يوم قاتم أطبق ألفان من اليهود المسلحين بالبنادق السريعة الطلقات والخناجر، على سكان القرية النيام، ونشبت بينهم وبين الحامية معركة لم تدم طويلا، فتغلب المعتدون على المناضلين القرويين، وبدأت المجزرة!. .
أما حياة فما إن سمعت أزيز الرصاص وانفجار القنابل حتى هبت من فراشها وهي في قميص النوم، وهامت على وجهها في الحقول وبين التلال. . . وبعد لحظات وجدت نفسها في مكان أمين خارج القرية، وبوسعها الالتجاء إلى قرية عربية أخرى. . . إلا أنها سمعت في هذه الآونة أنينا بالقرب منها، فاتجهت إلى مصدره وإذا أمام جريحين من حامية دير ياسين، فتقدمت منهما ومزقت جزء من قميصها ضمدت به جراحهما، ثم قر رأيها على أن تضعهما في مغارة في تلك الناحية إلى أن تتمكن من إخبار رجال الهلال الأحمر عنهما، فحملت أحدهما على كتفيها وصارت به نحو المغارة. . وبعد مسير عشرة أمتار مزق الجو(787/30)
صوت طلقات سريعة فسقط الجريح قتيلا، وسقطت حياة فوقه مضرجة بدمائها.
أما الجريح الثاني، فقد قدر له أن يعيش، ويروى خاتمة حياة فتاة تذوقت الجهاد في سبيل العلم، والأسى في سبيل العائلة، والبطولة في سبيل الوطن!. .
نجاتي صدقي(787/31)
الأرواح والأشباح
للأستاذ حسين مهدي الغنام
عرف البحث في الروح والاتصال بها في العالم الآخر من قديم الأزل، وقد شغل أعرق الشعوب مدينة في كل ما مر من العصور والأجيال، واستوى في ذلك الوثنيون وأصحاب الأديان. فحضارة الوثنين وتراثهم وآثارهم الباقية صرفت أكبر اهتمامها في البحث عن الروح وما بعد الموت.
كما ذكر الأديان جميعا أن وجود الأرواح بعد الموت حقيقة لا مراء فيها.
وقد ذكرت التوراة قصة روح صالح إسرائيلي متجسدة رأتها امرأة تهبط من السماء ثم تصعد إليها.
أما القدامى فقد كانت أساليبهم في التعبير عن وجود الروح أو الاتصال بها، أساليب بدائية ساذجة، مما حدا بكثير من المفكرين أن ينسبوه إلى الشعوذة وينكروه.
ولقد اهتم العلم الحديث بالروح وتحضيره والاتصال به بعد الموت، حتى اتخذ صفة (العلم الحديث)، وأصبح له أنصار من كبار العلماء والمفكرين.
وبديهي أن يكون الشرقيون أكثر الشعوب اهتماما بالروح فالشرق مهد الأديان ومهبط الأنبياء ومسرى الملائكة.
وفي مصر جماعات تهتم الآن بهذا (العلم) الحديث، وفي هذه الجماعات علماء من كبار رجال الدين مثل الفيلسوف الكبير المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري.
ومن هؤلاء العلماء رجل متحمس لهذا العلم كل التحمس، مؤمن به إيمانا عظيما، هو الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير.
وقد كذبه كثيرون من المتشككين، وانبروا يتحدونه، وهو يصمد لهم ويقبل تحديهم.
وفي الواقع أن هذا العلم يثير الحيرة.
ولو كان الأمر يقتصر على الشرقيين لقلنا إنها شعوب روحية خيالية يجد هذا العلم بينهما مجالا طبيعيا، ولكن العجب والحيرة يأتيان من ناحية الغربيين، وهم قوم ماديون يتشككون في كل شئ، ولا يؤمنون إلا بالمادة وحدها. .
كان اهتمام الغربيين في الماضي بالبحث في الروح يكاد يكون محصوراً في طبقة معينة،(787/32)
وكان بحثهم فيها يتخذ صورة الاختراع والخيال، أو ينظرون إليها نظرتنا إلى تسمية (العفاريت)!
وكان معظم هذه الفئة أدباء يجنحون إلى الخيالة في كتاباتهم وكان أغلبهم يتخذ صبغة القصة، ومن هذا النوع عاصفة شكسبير، وبعض قصص تشارلز ديكنز، وإدجار آلن بو، وأسكار وايلد، حتى جاء السير آرثر كونان دويل فجعل من هذا اللون من الكتابة فنا، أضفى عليه رداء جديداً. .
ثم ازداد اهتمام الغربيين به في السنوات الأخيرة، فاتخذ منه العلماء علما، حتى تقرر تدريسه في بعض الجامعات، واتخذ منه الكتاب والباحثون فناً. . .
إلا أن العجب حقا أن يكون من هؤلاء الأخيرين صحافيون معروفون يعالجون مواضيعه بأدلة وبراهين لا تترك مجالا للشك في صدق وقوعه. . .
ومن هؤلاء الصحافيين الكاتب الإنجليزي الكبير هانن سوافر، ولزلي وود، وا. ل. لويد، وموريس باربانل، وتريفور آلن، وغيرهم كثيرون.
كما أن للورد هاليف كس كتاباً عن الأشباح نشره حديثا ولم نطلع عليه، ولكنا قرأنا عنه وطالعنا قصة منه منشورة في إحدى المجلات الإنجليزية. .
لو كان هؤلاء الصحافيون أدباء لقلنا إن ما يكتبونه خيال إدباء، ولكنهم صحافيون لا يؤمنون إلا بالملموس الذي يرونه بأنفسهم، ولا يجرون وراء خيال الأدباء.
ومن هذه المقالات التي كتبها حديثها بعض هؤلاء الصحافيين عن وجود الأرواح وتحضيرها، جعلنا مادة هذا الحديث، لأنها تأتى من أوائل الماديين في أوربا. . .
إن المطالع على الآداب الغربية يطالع عشرات من القصص التي تدور حول وجود الأرواح والأشباح في كثير من الأماكن المهجورة والأثرية.
وقد ذكر لزلي وود أن بعض الأشباح سكنت في (الاستوديوات ودور السينما)، بل أن بعضها ظهر في شريط سينمائي. . .
وذكر شاهد عيان في استكهولم، عاصمة السويد، قصصا عن أبرشية تظهر فيها شبح سيدة عجوز في ملابس خضراء تسير بين الأبواب المغلقة، وثلاث سيدات في ملابس من الطراز القديم يجلسن على كنبة يحكن بعض الثياب، وإذا جلست على مقعد معين من(787/33)
الصخر هناك دفعت إلى الوراء. وقد شهد بكل هذه الأقاصيص خمسة من القسس.
أما تريفو آلن، المؤلف والصحافي المشهور، فقد بدأ كلامه بقوله إن الأشباح التي يحبها هي الأشباح التي يستطيع التحدث إليها، وقد وقع له ذلك الاتصال بها فعلا.
ثم تحدث عما سمعه من القصص التي رواها له علماء ومنهدسون وأثريون لا يكذبون أو يخترعون، فقال: ولنأخذ تل العمارنة، مدينة الفرعون ايخناتون المصري، فقد قابلت منذ بضع سنوات أثريا شابا، هو رالف اليفرز، وكان ينقب عن الآثار القديمة هناك في بعثة جمعية التنقيب المصرية. ولم يكن هذا المهندس المادي يعتقد فيما يسمع عن لعنة توت عنخ أمون. ولكنه ذكر لي أشياء غريبة كان يسمعها في الليل بين تلك الآثار، ولم يستطع لها تعليلا، ومنها موسيقى على آلات من العهد الفرعوني، توقعها أشباح غريبة في زي عصر ايخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ولا يمكن أن نشك في أقوال رجل مثل السير آرثر إيفاتر، فقد قابلته عندما كان ينقب في قصر مينون، في كنوسوس بجزيرة كريت، فقد ذكر لي أنه سمع ذات ليلة أصواتا غريبة، فترك فراشه ونزل إلى انقاض القصر فرأى كثيرين من رواد البلاط ينزلون السلالم وهم يحملون المشاعل ويتكلمون بلسان مينون الذي عفي عليه الزمان، وقد راقبهم نصف ساعة.
ولما كان جورج جينسج ينقب عن آثار كالابريا القديمة، مرض بالحمى ورأى جنوداً من عهد الإمبراطورية الرومانية يمرون أمامه، وقد وصفهم وصفا دقيقا جداً.
ولنتحدث عن دير العذراء القديم في هيرلي علىنهر التمس الذي أنشأه عام 1086 جيوفري دي ماندفل الذي اشترك في معركة هيسنجس. فقد فرجني الكولونيل ريفرزمور على هذا المكان، ثم ذكر لي عرضا في أثناء حديثه أن شبح زوجة جيوفري الثانية - ليسلينا - وشبح وليم روفرس وهو مدرع بعتاده الحربي ويمتطي جوادً، سكنا أبهاءه. . . وقد وجدت جماجم رهبان في هذا المكان أثناء التنقيب، بقامات ضخمة، وأقدم صغيرة.
وكان لي صديق طبيب قضى أياما هناك، فقال إنه رأى في أحلامه راهبا في مسوح أسود يحادثه، في حجرة من حجرات جناح النوم، وقد أشار الراهب إلى المدفأة الحديثة وقال: أزلها من هنا! ثم رأى الطبيب مدفأة قديمة مستديرة جميلة الشكل تحت دعامة كبيرة من البلوط، خلف المدفأة الحديثة. . . ولما أخبر الكولونيل ريفرزمور بهذه الحكاية أزال المدفأة(787/34)
الحديثة فوجد القديمة مكانها، كما وصفها الطبيب تماماً!
وكانت هناك ضيفة أخرى، وهي سيدة تهتم بالكتابة الآليه، فتلقت ذات يوم رسالة عن (بئر فارغة) وفيها أشارت أعانتها على رسم خريطة لهذه البئر، وأخبرت أنها تحتوى على مجوهرات وكنوز ثمينة ألقاها فيها أخ ميت. ثم تلقت رسالة أخرى تقول: ابحثي عن خط الصدأ. .
وأخبر الكولونيل كذلك بهذه الحكاية الطريفة، فتشكك فيها بادئ الأمر، لأنه لم يكن يظن ان بئرا توجد في ذلك المكان، ولكنه أخذ في الحفر، فضرب خيطا صدئا تحت الطبقة الأولى، ثم البئر بعد ذلك. . . وتابع الحفر، فأكتشف عظاما وملابس من العصور الوسطى، وأواني فخارية، ثم تابعوا الحفر أقداما عديدة - رأيتها بنفسي - ولكنها لم تكن بالقدر الكافي ليكتشفوا الكنوز تحتها. . .
ولما كنت أعيش في هامبتون - على نهر التيمس - كان منزلي بجوار قصر الروائية المعروفة ونفرد جراهام، التي صارت فيما بعد مسز تيودور كوري؛ وكان قصرها هذا، المسمى سانت البانز، والواقع على النهر، مملوكا من قبل لابن السيدة جوين، دوق سانت البانز. . . ففي الليلة الأولى التي نزل والداها ذلك القصر، كانا يعبران المرجة التي أضاءها القمر، وفجأة سأل الرجل زوجته: ألا ترين شيئاً غريباً على شجرة المجنوليا؟ فأجابته زوجته متعجبة: ماذا. . . . نعم. . . إن هناك رجلا متدلياً منها!
ولما أسرعا في اتجاه الشجرة اختفى ما رأيا. . .
وبعد أسبوع، كان والد الروائية في حفلة رقص بمنزل الكولونيل هارفيلد، فسأله أحد الأهليين: هل أنت مستر جراهام الذي اشترى قصر سانت اليانز، ذلك البيت القديم الجميل، الذي شنق الرجل نفسه على شجرة المجنوليا فيه؟
فاستفسر الرجل فزعاً. . .
وأخبرتني الروائية أنها علمت أن عابر سبيل وقع في ضائقة مالية، فشنق نفسه على تلك الشجرة، ويقول الناس أن شبحه يقطن الحديقة.
وذات فجر باكر، استيقظت مسز جراهام على أصوات غريبة، ورأت ثلاثة آدميين يتزاحمون على سطح الشرفة، ويتفرسون في نافذتها، كانوا وجلين مضطربين، يعينون(787/35)
امرأة تبدو ميتة، رأسها متدل، وملابسها وشعرها مبتلة بالماء، فقفزت من فراشها واتجهت إلى النافذة وهي تصيح: ما هذا؟ ما خطبكم؟
ولكنهم اختفوا. . .
ولما طلع النهار علمت مسز جراهام أن رجلين وسيدة كانوا في حفلة بجزيرة تاج القريبة منهم، وقد عادوا إلى سيارتهم بعد انتهاء الحفل، ولكن السيارة اختلت من قائدها وسقطت في النهر، وكان أحد الرجلين، وهو تومي هام، سباق بروكلاند الشهير في السيارات، يبذل غاية ما في وسعه لينقذ زوجة صديقه التي غرقت.
ولما رأت مسز جراهام صورته منشورة في إحدى الجرائد عرفت فيها أحد الرجلين اللذين رأتهما في روياها. فما القول في هذا؟ وهذه القصة:
ذهبت خادمة إلى مسز جراهام ذات مرة تقول أنها قابلت سيدة جميلة على السلم، مرتدية ثوب سهرة مفتوح الصدر، وتحيط بها أنوار أيدت ما عليها من حلي. ولها نظرات ساحرة حلوة.
وسألتها جراهام إذا كانت خافت تلك السيدة، فقالت الخادمة: كلا. . . إنها كانت جميلة جدا. ولقد أسفت عندما اختفت بسرعة.
واستزادت السيدة خادمتها وصفا لتلك السيدة الجميلة، فرأت أن أوصافها تنطبق على السيدة نل جوين - صاحبة القصر الأولى - وعندئذ أسرعت إلى صندوق قديم وأخرجت منه صورة زيتية، فتعرفت الخادمة في الحال على صاحبة الصورة وصاحت: رباه. . . أنها بعينها السيدة الجميلة التي رأيت شبحها، إنها هي بذاتها!
وكان آل جراهام على صلة وثيقة بكنيسة القرية وراعيها. وذات عشية دعوا القسيس لتناول الشاي عندهم، فلما توجه إلى قصرهم كان بادي الخوف والجزع يلهث من شدة الاضطراب، وأخبرهم أنه وهو في طريقه إليهم، عندما مر بوصية الكنيسة، سمع ضوضاء وأصواتا غريبة كأنها أصوات جموع من الخلق تناديه من القبور ليحلق بهم، فأفزعته تلك الأصوات حتى أنه أطلق لساقيه العنان.
فقالت له الآنسة جراهام: إنها أوهام واضطراب أعصاب ثم قدمت له كأسا من الوسكي القوي مع ماء الصودا.(787/36)
وكان هذا القسيس شابا قويا، صحيحا بالغ الصحة، ولكنه توفى فجأة بعدأسابيع قليلة.
وأما قصور هامبتون، فإن أروقته مسكونة بأشباح يمكن أن نسميها نجوم الأشباح!
فمثلا هناك شبح كاترين هاوارد التي فرت من حجرتها لتعاهد هنري قبل أن يذهب للإعدام في البرج، وهي تصرخ في يأس بين ممرات القصر فتردد أصداء صياحها.
واللادي جين سيمور، في ملابسها البيضاء تصعد السلالم وتدخل مخادع القصر القديمة، وهي تحمل شمعة موقدة.
وإن شبحي المفضل الذي أعتز به - لأسباب شخصية - هو شبح السيدة ذات، الرداء الرمادي، وهي السيدة سبيل بن، مرضعة الأمير إدوارد، بعد موت جين. . وكانت تلك السيدة تعيش في المخادع التي يقطنها الآن اللورد واللاري بيردوود.)
وقد دفنت في كنيسة هامبتون عام 1562 تحت جدث من المرمر، عليه تمثال في حجمها الطبيعي، ويبدو أنها احتفظت بهدوئها مئات الأعوام حتى أقلقت عظامها في جدثها، عندما رمم عام 1829.
فلن تحب سيدة لنفسها أن تعامل مثل هذه المعاملة الخالية من الذوق، ولو كان عمرها ثلاثمائة عام.
ولهذا بدأ شبحها يظهر في حجراتها القديمة، حيث يسمع فتيات آل بونسونبي وغيرهن - من خلف الجدران - صوت سيدة كأنها تدير آلة غزل قديمة.
وقد رأى جندي (ديدبان)، ذات ليلة شبح امرأة في (برنس) رمادي ذي رأس طويل.
ولولا خشيتي أن تحسب أني أطيل في القصة، فإني أضيف إليها باختصار أن مكتب العمل - لأسباب عرضية - هدم هذه الحائط ووجد حجرة مختفية فيها آلة غزل قديمة، ولوازم نسوية أخرى. وكان (خشب الأرضية) متآكلا بفعل أقدام من سارت عليه؟
وقد ذكر أرسنت لو، مؤرخ قصور هامبتون، شبح السيدة بن ووصفه بأنة: أحسن الأحسان التاريخية الحقة.
فقد روت اللادي مود - ساكنة حديثة في ذلك القصر - للآنسة جراهام أن ضيفة من ضيوفها كانت تزورها، فجلست على منضدة الملابس بحجرة نومها، فدخلت عليها سيدة طويلة، نحيفة البدن، في ثياب رمادية. وقد ظنت الضيفة أنها رئيسة الخدم، فقالت لها: هل(787/37)
تتفضلين بإبقاء النور؟
وكان زر الضوء بجانب الباب.
ولكن السيدة لم تجب، ثم انسلت خارجة في هدوء. .
وقالت السيدة مود إنه لم يكن هناك سيدة بهذا الوصف في ذلك الوقت، ولكنه ينطبق كل الانطباق على السيدة بن.
وقد رأى كثيرون هذا الشبح مراراً. .
ومن هذا القبيل. . . إن الفنان أريك فريزر يعيش في بقعة من ذلك القصر، بقرية هامبتون. ولعله يعيش في نفس المكان الذي ماتت به السيدة بن.
وقد خبرتني السيدة فريزر أن ابنتها الصغيرة، ولم تكن سنها تزير على عامين أو ثلاثة أعوام، ولم تعرف شيئا مطلقا عن هذه الأقاصيص، قالت لأمها عرضا ذات يوم: مامي. . . . لقد رأيت سيدة جميلة في ملابس رمادية. دخلت حجرتي في الليلة الماضية، ولم اهتم بدخولها. . .
وفي مرات متكررة بعد ذلك، قالت لها الطفلة. لقد رأيت السيدة الرمادية مرة أخرى.
وهناك حكايات وأقاصيص أخرى عديدة، تقشعر من ذكرها الأبدان، ولكن القصص التي رويتها هي التي أستطيع الاعتماد عليها لوثوقي من مصاردها، ذكرتها لمن يهتمون بالأرواح والأشباح.
(للمقالة بقية)
حسين مهدي الغنام(787/38)
أحمد الكاشف
مات الشاعر الماجد أحمد الكاشف: منذ أيام معدودات، بعد أن خدم الشعر والأدب، والسياسة والعروبة نصف قرن أو يزيد.
نشأته وحياته:
ولد بناحية القرشية من أعمال مديرية الغربية. من أبوين تركيين عريضي الجاه، وافري الثراء. رفيعي المنزلة تربطهما بكرام الأسر في مصر وشائج القربى أو صلات المعرفة، وعميد أسرة الكاشف بعد الفقيد هو شقيقه محمود بك ذو الفقار الكاشف وكيل الجمعية الزراعية الملكية ومن أقارب الأسرة معالي علي باشا الشمس، والدكتور حامد باشا محمود.
تلقى الفقيد علومه الأولية في منزل والده كعادة الأسر الكبيرة. ثم التحق بمدارس طنطا ولكنه لم يتم تعليمه لانصرافه عن العلوم المدرسية إلى كتب الشعر والأدب من جهة، ولاعتماده على ثراء أسرته من جهة أخرى.
ولم يتزوج الفقيد وعزف منذ صباه عن مباهج الحياة واطمأن إلى العيش الريفية الهادئة. فترك بيت الأسرة الواسع الرحاب بالقاهرة. وقضى كل عمره ببيته القروي مستغنيا بوجهاء القرية عن كبراء مصر وبصداقة الفلاحين عن مخالطة المتمدنين.
وملأ حب القرية قلبه وشغل فكره حتى قضى حياته معتبرا جميع أهلها أهله، وشواغلها شواغله ولا يمكن أن يهتم أي شخص بأسرته وبيته أكثر مما اهتم الكاشف بالقرشية وأبنائها وكان منزله جامعة شعبيةللقرية. وبرلمان لها. ومحكمة يقضى فيها بين المتخاصمين، ولا يخلو يوما من الشيخ الفاني والشاب الفتى، والفلاح الساذج. والمثقف الفذ - يديره الكاشف بحكمة ولباقة ومرونة تؤلف بين هذه العناصر الشاذة بحيث ينال كل جالس ما يرضيه ويسمع ما يعجبه -
أخلاقه:
كان الفقيد متصوف النزعة. وإلى الزهد في الحياة وزهرتها أميل. إلى إيثار لازم حياته فجعله دائماً يفضل مصلحة غيره على نفسه. فيجرد بالضروري ولا يرد سائلا. ويرحب بالعافين والسائلين ولو كان به خصاصة.
ومن أبرز صفاته التسامح. فلم يحمل قلبه غيظا لعدو. ولا حقدا لمسئ، وما كانت تمنعه(787/39)
إساءة أحد عن أن يخلص في خدمته، بطبع صاف لا تكلف فيه، وسماحة نفس لا تحامل عليها. كما كان شديد العطف رقيق الوجدان دائم الوفاء وله في ذلك فصص لا يتسع المقام لذكرها.
أدبه:
برع في الشعر السياسي حتى بز جميع شعراء العصر في هذه الناحية، ويمتاز شعره بأنه سجل حافل للمسألة الشرقية والقضية المصرية، وقد ارتفع صيته في فترتين، أولاهما أيام الخديوي عباس وثانيتهما إبان الوزارة الأخيرة لمحمد باشا محمود.
كما يمتاز شعره القديم في (ديوان الكاشف) ولكن ما بقى من شعره الأخيرة غير مجموع أكثر وأقوى مما جمع.
واجب:
أليس من حق الراحل الكريم أن يجمع ديوانه. ويبحث ويدرس كفاء ما أسداه للأمة واللغة من خدمات؟ وهل يجوز في منطق الوفاء أن يهمل هذا الرجل بعد موته وقد ضحى بماله ومستقبله وأوقاته في سبيل خدمة اللغة والأمة؟
يا أصدقاء الكاشف وعارفي فضله ويا إسراء معروفه ويا محسوبي إحسانه ويا رجال الأدب واللغة والصحافة أسألكم بالله ألا تنسوا أحمد الكاشف الذي خدم الأمة واللغة نصف قرن أو يزيد.
عطية الشيخ(787/40)
يا ثائراً بالنار
للأستاذ حسن الأمين
صمتاً فقد نطق الرصاص وحسبنا ... أن الرصاص إلى القتال ينادي
في سفح (نابلس) لهيب معارك ... وعلى جبال (القدس) صوت جهاد
كل يلوذ بنخوة عربية ... كل يردد صرخة استنجاد
يا ثائراً بالنار يحمي أرضه ... ويذب عنها جاهداً ويفادي
لم يستكن للظالمين ولم يدع ... علجاً يدوس مراقد الأجداد
أنشدتني لحن الرصاص وربما ... يذكى الجبان ويستهيج الهادي
أرنو إليك فمن لظاك قصائدي ... نظمت ومن قاني دماك مدادي
إن فاتني بالأمس يومك إنني ... أهفو إليك بعدتي وعتادي
فلعل لي يوماً بجنبك يرتوي ... فيه من التارات قلبي الصادي
ولعلني ألقاك في رهج الوغى ... ولعلني أمشي إلى استشهادي
ردد على الأسماع أنغام الظبي ... نارية الترجيع والترداد
قل للغفاة عن القتال ألم تروا ... ماذا يراوح (قدسكم) ويغادي
أأموت في كف اللئام وأنتم ... حولي ولم يهززكم استنجادي
أأرد عن وردي أأقتل صابراً ... بيد اليهود أتستباح بلادي
يا نائمين على الحرير وما دروا ... أنا ننام على فراش قتاد
متلفعين دم المعارك مالنا ... إلا الحصا في القفر ظهر وساد
نغدوا على النيران يذكيها لنا ... غدر اللئام وخسة الأوغاد
وبيت لا ندري أنصبح بعدها ... ِأم أن عين الموت بالمرصاد
يا نائمين وما دروا أنا هنا ... لسنا تذوق اليوم طعم رقاد
إخواننا والدهر فرق بيننا ... مدوا لنا منكم يد الأنجاد
هبوا إلينا بالبنادق بالظبي ... بالمال بالأرواح بالاعتاد
لبيك (نابلس) بكل مصابر ... حر وكل مغامر ذواد
يفديك إن حمى الوطيس بنفسه ... ويقيك بالأموال والأولاد(787/41)
يا لفيلق العربي يمشي صارخاً ... القوم قومي والبلاد بلادي
أحمى بنيران المدافع حقها ... وأذود عنها بالرصاص العادي
من يستبيح حماي من يسطو على ... حتى ومن يلوى رفيع عمادي؟
(دمشق)
حسن الأمين(787/42)
نشد (إلى الأمام)
للأستاذ إبراهيم محمد مجا
إلى الأمام يا جنود الوطن إلى الأمام
على الدوام فوق الزمن على الدوام
تقدموا يا جنود الفدا طال السكون
وحطموا ما بناه العدا من الحصون
وقدموا من بغي واعتدى إلى المنون
أنتم حماة البلاد إذا دعا داعي الجهاد
إلى الأمام في ظلال العلم يا جنود
على الدوام فوق هام الزمن على الدوام
إلى الأمام في ظلال العلم يا جنود
وجددوا يوم النزال القسم والعهود
بأن تبيدوا كل باغ ظلم من الوجود
وأن يكون الانتصار شعاركم. نعم الشعار
إلى الأمام يا جنود الوطن إلى الأمام
على الدوام فوق هام الزمن على الدوام
سيروا إلى النصر سيروا ... فالنصر للعالمين
طيروا إلى المجد طيروا ... فالمجد للقادرين
والله نعم النصير ... والله نعم المعين
ولتهتفوا للمليك ... أرواحنا تفتديك
إلى الأمام يا جنود الوطن إلى الأمام
على الدوام فوق هام الزمن على الدوام
(الإسكندرية)
إبراهيم محمد نجا(787/43)
-(787/44)
الأدب والفن في أسبوع
علماء الدين والفن:
طلب إلى فضيلة الشيخ الجامع الأزهر، الموافقة على استخدام فرق المسرح الشعبي في الدعاية الدينية، وذلك بإدخال الموضوعات التي يتناولها الوعاظ في الروايات التي تمثلها هذه الفرق، فلم يوافق فضيلة الأستاذ الأكبر على ذلك.
قرأت ذلك الخبر في الصحف، وقرأت إلى جانبه أن الشيخ محمود أبو العيون لبى دعوة زوجين من ممثلي السينما، فتناول طعام الإفطار على مائدتهما، وأرشد الزوجة إلى بعض الأمور الدينية وقد نشرت مجلة (الاثنين) صوراً لفضيلته معها، إحداها وهي تنصت لقراءته آيات من القرآن الكريم، وواحدة وهو يؤمها في الصلاة، وثالثة في الشرفة ينتظران غروب الشمس، ولم تهملالممثلة في أثناء ذلك زينتها وخاصة صبغ شفتيها باللون الأحمر. . . وقد حسبت أول ما وقعت عيني على هذه الصور أنها مناظر من فلم جديد. . . ثم قرأت في مجلة (آخر ساعة) بتوقيع (الشيخ العزيز علوان) أنه لقي الشيخأبو العيون وهو خارج من صالة العرض السينمائية في وزارة الداخلية، فقال له: (لقد شاهدت اليوم الفليم المصري الأول الذي يستطيع أن، يفخر به كل شرقي) وذكر اسم الفلم وبعض أبطاله. .
وهكذا ترى موقف كل من الشيخين الكبيرين من عالم المسرح والسينما، مخالفاً لموقف الآخر، ولا بد أن لكل من فضيلتهما وجهة نظرة، ولكنها على أي حال بمفارقة من المفارقات التي لا تخلوا من طرافة.
ومفهوم طبعا أن المنشور في آخر ساعة بتوقيع الشيخ عبد العزيز علوان، يقصد منه الإعلام عن الفلم الذي تناول الشيخأبو العيون طعام الإفطار على مائدة بطله، وهنا شئ طريف ينبغي تسجيله، وهو استخدام اسم عالم كبير من علماء الأزهر في الإعلانات السينمائية. . . وهو (تقليعة من تقاليع) مصر التي تبذ يها هوليود!
معهد للدراسات الاجتماعية:
قررت جامعة فاروق الأول بالإسكندرية إنشاء معهد جديد للدراسات الاجتماعية، يلتحق به الراغبون في هذه الدراسات من خريجي كليات جامعتي فاروق وفؤاد، على أن يكون الطالب قد درس في جامعة أو معهد عال علم الاجتماع أو علم النفس أو التربية أو(787/45)
الاقتصاد الاجتماعي أو الجغرافية البشرية أو الجغرافية الاجتماعية أو أصول القانون. ومدة الدراسة في المعهد سنتان يحصل الطالب بعدها على شهادة معادلة للماجستير. وستبدأ الدراسة به في شهر أكتوبر القادم.
وتستبين فكرة من المذكرة التي وضعها عميد كلية الآداب بجامعة فاروق في هذا الصدد، فقد جاء فيها أن مصر في حاجة إلى جديد من الباحثين الاجتماعيين، يقوم بدراستها على الإحصاء الدقيق لأنها بلد لا تعرف شئونه الاجتماعية على الوجه الأكمل، وإن علم الاجتماع هو الذي يستخدم الآن في تعرف أحوال الجماعات الإنسانية وتطورها الاجتماعي والسياسي، كما أنه الأساس الذي تعتمد عليه الأمم في توجيه الإصلاح الاجتماعي. والغرض من إنشاء هذا المعهد هو دراسة العلوم الاجتماعية. والغرض من إنشاء هذا المعهد هو دراسة العلوم الاجتماعية وتطبيقها بوجه خاص على البحوث العملية المتصلة بمصر الأقاليم المجاورة لها.
والواقع أن الدراسات الاجتماعية قليلة الحظ في بلادنا، وخاصة الناحية التطبيقية، فإذا كان لدينا بضعة علماء في الاجتماع فإن درستم نظرية حصلوا بها على شهادات ودرجات جامعية، أما المجتمع المصري، فهو كما يقول عميد الآداب بالإسكندرية لا تعرف شئونه على الوجه الأكمل. ولا تكاد تجد في ميدان الكتابة والتأليف مكانا لدراسة أحوالنا الاجتماعية ولعل ذلك من أسباب ما نراه من عقم المشروعات الاجتماعية التي توضع وتعتمد لها الأموال وتؤلف لها اللجان ولا يرى لها أحد أثرا في الوظائفدرجات الموظفين.
اليونسكو ومساعي اليهود:
يبذل اليهود مساعي للحيلولة دون انعقاد مؤتمر اليونسكو في لبنان، وقد كان من أثر هذه المساعي أن أبدي بعض الأعضاء الغربيين مخاوفهم من الاجتماع في بيروت في الوقت الذي تدور فيه المعارك بين العرب واليهود في فلسطين، وأبلغت هذه المخاوف إلى الحكومة اللبنانية، فسارعت إلى طمأنتهم وأكدت لهم أن المؤتمر سينعقد في جو آمن لا يخشى فيه أي ضرر.
ولكن المساعي اليهودية نشطت أكثر من ذلك، فقد جاء في نشره الهيئة العربية العليا أن إحدى الدول الأعضاء في اليونسكو أرسلت - بدافع تلك المساعي - مذكرة رسمية إلى(787/46)
المستر هكسلي المدير العام لليونسكو، ترغب إليه فيها إعادة النظر في موضوع عقد مؤتمر اليونسكو في لبنان، بسبب الاضطرابات القائمة في فلسطين، ولأن لبنان يؤلف أحد طرفي النزاع، وهو في حالة حرب مع اليهود، ويخشى أن يؤثر موقفه في سير أعمال المؤتمر. وقد رد المستر هكسلي على طلب هذه الدولة بقوله: إن مسألة الأمن في طليعة المسائل التي تراعيها هيئة اليونسكو عند عقد مؤتمراتها، وهي تستطيع أن تصرح استنادا إلى المعلومات التي لديها أن لبنان لم يعلن الحرب على اليهود في فلسطين، بل بالعكس، فهو واقفموقف الدفاع، وقد حشد جيشه على الحدود، لا رغبة منه في الغزو أو الفتح، وإنما للدفاع عن أرضه وتأمين السلام والأمن في ربوعه؛ على أن إدارة اليونسكو سوف تدرس الحالة في لبنان في ضوء التطورات الجديدة.
ومما لا يلاحظ أن مؤتمر اليونسكو قد شغل الدول العربية عن عقد المؤتمر الثقافي العربي الثاني في هذا العام، مع أن هذا أجدى عليها وأدنى إلى الناحية العملية من حيث تنفيذ توصياته. أما اليونسكو فما هي إلا إحدى هيئات الأمم المتحدة (المتحدة ضد العرب فقط) ونحن الآن في حالة توجب علينا ألا نثق في هذه الهيئات، سياسية كانت أم ثقافية، أو على الأقل لا نرجو منها خيراً.
إذاعات من باريس عن أدباء العرب
الأوربي للإذاعة المصرية قرر إذاعة سلسلة من الأحاديث باللغة الفرنسية عن الأدباء والشعراء العرب والمصريين مع ترجمة قصائدهم شعراً، وعهد بذلك إلى الأديب الفرنسي مسيو جاستون برتيه مراسل جريدة (الفيجارو) الباريزية والذي عاش في مصر طويلا. وقد شملت أول سلسلة من هذه الأحاديث إذاعات عن أحمد شوقي وخليل مطران وحافظ ابراهيم وابن الرومي وأبي تمام وأبى نواس وعباس محمود العقاد وعبد الرحمن صدقي وأحمد رامي وشعر الفرنسية عند العرب وما نقله منه واصف غالي باشا. وستذاع هذه الأحاديث قريبا من محطة إذاعة باريس، وسيعقبها أحاديث عن الناثرين والقصصيين.
ويمكن أن نفهم تكليف الأديب الفرنسي مسيو جاستون بأعداد هذا البرنامج على أنه مشرف على تنظيمه ويعاونه فيه أدباء مصريون. وإلا فكيف يدرس ابن الرومي وأبا تمام وأبا نواس؟ وأني له القدرة على ترجمة أشعارهم؟(787/47)
مؤتمر المستشرقين:
جاء من باريس أن المؤتمر الدولي للمستشرقين عقد جلسته الافتتاحية بالمعهد الوطني للعلوم السياسية في يوم 24 يوليه الحالي وقد شهد الجلسة ممثلون لجميع البلاد التيتهتم بدرس حضارة الشرق الأدنى وتاريخه، وفي مقدمتهم مندوبو مصر برياسة أحمد ثروت بك سفيرها في فرنسا، ومندوبو الباكستان والهندستان وتركيا النمسا ولبنان. وسيوالي المؤتمر أعماله في عشر لجان أولها الجنة الدراسات المصرية.
وقد تكلم في هذه الجلسة الدكتور طه حسين بك فقال إنه يحمل إلى المندوبين الفرنسيين وإلى أعضاء المؤتمر تحية مجمع فؤاد الأول للغة العربية وتحية مصر كلها التي يسرها أن تشترك في مؤتمر تعده جوهريا بالنسبة إليها، لأن الدور الذي قامت وستقوم به في الثقافة الشرقية وفي أبحاث المستشرقين يقضى عليها بأن تشترك في كل اجتماع من هذا النوع. ثم قال: يسرني أن أنتهز هذه الفرصة لأعلن شكري وشكر جيل كامل من المصريين جيل المهتمين باللغة والآثار المصرية للمستشرقين الفرنسيين وغيرهم من المهتمين بتلك اللغة وهذه الآثار. فما من مصري يعني بالشئون الشرقية لا يشعر بأنه مدين بأمور كثيرة للمهمة العظيمة التي قام بها المستشرقون سواء هناك في القاهرة أو هنا في باريس لقد كنا جميعاً من تلامذة المستشرقين الفرنسيين، فسمعنا دروسهم على ضفاف النيل، وعلى ضفاف السين، في مختلف الجامعات الفرنسية. فإذا أعربت لكم عن شكر أبناء الجيل الذين تجاوزوا سن الشباب الآن، والذين أمثلهم أنا هنا، فإني أعزب لكم عما نشعر به شعوراً عميقاً، وأقوم بواجب أعده واجب الأبناء نحو الآباء.
من طرف المجالس:
قال أحد الأصحاب إنه من سلالة علي بن أبى طالب، وسلسلة النسب بين علي وعدنان معروفة، وهو يريد أن يبحث عمن بين عدنان وآدم، لتتم له معروفة سلسلة نسبه إلى آدم.
فانبرى له صاحب آخر قائلا:
أتريد أن نثبت أنك من بنى آدم!
على طريقة طه حسين:(787/48)
بدا لي أن أكتب في هذا الموضوع الذي تستطيع أن تقول إنه ليس موضوعاً، وإنما هو بحث عن موضوعه. وسواء اتفقنا على أنه موضوع أو أنه غير موضوعأم لم نتفق على شئ من ذلك فالأمر الذي لاشك فيه أني دفعت إلى الكتابة فيه دفعا وحملت عليه حملا. فأنا أريد أن أملأ هذه الصفحات الثلاث التي أملؤها كل اسبوع، والمطبعة تريد أن تملأها أيضاً، والقراء ينتظرون أن يقرؤوها أو بعبارة أخرى يريدون أن يملؤوا هم أيضا فراغهم بقراءتها.
كتبت من هذه الصفحات الثلاث ما كتبت، ثم رجعت إلى ما كتبت، وقسمته إلى ما تعودت أن أكتب كل أسبوع، فوجدته أقل منه بحيث لا يسد الفراغ، ولم أجد عندي ما أكتبه، أو قل لم أجد أدبا ولا فنا ولا شيئا يصح أن يقال عنه إنه أدب أو فن أو شبيه بالأدب والفن من قريب أو من بعيد.
هذه الصحف وهذه المجلات، يومية وأسبوعيه وشهرية، يحررها محررها ويكتبها كاتبوها في هذا الحر الشديد، لأنها لا تتوقف عن الصدور في الصيف كما لا تتوقف عن الصدور في الشتاء. تقرأ هذه الصحف وهذه المجلات يصبح الصباح، وحين يرتفع الضحى، وحين يقبل المساء، فلا ترى فيها أدبا أو فنا أو شيئا من قبيل الأدب والفن يترك في نفسك أثراً أو صدى بعد قراءته، ويظل عقلك فارغا من هذا الأثر وهذا الصدى كما كان قبلهذه القراءة.
وهذه القاهرة تكاد تخلو أنديتها وهيئاتها الثقافية الرسمية وغير الرسمية، تكاد تخلو من كل نشاط أدبي أو ثقافي في هذا الصيف كما تعودنا أن نراها كل صيف.
قلت لصاحبي: ماذا أصنع هذا الموضوع؟ فقال في شئ من الإنكار: وهل هو موضوع؟ فلم أجد مناصاً ولا مفرا ولابدا من أن أتمثل بهذا البيت الذي طالما تمثلت به قبل الآن وسأتمثل به في كل آن:
أيتها النفس أجملي جزعاً ... إن الذي تحذرين قد وقعا
وأكبر الظن أن أوس بن حجر حينما قال هذا البيت في رثاء فضالة الأسدي لم يكن يخطر له على بال ولم يكن يدور له في خلد أنني سأتمثل به حينما أقع في أزمة الأدب والفن في هذا الأسبوع.
العباسي(787/49)
البريد الأدبي
حول لفظة (العتيد):
بينما كنت أستمع بقراءة المقال الشيق الذي كتبه الجهبذ الكاتب الشيخ محمد رجب البيومي في العدد 773 من الرسالة الغراء إذ لفتنظري وأسر انتباهي في ثنايا لفظه (عتيدة) التي جاءت وصفا في قوله: (ويقود أركانا (عتيدة) صالحة للبقاء!) وقد كان معناها (القدم) كما يريد كاتب المقال في هذا المقال. وكتبت اللغة التي رجعت إليها المختار، المصباح، المحيط لم تذكر أن لفظة (العتيد) معناها (القدم) وإنما الذي أفصحت عنه إنما هو لمعنى (العتيد) - بدون هاء - الحاضر المهيأ، كما في قوله تعالي: - (وأعتدت لهن متكأ. . .) وفي قوله تعالى: - (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
وأما المعنى المراد الذي لم تؤده هذه اللفظة في هذه المقالة والذي هو (القدم) كما هو مفهوم من المقام فإنما تكون تأديته بألفاظ أخر ليس من بينها (العتيدة) هذه في هذه المقالة، ألا وهي: العتيق والقديم والعهيد - بالهاء بدل التاء - وللفظة الأولى جاءت في قوله تعالى: (ثم محلها إلى البيت العتيق)، وأما الآخر فقد نطق بها مرتين في بيت واحد المرحوم شاعر النيل حافظ إبراهيم بك في استقباله السير غورست: -
وفي الشورى بنا داء (عهيد) ... قد استعصى على الطب العهيد
وهذا ما يحضرني الآن من الألفاظ الدالة تعلى معنى (القدم) ولا أقول هذا كل ما في اللغة في هذا المعنى إذ ربما يطلع علينا بألفاظ أخر من المراجع اللغوية (الرقيب العتيد) الأستاذ عدنان وذلك ما كنا نبغي.
وللأستاذ صاحب المقال إكباري وتقديري وللأديب عدنان تحيتي وللرسالة اللامعة تجلتي.
(طرابلس الغرب)
محمد مهدي أبو حامد
كلية أحمد باشا
في ميدان الاجتهاد:(787/51)
أخرجت جمعية الثقافة الإسلامية بحلوان كتاب في ميدان الاجتهاد للأستاذ عبد المتعال الصعيدي، وهو معروف لقراء الرسالة بآرائه الحرة المتزنة في كل ما يكتبه في الأدب والعلم، وبميله إلى التجديد في العلوم على اختلاف أنواعها، حتى تخلع ثوبها القديم البالي، وتلبس ثوبا جديدا يجدد عقلية المسلمين، ويقضي على عهد الجمود، ويعيد عهد الاجتهاد، وهم في حاجة إلى تلك الصيحات الإسلامية الشديدة التي انقضتبموت جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، لتنبههم من غفلتهم التي عادوا إلى الاستنامة إليها، بعد أن نبهتهم بعض التنبه صيحات هذين الإمامين.
وكتاب في ميدان الاجتهاد صيحة من تلك الصيحات التي طال عهد المسلمين بها، بعد أن كانوا يهزون بها هزاً عنيفاً في عهد ذلك الحكيم وتلميذه؛ فتحي ما مات مت آمالهم، وتفتح باب الرجاء في مستقبل ناهض، بعيد لهم سابق عزهم، ويسترد لهم جلال ماضيهم، فيعيشون في هذا العصر كما يجب أن يعيشوا فيه، ليشاركوا أهله بأرواحهم كما يشاركونهم بأجسامهم، ولا يشاركوهم بأجسامهم دون أرواحهم، فيتخلفوا عن ركب الحياة، ويدركهم ما أدرك المتخلفين من الأمم الماضية - لا قدر الله.
لقد عالج ذلك الكتاب كثيراً من المسائل الشائكة في الإسلام، فأتى فيها بالعلاج الصالح، وحل مشكلها بالرأيالقاطع، لأن صاحبه قد درس دينه دراسة صحيحة، وخلص نفسه من قيود التقليد والجمود التي تحول دون الوصول إلى الحقيقة، وجمع إلى هذا إخلاصه لدينه، وحبه له حبا يملك عليه نفسه، فجمع بهذا كله أسباب الرأي الصحيح، والاجتهاد المتزن.
وهذا بعد أن مهد بدرس نافع في الاجتهاد، وأتى فيه بتوجيه جديد لم يسبق إليه، يجمع بين الفرق الإسلامية التي باعدت بينها أصول الاجتهاد القديمة، ويوجهها لوضع فقه جديد يمثل البيئات الإسلامية كلها، فيسع المسلمين جميعهم، ولا يمثل بيئة دون أخرى من بيئاتهم، وهذا توجيه له خطره في الإسلام، وله حسن أثره في المسلمين.
(ع)(787/52)
رسالة النقد
من حديث الشعر والنثر
حملتني الظروف الراهنة على أن أقف من هذا الكتاب موقف الدارس الناقد، وقد وقفت منه فيما مضى موقف القارئ المستوعب وكان اختلاف الاتجاه في الحالين لاختلاف البواعث التي حدت بي إلى قراءة الكتاب.
قرأته فيما مضى لأستفيد من معارفه إثر ظهوره، وهأنذا أقرأه مع طلابي بمدارس السودان، لأبصرهم بما اشتمل عليه من آراء قيمة وبحوث طريفة لمست منها الدليل الناصع والنهج القويم. غير أني وقفت - واستوقفني طلابي - عند بعض الآراء فلم أجد لها دليل من معقول أو منقول يشفى الغلة ويحمل على التصديق وسأعرض لبعض منها بالدارسة على فيها شيئا من الهداية للطلبة الدارسين.
1 - قتل ابن المقفع:
يعتقد المؤلف بأن إيمان المقفع لم يكن صحيحا فهو يقول (ولكن إيمانه لم يكن فيما ظهر صحيحاً ولا خالصاً لله فقد كتب في الزندقة كتبا كثيرة اضطر بعض المسلمين أن يرد عليها في أيام المأمون. . .)
يعتقد هذا الاعتقاد ثم ينفي أن تكون الزندقة هي التي قتلته دون أن يلتمس لذلك دليلا فلم يزد على أن قال: (أم أنا فأرجح جداً أن الذي قتل ابن المقفع ليست الزندقة. . . .) ونحن لا نجهل أن كثيراً من الباحثين قد دافعوا عن إيمان ابن المقفع إكبارا للرجل وضنا بمثله أن يعود إلى الزندقة وقد من الله عليه بالإسلام وحق لهم وقد حاولوا إبطال هذه التهمة بالدلائل أن يبطلوا ما ترتب عليه من قول القائلين: إن الزندقة هي التي قتلته.
أما الدكتور فيثبت الزندقة ثم ينفي أن يكون القتل بسببها كأنها الأمر الهين الذي لا يستوجب قتلا ولا يستدعي حسابا مع أننا نعلم أن الزندقة في العصر العباسي قد امتحن بها طائفة من المفكرين والأدباء ولم يعنهم حين نزل بهم بلاء الحاكم أقدارهم ولا علمهم وربما قتل بعضهم زورا وعدوانا للشبهة الباطلة التي زيفها الحساد الناقمون.
والمؤلف ينفي كذلك أن يكون العهد الذي كتبه لبعد الله بن علي على أبي جعفر المنصور هو الذي قتله فيقول: (ولم يقتله تشدده في الأمان الذي كتبه لبعد الله بن علي لأنه يوشك أن(787/53)
يكون أسطورة ليس لدينا منها نص).
وأعتقد أن نعت العهد بالبطلان - لأنه لم يصل إلينا - حجة لا تنهض على أساس فكم من عهود أضاعها الزمن، وكم من كتب عفى عليها القدم وبقيت لنا أخبارها فيما بقى من أخبار السابقين، وإذا كان هناك أثر جدير بالضياع فهذا الأثر الذي يعارض مشيئة الحاكم ويقيده بقيود قاسية لا يرتضيها لنفسه ومنها طلاق النساء وتحرير العبيد إذا ما نقض العهد:
على أننا إذا التمسنا سبب القتل فيما كتب الدكتور وجدناه سببا لم يشر إليه نص من التاريخ ولم يقل به من كان في عهد ابن المقفع أو بعده بقليل وهو إلى جانب هذا تلمس لأشياء لم تجد لها قوة السببين السابقين: فهو يقول: إن رسالة الصحابة هي التي قتلته ويسرد منها ما يراه مثيرا لحفيظة الخليفة ومشجعا له على قتل الرجل.
لست أفهم أن تزلف الكاتب إلى الخليفة بنصيحة من النصائح بعد أن يمهد لها بالثناء المستطاب مما يدعو إلى الانتقام والقتل.
ولست أفهم أن إشارته عليه بأن يكرم جند خراسان والعراق وأن يأخذ الحيطة من جند الشام مما يريب الخليفة في أمره إلى الحد الذي يدفعه إلى الفتك به.
ولست أعتقد كذلك أن اقتراحا يتقدم به كاتب فيبسط فيه اختلاف القضاة في الأمر الواحد ثم يرجو أن يكون البت في مثل هذا لولى الأمر مما يكون له كبير أثر في نفوس الحاكمين.
وما جريمة ابن المقفع حين يتوسل إلى الخليفة طالبا (أ، يعينفي الأمصار جماعة من الخاصة يكون أمرهم تأديب العامة ومراقبة أعمالهم فإن العامة لا تصلح بنفسها إلا إذا وجدت مؤدين من الخاصة والخاصة لا تستطيع أن تعيش إلا إذا كان لها من الإمام مؤدب)؟
وأي ثورة أرادها - كما يقول الدكتور - وهو في هذه الرسالة ناصح متودد يرجو أن يبسط الخليفة سلطانه في كل أمر وتنفذ مشيئته في كل عمل؟!
والحق الذي لا شك فيه أن هذه الآراء وأشباهها ليس لها من جلال الخطر ما يرفعها فوق الزندقة أو يحلها فوق مكانة العهد الذي قيد فيه الخليفة بقيود قاسية ما كان أغناه عنها.
2 - بين الكتابة والشعر:
ويرى الدكتور فيما يرى أن الكتابة تختلف عن الشعر والخطابة من حيث فهم الناس لهما(787/54)
فالناس عنده متساوون في فهم الكتابة وفي التأثر بها ولكنهم متفاوتون أما الشعر والخطابة فهو يقول: (ونحن عندنا نقرأ عبد الحميد أو ابن المقفع لا نجد عندهما اللذة الفنية إذا كنا في طبقة واحدة أو اشتركنا في ثقافة واحدة وإنما يقرؤها منا ذوو الثقافة العالية والساذجة والمتوسطة والبسيطة وكلنا يجد لذة ومتعة فنية. بينما تختلف لذتنا في قراءة الشعر باختلاف حظوظنا من الثقافة. فليس كل الناس يقرأ جريرا والفرزدق أو يتذوق زيادا والحجاج. . .)
وأعتقد أن الواقع يخالف هذه القاعدة وضعها الدكتور؛ فأكثر الشعر أوضح في معناه وأبين في فحواه من الكتابة وبخاصة في العهد الذي يتحدث عنه المؤلف؛ فكثير من الناس يفهمون كثيراً من شعر جرير ولكنهم لا يفهمون قليلا ولا كثيرا من المثال الذي ساقه الدكتور لعبد الحميد وقد جاء فيه في وصف الرماح: (معاقص عقدها منحوتة ووصم أودها مقوم، أجناسها مختلفة وكعوبها جعدة وعقدها حنكة شطبة الأسنان محكمة الجلاء. .)
أما الخطابة فالقاعدة المطردة فيها أن تكون أسهل من النوعين ليفهمها السامعون في يسر ويدركوا ما جاء بها في سرعة وإلا ضاعت قيمتها وذهب الغرض من إلقائها.
على أني اتهمت معرفتي أمام هذه الحقائق فعرضت على الطلاب طائفة من شعر جرير وتلوت شيئا من خطبة زياد البتراء فوجدتهم مقبلين متأثرين ثم أقبلنا على الكتاب نقرا ما جاء فيه من رسالة عبد الحميد فرأيتهم أقل تأثرا وفهما.
3 - في كتابة عبد الحميد
ساق المؤلف أدلة ثلاثة حاول فيها أن يثبت أن عبد الحميد الكاتب متأثر بثقافة اليونان وكتابتهم ولست أريد أن أبطل هذا الرأي أو أثبته ولكني أقول: إنني لم أجد في هذه الأدلة - أو على الأقل في اثنين منها - نصاعة أو قوة تحمل على الإقناع:
فأما أحد الدليلين فهو ما ذكره الدكتور حين قال: (وعندي في هذه الرسالة نص بسيط يدلني على أن عبد الحميد كان في هذه الرسالة متأثر إلا باليونانية وحدها بل بما كان مألوفا عند اليونان فهو يقول في نصحه لولى العهد، ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقافتك ونصائحك وتقدم إليهم في ضبطهم) ونحن نعلم أن الوحدات التي كان يتكون منها الجيش البيزنطي كنت وحدتين اللجيو ويتكون من ستة آلاف رجل ثم السنتريو(787/55)
وعدده مائة رجل ورئيس المائة هو السنتريونس (فنظام الجيش هذا ما أشك في أنه متأثر فيه برسائل الحرب عند اليونان.) اهـ
لا أستطيع أن أفهم هذا الكلام إذا حدثني التاريخ أن جيوش العرب قبل عبد الحميد كانت تقاتل جملة ولم يكن لها إلا رئيس واحد وأن هذا الرئيس لم يكن يعتمد في تحريك جيشه على أعوان من الأبطال يتولون جماعات من الجيش يتقدمون بهم أو يحجمون وأنا أعتقد أن تقسيم الجيش سنة طبيعية هدت إليها ظروف القتال والسرعة في إنجاز الأعمال وقد حفظت لنا اللغة كثيراً من الأسماء التي تدل على أن العرب قد فهموا هذا وجربوه في حروبهم: ومن ذلك المقنب والتو والقنبل والمنسر والسرية والحضيرة والجريد وهكذا ومن بين الأسماء ما يدل على المائة وأعتقد أنها كلمات استخدمها العرب قبل عبد الحميد ولم يكن لليونان ولا لغيرهم آثار في وضعها.
أما الدليل الثاني فهو أقل من هذا في المنزلة وأضعف منه في الحجة إذ يتخذ المؤلف تقسيم عبد الحميد لرسالته الطويلة إلى أجزاء أساسا للقول بأنه تقل هذه الطريقة عن اليونان.
يقول الدكتور هذا وهو يعلم حق العلم أنها رسالة طويلة توشك أن تكون كتابا وأنهاتناولت نواحي مختلفة وضروبا عدة. ومن حق الكاتب في مثل هذه الرسائل الطويلة أن يستريح بين الفقرة والفقرة ومن حقه كذلك أن يفصل كل ناحية عن الناحية التي تليها لاختلاف الاتجاهين. وليس من الضروري أن يتعلم عبد الحيمد هذه الطريقة عن أمة بعينها فهي الطبيعة التي يوحي بها طول الرسائل
أقول هذا وأنا مقدر لزعيم الأدب فضله ومعترف بمجهوده الذي أفاد اللغة العربية ونهض بها في بلاد الشرق عامة.
وسأحاول فيما بعد أن شاء الله أن أناقش ما بقى من مسائل على في هذا النقاش بعض الفائدة للطلاب. والله الموفق.
أحمد أبو بكر إبراهيم
المدرس المنتدب بحنتوب الثانوية بواد مدني بالسودان(787/56)
الفن الهندي
هذا كتاب لطيف الحجم كبر الفائدة، يضم بين دفتيه أربع مقالات عن الفن الهندي كتبها أخصائيون ممن وكل إليهم تنظيم المعرض الهندي بالأكاديمية الملكية.
فالمقالة الأولى كتبها الأستاذ راولسن، أحاط بها بالتاريخ الاجتماعي والفني للشعب الهندي منذ العصر البليوليني، معتمداً على الحفريات والكشوفات. وتحدث عن الفتح الإسلامي وبين أن الدين الإسلامي هو دين الإخاء والمساواة: فالأمير والعبد سواء أمام الله وكان الآلام من الهم الأسباب التي جعلت جنوده ينجحون في غزو الهند المتنافرة المذاهب والعقائد، وتكلم عن الدولة الغرنوية فقال: (وجاء شيخ البراهمة سعيا إلى محمود الغزنوي وعلى أكفهم أموال عظيمة يقدمونها للفاتح المنتصر ويتوسلون إليه إلا يحطم لآلهتهم فأجابهم الرجل: إني محطم أصنام ولست بائع أصنام) وقد أولى الكاتب السلطان محمود الغزنوي الكثير من غابته، فتحدث عن الناحية الثقافية التي امتاز بها هذا الرجل، وظهور الفردوس، صاحب الشاهنامه (كتاب الملوك) والبيروني المؤرخ العالمي في أيامه، وتكلم عن الهند المغولية ولكنه لم يتعرض لوصف عمائرها، وقد وصفها أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام بك في 18 مقاله نشرتها الرسالة، ظهر آخرها بالعدد 763.
وفي المقالة (الثانية تكلم الأستاذ كوردنجتون عن النحت وذهب في بحثه إلى 5000 سنة. وتنقل بين عصور الفن الوثني، ولم يجد في الإسلام مادة لبحثه إذ أن الإسلام بطبيعته ما حق للأصنام المنحوته.
وتحدث الأستاذ ولكتس في المقالة الثالثة عن التصوير. وللإسلام في الهند باع طويل في هذا النوع من الفن، يقول عنها الكاتب أنها وصلت حداً من الجودة والغنى والتنوع في دولة المغول بحيث يستعذبه الذواقع مهما اختلفت الأمزجة. والمقالة الأخيرة كتبها الأستاذ أروين بعنوان (الفنون الصغرى الهندية). والواقع أنه لم يحدثنا عن تاريخ الصناعات اليدوية، فبعد عن الغرض الفني وقد شرحها الدكتور زكي محمد حسن في كتابه فنون الإسلام وأدخل في مقاله الحديث عن التصوير بطريقة (الفريسكو) مع أنه قد اصطلح على جملة ضمن فن التصوير. والمقالات شائقة مفيدة ولكن الكتاب لا يمكن أن يصور للقارئ فنون الهند جميعها. فعنوان الكتاب إذن لا يتفق مع ما يحتويه، ولا ندري كيف أتخذ السير ريتشارد وينستدت هذا العنوان لهذه المقالات الأربع.(787/57)
والكتاب يقع في 200 صفحة وبه 16 لوحة ورسومتوضيحية أخرى قيمة، وهذا يعرف ما بين القارئ وبين دولة الهند التي صارت إلى هند ستان ورباكستان تلك التي تريد أن تعود من جديد لتعلب دورها على مسرح النشاط العالمي، نرجو أن يختلف كثيراً عن تلك الأدورا المقيتة التي تمثل اليوم في هيئة الأمم المتحدة.
(القاهرة)
مصطفى كامل إبراهيم
وكيل اتحاد النقابة الأثرية(787/58)
العدد 788 - بتاريخ: 09 - 08 - 1948(/)
الفريقان المتحاربان في فلسطين الكرم واللؤم
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض لدى المملكة السعودية
- 2 -
ما ينقم اليهود من العرب إلا أنهم حموهم وأحسنوا إليهم وأفسحوا لهم في ديار العرب يعيشون أحراراً ويغشون معابدهم كما يشاءون ويتولون أمورهم الدينية دون حرج.
فتح العرب فلسطين والروم يسيطرون عليها والأمكنة التي يقدمها اليهود والتي يعادون العرب من أجلها اليوم مزابل عفي عليها الزمان والهوان، فطهر العرب هذه الأمكنة وجعلوها مساجد تنظيماً لها واتباعاً لأمر الإسلام الذي يعترف بما في الأديان السابقة من حقائق، ويعظمها ويبين أنه الدين العام الجامع الذي يجمع كل ما أوحاه الله إلى رسله في العصور كلها، والأقطار جميعها، بعد أ، ينفي عنها تحريف المبطلين، ويخلصها مما علق بها من خرافات الجاهلين.
وعاش اليهود في كنف العرب أحراراً في فلسطين وغير فلسطين وتبحبحوا في الأقطار العربية والإسلامية عامة، وساروا سيرتهم في عبادة المال، والتوسل إليه بكل الوسائل فوجدوا مرتعا خصبا ومتقلبا فسيحاً.
وقد بلغوا في أقطار العرب مناصب عالية، وكان لجماعات منهم شأن عظيم في الدولة الفاطمية في مصر، والدولة الابلخانية في العراق، ودول العرب في الأندلس، وغيرها.
ثم ضرب الدهر ضرباته، ودار الفلك دوراته، وجاء اليهود إلى فلسطين يزحمون أصدقاءهم في ديارهم، ويستعينون على حملتهم بالأمم التي كرهتهم وأذلتهم وشردتهم، ففقدوا بأعمالهم صداقة العرب، ولم يكن لليهود صديق سواهم في هذا العالم.
وينسى اليهود تاريخهم وتاريخ العرب كله ويرمون العرب بكل ما علمتهم أوروبا من عدوان، وبكل ما في سجاياهم وتاريخهم من ختل وعداوة للبشر جميعا إلا من كان يهوديا، وقالوا، بزعمهم: هذه بلادنا ومواطننا، نحن أولى بها، قد عشنا فيها زمناً، وسيطرنا عليها حقبة، ولسنا نبالي أن يكون العب استوطنوها بعدنا، وعاشوا فيها أكثر مما عشنا، وسيطروا(788/1)
عليها أطول مما سيطرنا، ودافعوا عنها ونحن مشردون في أقطار الأرض، وهم اليوم فيها يعمرونها ويتقلبون في أرجائها ويحفظون آثارهم ومآثرهم، وفي جوانبها آبائهم الذين استشهدوا فيها ودافعوا عنها جبروت الروم، وجالدوا من أجلها الصليببين مائتي سنة. يقول اليهود: لا نعرف التاريخ ولا نذكر فضل العرب فإنا قوم لا نزن الأمور إلا بالمال والمنفعة، ولا نقدر الأشياء إلا بفائدتنا وشهوتنا وإن نال غيرنا فهذا الضرر هوانا وبغيتنا، وبه جذلنا وغبطتنا، فإننا نعمل لأنفسنا، ونبغض البشر أجمعين سواء منهم من أساء إلينا كأهل أوروبا ومن أحسن إلينا كالعرب، ولكننا نستعين بجماعة على أخرى، ونتمنى أن يهلكوا جميعاً. . .
لليهود ماض في فلسطين، وللعرب ماض وحاضر؛ لليهود فيها تاريخ النقطع منذ عشرات القرون، وللعرب تاريخ موصول منذ عشرات القرون. لليهود في فلسطين تاريخ ذليل مشرد انقطع بجلائهم عنها وبأسهم منها، وللعرب تاريخ مجيد عزيز دافع عنها في غير بأس، واستقر بها في غير ذلة. لليهود في فلسطين أحجار مهدومة يبكون عليها هي بقايا الأحداث، وفضلات العصور وللعرب آثار قائمة مشيدة تصل تاريخهم، وتشهد بمآثرهم، وتكذب دعوى اليهود في كل بقعة. لليهود في فلسطين صفحات في الكتب، وللعرب صفحات خالدات في أوديتها وجبالها ومدنها وقراها.
ولو لم يكن للعرب في فلسطين إلا أنهم دافعوا الصليبيين فيها وحولها أكثر من مائتي عام حتى أجلوهم عنها، وأقروا مجدهم وتاريخهم فيها، لكان هذا كفيلا لهم بحقهم فيها أبد الدهر.
حق العرب في فلسطين يقاتل باطل اليهود، وإحسان العرب يقاتل كفران اليهود وكرم العرب يلاقى لؤم اليهود. يتقاتل في فلسطين الحق والباطل، الخير والشر، والمروءة، والنذالة، والأخلاق الإنسانية العالية، والطبائع الحيوانية الدنيئة، والتاريخ العزيز القائم، والتاريخ الذليل الميت.
وإن عدل الله سبحانه، وإن كرامة الإنسان، وإن أخلاق البشر، وسنن الخليقة، لتأبى أن يغلب جند الباطل جند الحق، والفئة اللئمية الفئة الكريمة، وأعوان الشر أعوان الخير، وحزب الشيطان، حزب الله.
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون).(788/2)
عبد الوهاب عزام(788/3)
أيها العرب ما حك جلدك مثل ظفرك
للأستاذ نقولا الحداد
قلتها وسأقولها أيضاً: لا تعتمدوا على الحق مهما كان حقكم صراحاً، لأنه ليس للحق مكان في هذا العالم الشرير؛ فقد علمتم أن هيئة الأمم هي جمعية تقسيم أسلاب وعنائم، وأن مجلس الأمن مجلس مؤامرات وما أوصت هيئة الأمم بتقسيم فلسطين إلا كتقسيم الأسد الأمريكي الفرائس على صعاليك الأمم والدول. وقد طاوعتم مجلس الأمن في الهدنة الأولى لظنكم أنهم يحسبون لكم احترامها كرام أخلاق، فظهر لكم أنها دسيسة سياسية دستها إنجلترا وأمريكا لكي تسلم الهاجناه من الهزيمة النكراء، ولكي تتسامح مزيداً وتزداد عديدا، وهكذا كان.
والآن وقد عاد برنادوت بقض وقضيض من الجنود والبوارج والطرادات والنسافات والطائرات الضخمة والحلزونية المركبات المصفحة والدبابات وو الخ من الأسلحة، وفي هدنة لا آخر لها لكي يجعل فلسطين أخيرا كلها، لا قسما منها، دولة إسرائيل. وقد جعل الهدنة بلا أجل مسمى، لكي يصفو له الجو، ويرتب ويدرب على مهل، وهو يزعم أنه يفاوض ويماحك ويناهض ويعارك وأخيرا يستفتي.
وما معنى كل هذا وقد علم أن فلسطين كل لا يتجزأ، فهل ينكنه أن يعمل أعجوبة بأن يجزئها وتبقى كلا؟ ثم يستفتي من؟ وهو يعلم أن العرب أكثرية ساحقة فلطبيعة الحال ستكون نتيجة الاستفتاء أن فلسطين كلها لسكانها من عرب ويهود وفلسطيينين فما معنى الاستفتاء، وما معنى المفاوضة والأمر واضح؟ إلا إذا كان رنادوت يظن أن العرب يملون طول الهدنة واليهود لا يملونها لأنهم مقيمون في فلسطين كلها يستغلونها وأهلها مشردون عنها. وكيف يمكن أن يعودوا إليها غير مسلحين ويأمنون شر اليهود الأرداء.
لو كان برنادوت (كونتاً) أي من الشرفاء كما قيل لما قبل هذه المهمة العقيمة، وهي مهمة غير شريفة، ولما قال إنه لم يأت لإحقاق الحق، بل لكي يسوى خلافا بين العرب واليهود بأية طريق ولو بالغبن بالعرب. ولما رأى أن هذه المهمة مستحيلة عليه عاد بقوات حربية ضخمة لكي ينفذ بالقوة القاهرة ما شاء وشاء له منتدبوه.
لا ندري الآن إلى أي حد يفلح. نترك الأمر للزمن. وإنما يجدر بالدول العربية كلها أن(788/4)
تحذو حذو العراق باستدعاء مندوبيها من هيئة الأمم إذا لم تقرر هذه الهيئة اقتراح سوريا بعرض قضية فلسطين على محكمة العدل في لاهاي. فربما كان فيها عدل، لأنه لا يليق بالدول العربية أن تكون أعضاء في عصابة متحكمين مستبدين يبتزون من هذا لكي يعطوا لهذا، ولا أن يكونوا في جمعية لا تريد العدالة.
برنادوت يستطيع بقوته الحربية أن يقهركم. ولكنه لا يستطيع أن يقهر عصابة الأرجون الإرهابية لكي تطلق سراح الإنجليز الخمسة، حتى إن إنجلترا التي عجزت عن تخليصهم من براثن الأرجون. تضطر أن ترفع شكواها إلى مجلس الأمن، وأن يقف السير الكسندر كادوجان إلى جنب شقي من أشقياء الأرجون، وهل تخضع عصبة الأرجون لمجلس الأمن إذا كانت لم تخضع لهيئة الإمبراطورية البريطانية العظمى؟
كنت أتمنى أن تكون هذه الحادثة مع ألمانيا في عهد هتلر أو مع فرنسا لعهد ديجول في دمشق، إذن لرأينا تل أبيب كلها تندك على رءوس سكانها في ساعة من الزمن، لأنه لا ألمانيا ولا فرنسا تحتمل هذا الاستخذاء إلا متى قهرت في الحرب.
ليس غرضي من هذا المقال أن أقول ما قلته الآن. بل غرضي أنأسائل: ماذا تعلمنا من دروس في هذه الأحداث الأخيرة؟
ظهر لنا أننا لم نبخل بالمال ولا بالرجال، حتى ولا قصرنا في السياسة وإنما سلاحنا قصر، وجميع الدول تألبت علينا فحرمتنا السلاح، ولولا هذا لكان بنو إسرائيل الآن طعاما لسمك بحر فلسطين.
نحن إذن في حاجة ماسة إلى السلاح، ليس الآن فقط، بل في كل حين، لأننا لا ننتهي مع الصهيونيين بانتهاء هذه المرحلة؛ بل سنبقى في صدام ما داموا بين ظهرانينا. فإن استتبت قدمهم في فلسطين كانوا نكبة علينا لا تنتهي. فيجب أن تكون دائما على استعداد لمناهضتهم إلى أن نقذفهم في بحر فلسطين. فمن أين السلاح؟
يجب أن نستغني عن سلاح أية دولة أجنبية. لماذا لا نصنع سلاحنا بأنفسنا؟ ماذا نقصنا؟ المال؟ نحن أغيناء. بالعقول؟ لقد شهد الأجانب في مؤتمرات كاليفورنيا ونيويورك ولايك سكسس أن لنا عقولا ممتازة. العمال؟ عندنا كثير منهم.
يجب أن ننشئ معمل ضخمة في جميع البلاد العربية لصنع آخر طراز من الطائرات(788/5)
الخفيفة الضخمة، وأن ننشئ معامل ضخمة لصنع المدافع من كل طراز والبنادق والذخائر على اختلاف أنواعها، وأن ننشئ دور صناعة وحياضا لصنع السفن، ومعامل لصنع المركبات على اختلاف أنواعها والدبابات.
كل هذا ممكن إذا كانت الدول العربية تعزم عزما صادقا أن نفعله، لا أن تعتمد على شركات مالية، لأننا نحن الشرقيين لم نجرؤ بعد على الأعمال الاقتصادية الاجتماعية. والعصر عصر اشتراكي أكثر مما هو إفرادي. فيحسن أن تكون هذه المصانع الحربية ملك الأمة لا ملك الأفراد أو الشركات. ويجب أن نقدم هذه المشروعات على كثير من المشروعات الحكومية التي يمكن تأجيلها لمدة خمس سنين على الأقل لأن الدفاع عن النفس يقدم على كل اعتبار
هذا ما يجب أن تفكر فيه الأمم العربية الآن، لأن العصر عصر الاعتماد على النفس، وإلا تغدى بنا الصهيونيون قبل أن نتعشى بهم. لم يعد في إمكان الأمم التواكل أو الاتكال على غيرهم ما دامت تبتغي الاستقلال التام. الاستقلال التام يقتضي الاستقلال في كل شئ على الإطلاق لا الاستقلال بكراسي الحكم فقط.
هذه كلمة صغيرة جداً من عربي صغير جداً، ولكنها كبيرة جداً لأمة عربية كبيرة أو تدعي أنها كبيرة. فالكبير يجب أن يكون مستغنيا عن كل كبير وصغير. والسلام على من اتبع الهدى
نقولا الحداد(788/6)
الاتجاهات الحديثة في دراسة التاريخ
للدكتور جواد علي
سكرتير المجمع العلمي العراقي
(بقية المنشور في العدد الماضي)
أما ذهب (المادية البيولوجية) فقد دعا أصحابه إلى تطبيق القوانين البيولوجية مثل نظرية داروين وما يتعلق بها على التاريخ وعلى المجمعات البشرية باعتبار أنها نوع من الكائنات الحية وأنها خاضعة للقوانين العامة التي تخضع لها كل الموجودات. فبحثوا في التاريخ البشري على أنه وجه من أوجه النشوء والارتقاء وبقاء ما هو أصلح وبحثوا عن الوراثة عند الأمم، كما فعل (فريدريك فون هلولد) في بحثه عن التاريخ الثقافي وتطوره من أقدم عصوره حتى الآن. و (دورنك (1833 - 1921م) وهو من الفلاسفة الذين لاقوا معارضة قوية بسبب آرائهم العنيدة في المادة ونكران الروح.
فعند هذا الفيلسوف (الإيجابي) أن (الشيء الحقيقي) هو الأشياء المرئية فقط، وعلى ما تظهر للإنسان، وأن الأشياء كلها واحدة، وأنها هي الواقع أو الحقيقة، ومن عدا ذلك فسخافات. وإن ما يسمى بالروح ليس إلا أسطورة وأن (الحس) أو (الشعور) طاقة من طاقات المادة، ولا توجد فوق (المادة) أي أمور أخرى؛ وأن الطبيعة نفسها تشعر وتفكر بالشكل الذي عناء من المادة، ولهذا يجب دراسة التاريخ على هذا الأساس. فرفض بهذه النظرية المذاهب المعروفة القائلة بما وراء الطبيعة والمذهب الرومانطيقي كذلك.
ومن هؤلاء أيضا (أوتوسيك في كتابه عن تدهور العالم القديم و (كومبلوبثر) في مؤلفاته عن الاجتماع. و (هوستن ستيوارت شامبرلين) في كتابه المشهور عن أسس القرن التاسع عشر. وقد بحث هذا في التاريخ متأثرا برأي أصحاب نظرية النشوء والارتقاء، ففرق بين الشعوب (المبدعة) وهي الشعوب المبتكرة على رأيه، وبين الشعوب المتمدنة والتي لم تفعل في نظره غير ذلك. وبنى تاريخه على أساس عنصري فمجد الآرية والشعوب الآرية وغنى بتفوق الأمم الأوربية على سائر أمم العالم.
ومن أصحاب هذه النظرية (فولتمن) وهو طبيب ومؤرخ وعالم من علماء علم الاجتماع.(788/7)
طبق نظرية (داروين) على التاريخ وعلم الاجتماع وخرج بتأثير هذه النظرية على أن الشعوب غير متساوية في الكفايات وأن الشعوب الشمالية هي الشعوب المنتجة والمبتكرة في هذا العالم. وكذلك (نوفيزو) ووقد حاول هؤلاء مندفعين بالنظرية الداروينية ربما شاهدوه من تقدم عظيم في أوربا وتأخر في الشرق إلى تطبيق هذه النظرية على التاريخ وفي السياسة.
وقد بحث في هذا الموضوع وبصورة أوضح وأعمق جماعة من أصحاب المذهب (الواحدي) القائل بائن أصل كل الأشياء واحد وهو (المادة) أو (الروح)، ومن هؤلاء (أوستوالد) (1853 - 1932م) وهو أستاذ من أساتذة الكيمياء حاول تطبيق مبدأ (الطاقة) حتى على العلوم الاجتماعية، فألف في الثقافة وفي علم الاجتماع؛ والعالم (كولد شايد) صاحب نظرية (الاقتصاد البشرية) وقد بحث في (المادية) على أنها طاقة من الطاقات التي يتأثر بها التطور البشري.
إن أصحاب هذه النظرية وإن كانوا قد تأثروا بنظرية (داروين) وبالآراء المادية إلى حد كبير؛ غير أنهم لم ينكروا عموماً وجود (الروح). وقد فسروا (الروح) تفسيراً يلائم النظريات الطبيعية، كما أنهم فسروا تأثير القوة الموجدة أو (الله) تفسيراً لا يدعو إلى مذهب الإلحاد أو نكران الخالق نكراناً باتاً
والمذهب الآخر من المذاهب المادية في تفسير التاريخ هو مذهب (المادية الاقتصادية) أو (الوجهة المادية في تفسير التاريخ) فكل العوامل المادية المؤثرة في التاريخ البشري هي ذات طابع اقتصادي، وهذه العوامل الاقتصادية تؤثر في حياة الأفراد والجماعات والحكومات. وحتى في العلوم والأديان. وما الحياة الإنسانية والمظاهر الثقافية على رأي هؤلاء سوى مظهر من مظاهر التقلبات اقتصادي، فالتاريخ إذن هو تاريخ اقتصادي، والعامل الاقتصادي إذن هو العامل إذن هو العامل الفعال تغيير مجرى التاريخ وتكوين التاريخ.
ويلتقيبهذا المذهب التاريخي مذهب آخر يقالله (المذهب الإثباتي في التاريخ) وهو قريب من المذهب المادي وإن ظهر لنا أن المبادئ مختلفة تمام الاختلاف. ومن رجال هذا المذهب الفيلسوف الفرنسي (أوكست كونت) يرى أكثر رجال هذا المذهب أن التاريخ البشري مر(788/8)
في مراحل حتى بلغ هذه المرحلة الأخيرة، وإن من الممكن تمييز ثلاث مراحل مهمة مرت بها هذه البشرية وهي:
1 - مرحلة إرجاع كل الأشياء إلى أسباب وعوامل روحية وقوى غير منظورة مثل السحر والقوى الخارقة والآلهة والقوى التي لا يمكن رؤيتها.
2 - مرحلة ما وراء الطبيعة (. أو مرحلة الأفكار المجردة، وترجع فيها الأسباب والمسببات والوجود وما يحدث إلى عامل مؤثر.
3 - المرحلة الثالثة وهي مرحلة (الفكر الإيجابي) وفي هذه المرحلة بدأ الإنسان يفكر في ترك البحث في العلل النهائية غير المنظورة إلى البحث بالطرق الإيجابية وفق الطرق الطبيعية وقوانين التجارب العلمية.
وقد تطورت أكثر العلوم وسارت سيراً إيجابيا إلا العلوم التي تبحث عن المجتمع والمجتمعات البشرية فإنها لا تزال في حاجة إلى إيجاد قوانين ودساتير الطبيعة يتمكن بواسطتها عالم الاجتماع أو التاريخ من الحصول في النهاية على نتائج إيجابية ثابتة.
وقد وجدت آراء (كونت) رواجاً كبيراً بين الجماهير. وإن لم يكن ذلك التأثير مباشراً بل كان بواسطة كتابات الكتاب الآخرين أمثال (جون ستيوارت دميل) و (هوربرت سبنسر) و (هنري توماسي بكل) و (إميل ليثريه) و (هنري نين) وغيرهم. لقد وجه هؤلاء أنظار قرائهم إلى دراسة العلوم الاجتماعية وحالات الشعوب والتاريخ الثقافي وما إلى ذلك وساعدوا على نشر آرائه ولا سيما (بسكل) في كتابه القيم الذي ظهر بين سنة 1857 - 1861 وهو (تاريخ المدينة في أنكلترة).
وقد أشارت إلى ضرورة دراسة نفسيات الجماعات والعوامل الروحية التي تؤثر في التطور الثقافي، ولابد لمعرفة ذلك من الاستعانة بالإحصائيات التي تتعلق بالجماعات، وبواسطة هذه الدراسات التي تستند على الطريق التجريبية نتمكن من رفع (التاريخ) إلى درجة (علم) من العلوم. أما الاستعانة بالحوادث الفردية وبالوقائع المدونة فإن ذلك لا يرفع من التاريخ شيئاً، ولا يمكن أن يصل به إلى منزلة العلوم.
وقد تطرق هذا البحث بحث الاستعانة بالإحصائيات لتكوين (علم التاريخ الناطق) عالم فرنسي هو (هنري نوردو) في كتابه الذي ظهر سنة 1888 وعنوانه التاريخ والمؤرخون(788/9)
حيث نادى بموجب تدوين التاريخ على صورة أرقام وإحصائيات ناطقة تتكلم للناس بصراحة وبدون خجل، مثل المعادلات الرياضية أو الكيماوية. أما وصف الحوادث وتدوينها على رأيه فذلك من وظائف الآداب.
ومن الذين نحوا منحى (كونت) في ألمانيا المؤرخ الألماني (كارل لامبرشت) الذي سار على أكثر الأسس التي وضعها ذلك الفيلسوف الفرنسي وطبقها في التاريخ الاجتماعي. وقد أشاد بالقيم التاريخية للجماعات وبأنها هي الموجهة للتاريخ متجاهلا بذلك (عامل الفرد) في التاريخ وتأثير الأفراد في الجماعات. وقد أدى ذلك إلى احتدام النزاع بين المؤرخين في موضوع مهم جداً: هل التاريخ من صنع الأفراد أم من صنع الجماعات؟ وأيهما أقوى أثرا في سير الحوادث البشرية؛ فكان من تأثير ذلك ظهور رسالة في موضوع (أهمية الشخصية في التاريخ بالنظر إلى مقدمة بلوشي في التاريخ اليونان).
وقد اصطدم (لامبرشت) بأكثر المؤرخين من أتباع طريقة المؤرخ (رانكه) في تدوين التاريخ.
غير أن هنالك جماعة سارو على نهج آخر في تفسير التاريخ البشري هو نهج الفيلسوف الشهير (كانت) ومثل هؤلاء (فيشته) و (شلنك) و (هيكل) غير أن أعظم ممثل لنظرية (كانت) في التاريخ هو المؤرخ الشهير (ليويولدفون رانكه) الذي اهتمعلى الأخص بالبحث في (نظرية الفكرة) وأهمية الدولة والفرد. وقد انتقلت آراؤه إلى تلاميذه ومريديه.
ومن أهم النقاط التي بحثت فيها مدرسة (رانكه) هي كيفية اشتراك الشعوب العالمية كلها في تكوين (التاريخ) والحرية والجماعة وعلاقة الفرد بالحكومة، وكيف أمكن الجمع بين الحرية والإرادة الحرة للأفراد، وتكوين التاريخ العالمي. وحكم الضرورة الذي أجبر الإنسان على تقييد حريته طائعا مختاراً لئلا يقع في كفاح لا نهاية له، فاضطر إلى تكوين الحكومات والخضوع لأحكامها مع ما في ذلك من تضييق للحريات. فضمن بذلك من جهة أخرى أكبر قسط ممكن من الحرية للأفراد. وقد جاءت هذه الآراء في شعر الشاعر (شلر) كما جاءت في نظرية (هيكل) عن تطور العالم في نظريته عن تطور الـ أو (الفكرة) حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في العهد الثالث وهو (العصر المسيحي الجرماني).
على أن هذا المذهب في التاريخ يقابله مذهب آخر هو المذهب التجريبي الانطباعي في(788/10)
التاريخ ومذهب (الموسوعيين). و (الإنسانيين).
جواد علي(788/11)
تعليق على مقال في الرسالة
جهود العرب المنسية في الفلك والهيئة
(كتاب عربي في الهيئة يذكر قبل مئات السنين ما اكتشفه
العرب حديثا)
للأستاذ ضياء الدخيلي
قرأت في العدد (782) من مجلة الرسالة الغراء مقالا للدكتور فضل أبو بكر، جاء فيه إغفال لجهود علماء المسلمين والعرب في علوم الطبيعية والفلك. فوجب على أن أعرفه بالحقيقة.
قال الدكتور:
(كان الإنسان لعهد ليس بالبعيد يعتقد في سطحية الأرض ويظنها بساطا ممتدا إلى ما لا نهاية له، بساطاً لا حراك فيه، وكان جهله بالسماء، وكواكبها أشد من جهله بالأرض التي يعيش فوق أديمها، وذلك إلى أوائل القرن السابع عشر حتى جاء (جاليلي) و (نيوتن) و (لابلاس) فيما بين منتصف القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، فأثبتوا كروية الأرض ودورانها حول الشمس وقانون الجاذبية ونهضوا بعلم الفلك ووضعوا له أسسا وقواعد علمية متينة).
ولا أريد أن أطيل محاسبة الكاتب المحترم فحسبي أن اقتطف له فقرات من كتاب الملخص في علم الهيئة، تأليف محمود بن محمد الجغميني ولم تحضرني ترجمته، ولكن من الأكيد أنه كان قبل جاليلي ونيوتن بزمن طويل، وقد شرح رسالته المختصرة شارح (لم يذكر اسمه في المطبوع في إيران). وأهدى الشرح إلى السلطان بن السلطان ألغ بيك بن شاهرخ بن أمير تيمور كور كان خلد الله شموس سلطنته.
وقد طبعت هذه الرسالة في إيران وكنا نتدارسها في مدارس النجف الأشرف ككتاب مدرسي في علم الهيئة، قال: (المقالة الثانية في بيان الأرض وما يتعلق بها، وهي ثلاثة أبواب الأول في المعمور من الأرض وعرضه وقسمته إلى الإقليم السبعة: الأرض كرية الشكل كما سلف في المقدمة، ويبتني عليها مسألة غريبة وهي أنه لو تيسر السير على(788/12)
جميع الأرض وتفرق ثلاثة أشخاص من موضع معين بأن سار أحدهم نحو المغرب والآخر نحو المشرق وأقام الثالث حتى عاد إليه السائر إلى المغرب من المشرق والسائر إلى المشرق من المغرب في وقت واحد لكان الأيام التي عدها الغربي في مدة الدورة أنقص من أيام المقيم بواحد، وأيام الشرقي أزيد منها بذلك؛ ويتفرع عليها مسائل غريبة يسأل عنها، كما يقال: هل يجوز أن يكون يوم بعينه جمعة عند شخص، وخميسا عن آخر، وسبتا عند ثالث، وغير ذلك مما هو من هذا القبيل، فيجاب بالجواز ويستغرب هذا ((أقول إن نقصان الأيام وزيادتها هنا مبنى على ما تسببه معاكسة دوران الأرض أو مسيراتها) ثم إن المؤلفين يقسمان الأرض إلى المناطق المتعارفة في كتب الجغرافيا اليوم فيقولان (ونفرض على الأرض ثلاث دوائر إحداها في سطح معدل النهار وهي خط الاستواء كما عرفت، والثانية في سطح أفق الاستواء، والثالثة في سطح دائرة نصف النهار، وكلتاهما في منتصف المعمورة بخط الاستواء، فالأولى تقطع الأرض بنصفين جنوبي وشمالي، والثانية تنصف كلا من نصفيها المذكورين فيصير الأرض بهما أرباعاً، ربعان جنوبيان، وربعان شماليان، والمعمورة منها أحد الربعين الشماليين، وهو أربع المشهور بالربع المسكون على ما يرى فيه من الجبال والصحارى والمروج والبحار ونحوها كالآجام ونحوها من المواضع الخربة. قال الشارح يعني أن المعمور منها هو هذا الربع مع أن أكثرها خراب في زماننا هذا وسائر الأرباع خراب ظاهراً، وإلا لوصل خبرهم إلينا غالبا ويحتمل أن يكون بيننا وبينهم بحار مغرقة، وجبال شاهقة وبراري بعيدة تمنع وصول الخبر إلينا. غير أن أحد الربعين الجنوبيين قد حكى أن فيه قليلا من العمارة كما يجئ. وأما ما يحكى من قصة وقعت في نوبة ذي القرنين فالظاهر أنها موضوعة لا أصل لها، والله أعلم بما في ملكه.
والدائرة الثالثة من تلك الدوائر الثلاث تقطع المعمور بنصفين غربي وشرفي، ونقطة التقاطع بين الدائرة الأولى والثالثة تسمى قبة الأرض، وابتداء المعمور من خط الاستواء على ما ذكره بطليموس في المجسطي، إلا أن بطليموس بعد ما صنف المجسطي زعم في كتابه المسمى بجغرافيا أي صورة الإقليم أنه وجد وراء خط الاستواء في أطراف الزنج والحبشة عمارة الخ. . . فها أنت ترى أن ما أدرجاه قريب جداً مما يدرسه طلاب الجغرافيا والفلك اليوم. وإليك ما قاله المؤلفان عن اختلاف الليل والنهار: (الشمس إذا وقع ضوئها(788/13)
على الأرض استضاء وجهها المواجه للشمس لكونها كثيفة ووقع ظلها لكثافتها المانعة من نفوذ الضوء في مقابلة جهة الشمس، إذ من شأن الظل أن يكون كذلك؛ فإذا كانت الشمس فوق الأرض فهو النهار، وإذا كانت تحت الأرض وقع الليل، ووقوع ظلها يكون على شكل مخروط مستدير، إذ الشمس أعظم جرما من الأرض بكثير.
وقال المؤلفان عن الخسوف والكسوف: (إن جرم القمر في نفسه مظلم، وإنما بضياء الشمس فيكون النصف المواجه للشمس فيكون النصف المواجه للشمس أبدا مستضيئا لو لم يمنع مانع كحيلولة الأرض بينهما، والنصف الآخر مظلما؛ وهذا الحكم تقربي لما بين في موضعه من أن الكرة إذا استاءت من كرة أكبر منها كان المستضيئأكثر من نصفها، فعند الاجتماع يكون القمر بيننا وبين الشمس فيكون نصفه المظلم مواجها لنا فلا نرى شيئا من ضوئه، وذلك هو المحاق؛ وإذا بعد عن الشمس مال نصفه المضيء إلينا فنرى طرفا منه وهو الهلال؛ ثم كلما ازداد بعده عن الشمس ازداد ميل النصف المضيء إلينا فازداد ضياؤه أي نور القمر بالنسبة إلينا وهو الزيادة حتى إذا قابلهاانحرف عن المقابلة مال إلينا شئ من نصفه المظلم ثم كلما يزداد ذلك الميل يأخذ الظلام بالزيادة حتى يمحق القمر وإذا حال القمر بين الشمس وبيننا فيستر ضوءها عنا كلا أو بعضا وهو كسوف الشمس، وإذا حالت الأرض بينهما ووقع ظلها على وجه القمر المواجه للشمس كله أو بعضه فلم يصل إليه ضوء الشمس أصلا أو بقدر ما وقع عليه الظل فيبقى ما لم يصل إليهالضوء على ظلامه الأصلي وهو خسوف القمر. ولنجتزئ بما تقدم عرضه من كلام هؤلاء الذين عاشوا قبل (جالليو) بمئات السنين ولتغفروا لنا طول ما اقتبسناه من مؤلف الجغميني (الملخص في الهيئة) ومن شرحه وقد طبعا في إيران عام 1286هـ والعادة في النجف الأشرف أن يدرسا في رمضان عندما تتعطل باقي الدروس الأصلية.
لقد تبين مما تقدم أن علماء الفلك المسلمين لم يكونوا يعتقدون في سطحية الأرض ولم يكونوا بظنونها بساطا ممتدا إلى ما لا نهاية له الخ، كما ظن الدكتور فضل.
بقى لنا أن ندرس فكرة حركة الأرض فهل هي حديثة الميلاد كما تفضل فضل الحق أنها ليست كذلك. وحرصا على الوقت نورد مقتطفات من آثار أناس يوثق بشهاداتهم، قد عرفوا بالخبرة في الموضوع. هذا هبة الدين الشهر ستاني يقول في كتابه (الهيئة والإسلام) - (إن(788/14)
أول من كشف السر عن دوران الأرض هو (فيثاغورس) النابغ قبل الميلاد بقررون خمسة، وتبعه (فلوطرخوس) و (ارخميدس) ثم قوى رأيه (ارسترخوس) الساموسي بعده بقرنين، وعلم دوران الأرض السنوي حول الشمس فشكي وكفر، ثم نبغ بعده بنصف قرن (كليانثوس) من أسوس واختار الحركتين للأرض فشكي واتهم بالكفر أمام الحكام؛ ثم ظهر (بطليموس) بعيده بقليل فأوضح سكون الأرض الذي كان الناس يزعمونه فطريا ويحسبونه بديهيا ورتب الأجرام السماوية والحركات الفلكية على ما فصله في (المجسطي) فنال نظامه الصوت والصيت في العالم المتمدن (حينذاك) حتى أصبح المتفلسفون من المسلمين وغيرهم ينقحون هيئته ويدافعون عنها. وكان في مهرة فلاسفة المسلمين من يدفع الموانع عن تحرك الأرض أيضا كالعلامة نصير الدين الطوسي والفاضل بهاء الدينالعاملي وكان الأفرنج يومئذ غارقتين في الضلالة، وكن استبداد البابوات قد منع الأفوه والإفهام عن التحرك في سبيل العلوم العقلية وإظهار ما لا تقبله الكنيسة، وقد أحرقت ألوفا من المستنيرين بعلوم الإسلام وفلسفة ابن رشد القرطبي. وحسبك أن الحكيم (برونو) نطق بسير الأرض قبل الألف الهجري، فهجروه وأبعدوه عن أوطانه ثم سجنوه ست سنين ثم أحرقوه وأحرقوا كتبه. واجترأ (بعد الألف الهجري، فأثبت الحركتين للأرض فأهانوه واضطهدوه حتى قارب الهلكة ثم سجن طويلا. وأول من نطق بتحرك الأرض من الأفرنج هو (الكردينال دى كورا) ثم (الكردينال إلينا كوس) ثم (جون مولار) لكنهم لم يتجاهروا بالقول ولا أتوا بأدلة مقنعة حتى قام (كوبرنيك) في حدود الألف الهجري وأقام أدلة قوية وكتب الرسائل والكتب في هذه المسألة، فصار بذلك محييها ومؤسسا للهيئة العصرية وسلك الحكماء مسلكه، فأصبح اليوم هذا النظام هو الشائع).
ويؤيد كلام الشهر ستاني ما قرأت في كتاب (مبادئ علم الهيئة) تأليف اليز أفرت، إذ جاء فيه (أنه نحو نصف القرن السادس عشر، بينما كان تعليم بطليموس هو المشهور في كل مدارس أوربا قام (كوبرنيكوس) من بروسيا، وأحيا تعاليم فيثاغورس التي هي التعاليم الحقيقية المعول عليها في هذه الأيام، وهي أن الشمس مركز، والأرض وبقية السيارات تدور حولها، وأن لكل منها دورة ثانوية تدور على محورها) وفيه (أن فيثاغورس قبل المسيح بخمسمائة سنة، أسس المدرسة الثانية المشهورة الفلكية وهي في يكروتونا من(788/15)
أعمال إيطاليا، وهو أول من اكتشف ناموس حركات الأجرام السماوية، ولكن آراءه رفضت عند علماء هذا الفن بسبب التعصب والعجب.
وقال كرنيليوس فانديك في (أصول علم الهيئة):
كان فيثاغوس اليوناني معلم هذا الفن في مدرسة كروتونا في إيطاليا قبل الميلاد بخمسمائة سنة، ولم تعتبر تعاليمه مدة ألقى سنة إلى أن أحياها غاليلو من إيطاليا وكوبرنيكوس من بروسيا في القرن الخامس عشر والسادس عشر.
أما فكرة الجاذبية فهي أن أيضا قديمة قال في كتابه (بسائط علم الفلك) (وهذا التفاعل بين الأجرام السماوية التي يطلق عليه اسم الجاذبية العمومية انتبه له بعض العلماء من قديم الزمان فأشار إليه بطليموس صاحب كتاب (المجسطي) حاسبا أنه هو الذي يجعل الأجسام تقع على الأرض متجهة نحو مركزها وهو الذي يربط كواكب السماء بعضها ببعض. ويقال إن موسى بن شاكر المهندس الذي نشأ في أوائل القرن الثالث الهجري انتبه له أيضا وقال به قال ابن الفقطي أ، موسى بن شاكر كان مهندسا مشهورا من منجمي المأمون) أقول ولوح ابن سينا في إشاراته ونصير الدين الطوسي وفخر الدين الرازي في شرحيهما لها. وكان هؤلاء يعبرون عن الجاذبية بين الكواكب بالشوق.
قال الإمام فخر الدين الرازي في شرحه:
وأما الشيخ (ابن سينا) فقد جزم ها هنا (في الإشارات) بأنه لا بد وأن يكون لكل واحد منها (أي للكرات في الأفلاك) محرك خاص، لأن المتحرك بالاستدارة إذا ثبت أن حركته ليست إلا شوقية تشبهية، وجب أن يكون الحال في كل الكرات كذلك. وأما قوله وتعلم أنه ليس يجوز أن يقال السافل منها لا يجوز أن يكون معشوق الكرة السافلة في حركتها الكرة العالية الخ. . .
ضياء الدخيلي(788/16)
11 - من ذكرياتي في بلاد انوبة:
إصبع الإنجليز في النوبة
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
قد يثير هذا العنوان العجب والدهشة في بعض النفوس التي لا تعرف شيئا عن منطقة النوبة، وربما يدفع بعضها إلى التساؤل الملح: وما صلة الإنجليز ببلاد النوبة؟ وأين مكان هذا الإصبع في تلك البلاد التي ليس فيها موضع لأجنبي؟!
والواقع أن الغفلة مستولية على كثير من ساستنا الذين لا ينطرون إلا إلى مواقع أقدامهم، ولا يجشمون أنفسهم عناء التفكير فيما هو أبعد من ذلك، ولا مشقة اليقظة والانتباه لما يراد بوادي النيل كله، وما يكون دائما وراء الأنباء الذائعة، والأخبار الطائرة، ولا يعرفه في الغالب كثير من الناس:
غفل بعض الساسة المصريين عن واجبهم الوطني، حينما جعلوا من بعض بلادهم، وأعني منطقة النوبة منفى للموظفين، واحكموا عقد هذه العقدة النفسية الأليمة، حتى أن الموظف ليتولاه العجب العاجب حينما ينزل بهذه البلاد، فلا يرى بها جديدا في أية ناحية من النواحي، وأن كل شر سمع به لا أثر له على الإطلاق، وربما يجد العكس، كشهرة هذه المنطقة بالحشرات السامة، والأفاعي القاتلة. . . . و. . . مما لم نجد فيه خلاف ما نعرف في مختلف بلدان القطر، بل في كثير من بلاد الريف ما هو أجدر بحمل هذه الشهرة، وأولى بذيوع هذا الصيت عنه؟! ومما زاد الطين بلة، أن كثيرا من أولى الأمر يهملون شان هذه المنطقة سنوات فتظل مشروعاتها مهملة، في زوايا النسيان، مما كان له أكبر الأثر في كراهية الناس لهذه المنطقة التي تعتبر من أهم المناطق المصرية الكبيرة.
وإذا كانت السياسة البريطانية قد نجحت في شئ، فإن نجاحها في تعمد إهمال منطقة النوبة، وحمل الحكومات المصرية على هذا الإهمال - فاق كل نجاح. . . إهمال جعلها كمنطقة طبيعية خادمة خاملة، لا حياة فيها ولا حركة نشاط، حتى ليعتقد المار بها طريقة من مصر إلى السودان، أو العكس، أنه منطقة قبور، يدفن فيها الأحياء بدل أن يدفن الأموات، وكم من موت خير من حياة كلها الجدب والألم، والشقاء المسر، والعناء المميت، وأنها فاصل طبيعي بين السودان ومصر!.(788/17)
وكأنما أرادت السياسة البريطانية بذلك أن نلقى في روع كل مشاهد لهذه المنطقة هذا الشعور الباطني العجيب، وأن تتخذ من هذا دليل على الفصل بين شقي الوادي، جنوبه وشماله، مصره وسودانه وأن تجعل ذلك حجة لها على تحقيق ما تبغي، وإنقاذ ما تريد، وهي دائما تبنى آمالها وأمانيها الكواذب على الخواء، وتنسج العنكبوت ثم تمضي في طريقها الفاسد لتجعل من الظلم عدلا، ومن الباطل حقا، ومن الوهم واقعا محسوسا، ولكن هذا وإن جاز في شريعة الماضي، وقد سيطرت الغفلة على العقول، ورانت على القلوب، فلن يجوز في شريعة القرن الحاضر، وقد انتبهت الأذهان، وتفتحت العيون، واستيقظت القلوب، ونضج الوعي القومي، حتى أصبح الابن يشارك أباه في السياسة، ويعاونه على أداء الواجب، ويتقدمه إذا دعا الداعي ميدان الجهاد والنضال لا يعرف الوهن والضعف إلى نفسه سبيلا، وهو بما يلاقي من الهول والشدة، والحبس والتشريد، جد سيد وفخور!
ولئن غفل هذا الفريق المصري عن نبات هذه الدولة العجوز الشمطاء، اللعوب، ذات الناب الأزرق الاستعماري، الأصيل في المنكر والدس، والخداع والرياء، فلقد فهم الشعب على بكرة أبيه الآن حقيقة الموقف، وأدراك ما يساق إليه. . .
وفي بلاد النوبة مشروعات كثيرة نفذت بالفعل وآتت ثمارها أطيب ما تكون، وكان لها في نفوس النوبيين جميعا أجمل الأثر وهناك مشروعات كثيرة تنتظر التنفيذ والعقيدة السائدة أن كل مشروع يكون نصيبه الإهمال والنسيان، لا بد وأن يكون للإنجليز إصبع في وقفه وإهماله، لأنهم لا يريدون رفاهية هذه البلاد، ولا خيرها، لأنهم آخر من يستفيدون منها، ولأن القلب النوبي بكره الإنجليز كراهية تملك عليه نفسه من جميع نواحيها، ويدرك تمام الإدراك أن الانجليز عدو بلاده رقم (1) وأنه خطر ليس بعده خطر، وأنه شر في كل مكان يحل به، والسر في ذلك يجهله كثير من المصريين، والقليلون يعلمون أن الانجليز في وقت ما، حينما اشتدت بالنوبيين الأزمات، وضاقت بهم سبل العيش، بسبب التعلية الأخيرة. . . انتهز هؤلاء الإنجليز الأوغاد، عن طريق أذنابهم - الفرصة، وحاولوا اجتذاب قلوب النوبيين إليهم، وربطهم بعجلة الإمبراطورية بحجة صلتهم الوثيقة بأهل السودان، فأن مديرية دنقلة بأسرها تعتبر منطقة نوبية صحيحة من قديم الزمان، ولعب الذهب، وأعشى بربقه العيون، وامتدت الآمال والأماني الخوالب، ولكن قلوب النوبيين لم تتحرك لهذا(788/18)
البريق، وعيونهم لم يعشها هذا اللمعان، وكان الجواب المفحم أنهم حراس النيل من فوق هذا القمم الشوامخ، التي تشبه عزة نفوسهم، ونيل أخلاقهم على الرغم من ضيق ذات اليد، والمبيت على الطوى في أغلب الأحيان.
وتلقى الإنجليز هذا الدرس القاسي، وعلموا أن الذهب ليس هو كل شئ، وإن سياستهم لم يكتب لها النجاح على طول الخط ولهذا أدركوا وطنية هؤلاء. . . الوطنية الحقة، التي لا يتم عنها كلام منمق معسول، ولا عبارات خلابة، ولا أحاديث مستفيضة ولا خطب حماسية، ولا مقالات تفيض بها أنهار الصحف والمجلات، وإنما هو شئ أسمى من هذا وأجل هو العمل والصبر والجلد، والإخلاص، وحب مصر والمصريين، واحترام القانون إلى حد يثير الدهشة والعجب، ويكفي أنه قد ينقضي العام بأسره دون أن تقع جناية في بلاد النوبة كلها على الرغم من امتدادها خمسين وثلاثمائة كيلو متر (فأين تجد هذه الوطنية الصادقة، والهدوء الجميل؟
لقد كان الإنجليز يريدون النوبيين على تشجيع الحركة الانفعالية عن مصر، التي أهملت أمرهم، ونسيتهم في قفارهم وصحاريهم) وبذل الإنجليز الوعود الخلابة لإحالة منطقة النوبة إلى جنة تجري من تحتها الأنهار، وأنفاذ جميع المشروعات الممكنة وغير الممكنة لتكون هذه البلاد حافلة بالثمار الناضجة، والزهور اليانعة. يتدفق على أهلها الخير من كل حدب وصوت، ولكنهم بحمد الله باءوا بالفشل، وكان نصيبهم الخذلان الأليم. . . ومن عجب أن أمر هذه المحاولة لم يكتب له الفضيحة كما يجب. وإنما ظل سرا لا يعرفه إلا القليلون من المصريين، لأن النوبيين لا يرون فيما فعلوا حكومة يستحون عليها المدح أو الثناء، بل هو الواجب الذي لا شكر عليه.
ومما يؤسف له أن كثيرا من الأخطاء تقع كل عام في الوزارات. . . الأخطاء الوطنية التي يحزن لها قلب الغيور فمن ذلك ما حدث معنا عام 1946 بخصوص استمارات السفر إلى عنيبة، وجهل الموظف المختص بأمر هذه الاستمارات، وهل تكون من حق موظف عنيبة أم لا، وطال الأخذ والرد بيننا، وأخيرا صرف لنا استمارات إلى الشلال فحسب، لأنه يعتقد أن الشلال نهاية اقتصاصه، وأننا ملزمون أن نأخذ الاستمارات الباقية من منطقة قنا التعليمية، إذا كان في وسعها هي الأخرى أن تصرف استمارات أبعد من الشلال.(788/19)
وإذا اغتفرنا لهذا الموظف هذه الغلطة، فهل نغتفر لموظف آخر بالوزارة نفسها غلطة أفظع وأعنف؟ لقد ذهب أحد الزملاء بعد تعيينه إلى وزارة المعارف ليأخذ استمارات سفره إلى عنيبة أيضا، وما كان أشد عجبه عند ما فاجأه الموظف المختص بطلب تقديم ترخيص للموافقة عليه من الجهات المختصة في مصلحة الحدود. فقال: لماذا؟ فأجاب الموظف: لأن عنيبة خارج الحدود المصرية، فلا بد من جواز السفر إليها؟!
وبهت الزميل، وحاول أن يفهم الموظف حقيقة الأمر، وأن عنيبة ليست خارج الحدود، ولكنه نظر إليه شذرا في شئ من التعالم المقيت، فلم يجد الزميل بدا من الرضوخ لما أراد، وقدم الطلب المراد، وأخذ مجراه، وانتقل من مكتب إلى مكتب، دون أن يفطن أحد إلى هذا الخطأ، حتى وصل إلى يد أحد الرؤساء بالوزارة، وكان رجلا ذكيا يعرف الكثير من عنيبة، فأمسك بالطلب، وأطال النظر فيه، وبدا الاستياء على وجهه، ثم نادى الموظف الذي أشار به، وافهمه حقيقة الأمر، وأتحفه بقسط كبير من اللوم والتعنيف، فما يجدر بموظف أن يجهل حقيقة عمله، وإن جهل حقيقة بلاده!
وأرمنا بلدة في بلاد النوبة بين توشكي وأبي سمبل، وحدث أن أرسل إليها أحد موظفي وزارة الصحة بعض الأوراق، الخاصة بطبيب المركز أي مركز عنيبة، بيد أن هذا الموظف كتب على الظرف (السودان) فذهبت الأوراق إلى السودان، ثم ردت إلى الوزارة مرة أخرى بعد ما كتب عليها موظف الحكومية السودانية أن هذه البلدة ليست في السودان وإنما هي في منطقة النوبة التابعة للحكومة المصرية واتبع هذه العبارة بمجموعة من علامات التعجب والاستفهام، التي معناها أننا معشر المصريين لا نعرف بلادنا).
هذه الأخطاء التي أسميها أخطاء وطنية، تقع في شتى الوزارات، ومختلف دور الحكومة كل عام، وهي إن أحزنت الوطني الغيور، فإنما بطرب لها المستعمر الغاصب. . . لأنه يرضيه أن يرى كل مصري منصرفا عن خير بلاده، ومصلحة أمته إلى لذاذاته ومسراته، ويسره جهل الموظفين بما لا يصح أن يجهلوه ويزيد في سعادته أن يرى القلق باديا في وجوه الموظفين في بلاد النوبة، ولهذا يتألم الإنجليز لعمران هذه المنطقة بالغ الألم، ويسوئهم أن تتجه الحكومة المصرية بالإصلاحات الشاملة في هذه البلاد، وبخاصة في هذه الأيام، لأن إصلاح منطقة النوبة يصل ما بين الإنجليز على اتساعها، ولكن الله سيحبط(788/20)
مسعاهم حينما تخاطبهم باللغة التي يفهمونها، وإن غدا لناظره قريب.
عبد الحفيظ أبو السعود(788/21)
في الطائرة
للأستاذ نجاتي صدقي
كان المسافر من فلسطين إلى سوريا في الزمن الغابر يشعر بأنه مقدم على رحلة محفوفة بالمغامرات والمخاطر، فيقطع المسافة الطويلة إلى عكاء بالدلجانس، ثم يستقل حمارا ويجتاز به معبر الناقورة. . . ثم يتابع السفر بدلجانس آخر.
وكان معبر الناقورة هذا طريقا جبليا ضيقا، يقوم على أحد جانبيه جبل شاهق، وتترامى على الجانب الآخر هوة سحيقة تنتهي إلى صخور مسننة يداعبها البحر الأزرق العميق مداعبة هادئة، فإذا ما نظر إليها المسافر الراكب شاعت في نفسه موجة من الهلع، وفضل اجتياز المعبر سيرا على قدميه. . أو زحفا على أربعته.
ثم يصل المسافر المدينة التي يقصدها، ويقص على أهله وذويه ما لاقاه من أهوال أثناءرحلته الشاقة. . . ولا يغرب باله طبعا عن أن يروى لهم وقائعه مع قطاع الطرق، وفتكه ليلا بالضباع التي ينبعث الشر من أعينها، وبطشه نهارا بالذئاب الجائعة ذات الأنياب الحادة والمخالب الجارحة.
هكذا كانت مشاق الأسفار في الأيام الغابرة، أما مشاقها في أيامنا هذه فأليك ما حدث في الطائرة:
كنت مرة مسافراً في الطائرة من اللد إلى حلب، وكان الفصل شتاء، وكانت الطائرة تقل شخصين فقط هما أنا وتاجر أغنام يدعى أبا محمود، وهو رجل في حدود الخمسين، طيب القلب، يلبس القمباز، ولا ينفك عن مداعبة حبات سبحته القيقية. وبعد أن قطعنا مسافة في الطائرة حدث ما أثار دهشتي. . . رأيت تاجر الأغنام وقد انكمش على نفسه، ممتقع اللون، زائغ البصر، فاغر الفم، مشنج اليدين. . فدنوت منه وسألته: ما بالك يا رفيق الطريق؟. . .
فأجابني بصوت بكاء: أريد النزول!. .
قالت هذه طائرة وليست سيارة، ولن تتمكن من النزول
إلا في مطار حلب. . . الأول تصعد في الجو؟.
قال: نعم. . . لأول مرة يا لشقائي.(788/22)
قلت: لا تخف، فبعد ساعتين سنصل إلى حلب. . . أنظر إلى أسفل، ها نحن نجتاز رأس الناقورة. . . فتطلع تاجر الأعنام من النافذة. . . وحدث في هذه البرهة أن هبطت الطائرة في فجوة هوائية، فانتفض رفيقي، واسترخى على مقعده، وراح يؤنب نفسه قائلاً: (أجننت يا أبا محمود. . . ما لك وركوب الطائرة. . . سافر في السيارة. . . أو في الدلجانس. . . الله يرحم أيام الدلجنس. . . أو على حمار. . أو مشيا على قدميك. . . ولكنك تريد السرعة، والآن ستكلفك هذه السرعة حياتك. . . يا لك من شقي جاهل يا أبا محمود). . . (وأخذ يبكي).
ولما دخلت طائرتنا وسط غيوم كثيفة رفع تاجر الأغنام ناظريه إلى وقال: أين نحن الآن؟.
قلت: وسط الغيوم.
قال: في السماء؟.
قلت: نعم.
قال: في أي سماء؟!
قلت: اجتزنا السادسة وعلى وشك الدخول في السابعة! فصرخ بأعلى سوته: الله أكبر. . . الله أكبر. . الله أكبر!. .
ثم ارتجت الطائرة فجأة ومالت إلى اليمين، ثم انحرفت إلى اليسار. . . ثم هوت في فجوة هوائية بعنف. . . فشددت الحزام على وسطي. . . أما تاجر الأغنام فكان يتمتم قائلاً: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، ولا تجازينا إن أسأنا أو أخطأنا، اللهم أدخلنا في زمرة عبادك الصالحين، آمين يا أرحم الراحمين.
ثم ألتفت إلي وقال: أبنائي أمانة في عنقك!
قلت: وماذا تعني بذلك؟. .
قال: أبنائي ليس لهم من معيل غيري. . أستحلفك الله أن تتردد عليهم دائما، وأن تمد لهم يد المعونة إذا ما احتاجوا لها لا سمح الله. . . دعهم يبيعون الأغنام أو يقتسمونها فيما بينهم. . . وقل لأم محمود بأن تكرس حياتها في تربية أولادها. . . آه إني أشعر بدنو الأجل!. .
قلت: ولكن إذا أصيبت الطائرة بكارثة فسيقضى علينا معاً! وارتجت الطائرة ارتجاجا عنيفاً، ثم هبت علينا عاصفة مصحوبة بالرعد، والبرق، والأمطار فحلقت بنا الطائرة عالياً،(788/23)
وكانت أثناء تحليقها هذا تهوى بين حين وآخر في فجوات جوية. وفي هذه اللحظة أطل علينا عامل الراديو من كونه وناولني ورقة فلم أطلع على مضمونها لاعتقادي أنها تحدثنا عما قطعناه من مسافة وما تبقى منها لنصل إلى حلب. . . أما رفيقي تاجر الأغنام فكان مستلقيا على مقعده مغمض العينين، متهدل الشاربين، مرتخي اليدين.
وهبطت بنا الطائرة في مطار حلب، وأبو محمود لا يزال يعتبر نفسه في عداد الهالكين. . . فهززته قائلاً: أنهض أيها الرجل لقد وصلنا!.
ففتح عينيه الذاهلتين وقال: أين نحن الآن. قلت في حلب.
فنزلنا من الطائرة، وسمعت تاجر الأغنام يقول: هذه هي السفرة الأولى والأخيرة بالطائرة. . لقد نجانا الله!.
فضحكت منه، وربت على كتفه، وافترقنا.
ولما بلغت النزول حلب، أخذت أفحص ما في جيبي من أوراق، فعثرت على ورقة عامل راديو الطائرة التي ناولني إياها ونحن نجتاز الزوبعة. . وقرأت فيها:
(نطير الآن على ارتفاع أربعة عشر ألف قدم. . لقد تعطل أحد محركي الطائرة! نجتاز زوبعة عنيفة شد الحزام على وسطك إذ ربما نضطر إلى الهبوط في أي مكان!.)
والحق يقال إنني ما كدت أنتهي من قراءة هذه الورقة حتى أحسست بقشعريرة تنتابني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي. ومرت بي فترة من الزمن تعرضت فيها إلى ذات الرعب الذي تعرض له تاجر الأغنام وهو في الطائرة. . . ثم رحت أسائل نفسي: هل تنبأ عقل تاجر الأغنام الباطن بما لم يتنبأ به عقلي؟. وهل كان لرعبه علاقة بشعورة مقدما بكارثة كادت تقع؟!.
نجاتي صدقي(788/24)
دراسات تحليلية:
ذو النون المصري
للأستاذ عبد الموجود عبد الحفيظ
بين ضفاف النيل ورمال الصحراء في بلدة أخيم بمديرية جرجا من أعمال صعيد مصر، ولد أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري سنة 180 بعد الهجرة، وكان أبوه نوبيا جئ به من بلاد النوبة رقيقا ثم اعتق. ونشأ ذو النون تهب عليه نسائم النيل الرطبة، وتلفح وجهه رياح الصحراء الجافة، كلاهما تحمل أسرارا غامضة وتوحي بعظمة الكون وخالقه، وبين قوم محدودي المعارف ضيق أفق التفكير، قضي أيام صباه.
فلما شب عن الطوق اتسعت مداركه، ضاقت نفسه الكبيرة بهذا الجو الخانف المحدود، فلم يجد سوى الخرائب المصرية يطوف بينها من بلدة إلى أخرى يدرس رموزها ويحاول حلها والوصول إلى أسرها - وقد كان هذه الطواف المحدود عاملا من عوامل حبه التنقل بين بلدان العالم الإسلامي سعيا وراء بحثه عن الحقيقة ودراسته الصوفيه - ولما لم يجد بين هذه الخرائب ما يشفى عليل نفسه، راح ينشد الهداية في جوانب الصحراء الواسعة عله يصل إلى طلبته من المعرفة والعلم. وفيما هو في حيرته، سمع بسعدون الصوفي المصري، فذهب إليه وسمع منه فسحره بحديثه وأشرب قلبه محبته؛ فلقد وجد بعد العناء والتعب بغية نفسه وأمله المفقود، وتتلمذ عليه، ودرس الصوفية على يديه، وسرعان ما أعجب الأستاذ بفصاحة تلميذه فقربه إليه وآثره بصحبته. وبجانب توفره على دراسة الصوفية كان يدرس الطب والكيمياء وعلوم السحر.
وذات يوم عاد إلى أخيم فوصلها ليلا وسمع دفوفا تضربومشاهد قوما يلهون، فسأل ما هذا؟ فقيل له عرس. ثم سار قليلا فسمع نواحا ورأى نسوة يندبن، فسأل ما هذا فقيل له فلان مات. فقال: أعضي أولئك فما شكروا، وابتلى هؤلاء فما صبروا. لله على ألا أبيت بهذا البلد. وانطلق لا يلوى على شئ، ترفعه رابية ويخفضه واد، هائما ينشد المعرفة ويبغي الوصول، حتى بلغ بيت الله الحرام وزار القبر الشريف، ثم تابع سيره إلى دمشق وزار كثيرا من النساك المقيمين في جنوب إنطاكيا، وسألهم وسمع منهم. قال (زرت في لبنان رجلا نحيفا ضعيفا يصلي. فسلمت فرد السلام وما زال في ركوع وسجود حتى صلى(788/25)
العصر، ثم جلس ولم يتكلم، فطلبت منه أن يدعو لي فقال: آنسك الله بقربه. فطلبت منه المزيد، فقال: من آنسه الله بقربه أعطاه أربعا. عزا من غير عشيرة، وعلما من غير طلب، وغنى من غير مال، وأنسا بغير جماعة. ثم شهق فلم يفق إلا بعد ثلاث وأنا منتظر، فما أفاق فال: انصرف عني بسلام. فقلت أوصني قال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلا).
عاد إلى مصر وقد روى ظمأه، وأخذ ينادي بتعالميه بين قوم ران الجهل على قلوبهم وعميت بصائرهم فم يفقهون قولا - وكان أول من تكلم عن علوم المنازلات، فأنكر عليه أهل مصر هذا واتهموه بالزندقة والخروج عن الدين لأنه لم يكن لهم بهذا العلم عهد، فقالوا أحدث علما لم تتكلم فيه الصحابة - فاضطهدوه وسعوا به إلى الخليفة المتوكل، فبعث إلى عامله على مصر فأرسله أليه، فألقى به في السجن، ولكن أصدقاءه وتلاميذه طلبوا له العفو من الخليفة وما زالوا به حتى أخرجه من السجن، وجمع العلماء ليناظروه. وتحدث أبو الفيض وتحدث العلماء فما زال كلامه يعلو وكلامهم يهبط حتى صمتوا جميعا وتحدث وحده. ثم وعظ الخليفة، فبكى بكاء مرا وندم على سجنه وقال: إذا كان هذا زنديقا فما في الأرض مسلم. ورده مكرماً. فدوى اسمه في الآفاق وأقبل عليه الناس من كل صوب وحدب يلتمسون العلم عنده ويطلبون الرشاد على يديه.
وكان يعلم تلاميذه التوبة ويلقنهم كبح جماح جماع النفس والإقلاع عن الغواية. وقد كان يفرق بين توبة الإنابة التي ترجع إلى خشية العقاب والخوف منه، وبين توبة الاستحياء التي تستند إلى الاستحياء من رحمة اله سبحانه وتعالى. وكان يقول التوبة ثلاث: (توبة العوام وهي عن المعاصي، وتوبة الخواص وهي التوبة عن الإهمال، وتوبة المعرفة وهي التوبة التي تعنى الإعراض عن كل شئ سوى الله).
ومن تعالميه عن الروح أن النفس هي العقبة الكأداء في سبيل الكمال الروحي لأنها خاضعة لرغبات النفع الذاتي، ولذلك وجب على المتطلع الى الله أن يحارب نزواتها ويتغلب عليها. ولما سئل عن الحجب الموجودة بين الله والروح هو أعظمها أثرا في إخفاء رءية الحقيقة قال: (أخفى الحجاب وأشده رؤية النفس وتدبيرها).
ويقول إنه يمكن عن طريق كبح جماع النفس تخليص الروح من العقبات النفسية وإعادتها إلى أصلها الأول من الطهارة والنقاوة فتعود إلى اتصالها بالله.(788/26)
فالعودةإلى الله لا بد من تطهير النفس من الشرور وكبح جماحها عن الرغبات ومن أية صلة أخرى غير الصلة بالذات العلية ومن تعاليمه في ذلك: (لا تصحب مع الله إلا بالموافقة ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة).
وذل النفس ضروري للروح التي تأمل في أنس الله والقربمنه، فكلما ازداد العارف في إذلال نفسه وإخضاعها ازداد قربا من الله، فيقول (وما أعز الله عبداً بعز، أعز له من أن يدله على ذل نفسه) لأن المريد عندما يبصر القوة السماوية وتتملكه عظمة خالق السماوات والأرض يدرك كم هو ضئيل بالنسبة لهذه القوى فيمتلئ تواضعا. . . . وفي ذلك يقول ذو النون (من أراد التواضع فليوجه نفسه إلى عظمة الله تعالى فإنها تذوب وتصفو. ومن نظر إلى سلطان الله ذهب سلطان نفسه، لأن النفوس كلها فقيرة عند هيبته وجبروته).
وكانت المعرفة أهم الموضوعات من تعاليمه، فهو أول الصوفيين الذين تعرضوا للكلام عنها. ومن تعاليمه في المعرفة أن المعرفة بالله ثلاث، أولاها معرفة التوحيد التي هي ملك المؤمنين جميعا. وثانيتها معرفة الحجة والبيان وهذه هي معرفة الفلاسفة وعلماء الدين. وثالثتهما معرفة صفات الله وهي معرفة أولياء الله الذين يتأملون الله بقلوبهم فيكشف لهم عما لا يكشفه للآخرين فيقول: (علامة العارف ثلاث: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ولا يعتقد باطنا من العلم ما ينقض عليه ظاهرا من الحلم ولا يحمله كثرة نعم الله عليه، وكرامته على هتك أسرار محارم الله تعالى).
والمعرفة تقود إلى الحيرة، ولكنها حيرة على نوعين: حيرة العامة وتؤدى بأصحابها إلى الزندقة والضلال، وحيرة الخاصة وهي تسبب عن الاكتشاف، فهي الحيرة التي تدوم وتبقى. في ذلك يقول (التفكير في ذات الله تعالى جهل، والإشارة إليه شرك، وحقيقة المعرفة حيرة).
وكما أن المعرفة تؤدى إلى الحيرة فهي كذلك سبيل الاتحاد بالذات العلية، وفي ذلك قال: (إن الله عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب أعينهم وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندما وحزنا من غير جنون، وتبلدوا من غير وعي ولا بكم، وإنهم لهم البلغاء الفصحاء العارفون بالله وبرسوله، ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء، ثم تولهت قلوبهم في(788/27)
الملكوت، وجالت فكرهم بين سرايا حجب الجبروت واستظلوا تحت راواق الندم وقرءوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحب النجاة وعروة السلامة، وسرحت أرواحهم في العلى حتى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقدموا من غدير الحكمة، وركبوا في سفينة العطية وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا الرياض الراحة ومعدن العزة والكرامة).
وتحدث ذو النون عن أسفاره التي كان فيها ينشد سبل الخلاص من شوائب الحياة وأكدارها قال: (لقد حصلت في أول أسفاري علما يرضى الخاصة والعامة، وحصلت في ثانيها علما يرضى الخاصة دون العامة، وفي ثالث أسفاري حصلت من العلم ما لم ترض به لا الخاصة ولا العامة، فغدوت شريدا طريدا. لقد حصلت من العلم في المرة الأولى التوبة وهي مقبولة لدى الخاصة والعامة على حد سواء وفي المرة الثانية وصلت إلى التوكل على الله ومعاملته ومحبته وهي شئون تتقبلها الخاصة ولا تتفهمها العامة، وفي المرة الثالثة وصلت إلى الحقيقة التي تسمو على العلم والعقل فأعرضها عنها ولم يتفهماها).
لقد كان ذو النون في بادئ الأمر متنسكا ينشد الوحدة ويبتغي العزلة، ليدرب نفسه على كبح رغباتها حتى تغلب عليها، فسار في طريق التوبة والتطهر حتى من الله عليها بهبة المعرفة فأصبح في آخر الأمر صوفيا عارفا بالله. وقد وافاه الأجل بمدينة الجيزة سنة 245 للهجرة. ومما يروى عن جنازته أن كان الطير تتجمع في السماء وتظلل نعشه. وأنه بعد وفاته ظهر على قبره مكتوب: ذو النون حبيب الله، من الشوق قتل الله.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحفيظ(788/28)
بعد الامتحان. . .!
للأديب الطاهر أحمد مكي
ماذا أصنع؟، وإلى أين أتجه؟ وفي أي المعاهد أنتسب؟، ومن أي الثقافات أرتوي؟. . . أسئلة حائرة تتراقص على لساني، وخواطر قلقة تتماوج في جناني، وآمال واسعة يضيق بها صدري، ويعجز عنها بياني؟
أنا أريد المعهد الذي يربى الروح وينشئ البدن، ويساير الحياة، ويراعي تطور الزمن،. . . وأنا أفتش عن الأستاذ الذي بوجه ولا يستأثر، ويرشد ولا يقيد، ويرسم المنهج، ويحدد الهدف، ولا يدخل في التفاصيل، ولا يتمسك بالجزئيات، ليجعل شخصه فوق الأشخاص، وعقله سيد العقول، ورأيه أكمل الآراء!. . .
قالوا أمامك بليع اللغة، بها نشأت العربية، وفي أحضانها ترعرعت، وعلى هدى منها تطورت، ولعلك واجد هناك ما يرضى ذوقك وفنك، ويشبع رغبتك وهويتك، ويصمد بك في معارج من السمو البلاغي، تتيح لك لذة لا تعدلها لذة، ومتاعا لا يعدله متاع!. .
واسترجعت نفسي، واستأنيت فكري، ولم أصدق ما قالوا فأنا أعرف بالأزهر، وألصق بشيوخه، وأخبر بمناهجه، وأعلم بطلابه، وهم جميعا ليسوا في شئ مما يصفون، وإن بدت ظواهرهم لماعة خداعة. . .
فكلية اللغة قالوا لها يوما، كوني على العربية حارسا ولها رائداً، ثم باركوها بالعناية، وغذوها بالرعاية، وحبوها بالجاه، وعززوها بالإيثار، وجعلوها مطمح الأنظار، واستخلصوا لها من الطلاب أنجبهم وأمكنهم، واعزرهم ثقافة وعلما. . ومضت عجلة الحياة مندفعة إلى الأمام، مسرعة الخطا، فأصاب التطور والتقدم شتى مرافق مصر، ولكن كلية اللغة لم تؤت ثمارها، ولم تبلغ أكلها، ولم تحقق أمل الناس فيها، فتوارت عن الأنظار.
ذلك لأن المشرفين عليها بالأمس واليوم، جعلوا من عقول بنيها آلات لرصد الآراء، ومذكرات لتدوين الحواشي، وسجلات لحفظ الهوامش، وحفظة على كتب الأوائل، غثها وسمينها، خبيثها وطيبها. . . ثم قالوا لهم، حدودكم فلا تتخطوها، وتلك آراؤهم تناقشوها، فوجد الطلاب أنفسهم مضطرين لدراسة قواعد لا تتمشى مع الذوق، ولا تستقيم مع المنطق، ولا تنهض على أسس سليمة من الفكر الصحيح والنظر السليم، والرأي الثاقب، والبحث(788/29)
العميق، وتصطدم مع واقع الحياة اصطداما مرا، ثم وجدوا أنفسهم مسيرين في إضفاء القداسة على أشخاص المؤلفين، لا ينقص لهم رأي، ولا تنقض لهم قاعدة، مع أنهم بشر أيا كانوا، يخطئون ويصيبون على السواء فكان الإيمان المطلق، وما اكثر ما يجنى الانقياد الأعمى على حقائق الأشياء!
وأنا حين أعرف لهذا المعهد بمثل هذه الصراحة، لا يمنعني غل في النفس أو مرض في الرأي، أن أعترف أن فيما يدرس هناك، كتبا لها قيمتها واعتبارها، ولها مكانها في عالم البلاغة والأدب، ويرجى منها كبير فضل لو أتيح لها المدرس الصالح!.
ولكن، أين هو المدرس الصالح؟. . وقد أفقدت السياسة الأزهر صوابه، فاضطربت فيه مقاييس الأخلاق وموازين الرجال وجعلت منه مجالا فسيحا لنمرة العصبية، وشحناء الحزبية، فعلا أناس مكانهم في الحضيض، وفات الركب آخرون كانت النصفة تقضي، أن يكونوا في مقدمة الصفوف، ولا يرجى من تافه علا نفع، ولا من عزيز امتهن فائدة!. . . والعربية في كلا الحالين هي الخاسرة، والطلاب هم الضحايا!!
وإذا كانت الصراحة رائدى، فأنا أجد في نفسي الشجاعة لأقول: أن هيئة التدريس في كلية اللغة أجمالا، لا تتناسب وجلال المعهد وعظمة رسالته، وما يرجو له المخلصون من بقاء ودوام. ولست أعرف فيما أذكر من كليات مصر والعالم، أن هيئة تدريس جامعية، لا يجيد أساتذتها أكثر من لغتهم التي ولدوا بها، غير كلية اللغة، وتلك تقيصة ما كنت أحب أن يوصموا بها، في عالم أضحى كتلة واحدة، وتلاشت فيه الحدود والحواجز، لم يعد في طوع شخص مثقف، أن يستقل فيه بفكره وآرائه، بعيدة عن مؤثرات الفكر وتياراته العالمية!. .
وتستطيع أن تلمح أثر هذا التقصير واضحا، في متابعة ما يؤلف من كتب، وما يصدر من صحف، وما ينشر من بحوث وما يدرو من مناقشات، هل تحس لهم كلمة، هل تسمع لهم رأيا؟ سؤال ما أظنه يحتاج إلى جواب!
كان في وسع الأزهر أن يتلافى هذا النقص، وأن يدفع عن نفسه، هذه المعرة، لو مد يده إلى الأدباء والمفكرين، ممن بنوا مجدهم العلمي على أسس متينة، وبجهاد مضن، وما عليه من بأس، فكل جامعات العالم تسد نقصها، لما تجد من أساتذة متخصصين أني وجدوا. والعالم لا وطن له، والحقيقة واحدة وإن تعددت المذاهب والأجناس والأوطان!(788/30)
ولكن. . لأمر ما، رفض شيوخنا أن يعترفوا بالنقص ولغيرهم بالفضل، فآثروا السكوت والعزلة، وضربوا حول أنفسهم حاجزا حصينا، وأقاموا دون العالم سدا عالياً، لا ينفذ منه شعاع الفكر الحديث؛ وال يخترفه صدى المعرفة الحقة، لا يتقدمون ولا يتطورون، ولا يؤثرون ولا يتأثرون. . . وتلك طلائع الموت وبشائر الانحلال!
وهمس في أذني آخرون، يستحثونني في اللحاق بدار العلوم ويسبون لها من المزايا والفضائل ما عرفت وما لم اعرف، ومن يدري فقد لا أعرفه أبداً، لأنه ليس هناك، وإنما هو وليد التعصب الأصم، والخيال المغرض!. .
قالوا إنها مهذبة منظمة، مرتبة منسقة، سخية في المال، شهية في الطعام، لن تجد في دراستها تعبا ولا نصبا، ولا رهقا ولا وصبا، ووجدتني أدير ظهري مرة أخرى، فأنا عارف بما هناك.
قد تكون دار العلوم جميلة المبنى، لطيفة الموقع، نظيفة المظهر، لامعة البناء، فاخرة الرياش، ولكنها وا أسفاه أيضا! أزهرية التفكير، جامدة الشعور، لا تربى دراستها فنا، ول تعلى ذوقا، ولا ترهف حسا، ولا تنمي خيالاً، وإنما تنتج مدرسا صالحاً طيعاً، لحفظ القانون، ويجيد قواعد التربية، ويطبق منشورات الوزارة، ويحسن حفظ النظام في صفوف التلاميذ!. . .
لن أذهب إلى الأزهر، لأني سأكون أكثر من أستاذي علما، وأوسع ثقافة ومعرفة، فأنا أجيد لغة، وفي طريقي لإجادةالثانية، وهو لا يعرف إلا واحدة؛ وأنا ألم بالحركة الفكرية الحاضرة، ممثلة في الصحافة والإذاعة والمحاضرة، وهو ليس على شئ من ذاك. . . ولن أذهب إلى دار العلوم، لأنها مصنع مدرسين، وأنا لا أريد أن أصبح مدرسا ناجحا، بقدر ما أحرص على أن أكون مفكر حرا، ولا أحرص على شئ أكثر من حرصي على المعرفة الطليقة، التي لا تتأثر بالمذاهب والأشخاص، قدر تأثرها بالمنطق والإقناع!. .
ولا يعنيني من الحياة، إلا أن أعيش مع أولئك الخالدين من عباقرة الإنسانية في مختلف فنونها، مصورين ومثالين ونحاتين وأدباء وشعراء وموسيقين، ممن أعلوا من قيمة الإنسان وقدره وجعلوه جديرا بما أكرمه من الخالق من مزايا وصفات!. . .
بقيت كلية الآداب. . . وهي ثرية مترفة، نافعة مرهفة، تتأفف من أمثالي، من الغلابى في(788/31)
دنيا الجاه والمال، الفقراء في عالم المادة والسلطان، فهي تقيم الحواجز، وتصنع العقبات. ولعلها ثائبة إلى رشدها يوما. . عافاه الله!
وبعد. . . فأين أكمل تعليمي، وفي أي مهد تستقر روحي، وعلى أي أساس أحتفظ نهجي؟. .
أنا حائر. . . فهل عند أحد من جواب؟!
الطاهر أحمد مكي(788/32)
رسالة الفن
(الاتجاهات الفنية الحديثة)
للأستاذ محمد بك ناجي
يشاء الله لنا أن نعيش ليختبرنا بهذه الأوقات كي نستحق مصيرا أجل وأعظم. لهذا حشدنا جميع فوانا في خدمة غرض نبيل، وانبعثت همتنا للكفاح في جميع الجبهات في نفس الوقت. فلنزد من هذه القوى، ولنضاعف وثباتنا، فليس في حوزة الغرد أكثر ما تجمع له من الوسائل. ولقد ظلت الروح أبدا مكرسة للنصر.
انظروا إلى الحرب الأخيرة وتساءلوا عما إذا كان جنود الأمم المتحدة قد تجردوا من تذوق الجمال الذي كان يسري في مظاهر فنهم مبدينتا القاهرة. لكي يكلل السلاح بالنصر لا يكفي صوت المدفع وحده؛ فإن الحلفاء قد عبئوا مصوريهم ومتاليهم ليعبروا عن حيويتهم. قد دعيت مصر الاشتراك في معرض البندقية الدولي للفنون الجميلة، وهو حلبة سبق أوربية يضرب كل فيها بسهمه. ومصر ساهمت بجرأة بدورها في هذا المضمار، حقاً أنها وصلت إلى الصفوف الأولى وهي تلهث؛ ولكنها أقرت مكانتها في مجمع الأمم. وأنا لنتقدم بشكرنا إلى إيطاليا صانعة السلام الذي يوفق عن طريق الفن بين المصالح المتضاربة المتباينة.
في البندقية، المدينة الغناء، والتقت جميع الأمم. وقد ظفرنا بمثل هذا الامتياز أثناء الحرب؛ وبعدها احتفظت به القاهرة فأمست عاصمة الفنون في الشرق الأوسط، وظلت حريصة على هذا التقليد ومن أجل هذا ستخطي إيطاليا التي تنزلنا اليوم بجناحها الفخم بنفس حقوق الضيافة في قصر المعارض بالقاهرة، في العام القادم.
وقد شئت أن أحدثكم عن مدينة أوربية باهرة بقول البعض آسفا إن الشيخوخة قد دبت فيها - ومعرض البندقية يقدم إلينا صورة جلية. قد تثير أسباب الكوارث قلق المؤرخين؛ ولكن العلوم الزاخرة، والحرية الوافرة، والفردية الواسعة، ثم الكبرياء، والرغبة العابثة في خلق عالم مجرد من الطبيعة لا تقلقنا، ولكن فضيلة التواضع التي تنقص الفنان هي الباعثة على انحلال فنه.
وأمعنا في التدقيق، إليكم المراحل التي اجتازها الفن المعروف بتصوير (المرئيات)
تتضمن أولى هذه المراحل إبراز صورة المرئيات مباشرة بطريقة ساذجة. أما الثانية(788/33)
فتقتبس العناصر الطبيعية لإبداع الطبيعة من جديد. وتطمح الثالثة إلى تكوين عالم لا يمكن تصوره مستقلا عن عالمنا المعقول.
والرأي عندنا أنه يمكن أن نحدد بين قطبين ما ينتاب عالم الفنون من الاضطراب البالغ: أولهما المحسوس وهو نقطة ارتكاز الفن التصويري أو المرئي، والآخر المجرد ويثير في النفس برموزه وإشاراته المعاني والارتسامات.
وتطرف الفن المعاصر وجموحه شبيه بتحرير الفرد من الأوضاع القائمة. والنشاط الروحي الرفيع لا يقبل بطبيعته أي مبرر؛ إذ هو حادث مستقل لا يخضع لسواه أو يمكن استخدامه كأداة. إزاء هذه الانقلابات الطارئة على الفن بفعل التفكير الفلسفي المتضارب، وما تقده لنا مذاهب مثل: (وما فوق الطبيعة) (الميتافيزيقة)، (والتجريدية)، (وما فوق المحسوس) (سيررلست)، (ولاستبطانية)؛ لا يعدو واجبنا غير الإلمام بهذه التيارات التي تعتبر أكثر من أن تكون فنية: أما الأخذ بها والجري عليها فمتروك للأذواق والميول. ولا يخفى أن حب البشرية والدين والتقاليد والوطن ليست موضوع ما يعرف (بالفن الدولي) وهذه العوامل المذكورة التي خلقت للإنسان أجمل تراث ما تزال تفعل فعلها في بعث نهضة الشرق. ولسوف يظل الشرق للجميع مستودعا روحيا زاخراً ليعالج مرة أخرى هذه الوثنية يسمى عالم الفن للتحرر منها.
هذا ما يلقيه علينا معرض البندقية من الدروس، وإنا لجد عارفين له بالجميل.
محمد ناجي(788/34)
من هنا وهناك
من شئون الحرب في الإسلام:
قال عمر بن الخطاب لعمر بن معدي كرب: صف لنا الحب، قال: مرة المذاق إذا كشفت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف.
وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ قال ما سلمت من ذلك من ذعر نبه على حيلة ولم يغشني ذعر سلبني رأيي. قال هشام: هذه والله البسالة.
وسئل بعض أهل التمرس بالحرب: أي المكائد أحزم؟ قال إذكاء العيون، وإفشاء الغلبة، واستطلاع الأخبار، وإظهار السرور، وأمانة الفرق، والاحتراس من المكائد الباطنة، من غير استصغار لمستنصح، ولا استناد لمستغش، واشتغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره.
وكان بعض أهل التمرين بالحرب يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولى العزم، والجبناء من أولى الحزم، فإن الجبان لا يألوا برأيه ما بقى مهجكم، والشجاع لا يعدو مايشد بصائركم، ثم خلصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معرة الجبان، وتهور الشجعان، فتكون أنفذ من السهم الزالج، والحسام الوالج. ولما فتح عمرو بن العاص قيسارية، سار حتى نزل غزة، فبعث إليه علجها أن ابعث إلى رجلا من أصحابك أكلمه، ففكر عمرو وقال ما لهذا أحد غيري، فخرج حتى دخل على العلج فكلمه فسمع كلاما لم يسمع قط مثله، فقال العلج حدثني هل في أصحابك أحد مثلك؟ قال لا تسأل عن هذا إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني، ولا يدرون ما تصنع بي، فأمر له بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذ مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه، فخرج من عنده فمر برجل من نصارى غسان فعرفه، فقال: يا عمرو قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج، ففطن عمرو لما أراده فرجع، فقال له اللج ما ردك إلينا؟ قال نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد، فقال صدقت عجل بهم. وبعث إلى البواب أن خل سبيله.
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضوان الله عليهما: أما بعد فإني آمرك(788/35)
ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم الله، ولولا ذلك لم تكون لنا بهم قوة. . ولا تعملوا بمعاصي الله وانتم في سبيل الله. . . واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لنا ولكم. وترفق بالمسلمين ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي، الأنفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه ولا يرزأ أحد من أهلها شيئا فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فتولوهم خيراً، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت أرض العدو فبث العيون بينك وبينهم ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والفاش عين عليك وليس عينا لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا إمدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم، وتنق الطلائع أهل الرأي والبأس من اصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحدا يهوى فتضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حييت به أهل خاصتك، ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه غلبة أو ضيعة ونكاية، فإن عاينت العدو فأضمم إليك أقاصيك وطلائعك وساياك وأجمع إليك مكيدتك وقوتك ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال حتى تبصر عورة عدوك ومخاتلته وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها فتصنع بعدوك كصنعه بك، ثم أذك حراسك على عسكرك وتيقظ من البيات جهدك، ولا تؤتى بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه لترهب به عدو الله وعدوك. والله ولى أمرك ومن معك وولى النصر لكم على عدمكم والله المستعان. قال خالد بن الوليد عليه رضوان الله عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسمي(788/36)
موضعشبر الأ وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم هاأنذا أموت حتف انفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء، وقالت عائشة رضوان الله عليها: أن الله خلقا قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح معها، فأنف للجبناء فأف للجبناء.
الوساطة الدولية:
هي تدخل دولة أو شخص تدخلا وديا خلاف قائم بين دولتين أو أكثر لحسم النزاع بما يرضي الفريقين كوساطة البابا سنة 1885 بين دولتي أسبانيا وألمانيا لرفع الخصام الذي كان بينهما بسبب جزيرة كارولين، وقد عرض عليهما البابا فكرة لفض النزاع فوافقنا عليها في معاهدة عقدت بينهما في روما.
والوساطة إما أن يعرضها الوسيط على المتنازعين من نفسه أو يطلب إليه ذلك أحد الفريقين أو غيرهما، والوسيط ناصح ينحصر عمله في فحص القضية المختلفة فيها فحصا دقيقا واقتراح ما يراه نافعا ومقبولا لدى الفريقين.
وقد جاء في المادة الرابعة من معاهدة لاهاي ما نصه: إن عمل الوسيط ينحصر في التوفيق بين الآراء والمتعارضة وتخفيف الأحقاد التي تنشأ عن الخلاف.
وجاء في المادة السادسة من المعاهدة المذكورة: إن المساعي الجميلة والوساطة سواء أكانتا بطلب من الدول المتنازعة أم بلا طلب منها لا تخرجان عن إسداء النصح ولا تلزمان الفريقين.
والفرق بين الوساطة والمساعي الجميلة هو أن الوسيط يدخل في المفاوضة توا ويضع الأسس لحل الخلاف، أما الساعي لرفع النزاع فيعمل لرفع الخصام بنفوذه وسلطانه، دون دخول في المفاوضة أو وضع أسس للصلح.
والفرق بين الوساطة والتحكيم أن الوسيط ناصح يبسط رأيه للفريقين ويترك لها الخيار في القبول أو الرفض. وأما الحكم فحاكم يبرم قرارات حكمية، والفريقان مجبران على تنفيذها. وأوضح فرق بين الوساطة والتحكيم هو أن الوساطة مفاوضة سياسية، وأما التحكيم فعمل حقوقي، وأن الوساطة تكون في أي مسألة من المسائل المختلفة فيها وان كانت تتصل بشرف الدول وحياتها، وأما التحكيم فلا يشمل هذه المسائل.
وأول رغبة في تحقيق الوساطة كانت في مؤتمر باريس عام 1856 فقد ورد في البيان(788/37)
الذي أذاعه المؤتمر: إن المندوبين يرغبون باسم حكوماتهم في أن تطلب الدول المتنازعة وساطة دولة محبة أخرى أو بذل مساعيها الجميلة في النزاع الناشب بينهما قبل أن تمتشق الحسام. ثم جاءت معاهدتنا لاهاي الأولى والثانية وبحثنا في الوساطة والمساعي الجميلة، وقسمتا الوساطة إلى قسمين: الوساطة العادية ولا وساطة الخاصة، فالوساطة العادية جاء عنها في المادتين 2، 3: إن الدول المتعاقدة تتعهد بأن تجنح إلى توسيط دولة أو إلى طلب مساعيها الجميلة قبل أن تمتشق الحسام، على أن تكون الأحوال مساعدة على ذلك، كما أنها ترى من الواجب على الدول المعتزلة (الحيادية) أن تعرض وساطتها على المتناوعين خلال الحرب إذا كانت الحالة مساعدة على الوساطة، ولا يحق لأحد الفريقين أن يرى هذه الوساطة عملا يناقض المحبة والولاء. والوساطة الخاصة بحثتها المادة 8 من معاهدتي لاهاي فجاء فيها: إن من الواجب على أي دولة تقع في نزاع مع دولة أخرى مت أجل قضية مهمة أن تختار دولة ثالثة وتخولها حق المفاوضة مع دولة رابعة يختارها خصمها لإعادة العلاقات السياسية التي انقطعت بينهما، ويجب على الدولتين المتنازعتين أن تمتنعا عن كل خصومة خلال مدة المفاوضة التي لا تتجاوز 30 إذا لم يكن هناك نص يحدد المدة.
أسامة(788/38)
البريد الأدبي
أزهري في السوربون:
مما يذكر لمصر عامة وللأزهر خاصة مقرونا بالفخر والإعجاب اليوم الثالث من شهر يولية سنة 1948 م ففي هذا اليوم شهدت باريس لونا من ألوان النبوغ المصري، وشاهدا من شواهد التطور العلمي في الأزهر الحديث؛ ففي قاعة (ريشيليو) الكبرى بالسوربون نوقش فضيلة الأستاذ الشيخ محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة في الأزهر الشريف، لنيل درجة (دكتوراه الدولة في الفلسفة)؛ وقد تقدم الأستاذ موسى إلى تلك المناقشة برسالتين، الأولى موضوعها (الدين والفلسفة في رأي ابن رشد، وفلاسفة العصر الوسيط) وموضوع الثانية (التوجيه الفلسفي، أو ما بعد الطبيعة في القرآن). وكانت لجنة المناقشة والامتحان مكونة من خمسة أساتذة من السوربون والكولج دي فرانس كما هو المتبع دائما في دكتوراه الدولة. وقد رأس لجنة المناقشة البروفسور ليفي برفنسال، وشهد الامتحان أيضا الدكتور طه حسين بك، كما شهده أكثر من مائتي طالب مصري من طلبة البعثات في فرنسا، وكان الأستاذ موسى موفقا كل التوفيق في عرضه لنظريات رسالتيه ودفاعه عن آرائه فيهما، استمرت المناقشة خمس ساعات كاملة، ثم أعلنت اللجنة الأستاذ موسى قد نال درجة دكتوراه الدولة في الفلسفة بدرجةمشرف جداً والدرجة التي نالها الدكتور محمد يوسف هي أعلى درجة تنحها السوربون.
وعقب الامتحان أقبل أصدقاء الدكتور موسى من المصريين والفرنسيين يهنوئنه على ذلك النصر العلمي الباهر، وأشاد الدكتور طه حسين بك بفضله كثيرا في تلك البرهة. وقد دعت السوربون الدكتور موسى لإلقاء محاضرات عن فلسفة التشريع الإسلامي في القرآن باللغة العربية.
ألا إن هذه يوم من أيام الأزهر المشهودة، وإذا كنا نزف التهنئات إلى الدكتور محمد يوسف موسى على ذلك التوفيق الرائع، فإننا نسأل الله أن يعيده قريبا إلى جامعته الإسلامية الكبرى حتى يشارك مشاركة قوية في السير بها إلى الأمام.
أحمد الشرباصي
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي(788/39)
أحسن ما قيل في كلمة أشياء
حكي أن بعض النحاة سئل عن كلمة أشياء فتظرف، وقال: (إني لا أخالف قول الله تعالى: (لا تسألوا عن (أشياء.) وما تظرف هذا النحو، وأجاب بهذا الجواب ألا وهو يرى أن النحويين - وإن كانوا أجمعوا على منع صرفها - في حيرة من أمر جمعاء، وأمر تعليل منع صرفها.
وقد روى العلامة المحقق شهاب الخفاجي في كتابه طراز المجالس في مبحث هذه الكلمة - وذلك بعد أن نقل عن النجاة إجماعهم على أنها ممنوعة من الصرف. وتعليلاتهم لذلك - روى الخفاجي: أن أحسن ما قيل فيها، وعد أقرب إلى الصواب هو ما قاله الكسائي، وأنها جمع شئ كفرخ، وأفرخ وترك صرفها لكثرة الاستعمال بشبيها بفعلاء أي بألف التأنيث الممدودة، وقد يشبه الشيء بالشيء فيعطى حكمه كما شبه (أرطى) بألف التأنيث الممدودة فمنع صرفه في المعرفة.
ولعل الكسائي يريد بكثرة الاستعمال الوارد في تعليله - أن كلمة أشياء وردت قراءتها هكذا عن الرسول بغير تنويين مجرورة بالفتحة، وأنه ليس بد من استعمالها هكذا في هذه الحالة؛ إذ كل النحاة مجمعون على أنها غير مصروفه وإنما اختلفوا في التعليل وعدم اهتدئهم إلى تعليل صحيح لا ينفي أن منع الصرف موجود.
وإلى هنا يتبين أن الأستاذ البشبيشي - في ارتيائه ما رأى من صرف الكلمة - قد خالف إجماع النحاة دون مبرر قوي. فضلا عن أنه تلكف في التعليل. وعرض علينا تعليلاتهم لهذه الكلمة مقتضبة اقتضابا لا ينقع غلة.
وإذا ثبت أن النحاة مجمعون على أن كلمة أشياء غير مصروفة، وأن الكسائي علل منع الصرف بأنها شبه فعلاء، وقوى ذلك بكثرة الاستعمال، وعرفنا ما المراد بهذه الكثرة - إذا ثبت هذا فقد سقط استدلال الأستاذ البشبيشي بالقياس على كلمة أفياء.
وإنه ليبدو لي - بعد ما سبق - أن أسال الأستاذ عن هذه الكلمة في الآية القرآنية؛ فقد وردت كلمة أشياء في الآية مسبوقة بحرف جر. وهو عن، فلم ضبطت الهمزة الأخيرة بالفتحة! أليس هذه يدل - دون احتياج إلى كثرة تعليلات، لا داعي لها - أن كلمة أشياء(788/40)
اسم ممنوع من لصرف جر بالفتحة كما هو المعهود فيه لسبب - من الأسباب المعتبرة في المنع.
على أنه لو كانت أشياء مصروفة كما يرى الأستاذ لضبطت الهمزة الأخيرة - على الأقل - بالجر من غير تنويين هكذا: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوئكم) وكان هذا كافيا في التناسب، والانسجام مع محيطها في الآية الكريمة. وكنا وكان النحاة من المسلمين بصرفها، وما أجهدو أنفسهم، وأعتنوها هذا الاعتناء الطويل.
ولكن - يا سيدي الأستاذ - كل هذا لم يكن، وإنما الذي كان هو أنها جرت بالفتحة، ودل ذلك على أنها ممنوعة من الصرف، ولأي سبب كان المنع؟ ذاك هو ما أوقع النحاة في حيرة وجعلهم يختلفون في أصل جمعها ويذهبون مذاهب شتى في تلعيل منع صرفها، وإن كانوا اجمعوا على منعها من التنوين
محمد غنيم
حول بيت:
قال الأديب: أو قرأت قصيدة الجارم بك في (فلسطين) حين يقول:
عشنا أعزاء ملء الأرض ما لمست ... جباهنا تربها إلا مصلينا
ثم أو قرأت من قبل قصيدة شوقي - رحمه الله - في أندليسته حين قال:
لفتية لا تنال الأرض أدمعهم ... ولا مفاقهم إلا مصلينا
قلت: قرأت وعلمت ما تعني، ولكن ما قولك أنت في قول القائل:
وقوفاً بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وقول الآخر:
وقوفا بها صحبي على مطيهم ... يقولون تهلك أسى وتجمل
قال الأديب أن ما قاله الرواة والشعراء في أمر البيتن صحيح وأن كلا من الشاعرين صادق في قوله، أمين في نظمه، لم ينقل أحدهما عن الآخر، ولكنهما صدرا عن مورود واحد بمعنى واحد
قلت: إذا كان هذا هكذا فما بالك تشك وتشكك القارئ معك في بيت الأستاذ الجارم وهو من(788/41)
هو؟ أو كانت جملة (إلا مصلينا) تلك وقفا على أمير الشعراء دون أشعر الشعراء؟
وإذا كان بعض النقاد - قديما وحديثا - قد تجاوزوا في اتفاق بيتين معنى ومبنى؛ فكيف يصح الحجر على اللفظ وهو أداة التعبير والأداء؟!
وبعد، فالنقد تذوق وليس تبشدق وتفيهق، ولا هو رجم بالغيبأو تعلق بالشبهات وللشبهات حدود.
الزيتون
عدنان
لا تسألوا عن أشياء:
في العدد السابق من مجلة الرسالة الغراء كتب الأستاذ محمود البشبيشي كلمة عن (أشياء) وأشار إلى اضطراب آراء النحاة في أسباب منعها من الصرف، وانتهى إلى أنها وردت ممنوعة من الصرف في قول تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) بآية 101 من سورة المائدة حتى لا تقع (إن) بعد الهمزة المكسورة المنونة فتتوالى (إن) مرتين، والأستاذ لا يرضى ذلك بحجة أن القرآن وهو المثل الأعلى للبيان الرفيع لا يجيز هذا التعبير.
فإليه قول الله تعالى: (وما أنزل الرحمن من شئ إن أنتم إلا تكذبون) في آية 15 من سورة يس، وقوله تعالى: (وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلى في ضلال كبير) في آية 9 من سورة الملك، وفي كلتا الآيتين جاءت (إن إن) بهذا التكرار المقبول الخفيف على اللسان (من شئ إن انتم. . .)
ولهذا تبقى كلمة أشياء - كما كانت - ممنوعة من الصرف لأحد الأسباب المدونة بكتب النحو، وقد وردت كلها باختصار في (حاشية تفسير الجلالين) للجمل عند شرح آية (لا تسألوا عن أشياء. . .) خلافا لما يتوهمه الأستاذ ولما يراه، وهو مجتهد في اللغة له أجر على خطئه غير المقصود!
أحمد أحمد العجمي(788/42)
الكتب
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
تأليف الأستاذ الجليل أحمد أمين بك
بقلم الأستاذ محمد خليفة التونسي
أستاذنا الجليل أحمد أمين من علمائنا النابغين الذين ندين لهم بالفضل الكبير في (ريادة) مجهولات التراث الإسلامي وكشف خفاياه، والذين عبدوا لأنفسهم بجهودهم الخاصة الطرف التي سلكوها إليها فاستقاموا عليها، وعرفت بهم كما عرفوا بها. فأعلى القمم في البيئة العلمية التي نبت فها الأستاذ تتمثل في علم الشيخين الجليلين: محمد الخضري بك، وعبد الوهاب النجار، ولكن الأستاذ استطاع أن يرتفع بجهاده الشخصي إلى مستوى فوق أعلى هذه القمم. وهو من أظهر (الرواد) الأكفاء الذين احسنوا دراسة تطورات الحركات العقلية في التاريخ الإسلامي وأخرجوا محصول دراساتهم في كتب كثيرة تعد في بابتها من أوفى المراجع اليسيرة التناول، وأكثرها دقة ونظاما ووضوحا، ومن أجل ذلك لا نرى كتابا أخرج بعد كتب الأستاذ في موضوعاتها إلا رأينا فيه استشهادات كثيرة بها، وإحالات كثيرة إليها، مما يشهد بفضل الأستاذ وكفايته، وحسن ثقة الباحثين به وبآرائه.
ودراسة الحركات العقلية الفردية والاجتماعية خير ما تظهر فيه (ملكاته الذهنية الأصيلة) فهو يبدو للمتوسم في هذا المجال كالسمكة الجبارة في العيلم الزاخر: ساربة في مسبحها في خفة ونشاط عاملة بكل قوتها، منطلقة بكل حربتها دون تردد ولا بهر، ودون شعور بالخوف ولا الغرابة. ولم التردد والخوف وهي في (بيئتها) التي خلقها الله ويسرها لها؟ لقد ألفتها فهي عنها راضية، وإليها مطمئنة، وبها ناعمة مهما اعتكر العيلم، وضاقت أزماته، وجاشت دواماته، واشتجرت تياراته، وأطبقت عليه الأعاصير تناوشه من كل جانب وإن (السمكة) لتبدون هناك في منتهى جبروتها وحريتها وابرع حركاتها وأجملها. فمن شاء أن يراها في هذه الصورة الممتعة فلينظر إليها هناك، وكذلك من شاء أن يلقى الأستاذ في أكمل أهبة وأمتع صورة فليلقه في كتبه التي درس فيها الحركات العقلية الإسلامية: ففيها يرى ملكاته الذهنية الأصيلة متملكة في عملها كل قواها ونشاطها واطمئنانها. وإنها هنا تعمل في(788/43)
(بيئتها) كأنما (تلهمها) التصرف الواجب (بداهة أو غريزة) دون بذل أي مجهود عقلي في البحث والاختيار. إنها (ركبت) لتعمل هذا العمل، وإنها لتتكلف فيه كل وسعها، وتجهد له كل جهدها، وإن كانت كل كلفها وجهدها خفية لفرط موافقة هذه الملكات لعملها واتصالها به.
ومن يقرأ فاحصا متدبرا سلسلة الكتب التي أخرجها الأستاذ ودرس فيها الحركات العقلية الإسلامية مثل كتاب فجر الإسلام وتوابعه يجد كل فصل فيها مصداقا لما نقول.
والكتاب الذي بين أيدينا على نمط هذه المجموعة لا يختلف عنها إلا اختلافا يسيرا سنوضحه بعد، وهذه التواليف كلها تسيطر عليها (الروح العلمية) وتستقيم مضامينها على (المنهج العلمي) معا، وقلما نجد فيها مواضع (محررة) من سلطان هذا المنهج، واكثر هذه المواضع القليلة (حلقات مفقودة) في سلسة البحوث المعروضة لا تتضح (فراغات) مواضعها إلا للمختصين، و (المنهج العلمي) يوجب على الباحث ترك (فراغ مناسب) لكل (حلقة مفقودة) حتى يعثر عليها هو أو غيره بعد، وتظل قبل ذلك (مفتوحة) للداسين.
لا يختلف هذا الكتاب عن (فجر الإسلام) وتوابعه إلا في الغاية التي يرجوها المؤلف منه، فهو لا يقصد فيما يقدم من معلومات عن هؤلاء المصلحين وإصلاحاتهم أن تعلم فحسب بل أن تكون حافزا لهم الشباب إلى الإصلاح والنهوض بأممهم، ومن أجل ذلك لا عبرة بأن فصول الكتاب متناثرة، ولا بأن بعضها نشرت من قبل على (صورة) مقالات في بعض المجلات ولا عبرة حتى بعنوان الكتاب (زعماء الإصلاح. . .) فأنت إذا كتبته (حركات الإصلاح. .) لم يكن عنوانك أقل صدقا في دلالته على مضامين الكتاب من العنوان الذي اختاره مؤلفه له فهو (كتاب عنى فيه أستاذنا الجليل بدراسة الحركات الإصلاحية التي تتمثل أبرز صورها في طائفة معظمهم من زعماء الإصلاح الديني وأقلهم من زعماء الإصلاح السياسي ف الشرف الإسلامي في الجيل الماضي) وأولا أن هذا التعريف - على قصره - لا يصلح أن يكون عنوانا لطوله لكان أليق عنوان لهذا الكتاب لأنه أصدق تعريف به كما ستقصه. وليسأل نفسه وحدها من يفهم العنوان على ظاهره.
يتضمن الكتاب تعريفا فمقدمة فعشرة فصول اختص كلمنها بزعيم وحوى له صورة شمسية، فخاتمة.(788/44)
فأما التعريف، فبالكتاب وتطوره ونشره والغاية منه: فموضوعه (سير عشرة من المصلحين الحديثين في الأقطار الإسلامية المختلفة) فأما أنهم عشرة كما وصفوا فنعم، وأما أن الكتاب في سيرتهم أو سيرهم فتعريف فيه (تواضع) من ناحية ومبالغة من أخرى، كما سنبين بعد. ويفهم من كلام التعريف أن كثيراً منه نشر في بعض المجلات، ثم أتم وجمع (ليسهل تناوله، ويكثر تداوله) وقد أحسن أستاذنا فيما صنع: إذ أرضى بصنيعه الكريم رغبة إليه ملحة كانت تعتلج في نفوس من قرءوا الأجزاء التي نشرت منه، ومما يزيد في قيمة صنيعه أن في الزعماء الذي تحدث بهم في كتابه من ليس للقراء علم حتى باسمه، ومنهم من للقراء به علم قليق مضطرب لا يسد حاجة ولا (يثير) فكرا أو قلبا. والغاية المرتجاة من الكتاب (أن يكون - فيما يصور من حياة المصلحين ونوع إصلاحهم - باعثاللشباب، يستثير هممهم، فيحذون حذوهم، ويهتدون بهديهم وينهضون بأممهم) وإنها لغاية حقيقة بالتقدير والسعي إليها، ولاعجب في أن يصمد إليها (مرب) كأستاذنا الجليل.
وليست هذه الغاية ظاهرة في فصول الكتاب، فالمؤلف اعقل واكرم من أن يظهرها في فصوله، وإن كانت حاضرة في ذهنه وهو عاكف على كتابة هذه الفصول. فمن (وراء) المعلومات التي يسوقها إلينا (معلمنا) الذي لا يعنيه إلا بسط الحقائق (لنعلم) بل قبل التصدي للتعليم وبعيدا عنه: أي في مرحلة (اختيار) الموضوعات التي تعلم - من وراء ذلك كله يبدو المؤلف موجها عقله (تلاميذه ومريديه) وقد انبعثت من قلبه حرارة منظورة مجتازة عقولهم إلى قلوبهم حنانا وخفية (لتوحي) إليهم إيحاء بالعطف والغيرة على المصلحين وإصلاحاتهم والنفور والتمرد على أعدائهم وأعدائها، من غير أن يدر ك (التلاميذ والمريدون) أنهم في حضرة (مرب) أو واعظ فالمؤلف (يربى) من غير إخلال بالأصول التي يجب على (العالم) التزامها، ولا يسلك سبل الوعاظ المفضوحة العقيمة ولا يتكلف حماستهم الزائفة، فمن (يعلمه) هذا الكتاب فيها ونعمت، ومن (يريه) فهو أفضل.
وأما الفهرس فثلثا صفحة في عناوين فصول الكتاب لا في أعلامه، ولا في عناصر موضوعاته ونحو ذلك، ولا حاجة إليها لما سنبين.
وأما المقدمة فهي لازمة أشد اللزوم لفهم الفصول التي يليها إجمالا، وهي تمهيد لها، إذا لمع المؤلف فيها إلى نهضة العالم الإسلامي بعد الإسلام ثم سقوطه وجموده، وما أصابه من(788/45)
محن حطمته وتركت فيه كثرا من الآثار السيئة، ثم ما كان من نهضة الغرب واقتحامه الشرق اقتحاما جعله يفيق من غفلته، ويحس بعيوبه وبخاصة إلى إصلاحها، والمؤلف يبين بذلك أن البيئات التي ظهر فيها هؤلاء الزعماء كانت تحس بحاجتها إليهم ويبين أن (أمكنتهم) كانت (فارغة) تنتظرهم، وأنهم لها وأنها لهم، لم يقحموا فيها إقحاما. ومن ثم يراهم القراء حيث هم دون أن يحس لظهورهمبغرابة ولا حيرة.
وأما الفصول العشرة، فقد اختص كل فصل منها بزعيم، والزعماء العشرة هم كما رتبوا في الكتاب محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب، ومدحت باشا في تركيا، والسيد جمال الدين في الأفغان ومصر وغيرهما، والسيد أحمد خان، والسيد أمير علي في الهند، وخير الدين باشا التونسي في تونس، وعلي باشا مبارك، وعبد الله نديم في مصر، والسيد عبد الرحمن الكواكبي في الشام والشيخ محمد عبده في مصر. وقد اختلف حظوظ الفصول من صفحات الكتاب: ففصل (السيد أمير علي) وهو أقصرها - نال سبع صفحات، وفصل (الشيخ محمد عبده) وهو أطولها - نال إحدى وستين صفحة، وبقية الفصول بين هذين حظا، وفي كل فصل درست (البيئة التي نشأ فيها الزعيم المصلح وحاجتها إليه، وصفاته التي أهلته للزعامة فيها، وما واجهه في جهادة من عقبات، وتعاقب عليه من أزمات، وما صادفه من نجاح وخيبة وأسباب نجاحه وخيبته. كل ذلك قد ساقه المؤلفبأسلوب سديد، وتعبير واضح، مع أدب جم في النقد، وتقدير قصد في النقاد.
وكما اختلف الفصول حظا من الطول والقصر اختلف حظها من الإتقان والتماسك، ومن التأثر الخفي بالغاية التي قصدها المؤلف بكتابه.
وأما الخاتمة، فقد استعرض المؤلف فيها إجمالا وصف النقلة التي انتقلها الشرف الإسلامي على أيدي مصلحيه، والفروق بين حاليه قبلهم وبعدهم، وما وقع من الغرب عليه من أفكار ونظم في استبداده به، والأزمات الروحية ولاماديةالتي يعانيها الآن، والتيارات والمذاهب الفكرية والاجتماعية التي تتدافع فيه، والأخطار التي تتهدده، والأطماع التي تشتجر حوله، والمشكلات التي تواجهه في انتظار الحل على أيدي (مصلحين جدد) والشروط التي يجب توفرها في المصلح، والشروط التي يجب أنتهيأ له لنجاحه في إصلاحه.
هذه كل مضامين الكتابة بإجمال دقيق، ومن استعراضها يتبين سبب إعراضنا عن فهم(788/46)
العنوان على ظاهره، فلم يدرس الكتاب بالأجمال ولا التفصيل (كل زعماء الإصلاح في العصر الحديث) ولا في الجيل الماضي وحده فضلا عن الجيل الحاضر، ولا كل زعماء الشرق الإسلامي فضلا عن الشرق عامة والعالم بوجه أعم، ولا حتى (كل) الزعماء الدينين في الجيل الماضي في الشرق الإسلامي، بل اكتفى بدراسة حركات الإصلاح على التحديد المتقدم كما يمثلها (أبرز) زعمائها، وهو مع ذلك لم يوجه عناية ممتازة بتصوير (شخصيات) هؤلاء الزعماء البارزين القلائل، ودراستهم دراسة بيوجغرافية بل أقنع من لك مع أكثرهم بأقل ما يكفل فهم الصلة بين شخصية المصلح وإصلاحاته مع اقلهم بما لا يقيد شيئا في فهم هذه الصلة التي لا بد من فهمها وهو يهتم في دراسة الزعماء أحيانا ببيان بيئتهم وأثرها فيهم، وبيان ما ورثوا من أصولهم، ويتمسك بتطبيق ذلك عليهم وعلى أعمالهم وإصلاحاتهم ولكنه يأتي مثلا في فصل الشيخ محمد عبده فيعترف بأن نبوغ النابغ يعتمد على عنصرين: استعداده الفطري وبيئته التي عاش فيها، ويلتوى على أستاذنا تطبيق ذلك على الشيخ الإمام، فينفض يديه عنه جملة، ويقول (إنه هكذا خلق) (ص185) ولا عجب في ذلك عندنا لأن مجال أستاذنا الجليل الذي تظهر فيه ملكاته الذهنية الأصيلة - كما قدمنا - دراسة الحركات العقلية، ولانقول فيه إلا ما قال في الشيخ الإمام (إنه هكذا خلق) وذلك حسبنا وحسبه أيضا كي يكون من أعلامنا الذين نفخر بهم ونطاول بهم أمثالهم في شتى الأممعن ثقة وجدارة.
ليس في الكتاب دراسة جليلة ولا تافهو لديفاليرا ولامزاربك ولا طيلاق ولا غاندي ولا تشانج كأي شيك ولا مصطفى كمال ولا سعد وغلول ولا قاسم أمين ولا أحد من كثير أمثالهم، وإن كانوا جميعا من (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) بل من أبرز زعمائه، وفيهم ما لا يقل في عظمته وأثره فينا وقربه منا، وصلته بنا عن كثير من الزعماء الذين اختارهم المؤلف الكبير.
وقد خلا الكتاب - مع أنه تاريخي - خلوا تاما منذكر المراجع: فلا إشارة إليها مفصلة، ولا مجملة في حواشي الصفحات، ولا تعديد لها في أول الكتاب ولا في آخره، ولا في أوائل الفصول ولا أواخرها، ولعل غاية المؤلف من كتابه هي شفيعه في هذا السكوت، فهو كتاب موجه إلى الشباب كي يثير جمعهم، ولا حاجة مع هذه الغاية إلى ذكر المصادر، لأن (الثقة)(788/47)
بما يقول (المربي) أمر مسلم به لدى (التلاميذ والمريدين).
ولعل لسكوته سببا آخر شاقا له: فقد نشرت فصوله من الكتاب في صورة مقالات في إحدى المجلات للقارئ العجلان، ثم جمعت المقالات المنشورة وأضيف إليها مثلها فاستوت كتابا، ولا ضرورة مع القارئ العجلان إلى ذكر المراجع أيضا، إذ كل ما يعنيه أن (يعلم) وقد (يثار) بذلك وحده، ولا حاجإلى المصادر لا في (التعليم) ولا في (الإثارة) ولا بعينه مرجع علمه وثورته للبحث بنفسه بعد ذلك استزادة من العلم والثورة.
غير أن ذلك كله لا يمنعنا من ملاحظة نصوص حصرها أستاذنا بين أقواس، ولا شك أنها من كلام غيره، ولا ذكر معها لأصحابها في المتن ولا الحاشية (مثلا ص39) كما أن هناك نصوصا حصر أولها وأطلق آخرها وذلك يحير القارئ فلا يستطيع أن يميز كلام المؤلف من كلام غيره (ص39).
وقد تغفر (الثقة) و (العجلة) السكوت عن المصادر كما أسلفنا، ولكني لا ادري أتغفران للمؤلف أيضا أن ينطلق في إيراد خوطر على لسان دوان أدنى إشارة إلى اقتباس نص له ولا استشهاد بواقعة تاريخية عليه تؤكد لأهل (الثقة) وأهل (العجلة) معا أن المصلح كان يفكر على النحو الذي قيل على لسانه للتفرقة بين أسلوب القصاص وأسلوب الباحثين (أنظر ص41 - 42، ص45 - 46).
إن لكل كفاية مزيتها وخطرها، وقد تحدثت قبل بكفاءة أستاذنا في دراسة الحركات العقلية، ودودة سبح ملكاته الذهنية الأصلية في عيلمها الزاخر مهما اعتاصت مساربه، ولعل هذه الرغبة في السبح هي التي أدت بها - في دراسة الحركة الوهابية - إلى تناول الحالة الدينية في الشرق الإسلامي عامة، وإلا فهل يمكن أن نسلم مهما بلغت (ثقتنا) وبلغت (عجلتنا) - بأن محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب كان يعرف (في مصر شجرة الحنفي، ونعل الكلشني، وبوابة المتولى) (ص9) أو هل تأثر بهذه (المقدسات وإلا فما الداعي إلى الحديث بها في دوفعه إلى الإصلاح، والحديث بغيرها في غير موضعه (مثلا ص129 - 130).
وأستاذنا الجيل - غفر الله له انتصاره للعامية - كتب بالعربية منذ عشرات السنين، فهو كاتب (منقوع) فيها، ومن أجل ذلك وجب علينا أن نعرف له حق (المجتهد) في (سك)(788/48)
تراكيب جديدة فيها، ولو لم ترد (المعاجم) بها، ما دام لها مبرر (ذوقي) يحسه الأديب. مثال ذلك قوله (مازجا التصويف بالفلسفة بالهيئة بغير ذلك) (ص63 ومثله في ص 309) وقوله (غيورون) (ص355) والمعروف أن جمع غيور غير. وأنا أحمل تبعه هذا وما إليه مع أستاذي الكبير.
وقد وردت تعبيرات أخرى لا أدري رأي القراء فيها، فأستاذنا يستعمل (السلم) مذكرة (ص355) وما أعرفه - وليس بين معجم - أن السلم مؤنثة كما وردت في القرآن (وإن جنحوا للسلم فاجمح لها) فهل يجوز تذكيرها؟ ويقول (صورة للسيد جمال الدين أهداها الشيه محمد عبده. .) (أنظر الصورة أمام ص100) والذي أعرفه أن أهدي يتعدى لثاني مفعولية فإلى أو باللام، ويقول (فمن أراد الحق كاملا وإلا لا) (ص110) وأعرف القول (وإلا فلا) (أنظر أيضا ص44، 211).
وفي الكتاب مواضع موازنة بين شيئين أو أكثر لبيان وجوه الوفاق أو الخلاف، غير أن ما قيل في الموازنة لا (يوضح) هذه الوجوه توضيحا حاسما ولا شبه حاسم (أنظر الموازنة بين محمد عبد الوهاب ومدحت باشا وجمال الدين ص57، والموازنة بين ابن خلدون والكواكبي ص263).
أما بعد فنحن نتوجه إلى أستاذنا الكبير بالتقدير والتحية، شاكريه على ما أسدى إلينا نحن الشباب من فضل بهذا الكتاب القيم الممتاز من وجوه عدة، راجين الناشئة أن يقرءوه كي تتحقق الغاية التي ارتجاها أستاذنا لهم منه. وإنهم لأهل أن يستزيدوه من أمثاله، و (كل يعمل على شاكلته) و (كل ميسر لما خلق له) و (الله يقول الحق وهو يهدي السبيل).
(القاهرة)
محمد خليفة التونسي(788/49)
عصر سلاطين المماليك
تأليف الأستاذ محمود رزق سليم
أستاذ الآداب العربي بكلية اللغة العربية
بقلم الشيخ محمد رجب البيومي
عرفت صديقي الأستاذ الجليل محمود رزق سليم - أول ما عرفته - شاعرا مطبوعا، ينظم القصائد العامرة في شتى لا الأغراض الوطنية والاجتماعية والعاطفية، ولقد قرأت له منذ أمد بعيد ديوانه (رحى الربيع) فأعجبت بديباجته المشرقة وتفكيره المستقيم، وعاطفته الدافقة الجياشة.
وعرفته - ثانيا - أديبا منصفاً يسوق آراءه الناضجة، معتزة بأدلتها المقنعة، وبراهينها الدامغة، وذلك حين قرأت له منذ سنوات، مصنفة، القيم عن الأدب الفاطمي وما يليه، فراقني منه إيجازه البليغ، وتحليله الدقيق، ونماذجه الجيدة، المختارة من حر القول، وماثور البيان مما يدل على ذوق محمود، وطبع سليم.
وهاأنذا أعرفه - للمرة الثالثة - مؤرخا دقيقا يكتب عن حقبة مظلمة من التاريخ المصري، فيكشف القناع في براعة، ويميط اللئام في اقناع، فلقد قرأت كتابه الأخير (عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي) فخرجت منه بذخيرة ثمينة من الحقائق التاريخية، كانت مخبوءة عن الناس، مستورة في غواش حالكة من الإبهام، حتى جاء المؤلف فاستنطق المخطوطات العتيقة وقرا المطبوعات العديدة، وتنقل بين المكاتب العربية باحثا فاحصا، وقد حالفه التوفيق فأصدر موضوعة حافلة عن هذا العصر الغامض، تقع في أربعة أجزاء ضخمة. بلغ القسم الأول منها - وهو الذي تقدمه الآن - سبعمائة صحيفة دافقة بالمعلومات الغزيرة، في تركيب سلس وترتيب دقيق.
ولقد وفق الأستاذ محمود في اختيار هذا العصر بذاته، فقد مر به الكاتبون عابسين كالحين، ومن ألم به منهم إلمامه يسيرة، قسا عليه قسوة عاتية في حكمه، فجرده من المحاسن، ووصمه بما هو برئ منه وذلك ما دفع المؤلف إلى كتابة موسوعته الحافلة فأسهب واستطرد، وناقش وجادل، وعلل وحلل، ثم أصدر حكمه النهائي تنطق أدلته بالحق،(788/50)
وتعترف أسانيده بالصدق.
يقول المؤلف في مقدمة كتابه عن هذا العصر المغبون (ولقد راعني ما أصابه من جفاء، وهالني ما ناله من صد، وما رمى به حينا من أنه عصر ظلمة وتأخر، وانحطاط وتقليد مع أنه جليل الخطر، عظيم الأثر ولم تقدم لنا منه الكتب الحديثة إلا صبابة لا تنقع غلة، وثمالة لا تروى طالب نشوة، لذلك أحببت أن أدرسه، وأطيل الوقوف بمعالمه حتى أصل إلى قرار الحق فيه، وعولت على الرجوع إلى ما كتبه بنوه الذين عاشوا فيه، آتياالبيوت من أبوابها، فهم أصدق حديثا، وأقرب مرجعا، وأجمل نجوى، وأغراني البحث والقراءة حتى وجدتني غارقا محيط من مؤلفات لا عدد لها، فيها الغنية لكل أديب، والمنهج لكل ناهج، وهي كالبحر لا ينضب معينه، وكالسيل لا تفيض عيونه، حينئذ انبهرت عيني، وما جت الآمال في نفسي موجا ووددت لو استطعت أن أضع موسوعة جامعة في أدب هذا العصر تكون منه للقارئ بمثابة المائدة الشهية التي تضم ألف طعام وطعام. . . .)
ولقد قصر المؤلف هذا الجزء على التاريخ السياسي للعصر المملوكي ممهدا له بكلمة موجزة عن التاريخ المصري من العهد الفرعوني إلى عهد المماليك، ولجأ إلى الإسهاب حين تكلم عن أضل السلاطين، وكيف انتقل إليهم الحكم من الأيوبيين، ولم يترك من رجال الدولتين (البحرية والبرجية) مملوكا دون أن يخصه بترجمة وافية مذيلة بالمراجع التي ورد إليها الكاتب، وقد اهتم كثيرا برجال السلطنة البارزين كالظاهر بيرس قلاوون والغوري وطومان باي، ثم عرج على نواب السلطنة فأفرد لهم أكثر من مائتي صحيفة تنطق بأعمالهم البارزة، وتسجل على المحسن إحسانه، وعلى المسيء إساءته في دقة وشمول.
على أني أخالف الأستاذ في ناحية هامة تشيع في مؤلفه، فقد حرص كل الحرص على أن يترجم لكل من ولى السلطنة أو ناب عنها وكذلك من تحدث عنهم فيها بعده من القضاة والخلفاء وفي هؤلاء جميعا من لا يستحق أن يكتب عنه سطر واحد، حيث كان فردا عاديا، لم يخلف أثرا، ولم تحدث في عهده من المفاجآتالسياسية ما يدعو إلى الحديث عن زمن ولادته، أو مدة حياته، أو آونة وفاته!! وإنما ولى وعزل وكأنه لم يولد، فلم إذن نتعب أنفسنا في تراجم أصنام آدمية، فذف بها الزمن في قرار سحيق!!
ومن المؤرخين من يسهب في الحديث عن الحكام والرؤساء دون أن يتعرض للحياة(788/51)
الاجتماعية في العصر الذي يؤرخه، وكأنه يؤمن بأن تاريخ الشعب يتمثل في تاريخ ملوكه، ولكن الأستاذ محمود رزق يفطن إلى خطأ هذا الوهم، فيخص القسم الثاني من الكتاب بالكلام عن الناحية الشعبية، فيتعرض للتقاليد والعادات التي شاعت في المجتمع المصري، إذ يصف حفلات الزواج والمآتم والختان، ويتحدث عن ليالي السمر وأيام الأعياد والمواسم، وخروج المحمل وعودته، كما يعتني اعتناء تاما بأخبار النيل والفيضان فيتحدث عن الجسور والتروع والمقاييس ويميل إلى وصف الاحتفال بوفاته السنوي، وإن كان المؤلف لا يجيد - أيضا - عن استقصائه الشامل فهو يملأ أكثر من عشرين صحيفة بأرقام الصعود والهبوط وتواريخ الزيادة والنقص، وهذه مغالاة لا تفيد القارئ في شئ وما دامت هذه الصحائف العديدة تسير على وتيرة واحدة فيكفى أن يسطر الكاتب نموذجا مختصرا منها على سبيل المثال!
ولا أكتم إعجابي بالفصل القيم الذي كتبه المؤلف الفاضل عن القضاة فقد استسقاه من أصفى المراجع، وأبدع في عرضه إبداعا عجيبا، فوصف جلوس السلطان للقضاء، ونظره في المظالم والخصومات، ودلف إلى حقه الشرعي في مصادرة الأملاك، وتدخله الرسمي في أحكام القضاة، مبينا بعض ما حدث من مشادة عاتية بين الحاكم والمحكوم، ثم انتقل إلى القضاء الشرعي، وكيف اختص به الشافعية بادئ الأمر؟ ثم اشترك فيه علماء المذاهب الأربعة على السواء، وما شعور الشافعية إزاء ذلك؟ ومن هو صاحب الحق في العزل والتعين؟ وكيف كان يحدث ذلك؟ وبعد جولة ممتعة في هذا المضمار، ختم فصله الجيد بطائفة من التراجم الموجزة لأعلام الفقة والتشريع، كل ذلك في سلامة ووضوح.
ولقد كان الأستاذ منصفا كل الإنصاف حين تعرض إلى محاسن هذا العصر ومساوئه فذكر من الأولى صد الهجمات المعادية من التتار والإفرنج، ورصد الأوقاف وبذل الأموال، والثانية احتقار السلاطين للشعب وإهمال حقوقه السياسية وفداحة الضرائب وانتشار الجهل والأوبئة والزلازل، وذلك جميل من باحث متحمس كتب كتابة ليمجد العصر المملوكي فدفعته الحقيقة إلى الاعتراف بالواقع المرير.
وبعد فلقد قرأت هذا الكتاب من ألفه إلى يائه، فرأيت من الواجب أن ألفت الأنظار إلى مادته الغزيرة ومعلوماته الضافية راجيا أن يعمل مؤلفه الفاضل على إنجاز ما لم يطبع من(788/52)
أجزائه فنحن إليها في ظمأ شديد. جزاه الله عن صبره الدائب. ومجهوده الشاق أطيب جزاء وأوفاه.
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(788/53)
العدد 789 - بتاريخ: 16 - 08 - 1948(/)
المصادفة والتاريخ
للأستاذ عباس محمود العقاد
سبق إلى أذهان الكثيرين من النقاد العسكريين، فضلا عن سواد الناس، أن النازيين احكموا خطط الميادين كلها وفرغوا من إعداد وسائلها قبل هجومها على بولونيا، ومنها خطط الميادين الفرنسية والميادين الروسية.
وظل هذا الاعتقاد عالقاً بالأذهان إلى ما بعد هزيمة ألمانيا واحتلال أرضها.
فلما تم هذا الاحتلال كان أول ما اهتم به الحلفاء جمع الأوراق والأسانيد من محفوظات الدولة، ولا سيما المحفوظات السرية في وزارة الدفاع.
فإذا بذلك الظن يتبدد كله بعد الاطلاع على أوراق القيادة العليا، وإذا بالوثائق المتكررة تدل على أن القيادة العليا فوجئت بعزم هتلر على غزو فرنسا، وإذا بهتلر نفسه يستعجل هذا الغزو على غير سابقة من البحث في خططه واحتمالاته، لأنه كان يظن أن عقد الصلح بعد هزيمة بولونيا ومحالفة روسيا مستطاع، ولكنه رأى من الحلفاء إصرارا على المقاومة، وعلم انه استنفد وسائل استعداده فلا مزيد عليها، وكلما مضى شهر على الحرب نقصت قوته وزادت قوة الحلفاء حتى تتوافر لهم أسباب الرجحان المحقق في النهاية.
وفوجئ القادة باستعجاله فعارضوه أد معارضة، وأطلعوه على حقيقة الخطر من هذه المجازفة، ولكنه سلم لهم رأيهم من الوجهة العسكرية بعض التسليم، وتذرع بما لديه من (المعلومات السياسية) لتصويب البدء بالهجوم على فرنسا من هذه الوجهة.
وجاء دور الخطة التي يعتمدونها في النفاذ إلى الأرض الفرنسية من وراء خط (ماجينو) ومن وراء الحدود المغلقة.
لم يكن هتلر قد وضع خطة لهذه الغزوة ولا هو الذي وضعها بعد موافقة القواد إياه، خلافا لما سبق إلى الظن أيضاً بعد نجاح الخطة على غير انتظار.
إنما كانت هذه الخطة من عمل (هدلار) رئيس أركان الحرب، وقد اعتمدها هتلر بعد مراجعتها، وكانت في مبدأ وضعها شبيهة بالخطة التي غزيت بها فرنسا من ناحية بلجيكا في الحرب العالمية الأولى.
ولكن ضابطا شابا علم بهذه الخطة فانتقدها، وقال إنها مكشوفة يسهل تقديرها واتقاءها،(789/1)
ومن الواجب تركيز الهجوم الأكبر على جبهة غير الجبهة البلجيكية الغربية، وهي جبهة (الأردين) لأن الهجوم فيها غير منتظر، والمفاجأة من قبله أقرب إلى النجاح.
اسم هذا الضابط الشاب فون مانشتين، وقد سخط عليه رؤساؤه لاجترائه على انتقادهم، وحسبوا أنه يشق طريقه على رؤوسهم إلى ثقة هتلر وإعجابه، فنفذوا الخطة مضطرين لأنها أصابت هوى من هتلر، وأبعدوا الضابط الشاب عن كل مشاركة في تنفيذها.
ولم يكن هذا التحول المفاجئ أول المصادفات في هذه الغزوة الضخمة ولا آخرها.
فقد اتضح من الأوراق الرسمية أن النازيين لم يعرفوا قبل الحرب غاية امتداد خط (ما جينو) على وجه التحقيق، ولم يعرفوا المواقع التي كانت لا تزال يومئذ في حاجة إلى التعزيز والامتداد، فدلهم عليها في اللحظة الأخيرة، ضابط نمسوي من هواةتصوير المناظر من الطيارات.
كان هذا عمل المصادفة في اعظم نجاح أصابه النازيون في الحرب العالمية الماضية، او كان هذا عمل المصادفة في انهيار دولة كانت محسوبة في عداد العسكرية الأولى.
وليس هذا كذلك آخر المصادفات في الحرب العالمية، فإن هتلر أقدم على غزو روسيا وهو يقدر أنه سيجتاحها قبل نزول الشتاء، ولو أنه استطاع أن يوغل فيها قبل نزوله لكان من الجائز أن يتغير مجرى الحوادث في هذا الميدان.
ولكن مصادفة صغيرة حالت بينه وبين التقدم في الميادين الروسية كما شاء في الموعد المقدور.
لأن اليونان رفضت شروط إيطاليا وهزمت الجيوش الإيطالية فاضطر هتلر إلى إرسال فرق من جيوشه إلى ميدان اليونان، ليستريح من هذه الناحية ويحمى ظهره قبلالإيغال في الأرض الروسية، مخافة أن يدهمه الحلفاء من خلفه وهو مستغرق في قتال الروس.
ولم تنته المصادفات هنا وهي كافية في تحويل مجرى الأمور، بل اتفق في تلك السنة أن أمطار الشتاء نزلت قبل أوانها، وكان نزولها شديدا قارسا على خلاف المعهود في ذلك الموعد من كل سنة
والمصادفات في الحرب العالمية الماضية أكثر من أن تحصى، وحسبنا أن نزيد عليها مصادفة قريبة منا، وهي مصادفة العلمين وانسياق رومل إلى مطاردة الحلفاء قبل استيفاء(789/2)
حاجته من الوقود واضطراره إلى هذه المطاردة بهذه العجلة اغتناما لفرصة سانحة لعلها لا تعود.
وشأن الحروب الكبرى في الماضي كشأن الحرب العالمية في عنصر المصادفة. فلولا أن المدد البروسي وصل إلى (واترلو) قبل وصول المدد الفرنسي لكان من الجائز جدا أن يختلف مصير نابليون في ذلك الميدان.
ذلك عمل المصادفة في أعظم حوادث التاريخ.
ولا بد للمؤرخ من تسجيله وإعطائه كل حقه، لأنه واقع لا يحسن إغفاله، لأنه نافع للعاملين وفيه عزاء لهم وشحذ لرجائهم
فأما أنه نافع فلأنه لازم في كل تقدير صحيح.
وأما أنه يوليهم العزاء والرجاء فلأنهم ينتظرون بقية مأمولة بعد استنفاد الحيل وبذل الجهود.
ومن هنا كان خليقا بمؤرخنا الأديب محمود الخفيف أن يطمئن إلى نصيب صاحبه لنكولن من التنظيم والإعجاب، بعد ما عرف من أثر المصادفة في نجاحه.
فهكذا الشأن في كل حادث عظيم!
وهكذا الشأن في كل رجل عظيم!
وكل مطلع على التاريخ لن يخرج لن يخرج مما كتبناه عن لنكولن بأنه مدين للمصادفة بكل شيء، ولكنه يخرج منه بأن المصادفة كانت شيئا في تاريخ حياته وفي أسباب نجاحه، وكل شيء في تواريخ العظماء وفي أسباب نجاحهم لا غنى عن تسجيله والتنبيه إليه.
قلنا في قصة سارة إن (الدومينة عندنا أتم الألعاب، لأن الشطرنج والضامة يعولان على الحيلة، وكل شيء فيهما مكشوف بعد ذلك، والنرد يعول على المصادفة والذكاء، وكل شيء فيهمكشوف بعد ذلك، والورق إما مصادفة وإما صراع قلما يشبه صراع الحياة. أما (الدومينة) ففيها حساب للمصادفة، وفيها حساب للتدبير، وفيها حساب لليقين، وفيها حساب للظنون، وفيها حساب للغيب الذي تجهله أنت وخصمك، وللغيب الذي تجهله أنت ويعرفه خصمك، أو يجهله هو وتعرفه أنت، وللعيان الذي يعرفه كل من يشاء، ولها قوانين تمنعك أ، تتحرك على هواك، ولها حرية تمنحك الخيار بين ما في يديك).(789/3)
فنحن لا نريد تاريخا من الشطرنج ولا تاريخا من النرد، ولا ننفي المهارة عن لعبة لاعباً يمد يده إلى الورق المجهول فتصادفه الورقة التي يريدها، أو يضع من يده ورقة فتغلق الباب على خصمه، لأن المهارة في هذه (الدومينة) صفة معروفة على الرغم من هذا الحظ الذي يتفق لجميع اللاعبين.
بقيت حكاية لنكولن وأسلافه.
فالأستاذ الخفيف قد ذكر (أن جدته لأمه كانت تعيش وهي فتاة في ولاية فرجينيا في الجنوب، فأصبحت ذات حمل وإن لم تتزوج، ووجدت نفسها بعد أشهر الحمل تضع أنثى، وكانت هي وحدها التي تعرف والد هذه الأنثى، ولقيت من أهلها أشد الغضب لزلتها، ولكنهم احتضنوا بنتها، فنشأت بينهم تنتسب إليهم وليست منهم).
ولكن ليس المهم أنها زلت!
وإنما المهم لماذا زلت؟!
فقد كانت عبقرية لنكولن مزيجا من خصلتين: إحداهما المرح وحب النكتة، وقد أخذها من أبيه، والأخرى نهمة المعرفة، وقد أخذها من أمه وجدته، وقد كان حب المعرفة نادرا في الرجال فضلا عن النساء بين المغامرين والمغامرات من أهل القارة الأمريكية. فمن العجب الذي لا ينسى في تاريخ الرجل أن جدته أقبلت على التعليم الذي لا يطلبه منها أحد، وقادها هذا الولع بالعلم إلى التعلق بأستاذها، فاستسلمت له وجاءت زلتها من هذا الطريق!
وذلك هو بيت القصيد!
وذلك ما لم يذكره الأستاذ الخفيف!
ولعلها مصادفة من المصادفات أبعدت مرجع الحكاية من يد الأستاذ الخفيف. . . فلن يفلت إذن من حكم المصادفات!!
عباس محمود العقاد(789/4)
هؤلاء هم اليهود قديماً وحديثاً وأولاً وأخراً
للأستاذ نقولا الحداد
كتب الدكتور محمد عوض محمد بك مقالا في مجلة الإذاعة المصرية فحواه: أن هؤلاء اليهود (الأخساء الأنذال) الذين ارتكبوا الفظائع الوحشية ليسوا من نسل إسرائيل. بل هم قوم أجانب (آراميين) تهودوا. وما يأتونه من المنكرات هو طبيعة سلالتهم لا من طبيعة إسرائيل، وأنهم لا ينتسبون إلى إبراهيم وأسحق ويعقوب آباء ذلك الشعب الذي امتاز بأنبيائه وكلماته. فهل يعقل أن ذلك الشعب القديم قد مسخ هذا المسخ الفظيع؟ هذا فحوى مقال الدكتور.
والظاهر أن جناب الدكتور لم يقرأ التوراة التي يعتز بها اليهود، أو على الأقل الأسفار الخمسة الأولى المنسوبة لموسى لكي يعلم أن اليهود هم هم منذ القديم إلى اليوم سواء كانوا من سلالة إبراهيم أو من سلالة اشكيتاز. والأستاذ يعلم أن الآداب والأخلاق ليست وراثة بيولوجية بل هي وراثة اجتماعية تحصل من العشرة. فلو وضعت طفلا زنجيا وسط راق متمدن دمت الأخلاق، لشب كريم الأخلاق، لين الطبع.
فيهود صهيون تطبعوا بطبيعة أشخاص التوراة. اقرأ التوراة تعلم من هم اليهود من عهد نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى سلميان إلى اليوم. وإليك أمثلة قليلة من سلوك بطاركتهم عن آبائهم الذين كانوا يقودونهم.
لما دخل بنو إسرائيل أرض كنعان بقيادة يشوع وأخذوا أريحا أولا بأعجوبة وهي إسقاط أسوارها بالهتاف بالأبواق دخلوها كل رجل مع وجهه، وحرموا كل أهلها من رجال ونساء وشيوخ وأطفال حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف. يعنى أنهم قتلوهم ذبحا بالسيف. أنظر سفر يشوع، الإصحاح السادس، العدد 21 وما قبله وبعده.
بعد ذلك تقدموا إلى مدينة عاى فما علم ملك عاى بهم خرج بجميع شعبه لمقاتلهم، وكان يشوع قد وضع كمينا غربي المدينة من 5 آلاف مقاتل. فلما خلت المدينة من أهلها دخلها هؤلاء فأصبح أهل عاى بين شقين من إسرائيل، فأعمل هؤلاء السيف فيهم حتى أبادهم عن أخرهم رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا؟ زد على هذا أن يشوع أحرق المدينة، وتركها تلا أبديا خرابا إلى اليوم (أي يوم كتب اليهود سفر يشوع بعد 17 قرنا من ذلك العهد).(789/5)
اقرأ الإصحاح الثامن من سفر يشوع:
ثم تقدم يشوع بقومه إلى مدينة مقيدة وضربها بحد السيف وقتل ملكها وكل نفس حية فيها، ولم يبق شاردا كما فعل فيعاى وأريحا.
ثم اجتاز إلى لبنة وفعل فيها كما فعل في أخواتها السابقتين وهكذا اجتاز من مدينة إلى مدينة إلى أن استتب أمره في ارض كنعان، أنظر يشوع، الإصحاح العاشر وما بعده.
فترى أن أولئك اليهود الذي فروا من مصر وأمضوا في بربة سينا 40 سنة كانوا يستعدون لهذا التفظيع ثم كانوا ينسبونه إلى أمر ربهم يهوه. ونحن نعلم أن الله تعالى الذي خلق اليهود وجميع الأمم غير اليهود يعتبر جميع الأمم عباده بلا فرق بين إسرائيل وكنعان وعرب وإفرنج، ولا يمكن أن يأمر بهذه الفظائع، فما نسبه اليهود إلى الله إنما هو من اختراعهم، أي اختراع اليهود الذين عادوا من سبى بابل بعد عهد موسى بسبعة عشر قرنا. وموسى ويشوع والله أبرياء من هذا التفظيع.
أما كان حريا بهم أن يأسروا أولئك الأقوام الذين غلبوا على أمرهم ويستعبدوهم بدل أن يقتلوهم رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا كما فعل نبوخذ نصر ملك بابل حين غزا فلسطين وهو ظنهم أنه ليس من شعب الله المختار. لقد كان أشرف منهم نفسا وأحن قلبا. بل كان سببهم إلى بابل لأنهم تعلموا هناك الحكمة والشريعة فكتبوها في أسفارهم.
إن هؤلاء الهاجاناه والأرجون واشترن والإرهابيين تعلموا هذه الفظاعات من توراتهم. فلا تبرئ يا دكتور إسرائيل القديم من فظائع إسرائيل الجديد.
هذا من حيث التفظيع، وأما من حيث المخازي الأخرى فإليك أمثلة منها:
من أمثلة غشهم وغدرهم وخداعهم حكاية غش لابان لابن أخته يعقوب الذي سمى بعدئذ إسرائيل وإليه تنتمي دولة إسرائيل الحديثة الخبيثة. فقد وعده خاله لابان أن يزوجه ابنته راحيل إذا خدم عنده سبع سنين، فخدم، وفي الميعاد عمل لابان مهرجان عرس لابنته. وبعد أن دخل يعقوب عليها وجد إنها ليست راحيل بل هي لئية أختها، فعاتب خاله في هذا الأمر. فقال له اخدم سبع سنين أخرى وخذ راحيل. وهكذا كان. (سفر التكوين الإصحاح29).
وإليك قصة غش أفظع من هذه: كان لأسحق ابنان عيسو البكر ويعقوب. وكانت (رفقة)(789/6)
زوجة أسحق تحب يعقوب أكثر من عيسو أخيه. فسمعت اسحق يقول لعيسو: آتني يا ابني بطعام من صيدك لكي آكل وأباركك. فروت هذا الحديث ليعقوب وقالتله أسرع من صيدك لأبيك لكي يباركك، وكان اسحق ضريرا. فتقدم إليه يعقوب بصيده لكي يأكل ويباركه فسأله اسحق من تكون؟ قال: أنا ابنك البكر عيسو. وكانت رفقة قد ألبست زندي يعقوب فراء من الماعز لكي تكون زنده كزند عيسو. فقال هات يدك. فحبس يده: فقال اليدان يدا عيسو، ولكن الصوت صوت يعقوب. وباركه. ولما جاء عيسو بصيده قال أبوه: أتأسف أن أخاك سبقك إلى بركة بكوريتك. (الإصحاح 27 من سفر التكوين)
ولما ضرب الرب صدوم وعموره لارتفاع شرهما إلى عنان السماء، استثنى لوطا أخا إبراهيم لأنه كان صالحاً (نسبياً) وفي ذات يوم قالت ابنتا لوط: لقد انمحى الرجال من أرضنا فلنسكر أبانا ونضجع معه فيكون لنا بنون. وهكذا فعلتا بالتناوب. (الإصحاح التاسع من سفر التكوين)
وإبراهيم أبو الآباء الذي غمره يهوه ألهه بالوعود، لما ذهب إلى ارض مصر وكان سارة زوجته جميلة فخاف أن يقتلوه لكي يغتصبوها منه. فلما علم فرعون بخبرهما استدعاهما فقال إبراهيم هذه أختي. فأخذها فرعون. وما لبث أن نزل عليه غضب الله وعلم إنها زوجة إبراهيم لا أخته. فعاتبه في ذلك وردها إليه. (الإصحاح 12 من سفر التكوين)
ثم ارتكب نفس هذا الغش حين انتقل إلى أرض جيران وقدم زوجته إلى أبي مالك ملك فلسطين باعتبارها أنها أخته فنزل على أبي مالك غضب الرب وعلم أنها زوجة إبراهيم لا أخته. فعاتبه في ذلك فقال هي بالحقيقة أختي من أبي لا من أمي (تكون الإصحاح العشرون) (وما الفرق؟)
وأخذ داود زوجة أوريا قائد فرقة من جيشه وزنى بها فحبلت في غياب زوجها، فأوعز داود إلى قائد الجيش أن يضع اوريا في مقدمة الجيش لكي يقتل، وكان كذلك، ثم تزوج داود المرأة (سفر صموئيل الثاني: الإصحاح الحادي عشر) هذا هو داود الذي قال الله عنه (وجدت قلب داود كقلبي)
وسليمان الذي منحه الله الملك والحكمة والغنى غرته في آخر ملكه نساؤه السبع مائة، وسراريه الثلاثمائة الأجنبيات بعبادة الأوثان وبخطايا أخرى باهظة، فجلبت خطاياه عليه(789/7)
وعلى وطنه عقابا شديدا. (سفر لوك الأول الإصحاح 11) ولما فرغت جعبته جعل يقول: باطل الأباطيل، الكل باطل.
ولما سمح فرعون لموسى وقومه أن يهجروا مصر قال (المؤرخ) أوعز الله إلى الإسرائيليين أن يستعيروا من المصريين الحلي من فضة وذهب والثياب لأن عندهم مهرجانا. والهم اله المصريين أن يعيروهم. وفي اليوم التالي فروا بها من أرض مصر.
وهكذا ترى أن اليهود بأمر الله (كما يكذبون) يستحلون أموال الأمم الأخرى. فأي إليه هذا الذي يعلم شعبه المختار النصب واللصوصية؟ أتصدق أن هذا الكلام وحي من الله؟ -
الإنسان شرير قبل أن يكون صالحا. فإذا جاءه تعليم الشر عن يد إلهه اعتبره حقا حلالا. فلا تستغرب أن اليهود يستحلون كل الرذائل والقباحات تجاه خصومهم لن إلههم يهوه علمهم هكذا كما يزعمون.
أرجو أن تعلم يا دكتور أن إله الإسرائيليين ليس الله إله والنصارى والمسلمين.
ذلك قليل جداً من كثير جداً مما جاء في التوراة من مخازي كبار اليهود. فأرجو منك حضرة الدكتور ومن كل قارئ أن تلقى من بالك أن كل ما كتب في التوراة هو وحي من الله، أو أن التوراة كتاب مقدس، لأن الله لا يوحي بمثل هذه المخازي ولا تكون قصص المخازي كتابا مقدسا.
إن أسفار التوراة كتبت بالتتابع بعد رجوع الإسرائيليين من سبى بابل أي قبل المسيح بنحو 650 سنة وبعد خروجهم من مصر بنحو 17 قرنا. وإنما هي أساطير أشور وبابل ونينوى وماري وفارس وعيلام جميعها المسبيون في مدة سبيهم ولما عادوا إلى فلسطين شرعوا يكتبون هذه الأساطير وما عندهم من أمثالهم على هواهم.
وإذا كان بعض طوائف النصارى تقدس التوراة فلأنها تعتقد أن التوراة تشتمل على نبوءات بمجيء المسيح.
ولكني وكثيرين مثلي نعتقد أن المسيح في غنى عن نبوءات تشهد له. إن حياته القوية وتعاليمه الأخلاقية الشريفة تشهد له وهي شهادة حق. وبعض الطوائف النصرانية لا تضع التوراة بين أيدي أولادها لما فيها من المخازي.
ومتى قرأت التوراة أو الأسفار التاريخية فيها على الأقل شعرت أن أولئك اليهود القدماء(789/8)
الذين تنسب إليهم ابر والقداسة ليسوا أبر من يهود بولونيا وألمانيا وسائر أوربا. فهؤلاء اطلعوا على التوراة واستقوا منها أخلاقهم من شره وجشع ووحشية وتفظيع الخ. . . ولولا هذا لكانوا كسائر أهل أوربا أقرب إلى الإنسانية والرحمة وأبعد عن الأنانية.
فأعود والفت نظرك إلى الوراثة الاجتماعية فهي وراثة أخلاق وآداب في أثناء العشرة. وليست كالوراثة البيولوجية وراثة دم أو بالأحرى وراثة حيوية.
أرجو منك أنتطالع الأسفار التاريخية في التوراة وثم قابلني. والسلام عليك وعلى طيبة عنصرك. وأرجو أن تتوب عن الدفاع عن اليهود. فهم قبيل من الناس لا يمكن أن يكون إنسانياً مادام سنده التوراة وبها يدعى أرض فلسطين ودولة.
نقولا الحداد(789/9)
حول مقال
الأزهر والإصلاح
للأستاذ سليمان دنيا
قرأت في العدد 786 من مجلة الرسالة الغراء، مقال الأستاذ الفاضل محمود الشرقاوي، تحت هذا العنوان؛ واعتقد أن كل من قرأ هذا المقال القيم قد أحس بروح الكاتب القوية تفيض غيرة على الأزهر، وحرصا على أن يأخذ هذا المعهد حظه اللائق به، ويتبوأ مكان الصدارة في هذا الوجود.
وأعتقد أيضا أن حياء الأستاذ الشرقاوي الجم، الذي هو خلق أصيل في طبعه، هو الذي جعله يحسب للقراء من الأزهريين كل هذا الحساب، حتى افترض على ألسنتهم كل هذه الاعتراضات وظن أن كل جملة في مقاله، بل كل كلمة وكل حرف، سيسأل عنها ب (ماذا، ولمه).
ولكنه رغم كل هذا الحياء المتأصل في طبعه، ورغم توقعه أن يسأل عن كل حرف في مقاله ب (ماذا، ولمه)، لم يطق صبرا على الصمت، وفي نفسه لواعج الغيرة تحتدم، ونوازع الشوق الملح إلى إصلاح الأزهر تضطرم، فأرسلها عالية مدوية، صريحة معلنة (إن الأزهر لم يصلح، وإن بينه وبين الإصلاح شأوا بعيدا وبونا واسعا ومرحلة طويلة جداً) و (. . . إن الحديث عن الإصلاح في الأزهر حديث لا يصغي إليه أحد، ولا يستغل به أحد من قريب ولا من بعيد).
ولعل الأستاذ الشرقاوي مبالغ في كل هذا الحذر، وفي اعتقاده أن كلماته الواضحة الصريحة التي تفيض إخلاصا وغيره، ستصرف عن ظاهرها، وسيطلب لها سر باطن، مغال في حكمه بأن الحديث عن الإصلاح في الأزهر، لا يصغي إليه أحد، ولا يستغل به أحد، من قريب ولا من بعيد؛ فمن الأزهريين كثير من المعنيين بالإصلاح في الأزهر؛ يجاهدون ما وسعهم الجهد، لإفساح المجال فيه لسياسة علمية صحيحة، ولست أدعي أنهم نجحوا في محاولتهم، ولكنهم دائبون حريصون. ومن الأزهريين كثير من المشغوفين بالحديث عن الإصلاح في الأزهر، حتى أصبح شغلهم الشاغل، وهمهم الذي يتذاكرونه في غدوهم ورواحهم، وفي خلواتهم ومجتمعاتهم، ولهم في هذه السبيل نشاط مشكور.(789/10)
وإذا كان في مقال الأستاذ الشرقاوي ما يستحق العتب، ففيه، ما يستحق المدح والثناء؛ ذلك هو تصويره الأهداف العليا التي ينبغي أن يتجه إليها المصلحون للأزهر، تصويرا جمع بين إشراق الديباجة، ووجازة اللفظ وسرف المقصد ونيل الغاية.
أرأيت إلى قوله (. . . ليكون الأزهر قواما على نهضة دينية، أساسها الفهم والإدراك وسعة الأفق، حتى يقاوم بها ما ينتاش العالم كله، من إباحية وإلحاد،) وقوله: وليستخرج في الأزهر (طائفة من الرجال، يحسون ويدركون علة هذه الأمة الإسلامية وأسباب جمودها وتخلفها، وجهالة العوام فيها وتواكلهم وضعف إيمانهم وانصرافهم عن المفيد النافع من شئون الحياة، واستهتار الخواص وأنانيتهم وجحودهم).
وكثير غير ذلك مما أطلع عليه القراء واستذوقوه واستمتعوا به.
أرأيت إلى هذا الكمال الذي يحرص الأستاذ الشرقاوي كل الحرص على أن يبلغه الأزهر؟!، وهل وراءه ما يمكن أن يطمع فيه طامع، أو يأمل فيه آمل؟!.
لكني أعتب على الأستاذ الشرقاوي مرة أخرى، حيث قد عدد أهداف الإصلاح العليا على نسق جمع بين حسن الأداء وصدق التوفيق، ثم عقب قائلا (هذا هو الإصلاح للأزهر، وهذه سبيله).
حقا إن هذا هو الإصلاح الذي تصبو إليه نفوس الغيورين، ولكن أين سبيله؟!. قرأت مقال الأستاذ الشرقاوي مرة وعاودته مرارا، فوجدت فيه الإصلاح واضحا بارزا، ولكن لم أجد فيه سبيله؛ وهل سبيل ذلك إلا مشروع واضح المعالم بين الصوى، يشخص ما ينبغي أن تقوم عليه سياسة الأزهر العلمية: ما يتصل منها بالعلم، وما ينبغي أن يتوافر فيه من كفاية ومقدرة وما يتصل منها بالكتاب وكيف ينبغي أن يكون، وبالدارسة وكيف تؤدى. وما يتصل منها بالطالب وماذا يشترط فيه، وكيف يراض من جموح، ويؤلف من شرود؛ وكيف تعقد بينه وبين العلم صلة تحببه فيه وتصرفه عن كل ما ينافيه.
هذه النواحي جديرة بالدراسة والبحث، والرسم والتخطيط؛ كان على الأستاذ الشرقاوي أن يعالجها بنيانه المشرق وهديه الوضاء؛ وإن له من تتبع سير الأمور في الأزهر منذ حداثة سنه، ومن اهتمامه بنهضته وإصلاحه، ودؤوبه على الكتابة في كل هذه الشئون، ما يجعله أهدى سبيلا إذا بحث، وأصدق قيلا إذا كتب؛ إن من يدعو إلى غاية ثم لا يدل على طريقها(789/11)
بوقع حيرة واضطراب؛ ومن السهل أ، تشخص الغاية وتوضح، وليس من السهل التعرف على أقرب الطرق الموصلة إليها؛ فليكتب من شاء أن يكتب في رسم السبيل وتبين معالمها، وليكثر من الكتابة في ذلك؛ فإن الطريق إذا استبانت واتضحت، وآمن الناس بأنها توصل إلى ما تصبو إليه نفسهم من الإصلاح المنشود، لم تعدم سالكين، ومن وقتئذ يبدأ الإصلاح بتحقق؛ أما الاقتصار على ذكر الأهداف والغايات دون الإيضاح الكافي للسبل والوسائل، فليس من شأنه أن يحقق غاية أو يوصل إلى هدف.
سليمان دنيا
المدرس في كلية أصول الدين(789/12)
آلام بيتهوفن
للدكتور فضل أبو بكر
ولد بيتهوفن بمدينة (بون) التابعة لمقاطعة (بروسيا) الشرقية بألمانيا في السابع عشر من ديسمبر سنة 1770 وهو - كما يعلم القارئ - ثالث الثلاثة - (موزار) و (باك) - الذين تفاخر بهم ألمانيا كما أدهشوا العالم في فن الموسيقى وكان أبوه - كوالد (موزار) موسيقياً بارعاً ولكنه على العكس من زميله نشا نشأة تعسة في طفولة بائسة مشردة لقسوة والده عليه ولمعاقرة ذلك الوالد للخمر وإدمانه عليها وهو ما طبع حياة الطفل وسرعة الغضب رغما عن نفسه وطيبة قلبه. وقد حكى عنه أنه بينما كان يعزف على عودة قطعة موسيقية وإذا بعنكبوت خرجت من مكمنها وتدلت من نسجها كأنما أطربتها ألحانه الشجية فضربتها أمه ضربة أماتتها مما أثار نفس الابن وجعله يحطم عوده من شدة الغضب.
بدأ نبوغ بيتهوفن في سن مبكرة كما بدأ يؤلف وينتج في فن الموسيقى في الثالث عشر من عمره وهو ما أثار دهشة مواطنيه.
كان (موزار) في ذلك الحين قد بلغ الذروة في عالم الفن وقد تعلق به بيتهوفن وأعجب بنبوغه وتفوقه في عالم الموسيقى فلحق به في مدينة (فينا) في ربيع سنة 1878 يحمل توصية من أحد الكبراء لكي يحظى بمقابلة (موزار) فكان له ما أراد ورحب الفنان الكبير بزميله الشاب الصغير واكرم مثواه وأراد موزار أن يمتحن بيتهوفن ويتحقق بنفسه عما يذاع عنه من بوادر النبوغ فأعطاه قطعة موسيقية صعبة معقدة ورجاه أن يعزفها على البيان فأبدى الشاب من الكفاءة والنبوغ ما حير (موزار) الذي لم يملك نفسه من فرط الإعجاب فصاح فيمن حوله (تأملوا) هذا الشاب الصغير! إنه سوف يترك في الدنيا دويا وسوف يتكلم عنه العالم أجمع) على حد قوله المتنبي:
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر
أما من حيث تكونيه الجسمي فقد كان قصير القامة واسع الصدر ضخم الرأس والعنق قصيرها مما يزيد من قماءته غليظ الشفتين بارز الجبهة والحنك قصير الأنف وفي عينيه قوة معبرة وشعاع نافذ وإذا ما غضب وحدج بهما إنسانا فكأنما يتطاير منهما الشرر ويكسو رأسه شعر كثيف أسود كدجى الليل يتعذر على المشط أن يجوس خلاله أو يقوم ما أعوج(789/13)
من تجاعيد خصلاتهالمتدلية على أكتافه كأنما هي عرف الأسد.
إن ملامحه - كما يقول بعض الكتاب - إن لم تنم عن وسامة وجمال فهي تعبر عن هيبة وجلال وكأنما الشاعر يعينه بقوله:
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة ... فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
بدأ الوقر يطرق سمعه وهو في السادس والعشرين من عمره وهو في فجر الشباب وأوج المجد وبدأ الداء بأذنه اليسرى وبعد عامين لحق باليمين فضعفت حواسه السمعية وكانت عنيفة على نفسه الحساسة وجرحا لكبريائه الشامخ وكبرياء النفس صفة تميز بها الألمانيون أكثر من غيرهم ولا سيما البروسيين وكان في بادئ الأمر شديد الحرص على كتمان مصيبته ولم يبح بها حتى إلى أقرب الناس إليه لهذا بدا يمعن النظر ويتفرس في وجه محدثه مراعيا باهتمام حركات الشفاه وملامح الوجه المعبرة حتى يلم بأطراف الحديث ولكيلا يفوته حاسته فقدنا تاما وهي ما يسمونها في الطب (بالقراءة على الشفاه) - ولكن هيهات!! فما كان مجهوده يكلل بالنجاح في كل الأوقات، إذ كانت تفوته بعض الكلمات فتبدو على سيماه الحيرة والارتباك، مما يضطره محدثه لإعادة ما يقول أو الإجهار بالصوت فيزداد ارتباك ويحمر وجهه غضبا لأن في ذلك ما يذكره بمعصيته ويشعره بأنها لم تعد سراً على أحد.
وفي عام سنة 1800 اشتد داءه وظهرت عليه بعض المضاعفات - دوى في الاثنين لا ينقطع ليل نهار وضوضاء أشبه بأزير النحل مع شعور بالدوار وآلام في الأذنين عند سماع الأصوات الحادة وهي عارضة مرضية يسمونها بال
بيتهوفن والأطباء:
لجأ بيتهوفن إلى استشارة الأطباء بعد تردد كبير لأنه - كما أسلفنا - كان يأنف أن يعترف للناس أو حتى للأطباء بمرضه فضلا عن ضعف ثقته بالطب والأطباء وفي هذا يشبه المؤلف المسرحي الشاعر (موليير) الملقب بشكسبير فرنسا والذي كان يسخر من الأطباء ويهزأ بهم في مسرحياته لعجز الطب عن مداواته. غير أن إلحاح أخواته جعله يقبل العلاج فاستدعى أهله الأستاذ الدكتور (شمد) وهو صديق للعائلة ومن المعجبين إلى حد كبير بفن بيتهوفن وقد بذل الأستاذ كل ما في وسعه واستمر في علاجه أكثر من ثلاثة أعوام ولكن(789/14)
جهوده ذهبت أدراج الرياح واستمر الداء يتطور ويستفحل، ثم تولى علاجه طبيب ثان هو (ملفاتي) وثالث هو (برتوليني) وأخيرا الأستاذ (استاندنهايم) وهو طبيب الإمبراطور بتضخيم الأصوات فاستعمل منها مجموعة مازالت محفوظة في المتحف الخاص به والذي يؤمه الزوار من عشاق فن الموسيقى من كل حدب وصوب ولكن الفائدة كانت ضئيلة ولم يطق بيتهوفن صبرا على احتمالها فنبذها جميعها إلى جنب وظل سمعه يضعف رويداً رويداً.
وأخيراً نصحه أطباؤه بمغادرة فينا - فينا الجميلة عروس الدانوب والتي أحبها كثيرا فغادرها مرغما إلى قرية مجاورة وانقطع لقنه انقطاع العابد في محرابه والراهب في صومعته بتحف العالم من حين لآخر بأروع ما عرف في فن الموسيقى.
ولكن العزلة وحرمانه من مجالس الأنس وسمر الأحباب في فينا كل ذلك زاد من أحزانه وشقاء نفسه حتى ضاق ذرعا بالعيش واستعجل الموت وقد كتب في ذلك عدة مذكرات منها وصيته التي تركها لشقيقتيه (كارل) و (جوهان) نقتطف منها:
(ما أقسى المجتمع في حكمه على الفرد!! إن الناس كالقاضي المستهتر الذي ليس له من ضميره رقيب ولا حسيب فهو يدين المتهم البريء ويوقع العقاب من غير أن يكلفه نفسه مؤونة البحث والدراسة لقضيته! إن الناس يرموني بالصلف والترفع عن مجالسهم كما ينعتني البعض الآخر بالشذوذ وما دروا أن قلبي منذ نعومة أظفاري مفعم بالحب وتفيض في نفسي عاطفة البر والرفق بالضعفاء والمحرومين. وما ألحاني إلا تعبير صادق لما يختلج في نفسي من احساسات.
لقد مضى على أكثر من ستة أعوام وأنا أعاني من عاهتي الأمرين وتزداد حالتي المعنوية سوءا يوما بعد يوم كما فقدت الأمل في استرداد سمعي رغما عن الوعود الكاذبة التي يتمشدق بها الدجالون من الأطباء. لقد جفوت - كرها - مجالس الأحباب لأن كبريائي لا يسمح لي أن أقول لأحد من الناس أرفع صوتك وأجهربما تقول لأني ضعيف السمع أو عديمة!! إن العزلة تميتني حقا ولكن أين المفر؟! إن سخرية الناس وشماتتهم هما لا على نفسي أدهى وأمر.
يا أخوي التمسا من صديقي الأستاذ (شمد) أن يطالع الناس بحقيقة عاهتي بعد موتي حتى(789/15)
يقفوا الأمر وسبب نفوري منهم وليكن لي ذلك مبرر وشفيع وأني لآمل إلا تعاجله المنية قبلي لأني لا أثق بغيره من الأطباء.
إني أترك لكما الثروة المتواضعة التي جمعتها بعرق جبيني فاقتسمها بينكما بالعدل كما آمل أن يسود بينكما الحب والوفاق وأما أنت يا شقيقي (كارل) فأشكر لك حسن صنيعك وعطفك على كما أسألك أن تنشئ أبناءك نشأة طيبة متمسكين بالفضيلة ففي ذلك وحده النجاة كما أنها الطريق المفضي إلى السعادة، والسعادة ليست في الثراء لأنه عرض زائل وإنما هي معنوية وليست مادية.
أشكر جميع أصدقائي ولا سيما سمو الأمير (شنوسكي) والأستاذ (شمد) كما التمس منكما أن تحتفظا بالآلاتالموسيقية التي أتحفني بها سمو الأمير كذكرى نفيسة (اللهم إلا إذا أعوز كما المال ففي هذه الحالة فقط أسمح لكما ببيعها).
أسباب مرضه:
اختلف الأطباء في تعليل الأسباب التي أدت بسمعه فبعضهم يعزوها إلى مرض الزهري كالدكتور (جاكوبصن) مثلا ولكن تشريح جثته بعد موته في السادس والعشرين من شهر مارس سنة 1827 لم يظهر أي أعراض للزهري وبعضهم يقول إن حمى التيفويد التي أصيب بها في حداثته سببت له التهابا في الأذن الداخلية غير أن هذه الدعوى ليس لها مكان من الصحة إذ أن مثل هذا الالتهاب له عوارض لم تظهر على بيتهوفن والمتفق عليه الآن أن مرض أذنيه الذي أودى بسمعه هو ما يسمونه بال - لأن كل ما كان يشكومنه من عوارض وما دلت عليه نتيجة التشريح بعد الموت ولا سيما تشريح الأذن نفسها يدل على أن بيتهوفن كان مصابا بالمرض الأذني المذكور يضاف إلى ذلك أن والده كان ضعيف السمع والوراثة تلعب دورا هاما في هذا النوع من الأمراض السمعية.
أثر الصمم في فن بيتهوفن:
يظن الكثير من الناس بأن حاسة السمع شيء لا عوض عنه للفنان الموسيقى وذلك أن يعزف بنفسه أو يعزف له أحد غيره ما يؤلف من قطع موسيقية فيتذوق ما بها من فن ويصلح ما بها من ضعف وهو ما حرم منه بيتهوفن مدة طويلة ولكن الواقع ينفي ذلك إلى(789/16)
حد كبير ولا سيما لدى فنان ملهم موهوب مثل بيتهوفنوحاسة السمع لا تلعب إلا دورا ثانويا وهذا الصدد وإنما العامل الأول في الإنتاج هما ذكاء القريحة وقوة الخيال وقد وهبه الله منهما قسطا وافرا. والموسيقى فن فوق الاحساسات المادية وهي لغة الوجدان وترجمان العواطف.
إن عاهته لم تعقه عن النبوغ والوصول إلى درجة الكمال في فنه كما أن أحزانه قد صهرت نفسه وطهرته من أدران المادة كما أرغمته أن ينزوي وينقطع لفنه ويعيش من أجله كما خلقت في نفسه (مركب نقص) دفعه إلى طلب الكمال كما تفعل مركبات النقص والعاهات في النفوس الكبيرة التي تغالط ف حقائق الواقع وتتحدى الأقدار.
وقد وصف ذلك الكاتب الألماني بيوش وصفا بليغا قال فيه:
(أيها الساري إذا ما مررت بالقرب من داربيتهوفن في دجى الليل فلا ألتمس منك أن تسير رويدا وتقبض أنفاسك كما تهمس في أذن عشيقتك مخافة أن تزعجه ولكن سر ما بدلك وأملا الدنيا ضجيجا وغناء بصوتك الآدمي الخشن لأن (موجات) ما تحدثه من ضوضاء لا تجد طريقها إلى أذن بيتهوفن رب الألحان وإله الفن وقد ترفعت أدناه عن سماع همس النسيم يداعب ما جف من أعشاب الحقول وهديل الحمائم وتغريد البلابل وسجع الهزار فكيف الحال بصوتك الأجش المنكر؟! إن في نفسه تتفجر ينابيع الفن وتجري أنهر من اللحن العذب تروى عطاش ما جف من زرع أنفسنا فيأتي بالثمر الشهي وتجنبه جنبا هو البر والحب والجمال).
فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا(789/17)
عناصر الشخصية الأدبية
للأستاذ أنور المعداوي
أريد بهذا المقال أن أحدد عناصر الشخصية الأدبية، وأن أعدد ملامحها العامة، وأن أرسم خطوطها الرئيسية. . .
وإذا ما كان هناك دافع إلى هذا التحديد، فهو دافع وزن القيم بميزانها الصحيح الدقيق، ووضع الأمور في موضعها من صدق النظرة ونزاهة القصد وهدى التائهين إلى معالم الطريق.
عناصر الشخصية الأدبية في حاجة إلى تحديد، بل ما أحوجها إلى كثير من التحديد في هذا الجيل الذي نعيش فيه. . . إنه جيل تنقصه الأداة وتعوزه الأناة، ولا يستقيم له الحكم على حقائق الأشياء في الكثير الغالب من الأحيان، ذلك لأنه يأخذ زاده من الثقافة القاصرة، ويستمد علمه من القراءة العابرة، وينساق وراء الرأي ينادي به ويدعو إليه، بلا تمحيص ولا مراجعة!
أول عنصر من عناصر الشخصية الأدبية هو الكرامة العقلية. . . وفي ظل هذه الكرامة تحتشد بقية العناصر الأخرى مكتملة ناضجة، لتصنع الكاتب الحق وتخلق الأديب الكامل. الكرامة العقلية هي أن يحترم الكاتب عقله وعقول الناس، فلا يقدم إليهم إلا ما يؤمن به أيمانا يقوم على القدر المشترك بين فهم وفهم، وبين ذوق وذوق، وبين أفق وأفق، في مجال التفكيروالتعبير. . . والكرامة العقلية هي أن يحترم الكاتب قلمه فلا يتجر بفنه، ولا يهبط به إلى ما دون المستوى اللائق بحرمة الفكر الحر ومنزلة الفن الرفيع. . .
ومن الكرامة العقلية ينبع الضمير الأدبي، ولا وجود لهذا بغير تلك، لأنها الموجهة له والرقيب عليه. . وفي الضمير الأدبي يتمثل الركن الثاني من أركان الشخصية الأدبية، ومن التقاء الركنين يتم الاتحاد في الهدف والاتفاق في الغاية، وإن اتجه كل منهما بعد ذلك في طريق.
أنا لا أنكر أحدا كما أنكر الذين يلغون عقولهم غير عابثين بيقظة الرأي العام الفني ولا آبهين لسلطانه، إنهم أشبه بالنعامة حين تخفي رأسها في الرمال لتصبح بمأمن من عين الصياد اليقظ. ولا أرثى لأحد كما أرثي لأولئك المتجرين بالفن لقاء غرض من الأغراض.(789/18)
إنهم يهونون على أنفسهم ويهونون على الناس!
أما أولئك العلماء بلا ضمير، فكأني برابليه كان يعنيهم حين قال: علم بال ضمير خراب للنفس!
إنك لن تجد في مجال الحكمة الخالدة وتقرير الواقع أصدق ولا أكمل ولا أدق من هذه العبارة. إن رابليه حين نطق بها كان يشرف على الإنسانية من قمة عالية هي قمة الضمير العلمي!
ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يستقل الكاتب عن غيره في طبيعة النظرة وأصالة الفكرة وطريقة التعبير. . .
ولا نعني بذلك ألا ينتفع الكاتب برأي لغيره يتسع به أفقه أو تقوم عليه دعامة من دائم دراسته. . . كلا، وإنما نعني به ألا يكون مقلدا بغير وعي، ومرددا بغير فهم، وبوقاً ينفخ فيهمن يشاء. . . ألا يكون بتعبير أدق كتلك النباتات الطفيلية التي لا تستطيع أن تصل إلى الضوء والهواء إلا إذا تسلقت الأغصان الشوامخ؟!
أنا لا أضيق بشيء كما أضيق بتلك النباتات الطفيلية، أولئك الذين يسطون على أفكار الغير، ويعيشون في رحاب الغير. . .
ولست أدري ما هي قيمة العمل الأدبي وما هي جدواه، إذا لم يستقل صاحبه بملكاته الخاصة ويتفرد بمواهبه الأصيلة؟!
ولست أدري ما هو موقف تلك الفئة الأخرى من أصحاب المقالات المترجمة والكتب المترجمة؟ أقول لست أدري ما هو موقفها من موازين لأدب والفن؟ إنك لا تكاد تقرأ للواحد منهم مقالا إلا وهو منقول من لغة إلى لغة، ولا كتابا إلا وهو منقول من اسم إلى اسم!!
ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يكون الكاتب واسع الاطلاع رحب الأفق نافذ البصيرة، وهذا كله لا يتهيأ لصاحبه إلا عن طريق واحد هو أن يقرأ ويقرأ ويقرأ. . وحسن أن يتخصص الكاتب في ناحية بعينها، يكب عليها ويفرغ لها ويقتلها بحثا وتحقيقا ودراسة، وأحسن منه أن يقتطع من وقته وجهده ما يتيح له النظر في ألوان أخرى من الثقافات والدراسات ليكون مثقفا بأوسع معاني الكلمة حين تنطبق على المثقفين. . .
أنا لا أفهم أن يقتصر بعض الأدباء على ميدان الأدب وحده دون أن ينظروا إلى صلة(789/19)
الأدب بغيره من ألوان العلم والفن، إن الأدب ليتصل اتصالا عميقا بالتصوير والموسيقى حين يلتقي معهما في مجال واحد هو مجال التعبير الفني عن قيم الجمال في الكون، ويتصل اتصالا عميقا بالتاريخ حين يبحث الدارسون عن أثر البيئات المادية والمعنوية في توجيه الإنتاج الأدبي، ويتصل اتصالا عميقا بعلم النفس حين ينظر النقاد إلى العمل الفني على ضوء المؤثرات النفسية والدوافع الوجدانية، ويتصل بغير هذا وذاك في ميدان الروابط والعلاقات.
ولا أفهم مرة أخرى أن يقتصر بعض الأدباء على الثقافة المحلية وحدها دون أن يتزودوا بغيرها عن طريق لفة من اللغات، ولا أفهم أن يقتصر غيرهم على الثقافة الأجنبية وحدها دون أن يكملوا شخصيتهم الأدبية بروافد من تراثهم الفكري ولأصيل!
هؤلاء وأولئك لا أملك القول بأنهم مثقفون، لأن ذلك (المثقف) الذي يعرف الكثير عن تاريخ الفكر الغربي ولا يعرف إلا القليل عن تاريخ الفكر العربي، ذلك المثقف في رأي البعض ليس مثقفاً في رأي. . . وقل مثل هذا إذا ما عكسنا القضية فنقلناها من وضع إلى وضع ومن حال إلى حال!
ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه، فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر، عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، ويغنى الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابة القصة فلا يوفق، وهذا القاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يوفق، وهذا القاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء. . . كل هؤلاء ينقصم هذا العنصر من عناصرالشخصية الأدبية عنصر الدراسة الخاصة لقيم المواهب والملكات!
وأعود فاقرر ما سبق أن قررته من أن الكرامة العقلية هي الركن الأول لذي يشرف على كل ما عداه من أركان الشخصية الأدبية. . . إن الكرامة العقلية من شأنها أن تخلق الضمير الأدبي، وأن تحول دون الاتجار بالفن، وأن تربى النزعة الاستقلالية، وأن تدفع إلى سعة الاطلاع، وأن تعين على أن يعرف الكاتب أين يضع ملكاته ومواهبه.(789/20)
أنور المعداوي(789/21)
الأرواح والأشباح
للأستاذ حسين مهدي الغنام
(بقية المنشور في العدد 787)
هذا بعض ما يتعلق بوجود الأشباح
أما موريس باربائل فقد كتب حديثا مقالاتعديدة تتعلق بتحضير الأرواح، وعن جلسات روحية حضرها، وعلى الأخص في تجسد الروح.
ونلخص بعض هذه المقالات فيما يلي:
قال عن جلسات تحضير الروحق أن في هذا الجلسات تتركز الخليقة في ثوان معدودة، وأن الأرواح تتشكل في هيئات الخلق، ويمكنك أن تراها مجسمة أمامك وتخاطبها وتلمسها. وأن قلوبهم لتخفق ونبضهم يضطرب، وأجسامهم وأطرافهم كاملة، حتى لترى أظافرها. ونظراتهم طبيعية، وشعورهم تختلف ألوانها كشعور الأحياء، ففيها الأشقر والذهبي والأشيب. أما أصواتهم فهي نفس الأصوات التي كانت لهم وهم أحياء. وفي بعض الحالات تتجسد الأرواح وترتدي بعض الملابس التي كانوا يلبسونها في حياتهم، ولكنه عادة يظهرون في أردية طويلة تبرز أشكالهم.
وتتجسد الأرواح بواسطة مادة (الإكتوبلازم)، التيحللت في المعامل، وهي مادة لدنة مطاطة جداً
وكما أن (البروتوبلازم) أساس مواد البناء، فإن (الإكتوبلازم) هي المادة التي تتجسد بواسطتها الأشباح.
والتجسد هو أعلى مراحل الظواهر الروحية، التي تقدم دليلاً ماديا، الغرض منه إيجاد قرينة تدل على وجود الروح.
وإذا قدر لك أن تشاهد علميات التجسد كما شاهدتها بنفسي، فستفهم سر بعض (المعجزات) التي ذكرت في العهد الجديد (الإنجيل).
ولقد وقع بين الدكتور بارنس، مطران بيرمنجهام، وبين بعض زملائه مناقشات حامية، لأن ثقافته العلمية دفتعه إلى إنكار (معجزات) الإنجيل، ولو كان له نصيب من الإلمام بالظواهر الطبيعية الحديثة، لم يكن هناك باعث لهذا الإنكار.(789/22)
إن ظهور المسيح بعد الموت، الذي ينكره الدكتور بارنس ويعتبره من أساطير الأولين، لا أستبعده شخصيا، ولا يستبعده غيري من الذين أتيح له أن يشهدوا بعض الظواهر الروحية في هذه الأيام.
فإن ظهور المسيح في الحجرة العليا لتلاميذه معقول؛ لأنه في الوقع ظهر في نسخة أخرى من جسده الدنيوي، وكان جسدا صلبا كاملا، حتى إن تلميذه (توما) تشكك في حقيقته، فسئل أن يتحسس الجسد بنفسه ليتأكد.
ولم يكن في هذا معجزة إطلاقاً، لأنه ظاهرة من ظواهر التجسد الروحي.
فقد قمت بنفسي - منذ أعوام قليلة - في ويلز الجنوبية بملامسة أجسام موتى متجسدة. وكان الوسيط - آلك هاريس - وسيطا هاويا، ولم يكن محترفا يتناول شيئا عن جلساته.
وتكلم المستر باربانل بعد ذلك عن حضوره مع السيدة هيلين هيوز الوسيطة الشهيرة، بعض جلسات روحية تتجسد فيها الأرواح، وكان الوسيط ذلك الرجل.
وكان قبل كل جلسة يقوم بفحص الحجرةفحصاً دقيقاً جداً
ثم أخذ يصف الحجرة المعدة لذلك، وما فيها من أثاث بسيط جمع لهذا الغرض. . وقد ضمته الجلسة مع ستة وعشرين شخصاً آخرين، أما هو وهيلين هيوز - باعتبارهما ضيفي الشرف - فقد جلسا في مقدمة الوزارة - كما يسمون هيأة الجلسة - حتى أن أرواحا كثير متجسدة كانت تسير على قدميه!
واستمرت إحدى هذه الجلسات ساعتين ونصف ساعة، شاهدوا فيها ثلاثين روحاً متجسداً، وجلس بعضهم على مقاعد وتحادثوا مع الحضور.
أما الروح، راعي هذه الجلسة، فقد كان يسمى الكيمائي ثم قال: (وكنت في فترات متعددة أتحسس هذه الشخوص المتجسدة، فكنت أجد ذلك (الإكتوبلازم) ذا ملمس حريري ناعم، ولكنه ليس كالحرير، فإلى لي من خبرتي بالمنسوجات - إذ عملت سنين طويلة في صناعة النسيج - ما يجعلني أستطيع التمييز بين المنسوجات الحريرية بمقدرة.
ولما هززت بعض هذه الأيدي مسلما، رأيتها ثابتة وطبيعية، حتى إنني تحسست أنسجة الجلد والعظام تحته. وكانت أيديا دافئة نابضة. . .).
ثم ذكر الكاتب مشاهدات أخرى، ثم قصة الطيار دوجلاس هوج الذي قتل في معركة(789/23)
بريطانيافي الحرب الأخيرة. فلما تجسدت روحه عرفتها هيلين قبل أن يذكر اسمه، إذ شاهدتها قبل ذلك مرات عديدة.
وهو شاب جميل، وقد طلب من هيلين أن تقف ليحادثها وجها لوجه، فشكرها على ما قامت به من خدمة لوالديه، إذ كانت الوسيطة بينهم، وقبل أن يذهب قبلها في جبينها، وقالت هيلين إن أنفاسه كانت حارة. . .
وكان لدى هيلين مفاجأة أخرى.
فقد ظهر دليلها الروحي، وهو من الهنود الحمر، بزي الهنود الحمر كاملا. . . وإنه لمن العسير أن يكون في هذا شيء من التلاعب.
وكان أروع ما في هذه الجلسة ظهور روح متجسد خرج وانحرف مسافة عشر أقدام، ثم حيا الحضور، ورفض أن يذكر اسمه وشخصيته قائلا أنهم لا بد يعرفونه من هيئته وصوته.
وقد عرفناه فعلا، فقد كان موظفا كبيرا ومن أكابر رجال الحركة الروحية في حياته.
ومن المستحسن أن أذكر لك أنه من النادر أن تظهر هذه الأرواح المتجسدة من وراء مثل هذه الهيئة، أو المجلس، لأن هناك حبل حياة خفيا يربطهم بالوسيط، في مثل (خلاص الطفل) الذي ذكرته التوراة، ويقطع عند الموت.
وسار هذا الموظف الميت مع آخرين إلى زاوية الحجرة، وجلس على مقعد، وبدا نقاشاً طويلا، بدا طبيعيا جدا حتى كان من الصعب أن تعتقد أنك تصغي إلى حديث بين الأحياء الموتى وكان بعض هذه الأرواح المتجسدة يقول أن عليه أن يعود إلى المجلس - أو الوزارة - ليأخذ (تموينا) آخر. . . ثم يتقهقرون ويختفون خلف الستارة الموضوعة، ثم يظهرون بعد دقائق قليلة، ويحتلون مقاعدهم التي تركوها.
ولكننعتقد أن هذه الأرواح لم تكن فراغا، فقد كانوا يستديرون لنرى ظهورهم.
وكان لهم وزن جسمي. . فقد انحنى أحدهم بساط (يعدله) بعد أن زحزحه روح مضى.
وجاء روح صيني بسحنته الشرقية وشواربه الطويلة المدلاة، وحيا سيده كان يعالجها بطريق الوسيطة.
وتجسد روح فتاة، ولكنها لم تقل شيئا، وكان الغرض من حضورها إزالة كل شك في هذه(789/24)
الحقائق بطريقة صامتة، فقد كشفت عن تكوينها النسوي.
وإذا كان أحد المتشككين حضر هذه الجلسة، وبقى متشككا كان من الذين يصدق عليهم وصف الإنجيل بأنهم لا يؤمنون حتى إذا رأوا الموتى يستيقظون.
ومن العجيب أن يعزز الكاتب مقالاته بصور (فوتوغرافية) لأرواح تجسدت. ومنها روح الملكة أستريد، زوجة ليوبولد ملك البلجيك، وكانت ولية عهد السويد، وهي ابنة عم ملك السويد الحالي. وقد أخذت هذه الصورة باستعدادات فينة خاصة.
والأعجب من ذلك أن روح هذه الملكة أحضرت ووعدت الوسطاء بتجسدها بعد أيام وحصولها على صورة لها.
ثم حضر، وقالت له سيكون لكم صورة جميلة، ولما تم لهم تصويرها اختفت.
وبعد دقائق قليلة عادت فتجسدت ثانيا ووقفت مع الوسيط - وهو القسيس مارتن ليلجيبالد، وهو شخصيه محترمة جداً - وكانت وقفتهما بجانب فتحة الستار، حتى يستطيع أحدهما مشاهدة الآخر.
ولما قابل هذا القسيس ملك السويد وحدثه عن تجاربه في الجلسات الروحية، قال الملك: إن هناك أشياء اكثر في السماوات وفي الأرض.
ومن الأشياء العجيبة كذلك التي قدمها بارانل، توقيع روح باسمه، كتوقيعه أيام حياته، ودلائل مادية أخرى كتصوير الروح فوتوغرافيا. . .
ومن هذا القبيل أيضا الكتاب الضخم الذي وضعه الصحافي الإنجليزي الأشهر - هاتي سوافر - بعنوان قصتي الكبرى وقد ترجم بعضا منه الدكتور مصطفى الديواني.
هذا إلى جانب عشرات العشرات من الكتب والمجلات التي تبحث في الروح وكل ما يتصل بها، في الغرب المادي. أما تحضير الأرواح في مصر فقد قرانا عنه كثيرا، وسمعنا عنه كثيرا من بعض أصدقائنا المشتغلين به، ولكن لم يتح لنا إن نحضر إحدى جلساته.
وأما وجود الأشباح هنا، فنسمع عنها مئات من الحكايات المصرية. ولكني أذكر الحكاية التالية التي وقعت لنا شخصيا ولم نستطع لها تعليلا حتى اليوم:
كان ذلك منذ سبعة وعشرين عاما. وكان والدي وابن عمته مدعوين في زواج ابن عمدة إحدى القرى التي تبعد عن بلدنا حوالي عشر كيلومترات. فصحبني والدي معه وصحب(789/25)
ابن عمته ولده وكان في مثل سني، وكانت ثماني سنوات.
وطالت السهرة، وكان المدعوون كثيرين جدا من مختلف القرى المجاورة، وكان لدى بعضهم مطايا، والبعض بدون مطايا وكانت مطايانا عادت إلى البلدة.
وبعد انتصاف الليل أراد ابن عمة والدي أن يعود إلى بلدنا، فقال أبي لننتظر حتى الصباح إلى أن تيسر لنا مركب. فقال الحاج لوالدي: إن الوقت صيف، وإذا عدنا سائرين على أقدامنالم نشعر بتعب فالجو جميل جداً. . .
ولم يستطع والدي إقناعه بالعدول عن الرجوع في تلك الساعة. وسرنا، ولكن بعد خروجنا من القرية قال والدي: (أمرنا الله. . . من استخف عقله تعبته رجليه!)
وكان على بعد ثلاثة كيلومترات أو أقل من بلدنا، (وأبور مياه) مهجورة، وعلى بعد منه مقبرة للمسيحيين. والجسر مرتفع، وأراضي منخفضة على كلا الجانبين انخفاضا يبعث في النفوس شيئا من الرهبة، وكان أعواد الذرة في كل مكان مرتفعة بين الأشجار البعيدة، والدنيا ساكنة. . .
فلما اقتربنا من ذلك (الوابور)، وكان القمر بدار تقريبا، وكان الوقت حوالي الساعة الثالثة صباحا، رأينا امرأة قميئة متشحمه بالسواد تصعد من بين الحقول إلى الجسر، وتتجه إلينا من بعيد، وكانت تلف وجهها، وتضع على رأسها (طشتا) كبيرا جدا من النحاس، لا يتناسب مع حجم جسمها الصغير
وقابلتنا وهي ما زالت تخفي وجهها، ولكني لاحظت أن والدي لم ينقطع عن قراءة القران منذ لمحها. ولما مرت بنا ومررنا بها سمعناها تقول نفس الكلمة التي قالها والدي عند خروجنا من تلك القرية: (من استخف عقله تعبته رجله!)
وأراد الحاج أن يقف ليخاطبها وهو يصيح: ماذا تقولين يا ست؟ ماذا تقولين؟
ولكن والدي جذبه، وهو ما زال يقرأ القرآن بصوت مسموع، وقال الحاج: أنها حماة (مبيض النحاس) في البلدة
فقال والدي: وما الذي يأتي بها إلى هنا في هذه الساعة، وفي ذلك المكان بالذات؟ يا شيخ، أسرع بنا!
وعاد إلى قراءة القرآن. . . .(789/26)
ونظرنا خلفنا فرأينا تلك السيدة قد جلست وسط الجسر، وأخذت تجمع التراب من الجسر وتضعه في (الطشت) الكبير.
ولم يكن هناك مساكن قريبة، بل كانت المسافة بيننا وبين أقرب مسكن، ما بين اثنين أو ثلاثين كيلومترات.
وأخذ والدي بعد أن وصلنا بلدنا، يتكلم عن كثير من الأشباح والعفاريت في ذلك المكان. . . وعما شاهد من قبل فيه وفي غيره.
ولكن لم أفهم تعليلا آخر لهذه الحادثة حتى الآن!
وبعد. . . . فقد قدمنا بعض ما قرأنا في هذه الأيام عن وجود الأشباح والأرواح.
فهل وجود الأرواح، وبالتالي تحضيرها واتصالها بالآدميين، حقيقة أم وهم؟
وهل معقولة كل هذه الأشياء؟
وإن لم تكن معقولة، فما هو تعليلها وبعض العلماء الماديين أنفسهم يجزمون بصحتها؟
وإذا صح كل هذا، فما هو التأثير الذي سيكون له على نظرية فرويد في تفسير الأحلام؟ أنه سيقلبها رأساً على عقب، فلن تعود تلك الأحلام تفسر على أنها صورة من شهواتنا في اليقظة تتراءى لنا في عالم الأحلام، لأنها هنا اتصالات روحية، وليست مادية.
وسيؤثر ذلك أيضاً على المتواتر من علم تفسير الأحلام، والرؤى الذي يتاجر به بعض (الفلكيين وقراء الكف وعلم التنجيم!)
ومن يدري؟
منذ آلاف السنين، منذ أن كان الإنسان يعبر عن نفسه وفكره بالإشارة والنحت - في العصر الحجري - إلى عصرنا هذا الذي استطاع فيه العلم المتقدم أن يصور الروح بآلة التصوير ما زال العلم يتخبط في إدراك ماهية الروح وكنهها. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، صدق الله العظيم.
حسين مهدي الغنامأأاا(789/27)
الفتوة في اللغة وكتب الأدب
وحياة الفتيان في الجاهلية وعصور الإسلام
نقص قواميس اللغة العربية وقصورها عن تحديد المعاني
للأستاذ ضياء الدخيلي
في العدد (784) من مجلة الرسالة الغراء انتقد الأستاذ محمد عبد القادر الجمل استشهادي بأبيات المتنبي وابن هرمة لإثبات معنى (فتى) في لغة العرب وهذان الشاعران وإن كانا من المولدين إلا أنهما مما يحتج بهما، وهذه كتب اللغة مفعمة بالاستشهاد بأبيات ابن هرمة في إثبات معاني الألفاظ، وقد قال شارح لديوان الحماسة جمع أبي تمام (إن ابن هرمة آخر الشعراء الذين يحتج بقولهم) وابن هرمة هو إبراهيم بن علي ابن سلمة ابن هرمة بن هذيل جاء في (بلوغ الأرب) أن أبا عبيده كان يقول افتتح الشعر بامرئ القيس وختم بابن هرمة وإنك لواجد الاستشهاد بشعره في كتب اللغة من ذلك أنهم استشهدوا في مادة سلا السمن إذا طبخه وعالجه فأذاب زبده يقول ابن هرمة
إن لنا صرمة مخيسة ... نشرب ألبانها نسلؤها
وأورد الجوهري في الصحاحفي (هيد) عن أبي عمرو قول ابن هرمة.
حتى استقامت له الأفاق طائعة ... فما يقال له هيد ولا هاد
و (هيد وهاد) زجر للإبل وما رأيك فيمن منحه الجوهري ثقته؟
وإني لم أورد بيته شاهدا باختيار تعمدته، ولكن ذلك جاء ضمن كلام لابن منظور الأفريقي نقلته من كتابه (لسان العرب) فهو الذي احتج بكلام ابن هرمة واستشهد بشعره وفي الأغاني أن ابن هرمة ولد سنة تسعين وأنشد أبا جعفر المنصور في سنة (140) قصيدته التي فيها.
إن الغواني أعرضن مغلبة ... لما رمى هدف الخمسين ميلادي
قال ثم عمر بعدها مدة طويلة وفيه أخبر علي به سليمان النحوي عن ابن الأعرابي انه كان يقول ختم الشعراء بابن هرمة وفيه وفي كتاب (الشعر والشعراء) أن الأصمعي عده في خمسة ختم بهم الشعراء فيرأيه. فها أنت تجد اعتداد علماء اللغة بشعره ولو لم يكن فصيحا(789/28)
لما اقبلوا عليه.
وأما المتنبي فالويل لناقده من غضبته، لقد جحدت يا أستاذ آيات المتنبي وكفرت بشريعته الأدبية، فأحذر شواظ غضبة ذلك العبقري الذي تولج بأكاليل الخلود والذي صرخ في العصور
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
فآمن من بعبقريته حكيم المعرة وأبصر جلاله على عمايته فأهدى للأدب (معجزة أحمد) ومن قبلنا بأزمان وأزمان قال العباسي في (معاهد التنصيص) لقد كان المتنبي من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا ويستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى قيل أن الشيخ أبا علي الفارسي قال له يوما كم لنا من الجموع على وزن فعلى فقال المتنبي في الحال حجلي وظربي. قال الشيخ أبو علي فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد وحسبك من يقول أبو علي في حقه هذه المقالة قال العباسيورزق المتنبي في شعره السعادة واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه حتى قيل أنه وجد له ما يزيد على أربعين شرحا وقال فيه أبو القاسم الطبسي:
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمان؟
هو في شعره نبي ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
وحكى أن المعتمد بن عباد صاحب قرطبة وأشبيلية، أنشد يوما في مجلسه بيت المتنبي الذي هو من جملة قصيدته المشهورة وهو:
إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معي المطي ورازمه
وجعل يردد استحسانا له وفي مجلسه بن وهبون الأندلسي فأنشد ارتجالا.
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما ... تجيد العطايا واللُها تفتح اللَها
تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها
واللها بالضم العطايا وبالفتح جمع لها الحلق.
وما تقول يا أستاذ في ابن هشام إمام النحاة، لقد استشهد بشعره في كتابه شرح قطر الندى في النحو، واتخذ شاهدا في بحث الندبة قوله في سيف الدولة:
واحر قلباه ممن قلبه شيم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم(789/29)
ولا أكتمك أنه انتقده أيضا وخطأه في بيت له وذلك في بحث (عمل لا النافية عمل ليس) إذ قال وغلط المتنبي في قوله:
إذا الجواد لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً
والشاهد في (لا) في الموضعين فإن المتنبي أعملها عمل ليس مع تعريف اسمها في الموضعين وذلك غلط لاشتراط كون اسمها وخبرها نكرتين، ومع ذلك فإن للمتنبي جلالا لا يهدم في اللغة ونحن لم نستشهد بشعره وشعر ابن هرمة لإثبات المعنى، وإنما جئنا بهما لتأكيد، ما دل عليه شعر طرفة ولا ريب أن ذلك مما لا يؤخذ عليه وفرق بين التأسيس والتأكيد وأنت أيها الأستاذ الناقد المحترم قد أسأت إلى المتنبي عندما أنكرت علينا أن نحتج بروائع أبي الطيب في تفهم لغة العرب الأصيلة المنزهة من تلويث المولدين والأعاجم والمتنبي العربي لو كان حيا لتناولك لهيب انتقامهولسير قصيدة في هجائك ترتعد لهولها الفرائص فكفر عن كفرك بآياته الخالدة وجحودك لعبقريته الفذة، أما سمعت بقصة أبي علي الحاتمي عندما تحرش به وتعرض له إذ قدم بغداد فتاة اعتزازا بأدبه وأبدى من الكبرياء والعظمة ما أسخط عليه البغدادين فانتقده الحاتمي ثم خشي بطشه قال (ثم عمرت ما بيني وبين المتنبي وخفته بالحقيقة أن يشتغل بي دون كل أحد فحداني ذلك إلى كتابة الأبيات من شعره المقابلة لما قال الحكيم أرسطاطاليس وهي الجامعة لجواهر شعره وقدمتها هدية إليه حسن الحال بيني وبينه) وعلى كل فإن أبيات المتنبي يعتمد عليها في تفهم معنى مفردات اللغة، هذا ما أردنا بيانه بالنسبة لما تفضلتم به عن هرمة والمتنبي، أما الأبيات الأخرى فقد استشهد بها كبار علماء اللغة في أهم الموسوعات اللغوية المتداولة، وقد ذكرت كتبهم التي أخذت منها وهم الزمخشري في الأساس وابن منظور في لسان العرب وصاحب تاج العروس، ولا ريب أن ما احتج به هؤلاء الفطاحل يصح لي أن أتبعهم في الاحتجاج به واذكره شاهدا. وإن لم أعرف قائله، وقد غمزتني بأني أوردت تلك الأبيات المجهولة القائل مع ذكر من وثق بها من كبار اللغويين ولا يهمني بعد ذلك أن يكون قائلها جاهليا او مولدا واستثني من ذلك البيت التالي علم آخذه من كتب اللغة وإنما وجدته في (حلبة الكميت) تأليف النواجي شمس الدين محمد بن الحسن إذ أورده ثاني بيتين لم يذكر قائلهما هما:
كن ابن شئت واكتسب أدباً ... يغنيك مضمونه عن النسب(789/30)
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
هذا وليتذكر الناقد المحترم أنني أوردت تلك الأبياتفي نقض قول الأستاذ محمود رزق (وبدهي أن معنى فتى لا يغيد لغة معنى شهم) ومع ذلك يصح لي أن أستند إلى قولي المتنبي وابن هرمة إذا استعملا فتى في معنى شهم فإن لغة عصرهما الأدبية الجارية في الشعر مما يعتد به.
ولإكمال البحث أورد لك نصوصا أدبية أخرى قد لا يأتي جملة منها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وقد استعمل فيها (فتى) في معنى الشهامة، فقد جاء في هامش بلوغ الأدب أن سعد بن مالك بن ثعلبة جد طريفة بن العبد قال:
والحرب لا يبقى لج ... احمها التخيل والمِراحُ
إلا (الفتى) الصبار ... في النجدات والفرس الوقاحُ
الحاجم من الحرب: معظمها وشدة القتل في معاركها، تخيل الرجل تكبر، والمراح الاسم من مرح الرجل إذا اشتد نشاطه وفرحة بطر واختال.
وفي بلوغ الأرب قال عمرو المحاربي من عبد القيس:
سقى جدث (الريان) كل عشية ... من المزن وكاف العشى دلوح
أقام (لفتيان) العشيرة سهوة ... لهم منكح من جريها وصبوح
فيا من رأى مثل الهراوة منكحاً ... إذا بل أعطاف الجياد جروح
(الجدث محركة الفبر والوكاف المطر المنهل والمزن السحاب الواحدة مزنة سحابة، دلوح كثيرة الماء، والسهوة الفرس السهلة، والصبوح بالفتح شرب الغداة) فالشاعر هنا جعل الرابطة بني الفتيان الفروسية والخمر والنساء، وذلك ما اعتبره من الفتوة - طرفة في معلقته قال الألوسي أن الريان هذا الذي رثاه الشاعر كانت له فرس لا تدرك تدعى (هراوة الأعزاب) لأنه تصدق بها على أعزاب قومه فكان العزبمنهم يغزو عليها فإذا استفاد مالا وأهلا دفعها إلى آخرمن قومه فكانوا يتداولونها فضرب مثلا، وهذا ما يريده الشاعر بقوله أنها منكح لهم، وذلك لأنهم يسبون النساء بفضلها كما كانت عادة العرب في الغزو والغارات والسبي.
وروى في بلوغ الأرب عن الأغاني أن كلا بابن أمية هاجر إلى المدينة في خلافة عمر بن(789/31)
الخطاب (رض) فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم طلحة والزبير فسألهما أي الأعمال أفضل في الإسلام؟ فقالا الجهاد فسأل عمر (رض) فأعزاه في جيش، وكان أبوه قد كبر وضعف، فلما طالت غيبته قال في قصيدة يصف شوقه وحنين أم كلاب لابنها.
إذا سجعت حمامة بطن وج ... إلى بيضاتها دعواً كلاباً
تركت أباك مرعشة يداه ... وأمك لا تسيغ لها شراباً
فبلغت عمر (رض) فلم يردد كلابا فاهتز أمية وخلط جزعا عليه ثم أتاه يوما وهو في مسجد الرسول (ص) وحوله المهاجرون والأنصار وأنشأ يقول:
أعاذل قد عذلت بغير علم ... وما تدرين عاذل ما ألاقي
فإما كنت عاذلة فردي ... كلاباً إذ توجه للعراق
ولم أقض اللبانة من كلاب ... غداة وآذن بالفراق
(فتى الفتيان) في عسر ويسر ... شديد الركن في يوم التلاقي
فهو يرى الفتى ذلك البطل القوى والفارس الذي لا يهاب (واللبانة الحاجة وآذنه بالأمر أعلمه به وقوله سجعت حمامة يعلن وج سجعت الحمامة هدرت وصوتت ووج اسم وادي بالطائف وقوله لا تسبغ الشراب أي لا يسهل مدخل الماء إلى بلعومها ولا تقدر أن تبتلعه لكربها وشجوها قال عبد الله بن يعرب بن معاوية:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الفرات
وروى السيد المرتضى في أماليه لشاعر يبكى على قتلى بدر من المشركين) ولا بدأن يكون جاهليا:
فماذا بالقليب قليب بدر ... من (الفتيان) والشرب الكرام
وماذا بالقُليب قليب بدر ... من الشيزي يكلل بالسنام
قال المرتضى: القليب هي البئر وأهل القليب جماعة قريش منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه والوليد بن عتبة، وقال في المنجد الشرب بالفتح جمع شارب. وفي الأمالي قال بشر بن أبي خازم لابنته عميرة:
فمن يك سائلا عن بيت بشر ... فأن له بجنب الردَم بابا
ثوى في مَلحَد لا بد منه ... كفى بالموت نأياً واغترابا(789/32)
رهين بلى وكل (فتى) سيبلى ... فأذرى الدمع وانحبى انتحابا
وظاهر أنه يريد كل رجل طيب كريم سيناله البلى، وروى المبرد في الكامل قال رجل من الخوارج في قتلي إحدى معارك المهلب والخوارج.
بسلي وسليري مصارع (فتية) ... كرام وجرحى لم توسد خدودها
وقال آخر:
بسلي وسليري مصارع (فتية) ... كرام وعقري من كميت ومن ورد
(قال الأخفش سلي وسليري بفتح السين فيهما موضعان بالأهواز) وقال المبرد ارتحل المهلب والخوارج بسلى وسليرى فنزل منهم فقيل منهم، فقيل ما تنظران بعدوكم وقد هز متموهم بالأمس وكسرتم حدهم؟ الخ وأورد النويري في (نهاية الأرب في فنون الأدب) الأبيات للهذلي.
ألا لله درك من ... فتى قوم إذا رهبوا
قالوا من (فتى) للحرب ... يرقبنا ويرقب؟
فكنت (فتاهم) فيها ... إذا تدعى لها تثب
وفي الأغاني أن أبا زبيد يمدح الوليد بن عقبة:
لعمر أبيك يا ابن أبي مرىٍ ... لغيرك من أباح لها الديارا
أباح لها أبارق ذات نور ... تُرعَّى القف منها والعرارا
بحمد الله ثم (فتى قريش) ... أبي وهب غدت منها والعرارا
أباح لها ولا يحمى عليها ... إذا ما كنتم سنة جزارا
يريد جزارا من الجدب والشدة
فتى طالت يداه إلى المعالي ... وطحطحتا المقطعة القصارا
(الأبرق هو البرقة إذا اتسعت وهي أرض غليظة فيها حجارة ورمل وطين مختلفة، وتنبت إسنادها وظهورها البقل والشجر نباتا كثيرا يكون إلى جنسها الروض أحياناً: والقف م يبس من البقول تناثر حبه وورقه، فالإبل ترعاه وتسمن عليه والعرار نبت أصغر طيب أرائحة. وقيل هو بهار البحر واحدته عرارة: وغزارا جمع غزيرة وهي من الإبل الكثيرة اللين: وطحطح الرجل ماله فوقه، والمقطعة الثياب القصار وهي برود عليها الوشي) وقد(789/33)
قال في الأغاني عن الوليد بن عقبة هذا أنه أخو عثمان بن عفان (رض) لأمه وكن من (فتيان قريش) وشعرائهم وشجعانهم وأجوادهم، وكان فاسقاً ولى لعثمان (رض) الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص فشرب الخمر وشهد عليه فحده وعزله وفي الأغاني أن الخطيئة قال يمدح الوليد هذا بعد أن وصله وكان جواداً:
أرى لابن أروى خلتين اصطفاهما ... قتال إذا يلقى العدو نائله
(فتى) يملأ الشيزى ويروى بكفه ... سنان الرديني الأصم وعامله
يؤم العدو حيث كان بجحفل ... يصم السميع جرسه وصواهله
إذا حان منه منزل الليل أوقدت ... لأخراه في أعلى البقاع أوائله
(الشيزى خشب أسود تعمل منه القصاع أي أواني الطعام وبطلق على ما صنع من ذلك، والرديني الرمح نسبة إلى ردينه وهي امرأة رجل اسمه سمهر كان يبيع الرماح بالخط (موضع) فإذا غاب باعت ردينه مكانه وكانا يثقفان الرماح أي يقومانها ويسويانها فالردينه منسوبة إلى ردينه والسمهرية إلى سمهر، والخطية إلى موضعها، وعامل الرمح هو صدره، وقال في المنجد الخطى الرمح المنسوب إلى الخط وهو مرفأ بالبحرين حيث تباع الرماح؛ واليفاع كسحاب التل).
وروى ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار في ممالك الأمصار عن الشابشتي أن الحجاج غضب على هند بنت النعمان لكلام خشن وجهته إليه، فأمر بإخراجها من ديرها القريب من الكوفة فأخرجت ومعها ثلاث جوار من أهلها، فقالت إحداهن:
خارجات يسقن من دار هند ... معلنات بذلة وهوان
ليت شعري؟ أأول الحشر هذا ... أم محا الدهر غيرة (الفتيان)
فشد فتى من أهل الكوفة على فرسه فاستنقذهن من رسل الحجاج وتغيب فبلغ الحجاج شعرها وفعل الفتى فقال إن أتانا فهو آمن، وإن ظفرنا به قتلناه فاتاه، فقال له ما حملك على ما نعت؟ قال الغيرة فوصله وخلاه وفي كتاب الحماسة للبحتري قال عمرو بن مالك البجلي:
إذا شئت أن لا يبرح الود دائماً ... كأفضل ما كانت تكون أوائله
فآخ (فتى) حراً كريماً عروقه ... حساما كنصل السيف حلواً شمائله(789/34)
فذاك الذي يمنى لواشيك جده ... ويكفيك من لهو الكواعب باطله
ويحمل ما حملته من ملمة ... ويكفيك طلق الوجه ما أنت سائله
(البقية في العدد القادم)
ضياء الدخيلي(789/35)
عالم الغيب
الجن في منطق الأساطير
للشيخ محمد رجب البيومي
وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن
(أبو العلاء)
يتطلع الإنسان للأسطورة في تلهف، ويطالعها مرات عديدة في تشوق، وهي على غرابتها وافتعالها تبعث في العقل نشاطا موفوراً، وتخلق في النفس متعة حبيبة. وقد رزقت الأسطورة في الغرب مكانة ممتازة، فوضعت لها الأسفار المتشعبة شارحة جامعة، وخدمتها الأقلام القوية محللة ممللة، فهذا باحث يستنبط منها المعنى الخفي، فإذا تعذر فهمه خلقه اختلافاً، وانتزعه انتزاعاً، وهذا روائي يلونها بأصباغ فاتنة، فيخلع عليها من خياله الرائع حلة زاهية، وهذا سمير يطرف بها أصحابه، فينفث في المجلس روحا مرحة تخلب الأفئدة، وتسرى عن النفوس، ولا كذلك الأسطورة العربية، فهي من قومها في هم ناصب، وشجو مبرح، فإذا تعرض لها من بني الضاد باحث أو قصصي أو سمير قوبل بكثير من الاستخفاف، وربما منى بمن يطعنه في ذوقه وعقله. لو دونت الأساطير العربية في سفر واف ورزقت من يتوفر على دراستها دراسة منتجة مركزة، لكان لنا منها - كما أعتقد - معين رائق، وكنز نادر ثمين.
ونصيب الجن من الأساطير عظيم موفور، فقد وضع المتقدمون عن القوم طرائف خالدة، يطالعها القارئ فيضطر اضطراراً إلى تكرارها وإعادتها، لأن الجن من العوالم الغيبة المجهولة، فكل نفس تتوق إلى استيضاح اسرارهم، والوقوف على أساليبهم في السعي والكدح وما من إنسان تنسم ريح الحياة إلا غذى في طفولته بعجائب مدهشة عن الجن، فردت على سمعه الغض أحاديثهم المتوهمة، ونوادرهم المتعددة، حتى إذا شب عن الطوق شبت معه هذه الطرائف، فتصور الجن أبطالا مغاوير يهابهم الإنس، ويذعنون لسلطانهم العتي، وأنت تسأل عن سبب هذا كله فلا تجد غير الأساطير القديمة، تلك التي نمت وترعرعت في نفوس العامة، حتى أصبحت بتوالي الزمن من حقائق ثابتة، يلقنها الصغير(789/36)
في المهد، فلا تبارح مخيلته حتى يغط في رقاده الأبوي العميق!!
ولا نجد بأيدينا من المصادر المعتمدة فيما يتصل بالجن غير ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فقدذكر الله عز وجل في كتابه بعض ما كان يعتقده الجن، حيث كانوا يعوذون برجال منهم إذا ضربوا في البيداء واشتمل عليهم الظلام حذروا مما يتأكدونه من بطشهم العارم، وقوتهم الخارقة، كما ذكر إيصال الجن بالسماء قبل البعثة النبوية، فيسترقون السمع، ويتنبئون بالغيب، وبين - جل ذكره - كيف حرم عليهم الاستراق. فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. ولك أن تفهم من ذلك سلطان الجن على الإنس، وكيف شغلوا جانبا من تفكير الأعراب وتأملهم، فلا غرو أن وضعوا عنهم الأساطير وأكثروا من نوادرهم العجيبة، فيما سجلته عليهم كتب الأدب وصحائف التاريخ!!
والجن في كل زمان ومكان لغز مبهم تبذل الجهود الدائبة في حله فلا تستطيع أن تفك غامضة. ومن التوافق العجيب أن الأساطير الدائرة حول هذا النوع من المخلوقات، تكاد تكون متحدة متشابهة، فكما تزعم الأساطير العربية قدرة الجن على التشكل والتنوع، وملازمتهم الأمكنة الخالية، وظهورهم مع الأشباح في حندس الليل، كذلك نجد الأساطير الأوربية تؤكد هذا الزعم، واقرأ إن شئت ما سطره شكسبير في روايتي: (العاصفة) (وأبيرون) تجد حديثا مسهبا عن الجن لا يكاد يخرج عما تطالعك به الخرافات البدوية، بل عما سمعته في طفولتك من العجائز الأميات!! اللهم إلا بعض اختلافات يسيرة تحتمها طبيعة المكان، وظروف المناخ. فالأخبار العربية (مثلا) تؤكد ظهور الجن بكثرة في الفيافي والقفار، والأساطير الأجنبية تعلن وجود هذا النوع في أعماق المحيطات، وشواطئ البحار. وقد يكون ما ذكرناه من التشابه راجعا إلى اتفاق المصادر السماوية في الحديث عن الجن، فكانت عنصراً هاما للتوليد والاستنتاج ويجب أن لا ننسى أن ثقافتنا الحديثة، قد وقفت حائلا منيعا أما أساطير البدو عن الجن وسائر الكائنات الغيبية، فلم تصادف من الذيوع ما صادفته الخرافات الأجنبية، لأن القريحة العربية الحديثة التي ارتوت بفيض زاخر من العلوم العقلية تزن كل حديث بميزان المنطق، فما رفضه الفكر السديد حاربتة وفندته، ولكن الغربيين قد احترموا الخيال كما احترموا الحقيقة على السواء فهم مع تسليهم بوهم هذه الأساطير قد اتخذوها مجالا للعبرة والعظمة، فاستنبطوا منها المغزى الخلقي، والمرمى(789/37)
الإنساني. وقد تكون الأسطورة تافهة لا تهدف إلى غرض، ولعل واضعها أبله غر نطق بها كما اتفق له، ولكنهم يكدحون أذهانهم في التحليل والاستنتاج حتى يظفروا بما يريدون، أما الذهن العربي الحديث فقد احتقر هذه الأساطير احتقارا تاما، ورمى قائلها وسامعها معا بالجنون والغفلة، وأنا لا أدري لماذا لا نجعلها من قبيل الأمثال الفرضية الذائعة في الأدب الجاهلي، فنسلم أولا بوضعها، ثم ندلف إلى استنتاج العبرة من حوادثها كما يفعل الأوربيون سواءبسواء؟. .
وعلى أن اكثر هذه الأساطير تهدف إلى الشجاعة والمروءة وما إليهما من الشمائل التي تشربها البدوي، وسرت في عروقه مع الدم في مجرى واحد، فكان علينا أن نجعل منها أداة صالحة للتهذيب والتعليم فتضم إلى غرابة المنحى وطرافة التفكير، روعة المغزى وجمال الهدف، وإليك هذا المثال مع الإيجاز.
خرج عبيد بن الأبرص إلى الصحراء في نفر من صحبه فسد عليهم الطريق شجاع أسود قد فتح فمه فتدلت مشافره كالبعير، وكان غريب الخلقة ترمى عيناه بالشرر حتى ما يطيق أحد ان ينظر إليه، وقد احترق جانباه من الرمضاء فاصطبغا بلون مرعب، فصاح القوم بعبيد: دونك هذا الجني فاقتله، ولكن الشاعر عمد إلى إداوة من ماء فصبها عليه، فانفتل إلى حجره شاكرا قانعا، ثم سار القوم فقضوا حوائجهم وقفلوا راجعين، غير أن عبيدا قد أضل بعيره، فسدت السبل في وجهه وداهمه الليل بكلكله الثقيل، فوقف متحيرالا يدري ما يصنع في ظلام البيداء إذا بهاتف من عدوة الوادي يصيح
يا صاحب البكر المضل مركبه ... دونك هذا البكر منا فاركبه
فالتفت الرجل فإذا بكره بجانبه، ومعه بكر آخر يرشده إلى الطريق، فركب والخواطر تملأ فؤاده ورأسه، إذ يفكر في صاحب هذه اليد البيضاء، من هو؟ وكيف اختصه بالرعاية؟ ولكن الهاتف لا يتركه يمعن في شعاب أوهامه بل يصيح:
أنا الشجاع الذي ألفيته رمضاء ... في رمله ذات دكداك وأعقاد
فالخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أقبح ما أوعيت من زاد
فعلم الشاعر أن الجميل قد رد إليه وأوفاه، فأخذ السير إلى مقصده في فرح وابتهاج!!
فماذا تقول عن هذه الأسطورة؟ إننا نتعب أنفسنا في إنكار وقوعها، كأنه - وهو الواضح(789/38)
البديهي - مجال فسيح للنقاش والجدال، أما أن نستخرج منها المغزى الرائع، فنبين لقارئها كيف ينفع المعروف صاحبه فهذا ما لا تفكر فيه على الإطلاق، فلا عجب أن ضاعت لدينا قيمة هذه الأساطير!!
وقد يدهش القارئ لازدحام الأسفار الأدبية بأقاصيص الجن، بل ربما تعجب ممن عكفوا على اختلافها عكوفا دائبا، والحق أن هناك عوامل قوية فرضت هذا العكوف فرضا لازماً، حيث كان الواضع يجد في عمله مغنما وافرا يدفعه إلى الاستزادة والتوليد، فكثير من الناس - كما أسلفنا - يحرص على الإلمام بما في العوالم المجهولة من أسرار، وكأنه غضب أن يقف علمه عند ما يقع تحت سمعه وبصره، فعمد إلى استنطاق الأساطير وجمع الخرافات، وخاصة إذا كان فيما يحصله من الغرابة والطرافة ما يدعو إلى استيعابه، فهو يلجأإلى من يتوسم فيه المعرفة، فيمتعه بنادرة معقولة تدخل في هذا الباب، وما تلبث أن تسير بها الركبان من مكان إلى مكان، وهي في كل دقيقة تتزايد وتعظم، ويجري فيها الخيال الخرافي مطلق العنان حتى تخرج من دائرة المعقولات إلى حيز المحالات، وأنت تقرأ الأسطورة الجنية في كتاب متقدم فلا ستغربها، ثم تجدها انتقلت إلى كتاب آخر وقد اكتسبت كثيرا من المبالغة والتهويل فتفق عندها كالمستغرب، فإذا انتقلت إلى سفر ثالث بدت صورة مجرفة مضخمة، تتناكر مع الصورة الأولى تمام التناكر، فإذا كان التأليف المفيد لا يسلم من الافتعال الملموس، فما بالك بالسمر الذي لا يعرف القيود والحدود بل ينطلق من الأفواه كما شاء الخياليون. ومهما يكن من شيء فإن الأسباب الدافعة إلى الاختلاق لا تخرج عن عوامل ثلاثة: دينية، مادية، خلقية. وماذا نصنع وقد تكون لنا ثالوث مرح ساذج يمتع الأفئدة ويرفه عن النفوس!!
ونحن بادئون بالحديث عن العامل الديني، فنذكر أن مفسري القرآن ورواة الحديث، وأصحاب السير، قد ساهموا بنشاط وافر في هذا الميدان، فقد عولوا جميعا على استهواه العامة بما يقصون من أنباء، كما وقع في نفوسهم أن الغابة تبرر الوسيلة، فلا عليهم إذا وضعوا التفاسير الكاذبة، ولفقوا الأحاديث الموضوعة، ما دامت تجذب إليها القلوب وتدفع سامعها إلى الإيمان والتصديق، فإذا أراد أحد هؤلاء يحض على الصدقة - مثلا - لجأ إلى الخرافات المزعومة فأسهب فيها كما أراد، ثم لا ينسى أن يخص الجن بنبذ كريمة من(789/39)
وعظة، فينتقل عن الحاكم بإسناده ما ملخصه أن أبى بن كعب رأى شبحا يأكل من تمرة، فقال له من أنت؟ وأمسك بيده فإذا هي كف كلب، فصاح به أجني أم إنسي؟ فقال بل جني! قال وما حمل على ذلك؟ فقال له: لقد علمت أنك تحب الصدقة فأحببت أن أصيب من طعامك لتثاب من الله، ثم أخبر الرسول بذلك فقال: صدقك الخبيث.
وإذا أراد أحدهم أن يدفع الناس إلى الاستغفار، وذكر الله لا ينسى أن يلم بحديث الجن فيذكر جانبا من استغفارهم وأدعيتهم، ويزيد فيحكى من الأخبار الملفقة مال نجد داعيا لنشره على القراء. وقد يبالغ بعضهم فيخص آيات من القرآن بفوائد نافعة هي إبعادها الجن عن كل مكان تقرأ فيه، وفي حياة الحيوان الكبرى للدميري صفحات مملوءة بهذه الأعاجيب!! وقد نسب أكثرها زورا وبهتانا إلىرسول الله، وليت شعري ما نقول لهؤلاء الذي أسدلوا على عقلوهم حجبا كثيفة حين اتعبوا أنفسهم في تسطير هذا الهراء.
على أن وضاع الحديث لم يبلغوا شأو رواة السير في هذا المضمار، فقد تفنن الأقدمون من المؤرخين في اختراع الأوهام الباطلة، أو على الأقل في تسجيلها بكتبهم المتداولة دون مناقشة أو تعليل، فما من كاتب متقدم بذكر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا تعرض لما قالته الجن في ذلك الشعر!! وما أوحته إلى الكواهن من غريب الأنباء. وقد يستغل كثير منهم ما ورد في القرآن عن الجن فيفسره كما يمليه هواه، وما ظنك بتفسير مشوه، لا يعمد إلى إيضاح المعنى وتركيزه بل يحيطه سياج مديد من الأساطير، كأن كتاب الله وصحف السيرة لا تفهم بغير هذه المحالات؛ وقد زعم بعضهم أنه ركب بحر الخزر فضللت ريح الشمالمركبه حتى بلغ جزيرة قاحلة ليس بها أنيس، فشاهد شجرة ضخمة قد استند إليها شيخ هائل، فتقدم إليه، فسأله الشيخ من انت؟ فقال من العرب؟ فجعل يسأله عن الجرهمي وعن فلان وفلان، حتى انتهى إلى عبد المطلب فسأله عن ابنه محمد الهادي، فقال له: قد مات منذ زمن، فشهق شهقة عظيمة، وانتفض كالفرخ، ثم أخذ ينوح ويبكي، وقال أنا السفاح بن الرقراق الجني، أعرق التوراة والإنجيل، وقد اختبأت في هذه الجزيرة يوم أن أطلقت الطوالق المقيدة، من وقت سليمان وكنت اطمع أن أرى محمداً، فإذا رجعت إلى المدينة، فأقرأ السلام على قبره وبلغه أطيب التحيات)!!
فهذه أسطورة مقتضية من مئات تدور حول التبشير بنبوة الرسول، ولا أدري كيف كانت(789/40)
تقابل من السامعين بالارتياح، وكيف أبقى عليها الزمن فخلدت في بطون الأسفار؟ وليس بعيدا أن نرى في العصر الحاضر من يتعصب كمعجزة خارقة؟ وكم في الناس من أغبياء!
ويجب أن يفهم أننا لا ننكر البشائر النبوية التي آذنت ببعثة الرسول العظيم، بل نؤيد جميع ما ذكرته الكتب الصحيحة، مما يخضع للناموس الطبيعي، ولا يصطدم مع التفكير المستقيم، ومن ذلك - فيما يتعلق بهذا النوع - ما روى عنإسلام سواد بن قارب رضى الله عنه، فقد كان في جاهليته كاهنا تهبط الجن عليه بما تسترق من السمع، فأخبر فيما أخبر به ببعثة الرسول، ووقع الإيمان في قلبه فوفد على الرسول بمكة وأنشد
أناني رئي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد عهدت بكاذب
ثلاث ليالي قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
فهذا خبر لا يعدم الدليل على صدقه، لأن استراق السمع ثابت بنص القرآن، وسواد رحمه الله قد أسلم لربه، وقد اعتز بإيمانه اعتزازا لا يحتمل تخرص وادعاء، حتى أن عمر بن الخطاب قد ذكر مرة بكهانته في الجاهلية فغضب فضبا فعرف في وجهه، فاعتذر إليه أمير المؤمنين وقال له يا سواد، والله ما كنا عليه من عبادة الأصنام شر من كهانتك. فليس بمعقول أن يتحدث عن سبب إسلامه بما لم يقع، فهو إذن صادق مصدق، وإنما الكاذب من يروى الأساطير التي تنتهي إلى عهد سليمان بن داود ثم يكدر بها حياض السيرة المطهرة، وأولى بها أن تأخذ مكانها في (ألف ليلة وليلة) فتتلاقى الأكاذيب وتمتزج الغرائب بالأعاجيب.
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي(789/41)
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ العباس خضر
محاضرات المصريين بالسودان:
تهتم الآن وزارة المعارف بتنظيم المحاضرات الثقافية التي يلقيها الأساتذة المصريون بالسودان، وأدرجت في الميزانية لهذا الغرض ألفي جنيه؛ وذلك بعد أن رأت إقبال الجمهور المثقف بالخرطوم على المحاضرات التي نظمتها في العام الماضي مدرسة الملك فاروق الثانوية بالخرطوم، فرأت تدعيم محاضرات المدرسة بمحاضرات أخرى في نوادي الخرطوم يلقيها المفتشون الذين يعملون بالمراقبة العامة في السودان.
وليست محاضرات مدرسة الملك فاروق في العام الماضي، أول تجربة في هذا السبيل، ففي سنة 1943 أوفدت وزارة المعارف بعثتين من كبار أساتذتها، فألقوا محاضرات بأندية الخرطوم وأم درمان، كان لها طرب في نفوس إخواننا بأعلى النيل، وأقول (طرب) وأنا أقصد معنى الكلمة. . فقد كنت هناك في ذلك الوقت، ولا أزال أذكر كيف امتلأ نادي الخريجين بأم درمان - امتلأ ذلك النادي الرحيب واحتشدت فيه الجماهير لسماع محاضرة الأستاذ السباعي بيومي في (إعجاز الفاصلة في القرآن) وشاع الطرب في الحاضرين حتى كانوا يهتفون عند الفواصل: الله! كأنهم - لشدة تأثرهم وعمق تذوقهم - في حفل غناء ويوم ذلك أبقيت هذه الثقافة العربية الإسلامية هي الغذاء الروحي المشترك بين أهل الوادي في الشمال وفي الجنوب، كما يشتركون في الغذاء المادي من ماء النيل.
وأريد أن أفرغ من ذلك لأبنه على أمر آخر في هذا الموضوع، ذلك أن الوزارة تقصر بعثات المحاضرين المصريين إلى السودان على أساتذتهم والمفتشين بها. ولكني أقترح عليها أن تدعو بعض الكتاب والمؤلفين، من غير رجالها، الذي يعرفهم السودانيون بالقراءة لهم، وهم ولا شك يودون رؤيتهم وسماعهم؛ فتخرج بذلك هذه المحاضرات الثقافية عن النطاق الرسمي. ولا أخفي أن اكثر محاضرات المفتشين والمدرسين ذات طابع مدرسي، وقد أشارت إلى ذلك بعض صحف الخرطوم التعليق على بعض محاضرات سنة 1943.
مؤتمر اللغويين والمستشرقين:(789/42)
عقد بباريس في أواخر يوليه الماضي وأوائل أغسطس الحالي، مؤتمران كان لمصر فيهما نشاط ملحوظ، وكان للغة العربية في أحدهما ظفر يغتبط به، وهما مؤتمر اللغويين ومؤتمر المستشرقين، وقدانعقد على التعاقب، كان أولهما مؤتمر اللغويين وقد اختم أعماله يوم 27 يوليه، وكان مما قرره تمثيل مصر في لجنته الدولية الدائمة.
وكان بعد ذلك مؤتمر المستشرقين، وكان من الرغبات التي أبداها أن تعنى دول العالم أجمع بإدخال معلومات عامة عن المدينة الشرقية في برامج التعليم مع العناية بالمدينة الإسلامية وما تبقى من المدينتين الهندية والصينية، فإنه لا يجوز لأهل الغرب أن يجهلوا ما كانت عليه مدينة أهل الشرق الذين يؤلفون نصف سكان العالم.
وظفر اللغة العربية الذي يدعو إلى الاغتباط، كان في الجلسة الختامية المؤتمر المستشرقين، إذ اقترح الدكتور محمد يوسف موسى الأستاذ بالأزهر أن يوافق المؤتمر على قبول التباحث باللغة العربية في المؤتمر القادم ولا سيما عند بحث المسائل الإسلامية. ونوقش الاقتراح ثم تقرر قبوله.
وقد بدا نشاط ممثلي مصر في المؤتمرين، إذ ألقوا بحوثا، وقدموا تقارير واقتراحات، كانت موضع التقدير، واسترعى الانتباه ما أبداه العلماء المصريون في علم الآثار القديمة مما يدل على بلوغهم فيه درجة عالية، وقال بعض الأعضاء إنهم اصبحوا فيه مساوين لسائر علماء الآثار في العالم.
الدكتور طه حسين:
ويمثل الدكتور طه حسين بك في هذين المؤتمرين، مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وتدل الأنباء الواردة على وفرة نشاطه فيهما، وقد كتب للأهرام مقالاً - من المقالات التي يوافيها به من باريس - نشرته بعنوان (بين مؤتمرين) أبدى فيه شغفه بمتابعة أعمال لجانهما فتمنى أن يظفر ب (تعدد الأجسام) فيستطيع، كما يقال عن أهل الخطوة، أن يحضر الاجتماعات المتعددة المنعقدة في وقت واحد. . . أي يحضرها كلها في وقت واحد أيضا! (ولكن هيهات، إذا أتيح لك أن تستمع لحديث يلقى في هذه الساعة من ساعات الضحى فقد قضى عليك أن تحرم أحاديث كثيرة جدا تلقى في نفس هذه الساعة في الغرفات المجاورة(789/43)
أو في الغرفات البعيدة أو في الدور النائية من هذه الدار التي أنت فيها) ومما تضمنه مقال الدكتور طه أن المصريين كانوا قلة في مؤتمر اللغويين، وكانوا كثرة في مؤتمر المستشرقين ومع ذلك فانهم اكثر ما ألقى فيه من حديث (فلم يشهد المصريون إلا ثلاثة أقسام من عشرة أقسام، لا لأن أجسامهم لم تطاوعهم ولا لأن عددهم لم يطاوعهم، بل لأنهم مع الأسف الشديد لم يؤتوا من العلم إلا قليلا، فهم قد استطاعوا أن يشاركوا فيما يتصل بالدراسات الإسلامية وبالدراسات السامية وبالآثار المصرية القديمة والقبطية والإسلامية، فأما عدا ذلك من شؤون الترك والفرس والهند والصين ومن شؤون الدراسات اليونانية الرومانية في الشرق القريب والبعيد فلم يشارك المصريون فيه لأنهم لا يحسونه ولأنه لا يدرس في بلادهم، ولأن بلادهم لم تفكر بعد في أن تهيئ أبناءها للتخصص في فنون العلم على اختلافها).
الدكتور طه بين مصر وفرنسا:
وعلى ذكر المقالات التي يوالى الدكتور طه كتابتها للأهرام من باريس - أقول إنه لوحظ في بعض عباراتها ما يدل على أنه عاتب على مصر، أو غير راض عما يتعلق بشخصه فيها، أو كما نقول بلغة الحديث العامية (واخد على خاطره) فقد قال في أولى هذه المقالات إنه سيعود إلى مصر يوم تدعوه إليها. . . وفي المقال (بين مؤتمرين) المتقدم ذكره، ختم الحديث عن وفد مصر غير المستكمل للدراسات المختلفة بتوجيه الكلام إلى الهيئات التي أوفدته، فقال (وأول هذه الهيئات المختصة مجلس الوزراء الذي أوفد إلى المؤتمر وفدا مصريا أستثنى نفسه منه، ثم أقول بعد ذلك إنه شرف مصر حقا) وجاء في بعض الأنباء أن الدكتور طه سيسافر إلى إحدى القرى الفرنسية للاستجمام، ثم يسافر إلى إسبانيا لإلقاء محاضرات أدبية ببعض معاهدها وجامعاتها، تلبية لدعوة حكومتها، ولم يرد في النبأ ذكر لعودته إلى مصر.
ويدل استثناؤه من الوفد الذي أوفد مجلس الوزراء على أن الأمر إنما هو بينه وبين الدولة، ولكن ألم يوفده مجمع فؤاد الأول للغة العربية وهو من الدولة؟ ولنفرض أن الدولة جافته في بعض الأمور، فهل هذا يؤدى إلى التدلل على مصر وهجرانها وهي تقدره حق قدره؟ وماذا صنعت فرنسا للدكتور طه مما لم تحققه له مصر، فرضى عنها واخذ أمورها مأخذ(789/44)
المحب، كما تدل على ذلك مقالاته الأخيرة بالأهرام؟
على أننا لم نسمع قبل اليوم أن أحداً من كبارنا أمثال الدكتور طه، ممن نالهم بعض العنت في عهود غير أوليائهم، قد غضب من مصر وهجرها إلى غيرها من البلاد. ولعل ذلك لأنهم ليس لهم (فرنسا) يهيمون بها. . . وهل تحتضن الدولة كل كبار الأدباء؟ وهل هذا لازم لعيشهم في البلاد ورضائهم عنها؟
أكتب هذه وأنا آسف لحرمان مصر في هذه الآونة المضطربة قلم طه حسين الفياض، وهي أحوج إلى صولاته في صميم شؤونها المعقدة المختلفة، منها إلى ما يلقى في حجرات المؤتمرات القريبة والنائية. . . وإن ذلك لأجدى عليها من دراسة شؤون البلاد التي تركب الأفيال!
الكبراء والكتب:
قرأت في مقال للأستاذ المازني بالعدد الأخير من أخبار اليوم، أنه كان في مجلس جاء فيه ذكر بعض الذين يعدون أنفسهم من القادة أو الزعماء، فقال (إني أراهن بما تشاءون - وأنا واثق أني لن أخسر - أنه ليس في بيت (فلان) - ولا داعي لذكر اسمه - كتاب واحد حتى ولا رواية بوليسية وقال هذا مثل واحد أكتفي به لأنه يغنى عن غيره.
وقد ذكرني هذا بما قصه على صديقي س قال: عهد إلى أن أقدم إلى بعض الكبار هدايا: نسخا من كتاب أخرجته لجنة إحياء آثار أبي العلاء المعري، تنفيذا لقرار وزارة المعارف القاضي بهذا الإهداء فقدمت له الكتاب، فتناوله ونظر إلى غلافه ثم قال متلطفا أو متظاهرا بالمعرفة: نعم. أبو العلاء المعري! بضم الميم.
وهذا الذي جرى لميم المعري ليس أمرا هينا. . فأقل ما يدل عليه عدم استحقاق الهدية! وكم هناك ممن يستحقونها ولا تهدى إليهم، لأن الوزارة تهدى هذه الكتب إلى الكبراء وأصحاب المناصب العالية، وأكثرهم لا يقرءونها ولا يعرفون قيمتها، ولا تنظر إلى غيرهم من الأدباء والمتعلمين الذي يلاقون العنت في استعارتها من دار الكتب المصرية.
احتلال الأوبرا:
يظهر أن المهزلة التي تمثل سنويا على مسرح الأوبرا - ستتابع فصولها في الموسم القادم.(789/45)
أعنى الفرق الأجنبية التي تجلب من أوربا كل عام لتسلية (الخواجات) والترفيه عن أبناء الذوات. . . فتحتل المسرح القومي أكثر الموسم بعد أن تجلو عنه الفرقة المصرية وهي أحق به.
فقد قال مراسل الأهرام من باريس أن الأستاذ سليمان نجيب بك مدير دار الأوبرا الملكية وصل إلى باريس وصرح له بأنه سيدعو إلى مصر بين شهري يناير ومارس القادمين، فرقة مونت كارلو لمدة 15 يوما، وفرقة الأوبرا الإيطالية لمدة أربعين يوما، كما أنه سيدعو إليها ببار بيار بلا نشان لمدة شهر مع فرقة تمثل خمسا من رواياته. ويضيف إلى ذلك أنه يرجو أن يوفق لإرسال فرقة الكوميدية المصرية إلى فرنسا وانجلتا في مقابل الفرق الأجنبية التي تستقبلها مصر.
وأنا أسال أولا: ما هي فرقة الكوميديا المصرية التي يرجو أن يبادل بها. . .؟ هل عندنا فرقة بهذا الاسم؟ إن كل ما لدينا هي الفرقة المصرية التي تشرف عليها وزارة الشئون الاجتماعية وهي ليست كوميدية، والفرق الأخرى معطلة هذه السياسة التي منها استجلاب الفرق الأجنبية.
المسألة ليست إلا ستراً للموقف بتسميتها (تبادل فرق) فقد استنكر الرأي العام في السنة الماضية الاستمرار في استيراد الفرق الأجنبية، وحمل عليه النقاد حملات موقفة، وكان لنا في ذلك مشاركة. فأريد اتقاء الشعور العام بهذا (الرجاء) وقد تطورت ظروف البلاد بعد ذلك حتى صرنا إلى حال لم يكن يصح فيها أبدا مجرد التفكير في شيء من هذا الذي يزمعه مدير دار الأوبرا. وقد قال النقاد وقلنا في العام الماضي، والجديد الآن أننا نحارب في فلسطين - نقاتل ونهادن وندفع العدوان ونستأنف القتال - وهذا يقتضي تجديد الجهود والأموال لمواجهة الجهاد، ولماذا نلغي الحفلات الرسمية وتستغني عما يماثلها من الكماليات. وقد وقفت دول الغرب ضج قضية العروبة، وهذا يقتضي أن نقف منهم موقف الحازم لا يتفق معه أن ندعو فرقهم لاحتلال مسرحنا القومي، ولا يكفى اختصار المدة المعتادة، لأن الذي يدعو إلى هذا الاختصار هو الذي يدعو إلى الاستغناء التام
أراني أخذت في بيان ما هو ظاهر بالبداهة. . . وإني والله لأخجل أن أرى في بلادنا وفي هذه الظروف التي نحن فيها، تلك الفرق التي يراد قيادتها إلى مصر في الموسم القادم.(789/46)
من طرف المجالس:
كان الحديث في قضية فلسطين وموقف هيئة الأمم المتحدة منها، وهو حديث المجالس الغالب في هذا الظرف. قال قائل: عجبا لهذه الهيئة. . . كونتها الأمم الكبيرة، لتحل - فيما تحل - المشاكل التي تنشأ بينها، وهذه - مثلا - مسألة برلين، لم تعرض عليها ولم تنظر فيها، بل عمدت الدول المؤلفة لها إلى المباحثة فيها، خارج الهيئة، بالمؤتمرات الثلاثية والرباعية، أما فلسطين فما أسرع ما تبت في شؤونها، لا لتحمي السلام وإنما لتحمي دولة إسرائيل المزعومة من بطش العرب، فهل تكونت الأمم المتحدة لتكون (هيئة شرف) بالنسبة لمسائل الأمم الكبيرة، ثم لتكون أداة فعالة في خدمة الأغراض الاستعمارية الصهيونية؟
قال آخر: ألا ترون أن هيئة الأمم المتحدة هي أيضا هيئة مزعومة
العباس خضر(789/47)
البريد الأدبي
إلى فضيلة الشيخ أبو العيون:
كان تجلدك الذي امتنع على صدمة تلك الملمة؛ وثبات جأشك في عصف ذلك الخطب؛ موضع إكبار الجميع؛ حتى عدت سابقة لفضيلتكم في هذا الميدان، لقد تخطفت المنايا السود ولدك - وهو يمرح في أعطاف الرابعة عشر ربيعا، ويختال في حالة نسجت من طراءة العمر، ونضارة الصبا، لا تحركها أنامل الحياة غير مرة؛ فها هو ذا الشاب يلوذ بحمى - المستشفى - ليكف عادية الداء عن شابه؛ فإذا في ارتقابه بهذه الدار تلك السفينة التي تقلع بالإنسان إلى الشاطئ المجهول. ويهبط النبأ الفاجع على قلب - الشيخ - يا أسلاك البرق - قدحت أي زناد!! وأطرت أية شعلة بفؤاد - الشيخ - المرهف الشفوق. أية ناسفة تحمل أمثال هذه الأنباء التي تنزل في عالم الشعور؛ والإحساس؛ وأي لغم تفجره بين الجوانح تلك الكوارث ولكن قوة إيمان الشيخ، قد استطاعت أن تحول بين الشيخ، وبين ما تستهدف له القلوب. فيأتي الشيخ. وهو السكرتير العام للأزهر والرجل الموصل بأفئدة الأمة؛ أن يذيع نعيه في الصحف ولا حتى بين الأصدقاء الأقربين.
وتوجه في قلة قليلة لا تعدو أصابع اليد الواحدة إلى - دار المستشفى - وحمل قطعة قلبه إلى حيث يوسدها المضجع الأخيروصلى عليه حيال القبر؛ وعاد الشيخ ببعض النفس؛ والبعض في القبر وتجلس إلى الشيخ فإذا هو باسم الثغر، طلى الحديث. مؤنس المحضر. تدور أحاديث الدين، والأدب، والاجتماع، كأننا لسنا في دار ثكلت عزيزا؛ ولا بجوارح شيخ حتى التراب على معارف كان يخشى عليها الثقل من موطئ الذر.
لم أكتب هذه الكلمة لتكون عزاء فأنت، أيها الشيخ، أسمى من أن يسوق العزاء سائق؛ ولكن أريد أن أقدم نموذجا لما تكون عليه الرجولة في الشدائد، وأن يعرف الناس السنة الإسلامية التي يجعل بهم أن يستنوها مع من يشيعون.
محمد عبد الحليم أبو زيد
1 - ولم لا نسأل عن أشياء؟
أهي من عالم الغيب الذي استأثر الله بعلمه؟ أم هي من الأمور المعلومة من الدين(789/48)
بالضرورة فيكفر جاحدها؟ أم نحن نشك في روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورتها الحاضرة؟ أم أغلق باب الاجتهاد في فروع اللغة كما أغلق عند جمهور العلماء في فروع الفقة؟ الهم لا هذا ولاذاك؛ وإنما قصدت في كلمتي السابقة أن التمس الوجه الصحيح الخالي من الحدس والافتراض والتكلف لورود كلمة (أشياء) في القرآن الحكيم على صورة الممنوع من الصرف، وإن بدا رأيي جريئاً غير مستساغ عند بعض الناس فحسبي أن يكون رائدي حسن النية، وأن فتح البحث أمام الذين يبحثون في وسائل تيسير النحو في هذه الآونة على المعلمين حتى اقترحوا حذف (الممنوع من الصرف) من منهج التعليم الابتدائي لا نزاع في إن البحث من الجفاف بحيث لا يحمل الخوض فيه على صفحات المجلات، ولذلك عرضته ملخصاً في الكلمة الأولى وما زلت على خطتي في هذه الكلمة، وأن عسيراً أن أجشم القارئ درس موضوع من أيسر مسائلة ادعاء بعضهم أن (أشياء) اسم جمع مثل (طرفاء) قدمت الأمة فصار على وزن (لفعاء)؛ كل ذلك ليبروا وروده ممنوعا من الصرف في سورة المائدة، وأنا بلا ريب أستحسن كثرا رأى (الكسائي) الذي أورده الأستاذ الفاضل محمد غنيم في كلمته القيمة وملخصة أن (أشياء) جع (شئ) جاء على صيغته الأصلية، ولكن منع صرفه لكثرة استعماله في الكلام تشبها له بالاسم المؤنث المنتهى بالألف الممدودة، هذا أشبه بالحق، وأدنى إىل حسنا الذوق ولكن ماذا لو التمسنا للمسألة وجها آخر؛ مع التسليم المطلق بصحة الرواية، أنا لا أزال أقول إن ورود الكلمة على صورة الممنوع من الصرف مبني على القاعدة النحوية المشهورة التي أوردها (ابن مالك) حيث قال:
ولاضطرار أو تناسب حرف ... ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
وقد طابق هذه القاعدة كثر من استعمالات العرب، وخرج عليه بعض آي الذكر الحكيم؛ وقد أشرا إلى ذلك في الكلمة السابقة؛ والمسألة ترجع إلى الذوق الموسيقي المعبر عنه (بالتناسب) في كلام (ابن مالك) وإنه لو وردت (أشياء) مصروفه في الآية الكريمة (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوءكم) لتكرر حتما مقطعان بلفظ واحد، وكان ذلك مخلا إلى حد ما بحسن الجرس والتناسق ولا شك أن القرآن الكريم في المكان الأول من رعاية هذا التناسق، والسلامة من كل مظان التنافر، وهذا - كما قلت - من أعظم وجوه الإعجاز،(789/49)
ولولا ذلك لجرى على كلمة (الأشياء) ما جرى على كملة (أفياء) وأمثالها بتكرار (إن) في قوله تعالى: (ما نزال الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) كما يقول الأستاذ العجمي، فإن القياس مع الفارق كما يقولون؛ إذ من الممكن بل من الحسن الوقف على كلمة (شئ) في هذه الآية وفي الآية الثانية التي أوردها الأستاذ العجمي، ويكون البدء بما بعد كلمة (شئ) في الآيتين مما يزيد المعنى قوة؛ وإذا لا يتوالى المقطعان، على أن همزة (شيء) مسبوقة بحرف لين صامت وهمزة (أشياء) مسبوقة بحرف مد صاعد ولذلك تأثيره في نقل المقطعين، أما كلمة (أشياء) في آية المائدة (وهي محل البحث فإنها مرتبطة بما يليها من الآية الكريمة ارتباط الموصوف بصفته؛ والصفة هنا قيد في صاحبها، فلا بد من وصلها حتى يكون معنى النهي في الآية واضحا ولا بد إذا من توالي المقطعين، وهذا ما أجعله علة المنع من الصرف؛ وعلى ذلك يمكن القول - في غير حرج - أو ورد كلمة (أشياء) غير مصروفه راجع إلى الجو المحيط بها في الآية الكريمة فلو خرجت منه جاز عليها ما يجوز على سواها.
ولا محل بعد ذلك للاعتراض الذي أدلى به الأستاذ محمد غنيم وخلاصته أنه لو كانت الكلمة معروفة لضبطت همزتها الأخيرة بالجر من غير تنوي؛ فأنها بلا نزاع غير مصروفه (في الآية الكريمة) فيجرى عليها حكم الممنوع من الصرف كاملا وتجر بالفتحة؛ ولكن المنع صرفها سبباً فنيا غير الذي قالوه؛ فهو في رأي المتواضع (ولا يؤاخذني الأستاذ العجمي) مبنى على اعتبار حسن الجرس والتناسب وعند القدامى الذي ندين لهم بالحق وعرفان الجميل مبنى
على أسباب شتى ألمعنا إلى بعضها في صدر المقال.
2 - أخطاء مشهورة:
كثيرا ما نقرأ في الصحف والمجلات بله كراسات الطلبة والتلاميذ - كلمات جرت على اللسنة، واستفاضت؛ حتى ليحسبها من قلت درايتهم بمتن اللغة من الصحيح؛ ولعل من الخير للغة ودارسيها، أن يتعقب أهل الدراية هذه الكلمات بالنقد البريء والإرشاد الهادئ السديد، وعلى منابر الصحافة العالية متسع لمن أراد الإصلاح؛ ومن ذلك أنني قرأت أمس في (الأساس) لشاعر ناشئ مقطوعة ظريفة بدأها ببيت مشتملعلى كلمة (النضوج) وفي باب(789/50)
(الكتب والمؤلفات) في (الأخوان المسلمون) كلمة قيمة في التنويه بديوان (أبن المفر؟) للشاعر النابغة الأستاذ محمود حسن إسماعيل ورد فيها كلمة (خصوبة الخيال)
والذي أعرفه أن كلمتي (الضنوج - والخصوبة) غير صحيحتين والصحيح أن يقال: (النضج والخصب) أما الكلمتين الأوليان فليستا من كلام العرب فيما أعتقد؛ ومن أنكر فليغير والسلام.
محمود البشيشي
(بالإسكندرية)
حول كلمة العتيد:
أرجو أن يعلم الأديب الفاضل (محمد مهدي أبو حامد) أن الكلمة التي كتب عنها تعليقه الكريم كانت في الأصل (عنيدة) بالنون لا بالتاء فصنع بها التطبيع ما صنع، كما لم تسلم عبارته أيضا منه، فقد كانت في الأصل و (يقوض) فجعلها التطبيع (يقود) بالذال لا بالضاد وكأن القدر شاء له ذلك ليعذرني في خطأ لم ارتكبه!!
ولا أذكر أني كتبت طيلة حياتي - في مختلف الصحف - مقالة سلمت من التطبيع، وهو على كثرته - واضح يفطن إليه المتأمل، وسبحان من تفرد وحده بالكمال.
هذا وللأديب الناقد شكري وتحياتي
محمد رجب البيومي
حول النقطة:
جاء في كلمة الأستاذ الفاضل السيد محمد مهدي أبو حامد في البريد الأدبي للرسالة الغراء قوله: (وهذا ما يحضرني الآن من الألفاظ الدالة على معنى (القدم) ولا أقول هذا كل ما ف اللغة في هذا المعنى إذ ربما يطلع علينا بألفاظ أخر من المراجع اللغوية (الرقيب العتيد) الأستاذ عدنان وذلك ما كنا نبغي)
وقبل الكلام أقدم الشكر الخالص للأستاذ المهدي على حسن ظنه وجميل شعوره، نحو هذا لضيف - القوى بالله - وأقول إن ما رآه الأستاذ الأديب ورواه حول لفظة (العتيد) صواب(789/51)
كله وليس لمستزيد عليه مزيد، ولا الرقيب العتيد.
ثم أقول: ومن الألفاظ الدالة على (القدم) - وذلك بالإضافة إلى (العتيق والقديم والعهيد) قولهم: الأبيد والدهير والتليد والسحيق، وفي مقام القياس: الزمين - إن شئت - والأزيل من الزمن والأزل. . . وهي كلها ألفاظ تدل على القدم والخلود بعد العدم. . .
(الزيتون)
عدنان
من مؤلفات بن طولون:
قال الدكتور أسعد طلس في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: وقد نشر لابن طولون من المؤلفات ثلاث رسائل: (الفلك المشحون بأحوال محمد بن طولون) ورسالة (الشمعة المعنية في أخبار القلعة الدمشقية) ورسالة (المعزة في تاريخ المزة). مع أن مكتبة القدسي بالقاهرة كانت طبعت قبل ذلك من كتب ابن طولون (اللمعات البرقية في النكت التاريخية) سرد فيها كثيرا من الحوادث والتراجم التي لا يوجد بعضها في غيرها، و (إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين) ذكر فيه الكتب التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك، و (تبييض الطرس بما ورد في السمر ليالي العرس)
محمد أسامة عليبة(789/52)
القصص
الخجول!!
للكاتبة الإنجليزيةكاثرين مانسفيلد
للأديب محمد فتحي عبد الوهاب
كان في الواقع شخصا خجولا بكل معاني الخجل، ولا يملك مطلقا ما يقوله عن نفسه. وياله من حمل! إذا كان في غرفتك فإنك لا تدري أين تذهب، ولكنه يظل جالسا حتى يخيل إليك أنك ستتفجر حتما صارخا، وتتحرق شوقا لقذف أي شيء وراءه، عندما يندفع أخيرا إلى الخارج.
وهو يسترعي اهتمامك عند أول نظرة. وقد تذهب إلى المقهى ذا مساء فتراه جالسا في ركن منها، قدح القهوة موضوعاً أمامه. أنه فتى أسمر البشر، رفيع القامة يرتدي صدرة صوفية زرقاء وسترة رمادية ذات أكمام قصيرة تظهره كصبي عازم على الهروب إلى البحر، صبي هارب فعلا وها هو ذا يقوم في لحظة وقد حمل على طرف عصاه منديله المعقود الذي يحوى رداء نومه وصورة والدته. . وها هو ذا يتعثر ليلاً على حافة الجسر الخشبي في طريقة إلى السفينة.
كان له شعر قصير، وعينان رماديتان بأهداب طويلة ووجنات بيض، وفم متجهم كأنه على وشك البكاء، وكيف تقاوم النساء غراءه؟ أن قلوبهن لتلتوي عندما ينظرون إليه. وكان خجله يزيد جاذبية حتى أن وجهه كن يتحول قرمزيا في كل مرة يقترب منه خادم المقهى، كأنه سجين هارب يعلم ذلك الخادم ماضيه.
وقالت إحدى السيدات (من هو يا عزيزتي. . أتعرفينه؟)
فقالت الأخرى! نعم أعرفه. أنه أيان فرنش، وهو رسام ماهر. أن أول من تعرفت به وهبته حنان المرأة وعنايتها. وكانت تسأله عن أهله، وما يكفيه من الأغطية على فراشه، وكمية اللين التي يشربها يوميا. ولكنها عندما ذهبت إلى داره لتلقى نظرة على جواربه، جعلت تطرق الباب دون مجيب، مع أنها تقسم أنها كانت تسمع تردد أنفاسه داخل الغرفة. ووقفت تنتظر وتنتظر. . . دون جدوى.(789/53)
وقررت الثانية أن توقعه في شراك الحب. فقربته منها، ودعته بالصبي، وانحنت فوقه لينتشي العطر الفاخر الذي يفوح من شعرها، وأخذته بين ذراعيها، وحدثته عن مباهج الحياة التي لا يتذوقها إلا كل مقدام جرئ. ثم ذهبت إلى غرفته ذات مساء، وقرعت الباب ثم قرعت. . . دون جدوى.
وقالت الثالثة أن التسلية هي ما يحتاجه هذا الصبي. فذهبت به إلى المقهى والملاهي وأماكن الرقص وطفقت تذيقه الخمر. ولكن كل ذلك لم يحرك شعرة من رأسه. وثمل مرة، ولكنه جلس صامتا جامدا، كالحجر الأصم، وقد علت وجنتيه بقعتان قرمزيتان. وعندما عادت به إلى غرفته كان قد استرد وعيه، فحياها في الشارع كأنهما قادمان من كنيسة. . . وحاولت ثم حاولت. . دون جدوى.!!
وبعد محاولات عديدة يأسن منه النساء - لأن روح العطف لا تموت عندهن إلا بصعوبة - ومع ذلك فكن لطيفات معه، يدعونه في معارضهن، ويحادثنه في المقهى. وكان هذا هو كل ما يستطعن الحصول عليه منه.
واعتقد تمام الاعتقاد أنه يوجد شيء مريب مستخفياً في طيات نفسه. أنه لا يمكن أن يكون بريئا كما يظهر لهن. ولماذا تجئ إلى باريس إذا كنت تريد أن زنبقة في الحقول؟ أنهن لا يشتهين ولكن.
كان يعيش في أعلى بناء شامخ بجانب النهر، من تلك المباني التي تخالها خيالية في الليالي الممطرة والقمرية، وإذا بك لا تشتم في داخلها رائحة الخيال طوال السنة. وكانت غرفته تطل على منظر ساحر والنافذتان الكبيرتان تشرفان على الماء حيث الزورق تتأرجح وتتمايل. وكان أمام النافذة الجانبية منزل صغير يطل على سوق لبيع الزهور تظللها مظلات عديدة انسابت من شقوقها الأزهار حقا أنه لا يحتاج إلى الخروج، فهو يجدما يجتذبه إذا ما جلس بجانب النافذة، وما يجعله يمكث في غرفته إلى م شاء الله حتى لو ابيضت لحيته واستطالت.
كم تكون دهشة هؤلاء السيدات اللاتي تحدثن عنه إذا ما تمكن من اغتصاب باب غرفته؟ لقد كانت غرفته مثالا للعناية والنظافة وحسن الترتيب، فالأواني معلقة على الحائط خلف الموقد الغازي، وطبق البيض وقدح اللبن وإبريق الشاي على الأرفف، والكتب والمصباح(789/54)
على المائدة، والستارة الهندية المزركشة بالرسومات منسدلة على فرشه، واللوحة الصغيرة المنمقة أمام عينيه بجانب الفراش وقدكتب عليها بخط واضح (استيقظ بسرعة)
كان كل يوم عنده مثل سابقه. فعندمايغمر الضوء غرفته يستميت في عمله، ثم يطهى طعامه وينظف حجرته. ويذهب في المساء إلى المقهى، أو يجلس يقرأ ويكتب عائمة معقدة يبدأها (ما الذي يمكن عمله؟) ويختمها بقسم (اقسم ألا أزيد عن صرف هذا المبلغ في الشهر القادم. الإمضاء - أيان فرنش).
لم يكن هناك ما يدعو إلى الريبة في كل هذا، كما يدعين، ومع ذلك فقد كن على حق، لأن ذلك لم يكن كل شئ.
ففي ذات مساء كان جالسا بجانب النافذة يأكل البرقوق ويرمي بالنواة على قمة المظلات في سوق الأزهار الخالية. وكانت السماء تجود مصرا، أول مطر للخريف في ذلك العام. والبرق يلمع في كل مكان. والهواء يحمل في جوانحه شذى البراعم، وقد خفتت الأصوات التي ما زال صداها يرن في الجو القائم، واقترب الناس من نوافذهم يتطلعون إلى فعل الطبيعة، ويشاهدون الأشجار وقد بدأت تورق وتزدهر. وساءل نفسه أي نوع من الأشجار تلك التي يشاهدها؟ وأقبل العامل المكلف بإنارة مصابيح الشارع، وابتدأ في إضاءة المصباح القائم بجانب المنزل أمامه، ذلك البيت المتداعي، وفجأة كاستجابة لنظراته، فتح مصراعا نافذة وأقبلت فتاة إلى الشرفة تحمل أصيصا من الأقحوان، كانت نحيفة نحافة ملفتة للأنظار، وترتدي مئزرا قاتما، وقد عقدت على شعرها منديلا وهي مشمرة الأكمام وذراعاها يلمعان في الظلام.
وسمتها تقول (نعم، إن الجو حار وذلك. يساعد الزهور على النمو) ثم وضعت الأصيص على الأرض والتفتت إلى من تحدثه داخل الغرفة. ثم استدارت ووضعت يديها على المنديل وجعلت تنظم خصلات شعرها، وألقت نظرة على السوق الخاليةثم إلى السماء، ولكنها لم تلتفت إليه كأن المكان الموجود فيه ليس إلا خلاء وكأنه لا يوجد أمامها منزل مقام. ثم اختفت داخل الغرفة.
وسقط قلبه من نافذة غرفته إلى شرفة المنزل المقابل، واستقر داخل أصيص الأقحوان تحت البراعم التي كانت على وشك التفتح. وسمع أصوات الأطباق وهي تغسلها بعد(789/55)
العشاء، ثم أقبلت إلى النافذة، ونفضت ممسحة صغيرة في الهواء ثم علقتها على مسمار حتى تجف.
. . . لم يسمعها مرة تغني أو ترفع ذراعيها إلى القمر كما تفعل الفتيات. كانت ترتدي دائما نفس المئزر القاتم وعلى شعرها ذلك المنديل الأحمر. من يعيش معها؟ إنه لم يشاهدسواها بالقرب من هاتين النافذتين. ومع ذلك فكانت كثيرا ما تتحدث إلى من بالغرفة. لعلها والدتها العاجزة. ولعل والدها توفى. ولعله كان صحفيا شاحب اللون طويل الشارب أسود الشعر.
أنهما يعملان طوال اليوم ما يكفي لمدهما بالقوت الضروري ولكنهما لا يخرجان من منزلهما قط، ولم يشاهد لهما أصدقاء.
وعندما جلس على مائدته، كان عليه أن يكتب إقرارا جديداً وقسما جديداً بألا يذهب إلى النافذة إلا في ساعات معينه، وألا يفكر فيها حتى ينتهي من عمله اليومي.
كان ذلك بسيط جدا. لقد كانت المخلوقة الوحيدة التي يود أن يتعرف بها. أنه لا يحتمل الفتيات الضاحكات ولا يجديه أن يتعرف بالنساء الناضجات. لقد كانت في مثل سنه وعلى شاكلته.
وجلس في غرفته متعبا مسند ذراعية خلف رأسه، محدقا ناحية نافذتها. وتخيل نفسه موجودا معها وجعل يصفها لنفسه كما يصورها له خياله. كانت ذات طابع حاد. وكثيرا ما كانا يتشاجران في حرارة. وكانت لها طريقتها في الوقوف أمامه في عناد وغضب. ولم يشاهدها تبتسم إلا نادرا عندما كانت تخيره عن الهرة الصغيرة التي تربيها، والتي كانت تزأر كأنها الأسد عندما تقدم لها الطعام. واعتاد الجلوس بجانبها في هدوء كما يجلس الآن وقد أطبقت يديها على حجرها ووضعت قدميها تحت المقعد الجالسة عليه، وهي تتحدث في صوت خفيض أو تظل صامته، مجهدة من عناء عمل اليوم. ولم تسأله بالطبع عن عمله. وكان يرسمها في أوضاع جميلة. ولكنها كانت تكره كل هذه الرسومات، وتدعي أنها لا تمثلها مطلقا. ولكنه معذور. . . . إنه لم يتعرف بها حتى الآن. ومن يدري؟ فلعل ذلك يستغرق منه سنين طويلة.
ثم وجد أنها تخرج مساء كل خميس لتشتر حاجيات المنزل. ولاحظها خميسين متتالين وهي واقفة أمام النافذة، وقد ارتدت معطفا قديما حملت سلة في يدها. كان لا يمكنه مشاهدة(789/56)
باب منزلها وهو جالس في غرفته. ولكن في مساء الخميس التالي وفي نفس الوقت، اختطف معطفه وهرول خارجا.
وارتكن بجانب منزله منظرا قدومها. لم يكن لديه أية فكرة عما سيفعله أو سيقوله. ثم أقبلت مسرعة في خطوات قصيرة خفيفة. ما الذي سيفعله معها؟ إن كل ما يستطيعه هو أن يقتفي أثرها. . . ذهبت إلى البقال وأمضت هناك وقتا طويلا، ثم توجهت إلى القصاب، وجلست تنتظر دورها، ثم مكثت دهراً عند الخائط. وأخيرا قصدت إلى الفاكهي. أنه يشعر أكثر من ذي قبل بأنه يحب أن يتعرف بها لقد أحب فيها هدوءها ورزانتها ووحدتها وطريقة مشيها، ووجد فيها كل ما ينشده في امرأة.
كانت سائرة في طريقها إلى المنزل عندما رجع يلاحقها. وتوجهت فجأة إلى اللبان، ورآها من خلال النافذة وهي تشتري بيضة أمسكت بها في عناية، بيضة كتلك التي يختارها لنفسه دائما. وخرجت من الحانوت وتابعت سيرها. وجاءته فكرة. فلم يتردد في دخول الحانوت ومكث هناك لحظة. ثم حث الخطى حتى وجد نفسه يسير وراءها. وخلفت منزله عابرة سوق الأزهار مخترقة المظلات الكبيرة وهي تطأ بأقدامها الزهور المتساقطة على الأرض وزحف داخل منزلها، وصعد السلم محاولا أن يكون وقع أقدامه ملائما لوقع خطواتها حتى لا تلاحظ وجوده. وعندما وقفت بجانب الباب وضعت المفتاح في الثقب، أسرع وواجهها فالتفت إليه في تساؤل.
. . . وأحمر وجهه أكثر من المعتاد، ولكنه نظر إليها في جرأة، وقال في صوت تلوح عليه رنات الغضب المكبوت وقد علت وجهه حمرة الخجل (أرجو المعذرة يا آنسة لقد سقطت منك هذا وقدم لها. . . بيضة!!
(إسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب(789/57)
العدد 790 - بتاريخ: 23 - 08 - 1948(/)
يهوه على الأرض
للأستاذ نقولا الحداد
جاءنا برنادوت المجيء الثاني بأوامر ما أنزل الله بها من سلطان، ولكنه هو أنزل أو يريد أن ينزل سلطاناً. جاءنا بأمر هدنة لا نهاية لها. والعادة أن الهدنة يقترحها أحد المتحاربين ويقبلها الآخر لأن كلا من الفريقين يحتاج إليها لغرض واحد كأن يتفقا على دفن قتلاهما. ولكن هذه الهدنة فرضها برنادوت فرضاً لأجل غير مسمى بلا لزوم. . . بسلطان مَن فرضها؟ - بسلطان مجلس الأمن. . . يحتاج إليها اليهود ولا يريدها العرب؛ ولكن مجلس الأمن أمر، وأمره الأمر لماذا! لعل هذا المجلس هو الله على الأرض؟. . . ونحن لا نعرف إلهاً على الأرض إلا ما نسمع اليهود ينادونه حيناً بعد حين: (يا إله اليهود) كذا يدعون ويتوسلون ويصلون. . فمن هو إله اليهود هذا؟ هل هو غير إله المسلمين والمسيحيين؟ - يظهر أنه إله آخر غير إله العالم كله. بحثنا عنه في توراتهم فإذا هو الجنرال يهوه رب الجنود. انظر سفر الخروج3: 6 ومعناه (سيصير) أي أنه سرمدي. واسمه أيضاً أهيه الذي أهيه ومعناه (يكون) خروج 14: 3 ونصوص التوراة تصور لنا يهوه إنساناً عظيما يخاطب البشر ويأمر موسى ويوشع أوامر لا تطابق التعاليم الدينية الصالحة كسفك الدم والنهب. ويغضب وينتقم، إلى غير ذلك من أخلاق البشر. والله منزه عن كل هذه الصفات.
فهل نزل إلههم إلى الأرض لكي يصدر أوامر كما كان يصدر أوامر إلى يشوع حين جعل يغزو أرض كنعان بسفك دم ونهب وتقتيل كبار وصغار ورجال ونساء؟
إذا كانت هذه الهدنة أبدية فالمعنى أن الحرب انتهت. على أي اتفاق انتهت؟
هل يريد مجلس الأمن أن يفرض معاهدة خاصة على اتفاق خاص فرضاً؟ العادة أن الاتفاق يتم برضى الفريقين وإلا فلا اتفاق وإذن فلا هدنة، وإذن يكون إرغام أحد الفريقين على المهادنة دون الآخر هو بأمر يهوه. وقد قال برنادوت أمس في صراحة بهذا الصدد (أنه سيبلغ مجلس الأمن عن الفريق الذي ينقض الهدنة والمجلس يقرر العقوبة. ولكن ليس معنى هذا أن الفريق الآخر يجوز له أن ينقضها بل يجب عليه يحافظ عليها) ومعنى هذا الكلام اللغو: أنه إذا هجم اليهود بألفي جندي على القدس القديمة يجب أن تبقى الحامية(790/1)
العربية التي فيها مكتوفة الأيدي تتلقى رصاص اليهود بصدورها.
وما على برنادوت إلا أن يبلغ الخير إلى مجلس الأمن وينتظر الجواب!
هذه هي شريعة يهوه جنرال اليهود الذي نزل إلى الأرض في هذه الأيام!
طلب السير ألكسندر كادوجان إلى مجلس الأمن أن يرسل 100 ألف جنيه للاجئين العرب فرفض المجلس هذا الطلب!
ألو كان شرتوك هو الذي طلب هذا الطلب فهل كان مجلس الأمن يرفض؟ من كلف كادوجان أن يطلب إعانة للاجئي العرب؟ ومن قال له أن العرب يقبلون إحساناً من أية أمة؟ في حين أن قسماً كبيراً من مالية هيئة الأمم هو من الدول العربية. والدول العربية كلها قررت أن تفرض ضريبة خاصة لإعانة المنكوبين. ولكن هي إنجلترا كالثعلب تتظاهر أحياناً بالعطف على العرب في حين أنها تغدر بهم في الخلفاء.
إن المائة ألف التي اقترحها كادوجان لا تكفي إلا أربعمائة ألف لاجئ أسبوعين. والملك عبد الله ينفق كل يوم 2200 جنيه ثمن خبز للاجئين عنده.
جاء برنادوت بمهمة وضع مشروع لفلسطين يقبله العرب واليهود. وقد جرب حظه في الهدنة السابقة فخاب سعيه؛ لأن المشروع عقيم، وبرنادوت لا يستطيع أن يخصب العقيم. وهو يعلم شرط العرب الذي لا يقبل الجدل بتاتاً، وهو عروبة فلسطين التامة. فلماذا يضيع وقته ووقتنا في طلب المستحيل. إذن ستبقى الهدنة إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين. فما معنى هذه الهدنة الأبدية وما الغرض منها؟ أيريد سمو الكونت برنادوت أن يصيف ويشتي، ويصيف ويشتي، في رودس إلى ما شاء الله على حساب هيئة الأمم؟ ما أسخف منه إلا المجلس الذي انتدبه. لو كان شرف المحتد كما يقال وله شيء من كرامة النفس لما قبل هذه المهمة غير الشريفة.
جعل برنادوت مسألة اللاجئين العرب في مقدمة مساعيه. يريد على زعمه رجوع العرب الفارين من وحشية اليهود وتفظيعهم على الرغم من أن اليهود يرفضون رجوعهم بل يريدون أن يؤتى بيهود من الخارج يحلون محل العرب المهاجرين.
على أي أساس يقترح برنادوت رجوع المهاجرين العرب؟ هل يضمن أن اليهود لا يعيدون تمثيل دور دير يس الفظيع؟ أم هل يسمح بأن يتسلح العرب الراجعون تسليحاً كاملا ضخماً(790/2)
لكي يدرءوا عنهم شر أولئك الوحوش الطغاة؟
أم يقول إنه يأخذ على اليهود عهداً بأن يكونوا قدسيين إنسانيين. وإذا كنا لا نصدق عهود كبريات الدول فهل نصدق عهود أبنائها اليهود المدللين؟
ثم يقترح برنادوت أن يغاث العرب اللاجئين مدة تشردهم عن بلادهم إلى أن يعودوا إلى بلادهم. وهناك ماذا يكون؟ هل يتقدم أصحابه اليهود لإطعامهم وإيوائهم بعد أن هدموا منازلهم ونهبوا بيوتهم وساقوا إنعامهم ولم يبق لهم لا مأوى ولا طعام حتى ولا زرع يستغلونه، لأن اليهود أحرقوا الزرع واستغلوا ما استغلوا منه.
هل فكر الفيلسوف برنادوت حلال المشاكل في كل هذا قبل أن يرحل إلى بلاده لكي يحضر مؤتمر الصليب الأحمر؟ أم أن المنكوبين يصومون نياماً تحت الشجر إلى أن يعود بالسلامة؟
يقول إنه سيعود إلى بلاده بكي يحضر مؤتمر الصليب الأحمر، وبعد ذلك يعود لكي يبسط مشروعه بشأن فلسطين ويهتم بالعقدة العربية الصهيونية. يعني ما دامت الهدنة أبدية فلا بأس أن يؤجل ويسوف ولا يهمه أن يقلق الناس في الشرق العربي على المصير. إذن لا يستطيع أن يفعل شيئاً الآن ونحن نعلم أنه لا يستطيع. فعليه إذن أن ينفض يده من هذه المهمة العقيمة والعرب وحدهم يمكنهم حل هذه المشكلة. فلماذا يتعب نفسه فيما لا طائل تحته؟ لسنا نصبر إلى أن يقوم في (كيف) برنادوت أن يقضي أمراً أو يقول كلمة. ونحن عندنا مشردون معذبون يجب أن يعودوا إلى بلادهم مطمئنين لا أن يحتلها قوم جاءوا من آخر الدنيا غزاة طغاة. وعندنا جيوش واقفة في الميادين معطلة عن العمل. فإذا لم يستطع برنادوت أن يأتي بحل للعقدة لكي ينفرط عقد هذه الجيوش وتعود إلى مواطنها، فلا أقل من أن تنزل الجيوش للميدان وتحل العقدة بسيف الاسكندر. دعنا نحن نحل العقدة، فنحلها بسهولة.
لا نسمح أن تحل العقدة بأن يرخي برنادوت العنان قليلا لليهود لكي يتقدموا خطوة، ثم يشد العنان للعرب لكي يتأخروا خطوة. هذه أسلوب ماكر خبيث لا يسمح به العرب. كفى ضحكا سخيفا على الذقون.
والآن نوجه العتاب إلى الجامعة العربية الموقرة: أن العالم العربي كله يضج بسبب طول(790/3)
أناة الجامعة ومراعاتها إحساس بعض الدول الكبرى وخاطر مجلس الأمن، وقد علمنا أن مجلس الأمن كهيئة الأمم مؤتمر للصوفية. وفهمنا أن الإنجليز الذين يتظاهرون بالعطف على العرب أحياناً وبالعطف على اليهود أخرى هم أروغ من ثعلب. فحتى متى تصبر الجامعة على هذا المكر الدولي؟
اليهود ينقضون الهدنة كل يوم، فهذا يسوغ لنا أن ننقضها أيضاً وأن توعز الجامعة إلى الجيوش العربية أن تنقض على اليهود في فلسطين في وقت واحد، وتقذف بهم إلى بحر تل أبيب، فتخلص البلاد من شرهم وتحرر إخواننا العرب الذين وقعوا بين براثنهم في يافا وحيفا وعكا.
كفى يا سادة صبراً وأملا بالسراب! إن كنتم تحسبون حساباً لمساعدة الدول عليها من أن ندع السرطان الإسرائيلي يتغلغل في بلادنا ويقضي على حريتنا قضاء مبرماً. الانهزام في حرب دولية ولا الاستخذاء للصهيونية. . .
نقولا الحداد(790/4)
ما أشبه الليلة بالبارحة؟
مكر يهود
للأستاذ عمر الخطيب
(إن في الغار الذي يكال رؤوس العرب، وإن في الغار الذي
يجلل رؤوس اليهود، لمادة ثرة للخيال المبدع، ومداداً فياضاً
للقلم الخالق)
(الأستاذ الزيات)
على البطاح المطلة على (يثرب)، وبين تلك الشعاب البيض التي تعج بالرمال، وتنام في أحضان الجبال، تسكن قبيلتان جمعت بينهما وشائج القربى وأواصر النسب، وفرقت بينهما شريعة الصحراء، والجهالة الجهلاء، هما (الأوس والخزرج) اللتان استفحل العداء بينهما، وأكل قلوب زعمائهما وأودى بهما إلى حروب طاحنة ومعارك دامية، أرّثت بينهما نوازع الشر، والتهمت الشباب الغض، حتى أصبحوا لا يفترقون من وقعة حتى تجمع بينهما أخرى، وما يجف الدم من معركة حتى يسيل ثانية ويفور:
إذا افترقوا من وقعة جمعتهم ... دماء لأخرى ما يطل تجيعها
وآخر ما تمخضت عنه هذه الأحداث النكراء، والتراث الدكناء حرب كبرى لم يشهد العرب لها مثيلاً، أورت الجزيرة بزناد الفتنة، وشطرت العرب أشطاراً متناحرة، وجعلتهم أحزاباً متنافرة، تلك هي حرب (بُعاث) التي تجندل في حومتها الفرسان وسارت بحديثها الركبان، والتي كان للشعراء فيها معارك أخرى ليست الألسنة فيها بأقل إيلاماً من السيوف، ولا القصائد بأدنى تأثيراً من السهام؛ وإذا كان السيف المهنّد يطيح بالرأس، والسهم المرّيش يزهق النفس، فإن اللسان العضب يخدش العرض الكريم بالمذمة، والقريض القوي يطعن الأنف الحمى بالمهانة. . .
ولما أن ظهر في الجزيرة (محمد) صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة الله وشرعة الحق، ويدعو العرب إلى دين الإخاء والمساواة، ومبدأ العدالة والنور، استشار العربُ أحبار اليهود(790/5)
في أمر هذا النبي الجديد وقالوا لهم: (يا معشر يهود! إنكم أهل الكتاب الأول، وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، افديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه). فخالفوا بذلك شريعة التوحيد، وناقضوا تعاليم التوراة.
بيد أنه لم يمض غير قليل حتى اشتد أزر هذا الدين، وقوى ساعد هذه الدعوة، والتف العرب حولها، واستبسلوا في سبيلها، إذ كانت حمامة السلام بين القبائل المتلاحمة، والأحزاب المتخاصمة طمست من بينهم معالم الشر، وأطفأت نار الحرب، وجعلت من هؤلاء الأعراب الجفاة خير عون وأقوى نصير، وإذا بالأوس والخزرج تتآخيان بعد التلاحي، وتتصافيان بعد التجافي، وتسيران معاً في ركاب هذا الدين الجديد، تحت قيادة الرسول العظيم. . .
ولما هاجر إلى المدينة كانوا (أنصاره) الصادقين، وأصحابه المخلصين، آمنوا به وآزروه، وعاهدوه على أن ينصروه، وأن يمنعوه مما يمنعون من أبناءهم وأنفسهم، واستقبلوا إخوانهم المهاجرين أحسن استقبال، وأنزلوهم خير منزل حتى ليقول عبد الرحمن بن عوف في حديث له: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وآخى بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتيَّ هويت، نزلتُ لك عنها، فإذا حلًّت تزوجتها. . .).
وهكذا تكوَّن من هؤلاء جيش الإسلام الأول وفرسانه الكماة وأبطاله المغاوير الذين بذلوا في سبيله أموالهم وأرخصوا أرواحهم، حتى أعزه الله، وساد الجزيرة، وعم صداه أرجاء المعمورة. . .
شهد (يهود) هذا التحالف القوي والإخاء المتين، وأوجسوا شراً من هذا الدين، وأجمعوا على الكيد بمحمد، والمكر بأصحابه لأنهم علموا أن هذا الدين - لا محالة - سيعلو، وإن هذا الرسول سيقوى، وإن القوة ستحمي ذمار الحق حتى ينتصر ويسود، ولما أنهم (أهل الكتاب) يعلمون صدق الرسول في دعواه، يئسوا من القضاء على دعوته، وأنفقوا على المكر به وبصحابته، واليهود أبطال الكيد في الخفاء، وأهل الخيانة والمكر، لا تعجزهم الحيل، ولا يتورعون عن الغدر!.
أما من حيث مكرهم برسول الله، فقد حرَّضوا (لبيد بن الأعصم) الذي أشتهر بعداوته(790/6)
للرسول وشدة البغض له فسحره، بيد أن جبريل أخبره بذلك السحر وبمكانه، ورد الله كيد الخائنين، وعفا رسول الله عن لبيد وقال: (أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً) (يعني بقتله).
وأرادوا بعد ذلك أن يمكروا بأصحاب الرسول ويفرِّقوا جمعهم، حتى ينفّضوا عن (محمد) ويعتزلوا دينه، فيبقى وحده في الميدان دون نصير يمنعه ويؤيده، بعد أن كذّبته (قريش)، واشتدت في إيذائه، وأجمعت على قتله، وتفريق دمه بين القبائل، فلبثوا يرتقبون الفرص، ويحيكون الدسائس. . .
خرج (شاس بن قيس)، وهو من أحبار اليهود وزبانيتهم يجوب في أطراف يثرب يوماً وحوله بعض أعوانه، وقد بيَّت في نفسه شراً، بعد أن ضاقت به الحيل، وتقطعت به أسباب المكر، فألفى (الأنصار) مجتمعين، وقد رفرف فوقهم طائر اليمن والخير مستبشرة نفوسهم، متهللة أساريرهم، ترقص قلوبهم طرباً بهذا (الإسلام) الذي جمع بينهم، ووحد صفوفهم، وأزال من بينهم الضغائن والإحن وأبدلهم بها حباً وأخاء، وألف بين قلوبهم برابطة الإيمان، فأصبحوا بنعمته إخواناً. . .
شهد هذا اليهودي الماكر، هذا المجلس الهادئ، فغاظه صلاح ذات بينهم، وقال: (قد اجتمع بنو قيلة والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار). وأزمع على أن يعكر صفوهم، ويوقع بينهم فرجع بذهنه إلى يوم (بُعاث)، وما كان فيه بينهم من هجاء وعداء، فوجد فيه مجالا للاستغلال، وموطناً لإثارة الأحقاد الدفينة، وأيقن أنه يستطيع أن يفيض مجلسهم، ويحرك أنفسهم، حتى تعود الخصومة بينهم أشد مما كانت، فتفل عزائمهم، وتحل روابطهم. . . ويرجعوا أقواماً متلاحين، وقبائل متخاصمين، ويتفرقوا عن (محمد)، ويتخلوا عن تأييد رسالته، وهذا ما تتقطع دونه أعناق يهود، وينفقون في سبيله أعز ما لديهم. . .
التفت هذا الغادر إلى واحد من أعوانه فوسوس إليه: أن يعمد إلى مجلس (الأنصار) فيجلس معهم ثم يذكر يوم (بُعاث) وينشدهم قصائد شعرائهم، ويعمل على المكر بهم، والقضاء على ألفتهم. . .
لم يدر (الأنصار) كيف تسلل إليهم هذا اليهودي الخبيث ولم ينتبهوا لمهمته، ولم يتيقظوا لمكيدته، فوقف بينهم يذكر يوم (بعاث)، وينشدهم ما كانوا يتقاولون به من أشعار، ويؤلَّب(790/7)
الأوس على الخزرج، حتى وقعت الواقعة، فذكر القوم ذلك اليوم، وتنازعوا وتفاخروا، وأنشد كل أقوال شاعرهم، ونادى هؤلاء: يا آل الأوس! ونادى هؤلاء: يا آل الخزرج! ولم ينصرف اللعين إلا بعد أن احمرت الإحداق، واحتدم الغيظ، وثارت الأحقاد، وتطايرت الدماء إلى الرؤوس، وافترقوا وقد تواعدوا على القتال. . .
سمع رسول الله بما أصاب الأنصار، فخرج إليهم فيمن كان معه من المهاجرين وفي وجهه الغضب، ووقف بينهم يرمقهم بنظرات أرجعتهم إلى صوابهم، وأعادت إليهم رشدهم، ثم تطلع إليهم بعينين دامعتين وقال - وقد ملك عليهم ألبابهم، وتمكن من شغاف قلوبهم -: (يا معشر المسلمين! الله الله! اتقوا الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم! بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم). . . ولم ينته صلى الله عليه وسلم من كلامه حتى عرف القوم أنها نزعة شيطانية، ومكيدة يهودية، فتعانقوا وتمتعت ألسنتهم بكلمات الأخوة الحق، والتوبة الصادقة، وانتثرت من محاجرهم دموع الندامة، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عاهدوه على الإخلاص لهذا الدين، والاعتصام بحبل الله المتين. . . وإذا بوحي الله ينزل على الرسول بهذه الآيات:
(يا أيها الذين آمنوا، إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)
(دمشق - المزة)
عمر الخطيب
(فتى الفيحاء)(790/8)
الاتجاهات الحديثة في الإسلام:
أسس الفكر الإسلامي
للأستاذ هـ. ا. ر. جب أستاذ اللغة العربية بجامعة اكسفورد وعضو
مجمع فؤاد للغة العربية.
إذا أردنا أن نحيط علماً بالتيارات الفكرية الدينية بين المسلمين اليوم، واجهتنا صعوبة عملية. فلم تحدث حركة فكرية من غير أن يكون لها تأثير. وسواء كانت دوافعها كثيرة وقوية أو قليلة وضعيفة؛ فلابد من حدوث صدى لها. ولا يمكننا أن نتتبع الحركات الحديثة في الإسلام بدون أن نرفع القواعد من الأفكار الإسلامية.
وقد يبدو واضحاً أن الأساس المقنع هو الدولة الإسلامية في القرن التاسع عشر. . أو على الأقل الإسلام في القرن الثامن عشر. ولكن هذه موضوعات لا زالت معلوماتنا عنها محدودة. وقد ذهب كتاب الإسلام إلى الاهتمام بالقرون الأولى إبان التقدم العلمي والديني، وظهور حركة الصوفية وإخوان الصفاء. وبعد القرن الثالث عشر أو ما يقرب من ذلك، كان معتقداً أن الإسلام باق على قواعده الثابتة التي خلقها له العلماء والمشرعون والحكماء والروحانيون، فلن يتقدم بل يتأخر. وهذا الرأي يتراءى لنا - من بعض الوجوه - أنه صحيح. والحق أنه صدر عن أحد علماء الإسلام المحدثين. ولكن لم تبق نظم العقيدة والفكر سائدة أكثر من ستة قرون. وإذ تقدمت القواعد الظاهرية للعقيدة الإسلامية في هذه الفترة، فإن التكوين الأصلي لحياة المسلمين الدينية، قد اعتراه التغيير والإصلاح.
وسنمعن النظر فقط في الظواهر الحيوية الخارجية التي ظهرت في الإسلام، مثل تكوين الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأدنى، وقيام إمبراطورية المغول في الهند، ونشاط الشيعة في فارس، والتوسع في إندونيسيا وشبه جزيرة الملايو، ونمو المجتمع الإسلامي في الصين، وطرد الأسبان والبرتغال من مراكش، وامتداد نطاق الإسلام في شرقي أفريقيا وغربيتا. وقد اعتبرها قدماء المؤرخين حركات حربية، وإن عقيدة الغزو والتوسع عقيدة حية. ونحن نعرف - أكثر من قبل - الدور الذي لعبته هذه العقيدة.
إن أساس الفكر الإسلامي هو بالطبع: القرآن. وليس القرآن - كالإنجيل مجموعة كتب ذات تواريخ مختلفة وبأيدي متباينة؛ إنه سفر من السور بلغها محمد (ص) في السنوات(790/9)
العشرين الأخيرة من حياته تقريباً. فيشتمل على تعاليم دينية وأخلاقية، ومجادلات ضد الكفار، وخلاصات للحوادث السابقة، وقواعد للشؤون الاجتماعية والمسائل الشرعية. وقد أعتقد محمد (ص) أن كل ما جاء به من هذه الأمور كان بوحي من الله، إذ لم يكن مصطبغاً بفكره الخاص. إنه كلام الله نفسه قام بتلقينه الملاك جبريل. وبعد ما قاله الأستاذ دنكن بلاك مكدونلد من اقتراب العالم المجهول من العقل السامي وعن نظرة الشرقيين للنبوة، فإن من الضروري أن أتتبع الأسس النفسية لهذه العقيدة.
إننا قد نحيد عن الصواب إذا اعتبرناها مجرد نظرية (بديهية) متوارثة جيلا بعد جيل منذ ألف وثلاثمائة عام. بل هي على النقيض من ذلك اعتقاد حي طالما تجدد وثبت في عقل المسلم - وخاصة العربي - بدراسته للكتاب المقدس.
لقد عارض المسلمون المتدينون عامة في ترجمة القرآن، حتى إلى اللغات الإسلامية الأخرى.
وهذا الاتجاه تؤيده أدلة نظرية، منطقية في حد ذاتها، ولكن يمكن أن تعارض من اعتبارات مختلفة. ذلك أن القرآن أساساً غير قابل للترجمة، كما هو الحال في الشعر الرصين. إن المتنبئ لا يستطيع أن ينقل نبوءته إلى لغة عادية، يمكنه أن يعبر عن نفسه في صور متكسرة، كما تلعب موسيقى الأصوات دوراً غير محدود في جذب عقل السامع لتلقي الرسالة. مثلاً حالة الترجمات اللاتينية والإنجليزية لكتاب الإغريق والعبريين؛ فقد أعطوا الكلمات الجديدة شيئاً من القوة العاطفية، بدون اعتماد على التركيب - وأحياناً المعنى - الأصلي.
وإن ترجمة إنجليزية للقرآن، ينبغي أن تستخدم تعبيرات دقيقة صحيحة للعبارات الرقيقة الذهبية في اللغة العربية، وفي نواحي القصص والتشريع وما أشبه ذلك، تكون الخسارة أقل خطراً، بالرغم من أن تفكك المعلومات، بل والظلال الجميلة والجوانب البليغة، قد يكون لها تأثير غير محدد. ففي جملة بسيطة مثل (بالتأكيد نحن نحيي ونميت وإلينا الرحيل (المصير):
يستحيل علينا أن نظهر - في الإنجليزية أو أية لغة أخرى - قوة الضمير (نحن) المكرر خمس مرات في الكلمات الست الأصلية.(790/10)
إننا لن نتطلع إلى معنى القرآن عند العربي، حتى نتبين قيمة الدور الذي تقوم به اللغة في تحديد المواقف السيكولوجية.
فبزوغ الحياة العقلية عند العرب - كما بين الآخرين - قد ازدهر بالخيال، الذي ظهر في الإبداع الفني. ولطالما قيل إنه ليس للعرب فن، وقد يكون هذا صحيحاً إذا حددنا الفن بأعمال كالنحت والطلاء. . . ولكنه يكون تحديداً ظالماً خاطئاً. فالفن هو أي إنتاج يعبر فيه الشعور الجمالي عن نفسه. وهناك شك في حاجة الناس إلى التعبير الفني بأي شكل، سواء في الموسيقى أو الرقص، أو الفنون المادية والنظرية الأخرى. . . وميدان الشعور الجمالي عند العرب هو أساساً الكلمات واللغة، وهذا أكثر إغراء بل أعظم ثباتاً وخطراً من سائر الفنون. إذن فمن السهل أن نفهم السبب في أن العرب - الذين عندهم استخدام الكلام البليغ أسمى الفنون - يرون في القرآن أعجوبة حقيقية وعملاً فوق طاقة البشر.
ولقد كان العرب والمسلمون عامة مجبرين على إنكار الأفكار العالمية مثل (القانون الطبيعي) أو العدل المثالي، وأظهروا الثنائية أو المادية على أنها مؤسسة على طرق مزيفة في التفكير تنتج خيراً قليلاً وشراً كثيراً. وسنرى كيف أن مصلح الإسلام الكبير - في القرن التاسع عشر - جمال الدين الأفغاني، صب جام غضبه على المجددين الهنود الذين حاولوا إثبات صدق الإسلام بمناقشة (تلاؤمه مع الطبيعة). ومع أن العلماء المسلمين قد وجدوا في المنطق والرياضات - مثلاً - فائدة، وشجعوا الأسلوب (العلمي في التفكير؛ إلا أنهم قد أبقوا هذه الأمور في مراتب ثانوية.
والإجماع من مميزات الفكر الإسلامي. وهناك من حاولوا تحديده بإجماع المتعلمين، ولكن حادثاً عجباً في القرن السابع عشر يبين كيف كان هذا النوع لا فائدة منه، حتى ولو آزرته القوة الحاكمة ضد الرأي العام. فعند ما بدأ استعمال القهوة ينتشر في الشرق الأدنى، أجمع العلماء على أن شرب القهوة حرام، وعقوبته مثل عقوبة شرب الخمر. وفعلاً حوكم بعض الأفراد لانغماسهم في شربها علانية! ولكن إرادة المجتمع تغلبت. واليوم يحتسي الجميع القهوة بحرية حتى المتزمتون الذين يعارضون الإجماع في المبدأ.
ومن الواضح أن الإجماع كان دائماً موضع خلاف بين المحافظين والمجددين، وهو ليس مبدأ حرية بل أساساً للسلطة، ولو أن حكمه يقتصر على المسائل التي لم يحكم فيها القرآن(790/11)
أو السنة، لذلك ولأنه قوة تسمح بما يسمى تجديداً، فإن العلماء الروحانيين على مر العصور - من القرن الثالث إلى الوهابيين اليوم يعارضون فيما يترتب عليه، ويقصرون شرعيته على الجيل الأول من المسلمين. هذا في حين أن المجددين على الدوام قد اعتمدوا عليه في توسيع مدى عدالة أعمالهم.
والاجتهاد عكس الإجماع. وقد أطلق عليه إقبال (مبدأ الحركة في الإسلام) ولابد من معرفة معنى الاجتهاد والدور الذي لعبه في تاريخ الفكر الإسلامي. وهو - كما يعتقد بعض المجددين حرية الحكم. ومن الناحية الأدبية يعني الاجتهاد: إجهاد النفس في محاولة الكشف عن الأغراض الحقيقية لتعاليم القرآن والسنة. وقد عمل المتدينون على تحديد موضوعه خوفاً من أن يفتح باب المعارضة الفردية والانقسام. وأخيراً لم تبق ثغرة في هذه المسائل لم تسد، فأقفل باب الاجتهاد تماماً.
ومهما يكن من شيء فإنها ظاهرة خطيرة للسنة الإسلامية في قبولها للاختلافات الواقعة في الرأي في المجتمع - ولطالما فخرت بهذا - وأحسن مثل هو المذاهب الأربعة في الشرع: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أسسها الأئمة الأربعة في القرنين الثاني والثالث، وهم جميعاً من السنيين. فهذه المذاهب - مثلا - تدرس في جامعة الأزهر الدينية. حقاً إن الاختلافات بينها تنحصر في نقط ضيقة في الشرع والشعائر، بالرغم من أن الحنابلة - بعدائهم المستحكم لكل المجددين - يعارضون الإجماع من الناحية الدينية - في كل شيء إلا مدلوله الضيق، وأحياناً يظهرون عدم رضائهم عن الآراء الأخرى.
يتبع
ترجمة محمد محمد علي(790/12)
مسكويه
أبو علي الخازن
الأديب، الفيلسوف، المؤرخ، الحكيم، القصصي، توفي (421
هـ) - (1030 م)
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
نشأ في كنف آل بويه، وهم على رأي ابن طباطبا في الفخري من الفرس وليسوا من الديلم، وإنما سموا بالديلم لأنهم سكنوا بلاد الديلم، وهي في الناحية الجنوبية الغربية من بحر قزوين، كثيرة الأشجار والغابات، غزيرة الأمطار، يشتغل أهلها بصيد الأسماك والتحطيب.
وقد سميت هذه العائلة بآل بويه، نسبة إلى بويه جدّ العائلة ومؤسسها، وكان صياد سمك، وكان أحد أبنائه الثلاثة معز الدولة (أبو الحسين أحمد) يقول بعد تملكه البلاد (كنت احتطب الحطب على رأسي).
نشأت هذه العائلة المالكة من هذا الأصل الوضيع، واستولت على الخلافة العباسية، فعزلت الخلفاء وولتهم، واستوزرت الوزراء وصرفتهم، وانقادت لأحكامها أمور بلاد العجم وأمور العراق. وملكوا مائة عام من 323هـ إلى 421هـ حين انقرض ملكهم وهي السنة التي توفى فيها مسكويه، ربيبهمن وخازنهم، ومؤرخهم بل صديقهم الذي عاش في نعمائهم وترعرع في قصورهم فكان نعم الصديق الحكيم المشير.
تتلمذ على الرئيس أبو علي ابن سينا (توفي 428هـ 1036م) ولم يقدر الرئيس مواهبه، وليس هو بأول نابغة يخيب ظن الأساتذة فيه. وقد ذكره الرئيس في بعض كتبه قال (فهذه المسألة حاضرت فيها أبا على بن مسكويه فاستعادها كرات وكان عسر الفهم، فتركته ولم يفهمها على الوجه). هذا معنى ما قاله ابن سينا لأنني كتبت الحكاية من حفظي (كذا يقول ابن القفطي في أخبار الحكماء ص - 127).
أما أبو حيان في كتابه الإمتاع فقد وصفه بقوله (وأما مسكويه ففقير بين أغنياء، وغني بين أنبياء؟) (كذا) لأنه شاذ، وإنما أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوجي(790/13)
وقاطيغورياس من تصنيف صديقنا في الري (معجم الأدباء لياقوت ج5 - ص5).
واتصل مسكويه بكبار أدباء زمانه ومنهم ابن العميد واتخذه هذا خازناً لكتبه كما ذكره أبو حيان في كتاب الوزيرين، وراسل بديع الزمان الهمذاني وتدرج حتى صار خازناً للملك عضد الدولة بن بويه وكان مأمونا لديه أثيراً عنده وله مناظرات ومحاضرات. . .
على أن مسكويه لم يكن أديباً بارعاً فحسب بل كان مؤرخاً ممتازا فلقد ألف كتابه الشهير (تجارب الأمم) بلغ فيه إلى بعض سنة 372هـ وهو السنة التي مات فيها عضد الدولة بن بويه صاحبه وهو كتاب جميل كبير يشتمل على كل ما ورد في التاريخ مما أوجبته التجربة وتفريط من فرط وحزم من استعمل الحزم.
ولم تقتصر جهوده على الناحيتين الأدبية والتاريخية بل كان (فاضلاً في العلوم الحكمية متميزاً فيها خبيراً في صناعة الطب جيداً في أصولها وفروعها وله من الكتب كتاب الأشربة وكتاب الطبيخ).
ويقول عنه ياقوت في معجم أدبائه (ويظهر أنه كان مشغولا بطلب الكيمياء مفتوناً بكتب أبي زكريا وجابر بن حيان فلم يكن يلتفت لغير ذلك. وقد قطن العامري الري خمس سنين يدرس ويملي ويصنف ويروي، فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة، ويظهر أنه ندم على ذلك وأنبه أصدقاؤه. ومع هذا فهو ذكي حسن الشعر، نقي اللفظ، ويظهر أنه كان بخيلاً)!.
وقد ترك لنا صاحب الترجمة كتباً قيمة في الأخلاق والتربية والفلسفة منها (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) و (كتاب تهذيب الأخلاق) في التربية، و (الطهارة في تهذيب الأخلاق) و (الفوز الأصغر) و (لغز قابس) وكتاب (الفوز الأكبر) و (كتاب ترتيب العادات) الخ.
وله وصية أنهاها بهذه التذكرة وهو يدعو للعمل بموجبها، وهو تشتمل على أرقى المثل العليا وأسماها، وتلخص لنا فلسفته في الحياة ومذهبه في السلوك. وهي خمسة عشر باباً:
1 - إيثار الحق على الباطل في الاعتقادات والصدق على الكذب في الأقوال والخير على الشر في الأفعال.
2 - كثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائم بين المرء وبين نفسه. . .
3 - والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها. وأول ذلك ما بيني وبين الله جل وعز.(790/14)
4 - وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال.
5 - ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك.
6 - والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل.
7 - وحفظ الحال التي تحصل في شئ حتى تصير ملكة ولا تفسد بالاسترسال.
8 - والأقدام على كل ما كان صواباً.
9 - والإشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره.
10 - وترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي.
11 - وترك التواني، وترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا يشتغل بمقابلتهم، وترك الانفعال لهم.
12 - وحسن احتمال الغنى والفقر، والكرامة والهوان بجهة وجهة.
13 - وذكر المرض وقت الصحة، والهم وقت السرور، والرضا عند الغضب، ليقل الطغي والبغي.
14 - وقوة الأمل وحسن الرجاء.
15 - والثقة بالله عز وجل وصرف جميع البال إليه.
هذه الشخصية النابغة، قد تركت لنا آثاراً خالدة في الأدب والتاريخ، والكيمياء والطب والحكمة والأخلاق والفلسفة، تشتمل على ناحية مجهولة لم يشر إليها الكتاب قبل الآن على ما نعلم، تلك هي ناحية القصص.
فقد جاء في أخبار الحكماء لابن القفطي، أن من تصانيف ابن مسكويه كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار والفوائد اللطاف. ويصف لنا ياقوت في معجم أدبائه هذا الكتاب النادر فيقول (كتاب أنس الفريد، مجموع يتضمن أخباراً وأشعاراً وحكما وأمثالاً غير مبوب).
وقد لفت نظر هذا الكتاب، وخصوصاً وإن ابن القفطي يقول عنه أنه أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار، والفوائد اللطاف.
ولما كان هذا النوع من الأدب العربي نادراً أخذت أفتش عن هذا الكنز الضائع في مكتبات فلسطين ومصر، والأستانة وإيران الخ. واستعنت بقناصل تلك الدول وحكوماتها ولكن(790/15)
جهودي المتكررة لم تثمر مع الأسف حتى الآن.
إن الذي يكتشف لنا (كتاب الأنس الفريد) لابن مسكويه الخازن إنما يعثر على كنز ثمين، ويضيف ثروة أدبية قيمة إلى تراث السلف الصالح.
أحمد سامح الخالدي(790/16)
توبة المحروم!. . .
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
بقى في (نيويورك) يكدح وراء الرزق الشرود عشر سنين دأباً، ثم أصاب حظاً سعيداً بعد نحس، وارتجع مالاً كثيراً بعد بؤس، فعاد - وهو على عتبة الأربعين - إلى مسقط رأسه (الميناء) بلدتنا الهادئة المنعزلة التي توشك ألا تسمع فيها الأجمال الطبيعية، وألا تحفظ لها ألا الاستعصام بالتقاليد.
وما جداك أن أصف لك (ميناءنا) الجميلة، فما أراك راغباً في الوقوف على ما صنع الغنى بصاحبنا الذي أوى إلى بلدته بعد غيبة طويلة؛ فهل غردت له بلابل السعادة أغاريدها الحلوة، وهل هتفت له هتافاتها الناعمة، أم نعبت له غربان الحوادث بشقاء جديد، ولاعت قلبه بهوان شديد؟
علمت أنه كان في (مينائنا) قبل أن يتسع رزقة ويرفه عيشه مضرب المثل في قناعة العفيف، وعزة الشريف، سليم الفطرة معتدل المزاج حنيف الدين؛ فرجوت ألا ينقلب سهوان عن ماضية، ووددت لو أبقت يد غناه على ذكرى فقره فلم تمح صورتها من مخيلته، ولم تبدد آثارها في فؤاده، ولم تمر شجرتها أمام عينيه، وتمنيت أن يكون له من صدق الأريحية وكرم المهزة ما يذكره بالفقراء والمعوزين الذين لا عمل لهم في بلدتنا إلا في البحر، فلا يحرمهم من صدقات يوزعها، أو زكوات يؤديها، أو ثمرات يجبيها، أو مشروعات يحييها، أو مصانع يؤسسها، أو مدارس يفتتحها، أو ملاجئ ينشئها، وألا يكون المال قد أطغاه، وختم على قلبه فأعماه!.
ولم يكن رجائي إلا كرجاء الذي أراد أن يشم الريحانة فألفاها ذابلة، فما رضخت يده خيراً، ولا اصطنعت معروفاً، ولا كسبت معدوماً، ولا أعانت في نائبة، ولا ساعدت في خطب، وإنما نثرت المال على الهوى يمنة ويسرة، وفي الشهوة عيشاً وبكرة، حتى عادت صفراء خالية، وباتت على إسرافها باكية. . .
أبطره الغنى فعلمه العجب، وأفسده الفراغ فحجب إليه الطيش فأصبح سكران لا يصحون هيمان لا يعي، (غفلان لا يفيق)، وأضحى لا يحفل في الناس أحداً، ولا يقيم لكبير وزناً، ولا يرعى لصغير حرمة، ولا يرقب في ضعيف إلا ولا ذمة، وإنما كان ينظر إلى الجميع(790/17)
نظرة الفيل إلى البعوض أو الجمل إلى النمل، (لا يحس منهم من أحد ولا يسمع لهم ركزاً).
ومنذ ذلك الحين أمسى أهل بلدنا إذا أرادوا أن يصفوا الرجل الشهوان الذي ما ينفك يوبق جسده برغائبه، ويدسي نفسه بمعايبه، قالوا وهم يتخافتون: أهو أشد من فلان شهوة، وأكثر منه جهالة وصبوة؟!.
وأنى لهم السكوت على مآثمه التي جرها عليه بذخه وسرفه، ولهوه وعبثه، وإنه لم يكتف ببنان الهوى يركبهن سيارته الفخمة، وينتقل بهن في شوارع البلدة المحافظة تحت الأسماع والأبصار، ولم يقنع بالخمرة يتهالك على شربها أناء الليل وأطراف النهار، ولا بالموائد الخضر يرودها غير ملول، ولا بالليالي الحمر يواصلها غير خجول، ولا بداره التي استحالت ندياً للأشرار، ولا بشقاقه مع الأبرار والفجار، وإنما راح يكلل جميع ذلك بشرفه يدوس عليه، وبعرضه يفرط به، وبدينه يقصر فيه، وبوطنه يحقره، حتى أضحى شعور الناس لا يأتلف إلا مقته، وباتوا من كرههم له يديرون في أفواههم ألسنة حداداً تلعنه، وينظرون صيحة القدر الراصد تأخذه وهو يعمه في طغيانه، ويتباهى بعدوانه. . .
ولم يطل إملاء الله له واستدارجه، فما مضى عام واحد على طيشهُ ولهوه حتى خر من قفه المرفوع، وتهاوت من شجرته الجذوع والفروع، وغدت جنته الفتانة ذابلة الورود، ميتة الأعشاب، ساكتة البلابل (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول: يا ليتني لم أشرك بربي أحداً).
وصار الناس منه على شماتة الحاقدين، فما أدركت الشفقة عليه أحداً سواي - لا لأني أقرب رحماً، ولا لأني ألين قلباً - وإنما لشعور عنيف تملكني يؤمئذ وأخذ يهتف بي بلا انقطاع:
إن هذا لضحية! ولكن ويح نفسي إن بك مثل هذا الشهوان ضحية، فمن الجزار الذي ضحاه، وأين الساطور الذي ذبحه؟
وما عرفت الجواب إلا حين جمعتني بهذا المخلوق صلاة الجماعة فرأيته يدخل أول الناس ويبقى في تضرع واستغفار آخر الناس، فراعني مظهره وعجبت له فدنوت منه وقد استبد بي الفضول، ولم يحوجني هو إلى مقدمة لا تجدي فقد فهم غرضي فالتفت إلى وكأنما شعر نحوي بالاطمئنان وحدثني وهو يشرق بالدمع حديثاً كشف غنى الغطاء، فصار بصري فيه(790/18)
حديداً، وحكمي عليه سديداً.
وقلت لصاحبي وأنا أصف له الرجل:
- (أنه لضحية يا صاح، بيد أنه ضحية نفسه وهواه، فنفسه كانت جزاره الذي ضحاه، وهواه كان ساطوره الذي ذبحه، فهو في أيام فقره وبؤسه كان قانعاً قناعة المحروم، وفي أيام غناه وسعده كان بطراً بطر المنهوم، وهو لولا استفناؤه لما طفى، ولولا تخمته لما ثارت شهواته فبغى!.
وهكذا الإنسان يا صاحبي يقوده الطمع فيردى، وتعميه الشهوة فيخزى، ويسمع بالعبرة فلا يخشى)!.
ولكن هذا الرجل وعدني في بيت الله وهو ما زال عبران أن يتوب، ولست ارتاب لحظة في أنه قد أناب ولكني أتساءل ما تنفع التوبة إذا لم تكن إلا في ساعات الحاجة والحرمان؟.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح(790/19)
الشعر في السودان
للأستاذ على العماري
يقول الدكتور زكي مبارك في تقدمته لديوان الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير: (فما في بلاد الله مسلمون أصدق من مسلمي السودان، والإسلام قوة روحية سامية لا يمن الله بصفائها على غير المصطفين من عباده الأصفياء. يضاف إلى ذلك أنه عند السودانيين فضيلتين جوهريتين: فضيلة الكرامة، وفضيلة العدل، وتتمثل الأولى في اعتزازهم بأنفسهم اعتزازاً هو الغاية في شرف النفس، أما الفضيلة الثانية فتتمثل في صدق المعاملات؛ فمن النادر جداً أن يحتاج من يعامل تجارهم الكبار إلى الاستعانة بالقضاء). ثم يقول: (المسجد في السودان هو المسجد، ورواده هم المؤمنون، ومسلمو السودان هم البقية الصالحة من رواد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أجل هذا أغناهم الله بالمعاني، وأنزلهم منازل الكرماء).
وأنا أعرف أن الدكتور زكي لم يهبط أرض السودان، ولم يمتع نظره ومسامعه بمظاهر التدين عند مسلمي السودان، وإني محدثه - لو كان يسمع الآن ويقرأ - حديث الخبير، فما راء كمن سمع:
التدين في البلاد السودانية ظاهرة واضحة بارزة تراها في كل ما تقع عليه عيناك، فالأمانة الطبيعية غير المتكلفة، والأمن في الأنفس والأموال، وهذه الصلوت الخمس التي تقام جماعات في أوقاتها، في الأسواق العامة، وأمام حوانيت التجار، وكم ملأني غبطة وإعجاباً منظر المصلين في ساحة المحطة الوسطى بأم درمان، أو أمام حوانيتهم، يؤمهم أحد التجار، وهم بملابسهم البيض النقية خاشعين خاضعين لله، ثم الكرم الذي لا حد له، والإجلال لعلماء الدين. . . كل هذه مظاهر محببة للتدين العميق في نفوس القوم.
ويظهر هذا التدين بصورة واضحة في شغف السودانيين بالمدائح النبوية، فهي أناشيدهم يترنم بها عالمهم وجاهلهم، ويستمعون إليها، ويستمتعون بهان وربما كان المألوف إذا دعيت إلى وليمة أن يكون من تتمة الإكرام أن تسمع (مديحاً). والمداحون منهم المحترفون، وهؤلاء يدعون في المجتمعات العامة وفي المناسبات الدينية، كليلة الإسراء، أو ليلة القدر، وكثير من البيوت - هنا - تحيي ليالي رمضان بالمديح، ومنهم من دفعته رغبة شخصية،(790/20)
وآنس من نفسه جمالاً في الصوت، وقدرة على التنغيم والتلحين، وهؤلاء - يمدحون - غالباً في المجالس الخاصة. والمدائح - في أكثر الأحايين - بالشعر الذي قيل في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمداحون يعتمدون اعتماداً كبيراً على (المجموعة النبهانية) كما يعتمد أهل الحِلات والبوادي على أشعار عامية هي غاية في جودة المعنى، وحسن الأداء، ولها تأثير قوي، يهز المشاعر، ويحرك العواطف، وأشهر هذه المجموعات (ديوان أبى شِريعة)، ولهذا الديوان ميزة أخرى، ذلك أنه وثيقة هامة لمن يريد أن يدرس اللهجات العامية في السودان، ونصيحتي لكل من يريد أن يعالج هذا البحث أن يدرس هذا الديوان، وأن يدرس (طبقات ود ضيف الله) فإن فيهما غناء أي غناء في هذه الناحية.
ولا يفوتني أن أذكر أن المداحين المحدثين قد أخذوا ينحرفون عن إنشاد المدائح النبوية، ولكنهم لم ينحرفوا كثيراً، فهم يتغنون بالقصائد التي تتصل بالعروبة والإسلام، كأندلسية شوقي، ورثاء حافظ للشيخ محمد عبده، ووقفة على طلل لغنيم، وإن كنت سمعت في أيام العيد مدحاً يتغنى بقصيدة المتنبي (من للجآزر في زي الرعابيب). وقد - والله - أجاد، لكنه سأني جداً حين طلبت إليه أن يسمعنا مدحة نبوية، فقال إنه لا يحفظ من هذا النوع شيئاً.
ذكرت هذا كله لأمهد به للحديث عن غرض من أغراض الشعر في السودان، هو غرض غالب ذائع، ذلك هو المدائح النبوية، وإذا كنت في مقالي السابق قد وصفت الشعراء بالتقليد للشعر القديم، فإني أقرر هنا أنهم أصلاء في هذا الغرض، وإن كل ما قالوه من شعر فيه، فهو استجابة لعواطفهم الدينية، واستجابة لبيئاتهم التي أسلفت الحديث عن مظاهر تدينها، ولم أقرأ لشاعر هنا لم يجعل أكثر شعره في المدائح، وإن منها لشعراء نظموا دواوين كاملة في هذا الغرض كديوان (روض الصفا في مدح المصطفى) للعالم الكبير الشيخ أبي القاسم.
ولم يفت الشعراء أن يتحدثون عن تدينهم، واعتصامهم بالله، وبعدهم عن طرق الغواية والهوى، وحبهم في مديح الرسول، وارتياحهم له، ويقول الشيخ الطيب أحمد هاشم:
إن سار غيري للهوان وللهوى ... فإلى العلا والمكرمات أسير
أو سامر الناس الحسان جهالة ... فسميري القرآن والتفسير
ويقول الشيخ علي الشامي:(790/21)
إن طال ليلي فطول الليل يؤنسني ... إن كان غيري طول الليل يضجره
فإن لي في ظلام الليل مأثرة ... هي الصلاة إلى المولى فتقصره
ويقول الشيخ مجذوب جلال الدين:
إني لمن معشر كانت شمائلهم ... محبة المصطفى في السر والعلن
يلين قلبي لذكراه إذا تليت ... ويقشعر إذا ما رتلت بدني
كما لم يفتهم أن يتحدثوا عن زهدهم في الدنيا، ورضاهم فيها بالقليل، وحثهم الناس على القناعة، والبعد عن سفاسف الأمور وصغائرها؛ وهذا شاعر قديم عاش في السودان منذ قرنين من الزمن هو الشيخ فرح تكتوك، وقول صاحب (شعراء السودان) في ترجمته: (هو ولي صالح، وشيخ من الشيوخ التقاة وشاعر من كبار الشعراء، له من صفاء سيرته وسريرته ما يشهد بصلاحه وتقواه، وهو من قبيلة عرب البطاحين المشهورة في السودان، له في الحكم آيات بينات، وقصائده كلها في الوعظ والإرشاد، قلما ينظم في موضوع آخر إلا ما دعت إليه الضرورة). ومن شعره:
يا واقفاً عند أبواب السلاطين ... ارفق بنفسك من هم وتحزين
إن كنت تطلب عزاً لا فناء له ... فلا تقف عند أبواب السلاطين
واعلم بأن الذي ترجو شفاعته ... من البرية مسكين ابن مسكين
خل الملوك بدنياهم وما جمعوا ... وقم بدينك من فرض ومسنون
واستغن بالله عن دنيا الملوك كما ... استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
مالي أذل لمخلوق وأسأله ... ولو سألت الذي أعطاه يعطيني
فلقمة من طعام البر تشبعني ... وجرعة من قليل الماء ترويني
وقطعة من قليل الثوب تسترني ... إن مت تكفنني أو عشت تكسوني
وقد تناولت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر القصص التي ذكرت في السير، كما تناولت تمجيده وتمجيد أصحابه رضوان الله عليهم، وتتزاحم علينا الأشعار حين نريد أن نختار منها فلنكتف بقليل من كثير.
تناول الشاعران عبد الله حسن الكردي، وجلال مجذوب قصيدة الإمام البرعي التي مطلعها:(790/22)
خل الغرام لصب دمعه دمه ... حيران توجده الذكرى وتعدمه
فخمساها تخميسين أعجباني غاية الإعجاب، وبهذه المناسبة أقول أن التخميس والتشطير من الأمور الشائعة في الشعر السوداني، فمن تخميس الشيخ المجذوب:
يا من تطاول في وصل تنعمه ... ونام ملء جفون العين نومه
أهنأ فما أنت صب القلب مغرمة ... (خل الغرام لصب دمعه دمه
حيران توجده الذكرى وتعدمه)
شتان بين سمير الليل ساهرة ... ونائم غط من بدء لآخره
أتعذل الصب يشكو بُعد هاجرة ... (عذلته حين لم تنظر بناظرة
ولا علمت الذي في الحب يعلمه)
وينتهي من هذا الغزل إلى المديح فيقول:
لا تستوي في الهدى الأنوار والظلم ... ولا السميع كمن في أذنه صمم
أتاهم المجتبي شمساً وعنه عموا ... (حال السها غير حال البدر لو علموا
بل أهل مكة في طغيانهم عمهوا)
يا ضيعة العمر يا عظمى خسارته ... إن لم أشد رحالي نحو دارته
يا كل موصي وفيُّ في سفارته ... كم أستنيب رفاقي في زيارته
عنى، وما كل صب القلب مغرمُه)
ويقول الكردي:
أهوى النبي وأرجو من كرامته ... خيراً، وأطمع في عقبى شفاعته
ومن صبابة قلبي في مقامته ... (كم أستنيب رفاقي في زيارته
عني، وما كل صب القلب مغرمة)
ويتصل بهذه المدائح شعر كثير في ذكرى المولد النبوي، وفي ذكرى الهجرة، وفي ذكرى غزوة بدر، وفي المناسبات الإسلامية المختلفة، وليس أدل على سيادة هذا الغرض وقوته، من أن شعراء غير مسلمين يقولون في الأغراض الإسلامية، ومن ذلك قصيدة الشاعر صالح أفندي بطرس في الحث على العناية بجامع أم درمان، ومنها:
يا مسجداً مطلت بنوه بعهده ... حتى غدى وهو الحسير المعدم(790/23)
بدأوك جوداً بالصنيع وأحجموا ... ما كان أولى أن ذاك يتمم
بيننا تشيد إذ وقفت كأنك الط - لل المحيل عفاه هام مرهم
أترى المساجد في القديم تشاد في ... أبهى الشكول فمذهب ومرخم
وتراك تعجزهم بأن تبني بآ - جر وتسقف (بالعروق) وتردم
علي العماري
مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بام درمان(790/24)
عالم الغيب:
الجن في منطق الأساطير
للشيخ محمد رجب البيومي
أما العامل المادي فقد كان ذا أثر ملموس في شيوع الخرافات حيث كانت البادية مورداً تجاجاً لما انتشر على الألسنة من الأساطير وطالما وفد إليها المتندرون والمتظرفون، يستعلمون ويستنبؤن. وإن أحدهم ليصحب البدوي إلى حاضرته ليقص على أصحابه وذويه ما يتقنه من الترهات إزاء أجر ثمين، وطبيعي أن يلجأ الأعرابي إلى الافتعال، لتنفق بضاعته، فتملأ حقيبته، وهنا يطلق لخياله العنان فيزعم أنه رأى الشيطان مرة فاستضافه وأنشده الشعر، ومرة أخرى فحاربه وصرعه، وكلما كان البدوي شديد المبالغة في حديثه كان أخف موقعاً في القلوب، وأسلس مقادة للعقول، فإذا أخذ نصيبه المادي ورجع إلى خيمته عكف على اعتمال الأباطيل ليكون على أتم استعداد إذا طلب مرة أخرى للسمر والاستمتاع!!.
ويجدر بنا أن نشير إلى ما شاع لدى العرب من تأثير الجن في الأجسام، فإذا مرض منهم مريض لجئوا إلى العرافين ومن بقي من ذوي الكهانات، وهؤلاء لا يرعون في الناس حرمة أو ذمة بل يجسدون الأوهام، ويبلبلون الخواطر، فيزعمون أن بالمريض مساً يجب أن يتدارك، ويطلبون الأجور المرتفعة جزاء ما يقرءون من التعاويذ الكاذبة، وما يصنعون من الرقي الباطلة. وقد يعشق البدوي فتاة تنتزع فؤاده من أضالعه، وتخطف عقله من رأسه، فيأتي به ذووه إلى العراف فيلجأ أيضاً إلى التمائم والتعاويذ، وكأنه يرى مريض القلب لا يختلف عن مريض الجسم، فيجعل الدواء واحداً لكِلا الرجلين، وقل في الجهالة ما تشاء!!.
وقد يبالغ بعض العرافين فيزعم أن الجن تعشق الإنس عشقاً مبرحاً وأن الجنية تلاقي الصد والتيه ما يلقاه الإنسي، فإذا تمكنت الصبوة من فؤادها، سلب رشادها، وتبددت قوتها، فيمر بها قومها من الجن فيسألون عنها، فيقال مسها إنسي كما يقال لم صرع من الإنس مسه جني، والطيب في كلتا الحالتين هو العراف الأثيم!!.
ولا يترك الفقهاء هذا الباب حتى يؤيدوه بما يعن لهم من الأدلة، ونحن نعلم الخلاف(790/25)
العريض بين أهل السنة والمعتزلة في الصرع والمس حيث قد ذهب الفريق الأول إلى حدوث ذلك، وقد استشهدوا بحديث رواه البخاري، كما أجاز بعض الحنفية زواج الجنية من الإنسي!! قال الجاحظ (وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس لقوله تعالى وشاركهم في الأموال والأولاد؛ وهذا ظاهر لأن الجنيات إنما تتعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق في طلب الفساد، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء. قال تعالى لم يطمثهن إنس قبله ولا جان، ولو كان الجان لا يفتض الآدميات ولم يكن ذلك في تركيبه، لما قال الله تعالى ذلك القول).
وهذا قول لا يدري حقه من باطلهن وإلا فكيف نقول لمدنف عاشق يهوى فتاة معنية باسمها وصفتها إن به مسا من الجن!! ولماذا يزول المس إذا اقترن بمحبوبته الإنسية؟ وأين الجنية المزعومة إذن؟ كل هذا تدجيل صارخ فطن إليه من قال.
وقالوا به من أعين الجن نظرة ... ولو علموا قالوا به أعين الإنس
وكم في الحياة من أكاذيب!!
بقى أن نتحدث عن العوامل الأخلاقية، وهي ذات الحظ الأوفر في اختلاق الأساطير، لأنها ترجع إلى عامل واحد، هو الافتخار بالمواهب؛ وقد شاع لدى العرب أن الجن متقدمون عن الإنس في كل شئ، فهم مصدر الإلهام في الشعر، ومنبع الوحي في البيان، وهم أولو البأس في القتال والصيال، وهم سلاطين الصحراء وأمراؤها، يستأذنون فيأذنون، ويأمرون فيطاعون. كل أولئك قد جعل أصحاب الزهو والخيلاء يزعمون أنهم يفوقون الجن في مواهبهم، ويزاحمونهم بمنكب ضخم في مناقبهم، وما من دليل سوى الأساطير المزعومة يخلقا أولو الفخر الكاذب فيتناقلها الناس على ممر العصور!!.
فالشاعر مثلاً يرى أن منزلته لا تعظم في قبيلة إلا إذا زعم أن الجن تلهمه ومن ثم يتجه إلى وادي عبقر كل يوم حيث يصعد إليه الوحي من الأرض، بدل أن يهبط عليه من السماء!! ونحن ننظر فنجد ذا الرمة وأبا النجم، ورؤية والأعشى وغيرهم يدعون أقرانهم من الشياطين، هم ناظمو القصائد ومبدعو المعاني والأساليب، وربما سمى الشاعر قرينه باسم معين، وذهب يفتخر به في كل ناد، كما قال الأعشى في قرينه (مسحل).
وما كنت شحذوذا ولكن حسبتني ... إذا مسحل يسدي لي القول أعلق(790/26)
شريكان فيما بيننا من هوادة ... صفيان، إنسي وجن موفق
وصحائف الأدب مليئة بما يماثل ذلك، وربما كان أصل هذه الفكرة لدى العرب أن شاعراً حسد زميله في إبداع، فأدعى أن الشيطان هو الذي يجري البيان على لسانه، وفي جمهرة أشعار العرب أساطير تؤيد ما نقول، ومن ذلك ما زعمه ابن المرزوي عن أبيه أنه مر على جماعة ظباء في سفح جبل، فرأى شبحاً ذا منظر غريب فارتاع من، فقال له اذكر الله ولا تخف ثم سأله: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ فقال المرزوي: نعم وأخذ يروي له شعر عبيد بن الأبرص!؟ فسأله الشيخ من قائل هذا الشعر؟؟ فقال: عبيد، فتهافت وقال: ومن عبيد، لولا صاحبه هبيد؟! ثم شاعت بهذه الخرافات فكرة الأخذ عن الجن فكان كل شاعر يأتي بعد ذلك يزعم أن له قرينا، بل ميز شيطانه بخصائص لا توجد في غيره، كما زعم أبو ألنجم وشركاؤه. وأتى من الراوة من بسط الحبل على امتداده، فقيض لكل شاعر أنجبته الجاهلية شيطاناً فهو له قرين، وإن لم يعترف به الشاعر نفسه، فلا قط قرين امرئ القيس، وهاذر صاحب النابغة، وجهنام شيطان عمرو بن قطن وغير هؤلاء لا يحصون!!.
هذا في الشعر والأدب؛ أما الافتخار بالشجاعة فقد أورث العربية تركة مثقلة بالخرافات، فكل صعلوك يزهى ببسالته، ويختال ببطشه، يختلق من الأساطير ما يؤيد دعواه، فيزعز أنه حارب الجن، ولقى السعلاة فضربها بسيفه، وامتطى الغول في البيداء، وقد زعم صاحب الأغاني أن ثابت بن جابر لقي الغول في ليلة دامسة، فأخذت عليه الطريق، فلم يزل بها حتى قتلها وبات عليها، فلما أصبح حملها تحت إبطه وجاء بها إلى أصحابه فقالوا له لقد تأبطت شراً، فلقب بهذا القول وعرف به لدى الجميع.
ومهما يكن من شئ فإن تأبط شراً قد أكثر من الحديث عن الجن إكثاراً لم يتح لغيره. وكأنه رأى في انتصاره الموهوم على الغول ما يبرر له كل اختلاق، فذكر في شعره محاورة قامت بينه وبين غول ضربها ضربة واحدة بسيفه، فقالت له: ثن الضربة، فأبى كيلاً تعود لها الحياة إذا ضربت مرة ثانية حسب اعتقاده، كما زعم أنه قابل وفداً من الجن فأشعل النار ونحر الذبائح ودعاهم إلى الطعام، فذكروا أنهم يحسدون عليه الإنس فهم لا يأكلون كما نأكل، اسمعه يقول من أبيات.
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما(790/27)
فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم تحسد الإنس الطعاما
لقد فضلتمو بالأكل عنا ... ولكن ذاك يعقبكم سقاماً
وقد ابتلى تأبط شراً بمن كذب دعواه، فزعم أنه نزل بشعب وادي الجن فرأى وجوها صباحاً وسُما، فنحر لهم مطيته ليأكلوا من طيباتها المشتهاة ذلك هو جذع بن سنان الفساني إذ يقول.
نزلت بشعب وادي الجن لما ... رأيت الليل قد نشر الجناحا
أتوني سافرين فقلت أهلا ... رأيت وجوهكم وسُما صباحاً
نحرت لهم وقلت ألا هلموا ... كلوا مما طهيت لكم سماحاً
وقد لا يكتفي الصعلوك بأن يفخر بنفسه بل يتعدى ذلك إلى قبيلته، فيزعم أنها حاربت الجن، فانتصرت انتصاراً رفعها إلى ذروة عالية من المجد. قال أحد الأفاكين من بني سهم: ذهب جني يطوف بالبيت فعرض له شاب من بني سهم فقتله، فثارت بمكة غبرة لم تبصر لها الجبال - وإنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن - فأصبح من بني سهم على فرشهم موتى كثير من قبل الجن، فكان فيهم سبعون سيخاموي الشباب، فنهضت بنو سهم وحلفائها إلى الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا خنفساء، ولا شيئاً من الهوام يدب على الأرض إلا قتله وأقاموا على ذلك ثلاثا، فسمع في الليلة الثالثة هاتف يهتف بصوت جهوري، يا معشر قريش اعذرونا من بني سهم فقد قتلوا منا أضعاف من قتلنا منهم فأصلحوا ما بيننا، ففعلت ذلك قريش، وسميت بنو سهم (قتلة الجن).
وكثير من مسطري هذه الأخبار - في القديم - من يملأ بها الصحائف دون أن يلفت الأنظار إلى مبلغها من الافتراء وكأنه يرى من الأمانة العلمية أن يذكرها كما تلقفها من الأفواه، أو نقلها عن الأسفار بدون تعليق يضع الحق في نصابه، بل لعله يتصب لها تعصباً يترك القارئ في شك من أمره، ولكن الحق لا يعدم أنصاره في كل زمان ومكان، فكما وجد جماعة من الفقهاء ينشيعون لهذه الأساطير، فقد وجد منهم آخرون يفتدونها أتم تفنيد، قال ابن حزم عن الجن: (ومن ادعى أنه يراهم أو رآهم بالفعل فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء) وقال أبو إسحاق المتكلم فيما رواه عنه الجاحظ (وأصل هذه الفكرة أن القوم تأثروا بوحشة بلادهم، ومن أقام بالصحراء منفرداً استوحش وابتلى بالوسوسة، وتمثل له الشيء(790/28)
الصغير كبيراً، فإذا اشتملت عليه الغيطان، وسمع صياح بومة أو مجاوبة صدى، تصور في نفسه كل باطل. وربما كان أحدهم كذاباً فيأتي بشعر يزعم فيه أنى رأي الغيلان وكلمها ثم يتجاوز ذلك، فيقول قتلتها، ثم يتجاوز ذلك فيقول رافقتها وتزوجتها) ويستفيض حديثه بين الناس فتسيل به الأندية والمجتمعات)!.
هل عرفتم مصرع حرب بن أميه؟؟ فقد خرج في نفر من قومه فاعترضتهم حية خبيثة فقتلها وكانت من الجن - فجاءت حية أخرى فطالبت بالثأر، وقام بين الفريقين معركة طاحنة قتل فيها حرب، ودفن حيث وافته منيته فقالت فيه الجن.
وقبر حرب بمكان ففر ... وليس قرب قبر حرب قبر!
وهل علمتم أن سيد الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه أصيب بسهمين قاتلين من الجن ففاضت روحه الكريمة إلى بارئها العظيم؟ ثم رثوه بعد ذلك بشعر نائح! وهل سمعتم أن الغريض غنى بالبادية صوتاً مؤثراً فحسده الجن وقتلوه!؟ وهل تدرون أن أمية بن أبي الصلت تعرض ليهودية من الجن، فبرص أعلاه واسود أسفله. هذا رذاذ من وابل هطال تتدفق به الأساطير!.
إن في هذه الخرافات لمتعة عجيبة، وأخشى أن أدعو إلى تذوقها تذوقا فنياً يكشف عن طرافتها الغريبة، فأجد - في القرن العشرين - من يميل إلى تصديقها من الناس! ولم لا يكون ذلك والغباوة تسير مع الزمن في خطوة السريع!.
رحم الله أيام الطفولة، فقد ملأت مخيلتي بآلاف مولعة من هذه النوادر، وكنت أسمعها في لذة ومتعة، فأترنح من السرور كمن مالت بقامته نشوة السلاف! فأين مضى هذا العهد الحالم، وكيف عصفت به ريح الزمان!!
أقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هُجرت ذميم
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(790/29)
الفتوة في اللغة وكتب الأدب وحياة الفتيان في
الجاهلية وعصور الإسلام
نقص قواميس اللغة العربية وقصورها عن تحديد المعاني
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
ولنقتطف من ديوان الحماسة اختيار أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، وقد شرحه الشيخ أبو زكريا التبريزي الشهير بالخطيب وكان تلميذاً للمعري.
قال النابغة الجعدي:
ألم تعلمي أني رزئت محارباً ... فما لك منه اليوم شئ ولا ليا
(فتى) كملت خيراته غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا
قال الخطيب في شرحه أنه يخاطب صاحبته أم محارب وقوله ألم تعلمي: ظاهرة تقرير، وإنما هو توجع وتلهف على ما فاته من المرثى محارب ابنه.
وقال ابن أهبان الفقعسي يرثي أخاه
على مثل هما تشق جيوبها ... وتعلن بالنوح النساء الفواقد
(فتى الحي) إن تلقاه في الحي أو يرى ... سوى الحي أو ضم الرجال المشاهد
طويل نجاد السيف يصبح بطنه ... خميصاً وجاديه على الزاد حامد
قال الخطيب جادية الذي يجتديه، ويطلب منه جعل الفتوة والرئاسة مسلمة له في كل حال وعلى كل وجه ألا ترى أنه قال هو الفتى بين رجال الحي وعند لقائك إياه فيهم وقوله أو يرى سوى الحي، أي في مكان آخر وفي قوم آخرين بدلا من الحي وقوله أو ضم الرجال المشاهد معناه وهو الفتى إذا حصلت وفود القبائل في مجامع الملوك وقال سلمة الجعفي يرثي أخا
أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر
ألم تعلمي أن لست ما عشت لاقيا ... أخي إذ أتى من دون أوصاله القبر
(فتى) كان يعطي السيف في الروع حقه ... إذا ثوب الداعي وتشقى به الجزر
(فتى) كان بدينه الغني من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر(790/30)
قال الخطيب ثوب الداعي أي دعا واصل التثويب أن يكون الرجل في مفازة لا يهتدي بها فيلوح بثوبه فربما رآه إنسان فيهديه وينجيه ثم استعمل في غيره.
وقال سالم بن وابصة الأسدي:
أحب (الفتى) ينفي الفواحش سمعه ... كأن به عن كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى ... ولا مانعاً خيراً ولا قائلا هجرا
وقال زياد بن حمل:
كم فيهم من (فتى) حلو شمائله ... جم الرماد إذا ما أخمد البرم
قال الخطيب كم للتكثير وموضعه رفع بالابتداء وخبره من فتى وجم الرماد كثيرة ولا يكثر الرماد إلا لكثرة الغاشية والأضياف والبرم الذي لا يدخل مع القوم في الميسر (نوع من القمار) والمراد إذا أخمد البرم النار لبخله.
وقال العريان:
ورحت إلى دار امرئ الصدق حوله ... مرابط أفراس وملعب (فتيان)
ومنحر مئناث يجرُّ حُوارُها ... وموضع إخوان إلى جنب إخوان
قال الخطيب: وملعب فتيان، لأنهم يجتمعون عنده لسخائه وقوله: يجر حوارها، لأنها تجزر وهو في بطنها فيجره من بطنها وروي في الحماسة ولم يذكر قائلهما:
وليس (فتى الفتيان) من جل همه ... صبوح وإن أمسى ففضل غبوق
ولكن (فتى الفتيان) من راح أو غدا ... لضرِّ عدوّ أو لنفع صديق
وقد اعترض علينا الأستاذ محمد عبد القادر، حيث أننا لم نذكر القائل وقد استشهدنا بالبيت الثاني أخذناه من تاج العروس ولم يذكر قائل البيتين في ديوان الحماسة إلا أن الخطيب التبريزي في شرحه بعد أن قال الصبوح شرب الغداة والغبوق شرب الخمرة في العشى. روى الأصمعي أن أكثم بن صيفي قال: اصحبْ من الإخوان منْ إن صحبته زانك، وإنْ خدمته صاتك، وإن اختللت عانك، إن رأى منك حسنةً جازاكَ عليها، أو سقطةٍ أغضى لك عنها، لا تختلف عليك طرائقه، ولا تخشى بوائقه. ثم أنشد البيتين: وليس فتى الفتيان الخ. ومن هذا يتبين قدمهما وصحة الاستشهاد بهما.
وقال أبو كبير الهذلي (عويمر بن حليس أحد بني سعد بن هذيل)(790/31)
ولقد سريت على الظلام بِمغشَم ... جَلْدٍ من (الفتيان) غير مُثقل
قال: سرى وأسرى بمعنى واحد، وعلى الظلام: أي في الظلام ويجوز أن يكون وعلى الظلام في موضع الحال أي وأنا على الظلام أي راكب له، والمغشَم من الغشَم: وهو الظلم، فإن قيل إذا كان السرَى لا يكون إلا ليلا، فلم قال على الظلام، ولم جاء في القرآن الذي أسرى بعبده ليلا؟ قيل المراد توسط الليل والدخول في معظمه، والجلد: الصلب القوي. وقوله غير مُثقل: أي كان حسن القبول محبباً إلى القلوب، قال، وقال أبو رياش (المغشم) الذي يغشم الأمور ويخلطها من غير تمييز، وقيل المِغشم ههنا: من إذا اختفى عليه الطريق اعتسف أي ركب الطريق على غير هداية ولا دراية.
وروى في الحماسة لامرأة من طيء:
دعا دعوة يوم الشرى يا لمالك ... ومن لا يُجَبْ عند الحفيظة يكلم
فيا ضيعة (الفتيان) إذ يعتلونه ... ببطن الشرى مثل الفنيق المسدَّم
(الشرى مكان، والحفيظة الغضب أي استغاث هذا الرجل بهذا الموضع فلم يجب، وقولها يكلم: كناية عن الغلبة والقتل، والعتل: القود بعتف، يقال عتله يعتله، ويا ضيعة الفتيان: لفظه لفظ النداء ومعناه الخبر كأنها قالت ضاع الفتيان جداً إذ كان أعداؤه يعنفون في قودهم إياه وهو كأنه فحل مشدود الفم خوفاً من صياله، والفنيق: الفحل، والمسدَّم: المشدود الفم الهائج الممنوع، وإنما يفعل به ذلك إذا هاج خوفاً من فضاضه.
وقال جابر بن ثعلب الطائي:
وقام إلى العاذلات يلمنني ... يقلن ألا تنفك ترحل مرحلا؟
فإن (الفتى) ذا الحزم رامٍ بنفسه ... جواشن هذا الليل كي يتمولا
وتزري بعقل المرء قلة ماله ... وإن كان أسرى من رجال وأحولا
(أي لا تزال ترتحل ارتحالا ومرحلا انتصب على المصدر وجواشن الليل صدوره وأوائله وأحواله أكثر حيلة).
وقال أبو النشناش:
فللموت خير للفتى من قعوده ... عديماً ومن مولى تدب عقاربه
(أي الموت خير للرجل من قعوده راضياً بفقره وبإفضال مولى يؤذيه بالمن، ودبيب(790/32)
العقارب: كناية عن الأذى وانتصب عديماً على الحال.
وقال آخر:
إذا القوم قالوا من فتى لعظيمة؟ ... فما كلهم يدعى ولكنه الفتى
فهذه النصوص الأدبية أظن أن فيها الكفاية لمن ارتاب في دلالة فتى على الشهامة والفروسية، ونود أن ننبه القارئ الكريم إلى أن الفتوة في العصر العباسي كانت تطلق على اجتماع بعض المياسير على اللهو واللذات تجمعهم الملاهي والعبث والترف والسماع، فقد وصف عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع حال الفتيان الذي كان يعاشرهم فقال:
في فتية بذلوا في القصف ما ملكوا ... وأنفقوا في التصابي العرض والنشبا
وجاء في (نهاية الأرب) فيمن شرب الخمر واشتهر بها، (ومنهم والبة بن الحباب الأسدي وهو الذي ربى أبا نواس وعلمه الفتوة وقول الشعر) ويفسر لنا أبو نؤاس تلك الفتوة التي درسها على والبة بقوله:
ما استكمل اللذات إلا فتى ... يشرب والمرد نداماه
هذا يغنيه وهذا إذا ... ناولهُ القهوة حياه
وقوله:
متيمُ القلب معناه ... جادت بماء الشوق عيناه
إن كان أبكاك الهوى مرة ... فطالما أضحككَ اللهُ
لا خير في العاشق إلا فتى ... لاطف مولاه وداراه
ودَافع الهجر وأيامه ... فالوصل لا شك قصاراه - (أي غايته)
وروى النواجي في حلبة الكميت أن أبا الهندي كان منهمكا في الخمر مغرماً بالشرب، ودخل حانة خمار فشرب عنده إلى أن غلب عليه السكر فنام، ودخل جماعة (فتيان) فرأوه على تلك الحالة فقالوا للخمار ما حال هذا؟ قال طيب العيش قالوا فألحقنا به فسقاهم حتى انتهوا إلى حاله فانتبه أبو الهندي فرآهم فقال للخمار ما حال هؤلاء؟ فقال مبسوطون، قال فالحقني بهم، فسقاه حتى لحق بهم، وانتبهوا فقالوا مثل ذلك إلى أن مضت عليهم عشرة أيام ولم يلتق بعضهم ببعض ثم أنشد أبو الهندي:
ندامى بعد عاشرة تلاقوا ... تضمهم (الفتوة) والسماح(790/33)
نقيم معاً وليس لنا تلاق ... بيت ما لنا منه براح
وجاء في الأغاني (وبع وفاته كان الفتيان يجيشون إلى قبره ويصبون القدح إذا انتهي إليه على قبره) وجاء في مسالك الأبصار عن حانة عون (أن عوناً كان ظريفاً طيب الشراب نظيف الثياب وكان فتيان الكوفة يشربون في حانوته ولا يختارون عليه أحداً).
وجاء في حلبة الكميت قال السري الرفا الموصلي:
وفتية زهر الآداب بينهم ... أبهى وأبهج من زهر الرياحين
مشوا إلى الراح مشى الرخ فانصرفوا ... يمشون من شربها مشى الفرازين
(في المنجد الرخ طائر وهمي كبير وأيضاً قطعة من قطع الشطرنج الجمع رخاخ ورخخة: وفرازين جمع فرزان وهي الملكة في لعب الشطرنج).
وبدهى أن الفتوة في النصوص الأخيرة لم تستعمل في المعاني التي استعملت فيها إشعار الحماسة وغيرها التي تقدمت، وإنما استعملت في معنى الانغماس في اللهو والسكر والسماع، وقد نسب الثعالبي في كتابه (الخاص للخاص) بيتين للأعشى أورد فيهما (فتى) في ذلك المعنى فقال:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس إني (فتى) ... أتيت المروءة من بابها
وقد أكثر في الأغاني استعمال الفتوة في هذا المعنى فقد جاء في الجزء السابع وكان الوليد بن يزيد من (فتيان بين أمية) وظرفائهم وشعرائهم وأجدادهم وأشدائهم، وكان فاسقاً خليعاً متهماً في دينه مرمياً بالزندقة وشاع في أمره وظهر حتى أنكره الناس فقتل.
وعن الوليد أيضاً أنه أبلغه أن جماعة من بني مروان يعيبونه بالشراب فلعنهم وقال أنهم ليعيبون على ما لو كانت لهم فيه لذة ما تركوه وقال هذا الشعر وأمر عمر الوادي أن يغني فيه وهو من جيد شعره ومختاره:
ولقد قضيت وأن تجلل لمتى ... شيب - على رغم العدا لذاتي
من كاعبات كالدمى ومناصف ... ومراكب للصيد والنشوات
في (فتية) تأبى الهوان وجرههم ... شم الأنوف حجاحج سادات
أن يطلبوا بتراثهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بتراث(790/34)
وفيه كان الهذلي النقاش يغدو إليه (فتيان قريش) وقد عمل عمله بالليل ومعهم الطعام والشراب والدراهم فيقولون غننا الخ وقد قال فيه في التعريف بالهذلي هاذ أنه سعيد بن مسعود كان ينقش الحجارة بأبي قبيس (جبل في الحجاز) وكان فتيان من قريش يروحون إليه كل عشية فيأتون بطحاء يقال لها بطحاء قريش فيجلسون عليها ويأتيهم فيغني لهم ويكون معهم.
وفي الأغاني أن وضاحاً هوى امرأة يقال لها روضة، فذهبت به كل مذهب وخطبها فامتنع قومها من تزويجه إياها وعاتبه أهله وعشيرته فقال في ذلك:
يا أيها القلب بعض ما تجد ... قد يعيش المرء ثم يتئد
قد يكتم المرء حبه حقباً ... وهو عميد وقلبه كمد
ماذا تريدين من (فتى غزل) ... قد شفه السقم فيك والسهد؟
حديث الأصمعي عن الخليل بن أحمد أن وضاحاً كان يهوى امرأة من كندة يقال لها روضة.
وجاء في الأغاني عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: دخلت الري فكنت آلف (فتياناً) من أهل النعم وهم لا يعرفونني فطال ذلك عليَّ إلى أن دعاني أحدهم ليلة إلى منزله فبت عنده فأخرج جارية له ومد لها ستارة فتغنت خلفها فرأيتها صالحة الأداء كثيرة الرواية فشوقتني إلى العراق وذكرتني أيامي بها فدعوت بعود فلما جئ به اندفعت فغنيت صوتي في شعري.
أنا بالري مقيم ... في قرى الري أهيم
وقد كنت صنعت هذا اللحن قديماً بالري فخرجت الجارية من وراء الستارة مبادرة إلى فأكبت على رأسي وقال أستاذي والله فقال لها مولاها أي أستاذيك هذا؟ قالت إبراهيم الموصلي فإذا هي إحدى الجواري اللاتي أخذن عني وطال العهد بها فأكرمني مولاها وبرني وخلع على فأقمت مدة بعد ذلك بالري وانتشر خبري بها ثم كتب بحملي إلى والي البلد فأشخصت.
فترى أن كلمة (فتيان) فد استعملت في العصر العباسي وأريد بها إخوان الطرب الذين جمعتهم العشرة على موائد اللذات فهؤلاء الفتيان الذين تعطينا القصص صورة مصغرة(790/35)
لحياتهم في العصر العباسي كانوا إخوان لهو وسكر وعربدة وهذا ما يحدد حياة الفتوة في ذلك العصر المترف كما توضح معالمها هذه القصص المنشورة في مجلدات الأغاني وغيرها من كتب الأدب وإليك صورة أخرى لحياة الفتوة الخليعة في العصر الأموي، جاء في الأغاني في أخبار الدلال أنه من ظرفاء المدينة في العصر الأموي وكان جميلا حسن البيان، ومن أحضر الناس جوابأ وأحجهم. وكان سليمان بن عبد الملك قد رق له حين خصي غلطاً قال وأن الدلال خرج يوماً مع (فتية من قريش) في نزهة لهم وكان معهم غلام جميل الوجه فأعجبه وعلم القوم بذلك فقالوا قد ظفر نابه بقية يومنا، وكان لا يصبر في مجلس حتى ينقضي وينصرف عنه استثقالا لمحادثة الرجال ومحبة في محادثة النساء فغمزوا الغلام عليه وفطن لذلك فغضب وقام لينصرف فأقسم الغلام عليه والقوم جميعاً فجلس وكان معهم شراب فشربوا وسقوه وحملوا عليه لئلا يبرح ثم سألوه وعلا نعيرهم فنذر بهم (علم) السلطان وتعادت الأشراد (تعادت من العدو وهو سرعة الجري) فأحسوا بالطلي فهربوا وبقى الغلام والدلال وما يطيقان براحاً من السكر فأخذا فأتى بهما أمير المدينة الخ فترى حياة هؤلاء الفتيان حياة تحلل من قيود العرف وتهرب من أحكام الشرائع الأدبية المتعارفة في عصرهم وهذا نموذج لحياة الفتوة في العصر الأموي وإذا تراجعنا للعصر الجاهلي فإن طرفة يحدثنا عن فتوته في معلقته والأعشى في بيتيه المتقدمين وتجد الفتوة إذ ذاك مزيجاً من الطرب والأنس والفروسية والنجدة وقد تكون نجدة وشهامة ورجولة كاملة لا غير كما في أشعار الحماسة التي أوردنا.
ومن هذا ترى أن الفتوة قد اختلف الناس باختلاف العصور والأزمان والبلدان - في فهم معناها ولولا ضيق الوقت لأتينا على عرض تاريخي مفصل للفتوة في الجاهلية وعصور الإسلام. إذ اقتصر حديثنا هذا على استعراض ما عثرنا عليه من النصوص الأدبية الموثوق بها لإثبات دعوانا السابقة من دلالة الفتوة على الشهامة والفروسية والنبل وكمال خصائص الرجولة، وعسى أن ننال ثقة الناقد الكريم وهل ندري هل يزيف شواهدنا أيضاً؟ أم يغضي على مضض وفي الغين قذي وفي الحلق شجا: الحق أن معنى (فتى) قد تجلى ولا غبار بعد اليوم عليه، وقد وضح الصبح لذي عينين والذي استهدفته من إطالة الحديث إعطاء القراء مثلا محسوساً لنقص كتب اللغة وعدم شرحها معاني المفردات كما هي إذ قد(790/36)
رأيت في مقالي الأسبق في العدد (782) أنها أجمعت على تفسير كلمة فتى بالرجل الكريم السخي ولم تلوح كلها أو جلها إلى ما تضمنته الكلمة من معاني الجلد والفروسية والنجدة والبطولة واستكمال مزايا الرجولة وصفات الشهامة في حين أن النصوص الموثوق بها والتي وضعتها بين يديك تصرح في تكذيب قواميس اللغة، ورميها بأنها سطحية لا تمنح الألفاظ إلا لمحة الطائر وفطنة العجلان).
ضياء الدخيلي(790/37)
أوراق مطوية:
كل شئ إلى زوال
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
كل شئ إلى زوال ... فاسقني خمرة الجمال
لا تكلمني إلى غد ... إنه في دمى خيال
أنا لو كنت خالداً ... ما تعجلتك الوصال
هل ترى الصبر نافعاً ... لمقيم على ارتحال؟
إنما العمر خطوة ... كخطا الريح في الرمال
فاسقني خمرة الجمال ... كل شئ إلى زوال!
أترى ذلك الضياء ... رائع السحر والبهاء؟
يملأ القلب فرحة ... ونزوعا إلى السماء
ويوافيه بالمنى ... وبأحلامه الوضاء
ويغنى فتبعث الطي ... ر له أعذب الغناء
سوف يمضى كما أتى ... حينما يقبل المساء!
فاسقني خمرة الجمال ... كل شئ إلى زوال!
أترى ذلك المساء ... رائع الصمت والخفاء!
يملأ النفس رهبة ... دونها رهبة الفناء
فهو بحر بلا ضفا ... ف، وأفق بلا انتهاء
وهو نوم وراحة ... وهو سهد على بكاء
سوف يمضى كما أتى ... حينما يقبل الضياء
فاسقنى خمرة الجمال ... كل شئ إلى زوال!
والربيع الذي تراه ... يتهادى على رباه
فتغنى به الدني ... وتغنى له الحياة
سوف يمضى كأنه ... أرج الزهر أو نداه
فإذا الزهر ذابل ... من بكاء على شذاه(790/38)
وإذا النهر غائر ... بعد ما فاض شاطئاه
فاسقني خمرة الجمال ... كل شئ إلى زوال!
والشباب الذى يطيب ... نفح ريحانه الرطيب
وترى حوله المنى ... كفراش على لهيب
سوف يمضى مشيعاً ... كل ما فيه بالنحيب
ثم يأتي بيأسه ... دونها وحشة الغريب
فاسقني خمرة الجمال ... كل شئ إلى زوال!
سوف أحيا مع الشباب ... بين أحلامه العذاب
فإذا الجسم في الثرى ... وإذا الروح في السحاب
وإذا بي مع الهوى ... كأغان على رباب
أبصر النور في الدجى ... وأرى الماء في السراب
إنما الحب ساحر ... يبدع الروض في اليباب
فإذا أقبل الردى ... ثائر الهول كالعباب
قلت يا نفسي اهدئي ... ليس يجديك الاضطراب
إنما العمر رحلة ... بعدها يحمد المآب
فاحمدي ذلك المآل ... كل شئ إلى زوال!
إبراهيم محمد نجا(790/39)
من وحي البحر:
السمكة الصغيرة
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
قذفتك الأمواج ياطفلة البح ... ر إلى شاطئ عديم الوفاء
لن تصيبي عليه زاداً إذا ما ... جعت. . . أو تظفري لديه بماء
لن ترى أي راحم فيه يرعى ... أو تذوقي غير الأسى والشقاء
نحن في عالم التطاحن والحر ... ب ودنيا تعج بالبغضاء
لفظتك الأمواج يا دمية البحر ... ولم تبلغي حياة الشباب
وتركت العباب وهو متاع ... ومراح للخرَّد الأنزاب
لكأني بهن يبكين أختاً ... لم تمتّع بالعيش غيض الإهاب
قهر البحر حسنها ورماها ... فاستكانت لموجه الغلاب
أمسكتها يداى وهى على الشط ... تلوى. . . تشكو لديه الجحودا
فتجلى للعين منها جمال ... يتهادى: لوناً وحسناً فريدا
وبدت صورة الطفولة تحكى ... رقة الطفل حين يأتي الوجودا
يالها. . . هل تموت والماء منها ... قيد خطو؟. . . لهفا عليه وليدا
غمستها في الماء كفى. . . فراحت ... تضرب الكف رغبة في الفرار
طفلة البحر: إن تركتك للبحر ... أترعين بعد هذا جواري؟
من ضميني بأن أراك إذا أصب ... حت في الغيد فاتنات العذار؟
كم رعينا الظباء وهى صغار ... فاسألي اليوم عن جحود الكبار!
طفلة البحر: قد رجعتك للبحر ... فعودي فيه لجو النعيم
واسعدي بالمقام في لجه الصا - في بعيداً عما نرى من هموم
واحذري الصائد الخئون إذا ما ... جاء يسعى بطعمه المسموم
واذكريني. . . فإن ذكراك أندى ... لفؤادي من آدمي لئيم
دمية البحر: من رعى الود يوماً ... مثلنا نحن معشر الشعراء؟
لو رآك الغداة غيري لما طالع - ت منه إلا نذير الفناء(790/40)
ولداست أقدامه جسمك الغ - ض فأمسى مبعثراً في الهواء
أنعمي بالحياة. . . أنا أياس ... دأبنا في الحياة بذل الإخاء
راس البر
محمد يوسف المحجوب(790/41)
ثلوج الوحدة
للأديب رشيد ياسين
(الى تلك السنوات التي قضيتها جاريا وراء مثل خادعة. . .
اسوق هذه اللعنة)
هلمي ينابيع المآسي وسمَّعي ... كياني، وشى عاصفاتك في دمى
وخلى وجودي في فم النار آهة ... وشكوى، على سمع المقادر، يرتمي
فيا رب مأساة يذيب لهيبها ... ثلوج سآماتى، ويمحو تبرمي
فأنسى شروري في مغاوز وحدتي ... وأحرق بلآهات صمتي على فمي!
مع الوحدة الخرساء عادت سذاجتي ... تكلف مغبون وصرخة ناقم
دفنت مراحي في تهاويل حكمتي ... وضيعت في صيد السراب تبسمي
وعشت يغشيني الضباب فلا أرى ... سوى أنجم تنقض في إثر أنجم
أسير فلا ظل لخطاي على الثرى ... وأشدو فلا ألقى صدى لترنمي
أدور على نفسي. وعيني كفيفة ... كدوامة يا هو بها لاعب عمى
وحولي وجوم في فؤادي له صدى ... وفوقي ركام من أسى وتندم
وفى مقلتي طيف من الشك حاطم ... تغذيه أشلاء اليقين المحطم
هلمي احرقي دنياي علىَ أهتدي ... إلى دربي الخافي بنار تألمي
وأوقد من ماصىَّ في فورة اللظى ... بخوراً على قبر الشباب المهدم
فيا رب مأساة يذيب لهيها ... ثلوج سآماتي ويمحو تبرمي
فأنسى شروري في مغاور وحدتي ... وأحرق بلآهات صمتي على فمي!
بغداد
رشيد ياسين(790/42)
الأدب والفنّ في أسبوُع
للأستاذ عباس خضر
سر الكافورة:
طالعني غير واحد من إخواننا الأدباء، بهذا السؤال: لم لا يكتب الأستاذ الزيات في هذه الأيام؟ وكنت أجيب إجابات مختلفة، ليس منها أنه مستسلم للكسل. . . وهل يليق أن أجيب بمثل هذا عن أستاذنا الجليل؟
يقضي الأستاذ أكثر أيام الصيف بالمنصورة. . . هناك تحت الكافورة (كافورة الزيات) المشرفة من أحد النوادي على النيل والتي خلدها في بعض ما كتب منذ بضع سنوات.
والعجيب أن الزيات، الأديب المعروف بالتعبير الجميل عن كل ما يقع تحت حسه المرهف، يخلد الآن إلى (الكسل الفني) تحت الكافورة. . . وهو الذي لم يمنعه مرضه في الأيام التي قضاها مستشفياً بحلوان - أن يكتب ما أوحت إليه، ولم ينس قراء الرسالة تلك اليوميات الممتعة.
فما أجدر الكافورة والمنصورة والريف القريب منها الذي يتردد عليه الأستاذ - بأن تفيض على قلمه من جمال البيان ما يصل به صدر الرسالة الذي جافاه من نحو شهرين.
ولست أجزم بأن الأمر في ذلك يرجع إلى الكسل، فما يدريني، لعل الكافورة تظل سراً يختمر. . .
قضية أدبية هامة:
تلقيت من الأستاذ عباس السيد أبو النجا المحامي، كتاباً قّفي به على أثر الشاعر محمد محمد علي السوداني الذي عتب على الرسالة بقصيدة لإهمالها نشر أشعاره، فأعتبته ونشرت قصيدة العتاب في العدد (786).
يقول الأستاذ أبو النجا إن ما أبداه الشاعر العاتب (ترجمان صادق لما تزخر به من الشكوى نفوس الكثيرين من أدباء الشباب، فقد درجت بعض المجلات الأدبية والصحف اليومية على إغفال ما يرد إليها من ثمرات قرائح المتأدبين من الشباب والإلقاء بنفثاتهم في سلة المهملات رغبة عنهم إلى أولئك الذين نبه ذكرهم وبعد شأوهم من كبار الأدباء).(790/43)
وبين ما يترتب على هذا الاتجاه من آثار بالغة في حياة الأفراد والأمة، بأنه يشكك ناشئة الأدباء في أدبهم، لأن معيار جودة الأدب هو نشره، ومتى تسرب الشك إلى النفس قلقلت ومالت جذوتها إلى الخمود؛ وهذا يميت في ناشئة الأدباء روح الأدب، إذ يصرفهم عن التحصيل وتعهد مواهبهم، إلى أن يقول: (أما النتيجة الضخمة التي يؤدي إليها هذا الأثر وذاك فهي تأخر الأدب في الأمة وعدم ازدهاره فيها، لقلة عدد الأدباء والمفكرين من أبنائها؟ والأدب في كل أمة مرآتها المجلوة، ولسانها المتنبي عن المذخور من أمجادها، والمرجو من تقدمها ونهوضها).
ويقول الأستاذ إنه عالج نظم الشعر، ودفع ببعض ما نظم إلى بعض الصحف والمجلات، وفي جملتها الرسالة، فلم ينشر له إلا قصيدة في مجلة قدمها إليها أحد أصدقائه الصحفيين. ويسأل في آخر كتابه: هل المهم هو جودة الأدب أم شهرة الأديب؟ ويقول: (صحيح أن كبار الأدباء قد انقادت لهم أزمة البيان، ومن المحقق أنهم أقدر على الغوص والسبوح والتحليق. . . ولكن هذا لا يمنع من أن يكون في الناشئة موهوب سبق عمره فهما وفطانة وكملت أداته يافعاً، فهل يكون جزاؤه - لأنه مغمور - أن نغفل إنتاجه ونهمله؟).
وكل ما ذكره الأستاذ في رسالته صحيح لاشك فيه، وتصوير المسألة وبيان آثارها كما صور وبين. ومن المؤسف أن المهم - عند الكثيرين من المشرفين على الصحف - هو شهرة الأديب لا جودة الأدب، فهم يقرؤون المقالات والقصائد من ذيولها. . . أما (الرسالة) فالأمر في ذلك عندها لا يعدو زحمة المواد واختيار الجيد والصالح للمحافظة على مستواها الأدبي المعروفة به، وليس كل ما يهمل لرداءته، فثمة اعتبارات أخرى تتعلق بالموضوع وروح المجلة وغير ذلك. والرسالة قد فتحت ذراعيها للشباب منذ نشأتها، حتى تخرج فيها طائفة منهم أخذوا أماكنهم بين الكتاب والشعراء، ومنهم من هو في الصدارة الآن؛ ويوم بدؤوا فيها قبلتهم لجودة أدبهم بطبيعة الحال، فلم تكن أسماؤهم معروفة، فلا يجوز مع ذلك أن ترمى بأنها توصد الأبواب أمام الشباب.
الألفاظ الأجنبية بين الأمس واليوم:
نشرت مجلة الإصلاح الاجتماعي مقالاً لأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد باشا، عنوانه (موقف العربية من الألفاظ الأجنبية) وهو من مقالات معاليه القديمة التي كان يكتبها في(790/44)
أوائل هذا القرن، قالت المجلة إنها تنشره للوقوف على آراء قادة الفكر في مطلع النهضة الحديثة. أثار أستاذ الأساتذة في ذلك المقال قضية لا تزال من قضايا اليوم، فقد دعا الكتاب أن يتساهلوا في قبول الألفاظ الأوربية (كالأوتومبيل والبسكليت) ويدخلوها في الاستعمال الكتابي كما أدخلها الجمهور في المخاطبة قائلاً بأن اختراع أسماء تستعمل في الكتابة وحدها يوسع مسافة الفرق بين لغة الكتابة ولغة الكلام. والطريف في نشر المقال في هذا الوقت أنه يتضمن وجهات نظر تغير أساسها الآن تغيراً تاماً، فما كان معاليه يدرى - إذ ذاك - أن (السيارة) ستجرى على ألسنة الناس أكثر وأسهل من (الأوتومبيل) إذ قال: (نشر مجمعنا اللغوي رحمة الله عليه أن الأتوموبيل (بالإفرنجي) اسمه (بالعربي) سيارة. فإذا قلت لواحد من أهل العلم (جاءت سيارة) فهم من ذلك أنك تخبر عن جماعة من الناس سائرين أو عن أحد الكواكب فأما في العرف الفلاحي فالسيارة هي الهيئة المؤلفة من جماعة من الفقراء أبناء الطريق يحملون لواء طريقتهم وطبولها وبإزالتها لينتقلوا إلى مولد من الموالد، هذا هو ما أظن أهل القاهرة يعبرون عنه (بالإشارة) فإن قلت لخادمك جئ بسيارة فتح لك فاه ووقف ينتظر تعريباً للسيارة حتى تقول له جئ (بأتومبيل). . .)
وما كان معاليه أيضاً يعلم وهو يترحم على المجمع اللغوي القديم - أنه سيصير رئيساً للمجمع اللغوي الحالي الذي يسير في نفس الطريق فيستبدل بأمثال (الأتومبيل) أمثال (السيارة).
وبعد فلا تزال القضية - كما قلت من قضايا اليوم، بل هي من المعضلات، فليست كل الأسماء (كالأتومبيل) والسيارة، فثمة كثير من الكلمات الإفرنجية لا تزال نستعملها في الكتابة، وقد تعبت الأقواس في حراستها. . . وكثيراً ما تستأنس فتترك بلا أقواس. وقد وضع المجمع اللغوي كثيراً من الأسماء لمسميات حديثة، ولكن الكتاب حتى أعضاء المجمع منهم لم يلتزموها في كتابتهم، فلم نر أحداً منهم كطه حسين أو أحمد أمين أو المازني يكتب المسرة أو المشن بدل (التليفون والدش) وهل يعبر الدكتور أحمد زكى عن تحليل الكحول ب (الحلكحة)؟
والفئة الصابرة في هذا الميدان، هم أطفال المدارس وتلاميذها، وهم وحدهم المكلفون بتنفيذ قرارات المجمع اللغوي. . . فالطفل في السنة الأولى الابتدائية لابد أن يكون جملا تشتمل(790/45)
على (السحاح) (والأبزن) (والمشرجَّع) وهو حين يشب عن الطوق. . . ويقرأ لكبار الكتاب لا يجد هذه الكلمات وأمثالها فيما يقرأ، فينفض يده منها كالمعلومات التي يمتلئ بها ليفرغها في الامتحان!
وقد تقول إن بعض الكلمات التي لا نستسيغها الآن، قد تسير كما سارت السيارة وكثير غيرها، ولكن هذا لا يكون إلا في الكلمات التي يقبلها الكتاب ويمنحونها الحياة بأقلامهم. ولاشك أن للكتاب عذرهم في استعمال الأسماء الأجنبية التي لم توضع لها أسماء عربية موفقة، أو لم يوضع لها شئ البتة. وأنا لا أرى أحداً يستطيع أن يصف غرفة من الغرف الحديثة فيسمى كل محتوياتها بأسماء عربية صحيحة، ويؤلف من ذلك - إن استطاع - كلاماً يقبله الذوق العصري. وهذا مثل واحد، وغيره كثير.
وما احسبنا إلا متفقين على ضرورة المحافظة على سلامة التعبير العربي، وقبول ما يوفق في وضعه من الأسماء للمسميات الحديثة، بطريق وجود الاسم في اللغة، أو بالاشتقاق أو النحت أو التعريب، ومن التوفيق في وضع الاسم أن تقبله الأذواق، ولا يكفى إقرار المجمع إياه. والمشكلة فيما عدا ذلك من الأسماء الأجنبية، أفنقبلها كما هي. . . أم ماذا نصنع؟
الفكاهة فن:
ألقى الدكتور إبراهيم ناجى محاضرة موضوعها (سيكولوجية الفكاهة) بنادي جماعة العمل الوطني الاجتماعي يوم السبت الماضي. وقد شرح في هذه المحاضرة علاقة الضحك بالغريزة، ثم تطرق إلى العلاقة بين الفكاهة والفن ذاهباً إلى أنها لون من ألوانه، وقال إن هذا الرأي خاص به، لأنه لم يجده فيما لديه من المراجع السيكولوجية والفلسفية، ثم دلل على أن الفكاهة فن يبيان المشابه بينهما فقال: إن الفن مشتق من العاطفة مباشرة والفكاهة كذلك، وقد يلونه الفكر كما يلون الفكاهة الراقية. والفن عند علماء النفس لعب بالانفعالات، أو هو طاقة حيوية فائضة، ولذلك يتبع من غريزة غنية بالعاطفة، ولا يمكن أن تنتجه الغريزة الضحلة، كذلك الفكاهة الفكرية الراقية لا يمكن أن يجئ بها إلا الأذكياء، ولا يدركها بسرعة إلا الأذكياء. ويتفق الفن مع الفكاهة في أن كليهما متعة وسرور، وفي أنهما لا يهدفان إلى غاية اجتماعية ظاهرة، وأن التهذيب بوساطتهما ناشئ من طبيعتهما الاجتماعية. ويرجع السبب في أن عباقرة الفن ممن يجيدون الفكاهة أدباً أو تصويراً، إلى أن الفكاهة(790/46)
والفن من معين واحد، وأكاد أقول إن الكاتب الذي يجيد كتابة المأساة كشكسبير يجيد الفكاهة، لأن أعذب الفكاهة هو الذي يجئ بعد كبت ومرارة كرد فعل. . .
والنكتة البارعة سرها في حل مسألة أو مشكلة، أو في وصف شئ بقول مبتكر سريع غير منتظر، وهذا يشبه اللفتة الذهنية البارعة في الفن الأدبي كالاستعارة التي ترمي إلى وجه شبه بعيد، أو تناقض غير منتظر.
ثم ختم الدكتور ناجي محاضرته بقوله: يلاحظ أن الفكاهة في الأدب العربي القديم كانت تكثر عن الطفيليين والمتسولين، وهذا لون لا نراه الآن كثيراً. وكذلك تكثر في الأدب العربي الفكاهة باللعب اللفظي، ولا يزال هذا شائعاً.
فن مصري:
الفكاهة باللعب اللفظي فن مصري، نشأ على ألسنة الشعراء والأدباء في العهد الأيوبي وكثر فيما بعده، ولا يزال شائعاً في فكآهاتنا العصرية كما يقول الدكتور ناجي، وأكثر ما يكون ذلك بالتورية والتجنيس. وكان من أسبق فرسانه الشاعر المصري أبو الحسين الجزار، قال في زوج أبيه:
وقائل قال: ما سنها؟ ... فقلت: ما في فمها سن
وقال على لسان طبيب عيون:
يا سائلي عن حرفتي في الورى ... واضيعتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس
ومما يستملح ذكره في هذا المجال أن الأستاذ العقاد كتب إلى شاعر يسكن بشارع العجم في مصر هكذا:
(إلى شاعر العرب في شاعر العجم)
ولست أدري هل يكون (المرسل إليه) شاعر العرب إذا خرج من شارع العجم؟!.
الأدب والفن في قسم حلوان:
(وبتفتيش المشتبه فيه وجدنا معه أوراقاً فيها شعر وموضوعات أدبية).
هذه فقرة من محضر التحري الذي عمل لي في قسم بوليس حلوان، و (المشتبه فيه) هو(790/47)
أنا، والذي حامت شبهته حولي شرطي ذكي ألمعي. . . رآني بحديقة الفندق المجاور لعين حلوان وأنا منهمك في الكتابة، ثم رآني أغادر الفندق إلى مبنى المياه المعدنية، وقد عرجت عليها في طريقي إلى المحطة حوالي الساعة الحادية عشرة مساء، فظن بي الظن كأن لم ير ولم يسمع! ورآها فرصة مواتية لإظهار الكفاية والبراعة، فلا بد أني وضعت قنبلة في مكان من هذه البقعة، وعما قليل تنفجر، وهذا هو ملقيها!.
ولم يكن بد من الذهاب إلى قسم حلوان. وقال الضابط للشرطي الخارق الذكاء: وكل من تراه خارجاً من القهوة تأتي به؟! ولكن هذا لم يمنع الضابط من أن يتمم ما بدأه الشرطي. . . فسألني وأجبت، فقال لي: (وحضرتك لازم تتفلسف وتكتب مقالات!! وريني اللي كنت بتكتبه. . .) وجعل الضابط يقرأ صامتاً، وأنا أرجو أن أكسب قارئاً جديداً. ولم يخب رجائي فقد تفضل وأذن لي بالجلوس على كرسي بجواره. . . ولكن (محضر التحري) لا بد منه. وهذا يقضي بحجزي في القسم حتى يثبت لهم أن (التفلسف وكتابة المقالات) لا ينطويان على خطر. . . وتذكرت صديقي الأستاذ سيد قطب فهو من سكان حلوان، فاستنجدت به، فأسرع إلى في القسم، ولو لاه لبت، وبات معي الأدب والفن، في قسم حلوان. وتركت الصديق الكريم في القسم يتمم معهم (إجراء اللازم) وعدوت إلى المحطة لألحق بآخر قطار من حلوان في منتصف الساعة الثانية صباحاً.
ولم آسف أكثر مما أسفت لذهاب نشاط البوليس في اعتقالي هباء. . . ألم يكن من المحتمل أن يكون مكاني (عنصر خطر) ولكن لا بأس، وأرجو لهم حظاً أحسن في غير هذه المرة.
عباس خضر(790/48)
البَريدُ الأدَبيّ
زعماء الإصلاح في العصر الحديث:
نشر الأستاذ الفاضل محمد خليفة التونسي في العدد 788 من الرسالة الغراء كلمة عن كتاب (زعماء الإصلاح في العصر الحديث تأليف الأستاذ الجليل أحمد أمين بك، وإنه لواجب عليَّ أن أقول كلمة صغيرة أعقب بها على النقد لعلها تبين شيئاً من أمر هذا الكتاب وإخراجه وتسميته.
لما أخذ الأستاذ الجليل أحمد أمين بك في دراسة بعض الشخصيات
الإسلامية الكبيرة في مجلة الثقافة الغراء حوالي سنة 1944 وما بعدها
جعل عنوان دراسته (زعماء الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع
عشر) فراقتني هذه الدراسة القيمة، لأن هذا الجيل لا يعلم من أمر
هؤلاء المصلحين إلا قليلا، بل لا يكاد يدري من أمر إصلاحهم شيئاً،
ولكني خشيت أن لا تتناول هذه الدراسة أمثال الأستاذ الإمام محمد
عبده والسيد عبد الرحمن الكواكبي وغيرهما ممن قضوا نحبهم في
القرن العشرين. وما دام الأستاذ المؤلف قد درس شخصية السيد جمال
الدين الأفغاني فلا بد له من أن يدرس شخصية الأستاذ الإمام محمد
عبده لأنه تلميذه الأول وخليفته في الإصلاح الديني والفكري في الشرق
كله وفي عنق كل مسلم وكل مفكر في هذا العصر دين كبير لهذين
المصلحين العظيمين.
من أجل ذلك كله رأيت أن أقترح على الأستاذ الجليل أحمد
أمين بك أن يوسع من أفق بحثه حتى يشمل من ذكرنا، ولا
بأس من أن يجعل عنوان هذا البحث (زعماء الإصلاح(790/49)
الإسلامي في العصر الحديث) وأن يجرد هذه الفصول ليبني
منها كتاباً برأسه ينتفع هذا الجيل منه، ويكون له أسوة حسنة
فيه وأرسلت بما رأيت كتاباً إلى حضرته، فتفضل حفظه الله
وبعث إليَّ بجواب مؤرَّخ 1944624 هذه صورته:
حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبو رية
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشكركم على خطابكم، وسآخذ برأيكم في تسمية البحث، زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث، وأضم إليه بعض الأشخاص التي أشرتم إليها، والسلام عليكم ورحمة الله.
أحمد أمين
وما لبث حضرته - بعد هذا الخطاب - أن غير عنوان البحث في مجلة الثقافة الغراء، فجعله: (زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث) وظل يكتب بحثه إلى أن فرغ من بحثه فيما كتب عنهم، وكأنه عندما أراد أن يخرج هذه البحوث كتاباً اختصر هذا العنوان فجعله: زعماء الإصلاح في العصر الحديث.
هذا ما رأيت أن أعقب به على ما كتب الأستاذ الفاضل التونسي لأبين للناس ما أعرفه من إخراج هذا الكتاب وتسميته.
ولو أن الأستاذ الجليل أحمد أمين بك قد أراد أن يدرس شخصياته دراسة (بيوجغرافية) كما يريد الأستاذ التونسي لما أعجزه ذلك، بل لكان عليه هيناً، ولكن كيف يتبع هذه الطريقة في الترجمة عشرة من الزعماء - أو عشرين كما يريد الأستاذ التونسي - ثم يخرج هذه التراجم كلها في مجلد واحد!.
ولعل الأستاذ التونسي بعد أن يطلع على كلمتنا هذه أن يغير رأيه في هذا الكتاب القيم وينظر إلى قيمته في نفسه وأثره النافع عند قاريئه، وهو جد عليم بأن مجال البحث في دراسة هذه الشخصيات وغيرها لا يزال واسعاً لكل من يشاء أن يدرسها بما يحسن من طرائق وأساليب، ويعلم كذلك أن التاريخ نهم لا يشبع، وهو في حاجة دائمة إلى دراسات(790/50)
مختلفة لشخصيات العلماء وأعلام الفكر والإصلاح.
على أن الذي نأخذه على الأستاذ التونسي هو تنقيبه على تلك الهنات الصغيرة التي أوردها، لأن مثل هذه الهنات مما لا يكاد يخلو منه قلم كاتب، وهو نفسه قد زل قلمه ووقع فيما انتقد فيه غيره، وإلا فما رأيه في كلمة (مبرر) التي استعملها في معنى مسوغ وهي كلمة عامية، ثم هل يرضيه أن يجُمع (معجم) على (معاجم)؟
ونكتفي بهذا القدر، وللأستاذ منا خالص التحية.
محمود أبو رية
تحية كريمة:
أرسل الأديب الألباني الأستاذ وهبي إسماعيل حقي كتابه الجديد (المهد الذهبي) إلى أمير القصة المصرية صاحب العزة محمود بك تيمور وقد تفضل وأرسل عزته إليه الخطاب الآتي:
عزيزي الفاضل الأستاذ وهبي إسماعيل حقي
تلقيت هديتكم القيمة (المهد الذهبي) وقصص أخرى من الأدب الألباني. وإنها لمجموعة طريفة تجلو لنا في صدق ووضوح أغوار النفس الألبانية وحياة المجتمع. وإني شاكر لكم أجل الشكر إذ أتحتم لي الفرصة لأن أستمتع بذلك اللون الجديد من الأدب الشرقي، وأرجو لجهادكم الطيب كل توفيق ونجاح.
وإني مقدر لمجهودكم الطيب في توطيد أواصر الود والولاء بين القطرين الشقيقين راجيا لكم حسن التوفيق ومطرد النجاح وتقبلوا خالص مودتي واحترامي.
المخلص محمود تيمور
1 - تواريخ القدس:
ذكرني مقال الأستاذ أحمد رمزي بك في عدد سابق من (الرسالة) بناحية من نواحي عناية المسلمين ببيت المقدس، وهي كثرة التأليف في تاريخه. من ذلك ما جاء في كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ص 124): جمع تاريخ بيت المقدس وفضائله الحافظ أبو القاسم مكي بن عبد السلام بن الرميلي المقدس، وفضائله أبو بكر محمد بن أحمد بن(790/51)
محمد الواسطي الخطيب والصلاح خليل العلائي، وللعماد الاصبهاني الفتح القدسي، وللحافظ أبي بكر بن المحب من نزل بيت المقدس، وللبرهان بن الفوكاح الفزاري باعت النفوس على زيارة القدس المحروس.
ومن الكتب المؤلفة في ذلك أيضاً: تاريخ القدس لمحمد بن محمود بن اسحاق القدسي، والجامع المستقصي في فضائل المسجد الأقصى، ومثير الغرام إلى زيارة القدس والشام، وإتحاف الاخصا بضائل المسجد الأقصى لابن أبي شريف، والروض المغرس في فضائل بيت المقدس للتاج الحسيني، ولطائف أنس الجليل في تحاتف القدس والخليل لمصطفى اللقيمي، والأنس الجليل.
2 - إنباء الغمر بأنباء العمر:
تكرر كثيراً في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق وغيرها اسم (إنباء الغمر بأبناء العمر لابن حجر العسقلاني) بتقديم الباء على النون. والصواب (إنباء الغمر بأنباء العمر) بتقديم النون على الباء، لأن الكتاب يذكر فيه مؤلفه الأنباء التي دفعت في زمنه، ثم يسرد أسماء المتوفين في كل سنة. وللمؤلف كتاب خاص بأبناء عصره اسمه (الدار الكامنة). وقد جاء اسم الكتاب صحيحاً في (فهارس الكتب المصرية).
محمد أسامة عليبة
لا تسألوا عن أشياء أيضاً:
كنت أحسب أن الآيتين الكريمتين: (وما أَنزل الرحمنُ من شئ إِن أنتم إلا تكذبون)، (وقلنا ما نزَّل الله من شئ إِن أَنتم إلا في ضلالٍ كبير). فيهما وحدهما الرد على أستاذنا الكبير البشبيشي في الرأي الجديد الذي أرتاه في صرف كلمة أشياء الممنوعة من الصرف بإجماع الآراء - فإذا بالأستاذ يقول في العدد 789 من الرسالة الغراء (ولا وجه للقياس على توالى المقطعين بتكرار (إن) في قوله: من شئ إن أنتم. . . إذ من الممكن بل من الحسن الوقف على كلمة شئ في الآيتين. .)
وإذا كانت همزة شئ مسبوقة بحرف لين صامت، وهمزة أشياء مسبوقة بحرف مد صاعد، فالأخف والأسهل نطقاً وذوقاً حرف المدِّ لا حرف العلة مما يسيغ تنوين همزة أشياء لو حاز(790/52)
فيها التنوين ولم يرد ذلك في آية: لا تسألوا عن أشياءَ، وعن إمكان ذلك لو صح تنوينها - فلا وجه لشبهة من ثقل أو تنافر وتبقى الكلمة كما كانت ممنوعة من الصرف في القرآن وفى غير القرآن.
ولما كان الأستاذ البشبيشي لم يورد لها استعمالاً مصروفاً في القرآن أو في الحديث أو في الشعر القديم أو في النثر المعتمد فأنا ما أزال أقول (ولا يقال: أنالا أزال أقول كما قال الأستاذ إلا في الدعاء كفة لذي الرمة: ولا زال منهلاًّ بجرعائك الفطر) ما أزال أقول إنَّ الكلمة ممنوعة من الصرف لأحد الأسباب الكثيرة المعروفة التي أثقلت كواهل النحويين في الكتب وإفهام الطلبة في المدارس، فهل يريد أستاذنا البشبيشي أن يزيدها سبباً جديداً. . .؟
أحمد أحمد العجمي(790/53)
القصص
من الأدب الروسي:
شجرة عيد الميلاد
للكاتب القصصي تيودورد وستويفسكي
بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب
أنا كاتب قصصي، وأعتقد أنني كتبت هذه القصة. أقول (أعتقد) مع علمي التام بأنها من إبداع قلمي. ولكني مع ذلك على يقين بأنها قد حدثت فعلا في مكان ما في زمن ما، وقعت في بلدة كبيرة ذات ليلة من ليالي عيد الميلاد الشديدة القر.
إني أتخيل غلاماً، صبياً صغيراً، له من العمر ست سنوات أو أقل. استيقظ من مرقده في قبو رطب بارد، وكان يرتدي جلباباً قصيراً ويرتجف من لفحات القر، وتخرج من فمه مع زفيره سحابة بيضاء من البخار وهو قابع على صندوق في ركن من أركان القبو، يراقبها تتصاعد في الجو مبتعدة عنه.
كان يشعر بالجوع يلوي أحشاءه. وكم ذهب العديد من المرات في صباح ذلك اليوم إلى الفراش العاري الذي ترقد عليه والدته العليلة، ذلك الفراش ذو الحشية الرقيقة المهلهلة والوسادة أشبه ما تكون بالأسمال.
ما الذي أوجدها هنا؟ لعلها قدمت مع ولدها من بلدة أخرى ثم دهمها المرض فجأة. كانت صاحبة الدار قد قبض عليها منذ يومين وأودعت السجن. ورحل معظم السكان لاقتراب العيد ولم يبق في الدار إلا من ثمل دون أن ينتظر عيد الميلاد، وعجوز في سن الثمانين رقدت في أحد الأركان تتأوه وتتوجع من آلام (الروماتزم) وتعنف الصبي وتبدي تذمرها منه فيخشى الاقتراب منها.
كان في وسعه أن يحصل على ما يروي ظمأه من الغرفة المجاورة، ولكنه لا يجد كسرة من الخبز يسد بها رمقه وكم قاسى من ذلك الجوع الذي كان يدفعه إلى محاولة إيقاظ والدته عشرات المرات. وشعر أخير بالخوف ينتابه الخوف من الظلام. كان الليل قد أرخى سدوله، ولم يكن عنده ما يستضئ به، ولمس وجه والدته فلم تبد أي حراك. كانت باردة(790/54)
برودة الحائط. فجعل يخاطب نفسه قائلا (إن الجو بلا شك بارد جداً) ووقف لحظة، وبدون أن يشعر، وضع يده على كتفي والدته، ثم نفخ في أصابعه يدفئها، ثم جعل يبحث على قلنسوته فوق الفراش، وأخيراً خرج من القبو.
لقد كان يود أن يخرج مبكراً، لولا فزعه من الكلب الكبير الرابض عند باب الجيران. ونظر، فلم ير للكلب أثراً، فتابع سيره لا يلوي على شيء.
فليرحمنا الله. يا لها من بلدة! إنه لم ير مثلها من قبل. حقاً إنها لم تكن كبلدته. كان الليل حالك الظلام، ولم يكن في الطريق سوى مصباح واحد. وتوارى الناس في ديارهم، فلم يسمع إلا نباح الكلاب، مئات بل آلاف منها تنبح وتعوي طوال الليل. ولكنه كان في بلدته يستشعر الدفء ويجد ما يقتاب به. أما هنا. . . آه لو استطاع أن يجد ما يأكله. يا لها من جلبة وضوضاء! ويا لها من إضاءة! ويا لهؤلاء القوم وتلك المركبات، وهذا الصقيع! كان البخار يتصاعد في سعب من أفواه الجياد، وكانت حوافرها تصطدم في سيرها بالأحجار المغطاة بالثلوج المتراكمة. كم هو في حاجة إلى ما يسد غائلة جوعه. . . ولم يشعر الآن بالتعاسة. واقترب منه شرطي فتنكب طريقه وابتعد عنه.
ها هو ذا طريق آخر، وما أوسعه من طريق. كان الناس غادين رائحين، يصيحون ويهرولون ويندفعون والضوء! ذلك الضوء! ولكن. . ما هذا؟ إنها نافذة زجاجية كبيرة. ونظر خلالها فرأى شجرة طويلة من أشجار عيد الميلاد ممتدة حتى السقف، وقد تدلت منها مصابيح وأوراق مذهبة وتفاح ودمى صغيرة وجياد. وكان الأطفال في ملابسهم القشيبة يلهون ويمرحون، ويأكلون ويشربون. ثم ابتدأت فتاة ترقص مع أحد الصبية. وانسابت إلى أذنيه نغمات الموسيقى. ونظر وتعجب ثم ضحك. كانت أطرافه تؤلمه من البرد وأصابعه حمراء متصلبة، توجعه إذا ما حركها. وعندما تذكر ذلك، طفق يبكي، ثم عدا حتى انتهى به المطاف إلى نافذة أخرى شاهد من ورائها شجرة ثانية، ومنضدة حافلة بمختلف الحلوى وقد جلس حولها ثلاث سيدات يوزعن الحلوى على كل من يقصدنهن. وظل باب الدار مفتوحاً يدخله الكثيرون من الرجال والسيدات وزحف الصبي، ودفع الباب، ثم دلف إلى الغرفة. لقد صاحوا فيه ودفعوا به إلى الخارج. وأقبلت عليه سيدة تهرول ودستْ في يده قطعة من النقود، ثم فتحت له الباب ودفعته دفعاً إلى الطريق.(790/55)
وسقطت قطعة النقود منه، ورن رنينها على الأرض. ولكنه لم يستطع قبض أصابعه الحمراء لالتقاطها. وجرى مبتعداً، وطفق يعدو إلى حيث لا يعلم. وكاد يبكي مرة أخرى. كان خائفاً مرتعباً، واستمر يعدو وينفخ في أصابعه، يائساً، وحيداً جزعاً. ولكن. . . ما الخبر؟ كان الناس محتشدين أمام زجاج نافذة وقد ظهرت على محياهم علامات الإعجاب لرؤيتهم ثلاث دمى صغيرة تتحرك وكأنما قد دبت فيها الحياة. كانت الأولى تمثل رجلا عجوزاً جالساً يعزف على كمان كبير، والدميتان الأخرتان واقفتان تعزفان على كمانين صغيرين وتحنيان رأسيهما ثم تحيي كل منهما الأخرى. وكانت شفتاهما تتحركان كما لو كانتا تتحدثان.
ظن الصبي بادئ الأمر أنها حية. ولكنه عندما استبان له أنها ليست إلا دمى، ضحك وتهلل. أنه لم يشاهد مثلها من قبل، ولم تكن تخطر له ببال. وألهاه ذلك المنظر عن شعور البكاء الذي انتابه. ثم شعر بمن يجذبه من ردائه، فالتفت خلفه فرأى غلاماً يلطمه على أم رأسه، ثم اختطف منه قلنسوته، ثم ألقاه على الأرض، فسقط الصبي مرتعباً، ولكنه سرعان ما هب واقفا وعدا مبتعداً عن النافذة وقد وجف قلبه فزعا، وطفق يعدو دون أن يدري إلى أين يذهب، حتى وصل إلى باب ساحة، فدلف إليها وتهالك على كومة من الأخشاب وهو يخاطب نفسه (إنهم لن يبحثوا عني هنا، في ذلك الظلام المدلهم).
وجلس منطوياً على نفسه، مبهور الأنفاس. ثم شعر فجأة بالسعادة تغمره، وزال الألم من أصابعه واستشعر الدفء وكأنه قرب موقد. فارتجف وصاح (عجباً! لا بد أني أحلم! كم هو لذيذ أن ينام المرء هنا. سأرقد قليلا ثم أعود بعد ذلك لمشاهدة الدمى (وابتسم وهو يفكر فيها، وقد تمثلت في خاطره كأنها مخلوقات حية. وسمع صوتاً حنوناً يهتف في أذنه قائلا (تعال إلى شجرتي. شجرة عيد الميلاد أيها الطفل).
وظن الصبي أنها والدته هي التي تهمس في أذنه. ولكن. لا. إنها لم تكن والدته. من الذي يناديه؟ ولم يجرؤ على النظر إليها عندما انحنت فوقه تحتضنه في الظلام. ومد يده إليها. وفجأة. . . يا إلهي. ما هذا الضوء الباهر؟ وما أجمل هذه الشجرة! أين هو الآن؟ كان في مكان جميل كثير الدمى. ولكن. . . كلا إنها لم تكن دمى، بل كانوا أولاداً نضرين في حلل قشيبة وقد تهللت وجوههم بشراً. وأقبلوا عليه من كل صوب يحيطون به ويقبلونه. وشاهد(790/56)
والدته تنظر إليه وقد أشرقت على شفتيها ابتسامة فياضة، فصاح قائلا (أماه، أماه، ما أجمل أن يعيش المرء هنا!) وجعل يقبل الأولاد، وود أن يخبرهم عن الدمى التي شاهدها. وجعل يسألهم (من أنتم؟ من أنتم؟) وهو يشاركهم الضحك معجباً بهم. فأجابوه (هذه شجرة عيد ميلاد المسيح، شجرته الخاصة، وهبها للأطفال الذين لا يملكون مثلها).
كانوا أطفالا حالهم مثل حاله. فمنهم من تجمد برداً في السلال التي تركهم ذووهم فيها على عتبات الديار. ومنهم من لقي حتفه خنقاً خشية العار. ومنهم من مات على ثدي والدته الجائعة والآخرون دهمهم الموت من فساد هواء المكان الذي كانوا يعيشون فيه. ومع ذلك. . كانوا كلهم مجتمعين هنا كالملائكة حول المسيح. وكان المسيح يتوسطهم ويمد يده إليهم يباركهم وأمهاتهم قد فاضت دموعهن. وكانت كل من تعرفت بولدها تندفع إليه في شوق تقبله فيمسح عبراتها بيديه الصغيرتين، متوسلا إليها ألا تبكي. كانت تغمرهم السعادة. . السعادة الحقة.
وانبثق نور الفجر، عندما وجد حمال جثة الصبي متجمدة الأطراف من شدة القر، راقدة على كومة الأخشاب.
وبحثو عن والدته. كانت قد سبقته إلى العالم الآخر. لقد تقابلا أمام الله في السماء.
لست أدري لماذا كتبت هذه القصة التي لا تجري في أسلوبها مع مذكرات عادية أو مؤلفات كاتب. ولكن كل ما أدريه أني ما زلت على يقين بأنها ليست وليدة الخيال، وإنما وقعت فعلا، وإنه قد حدث ما حدث في ذلك القبر وكومة الأخشاب هناك.
أما عن شجرة المسيح، فلا أستطيع أن أجزم هل هي حقاً في علم الوجود أم أنها من نسيج خيالي.
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب(790/57)
العدد 791 - بتاريخ: 30 - 08 - 1948(/)
فصيلة المخلوقات الخبيثة
للأستاذ نقولا الحداد
لقي أحد معارفي أحد أفراد أسرتي ونصح له أن ينصح لي بالعدول عن الكتابة في الصهيونية، وكانت نصيحته تتضمن شيئاً من التهديد. ولهذا الصديق علاقة مالية مع يهودي. فهو إذن تحت رحمته، واليهود لا يعرفون الرحمة. ويلوح لي أنه يريد من هذه النصيحة أن يستعطف شريكه، حتى إذا فعلت النصيحة فعلها حسبها ذلك اليهودي خدمة جليلة. . . وما تعلم صاحبنا حتى الآن من علاقته بذلك اليهودي أنه لو سفك دمه لأجل خاطره لما حسب هذا السفك إلا واجباً لا يكافأ عليه إلا بأن يجعل جثته عند عتبة داره مداساً لنعليه.
لا يعلم صاحبنا أن هذه الفصيلة من المخلوقات الحية ليست من جنس البشر ذات قلوب رقيقة وعواطف شريفة وضمائر حية حتى تقدر المعروف حق قدره. إنما هي بلا ضمير ولا عاطفة ولا قلب ولا إحساس ولا شرف - فصيلة الأحياء الخبيثة.
وقد بلغ اللؤم من هذه الفصيلة أن جازت إنكلترا المغفلة على وعد بلفور جزاء سنمار. وكلنا يعلم حوادث بغيهم ولؤمهم من مقتل اللورد موين، إلى خطف القاضي من المحكمة، إلى صلب الضابطين البريئين اللذين خطفوهما، إلى غير ذلك من رذائلهم مع أسيادهم الإنكليز من غدر وخيانات الخ. ففصيلة كهذه لا تحسب حساباً للمعروف والفضل.
وفيما كان الناس يستغربون استخذاء الإنكليز لليهود في فلسطين كان اليهود في مصر وغير مصر يقولون: لا تعجبوا. فإن الإنكليز يخافوننا مضطرين إلى احتمال عدواننا برغم أنوفهم.
والآن إذا ذكرنا أمام يهودي أو يهودية أن اليهود المعتقلين عندنا يعاملون معاملة أفضل مما لو كانوا في منازلهم قال لك:
وهل تجسر الحكومة أن تعاملهم إلا أفضل معاملة؟
لا عجب، لأن ما نحسبه نحن إنسانية في معاملتهم يحسبونه هم واجباً محتوماً، لأنهم لا يفهمون معنى الإنسانية والشرف والضمير.
ألا فليعلم العرب أنه لو قامت لهذه الفصيلة الحيوانية قائمة لصاروا جميعاً أذل من العبيد(791/1)
لها! أليس أفضل للعرب أن تسفك دماؤهم في حرب شريفة من أن يسفكها هؤلاء الأنذال؟ أو ليس أشرف للعرب أن ينهزموا في حرب تكون الدول الكبرى فيها نصيرة لهذه الفصيلة الطاغية من المخاليق؟.
يتهددني هؤلاء الأنذال بعد أن عجزوا عن إغوائي بالأموال لكي أكف عن فضح سرائرهم وشجب تعاليمهم في كتبهم. فليعلموا أني لن أبقى في الحياة إلى ذلك اليوم المشئوم الذي يستتب فيه أمرهم، إن استتب لا سمح الله، لكي ينتقموا مني. وليفهموا أني لم أذكر إلا الحقائق الصريحة عن غايتهم وتاريخهم ومقاصدهم مما هو واضح في ثوراتهم وتلمودهم.
وما كانت هذه الثورة الصهيونية إلا سبباً في كشف مساوئ هذه الفصيلة من المخلوقات والعالم كله يشهد الآن غدرها وخيانتها وخبثها. كم مرة تزيوا بزي الضباط الإنكليز لكي يخدعوا العرب ويغدروا بهم؟ وكم مرة تزيوا بأزياء العرب ليغشوا العرب! وأمس تزيوا بزي رقباء هيئة الأمم لكي يحتلوا مركز الصليب الأحمر وعمله إنساني محض كما هو معلوم. إن جميع أفعالهم في الحرب والسلم غش وخداع وغدر. والعالم يشهد الآن حقيقة أخلاقهم التي لم يعودوا يستطيعون سترها. لم يعد هؤلاء الذئاب يستطيعون أن يتزيوا بجلود الحملان.
لقد انفضح أمرهم حتى للأمريكان الذين يستنصرون بهم، وشرع هؤلاء منذ الأمس يسخطون على ترومان الغبي الذي حملهم تحت إبطه وهو يتوهم أنه يتأبط حملاناً وديعة. لقد انفض الأمريكان عن ترومان. وسيفشل ترومان في الانتخابات. وحينئذ يعرف العالم أجمع أن من يناصر اليهود فاشل لا محالة. وبذلك تحبط كل دعابة يهودية على وجه الأرض.
ولسوف يندم الأمريكان الذين ناصروا اليهود على العرب وهو قليلون. وسيقولون حقاً: (لقد أسأنا للعرب بمناصرة اليهود) إذ يشعرون أن وطأة مساوئ اليهود في بلادهم أثقل عن وطأة أبالسة الجحيم. وسيعانون في طردهم من بلادهم ما عانى الألمان من قبلهم وما يعاني الإنجليز الآن.
هل يعلم القراء أنه مكتوب على أبواب بعض الفنادق الأمريكية: (ممنوع دخول اليهود والكلاب إلى هذا الفندق)، ذلك لأن فريقاً من البشر لم يعودوا يطيقون ثقل هذه الفصيلة(791/2)
الحيوانية التي ليس لها من البشرية إلا الوجه واللسان دون الروح والجنان.
لقد اتضح لكل ذي عينين أن هؤلاء المخاليق لا يقيمون وزناً للعهد ولا للشرف ولا للإنسانية ولا لهيئة الأمم ولا لمجلس الأمن، وجامعتنا العربية سامحها الله لا تزال تتمسك بصدق الوعد وشرف الكلمة في حين أنه لا هيئة الأمم ولا مجلس الأمن ولا برنادوت يحسبون هذه المحمدة للعرب ولا يقيمون لها وزناً.
وما رقباء هيئة الأمم بأشراف كلمة وأطهر ذمة من هؤلاء اليهود. فقد صرحوا أمس بكل وضوح أن اليهود هم الذين احتلوا دار الصليب الأحمر متنكرين في أثواب الرقباء وشاراتهم وقد أرسلوا هذا الإقرار إلى برنادوت. واليوم يقولون لقد تيقظنا صباحا فإذا في الدار عرب ويهود، فلا ندري من دخلها أولاً! فانظر المكر الذي ليس بعده مكر! هل يدخل العدوَّان معاً!.
وإذا علمنا أن بعض هؤلاء الرقباء يهود أمريكيون فلا غرابة في هذا النفاق. وقد سأل بعض الصحفيين العرب أحد الرقباء: هل هو يهودي؟ فأجاب نعم إني يهودي، ولكننا لم نأت بهذه المهمة باعتبارنا يهوداً. بل أمريكيين فتأمل هذا الكلام الفارغ أو اللغو البارد.
أيها العرب! إن سياسة: (أحسنوا إلى من أساء إليكم) لا تنفع شيئاً مع هذه الفصيلة الحيوانية حتى ولا مع جماعة الدول، فإن كنتم تنوون خلاصاً من هذه الكارثة فلا تسألوا عن هدنة مفروضة عليكم فرضاً، وقد فرضها اليهود لكي يستغلوها لأنفسهم. فافتحوا عيونكم وانظروا ما أمامكم.
نقولا الحداد(791/3)
من الأعماق
للأستاذ أنور المعداوي
- 1 -
سأل نفسه وهو يشهد ليلة تنطوي وفجراً يبزغ: أيمكن أن تمر تلك الليلة على إنسان كما مرت عليه؟. . . وسمع جواب نفسه منبعثاً من أعماقه: محال. . .!
وكانت ليلة عيد. . . ولا يذكر أنه أحس القفر في حياته كما أحسه في تلك الليلة، ولا يذكر أنه أنكر دنياه كما أنكرها في تلك الليلة، ولا يذكر أنه استشعر الوحدة والغربة والفراغ كما استشعرها في تلك الليلة. . . لقد كان يشم في كل شئ حوله رائحة الموت، الموت الكريه البشع الذي يتراءى للأحياء في الليالي السود، ويلف الآمال في أكفانه، ويهيل على جمال الحياة أكوام التراب!.
وأشرقت شمس العيد ترسل ضياءها إلى قلوب الناس إلا قلبه. . . لقد بقي وحده في الظلام، ظلام الأماني التي ذوت، والفرصة الكبرى التي انطوت، والدنيا التي ذهبت إلى غير معاد. ولأول مرة منذ سنين، شعر بدافع قوي إلى البكاء، وحاول أن يبكي ولكنه لم يستطع. لقد تجمدت الدموع في عينيه ثم تحدرت إلى قلبه قطرات: فيها من دفء عاطفته، وفيها من وقدة وجدانه، وفيها من لوعة حرمانه. . . وفيها من وهج أساه!.
ونظر إلى السماء نظرة من يبحث عن شئ عزيز قد ضاع منه، أو نظرة من يسأل السماء سؤالاً لا جواب عليه: أين يا رب يجد الصبر وينشد السلوة ويلتمس العزاء؟ كل شئ قد انتهى، وكل جلد قد انقضى، وكل زاوية من زوايا النور قد أغلقتها يد الزمن. . . وها هو يمضي في الحياة وحيداً بلا رفيق، وغريباً بلا حبيب، وجرحاً تخضبت معالم الطريق من فيض دمه!.
إنه ليذكر كيف قضى ربيع العمر منطوياً على نفسه، بعيداً عن الناس، تصلي أفكاره في محراب الشجن. . . ويذكر كيف كان يختلس البسمة اختلاساً، ويغتصبها اغتصاباً، وترف على شفتيه رفيف الشعاع الحائر ترسله على جوانب الأفق شمس غاربة!. . . ويذكر كيف أتى عليه يوم انقلب فيه من حال إلى حال: ابتسم للحياة من قلبه، وأضفى عليها من روحه، وقبس لها من حبه، وأصبح إنساناً غير الذي كان.(791/4)
لقد كان يسير في طريق الحياة ولا يعرف إلى أين. . . لم يكن له هدف يسعى إليه، ولم تكن له غاية تسدد خطاه، ولم يكن له أمل! كل ما يذكره أنه لقي من مرارة السير في الصحراء ما لم يلقه إنسان: لقي فيها الشوك، ولقي فيها القيظ، ولقي فيها الصخر، وذاق فيها ما ذاق من سقي الرمال ولفح السمائم. . . ويذكر أنه لمح يوماً على البعد واحة، وأنه وقف مشدوها لا يصدق عينيه، وقال لنفسه: سراب ومضى في طريقه لا يلوى على شئ؛ وفجأة قالت له قدماه قف، وقالت له عيناه أنظر، وقالت له نفسه: هنا يا مسكين. . . لقد آن للاعب أن يستجم، وللمجهد أن يستريح، وللسفينة الحيرى في خضم الحياة أن تبلغ الشاطئ!.
ونظر إلى السماء نظرة طويلة، حار فيها دمع واضطرب بريق. . . واحة في صحراء؟ ونبع يتدفق ماؤه؟ وزهرة ندية بالعطر فواحة بالأرج؟ كل هذه الأشياء يا رب له؟ أين كانت وأين كان؟!. . . وابتسم للحياة من قلبه، وأضفى عليها من روحه، وقيس لها من حبه، وأصبح إنساناً غير الذي كان!.
وألقى بالماضي كله في زوايا العدم. . . لقد كان يعيش في حاضرته؛ حاضرة الذي داعبته رؤى من المستقبل الباسم، ورقصت على حواشيه أطياف من الأمل الوليد، وانطلقت في أرجائه صيحة العمر الذي بعث. . . هناك حيث ينتظره المجد تدفعه إليه يد حانية، وقلب يخفق، وبسمة تشرق، وروح برح بها الشوق إلى لقاء روح؛ ويا بعد الدنيا التي كانت في قلبه والدنيا التي تراءت لعينيه!. . .
- 2 -
ومضت به الحياة في طريقا تطوي الأيام. . . الزهرة الحبيبة يسقيها من فيض عطفه، والنبع الرقراق يسعى إليه إذا طال ظمؤه، والواحة الوارفة تحميه بظلها من لفح الهجير. . . يا صحراء!: أين كانت الجنة؟ لقد كانت في رحابك وهما بغيضاً لا غناء فيه! يا صحراء: أين كانت السعادة؟ لقد كانت في عذابك حلماً مخيفاً لا تأويل له! وأنت يا زهرته الحبيبة أين كنت؟ لقد قالت له عيناك إن الجنة ليست وهما، وإن السعادة ليست حلماً، وإن ماضيه كله يمكن أن يختصر في لحظة من حاضره؛ ماضيه الذي أصبح ذكرى في طوايا الغيب، وومضة في ثنايا الخاطر، وصرخة كتمت أنفاسها يد النسيان. .!.(791/5)
وفي تلك الدار من ذلك الحي كان هواه. . . يذهب إليها مع الصبح، وحين يقبل الليل، وكلما هزه الشوق وطال الحنين؛ ولن ينسى كيف كانت تستقبله الدار يوم كان يقصد إليها: ملء يديه زهر، وملء عينيه أمل، وملء قلبه حب، وملء نفسه دنيا من الأحلام. . . أبداً لن ينسى الوجه الذي كان يتلقاه باليدين حين يقبل، وبالروح حين يجلس، وبالدعاء حين ينصرف مودعاً إلى لقاء قريب. . .
ولن ينسى أنها كانت تهوى الأدب، وتعشق الفن، ويملك عليها المشاعر كل معنى جميل. . . ولن ينسى أن صلته بها كانت عن هذا الطريق الذي جمع بين قلبها وقلبه، وبين طبعها وطبعه، وبين شعورها وشعوره. . . ومن أجل هذا كله كان يدفع إليها بكل كتاب يقرؤه، وكل مقال يكتبه، وكل أثر من آثار الفن يعلم أنه يلقى من نفسها هوى ورعاية!.
لقد كانت تعجب به حين يتحدث، وحين يقرأ، وحين يكتب. . . أما هو، فيشهد أنه لم يكن يكتب إلا لها، لها وحدها! لم يكن يهمه أن يرضى عنه الناس ما دامت هي راضية، ولم يكن يحفل بأن يتحدث عنه الناس ما دامت هي تتحدث عنه. . . ولقد بلغ به الغرور وهو في غمرة إعجابها به حداً جعله يعتقد أن ليس هناك من يكتب خيراً منه، ولا من يفهم خيراً منه، ولا من يتذوق آثار الأدب والفن خيراً منه!!. . وكان حين يسألها عن أي المجلات الأدبية تحب، وحين يتلقى جوابها مشفوعاً بأسباب التفضيل والإيثار يبعث إلى هذه المجلة بمقال، وإلى تلك بغيره. لقد كان يود دائماً أن يرى نفسه إلى جانبها، حتى إذا عاتبته يوماً على غيابه الذي طال اعتذر لها بأنه كان معها بالفكر والروح، وحسبها وحسبه أن يلقاها وتلقاه. . . بين السطور والكلمات! وتشهد دار الرسالة كلما ظهر له في الرسالة مقال، أنه كان يقصد إليها في يوم السبت ليحمل إليها العدد قبل صدوره لتكون هي أول م يقرأ مقاله وأول من ينقده. . . لقد كانت تحرص دائماً على أن تكون أسبق الناس إلى لقائه؛ تلك التي كان يرجو أن تصبح يوما شريكة حياته. . . وكم بنى من قصور الأوهام ما شاءت له فنونه وشجونه! كم أقام على دعائم الخيال عشهما المنتظر؛ عشهما الجميل الهادئ، ذلك الذي يملؤه الأطفال أنساً ومرحاً وبهجة، تملؤه هي حباً وحناناً ورحمة!!.
يا دنيا الأدب والفن، يا دنيا الجمال والنبل، يا دنيا الجلال والطهر، أنت التي دفعته بيديك إلى الأمام فأنسيته كل معنى من معاني الوراء، وأنت التي بعثت الحياة في وجدانه فأنسيته(791/6)
كل معنى من معاني الفناء؛ وأنت، وأنت، وأنت،. . . فأين أنت؟! أين يا دنيا ذهبت معالمك، وغاض بشرك، ونضب بهاؤك؟ يا دنيا ما أفبحسك، وما أحقرك، وما أهونك. . . حين يضيع فيك الأمل ويخيب الرجاء!!.
- 3 -
وأبدا لن ينسى يا دار هواه، يا من كنت وحي قلمه ومهبط إلهامه وحديث أمانيه. . لن ينسى حين غاب عنك أياماً ثم ذهب ليرى أهلك في آخر يوم من رمضان: ملء يديه كما كان بالأمس زهر، وملء عينيه أمل، وملء قلبه حب، وملء نفسه دنيا من الأحلام. . . لقد كنت يا دار واجمة، كئيبة، يمرح في جنباتك الصمت ويطبق السكون! أين يا دار من كانت تفتح له أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها؟! أين. . أين؟ لقد قالوا له إنها مريضة. . . مريضة؟ وهرع إلى حجرتها مسلوب الوعي، مرتاع الخطو، ملتاع الضمير، وأخذ مكانه إلى جانبها وتناول يديها بين يديه، وألقى على الوجه الشاحب نظرة سكب فيها من ذوب قلبه كل ما ادخرته له الليالي وحفظته الأيام!
أما هي فلم تنطق بكلمة؛ لقد أطبقت شفتيها الذابلتين، وشع من عينيها بريق عتاب لونته الدموع. .
وأطرق برأسه إلى الأرض برهة، وطوفت نظراته الذاهلة هنا وهناك كأنما تبحث عن الألفاظ الحيرى في ساعة اللقاء الرهيب. . . واستطاع بعد جهد أن يجمع شتات نفسه ليقول لها: لا أدري كيف أعتذرإليك. . أحقا كنت غائباً وأنت مريضة؟ كيف بالله لم يحدثني قلبي؟. . ألا تغفرين لي؟!
وأمام اللهفة الحرى والخشوع الضارع والصمت المبتهل، غفرت له!!
ويا لحظة الغفران كم خففت من وخز ضميره، وكم حملت من عبء عذابه، وكم قربت بينه وبين الله!
ومضى يحدثها وتحدثه، ويا عجبا. . . لقد عاد إلى الوجه الشاحب إشراقة الفجر، وإلى الوجنة الذابلة نضارة الورد، وإلى النظرة الفاترة صفاء النبع، وإلى الجسد المنهك تدفق العافية!
وقالتله وهي تستوي في سريرها جالسة: أنظر. . ألا ترى أن العافية قد عادت إلى(791/7)
بعودتك؟ فأجاب والفرحة الجارفة تهز كل ذرة في كيانه: لو كنت أعلم لعدتك قبلاليوم، ولما تركتك نهباً لعوادي السقم! ومضىيحدثها وتحدثه، ويقرأ لها وتصغي إليه، ويبني لها من قصور الأوهام ما شاءت له فنونه وشجونه. وتقول له وهي في غمرة الأماني وزحمة الأحلام: بالله دعنا من المستقبل وخلنا في الحاضر. . إن غداً ليوم عيد، فهل فكرت في أن تهيئ لنا مكاناً جميلا نقضي يومنا فيه؟! ويقول في صوت تنطلق فيه الهمسة من فجاج روحه: أما العيد فأنا اليوم فيه. . وأما المكان الجميل فقد هيأته لك في قلبي!
وترنو إليه معجبة، ويرتسم على شفتيها ظل ابتسامة فاتنة، وتهتف من الأعماق قائلة له: هل تعرف أنك تجيد فن الحوار؟. لماذا لا تعالج كتابة القصة؟. . . أنا في انتظار اليوم الذي تكتب فيه قصتك الأولى.
ويعدها بأن يكتب قصته، ويودعها وتودعه، وينطلق عائداً إلى بيته على أن يراها في صباح العيد. . . ولم يكن يعلم أن المقادير تدخر له أسود ليلة في رصيد العمر، وأبشع صباح في حساب الشعور! ولم يكن يدرك أن ما رآه من ومضات العافية حين جلس إليها كان أشبه بومضات المصباح قد فرغ زيته، فهو يرسل أسطع أضوائه قبل أن ينطفئ، ويتزك الحياة من حوله يختنق فيها النور تحت قبضة الظلام!
لقد طوى الموت في المساء صفحة عمر، وغيب القبر في الصباح أحلام عذراء. ولقد رغبت إليه أن يكتب قصته الأولى، فإليك يا قبرها يقدم أول قصة وآخر قصة.
وكل حقيقة بعدها وهم، وكل واقع بعدها خيال، وكل إيمان بعدها شك، وكل وجود بعدها عدم. . وكل معنى من معاني الخير والجمال بعدها هباء!
أنور المعداوي(791/8)
من رمال المصيف
رسالة في قصيدة
(إلى التي خطرت كالشعاع، ثم عبرت بغير سلام أو وداع)
للأستاذ علي محمود طه
إذا أقبل الليلُ يا حَيرتي ... تفقَّدتُ في الشط حوريَّتي
وُعدت كئيباً إلى غُرفتي ... أراعي الكواكب من شرفتي
وأشعل بالوجد سيجارتي ... فلا البدر حبَّب لي سهرتي
ولا البحر هدَّأ من ثورتي ... وحيداً تسامرني فكرتي!
أأجلس يا بحر وحدي هنا ... فأين من العين ذاك السَّنى
وأين من القلب تلك المنى ... وأين مواعيدُ نادت بنا
وأين والمساءُ الذي ضمَّنا ... لديك وأَلَّف ما بيننا
فيا ويح قلبي ماذا جَنى ... ليحمل هذا الأسى والضنى!
خلا من محُياكِ هذا المصيف ... وأقفر ذاك الندىُّ اللطيفُ
كأني به قد دهاه الخريف ... فليس عليه خيالٌ مطيف
ذَوى بشرهُ فهو أفق كسيف ... وبرٌّ حزينٌ وبحرٌ لهيف
ومْوج له أنةٌ أو وجيف ... وريحٌ تنوح وليلٌ شفيف
غداً يا حبيبةُ عند المساءِ ... ستسأل عنا نجوم السماءِ
ألم يضربا موعداً للقاءِ ... على صخرة بين رمل وماءِ؟
أجل يا حبيبةَ هذا الضياءِ ... ذهبنا وعُدنا بحكم القضاءِ!
غريبين نضرب عبر الفضاءِ ... كأنا على جفوة أو تنائي
مددت إليك يد الواثق ... فعادت بلذع جوي حارق
وأبعدتِ يا رحمة الخالق ... فم الحبَّ عن نبعك الدافق
تعاليْ إلى روحي الوامق ... تعالي إلى قلبي الخافق
تعالي على عهدك السابق ... تعالي إلى إلفك العاشق!(791/9)
(سيدي بشر)
علي محمود طه(791/10)
رحلة في ديار الشام في القرن الثامن عشر (الثاني
عشر الهجري)
(الحلة الذهبية في الرحلة الحلبية)
لمصطفى البكري الصديقي
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
كان الداعي إلى هذه الرحلة، رغبة الشيخ مصطفى البكري في زيارة بغداد فيقول في مقدمة رحلته (كان كثيراً ما يختلج في بالي، فيهيج أشواقي وبلبالي، زيارة بغداد ورجالها الموالي. فأصد عن الشرب من نهر دجلتها وقربانه، والغرام يزيد إلى علم الشرق الفريد وصاحب المذهب المذّهب السعيد والكاظم وولده الوحيد، السامي كل منهم على أقرانه، وغيرهم من أعيان، أرباب عيان) الخ. . ويخص من الأعيان سلطان الأولياء سيدي عبد القادر الجيلاني، وكان قد انتسب إلى طريقته وتراءى له في المنام فعزم على التوجه إلى حلب ومنها إلى بغداد، ولكن زوج والدته منعه من ذلك مخافة الحر، وخشي تعرض العربان له بسوء. فعدل عن زيارتها، ورأى أن يتوجه من حلب إلى زيارة مقام سلطان الزهاد إبراهيم بن أدهم في جبلة ومنها إلى طرابلس الشام فبيروت فبيت المقدس. وكان رفيقه في الطريق السيد مصطفى بن عبد الرحمن المنيني وأخاه لامه أحمد.
وقبل ما تحرك خاطر الشيخ، لتلك المنازل العواطر، سأل الشيخ أحمد، فكاشفه قبل الاستشارة وصرح وما اعتنى بالإشارة. وجاءه في هذه الأثناء الأخ الشيخ مصطفى بن عمر الخلوتي وطلب للولد القلبي إسماعيل الحرستاني بالدعوة والإرشاد، ولبس الكسوة على المعتاد، فأذن له.
ثم كرر الشيخ الاستخارة في السير، موقع الإذن بالمسير يوم الجمعة لعشرين خلت من شهر رجب سنة (112هـ - 1715م) فتوجه وبات في قرية (القصير) ورافقه بعض الإخوان مودعين ثم سار إلى أن وصل (القُطيفة) ومنها إلى (قارة) ومنها إلى (النَبْك) المشتية أهلها فيها والمصيفة، ثم إلى (حسية) ومكث يومينومنها إلى حِمْص وهو بلد يذكر ويؤنث. وأقام في جامعها الكبير، وزار من بعيد مقام خالد بن الوليد، مات بحمص سنة(791/11)
إحدى وعشرين (641م).
ويقول الشيخ (ولم يعشم لنا نصيب، بدخول مدينة حمص العجيب، تكويناً ومزدرعاً وأمواهاً، لأن الخراب عمها حتى فيها ظهورها تناهي، وكان أكثر خرابها من الموالي الذين منوالاهم لم يوال الموالي، على أن فيها من المزارات السادات الكثير ويغلب على أهلها البلاهة والتغفل مع الجد والتشمير، ولقد دخلت جامعها الكبير فرأيته آيل إلى التعمير، فصليت فيه الظهر والعصر، بنفر غير كبير).
وفارق حمص في الصباح، ولم يسر غير قليل حتى بزغت الشمس وإذا بخيول كأنها سيل يسيل من عرب يفسدون في الأرض دون إصلاح، لا يعرفون صلاحاً ولا سلاحاً حتى في صلاح، يرون نهب أموال الخلق مغنماً، وسلامة الخطار من شرهم مغرماً، فأنعمت القافلة كالحرف المشدد، وانحازت المقاتلة إلى جهتهم بالرأي المشدد، فصرف الحق قلوبهم وفَلوا وبعد الكثرة والاجتماع تفرقوا وفلوا وشم الشيخ قرب انصرافهم رائحة قرنفل فقال (قُرِن فلُّ ربِهم) فولوا، ولم يحصلوا على ما أملوا، وأصابهم من الله ضيراً، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراُ، وعند قرب جسر الدستن كرف ورداً، فقال الشيخ وراد فإذا قافلة تكد كداً).
وفي قرية الرستن مرقد الإمام أبي يزيد طيفور بن عيسى السطاوي، والمذكور له مشيخة على الشيخ، فقرأ له الفاتحة. وقرب العصر وصل حماة، ونزل في جامع مطل على العاصي. وسأل الشيخ من أهل البلد عن سبب خراب ديرتها، فقالوا له قبيلة العرب الموالي التي تنفر الطباع من سيرتها. وقد أشجاه صوت نواعيرها السامي، وأبكاه سراً إذ أنكاه جهراً تذكار مربع مربع وطنه الشامي، غير أن نواعيره صغيرة، وهذه كثيرة كبيرة، وأنشد بيت الصلاح الصفدي:
أبدى لنا الدولاب قولا معجباً ... لما رآنا قادمين إليه
إني من العجب العجيب كما ترى ... قلبي معي وأنا أدور عليه
قال في القاموس: العاصي العرق لا يرقأ ونهر حماه واسمه الميماس والمقلوب، لقب به لعصيانه فإنه لا يسقى إلا بالنواعير.
وسار إلى المحطة ونزل على العاصي، قرب ناعورة تسقي مروجاً أنيقة فتنبت النبات(791/12)
الحسن النهج والطريقة، وفي الصباح سار يقطع البطاح، ويوصل الليل بالنهار من السهاد، وكان قد وصل إليه كتاب من بعض الأحباب، صدره ب:
يا نسيماً هب من وادي قبا ... خبرينا كيف حال الغربا
كم سألنا الدهر أن يجمعنا ... مثل ما كنا عليه فأبى
وتوجه نحو (المعرة)، وهي على مرحلتين من حلب فبات بها، ثم سار إلى قرية (سرمين) المحتوية على الألوف لا المئيين، ونزل في جامعها الحصين وسار ليلا قاصداً حلب وشهباء، وأصابه عطش لقيظ وحر، حتى وصل سبيل المرأة المرحومة، فشرب وشربت القافلة، وكان معه أخوه لامه أحمد فسبقه معلماً والده الحاج إبراهيم الطويل، فأخذه إلى بيته في القلعة، وكانت تصعب عليه الطلعة، وبعد ثلاثة أيام نزل إلى خلوة في العادلية. وكان الوصول إلى حلب في أوائل شعبان المبارك.
وبعد أيام جاءه رفيق السفر السيد مصطفى المنيني يرجوه بإلحاح أن يمدح مفتي الديار الحلبية أبي السعود الكواكبي. فتردد الشيخ مراراً من الظهور ولكنه نزل على إصرار رفيقه فقال:
سماء الدنيا قد زينت بالكواكب ... كما زينت الغبرا ببيت الكواكبي
أناس لهم في ذروة المجد منزل ... يجل ويعلو فوق كل المراتب الخ.
وقد سر بها المفتي، ودعا الشيخ إلى داره ولما استقر به المقام جاءه عمر أفندي النقيب وسأل عنه، وعن ابن عم الشيخ، وسبب تغير مزاجه، وكان قد اجتمع به لما أتى مع أعيان الشام لملاقاة الشيخ مراد، فأجابه أن هذا الأمر أخبر عنه الشيخ عبد الغني النابلسي. ثم استفسر عن قضية الدراهم التي طلبت منه بعزمان، فلخص له القصة وأنها كانت زوراً وبهتاناً، ومن جملة الشهود على أنها باطلة الشيخ عبد الغني، وأعيان الشام وقد أعلم الشيخ المذكور الوزير بالقضية في مكتوب كبير فجاء العفو، وقبول شهادته. ولم يجتمع الشيخ البكري بالمفتي إلا في العيد بعد الصيام، وكان يتردد وهو في حلب على تكية الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا، وليس في خارج حلب أنزه من تكيته وأعجب، ولذا قيل فيها صالحية حلب واصطحب معه شيخ التكية، الشيخ على، وتردد عليه مراراً، وتمرض هو والدادة علي، وعوفي المذكور وتوفي الدادة. وطلب الشيخ مصطفى المنيني رفيقه في الطريق(791/13)
الرجوع، فكتب الشيخ كتاباً إلى الشيخ إسماعيل الحرستاني وطلب منه أنه يسلم له على الحاج إبراهيم الدكاني ويستدعيه فلما حضر، أذن للشيخ مصطفى بالسفر.
وممن زاره في حلب الحاج على الكارجي (وطلب منه الخوة، ورجا الذكر يوم الفتوة) فأنا له مأموله، واستصحبه معه إلى (الحلوية) وحضر ذكر السيد محمد، خليفة الشيخ قاسم الخاني وكان المنشد الشيخ حسن، وكان ينشد أبيات سيدي أحمد ابن عبد الله الإسكندري ولما وصل إلى قوله:
أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما حسن العفو
فبكى وأبكى الحاضرين. وكان الشيخ يتردد على هذا المجلس لالتماس البركة مستعملا الذكر القلبي الخالي عن الحركة ويقول عن أهل حلب والعهدة عليه (ورأيت في هذه الكرة أن أهل حلب عندهم رقة وخلاعة بالمرة، وأنهم أخلع من أهل الشام للعذار وأشجع في تناول أقداح الغرام لوجد ثار، وأهل الشام أجلد في السير وأخلد في طلب المير لأرض الخير، فإني كنت أراهم عند سماع الأشعار المديحية في رمضان يبكون ولدى قراءة القرآن لهم خشوع وسكون).
ولما سمع زوج والدته الحاج إبراهيم الطويل بنية الشيخ زيارة بغداد منعه وأقسم عليه، خوفاً من الحر ومن شر العربان. فعزم على زيارة سلطان الزهاد إبراهيم بن أدهم. فتوجه في منتصف شوال إلى تلك المحال، وسار إلى قرية (كفتيين) وهي من قرى طرابلس الشام، وهم ليسوا من أهل السنة، ينتظرون نزولالحاكم بأمر الله، ووصل (جبلة) وزار مقام إبراهيم بن أدهم وأقام هناك ذكراً.
وسار في اليوم الخامس والعشرين من رجب ومر على طرسوس، ورأى قلعة ارواد، وجاء الرفاق منها بزاد، وشاهد قلعة المرقب المنيعة، وبات قريباً من البلد في مكان نزيه يقال له بركة البداوي. وقدم إليه الشيخ مصطفى القلا ونزل مدرسة الحدادين ثم خلوة الجسر المكين، ثم القادرية البهية، واختلى بها عشر ذي الحجة. وكان الشيخ عبد الله الخليلي المهتدي يتردد عليه، ومدرسة الحدادين قريبة من دار السيد مصطفى القلا، وانضم إليهم الحاج محمد بن الحاج موسى العطار، ثم الشيخ مصطفى الرفاعي ودعاه لداره، وطلب الطريق وتبعه الشيخ عامر الصعيدي، وكانا لا ينفكان عن قرائه الأوراد الأول في تكيته،(791/14)
والثاني في (المنية) في مسجده عند جماعته.
وكان جناب الصديق السيد محمد التافلاتي نجل مولاي أحمد وهو ابن عم مولاي إسماعيل ملك المغرب، ينتهي نسبهم إلى سيدي عبد الله المحض، قد ورد إلى طرابلس من بيت المقدس، ولم يكن الشيخ قد اجتمع به قبل ذلك، فأرسل يطلب الاجتماع بالشيخ فسر به ولكنه لم يطل الإقامة، وكرر الزيارة. وذهب الشيخ بعد ذلك إلى قرية (المنية) لزيارة مقام النبي يوشع، وقرائه الأوراد، واصطحب معه زمرة من أفاضلها كالسيد علي ابن دبوس، وأخيه السيد محمد والسيد أحمد المفتي، ومن بيت السيري، الشيخ أبي حامد العمري، ومن أولاد السيرمي الشيخ عمر.
وأكثر الشيخ التافلاتي التردد على الشيخ، وكذلك الشيخ عبد الله، وتردد الشيخ عليه في المدرسة التي نزل منها في سوق الحدادين، وتوجه للمنية غير مرة وبات لدى الشيخ عامر الصعيدي. وورد عليه كتاب من الشيخ أحمد الميقاتي بالقدس، يبلغه حلول دار السلامة بسلامة، وضمنه سؤال طويل، عن بيت لسيدي عمر الفارض الذي يقول في مطلعه: (أروم وقد طال المدى، منك نظرة) فأجابه برسالة سماها (رفع السير والردا عن معنى قول العارف أروم وقد طال المدى). ثم كروا على زيارة يوشع بن نون، للوداع، وصحب كل واحد منهم زاد قناق، وجاء السيد محمد بن أحمد التافلاتي بصحن كبير من المغربية ما لها نظير فأكلوا بعد الشبع. وبعد العشاء أقاموا مجلس ذكر وكان الحادي الأخ إبراهيم الحرستاني، وغيره ممن صحب الشيخ في سيره الرباني.
وفي أول جمادى الثاني عزم الشيخ على التوجه للقدس، ولم ينثلج صدره إلا للتوجه في البر دون البحر، فبات ليلة الوداع عنده الشيخ مصطفى بن الشيخ سليمان الرفاعي، والسيد مصطفى القلا، والشيخ عبد الله وجماعته، وكانوا قد تجمعوا فوق الثلاثين، وتوجه الشيخ إلى بيروت وقطع نهر الديمور. ونزل في جامعها الكبير المعمور، ودعاه الشيخ مصطفى الحجيجي الشامي ومر بعد الظهر بصيداً، وقطع جسر نهر الكلب ليلا، أقام فيها خمسة عشر يوماً ينتظر السير براً فما تيسر إلا بحراً، فركب منها ضحوة وضل قبيل الغروب عكا، ونزل في جامع البحر، واجتمع فيها بصديقه القديم الشيخ أحمد، وسار بعد العشاء مع القافلة نحو جينين وقطع نهري النعائم والمقطع ثم أتى جينين وبات فيها ليلتين عند الحاج(791/15)
عبد الرحمن وفي صبيحة الليلة الثانية سار إلى نابلس، وبات عند أولاد سيدي يعقوب، وفيما هو هناك وفد عليه السيد محمد السلفيتي بغير اتفاق فسر به. وقرأ له الموشح الأول الذي نظمه ومطلعه:
إن رمتموا تشربوا الحميا ... وتستقوا من دنان ريا
والميت يغدو بالقرب حيا ... وفي حبيب الحشا تباهوا
فشنفوا سمعي وقولوا ... الله الله الله يا هو
والموشح الثاني ومطلعه:
بارق القرب حين لاح لعيني ... غبت عني وزال عني أيني
وانمحت ظلمتي بذاك وغيني ... وشهدت الحبيب في المحراب
وقد بكى السلفيتي عند سماعهما. وارتأى عليه المنام عند المحب الشيخ خليل الحارثي خليفة الشيخ محمد المزطاري، فبات في خلوته التي في المارستان ليلتين، وبعد الشمس سار إلى قرية (حجة)، فتلقاه أهلها بالترحاب، ونزل في الخلوة المرفوعة، وبات ليلتين، وتوجه عشية النهار إلى (دير أسطيا)، ورأى مجذوبها الشيخ خاطر في بعض القرايا خاطر. وكان الشيخ وهو في نابلس أرسل للإخوان في القدس، خبر قدومه على الديار ليأهبوا له محلا للنزول، وبعد صلاة المغرب سمع عن بعد صهيل خيل، ورأى عجاجة، فسأل فقيل إخوان صفا من سكان القدس، وكانوا السيد أحمد الموقت ونور الدين الهواري ومعه جمع من الإخوان فسر بهم كثيراً. واقترح بعضهم زيارة سيدي علي ابن عليل، فوافقوا وكدوا السير إلى (كفر ثلث) واجتمع الشيخ فيها، بالشيخ علي الرابي، ووصل المقام بعد أن دخل الغابة ليلا خوفاً من الطير وجاءه هناك الشيخ رضوان الزاوي ومعه كبكبة من أهل الود، فبات ليلة طيبة، وسار على طريق الطواحين وأقال لشدة الحروبات في (الزاوية) عند رضوان، ودعاه إلى (مسحا) الشيخ طه، ومنها إلى (بديا) ثم (سرطا) فتلقاه بها مصلح بن صلاح الدين وزار الولي المشهور فيها الشيخ عبد الله. ثم أتى (كفر عين) ونزل عند مقام العيص، وفي أواخر جمادى الثاني دخل بيت المقدس ونزل في الخلوة البيرمية الفوقانية. وتردد على دار الشيخ نور الدين الهواري. وفي أوائل شعبان وصل جناب الشيخ محمد الخليلي وصحبته، الشيخ إسماعيل ين جابر بن رجب النبيل بن أحمد(791/16)
البغدادي، وكان أرسل للشيخ محمد من حلب كتاباً صدره بقصيدة يعارض فيها قصيدة شيخه، الشيخ عبد الغني النابلسي:
صرفنا عنان العزم عن غيرها صرفاً ... وقمنا إليها نحتسي خمرها صرفاً
كما أرسل له من طرابلس الشام ثلاثة كتب ضمنها أكثر من قصيدة. وانتقل في أول رمضان من البيرمية إلى خلوة جار الله.
(البقية في العدد لقادم)
أحمد سامح الخالدي(791/17)
العزلةوأثرها في الأجناس
للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي
يهتم الجغرافيون بدراسة مناطق العزلة لأهميتها في الدراسات الجنسية ذلك لأن الأجناس البشرية مهما كانت تابعة لنوع واحد فإنها لا تخلو من وجود اختلاف بين الأفراد. فإذا عزلنا مجموعة خاصة من النوع البشري في إقليم منفصل وتركنا هذه المجموعة في عزلة تامة عما يجاورها لحد ما فلا بد لها بسبب هذه العزلة أن تكتسب صفات جديدة غير موجودة في المجموعة التي اقتطعت منها ثم تقوى هذه الصفات بمضي الزمن واستمرار العزلة حتى يأتي وقت نرى فيه تكوين جنس جديد في هذا الإقليم المنعزل وعلى هذا الأساس يظن بعض العلماء أن الأجناس الثلاثة من سوداء إلى بيضاء وأخرى صفراء قد تكون كل منها في عزلة عن الآخر بهذا الشكل. وتعرف هذه المناطق التي تتكون بها الصفات الجنسية بمناطق التكوين لهذا يجب أن تكون منطقة التكوين إقليما منعزلاً إلى حد كبير ومثل هذه الجهات يقصدها الإنسان إما بالمصادفة أو للبحث عن الرزق ثم يظل بها زمناً طويلا يكتسب فيها بحكم العزلة والبيئة الجديدة وما تتطلبه من حياة خاصة صفات جديدة تصبح فيما بعد من مميزاته الخاصة.
والإنسان بطبيعته شديد الرغبة في الانتقال وقد ساقته هذه الرغبة إلى الانتقال لغير موطنه وترتب على ذلك خلط بين الأفراد ونشأة أجناس وانقراض أجناس أخرى، وقد اشتد الخلط خصوصاً في العصور الحديثة بدرجة تعذر معها الحصول على فرد يمثل جنساً معيناً مع علمنا بأن هذا الجنس موجود في مكان خاص وذلك لأن الصفات الجثمانية لا تتوفر في شخص واحد وإنما توجد موزعة بين الأفراد جميعاً، ولهذا ففكرة وجود جنس نقي تماماً تكاد تكون خيالية حتى في الجهات البعيدة المنعزلة. فمثلا جزر الأندمان التي يظن أنها تقطن بأنقى الأجناس قد وجد في ثقافتها ما يدل على اختلاطها ولا يستبعد أن يكون هذا الاختلاط الثقافي قد حمل معه اختلاطاً جنسياً. والإنسان بطبيعته كسول فهو يتفادى المناطق التي لا يجد فيها راحته ولا يلجأ إليها إلا مضطراً، لذلك كانت الموجات الحديثة تطرد أمامها دائماً الموجات القديمة إلى الجهات السحيقة الغير محبوبة، ولهذا يمكن القول أن سكان مناطق الأطراف أو العزلة يمثلون أقدم العناصر بالنسبة لما يحيط بها.(791/18)
وهناك فرق بين المناطق المعزولة والمناطق العازلة، فمثلا سهل المجر تحيط به جبال فهو منطقة منعزلة، وأما الجبال نفسها فهي مناطق عازلة. إذن فمنطقة العزلة إقليم وعوامل العزلة ظاهرات تضاريسية أو مناخية أو نباتية أو مائية، فبرودة المناخ في أقصى شمال أوربا جعلت قبائل اللابس في حالة قريبة من العزلة وتعزل الجبال الأجناس بعضها عن بعض حتى إن الجبل الواحد يعزل على كل من جانبيه جنساً خاصاً يتكلم لغة خاصة كما هي الحال في سويسرا أضف إلى هذا أن الجبال كذلك تعتبر ملاجئ للأجناس الهاربة إذ تجد فيها مأوى تلجأ إليه إذا استهدفت لأي خطر يهددها بعكس السهول فهي تساعد على الاندماج بين الأجناس إذا تعددت لانبساطها. أما الغابات الاستوائية في وسط أفريقية فهي ملجأ للأقزام بعد أن كانوا يشغلون كل أفريقية الاستوائية من المحيط الأطلسي إلى الساحل الشرقي المطل على المحيط الهندي بدليل وجود بقاياهم في المناطق الشرقية، ولكنهم لجئوا إلى هذه الغابات على أثر موجات الحاميين التي أخذت تفد على أفريقية عن طريق باب المندب دافعة أمامها العناصر الزنجية إلى مناطق العزلة حيث الغابات كما طردتها إلى الجنوب ومن هناك إلى صحراء كلهاري حيث نجد بعض عناصر من جماعات البوشمن السائرة في طريق الإبادة، وقد كانت جماعات الهوتنتون أول من طردهم، ثم تلتهم جماعات البانتو، حتى إذا ما جاء الأوربيون إلى تلك الجهات في القرن السابع عشر زادوا في إبادتهم وساعد على ذلك أن شعب البوشمن لم يستطع التكيف بالظروف الجديدة.
ونظراً لأن الهجرات البشرية في أفريقية قد اتخذت طريقها من الشرق إلى الغرب، لذلك كانت مناطق العزلة غرب القارة كما توجد أعقد المناطق الجنسية هناك، وهذا ما نلاحظه أيضاً في أوربا حيث أن تيار الهجرات قد اتخذ طريقه من الشرق إلى الغرب عن طريق السهل الأوربي الشمالي الذي يقع بين مرتفعات في الجنوب وأخرى في الشمال فلا تجد الهجرات أسهل من هذا الطريق عند انتشارها على هيئة موجات من الشرق إلى الغرب ولذا كان هذا السهل طريقاً للغزوات في مختلف عصور التاريخ ولا يزال إلى الآن مسرحاً للحروب والقتال، ومما ساعد على تكرار هذه الغزوات أنه لا توجد حدود طبيعية تفصل بين أجزاء هذا السهل، وأصبح من الصعب تحديد الحدود بين دوله المختلفة. وإذا كان مظهر تيار الهجرات في أفريقيا قد اختلف في شكله عما هو في أوربا، فذلك راجع إلى(791/19)
طبيعة المنطقة التي تصل شرقي القارة الأفريقية بغربيها، حيث الغابات بمسالكها الصعبة مما دفع الهجرات إلى الدوران حول هذه المنطقة إما عن طريق الجنوب أو عن طريق الشمال فخففت هذه الدورة من حدة الهجرات وجعلت بينها فترات منتظمة ساعدت على هضم بعضها فلم تكتسب ذلك المظهر الحربي الدموي الذي نطالعه في التاريخ الحبشي لقارة أوربا.
وعند دراستنا لأثر الحاميين الشماليين في زنوج السودان الغربي نجده أقل ما يكون في منطقة الغابات الساحلية، لأنها لا تشجع العناصر الحامية على سكناها وإذا كان الدين الإسلامي نتيجة لذلك قد أخذ ينتشر في الأجزاء الشمالية من السودان الغربي فإن البعثات التبشيرية الأوربية قد انتهزت هذه الفرصة، وأخذت تغزو هذا الإقليم من الجنوب حيث يزاحمها الإسلام هناك ويظهر كذلك في مدى انتشار الدين الإسلامي في المنطقة التي حول بحيرة تشاد إذ نجد هناك بعض قبائل وثنية استطاعت أن تحتفظ بشخصيتها في مناطق المستنقعات على الرغم من تأثير الإسلام في السودان الأوسط، وما ذلك إلا لأن هذه المستنقعات ما هي إلا مناطق عزلة قد لجأت إليها هذه القبائل. أما في منطقة السودان الشرقي فنجد جماعات النوبة تسكن في التلال الواقعة في كردفان والظاهر أنها كانت تسكن السهول أولا، ثم طردتها القبائل العربية الغازية إلى مكانها الحالي وبفضل منطقة السدود استطاعت قبائل النوبة في جنوب السودان المصري أن تقاوم الأثر الحامي الذي يظهر بوضوح في قبائل الشلوك الساكنة بين النيل الأبيض وبحر الجبل.
أما الواحات فيمكن اعتبارها مناطق عزلة لحدودها المنيعة التي يصعب على كل أحد أن يصل إليها، لذا فهي تمثل عناصر نقية إلى حد كبير، وهذا سبب ما نراه في بعض الواحات من عادات ولغات خاصة كما هي الحال في واحة (سيوة) بمصر وواحتي (زلة) و (جالو) في لوبيا. ولكن يجب ألا ننسى أن هذه الواحات كثيراً ما تستخدم محطات لطرق القوافل بين الساحل الأفريقي الشمالي والسودان جنوباً فساعد ذلك على وصول بعض عناصر جديدة إلى هذه الواحات تركت بلا شك أثرها في السكان الأصليين فضلا عن أن أهل البادية كثيراً ما يغزون هذه الواحات ويشاركون أهلها في معيشتهم عند جدب أراضيهم فيختلطون بأهلها ويؤثرون فيهم.(791/20)
وإذا بحثنا عن مناطق العزلة في أوربا وجدناها قليلة بالنسبة إلى ما هي عليه في أفريقية، وكثيراً ما تكون مناطق العزلة في أوربا نتيجة للسلاسل الجبلية التي تعوق اندماج العناصر. ومن الأمثلة على ذلك جماعة الباسك التي تسكن على جانبي جبال البرانس في أسبانيا وفرنسا حول خليج بسكاي، وهم يكونون شعباً خاصاً لا تؤثر فيه الأقسام السياسية ولا الطبيعية، ولذلك يعلل بعض العلماء وجودهم بأنهم بقايا لأجناس كانت تسكن شبه جزيرة إيبيريا وفرنسا، ثم طردتها عناصر شمالية وأخرى جنوبية إلى هذه المنطقة التي تحتلها الآن. وتتكلم جماعات الباسك لغة خاصة بها ليست متصلة باللغات الآرية، ولا تزال تحتفظ بعاداتها الخاصة أيضاً. غير أنه يلاحظ أن جماعات الباسك في أسبانيا تسير في طريق الانقراض نظراً لاختلاط الأسبان بهم، وربما كان هذا لازدحام المناطق بالسكان الذين اندفعوا إلى جهات الباسك لاستغلالها بعكس ما عليه الحال في فرنسا.
وتبدو آثار العزلة واضحة في أهالي الجزر البريطانية لتطرف موقعها، ولذلك وصلتها موجات الهجرة متأخرة، وليس معنى هذا أن الموجات المختلفة قد صعب عليها الوصول إلى الجزر البريطانية، فالبحر الذي يفصلها عن بقية القارة ليس عميقاً أو متسعاً، بل كان في الواقع عامل ربط أكثر منه عامل فصل. ولكن رغم كل هذا فموقعها المتطرف خصوصاً الأجزاء الغربية منها وجزيرة أيرلندا قد أعطاها ما يلائم حالة العزلة كما أن طبيعة البلاد وما نلاحظه من وجود السهول في الشرق والمرتفعات في الشمال والغرب قد جعل اتصال العناصر بعضها ببعض صعب، ولذا تعسر الموجات التي أتت من الشرق أن تؤثر كثيراً في الجهات الغربية، وكان في معظم الأحوال الوصول إلى الغرب يتم عن طريق الدوران حول الجزر البريطانية.
وقد أثرت هذه الحالة في تاريخ إنجلترا السياسي فهي لا تشترك في المسائل الخارجية إلا بقدر ما يمس مصالحها. وأصبحت سياستها الحربية تدور حول محور موقعها فحيث أنها جزيرة يجب أن تكون أقوى دولة بحرية في العالم، وإلا تسمح لأية دولة أخرى بالتفوق عليها في هذه الناحية. وهناك أثراً آخر لهذه العزلة في تطور النظم النيابية فيها حيث انتشرت الروح الديمقراطية بين سكانها لأن البلاد ليست في حاجة إلى قوة عسكرية دائمة بفضل موقعها الجغرافي، لذلك كانت السلطة الحاكمة تخشى محاولة الاستبداد بالحكم حتى(791/21)
لا تقوم الثورات في وجهها فتعجز عن قمعها وتعرض سلطتها للزوال. لهذا احتفظت إنجلترا بسياسة التطوع في سلك الجندية ولم تحاول اتباع نظام العسكرة الإجباري إلا في الحرب الكبرى الأولى حين أجبرتها الضرورة على ذلك وبعد إلحاح فرنسا عليها حتى إذا ما انتهت الحرب عادت إلى نظامها القديم، ولكنها في الحرب الأخيرة أيضاً عادت إلى طريقة الإجبار في تكوين جيشها.
ونظراً لما وصلت إليه البلاد من تقدم وديمقراطية فإن جماعة الويلش التي تسكن مقاطعة ويلز ما زالت محتفظة بكيانها الخاص وعاداتها ولغاتها الخاصة بعكس ما تراه في البلاد المتأخرة حيث تضطهد الأغلبية الأقلية، وتعمل على إبادتها.
(مسراته - لوبيا)
مصطفى بعيو الطرابلسي(791/22)
تعقيب:
تحية العلم
للدكتور السيد محمد يوسف الهندي
قرأت مقال الأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك المعنون (تحية العلم) المنشور في (الرسالة) العدد 786 يحدثنا فيه عن واجب الاحترام للعلم ويأسف لإهمال إخواننا المصريين تأدية ذلك الواجب على الوجه الرائع المألوف عند أهل جزيرة كافو فقلت لنفسي: إن من الطبيعي أن يتأثر كل من يشاهد ويلاحظ ذلك الفرق بين تقاليد الشعبين كما تأثر به الأستاذ الفاضل ولكن أو ليس أحرى بنا نحن الشرقيين المسلمين إن نطيل الفكر في مثل هذه الفروق حتى ندرسها درساً وافيا ونستخلص روح الحياة الغربية فنتعظ وننتفع بها دون أن ننقل مظاهرها إلينا فنتسلى ونغالط أنفسنا بمجاراة الأمم الراقية؛ ما من شك أن حياتنا في الوقت الحاضر منحلة تماماً غير منظمة ولا منسقة ونحن نحتاج إلى كثير من الإصلاح في عوائدنا وأخلاقنا ولا بأس بأن يجئ الاحتكاك بالأمم الأخرى كحافز لنا على الجد والعمل في سبيل التقدم والرقي ولكن يجب قبل كل شئ أن نأخذ حيطتنا لئلا يتحول شعورنا بالتأخر إلى الشعور بمركب النقص فيكون كالكابوس الجاثم على أفكارنا وعقولنا حتى ينسينا أننا أمة لها ماض مجيد ولا يتأتى لها التقدم إلا بالرجوع إلى ماضيها ووصل حاضرها به. هذه هي المرحلة التي يقول الدكتور إقبال الحكيم الشاعر الهندي المعروف، إن كثيراً من الشعوب الشرقية فشلت في اجتيازها فإنها لما روعها تغلب الغربيين عليها وبهر أعينها تقدمهم في ميادين الحياة المختلفة، بدأت تنشد وتتلمس أسباب هذه القوة الظاهرة والتقدم الباهر فظنت أن تلك الأسباب لا تعدو اللادينية والحروف اللاتينية ولبس البرانيط وتمزيق البراقع وتأبط ذراع الحليلات في الشوارع ومداعبة الخليلات في الأندية والحفلات وما إلى ذلك من مظاهر الحياة الغربية التي لا تمت بصلة لا قريبة ولا بعيدة إلى تقدم الغربيين وقوتهم وشوكتهم.
مضت الأمم الشرقية تتهافت على تلك المظاهر تهافت الفراش على النار وتنقلها بحماسة بالغة وفي بعض الأحيان بقوة وعنف إلى أرضها وديارها ظناً منها أنها تجاري بهذا الطريق الأمم الراقية كأن طريق الرقي والتقدم كله هزل ومتعة ولذة!.(791/23)
وخلاصةالقول إن مقال الأستاذ ساطع الحصري بك جاء أية للأخذ بالقشرة دون اللبّ ونقل مظاهر الحياة الغربية كما هي دون الاستفادة بروحها في حياتنا الخاصة.
فإن التحية للعلم ليست إلا مظهراً لروح النظام والولاء وأولى بنا أن نطبق هذه الروح على شعائرنا الخاصة وتقاليدنا المألوفة دون أن نتقيد بالشكل الذي تظهر فيه تلك الروح في أي بلد من البلاد أحلف بالله أنه يغمرني من الأسف واللهف أكثر مما غمر الأستاذ كاتب المقال حينما ألحظ في غدواتي وروحاتي أن المؤذن يؤذن للصلاة والآذان يذاع بالراديو فلا يحرك ساكنا ولا يسكن متحركا وترى المارين في الشوارع والتجار في المحال والجموع المحتشدة أمام دور السينما والملاهي وكأنهم لم يسمعوا شيئاً!!! أفلم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه كيف يردون على الداعي إلى الصلاة والصلاح والفلاح! أفليس من صميم تقاليدنا ان نكف عن العمل ونذر البيع ونسعى إلى ذكر الله؟ أفلا يكون منظر مثل هذا أروع من التحية للعلم، وأدل منها على روح النظام والولاء؟ وكذلك أرى أن القرآن يذاع بالراديو صباح مساء ولا يكون له وقع ما، في نفوس العاطلين العابثين الهازلينالآثمين الجاثمين على الأفاريز وداخل المقاهي فهم لا يستمعون له ولا ينصتون بل يستمرون في لعبهم بالنرد ولهوهم بأنواع شتى من اللهو وقد تأصل فيهم هذا الداء إلى حد أنهم يدأبون في ساحة الفاروق كما يدأبون في المحال العامة. قد كنت أقرأ وأنا بالهند عن اهتمام ملك مصر بإحياء ليالي رمضان فتشرق نفسي إلى شهودها فلما حقق الله لي تلك الأمنية وحضرت إحدى تلك الحفلات الملكية كنت أتوقع أن أجد المستمعين كأن رؤوسهم الطير وخفت أن تصدر مني هفوة لصوري عن معرفة الآداب المرعية هناك ولكني اكتشفت أن الأمر أهون بكثير وبدأت أفكر في نفسي وأتساءل: أولا يليق برجال القصر والمشرفين على تلك الحفلات أن يعلموا الجمهور درساً في آداب الاستماع إلى أي الذكر الحكيم فيضيفوا بذلك فضلا ويداً إلى أيادي الفاروق المتجددة؟ ولا شك أن مثل هذا الإصلاح هو أول واجب على عاتق الأزهر الشريف ولكن أخاف أن لا تكون حياة لمن يناديهم الأستاذ محمود الشرقاوي كاتب مقال (الأزهر والإصلاح).
وخلاصة القول أن الحياة الإسلامية مليئة بمظاهر روح النظام والولاء لو أننا تمسكنا بالعروة الوثقى وسعينا لإحياء تقاليدنا أكثر من الطموح إلى انتحال عوائد الأمم الأجنبية فإن(791/24)
اقتراح الأستاذ ساطع الحصري بك إنما يذكرني بحكاية ناظرة مستشفى نقلت من بعض بلدان شرق أوربا الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة من أحرّ مناطق الهند فأمرت بفتح جميع النوافذ والشبابيك وقت الظهيرة كما كانت اعتادت ذلك من قبل في الجو المعتدل الذي تركته وراءها وكان الأولى أن تغلقها. ولا بأس بأن أذكر بهذه المناسبة أن الجامعة الإسلامية بعليكره (الهند)، التي لي الشرف بالانتساب إليها، تهتم بمثل هذه الأمور اهتماماً كبيراً لتنمية الشعور الإسلامي بين أبنائها، فمن الواجب المعمول به هناك أن يكف اللاعبون في ميادين اللعب والخطباء في نادي الاتحاد من اللعب وإلقاء الخطب ويلتزموا الصمت طالما يرن صوت المؤذن في آذانهم وربما حدث أن فرقا أجنبية زائرة أشير عليها بالكف عن اللعب أثناء المباريات فبدأت تنظر ذات اليمين وذات الشمال تتحرى السبب في دهشة وحيرة كما كان الحال بالأستاذ الحصري بك في كارفو فلما أخبرت أن السبب ليس إلا الاحترام للآذان تأثروا تأثيراً قوياً ظاهراً بهذا المظهر للطابع الإسلامي الخاص بتلك الجامعة حفظها الله من كل بلاء وعدوان.
السيد محمد يوسف الهندي(791/25)
بين اليأس والرجاء!
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
بين مرارة الواقع ومثالية الواجب، وبين يأس يخامر قلوب الناس ورجاء يجيش في نفسي، وبين غمرة تشاؤم الكهول ونفحة من تفاؤل الشباب، أكتب مقالتي هذه مخلصاً فيما تخطه يميني، مبتغياً الإصلاح ما استطعت.
ومن الأمانة ألا أكتم القارئ أن الذي أوحى إليّ هذا الموضوع هو الأستاذ الفاضل محمود الشرقاوي في مقالته (الأزهر والإصلاح) بالعدد 786 من الرسالة.
وللأستاذ في قلبي تجلة واحترام هو بهما جدير: لأن تفكيره في إصلاح الأزهر يعود إلى عشرين عاماً يوم كان شاباً لم يجاوز عقده الثاني، ولأنه - وهذا من جليل محامده - لم يغادر فرصة يستطيع بها خدمة هذا المعقل الإسلامي الحصين إلا انتهزها خالص النية، طاهر القلب، سديد الرأي. ولو نسي القراء مقالاته القيمة في السياسة والسياسة الإسبوعية والبلاغ فما أظنهم قد نسوا ما كتبه إلى عهد قريب عن الأزهر وإصلاحه في مجلة الرسالة التي أبى أستاذنا الجليل الزيات إلا أن يجعلها منبراً من منابر العروبة والإسلام.
وليطمئن الأستاذ الشرقاوي على أني - وقد عرفت روحه - لن أتعمد أن أسأله سؤال الأزهري أو غير الأزهري: لماذا ولمه؟ ولن أسأله عمن يريد بمقالته، أو ماذا كان يقصد بتوجيهه، لأني لا أرى أن لكل شئ ظاهراً وباطناً كما يرى بعض الناس، وإنما أعتقد في الشيء الظاهر له ولي ولكل بصير، وأحب أن أناقشه في هذا الظاهر مناقشة الخبير. . .
والظاهر من مقالة الأستاذ أنه يريد أن يقطع على الأزهريين سبيل مناقشته في موضوعه، لأنه سيدلي برأي خطير لا يقبل فيه جدالاً، ولأنه لا يحب ممن لم تنضجهم التجارب أن يأتوا بالرأي الفطير لئلا يسمعوا مقالاً. وكنت أوثر أن يرسم الأستاذ هدفه كما كان يرسمه من قبل من غير أن يكترث باعتراض المعترضين، ولا بنقد الناقدين: فنحن في عصر تحرم فيه حرية الدفاع عن بلادنا لرد عدوان الغاصبين، ونكره فيه بالقوة على هدنة كلها جور وعسف لئلا نغاضب مجلس الأمن، ولا نستطيع تحويل قضية فلسطين إلى محكمة العدل الدولية لتفصل في النزاع بين حقنا وباطل المبطلين، ولكنا ما زلنا نملك حرية الكلام والنشر والخطابة والحمد لله. فليت الأستاذ استعمل هذه الحرية كما يشاء في توجيه مقالته(791/26)
بغير تلك المقدمة، وليته ترك الأزهريين يستعملون حريتهم كما يشاءون في السؤال والمناقشة ولو بلماذا ولمه.
بيد أن هذا كله لا يغض - فيما أرى - من قيمة مقالته فلن آخذه عليه؛ وإنما أشير - وما أملك إلا أن أشير - إلى أنه ما كان له وهو الذي بذل في إصلاح الزهر ما بذل من وقت وجهد أن يحكم ذلك الحكم الذي يقطع كل أمل، ويخيب كل رجاء، ويخنق كل صوت، ويثبط كل همة، حين قال: (إن بين الأزهر وبين الإصلاح شأواً بعيداً وبوناً شاسعاً ومرحلة طويلة جداً، وإني لست أدري هل إلى هذا الإصلاح سبيل).
والأعجب من هذا كله أن الأستاذ كرر هذه العبارة في مفتتح موضعه ومنتهاه، وأنه تساءل في المرة الثانية: أهو متشائم في حكمه؟.
وإني لأسأل الأستاذ: إن لم يكن هذا تشاؤماً فكيف يكون التشاؤم؟.
ألا يسمى تشاؤماً قسمه بالله العظيم واستعماله عبارات التأبيد والتأكيد مثل قول الأزهر اليائس: والله لن يصلح الأزهر أبداً مهما حاول المخلصون، وجد العاملون؟.
لو قال أحد هذه الكلمة لاتهمناه بأنه لا يريد أن يواجه الحياة، ولا أن يصادم الواقع، لأنه يعلم من نفسه العجز عن تذليل العقاب واقتحام الأخطار واحتمال المتاعب، فهو يعترف بضعف سلاحه وقلة استعداده، فليتنح للآخرين فلعلهم أقوى منه بداً، وأصلب عوداً، وأثبت جناناً.
ولكن الذي قال الكلمة الأولى رجل مصلح يحفظ له الأزهر خدمات أمينة، ولا ينكر له فضلاً، ولا ينسى له ذكراً، فلماذا يجني هذا الأستاذ الكريم على حماسة الشباب؟ ولماذا يقطع عليهم سبيل الرجاء؟ وليغفر لي كلمة (لماذا) فما يستطيع أحد أن يحذفها من كلامه في مثل هذا المقام.
ألا يرى الأستاذ أن أبسط ما يفهم من مقالته أن أحدنا لو أفنى عمره في إصلاح الأزهر لن يصل إلى غايته أبداً، لأن الطريق محفوفة بالأشواك، والعقبات قائمة هنا وهناك؟.
وماذا يصنع الأزهري الشاب الذي لا يرضى عن حال كلياته ومعاهده بعد أن سمع هذا الكلمة الغضبى من رجل أمضى عشرين سنة يفكر بالإصلاح؟.
أفنعتب عليه إذا حطم قلمه إن كان أديباً، أو كم فمه إن كان خطيباً، أو أسكت عبقريته إن(791/27)
كان شاعراً، أو آثر لعقود ولو خلقه الله راغباً في الإصلاح!.
وهل لنا فائدة في تحطيم الأقلام أو كمّ الأفواه أو إسكات العبقرية أو قعود القادرين على العمل؟.
لا والله لا يعتب على هذا الزهري منصف بعد تلك الكلمة اليائسة المتشائمة التي تفيض ارتياباً بإمكان إنقاذ الأزهر من ورطته. . .
فيا سيدي الأستاذ:
إنك تعلم أن الرغبة شئ والعمل شئ آخر، ويؤسفني أن أصرح لك بأننا لم نكن إلى اليوم سوى راغبين، ولم نحاول أن نكون عاملين: وإن الأزهر من الميادين إن وجد العاملين نهض وانبعث، وإن وجد المتشائمين تلاشى ومات.
الأزهر صورة من حياة الشرق الذي دبت فيه الفوضى، بل من حياة المسلمين في القرن العشرين: طعام وشراب، وأوهام وأحلام!.
ولا والله ما ضر المسلمين أكثر من التشاؤم، ولا أضعف جهودهم أكثر من القنوط!.
إن دخلنا المساجد يوم الجمعة نستمع الإرشاد صدع الخطباء قلوبنا بأننا أمة التأخر والانحطاط وأن لا أمل في نهوضنا؛ وإن قرأنا صحيفة من صحفنا وجدناها قليلة الثقة برجال تعمل، أو جماعات تضم الشتات؛ وإن سألنا مفكرينا آراءهم في مستقبلنا أفزعونا بنبوءات كأنها الليل المظلم: فلحننا دائماً حزين، ونغمنا أبداً شاك، وقيثارتنا في كل وقت باكية!.
هذه علتنا معشر المسلمين في جميع الميادين - لا علة الأزهر وحده في محيطه الخاص، فأنا لينقصنا عنصر التشجيع، فلا نشكر عاملاً على صنيع، وإنما نقابل الناس بالوجه العبوس حين نستطيع أن نلقاهم بالوجه الطليق!.
أيها المسلمون: شجعوا الأزهر ولا تقنطوه، وساعدوه على القيام من عثرته ولا توئسوه، وأصغوا إلى صوته ولا تخجلوه، وامنحوا ثقتكم للبقية الصالحة من الشيوخ والشباب، فسترون الأزهر الوثاب!.
ويا أيها الكتاب: أقنعوا الرأي العام بتغيير نظرته القاسية إلى الأزهر حتى تشعروه بشيء من الثقة بنفسه؛ حتى إذا لم ينفع تشجيعكم عودوا علينا باللائمة إن كنتم فاعلين.(791/28)
ويا صاحب الرسالة يا أديب العروبة الأكبر: لقد أمنت بالأزهر وما أحسبك كفرت به كما كفر الناس، ولقد شجعته طويلاً وما أظنك ترضى بيأسه بعد اليوم: فهلا نفحته من نفثات قلمك بكلمة طاهرة تعيد إلى النفوس طمأنينة بعد القلق، وراحة بعد العناء، لينسج الكتاب على منوالك، في هذه الأيام الحوالك! ليتك تستجيب لهذا النداء، فتنير الطريق للأدباء. . .
وبعد. . . فما هذه بكلمة شاب مثالي أو خيالي يعيش في دنيا الأحلام، وإنما هي كلمة من قلب يقدس التفاؤل في عصر نصرنا فيه اليأس على الرجاء، وتثبيط العزيمة على التشجيع.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح(791/29)
لأنها مصرية
للأستاذ ثروت أباظه
أخلى الشتاء للصيف سبيله هادئاً أول الأمر، ولكنه حين تمكن من القوم أصلاهم ما تعودوا منه مبالغاً في ذلك مفتناً فيه.
ونفر القوم إلى حيث يهادن الصيف، فازدحمت القطُر التي تقصد الشاطئ، وكأنما أبى الحر أن يتيح لهم متعة السفر فجعل من زحامهم عوناً له على إنجاح مهمته في إقامة مشهد من مشاهد جهنم على الأرض.
لم أكن من هؤلاء السعداء قصاد الشواطئ فقنعت بيومين أقضيهما في الريف. ولم يعرف السفْر ذلك فأشركوني في بلائهم فاشتركت مرغماً.
كان بالمقصورة ثمانية أشخاص بين رجال ونساء، وكان لكل منهم صاحب سفر يهمس أحدهما للآخر بما يقطع به الطريق ويخفف القيظ.
وظننت أنا وصاحبي أن الأمر سيقتصر على الهمس، ولكنه حين انجلت ضجة المحطة واستبد القطار بالطريق. علا صوت ناعم برطانة فرنسية، فهمست إلى صاحبي:
- إنها تجيد الفرنسية إجادة أهلها لها، ولعلها أن تكون هي نفسها فرنسية.
- أما قسماتها فلا تدل على ذلك، ورفيق سفرها كما ترى يلبس طربوشاً، وما أظنك ترى أنه هو الآخر فرنسي.
- ومتى عرفت أن المصري لا يصاحب فرنسية؟ وعلى أي حال إن تكن فرنسية فهي من طبقة مصرية راقية. .
- ولا هذا. . لأن الطبقة التي تعنيها لم تعد تباهي بتعلم الفرنسية كما تفعل صاحبتنا الآن. . وقد كان آنسات هاته الطبقة يباهين بتعلم هذه اللغة ليتصيدن بها الرجال. . أما اليوم وقد وجد أغنياء الحرب وتمكنوا من إدخال بناتهم حيث يتعلم الآنسات الراقيات - كما يردن أن يسمين أنفسهن - أما والأمر كذلك فلم تعد بالراقيات حاجة إلى إظهار علمهن باللغة الفرنسية، فهي اليوم لا تدل على شيء. . . وما أظنالآنسة إلا بنت ثري حرب لم يكن ليتوقع لابنته أن تلوي لسانها في فمها بلغة غير العربية. .
- والعربية الدارجة. . فحين حقق الله له شيئاً لم يكن لينتظره أطلق ابنته من عقالها فرحاً(791/30)
بها فخوراً. . وراحت بدورها تعلن على الملأ - كما ترى - أن أباها. . . بائع الدجاج علمها في (اللسيسه فرنسيه).
- لم أكن أتوقع كل هذا النقاش، ولو كنت توقعته ما اقتحمته. . إذ أن صديقي لا يقتنع أبداً مهما تبين له الحق، وكان القيظ شديداً فآثرت السلامة، وانحرفت بالحديث عن وجهته، معتقداً أنني على حق، ولاحظ هو ما قصدت إليه، فآثر السلامة بدوره، وانحرف معي بالحديث معتقداً أنني على باطل.
وشاء القطار أن يقف فجأة. . محدثاً بذلك صوتاً عنيفاً ذعر له الرجال ذعراً أخفت رجولتهم معظمه. وظهر ما لم تطق الرجولة كبته على وجوههم، أما النساء فقد أظهرن بكل ما يستطعن من القوة ذعرهن، معتقدات أنهن كلما أمعن في الذعر كان ذلك أدنى إلى الأنوثة، ولكن واحدة منهن لم يخرج بها الذعر عن الأدب المنتظر من سيدة. . أما ربيبة المدارس الفرنسية فماذا فعلت؟ لقد استنفد السيدات الجالسات كل المظاهر التي كان يمكن أن تلجأ إليها، ولا يصح أن تقلد واحدة منهن.
وكيف يكون ذلك وهي ابنة الغني، صاحبة الرطانة الفرنسية الصافية الخالصة. . أهي بكل هذا الأمجاد تقلد سيدات مصريات لا يتكلمن الفرنسية؟. . لا ودون هذا كل شئ. . أطلقتها صرخة وأتبعتها بقولة. . . ولكن الحظ خانها فخرجت الكلمة (بلدية) صريحة، وقد أرادتها فرنسية صحيحة. . وخرجت ساقطة تشير إلى القفص الذي أثقل كاهل أبيها قبل أن تدخل المدارس الفرنسية.
- لحاها اللهّ!. لقد أخجلتني أمام صاحبي وقد كنت أدافع عنها وعن أصلها. .
نظر صاحبي إليَّ في شماتة. ونظرْت إلى السيدة في احتقار وغيظ، وشاركني في احتقارها كل من كان بالمقصورة. . وأحست هي بهذه النظرات فألمت لضياع جهادها الطويل الذي بذلته في سبيل احترامنا لها. . جهاد ساعة باللغة الفرنسية.
- سألت صاحبها أن يخرج بها إلى الممشى ليلتمسا هواء. فأجابها إلى طلبها. . سألته في بلدية واضحة وأجابها في بلدية أفصح وخرجا. . وإذا بصاحبي ينفجر ضاحكا، وقد كنت والله مع احتقاري للسيدة أفضل بقاءها حتى تمنع عني ما سألاقيه من سخرية الصديق. . قال:(791/31)
- إنها فرنسية. أليست كذلك!. . إنها من طبقة راقية ألا ترى هذا!. . إنه والله لن يأتي يوم تنال فيه السيدة المصرية ما هي أهله من احترام حتى تعلم أننا نحترمها لأنها مصرية، وأننا حين نراها قد جنحت إلى جنسية أخرى نزدريها لنكولها عن جنسيتها. . لن نحترم السيدة المصرية إلا حين نعلم أن لكل علم تعلمته مكاناً يظهر فيه. . فلو أن هذه السيدة تكلمت بلغة بلادها وأطلقت نفسها على سجيتها، لما كان بها حاجة إلى كل هذا التكلف الذي ارتكبته وركبها فحاد بها عن سلوك السيدة المحترمة. . . قلت:
- لعلها حسبت أن أحداً من الجالسين لا يعرف الفرنسية وأرادت أن تقول لصاحبها سراً.
- ما هذا التخبط: أفهمت مما قالته أنه سر؟ ولم تحسب هي أن الجميع جهلاء ما عداها؟. . وأي سر هذا الذي يقال بأعلى صوت؟. .
- انتهينا. . إذن أنت لا تريد المصريات أن يتعلمن الفرنسية.
- ما رأيتك أكثر لجاجة منك اليوم. . إنني لم أقل ذلك ولا يمكن أن أقوله. . بل إنني أرى أنه يجب عليهن أن يعلمن اللغات، ولا ارتقاء لهن بغير تعلمها. . ولكن يجب عليهن أن يعلمن أن لغتهن الأولى هي العربية، فإذا لم يعرفنها فأولى بهن ألا يتعلمن شيئاً، ويجب أن يعلمن أيضاً. . . أن فخرهن إنما يكون بلغتهن وبعقلهن لا بأنهن يتكلمن الفرنسية. . إن أحداً لن يحترم السيدة المصرية أو تحس باكتمال شخصيتها وعظمة بلادها ولغتها.
كانت حجة صديقي ناصعة بين يديه لم أطق إغفالها، فقلت:
- لا عليك، فأنت على حق يا صديقي. . ولكن هدئ من روعك فإن اليوم قائظ، وأخشى أن تنفجر وأنت تدافع، وأرى صوتك قد ارتفع حتى لتكاد تفعل فعلتها. .
هلم إلى الممشى، وعهد علي ألا أحترم السيدة المصرية إلا لأنها مصرية.
- أجل، وحسبها أن تحترم لأنها مصرية.
ثروت أباظه(791/32)
فلسفة التاريخ:
وحدة الإنسانية
للأستاذ عطية الشيخ
التاريخ الإنساني ككل شئ في الوجود، يبدو لأول وهلة قطعاً متميزة، ومجموعات متباينة، مختلفاً باختلاف الأعصر والدول والحضارات والشعوب؛ ولكنه يظهر للمدقق جسماً واحداً متناسق الأجزاء، وشخصية واحدة متعاونة الأعضاء، وبنياناً يشد بعضه بعضا، ونهراً متصل المنبع بالمصب وإن اختفت أجزاؤه وأسماؤه باختلاف بحيراته وروافده. وكما أن البيت صورة مكبرة لأفراد الأسرة، والدولة وصورة كبيرة لمجموع بيوتها وأسرها، فكذلك الأرض منزل واحد لأسرة الإنسانية الكبرى، التي يؤدي فيها كل فرد من البشر ما تؤديه الخلية الواحدة في جسم الإنسان، وبتعبير آخر يقوم الإنسان في حياته بدورين. أحدهما باعتباره فرداً مستقلاً ووحدة قائمة بذاتها، وإرادة ظاهرة الاختيار. والدور الثاني يؤديه مجبراً ودون أن يشعر، باعتباره خلية من خلايا جسم الإنسانية العام، وإرادته الخفية في هذا الدور تسيرها الغرائز المركبة في طبه بالوراثة، والمتحكمة في حياته تحكماً لا يمكن الخلاص منه مهما بذل من العلاج كما يقول علماء النفس، وما أقصر أجل الإنسان باعتباره مستقلاً، وما أطول حياته باعتباره خلية في جسم الإنسانية العام المبتدئ بآدم والمنتهي فناء هذا الإنسان. وما أضعف الإنسان، وما أضيق أفقه إذا قيس بمجهوده الفردي، ومسارحه ومغانيه كفرد. وما أقواه وما أوسع منزله إذا نظر إليه في شخصيته الإنسانية الكبيرة التي منزلها الأرض كلها.
وهناك حقيقة مقررة في علم الأحياء، وهي أن كل خلية في الجسم الحي، تحمل خصائص الجسم كله ومميزاته وتحكي في حياتها وفنائها، حياته وفناءه. وأن النابتة الجديدة لجنس من الأجناس، تمثل في عمرها من وقت اللقاح إلى ما بعد الفناء، الأطوار والأدوار التي يمثلها الجنس كله من حين نشأته على الأرض، إلى وقت هذه النابتة.
ومثال ذلك: أن تاريخ الجنس البشري على وجه الأرض من نشأته إلى وقتنا هذا، تمثله في أطواره حياة فرد من وقت إخصاب البويضة في رحم أمه، إلى ان يفنى بعد شيخوخته.
ويمكن بناء على هذه القاعدة العلمية - والإنسان كائن حي - يمكن تطبيق هذه النظرية(791/33)
عليه. فكل ما يصيب الفرد الواحد من أحداث، ينتاب الدول والجماعات، والبشرية عامة. فميلاد، وشباب، وهرم، وشيخوخة، ويسر وعسر، وشدة ورخاء. والعوامل التي تؤثر في الفرد الواحد بالغنى والفقر، والبداوة والحضارة، والضعف والقوة، هي التي تؤثر في الدول وفي البشرية عامة، هذا التأثير. وكل حادثة في شرق الأرض، لها أثر وصدى في غربها، وكل واقعة غائبة في جذور التاريخ السحيقة تتفرع وتورق وتزهر فيما يليها من العصور. ويجب على الإنسان ألا يحكم على ما يصيب عضواً من أعضائه إلا بمقدار أثر هذه الإصابة في الجسم كله من خير أو شر. فقد يبتر عضو ليسلم الجسم كله، وتتعب أجزاء لراحة البدن جميعه، وكذلك لا يصح أن يوصف ما يصيب شعوباً أو جماعات من أحداث إلا بالنظر إلى أثر هذه الأحداث في جسم الإنسان العام. وبهذه النظرة، نشعر براحة وتطامن نفس عند قراءة ما يصفه المؤرخون للدول بأنه نكبات وكوارث.
فتهدم بغداد على يد التتار، وتخرب روما على أيدي القوط، جدد شباب العرب واللاتين بإدخال دماء فتية قوية جديدة في عروق هاتين الأمتين.
والحروب المتصلة الجارفة التي لا يخبو أوارها على وجه الأرض، هي من أكبر أسباب التقدم البشري، وهي الوسيلة الفطرية للانتخاب الطبيعي بعد تنازع البقاء وبقاء الأصلح، ليضل الجنس البشري سائراً في مدارج العلا.
والنواميس الطبيعية في عدالتها وسلامة فطرتها، تأبى أن يتحرك جسم الإنسانية جميعه حركة قوية عامة، فيدركه الكلال والتعب والاضمحلال مرة واحدة. وهي كذلك تداول النشاط بين وحداتها لتقوم بدورها، ثم تستريح، ويقوم غيرها. فتضمن بذلك استمرار التقدم والرقي والاستفادة بكل ما في أعضائها من قوى، ومطارح أجزائها من خيرات. فمرة يكون العمل والقيادة لأمم زراعية في أخصب الوديان في الشرق الأدنى والأوسط، وأخرى يكلف بالدر سكان سهوب آسيا وصحاريها، وطوراً يقوم بالعمل سكان أقاصي الشرق في اليابان والصين، حتى إذا كلت الدنيا القديمة ومن عليها، كشفت الدنيا الجديدة في أمريكا، وتولت زعامة الإنسانية والسير بها للأمام.
فانظر - رعاك الله - إلى هذا التوزيع الحكيم للقيادة بالنسبة لأجزاء الأرض وأجناسها. فمرة في شرق الأرض، وأخرى في غربها، وطوراً في باردها وتارة في ساخنها، مع تبادل(791/34)
الزعامة بين البيض والسمر والصفر، كأنما الناس في تحركهم التاريخي شخص واحد، يشتغل باليسرى إذا كلت اليمنى، ويعتمد على اليمين إذا تعبت الشمال.
وهناك ناموس آخر يسري على الجماد، يمكن تطبيقه على الجنس البشري، وهو قانون التجميع والتفرق.
فالسديم الشمسي يتفرق بالانفجار ويرتبط بالجاذبية. والبخر يرفع الماء سحاباً، والبرد والجاذبية يسقطانه أمطاراً، والحياة تؤلف بين العناصر، والفناء يفرق بينها.
أقول إن ناموس التجميع والتفريق، يجب ألا يغيب عن بحاث علم الاجتماع. ففي الإنسان دوافع انفصال واستقلال تنبع منها الأنانية والتعصب للأسرة، والوطن، والقبيلة، والدولة: وهي أدواراً يمثلها كلها باعتباره فرداً مستقلا، ووحدة قائمة بذاتها، وفكراً مختاراً. وفيه دوافع خفية للترابط والامتزاج والتكتل والاتحاد يؤديها رغم أنفه بما ركب فيه من غرائز باعتباره خلية في جسم الإنسانية العام. فهو بحسب فكره حين يفتح قطراً من الأقطار، يخدم نفسه أو وطنه أو شعبه بتوسع الملك والتسلط على الغير. ولكنه في الواقع، وبالنسبة لسير الإنسانية العام، يسد فراغاً، وينهض نياماً، ويجدد شباباً، ويصل منقطعاً في جزء من أجزاء البشرية.
عطية الشيخ(791/35)
في حومة البطولة بفلسطين:
المجاهدة الشهيدة
للشيخ محمد رجب البيومي
(قرأت بالعدد (787) من الرسالة الغراء قصة البطلة الشهيدة (حياة) فأوحت إلى بهذه القصيدة المتواضعة وقد جعلت إهداءها إلى الصديق الأعز الأستاذ عبد المنعم محمد البغدادي).
صعدت روحها إلى عالم الغي ... ب كعطر يفوح بين الزهور
لم تكد تنتمي إلى الخلد حتى ... لاح في ثغره ابتسام السرور
الطيور الجميلة الشدو غنت ... في ابتهاج، أحبب بشدو الطيور
والعناقيد في الكروم أكف ... صافحتها في نشوة المخمور
تلك حياتها النضيرة صارت ... لؤلؤاً في إكليلها المضفور
خطرت كالنسيم طاف على الرو ... ض فأمسى مضمخاً بالعبير
زين الخلد أوجه حين وافت ... هـ ببدر يتيه بين البدور
خفت الحور نحوها مثلما هر ... ول صاد تجاه عذب نمير
أخذت نايها الحزين وغنت ... بين أترابها بلحن مرير
سألوها: أفي الخلود نواح ... وعويل يهيج وجد الصدور
فأجابت: شهيدة تطلب الثا ... ر حثيثاً لقلبها الموتور
ليس ينسى فؤادها في فلسطين ... أنيناً يذيب صم الصخور
ذكرت قصة الكفاح فجادت ... عينها الحيا بدمع غزير
يا لحسناء في ربي الخلد تبكي ... بين سرب من فاتنات الحور
ذكرت مصرع العدالة في دنياً ... أحيطت بجاثمات الشرور
جلل البغي وجهها بظلامٍ ... ليس فيه صبابة من نور
كلما شع من سنا الحق ضوء ... يتوارى في حالك الديجور
الطغام اللئام قد عاونوا القوم ... على للبغي والخنا والزور
لو تركنا لهم لهبوا مع الر ... يح غباراً يطير كل مطير(791/36)
كعصافير ظنت الأيك يخلو ... من شريك فبوغتت بالصقور
صدمات من مجلس الأمن هبت ... تنقذ القوم من عذاب السعير
عقرب لاذ بالأفاعي فويلي ... من غدور يرعى ذمام غدور
عاونوا الباطل الصراح جهارا ... وأخوالحق ماله من نصير
ثم جاءوا إلى فلسطين يسعو ... ن بشر على الورى مستطير
بالدمار المبيد بالخطر الماحق ... بالويل بالردى بالثبور
فإذا فيلق العروبة ينقض ... نسورا تطير خلف نسور
الليوث الكماة ناداهم المجد ... فطاروا إلى العدوالمغير
كل ليث يهج في صدره البأ ... كنار تشب في تنور
فجسوم تناثرت كالشظايا ... ودماء تدفعت كالبحور
وسماء منها القنابل تهوى ... فوق أرض مليئة بالقبور
لو تركنا وشأننا ما تبقى ... منهمو في الحياة شروى نقير
قدر الشرق إنه لجدير ... بثناءالورى، وأي جدير
الكعاب الحسان يزحفن للنصر ... كموج يفيض جم الهدير
(وحياة) شهيدة الحق تسطو ... في حميمالوغى كليث هصور
رفعت راية البطولة فأعجب ... للواء كف ظبي غرير
تبصر القاذفات توى مع المو ... ت وتسعى لها بقلب جسور
تبرئ الجرح تغسل الدمع تذكى ... في بني قومها لهيب الشعور
ما أجلّ الوفاء تلبسه الغيد ... وشاحاً مرصعا بالزهور
أبتغي أن أصوغ فيه قريضي ... فتضيقاللغى عن التعبير
الكفاح المرير غال صباها ... لهف نفسي على صباها النضير
فتحت للرصاص صدراً وضيئاً ... يتراءىكصفحة البللور
الكفاح المرير والعمل الدائب ... والسعيفي السرى والبكور
تهبط السهل تعتلي الحزن تعدو ... في ظلام الدجى ووقد الهجير
جعلت ثورة المتاعب منها ... شبحاًفر من وراء الدهور(791/37)
سمعت في الدجى إليهم أنيناُ ... لجريح يئن تحت الصخور
نسف البيت فوقه بشظايا ... خلقت للفناء والتدمير
بحثت عنه - وحدها - فرأته ... أبتر الساق ذا جناح كسير
حملته رغم الضنى وتولت ... في شهيق مؤرق وزفير
فإذا العاصف المدمر يهوى ... طائر العدو كالشهاب المغير
وإذا الغادة النبيلة ذرَّا ... ت تلاشى كيانها في الأثير
رقدت والجريح في ساحة الخلد ... تعب الكرى بطرف قرير
زين الخلد أفقه حين وافته ... ببدر يتيه بين البدور
من مجيري من الأسى - يلهب الصدر ... إذا ما ذكرتها - من مجيري؟
زهرة تبهر العيون على الغصن ... وفي الكف نسجها من حرير
سلط المنجل الرهيب عليها ... فطواها الثرى ليوم النشور
فإذا الروض مأتم تتباكى ... في روابيه نادبات الطيور
لم أرد أن أصوغ فيها رثاء ... تلك والله نفثه المصدور
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(791/38)
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مهزلة اليونسكو:
أخذت مسألة تأجيل انعقاد مؤتمر اليونسكو، جانباً كبيراً من اهتمام الهيئات العربية الثقافية في هذا الأسبوع، وهو اهتمام مشوب بعدم الارتياح إلى التصرفات التي بدت أخيراً نتيجة ألاعيب اليهود ومساعيهم للحيلولة دون انعقاد هذا المؤتمر في لبنان، فقد كان مقرراً أن ينعقد في أكتوبر القادم، ثم أجل إلى نوفمبر، وأخيراً تلقى معالي عبد الرازق السنهوري باشا وزير المعارف برقية من المستر هاكسلي مدير اليونسكو، يطلب فيها موافقة الحكومة المصرية على تأجيل المؤتمر إلى 10 فبراير سنة 1949.
واقترن كل ذلك بتحريض الدعاية اليهودية بعض الدول على الاعتراض على عقد مؤتمر اليونسكو بلبنان لأنه يؤلف أحد طرفي النزاع في الاضطرابات القائمة في فلسطين، وأبدت دول أخرى مخاوفها للحكومة اللبنانية التي أكدت أن المؤتمر سينعقد في جو آمن لا يخشى فيه أي ضرر؛ واقترن أيضاً طلب التأجيل الأخير بما نشر من أن دولة إسرائيل المزعومة طلبت تمثيلها في مؤتمر اليونسكو، ويظهر أنها وجدت صعوبة في السعي لإحباط عقد المؤتمر في لبنان، فحولت الاتجاه إلى طلب تمثيلها به مع العمل لتأجيله مدة طويلة تستطيع فيها أن تظفر بالموافقة على اشتراكها فيه. . ومن يدري ماذا يحدث بعد هذه الألاعيب، وماذا يتلوها من رغبات إدارة اليونسكو؟.
وقد أولى معالي وزير المعارف هذه المسألة ما تستحق من العناية، فاجتمع بوزير لبنان المفوض في مصر، ثم رأس اجتماع المكتب الدائم للجنة الثقافية بالجامعة العربية يوم الخميس الماضي، ونظر المكتب في هذا الموضوع ثم قرر أن يعرض الأمر على اللجنة الثقافية في اجتماعها بلبنان يوم 28 أغسطس الحالي، لتقرر موقف الدول العربية من مؤتمر اليونسكو، وسيمثل مصر في هذا الاجتماع وفد مؤلف من رجال وزارة المعارف برياسة وكيلها الأستاذ محمد شفيق غربال بك.
ويلاحظ من قرار المكتب الدائم أن المسألة لم تعد قبول التأجيل المطلوب أو عدم قبوله فحسب، بل أصبحت (موقف الدول العربية من مؤتمر اليونسكو) إزاء ما أثير حوله(791/39)
لاجتماعه بلبنان وما نشأ عن ذلك من تكرر التأجيل.
هذا ولم ينس الناس بعد ما أعلنته هذه الهيئة الثقافية الدولية من أن أول أغراضها القضاء على أسباب الحروب في العقول بالتقريب الفكري بين أمم العالم، ولكنها منظمة من منظمات هيئة الأمم المتحدة، فلم يستطع المشرفون عليها أن يقضوا على المطامع السياسية والمصالح الاستعمارية في عقولهم وهم الذين يريدون أن يقضوا عليها في عقول سائر الناس!.
ثم ما هي جدوى اليونسكو، ومؤتمراتها وقراراتها في هذا العالم المضطرب؟ وأي دولة من هذه الدول المتنافسة المتشاحنة ستنفذ توصيات اليونسكو؟ وماذا تجنيه الأمة العربية من هذه الأعمال الخيالية العقيمة؟ لقد أعدت وزارت المعارف بالدول العربية وخاصة مصر تقريرات مستفيضة عن تقدم التعليم في بلادها وأخذها فيه بأحدث الوسائل وغير ذلك، لتلقى في مؤتمر اليونسكو فيسمعها ممثلو الغرب بآذان من طين وعجين.
لقد أحسنا الظن بهؤلاء (اليونسكيين) إذ صدقنا خلوص نياتهم في العمل الثقافي الذي يهدف إلى السلام، وأردنا أن نتعاون معهم، ولكن هاهم أولاء يتأثرون بالمساعي الصهيونية، وقد يقبلون الدولة المزعومة، فالأولى بنا أن ننظم شئون ثقافتنا بيننا ونكرس لها جودنا في داخل البلاد العربية. وليأخذوا مؤتمرهم إلى حيث يشاءون.
بعد كتابة ما تقدم وإعداده للطبع جاءت الأنباء الأخيرة بأن مجلس اليونسكو التنفيذي قرر قبول إسرائيل (المزعومة) في مؤتمر لبنان بصفة عضو مراقب إذا طلبت ذلك، وذلك بناء على طلب مندوب الولايات المتحدة.
الصعلكة:
كان الدكتور زكي مبارك، في (البلاغ) يوم الاثنين الماضي، ينتقل من موضوع إلى موضوع - كدأبه في (الحديث ذو شجون) - حتى جاء ذكر الشاعر البائس عبد الحميد الديب، فقال الدكتور إنه ألقى كلمة في حفلة تأبين الديب قال فيها: (إن الأديب من الوجهة الشخصية لا يهمني ولكن إقامة مناحة على شاعر احترف الصعلكة توحي إلى الناشئين أن الصعلكة من شروط النبوع الشعري. وهذا لا يجوز).
والدكتور زكي مبارك كاتب عربي مبين، وهو يكتب دون تمهل ولا روية، لأن البيان صار(791/40)
فيه سجية، كما قال عن نفسه ذات مرة، وهو إلى هذا واسع الاطلاع، وذخائره أكثر مما تحويه صفحة صفحة (الحديث ذو شجون) على كثرةما تحوي.
ولذلك عجبت من أن يستعمل (الصعلكة) كما وقعت في عبارته السابقة، استعمالاً يجعل من مدلولها الضعة والتسكع، مجارياً في هذا ما شاع على ألسنة غير المحصلين. فالصعلوك هو الفقير، وليس بلازم أن يكون الفقير حقيراً. ومن الغريب أن الاستعمال الشائع لهذه الكلمة الآن على عكس ما كان يطلقها العرب قبل الإسلام على طائفة من الفتاك المعدودين المقدمين، كانوا يسمونهم (الصعاليك) ومنهم الشعراء المبرزون كالشنفري وتأبط شراً والسليك بن السلكة وعروة بن الورد الذي كان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم وكانت غزواتهم هي السطو على أحياء العرب للسلب والنهب، ولهم في ذلك أخبار وقصص عجيبة، يقوم جانب منها على ما عرف به بعضهم من المهارة في العدو. وكان هذا مظهراً من مظاهر الفتوة والوجاهة في الحياة الجاهلية.
ولا شك أنه يصح أن يقال إن الشاعر عبد الحميد الديب كان صعلوكا، بمعنى فقير، ولكن الذي يقصده الدكتور زكي مبارك هو المعنى الشائع على ألسنة المعاصرين، كما يدل تعبيره (احترف الصعلكة، فالفقر لا يحترف. وقد عنيت بمناقشة الدكتور في ذلك، لأنه من أئمة الجيل، وتعبيره هذا يوحي إلى الناشئين أن الصعلكة هي الضعة والتسكع. وهذا لا يجوز. . .
استهداء الكتب:
كتب الأستاذ أحمد الصاوي محمد بأخبار اليوم، معلقاً على كتاب ورد إليه من المجلس البلدي بكفر الزيات يستهديه فيه كتبه للمكتبة التييزمع إنشاءها، ففند هذا المطلب، وقال: (ففي كل يوم تستهدينا كتبنا المجالس البلدية والمحلية والأندية الرياضية والجمعيات الثقافية والأدبية، ولو كانت كتبنا كالجميز لا فتقرنا وشحذنا من إهداء كل هذا الجميز وتوزيع كل هذا الترمس. . . مجاناً!!).
والأستاذ الصاوي محق في هذا من غير شك، وخاصة فيما يتعلق بالهيئات الحكومية التي تطلب الكتب من مؤلفيها بالمجان، وهي تعتمد الاعتمادات وتنفق الأموال في كل وجه وتريد أن ترزئ المؤلفين في مؤلفاتهم التي سهروا الليالي، وبذلوا من أعصابهم، وسكبوا(791/41)
عصارات أفكارهم، في تأليفها، ثم أنفقوا على طبعها ما يرجون أن يجمعوه على الأقل من ثمن النسخ.
فهذه المجالس البلدية والمحلية التي تسخو في الاستقبالات وإعداد الاستراحات والمرفهات - تقبض يدها عن المؤلفين وتبسط لهم يد التظرف بالثناء والاستهداء، كأنها تحسب أن المؤلف لديه ضيعة تنبت فيها الكتب بغير حساب.
ويظن هؤلاء المستهدون أنهم يقدرون المؤلف تقديراً أدبياً باستهداء كتابه، فإذا كان الأمر كذلك فكل الناس مستعدون (لبذل) هذا التقدير الذي لا يغني من جوع. . . وهل تستطيع أن تطلب من مصنع - مثلاً - شيئاً من مصنوعاته وتدفع ثمناً له تقديرك لدقة صنعه ومهارة صانعه؟.
التمثال والإبريق:
تلقيت الكتاب التالي من الأستاذ إسماعيل كامل رئيس قلم المناقضات بوزارة المعارف:
(. . . وبعد فقد سبق لشخصي المتواضع أن كتب أقصوصة بمجلة مسامرات الجيب الصادرة في 15 يونية سنة 1947، بعنوان (دش بارد).
(وكان اغتباطي شديداً وممزوجاً بالأسف المر عندما وجدت بمجلة الثقافة الصادرة في 23 مارس سنة 1948 أن هذه القصة بالذات تقدم بها الأستاذ محمد أمين حسونة في مباراة القصة القصيرة في مهرجان الشباب لسنة 1948 فنال بها الجائزة المالية الأولى. وكان اغتباطي لتقدير لجنة التحكيم (حامل) قصتي وإيثاره بالجائزة الأولى. . . وهأنذا أرفق كتابي بعددي الثقافة والمسامرات لعل الحقيقة تحظى بمناصرتكم، تمهيداً لاتخاذ الإجراءات القانوينة من ناحيتي).
قرأت هذا الكتاب، ونظرت إلى المجلتين المصاحبتين له، فرأيت قصة (دش بارد) بالمسامرات تتلخص حادثتها في أن شاباً أراد أن يبعث إلى خطيبته بهدية في عيد ميلادها، وحار في ذلك لقلة نقوده. . . ثم رأى بمحل تماثيل تمثالا مهشما إلى أربع قطع، فخطرت له حيلة. . . اشترى التمثال وأخذه من البائع بعد أن لفه، وأرسله بالبريد إلى خطيبته، مقدراً أنها عندما تراه مهشما تعزو ذلك إلى إهمال عمال البريد. ثم حرص الشاب على أن يكون عند فتاته وقت وصول الهدية. ولكن حدث عندما وصل (الطرد) أن فتحته الفتاة(791/42)
فوجدت به أربع قطع وقد لفت كل قطعة في ورقة منفصلة! فامتقع وجه الشاب عندما أدرك سخافة البائع الذي أسرف في الحرص فأضاع سعادة خطيبته وكرامته).
ورأيت بالثقافة مقالا للأستاذ عبد الله حبيب، كتبه عن مباراة القصة القصيرة في مهرجان الشباب، وقد أتى في على ملخص القصة الفائزة بالجائزة الأولى للأستاذ محمد أمين حسونة، وعنوانها (البغل والإبريق) لأن الكاتب قد حول التمثال المحطم إلى إبريق محطم أيضاً، ولكنه ثلاث قطع، وكل قطعة لقت على حدة، كما حدث في قصة (دش بارد).
ولست أدري لم (يزعم) الأستاذ إسماعيل كامل أن قصة (البغل والإبريق) هي قصته، وقد غير كاتبها العنوان وجعل التمثال إبريقاً، وجعل أربع القطع ثلاثا! وليس هذا فحسب، بل استبدل بالخطيبة ابنة رئيس الشاب في المصلحة التي يعمل فيها، ووفق أيضاً في تغيير المناسبة من عيد ميلاد إلى زفاف!!.
أفيصح بعد كل تلك (التغييراتالفنية) أن يقول الأستاذ إسماعيل ما قال ولا يتسامح فيما عدا هذه التغييرات من اتحاد في الهيكل والعقدة. .؟.
أصعب عليه أن يثني الأستاذ عبد الله حبيب علي قصة (البغل والإبريق) بقوله: (وقد امتازت هذه القصة بالبساطة في عرض وقائعها وتصوير أشخاصها، مع دقة التعبير واتساق الفكرة وربط أجزائها وحسن حبكتها والحرص على تشويق القارئ والاتصال بفكره) وهو خالي الذهن من أن لهذه القصة أصلا ثابتاً في المسامرات كان هو الأولى بالثناء. . . والجائزة. . .؟
هون على نفسك يا صديقي، ولا يخف عليك أن المسامح كريم. . .
رسالتان:
الأولى من الأستاذ حسن أحمد با كثير، صاحب (نشيد جهاد فلسطين) الذي استحسنته اللجنة الثقافية بالجامعة العربية فقررت تلحينه وإذاعته. وقد لحنه قسم الموسيقى بالجامعة الشعبية منذ شهور، وسمعناه هناك في حفل أقيم للجنة الثقافية، فنال ما هو جدير به من الاستحسان تأليفاً وتلحيناً. يقول صاحب النشيد في رسالته: إلى إن أشهراً كثيرة مضت على ذلك حدثت في خلالها أحداث فلسطين المتعاقبة (ومع ذلك لم يفرغ الملحنون بعد من تلحين هذا النشيد، ولم تحاول الإدارة الثقافية بالأمانة العامة دفعهم إلى الإسراع في تقديم اللحن(791/43)
لإذاعته، ولا أدري متى ينتهون من التلحين ومتى يذاع النشيد إن لم يذع في هذه الأيام).
والأستاذ با كثير يظلم الإدارة الثقافية، لأن النشيد قد لحن فعلا كما ذكرت منذ مدة طويلة، وقد أرسلته إلى إدارة الإذاعة لإذاعته، ويظهر أنه استقر في (كهف) هناك يحرسه كلب باسط ذراعيه بالوصيد. . . ويظهر أيضاً أن الأخ با كثير ليس له صلة بأحد في الإذاعة، ليوقظ له نشيده من سباته.
والرسالة الثانية من (المخلص فتحي. اليسانس الحقوق) يبدي فيه إعجابه بفكرة إنشاء معهد للدراسات الاجتماعية بكلية الآداب بالاسكندرية، ولكنه يأسف لعدم استطاعته كغيره من المقيمين في القاهرة الراغبين في هذه الدراسات، أن يحققوا رغبتهم، ويقول: (إنني باسم الكثيرين ممن يريدون الالتحاق بالمعهد ولكن ظروفهم تمنعهم من ذلك، أقترح على حضرتكم أن تنادي بضرورة افتتاح معهد ممثل يكون تابعاً لكلية الآداب بجامعة فؤاد).
وطلب السيد فتحي جدير بالتحقيق، وأعتقد أن الأمر سيأخذ مجراه كما يريد، أي أن معهد الإسكندرية سيكون تجربة تنتفع منها جامعة فؤاد بالقاهرة، وإن كان معهد القاهرة سيتأخر ميلاده عن معهد الاسكندرية، ونتوجه برغبة هؤلاء الشباب المتطلعين إلى الاستزادة من الدراسات الاجتماعية - إلى عميد الآداب بجامعة فؤاد، ليعمل على إنشاء المعهد المأمول في أقرب وقت مستطاع.
عباس خضر(791/44)
البَريدُ الأدَبيَ
المفعول معه وواو المعية:
من عنوان المفعول معه يفهم الإنسان أن الاسم المنصوب بعد الواو مصاحب للاسم السابق لها. فالمصاحبة شرح وتوضيح للواو التي هي نص في إفادة المعية في هذا الباب. والأمثلة المسموعة من القرآن وغيره واضح فيها معنى الواو بدون تجوز أو تأويل. فمن القرآن قوله تعالى: (فأجمِعوا أمركم وشركاءكم) فشركاءكم ليست معطوفة على أمركم، بل هي مفعول معه، إذ أنه لا يراد أجمِعوا أمركم وأجمِعوا شركاءكم، وإنما المقصود أجمعوا أمركم مع شركائكم.
وقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان) لا يراد به تبوءوا وتبوءوا الإيمان، إذ أن الإيمان لا يُتبوَّأ، وإنما المراد أنهم تبوءوا الدار مع إيمانهم بالله. ومن قول العرب: (لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها) معناه لو تركتها مع فصيلها لرضعها. ومن شعرهم قوله:
لا تحبِسنَّك أثوابي فقد جُمعت ... هذا ردائِيَ مطوياً وسربالا
معناه هذا ردائي مطوياً مع سربال. وقوله:
فكونوا أنتمو وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطّحال
معناه كونوا مع بني أبيكم متقاربين متعاونين.
فالشواهد المأثورة يتضح فيها أن الواو نص في المعية بدون تجوز أو تأويل. إلا أن بعض الشراح توسعوا في الأمثلة وحملوا الواو معاني تحتاج إلى المجاز فلجئوا إلى التفسير، وتفسير للتفسير ومزيد من تفسير التفسير، فقالوا: سرت والنيل، وسرت والطريق، أي مصاحباً النيل؛ ومصاحباً الطريق، أي مقارناً النيل؛ ومقارناً الطريق في سيري، وذلك تفسيراً لقولهم سرت مع النيل، وسرت مع الطريق. وهذا من العبث واللغو بمكان. ولكنا على هذا النمط تعلمنا وعلمنا كتب النحو. وفي هذا العبث وقع المؤلفون، وبهذا العبث ألزم التلاميذ في المدارس، فاضطرب المدرس في الشرح وتحايل، واستغلق المعنى على التلميذ فلجأ إلى الحفظ من غير أن يتصور المراد. ففي كتب قواعد اللغة العربية المقررة على تلاميذ المدارس الابتدائية تعريف معقد للمفعول معه استنباطاً من أمثلة وضعوها وفيها كثير من الخطأ، أو على الأقل فيها مبالغة في المجاز لا يهضمها التلاميذ، فقد عرفوا المفعول(791/45)
منه بأنه اسم منصوب بعد واو بمعنى مع، للدلالة على ما فعل الفعل بمقارنته. فتكملة التعريف (للدلالة على ما فعل الفعل مقارنته) يتوقف عند تفهمها الكبير ويعجز عن تصورها الصغير. وكان الأولى أن يقتصر في التعريف على شطره الأول (وهو اسم منصوب بعد واو بمعنى مع). أما الأمثلة، فهي مؤلفة بقصد التجديد منهم - على ما يظهر - ولكنها خرجت عن المعنى المطلوب، فقالوا: غرد البلبل والشجرة، أي مع الشجرة، أي مصاحبا الشجرة، أي مقارنا الشجرة في تغريده. وقالوا: جلس المسكين وباب المسجد، أي مع باب المسجد، أي مصاحباً لباب المسجد، أي مقارناً لباب المسجد. وقالوا: جلس التلميذ والكتب. . . أي. . . أي. . . ومع كل هذه (الأيأية) التي يلجأ إليها، فإن الأمثلة لا تتضح للمتعلم، وبخاصة إذا كان صغيراً.
ولعمري إن هذه وأمثالها مما ورد في كتب قواعد اللغة العربية مما أخطئها التوفيق وجانبها الصواب، ولو اقتصروا على خرجت وطلوع الشمس، أو وغروب الشمس، أو صلاة الظهر مثلا، وغيرها مما يتضح فيه المعنى بدون (أيأية) لكان أولى وأرحم بعقول التلاميذ، ولكنه الخطأ في أساس التأليف تبعاً لخطأ سابق في كتب النحو بدون تمحيص.
ومثل هذا الخطأ أيضاً حادث في واو المعية التي ينصب بعدها الفعل المضارع، ذلك أن فاء السببية وواو المعية تضمر بعدهما أن - كما قالوا - وجوباً بشروط، إلا أن معنى كل منها مخالف للآخر. فالفاء يكون ما قبلها سبباً لما بعدها، وما بعدها متأخراً عما قبلها، وقد نبا عليه نقول أقبل فأكرمك، وذاكر فتنجح، فالإكرام مترتب على الإقبال، والمذاكرة سبب في النجاح، ومن القرآن قوله تعالى: (يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل)؛ يفهم منه أن عملهم المغاير لما كانوا يعملون مترتب على ردهم إلى الدنيا مرة أخرى. أما الواو فيكون ما بعدها مصاحباً لما قبلها في نفس الوقت، ومن ذلك قوله تعالى: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)، فهم يتمنون ردهم مرتبطاً في الوقت نفسه مع عدم تكذيبهم بآيات الله، ومرتبطاً مع كونهم من المؤمنين. ومن الشعر قوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
معناه مع إتيانك في الوقت نفسه مثل ما نهيت عنه. وقوله:
أتبيت ريان الجفون من الكرى ... وأبيت منك بليلة الملسوع(791/46)
معناه مع بياتي في الوقت نفسه من حبي لك وتقلبي في فراشي كمن لدغته العقرب.
لكن الأساتذة - مع احترامي لهم - مؤلفي كتب القواعد عاقبوا بين الفاء والواو في الأمثلة بدون نظر إلى اختلاف معنييهما فقالوا: ذاكر فتنجح، وذاكر وتنجح، فالمثال الأول يترتب فيه النجاح على المذاكرة، ولكنه في الثاني يحتاج إلى تأويل، ومع ذلك فهو بعيد عن معنى الواو التي في هذا الباب على كل حال حقيقة أنه قد يكون مع المذاكرة النجاح، ولكن ليس النجاح مرتبطاً مع المذاكرة في نفس الوقت، وإنما هو مترتب عليها، وهي سبب له. وذلك ما تفيده الفاء التي تؤدي معناها لام التعليل، وتصلح أن تخلفها في أمثلتها.
وإن الآيات والأمثلة لتؤيد كل ما قدمناه، ولله در ابن مالك إذ يقول:
والواو كالفاء إن تفد مفهوم مع ... كلا تكن جلداً وتظهر الجزع
فهو يذكر لنا أن الواو ينصب بعدها المضارع كالفاء بشرط أن تفيد المعية. ومثاله موضع كل الإيضاح. فلعل المؤلفين لكتب القواعد يذكرون ذلك عند إعادة الطبعات.
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي
1 - تشدد في اللغة لا موجب له:
علم الله أنني جد حريص على سلامة اللغة، ولكنني أكره التزمت فيها، وأبغض شئ إلى نفسي الإمعان في الجدل إلا جدلا يكشف حقاً، أو يُدحض باطلا، أو يهدي إلى الرشد؛ وقد ضقت ذرعاً بمسائل كثيرة يتعلق بها بعض من حسنت نيتهم، أو ضاق أفقهم، أو استولى عليهم الغرور، وأحب أن يتسع نطاق (البريد الأدبي) بالرسالة الغراء لنشر هذه المسائل؛ فمنها:
1 - يحرص كثير من أهل الفضل والدراية على تغيير لفظ العلَم الكُنْية المصدًّر بأب إذا كان مضافاً إليه؛ فيقولون: مدرسة أبي حمص، ومدرسة أبي المطامير؛ جرياً على قاعدة جر المضاف إليه بالياء إذا كان من الأسماء الخمسة؛ وقد يقعون بحسن نية فيما يدعو إلى السخرية فيقولون (مدرسة بني أبي الريش) يريدون مدرسة البنين ببلدة أبو الريش؛ ولو علموا أنه يجوز حكاية الكنية على أشهر أوضاعها، وهو صيغة الرفع بالواو لأراحوا(791/47)
واستراحوا، وأظن الأستاذ الإمام الشيخ حمزة فتح الله قد عقد بحثاً لذلك في كتابه (المواهب الفتحية)، وقرأ أحد الصحابة (تبت يدا أبو لهب) كما في تفسير العلامة (أبو السعود).
2 - يتشبث بعضهم بوجوب جر كلمة (أثناء) فيقولون مثلا (يلمع البرق في أثناء السحاب)، وهم يعتمدون في هذا التزمت على ورود الكلمة في جميع المراجع اللغوية التي بأيدينا على هذه الصورة، ويقول النحاة: إن اسم المكان لا يقبل النصب على الظرفية إلا مبهماً؛ وأثناء جمع ثِنْى، وهي في جميع الأوضاع مخصصة غير مبهمة لانحصار حدودها فيما أضيفت إليه؛ وهذا بلا شك كلام صحيح؛ ولكن لم لا يكون نصب الكلمة جارياً على نزع الخافض، وهو كثير جداً في كلام العرب، وجعله بعض العلماء قياسياً في المصادر المؤولة من (أن) وما دخلت عليه بل في غير المصادر من الأسماء الصريحة؟.
3 - ما زال بعض الأدباء ينكرون كلمة (الهناء) لعدم ورودها مجردة من تاء التأنيث في أشهر الموسوعات اللغوية؛ وقد غاب عنهم ورودها في (المخصص) للعلامة (ابن سيده) في باب ألوان العيش والنعيم (أو كمال قال)؛ ويعلم الله كم جرى قلمهم الأحمر والأزرق على كلمة الهناء شامخين مزهوين، وكم نال (ابن نباته) الشاعر الظريف من الزراية والاستخفاف حين طرق أسماعهم بيته الرشيق:
هناءٌ محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما
4 - يتمسك كثير من أولئك بوجوب ضم راء (الرصافة) واقفين عند نص (الفيروزبادي)، ولو أنصفوا لحولوا أعينهم إلى ما كتبه شارح القاموس على هامش المادة، وإذاً لعلموا أن الفتح والضم سيان، وفي ظني أن الفتح في مثل هذه الكلمة أرق وأجمل، وما أحسب (علي بن الجهم) طيب الله ثراه قد نطق بها إلا مفتوحة الراء حين قال بيته الخالد:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري
2 - أحسن من ذي قبل:
كثيراً ما يعترض القارئْين، ويجري على ألسنة المتحدثين هذا الأسلوب، ومنهم من يكتفي بفحواه وما يتبادر إلى الذهن من معناه، غير باحث فيما بني عليه من أساس لغوي، أو قاعدة نحوية، ومنهم من يحرف الكلم عن مواضعه، فيزعم أن اللفظ الأخير منه وهو (قبل) بفتح الباء لا بسكونها، وينسى أن هذا الضبط يفضي إلى قصور في المعنى وتعسف كبير،(791/48)
إذ (القَبَلُ) هو كل شئ في مستهل وجوده، أو على حد تعبير المعجمات: هو الشيء أول ما يكون؛ وما زالت أبحث في هذه المسألة وأدير الحوار حولها مع الثقاة من أهل البصر باللغة حتى انتهيت إلى ما أعتقده فيها، وخلاصته أن كلمة (قبل) ظرف مبني على الضم لحذف المضاف إليه، ونية معناه كبقية (الغايات) وهي ظروف محصورة في كتب النحاة منها: بعد ووراء وخلف الخ، وأن كلمة (ذي) ليست بمعنى صاحب - كما يتبادر إلى الذهن - ولكنها اسم موصول يستعمل في لغة طْيء للمفرد وغيره مذكراً ومؤنثاً كما هو منصوص في المصادر النحوية كشرح (ابن عقيل) وحاشية (الخضري)، وإنها قد تأتي مبنية بلفظ واحد وهو (ذو) رفعاً ونصباً وجراً، وقد تعرب بالواو رفعاً وبالألف نصباً وبالياء جراً عند قوم من طْيء فتكون في أحوال الإعراب مثل (ذي) بمعنىصاحب التي هي من الأسماء الخمسة، وعلى هذا الوجه يمكن توجيه الأسلوب، ويكون الظرف المبني على الضم صلة الموصول باعتباره شبه جملة على حسب ما شرحه النحاة.
وإذاً يكون المعنى: هذا الشيء خير من الذي كان قبله، أو هذه الحالة أحسن من التي سبقتها وهكذا، وبذلك يستقيم اللفظ وينسجممع المعنى المراد، والسلام.
محمود البشبيشي
التناسب. وجو الآية. وحسن الجرس. وتكرير المقطع:
يظهر أن هذه الكلمات ونظائرها حبيبة إلى الأستاذ الفاضل محمود البشبيشي، ولها بالقلب نوطه، فهو يألفها ولا يفتأ يلهج بها ويكررها!.
ولو كانت تلك الكلمات تحل ما نحن بصدده لقلنا: لقد أتى الأستاذ بما لم يأت به الأوائل، واستدرك ما فاتهم وطلع علينا برأيطريف له دعامة من الحق تسنده، ولكن الأستاذ أخذ يردد كلمة التناسب ويظنها حجة له وهي على الضد مما يرى إذ ما شأن التناسب هنا في موضوعنا؟ التناسب الذي أورده ابن مالك في ألفيته إنما أورده في الأسباب التي تجعل الممنوع مصروفاً، ومثار البحث مقصور على أن المصروف قد لا ينصرف، وذلك عند الاضطرار لا التناسب. وبالرغم من هذا ليست الآية شعراً حتى نقول: إن اضطرار الوزن أدى بكلمة أشياء أن تمنع من الصرف وهي مصروفة وبهذا عرف موضع هاتين الكلمتين:(791/49)
الاضطرار، والتناسب، وفي أي شئ يردان، وعلم لنا أن كلمة التناسب فقدت قوتها السحرية، إذ لا مكان لها في محل النزاع.
بقي أن ننفتل مسرعين إلى ما بقي من الألفاظ (جو الآية، وحسن الجرس، وتكرير المقطع)، والتي اعتمد عليها الأستاذ بعد التناسب في التوجيه لرأيه الذي أرتاه في كلمة (أشياء) الواردة في الآية، فهو يرى أن كلمة (أشياء) في الآية (لو وردت مصروفه لتكرر حتما مقطعان بلفظ واحد، وكان ذلك مخلا إلى حد ما بحسن الجرس والتناسق، ولا شك أن القرآن الكريمفي المكان الأول من رعاية التناسق والسلامة من كل مظان التنافر، وهذا من أعظم وجوه الإعجاز).
وكأن المفسر - على هذا - لو فسر تلك الآية خارجاً بكلمة (أشياء) عن جو الآية، ومعبراً بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تظهر لكم تشق عليكم وتغمكم) لجاز له أن ينون، لأن الأستاذ يقول: (فلو خرجت كلمة أشياء عن جو الآية لجاز عليها ما يجوز على سواها من الصرف والتنوين). وما رأي الأستاذ الفاضل في مثل هذا التعبير أو التفسير؟ أيراه بليغاً خالياً من التنافر؟ أو يراه غير بليغ؟ إن رآه بليغاً فقد سلم بأن تكرير المقطع مرتين بلفظ واحد سواء في الآية أو غيرها لا يخل بحسن الجرس والتناسق، وإن تخيله غير بليغ لتكرير المقطع مرتين فقد رَجع عما أرتاه من صرف الكلمة عندما تخرج عن جو الآية، والمفسر - كما تعلم - حريص على أن يكون تفسيره متناسقاً يطابق الآية ويقاربها.
وإلى هنا نرى أن التمسك بتكرير المقطع لا يقوى على التحليق طويلا، فقد هوى عندما سدد إليه الأستاذ أحمد العجمي مصوبته وأورد ما أورده من الآيات، وهل روى غلته ما أجاب به الأستاذ البشبيشي بعد ذلك؟ في الحق أن حجة الأستاذ العجمي ما زالت ملزمة، لأن كلمة (شئ) في الآيتين منونة، وليس فوقها علامة منعلامات الوقف كما هو المعهود في المصاحف، والقياس على هذا صحيح، وليس قياساً مع الفارق - كما يقول الأستاذ البشبيشي -: (إنه من الممكن، بل من الحسن الوقف على كلمة شيء) إذ يعد هذا ابتداعاً لم يرد عن الرسول عليه السلام. ويلزم من ذلك على رأيه أن الآية تكون خالية من التنافر عند الوقف بدون موجب، ولا تكون كذلك عند الوصل، وذلك أمر لم يعهد في آيات القرآن،(791/50)
ولم يقل به أحد إلا إذا وافقنا الأستاذ البشبيشي على هواه كلما أراد التخلص من مشكل، ودون شك أن هذا يجعل الأمر فوضى.
وادعاء أن همزة (شيء) مسبوقة بلين صامت، وهمزة أشياء مسبوقة بحرف مد صاعد، وأن لذلك تأثيره في ثقل المقطعين ادعاء غير ناهض. لأنه ثبت في الآيتين أن المقطع تكرر مرتين بلفظ واحد، ولا يعكر ذلك ما إذا كان الحرف صامتاً أو صاعداً وذلك كاف في الرد.
وفي المختتم نعود فنقول: إن علماء اللغة بصرييهم وكوفييهم أجمعوا على أن الكلمة ممنوعة من الصرف في جميع الحالات إلا إذا كان ثمة اضطرار، ومنعت الصرف لكثرةالاستعمال تشبيهاً لها بألف التأنيث الممدودة، وفي هذا القدر كفاية.
محمد غنيم
لغويات:
نعيد اليوم. للتذكير. ما قلناه بالأمس:
1 - قلنا إن الفعل (هاج) الثلاثي إنما يتعدى بنفسه ويلزم، وإن الرباعي المهموز منه (أهاج) خطأ لم يلفظ به لسان عربي قح، وإن الصواب - في التكثير - هو التضعيف (هيّج) لا الهمز. ولكن الأستاذ محمد رزق سليم لا يزال - بالرغم مما سبق - يقول ص779 ((وأهاجت) في خاطره أبالسة الشعر فأتاها في بيتها.)
2 - وقلنا إن وصف (أفعل فعلاء) إنما يكون على (فُعْل) لا غير. ودع عنك تشقيق فلان وتخريج علان. وأضح إلى قول الرحمن على لسان ملكه جبريل. قال: (ومن الجبال جدد (بيضوحمر) مختلف ألوانها وغرابيب (سود)). وقال: (وسبع سنبلات (خضر) وأخر يابسات). وقال (إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت (صفر).) وقال - وهو أصدق القائلين: (متكئين على رفرف (خضر) وعبقري حسان) فكيف يصح للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح - وغيره - أن يقول ص783 (وتمحو تحت ألوانها الداكنة (السوداء) كل ما يدب على الأرض أو يجري)؟
3 - وقلنا لا يقال (داوٍ) من الدوي وإنما (مدّو) من (دّوى) الرباعي لا الثلاثين ولكن(791/51)
الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب يأبى إلا ان يقول ص801 (واستمعت الأرنب إلى صوت (داوٍ) قادم من بعيد.)
وبعدك فالذي قلناه بالأمس نقوله اليوم مذكرين. وذكر فلعل الذكرى تنفع المؤمنين.
(الزيتون)
عدنان
جامع الترمذي:
جاء في عدد (الثقافة) 945 في ص 22 قول الكاتب: (المحدث أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع الصحيح في الحديث) والصواب أن نقول (الأمام الحافظ أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع في الحديث) لأن لقب (المحدث) هو دون (الحافظ) في مصطلح علماء السنة، بل هو رابع الأئمة الخمسة: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. وكتابه في الحديث اسم (الجامع) وأما (الجامع الصحيح) فهو للبخاري، وكذلك مسلم سمى كتابه (الجامع الصحيح) لأنهما لم يخرجا إلا الصحاح وأما الترمذي فاسم ديوانه (الجامع) وقد خرج فيه الصحيح والحسن والغريب، والغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير، ويخرج حديث الثقة الضابط، ومن يهم قليلا ومن يهم كثيراً ومن يغلب عليه الوهم، ويبين ذلك ولا يسكت عنه. وأما مسلم فلا يخرج إلا بحديث الثقة الضابط ومن في حفظه بعض شئ وتكلم فيه بحفظه، لكنه يتحرى في التخريج عنه، وأما البخاري فشرطه أشد من ذلك، وهو أن لا يخرج إلا للثقة الضابط ولمن ندر وهمه، وإن كان قد اعترض عليه في بعض ما خرج عنه. وبسط القول في هذا في كتاب (شروط الأئمة السنة لمحمد بن طاهر المقدسي) المطبوع مع شروط الأئمة الخمسة (للحازمي). والترمذي ينتسب إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له جيحون، والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة، بعضهم يقول بفتح التاء، وبعضهم يقول بضمها، وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على ألسنة تلك المدينة بفتح التاء وكسر الميم، وكل واحد يقول معنى لما يدعيه. والترمذي أحد الأئمة الذين يقتدي بهم في علم الحديث، صنف الجامع والعلل تصنيف رجل متقن، وبه كان يضرب المثل في الحفظ، تلمذ للبخاري وشاركه في شيوخه. . . توفي بقرية بوغ إحدى قرى ترمذ(791/52)
سنة 279، انتهى بإيجاز من (اللباب في الأنساب لابن الأثير) المطبوع بمصر.
محمد أسامة عليبة
قالت شهرزاد
يوالي الأستاذ كامل كيلاني الإنتاج في أدب الطفل الذي يعد هو أول من أنشأه في العربية. وقد أخرجت له أخيراً دار مكتبة الأطفال (32 شارع حسن الأكبر) مجموعة قصصية من سلسلة (قالت شهرزاد) منها (بنت الوزير) و (قاهر الجبابرة) و (أمير العفاريت) و (كنز الشمردل) و (صانع الأعاجيب) و (الأكذوبة) و (حصان الجو) و (الأمير الحادي والخمسون) وهي قصص طريفة مشوقة تقدم للطفل غذاء مناسباً لخياله المتفتح ومادة نافعة لعقله الصغير في أسلوب سهل فصيح جذاب.
ولا شك أن هذا اللون من الكتابة للأطفال باللغة العربية السليمة العذبة الفصيحة، يقوم لسان الناشئ ويطبعه على البيان منذ الصغر. وكم أود أن يقبل ولدي حسام على القراءة في مستقبل حياته مثلما يقبل الآن على قراءة قصص الأستاذ الكيلاني، كما أود لأمثاله من الناشئين، فيتكون جيل يشغف بالقراءة ويجني ثمرات الاطلاع.
أبو حسام
إلى الأستاذ حسين مهدي الغنام:
نشرت الرسالة الغراء في عددها الأخير (785) مثالاً عن المرحوم حافظ بك إبراهيم شاعر النيل نسب فيه كاتبه الأستاذ حسين مهدي الغنام أبياتاً لشاعر النيل. وقد لاحظت:
أولا: أن هذه الأبيات غير موجودة في ديوان حافظ إبراهيم الذي قامت وزارة المعارف بطبعه.
ثانياً: هذه الأبيات من (بحر الخفيف) والبيت الآتي من الأبيات المذكورة، على هذه الرواية غير صحيح من ناحية العروض:
وعجيب يفوز هذا بانطلاق ... وهذا في ذلة المأسور
فهل الأبيات لشاعر النيل؟ وهل للبيت المذكورة رواية أخرى صحيحة؟.
(الزقازيق)(791/53)
طه موسى البيومي
سؤال:
حدثني الأستاذ الشيخ محمد رجب البيومي يوم وفاة المغفور له الأستاذ أحمد الكاشف أنه سيكتب ترجمة ضافية (بالرسالة) الغراء عن الشاعر الكبير في أقرب فرصة، كما سيكتب ترجمة أخرى للأستاذ أحمد محرم، ومضت أسابيع وأشهر وطلع علينا الأستاذ الفاضل بأبحاث جديدة غير ما أشار إليه. وأنا لا أدري أنسي الكاتب وعده، أم أدى ما عليه وتأخرت (الرسالة) الغراء عن النشر؟!.
(المنصورة)
سعاد كامل(791/54)
الكُتبُ
من الأدب
تأليف الأستاذ قدري العمر
مدير معارف الجزيرة
(هذا الكتاب نتاج دراسة تزيد على ثلاثين سنة، لكن تأليفه تم في شهر واحد، وما أدري أي آرائه يتصل بما قرأت من الكتب وأيها يتصل بنجوى متجاوبة بين النفس والحياة).
هذا ما بدأ به المؤلف المقدمة التي صدر بها كتابه هذا ليعرفه ويعرف القراء نفسه، والقراء لا يعنيهم أن يكون كتاب - مهما يبلغ من الضخامة - قد ألف في شهر أو يوم أو نصفقرن بل يعنيهم أن يجدوا فيه ما ينفعهم ويزيد علمهم ولو كان بضع صفحات. وليست التواليف كما بل ماهية وكيفا، والمعارف تستوي في ذلك فرب علم خلد باكتشاف قانون واحد أو نظرية واحدة، ورب شاعر خلد في لغتنا العربية بقصيدة واحدة. والجدة في أسلوب البحث أو في موضوعه أو في اكتشاف حقائق جديدة تضاف إلى ما عرف منه، وقد يستغني عن الجدة بتبسيط الحقائق وتقريب بعيدها إلى الأذهان، وهذا الكتاب يخلو من الجدة في أسلوبه ومعلومته على السواء، ويكاد يخلو من تبسيط الحقائق وتقريبها.
وهو سبع عشرة مقالة تنقسم قسمين: أحدهما خاص بدرس فكرة أدبية. وثانيهما: خاص بموضوعات من تاريخ الأدب العربي، والقسم الأول أربع مقالات هذه عناوينها. ما هو الأدب؟، الأدب متعة وفائدة، الأسلوب، الابتكار في البيان والقسم الثاني ثلاث عشر مقالة أولها: عنوانها (العصر) وفيها يتحدث عن الثقافة الإسلامية في الشرق أثناء القرن (131 - 323هـ) تليها اثنتا عشرة مقالة في ثلاث شعراء وكاتب خص كل منهم بثلاث مقالات. فأما الشعراء فهم أبو نواس، وأبو العتاهية، وأبو تمام، والمقالة الأولى من الثلاث الخاصة بكل منهم في ترجمته والثانية في شعره والثالثة في أنواع شعره، وأما الكاتب فهو ابن المقفع، والمقالة الأولى من الثلاث الخاصة به في ترجمته، والثانية في كتابته والثالثة في رسائله وكتبه.
ومقالات النوع الأول الأربع التي تدرس كل منها فكرة مقالات مستقيمة منسقة الآراء تدل(791/55)
على نضوج هذا الفكر في ذهن المؤلف وتثبته منها وإيمانه بها ولا سيما مقالته (الابتكار في البيان)، ولكن مقالات النوع الثاني الثلاث عشرة فيتاريخ الأدب لا تخلو من غموض واضطراب وتفكك: ففي مقالة (العصر) لم يزد المؤلف على إيراد حقائق التاريخ دون دراسة ولا غربلة ولا استنتاج وفي المقالات الخاصة بالأدباء لم يستطع أن يترجم لواحد منهم ترجمة واضحة ولا أن يرسم له صورة بارزة، ولا أن يربط بين حياته وآثاره ربطاً محكما مع أن كل جهاده انصب على بيان الصلات، بين حياة الأديب وإنتاجه شعراً أو نثراً ومن أجل هذا اهتم اهتماماً خاصاً بحياته.
وهذا المنهج - فيما أرى قاطعاً - أقوم المناهج في دراسة الأدباء والفنانين خاصة والناس عامة، وهو أهدى المناهج وأيسرها لاكتشاف الحقائق الخافية في حياة الإنسان وآثاره على السواء، وحسن الاستقامة عليه كفيل بأن يعصم الباحث من الشطط، وقد عصمه الغلط، فما أفكارنا الخاصة إلا وليدة حياتنا الخاصة: تأخذ عنها وتعطيها، وتتأثر بها وتؤثر فيها. غير أن المؤلف لم يحسن الاستفادة التامة من هذا المنهج الأقوم، وإن استحق التقدير لإيثاره إياه على غيره وصدق نيته في الاستهداء به إن قدرت (الأعمال بالنيات).
ولعل ذلك راجع إلى أن نزعة المؤلف الأدبية سليمة ولكن لا تؤازرها جلسة تاريخية نفادة، وإلى أن ذوقه الفني خير من اطلاعه على حقائق التاريخ وخفايا النفوس وفهمها فهماً علمياً صحيحاً، فإن يكن ذلك فلعل المؤلف منصرف عما خلق له إلى ما خلق، وفي مقالته (الابتكار في البيان) - وهو خير مقالات الكتاب عندي - غنية له عن الإطالة فيما أريد بيانه.
وفي الكتاب أخطاء تاريخية كقوله (ص57 - 58) إن عبد الله بن المقفع ترجم أرسطو. ولا دليل على ذلك وكل ما رجحه الباحثون أخيراً أن المترجم هو محمد بن عبد الله بن المقفع ومن الأخطاء قوله إن النظام اعتزل واصل بن عطاء (شيخ المعتزلة) وقال بتخليد صاحب الكبيرة في النار (ص62) وهذا خطأ من وجهين أحدهما أن واصلا أول قائل بهذا المبدأ وثانيهما أنه مات قبل مولد النظام.
ومنها قوله إن أبا نواس رثى المأمون وقد مات قبل المأمون بنحو عشرين سنة، فلعله يريد الأمين لا المأمون، ومنها (ص62) ذكره الأشعرية في كلامه في القرن (132 - 232هـ)(791/56)
ولم يولد الأشعري إلا بعد ذلك ولم يظهر متكلما إلا قبيل نهاية القرن الهجري الثالث. ومنها ذهابه إلى أن اسم صاحبة أبي العتاهية عبدة (ص151) وهي عتبة جارية الخليفة المهدي، وإنما عبدة صاحبة بشار بن برد. وفي الكتاب تحميل للنصوص أكثر مما تحتمل وتوليدها ما لا يمكن أن تلد (ص97، 102).
وفيه أخطاء ذوقية ففي قصيدة بائية لأبي نواس منها هذا البيت وكلها على منواله:
(يا غراب البين في الشؤ ... م وميزاب الجنابه)
يسمى هذا الشتم هجاء، والهجاء لا يسعى وهو خال من الفن وإلا لعد كل بذاء هجاء ومن ذلك تعقيبه على قصيدة أبي نواس التي منها:
يا قمرا أبرزه مأتم ... يندب شجوا بين أتراب
بقوله: (وما أرق المحب الذي يطلب الموت الدائم للناس ليرى حبيبته) (ص109) وليس قلب كهذا بالأرق ولا الرقيق بل هو قلب أناني مغلق وحشي. ومنها (ص162) وصفه أبا العتاهية بالزاهد ولو اقتصر على وصفه بالمتقشف لأصاب فهكذا كان الرجل، وفرق بين التقشف والزهد، فليس بالزاهد من كان من أحرص الناس على الحياة والمال وأشحهم بهما.
ومن أخطاء الفهم عده مدحاً ببيتي ابن المعذل في أبي تمام وهما:
يا نبي الله في الشع ... ر، ويا عيسى بن مريم
أنت من أشعر خلق الل ... هـ ما لم تتكلم
وهما من الذم المقذع فهو بقوله (يا نبي الله في الشعر) والبيت الثاني يخرجه من الشعراء، لأن الأنبياء - فيما تعورف - ليسوا شعراء وفيه إشارة إلى الآية الكريمة في النبي (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) وفي ندائه (يا عيسى بن مريم) اتهام لأبي تمام بأنه مجهول الأب.
وفي الكتاب قضايا سيقت بلا برهان، وأحكام قاطعة وهي بين الباحثين محل شك أو رفض، وفيه اعتماد على نظريات تربوية ونفسية لم تثبت ثبوتاً قاطعاً ولا راجعاً. وتقسيم أنواع شعر الشاعر إلى حكمة ووصف وهجاء. . . منهج قد يصلح للمبتدئين ولكنه لا يغني في البحوث التي تكتب للشداة فضلا عن الناضجين في المعرفة ولا سيما إذا كانت موضع دراسة (تزيد على ثلاثين سنة) كما قال المؤلف في مقدمته.(791/57)
ويظهر أن المؤلف لم يطلع على ما كتب حديثاً في ابن المقفع وآثاره حتى ما ألف بالعربية أو ترجم إليها وإلا لما قنع بما اقتصر عليه (يراجع كتاب ابن المقفع للدكتور عبد اللطيف حمزة) والجزء الخاص بابن المقفع من ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي في كل من كتابيه: (تراث الفكر اليوناني، ومن تاريخ الإلحاد في الإسلام) وفي الكتاب أخطاء لغوية وتركيبية لا شك أنها من قلم المؤلف وأخرى ربما كانت منه أو منالتطبيع، هذا إلى كثير غيرها من التطبيع فبعضه لم يصححوبعضه صحح في جدول التصويبات آخر الكتاب ولعلنا ظافرون في الجزء
الثاني بخير مما وجدنا في الجزء الأول.
(القاهرة)
محمد خليفة التونسي(791/58)
العدد 792 - بتاريخ: 06 - 09 - 1948(/)
أنقذوا اللاجئين أولا!
للأستاذ نقولا الحداد
يا للعار!. . . عدد العرب في الممالك العربية السبع يناهز الأربعين مليوناً، وعدد اليهود في فلسطين لا يتجاوز ثلاثة أرباع المليون! أفليس عجيباً أن اليهود يطردون نحو نصف عرب فلسطين من بلادهم في حين كان العرب يتحفزون لطرح اليهود في بحر الروم!.
أو ليس مخجلاً أن يفر أطفال عرب فلسطين ونساؤهم وشيوخهم من أمام فصيلة الحيوانات الشرسة الطاغية، ورجال العرب لا يقفون في وجه هذه الفصيلة المتوحشة لكي يردوا طغيانها عن الأطفال والنساء؟!.
يعتذر العرب بأن الانتداب الإنكليزي المشؤوم حال دون الجنود العرب بحجة أن الانتداب كفيل بحفظ الأمن، فهو الذي كان مسؤولا عن طغيان اليهود، ولكن إذا كان هذا الانتداب لم يستطع حماية الإنكليز أنفسهم فهل يحمى العرب؟ لم يكترث اليهود بقوة الانتداب ولا بقوة الانتداب ولا بقوة جنوده التسعين ألفاً، فكانوا يعتدون على الإنكليز والعرب على السواء، وكان الإنكليز المتكفلون بحفظ الأمن يستخذون المرة بعد المرة!.
فلماذا كان العرب يتهيبون قوة الانتداب؟ ماذا كان يحدث لو هب الجنود العرب لحماية الأطفال والنساء غير مبالين بالقوات الإنكليزية كما كان يفعل اليهود؟ فهل كان الإنكليز يرتدون عليهم ويقاتلونهم وثمت يظهر تحيزهم واضحاً؟ وهب أن التسعين ألف جندي إنكليزي غلبوا العرب، أفليس هذا أشرف من أن يذلوا اليهود؟!.
دعنا من هذا التثريب فيما مضى، نحن الآن أمام كارثة قد تكون أفظع من كارثة ضياع فلسطين: إن ثلاثة أرباع مليون مشردون لاجئون إلى إخوانهم في الممالك العربية السبع!.
حكومة شرقي الأردن تقدم كل يوم 2200 جنيه أي 66 ألف جنيه كل شهر وهي أصغر الدول العربية، فإذا كانت كل دولة تبذل مثل هذا المبلغ بنسبة عدد أهلها كان في وسعها أن تقدم في الشهر 5 , 280 , 000، ونحن لا نريد أكثر من ثلث هذا المبلغ، فأين النخوة العربية التي (كلما دق الكوز بالجرة) تبجحنا بذكرها وفاخرنا جميع أمم الأرض بها.
عندنا مئات المليونيين في مصر والشام والعراق الخ، فإذا كان هؤلاء يوفون الزكاة التي بدون وفائها لا يكون المسلم مسلماً أمكنهم أن يجمعوا كل شهر القيمة المطلوبة ضعفين أو(792/1)
ثلاثة. . . فأين أنتم أيها المؤمنون توفون دينكم لله؟ وإلا فأنتم منكرو نعمة الله!
إن بترول الحجاز والعراق والبحرين ليس لأهل العراق ولا لأهل الحجاز ولا لأهل البحرين، إنما هو ملك الله، لأنهم لم يزرعوه حتى يستغلوه، ولا صنعوه حتى يتاجروا به، فيجب عليهم أن يدفعوا ضريبة ثقيلة عليه الله!!.
يجب أن نحاسبهم، أو أن الله يحاسبهم، وحسابه صعب جداً!.
أو ليس عاراً أن ننتظر من الجنرال جلوب والمستر سبيرز وغيرهما من أنصار العرب أن يتسوّلوا لكم مائة أو بضع مئين من الجنيهات وهي (لا تقيم حجة ولا تقلي عجة) في إغاثة المنكوبين؟ ألا تكفيهم هذه النجدة أسبوعاً أو أسبوعين؟ وبعد ذلك بمن يلوذون؟ أبكم أو بالموت؟؟!!.
أتستسيغون أن تحذوا حذو اليهود في أمريكا وهم أغنى أغنيائها حتى كانوا يتسولون المال من نصائرها بلا خجل ولا حياء، حتى جمعوا من هذا التسول نحو 172 مليون ريال. ولما سئل عميدهم أين يذهب هذا المال؟ قال 42 بالمائة منه يذهب إلى فلسطين، والباقي إلى منكوبي اليهود في أوربا.
فبغت ذلك النصراني الذي كان قائماً بجمع المال لهذا الغرض الذي يسميه إنسانياً، وما شعر إلا حينئذ أن اليهود لا يقدرون هذا العمل الإنساني، بل يحسبونه ربحاً جزاء الحيلة التي احتالوها على ذلك الرجل الإنساني لكي يحض إخوانه النصارى على هذا العمل الإنساني. فأجاب: لا. لا. هل أنا أجمع المال لكي ينفقه اليهود في حرب العرب، أم لكي ينفق على المتشردين اليهود! هنا أكف عن هذا المسعى. السلام عليك.
عار يا قوم وأي عار أن تتدفق خزائنكم بالأموال وأنتم ناعموا البال، ثم تصموا آذانكم عن صراخ إخوانكم وتغضوا أبصاركم عن شقائهم!!.
يا ناس! إن إنقاذ اللاجئين أهم من إنقاذ فلسطين الآن! فلتهتز أريحيتكم ولتتحرك عواطفكم قبل أن تبتلوا بما ابتلي به إخوانكم عن يد يهود فلسطين أنفسهم! المصيبة مصيبتكم! والويل ويلكم! أما أحسستم بالألم والشقاء؟ أم أن أعصابكم مخدرة؟ أم أن عقولكم سكرى؟ أم أنتم في غيبوبة؟ أم في سكرة الموت أو حشر جته؟!.
وأما الجامعة العربية الموقرة. . . فحتى متى تصبر على مراوغة برنادوت والوقت يأكل(792/2)
من لحم فلسطين ويمتص من دمها. . . بل ينهم من مهج العرب أجمعين، وكل يوم يقولون لنا إن اليهود خرقوا الهدنة 18 مرة. . . فحتى متى أنتم صابرون؟!.
إن هذا الصبر مضيع القدس أولا، ثم فلسطين ثانياً، ثم البلاد العربية كلها آخراً. . . أفما تحسون؟!.
كفى تواكلا وتماهلا وتخاذلا! إن الله يرذل المتخاذلين!.
إن إنقاذ اللاجئين قبل إنقاذ فلسطين! أيمكن ألا يكون هذا ولا ذاك؟!.
نقولا الحداد(792/3)
طاغور وغاندي بين الشرق والغرب
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
- 1 -
لقد أخذ الشرق العربي يتخوف من الدول الغربية الكبرى وأخذ يشك في قيم حضارتها المادية، بعد أن خانت عهودها معه، وسخرت من عواطفه القومية، وداست على رغباته في الرقى والتقدم ويود اليوم كل عربي استكان في فترة من الزمن لثقافة الغرب ومدينته، ورضى أن يعتمد عليها في حياته المادية والمعنوية، أن يغير نظرته إلى الغرب، ويفكر في الاستغناء عنه في كل شئ. ولقد سبق طاغور وغاندي العالم العربي في هذه المشاعر، بعد أن عانت الهند ما عانت من الاستعمار الإنجليزي. فوهب طاغور العالمي النزعة والتفكير، جميع طاقاته العقلية في سبيل وضع تصميم حديث للحياة الإنسانية، استوحاه من فكرة وحدة الوجود الهندوكية، ودمج فيه حضارات الشرق في حضارات الغرب، وجمع بين زبدهما الثقافي، وأراد به أن ينشئ عقلية عالمية تخلص من ناحية من مادية الغرب وأنانية شعبه وحبه للسيطرة وإمعانه في الإباحية التي تجعل استتباب الأمن ونشر السلام في العالم مستحيلاً، وتنشر التذمر والضيق في جميع البلدان. وتتحرر من ناحية أخرى مما علق بالحياة الهندية من تقاليد قديمة عرقلت نهضة الهند وعاقت تقدم شعبه؛ فإن التشاؤم واحتقار الحياة وتحاشى الانغماس فيها، قضى على نشاط الهنود المادي، وأدى إلى تأخرهم في مختلف نواحي النشاط الإنساني، فأنتج نتاجاً فكرياً روحياً إنسانياً عالمياً، يخلو من شوائب الحضارات الهندية وضلالات الحضارات الغربية، ومن نقائض المدنيات القديمة والحديثة والمعاصرة جميعاً، وتدعمه الأصول الروحية، ويرفع من صرح الأخلاق والفضيلة والدين، ويعطى للعلم والفن والعمل قيمة جليلة في الحياة البشرية. بينما هب غاندي الزعيم الوطني، يجاهد في سبيل حرية الوطن بسلاح معنوي استلهمه من فكرة الحب والتسامح التي تكاد تنادى جميع كتب الهند الدينية بضرورة اتباعها؛ واستغلها بدهائه الروحي في مقاومة الاستعمار البريطاني في الهند، واتخذ من المقاومة السلبية التي أقامها على اللين وعدم الانتقام، سبيلاً دينياً لإشعال الحمية الوطنية وتقوية الحماسة القومية، ونهجاً سياسياً يرد به للهند استقلالها، ويمنحها حريتها المسلوبة.(792/4)
وقبل أن يحدد طاغور الهندي موقفه من حضارات الغرب والشرق، تأمل في تراث الحضارات الغربية القديمة فوجدها جميعاً قد نشأت بين جدران مدن أشادها الإنسان ليحمى نفسه من شر أخيه الإنسان، أو ليلقى حياته من هياج قوى الطبيعة. فمنعت هذه الجدران اتصال الشعوب بعضها ببعض، وعاقت اختلاط الثقافات وتمازجها، وقضت على تبادل الحب والمنفعة؛ كما حالت دون ائتلاف الإنسان بالطبيعة. فشب الغربي أنانياً، يوجه كل اهتمامه نحو نفسه، أو نحو بنى مدينته يفضلهم على القرباء عن وطنه الذين ينظر إليهم كمنافسين خطرين له ولأهله، يجب عليه أن يغتصب منهم كل ما يستطيع أن يغتصبه قبل أن يغتصبوا منه شيئاً مما يملك، ونشأ ساخطاً على الطبيعة، يخاف غضب قواها، ويتصورها عدواً له، يجب أن يحذره، ليحفظ كيانه من شدة تقلباتها، وليبعد خطر زوابعها عنه. فغرست هذه الحياة في نفوس الغربيين الأنانية وحب السيطرة، وصرفت نشاطهم إلى بسط نفوذهم على ما يحيط بهم من بلدان وشعوب، وصرفت أعمارهم لمكافحة الطبيعة والسيطرة عليها، ودفعتهم إلى أن يعتنوا عناية فائقة يشحذ مختلف مواهب الإنسان وملكاته سواء أكانت عقلية أم فنية، وبكسب مهارات صناعية، وقدرات يدوية لتساعدهم على محاربة الطبيعة، واستغلال الفقراء، وإذلال الشعوب الضعيفة. وكان ذلك كله سبباً في تفوق الغرب في العلوم والفنون، وعله تأسيسه حضارة استكملت نهضتها بتقدم البحث العلمى، وأختراع شتى الآلات الصناعية والأدوات الحربية التي تشهد بمقدرة الغربيين في الصناعة والحرب، وتدل على مهارتهم في توزيع مصنوعاتهم وترويجها في أسواق الأمم القريبة والبعيدة. فعادت عليهم بأرباح وفيرة وثروات طائلة أقنعتهم بأن تصريف أمور الحياة الأرضية لا تخضع إلا للمال. فآمن الغرب بأن المال هو الغاية القصوى، التي يجب أن يبذل الإنسان كل قواه في سبيل الإكثار منه، واعتبره الوثن الأوحد الجدير بالعبادة والتقديس.
فأعجب طاغور بنشاط الأمم الغربية، وقدر مساعيها الجليلة في تقدم العلوم والفنون، وسر من جدها الدائم في ترقية مستوى الحياة الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه سخط على أنانية الغرب وماديته، واشمأز من جربه القبيح وراء المال، واحتقر تفضيله الرذيل لبنى جنسه، وتقزز من استعماره المشين للشعوب الوديعة. لأن ذلك يخالف ما جبل عليه، ويغاير ما(792/5)
تعود أن يعرفه عن الهند وما تعلمه من الهنود.
فلقد عاش أهالي الهند منذ القدم في غابات فسيحة غنية بشتى الغلات، فلم يجد الهندي صعوبة في العثور على طعامه وشرابه، وتيسر له بناء مساكن من أخشاب الأشجار، حمته من الحيوانات المفترسة، والطبيعة الهائجة. فتأثر الهنود بحياتهم الأولى في أرجاء غابات تحتوى على مختلف الخيرات، وتبلغ من الأتساع بحيث يمكنها أن تحتضن ملايين الناس، وتمدهم جميعاً بالطعام والشراب، وتوفر لهم المسكن. فنشأ الهندي منذ القدم لا يعرف الكد في البحث عن غذائه، ولا النصب في الحصول على مواد بناء مسكنه، لأن الغابات تضع كل ذلك في متناول يديه. فلم يشعر بعداوة الطبيعة، لأنها مهدت له سبل الحياة، كما لم يجد ضرورة لأن يمتلك أرضاً معينة، يقيم حولها حواجز وتخوما تقيها من طمع الآخرين، وتفصلها عما يمتلكه الغير، لأن كثرة ما في الغابات من خيرات متنوعة يسهل الحصول عليها، لم يدع أحداً يفكر في أن يخص نفسه بامتلاك شئ من دون بقية الناس، مادام كل شئ يحب أن يناله يمكن أن يفوز به بدون مشقة.
فلم يقف حائل بين الهندي والطبيعة فأحبها، وارتاح إلى الحياة في كنف حنانها، ودعا اتصاله الوثيق الدائم بها إلى ائتلافه بكل جزء من أجزائها، وإلى نجاة أفكاره من الرغبة الجامحة في بسط نفوذه على الطبيعة، أو امتلاك أرض يشيد حولها أسواراً خوفاً من أن يسطو عليها أخوه الهندي. ويعث جمال الطبيعة وتناسقها في نفسه شعوراً عميقاً بأن جميع مكونات الوجود في وحدة شاملة وأدراك أن كمال الإنسان في معرفة هذه الوحدة، وأيقن أن الطريق الوحيد الموصل إلى هذا الكمال، هو تلاشى فرديته في جميع محتويات الكون، أو بإدماجها في كل ما حوله من كائنات. فساقه هذا الشعور إلى أن يقصر حياته على تحقيق هذه الوحدة، واكتساب الوسائل الصالحة التي تساعده على إفناء ذاتيته في الوجود بأكمله. ولم يفكر قط في محاربة الطبيعة لأنه عرف أن الإنسان متحد بها، ولم يفكر قط في السيطرة على قواها، لأن أفكاره في اتحاد مع جميع الأشياء، ولأن قوى الإنسان متحدة مع قوى الطبيعة وأغراضه في الحياة تتفق وأغراض الطبيعة.
فتشبعت العقلية الهندية بحقيقة وحدة الوجود، وأصبح إدراك هذه الحقيقة الكبرى محور حياة قدماء الهنود، وموضوع دينهم، وغاية عبادتهم، وسبب سعادتهم القصوى. وأصبحت رغبة(792/6)
الاتحاد بالله الذي يتجلى في مختلف أجزاء الوجود شاغلهم الشاغل؛ فانصرفت كل مشاعرهم وأعمالهم إلى العثور عن هذه الوحدة لأنهم لن يجدوا الراحة أو الأمن أو السلام، ولن يذهب عنهم الخوف والقلق والاضطراب والشك والحزن، ما لم يدركوا فكرة اتحاد الكون التي يتطلب وعياً صادقاً حياة فكرية منعزلة طاهرة، لا تؤثر فيها مشاغل الحياة.
فاختار زهاد الهنود أماكن نائية عن صخب الحياة الاجتماعية ومغريات مفاتنها، وتبدو فيها الطبيعة على قسط كبير من العظمة والجمال، حتى تبهر الفكر، وتغريه بهجرة الحياة، والتحرر من حدودها المادية الضيقة، والتخلص من ضروراتها الزائفة؛ وحتى تنبسط في ربوعها الروح، وتتلمس في كنف روعة الطبيعة وجمال تناسق أجزائها مكانتها في الوجود.
ولم يجد الهنود مكاناً أفضل من غابات الهند الطويلة العريضة التي توفر الاعتكاف على النجاة من مفاسد الحياة وتتحلى بجمال رائع متناسق؛ فلجئوا إليها يمقتون ذاتهم، وحولها إلى معابد متنقلة يأوي إليها الزهاد والحكماء، يستوحون من عظمتها وجمالها حقيقة الوجود الأولى، وينشدون من عزلتهم حبس جهودهم على الفوز بأكمل مراتب الحياة الروحية.
فهيأت العزلة الفكرية للهنود فرصا للغوص في عوالم من المعاني الروحية أنارت نفوسهم، وكشفت لهم عن مثل إنسانية، ومبادئ أخلاقية وقيم دينية، ودفعتهم إلى سلوك طرق فاضلة، وإتباع نُهج طاهرة، بينت للبشرية أن الهند بروحيتها أفادت الفكر الإنساني، وأضفت عليه قبساً من النور السماوي، وأضافت إلى الحضارات حضارة تسمو عليها جميعاً في الروحية، وهذا كسب عظيم للإنسانية يشرف الهند. إلا أن الهند يجريها الحثيث وراء الروح أهملت الحياة الأرضية إهمالا معيباً جعلها لم تبال بتنمية مواهبها الفكرية، أو إنضاج استعداداتها الفنية، لكي تكتسب ملكات عقلية ومهارات صناعية، تظهر بها تفوقها في ساحات السياسة والاقتصاد والحرب، وهي دعائم السيادة الحديثة. فلم تعتن بالعلوم التي هي أساس كل تقدم مادي أو نفوذ سياسي أو سطوة حربية، فنشأ الشعب الهندي غير متمرن على أساليب الحرب، لا يتقن وضع خطط الدفاع والهجوم فاستولى الطغاة على بلاده، واستعمروا وطنه. وشب غير مدرب على الفنون الاقتصادية، جاهلا السبل العبقرية في جمع المال بعيداً عن جبل السياسة الملتوية؛ فخدعه المستعمر، واستغل موارده الطبيعية لمصلحته الخاصة من دون الهند صاحبة الحق الأول في الاستفادة من هذه الموارد.(792/7)
فعاب طاغور على الهنود جهلهم بمقومات الحياة العصرية، وأنبهم على نفورهم من مشاكل الحياة الاجتماعية، وحثهم على الاندماج في ميدان الحياة العامة، يؤدي كل منهم خدمات تعود على أهله أو الهند أو البشرية بالنفع والفائدة، ما دامت هذه الخدمات لا تخرج على تعاليم الدين أو تهدم قيم الأخلاق. ورغبهم في الاشتغال بالعلوم والفنون، ما دام الاشتغال بها لا يتعارض مع تطهير الروح، أو يعوق خلوصها من الدنس. بل إن العلوم والفنون والأعمال التي يواغثها فاضلة تقود إلى الفناء في الله، وتوصل إلى أعلى درجات الكمال الروحي، فيجب على الهند أن تقلع عن تمسكها بتقاليد قديمة بالية أو هنت من عزيمتها، وتترك جانباً النظرات التشاؤمية التي عاقت سعيها في أي إصلاح، وزعزعت ثقتها في الحياة الأرضية فمهدت لاستعمارها واستغلالها.
وبتحليل طاغور الدقيق للحضارات الهندية والغربية، كشف بذهنه الصافي عن أخطاء الحياة الدولية، وعن مدى تأخرها في الروحية؛ ولكي ينقذها مما هي فيه من فوضى وإثم حرض الهند على رفع مستوى حياتها المادية والفكرية في حدود الأصول الروحية حتى لا تكون فريسة سهلة الاقتناص من جهة، وحتى لا يتفشى فيها وباء المادية وأمراض الحياة الغربية من جهة أخرى؛ وبين للغرب أن الإنسان يمكنه أن يفكر، ويكشف القوانين، ويخترع مختلف الآلات، ويبتكر في الفنون والصناعات، ويحافظ في الوقت نفسه على الميول الخيرة في الطبيعة البشرية، ويكون روحياً غيريا محباً للإنسانية، ويتخذ من علمه وفنه وعمله وسائل متعددة للفناء في الله وفي مختلف أجزاء الوجود. فحول طاغور الأنانية إلى غيرية، وحب سيطرة إلى تعاون وتآلف وتحاب، وحول العلوم والفنون والأعمال إلى إضراب متنوعة من العبادة بأن جعل محراب العلم لا يقل طهارة عن محراب المعبد، وسما بقداسة الفن حتى عادلها بقداسة الدين، واتخذ من العمل المنتج الصالح صلاة ترفع بالإنسان إلى خالقه. واعتبرها جميعاً سبلا طيبة تعمل على بلوغ نمط من الرقي الروحي، ينمحي فيه شعور الفرد بشخصيته، ويغمره إحساس عذب بفناء روحه في ذات الله العليا، ويستولي عليه إدراك عميق بوحدانية الوجود.
وعلى هذه الصورة الرائعة طهر طاغور الفكر الإنساني من أشرار الأنانية، وحب السيطرة، ومن نقائض العزلة الفكرية، ومساوئ تجنب الحياة الاجتماعية والعملية، وأخطار(792/8)
النظرات التشاؤمية. وجمع بين نبوغ الغرب في العلوم والفنون، وجده المستمر المتجدد في العمل، وبين عبقرية الشرق الروحية، وتعلقه الوطيد بالحب والتآلف، فوضع للإنسانية دستوراً شريفاً لو اتبعته لتذوقت طعم الراحة والسلام والأمن التي تحن إليها، وتحررت من كل ما ينغص عليها الحياة، وعاشت سعيدة في وئام، يشملها الحب والإيثار، ويضمها الخير والود، ويعلو من شأنها العلم والفن والعمل.
(للكلام بقية)
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات(792/9)
رحلة إلى ديار الشام في القرن الثامن عشر (الثاني
عشر الهجري)
(الحلة الذهبية في الرحلة الحلبية)
لمصطفى البكري الصديقي
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وفي أواخر شوال سنة 1129 شرع الشيخ في عمارة الخلوة التحتانية البيرمية، وساعد في عمارتها جناب عثمان باشا المهتدي، وصار الإخوان يجتمعون فيها للأوراد. وزار مقام النبي موسى بصحبة صديقه الشيخ محمد الخليلي، وجعل مقره في خلوة الشيخ يونس شيخ الحرم. وقبل العيد الكبير سار الوزير [رجب باشا] لملاقاة الحج. وبعد قدومه من ملاقاة الحج جاء البشير بإسناد منصب ولاية حلب لرجب باشا، فسر الشيخ، وقد توجه الوزير، وكان صديقاً للشيخ إلى حلب في شهر ربيع الأول. وفي ربيع الثاني عزم الشيخ على زيارة الخليل ومنها إلى غزة وعسقلان ووادي النمل ويختم بزيارة علي بن عليم العمري. وتوجه ومعه الشيخ محمد الموقت، والشيخ نور الدين الهواري والشيخ رضوان الزادي، ونزل دارا قريبة من الحرم وورد عليه الشيخ عبد الرحمن الخطيب والشيخ محمد الطرعاني والأخ محمد القميري صاحب الميقات وغيرهم. وكان الشيخ إبراهيم الدكاني ينشد لهم من قصيدة للشيخ عبد الغني النابلسي مطلعها:
أنت قيد الوجود إن غبت غابا ... وإذا ما ظهرت كنت حجابا
وقصد زيارة عسقلان، فتوجه إلى بيت (جبرين) ونزل لدى علقتها، ومنها إلى (الفالوجة) وزار الشيخ أحمد الفالوجي، وسار نحو المجدل، وبات عند رجل معبَّد، يقال له ابن معبد، وأم عسقلان وزار شهداء المعركتين ووادي النمل، وأتى قرية (الحورة) وتوجه إلى قرية (حمامة) وزار الشيخ أبي عرقوب، وبايع عنده الشيخ يحيى المجدلاوي وابن أخيه، وسار في الليل وبات عند العرب والموالح، وسار إلى الرملة مدينة فلسطين، وصلى العصر في(792/10)
جامعها الأبيض، ونوى أن يتعداها إلى (لد) وزار مقام سيدنا علي رضي الله عنه، كما زار الجبانة، وبات عند الصديق المسعود الأعلمي الشيخ أبي السعود الممدود العلمي، ثم توجه إلى قرية (عابود) ومنها إلى قرية (سلفيت) وبات بها، وتوجه في الضحوة إلى نابلس ونزل في التكية الدرويشية، وبلغه وهو فيها أن الشيخ محمد الخليلي ومعه النقيب السيد محب الدين يقصدان الشام للاجتماع بمتوليها قريباً جناب رجب باشا، للسلام. وكان قريبه الشيخ إبراهيم بن سعد الدين الجباوي قد وصل إلى نابلس بعد أن زار الخليل، فسلم عليه، ومن بني سعد الدين جدة جد الشيخ فهم أخواله، وبقي الشيخ في نابلس في التكية. وكان معمر الدرويشية سيفي أغا البكداشي الطريقة ذهب للديار الرومية، وأبقى مكانه شاباً اسمه أحمد. وممن زاره حسين بيك بن شرة، ودعاه لداره مع الأخوين السلفيتي والموقت فقبل دعوته. ودار بينه وبين الدرويش أحمد البكداشي حديث وقد أخبره الشيخ عن الشيخ عبد الغني النابلسي أنه قال بمناسبة حمل البكداشية للبوق وضربهم به في المساء والشروق، أنهم إنما يفعلون ذلك لتنفير الوحوش في المهمة الموحش المفروش، لأنهم يسيحون في المهاد فيحتاجونه لدفع أنكاد، فقال الشيخ نعم أنهم يضربونه لطرد وحوش الخواطر في مهمة القلب الموحش المفروش بغير العواطر. ثم إلى قرية (حجة) وأقام بها في خلوة الجامع المرتفعة مع إخوانه. ورأى عند الشيخ محمد شرح الجزائرية للشيخ قاسم الخاني ورأى بخطه قصيدة أبي مدين الغوث التي مطلعها:
ادرها لنا صرفاً ودع مزجها عنا ... فأنا أناس لا نرى المزج مذ كنا
وسار نحو قرية (عزون) وبعد الأكل وشرب القهوة عاد إلى (حجة) وكتب منها مكتوبين للاخوان، وودع رفاقه، وتوجه إلى (المجدل) قرية من قرى بني صعب، وإذا بخيول تتجارى في سهول الغابة وانقشع الغبار عن سحابة، فقيل له أن تلك الخيمة الزاهرة اللامعة نصبت للوزير جناب رجب باشا أمير الحاج صديقه، فأراد الاجتماع به، وما تغبرت الأقدام حتى ارتفع ذلك الخام، فجد بالسير نحو (عيتل) وبات فيها عند الشيخ عبد الله المغربي، ثم توجه نحو قرية (الهويج) وكان قد عمرها الشيخ صالح بن الشيخ سهل، فرحب به، وأقام بها يومين، وكرر شر القهوتين، السوداء والبيضاء، ودعاه الشيخ قاسم أخو الشيخ صالح قرية (المغار) وزار جدهم رفيع المنار وبات فيها أربع ليال، ولم يزل يسير إلى أن وصل(792/11)
قرية من قرايا مدينة صفد التي صفاها بالاندثار مصفد، فأنزله الأخ محمد عند صديق يقول له أسعد، فبات عنده ليلتين. ثم بات في قرية ملئت بالفرقة الدرزية عند رجل من أهل السنة وبكر منها إلى جنان (حاصبية) ومنها إلى كفر كوك الدبس، ومنها إلى كفر قوق الفستق، ومنها إلى حارة القبيبات، ونزل في دار المكارى للراحة، لا للبيات، ووصل دار صهره الشيخ إسماعيل التي جددها.
وكان قد نزل الخلوة بتوصية منه إلى صهره، جناب الصديق السيد محمد التافلاتي، مفتي القدس، والذي رافقه في طرابلس الشام. وجاءه للسلام وودعه في اليوم الرابع فانتقل الشيخ إلى الخلوة وأخذ بزيارة جدوده، لدى الشيخ أرسلان، والصالحية في دمشق، وزار شيخه الشيخ عبد الغني النابلسي وبات في خلوة داخل الجامع المحيوي، ومفتاحها بيد خادمه الشيخ إبراهيم الحتمي، وبايع فيها شاب يدعى عثمان حرشي، وعاد في الصباح من طريق عين الكرش إلى مرج الدحداح وزار جده الأعلى سيدي محمد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم شيخه المرحوم الشيخ عبد اللطيف، ثم توجه إلى جنينة تحت القلعة وزار سيدي عدي بن مسافر، وقبره ملاصق لشجرة عظيمة مكتوب عليه عدي بن مسافر كتابة قديمة، وللمذكور ديوان، وعاد مع رفاقه للخلوة.
واجتمع الشيخ بوالي الديار صديقه [رجب باشا] وكان معه خبر قضية العم محمد أغا البكري الصديقي، وقد فاتحه في أمر زواج ابنته من الشيخ، فوعده خيراً، وأضاف أنه سيهبه مسكناً وسكناً، ويدخله على ابنته فرضى منه الوزير، بهذا الوعد العرقوبي، وصار عينه به، وسار الشيخ مع صهره إلى حرستي لحضور ختان ولديه السيد محمد أبي الفضل والسيد أحمد أبي الهدى. وأراد بعض الإخوان الرجوع إلى القدس وذلك سنة (1130هـ) فحملهم كتباً للإخوان في القدس، ومنهم الشيخ محمد الخليلي، وكتاباً للإخوان في مدينة الخليل ومنهم الشيخ عبد الرحمن الخطيب التميمي، وقصائد نصف شوق الشيخ إلى تلك الربوع.
ولما دخل شهر رمضان حرك الله همة عم الشيخ، لزيارة البيت، فقال الشيخ في نفسه أن ذهابهم في صحبة الوزير، رجب باشا، وكان أميراً للحج فيه فائدة، أضف إلى هذا أنه يتقرب إلى قلب عمه، ثم يقضي فرضه، فرضي عمه بذلك، وقد ذكر الشيخ ما وقع له في(792/12)
هذه الرحلة في رسالة سماها [الحلة الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية] والتي انتهت بوصول الشيخ إلى الشام في السابع والعشرين من شهر محرم سنة (1131هـ). ولما عاد الشيخ من الحج، ألح الوزير على عمه إنجاز ما وعد به بشأن زواج ابنته، ولكن عمه لما بلغه خبر عزل رجب باشا عن الولاية عدل عما كان قد وعد به من أمور فيئس الشيخ وقطع أمله من ابنة عمه، فعول على بيع بعض أملاكه وحصة في بستان الدولابي والحاجب، وبستان النصراني، وسود في هذه المدة الفية في التصوف.
وكان الشيخ قد فاتح السيد السلفيتي ووعد الشيخ نور الدين الهواري أنه إذا لم يحصل مع عمه اتفاق بشأن الزواج، فإنه يرجع لأخذ ابنة بنت أخيه الروحي، أي حفيدة السلفيتي فحسن له ذلك، وعلى هذا عزم الشيخ على السفر إلى القدس للزواج وذلك في أواسط ذي القعدة سنة 1131هـ مع جمع من الرفاق، فودعه صهره في المرجة في دمشق، وسار إلى (المزة) وزار قبر دحية الكلبي، ومنها توجه مع جمالة (جينين) في الليل واجتمع بالشيخ محمد بن يسن الملقب طبيعة وبات في خان سعسع ومنها إلى قرية الجيب، وهي مشهورة بالسمن لجودته وهو مشهور في قطرها بطيبته، ومنها إلى الجسر ثم المنية، ثم عيون التجار ثم جينين ذات المياه والأشجار، وكان تعارف بالشيخ في الطريق السيد مصطفى التميمي فدعاه إلى بيته فأجاب الدعوة. وسمع بعد المغرب صوت خيل وطارق، وإذا هو السيد محمد السلفيتي وسار في الصباح إلى قرية (الزاوية) وأقام تحت شجرة البطمة، وكان قد دخل هذه القرية أحد أجداد الشيخ رضوان واسمه قاسم فقال الشيخ موالياً.
قاسم حبيبك على ما تملكوا قاسم ... فرد علا في المحاسن اسمه قاسم
بل سلمو الكل إذ حبو الحبيب قاسم ... لا زال في حرز من يدعى أبا القاسم
ثم توجه للقدس وبات في قرية (بيتونيا) ويقول الشيخ في أمر زواجه (ويوم الخميس آخر ذي القعدة النفيس أقمنا في الحرم نستقبل أهل الكرم، وبعد مضي أيام الضيافة تعرضنا للنكاح بغير آفة، وفي يوم الأحد جرى القلم به بحول الأحد، أوائل ذي الحجة الحرام من العام، العام الأنعام، وليلة الخميس حصل الدخول الواجب التأنيس) وقد أرخ الزواج صديقه الشامي إذ قال (زفت الزهراء للقمر) سنة 1131هـ.
ولما حلت سنة 1132هـ، ومضى منها حصة، تحركت همة الشيخ لزيارة القاهرة وذهبت(792/13)
بهذه النية إلى الخليل، ولكن لم يتيسر له السفر إلى مصر فعاد إلى القدس. ولما عاد خطر له أن يخلف الأخ السيد محمد السلفيتي فباشر ذلك في المولوية وألبسه الكسوة الخلوتية، وأذن له الإذن العام.
(وقريباً من ختام هذا العام ورد الوزير ذو الاحترام رجب باشا متوجهاً إلى الكنانة بإقدام، وطلب بإلحاح وإبرام أن نصحبه وجناب الشيخ محمد الخليلي الهمام فقسم النصيب قهراً وسرنا معه إليها جبراً وقسراً، وقد ذكرنا ما جرى فيها إلى سنة 1133هـ. في الرحلة المأساة (النحلة البصرية في الرحلة المصرية).
وبعد العودة من مصر شرع في رسالة المنهل العذب السايغ الواردة في ذكر صلوات الطريق وأوراده، وكان في مصر بيض الصلات البرية والألفية ومنهج الصوفية، وأخذ عنه في مصر الطريق الشيخ محد الحفناوي. وفي سنة 1133 شرح الشيخ صلوات سيدي عبد السلام بشيش المسمى بالروضات العريشة على الصلوات البشيشة)، وبيض (السيوف) الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد) وتمرض الشيخ سبعة أشهر وأكثر، وفي أواخر مرضه جاءت والدته لما سمعت بمرضه البدني، وجاء الوزير المقدم أمير جودة ومعه الصهر الشيخ إسماعيل المدرس تحت القبة، وودع الوزير في الخليل وفي صحبته صهره الذي عاد للديار الشامية بعد أن اطمأن على صحة الشيخ.
وما زال كذلك إلى أن جاءه الخبر بأن عمه أصدر عليه حجة نفقة ووكل السيد محب الدين النقيب في تحصيل ما حرر، فاستخار الله في السفر إلى جهة حلب لينال الظفر لأن الوزير (رجب باشا) صديقه منجم فيها بحال موفور فاستبشر وتوجه في رحلة سماها (تفريق الهموم وتغريق الغموم في الرحلة إلى بلاد الروم). وقد أدرج الشيخ في آخر هذه الرحلة ما ذكره في الرحلة الرابعة والخامسة القدسية، ثم المصرية، ثم أوصلها بالرومية - انتهى.
أحمد سامح الخالدي(792/14)
طرائف من العصر المملوكي:
من وحي حماة
للأستاذ محمود رزق سليم
لا أدري لماذا يهزني شوق إلى حماة، ويهفو قلبي إليها كلما ذكرت، ويردد لساني اسمها في كثير من التقدير، وأقف عند ترديده وقفة المتأمل المستهلم، مستعرضاً على ذاكرتي لمحات من لمحات تاريخها الفياض، فتشرق منه سماء الذهن ومضات من أمجادها الماضية، يستشعر منها القلب ضروباً من الجلال والقدسية، ويتجدد بها للنفس ألوان من الدهش والإعجاب، بهذه المدينة الشامية المصرية المجيدة الساحرة.
حرت حقاً في تعليل هذا الشعور الذي ينتابني كلما ذكرت حماة، ولم تربطني بها وشيجة ولا وليجة، ولم تصل حبالي بحبالها ليال ولا أيام، ولا اكتحلت العين بمرآها ولو مرة واحدة، ولم يجش في النفس أمل بلقياها والنعيم عهداً بالمقام فيها.
قلت للنفس: لعل هذا الشعور أثر من تلك الآثار التي أفدتها من مصاحبة تقي الدين بن حجة الحموي، وليد هذه المدينة، وأحد أدبائها النجباء، فلقد صاحبته في بعض مؤلفاته، ودراسة آرائه وأفكاره، وقرأت في إمعان كثيراً من فصوله، ووعيت في إعجاب عديداً من مذاهبه، وكان رفيقاً في صحبته، حبيباً في حديثه. حتى كان في مقدمة الأسباب التي حببت إلى دراسة عصره، ومهدت لي السبيل إليها، وأنارت لي الطريق لبلوغ مأربي منها.
ولقد راعني منه فيما راع، ولوعه بمدينته تلك، ولوعا تردد صداه في كثير من منشئاته، ولوعا لم يزايل قلبه ولم يفارق فؤاده في يوم من الأيام، على الرغم من انتزاحه عنها واغترابه منها زمناً طويلاً. وتلك لعمري مكرمة منها ومحمدة له، جديرتان بأن تشعرا القلب بالجلال والإعجاب كلما ذكرت حماة.
لقد ولد ابن حجة عام 767هـ بحماة، ثم شب وتعاطى الأدب. وطفق ينشئ وينظم ما شاء له الفن والهوى. وطوف في بعض الآفاق، حتى اتصل حبل وده وخدمته بسلطان مصر الملك المؤتد شيخ، حينما كان أميراً في بلاد الشام. فلما تم له أمر السلطنة في مصر عام 815هـ جمع من حوله حاشية من أهل وده، ممن دانوا له بالولاء في عهد إمارته، وألقى إليهم بمقاليد الأمور. وكان من بينهم ابن حجة الحموي، فاتخذه كاتباً من كتاب إنشائه.(792/15)
والكاتب المنشئ حينذاك، كان في الديوان كما يكون الوزير للسلطان.
عاش ابن حجة حينئذ في مصر زمناً. فلم يلهه النعيم بها عن حماة. ولم تسله حاليات أيامه عندها ليالي لهوه ومدارج صباه فطفق يبعث إليها تحية اللهفان، بين الآن والآن. ويحن إليها حنين النيب إلى العطن، والهديل إلى السكن.
ويبدو أنه انتزح عنها في أول أمره انتزاح المضطر الذي دعته الأحداث إلى الاغتراب. فظل حب حماة يساوره أني سار، فلا يفتأ يتغنى بمحاسنها، ويتشوق إلى مغانيها، ويتغزل في مفاتنها ويحن إلى مجانيها.
كتب - وهو بالقاهرة عام 820هـ - إلى صديقه ابن البارزي بحماة، قصيدة تفيض بالشكاية والأنين، والشوق والحنين. استغرق ذكر حماة وأهلها أكثر أبياتها. وفي صدرها يقول مخاطباً ريح الصبا الذي يمر بها.
يا طيب الأخبار يا ريح الصبا ... يا من إليه كل صب قد صبا
يا صادق الأنفاس يا أهل الذكا ... يا طاهر الأذيال كم لك من نبا
يا من نراه عبارة عن حاجر ... يا روح نجد مرحباً بك مرحباً
يا نسمة الخير الذي من طيبه ... نتنشق الأخبار عن تلك الربا
بالله إن رنحت ذيلك بالحمى ... ووردت شعباً من دموعي معشباً
وهززت فيه كل عود أراكة ... أضحى بهاتيك الثغور مطيباً
ولثمت من ثغر الأقاحي مبسما ... أبدى بدر الطل ثغراً أشنباً
ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمام مطنباً
وطرقت حي العامرية ظامئاً ... فنعمت في الوادي برياً زينباً
وحملت من نشر الخزامى نفحة ... مشمولة بالطيب من ذاك الخبا
عج بالعذيب فإن محجر عينه ... أضحة لما حملته مترقباً
واصحب عبير المسك منه فإنه ... لشوارد الغزلان أضحى مشرباً
وإذا تنسمت الشذى وتعطرت ... منك الذيول وطبت يا ريح الصبا
عرج على وادي حماة بسحرة ... متيمما منه صعيداً طيباً
واحمل لنا في طي بردك نشره ... فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا(792/16)
وأسرع إلى وداو في مصر به ... قلباً على نار البعاد مقلباً
لله ذاك السفح والوادي الذي ... ما زال روض الأنس فيه مخصباً
أنعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسباً
أرض رضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا
يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشاً طيباً
على هذا الضرب من الغزل الواله والشوق الباكي، يتارع ابن حجة أبياته تلك، وله أبيات أخرى كثيرة على غرارها.
ويبدو أن حماة كانت قمينة بهوى حبيبها وغرام نجيبها. فهي - فضلا عن أنها محل ميلاده ومجتمع أو طار فؤاده - قد شهد لها التاريخ بعراقة في المجد وأصالة في السؤدد وبسطت لها الأيام من البلهنية بساطاً، ونشرت لها من النعيم بندا. إذ كانت عاصمة إمارة صغيرة، اعتلى عرشها أمراء من الأيوبيين، منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، وهم الملك المظفر تقي الدين عمر، ثم سلالته من بعده. وتحولت في العصر المملوكي إلى نيابة من نيابات المملكة المصرية، توالى على امرأتها أمراء من قبل سلطان مصر، فكان منهم أبو الفداء إسماعيل المعروف بالملك المؤيد، وهو من سلالة المظفر. أنابه الناصر بن قلاوون سلطان مصر، عنه في حكم حماة، وكرمه بأن خلع عليه ألقاب الملك، دون سائر نواب السلطنة.
وتقع هذه المدينة في شمال سوريا، بين حمص والمعرة. ويجري في وسطها نهر العاصي. وكان بها كثير من النواعير، تستنبط بها المياه من الآبار. وكثير من الطواحين المائية، وكانت تجعلها البساتين المتعددة. ونبت من ناشئتها عديد من الأدباء والفضلاء. وفي العصر الحديث تطامن بنيانها وتناقص عمرانها.
أما في عصر ملكها المؤيد أبي الفداء إسماعيل، فقد كانت مدينة زاهرة، وعاصمة ناضرة. تضرب من حولها الوديان وتمتد القيعان، وتكثف الغابات حيث يتخذ الوحش له مراحاً، والطير الجارح مسرحاً. ويحلو في جنباتها الصيد والقنص، ويصفو بين دوحاتها اللهو والسمر. وقد استطاع المؤيد أن يجعل منها جنة نعيم، ومنتدى علم، ومجتنى أدب. فقد كان عالماً وأديباً وجواداً سخياً. ولهذا طاف به العلماء والأدباء يطرقون بابه ويرجون جنابه ويستمطرون سحابه. فأعاد ببذله وفضله عهد الامتياح والسماح، وزمن الاجتداء والعطاء،(792/17)
وأجرى في أعواد الشعراء، ذوباً من البشر والرجاء، وصوباً من الينع والنماء.
وممن هوى إليه في حماة، شاعر مصر الكبير جمال الدين بن نباتة، بعد أن نبا به المقام في مصر، ولم يجد بها إلا عيشاً يابساً، ويوماً عابساً. فرحب به المؤيد، وأوسع له في بطانته مكاناً، ومن عطفه بستاناً، ومن صحبته إحساناً. فعاش في كنفه مكرماً أثيراً. يروح ويغدو في حماة، بين سفوحها ورباها، وينعم بطبيب رياها. ويصحب المؤيد أحياناً في رحلاته بين الغابات والوديان، والأدواح والقيعان. وعاش ابن نباتة حتى شهد موت المؤيد، فصحب ابنه الأفضل وأخلص له الود ووفى باعهد.
وإذا تصفحت ديوان ابن نباتة، بدا لك أثر حماة في شعره واضحاً. فإقامته بها وطوافه برحابها، واتصاله بملوكها، كانت موحيات إليه، وملهمات في كثير من قصائده. فله نحو عشرين قصيدة في مدح المؤيد، ومثلها في مدح الأفضل. وهي قصائد مشرقة حية، جمع فيها من أفانين الشعر أعاجيب. فمن غرر المديح إلى المليح ومن الوصف الدقيق إلى الخيال الرقيق، ومن الشوقيات الذاكرة إلى الخمريات الساكرة.
وترى في حمويات ابن نباتة هذه، بشاشة سافرة، ورواء ضاحكاً مستبشراً. اتضحت عليها طبيعة حماة، فبدت حسناء والشعر مرآتها، وغيداء وأبياتها. لا أقول إنها علمت بن نباتة الوصف فقد كان وصافاً. ولا دعته إلى العطف فقد كان عطافاً. وإنما فره بجمالها وصفه، وزاد بين يديها عطفه.
فمن غزله في صدر قصيدة مدح، بها الأفضل قوله:
صدودك يا لمياء عني ولا البعد ... إذا لم يكن من واحد منهما بعد
بروحي من لمياء عطف إذا زها ... على الغصن ما أنا والقد
وعنق قد استحسنت دمعي لأجلها ... وفي العنق الحسناء يستحسن العقد
من العرب إلا أن بين جفونها ... أحد شبا مما تجرده الهند
على مثلها يعصي العذول وإنما ... يطاع على أمثالها الشوق والوجد
عزيز علي العذال عني صرفها ... وللقلب في دينار وجنتها وقد
أعذالنا مهلا فقد بان حمقكم ... وقد زاد حتى ما لحمقكمو حد
وقلتم قبيح عندنا العشق بالفتى ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند(792/18)
سمحت بروحي للحسان فما لكم ... ومالي وما هذا التعسف والجهد
ومن خمرياته في مطلع مؤيدية قوله:
عوض بكأسك ما أتلفت من نشب ... فالكأس من فضة والراح من ذهب
واخطب إلى الشرب أم الدهر إن نسيت ... أخت المسرة واللهو ابنة العنب
غراء حالية الأعطاف تخطر في ... ثوب من النور أو عقد من الحبب
عذراء تنجز ميعاد السرور فما ... تومي إليك بكف غير مختضب
مصونة تجعل الأستار ظاهرة ... وجنة تتلقى العين باللهب
لو لم يكن من لقاها غير راحتنا ... من حرفة المتعبين العقل والأدب
فهات واشرب إلى أن لا يبين لنا ... أنحن في صعد نستن أم صبب
وإذا كان أثر حماة في شعر ابن نباتة واضحاً، فهو في إحدى قصائده أشد وضوحاً وأبين أثراً. وأعني بها قصيدة (مصائد الشوارد). وهي أرجوزة مزدوجة في نحو مائة وسبعين بيتاً، خرج ابن نباتة مع الملك الأفضل صاحب حماة في رياضة للصيد والقنص في وديانها. فألهمته رحلته تلك قصيدته المذكورة. بدأ فيها بوصف الرياض ووشيها، وما فيها من نور باسم وزهر ضاحك وعشب يانع، ونواعير حادية ومياه جارية. ثم وصف البروز إلى الصيد، والتضييق على الوحش في مساربه. والغلمة وما بأيديهم من البندق والأقواس اللدنة. ومواقع الأطيار ومراتعها. والأفق وقت المغيب، وسهود الليل، ويقظة الفتية تلمسا للفريسة. بينما يحلك الليل ويرزم الغيم. وهو بين هذا وذاك يصف جياد الصيد وكلابه وبزانه وصقوره وما إلى ذلك.
والقصيدة فريدة في بابها، بارعة في تصويرها، وقد نعود إلى عرضها في مقال جديد. ونذكر هنا منها أبياتاً على سبيل المثال، قال في المطلع يصف الرياض والنواعير:
أثنى شذا الروض على فضل السحب ... واشتملت بالوشى أرداف الكتب
ما بين نور مسفر اللثام ... وزهر يضحك في الأكمام
إن كانت الأرض لها ذخائر ... فهي لعمري هذه الأزاهر
قد بسطتها راحة الغمائم ... بسط الدنانير على الدراهم
أحسن بوجه الزمن الوسيم ... تعرف فيه نضرة النعيم(792/19)
وحبذا وادي حماة الرحب ... حيث زها العيش به والعشب
أرض السناء والهناء والمرح ... والأمن واليمن ورايات الفرح
ذات النواعير سقاة الترب ... وأمهات عصفه والأب
تعلمت نوح الحمام الهتف ... أيام كانت ذات فرع أهيف
فكلها من الحنين قلب ... لا سيما والماء فيها صب
ويستطيع طلاب الموازنات، ومحبو المقارنات، أن يجدوا مجالاً واسعاً للموامنة بين قصيدة ابن نباتة هذه، وقصيدة أخرى لمعاصره صفي الدين الحلي. فقد كان صفي الدين أحد الأدباء الذين هووا إلى حماة، في عهد ملكها المؤيد. فنال من جداه، ونعم بهداياه، ومدحه بقصائد غر ممتعة. وقد شهد صفي الدين وفاة المؤيد عام 732هـ، ورثاه. ثم هنأ ابنه الأفضل بملكه الجديد، ثم مدحه بقصائد أخرى نفيسة. من بينها موشحة نظمها عام 740هـ وصف فيها رماية البندق والصيد والقنص في مرج من مروج حماة، وفيها يهنئ الأفضل بعيد الفطر. وفي مطالع هذه الموشحة يقول:
قم بي فقد ساعدنا صرف القدر ... وجاء طيب عيشنا على قدر
فكم علا قدر امرئ وما قدر ... فارضعُ بنا در الهنا إن تلق در
فالشهم من حاز السرور إن قدر
وقد صفا الزمان والأمان ... وأسعد المكان والإمكان
وأنجد الإخوان والأعوان ... وقد وفت بعدها الأزمان
والدهر تاب من خطاه واعتذر
ومنها يصف الأطيار:
أما ترى الأطيار في تشرين ... مقبلة بادية الحنين
قريقها ناب عن الأنين ... إذا رنت نحو المياه الجون
يأمرها الشوق وينهاها الحذر
هذه أبيات من قصيدة صفي الدين التي نود لو نتناولها - أو يتناولها أحد الأدباء - فيوازن بينها وبين (مصائد الشوارد) لابن نباتة. فالشاعران متعاصران. والقصيدتان صيغتا في مدح ملك واحد هو الأفضل صاحب حماة. والمناسبة التي قيلت فيها إحداهما، شبيهة(792/20)
بمناسبة الأخرى. فقد قيلتا في وصف رمي البندق والخروج للصيد في مصاحبة الأفضل. واستلهم كل من الشاعرين أوصافه من واد من وديان حماة - ولعله واحد لا وديان - هذه أمور ومشابه بين القصيدتين تحبب في بينهما وتعين عليها. ولا أدري بالضبط متى قيلت مصائد الشوارد، وفي آية سنة، وفي أية رحلة. فلعلها هي نفس السنة ونفس الرحلة التي كان فيها صفي الدين. نقول ذلك بمناسبة ما نشعر به من تشابه في الموضوع والتصوير والخيال بين القصيدتين. مما يدل على اتحاد منازعهما.
ومهما يكن من شئ فإن القصيدتين وما عداهما من شعر الشاعرين الكبيرين، وشعر زميلهما الذي قفي على آثارهما، وأعني به ابن حجة، وشعر غيرهم من أدباء حماة، قبس من وحيها، وجذوة من إلهامها، ووقدة من سناها. وقد مات صفي الدين عام 750هـ، وابن نباتة عام 768هـ، وابن حجة عام 837هـ، ومات غيرهم من شعراء حماة وأدبائها، وبقي شعرهم وأدبهم خالداً محدثاً بما كان لحماة في نفوسهم من أثر، وما كان لوحيها من بعث، ولإلهامها من رجع، ولسانها من إشراق.
(الإسكندرية)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(792/21)
12 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
الحالة الاجتماعية
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
يعيش أهل النوبة عيشة بسيطة لا تركيب فيها ولا تعقيد، فحياتهم أشبه ما تكون بحياة أهل الريف، إلا أنها غير دسمة، فليس فيها الطيور المختلفة والحيوانات السمينة، بل الطيور لا تكاد تجد بها غير العظام والريش، والحيوانات عجاف، لا يكاد يشارك العظم والجلد شئ من اللحم!.
وأكثر الأهلين يشتغلون بالزراعة المحدودة المساحة طول العام، والتي يبدأ موسم اتساعها غالباً في شهر مايو من كل عام، إذ تنخفض مياه النيل، فتنكشف الأرض التي غمرتها مياه الخزن، فيزرع الأهلون هذه الضفاف التي كانوا يملكونها قبل التعلية الأخيرة، والتي أعطتهم الحكومة تعويضاً عنها، ولا يكادون يتركون منها شبراً بغير زراعة.
وتجود زراعة الحبوب من القمح والذرة والشعير وبعض الخضر والبقول، إلا أنه تكثر زراعة نبات (الكشر نجيج) وهو نبات يشبه الفاصوليا أو اللوبيا في شجيراته وثماره. ولهذا النبات قيمته الغذائية الكبيرة، لأنهم يأكلون ثماره، ويتخذون أوراقه وسيقانه غذاء أساسياً لدوابهم ومواشيهم، والسعيد منهم من يدخر من هذا النبات كمية كبيرة تكفي مواشيه طوال مدة الشتاء، حين تمحل الأرض وتجدب وتجف الأوراق ولا تكاد تجد في هذه المنطقة على ضفاف النيل خضرة، إذ تغطي مياه الخزن جميع الأرض، ويبدو النخيل غارقاَ في النيل كأنه يحتضر ويستغيث!.
وقد قامت وزارة الأشغال بإنشاء مشروعات للري، فأحيت بهذه المشروعات الآلية آلاف الأفدنة ووزعتها الحكومة على بعض النوبيين الذين رغبوا في شرائها ممن ذهبت ميان الخزن بأراضيهم، وهي تستغل الآن أحسن استغلال، وتكاد تقوم بتموين بلاد النوبة في كثير من الأغذية الضرورية، وبخاصة بلانة، والعلاقي، والدكة، حيث تعطي هذه الأرض أجود المحاصيل. وتمتاز هذه المشروعات بالري الدائم والزراعة طول العام دون ارتباط بارتفاع النيل أو انخفاضه، ولا بانكشاف الأرض أو انغمارها. وقد جذبت هذه المناطق الزراعية شباب النوبة إلى حد ما لكثرة ما تتطلبه من الأيدي العاملة والجهود المتعاونة، ولا(792/22)
يزال الكثيرون موزعين في القاهرة والإسكندرية وغير ذلك من مدن القطر، ويرسلون إلى أهليهم بعض ما يكفيهم من المؤن والنفقة، ولهذا يكثر النساء والأطفال والشيوخ في البلاد كثرة تفوق الحد وتسترعي النظر والاهتمام، وتتجسم هذه الظاهرة بوضوح عندما يحل فصل الصيف فيسافر تلاميذ المدارس الابتدائية والقسم الثانوي في عنيبة إلى ذويهم وأولياء أمورهم في شتى مدن القطر، فلا يكاد يقع نظرك حينئذ على شاب أو صبي!.
وما أحوج النوبة إلى أيدي أبنائها الذين هجروها ولا يزورونها إلا في النادر القليل، ولا يكاد يمكث الواحد منهم أكثر من بضع ليال، أو بضعة أيام، ريثما تعود الباخرة التي جاءت به لتحمله مرة أخرى إلى الشلال، حيث يتمتع في مكان عمله بما لا يجده في وطنه الأصلي من متع ولذاذات. . .
أجل، ما أحوج النوبة إلى أيدي شبابها وسواعدهم وبخاصة في هذه الأيام التي تتجه فيها الحكومة المصرية إلى تنفيذ المشروعات النافعة التي تجعل من هذه المنطقة جنة وافرة الظلال دانية القطوف تمسح عن أهليها كل ما قاسوه من آلام جسام، وأهوال عظام، في سبيل رفاهية مصر وسعادة أبنائها وزيادة ثروتها وكثرة خيراتها عن رضا وإيمان بحق الوطن في التضحية والإيثار!!.
والمالكون قليلون، فأكثر الذين أخذوا التعويض من الحكومة أنفقوه على أنفسهم وملاذهم، أو في بناء بيوتهم التي أغرقت هي الأخرى لانخفاضها عن منسوب التعلية الأخيرة، وكان الأجدر بالحكومة أن تعوضهم بدلاً من أرضهم التي انتزعت منهم أرضاً مستصلحة معدة للزرع والنتاج. . .
وفي النوبيين أناس على درجة من الفطنة والذكاء والميل للأعمال الحرة، وقد قام هؤلاء بتكوين شركات زراعية وجلبوا لها أحدث الآلات الزراعية على اختلاف أنواعها مما تقوم باستصلاح الأراضي البور وحرثها وريها وإعداد الغلات وغير ذلك.
وتكثر في بلاد النوبة بعض الصناعات اليدوية الصغيرة كصناعة الأطباق والحصر والسرر من الخوص والقش والجريد، ويتجلى فيها الذوق الفني السليم ودقة الصنع، ويقوم بهذه الصناعات في الغالب النساء والفتيات في بيوتهن، وتعني الحكومة الآن بدراسة هذه الناحية بواسطة بعض مبعوثيها لإدخال بعض الصناعات الصغيرة التي تناسب البيئة(792/23)
وتشجيعها لتنمو وتكبر عن طريق المصانع الصغيرة أولا في البلدان المزدحمة بالسكان والتي تكثر فيها الأيدي العاملة، ويشرف عليها موظفون مختصون مهمتهم أولا تعليم أكبر عدد ممكن من الأهلين بنين وبنات، ولكن المشكلة القائمة الآن هي صعوبة المواصلات بين هذه البلاد بعضها وبعض، وعسى أن تحل هذه المشكلة وتذلل هذه العقبة حتى تسود هذه المنطقة صيغة صناعية ويجرفها التيار الصناعي، وبخاصة حينما تكفيها كهربة الخزان مؤونة الوقود، وتتكشف للناس كنوزها الدفينة من ذهب وقصدير وحديد.
والبيت النوبي على درجة كبيرة من النظافة وحسن التنسيق تلمس النظام في كل ناحية من نواحيه ورجو من أرجائه، سواء في ذلك بيت الغني والفقير، والفرق بينهما في بناء البيت نفسه ومواد البناء، فبيت الغني متسع رحب مبني بالحجارة من الجبال المحيطة به متعدد الحجرات، وبيت الفقير في الغالب من الطين، وسقفه من جذوع النخيل وسعفها، ولكنه مع ذلك يشرح الصدر ويملأ القلب راحة وطمأنينة وهدوءاً، ومن جذوع النخيل وسعفها يسقف الغني بيته كذلك، إلا أنه يطلي السقف بطلاء ملون، ويزخرفه زخرفة فيها كثير من العناية والمبالغة، بحيث يبدو كقطعة فنية جميلة من أجود أنواع الأخشاب، عملت فيها اليد الصناع عملها، حتى أصبحت تستهوي العقول وتجذب الأنظار.
وتعجب لهذا الذوق السليم في كيفية البناء نفسه، فالبيوت بوجه عام تتكون من طابق واحد ذي فناء واسع، ومن النادر أن تجد بيتاً من طابقين، وحول البيت بناء قصير بارز يشبه المصطبة في ريفنا ويستعمل استعمالها. . . وشكل البيوت من الخارج هرمي تقريباً، وبالغرف فتحات صغيرة مستطيلة ومثلثة قرب السقف الغرض منها التهوية الدائمة، وحجرة الجلوس واسعة مستطيلة قد يبلغ طولها في بعض البيوت أثنى عشر متراً، والأبواب والنوافذ تدهن بألوان زاهية جداً، وقد يكون لبعض البيوت الكبيرة شرفات مسقوفة في الغالب لاستقبال الأضياف والترويح عنهم، ويزخرف المنزل من الخارج بأطباق الصيني الملونة تغرس في البناء نفسه بشكل منظم جميل يراعى فيه التناسب، كأنما وضع تصميمه مهندس معماري بارع، وقد يستغني عن الأطباق الصينية بقوالب من الطوب توضع بشكل بارز بحيث تكون أشكالاً هندسية دقيقة، فمن دوائر وأقواس إلى مستطيلات ومربعات ومثلثات وزوايا، مما يزيد البيت روعة وجمالا، وفي ناحية الشلال(792/24)
حيث تقل الزراعة ويقل النخيل يجعلون سقوف بيوتهم على شكل القباب. ولا تكاد تجد لبيوتهم أفنية إلا في النادر القليل، وعلى العكس من ذلك المنطقة الجنوبية إذ لا يكاد يخلو بيت من فناء رحب. . .
وأثاث البيوت في العادة هو (العنجريب)، وهو سرير من الخشب والجريد توضع فوقه حشية إذا كان معداً للنوم، أو السجاجيد العجمية الفاخرة إذا كان معداً لجلوس الأضياف، ولا بد من وجود هذه السجاجيد في كثير من البيوت، سواء منها بيت الغني والفقير.
وفي كل بيت الأطباق الصينية والملاعق والأكواب المختلفة بكثرة عجيبة، وهي في الغالب من الأنواع الغالية الثمن، بحيث إذا أعدت المائدة لضيف ما، لا يشعر أبداً أنه في غير القاهرة، بل وفي بيت يهتم بهذه الأدوات ويجعلها في مقدمة ما يعنى به!.
والنوبيون يبالغون في إكرام الضيف، وأول ما يقدمونه له (الفشار) وسط طبق من الخوص وحوله البلح الجاف، فيأكل الضيف من هذا وذاك، ثم يقدم له الشاي، حتى إذا جاء الموعد قام إلى مائدة لا تختلف في تنسيقها ونظامها وما حشد فيها من أنواع اللحوم والطيور والحلوى عن موائدنا الحافلة وولائمنا الفاخرة، وكأنما هيّ هي!.
وإذا كانت بيئة العربي دفعته إلى الكرم والإيثار والبذل عن طواعية ورضا، فإن بيئة النوبي الجافة القاسية، والجرداء المالحة في أكثر أيام العام دفعته إلى العطف الشامل والحب المتبادل لأفراد بيئته الذين يعتبرهم منه بلا خلاف يؤثرهم على نفسه ويخصهم بالنعمة دونه. . . فإذا أقبل المساء خرج من كل بيت ما فيه، واجتمع أهل النجع وتناولوا جميعاً عشاءهم في هدوء واطمئنان، ولا يضير المعدم والحالة هذه ألا يجد ما يخرجه أو يأتي به، بحيث يصيب كل واحد ما يسد جوعته، فلا يبقى من يشكو ألم الجوع أبداً. . .
وذوو المراكز السامية من النوبيين عندما يذهبون إلى بلادهم يتركون في القاهرة ألقابهم وأوسمتهم، ويلقون إلى حين رداء المدنية الخلاب، لأن هذه لا يجوز في شرعة أهليهم وذوي قرباهم الذين لا ينادونهم مهما ارتفعت مكانتهم وسمت منزلتهم بأكثر من أسمائهم المجردة في بساطة وسذاجة بلا تعمل أو تكلف والجميع هناك أهل وأقارب وأولاد عمومة وأبناء خئولة، لا فرق بين الكبير منهم والصغير والعظيم والحقير. . .
وللنوبيين جميعاً ولع بشرب الشاي المركز، فهم لا يشربونه إلا بعد أن تلقى في الماء كمية(792/25)
كبيرة ويغلي مرات ومرات بحيث يكون في النهاية أسود اللون مر المذاق، ولهذا فإن للسكر هناك سوقاً سوداء، بحيث تباع الآفة منه بخمسة وعشرين قرشاً أو ثلاثين أحياناً، وهم معذورون لأن الشاي يقوم عندهم مقام الفاكهة التي لا توجد هناك إلا نادراً. . .
وبعد، فهذه صورة عاجلة عن الحياة الاجتماعية العامة في مجموعها، وهناك نواح كثيرة في حاجة إلى الإفاضة والبحث، ولكن ليس هذا موضعها لحاجة كل ناحية إلى الإفراد بالحديث وعسى أن نوفق إلى هذا إن شاء الله.
عبد الحفيظ أبو السعود(792/26)
الموشحات وموسيقانا الحديثة
للأستاذ حسني كنعان
ظن بعض الناس، وإن بعض الظنِّ إثم، أني بما كتبته عن المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق وعن النهضة في الموشحات ولزوم إحياء موات موسيقانا القديمة أنني انبعثت أدعو الناس إلى تعلم هذه النوع من الفن البالي على زعمهم، والعزوف عن الحديث ولزوم مقاطعته، ولذا أخذوا ينعتونني بالرجعي الجامد. ودفعاً للالتباس أريد في كلمتي هذه أن أضع النقط على الخطوط التي تعتلج في ضميري لإحياء قديم هذه الفن والنهوض به فأقول:
ليست الموشحات وحدها هي التي تبعث الموسيقى من رقادها وجمودها، ولا الأدوار والقصائد الموقعة على الأوزان مثل التي كان ينشدها الشيخ أبو العلاء محمد أستاذ الآنسة أم كلثوم، ولا المنولجات الحديثة والأغاني الدارجة التي تسمى (طقاطيق) ولا المواويل والأغاني الشعبية الطاغية في هذا العصر، وإنما الذي ينهض بالفن الجمع بين هذه العناصر جميعها، فحفلة تقوم على نوع واحد ولون خاص من هذه الألوان والأنواع الفنية يكون مآلها الإخفاق والضجر والملل. ولا بد من التنويع، وعدم الاكتفاء بنوع واحد، فالآذان والأرواح تتغذى بالفن كما تتغذى الأبدان، والاقتصار على نوع واحد من أنواع الطعام يفسد المعدة ويدفعها إلى الملل والعزوف عن الأكل. ولقد كان الأقدمون يجعلون الموشحات في المقدمة من حفلات السمر والتلهي، ويليها الدور والقصيدة، والأغنية (الطقطوقة) والموال، وبهذا الترتيب والتنويع كانت تحصل النشوة والطرب وتدوم الحفلات لديهم من مغيب الشمس حتى مطلعها دون أن يعتري السامعين السامرين المغتبطين شئ من الإملال بعكس ما هي عليه حالنا اليوم. نكتفي بعرض قطعاتنا التجارية الرخيصة المبتذلة المخنثة نقلد فيها أبطال مطربي الأفلام السينمائية، فتارة نتغزل بالبنزين: يا أو تمبيل يا جميل ما أحلاك، وتارة بالقطار: يا وبور قل لي رايح على فين. . . وتارة وتارة. . . فلا ينتهي الهزيع الأول من الليل على السَمار حتى يأخذهم من الملل وضيق النفس التثاؤب ويرنق النوم على أجفانهم فيتركون الحفلات دون أن يتمموا المدة المخصصة لختامها.
وهذا ما دعانا إلى امتداح الموسيقى القديمة وطرق عرضها ولزوم إحياء مواتها لنعيد بها ليالي السلف، فنتذوق طعم هذا الفن كما كانوا يتذوقون، ونطرب له كما كانوا يطربون،(792/27)
فأين ليالي اليوم من ليالي أمس في عهد الحمولي، والمنيلاوي، وسلامة حجازي، والبولاقي، والسفطي، وغيرهم من كبار فنانينا الأقدمين؟ وأين الأنس والطرب فيها من ليالينا القاتمة؟ فهذه تنتهي بأسرع وقت، وتلك كانت تدوم حتى مطلع الفجر فلا يعرف السامرون اللاهون كيف كانت تمرُّ لياليهم من شدة لهوهم وهيامهم. ولقد كانت تستغرق آه واحدة من آهات الحمولي كما روي لنا المعاصرون له ساعة كاملة على التحقيق وهو يكررها بمختلف الأنغام، وكل نغمة منها كانت تحدث في السامرين من الشجو أضعاف ما تحدثه سابقتها، ولذا خلده أمير الشعراء ساكن الجنان بقوله فيه:
يتمنى منه أخو الشجو آها ... حين يلحي تكون من أعذاره
يسمع الليل منه في الفجر يا ليل ... فيصغي مستمهلا في قراره
هكذا كانت ليالي الأقدمين، وهكذا كان سحر فنهم. أما ليالي اليوم فإنك لا تكاد تجلس لتسمع فيها إلى صوت مغنية أو مغن، حتى تخالك في مأتم تصغي فيه إلى أصوات النادبين والنادبات والنائحين والنائحات لفسولة غناء هذا العصر وبعده عن مواطن الطرب. . .
فجل الغناء العصري إن لم نقل كله من النوع الحزين الباكي الذي يقتل الشعور المشبوب والعواطف الفياضة. فإذا كنا نحن دعونا الناس فيما كتبناه إلى إحياء موات القديم فذلك لاعتقادنا أن الموشحات القديمة والأدوار تعد قواعد أساسية للفن الموسيقي كالنحو والصرف للتمكن من اللغة العربية، فإذا قدر لمثل صاحب قطعة (بلاش تبوسني بعينيَّ) ولمثل صاحبة قطعة (نامي ياملاكي) الخلود فلن يخلد إلا بالقطعات التي جاريا فيها الأقدمين، كقطعة (يا جارة الوادي) البياتية النغمة، وتلفتت ظبية الوادي، من نغمة الحجاز، وقطعة وحقك أنت المنى والطلب من نغمة السيكا، وقطعة سلوا قلبي، من نغمة الرصد. فهذه قطعات ذات نغمات شرقية جارى بها أصحابها الأقدمين وساروا باللحن على غرارهم؛ فيها وبلحنها لا بغيرها تخلد أسماؤهم وهذا ما حفز الآنسة أم كلثوم على الإيعاز لملحنيها أن يكثروا من تلحينهم لها القطعات ذات الأنغام العربية المعروفة المألوفة، فجددت بهذا شباب فنها الهرم ذي اللوثة الإفرنجية الدخيلة. أما الموشحات التي مرَّ معنا ذكرها في البحث السالف فليست كلها أندلسية، ومعظم المتداول منها الذي يُنشد في الحفلات ويُذاع على الناس من الموشحات التركية المستعربة، ودليلي على ذلك أنه لا يخلو موشح فيها من قولهم(792/28)
في تقاطيعه وطياته من كلمتي (جانم وأمان، يللي ويللالي) ولا جرم أن الموشحات الأندلسية لها قيمتها وروعة معانيها وأنغامها بالنسبة إلى التركية المتداولة المعروفة: وإليك نوعا من هذه الموشحات من النغمة الجهاركاه يُنبئك عن روعة هذا الفن القديم الأندلسي. . .
كللي يا سحب تيجان الربا بالحلي ... واجعلي سوارك منعطف الجدول
يا سما، فيك وفي الأرض نجوم وما ... كلما، أغربت نجماً أشرقت أنجما
وهي ما، تهطل إلا بالطلا والدما ... فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي
من ظلم، في دولة الحسن إذا ما حكم ... فالسدم، يجول في باطنه والندم
لا أريم، عن شرب صهباء وعن عشق ريم ... فالنعيم، عيش جديد ومدام قديم
أسفرت ليلتنا بالأنس منذ أقمرت ... بشرت بلقا المحبوب واستبشرت
طوِّلي، يا ليلة الوصل ولا تنجلي ... واسلبي سترك فالمحبوب في منزلي
فأين روعة هذا الموشح الأندلسي المقتضب بتصرف من موشحاتنا اليوم. ولو استعرضنا جميع ما تقع عليه العين من الموشحات القديمة لألغيناها من هذا النوع الساحر الأخاذ، وهذا ما حدا بنا إلى الدعوة لإحياء مواتها والعناية بها. فإذا كان الحمولي قد كتب له الخلود فلم يكتب له عن طريق الفنِّ وحده، وإنما كتب له عن طريق التجويد في ابتكار أروع القطعات الأخاذة المعاني، وإليك نموذجاً من أدواره في نغمة الحجاز كار:
الله يصون دولة حسنك ... على الدوام، من غير زوال
ويصون فؤادي من جفنك ... ماضي الحسام، من غير قتال
أشكي لمين غيرك حبك ... أنا العليلي، وأنت الطبيب
أسمح وادويني بقربك ... واصنع جميل، إياك أطيب
وأنا أعرف مغنياً من هذه الطبقة سمعته في حداثتي يدعى محمد سالم، وكان يزيد عمره على المائة سنة، سمعته في حفلة سمر خاصة، وأذكر أن أحد الحاضرين قد استخفه الطرب فقذف بنفسه في نهر يزيد في الربوة بملابسه من شدة ما عراه من الطرب والشجن، وما فتئت إلى الآن أتخيله كالأخطبوط يغوص في النهر يضرب وجهه من غير شعور كأني أشاهده الآن. أما البعض من مطربي هذا العصر فإنك لتهم أن تلقيهم في النهر وتبيدهم(792/29)
تخلصاً منهم، أو أن تلقي بنفسك منتحراً إذا كان ليس بمقدورك أن تلقيهم وتبيدهم فراراً مما تسمعه وتراه. . .
(دمشق)
حسني كنعان(792/30)
لقد طار لأول مرة. .
للكاتب الايرلندي لام أفلا هيرني
للأستاذ محمد سعد الدين وهبة
وقف العصفور الصغير وحيداً أمام عشه. . . لقد تعلم أخواه وأخته الطيران في اليوم السابق، ولكنه لم يجرؤ على الطير معهم. . . وحينما كان يجري على فرع الشجرة الممتد أمام العش وحينما يبلغ نهايته ويوشك أن يرفع جناحيه يحس بالخوف فيجمد في مكانه. . . كان البحر منبسطاً هناك في أسفل. . . عدة أميال بينه وبين سطح البحر. . . كان يشعر بشعور مؤكد أن جناحاه لن يستطيعا حمله فكان ينكس رأسه في ذلة ثم يعود إلى عشه الصغير. . . وكان أخوته يحومون حوله يحثونه على الطيران. . . فكان أبوه وأمه يدوران حوله يؤنبانه على خوفه وجبنه، ويهددانه بحرمانه من الطعام وتركه في العش يموت جوعاً إذا لم يطرح عنه الخوف ويبدأ في الطير. . . ولكنه كان يريد الاحتفاظ بحياته فلم يغادر العش. . . ومر أربع وعشرون ساعة ولم يقترب منه أحد. وفي اليوم التالي أخذ يرقب أباه وأمه يطيران مع أخوته يصححان لهم أوضاعهم، ويعلمانهم كيف ينقضون على البحر إذا شاهدوا سمكة طافية. . . وكيف يتناولونها بمنقارهم ثم يرتفعون في سرعة. ورأى أخاه الأكبر يصطاد سمكة ثم يأخذها إلى حجر ناتئ بعيد حيث جلس يلتهمها وحوله باقي أسرته يصيحون في فرح وزهو. ثم طار الجميع إلى الصخرة البعيدة بعد أن مروا به يسخرون منه ويعيرونه بجبنه وخوفه. . .
وأخذت الشمس ترتفع في السماء وترسل أشعتها المتألقة وحرارتها الوهاجة. . . فأحس بالدفء. . . إنه لم يذق طعاماً منذ المساء السابق. . . أخذ يرتعد ثم فكر في طريقة يصل بها إلى أسرته طريقة تستوجب الطيران. . . ولكن لم يكن هناك سوى البحر الوسيع يمتد من تحته. . . وأراد أن يلفت نظرهم إليه فوقف على رجل واحدة ووضع الثانية تحت جناحه. . . ثم أغمض عينيه وتظاهر بالنوم. . . وفتح عينه فشاهد أخوته يتمرغون على الصخرة فرحين. . . أما أبوه فكان ينكش ريشه بمنقاره. . . وأمه. . . كانت هي التي تنظر إليه. . . ومن لحظة تنهش قطعة من السمك ملقاة تحت رجليها. . . وأثاره مرأى الطعام حتى كاد أن يجن. . . كم يحب أن يذوق السمك. . . ولم يلبث أن صاح صيحة(792/31)
ضعيفة يستعطف أمه أن تحضر له بعض الطعام. ولكنها أجابته بالرفض. . . ثم انطلقت من حنجرته صيحة فرح. لقد شاهد أمه تقبض على قطعة السمك بمنقارها ثم تطير متجهة إليه. . . وجرى إلى نهاية الفرع في شغف وأخذ يدق الفرع في سرور. . . وحينما قربت أمه منه توقفت عن الطيران ثم حلقت في الفضاء وقطعة السمك في منقارها. . . وانتظر أن تقترب منه. . . ولكنها لم تفعل. . . وعضه الجوع. . . وفجأة قفز إلى قطعة السمك ولكنه. . . أخذ يسير إلى الهاوية وحينما مر بأمه سمع صوت أصطفاق جناحيها. . . ثم لم يعد يسمع شيئاً. . . بقيت لحظة. . . لحظة واحدة بعدها سوف يسقط في البحر. . . ففرد جناحيه. . . وأحس بالهواء يدفعه فحرك جناحيه. . . إنه لا يسقط الآن. . . ولكنه يرتفع. . . وغادره الخوف. . . لم يعد يهاب شيئاً. . . إنه يطير. . . إنه يطير. . . وأطلق صيحة فرح. . . ورأته أمه يطير فأخذت تصيح فرحاً. . . ثم رأى أسرته وقد التف أفرادها به ونسي أنه لم يكن يعرف الطيران فأخذ يحلق في السماء. . . يطير مرتفعاً ثم ينخفض. . . يطير مشرقاً ومغرباً. . . والسرور يملأ نفسه. . . ولكن. . . لقد صار فوق البحر. . . والمسطح الأخضر تحته تماماً. . . ورأى أبوه وأمه وأخوته وقد حطوا فوق البحر. . . وأخذوا ينادونه في سرور. . . أخذ ينخفض حتى بلغ سطح البحر فأسقط رجله على المسطح الأخضر ولكنها غاصت فيه. . . وصاح من الخوف وأراد أن يرتفع ثانية. . . فأخذ يضرب بجناحيه. . . ولكنه كان تعباً. . . ضعيفاً من الجوع. . . لم يستطيع الارتفاع فترك أرجله تغوص. . . ثم شعر بالماء يلمس جسده فارتعد. . . ولكنه لم يغص أكثر من ذلك. . . لقد طفا جسده فوق الماء، والتف حوله أفراد أسرته يصيحون فرحين ثم تقدموا منه وبمنقار كل قطعة من السمك. . . فرموها إليه ثم أخذوا يعودون فرحين. فقد طار صغيرهم لأول مرة. . .
محمد سعد الدين وهبة(792/32)
الدوحة الذاوية
للأستاذ محمد محمد علي
كانت تنشر ظلالها على ذلك الغدير الرقراق الذي تلتقي عنده مدارج السيول وتنعكس على صفحته ألوان السحب التي تظلل سماء القرية وكان الخريف يبتسم لها فتورق وتزدهر غير أنه في هذه المرة تنكر لها فغادرها شبحاً لا رواء فيه ولا ماء.
زينة الحي جردتك الأعاصير ... فواها للمة الخضراء
كنت كالغادة المدلة تستج ... لي رؤى من جمالها في الماء
كنت طيفاً من الجمال وضيئاً ... لابتسام الخميلة الفيحاء
كنت فناً إزاءه كل فن ... مستخف كالقطر في الدأماء
رب حسناء تحت ظلك أزكت ... وقد حسى بالمقلة الحوراء
وابتسام وميضه في حياتي ... كافترار البروق في الظلماء
رب شرب أقام حولك عرساً ... بابلياً في ليلة حمراء
يا عكاظ الطيور أين نشيد ... عبقرى للقينة الورقاء
أين تلك الوكون تطفح بشراً ... أين ظل يرف فوق الماء
واضطراب النسيم يخرج قسراً ... من فروع نضيرة ميساء
وائتلاق الشعاع فوق اخضرار ... سندسي في الليلة القمراء
ذاك عهد طوته منك الليالي ... في سموم وزعزع نكباء
أنت مثلي وكل من بات مثلي ... غارق في غيابة الأرزاء
عقني الدهر في رجائي وأهلي ... وابتهاجي بخيرة الخلصاء
الظلام الظلام يفعم نفسي ... ويح نفسي من وحشة الظلماء
والصباح المأمول مات بأفقي ... في غيوم النحوس والبأساء
جاءك الغيث والبروق اشرأبت ... من فروج السحائب الدكناء
أغمضت أعين النجود فردت ... سهم لحظ يشير في استهزاء
غرها الخلد والشباب نضير ... وانطلاق في القبة الزرقاء
واضطراب في الأرض يصرع جيلا ... أثر جيل من سائر الأحياء(792/33)
نحن من عنصر التراب ولكن ... في سمو الوضيئة الزهراء
ليس للأنجم الوضيئة خلد ... بل رحاب الخلود للشعراء
آه لو كان للأسير جناح ... مستمر يهتز في الأجواء
كان يستبطن السماء ويدني ... فلسفات الغيوب للغبراء
كان يحبو مع الشموس بعيداً ... عن نطاق الصباح والإمساء
كان يبني لقومه شرفات ... شامخات في هامة الجوزاء
نحن أحرى من النجوم بحشد ... يرسل النور من جبين السماء
جاءك الغيث فارشفيه كئوساً ... تطلق الغصن من وثاق الفناء
حسرتا للغصون أوسعها الده ... ر جموداً كالصخرة الصمَّاء
زينة الحي كل شئ بهيج ... كل شئ يختال في السراء
غير شخصين ضارعين أقاما ... في رحاب الوجود رهن شقاء
ها هو الدوح مورقاً فيناناً ... ها هو التل معشب الأرجاء
ها هو الطير ناشطاً يتغنى ... في اصطخاب مجلجل الأصداء
صرت قبراً على الطريق ولكن ... حرمتك الشفاه همس الدعاء
أنت منا لو يعلمون وإن لم ... تشركينا في سحنة ودماء
رب صخر تهفو القلوب إليه ... وابن أم كالحية الرقطاء
سجد الناس للصخور قديماً ... وتهادوا بالغارة الشعواء
لست أنساك ما تألق برق ... في حواشي سحابة وطفاء
تحدر السيل في المدارح كالخي ... ل خفافاً تستن للهيجاء
يفعم النفس رهبة ويدوي ... كدوي العواصف الهوجاء
يخرج الحي من شقوق الروابي ... هارباً من تزاحم الضوضاء
يركب النجد مائجاً يتنزى ... ثم يفنى في مهجة البطحاء
محمد محمد علي(792/34)
شاعرة مصرية
مهداة إلى (الأستاذ العباس) بمناسبة قوله في (عدد الرسالة
784): هل عندنا شاعرات.
شمس الدين السخاوي المؤرخ النقاد للقرن التاسع الهجري أفرد جزءاً خاصاً من تاريخه (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) لتراجم النساء في الشرق، ومنه أنقل بإيجاز ترجمة الشاعرة المصرية فاطمة ابنة القاضي كمال الدين محمود بن شيرين: ولدت بالقاهرة سنة 855، ونشأت فتعلمت الكتابة وما تيسر، وتزوجت الناصري محمد بن الطنبغا، واستولدها ابنتها فاطمة وغيرها، ثم مات عنها، فتزوجها العلاء علي بن محمد بيبرس حفيد ابن أخت الظاهر برقوق، فاستولدها بيبرس، ولاحظ لها في ذلك مع براعتها في النظم وحسن فهمها وقوة جنانها حتى كانت فريدة فيما اشتملت عليه. وقد حجت سنة 884 سنة حج الملك، ثم سنة 886، ثم سنة 894 وجاورت في هذه بجوارنا، ثم في سنة 898 مع ابنها وجاورا في التي تليها.
ومما كتبت به إلى من نظمها بعد مجيء الخبر بموت أخوي:
قفا واسمعا مني حديث أحبتي ... فأوصاف معناهم عن الحسن جلت
تجمعت الخيرات فيهم وقد حبوا ... من الله مولاهم بأعظم منة
وأما التي أدعو لها الله دائماً ... فآمنة فيكم لآخر مدة
وإن كرهت من حادث الدهر فرقة ... فجنة عدن بالمكاره حفت
أثابكم ربي وأعظم أجركم ... على فقد أحباب وأحسن جيرة
كرام سموا علماً وحلماً وسوددا ... وكنتم بهم في غبطة ومسرة
قطعتم لذيذ العيش وصلا بقربكم ... فوا أسفا عند الفراق وحسرة
نعم هكذا أيدي المنية لم تزل ... تفرق إخواناً على حين غفلة
فكرر لذكراهم على السمع ربما ... به سيدي عن رؤية العين أغنت
فهم في سويداء الفؤاد وإن نأوا ... ومنزلهم مني مكان سريرتي
لهم برسول الله إذ ذاك أسوة ... أثابهم الله الجزاء بمنة
وإن أفلت تلك البدور التي زهت ... فها شمس دين الله خير ذخيرة(792/35)
هو العالم الحبر الإمام الذي له ... بفضل علوم شهرة أي شهرة
فليس له في حضرة غير منحة ... وليس له في خلوة غير خلوة
فأنتم خيار الناس حقاً بلا امترا ... فديتكم من كل سوء بمهجتي
حماكم إله العرش من كل حادث ... لتنفع بالآداب كل الخليقة
بحق نبي جاء للخلق رحمة ... محمد المبعوث من أرض مكة
عليه صلاة الله ما هبت الصبا ... وتحمل أشواقي إلى نحو طيبة
وكتبت إلي بغير ذلك، ومنه وقد بلغها عن بعضهم كلام:
يا سيداً ما له مثيل ... من في المهمات أرتجيه
ماذا ترى في امرئ خبيث ... يحسد ذا سودد عليه
فاسمع كلام امرئ لبيب ... لجاهل رام يزدريه
ما ضر بحر الفرات يوماً ... لو خاض بعض الكلاب فيه
ومنه حين طالعت كتابي (ارتياح الأكباد) لتتسلى عن بنت أثكلتها، سائلة عن شئ من الأبيات التي أوردتها فيه فقالت:
يا إماماً قد حاز علماً وفهماً ... وله في الورى محاسن جلت
ما رأي الشاعر اللبيب بقول ... جرح القلب والدموع استهلت
فاصطبر وانتظر بلوغ مداها ... فالرزايا إذا توالت تولت
لم أطق سيدي بلوغ مداها ... ضعفت قدرتي لذلك وكلت
أخبروني عن نطقه ببيان ... نلت أجراً ورتبة قد تعلت
ثم كتبت إلى سائلة أيضاً:
يا أيها الحبر وبحر الندى ... يا حافظاً نقل حديث قديم
يا منحة في دهره لم يزل ... ممتدحاً من كل (فاء وميم)
يا غاية الآمال يا منيتي ... يا من به أضحى غرامي غريم
يا شمس دين الله يا من غدا ... بكل علم في البرايا عليم
ويا سخاوي يا إمام الورى ... من خصه الله بعلم جسيم
أسألك يا شيخ شيوخ النهى ... ومن ثوى في فيه در نظيم(792/36)
فيمن أناها عائق عاقها ... عن أمل صارت به في حميم
قيامها إذ ذاك يا سيدي ... بين مقام زمزم والحطيم
في ليلة أخبرنا أنها ... يفرق فيها كل أمر حكيم
يا من فتاواه إذا أبرزت ... يكاد ذو فهم بها أن يهيم
يهنك شعبان الذي قدره ... ما زال عند الله قدر عظيم
بجاه من أسرى به في الدجى ... وهُو للمولى كليم نديم
صلى عليه الله طول المدى ... ما ناح قمري بصوت رخيم
وكتبت إلي بلغز في اسمي ونسبي في 25 بيتاً أوله:
ألا يا إمام الناس يا أوحد الورى ... ويا من حوى كل العلوم ولم يزل
ثم بلغز آخر في اسم (محمد) أوله:
يا مفرداً علومه مجمله ... وعالماً مولاه قد جمله
وقالت بديهاً في الزين سالم:
أيا سيداً عم الخلائق بره ... وإحسانه فرض تضاعف لازم
أعن سائلا يأتيك والدمع سائل ... ولا تخشى من سوء فإنك (سالم)
ذلك، وفي (نزهة الجلساء في أشعار النساء للسيوطي): عائشة الإسكندرية المعروفة بزهرة الأدب، دار محلها يعرف بالروض، ولها شعر. . .
أسامة(792/37)
الأدب والفنّ في أسبوُع
للأستاذ عباس خضر
الدكتور طه حسين أيضاً:
يوم أشرت إلى ما نمت عليه مقالات الدكتور طه حسين بك، من شعور بعدم الارتياح إلى حاله في مصر وتعزيه عن هذا بمكانه في فرنسا - لم ألتفت إلى ناحية ينبعث منها هذا الشعور، إذ قصرت الأمر على ما عساه أن يكون بينه وبين الدولة من أشياء لا ترضيه؛ وهذه الناحية وقفت عليها من كتاب (رحلة الربيع) الذي أخرجته له أخيراً (سلسلة اقرأ) والذي تحدث فيه بخواطر خطرت له في أثناء سفره إلى فرنسا وإقامته فيها وعودته منها إلى مصر في الربيع الماضي.
يقول في موضع في أوائل الكتاب (وكنت قد تركت في مصر شراً ونكساً وإثاً، وخرجت وفي نفسي شئ من شرها ونكرها وإثمها) ويقول في موضع آخر: (إني لظالم للحق ولنفسي حين أحفل بهذه الضفادع البائسة التي تملأ جو مصر نقيقاً. وما الذي يمنعني حين تثقل على عشرة الضفادع أن أنسل من بينها كما تنسل الشعرة من العجين لأخلو إلى رائع القديم وأخلو إلى رائع الحديث، وأتعزى بجمال الأدب والفن والموسيقى عن قبح السياسة والمنافع وغدر الغادرين ومكر الماكرين وخيانة الخائنين!) ويقول بعد أن يعبر عن اغتباطه بزيارة الأطلال اليونانية في (الأكروبوليس) في أثناء رسو السفينة في أحد ثغور اليونان، وبعد أن يعبر عن نشوته بسماع موسيقى بيتهوفن عند عودته إلى السفينة في المساء، يقول مخاطباً نفسه: (وقد أنكرتك مصر أو أنكرت مصر، فخرجت منها ذات يوم مع الصبح، ولم تكد تنأى عنها حتى غمرك جمال القديم اليوناني في الضحى، وجمال موسيقى بيتهوفن في المساء، فنسيت مصر وأهلها، ونسيت مكر الماكرين، ولهوت عن غدر الصديق وعن جحود الجاحدين).
إذن فالذي استشعره الدكتور طه من الشر والنكر والإثم في مصر، مبعثه غدر الأصدقاء ونفاق المنافقين؛ وليس هذا غريباً، بل هو أمر طبيعي لم يكن من الممكن - في طبيعة الأحوال عندنا - غيره. . . فقد كان الرجل في منصب كبير من مناصب الدولة، وكان له سلطان، وفيه أريحية، فنثر حوله حباً تساقط عليه طير كثير، ولصق به كثيرون من(792/38)
محترفي الصداقة. فقدم ورفع وأعطى ومنح. وهؤلاء (الأصدقاء) اللصقاء يعرفون كيف يلبسون لكل حال لبوسها، كما يصفهم الدكتور، وقد بلغ الغاية في هذا الوصف، ومن ذلك مخاطبته لأي منهم: (وأي شئ أيسر من أن تصفو لي اليوم وتكدر لي غداً، ثم تعود إلي مثل ما كنت فيه من الصفو، ثم ترتد إلى مثل ما كنت فيه من الكدر، وتجعل نفسك على هذا النحو كرة تقذفها من الصلة إلى القطيعة ومن القطيعة إلى الصلة).
وقد تغير هؤلاء المراءون على الدكتور، لأنه أصبح لا يملك ما كان يملك لهم من المنافع، فتحولوا عنه إلى غيره يلتمسونها عنده.
ولا شك أن من فوائد هذه المحنة النفسية (الطبيعية) هذا التحليل الرائع لتلون المتلونين ورياء المنافقين، وتهوين أمرهم، والسخرية منهم وما إلى ذلك مما تضمنته فصول الكتاب؛ ومن المحقق أن هذه المحنة صبغت - وستصبغ - أدب طه حسين بلون جديد.
ويتعزى الدكتور طه عما ترك في مصر من الشر والنكر والإثم بما يلقى في فرنسا من كثير يعبر عنه تعبيراً يشيع فيه الارتياح والاغتباط. وقد عاد إلى فرنسا بعد هذه الرحلة، رحلة الربيع، ولا تزال بها إلى الآن، يعالج نفسه بما يحب هناك، وما ينسيه ما لقي في مصر. . . ومن حق الدكتور طه حسين على فرنسا أن تيسر له كل ذلك، فقد أحبها وتغنى بها، وها هي ذي تستأثر بقلمه، دون مصر وما فيها من شؤون وشجون. . . ومن حق مصر على فرنسا أيضاً أن تشفى لها نفس الدكتور طه وتأسو جراحه، فقد أنبتته مصر وأنجبته ولم تبخل به على فرنسا. . . وهى - أي مصر المسكينة - حائرة بين إسراف (الفتى) في التدلل وبين غدر الغادرين به، وترجو أن يعو إليها سالما معافى موفوراً.
أدب الهروب:
قرأت في العدد الأخير من مجلة (الأديب) اللبنانية، كلمة للأستاذ حسن حمام من اللاذقية، حمل فيها على الأدباء (الذين غرقوا بين أمواج الحب المصطنع وبين زبد أمواج الرمزية الغامضة وبعدوا عن ساحل الحياة المضطرب الجياش الثائر) وناشد أدباء العرب أن يرفعوا من القومية العربية ويعلوا شأنها، ودعا إلى أن يشعر الأديب بما يضطرب في بيئته ويستوحى أدبه من الحياة وقلبها النابض.
وقد استرعى انتباهي قوله: (إن أدبنا الحاضر أيها الأدباء بحبه وغزله، بشكواه وأنينه،(792/39)
ببكاه ونواحه، بضعفه وتخاذله، لا يمثل بيتنا ولا يصور حياتنا الاجتماعية والسياسية والقومية. وسيقف أحفادنا في المستقبل من هذا الأدب مقبلين أكفهم متسائلين عن معنى هذا الأدب يحاولون أن يستنبطوا حياتنا الاجتماعية منه فلا يفهمونها) استرعت هذه الفقرات انتباهي، فجعلت أتصور أدبنا الحاضر وأجول بفكري في نواحيه المختلفة، وأسأل نفسي لأحقق قول الكاتب الفاضل: هل يصور هذا الأدب حياتنا بحيث يستدل به عليها الآتون من بعدنا أو بحيث يصدق عليه ما هو مقرر معروف من أن الأدب مرآة المجتمع وصورة الحياة؟
إن أكثر الكتاب والشعراء مشغولون بالدراسات والبحوث والتعبير عن المشاعر المترفه، أو بالسياسة الحزبية، أو بالتوافه المسلية؛ فأين الحياة التي يحياها الناس من كل هذا؟.
والدراسات الأدبية مطلوبة ولابد منها للبناء عليها، ولكن لا يجوز أن يعكف عليها، ولكن لا يجوز أن يعكف عليها كلنا، أو أن نستهلك فيها كل جهدنا، ولا نضيف إلى أدب الذين ندرس أدبهم أدباً يدل على أننا كنا هنا. . .
لقد قال الكاتب في مستهل كلمته إنه تناول عدداً من مجلة الأديب فلم يجد به تعبيراً عن مثل ما يجيش بنفسه من المشاعر القومية. والعدد الذي نشرت به الكلمة زاخر بالفصول الأدبية الدراسية والأبحاث الفلسفية العالية، ولكنه يكاد يخلو مما يدعو إليه. وليست الزميلة كذلك وحدها فهذا طابع عام للإنتاج الأدبي في جميع البلاد العربية في هذا الوقت الذي يتوثب فيه الوعي العربي الجديد وينظر شزراً إلى الأدب الذي أنبت عنه.
وقد سمى السيد حمام هذا الإنتاج الذي يهرب أصحابه من الحياة (أدب الهروب) وقد أعجبتني هذه التسمية فأثبتها على رأس هذه الكلمة.
أهذا جزاء النيل؟:
أرادت إدارة الإذاعة أن تشارك في الاحتفاء بوفاء النيل، فأذاعت شيئاً مما تسميه (برامج خاصة) اسمه (النيل) من تأليف حضرة مراقبها العام، جمع فيه كل محفوظات الإذاعة مما يتعلق بالنيل من مثل (النيل نجاشي حليوة أسمر) و (يا بحر النيل يا غالي). . .
وقد بدأ البرنامج بمناجاة شعرية من الشاعر القديم (حابى) يلقيها بين يدي النيل ويتحدث فيها عن الآلهة القديمة، وقد أقلق مؤلف البرنامج روح (حابى) وأرواح تلك الآلهة إذ أثارها(792/40)
من مستقرها في كتاب الأستاذ حسن سليم بك، حيث يليق بها أن تكون، لأنه كتاب علمي؛ وأكرهها على الظهور أمام جمهور مستمعي الإذاعة الذين لا يألفونها. . .
ويدور الحوار في البرنامج بين النيل ومصر على نسق كتب المطالعة للمدارس الابتدائية، كالمناظرة بين الدراجة والحمار. . . وكان الممثلون يلقون كما يطالع التلاميذ، والتي مثلت مصر مثلت بها!.
واستغرقت إذاعة ذلك البرنامج نحو ساعة قضيتها متجشما الإصغاء لأرى نهاية ما يصنع بالنيل. . . فقد كان كلاما يتلو بعضه بعضاً على كره، لا أثر فيه لأي عمل فني. وظاهر أن المقصود منه أن يكون حبلا يجر ما لدى الإذاعة من (الاسطوانات) القديمة التي ورد فيها ذكر النيل، وقد كان يمكن إذاعتها من غير هذا التكلف.
والنيل واهب مصر، وكل من فيها يعيش في كنفه وعلى ما يجود به غدواته، فهل يصح أن يكون هذا جزاؤه من مراقب الإذاعة العام؟ وماذا ترك للمراقب الخاص ومن دونه. . .!
لا تكتبوا عن أشياء:
شغل البريد الأدبي في الرسالة. . . منذ أكثر من شهر - ببحث نحوي أثاره الأستاذ محمود البشبيشي في كلمة (أشياء) ولا تزال المناقشة متصلة بين الأستاذ ومناظريه، وهى مناقشة لا طائل تحتها، فسواء أكانت أشياء على وزن أفعال أم على وزن فعلاء، وسواء أكانت جمع شئ أم جمع (لا شئ) وسواء أكانت ممنوعة من الصرف أم ليست ممنوعة منه ومستعملة كالممنوع.
كل ذلك لا أثر ولا نتيجة عملية له، لأن الكلمة (أشياء) تنطق وتكتب وتقرأ وتفهم، فلا تختلف في شئ من ذلك على أي وجه من تلك الوجوه. وأنا لا أنكر النبذ النحوية واللغوية التي يتعقب بها كاتبوها زلات الأقلام، فهذه رقابة لغوية مفيدة، على أن يكون (الرقيب) جيد التحصيل حسن التصرف غير متشدد ولا متعسف. أما الجدل في التعليلات النحوية وما يماثلها فلا غناء فيه. ثم أريد أن أسأل الأستاذ أحمد أحمد العجمي: أيهما أولى بالتأمل والتثبت، إحصاء المقاطع (إن إن) أو ملاحظة الفرق بين الماضي والمضارع؟ وأرجو أن يكون قولك: (ولا يقال أنا لا أزال أقول كما قال الأستاذ إلا في الدعاء كقول ذي الرمة: ولا زال منهلا بجرعائك القطر) أرجو أن يكون هذا الكلام الذي يريد أن يمنع دخول لا النافية(792/41)
على (أزال) المضارع من هفوات العلماء. . .
وبعد فلم لا يترك أستاذنا البشبيشي هذه (الأشياء) ويعود إلى الروض؟
مسابقة القصة في الإذاعة:
كانت إدارة الإذاعة قد أعلنت عن مباراة في القصص، وألفت لجنة للتحكيم فيما يقدم أليها برياسة الأستاذ عباس محمود العقاد وعضوية الأستاذين محمد فريد أبو حديد بك ومحمد كامل المحامى. وقد انتهت اللجنة من عملها وأعلنت نتيجة المباراة كما يلى:
لم يفز أحد من المشتركين في المباراة بجائزة من المرتبة الأولى وفاز بالجائزة الثانية - وقدرها ثلاثون جنيها لكل فائز - ثمانية متبارين. وفاز بالجائزة الثالثة - وقدرها عشرون جنيهاً لكل فائز - اثنا عشر. وقبل عدد من القصص لتذاع بالمكافأ المعتادة، وعنيت قصص أخرى يختار منها للإذاعة.
وقد بدت في هذه المسابقة ظاهرة تكررت في غيرها من المسابقات الأدبية المختلفة التي أجريت في السنوات الأخيرة، وهى إحجام المعتدين بأنفسهم من ذوى الإنتاج الجيد عن دخول هذه المسابقات، وقد نشأ عن هذه الظاهرة خلو المرتبة الأولى في مباراة الإذاعة. ويحدث أن تسأل شاباً من المعروفين بالنشاط الأدبي: لم لم تدخل مسابقة كذا؟ فيجيب: قد تقدم إليها فلان وصلته بفلان (أحد المحكمين) وثيقة. . . وأنا لا صلة لي بأحد منهم. . . ومما يذكر - اعتباطاً - أن بين الفائزين في مسابقة الإذاعة موظفين فيها.
من طرف المجالس:
قال المتحدث: أرأيتم ما نشر بإحدى المجلات الشهرية من شعر شاعرين: ذكر وأنثى وصورة لهما؟
ولم يبد على الجالسين أنهم رأوا شيئاً من ذلك، فنظروا إليه متسائلين، وقال قائلهم:
وكيف كان ذلك؟
- عبرت الفتاة (ا) عن لواعج فؤادها في أبيات، ورد عليها الدكتور (اأيضاً) بأبيات ضمنها هواه، ونشر كل ذلك تحت صورة اضطجع فيها الشاعر على سرير، ووقفت الفتاة بجانبه.(792/42)
- وما معنى هذا الوضع؟
- لا أدري، ولعل في بطن الشاعر. . . على أن الجدير بالسؤال هو أثار الفتاة هذا الشاعر وهو كما نعلم مثل من دعاه الغواني عمهن!.
قال ثالث: ألا يدل هذا على أن الأمر بينهما هوى شعر؟
قال آخر: ولم لا تقول إنها اختارته على طريقة فقراء الهند؟
عباس خضر(792/43)
البَريُد الأدَبيَ
لا أزال عند رأيي في (أشياء)!
قبل معاودة البحث في هذا الموضوع أرى لزاماً أن أحمد الأستاذ الفاضل أحمد العجمي جنوحه بالمناقشة إلى الهدوء والأناة وهما أساس أدب البحث، وطريق الوصول إلى الحقيقة.
ثم أرجع فأكرر أنني لا أزعم أن كلمة (أشياء) وردت مصروفة في التنزيل أو في غيره من الكلام؛ ولكني أعتقد أن علة عدم صرفها في التنزيل - في سورة المائدة - ترجع إلى خصوصية سامية مما ألتزمه القرآن الكريم؛ وهي في هذه المسألة الترفع عن شائبة التنافر بتكرار مقعطع واحد حتما وهو (إن) في الآية الكريمة؛ وإذا كان الشعر خلوا من ورودها مصروفة فالشعر محل التساهل؛ يتحكم الوزن فيه فيصرف ما لا ينصرف، ويمنع صرف ما ينصرف؛ إلى غير ذلك مما لا يخفى على الأدباء؛ أما ورودها ممنوعة في النثر فهو إتباع للوضع الذي وجدت عليه في القرآن الكريم، ومسايرة للقدامى من أئمة النحاة الذين ذهبوا في التماس علة المنع مذاهب شتى، أقربها إلى حسن الذوق وأدناها إلى الحق رأي (الكسائي) الذي نقله الأستاذ الفاضل محمد غنيم، وهو مشابهتها للاسم المختوم بألف التأنيث المحدودة؛ وقد التمست فيما هداني إليه البحث علة فنية سائغة لمنعها من الصرف الآية الكريمة، وهذه العلة تجعل الحكم مرتبطاً بجو الكلمة في الآية، فتعود إلى حقها الطبيعي في الصرف إذا خرجت عن هذا الجو، والعلة - كما يقولون - تدور مع المعلول وجوداً وعدماً؛ وإذا كنت في هذا مخالفاً للإجماع فما هو بإجماع على حكم شرعي ولا أصل معلوم بالضرورة من أصول الدين.
والقول بجواز الوصل بين جزأي آيتي (يسّ) و (الملك) لا يمنع جواز الفصل بينهما؛ فهو رد احتمالي لا يركن إليه في المحاَّجة؛ والقول بتساوي الحرف اللين الصامت الهادئ في كلمة (شئ) والحرف الصاعد الممدود في كلمة (أشياء) مما لا تقره أذن شاعر موسيقي الإحساس كالأستاذ أحمد العجمي؛ فانتقال حركة التنفس من الأول إلى مقطع مكرر وهو (إن) أسهل من انتقالها بعد صعود كبير في ألف (أشياء) إلى ذلك المقطع المكرر حتماً في آية (المائدة).(792/44)
هذا وقد تسرَّع الأستاذ في مقاله الثاني فخطّأني في قولي (لا أزال أقول. .) وقال وإنها مقصورة على الدعاء محتجاً ببيت قديم أورده (الأشموني والصبان، وابن عقيل، والخضري) وهو قول (ذي الرمة) أو غيره:
ألا يا أسلمي يا دارمى على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وسها الأستاذ الفاضل عن أن (لا زال) خلاف (لا أزال) وأنا لا أحمل منه ذلك إلا على السهو، وإلا فهل غاب عنه قول الله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) وقوله مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم (ولا تزالُ تطلع على خائنة منهم)؛ وبعد فأنى مع الأستاذ العجمي في أن الأسباب التي قالوها في منع (أشياء) من الصرف قد أثقلت كواهل النحويين في الكتب وإفهام الطلبة في المدارس، ولذلك أدليت برأيي؛ والحمد لله على توفيقه. والسلام.
(الإسكندرية)
محمود البشبيشي
إلى المشتغلين بإصلاح الأزهر:
اسمحوا لي يا سادة أن أعبر عن رأي لا أدري أيروقكم أم لا، وذلك بعد أن أحييكم تحيات عطرة. . .
الأستاذ الشرقاوي يريد أن يخرج علماء قوامين على التراث الإسلامي والعربي، وهو مطلب عسير على عامة الأزهريين مهما أدخلوا لهم من إصلاحات. ولم يبق إلا الخاصة وهؤلاء هم الذين يعقد عليهم الأمل. . . وهم بعون الله يتخطون السدود والقيود، ويحققون كثيراً من الأماني التي تناط بالأزهر، وشأن الأزهر في ذلك شأن كل جامعة وهيئة، ولا أجد في علم الأزهر خيراً من تعبير الرسول في حديثه المشهور: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً الخ). فالأرض الطيبة لا بد أن تنفع الناس وتتغلب على عوامل الجفاف. والخبيثة لن تجديها نترات الشيلي التي تحاولون أن تنثرها على سطحها. وأضنني لا يعوزني التطبيق بالأمثلة الحية، فمحمد عبده لا يزال حياً في الأذهان وغيره كثير. كل على مقدار ما كان يكن من حيوية.(792/45)
أقصروا الأمل على الأذكياء وستجدون النتيجة تشجع كثيراً، ثم هم لن يتعبوكم كثيراً، وإذا شئتم أن تساعدوهم، فنقبوا عنهم في حقول الأزهر، أدام الله غيرتكم الطيبة، ووسع من المنطقة التي نحتلها في قلوبكم. . .
(أزهري)
لا زال في النقي والدعاء:
كتب الأستاذ أحمد أحمد العجمي في رده على أستاذنا الكبير البشبيشي في العدد 790 من الرسالة الغراء ما نصه (ولا يقال أنا لا أزال أقول كما قال الأستاذ إلا في الدعاء كقول ذي الرمة ولا زال منهلا بجرعائك القطر).
وأود أن أقول للأستاذ العجمي أن (زال) تدخل عليها (لا) النافية ولا مانع في ذلك كما تدخل عليها (لا) في الدعاء وكل ما قيل هو أن الدعاء في (زال) يكون (بلا) خاصة ولم يقل أحد أن (لا) مقصورة على الدعاء وقد مثل الأشموني وغيره من النحويين للنفي بقوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك).
فعلى هذا قول الأستاذ البشبيشي (أنا لا أزال أقول) صحيح لا خطأ فيه. . .
عمر إسماعيل منصور
1 - مجلات الثقافة في المدارس الأولية النموذجية:
أعلنت وزارة المعارف أنها سترعى المدارس الأولية النموذجية (مدارس المرحلة الأولى الجديدة في مصر) بما تعمله في مدارسها الابتدائية سواء بسواء. . وننظر من هذه الناحية إلى مجلات الثقافة فيها فنراها تجري عليها (مجلتي الإصلاح الاجتماعي والفلاحة) فقط في حين أنها تشترك للمدارس الابتدائية ودواوين المناطق الإدارية! في جميع المجلات المأمولة النفع كالرسالة والثقافة والهلال الخ - وحاجة هذه المدارس إلى جميع هذه المجلات أقوى وأشد؛ لبعد غالبيتها عن المدن - أماكن المكتبات العامة - ومن ثم فإننا نرجو ألا يأتي العام الدراسي القادم إلا وتكون هذه الرغبة حقيقة واقعة لمصلحة العلم والتعليم والتربية الاجتماعية والثقافية في مصر.
2 - معلمو الشعب في مصر(792/46)
ينحدر معلمو الشعب في مصر من أصلاب الغالبية فيه وهم الفلاحون فاشترك حظهم وحظ هؤلاء مع الحكومات المصرية المتعاقبة شداً وجذباً ومداً وجزراً!! وقد انتهت بهم هذه الحال إلى أن يحرموا في هذا العهد من (التنسيق) دون غيرهم من موظفي الدولة!! - وهذا العمل لا يضر بنتائجه الخفية والظاهرة هؤلاء المعلمين بالذات، وإنما يتأثر به المجتمع المصري الذي يرتبط بوجودهم في كل مظاهره وحقائقه - وإذا كان هؤلاء المعلمون بحق هم رسل الثقافة الشعبية في الديار المصرية، فقمين بمجلة الرسالة وهي من تعرف فضلهم وتقدر صنيعهم أن تسجل في صفحاتها هذا العمل الذي لا يتفق مع الحق والعدالة والمساواة بين أبناء الأمة قبل أي اعتبار آخر!.
خورشيد عبد العزيز
معلم دمبره
تصحيح:
ورد في مقالي السابق عن رقص السماح أن أحد المختصين في حفظ الموشحات من المتوفين الشيخ صالح الجدبة كان يحفظ عشرة آلاف موشح، والصواب ألف موشح وأن أحد كبار العازفين على الكمان من الحلبيين توفيق الصباح والصواب توفيق الصباغ الملقب بسلطان الكمنجة الموسيقار المعروف ولذا اقتضى التنويه والإفصاح.
(دمشق)
حسن كنعان(792/47)
القَصَصُ
الانتظار
للكاتبة الأمريكية سنزي أورموند
لقد أخبرها بأنه سيعود إلى الديار بعد انتهاء الحفلة قبيل منتصف الليل. ولكن الساعة الصغيرة القائمة على المنضدة كانت تشير إلى الواحدة صباحاً. إنه لم يسبق له أن تأخر مثل هذا التأخير تأخر وحيداً وبدونها.
ورقدت تحت الأغطية في فراشها قلقة مضطربة. كانت مجهدة من العمل. وكانت كل حاسة فيها تصيح بها أن استريحي ولا تقلقي كل هذا القلق على ولدك لقد بلغ السادسة عشرة. إنه الآن ليس طفلاً.
وتذكرت. . . لقد ذهبت مرة في صباها إلى النزهة ولم تحضر إلا ليلا. وعندما عادت ورأت الستار القاتم على نافذة غرفة الجلوس ينسدل ارتبكت واضطربت. إن والدتها كانت تتطلع خلال النافذة تترقب عودتها في قلق ولهفة. إنها لا تزال تذكر كلمات أمها وهي تقول لها (انتظري يا عزيزتي وستشريني في يوم ما على شدتي نحوك). ولكنها كانت في سن السادسة عشرة ولم تكن لتعي معنى لهذه الكلمات، ولا لما قالته والدتها بعد ذلك (أنها ليست كمسألة عدم الثقة بك، ولكن كثيراً ما تقع الحوادث بين أطيب العائلات في هذه الأيام).
ولا تدري لماذا كانت تهيجها هذه النصائح عند بلوغها هذا السن الذي أدركت فيه الشعور بالحرية الشخصية. ذلك الوقت التي بدأت تخفي فيه بعض أسرارها، وتشعر بأنها تخصها وحدها، تخص عالمها التي تعتقد أنه ملك لها.
ولكن. . . كانت والدتها تتدخل في كل شؤونها، فتفتح رسائلها قبل أن تعود من المدرسة. إنها لا تلومها على رقابتها، ولكنها ليس لها حق فض رسائلها، إن التدخل فيما يخصك في هذا السن هو إهانة لا تغتفر، ولا يصح أن يحدث ذلك لأولادك كل ما تستطيع عمله هو أن تراقب فقط، وعندما يكبرون ويقبلون على الزواج.
نعم، لقد اكتمل نضجها وتزوجت، ثم ترملت بعد عامين، وها هو ذا ولدها قد نما عوده ووصل إلى أول مرحلة الشباب. إنها لم تفكر قط في الاطلاع على رسائله كلا، إنها لن تتهم بذلك الفعل، ولكنها الآن راقدة في فراشها مغمضة العينين، وقد انسابت روحها تخترق(792/48)
ستار النافذة وتتساءل: لماذا لم يحضر؟ وما الذي حدث له؟ وعزمت على أن تسأل عنه في المستشفيات وفي أقسام البوليس إذا لم يعد بعد نصف ساعة. . . من يدري؟ فلعله راقد الآن في غيبوبة، أو ملقى في حفرة وقد سلبت منه ساعته اليدوية التي أهدتها له في عيد ميلاده الأخير والخمسة دولارات التي في جيبه، إن الكثير من الحوادث أحياناً ما يقع بين أطيب العائلات! وطاف بفكرها خاطر مزعج، إن على ولدها أن يعبر تلك الشوارع التي يجتازها سائقو السيارات، بعرباتهم غير مبالين بنظام المرور في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وودت في تلك اللحظة لو أنها كانت تعيش في الريف بعيداً عن هذه السيارات. . .
وهبت واقفة وأقبلت على النافذة تتطلع إلى الشارع. يا إلهي ما هذا الضباب المخيم في الخارج؟ كان يتكاثف واستقر في صمت وسكون. وتركت طرفي الستارة، ثم زحفت داخل الأغطية في عصبية. وحاولت أن تسيطر على أعصابها، وأغمضت عينيها. ولكن. . سرعان ما فتحتهما عند سماعها صوت أقدام تدب خفيفاً على إفريز الشارع. حمدا لله ها هو ذا قد قدم.
وترددت الخطوات، ثم سمعت بابا يفتح. لم يكن باب شقتها بل كان باب جارها الكهل. ثم سمعت صوت سيارة الإسعاف فهبت من فراشها بقلب واجف، كانت تسمع رنين جرس السيارة كأنه العويل، وسرعان ما تلاشى الصوت تدريجياً واختفت السيارة.
وأقبلت على النافذة مرة أخرى وتطلعت، وإذا بولدها قادم صوب المنزل، يسير وقد انعكست عليه أنوار الشارع. نعم إنه هو ولا يمكنها أن تخطئ مشيته وحركاته. كانت ساقاه الطويلتان تخطران في خطوات متسعة نحو الدار، وكان يصفر لحناً شائعاً، وكتفاه يتمايلان في حرية وكأنه يقول: (إن هذا هو عالمي. . . أنني رجل وهذه دنياي). وشعرت بالغضب يعصف بها، ثم بالحزن ينتابها، كانت تود أن تشاركه ذلك الشعور بالحرية، ولكن قلقها عليه حال بينها وبين ذلك. وتبين لها حقه في السير، لا في هذا الشارع الذي تحفه الأشجار فحسب، بل في الأزقة المظلمة والأماكن الأخرى، بل حتى في الأركان المظلمة من عقله. إن وجوده معها تحت سقف واحد لا يعطيها الحق في امتلاكه امتلاكا كاملا. وليس لها حق مشاركته أفكاره إلا إذا اضطرتها الظروف اضطراراً. إن الرجل له حق العيش في عالمه الخاص. وإذا سمت أفكاره حتى وصلت إلى الأشجار التي يسير تحتها وإذا ما جعلته يصفر(792/49)
مسروراً، إذاً لوجب عليها أن تكون سعيدة من أجله. ومع ذلك. . . كان في استطاعته أن يخبرها تليفونياً. وعادت إلى فراشها وتنفست في هدوء عندما أقبل ولدها، وحياها في مرح وهو واقف على عتبة غرفتها وقال (لقد ظننتك نائمة إن الساعة الآن حوالي الثانية). كان يشوب صوته نبرات من الحماس. وتمطت ثم مسحت عينيها وتمتمت قائلة.
- يغلب على ظني أنى نمت وتركت النور مضاءاً دون أن أطفأه. مساء الخير يا عزيزي. ثم مدت يدها لتطفئ النور. ولكن ولدها تقدم في الغرفة ووقف أمام فراشها ينظر إليها، ثم قال
- أظنك لم تسمعي ما قلته. إنها الآن الساعة الثانية صباحاً.
وتظاهرت بالدهشة ثم قالت - نعم إنها الثانية. حسناً. . . ليلة طيبة يا بني. ونظر إليها مستغرباً ثم قال - ألست عاتبة على؟! فتثاءبت وقالت - ولماذا أعتب عليك؟
- ولكنى قلت إني سأعود قبيل منتصف الليل. إني آسف إذا كنت قد أقلقتك. وأظن أن جدتي قد رفعت عقيرتها حتى السقف. إنه لا فائدة من إخباره الآن أن جدته قد رحلت غاضبة بعد أن يأست من التحدث معها عن (طيشه وتأخره) فقالت - لم أكن قلقة على الإطلاق: - هذا حسن. كان يجب على أن أخاطبك تليفونياً، ولكن. . . ما الأمر؟! هل الضوء قوى؟! وأنزلت عينيها عن موضع أحمر الشفاه الملطخ به خده وقالت في بطء أجل. . . إنه الضوء. . . وضغطت على أداة إطفاء النور، وغمر الليل الهادئ الغرفة. إنها لن تر أحمر الشفاه في ذلك الضوء. كانت تعرف بأنه لو كان عنده ما يقوله لها هذه الليلة فأنها لا ترغب في أن تفرض عليه القول فرضاً كأنه واجب يتحتم عليه أداءه. إنه ليكون أقل ارتباكا إذا ما اعتقد بأنها لم تلحظ هذه البقعة الحمراء. ولكنها كانت تشعر في قرارة نفسها أن ما شاهدته لم يكن سوى نصف الحقيقة. وكانت غريزتها تهيب بها أنه يتحتم عليها أن تنتظر حتى يطلعها على النصف الآخر، أو. . . أو يفضي إليها بالأكذوبة التي تخشاها. فقالت: (هل هناك فتيات في هذه الحفلة الليلة؟). انساب ذلك السؤال منها دون أن تتمكن من كتمانه، وانتظرت في لهفة الرد عليه، وخيل إليها أنه أبطأ في الرد كثيراً عندما قال: (كلا. . . كلا). ولم ينظر إلى عينيها عندما استمر يقول: (لم يكن هناك ألا رفقائي. . . ولكن. . . يوجد شئ آخر أود أن. . .) فقاطعته قائلة وهى تحاول الاحتفاظ بهدوئها:(792/50)
ليس الآن يا عزيزي. . في الصباح. فتمتم قائلا: حسناً ثم استدار وسار صوب الباب وأقفله وراءه في هدوء، وجلست في فراشها متصلبة الجسم حزينة القلب، لقد كذب عليها أولى أكاذيبه، أكانت هي الأولى حقاً؟ كم عدد الأكاذيب التي سبقت هذه الكذبة؟ وشعرت برغبة جارفة تدفعها إلى القفز من الفراش لتواجهه بخديعته وتقول له: التفت إلى. ثم ماذا؟ إنها تشعر بأنه لا فائدة من مواجهته، إنه ليكفى أن تنظر إلى وجهه، فيحدق إليها بطريقته المحبوبة، وإذا بشيء ينغلق خلف تلك العينين الرماديتين.
إن خوفها كان أكثر من ألمها، خوفها من أن تكون أمها على حق، ربما كان ولدها في حاجة إلى المزيد من الرقابة. وشعرت برجفة تسرى في جسدها، كان يجب عليها أن تواجه كل شئ دون موارية. وسمعته يتحرك في الحمام وهو ينظف أسنانه ويخلع حذاءه، ثم سمعت الماء يجرى على جسده، ووقع خطواته على الأرض، ومسح جسمه بالمنشفة، ثم خرير الماء المتساقط من الصنبور. كان له وقع غريب في أذنيها كأنه صوت لحن موسيقى واستمر الماء يتساقط. هاهو الآن في المطبخ يبحث عما يأكله كان يحاول ألا يحدث صوتاً حتى لا يقلق نومها. وانطفأ النور في المطبخ ولما تزل جالسة في فراشها، ثم استمعت إلى وقع خطواته تتلمس طريقها في الظلام وهو يسير في البهو وفى غرفة الجلوس، إن هذه الأصوات العادية كانت كأنها تجمع في ذاتها سر الحياة ربما كانت غير عادلة نحوه، يجب أن يكون هناك شرح مقبول لهذا الطلاء الأحمر، واستمعت مرة أخرى إلى خرير الماء التساقط وخيل إليها أن نغماته قد اختلفت عن ذي قبل. ومرت بيدها على وجهها، لقد فشلت في أداء مهمتها كأم، إن والدتها على حق، لو كانت قد تعهدت ابنها كما نصحتها لما كذب عليها الآن، إنه لم ينو الذهاب بتاتاً إلى تلك الحفلة، لقد حاول أن يخبرها بشيء الليلة، ولكنها لم تحتمل الاستماع إليه. وسمعت همساته صادرة وراء الباب تقول: (ألا زلت مستيقظة؟) فقالت: (ادخل) ربما كان من الأفضل لها أن تعرف كل شئ الليلة، وأقبل عليها وهو يحمل زجاجة قد امتلأ نصفها باللبن، وجلس على المقعد الكبير، ها قد حان وقت الاعتراف، وجعل يرتشف اللبن ثم قال فجأة: (لقد تركت الحفلة مبكراً. كان ذلك عند الساعة الثامنة. . .). فقاطعته قائلة: يا عزيزي. . . يخيل إلى أنى أسمعك وكأنك جالس تؤدى شهادة في المحكمة. كلا. لا أود فقاطعها قائلا وهو ينظر إلى وجهها وقد تدفقت(792/51)
الكلمات من فيه: (الحقيقة أنى خرجت مع فتاة، وأكنى لم أرغب في أن أطلع أحداً على ذلك) ونظرت إلى ولدها، كان في وجهه البراءة ونضارة الشباب، إن ألم الوضع لم يكن الألم الوحيد للأم، إن مهمتها تنحصر في شيئين: أن تكون أما وأن تكون أباً. وها قد حان الوقت الذي يجب أن تؤدى فيه مهمتها على الوجه الأكمل، والذي يجب أن تدرك فيه دون مرارة بأنه إذا توجهت نظرات ولدها إلى حقيقة الشباب، فإنها يجب أن تودع صباه. واصطبغ وجهه بحمرة الخجل وهو يقول: (كانت تنتظرني مع أبويها، وذهبنا معاً، وكنت على وشك أن أخاطبك تليفونياً، إلا أنى لم أستطع الاتصال بك). ثم وضع الزجاجة على المنضدة ونهض وقبل والدته. وحياها تحية المساء. وعند ما اقترب من الباب تردد ثم قال أظن أنى ارتكبت غلطة واحدة، لقد قلت لوالدتها (نعم يا سيدي) فابتسمت وقالت (لا تفكر في ذلك. وعلى فكرة يا حبيبي إذا كانت قد أخلفت الميعاد فما الذي كنت تفعله؟) وفكر لحظة ثم قال (لا أعلم. أظن كنت سأقول لنفسي (حظ عاثر) ثم أترك الأمر يقف عند هذا الحد. ألا تعلمين أنها ستقابلني لأعرفك بها وبوالديها؟ على أية حال أظن أنى عملت كل شئ على ما يرام، أليس كذلك؟) فابتسمت وقالت في إخلاص) أجل، لقد قمت بكل شئ على الوجه المرضى) وذهبت وجلست يغمرها الضوء وهى تبتسم لنفسها. نعم لقد أدى كل شئ على الوجه الأكمل. إنه لم يحدثها عن القبلة. هذا حسن. إنها فخورة به. لقد أصبح رجلا مهذباً. ثم أطفأت النور واستقرت في فراشها في رضاء تام. لقد انقطع خرير الماء. وأسفت على ذلك. كان في الحق صوتاً مبهجاً.
(الإسكندرية)
محمد فتحي عبد الوهاب(792/52)
الكتُبُ
1 - أعلام الشعر الفرنسي وطرائف من آثارهم
تأليف الأستاذ العوضي الوكيل، والسيدة س. عبد الرزاق
صبري
هذا كتاب يحتوي على إهداء وتمهيد وتراجم ومختارات:
فالإهداء - كما كتبه الأستاذ العوضي - (إلى حضرة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا. منذ عامين سميت ابني الثاني باسمك وكأنه كتاب أرفعه إليك، وهاأنذا أرفع هذا الكتاب إليك وكأنه ابن أسميه باسمك) وعجب فالباشا أهل لما أهدي إليه لما يسبغه على الأستاذ من فضله وتقديره ووده أولا، ولأنه يحسن فهم الكتاب المهدى إليه ثانياً، فهو أديب مطلع على كثير من الآداب العربية والغربية، والمؤلف بهذا الإهداء يصطاد عصفورين بحجر واحد. فهو بهديته يعلن بره واعترافه بالجميل لموليه، ويقدمها لمن يقدرها قدرها.
والتمهيد قصير: يتضمن (تعريفات) موجزة بأسماء النزعات الأدبية الواردة في كتابه: كالكلاسيكية والرومانتيكية والليريكية والبرناسية والرمزية، وهذه التعريفات غير منطقية لأنها غير جامعة ولا مانعة، ولا توضح الفوراق الحاسمة بين نزعة وأخرى من النزعات الأدبية مع أن التوضيح هو المقصود.
والتراجم والمختارات هي الجزء الرئيسي في الكتاب والمترجمون خمسة: أولهم ألفونس دي لمرتين (1790 - 1869م) صاحب رواية روفائيل التي ترجمها الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات من الفرنسية إلى العربية ترجمته العالية المشهورة، وقد اختار له المؤلفان قصيدة عنوانها الوحدة , فترجماها شعراً ثم نثراً. وثانيهم فكتور هوجو (1802 - 1885م) صاحب رواية البؤساء التي ترجمها الشاعر المصري المرحوم حافظ بك إبراهيم ترجمته العالية المشهورة أيضاً. وقد اختار له المؤلفان قصيدة عنوانها (الضمير) فترجماها نثراً وشعراً، وقصيدة عنوانها (واترلو فترجماها شعراً وعقبا عليها بشروح موجزة لبعض الأعلام الواردة فيها.(792/53)
وثالثهم الفريد دي فيني (1797، 1863م) وقد اختارا له قصيدة عنوانها النفير في قرابة ثمانين بيتاً، ومهداً لها بتصوير القصة التي بعثت عليها كما حدثت والفرق بينها وبين صورتها محرفة في القصيدة وأتبعاها بتفسير قصير لبعض أعلامها، وترجما له أيضاً قصيدة عنوانها (موت الذئب) شعراً ونثراً. ورابعهم ألفريد دي موسيه (1810 - 1857م) صاحب رواية (اعترافات فتى العصر) التي ترجمها المرحوم فليكس فارس، وقد اختار المؤلفان للشاعر قصيدة عنوانها (ليلة مايو فترجماها شعراً في قرابة تسعين بيتاً، ثم ترجماها نثراً، وقدمها لها مقدمة قصيرة تصف الحالة التي كان عليها الشاعر حين نظمها.
وخامسهم بول فرلين (1844 - 1896) وهو أقل الأعلام حظاً من الدراسة والمختار، فدراسته وقعت في ثلاث صفحات ونصف صفحة، ولم يختر له المؤلفان غير قصيدة واحدة عنوانها (الخريف) ترجماها في ثمانية أبيات.
ومن هذا العرض نفهم ما في العنوان من مبالغة، فإن (أعلام الشعر الفرنسي) ليسوا خمسة فحسب، والخمسة المترجمون كلهم من شعراء القرن التاسع عشر وحده، وليسوا مع ذلك كل (أعلام الشعر الفرنسي) فيه. ويلاحظ أن دراسة الأشخاص واضحة جيدة، وأسلوبها شبيه بالأسلوب الإنسكلوبيدي فهي تعريفات خفيفة تتناول ظواهر الأشخاص ولا تنفذ إلى ما وراءها.
كما يلاحظ أن القصائد المختارة سهلة قريبة التناول في (صورتها العربية) ولا أستطيع الحكم على الترجمة من حيث أداؤها للأصول الفرنسية (وهي ما يعول المؤلفان عليه) إذ لا علم لي بها. ولكنا نستطيع أن نقارن بين الترجمتين الشعرية والنثرية للقصائد التي ترجمها المؤلفان: شعراً ونثراً معاً. والمفهوم لي أن الترجمة النثرية أدنى إلى الأصل، فإن الناثر أكثر حرية وقدرة على التزام الأصل من الشاعر، إذ لا تتكاءده عقبات الوزن القافية التي تتكاءد الشاعر فتضطره في بعض المراحل أن يحيد عن الطريق قليلا أو كثيراً ويظهر أن الأمر مع المؤلفين كذلك.
وهذا مثال لم أتكلف في اختياره: فهو صدر القصيدة الأولى لأول الأعلام كما رتبوا في الكتاب وعنوان القصيدة (الوحدة) للمرتين، والمثال قد اجتمعت له ثلاث أوليات:(792/54)
والترجمتان للمؤلفين: قالا شعراً:
(أسرح الطرف في الوادي الذي انبسطت ... أمام عيني ووجداني مرائيه
والشمس تسبح نحو الغرب في طفل ... وقد جلست حزين الفكر عانيه
في ظل (صفصافة) أمست كهولتها ... تذرو الشجون على الوادي وما فيه
أرى هنا غالباً في وحدة عجب ... مشرداً وكأن القلب في تيه)
وقالا نثراً، والنثر والشعر يتقابلان، فهما ترجمة لشيء واحد:
غالباً. . . على الجبل. . . وفي ظلال بلوطة معمرة
أجلس ساهماً حزيناً والشمس في ساعة الغروب
أسرح الطرف هنا وهناك في رحاب الوادي
الذي انبسطت أمام عيني لوحاته المختلفة)
وهاك ترجمة نثرية أخرى لهذه الفقرة بقلم أستاذنا الكبير أحمد حسن الزيات:
(جلست محزون القلب مستطار
اللب على قلة الجبل وتحت ظل السنديانة
العتيقة، أشيع شمس النهار وهي تغرب
وأسرع بصري في وجوه السهل وهي تتغير:)
2 - شعراء وأدباء في جيش الفاروق
تأليف الأديب محمود عيسى الضابط بالجيش المصري
قرأت هذا الكتاب مغتبطاً فخوراً؛ فكاتبه ضابط بالجيش المصري الباسل، وسكرتير تحرير مجلته، وقد عرض في كتابه تراجم تسعة أدباء وشعراء من ضباط جيشنا الأحياء - متعهم الله بالعمر الطويل العريض - وأورد في تراجم بعضهم نبذاً من آثاره شعراً أو نثراً مع الإشارة إلى أعماله التأليفية. . وهذا الكتاب آية على اهتمام من ضباطنا بالشعر والأدب إلى جانب عنايتهم بالكتابة في فنون الحرب ورجالها ومعاركها قديماً وحديثاً.
ويظهر من فهرس كتب المؤلف المنشور في آخر كتابه هذا أنه غير (حديث عهد) بالتأليف، فله قبل هذا الكتاب عشرة غيره: منها ثلاثة قصصية وسبعة في قادة الحروب(792/55)
ومعاركها القديمة والحديثة وأدواتها، ومن هذه العشرة أيضاً سبعة استقل بتأليفها وثلاثة اشترك معه فيها البكباشي عبد الرحمن زكي أحد من ترجم لهم في هذا الكتاب.
وإذاً فلا علينا إذا لم نبذل من (المحاباة) في حساب مؤلف (قديم) كصاحب هذا الكتاب (كل) ما نلزم أنفسنا تقديمه منها للمبتدئين والشداة، ولا علينا أيضاً ألا نعده (ضيفاً) في جماعة المؤلفين بعد هذه الآثار الكثيرة مع أنه ليس مؤلفاً محترفاً كالمنقطعين للبحث في الحياة. هذا الكتاب يشتمل على إهداء وتعريف للناشر بالمؤلف وتسعة فصول في تسعة ضباط بجيشنا المصري: فأما الإهداء فإنه (إلى راعي السيف والقلم حضرة صاحب الجلالة الفاروق المعظم) ولا غرابة فهو عنوان ولاء من ضابط أديب لراعي سيفه وقلمه، والكتاب كله في تعريف (شعراء وأدباء في جيش الفاروق) كما كتب في العنوان.
وأما تعريف الناشر بالمؤلف فصفحة عنوانها (هو) وصف فيها المؤلف (شكلا) وكشفه (كشف نظر) وعرفه فيها بأنه اشتغل بالأدب في الرابعة عشرة من عمره، وأنه يقرض الشعر ويكتب القصص، وأنه في خلقه (مستقيم) ينأى بنفسه عن إغراء المرأة حتى استأثرت به أخيراً (قديسة) تراه يفنى في تقديسها فهو تعريف (تقريري) للقراء أن يفهموا منه ما يفهمون كما يفهمون. وأما المقدمة ففي الصلة بين الجندية والأدب وفيها يقرر المؤلف أن الجندي إنسان عاطف كسائر الناس لا وحش شغوف بالدماء، وأن القتال بغيش إليه حين يكون أداء الواجب، وأن الأدب والجندية لا يتنافران، وفي هذه المقدمة (صرخات في الهواء)، وإذ يحاول المؤلف فيها تزييف أوهام لا قرار لها في عقل يحسن قراءة الأدب.
وأما الفصول التسعة، فقد تحدث في كل منها بضابط من هؤلاء الضباط التسعة: اللواء عبد المنصف محمود باشا، والبكباشيين عبد الرحمن زكى، وعبد الحميد فهمي مرسى، ومحمد عبد الفتاح إبراهيم، والصاغين محمود محمد الشاذلي ويوسف السباعي، واليوزباشيين حسين ذو الفقار صبري وسيد فرج، والملازم الأول مصطفى بهجت بدوى، وهم على هذا الترتيب في الكتاب تبعاً لرتبهم العسكرية لا لشيء آخر مما يقدمه على سواه غير (الرسميين) في التقدير.
ويلاحظ بلا عناء أن المؤلف في هذه التراجم عامة (كثير السخاء) فيما يسبغه على مترجميه من (فضل ونبوغ)، وهو - مع هذا السخاء الكثير - لا يقدم للقارئ من آثار(792/56)
(إخوانه) ما يبرر (سخاءه الغامر) حتى يكون له من ذلك (بعض الشفاعة) عند من يحبون من القراء (المجاملات المعقولة) في حدود (العدل) فضلاً عن القراء المتزمتين الذين يبخلون بثقتهم حتى تقدم إليهم البراهين الناصعة الكافية على كل ما يطلب إليهم الثقة به من أحكام.
فالمؤلف في بعض التراجم يكتفي بالكلام في أخلاق المترجم وأطواره في المعيشة والجندية، ويسكت عن إيراد شئ من آثاره وهو في سائر التراجم يورد للمترجم (نماذج) ولكنها (متواضعة) غالباً، فإذا حاولنا تلمس السبب لم نجد أمامنا إلا فرضين: فإما أن لهؤلاء المترجمين (نماذج عالية)، ولكن المؤلف لم يحسن الاختيار، وإما أنه لم يجد لديهم نماذج خيراً مما ذكر، ولعل أول الغرضين أصح ولو في بعض التراجم لا كلها، ولقد اطلعنا على آثار بعضهم فقرأنا لهم نماذج خيراً مما وجدنا في هذا الكتاب ولا سيما اليوزباشي سيد فرج والبكباشي محمد عبد الفتاح إبراهيم.
قال المؤلف في مقدمة فصوله معرفاً بها: (هذه صورة سريعة التقطتها عدسة المصور لطائفة من الشعراء والأدباء الذين يحتويهم جيش الفاروق آثرنا أن نعرضها في هذا (الألبوم) دون (رتوش). . .). والحق أن في هذا التعريف كثيراً من الصدق فالتراجم (صور سريعة)، ولولا ذلك لكان من الممكن أن تكون الصور أبرز وأثبت، ولقد طبعت صور منها على (ورق نشاف)، فجاءت مضطربة الوضع، حائلة الألوان، مطموسة المعالم، وقد استعمل (المصور) في استكمال بعضها كل مهارته الفنية، وكل ما لديه من أدوات الزينة لوضع (الرتوش)، ومن أجل ذلك، ولحسن ظننا بالمصور القدير لا نزال ننتظر (إعادة) هذه الصور على حقيقتها بلا (رتوش) أو مع (رتوش) خفيفة لا تخفى الحقائق، فالغرض من التعبير التوضيح لا التعمية، ونطمع في إضافة (صور) جديدة توضع جميعاً في (ألبوم) جديد حتى تكون جديرة لوجه الحق بالتسجيل والحفظ، ومؤلفنا أو (مصورنا) أولى من يقوم بهذه المهمة، وما هى بالمهمة العسيرة على (مصور) مثله طال عهده (بالتصوير)، والله يوفقه إلى خدمة مليكه وإخوانه وبنى وطنه.
(القاهرة)
محمد خليفة التونسي(792/57)
العدد 793 - بتاريخ: 13 - 09 - 1948(/)
ماليَ لا أكتب؟
يعتب عليِّ صديقي العباس أنني لا أكتب في هذه الأيام للرسالة، ويحتج لعتابه بأن دواعي الكتابة في ريف المنصورة، أو في ظلال (الكافورة)، أقوى من أن ينهض لها عذر من اعتلال أو اشتغال أو إراحة. وواقع الأمر أني لم أكن كاليوم أرهفَ شعوراً بالجمال، ولا أبلغ تأثيراً الطبيعة، ولا أشد انطواءً على النفس؛ ولكن أكثر ما يتمثل في الجمال، أو يخطر على البال، سوانح هي بالشعر أشبهَ وإلى الغناء أقرب؛ فإذا همَّ باقتناصها القلم اندلعت من جوانب النفس زفرات وقَودها الصهيونيون واللاجئون والحرب والهدنة وترومان وستالين وبرنادوت ومجلس الأمن وهيئة الأمم، فأنصرف عن الغناء إلى الرثاء، وأنتقل من الضحك إلى البكاء. وأهمَّ بتلحين الألم وتوقيع الأنين، فتنبعث من نواحي العقل أصوات تستنكر وتستنفر وتقول: لقد خطبنا حتى جف الريق، وكتبنا حتى نفد المداد، وبكينا حتى نضب الدم، فما الذي أغنى عنا كل أولئك؟ ألا يزال أرانب اليهود مغرورين يتبجحون بالدولة والجيش؟ ألا يزال عرب فلسطين مشردين يكابدون ذل الاغتراب وشظف العيش؟ ألا يزال ترومان الأخرق يجري على سياسة الهوى والطيش؟ ألا يزال برنادوت الغر يستر عجزه بالمداهنة والغيش؟ فأصيح إلى صوت العقل وأقول: بلى، كل أولئك لا يزال، وأتمنى على الله رب العالمين وناصر العرب والمسلمين، أن يستحيل اللسان في فمي حساماً يضرب، واليراع في يدي سناناً يطعن، والغضب في نفسي عاصفة تدمر، والضعف في جسدي قوة تبيد. فأنا الآن مترجح بين طرفين كلما ملت إلى أحدهما جذبني إليه الآخر أنظر بعيني إلى مفاتن الطبيعة في ضعاف النهر وحواشي الحقول ومماشي الرياض فأبتهج، ثم أنظر بقلبي إلى مخازي الناس في صور النذالة والجور والبؤس بفلسطين فأكتئب، ثم يصيبني العمى والخرس لأن ابتهاجي عابر لا يحدث غير الافترار، ولأن اكتئابي عاجز لا يبعث غير الدمع.
وإذا حصلت من السلاح على البكا ... فحشاك رُعت به وخدك تقرع
إن نكبة فلسطين ومحنة العرب قد غطَّتا على كل حاسة وغلبتا على كل عاطفة؛ فالفكر فيهما والحديث عنهما ملء القلوب وشغل الألسن؛ ولكن الكلام هواء، والبكاء ضعف، والمنى أباطيل، والمهادنة غش، والمفاوضة عجز؛ فلم يبق إلا أن نسكت لنعمل، وندبر لننفذ، ونتقوى لنسود، ونتسلح لننجح، ونقتل لنحيا، ونظلم لنُحترم!.(793/1)
لو كان في الدنيا حق لما كان لفلسطين قضية، ولو كان في الناس عدل لما اصطلحت على ظلمنا الشيوعية والرأسمالية، ولو كان في الأمر اختيار لما تركت سيوفنا من بني يهوذا بقية! ألاَ إن أفدح الخطوب أن يخاصم الأسود القرود، وإن أقبح الحروب أن يقاتل العرب اليهود!
فلو أني بُليت بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان
لهان علىّ ما ألقى ولكن ... تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(793/2)
لمحة من سيكولوجية الطفل
للدكتور فضل أبو بكر
غاية كل كائن حي مما يبديه من مجهود وما يبذله من حركة إنما ترمى إلى هدف واحد هو الحصول على شئ من التوازن، لملاءمته للبيئة التي تكتنفه والوسط الذي يعيش فيه وهو شرط أساسي لبقائه وحفظ نوعه، وكلما كان الكائن معقد التركيب دقيق الصنع كانت بيئته معقدة صعبة وكان مجهوده أكبر وعناؤه أشد لملاءمة تلك البيئة.
والبيئة فيما يتعلق بالإنسان الذي نحن بصدد دراسة جانب من سيكولوجية طفله - تنقسم إلى قسمين هما:
1 - البيئة الطبيعية
2 - البيئة الاجتماعية
فالأولى تشمل الأرض التي يعيش فوق أديمها من خصبها وجدبها ومن نجدها وغورها ومن ماء عذب وأجاج ومن طقس رطب وجاف، ومناخ حار ومعتدل وبارد إلى غير ذلك من المحيط الطبيعي. والثانية أي الاجتماعية هي اصطناعية عرفية من خلق الإنسان نفسه؛ لهذا تختلف باختلاف الأمم والأجناس والعادات والبقاع، وتخضع لمجموعة من القوانين السماوية والوضعية تلزم الإنسان بما عليه من واجبات نحو غيره وبما له من حقوق لدى المجتمع، وهى بيئة أكثر تعقيداً من الأولى لأنها كما سبق ذكره من عمل الإنسان وهو عمل ناقص إذا قورن بعمل الطبيعة؛ ومن هنا كانت مضطربة دائمة التحول والتبدل تنشد الكمال بقدر المستطاع.
فالإنسان يؤثر في محيطه بنوعيه من طبيعي واجتماعي، ويحاول إخضاعه لحد ما ليكون ملائماً له وهو ما يحدث بظاهرة الإخضاع (والتمثيل) كما أن بيئته نفسها تحاول أن تؤثر فيه وتخضعه لحد ما ليكون ملائما لها وهو ما يحدث بظاهرة الخضوع والتكييف وهو تحوير وتبديل جسماني ونفساني لذلك الغرض.
فهو لهذا في كر وفر مع بيئته يخضعها ويخضع لها حتى تناسبه ويناسبها، ولكن المناسبة المنشودة لا يمكن أن تتم وتكتمل وإنما هي نسبية وغير مستقرة، ومن هنا كانت حركته الدائمة وتغيره المستمر، وهما أبرز مميزات الحياة، وما نمو الطفل وتغيره الجسمي والعقلي(793/3)
إلا سعياً وراء ملاءمة البيئة.
يعلم مما تقدم أن ظاهرتي التمثيل والتكييف، أو بعبارة أخرى الإخضاع والخضوع، تحدثان في آن واحد ولكن بنسبة غير متساوية، أي أن أثر إحداهما قد يكون أقوى من أثر الأخرى؛ (فدارون) مثلا يؤمن بأن إخضاع الكائن؛ الحي لبيئته هو أقوى من خضوعه لها، وعلى ضوء هذا الاعتقاد يشرح لنا نظرية التطور والتنافي الحيوي من أجل البقاء والخلود، وأن طائفة من علماء الطبيعة تؤيد (دارون) وتحذو حذوه.
وهنالك فريق آخر من العلماء يخالفون (دارون) ويعتقدون عكس ما يعتقد وعلى رأسهم العالم (لامارك) وفى نظرهم أن البيئة هي التي تخضع الكائن أكثر مما تخضع له، وأن على الكائن أن يبدل من ذاته، ويغير مما بنفسه حتى يكون أكثر ملاءمة لها.
كذلك الفلاسفة من علماء الاجتماع والأخلاق ينقسمون إلى قسمين بالنسبة للبيئة الاجتماعية:
فالفريق الأول ورائده الفيلسوف (نيتشه) يرى ما يراه (دارون) في البيئة الطبيعية، وهى فلسفة القوة والبطش وأن (الرجل المثالي) في نظره الذي يستحق شرف هذا اللقب هو الذي يخضع العالم ويبطش بالرجال حتى يدينوا له وينقادوا إليه، وأن المسالمة والتسامح والعطف والعفو ما هي إلا صفات العاجز الضعيف وهى تباعد ما بين من يتصف بها عن المجد والسلطان على حد قول أبى الطيب:
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
والفريق الثاني وزعيمه (أبيقور) ومدرسته ينادى بعكس ما ينادى به نيتشه وهى فلسفة الخضوع والمداراة والمصانعة، فلسفة (الدهريين)، و (الرجل العاقل) في نظره هو الذي يخضع لبيئته ويتماشى مع دهره على حد قول من قال:
ودر مع الدهر وانظر في عواقبه ... حذار أن تبتلى عيناك بالرمد
والبس لكل زمان بردة حضرت ... حتى تحاك لك الأخرى من البرد
هذه مقدمة موجزة لابد منها لتفهم بعض مظاهر سيكولوجية الطفل لأن نموه وتطوره ما هما إلا نوع من ضرورة ملاءمة البيئة، وهذا النمو نفسه هو تغيير مستمر في الشكل(793/4)