نعم نملك تحريم تعدد الزوجات
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
نعم نملك تحريم تعدد الزوجات، ولكن بطريق ما كان يصح أن يخفى على حضرة صاحب المعالي العالم العلامة عبد العزيز فهمي باشا، وقد سلكه أولو الأمر حديثاً في نظائر لتعدد الزوجات، ولم يتعسفوا الطريق إليها كما تعسف في طريق تحريم تعدد الزوجات فوقع فيما لا يصح أن يقع فيه مثله في علمه وفضله، لأن إباحة تعدد الزوجات من الأحكام التي جرى العمل بها في عهد النبوة والصحابة، وفى كل العهود الإسلامية إلى عهدنا الحاضر، وهو الحكم الذي يوافق تشريع الإسلام، لأنه يمتاز بأنه تشريع صالح لكل زمان ومكان.
ومن يخالف مثل هذا الحكم المظاهر يقع فيما وقع فيه الباشا حين أنكر إباحة تعدد الزوجات في الإسلام، فاضطر حين خالف بهذا ما جرى عليه العمل جيلا بعد جيل إلى تعسف لم يقع نظيره من مسلم، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، ولله العصمة وحده، وقد كان هذا بأن ذهب إلى أن فترة الإسلام الأولى منذ الهجرة إلى آخر الدولة الأموية كانت عهداً مملوءاً بحروب المسلمين وفتوحاتهم، والجنود في كل أمة يدللون ويتجاوز لهم عن كثير من الآثام في مقابل أنهم وهبوا حياتهم للدفاع عن أمتهم، والشباب من جند المسلمين كانت الغريزة الجنسية تتنبه عندهم في أوقات الراحة بين المواقع الحربية، ولم يكن لهم سبيل إلى إجابة داعيها بغير التزوج، لأن الزنا محرم، فكانوا يتزوجون غير زوجاتهم الآتي تركوهن في بلادهم، ثم استمروا على هذه العادة المحرمة، ولم يعدموا من يهونها عليهم بالحيل الشرعية، ثم شايعهم عليها أهلوهم ولو لم يكونوا محاربين، فانتشر العمل بها بين المسلمين في القرن الأول والثاني، ولما جاء عصر التدوين في آخر الثاني وأوائل الثالث كانت هذه العادة قد صارت من التقاليد القديمة المستقرة المحببة إلى المسلمين، فاضطر الفقهاء في كثير من الجهات إلى مسايرتها، وتدوين الواقع من متابعة الناس لها، وتساهلوا في تأويل سندها من القرآن، كما تساهل فيه المحاربون الأولون.
ولاشك أن مثل هذا الكلام لا يصح أن يقال من عالم مثل الباشا درس تاريخ المسلمين، وعرف بإخلاصه لدينه وتقاليده، لأنه لا يعقل أن يسكت المسلمون كلهم على ذلك الإثم، ولا يوجد فيهم واحد يقوم بإنكاره، وينبههم إلى حقيقة أمره، ولكن الباشا حفظه الله وأطال في(770/18)
عمره يرى أن تعدد الزوجات صار غير محتمل في عصرنا بشكله الأول، وأنه لابد من تقييده بقيود تلائم ما صار إليه المسلمون الآن، فيجد من الأستاذ الفاضل إبراهيم زكى الدين بدوي ومن لا يحصى من العلماء من يقف في طريقه، ويرى أنا لا نملك أن نحرم تعدد الزوجات، لأن في هذه خروجا على إباحة الدين له، كما قبل مثل هذا عند تحديد سن الزواج ونحوه مما جرى العمل الآن به، وأله الناس بعد أن ثاروا عليه عند تشريعه، فيقابل الباشا هذا الغلو في التشدد في أمر القديم، بالغلو في محاولة إبطاله، ويوقعه هذا في خطأ الغلو مثلهم، لأن الإسلام دين وسط لا غلو فيه، وبهذا كان أصلح تشريع عرفه البشر منذ وجودهم على ظهر الأرض.
إن الإسلام قد أعطى تعدد الزوجات حكم الإباحة، ليتصرف المسلمون فيه في كل زمان ومكان بحسب المصلحة، فيأخذوا به إذا اقتضت مصلحتهم، أن يأخذوا به، ويكفوا عنه إذا اقتضت مصلحتهم أن يكفوا عنه، ويكون بهذا حكماً صالحاً لكل زمان ومكان، كما هو شأن سائراً حكام الإسلام، فلم يجعله سنة أو فرضاً على المسلمين حتى يؤخذ فيه شئ عليهم، ولم يضيق عليهم بتحريمه كما ضيق غيره من الأديان، لأن هذا التضييق لا يلائم كل زمان ومكان.
وليس معنى الإباحة في الإسلام أن يأخذ المسلمون فيها بشهوتهم، فلا يقفوا فيها عند حد، ولا يتصرفوا فيها بالحكمة لأنه أسمى من أن يطلق لشهوة المسلمين عنائها في هذا الحكم، وقد أباح لهم لباس الزينة والأكل والشرب من الطيبات، ولكنه لم يطلق لهم أمرها إطلاقاً، بل قال الله في الآية_31_من سورة المائدة (يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) فما ظنك بإباحة تعدد الزوجات وأمره فيها ليس كأمر الزينة والأكل والشرب، لأن كلا من هذه الثلاثة مباح مرغوب فيه، أما تعدد الزوجات فهو مباح غير مرغوب فيه، كما قال تعالى في الآية - 3 - من سورة النساء (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا).
وقد كان الأخذ بإباحة تعدد الزوجات مقبولا في الصدر الأول لأن المسلمين كانوا عدولا متمسكين بأمر دينهم، فكانوا يعدلون بين نسائهم وأولادهم، وكانت النساء لا ترى حرجاً في ذلك التعدد لأنه كان يؤخذ بالحكمة، ولا يتأثر فيه بالشهوة، وكان الأبناء من الزوجات(770/19)
المتعددة لا يجدون تفاوتا في المعاملة من آبائهم، فلا يحدث بينهم شقاق يضر بدينهم.
ولأن المسلمون كانوا في قلة بين الأمم المجاورة لهم، وقد قامت بينهم حروب متتابعة تحدث فيهم قلة إلى قلتهم، فكانوا في حاجة إلى تعدد الزوجات ليعوض ما يصيبهم في الحرب من فقد الرجال، ويزيد في عددهم حتى يمكنهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ويكون فيه علاج لما تحدثه الحرب من نقص عدد الرجال عن عدد النساء، فيجمع بعض الرجال بين زوجتين أو ثلاث أو أربع، ممن فقدن رجالهن في الحرب، ليقمن بوظيفة النسل للمسلمين، ويجدن من يقوم بأمرهن بعد فقد أزواجهن، في حال من الحل لا يكون فيها حرج عليهن، ولا يكون فيها من الضرر بالمجتمع مثل الزنا.
ولأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا خير أمة أخرجت للناس، فكانت كل زيادة في تلك الأمة التي أخرجها الله لتؤدى رسالتها بين الناس، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والزيادة في الخير محبوبة، ولا شئ في أن يصار إليه بتعدد الزوجات، لأن كل وسيلة إلى الخير مقبولة.
فهل المسلمون الآن كأهل الصدر الأول؟ وهل يرجى خير من زيادتهم بتعدد الزوجات كما كان يرجى في عهد ذلك السلف الصالح؟ اللهم كلا ثم كلا.
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى وجوه الحي غير وجوههم
فليس المسلمون الآن عدولا كما كانوا في الصدر الأول، فلا تجرى تصرفاتهم في تعدد الزوجات بالحكمة بل بالشهوة، ولا يعدلون بين نسائهم وأولادهم، ولقد كان هذا سبباً في فساد الأسرة الإسلامية، لأن الأسرة لا يستقيم حالها بغير العدل، ولقد جر فساد الأسرة إلى فساد الأمة، لأن الأمة تتألف منها، فيصلح حالها بصلاح حالها، ويفسد حالها بفساد حالها.
وليس المسلمون الآن في قلة كما كانوا في الصدر الأول، لأن عددهم يربو الآن على ثلثمائة مليون، وهذا عدد لا يستهان به إذا ربى تربية صالحة، ولا قيمة له إذا لم يؤخذ بهذه التربية، فهم الآن ليسوا في حاجة إلى زيادة العدد، وإنما هم في حاجة إلى تلك التربية الصالحة.
وليس المسلمون الآن خير أمة أخرجت للناس، حتى يكون في زيادتهم بتعدد الزوجات زيادة في خيرهم، لأنهم لم يجعلوا خير أمة أخرجت للناس بذواتهم، وإنما جعلوا كذلك لأنهم(770/20)
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا لم يقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانوا كغيرهم من الأمم، بل كانوا أسوأ حالاً منهم، وهاهم أولاء الآن لا يقومون بهذه الوظيفة كما كان يقوم بها سلفهم فصاروا إلى كثرة لا خير فيها، ولا يرجى خير في زيادتها بتعدد الزوجات، بل يزيد شرها ويتفاقم كلما زادت، ويتسع خرقه بزيادته على الراقع.
نعم نحن الآن غثاء كغثاء السيل، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأسد على فريستها، فقالوا له: أعن قلة يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن غثاء كغثاء السيل.
ولقد كان العشرون من أهل الصدر الأول يعدون بمائتين، وكان المائة منهم يعدون بألف، بل كان الواحد منهم يعد بألف أو أكثر، أما نحن الآن فالألف منا يعدون بواحد، ولا خير في كثرتنا ونحن على هذا الحال، بل يجب أن نعمل على تقليل عدد الأسرة فينا بمنع الزيادة على زوجة واحدة، ليمكن رب الأسرة أن يربيها صالحة، ويمكننا أن نهنئ جيلاً صالحاً يعتز الإسلام به، ولا يكون كهذا الغثاء الذي يحط من شأن الإسلام، ويحط من قدر المسلمين بين الأمم.
وسيجد الباشا بعد هذا أن ما يريده من منع تعدد الزوجات كان مطلباً سهلاً لا يحتاج إلى ما تكلفه في أمره، وما كان الشارع الحكيم ليعطيه حكم التحريم الذي حاوله الباشا، وهو يزن أحكامه أعدل وزن، فلا يرضى أن يجعل تعدد الزوجات كالزنا في الحكم لأن التسوية بينهما في الحرمة يأباها العقل.
وسيجد الأستاذ إبراهيم بدوي بعد هذا أنه لم يكن له أن يقول في عنوانه (هل نملك تحريم تعدد الزوجات) لأنا نملك هذا من غير نزاع، ونزاعه مع الباشا في أن تعدد الزوجات حلال أو حرام، وهذا له عنوان غير ذلك العنوان، والحق أردت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت.
عبد المتعال الصعيدي(770/21)
في التحليل النفسي:
تخاف من العرائس
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
قالت إنها تخاف من العرائس، فتبادر إلى ذهني أنها تخاف من الفتيات في سن الزواج وقد أعلنت خطوبتهن وأصبحت الواحدة منهن (عروسة) كما هو الاصطلاح في تعبير العامة. وأيد هذا الظن أن السائلة فتاة حول العشرين من عمرها. فقلت لها ولماذا تخافين من العرائس، هل ترهبين الزواج ولا تريدينه؟ قالت لا، ليس الأمر كذلك، إني أعني تلك العرائس التي يصنعها الناس للزينة أو التسلية، ويتخذها الأطفال أداة للهو واللعب والعبث، ثم نطقت بالفرنسية (بوبيه).
ورأيت أن الأمر ليس سهلا كما تصورت في أول الأمر، فطلبت منها زيادة الإفصاح والبيان.
هذا وأنا آخذ حالة الفتاة مأخذ الجد، فهذا أول شرط في التحليل النفساني.
قالت: إني أخجل من نفسي خجلاً شديداً، ولا أحب أن أفضي لأحد بأمري حتى لايهزأ بي، فأنا أعلم أن العرائس لاضرر منها، وهي لاتؤذي، ولاتملك نفعاً ولاضراً؛ ثم إني قد بلغت من السن مالا ينبغي أن ينزل بقلبي الخوف من مثل هذه الأشياء التي لا تليق إلا بالصغار من الأطفال. وبلغت من الثقافة ما أعلم معه علم اليقين أننا نحن الذين نصنع هذه العرائس بأيدينا، فكيف نخاف منها.
وكانت حقاً على درجة من الثقافة، فقد تلقت العلم في مدارس فرنسية، وهي تشتغل الآن مدرسة في مدرسة ابتدائية.
واستطردت قائلة: فأنت ترى أن هذه الحالة تسبب لي متاعب كثيرة، وترهقني من أمري عسراً.
فأنا لا أطيق أن ألمس (عروسة) واضطرب اضطراباً شديداً إذا دخلت حجرة فوجدت فيها شيئاً من ذلك فأخرج منها. ولهذا السبب رفع أهلي من البيت كل عروسة، وكل تمثال للزينة، لأنني أخاف كذلك من التماثيل. وإذا علمت أن صديقة من صديقاتي تحتفظ في بيتها بعرائس أو تماثيل، أبيت أن أزورها، دون أن أبدي السبب الحقيقي لأنه مضحك حقاً.(770/22)
ثم إني لا آمن إذا دخلت بيتاً، وجلست في غرفة تخلو من العرائس، أن يدخل علينا طفل يلهو بعروسة في يده، وعندئذ يحدث لي هذا الخوف الذي يبلغ حد الفزع، فأستاذن في الحال وأصرف، وأنا في موقف شديد الحرج بالنسبة إلى نفسي وبالنسبة إلى صديقتي.
ثم تصور أن أي أختا تكبرني سنا، وهي متزوجة وذات أطفال، وقد حرمت على نفسها شراء العرائس لأبنائها حتى تيسر لي زيارتها، وتستقبلني في دارها. فانظر مبلغ العنتْ الذي كنت سببه. . .
قلت لها لعل هذه العرائس قبيحة المنظر، تخيف حقاً، فهي لذلك تبعث الرعب.
قالت: الغريب أن العروسة كلما زادت جمالاً، ازددت خوفاً. فالتقطت منها هذه الكلمة، أعني (العروسة الجميلة)، وقلت في بالي هذا مفتاح أعلم منه سر نفسها. ثم ذهبت ألاحقها بالسؤال عن ذكريات الماضي وعهد الطفولة، إذ كانت العقد النفسية تتكون في الصغر بل الصبا المبكر.
قالت إنها لاتذكر متى بدأ خوفها من العرائس، ولكن أهلها يقولون إنها وهي طفلة صغيرة جداً تخاف منها. وأقدم ذكرياتها التي تعيها، أنهم كانوا يضعون تمثالاً من الجبس على هيئة امرأة ملاءة سوداء فوق الشباك بالقرب من سريرها وكانت رؤية هذا التمثال تفزعها وتبعث في خيالها وتبعث في خيالها أشنع الأوهام.
وهذا كله معقول، فالطفل الصغير قاصر الإدراك، وقد يكون أصل هذا الخوف ومبعثه إيحاء بعض أخوات هذه الفتاة وقولهم لها ما يثير الخوف، فصدقتهم، واستمرءوا هذا العمل ومضوا فيه، وأصبحت الفتاة الصغيرة ترهب هذه العرائس وترتعش أو ترتبك عند رؤيتها. وثبت في نفسها هذا الخوف مع الزمن وأصبح كما يقولون (عقدة نفسية).
ولكن حل العقدة يكون بمعرفتها، واستخراجها من باطن النفس وأغوار الماضي فيبرح عنها الخفاء. وقد علمت صاحبتنا بأمر هذه العقدة، وعلمت أن ليس في العرائس ضرر، فما هو السر إذن؟
فانصرفت إلى البحث عن هذه (العروسة الجميلة) التي تخاف منها، التمس في الجمال علة الاضطراب.
وكان من الواضح أن السائلة غير جميلة.(770/23)
وشرعت أسألها عن علاقتها بهن، ولها أختان شقيقتان إحداهما تكبرها بثمانية أعوام والثانية بعامين. الكبرى متزوجة وصاحبة أبناء، والصغرى لم تتزوج بعد.
وتبين من نبرات صوتها عند الجواب أن بينها وبين أختها الثانية أشياء. فهي أجمل منها، وأكثر منها حظاً في التعليم، وتشتغل منصباً أفضل منها.
وألححت في السؤال، فقالت إنها تحترم أهلها وأخوتها وقد رباها أبوها تربية صالحة، وعلمها أن تقف من أخوتها موقف المحبة والاحترام.
ولكن الغيرة لا تعرف التقاليد والحدود الاجتماعية. والواقع أن الغيرة الشديدة قامت بين صاحبتنا وبين شقيقتها منذ الصغر فهي أجمل منها، وأحسن منها في التعليم حظاً، وأرقى من حيث المنزلة الاجتماعية، فضلا عن الغيرة الطبيعية التي تنشأ بين الأختين إذا كانتا متقاربتين في السن.
إذن فهي في صراع بين الواجب والواقع، بين واجبها نحو أختها وأهلها، وبين طبيعة نفسها التي تحدثها بالغيرة.
ولكن ما شأن أختها بالخوف من العرائس؟
لقد حدث عندها ما يعرف في علم النفس باسم (التحويل) فقد حولت خوفها من العرائس وهى الدمى التي يلعب بها، إلى أختها لما بين الاثنين من مشابهة في معنى (العروسة). والعروسة عند العامة هي الفتاة المخطوبة إلى عريس فالأخت عروسة بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. وأكبر الظن أن الشخص الذي كان يخيفها في الصغر، أي وهى في سن الثانية من عمرها، هي هذه الأخت.
وإذن فقد تعقدت العقدة، وتحولت من مجرد الخوف من العرائس المصنوعة للهو، إلى الخوف من (العروسة الجميلة) وهذا سر قولها إن العروسة كلما كانت جميلة، كان خوفها أشد. وكأن أختها أصبحت رمزاً حولت إليه خوفها، وغيرتها، وبغضها. . .
ويؤيد هذا كله، ما ذكرته من أنها لا ترغب في الزواج، وتمانع فيه، أو على الأقل كانت تمانع إلى عهد قريب.
ويؤيد ذلك أيضاً أنها تخشى الأطفال الحديثي الولادة، أي الذين في سن الرضاعة. قالت إنها ذهبت عند أختها الكبرى، وهى متزوجة وذات أطفال، وعرض لأختها أمر يقتضي أن(770/24)
تخرج من الغرفة على عجل، فأعطت ابنها الرضيع إلى صاحبتنا، والتمست منها أن تهدئ من روعة إلى أن تعود. وحملت الفتاة الطفل بين يديها وهى ترتجف من شدة الخوف، وكادت تلقى به إلى الأرض.
ونصحها أحد الناس بأن تصنع عروسة من قماش لعل ذلك يجعلها تألف بطريقة عملية هذه العرائس فلا تعود ترهبها. وفعلت ذلك، فقصت القماش، ووضعت داخله القطن، حتى إذا أوشكت العروسة أن تكتمل، وصورت رأسها، لم تستطع أن تمضى في صنعها إلى النهاية، وبرز الخوف في نفسها.
ليس العلاج عسيراً، فإذا عرف السبب بطلت آثار الاضطراب؛ والمهم أن يقتنع المريض بصحة الأسباب، وأن يعمل على علاجها.
أما عن السبب الأول وهو الخوف من العرائس الذي كان يقع في الصغر، وصحبها إلى الكبر، فيرجع إلى الوهم والتهويل، وقد عرفت أن هذا الوهم باطل، ولا ينبغي التهويل فيه.
أما عن السبب الثاني وهو الغيرة من أختها، فقد وجدت بعض المشقة في ترويض نفسها على محبتها المحبة الأخوية الصادقة ذلك أن القضاء على الأحوال النفسية التي ثبتت في النفس مع طول الزمن من أشق الأمور، مثلنا في ذلك مثل من يعتاد التدخين أو لعب الميسر أو شرب الخمر، لا يسهل عليه أن يقطع عادته التي ألفها بين يوم وليلة.
وقد رسمنا لها الطريق المؤدى إلى كبح جماح الغيرة، وفى القضاء على الغيرة من أختها على وجه الخصوص القضاء على خوفها الموهوم من العرائس.
أحمد فؤاد الأهوانى(770/25)
إلى الشرق العربي المجاهد:
ذكريات أجناس
للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله
(كان المرج واسعاً والماء صافياً نيراً، والعشب أخضر ملتفاً، يغرى بالرعي سارح السوائم. وقطيع البقر يجرى ههنا وههنا طاعماً من الكلأ، شارباً من الماء، موقناً أنه نامت عنه المقادير
كان ذلك كذلك، حين جاء أول إنسان، وقاد أول ثور ليضع على عنقه النير، ثم أجرَّه المحراث وشق به الأرض).
هذا ما قاله الثور الأسود والزبد يسيل من شدقيه ولا يكاد يستطيع أخذ أنفاسه، حين وقف تحت الشجرة إلى جانب الثور الأبلق لينالا علفهما ثم يعودا يحملان النير.
ولم تكن ذكريات الحرية الأولى التي أفضها على صاحبه لتخفف مما يعانيه هو. بل احمرت عيناه، ولوَّح بقرنيه في الهواء كأنما يغالب ما يدفعه إلى أن يفتك بهذا الحراث الغشوم. ولم يكن قد وضع رأسه في المذود ساعة استعاد ذكريات ماضيه الحر، كلا ولا وضع رأسه بعدها. على حين كان صاحبه يأكل التبن أكلاً لمَّا غير مبال بما يخالطه من زبد يسيل من شدقيه. فقال الأسود:
أنت يا صاحبي هادئ لم تثر في نفسك ذكريات الحرية ما قد أثارته في نفسي حتى صدتني عن الطعام. فلم يرفع الأبلق رأسه من المذود المشترك، بل مال عليه بصفحة وجهه يقول ساخراً: هيه هيه أيها المغرور!! لعلك ابن بقرة فيلسوفة قصت عليك ما حفا به تاريخنا في القديم من سعادة كخيال الأساطير. وهب هذا صحيحاً فما أنت فاعل؟ يجب أن تسلم أيها الخيالي بأن عنقك هذا القوى الغليظ لم يغلق هكذا إلا للنير.
فضرب الأسود بحافره الأرض حفاظاً وغيرة، ثم خار خورة مكتومة قال على أثرها:
- أنت يا صاحبي مظلم الغريزة مخطئ الإلهام؛ فأعناقنا لم يبد هكذا إلا لأن جدَّنا الأول حمل النير يوم قاده الطاغية من مرجه الجميل فغلظ عنقه شيئاً ورثه ابنه من بعده. ثم ما زال هذا الميراث السيئ يظهر أكثر وضوحاً على تعاقب الأجيال حتى خلقت أنا وأنت على نحو ما ترى. فتوارث العيوب وإقامة الأجيال على البغيض من أكبر البلايا التي تمنى(770/26)
بها الجماعات. فلو أن الثور الأول رفض النير ما حمله الثاني من بعده. على أن الثاني ليس خالياً من التبعة كذلك، لأنه لو رفضه ما حمله الثالث وبتتبع حلقات السلسلة نصل إلى أنني وإياك يجب أن ننزل النير من على عواتقنا لنخلّص منه سلالاتنا المقبلة.
قال الأبلق وقد كف عن الأكل: لكنك في كل ما قلت تناقض مبادئ الخلقة، لأنني لا أكاد أرى نوعاً سوانا يصلح لحمل الهوان الذي نحن فيه.
فقال الأسود: لم يكذب ظني فيك فأنت حقاً مظلم الغريزة! لماذا أكلف نفسي عناء البحث عن جنس آخر يحمل النير من بعدنا؟! نريد أن نتخلص منه، ثم ليحمله الشيطان أو ليحمله الحرَّاث نفسه.
وكل ما أستطيع أن أجزم به هو أن الثور الأول لم تكن خلقته على ما نحن عليه. فلا بد أنه كان رقيقاً لطيفاً فيه من الظباء مشابه كثيرة؛ ولما صاحبه الاستعباد أتلف نسله على مرِّ الزمن.
أما سمعت عن قصة الغراب؟ لقد كان يمشى في الزمان الخالي على رجليه باعتدال، ثم طرأ عليه ما هو خارج عن خلقته فمشى على رجل واحدة وقبض الأخرى حين فشل في محاكاة العصفور ونسى مشيته الأولى!! آه. . . ثم كان الغربان على ما تراها الآن مشيها وثب: لقد ذكرني بنفسه، ها هو ذا قادم أتاه؟؟ إنه آت ليلتقط حبات الفول من أمامنا في المذود.
وتهافت الغراب باحثاً عن الحب، فطرده الأسود برأسه، ثم عاد فطرده مرة أخرى. فوقف فوق الشجرة، وترجح بأحد الأغصان، وأدار رأسه ذات اليمين وذات الشمال كأنه يفتش عن أحد من جنسه، ثم شرع يقول للأسود:
سمعت ما قلته عن الغربان أيها الملعون وأنا في طريقي إليك. لقد أورثني أبى عرجاً ولم يورثني عبودية. وهاأنذا أسخر منك قادراً على أن أسخر ممن استعبدك كذلك، فانظر ما أنا فاعل. . . أنا ابن الهواء الطلق وسليل ذوائب الأشجار.
ثم أطلق سلسلة نعيب تشاءم الحراث منها فقام عن طعامه وقذفه بحصاة، ولكنه طار عن الشجرة ساخراً مزهواً. . .
فاض على الثور الأبلق غيظ من أن سخر من جنسه ضعاف الأجناس، فرفع رأسه عن(770/27)
طعامه ناظراً إلى الأسود بعينين ملتهبتين كذلك كأنه يسأله ماذا يجب أن يعمل؟ يا لتراجع الحظ! أيسخر منا كل جنس حتى الغربان؟!
قال الأسود: وأخيراً آن لك أن تعلم أنك مغلوب، وأننا كنا من قبل في مرج خلق لنا وخلقنا له، يوم خص الله كل جنس بطعام ومكان!! وبقيناهكذا حتى حجزنا الظلم عن مرعانا ومرَّ الزمان ومرَّ حتى خيَّل إليهم أنه علينا حرام. . .
كان الحرَّاث قد فرغ من طعامه واضطجع قليلاَ على أحد جانبيه وعيناه إلى الثورين، فرأى الأسود لم ينل من علفه شيئاَ على حين أكل الأبلق قليلا ثم كف. فقام إلى الأسود يمسح ظهره ويطرد عن عينيه الذباب، ثم حل رباطه وأورده الماء، وأعاده إلى مكانه، ثم رمى أمامه حفنة من الفول خصه بها وعاد فاضطجع من جديد في هدوء شديد يرقب ويرى ماذا يكون؛ فتبادل الثوران نظرات السخرية حين رأيا أنه حابى الأسود ولم يهويا إلى علفهما بفم.
ومرت لحظات قام الحراث من بعدها إلى الأسود يصب عليه سوطه ثم جرهما معاً إلى المحراث ولم ينزل عنهما النير إلا بعد أن غابت الشمس.
أوى الرعاة إلى الأكواخ، وأوت السوائم إلى الحظائر، وسكن الليل فهاجت هواجس المكروبين.
ورقد الأسود بجوار الأبلق يجتران على المربط علف المساء ويراجعان حديث الصباح فقال الأبلق:
لقد كفرت بالذي قلت لي في الصباح يا صاحبي لأنني فكرت وأنا هادئ. ويخيل إِليَّ أنه كما ينسجم البلح على النخل، وينسجم الجميز على شجر الجميز، لا ينسجم النير إلا على أعناق الثيران!! تصوره مرة على رقبة جمل، ثم تصوره أخرى على رقبة زرافة، تحكم ولا شك بأنه شاذ غريب.
فنطحه الأسود برفق ليثوب إليه رشده، ثم قال:
لن ينزل عن عنقك النير حتى تؤمن بأنه لم يخلق لك. ولو رآه الناس على رقاب الجمال والزرافات طوال القرون التي رأوه فيها على رقابنا، لآمنوا وآمنت معهم بأنها خلقت للنير. إن طول الألفة للمكروه يقربه من أن يكون في نظر الضعيف حقاً، على أن الأقوياء يرقون(770/28)
دائماً من حسن إلى جميل ومن تل إلى جبل.
ثم قام واقفاً على رجليه وخار خواراً عنيفاً هز أرجاء الحظيرة حتى ظن الأبلق أنه باطش به لا محالة، وقال: لا تعتبرني مغالياً إذا قلت لك: لو رأى كل ما يسكن الأرض من دابة أن البشر من قديم تحت سلطان البقر لألفت دواب الأرض كلها هذا الوضع!!
الأمر في أوله مصادفة يا صاحبي، ثم تألفت العين ما فعلته المصادفة، حتى يقال بعد طول السنين: يجب أن يكون هذا هو الجنس الغالب.
فقال الأبلق خائفاً لاهثاً: وماذا أنت مقترح أن تفعل؟! اهدأ قليلا لئلا يسمع الحراث!!
فقال الأسود: ألا فليسمع فإني أريد أن يسمع: المرج لنا كما قد خلقه الله.
قال الأبلق: وهل ينجيك هذا من النير والمحراث عند ما تشرق الشمس؟!
فرد صاحبه: لن ينجينا من الاستعباد إلا أن نعتصم كلنا بالمرج، فإما أن يكون لنا الكلأ الأخضر، وإما أن يكون لنا الموت الأحمر.
(وهجع المظلومان حتى الصباح، ولم يكونا نائمين، لأن شبح النير أفسد عليهما المنام!!). . .
محمد عبد الحليم عبد الله(770/29)
زواج تولستوي
للأستاذ محمود الخفيف
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
وعادت الأسرة إلى موسكو فكان يزورها كل يوم، وما زال أهل الدار ما عدا صوفيا وتاتيانا يعتقدون أن الكونت يتجه بقلبه إلى ليزا. . .
وظل على هذه الحال أسبوعين بعد ذلك لا يقطع زيارته ولا يجمع عزمه على رأي؛ ولقد جاء في مذكراته في السابع من سبتمبر قوله (لقد بقيت يومين بالبيت أفكر على انفراد في أمري لا تدفع نفسك يا دوبلتسكي حيث الشباب والجمال والشعر والحب فإن لهذه أيها الشيخ من هم أصغر منك؛ إن موضعك في صومعة من صوامع العمل حيث تطلع من عزلتك في سرور وهدوء على سعادة الآخرين وحبهم. لقد عشت في هذه الصومعة وسأعود إليها) وأثبت بعد ذلك بيومين قوله (أي دوبلتسكي لا تحلم. . . لقد كتبت لها كتاباً لن أرسله، لم أستطيع أن أتم لمدة ثلاث ساعات؛ لقد حلمت وعذبت نفسي كما يفعل غلام في السادسة عشرة) وقال في اليوم التالي (إني أشعر بالحب أكثر من أي يوم سلف. . وإن الأمل لا يزال في أعماق نفسي يجب أن أحل هذه المعضلة. . . لقد بدأت أكره ليزا وإن كنت أرثى لها. . أعني يا إلهي وأرشدني. . إن أمامي ليلة طويلة فارغة أقضيها، ذلك يؤلمني أنا الذي طالما ضحكت من آلام المحبين! كم ذا رسمت من خطة كي أصرح لها ولتانيا ولكل امرئ ولكن عبثاً حاولت. . . لقد أخذت أزدري ليزا من كل قلبي).
كان مرد هذه الحيرة الشديدة إلى أنه يخشى ألا يكون ما يحسه نحوها حباً كما يكون الحب؛ كان يخاف من نفسه على حد تعبيره، ويزيده خوفاً أنه كلما تدسس إلى شعورها ليتبين ما إذا كانت بها عيوب وجد نفسه منجذباً إليها. .
وفي الثاني عشر من سبتمبر كتب في مذكراته (إنني أحب اليوم على صورة لم أكن أصدقها من قبل. . . لقد بلغ بي الجنون أني أخشى أن أقتل نفسي إذا ما لبثت على هذه الحال. لقد قضيت المساء عندهم؛ لقد بدت لي بهيجة، ولكنني دوبلتسكي القبيح يجب أن آخذ أهبتي وشيكا. لا أستطيع النكوص الآن، ولو أنني دوبلتسكي إلا أن الحب غيرني. لقد سنحت لي فرص ولكني لم أغتنمها. . منعني الخوف، ولكن كان على أن أتكلم في بساطة(770/30)
إني أحب أن أعود إليهم فأذكر كل شئ أمامهم جميعاً)
وفي اليوم التالي كتب يقول (لقد سطرت كتاباً سوف أرسله إليها في غد. . . قوَّني يا إلهي. . . ما أشد خوفي من أن أموت، فأن مثل هذه السعادة تبدو لي مستحيلة. رب أعنيّ وأرشدني)
وقال بعد ذلك بيوم (لم أنم إلا ساعة ونصف ساعة، ولكني على الرغم من ذلك منتعش جد مهتاج) وفي اليوم التالي كتب يقول (أخفقت لم أحدثها. ولكني قلت لها إن لدي شيئاً أحب أن أحدثها عنه)
وذهب تولستوي في مساء السادس عشر إلى آل بيرز وفي جيبه الكتاب الذي أعده والذي لبث في جيبه ثلاثة أيام، وألفى صوفيا جالسة إلى البيان، فجلس إلى جانبها، والانفعال ملء نفسه وبدنه، وأحست انفعاله فسرى إليها قدر عظيم منه فتشاغلت بدور كانت تلعبه قبل مجيئه. ودخلت تانيا فطلبت إليها أختها أن تغني تريد بذلك أن تخفي ما في الموقف من اضطراب. . .
وغنت تاتيانا في صوتها الرائق الحلو، وناداها تولستوي باسم مغنية كبيرة هي مدام فياردو إعجاباً بها، ثم قال لنفسه إذا ختمت تاتيانا لحنها خاتمة جيدة فسوف يعطي صوفيا ذلك الكتاب؛ وكانت تاتيانا موفقة كل التوفيق إذ ختمت لحنها، وانسحبت الشيطانة الصغيرة في لباقة، وقد أحست أنها اللحظة الحاسمة، وما كادت تغادر الحجرة حتى مدَّ تولستوي يده بالكتاب إلى صوفيا قائلاً إنه ينتظر ردها، وتناولته صوفيا بيد مرتجفة، وخرجت به فأسرعت إلى حجرتها وأوصدت الباب وراءها وجلست تقرأ. . (أي سوفيا. . أصبح الأمر لا يطاق؛ لقد ظللت أقول لنفسي طيلة ثلاثة أسابيع سأبوح لها الآن، ومع ذلك كنت أخرج كل مرة وفي نفسي مزيج من الحزن والأسف والرعب والسعادة! وكنت أنظر كل ليلة نظرة إلى الماضي فأسخط على نفسي أن لم أبح لك وأسأل نفسي ماذا عساي كنت أقول لو أني تكلمت. . . لقد ظننت أني أستطيع أن أحبكم جميعاً كما أحب الأطفال، وكنت في أفتسى لا زلت أستطيع أن أقطع ما بيني وبينكم وأعود إلى خلوتي، إلى عملي الذي يشغل وقتي كله. . ولكني الآن لا أستطيع شيئاً. أشعر أني أحدثت في بيتكم شيئاً من الاضطراب، وأن صداقتكم لي كما تصادقون رجلا شريفاً قد لحقتها بعض الشوائب، ولذلك لا أستطيع(770/31)
الانطلاق كما لا أستطيع البقاء. . وإني أحمل هذا الكتاب معي وسوف أقدمه إليك إذا لم أجد في نفسي من الشجاعة ما أبوح لك معه بكل شئ. . . وإني أعتقد أن أسرتك تنظر إليّ نظرة خاطئة إذ تحسب أني أحب أختك اليزابيث وليس هذا بحق، فإن قصتك لا تبرح عقلي قط، وذلك لأني بعد أن قرأتها أصبحت أعتقد أنه غير خليق بي، أنا دوبلتسكي أن أحلم بالسعادة، لقد كتبت لك ونحن في في إفتسي أقول إن شبابك ومرحك يذكراني في صورة قوية بتقدمي في السن وباستحالة السعادة عليَّ. . . ولكني حينذاك كنت أكذب على نفسي ولا زال هذا حالي؛ إنك فتاة أمينة صريحة، فدليني ويدك على قلبك دون أن تتعجلي_وإني أناشدك الله ألا تتعجلي_ماذا عسى أن أفعل؟ لو أنني علمت منذ شهر أني سوف ألقى مثل هذا الألم السار الذي عاينته طيلة هذا الشهر لضحكت حتى يقتلني الضحك. نبئيني بكل ما في نفسك من إخلاص: أتكونين زوجة لي؟ إذا كنت تستطيعين أن تقولي: نعم وان تقوليها من أعماق نفسك فقوليها، ولكن إذا كنت تحسين أدنى شك فقولي لا. . . نشدتك الله أن تفكري ملياً في الأمر، وإني لأمتلئ رعباً كلما فكرت في قولك لا، ولكني أوطن النفس على تحمل ذلك، وسوف أقوى على تحمله بيد أنه من الأمور المفجعة ألا تحبني من تكون لي زوجة بقدر ما أحبها
وسمعت سونيا دقات عنيفة على الباب، وصوتاً هو صوت أختها ليزا يناديها في إلحاح أن تفتح ففتحت فقالت أختها! ماذا كتب لك الكونت؟ نبئيني. ووقفت صوفيا جامدة والكتاب في يدها، فقالت ليزا صائحة أخبريني الساعة ماذا كتب لك الكونت فقال صوفيا في عبارة فرنسية: إنه طلب يدي؛ فأجهشت أختها قائلة: أرفضيه. . . أرفضيه من فورك!. .
ودخلت أمهما فعملت في لباقة على أن تبعد بين الأختين فتخرج بهما من هذا الموقف الكريه وكان الكونت إذ ذاك في الثوي ينتظر، والقلق ملء نفسه، ويداه خلف ظهره، وقد استند إلى الموقد وفي وجهه صفرة لم يعرف مثلها من قبلن وأرهف سمعه إلى وقع أقدام خفيفة، وإن قلبه ليثب بين ضلوعه ودخلت صوفيا فنظرت إليه قائلة: نعم. . . ثم ولت مدبرة.
وتقدمت ليزا فهنأت أختها، ثم مشت إلى الكونت فهنأنه وقبلته في كثير من الكرم والنبل؛ وجاءت الأم فهنأت صوفيا وفي نفسها من السرور بقدر ما فيها من الشفقة على ليزا.(770/32)
وكان رب الدار قد مسته وعكة من قبل فتنذرع بها وتردد فلم يهنئ الكونت، ولم يبد ارتياحه لأنه كان يحب ليزا، وأظهر الطبيب الشيخ كثيراً من الرثاء لابنته، ولكن ليزا نفسها ما زالت تستحلفه والدموع في عينيها ألا يغضب أختها، حتى اطمأن فؤاده فذهب إلى تولستوي وصافحه مهنأ.
وتصادف أن كان اليوم التالي يوم ميلاد الأم، وكانت دار الطبيب بيرز ملأى بالضيوف فأعلنت الخطبة وأقبل الضيوف على العروسين مهنئين. . . وغابت ليزا عن الموائد متوارية من القوم، الأمر الذي تألم له قلب تولستوي على الرغم مما كان يفيض به من فرح، ولقد تحدث بهذا إلى عروسه، وهو الذي لا يحب منذ طفولته أن يؤلم أحداً. . .
محمود الخفيف(770/33)
1_الأعلام:
محمد بك النجاري
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
أخلص الناس للعلم، وأنفعهم له وبه، هم الذين يقبلون عليه استجابة لميولهم الفطرية، وإشباعاً لرغباتهم الفكرية، ويتخذونه مجالا لرياضة الذهن وتثقيف العقل، وباباً للإفادة وتخليد الذكر، في غير ما نظر إلى إدراك مكافأة أو حصول على أجر. . ولقد كان من هؤلاء المغفور له القاضي اللغوي محمد بك النجاري طيب الله ثراه وأكرم مثواه.
نشأ النجاري نشأة بعيدة عن مجال الثقافة اللغوية والأدبية، فقد تربى في المدارس المصرية على عهدها الأول، ثم انتقل إلى مدرسة الحقوق الخديوية كما كانت تسعى في تلك الأيام، فأتم دراسة القانون فيها، وكان من المبرزين بين متخرجيها، فأوفدته الحكومة في بعثة إلى فرنسا عام 1882 لإتمام دراسة القانون بها، فبقى هناك خمس سنوات كاملة، إذ عاد سنة 1887م فعين مساعد نيابة من الدرجة الأولى، ولقد ظلّ يترقى في مناصب القضاء الأهلي حتى انتهى إلى رئاسة محكمة الزقازيق، ثم نقل إلى القضاء المختلط فعين قاضياً لمحكمة الإسكندرية، ثم لمحكمة مصر، وقد انتقل إلى جوار ربه وهو في هذا المنصب. .
وفي سجلات الحكومة مئات تربوا مثل تربية النجاري في المدارس المصرية، وقدر الله لهم التفوق في نيل الشهادات الدراسية، وبلغوا في المناصب الحكومية أرفع مما بلغ درجات ودرجات، وليس في هذا كله ما يحرك قلم الكاتب أو يثير رغّبة المؤرخ لتدوينه، وما كان النجاري جديراً بالذكر لولا أنه اتخذ لنفسه مجالا آخر، شغل به عقله، ووقف عليه جهده، ومنحه إخلاصه ورغبته، وهو مجال الثقافة اللغوية التي أحبها وعشقها، فبذل نحوها جهداً يحمد. وخلّف فيها أثراً يذكر.
وكان أول ما أبدى في ذلك أن لمس المشقة الكبيرة التي يعانيها القائمون بالترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية وما يجهدهم في الحصول على التعبيرات والمترادفات التي تؤدى المعنى في دقة وتعبر عن الغرض في أمانة، فعكف على تأليف معجم فرنسي عربي جمع فيه من مادة اللغتين ما وسعه الجهد، وقد أخرج هذا المعجم في ستة مجلدات كبيرة، فأدى بذلك للغة خدمة جليلة تشهد بصادق غيرته وبالغ ما بذل من جهد واجتهاد.(770/34)
وكان أن اتجه إلى أداء خدمة أجل وأصدق نحو العربية، إذ عنى بإخراج كتاب المخصص تأليف أبى الحسن على بن إسماعيل النحو اللغوي الأندلسي المعروف بابن سيده، والمتوفى سنة 458 للهجرة، وكان هذا الأثر الجليل قد انتهبته أحداث الزمن، وتفرقت أجزاؤه في مكاتب الدول، فعنى النجاري بك بجمع هذه الأجزاء من مكاتب إنجلترا والبرتغال وبلاد ما بين النهرين، وضم ذلك إلى ما عثر عليه من الكتاب في دار الكتب المصرية، وبعد أن قام بترتيبه وتنسيقه تعاون جماعة من أهل الفضل وأنصار اللغة والأدب على طبعه ونشره، فخرج في سبعة عشر جزءاً كبيراً، وفى خاتمة الجزء السابع عشر أشار رئيس تصحيح الكتب العربية بالمطبعة الأميرية إلى الجهد الذي بذله العلامة النجاري في إخراج هذا الكتاب، فقال بعد أن ذكر ما لهذا السفر من قيمة جليلة: (ومن أجل ذلك قام بطبعه لتيسير تناوله وتعميم نفعه جمعية خيرية، من فضلاء المصريين وسراتهم ذوى الهمم العلية، وفى مقدمتهم حضرة العلامة المحقق صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية. وحضرة صاحب السعادة حسن باشا عاصم رئيس ديوان خديوي، وحضرة الوجيه الفاضل صاحب العزة عبد الخالق بك ثروت أحد أعضاء لجنة المراقبة القضائية بالحقانية، وحضرة السرى الأمثل صاحب العزة محمد بك النجاري أحد قضاة المحكمة المختلطة بالإسكندرية، وهو حفظه الله كان ذا السبق والنهضة الأولى في تحقيق هذا المشروع الجليل فإنه بذل همته في استكتاب هذا الكتاب من نسخة عتيقة مغربية بالكتب خانة الأميرية المصرية قد ركض فيها البلى ولعب، وأكل منها الزمان وشرب، حتى أبلى ثوبها القشيب، وأذوى غصنها الرطيب، ولم تسعد الأيام بثانية تعززها بعد البحث والتنقيب، وبعد كتابة نسخة منها وكل تصحيحها ومقابلتها على أصلها إلى حضرة الأستاذ العلامة مرجع طلاب اللغة والأدب الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، وكان معه في المقابلة حضرة صديقنا الفاضل الشيخ عبد الغني محمود أحد علماء الأزهر الشريف. .)
وإنه كما ترى لعمل جليل، وإن مما يزيد في تقديره أن يتم من رجل يربطه منصبه بثقافة القانون والفقه لتطبيق مواده وأحكامه. على أن النجاري لم يقف عند هذا الحد، فقد رجع إلى (لسان العرب) وهو أوسع معجم في اللغة العربية فرآه مرتباً على طريقة غير سهلة ولا وافية بالحاجة في استخراج الكلمات والكشف عن معانيها، فعزم على ترتيب هذا(770/35)
المعجم الضخم على حروف الهجاء، متبعاً في ذلك منهج المعاجم الحديثة في اللغات الأجنبية، وضم إليه في هذا الترتيب معجم الفيروز ابادي المعروف بالقاموس المحيط حتى يكون أوفى وأتم، وفي أثناء عمله هذا عني بجمع الكلمات العربية التي تقارب الكلمات الفرنسية في اللفظ وتتفق معها في المعنى، وأراد أن يخرجها في كتاب على حدة، وقد جمع من هذا الكلمات حوالي ثلاثة آلاف كلمة عربية فرنسية.
وشمر النجاري لإخراج هذا المعجم الذي قصد إليه ترتيباً وتنسيقاً، فأخذ يواصل الجهد لذلك حتى شارف الغاية، فأعدَّ منه تسعة عشر مجلداً، وبقي مجلد واحد أعجزه المرض عن إتمامه، فسافر إلى أوروبا للاستشفاء، ولعله يصيب من الراحة ما يعينه على إتمام هذا العمل، وقد عاد من أوروبا فعلاً يستروح روح العافية، فعكف على إنجاز الجزء الأخير في ذلك المعجم، ولكن الداء انتكس به، وعاودته العلة أقسى مما كانت، فلم يذعن للمرض هذه المرة، وظل يوالي العمل في منصبه من جهة وفي المعجم من جهة اخرى، وكأنه كان يتعجل الفراغ من هذه المهمة قبل فراغ العمر، فبينما كان يقلب صفحات أحد المعاجم وهو جالس على مكتبه في إحدى الأمسيات إذ سقط جثة هامدة وفاضت روحه إلى بارئها، ولم يبق من إتمام المعجم إلا ورقات معدودة في آخر الجزء العشرين، وكانت وفاته رحمة الله سنة 1332 هجرية - 1914 ميلادية.
وتصرمت السنون على وفاة النجاري، وطوى عمله في مطاوي النسيان. وفي الأيام الأخيرة تقدم ورثته إلى وزارة المعارف لعلها تعني بنشر هذا المعجم الذي رتبه ونسقه وبذل في سبيله أعز ما يملك وهو صحته وحياته، فأحالته الوزارة إلى المجمع اللغوي ليرى فيه رأيه، ثم كان أن أعاده المجمع إلى الوزارة، ولا يزال المعجم بين يدي الوزارة لم يستقر لها رأي إلى الآن في شأنه.
محمد فهمي عبد اللطيف(770/36)
من رباعيات عثمان
للأستاذ عتمان حلمي
حانتي
هذه حانَتي وهذا مكاني ... لستُ أنساها وإنْ نسَياني
كم ليال أطلقتُ فيها للهْوى ... ومراحي مع الشباب عناني
ملكتني روحٌ تعربدُ في رو ... حي فما يستقُّر منها كياني
كلما جَلجلتْ بنفسي لم أم ... لك رقيبي على يدي ولساني
كنتُ إنْ أقبل المساءُ كأني ... بي روحٌ قد مسها روحُ جنَّ
ظامئاً لا أُكادُ أُروى بغير ال ... كأس في ركن هادئ مطمئن
كلما قلت هاتها أقبل السا ... قي بكأس تثير روح التمني
فتعاطيتها وليس بنفسي ... غاية قبل شربها أن أُثَنى
طفرت نشوتي بأول كاس ... طفرات من وحشتي لا ئتناسى
فإذا بي ألقيتُ عن سر نفسي ... حجباً من تزمتي واحترامي
وإذا بي نسيتُ ما آد قلبي ... من أسى جاثم ومن وسواس
ولقد تصلحُ النفوس إذا ما ... عولجت من همومها بالتناسي
ثم ناديت أيُّهذا الساقي ... ثنِّ من بعدها بكأس دهاق
هاتها لي فلا رفيق سواها ... فهي نعم الرفيق بين الرفاق
فمضى ثم جاَءني وبنفسي ... من سُعار كلهفة المشتاق
وبكأس أُكادُ أقرأ فيها ... آيةً من بدائع الأذواق
فطغت نشوتي وطار وقاري ... وانجلت بهجتي وغاض ازوراري
فلقد خفَّ كلُّ ما كان بيني ... من قُيود وبين نشوانَ جاري
طوت الحُمر كل ما حال بالأن ... فس عن حمقها من الأستار
فتعرت عن الحفاظ فما تف ... رق بين الإعلان والإسرار
ثم جاءً الساقي بكأس سواها ... بلغتْ نشوتي بها مُنتهاها
زلزلتْ كل ما استقام بنفسي ... من نهاها كما استثارت هواها(770/37)
وبدت لي الأشياء في عين صفوى ... راقصات في أي صفو تناهى
كلما شمشع الصفا بنفسي ... زادها النور بهجة وجلاها
ما يكاد الساقي يروحُ بكاس ... منه حتى يعود منه بكاس
دار مثل الطاحون رأسي واعو ... جَّ لساني وأسرعت أنفاسي
وتراخت مفاصل كلما حا ... ولتُ نهضاً لم ألق لي أيّ باس
ثم ناديت هات أخرى وقد ود ... عتُ من بعدها رجائي ويأسي
ثم جاء الساقي بغير نداء ... كاظما سوء نفسه الشوهاءِ
حاملاً كأسه التي لست أدري ... عدها لو أردت دون عناءِ
ولعمري وقد نسيت وجودي ... كيف بي ذكر أتفه الأشياء
هات أخرى لعنت يا أيها الخن ... زير واطلب ما شئته من عطاء
عتمان حلمي(770/38)
أين الخلان؟
للأستاذ علي متولي صلاح
ساءت الدنيا فلا خل وف ... ي أصطفيهْ
أقفرت إلا من الخا ... ئن والوغد السفيه
وخلت أربعها من ... كل ندب أرتضيه
كل من فيها عدو ... وظلوم لأخيه
يا زماناً أجفل الوا ... لد فيه من بنيهْ
كل ما فيك بغيض ... كل ما فيك كريه
كل من نلقاه في النا ... س عدو نتقيه
ساء يومي ساء أمسى ... كله دهري شبيه
ليت شعري يا زماني ... أي يوم أرتجيه؟
يا فؤادي دع من الد ... نيا عذاباً أنت فيهْ
خل عنك النبل للفا ... جر منهم يدعيه
وابغ لؤماً وابغ مكراً ... وابغ سيفاً تنتضيه
إنما العاقل من يعر ... ف حرصاً يشتره
فهو للدنيا أمير ... وعلى الناس يتيه. . .؟
(مصر القديمة)
على متولي صلاح(770/39)
الأدب والفنّ في أسبوع
مواجهة الأزمات الفكرية:
ألقى الأستاذ محمد شفيق غربال بك وكيل وزارة المعارف، محاضرة موضوعها (مواجهة الأزمات الفكرية) في مساء الخميس الماضي بقاعة الدكتور عبد الحميد سعيد التذكارية بجمعية الشبان المسلمين.
قال الأستاذ المحاضر: إن الأزمات الفكرية ليست شراً، إنما الشر من عدم مواجهتها وإصلاحها؛ وهي تدل على اليقظة والحياة، لأن المجتمع الذي يتناسق في تفكيره مجتمع راكد. وقال إنني أريد أن أخرج الدعوات الحزبية السياسية من الأسباب المؤدية إلى الأزمات الفكرية، لأن هذه الدعوات، وإن أحدثت صخباً وجلية، ليست عميقة التأثير في التيارات الفكرية، وكذلك سعى طوائف من الناس لتحقيق مصالح عاجلة، فإن هذا النوع من القلق الفكري لا يعدو شعور طائفة بأنها مظلومة نتيجة لبطئ الأداة الحكومية وعدم سيرها على قواعد منتظمة، فتسلك هذا الطائفة مسلكا غير نظامي لنيل حقوقها، وهذه الظاهرة هي كذلك عمل وقتي قليل التأثير في الأزمات الفكرية. إنما تأتي هذه الأزمات من دعوة دينية أو اجتماعية، فدعوة الدين الجديد تؤدي إلى أزمات نفسية وصراع فكري بين الدعوة الجديدة وبين ما كان عليه الآباء من القديم. أما الدعوة الاجتماعية فكانت قديماً تقترن بالدين وبتتبع حوادث التاريخ يظهر أن كل دعوة إصلاحية لبست ثوب الدين. ومما يدل على الارتباط بين الدين والأفكار الاجتماعية ما يلاحظ في تاريخنا الإسلامي من اقتران الدعوة الشيعية في بعض البلاد بالفكرة الاجتماعية كثورة الزنج في العصر العباسي.
وفي العصر الحاضر لا يمكن القول بتمام الاتصال بين الدعوات الاجتماعية والدينية، فنحن نرى دعوات اجتماعية مادية لا تعبأ بالدين، وخطر هذه الدعوات أنها تجعل للمادة كل الأهمية دون اعتبار للروحية أو الدينية.
ثم قال: من الخطأ مواجهة هذه الدعوات الاجتماعية المادية الخطرة بالقمع والكبت، لأن القمع يؤدي إلى استفحالها والتمسك بها لاعتقاد أن للحاكمين مثلا مصلحة في محاربتها لظلم المحكومين، وكذلك من المواجهة المخطئة محاولة الاقتصار على التفنيد وبيان العيوب والأضرار، لأن الحجة تقارع الحجة، ولا يكون لذلك نتيجة حاسمة. أما المواجهة الحقة(770/40)
النافعة فهي وضع مراس للسفينة هذه المراسي تلجأ إليها وتستقر فيها. ولوضع هذه المراسي يجب أن يكون مفهوماً أننا أمة لا تعيش في مهب الريح تتقبل كل ما يرد إليها، بل نحن أمة ذات تراث تنشئ منه العدة التي تواجه بها الظروف والطوارئ، فكل ناحية لا بد أن تصطبغ بذلك الميراث، فالتعليم ينبغي أن ينشأ فيه الناشئ متأثراً باللون التراثين ومما يؤسف له أن مادة التعليم في مصر إلى الآن عديمة اللون. والجماعة التي ينتمي إليها الأفراد سواء أكانت ثقافية أم اقتصادية أم غير ذلك. ينبغي أن يكون منهجها مشتقاً من ذلك الميراث، فلا تقتصر على الناحية الخاصة من نشاطها، بل يجب أن تتجه إلى تكوين المواطن بتثبيته في مرساه لا تزعزعه العواصف.
وقد كانت هذه المحاضرة مكتنزة دسمة، كما وصفها الدكتور منصور فهمي باشا في تعقيبه عليها، وقد ألقاها الأستاذ شفيق بك في ارتجال وإيجاز وضحت معهما مراميها البالغة.
التسجيل الثقافي في مصر وفي سوريا:
أعدت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف في الفترة الأخيرة برنامجاً لأعمال ثقافية جديدة كما أعدت الوسائل الفنية لتنفيذها، ومن هذه الأعمال إصدار سجل ثقافي سنوي يحوي مظاهر النشاط الثقافي خارج النطاق المدرسي في عام، وأنشأت له إدارة التسجيل الثقافي التي تعمل الآن في إعداد سجل سنة 1948، ومن تلك الأعمال أيضاً إحياء الذخائر الأدبية، وطبع كتب تمت ترجمتها ومراجعتها.
وأدرجت الإدارة في ميزانيتها اعتمادات لتنفيذ ذلك البرنامج ولكن مشروع الميزانية الجديد تناول بالحذف أو التخفيض جانباً كبيراً من هذه الاعتمادات، فحذف مما حذف ثلاثة آلاف جنيه كانت مخصصة لطبع السجل الثقافي، وهذا الحذف وإن كان لا يعوق إصدار السجل إذ يمكن طبعه من اعتمادات أخرى، إلا أنه مما يؤسف له أن تتجه الدولة إلى التقتير على الأعمال الثقافية الإنشائية النافعة في الوقت تسخر فيه على أمور نعتقد أنها ليست إلا وسائل لهذه الأعمال كإيفاد الأعضاء إلى المؤتمرات في البلاد الأوربية وغيرها، وهذا بصرف النظر عما تبذله الدولة من الأموال في استقدام فنانين أجانب لن تجني البلاد منهم إن جنت إلا فوائد كمالية.
هذا ف0ي الوقت الذي تلقت فيه الجامعة العربية من سوريا أن وزارة المعارف بها قررت(770/41)
تأليف لجنة برياسة وزير المعارف، تكون مهمتها تتبع وتسجيل الحركات العلمية والأدبية والثقافية في البلاد العربية بجميع مظاهرها والعمل على تشجيع هذه الحركات وتوجيهها نحو الرقي والكمال عن طريق الاتصال بالهيئات والمحافل العلمية والفنية والأدبية من ناحية، والعمل على عقد مؤتمرات دورية وتأسيس جمعيات اختصاصية في مختلف فروع العلم والثقافة من ناحية أخرى. ومن مهمة هذه اللجنة أيضاً إعداد ما يلزم للاتصال باللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية وذلك بدرس المسائل التي تكون موضوع أبحاث اللجنة المذكورة وتهيئة أسس الاقتراحات التي يجب أن تقدم إليها حول تلك المسائل، والاتصال أيضاً بهيئة التربية والعلوم والثقافة لمنظمة الأمم المتحدة، وذلك بدرس المسائل التي تدخل في مناهج أعمال الهيئة المذكورة وتهيئة المقترحات التي يجب أن تقدم إليها مع مراعاة التوجيهات والتوصيات التي تصدر بشأنها من اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية.
أعلام الأدب العربي في الإذاعة:
أعلنت الإذاعة أنها ستقدم سلسلة جديدة من الأحاديث الدورية، يقدم فيها قادة الأدب والفكر في مصر عرضاً مسلسلا لأكبر شخصيات الأدب العربي، وأبطال الفكر الذين كان لهم أثرهم في نهضة العقل العربي وتقدم آثاره في ميدان الفكر العالمي في مختلف فنونه من شعر ونثر. وقد افتتح هذه السلسلة الدكتور أحمد أمين بك يوم الجمعة الماضي بحديث بين فيه خصائص الأدب وآثاره في الحياة. وفي يوم الجمعة الآتي يتحدث الدكتور محمد صبري عن الشاعر الأول (امرئ القيس) بدءا من العصر الجاهلي وستتابع حلقات السلسلة مع العصور المتعاقبة.
ويلاحظ أن حلقات تلك السلسلة تتكون من شخصيات الأدب العربي المشهورة المدروسة في كتب تاريخ آداب اللغة العربية للمدارس الثانوية، كامرئ القيس والأعشى وطرفة ولبيد وحسان والفرزدق والأخطل وبشار وأبي نؤاس والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري. الخ.
وقد اختير لتقديم هذه السلسلة أدباء الدولة الذين تغلب عليهم الصفة الرسمية، حتى أنه روعي في اختيارهم تمثيل المعاهد والوزارات المصالح. . كما أن الشخصيات التي سيتناولها البرنامج قد أخذ تاريخها طابعاً رسمياً لاستقرارها وثباتها بالمناهج المدرسية(770/42)
الرسمية فبينها وبين من اختيروا لتقديمها جناس تام. . .
ولا شك أن إذاعتنا قد شعرت بتقصيرها نحو الأدب، بالنسبة إلى الإذاعاتالعربية الأخرى التي تفتن في تقديم برامج أدبية متنوعة مشوقة، فأرادت - ولها أجر المجتهد - أن تأخذ بشيء في هذا السبيل، فعمدت إلى تقديم سلسلة أعلام الأدب العربي المذكورة. وكنا نود أن توفق إلى تقديم شئ غير مملول لتكراره، شئ فيه جدة، يستحق أن يبذل فيه أعلامنا المتحدثون مجهوداتهم وتظهر فيه ابتكاراتهم.
وعيب الإذاعة العام، هو فقرها في ذوي الاختصاص الفني، فالموظف الواحد يشرف على نواح فنية متعددة ليس من أهلها أو المبرزين فيها، وإلى هذا السبب يرجع كثير من الاضطراب في تقديم الفنون بها.
الاتحاد الثقافي
نشأت فكرة الاتحاد الثقافي في أوائل العام الماضي، على أثر الخلاف الذي قام بين أعضاء الاتحاد المصري الإنجليزي، بين المصريين منهم وبين الإنجليز، ذلك الخلاف الذي أدى إلى حل هذا الاتحاد، ورأى الأعضاء المصريين تكوين اتحاد ثقافي يحل محل الاتحاد المنحل.
وقد اجتاز الاتحاد الثقافي عقبات منها (المكان) إذ وفق أخيراً إلى اختيار الباخرة (مصر) مقراً له. وفي يوم السبت الماضي احتفل بافتتاحه، وقد خطب عبد الله بك أباظة في هذا الافتتاح فوضع فكرة الاتحاد بقوله إن هذه الفكرة اختمرت لدى نخبة من الأعضاء الذين تضامنوا في حل الاتحاد المصري الإنجليزي حينما خاب أملهم في قيامه بتحقيق الأغراض التي ساهموا فيه من أجلها وهي إقناع شركائهم فيه حينذاك بوجهات النظر المصرية الصحيحة وإيجاد جو من التفهم القائم على احترام الحقوق الوطنية خارج نطاق المحيط الحكومي والرسمي، فلم يتم لهم ذلك وتقرر حله على الوجه الذي أرادوه. وقد وصف رسالة الاتحاد بأنها ستكون ثقافية مصرية وطنية بعد أن ظلت نحو عشر سنوات مختلطة بالطابع الأجنبي.
وأهم أغراض الاتحاد ما يأتي:
1 - توفير الوسائل الاجتماعية لتحقيق التعارف والصداقة بين الأعضاء.(770/43)
2 - تهيئة أسباب الجمع بين مختلف الثقافات في مصر.
3 - إعداد مركز للوقوف على وجهات النظر في التفكير.
4 - تمهيد السبل للوقوف على وجهات النظر في التفكير العالي وذلك بغية المعاونة على معالجة الشؤون العامة برأي ناضج.
ومما يستلفت النظر في تكوين هذا الاتحاد الثقافي أن أعضاءه من ذوي المناصب الكبيرة وكبار رجال السياسة والاقتصاد، وليس لأكثرهم نشاط فكري أدبي أو ثقافي. وحبذا لو نفوا عن أنفسهم صفة الأرستقراطية ويسروا سبيل الانضمام إليهم للمشتغلين بالإنتاج الأدبي والثقافي، وخاصة عنصر الشباب المثقف، وبهذا يخدمون فكرة الاتحاد، ويكون ذلك أدعى إلى تحقيق أغراضه.
الاتجاهات السياسية والاجتماعية في العالم العربي:
هذا هو عنوان المحاضرة التي ألقاها محمد صلاح الدين بك في قاعة يورت التذكارية بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة الماضين وقد بدأ ببيان الصلات التي تجمع البلاد العربي، ومنها وحدة الآلام والآمال، أما الآلام فهي معاناة الاستعمار الأجنبي الذي يسير على طريق (فرق تسد) و (قسم تسد) و (خرب تسد) والتخريب بالتمكين للفقر والجهل والمرض: أما الآمال المشتركة فهي التخلص من هذا الاستعمار فتملك الأمة أمرها وتعالج أحوالها. ثم انتقل إلى تفصيل الاتجاهات السياسية في الحقبة الأخيرة، فقال: كان العالم العربي عندما نشبت الحرب العالمية الأولى مختلف الاتجاه، فكان القسم الشرقي منه (العراق والشام والحجاز) ضد تركيا وألمانيا والقسم الغربي (مصر وشمال إفريقيا) كان الشعور فيه مع تركيا وألمانيا ضد الإنجليز والحلفاء. ولكن بعد الحرب اتحدت الوجهة إزاء إخلاف الوعود في أثناء الحرب، ضد دول الاستعمار، وقامت الحركات الوطنية في الأمم العربية ووصلت إلى طور العمل، وكان له مظهران: الثورة والمفاوضة، وعقدت المعاهدة العراقية سنة 1930 والمعاهدة المصرية سنة 1936 ومن حسن حظ سوريا ولبنان أنهما لم ترتبطا بمعاهدة مع فرنسا قبل الحرب. ولما نشبت الحرب العالمية الثانية خدعت الأمم العربية مرة ثانية بميثاق الإطلانطيق وغيره من الوعود، فما انتهت الحرب حتى تكشفت النيات الاستعمارية السوداء، وفي هذه المرة تغير الاتجاه الوطني في العالم العربي، فقد أصر(770/44)
الرأي العام على رفض المفاوضات، وسبقت الشعوب الحكومات في ذلك. وهنا تساءل المحاضر: ماذا نصنع الآن: المفاوضة غير مجدية، والهيئات العالمية تحكم للأقوياء، ولا قوة حربية لدينا، قال: ليس هنا إلا أن نجمع الكلمة ونصلح أمورنا بالقضاء على الفقر والجهل والمرض، ولا بد أن يسبق هذا ما يقال من تقوية الجيش، فلن يكون هناك جيش قوي لأمة ضعيفة ينهكها الفقر والمرض والجهل.
وقال إن الإنجليز يخيفوننا الآن بقرب وقوع حرب ثالثة لنتعاهد معهم، ونحن يجب علينا أن نبقى على الحياد حتى لو وقعت الحرب، ومن العجيب أن يخيفنا الإنجليز باستعمار روسيا ونحن لم نتخلص بعد من استعمارهم؛ وبين المحاضر ضرورة إعلان الحكومة بطلان معاهدة سنة 1936 خشية أن يتمسك بها الإنجليز عند وقوع الحرب الثالثة.
فكاهة.
كانت ليلة مرح ممتعة، تلك التي (أحياها) الأستاذ محمد مصطفى حمام في نادي نقابة الممثلين، وذلك بمحاضرته التي عرض فيها ألواناً من الفكاهات في القديم وفي الحديث، ومما اطرف به أن معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا كان مرة يتحدث مع وزير سابق، وكان الحديث أولا في الأدب ثم انتقل إلى السياسة، فقال الوزير السابق: دع لنا السياسة يا دسوقي وتكلم أنت في الأدب. فقال دسوقي باشا:
- أنا معترف بأن سعادتك في السياسة أب لي.
- وفي الأدب؟
- أمي!
العباسي(770/45)
الكتُب
حديث الصومعة
رسائل من إبراهيم الدباغ لمصطفة الدباغ
ألا رحم الله إبراهيم الدباغ الشاعر الناثر الفكه الخفيف الروح، فقد كان محدثاً طليّ الحديث يحب المرح والمفاكهة، ويرى في الحياة المرسلة على السجية فلسفة ومنهجا. فلم يكن يخضع حديثه - أو شعره - للقيود التي تفرضها حياة المجتمع، ولم يكن يقول: هذا جائز خلقياً وهذا غير جائز، بل كان يمضي في الحديث مسترسلا إلى حيث يقوده، وينظم الشعر كيفما واتته القريحة. ولعل هذا سبب من الأسباب التي تحول دون نشر جانب كبير مما قرضه من الشهر، ودون تسجيل كثير من المساجلات الفكهة التي اشترك فيها الدباغ في صومعته مع زائريه وخلانه.
وكان الدباغ منذ عام تسعة وعشرين وتسعمائة وألف يبعث إلى ابن أخيه الأستاذ مصطفى الدباغ في فلسطين رسائل يطويها على آراء له، ونصائح يبديها، ودروس في اأدب والشعر يسوقها متحللا من المجاملات الشخصية، متذرعاً بالصراحة السافرة التي قد تغضب المعنيين.
وقد تجمع للأستاذ مصطفى الدباغ من رسائل عمه إبراهيم الدباغ طائفة كبيرة، فآثر أن ينشرها ويذيعها كما هي ليطلع القارئين على ما كان يعن لهذا الشاعر الفلسطيني من رأي، وعلى ما كان يعتنقه من منهج يجعله ديدنه في الحياة.
وفي هذه الرسائل تعرض لكثيرين من الأدباء في مصر وفي غير مصر، وأصدر في كل منهم حكما يتسم بالصراحة والإبانة وقال في كل منهم قولا فامتدح من رآه أهلا للمديح وذم الذين عدهم مستأهلين للمذمة.
ولنذكر على سبيل التسجيل طائفة من آرائه في المعاصرين والمحدثين من أهل الأدب.
قال في الدكتور شبلي شميل: كان شبلي يغضب للإلحاد، لا لرب العباد، ويسب الدين والديان، إذا عارضه في نظرية القرود إنسان.
وقال في الدكتور زكي أبي شادي: الدكتور أبو شادي سريع الخاطر في إنشاد القصائد، شغوف (كذا) بإذاعتها على علاتها.(770/46)
وقال في الدكتور زكي مبارك: إن نشاطه ومثابرته في الحياة الأدبية والاجتماعية ليست في حاجة إلى التدليل، وآثاره تملأ الأفق وتحجب ضوء الشمس، والنثر الفني جهاد سبع سنين مع غيره من المشاغل، وقد ظهر له خلال هذه السبعة الأعوام طائفة من الكتب ولم نسمع عنه أو منه تبرماً بالوقت والناس. وهو يدون كل ما يقع تحت حسه ونظره فلا تفلت منه شاردة ولا واردة إلا وألقى لها رخاً من عقله وبازياً من براعته، وهذا ما يجب على كل أديبيحس بالحياة ويشعر بلذة العمل.
وفي الشيخ نجيب شاهين: على حديثه مسحة القرآن وأثر الاقتباس ولغته مبتذلة مع ما فيها من رنة الطربَ.
وقال في طه حسين: أعتقد أن مؤلفته كلها عقيمة، وليست ذات قيمة
وفي سلامة موسى: إنه وطه حسين أشد بخلا وإمساكا مما يتصور المتصورون، وعلى العكس مبارك وخليلمطران فلاهما مكساب مهلاك.
وفي الشعراء: بعد شوقي لا يليق أن يكون كبير شعرائنا أحد غير واحد من هؤلاء الثلاثة. مطران. محرم. الكاشف.
فالقارئ يرى أن الدباغ لا يفتقر إلى الجرأة ولا يخشى أن يصدر الرأي في قوة وثقة. وقد نختلف معه في كثير مما أرتاه ونعارضه في بعض المذاهب الاجتماعية التي دعا إليها، ولكن هذا لا يحول دون أن نذكر له أنه صاحب رأي يعرف كيف يلقيه مغمض العينين غير مبال بما يكون له من دوي.
ولقد كف بصر إبراهيم الدباغ قبيل وفاته بسنوات وسنوات فكانت هذه الملمة مدعاة لانطوائه على النفس ونفوره من الناس وإيثاره الانزواء وقعود الدار عن مخالطة أهل ندوته. وما فتئت الأمراض تقبل عليه وتنهش بدنه حتى كانت منيته ذات يوم، ونعاه الدكتور زكى مبارك وشيع بنفسه جنازته.
وهذه المحن - فيما يبدو من رسائل الدباغ - جعلته برماً بالحياة ضيقاً بكل ما فيها، أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل وإن كانت هذه الظاهرة لم تستطيع أن تأتى على محبته للفكاهة وتعلقه بها.
وحديث الدباغ في رسائله التي جمعت في كتاب (حديث الصومعة) حديث متشعب(770/47)
مستفيض يبدأ من مكان وينتهي إلى آخر ويمر في الطريق على ألوان شتى من الأفكار. ولكن هذا الحديث مشوق مبعد للملل يهيئ لك أنك تصغي بنفسك إلى إبراهيم الدباغ وتجلس معه مرهفاً السمع مصيخاً الأذن. ولك إن شئت أن تقاطعه وأن ترد عليه، لأن الجريء في إذاعة الرأي، واسع الصدر لقبول كل رأى.
وديع فلسطين
السيد البدوي
تأليف الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
من هو (المريد) في اصطلاح المتصوفين؟ هو - إن لم أكن نسيت ذلك الذي يفنى في شيخه ويجعل حياته كلها طاعة وتجردا وعبادة. يأمر الشيخ فيطيع (المريد) وشيخ المريد هو قلبه الخافق، وهو عينه الباصرة، وهو وعيه، وهو إرادته. الدنيا بما حوت هي الشيخ في عين المريد، والطريق إلى الجنة في الآخرة هو الشيخ. . . هذا هو (المريد) وهذا هو شيخه.
فمن هو شيخ (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف؟ العلم والأدب والتاريخ، هذه الأقانيم الثلاثة شيخ واحد!! له المجد، وله العلى، وفي سبيل طاعة هذا الشيخ يفنى (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف، وإذا قلت: يفنى، فإنني أعنى مدلول هذه الكلمة في غير كناية أو مجاز. . . لأن صاحبنا يفنى حقاً في سبيل شيخه المثلث الرحمات!!
لقيته - أول ما لقيته - في ندوة دار الكاتب المصرية، منذ خمسة عشر عاماً. وكان طالباً يحصل العلم نهاراً، ويعمل في الصحافة ليلاً، لقيته في أولى مدارج شبابه، ناحل الجسم، فلوى العود، مضعضع البنيان، تراه فكأنك ترى شيخاً أوقرت ظهره السنون، ويتحدث الرفاق في ندوة الدار شتى الأحاديث، ويتشعب القول في شئون الحياة وفى أحداث السياسة، وصاحبنا صامت لا يتكلم، ويدور الحديث على كل لسان، وحديث صاحبنا الذهول والاطراق!
فإذا عرج المتحدثون على العلم أو الأدب أو التاريخ، أفاق الذاهل المطرق، الوجه الأسمر العابس، وتهللت أساريره ومضى صاحبنا يفيض بما يشاء الله أن يفيض، فما شئت من علم(770/48)
وأدب وتحقيق، وما شئت من نقد وتمحيص، وكأن هذا الجسم الناحل الذاوي قد أصبح كله (شحنة) من الكهرباء تشع بالحيوية والنور والعرفان. . . وتبارك الله أقدر الخالقين.
منذ ذلك الحين تمكنت بيني وبينه أسباب المعرفة، فلم تزدني الأيام إلا إيماناً بغزارة علمه ورفيع أدبه وكريم خلقه. ومنذ ذلك الحين سلكته في عداد (المريدين) في دولة العلم والأدب والتاريخ، ومضى هو قارئاً ومحققاً ومؤلفاً، يضنيه البحث، وتنهكه القراءة، وتلح عليه، فيتداوى بالتي كانت هي الداء. الكتب أكداس على سريره، وعلى المناضد، وفوق الأرفف، وتحت المقاعد، وعلى مائدة الطعام.
ويشفق عليه خاله الكريم، فمضى به إلى الطبيب، يتجسسه ويتعرف داءه، وفى كل مرة لا يسمع المريض ولا الخال سوى كلمات مكررة معادة: الكبت الجنسي والإجهاد وشدة الحاجة إلى الانطلاق من الكتب، والراحة والرياضة. . . وهذه الأمور كلها في نظر (المريد) بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فالأقانيم الثلاثة شيخ واحد. . . له المجد، وله العلي، وفي سبيله يمرض ويصح، وله الأمر في شأن هذا (المريد) من قبل ومن بعد.
. . حتى إنتاجه الأدبي في الصحافة فهو قراءة كتب ثم تلخيص ونقد وتحقيق وتمحيص. وحتى كتبه التي يؤلفها، فهي رحلات وأسفار شاقة مضنية في صحارى الكتب وشعاب المراجع، يقرأ مائة كتاب ليحقق منها موضوعاً عن (أبي زيد الهلالي) يقع في سلسلة كتب (اقرأ) ويعكف على دراسة (الجاحظ) فيعد في تاريخه (كتاب الجاحظ الضحكوك) ثم يدعه قبل تقديمه للطبع، ليعكف على تاريخ (السيد البدوي) أو (دولة الدراويش) فيخرج للناس في هذا الموضوع كتاباً جليل الشأن قيم الأثر، هو الآن بين أيدي القراء ينعمون فيه بما أنعم، ويجنون من شهى ثماره ما أجني.
إنه في هذا الكتاب، وفى غيره من الكتب التي أعدها، والتي يعدها، هو هو (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف، يغوص إلى القاع، فيظفر بأنفس النفائس، ويحلق في الأجواء، فلا يهبط إلا بما يشع على موضوعاته نور العلم والمعرفة.
إنه يعيش في الكتاب وللكتاب، ولاشيء غير الكتاب، حتى لأرجح أنه لم يسمع إلى اليوم (الأوبرج) ولا يدري أين موقع (الكيت كات) ولا أستبعد أن يكون (الأوبرج) في نظره وفي مبلغ علمه نوعاً من أنواع الأطعمة الإفرنجية يقدم على موائد الموسرين، وأن يكون (الكيت(770/49)
كات) كلمة محرفة عن شواء الكتكوت.!! فإذا قلت له: إن الأول ملهى من ملاهي العاصمة التي تزخر بالمتعة والهوى والشباب، وأن الثاني هو الآخر مطرح من مطارح اللهو على ضفاف النيل، لاذ بالصمت والذهول والإطراق، كأن هذا الأمر لا يعنيه، وكأن حديث دنيا غير دنياه.
وإني لأشفق على هذا الصديق مما هو فيه، ولا أدري متى يعرف لنفسه حقها من المتعة والراحة والنعيم؛ إنه ماض في طريقته الوعرة الشاقة، سادر في (تجرده) من حياة الشباب. إنه يحترق في ميعة الصبا، لا يرحم نفسه، ولا يشفق عليها. وأغلب الظن أنه يجد الراحة في هذا الشقاء، ويستروح نسمة النعيم من هذا العناء.
وأقسم لو كان أمر هذا الصديق في يدي؛ لأقمت عليه (مروضا) كالذي يقيمه الموسرين على جيادهم الأصيلة، ليقدم له الطعام في موعد، ويشرف على تضميره ورياضته بالقدر المناسب لجسمه وصحته؛ ليدخر بذلك من قوته ما يضمن له الفوز دائماً في حلبة السباق.
فإذا لم أستطع هذا طالبت بسن قانون (للحجر) عليه وعلى أمثاله المبذرين الذين ينفقون من قواهم فيعرضونها للاضمحلال والفناء. . أيكون المبذر في ماله عرضة للحجر عليه، ولا يكون المبذر في قواه وصحته وكيانه عرضة للحجر عليه؟ ويكون خاله الكريم من أبرز رجال القانون، ولا يفكر في مثل ما أفكر فيه ذلكم هو (المريد) محمد فهمي عبد اللطيف مؤلف كتاب (السيد البدوي) أو (دولة الدراويش) جليته للقراءة ممن لا يعرفونه معرفتي به. أما الكتاب فهو بين أيديهم، كما أسلفت ينعمون منه بما أنعم، ويجنون من شهي ثماره ما أجني.
عبد الله حبيب
حفنة ريح. . .
تأليف الأستاذ سعيد تقي الدين
للأدب المهجري ذاتية خاصة، وصفات مميَّزة ترفعه إلى منزلة عالية في عالم الآداب العربية.
من هذه الصفات أن الأدب المهجري هو أدب الحياة النابضة الفياضة. . . والأديب(770/50)
المهجري فنان يقبل على الحياة ليعبَّ من من عِبرها، وليتزود بتجاربها، وليندمج مع حوادثها فيكوِّن آراءه نتيجة لاختبار طويل، وتجربة واقعية تامة وإدراك للأمور الحياتية. . فإذا أراد أن ينشئ أدباً عمد إلى ما ادخرته حاسته الواعية، وما التقطته مخيلته المصورة. . واستمد الوحي والإلهام من هذه الحياة التي لا ينضب معينها، ومن هذا الكون الذي لا تُبلى جدته. . وهما يمدانه بكل طريف وجديد ورائع. . ومن هنا كان الشعر المهجري صورة نابضة تحمل إليك (قِطاعاً) من الحياة، مصورة لك خوالج النفس الإنسانية ومشاعرها بإطار شعري شفاف.
ومن هذه الصفات أيضاً: هذه الروح الطليقة الشاعرية الظامئة التي تتغلغل في الأدب المهجري، وتطبعه بطابع خاص، وتضفي عليه ظلالاً فيها حرارة الروح إلى السمو، ونبضات القلب وتلهفه إلى الحب، وتسابيح الضمير ينشد عالم الحرية والانطلاق. وإنك لتحسُّ تلهفاً حاراً، وظمأ شديد يتطلعان إليك من بين السطور عند قراءتك لهذا الأدب الرائع.
ولست أنا بصدد التحدث عن الأدب المهجري فأسهب في تبيان صفاته ولكنى أودُّ أن أتحدث عن كتاب اسمه (حفنة ريح) لأديب مهجري اسمه سعيد تقي الدين. هو في نظري وفى نظر المطلعين على أدبه من أكبر كتاب المسرحية في الأدب العربي. . لا يدانيه في منزلته إلا توفيق الحكيم رائد المسرحية في الأدب العربي، على ما بينهما من اختلاف في الأسلوب، وتباين في النظرات الفنية.
فسعيد تقي الدين فنان واقعي يستمد فنه من الحياة، ومن الكون المحيط به. . فهما كفيلان بتزويده بالتجارب الكثيرة، ومده بالملاحظات القيمة. . وأشخاص مسرحيته واقعيون لا يكادون يجنحون إلى الشذوذ. فهو شديد الإخلاص للحياة، عظيم الحرص على صورها. . أما توفيق الحكيم فلا يعتمد على الحياة فيما ينشئ منذ تأليفه كتاب (يوميات نائب في الأرياف) أو من قبل ذلك. فأشخاص مسرحياته خياليون تخلقهم مخيلته؛ لأنه يرجو من ذلك خلق الجو الفكري الذي يلذه، والذي يكاد يخنق كل صوت ما عداه. . فلهذا يمتزج مع الأشخاص، ويشرف على حركاتهم، ويعين تصرفاتهم. . فهذا (فلان) يمثل الغريزة الحيوانية، و (فلان) يمثل النفس الظامئة إلى إدراك الغيبيات، و (فلان) يمثل هذا الطور أو(770/51)
ذاك من أطوار الرقي الإنساني وهلم جرا. . . أما سعيد تقي الدين فلا يطرق الجو الفكري، ولا ينظم الأشخاص لتعبر عن فكر بعينها_كما يفعل الحكيم - ولكنه يصور لك صورة من الحياة بمساوئها ومحاسنها، بشرها وخيرها، بأحزانها وأفراحها. . ويهتم بالناحية النفسية أكثر من اهتمامه بأية ناحية أخرى، ويدع الأشخاص يعملون بما توحيه إليهم الحياة دون أن يتدخل في سلوكهم. .
وبالإضافة إلى هذه الفروق نضمُّ إليها فرقاً آخر وهو روح الفكاهة والسخرية التي تميز بها الأديب المهجري ولم يعرف بها الأديب المصري.
وبعد هذا كله أحدثك عن الكتاب (حفنة ريح) فأقول لك: إن الكتاب يضم مهزلة ذات فصل واحد هي (حفنة ريح) ومجموعة قصص هي (موجة نار) ومراسلات بين المؤلف والأستاذ سهيل إدريس أحد الأدباء اللبنانيين:
والمسرحية خلق فني ممتاز تقف في الصف الأول من صفوف المكتبة في الأدب العربي توافرت فيها عوامل النجاح فرفعتها إلى هذه المنزلة العالية. . وعوامل النجاح في هذه المسرحية الممتازة هي عوامل النجاح في كل مسرحية ناجحة فهي ترجع: أولاً: إلى مقدرة المؤلف في التصميم الفني المسرحي، ثانياً: وإلى إشاعة الحركة على المسرح ثالثاُ: وإلى خلق الأشخاص الذين يتصلون بأسباب قوية، ويتحركون على المسرح كما يتحركون على مسرح الحياة، رابعاً: وإلى إجراء الحوار الجميل الجاري جرياناً لا يعكره التكلف، ولا يعتريه الخفوت.
أضف إلى هذا كله تلك الفكاهة المستحبة، والروح الشفافة الطليقة، والسخرية اللاذعة. . تلك الصفات التي امتاز بها الأستاذ سعيد تقي الدين، وأطلقها في أجواء مسرحياته فكانت عاملاً من عوامل نجاحها.
وقد أشاع المؤلف في مسرحيته هذه وأهتم اهتماماً كبيراً في إبرازه (من اللحظة التي يرفع فيها الستار إلى (كعك سخن) في آخر المسرحية.
وعلى الرغم من أن التأريخ سمة من سمات المهزلة الناجحة فإن المؤلف لا يمكن أن يعتمد عليه وحده - لأن من خصائص التأريخ خلق الجو النفسي فحسب، فلهذا نلمح في (حفنة ريح) الناحية النفسية وحدها.(770/52)
وأشخاص المسرحية محبوبون لأنهم واقعيون، ولأنهم من أصحاب النفوس الساذجة الكريمة، ينطقون فتبتسم لما نطقوا به، أو تنفجر ضاحكاً تعجب من هذه النفوس الغريرة الطليقة المحبوبة إلى أبعد غايات الحب. .
والمؤلف يسير مع الأشخاص أو مع الحياة أو مع ما يقتضيه الواقع في الجزء الأكبر من المسرحية حتى إذا ما وصل إلى النهاية بدا التكلف ظاهراً حيث يقنع (وجيه) اللحام الكهل بأن في استطاعته أن يعود إلى شبابه إذا قال (الله يسامحك الله بالحساب) فيتنازل عن دينه لوجيه، ويظهر التكلف بوضوح في الطريقة التي هيأ بها المؤلف زواج الأشخاص.
وأكبر الظن أن الأستاذ سعيد عندما أوشك أن يصل إلى نهاية مسرحيته وضع (العجائب السبع) التي خلقها أمامه، وكيف النهاية حسب ما تقتضيه هذه العجائب. . فجعل اللحام يسترجع شبابه بطريقة عجيبة تثير الضحك ليستخلص من ذلك العجيبة الأولى وهي (لحام يستعيد شبابه). وأغرى الشيخ نسيب بترك وظيفته الحكومية بطريقة غريبة ليستخرج من ذلك العجيبة الثانية وهي (شاب يرفض وظيفة حكومية). . وأقنع (أم ظريف) بالطريقة نفسها على أن تسامحه بالإيجار ليصل إلى العجيبة الثالثة وهي (ملاك يسامح مستأجراً). . وقس على ذلك سائر العجائب الأخرى. وهي (مؤلف أدبي نفع البشرية) و (أم تزوج أبنتها من دون مصاغ) و (ظهر في لبنان رجل يلبس أسمه من دون لقب) و (البوليس يقبض على القاتل والقتيل فار من وجه العدالة).
والملاحظ في هذه المسرحية أن الحبكة، والتسلسل الروائي والانسياب الحواري على درجة كبيرة من الإتقان تدل على رسوخ قدم الأستاذ سعيد في الفن المسرحي. . ورسالته إلى المخرج هي غاية في الدقة الفنية، فيها من الملاحظات الفنية ما ينفع المخرج والممثل والكاتب المسرحي على حد سواء.
ولنتحدث الآن عن مجموعة (موجة نار) من هذا الكتاب ولنعرض أولاً آراء المؤلف في القصة، ففي الكتاب آراء يحالفها التوفيق مرات، ويتنكب عنها أخرى:
يعرف المؤلف القصة ص 254 فيقول (القصة كما أفهمها هي حادثة غير عادية محتملة الوقوع تسرد بأسلوب جذاب سهل، وتنتهي بمفاجأة حلوة معقولة). . ولكن المؤلف يتخلى عن شرط أو شرطين من هذه الشروط الأربعة في بعض قصصه. فهناك قصة يعوزها(770/53)
التصميم الفني وهي (الخطاب المبتور). وتفتقر قصة أخرى إلى الصدق الفني وهي (الدواة)؛ وهناك قصتان تحتاجان إلى الحرارة وإلى إشاعة الحياة والحركة النابضة فيهما. . أما قصة (ألام الذكرى) وقصة (موجة نار) فهما أحسن ما في المجموعة الأولى لأنها صورة إنسانية رائعة أملتها الحياة التي خاض غمارها، والثانية لأنها تبرز لنا هذه الروحية التائهة التي شغف بها المهجريون.
ولست أدري كيف يرى المؤلف (أن عنوان القصة يجب أن يكون لغزاً موسيقياً!!) ص259. . أيعد المؤلف العنوان (اللغزي الموسيقي!!) عنصراً في عناصر التشويق؟!. . وإذا كان كذلك فقد ساءلت نفسي وأنا أقرأ ما قاله المؤلف عن عنوان القصة لو لم يكن عنوان مسرحية سعيد تقي الدين (حفنة ريح) ولو لم يكن عنوان القصة (موجة نار) أأعدل عن قراءتهما؟. كلا. . . وألف كلا فليس من الضروري أن يكون العنوان (لغزاً موسيقياً) كما ليس من الضروري أن تكون (العبارة الأخيرة في القصة قنبلة ذرية تنفجر بين عيني القارئ!!) - الله يحفظ عيوننا من شر القنابل الذرية -. . ونحن لو رجعنا إلى نهاية قصص سعيد تقي الدين لما رأيناها قنبلة ذرية تنفجر، ولا (ديناً ميتاً) يثور بين عيوننا ومع ذلك فنحن لا نملك إلا الإعجاب بها.
سامح الله الأستاذ سعيد تقي الدين - لا بالحساب لأنني لا أطلب شيئاً أولاً، ولأنني لا أرجو منه أن يستعيد شبابي لأنه لم يذهب بعد ثانياً، بل سامحه الله بهذه الأمثلة التي تدل على خفة روحه أو دمه. لست أدري. .
هذا الكتاب ممتاز حمله إلينا البريد اللبناني فأطلعنا عليه، وقضينا ساعات لذيذة معه. . ولكن أين الكتب اللبنانية الأخرى التي تخرجها المطبعة اللبنانية في كل شهر؟. الجواب عند الأستاذ سهيل إدريس على إخواننا لأنهم لا يحلفون الأدب اللبناني!
غائب طعمة فرحان
كلية الآداب(770/54)
البَريدُ الأدَبيّ
حول عادت النار:
في عدد الرسالة رقم 769 الصادر يوم الأحد 28 مارس قصيدة عصماء للشاعر المبدع المجدد الأستاذ محمود إسماعيل وقد التبس على منها بعض الكلمات مثل قوله: (وأصغي لأنوارها) والمعروف أن الأنوار إنما ينظر إليها لا أن يصغي لها الإنسان؛ فلو قال إنه يصغي للأصوات الحبيسة عند اندلاع النار لكان مقبولاً مستساغاً؛ ولكني لا أكاد أفهم هنا معنى الإصغاء سواء أخذ على الحقيقة أو المجاز. ثم قوله (فاهتز فيّ الرماد) لا يكاد يبين معناه. وأي رماد هذا؟ أهو رماد النيران أو رماده هو لا قدر الله؟ وهل يقصد بهذا أصل الإنسان؟
وأيضاً قوله وماض - رخيم الردى؛ فإني لم أقرأ هذا الوصف للردى من قبل؛ ولو أنه قال وماض وخيم الردى لكان مفهوماً. واستعمل الشاعر تزايل متعدية ولم ترد في القاموس والمصباح والمختار فإنه ذكر زيل فتزيل أي فرق ومنه قوله تعالى فزيلنا بينهم؛ ويقال زايله بمعنى فارقه والمصدر زيال ومزايلة؛ والتزايل التباين. فالذي يظهر من كلام الثلاثة أن تزايل لازمة لا متعدية وقد عداها الشاعر الكبير في قوله تزايلت معناه.
وبعد: فلعل الأستاذ يوافينا بالرد الكافي والجواب الشافي وله مني التحية والسلام.
يوسف عبد الله عثمان
حول (النقد الأدبي):
في العدد (769) من (الرسالة) الغراء اطلعت على مقال للأستاذ محمود رزق سليم (النقد الأدبي) من طرائف العصر المملوكي. . . ولي عليه تعقيب وهو:
لقد قال في سياق المقال: (. . . مع الإشارة إلى الحسن لم كان حسناً، وإلى النقص لم كان نقصاً. . .)
وهذا فيما أظنه خطأ.
وتكتب هكذا إذا ما أريد الصواب، وتكون في ثلاث حالات:
(1) (. . . مع الإشارة إلى الحسَن، ولم كان حسناً؟ وإلى النقص، ولم كان نقصاً. . .)(770/55)
(2) (. . . مع الإشارة إلى الُحسن لمّا كان حُسناً، وإلى النقص لمَّا كان نقصاً. . .)
(3) (. . . مع الإشارة إلى الحسَن. لمْ كان حسناً وإلى النقص لم كان نقصاً؟. . .) مع وضع نقطة بعد الحسن والنقص ووضع علامة استفهام بعد السؤال.
وما أردت من تعقيبي هذا الخاطف إلا الذود عن لغة الضاد مع تقديري التام لأبحاث الأستاذ. وله مني ألف تحية وشكر.
(دمنهور)
حسن العشماوي
في اللغة:
في عدد الرسالة الغراء (769) اطلعت على قصة الأستاذ مصطفى جميل مرسي (طبيعة مبهمة!) ولي عليها تعقيب لغوي ينحصر في الآتي:
1 - قال الأستاذ المعرَّب (. . فلشد ما أثار سخطي و (أهاج) بغضي. .) فاستعمل الفعل الرباعي وهو خطأ لاشك فيه؛ إذ الفعل ثلاثي الأصل ومتعد بنفسه فضلاً عن لزومه.
تقول: هاج الغبارُ أي ثار وارتفع عموداً في السماء. وتقول: هاجه غيره أي (هيجه) وأثاره. قال الشاعر:
هاج قلبي (ذكراً وأحيا ... ماضيات الهوى ولغوَ الشباب!
وإذا فاستعماله - رباعياً - خطأ صريح، لا يحتاج لمزيد توضيح!
2 - كنت كتبت في (البريد الأدبي) للرسالة في العدد (768) كلمة أبين فيها الفرق بين استعمال (ثم) العاطفة و (ثم) التي بمعنى هناك للشيء البعيد دون القريب وذلك إذا لحقت التاء - مفتوحة ومربوطة - بكليهما.
ولكن في قصة الأستاذ وجدناه يقول (. . لا مجال للريب في أنه (ثمت) إنسان. .) فيكتبها بالتاء المفتوحة على غير الصواب ورجاؤنا من الأستاذ الرجوع - ولو باللمحة العابرة - إلى ما كتبناه في هذا الباب؛ ففيه كفاية ما يراد، وما تحتمه لغة الضاد، قبل النقد والنقد. والسلام.
(الزيتون)(770/56)
عدنان
تعقيب على استدراك:
نشر الأستاذ هارون محمد أمين بالعدد (769) من (الرسالة) استدراكاً على صاحب العقد الفريد في ذكره غناء إبراهيم الموصلي بحضرة الأمين، فقرر أن هذا (افتراء على إبراهيم، وتجن على الأمين) حيث أن إبراهيم قد توفي في خلافة الرشيد.!
والمتأمل في القصة يدرك الوقت الذي حدثت فيه فإن إبراهيم الموصلي يخاطب الأمين بقوله (يا سيدي) مجردة عن أمير المؤمنين وهذا يدل على أن الغناء قد حدث في عهد الرشيد، والأمين ولي للعهد، ولا أظن أن الأستاذ هارون يدعي أن الغناء في ذلك الوقت كان مقصوراً على شخص أمير المؤمنين!!
هذا وقد نقل الأستاذ هارون عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أبياتاً في الرشيد. وقع في أولها خلل عروضي، ولعل صوابه: في بقاء الخليفة الميمون خلف عن مصيبة المحزون.
يوسف زاهر
التنويه الأدبي:
(يعلن مجمع فؤاد الأول للغة العربية أنه قد ألف لجنة لدراسة الكتب القيمة في الثقافة الأدبية العليا للتنويه الأدبي بما يراه المجمع نافعاً في بابه من هذه الكتب دالاً على جهد وابتكار على أن تكون هذه الكتب مما ألف منذ سنة 1944.
وستدرس اللجنة ما يقدم إليها من هذه الكتب أو ما يطلع عليه أعضاء المجمع، ثم يعقد المجمع في النهاية جلسة علنية للتنويه بخير الكتب وبأصحابها، وسيعلن عن موعد هذه الجلسة بعد الانتهاء إلى قرار.
كتاب تاريخ الأدب العربي:
تجرأ أحد المجرمين من الكتبيين فقلد الطبعة العاشرة من كتاب (تاريخ الأدب العربي) وعرضها للبيع، وهي طبعة ناقصة محرفة مشوهة، يعرفها القارئ لأول وهلة من صغر حجمها، وسوء طبعها، واختلاف حرفها، وخلوها من الشكل، وكتابة عناوين الأبواب بالخط(770/57)
الفارسي وهي في الأصل مكتوبة بخط الثلث. وأولى علامات هذه الطبعة المزيفة أن تجد على صفحة الغلاف الأولى جملة (حقوق الطبع محفوظة) غير محصورة بحاصرتين وهي في الطبعة الأصلية محصورة بهما وشكلهما هكذا [].
وقد اتخذت الإجراءات الرسمية لضبط المزيف ومصادرة النسخ المزيفة. وإنا لننصح لحضرات القراء أن يميزوا بين الطبعتين بما ذكرنا من الفروق، وأن يتفضلوا - متى وقعت في أيديهم نسخة مزورة - فيخبروا إدارة الرسالة بمكانها ومصدرها وعلى الأخص في الأقطار العربية. وقد شرعنا نطبع الكتاب طبعته الحادية عشرة وستكون مزبدة منقحة كما عودنا القراء في كل طبعة.(770/58)
العدد 771 - بتاريخ: 12 - 04 - 1948(/)
من حقيبة البريد
للأستاذ عباس محمود العقاد
في حقيبة البريد - هذا الأسبوع - شيء عن عمر، وشيء عن الفن الجميل.
أما الشيء الذي عن عمر فقد أخذت لما فيه من سوء الفهم وسوء الأدب، ولو شئت لأظنه ولم أنظر فيه، ولكن دواعي الأخذ ترجع إلى من كتبه لا إلى من كتب إليه، وقد يكون من عذر السن لمن كتبه أن ننظر في علته، عسى أن يكون فيها ما يعالج وما ينفع فيه العلاج.
والعلة الكبرى أن تنطوي نفوس ناشئة على هذه الحالة التي تتصيد أسباب الاستياء والإساءة، وهي قادرة على أن تصحح شعورها لو كان بعديها هذا التصحيح، لأن الأمر لا يحتاج منها إلى أكثر من الفهم البسيط، والفهم المستقيم.
ففي رسالة من طالبات في بعض المدارس الثانوية يسأل الكاتبات: كيف نثبت أن ديننا يحل الرشى؟ هل نأتي بآية من كتابنا تدل على أننا نحلها؟
وقد أشار الكاتبات إلى ما جاء في الصفحة ال (142) من عبقرية عمر عن رأيه في استخدام بعض الذميين من أبناء عصره وهو بنصه: (إنه لا يعدو لا النهي عن استخدام بعض الذميين). ثم عللنا ذلك تعليلاً واضحاً لا لبس فيه، لأنه خطة سياسية تجري عليها جميع الدول في جميع الأزمان مع جميع الغرباء ولو كانوا من ديانة واحدة، فقلنا: (ما نظن أحداً ينكر أن استخدام الغرباء عن الدولة خليق أن يحاط بمثل هذا الحذر وأن تجتنب فيه مثل هذه الآفة؛ إذ يكثر بين المرتزقة الذين يخدمون دولة من الدول - وهم غرباء عنها كارهون لمجدها وسلطانها - أن ينظروا إلى منفعتهم قبل أن ينظروا إلى منفعتها، وأن يساوموا على نفوذهم قبل أن يستحضروا الغيرة على سمعتها والرغبة في خيرها وخير أهلها، ولاسيما في زمن كانت الدول تميز فيه بالعقائد قبل ان تميز بالأوطان، وما من أمة في عهدنا هذا تبيح الوظائف العامة إلا بقيود وفروق تتفق عليها: أولها تحريمها على الأجانب ما لم تكن في استخدامهم منفعة عامة. . .)
وقد كان عمر ينظر إلى أناس معينين من طلاب الوظائف في ذلك الحين، وهم موظفو الدولة البيزنطية في أواخر أيامها، وكانت وظائفها يومئذ مضرب المثل في الرشوة والفساد وسوء الإدارة، فليس على الوالي الأمين من حرج أن يستريب بخدمتهم في الدولة الجديدة،(771/1)
وقد كانوا في دولتهم التي يدينون بالولاء لها يستبيحون الرشوة والانتفاع على حساب الدولة والرعية.
وفي عصرنا الحديث تحرم الحكومات استخدام الأجانب - لو كانوا من ذوي الاستقامة - إذا كانت حكومتهم في موقف كموقف عمر من الدولة البيزنطية، فلا تسمح الحكومة الإنجليزية مثلاً باستخدام الألمان في أبان الأزمات السياسية، ولا فرق بين الإنجليز والألمان في الأصل والدين، بل لا فرق بينهم في مذهب الكنيسة في بعض الأحيان.
وقد صنع عمر مثل هذا مع أجلاء الصحابة حين خامره الشك في إقبالهم على الدنيا، وصنع من قبله أبو بكر الصديق حين أوصاه في مرض وفاته فحذره: (هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قد انتفخت أجوافهم وطمحت أبصارهم وأحب كل امرئ منهم لنفسه). . . فلما خلفه عمر كان الصحابي من هؤلاء يسأله السفر فيقول له: (إن خيراً لك ألا ترى الدنيا وألا تراك) ص263.
فلا شأن لأديان الذميين بما صنعه عمر. وإنما هو حكم عام كان رضي الله عنه يلتزمه مع كل طالب وظيفة، ولو كان من أجلاء الصحابة المعدودين.
وليس عمر بالذي يقول السوء عن أوامر السيد المسيح ونواهيه فإنه يتعلم من القرآن الكريم أن المسيح روح الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بوحي من الله.
أما الكاتب الذي ألف (عبقرية عمر) فهو الكاتب الذي قال في كتابه عن الله وهو يذكر السيد المسيح: لقد (كانت بشارته أعظم فتح في عالم الروح. لأنها نقلت العبادة من المظاهر والمراسم إلى الحقائق الأبدية، أو نقلتها من عالم الحس إلى عالم الضمير. ولم يشهد التاريخ قبل السيد المسيح رسولا رفع الضمير الإنساني كما رفعته، ورد إليه العقيدة كلها كما ردها إليه. فقد جعله كفوءاً للعالم بأسره بل يزيد عليه. لأن من ربح العالم وخسر ضميره فهو الخاسر في هذه الصفقة الخاسرة. وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟. . . إن الطهر كل الطهر في نقاء الضمير. فمناط الخير كله فيه، ومرجع اليقين كله إليه. فليس شيء من خارج الإنسان يدنسه. بل ما يخرج من الإنسان هو الذي يدنس الإنسان. وهناك حياته وبقاؤه، فليس حياته من أمواله) الخ الخ ص 147(771/2)
أقول هذا تفهيماً وتأديباً، ولا أقوله لملاطفة أو استرضاء. فإن الفتاة التي تسرع إلى الشتم والبغاء تستوجب التفهيم والتأديب، بل تستوجب الزجر الشديد، ولكنها لا تستحق الملاطفة ولا الاسترضاء.
وقد كان السؤال عن الفن الجميل أسئلة كثيرة، ويدور بعضها على التصوير ومنها على التمثيل.
ولا يتسع المقام هنا للكلام على التصوير لأنه يحتاج إلى أمثلة من الصور المختلفة لا يتيسر عرضها في هذا المقام.
فنكتفي بالسؤال عن التمثيل، وهو كما جاء في خطاب الأديبين صاحبي الإمضاء.
قالا: (كانت إجابتكم في المطالعات أن التمثيل في مصر مقتلة للوقت. وإنه محاكاة فردية لهذه الصناعة، وإنه تمثيل للتمثيل (ورجاؤنا أن تتفضلوا بالإدلاء برأي في المسرح المصري بعد هذا العمر الطويل الذي سلخه، وبعد أن ظهرت على خشبة المسرح فرق كثيرة، انتهى أمرها جميعاً إلى الفرقة المصرية التي تعينها الدولة) ونرجو أن نعرف: هل حققت الفرقة المصرية رسالتها الفنية التي أنشئت من أجلها؟ وما هي وسائل النهوض بالمسرح المصري. . .
محمد حسين الكاشف
أنور فتح الله
دبلوم في النقد والبحوث الفنية من المعهد العالي لفن التمثيل
العربي
وخلاصة رأيي بعد عشرين سنة من كتابة (المطالعات) أن الاشتغال بالتمثيل عندنا قد أخرج لنا آحاداً من نوابغ الممثلين، ولكنه لم يخرج لنا فرقة كاملة يتم فيها التعدد، ويتم فيها التجانس مع تعداد الأدوار.
وأول ما يلاحظ على نوابغ الممثلين عندنا أنهم ينجحون في تمثيل النماذج العامة، ويغدر بينهم من ينجح في تمثيل (الشخصيات) الخاصة، كما يشاهد مثلاً في إعطاء (بول متى) لكل من شخصيات باستور وأميل زولا وفلاح الصين والمجرم الهارب من السجن،(771/3)
والمخبول الذي يعيش بشخصية مزدوجة، وليست كلها نموذجاً واحداً من الطبائع البشرية، لأنها تختلف في إعطائها وإخراجها أبعد اختلاف يقع بين إنسان وإنسان.
هذه القدرة قليلة عندنا إلى الآن، وعلتها أن الطراز العام هو الذي يفهمه عامة النظارة والمتفرجين، ولابد للنجاح في الأدوار الخاصة من إدراك واسع لمناحي النفس البشرية وأطوار الشخصيات المختلفة، يحبب هؤلاء النظارة والمتفرجين في تمثيل هذه الشخصيات إذا عرضت عليهم، لأنهم يشعرون بما فيها من متعة الفوارق الدقيقة بين طبائع الإنسان، وليس في طاقة الممثل أن يتفرغ لإحياء (شخصية) خاصة تكلفه الجهد واليقظة والدراسة الفنية والعلمية إذا كان قصارى الأمر أنه (كله عند العرب صابون). وغن المتفرج يقنع بما دون هذا الجهد، وقد يفضل الجهد اليسير على الجهد الكثير.
هذه الآفة في التمثيل هي بعينها آفة فن الغناء.
فإنك تستطيع أن تسمع ألف أغنية فلا ترى فيها ملامح الشخصية المختلفة، ولا تلمس فيها دقة التفصيل والتنويع، لأن التصنع فيها أبرز من الإحساس الأصيل.
وهي آفة لا يلام عليها فن التمثيل المصري على انفراد، لأنها آفة المجتمع المصري لم يخرج لنا بعد جمهوراً كاملاً لتلك الفرقة، إذا وجدت على تمامها أو تم فيها التعدد والتجانس بين جميع الأدوار.
فليس عندنا الآن جمهور كامل (مواظب) لغير نوع واحد من المسرحيات، وهو نوع التهريج والمجون وإثارة الحس بمناظر الشهوات ومناظر الشجار.
أما الفن الرفيع فله جمهور متفرق أو أشتات من جماهير عدة، لا يستقل واحد منها بإنهاض فن متقدم يثبت على قدميه.
وينتهي بنا ذلك كله إلى نتيجة واحدة: وهي أن التمثيل المصري في حاجة إلى معونة دائمة من الحكومة، ومعونة دائمة من الموسرين الغيورين على هذا الفن الجميل، لأن التمثيل في العالم كله - وفي مصر خاصة - يعبر محنته الكبرى مع الفتنة الطاغية من قبل الصور المتحركة، ولكنه هو الفن الباقي بعد هذه الفتنة وهو الينبوع الذي ينبغي أن يعتمد عليه فن الستار الأبيض، ولا تؤمن عليه العاقبة إذا ترك وحده بغير معونة وتشجيع.
عباس محمود العقاد(771/4)
دولة الدول الصهيونية
للأستاذ نقولا الحداد
أيعلم العرب والعالم أجمع أن تأسيس دولة صهيونية في فلسطين هو نذير بخطر على العالم عظيم، لأن الدولة الصهيونية ستبتلع جميع دول العالم في عصر أو عصرين. والشيوعية الروسية ليست إلا صنيعة الصهيونية نفسها. وما إنشاء هذه الدولة الصهيونية إلا تتمة برنامج وضعه حكماء اليهود السابقون أي حاخاماتهم، (وكلمة الحاخام بالعبرية تعني الحكيم والحاكم معاً. وكان هذان المعنيان لشخص واحد من قديم الزمان).
والبروتوكولات التي نشرت نموذجاً منها في مقالي السابق هي ملخص محاضر جلسات أولئك الشيوخ الحكماء. وفي هذه المحاضر السرية يرى القراء ماذا يبيت الصهيونيين لجميع الأمم غير اليهودية التي يسمونها في اصطلاحهم (الجوبيم) وما يضمرونه من السيطرة والاستبداد والأذى للأمم، وسأنقل من هذه المحاضر إلى (الرسالة) أهم ما فيها من الاستعداد لهذه السيطرة والوسائل الجهنمية التي يتوسلون بها من غير أن يفطن ساسة الأمم وعلماؤهم وزعماؤهم إليها؛ أو يفطنون إليها مستهترين.
ولذلك نعرضها على القراء لكي يعلموا أن الدولة الصهيونية في فلسطين إن قامت إنما هي بدء التهام الأمم وابتلاع دولها. . . لا سمح الله.
هذه البروتوكولات كانت سرية ثم افتضح أمرها في آخر القرن المنصرم، إذ اتصل خبرها بأحد أعيان الروس الأستاذ سرجيوس بيلوس، وهي مكتوبة باللغة الروسية، وقد طبعها في سنة 1905 وكتب لها مقدمة قال فيها: (إن نسخة خطية من هذه الوثائق دفعها إليه صديق قبل وفاته في سنة 1901 بأربع سنين، وأكد له أنها ترجمة (إلى الروسية) صحيحة كل الصحة (ربما كانت عن أصل فرنسي) سرقته سيدة من شخص ذي مقام وذي نفوذ عظيم في الماسونية بعد نهاية اجتماع ماسوني عقد للتكريس في باريس؛ وكان هذا الاجتماع في وكر للمؤامرات الماسونية اليهودية (غير الماسونية العامة).
ولا يدع أن تكون فرنسا أوكاراً سرية للصهيونية لأنها بطبيعتها الثورية أرض صالحة لنمو الدسائس الصهيونية التي ألقت عليها حلة (الحرية والإخاء والمساواة) ذراً للرماد في العيون كما سيجيء بيانه.(771/6)
وأضاف نيلوس إلى هذه القصة أنه نشر هذه النسخة الخطية مطبوعة تحت عنوان: (بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء)، وقال إنها ليست بالضبط نصوص محاضر تلك الجلسات السرية التي عقدها هؤلاء الشيوخ؛ بل كانت كبلاغ رسمي تنقصه بعض فقر حذفها شخص قوي النفوذ.
والأستاذ نيلوس يسلم بعدم إمكان الحصول على برهان خطي أو شفهي على صحة هذه الوثائق؛ وإنما يقول: (نكتفي بأدلة الظروف الوافرة التي تؤيد صحتها. على أن مشتملات هذه الوثائق يجب أن تقنع (من لهم أذنان للسمع) لأنها واضحة ولابد أن نسمع صراخ اليهود ومن يداجيهم من غير اليهود: (إن هذه الوثائق ملفقة ومدسوسة عليهم)، وعلى الرغم من هذا فالحوادث تثبت صحتها.
وقد وردت نسخة من طبعة سرجيوس نيلوس إلى المتحف البريطاني وعليها قيد الاستلام وتاريخه في أغسطس سنة 1906 وهناك عثر عليها الأستاذ فكتور مارسدن الذي كان يراسل جريدة المورتن بوسط في موسكو أثناء الحرب الكبرى السابقة والانقلاب الروسي الذي حدث في غضونها، ولما كان ماردسن يعرف الروسية جيداً عكف على ترجمة هذه الوثائق في المتحف نفسه إلى الإنكليزية فطبعتها جمعية الطباعة البريطانية.
وقد نشرت جريدة نيويورك ورلد سنة 1921 تعليقاً على هذه الطبعة من حديث مع هنري فورد ورد فيه قوله: (ما يمكن أن أقوله الآن بشأن هذه البروتوكولات أنها تصدق على ما هو حادث الآن في العالم. لقد مر على نشرها إلى اليوم نحو 11 سنة وهي تصدق على حالة العالم في هذه المدة. نعم تصدق عليها).
أجل إن الحوادث في كل العصور تظهر خطة الأمة اليهودية التي اتفق عليها شيوخها على تمادي الزمن حتى عصرنا الحاضر. وانتشر خبرها مما تسرب منه من هؤلاء الشيوخ على الرغم من سريتها وحرصهم على كتمانها.
في 14 يوليو سنة 1922 نشرت جريدة جويش كرونكل (اليهودية) بعض مذكرات تيودور هرزل، ومنها خلاصة حديث حين زار إنكلترا مع الكولونل جولد سميد الذي كان يهودياً ثم تنصر وبقي يهودياً في قلبه. فلمح هذا اليهودي المتنصر لهرزل (إن الطريقة الوحيدة لتجويد الأعيان الإنكليز من أملاكهم لقتل نفوذهم الذي يحمون به الشعب الإنكليزي من(771/7)
سيطرة اليهود، هو سن ضرائب ثقيلة على أملاكهم. فاستحسن هرزل هذه الطريقة. ولا يخفى أن مذكرة هرزل هذه تتفق مع البروتوكولات كما سيتضح ذلك فيما سننشره منها.
وفي 8 أكتوبر سنة 1920 نشرت جريدة جويش جارديان كلمة للدكتور ويزمان رئيس الصهيونية المعروف الآن حين وداعه لرئيس الربانيين في وليمة قبل سفره لسياحة في الإمبراطورية البريطانية قال فيها: (إن نعمة الحماية التي أسبغها الله على اليهود هي أنه شتتهم العالم) - طبعاً لكي ينشروا هذا البرنامج، وسترى هذا واضحاً البروتوكول الحادي عشر.
من هم هؤلاء الشيوخ العلماء الصهيونيين الذين ائتمروا؟؟ يستفاد مما كتبه في هذا الموضوع وولتر رانينيوا في جريدة وينر فراي برس في 24 ديسمبر سنة 1912 أن ثلاث مائة شيخ من شيوخ بني إسرائيل معروف بعضهم لبعض يقررون مصير القارة الأوروبية، وهم ينتخبون خلفاءهم ممن يحف حولهم من ذويهم وأصدقائهم.
وفي سنة 1848 ألف بنيامين إسرائيل رواية تمثيلية وردت فيها هذه العبارة بلسان بطلتها المسماة سيدونيا (ويقال إنها من آل روتشيلد الأثرياء اليهود): (هكذا ترى يا عزيزي كنز سباي (معناه الجاموس المكار) أن العالم يحكمه أفيال مختلفون عمن يتصورهم الناس الذين ليسوا وراء الستار). وإسرائيل هذا كان يهودياً فنصره أبوه لكي يتسنى له أن يتغلغل في السياسة البريطانية، وتغلغل بالفعل إلى أن صار اللورد دزرائيلي المعروف والمنافس لجلادستون. وبهذه العبارة المشار إليها كاد يصرح أن الذين وراء الستار هم اليهود، وبهذه البروتوكولات التي نحن بصددها كشفت العناية الإلهية أن الذين وراء الستار هم اليهود.
وكان دزرائيلي وراء الستار فعلا يعمل بأساليبه الخفية ويلعب بجميع الحكومات الأوروبية في عصره. فعلى جميع الأمم البيضاء تلغى مسؤولية مراقبة هذه الأمة اليهودية التي تفتخر بأنها بقيت في الوجود دون سائر الأمم القديمة والإمبراطوريات البائدة - على حد قول داروين: (بقاء الأنسب) كما يعتقدون.
ليست هذه الحركة الصهيونية بنت الأمس بل هي قديمة من عهد سليمان الحكيم وغيره من الحكماء أي منذ سنة 925 قبل المسيح. فكان الحاخامون يفكرون في الخطط الممكنة لانتصار صهيون السلمي على العالم كله، (وكلمة صهيون كانت ترادف أورشليم ثم أطلقت(771/8)
على فلسطين).
والراجح أو الأكيد أن الماسونية كانت من جملة خططهم كما تدل عليها شعائرها وطقوسها، وما هي إلا أحبولة لاصطياد طبقات الناس على اختلاف طوائفهم ودرجاتهم واستخدامهم الأساليب الخفية لأغراض جمعيتهم السرية التي هي (جمعية ماسونية يهودية) ضمن الماسونية العامة؛ وليس للماسون العموميين علم بها. وتلك (الماسونية الخفية) تنفذ مآربها بواسطة (الماسونية العامة) من حيث لا يدري ذوو الشأن.
ولكي تنتشر الماسونية العائمة في جميع الأمم صبغوها بصبغة الإنسانية والفضيلة وجعلوا شعارها: (الحرية والإخاء والمساواة) الذي اقتبسته الثورة الفرنسية، وبهذه الطريقة دخلفيها الممتازون من عامة الناس وأصحاب المهن العالية وأصحاب النفوذ من الحكام والموظفين حتى الوزراء والأمراء والملوك، ولهذا استطاعت (الماسونية اليهودية الخاصة السرية) المكتومة عن جميع العالم أن تنفذ مآربها على يد الماسونية الشائعة. وسترى في البروتوكول الحادي عشر تحقيق ذلك بجلاء. فقد روى في صلب البند السابع من هذا البروتوكول بالنص الكامل: (فلأي فرض اخترعنا هذه السياسة (الداهية) وأدخلناها في عقول الجويبم (الناس غير اليهود) من غير أن تدع لهم أية مضنة أو شبهة لكيلا يتنبهوا لاختبار ما تنطوي عليه؟ حقاً لأي غرض فعلنا هذا إذا لم يكن قصدناأن نحصل على طريق ملتو نتوصل به إلى قومنا المشتت الذي لا تتصل به عن طريق مستقيم. هذا هو الطريق الذي نعني في جعله أساساً لمنظمتناالماسونيةالسريةالخاصة التي لا يعرفها هؤلاء الجويبمالبهائم (كذا) والتي لا يتشبهبها هؤلاء السائمة حتى ولو كانت موجهة ضدهم. إن هؤلاء الجويبم مجذوبون إليها بجاذبية هذه المظاهر الخلابة في المحافل الماسونية التي ليست إلا ذراً الرماد في العيون)
إذن فليعلم ماسونيو العالم أنهم يخدمون مآرب الصهيونية وهم غافلون.
إذا رجعنا أسباب الحوادث حتى الحروب ولا سيما الأخيرة منها لرأينا أصابع الماسونية فيعا: في الثورة الفرنسية والانقلاب العثماني والانقلاب الروسي الخ.
إن أولئك الشيوخ الحكماء (الحاخامين) الدواهي الذين وضعوا الخطط في هذه البروتوكولات وكانوا ينقحونها على طول الزمن حسب مقتضيات الحال، كانت خططهم(771/9)
هذه تنفذ على يد أشخاص تكرسوا لهذا الغرض. قصد هؤلاء الحكماء أن يفتحوا العالم كله لأنفسهم بالأساليب السلمية، أو التي يسلمون بها من كوارثها، أو بالأحرى بأسلوب مكر الحية وخبثها كما سترى في البروتوكول الثالث. ترى فيه رأس الأفعى الرمزية يمثل اليهود الذين تخصصوا لتنفيذ خطط الإدارة اليهودية للدولة الصهيونية المنتظرة، وجسم الأفعى هو بقية الشعب اليهودي. فالإدارة تبقى سرية حتى عن الشعب اليهودي نفسه، وحيث أن الأفعى تتغلغل في قلوب الأمم حتى التي تقاومها (بواسطة الماسونية طبعاً) فهي تنقب تحت الدول غير اليهودية وتلتهم جميع حكوماتها. ولا تزال هذه الأفعى تعمل عملها بحسب الخطط المرسومة لها إلى أن يصل رأسها إلى صهيون (فلسطين)، وحينئذ تكون قد أتمت دورتها حول أوربا وطوقتها، وقد قيدتها بسلسلة، وبسطت سلطانها على ساءئر العالم. يعمل كل هذا ببذل الجهد في إخضاع سائر البلاد بالنفوذ الاقتصادي.
إن عودة رأس الأفعى إلى صهيون لا يتم إلا بعد أن تطأطئ رؤوس ممالك أوربا، وتخر ساجدة إلى إله المال أي بواسطة الأزمات الاقتصادية والخراب الشامل، وحينئذ تنهار الآداب الاجتماعية والروحية وتنحط الأخلاق. ويكون من جملة العوامل لهذا الانحطاط السيدات اليهوديات، ولا سيما الفرنسيات، والإيطاليات. هذا ما ينوه به حكماء اليهود. لا ريب أنه أفعل الوسائل لنشر الفساد في حياة الأفراد والزعماء وقادة الأمم.
يمكنك أن ترسم خريطة الأفعى الرمزية هكذا:
كانت أول خطوة لها في أوربا سنة 429 قبل المسيح في بلاد الإغريق في عهد بركابس حين شرعت الأفعى تقضم عرش تلك المملكة. والخطوة التالية في روما لعهد أوغسطس قيصر سنة 69 قبل المسيح. والثالثة في مدريد لعهد تشارلس الخامس سنة 1552 مسيحية. والرابعة في باريس نحو سنة 1790 في زمن لويس السادس عشر. والخامسة في لندن حول سنة 1814 بعد سقوط نبوليون. والسادسة في برلين سنة 1817 بعد الحرب الفرنساوية البروسية. والسابعة في بطرسبرج حيث ظهر رأس الأفعى في سنة 1881 وهذه المعلومات وغيرها مستقاة من مقدمة الترجمة الإنكليزية.
جميع هذه الممالك التي عبرتها الأفعى كانت أسسها قد تزلزلت؛ فألمانيا تزعزعت قوتها الظاهرة من غير أن تشذ عن القاعدة. وأما روسيا فقد اجتاحتها الأفعى غير مرة. وفي سنة(771/10)
1905 تركز رأس الأفعى، ثم أتجه سعيها إلى موسكو وكييف وأودسا.
هذه هي الخريطة التي رسمها المترجم مراسل المورتن بوسط إلى زمنه. ونحن نقدر أن نزيد عليها أن الأفعى صدمت موسكو صدمة حطمت كل روسيا في الانقلاب الشيوعي وكل أوربا في الحرب السابقة. وهكذا عرفنا أين استقرت الأفعى في أوربا.
وكانت هذه الخطة مرسومة قبل إنشاء جمعية تركيا الفتاة التي أنتجت ثورة البلقان ثم الانقلاب العثماني. حتى أنه لما شبت الحرب الكبرى السابقة تحطمت تركيا وتمزقت إرباً إرباً.
ولما انتظمت خطة الحكماء الصهيونيين (التي ستراها في محاضرهم) زعم اليهود أن هذه البروتوكولات مزورة ومدسوسة عليهم. إذن فعليهم أن يفسروا لنا الأسباب الأساسية للثورات والحوادث التاريخية المشتبه فيها. ومن أمثالها:
1 - إطلاق سراح تروتسكي (برونشتين) من الاعتقال في هاليفاكس، سكوشيا حين كان في طريقه إلى إحداث مذبحة لملايين من الروس المساكين.
2 - تعطيل مكتب خارجية إنكلترا للمادة الحيوية في التقرير عن بلشفة أودندبك الوزير الهولاندي (وعلم هذين المثلين عند المترجم).
3 - وعد بلفور الخ.
ويؤيد صحة البروتوكولات دزرائيلي في كتابه (لورد جورج بنتنكن) في الفصل 24 إذ يقول بعبارة جازمة: (إن اليهود يبتغون أن يدمروا النصرانية بطريقة يصفها بصراحة أنها مطابقة للبروتوكولات).
وفي رأي كاتب بعض هذه المقتبسات أن وجود قسس بلاشفة غب الكتائس واساتذة بلاشفة في الجامعات وغيرها كان مستحيلاً لو لم تكن البروتوكولات صحيحة. فالبلشفية عي مكيدة صهيونية هائلة، والقارئ يرى في أثناء قراءة البروتوكولات أدلة عديدة على صحتها.
نلفت نظر القارئ إلى ما سننقله من بنود هذه البروتوكولات ونود أن يراجع في نفسه ما يعلمه من حوادث العالم وثوراته وانقلاباته وأزماته السياسية والاقتصادية عسى أن تبدو لبصيرته اليد الصهيونية العاملة في هذه الحوادث من وراء الستار. ولولا هذه اليد الصهيونية الممتدة من عهد سليمان الحكيم إلى اليوم لكان العالم أقل توازناً وأهدأ بالاً(771/11)
وأشمل سلاماً.
وليعلم العرب على الخصوص والعالم على العموم أن رأس الأفعى اليهودية اقترب إلى الأرض المقدسة لكي يقيم فيها ملك صهيون ويؤسس دولته ويرفع بيرق سلطانه. فإن نجح لا سمح الله فليعلم العالم أجمع أن جميع ممالكه ودوله أصبحت في حوزة هذه الأفعى. وبعبارة صريحة تصبح كلها أدوات في يد الصهيونية وآلات لرفع سؤددها وتصبح جميع الأمم عبيداً لها (فمن له أذنان فليسمع).
وليعلم ستالين أنه هو شخصياً من الجويبم الذين يلقبهم حكماء الصهيونية بالبهائم، وأنه وهو يبذل جهده في تأييد تقسيم فلسطين وإرسال شيوعيين يهود إلى فلسطين يعمل في إنشاء دولة صهيونية يكون هو أول من يخضع لها، وروسيا أول دولة تخر لها ساجدة. وليعلم أيضاً أن الشيوعية التي يبشر بها وينشرها هي من اختراع حكماء صهيون، وأن روسيا الشيوعية صائرة شيئاً فشيئاً من أملاك الدولة الصهيونية. وليعلم إنها منذ الآن في أيدي الصهيونيين، والأفعى الرقطاء لا يزال جسمها رابضاً في روسيا، ولا يزال ستالين يجهل أن اليد التي تحركه هي يد الصهيونية (إذا لم يكن ستالين يجهل أن اليد تحركه هي يد صهيونية تابعة للدولة الصهيونية العليا، وحينئذ تتلقى موسكو أوامرها من تل أبيب.
هل يعلم ستالين هذا أم لا يزال من الجاهلين المغرورين.
وليعلم المغفلون الأمريكي والإنكليزي والأوربي على العموم أن الخوف ليس من الشيوعية (الشيوعية ليست الاشتراكية، بل هي صورة أخرى للصهيونية) وإنما الخوف من هذه الشيوعية التي تنطوي أذيالها على الصهيونية. فعلى دول الغرب إن كانت تريد أن تتقي شر الشيوعية أن تقطع رأس الأفعى الصهيونية قبل أن تنفث سمومها في أرض عيسى ومحمد المقدسة.
نقولا الحداد(771/12)
من ظرفاء العصر العباسي:
1 - أبو العيناء
191 - 283
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(في هذا العالم الزاخر بالتناقضات عرش للهزل كعرشه للجد، استوى عليه أبو العيناء منذ بلغ أشده من رد إلى أرذل العمر فمات)
بقي أبو العيناء معروفاً بهذه الكنية منذ اشتهر بين أهل عصره حتى انطوت حياته الطويلة الطريفة. أما اسمه فهو محمد بن القاسم الهاشمي بالولاء؛ لأن جده خلاداً كان من رقيق اليمامة، وكان مولى لأبي جعفر المنصور؛ فقد روي الخطيب في (تاريخ بغداد) عن محمد بن صالح بن النطاح مولى بني هاشم أنه قال: (حدثني أبي قال: طلب المنصور رجالاً ليكونوا بوابين له. فقيل: إنه لا يضبط هذا إلا قوم لئام الأصول، أنذال النفوس، صلاب الوجوه، ولا تجدهم إلا في رقيق اليمامة. فكتب إلى السري عبد الله الهاشمي - وكان واليه على اليمامة - فاشترى له مائتي غلام من اليمامة، فاختار بعضهم فصيرهم بوابين، وبقي الباقون فكان ممن بقي خلاد جد أبي العيناء. . .)
ويبدو أن القاسم بن خلاد والد أبي العيناء لم يطلب له المقام في بغداد، فولى وجهه شطر الأهواز بخوزستان؛ فكان مولد ابنه في كورة من كورها سنة إحدى وتسعين ومائة بعد نكبة البرامكة بسنوات، وقبل وفاة الرشيد بسنتين: فأبو العيناء قد تم الرضاعة حين بويع للأمين بالخلافة بعد وفاة أبيه في طوس، وأضحى في السابعة من عمره لدى مقتل الأمين، ونشأ أحول العين مخضوباً بالحمرة خضاباً ليس بالشبع، فأمضى فيها بقية حداثته وكل شبابه وجانباً من كهولته، في عصر المأمون الذي دام عشرين عاماً؛ فأصبح أبو العيناء في ربيعه السابع والعشرين، ثم في عصر المعتصم الذي بقي ثمانية أعوام فأضحى أبو العيناء في السادس والثلاثين، ثم في عصر الواثق بالله الذي ظل خمسة أعوام فجاوز أبو العيناء حدود الأربعين. ويومذاك اعتلت عيناه فأمسى بعد حوله أعمى بعد مغادرته البصرة إلى دار الخلافة ليقضي فيها أكثر من نصف عمره الطويل.(771/13)
كان ذكي القلب، هميز الفؤاد، قوي الذاكرة؛ فساعدته هذه المواهب على الإقبال على طلب العلم في صغره، فحفظ القرآن وتعلم الفرائض، وتوفر على دراسة العربية، وبرع في حفظ الروايات والأخبار، حتى أن الدارقطني روى عنه (أنه أتى عبد الله بن داود بن عامر الهمداني الخربي وهو صغير ليحدثه فقال له: نحفظ القرآن؟ فقال: قد حفظته. قال: تعلم الفرائض؟ قال: قد حذفتها. قال: فتعلم العربية؟ قال: تعلمت منها ما فيه كفاية، فامتحنه في كل ذلك فأجاد. فقال لو كنت محدثاً أحداً في سنك لحدثتك)
وهذه القصة قد رواها الخطيب في تاريخه بأطول من هذا وأوضح (ص 172 ج3) وهي إن دلت على شيء فأول ما تدل عليه تصوير صادق لاستعداد أبي العيناء الفطري الذي يؤهله لسماع الحديث وروايته، لولا صغر سنه وحداثته. ولئن ضن الخريبي على الفتى بتحديثه صغيراً فإنه لم يعدم وسيلة للتشجيع؛ إذ وجد متنفساً لرغبته، وإرضاء لنهمه في كتابة الحديث وطلب الأدب لدى أبي سعيد الأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثتى، وأبي زيد الأنصاري، ومحمد بن عبد الله العتبي، وأبي عاصم النبيل، الذين كان لهم اكبر الأثر في توجيه حياته العلمية.
وفي عهد طلبه للعلم على أبي زيد الأنصاري لحقت به كنيته المشهورة (أبو العيناء)، فقد سأله رجل: (كيف كنيت أبا العيناء؟ قال: قلت لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري: كيف تصغر عيناً؟ فقال: عيينا يا أبا العيناء فلحقت بي منذ ذاك)
وقد لاحظت - بعد طول البحث والتنقيب - أنه كان منصرفاً إلى العلم الانصراف كله قبل أن يجاوز الأربعين من عمره فلم يحاول الاتصال بالخلفاء والأمراء، ولم يتكسب بالشعر والرواية كما كان يتكسب في عصره أمثاله من الرواة والشعراء. فكن واثقاً أنك لن تقرأ له خبراً واحداً أو نادرة واحدة تتصل بقصر الخلافة؛ لا في أواخر عهد المأمون ولا في شيء من عهد المعتصم. ولم يكن ليحول دون ذلك سكناه بالبصرة؛ فقد كان في مكنته أن يغادرها حين يشاء إلى دار الخلافة عن طواعية واختيار؛ بيد أن انتظر الأقدار حتى أخرجته من منشئه إخراجا، يوم نكب نكبة في أواخر أيام الواثق فحمل على أثرها غليه، فاتصل عفواً بابن أبي دؤاد الذي كان له نفوذ في الدولة كبير. روى أبو العيناء عن نفسه قال: (كنت في أيام الواثق مقيماً بالبصرة، فكنت يوماً في الوراقين بها إذ رأيت منادياً مغفلاً في يده(771/14)
مصحف مخلق الأداة فقلت له: ناد عليه بالبراءة ومما فيه - وأنا أعني به أداته - فاقبل المنادي ينادي بذلك. فاجتمع أهل السوق والمارة على المنادي وقالوا له: يا عدو الله! تنادى على مصحف بالبراءة مما فيه؟ وأوقعوا به. فقال لهم: ذلك الرجل القاعد أمرني بذلك. فتركوا المنادي وأقبلوا إلي وتجمعوا علي ورفعوني إلى الوالي وعملوا علي محضراً، وكتب في أمري إلى السلطان. فأمر بحملي فحملت مستوثقاً مني. واتصل خبري بأبي عبد الله بن أبي دؤاد، فتكفل بأمري والفحص عما قرفت به، وأخذني غليه ففك وثاقي؛ وتجمعت العامة وبالغوا في التشنيع علي، ومتابعة رفع القصص في أمري، فقلت لأبن أبي دؤاد: قد كثر تجمع هؤلاء الهمج علي وهم كثير. فقال: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). فقلت: قد بالغوا في التشنيع علي فقال: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله). فقلت: إني على غاية الخوف من كيدهم، ولن يخرج أمري عن يدك. فقال: (لا تحزن إن الله معنا). فقلت: القاضي - اعزه الله - كما قال الصموت الكلابي:
لله درك - أي جنة خاف ... ومتاع دنيا - أنت للحدثان
متخمط يطأ الرجال بنعله ... وطأ الفنيق دوارج الروان
ويكبهم حتى كأن رؤوسهم ... مأمومة تنحط للغربان
ويفرج الباب الشديد رتاجه ... حتى يصير كأنه بابان
قال: يا غلام! للدواة والقرطاس. . . أكتب هذه الأبيات عن أبي عبد الله. فكتبت له، ولم يزل يتلطف في أمري حتى خلصني)
ولم يأسف على فراقه البصرة؛ (إذ وجد ماؤها أجاجاً، ووجدها تطيب في الوقت إلي تطيب فيه جهنم) كما وصفها للخليفة المتوكل لما سأله: ما تقول في البصرة يا أبا العيناء؟
لا، لم يأسف على فراغها لولا أن الشقاء هجم عليه، وان الدهر قسا عليه، فأخذ نور عينه!
يومئذ بكى على البصرة وضيائها، ونقم على بغداد وظلامها. يومئذ عرف قيمة البصر بعد أن فقد البصر!
ولكن الصولي - كما في تاريخ الخطيب - يحدثنا عن أبي العيناء حديثا ً لا يخلو من طرافة يصف به الباعث على رحيله عن البصرة، فإنه روى عنه انه قال: (سبب تحولي من البصرة أني رأيت غلاماً ينادي عليه بثلاثين ديناراً يساوي ثلاثمائة دينار فاشتريته.(771/15)
وكنت أبني داراً فأعطيته عشرين ديناراً لينفقها على الصناع، فأنفق عشرة واشتري بعشرة ملبوساً له! فقلت: ما هذا! فقال: لا تعجل، فإن أرباب المروءة لا يعتبون على غلمانهم هذا. فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعي ولم أدر! ثم أردت أن أتزوج امرأة سراً من بنت عمي، فاستكتمته ودفعت إليه ديناراً يشتري به حوائج وسمكاً هازباً فاشترى غيره فغاظني. . . فقال رأيت بقراط يذم الهازبا! فقلت: يا ابن الفاعلة لم أعلم أني اشتريت جالينوس. . . فضربته عشر مقارع، فأخذني وضربني سبعاً. وقال: الأدب ثلاث يا مولاي، وإنما ضربناك سبعاً قصاصاً. فرميته فشججته، فذهب إلى بنت عمي وقال: (الدين النصيحة) و (من غشنا ليس منا) إن مولاي قد تزوج واستكتمني فقلت: لابد من تعريف مولاتي الخبر، فضربني وشجني! فمنعتني بنت عمي دخول الدار، وحللت ما بيني وبين ما فيها، وما زالت كذلك حتى طلقت المرأة. وسمته بنت عمي (الغلام الناصح)، فلم يمكني أن أكلمه فقلت: أعتق هذا وأستريح. . . فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك علي. ثم إنه أراد الحج فزودته، فغاب عشرين يوماً ورجع وقال: أقطع الطريق، ورأيت حقك قد وجب. ثم أراد الغزو فجهزته، فلما غاب بعت مالي بالبصرة وخرجت منها خوفاً أن يرجع).
وهذا الحديث الطريف نقله عن الخطيب ياقوت في (معجم الأدباء) وابن حجر في (لسان الميزان) على اختلاف في الألفاظ يعين، وهو - في جملته أو تفصيله - لا يعتبر تعليلاً لتحول أبي العيناء من البصرة كما هو الواقع ونفس الأمر، وإنما هو تعليل فتحوله منها كما شاء هو أن يصوره بأسلوب المتهكم، وعرضه الساخر، في رواية الأخبار.
وكنت أود أن أصل الكتابة بتحليل نفسية هذا الظريف ودراسة أطواره من خلال آثاره - بعد أن عرفت بمولده ونشأته، ومقامه وانتقاله - لولا أني وقفت أمام نص في معجم الأدباء، يدور حول عمي أبي العيناء، فدارت حوله في نفسي عوامل شتى من الشك والارتياب. يفيد هذا النص (أن جد أبي العيناء الأكبر كان يلقي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فأساء مرة المخاطبة بينه وبينه، فدعا عليه بالعمى - له ولولده من بعده - فكل من عمى من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم!).
لا أكتم القارئ الكريم أني ما إن قرأت هذه الرواية حتى شممت رائحة الوضع فيها، فقلت في نفسي: إنها لا تخرج عن أحد أمرين: إما أن راويها المعاصر لأبي العيناء المنافس له(771/16)
يريد باختلاقها النيل منه والتعريض به؛ إذ كان له ولدان أبو جعفر وعبد الله، وكلاهما كان بصيراً غير أعمى؛ فهما إذاً دعيان لا يصح نسبهما من أبيهما - وفي هذا قذف صريح في أبي العيناء - وإما أن بعض العلويين المتشيعين الكارهين له الناقمين منه أذاعها بين الناس لا على سبيل المنافسة ولكن على سبيل العداء؛ إذ كانت تبدو منه أحياناً كلمات مقذعة في المتشيعين.
هذا ما جاء في نفسي بادئ الرأي. . إلا إن رواية شديدة الشبه بالنص السابق - في تاريخ الخطيب - قد أراحتني من الشك الطويل، وجعلتني من تغيير حكمي بسبيل، لألتمس الواقعة أي تعليل. يقول أبو العيناء نفسه في هذه الرواية الجديدة: (دعا المنصور جدي خلاداً - وكان مولاه - فقال له: أريدك لأمر قد همني وقد اخترتك له، وأنت عندي كما قال أبو ذؤيب الهلالي:
الكنى إليها وخبر الرسو - ل أعلمهم بنواحي الخير
فقال: أرجو أن أبلغ رضا أمير المؤمنين.
فقال: سر إلى المدينة على أنك من شيعة عبد الله بن حسن، وأبذل له الأموال واكتب إلي بأنفاسه وأخبار ولده. فأرضاه. ثم علم عبد الله حسن أنه أتى من قبله، فدعا عليه وعلى نسله بالعمى. قال أبو العيناء: فنحن نتوارث ذلك إلى الساعة).
فقد اتفقت هاتان الروايتان في تعليل عمي أبي العيناء، بدعاء مستجاب شق حجب السماء، وإن اختلفتا في شخص الداعي أهو علي بن أبي طالب أم عبد الله بن حسن؟ وفي شخص المدعو عليه أهو جد أبي العيناء الأكبر أم جده القريب خلاد؟
ونحن إذا سلمنا بأصل الفكرة المنتزعة من الروايتين نعود من جديد أمام أمرين: إما التصديق بهذه الواقعة - عمى أبي العيناء استجابة للدعاء - على أنها مصادفة تلاقت مع الواقع، وما أكثر ما يتلاقيان وإما اتهام هذا الظريف نفسه باختلاق القصة من أساسها وإذاعتها بين الراغبين في سماع أخباره العجيبة، ونوادره المبتكرة، فرواها هو بلفظ ورواه السامعون بلفظ آخر، وتداولتها الألسن لتكون دليلاً صريحاً على تمكن ملكة الكذب من نفسه، وسيطرتها على لسانه، فإني - كما سترى من قريب - ما عرفت لساناً أحب إليه الكذب من لسانه، ولا نفساً أرضى بما تختلق من نفسه!(771/17)
وقد ترى غير ما رأيت، فتفرض أمراً ثالثاً وهو أن الرواية الأولى موضوعة، وأن الثانية على أبي العيناء مدسوسة. لولا أنك بهذا الغرض نتهم ياقوتاً الحموي بوضع ما لا غرض له في وضعه، ثم ترى الخطيب البغدادي بقلة تحريه وضبطه، مع أنه الحافظ المشهور الذي أجمع علماء الحديث ورجال الجرح والتعديل على قبول آثاره، ورواية أخباره.
وكيفما عللنا سبب عمى أبي العيناء، سنوافق على حوله قبل عماه، وسنؤيد المبرد في روايته عنه (أنه إذا صار أعمى بعد أن نيف على الأربعين وخرج من البصرة واعتلت عيناه فرمى فيهما بما رمى. ثم يستدل المبرد على ذلك بقوله: والدليل على ذلك قول أبي علي البصير.
قد كنت خفت يد الزما - ن عليك إذ ذهب البصر
ولم أدر أنك بالعمى ... تغنى ويفتر البشر!
والخطيب في تاريخه روى هذين البيتين بضمير المتكلم لجمع (كنا نخاف من الزمان. . الخ البيت الأول. لم ندر أنك الخ البيت الثاني) ونسبهما إلى أحمد بن أبي طاهر وهما - على كل حال - علامة تستأنس بها في ان عمى أبي العيناء كان طارئاً في كبره، ولم يكن في الولادة ولا في صغره. ويؤيد هذا محاورة ابن أبي دؤاد لأبي العيناء يوم سأله: (ما أشد ما أصابك في ذهاب بصرك؟ قال خلتان، يبدؤني قومي بالسلام، وكنت أحب أن أبتدئهم، وإني بما حدثت للعرض عني وكنت أحب أن أعرف ذلك فأقطع عنه حديثي! قال أين أبي دؤاد: أما من أبتدأك بالسلام فقد كافأته بحسن النية؛ وأما من أعرض عن حديثك فما أكسب نفسه من سوء الأدب أكثر مما وصل إليك من سوء اجتماعه!)
ويزيدني اطمئناناً بصحة ما ذهبت إليه أن ليس لدينا دليل واحد على أن أبا العيناء عمى قبل الأربعين - فضلاً عن أنه ولد أعمى. والخطيب وابن حجر - وإن كانا قد أوردا خبر عمله بصيغة التمريض - إلا إنهما لم يحددا زمناً لعماه قبل هذه السن ولا بعدها. ثم إنه ليس ضرورياً أن تفهم من عبارة أبي العيناء في رواية الخطيب (نحن نتوارث ذلك - أي المعنى - إلى الساعة) أن كل من تناسل من هذه الأسرة يقضي عليه قانون هذه الوراثة بأن يولد أعمى، فإن الوراثة - كما يصح أن تكون مباشرة - يمكن أن تفعل فعلها بعد زمن يطول أو يقصر: فلنا إذا أن نطمئن إلى رواية المبرد - في هذا الموضوع - ثم لنا أن(771/18)
نحكم بحول أبي العيناء قبل عماه من الروايات الكثيرة المتفاقرة التي نذكر منها على سبيل المثال محاورة لطيفة دارت بين أبي العيناء ومحمد بن خلف بن المرزبان.
قال أولهما للثاني: (أتعرف في شواء المحدثين رشيداً الرياحي قال محمد بن خلف: لا. قال أبو العيناء: بل هو القائل في:
نسبت لابن قاسم مأثرات ... فهو للخير صاحب وقرين
أحول العين والخلائق زين ... لا احولال بها ولا تلوين
ليس للمرء شائناً حول العيـ - ن إذا كان فعله لا يشين
فقال أبن خلف: وكنت قبل العمة أحول! أفمن السقم إلى البلى؟ فقال أبو العيناء: هذا أظرف خبر تعرج فيه الملائكة إلى السماء اليوم. ثم قال: أيما أصلح؟ من السقم إلى البلى أو حال العجوز - أصلحها الله - من القيادة إلى الزنا؟)
هذه رواية معجم الأدباء وشبيهة بها - مع اختلاف في اللفظ يسير - رواية تاريخ بغداد (ص 175 ج3)
والمحاورة فيها إذا ختمت بالدعاية، فقد بدئت بأقوى مظاهر الجد؛ لأن الفخر كان وما يزال حديث النفس. وحديث النفس كان وما يزال مستمداً من أعماق الشعور، والشعور كان وما يزال حاسة الواقع: فليس بغريب أن يستمد فخور بنفسه كأبي العيناء من واقعه ومن نظرة الناس إلى واقعه مدعاة إلى الاعتزاز والتعالي ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وهنا تبرز جوانب خاصة من شخصية هذا الظريف تبعثنا على أن نؤكد لك أنك ستبحث في طوايا الأدب العربي طويلاً حتى تجد ظريفاً كأبي العيناء يحسن الهزل في جده كما يحسن الجد في هزله، فيمزج بينهما مزجاً يحيرك، ثم لا تدري: أتلتمس من بين غصون شعره أو نثره حقيقة ترضيك، أم خيالاً يلهيك!
فهو مثلاً يريد أن يتغاضى عن حوله بعد إلى تناسي عيبه، ويمعن في اظهارك على بعض ما أورثته الحول من الخيرات، وما حمل إليه من البركات، وما أنقذه من المآزق المحرجات، ويثني على الله هذا الثناء الذي قلما نسمع بمثله ولا من مثله:
حمدت إلهي إذ بلاني بحبها ... على حولي يغني عن النظر الشرر
نظرت إليها والرقيب يظنني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر!(771/19)
هذه صورة من هزله في جده، لكن أسلوبه حين دافع عن عماه بعد أن لأخذ الله نور عينيه يختلف من بعض الوجوه عن أسلوبه ههنا، فإنه هناك أدنى ميلاً إلى الجد الذي يتجلى في فخره بنفسه، وفي اعتزازه بلطف سمعه وإرهاف حسه، وفي إعجابه بسلامة لسانه وقوة بيانه، وذكاء قلبه ورجاحة لبه، وصرامته في حماية ذاته من لهو العابثين:
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور!
قلب ذكي، وعقل غير ذي خطل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور!
وقد يكون هذا الفخر بأدب كل من يشعر بنقصه من شيء ما! فإذا هو يتلمس الأسباب إلى ستر معايبه بمحاسنه. فيتجاهل الحقيقة المرة ويتفاخر بما عوضه الله من خير. . إلا أن أبا العيناء لا يكتفي بهذا، فلعله لديه ظاهر التصنع، بادي التكلف، وإنما يريد ان يجلو لك نفسه على حقيقتها كما يزعم ثم يشعرك بقيمة تلك الحقيقة، لتقتنع بقوة شخصيته، وهذا ضرب من جده في هزله.
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح(771/20)
ألغام الدكتور ماغنس
للأستاذ نجاتي صدقي
كان سكان حي وادي الحوز في القدس مستسلمين إلى نوم عميق بعد يوم من العمل الشاق غي سبيل المعاش، وكانت الساعة تشير وقتئذ إلى الثانية بعد منتصف الليل. فإذا وقفت في غرفتي في تلك الساعة وتطلعت من نافذتها الشرقية مخترقاً بنظرك ظلام الليل الحالك، ارتسم أمامك جبل الزيتون، وقد قامت عليه أشباح عمارات الجامعة العبرية، ومستشفى همداسا، وهي تغتسل بالفحم السائل. . .
ثم إذا ألقيت بنظرك هناك قسماً من بيوت قرية الطور وهي أيضاً تغط في نوم عميق هادئ، ولكنها آثرت أن تبقى لعض الأضواء هنا وهناك تحسباً للمفاجئات، وكم تحمل هذه المفاجئات في طياتها من جرائم مشبعة بالخسة والنذالة. وكنت أنا ساعتئذ في جملة الناس المستغرقين في نومهم، أودع يوماً واستقبل يوماً آتياً، وإذا بي استيقظ فجاءة على أزيز الرصاص ينطلق من جميع الأسلحة الآلية، من (بون) و (ستن) و (طومسون) وبنادق إنكليزية وكندية وفرنسية وألمانية، يتخللها انفجارات مروعة تهتز لها أركان البيوت، تمتزج مع أصوات نساء ورجال وصفارات، فيتجاوب صداها في الوادي الممتد من محلة الشيخ جراح حتى ضريح العذراء مريم فتخيلت نفسي في مدريد سنة 1937!. . .
كان المهاجمون جماعات من منظمة (الهاجانا) اليهود المرابطين في الجامعة العبرية وهم خليط من التلامذة والعمال، وبينهم عدد من الفتيات. . وقد اقتحموا أطراف الحي من ناحية الجبل مفتنمين فرصة خلو هذه الناحية من الحرس الوطني تقريباً، لأن السكان كانوا يعتقدون بأن الجامعة العبرية هي معهد علم وتربية وثقافة، ويستحيل أن تصدر منها طلقة واحدة.
ومما يدل على قوة اعتقاد العرب هذا، حوار جرى بيني وبين صاحب حانوت من أهل الحي، وهو رجل أمي، سليم الطوية، قلت له: أتظن أن الجامعة العبرية ستكون مصدر خطر على وادي الحوز والأحياء العربية المجاورة؟
فقال: كلا يا أبا سعيد، هذه دار علم، ونحن لا نخشاها، كما أننا لا نعتدي عليها. . . وهي على الجملة في حمى قوانين العالم!(771/21)
وحدث أيضاً أن اعتقل الحرس الوطني صحفياً يهودياً أمريكياً واقتاده إلى مقر قيادة مدينة القدس، حيث أخذوا يحققون معه فقال في دفاعه: إنني من أنصار الدكتور ماغنس عميد الجامعة العبرية. . . وحزبنا يريد سلماً مع العرب. فأفرجوا عنه مصحوباً بحرص ليوصله إلى الأحياء اليهودية.
وبلغ مسمعي حوالي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل أصوات آتية من وسط الوادي تقول بالعبرية: مهير. مهير. كاديما!
وأعقب تلك النداءات انفجار هائل شعرت منه أن دارنا قد تزحزحت عن مكانها، ثم استمر تبادل إطلاق النار حامياً، وكانت تصدر عن الأسلحة السريعة الطلقات أنغام غريبة تشبه الخبط على الأبواب، أو النقر على الزجاج، أو الضرب على طبلة السحر. . . ثم تنفجر أنغام الدكتور ماغنس وكأنها قرع طبول تشترك في هذا العزف الآثم.
وحين بلغت المعركة الليلة أوجها اقترب أحد المعتدين من كوخ منعزل، تركه صاحبه ليساهم في الدفاع عن الحي، ولم يبق فيه سوى زوجة وستة أطفال. . . ولما سمعت المرأة حركة عند كوخها ظنت أن زوجها عاد ليتفقد أسرته، فصرخت قائلة: من بالباب؟. . . فأجابها المعتدي: يهوديم، ثم سألها: أين زوجك؟
قالت: خرج، ولا أدري إلى أين، وليس في البيت سواي وأطفالي. . .
لعل القارئ يتصور أن المعتدي ابتعد عن الكوخ وسكانه الأبرياء الآمنين، غير أن الواقع كان على العكس من ذلك، فإنه وضع لغماً عند باب الكوخ، وأشعل فتيله، وأطلق ساقيه للريح، ملبياً صوت قائده الذي يقول له من بعيد: بوهينا اتسخاق. . . مهبرا!. . . وبعد لحظات انفجر اللغم، وقتلت المرأة مع أربعة من أطفالها، واستحال الكوخ إلى رماد.
أما الدكتور ماغنس فهو عميد الجامعة العبرية بالقدس، في حدود الخامسة والخمسين، أمريكي الجنسية، مديد القامة، نحيف الجسم، غائر العينين، ذاهل النظرات، وصاحب مائة مشروع ومشروع من أجل التقارب بين العرب واليهود.
واستمرت المعركة حتى السادسة صباحاً، فتطلعت إلى جهة الجامعة فرأيت أحد المعتدين يقذف النار من مدفع (برن)، وقد نصبه في صومعة الدكتور ماغنس، وتقع هذه الصومعة فوق سطح غرع الإنسانية التابع لكلية الآداب!. . .(771/22)
وحوالي السابعة صباحاً هدأت المعركة، وهرع السكان إلى حيث الكوخ المنسوف، والأشلاء المبعثرة، وكان بود المعتدين أن يغتنموا هذه الفترة الملائمة، ويمطروا الحشد بوابل من الرصاص، لو لم تتدخل السماء ستاراً كثيفاً من الضباب على الجامعة العبرية لمدة نصف ساعة من الزمن.
ثم انقشع الضباب. . . وانتشر الضياء. . . وعرف العرب أمراً جديداً، هو أن في وسع العلم والجريمة أن يعيشا في الجامعة العبرية تحت سقف واحد!. . .
نجاتي صدفي(771/23)
الحياة التناسلية
والتحليل النفساني
للدكتور فضل أبو بكر
مما يؤسف له حقاً أننا قلما نعالج مثل هذه الموضوعات في بلاد الشرق، وإذا تعرضنا لها في بعض الأحيان نمر عليها مراً سريعاً خاطفاً وبكثير من التحفظ. كذلك نشرح هذه الحياة للشبان والشابات في سن المراهقة وما قبلها بنفس ذلك التحفظ متحاشين ما استطعنا الخوض في الحياة التناسلية من حيث التكوين التشريحي والوظائف الفسيولوجية لتلك الأعضاء وما ينتاب تلك الحياة من أمراض جسمانية هي الأمراض التناسلية، ومسخ نفساني هو الشذوذ التناسلي وما يترتب على كل هذه الطوارئ من أضرار، وما عسى أن يتخذ من الحيطة والتدابير لاتقاء شر هذه الأمراض بمختلف أنواعها كما أن هذه التبعة تقع على كاهل الوالدين والمعلمين.
هذا التقصير ناشئ من اعتبارنا - خطأ - أن مثل هذه الحياة سرية، ومن هنا انطلقنا وما زلنا نطلق على الأمراض التي تنتابها في معظم الأحيان بالأمراض السرية، وفي قليل من الأحيان بالأمراض التناسلية، مع أن التسمية الأولى هي تسمية خاطئة ومضرة في الوقت نفسه. وما زال بعض الناس يقدسون سرية هذه الأمراض ويرفعونها إلى مستوى (سر المهنة) وينكرونها نكراناً باتاً على الطبيب المداوي نفسه ويضللونه تضليلاً يعقد الأمر ويزيد في إشكاله من حيث تشخيص المرض. وقد تحاوره وتحتال عليه بشتى الحيل ليبوح لك بالسر الرهيب وتفهمه بأن سر المهنة يقضي عليك بالا تبوح بشيء مما يدل به المريض في مثل هذه الأحوال حتى إلى أقرب الناس إليك أو أقربهم إليه؛ كما أنه في حالة الإفشاء يمكنه مقاضاتك والاقتصاص منك بواسطة القانون. وقد تلين قناته ويأنس إليك فيقص عليك حقيقة الأمر في بعض الأحيان كما يستمر في نكرانه وتضليله. غير أنه من حسن الحظ أن مضاعفات المرض نفسه، وما نتركه من آثار باقية، والنتائج التحليلية للفحص، كل ذلك كفيل بفضيحة الأمر وإفشاء السر في معظم الأحيان.
إن سبب هذا النكران يرجع إلى عدة عوامل منها (الحياء)، والحياء من الإيمان كما يقول الحديث وهو ركن حصين ودعامة قوية من دعائم الأخلاق بلا شك؛ غير أنه في مثل هذه(771/24)
المناسبات يكون الحياء مستعملاً في غير موضعه، أو استعمل استعمالاً خاطئاً للأسباب التي سبق ذكرها. ومنها أيضاً عادة (احترام النفس) وهو شعور طبيعي في الإنسان ويجب تشجيعه وتنميته في كل نفس؛ غير أن من المعقول أن يفقد المريض قيمته أو ينحط قدره في نظر الطبيب إذا عرف أن مريضه مصاب بمرض تناسلي؛ حتى ولا في نظر المجتمع - إذا أنصف المجتمع - لانتشار هذه الأمراض. ومن ضمن هذه الأمراض ما يسمونه (بمرض الأبرياء) وخاصة مرض الزهري؛ فقد يصاب به الإنسان أحياناً من طريق غير الطريق التناسلي أو المخالطة الجنسية كما يشاهد ذلك في أكثر من مرة. كما قد يكون سبب التكتم من ناحية المريض هو عدم ثقته بالطبيب، واتهام مقدرته على كتمان السر، وأن في إذاعة هذا السر مشاكل عائلية ومضار تسبب للمريض - وهذه أيضاً حجة واهية ووهم لا محل له إلا في ذهن المريض؛ إذ أنه ما من طبيب يحترم مهنته ويقدر مسئوليته تسول له نفسه إفشاء مثل هذه الأسرار. ثم أنمه من غير المعقول أن يلجأ المريض إلى طبيب لا يثق به؛ إذ فقدان مثل هذه الثقة قد يكون مصحوباً بالشك في العلاج نفسه وفي مقدرة الطبيب. ومن هنا ينتج فقد الإيمان والاعتقاد وما يترتب على ذلك من (إيحاء) - هذا الإيحاء هو عنصر نفساني هام يساعد على الشفاء ويزيد في مناعة الجسم وحيويته في نضاله ضد الأمراض. كذلك جهل المريض بما سوف يترتب عليه من عواقب وخيمة وأضرار لنفسه أو لمن يعيشون حوله؛ كما أن هنالك خصلة مكروهة وعادة ذميمة هي عادة الكذب الذي يلجأ إليه الكثيرون من غير ما حاجة ماسة كما قد أصبح للبعض لزم لهم من الخبز اليومي.
لا نقصد مما سبق ذكره أن المريض بهذه الأمراض التناسلية يحتم عليه إذاعتها في المجالس والمنتديات أو على صفحات الصحف أو يتخذ منها مادة للسعر والتندر؛ لا نقصد إلى شيء من ذلك بل نقول بالعكس من ذلك بضرورة التستر - (وإذا بليتم فاستتروا) كما تقول الحكمة. ولكن الذي نريده وننتظره من المريض هو عدم مراوغة طبيبه وتضليله كما نطالبه باتخاذ ما يلزم من الاحتياط حتى يحول دون انتشار العدوى لغيره من الناس.
إن مشكلة الحياة التناسلية ولا سيما تحليلها من الوجهة النفسانية مشكلة عويصة معقدة. وقد شغل هذا الموضوع الحيوي حيزاً كبيراً من كبار أطباء الأمراض بالحياة العصبية والتناسلية وتأثر كل منهما بالأمر ومن أهم من عنوا بالتحليل النفساني هو العالم النمسوي(771/25)
المعروف (فرويد) الذي كان أستاذاً في جامعة فيينا والذي يعد أكبر مرجع لهذا النوع من التحليل، كما أنه أمتاز بعمق التفكير والتأويلات البعيدة المنطقية، وبالشجاعة في إبداء آراء جريئة. وقد عانى من ذلك كثيراً ورماه البعض بالمغالاة، كما أن هنالك اعتبارات أخرى من سياسية وعنصرية، إذ كان من أصل يهودي. كل ذلك سبب له مشاكل ومتاعب، وشغر بالاضطهاد أخيراً مما أجبره على مغادرة النمسا والالتجاء إلى إنجلترا كما لجأ إليها ابن عم له من قبل هو (كارل ماركس) إذ طرد من ألمانيا لأسباب مشابهة.
تظهر الغريزة الجنسية عند الطفل في طور مبكر جداً كما يقول العالم المجري (لندنر) يقول هذا العالم أن عوارض الغريزة الجنسية ترجع إلى عهد الرضاعة؛ فهو يرى في الرضاعة عملية حيوية بالنسبة إلى الطفل، إذ تدر عليه اللبن اللازم لقوته، والذي لا تكون حياة من دونه، وتهديه إلى البحث عن هذا اللبن غريزة حب النفس وتنازع البقاء. غير أن (لندنر) و (فرويد) يقولان إن الطفل يشعر أثناء وقت الرضاعة بشعور خفي ولذة ظاهرة هي إشباع الغريزة التناسلية واللذة التي تنتج من إجابة هذه الغريزة؛ فتراه بعد أن يأخذ كفايته من اللبن لا يلذ له النوم إلا وهو ممسك بفمه ثدي أمه في نشوة ظاهرة وشعور بالطمأنينة؛ حتى إذا نما الطفل قليلاً نجده يبحث عن عضو آخر مثل إبهام يده أو غيره من أجزاء الأعضاء ليمصه واجداً في ذلك لذة كبيرة هي - حسب ما تقدم - لذة جنسية. لذلك أطلق على منطقة الفم والشفتين (بالمنطقة الجنسية) كما ذهب فرويد إلى أبعد من ذلك بقوله أن هنالك منطقة جنسية ثانية توجد في الدبر وهو يرى في عملية التبرز عند الطفل لذة تناسلية كما يقول فرويد إن هذه اللذة ما زالت آثارها كامنة عند الكبار بقوله أن الشعور الخفي بالراحة والرضى بعد أداء عملية التبرز ولا سيما بعد الإمساك الذي ينتج عنه تصلب في المواد البرازية. هذا الشعور من المعقول جداً أن يكون سببه خلاص الجسم من مواد غير مرغوب فيها كما أن هذا الشعور لا يأتي فقط من الأسباب المذكورة؛ ولكنه يكون مصحوباً في الوقت نفسه بشعور داخلي حتى منشؤه إشباع نوع من الغريزة الجنسية وما يصحب ذلك من لذة وراحة.
ذكرنا في المثالين السابقين بدأ الحياة التناسلية عند الطفل ولكنه بدأ شاذ، فالحياة التناسلية تبدأ بالشذوذ ولما يبلغ الطفل الثالثة من عمره، يبدأ اهتمامه بتكوينه التناسلي ويسترعى(771/26)
فضوله وجود الأعضاء التناسلية في جسمه وأن كان يجهل ماهيتها وما خلقت من أجله؛ غير أن الطفل من غير شك يبدأ بمداعبة أعضائه التناسلية فيحدث عنده لذة جنسية.
ويعتبر هذا مثل ثالث آخر للشذوذ التناسلي نسميه شذوذاً تناسلياً لأن الحياة التناسلية الطبيعية السليمة الطبيعية هي البحث عن مثل هذه الملاذ الجنسية عند جنس مضاد - ذكر وأنثى - بالاختلاط الجنسي. وقد يكثر الطفل من مداعبة تلك الأعضاء بعد أن يشعر بنوع من اللذة فيستدعي ذلك اهتمام والديه فيمنعونه عن عمله الشاذ بشتى الطرق من ترهيب وترغيب؛ غير أن المنع لا يميت في نفسه ذلك الشعور وربما يزيده ويزكيه فيشعر بشيء من الغبن وبسبب له هذا المنع مركباً نفسياً ضمن المركبات النفسية الكثيرة وهو ما يسميه فرويد (بمركبات الخصيان) وهو الشعور بالغبن لدى الخصيان الذين حرموا ملاذ الحياة التناسلية.
هذا ويؤكد فرويد أن أول ما يبدأ الطفل حياته التناسلية العادية إنما يبدأها بالشعور الجنسي نحو أمه. وهذا الشعور شاذ فيما يتعلق بالعرف والمجتمع ولكنه طبيعي فيما يتعلق بالغرائز الجنسية بكونه شعوراً نحو جنس مضاد لجنسه كمل توجد مثل هذه الغريزة في الطفلة بالنسبة لأبيها، وهو شعور أشبه بالجذب والتنافر بين الأقطاب في عالم الكهرباء والمغناطيس.
لا يمكن لأحد أن ينكر الشعور الطبيعي للأطفال نحو والديهما وما فيه من حب طاهر بريء؛ ولكن براءة هذا الحب لا تنافي وجود الغرائز وسلطانها. وقد نسمع بعض الأحيان أن الطفلة تريد الزواج من أبيها، والطفل يرغب أمه؛ كل ذلك في سن مبكرة بين الثالثة والرابعة مثلاً، فيثير ذلك تسلية للوالدين وعطفاً على الأطفال لهذه السذاجة البريئة. وقد وصف هذه الظاهرة فرويد وسماها (مركب أوديب) وأديب هذا كما تقول الأسطورة الإغريقية كان ملكاً ظالماً جباراً؛ وقد أنبئ بأنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه وذلك من حيث لا يعلم. ولما كان قد فارق أبويه في سن مبكرة وانقطعت كل الصلات بينه وبينهم فإنهما لا يدريان على أمره شيئاً. وفي ذات مرة أحد أفراد حاشيته بوجود امرأة جميلة في مكان ما؛ فأمر في الحال بإحضارها وتزوج منها. ولم يمض إلا وقت قصير حتى تبين له بأن المقتول لم يكن غير والده وأن الزوجة لم تكن غير أمه.(771/27)
وهكذا حلت به الكارثة وصدقت النبوءة فحزن أوديب حزناً شديداً وعاقب نفسه على ذلك بأن فقأ عينيه الاثنتين. وقد اتخذ الأدباء والشعراء من مأساة أوديب مادة خصبة دسمة مثل (سوفوكليز) و (إبوردبديز) وغيرهما من شعراء الإغريق.
أما الحياة التناسلية السليمة (والمنتجة) فهي تبدأ بعد البلوغ إذ يكتمل تكوين هذه الأعضاء تشريحياً وتتهيأ لأداء رسالتها فسيولوجياً بالتلقيح الذي ينتج النسل.
وقد يطرأ انحراف الحياة التناسلية فيطبعها بطابع المسخ والشذوذ وهذا المسخ قد يكون مخففاً أو كامناً حتى لدى من يتمتعون بحياة تناسلية طبيعية. وقد تستحكم حلقات هذا الشذوذ ويظهر جلياً عند ضعفاء العقول والمصابين بالانحلال الذهني تساعد على ذلك الوراثة المثقلة مما يجنيه الآباء على الأبناء، وكما أن هذا الشذوذ قد يؤدي إلى أمراض عقلية واختلال في التوازن الذهني الذي بدوره يساعد على تكون هذا الشذوذ؛ وهكذا كل منهما يساعد على حدوث الآخر في شبه (دائرة خبيثة).
غير أن هذا الشذوذ - من سوء الحظ - ليس محصوراً في ضعاف العقول ولكن قد يصاب به بعض المفكرين والشعراء وغيرهم ممن يتمتعون بحياة اجتماعية كبيرة عالية؛ ولكنك إذا درست حياة أولئك الكبراء والمفكرين وراقبتها عن كثب وجدت أن ذلك الشذوذ قد يعدو تلك الناحية التناسلية ويسري إلى حياتهم الخاصة والعامة. وقد تصدر منهم أحياناً بعض التصرفات الشاذة بل الجنونية ولست أجد أصدق من المثل القائل (الجنون فنون) وهي فعلاً فنون متنوعة الأشكال والألوان.
والشذوذ التناسلي على أنواع كثيرة منها يسمى - ويشمل الذكور والإناث أي العلاقة الجنسية بين فردين من نوع واحد - أي بين رجل ورجل وامرأة وامرأة ومنها ما نسميه بالعادة السرية (جلد عميرة)
ولنكتفي الآن بهذا القدر خوفاً من الملل ورفقاً (بحياء) بعض القراء وإن كان لا حياء في العلم كما لا حياء في الدين.
(باريس)
فضل أبو بكر(771/28)
من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة:
1 - الوطنية الجديدة
للأستاذ محمد محمد علي
في عام 1909 لفت اثنان من حكام المستعمرات الأوربية أحدهما إنجليزي في الهند البريطانية، والآخر روسي في التركستان، لفتا النظر إلى المتغير الذي بدأ يحدث في اليقظة الاجتماعية والثقافية لسكان المستعمرات. فقال اللورد رونالد شاي: (هناك مشكلات آخذة في الظهور، لها أثر بعيد بالنسبة للعالم عامة، ولبريطانيا خاصة، تحفز على التفكير والدراسة، أعضاء جنسيتنا، وإني أشير إلى تلك المشكلات الممثلة في الرغبة الزائدة لتأكيد الذات، التي تثير أعصاب الشرقيين. وفي الواقع أن احتكاك الفكر العربي بأفكار الشرقيين، قد أحدث تأثيراً كبيراً في جميع سكان الشرق.
وفي نفس العام، كتب الحاكم الروسي العام للتركستان: (إن الحروب قد حركت العالم الإسلامي في الفترة الحالية، فقد ظهرت أولاً فكرة الجامعة الإسلامية ثم المطامع الوطنية المتزايدة والأفكار الثورية، كل هذا حرك الجماهير الإسلامية، وأيقظ في أوساطهم فكرة الوحدة الوطنية، والأفكار الاشتراكية)
ومنذ عشرين سنة كافحت الهند من أجل الاستقلال، الذي لفت أنظار بريطانيا والعالم. وفي التركستان، حلت الجمهوريات الوطنية الاشتراكية محل الولايات الروسية التي كانت تحت سيطرة الحاكم العام. وقد عرف تفوق أوربا في ميدان العلوم الهندسية والتنظيم الفني. وبدا الناس يعرفون بالتدريج أن أوربا يمكن أن تقهر بأسلحتها، فساروا على نهج حركات التحرير الوطنية التي قامت في أوربا في القرن التاسع عشر. ولما تنبهت في شرق أوربا - أمم لا تاريخ لها - للشعور بذاتها، في القرن التاسع عشر، وحاولت أن تلعب دوراً إيجابياً في التاريخ؛ استيقظ الشرقيين من ظلمات عهود الإقطاع الوسطى، وهبوا إلى غرض واحد في شعار الوطنية ورأسمالية الطبقة الوسطى.
إذن، فالشرق قد وصل إلى عصر فيه الوطنية أعلى وأسمى الأوضاع الاجتماعية، وتفرض طابعها على العنصر.
ومنذ سنوات، كان الدين هو العامل الفعال في الشرق. وليست الوطنية ديناً خارجاً ولكنها(771/30)
تشق طريقها بجانبه، وغالباً ما تعدل فيه بالتغيير والإصلاح.
إن الوطنية اليوم في تلاؤم مع النظم الاجتماعية الجديدة. وقد ظهر هذا في أوربا بوضوح، عندما كانت هناك حاجة إلى القضاء على الإقطاع، والوطنية المحلية القائمة على أساس الزراعة والأسواق الصغيرة والمدن والوصول إلى الوحدة الكبرى في ظل النظام الرأسمالي.
لقد كانت الوطنية هي الشكل الذي وافق حاجات الرأسمالية الناشئة والطبقة الوسطى الفتية، ولا تزال الوطنية في الشرق تواجه حاجات اجتماعية واقتصادية، سواء نظرنا إلى الموقف من وجهة نظر أوربا اليوم، أو الشرق في الماضي القريب. فنظم الصناعة الرأسمالية تشق طريقها إلى الشرق، ويسير اقتصاد النقد والتصنيع: جانب الزراعة والمبادلة. وهنالك طبقة وسطى فنية آخذة في الظهور، والشعور برسالتها، ومتأهبة للكفاح ضد نبلاء الإقطاع.
وفي الأقطار التي تجري فيها هذه العمليات، وترى أن الحركات الوطنية قد قضت على الانقسامات الدينية بين السكان، كما في مصر وسورية. وإن السياسي المنقطع النظير - ابن السعود بعيد عن روح التطور في رسالته السياسية، ويعقد الشباب العربي في سوريا وفلسطين - حتى المسيحيون - آمالهم على بدوي الصحراء المسلم ابن السعود. وعندما أعلن الأتراك الرابطة الوطنية في 28 يناير سنة 1920 - عن الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية، ومدن الإسلام المقدسة، الذي كان امتلاكها في غاية الأهمية لدولة الخلافة الإسلامية؛ أرسل وفد الخلافة الهندي برئاسة محمد علي إلى نائب الملك في الهند في 19 يناير سنة 1920 وإلى لويد جورج في 19 مارس، يقول إن الخليفة يجب أن يمتد نفوذه إلى المدن المقدسة الثلاث: مكة والمدينة والقدس، وإلا فإن معاهدة السلام لن يقبلها أي مسلم مؤمن.
وقد نقل (خودابكش) كلمات ولسون كاس الأمريكي: (إن شباب الإسلام اليوم مفكر بأسلوب سياسي أكثر منه دينياً، وهو متحمس جداً لنفع أمته أكثر من تحسنه الانتشار الإسلام. وإن عظمة الإسلام ليست مسألة خلافة أو شريعة، بل هي مسألة وحدة سياسية تقف في وجه الغرب).
2 - الشباب الحديث(771/31)
بعد الحرب العظمى (الأولى) مباشرة - عندما سادت بين الشرقيين تجربة الوحدة الوطنية، ظهر أن الاختلافات الدينية قد اختفت. فالمسلمون والأقباط في مصر، والمسلمون والمسيحيون في فلسطين وسوريا، والشيعة والسنيون في العراق، والمسلمون والهندوس في الهند؛ كل أولئك حاربوا جنباً إلى جنب من أجل الثورة على أحوالهم السياسية. ولا تزال اليقظة القومية لها وجود اليوم وإنها لعامل في تاريخ هذه الأقطار - التي ما كانت توجد بغيرها. وسوف لا تلعب الاختلافات الدينية دوراً في السياسة في محيط الحضارة العربية المصرية؛ وهذا بالرغم من السياسة الاستعمارية الرجعية وتصعيبها للنمو السياسي واليقظة القومية، وذلك بإدخال أقليات دينية وعنصرية.
إن الشباب المسلم يعمل على ربط نفسه بالتقاليد، فيفصل ما هو ذا قيمة عما لم يعد يتلاءم والوقت الحاضر، وليخلق إسلاماً مجدداً يقبل محاسن الغرب ويغالب الحضارات الأوربية، هؤلاء الشباب ينكرون إرساليات التبشير، ويرون أنفسهم، وقد واجهتهم مشكلات - كان يجهلها آباؤهم، ويقابلهم تغير مريع في أحوال الشرق الفكرية والاجتماعية. لقد دخلت في نفوسهم قوى جديدة وخلقت لأول مرة: حركة شبان مسلمين.
ومنذ قرون لم يكن في الشرق حزازات ولا اختلافات بين الآباء والأبناء. أما الآن فقد حدث تغير في علاقات الأفراد وصلتهم بالحياة والأسرة والطبيعة.
وقد أسر الشباب في الشرق: حب الرياضة والتجول، كما دخلت إلى حياتهم العاطفية مشكلات الحب والزواج. ثم إن تعليم البنات بغير العلاقة بعد الجنسين. وزيادة على ذلك يأمل الشباب - ولما يملكوا القوة بعد - أن يتخلصوا من الماضي ومما وارث من العادات في السياسة الشرقية، مثل الأساليب الرجعية، والحاجة إلى العزيمة الماضية، وانخفاض مستوى المسئولية الاجتماعية، وعدم القدرة على التضحية بالمصالح الشخصية في سبيل الصالح العام والمحسوبية!. وكانت جمعيات الشبان المسلمين مجمع هذه الآمال، إذ حاولت إنشاء مراكز ثقافية واجتماعية لشباب الإسلام. وفي إبريل 1928 - انعقد في يافا مؤتمر لجمعيات الشباب المسلمين مع مائة وعشرين مندوباً عن فلسطين. وقد أجمع المؤتمر على إصدار إعلان عن تأسيس مدارس إسلامية وطنية ودعوة الحكومة إلى فتح مدارس جديدة، وتعديل برامج الدراسة في المدارس الأجنبية بروح وطنية. كما وضع الاجتماع شارة(771/32)
ونشيد وعلم. ومما يلفت النظر الاحتفال بيوم الجمعة وتخصيصه للعطلة الأسبوعية، وتنظيم دراسات مسائية للعمال، وتشجيع المسرح العربي، وإنشاء جمعيات إسلامية للشابات، غرضها رعاية الطفل والعلاج المجاني للمرضى الفقراء.
هذه القرارات الحازمة لم تعرف في الإسلام، ولا من عهد قريب. وليس من شك في أن هناك تأثيراً بأوربا، ولكن الشباب يجاهد لاستنبات هذه الأفكار في تربة إسلام مجدد.
وليس من يشك أيضاً في أن الجيل الناشئ من المسلمين والمسيحيين أكثر نضوجاً سياسياً من الجيل الماضي، وذلك بفضل تعاليم المدرسة الجديدة والجامعة الأوربية. ولم يقتصر عمل الشباب على وضع المطالب القومية في المقدمة فحسب، بل إنهم تيقظوا للمشكلات الاجتماعية وضرورة إيجاد حلول جديدة.
(يتبع)
محمد محمد علي(771/33)
من شواهد النبوة:
المتنبئون
للأستاذ علي العماري
لم يعد خافياً على من كان له قلب أن الشواهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أسطع من فلق الصبح، ولكن لا بأس أن نسوق هنا شاهداً جديداً مر عليه أكثر الناس مؤرخين، وقد سخروا منه حينا، واستطابوا السمر به في أحيان كثيرة، ولكن ما أظن أحداً منهم - على مبلغ علمي - فطن إلى المعنى الأصيل، أو كشف عن السر الإلهي الذي كمن في دعوى المتنبئين. ولا شك عندي أن التنبؤ كان من الدلائل الواضحة على صدق النبوة، وهل أدل على وجود الشمس من تضاؤل أشعة المصابيح أمامها؟ وما كان هؤلاء المتنبئون إلا كالأعلام المنصوبة على رأس الطريق تدعو الناس إليه، وتزعم أنها ترشدهم إلى المنهج القويم، فمن الناس من سلك ولكنهم لم يبعدوا حتى وجدوا الصخور والأشواك، وما لا قبل لهم به من حشرات الأرض وأفاعيها. وحينئذ استيقظت أحاسيسهم، وأدركوا خطأهم ورجعوا إلى الأعلام فحطموها، ولكن بقيت منها أشلاء تنادي كل سالك بأن الطريق المستقيم ليست من هنا ولكنها من هناك. . . هناك الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمت، ولا أشواك ولا حشرات. ولقد ظهر المتنبئون في الجزيرة العربية ظهور السراب الخادع، فكان من العرب من وثق ببرهان عينيه، وأيقن أنه السراب، وإنما يخيل له، وأن طريق الماء ليست إليه. ومنهم من انخدع - عن جهل أو عن علم - فسار، ولكن بعد أن حفيت قدماه، ونهكهت أعصابه، ما وجد إلا سراباً يقول له واضحاً صريحاً: إني لست ماء فالتمس الري عند غيري. وكان هذا السراب - لمن سار ولمن لم يسر - شاهداً لا سبيل إلى الشك فيه على أن الماء في غيره. . هكذا كان شأن المتنبئين. .
ومن عجب هذا الأمر في الغرب أنه لم يدعه منهم من كان يظن أن يدعوه، فقد كانت طبيعة الأشياء تقضي بأن يتنبأ رجل كأمية بن أبي الصلت، فإنه هيأ نفسه لتلقي الوحي، فدان بالحنيفية ملة إبراهيم، وقرأ الكتب المقدسة وكره عبادة الأوثان، وأخذ نفسه بالفضائل فحرم الخمر والزنا والميسر، وخالط الأحبار والرهبان، وتزيا بزيهم، وأظهر التأله، وما هي إلا غمضة عين وانتباهتها حتى يجيئه - زعم - الوحي، فلما ظهرت النبوة في قريش،(771/34)
ونزل الوحي على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، امتلأت نفسه حقداً وحسداً، وصد عن السبيل، وبالغ في العداء للمسلمين، وقاتلهم مع مشركي مكة، وجعل يرثي من قتل من كفار قريش في بدر، فكان طبيعياً - وقد حرم النبوة - أن يدعيها، فعنده آلاتها - على زعمه - ولكنه لم يفعل، أو يتنبأ رجل كعامر ابن الطفيل فقد كان سيد قومه، وآلى على نفسه ألا ينتهي حتى تتبع العرب عقبه، فما كان له - كما حدث عن نفسه - أن يتبع عقب هذا الفتى من قريش. وقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يضمر الغدر به، وعرض معه أن يجعل الأمر له سنة، ولنفسه سنة، أو يجعل له الوبر ولنفسه المدر، ولكن الرسول أبى، فقال عامر: والله لاملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مردا، ولأربطن بكل نخلة فرساً، ولكنه - مع ما كان يحرص عليه من ملك العرب - لم يدع النبوة، وإنما ادعاها قوم لم يكونوا على مقربة منها، ادعاها مسيلمة بن حبيب، وبعض كتب السيرة تحدثنا بأنه لما وفد مع قومه على رسول الله جعلوه في رحالهم ليقوم بشئونها. وادعاها طليحة بن خويلد الأسدي، وادعاها الأسود العنسي، وادعاها لقيط بن مالك الأزدي في عمان. ولم يحدثنا التاريخ عن واحد من هؤلاء قبل ادعائه النبوة بما يمكنأن يكون مؤهلاً فيه لها، عدا ما ذكروا من كهانة طليحة. ثم ادعتها امرأة، ادعتها سجاح بنت الحارث التميمية، فصحقول الشاعر:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
ولم يخف هذا الأمر على أتباعها، فقال أحدهم يسخر منها بعد أن تزوجت مسيلمة.
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
والذي تستطيع أن نقوله في كل هؤلاء (ليس بمتنبئ صادق، ولا بكذاب حاذق) فإن أحداً منهم لم يستطع أن يتقن دوره الذي قام به، وأن يخدع الناس عن دعوته. نعم كان منهم الكهان الذين مرنوا على استهواء العامة، وكان منهم من تعلم الحيل ليموه بها على قومه؛ فقد قال الزمخشري في ربيع الأبرار: قال الجاحظ: كان مسيلمة قبل ادعاء النبوة يدور في الأسواق التي بين دور العرب والعجم يلتمس تعلم الخيل والغير تجات واحتيالات أصحاب الرقي والنجوم. أه. ثم جاء العصر العباسي فكان المتنبئون جماعة من الحمقى، ولم يكن لهم تأثير لا في العامة ولا في الخاصة، وإنما هو الجنون، فإن لم يكن فالحمق لا ريب فيه.(771/35)
فكيف - أذن - استطاع هؤلاء المتنبئون أن يسخروا أقوامهم في حروب دامية مع جيوش المسلمين! وكيف استطاع مسيلمة - مثلاً - أن يحشد أربعين ألفاً يقاتلون قتالاً لا هوادة فيه ولا رفق، حتى يقول فيهم بطل المسلمين خالد بن الوليد: شهدت عشرين زحفاً فلم أر قوماً أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداماً من بني حنيفة يوم اليمامة. وحتى يقول فيهم رافع بن خديج: خرجنا ونحن أربعة آلاف، فانتهينا إلى اليمامة فتنتهي إلى قوم هم الذين قال الله فيهم (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد). ولماذا صبر هؤلاء حتى دوخوا المسلمين، وقتلوا منهم ألفاً وثمانمائة، وضحوا من رجالهم بعشرين ألفاً؟ ليس السر قطعاً لصديقهم بنبوة صاحبهم، فما كانوا يحاربون في سبيل الدين، وقد كانوا - أو على الأقل كثير منهم - على يقين من كذب هذا الإدعاء. على أن هذا لم يكن شأن مسيلمة وقومه وحدهم، وإن كان أكثر المتنبئين إتباعاً - ولذلك سبب نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إليه - فقد كان وراء طليحة الأسدي نحو السبعمائة رجل! وقبل أن نجيب عن هذه الأسئلة نحب أن نذكر أن حركة التنبؤ تأخرت كثيراً، ولم تظهر إلا في أخريات حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ظهر بعد وفاته. وقد طال نظري في هذا الأمر، ثم وجدت في مقدمة ابن خلدون ما يصح تعليلاً، قال بعد أن تحدث عن النبوة والكهانة، وانقطاع الكهانة في عهد النبوة (فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبوة فقط، ولعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه، وهذا هو الظاهر، لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبوة كما تخمد الكواكب والسرج عند وجود الشمس، لأن النبوة هي النور الأعظم الذي يخفي معه كل نور ويذهب) وهذا ولا شك تعليل نفسي جميل، فإن النبوة بقوة سطوعها في النفس تخمد فيها كل حركة توحي بها الشياطين، وتشعر النفوس معها بأنها مضروب عليها من كل نواحيها، فلا تفكر في باطل - من هذا النوع - ولا تأتيه، ولكن هذا التعليل - مع ذلك - ليس كل الحق في موضوعنا، فأني لأرى أن تأخر ظهور المتنبئين كان مرجعه إلى أن العرب تركوا قريشاً تنازل النبي، وتصطدم به، وكانوا هم على هامش المعركة، فلما كان عام الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ورأى الأعراب أن الدعوة المحمدية قد مكن لها بدأوا يفكرون في طريق يعاندون بها هذه النبوة التي ظهرت، وكانت هناك أسباب أدت إلى ظهور حركة التنبؤ في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم.(771/36)
ثم نعود إلى الإجابة على ما قدمنا من أمثلة فنقول: إن ثلاثة أمور عظيمة هي التي دفعت بهذه العشائر إلى أتون الحرب، ليس منها يقينهم بنبوات أصحابهم، أولها ما جاء به أولئك المتنبئون من وضع كثير من أوامر الدين عن أقوامهم، فقد رووا أن مسيلمة وضع عن قومه الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا. وفي القصة الموضوعة التي تصور لنا ما حدث بينه وبين سجاح التميمية أنه أصدقها بأن وضع عن قومها صلاتين مما جاء به محمد. والرواة يحدثوننا أن بني تميم لا يصلون صلاة الفجر ولا صلاة العشاء الآخرة لأنهما مهر فتاتهم. ويروى عن طليحة أنه كان يقول لقومه: إن الله ما يصنع بتعفير وجوهكم، وتقبيح أدباركم شيئاً، اذكروا الله، واعبدوه قياماً. على أن أهم ما في هذا الأمر أن المتنبئين أعفوا أتباعهم من الزكاة، وهي السبب الأصيل الذي أدى إلى ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما تلك العصبية الجامحة التي كانت لا تزال تحتل نفوس العرب، والتي تصورها لنا كلماتهم؛ فقد رووا أن طلحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مع رسول الله. فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال في نور أو في ظلمة؟ قال في ظلمة، قال طلحة: أشهد أنك كذاب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. ثم بقى مع مسيلمة حتى قتل في موقعة عقرباء (كما في ابن الأثير)، كما روى أن عينة بن حصن لما أتى طليحة، وكان بين غطفان وأسد حلف في الجاهلية قام وقال: إني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبياً من قريش. على أن عيينة هذا، لم يدخل الإيمان قلبه - ولعل كل الذين ناصروا المتنبئين من سادات العرب كانوا كذلك - فقد روى أن عيينة لما أسر وطيف به المدينة وهو مكتوف جعل الصبيان يقولون: يا عدو الله! كفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين. وهذه العصبية تفسر لنا تفسيراً واضحاً موقف كل متنبئ من عشيرته، فإن كانت العصبية قوية كثر أتباعه، وإن كانت ضعيفة قل هؤلاء التباع. ومن المشهور في التاريخ أن ربيعة كانت شديدة الحسد للمضريين لما ظهر النبي منهم، حتى قال المأمون (لم تزل ربيعة غضاباً على الله منذ أرسل نبيه من مضر) وهذا يفسر لنا كثرة أتباع مسيلمة، وشدة صبرهم على قتال المسلمين.(771/37)
(للحديث بقية)
علي العماري
مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بأم درمان(771/38)
الشيوعية في الإسلام
بين رأي لجنة الفتوى ورأي السيد جمال الدين الأفغاني
كتب أحد الكتاب بحثاً تناول فيه رأي العالم الصحابي أبي ذر الغفاري في توزيع المال في الإسلام، وانتهى منه إلى القول بوجود الشيوعية في الإسلام، فأحالت وزارة الداخلية هذا البحث إلى لجنة الفتوى بالأزهر لإبداء الرأي فيه، فأصدرت اللجنة فتوى بهذا الصدد قالت فيها:
(إن من مبادئ الدين الإسلامي احترام الملكية، وأن لكل امرئ أن يتخذ من الوسائل والسبل المشروعة لاكتساب المال وتنميته ما يحبه ويستطيعه، ويتملك بهذه السبل ما يشاء. وقد ذهب جمهور الصحابة وغيرهم من الفقهاء المجتهدين إلى أنه لا يجب في مال الأغنياء إلا ما أوجبه الله من الزكاة والخراج والنفقات الواجبة بسبب الزوجية أو القرابة وما يكون لعوارض مؤقتة وأسباب خاصة كإغاثة ملهوف وإطعام جائع مضطر، وكالكفارات وما يتخذ من العدة للدفاع عن الأوطان وحفظ النظام إذا كان ما في بيت مال المسلمين لا يكفي لهذا ولسائر المصالح العامة المشروعة كما هو مفصل في كتب التفسير وشروح السنة وكتب الفقه الإسلامي).
وبع أن أشارت اللجنة في فتواها إلى ما يكون من تطوع القادرين بالإنفاق في وجوه البر عرضت لمذهب أبي ذر فقالت: (وذهب أبو ذر الغفاري رضي الله عنه إلى أنه يجب على كل شخص أن يدفع ما فضل عن حاجته من مال مجموع عنده في سبيل الله، أي في سبيل البر والخير، وأنه يحرم ادخار ما زاد عن حاجته ونفقة عياله. هذا هو مذهب أبي ذر، ولا يعلم أن أحداً من الصحابة وافقه عليه، ولقد تكفل كثير من علماء المسلمين برد مذهبه، وتصويب ما ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين بما لا مجال للشك معه في أن أبا ذر رضي الله عنه مخطئ في هذا الرأي. والحق أن هذا مذهب غريب من صحابي جليل كأبي ذر، وذلك لبعده عن مبادئ الإسلام وعما هو الحق الظاهر الواضح، ولذلك استنكره الناس في زمنه، واستغربوه منه. . .
ولما كان مذهبه داعياً إلى الإخلال بالنظام والفتنة بين الناس طلب معاوية والي الشام من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يستدعيه إلى المدينة - وكان أبو ذر وقتئذ بالشام -(771/39)
فاستدعاه الخليفة، فأخذ أبو ذر يقرر مذهبه، ويفتي به ويذيعه بين الناس، فطلب منه عثمان أن يقيم بجهة بعيدة عن الناس، فأقام بالربدة بين مكة والمدينة. . . وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. .
ويبدو لي أن اللجنة لم تفرق في فتواها بين الشيوعية والاشتراكية، مع أن بينهما فرقاً كبيراً، وعلى هذا فقد خطأت أبا ذر في رأيه، وما كان أبو ذر شيوعياً، ولا يرى هذا الرأي، ولكنه لا شك كان اشتراكياً، يدعو إلى رد مال المسلمين على المسلمين. وقبل أن أناقش حكم اللجنة هذا أورد فتوى في هذا الشأن المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني وهي تخالف فتوى اللجنة تمام المخالفة، فقد سأله أحد الباحثين عن مذهب الاشتراكية (سوسيالست) الذي ينادي به الغربيون فيه علاجاً حاسماً للحالة الاجتماعية القائمة في بلادهم، وهل هذا المذهب مما يقره الإسلام ويرتضيه فقال السيد رضوان الله: (الاشتراكية الغربية ما أحدثها وأوجدها إلا حاسة الانتقام من جور الحكام والأحكام وعوامل الحسد في العمال من أرباب الثراء الذين استعملوا ثروتهم في السفه والسرف، وبذلوها في التبذير والترف، على مرأى من منتجها، والعامل في استخراجها من بطون الأرض. .)
(أما الاشتراكية في الإسلام، فهي ملتحمة مع الدين الإسلامي ملتصقةفي خلق أهله. . وهذا خير كافل لجعلها نافعة مفيدة، ممكن الأخذ بها، لأن الكتاب الديني وهو القرآن الكريم أشار إليها بادلة كثيرة منها: إن المسلم أول ما يقرأ من فاتحة الكتاب: الحمد لله رب العالمين، فيعلم أن للخلق رباً واحداً، وهو مع سائر الخلق من المربوبين على السواء. ويرى ويعلم أن القرآن أتى على ذكر أرباب القوة ورجال الحرب والغزاة ومن يتولى إمرتهم وحياتهم، فخاطبهم آمراً ومعلماً ومدافعاً ومبيناً حقوق المستضعفين من الأمة الذين لم يتمكنوا من الاشتراك مع من ذكر ليكون لهم من ذلك الجهاد وتلك المساعي نصيب إذ قال (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير)، فهذه آية باهرة، أوجبت على من يسعى مجاهداً ومخاطراً بحياته أن يكون مشتركاً فعلاً. . وهم لا شك من المستضعفين الذين إنما قعدوا عن الاشتراك في الجهاد والسعي وراء الغنائم لعل تختلف أشكالها وأنواعها، ولكن الله لم يجز حرمانهم، بل جعل لهم نصيباً(771/40)
من مساعي أولئك الأشداء الأقوياء المجاهدين الخائضين غمرات الموت.)
(كل ذلك تراه مبنياً على حكمة الاشتراك، ولبث حكم هذه الآية جارياً، وكان الرضاء به شاملاً لمجموع المسلمين، من مجاهد أو قاعد عن الجهاد لعلة، فبدأ بالدرجة الأولى بعد الله ورسوله بذوي القربى من المجاهدين على درجاتهم، ثم عطف على من دونهم في المرتبة الثانية ممن ليس لهم في المجاهدين أقرباء فقال: واليتامى، ثم وسع نطاق الاشتراكية فقال: والمساكين، ثم رأى أن يأخذ نطاقاً أوسع فقال: وابن السبيل، أي عابره. ثم بذلك الشكل نوع من الاشتراكية لم يكن أوسع منه شكلاً ولا أنفع. . .)
ثم جاء بموضع آخر من الكتاب مقرعاً لمن يكنزون الذهب والفضة، ثم حبذ وأثنى على الذين يؤثرون على أنفسهم بالعطاء والإسعاف والإطعام ولو كان بهم خصاصة.
(وهكذا ترى قانون الاشتراكية المعقول في آيات القرآن تترى، فلننظر هل عمل بهذا القانون؟ وما كانت نتائج العمل به؟)
(نعم) إن الإخاء الذي عقده المصطفى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار لهو أشرف عمل تجلى به قبول الاشتراكية قولا وعملا. فالمهاجر من المسلمين إنما استطاع أن يفر بدينه راضياً بهجر بلده، وترك مسقط رأسه، ومفارقاً أهله وذويه، والخروج من ماله ومقتناه، مسروراً أن يصل إلى دار الهجرة سالماً - والأنصاري، وهو في بلده مع أهله وذويهوماله، قبل راضياً مسروراً أن يشارك أخاه المهاجر بكل معنى الاشتراك. حتى لو تطلع الإنسان منا اليوم، وأشرف على تلك الأرواح الطاهرة لرأى من مجال الاشتراك روحاً وجسداً، ما ينبهر له عقله، ولصح اعتقاده أن عمل الدين وتأثيره في تلطيف الكثافة الجثمانية لا يضارعه مؤثر أو عامل آخر على البشرية، ولرجعوا لو كانوا يعقلون. . .)
(وبعد النبي صلوات الله عليه كان صاحب أكبر منصب وهو الخليفة لرسول الله يسير بيسيرة نبيه من الاكتفاء بالقليل من العيش والكفاف منه، ومجالسة الفقراء وبمشاركتهم بكل معنى الاشتراك في مظاهر الحياة الدنيا ونعيمها. فأهل الإسلام مع تمخض سلطان الحرية فيهم لم يروا في سيرتي الصديق والفاروق رضوان الله عليهما ما يدعوهم إلى أقل تذمر أو تململ، أو تفكير بمناهضة لسلطانهما، أو تألب على أشكال حكمهما وإمرتهما، أو إحداث شغب يعرقل مساعيهما في الفتوحات، بل كانوا يبذلون النفس والنفيس في طاعة الخلفاء(771/41)
وتأييداً لشوكة الإسلام وتعميماً لعدل الشريعة السمحة. . .)
وبعد أن أورد السيد الأفغاني جملة من الشواهد الدالة على اشتراكية الخليفتين الأولين، وما تجلى من ذلك في سياستهما وتصرفاتهما، عرض لمذهب أبي ذر فشرحه في إفاضة وأشاد به، وسنعرض لذلك في المقال التالي.
(الجاحظ)(771/42)
من ديوان (هناء):
قلب شاعر
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
(ليت ملهمتي الخالدة (هناء) تصغي لهذا القلب الذي يشدو والكين تقطر دماً)
لي مضنة بين جنبي لا قرار لها ... كأنها لجة ما بين أهوائي
هي الفؤاد الذي لولا نوازعه ... لكنت أرفل في أبرار نعماء
لا يستقر على حال مرزأة ... كالشلو تنتابه أنياب رقطاء
يمسي ويصبح خفاقاً نقلبه ... على بساط المآسي أنحل الداء
تجمع الأمل الزاهي بساحته ... كما حوى الحب ممزوجاً ببغضاء
فهو الذي حمل الآلام قاتلة ... حتى غدا عاجزاً عن حمل سراء
وهو العليل وقد خابت مطالبه ... بالطب. . يأمل تحنان الأطباء
وهو المحب وقد ظلت رغائبه ... بالحب. . يأمل إحسان الأحباء
يا للجريح لقد حار الأساة به ... وارحمتاه لميت بين أحياء
عجبت للشاعر الموهوب ترهقه ... حياته ويوافيها بأطراء
ما باله وهو في فجر الشباب يرى ... بالرغم من زهوه في زي بكاء
مدله، ذاهل، أسوان متشح ... بالهم يدأب في بيداء ضراء
لا تأخذ العين منه عند رؤيته ... إلا خيالاً عليه برد غماء
أبقت عليه يد الأيام طابعها ... من بعد ما فتكت فيه يد الداء
كأنما الموت فيه قيد أنملة ... أو قد يسير إليه سير إبطاء
إن كانت الخيبة الكبرى غنيمته ... بعد الطواف وراء المأمل النائي
فليملأ اليأس منه كل جارحة ... واليأس داء وترياق لأدواء
ما قيمة الأمل المنشود إن نظرت ... عيني الحياة فكانت جد سوداء
يا للجمال لقد حفت فواكهه ... بالمغريات وفيها متعة الرائي
هل يحرم الشاعر الموهوب لذتها ... وينعم الوغد فيها بعد إقصائي
يا لروعة أجج الحرمان جذوتها ... فأحرقت بلقاها كل أعضائي(771/43)
لا تهدئي فعسى نذكو بشعلتها ... ذبالة خمدت ما بين أحشائي
سبع وعشرون ما أبقت على كبدي ... إلا غلالة أوجاع وأرزاء
كأنها ويد الأقدار تنسجها ... قبر تشيده الدنيا لإيوائي
مرت على سنون العمر كاملة ... كأنها ما وعت ترجيع أصدائي
فمن عموم منيخات إلى محن ... ومن عناء إلى شكوى وبلواء
كأنني صخرة صماء لا كبد ... حرى تعج بآمال وأهواء
أشكو إلى الحب قلباً ظل منفرداً ... في وحدة كظلام القبر خرساء
حيران كالبلبل المأسور في قفص ... وحوله جنة حفت بآلاء
حران لا أمل يزهو فيسعدني ... ولا صباح الهوى بنأي بظلمائي
ولهان والنصب القتال أنهكني ... هل من خميلة حسن ذات أقباء
حتام أظمأ والأقداح دائرة ... مثل الكواكب ما بين الندماء
هذا الخيال الذي يسري على مهل ... للقبر شعلة أفكار وآراء
بغير درب الهدى للناس في زمن ... تخبطوا في رجاء خبط عشواء
أجريت قلبي ينبوعاً يلذ به ... كل البرية أحبابي وأعدائي
وما رجوت صفاء من نفوسهم ... وكيف أرجو صفاء الطين والماء
وقد وهبت لهم روحي وما ملكت ... كفي، فلم يذكروا بالحمد آلائي
لئن ظلمتم شبابي في طروادته ... فأين يا ظالمي الأفذاذ أخطائي؟
أنا الشعاع الذي يخزي ظلامكم ... فليل جهلكم يعنو لأضوائي
إن كان يسعدكم ما تنعمون به ... فليس يسعدني عز الأذلاء
أنا الذي تملأ الأيام سيرته ... فهل يهدم مجدي كيد حرباء!
لا در در الذي يسعى لغايته ... أن لم تكن روحه تصبو لعلياء
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري(771/44)
الأدب والفن في أسبوع
كذبة إبريل في الجامعة:
نشرت الأهرام أن مناظرة ستجري في كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول وموضوعها (الدستور المصري أدى رسالته ولا يحتاج إلى تعديل) وذكرت أسماء من سيؤيدون الرأي وعلى رأسهم الأستاذ عباس محمود العقاد، ومن سيعارضونه وفي مقدمتهم الأستاذ فكري أباظة. وذهبت في الموعد المحدد مع من ذهبوا، وامتلأ المدرج المعين للمناظرة على سعته بجمهور كبير من طلبة الجامعة والأزهر وغيرهم، وحل الموعد المحدد للبدء، ثم انقضى بعده نحو نصف ساعة، ولم يظهر على المنصة إلا الدكتور مظهر سعيد الأستاذ بكلية الآداب، الذي نظر إلى الحاضرين ونظروا إليه. . . ولم يظهر ما يدل على أن هناك مناظرة. . . فقد كان اليوم أول إبريل! واختلطت أصوات الضحك بصيحات الاستنكار.
وكان موقف الأستاذ حرجاً، ولكنه أخرج نفسه من هذا الموقف بلباقة، إذ نهض وقال: أيها السادة، كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول تحييكم تحية إبريل. . . وقد وقعنا أنا وأنتم في هذا (المقلب) ولكن لا عليكم فسأحدثكم عن (كذبة إبريل) من الوجهة النفسية والتاريخية. وقال الأستاذ: إن كذبة إبريل ظاهرة إنسانية لها اعتبارها، فالناس يشقون طول العام ويعانون ما يعانون في مشاغلهم اليومية، حتى تضيق نفوسهم بالجد المتواصل يحتاجون إلى مناسبات ومواسم يفرجون فيها عن الكرب والهموم، ولا شك أن في بيئاتنا الشرقية كثيرين يضيقون بمداعبات إبريل، على خلاف ما نقابل به البينات الغريبة من المرح والسرور.
وقال: إن التضليل الراجح لكذبة إبريل هو أن السنة كانت تبدأ في التقويم القديم بشهر إبريل، وفي القرن السادس عشر تغير هذا المبدأ، فجعل أول السنة شهر يناير، وانقسم الناس في فرنسا إلى فريقين، فريق المجددين الذين قبلوا هذا التغيير ورحبوا به، وفريق المحافظين الذين لم يعترفوا به وظلوا على اعتبار إبريل أول السنة، يقيمون فيه حفلاتهم. وكان المجدون، على مر السنين، يسخرون من المحافظين حتى بلغت سخريتهم أن كانوا يرسلون إليهم دعوات في إبريل إلى حفلات ومآرب لا حقيقة لها، ومن هنا سار الكذب عادة في هذا الموسم.
ومما قاله الدكتور مظهر أن الفرنسيين يسمون من ينخدع بكذبة إبريل (ضحكة) وفي(771/45)
إنجلترا يسمى أول إبريل (يوم المغفلين) ولما فرغ الدكتور من كلمته انصرف (السمك) أو كما يقول الإنجليز. . .
التنويه الأدبي
أظن مجمع فؤاد الأول لغة العربية أنه قد ألف لجنة لدراسة الكتب القيمة في الثقافة الأدبية العليا للتنويه بما يراه نافعاً منها، كما نشرت (الرسالة) في البريد الأدبي من العدد الماضي.
وقد كانت النية متجهة - قبل ذلك - إلى تتويج كتاب واحد في العام، عن طريق الإشادة الأدبية. ولكن رأي أن جوائز فؤاد الأول الأدبية تحقق هذا الغرض إلى جانب المكافأة المالية. وبطبيعة الحال لن يتقيد المجمع في هذا التنويه بقيود (الميزانية) لأنه أدبي بحت، ولهذا لن يقتصر على بعض الكتب دون بعض مما يستحق التقدير، بل سيشمل كل ما يراه نافعاً دالاً على جهد وابتكار. وسيكون التنويه في حفلات تقام لهذا الغرض.
ومما يذكر أن الأمر في ذلك غير مقصور على النتاج المصري، بل سيشمل المؤلفات في جميع البلاد العربية، وقد كتب إلى حكومات هذه البلاد وإلى المجامع العلمية بها لتوافي المجمع بأحسن ما لديها من المؤلفات الأدبية.
النحت للضرورة:
كان من قرارات مؤتمر المجمع، في جلسته الأخيرة، جواز النحت عندما تلجئ إليه الضرورة العلمية. وقبل اتخاذ هذا القرار نظر المؤتمر في تقرير لجنة ألفت من بعض الأعضاء لوضع مبحث في النحت، وقد استهلت اللجنة التقرير بقولها (النحت ضرب من الاختصار وهو أخذ كلمة من كلمتين فأكثر. وقد تحثوا على منهاج الأعمال الرباعية في الأفعال والخماسية في الأسماء، فنحتوا من الجملة فقالوا سبحل سبحلة في النحت من سبحان الله وحمدل حمدلة من الحمد لله وبسمل من بسم الله. . . الخ) وبعد أن عرضت جملة من صور النحوتات في العربية وأقوال العلماء في النحت قالت: (المتقدمون على أن النحت سماعي فيوقف عند ما سمع وليس لنا أن ننحت، ولعل هذا لأن النحت اختراع ألفاظ لم تعرفها العرب فلا تدخل في لغتهم؛ وقد نقل عن بعض المتأخرين نسبة القول بقياسيته إلى ابن فارس، قال الحضرمي في حاشيته على أن ابن عقيل: ونقل عن فقه اللغة لأبن(771/46)
فارس قياسيته، ومثل ذلك نقل عن الشمتي) إلى أن قالت: (ونحن نقول بجواز النحت في العلوم والفنون للحاجة الملحة إلى التعبير عن معانيها بألفاظ عربية موجزة. وهذا نموذج لكلمات منحوتة وضعت لمصطلحات كيمياوية، وهي من وضع لجنة الكيميا والطبيعة في المجمع).
ومن هذه الكلمات:
حلماً (حلل الماء)
شبزلالي (شبه الزلال)
حلكع، ويحلكع، حلكعة. أو حلكل، يحلكل، حلكلة (حلل الكحول) برمائي (تحت من البر والماء)
تربض (نزع الايدروجين)
شبتغراه (شبه غراء)
وجرت مناقشة قال الدكتور طه حسين بك في ختامها: (أحب أن أشير إلى شيء يجب ألا يفوتنا قبل إقرار أي كلمة من النحوت، ذلك أنه يجب أن نستقصي في البحث والدرس عند الحاجة إلى التعبير عن معنى من المعاني، لعل هناك وسيلة من وسائل الاشتقاق أو المجاز أو لعل هنالك كلمة سابقة موضوعة، فيثنى هذا أو ذاك عن النحت، فمثلاً في (شبه الغرائي) قد نصادف في الأفعال العربية أفعالاً تدل على التشابه. فأنا أرى أننا لا نلجأ إلى النحت إلا باعتباره ضرورة) ثم وافق المؤتمر على القرار السابق وهو (جواز النحت عندما تلجئ إليه الضرورة العلمية)
وبعد فهل يستطيع المشتغلون بالكيميا والطبيعة أن يشتغلوا إلى جانب تحليل الكحول بنطق (الحلكحة) وأن يعالجوا، إلى نزع الايدروجين، لفظ (تزجن)؟؟ أو ليس يكفيهم ما يلقون من عناء في النزع والتحليل. . .؟
السينما الثقافية العربية:
شهدت يوم السبت الماضي في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية - فلمين، اسم أحدهما (التقدم الصناعي في المملكة السعودية) والآخر (الحياة في البحرين) ولقد عرض لنا الفلمان مناظر من هذه البلاد الشقيقة، وعرفانا حقائق في حياتهما يجب أن يعرف مثلها كل قطر(771/47)
عربي عن شقيقه في هذا العهد الجديد عهد الجامعة والوحدة، ولكني لحظت إلى جانب هذه الحقائق ظواهر القصد إلى الدعاية بإبراز آثار الأمريكان والإنجليز في مرافق البلاد العربية.
وأود بعد ذلك أن أوجه الكلام إلى الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، فهي مهتمة بمشروع استخدام السينما الثقافية في بلاد الجامعة، وقد علمت أنها دعت الفنيين في وزارة المعارف والجامعة الشعبية وبعض المنتجين إلى تأليف لجنة لبحث هذا الموضوع وتنظيم العمل فيه من ناحية اختيار أفلام وإنتاج أخرى تحقق للأغراض الثقافية العربية. أريد أن أنبه على أمرين:
1 - أن يأخذ تعريف البلاد العربية بعضها ببعض، بواسطة الأفلام مكاناً لائقاً في مشروع السينما الثقافية، ولا يخفى ما في ذلك من عوامل التقريب بين الشقيقات، وما فيه من فوائد ليس أقلها وقوف كل عربي على نواحي الحياة في بلاد تمتد فيها رفعة الوطن، على المعنى العربي الشامل.
2 - الحذر من الأجانب، وخاصة الأمريكيين الذين يهتمون بالدعاية في هذا المجال، ولا بد أن سيتقدم كثير منهم لعرض (خدماته) في هذا المشروع، فينبغي رفض هذه (الخدمات) أو مراقبتها إن كان لابد منها، ولخلص العمل لأغراضه العربية الأصيلة.
متحف ثقافي:
قررت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية إنشاء متحف يجمع فيه ويعرض الوثائق المتصلة بمعارف البلاد العربية والغرض من هذه المتحف أن يجلو حالة هذه البلاد الثقافية الراهنة في صورة واضحة، ويعين على مقارنة بعضها ببعض مقارنة صحيحة ويجعل من الإدارة الثقافية مركزاً للدراسات والاستعلامات المتصلة بكافة شؤون الثقافة العربية، كما يجعل منها واسطة دعاية مجدية لها.
وقد أرسلت الإدارة بذلك إلى الحكومات العربية، وطلبت إلى كل منها موافاتها بما يأتي:
1 - الكتب والأنظمة والقوانين والمناهج والتقارير والإحصاءات المطبوعة.
2 - مجموعة الصور والمخطوطات التي تعطي فكرة واضحة عن المباني المدرسية والحياة العلمية والتعليمية.(771/48)
إذاعة ما نشر:
كانت الإذاعة، فيما مضى، تقدم بعض الشعراء (ليقرأ من شعره) ولكنها جرت أخيراً على ألا تقدم إلا من يعد شيئاً للإذاعة. وهذا أمر طبيعي، لأن الإذاعة لابد أن يكون لها موضوع خاص، وهو أيضاً يحفز على الإنتاج؛ ولا يصح أن يكافأ على الكسل و (الاجترار).
وقد كتب الأستاذ محمد الأسمر بجريدة (الزمان) يقول: (وما ينشره الأدباء في المجلات أو الدواوين يجب على الإذاعة ألا تحول بينه وبين إذاعته بحجة أنه نشر، فجمهور القارئين قليل جداً بالنسبة للجماهير المستمعة التي لا تقرأ ولا تكتب).
وهل الجماهير التي لا تقرأ ولا تكتب تستمع إلى الشعر والأدب؟ ثم إن المفروض أن الإذاعة تقدم ألواناً من نتاج الحركة الأدبية المتجددة، والشاعر الذي يريد أن يدير (الاسطوانات) من ديوان كان قد أخرجه، ما شأن الإذاعة به؟
وتصور أي مهزلة تكون عندما تدعو الإذاعة عدداً من الأدباء ليتلو كل منهم ما تيسر من آياته. . .
مولد شاعر:
نشرت مجلة (العالم العربي) في عددها الأخير (12) مقالاً بعنوان (مولد شاعر) غير مذيل بتوقيع، ولكن وضع في الفهرس مكان اسم الكاتب: (أبو نؤاس) وهذا المقال، بعينه وجميع أجزاء جسمه، نشر في (الرسالة) للآنسة نعمت فؤاد منذ خمسة أشهر (العدد748 الصادر في 3 نوفمبر سنة 1947)
و (أبو نؤاس) له سرقات أدبية كثيرة أخذه بها النقاد ومؤرخو الأدب، ولكن من كان يظن أنه سيمتد به الزمن ويطول عمره حتى يسرق مقال للآنسة. . أو تراه يسرق حياً وميتاً. . أم ماذا. .؟
مؤتمر الآداب الحديثة:
يجتمع الآن في باريس بجامعة السوربون المؤتمر الدولي لتاريخ الآداب الحديثة، ويدور البحث فيه حول الأدب المصري والتطورات السياسية والاجتماعية.
ويتكون المؤتمر من ممثلي سبع عشرة أمة، وكان قد دعي إلى حضوره الدكتور طه حسين(771/49)
بك، فاعتذر من عدم استطاعته تلبية هذه الدعوة، لأنه سيمثل مجمع فؤاد الأول للغة العربية في مؤتمر اللغويين ومؤتمر المستشرقين اللذين سيعقدان بباريس في شهر يولية المقبل، ومن المشقة أن يسافر الآن ويعود، ثم يسافر إلى هذين المؤتمرين.
العباسي(771/50)
البريد الأدبي
تخيروا لنطفكم:
في مساء الجمعة 2 من إبريل سنة 1948 احتج عالم كبير في حديثه بالمذياع بخبر (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) على أنه حديث نبوي.
والمحدث العجلوني يقول في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) المطبوع بالقاهرة: قال ابن الجوزي: في سنده مجاهيل. وقال الخطيب البغدادي: كل طرقه ضعيفة. وقال أبو حاتم الرازي: ليس له أصل. وفي التحفة والنهاية: صححه الحاكم واعترض. .
وتصحيح الحاكم لا يوثق به، لقول الذهبي فيه: صدوق لكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة. ويرى الحافظ ابن حجر أن سبب هذا هو طوره غفلة وتخليط له في آخر عمره أثناء تأليفه المستدرك. وقال ابن ناصر الدين: فيه تشيع وتصحيح واهيات، على ما في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) ج3 ص177.
والحديث الصحيح في هذا الشأن هو (. . . فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وأحمد وأبو يعلى والبزار، وغيرهم، كما في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي) ج4 ص254.
محمد أسامة عليبة
بين تيمور والنشاشيبي:
قرأت في العدد الأخير من مجلة الكتاب ما كتبه الأستاذ محمد رجب البيومي في ترجمة المغفور له أحمد تيمور، ومما استوقف نظري قوله (وكتاب النوادر مخطوط ثمين جمع فيه المؤلف ما وقعت عليه عينه من طريف الأخبار وشتى الملمح؛ فهو يشبه نقل الأديب للأستاذ المرحوم النشاشيبي وكان تيمور يود أن يقدمه للمطبعة العربية فحالت منيته دون أمنيته) أه
والحقيقة أن كتاب النوادر يختلف عن نقل الأديب لأن الأول نوادر معينة مرتبة تحت عناوين جامعة، فباب لنوادر النحو وباب لنوادر التاريخ وهكذا، أما نقل الأديب فعدة(771/51)
مختارات ثمينة جمعت بلا ترتيب أو تبويب. ولقد رأيت أن أنبه إلى ذلك على صفحات الرسالة، فقراؤها أعرف الناس بنقل الأديب وبالأستاذ رجب البيومي أيضاً.
منصف
أسس إصلاح التعليم الأولي في مصر:
قرأت ما تفضلت (الرسالة الغراء) بنشره للشيخ (علي زين العابدين منصور) على هذا الكتاب. . وقد كنت أطمع في أن توضح (الرسالة) أغراضه ومراميه للعامة التي تهدف إلى نقد الأوضاع الحالية الرسمية وغير الرسمية التي تقف سداً حائلاً وستاراً كثيفاً دون أن يكون للعلم في مرحلة التعليم الأولي كريماً عزيزاً في كل ناحية لينتج نفوساً كريمة عزيزة تتحكم في المجتمع المصري المنشود للمستقبل المأمول! ومن الجلي أن هذا في مبناه ومعناه متداخل في رسالة مجلة الرسالة الناطقة بلسان الشعوب العربية المعبرة عن آمالها وآلامها القومية. . . فلا غرو إذا حملناها هذه الأمانة ودعوناها إلى إنقاذ ذلك في أمد قريب. . . .
خورشيد عبد العزيز
معلم دميره
كتاب تاريخ الأدب العربي في شرق الأردن
جاءنا من شرق الأردن أن النسخ المزيفة من كتاب تاريخ الأدب العربي تتداول بين الطلبة والقراء في (اربد)، وأن الذي يتولى تصريفها هو ناظر مدرسة اربد الثانوية؛ وهو أستاذ فاضل معروف بكرم الخلق وحسن السيرة، وقد تخرج في مصر؛ فلا نشك في انه يفعل ذلك بحسن نية؛ ولكننا نرجو منه أن يساعد العدالة على كشف هذه الجريمة بأن يبلغنا أو يبلغ حكومة شرقي الأردن كيف وقعت له هذه النسخ، ومن أرسلها إليه من مصر أو من فلسطين، وعليه منا سلام الله ورحمته.
سؤال لأعضاء المجمع اللغوي:
الله: هل أصل لفظ هذه الكلمة - لاه - فدخلت عليها أل التعريف، أم هل وضع هذا اللفظ معرفاً كما هو؟ وإذا لم يوضع معرفاً فما اصله، وكيف حرف وحول حتى صار على هذه(771/52)
الكيفية؟ لا ننكر أن لفظ الجلالة أعرف المعارف ولكن نقصد هنا الناحية اللغوية فقط وننتظر الإجابة.
(سائل)
رسالة الفن:
زار محرر (الرسالة) الفني معرض الجمعية الفوتوغرافية المصرية المقام بصالة المعهد البريطاني بسكة المغربي رقم 3 بالقاهرة، وشاهد اللوحات البارعة التي عرضها الأعضاء، ولاحظ المجهود العظيم الذي بذل في إقامة هذا المعرض الجميل.
ونحن إذ نسجل للجمعية نجاح معرضها الأول ونقدم التهنئة إلى رئيسها الأستاذ الدكتور أحمد موسى، نرجو لها اطراد النجاح في خدمة فن جميل تفتقر مصر إلى تعاون رجاله وتكاتفهم للنهوض به.
ويسر الرسالة أن تنشر لوحتين من لوحات الدكتور أحمد موسى مع أبيات من القصيدة التي هنأه بها تلميذه الفنان السيد رأفت:
في رؤى الأحلام؟ أم أين أنا؟ ... أم أساطير خيال هاهنا
أم هو الفنان في سبحاته ... سارياً في زورق الفن بنا
يبهر الشطآن من أنعامه ... لحن أرواح يهز الفتنا
لوحة السلم التي فاضت بها ... روح فنان تسامى سننا
كم حسدت الطير فيها راحة ... مالنا منها نصيب يرعى آمنا
يا أبا ليلى، وما ليلى سوى ... زهرة الروض جمالاً وجنى
أيها الساري لمجد خالد ... تتحدى في سراك الزمنا
أيها الساعي بفن باعه ... أدعياء الفن في سوق الغنى
وكلوا بالجنس من أقلامهم ... ريشة ذلت وعقّت وطنا
إنما الفن الذي علمتنا ... عانق الروح وعاف البدنا(771/53)
القصص
تضحية أم
للأديب عبد القادر صادق
(روى لي هذه القصة شيخ جليل زار الشرق الأقصى للتبشير) (الكاتب)
تشرف على المحيط الباسفيكي مدينة جميلة تسمى (أوزاكا) تمتد في جنوبها سهول فسيحة مترامية الأطراف، مبتدئة من ذلك الكوخ المتواضع، تحيط به أشجار باسقة عارية من الأوراق، أو مكتسية بها.
في أمسية من أمسيات الخريف الكئيبة لعام 1904 واليابان قد أعلنت النفير العام، إذ تأزم الخطر عليها، وأحدق بها أعداؤها الروس من الشمال الغربي؛ راح الشبان يتقاطرون زرافات ووحداناً على مكاتب التسجيل ما بين نداء الوطن. في هذه الأمسية الكئيبة، وفي هذا الكوخ البعيد عن البلدة؛ جلست الأم (شيحار) مساهمة مشردة الخواطر، موزعة الأفكار، تحيك بيديها جورباً من الغزل، على عادتها، من يوم أن توفى زوجها وترك لها ولداً في التاسعة من عمره. لقد مضى على الأم عشرة أعوام، وهي ما تزال تجد في حياكة الجوارب طوال النهار وطرفاً من الليل، لتوفر لولدها شئون الحياة وأسباب العيش، وهي تتعهده بالرعاية والعناية، ساكبة عليه كل ما في الأمومة من حنان. وكان الموقد أمامها، والنار تئز فيه أزيزاً أشبه بالوسوسة، فتبعث لها بالدفء والإيناس؛ إنها لتنتظر خبر ولدها (فوزاكي) ذلك الشاب الذي ذهب لتسجيل اسمه في عداد المجندين؛ وإنها لتتخيله، وهو الشاب الفارع القامة، المفتول العضد، القوي البأس، بالبزة العسكرية متقلداً سلاحه، وهو يشق خطوط الأعداء ويقارع كوارث الحرب، متفوقاً في فنون النزال والضرب، تزين ساعده الأشرطة العسكرية، وتملأ صدوره الأوسمة والأنواط البراقة. . .
ويقطع عليها هذا الحلم اللذيذ دخول ابنها (فوزاكي) والوجوم يغشى سحنته، والحزن يسيطر عليه، فتهب إليه الأم لتتلقاه متلهفة، تريد أن تضع في تقبيله كل حنانها لخبره السار في أن يكون من عداد المجندين، ولكنها ترتاع لمرآه الواجم وهو يأخذ يدها بين يديه، كأنه ينشد منها المعونة والعزاء، ومتجهاً بها إلى الموقد:
- أماه! ما أمر خيبتي عند ما علمت لجنة التسجيل أني وحيدك، وأن ليس من يقوم على(771/54)
رعايتك سواي. . . ولما اعترضت على ذلك أجابوني بأن القانون لا يسمح لأمثالي بالتجنيد. . وكان بينهم رجل وقور الشيبة، جليل الهيبة، رأف بحالي وتقدم نحوي وهو يقول: لا تحزن يا بني، إن خدمة والدتك نوع من خدمة بلادك. وقد ظن أنه بذلك يستطيع تعزيتي وتبديد خجلتي، وأنا أنظر إلى رفاق طفولتي في المدرسة ولداني في المعمل وهم يرتدون البزات العسكرية. . لست أنكر أنني وحيدك، ولكن أما كان الأجمل لك والأجدر بي، أن أكون مدافعاً ومانعاً ضيم العدو لنا واستعباده لبلادنا فينصرف كيفما شاء بأرضنا ومالنا ونسائنا؟!. .
لا يمكن أن أتصور يا أماه شماتة الناي بي، ونفورهم مني وهم يشيرون إلي بسخرية قائلين: هذا الذي تخلف عن خدمة بلاده والذود عن حياضها. . يا لسقوط همته، ويا عالته على أمته! لئن تطوني الأرض بين طياتها، أحب إلي من سخريات الناس وشماتتهم. وإني لأشعر في أعماق قلبي العزم، وفي غليان دمائي البأس، يدفعانني لأن أحيا لبلادي وأموت لبلادي، وأن أحظى بشرف الجندية، حيث يشرفك هذا يا أماه! وتشرف بلادنا بالعزة والكرامة فتقضي على مطامع أعدائها. . .
كانت أمه ما تنفك حديثه تنقل طرفها الوامق بين شفتيه ووجهه الحزين، وقد أخذت رأسه بين يديها وراحت تواسيه:
- نعم ما قال هذا الرجل العطوف النصوح يا بني: أن خدمة والدتك نوع من خدمة أمتك؛ ولكن هل هناك مانع من أن تقوم والدتك بخدمة بلادك؟؟. . .
فرفع بصره إليها، ليعي ما تقول. . ولكنها راحت تتابع حديثها، متجاهلة دهشته ونظرات عينيه المستفهمة، وكأنها مصممة على أمر ما، وأناملها ما تزال تعبث بخصلات شعره الجميل؛ ثق يا بني بأنك ستكون في خدمة بلادك وستتقدم رفاقك. . . ولكن قل لي: ألست بجائع؟ أجل! أنت جائع، لاشك أنك جائع!!. .
وانفلتت نحو صوان الأكل؛ فشيعها بنظرات الوامق البار، وهي تسير بخطوات وئيدة رزينة مولية له ظهرها، ولمعت لعينيه شعرات الشيب كأسلاك من النور الساطع عندما ضاحكتها رقصات ألسنة اللهيب من الموقد وحطت على عقصة شعرها الملتفة: يا لي من أحمق! كيف لم ألحظها من قبل؟ هكذا قال لنفسه، وقد ارتد رأسه إلى راحتيه، وساورته(771/55)
الهموم ولكن سقطة جسم على الأرض ردته إلى صوابه. . يا لهول ما رأت عيناه!. . أمه المسكينة مضرجة بدمها المتدفق. . المدية مغروسة في صدرها؟!. .
فملكته روعة المشهد الأليم، وأخذته الحيرة فما يستطيع أن يهتدي لعمل ينقذ به أمه. . .
وتقطن أمه إلى ما يريد فنقول
- لا لا يا (قوزاكي) لا تحاول إنقاذي، ولا تستدع أحداً. . فكر في إنقاذ بلادك، في أمك اليابان لا أمك (شيحار)!. .
لن أكون حائلة بين إشباع عواطفك الجائعة لخدمة بلادك، ولن أكون السبب في خيبتك وخجلتك بين أبناء قومك. . لن أحرمك شرف الجندية، ولن أحرم اليابان خدمة أبنائها. .
لقد رعيتك للبلاد فأنت ملك لها، ولست ملكاً لي، ففي سبيلها ما دعيت. . . سر على بركة الله، وإلى الأمام بالرعاية والعناية والكرامة. .
وتأخذها سكرة الموت وهي تجالده، آخذة أنفاسها بعسر ومشقة. وقد بدا على وجهها نور سماوي لست تلقاه إلا على وجوه القديسين والأولياء والصالحين من دنيانا، وراحت تقول متممة رسالتها. . .
وهناك في السموات العلى، ألتقي بك وقد رويت عواطفك الملتهبة، وقد تكللت بلادنا بالعزة والنصر. . . هناك أتلقاك لأتابع العناية بك. . .
وأطبقت أجفانها لتتابع الحلم اللذيذ. . في مجد اليابان وفي فتاها البطل العزيز.
(دمشق)
عبد القادر صادق(771/56)
العدد 772 - بتاريخ: 19 - 04 - 1948(/)
من أقاصيص الجواري في عهد الرشيد:
بهيرة
(مهداة إلى صاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا)
- 1 -
- ما اجمل هذا الصوت! من أين مصدره؟
- من صوب النهر يا مولاي
- إن حلاوته وإيقاعه لينبئان عن ظرف بارع وصبى نضر
- لعلها قينةٌ في زورق من زوارق المخنثين ترف على لهوهم الماجن بالغناء والحسن كالعادة
- مل بنا إلى الشاطئ عسى أن نرى مصداق ما نسمع وكان الرجل الذي سال وأمر طويلاً بدين الجسم أشقر اللحية على وجه جلالة السلطان ومهابة الملك؛ أما رفيقه الذي أجاب وأطاع فكان مساوياً له في العمر، ولكنه كان ربعة القوام، رقيق البدن، أزهر اللون، تتوسم الظرف من ملامحه، وتتبين الذكاء من ألفاظه. وكانا يلبسان ملابس التجار ويمشيان مشية المستطلع بين القصور الناعمة القائمة على دجلة من كرخ بغداد في أصيل يوم من أيام أبريل. وعلى ثلاث خطوات مهما كان يسير رجل وثيق التركيب عظيم البسطة يلحظ لحظات الصقر أرعاهما بعين النمر. وكان دار السلام يومئذ في أيام العروس من عهد الرشيد، قد تجمعت فيها الدنيا بهجتها وزينتها، وفتنتها وثروتها، فهي أشعة من الجمال والسحر، وظلال من الرخاء والبشر، ونسمات من الروح والعطر، وخالية من الحب والشعر، ومتع من نعيم التمدن الإسلامي القائم على لذة الروح والجسم، وسعادة الدين والدنيا، وراحة النفس والناس
اتجه الرجلان وتابعهما الصامد نحو الصوت فجرهما إلى بستان مشرف عل انهر قد جلست على عريش منت عرائشه الكاسية بأشتات الرياحين وزهرة العمر ترسل هذا اللحن الشجي الضارع كأنها تهدهد به حباً لا يهجع، وتناجي به حبيباً لا يسمع!
فدار بين اعظم الرجلين وبينها هذا الحوار الرقيق:(772/1)
- لعلك تودين أن يكون هذا الغناء الساحر سامع!
- لو كنت لما اعز علي أن أجده
- وهل خلق الله مثل هذا الصوت ليتبدد في الهواء ويضيع في هذه الخلوة؟
- سل البلبل حين يبعث الشدو: هل يريد أن يبعثه إلى اذنك؟ وسل الشمس حين ترسل الضوء: هل تريد أن ترسله إلى عينيك؟ وسل الزهرة حين تبعث العطر: هل تريد أن تبعثه لانفك؟
- تبارك الله! براعة في الغناء وبراعة في الذكاء وبراعة في الحسن! ماذا تسمين؟
- بهيرة
- ولمن تكونين؟
- لسيدي علي بن وهب
قالت ذلك بهيرة ثم حيت الرجل وصاحبيه ثم انطلقت في أشجار البستان كأنها عروس من عرائس المروج ازدهارها الربيع فطفرت من المرح راكضة راقصة
- لقد وقعت بقلي هذه الجارية يا جعفر!
- إذا شاء أمير المؤمنين كانت في ملكه من الغد
- 2 -
وفي غد ذلك اليوم انتقلت بهيرة بالشراء إلى قصر الرشيد بالرصافة، وكان بموج بالحوار والولدان موجان الفردوس، حتى بلغ ما فيه من السراي والقيان زهاء ألقى جارية من الروميات والكرجيات والجركسيات والعربيات والحبشيات، يرفلن في الأثواب الموشاة بالذهب، والعصائب المرصعة بالدر، والمناطق المنسوجة بالمسجد؛ ويخطرن بين دوائر الحرم موائس من الدلال، نشاوى من الحسن، ينفحن بالفتون والحب كما تنفح الزهور العاشقة بالعطور المغرية في ميعة الربيع.
أحلها مسرور الخصي مقصورتها الأنيقة بين مقاصير سحر وضياء وخنث (1) وأفاض عليها من الوشى والزينة والحلى ما جعلها قطعة من الفن الجمالي الخيالي لا تبلغها قريحة شاعر ولا عبقرية مصور. وانغمرت بهيرة في فيض من الجمال والنور والترف واللذة؛ ولكن هذا القصر الذي لا ثاني له في دنيا الناس لم يستطيع بما فيه من النعيم الدافق(772/2)
والسرور المتصل واللهو المختلف والأشجار المحمولة من كل ارض، والأطيار المجلوبة من كل سماء، والأواوين المنجدة بالديباج والارسيم، والبرك المزدانة بالتماثيل والدمى، والسلطان الذي خضع له الدنيا، والجلال الذي اعتز به الدين؛ لم يستطع بكل أولئك أن يسمح عن وجه بهيرة هذه الكآبة الغاشية ولا هذا السهوم الملح، فقد كانت أشبه بالوردة المقطوفة على المائدة الغارقة في السرور الطافحة باللذة: وتموت وكل ما حواليها يزدهي وينتش. فهل كان قصر الخليفة أضيق من قصر التاجر؟ ام كانت سيادة ابن وهب أني على قلب بهيرة من سيادة الرشيد؟ واقع الأمر أن هذا الحال لم يطرأ على بهيرة في عيشها الجديد، وإنما كانت تلازمها وهي في ملك ابن وهب، وقد تذرع الرجل بالطب والحيلة والإله وإلى أن برفه على جاريته المحبوبة فما كانت تزداد على عنايته بها ورعايته لها إلا هما على وهم؛ حتى استراب في حبها إياه فحاول أن يصل إلى سراها ويعرف متجه هواها فما استطاع. فلما ساومه النخاس عليها بالثمن الربيع نزل عنها غير آسٍ ولا آسف
كانت بهيرة قبل عامين قد وهبت قلبها الخالي المنتظر لفتى من سراة بغداد الظرفاء فشغله كله وتغلغل فيه تغلغل السر، وشاع به شيوع السرور. ثم تقلبت عليها الأيام والأحداث وهما ثملان من رحيق الحب، وادعان في ظل الآمان، حتى نزل بالفتى ما ينزل بالمترفين المتبطلين من كساد الحال وهجوم الفاقة، فباع كل ما يملك، ثم عاش على الأماني فترة من الدهر؛ ورأى أخر الأمر أن من الإخلاص لحبيبته إلا يحملها وزر إسرافه وعواقب طيشه، فباعها على الرغم من تشبثها به وإيثارها إياه من على ابن وهب ودأب يزورها يوماً بعد يوم وهي في قصر ابن وهب، من وراء الحديقة، ومن خلال السور، وهي تنتظره في العريش الذي رآها فيه الخليفة يوم تنكره، فيستسقيان كؤوس الهوى، ويتناقلان حديث المنى، ويتشاكيان حرقة الوجد، وينظران نظرات الأسى إلى دجلة والشابا الأحباب يشرقون على وجه إشراق البسمة العذبة على ثغر السعيد، فيذكران كيف كان هذا النهر الخالد مسرحاً لصباهما اللاهي، وشاهداً على حبهما الخالص؛ وكيف نظر أليهما الدهر الخؤون فتقوض الربع الآهل، وتفرق الشمل الجميع، وآل الأمر بينهما إلى أن يكون بين قلبيهما عاذل لا يتغفل، وبين جسميهما حاجزاً لا يقتحم!
كانت بهيرة وهي في قصر ابن وهب تستطيع أن ترى سليمان وان تتحدث إليه وان تترك(772/3)
للأقدار الرحيمة إسعاف حبيبها البائس بالثروة الموجودة فيستردها إلى ملكه؛ ولكنها انتقلت الآن من عش الحمام إلى غيل الأسد! فمن ذا الذي يستطيع الدنو من قصر الخلافة؟ لقد ضرب الدهر بينها وبين حبيبها إلى الأبد؛ فلا هو يستطيع الدخول إليها ولا هي تستطيع الخروج اليه؛ فكانه مات من دنياها وهي ماتت من دنياه. وبيت الخلافة من أمثالها قصر في الأول وقبر في الآخر!
- 3 -
على أن الهوى كالسكر لا يعرف المحال ولا يحس الخوف ولا يبصر العاقبة فقد احتال سليمان حتى ظفر بثياب خادم من خدام جعفر بن يحيى. فكان يدخل قصر الرشيد في هذا الزي فلا يرتاب الحراس ولا ينكره الخدم. وعرف مقصورة بهيرة فكان يتسلل إليها في الظلام أو في الغفلة، فيقضي معها ساعة من النهار أو هزيعاً من الليل ينضحان فيه غرامهما المسعور بالحديث المعسول والقبل الندية.
وفي ذات ليلة اطفي عليهما الحب وعصفت برأسيهما الصبابة فتولدت فيهما ناشئة من الأمل والعزم. قال سليمان وهو يثبت نظره المتوقد في نظر بهيرة الساجي:
- لقد أعددت عدت الخلاص ومهدت لك سبيل الهرب
- وماذا أعددت يا سليمان؟
أعددت لك هذا الثوب الغلامي فالبسيه واخرجي تحت الليل حين تخشع الأصوات وتهجع العيون ولا يدخل ولا يخرج إلا رسل الأسرار بين قصور السادة والقادة. وساكون في انتظارك لدى مشروع القصب من دجلة
فقالت بهيرة ودمعها الساجم يتقاطر على خديها تقاطر الطل:
- أنسيت يا سليمان أني ملك الخليفة فلا اخرج منه إلا بالبيع أو بالعتق!
- لم أنسى يا بهيرة، ولكن الخلاص بغير ذلك محال
وكيف يصفو لنا العيش يا سليمان وهو شقاء متصل بمعصية الله وخيانة الخليفة؟
- بربك يا بهيرة اخفتي هذا الصوت في نفسك، وفكري قليلاً في بؤسي وبؤسك. ليس لي غيرك وليس لك غيري؛ أما الخليفة فله ألف جارية، وله إضعافهن إذا شاء. والله يا بهيرة يغفر الذنوب جميعاً(772/4)
- ألا تظن يا سليمان أن العذاب في الحب عذب، وان الموت في سبيله شهادة، وان هذه الساعة التي نلتقي فيها على غفلة من الرقيب بين الخوف والأمن، وبين اليأس والرجاء، أدنى إلى الحب الصحيح والسعادة الحق من العيش الغرير الناعم على مهاد الرذيلة؟
- أن العشاق يا بهيرة لا يعشون بعقول الخليين ولا يخضعون لقوانين المجتمع
- واسلس لسليمان الدمع والكلام فأوشك أن يحمل بهيرة على راية لولا أن قرع باب المقصورة قارع عنيف، فاستطير قلب العاشقين من الرعب، وأيقنا بالهلاك المحتم
- وفتح الباب ودخل مسرور قهرمان القصر وسيد الموالى وحاجب الرشيد، ومعه نفر من الحراس، فأمر بالقض على سليمان، وكان قد سمع بآذان جواسيسه ما دار بالحديث بينه وبين بهيرة.
- 4 -
سيق العاشقان إلى مجلس الخليفة الخاص متهمين بانتهاك حرم الخلافة، والمؤامرة على الفرار، والخلوة الأثيمة. فأسالهما عن جلية الخبر فأجاباه بصحته. واستفهم الشهود عن تفاصيل الحديث فأدلو به على نصبه. فكان الخليفة مفتوناً ببهيرة لما جرب به عليها من الوفاء والذكاء والصدق فعفا عنها، ودفع بسليمان إلى مسرور ينفذ فيه حكمه
فتقبل العاشق المنكود الحكم عله قبول من راض نفسه على التسليم بالقضاء المحتوم والأمر الواقع.
وذهب به الموالي إلى لقاء الموت، ولبثت بهيرة في حضرة الخليفة شاخصة لا تطرف، واجمة لا تنطق، كأنما أخرجها الجمود عن الحياة، وفصلها الذهول عن الوعي. ثم رأت بعينيها في سكون، وحركت لسانها ببطء، وألقت بنفسها على قدمي الخليفة وهي تقول:
مولاي: إني اعلم أن الجريمة إذا مست الشرف ضاق بها العفو وقصرت عنها الشفاعة؛ ولكني اعلم كذلك أن حلمك لا يستحقه غضب، وعفوك لا يتعاظمه ذنب. فهب لي دم سليمان فقد جنى عليه حبي، وسعى إلى عدمه وجودي. وهو يا مولاي صادق النية سري الخلق بريء الساحة.
فقال لها الخليفة: أن هذه الجريمة تنسى بوجهها الوقاح صورة الرحمة. فاسأليني ما شئت إلا العفو، فأني لا امنح إلا ما املك.(772/5)
فقالت بهيرة: أذن تعدني يا مولاي إلا يقتل حتى أراه.
فقال لها الخليفة: لك هذا الوعد.
وراسل وراء الجلاد يأمره أن يرد عليه سليمان قبل أن يمضي قضاءه فيه.
فلما خرج الرسول أدارت بهيرة بصرها إلى السماء والفضاء والطبيعة، ثم أرجعته وهو يفيض بالدمع والأسى، ورددته في نواحي البستان، وفي جوانب المكان، وفي مرايا الجدران، وفي حلتها الذهبية، وفي حلتها اللؤلؤية، وفي وجه الخليفة؛ ثم أدخلت إصبعيها في محجريها فاقتلعت بهما عينيها
فصاح بها الخليفة وقد أفزعه ما رأى:
ويحك ماذا صنعت بنفسك؟
فديت بعيني حبيبي يا مولاي!
وكيف ذلك يا حمقاء؟
ألست وعدتني يا مولاي إلا يقتل حتى أراه؟ فالان لا أراه ولا يقتل!
كان اثر هذا الحادث بالغ في نفس الخليفة، ومهد لهما الحياة السعيدة في ظلال نعمته.
وقنعت الفادية العمياء من دينها بالعيش على نور الحب وفي كنف الحبيب!
أحمد حسن الزيات(772/6)
المقاصد الصهيونية
للأستاذ نقولا الحداد
ورد لي كتاب على يد مجلة (الرسالة) بإمضاء حسن (وبس)، وليس فيه عنوان مرسله سوى إنه من المنصورة. ويقول كاتبه إنه مسلم، وأنه طالب في مدرسة الكامل. والله اعلم. ويقول أن سنه 16 سنة. ولكن عظته لي عظة 36 سنة متواضعة لطيفة رقيقة. وفحواها أنه (لا فرق بين اليهودي والمسيحي والمسلم)، وهو يتمنى تحقيق ذلك الحلم السعيد الذي نرى فيه الشعوب جميعاً شعباً واحداً، وان اليهود ما هم إلا آدميون مثلنا. فلا يجوز أن نأخذهم بجريرة أجدادهم. إلى غير ذلك من الأماني التي يتمناها كل واحد من الناس.
مرحى يا بني! أشكر لك عظيم الشكر حسن ظنك بي، وعطفك لخالص على اليهود، واعترافك لهم بأنهم بشر مثلنا. وكان يحسن بك أن تبعث بهذه العظة إلى السيد جمال الحسيني الذي ذهب إلى لايك سكسس لكي يناقش هيئة الأمم بأنهم بشر مثلنا عاشوا في البلاد آمنين مسترزقين، ولكنه يرى أن صهيوني فلسطين الوافدين عليها من مشرديهم في أوربا بالكي يمتلكونها أرضاً وشعباً ودولة؛ هؤلاء ليس بشر بل أبالسة.
نحن لا نكره اليهود، ولكنهم هم يكرهوننا، ويلقبوننا بالجوييم البهائم، وكلمة الجوييم هذه تطلق على كل من ليس يهودياً، وقد عاشوا بين الجوييم في فلسطين وغيرها قروناً وأبواب الرزق مفتوحة على مصاريعها، والقلوب مفتوحة لمحبتهم وإكرامهم، لأن مسيحنا قال: (أحبوا أعدائكم) فكيف بالأصدقاء؟ وقد تبرع لهم مسيحيو أمريكا باثنين وسبعين مليوناً من الريالات ليستعين بها المتشردون في أوربا، فإذا بهم ينفقونها في فلسطين لمكايدة العرب! وفي قرآنكم الكريم: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، أدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم)؛ وأما هم فيقولون إنه يحل لهم كل ما يملك الجوييم، يعنون النصارى والمسلمين والوثنيين على السواء من عهد موسى عليه السلام إلى اليوم والغد. وسلوكهم اليوم ناطق بهذه الأبيات الأنانية ومطابق لمنهاج استنوه لأنفسهم يعادون به الأمم، ويهيئون أنفسهم لدولة عليا تسود الدول جمعاء وتستعبد الشعوب.
نحن لا ندين اليهود بما قاله موسى، بل ندين الصهيونيين بما قاله حكمائهم في مواثيقهم، أي البروتوكولات التي سننشر ما نقتطفه منها تباعاً مما يدل على ما يبيتونه للجويين أمثالي(772/7)
وأمثالك وما تنطبق عليه أعمالهم أمس واليوم والغد.
نحن لا ندين اليهود الذين قاموا بين ظهر أنينا وكانوا في أمن وطمأنينة، وإنما ندين الصهيونيين الذين جاءوا من وراء البحار ينفذون مواثيق حاخاماتهم الكبار في سبيل دولة صهيونية تسود العالم وتصبح جميع الدول تابعة لها، وجميع الأمم عبيدها، ويهود العالم كله أسياد الشعوب.
نحن لا نفتئت على اليهود وإنما ندل الجوييم مسلمين ومسيحيين على مقاصد الصهيونيين لكي يحذروا مكايدهم.
وأسمع الآن ما قالته مواثيقهم (بروتوكولاتهم) بشأن دولتهم قال الميثاق (البروتوكول) الثالث البند 6:
إن الناس الذين هم تحت قيادتنا قد محقوا الأرستقراطية (سلطة الأعيان) الذين كانوا قوة الدفاع الوحيدة عن مصالحهم المرتبطة بهناء الشعب. فبإبادة الأرستقراطية يقع الشعب في قبضة اللئام من ناهبي الذهب الذين لا رحمة عنهم والذين وضعوا نير الظلم ثقيلاً على أعناق العمال).
البند7:
(وأما نحن فنظهر على المسرح نمثل المنقذين للعامل من هذا الظلم. ومن ثم نقترح عليه أن يدخل في منظماتنا المحاربة - الاشتراكية والفوضوية والشيوعية التي نعضدها دائماً بواسطة الأخوية المزعومة المفروض أنها رباط الإنسانية، وهي الماسونية الاجتماعية (أي الماسونية العمومية غير الماسونية اليهودية السرية التي تخفى عن الماسونيين على العموم). والأرستقراطية التي بحكم الشريعة تمتعت بتعب العمال تغتبط برؤية هؤلاء العاملين يتغذون شابعين وصحتهم جيدة وأجسامهم قوية. وأما نحن فيسرنا العكس، وأنقاض عدد هؤلاء الجوييم حتى قتلهم. أن قوتنا في أنقاض الغذاء الذي أضحى داء مزمناً، وفي ضعف العامل وسقمه البدني، لأن هذين الأمرين يتضمنان عبودية العامل لإرادتنا وإنه لا يجد في حكومته أو سادته قوة لمناهضتنا.
الجوع يخلق حق الرأسمال بالتحكم في العامل أكثر مما أعطت سلطة الملوك الشرعية من الحقوق للأرستقراطية).(772/8)
ترى مما تقدم أنهم بدعوى العطف على العمال (وهم يعنون بالعمال كل مسترزق) يستخدمونهم لأغراضهم التي لا يفطن لها العمال على يد ماسونيتهم.
وقد رأيت أيضاً أن الاشتراكية والفوضوية والشيوعية هي من مخترعاتهم، كما ترى في البند الثاني من الميثاق الرابع سر قوتهم غير المنظورة:
(من وماذا يستطيع أن يقاوم قوة غير منظورة كقوتنا؟ فالماسونية العمومية التي ينتظم فيها الأمم (الجوييم) وهم كالعميان لا يرون ما أمامهم وما ورائهم، وإنما هي حجاب يحجبنا ويحجب أغراضنا. وأما منهاج عمل قواتنا فيبقى للعالم سراً مجهولاً).
ومما جاء في البند 3 بعد الكلام عن الإيمان من غير وعي ولا وجدان.
(. . . بهذا الإيمان يُحكم الناس بحراسة أبرشية الكنيسة. ونسير نحن برضى وتواضع تحت قيادة الراعي الروحي خاضعين لتدبيرات الله على الأرض. هذا هو السبب أننا لنا أن ننقب تحت أساس كل إيمان لكي ننتزع من عقول الجوييم مبدأ الألوهية والروح ونضع مكانه الحسابات الرياضية والحاجات المادية)
وفي البند 4 يقول (. . . ولكي تشقق الحرية جماعات الجوييم وتدمرها يجب أن نجعل الصناعة على أساس المضاربات فتكون النتيجة أن ما يُستغل عن الأرض بالصناعة تتداوله الأيدي إلى أن يتسرب إلى أيدي جماعاتنا عن طريق المضاربات).
يعنى أن الجوييم يشتغلون في الأرض وتتسرب غلاتهم إلى أيدي الماليين بفعل المضاربات. ومن هم الماليون؟؟
وبعد أن يتكلم الميثاق الخامس عن السيطرة يقول في آخر البند الأول. . . (هذه القوانين تقتل الحريات والتسامح مما يتساهل به الجوييم يجرأ أن يقاومنا بالفعل أو بالقول).
وفي البند 6: (قيل في الأنبياء إننا نحن الذين اختارنا الله نفسه لكي نحكم كل أرض، وقد منحنا الله النبوغ لكي نستطيع أن نقوم بعملنا. فإذا كان معسكرنا معاد لمعسكرنا نبوغ يجاهد ضدنا. فالضد الجديد لا يقدر أن يقاوم القديم المستقر، فالعداء بيننا يكون مهلكا، والحرب تكون بلا هوادة ولا رحمة. حرباً لم يشهد العلم مثلها. . وإنما يكون نبوغ المعسكر الآخر قد جاء متأخراً فلا نخشاه. . . إن جميع عجلات (المكنة) الحكومية تسير بقوة السياسي الذي استنبطه شيوخنا الحكماء منح الامتياز الملكي لرأس المال - وهو في أيدينا).(772/9)
فنرى في هذا البند أنهم يعتقدون اعتقاداً قلبياً أن الله اختارهم وحدهم شعباً له، ومنحهم السلطة المطلقة على كل الأرض. فكيف نستطيع أن نعيش مع شعب يعتقد هذا الاعتقاد في نفسه ويعتقد أن الشعوب الأخرى بهائم لا حقوق لها ولا حياة.
في البند العاشر من نفس الميثاق الخامس نرى حيلتهم الشيطانية في القبض على زمام الرأي العام، وهو كما لا يخفى أقوى قوة اجتماعية وهو يقول: (لكي نقبض على الرأي العام يجب أن نضع الجمهور في موضع الحيرة والارتباك بأن نبذر فيه أراء متناقضة في كل ناحية مدة طويلة حتى تتضعضع عقول الجوييم وتتيه في معارج الظلال إلى أن يروا أن الأفضل إلا يكونوا لأنفسهم رأياً سياسياً. ولا يستقروا على رأي في أية سياسة يفهمها الجمهور، بل لا يفهمها إلا القادة الذين يقودون الشعوب ويرون أنفسهم متناقضين فيها. هذا هو السر الأول في قيادة الشعوب في بيداء الجهل).
في البند 11 (السر الثاني المطلوب لنجاح حكومتنا يشتمل على ما يأتي: الإكثار من الخيبات الأهلية وانتشار العادات السيئة وتعقد ظروف الحياة المدنية بحيث يستحيل على أي واحد أن يعرف أين هو من الصواب في هذه الفوضى حتى يصبح الواحد منهم لا يفهم الآخر. هذه الحالة المربكة تخدمنا في ناحية أخرى، تزرع الشقاق في جميع الهئيات والأحزاب، وتبدد القوى المتجمعة من مواضعها، وثمة تخضع القوى التبني لا تزال ممتنعة عن الخضوع لنا، وتثبط عزيمة أي شخص في مقدرته أن يعرقل مساعينا. لا شيء أخطر لنا المفكرين المبتكرين العباقرة. فإذا كانت وراء كل مشروع نابغة من النوابغ يستطيع أن يخرب أو يعمر أكثر مما يستطيعه ملايين من الناس الذين زرعنا بينهم الشقاق. لذلك يجب أن نوجه ثقافة الجوييم بحيث أنهم إذا وقعوا على أمر يحتاج إلى ابتكار أو تفكير يسقط في أيديهم ويرتدوا مخفقين. . . أن المجهود الذي ينتج من حرية العمل يستنفذ القوى إذا اصطدم بحرية أخرى. وبهذا الاصطدام تنشأ صدمة أدبية خطيرة تفضي إلى الإخفاق. بهذه الوسائل يمكننا أن نحبط قوى الجوييم حتى يضطروا إلى تقديم قوة دولية لأجل أمن العالم فتبتلع تدريجياً جميع قوات دول العالم من غير عناء وتؤلف حكومة عليا تسيطر على العالم، وإذ نكون نحن اليد العاملة فيها بتمهيداتنا السابقة نقيم مكان حكام اليوم إدارة حكومتنا العليا ونسيطر على العالم. هذه الإدارة العليا تمتد أيديها إإلى جميع الجهات وتقبض على(772/10)
أزمة جميع السلطات وحينئذ تعجز أية قوة من الجويم أن تقف في سبيلها).
هكذا قد وضع حكماء الصهيونية برنامج مساعيهم إلى مساعيهم إلى اعتلاء عرش السلطة العالمية العليا. وجميع حركات الصهيونيين الآن وقبل الآن تدل على أنهم نشطون في هذا السبيل، وأن لهدف لم يعد بعيداً عنهم كثيراً. فهاهم يشتغلون في صهيون فلسطين، وروسيا تعضدهم من وراء الستار. فإذا لم يصد العالم كله الصهيونية والشيوعية جميعاً فقد يصيبون الهدف ويكون ذلك بفضل بلاهة بعض الساسة مثل ترومان وأمثاله.
ترقب يا عزيزنا حسن المقال القادم عن برنامج الصهيونيين في ميدان العمل ورأس المال. وثم لا تعود تلومني إذا فتحت عينيك وأمثالك لمكايد الصهيونيين.
نقولا الحداد(772/11)
لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
لم أكد ألمح بين مواد فهرس الرسالة الصادرة في 5 أبريل الجاري هذا العنوان (نعم نملك تحريم تعدد الزوجات) حتى ساءلت نفسي: ترى من هذا الذي تطوع للدفاع عن قضية بينة الخسران؟ وما أن رأيت العنوان مقرونا باسم صديقنا فضيلة الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي حتى إشفاق على المدافع وخشيت عليه مغبة الأمر.
لكن سرعان ما تبددت مخاوفي حين طالعت المقال فوضح لي أن العنوان لا يترجم له. ويخيل إلى أن الأستاذ قد أغرى بمعارضة عنوان مقالاتنا المنشورة بمجلتي (المجتمع الجديد) (والرسالة) تحت عنوان (هل نملك تحريم تعدد الزوجات) فأوقعه ذلك - دون ما قصد - فيما ظنه مأخذاً علينا من عدم المطابقة نين العنوان والمقال. فالأستاذ يقرنا على أن الشرع قد أباح تعدد الزوجات إلى أربع ولم يحرمه بأي نوع من أنواع التحريم، ويؤيدنا في إنكارها علي معالي عبد العزيز فهمي باشا - أسبغ الله ثوب العافية - ما ذهب إليه من القول بأن الشرع يحرّم ذلك، وما ارتكبه دفاعاً عن هذا القول من (تعسف لم يقع نظيره من مسلم) بتأويله آي القرآن بما لا تحتمله، ورده السنن الواردة بالإباحة وتسفيهه الإجماع المنعقد عليها قولا وعملا في جميع العصور. . الخ لكنه (الأستاذ الصعيدي) يرى - مع ذلك - أننا (نملك تحريم تعدد الزوجات، ولكن بطريق ما كان يصح أن يخفى على حضرة صاحب المعالي العالم العلامة عبد العزيز فهمي باشا. .) ولم يبين لنا هذا الطريق صراحة وغن كان قد أشار إليه بما يفهم منه أنه طريق التشريع الوضعي القائم على استعمال ولي الأمر ماله من سلطان على عماله قضاة كانوا أو مأذونين بمنعهم من تحرير وثائق رسمية لعقود الزواج المتضمنة للتعدد أو سماع الدعاوى المترتبة على هذه العقود.
فأن كان هذا معناه - ولا يمكن أن يكون قد عنى سوى - فقد أخطأ القصد إلى التحريم وإلى حقيقة هدف الباشا وما خفي وما لا يخف على معاليه. ذلك أن الطريق الذي أشار إلية قد لجأ إليه الشارع المصري حقيقة في نظائر لتعدد الزوجات تحقيقاً لمقاصده الإصلاحية بما يناسب تطور الزمن وتغيير الأوضاع. ومن هذه النظائر مسائل إثبات النسب، والنفقة، والعدة، وتحديد سن الزواج الذي أشار إلية الأستاذ لكن هذا الشارع لم يتناول هذه الأمور(772/12)
بتحريم قط، وما كان له أن يفعل إذ الحل والحرمة حكمان دينيان، والحاكم هو الله وحده جل شأنه، وإنما سلك الشارع المصري طريقاً سلبياً لا علاقة له بحل ولا حرمة، وهو كما قدمنا - طريق منع القضاة والمأذونين من سماع بعض الدعاوى وتحرير بعض الوثائق الخاصة بهذه الأمور. فلا ينبني على ذلك أن ينقلب الحرام منها حلالاً أو الحلال حراماً حتى يصح القول بأننا (نملك التحريم) وكل ما هنالك أنه عطل من الآثار المترتبة على هذه الأمور ما يستلزم الوصول إليه قضاء القاضي أو تحرير الوثيقة وترك الناس بعد ذلك أحراراً يتزاوجون ويقر بعضهم لبعض بالنسب ويؤدون لزوجاتهم ما عليهم لهن من نفقات غير مقيدين في ذلك إلا في بأحكام الدين. ويعتبر صحيحاً كل ما ينشئون بينهم من علاقات على هذا النحو، وتترتب عليه جميع الآثار الشرعية عدا ما ذكرنا من الآثار المعطلة. فلو طلق مسلم مصري زوجته ثم ولدت بعد الطلاق بأكثر من سنة ولم ينكر المطلق الولد ثبت نسبه منه شرعاً وترتبت للولد والوالد كافة الحقوق من نفقة وحضانة وولاية وتوارث وغيرها. ولو تزوج من يقل سنه عن ثماني عشرة سنة بمن يقل سنها عن ست عشرة سنة فزواجهما صحيح شرعاً تترتب عليه كافة الآثار الشرعية عدا المعطل منها. وكذلك الحال في باقي الأمور التي سلك فيها الشارع هذا الطريق السلبي.
بل أن العلاقات التي تنشأ من هذا القبيل في حدود الأوضاع الدينية صحيحة قانوناً أيضاَ وتترتب عليها كافة الآثار عدا ما نص على تعطيله. ومن ذلك أن مواقعه الزوج لزوجته التي يقل سنها عن ست عشرة سنة لا تعتبر جريمة، فلو لم يكن هذا الزواج صحيحاً قانوناً لاعتبارات جريمة هتك عرض ولا نطبق على الزوج حكم المادة 269 من قانون العقوبات - ومن ذلك أيضاً أن محكمة النقض والإبرام قد أصدرت في 29 نوفمبر سنة 1930 برياسة معالي عبد العزيز فهمي باشا نفسه حكمها المشهور بعدم اعتبار ذكر الشهود سناً غير حقيقية لأحد الزوجين في وثيقة العقد مع علمهم بسنه الحقيقية، جناية تزوير بناء على أن واقعة السن ليست من الأركان الأساسية في عقد الزواج لأنه يصح وينفذ وتترتب عليه أثاره الشرعية بدونها.
ولهذه الاعتبارات المتقدمة نرى الشارع المصري يعبر عما تناوله من هذه الأمور بتعبير يتفق وحقيقة ما قصد إليه من معنى سلبي لا يتعرض فيه لحل ولا حرمة، فيقول مثلاً (لا(772/13)
تسمع الدعوى لنفقة عدة تزيد عن سنة من تاريخ الطلاق، كما أنه لا تسمع عند الإنكار دعوى الإرث بسبب الزوجية لمطلقة توفى عنها زوجها بعد سنة تاريخ الطلاق) (المادة 17 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929) بخلاف الأحكام التي أوردها متفقة وأحكام الشريعة ولو في بعض المذاهب فقط، كقوله (لا يقع طلاق الكران والمكره) (المادة 1 من المرسوم بقانون سالف الذكر).
على أن سلوك المشرع المصري لهذا الطريق السلبي مبنى على قاعدة شرعية مقررة وهي (تخصيص القضاء بالمكان والزمان والحادثة) إلا أن تطبيق هذه القاعدة في مصر محل نظر ليس هنا مجال التبسيط فيه. وحسبي أن أجتزئ ببيان أن المقصود بهذه القاعدة وما يتفق مع ما حدث من تطبيقها في جميع عصور الإسلام المتقدمة، هو تخويل ولي الأمر، بما له من الولاية القضائية العامة، الحق في تنظيم هذه الولاية بين قضاته بما يتفق والصالح العام ومصلحة المتقاضين وحال القضية من أن بعضهم أكثر صلاحية للحكم في بلد دون آخر، وفي زمان معين دون زمان آخر، وفي بعض الدعاوى دون بعض. وليس المقصود بهذه القاعدة حرمان المتقاضين من التمتع بالآثار المترتبة على ما أحله الشرع، وإلا كان في ذلك تعطيل لبعض أحكامه الخاصة بترتب الآثار المتقدمة على تصرفات أجازها مما لا يدخل في نطاق هذه القاعدة ولا يمكن أن يكون مقصوداً بها. ولهذا قرر جميع من تعرضوا لبيان هذه القاعدة من أمثال أبن فروجون في تذكرته والماوردي في أحكامه السلطانية أنه إذا كف ولي الأمر جميع قضاته عن سماع الدعوى بناء على هذه القاعدة، وجب عليه أن يسمعها بنفسه كي لا تتعطل بعض أحكام الشرع، فليرجع إلى ذلك من شاء.
ومما تقدم يتبين بجلاء للأستاذ عبد المتعال أن الطريق السلبي الذي أشار إليه ليس طريقاً للتحريم بحال في وضعه الحالي، بل ولا يجوز (شرعاً) أن يترتب عليه تعطيل لبعض الأحكام المترتبة على تصرفات شرعية صحيحة ولذلك لم يقل به معالي عبد العزيز فهمي باشا في مسألة تعدد الزوجات، وما كان هذا الطريق ليخفى على مثل معاليه، ولكنه أراد شيئاً، مغايراً لما عناه الأستاذ، أراد (تقرير) التحريم بقانون على أنه حكم الشرع كما فهمه معاليه من النصوص القرآنية، لا (إنشاء) حكم جديد فعنوان مقالاتي في الرد على معاليه(772/14)
يطابق موضوع النزاع بيني وبينه تمام المطابقة.
إبراهيم زكي الدين بدوي
من جامعات الأزهر وباريس وفؤاد
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون(772/15)
مجلس الشورى لا إبليس
لشاعر الهند المرحوم الدكتور محمد إقبال
بمناسبة أسبوعه الذي سيقام في (لاهور) آخر هذا الشهر
احتفالاً بذكراه
ترجمة الدكتور السيد محمد يوسف
كلمة المترجم
لا يزال العالم مسرحاً للنزاع بين الحق والباطل ولئن كانت كفة الحق رجحت في فترات من التاريخ ولا سيما إبان ظهور الإسلام ففي عصرنا هذا نرى الدنيا تعاني نظاماً إبليسياً يقوم على أساس استعباد الإنسان للإنسان. ومما يدعم هذا النظام أن الدين لم يعد يلعب دوراً إيجابياً في الحياة البشرية مع أنه بقى منه عناصر شتى في صورة مشوهة ممسوخة تعمل عمل الأفيون في تنويم الطبقات المهضومة الحقوق، مثل الاعتقاد بقضاء الله وقدره، ولكن أصبح من المقرر أخيراً أن الإنسانية متبرمة من هذا النظام وربما ظهرت هناك تيارات في الفكر واتجاهات في العمل تدل على أن الإنسان قد بدأ يتفقد نوع النظام الذي يكفل له ما يعوزه تحت النظام الحاضر، فتارة تسمع الأصوات تعلو مدوية ب (الحكم للأمة) وتارة أخرى نرى الناس يعجبون بتعاليم ماركس، ويهرعون إلى مبادئ الشيوعية التي كانت الفاشستية تعد قوتها لمناوئتها والقضاء عليها حين نظم الدكتور إقبال أبياته للترجمة فيما بعد في سنة 1936 - نعم نلاحظ جميع هذه التيارات المتضاربة فيخل إلينا أن النظام الإبليسي قد صار على وشك الانهيار وأن فجر السعادة سينبلج عن قريب. ولا غرو إذا غرو إذا أستدعى هذا الحال عقد جلسة هامة لمجلس الشورى لإبليس يوم كانت بوادر الحرب الماضية قد لاحت في الأفق لكل ذي بصيرة وخبرة. وها هو ذا الشاعر يطلعنا على ما جرى في تلك الجلسة بين إبليس ومستشاريه. والآن بعد أن اشتعلت الحرب العالمية ثم وضعت أوزارها، وفرعت الشعوب المختلفة من وضع القائمة لربحها وخسارتها - الآن نحن في موقف يسهل علينا فيه أن نحكم على حسن تدبير إبليس أو بعبارة أخرى صدق تبؤ الدكتور إقبال وبعد نظرة فيما صرح به من أن جميع الحركات الإصلاحية(772/16)
ليست في الحقيقة إلا أجزاء من خطة واحدة مدبرة من تلقاء إبليس الذي لا يهدر سلطانه إلا الإسلام.
أما الإسلام فإنه وإن كان خطراً عظيماً بالقوة لكنه ليس بخطر بالفعل؛ لأن المسلم قد فقد الإيمان برسالته والثقة بنفسه؛ فأعتزل معترك الحياة وتنازل عن الدنيا فلا يهمه مصير الإنسانية وأوضاع العالم إذا هو شغل فكره في الترف العلمي المفسد لقوة العمل مثل الإلهيات والكلام؛ وإذن فليس على إبليس للاحتفاظ بسيادته على الأرض إلا أن يستمر في صرف نظر المسلم - عدوه الوحيد - عن الحياة والجهاد في سبيلها.
ولكن مهما يكن الحال باعثاً على الاطمئنان من ناحية المسلم فالخطر لا يزال متمثلاً أمام إبليس في طبيعة الإسلام وجوهره؛ لأن الإسلام ينطوي على استنكار الاستعباد بجميع أنواعه وتزكية الثروة وجعلها أمانة في يد المنعمين. وهاتان الناحيتان - السياسية والاقتصادية - هما اللتان تهمان الإنسانية في الوقت الحاضر. فلو اهتدت بمقتضى الظروف إلى اكتشاف مبادئ الإسلام - الملك لله والأرض لله - لفسد الأمر على إبليس فلذلك نراه يسهر على حجب هذا الطريق المستقيم عن أنظار الجمهور المتلمسين طريقه في الظلام ليبقوا حيارى متطرفين تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال.
ومما يجب التنبيه إليه أن رسالة إقبال - رسالة الجد والعمل المنتجين - هي تسخير الأسباب المادية والسيطرة التامة على الأحوال والنظم الاجتماعية دون الخضوع لها؛ فهو دائماً شديد الاغتباط بمظاهر الحركة والنشاط حتى في حياة إبليس ولا يملك الاستهزاء بالركود والجمود في الملائكة المشتغلين بالتسبيح والتقديس فقط كأنه يريد التأكيد بأن الفضل كل الفضل في المغامرة والمخاطرة لا في الانحياز وسلامة النفس. وهذا أسلوب مطرد للدكتور إقبال في معالجته لشخصيات موسوليني ولينين وماركس؛ فإنه ينوه بحيويته دون أن يتقيد بمراميهم. وسنرى هذا الأسلوب ينجلي أمامنا بصورة بارزة في هذه الأبيات المترجمة.
السنة سنة 1936 م
إبليس - هذه الدنيا لعبة العناصر من قدم، تقطعت أمال سكان العرش الأعظم حسرات عليها قد أزمع الآن على خرابها ذلك المصرف للأمور الذي سماها عالم الكاف والنون أما(772/17)
أنا فقد أريت الإفرنج حلم الملوكية وأبطلت سحر المسجد والدير والكنيسة، وإني لقنت المعدمين درس القدر؛ وألهمت المنعمين جنون الرأسمالية. أفيطيق أحد إطفاء النار المستعمرة فيما تستند وقائعها إلى لوعة في قلب إبليس؟ وهل يطيق أحد قلع تلك النخلة التي تمتد أغصانها بتربيتنا نحن؟
المستشار الأول - لا شك أن هذا النظام الإبليسي محكم، إذ تأصل من جرائه العوام في طريق الاستعباد. هؤلاء المساكين قد قدر عليهم السجود من الأزل حتى أصبحت الصلاة بدون القيام من مقتضيات فطرتهم، لا يمكن أبداً يتولد فيهم أمل. ولئن ولد أحياناً فلابد من أن يموت أو يبقى فجاً ناقصاً. أن من معجزات سعينا المتواصل أن أصبح المتصوفون وأئمة الدين كلهم من عباد الفردية وإنما هذا الأفيون يوافق طبع الشرق، وإلا فعلم (الكلام) لا يقل شيئاً عن مزامير القوال. ولو بقى الاحتفال بالطواف والحج يهمنا من أمره؟ إذ أن سيف المؤمن المسلول قد فُل، وعلى قنوط مَن يدل هذا الفرمان الجديد أي قولهم أن الجهاد محرم على المسلم في هذا العصر؟
المستشار الثاني - أخبر هذا الضجيج بشأن (الحكم للجمهور) أم إذ لست مطلعاً على الفتن الناشئة في الدنيا
المستشار الأول - إني على علم، ولكن خبرتي بالدنيا ترشدني إلى أنه لا داعي للخطر أبداً من ناحية ما هو قناع للملوكية ليس إلا. نحن بأنفسنا خلعنا على الملوكية زي الجمهورية إذا تنبه ابن آدم قليلاً إلى عرفان نفسه وتقدير ذاته. أن أمر الملكية يمتاز بماهيته الخاصة بحيث لا يقتصر أبداً على وجود (الأمير والسلطان) سواء أكان هناك مجلس الملة أم أركان دولة أبرويز، (السلطان) عبارة عن كل ما يطمح ببصره إلى زرع غيره. أو لم تر إلى النظام الجمهوري في الغرب؟ الظاهر مشرق، أما الباطن فهو أظلم من جنكيز!
المستشار الثالث - كلما بقيت روح الفردية فلا داعي إلى الاضطراب. ولكن كيف تتسنى المعارضة لفتنة ذلك اليهودي الذي هو الكليم؟ إلا أنه ينقصه التجلي وهو المسيح؛ بيد أنه ليس معه صليب. ما هو بنبي ولكنه متأبط كتاباً. يعوزني التعبير عن نظرة ذلك الكافر الهتاك للأستاذ كأنما هي القيامة لأقوام الشرق والغرب. وهل يكون هناك أشنع من فساد الطبع هذا؟ أعنى أن الأرقاء قوضوا إطناب خيام مواليهم.(772/18)
المستشار الرابع - انظر تر معارضة تلك الفتن في إيوان روما الكبرى؛ فإنا نحن قد جعلنا آل قيصر يحلمون بحلم قيصر مرة ثانية. من الذي يلتف بأمواج بحر الروم، يعلو تارة مثل الصنوبر، ويزمجر تارة أخرى مثل الرباب؟
المستشار الثالث - أنا لا أسلم في التبصر في العواقب لمن فضح سياسة الإنجليز بمثل هذا الطريق.
المستشار الخامس - (مخاطباً إبليس): يا من بحرارة أنفاسه يقوم أمر العالم! كلما شئت أنت هتكت آية خبية. بفضل حرارتك يتحول (الماء والطين) إلى عالم الحرقة والزمجرة؛ كما بأنه بإرشادك يصبح أبله الجنة بصيراً بالأمور. أن الذي يعرف بين العباد الساذجين باسم (الرب) لا يبزك أبداً في الخبرة بفطرة آدم. أن الذين يشتغلون بالتسبيح والتقديس والطواف لا غير، لا يزالون خجلين ناكسي الرؤوس أمام غيرتك. لئن كان جميع السحرة الإنجليز مطيعين لإرشادك على الرغم من ذلك فإني فقدت الثقة بفراستهم. ذلك اليهودي الفاتن الذي برز فيه مزادك قد أوشك أن يتمزق كل رداء من جراء جنونه. وقد أصبح الزاغ الصحراوي مساوياً لشاهين والصقر. ما أسرع طبيعة الدهر تبدلاً! تلك التي ظنناها قبضة من الغبار قد تبعثرت وحجبت الأملاك، وبلغ الذعر من الفتنة المنتظرة بالغد إلى أن ارتعدت منه الجبال والمروج وضعاف الأنهار. يا مولاي أن العالم الذي يعول على سيادتك فقط، ذلك العالم على وشك الانقلاب إبليس - (يخاطب مستشاريه): أن عالم اللون والرائحة بما فيه من الأرض والشمس والقمر والسماء طبقاً على طبق، إنما هو طوع بناني. وسيشهد الشرق والغرب بعينها ما يعجبهما إذا ما أحميت أنا دم أقوام أوربا. إنما تكفى صرخة واحدة منى لحمل كل إمام من أئمة السياسة وشيوخ الكنيسة على الغلواء. ولو كان أحد من السفهاء يرى أن الثقافة الحاضرة من صنع الزجاج فليجرب بنفسه كسر أدواتها من الكأس والكوب. أن الجيوب التي مزقتها يد الفطرة لا يمكن أبداً أن ترفأ بإبرة المنطق المزدكي. أنى يمكن أن يهولني هؤلاء الشيوعيون المترددون إلى الأزقة قلقي الأحوال موزعي الفكر مختلطي الأصوات؟ ولكن لو كنت أشعر بخطر فهو من جهة تلك الأمة التي ما تزال شرارة الأمل مخبأة تحت رمادها. لا يزال بين هؤلاء القوم عدد قليل من الظالمين الذين يتوضئون بالدموع بالأبكار. كل مطلع على بواطن الأيام يتأكد من أن فتنة الغد هي الإسلام لا(772/19)
المزدكية.
- 2 -
أنا أعرف أن هذه الأمة لم تبق حاملة للقرآن، وأن الرأسمالية هي بعينها أصبحت ديناً للعبد المؤمن. ولا يغيب عنى أن أكمام شيوخ الحرم من اليد البيضاء للإضاءة في ليل الشرق البهيم. ولكني أخاف من مقتضيات هذا العصر أن تؤدي إلى تبيان الشريعة النبوية. وحذار ثم حذار من الدستور النبوي فأنه حافظ لناموس المرأة، ومبتلي المرء ومكونه. إنما هو إنذار بالموت لجميع أنواع الاستعباد حتى لا يبقى بعده لا الفغور أو الخاقان ولا المسكين المرابط بالطريق. هو يطهر الثروة ويزكيها من كل رجس ويجعل المنعمين أمناء على المال والثروة. وهل يكون انقلاب في الفكر والعمل فوق هذا: (الأرض لله لا للملوك) يا حبذا لو بقى دستور كهذا مخبأ عن عيون العالم. ومن المغانم أن المؤمن نفسه يعدم اليقين والخير في أن يبقى هو مشتبكاً في الإلهيات مشغولا في أوجه تأويل كتاب الله.
- 3 -
لا أضاء الليل المظلم للمتقي الذي تبطل تكبيراته طلسم الجهات الستة! هل مات ابن مريم أم هو حي خالد؟ هل صفات ذات الحق هي عين الذات أو منفصلة عنها؟ هل المقصود من (الموعود) هو المسيح الناصري أو المجدد المتصف بصفات ابن مريم؟ هل ألفاظ كلام الله قديمة أو حادثة؟ بأية عقيدة تنحصر نجاة الأمة المرحومة؟ هذه المجموعة من اللات ومناة من صنع الإلهيات. أولاً هي لشغل المسلم في هذا العصر؟ عليكم أن تجنبوه عالم العمل حتى تفشل كل خطة له في ميدان الحياة. الخير كله في أن يبقى المؤمن مستعبداً إلى يوم القيامة، متنازلا لمصلحة الآخرين عن هذا العالم الذي لا ثبات له. إنما يليق به الشعر والتصوف اللذان يحجبان عن نظرة مسرح الحياة. أنا لا أزال متخوفاً كل لحظة من يقظة هذه الأمة التي تنطوي حقيقة دينها على احتساب الكائنات. عليكم أن تشغلوه عن نفسه بالذكر والفكر وأن تحصروه في المزاج الخانقاهي (أي الرهبانية).
السيد محمد يوسف الهندي(772/20)
ظواهر في حياتنا الأدبية
للأستاذ أنور المعداوي
في حياتنا الأدبية ظواهر تستوقف النظر، وتغرى بالبحث، وتدعو إلى التأمل والمراجعة. وتستطيع أن تسمى كل ظاهرة من هذه الظواهر مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج! ولك أن تضع مشكلة النقد الأدبي في مقدمة المشكلات التي تعانيها الحياة الأدبية عندنا في هذه الأيام؛ فالنقد الأدبي في مصر هو (نقد الأغمار) كما سماه الأستاذ العقاد وأصاب في التسمية. ولقد تناول الأستاذ العقاد هذه المشكلة في معرض حديثه عن أحد الكتب التي ظهرت حديثاً حول فتنة عثمان، تناولها من زاوية الإشارة ولفت الأنظار، لا من زاوية النفاذ إلى مكامن العلل والأسباب، ومن هنا كانت اللفتة العابرة في حديثه أشبه بلقطة (الكاميرا) السريعة التي تجيد اختيار الزاوية عند التقاط الصورة. . . أما أنا فأحب أن ألتقط الصورة من زواياها المتعددة لأستطيع أن أعرض للمشكلة لوحة لا تنقصها وفرة (الرتوشن)! أول زاوية يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة هي أن أكثر الذين يتولون صناعة النقد لا يصلحون لها؛ فبعضهم تنقصه الثقافة الرفيعة فهو من أنصاف المثقفين، وبعضهم تنقصه التجربة الكاملة فهو من المبتدئين، وبعضهم ينقصه الذوق المرهف فهو من ضعاف الملكة وقاصرى الأداة. هذه الأركان الثلاثة من أركان النقد الأدبي نضعها مجتمعة في كفة، لنضع في الكفة الأخرى ذلك الركن الخطير الرابع ونعنى به الضمير الأدبي. . . وهو وحده مشكلة المشكلات وماذا تجدي الثقافة، وماذا تجدي التجربة، وماذا يجدي الذوق، إذا كان الضمير الأدبي لاوجود له؟ لاشيء يجدي على الإطلاق، لأن الضمير يوجه الثقافة فلا تجوز، ويهدي التجربة فلا تضل، ويرشد الذوق فلا ينحرف. . . وماذا نفعل وأصحاب الضمير الأدبي في مصر هم فئة من ذوى الأهواء والأغراض، يسيرون في ركاب هذا ذاك، يصفقون وليس هناك ما يدعو إلى ما يدعو إلى التصفيق، ويهتفون وليس هناك ما يدعو إلى الهتاف؟! الضمير الأدبي في مصر هو مشكلة المشكلات. وأعجب العجب أن الذين يتولون صناعة النقد في هذه الأيام لا يشعرون بأنهم معرضون لميزان الناقدين، وأنهم حين يظفرون بثناء بعض الناس يفقدون احترام الآخرين. . . إنهم لا يشعرون بشيء من هذا لأنهم أغمار، ولأنهم أصحاب أهواء وأغراض!(772/21)
النقد الأدبي في مصر تنقصه هذه الدعائم الأربع مجتمعة: الثقافة، والذوق، والتجربة، والضمير. . . وأقوال مجتمعة لأن هناك المثقف المحروم من الذوق، فهو قد يوفق حين يقدم إليك نظرية في النقد الأدبي؛ ولكنه يخفق إذا ما وصل إلى مرحلة التمثيل والتطبيق؛ نملك لأن موهبة الذوق الفني عنده لم تنضج كل النضوج، والنقد في أصدق صوره وأكملها لا يقوم إلا على التوفيق بين القاعدة والمثال. . . وهناك المثقف الذي لم يمد ثقافته بروافد من التجربة الكاملة، ونعنى بها معالجة الكتابة في النقد الأدبي على هدى الإحاطة التامة بأصوله ومناهجه. . . وهناك المثقف الذي مجتمع له الثقافة والذوق والتجربة ولكنه يتخلى عن ضميره لقاء غرض من الأغراض!
هذه هي بعض الزوايا التي ننظر منها إلى من يتولون صناعة النقد في هذه الأيام، وتبقى بعد ذلك زاوية لا تقل عن سابقاتها خطورة، وهي أن هؤلاء الناس تنقصهم صفة التخصص؛ فبعضهم يتحدث عن القصة وهو لا يعرف شيئاً في فن القصة، وعن المسرحية وهو لا يدرك على أي الدعائم يجب أن يقوم البناء الفني للمسرحية وعن التاريخ الأدبي وهو لا يستطيع أن يفرق بينه وبين غيره من ألوان الدراسة الأدبية، وعن الشعر وهو محروم من نعمة الشعور! ومما يبعث على الأسى والأسف أن بعض الأدباء ممن كانوا يحذقون صناعة النقد قد انصرفوا عنها إلى الكتابة في الصحف اليومية جرياً وراء المادة، غير مبالين بالفراغ الذي تحسه المكتبة العربية في هذا المجال منذ سنين!
ونترك النقد الأدبي لنتحدث عن مشكلة أخرى هي مشكلة القصة المصرية الحديثة. . . وأول شيء نقرره هو أن القصة عندنا لا تزال تخطو فتتعثر، سواء في ذلك القصة الطويلة أو القصيرة التحليلية أو الموضوعية، التاريخية أو الذاتية، ومرجع هذا إلى أن كتابنا القصصيين لا يسيرون على القاعدة التي وضعها مارك سوان حين قال: (يجب أن يكون للقصة تصميم فني كذلك الذي يضعه المهندس المعماري للبناء؛ أو كتلك المذكرات التي يعدها المحامي قبل مباشرة إحدى قضاياه). . القصة عندنا ينقصها التصميم الفني؛ ينقصها كيف تبدأ، وكيف تسير، وكيف تنتهي؛ دون أن يكون هناك شذوذ أو اضطراب في هذه المراحل الثلاث! وكتاب القصة عندنا ينقصهم الفهم الصادق لأصول الفن القصصي في كثير من الأحيان؛ فمنهم من يعتقد أن الواقعية في القصة مثلا هي أن ينقل عن الواقع،(772/22)
المادي المحس، نقلاً يتركز في لفظ أو يتمثل في عبارة! الواقعية هي أن تنقل الحياة إلى الورق - لا كما كانت - ولكن كما يمكن أن تكون. . . الواقعية هي أن تسير الحادثة مع مجرى الحياة. . . الواقعية هي أصدق في التعبير بحيث لا يطغى الخيال على الواقع، ولا يجوز الفن على الطبيعة. الواقعية بمعنى آخر هي الدقة في تصوير انعكاس الحياة على حواس الفنان. فأين كتاب القصة المصرية من هذه المعاني؟! إنهم لا يفرقون في كثير من الأحيان بين أصول القصة التحليلية والموضوعية، ومن هنا تجدهم يحفلون في كل قصة من هذا اللون أو ذاك بالنهاية المفتعلة والعقدة المنافية لمجرى الحياة، ليحدثوا شيئاً من المفاجأة يثيرون به إعجاب القارئ، ولو كانت تلك المفاجأة على حساب الفن. . . مع أن القصة التحليلية حين تبلغ غايتها من تشريح العواطف والأهواء، لا تكون محتاجة في الغالب إلى المفاجآت؛ لأن هدفها الأول هو وضع العواطف الإنسانية تحت مجهر التحليل النفسي!
وتلمس إلى جانب ما ذكرت بعض الظواهر الأخرى التي لا تزال تترك أثرها العميق في بناء القصة المصرية، تلمس الحوار المصنوع، لأن كتابنا القصصيين يتخيلون أن فن الحوار يتمثل في اللفظ الأنيق، والمعنى الرشيق، والعبارة الموشاة، دون أن يرجعوا إلى الحياة ليروا أن كانت تطيق هذا كله أو لا تطيقه. الفن في الحوار في الصناعة اللفظية، ولكنه إنطاق الشخوص بما يمكن أن تنطقها به الحياة، فلا يتحدث أحد الخدم مثلا كما يتحدث سارتر أو كسير كجورد، ولا ينطق أحد الجهلاء كما ينطق بيكون أو ديكارت! وتنظر فتجد أكثرهم يحركون في قصصهم شخوصاً من صنع المخيلة لا من صنع الحياة، مخيلتهم هي التي ترتب المنظر، وتحرك الشخوص، وتصنع الحوار، فاكون النتيجة زيفاً في العمل الفني يبعد القارئ عن جو الواقعية الذي تنشده كل قصة يرجى لها البقاء؟ وتبحث عن تصوير الجو الشرقي والروح المصرية فلا تقع عليه في كثير مما أخرجه كتاب القصة في السنين الأخيرة. وهذا راجع إلى السطو على الفكرة في القصة الغربية ونقلها بمهارة إلى القصة المصرية كما يفعل الأستاذ توفيق الحكيم، تماماً كما تأتي من غانيات باريس فتنزع عنها آخر ما ابتكرته محال الأزياء الباريسية ثم تلبسها (الملاءة اللف!) قد تكون أجمل، وقد تكون أكثر فتة، ولكنها تتعثر في مشيتها ولا تستطيع أن(772/23)
تواصل السير. وكيف تستطيع وهذا اللباس الغريب يحد من حرية الجسم ورشاقة الحركة؟!
وكثير من قصاصينا تنقصهم صفة الخروج إلى الحياة. . . ومن هنا تفوح من قصصهم رائحة (الجدران المغلقة)، ونعني بها تلك الأركان المنعزلة التي يقبعون فيها ليرسموا للحياة لوحة تستمد ظلالها وأضواءها وألوانها من جو المحال العامة والأندية الخاصة. . . الفنان الحق ومن يخرج إلى الحياة ليستخدم كل حواسه في تذوق معانيها، ونقل كل ما يمكن أن يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني، والفن - كما قلت غير مرة - ما لم يتصل، بالحياة فهو همود وجمود وموت!
وإذا ما انتقلنا إلى المشكلة الثالثة وهي مشكلة المسرحية المصرية الحديثة في أي لون من ألوانها سواء كان هذا اللون هو الدرامة أو الميلودرامة أو الكوميديا، وجدنا أن خطوات العمل الفني فيها أكثر تعثراً منه في القصة، ومرجع هذا أيضاً إلى أن من يعالجون كتابة المسرحية في مصر أناس لا يلمون كل الإلمام بأصول الفن المسرحي. إن نجاح المسرحية يتوقف إلى حد بعيد على توفيق الكاتب في اختيار الفكرة أولاً، ثم على تهيئة الجو المسرحي لفكرته تهيئة تعتمد أول ما تعتمد على بعث الحياة والحركة في الحوار، وفيما يعرض من نماذج بشرية يتعمد في تحريكها عن جو الدُّمى وقطع الشطرنج، وعلى عنصري التشويق والمفاجأة، وعلى لتسلسل الفني في عرض الحوادث عرضاً لا تحس فيه انقطاع الصلة بين الفن والحياة أما أساس العمل الفني في المسرحية فهو (الصراع)؛ النفسي والفكري والفني كما يقسمه واضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث هنريك إبسن، وأما الصراع النفسي فهو ذلك الذي يكون بين ميول نفسية، والفكري هو ذلك الذي يكون بين ميول ذهنية، والفني هو ذلك الذي يتمثل في عملية الحوار، من ناحية صدق الصلة بينه وبين كل شخصية تلعب دورها على المسرح. كل هذه الدعائم لابد من توفرها ليتم البناء الكامل للمسرحية الناجحة، وقد تجد بعض هذه الدعائم متوفراً في المسرحية المصرية؛ ولكن مصدر إخفاقها هو خلوها في كثير من الأحيان من عملية (الصراع) بأركانه الثلاثة مجتمعة، وبخاصة الصراع النفسي، فليس منه إلا ومضات قليلة مبعثرة تشع هنا وهناك.!
هذه هي الظواهر التي خرجت بها من دراستي لبعض جوانب حياتنا الأدبية في السنين(772/24)
الأخيرة، وهي ظواهر تستطيع كما قلت لك أن تلمس في كل منها مشكلة تتعدد فيها الجوانب، وتتشعب الزوايا، وتبقى بعد ذلك في انتظار العلاج!
أنور المعداوي(772/25)
من ظرفاء العصر العباسي:
2 - أبو العيناء
191 - 283 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
وما أستطيع - ولا أحسبك تستطيع - أن تكتم إعجابها بهذا الظريف وهو يدلك على مواطن الغنى من نفسه، ومواضع العزة في تصرفاته، إذ يوحي إليك أنه غض الطرف عن زهرة الحياة الدنيا، وكف البصر من متاعها القليل وعرضها الأدنى. فينشد مزهواً مرفوع الهامة:
الحمد لله ليس لي فرس ... ولا على باب منزلي حرس
ولا غلام إذا هتفت به ... بادر نحوي كأنه قبس
ابني غلامي وزوجتي وأمَتي ... ملكنها المِلاك والعرس
غنيت باليأس واعتصمت به ... عن كل فرد بوجهه عبس
فما يراني ببابه أبداً ... المحيا سمح ولا شرس
إذن هو يحمد الله - الذي لا يحمد على مكروه سواه - على أنه لم يجعل له مالا ممدودا؛ فليس له خيل مسومة، وأفراس مطهمة، وليس له على الأبواب، حراس ولا حجاب؛ ولا له غلمان وجوار، كأنهم في المبادرة نحوه شعلة من نار: وإنما غلامه الوحيد ابنه وفلذة كبده، وجاريته الفريدة هي زوجته التي دفع إلى أوليائها مهرها فملكها بعد وليمة عرسه. . . فحسبه اليأس مما في أيدي الناس، فأن فيه غني النفس يعتصمن به عن الذين يصعرون الخد، ويقطبون الجبين؛ بل ليأخذن ميثاق نفسه لما أفقرته هزاهز الدهر ثم قعدت به الأيام عن طلب الرزق ليعتزن بكرامته، فلا يقرع باب مخلوق متزلفاً متملقاً، ولا يسأل من الناس سمحاً ليناً لطيفاً، ولا شرساً قاسياً عنيفاً، أعطوه أو منعوه!
يالها من مهارة!
أما وإن هذه المهارة عند أبي العيناء في إبراز شخصيته هي التي أكسبته ثقة بنفسه لا تتزعزع، وأخافت كثيرين من التصدي لمعارضته، لأنه كان سريع الجواب حاضر البديهة(772/26)
لاذع النكتة؛ ما جابه إنساناً غلا غلبه، ولا ناقشه إلا أقحمه، ولا جادله إلا ظهر عليه.
ولا ريب أن لسماعه من الأصمعي وأبي عبيدة والأنصاري والعتبى وأبي عاصم النبيل الذين سبق أن ذكرنا أسمائهم فضلا كبيراً على فصاحته وبلاغته، ولسنه وظرفته؛ وعذوبة شعره وسهولة نثره، وحسن اختياره، في رواية أخباره!
ولقد كانت حياة هذا الظريف حافلة بكل مدهش وغريب، فإذا كان قد عاصر المأمون والمعتصم والواثق، فأنه عاصر بعد عماه المتوكل الذي دام أربعة عشر عاماً فأمسى أبو العيناء في السادس والخمسين، ثم عاصر ابنه الذي دام ستة أشهر فأتم أبو العيناء السابع والخمسين، ثم المستعين الذي خلع بعد أن بقى أربعة أعوام فصار أبو العيناء في الواحد والستين، ثم المعتز الذي خلع نفسه بعد ثلاثة أعوام فأصبح أبو العيناء في الرابع والستين، ثم المهتدي الذي خلع بعد أقل من عام فأضحى أبو العيناء في الخامس والستين، ثم المعتمد الذي ظل ثلاثة وعشرين عاماً فأشرف أبو العيناء على الثامن والثمانين، ثم المفوض الذي خلع نفسه في السنة ذاتها، وأخيراً حضر ثلاث سنوات أو أربعاً من خلافة المعتضد توفى على أثرها سنة اثنتين وثمانين ومائتين كما قال الدارقطني، أو سنة ثلاث وثمانين ومائتين كما قال أبو جعفر بن أبي العيناء. ولا يأس إذا رجحنا رواية الابن في هذا المقام. وهكذا فقد عاش أبو العيناء ثلاثة وتسعين عاماً، أو قل إنه عاش قرناً إلا قليلاً!
وما بهذا بالعمر القصير. . . فقد تقلبت في حياة أبي العيناء عصور كثيرة فرأى في خلالها تعز وتذل، وحكومات تحيا وتموت، وأبطالا يسوقون الناس غلى الموت ثم يساقون إلى الموت، ورجالا أكبروا النظام وبنوا، جماعات استحبوا الفوضى فهدموا وحطموا: وكان لهذه المشاهد في نفسه آثار كانت تتفاوت قوة وضعفاً، وإيجاباً وسلباً، وغموضاً ووضوحاً فتعلم الثقة بنفسه حين ألقى ثقته بالناس لا تنفعه، ورأى بهجة الدنيا لا تستحق العناء لما قاسها بمصائبها التي تكدر صفوها، فإذا هو يبكي على حرمانه، ثم يزهد زهادة الفقير الضعيف، ثم يتشكى إلى نفسه، وينشد من صميم قلبه:
تولت بهجة الدنيا ... فكل جديدها خلَق
وخان الناس كلهم ... فما أدى بمن أثق
رأيت معالم الخيرا ... ت سدت دونها الطرق(772/27)
فلا حسب ولا أدب ... ولا دين ولا خلق!
وإن مجتمعاً خالياً من روح الثقة بين أفراده وجماعاته، قد سدت الطرق دون معالم الخيرات فيه، حتى أبطأ بالحسيب حسبه حين لم يسرع، به عمله وجنى على الأديب أدبه حين كسدت بضاعته، ولم يرفع المتين دينه حين ضعفت مكانته، ولم يعز الفاضل خلقه حين ضاعت كرامته - إن مجتمعاً هذه بعض أوصافه ليس بالمستقر الصالح، ولا المثابة الآمنة.
لكن أبا العيناء - على سخريته بمجتمعه، واستخفافه بأهل زمانه - قد أدرك الحقيقة التي لا تخفى على الحكيم، وعرف كثيراً من أسرار القلوب وخبايا النفوس التي لا تكشفها إلا التجارب، فوازن بين فصاحة الفصحاء وسوء حالهم، وبين دراهم الأغنياء ونعومة عيشهم، فعصر الألم فلبه وأنطق لسانه، ففاض شعره بالحسرة وهو يقول:
من كان يملك درهمين تعلمت ... شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدم الفصحاء فاستمعوا له ... ورأيته بين الورى مختالا
لولا دراهمه التي في كيسه ... لرأيته شر البرية حالا
إن الغني إذا تكلم كاذباً ... قالوا صدقت وما نطقت محالا
وإذا الفقير أصاب قالوا لم تصب ... وكذبت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في المواطن كلها ... تكسو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن أراد قتالا
ولما آمن الدراهم هي لسان الفصيح، وسلاح المقاتل، بحث عنها فلم يجدها، أو قل إنه وجد القليل منها، فأخذ يعزى نفسه بالنكتة اللاذعة، والداعبة الموفقة، والرواية الطريفة، يدخل بها السرور على قلبه المحزون وعلى قلوب جلسائه ومعارفه، حتى اشتهر أمره بين أهل عصره، وذاع صيته بين أعلى الطبقات وأوسطها وأدناها، فنادم بعض الخلفاء والأمراء والوزراء، كما حاور الأدباء والشعراء والظرفاء، ثم ساير العامة العاديين: فكان الجميع معه على أمرهم مغلوبين!. . .
- 4 -
ويبدو أن المتوكل كان أشد الخلفاء رغبة في اتخاذ أبي العيناء نديماً، حتى قال ذات مرة لجلسائه: (لولا أنه ضرير لنادمناه) فلمما بلغه ذلك قال: أن أعفاني من رؤية الأهلة ونقش(772/28)
الفصوص صلحت للمنادمة) هذه رواية معجم الأدباء، وتجد مثلها في تاريخ بغداد (ص174 ج3). وكان هذا الجواب باعثاً على إرسال المتوكل في طلبه. فلما دخل عليه في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين قال له: (ما تقول في دارنا هذه؟ فقال أبو العيناء: أن الناس بنوا الدور في الدني، وأنت بنيت الدنيا في دارك: فاستحسن كلامه ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال له: دع هذا عنك ونادمنا. فقال: أنا رجل مكفوف، وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم. ولست أمن من أن تنظر إليَّ بعين راض وقلبك على غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت؛ فأختار العافية على التعرض للبلاء. فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك. . . فقال: يا أمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم فقال (نعم العبد إنه أواب) وقال عزوجل (هماز مشاء بنميم) وقال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف ... ولم أشتم النكس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما؟
ما أحسنه من تخلص!
يعتذر أبو العيناء عن خبث لسانه بأنه لا يشتم إلا اللئيم، ولا يهجو إلا الذميم، كما أنه لا يثنى إلا على صاحب المعروف، ولا يمدح إلا الحقيق بالمدح، كأنه يريد أن يقنع السامع بصدقه في شتمه وهجائه، وفي مدحه وثنائه؛ لأنه يذكرك بأن معرفة الشر باسمه، أو الخير برسمه، تدل على تفكير ساذج لا يعدو ظواهر الأمور، ولصاحبه أذن لا يسمع بها، ولسان لا ينطق به: لأن الإنسان الذي لا يعبر عما يسمع وتفهَّم ملتو بيانه، مائل ميزانه.
ولنا - أمام هذا العرض الواضح - أن نقرر أن أبا العيناء كان شديد الصراحة في التعبير عن رأيه الخاص، يحب مجابهة كل إنسان بما يلمس فيه من عيب، وللعيب مقياس شخصي عنده لا يوافقه عليه كثير من الناس. ويبرز لنا هذا المعنى من نفسه جوابه الشافي لمن سأله: (إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ قال: مادام المحسن يحسن، ومادام المسئ يسئوأعوذ بالله أن أكون كالعقرب تلسع النبي والذمي!).
وقد تبلغ به الصراحة مبلغاً يحمله على الاعتراف بما يؤذيه، ولا سيما إذا غلبته على أمره. فاه ساعتئذ ينساق مع ما يجيش في نفسه، ومع ما يلذ لسماعه، ولو اتهم برقة في دينه،(772/29)
وضعف في يقينه، وزلزلة في عقيدته.
دخل يوماً على المتوكل فقدم إليه طعام؛ فغمس لقمته في خل كان حاضراً وأكلها. فتأذى بالحموضة، وفطن الخليفة له فجعل يضحك. فقال: (لا تلمني يا أمير المؤمنين! فقد محت حلاوة الإيمان من قلبي)!
وإن رجلاً يعرض بمحو حلاوة الإيمان من قلبه ليستر امتعاضه بدعابته - لرجل صريح ما في ذلك ريب. ومثله لا يرى في بذاءة اللسان عند اللزوم إلا وصفاً للواقع، فهو في سفاهته يتحدث عن صراحته، لا يسأل عمن أمامه، ولا يكترث بما يحيط به. . .
كان المتوكل يكره التشيع لعلي بن أبي طالب وآله. فسأل أبا العيناء: (هل رأيت ببغداد منذ ثلاثين واحداً. قال: نجده كان مؤاجراً (يؤجر نفسه) وكنت أنت تقود عليه. فقال: يا أمير المؤمنين أو يبلغ هذا من فراغي؟ أدع موالي مع كثرتهم وأقود على غرباء؟
فقال المتوكل للفتح: أردت أن أشفي لهم مني!) وهذه صراحة منفعة النظير لم يشجع أبا العيناء عليها استخفاف المتوكل بالطالبين ورميه إياهم بعبارات لا تليق بقدر ما شجعه عليها اعتقاده الخاص بآل البيت ورغبته في إفحام الخليفة نفسه. ولست أ ' ني بهذا أنه كان متشيعاً لآل البيت، فما يكون يأبه لشيء من هذا، وإنما كان يكون لنفسه رأياً خاصاً في كل من يلفاه: يصاحب من يريد، ويخاصم من يريد، ويهمه - قبل كل شيء - إلا يعلو عليه مخلوق.
وكما ظهر أبو العيناء بمظهر المدافع عن آل البيت ليفحم الخليفة المتوكل بجوابه، خاصم يوماً علوياً ولم يكترث بتشيعه. فقال له العلوي: (تخاصمني وقد أمرت أن تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؟ فقال: لكني أقول الطيبين الطاهرين فتخرج أنت!).
فالرجل معارض من الطراز الأول، ومولع بأن تظفر معارضته حيث كان، وأمام كل إنسان مهما كان؛ ولكنه إذا سمع ما فيه مقنع لنفسه بعد طول الحوار يرضى به ويبدي إعجابه ولو صدر من صبي أو غلام. نعرف هذا من قوله (أخجلني ابن صغير لعبد الله ابن خاقان قلت له: وددت أن لي إبناً مثلك. قال: هذا بيدك! قلت: كيف ذلك؟ قال: تحمل أبي على امرأتك فتلد لك ابناً مثلي).
وأظن هذا عائداً إلى صراحته حتى بعثه إعجابه بالصغير على الخجل منع وعلى تسجيل(772/30)
هذا الخجل على نفسه. فلا تتغرب منه بعد ذلك أي موقف أمام المتوكل وغيره وترك فيه نفسه على سجيتها، ولم يتكلف ولم يصطنع.
أنظر إليه وقد دخل على عبيد الله بن عبد الله بن ظاهر وهو يلعب بالشطرنج فقال: في أي الحيزين أنت؟ فقال: في حيز الأمير أيده الله. وغلب عبيد الله فقال: يا أبا العيناء قد غلبنا. وقد أصابك خمسون رطل ثلج. فقال ومضى إلى ابن ثوابه وقال: أن الأمير يدعوك. فلما دخلا قال: أيد الله الأمير؛ قد جئتك بجبل همذان وما سبذان ثلجاً فخذ لمداعبة الأمير غلا ابن ثوابة، فاتهمه بالبرودة وجعله جبلاً من الثلج؛ فما رجا لأبن ثوابة وقاراً، ولا استحيا من الأمير!
وموقفه مع جميع الأمراء كمواقفه مع الدهماء. ولقد حجبه أمير ثم كتب إليه يعتذر منه فقال: (تجابهني مشافهة وتعتذر إلى مكاتبة؟)، وشكا تأخر أرزاقه إلى عبيد الله بن سليمان، فقال له: (ألم نكن كتبنا لك إلى أبن المدبر؟ فما فعل في أمرك؟ قال: جرني على شوك المطل، وحرمني ثورة الوعد. فقال: أنت اخترته. فقال: وما عليّ وقد (اختار موسى قومه سبعين رجلاً) فما كان منهم رشيد (فأخذتهم الرجفة)، واختار النبي صلى الله عليه وسلم أبن أبي سرح كاتباً فلحق بالمشركين مرتداً، واختار علي أبن أبي طالب أبا موسى الأشعري حكماً فحكم عليه؟).
أما نوادره مع الوزراء فأكثر من أن تحصى، وأبدع من أن تروى، ولا معدي لنا عن ذكر بعضها من غير تعليق تمثيلاً للقارئ وترويحاً عن نفسه:
دخل على أبي صقر إسماعيل بن بلبل الوزير فقال له: (ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء؟ فقال: سرق حماري. فقال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال: فهلا أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذل المكارى ومنة العوارى).
ووعده ابن المدبر يوماً أن يعطيه بغلاً، فلقيه في الطريق. فقال: (كيف أصبحت يا أبا العيناء. فقال أصبحت بلا بغل) فضحك منه وبعث به إليه.
وحمله وزير على دابة؛ فانتظر علفها. فلما أبطأ عليه قال: (أيها الوزير! هذه الدابة حملتني عليها أو حملتها عليّ!).
وكان يتطاول على الوزير أحمد بن الخصيب حتى وضع كتاباً في ذمه حكى فيه: (أن(772/31)
جماعة من الفضلاء اجتمعوا في مجلس، وكل منهم يكره أبن الخصيب لما كان فيه من الفدامة والجهالة والتغفل، فتجاذبوا أطراف الملح في ذمه؛ فقال أحدهم: كان جهله غامراً لعقله، وسفهه قاهراً لحلمه. وقال آخر: لو كان دابة لتقاعس عن عنانه، وحرن في ميدانه. وقال آخر: كنت إذا وقع لفظه في سمعي أحسست النقصان في عقلي. وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم أبن الخصيب، يكتب بما لا يصيب، ولو نطق لنطق بنوك عجيب. وقال آخر: لو غابت عنه القافية لنسيها. وقال أبو العيناء في آخر هذا التصنيف: (كان أبو الخصيب إذا ناظر شغب، وربما رفس من ناظره إذا عجز عن الجواب، وخفي على الصواب، واستولت عليه البلادة، وعرى كلامه من الإفادة؛ وكان إذا دنوت منه غرك، وإن بعدت عنه ضرك، فحياته لا تنفع وموته لا يضر.
لذلك هجاه قائلاً:
قل للخليفة يا أبن عم محمد ... أشكل وزيرك إنه ركال
قد أحجم المتظلمون مخافة ... منه، وقالوا ما نروم منه مجال
ما دام مطلق علينا رجله ... أو دام للنزق الجهول مقال
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله بين الصدور مجال
امنعه من ركل الرجال وإن ترد ... مالا فعند وزيرك الأموال
فما زاد أبو العيناء على أن جعل أبن الخصيب ركالاً يطلق رجله على الناس، وطالب الخليفة بأن يضع فيه الشكال الذي تقيد به الدابة. وأحسب أن هذا منتهى ما يصل إليه الهجاء!
(البقية في العدد القادم)
صبحي إبراهيم الصالح(772/32)
من العصور الوسطى
إلى الأزمنة الحديثة
تأليف هانز كوهين
3 - المرأة الجديدة
خطت تركيا والشعوب الإسلامية في الاتحاد السوفيتي خطوة حاسمة في العصر الحديث نحو تحرير نسائهم، ومساواتهن بالرجال أمام القانون وفي الحياة العامة. ولكن لا تزال مصر والأقطار العربية في مفترق الطرق. وقد نشطت حركة تحرير المرأة في مصر والبلاد العربية في الجيل الماضي، وأحرزت نجاحاً في مسالة قانون الزواج. ولعبت المرأة دوراً إيجابياً في الجهود الوطنية من أجل الاستقلال منذ الحرب العظمى (الأولى).
وكانت صفية زغلول تقف دائماً إلى جانب سعد، ومثلته وهو في منفاه، واستحقت لقب الشرف: أم المصريين. إذ التفت حولها مجموعة من سيدات المجتمع، ونشطن في نصرة زغلول.
وقد قامت الحركة النسائية في مصر بدور معقول تحت رئاسة هدى هانم شعراوي أرملة شعراوي باشا الذي اصطحب سعداً في نوفمبر 1918 عندما ذهب إلى المندوب السامي البريطاني لعرض المطالب المصرية. وفي مارس 1923 أنشئ اتحاد نسائي مصري. فأرسل وفداً إلى الاتحاد النسائي الدولي بروما. وقد أشارت هدى هانم شعراوي في خطابها إلى التصورات الزائفة عن مركز المرأة في الإسلام التي تسود الغرب.
وأعلنت إن الذي تحتاجه المرأة هو التعليم وتعديل قانون الزواج، لضمان مركزها اللائق بها.
وكان من نتيجة الحركة الوطنية الكبرى في 1919 أن ظهرت المصريات بعد طول حجاب، في وقت كانت الأمة في حاجة إلى كل قواها لنيل الاستقلال. فاتحدت النساء مع الرجال، ولعبن دوراً عظيماً في الكفاح، كاتبات في الصحف ومؤسسات للجرائد. وأسسن من مواردهن الخاصة مدارس للصناعات اليدوية للفقراء، وفتحن العيادات للأطفال المشردين، ونظمن الجماعات الأدبية والثقافية.(772/33)
وقد يعتبر المشروع الذي يناقش قانون الزواج الإسلامي - المقدم في عام 1929 - نجاحاً أحرزته الحركة النسائية المصرية، إذ يجعل الطلاق اكثر صعوبة، وللزوجة الحق في طلب الطلاق إذا أساء الزوج المعاملة لدرجة تجعل حياتهما غير محتملة.
ويمكنها طلب الطلاق إذا هجرها زوجها لأكثر من عام، وبدون سبب وجيه، أو إذا حكم عليه بالحبس ثلاثة أشهر على الأقل. وفي المشروع قواعد جديدة تتحكم في رفض الزوج إبقاء زوجته، وحالات النزاع حول الصداق. وترك الأبناء مع أمهم حتى سن التاسعة، والبنات حتى الحادية عشرة، وذلك في حالة الشقاق والانفصال.
ويبطل الطلاق إذا أعلنه الزوج مضطراً، أو في حالة سكر. وليس للقاضيأن يرفض طلاقاً، ولكن عليه مناقشة الأسباب ومحاولة النصح بالصلح. ومع أن هذه الشروط تمثل حدوداً واضحة في تفسير القانون السابق، ألا أن شرط العقوبة على الزوج الذي نطق بالطلاق بدون القاضي الشرعي - قد أحدث تغيراً عظيم الأهمية.
هذه الإصلاحات - إن لم تكن مست التقاليد - ترمي إلى اتخاذ مستويات قانونية ثابتةللأوضاع الاجتماعية. ولم يمانع المشروع في تعدد الزوجات، بل جعل الزواج الثاني أكثر صعوبة. وذلك بأن حتم على الزوج أن يبرهن أمام القاضي الشرعي أنه في مركز يمكنه - مالياً وأخلاقياً - بالقيام بحاجات زوجاته ومن يعولهم.
وفي مسألة تحرير المرأة نجد أن مصراً أكثر تقدماً من سوريا والعراق، وأن برنامج الحركة النسائية اجتماعي قبلكل شيء. فهو يقضي بإنشاء مدارس ومراكز تعليمية للنساء والفتيات المحتاجات، وتعليم بنات الطبقات الدنيا في مدارس لتدبير المنزل، وتدريب ممرضات لرعاية الأطفال والمرضى.
وليست هناك معارضة جدية للحجاب سواء في مصر أو سوريا. ولكن حادثاً وقع في بيروت في مايو 1928 يدل على التغير التدريجي في الآراء. فقد زاد عدد المسلمات اللائى ظهرن في المجتمع سافرات في هذا الثغر. وقامت حركة احتجاج، ووزعت المنشورات تدعو المسلمين لاتخاذ خطوات ضد السافرات. وفي الجمعة التالية تكلم الخطباء في المساجد ضد هذه المنشورات، وطالبوا باحترام الحرية الفردية. ثم نظمت الحركات النسائية في سوريا وفلسطين والعراق.(772/34)
وفي إبريل 1928 انعقد أول اجتماع للنساء السوريات لمناقشة مسائل التعليم والتدريب المهني، وتعديل قانون الزواج. واقتراح الاتحاد عقد مؤتمرات سنوية لنساء العرب، تنعقد بالتتابع في مصر وسوريا وفلسطين والعراق. وكان غرض الحركة النسائية في فلسطين مناصرة الكفاح من أجل استقلال العرب. وفي مصر وسوريا توجد صحافة تدعو لمصالح المرأة، وكثيرا ما يحررها النساء
وفي يوليه 1930 أنعقد مؤتمر لنساء البلاد العربية، وكان يعتبر دليل للوحدة الشرقية. وجاءت الوفود وأرسلت التقارير منالحجاز والعراق وتركيا وإيران وأفغانستان والهند الإسلامية كما أرسل الاتحاد النسائي الدولي مندوبة وقد أكدت رئيسة المؤتمر نور حمادة ضرورة حصر الكفاح في رفع مستوى المرأة ثقافياً واجتماعياً، وليس في المطالبة بالحقوق السياسية. لقد كان حجاب المسلمة منافياً للطبيعة، وسوف يزول من نفسه بارتفاع مستوى التعليم. ناقش المؤتمر تعديلات قانون الزواج ومسألة الخدمة الاجتماعية، وطالب بإصلاح التقاليد الزوجية. فيجب على الرجل وزوجته أن يعرف كل منهما الآخر قبل الزواج، وينبغي تقليل أهمية بين المسلمين والصداق بين المسيحيين. وأعلن أن اتحاد المسلمات مع المسيحيات في مصر والأقطار العربية سيجعل من الحركة النسائية عاملاً هاماً في التقدم الثقافي والاجتماعي.
ويعلل دخول الفلسطينيات في هذا المحيط من الوجهة الجغرافية فقط؛ فالنساء في الدوائر الأرثوذكسية واليهودية متساويات مع النساء العرب في الثقافة والاجتماع. ثم إن اليهوديات اللائى هاجرن إلى فلسطين - من أوربا في الخمس سنوات السابقة - قد أتين بالأفكار التقدمية في النشاط الثقافي والاجتماعي والسياسي. فتذهب الفتيات كالفتيان إلى المدرسة، وتلعب الجمعيات النسائية دورها في الصحة والخدمة الاجتماعية. وبفضل جهود اليهوديات ضمن النساء المساواة التامة في فلسطين. ولكن اعتبارات قومية تحول دون وقوع احتكاك مباشر بين الحركات النسائية اليهودية والعربية في فلسطين.
وليس من شك في أن الجماهير قد تنبهت إلى اليقظة الوطنية والسياسية، وكفى بعواطفهم السياسية الملتهبة أمثلة واضحة. فشعروا بالمسئولية لمحو الأمية وإنشاء مكتبات شعبية، وتأسيس المدارس وإقامة حلقات ثقافية.(772/35)
حقاً، إن الصحف السياسية تقرأ على نطاق واسع مدهش، حتى الذين لا يعرفون القراءة في القرى، يستمعون إلى محتوياتها بصوت عال. ولكن مدى قراءة الكتب الجيدة أقل اتساعاً، وغالباً ما تجهلها الطبقات، ثم إن معظم الصحف فقيرة في المادة الثقافية.
وعندما تتحقق الأغراض الوطنية والسياسية، فإن قوى الحركة يمكنها أن تتجه إلى الغايات الثقافية.
(يتبع)
ترجمة محمد محمد علي(772/36)
بين شيخ وشاب وفتاة
للأستاذ ثروت أباظة
أما الشاب فأديب قانع من الأدب بتذوقه وتلذذه. قرأ أكثر ما كتبه المتقدمون، فلما كتب المتحدثون عزف عن القراءة، ولم يجد ما يبرر به هذا العزوف إلا أن يقول لم يعد في البلد أدب، أصبح هم الكاتب أن يكتب عن الحب والمرأة، كأن الدنيا قد خلت من كل شيء إلا الحب والمرأة. . فلم يعد فيها مجال للمثل العليا ولا نصيب للموعظة الحسنة. . أين كتاب الأدب القديم وشعراؤه؟ أين فلسفة المعري، وحكمة أبي تمام، وأمثال المتنبي؟ أين روائع ابن العميد، وبدائع عبد الحميد، ورقائق ابن الزيات؟ رحم الله الأدب!
وهكذا كان يعزي الشيخ نفسه عناجتوائها حديث الشباب، حديث الحب والمرأة.
وأما الشاب فهو ابنه، أراده على أن يكون أديباً فكان، ولكنه كان على غير طراز أبيه. . كان الأب يؤثر الأدب القديم ويجب أن ينهل ابنه من موارده، فأخذ يحفظه الأشعار المختارة لعباقرة الجاهلية والإسلام؛ ولكن ابن القرن العشرين لم يكن ليحتمل أن يقرأ كل كلمة مرتين: مرة في الكتاب ومرة في المعجم. فكره الأدب القديم بعد أن تزود منه ما يكفيه أساساً ونبراساً. ولما رأى أبنه تارك الأدب لو بقى مقصوراً على قدميه سمح لح أن يقرأ ما يشاء، فقرأ أكثر ما كتب في الأدب الحديث.
وأما الفتاة فهي زوجة الشاب، وهي أيضاً أديبة بفطرتها، لم توجه نفسها توجيهاً معيناً، ولكنها مع ذلك ذات حس فني دقيق وذوق أدبي مرهف.
أسرة تربطها أواصر القرابة والنسب، ثم توثق هذه الرابطة بينها رابطة الأدب. . أحببت هذه العائلة وأصبح من بواعث الغبطة في نفسي أن أزورها كلما تهيأت لي الفرصة. . وكان أن ذهبت، فوجدت (الرسالة) بين أيديهم، وكانت بها الحلقة الثالثة من (قصة فتاة). . وهي التي يصف فيها الأستاذ الزيات الفتاة حبيسة في الغربة، تلح عليه أن يجاوبها حباً بحب، لا حباً بنصيحة. ويصفها بقصتها مع الجاموسة، ثم بروايتها مع ابن البستاني.
رأيت الشيخ يتوثب على كرسيه، وقد رده الحنق شاباً؛ ورأيت الفتاة مهتاجة فكأنما هي صاحبة القصة، وكأن (س) اسمها الحقيقي؛ ورأيت الشاب يكتم فرحة تفيض على محياه، فبدا في وقاره وكأنه الشيخ. . . وعجبت أن يغضب الشيخ والفتاة لسبب واحد؛ إذ العادة أنه(772/37)
إذا غضب الشيخ رضيت الفتاة، وإن رضى غضبت. ولكن السبب، وإن اتحد في جوهره وهو المقال، تشعب في عرضه، قال الشيخ:
- لو لم يكن هو صاحب الرسالة لوثقت أن هذا المقال مزور عليه. . لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد كان أسلوبه وأدبه عزائي عما أصابني في الأدب الحديث. إنه وحده الذي كان يظهر جمال الأدب الجديد حين يكسوه بالأدب القديم، أيكتب هو أيضاً عن الحب؟ وأي حب! وعن الشهوة؟ وأي شهوة! لا، لا يصلح قلم الزيات لهذا الأمر. . ثم التفت إلي وقال: قل له يرجع إلى ما كان عليه فإنه أولى به وأحرى.
قالت الفتاة: لا بأس يا عماه أن يكتب في الحب، ولكن أهكذا يكون حب الفتاة؟ أهي لا تحب إلا بهذه الصورة التي رسمها لها؟ إن الكاتب حين يكتب عن جنس بذاته يختار من بينه شخصية تتفق عناصرها وأغلب أفراد هذا الجنس
أفتاته (س) هي نموذج الفتاة العصرية؟ أكل فتاة عصرية ترى في الخطبة تجريباً وتدريباً ومتعة، وأن هذا التجريب يكون. . . لم يدعها الشاب تتم الحديث بل اندفع قائلاً:
- حسبك. . حسبك. . فو الله ما غضب لجنسك الجروح أن يتهم، ولكن غضبت لأنه يكشف الستار عن خبيئته، ويبدد ذلك الوهم الذي يرين على دخيلته. تضحكن على الرجال فتدعين غموضه وإيغاله في الاستخفاء. . وضللنا نحن المساكين نقع في حبائلكن ونرتمي في شباككن، محاولين الوصول إلى ما تخفيه نفوسكن حتى نتمكن بعد ذلك من إقامة الحياة في سننها الواضح. . ولكن أبيتن هذا علينا. حتى جاءت فتاة فكشفت عن أهم جزء من ذلك السر، فغضبت أنت وثرت. . ولكنك لم تعرفي كيف توجهين ثورتك، مع إنها واضحة الهدف.
رأيت النقاش يطول فقلت:
- لقد والله ذكرتموني بالمستمعين إلى شاعر الربابة، حين كانوا ينصبون المعركة قبل أن يعرفوا النهاية. . انتظروا قليلاً حتى نكمل القصة.
وكملت القصة خريفاً وكانت قد ابتدأت ربيعاً. هكذا كملت حقيقة، أما على صفحات الرسالة فقد كملت أمس. فذهبت إلى هناك، فإذا الشيخ ضاحك، وإذا الفتاة جذلة، وإذا الشاب يكفكف من فرح الشيخ، ويخفف من سرور الفتاة. . قال الشيخ:(772/38)
- ألم أقل إن الزيات لا يمكن أن يكتب في الحب لمجرد الحب. . لقد صدقضني فيه. إن القصة نصيحة مبذولة للفتيات من رجل خبر الدنيا وجربها. . وأبى أن يقصر تجاربها على نفسه. ألم تر إليه يقص قصة بلانكيت والخراف ثم الذئب ورواية الفتاة والشبان ثم الذئب أيضاً. إنها نصيحة احسن تغليفها حتى تخفف على السمع وتصل إلى القلب.
قالت الفتاة:
- لقد نالت تلك الفتاة جزاءها. . ولئن كشفت عن أسرار جنسها فإن أخاها قد أخذ بالثأر؛ وما أظن مآلها إلا الموت المحقق قال الشاب: (رويدك يا أبي! وحسبك يا زوجتي! فإن الرجل وإن ختم قصته بالنصيحة، فما ذاك بمانع القصة أن تهدف إلى أهدافها الأخرى. فهي فن قبل أن تكون إرشاداً، وهي تحليل نفسي قبل أن تكون هديا. . أما أنت فما هذا الكلام الغريب؟ تعزين نفسك بأن البنت قد نالت جزاءها، فهل ذلك هو الرد على حقيقة ما قالته عنكن! لشد ما تهرفن أيتها النسوة حين تفحمكن الحجة. حاول الشيخ أن يجيب، وحاولت الفتاة أن تغضب، ولكنني قطعت عليهما القول والغضب:
- إن القصة حلوة ومرة؛ يستطيع كل منكم أن يلتذ هذه الحلاوة وأن يكابد تلك المرارة. لينظر كل أليها من الناحية التي ترضيه. ولئن هذه النواحي فإن ثمة زاوية لو نظرتم منها جميعا ًما اختلفتم: القصة قصة الفن والأسلوب أسلوب الزيات.
ثروت أباظة(772/39)
2 - الشيوعية في الإسلام
رأي لجنة الفتوى ورأي السيد جمال الدين الأفغاني
أوردنا في المقال السابق ما أذاعته لجنة الفتوى بالأزهر عن (الشيوعية في الإسلام) وما حكمت به على مذهب أبي ذر الغفاري من المخالفة للإجماع على مبدأ الإسلام، ثم أوردنا فتوى السيد جمال الأفغاني عن (الاشتراكية في الإسلام) وفي هذا المقال نورد ما قاله السيد عن مذهب أبي ذر وما أبدى من استحسان هذا المذهب. قال السيد رضوان الله عليه: (في زمن قصير من خلافة عثمان تغيرت الحالة الروحية في الأمة تغيراً محسوساً. ولشد ما كان منها ظهوراً في سير العمال والأمراء وذوي القربى من الخليفة وأرباب الثروة بصورة صار يكمن بها الإحساس بوجود طبقة تدعى (أمراء) وطبقة تدعى (أشراف) وثالثة (أهل ثروة وثراء وبذخ) وانفصل عن تلك الطبقات طبقة العمال وأبناء المجاهدين، ومن أرباب الحمية والسباقة في تأسيس الملك الإسلامي وفتوحاتة، ونشر الدعوة، وصار يعوزهم المال الذي يتطلبه طرز الحياة، والذي أحدثته الحضارة الإسلامية، إذ كانوا مع كل جريهم وسعيهم وراء تدارك معاشهم لا يستطيعون اللحاق بالمنتمين إلى العمالورجال الدولة. وقد فشت العزة والأثرة والاستطالة، وتوفرت مهيئات الترف في حاشية الأمراء وأهل عصبيتهم، وفي العمال وبمن استعملوه وولوه من الأعمال. . فنتج من مجموع تلك المظاهر التي أحدثها وجود الطبقات المتميزة عن طبقة العاملين والمستضعفين في المسلمين، تكون طبقة أخذت تتحسس بشيء من الظلم وتتحفز للمطالبة بحقهم المكتسب من مورد النص، ومن سيرتي الخليفة الأول والثاني أبي بكر وعمر
كان أول من تنبه لهذا الخطر الذي يتهدد الملك والجامعة الإسلامية، الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، فجاء إلى معاوية إبن أبي سفيان وهو في الشام، وخاطبه بوجوب الرجوع إلى سيرة السلف وبتقليل دواعي السرف والترف وعدم التمادي في مسببات الحسد، والعمل على نزعها من العاملين من رجال المسلمين، وذكر مواعظ كثيرة، وعدد أخطاراً جمة من وجود طبقة فقيرة عاملة مفكرة من المسلمين، يكتنفها شظف العيش وقلة ذات اليد بين ظهراني قوم أكثرهم ممن لا سابقة لهم في الإسلام ولا لآبائهم، ولا من الطبقات المحمودة، ولا من المجهودات أو المميزات العلمية والجسدية، ما يوليهم أو يعطيهم حق ما هم فيه من(772/40)
النعيم، وطيب العيش والرخاء، غير محض الانتماء والإدلاء بولاء لآل حرب وعمالهم.
فأجابه معاوية بما معناه: يا أبا ذر، إن ما تقوله هو الحق، ولكني ليس في استطاعتي الرجوع لا إلى سيرة الصديق وسيره، ولا إلى العمل الذي كان يعمله الفاروق، وغاية ما في إمكاني الحث على بذل الصدقات والقول اللين إرشاداً لتخفيف دواعي الحسد، وغير ذلك فلا سبيل إليه.
قال أبو ذر: قد نصحتك يا معاوية، والدين النصيحة، فأحذر أنت والخليفة عثمان مغبة ما أنتما عليه. وذهب من مجلس معاوية مغاضباً، واجتمع مع طبقة المتألمين والمتذمرين من المسلمين وقص عليهم من سيرة السلف أشياء، وأطلعهم على ما قاله عامل الشام معاوية بن أبي سفيان، وأردفها بإعلانه مشاركته لهم في كل ما يحسون به قلباً وقالباً. وبمختصر القول إنه شجعهم على النهضة والمطالبة بحق صريح لهم اهتضمه جماعة بغير وجه شرعي، ولا باجتهاد إمام السلف، فكان من وراء عمل أبي ذر هذا أن حصل شيء من التهيج والانفعال النفسي ما خشي معه معاوية وأعوانه سوء المصير.
فجمع معاوية كيده، واستنجد دهاءه، وبعث لأبي ذر ليلاً بألف دينار، فقبلها أبو ذر، وفي الحال بادر لتفريقها على الفقراء والمعوزين من المسلمين. وفي ثاني يوم أرسل معاوية رسولاً وقال: يا أبا ذر، أنفذني من عذاب معاوية، فأن الآلف دينار لم يرسلها إليك وإنما غلطت، فقال أبو ذر، والله لم يبقى معي من دنانيره ولا دينار، فليمهلني حتى آخذها ممن وزعتها عليهم من المستحقين في المسلمين. وعلم معاوية صدفة وضاق به ذرعاً، فكتب إلى الخليفة عثمان مستجيراً من إلغاآت أبي ذر، وما أحدثه من التأثير في النفوس. فأجابه متعجلاً أرسل أبي ذر إليه، فأرسله، ولما تقابل مع عثمان لم يسمع منه أكثر مما سمع من معاوية، وأنه لا يمكنه أن يفعل ما فعله الفاروق مع العمال من مصادرة ما عندهم من الثروة، ولا أن يرجع ما كان من حالة مجموع المسلمين في عهدي الصديق والفاروق إلا عن طريق الحث على بذل الصدقات والإحسان فقط. فقال أبو ذر: يا عثمان، أما تذكر حديث رسول الله ومعناه: (إذا وصل البناء إلى سلع (جبل في المدينة) واستعلى في المدينة. . الحديث) وجبت الهجرة. وفي رواية أنه قال: يا عثمان: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً، وها قد استعلى بناؤك وبناء قريبك معاوية(772/41)
وأعوانكما. والله من ورائكم محيط. فألح عليه عثمان أن لا يفعل، فقال أبو ذر: إن رسول الله أولى أن يتبع، وهاجر من المدينة. كان في عمل أبي ذر هذا أنه أخذ بمحض النصح لخليفة المسلمين إذ ذاك (عثمان) وبنصح عماله، وبالدفاع عن حقوق المسلمين كي لا تتكون طبقة اشتراكية يكون رائدها الانتقام، بل إلى العمل بنص القرآن والاقتداء بمن طبق ذلك النص عملاً من الخلفاء كأبي بكر وعمر. .
وبعد، فهذه هي فتوى السيد جمال الدين الأفغاني فيما كان من رأي أبي ذر الغفاري وخلافه مع ولاة الأمور على توزيع مال المسلمين على المسلمين. وشتان بين رأي لجنة الفتوى في مذهب ذلك الصحابي الجليل، ورأي السيد الأفغاني؛ فبينما ترى اللجنة إنه أخطأ الاجتهاد وخالف الإجماع يشهد الأفغاني برجاحة رأيه وسلامة مذهبه. وسنعود في المقال التالي للتعقيب على فتوى اللجنة بما يوضح هذه المسألة التي تشغل الأذهان في هذه الأيام. . .
(الجاحظ)(772/42)
الأدب والفن في أسبوع
الفكاهة والكاريكاتير في الأدب العربي:
كان هذا عنوان محاضرة الأستاذ كامل كيلاني في دار الاتحاد النسائي يوم الجمعة الماضي، وقد كان أكثر من هناك من الجنس الناعم، أوانس وسيدات، ولذلك رأى الأستاذ أن يستعمل نون النسوة في خطاب الحاضرين أو الحاضرات (على مذهبه) ولم يعبأ بنا ولا بالنحويين. . . ولكن هل أرضاهن بهذا الصنيع؟ أو لسن هن المطالبات بإلغاء نون النسوة؟ وقد احتججن عليه بعد الفراغ من الحاصرة احتجاجاً رقيقاً؛ وهن - وإن أنكرن نون الإناث - لم تفارقهن لوازمها في أثناء المحاضرة، فهذه إحداهن تشتغل (بالتريكو) ولا يفوتها أن تبتسم لبعض الفكاهات التي تأتي في سياق المحاضرة، وتلك أخرى تفتح حقيبة يدها وتستغرق في النظر إلى مرآتها وتصلح شيئاً من زينتها. . . ولا إلى المحاضرة إلا ضحكات صواحبها من تلك الفكاهات. أفلا ترى الأستاذ على حق في تجاهلنا واستمساكه بنون النسوة. . .؟
بدأ الأستاذ كامل كيلاني بشرح لغوي خفيف لمعنى الفكاهة حتى قال: الفاكهة ثمرة الأرض والفاكهة ثمرة العقل. ثم قال إن الإنسان يبلغ بالفكاهة البارعة ما لا يبلغه بكثير الكلام، واستشهد بما قاله (سوفيت) مؤلف (جلفر) في بعض قصصه: (ثم صفعة في احترام وأدب) وبمقالة برنادشو لأحد اللوردات وقد قال له إنك تبغي المال من رواياتك، قال له برنادشو: وماذا تبغي أنت من أعمالك؟ قال: الشرف. قال كل منا يسعى في طلب ما ينقصه.
ثم قال إن الأدب العربي زاخر بالفكاهات التي تجسم الأشياء والمعاني تجسيماً (كاريكاتيرياً) فتبرز المقصود إبراز بالغاً يشبه في الأدب فن (الكاريكاتير) في التصوير؛ ومثل لذلك بقول الجاحظ في كيسان النحوي (أعرف رجلاً يسمع غير ما يقال له، ويكتب غير ما سمع، ويقرأ غير ما كتب، ويفهم غير ما قرأ) وقد نظم هذا أحد الشعراء فقال:
تقول له زيد فيكتب خالداً ... ويقرؤه بكراً ويفهمه عمراً
ومما مثل به من هذه الصور الأدبية (الكاريكاتيرية) قول بعضهم:
أفرط نسياني إلى غاية ... لم يدع النسيان لي حسا
فصرت مهما عرضت حاجة ... مهمة أودعتها الطرسا(772/43)
وصرت أنسى في راحتي ... وصرت أنسى إنني أنسى
وقول ابن الرومي:
إن تطل لحية عليك وتعرض ... فالمخالي معروفة للحمير
علق الله في عذاريك مخلاة ... ولكنها بغير شعير
لو غدا حكمها إلى لطارت ... في مهب الرياح كل مطير
وقوله
أبو سليمان لا ترضى طريقته ... لا في غناء ولا تعليم صبيان
له إذا جاوب الطنبور محتفياً ... صوت بمصر وضرب في خراسان
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا ... عند التنغم فكي بغل طحان
وقول المتنبي
وإذا أشار محدثاً فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
وقول أبي الفرج في بعض قصصه بالأغاني: (ثم خرجت من الخوخة لحية حمراء يتبعها رجل) ولعل محرر (آخر ساعة) نظر إلي عندما كتب منذ عشر سنوات في الحديث عن رجل من رجال السياسة كان معروفاً بطول شاربيه: (ثم خرج من السيارة شاربان يتبعهما رجل).
وقال لي الأستاذ كامل كيلاني، وقد عبرت له عن استحساني لتسميته هذا الموضوع، قال: كان بعض الغربيين ومن يحاكيهم يعيبون الأدب بالمغالاة، وهذا هو نوع من المغالاة نراه مطابقاً في التعبير لطريقة فن من الفنون الحديثة.
أبو القاسم الشابي:
ألقى الأستاذ صالح جودت محاضرة عن أبي القاسم الشابي، يوم الخميس الماضي بنادي الاتحاد الأرثوذكسي. قال: عرف الأدب العربي هذا الشاعر لأول مرة في سنة 1933 حينما نشرت له مجلة (أبولو) قصيدته المشهورة (صلوات في هيكل الحب) التي أثارت اهتماماً عظيماً وأنشأت مدرسة جديدة في الشعر الحديث. كان أبو القاسم يؤمن بالسمو، ويرى أن الشعر ليس إلا تصويراً للحياة في صورة رفيعة تتكافأ مع ما للشاعر من قدسية الفن وجلالته؛ ومصداق هذه النظرة في قصيدته التي أشرنا إليها، هذه الأبيات في نجوى(772/44)
حبيبته:
أنت، أنت في قدسها السا ... مي وفي سحرها الشجي الفريد
أنت فوق الخيال والفن ... وفوق النهى وفوق الحدود
أنت قدسي ومعبدي وصباحي ... وربيعي ونشوتي وخلودي
ثم قال: ولد أبو القاسم سنة 1909 في بلدة توروز بتونس، وحفظ القرآن، ثم التحق بالمعهد الزيتوني، ثم بكلية الحقوق وتخرج منها سنة 1929 وكانت وفاته سنة 1934 في المنفى الذي اختاره لنفسه في مكان يقال له باب حومة العلوج.
وقال أحد الأدباء التونسيين: إن أكبر مؤثر في حياة الشابي، موت حبيبته، غير أننا لا نجد في شعره ما يشير إلى صحة هذه الواقعة. إن حبيبته موجودة في أكثر شعره، أما موتها فلا أثر له.
أما المؤثر الثاني في حياة الشابي وشعره، فهو أنه كان مجددا جريئا صاحب دعوة تقدمية كبيرة في الأدب التونسي، أثارت عليه أدباء البيئة الجامدة المحافظة التي يعيش فيها، فلقي منهم حربا شعواء. حاربوا آراءه في الأدب، وأخيلته في الشعر، كما أنه لقي من ناحية أخرى كثيرا من عنت الفرنسيين المستعمرين لبلاده، لأنه كان في شعره الوطني فولتير العربي، الذي دعا شعبه إلى الثورة من أجل الحرية في كثير من القصائد الصارخة، ومنها قصيدة رائعة مطلعها:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي ... ولابد للقيد أن ينكسر
ولكن الشعب لم يستمع إلى هذه الصرخات المدوية، ولم يثر على القيد، فوقف أبو القاسم يتهكم ويتألم في قصيدة مدوية عنوانها إلى الشعب، ومنها:
أنت يا كاهن الظلام حياة ... تعبد الموت، أنت روح شقي
كانوا بالحياة والنور، لا يصغي ... إلى الكون قلبه الحجري
أنت دنيا يظلها أفق الماضي ... وليل الكآبة الأبدي
والشقي الشقي في الأرض شعب ... يزمه ميت وماضيه حي
وهكذا اجتمعت على أبي القاسم حروب ثلاث، حرب من الأدباء والشعراء الجامدين أو(772/45)
الحاقدين، وحرب من الفرنسيين المستعمرين، وحرب من نومة الشعب وعدم استجابته لصرخات الحرية. وقد كان كل هذا كفيلا بأن يهد كيانه، فأصابته ذات الرئة، وعاش عمرا كعمر الزهر عند باب حومة العلوج، يقرأ، وينظم الشعر، ويرعى الأغنام، حتى مات ولما يتجاوز الخامسة والعشرين.
شعر الثقافة الأزهرية:
مما يحمد لفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر اهتمامه بنشر الثقافة الأزهرية بين الشعوب العربية والإسلامية، وقد تحدث أخيرا إلى أحد زعماء العرب فقال إنه يسعده أن يستطيع الأزهر إنشاء فروع له وتوجيه بعوث منه إلى كل البلاد الإسلامية، ولكنه يرى أن على الأزهر أن يوجه اهتمامه أولا إلى الشعوب التي لا ثقافة لها، وأن هذا هو ما اعتزمه، إذ قرر إرسال بعوث إلى جنوب أفريقية وشرقها وإلى أوغندا وارتيريا، أما البلاد العربية التي تتوافر لها الآن عوامل الثقافة فهي في غنى عن ذلك، ومع هذا فإن الأزهر مستعد لأن يمدها بالمدرسين كلما طلبت حكوماتها إليه ذلك.
وبهذه المناسبة نلفت النظر إلى أمر يتعلق بنشر الثقافة الأزهرية في سائر البلاد العربية، ذلك أن في الأزهر كثيرا من البعوث الوافدة إليه من مختلف البلاد الإسلامية، ومن المفهوم طبعا أن الغرض من هذه البعوث هو أن يتزود أفرادها من الثقافة الإسلامية بالأزهر، لينفعوا بها قومهم إذا رجعوا إليهم، ولكن كثيرين من هؤلاء يقضون الأعمار في مصر، وتظل أرزاقهم من الأزهر جارية عليهم، ولا يعودون إلى بلادهم. وأحسب أني لست بحاجة إلى أن أقول إن مصر لا تضيق بهؤلاء الإخوان، فهي ترحب بهم دائما ولا تعتبرهم غرباء. ولكن المسألة هي أنهم، بإقامتهم الدائمة هنا، يفوتون الغرض الذيتنشده منهم بلادهم، والذي من أجله أرسلتهم إلى الأزهر.
العربية في الباكستان:
من أنباء الباكستان أن جماعة الثقافة العربية تطالب بتعميم تعليم اللغة العربية في المدارس، حتى تصبح هي لغة التعليم هناك، وأن من أغراض هذه الجماعة نشر الثقافة العربية في الباكستان، وأنها ترمي إلى تكوين جمهور يقرأ المؤلفات ودواوين الشعراء التي تصدر في(772/46)
البلاد العربية.
وهذا أمر طبيعي، فقد عرف المسلمون الهنود منذ الفتح الإسلامي بالإقبال على تعلم اللغة العربية، وقد نبغ منهم فيها كثيرين في الأدب وعلوم الدين؛ ولغة التخاطب الحالية تحتوي على كثير من الألفاظ والتراكيب العربية. وشعور المسلمين في الباكستان يتجه الآن نحو البلاد العربية، وقد بدا أخيرا في تأييدهم لقضية فلسطين، ولاشك أن اللغة العربية وآدابها وثقافاتها، هي أهم ما يربطها بالبلاد العربية، وهي وسيلتها إلى كتلة الجامعة العربية.
العربية وهيئة الثقافة الدولية:
عاد الأستاذ شفيق غربال بك من باريس، حيث حضر اجتماع اللجنة التنفيذية لهيئة التربية والتعليم والثقافة الدولية (الأونيسكو) وهو عضو دائم فيها.
وقد قام الأستاذ شفيق بك بمساع لجعل اللغة العربية لغة رسمية لمؤتمر الهيئة إلى جانب اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فكللت مساعيه بالنجاح.
ومن المعلوم أن هذه الهيئة تدعو إلى حسن التفاهم العالمي عن طريق التقارب الثقافي، فمن أغراضها محاربة طرق التربية التي تغرس في نفوس الناشئة فكرة السيادة العنصرية، وهي لهذا تعني إعادة نشر التعاليم الديمقراطية في ألمانيا واليابان.
وستعقد الدورة الثالثة لمؤتمر الهيئة العام في بيروت ابتداء من يوم 14 أكتوبر القادم ويتمثل به الدول العربية، وتهتم الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، بتنسيق الصلة بهذا المؤتمر.
القصة والشعر:
ظهر من إحصاء في الولايات المتحدة أن المجلات الخاصة بالشعر من أكسد المجلات، ويقابلها المجلات القصصية التي تعد من أروجها؛ والحال عندنا تشبه ذلك من حيث قلة الاهتمام بقراءة الشعر والإقبال على قراءة القصص؛ وإن كان ليس لدينا الآن مجلة خاصة بالشعر بعد مجلة (أبولو) التي كان يصدرها الدكتور زكي أبو شادي وقد تعطلت منذ سنين؛ كما أنه ليس لدينا مجلة خالصة لفن القصة الرفيع بعد مجلة (الرواية) التي أدغمت في (الرسالة) وأرى أنه يجب المبادرة بفك هذا الإدغام لضرورة الاحتفاظ بمستوى القصة(772/47)
باعتبارها فنا من فنون الأدب، لأن التسابق على تقديم مواد تافهة للقراءة السهلة، يكاد ينحدر بالقصة إلى مستوى هذه المواد.
كتابة التسلية:
في مقال بمجلة النداء عنوانه (الصحافة المصرية. . . تطورت!!) قال الأستاذ سلامة موسى:
(إن الكتاب التافهين قد فشوا في هذا المناخ الصحفي الجديد، وصار دأبهم تسلية القراء دون أن ينفعوهم، وهناك مجلات أسبوعية ليس فيها شيء آخر غير التسلية، وهي حرب على الذكاء والفهم كما أنها تنشر الأمية السياسية بين القراء. والأب الذكي والأم المستنيرة التي تبصر للمستقبل يجب أن يقاطعا مجلات التسلية حتى ينشأ أبناؤهما على جد ونقد وذكاء في معالجة الشؤون السياسية والاجتماعية، أن جرائد التسلية تبلد الذهن وتجعل القارئ يهتم بالتافه دون الجدي من الشؤون، ويصبح هذا الاتجاه خطته في الحياة لا في القراءة فحسب).
كتب مصرية لجامعة ألمانية:
طلبت إحدى الجامعات الألمانية إلى بعض المراسلين الألمان في مصر، أن يتصلوا بالمؤلفين المصريين ويطلبوا منهم نسخا من مؤلفاتهم ليرسلوها إلى هذه الجامعة، حتى تستطيع بذلك أن تعوض ما فقدته، بسبب القنابل في الحرب الأخيرة، ومن الكتب والمخطوطات العربية التي كانت تحتويها مكتبتها.
معهد السينما:
اجتمعت لجنة النهوض بشؤون السينما يوم الأربعاء الماضي برياسة وزير الشؤون الاجتماعية، لمواصلة بحث وسائل ترفيه فن السينما؛ وفي اجتماعها الأخير عهدت إلى يوسف وهبي بك وأحمد بدرخان ومحمد عبد العظيم، وضع برنامج الدراسة في معهد السينما المزمع إنشاؤه. وينتظر أن تبدأ الدراسة في هذا المعهد في العام الدراسي القادم، وسيكون مستواه التعليمي مماثلا لمعهد التمثيل العالي، وستتجه الدراسة فيه إلى الناحية النظرية والعملية في وقت معا.(772/48)
العباس(772/49)
البريد الأدبي
إلى معالي وزير العدل:
زار أحد الشعراء معالي أحمد موسى بدر بك وزير العدل في مكتبه بالوزارة، فوجد من تواضعه وحسن استقباله وفرحته بلقاء الأدب ما أنطقه بهذه الأبيات:
أبى الله إلا أن تزيد تساميا ... فما زادك الكرسي إلا تدانيا
وما حاجة العدل بأصل وسؤدد ... ليطلب من جاه الوزارة عاليا
وما عجب جمع النقيضين في امرئ ... بعدت، ولكن كنت بالفضل دانيا
فما بدل الكرسي منك جوانبا ... ولا غيَّر الكرسي منك نواحيا
ترى المجد أعمالا كبارا وهمة ... وغيرك يلقاه منى وأمانيا
وأوليتني بالعطف منك مآثرا ... فقلدت جيد الشعر منك غواليا
وكدت أمني النفس بالظلم مرة ... لعلي ألاقي الحق عندك ثانيا
لن الزمخشرية:
كتب الأستاذ هارون محمد أمين في بريد الرسالة الأدبي عدد 765 تعليقا تحت عنوان (لن لا تفيد تأكيدا ولا تأييدا) تعقب فيه ما جاء في كلام معالي عبد العزيز فهمي باشا من إفادتها لذلك وقال (والذي أعلمه أن لن كما ذهبت إليه جمهرة النحاة لا تقضي تأييد النفي ولا تأكيده ولم يقل بذلك إلا الزمخشري) الخ. ثم ذكر في التدليل على إبطال ما ذهب إليه الزمخشري قوله (واذكر في الرد عليه أدلة منها أنه لم يقم دليل على كونها للتأييد وأنها لو كانت كذلك للزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى: فلن أكلم اليوم إنسيا، وللزم التكرار بذكر الأبد في قوله تعالى: قل لن تخرجوا معي أبدا) ولا ريب أن ما ذكره الأستاذ هارون مبين في مثل القاموس والمغني وغيرهما؛ غير أن كثيرا من المحققين قد بحثوا هذا الموضوع وأتوا بما يختلف مع ما نقله الأستاذ هارون فرأيت أن ألفت النظر إليه:
ذكر الإمام الزمخشري في كشافه ومفصله: أن لن معناها تأكيد النفي، ووافقه على ذلك كثير من النحاة كما ذكره الصبان في حواشي الأشموني والجلال السيوطي في همع الهوامع. ونقل الأخير في الإتقان أن العرب تنفي الشكوك بلا، والظنون بلن. وفي كلام سيبويه ما يؤيد هذا الرأي إذ يذكر أن لا نفي ليفعل، ولن نفي لسيفعل والأخير مؤكد في الإثبات فكذلك(772/50)
يكون نفيه. وقال السعد: إن منع إفادتها للتأكيد مكابرة.
أما دلالتها على التأييد فقد نسبت للزمخشري في بعض نسخ أنموذجه وبعضها الآخر يتفق مع الكشاف والمفصل في التعبير بالتأكيد دون التأييد. ومهام يكن فنقطة الخلاف بين ما نسب إلى الزمخشري وبين الجمهور هي: هل أن لن تستعمل على وجه الحقيقة في غير التأييد أم تختص به؟ فالجمهور يقول بالأول والزمخشري بالثاني. قال ابن مالك في التسهيل: (وينصب المضارع بلن مستقبلا بحد وبغير حد، خلافا لمن خصها بالتأييد). وانتقد رأي الزمخشري هذا بما ذكره الأستاذ هارون. واتهمه ابن مالك بأن الحامل له على دعوى التأييد اعتقاده بأن الله لا يرى في الآخرة. وانتصر له بعض المحققين وأجاب عن التناقض المزعوم في قوله تعالى: فلن اكلم اليوم إنسيا. بأن الزمخشري لا يمانع في استعمالها في غير التأييد مجازا حتى يحصل التناقض. وعن التكرار في: قل لن تخرجوا معي أبدا بأنه على تسليم وجوده لا محذور فيه؛ إذ التكرار يرد في كلام البلغاء للتأكيد. ورد على ابن مالك في توجيه تلك التهمة بقوله: (إن ذلك خروج عن منصب المباحثة؛ إذ يعد ثبوت إمامته في العربية باتفاق أئمتها كيف ينسب إليه مثل ذلك الذي لا يصدر عن الجهلة؟ فالإنصاف أن اجتهاده في العربية المسلم له المبني على تتبع مواطن الاستعمال قضى بحسب ما ظن بتأييد نفيها؛ وعليه خرج الآية الموافقة بحسب ظاهرها لمذهبه، فقد بنى مذهبه على الاستعمال اللغوي دون العكس. على أن في هذا البناء توقفا، إذ لا يمنع من التجوز في الألفاظ، فليس لما ذهب إليه كغيره من طائفته إلا الأدلة العقلية المبينة بردودها) ومما تقدم يتلخص أن لن تفيد تأكيد النفي عند كثير من المحققين كما أنها تستعمل حقيقة في الدلالة على تأييده وإن لم تتعين له خلافا لما جاء في كلام الأستاذ هارون، وأن الزمخشري لم ينفرد إلا بدعوى التعيين، على أن هذه الدعوى قد وافقه عليها ابن عطية أيضا.
طرابلس الغرب
عبد الرحمن الفلهود
نشيد العربي!!:
(اقترحت دائرة التوجيه الوطني في الهيئة العربية العليا (نشيدا يتفق مع روح الجهاد القائم(772/51)
في أقطار العروبة، يتضمن معنى الغناء في أوزانه، وينبض رجولة في كل لازمة منه، على أن يكون محدودا لا يقل ويمل. . .) وقد تخيرت هذا النشيد.)
نحن أبناء الصناديد الأباه ... قد ورثنا المجد لا نرضى سواه
فنهضنا نبتغي عز الحياة ... بقلوب كالرواسي لا تلين
لن ترى فينا جبان ... إن دعا يوم الرهان
وحمانا رغم أنف الحدثان: ... لن يهان! لن يهان!
سوف نمضي قدما بين الأمم ... لا نبالي الموت، لا نخشى الحمم
نبذل الروح إذا الخصم دهم ... ونوالي موكب النصر المبين
قد برزنا للجلاد ... مذ دعانا الاتحاد
وتعالى صوتنا في كل واد ... الجهاد الجهاد!
يا شباب العرب هيا للكفاح ... جردوا من عزمكم أمضى سلاح
وانزعوا من قبضة الدهر النجاح ... فلقد هان الذليل المستكين
أنت حر لا تضام ... يا فتى العرب الهمام
فتقدم لا تبالي بالحمام ... للأمام! للأمام
رام الله - فلسطين
محمد سليم الرشداق
ماجستير في الآداب واللغات السامية
بين تيمور والنشاشيبي:
أحب أن أؤكد للأستاذ الفاضل (منصف) أن ما ذكرته في مجلة الكتاب عن مخطوط (النوادر) هو الصحيح، فقد رجعت في ذلك إلى أناس قرأوا الكتاب بأعينهم، ووصفوه بما ذكرت. ولو كنت بالقاهرة لنقلت له ما قاله الأستاذ محمد كردعلي والسيد محمد الببلاوي في هذا الصدد، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
على أن النسخة الخطية للكتاب لا تزال في حوزة اللجنة المؤلفة لنشر مخطوطات تيمور، فلا أقل من أين يتفضل أحد أعضائها الأفاضل فيحكم بيننا في هذا الموضوع.(772/52)
وقد يكون الأستاذ (منصف) قد قرأ في النوادر نادرتين متتابعتين أو أكثر في موضوع واحد، فظن أن الكتاب مبوب مقسم، والحقيقة أن هذا من قبيل التصادف فحسب، وفي نقل الأديب ما يماثل ذلك، بل إن النشاشيبي رحمه الله قد أفرد قبل وفاته عدة صحائف من نقله في موضوع واحد، هو الحث على الجهاد، وكان ذلك بمناسبة الدفاع عن فلسطين. . .
هذا وللأستاذ المنصف تحياتي.
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي
حول قصة تضحية أم:
طالعت في العدد الماضي من الرسالة القصة القيمة التي كتبها الأديب عبد القادر صادق من دمشق والتي قدم لها بأن رواها له شيخ جليل زار الشرق الأقصى للتبشير!
ولقد لاحظت أنها وقعت في حرب 1904، وهي سنة متقدمة جدا بالنسبة لسن الكاتب الفاضل، وللمبشر الجليل!
ويؤسفني أن أقرر هنا للحقيقة والتاريخ، أن هذه من صنع مصر، لم يصنعها خيال الأديب الكاتب، ولا رواية الشيخ المبشر، ولكن صاغها قلم هذا الضعيف - حسين الغنام - ونشرها فيما نشر من صور بطلات النساء التي كان ينشرها في (جريدة الجلاء) بمدينة الإسكندرية. وكان ذلك عام 1938. . .
حتى أسماء الأبطال هي أسماء الأبطال، مع تحوير طفيف، وسبحان جامع الخواطر. . .!
هذا مع اعتقادي أن للقصة أصلا عربيا صرفا. . .
حسين مهدي الغنام
تصحيح:
في مقال الأستاذ (الجاحظ) (الشيوعية في الإسلام) في العدد (771) من (الرسالة الغراء) ورد استدلال في كلام (جمال الدين الأفغاني) بقوله تعالى (وأعلموا إنما غنمتم من شيء فلله خمسه) والصواب (فأن لله خمسه) وجاء بعد ذلك (ولذوي القربى) والصواب (ولذي(772/53)
القربى) والله الموفق.
علي زين العابدين منصور(772/54)
رسالة النقد
(نار ونور)
ديوان شعر للأستاذ محمد مجذوب
شعرنا العربي في العصر الحاضر يعاني أزمة. .
ومعنى ذلك أنن نعاني أزمة شعورية. . . أي أننا لا نستطيع أن نستوحي الحياة لنستمد منها الإلهام، ولا نتعمق النفس الإنسانية نسبر غورها. . . ولا نمد أبصارنا إلى هذا الكون الواسع لنجول بأفكارنا فيه. . أي أننا لا نستطيع أن نخلو إلى أنفسنا ساعة نستوحيها، ولا نعتمد على شخصياتنا لنستقل بأنفسنا، ونؤمن بنظرتنا الذاتية.
نعم! إن الشعر العربي في أزمة محكمة. .
أساسها أننا لا نزال غير متفقين على معنى الشعر. . فكثيرون يحسبون أن كل من سطر أبياتا وقيدها بالوزن وسجنها في (قارورة) القافية شاعرا من شعراء عصرنا المعدودين. .
وشعرنا يتلوى بين فئتين: فئة تغرق في الإغراب، وتولع في الطلاسم والأحاجي، ولا تفرق بين الرموز السحرية، والألفاظ الشعرية، فتأتي بما لا يفهمه الناس ولا يتذوقونه. . ولا يمكن أن ينسب إلى الشعر في أية حال من الأحوال؛ فتختفي العاطفة، وتملأ شعرها بالصور المضطربة المتهالكة التي لا تستند إلى ركن من المعقول. .
وفئة لا تزال تعيش في القرن الرابع الهجري؛ تحسب الشعر تقليد الشعراء القدامى، والسير على مناهجهم، وإحياء المديح والرثاء المتكلف، وتظن الشعر كلمات محنطة، وجملا متراصة، وقوافي مسجونة لا يربطها نظام، ولا تصل بينها وشائج قربى، فترى الناس بالغت، وتعرض عليهم معارض للألفاظ المحنطة التي لا تحمل رصيدا من عاطفة، ولا خفقة من إحساس، ولا ذرة من إدراك. .
ونحن الآن في عصر الذرة، وعصر النور الكهرباء، عصر التيقظ والاندفاع إلى الأمام، وكسر القيود، وإدراك القيم السامية للحياة، والتفكير العميق بالمثل العليا التي يجب أن تكون عليها الإنسانية لترفل في برد السعادة، وتتمتع بثمار الطبيعة، وتنعم بأفياء الجهاد. . . نحن في عصر القومية، عصر الاستقلال الذاتي، فإذا رأينا فئة تلغز فلا نفهم شيئا، وأخرى تعبث ولا تصدر عن شيء، فماذا يكون موقفنا منهما؟(772/55)
موقفنا منهما أن ننتصر لأمتنا الناهضة الباسلة، ولقوميتنا النامية المتحفزة، ولذاتيتنا التي تريد أن تستقل، وتكون كيانا خاصا بنا. . . نحن أبناء العرب وبني العصر الحاضر. . - فإذا حددنا موقفنا رسمنا خطتنا بازاء من يعتدي على قوميتنا، ويلهو بنا، ويسعى إلى الحط من شعرنا العربي عن قصد أو عن غير قصد.
وديوان (نار ونور) يمثل الفئة الثانية تمثيلا صادقا! ويعبر عن العقلية المحدودة، والنظرة الضيقة، والعاطفة الميتة التي عرف بها شعراء هذه الفئة. فلننظر في هذا الديوان:
الشعر - كما أفهمه - تجربة نفسية صادقة، وتصوير دقيق لهذه التجربة. . فهو نتيجة لاستجابة عاطفية أو فكرية للمؤثرات الخارجية معروضة في تعبير لغوي دقيق. . . فنحن نعيش في هذا العالم محاطين بأشياء كثيرة، أحياء وجمادا. . والحياة التي تحقق بين جوانحنا تدفعنا إلى التأثر بهذه الأشياء إيجابا أو سلبا. فما علينا إلا أن ننقل إحساسنا الصادق إلى القرطاس.
هذا هو الشعر في ابسط تعاريفه ذو ركنين من العاطفة والتعبير الصادق.
فماذا حقق لنا الأستاذ المجذوب من هذين الركنين؟
في الديوان قصائد أملتها المناسبات، وقصائد أخر تعبر عن آراء الشاعر في الناس، ونظرته إلى الحياة.
وأنا أمقت شعر المناسبات لأنه (كالسخرة) الأدبية وكالتجارة التي يلتجأ فيها الشاعر إلى المراوغة والكذب، وإلى الخداع والتضليل، أضف إلى ذلك أن شعر المناسبات يقيد شخصية الشاعر التي يجب أن تظهر واضحة جلية طليقة في كل ما ينظم. . وشعر المناسبات يدفع الشاعر إلى إرضاء الجماهير، وإرضاء الممدوح، وتملق العواطف.
وفي قصائد المناسبات من هذا الديوان تظهر نفسية الشاعر المضطربة: يتكلف المعاني ويسرف في التكلف حتى يخيل إلينا أنه يعبث عبث الصبيان، وينشا من غير عاطفة أحسها، ومن غير شعور اختلج في نفسه. .
وتلك هي النكبة الكبرى في هذا الديوان. فالشاعر يعرف الشعر رصف كلمة جنب أخرى، ووضع بيت تحت بيت، فتراه يرثي رجلا، ويمدح محسنا، ويحتفل بمولد طفل، وينظم برقية تعزية!. . وهذا أعجب ما عرفت في هذا الباب.(772/56)
فلنفرض على القارئ الكريم شعر المناسبات هذا. . شعر المناسبات الذي دافع عنه الشاعر ولم يحسن الدفاع كما لم يحسن التطبيق. . ولتكن عندنا أناة وصبر لنعرف منزلة هذا الشاعر الكبير. . ولنقرأ مدحه لعلي مظهر باشا رسلان الذي يقول فيه:
آية الفن أن يفيض على الظلم ... سعيرا وفي الجمال فنونا!
فأدرها صهباء في عرس الحق ... ترد الوجود شعرا مبينا
المنى في يديك قاصرة الطر ... ف فمتع بحسنهن (الجفونا)!
لفها النور في وشاح من الخل ... د أراق الدجى عليه الشؤونا (؟)
وذرا فوقه الكواكب حمرا ... ء عليها دم الضحايا سخينا!
أقرأت هذا العبث اللفظي الذي لا طائل وراءه؟. . . أرأيت دم الضحايا (السخين). . ثم اقرأ هذا المدح، وافهم الصفة التي أطلقها الشاعر على ممدوحه:
يا رسول السلام والرحمة الكبر ... ى وترب الجحاجيح المنقذينا
ومنار الهداة للمدلج السا ... ري وغيث السماء للمجدينا
لو بيعت هذه الألقاب في السوق فهل تعرف كم يكون ثمنها؟
إننا نمقت شعر المناسبات لأنه يطلق الألقاب دون استحياء ولا خجل؛ فهذا رسول السلام، وذاك رب الرحمة، وآخر غوث السماء، ورابع إمام الفصيلة والإحسان والجود. . .
ولننتقل إلى الرثاء لنقرأ رثاءه لغازي حيث يقول:
اختنق يا لواء حزنا فإن الشم ... س مخنوقة السنا في الأعالي
اختنق إن في اختناقك معنى ... غصة الدمع في صدور الرجال
اختنق فالمصاب بالبطل المر ... موق (من شرفة النهى والخيال)
اختنق فالشام سكرى وبغدا ... د ثكول والقدس في زلزال!!
ولم يختنق إلا القراء المساكين من هذه المبالغات الغريبة.
إن رثاء الأستاذ المجذوب يذكرنا بشعراء الفترة المظلمة، حين نعوا الفضيلة، وكسفوا الشمس، وخربوا الدنيا، ورثوا الحق والإنصاف والكرم والمثل العليا. . لماذا؟. . لأن صاحبهم مات. . الله يرحمه. . أما سائر شعر المناسبات فلنتركه لمن أصابه السهاد!
ولنأت إلى أشعاره التي تضمنت آراءه في الناس وفي الحياة.(772/57)
والأستاذ المجذوب في هذا الباب يحاول تقليد الصافي النجفي الشاعر الإنساني الساخر. . وهيهات أن يبلغ ذلك!. . لأن الصافي شاعر دقيق الملاحظة، فياض الإحساس، عاطفي المزاج، إنساني النزعة، يفكر فينفذ إلى الأعماق، ويصدر عن شخصيته القوية التي طبعت شعره بطابع خاص. تلك الشخصية التي كونتها حياة الصافي الخاصة، وظروفه المحيطة به.
أما الأستاذ الشاعر فسخريته مصطنعة، وآراءه غير عميقة؛ فإذا أراد أن يسخر استهزأ بالناس، ولعن القدر والحياة. . كأن السخرية استهزاء بالناس وعبث بالأوضاع.
والهجوم على الناس أصبح (موضة) هذا العصر. . فإذا أراد رجل أن يرفع نفسه، ويسمو متكبرا على حساب الآخرين ذم الناس والدنيا، وكفر بكل شيء. . وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على (مركب نقص). . فالنفس الكبيرة تحترم النفوس وإن كانت صغيرة. وأنا لا أنكر أن في الدنيا شرا كثيرا، وأن أوضاع الناس قائمة على شيء من الظلم والقسوة. . ولكني أود أن لا ننخدع بالمظاهر الكذابة ولا أريد أن نلهو بالفقاقيع. . بل أريد الشاعر أن يختص بالانفعالات النفسية، وبالخلجات القلبية أريد الشعر أن يرتفع إلى أعلى لا ليتحدث عن الصدق والكذب، وعن غرور الناس وضلالهم حديث الحكيم أو الواعظ. . بل أريده تصويرا صادقا للواقع، وعرضا دقيقا للحياة.
والأستاذ المجذوب ينظم باللغة المهلهلة، ولا يفرق بين لغة الشعر ولغة الجرائد اليومية. . والوزن والقافية جنيا عليه جناية كبيرة. . وكثيرا ما يفلت من يديه الوزن فيضطرب. . أما الحشو فكثيرا ما يلجأ إليه الشاعر للمحافظة على الوزن. ومن أمثلة (الزمان النائي، والظلام المبيد، والساحل المنكود). .
والأخطاء اللغوية كثيرة أردت أن أحصيها فمللت. والخلاصة أني تكلمت عن هذا الديوان لأعرض صورة من صور هذه الأزمة الشعرية في أدبنا العربي. . ولا نستطيع أن نظفر في الديوان كله بغير قصيدة واحدة ترتفع إلى منزلة الشعر، وهي (رثاء مستنقع) والحق أنها من أبدع الشعر وأصدقه وأكثره عاطفة وشعورا.
غائب طعمة فرحان(772/58)
العدد 773 - بتاريخ: 26 - 04 - 1948(/)
دعويان منفصلتان
للأستاذ عباس محمود العقاد
تلقيت من الأستاذ صاحب التوقيع خطاباً جاء فيه:
(. . . قابلت فتى ممن يسمون أنفسهم بالتقدميين وهم يعلنون عن أنفسهم بصراحة. فبدأ يهاجم كعادتهم، وكان محور هجومه عمر بن الخطاب.)
(اتفقنا من حوارنا على أن الغرض الأساسي للدين هو علاج الأمراض الاجتماعية ومنها الناحية الاقتصادية. فلا يكون هناك المعدم وصاحب الملايين. قلت إن نظام الزكاة في الإسلام يحقق ذلك، فقال: تعال معي لنرى هل أفلح هذا النظام في عصر من العصور. ان محمدا قد افلح بدينه في نقل الناس من حياة العبودية إلى حياة حرة، فتطلع الناس على حقوقهم واخذوا يدركونها. وفي عصر عمر الذي بلغ فيه الإسلام اوجه، حدث انه كان هناك امرأة تطبخ الحصى لعيالها الجياع بجانب رجل يهب لبيت المال عدة ألوف من النوق. . . ولا يوجد في التشريع الضمان الاجتماعي الكافي الذي يمنع حدوث هذا الفارق. وتناولنا الكلام على الضريبة التصاعدية، فادعى إن الإسلام لا يقر النظام التصاعدي في الضرائب. . وان شخصاً مثلى - وغيري كثير - لم يؤهلهم تعليمهم للرد على هذه الدعاوى وإقناع من يضطربون من الشك من جراء ما ينفثه زملاؤهم التقدميون من آراء فاسدة. . فهلا توليت الجواب على هذه الآراء حتى تهدي الحائر وتخرس الضال. . ولكم مني الشكر، ولو على قراءة هذه الرسالة)
السيد محمد الغزي
معيد بكلية الهندسة: جامعة الفاروق
والذي نريد أن نبدأ به هو الفصل القادم بين أمرين مختلفين يجمع بينهما هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالتقدميين.
الأمر الأول فساد المجتمع الحاضر.
والأمر الثاني أن الشيوعية هي علاج هذا الفساد.
فمهما يكن من مرض زيد من الناس فليس هذا بشهادة طب لكل من يدعي القدرة على(773/1)
علاجه، ولو كان من المشعوذين
زيد من الناس مريض لا شك في اشتداد المرض عليه.
سلمنا. وذهبنا في التسليم إلى غاية ما يريدون. ولكن مرضه هذا لا يشهد بالقدرة الطبية لكل من يعالجه، ولا بصحة الدواء الذي يوصف له في ذلك العلاج.
هذا شيء، وهذا شيء آخر، ولا بد من الفصل بين مرض زيد ودعوى الطبيب. لان الطبيب الجاهل أضر من المرض، أو اضر من ترك المريض بغير علاج.
والشيوعية لم تثبت قط - نظراً ولا عملا - أنها هي الطبيب الصالح لعلاج الفساد في المجتمع الحاضر. فقد كلفت روسيا أكثر من عشرين مليوناً من أبنائها ذهبوا في المجاعات والأوبئة والفتن الاهلية، وكلفتها حرية أبنائها الذين لا يملكون حق انتقاد الحكومة فيها، ومضى عليها ثلث قرن من الزمان في تطبيق دائم تعززه القوة الغالبة، فكانت نهاية المطاف أن روسيا تأخذ بنظام الطبقات وتخشى أن تنكشف للعالم، فيطلع العالم كله على فشلها، ولا تزال محتاجة إلى إثارة الفتن في كل بقعة من بقاع الأرض، لتأمن على نظامها المتصدع الذي تخشى عليه الزوال.
أما أن الغرض الأساسي للدين هو علاج الأمراض الاجتماعية، فهذا غير صحيح.
لأن الأمراض الاجتماعية عارض بتغير من عصر إلى عصر، ومن بلد إلى بلد، ومن سلالة بشرية إلى سلالة أخرى.
ولو كان الدين مسألة هذا المجتمع أو ذاك لوجب أن يكون لكل آمة دين، وأن يتغير هذا الدين في كل عشرين أو ثلاثين سنة، وهذا غير الواقع الذي نراه.
إنما الدين علاقة بين الإنسان وبين هذا الوجود كله، أو علاقة بين الموجودات الإنسانية وبين مصدر هذا الوجود.
ما الإنسان؟ ما مصيره؟ ما هو رجاؤه في حياته؟ ما هو قوام الحقائق والأخلاق في ضميره؟
هذا هو مناط الدين وهذه هي رسالة الدين.
فهو مسألة إنسانية تلازم الإنسان على توالي العصور، وعلى اختلاف المجتمعات.
ثم يأتي إصلاح المجتمع من طريق إصلاح الضمير.(773/2)
فإذا صلح الضمير صلح المجتمع من هذا الطريق.
وإذا سلمنا بالتطور فمعنى التطور أن يكون هناك عيب يتبعه كمال، وأن يكون هناك خطأ يتبعه صواب، وأن يكون هناك سيئ يتبعه حسن، أو حسن يتبعه ما هو أحسن.
فلا يصح أن يكون النقص دليلا على فساد النظام كله، لأن التدرج يستلزم وجود النقص في كل طور من الأطوار، أملا فيما يعقبه من التمام والصلاح.
وليس الصلاح على كل حال هو منع التفاوت بين الناس.
لأن التفاوت سنة من سنن الحياة، بل علامة من علامات الارتقاء في هذه الحياة.
لا تفاوت بين ذرة وذرة من ذرات الجماد.
لا تفاوت بين خلية وخلية من خلايا الجراثيم.
لا تفاوت بين حشرة وحشرة من صغار الحشرات.
ولكن التفاوت يزداد كلما ارتقى الكائن الحي في معارج الحياة، ولا يزال هذا التفاوت مطرداً حتى يبلغ غايته في الإنسان، فيصبح الفارق بين إنسان وإنسان كالفارق بين الأرض والسماء تلك هي علامة التطور والارتقاء.
ومع هذا التفاوت الذي يلازم الارتقاء، لا معنى لإلغاء التفاوت في المراكز والأرزاق.
نعم إن المساواة واجبة في الحقوق، ولكن هذه المساواة لا ينبغي بحال من الأحوال أن تكون مساواة بين حق المجتهد وحق الكسلان.
لأن المساواة بين المجتهد والكسلان تجنى على الكسالى أنفسهم قبل جنايتها على المجتهدين.
فالحياة كلها حافز واستجابة وليس في الحوافز البشرية حافز أقوى من حافز الخوف من عاقبة الكسل والإهمال، إذا رأى الناس أن الكسل والإهمال يحرمان صاحبهما حظه من الرزق والطمأنينة.
فإذا زال هذا الحافز زال الباعث على التقدم والنشاط واستخدام القوة الكامنة في كل بنية حية، وأنحدر الإنسان إلى حضيض الحيوان
وإذا حدث هذا فالبلية فيه اعظم جداً من بلية آحاد من الناس يطبخون الحصى في وقت من الأوقات، لأنها بلية تحيط بالطبيعة البشرية كلها وتقضي على جميع حوافز الحياة.(773/3)
وإذا كان التاريخ يروي لنا اليوم أن امرأة في عهد عمر ابن الخطاب كانت تطبخ الحصى فأنقذها عمر، فالفضل في ذلك للنظام الذي جعل هذا الحادث مثلا يروى في التاريخ، ولم يطمسه بغشاوة الظلم والكمان كما تنطمس اليوم ألوف الشيكات في مجاهل سيبريا، وفي ظلمات السجون، وفي حنايا القبور، فلا يعلم بها أحد من الناس في ساعتها، فضلا عن علمه بها بعد مئات السنين.
أما حديث صاحبك عن الضريبة التصاعدية في الإسلام فهو حديث خرافة، لأن أولي الأمر في الإسلام - مع قيام الشورى في حكومته - يستطيع أن يفرض ما يشاء، كلما اقتضته مصلحة المجموع.
ولضريبة عمر في أعناقنا بقية على ما يظهر.
فقد جاءنا أيضاً هذا السؤال عن عمر بن الخطاب من الأديب صاحب الإمضاء. قال:
(. . . في كتابكم عبقرية عمر أنه رضى الله عنه أوصى بوضع قواعد النحو، بينما يقول أستاذنا الفاضل، بأن الذي أوصى بوضعها هو علي بن أبي طالب. . . فعلا تفضلتم بشرح هذا الاختلاف؟. . .
أحمد كمال الدين الغرابلي
طالب بمدرسة العروة الوثقى الثانوية بالإسكندرية
وجوابنا للطالب الأديب أننا اعتمدنا فيما كتبناه على مسند عمر في الجامع الكبير حيث قال أبو مليكه: (قدم أعرابي في زمان عمر رضى الله عنه فقال: إن الله بريء من المشركين ورسوله) بكسر اللام في رسوله. فقال الأعرابي: أو قد بريء الله من رسوله؟ إن يكن الله قد بريء من رسوله فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه. فقال: يا أعرابي! أتبرأ من رسول الله؟ فروى له القصة. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن الله بريء من المشركين ورسولُه. فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما بريء الله ورسوله منه. فأمر عمر رضى الله عنه ألا يقرئ الناس إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو).
وهذه رواية يصح التعويل عليها، وقد ثبت على كل حال أن الفاروق رضى الله عنه كان(773/4)
ينكر بعض اللحن في كلام معاصريه، ويوصي بحفظ عيون الكلام لتمكين ملكة الفصاحة وتقويم اللسان.
عباس محمود العقاد(773/5)
سياسة الصهيونية المالية ونذالتهم
للأستاذ نقولا الحداد
أسأل الأستاذ لطيف مختار من بغداد، و (العاصف) (المهذب) المجهول العنوان، والفتى الأديب حسن من المنصورة؛ هؤلاء الذين لاموني فيما كتبت عن اليهود والتلمود والبروتوكولات الصهيونية - أسألهم: هل بلغ إليهم ما فعله الصهيونيون في بلدة دير يس غربي القدس، وفي بلدة ناصر الدين قرب طبرية وغيرهما من التفظيع بالأجنة في الأرحام والرضّع على الصدور والأطفال في الأحضان، ومصونات النساء في الخدور، والشيوخ الضعفاء العزل من السلاح، وما فعلوه في قرى أخرى حيث لا توجد حامية من الرجال للدفاع ضد قوة صهيونية تفوقها عدداً وعدداً خمسين مرة؟
هل عرف أولئك الذين لاموني فيما كتبت أن هؤلاء الصهيونيين الذين قرَّع بهم العالم في الجرائد والبرلمانات لأجل هذه الفظاعات يستهزئون بهذا التقريع ويفتخرون بهذه النذالة، وهل يعلم الذين لاموني أن هذه هي لأخلاق اليهود (يتمرجلون) على الأطفال والنساء، ولكنهم أمام أبطال العرب يفرون فرار الأرانب والفئران، وأنهم في معاملاتهم حيث تقوم قوة الحق لسحق الباطل يكونون كما قال القرآن الشريف: (ضُربت عليهم الذلة والمسكنة).
هؤلاء هم الذين رأيناهم ينكلون بالضعفاء، ولكنهم يخرون ساجدين أمام الرجال الأبطال. لماذا نطلب منهم المروءة والإنسانية؟ أعرب هم؟ هذه أخلاق العرب. العرب ينذرون أهل القرية قبل ضربها لكي يخرج منها النساء والأطفال.
لله ما أشرف النمور والفهود والذئاب، وما أحن الهرر وأرق قلوب الكلاب.
وهل علم الذين لاموني أن حاخام اليهود في فلسطين (حاكمهم أو حكيمهم) بعث برسالة إلى جلالة الملك عبد الله يدعى أنه استفظع هذه الفظائع التي فظَّعها اليهود والهاجاناه. لماذا يبعث الرسالة لجلالة الملك عبد الله وحده؟ هل هناك سرّ سيظهر بعدئذ؟ ونظن أن جلالة الملك عبد الله أجابه: إن كنت لا تستطيع أن تمنع هذه الفظائع فاستعفِ من منصبك وأنت زعيم المغظعين، وإن كنت لا تتحمل حقيقة وقر هذه النذالة فاذهب إلى مغارة في جبل نبو جنوبي أورشليم حيث دفن النبي ارميا تابوت العهد المحتوى على اللوحين الحجريين اللذين كتب الله بإصبعه عليهما وصاياه؛ واسمع هناك صوت الله لا تقتل)، واستغفر الله عن شعبك(773/6)
إن كان الله يقبل الاستغفار.
هؤلاء هم الذين إذا لامهم أحد لفظائعهم قالوا: (هي حرب آباد). ولكنهم يجهلون أنهم يبيدون عن بكرة أبيهم قبل ان تبيد كتيبة من العرب. لله ما أجهلهم!
هؤلاء أيها العادلون هم اليهود الذين يريدون أن ينشئوا دولة يهودية في فلسطين تكون دولة الدول الصهيونية التي تضع تحت أقدامها جميع دول العالم. هؤلاء أيها اللاحون هم الذين يجب أن نجاورهم ونعيش بين ظهرانيهم عبيداً أذلاء إذا نجحوا.
هؤلاء هم شعب الله المختار الذي يقول إن الجوييم غير اليهود من جميع الأمم هم بهائم.
هؤلاء الذين أشفقتم عليهم من قلمي وما علمتم إن قلمي ليس إلا فاضحاً برامجهم ومواثيقهم السرية، وليست أعمالهم إلا تطبيقاً لمواثيقهم - بروتوكولاتهم. وإليك فصلا من مواثيقهم عن سياستهم المالية:
العمل ورأس المال - الميثاق السادس:
البند الأول: يجب أن ننشئ في أول فرصة احتكارات ومخازن (مصارف) احتياطية للثروات الضخمة تتوقف عليها ثروات الجوييم (الناس الذين ليسوا يهوداً) إلى أن تهبط هذه إلى القعر مع اعتمادات الحكومة على أثر الحبوط السياسي (يعني أن تضمحل هذه الثروات متى حصل انقلاب سياسي خطير).
بند 3 - يجب أن نعظم أهمية حكومتنا العليا بكل طريقة بحيث تكون ممثلة لحماية جميع الذين يخضعون طواعية لنا ولمصلحتهم (لأن هؤلاء اصبحوا في يدنا نتصرف بهم كيف نشاء).
بند 4 - ستكون قوة أرستقراطية الجوييم قد ماتت (تجاه قوة المال طبعاً) فلا ينبغي أن نحسب لها حساباً، وإنما يجب أن نحسب حساب أصحاب الأملاك منهم؛ لأنهم يظلون ضارِّين لنا بمعنى انهم يعتمدون عليها في مصادر أرزاقهم (فلا يحتاجون ألينا)، ولذلك يجب أن نبذل كل جهد في أن نجردهم من أملاكهم بأن نسعى إلى فرض الضرائب الثقيلة على هذه الأملاك ونحملها الديون الباهظة، وهذا التدبير يضعف عمليات الامتلاك، ويقلل الميل إلى التملك، وبالتالي يجعل الملاك خاضعين لنا بلا قيد ولا شرط.
(ولهم طرق آخر في تجريد الناس من أملاكهم وأموالهم منها أن يسلطوا عليهم نساءهم في(773/7)
الندية الدعارة كما كانوا يفعلون في فلسطين وغيرها. يشترون الأملاك من أصحابها بالأثمان الباهظة والنساء يستردون هذه الأموال بثمن لا قيمة له عندهن ولا عند رجالهن، وما هذا بالأمر المنكر عندهم كما ذكرنا في البند من الميثاق الأول في مقال سابق).
بند 5 - ولما كان الأعيان من الجوييم بحكم الإرث الطبيعي والاجتماعي لا يكتفون بالقليل في إشباع شهواتهم فإذا عزَّ الكثير عليهم يتحرقون ويطيرون شعاعاً (لا ريب أن الصهيونيين مصيبون في هذه الفلسفة. فليس للأعيان صبر على المضض كما لليهود).
بند 6 - في نفس الوقت يجب أن نسيطر بكل جهدنا على التجارة والصناعة جميعاً ونجعلها تحت أرادتنا وإدارتنا. وإنما قبل كل شيء يجب أن ندير دفة المضاربات التي تلعب الدور الخطير في تهيئة الموازنة بينهما (أي في خضوع الصناعة لنظام المضاربات) لان عدم دخول الصناعة إلى دار المضاربات يضاعف رؤوس الأموال في أيدي خاصة ويساعد على تقوية الزراعة بتحرير الأرض من عبأ الدينونه لبنوك الأراضي (وهذا أمر مناقض لمساعيهم في السيطرة)، والذي نبتغيه هو أن الصناعة يجب أن تستنزف من الأرض قوة العمل ورأس المال بواسطة المضاربات، وهذه تسرب إلى أيدينا جميع أموال العالم، وحينئذ ننزل الجوييم إلى درجة العمال، وثمت يخر الجوييم ساجدين لنا رغم أنوفهم وإلا فلا يستطيعون أن يعيشوا.
(فترى مما تقدم اللعبة الشيطانية في استنزاف الأموال بواسطة المضاربات المختلفة. ولهم طرق أخرى لسلبها كاليانصيب على اختلاف انواعه، والتأمينات والمراهنات المتنوعة كالسباق وصيد الحمام وأشكال القمار ونحو ذلك. كل هذه من اختراعاتهم).
بند 7 - ولكي يتم هدم الصناعة عند الجوييم يجب أن يساعد فعل المضاربات بفعل الترف الذي نشرناه بين الجوييم. لان الترف يلتهم منهم كل شئ (المال والشرف والوطنية الخ) فيجب أن ترفع الأجور والماهيات، فإن هذه لا تنفع العمال النفع الذي يتصورونه؛ لأننا في الوقت نفسه نرفع أسعار الحاجيات زاعمين ان ارتفاع الأسعار نشأ من انحطاط نتاج الزراعة والمواشي. ويجب أن نزعزع ما أمكن مصادر الإنتاج بان نعود العمال على الفوضى والاعتصاب والإضراب وإدمان المسكرات، والى جنب ذلك نبذل كل جهد في أن نستأصل عن وجه الأرض جميع قوى الثقافة عند الجوييم.(773/8)
(هل يمكن إبليس الرجيم أن يستنبط وسائل للهدم والتدمير أقوى من هذه؟ ان هؤلاء الحكام الصهيونيين هم أساتذة الأبالسة).
البند 8 - ولكيلا يفطن الجوييم إلى مقاصدنا هذه قبل مجيء الوقت الملائم لإعلان دولتنا يجب أن نوهمهم بأننا راغبون رغبة صادقة في خدمة طبقات العمال وتقويم المبدأ الأساسي للاقتصاد السياسي الذي نسدد أليه ومنه جميع أنواع دعاياتنا.
(أترى كيف يعملون أعمالهم الخبيثة من وراء ستار الأعمال الصالحة؟).
الميثاق التاسع:
بند 2 - إن كلمات السر - الحرية والإخاء والمساواة - التي وضناها نحن للماسونية لكي تظهر جمعية صالحة يجب أن تتغير متى تكونت مملكتنا إلى هذا التغيير: - حق الحرية وواجب المساواة ونظرية الإخاء - هكذا يجب أن نصوغها، وبها نمسك الثور من قرنيه، ونكون قد نقضنا بالفعل كل حكم ما عدا حكمنا، وان بقي بعض الأحكام السابقة قائما فلا يكون نافذا نفوذ خطير الشأن. وإذا احتج أية حكومة علينا فيكون احتجاجها صوريا فقط.
بند 3 - لا يمكن أن نقوم موانع تحدد نشاطنا. انو حكومتنا العليا تقوم في الأحوال والظروف غير الشرعية فتوصف بالدكتاتورية القوية المستبدة التي تنفذ رغائبها بالقوة القاهرة (إلى أن يقول الرئيس): أني في موقف يسمح لي أن أخبركم بضمير صاف إننا نحن الذين نسن القوانين يمكننا في بعض الأوقات المناسبة أن نتسامح في القضاء والأحكام؛ فنذبح من نذبح ونعفو عمن نشاْ، ونحن كزعماء لجماعاتنا نمتطي جواد القيادة ونحكم بقوة الإرادة المطلقة؛ لان في بيدينا شراذم الإفراد الذين كانوا قبلا الحزب القوي، وقد انتصرنا عليهم، والسلاح الذي في أيدينا هو المطامع الأشعبية التي لا حد لها والجشع الناري، والنقمة بلا رحمة، والبغض والحقد الشديدين (نعوذ بالله. هذا هو عين ما نراه في سلوك هؤلاء القوم مطابقا لهذا البند).
بند 4 - منا نحن يصدر الذعر الشامل (كذا بكل قحة) ففي خدمتنا أشخاص لهم جميع صنوف الآراء والمبادئ والتعاليم من فوضويين ودعاة واشتراكيين وشيوعيين وحالمين بالمملكة الطوباوية أشكالها المختلفة. لقد القينا على رقابهم نير العمل لغرضنا. كل واحد منهم حامل منهم حامل على حسابه الخاص البقية الباقية من الحكم القديم لكي يطرحها في(773/9)
الهاوية، وبهذه الافتعال نرى جميع الحكومات في عناء وشدة، وكل منها تجتهد ان تنجو من هذه الشدة بأية تضحية، ولكننا لا نمنحهم السلام والراحة ما لم يعترفوا بحكوماتنا الدولية العليا، وبخضوعهم المطلق لها.
بند 6 - لقد ضجت الشعوب بوجوب تقرير أمر الاشتراكية في اتفاق عام في مؤتمر دولي، ولكن انقسامهم إلى أحزاب مختلفة دفعهم إلى بيدينا لأنهم لا يقدرون ان ينفذوا خطة لهذا النزاع إذا لم تكن عندهم أموال للنفقة، والأموال في يدنا.
(هكذا يستندون إلى المال في كل مكيدة يكيدونها).
بند 7 - يمكن أن نظن أن يتوصل ملوك الجوييم العقلاء البعيدو النظر إلى اتحاد عام (كالجامعة العربية مثلا) ولقاء هذا الاتحاد تنغمس قوة الغوغاء في هياج اعمى؛ ولكننا قد احتطنا لكل حادث من هذا القبيل، فقد أقمنا بين القوتين متراسا بشكل رعب متبادل بينهما (قوة الجند من جهة وثورة الرعاع من جهة أخرى). بهذه الطريقة تبقى قوة الشعب العمياء سندا لنا. ونحن وحدنا نجهزها بقائد، وبالتالي ندربها في الطريق الذي يؤدي إلى هدفنا.
(لا تستغرب إذا قيل لك إن معظم الحروب والثورات، ولا سيما الأخيرة منها نشأت من جراء مكايد صهيونية).
بند 13 - (يقول الزعيم القائم في مؤتمر الحكماء الشيوخ) قد يلوح لكم إن الجوييم يقومون علينا في يوم من الأيام إذا أحسوا بما هو جار من استعداداتنا قبل أن يحين الوقت الملائم لإعلان حكومتنا. اجل. ولكن عندنا في الغرب ضد ثوراتهم مناورات رهيبة تتصدع فيها القلوب الحديدية - المخابئ الخفية والسكك الحديدية تحت الأرض إلى غير ذلك من السراديب تمتد قبل مجيء الوقت المنتظر تحت العواصم والحواضر. فمن تحت الأرض تنسف هذه العواصم والمدن فتنتفض في الهواء وتندثر كل أنظمتهم وسجلاتهم الخ. وفي مقال قادم خطتهم في الصحافة.
نقولا حداد(773/10)
مشاهدات مسافر
ألمانيا بعد الحرب
للدكتور محمد سامي الدهان
أجل أعود من جديد إلى هذا البلد الواسع الكبير، يحفزني أمران؛ فأنا أسعى في جمع تراثنا المخطوط من مكتبات ألمانيا المتفرقة في غنى، الموزعة في نظام. وأنا أسعى كذلك في أن أتعرف إلى الأساليب الحديثة في كل شيء: في المعرفة والحياة. . .
كان علي أن أسجل (القديم) وأن أرسمه حيث كانت ألمانيا أمة تهتز لذكرها أمم، فيهم من يرى عندها المثل الأعلى والغاية القصوى، وفيهم من يكفر بحضارتها ويطيل في ذمها. كان علي أن أسجل هذه الزيارة الطويلة الواسعة من أقصى حدود الراين، بطاحة ونجوده، حتى برلين؛ ومن هذه العاصمة حتى لينزغ ومونيخ ونور نبرغ، فالغابة السوداء وتوبنيكن ونهر الراين؛ في شهور عصيبة من عام 1938، والعالم يضع أبواباً لحدوده ويخترع الأقفال من ورائها؛ فكان لأنباء الحرب هلع في القلوب وجزع في النفوس ونار في الرماد، وحمم تتوثب، ودنيا ترتجف، وآمال تبنى، وأمان تتهدم. كان علي أن أصف كيف كانت تخوض ألمانيا حرب الأعصاب في الدعاية لجنسها والاستجابة لعرقها والجمع لشملها. وكنت وأنا أعبر الحدود البلجيكية الألمانية أقرأ في صحف باريس أن القوم أعلنوا التجنيد وجمعوا الصفوف وأنهم على أبواب حرب، وقد أقسموا أن يقفوا بين رغبة ألمانيا واستلاب السوديت.
وما من شرقي عربي يستطيع أن ينزل من القطار عشرات المرات، وأن يلبس القناع الواقي عشرات المرات، وأن يتمرن في سفره على الاستعداد مع القوم لحرب عصيبة، فلا يهتز له جنان، ولا يرتجف له قلب! فقد تعلمت الحرب عن الأدب، وجربت النضال عن الكتب، فلست أفهم فتاة تحرس النفق، وامرأة تفتش المارة، وأخرى تحمل السلاح. ولست أفهم كيف يؤمن عشرات من الملايين بالحرب في القرن العشرين، يتقدمون إلى النار في ثغور باسمة وقلوب هائمة، لا يسمعون إلا لصوت واحد في زحمة الأصوات، ولا يتلفتون إلا لنداء واحد في جلبة النداءات.
كان علي أن أصف ما شهدت من اجتماع برلين، وما سمعت من الأقطاب الأربعة من(773/11)
خطب موتيخ، وما كان فيهما من تأخير الحرب عاماً كاملا. ولكن هذا كله غدا في التاريخ، وانطوى في الحقب، وتحدث عنه الناس فأكثروا، ووصفه الكاتبون الغربيون فأسهبوا. ولعل لي رجعة إليه حين يحلو الكلام فيه.
أما الآن، وقد هدأ غبار المعركة الصاخبة، وسكنت ثورة العاصفة الجامحة، فقد أحببت أن أعود من جديد إلى هذا البلد القديم لأرى القوم في حال غير الحال ودنيا غير الدنيا.
ولن يكون السفر عن سبيل سفارة ألمانية وقنصلية جرمانية، فقد تولى الحلفاء الأربعة في كل عاصمة منح الإذن لمن له أن يطلب المرور. وفي باريس على مقربة من ساحة (التروكاديرو) شارع ضيق طويل على البناء الأوسط كتابة عريضة تعلن عن موقع (مصلحة الأمور الألمانية والنمساوية). فإذا دخلت فسترى الضابط الإنكليزي والأمريكي والفرنسي يتجاورون في غرفة واحدة ويتحاورون في لغة واحدة، تنتقل من مكتب إلى مكتب، وأنت تتقلب بين شارات ونجوم فلا تجد أثراً للسلطة الرابعة، لأنك تستطيع أن تقصد إلى أية منطقة إلا البلد الحرام؛ حيث ركز الروس أعلامهم، وبسط السوفيت ظلالهم. فإذا كنت تلح في الزيارة فاذهب إلى برلين وهناك تستشير من بيدهم الحل، فيمنحون الأذن أو يحرمون. .
يا لله ما أعجب الدنيا تتبدل في أعوام عشرة فكأنها ما كانت، وتتغير في سنين فكأنها ما وجدت، يزورها المرء وهي بستان جامع وهضاب نضرة وبلدان عامرة ثم يعود إليها فإذا هي جرداء قاتمة وأكوام من أحجار حتى ليخيل إليه أنه يزور بلاداً أصابتها الزلازل، أو انهارت عليها البراكين، أو تقادمت عليها القرون ومسحت عليها العصور، فيحسب أنه يزور مدينة أثرية يتلمس في جنباتها التاريخ ويقرأ من خرائبها العبر. ذلك أول شعور يمس المرء حين يجتاز نهر (الراين)، ويعبر الحدود. بل لعله وهو ينتقل في قطار فخم من ربوع الألزاس يكذب الخارطة بين يديه ويتهم نفسه بالجهل بالجغرافية فلا المعالم معالم ولا الحدود حدود.
واستقبلنا على الحدود جنود ألمانيون في لباس نازي قديم بال لأنهم لا يملكون سواه، وأقبلوا يفتشون الحقائب، فما ينفكون يفتحونها ويغلقونها، فيفتحون عيونهم للمنظر الجميل من مأكل لم يعرفوا طعمه منذ حين، ولباس لم يعرفوا لمسه منذ أمد، ثم يطبقون العيون على قذى(773/12)
ويشكرون للمسافر، ويحيلونه إلى السلطة المحتلة، فتوزعه السلطة في قطار من القطرات. ولن يشكو المسافر من القطار الذي يحمله والثمن الذي يدفعه، فله الدرجة الأولى والثانية، يمرح فيهما كما يشاء. وفي الثالثة سكان البلاد يتكدسون وقوفاً، ويتعلقون بأطراف القطر وسلالمها، كما يتعلق غلمان القاهرة بأطراف حافلات الترام سواء بسواء. وسيعجب الأجنبي للألماني كيف يحيا اليوم، فهو يقتطع الخبز الأسود الكبير لقمة بعد لقمة هي كل غذائه الذي رأيته في يومين اثنين من رحيل القطار، ويرى مناظر لا تصدقها عيناه. هذه امرأة مرضع نامت على جدار القطار وهي تحتضن وليدها، وهذا شيخ سكت رفاقه عن استبداده في الجلوس بالممر فنام جالساً؛ وهذا شاب بلغ المحطة التي إليها يقصد وهو يعرف أنه بلغها لكن القوة خانته والجوع خذله فما له حيلة في قيام ولا قعود، فآثر البقاء، وما ينتظر القطار الجياع!. . .
أما أنا فقد تعبت من مشاهد البشر، وعدت إلى مكاني من العربة أتعلق بالطبيعة فهي أم رءوم وحسناء وفية، أمتع النظر بالغابة السوداء ونحن نجتازها، نمر بين صفوف من أشجار كثيفة عالية، وقد شق القطار طريقه بينها، متلوياً في سحر لا ينسى وفتنة لا تزول، هي كل زاد المسافر في ألمانيا اليوم.
فلما أظلم الليل انتشلني النوم انتشالاً وما أيقظني إلا صوت هذه الجموع الغفيرة في المحطات، فظننت أنه العيد، فنحن يوم أحد، وقد عرفت الألمانيين من قبل يعدون للأعياد عدتها وللآحاد فرصتها، فهم يرحلون من قرية إلى قرية لا يستقرون ولا يقبعون، يتنقلون في جمال الطبيعة، يقطفون ثمرة الأسبوع، ينتجعون مواقع الزهر والعطر، والجبل المشرف، والنهر المغنى، ولكن رفيقي في السفر أفهمني أن الألماني يسافر إلى الريف يوم الأحد من كل أسبوع في اصطياد البطاطس وانتشالها من التراب، فالأرض أمٌّ لا تؤمن بمذهب، ولا تدين بسياسة، والبطاطس بعض الغذاء قبل الحرب وكل الغذاء بعد النكبة؛ فلا بأس في أن يعد الألماني أكياساً واسعة يجمع فيها كل ما تصل إليه يده في السوق السوداء طعاماً لأسبوعه.
بلغنا محطة توبينكن، فنزلت بين هذه الجموع المتراصة التي كانت تراقب القطار منذ الليل، فأخذت سبيلي في يسر غريب؛ ذلك لأن للأجنبي سبيلاً غير سبيل المواطن. غير أن(773/13)
العسر كل العسر في أن تجد من يحمل الحقائب إلى المنزل، فقد طفقت أبحث في المحطة عمن يحملها وكنت أظنهم كثيرين لرداءة اللباس وفقر المظهر، فلم يقبل على منهم أحد، فلما أقبلت عليهم أعرضوا جميعاً، ولما لجأت إلى تفسير وشرح، فهي وحدها الرائجة وهي وحدها العملة النادرة.
وأخذت سبيلي إلى المنزل ماشياً، فليس من عربات أو سيارات ولن أطمع فيها بعد الذي رأيت.
وعزفت عن التفكير إلا فيما جئت له؛ فأنا أزور ثالث مدينة جامعية على (الراين) بعد بون وهايدلبرغ، بل هي تمتاز عنهما بأنها من مهود الاستشراق، ففيها ما ليس في الجامعتين من مخطوطات عربية نفيسة، ففيها المتنبي وأبو فراس وابن وحشية، وفيها ليتمان و (بور) وفايفايلر من مشاهير المستعربين فلا أقل من أن أقيم أياماً أستعيد بين القدامى والمحدثين ذكرى عاطرة؛ وأقوم بالتحية الطيبة قبل أن أرحل إلى الدير. . .
سامي الدهان(773/14)
من ظرفاء العصر العباسي
أبو العيناء
191 - 283 م
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
عرفنا أسلوب أبي العيناء مع الخلفاء والأمراء والوزراء، فما رأيناه مع أحد منهم إلا صريحاً؛ فلا يستغرب بعد ذلك إذا أفاض في مداعباته كل الإفاضة مع الطبقتين الوسطى والدنيا، لأن معارفه فيهما كانوا كثيرين، وكان - بحكم الصداقة - أشد رغبة في التفلت من كل كلفة، وأكثر طواعية في الإقبال على كل ما يدخل السلوى على محبيه.
ولا بد من الإشارة إلى تلك العلاقة القوية التي توطدت بينه وبين الجاحظ: فقد كانا صديقين لا كلفة بينهما، بل قد اشتركا سوياً في وضع حديث (فدك) كما يعرف المشتغلون بعلم الحديث. وخلاصة هذا الحديث أن السيدة فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم طالبت بعد وفاته بنصيبها مما ترك، وأنها بكت وأبكت لتصل إلى ما تبغي. والحديث باطل من أساسه كما اعترف أبو العيناء بذلك حين قال: (أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك) وقال إسماعيل بن محمد النحوي: (كان أبو العيناء يحدث بذلك بعدما مات الجاحظ). وقد ذكره ابن حجر في (الموضوعات).
وإن علاقة بين اثنين تسمح لهما بوضع حديث مشترك لهي علاقة متينة لحمها التفاهم وسداها الانسجام: فلا بدع إذا رأينا الجاحظ يسلك في مداعبة أبي العيناء سبيلا لا يسلكه إلا الأحبة، ويقابله الآخر برضا وارتياح. والقصة التالية تلقي ضوءاً على نوع الصداقة التي استحكمت عراها بين الرجلين.
قال أبو العيناء: (كان لي صديق فجاءني يوماً فقال لي: أريد الخروج إلى فلان العامل، وأحببت أن يكون معي إليه وسيلة، وقد سألت من صديقه؟ فقيل لي: أبو عثمان الجاحظ - وهو صديقك - فأحب أن تأخذ لي كتابة إليه بالعناية؛ فصرت إلى الجاحظ فقال لي: في أي شيء جاء أبو عبد الله؟ فقلت: مسّلماً وقاضياً للحق، وفي حاجة لبعض أصدقائي وهي كذا(773/15)
وكذا. فقال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة وتعرف أخبارنا. . . إذا كان في غد وجّهت إليك بهذا الكتاب، فلما كان من الغد وجّه إلي بالكتاب، فقلت لابني: وجّه بهذا الكتاب إلى فلان ففيه حاجته. فقال لي: إن أبا عثمان بعيد الغور، فينبغي أن نفضه وننظر ما فيه. ففعل فإذا فيه: كتابي إليك مع من لا أعرفه، فقد كلمني فيه من أوجب حقه؛ فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك. فلما قرأت الكتاب مضيت إلى الجاحظ من فوري. فقال: يا أبا عبد الله قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب. فقلت: أو ليس موضع نكرة؟ فقال: لا، هذه علاقة بيني وبين الرجل فيمن أعتني به. فقلت: لا إله إلا الله ما رأيت أحداً أعلم بطبعك ولا بما جبلت عليه من هذا الرجل. . . علمت أنه لما قرأ الكتاب قال أمُّ الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف، أم من يسأله حاجة. فقلت يا هذا تشتم صديقنا؟ فقال هذه علامتي فيمن أشكره!)
ولم يكن الجاحظ يكتفي بمداعبته أبي العيناء على هذا النمط فإنه كان أحياناً ما يعذبه واجداً في تعذيبه ارتياحاً غامضاً في نفسه (كان الجاحظ يتقلد في خلافة إبراهيم بن العباس على ديوان الرسائل، فلما جاء إلى الديوان جاءه أبو العيناء. فلما أراد أن يخرج من عنده تقدم إلى من يحجبه أن لا يدعه يخرج ولا يدعه يرجع إليه إن أراد الرجوع. فخرج أبو العيناء يريد الانصراف فمنع من الخروج ومن الرجوع إلى الجاحظ، فنادى أبو العيناء بأعلى صوته: يا أبا عثمان قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك!)
ومثل هذا النمط من التعذيب في المداعبة كثيراً ما نجده بين المتفاهمين من الأصدقاء. وكان من أشد هؤلاء صلة بأبي العيناء محمد بن مكرم والعباس بن رستم اللذان سئل عنهما مرة فقال: هما الخمر والميسر، إثمهما أكبر من نفعهما. وأكبر الظن أن صلته بابن مكرم كانت أقوى، لأن مداعباته له كثيرة مشهورة.
وابن مكرم كان من هذا النوع من الأصدقاء الذي يحب أن يجد السرور لنفسه ولو بالتهكم على صديقه - وما أكثرهم في كل زمان ومكان - وكان يرى في عمى أبي العيناء فرصة لإيذائه لا رغبة في الإيذاء نفسه فلا حاجة به إليه، ولكن ليستمتع بردود أبي العيناء المبتكرة، وأجوبته اللاذعة.
حضره يوماً وأخذ يؤذيه ثم قال: الساعة والله أنصرف فقال: أبو العيناء ما رأيت من يتهدد(773/16)
بالعافية غيرك!
وقال له يوماً يعرض بالبلد الذي نشأ فيه: كم عدد المكدين (المتسولين) بالبصرة؟ قال: مثل عدد البنائين ببغداد. فأجابه بأشد من تعريضه.
وأبو العيناء من طرائفه مع ابن مكرم يسعى إلى إيلامه برده، بمقدار تألمه من هزله وجده، وهو إذا أراد أن يرسل الجواب لا يمنعه منه مانع، ولا يصده عنا صاد، لأنه يرى أن الحرية في الدفاع أجدر من الحرية في الهجوم!
ومهما اختلف الباحثون في تحليل نفسية هذا الظريف فستحملهم النصوص الكثيرة على الاتفاق على رقة دينه، إذ كان يتعرض للدين في مختلف المناسبات غامزاً لا يعبأ ولا يبالي. قال له العباس بن رستم يوماً: (أنا أكفر منك. فقال له: لأنك تكفر ومعك خفير مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دؤادوأنا أكفر بلا خفارة).
وأنا لا أصدق أن هذا من التظرف في شيء، إذ ما كان ليعترف بأنه يكفر بلا خفارة إلا لرقة دينه، وإن قوى الدين لا تسمح له نفسه أن يتظرف بشيء يتنافى مع الأدب في اعتقاده، بل يرى أن كل شيء يباح له الخوض فيه إلا الدين، فإن له حرمة لا يحل مسها لمخلوق. أما صاحبنا فيرى من الظرف والكياسة أن يتظاهر بمخالفة الدين. قال مرة: (أنا أول من أظهر العقوق في البصرة. قال لي أبي: يا بني، إن الله تعالى قرن طاعته بطاعتي، فقال: (أشكر لي ولوالديك) فقلت له: يا أبت إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك عليَّ، فقال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق).
وقد كتب أبو العيناء إلى صديق له ولي ولاية موعظة عجيبة أعتبرها وثيقة على ضعف دينه. واقرأ إذا شئت ما كتب (أما بعد فإني لا أعظك بموعظة الله لأنك عنها غني، ولا أخوفك إياه لأنك أعلم به مني، ولكني أقول كما قال الأول:
أحار ابن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذاً منها تخون وتسرق
وكاثر تميما بالغنى إنما الغنى ... لسان به المرء الهيوبة ينطق
وأعلم أن الخيانة فطنة، والأمانة حرفة، والجمع كيس، والمنع صرامة؛ وليس كل يوم ولاية، فاذكر أيام العطلة. ولا تحقرن صغيراً، فإن الدور إلى الدور، وإبلاء الولاية رقدة؛ فتنبه قبل أن تنبه. وأخو السلطان أعمى عن قليل سوف يبصر. وما هذه الوصية التي(773/17)
أوصى بها يعقوب بنيه؛ ولكن رأيت الحزم في أخذ العاجل، وترك الآجل).
وهكذا خلط أبو العيناء في هذه الموعظة العجيب أسلوبها كثيراً من الهزل في الجد، فما أحب لصاحبه الأمانة لأنها حرفة الخازنين، ولا كره لصاحبه الخيانة لأنها فطنة وذكاء، وما أحب له أن يجود بماله لأن في المنع صرامة وحزماً، ولا كره له أن يجمع القناطير المقنطرة لأن في كنزها أبهة وفخراً. فلينتهز فرصة ولايته فإنها لا تسنح دائماً، وليكسب ما استطاع من الغنائم ليكون حكيما حازماً، وليضم الصغير مع الكبير، وليلق القليل على الكثير، وليجمع الفتيل والقطمير، وليفتح عينيه على كل شيء دق أوجل، فربما تعطل بعد عمل، وربما أفل نجمه بعد أمل. أما الآخرة فنعيمها آجل بعيد، أين منه نعيم الدنيا القريب؟
أفرأيت أعجب من هذه الموعظة، وأغرب من هذه الوصية؟
أما إنها - على مسحة الهزل فيها - لدعوة صارخة إلى اجتياز حدود الدين التي تضع سداً بين واجب الإنسان وطمعه، وبين مسئوليته وجشعه، وتسلك به سبيل الزهد عن ظهر غنى، والعفاف على قوة وقدرة. فما كان أضعف دينك يا أبا العيناء! وما كان أشد تساهلك أيها الراوية الظريف!!. . .
- 6 -
وإذا أضفنا إلى انحلال تدينه سفاهة لسانه بطبعه وهجيراه أصبح واضحاً لدينا أنه كان متهالكا على إرضاء هواه وإشباع شهوته، وأنه ما كان ليتورع عن الخروج على أصلح التقاليد بنفسه بعد أن خرج عليها بتعبير لسانه، لأن عفيف النفس يأبى على ألفاظه أن تكون نابية؛ أما وقد ترك صاحبنا نفسه على سجيتها فلا بدع إذا كان خبيث اللسان؛ ثم لا غرو إذا كان خبيث العمل، ثم لا عجب إذا وصمه الناس بأنه مخنث، حتى قال له ابن الجهم يوماً: يا مخنث! فأجاب: (وضَرب لنا مثلاً ونسيَ خَلقه).
ولا يعنيني هنا أن أستمتع برده فما أنتظر من مثله غيره أو أقل منه، ولكني أشير إلى أن للناس فيما أطلقوا عليه من أوصاف ما جرأهم من أعماله وتصرفاته. وهذا - على ما أعتقد - من الأسباب الجوهرية التي جعلت حفاظ الحديث يحكمون بضعف ما رواه هذا الظريف، بل إن بعضهم قد رماه بالكذب والوضع؛ فالخطيب في تاريخه - بعد أن ذكر الذين رووا عنه: وهم أحمد ابن عيسى المكي، وأبو عبد الله الحكيمي، ومحمد بن يحيى الصولي،(773/18)
ومحمد بن العباس بن تجيح، وأبو بكر الآدمي القاري، وأحمد بن كامل القاضي - قال: ولم يسند من الحديث إلا القليل. والغالب على رواياته الأخبار والحكايات وروي عنه - لإظهار ضعفه - حديثاً ذكر سنده ثم حكم عليه بأنه غريب. وفي هذا الحديث أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بطائر فقال: اللهم آتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي فحجيته مرتين، فجاء في الثالثة فأذنت له. فقال: يا علي ما حبسك؟ قال: هذه ثلاث مرات قد جئتها فحجبني أنس. قال: لم يا أنس؟ قال سمعت دعوتك يا رسول الله، فأحببت أن يكون رجلا من قومي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل يحب قومه)
علق الخطيب على هذا الحديث بقوله: غريب بإسناده لم نكتبه إلا من أبي العيناء محمد بن القاسم عن أبي عاصم، وأبو الهندي مجهول - وهو أحد رجال السند - واسمه لا يعرف؛ ثم نقل عن أبي الحسن الدارقطني قوله: (أبو العيناء ليس بقوي في الحديث) وأكد هذا ابن حجر في (لسان الميزان) ثم روي عنه أنه قال: (أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك) وهذا الحديث الباطل من أساسه قد سبقت الإشارة إليه.
ولم يستحي أبو العيناء مدى حياته من تكرار رواية هذا الحديث الموضوع حتى قال إسماعيل بن محمد النحوي: (كان أبو العيناء يحدث بذلك بعدما مات الجاحظ).
وروي عنه ابن حجر أيضاً حديث (مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العين، ودواء العين ترك مسها) وعلق عليه بقول الدارقطني: (لم يروه غير أبي العيناء).
ولست أستغرب أن يضعفه حفاظ الحديث، فإن رجلا يعترف بجريمة الكذب على رسول الله ثم ينشر كذبه جدير به أن يتخيل ما شاء ليرضي ملكة الكذب المسيطرة على لسانه. وحريٌّ أن يضحك ما طاب له ليبقى ضاحكا مدى الحياة لذلك كان أسلوبه واحداً لا يتغير: فلسانه سليط مع الجميع، وربما كان أكثر تمكناً من الاسترسال مع العاديين من الناس لأنه لا يجد من الفارق بينه وبينهم ما يمنعه من التظرف كيف شاء.
قال له ابن الجماز يوماً: (هل تذكر سالف معاشرتنا؟ فقال: إذ تغنينا ونحن نستعفيك؟) وقالت له قينه: (هب لي خاتمك وأذكرك به. فقال لها: اذكري أنك طلبته مني ومنعتك)
وهو إذا استطاع أن يخفض من قدر محدثه ليكبر من قدر نفسه لا يتورع ولا يحتاط:(773/19)
اعترضه يوماً أحمد بن سعيد فسلم عليه فقال له أبو العيناء: من أنت؟ قال أنا أحمد بن سعيد. فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إليَّ من أسفل، فما له ينحدر عليَّ من علو؟ قال: لأني راكب. فقال: عهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله برغيف لأعضك بما تكره).
وهو يمازح من يعرف ومن لا يعرف، ومن يروق لعينه وقد لا يروق لأعين الناس، ولا يعنيه إلا أن يكون ضاحك السن، سواء أضحك منه الفؤاد أم بات في هم دفين.
وقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال: (من هذا؟ قال: رجل من بني آدم. قال أبو العيناء: مرحباً بك - أطال الله بقاءك - كنت أظن أن هذا النسل قد انقطع).
وهذه الدعابات قليل من كثير تجد بعضها في معجم الأدباء في ترجمة محمد بن القاسم أبي العيناء ونلمح في كل هذه الدعابات أو أكثرها إشارة عنيفة إلى تمرده على البشر، وتشاؤمه منهم، وقلة إيمانه بهم!
وجميل بنا أن نذكر أنه عاش فقيراً، ولكنه - على قلة ذات يده - كان يملأ قلبه العطف: يطعم المسكين، ويرحم الضعاف العاجزين، ويلذ أن يداعبهم كما يداعب غيرهم لعلهم يطربون: دعا سائلا ليعشيه فلم يدع شيئاً إلا أكله فقال له: (يا هذا، دعوتك رحمة فاتركني رحمة)
بيد أنه إذا اشتدت به الحاجة لا يسأل من أي سبيل يجمع ماله: قال أبو العيناء (مررت يوماً في درب بسرَّ من رأى فقال لي غلام: يا مولاي في الدرب حَملٌ سمين والدرب خال. فأمرته أن يأخذه، وغطيته بطيلساني وصرت به إلى منزلي. فلما كان من الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك: ضاع لنا بالأمس حَمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أخذته، فأمر برده متفضلا. فكتبت إليه: يا سبحان الله! ما أعجب هذا الأمر! مشايخ دربنا يزعمون أنك بغَّاء وأكذبهم أنا ولا أصدقهم، وتصدق أنت صبيان دربك أني أخذت الحمل؟ قال: فسكت ولم يعاودني).
وهو في العداوة خصيم مبين: يشمت ويتمنى الشر والضر. مر يوماً على دار عدو له فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا: كما تحب قال: فما لي لا أسمع الرنة والصياح؟)
وعلى كل حال، فقد كان هذا الشاعر الظريف من هؤلاء الأفراد الضاحكة وجوههم الباكية(773/20)
قلوبهم، الذين نرى ظواهرهم لاهية، ويرون حقائقهم قاسية. وكأنما رأى أن الهزل يسرِّي عنه بعض ما يجده، فبقي يضحك الناس عمرا طويلاً حافلاً، وكان خير ما أرضاه أنه أراد أن يستوي على عرش الهزل استيلاء الحاكمين على عرش الجد، فكان له ما أحب منذ بلغ أشده حتى رد إلى أرذل العمر فمات.
وبعد، فكأنما كان هذا الظريف - حتى في شيخوخته - يعاند الدهر ولا يريد أن يموت: فقد ركب سنة ثلاث وثمانين ومائتين سفينة إلى البصرة وكان فيها ثمانون شخصاً، فغضبت العاصفة غضبتها، وثارت الأنواء ثورتها، فحطمت السفينة وأغرقت ركابها، فما نجا منهم سوى أبي العيناء إذ تعلق بطرف الزورق فأخرج حياً لكنه لم يستطع أن يعاند الدهر من جديد فقد عاجلته منيته في هذه السنة فمات كما جزم المسعودي في (مروج الذهب)
مات وما زال الظرفاء يتندرون بمداعبات أبي العيناء؟
مات فسكت ذلك اللسان السليط، وشلت تلك الحركة التي لا تعرف السكون!
ولكن. . . لقد عاش هذا الظريف ضاحكا طول الحياة، حتى إذا حضر الموت أرسل دمعة أو دموعاً وهو يودع الدنيا قائلا:
يا ويح هذي الأرض ما تصنع ... أكل حي فوقها تصرع؟
تزرعهم حتى إذا ما أتوا ... أشدهم تحصد ما تزرع!
وبعد، ففي كنوز الأدب العربي لآلئ نادرة كأبي العيناء، خليق بأيدينا أن نقع عليها لنخرجها لشبابنا الناهض فتسحر القلوب وتخطف الأبصار.
صبحي إبراهيم الصالح(773/21)
من شواهد النبوة
المتنبئون
للأستاذ علي العماري
(تتمة)
وثالث الأسباب التي دفعت بعشائر المتنبئين وأصحابهم إلى الصبر والصدق في حروب المسلمين الطمع في الملك والرغبة في السيادة. ولقد عرف المتنبئون كيف يأكلون الكتف، فهم إن فاتهم - إحكام الكذب في دعواهم لم يفتهم استمالة أقوامهم بما يطمعونهم فيه من ملك العرب. وهذا أمر قد استقام لكل المتنبئين، فأما مسيلمة فقد ابتدأ أمره بأن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فأني قد أشركت معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون) فرد عليه النبي (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من أتبع الهدى. أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين) فلما جاءه كتاب الرسول أخفاه، وكتب عنه كتاب زعم أنه وصله بثبوت الشركة بينهما، وأخرج ذلك الكتاب إلى قومه فافتتنوا به. وبهذا - إلى جانب ما قدمناه من أسباب - استطاع عدو الله أن يسخر هذه الآلاف المؤلفة في حرب مبيده. وأما طليحة فقد ذكروا أن مما سجع به قوله (الحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام). وسواء أصحت هذه المقالة أم لم تصح فإنها تدلنا على كل حال على الفكرة التي كان يبثها طليحة في قومه، وهي أنهم إنما يطلبون الملك، وسينالونه. وسجاح ما كان لها أن تجرر وراءها سادات قومها من تميم، ووجوه أخوالها من تغلب ألا بهذه الأمنية الجذابة: (إنما أنا امرأة من يربوع، فإن كان ملك فهو لكم) إذن فقد كانت العصا السحرية التي أمسك بها هؤلاء المتنبئون هي التلويح بالملك والسيادة لهؤلاء العرب الظامئين إلى السلطان. ولقد ألم الرافعي رحمه الله في كتابه (إعجاز القرآن) ببعض هذه الأسباب التي شرحناها. قال بعد الكلام عب بعض المتنبئين: (على أنه لا اتباع له من غير قومه، ولا يشايعه من قومه ألا طائفة يستنفرون لأمره، ويعطفون عليه جنبات الناس حتى يجمعوا له أخلاطا وضروبا،(773/22)
وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصيبة، وحدبا من الطباع على الطباع، فهم في غنى عن نبوته وقرآنه، وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة مقارنة لمن قارب صاحبهم، ومباعدة لمن باعد، وعسى أن يرد عليهم ذلك مغنما، أو ينفلهم من غيرهم، أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة، أو يكون لهم سبيل منه إلى التوثب، أن صادفوا غرة، وأصابوا مضطربا إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة، ويعزبه الغرور، ويقصد إليه بالسبب الواهي، وبالحادث الضئيل، وبكل طائفة من الرأي وبقية من الوهم، وتستوي فيه الشمال واليمين، وتتقدم فيه الرؤوس والأرجل، مبادرة لا يدري أيهما حامل وأيهما محمول)
يضاف إلى كل ذلك ما ذكره ابن خلدون من أن بعض هؤلاء المتنبئين وأنصارهم كان يطمع في النبوة، فلما لم تجئه عاند قال في فصل بعد الكلام على الكهان: (ثم إن هؤلاء الكهان إذ عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة، ولا يصدهم عن ذلك ويوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبوة لهم فيقعون في العناد، كما وقع لأمية بن أبي الصلت، فإنه كان يطمع أن يتنبأ. وانقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي وسواد بن قارب، وكان لهما الفتوحات الإسلامية الآثار الشاهدة بحسن الإيمان).
قلنا في المقال السابق إن التنبؤ في العصر العباسي كان جنونا، فإن لم يكن فهو الحمق لا شك فيه، وإنما دعانا إلى هذا القول أنا وجدنا جمهرتهم غير جادين في هذا الإدعاء، فلا أنصار ولا اتباع ولا غايات عظيمة يقصدون إليها، كما كان هذا شأن أصحابهم السابقين، ولذلك فإنا لا نلم بأخبارهم مؤرخين، وإنما نلم بشيء منها فيه طرافة يستريح إليها الدارس، ويستمتع بها القارئ، فإن أخبارهم كما يقول صاحب العقد الفريد (حدائق مونقة، ورياض زاهرة، لما فيها من طرفة ونادرة، فكأنها أنوار مزخرفة أو حلل منشرة، دانية القطوف من جاني ثمرتها، قريبة المسافة لمن طلبها، فإذا تأملها الناظر، وأصغى إليها السامع، وجدها ملهى للسمع، ومرتعا للنظر، وسكنا للروح، ولقاحا للعقل، وسميراً في الوحدة، وأنيساً في الوحشة) وإنما كان الأمر كما يقول ابن عبد ربه لأن في أخبارهم الغريب المطرب، والطريف المعجب، بل إن ادعاءهم النبوة نفسه كان مما يضحك الثكلى، ويسري عن المحزون، لأنه اقترن بحمق وسخف. وحسبكم بقوم يفترون على الله الكذب، ويزعمون أنه(773/23)
أرسلهم زورا وبهتانا، دون أن يكمن وراء ذلك ما يكون كفاء لهذه الكذبة البلقاء، ليس ببعيد عندي أن الإخباريين اختلقوا وتزيدوا، وأرادوا مادة للسمر والتفكه فالتمسوها في المجانين، والحمقى، وفي هؤلاء. ولعل اختيارهم لهذا النوع كان اختياراً موفقا إلى حد بعيد. نعم روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون رجلا كلهم يدعي النبوة. ولكن نحن لا ننكر أن قوماً ادعوا النبوة كما أنا لا نسلم - كذلك - أن هذه الأخبار كلها وقعت بالفعل. ومهما يكن من شيء فإن أحق جانب بالنظر في أخبار هؤلاء هو جانب الفكاهة والممالحة. على أن أصحاب السمر لم يخلوا المتنبئين القدامى من لاذع نكاتهم. وما أشك في أن قصة زواج مسيلمة بسجاح وأنه اختدعها عن نفسها وأمهرها بإقساط صلاتين عن قومها، ما أشك في أن هذه القصة وضعها مازح مفحش خبيث.
أما أخبار متنبئ العصر العباسي فإنها تدلنا في جملتها على أنهم كانوا على حظ عظيم من الحيلة وحسن التخلص أو هكذا أراد لهم الوضاع.
ادعى رجل النبوة في عهد المهدي فأدخل عليه فقال: أنت نبي؟ قال: نعم. قال: متى نبئت؟ قال: وما تصنع بالتاريخ؟ قال: ففي أي المواضع جاءتك النبوة؟ قال: وقعنا - والله - في شغل! ليس هذا من مسائل الأنبياء، إن كان رأيك أن تصدقني في كل ما قلت فاعمل به، وإن كنت عزمت على تكذيبي فدعني أذهب عنك. فقال: المهدي: هذا لا يجوز؛ إذ كان فيه فساد الدين، قال: وا عجبا! تغضب لدينك لفساده، ولا أغضب أنا لفساد نبوتي؟ ثم قال المهدي: أحاكمك فيما جاء به من قبلي من الرسل، قال: رضيت، قال أكافر أنا عندك أم مؤمن؟ قال: كافر، قال فإن الله يقول: (ولا تطع الكافرين والمنافقين، ودع أذاهم) فلا تطعني ولا تؤذني، ودعني أذهب إلى الضعفاء والمساكين فإنهم أتباع الأنبياء، وأدع الملوك والجبابرة فإنهم حطب جهنم. فضحك المهدي وخلى سبيله.!!
وإذا كان هذا لجأ إلى آية من كتاب الله يستند إليها ويتخلص بها فإن غيره كان يعتمد على النكتة البارعة، والأضحوكة الآخذة، يتلمس بها الخلاص من قبضة الخليفة وبطشه. . . أتى المأمون بإنسان تنبأ فقال له: ألك علامة؟ قال: نعم. علامتي أني أعلم ما في نفسك! قال المأمون: قربت علي، ما في نفسي؟ قال: في نفسك أني أكذب! قال: صدقت، وأمر به(773/24)
إلى الحبس، ثم أخرجه بعد أيام، فقال: هل أوحي إليك بشيء؟ قال: لا. قال: ولم؟ قال: لأن الملائكة لا تدخل الحبس! فضحك المأمون ثم أطلقه.
وجيء بمتنبئ - مقيدا - إلى سليمان بن علي فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: أما الساعة فأني مقيد. قال: ويحك! من بعثك؟ قال: أبهذا تخاطب الأنبياء يا ضعيف، والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل أن يدمدمها عليكم. قال: فالمقيد لا تجاب له دعوة؟ قال: نعم. الأنبياء خاصة إذا قيدت لم يرتفع دعاؤها.
ولا أدري ما الذي حمل الإخباريين على أن يشقوا لكل متنبئ طريق النجاة إن لم تكن الدعابة هي غايتهم؟! على أنهم إذا أوقعوا أحدهم في مكروه التمسوا الفكاهة في ناحية أخرى من خبره. ادعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القسري الوالي الأموي وعارض القرآن، فأتى به خالد، فقال له ما تقول؟ قال: عارضت في القرآن ما يقول الله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل كافر وساحر. فأمر به خالد فضربت عنقه وصلب، فمر به أحد الظرفاء فقال: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، وأنا ضامن ألا تعود.
هكذا كانوا يتندرون بهم، ويسخرون منهم، ونحن لا نجد في عصرنا من يدعي الألوهية في الدين وفي غير الدين، فهل يصلي هؤلاء على عود؟!
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى معهد العلمي بأم درمان(773/25)
من أدب العراق
المرأة في شعر الرصافي
للشيخ محمد رجب البيومي
حيا الله الشعر العربي، فلقد آزر النهضة الشرقية أتم مؤازرة، فأيقظ عيوناً نائمة، وأسمع آذانا موصدة، وطاح بجبابرة قساة، وأدوا الكرامة الإنسانية، وأزهقوا العزة القومية، كما أسدلوا على الشرق الصريع ستورا مظلمة مخيفة، تنصب خلفها المكائد الدنيئة، ويتحبر في ليلها الحالك شياطين البغي والاستبداد.
ولقد كان الرصافي رحمه الله في طليعة هؤلاء العباقرة المجاهدين، فقد اتخذ من يراعه القوى صارما بتارا، تنقل به من معركة إلى معركة، فهو في ميدان السياسة يشن الغارة على السرطان الاستعماري، ويقف في وجه الطاغوت التركي؛ وهو في ميدان الاجتماع يحث على التعليم المنتج، ويدعو إلى الأخلاق الرفيعة، كما تراه يتغنى بماضي الشرق الزاهر، ويندب حاضره المنكود، حتى أثمر جهاده أي إثمار، فهب العالم العربي ينقب عن تراثه الضائع، ويستعيد مجده المغصوب.
وسأحاول اليوم أن أكشف عن أثر الرصافي في النهضة النسوية، كما أبين شعوره نحو المرأة كانسان ناضج، وكيف أوحت إليه من المعاني والأخيلة ما ارتسم واضحاً في مرآة شعره. ولا عجب فقد وجدت لزاماً بعد أن وقفت على مجهوده الموفق في هذا السبيل أن أتحدث عنه إلى القراء.
لم تكن حال المرأة في العراق خيراً منها في مصر، بل كان الحجاب والجهل من لوازمها الأكيدة في كلا القطرين، فارتفعت الدعوة بتحريرها أولا في ربوع النيل، واحتدم الجدال بين الأنصار والخصوم، فكانت معركة طاحنة تردد صداها في ربوع العراق، فنهض الرصافي والزهاوي للمطالبة بحق الفتاة، وتصديا للهجوم العنيف بما يملكان من بيان، فكانت المقالات الضافية، والقصائد الرنانة، تعبر عن آرائهما الجديدة في جرأة وعنف، وواصل الرصافي جهوده، فتألب عليه الجمهور، وتعقبه الحاكم التركي في غدوه ورواحه، وهو لا يفتأ يناضل عن حق اعتقده ويقوض أركاناً عتيدة يراها غير صالحة للبقاء!
كان قاسم أمين في مصر صاحب الرأي الأول في حركته التحريرية، وكان الشعراء(773/26)
والمثقفون يسيرون وراءه في كثير من التحفظ والاحتياط، أما في العراق فقد كان معروف وجميل يقومان بعبء قاسم في حماسة يصل بها إلى الثوار والاندفاع، ومن هنا كانت مكانتهما الاجتماعية في بغداد أقوى من مكانة شوقي وحافظ ومطران في مصر، والفرق بين هذين وهؤلاء فرق ما بين الخطيب والمصفقين مع التسامح اليسير!!
على أن الرصافي كان في دعوته يعدد أساليبه الشعرية، فلم يسر على نمط واحد في قوافيه، فتارة يعمد إلى العاطفة، فيرسم لك صورة قاتمة لبائسة جاهلة، قضت عمرها سجينة مغلولة، حُرّم عليها العلم فهو أرفع من أن يهبط إلى مستواها الوضيع، وأذلها الفقر فهي تئن تحت براثن الجوع، ثم ضرب حولها الحصار المنيع فهي لا تسعى إلى طلب القوت. ويتساءل بعد ذلك: في أي طريق تسير؟ والعيون راصدة، والفاقة قاتلة، اسمعه يقول
لم أر بين الناس ذا ظلمة ... أحق بالرحمة من مسلمه
منقوصة حتى بميراثها ... محجوبة حتى عن المكرمه
قد جعلوا الجهل صوانا لها ... من كل ما يدعو إلى المأثمه
والعلم أعلى رتبة عندهم ... من أن تلقاه وأن تعلمه
ما تصنع المرأة محبوسة ... في بيتها إن أصبحت معدمه؟
ضاقت بها العيشة إذ دونها ... سدت جميع الطرق المعلمه
كم في بيوت القوم من حرة ... تبكي من البؤس بعيني أمه
قد لوحت نار الطوى وجهها ... وأعمل الفقر بها ميسمه
عاب عليها قومها ضلة ... أن تكسب القوت وأن تطعمه
من أي وجه تبتغي كسبها ... وطرقها بالجهل مستبهمة؟
وتارة يعمد الشاعر إلى الأدلة الخطابية، فيسهل الغاية، ويتفادى العاقبة حيث يستغني بالحياء عن الحجاب، وبالتهذيب والدراسة عن اللثام، ثم يغضب أن يكون رجالنا ذئابا متنمرة، ونساؤنا نعاجا مستكينة، ويقيم البرهان على تأخر الشرق بتأخر فتياته، فهن جزؤه المفلوح، ونصفه الأشل، فكيف يضمن البقاء على حاله بدون تناسب، والقاعدة غير ذلك؟ إنه يقول:
شرف المليحة أن تكون أديبة ... وحجابها في الناس أن تتهذبا(773/27)
والوجه إن كان الحياء نقابه ... أغنى الفتاة الحي أن تتنقبا
واللؤم أجمع أن تكون نساؤنا ... مثل النعاج وأن تكون الأذؤبا
والشرق ليس بناهض إلا إذا ... أدنى الرجال من النساء وقربا
فإذا ادعيت تقدما لرجاله ... جاء التأخر للنساء مكذبا
من أين ينهض قائماً من نصفه ... يشكو السقام بفالح متوصبا
كيف البقاء له بدون تناسب ... والدهر خصص بالبقاء الأنسبا
ولا ينسى الشاعر في دعوته التحريرية ضغنه على المستعمرين، فهو يرجع التوغل الاحتلالي إلى الأمهات وحدهن، حيث كن إماء جاهلات، فلم ينشئن أولادهن على العزة والكرامة، فهانت نفوسهم، وتحملوا جور الدخيل وتعسف الغريب، وكأنه أصطاد عصفورين بحجر واحد حين قال:
أضافوا عليهن الفضاء كأنما ... يغارون من نور به وهواء
ولو أنهم أبقوا لهن كرامة ... لكانوا بما أبقوا من الكرماء
ألم ترهم أمسوا عبيداً لأنهم ... على الذل شبوا في حجور إماء
وهان عليهم حين هانت نفوسهم ... تحمل جور الساسة الغرباء
وقد اشتهرت قصيدة معروف الرصافي التائية شهرة واسعة فتناقلتها الصحف المختلفة، وسجلتها الكتب المدرسية مرات عديدة، لأن ناظمها واضح صريح، يذكر حجج الخصوم ويدفعها بالمنطق العقلي، والدليل التاريخي. ولأمر ما تذكرني هذه القصيدة الرائعة بأخت لها ن؟ مها حافظ رحمه الله في موضوعها الهام، وكان لها من الشهرة ما لقصيدة الرصافي، ولكن روح معروف أكثر اتقادا، وتفكيره أوسع أفقا، وإن اجتمعا معا في السلاسة والعذوبة. وكلا الشاعرين قد بدأ موضوعه بالدعوة إلى الفضيلة، والتمدح بمكارم الأخلاق، فقال الرصافي
هي الأخلاق تنبت كالنبات ... إذا سقيت بماء المكرمات
تقوم إذا تعهدها المربي ... على ساق الفضيلة مثمرات
وتسمو للمكارم باتساق ... كما اتسقت أنابيب القناة
وتنعش من صميم المجد روحاً ... بأزهار لها متضوعات(773/28)
وقال الحافظ:
أني لتطربني الخلال كريمة ... طرب الغريب بأوبة وتلاقي
ويهزني ذكر المروءة والندى ... بين الشمائل هزة المشتاق
ما البابلية في صفاء مزاجها ... والشرب بين تنافس وسباق
يا ألذ من خلق جميل طاهر ... قد مازجته سلامة الأذواق
ومضى معروف فشبه الأم بالمدرسة، وقارن بين ابن المتعلمة وابن الجاهلة، فشبه هذا بنبت الفلاة، وذاك بزهر الرياض؛ واستعان بخياله، فجعل صدر الفتاة لوحاً بديعاً تتراءى فيه صور الحنان الدافق، ثم دلف إلى آراء المحافظين فدحضها في هدوء وبساطة، وبين موقف الشريعة الإسلامية من المرأة وكيف أخطأ الجامدون فنسبوا إلى الدين ما ليس منه، واستدل بعائشة أم المؤمنين وما كانت عليه من فصاحة وفقه، ثم عاد يتساءل في تبرم
فما للأمهات جهلن حتى ... أتين بكل طياش الحصاة
حنون على الرضيع بغير علم ... فضاع حنو تلك المرضعات
نرى جهل الفتاة لها عفافاً ... كأن الجهل حصن للفتاة
ونحتقر الحلائل لا لجرم ... فنؤذيهن أنواع الأذاة
لئن وأدوا البنات فقد قبرنا ... جميع نسائنا قبل الممات
حجابهن عن طلب المعالي ... فعشن بجهلهن مهتكات
وقالوا إن معنى العلم شيء ... تضيق به صدور الغانيات
وقالوا شرعة الإسلام تقضي ... بتفضيل الذين على اللواتي
لقد كذبوا على الإسلام كذبا ... تزول الشم منه مزلزلات
أأم المؤمنين إليك نشكو ... مصيبتنا بجهل المؤمنات
فتلك مصيبة يا أم منها ... (نكاد نغص بالماء الفرات)
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي(773/29)
2 - الأعلام
أحمد فتحي زغلول باشا
(في مارس الماضي مضى على وفاة أحمد فتحي زغلول باشا
34 عاماً)
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
ولد أحمد فتحي زغلول في قرية أبيانة بمديرية الغربية في ربيع الأول سنة 1289 هجرية، وكان أصغر أنجال الشيخ إبراهيم زغلول أحد الأعيان البارزين في تلك القرية، ولكنه حرم حنان الوالد وعطفه؛ إذ مات والده وتركه رضيعاً لم تتفتح عيناه للحياة بعد، وكان شقيقه سعد زغلول فطيما، وكانت والدتهما - وهي إحدى عقائل عائلة بركات - لا تزال شابة لا تتجاوز العشرين، فمنحت شبابها لولديها اليتيمين، ووقفت نفسها على تربيتهما تحت رعاية أخيهما الكبير لأبيهما الشناوي زغلول الذي عني بتعليمهما على ما كان معهوداً في تعليم أولاد الأعيان يومذاك، وكان أن نفع الله بالطفلين اليتيمين على خير ما يكون النفع للأمة والوطن، فصار سعد إلى ما صار إليه في زعامة الأمة وقيادتها، وانتهى فتحي إلى ما انتهى إليه، دعامة من دعائم الإصلاح التشريعي والاجتماعي، ومنارة تهدي ركب الأمة إلى سواء السبيل.
ولم يكن أسمه أحمد فتحي، وإنما كان أسمه فتح الله صبري، هكذا سماه والده، وهكذا عرف في حياته الأولى، حتى انتهى من مراحل التعليم في كتّاب القرية، وفي مدرسة رشيد الابتدائية، ثم المدرسة التجهيزية، ودخل مدرسة الألسن وصادف أن زار أحمد خيري باشا ناظر المعارف يومذاك تلك المدرسة، فأعجب بذكاء الشاب فتح الله صبري، وأدهشه ما لمس فيه من نبوغ خارق، فخلع عليه أسم أحمد، ونحت من (فتح الله) أسم فتحي، وهكذا سماه أحمد فتحي، وأصدر أمره إلى المدرسة بقبوله بالمجان، ورد ما دفع من المصاريف إليه، وكانت هذه أول شهادة بالنبوغ لفتحي زغلول. . .
وتخرج فتحي متفوقاً في دراسته، فأرسلته نظارة المعارف سنة 1884 إلى فرنسا لدراسة الحقوق، وقد رجع في سنة 1887 بعد أن حصل على شهادة الليسانس في القانون؛ فعين(773/30)
بقلم قضايا الحكومة، ثم رقي رئيساً لنيابة الإسكندرية، ثم مفتشاً بلجنة المراقبة، ثم رئيساً لمحكمة الزقازيق فرئيساً لمحكمة مصر، ثم اختير وكيلا لنظارة الحقانية، وقد ظل في هذا المنصب حتى انتقل إلى جوار ربه. . .
تلك كانت حياة فتحي زغلول في مناصب الحكومة، وهي حياة يمكن للمؤرخ أن يجملها في سطور، وما كانت حياة الوظيفة في يوم مجال عبقرية ولا مظهر نبوغ، وإنما كان مجال عبقرية فتحي ومجال نبوغه في ناحية الإصلاح التي رادها، والتي رأى في انتهاجها خدمة للوطن ونفعاً للأمة وإفادة لشباب طامح يتوثب للنهوض، وينشد الحياة المهذبة الكريمة. فما هو ذلك المجال الذي اختاره فتحي للعمل، وآثره بجهوده ونبوغه؟
يقول فتحي باشا في كلمة من كلماته: (إن من يخبر حال هذه الأمة ويقف على كنه خلقها، ويعرف جيداً حقيقة خصالها ويدرك الصحيح من آمالها، وينعم النظر في أعمالها، يقتنع بأن التربة زكيه لا يفسد زرعها إلا شيء من البذور الرديئة، وبأن الخلق الكريم يغشاه ستار من عدم العلم التام بالواقع، وبأن الآمال كبيرة شريفة لكنها مشوبة بشكوك وأوهام تطوح بنا يوماً ذات اليمين ويوماً ذات الشمال. أما أعمالنا فثمرة هذا وذاك، نهتاج والسكون واجب، ونلهو وكل النجاح في العمل، وما كان شيء من كل هذا يكون لولا خطأ في تقدير حقيقة حالنا، وعدم التفات إلى حركة البيئة التي نحن فيها، ونسيان لشيء كثير من الماضي ولهو عن الحاضر وعدم اهتمام بما هو آت. ومحال أن تدوم هذه الحال، فلا بد لنا من إعداد العدة اللازمة لهذا التحول، وما هي إلا العلم؛ فإن العلم سلم الأمم إلى الحضارة، وكاشف ظلمات الجهل، ومسدد الآراء، ومنجح كل مجهود، وهو الذي ينفي الضمائر، ويجمع شمل المتفرقين، ويطهر السرائر، ويوحد كلمة المتنافرين، وينير البصائر فيهدينا إلى أن التآزر شرط النجاح، وأن يد الله مع الجماعة، وأن التباغض مجلبة الشر وأن التنابذ سبيل إلى الذلة). . .
هذا هو ما رآه فتحي في تشخيص داء الأمة، وتقدير الدواء لها، وعلى هذا اندفع ينشد العلم الصحيح لشفاء الأمة من دائها. العلم الذي (ينقي الضمائر، ويطهر السرائر، وينير البصائر)، العلم الذي (يقوم الأخلاق ويبصر الأمة بما لها من حقوق، وما عليها من الواجبات)، وبين غسق القرن الماضي، وغلس القرن الحاضر كانت تهز حياة الأمة(773/31)
دعوات الإصلاح المتتالية، فكان الأستاذ الإمام محمد عبدة يدعو دعوة الإصلاح في الناحية الدينية، وكان مصطفى كامل يحمل لواء الوطنية، وكان قاسم أمين يدعو إلى النهوض بالمرأة المصرية، وكانت هذه الدعوات يكتنفها ما يكتنفها من الضجيج والتدافع. أما فتحي زغلول فقد وقف في ميدانه ينادي: (علموا الأمة، علموا الأمة)، وانتحى من ذلك ناحية هادئة، فعكف على التأليف والترجمة، ونقل الآثار النافعة، حتى يقيم من ذلك دعامة للأمة تنهض عليها إلى ما تنشده من الحرية والكرامة وقوة الشخصية.
وكان فتحي زغلول رجل ارتقاء لا رجل ثورة كما يقول أحمد لطفي السيد باشا، وكان يرى أن الوصول في الإصلاح إلى نتيجة مضمونة يقتضي إدراك الحقوق والواجبات؛ حقوق الفرد وواجباته، وحقوق الأمة وواجباتها، ولهذا ابتدأ سنة 1888 على أثر عودته من فرنسا يترجم كتاب (العقد الاجتماعي) لروسو، ولكنه بعد أن قطع فيه شوطاً بعيداً تجاوزه، وأقبل على ترجمة كتاب (أصول الشرائع) لبنتام فأتمه وأصدره بعد فترة وجيزة، ثم مضى في الترجمة والتعريب، فعرب كتاب (خواطر وسوانح في الإسلام) للكونت هانري لأدمون ديمولان، و (روح الاجتماع) و (سر تطور الأمم) و (جوامع الكلم) و (حضارة العرب) لجوستاف لوبون، و (خطاب مصطفى فاضل باشا إلى السلطان عبد العزيز) و (كتاب يورجار في الاقتصاد السياسي)، و (جمهورية أفلاطون) و (القرد ضد المملكة) لسبنسر.
ومن هذه الكتب ما تم تعريبه وطبعه، ومنها ما تم تعريبه ولم يطبع، ومنها ما تركه رهن الإنجاز والإتمام ولا ندري ما صنعت به الأيام.
أما في مجال التأليف فقد ترك (كتاب المحاماة) و (شرح القانون المدني) و (رسالة في التزوير)؛ كما ألف كتاباً (في التربية العامة) فأتمه ولكنه لم يطبع فيما علمت. وهناك كتاب وهو كتاب (حاضر المصريين وسر تأخرهم) الذي ظهر سنة 1902 من تأليف (محمد عمر)، وكتب مقدمته فتحي باشا، فإن بعض العارفين يعزون تأليف هذا الكتاب إلى فتحي زغلول باشا، ويقولون إنه أخرجه على نسق كتاب (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الذي ترجمه، ولكنه لم يضع اسمه عليه إيثاراً للسلامة نظراً لما تضمنه الكتاب من نقد شديد لاذع. . .
وكان لفتحي باشا في التعريب طريقة آثرها وارتضاها. كان يقرأ الكتاب ويأتي عليه جملة،(773/32)
ويتشرب روح المؤلف ويتقمص شخصيته ثم يأخذ بعد ذلك في التعريب. قال أحمد لطفي السيد باشا: (ولفتحي باشا في تعريبه شخصية تامة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني. أما نحوه في التعريب فليس هو الالتزام الحرفي للأصل، ولا المجافاة للأصل، ولكن نحوه بين ذلك وسط مرض. وأما أسلوبه فهو عربي خالص لا يعني فيه بفضلة الزخرف والمحسنات اللفظية، ولكنه مع ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جداً).
أما شخصية فتحي باشا فكانت شخصية العالم؛ فالهدوء والرزانة، والإخلاص للعمل، وأداء الواجب قبل كل شيء، والابتعاد عن مجال الضجيج والصخب. كل هذه كانت صفاته الظاهرة، حتى أنه لم يكن يرى في ميدان الحياة العامة إلا قاصداً لعيادة مريض، أو مواساة رفيق، أو متوجهاً لرد زيارة، أو مشاهداً لحفلة أنس لا بأس أن يجد فيها شيئاً من الرفاهية، وما عدا ذلك فكل وقته بين الدفاتر والقماطر، والتحرير والتحبير، كأنه كان يتعجل إنجاز مهمته قبل أن تعجله المنية. قال صديقه أحمد لطفي السيد باشا فيما رواه عنه:
(ما أنس لا أنس إذ دخلت إلى فتحي باشا في داره بهليو بوليس في يوم حر ذي لوافح محرقات. دخلت إليه وقت الهاجرة فوجدته على مكتبه، وأمامه أوراقه منثورة، وكتبه مفتوحة، يقرأ ويراجع، ويعرب ويكتب، كذلك دأبه لا ينقطع عند خلوه من عمله الرسمي إلى عمل واحد بعينه، كأن عادته في العدل بين الناس جعلته يعدل في تقسيم فراغه بين المقاصد العلمية المختلفة. أو كأنه يجد في الانتقال من عمل إلى عمل راحة وتنشيطاً. فقلت له: أتلك هي رياضتك في الإجازة وراحتك في حمارة القيظ؟ فقال وهو يبتسم: نعم هذه رياضتي. فخلفته فيما يظنه رياضة، ويتخيله سعادة، وخرجت أحمد الله على أن منا من ينفق صحته وملكاته ووقته في سبيل العالم).
هكذا عاش أحمد فتحي زغلول باشا للعلم، وفي سبيله أنفق صحته ووقته وجهده، وفي عام 1913 م أدرك أهل الفضل مدى ما أدى الرجل في هذه السبيل من مآثر ومفاخر، فأقاموا له حفلة تكريم خطب فيها أعلام القانون والبيان فأشادوا بأياديه وجهوده في خدمة التشريع والعلم، وكم كان الأسف بالغاً إذ لم تمض على ذلك شهور اختاره الله إلى جواره في 27 مارس سنة 1914، فكان الذين اجتمعوا لتكريمه؛ هم الذين اجتمعوا لتأنيبه. ولقد مضت على وفاة ذلك العالم الجليل أربع وثلاثون عاماً وما زالت الثروة العلمية التي خلفها خير(773/33)
زاد يقدم لأبناء الأمة في فترة الانتقال التي يواجهونها، وإن من المؤلم أن تبقى بعض الآثار التي خلفها فتحي باشا ولم يمهله الرحمن حتى يقوم بإذاعتها مطوية إلى اليوم.
محمد فهمي عبد اللطيف(773/34)
فلسفة حياة
الاعتراف بالعيوب
للأستاذ محمد خليفة التونسي
من العيوب ما يدل الاعتراف به عند الضرورة على شجاعة صاحبه ومعرفته الصادقة بنفسه، ومنها ما يكون إظهاره ضرباً من ضروب القحة، ومظهراً من مظاهر الاستهتار، ولا ضرورة تلجئ الإنسان إلى الاعتراف بهذه العيوب.
والنوع الأول متصل غالباً بطبيعة الإنسان، والنوع الثاني متصل بوقائعه التي سقط فيها وآثامه التي ارتكبها.
وحسب الإنسان بلاء أن يعرف الناس من ضعفه ما لا يقدر على إخفاءه، وألا يزيدهم من كشف عوراته وتقديم الشواهد التي لم يروها حتى أراهم إياها، ولم يطلعوا عليها حتى حدثهم بها.
من المفيد لمن يحاول إصلاح نفسه أن يعرف عيوبها ليسهل عليه علاجها، ومن العبر المفيدة للناس أن يروا أمامهم إنساناً ذا نقائص استطاع أن يبرئ نفسه منها، أو تفوق في حياته عليها ونجح معها، فإن هذه العبر تبعث فيهم التفاؤل فتبعثهم على البحث عن نقائصهم وطلب السلامة منها ومحاولة علاجها بطريقة هذا الإنسان أو بطريقة أخرى تلائمهم.
على أن من القحة والاستهتار، والتمادي في التهتك والفجور أن يذكر الإنسان نقائصه وخطاياه في معرض المباهاة والفخار، أو حباً فيما يسمى الصراحة، بينما هو لا يقصد من وراء ذكرها التغلب عليها، والكشف عن عواقبها الوخيمة، وأن تكون عبرة له أو عبرة لغيره.
وما نفع الناس من أن يعترف لهم إنسان بعيوبه دون مطمع إلا أن يصفوه بالصراحة أو الشجاعة أو الإنصاف ونحو ذلك بينما هو في مأمن منهم مهما صلحت الأحوال بينهم وبينه، إذ لا موثق له ببقائها على صلاحها، فهو - حين يعترف لهم بعيوبه - يكشف عن مقاتله لمن لا يستحيل ولا يستبعد أن يناصبوه العداوة والكيد.
ربما كان أقل ما يبتلى منهم أن يقابلوه بالاشمئزاز والاحتقار، وندر أن يكون فيهم من(773/35)
يقابلون عيوبه بالعطف والرثاء، وأندر من ذلك أن يكون فيهم من يلقاها بالعلاج والإصلاح.
إن لم يكن بد للمريض بداء الكلام من الثرثرة فليثرثر بما ليس من عيوبه، فإن لم يكن له بد من الثرثرة بها فلمن يتيقن لديه علاجها أو الوقاية من عواقبها، فيكون مثله أمامه مثل المريض أمام الطبيب الحاذق الأمين حين يفضي إليه بأوجاعه دون خجل ولا ريبة، فالاعتراف على هذا النحو عون للطبيب على فهم مرضه وتمكين له من إبرائه منه، أو تخفيف آلامه عنه. وفي هذا صلاح له.
فإن لم يجد الإنسان هذا الطبيب الحاذق الأمين ولم يكن له بد من الثرثرة فعليه بمن يترقب عنده مقابلة عيوبه بالفهم والعطف ليحسن له الاعتذار والعزاه، فيمده بالثقة والأمل ويكون مثله عنده مثل الابن عند أبيه المشفق الأمين، يخطئ ابنه فيلقي خطاياه بالحنان والتسلية ولو لم يلقها بالإصلاح والتقويم، وصاحب العيوب في هذين الحالين آمن أن يقابل اعترافه بالاحتقار عند المودة، والاستغلال عند الكريهة. . .
محمد خليفة التونسي(773/36)
رسالة الفن
مع الخزاف (ما يودون)
للدكتور محمد بهجت
أحسنت الحكومة صنعاً باستقدام بعض الفنانين البارزين من فرنسا لمحاضرة طلاب الفنون الجميلة العليا والتحدث إلى أساتذتهم ومبادلتهم الرأي في نواحي الفنون المختلفة، كما أحسنت كل الإحسان بإقامة معرض كبير حوى الكثير من صفوة أعمالهم بالسراي الكبرى بأرض الجمعية الزراعية، بلغ من أهميته أن حظي بزيارة ملكية.
ومع أن الإقبال عليه كان كبيراً لحد ما، إلا أن الكثرة من الطبقة المثقفة لم تستمتع به أو تفد منه شيئاً، وذلك لأن القائمين بأمره لم يعلنوا عنه الإعلان الكافي بالصحافة العربية أو بواسطة الإذاعة. ومن الناحية الأخرى أهملته تلك الصحافة إهمالاً معيباً كأن لم يقم معرض خطير للفن الحديث في القاهرة أنفقت عليه الحكومة بسخاء وأولته الصحف الأجنبية بعض العناية. وكأن لا أثر لمثل هذا المعرض القيم في تثقيف عقول الناس وإشباع نفوسهم بجمال الفن!
كانت معروضات الفنانين السبعة رائعة تسترعي الأنظار بطرافتها وقوتها، ولا يسعنا إلا إحناء رؤوسنا إعجاباً بأعمالهم واحتراماً لنبوغهم جميعاً.
غير أن واحداً منهم كان مبرزاً في الحلبة يسطع فنه بأقوى مما يقع على جانبيه من أضواء ساحرة، كان يستوقف جمهرة الزائرين لأطول وقت، ويشدههم بجمال فنه وينتزع منهم أضخم عبارات الإعجاب والإطراء - استغفر الله - بل أنهم كانوا يخلعونها عليه جزافاً سماحاً. ذلكم هو جان ما يودون الخزاف العالمي الفذ الذي مكنته إدارته الفنية لمصانع سفر الشهيرة لمدة ثلاثين عاماً أو أكثر من أن يقف على أدق أسرار هذه الصناعة قديمها وحديثها، وأن يخلق لنفسه طريقة فنية رائعة.
بجد المشاهد نفسه أمام فن جديد ذي طابع خاص، أهم مظاهره جمال عظيم في أشكال الزهريات والقوارير والصحون التي صممت بعناية فائقة وذوق سليم حتى ليكفي أن تؤثر في النفوس بجمالها الذاتي خالية من النقوش والألوان، ثم جمال ألوانها وانسجامها انسجاماً شعرياً عذباً، مع الذهب خالصاً في بعض الحالات أو مختلطاً قليلا أو كثيراً بتلك الألوان.(773/37)
أما الرسوم التي عليها، فإما هي حيوانات زخرفية أشبه بغزلان راكضة، وإما هي أُناسي من نسيج الخيال أو من عالم الأساطير، غير أنه لا توجد أسطورة ما ممثلة، أنها لا تعني شيئاً ما بل هي مجرد أخيلة يستعين بها الفنان على إيجاد حركات جميلة أو مجموعة متناسقة من الألوان. وهو في هذه الرسوم متأثر بالفن الإغريقي لحد كبير؛ وفي بعضها يلمس المشاهد أثر ميكائيل أنجلو.
ثم أن لكل قطعة (شخصيتها) وسحرها الخاص حتى ليصعب على المرء أن يختار لنفسه واحدة منها، ويود لو يراها مجتمعة كمجموعة من الدرر الغوالي، ويكره أن ينفرط عقدها، كما أن كل واحدة منها تمثل فن (ما يودون) وتظهر خصائصه بكل وضوح، مطبوعة بطابع ذوقه الرفيع.
وبينما كنت أستمتع مرة بمشاهد معروضاته إذ قدمني إليه صديقي الأستاذ المصور أحمد صبري، فراعتني أناقته المعجبة، وقامته المديدة، وأكتافه العريضة، رأسه الكبير المكلل بشعر أشيب رتيب، وعيناه اللامعتان الفاحصتان. رما كدنا نشقق الحديث حتى بدت منه روح مرحة وحماسة فياضة ونفس إنسانية عظيمة مخلصة، شغفت بالحب والجمال، ثم تواضع عجيب هم من خلق العباقرة القادرين. سألته أ، يحدثني عن فنه فقال:
أستعمل في عجائني الطين النقي والسليبس والطباشير والزجاج. والأخيران يجعلان لأوعيتي صلابة ورنيناً. وأستعمل من الألوان أكاسيد معادن الحديد والنحاس والكروم والمنجنيز والفضة والرصاص. ثم أني أستعمل الذهب مخلوطاً مع أكسيدي الزئبق والبزموت. والحق يقال أنني متأثر إلى حد كبير بتلك المواد التي كان الفرس والعرب يستعملونها في أعمالهم.
إنني أجهز تلك المواد بنفسي، لا مساعد لي في ذلك. أحضر العجائن وأسوي منها الأوعية على أشكال شتى ثم أتركها على الأرفف لتجف، وبعد ذلك أحرقها على درجة عالية من الحرارة (1050مئوية) فتكتسب صلابة كافية وتصير صالحة للعمل عليها في الخطوات التالية. . وفي كل صباح يصحبني كلبي العزيز ونجول معاً هنيهة في حديقتي الجميلة، تذهب بعدها إلى المصنع الواقع وراء تلك الحديقة، فألقي نظرة خاطفة على الأوعية فيروقني أخذها فأنتزعه من مكانه وأرسم عليه بالقلم الرصاص رسماً ما من غير سابق(773/38)
تحضير أو دراسة، فاجعله حيواناً أو إنساناً أو شبيهاً بهما، حسبما يتفق مع طبيعة الوعاء وقد أزيد عليه أو أنقص منه؛ فإذا ما راقني الرسم وضعت لون الخلفية، ثم أدخلته النار وحرقته على درجة الحرارة العالية المذكورة لمدة معينة، ثم أخرجه بعدها حتى يبرد، ثم أضع عليه ألوان المرسوم التي أتخيرها بعناية وأدخله النار مرة أخرى. وبعد ذلك أضع الذهب. وقد يدعوني الحال إلى إحراق الوعاء مرتين أو ثلاثا بل وست مرات حتى يكون بعدها كاملا. وأحياناً لا يعجبني رسم أو لون ما فأغيره وأعيده إلى النار. وهنا سألته عما يعني برسومه - وقد حيرني أمرها - أهي موضوعات من القصص الإغريقي أو غيره؟ فأجاب بالنفي قائلا: (إنها لمجرد الزخرفة) وإيجاد التآلف والتوازن ليس إلا. فيعطيها من الألوان الخلفية ويجعل المجموعة كلها جميلة تطرب العين والفؤاد معاً. ثم إنه وافقني على ما لاحظته من تأثره بالفن الإغريقي، وبفن مايكل أنجلو الذي كان يعكف على دراسته، وبالفن الفرنسي الذي كان سائداً في عصر لويس الرابع عشر، إلى أن قال: (ولكني أحاول أن أتحرر منها تدريجياً، وأختط لنفسي فناً خاصاً).
وبعد أن حدثني عما شاهده من الفن المصري القديم خصائصه وروائعه سألته عما تركه ذلك الفن في نفسه من أثر. وهنا حدجني بنظرة عميقة ثم اندفع يقول في حماسة ممزوجة بمرارة وألم: (كنت أظن أنني أوفيت على الغاية؛ ولكني اليوم أشعر بأنني قزم إلى جانب الفنان المصري القديم الذي يبرز الجمال بقوة، بسيطاً هادئاً، لا تكلف فيه ولا إجهاد. أصبحت أرى ضآلة عملي وتفاهته بجانب تلك الأعمال الجليلة الرائعة. إن كل هذا (مشيراً بيده إلى قطعه الجميلة) هراء معقد لا غناء فيه. لسوف أقلع عن كل ذلك. آه! لقد بدأت أفهم الآن، والآن فقط بعد أن بلغت الخامسة والخمسين، ولم يبق من العمر إلا أقله، ومن الجهد إلا أضأله. لشد ما يؤلمني ذلك! إن أخوف ما أخافه أن لا يسعفني الأجل بتحقيق ما تصبو إليه نفسي وما ينفجر به خيالي الآن. عندما أعود إلى باريس سوف أكب على العمل بهمة زائدة وأحاول أن أخرج فناً بسيطاً جميلاً حلواً. سأحاول أن أخرج بعض ما تعلمته وشاهدته هنا؛ وسيكون في ذلك نقطة التحول الهائلة في حياتي الفنية التي أوشكت على الأفول).
- وما رأيك في مستقبل فن الخزف بمصر؟(773/39)
- لا ينقصكم شيء من عناصر النجاح على ما أرى. فتربتكم غنية بأحسن المواد الأولية اللازمة للعمل، وشبابكم على جانب وافر من الذكاء واستعداد للتوثب والابتكار. وكل ما ينقصكم هو فرن ذو حرارة عالية! هذا كل ما في الأمر. إننا نعرض عليكم بضاعتنا وفننا، ولكني أنا فرنسي أفكر برأس فرنسي، ويجب أن تفكروا أنتم كذلك برؤوس مصرية.
- هل تعود إلى مصر مرة أخرى؟
- لقد شغفتني مصر والمصريون حباً. وَأكبر ظني أنني سأعود إليكم في العام القادم حاملا بعض أعمالي الجديدة التي سأستوحيها من زيارتي لبلادكم الجميلة الغنية بالفن
وهنا أقبل بعض زملائه وأسرإليه شيئاً فاستأذن وانصرف.
أما بعد فنرجو من وزارة المعارف أن تستن هذه السنة الحميدة فتستقدم إلينا كل عام بعض أساطين الفن من مختلف الشعوب حتى يتم التلاقح الفني بيننا وبينهم؛ شأنها في ذلك شأن الفرق التمثيلية والجوقات الموسيقية، كما نرجو أن تدفع فنانينا إلى الأمام بكل وسائل الترغيب والتشجيع حتى تستطيع مصر أن تبني مجدها الفني الحديث على آثار فنها القديم.
محمد بهجت
المدير المساعد لقسم البساتين(773/40)
وحشة شاعر. . .
للشاعر السوداني أبي القاسم عثمان
أيها الليل يا عدو حياتي ... ومثير الجياش من أناتي
أنا أرهقت يا غشوم تعاسا ... تي وأسكرت بالغناء فلاتي
عبثاً تستخف بالغنم الحلو ... وبالعطر في ظلال حياتي
مصر أوحت فأيقظت في ضلوعي ... نغماً تستحثه نزواتي
هنئت فيه بالضلالة أفرا ... حي وأوتاري التي في لهاتي
فتوثبت في مدارج ألحا ... ني وهللت في مدى صلواتي
وتطلعت للشعاع طموحاً ... ساخراً بالظلام في خلواتي
قبس الله قد أثار فتوني ... وأمات المحزون من آهاتي
في روابي (سنار) ودعت أيا ... مي وذرَّفت أدمعي وشكاتي
كنت أودعتها نوازع نفسي ... ألهبتها قساوة الذكريات
يا رفيقي لقد لمست بقلبي ... ما يعاني الغداة من صدمات
رحمتا فالضباب يزحم آفا ... قي ويغتال هدأتي وثباتي
ورماد الأوهام في ليل إدلا ... جي أدال المسحور من نبراتي
قهقهات الأشباح أذكت جنوني ... لا رعى الله فترة القهقهات
أنا من صارع الحياة فأفنى ... عمره الغض في صراع الحياة
لهف نفسي وقد حييت زماناً ... في ضجيج الأغلاط والنزهات
ما الذي قدر الإله لنفس ... تعبت في صياغة الأمنيات
غير أني يزفني لجهادي ... عبقري الأهداف والغايات
سوف أجتاز محنتي لأغني ... أغنيات الهروب والانفلات
مصر دنيا طلاقتي وكفاحي ... ومنى مهجتي ومحراب ذاتي
فيك أنسيت يا كنانة أوجا ... عي وأيقظت خافقي من سبات
أدركيني على البعاد فأني ... قد سئمت الشرور في الفلوات
فيك يا مصر ثلة من رفاق ... بهمو يستضاء في الظلمات(773/41)
شعراء يهزهم كل معنى ... من معاني التسبيح والعلسفات
فاذكروني أحبتي إن عودي ... أيبسته جسارة السافيات
أمسيات الخريف ضاعفن يأسي ... فذكرت النديَّ من أمسياتي
أبو القاسم عثمان(773/42)
الأدب والفن في أسبوع
جائزة فؤاد الأول الأدبية:
نشرت (أخبار اليوم) أن لجنة فؤاد الأول الأدبية رأت تقسيم الجائزتين المخصصتين لسنتي 1947و1948 بين أربعة أدباء، هم الأساتذة عباس محمود العقاد والدكتور محمد حسين هيكل باشا والدكتور طه حسين بك والدكتور أحمد أمين بك، ثم قالت: (وعلم ذلك الأستاذ العقاد، فأرسل كتابا إلى وزير المعارف يحتج فيه على تقسيم الجائزة إلى جائزتين، وعلى مساواة مؤلف له 17 كتابا بمؤلف له جزء من كتاب، ويعني أنه أصدر خلال السنوات الخمس الأخيرة17 كتابا بينما لم يصدر الدكتور طه خلال هذه المدة إلا الجزء الأخير من هامش السيرة، وأن هذا الجزء ليس دراسة ولكنه تصوير لفترة من التاريخ الإسلامي. كذلك أرسل الأستاذ العقاد كتابا آخر إلى رئيس ديوان جلالة الملك - مقدم الجائزة - شرح فيه تصرف اللجنة، وقال إنه يخالف الفكرة التي أنشئت من أجلها الجائزة، وقد أرسل معالي رئيس الديوان كتاب الأستاذ العقاد إلى وزير المعارف، فأحاله إلى اللجنة وطلب إليها أن تبحث وجهة نظره، وهل تقسم الجائزة؟ ويستحسن أن يحتفظ بوحدتها لتكون تتويجا مناسباً للعمل الأدبي الذي أنتجه الفائز بها).
والواقع أن قانون الجوائز ينص على جواز التقسيم في حالة تساوي قيمة النتاج، ولكن اللجنة رجحت فكرة التوحيد لتحقيق التتويج الأدبي المقصود من الجائزة، فرأت أن يمنح كلا من الجائزتين أديب واحد. وهي الآن بصدد النظر في ثلاثة كتب، هي (عبقرية عمر) للأستاذ العقاد، و (الصديق أبو بكر) لهيكل باشا، و (ظهر الإسلام) للدكتور أحمد أمين بك. أما كتاب الدكتور طه حسين بك وهو الجزء الثالث من (على هامش السيرة) فهو لا يدخل في الموضوع الذي قررت اللجنة تخصيص هاتين الجائزتين له، وهو (الدراسات الإسلامية الأدبية) على أن تكون جوائز السنين القادمة في فنون الأدب الأخرى كالشعر والقصة. . الخ.
ولذلك استبعدت اللجنة هذا الكتاب لأنه أقرب إلى التصوير الأدبي، والمؤلف نفسه يقول في مقدمته أنه ليس دراسة ولا تاريخاً.
ويتصل ذلك بما قالته (أخبار اليوم) من أن الأستاذين المازني وتوفيق الحكيم اعتذرا من(773/43)
عدم الاشتراك في هذه المباراة، وقد بينت فيما مضى أن جوائز فؤاد الأول ليست مباراة وإنما هي للتتويج، فهي تشبه جائزة (نوبل). وأضيف الآن إلى ذلك أن الأستاذين المازني وتوفيق الحكيم لم يؤلفا كتباً في الدراسات الإسلامية الأدبية - وهي موضوع الجائزتين - في خلال السنوات الخمس الأخيرة ولا فيما قبلها، فمم يعتذران. . .؟
عضوية المجمع اللغوي:
رأى مجمع فؤاد الأول للغة العربية في جلسته الأخيرة، أن يؤجل الآن شغل الكرسي الذي خلا بوفاه أنطوان الجميل باشا، وذلك لفترة قد تتجاوز الدورة الحالية للمجمع.
ومما يذكر أن أحد الأعضاء اقترح وضع قواعد لشغل الكراسي التي تخلو بالمجمع، كالاعتماد على الآثار العلمية والأدبية للعضو المرشح للاختيار، كما اقترح توزيع كراسي الأعضاء بحسب الاختصاص في العلوم والفنون والآداب، حتى إذا خلا مكان روعي فيمن يشغله أن يكون مختصاً في فن سلفه. ولم يبت شيء من ذلك برأي.
إمارة الشعر:
قال الأستاذ العقاد في حديث له مع محرر (الزمان) وقد سأله عن رأييه في إمارة الشعر:
الشعر مذاهب كثيرة ولكل مذهب شخصية بارزة ممثلة له. ولقد وجد في إنجلترا في عصر واحد أكثر من عشرة شعراء لا يمكنك أن تسمي واحداً منهم أميراً للشعر. ومع ذلك يمكنك أن تقول إن كلا منهم كان إماماً في شعره. فأنت لا تستطيع أن تفاضل مثلا بين بيرون وشلي وكلوردج من حيث العظمة الشعرية، ولكنك ترى لكل منهم نمطا من الشعر يتفوق فيه، فهو إمامه وإذا شئت فهو أميره. . .
الأدب الرمزي:
وقال الأستاذ أيضاً وقد سأله المحرر عن رأيه في الأدب الرمزي:
كلمة الأدب الرمزي كلمة سخيفة، لأن الأدب قبل كل شيء الافصاح، فمن عجز عن الإفصاح فأولى له أن يترك الأدب، ومن كان لا يتكلم إلا بالرموز فخير له أن يخترع له لغة أخرى غير هذه التي تواضع الناس على التفاهم بها، وليخترع إن استطاع نوعاً من الهيروغليفية القديمة تغني فيها الصور والإشارات عن الحروف والكلمات. إن ما يسمونه(773/44)
بالأدب الرمزي سواء في مصر أو في أوربا ليس له عندي أشرف من كلمة واحدة باللغة العامة وهي (تهجيص)!
نهر النيل في الأدب:
ألقى الدكتور محمد عوض محمد بك محاضرة عنوانها (نهر النيل في الأدب) بالاتحاد المصري الثقافي يوم الثلاثاء الماضي، قال في أولها: أريد أن أطوف بالميدان الأدبي لكي أنظر إلى الشعراء أو الكتاب الذين كان النيل ملهما لهم ودافعاً إياهم إلى بعض الإنتاج الأدبي في موضوع نهر النيل، وأنا لم أحاول أن أفتش في كل الآداب عما يتصل بالنيل، فهذا العمل يحتاج إلى عصابة قوية من الباحثين، إنما أريد أن أعرض ما عثرت عليه بطريق المصادفة المحضة، ويسرني أن ألقى مساعدة من الأدباء في استكمال هذا البحث حتى تتكون لدينا مجموعة عظيمة لأدب نهر النيل تستحق أن يتألف منها مجلد ضخم.
ثم تتبع موضوع النيل في الأدب بالترتيب الزمني، فبدأ بالأدب المصري القديم وأورد منه قصائد في النيل؛ وتحدث عن ثلاث قصائد في موضوع النيل لثلاثة من كبار شعراء الإنجليز هم شلي وكيتش وهنت، فقال إن هؤلاء الشعراء الثلاثة اجتمعوا في يوم من سنة 1818م واتفقوا على أن يؤلف كل منهم أنشودة موضوعها النيل، على سبيل المنافسة الأدبية، وقال إن هذا الاتفاق يرجع إلى أن اهتمام الناس في أوروبا بنهر النيل قد أخذ ينتعش في أوائل القرن التاسع عشر، وقد أخذ بعض المستكشفين يقوم برحلات للبحث عن منابع النهر، ثم ينشر قصة رحلاته فيلفت الأنظار مرة أخرى إلى هذا الموضوع القديم.
ثم انتقل الدكتور عوض بك بعد ذلك إلى الأدب العربي فقال إننا نلاحظ أن نهر النيل لم يجد في الأدب العربي القديم من يعني بشأنه سواء من زار مصر وأقام على ضفاف النهر أو من سمع به وكان من الجائز أن يصفه على السماع كما فعل الشعراء الإنجليز. وقد أشار إليه القرآن الكريم: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) ونلاحظ أن وصف الأرض بأنها تجري من تحتها الأنهار كثيراً ما ورد في وصف الفردوس. كذلك ورد ذكر مصر ونيلها في الحديث وفي الكتب التي تنسب إلى عمرو بن العاص ولكن ذكرها لم يرد على لسان الشعراء إلا قليلا. وقد زار مصر من كبار الشعراء العرب عدد ليس بالقليل منهم أبو نواس الذي مدح والى مصر (الخصيب) بشعر جميل لم يرد فيه ذكر(773/45)
النيل ومصر إلا عرضاً كما ترى في قوله:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلا كما بحر
وقد نشأ أبو تمام في مصر ولكنه لم يذكر في شعره مصر ونيلها مع أنه كان يسقي ماء النيل بالجرة في المسجد الجامع بمصر. كذلك زار مصر المتنبي وقد ذكر النيل عرضا في شعره. وهو وأن لم يهتم بالقول في النيل إلا أنه لم ينج من أثر النيل في شعره؛ فإن أشعاره التي قالها في مصر هي أبدع وأروع مما ألفه قبل إقامته في مصر وبعدها. وأرجع الدكتور عدم اهتمام هؤلاء الشعراء بمعالجة موضوع نهر النيل إلى عدة أسباب، أهمها أن وصف الأنهار والبحار والغابات لم يكن من الموضوعات التي ألفها شعراؤنا، وأن الشعراء في أوائل العهد العربي لم يكونوا من المصريين، ولم يكثر ذكر النيل في الشعر العربي إلا بعد أن أصبحت العربية لسانا لأهل مصر ولغة أدبائهم. ومع ذلك فإن الشعراء المصريين كانوا في أول الأمر مقيدين بما ورثوه من تقاليد شعرية. ومما يلاحظ أن العصر الذي أخذ فيه الشعراء المصريون يعالجون موضوع نهر النيل كان الشعر قد أخذ ينحط كثيراً عما كان عليه في العصر العباسي الأول. وهم على كل حال كانوا يحسون بالنهر ويشعرون به فقالوا في التشوق إليه وفي وصفه وفي فيضانه والمقياس الذي يقاس به وفاء النيل وفي جزيرة الروضة ومنظر الفن في النهر وأيام اللهو على ضفته والرياض التي يجري وسطها وما إلى ذلك.
ثم انتقل الدكتور عوض إلى عصر النهضة الحديثة التي ازدهر فيها الأدب وأصبح شاعراً بوجود النيل إلى أن قال: إن شعراء مصر في عصرنا هذا قد يخصون النيل بأبيات أو مقطوعات أو إشارات، أما شوقي فقد جاراهم في هذا ولكنه بزهم بأن خص النيل بقصيدة من أروع قصائده تجمع بين الوصف الصادق والخيال المبتكر والنزعة الفلسفية والنظر إلى النيل ككائن مستقل لا كعرض من أعراض الحياة، وتجمع بين الوصف الشعري وبين حوادث التاريخ، وهي القصيدة التي أهداها شاعرنا إلى العالم المستشرق مرجليوث والتي يخاطب النهر في أولها بقوله:
من أي عهد القرى تتدفق ... وبأي كف في المدائن تفدق
وقال الدكتور: بهذه القصيدة نستطيع أن نقف أمام شعراء الغرب الذين تناولوا هذا(773/46)
الموضوع أمثال كيتس وشلي وهنت، دون أن نخجل من تقصير أدبنا عن أدبهم في موضوع شديد الصلة بحياتنا دون حياتهم.
تحول فكري في أمريكا:
في يوم الجمعة الماضي ألقى الأستاذ فؤاد صروف محاضرة في قاعة يورت بالجامعة الأمريكية، موضوعها (الاتجاهات السياسية والاجتماعية الحاضرة في الولايات المتحدة الأمريكية) وهي حلقة من سلسلة محاضرات (العالم كما هو اليوم) التي ينظمها قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية.
بين الأستاذ المحاضر ما يسود الولايات المتحدة الآن من التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وقد أجملها في ثلاثة، فقال أن في حياة الولايات المتحدة ثلاثة تيارات عميقة، وهي خروجها من عزلتها، وميلها إلى تعزيز نظام الاجتهاد الحر الذي يقوم على مبدأ (وإن ليس للإنسان إلا ما سعى) بتوفير أسباب العدالة الاجتماعية، واتجاه أهل الفكر والتربية فيها إلى دراسة الأساس الخلفي الاجتماعي للحضارة الصناعية التي تعد الولايات المتحدة أتم مثال لها. وأوضح هذا التيار الفكري بقوله: أن قيام الدولة الأمريكية في قارة غنية صرف التربية الأمريكية خلال زمن طويل إلى تقديم دراسة التكنولوجيا (علم الحرف والصناعات) على دراسة العلوم الإنسانية، فالأب الذي يريد أن يقدم هدية إلى ابنه الصغير، يميل على الأكثر إلى تقديم مجموعة من الآلات يلهو بها، فيفكها ويركبها؛ وهذا الانصراف إلى تقديم التكنولوجيا على دراسة الآداب القديمة، هو الذي جعل تقديم أمريكا الصناعي شيئا يبهر النفس في سرعته وعظمته، ولست أريد أن ازعم أن طائفة كبيرة من الجامعات العريقة نبذت العناية بتقديم التكنولوجيا هي الغالبة. بيد أن طائفة من رجال الفكر أخذت تدعو إلى نهج جديد، فمشكلات العالم الحديث في رأيها ليست مشكلات معرفة وإنتاج وحسب، فقد تقدمت المعرفة تقدما عظيما وارتقت وسائل الإنتاج الصناعي والزراعي ارتقاء باهرا، فلم يغن كل ذلك في حل المشكلات الاجتماعية وزيارة سعادة الناس، ولكن المشكلات ترتد - في رأيها - إلى جهل ما للمعرفة ووسائل الإنتاج من قيمة اجتماعية، فالاجتماع البشري الذي يسير في طريق الكمال ليس يكفيه أن تكثر فيه المعرفة وان تتوافر فيه وسائل الإنتاج، بل ينبغي له أن تكون المعرفة طريقا إلى الحكمة، وان تفضي وفرة(773/47)
الإنتاج إلى حسن التوزيع بين الناس، فإلى الرضا والطمأنينة والسعادة؛ وهذا التيار في التربية الأمريكية لا يزال في اوله، ولكنه قوى زاخر.
ثم قال: أن مستوى المعيشة العالي أو الكافي ليس سوى مرحلة في الطريق المفضي إلى مستوى صحيح للحياة، والرخاء لا نقع فيه إلا على قدر ما يهيئ من جو يكفل سعادة العقل وسكينة النفس. ولن نستطيع أن نقيم على سطح الأرض حضارة صالحة للبقاء، إذا أقمناها على الرخاء وحسب دون الفضائل العريقة ودون إدراك القيم الاجتماعية والروحية للأشياء المادية التي صرنا نحسن صنعها وعرضها. وإذن اتجاه الأمة الأمريكية إلى استكشاف هذه القيم ودراستها والعودة بها إلى الأصول التي قامت عليها الأمة الأمريكية في عهدها الأول هو أهم اتجاه حديث في حينها اليوم؛ لأنه إذا استطاع الشعب أن يحل مشكلة حياده الخاصة ويصون فضائله العريقة وإيمانه بالمثل التي من اجلها هجر آبائه الأولون قارة أوربا وفي سبيلها خاض حربين عالميتين، ففي وسعنا أن نطمئن إلى أن ضمان حق الحياة والحرية وطلب السعادة في حضارة تعد الرجل رجلا لا عبدا سوف يكون المصباح الذي يهتدي به الأمر يكون في علاقاتهم بسائر الناس.
العباس(773/48)
البريد الأدبي
نعم نملك تحريم تعدد الزوجات:
ما كنت أظن أن يخفى ما كتبته تحت هذا العنوان بعدد الرسالة في 5 من أبريل سنة 1948م على صديق الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي، حتى يرد ما لا يرد منه في عدد (772) من مجلة الرسالة، لأنه لا ينكر أحد ان ينقلب المباح حراما إذا نهى عنه أولي الأمر لمصلحة تقتضي النهى عنه، كان ينهى عن زرع القطن في اكثر من ثلث الملك، فتجب طاعته شرعا في ذلك، وتحرم مخالفته فيه، لقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فيكون زرع القطن في اكثر من الثلث حراما من هذه الناحية، وان كان في ذاته مباحا، وقد يكون هناك ضرر من إطلاق زرعه، ولكنه لا يصل إلى درجة التحريم إلا بنهي أولي الأمر عنه، لأنه ليس بالضرر الذي يقتضي الحرمة
وكذلك الأمر في تعدد الزوجات، فلولي الأمر أن ينهى عنه إذا أساء المسلمون استعماله، فيصير حراما لنهيه عنه، وان كان في ذاته مباحا. وهذا أمر معروف بين العلماء، لان الله تعالى لم يبح لنا شيئا إلا في حدود المصلحة، فإذا انتفت المصلحة انتفت الإباحة، بل نص العلماء على أن من المندوب ما ينقلب مكروها لسبب من الأسباب. وكلما ذكره الأستاذ زكي الدين في رد هذا لا يعدو أن يكون تنظيما فيه أو استثناء له من ولى الأمر، بمقتضى ماله من حق التحريم والمنع، ولعل ما يدعو إلى هذا أن الناس لم يتهيئوا بعد لفهم هذا الحق، بل يعدوه خروجا على الدين، فيحمل هذا ولي الأمر على أن يستثنى في ذلك ما يستثنى، ولا يذهب فيه إلى آخر ما جعله الله من حقه.
عبد المتعال الصعيدي
1 - شرط رواية الحديث الضعيف:
في صباح السبت 10 من أبريل سنة 1948 حدثنا في المذياع عالم أديب عن الجهاد، وعزا الخبر المشهور (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. . .) إلى النبي عليه صلوات الله وسلامه.
وفي معجم المحدث العجلوني المسمى (كشف الخلفاء ومزيل الإلباس، عما اشتهر من الأحاديث على السنة الناس) ج 1 ص 424 قال الحافظ ابن حجر: هو مشهور على(773/49)
الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن علية. وقال العراقي: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر.
ويشترط المحققون من المحدثين كالعز بن عبد السلامسلطان العلماء، وابن دقيق العيد، والنووي ان تكون صيغة رواية الضعيف صيغة تضعيف وتمريض مثل ورد ويحكى وبذكر ويروى والفقيه ابن حجر الهيتمي يثبت ولعله في كتابه الفتاوى الحديثة، عدم جواز رواية أي حديث إلا بعد معرفة درجته من الصحة العامة.
2 - أول اكتتاب في الإسلام:
في (عيون الأثر غنون المغازى والشمائل والسير لابن سيد الناس) وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد التوجه إلى غزوة تبوك أو العسرة لأنها كانت في زمن عسرة من الناس وجدب من البلاد حض أهل الغنى على النفقة في سبيل الله والحملان والقوة والتأسي، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وانفق عثمان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، بذل عشرة آلاف دينار وثلاثمائة جمل. وجاء أبو بكر بكل ماله وهو أربعة آلاف درهم. وجاء عمر بنصف ماله، واقتدى بهم اكثر الصحابة وأما النساء فقد تبرعن بحليهن. ومفصل أخبار تلك الغزوة في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين الهيثمي ج 6 ص 191 - 195 وج 9 ص 58.
محمد أسامة عليبة
أعضاء مراسلون للمجمع اللغوي:
أصدر معالي الدكتور السنهوري باشا وزير المعارف قرارا بتعيين المذكورين بعد أعضاء مراسلين لمجمع فؤاد الأول للغة العربية وهم حضرات الأساتذة: جبريل (روما - إيطاليا)، واربري (لندن - بريطانيا)، ولاوست (ليون - فرنسا)، ينبرج (ابسالا - النرويج)، خليل مردم وشفيق جبري والأمير مصطفى الشهابي (سوريا)، ومحمد بهجت الأثري (العراق)، وطاهر بن عاشور (تونس)، والشيخ محمد الجخوي وعلال الفاسي (مراكش)، والشيخ محمد نور الحسن (السودان)، وخير الدين الزركلي (المملكة العربي السعودية)، وعبد الله عبد الرحمن الأمين (من موظفي المعارف بالسودان).(773/50)
وقد علمنا ان الأستاذ ميخائيل نعيمة من بين المرشحين عن فلسطين وعلمنا كذلك أن الهيئة متجهة إلى اختيار عضوين مراسلين لكل بلد. والطريقة المتبعة أن يتفق المجمع على الأسماء ثم يبلغها لمعالي وزير المعارف لإصدار القرار بتعيينهم.
حول قصيدة:
في مجلة (العالم العربي) لشهر أبريل الجاري قصيدة للآنسة الفاضلة فدوى طوقان بنابلس بعنوان (ليل وقلب). هذه القصيدة (يقضها وقضيضها) أذكر أنها نشرت في مجلة (الرسالة) الغراء العدد (741) إلا انه وقع تحريف في بيت منها؛ فهو في الرسالة:
تخاف على زهرات (الصبي) تبددها كفة القاسية
وفي العالم العربي:
تخاف على زهرات (الربيع) تبددها كفة القاسية.
ويبقى أن نسأل: كيف يجوز أن جاز نشر قصيدة بعينها في مجلتين سيارتين في (مصر) واحد وقطر واحد؟
ثم هل يقع اللوم على المرسل، أم على الناشر أن كان نقل؟ الجواب الدراك، ننتظره من هنا أو من هناك!
(عين)
ابن الأستاذ الطنطاوي:
ما لهذه الأحداث الكبيرة التي لم تلم بالشرق فتؤسيه، وبقلب المسلم فتدميه، وبدنيا العرب الهادئة الوادعة فتحيلها نارا لاهبة لا تحرك من قلم الأستاذ (الطنطاوي) ما سكن!. . ولا تثير قلبه الحي المؤمن ما كمن؟!. .
كيف لا تذكى هذه المحن الفاجعة في نفسه أوار العزة والنضال فيهب ليدافع عن الحق وكرامة الإسلام وقد عهدناه فارسا حرا لا يمل النزال!. . هل أيس من الإصلاح وكفر بالإنسان فألقى السلاح الذي جاهد به طويلا في شبابه وكهولته حين أشقى على الأربعين؟!. .
(فتى الفيحاء)(773/51)
استفهام:
استدعى نظري قول الأستاذ (عبد القادر الناصري) في قصيدته (قلب شاعر)
حتام أظمأ والأقداح دائرة ... مثل الكواكب ما بين النداماء
فقد بحثت في قاموس (الفيروز أبادي) في مادة (ندم) فلم أجد جمعا مثل قوله (النداماء) والمعروف أن الجمع إنما هو (نُدماء) و (ندامى) و (نِدام) أرجو توضيح ذلك. وحبذا لو قال (ما بين الإخلاء) وقوله في نهاية القصيدة (أن لم تكن روحه تصبو لعلياء) فالمعروف ان الفعل (صبا) يتعدى (بإلى) لا (باللام).
علي زين العابدين منصور(773/52)
القصص
من الأدب الإيطالي:
ذلك الرجل!!
للشاعر الإيطالي جبريل دانونزيو
بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب
كان قصير القامة ممشوقها، تنوء رقبته برأس ضخم يميل قليلا إلى اليسار، وقد اكتسى هذا الرأس غابة كثيفة من الشعر الكستنائي المسترسل إلى كتفيه في تجعدات والتواءات، تلعب به الريح لعبها بعرف الجواد، ولحية كثة كلحية المتقشفين، تركها دون تهذيب وقد تراكمت عليها ندف صغيرة من القش. وكانت عيناه تتطلعان دائما إلى موقع قدميه العاريتين، حتى إذا ما رفعهما ظهر فيهما الغموض والابهام، ولاح فيهما الرعب، أو بدتا كما لو كانتا عينني مخبول تارة، أو رجل محموم تارة أخرى. أو تشهد فيهما ما يجعلك تفكر في الماء الأخضر الآسن الراكد في حفرة ضيقة، أو في وميض السيف اللامع.
كان يرتدي سترة قديمة حمراء، قد ألقى بها على كتفيه كأنها المعطف. وكان الناس يروون عنه شتى الأقاصيص، ويتحدثون عن حب، وخيانة، واعتداء، وهروب. . .
كنت في سن الثالثة عشرة عند ما قابلته أول مرة، فجذبني منظره. وكان ذلك في يوم من أيام الصيف الحارة والميدان الكبير تغمره الشمس، وقد أقفر إلا من بعض الكلاب تتسكع هنا وهناك، والسكون مخيم على المكان، اللهم إلا من ذلك الصرير الممل لعجلة السنان. وكنت قد اعتدت الوقوف برهة أراقب ذلك الرجل من خلف مصراعي نافذة غرفتي، فأراه يسير في بطئ تحت شمس الظهيرة، يختال في جو من العظمة، أو يزحف قرب الكلاب في هدوء حتى لا تلاحظه، ويلتقط حجرا يقذفها به في خفة ثم يهرب متظاهرا بأنه شيء غير منظور، فتقبل عليه الكلاب وتلتف حوله وهي تبصبص بأذنابها، فينظر إليها ثم ينفجر ضاحكا ضحكات قصيرة صبيانية فأشاركه ضحكه.
وفي ذات يوم تمالكت شجاعتي، وأطللت برأسي من النافذة ثم ناديته. فالتفت إلى في سرعة ثم أبتسم، والتقطت زهرة من الأقاصيص قذفت بها اليه، ومنذ ذلك الحين أصبحنا صديقين.(773/53)
وفي مساء يوم سبت كنت واقفا على الجسر وحيدا أراقب حركة أسطول الصيادين وهو راجع من الصيد. كانت شمس يوليو البديعة تغرب، وقد احمرت السماء بالسحب الذهبية، وتوهج النهر الجاري صوب البحر وارتعشت أمواجه في تلألؤ زاه. وكانت الضفاف تحت الهضبات تلقى على الماء فتنعكس الأشجار، وتظهر قممها كأنها نائمة على صفحة الماء في ذلك الجو الحار. وجعلت القوارب تلقى مراسيها في بطئ وقد طوت أشرعتها البرتقالية الكبيرة ذات الخطوط الزخرفية السوداء. وابتدأت تفرغ حمولتها من السمك. وسرت الريح تحمل أصوات النوتية ورائحة الصخور.
والتفت فجاءة ورائي فرأيت الرجل واقفا يتصبب عرقا، وقد أخفى يده اليمنى وراء ظهره، وأضاءت فمه ابتسامته الصبيانية المعهودة. فصحت اهتف باسمه وأنا أمد يدي المتخاذلة إليه في سرور. وتقدم نحوي وقدم إلى بيده التي كان يخفيها باقة أنيقة من الخشخاش الأحمر وسنابل القمح الذهبية. فصحت وأنا أتناولها منه (أشكرك، أشكرك، ما أجملها. . .)
وسحب يده على حاجبيه، وجعل يمسح العرق المتساقط ثم ينظر إلى أصابعه المبللة ثم إلي، وأخيراً ضحك وقال (إن الخشخاش الأحمر ينمو بين القمح الأصفر هناك في الحقول، فرأيتها وأحضرتها لك فقلت لي) ما أجملها (وكانت الشمس كالنار).
كان يتكلم في خنوع، ويقف بين كل كلمة وأخرى كأنه يحاول أن يتبع خيط أفكاره. أم آلاف الصور المبهمة المضطربة كانت تتجمع في ذهنه. فيحاول أن يبززها ويتشبث باثنتين أو ثلاثة منها، تلك التي كانت أكثرها ثبوتا وأوضحها صورة، وتهرب منه الصور الباقية. كنت الحظ ذلك في عينيه فأتعجب. وكأنه شعر بما يجول في خاطري، فأدار رأسه صوب قوارب الصيد وقال وهو يفكر:
- هذا الشراع، إنه شراعان، واحد في الهواء، وواحد في الماء.
كان لا يدرك أن الشراع الأسفل انعكاس الشراع الأعلى على صفحة الماء. فجعلت اشرح له ذلك قدر امكاني، فاستمع إلي في ذهول، ثم ابتسم وتطلع إلى الأشرعة.
وسقطت زهرة من الخشخاش في النهر، فراقبها حتى اختفت مع التيار، ثم قال في صوت حزين لا يوصف (لقد رحلت بعيدا، بعيدا جدا (وكأنها شيء عزيز لديه).
وبعد لحظة من الصمت سألته (من أي قرية أتيت؟)(773/54)
فالتفت صوب السماء يتطلع إلى صفاء لونها الزبرجدي. كانت الجبال القاتمة تظهر أمام الأفق كأنها جبار راقد. وامتد الجسر الحديدي فوق النهر يقطع السماء إلى صور صغيرة، وظهرت خلفه الأشجار الخضراء وقد استحالت إلى أشباح قاتمة. واختلطت ضحكات الجنود في الثكنات بصوت البوق.
وأخيراً قال (كان عندي منزل ابيض، نعم كان كذلك، تحفه حديقة كبيرة من الفواكه. لقد اعتادت تريزا أن تحظر في المساء. كانت جميلة، أن عينيها. . . ولكن. . .)
وكف عن الكلام وقد ظهرت على هينيه الكآبة. ولكن سرعان ما عاد إلى هدوئه، ثم انحنى لي، وسار مبتعدا عني وهو يغني.
ومنذ ذلك الحين كنت كلما أراه يمر في الطريق أناديه وأجود له ببعض الطعام. وفي ذات مرة قدمت إليه القليل من النقود الذي أعطيتني إياه والدتي، ونظر إلي في صرامة، ثم دفع بها إلى في احتقار ظاهر، وأخيراً أدار ظهره ومشى دون أن يلتفت إلى.
وفي ذلك المساء قابلته خارج الميناء الجديد، فتقدمت إليه قائلا
- سامحني، سامحني.
فهرب كأنه حيوان جافل، وفي لحظة كان قد اختفى عن أنظاري بين الأشجار. ولكن في صباح اليوم التالي كان ينتظرني على باب داري، وابتسم في شجاعة، ثم قدم إلى ياقة يانعة من زهور المرجريت. كانت عيناه محضلتين بالدموع، وشفتاه ترتعشان. . . وعادت المياه إلى مجاريها.
وفي ذات مرة، في أواخر شهر أغسطس، كنا جالسين في نهاية الطريق وكانت الشمس قد توارت بالجبال. وقد امتدت أشجار الصنوبر حتى البحر، وابتدأ القمر يرتفع في بطئ في عنان السماء بين السحب القاتمة. . .
ونظر إلى القمر ثم تمتم قائلا (انظر! الآن تستطيع أن تراه. . تستطيع أن تراه)
وجعل يتأمله لحظة ثم قال (ذلك القمر! إن له عينين وأنفاً وفما كالبشر، لست ادري ما الذي يفكر فيه. من يدري؟)
ثم جعل يدندن أغنية ذات لحن حزين، من تلك الأغنيات التي يرتلها الأهلون عند قطف الكروم في ليالي الخريف الحارة. وكان يلوح لنا عن بعد مصباحا قطار قادم في سرعة،(773/55)
فظهرا كأنهما عينا وحش تحدقان فينا. ومر القطار يهدر ويتعالى دخانه وصفيره عند عبوره الجسر الحديدي، وعاد الصمت يخيم تدريجيا على الأرض الشاسعة.
ووقف الرجل على قدميه وصاح وهو يشير إلى القطار المبتعد (اذهب، اذهب، اذهب، بعيدا، بعيدا، انك تنساب كالتنين، والنار في داخلك، النار التي وضعها فيك الشيطان)
ولن أنسى ما حييت منظره وهو واقف في هذه اللحظة. . ولم يهدا انفعاله إلا بعد أن تلاشى صوت القطار وعاد الصمت يخيم على الطبيعة.
وعندما كنا في طريقنا إلى الدار كان لا يزال غارقا في أحلامه.
وفي ذات صباح جميل من سبتمبر ذهبنا إلى البحر. إن ذلك الاتساع السرمدي للماء الأزرق العميق كان ممتدا حتى الأفق المتألق، وكانت قوارب الصيد تبحر أزواجاً، فتظهر كأنها طيور هائلة الحجم مجهولة النوع، قد نشرت أجنحتها الصفراء القرمزية. وكانت الهضاب الرملية النحاسية ترقد على طول الساحل خلفنا وقد لاحت من ورائها الكتل الضخمة الخضراء من مزروعات شجر الصفصاف.
قال في صوت خافت وكأنه يخاطب نفسه في لهجة التعجب والشعور بالخوف (يا لهذا البحر الخضم الأزرق الضخم! ويا لهذه الأسماك الضاربة المفترسة! إن (أراكس) هناك سجين في قفص من حديد، يصيح فلا يسمع أحد صيحاته. انه لن يرجع ثانية. وهذه السفينة السابحة في الماء، إنها نجلب الموت لكل من يشاهدها؟
ثم صممت. . واقبل على الشاطئ حتى غمرت الأمواج البيض الصغيرة قدميه. من يدري ما الذي كان يحدث داخل عقل المسكين الضعيف؟
وبينما نحن مقبلان على الدار وقد التزم الصمت طول الطريق نظرت إليه فاخبرني قلبي بأشياء غريبة.
وهمس أخيراً في صوت خافت وهو يأخذ بيدي (إن لك أما في منزلك ننتظر أو بتك لتقبلك) كانت الشمس تغرب في الماء الصافي خلف الجبال، والنهر يتلألأ بشتى الانعكاسات.
فسألته والدموع تتساقط من عيني وانت، اين والدتك؟) فنظر إلى عصفورين في الطريق، والتقط حجرا سدده كأنه بندقية في يده، ثم أطلقه عليهما، فوليا كأنهما السهام.(773/56)
وصاح وهو يراقب طيرانهما في السماء اللامعة وهو يضحك في صخب (طيرا. . طيرا. .)
ومرت الأيام فلاحظت فيه تغيرا، كأنما أصابته الحمى. كان ينطلق مسرعا إلى الحقول كأنه الجواد حتى يقع على الأرض مبهور الأنفاس، أو يرقد الساعات مفترش الثرى دون حراك يحدق بعينه في وهج شمس الظهر المحرقة. وعندما يقبل المساء كان يلقى بمعطفه الأحمر على كتفيه ويتنزه جيئة وذهابا في الميدان، يختال في خطوات طويلة بطيئة كأنه عظيم إسباني. وكان يتحاشاني، ولا يجلب لي الزهور. وتألمت لهذا الهجر. كان الناس يدعون بأنه سحرني. وفي ذات صباح ذهبت قاصدا لقياه. ولكنه لم يرفع عينيه، بل احمر وجهه كأنما مسته نار. فصحت في اضطراب (ما الأمر؟)
- لا شيء،
- بل هناك شيء.
- لا شيء.
- هذا غير صحيح.
ولاحظت انه ينظر أمامه بعينين متقدتين، فالتفت، فوجدته يتطلع إلى فتاة ريفية حسناء واقفة أمام مدخل حانوت
وتمتم وقد شحب لونه: (تريزا) ففهمت إن الرجل المسكين كان يتخيل في هذه الفتاة غادة بلدته التي أثرت على قواه العقلية
وبعد يومين قابلها في الميدان، فاقترب منها مبتسما وهو يقول: (إنك أكثر جمالا من الشمس. فلطمته بقوة على وجهه)
كان هناك بعض الصغار بالقرب منهما، فجعلوا يسخرون منه بعد أن تركته الفتاة وحيدا مصدوماً باهتاً، وابتدأت بقايا الخضر تطير فترتطم في وجهه. والتفت إلى الصبية، وهدر كالثور الجريح، ثم أمسك بواحد منهم وألقاه على الأرض كأنه من الأسمال.
ورايته، يمر أمام نافذتي بين أيدي اثنين من رجال الشرطة مقيدا، والدم يسيل من لحيته منحنى الظهر، مرتعش الجسد، والناس من خلفه يضحكون ويسخرون. نظرت إليه فامتلأت عيناه بالدموع.(773/57)
وكان الحظ قد واتاه، فان الصبي لم يصب إلا بجروح يسيرة، وخرج من السجن بعد يومين
مسكين ذلك الرجل! كان قد تغير تغيرا تاما واصبح مكتئب الوجه لا يثق في أحد، غضوبا وكنت أراه في بعض الأحيان ينفلت مساء في سرعة كبيرة كأنه الكلب، ويختفي في طريق مظلم قذر
وفي ذات صباح مشرق الشمس صافي السماء من أكتوبر وجدوه على خط السكة الحديدية بجانب الجسر وقد تمزق إرباً حتى اصبح كتلة دامية مشوهة من اللحم، وانسحب إحدى ساقيه مع عجلات القطار الذي دهمه إلى مسافة بعيدة، وظهرت عيناه الخضراوان في رأسه المقطوع الذقن المصبوغ الشعر بالدم القاني، تحدقان في رعب هائل
مسكين ذلك الرجل! كان يود أن يشاهد القطار عن قرب، ولكنه كان يبتعد ثم يبتعد - كما يقول - ذلك الوحش الطويل ذلك التنين الذي بداخله النار التي وضعها الشيطان!
محمد فتحي عبد الوهاب(773/58)
العدد 774 - بتاريخ: 03 - 05 - 1948(/)
من علامات الساعة. . . .!
من علامات الساعة أن يتشجع اليهودي فيحمل سلاحاً ويشهد حرباً ويحرز نصراً ويحتل مدينة!
ومن علامات الساعة أن يخرج اليهودي من البنك إلى الثكنة، ومن الدكان إلى الميدان، ليحارب العرب على فلسطين، ويثأر لإفرنج من صلاح الدين!!
ومن علامات الساعة أن يكون لليهود جيش ينتصر على العرب في حيفا، وعلم يرفرف على المسجد في يافا، ودولة تريد أن تقوم في القدس!!
كذلك من علامات الساعة أن ينهزم العربي أمام اليهودي ولو ظاهرته مادية الأمريكان وخديعة الإنجليز وشيوعية الروس؛ فإن الثعلب يحسبه أن يشم ريح الأسد من بعيد ليجحر، وإن الفأر يحسبه أن يبصر الهر من فوق الجدار ليسقط!
يا لله ماذا نرى؟ نرى الألوف من نساء العرب وأطفال العرب يخرجون من ديارهم مشردين في البر والبحر؛ يلتمسون في الشام المأوى، ويطلبون في مصر الأمن، وأهلوهم مصر عون ثرى الوطن الحبيب السليب بعد أن قذفوا في صدر العدو آخر رصاصة، ودفعوا غائلة الجوع بآخر كسرة، وافتدوا وطن الآباء بآخر رمق!
يا لله ماذا تسمع؟ نسمع أن تل أبيب تحكم يافا، وأن راية صهيون تخفق على مسجد (حسن بك)، وأن بني إسرائيل يذبحون الأبناء ويستحيون النساء في دير ياسين!
لقد سمعنا أن اليهود يحتلون البلاد بالنساء والذهب، ولكننا لم نسمع قبل اليوم أنهم يحتلونها بالرجال والحديد!!
ماذا جرى حتى استجملت الناقة يا يهود، وماذا جرى حتى استنوق الجمل يا عرب؟! جرى أن اليهود يعملون ونحن نقول، ويجدون ونحن نهزل، ويبذلون ونحن نبخل، ويتعاونون ونحن نتخاذل، ويتكلمون ونحن نتواكل!
للجامعة العربية في كل شهر مؤتمر، وفي كل أسبوع مجتمع، وفي كل يوم قرار، وفي كل ساعة تصريح، وفي كل دقيقة خطبة؛ وكل أولئك يحمله الهواء إلى المجاهدون المجاهدين أصواتا لا تدفع سيارة، ولا ترفع طائرة، ولا تحشو مدفعاً، ولا تملأ بطنا، ولا تبعث قوة، فإذا جاء يوم العمل نظر بعضهم إلى بعض، فإذا الأول واقف لأن ترومان لم يتقدم، وإذا الثاني ساكت لأن بيفن لم يتكلم، وإذا الثالث مترجح لأن الآخرين لم يستقروا على رأي!(774/1)
كنا قبل أن تنشأ (الجامعة العربية) أهواء متشعبة وآراء متضاربة وقوى متفرقة؛ فكنا نجد ذرنا في هذا الانقسام، ونعزو فشلنا إلى هذه الفرقة، ونهدد خصمنا بأن في جمعتنا الخلاص منه، وفي وحدتنا القضاء عليه؛ فلما أذن الله لأوطاننا أن تتصل، ولدولنا أن تتحد، ابتلانا بمحنة فلسطين ليعلم العدو المتربص ما وراء العربي إذا تجمع شمله، وما غناء الإسلام تجدد حبله
فالجامعة العربية اليوم في ميزان الأقدار وامتحان الشدائد؛ فإذا رجحت كفتها على اليهودية رجحت في كل أمة، وإذا ثبت معدنها على المحك في هذه الأزمة ثبت في كل أزمة.
إن مستقبلنا رهن بهذه المعركة؛ فإذا كسبناها كسبنا جل ما نبغي، وإذا خسرناها خسرنا كل ما نملك. ذلك لأن اليهود لا يستطيعون أن يقيموا لهم دولة في فلسطين إلا على عمد من الجهة الغربية أو الجبهة الشرقية. وأيا ما تكن هذه العمد فإنها التدمير والتكفير والفوضى إذا كانت شيوعية، وإنها الاستعمار والاستئثار والبلوى إذا كانت رأسمالية.
أحمد حسن الزيات(774/2)
الصحافة في الميثاق الصهيوني
للأستاذ نقولا الحداد
قرأت أخيرا أن في العراق حركة صحفية هائلة؛ فقد صدرت تصريحات لجرائد جديدة عديدة، وأنبئنا بصراحة أن لليهود نفوذاً كبيراً فيها. وإذا كان اليهود قد مدوا أنوفهم للجرائد العراقية فلا بدع أن يفعلوا هنا في مصرا كثر من هذا وأجهر. عندنا هنا أربع جرائد إفرنجية صهيونية، ومجلة عربية شهرية. وفي كل جريدة من جرائدنا المحلية العربية صهيوني أو أكثر يسيطر عليها لقاء خدمة اقتصادية هي استجداء الإعلانات لها من أرباب المصالح اليهودية عن يد شركة الإعلانات الشرقية وهي صهيونية
وقيل لنا بالأمس إن إحدى جرائدنا الكبرى قد باعت 49 بالمئة من قيمتها لشركة الإعلانات الشرقية، وما بقى منها إلا اثنان بالمئة لكي تتحول السيطرة القانونية عليها إلى الشركة المذكورة، ولكن الشركة لا تعجز عن الحصول عليها بأية الطرق، فيصبح عنق تلك الجريدة الموقرة تحت نير الصهيونية تفلح به الدعاية الصهيونية على كيفها. ثم ما لبثنا أن قيل لنا إن الجريدة نفسها اشترت الشركة كلها. ثم قيل لنا إن الجريدة والشركة اندمجتا معاً في شركة واحدة، ولا اعتبار لأي الفريقين أثقل بدا في الشركة المزدوجة، لأن الموظفين الذين كانوا يديرون الحركة في شركة الإعلانات لا يزالون فيها وكلهم يهود. فهي شركة محايدة صورية وصهيونية فعلا كل هذا لا يهمنا كثيراً إلا أننا نعلم أن الصهيونية بسطوا يدهم على رأس الصحافة العربية المصرية. حدث هذا في الوقت الذي نسخط فيه على الصحافة الأمريكية التي أصبحت تحت سلطان الصهيونيين وصار الرأي العام الأمريكي للمئة وخمسة وثلاثين مليونا من الأمريكان بقيادة الصهيونيين. فإذا بقيت أصابع الأخطبوط الصهيوني تتغلغل في الرأي العام العربي أصبح العرب خضعا وسجدا عقلا وإحساسا واقتصاداً للنفوذ الصهيوني وإليك الميثاق الثاني عشر من برنامج الصهيونيين في الصحافة: البند الأول: إن كلمة (حرية) التي تفسر تفسيرات مختلفة نحن نفسرها هكذا:
البند 2 - الحرية هي أن يكون ذلك الحق أن تفعل ما يخوله لك القانون. إن هذا التفسير يكون في أكثر الأحيان العادية خادما لنا لأن القانون في يدنا بل نحن القانون. القانون ينفى أو يثبت ما نحن راغبون فيه طبقا لبرنامجنا. فإذا الحرية بأي معنى تكون في يدنا.(774/3)
البند 3 - تستخدم الصحافة هكذا:
ما هو الدور الذي تلعبه الصحافة اليوم؟ الصحافة تثير العواطف التي تقتضيها غايتنا، وتهيج الاحساسات التي تخدم أنانية الأحزاب وغاياتها. والجمهور لا يعلم ولا يفهم ماذا تخدم الصحافة من الأغراض الحزبية السخيفة التافهة الباردة. نحن نسرج الشعب ونلقى على ظهره البرذعة وكذا نفعل بحاصلات المطابع والصحافة. وإلا فكيف نرد هجمات الصحافة إذا كنا أهدافا للكتب والرسالات التي تهاجمنا؟ إن نتاج الدعايات التي تستوجب النفقات الثقيلة بسبب ضرورة الرقابة عليها ستكون موردا كبيرا لدولتنا لأننا سنفرض عليها ضريبة طوابع خاصة ونطلب من أصحابها ضمانات مالية قبل أن تصدر، ورخصة لكل صحيفة ومطبعة، وهذا الإجراء يكون ضمانة لحكومتنا ضد كل هجوم نضرب غرامة ثقيلة بلا رحمة ولا شفقة. ولا يخفى أن الأحزاب لا تبخل على الجرائد بالنفقات اللازمة لها لأجل الدعاية. وإنما يمكننا أن نقفل أفواه هذه الدعايات ضدنا عند ثاني هجوم تهجمه علينا؛ بمعاقبتها بالغرامة الثقيلة لا أحد يجرأ أن يضع إصبعه على فم معصومية حكومتنا، وعندنا عذر لإغلاق أية جريدة أو مطبعة، وهي إننا ندعي أن الجريدة تقلق الرأي العام وتهيجه بلا مبرر.
(يقول خطيب جلسة الحكماء) - أرجو أن تلاحظوا أن يكون لهؤلاء المهاجمين لنا محررون لجرائد نحن أنشأناها ولكنها لا نهاجم إلا نقطاً في سياستنا وإجراً آتتا. كنا قبلا قد قررنا تنقيحها وتغييرها، فكأنها تهاجم الريح.
البند 4 - لا يذاع على الجمهور أية إذاعة إلا بإرادتنا وتحت سيطرتنا. إن الأنباء والمنشورات حتى اليوم هي تحت سيطرتنا، لأن جميع أنباء العالم مركزة في مركزة في مراكز خاصة تتهافت إليها الأخبار من جميع أقاصي الأرض وتتوزع منها إلى جميع أنحاء العالم، وجميع وكالات هذه المراكز في أيدنا فتذيع ما نمليه نحن عليه.
(يمكنك أن تقول إن هذا الحاصل اليوم).
البند 6 - فلنوجه الآن أنظارنا إلى مستقبل الصحافة: كل من يرغب أن يكون ناشراً أو كاتبا أو طابعا يجب أن يكون حاصلا على دبلوم من جامعة أو مدرسة مختصة بتخريج الناشرين والكتاب. وبحسب قانون هذا الدبلوم يمنع الناشر من النشر عند أول خطأيرتكبه.(774/4)
هذه التدابير تكون وسيلة ثقافية في أيدي حكومتنا التي لا تسمح للجمهور أن يقاد في غير الطريق الذي نرسمه نحن إلى بركات النجاح. هل يوجد واحد منا يجهل أن هذه البركات الخيالية هي السبيل المؤدي رأسا إلى المتخيلات التي تلد علائق الفوضوية بين الناس وبينهم وبين الحكومة؛ لأن الرقى أو قصور الرقى يدخل إلى الحكومة فكرة التحرير، ولكنه يعجز عن إقامة حدود للتحرر، وجميع الذين يدعون أنهم أحرار هم فوضويون ولو بالفكر، وكل واحد منهم يحاول أن يتصيد طيف الحرية، ويقع في فوضى الاحتجاج على تقييد الحرية لا لغرض سوى حب الاحتجاج لا لأجل التحرير.
البند 7 - تأتى الآن إلى المطبوعات الدورية. فهذه سنفرض عليها وعلى كل مطبوعة ضرائب بوضع طوابع على كل صفحة، ونفرض أيضا ضمانة مالية، والكتب التي تقل عن 30 صفحة تضاعف الضريبة عليها ونعتبرها كراريس؛ أولا لكي يقل عدد الكراريس والمجلات التي هي أردأ المطبوعات السامة. وثانيا لكي يوجب هذا التدبير على الكتاب أن يتوسعوا في الكتابة وتكون كتبهم كثيرة لكي يتجنبوا عبء الضريبة. فيقل قراؤهم، وفي الوقت نفسه نجعل مطبوعاتنا التي تؤثر بها على عقلية الجمهور رخيصة في متناول كل واحد لكي يقرأ بنهم وشوق. لأن الضريبة تقلل الطموح الأدبي وتخور عزيمة الكتاب. وثقل الغرامات يجعل أرباب القلم معتمدين علينا، وإذا قام بعض الكتاب يكتبون ضدنا فلا يجدون من يطبع لهم. وعلى الناشر أو الطابع أن يحصل على إذن للطبع والنشر، وهكذا يتيسر لنا أن نعرف نيات أضدادنا فنصدها ولو بحجج واهية.
البند 9 - الأدب والصحافة هما أهم القوى الثقافية. ولذلك ستملك حكومتنا أقوى الجرائد والمجلات، وهذه تخمد أنفاس كل نفوذ لكل صحيفة مستقلة تنشر أمورا ضدنا، وبالتالي نملك بتأثير جرائدنا كل تأثير على الرأي العام. وإذا منحنا رخصا لعشر جرائد يجب أن يكون لنا ثلاثون جريدة وعلى هذه النسبة تكون الصحف المستقلة. وهذا التدبير لا يثير شبهة الشعب ضدنا، ولا سيما إذا جعلنا بعض الجرائد التي نصدرها معارضة في الظاهر لنا فتكثر ثقة الشعب بها، وإنما تكون المعارضات في السطحيات. ولذلك تقوى ثقة الشعب بنا نحن أيضاً، وتدفع إلى يدنا الخصوم المعارضين الذين يشتبهون بمقاصدنا، ويقيمون في فخاخنا، ولا ضرر منهم لنل.(774/5)
البند 12 - تكو جرائدنا من كل لون: أرستقراطية جمهورية ثورية حتى فوضوية بحسب مقتضى الحال؛ ويكون لها يد في كل رأي عام. فإذا نبض نابض في إحدى هذه الأيدي المحركة يقود الرأي العام في اتجاه مقاصدنا. لأن الضعيف المنفعل ينفذ قوة الحكم ويذعن إلى أية إشارة منها. وهؤلاء القوم المغفلون الذين يظنون أنهم مرددون رأي جرائدهم، يرددون بالفعل الرأي الذي نحن نرغب فيه، ويظنون عبثا أنهم يتبعون رأي جرائدهم ولكنهم بالحقيقة سائرون في ظل رايتنا.
البند 14 - إن مهاجمة خصومنا لنا تخدم أغراضنا من جهات أخرى، وهي أن رعايانا يقتنعون ويعتقدون أنهم حاصلون على ملء الحرية في الكلام والنشر، وهكذا يتحول أنصارنا إلى اليقين بأن جميع الجرائد المخالفة لنا ليست إلا فقاقيع فارغة لأنها غير قادرة على أن تجد أثرا جوهريا في مخالفتها لأوامرنا.
البند 15 - إن قواعد التنظيم التي لا تراها أعين الجمهور هي من أضمن الوسائل لكسب ثقة الجمهور إلى جانب حكومتنا. إن هذه الطرق تجعلنا من حين إلى آخر في مركز يجعلنا قادرين على أن نثير العقل الاجتماعي أو أن نهدئه في المسائل السياسية حسب رغبتنا، فنقنعه أو نشوش عليه أو نضعضعه. فالآن الصدق، وغدا الكذب. ننشر الحقائق ثم ننشر ما يخالفها، نفعل هذا حسب مقتضى المصلحة، نفعله بكل حذر؛ نجس الأرض قبل أن نضع أقدامنا. سيكون لنا نصر مبين على خصومنا أو معارضينا لأنهم لا يملكون جرائد تستطيع أن تعطي التعبير الصحيح عن آرائهم بسبب خطتنا في معاملة الصحافة، ولذلك لا نضطر أن نجحدها إلا جحدا سطحيا وهم يظنون أنهم يتمتعون بحرية الصحافة.
الملخص: النفاق في مذهب الصهيونيين هو ملح الصحافة وبهارها بل هو (شطتها) أيضا. هو البهار الذي يشهي القراء للقراءة. فلذلك ترى الجرائد مبتلاة بالأخبار الكاذبة فلا تدري إن كان الخبر الذي نقرأه صادقا أو كاذبا، وشركات الأخبار مبتلاة بسيطرة الصهيونيين عليها كبلوى الجرائد. تقرأ اليوم خبراً فتصدقه لأنه معقول فلا يشعرك بغش فيه، ثم لا تلبث أن تقرأ غداً نقيضه أو تكذيبا له. ولا يمكن جمهور القراء أن يشكوا في صدق ما يقرؤون وإلا فلا يصدقون خبراً. لا يمكنهم أن يميزوا بين الخبر الصادق والخبر الكاذب؛ لأنه ليس في ما ينشر شبهة تضلل الظن. إن اختلاق الأخبار وتعويجها هو سجية في(774/6)
الصهيونيين يستغلونها لأغراض شيطانية لا تنكشف إلا بعد حين، وقد تقرأ خبراً ضد مصلحتهم فلا تلبث أن ترى أنه كاذب ولكنه نفعهم).
(منذ صارت قضية فلسطين في هيئة الأمم كانوا يذيعون أن عندهم جيشا من الهاجاناه يبلغ 80 ألفا. ولما جاء القتال لم يظهر عندهم أكثر من 800 جندي. فكانوا كلما وقعوا في ورطة مع العرب يهرعون إلى الجيش البريطاني لكي ينجدهم. ولما بدت مسألة التقسيم وشعروا أن العرب متحفزون للدفاع أذاعوا أنهم طلبوا من أميركا 472 مليون دولار وستأتيهم تواً، فما أتاهم شئ. ثم أذاعوا أن القائد الكبير فوزي بك القاوقجي قتل في معركة فاضلة. فما لبث القاوقجي أن أذاع في الراديو أنه يفقأ حصرمة في عيونهم. وهكذا لهم كل يوم كتاب من الأكاذيب في الجرائد والمجلات والأنباء التلغرافية التي في حوزتهم. فيجب الحذر من قبول الأخبار).
البند 17 يشرح التعليمات للصحافة من حيث ارتباطها بأسرار الماسونية التي لا يباح بها، وكل صحافي مقيد بأسرارها كأنها أسرار المهنة، وكل فرد من الصحفيين يخشى أن يبوح بسر لئلا يتهم بفضيحة، وما من أحد خال من فضيحة.
البند 18 - فحواه أنه لا بد من إلهاب عقليات أهل الإقليم عند ضرورة التأثير في العاصمة، ومصدر هذه التهيجات في كل حال يكون (نحن) على قصد أن الرأي الذي قبل في العاصمة يكون حائزاً لتأييد الأقاليم.
البند 19 - حين نكون في فترة الانتقال من الحكم القديم إلى حكمنا الجديد أي إلى ما نظفر به من السيادة يجب أن لا تسلم بما نقلته الصحف من خيانة أحد من الشعب. يجب أن يكون نوع الحكم الجديد برضى كل فرد من الناس. يجب أن يرى فيه الشعب أمانيه محققة وأن الأجرام قد زال. ويجب أن يقتصر البلاغ على المجني عليه والشهود فقط. يعنى أن لا تنشر الجرائد أخبار الجرائم لكي يقتنع الشعب أن الأمن مستتب تمام الاستتباب هذا ملخص الميثاق الثاني عشر عن الصحافة، وإلى الملتقى مع القراء في حين آخر.
حاشية: قرأنا أن معظم عرب حيفا هاجروا إلى سوريا ولبنان، وفي بعض الروايات أن المهاجرين تجاوزوا الأربعين ألفاً وبعضهم رفع الرقم إلى ثمانين ألفاً. وقد قيل لنا غن بعضهم هاجروا إلى مصر لكي تتحمل مصر تبعتها من هذه النكبة. أليس مؤلماً مفزعا أن(774/7)
يفر أهل الدار منها، وأن الضيوف المغتصبين يبقون فيها فيستولون على جميع ممتلكات العرب كما فعل بنو إسرائيل يوم (جرجرهم) موسى إلى أرض كنعان فنهبوا فرش الكنعانيين وحللهم وطناجرهم الخ - التاريخ يعيد نفسه. وإذا كانت الدول العربية لا تنقض بكل قواها على تل أبيب من جميع النواحي، ويدكونها دكا ليضطروا اليهود أن يخلوا حيفا لكي يأتوا لإنقاذ تل أبيب رغم أنوفهم - إذا لم تفعل الدول العربية كلها هكذا في وقت واحد استعجل اليهود وغزوا يافا ثم القدس وسائر مدن فلسطين، ثم انتقلوا إلى عمان فإلى دمشق فإلى بيروت فإلى مصر، إلى جميع ممالك العالم، وحينئذ يصح حلم الصهيونيين.
إن ما يتظاهر به اليهود في حيفا من الإنسانية نحو العرب إنما هو مكر فلا تصدقوه. لا يخرجون عن طبيعتهم، فحذار منهم!
نقولا الحداد(774/8)
عبد الله بن سبأ
للدكتور جواد علي
هذا رجل تقرأ خبره في كل كتاب منكتب (العقائد والفرق)، وفي أكثر كتب التاريخ التي تعرضت لموضوعات (الفتنة) التي حدثت في أيام الخليفة (عثمان بن عفان)، وفي حادث مقتل الخليفة (علي بن أبي طالب) في الكوفة بعد تلك المؤامرة السياسية التي دبرها نفر من المعارضين لسياسة الخليفة وسياسة (معاوية بن أبي سفيان) و (عمرو بن العاص) بطل رواية التحكيم.
وقد وضع الدكتور طه حسين كتابا سماه (الفتنة الكبرى) بحث فيه عن عصر الخليفة الشهيد (عثمان بن عفان)، وعن العوامل التي أدت إلى حدوث تلك الفتنة التي فرقت شمل العرب بعد ألفة، وضعضعت صفوف المسلمين إلى اليوم.
وقد تعرض الدكتور في الفصل الثالث عشر من كتابه لبعد الله بن سبأ الذي كانت له يد طولي في هذه الفتنة على رأي جمهور المؤرخين. وقد ذهب الدكتور إلى أن الرواة المتأخرين قد أكبروا من شأن هذا الرجل وأسرفوا فيه حتى جعل كثير من الرواة القدماء والمتأخرين هذا اليهودي المسلم مصدرا لما كان من الاختلاف، إلى أن قال:
(ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن، ولكني أقطع بأن خطره - إن كان خطر - ليس ذا شأن، وما كان المسلمون في عصر عثمان ليبعث بعقولهم وآرائهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان، ولم يكد يسلم حتى انتداب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار).
وقد علق على الكتاب جماعة من الكتاب منهم الأستاذ السيد محمود محمد شاكر الذي نشر بحثا قيما في مجلة (الرسالة) عن (الفتنة) وعن علاقة (عبد الله بن سبأ) بها، وقد أنكر على الدكتور رأيه في هذا اليهودي السلم، صاحب الفتنة، وصاحب تلك الآراء الفاسدة التي رددها ولقنها جماعة من السذج وهم في صدر الإسلام على ما يقوله أصاحب كتب العقائد والتاريخ. والواقع أن خبر (عبد الله بن سبأ)، وخبر الفرقة التي استجابت لدعوته، وخبر الفتنة التي أثارها في العراق وفي مصر خاصة، وخبر تلك المقالة المنسوبة إليه، في المال وفي الرجعة وفي الوصية، وفي الغلو في حب علي بن أبي طالب؛ كل هذه من المسائل(774/9)
التي تحتاج إلى دراسة وبحث، ورجوع إلى المصادر، ومقارنة تلك المصادر بعضها ببعض، وترتيبها ترتيبا زمنيا، ونقد رجال الرواية، وفحصها فحصا دقيقا حتى يتمكن المؤرخ من الحكم في هذه القضية حكما قطيعا، وما تقوله لم يتم حتى الآن.
وقد لقي موضوع (عبد الله بن سبأ) عناية خاصة من المستشرقين ولا سيما من يهود المستشرقين. وأعتقد أن السبب وأضح؛ فهنالك طائفة منهم كانت على علمها وتدقيقها تتعصب على الإسلام، وتتمسك حتى بالتافه من الروايات وبالأحاديث الموضوعة التي نص علماء الحديث على كذبها، وتتخذها حجة لإثبات أثر اليهودية أو النصرانية في الإسلام وفي أصول الدين.
ومن جملة أولئك المستشرقين (هربلو) و (دي ساسي) و (فايل) و (فون كريمر) و (دوزي) و (موير) و (أوكست ميلر) و (فان فلوتن) و (كريتس) المؤرخ اليهودي المعروف، و (ولهوزن) و (هر شفلد) في مادة (عبد الله بن سبأ) في (دائرة المعارف الإسلامية)، و (إسرائيل فريد لندر) وقد بحث عن عبد الله بن سبأ بحثا مفصلا، وجمع كل ما أمكنه جمعه من الروايات التي وردت في الكتب العربية عن هذا اليهودي.
ورد خبر عبد الله بن سبأ في كتب الأدب والتاريخ، ويرجع أصل هذه الروايات إلى العصر الأموي، وإلى رواة الكوفة أو البصرة، أي رواة أهل العراق، وممن ذكرهم (الجاحظ) المتوفى سنة 255 للهجرة وهو أديب كبير صاحب أحاديث لطيفة، ذكرهم في كتابه الشهير (البيان والتبيين) في (كتاب العصا) وقد أخذ روايته عن حباب بن موسى عن مجالد، عن الشعبي، عن جرير بن قيس، الذي قال: قدمت المدائن بعد ما ضرب على ابن طالب كرم الله وجهه فلقيني ابن السوداء وهو ابن حرب فقال لي ما الخبر؟ فقلت: ضرب أمير المؤمنين ضربة يموت الرجل من أيسر منها، ويعيش من أشد منها. قال: لو جئتمونا بدماغه في مائة صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يذودوكم بعصاه. وقد نقل عن الجاحظ جمهور من المصنفين نقلا يمكن معرفته عند مطابقة الروايات ومقارنة بعضها ببعض.
وورد خبر (ابن سبأ) في كتاب (المعارف) لابن قتيبة المتوفى سنة 276 للهجرة؛ وقد تعرض له في معرض (الفرق) فقال: (السبأية من الرافضة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ، وكان أول من كفر من الرافضة، وقال على رب العالمين، فأحرق على أصحابه بالنار).(774/10)
وقد اعتمد أكثر المؤرخين على رواية أبي جعفر بن جرير الطبري المؤرخ والمفسر والفقيه الشهير، المتوفى سنة 310 للهجرة، وقد اعتمد عليه أكثر المستشرقين كذلك، نقلوا عنه نقلا بالحرف الواحد، ونقلوا عنه اقتباسا؛ فممن أخذ عنه ابن مسكويه صاحب كتاب (تجارب الأمم)، والمؤرخ المعروف (ابن الأثير) أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري عز الدين صاحب كتاب (الكامل) في التاريخ؛ المتوفى سنة 630 للهجرة الذي اعتمد على تاريخ الطبري وضعته كتابه بعد حذف الأسانيد.
ومن المؤرخين الذين اعتمدوا على الطبري عبد الرحمن بن خلدون المتوفى سنة 808 للهجرة (1406 للميلاد) صاحب كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، والعالم الشهير المقريزي المتوفى سنة 845 للهجرة (1442م)، والسيوطي المتوفى سنة 911 للهجرة في كتابه (حسن المحاضرة).
أما رواية الطبري فترجع إلى السري عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقسي، وسنتحدث هن هذه الساسلة بعد أن تنتهي من ذكر المصادر التي تعرضت لخبر عبد الله بن سبأ.
وتجد في (العقد الفريد) لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي المتوفى سنة 328 للهجرة روايات عن عبد الله بن سبأ وعن أتباعه السبأية الذين قال عنهم: (السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ عليهم لعنة الله، وفيهم يقول السيد الحميري:
قوم غلوا علىّ لا أبا لهم ... وأجشموا أنفسا في حبه تعباً
قالوا هو ابن الإله جل خالقنا ... من أن يكون له ابن أو يكون أباً
وقد أحرقهم على رضى الله عنه بالنار).
وقد ذكر ابن عبد ربه رواية أخرى نسبها إلى الشعبي في حديث له مع مالك بن معاوية جاء فيها (أحذرك الأهواء المضلة وشرها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما ببغض اليهود النصرانية، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتا لأهل الإسلام وبغيا عليهم، وقد حرقهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه بالنار ونفاهم إلى(774/11)
البلدان، منهم عبد الله بن سبأ إلى ساباط، وعبد الله بن السوداء، نفاه إلى الحازر وابن كروس. . .) وتجد في رواية ابن عبد ربه شيئا جديدا لا تجده في الروايات المتقدمة.
وقد سبق أن أوردنا رواية أخرى عن عبد الله بن سبأ نسبت إلى الشعبي كذلك، وهي رواية الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) غير أنه لم يسمه (عبد الله بن سبأ) بل دعاه (ابن السوداء)، وتجد في رواية صاحب (العقد الفريد) أن الشعبي قد فرق بين (عبد الله بن سبأ) وبين (عبد الله بن السوداء) فجعلهما رجلين مختلفين نفي أحدهما إلى (ساياط)، ونفى الثاني إلى (الحاذر)، ونجد مثل هذا التفريق في كتب أخرى.
جواد علي(774/12)
الإنكليز حلقة الشر المفرغة
للأستاذ محمد البشير الإبراهيمي
رئيس تحرير (البصائر) الجزائرية
أيها العرب!
إن الإنكليز هم أول الشر ووسطه وآخره، وإنهم كالشيطان منهم يبتدئ الشر وإليهم ينتهي. وإنهم ليزيدون على الشيطان بأن همزاتهم صور مجسمة تؤلم وتؤذي وتقتل، وجنادل مسومة تهشم وتحطم وتخرب، لا لمة تلم ثم تنجلي، وطائف يمس ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثم تفارق. ويزيدون عليه بأنهم لا يطردون باستعاذة وتذكر القلب ويقظة الشواعر، وإنما يطردون بما يطرد به اللص الوقح من الصفح والأحجار والمدر، ويدفعون بما يدفع به العدو المواثب، بالثبات للصدمة، والعزم المصمم على القطيعة وبت الحبال، والإرادة المصرة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة الإيمان (إن الإنكليز لكم عدو فاتخذوهم عدوا). يرددها كل عربي بلسانه، ويجعلها عقيدة جنانة، وربيطة وجدانه، وخير ما يقدمه من قرباته. قد غركم أول الإنكليز فأعيذكم أن تغتروا بآخره بعد أن صرح شره، وافتضح سره، وانكشف لكم لينه عن الأحساك والأشواك. وقد تمرس بكم فعرف الموالج والمخارج من نفوسكم قبل أن يعرف أمثالها من بلادكم، وحلل معادن النفوس منكم قبل إن يحلل معادن الأرض من وطنكم؛ وعجم أمراءكم فوجد أكثرهم من ذلك الصنف الذي تلين أنابيبه للعاجم، وتدين عروبته للأعاجم.
قد علمتم أنه هو الذي وعد صهيون فقوى أمله، ولولاه وعده لكانت الصهيونية اليوم - كما كانت بالأمس - حلما من الأحلام يستغله (الشطار)، ويتعلل به الأغرار.
وعلمتم أنه انتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في قضيتها، وأنه ما انتدب إلا ليحقق وعده؛ وأن في ظل انتدابه، وبأسنة حرابه، حقق صهيون مبادئ حلمه فانتزع الأرض منكم بقوة الإنكليز، وفتن ضعفاءكم بالخوف وفقراءكم بالمال حتى أخرجهم من ديارهم، واتخذ الصنائع والسماسرة منكم، وبنى المدن بأيديكم، ومهد الأرض بأيديكم، وشاد المصانع بأيديكم، وأقام المتاجر وبيوت الأموال لامتصاص دمائكم أو أبتزز أرزاقكم. وعلمتم أن الإنكليز هم الذين سنوا الهجرة بعد الفتح ليكاثروكم بالصهيونيين على هذه(774/13)
الرقعة من أرضكم، فلما انتبهتم للخطر غالطوكم بالمشروع منها وغير المشروع. ومتى كانت هجرة الوباء والطاعون مشروعة إلا في دين الإنكليز؟
وعلمتم أن بريطانيا هي التي جرت ضرتها البلهاء أمريكا إلى محادتكم وجرأتها على احتقاركم لتكيدها وتكيدكم، ولتحل بالسياسة ما عقده الاقتصاد بينكم وبين أمريكا من صلات؛ وأنها هي التي ألبت عليكم الأمم الصغيرة ودويلاتها حتى إذا جالت الأزلام وأيقنت بالفوز أمسكت إمساك المتعفف، وتظاهرت بالروية والحكمة، وجبرت خواطركم بالحياد، وملأت الدنيا تنويها بهذا الحياد الفاضح، فكانت كالقاتل المعزي. .
يا ضيعة الآداب الإسلامية بينكم! إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وقد لدغتم من الجحر الإنكليزي مرات فلم تحتاطوا ولم تعتبروا. وخدعتم من الجانب الإنكليزي كرات فلم تتعظوا ولم تتبصروا. خدع خلفكم كما خدع سلفكم، واستهوى أمراءكم وكبراءكم ودعاكم إلى موائده الفقار فلبيتم. وما رأى منكم في كل الحالات إلا المجاملة، واستمرار المعاملة، وما أنس منكم إلا التهافت على أعتابه، والتعلق بأسبابه.
فيا ويحكم. . . أكل ذلك لأن الإنكليز أغنياء وأنتم فقراء، أو لأنهم أقوياء وأنتم ضعفاء. كلا. . . إنهم لأغنياء بكم وبأمثالكم من الأمم المستخدمة، وليسوا أغنياء عنكم. وإنهم لأقوياء بما يستمدونه من أرضكم وجيوبكم فاقطعوا عنهم المددين يضووا ويهزلوا، واخذلوهم في مواطن الرأي والبأس ينخذلوا، وعمروا جزيرتكم تخرب جزيرتهم، إن لبدة الأسد هي بعض أسبابه إلى زرع الهيئة في القلوب؛ ولكن لبدة الأسد البريطاني لبدة مستعارة، فلو أن كل أمة استرجعت شعراتها من تلك اللبدة التي تكمن وراءها الرهبة لأمسى الأسد هرا مجرد العنق معروق الصدر بادي الهزل والسلال.
إن الغنى عمل وتدبير. فلو عملتم لكنتم أغنياء. وإن يده الغنى من غنى النفس بالتعفف عن الكماليات، وفطمها عن الشهوات. وإن القوة مشيئة لا جبر، فلو شئتم أن تكونوا أقوياء لكنتم. وإن بدء القوة من قوة الأخلاق، وقوة الاتحاد هذا أول الإنكليز عرفتموه، فهل عرفتم آخرهم؟ إنهم كانوا أداة تفريقكم في الماضي، وكانوا عونا للزمان عليكم، فلما رأوا شملكم إلى اجتماع، وجامعتكم إلى تحقق، جمعوا لكم كل ما عندهم من مكائد ومصائد. . . إنهم ينطوون لكم على العظائم؛ وإن في جعبتهم ما في جعبة الحاوي من حيات. وإن في أيديهم(774/14)
عروق الجسم العربي يضغطون على أيها شاءوا متى شاءوا. في أيديهم قضية مصر يساومون بها وبما كسون، وفي أيديهم قضية السودان يلوحون بها ويعاكسون، وفي أيديهم قضية ليبيا يشاغبون بها ويشاكسون، وفي أيديهم قضية شرق الأردن بما فيه، وما شرق الأردن إلا خيط الخنق وشريط الشنق فله الإنكليز بأيديهم وأمروا على الأيام فتله، لأمرهم بالغوه إن لم تهبوا وتذبوا، وفي أيديهم العراق ومنابعه، واليمن وتوابعه، ولهم على سوريا ولبنان يد منونة، في طيها مدية مسنونة. وفي أيديهم مفاتيح من أقفالها مفتاحاً، ولكل أمير من أمرائها مقودا من رغبة أو رهبة. ولهم مع ذلك من بينكم العيون الراصدة، والألسنة الحاصدة. وفيكم مع ذلك الآذان السامعة، والهمم الطامعة، وفي سجلاتهم ذممكم وهممكم وقيمكم، قدروها تقديرا، وأوسعوها تحليلا وتدبيرا.
إنهم ما حركوا مشروع سوريا الكبرى في ميقات معلوم إلا ليفتنوا بعضكم ببعض، ويغروا بيتا ببيت، وقريشا بتميم. فينخرق الإجماع وتفترق الجامعة. وإن هذه النقطة هي أعلى ما يصل إليه الدهاء الإنكليزي، كما أنها أعسر امتحان للضمير العربي الذي يتمنى أن يتكتل العرب ولكن بدافع من أنفسهم لا على يد عدوهم. وإن الإنكليز لقادرون على تحريك غيرها من الفتن المفرقة. وإنكم - أيها العرب - لا تردون كيدهم إلا بإجماعكم على تحديهم، واجتماعكم على إيقاف تعديهم، وإقامة جامعتكم على اعتبار مصلحة العرب ووطن العرب فوق الأغراض والأشخاص.
إنكم لا تردون كيدهم بقوة جامعة الدول العربية، حتى تسندوها بجامعة الشعوب العربية، فحركوا في وجوههم تلك الكتلة متراصة يرهبوا ثم يذهبوا.
لمسنا في هذه الكلمة حقائق مريرة، وأومأنا إلى قضايا يسوءنا أن نزيد حمأتها مدا. ولكن ما عذرنا إذا أمسكنا عن الشرح، ولو كان فيه جرح! وقد تأدى إلينا من تراث أجدادناالعرب هذه الحكمة الغالية (من كتم داءه قتله).
(الجزائر)
محمد البشير الإبراهيمي(774/15)
تولستوي الحائر
للأستاذ محمود الخفيف
أتم تولستوي (أنا كارينينا) وقد أصبح في روسيا أحد رجالها المعدودين، وفي أدبائها فارسهم المعلم، وأصبح في أوربا أجد القلة الأفذاذ من أساتذة الفن وأعلامه. وإنه لذو ثراء عريض، وذو بنين، يسكن إلى زوجة اختارها لنفسه عن بينة وحب؛ وهو إلى ذلك يتمتع بالعافية، وقد وهبه الله جسما قوياً لا تسكن حيويته ولا تفتر قوته، وإن موهبته الفنية لتمد اليوم لتمد اليوم أكثر مدها وإن روسيا كلها لتنظر إليه نظرتها إلى أعظم من أنجبت من رجال القلم في تاريخها، حتى لقد اغتدى اسمه لها مفخرة قومية، واغتدت به تباهي بأن صار لها في أدب الدنيا صفحة مرقومة ومقام معلوم.
ولكنه بين عشية وضحاها ينظر فإذا بهذا كله عنده لا شئ، وإذا يشعر أنه شقي لم يذق مثل شقائه أحد أو يعذب عذابه أحد على الرغم مما يحيط به مما يراه الناس من أسباب السعادة والنعيم إنه ليتقلب على فراشه إذا جنه الليل مسهد الجفنين. ولقد بين أنين المحموم بل لقد يجهش في الظلام كما يجهش الصبى؛ وإنه ليثب من فراشه فيذرع الحجرة حتى يتنفس الصبح. . . وإنه ليجلس إلى مكتبه مطرقاً أو محدقا في الفضاء، لا يفتح كتابا ولا يرفع قلماً؛ وإنه ليعتزل زوجته، ويتكره لأبنائه أو يشيح بوجهه عنهم؛ وإنه ليدفن وجهه ساعات بين كفيه؛ وإنه ليسرع ذات مرة إلى بندقية صيده فيبعدها ويغلق من دونها بابا مخافة أن يقتل بها نفسه؛ وإنه ليترك ما يأتيه من رسائل في غلقها، ولا يحب أن يلقى أحدا من صحابته؛ وإن زوجته لتملئ فرقا وحزنا حتى لتكاد تذهب نفسها عليه حسرات؛ وإن أولاده ليعجبون ولكنهم واجمون. .
ماذا دهاه؟ إن حاله من تلقى ضربة في الظلام تركته يترنح من الألم، وكلما أوشك أن يفيق أخذه دوار فتركه يتخبط
ويهذي، لا يدري متى يعود إليه صوابه. . .
ولكن تولستوي لم يتلق الضربة على حين غفلة، فإنه منذ صدر شبابه تهجس في نفسه أسئلة عن الحياة ومعناها،
والغرض منها؛ ولقد رأينا كيف ألحت عليه هذه الأسئلة وهو في القوقاز وشغلته آماله(774/16)
وأحلامه بالصيت والأسرة
السعيدة؛ كما شغله عمله على تحقيق هذه الآمال، وعمله في التعليم والمجلة والزراعة؛ ولكن تلك الأسئلة كانت
تعاوده بين حين وحين، وهي في كل مرة أشد إلحاحاً عليه منها فيما سلف. . . .
وعظم إلحاحها عليه بعد زواجه فقد كان قبل الزواج بعض ما كان يزيح عن نفسه هواجسها من أمل حلو. فلما
بات الأمل حقيقة ماثلة، التفتت نفسه إلى ما كان يكربها. . .
وظهر أثر تلك المخاوف قويا أثناء كتابته قصتيه الكبيرتين فيما أجراه على ألسنة بيبر والبرنس أندرو وليفن؛ ولقد
خاف ليفن أن يقتل نفسه من اليأس لأنه لا يرى في الحياة إلا العذاب ثم الموت. . .
وكان يصل به الحال أحيانا أثناء كتابته (أنا كارينينا) إلى ما يخيفه ويخيف زوجته كما أسلفنا، حتى لم يعد أكثر من مرة بينه وبين الجنون إلا خطوة، وما زاده التأمل إلا حيرة ولا دراسته الفلسفة إلا تشاؤماً وضيقاً. . .
وواجهته تلك الأسئلة بعد (أنا كارنينا) مواجهة مخيفة وعاد في إلحاح وفي ضيق يقول لنفسه: لماذا؛ ما وجودي وما الغرض منه؟ ما هذا الذي يسمى حياة؟ ولم كانت الحياة؟. قال في كتابه (اعترف) يصف هذه الحال (لقد أخذتني الحيرة حتى لا أدرى فيم أفكر؛ فإذا نظرت مثلا فيما عسى أن أعلمه أولادي قلت لنفسي: وفيم هذا؟ أو إذا فكرت فيما عساه أن ينهض بالفلاحين سألت نفسي: وماذا يعيني من هذا؟ أو إذا ذكرت ما عسى أن أكسبه من صيت بما كتبت قلت: سوف تغدو أبعد صيتا من جوجول أو بوشكين أو شكسبير أو موليير أو من كتاب الدنيا جميعا، فما جدوى ذلك؟ ولم أحر جوابا قط، وتلح الأسئلة على حتى ما تقبل ريثاً؛ فيجب أن تلقى جواباً على الفور؛ فإن لم اجب علها صار مستحيلا على أن أعيش. . . ولكنني لم أجد ما أجيب به. . . وأحسست أن ما كنت أضع عليه قدمي قد ذهب هباء، فليس ثمة ما اقف عليه؛ وما عشت زمانا عليه قد ولى، ولم يبق لي شئ. وبلغ بي الحال أن أصبحت أنا الرجل القوي الثري لا أطيق أن أعيش؛ وصارت تدفعني قوة لا تقاوم لأضع لحياتي حداً على صورة ما. ولست أستطيع القول: إني رغبت أن أقتل نفسي،(774/17)
فإن القوة التي كانت تنتزعني من الحياة كانت أقوى وأشمل وأوسع مدى من أن تكون مجرد رغبة. لقد كانت قوة شبيهة بتلك التي كانت من قبل تربطني بالحياة ولكن في اتجاه عكسي).
ويصور لنا حاله بإحدى الخرافات قال: (هناك خرافة شرقية قديمة عن سائح أقبل نحوه وحش هائج في أحد السهول؛ فلجأ هذا السائح هربا من الوحش إلى جب ناضب، ولكنه وجد في قاع الجب غولاً قد فغر فاه ليلتقمه، ولما رأى السائح التعس أنه لا يستطيع أن يصعد من الجب مخافة أن يلتهمه الوحش الثائر وأنه كذلك لا يستطيع النزول إلى قاعه مخافة أن يلتهمه الغول، فقد أمسك بفرع من النبات انبثق من صدع في الحائط وتعلق به؛ وأحس بالتعب يدب في يديه شيئا فشيئاً، وشعر أنه سوف يسلم نفسه عما قليل لا محالة إلى الهلاك الذي يتربص به من فوقه ومن أسفل منه، ولكنه لن يزال متعلقا بالغصن؛ ثم إنه ما لبث أن رأى فأرين أحدهما أبيض والآخر أسود، وقد دارا حول ذلك الغصن، وأخذا يقرضانه؛ وأيقن السائح أن الغصن لن يلبث حتى يقطع فيسقط هو في فم الغول؛ وبينما يرى ذلك، ويعلم أنه هالك لا محالة، إذ يبصر بقطرات من الشهد على بعض أوراق الغصن فيصل إليها بلسانه ويلعقها. . . وهكذا أتعلق أنا بغصن الحياة، وإني لأوقن أن غول الموت يتربص بي وأنه سوف يمزقني كل ممزق. ولست أستطيع أن أدرك لماذا وقعت في مثل هذا العذاب. ولقد حاولت أن ألعق الشهد الذي كانت لي فيه سلوة من قبل، ولكنني لم أعد أجد في الشهد ما يلذني؛ وما برح الفأران الأسود والأبيض، وهما الليل والنهار يقرضان الغصن الذي تعلقت به، ورأيت الغول في وضوح، ولم يعد للشهد طعمه الحلو. وليس أمام ناظري إلا الغول الذي لا مهرب منه والفأران، ولن أستطيع أن أدير عيني عن ذلك؛ وليس هذا حديث خرافة، وإنما هو الحق الذي لا ينكر والذي يفطن إليه كل إنسان).
لم يجد تولستوي معنى للحياة، فما هي إلا عبث، بل إنها واللاشيء سواء؛ ذلك ما رجع به من طول تأمله ومن طول قراءته شوبنهور وكانت وغيرهما، وذلك ما أجاب به عن تلك الأسئلة التي ظلت سنين تلح عليه وتعذب نفسه.
وهذا اللاشيء هو ما أفزعه، ثم إن انتهاءه إليه بعد طول التفكر هو الضربة التي تلقاها في(774/18)
الظلام والتي تركته يترنح ويصرخ من أعماق نفسه الحائرة: ما هذا؟ أين أنا؟ ولم جئت هنا؟ وإلى أين مصيري؟
لقد اهتدى البرنس أندور إلى الحب كما اهتدى ببير، واهتدى ليفن إلى السمو بالروح الخالدة والعزوف عن مطالب الجسد الفاني، ولكن تولستوي خالقهم لم يهتد إلى شئ، وظل حاله كما كان حال ليفن قبل هداه حين وصفه بقوله (عند ذلك تبين في جلاء أن كل حي إلى فناء وأنه هو نفسه ليس أمامه ما يتطلع إليه إلا الألم ثم الموت، ثم الفناء الأبدي، ولذلك استقر رأيه على أنه لن يستطيع بعد أ، يعيش على هذه الحال؛ فإما أن يجد تفسيراً للحياة أو فليقتل نفسه).
(البقية في العدد القادم)
محمود الخفيف(774/19)
مشاهدات مسافر:
2 - ألمانيا بعد الحرب إلى الدير. . .
للدكتور محمد سامي الدهان
هذه (توبنكين) كعهدي بها تحتضن نهر الراين في فخر وزهو فتتلوى حوله الجنائن والبيوت، وتداعب شطئانه الأبنية والجسور. ولا تزال قائمة في هندسة غريبة تتوالى صاعدة من السفح إلى القمة فتكسب الجبل الذي تقوم عليه جمالا وجلالا. ولو أتيح لك أن تنظر من القمم حولها إلى المدينة لانبسطت أمامك المدينة الحسناء خلال رقعة من الخضرة والماء فتانة خلابة لم تغير الحرب مها إلا في بيوت سقطت فأصبحت أكواما، وحوانيت خلت من البضاعة فغدت خاوية، وواجهات للمخازن أقفرت إلا من إعلان كبير عن الكمية من الزبدة والخبز والخضار التي توزع خلال الشهر. ويدهشك أن ترى الألمان وقوفا في صفوف متلاحقة أمام كل بائع، تنتظر في صبر عجيب نصيبها الضئيل من خبز يناله الألماني ليومه كله وتأتى عليه في غداء واحد؛ وزبدة ينتظرها الألماني لأسبوع بأجمعه، ونصيب مثلها في فطور واحد، ولباس قديم جديد تبعثه عبقرية الفقر والحاجة حيا بعد البلى. ويدهشك كذلك أن ترى نظام المقايضة والمبادلة بين البضائع والحاجيات، وقد عاد إلى ألمانيا في القرن العشرين بعد أن دفنته منذ قرون.
لا تزال توبنكين موطن الجامعة يقبل إليها الطلاب الناشئون مشغوفين حريصين، ويملئون مقاعد المكتبة دءوبين جشعين، يعملون حتى تضج معدهم الصغيرة بالجوع وأجسادهم الهزيلة من الغذاء. ماتت أفراحهم وحفلاتهم التقليدية حول كئوس الجعة؛ وخمدت أغانيهم وأهازيجهم في الشوارع والحفلات، وتفردت النساء والأطفال بالحدائق والحقول لأن الشباب الألماني بين العشرين والثلاثين غائب عن الميدان وهو اليوم في الأسر أو في القبر.
ولا تجد أكثر ما تجد في هذه المدينة إلا شيوخا وعجزة قد استسلموا للكنيسة أكثر أوقاتهم، أو للبيوت يزرعون حدائقها الصغيرة، منها يأكلون وعليها يقتاتون. وما هي إلا سياحة قصيرة حتى يمل المسافر النظر والنزهة، فيستريح إلى صديق ودود يستمع منه الشكوى والحرمان والشجاعة والأسى. ولي في هذا البلد أصدقاء مستشرقون منهم ليتمان وفكتور(774/20)
بور وفايسفايلر أما الأول فما يزال يبتسم في فلسفة للحياة، في أسلوب شرقي، ويتحدث عن ماضيه في فلسطين ومصر بلهجة عربية، ويعتز بطلابه، وفيهم آنسه تترجم (الأيام) للدكتور طه حسن بك إلى اللغة الألمانية، وطالب يؤلف رسالة عن (الفيح القسي في الفتح القدسي) للعماد الأصفهاني، وآخر يؤلف عن العامة والأزجال، يسترشدون برأيه في بيته أو في معهد العلوم الشرقية. وهذا وهذا غاصان بالكتب العربية الجليلة النادرة. فمن شاء أن يعود إلى الشرق وهو في ألمانيا فليقصد الرجل. وأما فيكتور بور فهو قيم المكتبة العامة، يؤلف عن العرب والبيزنطيين في أناة ودقة وعلم عرف بها أساتيذه وأجداده وأما الثالث فليس في المنطقة، وإنما وقعت الهدنة وكان في (غوتنجن) فأصبح من نصيب المستعمر الجديد. وحظه في هذا كحظ المخطوطات العربية سافرت خلال الحرب من أماكنها إلى مخابئ أمينة. فلما انتهت الحرب أصبحت البلد في دولة مخطوطاتها في دولة. في الجنوب مخطوطات الشمال وفي الغرب مخطوطات الشرق. ففي كل منطقة مخطوطات المنطقة الأخرى، فماذا في هذه المنطقة من مخطوطات؟ لعل أصدقائي من المستشرقين لا يعرفون ذلك بل لعلهم لا يسعون إلى هذه المعرفة في هذه الظروف. . . .
والألماني يجهل ما يجري في بلاده الآن، وقد عادت به النكبة قرونا في ركب الحضارة. فقد انقطعت المواصلات الحسنة أو كادت، وتباطأ البريد حتى لكأنه معدوم، فالبرقية من برلين إلى غيرها تقطع أربعة أيام أو ستة؛ والرسالة تطوى المسافات فتفتحها أيد وتغلقها أيد في رقابة غريبة، فإذا وصلتك فأنت بها سعيد. فليس عجيبا إذا أن يجهل الألمان في منطقتهم من خزائن ثمينة، ذلك لأن الحكومة النازية نقلت أكثر المكتبات إلى مخابئ نائية وأحاطت هذا النقل بالكتمان، وحرمت إذاعة الخبر، ليجهل الخلفاء مواطن التحف، وليجنبوها غاراتهم العنيفة التي اشتدت في الشهور الأخيرة قبل الانكسار.
واختارت أحد مخابئها هذه القرية، بين جبال عالية لا تصلها الطائرات فإذا وصلتها لم تنل منها. وليس في هذه القرية الصغيرة ما يحوى الكنوز ويضم التراث ويكفل المخطوطات إلا حصن واحد جبار هو هذا البناء الكبير بناء الدير. فما من سبيل إذا إلى بلوغ أمنيتي إلا أن أدخل الدير. . .
لبثت يومين كاملين أفكر في الدير وفي السبيل إلى الدير، فقد انقطعت الأسباب بين أكثر(774/21)
المدن الكبيرة فكيف نبلغ هذه القرية، وليس من قطار مباشر يصلنا بها، وليس من مهاجرين يقصدون إلى الدير؛ وكيف أقنع من حولي أن ثمة مخطوطات عربية يجب أن أراها؟! جزعت حين عرضت الأمر على أصدقائي من الألمان فضحكوا. إن السكان لا يبلغون المأكل والملبس، ونحن نفتش عن زينة الحياة وترف العلم، نحي الكتب القديمة ونعنى بالأوراق الصفراء، والأشخاص حولنا يتضورون جوعاً! فما أعجب الدنيا!
استطعت بعد جهد أن أقنع سيارة تقلني في شروط قاسية؛ بعضها أننا سنقطع أياما فيما يجتازه المسافر من قبل في ساعات، والسيارة هي السيارة، ولكن جهازها اليوم عجيب لا يأكل إلا الخشب وقد حرم (السائل) النادر هو كذلك. فعاج السائق إلى برميل كبير يرمى فيه قطعا من الخشب تحترق خلال بعض الساعة فإذا الجهاز يؤذن بالحركة وإذا نحن نمضي في الطريق.
لا أستطيع أن أتصور عواطفي الآن، ولست أذكر أكان على أن أضحك أم أحزن. فصوت السيارة غريب، ودخانها الأسود كان يلفح مع الربح وجوهنا، فنفرح أن السيارة جادة، وما هي إلا ساعة حتى نهدد بالوقوف لأن المحرك جاع، فلنفرغ بعض الكيس من الخشب ولنمض كذلك في مرتفعات ساحرة ووديان فتانة؛ تنسينا هزل الزمان وسخرية الأيام، وما يصنع الإنسان بالإنسان حتى بلغنا القرية التي نقصد إليها؛ وإذا القرية لا تعدو عشرات البيوت في وادي جميل عطر، وإذا بناء الدير يقوم في عظمة لحراسة الوادي والإشراف على خيراته.
دخلنا سور الدير، وقرعنا الجرس؛ فإذا الكاهن البواب يسألنا عن الغرض والغاية؛ فتولى صديقي الكلام ورجا عني أن (ألقى الأب الأول) كما يسمونه فهو رئيس الآباء وراعي الدير. فدخلت حجرة الانتظار بين صور القديسين والصلبان، ولبثت واقفا حتى فتح الباب فإذا الأب المنتظر قد سلخ في السن، وعلى عينيه نضارتان سوداوان، وعلى صدره صليه الذهبي الكبير المتلدي، فسارعت إلى الأرض جاثيا على الركبة اليسرى واستملت يده أفتش عن الخاتم الذي أقبله بشفة مرتجفة وقلب مضطرب لئلا يخونني التمثيل فيكشف أمري وتبوء مهمتي بالفشل وأعود أدراجي لا ألوى على شئ.
انفرجت أسارير الرجل المحترم ورحب بي وعرف من لهجتي الألمانية أني غريب وأني(774/22)
قدمت المنطقة لأزور القرية للمرة الأولى، وأن ليس في القرية من سكن أرى إليه. فالفنادق مستشفيات خاصة بجرحي الحرب، وأني لاجئ إليه، وليس من سلطان للاستعمار عليه. فقد وعدت الهدنة بأن تحترم الأديان وبيوت الله، فهو وحده يحكم القرية والدير، وإليه هنا المرجع والمآب.
فهم الرجل في كلمات، وأجاب في لطف بالغ ووقار جميل بأن الدير بيت للجميع وأن ما في الدير ملك لله، وأنه موكل بصحبتي قيم المكتبة فهو دليلي إلى المخطوطات، وصديقي إلى اكتشاف المخبئات. وقرع الجرس فانحنى كاهن صغير من (الإخوان)، وانفتل يطلب الأب غالوس وسألني في هذه الفترة القصيرة وقدفهم حرمتي للمكان وغربتي بين السكان ليتأكد أني لست من البروتستانت الكثرة في ألمانيا؛ فديره للكاثوليك وهم قلة فيها يتكاتفون ويتعاونون. ولست أدري كيف أجبت، ولست أذكر كيف تكلمت، وإنما أعرف أن قلبي وقف عن الخفقان لحظة خلت أني أقضي إثرها، وإني أجبت من غير أن أعلم: أجل يا أبي الكبير أجل! فرجاني تبسط جميل أن أصطنع الحرية في طلب ما أريد، فشكرت له، وانحنيت على يده ثانية أودعه كما استقبلته لألقى الأب القادم وألقى بين يديه بمقاليد الأمر وما جئت له وما هي إلا دقائق حتى كنا ننحني في الكنيسة أمام المعبد نقدم واجبات التحية في الاحترام قبل أن يحين العشاء.
ويشاء الله أن تتابع المراسيم الصعبة في أقل من ساعة. فالدخول إلى الأكل له نظامه في الدير. يدخل الآباء واحدا بعد واحد وهم يرتلون؛ ويتبعهم الإخوان في أثرهم وهم يرتلون؛ ثم يدخل ضيوف الدير، وفيهم ثلاثة طلاب وأستاذان، وهم كذلك يرتلون، وأنا ساكت واجم أنظر يمنة وأنظر يسرة في طرف خفي وقلب وجلى، قبل الدخول، لئلا أخطئ في الحركة وأشذ عن هذا النظام الدقيق.
ووقفنا دقائق أمام المائدة ونحن خشوع سكوت ملتفين حول موائد طويلة ومقاعد من خشب في قاعة كبيرة استوعبت مئتين من الآباء والإخوان مع ستة من الضيوف جعلت في وسط القاعة، وحولنا من الجهات الأربع سكان الدير، وقد أخذوا أماكنهم في نظام عجيب. وتصدر القاعة الأب الكبير، فلما أذن لنا ارتمينا على مقاعدنا من غير أن نرفع البصر أو نحرك عضواً من الأعضاء نستمع إلى الإنجيل يتلى علينا من منبر عال باللاتينية م(774/23)
بالألمانية. وطاف الإخوان بالأواني يحملون العشاء فأصبنا ماء ساخنا يسمونه حساء، وسلطة من العشب الأخضر عليه ماء وملح، ثم طبقا من البطاطس المطبوخ، وختمنا بالحلوى وهي من الخبر الأسود قد تناثرت على بعض أطرافه ذرات من السكر. ولكننا لم نر اللحم ولم نذقه فهو عنا غريب.
وانتهى العشاء الكامل الشامل فأرسلنا الشكر إلى البارئ وخرجنا كما دخلنا في نظام جيمل، وكل يهنئ رفيقه على الصحة ويسأله عن شهيته في أكلة اليوم - على عادة الألمان في آدابهم وولائمهم -.
لم أبال بهذا الغذاء أكان دسما أم لم يكن لأني أمني النفس بغذاء الغد من مخطوطات العرب!
فإلى الغد أيها الآباء!. . .
سامي الدهان(774/24)
طرائف من العصر المملوكي:
التورية
للأستاذ محمود رزق سليم
التورية ضرب من البديع، والبديع - بلا ريب - فن جميل من فنون القول. سواء اختلفت النظرات إليه أم ائتلفت. إذ الفن في جوهره مظهر الفنان ومستجاب وحيه ومرتاض عاطفته به يصور وجدانه ويرسم فكرته، ابتغاء التأثير في سامعه وهو في هذا يجري وفق ذوقه ويسير قيد مزاجه، فإذا نهج على قواعد أخرى فإنما هي قواعد ارتضاها هذا الذوق واطمأن إليها هذا المزاج. فلا عليه إلا أن يصور ويرسم. فإن بلغ فيه من سامعيه ومعاصريه حد الإعجاب، فذلك عهد به وأمله فيه ورجاءه منه. وإلا فقد بذل ما استطاع، وقدم ما قدر عليه. وهو بين هذا وذاك فنان لا يغض من فنه نقدنا قد ولا إزراء مزر.
ولقد كان فن البديع أغلى فنون الحديث ومسالك الأسلوب عند أدباء العصر المملوكي وشعرائه. ملك على القوم أحلامهم وذلل أقلامهم فلا تجري إلا بين أرسانه، ولا تجول إلا وسط ميدانه، فوردوا موارده وعنها صدروا. ومدوا موائده وإليها ابتكروا. وكانوا بذلك أدنى أدباء عصر إلى تمثيل أهله، وأقرب شعراء حقبة إلى تصوير معاصريها.
نقول ذلك، لا على المبالغة، بل على سبيل الحق والصدق، ذلك أن الشعب المصري طبع من عهد بعيد على أن يسلك في حديثه مسالك البديع ترفيها للخطاب، وتجميلا للألفاظ، وتجميعا البديهة. فهو يجنس ويوري ويطابق ويقتبس ويضمن، ولا يني يبعث في خلال ذلك النكتة إثر النكتة والفكاهة غب الفكاهة، فيها دلالات عدة واتجاهات شئ ينم عنها اللفظ بمنطوقة مرة وبمفهومة مرة وبملابساته مرة، وهكذا.
لا نحاول هنا أن ندرس مبعث هذه الروح فيه، ولا أن تتبع أسبابها. ولا نحاول أن نرجعها إلى عواملها الطبيعية من ذكاء، أو طيب عيش أو طيب مناخ، أو إلى عواملها الاجتماعية من كبت عاطفة أو مقاساة حرمان أو كمون التياع. أو من خب في لذة، أو تطرف في ترف، أو غلو في سرف. أو غير ذلك مما يتطلب له المرء مخرجا في القول فلا يجد إلا هذه الضروب البديعة، ففيها له المتنفس والمرح. يجمع في أحدها العديد من المعاني ثم يترك السامع يقلبها بين يديه ويختار من بينها ما يلذ له ويروقه، فهو بذلك، يحمله على(774/25)
التفكير معه، ويدفعه إلى مشاركته ويسرى بخياله إلى شئ التصورات، ويتنقل به بين مختلف المعاني، ويكفيه بذلك فنا.
سرت هذه الروح في الشعب خلال حديثه حتى كانت له سمتا وشارة، وعرفت عنه منذ أمد، ونمت نمو عجيبا في العصر المملوكي. ولعل حياة الزخرف والدهان، التي كان يفيض بها العصر، كان لمها أثرها في هذه النمو العجيب، الذي نضح على أدباء العصر وشعرائه فكانوا - كما ذكرنا - أدنى إلى تمثيله وتصويره.
واعتقادي أننا - معشر المصريين - لا نزال حتى اليوم ندرج في هذه المدارج، ونطرق تلك السبل، برغم فراهة كتابنا وحدق شعرائنا وحرية أدبائنا، وإزاحتهم ربقة البديع عن أعناقهم وتغلغلهم وراء المعاني والأفكار، وسوقهم خلف الدقائق، وأخذهم من الفلسفة وإمعان النظر بنصيب، ظهرت عوارضه على إنتاجهم وأساليبهم ولكن أعتقد أنهم - رغم حسناتهم تلك - لا يمثلون بأساليبهم العصر الذي فيه يعيشون. ومن كان في ريب من هذا، فليسر في طرقات القاهرة. وليعر السمع إلى نكات العامة ومحاورات الباعة ومحادثات المارة. فليلج الأسواق الجامعة والمنتدبات الحافلة وما شاكلها. فليصت إلى أساليب الناس في الحديث، وإلى مدى امتلائها بالتوريات اللطيفة والتضمينات الطريفة والتجنيسات والمطابقات والتلميحات وغيرها من محسنات البديع، لا تكاد تخلو منها عبارة، أو تفرغ منها إشارة. والجمهور في ذلك يصدر عن طبع وفطرة قويمة. فهو يعكس في أسلوبه تصوراته الباطنة وانفعالاته الخفية الكامنة - فإلى أي مدى صار أدباءه المعاصرين مرآة له في مسالك أسلوبه ومناهج حديثه؟
ليست عند ريبة في أن أدباء العصر المملوكي أدنى إلى تمثيل عصرهم أسلوبا وتصويرا - كما ذكرت - وإذا كان الشعب في مجموعة ذافن في مسالك القول فهؤلاء كانوا ألسنته المتكاملة وعواطفه المترجمة. فهم بدورهم فنانون صادقون ومصورون ماهرون.
وصحيح أن هناك من النقاد الحديثين من وضع لنقده مقياسا يعني فيه بالبحث عن المعاني المبتكرة والتصورات الجديدة والأفكار المفيدة. كأنه يريد من الشعر ألا يكون إلا فلسفة وإلا حكمة وإلا مثلا، وإلا دستورا صامتا من دساتير الحياة. وأن يكون كذلك في كل عصر من العصور، وبهذا المقياس يزيف أدب العصر المملوكي ويزيف شعره، حتى ليتساءل عن(774/26)
أدبائه وشعرائه ويقول أين كانوا يعيشون؟
والحق أن جلال الأدب في أسلوبه، وجماله في طريفة أدائه وأن صدقه في أن يعبر عن عاطفة الأديب وشعوره، وأن يحسن في تصويره. ولا ريب أن ضروبا كثيرة من البديع تعين الأديب على ما هو بصدده من فن التعبير والتصوير، ومن أبرزها التورية والتضمين والجناس والطباق. وهذه كانت من أهم دعائم الأسلوب في العصر المملوكي.
أنا لا أدافع عن البديع ولا أحدث عن مذهبي فيه. وإنما أحببت له العدل، وأردت له الإنصاف. فقد كان مزاج الأدب وقوام الأسلوب في عصر من العصور المصرية. ولم يكن ذلك غريبا منه حينذاك، بل الغريب ألا يكون. وكيف كان إنتاجه فهو قمين بإعادة النظر فيه من مؤرخي الأدب بيننا. أحب ألا يتأبوا على البحث فيه، وألا يمتروا في حصافته قبل أن يبدءوا ببحثه فليعيدوا فيه النظر بعد إحسان الظن به. ويقيني أنهم سينصفونه وسيجدون فيه شيئاً جديداً مفيدا ممتعاً.
والبديع بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، فمن - بلا ريب - جميل، كما أشرنا، وقد استطاع أدباؤه أن يبرزوا بصورة عملية واضحة ما في هذه اللغة الكريمة من مزايا ولطائف وضروب جمال في تكوين ألفاظها وتناسق كلماتها. وأبانوا كيف أقدرهم هذا التكون والتناسق على التلاعب بالأسلوب والإبداع في الحديث، فأظهروا ما خفي في هذه الألفاظ من أسرار، وأشعروا الناس بجمال الترادف والاشتراك والتضاء فيها، وجلوا اللغة في ثوبها المرن المطاط الذي كثيرا ما يتسع للمعاني المتنافرة التي تند عن الذهن حينا كيفية اجتماعها وطريقة تآخيها.
وكانت التورية أحب أنواع البديع عند أدباء العصر المملوكي وأجل ما برعوا فيه منها. وأفضل ما أبدعوا فيه المعاني، وأجمل ما أحسنوا فيه التصوير، لم يشذ منهم عن هذا النهج شاذ. وصحيح أن الصلاح الصفدي - كما بينا في مقال النقد الأدبي - أعزم بالجناس وجن به دون أدباء عصره، ولكنه إلا جانب هذا كان من شعراء التورية. قال ابن حجة الحموي:
(هذا النوع - أعني التورية - ما تنبه لمحاسنه إلا من تأخر من حذاق الشعراء وأعيان الكتاب. ولعمري إنهم بذلوا الطاقة في حسن سلوك الأدب إلى أن دخلوا إليه من باب التورية فإن التورية من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة وسحرها ينفث في القلوب، ويفتح(774/27)
أبواب عطف ومحبة. وما أبرز شمسها من غيوم النقد إلا كل ضامر مهزول. ولا أحرز قصبات سبقها من المتأخرين غير الفحول).
وقال أيضا: (وقع الإجماع على أن المتأخرين هم الذين سموا إلى أفق التورية وأطلعوا شموسها. ومازجوا بها أهل الذوق
السليم لما أداروا كئوسها. وقيل إن الضلففاضل هو الذي عصر سلافة التورية لأهل عصره. وتقدم على المتقدمين بما أودع منها في نظمه ونثره. فإنه - رحمه الله تعالى - كشف بعد طول التحجب ستر حجابها. وأنزل الناس بعد تمهيدها بساحاتها ورحابها. وممن شرب من سلافة عصره. وأخذ عنه وانتظم في سلكه بفرائد دره: القاضي ابن سناء الملك، ولم يزل هو ومن عاصره مجتمعين على دور كأسها. ومتمسكين بطيب أنفاسها. إلى أن جاءت بعدهم حلبة صاروا فرسان ميدانها. والواسطة في عقد حماتها. كالسراج الوراق وأبي الحسين الجزار، والنصير الحمامي وناصر الدين حسن ابن النقيب، والحكيم شمس الدين بن دانيال، والقاضي محي الدين بن عبد الظاهر).
وهؤلاء الأدباء الستة ذكرهم ابن حجة هم من شعراء العصر المملوكي وفي نصف القرن الأول منه تقريبا. وفد توالى من بعدهم أدباء. فحول آخرون هم حلبة ابن نباتة ومنهم الصفدي وابن الوردي وابن اللبانة والحلي والاسعردي والعمري والمعمار، وتوالت الحلبات من بعدهم - كما سنبينه أن شاء الله في مقال آخر - وكلهم يسير تحت راية التورية، وعاصرهم في بلاد الشام آخرون. قال الصلاح الصفدي يذكرهم بعضهم:
(وجاء من شعراء الشام جماعة تأخر عصرهم، وتأرز نصرهم ولأن في هذا النوع حصرهم وبعد حصرهم. كل ناظم تود الشعري لو كانت له شعرا. ويتمنى الصبح لو كان طرساً، والفسق مداداً والنثرة نثراً. ماجلا من بنات فكره خوداً إلا شاب لحسنها الوليد. وسيرها في الآفاق وبين يديها من النجوم جوار ومن الشعراء عبيد. كالشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة. والأمير مجير الدين بن تميم. وبد الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي. ومحي الدين قرناص الحموي. وشمس الدين ابن العفيف. وسيف الدين بن المشد).
وقال أيضا: (ولا تقل أيها الواقف على هذا التأليف: لقد أفرطت في التعصب لأهل مصر(774/28)
والشام. على من دونهم من الأنام وهذا باطل ودعوى عدوان. وحمية لأوطانك وما جاورها من البلدان. فالجواب أن الكلام في التورية لا غير. من هنا تنقطع المادة في السير. ومن ادعى أنه يأتي بدليل وبرهان فالمقياس بيننا والشقراء والميدان).
وبعد فما هي التورية؟ قال ابن حجة يعرف بها:
(هي أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو أحدهما حقيقة والآخر مجاز. أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية. فيريد المتكلم المعنى البعيد ويورىعنه بالمعنى القريب فيتوهم السامع لأول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك).
والتورية - كما يرى القارئ - تحتاج إلى إلمام باللغة وإلى نزعة أدبية سلمية، وإلى لطافة في الحس. وهي إحدى طرف أداء المعنى. والفرق بينها وبين أداء المعنى في حيز الدلالات اللفظية هو الفرق بين الأدب واللغة. والمورى مجدد لأنه يضع أمام السامع صورا من المعاني عدة متشابكة في بعض أجزائها، متماسكة في بعض ملابساتها، فيدفع السامع إلى التنقل بخياله والتجول بفكره بين صورها الشتى حتى يقع خاطره على المعنى المقصود، دون أن يشعر بثقل أو يحس بجهد، بل بالعكس يتنقل بينها كما يتنقل بين أجزاء روضة، وبين ثنيات بستان، ويكون لذلك أثره فيه فيلطف حسه ويرق خياله ويتسع تصوره، وهذه دعائم نفسية تقوم عليها دولة الأدب. وقد نقل ابن حجة قول الزمخشري في التورية حيث قال: (ولا نرى بابا في البيان أدق ولا ألطف من هذه الباب، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله وكلام صحابته رضى الله عنهم أجمعين. فمن ذلك قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) لأن الاستواء على معنيين أحدهما الاستقرار في المكان، وهو المعنى القريب الموري به الذي هو غير مقصود، لأن الحق تعالى وتقدس، منزه عن ذلك. والثاني الاستيلاء والملك وهو المعنى البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور) - ويهمنا من كلام الزمخشري حديثه عن التورية. أما ما استشهد به من القرآن الكريم ففيه نظر. لأنه كان يدين بالاعتزال.
ومع ذلك فيه نظر من ناحية أخرى، إذ يعتبر تأويله هنا من باب الكناية مثلالا من باب التورية. وهذا يجرنا إلى الإشارة إلى أن التورية - في جوهرها وفيما نشعر - ليست في حدودها الضيقة التي وضعها فيها علماء البلاغة بل أنها أوسع نطاقا وأبعد آفاقا. أو أنها(774/29)
على الأقل ذات صلة وثقى بأنواع البلاغة والبديع، كالكتابة والمجاز والإلغاز والمحاجاة والتوجيه والتلميح والإبهام والجناس، وأن بينها وبين هذه الأنواع أمورا متشابهة لا نفرق بينها إلا دقائق معنوية، وهذه الأمور تشعرنا بأنها جميعا تمت إلى التورية بأوثق الصلات. على أن هذا موضوع يحتاج إلى بحث ومعاودة ونظر جديد. فلنتركه الآن لنطرف القارئ ببعض نماذج التورية التي أثرت عن أدباء العصر المملوكي، وكثير منها في الغزل والوصف والشكوى والمدح والإخوانيات. ومنها ما يلي:
كان السراج الوراق مقيما بالروضة، فكتب إليه نصير الدين الحمامي موريا بها فقال:
كم قد ترددت للباب الكريم لكي أبل شوقي وأحيي ميت أشعاري
وأنثني خائباً مما أؤمله ... وأنت في روضة والقلب في نار
فكتب إليه السراج الوراق:
الآن نزهتني في روضة عبقت ... أنفاسها بين أزهار وأثمار
أسكرتني بشذاها فانثنيت بها ... وكل بيت أراه بيت خمار
فلا تغالط فمن فينا السراج ومن ... أولى بأن قال إن القلب في نار
وقال أبو الحسن الجزار موريا بصناعته:
إني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي
تضئ بالدم إشراقاً عراصهم ... فكل أيامهم أيام تشريق
وقال الجزار موريا بلفظ (المطوق):
أنت طوقتني صنيعا وأسمعتك شكراً كلاهما ما يضيع
فإذا ما شجاك سجعي فإني ... أنا ذاك المطوق المسموع
وقال دانيال الموصلي موريا في (قوم):
أيا سائلي عن قد محبوبي الذي ... فتنت به وجداً وهمت غراماً
أبى قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالا فأضحى بين ذاك قواما
من توريات الشباب الظريف في كلمة (باقل):
ولو أن قسما واصف منك وجنة ... لأعجزت نبت بها وهو باقل
ومن توريات جمال الدين بن نبانة في كلمة (راحة):(774/30)
يا غائبين تعللنا لغيبتهم ... بطيب ولا والله لم يطب
ذكرت والكأس في كفى لياليكم ... فالكأس في راحة والقلب في تعب
وقال أيضا في (الكمال) وهو مسمى به:
أرى جلستي عند الكمال تميتني ... غبونا ونفعي بالعلوم بفوت
وما تنفع الآداب والعلم والحجا ... وصاحبها عند الكمال يموت
وقال متغزلا موريا في (حمل وقد):
سألت النقا والبان أن يحيكا لنا ... روادف أو أعطاف من زاد صدها
فقال كثيب الرمل ما أنا حملها ... وقال قضيب البان ما أنا قدها
وروى محي الدين بن عبد الظاهر في (الأوراق) فقال متغزلا:
ذو قوام يجور منه اعتدال ... كم طعين به من العشاق
سلب القضب لينها فهي غيظي ... واقفات تشكوه بالأوراق
ومن طرائف التوريات ما خرج مخرج الجناس، قال ابن حجة (قد تقرر أن ركتي الجناس يتفقان في اللفظ ويختلفان في المعنى لأنه نوع لفظي لا معنوي. وهو نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع: والتورية من أعز أنواعه وأعلاها رتبة فإذا جعلت الجناس تورية انحصر المعنيان في ركن واحد، وخلصت من عقادة الجناس).
ومن جناس التورية قول بدر الدين الدماميني يصف ابن حجر العسقلاني:
حمى ابن علي حوزة المجد والعلى ... ومن رام أشتات المعالي وحازها
وكم مشكلات في البيان بفهمه ... تبينها من غير عجب ومازها
مازها من ماز يميز أو بمعنى لم يدخله الزهو.
فأجابه ابن حجر بقوله:
بروحي بدراً في الندى ما أطاع من ... نهاه وقد حاز المعالي فزانها
يسائل أن ينهي عن الجود نفسه ... وها هو قد بر العفاة ومانها
ومانها، من مانه بمعنى كفاه. أو مانها من النهى.
ويطول المقام إذا ذهبنا نتحدث عن التورية نستشهد لأنواعها من شعر هذا العصر. فحسبنا ما مر.(774/31)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(774/32)
من أدب العراق:
المرأة في شعر الرصافي
للشيخ محمد رجب البيومي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
أماحافظ فقد جعل الأم مدرسة كصاحبه، وزاد فرفعها إلى قمة عالية فكانت عنده أستاذ الأساتذة الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، كما شبهها بروض زاهر، فذكر أنها ليست أثاثا يقتنى في الدور ولا درراً تصان في الأحقاق، فيجب أن تتبوأ مكانها في المجتمع. وهو مع هذه الصيحة يحتاط أكمل احتياط، وينظر إلى البداية والنهاية معا في وقت واحد، فيخوف من السفور، ويحدد مهمة المرأة الاجتماعية، فهي ربة بيت تنهض بأعبائه، وتضطلع بشؤونه.
قال شاعر النيل:
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً ... بين الرجال يجلن في الأسواق
يدرجن حيث أردن لا من وازع ... يحذرن رقيته ولا من واقي
يفعلن أفعال الرجال لواهياً ... عن واجبات نواعس الأحداق
في دورهن شؤونهن كثيرة ... كشؤون رب السيف والمزراق
وإذن فحافظ متحفظ في ثورته، وكل ما يريده أن تخرج الفتاة إلى مدرستها ثم ترجع إلى البيت الذي تديره، ولا كذلك الرصافي، فهو يمشي مع السفور إلى أبعد شوط، ويرى أن المرأة كالحمامة لها ريش يجب أن تطير به، وسجع يلزم أن تردده، وإلا لما خلق الله لها ذلك، وكان التعلل بالشريعة نغمة متصلة، يرددها المحافظون فأطنب الشاعر في دحض هذه الحجة، وأخذ يكرر قوافيه المتلاحقة في نقضها. ومما قاله في ذلك فوق ما قدمناه:
وأكبر ما أشكو من القوم إنهم ... يعدون تشديد الحجاب من الشرع
وذلك أنا لا تزال نساؤنا ... تعيش بجهل وانفصال عن الجمع
أفي الشرع إعدام الحمامة ريشها ... وإسكاتها فوق الغصون عن السجع
فقد أطلق الخلاق منها جناحها ... وعلمها كيف الوقوف على الزرع(774/33)
وقصائد الرصافي في هذا الموضوع أكثر من أن تحصر؛ فقد كان يرى الدفاع عن حقوق المرأة أمانة في عنقه، يجب أن يؤديها بغير تمهل وانتظار. وقد أفلح الشاعر في دفاعه أي فلاح، وعاش حتى رأى المرأة الشرقية كما أحب لها من تقدم وصعود، فعاد يمجد في مواهبها، ويبالغ في مكانتها ويفخر بنهضتها التي نمت في وقت يسير. وما ظنك بزارع كادح بذل جهده الدائب في شق التربة وغرس الثمرة. وصادف من الصخور ما كاد يهشم معوله، ويبدد قوته وما زال يتعهد غرسه بالماء حتى رآه - بعد لأي - جنة مورقة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، هكذا كان معروف!!
وهنا نتساءل بعد ما أسلفناه من جهاد الشاعر عن موقفه العاطفي من المرأة، وهل ملكت يوما زمام فؤاده؟ وماذا أوحت إليه من فاتن الغزل ورقيق النسيب؟؟
وقبل كل شئ نذكر أن الرصافي قد تزوج مرة واحدة في حياته، أثناء إقامته بتركيا، ولم يكتب له التوفيق كزوج مسؤول، فطلق امرأته بعد مدة وجيزة، وألقى العبء عن كاهله، كما صنع شاعر النيل؟
كما لم يحدثنا أحد من معارفه بأنه أحب فتاة معينة، أو أنشأ علاقة مع امرأة بذاتها، وإن كنا نعلم أنه كان إباحيا متحللا يبحث عن شهوات الجسد من أي طريق. وأنت تنظر إلى ما روى عنه من صادق النسيب، فنجده ينظر إلى النساء بمنظار واحد، فهو يغازل هذه وتلك دون أن يدخر في قلبه شجنا مبرحا، أو لوعة حارة. وإذن فمعروف يهوى الحسن مجردا عن ذاته كما يراه في كل لون ووضع؛ فهو بحب البيضاء، إذ تتألق كالبدر، ويعشق الحمراء إذ يتذكر بها طلوع الشمس، ويميل إلى السمراء والصفراء جميعا في وقت واحد!! وقد يظن الناس أن هذا خيال شاعر لا حقيقة له، والواقع غير ذلك، فالجمال لا يقف عند لونه، وإنما يتعداه إلى الخفة والمرونة. وكأني بالرصافي وقد وجد قلبه أعظم من أن يختص بواحدة، فهام بجميع الملاح. اسمعه يقول
وقفت عليكن قلبي الذي ... يمر به الحب مر السحاب
فمنكن أحببت هذي وتى ... وألفيت عذبا بكن العذاب
فمنكن بيضاء ما مثلها ... (عدا حمرة الخد) ألا القمر
فتلك التي طاب لي وصلها ... كما ليلة البدر طاب السمر(774/34)
ومنكن حمراء جذابه ... حكى وجهها الشمس عند الطلوع
أرى عينها وهي خلابة ... فأمسك بالكف مني الضلوع
ومنكن صفراء في لونها ... كأن قد تردت شعاع الأصيل
إذا ما تمشت على ضعفها ... أصَّحت هبوب النسيم العليل
ومنكن سمراء تحكى الدمى ... وتبعث في القلب ميْت الهوى
على شفتيها يلوح اللمى ... فتوقد في القلب نار الجوى
ومنكن من هي مثل الرياح ... لها في ذرى كل قلب هبوب
تريد غلاب جميع الملاح ... وتبغي عذاب جميع القلوب
فمنكن طرا بوادي الهوى ... أهيم وإن لم تعد عائدة
ألا إن حيا بقلبي انطوى ... كثير فلم تكفه واحدة
وطبيعي أن يكون الرصافي فنانا ماهرا في نظرته إلى المرأة، فهو يصفها في دقة وحذق وكأنما أحاط بحركاتها واجدة فواحدة. وقد صور ملهى للرقص في بغداد، فكدنا نراه في القاهرة. والذي يهمنا منه تلك اللوحة الرائعة التي رسمها للراقصة الفاتنة؛ فقد تكلم عن ثوبها الحريري فخيل إلى أنه حائك ماهر يصفه لزميله كي يصنع مثله. وانتقل إلى حركاتها السريعة فكاد يسبقها في الخفة والوثوب، على أنه يطير معها في الجيئه والذهوب، ولن أترك القارئ حتى أضع أمامه جانبا من هذه اللوحة، فالفن يشوه بالتخليص أقبح تشويه، قال معروف:
خطرت والجمال يخطر مها ... في حشا القوم جيئة وذهوبا
وعلى أرؤس الأصابع قامت ... تتمطى تبخترا ووثوبا
نحن منها في الحالتين نرانا ... نرقب الشمس مطلعا ومغيبا
حركات خلالها سكنات ... يقف العقل ينهن سليبا
وخطّى تفضح العقول اتساقاً نظمتها تسرعا ودبيبا
لو غدا الشعر ناطقا بلسان ... لتغنى بوصفها عنَدليبا
أظهرت في المجال من كل عضو ... لعبا كان بالعقول لعوبا
مشهد فيه للحياة حياة ... تترك الواله الحزين طروبا(774/35)
وله من هذا السياق النضيد شئ كثير.
هذا وقد رأيت بعض من كتبوا عنه غب وفاته يعدون ما تغزل به في المرأة تقليدا واحتذاء، وحجتهم في ذلك أن الشاعر لا يهدف إلى فتاة معينة، وأنا أقول: إن من الخطأ البين ألا نفرق بين ما تفتتح به القصائد من عبارات التشبيب وبين ما يجيش بصدر الشاعر فهتف به. نعم قد يكون الأديب في إنتاجه متجها إلى عناصر غير الحب واللوعة، ولكن هل يكون معنى ذلك أنه تناسى عاطفته التي تختلج في خفاياه، وتتجاهل غريزته التي تموج في خلاياه، فإذا قال غزلا فتنا قيل له من فتاتك؟ ما اسمها؟ وفي أي بيئة نشأت؟ وبأي ثقافة تميزت؟ وإذا مر الشاعر في طري مزدحم، فوقعت عينه على حسناء ساحرة ثم اختفت عنه لجج الزحام الحاشد، دون أن يعلم عنا أي شئ، أتقول له: حطم يراعك، ومزق طرسك، لأن فتاتك غير معروفة باسمها فلا ينبغي أن تنسب بها إلا كنت صانعا أي صانع!! هذا والله شئ عجيب!!
إن شاعراً يحترم فنه كمعروف لا يمكن أن ينشئ غزلا دون أن تشتجر في صدره العواطف، لنا أن نعد من تشبيبه التقليدي ما يجئ عرضا عن المرأة في موضوع خاص، يهدف إلى فكرة خاصة، لا تتصل بالحب من قريب أو بعيد، كقوله في قصيدة (العالم شعر)
وبيضة خدر إن دعت نازح الهوى ... أجاب ألا لبيك يا بيضة الخدر
تهادت تريني البدر محدقة بها ... أوانس إحداق الكواكب بالبدر
فلله ما قد هجن لي من صبابة ... ألفت بها طيّ الضلوع على الجمر
تصافح إحداهن في المشي أختها ... فنحر إلى نحر، وصدر إلى صدر
مررن وقد أقصرت خطوى تأدبا ... وأجمعت أمري في محافظة الصبر
فطأطأن للتسليم منهم أرؤسا ... عليها أكاليل ضفرن من الشعر
فألقيت كفى فوق صدري مسلماً ... وأطرقت نحو الأرض منحنى الظهر
وأرسلت قلبي نحوهن مشيعاً ... فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري
وقلت وكفى نحوهن مشيرة ... ألا إن هذا الشعر من أجمل الشعر
فهذه الأبيات من قصيدة وصفية، نظمها الرصافي ليعلن نأأن الطبعة ديوان شعري ممتاز، وأخذ يقلب صفحات الديوان، فرأى في سكون الليل قصيدة عامرة عدها من (أحسن)(774/36)
الشعر، ورأى في طلوع الشمس قصيدة بارعة عدها من (أبدع) الشعر، ورأى في وحشة المقابر قصيدة باكية عدها من (أفجع) الشعر، اتجه إلى المرأة فنظم الأبيات المتقدمة لأنه يرى في ركب حواء قصيدة ساحرة من (أجمل) الشعر، وإذن فالكلام هنا عن المرأة تقليدي سلفي، حيث لم تكن صاحبة الفكرة التي تقوم عليها القصيدة. ومن الظلم أن نسحب هذا الحكم على جميع ما ترنم به معروف عن المرأة. وليت شعري من ينكر صدق العاطفة في قوله عن فتاة مجهولة.
فتنت الملائك قبل البشر ... وهامت بك الشمس قبل القمر
وسرّ بك السمع قبل البصر ... وغنى بك الشعر قبل الوتر
فأنت بحسنك بنت العبر
يروح شتاء وتصحو السما ... ويأتي الربيع بما نمنما
فيطلع فوق الثرى أنجما ... ويبتسم الزهر بعد الغما
فأنت ابتسامة ذاك الزهر
فطرفك بالفتر كم قد روى ... نشيد الغرام يهد القوى
وما أنت شاعرة في الهوى ... ولكنما الشعر فيك انطوى
فآية حسنك إحدى الكبر
فهذا الشعر لو روى لشاعر ممن اشتهرت صاحبته لعد من قوافيه المختارة، فهل يليق بعد ذلك أن نتساءل عن الملهمة، من هي؟
فإذا لم نجد الإجابة الواضحة، حكمنا على الشاعر بالتقليد والصنعة دون تريث!! الحق أننا سطحيون.
ولا بد لنا أن نتكلم عن اتجاه الرصافي أقاصيصه الاجتماعية فقد جعل المرأة عنصر الأقصوصة الهام، فلا مناص له من أن يصور خوالجها الهامة، ونوازعها الراجفة، مما يتطلب دراسة عميقة لنفسية حواء. ولهذا كان الشاعر فلسفي النظرة دقيق المنحى، وإن خدع قارئه برونق الديباجة وسلاسة التركيب. ولو ذهبنا نستقصي ما روى له في هذا المضمار لا متدبنا حبل البحث، ولكننا نضع أمام القارئ قصيدة (أم ليتيم) كنموذج لطريقة الشاعر، فهو يريد أن يندد بالتحزب الديني، ولتعصب المذهبي، وما يجر ذلك من نقص في(774/37)
الأموال والأرواح، وسمع أنيناً مؤلما يرن في كوخ بائس فعرفه، حتى إذا بدأ الصبح أتاه، فرأى به أرملة حزينة - هي بطلة قصته - وأمامها طفل جائع تعلله بالطعام، وتدع معروفاً يصف لنا الأم الجائعة وما وقعت فيه من التناقض الغريب، حيث جمعت بين الضحك والبكاء في لحظة واحدة، فهو يقول.
وقفت لديها والأسى في عيونها ... يكلمني عنها وإن لم تكلم
وساءلتها عنها وعنه ... بكاء وقالت أيها الدمع ترجم
ولما تناهت في البكاء تضاحكت ... من اليأس ضحك الهازئ المتهكم
ولكن دموع العين أثناء ضحكها ... هواطل مهما يسجم الضحك تسجم
فقد جمعت ثغرا من الضحك مفعما ... إلى محجر باك من الدمع مفعم
فتذرى دموعا كالجمان تناثرت ... وتضحك عن مثل الجمان المنظم
فلم أر عيناً قبلها سال دمعها ... بكاء وفيها نظرة التبسم
وقلت وفي قلبي من الوجد رعشة ... أمجنونة يا رب فارحم وسلم
ويسير الشاعر فيذكر حنان الأم الرءوم وكيف ضمت إليها ابنها في شفقة وعطفه، وماذا قال لها الطفل وهو يسأل عن أبيه؟ وكيف أجابته بما يريده الشاعر من أقصوصة فوصفت ما دار بين المسلمين والأرمن من مذابح تجري دماؤها باسم الدين؟ استمع إلى كل ذلك في وقوله.
وظلت له ترنو بعين تجودها ... بفذ من الدمع الغزير وتوأم
سلي ذا الفتى يا أم أبن مضى أبي ... وهل هو بأتينا مساء بمطعم
فقالت له والعين تجري غروبها ... وأنفاسها يقذفن شعلة مضرم
أبوك ترامت فيه سفرة راحل ... إلى حيث لا يرجى له يوم مقدم
مشى أرمنيا في المعاهد فارتمت ... به في مهاوي الموت ضربة مسلم
على حين ثارت للنوائب ثورة ... أتت عن حزازات إلى الدين تنتمي
فقامت بها بين الديار مذابح ... تخوّض منها الأرمنيون في الدم
ولولاك لاخترت الحمام تخلصا ... بنفسي من أتعاب عيش مذمم
ومهما يكن من شئ فالمقام لا يسمح أن نلم بغير هذه القصة المشجية، ذات المغزى الرائع،(774/38)
ممانظمه الشاعر الكبير، فقي كل قصة منظر مختلف لفتاة بائسة، داهمتها الخطوب. ولا ضير على الرصافي إذا أكثر من تصوير هذه المآسي الدامية فقد نشأ في أمة مزقتها العلل، وتحرشت بها الأحزان، فتقاطرت من عينه الدموع!!
أين أنت يا معروف؟ وكيف خمدت جذوتك الملتهبة، وسكن فؤادك الخافق الجياش؟ ووقف ذهنك الموار.
سكت فلم نسمع غناءك مشجياً ... فيا بلبل القطر الشقيق ترنم!
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(774/39)
ترجمة وتحليل:
1 - أمنية الشارع!
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
. . . . أما الشاعر فإنه مفخرة الأدب الفرنسي (الفونس دي لامرتين)، وأما الأمنية فإنها قصيدة عصرها من حبة قلبه، فكانت زفرة حرى تحترق بلهيبها عبرات الذواقين لهذا النوع من الشعر المثالي الرفيع.
وهذه الأمنية تصوير دقيق لما يجيش في نفس الشاعر المرهف الحس الذي لا يني يعبر عن الأفاق التي يدرك عظمتها ولا يصل إليها مهما بذل من الجهد، وعن العوالم التي يحس روعتها ولا يبلغها مهما ارتقى في الأسباب.
نظم لامرتين هذه القصيدة - كما حدث عن نفسه - (في فترة من حياته تحولت فيها فكرته - التي كانت لا تتوخى غاية، ولا تعين أمنية، ولا تعني بهذه الأرض ومن عليها - تحولا طبيعيا منتظراً نحو السماء وبانيها، ونحو الطبيعة وبارئها، فأمست أناشيده كلها دينية. يومئذ عرف أرواحا كانت تقواها ثمرة دموعها، وعرف أرواحا أخر كانت عبادتها كأريج الربيع الفواح تحت أضواء الشمس المشرقة التي تمتع القلب بالبشر والسرور. ولقد أحب أن تكون روحه من هذه الأرواح الأخر. حطم الألم أعصابه. ورده صامتا لا يبين، جاحدا لا يؤمن، يائسا لا ينتج. ثم أقبلت عليه السعادة بعد إدبار، فحببت إليه الإيمان وزينت في قلبه ألحانه، فعاد ناعم الفكر، رخي البال في تلك الفترة التي عاد فيها إلى إيمانه أو عاد إليه نظم قصيدته في مدينة من مدن إيطاليا تسمى (ليفورن) سنة 1827 ولست أدري ما الذي يربط قلبي بقلب لامرتين، فما تأملت إحدى قصائده إلا أحسست كأنه ينظمها بلساني أو أنثرها عن لسانه، أو يكتبها من لوحة قلبي وأتلوها في لوحة قلبه؛ وما أريد بهذه الكلمة أن أعلوبنفسي إلى أفق هذا الشاعر العظيم في روعة تصويره، وسحر خياله، فما ينبغي لي هذا ولا أستطيعه؛ إن أريد إلا أن أتيح لقلمي العذر في ترجمة قصائده وتحليلها كلما وجدت فراغا، وآنست رغبة. لم يبح لامرتين لنفسه تصوير أمنيته إلا بعد أن أعلن عجزه، واعترف بعي لسانه: فشعوره أسمى من أن يترجم عنه ما تيسر له من الكلمات المحدودة، وتفكيره أعلى من أن يذيعه لسانه العبي الذي لا يحسن الابتكار والتوليد.(774/40)
1 - (آه! لو كانت لي كلمات وصور ورموز
لترجمت عن شعوري!
ولو كان لساني العبي قادرا على التعبير
لأذاع تفكيري!)
أما وقد أبت الكلمات الحية، والصور الناطقة، والرموز الموضحة، أن تواتيه وتكون مطواعا لقلبه ولسانه - فليس أمانه إلا سلوك المنهج الذي سلكه مثول الخاشع الخاضع بين يدي السماء، وليصف حكمتها بأرفع ما يجري به لسانه من آي المديح والثناء؛ فالتقديس لها، والسرمدية عنها، والأزلية منها، لأنها ما أخرجت من ظلمات العدم شيئا إلا أدخلت عليه نور الحياة، ولا أبدعت للوجود كائنا إلا علمته لحنا ينشده فيطرب، ولا بثت في السقف المرفوع كوكبا إلا أنزلت وحيا يتلوه فيرضى، ولا حددت للمسافات موضعا إلا جعلت له مغنى تصدح بلابله فيشجي السامعون. . .
2 - (إنها لحكمة قدسية سرمدية وروح أزلية،
تمد العالم كله بالحياة!
فللكل كائن لحنه، ولكل كوكب وحيه،
ولكل موضع مغناه!)
ويمضي لامرتين في تأمله فيرى أن ينبوع هذه الأنغام كلها نغم واحد، ولكنه ليس عاديا توقعه أنامل العاديين ثم يفتر بفتورهم، ولا عبقريا تتلاعب به قلوب العباقرة فيختنق بموتهم؛ وإنما هو نغم خالد لا يفتر، قديم لم يتغير، أزلي لن يختنق. أخذ من عيون الطبيعة سحرا يسبى القلوب، ومن وقارها هيبة تأسر النفوس، ومن خلافها العظيم رهبة تعجز العقول. ومع أن جرس هذا النغم رتيب لا يتبدل فإنه حلو في الإسماع كلما تكرر ازداد حلاوة.
3 - (ما لهؤلاء إلا نغم واحد، ولكنه كالطبيعة ساحر مهيب، وكخلاقها عظيم ذو جلال! وإن هذا النغم الخالد، بجرسه الترتيب، لمحبوب يا إلهي في كل مجال!) وكيف لا يكون هذا النغم محبوبا وهو موسيقى مختلفة الإيقاع؟ فمنه صوت الرياح إذا هبت تداعب الأمواج، وصوت البحر إذا تنهد شوقا أو زمجر ضجراً، وصوت الصاعقة إذا توعدت إنذارا، ودوت(774/41)
غضباً. . وهل من غبي بين البشر لا يعرف ماذا تعنى هذه الأصوات؟
4 - (فإذا الرياح هبت على الأمواج، وإذا البحر تنهد أو زمجر، وإذ الصاعقة قدمت بالوعيد. . .
ليت شعري، هل من غبي بين البشر، يسأل عما تريد؟؟
كلا. . . لن يسأل عن مرادها سائل، فإنها تفصح بلسان مبين عن كل ما تروم: فما مداعبة الرياح للأمواج، وما تنهد البحر وزمجرته، ولا درى الصاعقة ووعيدها، إلا مظاهر من رحمة الله وقهره، تتجلى تارة في جلال وقدرته وفضله، وتارة في غضبه وانتقامه وعدله. ولو سألت الرياح عن أغانيها، والبحار عن تأوهها وأنينها، والصواعق عن إنذارها ووعيدها، لقالت: إنها تسبح بحمد الله، وإن من شئ إلا يسبح بحمده؛ ولتداعت إلى الفرار إذا ذر شارق من نور وجهه، أو لاح بارق من نور ظله؛ ولتنادت إلى السكوت، واجتمعت على الإصغاء، وائتلفت لسماع النغم الوحيد الذي يرسله من لدنه ليملأ الدنيا ألحانا وأغاريد!
5 - (قال قائل منها: يا لجلال الله! وقال ثانيها: يا لقدرته وفضله! وقال آخرها: يا لغضبه وانتقامه!
ثم ولى أحدها هاربا من إشراق وجهه، وقال آخر: قد لاح بظله! أيتها السموات والأرض أضحى لكلامه!)
بيد أن الفرق واضح بين الإنسان وهذه الطبيعة، فإن هذه تنطق بلسان الحال فيغنيها عن لسان المقال، وذاك أوتى لسان المقال ليعبر عن لسان الحال، ومقاله متوقف على الألفاظ، وما الألفاظ إلا قوالب للمعاني لا تنبض بالحياة، ولا جناح لها فتحلق في الأجواء، أو تنطلق في الآفاق، كهذه الطيور التي تهيم في كل مكان، وتحط على كل شجرة، وتهبط كل واد، وتعلو كل جبل، وترى كل شئ، ولئن كانت فكرة الإنسان خالدة لا تموت - لأن موحيها الحي القيوم كتب لها الحياة - فإن ألفاظه المعبرة عنها لأصداء الأصوات، وما كان لصدى أن يدوم، فلا يلبث أن يزول
6 - (لكن الإنسان الذي خلقته، هذا الذي يفهم الطبيعة، لا يتهدى بغير الألفاظ إلى المعاني الرفيعة؛
(وإن ألفاظا فاقدة الحياة مهيضة الجناح، إذا قيست بفكرته التي لا تموت كانت أصداء(774/42)
وشيكة السكوت!)
مسكين هذا الإنسان الذي ينشد الحقيقة فلا يظفر إلا بصداها، ويروم الانطلاق من سجنه والتفلت من قيده، فيضرب بينه وبين رغبته بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب: فمثله كمثل العاصفة يحدق بها الغمام من كل جانب؛ ويطبق عليها من كل مكان تعانده فيضحك، وتحاول تمزيقه فيبتسم، وتود لو انفجرت لتفارقه فيصفح عنها لتلازمه، فلا هو بتارك لها منفذاً، ولا هي بقادرة على الفرار. أو كالموجة محبوسة في هذا البحر العميق تود لو رأت عالما سواه، إلا أن الشاطئ يقف في طريقها سدا منيعا، فتثور في وجهه فتلطمه لتتغلب عليه فلا يتزحزح، وتهدأ ثائرتها فتغسل لتسترضيه فلا يبالي، وتعيد الكرة من غير أن تصيب نجاحا، فتيأس من العلو عليه، وتقنع بسجنها قناعة العاجز الساخط، لا قناعة الراضي المقتدر.
7 - (روحه كالعاصفة. . . في الغمام تزمجر، ولا تستطيع أن تعلوه!)
والملوم على كل حال روح الإنسان لا ملهمها، لأن هذه الروح مغرورة تحاول أن تجتاز الحد الذي وضع لها، فيدركها التعب، ويسرع إليها الضنى: تريد أن تبرهن على قوتها وهي ضعيفة، على علمها وهي جاهلة، وعلى مقدرتها وهي عاجزة؛ فهي كهذا النسر الصغير الذي لم ينبت ريشه بعد، يريد أن يطير كما تطير النسور، ويريد أن يسابقها منذ تفتحت عينه على عالم النور، ولكنه يتبين ضعفه فيقنع نفسه بالوثوب على الأرض، ثم يتبين عجزه فإذا هو قانع بالترفق في دبيبه، يمشي مشية الحذر، ويبطئ إبطاء الذي يزحف شاكاً مستريباً.
8 - (وتتعب نفسها وتضنيها كأنها نسر صغير، لم ينبت له بعد شكير
تتفتح عينه على عالمه، فيترفق في الدبيب، ترفق الزاحف المستريب!)
(التتمة في العدد القادم)
صبحي إبراهيم الصالح(774/43)
عبد القادر الحسيني!
للأستاذ أحمد مخيمر
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. .)
نلت الشهادة فاهنأ أيها البطل ... بمثل عزمك تبنى مجدها الدول
أمامك الجنة الخضراء تفتحها ... لك الدماء التي أهرقت والأسل
السابقون من الأبطال قد دخلوا ... والصاعدون من الأحرار قد وصلوا
ودوا لحب الوغى لو أنهم رجعوا ... ليقتلوا مرة أخرى، كما قتلوا
يعانقون ظباها، وهي هاوية ... كأنما الطعن في لبَّانهم قُبل
ستلتقون على أنهارها زمراً، ... وفوق أرواحكم من خلدها ظلل
والدوح يرقص والأنوار هامسة ... والطير تدنو، وتستعلي، وترتحل
يا ابن الحسين! دموع الحزن جارية ... وناره في طوايا القلب تشتعل
على شبابك نبكي لوعة وأسَى ... وإن يكن لحياة الخلد ينتقل
شمس طوتها المنايا وهي مشرقة ... صبحاً ولم يدن من آفاقها الطفل
وزهرة من نضير الزهر ذات ندى ... لم يشبع الغلَّ منه غصتها الخضل
على ابتسامك، والهيجاء عابسة ... والنار تصرخ، والأسياف تقتتل
على اقتحامك، والأبطال شاكية ... والدماء على أبدانها سيل
على إرادة مرهوب العزيمة، لا ... ريث إذا طعمت البلوى، ولا عجل
كأنها هَبَّةُ الإعصار جارفة، ... ودفعة السيل، والعسَّالة الذُّبل
إن يقتلوك فبالذل الذي شربوا ... من راحتيك، وبالضيم الذي نهلوا
ملأتهم بظلام الخوف؛ فانطلقوا ... وفوق أعينهم من ليله سدُل
من لا تبادره بالسيف بادره ... من نفسه القاتلان الجبن والوجل
لو لمُ يعنهم بغو التاميز ما حملوا ... رمحاً، ولا قاتلوا لو أنهم حملوا
أخس ما شهدته الأرض من أمم ... كأنهم من قرار الذل قد جلبوا
للموت ما ولدوا، للقبر ما حشدوا، ... للخسر ما بذلوا، للضيم ما نسلوا
الذائقون على كفّيك مصرعهم ... والتائهون، فلا سهل ولا جبل(774/44)
والكاذبون إذا أبطالكم صدقوا ... والقائلون إذا شجعانكم عملوا
والحاشدون ألوفا لا غناء بها ... يوم الصدام، وخير منهم رجل
لهم من الحرب أغلال، ومسكنة، ... وذلة، ولك الأسلاب والنقل. .
يا حامي القدس من كيدُ يرادُ به ... خلا العرين، ومات الضيغم البطل
أغناك عزمك عن نظم، وعن خطب ... فلم تزل بلسان السيف ترتجل
أرسلتها كلمات منه دامية ... حمرا آذانها الأخلاد والقلل
بريقها وهي تهوى في مقاتلهم ... بلاغة خشيت لألاءها المقل
لو لم تكن بك قد هامت مضاربه ... لما غدا وله من حزنه أًلل
بكى فأبكى، ولم تبرح مدامعه ... لما قضيت مع الباكين تنهمل
يرنو لشبليك محزوناً، ونائحة ... وراء نعشك ثكلى شفها الخبل
قد أذهلتها المنايا، فهي حاسرة ... بين الحشود، فلا خدر ولا كلل
لم يبُق في قلبها التوديع من جلد ... إن الفراق بغيض ليس يحتمل!
يا حامي القدس، دعهم يشمتون فما ... يستأخر العمر يوماً إن دنا الأجل
في حومة المجد والأرماح مشرعة ... لقيت حتفك، والأبطال تنتضل
فما جبنت على يأس، كما جبنوا ... ولا خذلت على روع كما خذلوا
ولا أدرت وجوه الخيل مدبرة ... في الموقف الضنك من خوف وفد فعلوا
وليس أشرف من موت حظيت به ... والنصر دانٍ إلى عينيك مقتبل
والنقع فوق رءوس القوم بثقله ... من الدماء التي أهرقتها بلل
وللكماة على أسلابهم فرح، ... وللسيوف على أشلائهم زجل
وراية العرْب تستعلي، ورايتهم ... ممزق جانبيها العار والخجل. .
يا ابن الحسين تحيات نرددها ... ما أشرق السبح، أو ما ابيضت الأصل
غامرت في الشرف الأعلى ففزت به ... وجاذباك إليه الحب والأمل
ونلت في حومة الهيجاء ما طمحت ... يوماً إلى مثله آباؤك الأول
جنات عدن إلى لقياك ظامئة ... والسابقون لدار الخلد، والرسل
من لؤلؤ قصرك الثاوي على شرف ... يرف في ساحته البشر، والجدل(774/45)
والماء من ربوات الخلد يدفعه ... لظله الأبد المذخور والأزل
والظل بالماء في الشطآن مقترن ... والماء بالقصر دون الظل متصل
وللملائك تسبيح وهيمنة ... كما ترنم شاد بالهوى زجل
فانعم بخلدك في أبهائه فرحاً ... إن الخلود جزاء أيها البطل. . .
(الزقازيق)
أحمد مخيمر(774/46)
الأدب والفن في أسبوع
جوائز فؤاد الأول:
كان يوم الأربعاء 28 إبريل الماضي يوم الذكرى الثانية عشرة لوفاة المغفور له الملك فؤاد الأول. وفي ذكرى فؤاد الأول احتفل بتوزيع جوائز فؤاد الأول في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة فؤاد الأول، وهكذا اجتمعت كل هذه المعاني في هذا اليوم المشهود كما قال معالي وزير المعارف في كلمته التي افتتح بها الحفل. ثم أعقب معاليه معالي الأستاذ علي عبد الرزاق رئيس لجنة الفحص لجائزة الآداب، فمعالي الدكتور محمد بهي الدين بركات باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة القانون، فسعادة الدكتور حسن صادق باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة العلوم؛ وتحدث كل منهم عن أعمال لجنته وخصائص المؤلفات التي فاز أصحابها بالجوائز. وقد تضمنت كلمة رئيس لجنة الأدب أن اللجنة رأت نفسها إزاء كتب ثلاثة لم تستطيع أن تفاضل بينها لتختار منها اثنين لجائزتي سنة 1947 وسنة 1948 فقررت فوز كل من الثلاثة بجائزة كاملة.
وأعلن رئيس لجنة العلوم قرار اللجنة المتضمن إرجاء توزيع جائزتها إلى العام القادم.
والفائزون في الأدب هم - وفق ترتيب حروف الهجاء - الدكتور أحمد أمين بك، والأستاذ عباس محمود العقاد، والدكتور محمد حسين هيكل باشا. وقسمت جائزة القانون بين الدكتور حلمي بهجت بدري والدكتور محمود حسين أبو عافية.
الألفاظ والأساليب في المجمع اللغوي:
ألفت الألفاظ والأساليب، واختير الأستاذ أحمد أمين بك رئيسا لها والأستاذ على الجارم بك كاتب سرها، وحددت أغراضها بالبحث فيما يرد بالصحف والمؤلفات الحديثة، وما يجري على ألسنة المثقفين من ألفاظ وأساليب، لمعرفة الصحيح من غيره، وتعديل ما ليس بصحيح، ووضع بدلا مما لا يمكن تعديله؛ على أن تعرض ما ننتهي إليه على مجلس المجمع؛ ثم تذاع قراراته فيها بعد ذلك على الجمهور في الصحف.
وقد بحث اللجنة كثيراً من تلك الألفاظ والأساليب، وأعدت في اجتماعها الأخير قرارات في ستة عشر لفظا وأسلوبا، وعرضت على مجلس المجمع الذي شرع في مناقشتها بجلسة يوم الاثنين الماضي، وسيوالى النظر فيها في الجلسات التالية وستذاع عقب إقرارها. ومن(774/47)
الألفاظ التي وافق عليها المجلس لفظ (مهرج) لمن يضحك الناس. وقد بنيت صحة هذا اللفظ على قرار سابق للمجمع يجيز تضعيف الثلاثي للتعدية والتكثير، والموجود في اللغة (هرج) ثلاثيا بمعنى خلط، فالمهرج هو الذي يخلط في كلامه لإضحاك الناس، وقد استحسن الدكتور طه حسين بك على إعداده، كل ما يعتمد من الألفاظ والأساليب التي تبحثها اللجنة.
الاستفتاء اللغوية:
ومن عمل لجنة الألفاظ والأساليب النظر فيما يرد على المجمع من استفتاءات لغوية وأسلوبية، وتتوالى الإجابة عليها، ثم ترسل هذه الإجابات إلى أصحابها.
ولعل من المفيد أن ينشر من هذه الإجابات ما يرى في نشره فائدة عامة، فأقترح على اللجنة أن تضم مثل هذا إلى الألفاظ والأساليب التي تذيعها.
وقد ردت اللجنة على ثمانية استفتاءات. ومن الطريف أن بعض هذه الاستفتاءات ورد من طبقات شعبية، وهي ظاهرة سارة لما تدل عليه من رغبة هذه الطبقات في استعمال الصحيح من اللغة، ومن ذلك استفتاء من رئيس نقابة عمال التنجيد، يسأل فيه عن كلمة (تنجيد) ليستعملوها في تسمية النقابة إن كانت صحيحة او يدلهم المجمع على صحيح بدلا منها إن لم تكن كذلك، فأرسل المجمع إليه بصحتها.
القصص الإنساني:
تنقل الأستاذ محمود تيمور بك في الأسبوع الماضي بين الجامعات الثلاث: جامعة فؤاد الأول بالقاهرة، وجامعة فاروق بالإسكندرية، والجامعة الشعبية بدمنهور، حيث ألقى محاضرات في (القصص الإنساني) وقد تضمنت هذه المحاضرات آراء شخصية للأستاذ المحاضر، بناها على تجاربه وممارسته لفن القصة فتجلت فيها أصالة البحث والتفكير، وكذلك تعرض في هذه المحاضرات للكثير من القضايا التي يتنازع فيها النقاد خاصة بالمذاهب الأدبية والفنية فقد ناقش الفكرة التي تنادى بتجنيد القصة للإصلاح الاجتماعي وتناول الأعمال الفنية للآراء والمشكلات القومية - مناقشة دقيقة خلص منها إلى القول بأن إجراء ذلك عبث بالفن، وأن الكاتب إن لم يكن حراً طليقاً فلا صدق في فنه، وأنه إذا كان(774/48)
صادقا قوي الإلهام وستطاع أن بحس إحساسا عميقاً بمبدأ من المبادئ أو مشكلة من المشكلات، استطاع أن يعبر عنها في عمل فني يجد فيه المصلح الاجتماعي تأييداً لقضية الإصلاح أو تعزيزا لمبدأ من المبادئ. فأما أن يتكلف الكاتب معالجة إحدى هذه المشكلات أو يذعن لرغبة من الرغبات الخارجية في هذا الصدد، فإنه يكون متكلما كاذباً على نفسه وعلى الإلهام الفني.
وكان فيما تناولته المحاضرة حديث عن التاريخ بين العالم والفنان، وقد شرح الفرق بين موقف المؤرخ والقصاص من أحداث التاريخ ومشاهده، فقال إن العالم مضطرا أن يذعن للحقائق ويتحرى دقة الأرقام وصدق الوقائع، فأما الفنان فإنه يقرأ هذه الحقائق ويتمثلها، ثم يترك لوحيه الفني أن يلهمه صورة لا تكذب على التاريخ برسومها وأعلامها، ولكنها ليست ترجمة تاريخية مبنية على وقائع، ثم قال إن المؤرخ العالم قد يقرب من المؤرخ الفنان إذا اصطبغ أسلوبه وتصويره بصبغة فنية، وكذلك المؤرخ الفنان قد يقرب من المؤرخ العالم إذا التزم الدقة التاريخية جهد الإمكان، ولكن الذي لا شك فيه أن مهمة كل منهما تختلف عن مهمة الآخر وأن النظرة إلى كل منهما يجب أن تكون نظرة خاصة وأن تقدر عملهما على هذا الاعتبار.
وقد افاض المحاضر القول في مذهب ما وراء الواقع وأثره في القصة الفنية وفي الرسم والرقص والموسيقى، وقال إن هذا المذهب يستمد من العقل الباطن ويجب أن بكون له رقيب من العقل الواعي وإلا كان كالبركان يقذف بالحمم وكالعباب يطغى موجه إلى حد الإغراق.
وختم الأستاذ تيمور بك محاضرته بالإشارة إلى أن القصة الخالدة هي القصة التي يتوافر حظها من العناصر الإنسانية الثابتة بغرائزها وطبائعها، والتي لا تقتصر على جاذبية اللون المحلي والموضوعات الوقتية، والتي لا تعتمد على قضايا المنطق والحكمة ولا تؤثر الوعظ المباشر والنصح الظاهر والتأييد المكشوف للقضايا الاجتماعية. ثم ألمع إلى أن خير الطرق في تربية النشء بالقصة هو أن نضرب صفحا عن الأمثال والمواعظ الجامدة التي لا يحس الناشئ أثرها في واقع الحياة، وأن نستعيض عن ذلك بقصص إنسانية تربى في النشء فطنة وتبصراً بالحياة التي يعيشها فلا يعرف حين يمارس هذه الحياة أن أصحاب(774/49)
الأمثال والمواعظ كانوا يتكلمون عن عالم لا صلة له به ولا وجود له في حياته.
الاتجاهات الاجتماعية في العالم العربي:
كان موضوع (الاتجاهات السياسية والاجتماعية الحاضرة في العالم العربي) أو بعبارة أدق كان استيفاء الكلام في هذا الموضوع، آخر حلقة في سلسلة (العالم كما هو اليوم) التي نظمها قسم الخدمة العامة في الجامعة الأميركية، فمنذ أسابيع تحدث فيه الأستاذ محمد صلاح الدين بك، وأوردنا خلاصة حديثه في حينه، وكان كله في الاتجاهات السياسية، أما الشق الثاني من المحاضرة وهو الاتجاهات الاجتماعية فقد ضاق عنه الوقت في المرة الأولى، فكان موضوع الحديث الذي ختمت به السلسلة في يوم الجمعة الماضي بقاعة يورت التذكارية.
قال إن الهدف الذي يرمى إليه العالم العربي الآن هو التمتع بالاستقلال والحرية، والتمتع بالحياة الدستورية الديمقراطية التي تقوم على سلطة الأمة، وتهدف إلى أن تحيا الأمة حياة إنسانية كريمة؛ والعالم الآن تسوده مبادئ اجتماعية، هي في نفس الوقت اقتصادية، يقصد بها تحقيق سعادة الناس؛ وهي الرأسمالية التي تمثلها أمريكا، والشيوعية التي تتمثل في روسيا، والاشتراكية كما طبقها الحكومة البريطانية، ومدار الخلاف بين هذه المبادئ على الإنتاج والتوزيع. فالرأسمالية تقوم على الحرية في السعي وترك ثمرات العمل لأصحاب الجهود، والمبدأ الشيوعي يجعل المجموع الذي تمثله الحكومة يملك كل شئ، وتوزع المنتجات على الجميع، ولكن هل تقسم بالمساواة المطلقة، أو على حسب الحاجة؟ الواقع أن ما يجري في البلاد الشيوعية يحجبه (الستار الحديدي) الذي يمنع تسرب الأخبار الحقيقية، على أنه يؤخذ مما يرد من الأخبار أن الملكية الآن في روسيا موجودة في غير أدوات الإنتاج، كالمنازل والأثاث، أما أدوات الإنتاج كالأراضي الزراعية والمصانع، فلا يملك الأفراد شيئا منها؛ وكل يأخذ على حسب جهده، ورجال الفكر وأهل الفنون هم أحسن الجميع حالا لكثرة مكاسبهم. وأما الاشتراكية المعتدلة فهي التي تطبقها الحكومة البريطانية وهي طبعا تقر الملكية الفردية، ولكن مبادئها تتمثل في تأميم بعض المرافق، أي تنظيم الحكومية له وقيامها عليه، وبقية المرافق يقوم بها الأفراد والشركات، كما تتمثل في رعاية الحكومة للطبقات الفقيرة وفرض الضرائب التصاعدية وغير ذلك.(774/50)
وبعد أن أفاض المحاضر في شرح تلك المبادئ من الوجهة العملية وبيان ما يؤخذ على الرأسمالية وما تعاب به الشيوعية قال: تتسرب أخبار هذه المبادئ إلى مصر وإلى سائر البلاد العربية، فتشغل الأذهان بالتفكير في أيها يصلح أن يقوم عليه النظام الاجتماعي عندنا. وأسلم سبيل أن نسعى وراء أمر واحد، هو العدالة الاجتماعية، فنسعى لرفع مستوى الحياة عامة، وتحقيق العدل بين الطبقات، ونستطيع أن نضع خطوطا عامة لتحقيق العدالة الاجتماعية فيما يلي:
1 - التخلص من السيطرة الأجنبية التي هي سبب ما نحن فيه من جهل وفقر ومرض.
2 - تقريب مسافات الخلف بين الطبقات بمختلف الوسائل كالضرائب التصاعدية وتحسين أحوال الطبقات الفقيرة.
3 - ضمان العمل لكل مواطن ورفع الأجور ووضع حد أدنى لها بحيث يكسب العامل ما يقوم بجميع حاجاته.
4 - أن نعطى المواطنين فرصاً متساوية، وذلك بتميم التعليم والتداوي، بحيث يكون كل منهما ميسواً لكل فرد من أبناء الأمة.
5 - الضمان الاجتماعي بجميع أنواعه، كالتأمين من العجز عن العمل والشيخوخة ورعاية من يتركهم المتوفى من الأولاد وغير ذلك.
وحذر في ختام الحاضرة من الاستجابة للدعوات الهدامة لما فيها من خطر التدخل الاستعماري، إلى مخالفتها للأديان ونظام الأسرة، وإلى ما تؤدى إليه من الحجر على الحرية العامة بالنسبة للأفراد، لأن الحكومة فيها هي صاحبة الحرية المطلقة؛ ودعا إلى التزام الحيدة في المبادئ الاجتماعية وفي السياسة العالمية.
تعقيب:
ومما يلاحظ أن المحاضرين الآخرين في الاتجاهات السياسية والاجتماعية في البلاد الغربية، كانوا يصفون الاتجاهات (الحاضرة) أما صلاح الدين بك فقد كان مجاله - كما رأيت - شرح المبادئ العالمية، وبيان ما يجب أن تكون الحال عليه عندنا؛ ويخيل إلي أنه عمد إلى ذلك فراراً من حوج الكلام في حالنا التي تبلغ غاية السوء، وماذا يقول؟ إن جميع تلك المبادئ تضع رفع مستوى المعيشة العام في مقدمة ما تعنى به، فأين نحن حتى من(774/51)
الرأسمالية الأمريكية؟! ولو أن باحثا أراد أن يعرف المبدأ الاجتماعي الذي نسير عليه، لما وجد له غير اسم واحد، هو (الظلم الاجتماعي).
الشروق:
أصدر الأستاذ حسن كامل الصيرفي في الأسبوع الماضي ديوانه الجديد (الشروق) والأستاذ الصيرفي من رواد الشعر الحديث، له (سلوك شعري) خاص فهو لا يقول في المناسبات وقل أن يشترك في الحفلات، لا ينظم إلا بالدوافع الشعرية الخالصة، وهو يدع شعره يسير بنفسه فلا يدفعه بما يدفع به بعض الناس أشعارهم. وديوان الشروق من القليل الذي يثبت وجود الشعر في هذه الآونة.
العباسي(774/52)
البريد الأدبي
معرض الرسام زهدي:
أقام الرسام زهدي معرضا في نادي الصحفيين هذا الأسبوع تحت رياسة الوزير العالم إبراهيم دسوقي أباظه باشا عرض فيه سلسلة من الرسوم تمثل الوقائع المتتابعة للتاريخ المصري والعوامل التي سيطرت على توجيهه منذ الحملة الفرنسية حتى نهاية حكم إسماعيل باشا، وليس هذا في الوقع بالعمل الهين، فإنه اتجاه يقتضي الدراسة والاستيعاب والاندماج الروحي في جو ذلك التاريخ حتى يمكن أن ينفعل إحساس الفنان بحقائقه واتجاهاته فيرسمها بريشته كأنها أجسام حية ناطقة تتمثل مشاهدها للنظر والفكر.
والتعبير عن الحقائق التاريخية بقلم المؤرخ أسهل بكثير من التعبير عنها بريشة الرسام، لأن المؤرخ يسرد لك الوقائع على ما تؤدى إليه المقدمات من نتائج، وتدل عليه الاتجاهات من حقائق، أما الرسام فإنه لابد أن يعرض عليك في هذا شيئا يستوقف النظر ويثير الإحساس ويوحي إلى الذهن، وهذا كله ما وفق إليه ذلك الرسام المصري المؤمن بفنه وبوطنه وبفكرته.
وحقائق التاريخ حين تظهر في معرض الفن تكون أروع مظهراً وأشد تأثيراً وأتقى على الزمن وأخلد، فإننا ما نزال نتغنى بحروب الإغريق ووقائعها التاريخية، لا كما دونها المؤرخون، بل كما أنشدها في القديم شاعر ضرير اسمه هوميروس.
لهذا كان اتجاه الرسام زهدي إلى تصوير حقائق التاريخ المصري ووقائعه في فترة من فترات التطور أجل خدمة نحو قوميتنا ونحو تاريخنا يؤديها الفن، ولقد تجلت في رسومه دراسة المؤرخ وتمحيصه للحقائق، إلى جانب ما تجلى من روعة الفن وبراعته، وإن من الواجب على وزارة المعارف أن تضع يدها على هذه الرسوم التي تمثل تاريخنا الحديث أروع تمثيل، فتضعه في ما قصد إليه ذلك الفنان البارع من خدمة التاريخ المصري والقومية المصرية.
لو أن فنانا أجنبيا عرض على وزارة المعارف مثل هذا العمل لوقفت أمامه خاشعة وقامت له مهللة، ويفتح في الميزانية اعتماد ضخم لإخراجه. . . ولكنه اليوم عمل فنان مصري صميم كأروع ما يجب أن يكون، فهل آن لنا أن نؤمن بالنبوغ. المصري فنؤازره وننتفع(774/53)
به؟
محمد فهمي عبد اللطيف
النحو الجديد:
أخرجت دار الفكر العربي في هذه الأيام كتاب النحو الجديد للأستاذ عبد المتعال الصعيدي، فكان فتحا جديداً في باب التجديد، لأنه قلب نحو سيبويه رأسا على عقب، وأصابه في الصميم من أصوله وفروعه، ودل بهذا على أن دعاية التجديد بيننا ليست جمجمة لا طحن لها، وإنما هي حركة ستتناول الصميم من علومنا، وستعيدنا علماء نجتهد كما كان يجتهد ويجدد علماؤنا الأولون، ولا شك أن جمود علومنا القديمة هو الذي يقعد بنا جميعا عن النهوض، لأن التكاسل يعدي، كما قال الشاعر:
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالدُّ ... بعدوى فما أعدتني الثؤباء
لقد ابتدأ كتاب النحو الجديد بدراسة محاولات التجديد الحديثة في قواعد النحو، فدرس المحاولة الأولى للأستاذ إبراهيم مصطفى في كتاب أحباء النحو، وفي رد الأستاذ محمد عرفة عليه في كتاب النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة، ثم درس المحاولة الثانية في تقرير اللجنة التي ألفتها وزارة المعارف لتيسير تدريس قواعد اللغة العربية. وفي تقرير اللجنة التي ألفت بدار العلوم للرد عليها، ثم درس المحاولة الثالثة للمؤلف في تيسير قواعد الإعراب بمجلة الرسالة سنة 1938م، ثم درس المحاولة الرابعة للأستاذ أمين الخولي في تذليل اضطراب الإعراب والقواعد، ثم درس المحاولة الخامسة للأستاذ شوقي ضيف في إلغاء نظرية العامل لابن مضاء القرطبي في كتاب الرد على النحاة
ثم ختم هذه الدراسة التي تسجل أعظم ثورة على نحو سيبويه بوضع آجرومية جديدة للنحو، وهي آجرومية تراعي غاية النحو الكبرى من تمثيل الإعراب لمعاني الجمل العربية، وقد حذفت على هذا الأساس كل حشو في النحو، كباب البناء وباب الاشتغال، ثم أضافت أبوابا منه إلى أبواب، لأن التفرقة بينها تخرج بالنحو عن غايته من تمثيل الإعراب للمعاني، وقد حققت مع هذا ما أرادته وزارة المعارف من تيسير قواعد الإعراب
(ص)(774/54)
رسالة النقد
(طفولة نهر)
لنزار قباني
للأستاذ أنور المعداوي
نزار قباني؟. . أين كان هذا الشاعر وأين كنت؟! ما أكثر ما يقع في يدي من دواوين الشعر في هذه الأيام، فلا أكاد أقبل عليها حتى أعرض عنها. . إلا هذا الديون! لقد لقيت صاحبه منذ شهر لأول مرة، وأسمعني بعض شعره لأول مرة، ولم أنشأ يومئذ أن أقطع برأي في فنه خشية أن يكون قد قدم إلى خير قصائده. . أما الآن، فأستطيع وأنا مطمئن أن أقدم هذا الشعر إلى الناس. . وأن أقدم صاحبه. وقبل أن أضع هذه المجموعة الشعرية فوق مشرحة النقد، أقول إنها تثير مشكلة طال حولها الجدل وسوف يطول، ما دام هناك أناس ينشدون الفن للفن، وأناس ينشدون الفن للمجتمع. أما أولئك فهم الذين يفهمون الفن وأصوله، وعلى أي الدعائم يجب أن تقام. وأما هؤلاء فلا يريدون للفن إلا أن يسير في ركاب المجتمع ولو تنفس برئتين صناعتين، غافلين عن أن رسالة الفن ما هي إلا صدق التعبير عن الحياة، التعبير عما فيها من جمال وقبيح من تناسق وشذوذ، من خير وشر، من حرية وقيود! سيقول من لا يفهمون رسالة الفن إن (طفولة نهر) ما هو إلا صلوات فكر في محراب الجسد، أو صلوات روح، أو صلوات شعور. . وسأقول أنا إنه صلوات فن؛ وحين يرتفع صوت الفن بالصلاة يجب أن تخمد كل الأصوات! أن الدفاع هنا ليس دفاعاً عن صاحب هذا الشعر ولكنه دفاع عن الفن. . أن الفن الصادق لا يعرف القيود، ويوم يتشح الفن بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي فقل إنه قد انحرف عن الجوهر الأصيل في رسالته، وهو أن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير!. . عش في أعماق الحياة، واستخدم كل حواسك في تذوق هذه الأعماق فإذا استطعت أن تعبر في صدق عن انعكاس الحياة على حواسك ووقعها على شعورك فقد أنتجت فنا؛ وبهذا المقياس نستطيع أن ننظر إلى (طفولة نهر) إلى كل أثر فني تبدعه القريحة! لقد كنت أود أن أطيل الدفاع عن رسالة الفن، ولكن الشاعر سبقني فدافع عن شعره في كلمات صادقة حين قال: (الشعر يحيط(774/56)
بالوجود كله. . وينطلق في كل الاتجاهات فترسم ريشته المليح والقبيح، وتتناول المترف والمبتذل، والرفيع والوضيع. . ويخطئ الذين يظنون أنه خط صاعد دائما، لأن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفن، بل مهمة الأدباء وعلم الأخلاق. . وأنا أؤمن بجمال القبح، ولذة الألم، وطهارة الإثم، وهي كلها أشياء صحيحة في نظر الفنان. يقول كروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن: إن العمل الفني لا يمكن أن يكون فعلا نفعيا يتجه إلى بلوغ لذة أو استعباد ألم، لأن الفن من حيث هو فن لا شأن له بالمنفعة. وقد لوحظ من قديم الأزمان أن الفن ليس ناشئا عن الإرادة، ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فليست قوام الإنسان الفنان؛ فقد تعبر الصور عن فعل يحمد أو يذم من الناحية الخلقية، ولكن الصورة من حيث هي صورة لا يمكن أن تحمد أو تذم من الناحية الأخلاقية؛ لأنه ليس ثمة حكم أخلاقي يمكن أن يصدر عن إنسان عاقل ويكون موضوعة صورة. إن الفنان فنان لا أكثر، أي إنسان يحب ويعبر. ليس الفنان من حيث هو فنان عالما، ولا فيلسوفاً، ولا أخلاقيا. وقد تنصب عليه صفة التخلق من حيث هو إنسان، أما من حيث هو فنان خلاق فلا نستطيع أن نطلب إليه إلا شيئا واحدا هو التكافؤ التام بين ما ينتج، وما يشعر به)
لقد وفق نزار قباني في عرض قضية الفن في هذه الكلمات الصادقة التي تخيرتها من كثير. وحين استشهد برأي كروتشه، وهو رأي يقطع خط الرجعة على الرجعيين. . وحين نفد إلى مكامن الهدف بهذه الإصابة البارعة في قوله: (ولو صح لنا أن نقبل ما زعمته المدرسة الأخلاقية في الفن لمات الفن مختنقا بأبخرة المعابد. . ولوجب أن نحطم كل التماثيل العارية التي نحتها ميشيل أنجل، والصور البارعة التي رسمها رفائيل، لأنها إثم يجب ألا تقع عليه العين؛ ولو ذهبنا مع أشياع هذه المدرسة إلى حيث يريدون، لوجب أن نخرج من حظيرة الشعر الجيد قصيدة النابغة التي قالها في زوجة النعمان سقط النصيف ولم ترد إسقاطه=فتناولته واتقتنا باليد
ولكان علينا أن نعلن النابغة، ونعتبره ضالا لا يستحق أن تقرأ سيرته وأشعاره!)
أنا مع نزار قباني ولو وقفت وحدي إلى جانبه، وسأصغي إليه بكل جوارحي حين يهمس في قصيدته (حلمة):
يا حرف نار سابحاً ... في بركتي عطور(774/57)
يا كلمة مهموسة ... مكتوبة بنور
سمراء، بل حمراء، بل ... لوَّنها شعوري
أم قبلة تجمدت ... في نهدك الصغير
مظلة شقراء فوق ... قسوة الهجير
إبريق وهج عالق ... بهضبتي سرور
أم أنت شباك هوى ... مطرز الستور
فراشة محروقة الجنح على غدير
دافئة كأنها. . ... مرتْ على ضميري
هكذا تمضي أوزانه وقوافيه، متفقة والجو الذي يتنفس فيه شعره، جو الأوزان القصيرة والقوافي الراقصة، أما الصورة الوصفية فتستمد بذورها من خصوبة الحقل الشعري واتساع مداه. . ومن هنا تستمد الوثبة الشعرية قوتها من وثبتين أخريين، هما الوثبة الشعورية والوثبة الموسيقية.
تعال نستمع له مرة أخرى في قصيدته (وشوشة):
في ثغرها ابتهال ... يهمس لي تعال
إلى انعتاق أزرق ... حدوده المحال
نشرد تياري شذا ... لم يخفقا ببال
لا تستحي فالورد في ... طريقنا تلال
ما دمت لي مالي وما ... قيل وما يقال!
وشوشة كريمة ... سخية الظلال
ورغبة مبحوحة ... أرى لها خيال
على فم يجوع في ... عروقه السؤال
هنا ظلال من النفس تلتقي بظلال من الحياة، وبضوء من هنا وضوء من هناك يتم العمل الفني، مستمداً خطوطه من التجربة الشعورية؛ من وقدة العاطفة واشتعال الوجدان. . أرأيت إلى الرغبة المبحوحة؟ الرغبة التي تتنزى فلا تقوى على الانطلاق؟ الرغبة التي تريد أن تهتك حجب الصمت ولكنها بحت من التردد والتهيب والإحجام؟ الرغبة التي لم يبق منها(774/58)
على الفم والإخيال يلوح ثم يختفي؟ وأي قم؟ فم يجوع السؤال في عروقه. . ولا يبوح!
ويحلق الفكر في آفاق من رهبة الفناء، وتهوم الروح في أودية النسيان التي يبلى فيها كل جديد، ولكنها تهويمات لا تخلو من يقظة تومض تحت الرماد، وتلتمس العزاء في خدعة الخلود. . وتكتمل الألوان في الصورة المنتزعة من معرض الحياة. ما الإطار فمن صنع الخيال السابح وراء الوهم، المتشوق إلى ارتياد المجهول، وتمضي التجربة الشعورية إلى منتهاها حين يقول في قصيدته (سؤال):
تقول: حبيبي إذا ما نموت ... ويدرج في الأرض جثماننا
إلى أي شئ يصير هوانا ... أيبلى كما هي أجسادنا؟
أيتلف هذا البريق العجيب ... كما سوف تتلف أعضاؤنا؟
إذا كان للحب هذا المصير ... فقد ضيعت فيه وأوقاتنا!
أحببت ومن قال أنا نموت ... وتنأى عن الأرض أشباحنا؟
سنحيا. . وحين يعود الربيع ... يعود شذانا وأوراقنا
إذا يذكر الورد في مجلس ... مع الورد. . تسرد أخبارنا!
وحين يطول الانتظار، ويعصف القلق بجمال الرؤى والطيوف ويتوثب الشوق الملح إلى القادم الممعن في إبطائه، تكون النفس الإنسانية في ارتقابها ولهفتها قد أنكرت كل شئ، وكفرت بكل شئ. . استمع له يصف لحظة انتظار:
جعت وجاع المنحدر ... ولا أزال أنتظر
أنا هنا وحدي على ... شرق رمادي الستر
مستلقياً على الذرى ... تلهث في رأسي الفكر
وأرقب النوافذ الزرق ... على شوق كفر
هل أحسست الفكر حين يلهث، والشوق حين يكفر؟! وحين يقبل الحبيب الغائب، تقبل معه الدنيا، وتقبل الذكريات تشق طريقها من وراء الزمن. . ويقبل الصبا بجنونه وأحلامه وأوهامه:
قالت صباح الورد. . ... هذا أنت صاحب الصفر
ألا تزال مثلما ... كنت غلاماً ذا خطر؟(774/59)
تجعلني على الثرى ... لعباً. . وتقطيع شعر
فإن نهضنا كان في ... وجوهنا ألف أثر!
فلت لها الله ما ... أكرمها تلك الذكر!
أيام كنا كالعصافير. . غناء وسمر
نسابق الفراشة البيضاء. . . ثم ننتصر
ونكسر النجوم ذرات. . . ونحصي ما انكسر
فيستحيل حولنا الغروب شلال صور. . .
حكاية نحن. . فعند كل وردة خبر
إن مرة سئلت، قولي: نحن دورنا القمر!
هنا وفي كثير من القصائد الأخرى لنزار قباني، تلمس أن اكتمال الوحدة الفنية مرجعه إلى تسلل التجربة الشعورية، وتناسق الظلال المنعكسة من النفس والحياة.
وأود أن ألفت النظر إلى أن هذا الشاعر يصوغ معانيه أحيانا في ألفاظ قد تبدو لأصحاب المدرسة المادية في التعبير وكأنها قد استخدمت في غير مواضعها؛ وهي تبدو لهم كذلك لأنهم يعيشون في رحاب الظلال المادية للألفاظ، ولو عاشوا في رحاب ظلالها النفسية لوجدوا كل شئ في موضعه من الشعر، لأنه في موضعه من الشعور. . . إن الشعر ما هو إلا ترجمة صادقة للشعور الصادق، فلا ضير من أن يستخدم فيه اللفظ الذي تتفق ظلاله وظلال النفس، وتنسق إيحاءاته مع منطق الإحساس! ومهما يكن من أمر فإن لمشكلة الظلال النفسية والمادية في اللفظ قضية شغلت القدماء كما شغلت المحدثين، وهي قضية سنعرض لها في مقال تتناول فيه بالنقد أصحاب المدرسة المادية في التعبير قديما وحديثا أولئك الذين لا ينظرون إلى الألفاظ إلا من خلال هياكلها العظيمة! كل ما آخذه على صاحب (طفولة نهد)، هو تلك القوالب النثرية التي يصب فيها شعره أحيانا، وما يرد في بعض أبياته من ألفاظ ابتذلت من كثرة الاستعمال، مما يعصف بجمال القالب الشعري، ويذهب بأثر الإيقاع الموسيقي. استمع له مثلا في هذين البيتين:
ما دمت لي سر المساء معي ... وهذه الأقمار أقماري
وأنجم المساء لي مئزر ... وفوق جفن الشرق مشواري(774/60)
إن كلمة (مشواري) هنا كلمة سوقية لا تتفق أبدا وهذا الجو الشعري الذي عاشت فيه، ولو وردت في النثر لما استسغتها، فما بالك بالشعر؟
واستمع له مرة أخرى في هذين البيتين:
هو الدفء لا تذعري إن رأيت قميصك نهب تدفع قمه
فما عدت يا طفلتي طفلة ... سيهمي الشتاء غيمه بعد غيمه
نهب تدفع قمة؟!. . . إضافتان ثقيلتان على السمع، لا تكاد تطيقها الأذن العادية، فما بالك بالأذن الموسيقية! ألا تحس هنا أن القالب قد بدأ أقرب إلى النثر منه إلى الشعر؟
واستمع له مرة ثالثة في هذين البيتين:
لغي تحارير الهوى وأمضى ... أنا في السحاب وأنت في الأرض
غوري مع الشيطان لا أسف ... ولتبتلعك زوابع البغض
لست أدري كيف تحتمل الصياغة الشعرية كلمة (غوري) هذه. . لقد اهتز صرح الجمال الفني في البيتين تحت وطأة هذه الكلمة!
مآخذ قليلة كنت أرجو أن يخلو منها هذا الديوان، ومهما يكن من أمر فإنها لا تمنعني من القول بأن نزار قباني شاعر. . .
وشاعر موهوب.
أنور المعداوي(774/61)
العدد 775 - بتاريخ: 10 - 05 - 1948(/)
في مذاهب الأدب
للأستاذ عباس محمود العقاد
قد يغني التمثيل حيث لا يغني الدليل، ولاسيما في تلك المسائل التي تتفق فيها الآراء ولا يقع الخلاف عليها في الحقيقة إلا لاختلاف الأسماء.
ومن هذا القبيل مسألة الحكم على المذهب الرمزي بيني وبين الكاتب الألمعي الأستاذ فريد بك أبو حديد.
فقد سألني مندوب (الزمان) عن هذا المذهب فقلت له: إن كلمة الأدب الرمزي كلمة سخيفة؛ لأن الأدب قبل كل شيء إفصاح، فمن عجز عن الإفصاح فأولى أن يترك الأدب. ومن كان لا يتكلم إلا بالرموز فخير له أن يخترع له لغة أخرى غير هذه التي تواضع الناس على التفاهم بها. وليخترع إن استطاع نوعاً من الهيرغليفية القديمة تغني فيها الصور والإشارات عن الحروف والكلمات).
ووجه المندوب هذا السؤال إلى زميلنا الأستاذ أبي حديد بك فقال: (لا أوافق الأستاذ العقاد فيما ذهب إليه بخصوص الأدب الرمزي؛ فإن كان هذا الأخير من نوع بيجماليون لبرناردشو، وأهل الكهف لتوفيق الحكيم، وتاييس لأناتول فرانس، فانه يعد من أسمى أنواع الأدب. ولعل اختلاف الرأي بين العقاد وبيني يرجع إلى أن الصورة التي في ذهني عن الأدب الرمزي قد تغاير تلك الصورة التي في ذهن العقاد عنه).
وهكذا أفاد تمثيل الأستاذ فريد للأدب الرمزي المقبول عنده في التقريب - بل في التوحيد - بين القولين.
فكل هذه الروايات التي تعجب الأستاذ تعجبني، وترتقي عندي إلى المرتبة الأولى من فن المسرح والرواية.
ولكني لا أحسبها من أدب (المذهب الرمزي) الذي تكثر الدعوة إليه بين الفرنسيين خاصة في هذه السنوات الأخيرة، لأنها لا تعمي ولا تتعمد التلبيس، ولكنها من أصرح ما يقرأه القارئون
وإذا توسعنا في التعبير فهي عندي من الرمز السائغ وليست من الرمز الممنوع.
لأنني - حين أجبت عن ذلك السؤال - عنيت الرمز الذي يلجأ إليه الكاتب عمداً وله(775/1)
مندوحة من الإفصاح، أو عنيت الرمز الذي يهرب من النور وليست له معذرة في الهرب منه.
أما الرمز على إطلاقه فليس هو بممنوع ولا مستهجن، وقد بينت أنواعه في مقال بمجلة الكتاب نشر في أول السنة الماضية فقلت فيه بعنوان (مسوغات الرمزية)!
(إن التعبير بالرموز عادة قديمة في تعبير الإنسان، بل عادة قديمة في بديهة الإنسان. فالحالم مثلا يعبر في منامه عن شعور الضيق أو الخوف بقصة رمزية. . والكاتب الذي لم يعرف الحروف الأبجدية يرمز إلى المعاني بالشخوص والرسوم. وكهان الديانات يرمزون ويعمدون كثيراً إلى الكنايات والألغاز. . . والنساك المتصوفون يرمزون لأنهم لا يستوضحون المعاني الغامضة التي تجيش بها نفوسهم في حالة كحالة الغيبوبة. . . وكان بعض الدول يقهر الرعية على عقيدة لا يدينون بها وقد يدينون بغيرها، فيشيرون إلى عقائدهم برموز يفهمونها. . . وقد يكون الرمز اختصاراً لعبارة مفهومة أو صورة ظاهرة. . . فالرمز شيء مألوف في تعبير الإنسان وفي طبيعة الإنسان، ولكنه مألوف على حالة واحدة لا تخلو منها معرض الرمز والكناية، وهي حالة الاضطرار والعجز عن الإفصاح. . . فإذا لوحظت هذه الحالة فالمز أسلوب متفق عليه لا يحتاج إلى مدرسة تنبه الأذهان إليه. فالخيالي لا يستشير مدرسة من المدارس لتشير عليه أن يحلم بالصور والتشبيهات. . . والشاعر لا يعاب إذا مثل لنا الكواكب والأزهار فألبسها ثياب الأحياء. ومن ضاق به اللفظ فعمد إلى التعليل والتشبيه فالناس لا يحسبونه من هذه المدرسة أو تلك؛ لأن المدرسة التي يصدر عنها في هذه الحالة هي مدرسة البديهة الإنسانية حيث كان الإنسان.
هذه الرموز الطبيعية هي الرموز التي نعجب بها كما يعجب بها الأستاذ فريد.
أما الرموز التي وصفناها بالسخف فهي تلك الرموز الملفقة في غير حاجة ولغير علة، إلا ذلك الهراء الذي يتحدثون فيه عن (اللاوعي). . . و (اللاشعور)، ويقولون إنهم يعبرون به عما لا يعيه العقل ولا يحيط به الحس الظاهر، وهي جهالة منهم يسوقهم إليها أن الكلام عن (اللاوعي) وعن (اللاشعور) شيء جديد، وكأنهم يحسبون أن الإنسان قد خلق مجرداً من هذا (الوعي الباطن) أو هذا الشعور الذي لا يعي نفسه قبل أن يتكلم عنه النفسانيون المعاصرون.(775/2)
والواقع أن (اللاوعي) قديم في الإنسان، وأنه قد صدر عنه في تخيله وتفكيره قبل أن نطلق عليه هذه الأسماء، وإذا كان المعاصرون قد كشفوه أو أطلقوا عليه الأسماء فذلك أدعى إلى كشفه وتوضيحه، لا إلى طغيانه على العقل والحس وإلغاء هذا وذاك كأنهما معطلان في تعبير الإنسان وتفكيره، عاجزان عن الإبانة والأداء.
فالتعمية المقصودة لغير علة هي الرمزية السخيفة التي ننكرها ولا نسيغها، وهي وليدة التشدق بالمبتدعات الحديثة في مذاهب علم النفس عن غير فهم ولا تمييز بين ما هو حديث في الكشوف العلمية وما هو حديث في طبيعة الإنسان.
إن الكلام الحديث عن طبيعة العقل كالكلام الحديث عن طبيعة النظر أو حقائق النور والإضاءة، ونحن لا نغير نظرنا إلى الأشياء لأننا عرفنا عن دقائق العين ما لم نكن نعرف، وكذلك لا نغير شعورنا بالدنيا لأن علماء النفس أطلقوا على الملكات النفسية فينا أسماء لم يعرفها الأقدمون.
ولكن هذه الطائفة التي تسمى نفسها بالمدرسة الرمزية تظن أننا قد خلقنا خلقاً جديداً بعد ظهور تلك المصطلحات على الألسنة فتلغي ما كان من تفكير وتعبير لغير سبب، وتتعمد أساليب التعمية لأنها سمعت أن الوعي الباطن غير الوعي الظاهر، وهما في الحقيقة قد كانا كذلك منذ أول الزمان.
فليكن في الأدب (رامزون)، لأن الرمز أقرب إلى التوضيح والتأثير.
أما الرامز الذي تظهر له الحقائق فيضع يديه على عينيه لكي لا يراها، فهو لا يرينا شيئاً قط يستحق أن نراه.
وقد سألني مندوب الزمان أيضاً عن كلية الآداب، فقلت له إن هذه الكلية لم تخرج أديباً واحداً منذ نشأت، وأن الشبان الذين نبغوا منها في الأدب قد نبغوا بجهودهم وملكاتهم علىالرغم من سوء التعلمي هناك، وقيامها في الغالب على قواد الانتفاع وحب الظهور.
وسئل الأستاذ أبو حديد فقال: (أوافقه بتحفظ. وهذا التحفظ يرجع إلى أن الجامعة المصرية وليدة ربع قرن فلا ننتظر منها بعد ما ننتظره في ربع قرن آخر، وأملي أن تكون النتيجة طيبة).
ولست أريد أن أخالف الأستاذ في هذا التحفظ إلا بما يرضيه ويرضي الحقيقة.(775/3)
فالأستاذ أبو حديد من خريجي مدرسة المعلمين العليا، وهذه المدرسة قد أنشئت لتخريج المعلمين ولم تنشأ خاصة لتخريج الأدباء.
ولكنها - مع هذا - لم تنقض عليها سنوات حتى أخرجت للعربية أدباء من طراز محمد السباعي وعبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني ومحمد جلال وكامل سليم وأحمد زكي والعبادي وعوض محمد وفريد أبي حديد ومحمد بدران.
فالمسألة إذن مسألة البيئة والاستعداد لا مسألة الزمن الطويل أو القصير.
ولا فضل لمدرسة ننتظرها خمسين سنة لتخرج لنا أديباً أو جملة أدباء؛ فإن تعليم المدرسة برنامج محدود السنوات، وليست هي أمة تتولد فيها الأجيال وتحسب أطوارها بالعشرات من السنين.
وإذا تم برنامج بعد برنامج ولم نشعر لتمامه بأثر في النهضة الأدبية فذلك هو الإفلاس بعينه، أو ذلك هو الدليل على أن الأديب الذي يخرجه لنا نصف قرن من الزمان هو وليد الأمة في تطورها وليس وليد المدرسة التي كان ينبغي أن تعطيه ثمرتها في بضع سنوات.
حقق الله أمل الأستاذ في النتيجة الطيبة، ولكن قبل خمس وعشرين سنة إن شاء الله. . .!
عباس محمود العقاد(775/4)
2 - عبد الله بن سبأ
للدكتور جواد علي
وجاء في تأريخ الطبري: (كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء). واكتفى في مواضع أخرى من تأريخه (بابن السوداء) وفي العبارة الأولى شرح لكلمة (ابن السوداء) ويدل ما ذكره الطبري على أن أم عبد الله كانت سوداء اللون وأنها كانت قريبة من الزنوج أو من أصل زنجي قريب أو بعيد، وأن أباه كان من اليمن وإن كنا لا نعرف اسمه كما لا نعرف اسم أمه، وأنه كان يهودياً إلى أيام عثمان.
وفي البيان والتبيين) حديث جاء في بعض فقراته (فلقيني ابن السوداء وهو ابن حرب) ولست في شك من أنه يقصد (بابن السوداء) عبد الله بن سبأ الذي يتحدث عنه أصحاب كتب الفرق، لأن المقالة المنسوبة إلى هذا الرجل هي نفس المقالة التي ينسبها الرواة الآخرون إلى عبد الله بن سبأ، كما يذكر مؤرخون ورواة أن (ابن سبأ) هو (ابن السوداء) فهل عرف الجاحظ ذلك، أن أنه قصد شخصاً آخر؟ على كل حال فالمهم في الرواية أنه نص على اسم والد (ابن السوداء) فدعاه (حرباً) ولكن أي (حرب) هو؟ فهنالك مئآت من الأشخاص عرفوا بحرب. ثم من كان والد حرب؟ ومن أي قبيلة كان؟ ذلك ما لم يتحدث عنه الجاحظ ولا غير الجاحظ من الكتاب أو الرُّواة أو المؤرخين. وقد فرَّق بعض الرُّواة بين (عبد الله بن السوداء) و (عبد الله بن سبأ) فجعلوا كل واحد منهما شخصاً، ومن هؤلاء ابن عبد ربه، والبغدادي، ومن أخذ عنه مثل الاسفرائيني. ويعتقد المستشرق (إسرائيل فريد لندر) أن هذا التفريق الذي جاء في كتاب (البغدادي) سببه الرواية المنسوبة إلى الشعبي ونصها: (وقد ذكر الشعبي أن عبد الله ابن السوداء كان يُعين على قولها. وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً من أهل الحيرة فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً إلى آخر الرواية، وكان قد ذكر قبل لك اسم (عبد الله بن سبأ) فحدث هذا الاختلاف ولكنه كان يقصد في الواقع شخصاً واحداً لا شخصين
ويظهر مثل هذا الاختلاف ولكن بصورة أخرى في موضع من كتاب (العقد الفريد) للفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي المتوفي سنة 328 للهجرة. في الموضع الذي ذكر فيه(775/5)
رواية مفصلة للشعبي عن (الرافضة) - وأكثر الروايات اليت تتعرض لبحث الرافضة هي من روايات الشعبي - جاء فيها (وقد حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى المدائن: منهم عبد الله بن سبأ، نفاه إلى ساباط، وعبد الله ابن السَّبَّاب، نفاه إلى الحاذر، وابن كروَّس). فذكر الشعبي في رواياته هذه اسم شخصين: (عبد الله بن سبأ) و (عبد الله بن السباب) والذي يطالع هذا الموضع يتصور أنه الثاني من زعماء الغلاة في حب علي بن أبي طالب، وأنه كان من حزب عبد الله بن سبأ، وأن اسم والده هو السباب)
ولكن إذا ما درسنا كتب الفرق وجدنا أنها تسمى أتباع عبد الله بن سبأ (السبائية) كما تسميهم (السبابية) في ذات الوقت. جاء في كتاب البغدادي (الفرق بين الفرق) (الفصل الأول من فصول هذا الباب، في ذكر قول السبابية، وبيان خروجها عن ملة الإسلام. السبابية أتباع عبد الله بن سبأ الخ) وقد تكرر ورود هذه التسمية في كتب أخرى. وأرى أنها لم تأت عن اشتباه أو عن خطأ في الكتابة، بل جاءت من سبَّهم الخلفاء. وقد ظهر السبُّ بيهم على ما يظهر قبل أيام عثمان. ولما جاء الإمام إلى العراق أنكر عليهم ذلك. وظلت فرقة منه ماضية في سبها. كما سبَّ الخوارج سائر الصحابة ممن اشترك في الحوادث السياسية منذ عهد عثمان فما بعد. والظاهر أن القدماء كانو يطلقون على تلك الجماعة (السبابية) وعلى الوالد منهم (السبابي) نسبة إليه تمييزاً لهم عن الفرق الأخرى التي ظهرت بعد وفاة الرسول، كالذي رواه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفي سنة 276 للهجرة في كتابه (عيون الأخبار) عن المغيرة من أنه كان (سبابياً) وأنه كان من الغلاة
وكان (المغيرة) وهو الغيرة بن سعد مولى لبجيلة من السبابين. وقد أصلح جماعة من المحققين والناشرين المخطوطات القديمة واستبدلوا (بالسبابية) السبائية و (بسبابي) سبائي لشيوع (السبائية) وشهرتها. ورد في النسخة الخطية (لعيون الأخبار) (وأما المغيرة فكان مولى لبجيلة وكان سبابياً وصاحب نير نجات) فاستبدل محقق هذا الكتاب بكلمة (سبابياً) كلمة (سبائياً) أي من السبائية (أتباع عبد الله بن سبأ. وقد اعتمد في ترجيحه هذه الكلمة على ما جاء في مفاتيح العلوم للخوارزمي وعلى ما جاء في العقد الفريد وفي القاموس
كما استبدل السيد سعيد العريان محقق (العقد الفريد) (بعبد الله بن السباب) عبد الله بن(775/6)
السوداء. ومعنى هذا أن عبد الله بن السوداء شخص آخر غير عبد الله بن سبأ كما جاء ذلك لدى البغدادي. وأعتقد أنه لا داعي إلى هذا التبديل فلعل (ابن السباب) من (السبابية) وهي إحدى المصطلحات القديمة التي كانت تطلق على الجماعة التي كانت تسبُّ قسماً من الصحابة. وعلى كل فنحن لا نعرف أي شيء عن هذا الشخص الذي سماه الرواة (عبد الله بن السباب) ولا عن الشخص الآخر الذي سمَّاه صاحب العقد الفريد (ابن كروّس)
ويذهب أكثر الرُّواة إلى أن (عبد الله بن سبأ) هو من أهل اليمن. وقال بعضهم أنه من حمير؛ ولذلك قيل له (الحميري) وقد عرف (كعب الأحبار) وهو يهدي مسلم بالحميري كذلك؛ غير أننا لا نستطيع أن نقطع بأنه كان من حمير أي من صميم (حمير) فيجوز أن يكون من المنتسبين إليها بالولاء. وهنالك رجل آخر له شهرة في التأريخ قيل عنه أيضاً إنه كان يهودياً أو من أصل يهودي، هو (وهب بن منبه) ثم أسلم أو أسلم أهله. وقد ميز عن صاحبيه بلقب هو (الأبنوي) ويعني هذا اللقب أنه كان من (الأبناء) أي من أبناء جنود الفرس الذين كانوا قد جاءوا إلى اليمن قبل الإسلام لطرد الأحباش. وزعم الطبري في تأريخه أنه كان من أهل صنعاء أما الشعبي فقد ذهب إلى أن عبد الله بن السوداء كان من أهل الحيرة. ونحن لا نستطيع رفض رواية الطبري كما لا نستطيع قبولها. ولا نستطيع أيضاً تصديق رواية الشعبي ولا تكذيبها. حتى أننا إذا ما أخذنا بالرواية الثانية فإنها لا تتعارض مع الرواية الأولى إذ يجوز أن يكون من أصل يماني هاجر إلى الحيرة في العراق. كما أن من الجائز أن يكون اسم (سبأ) هو الذي أوحى إلى الرواة بهذه القصة قصة موطن (عبد الله) وانتسابه إلى اليمن ومن اليمن في صنعاء.
وأستطيع أن أقول وأؤكد أن اشتهار (عبد الله) بابن السوداء لم تكن شهرة تسره، كما لم تكن شهرة تسر أتباعه إن كان له أتباع حقاً. وقد استعملت هذه الكلمة دوماً للتحقير والازدراء. وقد عير بها (عمار بن ياسر) حينما تجاسر وتطاول على الخليفة عثمان بن عفان فكان من جملة ما قاله الخليفة (ويلي على ابن السوداء! لقد كنت به عليما) وقد عير بها (المقداد ابن الأسود) فقيل له (يا ابن السوداء). ولما غضب أبو ذر الغفاري على كعب الأحبار قال له (يا ابن اليهودية) و (يا ابن السوداء).
ويكاد يكون في حكم الإجماع بين الرواة الذين ذكروا خبر عبد الله بن سبأ أنه كان يهودياً.(775/7)
وقد أيد علماء الشيعة ذلك أيضاً مثل النوبختي والكشي والكليني المحدث الشيعي الشهير صاحب كتاب (الكافي) في أحاديثه عن الإمام الصادق في عبد الله ابن سبأ. ويظهر من دراسات هذه الروايات أنها ترجع في الواقع إلى أوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي.
وقد كانت (صنعاء) عاصمة اليمن في أيام الأحباش قاعدة مهمة لليهود. والظاهر أنهم أقاموا بها منذ مدة قبل غزو الأحباش لليمن. وأنهم صاروا يشعرون بطمأنينة بال وراحة في هذه المدينة، فربطوا حوادثها بالتوراة وقالوا إنها مدينة (أزال) (أوزال) التي ورد خبرها في الكتاب المقدس. فهل كان (عبد الله بن سبأ) أحد هؤلاء اليهود الذين حافظوا على ديانتهم إلى أيام الخليفة عثمان بن عفان حتى إذا أسلم تلمكته حمى التنقل من مكان إلى مكان ومن قطر إلى قطر داعياً الناس إلى دعوات غريبة، طمعاً في إثارة الفتنة وخلق الفوضى في صفوف المسلمين. فزار الحجاز وذهب إلى البصرة فالكوفة فالشام فمصر، واتصل بكل هذه الأقطار عن طريق المراسلة حتى تمكن من تأجيج نار فتنة لم تخمد حتى اليوم؟
والعجيب أن رجلا كهذا الرجل لم يسجل الرواة حوادثه ولا أخباره، ثم ينصاع له شيوخ من شيوخ المسلمين، ولا يتقدم أحد لقتله أو سجنه على هذه المقالات التي كان يظهرها وهو في صورة مسلم يدين بالإسلام.
ذكر الطبري أنه لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين بلغه أن في عبد القيس رجلا نازلا على حكيم بن جبلة، وكان حكيم ابن جبلة لصاً، إذا قفل الجيوش خنس عنهم فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه. ومن كان مثله فلا يخرجنَّ من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً. فحبسه، فكان لا يستطيع أن يخرج منها. فلما قدم ابن السوداء نزل عليه واجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح. فقبلوا منه واستعظموه. وأرسل إليه ابن عامر فسأله ما أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك. فقال ما يبلغني ذلك، أخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها، فاستقر بمصر وجعل يكاتبهم ويكاتبونه ومختلف الرجال بينهم)(775/8)
والمعروف أن ولاية (عبد الله بن عامر) على البصرة، بعد عزل أبي موصى الأشعري عنها، إنما كانت في سنة تسع وعشرين للهجرة في عهد الخليفة عثمان بن عفان فيكون مجيء عبد الله ابن سبأ إلى البصرة إذاً في سنة 32 - 33 للهجرة، أي في السنة الثالثة من حكمه كما أخبر بذلك الطبري. . .
(للبحث بقية)
جواد علي(775/9)
لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
كان صديقنا الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يقرر في رده الأول علينا أننا (نملك تحريم تعدد الزوجات) ولكن بطريق مخالف لطريق معالي عبد العزيز فهمي باشا، (وقد سلكه أولو الأمر حديثاً في نظائر لتعدد الزوجات)، وأشار إلى هذا الطريق بمثال هو (تحديد سن الزواج ونحوه مما جرى العمل الآن به، وألفه الناس بعد أن ثاروا عليه عند تشريعه)؛ مما يفهم منه بوضوح أنه طريق التشريع الوضعي القائم على استعمال ولي الأمر ما له من سلطان على عماله مأذونين كانوا أو قضاة بمنعهم من تحرير وثائق رسمية لعقود الزواج المتضمنة للتعدد أو سماع الدعاوي المترتبة على هذه العقود.
فلما بينا له - تعقيباً على رده - أنه قد أخطأ القصد إلى التحريم بما أشار إليه من طريق سلبي لا تعلق له بحل ولا بحرمة، وأن ما ينشأ بين الناس من علاقات شرعية في الأمور التي تناولها المشرع الوضعي بطريق المنع المتقدم، يعتبر صحيحاً شرعاً وقانوناً وتترتب عليه جميع الآثار المترتبة على سواه، عدا تحرير الوثيقة وسماع الدعوى وهما الأثران المعطلان خلافا لما هو النظر الصحيح في (قاعدة تخصيص القضاء)، راح - في رده الثاني - يحرر مراده بأن لو لي الأمر (أن ينهي عنه (تعدد الزوجات) إذا أساء المسلمون استعماله، فيصير حراماً لنهيه عنه، وإن كان في ذاته مباحاً (كما ينهى عن زرع القطن في أكثر من ثلث الملك) فيكون زرع القطن في أكثر من الثلث حراماً من هذه الناحية وإن كان في ذاته مباحاً. . . هكذا يقول الأستاذ.
وظاهر مما تقدم أن معالم هذا الطريق الأخير تغاير المعالم التي أقامها للطريق الأول تمام المغايرة، فذاك طريق ليس له سوابق في التشريع المصري الحديث ولا القديم على الأقل فيما يتعلق بنظائر تعدد الزوجات التي مثل لها الأستاذ نفسه بتحديد سن الزواج؛ فلا ينطبق عليه إذن القول بأنه (قد سلكه أولو الأمر حديثاً في نظائر لتعدد الزوجات)، وبالتالي لم يألف الناس هذا الطريق، فلا ينطبق عليه القول بأنه (مما جرى العمل الآن به وألفه الناس بعد أن ثاروا عليه عند تشريعه). كما أن ما ذكره الأستاذ نفسه في ختام رده الأخير من (أن الناس لم يتهيأوا بعد لفهم هذا الحق (حق ولي الأمر في التحريم)؛ بل يعدوه خروجا على(775/10)
الدين) يبين بجلاء أنه لم يكن الطريق الذي عناه في رده الأول ووصفه بأن تحريم تعدد الزوجات بواسطته (كان مطلباً سهلا لا يحتاج إلى ما تكلفه (الباشا) في أمره)، والذي تنطبق عليه هذ الأوصاف كلها إنما هو الطريق الذي فهمناه من رده الأول وأشرنا إليه فيما تقدم.
والظاهر أن الأستاذ قد استشعر - قبل سواه - هذا التغاير التام بين الطريقين وأنه لا يستساغ معه اعتبار ثانيهما تحريراً للمراد من الأول، فحاول أن يعقد بينهما وشيجة قربى إذ قرر في ختام رده الأخير ما يتضمن أن العلاقة بين الطريقين علاقة الفرع بأصله. فالطريق الذي قررنا أنه هو ما عناه في رده الأول ولايمكن أن يكون قد عنى سواه، متفرع - في رأيه - على الطريق الوارد في رده الأخير ولا يعدو أن يكون (تنظيما فيه أو استثناء له من ولي الأمر بما له من حق التحريم والمنع. ولعل مما يدعو إلى هذا أن الناس لم يتهيأوا بعد لفهم هذا الحق. . . الخ) والواقع خلاف ذلك لأن الطريقين متغايران - كما قدمنا - تمام التغاير، ولا يمت أحدهما إلى الآخر بالصلة التي حاول الأستاذ عقدها بينهما ولا بما يماثلها. فهما وإن كانا من حق ولي الأمر - فيما يرى الأستاذ - إلا أن حقه في كل منهما لابد من إرجاعه لأصل مغاير لأصل الآخر؛ فحقه في منع عماله من تحرير وثائق أو سماع دعاوي معينة راجع إلى (سلطته التنظيمية) عليهم باعتبارهم أدواته في مباشرة (ولايتي التنفيذ والقضاء). أما الحق المنسوب له في التحريم فلا مندوحة من إرجاعه إلى (لسلطة تشريعية) لولي الأمر تتعلق بأفعال المكلفين عامة مما يقتضيه تعريف الحكم الشرعي.
وحتى على التسليم بأن طريقه الجديد مما يصح اعتباره تحريراً لمراده بالطريق الأول، فهو مع ذلك غير مؤد إلى الغاية التي قصد إليها إلا وهي التدليل على دعواه أننا نملك تحريم تعدد الزوجات، إذ لم يرد عن أحد من القائلين بحق ولي الأمر في النهي عن المباح أن هذا يجري فيما وردت بحله نصوص (تفصيلية) محكمة في الكتاب والسنة كما هو الحال في تعدد الزوجات (وليست هذه النصوص - فيما أعتقد - موضع خلاف بيني وبين الأستاذ عبد المتعال)، ولا تفيد عباراتهم جريانه الا فيما هو من قبيل (المصالح المرسلة) التي لم يشهد لها الشارع بحل ولا بحرمة فتكون - قبل نهي ولي الأمر - على أصل(775/11)
الأباحة، أو (سد الذرائع) بالنهي عما يدخل تحت نصوص (أجمالية) بالإباحة إلا أنه يتخذ ذريعة لارتكاب محرم. والحرمة المستفادة من نهي ولي الأمر في هذه المواضع وما شابهها تكون مستندة في الواقع إلى دليل عام من الكتاب أو السنة، فلا يقال إنها شرعت بنهي ولي الأمر ابتداء. على أن مسألة نهي ولي الأمر عن المباح - حتى في نطاق هذا التحديد الذي بيناه - مسألة خلافية، القول فيها طويل والرأي غير مستقر؛ فهي، من كل الوجوه، ليست بالذي يصح أن يعول عليه في مثل هذا الباب.
أما ما استشهد به من موضوع (زراعة القطن) فلا يصلح للاستئهاد لأنه قياس مع الفارق الكبير، وهذا ظاهر.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد(775/12)
تولستوي الحائر
للأستاذ محمود الخفيف
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ما الحياة إلا وهم. وما سعينا فيه إلا عبث. وما أنفسنا وأولادنا إلا طعام للدود. وما مسراتنا وملاهينا إلا كأصوات الخائفين من الأطفال في ظلام الغابة اللفاء يدرأون بها عن أنفسهم الخوف. وما ذلك الذي نسميه في الحياة جمالا إلا غرور، إن كل ذلك إلا باطل؛ وإن هو إلا اللاشيء. ذلك ما أفضى به إليه تأمله، وذلك ما يعذه ويفزعه ويحيطه باليأس من جميع أقطاره
وليته ينسى! ولكن انى له النسيان وهذه الحياة نفسها تذكره أبداً بفزعه الأكبر منها؛ وهو ما فكر فيها لمجرد الفكر في ذاته، ولكن شيئاً مبهماً خفياً ظل يوجه نفسه هذه الوجهة منذ حداثته، لا ينقطع عنه إلا ليعود إليه أقوى مما كان، وما زال حتى وقف به على حافة الهاوية. .
وما قصر أو تهاون في درس أو قعد عن استقصاء. قال: (ولكني ربما كنت قد سهوت عن شيء أو أخطأت فهم شيء. ذلك ما تحدثت به إليّ نفسي مراراً؛ فليس من الممكن أن تكون مثل هذه الحال من اليأس أمراً طبيعياً في الإنسان. ثم بحثت عن تفسير لهذه المسائل في كل ناحية من نواحي المعرفة بلغها الناس، وبحثت بحثاً مؤلماً طويلا، لا لمجرد الفضول والنظر، وقضيت في بحثي الشاق زمناً، بالنهار وبالليل، أجدُّ كما يجد من أشرف على الهلاك حين يطلب النجاة؛ فلم أعد من ذلك بطائل)
لم يدع شيئاً من العلوم النظرية ولا من العلوم التجريبية، ولكنه لم يجد في العلم بغيته. فما بلغ العلماء من العلم إلا بعض ما يتصل بأبحاث المختصين والمحترفين، أما ماله صلة بالمشكلة الأساسية وهي مشكلة الحياة، فقد أهملوه أو جهلوه. يقول عن العلماء (إنهم هكذا يجيبونك: أما عن سؤالك: ماذا أنت ولم تعيش، فليس لدينا جواب، وليس هذا مما نشغل أنفسنا به. أما إذا أردت أن تعلم قوانين الضوء أو قانون الاتحاد الكيمائي أو غيرها فلدينا أجوبة واضحة محددة عن ذلك لا تقبل الجدل).
ولم يدع شيئاً مما له في الفلسفة صلة بمسائل الحياة، فقرأ سقراط وبوذا وسليمان الحكيم(775/13)
وشوبنهاور واضرابهم، ولكنه لم يرجع من فلسفتهم إلا (بأن كل شي في الحياة عبث، وأن السعيد هو ذلك الذي لم يولد).
ماذا يقول سقراط؟ أليس هو القائل: (إننا نقرب من الحقيقة كلما أخذنا في الابتعاد عن الحياة، وأن حياة الجسد شر وباطل؛ وعلى ذلك فالقضاء على حياة الجسد من النعيم، وينبغي علينا أن نطلبه؟) وماذا يقول بوذا؟ أليس هو القائل: (إن من المستحيل أن نعيش وفي نفوسنا أن الألم أمر لابد منه، وأننا سوف يلحقنا الضعف ويصيبنا الكبر ويدركنا الموت. . . ألا إنه يجب علينا أن نتخلص من هذه الحياة؟).
وماذا يقول سليمان؟ أليس هو القائل (عبث في عبث وباطل في باطل، وماذا يجني الإنسان من عمله تحت الشمس؟ يمضي جيل وياتي جيل غيره والأرض هي الأرض قائمة أبداً؛ وكل ما كان هو ما سوف يكون، وما عمل هو ما سوف يعمل؛ ولا جديد تحت الشمس. ولن يذكر ما مضى من الأشياء، وكذلك ما هو آت فسوف لا يذكره من يأتي بعده).
وماذا قال شوبنهور؟ أليس هو القائل: (الحياة هي ذلك الذي كان يجب ألا يكون. . . هي الشر؛ وإن انتهاءنا إلى اللاشيء هو الخير الوحيد فيها).
وهذه الحكمة الهندية القديمة كيف تصور الحياة؟ (كان سكياموني أميراً شاباً يعيش عيشة سعيدة حُجب عنه العلم بالمرض والكهولة والموت. وخرج الأمير ذات يوم للنزهة فبصر بشيخ فقد أسنانه، يتعثر في مشيته، ويبعث منظره الرعب في النفس، فسأل ذلك الأمير الذي لم يكن له علم بالشيخوخة حتى ذلك اليوم سائق عربته، وقد أخذه العجب: ماذا يكون ذلك؟ وكيف وصل الرجل إلى هذه الحال التعسة الكريهة؟ ولما علم الأمير أن ذلك حظ الناس جميعاً، وأنه سوف يصيبه لا محالة يوماً ما، لم يستطع أن يستمر في نزهته، وأمر سائقه فعاد به إلى القصر ليتفكر في هذه الحقيقة. ثم أغلق من دونه الأبواب وجعل يتفكر. ويرَّجح أنه وجد عزاء لنفسه؛ فقد خرج ثانية للتنزه مبتهجاً سعيداً، ولكنه أبصر هذه المرة مريضاً متهدماً أعشى العينين مرتعش البدن، ولما لم يكن للأمير علم بالمرض فقد وقف وسأل عن ذلك. ولما علم أنه المرض، وأن كل إنسان عرضة له وأنه هو نفسه، وهو الأمير القوي السعيد، قد يمرض في غده، لم يطق متابعة سيره وعاد ثانية إلى قصره ليتدبر ويبحث عن عزاء ويرَّجح كذلك أنه أصاب عزاء، فقد خرج يتنزه للمرة الثالثة. ولكنه في(775/14)
هذه المرة وقع على منظر جديد؛ فقد أبصر رجالا يحملون شيئاً ما، فسأل ماذا يكون؟ ولما أخبر أنه رجل ميت قال متعجباً: ميت؟ وما الميت؟ وأخبر أن الإنسان إذا أصبح مثل ذلك الرجل صار ميتاً. فدنا الأمير من الجثة وكشف عنها غطاءها ونظر فيها وسأل ماذا يحدث بعد ذلك؟ فأخبر أنها سوف تدفن في الأرض واستفهم عن سبب ذلك فأجيب: لأن الميت سوف لا يعود إلى الحياة وسوف يتعفن وينتج الدود. وسأل الأمير أذلك حظ الناس جميعاً؟ وهل يحدث لي مثل هذا؟ وهل أدفن وأتعفن وأنتج الدود؟ أتقول نعم؟ إذن فإلى القصر. ولن أخرج بعد ذلك أبداً طلبا للمتعة.
ثم إن سكياموني فقد كان عزاء، وأيقن أن الحياة أعظم شر، وجعل همه كله أن يتخلص منها ويخلص غيره).
هكذا تُصور الحكمة الهندية الحياة وهكذا يراها تولستوي، ولقد فكر كثيراً في أن يتخلص منها. . .
ولكنه يرى كثيراً غيره من الناس يعيشون لا تزعجهم الحياة ولا يكربهم التفكير فيها، فإذا كان لم يجد في العلم هداه ولا في الفلسفة، أفلا ينظر في حياة الناس ليرى كيف يرضون ولا يشقون مثل شقائه؟
وعرف من الناس في الحياة أربعة أنماط: ففريق هم الجهلاء الذين لا يدرون أن الحياة عبث وسخف، وليس له في هؤلاء فائدة؛ لأنه لا يستطيع أن يعود جاهلا. وفريق يعلمون سخفها، ولكنهم مع علمهم يوطنون أنفسهم على تحملها، وهو لا يقدر أن يجاريهم فهو متبرم ساخط. وفريق هم الجادون العاملون الذي يتخلصون من الحياة على أية صورة، وهو لا يستطيع أن يفعل فعلهم لأن شيئاً خفيا يمنعه من ذلك كلما أغراه اليأس. وفريق يرون الحياة زوراً وعبثا وأن لا خير في مستقبل ولا رجاء، ومع ذلك فهم يتعلقون بها وإن تعذبوا، وهو من هذا الفريق.
على أن هناك فريقاً خامساً لا يدخل في هذه الأنماط الأربعة، هم أولئك الذين لا يكترث لهم أحد، وينظر إليهم السادة نظرتهم إلى الدواب، وهؤلاء قد وجدوا لهم في الحياة معنى يعيشون عليه، معنى لا يتصل بالمعقول ولا بالفلسفة، وذلك هو الإيمان.
ولكن إيمان هؤلاء يقوم على أساس من الأرثوذكسية عقيدة الكنيسة الروسية الإغريقية،(775/15)
وهي ما لا يستطيع أن يحمل عقله على قبوله. . .
يا للحيرة! إن العقل يفضي به إلى إنكار الحياة نفسها، وإن الإيمان يقضي أن يعطل العقل. . . أي بلاء هذا؟ وأي ليل معتم!
ولكنه علم فيما علم قول المؤمنين إنه لابد من إعداد النفس للإيمان حتى تؤمن؛ وإذاً فليدع العقل جانباً وليناقش رجال الدين، ولينظر في كلامهم لعله يصل إلى قلبه، وليقرأ ما كتبه آباء الكنيسة، وليطالع سير القديسين، وليتعبد فيقيم الشعائر جميعاً، وليزر الأديرة، وليذهب إلى الأب الصالح أمبروز، ذلك الذي كان يستعينه جوجول والذي استعانه دستويفسكي وسولوفييف؛ وفعل ذلك جميعا ولكن الشك مازال يأخذ بخناقه ويكاد يزهق روحه. . .
ويقرأ العقيدة الأرثوذكسية، وكلما أمعن فيها سخر منها وبعد عن التصديق بها. فما هذا التثليث؟ وما هذا التحول إلى دم المسيح ولحمه؟ وما تلك المعجزات التي تنسب إلى القديسين؟ وما تلك الأدعية والصلوات والطقوس؟ أذلك مما يقبله العقل؟ كلا ثم كلا
ثم يحاول أن يطرد الجحود من نفسه فربما كان الجحود هو ما يحول بينه وبين الإيمان. ويقول لنفسه دائما إنه مستعد لأن يؤمن. قال في كتابه (اعتراف) يصف ذلك: (لقد اتجهت صوب الإيمان لأني لم أجد شيئا خارجه إلى الخراب. وعلى ذلك فما دمت لا أستطيع أن أطرح عقيدتي جانبا فقد صدقت وخشعت. وقد أحسست في قلبي من القنوت والخشوع ما جعلني أفعل ذلك. ثم إني عدت فخشعت وازدردت الدم واللحم من غير سخرية في نفسي رغبة مني في أن أصدق؛ ولكني أذكر ما مر بي من صدمة وأرى ما ينتظرني فيما هو قادم، فلا أملك أن أظل مصدقا).
وإذ يرى نفسه في بحر لجي من الحيرة يسأل نفسه: ماذا يريد أن يعرف على التحديد ليلتمس السبيل إلى معرفته؟ فيكتب على رقعة: لماذا أنا حيّ؟ ما سبب حياتي وحياة غيري من الناس؟ وما هدف حياتي وحياة غيري؟ ماذا تعني ثنائية الخير والشر التي أحسها في نفسي؟ ولماذا هي قائمة فيها؟ وعلى أي وجه ينبغي أن أحيا؟ وما الموت؟ وأهم من ذلك كله وأكثره تعقيداً كيف أنجي نفسي؟ ذلك أني أحس أني هالك، فإني أعيش ثم أموت؛ وإني أحب الحياة وأخاف من الموت، فكيف أنجي نفسي؟)
وإذا لم يبق له إلا الدين والإيمان، فأي أيمان؟ إنه إذا قارن في نفسه بين تلك الأوقات التي(775/16)
آمن فيها بالله وبين تلك التي أنكر فيها الله، وجد الأولى نيرة فيها شفاء للنفس، ووجد الثانية مظلمة فيها العناء، ولكن الإيمان بالله شيء، والإيمان بما تقول الكنيسة الأرثوذكسية شيء آخر. . .
ولا يزال يطيل القراءة في العقيدة الأرثوذكسية، ولا يزال يقرأ الأديان جميعاً في كتبها، ولا يزال يزور الأماكن المقدسة علها توحي إلى نفسه الإيمان، ومن ذلك مدينة كييف وما تزدحم به من كنائس وأديرة قديمة. ولا يزال يستفهم القسيسين والطيبين من الطاعنين في السن من الناس. ولا يزال يقيم الشعائر ويعظمها. . ثم لا يعود من ذلك جميعاً بشيء إلا الجحود بما تقول الكنيسة.
تلك حال ترلستوي وما صنع في تلك السنوات التي أعقبت زواجه حتى أتم كتابه (أنا كارينينا). ثم تلقى الضربة التي جعلته يتخبط في الظلام، والتي جعلته يلقى بعيداً بحبل كان في متناوله مخافة أن يشنق نفسه، ويجعل دون بندقيته قفلاً غليظاً كيلا يصوبها إلى قلبه. وما تلك الضربة إلا أنه بعد طول عنائه يرى الحياة لا شىء، ولكم يزعجه اللاشىء ويوبق روحه ويرعزع فؤاده!
ولكن إذا كان لا يحب أن يقتل نفسه فما معنى أن يستسلم لليأس؟ وكيف يحيا إذن ويطيق حياته إذا كان لا يرضى الموت ولا يرضى الحياة؟
إذن فليجاهد على وعورةّ الطريق وبعد الشقة وظلمة المفازة، ليجد معنى للحياة ترتاح له نفسه، ويسعد به البشر. ولئن وقف به ما سلف من جهاده وقفة التائه الذي يخيفه الفضاء والظلام، فلخير له أن يمضي لعله يجد بعد الضلال هدى وبعد العذاب راحة. ولأن يتحمل وعثاء السفر مهما عظمت أهوَن عليه من هذه الوقفة التي تكاد تلقيه في قرار سحيق. .
لقد قضى من عمره قرابة ثلاثين عاماً يعمل للفن، فليقض ما بقى من عمره عاملاً على تقرير معنى الحياة، وليس ما يمنع أن يكون الفن أداته فيما هو قادم إذا لزم الحال. . .
وسوف يعمل تولستوي دائباً ناصباً، حتى ليعد جهاده في سبيل غايته من أروع فصول الكفاح في خطى البشرية، فليس أبلغ في معاني البطولة من تحمل مثل ما سوف يلقاه من عذاب، ولا من الصبر على مثل ما سوف يعترض له من صعاب. ولسوف يغدو تولستوي في تاريخ الفكر الحديث، والأدب الحديث، والفن الحديث، بجهاده الهائل منقطع القرين في(775/17)
إخلاصه وحميته وثباته. أجل، وسوف يرتفع إلى منزلة وسط بين الأنبياء والناس.
محمود الخفيف(775/18)
لا أثر للمغازلة في روسيا
مترجمة عن مجلة انترنايشونال دايدجست
بقلم الأستاذ توفيق ضعون
هذا ما بدا لأحد سكان غربي أوروبا عندما زار موسكو، وقد عاد منها مقتنعاً أن (الرفيق كوبيد) أصبح شيئاً غير مرغوب فيه في وطن ستالين. أم روايته في هذا الصدد فهي ما يلي:
لقد ألف سكان غربي أوربا مشاهدة المطارحات الغرامية على أنواعها، وفي جملتها تبادل القبَل في الشوارع والمتنزهات، والتشجيع على المغامرة الذي يلقاه الرجال من الغواني. فلا بدع إذن أن يعجب الباريسيون أو سكان أي مدينة من كبريات المدن الأمريكية للمحافظة التامة على الآداب العمومية التي يلقونها في موسكو.
مما لا ريب فيه أن هذه المدينة التي تعج بضعفي عدد سكان باريس هي واحدة من (أنظف) بلدان العالم؛ إذ أن العلاقات اليومية بين الرجال والنساء خاضعة لقواعد التعفف والصون التي جرى عليها الأقدمون. فلا عواهر يخطرن في الأسواق، والرجال والنساء، شباباً وكهولا، لا يتبادلون القبل علانية، ولا يسيرون متشابكي الأذرع ولا متضامّين لكي يثبتوا للملأ ما يضمره أحد الفريقين للآخر من حب وإعزاز. وجل ما يراه الزائر محبان يتنزهان، وقد أخذ كل منهما بذراع الآخر في احتشام كلي، فيخيل إليه أنهما زوجان انقضى على قرانهما عقد من السنين.
ومما استرعى انتباهي بنوع خاص أنني بينما أنا واقف في مطار كاليننغراد في انتظار طائرة تقلني إلى موسكو، تجلى أمامي مشهد وداع مدهش جرى بين جندي مبتور الذراع وخطيبته الحسناء المسافرة؛ فعند ما أزف الموعد أخرجت الفتاة من محفظتها تفاحة قدمتها للجندي قتناولها مبتسما، وبادلها بدوره إهداءها بضعة من أزهار كان قد اقتطفها من حقل مجاور. والظاهر أن تعرضهما للأنظار ربكهما إلى حد أنهما افترقا دون عناق. وصعدت الفتاة إلى الطائرة حيث لبثت مستغرقة في تفكيرها لاهية عن كل ما حولها باستثناء لحظات خاطفة كانت تلقي فيها نظرة أسى من النافذة، أو تصوبها إلى طاقة الزهر الصغيرة التي زوَّدها بها خطيبها الجندي، وعبثاً حاولت الترفيه عنها، فقد رفضت بأدب وحزم كل ما(775/19)
عرضته عليها من سكائر وحلوى.
وفي غضون الأسبوعين اللذين قضيتهما في موسكو تكررت أمامي المشاهد الدالة على المحافظة إلى أقصى حدودها. ولم يتفق لي ألبتة أن رأيت مطارحة من المطارحات الغزلية الشائعة المألوفة في المدن الأوروبية والأمريكية. فان تلك النظرات الخاطفة التي يتبادلها المارة عادة في باريس أو نيويورك، والتي تعبر عن التناهي بالجمال أو الأناقة أو الإعجاب بهما مفقودة تماماً في موسكو. والذي وثقت منه أن الفتاة أو المرأة في العاصمة الروسية لا تدرك معنى لأدلة الحب والإعجاب، أو هي تأخذ نفسها بواجب تجاهلها فإن أنت أطلت النظر إليها عزَت ذلك منك إلى تبينك لطخة علقت بأنفها فتحاول إزالتها بمنديلها.
وإذا رأيت مرأة جالسة على مقعد في حديقة عامة فلا تخش إذا أنت جاورتها أن تحدجك بغضب، أو تخلي مكانها؛ إذ هي لا ترى في صنيعك ما يريب أو يدعو إلى الاستهجان. وإذا جرؤت على سؤالها عن الوقت أو استطلعتها رأيها في الطقس أجابتك بكل بساطة معينة لك الساعة ومعربة عن شعورها بنقص الحر أو اشتداده بالنسبة إلى ما كان عليه في الأحد الفائت.
ولا يصح أن يُعزَى ما يبديه الذكور في موسكو من الفتور أو التحفظ إلى نقص في جاذبية إناثها، فهن على العكس من ذلك بارعات الحسن، وجمال بعضهن رائع فتان. فهناك الموسكوفيات الذهبيات الشعور السمهريات القوام، والشماليات ذوات البشرة العاجية والأعين الزرق، والقوقازيات الفاتنات اللحاظ المفترات الثغور. ولكن برغم كل هذه المغويات يندر أن يعيرهن الرجال التفاتاً. وحتى اليوم لا أعلم سبباً لهذا الفتور وعدم المبالاة يبديهما الرجال نحو أبرع النساء جمالا سوى اعتبارهم الاحتفال بالجمال إلى حد التدله، إخلالا بالآداب العامة.
ومما يلفت النظر بنوع خاص هو أنه بين زهاء الألفين من اللوحات المصرية المعروضة في المتحف الفني لا يوجد رسم واحد عار. وفي أثناء إقامتي في المدينة أعرت مديرة المنزل دفتراً أودعته ما أوحاهإليَّ خيالي من رسم عارية لآدم وحواء في الفردوس. فلم يكد يقع نظرها على الرسم الأول حتى أعادت إليَّ دفتري قائلة: (اسمح لي أن أعيد إليك(775/20)
بضاعتك إذ لا سوق في روسيا للرسوم البذيئة!)، ولا يتوهمن القارئ أن بين تلك الرسوم ما يريب أو يخدش العفاف؛ فإنني لو كنت في باريس لما تحرجت أن أطلع عليها راهبة في دير سان سوبليس فلا ترى فيها ما يوجب الإغصاء. والأغرب من ذلك أن الكثيرين من أصدقائي في موسكو أكدوا لي أن تلك المديرة لا تعد من المتطرفات في التصون.
وربما كان أشد ما حيرني سلوك الرجال؛ فهم متطرفون في كتمان عواطفهم الجنسية. ومما أذكره في هذا الصدد أنني بينما كنت مسافراً في طائرة أخذت أسلي نفسي بمطالعة عدد من مجلة (ليف) حتى إذا ما استوعبت جل ما يهمني من مواده دفعته إلى ضابطين روسيين مجاورين لي، فراحا يقلبان صفحاته دون أن يستوقفهما ما حفل به من رسول الفتيات ذوات الجمال الرائع والنهدام البارع، شأنهما في ما مرا هـ دون مبالاة من صفحات المواد لجهلهما اللغة الإنكليزية. أما الصفحة الوحيدة التي أطالا فيها التحديق فهي تلك التي تضمنت إعلاناً عن معمل دراجات آلية.
ولا يزال ذلك الاحتشام المحسوس الملموس في روسيا سراً مغلقاً عليّ، وربما كان من أول الأسباب الداعية إليه هو أن النساء في الاتحاد السوفياتي، باستثناء أقلية لا يؤبه لها، أصبحن على قدم المساواة مع الرجال، ففي كل مكان تقوم المرأة بأعمال كانت وقفاً على الرجال، كقيادة الحوافل، وبيع تذاكر السفر في محطات السكك الحديدية؛ حتى أن تنظيف المجاري تقوم به النساء. وكثيراً ما تبصر إحداهم خارجة من الأعماق وقد علت وجهها وثوبها الأقذار بعد أن غاصت فيها بحذائها الساقي الضخم.
ومن الجهة الثانية نرى أن الروسيين قد أعياهم إدراك مفهوم الغربيين للأسلوب الأصلح في العلاقات بين الجنسين. ومن الأمثلة الطريفة على تقصيرهم في هذا المضمار هو ما شاهدته في (فيانا)، فقد دُعي عدد من الفتيات الفرنسيات المجندات إلى حفلة اجتماعية أقامها ضابط روسيون. ومما لا ريب فيه أن الفرنسيات لم يجاوزن في سلوكهن الحد الذي ألفنه مع أبناء جنسهن. وكان الروسيون الذين تجنبوا كل أنواع المنازلة أن رافقوا بكل أدب مدعواتهن إلى منازلهن، ولكنهم لم يتمالكوا أن أبدوا منتهى الاستغراب عندما رأوا الفتيات يودعنهن عند الباب ولم تدع واحدة منهن رفيقها للدخول وتناول فنجان من الشاي أو كأس من الشراب.(775/21)
وهذا لا يعني أن الغريب المقيم على سفر في موسكو لا يستطيع. أن يصادق فتاة روسية، على أن علاقته بها تختلف كثيراً عما لو كان في باريس أو لندن أو نيويورك. مثال ذلك أن الفتاة الموسكوفية تستاء إذا حاول رفيقها أن يدفع ثمن ما تتناوله من طعام أو شراب؛ فهي تصر على دفع حصتها من النفقة، ولا تقبل هدية إلا إذا كان في استطاعتها أن تقدم ما يضارعها في أول فرصة تسنح.
وقد اتفق لي أن قدمت يوماً لفتاة عرفتها هدية صغيرة فردت عليها في الحال بطاقةٍ من الأزهار. وفي ظرف آخر قدمت لفتاة موسكوفية زجاجة عطر أتيت بها من باريس فما كان منها إلا أن قدمت إلى على الأثر كيساً من البرتقال.
وها أنا قد عدت من روسيا مندهشاً لتحرر الروسيات من سلطان الحب. ولابد لي من الاعتراف بأن العلاقات الجارية بين الجنسين في العاصمة الروسية تدهش إلى أقصى حد الرحالة الذي تتالت أمامه في كل مكان المشاهد الدالة عل ما كان للحرب من الأثر في تداعي الأخلاق، وما عقبها من الفوضى الأدبية في البلدان الأوروبية دون استثناء.
توفيق ضعون(775/22)
مذبحة الأبرياء
في قرية دير ياسين
للأستاذ علي محمد سرطاوي
تقع قرية دير ياسين البالغ عدد سكانها (700) نسمة، غربي بيت المقدس، بين المستعمرات اليهودية، وكانت تعيش مع اليهود على أحسن ما تكون الصداقة، ولم يعتد أحد من سكانها على أحد من اليهود.
ويوم كانت البلاد تشيع ابنها البار، وبطلها العظيم، الشهيد عبد القادر الحسيني، بطل القسطل، إلى متواه الأخير، انقضت جموع غفيرة من اليهود المسلحين على تلك القرية وأمعنت في السكان الأمنين قتلا وذبحاً: فبلغ عدد القتلى (250) قتيلا. وكان من بينهم (25) امرأة حاملا، (50) امرأة مرضعا، و (60) امرأة أو فتاة ذبحن ذبح الخراف في أفظع مظاهر القسوة. ثم جمعوا (150) امرأة وبعد أن مزقوا ملابسهن، واعتدوا عليهن، أركبوهن سيارات مكشوفة، وطافوا بهن الأحياء اليهودية. وكان الجمهور الصهيوني المتمدن المهذب يرجمهن بالحجارة ويبصق عليهن، ويشتم دينهن، ونبيهن؛ والجلادون واقفون فوق رؤوسهن، يتباهون بهذه البطولة، والجمهور يهتف لهم، ويطيل التصفيق، حتى إذا ما أتعبهم الطواف بهن، أوصلوهن إلى طرف الأحياء العربية، وأخذوا يقذفونهن إلى الأرض، ويطلقون الرصاص فوق رؤرسهن كبرا وجبروتاً وإرهاباً!
والذي يتراءى أن الباعث النفسي الذي يحرك هؤلاء الناس، إلى أعمال وحشية من هذا النوع، لا يعود في أصله إلى وطنية صحيحة، ورغبة صادقة في العيش بسلام في جزء من الأرض، وإنما يعود إلى شعور هذه الطائفة، أفراداً وجماعات، بالعجز والجبن، والبعد عن الرجولة والشجاعة، لأن الرجل الشجاع لا يستبيح لنفسه أن يقتل طفلا أو امرأة في مثل هذه السهولة، ثم يتباهى بما عمل من بطولة، وبما صنع من معجزات.
والتاريخ الحافل بالاضطهاد الذي ذاق مرارته اليهود، في الزمن البعيد والقريب، كان كافياً ليترك في أعماق نفوسهم ثورة جامحة مدمرة، على أي عما يقترف على أيديهم، أو بسبهم، يتصل بالأساليب التي اضطهدوا بها، لو كانت لهم ضمائر تتمشى فيها الكرامة والإنسانية.
والذي ينشد الحرية والاستقلال لا يطلبهما عن طريق محاربة استقلال الآخرين وحريتهم.(775/23)
وإنسان من هذا النوع خليق بأن يحرر نفسه من ذل الزمن، وأن يتحرر من القيود والنزعات الهمجية التي لا تسيطر إلا على الشعوب الساذجة التي لم تنل قسطاً من يقظة الضمير، قبل أن يرفع عينيه إلى مصادر النور!
وليس مقياس مدنية شعب من الشعوب، هو مقدار ما يملك من قوة مادية، وإنما هو مقدار ما يملك من قوة روحيه تدفعه إلى حب الخير، وإلى التمرد على الظلم في صوره ومظاهره! والعقبات الزمنية التي يقف أمامها شعب من الشعوب في طريق سيره نحو الأبد المجهول، ليست إلا اختياراً عملياً، يقدمه ذلك الشعب للحياة، لنرى مقدار ما في طبيعته من حب للشر أو الخير ليمنحه التاريخ الشادة التي يستحقها.
ولقد يخدع شعب من الشعوب نفسه، ويدور حول الحقائق ويتحلل من شخصيته الصحيحة في سيره مع تيار الحياة، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى قواعد نفسه مهزوماً مدحوراً، كما يعود إلى نفسه وطبيعته المجرم الأفاق الذي يتظاهر بالورع المزيف، والتقوى التي ليس لها في حسه وجود.
ولقد كلف الطموح الجنوني، في الأمس القريب، ألمانيا والعالم أجمع، ضحايا، وآلاما، ومتاعب، كانت نهايتها انهيار هتلر ونظامه، ومن ورائهما ألمانيا العظيمة، تلك الأمة التي دمرها ذلك الطموح، وجرعها مرارة الذل والخضوع.
واليهود، وهم حفنة في حساب العدد، يطمحون إلى السيطرة. على سبعين مليوناً من العرب، بانتزاعهم فلسطين، وهي قلبهم الخفاق، غير مقدرين النتائج الوخيمة التي ينطوي عليها هذا الاندفاع الجنوبي.
والفظاعة المتناهية، في صور القسوة والبربرية والهمجية، التي يعتدون بها على النساء والأطفال والشيوخ، حتى على جثث الشهداء، سياسة يحسبون أن اتباعها يرهب العرب ويوصلهم إلى ما يريدون منهم. وقد نسوا أو تناسوا، أن العرب أمة عريقة في المجد، شديدة البأس، لا تلين لأساليب العنف، ولا يزيدها ذلك إلا عنفواناً وصبراً وجلداً وتصميما على الأخذ بالثأر، مهما تطاول الزمن، ومهما جسمت التضحيات.
ولقد سبق للغرب أن شن هجومه على الشرق باسم الدين، في الحرب الصليبية، وفي فلسطين نفسها، فلم يهن العرب، وبقيت الحرب بينهم وبين أوربا سجالاً قرابة قرنين من(775/24)
الزمن القاسي، تمكنت في نهايته من طردهم منها. وها هو التاريخ يعيد نفسه، ويحمل إلى شواطىء فلسطين جماعات مشردة، أفاقة، مجرمة، من الهوان على أنفسهم وعلى الحقيقة، أن يحسب لهم العرب حساباً، مهما امتلأت أيديهم من أدوات الفتك والتدمير والغدر والنذالة التي يطفح بها تاريخهم القديم والحديث، إن جاز أن يكون لجماعات من هذا النوع تاريخ أو ما يشبه قصة تفوح منها روائح القبور والجيف.
إن العرب وهم شعب عريق في المجد، لن يقابل أعمال اليهود البربرية بمثلها، بل يمضي وراء أولئك الأنذال أشباه الرجال، يعلمهم درساً قاسياً، ويهدم على رؤوسهم المجرمة، صروح الأوهام، متبعاً في ذلك وصية أبي بكر، أول خليفة، لأول جيش يفيض على أطراف الهلال الخصيب من الجزيرة الجبارة، من عدم الاعتداء على النساء والأطفال والشيوخ. وحينما احتل الصليبيون بيت المقدس، تباهوا بأن خيولهم كانت تسبح في دماء النساء والأطفال والشيوخ الذين استجاروا برحاب المسجد الأقصى فذبحوهم فيه. ولكن صلاح الدين الأيوبي حقن دماء أولئك القساة، وسمح لهم بالخروج من بيت المقدس حين ثم له طردهم منها
ولو عقل اليهود، وقدر لهم، أن ينظروا إلى قلوب العرب الكريمة الرحيمة، قبل هذه البربرية، لوجدوها تفيض بالحنان والرحمة، ولتأكدوا من أنها أبر بهم وأحنى عليهم من تلك القلوب المستعمرة التي تتخذهم الآن وسيلة للاعتداء على حرية العرب الذين طالما أغدقوا عليهم العطف في كل عصور التاريخ.
والعرب في كافة أقطارهم، مصممون على سحق الصهيونية المجرمة، في فلسطين، لا حباً في سفك الدماء، ولكن دفاعاً عن الشرف العربي الذي استباحوه في رعونة جنونية. والويل لهم حينما تدنو ساعة الانتقام والثأر لشرف المسلمات في دير ياسين، اللائي طالما صرخن، وا معتصماه! وللعرب سبعة معتصمين الآن يثأرون للشرف المشباح. وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
علي محمد سرطاوي(775/25)
بين الشيوخ والشباب
للأستاذ عباس خضر
تجري بين الحين والحين مناوشات أدباء الشباب وشيوخ الأدب، تتمثل في نقدات خفيفة من الشباب للشيوخ، قليلها في أعمال أدبية معينة، وأكثرها تفنيد لمسلك بعضهم في الإنتاج التافه المسف الذي يختلف عن سابق جدهم وإبداعهم، ولبعد أكثرهم عن ملابسة الحياة وواقع الناس فيما يكتبون، فهم - في رأي الشباب وبعض الشيوخ - إما هاذرون مسغون، أو معتصمون بالقباب الذهبية. . ولا أقول الأبراج العاجية.
وتتمثل تلك المناوشات أيضاً في حملات بعض الشيوخ على الشباب ورميهم بالقصور في التحصيل واستكمال الأداة، وأنهم يحاولون هدمهم، ويقولون إن عليهم أن يجدوا ويكدوا ليصلوا إلى ما يبتغون ويظفروا بما يأملون. وقد كتب الأستاذ المازني مرة يتساءل: هل يحفر الشيوخ قبورهم بأيديهم؟ ماذا يريد هؤلاء الشباب؟ وضرب مثلا للشباب ما بذله من جهود في التحصيل وما عاناه في مقتبل حياته الأدبية.
وأخيراً كتب الأستاذ توفيق الحكيم مقالا في (أخبار اليوم) بعنوان (آمال الجيل) أشهد أنه كان لبقاً فيه، إذ بث في أوله وفي وسطه روحا طيبا في معالجة العلاقة بين الجيلين. ومما قاله (ما الذي سيحدث في العشرة أو الخمسة عشر عاماً المقبلة؟ هل الأمل معقود على طائفة من الأدباء يمكن أن تبرز بنوبتها في الصف الأول، لتمضي في رفع مشعل الأدب والفكر في هذا البلد؟! أو أنه كما يقال ليس في الإمكان أبدع مما كان؟!) وقال: (ونحن إذا جلنا اليوم في حديقة الأدب المصري لوجدنا أشجارا مملوءة بعصير الحياة، مونعة بأزهار الفن. . لا ينقصها إلا أن ننظر إليها بعين الرضا، وأن تتخيل ما ستكون عليه غدا من سموق وارتفاع. .) ومضى يتساءل عن واجبهم نحو أعلام الغد ويعترف بانصرافهم عنهم إلى أن ختم المقال بقوله: (غير أن المشكلة التي تحيرنا دائماً هي: وسيلة المعونة!. . أهي في تجنيب الجيل الجديد أخطاءنا، أم هي في إشعاره بأخطائه؟ أهي في إعداده قبل الظهور، أم في إظهاره قبل الإعداد؟! ثم أولئك الذين قطعوا في فنهم شوطا وظهروا بعض الظهور، وبدت مواهبهم متألقة كقطع النور، أعلينا إزاءهم واجب؟ ما هو؟ وما السبيل إلى الوفاء به؟. . . إنا جميعاً لعلى استعداد أن نؤدي واجبنا ولن نحجم عنه أبداً، إذا عرفنا(775/26)
الوسائل وملكنا الأسباب!)
ولا أراني في حاجة إلى قدر كبير من الأولمعية لأدرك أن المقصود من المقال هو هذا الختام الذي انحسرت عنه تلك الروح الطيبة. . وقد استعان على إبراز هذا المقصود بعبارات التهكم من مثل (أم في إظهاره قبل الإعداد؟!) كما استعان على ذلك بنقط التعجب وعلاماته التي حرصت على إثباتها في مواضعها. وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن هذا المقال من أسلحة كتلة الشيوخ. فهو يشبه (مشروع مارشال) من حيث أن كلا منهما يرمي إلى مكافحة الكتلة الأخرى. . فكأنه يقول: هؤلاء الشباب الذين يتطاولون علينا - ماذا يريدون منا؟ وماذا نصنع لهم؟
ولكي أثبت للأستاذ الحكيم حيادي وبراءة هذا الذي أكتبه من تلك الناوشات التي لن تفضي إلى حرب ذرية على أي حال - أسارع فأقره على حيرته وحيرة الشيوخ فيما يصنعون لهؤلاء الشباب) وإن في هذه الثروة الأدبية الضخمة التي كونها أدباء الجيل، لمدرسة الشباب، وقد تخرجوا فيها فعلا، فما هو الإعداد إن لم يكن هذا؟ أيعقدون لهم فصولا في النصح والإرشاد؟ ولا أخفي أنني أبتسم عندما أسمع أن كبار الأدباء قصروا نحو الجيل الجديد وأن عليهم أن يأخذوا بيدهم. . إلى آخر هذا الكلام الذي لا أرجعه إلا إلى العي. . .
على أن هناك جانبا عمليا لا يملك كل الكبار فيه شيئاً، وهو النشر والتشجيع على الإنتاج. ومن الحق أن أقرر أن من بيدهم شيء من ذلك نراهم يشجعون كثيراً من الشبان الناضجين ويقومونهم، وإن كان بعضهم يقصر عنايته على بطانته والسائرين في ركابه. .
ولا أريد أن أسترسل في ذلك الذي جرتني إليه دعوى ذوي العي والراغبين في الوصول دون عناء. أما ذوو الكفاية والكرامة من الشباب فما تلك دعواهم، إنما هم يشقون طريقهم بأقلامهم، لا ينتظرون من أحد معونة ولا يداً، وهم إزاء ما يشاهدون من إسعاف الكبار، يرون أنهم أقدر على تلبية روح عصرهم الجديد، فإن لم يتيسر لهم ذلك الآن فهم في الطريق إليه.
أما النقد الأدبي، وقد تخلى عنه الكبار لأسباب منها: المجاملات الشخصية، والرغبة في الدعة الذهنية؟ فإن الشاب يحاولونه. وتعوقهم عوائق كثيراً ما تأتي من الشخصيات التي يتناولها النقد؛ فما يكاد يظهر نقد في صحيفة حتى يصيح المنقود: هؤلاء الشباب الذين لم(775/27)
يقرؤا كما كنا نقرأ. . . الخ - يريدون أن يهدمونا. . . ولا أجد غضاضة في أن أصرح بأن مجاملات المشرفين على النشر من أكبر عوائق النقد الأدبي، وهم يقولون لك: ترفق، ولا تكن عنيفاً. أكان أساتذتنا أدباء الجيل مترفقين في نقد من كان قبلهم. .؟ أو في نقد بعضهم بعضاً أيام الحماس والفتوة. . .؟ لقد كانوا يتبادلون شتائم يخرجون فيها عن حدود الذوق والفن والأدب. ولا شك أن لغة النقد الآن - على قلته - قد ارتقت وهذبت. بل هي قت إلى حد أفسدها. . . وهو حد التقارض والمصانعة.
فكيف يفزع من هذا النقد الرفيق من ذلك ماضية في النقد؟ أما الأستاذ توفيق الحكيم خاصة فليس له ماض في النقد الأدبي، وهو لا يميل إلى الاشتباك في المعارك الأدبية، ولذلك نراه يتخذ أسلوباً (حكيما) في الفزع من النقد. . يقرأ ما يكتب عنه، ثم يعقد فصلا في أخبار اليوم يتظاهر فيه بأنه يعالج موضوعاً مستقلا، وما هو في الواقع إلا تبرير لما يؤخذ عليه. . . وأستطيع أن أرجع دافع كل مقالة كتبها في ذلك إلى شيء كتب عنه. ثم جاء أخيراً يسأل: ماذا نصنع؟ تناقش يا سيدي وجهاً لوجه، وتدفع الحجة بالحجة، أو تسكت إن أخذتك العزة بالإثم. . .
والحق الصريح أن أكثر نتاج الكبار في هذه الأيام لا يعجب الشباب، ولا يعجب كثيراً من الكبار أنفسهم، ويعز على الجيل الجديد أن يفجع في أساتذته، وأن مما يمكن أن يصنعه هؤلاء الأساتذة أن ينفضوا الغبار عن تماثيلهم القديمة المقدسة لدى الشباب. .(775/28)
أمنية الشاعر!
لشاعر الحب والجمال لا مرتين
بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
. . . وكأنما عز على لا مرتين أن يتعب روحه ويضنيها في البحث عن الله، أو كأنما شعر أنه أوفى من بحثه على الغاية التي يحق للبشر أن يوفوا عليها - فآثر أن يستريح راضياً بأمنية يتمناها مخافة أن يلجئه طول البحث إلى الكفران والجحود، فتأوه مشتاقاً إلى الحقيقة، ثم تمنى خاصة واحدة من خواص الملائكة، فغض بصره عن حياتهم السرمدية، وعن سعادتهم الأبدية، ولم يرج سوى الإلهام له وللناس: لأن الإلهام هو الذي أرضي الملائكة بربها فسمعت وأطاعت، وحرية التفكير هي التي بعثت البشر على الانطلاق فخضعوا طوعاً أو كرهاً؛ ولكن الذين خضعوا كارهين ما برحوا يستغربون لماذا ألهم الله غيرهم الطاعة فأنشدوا لحن الخلود، ولم يلهمهم هم فعاشوا في شقاء من بعده جحيم؟. .
(9 - إن ما أتمناه من الملائكة ليس حياتهم السرمدية، لا، ولا سعادتهم الأبدية!
ولكنه الإلهام. هذه الحاسة التي يستطيع بها القلب الجحود، أن ينشد لحن الخلود!)
ويخيل إلى الشاعر أن الله أجابه إلى رجيّته، فأنار بصيرته بوميض من الإلهام؛ فإذا هو لا يكتم فرحه بما يجول في نفسه، ولكنه يقر بأنه لا يقدر على إبداء هذا المعنى السامي الذي انكشف له، فكان أعظم من الأمواج الصاخبة، ومن الصواعق الغاضبة، فيترك سره لليل ليظهر الناس عليه:
(10 - يساور نفسي شيء أرق من الصِّبا اللعوب، سيذيعه الليل ويُفشيه!
شيء أعظم من الموج، ومن الصاعقة الغضوب، وقلبي لا يستطيع أن يبديه!)
ويقارن لامرتين بين هذا الوميض الذي انكشف لبصيرته وبين أسرار الطبيعة التي احتجبت عن بصره، ويتسمّع إلى لحن الوجود النفاذة إلى أعماق النفوس، فيرى أنه لم يؤت من الإلهام إلا قليلا، ويرى أن لثَبَج البحر لحناً أوقع من لحنه، ولجذوع الغابات نَغَماً أروع من نَغمه، وللعواصف الهوج نشيداً أقوى من نشيده، وللأنهار الجارية أغاريد أحلى من(775/29)
أغاريده: فالبحر لا يقذ إلى ضفافه أمواجَه إلا ليسمع شكواها، وجذوع الغابات لا ينحنى بعضها إلى بعض إلا لتلحن نجواها، والعاصفة لا تملأ صدر السحاب إلا لتضاعف صوتها في أعماقه، والأنهار لا تتنفس إلا لتعلم الناس موسيقاها؛ فلكل منها مزمار يطلق منه أنغاماً تسبح بحمد الله وتقجَّس له، وكلُّ قد علم صلاته وتسبيحه. . . أما الإنسان فإنه مهما صفت نفسه وراق قلبه يتمنى أن يحسن الغناء كما تُحسنه الأمواج، والجذوع، والعواصف، والأنهار، وكل مظهر من مظاهر الطبيعة البكر، ثم يجد أمنيته تصّاعد في عالم مجهول، ثم لا يدري أتعود عليه بالإخفاق أو النجاح. إلا أنه أخيراً يخفق فيعلم أن مزماره من صنع يده وهو لا يصنع إلا كاملا، وأن مزامير الطبيعة من صنع الله وهو لا يصنع إلا كاملا. . .
(11 - أيها الخضم الذي يقف إلى ضفافه أمواجه الشاكية! يا جذوع الغابات المتناجية!
يا عاصفة يمتليء بها السحاب، ويا أنهاراً أنفاسها خرير! آه! لو أُوتيت هذه المزامير!)
ويلتفت الشاعر إلى نفسه، ثم يخاطب روحه التي تمنَّتْ كثيراً ولم تجب إلا قليلا، ويعجب كيف يصبر نفسه مع الحب الذي يضطرم في أحشائه كأنه نار لا ينطفيء لها لهيب، أو إعصار ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، ويتألم لهذه الروح التي جعلت حب الله صلاتها وتسبيحها، وتقربت إليه بخفي ندائها، ولم تَرْجُهُ إلا أن يشرق عليها بنور معرفته، لينقذها من حماسة كلها لهيب، ومن ذهول كله وحشة، ثم لم يستجب لها بشيء. ولو شاء أن يستجيب، لأسر في أعماقها اسمه الحبيب؛ ولو أسر اسمه لرضيت روح الشاعر، واطمأن قلبه، واهتدى عقله.
(12 - وا روحاه! هذا الإله الذي يضرمك حبه كأنه نار. . . أو تحترقين به كأنه إعصار!
لو استجاب - وأنت مشدوهة ذاهلة - لحماسنك الجياشة اللافحة، لأسر اسمه في لفظة واحدة!)
وهنا يهتف بلامرتين صوت خفي: لا تعجل فإن الله يسر اسمه، وما عليك إلا تلتمس زمانه ومكانه فتسمعه: يسر اسمه في أُدن الطبيعة فتهمس به شفتاها وهي مختلية في صومعتها، بعيدة عن الدنيا وضجتها، قريبة من السماء ورحمتها. . . حينئذ تجلس الطبيعة إلى السماء جلسة المستعلم إلى العليم، فتحفظ منها اسم الله وتناجيه معها، ثم تنتظران كلتاهما تنفُّسَ الصبح ليفضي إليهما بأسرار الملأ الأعلى، أو ترقبان عسعسة الليل لتتسمعا سمر الكواكب،(775/30)
فما يسمر منها كوكبان، إلا على ذكر الخالق الرحمان.
(13 - إن هذا الإسم لسرُّ تهمس به الطبيعة في الخلوات، كما تحفظه السموات!
وكلما طلع الفجر أفضى بهذا السر، وكلما تسامر كوكبان، كان صداهما الشجي الفتان!)
ويفرح الشاعر بما ألقى إليه الهاتف، ويظن أنه وقف منه على السر المنشود، وأنه قد وصل به إلى اسم المعبود، فما عليه إلا أن يسهر ليله فيسمع الكواكب السامرة، أو يثب مع الفجر ليعي أسراره الباهرة. . وفي هذين الوقتين السعيدين يريد أن تمسي كلها حواسه أُذناً تسمع وقلباً يعي؛ بل يريد أن تمسي العواصف والأعصار، والأرض والنيران والبحار كلها آذاناً صاغية، لأن من سكت في هذين الوقتين فإنما يسكت لنفسه، ومن ضج فإنما يضج عليها. ويريد من الرياح أن تقف لتتعلم هذا الإسم بعد أن طربت بألحانه، ومن السموات أن تسترجعه وتردده بعد أن ثَملت بخمرة عرفانه: فقد (خشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً).
(14 - إن العواصف والإعصار، والأرض والنيران والبحار، خليقة أن تسكن لسماعه!
وإن الرياح الطَّروبَ بألحانه، حرَّيةٌ أن تقف لعرفانه، والسموات لاسترجاعه!)
وما أحوج المتألم إلى ذكر هذا الإسم العظيم وترداده، لأن لموسيقاه رنة تشفي السقيم؛ ومن أجد من لامرتين بالراحة وهو تعب، وبالشفاء وهو عليل، وبالسرور وهو حزين؟
لقد كان في الأثناء مضطرب الفكر، موزع النفس، متزايل المشاعر، حتى أنه نظم قصيدته المعروفة (ما لورحي حزينة فلم يكن أحب إلى قلبه من وسيلة يتحول بها من أزمات نفسه الحادة إلى السكينة والاستقرار
ألا وإنه قد وجد هذه الوسيلة، وهي التي ستأسو ما جرحته يد الحياة، وهي التي ستحيل وادي أزاحه جنة أفراح. فليقذف بحزنه بعيداً، وليلق بأسأه ظهرياً، وليستدبر كل ما يعكر عين قلبه، وليستقبل الحياة من جديد برضا وارتياح!
وتغمره السعادة وتلابس روحه، ويضع في كفه ميزان ما نال من لذتها الحاضرة وفي كفة أخرى ما لازمه من ألم التعاسة الماضية، فيجد نعيمه أرجح، ويلقي التذاذه أغلب، فلا يقيم لطول الزمن وقصره وزناً، ويرى أن لحظة إيمانه تعادل إعدام حياته، ويخشى أن تفارقه هذه السعادة التي لا يمكن أن تدوم لأنها بسعادة الملائكة أشبه، وهي بين البشر كالنسيم(775/31)
المعطِر يضوع بنقحاته، ثم يعود من حيث أقبل تاركاً هذا المأخوذ برائحته للأعاصير والعواصف، وللرياح والأنواء، يغالبها وتغالبه ويصارعها فتصرعه.
خاف أن تزايله هذه السعادة إذا بقى على قيد الحياة، فتمنى أن تكون ختام حياته، وآخر لحظاته، ليلقى الحقيقة التي سعى إليها بوجه ناضر، وليقف في أول شاطئ ما لخضمه من آخر: فأرسل هذه الأبيات الأخيرة بحرارة الشاعر، وحماسة المؤمن:
(15 - هذا الإسم وحده معاداً غير ممنون قمينٌ أن يأسو سقامي في هذا الوادي من الآلام!
فجدير بي أن أهتف غير محزون: لينصرمْ آخرُ أيامي، فقد مجدت الإله، ومرحى بالحمام!)
وإنك لتجس في هذه القصيدة روحاً متصوفة تذكرك بالذين سلفوا من أصحاب النزعة الروحية المجردة، فمن أين لهذا الشاعر مثل هذه الروح؟
ويزول عجلك متى علمت أن لامرتين - وإن لم يتلق التصوف علماً، أو يذقه مسلكا - كان صوفي المزاج، مستعداً للترهب لو تهيأت له الظروف لنشأته في بيت يقدس التقى والزهد والعفاف.
وإني لشاعر في قرارة نفسي بأن هذا المقال موجه إلى طائفة من الناس تتذوقه، وقد يقرؤه غيرهم فلا يجدون الحلاوة التي وجدوها. ولقد أحسن لامرتين إذ وجه هذه القصيدة مع قصائد أخرى من نوها تجاوز الأربعين في ديوانه (أنغام شعرية ودينية طائفة خاصة وصفها في مقدمة الطبعة الأولى بقوله:
(في هذه الدنيا قلوب حطمها الألم، ونبذها المجتمع، تنزع إلى عالم أفكارها وإلى عزلة أرواحها لتبكي او تنظر أو تعبد. فهل أطمع أن يدعو أصحابها أشعارٌ تقدس العزلة كما يقدسونها إلى الشعور بالارتياح نحو أنغامها، وأن يقولوا أحياناً إذا أصاخوا إليها: (إننا لندعو بأقوالك، ونبكي بدموعك، ونبتهل بأناشيدك؟).
لو أن بعض هذه الأرواح التي ليست في هذا العالم مطلقاً تستجيب في سرها لأصواتي الخافتة الضعيفة. ولو أن بعض القلوب التي ما زالت قاسية تتفتح وتذرف دمعة جديدة؛ ولو أن بعض هاتيك الأرواح الحساسة التقية تفهمني وتعرفني وتبلغ سويداء قلبي وتُتِمُّ بينها وبين نفسها ألحاناً لم أزد على أن ضربت على بعض أوتارها فإن هذا حسبي، وإن هذا لغاية متمناي، بل إن هذا لأبعد من أن أرجوه!)(775/32)
وإني لأتمثل بهذه الكلمة الجياشة بأنبل العواطف الإنسانية في توجيه هذا المقال الذي أرجو مخلصاً أن يكون فاتحة لهذه الموضوعات.
وبعد. . . فهذه أمنية الشاعر كما صورها لامرتين: روح تسبح، وخيال يحلق، وقلب يؤمن، وسعادة تغمر، ورضا واطمئنان يجملان الحياة.
صبحي إبراهيم الصالح(775/33)
طرائف من العصر المملوكي:
السبعة الشهب
للأستاذ محمود رزق سليم
جرت عادة الشعر، أو اعتادت الطبيعة الشاعرة في كل أمة، وفي كل جيل من أجيالها أن تنجب، وأن تلد لنفسها من نجبائها رسلا يؤدون للناس رسالتها، ويقضون دينها، ويوفون للحياة حقها. فيكونون سريرتها النابضة وبصيرتها الوامضة، وبنودها الخافقة ولسنها الناطقة. ويحيون في جيلهم دولة الشعر والأدب.
ولو أننا تتبعنا العصر المملوكي من أوله إلى آخره، وهو زهاء قرون ثلاثة، تضم أجيالا ستة - إذا قدرنا لكل نصف قرن جيلا - لوجدنا في كل جيل منها حلبة من الشعراء، جالوا في الميدان، فرسان رهان، مالكين الأعنة شارعين الأسنة. والأدب اللباب مسلس لهم في الزمام، مرخ في الخطام. ليصلوا منه إلى الغاية، ويوفوا على النهاية. ولأدركنا أن الشاعرية المصرية ما كانت قط عقيما، وأن شعراءها ما كانوا أبداً مقصرين.
وإذا ذكرنا ما كان يحيق بالعصر وأدبائه، من متبطات الهمة وموهنات العزيمة، ومن منغصات العيش ومقعدات الأمل وموئسات الأدب، ثم رأينا أن شعراءه - بالرغم من هذا - انطلقوا في كل واد، وسرحوا في كل مسرح، حتى اتسعت في القول آمادهم، وبعدت آفاقهم، وقضوا حق الشعر فخلفوا منه أفانين، وأدوا رسالة الأدب فأبدعوا منه آيات. لعرفنا أي شعراء وأي أدباء كان هؤلاء الأسلاف.
وترى بين المتعاصرين منهم - فيما ترى - وشائج الأدب موصولة، وصلاته حافلة، وروح سارية متوثبة، ودعوته قائمة منشورة. لا يخلو أحدهم من مطارحة صديق أو معارضة رفيق، أو مداعبة صاحب، أو مفاكهة خليل، أو مسامرة نجي، أو معابثة شجي. أو مسابقة إلى مكرمة شعرية، أو مباراة في مأثرة أدبية.
وأولى حلباتهم حلبة الجزار والوراق، وابن عبد الظاهر والشاب الظريف. ثم حلبة ابن نباتة والحلي والصفدي وابن الوردي والشهاب بن فضل الله. ثم حلبة القراطي والموصلي وابن مكانس وابن أبي حجلة. - وهكذا لا تكاد تخلص من حلبة إلا إلى أختها، ولا تغادر طائفة إلى إلى غيرها. وإذا ذهبنا ننوه برجال كل حلبة عادين مآثرهم، ذاكرين مفاخرهم،(775/34)
لاحتاج المقال إلى أكثر من مجال.
والسبعة الشهب الذين عنونا بهم المقال، يكونون حلبة من تلك الحلبات، أو على وجه أدق هم فريق من حلبة تعاصر رجالها وتعدد أبطالها. وقد اجتمعوا في القاهرة في وقت واحد، وكان كل منهم يلقب بشهاب الدين وهم سبعة من الشعراء الذين زاع صيتهم وملأ شعرهم فجاج القاهرة وغمر أسماعها، حتى أطلق عليهم القاهريون هذه التسمية (السبعة الشهب) وعرفوا بها، وسجلتها لهم كتب الأدب والتاريخ.
هؤلاء الشهب السبعة هم: الشهاب بن حجر العسقلاني، والشهاب بن الشاب التائب، والشهاب بن أبي السعود، والشهاب ابن مباركشاه الدمشقي، والشهاب بن صالح، والشهاب الحجازي، والشهاب المنصوري.
لمعت هذه الشعب معا في سماء القاهرة في أواسط القرن التاسع الهجري، وليسوا أول الشهب اللامعة به ولا آخرها، فقد سطع بالقاهرة من الشعراء غيرهم من يدعى (شهاب الدين) مثل شهاب الدين بن العطار المصري المتوفي عام 794هـ، ولكن ميزة هؤلاء المتشابهين في ألقابهم وحرفتهم أنهم تعاصروا واجتمعوا بها فاقترنت ألقابهم، وأضفى عليهم هذا التعاصر والاجتماع ثوبا من الجلال والشهرة.
وفضلا عما اشتهر به كل منهم على حدة من الفضل، عقدت المودة أواصرها بينهم. . أو على الأقل بين بعض منهم وبعض، واتصلت بينهم وشائج الأدب وروابط الفن، فتبادلوا بالشعر مقارضات الثناء ومطارحات الإخاء، ونمت فيهم مظاهر التعاطف والألفة مع التسابق في مضمار الأدب.
أما شهاب الدين بن حجر العسقلاني فهو قاضي القضاة العالم الفقيه الحافظ الرواية المؤلف المؤرخ، صاحب كتاب (الدرر الكانتة) و (فتح الباري) و (الإصابة) وغيرها من ذخائر الفقه والتاريخ والحديث. وهو الأديب الشاعر النائر. وفي إحدى مقالاتنا السابقة جلينا صفحة من أدبه وروينا فيها طرفا من شعره، ذاكرين أن له ديوان شعر مخطوطا قيما لا يزال قابعا مجفوا في رف من رفوف دار الكتب المصرية. ولا بأس هنا أن نذكر أنه قال الشعر في أغراض عدة منها النبويات والمدائح والإخوانيات والغزل وغيرها. وقد وشح وقطع، وطارح وورى وألغز وحاجى، إلى غير ذلك.(775/35)
ومن لطيف أغزاله قوله:
صب للقياك بالأشواق معمود ... فقيد صبر عن الأحباب مفقود
ناء عن الأهل والأوطان مغترب ... وواحد ماله في الصبر موجود
متيم قد بكى بعد الدموع دما ... كأنما هو في عينيه مفصود
النار ذات وقود في جوانحه ... شوقا وفي خده للدمع أخدود
يا مخجل الشمس بالأشواق إن فتى ... طلعت في داره يوما لمسعود
أسرت قلبي ومذ حجبت عن بصري ... تهيا فكان له بالقرب تبعيد
روى أن شهاب الدين بن مباركشاه مدح ابن حجر بقصيدة دالية. وروى أن شهاب الدين الحجازي كان يطارح ابن حجر شعراً.
وكان ابن حجر أول شهاب منهم خبا ضوءه وغاب شاعاعه، وأسلم للمغيب، وكان ذلك في عام 852هـ وقد رثاه الشهابان الحجازي والمنصوري. فقا لأولهما من قصيدة رائية:
كل البرية للمنية صائره ... وقفو لها شيئاً فشيئاً سائره
والنفس إن رضيت بذا ربحت وإن ... لم ترض كانت عند ذلك خاسره
ومنه يصفه:
فكأن في قبره سر غدا ... في الصدر والأفهام عنه قاصره
وكأنه في اللحد منه ذخيرة=أعظم بها درر العلوم الفاخره
وذكر الشهاب المنصوري أنه سار في جنازته، فأمطرت السماء على نعشه، وقد قرب إلى المصلى، ولم يكن الوقت وقت مطر فقال:
قد بكت السحب على ... قاضي القضاة بالمطر
وانهدم الكرن الذي ... كان مشيدا من حجر
أما شهاب الدين المعروف بالشاب التائب فهو أحمد بن علي ابن محمد القرافي القاهري الشافعي. ذكر السخاوي في الضوء أنه كان أديبا فاضلا جيد الخط، أخذ العلم والأدب عن ابن الهمام والشمني والحصني، وقرأ توضيح ابن هشام. وأنه كان يطارح بشعره. وممن طارحهم الشهاب المنصوري ومن شعره موريا في حسناء اسمها شقراء:
سبقت لميدان الفؤاد بحبها ... شقراء تجذب مهجتي بعنان(775/36)
فتراكبت حمر الدموع وشبهها ... مذ جالت الشقراء في الميدان
والشاب التائب هو ثاني المودعين من الشهب، فقد توفى عام 861هـ.
وبهذه المناسبة نذكر أن هناك شابا تائبا آخر ولد بالقاهرة سنة 767هـ، واسمه أحمد بن عمر بن أحمد، ولقبه شهاب الدين أيضاً، كان يتعاطى العلم حتى عد في الفضلاء، ويجلس على موائد الأدب حتى عد في الأدباء. وكان ينظم الشعر ويميل إلى الصوفية حتى اعتقد فيه بعض الناس، ومات بدمشق عام 832هـ. روى ذلك السخاوي في الضوء أيضاً.
أما شهاب الدين بن مباركشاه، فهو أحمد بن محمد حسين القاهري الحنفي، تلقى العلم على ابن الهمام وابن الديري، وغيرهما. وصنف بعض الكتب، ومنها كتب أدبية مثل (السفينة). وبرع في نظم الشعر، قال عنه ابن إياس: (كان من أعيان الشعراء)، حسن اتصاله بكثير من أعيان عصره ومنهم ابن حجر العسقلاني، وقد روينا أنه مدحه بقصيدة دالية. ومن شعره يشبه عشرة بعشرة قوله:
فرع جبين محيا قامة كفل ... صدغ فم وجنات ناظر ثغر
ليل هلال صباح باتة ونقا ... آس إقاح شقيق نرجس در
وله في القناعة:
لي في القناعة كنز لا نفاد له ... وعزة أوطأتني جبهة الأسد
أمسي وأصبح لا مسترفدا أحدا ... ولا ضنينا بميسور على أحد
والشهاب بن مباركشاه هو ثالث من توارى من الشهب، فقد توفى عام 862هـ.
أما الشهاب الرابع فهو شهاب الدين بن أبي السعود، وكان هو والشهاب بن صالح كثيري المطارحة. وقد توفى في مكة عام 870هـ.
وشهاب الدين بن صالح، اسمه أحمد بن محمد بن صالح، قال عنه ان إياس (كان حالما فاضلا وأديبا شاعراً ماهرا) ويعرف بابن صالح، وبسبط السعودي. والسعودي هو جده شمس الدين كان عالما وأديباً مصنفا.
وقد أكب ابن صالح على دراسة علوم الدين والعربية حتى برع في كثير منها، متتلمذا على جلة شيوخ عصره مثل القاياتي والشمني والنويري. وأقبل على فنون الأدب حتى حذقها، وأجاد في نظم الشعر، فانسجم لفظه ومعناه. وطرق أبواب المديح والإخوانيات ونظم(775/37)
العلوم. وطارح أنداده من كبار الشعراء ويقال إنه كان أرق شعراء عصره نظما. ويفضله صديقه شريف الدين العطار على ابن حجر العسقلاني وابن نباتة المصري. وكان هو وشهاب الدين بن أبي السعود فرسي رهان. واتصل بأعيان عصره ومنهم الكمال ابن البارزي. وكان ذكيا سريع الإدراك. وقد نظم العقائد النسفية شعرا. ويحدثون عنه أنه هجر الشعر بأخرة وجنح إلى العلوم.
ومن شعره يشب بمن اسمه (فرج) ويورمي ومضمنا:
شكا فؤادي هم الصد يا فرج ... وفيك أصبح صدري ضيقا حرجا
واستيئس القلب حتى رحت أنشده ... يا مشتكي الهم دعه وانتظر فرجا
ومدح السخاوي صاحب الضوء اللامع، ومن قوله فيه:
وقد حفظ الله الحديث بحفظه ... فلا ضائع إلا شذى منه طيب
وما زال يملا الطرس من بحر صدره ... لآليء إذ يملي علينا ونكتب
ومات ابن صالح في عام 873هـ. وهو خامس الشهب ظعنا.
أما سادسهم فشهاب الدين الحجازي، المولود في القاهرة عام 790هـ. واسمه أحمد بن محمد بن علي الأنصاري الخزرجي الشافعي. كان سريع الحفظ. وقد بدأ حياته التعليمية بدراسة مذهب الإمام الشافعي وحفظ حديث الرسول عليه السلام. وغير ذلك من علوم الدين. ثم أقبل بجماع نفسه على الأدب، وأجاد في قرض الشعر حتى طار صيته في الآفاق، وطارح العسقلاني، وراسل الشهاب المنصوري، وغيرهما.
وكان الحجازي خفيف الروح لطيف المعاشرة طريف المحاضرة. ويبدو لنا أنه كان عالي الهمة وثابا إلى المكرمات الأدبية، فقد روى أنه جمع شعره ونثره في ديوان. وله مختصر في شرح المقامات. وله شرح على المعلقات. وصنف كتبا أدبية عدة منها تذكرة في نحو خمسين مجلدة، وكتاب قلائد النحو في جواهر البحور. وكتاب في الألغاز وكتاب في الحماقة مرتب على حروف المعجم. - وفي دار الكتب المصرية نسخة مخطوطة محلاة بالذهب من كتابه (روض الأداب) وهو مجموعة أدبية مرتبة على خمسة أبواب: المطولات والموشحات والمقاطيع والنثريات والحكايات. ويبدو أنه لم ينجب، وذلك لقوله:
قالوا إذا لم يخلف ميت ذكرا ... ينسى، فقلت لهم في بعض أشعاري(775/38)
بعد الممات أصيحابي ستذكرني ... بما أخلف من أولاد أفكاري
ومن شعره:
قصدت رؤية خصر مذ سمعت به ... فقال لي بلسان الحال ينشدني
انظر إلى الردف تستغني به وأنا ... مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني
وقد مات الشهاب الحجازي عام 875هـ عن خمس وثمانين سنة تقريباً، فرثاه صديقه الشهاب المنصوري بقصيدة منها:
لهف نفسي على أفول الشهاب ... تحفة القوم نزهة الأصحاب
كان في مطلع البلاغة يسري ... فتوارى من الثرى بحجاب
فقدت بره أيامي المعاني ... ويتامى جواهر الآداب
هطلت أدمع السحاب عليه ... وقليل فيه دموع السحاب
وبموت الحجازي أصبح الشهاب المنصوري وحيداً لا شهاب غيره فقال يرثي زملاءه الستة:
خلت سماء المعاني من سنا الشهب ... فالآن أظلم أفق الشعر والأدب
تقطب العيش وجها بعد رحلة من ... تجانبوا بالمعاني مركز القطب
تعطلت خرد الأيام من درر ... كانت تحلى بها منهم ومن ذهب
لو تعلم الأرض ماذا ضمنت بطرت ... بهم كما يبطر الإنسان بالنسب
ولو درى المسك أن الأرض قبرهم ... لود نشقة عرف من شذى الترب
وقد أصبح المنصوري من بعدهم شاعر عصره غير منازع، ورأس أدبائه غير مدافع. واسمه أحمد بن محمد بن خضر السملي، ويعرف بالهائم القاهري. كان جميل الهيئة متعففاً عن الناس. مهر في نظم الشعر وسلك به أبواب الغزل والوصف والمديح والرثاء وغيرها. وقد عاش بين سنتي 799هـ، و887هـ، ومات بعد أن نيف على الثمانين، وبعد فالج أصيب به فأقعده زمنا. وقد جمع شعره في ديوان كبير. وتقدم لنا من نظمه أمثلة. ومن قوله في الشكوى:
ليت شعري وفي الزمان خطوب ... وبلاء يختص بالأحرار
هل لميت قضى عليه طبيب ... من كفيل أو آخذ بالثار(775/39)
وقال متفزلا فيمن اسمه (شاهين) مع التورية:
قد صاغك الله من لطف ومن كرم ... وزاد حسن بالإحسان تزيينا
فاخفض جناح الرضا واصطد طيور وغى ... من جو إخلاصنا إن كنت شاهينا
هؤلاء هم السبعة الشهب. ولو مدنا التاريخ بالكثير من أخبارهم لكان للبحث فيهم مجال أوسع، ولكن هذه الآثار التي قدمها عنهم تدل على علو كعبهم ورسوخ قدمهم في الأدب والشعر، فهي منهم كالعنوان من الكتاب، واللمعة من الشهاب.
محمود رزق سليم
مدرس الآداب بكلية اللغة العربية(775/40)
نامي. . .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
نامي فإن الليل قد جاَء ... ومضى النهار، وكان ضوضاَء
والنهر نام، فلم يعد ماَء ... لا. . بل ملاكا رائع الطهر
نامي لدى صدري؛ ففي صدري ... دنيا من الأنغام والشعر
إن كنت أنت خميلة الزهر ... فأنا الهزار يهيم بالمطر
واستقبلي حلم الصِّبا العذب ... فيه تطير عرائس الحبِّ
هو صورة لنوازع القلب ... ما أروع الصور التي تغري!
إني سأقضي الليل سهرانا ... أرعى الصبا غضَّا وفينانا
لا. . . لا تخافي لست سكرانا ... إني بدأت أُفيق من سكري
لا بأس إن قبَّلت يا ليلَى ... ثغراً يضيء بنوره الليلا
أترين أني آثم؟ كلا ... ليست أثاماً خمرة الثغر
لا بأس إن داعبت يا ليلَى ... (كأسين!) ما أغلى وما أحلى!
أنا إن لعبت فلم أزل طفلا ... لعب الطفولة غير ذي وِزْرِ
قومي فإن الفجر قد لاحا ... والبلبل الغرِّيد قد راحا
يستقبل الأنوار صداحا ... ويطير من زهر إلى زهر
والزهر داعبه الندى فصحا ... واهتز في أوراقه فرحا
قد خلته في غصنه قدحا ... في كفَّ أَغيدَ مائِل الخصر
وسرى النسيم مُنى وأفراحا ... تشدو فيشدو الكون أوراحا
وتثير عطر الزهر فوَّاحا ... فإذا الوجود يفيض بالسحر
هذا الصباح يبث في نفسي ... دنيا من الأفراح والأُنس
هاتي المدام، وقربي كأسي ... أو قربي شفتيك من ثغري
قومي اسمعي أنغامي السَّكْرى ... تذكي الحنين، وتبعث الذكرى
قد أرسلتها نفسي الحيرى ... لتذيع ما بالنفس من سِرّ
قومي نطر في أفْقنا السامي ... أنشودة من وحي أحلامي(775/41)
ذهب الظلام، وتلك أنغامي ... تهتز بين أشعة الفجر
قومي نغني غنوة الحب ... فو الربا الريانة العشب
ما بال هذا الواله الصب ... لا يستقر اليوم في صدري؟!
ما باله كالطائر النزق ... طال الحنين به إلى الأُفُق؟
تمضي الحياة به على قلق ... من ذلة الحرمان والأسر!
قومي اسأليه الآن في عطف ... ماذا تريد؟ وما الذي تُخفي؟
سيجيب: أمنيتي التي تشفي ... هي قبلة من ثغرك البِكْر
هي قبلة تُهدي إلى نفسي ... أمل الشباب، وبهجة العرس
وتنير مثل أشعة الشمس ... فيذوب فيها كالندى عمري
ساعي البريد
للأستاذ شفيق معلوف
ساعي البريد وما ينفك منطلقاً ... وكل باب عليه غير موصود
يسعى بأكداس أوراق مغلفة ... تفوح منهن أطياب المواعيد
خلف النوافذ أجفان مشوقة ... إليه تخفق من وجد وتسهيد
بدا فهز عقود الغيد مقدمه ... هز النسيم لحبات العناقيد
كم قبلة من فم العشاق يحملها ... علي يديه ويهديها إلى الغيد
يا ساعياً بابتسامات توزعها ... على الشفاه بلا منٍّ وترديد
كم وجه أم عجوز إن برزت له ... لم تُبق من أثر فيه لتجعيد
تلقي إليها كتاباً إن يصب يدها ... شدته باليد بين النحر والجيد
كأن كل غلاف منك ملتحف ... بابن إلى صدر تلك الأم مردود
وكم وكم رقعة كالحظ مشرقة ... وهبتها كل كابي الحظ منكود
يا واهباً كل بشرى حين جدت بها ... راحت تكذب عنك الفقر بالجود
أبعدَ بذْلك فينا ما بذلت نرى ... عينيك في مأتم والناس في عيد
لو تعلم الناس يوماً أنها سلخت ... أيامها البيض من ليلاتك السود!(775/42)
شفيق معلوف(775/43)
رسالة النقد
كتاب الكندي إلى المعتصم بالله
في الفلسفة الأولى
حققه وقدم لـ الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
لم تمض إلا أربعة أشهر أو خمسة على كتاب (معاني الفلسفة) الذي ألفه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني حتى أتحف جناح الفلسفة في المكتبة العربية بكتاب من كتب فيلسوف العرب يعقوب الكندي، وهو الكتاب الذي بعث به أول فيلسوف من فلاسفة العرب إلى الخليفة العباسي.
ولم يكن غريباً على فلاسفة المسلمين أن يبعثوا بكتبهم إلى الخلفاء، ولم يكن جديداً على (الكندي) نفسه أن يراسل الخلفاء في مسألة من مسائل العلم، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة في (طبقاته) أن للكندي رسالة إلى المأمون (في العلة والمعلول).
وتحمل مراسلات الفلاسفة للخلافة والأمراء معنى تشجيع هؤلاء لأولئك، وهي في ذاتها دلالة من الواقع والتاريخ على ما كان يقوم به الخلفاء من احتضان العلماء وتقريبهم ومعونتهم على أداء الرسالة الجليلة التي نصبوا أنفسهم لها، وأضنوا أنفسهم في سبيلها.
وعنوان الرسالة نفسه (في الفلسفة الأولى) يحمل سؤالا يرد على الخاطر لأول وهلة؛ فهل هناك فلسفة أولى تقابلها فلسفة ثانية وثالثة ورابعة؟ وهل هناك فلسفة أولى تقابلها على سبيل الطباق البلاغي فلسفة آخرة؟ كما يقال في الشهور القمرية جمادي الأولى وجمادي الآخرة؟ وكما يقال في صفات الله: هو الأول والآخر؟؟
ظننت أول الأمر أن الفلسفة الأولى هي فلسفة اليونان التي اشتغل بها العرب في إبان بهضتهم في الترجمة. فقد أكبوا على فلسفة اليونان ونقلوها إلى اللسان العربي الذي كانت الفلسفة شيئاً جديداً عليه. ولكن الدكتور الأهواني يقول في مقدمته التحليلية النفيسة للرسالة إن اصطلاح (ما دون الطبيعيات) هو نفسه (الفلسفة الأولى) ص 55؛ وقد يكون ذلك مقبولا لو أن عنوان رسالة الكندي هو (كتاب الفلسفة الأولى أو ما دون الطبيعيات)، ولكن(775/44)
العنوان هو كما يذكر الدكتور الأهواني (كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد)، ويستنبط المحقق من هذا النص أن ما دون الطبيعيات غير التوحيد، ولكنه ينسى ما يقوله الكندي في أحد مواضع الرسالة أن الفلسفة هي علم الربوبية والوحدانية - أو التوحيد - وينسى ما يقوله الكندي في موطن آخر: (إن علم العلة الأولى سمى بحق الفلسفة الأولى).
ورسالة الكندي في الفلسفة الأولى لا تزيد على نصف الكتاب المطبوع اليوم إلا قليلا. أما النصف الأول فهو تحقيق علمي دقيق في ترجمة الكندي ونشأته ومنزلته في تاريخ الفلسفة الإسلامية وأسلوبه في الكتابة الفلسفية وتحليل الرسالة ذاتها، وقد أضاف هذا التحقيق كثيراً من القيمة لهذه الرسالة التي كانت للدكتور الأهواني فضل نشرها في لغة العرب لأول مرة، وهو فضل نسجلة دائماً مع الشكر لكل من يزيح ستراً عن أثر من آثار المسلمين إبان نهضتهم في زماننا هذا الذي تدعونا فيه دواع كثيرة إلى كشف الغطاء عن كل أثر إسلامي صغر أو كبر.
وإذا كنا أخذنا في عدد ماض من مجلة (الرسالة) على الأستاذ فؤاد جميعان عدم استيفاء التحقيق والتحليل لكتاب (ميزان الحكمة) الذي ألفه الحكيم الرازي، فان الدكتور الأهواني كان في الحق بعيداً عن موضع المواخذة حين أخرج رسالة الكندي في الفلسفة الأولى هذا المخرج الذي يجري على أسلم قواعد نشر المخطوطات. وإذا كان لم يقع لصديقنا الأهواني من مخطوط الكندي إلا نسخة خطية واحدة فانه في الحق قد عني نفسه في التحقيق والمراجعة على الرغم مما عاناه من رداءة الخط وكثرة التصحيف وعدم الإعجام في النسخ.
ولا أقول إن تحقيق الرسالة الكندية المعتصمية قد أوفى على الغاية، وخاصة حينما لا يكون بين يدي الناشر إلا مخطوط واحد يجتهد في تخريج الغامض من نصوصه عى ما يقتضيه السياق حيناً أو على ما يوحى به الحدس أحياناً. . . مما يحمل الناشر على أن يقول هذه العبارة التقليدية. . .: (في الأصل كذا ولعلها كذا) ولعل ما يقع من اضطراب أو غموض في أسلوب الكندي مردود في بعض الأمر إلى ما عند الناسخين من تخليط وتصحيف. والدكتور الأهواني يعترف معي بأن الكندي الذي تقع له العبارات البليغة في بعض رسائله(775/45)
ويحدث له التعبير المشرق (في رسالة في الحيلة لدفع الأحزان) لا يقع له الغموض في بعض ما كتب إلا حين يحمله التفلسف على التوعر.
وأخشى أن يكون الكندي مظلوماً في الذي قيل من رداءة أسلوبه. فهل كان هو ينقل الرسائل عن اليونانية بنفسه أم كانت تنقل له؟ فاذا كانت تنقل له فليس الذنب في الأسلوب ذنبه، ولكنه ذنب الناقل. . . ألم يختلف مؤرخو الحكمة الإسلامية في كتب الكندي اختلافاً يدعو إلى العجب. . . فابن النديم يقول عن كتاب جغرافية بطليموس إنه نقل للكندي نقلا رديئاً. . . ويقول القفطي إن هذه الكتاب (نقله الكندي إلى العربية نقلا جيداً). فأنت تقف أمام هذا التناقض موقفاً لا تدري وجه الحق فيه.
ويذكر ابن النديم أيضاً أن كتاب (الإلهيات) لأرسطو نقله أسطاث المترجم للكندي الفيلسوف. فيزيدنا شكا في رسائل الكندي وصحة نقله إياها من اللسان اليوناني. . . على أن صديقنا الدكتور الأهواني لا يبالي بأمثال هذه الشكوك ويمضي في رسائل الكندي كأن الطريق إليها مأمون العثرات. . .
ويظن بعض الناس عمداً أو خطأ أن الكندي مسيحي سرياني. وقد وقع في هذا الوهم الفيكونت فيليب طرازي في كتابه القيم (عصر السريان الذهبي). ومن عجب أن هذا الكتاب طبع سنة 1946، وطبع قبله كتاب للمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق وفيه نفي لمسيحية الكندي وتحقيق لهذا المسألة تحقيقا لا يدع مجالا للشك فيها. وأظن أن الكونت طرازي قد وقع له كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق لأنه يفتخر بمكتبته العامرة في بيروت فما معنى الإصرار على الأمر بعد تبين الحق فيه؟؟ وقد أشرت إلى ذلك في مجلة (الكتاب) عدد فبراير سنة 1946 ص 916، ولعل الدكتور الأهواني رأى أن هذه الحقيقة في إسلامية الكندي وعربيته لا تحتاج إلى مزيد من التحقيق أو التقرير.
والكندي لم يُتهم بالانتساب إلى يونان كما يقول الدكتور الأهواني في صفحة 23. والظاهر أن المسألة اختلطت على الدكتور وهو ينقلها عن (المسعودي) في كتابه (مروج الذهب) فلم يقل الكندي إنه يوناني، ولكنه كان يذهب مذهب القائلين في الأنساب أن يونان أخ لقحطان. وشتان بين هذا وذاك.
أما الشاعر الذي هجا الكندي لهذا الخلط في الأنساب فهو أبو العباس الناشيء من طبقة ابن(775/46)
الرومي في الإجادة وما كان يستحق من الناشر هذا التنكير بقوله عنه (أحد الشعراء). . . وصحت البيت الأخير من أبيات (الناشيء) كما يلي:
وتخلط يونانا بقحطان ضلة ... لعمري لقد باعدت بيهما جداً
ويظهر أن الكندي مبتلي باضطراب الناس في حياته وفي آثاره وفي قيمته الفلسفية؛ فالدكتور مدكور يقول عنه إنه كان ممهداً للفلسفة الإسلامية ولم يكن فيلسوفاً. والدكتور أبو ريدة يقول عنه إنه كان فيلسوفاً بالمعنى الواسع الذي يتمثل في فلاسفة اليونان. والمرحوم الشيخ مصفى عبد الرازق يقول إن ما بأيدينا من آثاره لا يمكن من استخلاص مذهبه الفلسفي نسقا كاملا. وأغرب ما في هذا الاضطراب أن شهرة الكندي كانت موضعاً للخلاف عند الناس. حتى أن الدكتور الأهواني يقرر في ص 36 أنه كان عديم الشهرة، وأن رداءة أسلوبه كانت علة في عدم شهرته. وأين هذا من قول الناشر نفسه في صفحة 38 بأن الكندي اشتهر بالفلسفة، وكأنه بهذا يناقض نفسه. . . وأين هذا من قول القفطي عنه: (إنه المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة الخ).
بقيت كلمة واحدة في مقدمة الدكتور الأهواني لرسالة الكندي في الفلسفة الأولى، فقد بلغت من وضوح المقاصد وسلامة المنهج وسهولة التعبير مبلغاً نهنيء الأستاذ عليه، وخاصة إذا قيست بالرسالة نفسها وما فيها من غموض في بعض المواطن. وكأن الدكتور الأهواني يعني أن يقول بهذا الوضوح المقصود أن الغموض التعبيري ليس دائماً من أدوات الفلسفة ولا من لوازمها.
محمد عبد الغني حسن(775/47)
الكُتب
جولات في القاهرة
تأليف ر. ل ديفنشير
هي العناية الآلهية التي أنقذت القاهرة من التدمير كلما شبت الفتن واحتدمت الحروب. فتقاصرت دونها قنابل الألمان وما حشدوا من جيش وعتاد، وتحطمت قبل أن تصل إليها قوى المغول المدمرة المخربة، وارتد عنها الصليبيون في ذلة وانكسار، وبقيت القاهرة وحدها تحمل تراث الإسلام الفني المجيد، كاملا غير منقوص، واحتفظت القاهرة بسلسلة متصلة الحلقات لكل عصور الأسر الاسلامية الحاكمة، من يوم أن شاء الله لدينه أن يستقر على ضفاف النيل. . . ونجد هذا التراث فيما ورثناه من عمائر وتحف ومخطوطات، تظل دائماً تذكرنا بجمال الماضي وعظمته وجلاله، وتظل دائماً تحفزنا على استرجاع مجد أجدادنا، فنعيد للاسلام قوته وعزته وروعته.
فإن تكن المؤلفت قد اختارت القاهرة تجول بين آثارها الاسلامية شارحة أصولها الفنية في هذا الكتاب، فقد أحسنت الاختبار الاختبار. وإن يكن للمؤلفة في أعناقنا - نحن العرب - جميلا لفرط غيرتها وتحمسها لآثار الإسلام، أو لأنها اتخذت من الصحافة منبراً تلقي من فوقه الإرشاد للعناية بآثار الإسلام، فدفعت المسئولين إلى المحافظة عليها، فإننا قوم لا ننكر الجميل. . ولكن الأمر الذي استحقت من أجله عطف جلالة الملك الراحل ورعاية جلالة الفاروق العظيم، فأنعم عليها بنشان الكمال في عيدها الثمانيني، إنما هو صدقها في دعوتها للآثار الإسلامية، نراه واضحاً فيما تكتب من مؤلفات أو تلقي من محاضرات، صححت بها شعور آلاف من الأجانب الذين كانوا لا يدرون عن القاهرة إلا تلك الاكاذيب المخترعة التي حشرها في أدمغتهم مرتزقة الاستعمار، وكتاب أقاصيص الخيال الدنيئ.
وكتاب (جولات في القاهرة) هو دراسة تاريخية وافية لمختلف العمائر الإسلامية، من مساجد وأضرحة ومدارس وتكايا وقصور ومنازل خاصة، أو قناطر وأسيلة وأسوار وبوابات مع إلمامة طيبة بمحتويات دار الآثار العربية وما ضمنت من تحف نفيسة. وقد اتبعت المؤلفة في تبويب كتابها هذا طريقة الجولات بحيث يستطيع القارئ أن يقوم بنفسه بهذه الجولات وأن يدرس الآثار الإسلامية في القاهرة جملة وتفصيلا دون أن يصعب عليه(775/48)
الأمر أو يصيبه ملل أو كلال.
فيتناول الكتاب أهم الآثار القائمة فيقدم للاثر لمحة سريعة عن تاريخ حياة صاحبه، والأحوال التي بنى فيها الأثر، والآراء التي أثيرت حوله، ويرد عليها، ثم يدرسه من الناحية المعمارية، ويشرح الأساليب الفنية التي اتبعت فيها، والتأثيرات الغريبة التي اقتبسها الفنان المسلم بعد أن صقلها بما يلائم ذوقه وفنه ودينه
وبالرغم من أن الفنان المسلم كان منكراً لذاته، معتزاً بفنه، فلم يكن كثير الاهتمام يذكر اسمه على كل العمائر التي بناها، أو التحف التي صنعها، إلا أن المؤلفة تشاء أن ترد إليه حقه واعتباره الأدبي فتقول: (ويبدو لي أن الفنان المسلم الذي عاش في تلك الأيام كان عاشقاً للجمال لذاته، بل كان مخلصاً في محبته لنتاجه، فنرى مثلا صانع الفخار المصري بفرغ غابة الجهد في العناية (بشابيك القلل) وهو يعلم تماماً أنها خافية محجوبة عن الناظرين). . .
وترد على الذين يتهمون المسلمين بهدم عمائر غيرهم ليحصلوا منها على مواد البناء: (حقاً أن المسلمين كانوا يستولون على أعمدة الكنائس المسيحية والمعابد المصرية القديمة ليستعملوها في عمائرهم. . . ولكن مسيحي إيطاليا كانوا أيضاً يتبعون نفس الطريقة، فدمورا المعابد الرومانية الكلاسيكية ليحصلوا على أعمدتها). . .
وطالما نقدت احتلال القوات الانجليزية للقلعة واستعمالهم مسجد الناصر محمد بن قلاوون (ففي سنة 1885 كان هذا المسجد محولا إلى سجن حربي، إلا أن أحد الضباط الانجليز زاد الأمر سوءاً فحوله إلى مخزن للذخائر في سنة 1915 فبات عرضة للنسف بين لحظة وأخرى فيختفي من عالم الوجود أثر فني جميل).
على أن طول الاحتلال للقلعة ترك هذه المنطقة بكراً، في حاجة إلى الكشف والتنقيب (فان دراسة الأستاذ كريزويل لم تتعد الأجزاء الشمالية من قلعة صلاح الدين، أما الأجزاء الجنوبية الغريبة من القلعة فقد عثر فيها على طغراء قايتباي وبعض الأقبية والعقود التي ترجع إلى القرن الرابع عشر مما يثبت لنا وجود عمائر في هذه المنطقة).
وبعد أن أفاضت في شرح نواحي القوة في عظمة العمائر الطولونية، وفخامة المساجد الفاطمية، وجمال المدارس الأيوبية، وجلال القباب ورشاقة المآذن المماليكية، تكلمت عن(775/49)
الفن الإسلامي في مصر إبان الحكم التركي، وأبانت كيف أن البلاد أصيبت بنكبة فنية قاسية على يد السلطان سليم الأول.
ويحدثنا التاريخ عن أن الأتراك ملؤوا سفائن من الفسيفساء ومصبعات الرخام وتحف خشبية منقوشة الخ. . . وحشدوا معها زبدة الفنانين المصريين وأرسلوهم إلى القسطنطينية - وأن واحدة على الأقل من هذه السفائن قد غرقت بما فيها من حمل غال ثمين.
وتنفرد دار الآثار العربية بمجموعتها المشهورة من المشكاوات الأسلامية. وتود المؤلفة أن توجه نظر القارئ ألى هذه الثروة الفنية الرائعة وتلح عليه بزيارتها والاستمتاع بجمالها. . . والحق الذي لا مراء فيه أن القاهرة تفخر بامتلاك كنزين ثمينين لم تر الدنيا مثلهما: هذه المشكاوات، وكنوز توت عنخ آمون.
والكتاب من بواكير إنتاج (دار النشر للجامعات المصرية) أخرجته في ثوب فني قشيب تنافس به كبريات دور النشر الأوربية ومحلى بحوالي نيف ومائة صورة لمختلف العمائر والتحف الإسلامية أكثر من عمل الأستاذ كريزوبل، وخريطة مساحية كبيرة مبين عليها مواقع الآثار في مدينة القاهرة، وقائمة طويلة باسماء وتواريخ أهم الآثار الإسلامية بالقاهرة مرتبة حسب التدرج الزمني.
والكتاب رغم أنه جامعي في دراساته التاريخية الأثرية، إلا أنه وضع في أسلوب رشيق جذاب وبطريقة يفيد بها المثقفين عموماً، والزائرين أصحاب الوقت المحدد، وعشاق الفنون الإسلامية المشغوفين بها.
(القاهرة)
مصطفى كامل إبراهيم
وكيل اتحاد الثقافة الأثرية(775/50)
البَريدُ الأدَبي
طيبة تكشف عن أسرارها:
هاهي ذي جمعية الآثار القبطية تسجل نصراً جديداً. وهي، منذ إنشائها عام 1934، تعمل دائبة حتى نالت تقدير الأوساط العلمية في العالم. وقد استطاعت أخيراً، بفضل أريحية سيدة مصرية فاضلة، أن تباشر حفريتها الأولى. وعهدت بذلك إلى الأستاذ شارل بشتلي سكرتيرها النشط، والعضو بجمعيات علمية، مصرية وأجنبية، عديدة، والمعروف بأبحاثه القيمة في علمي الآثار والأجناس والتاريخ.
والآثار القبطية، كما نعلم، حلقة من حلقات الآثار المصرية، يبدو تاريخ مصر بدونها ناقصاً، ولقد كانت مسرحاً للمسيحية في أول عهدها الحافل بالآلام والاستشهاد. فانعزل النساك في صحاري طيبة. وكان رهبان طيبة يتكاتبون على كسرات الفخار ثم على الرقوق في عصر متأخر. فكان لرسائلهم تلك فضل الكشف عن طريقة معيشتهم ومشاغلهم والكثير من عادات عصرهم.
وفي 1914 قدر لمتحف المتروبوليتان للفن بنيويورك أن يكتشف ببلدة القرنة دير إيفانوس. وكان فيما اكتشف كسرات فخار وأوراق بردي تشير إلى دير الأنبا فيبامون.
وفي أواخر عام 1947 قام الأستاذ شارل بشتلي بالكشف عن هذه الدير.
ودير الأنبا فيبامون من القرن الرابع للميلاد. وهو يقع من الأقصر على ثمانية عشر كيلو متراً، في ظل صخرة عمودية تعلو إلى خمسة وعشرين متراً، وقد طمر تحت الرمال والأحجار. وقد وجد على الصخرة نقش جنائزي يذكر اسم راهب: الأنبا إبراهيم، واسم الدير، فقُطع الشك باليقين وشُرع في رفع الأنقاض.
وقد اكتشفت أول مخزن للنبيذ، وأكد ذلك تحليل المادة السوداء التي وجدت ببقايا الجرار. ثم الإسطبلات وحظائر الضأن والأفران والأهراء وملحقات الدير جميعاً.
واكتشف كذلك مومياوان، ولاشك أن إحداهما للأنبا إبراهيم، وهما ملفوفتان في كفن من الكتان وقد حنظتا تحنيطاً كاملا. ولم يعثر على غيرهما. ولاشك أن الرهبان الآخرين دفنوا في المقبرة القريبة من هذا المكان وقد اكتشف من عهد قريب.
وقد عثر أيضاً على الخلوات والكنيسة التي لم يبق منها غير المصاطب، وكان الرهبان(775/51)
يجلسو عليها وقت القداس، ثم بعض صلبان طليت بالأحمر، وبقايا صورة حائطية، ونقوش عديدة.
ونظام الخلوات على طريقة القديس باخوميوس، أي خلوات مشتركة؛ فتتضمن الحجرة سريرين أو ثلاثة أسرة من البنيان.
ويظهر بعض الرسوم حالة المسيحيين حينذاك. فيبدو فيها آثار مصر القديمة وذكرى عهد وثني غير بعيد.
اكتشف علماء الآثار مناطق اعتزال الرهبان فعلا، كما أنهم وصلوا بفضل النقوش وغيرها إلى معرفة الكثير من عاداتهم وعادات عصرهم. ولكن دائرة الفكر والعقيدة بقيت مغلقة. فهل قدّر لهذا الكشف أن يفتح لنا ما أغلق؟ إن الأستاذ شارل بشتلي يعد تقريره ليرفعه إلى جمعية الآثار القبطية، فنرجو له التوفيق.
عدلي طاهر نور
فلسطين والأدب:
فلسطين. . . اسم إذا ذكر دمعت العيون وتحرقت الأكباد وانفطرت القلوب، لا من بغي الصهاينة ووحشيتهم، ولا من شد أزر الدول الأجنبية لهم، فلم يجل بخاطر عربي ومسلم يوماً أن يترك الصهاينة عدوانهم وشرهم، أو يهجر الإنكليز خداعهم ومكرهم، أو يعدل الفرنسيون عن خصومتهم وجنونهم، أو يُعرض الامريكان عن تألبهم علينا (وحرانهم). . ولكن الذي تتقطع النفس عليه حسرات هو هذا الجمود الذي ران على عقول بعض الكبار فأبلاها، وتغلغل إلى حبات قلوبهم فأقساها، حتى غدوا لا يمدون فلسطين في هذه المحنة العصيبة إلا بخطب وبيانات ووعود وتصريحات، والشعوب مهتاجة، والأعداء يبطشون، والدنيا تنظر، والتاريخ يرتقب، ليروا ماذا نحن فاعلون!
فمن واجب الأدباء وقادة الفكر إزاء هذا أن يشعروا هؤلاء بواجبهم وينهضوا بهمهم ويشحذوا من عزائمهم. وللأدب في هذا الميدان جولة وصولة؛ فهو الذي يفصح عن رأي الشعب ويبين عن شعوره، ويفتح العيون الساهية على الواقع المرير، ويعرك بعض الآذان لينتبه أصحابها فيشعروا بشعور الناس ويفكروا بعقول الأمة ويتقدموا بعزيمة الشعوب. . .(775/52)
وها قد شق الأستاذ (الزيات) للأدباء الطريق وضرب أحسن المثل، واستن الأستاذ (نقولا الحداد) هذه السنة الحسنة
والأمل أن يسير أدباؤنا في هذا الركب وينهجوا هذا النهج. فطوبى لمن حطم الكأس وكسر الدف وودع الحب وهجر الروح وتقدم إلى حلبة الكفاح ليذكي النار ويلهب النفوس واهباً قلبه وقلمه (لفلسطين) حتى يأتي نصر الله. إلا أن نصر الله قريب.
المعادي
(فتى الفيحاء)
الاتجاهات الدينية في الفلسفة الحديثة:
هذا هو موضوع المحاضرة القيمة التي ألقاها الأستاذ البطاوي في دار جماعة ابن رشد الثقافية في الأسبوع الماضي. وقد استحق الأستاذ منا الإعجاب والتقدير حينما عالج هذا الموضوع برغم خطورته حيث تكلم عن الفوضى الإجتماعية والتضارب الفكري والمذهبي بعد الحرب الثانية، وحيث تكلم عما يبدو - (بعد اكتشاف السلاح الذري) وقوف الدول الكبرى صاحبة الأمر والنهي عليه، وعن خشية الإنسانية من الفناء إن هي أقدمت على حرب عالمية أخرى - ما يبدوا بعد كل هذا وغيره من بشائر تتجه بالفلسفة الحديثة اتجاهاً شاملا سريعاً نحو الدين لكي تنقذ الإنسانية بوضعها إياها في حماه الأمين، وخاصة بعد أن تحقق كثير من الباحثين أن الفلسفة المادية تهوي بالمثل العليا إلى الحضيض وتدفع بالأمم إلى الأنانية البغيضة والتشاحن الذي يؤدي إلى الحروب والهلاك.
على هذا النمط سار الأستاذ في محاضرته مستشهداً بأحدث الآراء في الشرق والغرب للفلاسفة والباحثين في هذا الموضوع مقارنا بينها وبين أقوال القدماء عقب الحرب السبعينية وبعد الحرب العالمية الأولى ليخلص من كل هذا إلى تلك النتيجة الخالدة: وهي أن (الفلسفة الحديثة بدأت بالفعل تتجه اتجاهاً دينياً).
إلا أن إعجابنا بمقدرته لا يمكن أن يحملنا على التغاضي عن خطأ أو سهو عرض في أثناء الحديث عن (الأثنينية) وأحب أن يتفضل فيحدد موقفه منه على صفحات هذه المجلة الغراء؛ فإن له من الأهمية والخطورة ما يدركه كل دارس للفلسفة الحديثة فلكنا يعرف أن(775/53)
ديكارت لم يكن (دخيلا) على (الأثنينية) كما ذكر المحاضر في كلامه عن الفلسفة في فجر نهضتها الحديثة؛ بل نعرف أنه كان (أثنينيا) إلى أبعد حدود (الاثنينية)، وهو يعد حقاً وليس زعما كما قال - مؤسس الإثنينية التي تقول بوجود الروح مع وجود المادة في العصور الحديثة. وما كان هذا ليخفي على باحث مثل الأستاذ المحاضر يعلم تمام العلم أن جمهرة مؤرخي الفلسفة يعدون ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة، ويعلم من كتب ديكارت نفسه - كما ذكر في محاضرته القيمة أنه مؤمن بالله وبخلود الروح، أما جهلنكس الذي أثنى عليه الأستاذ وقدمه على ديكارت، فإني لست أعرف له من فضل سوى أنه هذب أقوال ديكارت في الأثنينية وعدّلها إلى مذهب أو (الإتفاقيين).
أما أن يكون الدخيل أصيلا والأصيل دخيلا فهذا أمر لا يستقيم أبداً ولا يمكن أن ترتاح إليه نفس.
دكتور سمير الناصري(775/54)
القَصصٌ
يا حياتي
صورة في أربعة مناظر
المنظر الأول:
جلس الضابط متكئاً على أريكة في منزله، وقد وضع رجلا على رجل متصنعاً هيئة الجد والوقار التي يظهر بها في نقطة البوليس التي يشرف عليها، وجلست زوجته بجانبه مطأطئة رأسها تدعو الله في سرها أن تكون العواقب سليمة. ووقف ابنه أمامه عاري الرأس واضعاً يديه خلف ظهره وقد التمعت عيناه وبدت على وجهه أمارات هي مزيج من الخوف والتحدي. وقال الوالد بعد فترة من الصمت الذي أراد به أن يلقي الرعب في قلب ابنه كما تعود أن يلقيه في قلوب المجرمين:
- لم عدت من القاهرة؟
- أظنك علمت أن المدرسة أضربت وأغلقت لمدة شهر.
- أظنك؟!
- ألم تعلم يا بابا؟
- أهكذا يخاطب الولد أباه؟
- ماذا أقول إذن؟
- أتجيبني على سؤال بسؤال! لقد ساءت أخلاقك كثيراً في القاهرة!
- يظهر أنك متعب اليوم!
- أتسخر مني يا كلب!
وانتفض الوالد وقد احتقن وجهه وبرزت عيناه ورفع يده ليهوي بها على وجه ابنه؛ غير أن الولد قال له: لا تضرب.
وأُخِذ الرجل وارتمى على مقعده قائلا في حشرجة تشبه حشرجة المحتضرين.
- ألست أباك يا علي؟
- وأنا ألست ابنك يا بابا؟(775/55)
وكانت الزوجة قد أخذت بهذا التطور السريع في سير (المعركة) فلم تستطع أن تتكلم أو تتحرك أو حتى أن تفكر، ولكنها استردت بعض جأشها فقالت لابنها: اخرج يا علي. فخرج يمشي في خطوة عسكرية كأنه طالب في الكلية الحربية أو في كلية البوليس لا في كلية الزراعة ولكن لا غرو فالولد سر أبيه.
نظرت الزوجة خلسة إلى زوجها فوجدت الدموع تترقرق في عينيه فوضعت وجهها بين يديها وأجهشت بالبكاء، فتمالك الرجل نفسه بسرعة وقال لها: لا تبكي ولا تحزني فلابد من طرده من البيت. غير أن الزوجة رفعت رأسها بسرعة وقالت له:
- ماذا تقول؟
- أقول إن هذا الولد يحزننا ويتحدانا، وسيفسد أخلاق إخوته، وقد حصل عل التوجيهية وأصبح قادراً على الاستقلال بنفسه فليذهب إلى جهنم إذن.
- ألم يكمل لك أبوك دراستك؟
- كان أبير يضربني (بالمركوب) فلا أرفع عيني فيه.
- ذلك زمن وهذا زمن.
- فهمت الآن. أنت التي دللته وأفسدت أخلاقه. أخرجي معه إذن.
- أنا أخرج معه! أتطردني!
- يجب أن يكون بيتي مثال النظام والطاعة وحسن الأخلاق
- وماذا صنع ابنك حتى استحق منك كل هذا؟!
- ألا تعلمين أنه ينفق ثلث مرتبنا وحده في القاهرة على ملذاته، ولولا الفدانان لمتنا جوعا.
- أتستطيع أنت أن تعيش الآن في القاهرة بما يعيش به؟
- كنت أعيش بربع هذا المبلغ. إن ابنك يدخن ويحب أيضاً يا عزيزتي!
- يحب! يحب من؟
- يحب طالبة معه في الكلية.
- لا تصدق هذا الكلام. إنه لا يزال في الثامنة عشرة.
- ولكنها هي تزيد على العشرين واسمها سعدية عبد العظيم.
- أهذا صحيح؟(775/56)
- نعم. أنا واثق. وهو يذهب إلى بيتها كل يوم بحجة المذاكرة.
- قد يكون هذا السبب صحيحا.
- أتصدقين هذا الكلام الفارغ!
- ألا يذهب إليها بعلم أهلها!
- لا أدري!
- أنك تسيء الظن دائماً.
- وفضلا عن ذلك فهو شيوعي!
- من قال لك هذا؟
- هو نفسه عندما قدم في أجازة نصف السنة، كان يلومني على أنني أؤجر الفدان بأربعين جنيها ويطلب مني أن أؤجره بثلاثين ليستطيع الذي يزرعه أن يأكل مثلنا.
- ليتنا نستطيع ذلك!
- ونموت جوعا!
- وهل هذا دليل على أنه شيوعي!
- كل آرائه وتصرفاته وإخلاقه تدل على أنه شيوعي. وأقسم بالله إن لم يرجع عن غيه لأكونن أول المبلغين عنه. . .
المنظر الثاني:
قال حسين بك فخري للحلاج عبد العظيم مبروك:
- لا أستطيع تخفيض الإيجار يا حاج عبد العظيم، إن نفقاتنا كثيرة وستزيد علينا الضرائب.
- كفى الله الشر.
- حضرات موظفي الحكومة لا يكتفون بمرتباتهم ولا يشبعون.
- قد يكونون معذورين يا سعادة البك.
- وماذا تصنع الحكومة؟ تأخذ من جيوب الناس وتعطيهم؟
- بل تعطيهم من المالية.
- والماليه يا حاج عبد العظيم من جيوبنا.(775/57)
- الذي أفهمه أن المخدوم مكلف بالانفاق على الخادم.
- وهل يجب أن يأكل خادمك اللحم والفاكهة ويلبس الحرير.
- إن خادمنا تأكل مما نأكل وتلبس مما نلبس، ولذلك فهي أمينة جداً، تحافظ لنا على اللقمة وعلى المليم.
- ارسلها لي يا حاج عبد العظيم. إن خادمي اللص اللعين سرق من محفظتي خمسين جنيها.
- حاضر.
- حاضر صحيح، أوفك مجالس؟
- يا سلام يا سعادة البيك! والله لو طلبت سعدية بنتي جارية لأرسلتها اليك.
- اشكرك! وهل هي كبيرة؟
- انها في الجامعة يا سعادة البك.
- الخادم في الجامعة؟!
- بل سعدية بنتي يا سعادة البك.
- أهي جميلة يا حاج عبد العظيم؟
- انها في نظري جميلة جداً يا سعادة البك. هذه بعض صور لها عملتها لتلص واحدة منها على البطاقة.
- بطاقة التموين؟
- بل بطاقة الدخول في الكلية بعد الأضراب.
- أكانت مضربة؟
- كانت الكليه كلها مضربة.
- حتى البنات يضربن!
- انهن يتعلمن من الذكور يا سعادة البك.
- لعنة الله على الذكور وعلى الأناث! (ما عدا سعديه طبعاً يا حاج عبد العظيم.
أشكرك يا سعادة البك.
- وإكراما لهذه الصورة سأعفيك الآن من تحديد ميعاد لدفع المتأخر.(775/58)
- أشكرك يا سعادة البيك!
- على شرط أن ترسل إلى الخادم الآن.
- على العين والرأس.
المنظر الثالث:
كانت الآنسة سعدية عبد العظيم مضطجعة على سريرها تقرأ في كتاب (الكيمياء الصناعية) وكانت أمها تقف بجوارها تكاد تطفر الدموع من عينيها وتقول لها:
- ردي عليّ يا سعدية. اسمعي كلامي! أنا أمك.
- كلمة واحدة! لن أتزوجه.
- أهذا كلام عاقلة؟ حسين بك الغني العظيم ترفضه فتاة فقيرة!
- عجوز وقبيح الشكل والأخلاق!
- يا ندامة يا بنتي! الرجل عيبه جيبه. ما له حسين بك سيد الرجال!!
- لا أريده.
كوني عاقلة يا سعدية. حسين بك هو الذي يؤجر والدك أطيانه ونحن مدينون له بألفي جنيه وقد وعد بالتنازل عنها وتخفيض الإيجار أيضاً، وسيعطيك (شبكة) جميلة ثمينة ولا يطلب منا أي جهاز. وهذا كنزٌ يا ابنتي نزل علينا من السماء.
- وكانت سعدية قد عادت إلى القراءة في كتابها وكأنها لم تسمع شيئاً من هذه المحاضرة الطويلة المغرية. فابتسمت أمها وقالت: خلاص! سأقول لوالدك إنها موافقة.
- من قال ذلك؟ يستحيل! يستحيل! تزوجوه أنتم! أما أنا فلا.
وهنا لم تتمالك الأم نفسها فأخذت تجهش بالبكاء وتلطم خديها وتقول. يا خسارة التربية! ستخربين بيتنا يا فاجرة.
لا كنْتِ ولا كانت أيامك. وكأنما تأثرت ابنتها فاعتدلت وقالت لأمها بصوت كأنه صادر من القبر. سأعمل ما فيه راحتكم.
وأسرعت الأم تزف إلى زوجها هذه البشرى.
أما سعدية فكانت تناجي نفسها قائلة: يريدون أن يبيعوني له كأنني سلعة أو جارية! وما ذنبي أنا إذا كان سي حسين بك يظلم أي في الإيجار وهو يريد تخفيض الإيجار، فيطلب(775/59)
من الحكومة سن قانون لتخفيضه. أما أنا فسأترك لهم منزلهم وأعول نفسي وأتمم تعليمي.
وفي اليوم التالي لم تعد سعدية إلى منزل والديها.
المنظر الرابع:
بعد هذه الحوادث بشهر واحد وفي ضحى أحد الأيام كانت الشمس المشرقة الجميلة تشرق في أنحاء الديار المصرية على المناظر الآتية:
1 - الطالب على عبد الحميد يجلس مكتئباً في غرفته وقد أمسك بيده ورقة الفصل من الكلية لعدم تسديد المصروفات.
2 - الضابط عبد الحميد حمدي حزيناً في منزله وبجواره زوجته يقرآن خطاباً بخصم خمسة عشر يوماً من مرتبه لاشتراكه في إضراب ضباط البوليس.
3 - الفلاح محروس جاب الله يقف واجماً أمام جاموسته التي تباع بأبخس الأثمان لتسديد ما عليه من إيجار الفدانين للضابط عبد الحميد حمدي.
4 - زوجة محروس جاب الله تجلس في غرفة مظلمة حاملة بين يديها طفلها الذي يئن ويتلوى وهي تظن أن عليه عفريتاً وما به إلا الحمى الشوكية اللعينة.
5 - الآنسة سعدية عبد العظيم مبروك تجلس أمام طفل صغير لصديقة لها تعلمه وتنتهز فرصة اشتغاله بالكتابة فتخرج من حقيبتها صورة للطالب عبد الحميد وتنظر إليها بحب وإشفاق.
6 - حرم الحاج عبد العظيم في بيت متواضع مع باقي أطفالها تبكي وفي يدها ورقة طلاقها.
7 - الحاج عبد العظيم يتوجه إلى أحد المحامين الشرعيين ومعه إعلان من المحكمة الشرعية.
8 - حسين بك فخري في قصره الفاخر وقد أخرج من محفظته صورة جميلة للآنسة سعدية.
وكان كل من هؤلاء يتأوه قائلا: (يا حياتي).
فؤاد السيد خليل(775/60)
العدد 776 - بتاريخ: 17 - 05 - 1948(/)
لمن هذه القوة في فلسطين؟
إذا قلت إن القوة التي في فلسطين لليهود، فكأنما قلت إن للأرنب دولة في غاب الأسود! ومن ذا الذي يصدق خبراً تناصرت على تكذيبه أدلة الشريعة والطبيعة والعِيان؟ فالقرآن يخبر أن الله ضرب على اليهود الذلة والمسكنة بما عصوا وعدَوا؛ فمن يزعمُ الآن أن مُلك إسرائيل يعود، فقد كذب القرآن وصدَّق التلمود. والطبيعة تشهد أن الغريزة تفقد شهوتها بالتعطيل، كما يفقد العضو وظيفته بالترك: فغريزة الافتراس في الحيوان ضعفت في الإنسان بالإهمال، على مدى الحقب الطوال، حتى أصبحت أثراً في العض ورمزاً في التقبيل. والأظفار الخمسة في رِجل البهيم تطاولت عليها الدهور وهي تتسلق وتنشب، فاعتراها الضمور والذبول حتى صارت أثراً تاريخياً وراء الحافر أو الظلف. واليهود منذ فرق شملهم (بختنصر)، وبتَّ حبلهم (أدريان) أخذت تضعف فيهم غريزة الدفاع عن النفس بالقوة حتى ماتت في مدى خمسة وعشرين قرناً لم يدافعوا عن حياتهم فيها إلا بخداع الثعلب وتملق الكلب وتلون الحرباء. فمن أين لهم الأكف التي تحمل السلاح، والقلوب التي ترفد الأيدي؟ أما العيان - وهو مصداق النقل وشاهد العقل - فيثبت أن اليهود ثعابين من غير سم، وبراكين من غير نار. على رأيت يهودياً دخل في عنف وإن هان، أو جرؤ على ظلم وإن قل؟ أنا نفسي شهدت لبعضهم منظراً لا أنساه حتى أموت، ولا أذكره إلا ضحكت: قضيت الصيف في بغداد سنة 1930، والصيف في بغداد لفحات من جهنم بالنهار، ونفحات من الفردوس بالليل. فالبغداديون يميتون أيامه في السراديب، ويحيون لياليه على دجلة. ففي ليلة قمراء من هذه الليالي ركبتُ أنا وصديقي (الحسنى) زورقاً من زوارق النزهة، فيه السمك (المسجوف) والفاكهة الطيبة. وسار بنا الزورق يتهادى حتى توسط النهر، فوقع في أسماعنا من ضفاف الكرخ غناء وعزف. فقلنا للنوتي: اتبع طريق هذا الزورق اللاهي. فقال في لهجة الغاضب الأنوف: ولماذا نتبع نحن ولا يتبعون هم؟ هؤلاء يهود! ولو شئتم أتيتكم بالمغنى والعازف! فدهشت ولم يدهش صديقي. وحاذى المركب المركب، فإذا رهط من شباب اليهود لا يقلون عن العشرة، قد انتظموا عقدين على جاني المركب، وفي الوسط مائدة مستطيلة عليها الطعام والشراب والزهر، وفي الصدر مغنية حسناء تضرب على العود، وكهل بدين ينقر على القانون، وشاب أنيق يعزف على الكمان. فلما رأونا سكنت الحركات، وخشعت الأصوات، وتجمعت الأكتاف، وتدلت الأطراف،(776/1)
وشخصت الأعين؛ ونادى ملاحنا بلهجته العراقية الآمرة: (تعالْ يا بنِت! تعالْ يا وِلِدْ!) وانتظرت أن أرى الغضب والإباء، أو التردد والوناء، فلم أر إلا القوم يخلون للجوقة الطريق واجفين، ويساعدونها على الانتقال واقفين! ولو كنا جربنا مع النوتى على مذهبه، لنقل كل ما كان في مركبهم إلى مركبه!
لمن هذه القوة إذن؟ إنها للاتحاد الذي جعل النحل تهزم جيشاً بأسره،
ومكن للبراغيث أن تخرج (النمروذ) من قصره. وإنها للعلم الذي ينقل
علىأجنحة النحل قذائف تدك المدن، وينبت في أفواه البراغيث أنياباً
تقتل الفيَلة. وإنها للمال الذي يسخر المصانع الأمريكية لتسليح اللص،
ويجبر المماليك الأوربية على تأييد الباغي.
فهل أعد العرب العدة لهذه الأقانيم الثلاثة، أم لا يزالون يعتمدون في دفاعهم على الفتح والوراثة؟
أحمد حسن الزيات(776/2)
3 - عبد اله بن سبأ
للدكتور جواد علي
رأيت أن أقدم رواية وردت إلينا عن (عبد الله بن سبأ) هي رواية تعود إلى القرن الثالث للهجرة. وهي أقدم من رواية الطبري، والطبري أول من تعرض (لابن سبأ) في تفصيل واطناب بالنسبة لحوادث الفتنة. وقد تعرض (أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي وهو من رجال القرن الثالث للهجرة ومن رجال الشيعة لعبد الله بن سبأ في معرض كلامه عن فرق الشيعة؛ وهي رواية مهمة لأنها تمثل رأي الشيعة في هذا الرجل، وما قالوه فيه. وأنت إذا ما قرأت ما كتبه النوبختي عن (السبأية) تيقن من أن بعض علماء الكلام قد نقلوا عنه.
قال النوبختي: (السبأية أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال إن علياً عليه السلام أمره بذلك. فأخذه عليّ فسأله عن قوله هذا فأقر به، فأمر بقتله. فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجل يدعوا إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟ فصيره إلى المدائن. وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب عليّ عليه السلام، أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالي علياً عليه السلام؛ وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع ابن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة؛ فقال في إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله في عليّ عليه السلام بمثل ذلك. وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه.
فمن هنا قال المخالفون إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية. ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت! لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلا، لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل؛ ولا يموت حتى يملك الأرض.
والنوبختي من المعاصرين لابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب المعارف (المتوفي سنة 276 للهجرة) وللطبري (المتوفي سنة 310 للهجرة) ولابن عبد ربه (المتوفي سنة 328 للهجرة).
ولعالم شيعي آخر ذكر (ابن سبأ) بعبارة تكاد تكون عبارة النوبختي بعينها وهذا الرجل هو (أبو عمر ومحمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي) صاحب كتاب (معرفة أخبار الرجال)(776/3)
وقد عاش في بغداد وكانت داره من الدور المقصودة، وملتقى طلاب العلم. ولابد لنا من ذكر عبارة الكشي عن (عبد الله ابن سبأ) لنتمكن من تكوين فكرة عنه وعما ورد فيه
وقد أخذ الكشي روايته هذه - على ما يقوله - عن ابن قولويه عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف القميّ عن محمد بن عثمان العبدي عن يونس بنعبد الرحمن عن عبد الله بن سنان عن أبيه، وتنتهي هذه السلسلة بالإمام جعفر الصادق المتوفي سنة 148 للهجرة. والمعاصر للخليفة العباسي المنصور.
جاء في كتاب معرفة أخبار الرجال أن الإمام قال (إن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين عليه السلام فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال نعم أنت هو، وقد كان ألقى في روعي أنك أنت الله وأني نبي. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ويلك! قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب، فأحرقه بالنار وقال إن الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك).
وذكر رواية أخرى هي أن الإمام جعفر الصادق ذكر عبد الله بن سبأ فقال (لعن الله عبد الله بن سبأ! إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام، وكان والله أمير المؤمنين عليه السلام عبداً لله طائعاً. الويل لمن كذب علينا؛ وأن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم؛ نبراً إلى الله منهم).
إلى أن قال (ذكر بعض أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً عليه السلام، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بالغلو فقال بعد إسلامه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله في عليّ عليه السلام مثل ذلك. وكان أول من أشهر القول بفرض إمامة علي، وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وكفرهم، فمن ههنا قال من خالف الشيعة أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية).
والعبارة الأخيرة هي نفس العبارة التي ذكرها النوبختي في كتابه (فرق الشيعة) عن عبد الله بن سبأ، وحيت أن الشخصين كانا متعاصرين، فمن الجائز ان يكون قد نقل أحدهما عن الآخر، غير أن مقدمة خبر كل واحد منهما عن (عبد الله ابن سبأ) وعن السبائية تدل على أنهما معا من مصدر آخر لعله أقدم من مصدرهما. والظاهر أنهما أخذاه عن كتاب لا رواية لأن الكشي يسلك سبيل الأخباريين والرواة فيذكر عادة في كل رواية سلسلة الرواية،(776/4)
ولم يفعل ذلك في هذه العبارة التي يظهر أنها كانت عبارة كتاب آخر وأنهما نقلاها نقلا يكاديكون حرفياً من (ذكر بعض أهل العلم) إلى آخر هذه الفقرة. ولعلهما نقلا ذلك عن كتاب آخر يعود إلى سعد بن عبد الله الأشعري القميّ المتوفي سنة 299 أو 301 للهجرة، وهو عالم له مصنف في هذا الموضوع.
ومما يستحق الملاحظة كذلك أن النوبختي كان قد ذكر في آخر خبره عن السبأية أن عبد الله بن سبأ لما بلغه خبر مقتل الإمام عليّ وهو بالمدائن (قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلا، لعلمنا أنه لم يمت، ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض).
وهذه العبارة قريبة في المعنى من العبارة التي ذكرها الجاحظ في كتابه (البيان والتبيان) والتي نسبت إلى جرير بن قيس، ولعلهما أخذا من منبع واحد واستعمل كل واحد منهما العبارة التي اختارها لهذا المعنى.
وتجد في كتاب (الفرق بين الفرق) لعبد القاهر ابن طاهر البغدادي المتوفي سنة 429 للهجرة ذكراً (لعبد الله ابن سبأ) في معرض حديثه عن الفرق ومنهما فرقة (السبأية) اتباع عبد الله بن سبأ وقد سماهم (السبأية) وقد عرفت هذه التسمية بهذه الصورة في كتب أخرى. وقد نقل عنه (أبو المظفر عماد الدين شاهفور طاهر بن محمد الاسفرائيني المتوفي سنة 471 للهجرة. نقل عنه نقلا يكاد يكون بالحرف. لذلك يكرر ما ذكره البغدادي في هذا الباب. واختص عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الرسغي من رجال القرن السابع للهجرة كتاب البغدادي وأدخل ما ذكرة البغدادي في كتابه.
ويعد كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني المتوفي سنة 548 من أهم المراجع التي تعرضت لبحث (عبد الله بن سبأ) وأتباعه (السبائية) وقد اعتمد عليه جماعة من العلماء منهم الإيجي المتوفي سنة 756 للهجرة وعلى الأخص المقريزي المتوفي سنة 845 للهجرة. الذي نقل عنه نقلا حرفياً؛ ثم المؤرخ الشهير ابن خلدون المتوفي سنة 808 للهجرة. والجرجاني المتوفي سنة 816 للهجرة صاحب (شرح المواقف).
ونضيف إلى هذه المراجع ما ذكره ابن حزم الظاهري المتوفي سنة 456 للهجرة في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) وقد دعاهم (السبابية). وما كتبه أصحاب الكتب(776/5)
الأخرى.
ونستطيع أن نقول بعد مقارنة المراجع التي ورد فيها ذكر عبد الله بن سبأ، أننا لم نجد حتى الآن أى مصدر يفصل لنا حياة هذا اليهودي المسلم، وقد ذهبت أكثرها إلى أنه كان من أهل اليمن وأنه كان من مدينة (صنعاء) عاصمة اليمن والتي لمع ذكرها في عهد الأحباش خاصة، وأنه كان يهودياً فأسلم وصار يتنقل في الأقطار الإسلامية حتى انتهى به المطاف في العراق حيث نزل البصرة ثم الكوفة ثم الشام؛ غير أنه لم يجد من بين الشاميين أنصاراّ، فذهب إلى مصر حيث راجت دعوته هناك ووجد له أتباعاً، ولعب دوراً كبيراً في الفتنة التي أثارها على الخليفة عثمان.
وقد عرف هذا الرجل بصورة عامة باسم (عبد الله) وأما اسم والده فهو (سبأ). ويندر ورود هذه الكلمة على أنها اسم شخص. وقد ورد في بعض الكتب على أنه عبد الله ابن وهب أو وهاب بن سبأ. أو عبد الله وهب السبائي. نسبة إلى سبأ. وزعم أنه كان على رأس الخوارج. ويعني بهذا أنه من (سبأ) أي من أهل اليمن، فهو من أصل عربي جنوبي على زعم الرواة. وربما كانت هذه النسبة هي التي جعلت الأخباريين يتصورون أن اسم والده بالضبط.
وقد اشتهر عبد الله كذلك بابن السوداء، ويظهر من رواية الطبري أنه إنما قيل له ذلك لأن أمه كانت سوداء، فعرف بابن السوداء. وقد فرقت بعض المصادر بين (عبد الله بن سبأ) و (ابن السوداء) فجعلت بعضها عبد الله بن السوداء رجلا آخر كان يعين السبائية (السبابية) على قولها، وأنه كان في الأصل يهودياً غير أنه كان من أهل الحيرة.(776/6)
الغيظ المحزن!
للأستاذ نقولا الحداد
ألا يغيظنا أن عرب فلسطين يفرون أمام فظائع اليهود الخبثاء، ويتشردون في البلاد العربية هنا وهناك، وأولئك الدخلاء الصهيونيون الأراذل يتمكنون في البلاد وينهبون بيوت العرب، ويفطرون ويتغدون ويتعشون من طعام العرب، ويلبسون ثياب العرب، ويملكون أثاثهم وأمتعتهم - يفعلون هكذا كما فعل أسلافهم من قبلهم منذ 32 قرناً حين ساقهم موسى من مصر إلى أرض كنعان حيث طردوا الكنعانيين من بلادهم وتناهبوا أرزاقهم؟! هل يعيد التاريخ نفسه؟
ألا يحزننا أن هؤلاء الجبناء الخبثاء ينكّلون بنساء العرب وأطفالهم وعجزتهم كما ينكل الذئاب والنمرة بفرائسها من الحملان والكباش والفراخ، ونحن نقرأ أخبار هذه الفظائع وأكبادنا تتقطع، وقلوبنا تتمزق!
ألا تخجل أن نرى إخواننا، وهم أهل البلاد، يفرون أمام الدخلاء فرار النعاج من الضواري ونحن نتفرج ونسمع ونقرأ ونتألم، ولا ننتقم من هؤلاء الأشرار شر انتقام؟ لماذا؟ لأننا نريد أن نتحامى غضب البريطانيين قبل أن ينتهي انتدابهم. وهؤلاء الذئاب يستغلون صبرنا، وطيبة قلوبنا، وتمسكنا بالإنسانية وشرف الخلق.
يا قوم. . . لا ينفع مع هؤلاء الأشرار الطغاة العتاة قول يسوع الناصري يوم علقوه على خشبة الصليب: (يا رب اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون). فهم يهزأون حين (نحول لهم الخد الأيسر) ويستبلهوننا. . . لا ينفعنا مع هؤلاء الأشرار إلا قول القرآن الكريم: (فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم)
كان على الجنود العرب أن يقتصوا منهم على الأثر؛ رضي الانكليز أو غضبوا. كفانا يا قوم استخذاء كما استخذي الانكليز لليهود اللئام. حسبنا مراعاة لخاطر الانكليز وهم يحمون اليهود دوننا ولم يقوموا بواجب المحافظة على الأمن كما يدعونها سبباً لبقاء انتدابهم. ولو شاؤوا الأمن لاستطاعوا أن يحقنوا كل دم في فلسطين، وعندهم 90 ألف مقاتل، ولكنهم كانوا يبتهجون أن يروا هذه المجازر ويشاهدوا تلك الفظائع الوحشية، فحتى متى نداريهم ونراعي خاطرهم؟(776/7)
والآن ماذا قررتم أن تفعلوا أيها العرب الرجال مع هؤلاء الأنذال الذين لا يعرفون ما هي الإنسانية، وليس لهم قلوب بشرية! كيف يجب أن تعاملوا هؤلاء الكلاب الغلاظ الرقاب ذوي القلوب الصلاب؟
يجب أن تقرروا منذ الآن أن تكافئوا هؤلاء الأردياء هكذا:
أولا - مصادرة جميع أملاك اليهود وأموالهم في البلاد العربية كلها باعتبار أنهم كلهم صهيونيون، وأن العدوان في فلسطين هو عدوانهم وهم شركاء فيه. تصادر أملاكهم كما صودرت أملاك الطليان والألمان في الحرب؛ وأن يعوض من هذه الأموال على عرب فلسطين ما نهبه الصهيونيون وما خربوه وما خسر العرب في كل ناحية بسببهم.
ثانياً - يجب أن يذاع هذا الحكم على الصهيونيين لكي يعلموا أن كل ما يأتونه من المنكر في البلاد العربية عل الإطلاق يتحمل وزره إخوانهم في كل بلد عربي، ولكي يعلم اليهود الذين في مصر وغيرها من البلاد العربية أن كل مال جمعوه للصهيونيين يجب أن يسدد من أموالهم؛ لأن المال الذي في أيديهم هو مال عربي، وقد اكتسبوه من العرب فلا يمكن أن يرسل إلى الصهيونيين لكي يحاربوا العرب به.
ثالثاً - أن يبلَّغ صهيونو فلسطين أن كل ما نهبوه من أموال العرب، وكل ضرر أوقعوه على العرب سيؤخذ التعويض عنه منهم أضعافاً يوم الحساب بعد إخماد عنفوانهم يوم الهزيمة، وأن كل نفس أزهقوها من أنفس العرب يجب أن يدفعوا ديتها أضعافاً، وأن كل نفس من أنفس النساء والأطفال والشيوخ سيقدمون مقابلها أضحية على مذبح الإله مارس.
رابعاً - أن يعلم هؤلاء اليهود الصلاب الرقاب أنهم لا يعاش معهم بعد قمع ثورتهم؛ بل يجب أن يطردوا من البلاد العربية كلها.
هذا ما نتوقع أن يفعله قادة الجيوش العربية منذ الآن إن كانوا يحسنون القيادة ويستحقون الزعامة ويرغبون في صيانة حقوق العرب التي أضاعها تراخي الزعماء وتواكلهم. حسبكم يا قوم استخذاء!
نقولا الحداد(776/8)
الفن الانساني
للأستاذ أنور المعداوي
(مهداة إلى الفنان الإنساني محمود تيمور)
الصلة بين الفن والإنسانية صلة لا يحسها إلا الفنان الإنسان. . . ولقد قلت مرة - وما زلت أقول - إن الفن إذا لم يستمد وميضه وحرارته من نبضات القلب الإنساني، كان وميضه كوميض البرق، وكانت حرارته كحرارة الحمى. . .! وكل أثر فني تبدعه العبقرية أو تصوغه القريحة، لا يترك أثره في النفس ولا بقاءه على الزمن، ما لم تلتق ومضة الفكر فيه بخفقة القلب، ولفتة الوهن بحركة الشعور، ومنطق العقل بفورة الوجدان. . . بشعاع من هنا وشعاع من هناك، يشق ضوء الفن طريقه إلى فجاج الروح، وشعاب النفس، ومسارب العاطفة، وبغير هذا كله يخبو البريق في الفن، وتبهت الصورة، وتفنى صفات الخلود!
من أعماق النفس وأغوار الحياة ينبع الصدق في الفن. . . ولن يتهيأ الصدق في الفن ما لم يستخدم الفنان كل حواسه في تذوق الحياة: يرقب، ويتأمل، ويهتك الحجب، وينفذ إلى ما وراء المجهول؛ فإذا استطاع أن ينقل كل ما يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني، فهو الفنان. . . وإذا استطاع أن ينقل إلى هذه اللوحات كل ما في القلب الإنساني من نبض وخفوق، فهو الفنان الإنسان. . . وعلى مدار القوة والضعف في تلك النبضات، يفترق العمل الفني عن مثيله في كل فن من الفنون. . .
الفن الإنساني هو أن يكون الفن انعكاساً صادقاً من الحياة على الشعور. . . وأن يكون الشعور مرآة صادقة تلتقي على صفحاتها النفس الإنسانية في صورتها الخالدة، بكل ما فيها من اشتجار الأهواء والنزعات. . . هنا تتحقق المشاركة الوجدانية التي تتمثل في ذلك التجاوب الروحي بين الفن وصاحبه، وبين الفن ومتذوقه، وبين الفن والإنسانية، بكل ما فيها من اختلاف الميول والأذواق. ولسنا نقصد بهذا إلى أن يسير الفن في ركاب المجتمع. . . كلا، وإنما ندعو إلى أن ينطلق الفن انطلاقاً يتحرر فيه من كل قيد بفرضه عليه طلاب الشعور المزور والانفعال المصطنع. عندئذ يستطيع الفن أن يتنفس في أجواء لا يحس فيها مرارة الاختناق، وعندئذ يلتقط الفن من طريق الحياة - وهو في ظل الحرية - كل ما(776/9)
يتبقى فيها من رواسب العواطف المتاينة في النفس الإنسانية.
إن الفنان هو من يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير. . . وإلى هنا يكون الفن قد أدى رسالته التصويرية، وهي رسالة تهدف إلى التصوير الأمين والعرض الصادق، ولكن هاتين الميزتين قد تهتز لهما في نفسك عاطفة الإعجاب، دون أن تهتز لهما مكامن الشعور. . . إن الإعجاب بالأثر الفني شيء والاهتزاز له والتأثر به شيء آخر؛ وهنا تبرز لنا الناحية الأخرى من رسالة الفن وهي الناحية الإنسانية، تلك التي يكتمل معها الخلود في العمل الفني. إقرأ للقصاص الفرنسي جي دي موباسان أقصوصتين من أقاصيصه هما (الحلية) و (ولد)، تعجب بالأولى وتهتز من أعماقك للثانية، ثم قارن بين الأقصوصتين تجد البون شاسعاً بين أثر هذه وتلك في حساب الشعور. وما أبعد الفارق بين فن يترك أثره في الذهن، وفن يترك أثره في النفس. . . إن موباسان فنان مبدع هنا وهناك، ولكنه في (الحلية) فنان فحسب؛ فنان يستلهم قلمه. . . أما في (ولد) فهو فنان وإنسان؛ إنسان يستلهم قلبه. . .!
واقرأ بعد ذلك (رينيه) لشانوبريان و (رفائيل) للامرتين و (آلام فرتر) لجوته، تلمس أن نبضات القلب الإنساني في هذه القصص الثلاث، لم تبلغ من القوة والصدق والعمق ما بلغته في (أدولف) لبينجامان كونستان؛ ومن هنا كانت (أدولف) في رأي النقاد أكثرها بقاء على الزمن لأنها أكثرها إنسانية. . . ولقد قرأت هذه القصة مرات، ولا أذكر أني قرأت غيرها أكثر من مرة، بل لا أذكر أن قصة تركت في نفسي من الأثر مثل ما تركت (أدولف)؛ ذلك لأن الفن إنما يقاس بمقدار أثره في النفس ومدى صلته بعنف الوجيب في القلب الإنساني. وأنت حين تقرأ هذه القصص الثلاث، تشعر أن كلا منها قد وضعت للجيل الذي عاشت فيه فهي لا تكاد تصلح إلا له، وأن الفارق بينها وبين (أدولف) هو الفارق بين الفن التصويري الذي يقف بك عند فترة من الزمن لا يتعداها، وبين الفن الإنساني الذي يتخطى حدود الزمان والمكان ولقد بلغ من عمق الصلة بين الفن والإنسانية في (أدولف)، أن اكتشف النقاد أن هذه القصة لم تكن إلا تصويراً صادقاً لحياة مؤلفها، وأن (أدولف) لم يكن في الحقيقة إلا بنحامان كونستان، وأن (إللينورا) لم تكن إلا الكاتبة الفرنسية مدام دي ستابل!(776/10)
(أدولف) هي قصة القلب الإنساني في كل جيل من الأجيال، يقرؤها كل إنسان فيشعر أنها قد كتبت له، ويكاد يجد في نفسه في كل سطر من سطورها. . . وهذا هو الفن الإنساني الذي تتلقاه الإنسانية جديداً على مر الزمن!. . . الفن الذي يأخذ مادته من أعماق النفس، ونبضات القلب، وأغوار الحياة.
وعلى ذكر القصص الإنساني أقول إني شاهدت منذ أيام في إحدى دور السينما قصة من القصص النادرة، تدور حوادتها حول حياة الموسيقار روبرت شومان. . . ولن أنسى أن هذه القصة قد هزتني هزاً عميقاً، لا بموسيقاها ولا بروعة تمثيلها، ولكن بما حفلت به من لمسات إنسانية نفاذة استطاع كاتبها أن يدفع بها إلى مكامن الشعور في النفس الإنسانية؛ ولقد خرجت بعد انتهاء العرض وأنا أستعيد في نفسي بعض تلك اللمسات التي حشدها الكاتب في قصته ليصور بها الجانب الإنساني في حياة شومان. . . ولعل مشهداً وحداً من مشاهد هذه القصة يقف وحده متفرداً ليترك أثره العميق في النفس والحس؛ هو ذلك الذي ظهر فيه شومان وزوجته وتلميذه يهيئون طعامهم بأيديهم بعد أن تخلت الطاهية عن خدمتهم. . هنا يقف الثلاثة حيارى أمام دجاجة!. . لا تقوى نفوسهم الفنانة الشاعرة على ذبحها؛ نمسك الزوجة بالسكين فتخونها قواها فتدفع بها إلى زوجها، واضعة ثقتها فيه كرجل لا يرتاع لرؤية الدماء. . ويجمع الموسيقار أشتات شجاعته، ولكنها تتناثر هنا وهناك فلا يبقى إلا العزم الخائر أمام شبح الجريمة!. . ولا تجد الزوجة بدا من الاستنجاد بالرجل الآخر ليرد للرجولة كرامتها، ولكن الرجل الآخر ما يكاد يقترب من الضحية والسكين في يده حتى يرتد ضعيفاً مسلوب الإرادة أكثر إخفاقاً من صاحبه. . ولا تزال السكين حائرة بين أيديهم المرتجفة، ولا تزال الدجاجة على قيد الحياة!. . ويهتف روبرت شومان وهو ينظر إلى زوجته وتلميذه، يهتف من أعماق: لقد خلقت للعزف لا للذبح!!
بمثل هذه اللمسات الرائعة، ترتفع القصة في الغرب إلى آفاق مشرقة من الفن الإنساني.
وإذا ما تركنا الفن الإنساني في القصة إلى الفن الإنساني في التصوير، تبرز لنا لوحتان فريدتان هما (العذراء والطفل) لرفائيل و (الجيوكوندا) لدافنشي. وعلى كثرة ما أخرج عباقرة الرسم من لوحات للعذراء والطفل فإن لوحة رفائيل تقف وحدها متفردة، لا بظلالها وأضوائها وألوانها، بل بشئ آخر هو قوة الوجه. . . المعبر عن الإنسانية في أنبل(776/11)
ملامحها، وأجمل سماتها. إن الريشة التي أبدعت هذه اللوحة ريشة إنسان قبل أن تكون ريشة فنان؛ إنسان أنطق أسمى مراتب الأمومة في نظرات السيدة العذراء، وأسمى مراتب النبوة في نظرت السيد المسيح. . . ومن هنا شقت لوحة رفائيل طريقها إلى القمة، بينما وقف غيرها لا يتخطى السفوح، لأن هذه من صنع المخيلة، وتلك من صنع الشعور
من هذه الزاوية الإنسانية التي نظر منها الفن إلى رفائيل في (الغذراء والطفل)، ينظر الفن مرة أخرى إلى ليوناردو دافنشي في (الجيوكوندا). . . هي لوحة تمثل امرأة، ولكن أية امرأة؟! لقد استطاع دافنشي الإنسان أن يبعث في عينيها العميقتين نظرات قديسة، وفي شفتيها الرقيقتين ظل ابتسامة لا ترسم إلا على شفتي ملك. وفي العينين والشفتين ركز دافنشي الإنسانية بكل ما فيها من معاني النبل والطهر والبراءة، ولهذا كانت (الجيوكوندا) تمثل ذلك الجمال الروحي المتصل بالسماء، بينما كان غيرها يمثل ذلك الجمال المادي المشدود إلى الأرض!
من كل هذه الأمثلة التي قدمتها إليك تستطيع أن تخرج بشئ واحد، هو أن الفن إذا لم يستمد وميضه وحرارته من نبضات القلب الإنساني، كان وميضه كوميض البرق، وكانت حرارته كحرارة الحمى. . .!
أنور المعداوي(776/12)
على ذكر حوادث فلسطين!
عار لا يمحى
للأستاذ شكري فيصل
حين فتحت عينيّ في الصباح كنت كالذي يستيقظ من حلم مرعب. . . لم أكن شهدت ما يؤرقني ويزعجني، ولكني أعلم أني أويت إلى فراشي وعلى شفتيّ هذه الأسئلة التي يدور بها ذهني وينطلق بها لساني: ماذا تفعل هنا؟ أي شيء هذا العلم الذي تجهد له، وتعني فيه الوقت والصحة والشباب؟ ما يكون من شأن العربية التي تعمل لها وتنطوي جنديا من جنودها إن قدر لصهيون أن تحقق أحلامها، وأن ترفع أعلامها، وأن تنشيء سلطانها في هذه البقعة من البلاد العربية. . . أين يقع هذا العمل الذي تحبس نفسك عليه من هذه المعارك التي تدوي، والنفوس التي تستشهد، والبلاد التي توشك أن تضيع بين حمق القيادات، وحقد الزعامات وأطماع السياسات، وحقارة الأغراض. . . أين أنت. . . وما شأنك وهذا الطريق؛ لا طريق غيره قبل أن تسوى معالمه، وترفع صواه، وينتهي إلى غايته من طرد العدوان، وصد الطغيان، ورد الغزو الأحمق.
ولم تكن هذه هي الليلة الأولى التي أواجه فيها هذا الحساب العسير. . . فقد كانت هذه الأسئلة تتخذ ألف لون، وتصطبغ ألف صبغة. . . وكانت تأخذ عليَّ مسالكي في النهار إذا ابتدأ النهار، وفي الضحى إذا ارتفع الضحى، وفي الظهيرة حين أقطع في الظهيرة هذا الطريق الذي تستلقي عليه الظلال مكدودة ممزقة، بين الجامعة وهذا البرج العاجي القريب الذي أعيش فيه. . . وكانت تسد عليَّ دروبي كلما هممت أن أعمل أو أفكر أو أكتب، فلا يكون في طاقتي أن أخلص منها أو أنتهي بها إلى رأي حاسم. كانت تتجاذبني موجات من لهبة الروح وخمود الجسم، من دفقة القلب وخور الأطراف، من قسوة الواقع ومن رخاوة النشأة. . فلم يكن لي أكثر من أن أرتد إلى هذا الماضي ألعن هؤلاء الذين سيطروا على ثقافتنا من رجال الانتداب، فزينوا لنا الحياة جنة وحريرا، وما كانت إلا لهباً وسعيرا، وجهاداً كبيرا. . .
وفي خطى مضطربة سريعة، كنت أمضي لأمد يدي إلى الباب أجذب الجريدة التي ترك الموزع نصفها ممتداً إلى داخل البيت ونصفها الآخر على العتبة الخارجية، فعل الرجل(776/13)
المعجل المسرع
وبدأت أقرأ. . . وكان نبأ. . . وكانت لحظات هي مزيج من الذهول العميق والدمعة الثرة.
حيفا!. . . إن كل صورة من صورها تنتثر أمام عيني في وضوح شائك حاد. . . إن أطيافها التي كانت في ذهني كالضباب المعتم تشرق في لحظة سريعة من مثل لهب النار المتأججة، وتسطع في مثل تألق البرق النير. . . إن أصواتها التي كانت صدى ضئيلاً، نحيلاً، بعيداً، في خاطري لترن في أذني في مثل القصف المفزع. إني لأنظر في الصحيفة التي بين يدي ولكني لا أرى حروفاً ولا أشهد كلمات. . . وإنما أرى هذه المدينة التي مررت بها مرات ومرات في طريقي إلى القاهرة، وفي طريقي إلى دمشق. إني لا أحس ما حولي. . . لكأني في هذه اللحظات أذرع هذا الشارع، شارع الملوك، وأنحني أدخل في الشوارع القديمة التي تمتد وراءه. . . إني لا أسمع هذه الأصوات التي تتعالى هنا تحت نافذتي، وإنما أنا أستمع إلى هذه الأصوات التي (كنت أعيش معها يوماً من كل عام. . . إن آلافاً من الصور السريعة، المتتابعة، المتلاحقة، تغزوني: الفندق والمطعم وسكة الحديد، المحطة القديمة التي أقامها العثمانيون، والمحطة الجديدة التي أقامها اللصوص المنتدبون. . . المدينة القديمة والدكاكين الواطئة والأسواق المغطاة والتجار الدمشقيون وأبناؤهم وإخوانهم وجيرانهم. . . باعة الكتب هؤلاء الذين كنت أرقب عندهم مطبوعات فلسطين وما يتيح الوضع القلق للمؤلفين الفلسطينيين أن ينتجوه. . . المسجد الجامع الذي كنت أصعد إليه على سلم رخامي عريض، والمسجد الآخر الذي كنت أجتاز إليه سوقاً ضيقة مغلفة بالعتمة. . . آلاف العمال العرب، والوجوه العربية، واللسان العربي بهذه اللهجة التي كانت تضم في حيفا كل لهجات فلسطين؛ هذه كلها كانت تنثال عليّ وتنطلق من ذاكرتي كالنبع الفوار المضطرم. . . لم يبق في حيفا شارع أو طريق، مشهد، أو موقف، (كان حقير أو جليل، شيخ كبير أو عامل صغير، عامل دءوب من عمال المحطة، أو صديق كريم من التجار، أو مجاهد نازح منذ نزح فيصل العظيم عن دمشق. . . لم يبق في حيفا القديمة أو حيفا الجديدة هذه التي كنا نسعى إليها في مقر المراقبة لنعرض جوازاتنا وأوراقنا وأقلامنا ونتاج عامنا الدراسي على قوم بكم عجم نستأذنهم المرور بها في بلادنا وأوطاننا. . . هذه كلها عاشت في ذهني مرة واحدة. . . لقد انتفضت كما ينتفض العصفور الجريح بعد(776/14)
أن تكون مرت به سكين بارقة بيضاء وخرجت وردية حمراء.
والآن. . . ماذا بقى من حيفا هذه التي عرفنا. . . ماذا أبقت منها بلاغات الزعماء، وتصريحات الرؤساء، وأحقاد قادة العرب. يا ويلي حيت أتمثل أي شيء أبقت الحادثات من حيفا. . . إني لأجد النار التي تكويني، والسياط التي تؤذيني. . . إني أهرب من نفسي لأني أخجل من نفسي أن أقول الذي كان. . . ليس في يدي هذه الأداة الطيعة التي تنساب فوق هذه الأوراق، فقد كفرت بالأقلام والأوراق. . . وماذا يقول الكاتبون إن كتبوا. . . ويح الذين يسألونهم أن يكتبوا، كأنما يسألونهم أن يقصوا عليهم قصة من تاريخ قديم لأمة منقرضة، يزينون حواشيها ببلاغة القول، ويفيضون على أطرافها بريق الأدب، ويذهبون ببعض مواقفها في شطحات الخيال، وينمقون نظمها بروعة الأساليب، ثم يدعونهم أن ينعموا بما فيها من فن أو بيان؛ والمصيبة التي تحل في فلسطين مصيبتهم، والموطن الذي يُغتصب وطنهم، والأعراض التي تنتهك أعراضهم، ومواكب الذين أجلوا عن ديارهم أمام أعينهم في كل عاصمة من عواصم العرب. . . كأنما لا يزال هناك حاجة إلى حمية تستثار، وحماسة توقظ، ومقالات تكتب وتنشر.
وماذا يكتب الكاتبون؟ هل يسجلون الخزي، ويؤرخون العار؟. . . هل يقولون كان هنا مسجد فاندثر المسجد، وكان هنا سوق فسويت السوق بالتراب، وكان هنا حرمات وذكريات فديست الحرمات ودفنت الذكريات. . . أفيستطيع القائلون أن يقولوا كان هنا أعراض فانتهكت الأعراض، وكان أطفال ونساء فهام الأطفال والنساء على وجوههم؟ كان هنا مدينة عربية ثانية الموانئ العربية على البحر العربي ثم مرت بها ساعات مجنونة مسحورة فانتزعت من أهلها، وأطبق عليها الأعداء من فوق، في مثل سرعة اللص الغادر، وخفة المجرم المدرب، وتنظيم الكيد الميت. . . فلم يدعوا فيها أثراً لعروبتها. . . ثم طفقوا يغنون ويرقصون ويشربون على أشلاء القتلى وأنفاس المنكوبين الحرى. . . ثم مضوا يفعلون ويفعلون، وتتصاعد عشرة آلاف (وا معتصماه) من عشرة آلاف قلب، قلب طفلة غريرة، وفتاة نضيرة، وزوجة وفية، وامرأة حامل. . . ثم لا يكون في أمراء العرب، ورؤساء العرب، وأقطاب العرب، من مشارق الحجاز وهضاب نجد، وغوطة دمشق، وغابة بيروت، وظلال الوادي، (معتصم) واحد يسرع إليها بجيشه، لا يحميها، ولكنما(776/15)
يتخذها جنة ووقاء لأعراضه وأوطانه التي سيسري إليها الداء. . . وإنما يكون فيها (معتصمون) بالهدوء يخافون لوم اللائمين في الدنيا ولا يخافنون عذاب الله في الآخرة وذلكة الخزي في التاريخ. . . ويرجون السيادة بعد أن انتزعت منهم صرة السيادة، ويأملون لذراريهم الخير ولن يبقى شيء من الخير لهم حتى يورثونه ذراريهم؛ ويلتزمون الحذر، وما هو إلا الضعف والخور. . . ويتدفقون بالأحاديث ولا يزالون، لا تحس فيها وهج النار، ولا تجد لها رائحة البارود، ولا تسمع لها قصف المدفع وثقل العتاد، ولا تشعر أن وراءها جلبة جيش ودوي تكبير. . . وإنما هي لا تزال تنضح بالعطف، وتنشر السلم، وتنثر الأزاهير، ثم لا تنسى أن تحتمي بآيات من كتاب الله وأحاديث رسول الله. . . والويل لهم من يوم الله. . . ما كان الله ليرتضي منهم هدوء الموت وسياسة الضعف، وحذر الجبناء.
أي عار هذه المذلة التي يلقاها العرب في محنتهم الحاضرة!. أي قدرة على الحياة هذه التي يستطيعون أن يباهوا بها، أن يتقدموا بها إلى العالم المتمدن برهاناً إذا ظل الكرمل هو الكرمل، وظلت حيفا في قبضته في إسار الذل وذل الهوان!. . . أي خديعة أرادها لهم هؤلاء الحياديون الذين يصدر عنهم الشر وينتهي إليهم الشر.
أي بلاهة سيرميهم بها التاريخ إن لم يرفعوا هذا الإصر، ويحطموا هذا الغل، ويستنقذوا الشرف الذي غلب عليه المكر، واصطلحت عليه عوامل الغزو والسلب، وبات طريداً شريداً تنزف من جراحه الدماء، من ورائه نار ومن أمامه بحر، ومن دونه ودون الإنقاذ قوم ينامون عى الوعود، ويستكينون للثقة، ويلينون لمعسول الأحاديث الخلب، ويؤاثرون أعداءهم بالأمن ويحملون إليهم السلام حملا على جثت من قتلاهم، وأشلاء من موتاهم، ودماء من دمائهم!!
كانت في هذه البقعة من الأرض حيفا عربية. . . ولن يكون في قدرة أحد من الذين يتطلعون إلى المجد العربي، ويعملون ليقظة الإسلام أن يتحدث عن الشعب العربي، عن توثبه، عن أمله العريض، عن جامعته ووحدته، قبل أن تعود حيفا عربية من ذروة الجبل إلى قدميه اللتين تستلقيان على شاطئ البحر وأمواجه، قبل أن يغسل هذا العار الذي يكسو كل هضبة من هضاب الكرمل ويقف عند كل ثنية من ثناياه، ثم يرمي بأرجاسه وأحجاره(776/16)
بعيداً، بعيداً، في سط البحر. . . قبل أن يقف عشرات المؤذنين في عشرات المساجد ينادون من جديد: الله أكبر، الله أكبر.
لن يكون في أعناقنا ولاء لأي واحد من هؤلاء الذين يتمثل فيهم سلطان العرب قبل أن يمحي هذا العار. . إن في يد كل زعيم عربي أثرا من رجس، وإن أيدينا لن تصافح من جديد إلا أولئك الذين طهروا أيديهم من هذا الرجس وغمسوها في دم أعدائهم سبع مرات متواليات.
لا الذين يحمون بيوت الله، ولا الذين ينقمون لرسول الله، ولا الذين يحيون شرع الله، ولا الذين يدعون العروبة قبل محمد نبي الله. . . ليس أحد من هؤلاء جميعاً أهلا لأن يكون حيث يريد أن يكون حتى يكشف غمة هذا الخزي الذي يعيش في وطأته كل هذا الملايين. . . وحينذاك. . . حينذاك فقط سيكون في الخالدين. . . سيكون في هذه الصفحة المشرقة التي يشع فيها وهج محمد، والتي تنثال عليها بحروف متوهجة نيرة أسماء سعد وعمرو وطارق وموسى وصلاح الدين ونور الدين وإبراهيم باشا. أما قبل ذلك. . . فدعونا نردد قول الله: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل. . . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً.
شكري فيصل(776/17)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
سعادة الدكتور قاسم غني سفير ايران بمصر شخصية علمية من الطراز الأول، لم يمض عليه في مصر الا أشهر معدودات ومع ذلك استطاع أن يكسب لنفسه ولأمته أصدقاء ممتازين، لا في الميحط الاجتماعي والدبلوماسي فحسب، ولكن في المحيط العلمي أيضاً، وقد كان ذلك واضحاً في قاعة المغفور له علي ابراهيم باشا بكلية الطب، ثم في قاعة دار الحكمة حيث ألقي الدكتور السفير العالم محاضرتيه عن (تاريخ الطب الإسلامي) فكنت ترى الحاضرين مزيجاً مختلفاً ما بين سياسيين ووزاء وعلماء وأطباء وآباء روحانيين وغيرهم مما لم نألف قاعات المحاضرات في مصر شهوده كثيراً، وكلهم أصدقاء للدكتور قاسم غني معجبون بعلمه وأدبه وفضله
ولقراء الرسالة عهد بهذا العالم البحاثة من قبل، فقد قدمه اليهم سعادة الدكتور عبد الوهاب عزام بك في عدد من اعدادها. وهو الآن مهتم بنقل كتابه العظيم الذي الغه بالفارسية عن (التصوف الإسلامي) إلى اللسان العربي.
وقد ظفر صديق من أصدقاء الدكتور والرسالة بهذا البحث العلمي القيم، الذي ألقي في كلية الطب ودار الحكمة فآثر به قراء الرسالة، وها نحن أولاء نقدمه في أعداد متوالية شاكرين معجبين:
(الرسالة)
1 - طب العرب في الجاهلية:
في بدء ظهور الإسلام عندما كانت الشريعة الجديدة لم تتجاوز بعدُ حدود القبائل العربية في الحجاز إلى سائر بلاد العالم كان معظم القبائل العربية، مثل بقية القبائل البدوية لا يهتم بالعلوم والفنون المختلفة؛ وكان جل اهتمامهم منصباً على التعمق والتوسع في علوم العربية وأحكام الشريعة الإسلامية.
وبما أن معالجة المرضى وتمريضهم من الأمور الطبيعية لدى الإنسان، وأن لجماعات(776/18)
البشر حتى في بداوتها غريزة حفظ الحياة، وأن حاجتها لتسكين آلامها وأوجعها تجبرها على البحث عن العلاج اللازم لأدوائها وأوجاعها؛ فكان لابد من أن ينشأ بينها نوع من الطب والعلاج البدائي وقد كان. فقد ظهر وشاع طب من هذا القبيل بين القبائل العربية البدوية.
وقد كان الطب الشائع بين القبائل العربية في مبدأ ظهور الإسلام عبارة عن بعض المعالجات التجريبية، مقرونة بأعمال السحر والخرافات كما كانت الحال لدى أكثر القبائل الرحل، وكما لا يزال شائعاً إلى يومنا هذا لدى بعض الأقوام غير المتحضرة، فإن عوامل شتى كالمصادفات والتجارب والاختبارات ومشاهدة الطبيعة، والنظر في أحوال المرضى واتباع الغرائز الطبيعية والدوافع الفطرية وتقليد الحيوان، والتدبير والتفكر في أعماله، دفعت الإنسان للوصول إلى تدابير طبية، وهدته إلى اتخاذ وسائل علاجية، ثم أضيف إلى ذلك كله بالتدريج، عقائد ومعارف وافتراضات صحيحة وغير صحيحة مثل الشبه الموجود بين الإنسان والعالم الأكبر، وتأثير النجوم والكواكب والأجرام السماوية الأخرى في الإنسان، وعبادة الأرواح، والاعتقاد بتناسخها، وعودتها إلى الأجسام، والإيمان بوجود الجن والشياطين والأرواح الخبيثة، وحلول الشياطين والأرواح الشريرة في بدن الإنسان وتسبيبها للآلام المبرحة، إلى غير ذلك من المعتقدات، فتكون من مجموع ذلك كله نوع من الطب، كما أشرنا إليه آنفاً.
وقد كان جماعة من الشيوخ المجربين ومن بعدهم أبناؤهم والمتصلون بهم ممن كانوا يشاهدون التجارب والمعالجات التي يقوم بها الشيوخ، كانوا يقومون بعلاج المرضى؛ وهؤلاء يمكن اعتبارهم أطباء تلك الحقب. وكان عدد قليل من العرب ممن درسوا الطب في البلاد المجاورة لجزيرة العرب، ولاسيما إيران يزاولون مهنة الطب بين قومهم، منهم الحارث بن كلدة الذي كان قد درس الطب في مدرسة جند يسابور، وابن أبي رمثة التميمي، وكان جراحاً معروفاً، وزينب، وقد اشتهرت بمعالجة الرمد والجراحات.
وقد كان ظهور الإسلام سبباً في لم شعث القبائل العربية البدوية، إذ أنشأ جامعة سياسية ودينية واجتماعية قوية لهم، استطاعت في زمن وجيز أن تقلب أوضاع العالم المحتضر حينذاك رأساً على عقب، وأن تخلف امبراطوريتي الفرس والروم.(776/19)
وقد كان من أثار غلبة العرب على أقوام كانت تسبقها في الحضارة والعلوم والفنون أن اقتبس العرب كثيراً من علوم تلك الأقوام وفنونها، فإن تقدمهم السريع واستقرار مدنيتهم، كانا يستلزمان هذا الاقتباس.
ولابد لمعرفة مصادر الطب الإسلامي من أن نلقي نظرة إجمالية على تاريخ الطب قبل الإسلام وفي العصر الأول الإسلامي لنعرف كيف ومن أي الأقوام وعن أي طريق وصت تلك العلوم! ومن جملتها الطب إلى العرب، والحالة التي كانت عليها تلك العلوم عندما تلقاها المسلمون عنها. وبعد ذلك نستطيع أن نعرف إلى أي حد خدم المسلمون هذه العلوم ومبلغ ما نالته تلك العلوم على أيديهم من تقدم وعظمة.
2 - مصادر الطب الإسلامي:
لقد أسلفنا القول في أن الأمم القديمة جميعها كان لها نوع من الطب والعلاج، وأن تاريخ ظهور الطب هو تاريخ ظهور النوع البشري، أعني أن الأمراض والأوجاع المختلفة لازمت الإنسان الأول منذ بدء الخليقة وأن الآثار التاريخية التي اكتشفت عن الإنسان الأول تدل على وجود أثار بعض الأمراض لديه، ومن الثابت أن الإنسان - مثل سائر الحيوان - كان يبحث بحكم الغريزة والفطرة والإيحاء الطبيعي عن علاج لتسكين آلامه وإبراء أمراضه.
وقد كان لدى بعض الأمم القديمة كالصينيين وسكان ما بين النهرين ومصر وإيران والفنيقيين واليهود طب مدروس مدون، وكان الطب يعتبر لديهم مهنة خاصة لها ناحيتان علمية وعملية، غير أن اليونان من الأمم القديمة تعتبر الأمة التي بلغ الطب لديها شأواً عظيماً من الرقي، وكان له لديها شأن جليل.
وكان بلوغ الطب هذه المنزلة الرفيعة لدى اليونان بفضل بُقراط الذي يُدعى بحق (أبا الطب).
لقد عاش بقراط في عصر من أزهى عصور الرق العلمي في اليونان، أعني عصر بركليس الذهبي الذي ظهر فيه كثير من عظماء اليونان أمثال توسيديد، وفدياس وسوفوكل وأوريبيد. ويعد بُقراط بحق أعظم أطباء الأمم القديمة علماً وعملا، وقد بقى زهاء ألفي عام شخصية طيبة مسيطرة على عالم الطب في الدنيا كلها، وقد كانت أقواله وآراؤه المرجع(776/20)
الوحيد في هذا الباب وعليها المعول طوال هذه الحقبة حتى النهضة الأوروبية.
وإن الشطر الأكبر من المعارف التي رتبها ونظمها بقراط عن الطب مأخوذ ومقتبس من سائر الأمم أو اليونانيين السابقين عليه في الزمان، غير أن له فضل دراسة كل هذه المعارف ونقدها والوصول عن طريق النقد والبحث العلمي إلى معارف ومعلومات جديدة.
وقد كانت هذه هي الطريقة التي جرى عليها كثير من مواطنيه أمثال أفلاطون وأرسطو كلٌّ في بابه - فقد اقتبسوا من معارف الأمم التي سبقتهم أو التي عاصرتهم، واستفادوا منها، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، بل درسوا تلك المعارف، ونقدوها نقداً علمياً دقيقاً، وفرقوا بين أصولها وفروعها وغشها وسمينها ورتبوا استنتاجاتهم وبوَّبوها على خير وجه، ووضعوها في متناول طالبي العلم في العالم أجمع.
لقد خلص بقراط الطب من أجواء الهياكل والمعابد المشبعة بالأسرار والألغاز، وحرره من قيود الكنهة ورجال الدين، وأقامه على أسس العلوم الحيوية الصحيحة، وأرجع المرض والحياة لقوانين طبية ثابتة، وبرهن على أن الوصول إلى تلك القوانين الثابتة ممكن عن طريق دراسة الطبيعة دراسة دقيقة وافية، كما بين الروابط التي تربط العلة بالمعلول. وقد جعل أساس كل بحوثه الطبية الدرس والتجربة بعد أن وازنهما بالنظر والاستدلال والمنطق واهتدى بهديهما، ولاءم بين التجارب العملية والأمور النظرية، وقد وفُق في ذلك توفيقاً عظيماً.
يعتقد بقراط أن الإنسان جزء من الطبيعة والكون، وكما أن كل كائن حي في هذا الوجود مرتبط بالطبيعة طبقاً لقواعد مقررة وقوانين ثابتة، كذلك الإنسان فإنه خاضع لهذه القواعد والقوانين نفسها؛ والموازنة بين العوامل الطبيعية هي الصحة والحياة؛ وإن قُوى الفرد كلها تهدف لإيجاد هذا التوازن والتعادل.
وعندما يختل هذا التوازن لعل خارجة، تبادر جميع قُوى الفرد لدفع هذه العوامل الخارجية والعلل الضارة وإيجاد التوازن المطلوب وإقراره، وأن مهمة الطبيب مقصورة على خدمة طبيعة الفرد ومساعدتها في هذا المسعى الحيوي الذي تقوم به، ولذلك كان يسمى الطبيب بخادم الطبيعة.
وحيث أن تشريح الجثث الإنسانية كان غير مستطاع حينذاك وكان علم التشريح وعلم(776/21)
وظيفة الأعضاء ناقصين تبعاً لذلك، فإن المعارف التي كانت لدى بقراط عن الطب لم تكن كبيرة من حيث الكم، فإن دائرة معارفه عن الأمراض كانت ضيقة لا يستطيع بها إيضاح تطورات المرض وتحولاته كما ينبغي؛ غير أن معارفه كانت على مبلغ عظيم من الأهمية من حيث الكيف.
لقد بنى بقراط طريقته على أسا علمي متين، فقد فصل الطب عن الدين فصلاً تاماً وجعل حالة المريض نفسه أساساً لعلاجه.
ويتضح من صيغة القسم المعروف بعهد بقراط ومن الرسائل الطبية التي ألفها، أنه قد حدد بوضوح تام حقوق الطبيب ووظائفه وواجباته الأخلاقية والاجتماعية، كما يتبين من ذلك كله أنه قد أضفى على هذه المهنة صورة خلقية، وجعل منها عملاً إنسانياً وقياماً بالواجب محتما، وكان هو نفسه مثلا حياً للأخلاق الفاضلة من إيمان بالحق ودفاع عنه وحب للخير وإيثار وعطف على المرضى والموجعين، وهمة عالية في نشر العلم والعرفان وغيرة عليها لا تجاري.
وقد ترك بقراط للعالم مجموعة طبية تعتبر أقدم تراث طبي قدم للبشرية، وأثمن مجموعة، ألا وهي المجموعة الأبقراطية. وفيها بحوث عن جميع النواحي النظرية والعملية في الطب؛ وتعد أهم مصادر الطب الإسلامي.
واحتذى إبنا بقراط وصهره وبعض تلاميذه من بعده حذوه وترسموا خطاه في بحوثهم الطبية. وأضاف إليها أفلاطون وأرسطوا بنظرتهما الفلسفية آراء في كليات الطب. ثم ظهرت في المدن وبعض الجزر اليونانية مجامع أو حلقات مهمة لدراسة الطب. وبرز كثير من الأطباء الكبار في هذا المجال وكانوا جميعاً مع تفاوت في الدرجة من شراح مؤلفات بقراط وآثاره إلى أن أصبحت الإسكندرية مركزاً للعولم الطبية اليونانية، وأجيز تشريح جثث الموتى وتقدم علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء تقدماً كبيراً.
فالإسكندرية كانت بالنظر لموقعها الجغرافي وماضيها الاجتماعي محل اختلاط شتى القبائل والأقوام الإفريقية والآسيوية والأوربية وكانت من أهم المراكز الاجتماعية والثقافية في الدنيا القديمة، لذلك تجمع فيها معارف مختلفة من مصادر شتى أضيفت هذه كلها إلى طب بقراط.(776/22)
وقد انتشر طب اليونان بين الروم أيضاً، وكان معظم القائمين بمزاولة هذه المهنة من اليونانيين أنفسهم إلى أن ظهر في القرن الثاني للميلاد، أستاذ عظيم آخر في عالم الطب، وهو جالينوس. أجل، كان ناك في الحقبة الواقعة بين عصر أبقراط وعصر جالينوس عدد من كبار الأطباء أمثال تيوفراست ودبيكلس وسلس وديوسقوريدوس وبليناس الحكيم , وكاليوس أورليانوس وارته وغيرهم. وقد أضاف كلٌّ منهم شيئاً جديداً إلى المعارف الطبية القديمة كما أظهر بعضهم نظريات حديثة أحياناً. غير أن أساس الطب بصورة عامة لم يتغير عما كان عليه في زمن بقراط، إلى أن ظهر جالينوس العظيم من برغامس وهو من يوناني آسيا الصغرى، فكان الشخصية الطبية العظيمة الثانية بعد بقراط.
لقد تلقى جالينوس دروسه الأولى في مسقط رأسه، ثم استمر في تلقي العلم في جزيرة كورينتس ثم رحل إلى الإسكندرية، فتلقى فيها الطب علماً وعملاً، ثم شدَّ رحاله إلى جزيرة قبرص وجزائر أخرى من جزائر البحر الأبيض المتوسط وفلسطين، وكانت رحلاته كلها للدرس والبحث عن الأعشاب الطبية والاتصال بعلماء تلك البلاد، ثم عاد بعدها إلى موطنه ومارَس مهنة الطبِّ هناك مدة، ثم استقرَّ به المقام في روما وأسس فيها حلقة لدرس الطب في حِمى مارك أورل.
وكان عالماً محباً للعلماء والفلاسفة واشتغل أيضاً بمزاولة الطب هناك، وكان يقوم في نفس الوقت بتربية جماعة من تلاميذة كما كان يقوم بتأليف مؤلفات مهمة في علم الطب أصبحت فيما بعد مصدراً من أهم مصادر الطب الإسلامي.
وكان جالينوس يعد بصفة خاصة أستاذ علم التشريح غير منازَع مدى أربعة عشر قرناً، أي من القرن الثاني للميلاد إلى القرن السادس عشر منه. وكان جميع أطباء القرون الوسطى ومن ضمنهم الأطباء المسلمون يدرسون التشريح عن طريق مؤلفاته، حتى ظهر في القرن السادس عشر للميلاد الطبيب البلجيكي الشهير فزال من علماء التشريح الكبار مؤلف في التشريح برهن فيه على وجود نقائض في تشريح جالينوس فأسقطه من الاعتبار. والخلاصة أن اليونانيين وضعوا أساس علم الطب بالاستعانة بمعارف سائر الأمم وتجاربهم. ومن أهم رجالهم في هذا الصدد بقراط العظيم الذي أقام بحوثه على أساس البحث والتحليل والنقد العلمي والتجارب، فأبرزه لنا بصورة علمية صحيحة؛ وسعى خلفاؤه(776/23)
من بعه في هذا البناء على تلك القواعد المتينة. ثم تقدمت الدراسات الطبية في الإسكندرية؛ وظهر بعد ذلك جالينوس في القرن الثاني فدون معارف العلماء المتقدمين وأظهرها بصورة علمية منظمة واضحة.
وقد تهيأت مقدمات سقوط امبراطورية روما الغربية نتيجة لضعفها وفساد الإدارة فيها وحدوث حوادث اجتماعية وسياسية مختلفة، ووقوع حروب وتفشي أمراض، ثم سقطت تلك الإمبراطورية، ونتج عن سقوطها أن مراكز العلم والحضارة أصبحت هدفاً لهجوم القبائل البربرية؛ إذ أن هؤلاء البرابرة انحدروا من جبال الإلب واستولوا على إيطاليا، وكان من جراء ذلك أن العلوم والفنون ومن ضمنها الطب لم تتوقف عن التقدم فحسب، بل عادت القهقري ثانية، واستولى على الطب السحر والشعوذة والدجل والخرافات، وحلت التمائم والعزائم محل العقاقير والأدوية الطبية مرة أخرى.
ولم يكن انتشار الدين المسيحي واعتناق الناس له بصورة رسمية في روما الشرقية - الامبراطورية البيزنطية) مشجعاً للعلماء إذ أن الكنيسة كانت تعتبر العلم والفلسفة مخالفين للشرع نوعا؛ ما لذلك قامت بسد أبواب المدارس والقضاء على المجامع العلمية واعتبرت العلماء والفلاسفة كفرة مارقين عن الدين. ففي القرن الخامس للميلاد مثلا أغلقت الكنيسة أبواب مدرسة الرها (أوس) وكانت قائمة محل أورفة الحالية - وطردت منها النسطوريين فرحل جماعة منهم إلى إيران والتجأت إليها، وكان لبعضهم فضل كبير في تقدم مدرسة جندي سابور. وكان هؤلاء - النسطوريون من اتباع نسطوريوس أسقف القسطنطنية الذي نفي منها بناء على طلب المجامع الدينية بتهمة الابتداع في الدين، والذي مات حوالي سنة 440 ميلادية بمصر، وتفرق معظم اتباعه وتلاميذه في بلاد سورية وبين النهرين وإيران وعاشوا فيها ونشروا الحضارة اليونانية في أرجائها وفي سائر بلاد الشرق بترجمتهم للمتون اليونانية إلى اللغة السريانية (الأرامية الحديثة) وتأسيسهم المدارس في (الرها) و (نصيبين) وبعض المدن الأخرى، واشتغال بعضهم بتدريس العلوم المختلفة كالرياضيات والفلسفة والطب وغيرها في مدرسة جند يسابور. وفي القرن السادس للميلاد عندما طرد الفلاسفة الوثنيون الأفلاطونية الحديثة من الأسكندرية بناء على أمر الامبراطور جوستنيان الأول واضطهدوا أولى هؤلاء وجوههم نحو بلاد المشرق وانضموا إلى(776/24)
النسطورين. وانضم إليهم كذلك جماعة من اليهود والأقباط ممن كانوا على اطلاع واف على علوم اليونان وقاموا جميعاً بنشر العلوم والمعارف اليونانية ومن جملتها الطب في بلاد الشرق.
هذا مجمل تطور الطب قبل الإسلام ذكرنا مقدمة لما نريد أن نبسط فيه القول فيما بعد. وبعد هذه المقدمة ليس في وسعنا أن نفهم بصورة جلية كيف كانت حالة هذه العلوم عندما اتجه نحوها المسلمون وبأية درجة كانت في متناول أيديهم، وما مبلغ اقتباسهم منها؛ وأخيراً ما هي الخدمات التي أسداها المسلمون لتلك العلوم وكيف أسديت إليها.
(يتبع)(776/25)
الأحلام
بين التأويل الفلسفي والتعليل العلمي
للأستاذ عبد العزيز جادو
(إنما نحن كالمادة التي صنعت منها الأحلام) قولة قصد بها شكسبير دون شك، المساعدة على أيضاح لغز الوجود. ولن السرّ تحوَّل فقط من (نحن) إلى (المادة التي تصنع منها الأحلام). فما هي مادة الأحلام؟
منذ بداية القرن الحالي، أجاب كثيرون عن هذا السؤال كلٌّ بما يعتقده صواباً. وأحدث نظرية نعرف أنها تتعلق بهذه المادة التي تصنع منها الأحلام، هي التي قامت في الزمن الذي سجلته التوراة: كان الحلم نبوءَة؛ لذلك كان يحتاج إلى تعبير. ومن هذا الإعتقاد، نشأت أنظمة للتعبير متفاوتة في الإجادة والإتقان. فالتفسيرات أو التأويلات التي كان يستعملها سيدنا يوسف تبدو بسيطة نوعاً. فحِزَمُ القمح إذ تنحني تعبيرها أن إخوته يقدمون له الولاء والطاعة. ورؤيته الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، تنبئ بصورة ما، عن عظمته المستقبلة (يُوسُفُ أَيُها الصِّدَّيقُ أَفتِنَا فِي سَبْع بقرَات سِمانٍ يَأكلهنَّ سَبْعٌ عِجاف وَسبع سُنبلاتٍ خُضر وأُخر يابسات لعلي أَرجعُ إلى الناس لعلهمْ يعلمون. قال تزْرعون سَبْعَ سنين دأباً فما حصدتمْ فذرُوهُ في سُنبله إِلاّ قليلاً مما تأكلون. ثمَّ يأتي منْ بعْدِ ذلك سبعٌ شداد يأكلهنَ ما قدَّمتم لهنَّ إلا قليلاً مما تحصِنُون. ثمَّ يأتي منْ بعْدِ ذلكَ عامٌ فيه يُغاثُ الناس وفيه يُعصروُن)
إذن كان يوسُف أكبر مُفسر للحلم على أنه نبوءة من نبوءات المستقبل. ولكِنا سمعنا في الأربعين سنة الأخيرة عن شخص آخر - إسرائيلي كيوسف - كثير الكلام عن التأويل والتفسير - هو سيجموند فرويد.
وخلافاً لما يرى رجل الأحلام القديم من أن في الحلم نبوءة لأرادة الله، يرى فرويد أن في الحلم سجلاًّ للماضي، وأن فيه دليلاً أو إشارة إلى رغبة الحالم أو إرادته.
وقد تجرمت عشرات القرون بين الرجلين، وطال العهد بين الزمنين، ولكن لا يزال فهمُنا لمعظم الظواهر الطبيعية العامة كما هو لم يتقدم إلا يسيراً، وما أظنه سيتقدم ولو تقدمت بنا الأزمان.(776/26)
وإنه لحقٌّ أن كتب الأحلام ما زالت متداولة، ولكن منزلتها لا تتجاوز منزلة قراءة البخت بواسطة (الكوتشينة) أو الفنجان، أو قراءة الأخلاق بواسطة خطوط راحة اليد. فتفسير الأحلام قد انحط إلى درجة كبيرة.
وعندنا الآن نظريتان مشهورتان عن مسببات الأحلام: إحداهما عالجها هنري برجسون؛ والأخرى وهي التي سلفت الإشارة إليها عالجها فرويد. وكان لنظرية الأخيرة أهمية واعتبار أكثر مما كان للأولى، ويرجع هذا في الغالب، إلى أنها تكوِّن عنصراً هاماً في نظام علاج يعرف بالتحليل النفساني.
فبرجسون، كفيلسوف، يعالج الأحلام على أنها أحلام وحسب. وفرويد، كعالم، يهتم بها على أنها علامات أو دلائل للحالات العاطفية، والشئون الحيوية.
ومن رأينا أن كلتا النظريتين ضرورية، يجب الأخذ بها لتفهم أسباب جميع أحلامنا.
ولنأت هنا بعبارة مسهبة لبرجسون، لم بلباب النظرية، وتجمع أشتات الموضوع. يشرح فيها استمرار حواسنا أثناء النوم في استقبال التأثيرات والانفعالات؛ فالعيون سريعة التأثر بدرجات الضوء، والآذان تتأثر بالصوت، والجسم في مجموعه يتعرض للتأثيرات أو الانفعالات الخارجية. أما داخلياً فالأعضاء المختلفة أيضاً تسبب إحساسات للتسجيل، إحساسات مزعجة ربما تكون من الأعضاء الهضمية، أو من القلب، أو الرئتين:
الذكريات المكبوتة:
(وقصارى القول، أن في النوم الطبيعي، تكون حواسنا قطعاً قابلة لتأثيرات خارجية. . . وبعيد على إحساس حقيقي أننا نصنع حلمنا أو نلفقه؟ إذن كيف نلفقه؟. .
(إن ذكرياتنا، في لحظة معينة، تصوغ شكلاً هرمياً مجسماً تطابق قمته حاضرنا. . . ولكن، من وراء الذكريات التي تحشد في شغلنا الحاضر، وتظهر بوساطتها، يوجد أخرى غيرها آلاف وآلاف غيرها، تحت المنظر الذي قام الشعور بتدبيجه ووراءه. . . وإنها لتتوق أحياناً إلى الضوء: ومع ذلك فإنها لا تحاول أن تنهض إليه؛ لأنها تعرف أن هذا مستحيل، وإنني أنا، مخلوق حيّ ومتصرف، عندي ثمةَ شيء آخر أقوم بعمله غير إشغال نفسي بها.
(غلبني النعاس، إذن تلك الذكريات المكبوتة، التي تشعر بأني تركت العائق جانباً، ترفع المزلاج عن الباب السريّ الذي يُبعد بينها وبين حقل الشعور، وتبدأ في التحرك والثورات،(776/27)
ومن ثمَّ تنهض وتنتشر إلى الخارج - لتؤدي في ليل اللاشعور رقصة طيفية همجية. وتندفع إلى الباب الذي لا يزال (موارباً) وتتزاحم جميعها لاجتيازه. ولكنها لا تقدر؛ فهناك كثير، كثير جداً. من هذه كلها، على أيها يقع الاختيار؟. .
(سهل علينا الحدس والتخمين. الآن فقط، عندما نستيقظ كانت الذكريات المحتملة هي التي استطاعت أن تطالب بوصل موقفي الحاضر بإحساساتي المطابقة للواقع. . . وهكذا إذن من بين الذكريات الطيفية، ذكريات تتوق إلى وزن نفسها مع اللون، والصوت. وبالاختصار مع المادية، تلك الذكريات التي تعقبها هي التي يمكنها أن تماثل لون التراب الذي أحسه وأراه، والضوضاء الخارجية أو الداخلية التي أسمعها، وغيرها. . . فعندما يحدث هذا الاتحاد بين الذاكرة والإحساس، فإنني أحلم.
(الأحساس عنيف حار، ملوَّن، فيه ذبذبة، وهو في الغالب حيّ، ولكنه غامض؛ والذاكرة واضحة وصافية، ولكنها بدون مادة ولا حياة لها.
الإحساس يتوق إلى قالب يجمِّد فيه ميوعته؛ والذاكرة تتوق إلى مادة تملأها وتدركها - وبالاختصار لتستوعبها. فهما منجذبان كلٌّ إلى الآخر؛ والذاكرة الطيفية، يجعلها نفسها مادية في الإحساس الذي يمدها باللحم والدم، لتصبح مخلوقاَ يعيش في حياة من حيواتها، حلم. . .
(ميلاد الحلم إذن ليس سراَ. . . فما الفرق الجوهري بين الكينونة في حلم والكينونة في يقظة؟ نجعل الكلام في ذلك بأن القوى العقلية ذاتها قد تمت ممارستها، سواء كنا في حالة اليقضة، أو في حالة الحلم؛ ولكنها تتوفر في الحالة الأولى، وتسترخي في الثانية. والحلم هو الحياة العقلية الصحيحة، ناقصة جهد التركيز).
هنا نرى أن نظرية برجسون الملخصة في هذه الكلمات، بسيطة غاية البساطة. عنصران يشتغلان لتلفيق حلم: إحساس، ووضع صورة منسوج حولها بوساطة الذاكرة، ضوء يومض من نافذتي بينا أكون نائماً؛ فتنسج ذاكرتي حول هذا الإحساس بالضوء قصة معقولة ومقبولة. هذه القصة أو هذا التعليل هو حلمي
كثير من الأحلام المألوفة لدى معظمنا يمكن أن تفسر على ضوء هذه النظرية. قد نحلم بأننا مسافرون بقارب في البحر، وتحدث بعض طوارئ صغيرة لها صلة بالمغامرة، ولكن العنصر السائد هو برودة الهواء. فنحن شاعرون ببرودة كما لو كنا مسافرين بالبحر.(776/28)
ونستيقظ فنجد أن غطاءنا منزلق عن السرير، الأمر الذي نالنا منه برد شديد.
أو أننا قد نرى حلماً من تلك الأحلام التي نعيش فيها كما لو كنا في نعيم؛ كأن نكون مثلاً محلقين بلطف وبشكل توقيعي في أجواء الفضاء الفسيح. وإنه لبسيط كما أنه ممتع، فماذا علينا لو قلنا لأصدقائنا كيف يعملون مثلنا؟ ولكن للأسف، لقد فقدنا اللعبة حالما استيقظنا من النوم. والتفسير الصائب المعقول حسب نظرية برجسون ليس إلا نسمة في الغرفة قريبة منا تداعب الفراش أو قميص نومنا ذاته. ولكن أرجلنا لم تستند على الأرض، فنشعر في غير وضوح بهذه الحقيقة. ولا يمكن أن نكون سائرين فتفعل ذاكرتنا الباقي، إذ تؤلف القصة، ونرى أنفسنا طائرين. والاعتقاد بأن ما نأكله يؤثر في الغالب في أحلامنا ولاسيما في جعلها غير سارَّة، يتصل تقريباً بهذه النظرية. والإحساس في هذه الحالات هو المضايقة التي يسببها عسر هضم ينشأ من أكلة ثقيلة.
ولنرجع الآن إلى الرجل الذي قلب نظام الاتجاه نحو الأحلام؛ ليس هذا مجال الأشارة إليه إلا فيما يتعلق بما مضى، والتأثير الهائل الذي له على الفكرة اليوم؛ العبارات والتعبيرات التي أبدعها موجودة تقريباً في كل ما يتصل بآداب العصر الحاضر؛ والمواد التي كتبت مرة لتبرهن على أنه كان ذا تأثير في الأدب غير مرغوب فيه، مهنته العلاجية استعملت لكي تكون ضد اختيار طرائفه في التدريب. ولكن تأثيره لا يزال مستمراً سواء كان للخير أو للشر.
كثيراً ما نظن عن الحلم أنه مشوش ومقلق لنومنا، ولكنه بالنسبة لنظرية فرويد يُعد بمثابة حارس. فالحلم يقي النائم من الاستيقاظ، سواء بواسطة منبهات خارجية لحواسه، أو بواطسة منبهات داخلية تهيئها انفعالات، أو أفكار غير سارَّة. ومثل الحلم كمثل أم تقول لطفلها الذي تعرف أن أصواتاً أو مشاهد غير عادية تخفيه (لا تخف، إنه لم يكن إلا الهواء يداعب الأغصان)
كل حلم يعبر عن رغبة:
لكي نفهم هذه النظرية على حقيقتها يلزمنا أن نضع نصب أعيننا بضع قواعد ثابتة: كل حلم يعبر عن رغبة، والحلم الرمزي هو إشباع مستتر لرغبة مكبوتة. وفي الأحلام ننال ما تصبو إليه نفوسنا أخيراً، ولكن - (ليس هناك حلم واحد لا يمكن أن يظهر بواسطة التحليل(776/29)
ليعتدي على بعض قوانين أخلاقية أو شرعية) وإن التشبث والإصرار على هذين المبدأين هو الذي يسبب - في الغالب - ذلك السخط على فرويد. ولا نرى في الحقيقة سبباً للانزعاج أو الشك في هذه البيانات.
ومن المحقق أن أي شخص متأمل، أمين في تأمله، سيعترف بأنه غالباً ما يتمنى امتلاك ما ليس في حوزته، ويرغب في حوادث وعواطف يعرف أنها مطابقة لسبل حياة الزمن الحاضر ولا يمكنه امتلاكها. وما نسميه رغباتنا الشرعية أو القانونية لا نبكبتها بل نعبر عنها ونصرّح بها، ونحاول أن نحصل عليها أو على الأقل نسمح لها ببعض الأشتراك في حيواتنا. وإن مجرد الرغبات في الأشياء الممنوعة هي التي نخرجها من عقولنا، ظناً منا أننا بعملنا هذا قد نحوناها وحطمناها. ولكن هذا يبدو مريعاً ومبهماً.
وإنها لتبدو أقوى بنوع ما مع القوى الخبيثة المكتئبة. وستجد طريقها إن لم يكن في حياة يقظتنا إذن ففي نومنا.
نحتاج فضلاً عن ذلك إلى أن نفهم أن هناك محتويين لكل حلم، كما كانت آراء المفسرين مثل يوسف. فهناك المحتوى الحرفي أو الظاهر، إذ تحلم بحصان شرس. والمحتوى المجازي أو الكامن في مثل هذا الحلم، هو التعبير عن رغبة جنسية غير قانعة طبقاً لتفسير فرويد.
والمعنى الكامن كثيراً ما يبدو للحالم محرَّفاً، أو متنكراً لكي يستطيع المرور من (الرقيب) الذي يدل عليه اسمه، والذي يحاول في النوم دائماً أن يُخفي العناصر غير المناسبة عن عقولنا. هنا يأخذ فرويد على نفسه مسئولية ما ذكرناه آنفاً بأن جميع رغباتنا المكبوتة مخجلة وفاضحة لنا كمتمدينين، فهي في النوم لا يمكن أن تظهر بدون تحريف. فيلزمها إذن أن تتقنع
تأويل بسيط:
هنا الكثير مما يشمئز منه الشخص المحافظ على التقاليد، ويحجم عن قبوله، ولكن حينما يبدأ التأويل يكون هناك الرفض العنيف، أو الإستخفاف، أو السخرية من قبَل الكثير، لماذا تكون الحية والشمسية وسيقان الورد المستقيمة وغيرها من الأشياء البريئة لماذا تكون في الأحلام رُموزاً للأعضاء المستترة من جسم الإنسان؟ ولماذا يكون الحلم الذي فيه خيل،(776/30)
على وجه التخصيص، وأحياناً أنواع أخرى من الحيوان، أو الحلم بصعود سلالم، أو السير فوق ممر من تحته ثغرة واسعة، لماذا تكون هذه الأحلام (المقلقة) رموزاً لرغبة جنسية لم تشبع؟.
يجب أن يُفهم تماماً أن هذه الرموز لم يخترعها فرويد، ولم يذكرها بطريقة اعتباطية، ولكنها اكتشفت فقط. ومنبعها في لا شعور الفرد أو الذرّية. ولقد حلل فرويد وأتباعه آلافاً وآلافاً من الأحلام.
وفيما يلي نقتبس عبارة لبريل أتى فيها بحلم وتعليله، أو بالأحرى، بمعنييه الظاهر والباطن.
(حلمت إحدى مريضاتي أنها رأت ولدها الأكبر مُكفناً في تابوت، وكانت مع ذلك غير مكترثة به قط. ولما قيل لها إن الحلم يقوم إشباع الرغبة أصرَّت على أن هذه النظرية خاطئة، إذ أنها لا تضمر أي رغبة كهذه بخصوص ابنها. ومع ذلك فقد أظهر التحليل النفساني الحقائق التالية:
مات زوجها تاركاً لها طفلين؛ ثم تزوَّجت من أرمل له هو أيضاً طفلان. وكان الزوجان سعيدين، ولكن نظراً لأن لهما أربعة أطفال فإنهما لا يستطيعان القيام بتربية من يأتي بعدهم. وكثيراً ما أعربت الزوجة عن رغبتها الأكيدة في الحمل من زوجها الثاني لكي تقوي الرابطة بينهما، ولكن وجود أربعة أطفال في الأسرة يعوق هذه الرغبة. فالحلم يشبع رغبتها بأن يريها أن في الأسرة ثلاثة أطفال وحسب).
عبد العزيز جادو(776/31)
القول للسيف
للأستاذ حسني كنعان
يتساءل عشاق الأدب من قراء (الرسالة) المجاهدة في وسط هذه الغمرة العاتية التي تغمر سماء فلسطين الدامية أين هو الأستاذ الطنطاوي وأين قلمه العذب ومقالاته النارية وقوله الفصل؟ لماذا توارى عن المسرح ولم نعد نرى له أثراً في أزالة الغمة وتفريج الكرب بما كان يكتبه عن البلاد العربية كلما حزب الأمر وبلغ السيل الزبى والحزام الطبيين، فكأن السائلين حفظهم الله وأنساً في آجالهم يظنون أن القضية قضية أشعار تقرض ومقالات تنشر وأقوال تقال وقرارات تقرر واجتماعات تعقد ورجالات من الساسة اليعربيين تطير متنقلة بين العواصم العربية للمشاورة والداولة، وقد غرب عن بال السائلين أن العالم العربي يأسره جماعاته وأفراده قد سئم هذا النوع من الجهاد وبات يرقب الأعمال الحاسمة، أجل لقد برم الناس من سياسة الأقوال وباتوا يرقبون الأعمال الجدية فالقضية اليوم قضية دولارات تنثر، وطائرات ترجم، وزحافات تقذف وقنابل تفتك ومتفجرات تبيد وتهدم، لقد ظن العرب وإن بعض الظن اثم، أن هؤلاء الواغلين في أقدس بقعة من بقاع الأرض العربية، هم من أنسال أولئك اليهود الذين عهدناهم يجوبون الحارات والأحياء ويذرعون الشوارع سحابة يومهم لا ينى الواحد منهم عن الصياح يملء فيه: (طرابيش عتق للبيع، أحذية عتق للبيع) ليتبلغوا بهذه التجارة المحطة بلغ العيش، فتحلقهم صبيه الحارات والأحياء ترجمهم بقشور البطيخ والليمون والبرتقال إستخفافاً بأمرهم واستهانة بهم. . .
كلا يا ساده! فنحن أمام عصابة من الأوروبيين المدربين على القتال والإجرام والفتك نساء ورجالا أطفالا وكهولا. قاءتهم أوروبا وبعثت بهم الدول الاستعمارية للعيث في أرضنا فساداً. قوم خلق منهم الاضطهاد الهتلري أمة ناقمة على البشرية متمردة متعطشة للدماء والفتك والدمار. لا ترعى عهدا ولا ذمة. غشيت سماء الوطن المقدس من هذه الطغمة سحابة دكناء أثاروها على العزل الآمنين الوادعين في فلسطين موجة إرهابية جنونية لا هوادة فيها ولا رحمة. بقروا بطون الحبالى وذبحوا الأطفال وقضوا على الأجنة ومثلوا بالكهول والعاجزين. ولقد ركبوا في حوادث حيفا وطبرية ويافا وغيرها من المدن والقرى التي أوغلوا فيها رؤوسهم وجن جنونهم فتفننوا في الذبح والتقتيل والتشريد والتبعيد والنهب(776/32)
والسلب، وحمتهم في إجرامهم وعضدتهم سيدة البحار صديقة العرب التقليدية! أجل مهدت لهم هذه الدولة الأفعوانة الرقطاء طريق الغزو ومنعت العرب من الدفاع عن أنفسهم وحالت دون الوصول إليهم. . . إن العين لتدمع والفؤاد ليبكي دماً على ما ألم بأهل فلسطين من مصائب وإحن، كوارث أحدقت بهم تتضاءل أمامها كارثة الأندلس. خرجوا من ديارهم مروعين مذعورين لا يلوون على شيء، فلا الأب يعرف أين بنوه، ولا الإبن يعرف مصير أبويه تركوا في المدن المحتاجة أموالهم وأملاكهم وخرجوا على الشاطئ ناجين بأنفسهم. ولقد نيف عدد النازحين على المئين من الآلاف. وصلت طلائعهم من الكتل البشرية إلى دمشق وهم على آخر رمق يجودون بدمائهم، تتراءى لك المسغبة والمتربة والمذلة والمهانة في تقاسيم وجوههم التي تحمل الأنوف الشماء والحمية والعزة والكرامة، قوم شردهم البغي والظلم (الانكلو صهيوني) والغدر والمؤامرات الدنيئة فحلت بهم المصيبة التي تركت الرءوس بيضاً، وبيض الوجوه سوداً، لا تنفع معها شكوى ولا يجدي أنين. كل هذا وقع على مرأى ومسمع من الدول الغربية التي يتشدق زعماؤها ورؤساؤها بالسلام والوئام. والدول العربية ما فتئ رجالاتها عاكفين على القرارات والمداولات والمشاورات ولا نقول إنهم قد أخذوا غدراً ووقع الذي وقع وهم في غفلة عنه، فلقد كان هذا الأمر متوقعاً حدوثه منذ عهد بلفور المشئوم فما أعدوا له عدة، وما أقاموا له وزناً. وها هم اليوم يتحينون فرصة زوال الدولة الطاغية عن الأرض المقدسة وزوال نفوذها وسلطانها ليقفوا في اليوم الموعود أمام شذاذ الآفاق يناقشونهم الحساب، ويثأرون لبني سحنتهم ونحلتهم منهم، وتلك الدولة تخادع وتماطل ونطاول في الجلاء وتلف وتدور، كيما يتظل مسيطرة وباسطة سلطانها لتتم الوعد الذي قطعته على نفسها لإقامة الدولة الصهيونية. أفبعد الذي حصل نطلب من الأستاذ الطنطاوي والسرطاوي أن يخوضا غمار معركة قلمية في هذا السبيل والحكم فيه للسيف كما ترى؟ فأين هي السيوف العربية؟ واين هم الضاربون بها؟ وأين القوى والعتاد؟ نسأل الله السلامة والعافية للقطر الشفيق وأزالة المحنة والغمة عنه، كما أننا نسأله ونتوسل إليه أن تنقلب أسنة هذه الأقلام المرهفة في أيدي أصحابها إلى دبابات، وطيارات ومدافع، وقنابل ومتفجرات تأتي على جذور الصهاينة من أساسها؛ عندئذ يرى أستاذنا الزيات وصديقنا الطنطاوي وطه والعقاد والمازني وأحمد أمين وغيرهم من كبار(776/33)
كتابنا في طليعة القادة اليعربيين الذينيرفعون رايات العروبة رفافة خفافة على المجاهدين الأعالب، ويعيدون أمجاد العرب.
(دمشق)
حسني كنعان(776/34)
ماذا تعرف عن السودان؟
للأستاذ إيليا حليم حنا
قطر جميل بطبيعته الفطرية، غني بموارده الكثيرة التي لم تستغل. مساحته أكثر من ثلاثة أضعاف القطر المصري ويبلغ سكانه نحو ثمانية ملايين نسمة.
سكان النصف الشمالي منه عرب مسلمون شديدو الاعتزاز بأصولهم، حتى أنك عندما تسأل أحدهم عن جنسيته لا ينسب نفسه إلى القطر كله بل إلى قبيلته.
أما سكان الجنوب فهم زنوج، لهم رطانات عديدة ومعظمهم وثنيون عراة الأجسام.
ولا تختلف مظاهر الحياة في السودان كثيراً عنها في صعيد مصر بل تتفق في كثير من التقاليد واللهجة مع الفارق في الملبس الذي يتكون من عمامة بيضاء وجلباب أبيض.
أما الموظفون فيلبسون الملابس الأفرنجية والقبعة ويسمح لهم بلبس الجلاليب والعمائم البيضاء في مكاتب الحكومة.
والنساء في المدن محجبات يخرجن مؤتزرات بملاءات خفيفة بيضاء اللون غالباً، ولا يظهر هذا الرداء من أجسامهن شيئاً غير أعينهن. وزيارتهن لبعضهن تكون بعد غروب الشمس عادة.
والمرأة السودانية على جهلها تلمح فيها ذكاء فطريا وروحاً خفيفا؛ وهي تقدس الشجاعة في الرجل، فإن جبن مرة فمعنى هذا عندها أنه تجرد من رجولته وهو في هذا الحالة يفضل الموت على وصمة العار هذه.
والسوداني شجاع لا يعبأ كثيراً بالآلام بل يستسيغها في سبيل الاعتزاز بالنفس والكرامة؛ وهو كريم إلى حد كبير، مضياف يصل كرمه إلى حد الاسراف، كما أنه ديمقراطي بطبعه يخالط ويجالس من هو أقل منه في الجاه والمركز الاجتماعي. فالعظيم والحقير كلاهما لا يرى للفوارق وجوداً. والسودانيون لا يعبأون بالألقاب؛ ويلذ لهم أن ينادي بعضهم بعضا بالاسم المجرد. والشخص العادي إذا تحدث عن كبير في المركز الاجتماعي يقول (فلانا) بدون لقب، ولكنه لا يجرد من لقبه في سياق الحديث رجل الدين أو الرجل المسن.
والسودانيون يبذلون كل ما في طاقتهم لتعليم الأبناء حتى أن هذه الرغبة القوية جعلت المدارس الموجودة اليوم لا تكفي حاجة الجميع. وهم لا يرون أي غضاضة في أن يبعثوا(776/35)
ببناتهم إلى المدارس الأولية؛ ولكن فئة قليلة جداً ترسلهن إلى المدارس الوسطى؛ لأن الفتاة عندما تصل إلى هذه المرحلة من التعليم تكون غالباً في طور المراهقة.
والحكومة مهتمة بالتعليم الأولى أكثر من اهتمامها بالتعليمين المتوسط والثانوي. وعدد المدارس الوسطى (الابتدائية) الحكومية والأهلية في السودان كله 23 مدرسة للبنين، ومدرستان ثانويتان حكوميتان، وواحدة أهلية. ما عدا المدارس المصرية والتابعة للجاليات المختلفة.
والشاب السوداني الآن يقبل على التعليم برغبة صادقة، ويرى أنه الوسيلة الوحيدة التي توصله إلى الرقي المنشود وتحقيق الأماني القومية.
والأمن مستتب في السودان على رغم قلة رجال الحفظ؛ وهذا يرجع إلى أن السوداني ليس شريراً بطبيعته. ويدهشك أن ترى المساجين يسيرون ووراءهم رجل البوليس وهم غير مقيدين بأغلال. وبعضهم يشتغل بخدمة الموظفين الحكوميين بأنمنونهم على متاعهم وأرواحهم. والغريب أنهم لا يفكرون في الهرب وهم مطلقو السراح. . .
والحياة الاجتماعية تختلف باختلاف المدن، فالمدنية تكاد تكون غربية في العواصم مثل الخرطوم، وشرقية في المدن التي أكثر سكانها من الوطنيين مثل أم درمان اما أهل الجنوب الزنوج فتكاد تكون معيشتهم فطرية.
أما المعيشة فاللحوم والطيور والأسماك رخيصة جداً. ويبلغ ثمن أقة اللحم الضأن عشرة قروش. ويوجد من الخضر ما يوجد في مصر، ولكن أسعارها هي والفاكهة أكثر ارتفاعاً. وهنا أزمة مساكن أشد مما هي في مصر والايجارات أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب.
أما جو السودان فإنه جميل جداً في مدى ثمانية شهور، فمن نوفمبر إلى منتصف ابريل جفاف واعتدال، وهذا هو وقت الشتاء. ويبدأ الحر من أواخر إبريل إلى أواخر يونيو، ولكن عندما ترتفع درجة الحرارة تسقط الأمطار فتلطف الجو. أما يوليو وأغسطس فإنهما أجمل الشهور في السودان: جو ممطر منعش وطبيعة ساحرة فاتنة. ولا أغالي إن قلت إن الجو خلال هذين الشهرين لا يقل عن جو الأسكندرية صيفاً، ويمتاز عليه بالأمطار الملطفة. وتنقطع الأمطار في سبتمبر. وقد يسقط فيه مطر خفيف يسميه الأهالي (الرشاش) أو مطر (البُخَات) أي السعداء لأنه قد ينزل في مزرعة ولا ينزل في نفس الوقت في(776/36)
المزرعة التي تجاورها تماماً. وخلال سبتمبر حتى معظم أكتوبر يكون الجو مشبعاً بالرطوبة اللطيفة، وتكثر في الهواء الحشرات المختلفة الألوان والأشكال وهي غير ضارة. . .
والطبيعة في السودان فاتنة جذابة؛ فهناك أرض الجزيرة بأقطاها ومحصولاتها المختلفة، وفي كروفان تتجلى البداوة بإبلها التي تسير على الكثبان الرملية الصفراء والابقار والأغنام والماعز في مراعيها الجميلة التي تنبتها الأمطار؛ والجنوب بمياهه التي تنساب في الوديان صاغية تنبت الخيرات وتجعل الأرض جنة بما فيها من الثمار المنوعة المتوافرة وغيرها من خيرات الله الوفيرة التي لو استغلت لجعلت السودان من أغنى الأقطار.
هذه لمحة خاطفة عن السودان غرضي منها أن يتعرف أبناء وطني حقيقة هذا الشطر الجنوبي من وادي النيل الذي نجهل عنه المصريون الشيء الكثير.
الأبيض_السودان
إيليا حليم حنا
دبلوم عال في التربية
دبلوم صحافة(776/37)
البدر
للأستاذ عتمان حلمي
قل لي إذا اسطعت أيها البدر ... هل لك سر وما هو السر
ظلت من أول الزمان على ... صمتك لم يفش سرك الدهر
مستبشر الوجه في العيون إذا ... رنت وفيها الرجاء والبشر
أو عابساً في عيون من عبسوا ... أو ساخراً عم نورك السخر
كنت مع الأولين في زمن ... ولى وولوا فما لهم ذكر
وأنت في الآخرين ترمقهم ... بمقلة ملء لحظها حِذْر
باق على الدهر ما لسعيك من ... نهاية في السرى ولا عصر
وعمرك الدهر في الوجود ولو ... أن المدى في حسابنا شهر
تمر في رجعة فما لهمُ ... مروا ولم يرجع الألُي مروا
أبليت في الأرض من مررت بهم ... ولم تزل أنت أنت يا بدر
كم عاشق سره ضياؤك إن ... أساءه من حبيبه هجر
ناجيته في ظلام وحشته ... نجوى ضريب أضره الفكر
وشاعر هام من ضيائك في ... خياله واستخفه الشعر
سمعت في البعد همس مهجته ... بكل ما قد أجنَّه الصدر
وكاد من فرحة ومن طرب ... يجن سكراً وما به سكر
أشعت من نشوة السرور به ... بالنور ما لا تشيعه الخمر
في مقلتيك اللتين أبصرتا ... كل تليد وطارف ختر
عند ابتسامي أرى ابتسامهما ... وشع في الذعر منهما الذعر
قل ليَ كم شامخ مررت به ... أصابه بعد رفعة حَدْر
هوى وران الثرى عليه ولم ... يبق لَعمري لأمره أمر
سيان في الأرض روضة أُنف ... لديك إما مررت أو قبر
ألم ترعك القبور صامتة ... وقد غدت ما لعدها حصر
وأنت في وحشة تمر على ... رُقودها والرقود لم يدروا(776/38)
ما بالهم طال ليلهم وأبى ... من طوله أن يعوده فجر
وما لهم قد رضوا برقدتهم ... وهل لهم في رضائهم عذْر
يا هول سر ظللت تكتمه ... عنا ولم يفش سرك الدهر
عثمان حلمي(776/39)
الأدب والفنّ في اسبُوع
(اليونسكو)
يزور مصر الآن الدكتور جوليان هكسلي المدير العام للمؤسسة الدولية للتربية والعلوم ولاثقافة (المعروفة باليونسكو) وقد حضر إلى مصر يعد زيارة طويلة لسائر البلاد العربية وتركيا وإيران، حيث اجتمع بهيئاتها الثقافية والتعليمية تمهيداً للمؤتمر القادم لهذه المؤسسة الذي سيعقد بلبنان في اواخر هذا الصيف.
وقد ألقى الدكتور هكسلي محاضرة عن (اليونسكو) وأغراضها في الجمعية الجغرافية يوم الأحد الماضي، فبين كيف نشأت فكرتها والمراحل التي مرت بها إلى الآن، قال إن فكرة المؤسسة نبتت في لندن خلال الحرب، إذ رأى جماعة من رجال التعليم والثقافة من مختلف الأمم أن يقوموا بمجهود فكري لتحقيق السلام العالمي، ورأو أن السبيل إلى ذلك هو العمل على تآلف الثقافات لإزالة الريبة بين الشعوب، لأن أسباب الحرب تنشأ في الذهن فلابد من التقريب بين الأذهان والعقول ليتحقق حسن التفاهم والإخاء. ولما انعقد مؤتمر سان فرنسيسكو في سنة 1945 وتباحث بعض أعضائه في شئون التعليم - نص في ميثاقه على إنشاء مؤسسات للعناية بمشاكل التربية، تكون مستقلة مع بعض الاتصال بهيئة الأمم المتحدة.
وقد انعقد مؤتمر الهيئة العام لأول مرة بباريس في العام الماضي، فقرر السعي لإصلاح بعض نظم التربية في بعض الدول، قصد الوصول إلى التعاون الفكري الصحيح، وكان من قراراته:
1 - تنظيم حملة عالمية للقضاء على الأمية بتحديد المستوى الأدنى للتعليم في جميع الأمم.
2 - تنظيم بحوث عالمية للكشف عن الدوافع النفسية والاجتماعية التي دفعت العالم إلى التطاحن في الحرب العالمية.
3 - العمل على إزالة الحواجز المانعة من التعاون الفكري بين الأمم المتنافسة.
الدكتور هكسلي:
والدكتور هكسلي مدير (اليونسكو) في الستين من عمره، وهو كاتب وشاعر وعالم بيولوجي، له مؤلفات في العلوم والآداب والاجتماع، منها كتاب (نحن الأوربيين) الذي فند(776/40)
فيه نظريات النازي العنصرية تفنيداً يقوم على أسس علمية صحيحة، وله دراسات قيمة في مشورعات الإصلاح الاجتماعية. ومن آرائه في المشكلات العالمية أن الانتصار في الحرب لا يؤدي حتما إلى إنقاذ المدنية من الخطر الذي يهددها، وإنما الذي يكفل إنقاذها هو مقدرتها على إزالة أسباب الخوف والظلم واليأس، وهي تستطيع تحقيق هذه الغاية إذا وضعت نصب أعينها أن المجتمع البشري يتألف من كل لا يتجزأ تتوازن فيه الحقوق والواجبات وأن القيم الاقتصادية في هذا المجتمع يجب أن تخضع للاعتبارات الاجتماعية.
مصر و (اليونسكو):
وقد انضمت مصر إلى المؤسسة منذ نشأتها، فقد اشترك الدكتور محمد عوض محمد بك في اجتماعاتها الأولى بباريس، وكان له جهود كبيرة في وضع منهج العمل للجنة العلوم الاجتماعية إحدى لجان المؤسسة. ويمثل مصر الآن إلى مساعيه التي كللت بالنجاح في اعتبار اللغة العربية من لغات المؤسسة الرسمية. ولمصر في باريس مكتب أنشأته وزارة المعارف المصرية ليكون على اتصال دائم بسكرتارية (اليونسكو) فيبلغ الوزارة مشروعات الهيئة وبرامجها وما ترغب إطلاع الحكومة المصرية عليه من مقترحاتها وقراراتها، ويبلغ الهيئة ما تريد الحكومة المصرية إبلاغها إياه من مثل هذه المقترحات والقرارات.
للتعريف العالمي:
وقد رغب الدكتور هكسلي إلى معالي وزير المعارف، أن يزوده بأسماء الهيئات الثقافية والفنية والعلمية المصرية، حكومية وغير حكومية، وأسماء الشخصيات الهامة من علماء وأدباء وكتاب وفنانين، ممن يجب أن يعرفهم العالم.
وتعمل الآن في إعداد ذلك إدارة التسجيل الثقافي التابعة للادارة العامة للثقافة بوزارة المعارف.
الدكتور طه حسين:
كانت هيئة (اليونسكو) أرسلت إلى الدكتور طه حسين بك تدعوه إلى اجتماع لجنة ترجمة الآثار الأدبية العالمية الذي سيعقد في باريس ابتداء من 18 مايو الحالي. وقد سافر الدكتور طه يوم الخميس الماضي إلى فرنسا لهذا الغرض.(776/41)
مجلة الكاتب المصري:
وقد أعلن الدكتور طه في الأهرام قبل سفره، باعتباره رئيس تحرير مجلة (الكاتب المصري) - أن إدارة المجلة قررت وقف إصدارها (لأسباب لا تتصل بمحرريها ولا بقرائها).
وقد علمت أن دار الكاتب المصري ستتوقف أيضاً عن أعمال النشر التي تقوم بها إلى جانب إصدار المجلة، بعد أن تفرغ مما هي بصدده. وواضح من عبارة الدكتور طه (لأسباب لا تتصل بمحرريها ولا بقرائها) أن احتجاب المجلة قد يرجع إلى الناحية المادية.
ومن الإنصاف أن أقول أن إنتاج دار الكاتب المصري ومجلتها، لم يكن يختلف - من حيث اللون العام - عن إنتاج المجلات الأدبية ودور النشر الأخرى.
وقد أشار الدكتور طه في بيانه الوجيز إلى الملتقى بينه وبين القراء في ميدان آخر، ويقال إنه سينضم إلى مجلة أدبية شهرية أخرى، وقد يتولى رياسة تحريرها.
طريقة جديدة:
أعادت إحدى هيئات النشر والتوزيع، طبع كتاب (صندوق الدنيا) للأستاذ المازني، وظهرت في الصحف إعلانات عنه منوعة مختلفة الصيغ والأشكال، وجاء في أحدها للتمثيل على محتويات الكتاب:
(الجدة التي لبست مريلة وذهبت إلى المدرسة).
(حلاق القرية يحلق على الأرض للأستاذ المازني).
(أبو الخوارق وابن الزوابع يتضاربان على العمم).
(الشيخ الذي (زغزغه) المازني ففقد وقاره).
وهذه الطريقة في الإعلان مجدية فعلا في التشويق إلى الكتاب؛ ولإقبال الناس على مؤلف للأستاذ المازني أثره في التثقيف والانتفاع من القراءة الأدبية. ولكن متتبعا - مثلي - لشؤون الأدب والثقافة، لا يصح أن يغفل تسجيل أمر جديد كهذا. . . فقد كان مثل هذه الطريقة يتبع من قبل في مؤلفات ينادي عليها الباعة بمثل (المرأة التي أكلت ذراع زوجها!) دون أن يثبت مؤلفوها أسماءهم عليها.(776/42)
أما الجديد فهو الإعلان بمثل ذلك عن مؤلفات أدبية معروفة لأدباء معروفين كالمازني. ولست أعترض، ولكني - كما قلت - أسجل. . .
من طرف المجالس:
غشيت مجلس ثلة من الأدباء، فلاحظت أنهم إذا قدم عليهم قادم جديد، عرفه أحدهم باسمه، ثم يقول لأصحابه في شبه همس: أبو نواس! أو يقول: ابن الرومي!
ثم علمت أنهم اصطلحوا على ذلك، فإذا كان القادم من غير أهل الخير وليس من ذوي الوفاء فهو ممن يصفهم أبو نواس بقوله:
وقح، تواصوا بترك البر بينهم ... تقول: ذا شرهم، بل ذاك، بل هذا
وإن كان وفيا لإخوانه، فهو من أصحاب ابن الرومي القائل:
وخلين تما بي ثلاثة إخوة ... جسومهم شتى وأرواحهم معا
موافين أهواء توافت على هوى ... فلو أرسلت كالنبل لم تعد موقعا
إذا ما دعا منا خليل خليله ... بأفديك لبانا مجيباً فأسمعا
من طرف الإذاعة:
لست أدري لم عادت الإذاعة إلى ما كانت قد تركة من تقديم بعض الشعراء (المحبوبين لديها) ليقرأوا من أشعارهم! فقد سمعت أخيراً أحد هؤلاء يذيع قطعا قديمة مختلفة من شعره، ينتهي من قطعة، فيذكر عنوان أخرى ويلقيها، وهكذا. . فذكرني هذا الصنيع بما يفعله (شكوكو) حين ينتقل من (سلم لترماي) إلى (اللباريق) و (حسن أبو علي سرق المعزة)!!
وسمعت في حوار بأحد (البرامج الخاصة) من يقول: نحن ياسيدي قوم بدائيون! وهذا البرنامج أخرجه فلان الفلاني ووضعه فلان آخر، وبطبيعة الحال راجعه مراجع وأقره؛ فلم يتنبه أحد من هؤلاء إلى أن الذي يفهم أن هناك بدائيين وغير بدائيين - لا يصح أن يكون بدائيا!
أدب المناسبات:
كتب الأستاذ محمود تيمور بك كلمة في (الزمان) بعنوان (أدب المناسبات) قال فيها: (جرت(776/43)
أقلام طائفة من الكتاب على الغض من شأن القطع الفنية، بحجة أنها وليدة مناسبات كانت راهنة، وأكثر ما اتجهت إليه سهام هذا النقد شعر المراثي والمدائح ونحوها).
وناقش الأستاذ تيمور هذه القضية إلى أن قال: (والمقياس الصحيح للفصل في تلك القضية الأدبية أن الفنان بين حالتين:
(حالة قدرة على استحياء الموضوع أيا كان، واستجابة حقة للاستنامة الذاتية التي يحيا بها الموضوع في قرارة النفس. وفي هذه الحالة من القدرة والاستجابة ينجلي التعبير وتتبين مرتبته: غثاً كان أم سمياً.
(وأما الحالة الأخرى فهي حالة الحمل على النفس، وتكليفها أن تستشعر ما لا تحس، دون أن تكون منها استجابة، ودون أن تأذن للموضوع بأن يحيا بين حناياها حياة حقة. وفي هذه الحالة الأخرى يخرج التعبير سقطاً لا روح فيه، وفجا لا مذاق له، يبدو عليه أثر التصنع والكذب).
الفن المعاصر:
أقام جماعة من الشباب الفنانين المصرين، معرضاً لأعمالهم في التصوير والنحت بدار إدارة خدمة الشباب تحت رعاية معالي وزير المعارف، وقد افتتحه معاليه في الأسبوع الماضي، ويشرف على المعرض الأستاذ حسين يوسف أمين وهؤلاء الشبان (جماعة الفن المعاصر) هم: ابراهيم مسعودة، وكمال يوسف، وسمير رافع، وعبد الهادي الجزار، ومحمود خليل، وسالم عبد الله الحبشي، وماهر رائف، وحامد ندا، وهم جميعاً يتجهون بفن التصوير اتجاهاً جديداً يساير التطور الفكري وينتفع بالثقافات الحديثة، فلم يعد الفن المعاصر يتمشى مع مجرد تسجيل المناظر للهو والرفاهية وإنما هو يقوم على غزو الطبيعة وسيطرة العلم والوعي بالأوضاع الاجتماعية وبمدى ارتباط الفن بالحياة.
وهؤلاء الفنانون، وإن جمعتهم مدرسة فنية واحدة، يسلك كل منهم في إنتاجه مسلكا يلائم شخصيته. وأروع ما في هذه المعرض أنك تلاحظ ذاتية الفنان في لوحته، ويبدو لك في كثير من هذه اللوحات عمق فلسفي ونظرات فنية موضوعية، وإن كان بعضها غير مفهوم. . . لي على الأقل.
المجمع العلمي العراقي:(776/44)
أنشئ بالعراق في أوائل هذا العام مجمع جديد هو (المجمع العلمي العراقي) وقد اختير لرياسته الأستاذ محمد رضا الشبيي. وأعراض هذا المجمع هي:
1 - العناية بسلامة اللغة العربية والعمل على جعلها وافية بمطالب العلوم والفنون وشئون الحياة الحاضرة.
2 - البحث والتأليف في آداب اللغة العربية وتاريخ العرب والعراقيين ولغاتهم وعلومهم وحضارتهم.
3 - دراسة علاقة الشعوب الإسلامية بنشر الثقافة العربية.
4 - حفظ المخطوطات والوثائق العربية النادرة وإحياؤها.
5 - البحث في العلوم والفنون الحديثة وتشجيع الترجمة والتأليف وبث الروح العلمي في البلاد.
العباس(776/45)
البَريدُ الأدَبي
كلمة أخيرة في تعدد الزوجات:
لا أدري فيم يخالفني صديقي الأستاذ زكي الدين بدوي، وقد وافقني
على أن لولي الأمر أن يمنع من تعدد الزوجات بمنع سماع الدعوى في
أكثر من زوجة واحدة، فليس بعد هذا إلا ما يراه من أن هذا طريق
سلبي لا تعلق له بحل ولا بحرمة، ولو صح هذا لما كان هناك معنى
لثورة كثير من العلماء كلما شرع ولي الأمر في منع سماع الدعوى في
مثل ذلك. والحقيقة أن منع سماع الدعوى في مثل ذلك يراد به منع
الناس منه، وبهذا يرى بعض العلماء أن ما أباحه الله للناس لا يصح
منعهم منه ولو بالمنع من سماع الدعوى فيه، ولا يصح لولي الأمر أن
يتبرم به أو يحاول الحجر فيه على الناس بأية وسيلة، وهذا إلى أن
القاضي كان يباح له شرعاً سماع الدعوى في مثل ذلك، بل كان يجب
عليه أن يسمعها ويحكم فيها بحكم الله تعالى، لأن القاضي يجب عليه
شرعاً سماع الدعوى من صاحبها، ويجب عليه شرعاً أن يحكم فيها
بما أنزل الله من أمرها، فإذا منعه ولي الأمر من سماعها كان في ذلك
تحريم لما أباحه الله له، بل لما أوجبه عليه، فيثور كثير من العلماء
لذلك أيضاً، ويرون فيه خروجاً على الدين، وانتهاكا لحرمة الشرع،
فكيف بعد هذا كله يرى الأستاذ زكي الدين بدوي أن المنع من سماع
الدعوى طريق سلبي لا تعلق له بحل ولا بحرمة.
وقد وافقني الأستاذ زكي الدين بدوي أيضاً على أن هناك من يقول بحق ولي الأمر في النهي عن المباح، ولكنه ذكر أنه لم يرد عنهم أن هذا يجري فيما وردت بحله نصوص(776/46)
تفصيلية محكمة في الكتاب والسنة كما هو الحال في تعدد الزوجات. ولا شك أنه لا فرق بين مباح ومباح في ذلك النهي، ونحن إنما نرى النهي عن المباح عند الحاجة إليه، وعند إساءة المسلمين استعماله، وإذا كان في ذلك خلاف بين العلماء فمن الواجب على الأستاذ المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات الأزهر وباريس وفؤاد أن يكون مع من يعطي ولي الأمر هذا الحق، لما فيه من المرونة في التشريع، وعدم الوقوف في المباح عند حالة واحدة، ولو تغيرت الظروف والأحوال وصارت الإباحة فيها مصدر بلوى للمسلمين، وهو بهذا أجدر من الأستاذ الذي تخرج بين جدران الأزهر فقط، ولم يشاهد جامعات باريس وفؤاد.
لقد كان الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة أبي بكر، وفي صدر خلافة عمر، ولكن الناس خالفوا ذلك فأوقعوه ثلاثاً، فأمضاه عمر عليهم عقوبة لهم، وأخذ الأئمة الأربعة بحكم عمر في ذلك، فحرموا على الناس الرجعة بعد الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وقد كانت مباحة لهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة أبي بكر وفي صدر خلافة عمر. فليدع الأستاذ زكي الدين بدوي القافلة تسير؛ لأنه لا يصح من مثله أن يضع في طريقها العقبات.
عبد المتعال الصعيدي
إلى علماء الدين وأساتذة التاريخ:
يا أصحاب الفضيلة والسادة! ما قولكم - جعلكم الله أنصاراً للحق على الدوام - فيما جاد في مقال الأستاذ حيدر الشيرازي أحد موظفي المجلس الحسبي بمصر المنشور في صحيفة منبر الشرق في عددها 479 في 22 المحرم سنة 1367 5 دسمبر سنة 1947 في الصفحة الخامسة بأن (مدينة النجف كانت جبلا وهو الذي قال فيه ابن نوح سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، فأوحى الله إليه: يا جبل، أيعتصم بك مني؟ فتقطع قطعا قطعاً وصار رملاً ثم بحراً عظيما كان يسمى (ني) ثم جف فسمى (ني جف) أي نجف؛ وإن الخليفة هارون الرشيد علم بموضع قبر الإمام علي كرم الله وجهه فأمر أن تبنى قبة فبنيت القبة ونقشت وفرشت وأضيئت؛ وإن الخمر إذا دخلت مدينة النجف انقلبت خلا؛ وإن الكلب لا(776/47)
يدخلها، وإن نادر شاه حاول إدخال كلب معه فقاوم الكلب حتى قتله نادرشاه، وحاول إدخال النبيذ فانقلب خلا) هذا ما يقوله الأستاذ الفاضل الشيرازي فما هي كلمة العلم الصحيح والتاريخ الأمين يا علماء المسلمين والعرب؟
(الرياض)
ابن سلوم
حرمة القرآن:
قرأت في عدد من الرسالة قصيدة لشاعر معروف في ذكرى الزعيم مصطفى كامل جاء فيها هذا البيت:
لك سيرة يتلو الشباب فصولها ... كالآي من ياسين والأحقاف
فحز في نفسي هذا التشبيه، وكنت أود لهذا الشاعر أن يتجنب مثل هذه التشبيهات التي لا تليق بجلال كتابنا الكريم. ولست أدري لم يلقي الشعراء بأنفسهم إلى هذا المأزق الضيق؟ ويتقحمون في هذا المسلك الوعر؟ إن كان هو قصد الإطراف والإجادة، فليعلموا أن مثل هذه التشبيهات مما يسخف بها الشعر ويسمح، فإن من سمات الشعر الجيد ألا يمس الشعور العام في أية ناحية من نواحيه، ولاشك أن المتدينين يجدون شيئاً كثيراً من الإمتعاص والإسمئزار حين يقرأون أمثال هذه التشبيهات التي تسلك بعض كلام البشر مع القرآن الكريم في قَرَن.
وأنا أعرف أن الذي ساق بعض شباب الجيل إلى مثل هذه التعبيرات السمجة هو ما قاله شوقي في رثاء إسماعيل صبري:
لو كان للقرآن بعدُ بقية ... لم تأت بعد رثيت في الأعراف
ولكن من قال أن كل شيء جاء من شاعر كبير كشوقي أو كالمعري يكون أصلا يحتذيه الناشئون، على أن الذي دعاني إلى أن أكتب هذه الكلمة هو أن هذا الشاعر نفسه ذكر هذا المعنى في رثاء شوقي، فهو يقول عن شعره:
رب تلميذه أكب عليه ... مثل أكبابه على قرآنه
فإذا تجاوزنا هذا الشاعر إلى غيره من ناشئة الجيل وجدناهم منساقين في هذا التيار، لا(776/48)
يشعرون بما في مثل هذه من حمق وسخافة. سمعت مرة شاعراً يمدح عظيما فيقول: (تخذوك بعد إلههم معبوداً).
وقرأت لآخر في هذه الأيام يمدح شيخاً جليلا فيقول:
شمس تضيء المشرقين كأنها ... شمس الرسول سماؤها أم القرى
هو نفحة الرحمن أرسله هدى ... للعالمين ورحمة وتبصرا
إلى ترهات كثيرة، وأباطيل مستقبحة من أمثال هذه التشبيهات الجريئة، وإني أحب أن أعلم من لم يكن يعلم أن مقام القرآن ومقام الرسول أحق بالصيانة، وأجدى ألا يوضع واحد منهما في هذه الموازين.
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان
من وصايا أبي تمام:
من أعجب ما قرأت وصية أبي تمام - شاعر المعاني - للوليد بن عبيد البحتري - تلميذه - قال (تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، وأحسن الأوقات لتأليف شيء أو حفظه وقت (السحر). .). قلت: وفي جمل أبي تمام الثلاث - رحم الله أبا تمام - أخطاء ثلاثة:
1 - جعل للشعر (أو النظم) أوقاتاً ومواعيد!
2 - وأقاد أن النظم يحسن ويلطف على قلة هم وغم!
3 - ثم ثلث أثافيه بأن (السحر) أحسن أوقات النظم والتأليف!
والمشاهد أن وصية (مولد المعاني) إن هي إلا وصية صانع لصبي يعلمه الصنعة فيقول - بعد الذي سبق من القول (وكن كأنك خباط يقطع الثوب على مقادير الأجسام) ولا يقول كما قال بشر بن المعتمر: (وعاوده عند نشاطك) فإنك لا تعدم الإجابة والمواناة إن كانت هنالك طبيعة أو جريت في الصناعة على عرق. .).
وبعد: فقد أذكرني هذا القول أو هذه الوصية (التمامية) ما نراه في هذه الأيام من شعر الصنعة أو شعر (المناسبات) الذي يقال في كل آت من الحادثات أيا كانت الحادثات. فلينق(776/49)
الله الشعراء والشاعرات!
(الزيتون)
عدنان
العزة بالاسم:
وقعت في مقالي (بين الشيوخ والشباب) بالعدد الماضي من الرسالة - هنات مطبعية يدركها القارئ بفطنته، ولكن الفقرة التالية جاءت هكذا: (تناقش يا سيدي وجهاً لوجه وتدفع الحجة بالحجة، أو تسكت إن أخذتك العزة بالإثم) وكانت هذه العبارة موجهة للأستاذ توفيق الحكيم، لتجنبه مواجهة من ينقده. وواضح أنه لا يأتي بذلك إثماً حتى يعتز به، وإنما أصل التعبير (إن أخذتك العزة بالاسم) وهذا هو المقصود بطبيعة السياق.
عباس خضر(776/50)
الكُتبُ
أبو الهول يطير
تأليف الأستاذ محمود تيمور بك
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
عندما قرأت هذا العنوان في إعلانات الصحف قلت لعل الأستاذ تيمور يعني بأبي الهول نفسه، فهو رمز المصري كما هو رمز الصمت. وفي التسمية دلالة لا بأس بها، فنحن نستعير كثيراً من الأشياء المصرية كالنيل والأهرام وما إلى ذلك دلالة على القومية المصرية. حتى إذا شرعت في قراءة الكتاب اتضح لي أني كنت واهما فيما ذهبت إليه، لأن المؤلف لا يقصد نفسه بهذه الاستعارة، وإنما يقصد الطائرة التي أقلته من مصر إلى أمريكا، أو إلى الولايات المتحدة على وجه التحديد، بلاد الحضارة والمدنية الحديثة، أو الدنيا الجديدة كما يقولون.
ولا ريب في أن أمريكا تستحق من الشرق أن يتعرف إليها، بعد أن أصبحت محط أنظار العالم، وبعد أن انتقلت إليها الحضارة العلمية الحديثة، فانتهت إلى كشف القنبلة الذرية، فسبقت بذلك سائر الدول التي كانت تحمل لواء العلم والمدنية.
كنا إذن في حاجة إلى معرفة هذه الدولة العظيمة الناشئة، وما فيها من نظم اجتماعية، وأحوال عمرانية، وتقاليد يصطبغ بها أهلها، وعادات تشيع في سكانها.
وهذا ما فعله الأستاذ محمود تيمور بك في كتابه (أبو الهول يطير). صور فيه رحلته إلى تلك البلاد، وسجل ما شاهده في السماء والأرض، والفندق والشارع، والمطعم والملهى، وفي كل مكان، وفي كل ركن من الأركان، فكان الناقل الأمين الذي شاهد بعين المصري الشرقي تلك البلاد الجديدة الغريبة.
فهي إذن رحلة (أمريكانية) كان من الخير أن يصورها لنا المؤلف في هذا الأسلوب الطائر، حتى تلائم ما عرفناه عن أمريكا التي تحسب حساب السرعة والزمن في كل عمل. فإذا كان ابن بطوطة أو ابن جبير يقطع الواحد منهما الرحلة في أعوام، فلا عجب أن تجد محمود تيمور يقطعها في شهور. وأن يصل من القاهرة إلى نيويورك في ساعات.(776/51)
نقول إن عين الشرقي هي التي سجلت ما في هذا الكتاب من كتب وأطياف وظلال. والشرقي مؤمن بطبعه، وكان الشرق مهبط الأديان منذ قديم الزمان. انظر معي إلى ما يقوله تيمور في صفحة 80 (مازال حديث السماء على تطاول الزمن، وتراوف الحقب، وتطور العقول، هو صاحب السلطان الأول على المشاعر والنفوس. . . لطالما سمعنا فلاسفة الفكر ينادون بأن العقيدة الدينية على وشك الانهيار، ولكننا لا نلبث أن تواجهنا حقائق تسخر من هذا الزعم الموهوم. . . إن العقيدة، مثلها كمثل كرة المطاط، إذا قذفت بها ورأيتها جادة في هويها إلى الأرض لم تحسب لها من رجوع. ولكنك لا تعتم أن تراها قد وثبت إليك في عنفوانها أقوى مما كانت من قبل. . .).
فأنت ترى أن الرحلة لا تصف المشاهد الحسية فحسب، بل تذههب إلى أعماق الحقائق الروحية، فيحدثنا صاحبها عن الفلسفة والعقيدة والإيمان بالله، والدفاع عن الأديان.
على أننا ننكر على الأستاذ تيمور قوله: إن فلاسفة الفكر ينادون بالإلحاد، فهي تهمة لصقت بالفلاسفة وهم منها براء. وقد قيل مثل ذلك عن ابن رشد فيلسوف قرطبة، ووقع في محتة شديدة كادت أن تودي به. على أنا نرى أن الفلاسفة كانوا دعائم العقائد يقوونها بسند الفكر والبرهان، كما فعل ديكارت في براهينه الرياضية في إثبات وجود الله.
وقد نقلت العبارة السابقة من الكتاب لغرض آخر غير هذا النقد الذي وجهته، ذلك أني أحببت أن أعرض على القارئ لوناً من أسلوب الكاتب في كتابته.
ولقد صحبت تيمور في قصصه منذ زمن بعيد، فقرأت له تلك (الأفصوصات)، ويعنون بذلك القصة الصغيرة، مثل (مكتوب على الجبين وقصص أخرى) و (أبو علي وقصص أخرى). فكنت أعجب به قاصاً، كما أعجبت به كاتب رحلة. والميزان ومبعث الإعجاب عندي هو تلك اللذة التي تشعر بها عند قراءة هذه القصص، فلا تكاد تبدأ في قراءتها حتى تنتهي إلى نهايتها، دون شعور بملل أو سأم، بل يدفعنا فيها دافع قوي من الشغف والتلهف على تتمة القصة.
وقد يختلف النقاد في الحكم على أدب تيمور وقصصه، ولا أعد هذا الخلاف مطعناً عليه، فكل أديب مشهور لابد أن يكون موضع الخلاف بين النقاد، وكذلك كان شوقي في شعره، رفعه بعض الحكام إلى مرتبة الإمارة في الشعر، وقال البعض الآخر إنه ناظم لا روح فيه.(776/52)
يقول النقاد الذين لا يعجبهم أدب تيمور إنه شعبي ينزل إلى مستوى الجمهور لا في غباراته وأساليبه فحسب، بل في ألفاظه.
ونحن نرى أن هذه السهولة السهلة هي التي يتميز بها قلم تيمور، والتي تجعل له طابعاً خاصاً يميزه عن غيره،
ولم تمتع السهولة أن يكون صاحبها أديباً، بل نحن في حاجة إلى هذا اللون الذي يبعد بنا عن الأدب التقليدي، وعن ترسل الجاحظ، وسجع ابن العميد؛ ذلك لأننا في عصر يجعل جمال الموضوع في صدقه وقوة تعبيره، ولا حاجة بنا إلى التزويق والتأنق والتكلف مما يصرف الكاتب والقارئ معا عن لذة الفكر الخالص.
وهذا الأستاذ أحمد أمين لا يتكلف بل يكتب أنه يتحدث فيعرض ألوان الفكر الإسلامي منذ فجر الإسلام وضحاه، فأفاد واستفاد منه الناس في غير عناء. وهذا المازني لا يغرب ولا يتأنق بل تحس كأنه يخاطب العامة، ومع ذلك فهو أديب لم يطعن في أدبه طاعن، ولم يقل قائل إن أسلوبه غير بليغ. أليست البلاغة كما قال ابن المقفع (هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحس مثلها فإذا حاول عجز). . .
محمود تيمور إذن من هذا الطراز الذي يجري قلمه بما يجيش في صدره، وما تختلج به نفسه، وما تراه عينه، فتقرأ له كأنك تستمع إليه.
وأكبر الظن أنه يصطنع بعض الألفاظ العامية المستملحة التي لا نجد لها نظيراً في الفصحى، لأنه يريد ذلك، أو يريد أن يدخل هذه الألفاظ في قاموس اللغة العربية حتى تندرج فيها. وهذا مذهب لا بأس به.
وهو كذلك يستعمل بعض الألفاظ الجديدة التي استحدثت، ولعله بتسجيلها يدفع إليها مع الزمن الحياة. أنظر إليه وقد نزل في باريس وذهب إلى مقهى (كافيه دلابيه) المشهور إذ يقول (لنتناول قدحاً من تلك القهوة الممزوجة باللبن، مفخرة هذا المشرب البعيد الصيت. . . ولنحظ بجلسة نستعيد فيها ذكريات الماضي المحبب، وننقل النظر في الغادين والرائحين من أهل باريس، نتملى بما يبدونه من أناقة ورشاقة وظرف، وهم يتزاحمون على طوار الطريق. . .)
وفي هذه العبارة التي ننقلها لفظتان جديدتان، المشرب وهو يعني المقهى، والطوار أي(776/53)
الترتوار.
وعلى هذا النسق تجد عشرات وعشرات من الألفاظ يجريها في أثناء التعبير، فلا تحس فيها غضاضة أو تكلفا. وهذا فضل لا ينكر في تذليل اللغة العربية لألفاظ الحضارة الحديثة.
وبعد، فإني أحب القارئ أن يمتطي متن هذا الكتاب، ليطير به في جواء الفكر، وينقله إلى الدنيا الجديدة ليسعد فيها بعض لحظات.
أحمد فؤاد الأهواني
(الرسالة): آفة النقد عندنا الترديد والتقليد. فالدكتور الأهواني
يردد نغمة قديمة لم يبق لها في الآذان رجع. كان النقاد
يأخذون على أسلوب الأستاذ تيمور في نتاجه الأول أنه أقرب
إلى العامية في ألفاظه وتراكيبه، فانتقش هذا الرأي في أذهان
الناس، وصرفهم الكسل العقلي عن استئناف النظر فيه
بالموازنة والنقد، فلم يلاحظوا تطور أسلوب الكاتب على
إدمان الجهد وكر السنين، من الابتذال إلى السمو، ومن
السهولة إلى الجزالة، فيما كتب بعد ذلك من مقالات وقصص.
ومن أثر هذا الجمود العقلي أن الناس قد اعتقدوا في كل كاتب
من كتابنا، وزعيم من زعمائنا، رأياً لا يتحولون عنه ولا
يتغيرون منه. فلو كان عندما نقد يجاري التطور، ولنا رأي
يساير النهوض، لحكمنا على الكاتب بآخر ما يقول، وعلى(776/54)
الزعيم بآخر ما يعمل. ويظهر أن الأستاذ الناقد يخلط بين
السهولة والابتذال؛ فان السهولة من الصفات الجوهرية
للبلاغة، ولا يعيبها على الكاتب إلا مجذوب من مجاذيب
الصوفية، أو مجنون من مجانين الرمزية(776/55)
القَصصُ
المنبوذة
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
عندما دخلت استراحة المسافرين بمحطة لوبان؛ صوبت أولى نظراتّي إلى الساعة، فرجدت أنه لا يزال أمامي متسع من الوقت حتى يصل قطار باريس السريع. وشعرت فجأة بالإجهاد كأني قطعت عشرة فراسخ سيراً على الأقدم. فنظرت حولي لعلي أرى على الجدران ما أقتل به الوقت فلم أجد شيئاً. فخرجت ووقفت أمام مدخل المحطة، وأنا أقلب الفكر فيما يرفه عن نفسي إلى أن يصل القطار.
كان الطريق أمامي قد نمت على جانبيه أشجار الفتنة بين صفين من مختلف المنازل الصغيرة، وقد ارتفع الطريق صعداً؛ فبدت نهايته كأنها حديقة بعيدة.
وكان مقفراً إلا من هرة تتسكع في الطريق في خفة، وكلب يسرع في مشيته يشتم قوائم الأشجار باحثاً عن فضلات الطعام. . .
واجتاحتني موجة حزينة من الشعور بالخيبة. ما العمل. . .؟ ما العمل؟ وجدت أنه لا مفر لي من الانتظار الممل بمقهى المحطة الصغير. وتصورت نفسي جالساً وأمامي قدح من الخمر لم تمسه شفتاي، وجريدة محلية عافت نفسي قراءتها، عند ما بدت أمامي جنازة قادمة من شارع جانبري لتخترق ذلك الطريق أمامي.
شعرت عندئذ أن منظر مركبة الموتى قد فرج عن نفسي.
لقد ربحت على الأقل عشر دقائق من فراغي الطويل. وتضاعفت فجأة انتباهي عند ما شاهدت الميت لا يشيعه سوى ثمانية رجال كان أحدهم يبكي في حرارة والآخرون يثرثرون ويتحدثون أثناء سيرهم. ولم يشترك في الجنازة أي قس. ففكرت وأنا أخاطب نفسي (هاهوذا دفن مدني) ولكن سنح لي خاطر: ما بال المئات من ذوي الأفكار الحرة الذين يعيشون في البلدة لا يشتركون في إبداء شعورهم في مثل هذه المناسبة؟ إن سير هذه القافلة السريع قد دل على أنهم سيدفنون الفقيد دون احتفال ديني.
ودفع بي فضول إلى افتراض فرض معقد بعيد. ولكن؛ بينما كانت المركبة تمر أمامي، إذ بفكرة تنبعث في خاطري هي أن أشيع المركبة مع هؤلاء المشيعين وبذلك أشغل من وقتي(776/56)
الضائع ساعة على الأقل؛ فسرت وأنا أتظاهر بالحزن خلف الآخرين.
والتفت آخر اثنين منهم إلي في دهشة، ثم تحدثا في صوت خافت. فاعتقدت أنهما يتساءلان عن سبب وجودي وأنا الغريب عن هذه البلدة. ثم استتارا الاثنين اللذين أمامهما؛ فالتفتا ناحيتي يتطلعان أليَّ في فضول. فضايقني ذلك الأمر، وعزمت على أن أضع حداً له؛ فاقتربت منهم، وقلت بعد أن بادلتهم التحية: (أرجو المعذرة أيها السادة إذا كنت قد قطعت عليكم حديثاً، ولكني عندما شاهدت الجنازة دفعت نفسي إلى اللحاق بها دون سابق معرفة بالفقيد الذي تشيعونه)
فرد أحدهم قائلا (أنها فقيدة).
فدهشت، وسألت: (إذن هي جنازة مدنية، أليس كذلك؟).
فأجاب آخر يشرح لي قليلا: (نعم، ولا. أن القس رفض أن ندخل بها الكنيسة).
فبدرت مني آهة من الدهشة لأني لم أفهم ما يعني.
فصرح قائلاً في صوت خافت: (إنها قصة محزنة. إن هذه الشابة قد انتحرت. وهذا هو السبب في عجزنا عن إجراء الطقوس الدينية قبل دفنها. إن من تراه يبكي هنا هو زوجها)
فقلت بعد تردد (إنك لتدهشني وتثير فضولي. هل أنتهك سرا إذا ما رجوت أن تقص على هذه القصة؟ إذا كنت تشعر بأن ذلك فضولا مني فاعتبر كلامي كأن لم يكن).
فأخذ الرجل بذراعي دون كلفة وقال: (كلا. . ليس ما يمنع أن أسرد عليك وقائعها. فلنبطيء في السير قليلا حتى نكون آخر المشيعين، ولدينا من الوقت ما يكفي للسرد قبل أن نصل إلى المقبرة عند الأشجار التي تشاهدها هناك)
ثم طفق يحدثني قائلا (تصور أن هذه المرأة الشابة السيدة بول هامون كانت ابنة أحد التجار الأثرياء السيد فونتانلي. وكان قد حدث لها حادث رهيب وهي في سن الحادية عشرة. لقد اعتدى عليها خادم، وكادت تموت خزيا وعارا من ذلك الحادث الأليم. وأظهرت المحاكمة الرهيبة أن تلك المسكينة كانت ضحية ذلك الوحش مدة ثلاثة أشهر. فحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
ونمت الفتاة الصغيرة وقد تلطخت بالعار، منبوذة، وحيدة، بلا رفيقات ولا عطف وأصبحت أمام الأهلين كأنها مسخ أو أعجوبة من الأعاجيب. كانوا يتحدثون عنها في همس،(776/57)
ويتكلمون عن (الصغيرة فونتانل) في غمز، ويديرون ظهورهم عند رؤيتهم لها في الطريق. حتى المربيات، كان أكثرهن يأبين الالتحاق بخدمتها. وكانت العائلات تبتعد عنها كأنها وباء تخشى أن تنشره الفتاة فيسري إلى من بالقرب منها.
أي شفقة تعتريك لو كنت قد شاهدت هذ الطفلة المسكينة وهي تراقب الأولاد يمرحون ويلعبون في الساحة بعد ظهر كل يوم. كانت تجلس وحيدة أو تقف بجانب خادمتها تشاهد حزينة ما يحدث دون أن تشترك مع الأولاد في لهوهم. وعندما كانت تنتابها نزوة من الأغراء لا تقاوم، كانت تتقدم في خجل وخوف وتدخل في زمرتهم في خطوات مترددة، وكانها شاعره بعارها. وسرعان ما ينهض الأمهات والعمات والمربيات من مقاعدهن ويأخذن بأيدي الأولاد ويجذبنهم بشدة بعيدا عنها، وتبقى الصغيرة فونتانل وحيدة، والهة القلب، مذهولة، ثم تنفجر باكية وقد امتلأ قلبها شجنا، وأخيراً تسرع إليها خادمتها تخفي وجهها المخضل بالدمع في مئزرها.
وكبرت الفتاة وازدادت حالتها سوءا. وكان الناس يحولون بينها وبين مثيلاتها من الفتيات كما لو كانت مصابة بالطاعون. ولم يكن لدى الفتاة شيء تتعلمه، لا شيء البتة. لقد قُطفت الثمرة المحرمة قبل أوانها وامتلأ جسمها بالأنوثة قبل أن يحين ذلك الوقت الذي تحاول فيه كل فتاة أن تقرأ المستقبل المجهول في وجه الرجل ليلة الزفاف.
كانت كلما عبرت الطريق بصحبة مربيتها، ينظر إليها الناس وهم في خشية منها، فتغض الطرف شاعرة بالعار الذي يثقل كاهلها. وكانت الفتيات الساذجات الغريرات يتغامزن عند رؤيتها في خفية، ويحولن أنظارهن عنها كلما التقت أعينهن بعينيها.
وكانوا قليلا ما يحيونها، ويتظاهرون بعدم رؤيتهم لها. حتى الصبية كانوا ينادونها (مدام باتست) اسم ذلك الخادم الذي اعتدى على عفافها.
كانوا لا يعرفون مقدار العذاب الذي تعانيه هذه الفتاة. فقد كانت قليلة الكلام لا تبتسم مطلقاً. حتى أهلها، كانوا يضيقون بها كأنهم يحقدون عليها من جراء تلك الهفوة الشنعاء. إن الرجل الفاضل لا يمد يده بمحض ارادته إلى المجرم الذي أُفرج عنه، ولن كان ابنه، أليس كذلك؟ وعامل السيد والسيدة فونتانل ابنتهما كأنها من طريدات السجون.
كانت جميلة، شاحبة اللون، ذات قامة هيفاء، وسمت وقور. ولو لم يكن ذلك الحادث لكنت(776/58)
من المعجبين بها.
ولما قدم الحاكم إلى البلدة بعد غياب ثمانية عشر شهراً استحضر معه سكرتيراً خاصاً، وهو شاب غريب الأطوار كان يعيش في الحي اللاتيني بباريس. فرأى الآنسة فونتانل وأحبها. وقصوا عليه قصتها فلم يأبه بها؛ بل قال إن ذلك يضمن مستقبلها.
وغازلها ثم طلب يدها وتزوجها. وكان لا يخجل من التزاور معها؛ فكان البعض يرد الزيارة، والبعض يحجم عنها.
وسار الحادث مع الزمن في طريق النسيان، وأخذت السيدة مقامها في المجتمع. وكانت تعبد زوجها كما لو كان إلهاً. أم يرد إليها شرفها؟ ألم يقاوم المجتمع ويكافح الناس من أجلها، ويواجه الإهانات بسببها؟ لقد كان يقوم بدوره في شجاعة قل أن تجدها في الرجال.
وحملت فتفتحت أمامها الأبواب كأنما تطهرت تماماً بالأمومة، إن ذلك لشيء مضحك. ولكنها الحياة!
وسار كل شيء في طريقه العادي، حتى حانت حفلة البلدة السنوية، وأقبل الحاكم يحيط به سكرتيره وحواشيه وأصحاب الجاه لتوزيع الجوائز على المتسابقين، وأنت تعرف بالطبع ما يحدث من خلاف ومنافسة وغيرة بين الناس في مثل هذه الحفلات، وما أكثر أن يفقد البعض رشدهم. كان كل سيدات البلدة قد حضرن لمشاهدة هذه الحفلة. وتقدم رئيس فرة الموسيقى لبلدة دي مورميون؛ فقلده بول هامون وساماً من الدرجة الثانية. فقذف رئيس الفرقة بالوسام في وجه السكرتير صائحاً (احتفظ به لباتست - فأنت مدين له ولي بوسامين من الدرجة الأولى).
كان هناك حشد كبير من الناس فسرعان ما ضجوا بالضحك كان جمهوراً خشناً غير مهذب، واتجهت كل الأنظار صوب السيدة المسكينة. أواه يا سيدي، ألم تشاهد قط امرأة جنت؟ لقد كنت بين الحاضرين في تلك الحفلة، وشاهدتها وهي تحاول النهوض فتسقط على مقعدها ثلاث مرات متتالية، كأنها تريد الهرب فيقيدها عجزها عن اختراق هذه الجموع المتكاثرة المحيطة بها. وسمعت صوتاً من جهة ما يصيح: (أهلا. . . أهلا. . . بمدام باتست) فضج بعض الناس بالضحك واشمأز البعض الآخر. وهبت عاصفة من الضوضاء والهرج، واهتزت الرؤوس وترددت الأصوات، وتطلعت الأنظار تشاهد وجه(776/59)
تلك التعسة، وحمل الرجال زوجاتهم على أذرعتهم ليشاهدنها، وتساءل الناس أيهن؟ أيه تلك التي ترتدي ثوباً أزرق اللون؟ وكان الأولاد يصيحون صياح الديكة، وانفجر القوم يضحكون ضحكات عالية، ولكنها لم تتحرك من مكانها، كانت جالسة في ذهول على المقعد الوثير كأنها ساعة خصصت لهذه الحفلة تتطلع إليها الأنظار، ولم تستطع حراكا، ولم تتمكن من إخفاء وجهها. كانت جفونها تنطبق ثم تنفتح كأن هناك ضوءا باهراً يحرق عينيها. ولهثت كأنها جواد يصعد مرتفعا من الأرض. كان كل هذا يمزق قلبي تمزيقاً.
وأخذ السيد هامون برقبة رئيس فرقة الموسيقى ذلك الشخص الوقح وألقاه على الأرض وسط الضوضاء الهائلة. وتوقف الاحتفال، وبعد ساعة كان السيد هامون في طريقه إلى الدار برفقة زوجه. كانت مرتجفة الجسد صامتة لم تفه بكلمة واحدة. وفجأة تسلقت حاجز الجسر دون أن يتمكن زوجها من منعها، ثم ألقت بنفسها في النهر.
واستغرق إخراجها ساعتين من ذلك الماء العميق. كانت بالطبع قد فارقت الحياة).
صمت المتحدث لحظة ثم عاد بعدها يقول (ربما كان من الأفضل لها أن تصل إلى هذه النهاية المؤلمة. فإن هناك أشياء تحدث فلا يمكن محوها. وهأنذا عرفت الآن لماذا رفض القس أن يفتتح أبواب الكنيسة لها. فإنه لو كان الدفن دينياً لشيع الجنازة كل أهل المدينة. ولكن ذلك الانتحار وتلك القصة الأليمة حملت العائلات على الاحجام عن تشييع الجنازة. ولذلك كان من الصعب أن يشيعها القس.
وعبرنا باب المقبرة؛ وانتظرت في تأثر بالغ نزول الناووس في القبر لأقترب من ذلك الشاب المسكين الذي كان يبكي وينتحب. وشددت على يده معزيا، فنظر إليَّ في دهشة من خلال دموعه ثم تمتم قائلاً: (شكراً يا سيدي، شكراً).
ولم آسف أبداً على اشتراكي في تشييع هذه الجنازة.
الإسكندرية
محمد فتحي عبد الوهاب(776/60)
العدد 777 - بتاريخ: 24 - 05 - 1948(/)
مقاييس الأعمال
للأستاذ عباس محمود العقاد
أعمال الناس لا تقاس بمقياس واحد.
لأنها قد تقاس بحسب النيات، وقد تقاس بحسب الغايات، وقد تقاس بحسب الأشخاص الذين يتولونها، وقد تقاس بحسب المناسبات التي تقع فيها.
فتختلف المقاييس على حسب اختلاف هذه الأحوال.
مثال ذلك أنك تنهي الطفل الصغير عن طعام يثقل عليه وتستبيح أنت تناوله، وتكون على صواب في الحالتين.
وأنك قد تنهاه في حالة المرض عن طعام تبيحه إياه في حالة الصحة، ولا تخطيء في هذا الاختلاف.
وأنك قد تمنع أخاك الصغير عن معاشرة أناس، ولا ترى أنت حرجاً في معاشرتهم، لأنك لا تخشى منهم على نفسك كما تخشى منهم عليه.
وقد يحدث العمل الواحد فيتلقاه رجل بالاستخفاف ويتلقاه غيره بالغضب، ولا اختلاف في الأمر غير اختلاف المزاج.
وقد يغتفر إنسان ما ليس يغتفره غيره، لتفاوت بينهما في وجهة النظر، وإن كان كلاهما من أفاضل الناس.
هذه الملاحظة، أو هذه الملاحظات، تزيل كثيراً من اللبس فيما يعرض في سيرة عمر بن الخطاب من الاختلاف بين حكمه على بعض الأعمال وحكم النبي عليه السلام على تلك الأعمال، وكل ما يستفاد من ذلك أن أفق الأخلاق الإنسانية واسع فسيح، وأنها تتسع لكثير من العوارض والأطوار، ولا يستفاد من ذلك حتماً أن هناك تناقضاً في الأعمال والأحكام.
وقد سألني الطالب النجيب (حسين حسين الجزار)، بمدرسة فاروق عن بعض هذه الأعمال التي اختلفت فيها وجهات النظر بين النبي والفاروق، فرأيت من المفيد في دراسة النفس الإنسانية، وفي دراسة العظماء على الخصوص، أن أبين الوجه الصحيح في النظر إلى هذه الفروق، بحيث يبدو من هذا النظر أن عمل النبي جائز من النبي، وأن عمل الفاروق جائز من الفاروق، ولا تناقض هناك، ولا غرابة في كلا الأمرين.(777/1)
سألني الطالب الأديب عن قصة الجارية التي كانت تضرب بالدف بين يدي النبي، فما هو إلا أن دخل عمر حتى وجمت الجارية وأسرعت إلى الدف تخفيه. فقال النبي إن الشيطان - أو إن شيطانها - ليخاف منك يا عمر!
وموضع العجب عند الطالب النجيب أن تعمل الجارية في حضرة النبي ما لا تعمله في حضرة الفاروق.
ولا عجب هناك؛ فإن كل ما هنالك من الفرق بين الأمرين أن الجارية أنست إلى سماحة النبي، ولم تأنس إلى شدة عمر. ولا غرابة في الشدة هنا أو السماحة هناك.
والكلام في هذه القصة عن شيطان الأغاني والشعر والأهازيج: أي عن شيطان الفنون على الإجمال، وليس شيطان الفنون في حكم الدين أو الأخلاق كشيطان المعاصي والشرور.
والمرجع - بعد - في هذه القصة إلى الجارية ومن تأنس إليه. وقد تغني جارية في حضرة السلطان، ولا تغني في حضرة رئيس الشرطة مثلا أو قائد الجيوش، ولا يقال إن هذا أو ذاك أعظم عندها من السلطان. فإنما المسألة كلها في هذه المواقف مسألة الأنس والارتياح. وليس لنا أن نسأل مغنياً أو فناناً، لماذا يرتاح إلى هذا المقام، ولا يرتاح إلى ذلك المقام.
ولم يكن عمر رضي الله عنه يحرم ما أحله النبي عليه السلام في هذا الصدد. فقد قرأ الطالب الأديب ولا شك أن عمر سمع ضجة في مكان فقيل له إنه عرس. فقال: هلا حركوا غرابيلهم: أي طبولهم. فلا تحريم في الأمر ولا تحليل، وإنما هو كما قدمنا مسألة ارتياح (شخصي) لا يحاسب عليه صاحبه بحساب الإلزام.
وسأل الطالب الأديب كذلك عن قصة الأسود بن شريع، الذي كان ينشد النبي بعض الأماديح، فاستنصته النبي مرتين إذ دخل عليهما عمر والشاعر لا يعرفه. فصاح: واثكلاه! من هذا الذي أسكت له عند النبي؟ فقال النبي: هذا عمر. هذا رجل لا يحب الباطل.
ويسأل الطالب. كيف يقبل النبي ما لا يقبله الفاروق؟
وينبغي أن نعرف أولا ما هو معنى الباطل المقصود في هذه القصة. فإن الباطل قد يكون بمعنى المزاح: يقال بطل في حديثه بطالة أي هزل ومزح. وقد يكون بمعنى الشيء الذي لا غناء فيه، أو الشيء الضائع، أو الشيء الذي تقل جدواه، وقد يكون مقابلا للحق مقابلة الشيء وما لا يشبهه، لا بمقابلة النقيض للنقيض.(777/2)
وموضع السؤال الحق هنا: أي الرجلين كان أولى بحفاوة النبي عليه السلام؟ الأسود بن شريع أو عمر بن الخطاب؟
ولا خلاف في الجواب.
أما أن النبي يتسع صدره لكلام لا يتسع له صدر عمر، فليس من اللازم أن يمنع النبي كل ما يمنعه أصحابه، ولو كانوا على صواب. ونحن نرى مصداق ذلك في كل شريعة وكل نظام وفي كل زمان. فإن القضاء قد يدين مجرماً بحكم القانون، ثم يعفو عنه الملك لسبب يراه، ولا يقال إن في الأمر مخالفة للعدل أو للشريعة، وإنما هو اختلاف للتقدير الذي قضى بالعفو، والتقدير الذي قضى بالعقاب.
واختلاف التقديرين بين النبي العظيم وصاحبه العظيم، كما قلنا في عبقرية عمر (هو الفارق بين إنسان عظيم ورجل عظيم. فالنبي لا يكون رجلا عظيما وكفى، بل لابد أن يكون إنساناً عظيماً، فيه كل خصائص الإنسانية الشاملة التي تعم الرجولة والأنوثة والأقوياء والضعفاء، وتهيؤه للفهم عن كل جانب من جوانب بني آدم، فيكون عارفاً بها وإن لم يكن متصفاً بها، قادراً على علاجها، وإن لم يكن معرضاً لأدوائها، شاملا لها بعطفه، وإن كان ينكرها بفكره وروحه، لأنه أكبر من أن يلقاها لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة).
والمعنى البسيط الذي يفهم من هذا الفارق، ومن جميع الفوارق، أن النبي ليس هو عمر، وأن عمر ليس هو النبي، وأنهما لا يلزم أن يكونا على نمط في الفهم والشعور، وإن كان لكل منهما نصيب من العظمة ومكارم الأخلاق.
وسؤال آخر في علم النفس يسأل عنه الطالب الأديب فيقول: (إن العالم الإيطالي يقرر أن من صفات العبقرية الطول البائن، أو القصر البين) ثم يسألني: (لماذا لا يحد الأستاذ من هذا القول! أليس الطول البائن زيادة عن الحد المطلوب، أو عن تناسب القوام؟).
ومن الواجب أن نذكر أننا لا نتكلم هنا في فروض وتقديرات، ولكننا نتكلم في واقع لا شك فيه، وهو أن عمر كان طويلا مفرطاً في الطول، وكان كما وصفوه يمشي كأنه راكب، وكان مع هذا عبقرياً بشهادة النبي وشهادة الصحابة وشهادة الأعمال.
فلا حيلة لنا في هذه الصفة، ولا مخرج منها بالفروض والتقديرات. . كان طويلا وكان(777/3)
عبقرياً. فلماذا نقول إن لمبروزو قد أخطأ في تصويره لملازمات العبقرية، وهو قد أصاب؟
وبعد فالكلام عن العبقرية غير الكلام عن التناسب. لأن العبقرية تفوق خارق للعادة، والتناسب محافظة على نسب الأشياء التي جرت بها العادة، فلا يمكن أن يكون الشي خارقا للعادة، ومتناسباً على حسب العرف المألوف في سائر المناسبات.
إن خرق العادة يستلزم بنفسه مخالفة العادات، ولهذا كان لزاماً أن ترى في جملة العباقرة صفات يخالفون بها سواد الناس، وقد تكون هذه المخالفة شذوذاً في حالات، ورجحاناً في حالات أخرى. بل قد يكون الرجحان كما يقولون (على حساب) صفات أخرى ينقص فيها العبقري عن سواد الناس، لأنه زائد عليهم في ملكات العبقرية والنبوغ.
فلم يخطئ لمبروزو حين سجل هذه الملاحظات، وهو لم يسجلها ظناً منه وتخميناً لا يستند إلى دليل، بل سجلها وهو يقرنها بالصفات العروفة عن كثير من عباقرة العلم والفنون والسياسة والحروب، فإذا بفريق منهم بالغ في الطول، وفريق بالغ في القصر، وإذا بأناس منهم تبرز فضائلهم كما تبرز نقائصهم على طرفين متقابلين. وقد رأينا في التاريخ الحديث دهاة سياسيين تجاوزوا الطول المألوف من أمثال ريشليو وبسمارك وبيكنسفيلد وتاليران، ورأينا فيه عباقرة دهاة أقصر من القوام المعتدل بين الناس، كنابليون وعبد الحميد وموسوليني، فلم يكن في هذه المشاهدات تفنيد لرأي العالم الإيطالي، بل كان فيه تعزيز وتأييد
ومن مزايا الدراسات النفسية ولا ريب أنها ترينا الصفة وما يقابلها في معارج العظمة والعبقرية. فلا تقول إننا نتناقض ونتعارض، بل نقول إن العظمة الإنسانية أفق رحيب يتسع لشتى الأطوار وشتى الصفات.
عباس محمود العقاد(777/4)
للحقيقة والتاريخ:
واحة جغبوب
في مذكرات دولة إسماعيل صدقي باشا
للأستاذ أحمد رمزي بك
1 - تلقى العالم العربي بترحاب مذكرات دولة صدقي باشا لأنها كشفت بعض ما خفي من أسرار السياسة، وأصبحت تتم حلقات الوثائق التاريخية. وقد انتظر الكثيرون أن يكون لها نفس الروعة والأثر اللذين تتركهما في نفس القارئ مذكرات تشرشل وغيره من جبابرة السياسة في القرن العشرين.
2 - والمطلع عليها في مجلة المصور يشهد بأن دولته قد بذل جهداً في تحريرها وجمع موادها بعد مضي فترة طويلة على الحوادث، بدليل أنه لم ينقل إلينا شيئاً واقعياً حياً أو صورة حية لما سجله قلمه وقتئذ، ولكنه تناول بأسهاب بعض المسائل العامة، ومر مروراً على حوادث أخرى. وإني ألتمس له العذر في ذلك لأن صفحات المجلة لا تتسع لأكثر من ذلك.
3 - ومن قبيل ما تناوله دولته باختصار مسألة واحة جغبوب وخليج السلوم: فقد رسمها بقلمه ليقنع القارئ بأن السياسة الحزبية صورت الاتفاق بصورة سوداء، مع أنه وفق في حل هذه المسألة توفيقاً انتهى به إلى نتائج معلومة سبق أن وضعتها السياسة المصرية أمام أعينها، وأنه بهذا الاتفاق حقق لمصر أهدافاً معينة هي من عمله وحده.
4 - والذي نعلمه هو أن الحدود العثمانية القديمة كانت تجعل السلوم داخل الأراضي الطرابلسية، وأن احتلال السلوم حدث مرتين: الأولى في سنة 1911 بواسطة الجنود المصريين عقب إعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا مباشرة، والأخرى في الحرب العالمية الثانية عقب انسحاب القوات السنوسية منها، وبقيت بيد القوات المصرية منذ ذلك التاريخ إلى أن عقد الاتفاق المشار إليه بين مصر وإيطاليا.
5 - جاء الاحتلال الأول بناء على أوامر كتشنر تنفيذاً للاتفاقات السرية التي عقدتها الحكومة البريطانية مع إيطاليا التي تنص على إدخال جزء من الأراضي العثمانية في(777/5)
الأراضي المصرية مقابل الحصول على صمت الحكومة البريطانية، وحياد مصر إزاء اعتداء إيطاليا على أملاك الدولة العثمانية في طرابلس.
6 - وهذه الاتفاقات من قبيل اتفاق سنة 1906 الخاص بتعيين حدود مصر الشرقية في سينا: غير أن الأولى سرية مكتومة والثاني اتفاق عام بين مصر المحتلة والدولة التي كانت يوماً ما صاحبة السيادة صورق عليه ونشر على العالم.
ولكل منها هدف واحد: هو ضمان الدفاع عن الأراضي المصرية في حالة حرب سواء كان الهجوم من جهة الشرق أو الغرب.
7 - ويعجب القارئ أن هذا الهدف كان من ضمن ما أوصت به قرارات لجنة الدفاع الدائمة للإمبراطورية في وزارة الحربية البريطانية منذ عام 1906، وبعد حرب البوير 1901 وانتهائها مباشرة.
8 - ففي سنة 1915 انتهت حملة الدردنيل بالفشل، واضطرب الحكومة البريطانية إلى إيجاد لجنة تحقيق لمعرفة نتائج أسباب هذه الفشل: واستعرضت اللجنة قرارات وخطط الدفاع البريطانية، فظهر أن تفاصيل حملة مهاجمة المضايق وضعتها وزارة الحربية البريطانية مع اشتراك الأميرالية في عام 1906، وأن مشاكل الدفاع عن الأراضي المصرية درست من ذلك العهد، وأن توصيات لجنة الدفاع نفذت باتفاق 1906 لأبعاد الحدود العثمانية عن منطقة القنال، وكان من ضمن أبحاثها دراسة الحدد الغربية والحصول على خليج السلوم بناء على إلحاح الأميرالية.
9 - والدليل على ذلك اتفاق ملنر - شالوبا بين بريطانيا وإيطاليا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، وهو يؤكد ما ورد بالاتفاقات السرية الخاصة بتوزيع أسلاب الدولة العثمانية بعد الحرب، وفيه تعترف بريطانيا بسيادة إيطاليا على جغبوب، وتعترف إيطاليا بضم السلوم وما يتبعها إلى مصر.
10 - إذن فالمفاوضات التي أشار إليها دولته، وهدد بقطعها وسافر من أجلها، كانت تتناول مسائل شكلية للحدود الجديدة بوضع علامات عليها وتعديلها لإدخال بعض الآثار، ولا تتناول لب الموضوع بل تقر حالة سابقة مهدت لها الدبلوماسية الأوربية كل المراحل بين دولتين عظيمتين تحددان مناطق نفوذهما وقواعد الحوار بينهما، ولم ينقصها سوى إقرار(777/6)
الحكومة المصرية لتسجيل حالة قائمة من المبدأ.
11 - والمستندات والوثائق وأقوال الرجال الذين اشتركوا في هذه المفاوضات كلها تدل على أن الجانب المصري، أخذ الناحية المظهرية لأسباب عدة يرجع معظمها إلى المتاعب الداخلية التي تلقاها الحكومة من المعارضة. وقد سمعنا هذا من رجال إيطاليين تولوا مناصب هامة، واشتركوا في هذه المفاوضات من المبدأ؛ فقد صرحوا بأن اللجنة المصرية الإيطالية نفذت بالضبط ما كان قد اتفق عليه بين إيطاليا وبريطانيا، وكان موقف الجانب المصري، مظهرياً أكثر منه جدياً: ومنهم السنيور كوخ، وزير إيطاليا المفوض والذي كان يشغل وظيفة مستشار بسفارة أنقرة، وكان من ضمن من اشتركوا في هذه المباحثات.
12 - وعلى كل حال فان موقف دولته إزاء إيطاليا كان مشرباً بروح المودة بدليل زيارته لموسوليني، وهي زيارة لم تكن قاصرة على مسألة السلوم وجغبوب، وإنما كانت لتقدم الشكر على تمهل الدكتاتور سنوات في عدم احتلال واحة جغبوب، حتى يتم الاتفاق مع الحكومة المصرية عليه: وقد حاء هذا بالنص في كتاب (تقويم القوات الإيطالية المسلحة) طبعة 1927 (صفحة 1011): إن الحكومة الإيطالية لم تشأ أن تحتل الواحة عسكرياً قبل أن تحصل على اعتراف الحكومة المصرية لها بهذا الحق). هذا طبعاً حفظاً لتقاليد الوداد التي لا تريد أن تمسها: ولا نستبعد أن يكون الثمن الذي طلبه الدكتاتور بصبره الطويل، هو إتمام هذه الزيارة، وكان يهمه موافقة بريطانيا عليها.
13 - ذلك لأنه كان في وسعها احتلال جغبوب بعد اتفاق (ملنر شالوبا) مباشرة، ولكنه انتظر حتى تم امضاء الاتفاق المصري، فاحتلت جغبوب يوم 7 فبراير سنة 1926 بقوتين مسلحتين قامتا في وقت واحد، إحداهما من طبرق، والأخرى من البردية، وتلاقتا في الواحة، لإسدال الستار على مأساة بدأت في عام 1902 حينما دخلت إيطاليا في مفاوضات مع دول الاتفاق الثنائي فرنسا وروسيا. والذي أصبح ثلاثيا بانضمام بريطانيا إليه نهائياً، ولا تخلو فترة ولا مرحلة فيه من دون تفاهم واتفاق على احتلال أماكن استراتيجية، أو الاعتداء على حق من حقوق الأمم المظلومة: ثمناً لخروج إيطاليا من تحالف، ودخولها في تحالف مضاد للدول
أحمد رمزي(777/7)
الإنسانية الصادقة
روح القصة الفنية
للأستاذ محمود تيمور بك
الإنسانية في القصة لا تكبر أو تصغر بما تحفل به من نوع الشخصيات وطراز الحوادث، وإنما تقوى الإنسانية في القصة بمقدار نصيبها من الصدق في تقمص المشاهد والمرئيات، سواء أكانت حيواناً أم جماداً أم من النبات، وسواء أكانت من سنة الطبيعة أم من الخوارق والمعجزات والأساطير.
فما دام الكاتب يتقمص الموضوع، ويسبغ عليه ذاتيته، فإن الشخصية القصصية تبدو على وضعها الحق، وتنطق بما هو مقدار عليها أن تقوله، وتجري الحوادث في مجرها الذي لا حِوَلَ عنه، وتتواثق المشاهد في ألفة وانسجام، فتخرج القصة وحدة متناسقة لا يحس القارئ فيها من نفرة ولا شذوذ، على الرغم مما قد تحتويه من تهاويل وتعاجيب.
لا يوهن من إنسانية القصة إلا ضعف التقمص، وانغلاق الإحساس الذي ينحدر بالكاتب إلى مزالق الكذب والتزوير، سترا للضعف، وتعوضاً من ذلك الانغلاق.
فأما الخوارق أو الأساطير أو ضروب الجماد والنبات وما إليها، فتلك لا تحول بين القصة واتصالها بالإنسانية، إذا عرف الكاتب القصصي كيف تمتزج روحه بالطبيعة والوجود ويحيا الكون فيه كما يحيا هو في الكون، فيستطيع أن يحيى تلك الموضوعات في نفسه، ويهبها من ذاته، ويكون كأنما قد عاش عيشتها، وكتبت عليه حياتها. . .
ليس روح الفن الإنساني إلا أن يمتزج الفنان بما يحيط به من موجودات، يبادلها الحياة والشعور وكأن بينه وبينها (وحدة وجود). . .
وعلى أساس هذه الحقيقة بقيت القصة الإغريقية خالدة الأثر وأُقيمت بها دعامة القصة العالمية، مع أن قصص الإغريق مناطلها الأساطير والخوارق، ولكنها أساطير تهتز فيها خفقات الحياة، وخوارق تتمثل فيها نزعات النفس. ولذلك ظلت تستجيب لها الأزمنة والعصور على تعاقبها، لما يسري فيها من روح إنسانية صادقة.
ويا رب تمثال لفنان صادق التعبير قوي الأداء، تقف أمام حجره فلا تكاد تتوسم سماته الناطقة، حتى تحس أواصر الإنسانية تؤلف بينك وبينه، ويا رب شخصية قصصية رسمتها(777/9)
أنامل كاتب فنان، لا يكاد يطالعها القارئ حتى يحس لها وجوداً في المجتمع وأصالة في الحياة، فيعيش معها كأنها حي متميز من بين الأحياء الذين تربطه بهم مختلفف الصلات.
فلا غرو أن نرى أبطالا من خلق الفنانين تتوهج ذكراهم، وتتمثل حياتهم، فيزاحمون بشخصياتهم الممتازة أولئك الأبطال الآدميين الذين يعمر بهم تاريخ العصور.
وعنصر الصدق في التعبير الإنساني، قد يبلغ من قوته في الأعمال الفنية أن يكتب الخلود لمحاولات بدائية يعوزها الكثير من عناصر الفن الأخرى.
فمما لا ريب فيه أننا نهتز لمشاهدة قطعة من الفن البدائي، تمثالاً كانت أو صورة أو قصة، إذا توسمنا فيها لوامع إنسانية تثير فينا شعور الصلة بيننا وبينها. ولعل هذا سر بقاء القصص الشعبي على تعاقب الحقب مثاراً لشعورنا، ومهزة لإعجابنا، مع افتقار هذا اللون من القصص إلى كثير من عناصر القصص الفني القمينة بأن تخلده على وجه الزمان.
ولا يتوافر الصدق في التعبير الفني إلا لمن أوتي قدرة على التقمص الحق، أو الاستيحاء والاستلهام لما يريد التعبير عنه من موجودات الكون وموضوعات المجتمع وشئون الحياة.
وكلما قوي تقمص الفنان صدقت إنسانيته فجاد عمله، وإنما تنقص درجة الجودة، ويضعف التعبير، على قدر الوهن الذي يعتري الفنان في تقمصه.
ففي ميدان الرقص مثلا هيهات أن تحس الراقصة تأدية موضوعها إلا إذا عاشت فيه وتمثلته كل التمثل، فتؤدي بحركاتها وإيماءاتها واختلاجاتها حياة الموضوع الذي اتخذته مادة للتعبير.
وهل في طوق راقصة أن تؤدي الرقصة المعروفة بـ (موت البجعة) حق أدائها إن لم تتقمص روح هذا الضرب من الطير وتمزج نفسيتها بنفسيته، فكأنما هي الطائر، تعبر عنه بمقدار بمقدار فهمها لكنهه واستصغائها لسريرته؟
على أن القدرة على التقمص لا تكفي في اكتسابها الرغبة والإرادة والمحاولة، وإنما هي في أغلب ما تكون استجابات نفسية تستبد بما بين أحناء الضلوع.
وهذه القدرة على التقمص لا تسلس بالمظاهر، ولا تتأتى بضروب التكلف والصنعة، فلابد أن تستند إلى مؤثرات طبيعية وتأثرات باطنة.
وحسبنا مثلا لذلك شخصية (المتعبد)، فقد تعاقب على محاولة تقمصها ألوف من سدنة(777/10)
المعابد وعمار الصوامع متخذين لها أقصى ما في الوسع من ظواهر ورسوم، يسبغون المسوح ويرددون الأناشيد ويرتلون الصلوات، ولكن القليلين من هؤلاء جميعا هم الذين استطاعوا أن يتقمصوا شخصية (المتعبد) على حقيقتها، فوسموا تعبيرهم عن هذه الشخصية بميسم الخلود. وهذه أناشيد (أخناتون) التي يناجي بها ربه ما تزال تتقد فيها حرارة الإيمان، لأنها وحي قوي لمتعبد صادق الإحساس، صادق الأداء.
محمود تيمور(777/11)
عبد الله بن سبأ
للدكتور جواد علي
- 4 -
رأيت أن مجيء عبد الله بن سبأ إلى البصرة ونزوله على بين عبد القيس إنما كان على زعم (يزيد الفقعسي) في السنة الثالثة من حكم عبد الله بن عامر الذي ولى إمارة البصرة في عام 29 للهجرة. أي في سنة 32 - 33 للهجرة. وإنه نزل على حكيم ابن جبلة، ويزعم صاحب هذا الحديث الذي دونه الطبري أنه، أي حكيم بن جبلة كان من أشرار الناس ومن مشاهير قطاع الطرق وأنه كان يذهب إلى أرض فارس (فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب من يشاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان بن عفان فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه؛ ومن كان مثله، فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً. فحبسه، فكان لا يستطيع أن يخرج منها) وقد كان (حكيم بن جبلة) من الناقمين والمشاغبين على الحكومة، وكان على رأس الجماعة التي ذهبت إلى المدينة واشتركت في الفتنة المؤسفة التي أدت إلى استشهاد الخليفة، وكان قد أظهر أنه يريد الحج، وكان في الواقع على اتفاق مع سائر المشاغبين وعلى اتصال محكم بمشاغبي الكوفة وأهل مصر.
ولست أزعم لك أن نزول عبد الله بن سبأ في دار هذا اللص المشاغب كان حقاً، ولست أزعم لك أيضاً أن ذلك كان باطلاً؛ ولكني لا أبيح لك سراً أن قلت لك بأني غير مطمئن إلى هذا الحديث الذي يرويه (يزيد الفقعسي) ولا إلى أكثر أحاديث هذا الراوية. لقد كان هوى (ابن جبلة) وجماعته من أهل البصرة مع (طلحة) فلم اختار ابن سبأ النزول على هذا الرجل من بين سائر رجال البصرة. وقد كان هواه مع علي. وقد كان في البصرة أناس يميلون إلى علي أيضاً، والذي أنزل هذا الرجل على (حكيم بن جبلة) في نظري هو (يزيد) نفسه صاحب هذا الحديث لغرض سينجلي لك فيما بعد.
لم يتحدث الطبري عن نشاط عبد الله بن سبأ في البصرة ولا عن الفتنة التي أثارها في جنوب العراق. وكل ما قاله أن الوالي بعد ما سمع بخبر هذا الذمي (الذي رغب في الإسلام ورغب في جوار ابن عامر) قال له (أخرج عني، فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها(777/12)
فاستقر بمصر.
ولم يتحدث الطبري ولا غيره عن نشاط هذا الذمي في الكوفة. والظاهر من كلامه أن إقامته بها كانت قصيرة، وأنه لم يحصل على النتائج التي كان يريدها من هذا البلد، فسافر إلى الشام. ولا ندري بالطبع متى وصل الشام، والذي نستطيع أن نقوله أبه بلغ مقر (معاوية بن أبي سفيان) بعد خروجه من الكوفة، وأن ذلك كان بعد سنة 32 - 33 للهجرة.
ويدعي الطبري استناداً على أقوال (يزيد الفقعسي) أيضاً أنه
(لما ورد ابن السوداء لقى أبا ذر، ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله؛ ألا إن كل شئ لله؟ كأنه يريد أن يحتجه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين) فتأثر أبو ذر من مقالته وذهب إلى معاوية فقال: (ما يدعوك إلى أن تسمى مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟ قال تقله. قال فإني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول مال المسلمين)
وخرج أبو ذر مغضباً من معاوية غير مقتنع بقوله، وصار ينادي في أهل الشام ويقول: (يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء. بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذاك وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء، ما يلقون من الناس، فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت. فكتب إليه عثمان أن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينها، فلم يبق إلا أن تشب فلا تنكا القرح. وجهز أبا ذر إليَّ وابعث معه دليلاً وزوده وارفق به وكفكف الناس ونفسك ما استطعت، فإنما تمسك ما استمسكت. فبعث بأبي ذر ومعه دليل)
وذهب (ابن سبأ) وهو بالشام إلى رجل آخر توسم فيه الانقياد والإذعان لمقالته بسهولة، وهذا الرجل هو (أبو الدرداء) وتحدث إليه بالحديث الذي ذكره لأبي ذر محاولاً إغراءه غير أن (أبا الدرداء) كان حذراً ذكياً فقال له (من أنت؟ أظنك والله يهوديا) فأتى عبادة نب الصامت وأظهر له نفس المقالة (فتعلق به فأني به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر).
فيظهر من حديث (يزيدالفقعسي) الذي حكاه الطبري عن طريق (سيف) أن نداء (أبي ذر)(777/13)
هذا وتحريكه الفقراء على الأغنياء إنما كان بتحريض (ابن سبأ) والحديث كله كما قلت في حاجة إلى تمحيص. فقد غادر (أبو ذر) الشام في عام 30 للهجرة، وترك (المدينة) في نفس السنة إلى الربذة حيث أقام بها إلى أن اختاره الله إلى جواره في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة أي قبل مجيء (ابن سبأ) إلى البصرة. ومعنى هذا أن مجيء (عبد الله بن سبأ) إلى الشام كان بعد وفاة (أبي ذر) وبعد خروجه من الشام بما يزيد على سنتين.
ثم إن صاحبنا (أبو ذر) لم يكن من أولئك الرجال البسطاء السذج الذين كانوا يستجيبون لدعوة رجل لا يعرف من أمره شيئاً، وقد رأيت أنه سبٌّ (كعب الأحبار) وقد كان أعلى من هذا النكرة (ابن سبأ) درجة وعلماً ومقاماً، وأقدم من أخيه في الدين إسلاماً، حينما تعرض لبحث في حضرة الخليفة الشهيد ورجل يقول لكعب الأحبار (يا أبن اليهودية ما أنت وما ههنا والله لتسمعن مني أو لأدخل عليك). أو (يا ابن اليهوديين أتعلمنا ديننا). ثم لا يكتفي بذلك وهو في حضرة خليفة بل يرفع محجنه فيشبج ناصية كعب حتى يضطر الخليفة إلى استرضاء كعب والاعتذار منه. إن رجلاً مثل هذا لا يمكن أن يسلم نفسه إلى مسلم حديث العهد بالإسلام لم يعرف من أمره غير المشاغبة والتجول بين الأقطار. ثم يقنع بدعوته بمثل تلك السهولة التي لا تناسب مع ما عرف عنه من صلابة أبي ذر وشدة تمسكه برأيه.
وقد روي كثير من المؤرخين قصة (أبي ذر) بشكل آخر قالوا إنه كان يتلو قوله تعالى: (والذين يكنزوُنَ الذَّهبَ والفضَّةَ وَلا يُنفقونها فِي سبيل اللهِ فبشرهُمْ بِعذَاب أليم) وتعليقاته المعروفة الواردة في حديث (يزيد الفقعسي) أيام كان في المدينة، وقبل ذهابه إلى الشام كان يقول ذلك لما شاهد من الثراء الذي انهال على بني أمية وآل مروان، فضاق أغنياء المدينة به ذرعاً فنفي إلى الشام لعلمهم بأن (معاوية) رجل ذكيّ حليم يكفيهم هذا الرجل ويلهيه. فلما يئس منه ووجد أنه أصبح خطراً على أهل الشام أعاده إلى المدينة، ثم استقر بالربذة إلى أن وافاه الأجل في سنة اثنتين وثلاثين للهجرة. والمعروف عنه أنه كان زاهداً وكان ينفق ما يصيبه من مال ويدعو إلى ذلك منذ أيام الرسول. فقصة (عبد الله بن سبأ) مع (أبي ذر) قصة موضوعة أعتقد أن واضعها هو (يزيد) أو (سيف) ولم يؤيدها رواة آخرون مثل (زيد بن وهب) وغيرهم ممن ذكروا سبب نفي أبي ذر.
ولم يتحدث (يزيد الفقعسي) صاحب أحاديث عبد الله ابن سبأ عن نشاط هذا الذمي في(777/14)
الشام وعن مدة إقامته في هذا البلد. والذي يفهم من أقواله أنه لم يتمكن من عمل أي شيء في (دمشق) وأن (معاوية) لم يقبض عليه، وأنه غادر أرض (بني أمية) إلى أرض أخرى هي (مصر) ليزرع في ذلك البلد بذور الفتنة التي زرعها في العراق
وفي (مصر) على ما يظهر من روايات الطبري لقى (ابن سبأ) نجاحاً كبيراً، وترأس في هذا القطر الفتنة التي أدَّت إلى استشهاد الخليفة. ويظهر من أقوال (يزيد الفقعسي) أنه جاء وهو في مصر بمقالة جديدة تضمنت عدة آراء فيها (الرجعة) و (الوصية) و (الإمامة) ثم اختم كل هذه المسائل الهامة (بالطعن على الأمراء) وبالمكاتبة مع الأمصار الأخرى في عيوب الولاة. وقد تمكن بأساليبه المعروفة من إهاجة الرأى العام ومن تسهيم الأقطار فكان أن غادر وفد مصر يريد الحجاز، وكان أن غادر وفد البصرة متظاهراً أنه يريد الحج، وكان أن تألبت كل هذه الوفود على الخليفة ولم ترحل عن مدينة الرسول حتى قتل. وكان من أهم أبطال الفتنة بمصر (عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر).
وأما الذي يظهر من أقوال الرواة الآخرين فهو أن هذه المقالات المنسوبة إلى (ابن سبأ) إنما كان قد وضعها في العراق وأنه وضعها في مكان مناسب جداً لمثل هذه الآراء وهو (الكوفة) التي عرفت بميلها إلى علي وأولاده، وبانقلانها على عليّ وأولاده في الوقت نفسه.
والواقع أن محيط الكوفة هو صورة صادقة للمحيط الوسط الذي كان بين الحضارة وبين البداوة. وبين الإطاعة للأمراء وبين الميل إلى الفوضى ومعصية الأمراء والطعن على أصحاب الحل والعقد. ولا غرابة في ذلك فقد كانت هذه البلدة على سيف الصحراء، وقد كانت معصرة عصرت فيها أجناس وأنواع من البشر، فلا عجب إن رأينا فيها ذلك الخليط العجيب وذلك الانقلاب السريع.
ولم يذكر أحد من الرواة غير (يزيد الفقعسي) هذه المقالة على أنها كانت من صنع (ابن سبأ) في مصر. وحديث (عبد الله بن سبأ) في مصر هو من روايات هذا الرواية ليس غير. أما أصحاب الأخبار الذين تحدثوا عن (عبد الله بن سبأ) مثل (الشعبي) وأمثاله فقد وضعوه في العراق وجعلوا مكانه الكوفة ومنفاه (ساباط المدائن) ولم يبعدوه إلى أكثر من ذلك كالذي فعله (يزيد).(777/15)
(للكلام صلة)
جواد علي(777/16)
من مغموري العلماء
للأستاذ محمد كرد علي بك
علي ابن ربن
في المؤلفين من لم نعرفهم إلا بصفحات قليلة مما أبقت عليه الأيام من ألوف صفحات كتبوها، ومنهم علي بن ربَّن الطبيب الفيلسوف المتفرد بالطبيعيات. نشأ هذا العظيم في طبرستان؛ يتصرف في خدمة ولاتها، وكتب للمازيار بن قارن، ووقعت فتنة في بلاده فخرج إلى الري، وهناك قرأ عليه محمد بن زكريا الرازي الحكيم المشهور، واستفاد منه علماً كثيراً. ثم رحل ابن ربَّن إلى العراق فبان فضله، وأسلم على يد المعتصم؛ فقربه، وظهر بالحضرة فضله، وصار من أطباء البيت العباسي، وأدخله المتوكل على الله في جملة ندمائه. وقالوا إنه كان بموضع من الأدب.
ألف ابن ربَّن كثيراً في الطب والصحة، وأهم كتبه على ما يظهر كتاب فردوس الحكمة، وهو معْلمة (انسيكلوبيذيا) طبية عامة أنجزه في بغداد. وهناك أخذ عنه حنين بن إسحق. وله كتاب في الآداب والأمثال على مذاهب الفرس والروم والعرب. وعرفنا ابن ربن من كتاب له صغير أسماه: (الدين والدولة) أثبت فيه نبوة الرسول (ص) إثبات عالم عارف بالأديان الأخرى، ولاسيما اليهودية والنصرانية. وكتابه هذا يدل على اضطلاعه بالحكمة، وأنه ما انتحل الإسلام إلا عن بصيرة. وقد جوّد الكلام عن الصحابة، وجميل سيرتهم، وعفتهم عن المال والرفاهية؛ كما جوده في فصل أُمية الرسول (ص).
ومن أجمل ما في كتاب الدين والدولة نقول عن الكتاب المقدس والنبوات، عليها مسحة من البلاغة أكثر من الترجمات المتداولة، ولعلها منقولة عن الترجمات الضائعة من التوراة والإنجيل؛ إذ أنه ترجمها هو بنفسه لما كتب كتابه. ويطالعك هذا الكتاب: بأن مؤلفه الحكيم الطبيب العظيم هو من أعظم علماء الأديان، وأنه دان بالإسلام وهو رجل، وعرف صورة الاحتجاج على أرباب الأديان الأخرى وإفحامهم ببراهينه. وقيل إن امير المؤمنين المتوكل ساعده على هذا التأليف. ولو لم تبقى الأيام عليه لنسى حتى اسم علي بن ربَّن؛ اللهم عند أفراد قلائل يعانون درس الحكمة القديمة والطب القديم.
مثال من كلام ابن ربن: قال في الدلائل على تصحيح الأخبار: رأينا أمماً كثيرة العدد،(777/17)
عظيمة القدر، موصوفة بالأفهام والإصلاح، يشهدون لعدة من الخبثة الكذابين بجميع ما ادعوه؛ مثل الزنادقة والمجوس؛ إما تقليداً أو إلفاً، وإما غباوة ومحكا، وإما إجباراً أو كرهاً، كما فعل زرادشت متنبيء المجوس فانه لم يزل يتأتى لبشتاسف الملك حتى وصل إليه، وزرع من وساوسه في صدره؛ ثم لم يزل يختله بذكر الله، والدعاء إليه، ويفتل في الذِّروة والغارب حتى فَتله عن دينه، ولواه إلى رأيه. ثم أظهر له ما كان يضمره من الشرك، وزين له نكاح الأمهات والبنات، وأكل القذر المذر من النجاسات؛ فكان الملك بعد ذلك هو الذي أكره أهل مملكته على دينه. وفعل ماني شبيهاً بذلك؛ فإنه ظهر في زمان كان الغالب فيه دينان: النصرانية والمجوسية؛ فاختدع النصارى بأن قال لهم إنه رسول المسيح عليه السلام، وخلب المجوس بأن وافقهم على الأصلين. فلما وجدنا من الإجماع ما هو هكذا، ووجدنا منه ما هو كالإسلام؛ علمنا أن قبول كل إجماع فتنة، ورد كل إجماع ضلالة. . .
ابن حبان
كان أبو حاتم محمد بن حبان البستي (354) مكثراً من الحديث والرحلة والشيوخ عالماً بالمتون والأسانيد، أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، فعدَّ من طبقة البخاري فيه؛ حتى قيل إن صحيحه أصح من سنن ابن ماجه. سافر ما بين الشاش والإسكندرية، وأدرك العلماء والأئمة والأسانيد العالية. وكان وعاء من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ، عارفاً بالطب والنجوم والكلام، عاقلا معدوداً في الرجال. صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبق إليه. وولى قضاء سمرقند وغيرها من المدن، ثم صُرف عن القضاء فيما قيل بدعوى أنه زعم أن النبوات علم وعمل. وصنف لأبي الطيب المصعبي كتاباً في القرامطة، والقرامطة كانوا يهددون ملك العباسيين. وقال بعضهم إن له أوهاماً أُنكرت فطعن عليه بهفوة منه بدرت، ولها محل لو قبلت. وقتله الخليفة بدعوى أنه يعرف بعض العلوم الرياضية وهو في الثمانين من عمره. والغالب أن قتله كان سياسياً في أمر يضر ببني العباس. فقالوا كانت الرحلة بخراسان إلى مصنفاته وقد سبَّلها ووقفها وجمعها في دار رسمها بها جعلها لأصحابه، واتخذ مسكناً للغرباء الذين يقيمون بها وأهل الحديث والمتفقهة، وجعل لهم جرايات يستنفقونها داره، وأوصى وصيته أن يبذل كتبه لمن يريد نسخ شيء منها من غير أن يخرجها منها. وذكروا أن السبب في ذهاب كتبه تطاول(777/18)
الزمان، وضعف السلطان، واستيلاء ذوي العيث والفساد، على تلك البلاد، وجهل أهلها، فلم تعاور بالنسخ؛ فضاع أصلها، ولم يكثر فرعها.
قال أحمد بن ثابت: ومن الكتب التي تكثر منافعها، إن كانت على قدر ما ترجمها به واصفها، مصنفات أبي حاتم محمد بن حبان البستي، ومنها كتاب الصحابة وكتاب التابعين وكتاب أتباع التابعين، والفصل بين النقلة، وعلل أوهام أصحاب التواريخ، وعلل حديث الزهري، وعلل حديث مالك، وعلل مناقب أبي حنيفة ومثالبه، وعلل ما استند إليه أبو حنفية، وغرائب الأخبار، وما أغرب الكوفيون عن البصريين، وما اغرب البصريون عن الكوفيين، وكتاب أسامي من يعرف بالكنى وكنى من يعرف بالأسامي، والفصل والوصل، ومناقب مالك، ومناقب الشافعي، ووصف العلوم وأنواعها، والهداية إلى علم السنن، ومحجة المبتدئين، والعالم والمتعلم، والوداع والفراق، والتوكل والتقاسيم، والأنواع، وكتاب الثقات، وكتاب الجرح والتعديل، وكتاب شعب الإيمان، وكتاب صفة الصلاة، ومراعاة الإخوان؛ إلى عشرات غيرها من الأجزاء في الشريعة والحديث والفقه خاصة.
ولم يطبع من جميع هذه الكتب المحررة سوى كتابه: (روضة العقلاء) قسمه إلى زهاء خمسين مطلباً أبتدأ كل مطلب بحديث يتعلق به، وأتبعه بما قصد بيانه، ووشاه بشواهد كثيرة من الشعر وغيره ببيان باهر ساحر، يستفيد منه الكبير والصغير، ويتأدب به الأمير والأجير، ويغني غناءه في تهذيب الرجال والنساء وينقل المؤلف الكلام المنظوم والمنثور بالرواية على أصول المحدثين، ومنظومة كله جدير بالاستظهار والاستشهاد لما ضمنه من عظات ونكات، يتكلم من عنده كلاماً يدل على العقل الواسع، ولطف الأداء، وقد يورد في أكثر الفصول قصصاً تروق العامة والخاصة، ويخاطب العقل وما يجدر بصاحبه عمله. وقد نسق تأليفه تنسيقاً عجيباً لم يخلَّ به من أوله إلى آخره؛ فجاءت مطالبه متساوية الحجم والفائدة، آخذة من الحسن ولإحسان بأوفر نصيب.
ومما قاله: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب. والعاقل يكون حسن المأخذ في صغره، صحيح الاعتبار في صباه، حسن العفة عند إدراكه، رضي الشمائل في شبابه، ذا الرأي والحزم في كهولته؛ يضع نفسه دون غايته برتوة (خطوة) ثم يجعل لنفسه غاية يقف عندها، لأن من جاوز الغاية في كل شيء صار إلى النقص، ولا(777/19)
ينفع العقل إلا بالاستعمال، كما لا تنفع الأعوان إلا عند الفرصة، ولا ينفع الرأي إلا بالانتحال، كما لا تتم الفرصة إلا بحضور الأعوان. ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، أخاف أن يكون حتفه في أقرب الأشياء إليه. رأس العقل المعرفة بما يمكن كونه قبل أن يكون. والواجب على العاقل أن يتجنب أشياء ثلاثة، فانها أسرع في إفساد العقل من النار في يبس العوسج: الاستغراق في الضحك، وكثرة التمني، وسوء التثبت. لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق، ولا يسعى إلا لما يدرك، ولا يعِدْ إلا بما يقدر عليه، ولا ينفق إلا بقدر مايستفيد، ولا يطلب من الجزاء، إلا بقدر ما عنده من الغناء، ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعه منه. وهنا رأينا في بعض كلامه ما أثر قبل زمنه لعبد الله بن المقنع. وختم هذا الكلام بما أنشده عبد الرحمن بن محمد المقاتلي:
فمن كان ذا عقل ولم يك ذا غنى ... يكون كذي رجل وليست له نعل
من كان ذا مال ولم يك ذا حجى ... يكون كذي نعل وليست له رجل
محمد كرد علي(777/20)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
- 2 -
3 - تعريب الكتب الطبية:
ظهر الدين الإسلامي في أوائل القرن السابع للميلاد وفي خلال سنوات قليلة قهر المسلمون الامبراطوريات وامتد نفوذ الإسلام إلى البلاد الواقعة في ما بين السند والقوقاز وعمها جميعاً، ثم بلغ أفريقية الشمالية وأسبانيا حتى بعض جزر بحر الروم مثل صقلية وسردينية وغيرهما.
وانقضى القرن الأول من الهجرة بالغزو والفتح وتأسيس الحكومات العربية العظيمة فاستولى المسلمون على بلاد كانت مراكز للحضارة، ودخلت بلاد، كانت تعتبر حواضر للعلوم والفنون مثل دمشق وقيصرية والإسكندرية في حيازتهم؛ وفي أثناء هذه الفتوح وعندما كان المسلمون مشغولين بتدعيم أسس ممالكهم أدركوا أن من المحتم عليهم أن يقتبسوا من حضارات البلاد المفتوحة والأمم المغلوبة ما يمكن اقتباسه، فبدأوا بذلك وبلغت هذه الفكرة شأوها بوجه خاص في عهد الخلفاء العباسيين حينما كان للإيرانيين شأن كبير في إدارة أمور المملكة الإسلامية، فألحق بكل مسجد مدرسة، وأنشئت مكتبات، وأسست مستشفيات، وبدأوا في تدريس جميع العلوم ولاسيما علوم الشريعة والطب والفلسفة في مدارسهم.
قلنا إن النسطوريين وحكماء الإسكندرية الذين سبقت لهم الهجرة إلى المشرق ثم اليهود والأقباط والسريان كانوا قد هيأوا مقدمات هذه النهضة الفكرية قبل بدئها بقرنين ولاسيما السريان منهم وهم من أبناء عمومة العرب، وذلك بنقل علوم اليونان من السريانية إلى العربية. وسنذكر فيما بعد لمحة عن الترجمة عند العرب
يمكننا أن نقسم المسلمين الذين اشتغلوا بالعلوم المختلفة ومنها الطب إلى طبقتين: المترجمين والمؤلفين.(777/21)
فالمترجمون منهم كانت براعتهم مقصورة على القيام بالترجمة، وكانوا يتقنون اللغة العربية كما يتقنون السريانية أو اليونانية أو كلتيهما فيقومون بترجمة العلوم من إحدى هاتين اللغتين إلى العربية وكان هذا كل عملهم.
أما المؤلفون فهم الذين كانوا قد درسوا كل المؤلفات والآثار المترجمة وكان لهم بحث ونظر وآراء خاصة حول ما درسوه وتآليف ظهرت فيها شخصياتهم العلمية بصورة واضحة. كان بعضهم يدخل ضمن كلتا الطبقتين مثل يعقوب الكندي في الفلسفة، ويوحنا بن ماسوية وحنين بن اسحق في الطب، فإنهم مترجمون كما أنهم في الوقت نفسه مؤلفون وأصحاب نظر ورأي خاص. فقد كان حنين بن اسحق (ويسميه مترجمو اللغة اللاتينية في القرون الوسطة يوهاينتيوس من نصارى الحيرة وكان في شبابه يبيع العقاقير الطبية ويدرس الطب في نفس الوقت على يوحنا بن ماسويه. ويروي أنه ألقى على أستاذه يوما في مجلس درسه كثيراً من الأسئلة مما أثار غضب الأستاذ، فقال له ما لأهل الحيرة وللطب؟ كان الأجدر بك أن تطوف بأزقة الحيرة وتصرف النقود فتألم حنين من كلام أستاذه وآلى على نفسه أن يتعلم اليونانية ليستغني بها عن أستاذه في تعلم الطب، وقد أتقنها ثم عاد إلى جند يسابور وبرز في فنه حتى عد من طراز جبرائيل بن بختيشوع وابن ماسويه وأضرابهما أي أنه يدخل ضمن الطائفتين المؤلفين والمترجمين.
وكان خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أول أمير من بني أمية اهتم بعلوم اليونان اهتماما خاصاً حتى لقب (بحكيم آل مروان) فقد جمع هذا الأمير نظراً لشغفه بكشف أكسير الكيمياء حكماء اليونان المقيمين في مصر في رحابه وطلب إليهم أن يعربوا المؤلفات اليونانية والمصرية عن أكسير الكيمياء عن اللغتين اليونانية والقبطية، وهذا حسب ما يعتقد ابن النديم أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.
يقول برتلو في مؤلفه عن تاريخ الكيمياء في القرون الوسطى: (كان جل هم الكيماويين الحصول على الأكسير الأعظم وحجر الفلاسفة، غير أنهم خلال تجاربهم للوصول إلى هدفهم هذا وفقوا لاكتشافات كبيرة في الكيمياء ولا تزال المصطلحات الكيماوية التي وضعها العرب مثل الكحول - والأنبيق - وغيرهما متداولة في جميع اللغات الأروبية تشهد بما كان للعرب في هذا الفن من سابقة وفضل).(777/22)
وهناك أمر هام أرى لزاما على أن أشير إليه وهو أن لوكلرك يشير في مؤلفه (تاريخ طب العرب) إلى أنه يعتقد أن مبدأ تاريخ اقتباس العرب من علوم اليونان يجب أن يرجع إلى ما قبل زمن خالد بن يزيد بمائة سنة أي أنه يعتقد أن تاريخ فتح مصر يجب أن يعتبر مبدأ لعهد اقتباس العرب من علوم اليونان؛ فإن يحيى النحوي وكان من ملازمي عمرو بن العاص وخواصه هو نفسه - حسب معتقد لوكلرك - يوحنا فيلويونوس شارح كتاب أرسطو وكان في الأصل من القسس اليعقوبيين وقام بترجمة بعض المؤلفات اليونانية إلى العربية بعد إسلامه. ويشير ابن النديم في الفهرست ضمن ذكر أسماء مؤلفاته ومقالاته إلى أن قام بشرح بعض مؤلفات جالينوس الطبية.
وعلى أي الأحوال فإن من المسلم به أنه قد ترجمت في زمن خالد ابن يزيد بن معاوية كتب في الكيمياء والطب وعلوم أخرى من اليونانية.
ويذكر ابن النديم مترجما باسم (اصطفن القديم) ويقول إنه قد ترجم كتباً في الصنعة أي الكيمياء وغيرها إلى العربية لخالد بن يزيد. وكان هذه الحقبة مقدمة لظهور العلماء أصحاب الرأي والنظر.
ففي عهد المترجمين في القرن الأول الهجري أو بعد ذلك بقليل كانت تراجم كتب الطب وسائر العلوم من اليونانية مزيجاً من الأصل المترجم عنه مع عادات المسلمين ومبادئ الصحة في الإسلام، ونادرا ما تجد طبيباً مسلماً يبدي رأياً أو نظراً خاصاً، بل كانوا على الأغلب الأعم يسيرون على النهج الذي سار عليه القدماء في حين أنا نجد في العصور التالية أي في عصور النهضة العلمية الإسلامية علماء كبارا تجاوزوا مرحلة الترجمة والتتلمذ فكان لهم استقلال في الرأي والنظر. ومع أن أساس معارفهم مقتبس ومأخوذ من علوم اليونان - ومع أنهم معترفون بفضل بقراط وجالينوس اللذين يذكرون دائما أسميهما بكل تجلة واحترام - إلا أن النظر والرأي ظاهران بصورة جلية في مؤلفاتهم. وتجد فيها أحياناً نقداً لآثار القدماء ومؤلفاتهم، فترى الأطباء المسلمين يقومون بتجارب جديدة في الطب، وتراهم يطبقون تعاليم طبية مفيدة على المرضى في المستشفيات كما ترى منهم شيئاً كثيراً من الابتكار والابتداع ولاسيما في طرق العلاج واستعمال الأدوية والعقاقير. وقد ترك علماء هذا العهد مؤلفات كثيرة قيمة في هذا الصدد.(777/23)
وفي هذا العهد نرى الرازي يبدي شكوكا على أقوال جالينوس كما نرى ابن سينا ينتقد فلسفة المشائين في مقدمة مؤلفه حكمة المشرقيين. وفي هذه العصور أصبحت الأندلس وبغداد من مراكز الطب المهمة حتى قيل إنه كان في مكتبة قرطبة وحدها ثلاثمائة ألف مجلد في مختلف العلوم والفنون.
ويختلف حكم الناس بالنسبة للخدمة التي أسداها المسلمون لعلم الطب؛ ففريق يعقتد أنه لو لم توجد الحضارة الإسلامية لضاعت آثار بقراط وجالينوس وأمثالهما في ظلام القرون الوسطى ولخسرها العالم إلى الأبد، وان بقاء هذه الآثار العلمية والمؤلفات كان بفضل وجود المسلمين واهتماهم بها، وإن هذا التراث العلمي الغالي لم يسلم بفضلهم من الفناء والضياع فحسب، بل أضيف إليه الشيء الكثير.
ولما ضعف المسلمون فيما بعد وخرج كثير من البلاد كالأندلس من يدهم كان خير ما تركوه لأخلافهم ذلك التراث العظيم من العلوم والفنون.
هذا رأي فريق، غير أن فريقاً آخر يرى، ورأي معظمهم ناشيء عن الجهل أو الغرض أو التعصب، أن خدمة الملسمين للطب ليست بذات بال، فان هذا التراث العلمي بقي مدة كأمانة لدى المسلمين ورجال الكنيسة، لكنهم لم يضيفوا إليه شيئاً من عندهم حتى جاءت النهضة الأروبية فتسلمه منهم رجال ذلك العهد واستفادوا منه.
والحق وسط بين هاتين العقيدتين المتضادتين المتطرفتين، فلا ريب أنه لو لم يقم المسلمون - بجمع آثار المتقدمين من العلماء وترجمتها ونقدها وشرحها وتفسيرها بتلك الدقة العظيمة لضاع الشيء الكثير من آثار اليونان العلمية. وخير شاهد على ذلك أن كثيراً من مؤلفات اليونان في الطب قد ضاعت نسخها الأصلية ولم يبق منها إلا ترجمتها العربية مثل الكتاب السابع من التشريح لجالينوس؛ فالموجود منه الآن - هو ترجمته العربية ليس غير.
زد على ذلك أن بعض الأطباء من المسلمين قد أسدوا إلى عالم الطب خدمات عظيمة ولاسيما في الطب العملي والجراحة؛ وقد برز كثير منهم في هذا المجال أمثال علي بن العباس المجوسي الأهوازي وأبي القاسم بن خلف الزهراوي.
فان لم نقل إن كل ما وجد في القرون الوسطى من علوم الطب كان بفضل الأطباء المسلمين فلا أقل من انصافهم بذكر الحقيقة وهي أن الطب في القرون الوسطى مدين(777/24)
للطب الإسلامي والأطباء المسلمين ديناً عظيما.
والذين يقصرون فضل حفظ التراث العلمي القديم على العرب فحسب مبالغون في قولهم هذا كذلك؛ فهؤلاء يقولون أنه لولا المسلمون لانقطعت الصلة تماما بين النهضة الأوروبية والعلوم اليونانية القديمة. وليس ما يقولونه كل الحق فان قسطاً عظيما من الكتب العلمية اليونانية كان موجوداً في أديرة المسيحية، وقد درسها وبحث فيها عدد من رجال العلم وحفظوا للعالم علوم اليونان وطرائق بحثهم ودراستهم العلمية.
وأهمية الطب الإسلامي تقتصر على أنه كان طوال قرون عديدة أي منذ انحطاط الحضارة والعلوم عند اليونان إلى زمن النهضة الأوربية أهم مصادر علوم اليونان وأصدقها. ولا يفتنا أن نذكر هنا أن الطب الإسلامي كسائر العلوم التي انتشرت بين المسلمين - وإن كان معظمه مأخوذاً عن مؤلفات اليونان وكتبهم فان قسطأص منه مأخوذ ولا شك عن مصادر إيرانية وهندية وسريانية. ومن أراد التفصيل فليراجع الفهرست (طبعة مصر صفحة 340 وما بعدها) وفيه أسماء المترجمين الذين ترجموا إلى العربية من اللغات المختلفة ومنهم ابن المقفع وكثير من آل نوبخت الذين نقلوا إلى العربية كثيراً من الكتب الفارسية.
ويجدر بنا أن نشير في هذا المقام إلى أن كثيراً من هذه الكتب التي عربت عن الفارسية الساسانية كان أصلها يونانيا ترجمت إلى الفارسية في عهد الساسانيين ثم قام بتعريبها الإيرانيون أنفسهم؛ ومن هذه الكتب كتب في المنطق والطب ترجمها ابن المقفع إلى العربية، وكتاب في الطب أيضاً لثياذوسيوس الطبيب الخاص لسابور الثاني عرب من الفارسية
وقد كان للإيرانيين أثر واضح في الطب بصفة خاصة عن طريق مدرسة جند يسابور. فبرغم أن أساس التعليم الطبي في تلك المدرسة كان الطب اليوناني إلا أنه قد اصطبغ بصبغة إيرانية بالتدريج، وكان للقريحة الإيرانية أثر كبير ونفوذ عظيم في منهج التعليم بها.
وقد ترجمت كتب أخرى من اللغات الهندية والقبطية إلى العربية ذكر ابن النديم كثيراً من أسمائها وأسماء الذين قاموا بتعريبها.
(يتبع)(777/25)
من لندن:
معركة العروبة في فلسطين
أهدافها ووسائلها
للأستاذ إبراهيم زكي أباظه
قد لا يصل هذا العدد من الرسالة إلى أيدي القراء إلا بعد انتهاء الانتداب البريطاني المشئوم على فلسطين، ودخول الجيوش العربية إليها وسحق الأخطبوط الصهيوني الذي يبث الويل والدمار حيثما سار وحل. . . وفي حمأة هذه الحوادث وهذا الاختلاط في الوضع، تطيش رؤوس وتضيع حقائق هي أجدر ألا تغيب عن أنظار الباحث الحكيم والمخطط البعيد النظر. . . إذ بينما يسير انتباه العالم بكامله الآن نحو الطرفين الرئيسيين في القضية وهما العرب واليهود ليرى نتيجة صراعهما، نجد من النادر وجود امرئ يحدد مسئولية بريطانيا ويفيها حقها من اللوم على ما يجري في البلاد المقدسة من سفك دماء وتدمير. . .
إن كل عليم بتطورات القضية الفلسطينية ليدرك تمام الإدراك أن بريطانيا هي الجانية الأولى والأخيرة في كل ما وقع وسيقع؛ وإنه لمما يؤلم ضمير كل محب للعدالة، أن يجد في بريطانيا اليوم ممثلة لأعظم مهزلة، بل وإنه ليجد في سلوكها وتصرفاتها الحاضرة كل ما هو تدنيس للحقيقة وتدليس لحرمة التاريخ وقداسته ذلك أنها بعد أن خلقت المشاكل بمناصرتها للوطن القومي اليهودي وباستخدامها الحراب لحمايته ووضع أسسه، تجدها الآن وقد وقفت تندب حظها في أن العرب واليهود يصبون عليها اللوم والعقاب بلا مبرر على حد رأَيها، بل وإنك لتراها تتباكى بسبب ما نزل بأبنائها من قتل وشنق وهي في ذلك كله تتخذ موقف البريء المجني عليه، والنبيل العادل الذي افُترِى عليه. . . ولسان حالها يقول كالشيطان الذي قال بعد أن حبب الكفر إلى قلوب العباد. إني بريء مما تشركون. . إن العالم والتاريخ والعدالة لتخط اليوم لبريطانيا صفحة مذلة وعار وخزي بتمثيل هذا الدور الشائن والذي لم يقتصر على الادعاء بالبراءة بل تعداه إلى ترك بلاد مقدسة طوال الثلاثين عاماً الماضية تحت رحمة صهيونية آثمة، تتسلح علنا ولا من محتج، وتستعد للحرب(777/27)
والفتك بالأبرياء وليس من إدارة تحاسبها على ذلك في كثير أو قليل، وتعمد إلى إرهاب ينمو ويتسع وينتظم تحت سمعها وبصرها وليس من تحذير أو ردع، حتى بات العرب العزل يجابهون مجزرة بربرية في دير ياسين وغيرها لا تقل إجراماً وتعطشا للدماء عن مذبحة سانت باثلمبو أو مذابح سبتمبر. . . ومع ذلك لم تقدم انجلترا على عمل تتخذه لحماية الأرواح. . . هذه حقائق ما كان أجدر بنا أن نعلمها حق العلم ونحن نخوض هذه المعركة الحاسمة ضد عدو غادر أثيم كالصهيونية. . . بل وعند انسحاب البريطانيين انسحاب الجاني المتلبس بجريمته.
الصهيونية والشيوعية:
ليست علاقات الصهيونية بالشيوعية بالشيء الحديث، وليست بخافية على كل من له إلمام بسير التاريخ الحاضر، بل وليست من سوء الحظ بالشيء البسيط الوحيد الذي غفل عنه قادتنا ورجالاتنا. . . إذ من ينسى أن منشئ الشيوعية الأول هو ماركس اليهودي؟ وهل من الجائز أن تنسى البلشفية الحاضرة دينها له؟ هل تنسى اليهودية صلة النسب بهذا الرجل ومذهبه؟ وهل من الجائز أن ينسى ستالين وأعوانه ذلك وينسوا واجبهم في معاهدة التوسع الصهيوني؟ ثم من ينسى أن نظام الاستقرار والاستعمار الزراعي في فلسطين هو تطبيق نموذجي للأصول الشيوعية كما هي في روسيا قلبا وقالبا؟ ومن ينسى أن من بين المهاجرين اليهود الأولين لفلسطين، جماعات روسية ركزت نفسها في الزوايا والنقاط الحيوية في فلسطين حيث جعلت منها مراكز لخزن السلاح وتدريس أصول الإرهاب وبث التعاليم الفوضية؟ وعلى من يجهل ذلك أن يذهب إلى مستعمرات شمال شرق فلسطين ومرج ابن عامر ليجد ألوف النشرات المعنونة بـ (مبادئ القومية) و (وبدعة الديانة) التي جلبها معهم يهود شرق أوربا؟ وليجد هذه كلها مع الكميات الهائلة من الذخيرة والأسلحة. . . هذا منذ عام 1920 وكما يعترف به اليهود الروس آنئذ. . . ثم من يجهل أن يهود البلقان - تلك البلاد التي هي الموطن التقليدي للأرهاب المحترف في العصر الحاضر - يقيمون الآن في فلسطين في عدد هائل وكلهم متدرب فائق الخبرة بالفنون العسكرية التي اكتسبها أثناء الحرب الحاضرة في حركات المقاومة، وجميعهم يرحب بروسيا كحامية للبلقان، ويرحب بأن يكون لها العون والنصير لإيجاد قاعدة بل وقواعد نشاط في الشرق الأوسط(777/28)
بادئين بفلسطين؟ إن الشرق الأوسط كله الآن يعج بهذه القوى الخفية والوكلاء السريين، كما تعج بهم موانئ دول البلقان، وكلهم متلهف للعمل، تواق للفتك والمغامرة من أجل فلسطين والصهيونية، وروسيا راعيتها الأولى. . . فعلينا أن نذكر هذا ونفكر في عواقبه!!
مجموعة من الأخطار:
إن كل عليم بأصول الحضارة والتاريخ والعقلية اليهودية لابدّ أن يفطن إلى فكرة على جانب من الأهمية وهي (أن الروح التجارية صفة بارزة في الشخصية اليهودية أينما حلت ومهما بلغت من علم وثقافة، وهي المعيار الوحيد في نشاطهم الدنيوي والأخروي سواء أكان ذلك في شراء بيضة، أو إنجاز صفقة، أو أداء صلاة، أو الحصول على فلسطين) ولا يصد اليهودي عن نيل ما يبتغيه إلا أن يرى أن إهدار دمائه هو الثمن لما يرجو الحصول عليه؛ وعندئذ يردع خاسئاً مدحورا، ولكن ليعاود ذلك بوقاحة وتكرار، وبكل ما أوتيه من غدر واحتيال، لا يردعه عن ذلك رادع إنساني أو مثل أعلى. . . وكم يجدر بقادتنا أن يفهموا هذه الميزة البارزة في عقلية الصهاينة ونشاطهم في هذا الكون. . .
بالأمس طالبوا بوطن روحي في فلسطين، ثم ببضعة أفدنة يزرعونها، ثم ببيوت ومدن يبنونها، ثم بالحصون والقلاع يرفعون سمنها، ثم بالدولة يضعون أسسها. . ثم ماذا؟ مطالب أثر مطالب. إذا ما أفلحوا فيها - لا سمح الله - فسيطالبون باللقمة في فم العربي يسلبونها ومعها يسلبون دعامة الحياة والبقاء.
بالأمس عُلق البريطانيون على أعواد المشانق وبالأمس اغتيل قادتهم في القاهرة وروما وبريطانيا نفسها، بقنابل بريدية، ونسف البنايات ودك المعاقل. . . إلى آخر ما هنالك من وسائل لن تقف عند حد في وحشيتها كل ذلك لأن الصهيونية تخيلت أن هذا البريطاني أو ذلك كفر بمطالب الصهيونية، أو لأنه احتج على أمر نبا عنه ذوقه، أو لأنه أعرب عن رأي لم يوافق إنجيل الصهيونية ومطامحها الخطيرةـ فكان جزاؤه سفك الدم! ثم نما الخنجر الصهيوني فإذا به ذو حدين مرهفين، أخذ ثانيهما يفتك بالعدو الأصيل - العرب، فمن قرى تدمر، وأطفال ونساء حوامل تبقر بطونها، وتنهش لحومها، وذلك على مرأى من العالم المتمدين وعلى مرأى من الجيوش العربية. . .!! فأمام هذا البلاء وأما هذا الكابوس الذي فرضه الأرهاب الصهيوني على أعدائه السياسيين وعلى الرأي العام العالمي، من(777/29)
يجرؤ على القول أن المصير المشئوم الذي ناله الكثيرون، بعيد عن أن ينال ملوكنا في قصورهم، وقادتنا في بيوتهم، وأطفالنا في أحضان أمهاتهم، ومساجدنا وكنائسنا، وقبورنا وآثارنا، ومقدساتنا وحرماتنا!! ومن يضمن أن يترفع هذا الإرهاب الأثيم والغدر البربري عن تدمير كل ما شدناه من آثار وتاريخ وأمجاد وحضارة؟ إن سلامة الشرق الأوسط بأسره في كفه الميزان؛ فعلى الملوك والعواهل والوزراء أن يحزموا أمرهم ويجمعوا رأيهم لتقليم هذا الأخطبوط الصهيوني الخطر. . .! وإلا فليس من البعيد أن يقال في عهد الملك الفلاني، ضاعت فلسطين ثم بتفريطه في الدفاع عنها، حلت ببلاده هو النوائب والبلايا. . . وفي عهد القائد الفلاني فقدت فلسطين ومنها سارت جيوش الأعداء واحتلت بلاده. هذه أفكار ليس للتشاؤم دخل فيها، ولكن علينا أن نتأهب للأمر وألا نلدغ من جحر مرتين. . . لقد قللنا من خطر الصهيونية وخفي علينا ما في البلاد من أوكار ومكامن، ومن قوى وأخطار وجيوش انقلبت بين عشية وضحاها إلى قوى نظامية قادرة على صب الويلات، وإهراق الدماء بدون مقاومة تذكر.
منذ عشرين قرنا من الاضطهاد المزعوم الذي جلبه اليهود على أنفسهم، غليت قلوبهم بالحقد والضغينة على الإنسانية جمعاء، أخذ يتطور الآن بعد تكتلهم في فلسطين إلى حملة من الانتقام تهدف لتصفية الحساب مع كل فرد أو مجموعة سبق في زعمهم أن ساهموا في تعذيب اليهود واضطهادهم، وهذه ملفات الوكالة اليهودية حافلة بخطط الانتقام، ولم ينس الصهاينة حوادث العراق عام 1941، ولا حوادث الشعوب التي اعتدت أفرادها على أقلياتهم في بلادها، ومن بين هذه الشعوب الشعب البريطاني والشعب الألماني، ولكن في المقدمة سيأتي طبعاً كل ما يزعمونه ويختلقونه من اضطهاد حل بهم في البلاد العربية المجاورة، كما أن كل كلمة فاه بها أمير أو زعيم كلها مرقومة في سجلاتهم، وهم متعطشون لتسديد الحساب بلا رفق ولا هوادة، وكلما استقر بهم المقام في فلسطين وتمكن لهم الحال فيها تعاظمت الأخطار وهذبت الخطط لانتقام مروع دام يصبونه على العروبة ودولها.
أبرزت الحوادث العديدة في السنين العشر الماضية الصلة الوثيقة بين صهيوني فلسطين ويهود الأقطار العربية، والنشاط السري الواسع، والوكالات والمنظمات التي يدبرها هؤلاء الآخرون حتى ثبت الآن أن أفراد العصابات الإرهابية التي تفتك بالآمنين في فلسطين(777/30)
يتألف أغلبها من يهود عرب جُلبوا ودربوا تحت إشراف الخبراء اليهود الأوربيين، وبسبب معرفتهم العربية وملامحهم العربية سهل عليهم تنفيذ تلك المهمات الإجرامية التي عهدت إليهم. ولا يسعنا أن نغفل هنا ذكر سارة أرنسون وأفراد أسرتها التي اختصت بالتجسس في الشرق وبين القبائل في الصحراء السورية في الحرب العالمية الأولى. وأن لهذه الأسرة وكلاء لا يزالون يقومون بنفس المهمة، كما أن الخدمة السرية للوكالة اليهودية لها قلم خاص للاستخبارات في الشرق الأوسط العربي، وهو نشيط وله أساليب هدامة مريعة في تنفيذ خططه. وقد أثبت يهود اليمن وعدن ويهود حلب بصورة خاصة مهارة تذكر في هذا السبيل. . . إن يهود البلاد العربية جيوب غدر وأعوان هجوم، خطرها بالغ وسمها نقيع إذا ما اقترن غدرها بالتوجيه العصري والتنظيم الأخصائي تحت إرشاد الأخطبوط الصهيوني في فلسطين.
أما توزع اليهود في العالم فله ميزة بالغة استغلها اليهود كل الاستغلال وعصروا كل خبرات الأمم التي عاشوا بينها وجلبوها إلى فلسطين لا للاستقرار فحسب، بل للامتداد والتوسع. وإذا ما علمنا نتاج اليهود الاقتصادي وقوتهم المالية أدركنا الاحتمالات الأكيدة الناجمة عن ذلك فيما لو سمح لهم بالتركز في الأرض المقدسة، وليس إنشاء أسطول ضخم، وجيش عصري ومصرف دولي، وإذاعة قوية، وجامعات ومعاهد، وحصون وقلاع، وقواعد غزو، إلا نماذج من هذه التوسع العتيد الأكيد.
إن هذه مجموعة من الأخطار نقدمها هدية - قبل فوات الأوان - إلى أولئك الذين يتقلدون المناصب ويتحكمون في توجيه الرأي العام العربي، ويوجهون سياسته ويناصرون العروبة ويشدون أزرها، لا بدافع التشاؤم والوجل بل كصرخة يرسلها عالم متألم، يؤمن بأن الاعتراف بالحقيقة مهما كانت مُرة قاسية هي أولى الخطوات لتسديد الخطر، وحزم الأمر وخوض المعركة بصبر وبلاء يجدر بالصادقين الذين عاهدوا الله على النصر أو الفناء، دفاعاً عن العروبة وأمجادها وتراثها الغالي التليد.
مبررات دخول الجيوش العربية:
مضى على انفجار الغدر الصهيوني أكثر من شهرين، أريقت خلالها دماء، وأزهقت أرواح، واحتلت مدن، واقترفت جرائم هزت وعي الإنسانية، وروعت أحاسيس البشرية،(777/31)
وستبقى مذبحة دير ياسين الشاهد الدامي على جريمة فاقت بربرية النازيين، بل غطت على فظاعة القتل بالغاز والخنق وجرائم القرون الوسطى، وكل ذلك من جماعات متشردة أعدت ودربت للفتك وفرض دولة يهودية في الشرق، وليس لأحد منهم صلة أو حق بهذه الأرض العربية الصميمة. ومما لا شك فيه أن يهود العالم يمولون الاعتداء والجرائم الصهيونية في فلسطين، كما أن حركة التجنيد اليهودية على قدم وساق في كافة الأقطار وتحت أسماء مختلفة أغلبها تحت اسم (حركة الشباب العبري) ولهم معسكرات في كل مكان تعد الجند وتجمع القوى، كما صدرت نماذج التحاق بالجيش لكافة الشباب اليهودي العالمي للخدمة في ميادين فلسطين في الحال عندما يطلب إليهم ذلك، كما أخذ الكثير من هؤلاء يتسرب إلى فلسطين بكافة الطرق ومعهم تدريبهم العسكري الفائق، هذا وإن الأخصائيين الروسيين يقودون الآن الفرق اليهودية المرابطة في عشرات الموانيء في البلقان، وكلها عازمة على غزو عام مسلح للأراضي المقدسة.
وعلى العموم فكفة السلم في الشرق الأوسط الآن هي فريسة لتيارات عنيفة عسكرية وسياسية واقتصادية. وإذا ما علمنا أن دول الشرق فتية الاستقلال حديثة العهد، وجدنا لأنفسانا كل مبرر يمليه الحق والعدل والأمن والسلام. وكلها تفرض واجباً سريعاً حاسماً لدخول الجيوش العربية واجتثاث الصهيونية حتى لا تعود إلى شرورها وأخطارها الفادحة.
خطط وأهداف:
القضاء على الصهيونية كقوة عسكرية، وخنق انتشارها كعقيدة سياسية، وإدماج فلسطين كدولة عربية، كجزء في جامعتنا، وإيجاد إدارة مدنية شاملة لكافة الرعايا - هذه هي بالايجاز ما يجب أن تهدف له الجيوش العربية عند دخولها إلى فلسطين. . .
تقوم في تل أبيب الآن معاقل إرهاب ومستودعات أسلحة ومصانع تجعل من المدينة خطراً يهدد سلامة الشرق، وإذا رأى الإنجليز في تدمير برلين العمل الوحيد لصون السلم العالمي والقضاء على رأس الثعبان النازي، فدمار تل أبيب ونزعها، كنواة لدولة يهودية، من مخلية اليهود، علم ضروري لا مفر منه إذا أردنا ان نكون عمليين في أعمالنا وخططنا لحفظ السلم في الشرق. فهذا الوكر الذي يحتله ربع مليون إرهابي عنيد يجب أن يلقى نفس المصير الذي لقيته برلين وخاريحوف وهامبرج، ووجودها على قيد الحياة بكل ما يمكن(777/32)
فيها من أخطار سيكون برهانا - يوماً ما - على عقم تفكيرنا، وقصر نظرنا.
إن الصهيونية كالنازية في أهدافها ووسائلها؛ هي مذهب خالط الدم واللحم واختراقه إلى العظم في جسم كل يهودي، لذا أصبح من الواجب على القيادة العربية، إعداد منهج يحفظ لليهود حياتهم كأفراد خالين من شوائب الصهيونية، كمبدأ هدم وسيطرة، والاستعاضة عنها بثقافة سليمة أخوية تمكن لليهودي العيش بهدوء وأمن مع الجمهرة العربية في فلسطين. . . إن محق الصهيونية كمبدأ خفي هو إنقاذ لمستقبل الشرق. وكخطوة جوهرية في هذا، يجب على القيادة ألا تغفل عن فرض رقابة شريعة في الدقيقة التي تدخل جيوشها الأراضي المقدسة على الشواطئ وإيقاف الغزو الذي ستقوم به ألوف صهيونية عدة تنتظر الأوامر بالنزول إلى البر. . . إن كل صهيوني يقدم حديثاً إلى فلسطين، هو خبير عسكري مُنتدب لمهمة خاصة في الدولة الصهيونية المزعوم إنشاؤها. .
إن دخول الجيوش العربية حادث بالغ الأهمية في تاريخ العروبة؛ فهو أول عمل مشترك تقوم به الجامعة لحفظ حياتها، وسيشخص العالم بأبصاره ليرى كفاءتها وحنكتها في مراحل حياتها الأولى، وسيقبل حكمها وحلها لقضية فلسطين، حتى ولو فرض بالقوة كما يتطلب الموقف الآن، وسيكون حقيقة واقعة إذا ما اقترن ذلك بإيجاد إدارة مدنية ذات كفاءة وحنكة حتى ولو كانت عربية صميمة. إن الحنكة والشجاعة من القائد البارع تخضع لهما رقاب الأعداء ولو كان ظالماً. هذا درس تعلمته البشرية خلال تجارب عديدة برغم عدم اعترافها به. وإن كل هوادة، أو تراخ في هذه المرحلة الحاسمة معناها الانهزام أمام الإرهاب وانتحار الجامعة العربية، وتحطيم الأهداف والمبادئ والمطامح التي علقتها عليها ملايين الشباب في أطراف العالم العربي
هذا يوم تشخص فيه عيون الأيتام والأطفال والنساء، والمروعين حتى الطامحين إلى القتال، ولكن يعوزهم السلاح والدراية، بل وعيون العالم أجمع، لنرى جيوش العروبة تخوض معركة التحرير لإنقاذ فلسطين وإراحة العالم من قلق وخوف عجزت بريطانيا وهيئة الأمم المتحدة بسبب مطامحها وأنانيتها عن إيجاد الحل العادل لها.
إن هذا يوم له في تاريخ العروبة ما بعده، فاجعلوه مشهوداً أغر - وللعروبة نصر محتوم وظفر محقق.(777/33)
(لندن) 1151948
إبراهيم زكي أباظه
المحامي(777/34)
الربيع الخالد. . .
(إلى جيش النصر الظافر. . . في فلسطين)
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
ليس الربيع لنا دوحاً وأنهاراً ... ولا غناء وأنداء وأزهارا
ولا رُبى مرحات الأيك وارفة ... كجنة الخلد آصالا وأسحارا
ولا نسيما تحس الغيد نفحته ... عطراً ولفحته في القلب إعصارا
ولا أهازيج أطيار تسيل كما ... سال الندى عبقاً من كف آذارا
بل الربيع الموشى في مباهجه ... روح الحياة بدا كما لنبع ثرارا!
روح تغلغل في الدنيا فبد لها ... بالجدب خصباً وبالظلماء أنوارا
يرى على الأرض أشجاراً وأودية ... وفي السموات أطيافاً وأطيارا
وإنما هو سر لا قرار له ... وإن تبلج أزهاراً وأقمارا
أرى الربيع شباباً ضاحكاً نضراً ... كالبحر مصطفقاً والنجم سيارا
فإن توارى شتاء فهو أجنحة ... تهيم في الأرض إقبالاً وإدبارا
وتقتنيه الصحارى في بواطنها ... تشكون صدىً ثار في أعماقها نارا
فيعتلي السحب يزجيها ويوسعها ... رعداً وبرقاً فيهمي الغيث مدرارا!
وللطبيعة إحساس تحس به ... نور الدجى وترى للجهر أسرارا
ليست زهور الروابي في خمائلها ... إلا قلوباً وأسماعاً وأبصارا!
وللطبيعة أسرار يبوح بها ... فم الربيع عشيات وأبكارا
تفيض بالبهجة الكبرى مواكبه ... أُنسا وبشرا وأضواء وأعطارا
منذ يراه ربيعاً واحداً ألقاً ... وقد تعدد أطواراً وأوطارا؟
لكل نفس ربيع في قرارتها ... رأته رأياً ولم تبصره إبصارا!
والعين لا تبصر الأكوان حالية ... إلا بنفس ترى الأوكار أفكارا!
ورب ذي بصر أعمى البصيرة لا ... يرى بشائر حسن هز (بشارا)
إذا رأى الشمس والأقمار سافرة ... فقد رأى حجباً شتى وأستارا
وأنت يا فتنة للقلب آسرة ... يا روضة من رياض الخلد معطارا(777/35)
يا صورة لربيع الحب مؤتلقاً ... ندى وندّاً وأزهاراً وأثمارا
أرى بعينك لي سحراً وساحرة ... وفي محياك لي خمراً وخمارا
أنت الحياة التي تجلو الربيع لنا ... يعانق الشرق إجلالا وإكبارا
وما الربيع سوى الحرية انبعثت ... في الشرق عزماً على الأعداء جبارا
ليعلم الغرب أن الشرق ناجزه ... بالنار ناراً وبالبتار بتارا!
حتى نجدد للتاريخ سيرتنا ... مهاجرين كما كنا وأنصارا
وما فلسطين إلا الجنة اقتربت ... لمن يذيق (اليهود) النار والعارا
هيا إليها على أشلائهم لنرى ... معنى الربيع وجيش النصر جرارا
العرب كم رفعوا للحق ألوية ... ومصركم حررت بالسيف أمصارا(777/36)
خواطر مسجوعة:
الحكمة
للأستاذ حامد بدر
قيل لِمض لمْ تطل في مقالك؟ قلت وما عيب ذلك؟. إن المعنى العزيز، في اللفظ الوجيز، كالحسناء الرشيقة، في الحلة الأنيقة. والمعنى الضئيل، في اللفظ الطويل، كالجسم الغث، في الثوب الرث. وقد تأتي الحكمة في كليمات، ولا تأتي في صفحات. كما يجزل لك السخي العطاء، ولا يشعرك بعناء. ويثقلك الشحيح بمن طويل، لو يعطيك القليل!
فالحكمة درس كبير، في أوجز تعبير، يمليه قلب بصير، ويؤيده تجريب كثير، فتعجب من سطور، تتيه على الشذور، لأنها أغنى من الكتب، وأغلى من الذهب، ينبعث نورها من حلك المداد، كنور القلب ينبعث من السواد. فخذ من الحكمة ثراء كبيراً، (ومنْ يُؤتَ الحكمةَ فقدْ أوتي خيراً كثيراً)
أجل في الحكمة ثراء، يفتقر إليه الأثرياء، ونور لا تغني عنه سعة البصرين، ولا أشعة القمرين. ثراء يملأ الجنان، بالرضا والإيمان، ونور تتضاءل عنده الأنوار، وتنكشف أمامه الأسرارن فقلب الحكيم غني بما فيه، عامر بما يحويه، وعينه نافذة وإن لم تكن نجلاء، وحسبك أبو العلاء!
والحكيم إن فكر ارتقى، وأن عبر انتقى. فالحكمة بنت الفكرة العالية، في العبارة الغالية، بل هي من الأدب غايته، ومن البيان آيته. وكثيراً ما تمتُّ إلى الشعر بلحمة، (وإن من الشعر لحكمة) إلا أنها ليست حكما لطبع جائز، ولا وحياً لشعور ثائر. بل تجيء عند هدوء النفس، واعتدال الحس، بعيدة عن عسف الغلواء، بريئة من سرف الأهواء.(777/37)
الأدب والفنّ في اسبُوع
الثقافة والمثقفون:
هذا هو عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور محمود عزمي بك يوم الثلاثاء الماضي في الاتحاد الثقافي المصري.
تتبع المحاضر مدلول الثقافة في العصور المختلفة حتى العصر الحديث، وانتهى من ذلك إلى تعريف (الثقافة) بأنها الجانب العقلي للحياة الاجتماعية، وأنها تشمل المعارف ذات الأثر العملي النافع في الحياة، فهي شاملة بمعنى أن المثقف هو الذي يأخذ من كل فن بطرف، وهي ذات صبغة حيوية لارتباط المعلومات بالحياة العملية الواقعة.
ولذلك لا يعد الباحث المختص في أي فرع من فروع العلم، أو فن من الفنون، مثقفاً، ما لم يلم ببقية العلوم والفنون إلماماً نافعاً. وأشار المحاضر إلى ما توصف به الثقافة من نحو (الثقافة الفرنسية) أو (الثقافة العلمية) قائلا إن معنى الشمول الذي تدل عليه (الثقافة) لا يتفق مع هذا التخصيص.
وقال إن الكلمة التي كانت تدل على ذلك المعنى الشامل لألوان المعرفة في العصور العربية المتوسطة، هي كلمة (أدب) فقد كلنت تطلق على الشعر والنثر والتاريخ والفقه والتفسير والحديث والفلسفة والمنطق وغير ذلك. ولكن في العصر الحديث أخذت كلمة (أدب) المعنى الفني المعروف. وهنا قص المحا ضر قصة طريفة تدور حول البحث عن كلمة عربية تقابل كلمة (كلتير) الإفرنجية حتى اهتدى إلى (الثقافة) فأطلقت على هذا المعنى. قال: كنا طلبة في باريس من مختلف البلاد العربية في وقت ثار فيه هناك جدل حول معنى الثقافة، فألفنا جمعية أسميناها (جمعية التهذيبات العربية) ولما عدت إلى مصر واشتغلت بالتدريس، كنت أحتاج إلى كثير من الأسماء العربية للمدلولات الحديثة، ودلني بعض الناس إلى كتاب (المخصص) لابن سيده، فاستفدت كثيراً منه، وقيل لي إنه مما ينفع في هذا المجال مؤلفات خريجي دار العلوم الذين تعلموا في بعثات بأوربا، وقرأت هذه المؤلفات ووجدت فيها كثيراً مما أطلب، ومرة وقعت على كتاب لأحدهم وهو الأستاذ حسن توفيق العدل، إسمه (سياسة الفحول في تثقيف العقول) فأمسكت بكلمة (تثقيف) وراجعت بعض المعاجم حتى وجدت في (أساس البلاغة) كلمة (الثقافة) بمعنى طلب العلوم والمعارف، ثم كتبت مقالا بجريدة(777/38)
السياسة عنوانه (الثقافة البيضاء المتوسطة) فعقب عليه الدكتور طه حسين في فصل من فصوله التي كان يكتبها بعنوان (حديث الاربعاء) واستحسن كلمة (الثقافة) ولكن لم يعجبه وصفها بالبيضاء المتوسطة. . ذاهباً إلى أن الإضافة أحسن فيقال (ثقافة البحر الأبيض المتوسط) بدلا من ذلك العنوان. . وبعد ذلك سارت الكلمة حتى الآن. وقال المحاضر إنه رجع إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية وسأل عن مكان كلمة (الثقافة) في أعماله، فقيل له إن المجمع لم يتعرض لها بشيء حتى الآن، سوى ما تضمنته الأصول المعدة للمعجم الوسيط من أن (الثقافة) هي الإلمام بالمعرف المختلفة إلماماً حسناً.
تصوير الكاتب لغير بيئته:
نشط الأستاذ محمود تيمور بك أخيراً في الكتابة عن القضايا والمذاهب الأدبية، ومن ذلك ما يشرته له مجلة (الاستديو) في عددها الأخير بعنوان (هل يحيا القصاص حياة أبطاله؟) وقد تعرض في هذا المقال لاتصال الفنان ببيئته وغير بيئته وأثر ذلك في فنه، وقال (ولبعض النقاد عذرهم فيما يرتأون من أن القاص يجب أن يكون قد مارس حياة الصعلكة مثلا ليجيد التصوير لشخصية الصعلوك، وأن يكون قد عاش عيشة الفلاح ليتحدث عن نفسية الفلاح) ثم قال: (على أن هذه الفكرة في وجاهتها وأصالتها، وفي صدق أمثلتها، ليست كل الرأي في هذا الصدد؛ ولا يمكن أن تكون هي الحتم اللزام الذي لا سبيل غيره إلى تجويد وإتقان؛ فقد يكفي أن يخالط الفنان طبقة من الناس، ولوناً من الحياة، نوعاً من المخالطو قل أو كثر، فسرعان ما يتأثر بهذه الطبقة وذلك اللون، وسرعان ما يجد في هذا التأثر مدرجة لإجادة الوصف والتعبير، تسعفه الفطنة، وتمده البصيرة، ويحلق به الخيال في الآفاق والأعماق).
وقال أيضاً: (ومن الطريف أن في صميم الميدان الأدبي أمثلة تثبت عكس ما يراه النقاد من أن ابن البيئة أولى من يجيد تصويرها، فقد يكون الفنان نزاعاً إلى نوع من الحياة غير الذي يحياه، طلاعاً إلى جديد من العيش، وإن كان أدنى من عيشه، وأحفل بالمشقة والكبد؛ فيبعثه الحرمان والنزوع إلى تمثل تلك الحياةالمنشودة والاستمتاع بها في عالم الخيال، ومن ثم يستبين تعبيره قوياً حياً يصور بيئة غير بيئته، وطبقة غير طبقته، وحياة غير حياته).
ولك أن تلاحظ أن ذلك ينطبق على الأستاذ تيمور نفسه، لما يشيع في قصصه من تصوير ألوان من الناس بعيدة عن حياته في طبقته، فهو إذ يفصل القول في هذه القضية، إنما(777/39)
يصدر عن إحساس وتجربة. على أنني أضيف إلى ما بينه، أن الفنان الذي يطرأ على بيئة جديدة يسترعي انتباهه فيها ما يراه الفنان المقيم بها أمراً عادياً لا يستحق الالتفات، لطول الألفة والمعاشرة
مثال:
ثم أريد من تلك الفقرات التي نقلتها من كتابة تيمور أن تكون مثالا لتعليق (الرسالة) على ما كتبه الدكتور الأهواني بالعدد الماضي عن أسلوب تيمور، ولعله يرى أن هذه الكتابة أقرب إلى (ترسل الجاحظ) منها إلى كثير مما يكتبه بعض الكتاب في هذه الأيام. . . وهي كتابة تيمور التي عدَّ الدكتور من مزاياها أن تبعدنا عن ترسل الجاحظ!. .
معرض الكتاب للطفل والناشيء:
أقامت وزارة المعارف بدار خدمة الشباب (7 - شارع سليمان باشا) (معرض الكتاب للطفل والناشيء) وهو يضم مجموعات من الكتب العربية والإنجليزية والفرنسية والأمريكية الخاصة برياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية، وقد شاهدت بينها مجموعة لابأس بها من الكتب الأدبية العامة (غير المدرسية) وقد ضمها المعرض لأنها مقررة للقراءة الأدبية في مكتبات المدارس الثانوية؛ والمعرض بطبيعة الحال لا يضم كل الكتب المؤلفة للطفل والناشيء، وإنما يحتوي على كثير منها، ولاسيما الكتب غير العربية، والمعروض منها هو المستعمل بمصر في المدارس المصرية أو الأجنبية، ومع هذا فإن القسم العربي أقل من كل قسممن الأقسام الأخرى، ولم يعجبني أن تأخذ هذه الأقسام صدارة المكان، فقد كان يجب أن يقدم القسم العربي مهما كان حظه من الكمية والمادة والمظهر.
والغرض من هذا المعر ض أن يقف الزائرون من رجال التعليم والمؤلفين والناشرين والآباء والأمهات - على مدى ما وسلت إليه كتب الأطفال والناشئين. وقد رأيت المعرض زاخراً بعدد كبير من السيدات (الأجنبيات) يتأملن ويتصفحن باحثات عن الغذاء العقلي لأولادهن، وأرسلت البصر في جوانب المكان فلم تقع عيني على امرأة مصرية. . وليس ذلك لاحتجابها، فقد رفع الحجاب؛ ولا لاحتشامها، فهي في السينما
الطبيعة بين الشعر والعلم:(777/40)
ألقى الدكتور محمد حسين هيكل باشا يوم الجمعة الماضي محاضرة بنادي رابطة خريجي معاهد فرنسا وبلجيكا وسويسرا، كان موضوعها (الطبيعة بين الشعر والعلم) استهلها ببيان أنه سيتحدث حديثاً قوامه رواية مشاهد وليس القصد منه التفكير في نظريات أو مذاهب وآراء. ثم بدأ بالحديث عن (مساقط النياجرا) التي تقع بين أمريكا وكندا، فقال إنها من عجائب الدنيا السبع، ومناظرها بما يحيط بها من حدائق من أجمل مناظر الدنيا، ومن عجيب أمرها أن المقبل عليها لا يبهره أول ما تقع عليه عينه من مشاهدها، ولكن كلما أنعم الناظر في مفاتنها أحاط بها وتجلت له عظمة الطبيعة على نحو يعجز عن وصفه أبلغ الكتال وأقدر الشعراء. وحول هذه الساقط جنات فسيحة متدرجة في الارتفاع بحيث يرى الإنسان المساقط من أي مكان فيها. ومما يزيدها جمالاً بالليل ما يسلط عليها من الأشعة الكهربية الملونة؛ وكل ذلك قد جعل منها بحق (جنة شهر العسل) وهنا ساق هيكل باشا دعابة قال فيها إنه عندما زار هذه المساقط لم يكن مثل الكثيرين الذين يقضون فيها شهر العسل، لأن الذي كان يرافقه إنما هو الأستاذ جورج حبيب سكرتير فني مجلس الشيوخ. . ولذلك لم يكن تأثيرها الشعري فيه بالغاً، وإنما راعه كثيراً، عناية أهل تلك الجهات باستخدام العلم في تجميلها والانتفاع بها، فأنشأوا مهابط كهربية (عكس المصاعد) تهبط إلى عمق خمسين متراً في الأرض، فإذا نزل النازل لبس ثياباً من الجلد لأنه يكون قريباً من مستوى رشاش الماء، فيستمتع بمنظر لا مثيل له؛ وبالقرب من المساقط محطة كهربية قةتها حوالي 175 حصاناً كلها مستمدة من مياه المساقط التي تنحدر إليها في جوف الأرض. ثم قال: هناك يشعر الإنسان بقوة الطبيعة وعظمة العلم. قلت في نفسي وقد شهدت المساقط والمحطة الكهربية: أيهما أبدع وأروع سحر الطبيعة أو عقل الإنسان، الطبيعة كما هي أو بعد تهذيب الإنسان لها وتلسطه عليها؟ أعتقد أن علم الإنسان حين يختلط بالطبيعة وحين يندمج فيها، هو بعض هذه الطبيعة، كالصخور التي تتغير أوضاعها بفعل الطبيعة، فالإنسان قوة من قوى الطبيعة.
ثم انتقل هيك باشا إلى (الريفيرا) فتحدث عن جمالها واقتران العلم بالشعر هناك أيضاً، وقال إن زرقة البحر الأبيض المتوسط جميلة في الإسكندرية ومرس مطروح، وفي غيرهما، ولكنها لا تبدو رائعة أخاذة كما تبدو على ساحل (الريفرا) الممتد من مرسيليا إلى(777/41)
جنوة. ثم قال: منذ ثماني عشرة سنة زرت الأقصر، وركبت الباخرة منها إلى أسوان ثم من أسوان إلى القاهرة، وكنت من خلال الرحلة أشعر بالرضى والطمأنينة لجمال النيل وزرقة مائه ولما كنت أستشعره من الآثار المصرية القديمة القائمة على شواطئه، ولكن هل استطعنا أن نخلق على شط النيل (جنة لشهر العسل؟) ونحن نخطر فوق مياهه فهل ارتقينا (بالإنسان) المقيم في واديه إلى مرتبة الإنسان؟ لا أزال أذكر منظراً رأيته مكرراً في تلكم الرحلة، الفلاح يزرع قطعة من الأرض يقتات منها هو وعياله، ينقل الماء إليها من النيل بوساطة رجل عند المجرى يرفع الماء إى ثان، والثاني يرفعه إلى ثالث، والرابع يوزعه على الزرع. ولاشك أن الحال لم تتغير إلى الآن، وقد بلغنا عن طريق العلم ما بلغنا في معرفة طرق رفع المياه، ولكن لم نستخدمه في راحة هؤلاء الناس. . أليس مما يجرح القلب أن نهمل هؤلاء الناس وندعهم يشقون؟ أليس واجباً أن نعمل وأن ننشر آراءنا في الناس؟ أقول هذا وأنا أعترف أني من المسئولين عن التقصير في هذا المجال. . .
من طرف المجالس:
اعتدت أن ألقي بعض الأصدقاء يوماً من الأسبوع بمشرب في القاهرة، وكثيراً ما أجد هناك من لا أرتاح إلى مجلسه، فأعتبر ذلك ضريبة للقاء الأصدقاء!
وذات يوم أقيل علينا صديق من غيبة طويلة، ففرحنا به وشاعت البهجة في نفوسنا لقدومه. وبينما نحن نمرح ونمزح إذا (ضريبة تصاعدية) تفرض علينا في شخص صاحب يأبى إلا أن يكون شاعراً، قد أعد قصيدة طويلة من الشعر (الوسط) فنغص علينا بإلقائها على أسماعنا. . . والبلوى بهذا الصاحب أنه لا عيب فيه إلا شعره الذي يحرص على ألا تفوتنا بدائعه! فلو أنه ممن لا تقتضي صحبته المودة لسهل التخلص من الإنصات لإنشاده. .
أفضيت بأمر هذا الشاعر إلى الأستاذ كامل كيلاني، فابتسم ثم قال: ألا تعرف أني قلت في مثله أبياتاً منها:
فزكاة صحبته سماع قصيدة ... أبياتها قد زلزلت زلزالا
فإذا أبيت فقد عققت صداقة ... وإذا رضيت فقد حملت جبالا
أوربا فقط:(777/42)
دعت رابطة (مصر - أوربا) إلى حفلة ساهرة يوم الخميس الماضي بالنادي اليوناني الذي تتخذه مقراً مؤقتاً لها، أو هكذا تقول. . فقد كان كل ما في الحفلة التي دعت إليها (رابطة مصر - أوربا) أوربيا، كان هناك موسيقى أوربية وغناء أوربي. أما مصر، وهي الشطر الأول من اسم الرابطة، فلم يكن يدل عليها هناك إلا طربوش رئيس الرابطة المصري. وكانت الرابطة قد دعت قبل هذه الحفلة بنحو أسبوع إلى سماع محاضرة لأحد الأجانب باللغة الفرنسية، ولم تدع مرة إلى محاضرة عربية، فلماذا لم يسموها (رابطة أوربا) من غير إقحام مصر المسكينة. .؟
هل رابطة (مصر - أوربا) اتحاد مصري انجليزي آخر.؟
التأليف المسرحي:
عانت الفرقة المصرية في العام المنصرم أزمة في التأليف المسرحي فلم تقدم في هذا الموسم من الروايات المؤلفة الجديدة سوى رواية واحدة هي (الناصر) لعزيز أباظة باشا، وباقي ما قدمته إما مترجم أو مقتبس أو مؤلف قديم. ولم يبد إلى الآن ما يد على انفراج هذه الأزمة، على رغم ما قيل من اعتماد مبالغ من المال لتشجيع التأليف للمسرح.
ومما يدل على ذلك ان لجنة ترقية التمثيل العربي، لما أرادت أن تكمل هذا النقص في وضع برنامج الفرقة في الموسم القادم، قالت إن الظروف الحاضرة لا تسعف الفرقة بالمسرحيات التي تؤدي رسالة الأدب المسرحي الرفيع على الوجه الأكمل، وهي لذلك ترى ضرورة الاستعانة بالمسرحيات القديمة التي سبق أن أخرجتها الفرقة القومية وأحرزت النجاح. ومن هذه المسرحيات (مجنون ليلى وكليوبترا) لشوقي، و (قيس ولبنى والعباسة والناصر) لعزيز أباظة، و (حواء الخالدة) لمحمود تيمور، وتقدم مع هذه الروايات مسرحيات مترجمة سبق إخراجها وتمثيلها أيضاً.
وقد انكشفت الضجة التي ثارت حول المسرح في أواخر هذا العام، عن انضمام يوسف وهبي إلى الفرقة المصرية، أما تزويد الفرقة بمؤلفات مسرحية جديدة فلا تزال بإزائه علامتا أسف واستفهام. .
العباس(777/43)
البَريدُ الأدَبي
فلسطين والأدب:
قرأت ما كتبه (فتى الفيحاء) في العدد السابق من (الرسالة) فاهتز كياني وكادت تذهب نفسي حسرات لما قارنت بين موقف أدبائنا وشعرائنا من أبناء وطنهم وأشقائهم، وموقف بيرون الشاعر الانجليزي من يونان.
فبيرون لم تكن تربطه باليونان لغة أو وطن أو جنس، ومع ذلك أيت عليه نفسه أن يرى طلاب الحرية وخطاب المجد يكافحون الغاصب ويدفعون المحتل ولا يكون لهم من نصرنه نصيب، فهجر راحته ووقف نفسه على اليونان ليكون له في إعانة الضعفاء قسط وفي بناء الحرية مقام.
فصرخت من أعماق نفسي واخجلتاه! أعقمت الأمة العربية فلم تلد بيروتاً واحدا؟
ولكن سرعان ما تبدل الخوف أمنا حين رأيت (الرسالة) تفتتح معركة فلسطين الأدبية فأرسلها صاحبها مدوية مجلجلة تنعي على ساسة أوربا وقادة أمريكا لصوصيتهم الكافرة وصليبيتهم المتطرفة، وتأليبهم الجائر على العرب ابتغاء مرضى يهوذا ومصانعة لأبناء صهيون. ثم ثنى على ذلك فصور نفسية اليهودي وقد اقتربت الفريسة منه بعد أن أحكم لها الشباك، ثم بدا له فارتد عنها مذعوراً، فلم يغره في هذه المدة وهج الذهب الذي عبده منذ خلق، ولم تأسره المادة التي ما زجت نفسه وانحدرت إلى عروقه من أسلافه، لأن ذلك قد يعوق سير الصهيونية ويضر مسلحة إسرائيل. ثم ثالث فأنذر بقيام ساعة العرب قريبا وكيف لا تكون قريبة وقد استنوق الجمل واستجملت الناقة، فحمل اليهود السلاح وشهدوا الحرب وأحرزوا النصر واحتلوا المدن؟
ثم انتظرنا بعد ذلك أن يستجيب أدباؤنا الكبار لنداء العروبة والأخوة فتتوارد على (الرسالة) مقالاتهم وقصائدهم لتسجل في ديوان العرب المشترك محنة فلسطين، فتشجع الخائف وتطمئن الحائر وتضيف عزيمة إلى عزائم المجاهدين. انتظرنا أن يحرك سقوط حيفا ومذابح دير ياسين وتشريد أبناء فلسطين مواطن العطف من نفوس شعرائنا فيبرز رثاء لمن استشهد، ومواساة لمن شرّد، وناراً تلظى على نفاية البشر وشذاذ الآفاق!
ولكن انتظارنا ذهب عبثا!(777/45)
وبعد فأنا لنرجو من أدبائنا أن يصححوا موقفهم من فلسطين وأن ينظروا من أبراجهم العاجية بمنظار يكبر لهم الآلام الشديدة والمحن القاسية ليروها، فينصروا أهلها بألسنتهم وأقلامهم ويضموا إلى مجدهم الأدبي شرف الجهاد في سبيل حماية المسجد الأقصى وعروبة فلسطين.
(شبرا)
أحمد الجنادي
عضو البعثة السورية
حول الفن الإنساني:
قلت في العدد الماضي من الرسالة وأنا أتحدث عن الفن الإنساني، إن قصة (أدولف) للكاتب الفرنسي بنجامان كونستان تعد في رأي النقاد أكثر القصص الذاتية بقاء على الزمن، لأنها أكثرها إنسانية. . فهي أبقى من (آلام فرتر) لجوته و (رينيه) لشاتوبريان و (رفائيل) للامرتين؛ وإن الفارق بينها وبين (أدولف) هو الفارق بين الفن التصويري الذي يقف بك عند فترة من الزمن لا يتعداها، وبين الفن الإنساني الذي يتخطى حدود الزمن والمكان.
قلت هذا فعقبت الرسالة عليه بقولها: إن هذا رأي نسمعه لأول مرة، فكان على الكاتب أن يذكر النص الذي اعتمد عليه، والدليل الذي استند إليه
وردي على هذا التعقيب هو أني كتبت في مجال العرض والتحليل لا في مجال التحقيق العلمي. . وإذا كانت الرسالة تريد النص والدليل، فحسبي أن أنقل للقارئ رأيين في (أدولف) يتفقان في المعنى وما ذهبت إليه، أحدهما للكاتب الفرنسي الكبير يول بورجيه، والآخر للناقد الفرنسي فردينان برونتيير. يقول بورجيه: (إن أدولف لتعد مثلا أعلى للقصة الذاتية، ولقد بقيت من كل القصص التي ظهرت في القرن التاسع عشر أحفلها بالحياة، وأكثرها إنسانية، وأشدها أسراً للشعور، ولا توجد قصة أخرى تهزني كما هزتني هذه القصة). ويقول برونتيير: (إن أدولف قصة إنسانية لا يمكن أن ترقى إلى حقيقتها التحليلية قصة أخرى). ويلاحظ أن الرأي الأول قد شمل في مجال التفضيل قرناً كاملا هو القرن(777/46)
التاسع عشر، وفي هذا القرن ظهرت آلام فرتر ورينيه ورفائيل.
وإذا كانت الرسالة تريد دليلا فحسبي أن أقول إن كلا من القصص الأربع تصور حياة مؤلفها ممثلة في عواطفه الإنسانية وتجاربه النفسية. . وهنا يقف الناقد ليلمس ظاهرة فريدة تحدد القيم الذاتية للأثر الفني، هي أن (أدولف) تصور العواطف الإنسانية عند كونستان وغير كونستان، من أصحاب الشعور والوجدان. . وأن آلام قرتر ورينيه ورفائيل لا تصور هذه العواطف إلا عند جوته وشاتوبريان ولامرتين!
هذا حكم يصدره النقد إذا ما أقام الدراسة الفنية على أسس وطيدة من الفهم النفسي، ولا عجب بعد ذلك إذا ما قررت أن أن الفارق بين (أدولف) وبين القصص الثلاث هو ما ذكرت ولعلي أكون قد قدمت النص والدليل. . .
أنور المعداوي
(الرسالة): لأ، يا أستاذ أنور! إن شرط النقل الصحة، والصحة
لا تتحقق في النص إلا إذا نقل بلغته من كتاب معلوم، وصفحة
مرقمة، وطبعة معينة. أما دليلك فلا ينهض إلا إذا أثبت
بالطريق العلمي أن الإنسانية في جوته وشاتوبريان ولا مرتين
من نوع خاص فتعبيرهم عنها لا يعم، وأنها في كونستان وحده
من نوع عام فتعبيره عنها لا يخص. ويبقى أن تقنعنا إذا سلمنا
لك صحة النقل أن هذين الناقدين الفرنسيين قد حكما لأدولف
هذا الحكم بالنسبة للأدب الأوربي لا بالنسبة للأدب الفرنسي
حتى يجوز أن يدخل (فرتر) في هذا الحكم.
شرح وإيضاح:(777/47)
أراد الأستاذ الفاضل السيد علي زين العابدين منصور في العدد 773 من مجلة الرسالة الغراء، أن نوضح له كيف جوزنا لفظة (نداماء) الواردة في قصيدتنا (قلب شاعر) المنشورة في العدد 771 من الرسالة الغراء:
حتام أظمأ والأقداحُ دائرةٌ ... مثل الكوابك ما بين النداماء
مع أنه بحث في قاموس (الفيروزابادي) في مادة (ندم) فلم يجد لها جميعاً سوى، ندماء، وندام، وندامى. ونود أن نقول للأستاذ منصور أن مد المقصور وقصر الممدود ضرورة من الضرورات التي أجازها علماء العروض، ولما كانت لفظة - ندامى - مقصورة فيكون مدها (نداماء) وكذلك لفظة (مولاي) مقصورة، وعند مدهتا يقال (مولائي) وقد استعمل ذلك أبو نواس كثيراً في شعره، فيقال من قصيدة منشورة في ديوانه المطبوع بالمطبعة الحميدية المصرية عام 1322هـ ص - 2، 2 في باب الخمريات:
إني لأشرب من عينيه صافية ... صرفاً وأشرب أخرى مع ندامائي
وهذا البيت من قصيدة له مطلعها:
يا رب مجلس فتيان سموتٌ له ... والليلٌ محتبس في ثوب ظلماء
ولا نظن أن أبا نواس الشاعر، وهو حجة في اللغة، يورد لفظة في شعره دون أن يكون متأكداً من أن علماء اللغة أجازوها
أما قول الأستاذ منصور أن فعل (صبا) يتعدى بـ (إلى) لا بـ (اللام) في قولنا (إن لم تكن روحه تصبو لعلياء) فهذا اعتراض ضعيف لأن (اللام) تقوم مقام (إلى) في كثير من الأحايين. فنحن نقول: ذهب إليه وذهب له، كما نقول: صبوت إليه وصبوت له.
هذا ما عن لي كتابته جواباً على استفهام الناقد الفاضل، وعسى أن يتصدى عالم جليل من علماء اللغة، فيشرح لنا ذلك. وللرسالة وصاحبها الجليل، فائق تحياتنا، وشكرنا على فضله وأدبه.
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
رد. . . وعجب(777/48)
كنت نشرت في العدد (771) من الرسالة الزاهرة (قصة تضحية أم) ولشد ما تملكني العجب حين طالعت في العدد (772) الذي تأخر وصوله عشرة أيام بسبب أزمة النقل البريدي المستحكمة في هذه الأيام؛ كلمة للأستاذ الفاضل حسين مهدي الغنام تحت عنوان (حول قصة تضحية أم) نفي فيها صياغتي للقصة، ورواية الأستاذ الجليل جمال الدين الجيلاني في أصلها وأسماء شخصياتها، وادعى أنه نشرها في جريدة (الجلاء) بمدينة الإسكندرية عام 1938. وهو العام الذي كنت فيه، في الرابعة عشرة من عمري؛ وأنا لم أسمع باسم هذه الجريدة من قبل، وأظن أنها لم ترد للشام بعد؛ وأن الأستاذ الراوي كان مقرئا في بلاط حيدر آباد الهندي آنئذ؛ ثم ماذا يمنع رواية قصة أو حادثة قد قضى على حدوثها خمسمئة سنة مثلا.! وبعد فهذا عجب. ولعله يزيد عجبي لو أطلع على صورة هذه القصة التي صنعها قلم الأستاذ حسين مهدي الغنام لأعرف مقدار التحوير والتصوير واجتماع الخواطر!
عبد القادر صادق
تصويب:
قال الأستاذ العماري في العدد الأخير من الرسالة (والذي ساق بعض شباب الجيل إلى هذه التعبيرات السمجة هو ما قاله شوقي في رثاء اسماعيل صبري.
أو كان للذكر الحكيم بقية ... لم تأت بعد رثيت في الأعراف
والحقيقة أن الكاتب قد أدخل بيتين خالدين لشوقي في بيت واحد، فقد قال شوقي أولا في رثاء مصطفى كامل.
أو كان للذكر الحكيم بقية ... لم تأت بعد رثيت في القرآن
ثم قال ثانياً بعد خمسة عشر عاماً في رثاء اسماعيل صبري.
لو أن عمراناً نجارك لم تسد ... حتى يشار إليك في الأعراف
(سرس الليان)
محمد محمد القاضي(777/49)
الكُتبُ
في الأدب الحديث
تأليف الأستاذ عمر الدسوقي
الأستاذ عمر الدسوقي من أُدبائنا المبرزين، الواسعي الاطلاع، الدائبين على البحث والتنقيب، القادرين على التمحيص والتحقيق، وهو ذو قلم بارع سيال، وأسلوب قوي متين، يشهدله بتمكنه من الآداب العربية والآداب الأجنبية على السواء.
أخرج لنا حديثاً كتابه (في الأدب الحديث) وهو من الكتب الجليلة القيمة التي استوفت حظَّها من البحث والتحقيق، ولقد قرأ مؤلِّفه الفاضل واستقصى كل ماله علاقة بالأدب الحديث حتى بلغت مراجعه أكثر من خمسة وثمانين مرجعاً بعضها عربي وبعضها أجنبي، وبعد أن هضم هذه المراجع أخرجها لقراء العربية في هذا الثوب القشيب، المركز المعلومات، الممحص المباحث، في أسلوب عربي مبين، وعرض رائع جذاب.
استعرض المؤلف الفاضل الأدب الحديث من يوم أن بدأ يحبو إلى أن شب واكتهل وصار مارداً عملاقاً في جيلنا الحاضر.
استعرض النهضة في عصر محمد علي. شارحاً السبل التي سلكها للنهوض بالشعب المصري، ورفعه إلى مستوى الأمم الناهضة، مبينا أن الاتجاه في عصر محمد علي كان علمياً بحتاً لحاجة النهضة إلى العلوم، وأن الآداب لم يكن لها إلا نصيب ضئيل، ثم انتقل إلى عصر اسماعيل فتكلم عن النهضة في عصره، وعن الجمعيات العلمية التي قامت، والمدارس الأدبية التي نشأت، مترجماً لأصحاب هذه المدارس، وواقفاً عند البارودي باعث الشعر الحديث وقفة طويلة، خرج منها مبيناً إلى أي حد حاكى البارودي القدماء وقلدهم، وإلى أي حد جدد واخترع. وعرج منها على النهضة في بلاد الشام مبيناً أثر الإرساليات التبشرية فيها، وانتقل من ذلك إلى النهضة الجديدة في الأدب العربي التي اتخذت لها لوناً خاصاً، والتي ظهر فجرها في أخريات إسماعيل وعهد توفيق حينما منيت مصر بالاحتلال الأجنبي وازدياد نفوذ الأجانب وما كان من تنبه المصريين إلى الخطر الداهم، ومصادفة ذلك وجود السيد جمال الدين الأفغاني الذي ألهب النفوس وحرك العزائم وأيقظ الهمم، وما كان من جراء ذلك من ظهور الأدب القومي.(777/51)
ثم انتقل إلى الكلام عن الاحتلال الانجليزي وفرض اللغة الانجليزية على تلاميذ المدارس المصرية، وما كان من أثر ذلك من اتصال الأدب العربي والفكر العربي اتصالا مباشراً بالفكر الغربي، وما كان من أثر هذا من اتجاه الأدب العربي إلى المسلك الذي سلكه حتى يومنا هذا.
ولقد بين إلى حد أثر الأدب الغربي في الفكر العربي وفي ألوان الأدب واتجاهاته وأساليبه نثراً وشعراً، دارساً بعض الألوان الجديدة التي قدمت للقارئ في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وبعد أن بين ما للترجمة من النهضة الأدبية الحديثة واتصال بالفكر الأوروبي بين ما للمستشرقين من جهد في سبيل اللغة العربية وأدابها وبحث العقيدة الإسلامية ومذاهبها، ونشر ما عفت عليه الدهور وأغفلته يد النسيان من كنوز اللغة العربية معرفاً بأشهر المستشرقين المحدثين ومنتهياً من ذلك كله إلى الكلام عن القصة والمقالة، وهما الثوبات الجديدان اللذان ظهر فيهما النثر الحديث.
ولقد دعاه كلامه عن القصة إلى أن يتعرض بالتخطئة إلى ما قاله المستشرقون ومن حذا حذوهم كالأستاذ أحمد أمين بك، من عقم الخيال العربي لخلو الأدب العربي من القصة، على أننا نخالف الأستاذ عمر الدسوقي في ذلك وتؤيد الأستاذ أحمد أمين بك، وسنفرد هذا ببحث خاص ليس هذا مقامه.
والحق أن هذا الكتاب في رأينا من أحسن المؤلفات في دراسة هذا العصر الحديث، ولقد وفق فيه مؤلفه توفيقاً كبيراً يستحق عليه كل شكر وإعجاب.
(كرمة ابن هانيء)
كمال بسيوني(777/52)
تربية سلامه موسى
تأليف الأستاذ سلامه موسى
ما قرأت في اللغة العربية سيرةً كتبها صاحبها عن نفسه فحالفه فيها توفيق كالتوفيق الذي أصابه الأستاذ صلامه موسى لما سجل أخيراً سيرته وأصدرها في كتاب عنوانه (تربية سلامه موسى). فهو كتاب أصيل فريد يمتاز بالصدق والإخلاص، ويبسط آراء الكاتب وانفعالاته وما استثاره من أحداث، وما استفزه على التفكير، ويرد لأساتذته المفكرين ديناً، ويرشد أبناء الجيل الجديد إلى وسائل الكفاح الذهني وطرق التجاوب بين الإنسان والمجتمع الذي يحيط به.
والأستاذ سلامه موسى إنسان، بشري، يؤمن بالإنسانية وبالبشرية، ويرى أن العالم (قرية) لجميع قطانه، وأن الفضيلة موجودة في كل مكان حتى عند الزنجي الجلف الذي جافته الحضارة وطمست الجهالة مسام ذهنه. وهو ما فتئ يعطف على كل كائن: على الفراشة، وعلى الدابة؛ وما برح يؤكد كل حركة إصلاحية مستقبلية، سواء كانت هذه الحركة من جانب المرأة للتحرر من قيود الرجعية الآسرة، أو من جانب المستذلين من الشعوب، أو من جانب الراسفين في أغلال الجهل الواقعين فرائس للمرض والفقر. والأستاذ سلامة صريح صراحة غير مألوفة في مصر وفي الشرق، حتى إنه ليقول عن نفسه (أخطأت حين اعتنقت المذهب النباتي) و (كتبت مقالا عربدت فيه وفسقت) ويقول (وقعت في فجر شبابي في عربدة جنسية ذاتية) ويقول (تقاضيت جنيهين من شهر مرتباً من وزارة الشئون الاجتماعية)، ويوغل في اعترافاته إيغالا لا ضابط له إلا الحقيقة.
وقد يسأل القارئ: وما دخل (حياة) سلامه موسى في (تربيته)؟
والواقع أن الأستاذ سلامه ما سرد سيرته إلا ليوطئ بها لبسط فلسفته في التربية والتهذيب الذاتي. فهو يتحدث عن نشأته والبيئة التي أنبتته والمشكلات التي اعترضته ليبين كيف تسنى له أن يستجيب لهذه العوامل وكيف تحقق له أن يتلمس أسباب العلاج فكان يصيب أحياناً ويخطئ أحياناً شأن كل راغب في الاستطلاع، تواق إلى تحصيل معارف كونية موسوعية.
وناحية ذات شأن تعرض لها الكاتب في كتابه هي الحديث عن تاريخ الكفاح المصري في(777/53)
سبيل الاستقلال، والجهاد لنفض غبار الاستعمار عن أديم الوادي، وتصويره لهذه الأحداث تصوير انفعالي قوي. ألا ترى كيف بكى يوم قال له فرنسي وقح (الانجليز أسيادكم) وعاد إلى فندقه يتبرز دماً ومخاطاً. ألا ترى كيف أن حادث دنشواي الفاجع جعله في حالة غثيان وذهول لا يستطيع الطعام أياماً. أو لا ترى أن الشيء الوحيد الذي أعرب الأستاذ سلامه عن أسفه عليه في كتابه هذا هو أن الرقابة قيدة حرية كتابته خمسة عشر عاماً في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولم يأسف على فقد أمه ولا على فقد شقيقاته ولا على السجن الذي زج به فيه قدر أسفه على تكبيل حرية قلمه في هذه الفترة الطويلة.
والأستاذ سلامه يعيش للمستقبل لا للماضي فيقول إن الطاقة الذرية أنشأت عنده مركب نقض ما فتئ يعانيه منذ ما انفجرت قنبلة نيومكسيكو ثم قنبلة هيروشيما. ويقول إنه في السنوات العشر القادمة - إذا جاز له أن يرجو مد عمره فيها - سيدرس الذرة درساً مستفيضاً ولو اقتضاه ذلك استئجار مدرس خاص لأن خطورتها أكبر من أن يهملها رجل مثقف. وأمنيته في هذه السنوات التي لما تجيء هو أن يزور أوربا ويطوف في أرجائها، ولكنه يخشى إن فعل أن تعمد السلطات المصرية إلى تجريده من جنسيته كما فعلت من قبل بالأستاذ محمود حسني العرابي حين انتهزت فرصة سفره إلى ألمانيا وجردته من جنسيته لا لسبب إلا لدعوته التحررية الفكرية. وهو يريد أن يختم حياته في الريف المصري لأنه يرى فيه جمالا لا يراه في المدن، يريد أن يصادق الخراف والحمير والبقر والشجر، يريد أن يتحدث إلى النجوم ويحيي الشمس في الصباح ويضحك مع الماء يجري بين النبات ويأكل الخس والفجل على حرف القناة.
وبعد، فهذا كتاب تلونه مرتين وأرجو أن أتلوه مرتين أخريين على القليل فقد شغل تفكيري ونشط حواسي وأنهض عزيمتي وأرشدني إلى آفاق كان حرياً أن لا أقف عليها. كتاب بدل عندي قيم الأشياء وجعلني أستعير من الطفل رغبته الدائمة في الاستطلاع وإلحاحه المستمر في الاستفهام والسؤال.
وكأني بالأستاذ سلامه موسى يريد أن يقول لقرائه: كونوا كونيين. . . إفتحوا أذهانكم لكل جديد. . . لا تعيشوا بعيداً عن الواقع. . . انهلوا من موارد المعرفة غزيراً،. . . قاوموا السلفية والتأخرية والجمود. . . تعصبوا للبشرية عامة. . . آمنوا فبغير الإيمان لا يكون(777/54)
للحياة معنى. . . أطلبوا مزيداً من الحياة لتزدادوا ثقافة واتساع فكر.
وديع فلسطين
(المحرر بالمقطم - القاهرة)(777/55)
الفعل الارادي
تأليف الدكتور أبو مدين الشافعي
في مصر اليوم حركة ظاهرة ونشاط ملموس من جانب المهتمين بالدراسات النفسية.
ولدراسة علم النفس مكانتها في العصر الحديث ولقد فطنا في مصر أخيراً إلى هذا، فصار عندنا علماء أفاضل يعملون على نشر علم النفس ودراسته بالأساليب الحديثة والوسائل العلمية.
والكتاب الذي أعرض له الآن، هو للدكتور أبو مدين الشافعي مدرس علم النفس بكلية الآداب، وهو نتيجة دراسات طويلة وتجارب كثيرة وعمل متصل في هذا الباب. ولذا استوفى الكتاب جانب العرض النظري للافكار المتعلقة بالإرادة والأفعال الإنسانية وفكرة الجبر والاختيار، كما أنه شمل كثيراً من التجارب الدقيقة التي استفاد الدكتور من إجرائها إيماه الشخصي بالعمل الذي يؤديه والنتائج التي قول بها غير معتمد في هذا على الأعمال التي انتهى بها مؤلفوا الغرب وعلماؤه إلا من ناحية التوجيه والأسلوب فحسب. ولذلك كثيراً ما تراه يخالف الرأي الذي يذهبون إليه ويجمعون عليه خصوصاً وأنه في دراسته إنما يهتم بالشخصية المصرية التي لها من الظروف والأحوال ما يختلف اختلافاً كبيراً عن سواها.
والذي يدلك على أن الدكتور يقدم إليك مادة استوفى بحثها واستكمل أداتها هو أنه قد تخصص في هذا الموضوع بالذات. فله كتاب سابق هو كتاب الانتباه الإرادي وكتاب آخر باسم التعب. فدراسته ليست مرتجلة، بل هي نتيجة تخصص وعناية طويلة بالموضوع. وهذا يظهر لك من قوله: (يمكن عد الانتباه الإرادي أهم ركن للفعل الإداري، إذاً فدراسة الانتباه هي المقدمة الضرورية لدراسة هذا الفعل.
فهو إذاً قد نظم عمله بحيث بدأ بدراسة الانتباه ليخصل في النهاية إلى دراسة الفعل الإرادي نفسه. وهو لا يدرسه نظريا على الطريقة القديمة، وإنما يعمد إلى التجارب فيستمد منها الدليل على الخطوات التي يخطوها في هذا السبيل. ولذلك كان عمله متصلاً بجسم الإنسان ونفسه معا بحسبانهما وحدة لا يمكن أن يدرس منها جانب على انفراد. (وليمكن الوقوف على هذه المرحلة من الفعل الإرادي لابد من إلقاء نظرة على أسسه البيولوجية لنوضح(777/56)
الفروق بين أنواع الفعل بوجه عام، ولنصل إلى مميزات الفعل الإرادي، وما هو دور الكف والتركيز في عملية التنفيذ) وهو لا يعني بالجسم وأوضاعه على هذا الوجه فحسب، بل يؤمن أيضاً من ناحية أخرى بأنه لابد من بحث صلة الفعل الإرادي بالعوامل النفسية البحتة قبل التطور الذهني والانفعال والضبط، على أن يكون هذا البحث على نمط علمي بعد أن طال النقاش حوله في الميدان الفلسفي).
فأساس نظريته إذاً هو التكامل. وهذا يتجلى بوضوح في محاولة الربط بين العوامل النفسية في الفعل الإرادي وبين الحديث عن الوسائل التي تحدد لنا حالات الجسم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقول بوجود صلة بين النشاط الإرادي وما يسميه بالمجال الحيوي وهو المجال الذي يضمن للشخص توازناً عاماً يحقق به أغراضه الحيوية. وعنده أن المجال الحيوي يتوقف على مجالات أخرى مثل المجال الجسمي والمجال الاجتماعي والمجال الطبيعي والمجال الذهني، فالمجالات الثلاثة الأولى يشمل كل منها المجال الذي يسبقه، فالمجال الطبيعي يشمل المجال الاجتماعي، ويشمل هذا بدوره المجال الجسمي، وأما المجال الذهني فإنه يربط بين هذه المجالات كلها.
فهو إذن عالم يدرس مسائل الاجتماع ومظاهر الطبيعة، وحالة الإنسان، ينتهي منها جميعاً إلى الرأي الذي يعمل به في علاج الحالات المرضية المختلفة. وليس أدل على نزاهته العلمية من قوله: (ولم يكن بيير جانيه مخطئاً حين نسب إلى النشاط الحركي وإلى العمل العضلي قدراً من المجهود أكبر مما يبذله النشاط الذهني، وذلك لأن الأفعال الفكرية، أفسح حرية من الأفعال الحركية الخارجية). فهذا الرأي يخالف ما هو شائع بين عامة الأدباء الذين يريدون أن ينسبوا إلى أنفسهم امتيازاً على العامة في المجهود الذي يبذلونه، والمشاق التي يتكبدونها، والذين يقولون دائماً أن نشاط الذهن أثقل على النفس وأدعى للتعب من المجهود اليدوي.
والذي أعتقد أن الذي أفاد الدكتور كثيراً في دراسته هو عنايته بالدراسة العملية من جهة واشتغاله بمعالجة الحالات المرضية من جهة أخرى. ولذلك كثرت في كتابه الأمثلة التي يذكرها تأييداً لفكرته في أنه إذا شئنا معالجة المرض النفسي فعلينا أولا وقبل كل شيء أن نغير من المجال الذي يعمل فيه الشخص المريض، كما أنه من الواجب أن نوفر له الجو(777/57)
الذي يتلاءم مع طبيعة مرضه؛ فالحالات المرضية الداخلة في نطاق علم النفس تحتاج إلى معرفة طرق التغيير وا تكتفي بالوقوف على الحالة الراهنة وعلى نوع المرض. ففكرة المجالات الحيوية من شأنها أن توجد لنا حلولا كثيرة لأمراض بقيت ألغازا إلى يومنا هذا وعلى هذا الأساس قال بصراحة الطبيب والعالم معا؛ (فالعدد الكبير من المصابين بالامراض العقلية في العالم لا يمكنه أن يجد الشفاء بين جدران المستشفيات، ويتطلب أغلبهم مجالا خاصاً يساعدهم على استرجاع توازنهم العقلي وضبطهم الإرادي. فمن العبث إذاً محاولة علاج المصاب بالشعور بالنقص عن طريق الوعظ أو الحقن، فلابد من أن نضعه في المجال الذي يرجع له ثقته بنفسه ليقاوم حسب مقدرته الخاضة).
والذي آخذه على الدكتور هو أنه كان يذكر أحياناً كثيرة بعض أسماء العلماء باللغات الأجنبية دون محاولة ترجمتها صوتياً في ألفاظ عربية. وكذلك كان يفعل أحياناً عند ذكر الكتب وأسمائها. والأفضل أن يذكر الكتاب بلغته الأصلية وبالترحبة العربية لاسمه في الوقت نفسه. ومن حيث المراجع التي أشار إليها في أسفل الصفحات تعد دقيقة ومتقنة، بيد أنه ينقصها الترجمة بل إن الترجمة العربية لها وحدها تكفي طالب علم النفس والقارئ العادي. وآخذ عليه أيضاً أنه مقل في الكتب التي يظهرها مع حاجتنا الماسة إلى مجهود كبير في هذا الباب من الدراسات النفسية. ونحن في بدء نهضة عملية من هذا النوع يفيدها الاطلاع والقراءة أكثر مما يفيدها عمل الدكتور الخاص في معمله أو في عيادته. وحبذا لو قام مع بعض تلاميذه بترجمة بعض الكتب الهامة التي تعد من المراجع الأساسية في علم النفس. وأما من جهة اللغة التي كتب بها الكتاب فعلى الرغم من سلامتها ومن امتيازها على كتاباته السابقة فإنها ينقصها عنصر المرونة والتوضيح. فكثيراً ما كان الدكتور يكتفي بالفكرة يذكرها عارية في جملة أو جملتين دون أن يحاول تفنينها وربطها بما يليها ربطاً جيداً. ومن هنا بدا الكتاب جملة من اللمحات والضربات الخاطفة. . .
وهذا، على كل حال، لا ينقص من قدر الكتاب، بل على العكس يدل على أن الكمال الإنساني مستحيل. وللدكتور منا الإعجاب بعمله القيم النفيس.
عبد الفتاح الديدي(777/58)
القَصصٌ
ليلة في القبر
للأستاذ نجاتي صدقي
مات الأديب بعد أن قضى عمراً حافلاً بالإنتاج الأدبي، فقد ترك ثروة أدبية تقع في ثلاثة عشر كتاباً، وهي تعالج مواضيع مختلفة من تاريخية، وعلمية، واقتصادية، وروايات وقصص.
وفي منتصف الليلة الأولى من دخول الأديب القبر جاءه الملكان الكريمان منكر ونكير، ويا لها من ليلة!
فنبه ناكر الميت قائلا: إيه يا رجل قم!. .
وقال له نكير: هيا انزع عنك هذا الرداء الأبيض لنرى ما يضم في طياته من صفحات سود!. . .
فذعر الأديب لهذه المفاجأة ونهض متثاقلا، فرأى نفسه قبالة ملكين جبارين يحمل أحدهما هراوة حديدية ضخمة، ويحمل الثاني تحت إبطه كتاباً كبيراً.
وقالا له: نحن الملكان اللذان أخبرك عنهما الشيخ أثناء إيداعك هذه الحفرة. . فرجاؤنا ألا تنزعج من زيارتنا غير المنتظرة، فنحن لم نأت إلا للقيام بواجباتنا المقدسة، وإنا لنتمتع بسلطات لا حد لها، فنطرق القبور دون استئذان، ولا نُميز بين غني أو فقير، رجل أو امرأة، فتى أو فتاة، طفل أو طفلة. .
وسنشرع الآن في محاسبتك حساباً تمهيدياً، وعليك أن تكون معنا صريحاً، وتيقن بأننا لن نرحمك إن حاولت المداورة أو المراوغة.
وسأله منكر حامل الهراوة: ما اسمك؟. وما مهنتك؟ فأجاب الميت - اسمي (. . .) ومهنتي الأدب!. .
ففتح نكير الكتاب الكبير، وقلب صفحاته قليلا إلى أن عثر على اسم المرحوم. . وانكب يطالع مع ناكر ما كتب عنه في عشر صفحات طوال، ولما بلغا نهاية ترجمة حياته التفتا إليه والشرر يتطاير من أعينهما.
وقال له نكير: حياتك مليئة بالآثام، وسنحاسبك الآن حساباً عسيراً، قل لنا أأنت صاحب(777/59)
كتاب (النجاة في الصدق) وغيره من الكتب الكثيرة؟. . . الميت: نعم. .
نكير: أتعترف بأنك كنت تدس السم في هذا الكتاب وفي غيره، وأنك كنت تنشر الإلحاد في الناس، وتبث فيهم الإباحية؟. .
الميت: هذه تهم باطلة، وإني لأحتج عليها بكل ما أوتيت من قوة. . إنك أيها الملك الكريم تردد ما قاله خصومي في. والواقع أنني كنت أنشر المعرفة في قرائي، وأبث فيهم روح الحرية. . كنت أرفع الغشاوة عن أعينهم وأدلهم على طريق الهدى والصواب.
نكير: لقد بدأت تراوغ؟. . والتفت إلى منكر وقال له: اضرب!
وهوى منكر بالهرواة على ظهر المرحوم وقدميه بضربات شديدة جعلت سكان القبور المجاورة يرتعدون فرقاً من هول ما يجري في قبر جارهم الجديد، وكان الأديب يصرخ وسط هذا العذاب ويقول: إن عماكما هذا غير شرعي. . وستظهر براءتي في يوم الحساب الأكبر. . ماذا تريدان مني؟. . إنني نشرت المحامد في قرائي، وكشفت النقاب عن مساويء الناس وشرورهم، وبينت لهم أخطاءهم ونقائصهم. . ثم إنني إذا كنت قد وضعت مؤلفات وأنا على قيد الحياة مشبعة بشيء من الحرية والصراحة، فثقا بأنني عوقبت عليها، وسجنت، واضطهدت، وليس لديكما مبرر لمعاقبتي مرة أخرى!.
فتوقف منكر عن الضرب، وتابع نكير قوله للمرحوم الأديب: إسمع أيها المتهم. . نحن نضاعف العقاب على الكتاب المفكرين ونجعلهم في المرتبة الأولى بين المتهمين ويليهم الأشقياء واللصوص!. . فالشقي عندنا ينتهي أمره بموته. . أما الكاتب فجريمته لا تنتهي بموته، بل على النقيض من ذلك فإن مفعول سمومه يزداد جيلا بعد جيل. . وهذاعين ما فعلته كتاباتك وما ستفعله في المستقبل.
والتفت إلى منكر وقال له بحزم: اضرب!. . اضربه بشدة على أصابعه التي كانت تقبض على القلم!. .
وهوت الهراوة على يدي المرحوم، وكان يصرخ ويتلوى من شدة الألم، ثم حاول المقاومة لكن رأسه ارتطم بحجر فانطرح مغشياً عليه، فمسح ناكر وجهه بيده فأفاق ثانية وقال رحماكما أيها الملكان الكريمان. إنني دعوت في كتاباتي إلى حرية الإنسان، فقبحت جميع أنواع الظلم والطغيان، ونبهت في قرائي حب الفنون، وحدثتهم عن الحب، والموسيقى،(777/60)
والغناء، كما حدثتهم عن لؤم النفس ومساوئها، ومظاهر خستها وانحطاطها؛ وقد فعلت ذلك متمتعاً بحرية القول التي خولتني إياها الهيأة الاجتماعية، وكان رائدي دائماً الإصلاح، والإصلاح لا غير.
فقاطعه نكير قائلا: قلت لك لا تحاول أن تضللنا، إنك منهم بتفرقة الأبناء عن الآباء، وبإيقاع الشقاق بين أسرة وأخرى، وحي وآخر، وجماعات وجماعات، هذا والله وحده يعلم ما ستسفر عنه كتبك من شرور في الأجيال القادمة.
والتفت إلى منكر قائلا للمرة الثالثة: اضرب وافهمه بأنه لا زال في دون التحقيق!. .
وانهال منكر على الأديب بالهراوة، وهذا ينقلب على نفسه، ويعول مستنجداً ولكن دون جدوى.
وهنا تدخل نكير وأشار على منكر بإيقاف الضرب منبهاً إياه إلى أن الساعة بلغت الثانية بعد منتصف الليل، ثم التفت إلى المرحوم الأديب وقال له: نكتفي بهذا القدر هذه الليلة، وانتظر قدومنا غداً عند منتصف الليل أيضاً فلنا معك حساب بصدد مجموعة قصصك المسماة) المدينة الشقية - وقصص أخرى) ثم إننا سنوالي زياراتنا إليك في ثلاث عشرة ليلة على التوالي لنبحث معك في كل ليلة آثام كل كتاب على حدة. . فإلى الغد أيها المتهم.
وعاد الملكان الكريمان في منتصف الليلة الثانية إلى قبر الأديب ولكن لشد ما أدهشهما أنهما وجدا القبر خاوياً!. .
نجاتي صدقي(777/61)
العدد 778 - بتاريخ: 31 - 05 - 1948(/)
لله جيش الفاروق!
إن فلسطين ترى جيشنا لتشهد وهي اليوم على أرضها للمرة الرابعة أنه هو جيش رمسيس الثالث ببأسه ونجدته، وأنه هو جيش صلاح الدين بإيمانه وشدته، وأنه هو جيش إبراهيم ببسالته وجرأته، وأنه هو جيش الإسلام الذي ورد فيه القول المأثور: (إذا فتح الله عليكم بمصر فاتخذوا بها جنداً كثيفاً، فإن هذا الجند خير أجناد الأرض). والتاريخ الذي سجل لجيشنا الأصيل النبيل هذه الشهادة المقدسة، لا يزال يسجل ثَبَتَها بما ينقل من مساعيه الصادقة ومداعيه الخطيرة حقبة بعد حقبة. والواقع الذي جرى بالأمس ويجري اليوم، لا يزال يؤبد أن هذا الجند خير أجناد الأرض، لا لأنه قهر الحجاز ولم تقول على قهره تركيا، ولا لأنه فتح عكا وقد عجز عن فتحها نابليون بجيش فرنسا، ولا لأنه سحق الجيش التركي بقيادة (مولتكه) في نصيبين ولم تستطع سحقه روسيا؛ ولكنه خير أجناد الأرض لأنه خرج من أسر إنجلترا سليم الروح، نقى الجوهر، صليب العود، شجاع القلب، شديد الطماح، بعد خمس وستين سنة قضاها في قبضة المحتل، غريباً في وطنه، بعيداً عن حصونه، مجرداً من سلاحه، تساومه سيطرة الإنجليز على عزته، وتراوده رخاوة الكسل على حميته، وتغالبه دعة الفراغ على بطولته. وبأيسر من بعض هذا انكسر بأس الجيش الفرنسي فخر على أقدام الألمان مبذول المقادة، ضارع الخد، لا يحفزه حافز من ذكرى جان دارك، ولا يحجزه حاجز من مجد نابليون.
كان الشامتون والمتشامتون يقولون إن الاحتلال صير مصر امرأة، لها الزينة والمتاع، وعلى عشاقها النفقة والدفاع، حتى زين العبث لبعض الساسة في الزمن الأخير أن يزوجها من إنجلترا زواج الأبد لتضمن الكاسب وتأمن الغاصب. وجعل الإنجليز منذ مُنى باحتلالهم واذي النيل يمكنون لهذه الفكرة الخبيثة من نفوس الشعب، فيزعمون أنهم دخلوا مصر ليحفظوا العرش، وأنهم احتلوا مصر ليحملوا البلاد، حتى أنسونا ونحن عشرون مليوناً أننا زعزعنا عرش الخلافة ونحن مليونان ونصف! ثم عملوا لدوام هذه الحال، فسرحوا الجيش، وزيفوا التعليم، وعاثوا في النفوس، وعبثوا بالضمائر، وسلطوا الأهواء على عقول الخاصة، والأدواء على جسوم العامة، حتى إذا حسبوا أنهم بلغوا ما أرادوا انتفضت الأمة المقبورة فزال الكفن وذهب العفن وفار الدم الحر وثار التاريخ المجيد، واستهلّ وعينا القومي في مٌلك فؤاد وحكم سعد، ثم بلغ رشده في ملك فاروق وحكم النقراشي. ثم جاءت(778/1)
قضيتنا في مجلس الأمن فكانت معركة الحق كسبناها بالقلم، وأعقبتها قضية فلسطين فكانت معركة القوة وسنكسبها بالسيف؛ وكان انتصارنا في هاتين القضيتين دليلا من أدلة الواقع على أن أمتنا بخير: ملك مثمر الشباب موفق الرأي مؤيد العزيمة، وحكومة نزيهة النفس حرة الإرادة شعبية النزعة، وشعب ذكي الفؤاد سهل القياد نافذ الهمة، وجيش جريء الصدر مثالي النظام فدائي الخطة. وإن أمة تقوم نهضتها على هذه الأركان السليمة لا بد أن تبلغ مكانها المرموق في ركب الحياة.
أن جيشنا بأعماله الباهرة يرحض عنا بالفعل عار الكلام، ويكشف عنا بالقوة ذل الضعف، ويفاوض خصمنا في الميدان على استقلالنا التام. فقدموا العون لمن يبني لكم المجد، وابذلوا المال لمن يبذل في سبيلكم الروح، ولا تنسوا أننا منذ دخل فلسطين بدأنا نعيش.
احمد حسن الزيات(778/2)
أحرب تشب أم ثورة تُقْمَع؟
للأستاذ نقولا الحداد
في أخبار الأمس أن الجامعة العربية طلبت إلى هيئة الأمم المتحدة الاعتراف بدولة عربية في فلسطين. فإن كان هذا الخبر صحيحاً فهو مثل قولك: إن الولايات المتحدة الأمريكية طلبت من هيئة الأمم أن تعترف بدولة أمريكية في أمريكا. فلا أصدق أن الدول العربية طلبت الاعتراف بدولة موجودة من زمان!
إن الدولة الفلسطينية كانت موجودة قبل الانتداب البريطاني، وقد جاء الانتداب البريطاني اعتداءاً عليها فكتم أنفاسها. فلما انتهى الانتداب، أو تنازلت عنه بريطانيا، عادت الدولة العربية الفلسطينية إلى كيانها الطبيعي، فلا معنى لمطالبة الجامعة العربية لهيئة الأمم بالاعتراف بدولة عربية في فلسطين، لأن هذه الدولة كانت موجودة قبل أن توجد هيئة الأمم، بل قبل أن توجد عصبة الأمم المؤحومة التي فرضت الانتداب، فلا داعي لأن تعترف بها هيئة الأمم الآن، وإلا فعليها أن تعترف بدولتي إنكلترا وفرنسا اللتين خرجتا من الحرب السابقة دولتين كما كانتا!
وتحرير الخبر أنه لما وقعت الحرب الكبرى السابقة اتفق الإنكليز مع المغفور له الشريف حسين، على أن يشترك معهم في محاربة الأتراك، حتى إذا تم النصر لهم كانت البلاد العربية المتخلفة عن الدولة العثمانية دولة عربيةقائمة بنفسها تحت حكم الشريف حسين كملك عليها.
وقد برَّ الشريف بوعده، ودفع بجنوده إلى ساحة القتال مع الإنكليز وحارب الأتراك. ثم تمَّ النصر للحلفاء - ولولا معاونة العرب ما انتصر الإنكليز. لأن العرب كانوا العنصر الفعال في تلك الحرب - ولكن الإنكليز لم يبرٌّوا بالوعد، بل نقضت بريطانيا وعدها بخيانة فاضحة، إذ تقاسم الإنكليز والفرنسيس ميراث الدولة العثمانية في الشرق العربي، وتولت فرنسا الانتداب على سوريا ولبنان، وإنكلترا على فلسطين (ومعها شرق الأردن) والعراق. وبقى الملك حسين ملكاً في الحداز كما كان من قبل. وكان من طغيان الانتداب الإنكليزي إعلان وعد بلفور الشيطاني بوطن قومي لليهود وما تلاه من تدفٌّق اليهود على فلسطين وتسليم بريطانيا لهم زمام الطغيان في البلاد كما هو معلوم، وليس غرضي من هذه الفذلكة(778/3)
أن أبسط مكر بريطانيا وفظائع الصهيونين. وإنما غرضي أن أثبت أن الدولة العربية في فلسطين كانت موجودة كنتيجة للحرب الكبرى الأولى. وإنما لؤم السياسة البريطانية خنقها وترك للصهيونيين الحبل على الغارب في استعمارها. ولما سقط الانتداب البريطاني الذي كان جائماً على صدرها تنفست ونهضت على قدميها. إذن لا داعي لأن تطالب الجامعة العربية هيئة الأمم بالاعتراف بها. بل على هيئة الأمم أن تلتمس من الدولة العربية أن تعترف تها (أي بالهيئة) وأن تضمها إليها كعضو شرعي أصيل فيها.
أما اليهود الذين فتحت بريطانيا لهم صدر فلسطين لكي يكون لهم وطناً قومياً فهم دخلاء غرباء جنساً ولحماً ودماً وروحاً ونفساً وقلباً وكبداً الخ. فالدولة التي أعلنوها وطالبوا الدول بالاعتراف بها، إنما هي دويلة مزيفة ملفقة، دولة تمثيلية. فهي كما لو قام السوريون واللبنانيون في أمريكا يُعلنون دولة سورية لبنانية لهم، فما قيمة هذا الإعلان؟
فلما زال كابوس الانتداب البريطاني عن صدر فلسطين عادت الدولة الفلسطينية إلى كيانها، وإذا باليهود الدخلاء يدعون حصة في المملكة الفلسطينية العربية. ثم يثورون في سبيل الحصول على هذه الحصة ولذلك قام العرب يقمعون هذه الثورة
إذ ما يسمونه حرباً في فلسطين ليس بالحقيقة حرباً، بل هو قمع ثورة صهيونية خسيسة لئيمة نجسة (جوبيم بلغتهم). ولولا أن الانتداب الإنكليزي أظفرهم بعنق فلسطين، ويسر لهم استعمارها وملكهم حقوق العربفيها، وحرم العرب حقوقهم لما أمكنهم أن يستفحلوا هذا الاستفحال، وأن يستعدوا هذا الاستعداد للقتال كأنهم عالمون أنهم سيصطدمون يوماً من الأيام مع العرب. وقد جاء هذا اليوم.
وقد أدرك العرب اليوم أنهم لا يحاربون يهود فلسطين فقط بل هم يحاربون يهود العالم كلهم وكل من هم تحت ضغط اليهود المالي وضغطهم السياسي. ولذلك يبذلون النفس والنفيس هنا وفي أمريكا وغيرها لكي يؤيدوا هذه الدولة المزيفة.
وغريب أنهم وهم في جميع ممالك العالم متألبون لإنشاء دولة صهيونية شيوعية يستنكرون على الدول العربية أن تعاون شقيقتها فلسطين المغلوبة على أمرها، ويطلبون من هيئة الأمم أن تنهى الدول العربية عن مساعدة هذه الشقيقة.
وما انبرت الأمم العربية لهذه المساعدة، إلا لأن برنامج الطغيان الصهيوني شامل لجميع(778/4)
دول الشرق الأوسط، ولاسيما الدول العربية. فكيف لا تنبري إذن؟
وفي التاريخ أمثلة عديدة على معاونة الدول بعضها لبعض إذا أحست أن الخطر مقبل عليها. في أوائل هذا القرن استجار أهل كوبا من ظلم الأسبانيين المستعمرين، فهبت الولايات المتحدة الأمريكية لإنقاذ الكوبيين من ظلم الأسبان بحجة أن هؤلاء جيرانهم فلا يطيقون أن يسمعوا أنين جيرانهم ويبقوا صامتين. فحاربت أمريكا أسبانيا وخلصت كوبا من بين براثنها، ثم ردت لها استقلالها. فإذا كانت أمريكا تجير كوبيا بحكم الإنسانية والجوار، أفلا يجب على العرب أن يهبوا لإنقاذ فلسطين من براثن الصهيونيين، والصهيونية خطر عليهم جميعاً
الحمد لله، إنه ليس لهيئة الأمم قوة برليس دولي تنفذ قراراتها بالقوة، وإلا طغى الظلم واستفحل الاستبداد وقتل الحق بيد برومان ما دام هذا المغفَّل تحت سلطان شرذمة تمولين يعدونه بالدعاية له في الانتخاب إذا أيدهم في طغيانهم.
والحمد لله، أن الشعب الأمريكي شعر أن ترومانهم يتهور بمصلحتهم وهو ألعوبة في يد اليهود، إذ اتضح لهم صبح الحق وهو انتصار العرب في جهادهم المقدس. . .
نقولا الحداد(778/5)
أيها المليك العظيم!
للأستاذ شكري فيصل
(جرت التقاليد على ألا يدلي جلالة ملك مصر بأحاديث، ولكن
جلالته تفضل فأذن بالإعراب عن وجهة نظره في مشكلة
فلسطين فقال في الجواب عن خير الوسائل لوقف النزاع
المحتدم بين العرب واليهود: إنه لابد من استخدام القوة. . .)
الصحف اليومية 12 5 1948
أيها المليك الشاب! في كل هذه الفترة التي كانت تتأزم فيها قضية فلسطين كنا، نحن الشباب، ننظر حوالينا هنا وهناك، نرقب اليد التي تخلع القفاز، والإرادة التي تطيح بالحذر، والقوة التي تستطيع أن تدل على نفسها في ساعات الحاجة إليها، فلم نلمح اليد، ولم نجد الإرادة، ولم نحس القوة. . . وإنما حملونا على أن نعيش في خور الأمل، وفي قلق الترقب، وفي حمَّى الانتظار. . . وتطلعنا فحجبوا عن أعيننا الواقع، وتأملنا فخدروا هذا الألم بالحذر الخادع، وتساءلنا: أين موقع العرب اليوم من موقع العرب الأولين؟
وطفرت من أعيننا دموع، وارتسمت على شفاهنا تمتمات فيها غضب وغيظ وبأس، أو ما يشبه اليأس، وطافت بأذهاننا ذكريات من التاريخ فيها إنكار للذات، وفناء في الواجب، لم نجد لها في واقعنا الأليم أشباهاً ولا أشباحاً. . . فطوينا التاريخ القديم كأنما كنا ندفنه، وفقزت من أمامنا صور من التاريخ القريب: صورة من فيصل، وصورة من غازي!
أما الأولى، فهي صورة النبل السري، والإيمان القوي، والإحساس الرفيع. . . صورة فيصل يطرح العداوات ويولي ظهره لها، ويهزأ بالثارات ويضحك منها، وتظهر له مصلحة العرب الكبرى فينسى عرش أبيه الذي كان يريده ملكا واسعاً في بلاد عربية واسعة، فإذا هو منفي صغير في جزيرة ضيقة صغيرة، ويسافر إلى ابن السعود يصافحه ويقبله. . . لا تخفق في صدره ذكرى أبيه القريب، ولكنها تحرك في ضميره صوت جده الأعلى محمد، ولا يرتسم في صفحته عالمه الصغير، وإنما ينفسح من أمامه المدى ليرسم(778/6)
صورالامبراطورية العربية الكبيرة التي يفنى فيها فيصل وابن السعود، ليعيش فيها العرب سادة أحراراً وكراماً أبراراً وأما الصورة الثانية، فهي من غازي هذا الشبل. . . صورة فيها الجرأ الذكية الرائعة، والضربة المسددة البارعة، والعزم الأبي المتدفق، والمجد الثائر الذي يريد أن يتحقق. . . صورة فيها كل مكارم الفتوة، وعزائم النبوة، وحماسة الإيمان. . . صورة هذا الشاب الذي يغضب للحق، ويثور للعرب، ويتطلع إلى المستقبل الذي يلتقون فيه في ظلال رسالتهم الخالدة لينطلقوا بها من جديد، فيحطم العقبات التي كان الأعداء يزرعونها، ويبدد الأوهام التي كانوا ينثرونها والأحلام التي يعيشون عليها، لا يبالي في ذلك إلا إرادة الوطن العربي الكبير!
صورتان من فيصل وغازي في التاريخ القريب منا نرقبهما فلا نجدهما، ونتطلع إليهما فلا نظفر بهما، ونطوي الليل لا تغمض لنا عين، ونفني النهار إفناء لا يهدأ لنا خاطر ولا ينعم لنا بال، ونعيس في جحيم القلق وسعير الترقب. . . صورتان من عظمة فيصل واندفاع غازي، نبشنا عنهما الأرض، ودرنا نسأل عنهما السماء، وطرقنا للظفر بهما كل باب. . . وكاد يعصف بنا اليأس ويتولانا القنوط أن نقع عليهما أو على إحداهما. . . لولا أن الله أراد بالعرب الخير، فإذا الصورتان، صورة العظمة، وصورة الاندفاع، صورة الحكمة، وصورة القوة، تبرزان من جديد في مثال حي عامل كريم، في مثالك أيها الملك العظيم!
إن آلافاً من الشباب الذين يتقلبون على الجمر، يقرءون حديثك السامي الذي أذنت بإذاعته، وإنهم ليحسون أن قضيتهم التي كانت تلتمس الحكمة والقوة معاً، فلا تجد إلا حكمة عاجزة أو قوة خائفة قد وجدت عندك غايتها، وحققت طلبتها، وبلغت هدفها، ولم يتجاوب الضمير العربي العام مثل هذا التجاوب الحي حين سمع: (لا بد من استخدام القوة!)
إنه يعرف ماذا يعني الملك العظيم حين يقول: (لا بد!). . . إنه يحشر فيها كل عزمات الأبطال منذ دخل العرب بيت المقدس حتى دخلها النبي. . . إنها همسة الأمان لأرواح آلاف الشهداء الذين سقوا فلسطين بدمائهم وغذوها برفاتهم، وأقاموا من أجسامهم سياجاً لها!
لقد كان العرب في حاجة إلى كلمة واحدة هي خير من عشرات الصحف، ولقد قلت يا مولاي هذه الكلمة، وسيترجمها الشعب العربي إلى عمل وعزيمة واندفاع. . . لقد كنا نأمل أن تنفرج عنها في مثل صراحتها الشفاه، فلم يكن لها غير هذه النفس الكبيرة تنهض لها في(778/7)
جلاء ووضوح وبيان.
إن حديثك العظيم، أيها الملك العظيم، هذا الذي ابتعث من أعماقنا الإيمان بعد أن كدنا نفقد الإيمان، وأزاح عن وهجه عتمة الضباب وكدرة الظلمات، فارتد صقيلا مشعاً، وعاد إليه نوره بعد الذي فعلت به الحادثات وألقت علية النوازل من ظلال معتمة سوداء. . . فليبارك الله لك فتوتك، ويحسون لها في أعماقهم الألفة. . . وليحفظ عليك شبابك، ففي هذا الشباب الحكيم الجريء ضاعت الحكمة القلقة والقوة والوجلة!
وسيحفظ لك التاريخ أنك قلت فهزأت بالقيود وضحكت من السدود. وإنا لنرقب أن يحفظ لك التاريخ أنك فعلت فرفعت البنود، وجزت الحدود، حدود تافهة مصطنعة هي عارضتان من الخشب، وشبكة من القطن. . . فعلى بركة اللًه!
(دمشق)
شكري فيصل(778/8)
عبد الله بن سبأ
للدكتور جواد علي
- 5 -
ذكر البلاذري في كتابه (أنساب الأشراف) كل أخبار أبي ذر، غير أنه لم يتطرق إلى خبر التقاء (عبد الله ابن سبأ بأبي ذر في الشام، ولا في أي مكان آخر. وقد جاء البلاذري في كتابه هذا بروايات عن أبي ذر لم ترد في الطبري مما يدل على أنه قد اغترف من منابع لم يغترف منها صاحب التأريخ. وأن أصحاب تلك الروايات لم يعرفوا عن هذا اللقاء شيئاً؛ ولو عرفوه لما تركوه.
وتجد مضمون رواية الطبري عن نطرية (أبي ذر) في المال في (أنساب الأشراف) وتجد أنه كان يقول بها وهو في المدينة قبل ذهابه إلى الشام، وأن معاوية أرسل إليه ثلاثمائة دينار، وأن حبيب بن مسلمة الفهري أرسل إليه مائتي دينار فردها. وتجد أشياء أخرى لم ترد في الطبري؛ كل ذلك حمل معاوية على توجيه أبي ذرك إلى المدينة خوفاً من إفساده أهل الشام عليه.
ويظهر من رواية (يزيد الفقعسي) أيضاً عند الطبري أن (عبد الله بن سبأ) أصاب نجاحاً كبيراً بمصر، وأنه وجد هنالك أتباعاً وأنصاراً، وأنه لقنهم (الرجعة) و (الوصية) و (الطعن على الأمراء) وأنه صار يكاتب الأمصار ويدعو إلى الفتنة. حتى ألب الناس على ولاتهم وحكامهم وقاموا بتلك الحادثة الأليمة التي آلت إلى مذابح وفتن كانت سبباً لتفريق الكلمة وحدوث الحروب.
وأن الخليفة رضي الله عنه حينما أدرك خطورة الموقف أراد الوقوف على أسبابها، ومعرفة العوامل التي أدت إلى حدوثها (فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرق رجالاً سواهم، فرجعوا جميعاً قبل عمار فقالوا أيها الناس ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم. وقالوا جميعاً الأمر أمر المسلمين، إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم. واستبطأ الناس عماراً حتى ظنوا أنه قد اغتيل فلم يفاجأهم إلا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عماراً قد استماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه،(778/9)
منهم عبد الله ابن السوداء وخالد بن ملجم وسوجان بن حمران وكنانة بن بشر).
وهذه الرواية الأخرى هي في حاجة إلى نقد ودراسة، فالظاهر من روايات الطربي نفسها أن (عمار بن ياسر) كان في المدينة في هذا الوقت، وأن أهل مصر كانوا يراسلونه ويتصلون به عن طريق المكاتبة، وأنهم عندما وصلوا إلى المدينة كان بها، والمعروف أن علاقة الخليفة بعمار لم تكن على ما يرام، فلا يعقل إرساله لأداء مثل هذه المهمة. والذي ذكره البلاذري أن الفتنة التي ظهرت بمصر كانت ترجع إلى أعمال (محمد بن أبي بكر) و (محمد بن أبي حذيفة) حتى إن الوالي (عبد الله ابن سعد بن أبي سرح) اضطر إلى وضع رقابة صلرمة عليهما لئلا يفسدا الناس، حتى إبهما عند ما طلبا الخروج معه في الغزو أعد لهما سفينة مفردة لئلا يفسدا عليه الناس، فمرض محمد بن أبي بكر فتخلف وتخلف معه ابن أبي حذيفة، ثم إنهما خرجا في جماعة الناس فما رجعا من غزاتهما إلا وقد أوغرا صدور الناس.
فلما بلغ عثمان ذلك دعا بعمار بن ياسر وسأله الشخوص إلى مصر ليأتيه بصحة خبر ابن أبي حذيفة وحق ما بلغه عنه من باطلة، وأمره أن يقوم بعذره ويضمن عنه العتبى لمن قدم عليه. فلما ورد عمار مصر حرض الناس وانضم إلى جماعة ابن أبي حذيفة ثم أرجع بعد ذلك إلى المدينة.
ولم يذكر البلاذري أن صاحب الفتنة هو (عبد الله بن السوداء) ويتفق الطبري مع البلاذري في هذا الخبر في كل شيء سوى وجود هذا الشخص الذي قيل إنه (عبد الله بن سبأ) وقد عزا المسعودي هذه الحركة إلى محمد بن أبي بكر. ولا أريد هنا أن أجرد اليهود من المؤامرات التي دبرت للكيد بالإسلام، وحوادثهم في ذلك كثيرة مشهورة يكفي أنهم هم الذين دسوا السم للرسول وأنهم كانوا يتولون نشر دعاية خبيثة بين المسلمين اضطرت (الخليفة عمر بن الخطاب) إلى اتخاذ موفق حاسم مشرف تجاههم أنقذ به العرب والإسلام. ولكني لا أريد في الوقت نفسه أن أسلم بدعوى من يصدق الروايات ولأخبار فأسلم بأن المسلمين كانوا يصدقون كل ما كان يقال لهم بلا تفكير، وأن يهوديا نكرة لم يعرف مركزه في اليهود ولا منزلته في الإسلام يستطيه أن يلعب هذا الدور الذي قصه علينا (سيف بن عمر) عن جماعة عن (يزيد الفقعسي) وأنه يستطيع أن يضحك من عقول المسلمين، وأنه(778/10)
يضع لهم مقالة ومقالات ثم يجادل الإمام على حيا، ثم يدعي بعد وفاة الإمام أنه لم يمت وأنه حي يرزق في السحاب.
ورجل هذا شأنه في الدسائس والفتن والمؤامرات أن من الواجب الإشارة إليه بشيء من التفصيل، والتنبيه عليه، وكان في وسع (معاوية) القبض عليه والتنكيل به بين الناس. ولم نجد في شعر الرثاء الذي قيل في قتل الخليفة (عثمان) واستشهاده ما يشير إلى هذا اليهودي الفاتن، وقد ورد من هذا الشعر في الطبري وفي البلاذري وغيرهما ما فيه الكفاية.
ويظهر من تأريخ الطبري أن المشاغبين الذين حاصروا المدينة وكانت غالبيتهم من المصريين كانوا يعرفون (بالبائية) كذلك، وانهم كانوا من المحبين للفتن وأنهم لما سمعوا خطبة (على بن أبي طالب) بعد مبايعته قالوا:
خذها إليك واحذرن أبا حسن ... إنا نمر الأمر إمرار الرسن
صولة أقوام كأسداد السفن ... بمشرفات كغدران اللبن
ونطعن الملك بلينٍ كالشطن ... حتى يمرنَّ على غير غنن
والظاهر أنهم شاغبوا على (علي بن أبي طالب) وأنهم تركوا العسكر ولم يمتثلوا الأوامر وأنهم كانوا يحبون الفوضى والخروج على النظام.
وإن الأمر بعد مقتل الخليفة أصبح فوضى، فثار العبدان على الرؤساء وخرج الأعراب لما تراءت لهم علامات الغزو وإمكان الانتقام من أهل المدن. وتجد هذه الفوضى واضحة مرسومة في خطبة (علي بن أبي طالب يخاطب بها طلحة والزبير) يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ هاهم قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا لا، قال فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه إن شاء لله، إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة؛ وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبداً. إن الناس من هذا الأمر إن حرك، على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق. فاهدؤوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا.
واشتد على علي قريش، وحال بينهم وبين الخروج على حالها. فلما ذكر له ذلك ذكر(778/11)
فضلهم وأنه ليس له من سلطانهم إلا ذلك. ونادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إلى مواليه عندئذ تذامرت السبائية والأعراب وصاروا يشاغبون على عليّ. ولما أراد عليّ إخراج الأعراب وإرجاعهم إلى مياههم أبت السبائية ذلك وأطاعهم الأعراب.
فالظاهر من هذه الروايات أن حالة من الفوضى قد عمت الأمصار بعد مقتل الخليفة (عمر بن الخطاب) الذي كان قد سيطر على الأمور سيطرة تامة. وأن الذين كان في قلوبهم مرض وزيغ انتهزوا فرصة مقتل الخليفة وارتباك الأمر واستبداد الولاة بالرأي دون سائر الرؤساء، فأثاروها فتنة وفوضى أدت إلى حدوث ذلك الوضع الشاذ، فأفلتت الأمور من أصحابها وخرج العبيد والمستضعفون على قريش، وانتهز الأعراب هذه الفرصة وقد كانت أخلاقهم وطباعهم مكبوتة في أيام (عمر) واتفقوا مع المهبجين الذين دعاهم الطبري بالسبائية والذين شاركوا حتى في المشاغبة على (علي) عندما رأوا منه أنه كان يريد استتباب الأمن والقضاء على الفتن وإعادة سلطة قريش كما رأيت.
ولا ندري لم دعاهم الطبري (سبائية)؟ ألأنهم أتباع (عبد الله ابن سبأ؟) ولكن أين كان هذا الرجل في هذا الوقت؟ ولم لم يشترك مع المصريين أو غيرهم عندما ذهبوا إلى المدينة وقد نسبت أكثر المصادر سبب الفتنة إلى أشخاص آخرين؟ أم لأن جمهرتهم كانت من أهل اليمن، وقد كانت العادة أن يقال لهم (سبإبين) أو (حميرين) كما كانت في مصر جالية كبيرة منهم قبل الإسلام وبعده فقيل لهم لذلك (سبائية) ولا علاقة لهذه السبائية بسبائية عبد الله بي سبأ؛ وأن هذه (السبائية هي التي دعت الإخباريين لسبب ستراه إلى خلق أسطورة (عبد الله ابن سبأ) هذا الذي جعلنا الرواة نكتب عنه هذه المقالات. فاختلقوا شخصاّ يهودياّ مسلماً أبوه من سبأ وأمه سوداء من الأحباش أو غير ذلك كما رأيت.
ولا شك عندي في أن هذه العناصر، سبائية سميتها أم كانت مسخرة ومحرضة، حرضها أناس كانوا يسعون منذ عهد الرسول إلى خلق الفتن وتفريق العرب إلى شيع وأقسام، وأنها حاولت الكيد لمن كان يعرف فيه الحزم والعزم، وأن مقتل الخليفة (عمر) لم يكن بتلك الصورة البسيطة الساذجة التي رسمها الأخباريون، بل كان خطة منظمة مدبرة يعرف بها جماعة. وأن نفراً كان لهم اتصال وثيق بذلك الرجل الذي صنع تلك الآلة للفتك بالخليفة.
يكفيك أن تقرأ خبر (كعب الأحبار) مع (عمر بن الخطاب) لتعرف منه أن (كعباً) هذا كان(778/12)
يعرف المؤامرة وأن الخليفة أحس بذلك من حديث كعب. جاء كعب إلى عمر قبل مقتله فقال: يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟
قال كعب الاحبار: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة؟ فقال عمر: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة!؟
فقال كعب: اللهم لا، ولكني أجد صفتك وحليتك، وأنه قد فني أجلك.
فقال عمر: وعمر لا يحس وجعاً ولا ألماً!
فلما كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يومان. ثم جاءه من غد الغد فقال: ذهب يومان وبقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها، فلما كان الصبح خرج عمر وكان يوكل بالصفوف رجالا فإذا استوت جاء هو فكبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه فضرب عمر ست ضربات.
لا أدري هل تحسن الظن بعد ذلك (بكعب) وتقول معه إنه كان يجد كل شيء حتى القتل في التوراة، أم أنك ستخرج وأنت به شاك وتقول كما قال عمر. الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة!؟
جواد علي(778/13)
في تاريخنا الحديث:
مواقف حاسمة. . .
(لمؤرخ معاصر)
في سجل الثورة المقدسة صفحات مشرفة من المجاهدة والتضامن، والمفاداة. . يجدر بالقوم أن يرجعوا إليها، وأن يقفوا عندها يتأملون ماضيهم، ويتدبرون حاضرهم، ويرسمون مستقبلهم: ليربطوا حلقات جهادهم الموصول.
كانت مصر يومئذ تمتحن بنار الثورة، وكانت الطريق واضحة، والأهداف واحدة، فلم يكن أبالسة الاستعمار (وسماسرته) قد جعلوا من كراسي الحكم أصناماً بعد. .
وأراد اللورد كيرزون أن ينال من وطنية المصريين، وأن يغمز ثورتنا أمام العالم. . . وكانت جهودهم في لوزان وفرساي قد أثمرت، وأقفل سدنة السلام وحراس العدالة أبواب مؤتمر الصلح في وجه مصر - هذا، ولم يكن المداد الذي سطرت به أنشودة الدكتور ويلسون قد جف. . تلك الأنشودة الجميلة، بذات الألحان الأربعة عشر التي كانت الأفيون الذي خدر الرأي العام في الشرق مدة الحرب الأولى. فلما وضعت هذه أوزارها ظن المصريون أن حقوقهم ستكون موضوع الاعتبار. . وإن هي إلا معركة فقهية بيننا وبين الإنجليز. . ولكن القوم نازلونا بسلاح غير شريف، وحملوا أعضاء مؤتمر الصلح على إهانة العدالة؛ وأذاعت (دار الحماية) في مصر اعتراف ويلسون بالحماية البريطانية على مصر. . ولم يفت ذلك في أعضاء المصريين، ولم يزد الهار المقدسة إلا اشتعالا، وبذل الأعمام أموالهم وارواحهم في تطهير الأرض الحرام من برابرة الغرب، وعصابات الاستعمار.
وأعلنت الأقدار هزيمة القوة فصرح اللورد كيرزون أن ثورة مصر إن هي إلا حركة معلولة يرتجلها الغوغاء. . . ولو قد كانت هذه الحركة جديدة لاشترك فيها الموظفون وهم صفوة الامة وأرشد عناصرها، وفي هذا السبيل أثنى على المظفين أجمل الثناء لأنهم لم ينقطعوا عن أعمالهم أثناء الثورة التي اجتاحت البلاد.
وحاجَّنا السير وليم برونيت فادعى أن الأقباط لم يستجيبوا لدعاة الإضراب، وأشاع الثناء على الموظفين، والإشادة بحسن سلوكهم.(778/14)
ولكن مصر لم تشرب العسل المسموم، وإنما أكرهت الأنجليز على ابتلاع آرائهم، ووضع ألسنتهم في جيوبهم. . وكان رد البلاد عليهم حاسماً رائعاً:
فأما الأقباط فأكذبوا ادعاء الغاصبين، وخرج القسيسون والرهبان إلى المساجد، وخطب القمص سرجيوس في الأزهر، وفتحت الكنائس للشيوخ والعلماء، ومشى مشيخة الأزهر يحملون بساط الرحمة في جنازات الشهداء، وخفقت الأعلام ذوات الصليب والهلال، وتواصف الناس مقالات سينوت بك حنا (الوطنية ديننا، والاستقلال حياتنا)، وكانت ترانيم القوم قصيدة الشيخ إبراهيم سليمان:
الشيخ والقسيس قسيسان ... وإن تشأ فقل: هما شيخان.!!
كانت سياسة الاستعمار تريد تسليط البلد على نفسه، وكانت ترمي إلى تشتيت قوته، وتوجيه ثيار الثورة في غير مجراه. . . ولكن مصر المتحدة لطمت هذه السياسة لطمه اليمة، وعرفت كيف ترد سهام الإنجليز إليهم. . لم يكن في مصر مسلمون وأقباط، وإنما كان فيها مصريون: مصريون لهم صوت واحد يدوي بالاستقلال (وأن الوطن للجميع، والدين للديان).
وأما الموظفون فقد جاء ردهم على مزاعم الإنجليز مفحماً، وجاء في أهرام أول إبريل سنة 1919 تحت عنوان المسألة المصرية في مجلس النواب (أن العناصر الأكثر رزانة من السكان لا تستحسن هذه المظاهرات). فأسرع هذا وأمثاله بالموظفين إلى الإصرار على دحض مزاعم المستعمرين، وإسقاط حجتهم أمام العالم، وكان الإضراب هو الرد البليغ الذي لا رد سواه. وكتبت أهرام 2 إبريل سنة 1919 تحت عنوان شعور الموظفين (أنهم لاحظوا ان بعضهم أخطأ في فهم شعورهم في الأحوال الحاضرة فقرروا الإضراب عن العمل غداً (الخميس) ويوم السبت المقبل في جميع الوزارات والمصالح) وعلى هذا يكون بدء الإضراب يوم الخميس الثالث من إبريل، وعلى هذا جرى المنشور الحكومي الذي أذيع على الصحف في أول مايو سنة 1919 عندما أرادت الحكومة أن تؤاخذ الموظفين فتقطع رواتبهم أيام الإضراب؛ فقد حدد منشور (الحقانية) أيام الإضراب وقدرها سبعة عشر يوماً من 3 إلى 5 إبريل ثم من 9 إلى 22 منه.
ويقول عبد الرحمن بك الرافعي: إن الإضراب بدأ بالفعل يوم الأربعاء 2 إبريل ولكنه(778/15)
صار عاما يوم الخميس 3 إبريل.
ويبدو أن الحركة قد بدأت قبل هذا. ولعل الموظفين لم ينتظموا أعمالهم من أواخر مارس بعد أن تناقلت شركات البرق خاب اللورد كيرزن الذي أراد به أن يسعى بالمصريين بين أنفهم حتى يكفيه بعضهم شر بعض. . . ولكن الحركة من تأخذ سبيلها إلى أسماع العالم إلا في هذا التاريخ ريثما اجتمع كبار الموظفين لتحديد الإضراب وتنظيمه، وكتابة العرائض، والموافقة عليها، ورفعها إلى عظمة السلطان وإبلاغها الحكومة البريطانية. وكان للحركة قادة من أمثال عبد الرحمن فهمي، وأمين الرافعي، ومحمود سليمان باشا، وعبد الله سليمان أباظه، وكان من زعماء الموظفين على ماهر بك (صاحب المقام الرفيع) وحلمي عيسى بك (باشا) وزكي العرابي أفندي (باشا) وإبراهيم دسوقي أباظه أفندي (باشا) وأحمد شرف الدين أفندي (بك) والأستاذ عاطف بركات، والأستاذ حسن نشأت.
وكان للحركة معاقل سرية كان من أهمها منزل الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه، وعبد الهادي الجندي، ومراد الشريعي. . . وفي هذا الجو تألق اسم البطل الشهيد أحمد ماهر، ومحمود فهمي النقراشي، وظهر الخطيب المتدفق شكري كيرشاه.
وفي يوم الأربعاء 9 إبريل صدر الأمر رقم 26 لدولة رشدي باشا بتأليف وزارته الرابعة، وكانت حركة الموظفين قد بدأت بعد استقالة وزارته الثالثة، وكانت استقالته هذه من المواقف الكريمة التي أيدت وجهة النظر المصرية، وكان السيرونجت قد طلب إلى رشدي باشا أن يؤجل البت في استقالته حتى يتصل بحكومته في لندن لإقناعها بالسماح له ولعدلي باشا بالسفر إلى أوربة، ولكنه أصر على أن يسمح بالسفر لكل من يشاء من المصريين. . وقبلت الحكومة البريطانية سفر الوزيرين دون أعضاء الوفد فاعتبر هذا رشدي باشا رفضاً لمطالب الوزارة الوطنية، وأصر على استقالته. . . فلما ألف وزارته الرابعة ظن أن الموظفين سيعاونونه، ويعودون إلى أعمالهم. . . مادام الإضراب قد أعلن وأدى نتيجته؛ وكان المنشور السلطاني قد أذيع في يوم الثلاثاء 8 إبريل بعودة النظام ورفع الحجر على سفر المصريين وإطلاق سراح زغلول، وصدقي، ومحمد محمود، وحمد الباسل.
ولكن الموظفين أصروا على الاستمرار في إضرابهم وألفوا لجنة من مندوبي الوزارات والمصالح من سبعة وخمسين عضوا.(778/16)
وفي 10 إبريل اجتمعت اللجنة بوزارة الحقانية فشرطت للعودة شروطا فيها كثير من التعنت، ورفعوا بهذه الشروط قراراً إلى رشدي باشا. ويستدعي رئيس الوزراء زعماء الموظفين فيجيبون دعوته إلا علي بك ماهر، وفي هذا الاجتماع كرر الوزير للموظفين طلب فض الإضراب ولكنهم أصروا على موقفهم، واشترطوا أن تعتزل الوزارة الحكم. . . تلك الوزارة التي أيدت الثورة وكانت في الجبهة الشعبية من يوم تأليفها.
وفي يوم الثلاثاء 15 إبريل طلعت الصحف ببيان آخر من رشدي باشا يدعو فيه الموظفين إلى العودة، ويلقي عليهم مسؤولية الاستمرار في الإضراب. . . ونشرت جريدة المقطم يوم 18 إبريل سنة 1919 أن رشدي باشا استدعى بعض أعضاء لجنة الموظفين، وناقشهم طويلا، وبين لهم خطر الموقف، وانفض الاجتماع دون الوصول إلى قرار نهائي.
ويقف رشدي باشا موقفاً كريماً فيقبل اعتزال الحكم إن كان ذلك رغبة الموظفين، وأطلع الوزراء رؤساء الموظفين على نص كتاب الاستقالة قبل أن يرفعوه إلى عظمة السلطان. . وتتوالى الحوادث بسرعة فيجتمع بعض أعضاء لجنة الموظفين ويقررون العودة. كان ذلك يوم 21 إبريل؛ وفي اليوم الثاني أذاع الجنرال أللنبى منشوراً يقضي باعتبار كل موظف مستقيلا إذا لم يعد إلى عمله
وأذيع المنشور في الصحف - الأهرام 23 4 1919 وفي
نفس هذا العدد تكذيب بتوقيع محمد عاطف بركات ومحمد
زكي الإبراشي: (لا صحة لما جاء في بعض المنشورات من
أن اللجنة العليا للموظفين قد قررت الاستمرار في الإضراب.
. .
إن حركة إضراب الموظفين عام 19 كانت حركة رائعة موفقة لولا أنهم تمادوا فيها بعد زوال أسبابها.
إنها قصة رائعة لم يحسنوا ختامها. . . وحسبك أنها انتهت بسقوط وزارة رشدي وكان سقوطها خسارة كبيرة. . . وفي نفس اليوم الذي عادوا فيه كان اعتراف ويلسون بالحماية(778/17)
الإنجليزية على مصر نتناقله شركات البرق في العالم.
ولقد صحب هذه الحركة مواقف غاية في النبل والشجاعة، والإيثار. . . فمن ذلك أن الإنجليز طلبوا إلى الوزارة اعتقال زعماء الحركة ونفيهم فأبت الوزارة هذا، وردت على الإنجليز بأن (رؤساء الإضراب هم زهرة الشبيبة المصرية فلا نقبل أن يهابوا، ولا نستطيع تحمل مسئولية اعتقالهم، وإذا بدا لقوة أجنبية أن تعتقلهم فسنكون نحن (الوزراء) أول الثائرين. . .)
والذين سمعوا بأيام الحماية، وعهود المستشارين والإشراف، واستئثارهم بالحكم والنفوذ يعرفون إلى أي حد كان رشدي باشا رجلا فذا ومثلا نادراً في الشجاعة والاستبسال، ويعرفون إلى أي حد ظلم الموظفون الرجل، وحرموا حكومته من العون والتأييد. . .
وأراد الإنجليز أن يأخذوا الموظفين بإضرابهم فجاء في أهرام الخميس الأول من مايو سنة 1919 منشور الحقانية بعنوان (موظفوا الحكومة أيام إضرابهم عن العمل): تقرر مبدئيا قطع مرتب مدة الإضراب وقدرها سبعة عشر يوما من 3 إلى 5 إبريل ثم من 9 إلى 22 منه - من جميع الموظفين والمستخدمين الوطنيين مع حفظ الحق في إبداء المعارضات. أما إعانة المرتب فتصرف كاملة طبقاً للتعليمات الخاصة بها)
وقبل الموظفون ذلك، ولكنهم طالبوا ألا يعامل صغار الموظفين بذلك. . . ويثور هؤلاء ويأبون أن يكونوا أقل من رؤسائهم بذلا وتضحية حتى يقنعهم الرؤساء بقطع الرواتب عن نصف مدة الإضراب.
هذه صفحة من تاريخ اليقظة المصرية نفض من عليها غبار الليالي. وكم من سجل الثورة المقدسة من صفحات يجدر بالمصريين أن يرجعوا إليها، وأن يقفوا عندها. . . ليتأملوا ماضيهم، حتى يتدبروا حاضرهم، ويرسموا مستقبلهم. . . ويربطوا حلقات جهادهم الموصول. . .
(مؤرخ)(778/18)
منادمة الماضي:
زيارة لحصن الأكراد
أدب وحرب
للأستاذ أحمد رمزي بك
1 - لزيارة حصن الأكراد قصة لا بأس من إيرادها على سبيل الفكاهة كمدخل لهذا الحديث، فقد سبقتها زيارة لحصن آخر هو قلعة مدينة طرابلس. ولم يكن لدى برنامج موضوع لزيارة القلاع والحصون التي أنشأها الصليبيون أو احتلوها بالمشرق، وإنما جاءت الزيارتان وليدتي المصادفة. وإليكم ما دفع إليهما.
2 - حينما جاء الجنرال جورو الفرنسي إلى مدينة طرابلس عقب احتلال فرنسا للبلاد بعد جلاء الجيوش البريطانية عنها، استقبل في قلعتها استقبالا غريباً، فقد تلقاه جماعة من جنوده، وقد لبسوا لباس فرسان الهيكل ومقابلة الاسبتار ومعنى هذا الاستقبال مظاهرة صليبية بعد سبعمائة سنة من انتهاء هذه الحروب. وخطب الجنرال وأظهر سروره باسترجاع فرنسا لمعقل من معاقل الصليبيين. وقد عد هذا العمل من أخطاء جورو التي سجلت عليه، لأن فرنسا لم تفتح هذه البلاد بجيوشها حتى تحتفل باسترجاع حصن نزع منها. ثم إن عقلاء الفرنسيين أشاروا بخفة إلى أن هذه الحروب كانت حرباً عامة اشترك فيها الفرنسيون وغيرهم من الألمان والإنجليز. كانت نهاية الحروب خروج الصليبيين بعد هزيمتهمن فليس من الحكمة في شيء أن تلصق هذه الحروب ونتائجها بالشعب الفرنسي وحده.
3 - كان قد مضى أكثر من عشرين عاماً على هذه الحوادث حينما زرت مدينة طرابلس، فإذا بأهل المدينة يتحدثون عنها، وكأنها حصلت من أيام. لله در الجنرال جورو! لقد كان أهل طرابلس رجال رباط ومثاغرة منذ القدم، فإذا هو يذكرهم بماضيهم، وإذا هم من جديد من المرابطين المثاغرين الذين لم يفقدوا شيئاً من حماسة آبائهم وأجدادهم، وكان أن تحادثنا في موضوع مدينة طرابلس وكيف دخلتها جيوش الملك المنصور سيف الدين قلاوون وانتزعتها من أمراء الصليبيين؛ وتحمس الجمع فخرجنا إلى قلعة طرابلس، وقرأنا الكتابة(778/19)
التي سجلها الفاتح على باب القلعة: وكان أثر هذا الاستقبال الفرنسي أن أوجد وعياً قومياً وحماساً في قلوبنا.
4 - وأمضينا سهرة حول فتح طرابلس وسير حملتها، فإذا بالحديث يتناول قلعة الحصن أو حصن الأكراد وهي التي قامت منها الحملة التي استولت على طرابلس، وكان أن تقررت زيارتنا للحصن العتيد في يوم من أيام عام 1941 حينما كانت الحرب العالمية الثانية في أشد أدوارها وطأة: فقمنا في أكثر من ست سيارات على طريق حمص، وما كدنا نترك محطة تل كلخ حتى ظهرت لنا القلعة العظيمة بأبراجها تطل علينا من فوق رابية لا يقل ارتفاعها عن ستمائة وخمسين متراً عن سطح البحر، وهي في صمتها وعظمتها توحي إلى الناظر إليها بأنها تتحدى الأجيال. فكأن الزيارة الأولى جاءت من وحي الاستقبال الفرنسي، وأتت زيارة حصن الأكراد نتيجة لما لمسناه ورأيناه عند زيارة قلعة طرابلس: كان كل هذا بغير قصد معين.
6 - وتمت هذه الزيارة في يوم بأكمله. فقد صعدت بنا السيارات إلى قمة المرتفع، ورأينا الأراضي الخصبة التي كان يسيطر عليها أصحاب الحصن، وظهر لنا البحر من بين المرتفعات: ورأينا كيف كان أهل الحصون يتخابرون بالنيران الموقدة.
وحينما نزلنا من السيارات واتجهنا إلى باب الحصن أخذتنا الرهبة لدى قراءة ما كتب بالخط النسخ الجميل من مثال العصور المملوكية القديمة من مصر. فأخذنا نحاول القراءة، فأتى إليها من باع لكل منا بطاقة قد صورت عليها الكتابة الخالدة:
7 - بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بتجديد هذا الحصن المبارك، في دولت مولانا الملك السلطان الملك الظاهر العالم العادل المجاهد المرابط. . . ركن الدنيا والدين أبو الفتوح بيبرس قسيم أمير المؤمنين، وذلك بتاريخ يوم الثلاثاء خامس وعشرين من شعبان سنة 669
8 - لا أخفي عنكم أنها كانت وكأنها نفحة من نفحات مصر تستقبلنا. أما أنا فقد كنت سريع الخطى، أقفز ذات اليمين وذات اليسار، كنت أرى الحصن بأبوابه وأبراجه وأسواره وطبقاته وكأنه قطعة من بلادنا.
وصعدت على الدرج وقلت من هنا صعد أبو الفتوح بجنده وأمرائه، ومررت إلى الرحبة(778/20)
الأولى فإذا الحصن الثاني له روعة أكبر من الروعة التي يراها الإنسان للباب الأول: ومن هذا المدخل يصعد الداخل إلى مكان القيادة، فرأيت كيف أبقى الزمن آثار أقدم الحرس، وحيث موضع الرماح التي كان يحملها الديادبة كنت أراها على يمين الداخل وشماله حتى صعدنا إلى الأماكن العالية: حيث كانت حجرات الرئيس ومائدته ومكان عبادته.
9 - هذه هي النظرة الأولى لهذه الزيارة، وقد جعلتها موضوع حديثي الليلة، فلا تنتظروا مني أن أحدثكم حديث العالم في فن هندسة التحصين وعمارة القلاع قديمها وحديثها، ولا أن تسمعوا مني حديثاً في التاريخ وعلم الآثار، وإنما حديثي الليلة هو حديث رجل مرَّ بحصن من حصون القرون الوسطى فأخذته روعة المكان، وغمرته ذكريات عن بلاده وهو بعيد عنها، فإذا به ينادي هذه الحجارة القائمة، ويحدثها ويسعى إلى منادمة الماضي سعياً قد يجعل هذا المكان يبوح بسره وينطق بما كان عليه من أمجاد القرون الماضية.
10 - فالمعلومات التي أقدمها لم أحاول جمعها على طريقة علمية منطقية بالبطاقات، ولم تكن نتيجة خطة معينة، أو بحث قصدت به أن أقف بينكم اليوم لأنقله إليكم، وإنما هي نتيجة مطالعات متفرقة في أوقات متباعدة، وهذه المطالعات أثارتها زيارتي لهذا الأثر ورغبتي في إشباع نفسي منه.
11 - فهناك فريق من الناس يؤمنون بأن قيمة بعض الأشياء هي في مقدار ما تثيره في أنفسهم من انتباه أو وعي أو رغبة في الاستزادة من التعرف إليها، ثم فيها تتركه هذه الأشياء في عقولهم وأذهانهم من دوافع قد تلازمهم مدة طويلة من الزمن، وتدفعهم إلى عمل أشياء نافعة أحياناً.
12 - وإني أتشرف باني من هؤلاء الذين يؤمنون بأن التاريخ والآثار وكثيراً من محاسن هذه الدنيا، هي حية مادامت تؤثر فينا وتجعلنا نشعر بشعور معين، وتحت إيحاء هذا الشعور نقوم بإتمام عمل من الأعمال النافعة المفيدة. وأعترف بأني مدين لزيارتي حصن الأكراد بشيء كبير من هذا الإيحاء الذي لازمني مدة طويلة ونفخ في روحي حماساً، للتعرف على أشياء، والإيمان بعصور كانت في مخيلتي قاتمة يحيط بها الكثير من الضباب. فأخذت أتحين الفرص لزيادة معلوماتي عنها وشغل أوقات الفراغ في تعرف هذه الأيام والكشف عما وراء الحجب من أشياء قد تكون معلومة لأهل الاختصاص، ولكنها(778/21)
كانت على كل حال مجهولة لي.
13 - لابد أنكم اشتقتم إلى التعرف على هذه القلعة السورية، والتي أمضيت كل هذه المدة دون تحديد موقعها، والتحدث إليكم عنها بعد أن طال حديثي عن مقدمات هذه الزيارة. ولذا أنقل إليكم ما كتبه الأستاذ الجليل محمد كرد علي، صاحب خطط الشام إذ قال: قلعة الحصن، أو حصن الأكراد أو الكرك ولا تزال محفوظة منذ عهد الصليبيين على ما هي عليه، وهي آية في باب الهندسة العسكرية في القرون الوسطى ناطقة بلسان حالها بأن هؤلاء نزلوا الأراضي المقدسة.
14 - قال: فلننظر بعده إلى ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان فقد كتب: منذ أكثر من سبعمائة عام حصن الأكراد هو حصن منيع، حصين على الجبل الذي يقابل حمص من جهة الغرب وهو المتصل بجبل لبنان، وكان بعض أمراء الشام قد بنى في موضعه برجاً، وجعل فيه قوماً من الأكراد كطليعة بينه وبين الفرنج وأجرى لهم أرزاقاً، فخافوا على أنفسهم فجعلوا يحصنون هذا البرج إلى أن صار قلعة حصينة، منعت الفرنج من كثير من غاراتهم فنازلوه، فباعه الأكراد ونزحوا لبلادهم، وملكه الفرنج وهو في أيديهم إلى هذه الغاية (أي إلى عهد ياقوت الحموي) وبينه وبين حمص يوم واحد، ولا يستطيع صاحب حمص أن ينتزعه من أيديهم.
ثم اختلط عليه الأمر فجاء بذكر الداوية في حصن الأكراد ويقصد فئة الاسبتار أصحاب الحصن فقال عنهم: هو قوم من الفرنج يحبسون أنفسهم لقتال المسلمين ويمنعون أنفسهم عن النكاح - يقصد إيمانهم بالرهينة - ولهم أموال وسلاح ويتعاطون القوة ويعالجون السلاح ولا طاعة لأحد عليهم. انتهى كلامه.
15 - وهذا رأي لكاتب عربي قيل استعادة الحصن من أيدي الصليبيين: ويهمنا قبل الانتقال من هذا التعريف أن نصحح لياقوت؛ فأصحاب الحصن هم جماعة الاستبار لا الداوية.
16 - والاسبتار هم والداوية هم الهيكليون نسبة إلى هيكل سليمان أو المعبد وهما منظمتان صليبيتان، كان الغرض الأساسي من تأليفهما مد يد المساعدة لرواد الأراضي المقدسة الذين تنقطع مواردهم، أو يقعدهم المرض، ومن هنا تفهم كلمة ثم ألقى عليهما(778/22)
واجب حماية الحاج.
ثم انتهى الأمر بهما إلى أن أصبحتا قوتين عسكريتين منظمتين لمحاربة المسلمين. وقد حصلت كلتاهما على حق احتلال القلاع والحصون، وعلى حق إدارة المقاطعات وفرض الضرائب، وعلى حق عقد المعاهدات والهدنة والصلح. فأصبحت كل منظمة حكومة داخل حكومات الصليبيين، ووصل عدد المنتمين لهاتين المنظمتين إلى 15. 000 مقاتل، وكانوا على ثلاثة أصناف:
1 - الفرسان: من طبقة النبلار من مختلف شعوب أوروبا وهم الذين يتولون مناصب الشرق الكبرى.
2 - الضباط: ويمكن أن يلحق بهم أبناء الطبقات الوسطى.
3 - الكتاب: ويتولون وظائف الكتابة والأعمال الدينية الثانوية.
17 - وكان حصن الأكراد معقلا من معاقل الاسبتار: وهم الذين زادوا على أسواره وبنوا الأبراج العالية. وأهم ما بقى من آثارهم القاعة الكبرى ومسكن رئيس الفرسان. وغير ذلك. وقد تسلموا الحصن من أمير مقاطعة طرابلس لوجود الحصن على الحدود.
18 - وكانت القواعد المتبعة أن يقسم جماعة الاسبتار، أو الهيكليين على الدفاع حتى الموت، ولا يعفون من قسمهم إلا بأمر أعلا من عميد الهيئة فكانوا أهل رباط يتقربون إلى الله بقتال المسلمين بغير هوادة، وكانوا يعتبرون من مات في قتال الإسلام شهيداً، ومن عوائدهم (التي أخذوها عن المسلمين وأهل المشرق) اطعام أربعين مسكيناً لمدة أربعين يوماً، وإخراج زكاة العشر للفقراء عن جميع المحاصيل، بل فرضوا على أنفسهم إخراج رغيف عن كل عشرة أرغفة تخبز في مطاحنهم.
19 - وكانت المنافسة على أشدها بين المنظمتين، بل كانت تنتهي أحياناً إلى العداء المفتوح، وفي منطقة حصن الأكراد كانت قلاع صافيتا وطرطوس في يد الهيكليين.
20 - وللمنتظمتين تاريخ طويل في الحروب الصليبية، ويبرز اسم عميد كل منهما في كثير من الحوادث، وفي توجيه سياسة الأمارات اللاتينية. ولذا أفراد المؤرخون المؤلفات الطويلة للتحدث عنهم.
21 - ويهمنا من أمرهم ما كان لهم من السلطان في حصن الأكراد، فقد ذكر صاحب(778/23)
كتاب: كشفاً بأسماء من تولوا وظائف كبرى من الاسبتار بحصن الأكراد ابتداء من 1265 إلى 1267 وخصوصاً العمداء ذكر من بينهم. ' ويؤكد الكثيرون أن رفاقهم لا يزالون في أقبية الكنيسة التي كانت بالحصن.
ولقد رأيت في متحف الحصن مجموعة من الجماجم البشرية، وعليها آثار ضربات السيوف، فهل هي لقوم الاسبتار أم الجماعة من المسلمين؟ هذا ما يقف التاريخ حائراً أمامه.
(يتبع)
أحمد رمزي(778/24)
حول دولة صهيون المزعومة:
بيت العنكبوت!. . .
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت
بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
قرآن كريم
تزعم أسرة العناكب أنها عاشت حيناً من الدهر في بيت تام البناء، مكتمل الأثاث، كثير المتاع؛ وأن صروف الزمان وعودايه أخرجتها من بيتها بغير حق، فتقطعت بها الأسباب، وسُدَّت في وجهها الأبواب، وأصبح شملها مشتتاً بعد اجتماع، وأمسى حبلها مبتوتاً بعد اتصال. . .
وتزعم أسرة العناكب - فوق ذلك - أن طائفة منها طوفت في الآفاق، فما ثُقِفتْ في بلد إلا سامها أهلوه سوء العذاب، حتى انتهى بها التطواف إلى البقعة المباركة التي أُخرجت منها، فبدا لها أن تتخذ فيها بيتاً واحداً يضم (قومها) فحشرت ونادت فيما أجابها منهم إلا أصوات بعيدة في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، فأوحت إليهم أن انسجوا خيوطكم بكرةً وعشياً، ثم هاجروا إلينا لواذاً، ثم ائتونا صفاً، فسنبني معاً بأيدينا ذلك البيت الذي حرمتنا منه الحياة، في الأرض المقدسة التي أخرجنا منها شرَّ إخراج!
وانهمكت طائفة العناكب في إعداد تصميم البناء، وراحت تعمل في ضمير الخفاء، بينما أنشأت أخواتها تنسج لها الخيوط تباعاً ثم تمدها إليها من كل مكان، فتجمع بعضها على بعض وتفتله فتلا محكما لتجعل منها حبالا تستطيع أن تصطاد بها إذا احتالت ما تشاء.
وصبرت العناكب طويلا على الذلة مضروبة عليها، والمسكنة محيطة بها. . . ولكن حبالها التي تجمعت لديها بالصبر، سهلت عليها بالمكر أن تصطاد الثعلب الذي يخدع ولا يخدع، والذئب الذي يأكل ولا يشبع، والحرباء التي تتلون ولا تخشع، فامتطت ظهورهم إلى غايتها، وسخرتهم جميعاً لخدمتها، فأسقطوا من كرامتهم لإعزازها، وذلوا أمامها ذلة العبيد للسيد الجبار!(778/25)
وعجب الناس للثعلب كيف خدع وهو الذي لم يتقن إلا الخديعة والمكر، وللذئب ما الذي أرضاه فقنع وإنه لا يقنعه إلا الفريسة البكر، وللحرباء لم شحب لونها وامتقع وإن وجهها ليتخذ ألف لون في كل شهر. . . وخف عجب الناس حين تبين لهم أن خيوط العنكبوت التي استحالت حبالا قد سولت للثعلب الماكر أن في مكنتها أن تصنع له المعجزات فواعدها سراً وعده المشئوم؛ وللذئب الكاسر أنها ستقتنص له الفرائس السمان فساعدها علانية على بيتها المزعوم؛ وللحرباء المتلونة أنها ستكون ملك يدها وطوع إشارتها فأيدت الباغي الغشوم، وانتصرت للظالم على المظلوم!
ولم يدر الثعلب على مكره، ولا الذئب على حذره، ولا الحرباء على نفاقها، أن العنكبوت على وهن خيوطها كانت أسرع منهم مكراً، وأكثر منهم حذراً، واشد منهم نفاقاً. . .
ثم تصرمت الأيام، وقويت الصلات بين هذه العناكب وأصحابها الثلاثة، فتعاهدوا على أن يدبروا لأسد الغاب مكيدة يخرجونه بها من عرينه، فإن الله قد ضرب على أذنه سنين عدداً، فنام نومة اللَّغب بعد أيام ذات نصب وعذاب، وغط وغطيط التعب إذ يحلم بالأماني العذاب، ولم يدر بخلده أن العناكب قد صنعت من حبالها شباكا، وأنها اغتنمت فرصة نومه فألقت عليه هذه الشبلك، وامتعانت بحيلة الثعلب وقوة الذئب وتدبير الحرباء على زحزحته عن موضع وقاده؛ فصحا في استرخاء الكسول، وتثاءب تثاؤب الملول، ثم ردد بصره في حيرة وذهول، كأنه لا يصدق شيئاً مما يرى، فما كان للثعلب أن يسعى للمكر به، وما كان للذئب أن تطوع له نفسه الدنو منه، ولا كان للحرباء - بلك الحرباء الحقيرة التي ليس لها سلاح إلا التلون والنفاق - أن تجرؤ على الغدر به؛ فليحاول تمزيق الشباك بأنيابه ومخالبه، وليزأر زئيره المرعب، وليثر ثورته الغاضبة، فلعل أشباك تسمع زئيره فتُصرخه، ولعلها لا تكون بعيدة عن العرين الذي رباها فيه، ولا نائمة في الغاب كما كان نائماً، ولا هي تغط مثلما كان يغط؛ أو لعلها لا تكون مشغولة بأكلها وشرابها، تعدو على الفرائس فتلتهمها، وترد العنون لتشرب ماءها، لاهية عن عرينها وعرين آبائها وأجدادها فإن للصوص لغدراً تضل معه حكمة الحكماء، وأن للجبناء لمكراً تعجز عنه شجاعة الشجعان. .
ولما سمع الثعلب والذئب والحرباء زئير الأسد نكصوا على أعقابهم وقد أصاب قلوبهم من(778/26)
الهلع ما جعل دماءهم تجمد في عروقهم، وكادوا يلعنون للعناكب نقضهم لما أبرموا معها، ورجوعهم عما به وعدوها، وولائهم للأسد الذي يعرف كيف ينتقم لنفسه منهم ومنها، لولا أنهم رأوا أسرابها تغافل الأسد فتدب على ظهره، وتجري بين يديه، وتمشي فوق عينيه، وهو لا يكاد يحس بها لصغرها وحقارتها، فظن الأصحاب الثلاثة أن العناكب لم تعلُ رأس الأسد إلا لأنها أشد منه قوة، ولم تُقم من جسده حيث تشاء إلا لأنها أعظم منه بأساً؛ واستطاعوا أن يستعيدوا رباطة جأشهم، وطفقوا يهتفون للعناكب هتاف الإعجاب والتشجيع، بل استبد بهم الغرور، فنادوا الفيَلةَ والنمور، والدببة والقرود، حتى الغزلان والفهود، والبغال والحمير، والهررة والكلاب، لينقلبوا على سيد الغاب، ويعترفوا بعرينه للعناكب، فهذه شريعة الذئاب والحرباوات والثعالب!.
واجتمعت على أصواتهم الوحوش الشرسة، والحيوانات الأليفة: فمنها ما كان يعوي، ومنها ما كان يزمجر ومنها ما كان ينبح، ومنها ما كان ينهق، ومنها ما كان يخور؛ فاختلطت من أصواتها النكراء موسيقى عجيبة لا تطرب من الناس أحدا إلا ترومان الأحمق، وأتلى الطائش، وستالين المغرور.
بيد أن هذه الأصوات لن تغني العناكب شيئاً، فلقد سمع الأشبال زئير الأسد، فصحوا من نومهم كما صحا من نومه، وتناسوا أحلامهم كما تناسى أحلامه، وأقسموا لا يذوقون الأكل ولا الشراب، حتى يخرجوا العناكب من الغاب، ويلقوا درساً بليغاً على الثعالب والحرباوات والذئاب. . .
وإن سهول مصر وجبال لبنان، وبطاح سورية وواحات العراق، وأودية الأردن ونجود الحجاز، ورمال الجزائر ورياض اليمن، وإن كل بقعة تهتف بالإسلام، وكل أرض تنطق بالضاد لتنظر من بعيد إلى البلاد المقدسة. . . إلى فلسطين عرين العروبة لترى رأي العين كيف ينتصر أشبالها الأشاوس، وكيف يحفظون البيت لأسياده، وكيف يمزقون بنفخة واحدة ما نسجته يد العنكبوت.
يومئذ تندم بريطانيا التي ظنت أنها تخدع ولا تخدع، وتعض أناملها من الغيظ أمريكا التي عرفها العالم تأكل ولا تشبع، وتزهق نفس روسيا التي دمرت على النفاق ولم تخشع. . ويومئذ تعلم العنكبوت البلهاء أن الأولياء الذين اتخذتهم من دون الله لا يستطيعون أن يبنوا(778/27)
لها بيتاً، ولا أن يوطئوا لها كنفاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، و (يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
صبحي إبراهيم الصالح(778/28)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
- 3 -
لقد كان بدء نقل الكتب العلمية إلى اللغة العربية كما ذكرنا آنفاً - بعد استقرار الحكم العربي، وأن اكثر المترجمين كانوا من أمم غير عربية، وأحياناً من غير المسلمين كالسريان والعبريين ومن الإيرانيين المسلمين منهم، والنصارى واليهود والمجوس، غير أن النهضة العلمية الحقيقة بدأت في العصر العباسي، وكان للإيرانيين حينذاك نفوذ كبير وشأن في الدولة عظيم.
ففي هذا العصر ترجمت كتب علمية على درجة كبيرة من الأهمية، ولاسيما في زمن خلافة المأمون. وكانت أمه وزوجته إيرانيتين، وكان نفوذ الإيرانيين قد بلغ في عهده غايته، ففي هذا العصر حصل العرب بطريق الفتح، أو بإيفاد بعوث خاصة إلى بلاد الإمبراطورية البيزنطية، أو بالشراء أو المبادلة على كثير من الكتب اليونانية النفيسة، أو ترجمتها السريانية، فجمعوها في مكتبة الخليفة المسماة (بيت الحكمة)، وقام بتعريبها مهرة المترجمين. ويروي بعض المؤرخين المسلمين عن سبب اهتمام المأمون بالعلوم الفلسفية وغيرها قصة ملخصها أن المأمون رأى أرسطو في منامه وسر من كلامه، فرغب في قراءة مؤلفاته. لذلك أحضر كتبه وأمر بترجمتها إلى العربية.
ويروي ابن النديم بهذا الشأن هذه الرواية:
(إن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون، مشرباً حمرة، واسع الجبهة مقرون الحاجب أجلح الرأس أشهل العينين، حسن الشمائل، جالس على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة، فقلت من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم، أسألك؟ قال سل. قلت ما الحسن؟ قال ما حسن في العقل. قلت ثم ماذا؟ قال ما حسن في الشرع، قلت ثم ماذا؟ قال ما حسن عند الجمهور. قلت ثم ماذا؟ قال ثم لا ثم. وفي رواية أخرى قلت زدني، قال من نصحك في الذهب، فليكن عند كالذهب. وعليك بالتوحيد.(778/29)
وهو يعتقد أن هذا المقام كان من أوكد الأسباب في إخراج الكتب، غير أننا نرى كما سبق القول في ذلك، أن ظهور الفلسفة والعلوم في الإسلام كان أمراً طبيعياً وكان من مستلزمات الحضارة، وأن اتصال المسلمين بالأمم المتحضرة كان يوجب عليهم الاكتساب من علومهم ومعارفهم.
وكما أن اللغة اللاتينية كانت لغة العلم في جميع البلاد الأوروبية طوال القرون الوسطى، أصبحت اللغة العربية بالتدريج، لغة العلم والعلماء بين المسلمين. وكان العلماء والمسلمون من كل قوم ولغة يؤلفون مؤلفاتهم بها ليستفيد منها جميع المسلمين. وبتوالي الزمن أصبحت المصطلحات العلمية التي وضعت في اللغة العربية، كالنقد الرائج يتلقاها الجميع بأحسن قبول.
هذا ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن للغة العربية خصائص ومزايا تجعلها صالحة لوضع المصطلحات الجديدة فهي عن أغنى لغات العالم، ففي اللغة العربية مثلا وزن (فُعال) وأكثر الكلمات التي على هذا الوزن، مثل صداع وزكام وجذام ودوار وبحار (دوار البحر) وخمار وغيرها تدل على الأمراض، وتلك مزية قلما تتوفر في لغة أخرى، إلى غير ذلك من مزايا لا تعد ولا تحصر.
وقد وضع العرب في بعض الأحيان بمهارة متناهية، كلمات عربية تؤدي معاني الكلمات اليونانية بدقة مثل كلمة تشخيص مقابل كلمة ديا جنوسيس وتقدمة المعرفة مقابل بروجنوسيس كما أنهم كانوا في أحيان أخرى يأخذون نفس الكلمات اليونانية بصورتها الأصلية مع تحريف بسيط يناسب النطق العربي مثل كلمات (ذوسنطاريا) و (إيلاوس) و (ذياييتوس).
وهذه الكتب المترجمة إلى العربية هي التي ترجمت من العربية إلى اللاتينية في القرون الوسطى، وترجمت معها المؤلفات الطبية لمحمد بن زكريا الرازي، وعلي بن العباس المجوسي الأهوازي، والشيخ الرئيس ابن سينا، وأبي القاسم الزهراوي وإضرابهم، ودرست في مدارسهم وبعد ذلك بزمن طويل أي في العصور الحديثة عرف الأوربيون المتون اليونانية الأصلية لتلك التراجم؛ وبعد العثور على المتون الأصلية، فقدت التراجم العربية رونقها السابق.(778/30)
يذكر ابن النديم في الفهرست أسماء ما يقارب السبعين مترجماً من هؤلاء المترجمين مع ذكر الكتب التي قاموا بتعريبها واللغة المترجم عنها، كما أنه يذكر ضمن بيان ترجمة الحكماء والأطباء اليونانيين أسماء مؤلفاتهم التي ترجمت إلى العربية مع ذكر أسماء الذين قاموا بترجمتها، أو الذين قاموا بإصلاح الترجمة بعد مراجعتها على الأصل اليوناني أو السرياني، غير أن أكثر هذه الكتب قد ضاع مع الأسف على أثر الحوادث المختلفة.
وها نحن أولاء نذكر هنا كنموذج أسماء بعض كتب بقراط وجالينوس المهمة المترجمة إلى العربية مع ذكر أسماء الذين قاموا بترجمتها.
1 - كتاب عهد بقراط تفسير جالينوس: ترجمة إلى السريانية حنين بن إسحق ثم نقله إلى العربية حبيش وعيسى بن يحيى
2 - كتاب الفصول لأبقراط تفسير جالينوس: ترجمة حنين بن إسحق في سبع مقالات إلى العربية.
3 - كتاب تقدمة المعرفة لأبقراط تفسير جالينوس: ترجمة حنين بن إسحق إلى العربية.
4 - كتاب الأمراض الحادة لأبقراط تفسير جالينوس: ترجم عيسى بن يحيى ثلاثاً من مقالاته الخمس إلى العربية.
5 - كتاب أبيذيما لأبقراط تفسير جالينوس: ترجمه عيسى بن يحيى إلى العربية:
6 - كتاب الأخلاط لأبقراط تفسير جالينوس: ترجمه عيسى بن يحيى إلى العربية.
7 - كتاب الماء والهواء لأبقراط تفسير جالينوس: ترجمه حنين بن أسحق إلى العربية.
8 - كتاب طبيعة الإنسان لأبقراط تفسير جالينوس: ترجمه حنين بن أسحق وعيسى بن يحيى إلى العربية.
ويلاحظ أن معظم كتب جالينوس نقلت إلى العربية بواسطة حنين بن أسحق أو تلاميذه، مثل عيسى بن يحيى، وحبيش.
كان حنين بن أسحق من أشهر علماء عصره وأكثرهم إنتاجاً، فإن سبعة أعشار مؤلفات بقراط قد ترجمت بواسطته، والقسم الباقي منها، وكذلك الشطر الأكبر من مؤلفات جالينوس قام بترجمته هو أو بعض تلاميذه.
وكان حنين ينقل على الأغلب الكتب اليونانية إلى السريانية ثم يقوم تلاميذه بنقلها من(778/31)
السريانية إلى العربية، ثم يراجعها هو بنفسه ويصححها. وقد قام هو بنقل بعض الكتب من اليونانية إلى العربية مباشرة، ويتضح من مجموعة ترجماته أنه كان متضلعاً للغات في الثلاث: اليونانية والسريانية والعربية تضلعاً تاماً
وقد قام حنين بن أسحق وابنه أسحق بن حنين وتلاميذه بترجمة بعض مؤلفات جالينوس بالكيفية التي ذكرناها في ترجمة كتب بقراط منها كتاب (الصناعة) وكتاب عن (النبض) وكتاب في (العلاج) و (المقالات الخمس في التشريح) وكتاب (الاسطقصات) وكتاب (المزاج) وكتاب (القوى الطبيعية) وكتاب (العلل والأعراض) وكتاب عن أمراض (الأعضاء الباطنية) وكتاب كبير عن (النبض) وكتاب عن (الحميات) وكتاب عن (بحران المرض) وكتاب عن (أيام البحران) وكتاب في (حفظ الصحة) وكتاب (التشريح الكبير) وكتاب عن (اختلاف التشريح) وكتاب (تشريح الحيوان الميت) وكتاب (تشريح الحيوان الحي) وكتاب عن (علم بقراط في التشريح) وكتاب عن (علم أرسطو في التشريح) وكتاب (تشريح الرحم) وكتاب (حركات الصدر والرئة) وكتاب (علم النفس) وكتاب (الصوت) وكتاب (حركات العضل) وكتاب (الحاجة إلى النبض) وكتاب (الحاجة إلى التنفس) وكتاب (العادات) وكتاب (آراء بقراط وأفلاطون) وكتاب (فوائد الأعضاء) وكتاب (سوء المزاج) وكتاب (الأدوية المفردة) وكتاب (الأورام) وكتاب عن (المولود في الشهر السابع) وكتاب عن (سوء التنفس) وكتاب (تقدمة المعرفة) وكتاب عن (الفصد) وكتاب عن صرع الأطفال وكتاب عن الأغذية وكتاب (الكيموسل) وكتاب معالجة الأمراض الحادة وكتاب تركيب الأدوية وكتاب في أن الطبيب الفاضل (فيلسوف) وكتاب عن الكتب المنسوبة إلى بقراط، وبيان الكتب المقطوع بصحة نسبتها إليه، وكتاب في الترغيب في درس الطب، وكتاب عن اختبار الطبيب، وكتاب في أن قوة النفس تابعة لمزاج البدن، وكتب أخرى ترجمت جميعها بهمة حنين بن اسحق وتلاميذه مثل حبيش بن الحسن الأعشم وعيسى بن يحيى واصطفن بن بسيلي وإبراهيم بن الصلت ونجله اسحق بن حنين وأخرين.
وقد نقلت مؤلفات أخرى لمشاهير الأطباء اليونانيين إلى العربية مثل كتاب (تشريح الأحشاء) وكتاب (الأدوية المستعملة) لأوريباسيوس وكتب عدة من مؤلفات روفس ' منها كتاب تسمية أعضاء الإنسان وكتاب اليرقان، وكتاب أمراض المفاصل، وكتاب عن(778/32)
أمراض الحنجرة والبلعوم والذبحة، وكتاب عن النساء العواقر، ووصايا صحية، وكتاب الصرع، وكتاب حمى الريح وكتاب ذات الجنب وذات الرئة وكتاب عن القيء وكتاب عن الدوار القاتل وكتاب عن أمراض الكلبة والمثانة وكتاب في الجراحات وكتاب عن صحة الشيوخ وكتاب عن التوليد وكتاب احتباس الطمث وكتاب الأمراض المزمنة على رأي (بقراط) وكتب أخرى منها كتاب عن (أمراض العيون وعلاجها) وكتاب عن الدودة الوحيدة من مؤلفات الطبيب الشهير اسكندروس طرالتيوس وبعض كتب بولس الأجانطبي ' منها كتاب أمراض النساء وكتاب (الأدوية المفردة) لديسقوربدس وهو من أعاظم علماء الأدوية والعقاقير وقد قام برحلات كثيرة للبحث عن خواص الأعشاب والنباتات إلى كثير من البلاد والجزائر النائية.
ولحنين بن اسحق العبادي المترجم العظيم المذكور المتوفي حسب رواية ابن النديم في صفر من العام الستين بعد المائتين من الهجرة، غير كل هذه الكتب المترجمة مؤلفات هامة كثيرة منها. كتب في الطب مثل كتابه في الأطعمة وكتاب في تقسيم علل أمراض العين وعلاجها وكتاب عن الأسنان واللثة وكتاب عن أوجاع المعدة وعلاجها وكتاب عن المولود في الشهر الثامن.
ومن كبار المترجمين الذين يدين الشرق لخدماتهم العلمية قسطا بن لوقا البعلبكي ويقول ابن النديم في ترجمته (كان يجب أن يقدم على حنين لفضله ونبله وتقدمه في صناعة الطب، ولكن بعض الإخوان سأل أن يقدم حنين عليه وكلا الرجلين فاضل).
إن معظم ما قام بترجمته قسطا بن لوقا في الهندسة والأعداد والموسيقى، غير أن له كذلك تراجم جيدة جداً في الفلسفة والطب منها كتاب (الدم) وكتاب (البلغم) وكتاب (الصفراء) وكتاب (السوداء) وكتاب (علة الموت الفجاءة) وكتاب (أيام البحران) وكتاب (الفصد).
وينتسب عدد كبير من كبار مترجمي اللغة العربية لمدينة حران. وكانت تسمى هلنو بوليس لحبهم العظيم للمعارف اليونانية وعرف هؤلاء بالصابئين. وليس هنا مجال التحدث عن أصلهم وديانتهم.
وأشهر علماء حران ومترجميها ثابت بن قرة ونجله أبو سعيد سنان بن ثابت ونجل هذا الأخير أبو الحسن وآخرون من أنجاله وأحفاده وقد اشتهروا جميعاً بالعلم وحسن الترجمة.(778/33)
ومن أعاظم علماء القرن الثالث الهجري أبو يوسف يعقوب ابن اسحق الكندمي المعروف بفليسوف العرب، وكان متبحراً في علوم القدماء، وله مقالات ومؤلفات نفيسة في كل فرع من فروع العلوم المختلفة ومنها الطب. وينسب له ابن النديم في سياق ذكر مؤلفاته في العلوم والفنون المختلفة الكتب الآتي ذكرها في الطب:
رسالة في (طب بقراط) ورسالة في (الأطعمة والأدوية القاتلة) ورسالة في (الأبخرة التي تنقي الهواء وتزيل منه آثار والأوبئة) ورسالة عن (الأدوية التي تزيل آثار الروائح المؤذية) ورسالة في (كيفية الأدوية المسهلة وجذب الأخلاط) ورسالة في (حفظ الصحة) ورسالة في (أسباب بحران الأمراض الحادة) ورسالة عن (الأعضاء الرئيسية في الإنسان) ورسالة عن (كيفية تركيب الدماغ) ورسالة عن (علة الجذام والشفاء منه) ورسالة في (عضة الكلب الكلِب) ورسالة في (الأعراض التي تظهر بسبب البلغم) ورسالة عن (علة موت الفجأة) ورسالة عن (أوجاع المعدة والنقرس) ورسالة عن (الطحال) ورسالة عن (فساد جسد الحيوان) ورسالة عن (مقدار فائدة صناعة الطب) ورسالة عن (الطعام) وأخرى عن (فساد الطعام).
والآراء جد مختلفة في قيمة هذه التراجم ومبلغ جودتها أو رداءتها.
يقول بونيون (وكان قنصلا لفرنسا بحلب وقد طبع عام 1903 المتن السرياني لأحد مؤلفات بقراط مع ترجمته في لييزيك) أم التراجم السريانية غامضة ومعقدة وهي تراجم لفظية لدرجة أن معاني بعض الجمل لا تفهم، وأن تركيب الجمل والعبارات فيها مشوش، ومفردات اللغة مستعملة لغير ما وضعت له من المعاني. وسبب ذلك أن المترجمين كانوا يجتهدون في أن تكون ترجمتهم صادقة ومطابقة للأصل على قدر الإمكان، ولذلك كانوا عندما يواجهون جملة صعبة يكتفون بوضع الترجمة اللفظية للكلمات اليونانية مكان الكلمات الأصلية دون أن يفكروا في معنى العبارة كلها، وإن جهلوا معنى الكلمة اليونانية اكتفوا بكتابتها عيناً بالحروف السريانية؛ لذلك كله ترى في تلك التراجم كثيراً من العبارات غير الصحيحة والجمل غير المفهومة.
إن هذا العيب يصدق إلى حدّ ما على بعض هذه التراجم ولا سيما الكتب التي ترجمت في مبدأ تعرف المسلمين على فلسفة اليونان وعلومهم، فقد كان لهذه التراجم نواقص كثيرة من(778/34)
وجهة فن الترجمة، ولذلك كثيراً ما نرى ابن النديم يقول في الفهرست (قام بترجمة الكتاب فلان وأصلحه فلان).
وكان من أسباب نقص هذه التراجم نقص اللغة السريانية نفسها وضيق أفقها بالنسبة للغة اليونانية التي تعتبر من أغنى لغات العالم وأوسعها دائرة، وقد كانت لغة الخطاب والتأليف قروناً عدة ألف بها أمثال هومبروس واشيل وتوسيديد وديموستن وبقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم.
ومن أسباب نقص هذه التراجم غير ما ذكرنا عدم وجود مصطلحات علمية وفلسفية لدى السريان أو عدم معرفة مترجمي الحقبة الأولى منهم بتلك المصطلحات.
ومن البديهي أنه عندما ترجمت هذه الكتب المترجمة مع ما فيها من العيوب والنقائص التي يشير إليها بويون إلى اللغة العربية ازدادت عن أصلها بعداً وأضيفت إلى غموض الترجمة وإبهامها الشيء الكثير وأصبحت استفادة الطب منها من أصعب المشكلات.
يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في ترجمة حياته التي أملاها على تلميذه أبي عبيد عبد الواحد بن محمد الفقيه الجرجاني
(وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه والتبس على غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا أعرف المقصود به، وأيست من نفسي وقلت هذا الكتاب لا سبيل إلى فهمه، فإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في سوق الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه فعرضه على فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي اشتر مني هذا فإنه رخيص وصاحبه محتاج إلى ثمنه فاشتريته بثلاثة دراهم فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة ورجعت إلى بيتي وأسرعت إلى قراءته فانفتح على في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان صار لي محفوظاً على ظهر القلب وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى)
ويفهم من هذا أن الترجمة كانت في بعض الأحيان ضعيفة ورديئة لدرجة أن قريحة كقريحة ابن سينا كانت تحتار في تفهم معناه وتيأس من ذلك.
فإن شئنا أن لا نعدو الحق والأنصاف في حكمنا يجدر بنا أن نذكر أن نشر العلوم اليونانية(778/35)
وتعميمها ووضعها في متناول طلبة العلم وتقريبها لفهمهم كان بفضل الطبقة الثانية من المترجمين الذين كانوا قد فهموا تلك العلوم بأنفسهم فهماً جيداً. وكانت ترجمتهم واضحة يفهمها طالب العلم بسهولة، وبفضل هؤلاء وببركة دراساتهم وتحقيقاتهم العلمية وتصحيحهم للتراجم السابقة حلت المشكلات العويصة.
أما قول بعض النقاد أن التراجم لا تفهم دون مراجعة الأصل فمبالغ فيه.
يعتقد لو كلرك أن النقل المباشر من اليونانية إلى العربية حسن بصورة عامة، والكتب المترجمة بهذه الطريقة مترجمة بذكاء عظيم وقريحة وقادة وذوق سليم، غير أن النقل من العربية إلى اللاتينية، وكان يقوم به مترجمون غير ملمين باللغات، كان ناقصاً ومشوهاً، فالذين يحكمون على الترجمات العربية عن طريق ترجمتها اللاتينية قد سلكوا طريقاً خطأ. ويذكر لوكلرك مثالا حياً لهذا فيقول إن بعض أقسام القانون لابن سينا لا يفهم جيداً، أو قل لا يفهم أبداً باللاتينية؛ والسبب هو أن المترجم لم يكن يعرف العبارة العربية في الأصل، أو لم يكن يتقن اللاتينية التي ترجم إليها.
(يتبع)
قاسم غني(778/36)
طرائف من العصر المملوكي:
أساليب العامة في الشعر الفصيح
للأستاذ محمود رزق سليم
نشأ الشعر العربي أول ما نشأ فصيحاً. وعاش فصيحاً زمناً طويلا بعد نشأته. لم تزايله فصاحته ولم تتحول عنه عربيته، حتى اختلط العرب بالعجم وبخاصة في عصر بني العباس. فأدى هذا الاختلاط إلى فساد السليقة العربية وانحراف اللسان الفصيح. وتكونت اللغة العامية، وتغايرت طرق أداء المعاني فيها عن مأثور العربية. وألف العرب التخاطب بها، وتناقل المعنى بأساليبها.
ومنذ ذلك الحين أخذ كثيرون من أهل الغيرة على لسان القرآن والحديث يكافحون سيلها ويدرءون خطرها. ولكن جرت الحوادث دون غايتهم، وتتابعت الأيام دون ما أملوا. وعاشت العامية، ولا تزال تعيش، طاغية بين جماهير الأمم العربية. إلا أن لغة العلم والأدب والشعر، ظلت بمنأى عن العامية إلى حدما؛ غير أنها لم تسلم جملة من رذاذ منها يصيبها، ومن رشاش ينتثر عليه.
ونعني بالأساليب العامية، الطرق الكلامية والعبارات التي يؤدي بها العامة مضمون أفكارهم ومتبادر معانيهم بدون حرص منهم على تحري قواعد العربية في نحوها وصرفها.
والأساليب العامية بهذا، تفترق افتراقا ما، عن أساليب العامة. ولبيان ذلك نقول: إن في كل أمة من أمم الأرض غابرها وحاضرها، طبقتين متميزتين، كما تجمع بينهما جوامع عدة، تفرق بينهما فوارق شتى، وهما العامة والخاصة.
أما الخاصة فهي الطبقة النابهة، التي سلكت إلى الثقافة مسالكها، وبلغت من التعليم حظاً موفوراً، وأوتيت بجانب ذلك ذكاء في القريحة، ورهافة في الحس، وطلاقة في اللسان، وقوة على التعبير. فيقع خاطرها على الفريد من المعنى، والجديد من الرأي، أو يسمو إلى الرائع من الصور، والبديع من الأخيلة، فيسجل الشوارد، ويقيد الأوابد. وهي بذلك وبعد ذلك، تنشر نوازعها على العامة، فتؤثر أثرها الجليل في حياتهم وحياة الأمة جمعاء. فتعتقد الخاصة بذلك، منها مقعد القيادة والتوجيه.
والخاصة لها أساليبها وطرق أدائها للمعاني، بل لها مفرداتها بل ومصطلحاتها، ولغتها هذه(778/37)
أوسع من لغة العامة نطاقاً وأبعد آفاقاً، وأقدر على إحكام النظرة وتحديد الفكرة، وهذه أوصافها في جملتها لا في تفصيلها.
أما العامة فهي من عدا الخاصة، من عمال وصناع وزراع وتجار ومحترفين حرفاً لا تنزع إلى إنتاج فكري أو أدبي. بل هي حرف آلية تجري على سَنن من التقليد.
وللعامة كذلك أساليبها وطرق أدائها للمعاني، بل ولها مفرداتها ومصطلحاتها. غير أن لفّها هذه أضيق أفقاً من لغة الخاصة، وأضعف منها قدرة - في جملتها - على التعبير عن رقيق المعاني وعميق الأفكار. ولا تخلو من كلمة جامعة، وحكمة بارعة، ومثل مضروب، وقوله مأثورة، وطرفة نادرة. ونستطيع أن نحدد (لغة العامة) بأنها اللغة الشعبية الدائرة على الألسن، التي ابتذلت عباراتها ومفرداتها - في نظر الخواص - بكثرة الاستعمال.
وفي الأوساط العربية، كانت لغة الخاصة ولغة العامة فصحتين معبرتين، قبل أن تنحرف العربية في التخاطب وقبل أن تتولد العامية. فلما انحرف لسان التخاطب - كما ذكرنا - وتولدت العامية. زادت الفرقة بين لغة الخاصة ولغة العامة. وزادت الألفة بين العامة والأساليب العامية.
والآن نرى أن لغة العامة تطفي عليها الأساليب العامية والمفردات العامية، المشوهة بالتحرف واللحن وترك الإعراب وبالدخيل، ونحو ذلك. غير أنها في جوهرها عربية. وفي جعبتها كما أشرنا - كثير من الأمثال والحكم والكلمات الجامعة والعبارات الرائعة والتشبيهات السائغة والكنايات اللطيفة ونحو ذلك.
والخاصة لا تقيم دائماً على لغتها بل كثيراً ما تصطنع لغة العامة في حديثها كلما عاشت كما يعيش سائر الناس وكلما استراحت من أداء رسالتها في علم أو أدب.
وإزاء هذا يحرص العلماء والأدباء حينما يتصدون للتأليف والنظم، على أن يهجروا لغة العامة، ويتناسوا مبتذلاتها، ليسلم للغتهم رونقها وبهاؤها، ويبقى لها سموها ومقدرتها وجلالها. غير أنهم - وهم من الشعب وإلى الشعب - لا يستطيعون مهما حرصوا، أن يزيحوا عن كاهلهم نِيرها جملة. بل تبقى منها في لسانهم لوثة، تترد نفثاتها بين الآن والآن، بوعي أو بغير وعي.
هكذا كان حال شعراء العصر المملوكي حينما يتصدون لنظم الشعر. كانت أساليب العامة(778/38)
يتردد صداها بين الفينة والفينة فيما ينظمون. وفي العصر المذكور كان سيل العجمة طاغيا على البيئات العربية، بسبب شدة اختلاط العرب بغيرهم من الأجناس، وبخاصة الجنس التركي الذي كان له حينذاك الحكم والسلطان. فكان لذلك أثره في سيادة العامية، فلا غرابة أن رأينا منها لوثة في ألسنة الشعراء. بل الغرابة في ألا تكون. والشعراء أقرب أنواع الأدباء إلى الشعب، وأدقهم حسَّابه، وأعمقهم إدراكا لما في بيئاته وأشدهم تأثراً بما في محيطاته.
غير أن بعض النقاد في العصر الحديث ينعى على هؤلاء الشعراء ما تهاووا إليه من أساليب العامة، ويتخذ ذلك ذريعة إلى وصفهم بضعف ثقافتهم وقلة بضاعتهم من العربية. وهذا - في رأينا - حكم جائر. فاصطناع الأديب للغة العامة، قد يغض من أدبه باعتباره أديباً عربياً، ولكنه لا ينبغي أن يتخذ دليلا على ضعف ثقافته أو قلة بضاعته. والشاعر المثقف تنسل إلى شعره أساليب العامة دون وعي منه ولو كان حريصاً. وذلك لألفتها وجريانها على لسانه في حياته العادية؛ والأدلة كثيرة في كافة عصور الأدب.
وصحيح أن بعض شعراء العصر المملوكي كان أمياً، ولكنه نظم بالعربية الفصيحة وهذه مفخرة للعصر، وصحيح كذلك - بجانب هذا - أن كثيراً من شعرائه، وممن اندست أساليب العامة إلى شعرهم، كانوا على جانب عظيم من الثقافة، ومؤلفاتهم خير شاهد على ذلك، كابن عبد الظاهر وابن فضل الله والعسقلاني وابن نباتة وابن الوردي والصفدي وابن حجة.
وإذا كانت أساليب العامة قد أخذت سبيلها إلى ألسنتهم، وظهرت أطيافها في أبياتهم بدافع الاختلاط والتأثر بحياة العامة ولغتهم، فهناك دوافع أخرى لا نستطيع أن نتجاهلها أو ننساها ومنها الرغبة في الإيضاح، وحب الدعابة والتفكه، والاستجابة لداعي البديع، فقد تحلو التورية أو يجمل الجناس، إذا روعي الاستعمال العامي. ومن هنا نفهم أن بعض الشعراء تعمد هذا الاستعمال لغاية من الغايات.
وليس معنى استعمال الأساليب العامية أن تظل عامية محرفة أو غير معربة، بل كثيراً ما تجري مجرى الفصيحة. وقد ينقذها اصطناع الشاعر لها مما تردت فيه من الابتذال.
ونحن نعرض هنا على أنظار القارئين نماذج من شعر العصر المملوكي، ذاكرين أن دراسة(778/39)
ما فيها من أساليب العامة تعمل على ربط لغتنا بلغة أسلافنا، وتعين على فهم مدى تطور أساليبنا العامية فضلا عما تقدمه من الأدلة على سمو الروح الأدبية وأصالتها لدى شعراء العصر المذكور؛ فمن ذلك ما يلي:
نعلم أن بائعي (الكتاكيت) ينادون فيقولون: (يا ملاح الملاح). ويبدو أن هذا النداء كان معروفاً في عصر المماليك ومستعملا في نفس المعنى. وقد كان أحد نواب الشافعية، وهو بدر الدين الدميري محمد بن يوسف المتوفي عام 887هـ، معروفاً بين الناس بِ (كتكوت) فاتخذ بعضهم ذلك وسيلة إلى مداعبته فقال فيه الشاعر علي بن برد بك مورياً بملاح الملاح وفيه دلالة على ما ذكرنا قال.
إن الدميري صديقي فلا ... أسمع فيه قول واش ولاح
ولا أرى كالغير تقبيحه ... بل هو عندي من ملاح الملاح
وقال محيي الدين بن عبد الظاهر:
يا رب كأس صرت من شربها ... من بعد رشفي ريق معشوقي
ملتهب الأحشاء ناراً لأن ... شربتها منه على الريق
وفي الشطر الأخير تعبير عامي، ويتضمن تورية لطيفة. فقد ورى بعبارته عن المعنى المقصود، وهو أنه شرب الكأس بعد رشف ريق معشوقه، وكان الريق أحلى وأجمل إطفاء لنار أحشائه من الكأس.
وقال جمال الدين بن نباتة في الشكوى:
قل عوني على الزمان فأصبح ... ت صبوراً على مراد الزمان
حابس اللفظ واليراع عن النا ... س فلا من يدي ولا من لساني
وفي الشطر الأخير عبارة عامية تدل على ضعف الحيلة، وفي البيت كله لف ونشر. وفيه اكتفاء.
وقال شمس الدين بن دانيال الموصلي يشكو حظه كذلك، ويذكر أنه باع حماره وعبده معا، فأصبح بذلك فقيراً لا يملك شروى نقير ولا قطمير. وفي بيته الثاني - مع الاكتفاء ومع اللف والنشر المرتب - مجانة يفطن لها الأديب. قال:
ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي(778/40)
قد بعت عبدي وحماري وقد ... أصبحت لا فوقي ولا تحتي
وقال زين الدين عمر بن الوردي متفزلا في تاجر مليح:
وتاجر شاهدت عشاقه ... والحرب فيما بينهم سائر
قال: علام اقتتلوا هكذا ... قلت: على عينك يا تاجر
والمعنى العامي للعبارة الأخيرة (بصراحة وعلى المكشوف) فوري به عن المعنى الذي يريده وهو أنهم اقتتلوا بسبب ما في عينه من فتنة وسحر. ولا تزال العبارة مستعملة في عاميتنا بنفس المعنى الأول.
وقال صلاح الدين الصفدي يصف جرة خمر:
وجرة أظهروها ... والراح فيها كمينة
شممت طينة فيها ... فرحت سكران طينة
وقال ابن الوردي في لاميته المشهورة:
واهجر الخمرة إن كنت فتى ... كيف يسعى في جنون من عقل
وشاهدنا في عبارة (إن كنت فتى) وهي ترادف الاستعمال الشائع الآن وهو (إن كنت جدع) أي إن كنت شهما. وبديهي أن معنى فتى لا يفيد لغة معنى شهم. وقال ناصر الدين بن النقيب يشكو نحول جسده:
يقول جسمي لنحولي وقد ... أفرط بي فرط ضني واكتئاب
فعلت بي يا سقم ما لم يكن ... يلبس والله عليه الثياب
وتفيد العبارة الأخيرة بمعناها العامي الذي لا يزال شائعاً حتى اليوم، (أنه لا يطاق)، وورى بها عن شدة نحول جسمه حتى إنه لم يعد يصلح لثياب يرتديها.
ومن لطيف توريات ابن نباتة بالأسلوب العامي، قوله متغزلا.
سألت النقا والغصن يحكي لناظري ... روادف أو أعطاف من زاد صدها
فقال كثيب الرمل ما أنا حملها ... وقال قضيب البان ما أنا قدها
وشاهدنا في العبارتين (ما أنا حملها)، (ما أنا قدها).
وقال صفي الدين الحلي في معرض الغزل واصفا الصباح:
والصبح قد أخلقت ثوب الدجى يده ... وليته جاء للعشاق بالخلق(778/41)
وهجا ابن أبي حجلة المغربي، الصلاح الصفدي فقال:
إن ابن أيبك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح
نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلا فراح كلامه في الريح
وقال سراج الدين الوراق يتغزل موريا:
ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوماً إليَّ فقلت من ألم الجوى
لم لا تميل إليَّ يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من جهة الهوا
وقال برهان الدين القيراطي:
يا هاجرا أوقعني هجره ... وصده في حالة صعبة
أخذت قلبي بالتجني وما ... تركت لي منه ولا حبة
وفي البيتين عبارات عامية، وفي الثاني تورية في (حبه).
وقال ناصر الدين بن النقيب:
ودعتهم ثم أنثنيت بحسرة ... تركت معالم معهدي كالبلقع
ورجعت لا أدري الطريق ولا تسل ... رجعت عداك المبغضون كمرجعي
وشاهدنا في الشطر الأخير، وترادف عبارته العبارة العامية (رجع رجعة الأعادي).
وبعد فهذا باب يتطلب المزيد من البحث، وفي دراسته - بلا ريب - نفع للأدب والتاريخ.
(حلوان)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(778/42)
قولوا لمن ملأ الزمان تشدقاً
للأستاذ حسن الأمين
أعيا البيان وخاب فيك المنطق ... النار أجدى في الكفاح وأصدق
طيبي فلسطين الأبية واسلمي ... وطناً له يعنو الزمان ويطرق
لا تيأسي فعلى يمينك فيلق ... ملء الربى وعلى يسارك فيلق
اليعربيون الأباة تواثبوا ... من كل فج للوغى وتدفقوا
يهتاجهم للبأس أروع مشئم ... ويهزهم للأريحية معرق
نسلتهم الصحراء أبطالا إذا ... ساروا إلى غاياتهم لم يُلحقوا
إني لتصبيني الصحارى سمحة ... وتروقني فيها الظبي والأينق
ويهيج وجدي الليل في تلعاتها ... ويهزني فيها الصباح المشرق
ويثيرني والنخل أتلع جيده ... عصفورة فوق النخيل تزقزق
ومواكب يشدو جرير حولها ... طرباً ويهتف بالفخار فرزدق
وتشوقني والذاريات عواصف ... نار القرى بين البيوت تحرق
(شبت لمقرورين يصطليانها) ... أعشى أضربه السرى ومحلق
والطلعة السمراء لوحها الضحى ... ولوى معاطفها الغرام المحرق
وربابة الراعي الطروب ونغمة ... يشدو بها في الليل صب شيق
وتثير أشواقي وتبعث صبوتي ... أطلال رامة والنقا والابرق
وأحن للعرب الذين تحدروا ... منها فسادوا في الورى وتفوقوا
ملكوا الزمان فما استباحوا ذمة ... ورعوا الشعوب فأحسنوا وترفقوا
أكرم بأبناء الصحارى إنهم ... أحرى بتكريم الحياة وأخلق
قولوا لمن ملأ الزمان تشدقاً ... بالعدل أين العدل يا متشدق
أمن العدالة أن تقسم أرضنا ... ويباد فيها قومنا ويمزقوا
وتبيت ترتع في حماك مسودا ... وحماي للشذاذ نهب مطلق
أيبيحهم وطني الكريم وأمتي ... مترلف لنوالهم متملق
أين المواثيق العذاب وأين ما ... قد نمقوا فيها وما قد زوقوا(778/43)
(الأحمر) الريان أذكاها لنا ... مثل الذي أذكى العدو (الأزرق)
صبراً فلسطين الصبور لقد دنا ... يوم يمض الظالمين ويرهق
المغرب الأقصى المروع هاجه ... أن تتضامي عنوة والمشرق
ستثور مصر والعراق ومكة ... ستهب عمان إليك وجلق
ستغص بالقتلى السهول وترتوي ... شم الجبال من الدماء وتغرق
حطين!. . . والفتح المبين مخلد ... هلا قصصت على الفرنجة ما لقوا
تلك الوقائع لا تزال جديدة ... تخضر منها الأمنيات وتورق
يا نسمة الشام الحبيبة هدهدي ... روحا بصالية الجوى تتحرق
أنا في هواي بجلق متبغدد ... وعلى الفرات ودجلة متدمشق
فتحملي من (قاسيون) نوافحا ... يشفي بعاطرها الفؤاد الشيق
واتلي عليَّ من الحمية قصة ... يزهو بها وجه الإباء ويشرق
أمشت دمشق إلى النضال أأقبلت ... منها الزواحف والخيول السبق
أسرت إلى الثغر المنيع أأسرعت ... للفتح تحتوش العدى وتطوق
الطائرات محومات والظبي ... متوثبات والمذاكي تعنق
يا نسمة الشام الحبيبة عللي ... قلباً على الوجد المبرح يخفق
هبي عليَّ من الجبال لعلني ... أستاف عرف الظاعنين وأنشق
الواردي الماء الفرات وما دروا ... أنا نغص على الفرات ونشرق
والعاتبين وما دروا أنا لهم ... أوفى على العهد القديم وأوثق
(نزيل بغداد)
حسن الأمين(778/44)
الأدب والفنّ في أسبوع
شاعر يتبرع بجائزته لفلسطين:
كان الأستاذ إلياس فرحات من الفائزين في مسابقة الشعر التي أجراها مجمع فؤاد الأول للغة العربية هذا العام، وهو عربي مهاجر يقيم في البرازيل، وقد فاز بجائزة قدرها سبعون جنيها لم ترسل إليه بعد.
وأخيراً تلقى المجمع كتاباً من الأستاذ إلياس يبلغه فيه أنه متبرع بجائزته لصالح فلسطين ويرجو تحويلها إلى جامعة الدول العربية لضمها إلى الأموال التي يكتتب بها فيما يختص بفلسطين، ويقول الأستاذ في كتابه إن هذا المبلغ هو كل ما يملك من مال.
رسالة الكاتب:
أذاعت محطة لندن العربية يوم الخميس الماضي، حديثاً للدكتور طه حسين بك في (رسالة الكاتب) بدأه بقوله: وسئل الجاحظ عن رسالة الكاتب ما هي وكيف يقوم بها، لدهش لهذا السؤال وما فهمه، وليس الجاحظ وحده، بل لو وجه نفس السؤال إلى معاصريه ومن قبله من كتاب العرب واليونان والرومان وغيرهم لكان موقفهم منه نفس الموقف، وذلك لأن الكتابة في تلك العصور لم تكن إلا مظهراً من مظاهر التفكير العقلي، لا تكلف فيها، ولا احتياج إلى سؤال وجواب، والقراء لم يكونوا في حالة تهيئهم لمثل هذا السؤال، ولم يكونوا يشعرون إلا بالحاجة إلى قراءة ما يكتب الكاتب، لا يسألون عن مهمته ومنهجه وما إلى ذلك. إنما يلقي السؤال عن مهمة الكاتب حين تتقدم الحياة الفنية وتتعقد الصلات بين الكاتب والقراء، وحين تصبح الحياة نوعا من الترف، وحين يكثر الكتاب وتتنوع مذاهبهم ويختلف تناولهم لنواحي الحياة المتعددة المعقدة؛ وقد كان الكتاب القدماء قلة وكان إنشاؤهم على قدر الحاجة العقلية الطبيعية، أما الآن فقد كثر الإنتاج وأصبح زائداً على حاجة الحياة الإنسانية في العصر الحديث، وتعقدت الصلة بين الكاتب والقارئ تعقدا شديداً، فصار القارئ يسأل الكاتب: ماذا يكتب وما هي مهمته؟ وصار الكاتب يسأل القارئ عما يريد أن يقرأ وما يجب أن يكتب له.
ثم قال الدكتور طه: والآن أجيب عن السؤال باعتباري كاتباً يكتب، ويشعر أن له صلات بقرائه، ويشعر أيضاً بما توجبه هذه الصلات من التبعات. مهمة الكاتب أن يحقق نفسه(778/45)
أولا، بمعنى أنه يكتب ما يصور نفسه وشخصه وآراءه في الحياة، فالكاتب شخص مستقل له طريقته في التفكير، وله طريقته في الحكم على الأشياء، وله طريقته في التصوير والتعبير؛ والكاتب الحر يكتب ما تمليه عليه حريته لا يفكر في رضاء القارئ ولا سخطه
وهنا أمر ثان لا ينبغي أن يغفله الكاتب، وهو أنه لا يكتب لنفسه وحدها، وإنما يكتب ليقرأه الناس، فهو أداة اجتماعية إلى جانب كونه إنساناً حراً، فبالحرية والتضامن الاجتماعي يستطيع أن يحقق شخصيته ثم يكون أداة نافعة في البيئة التي يعيش فيها، وهذه البيئة قد تكون ضيقة جداً، وقد تتسع قليلا، وقد تتسع كثيراً. فالكاتب الذي يكتب في الفلسفة مثلا إنما يكتب لنظرائه الفلاسفة وبيئتهم محدودة، والكاتب الذي يكتب في المسائل الأدبية والفنية بيئته أوسع، والكاتب الذي يكتب للجمهور الضخم يكتب في حياة الناس ويتصل بمنافعهم المختلفة؛ وهو على كل حال يجب أن يكون نافعاً فيما يكتب، ويجب أن يفكر فيمن يكتب لهم وفي صلاته بهم. ولا ينبغي أن يحصر فكره في هؤلاء الذين يقرءونه الآن، بل يجب أن ينظر إلى من يأتي بعدهم من الأجيال. فمهمة الكاتب تحقيق شخصيته وأن يكون أداة نافعة للبيئة الاجتماعية التي لا يحدها زمان ولا مكان.
أناشيد الجهاد:
اهتمت الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، بإعداد طائفة من الأناشيد العربية المناسبة للحالة الحاضرة؛ وقد فرغت من إقرار أربعة أناشيد سترسلها إلى إدارة الإذاعة المصرية لإذاعتها ثم تبعث بها أيضاً إلى الإذاعات العربية الأخرى.
وأول هذه الأناشيد نشيد مطلعه:
أشرق الفجر فسيروا في ضيائه ... ودعا الحق فهبوا لندائه
إنه وحي السماء.
إنه صوت الإباء.
للإخاء للعلاء.
وهو من تأليف الأستاذ محمد مجذوب مدرس الأدب والعربية بتجهيزي البنين والبنات بطرسوس (سوريا) وهو الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة الأناشيد التي نظمتها الإدارة الثقافية: وكان هذا النشيد قد لحن في القاهرة فجاء تلحينه غير موفق، ورئي إرساله إلى(778/46)
ضباط الموسيقى بالدرك اللبناني لتلحينه ولا يزل هناك.
والنشيد الثاني، وهو الفائز بالجائزة الثانية في المسابقة، للأستاذ محمد مرسي مسلم المدرس بمدرسة الرمل الابتدائية للبنات بالإسكندرية، وأوله:
إننا العرب الكرام عرشنا ... فوق أبراج السماء
شرقنا مهد السلام مجدنا ... فيه معقود اللواء
وقد لحنه معهد الموسيقى:
والنشيد الثالث للأستاذ حسن أحمد باكثير، وأوله:
قد بدأنا الكفاح ... وشحذنا الرماح
وامتشقنا السلاح ... وملأنا البطاح
بجيوش العرب ... نحن نحن العرب
وقد لحن هذا النشيد قسم الموسيقى بالجامعة الشعبية كما لحنه معهد الموسيقى. ومما يذكر أن صاحبه تبرع به لفلسطين فلم يأخذ عنه جائزة.
والنشيد الرابع وضعه الأستاذ الصاوي شعلان بناء على طلب الإدارة الثقافية، وقد لحنه معهد الموسيقى، وأوله:
إلى المجد هيا شعوب العرب ... إلى نهضة صبحها قد أنار
لنا في العروبة أعلى نسب ... يتوج بالنور شمس النهار
الاذاعة المسكينة:
كتب الأستاذ محمد الأسمر بجريدة (الزمان) يلفت نظر المشرفين على الإذاعة المصرية إلى قراءة أحد قارئي القرآن بها آيات من سورة البقرة أولها (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) ذاهبا إلى أن قراءة هذه الآيات لا تناسب الظروف والملابسات الحاضرة. . . إلى أن قال: (لقد كانت الإذاعة فيما أذاعته صباح أمس من القرآن الكريم مثل المقرئ الذي جاءوا به ليقرأ في حفل زواج ما تيسر من القرآن فقرأ قوله تعالى: (الطلاق مرتان).
والقارئ العادي حين يقرأ هذه الكلام يظن أن في القرآن الكريم ما يؤيد قضية اليهود في فلسطين وأن قارئ القرآن بالإذاعة تلا الآيات التي هي في صالح اليهود، وكان إدارة(778/47)
الإذاعة عن ذلك من الغافلين!! وعليها بعد ذلك أن تراقب قراءة القرآن حتى لا يذع منها ما يمس سلامة الجيش في هذه الظروف العصيبة!!.
أما الآيات الكريمة فحاشاها أن تتضمن شيئاً من ذلك، وإنما هي - على عكس ذلك - تتضمن تخاذل اليهود في القتال ومخالفاتهم لنبيهم. وأما الإذاعة فهي مسكينة دائماً. . . مسكينة فيما تأنيه ويؤخذ عليها فعلا، ومسكينة في ابتلائها بمن يريد أن يدلي بدلوه في مؤاخذتها ولو بغير حق. .
الدول العربية في مؤتمر اليونسكو:
ألفت لجنة في وزارة المعارف برياسة الأستاذ شفيق غربال بك وكيل الوزارة، للنظر في موضوع اشتراك مصر في مؤتمر هيئة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) الذي سيعقد بلبنان في أواخر هذا الصيف. والمفهوم أن لجاناً مماثلة بوزارات المعارف في الدول العربية تنظر في هذا الموضوع، على أن ترسل كل هذه اللجان تقاريرها إلى اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية التي تعمل على توحيد وجهة النظر العربية في المؤتمر ووضع خطة مشتركة، وستجتمع اللجنة الثقافية لهذا الغرض بالإسكندرية في 21 أغسطس القادم.
ترشيح فارس الخوري لرياسة اليونسكو:
أذاعت وكالة الأنباء العربية من دمشق أن وزير المعارف السورية صرح بأن الحكومة رشحت دولة فارس الخوري بك لرياسة مؤسسة الثقافة والتعليم والاجتماع في هيئة الأمم المتحدة ليكون خلفاً للأستاذ هكسلي عندما تنتهي مدة رياسته وأن الدول العربية وبعض الدول رشحت دولته لهذا المنصب الكبير.
ولا شك أن الأستاذ فارس الخوري أهل لهذه الرياسة، فهو رجل عالمي ممتاز باتساع ثقافته وومضات فكره، وأن توليته هذا المنصب تعد للبلاد العربية كسباً كبيراً.
ومما يذكر بجانب ذلك أن ساسة الدول الاستعمارية في هيئة الأمم المتحدة أصبحوا يضيقون به لما دأب عليه من تفنيد سياستهم وفضح أساليبهم بقوة حجته وببانه الناصع الساخر. وكم يودون أن يتخلصوا منه، ولعلهم واجدون في رياسته للهيئة الثقافية متنفساً(778/48)
لصعدائهم. . .
دراسات عالمية في التربية:
ورد على وزارة المعارف في هيئة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة أنها قررت إقامة دراسات صيفية للتربية يحضرها مربون تندبهم وزارات المعارف في بلاد الدول الأعضاء، وذلك بغية أن ترفع هذه الدراسات مستوى التربية والتعليم في أنحاء العالم، وأن تكون - إلى ما يلابسها من اجتماع المربين من مختلف الدول - وسيلة إلى توثيق الصلات وزيادة التفاهم الدولي.
وقد قررت وزارة المعارف ندب الآنسة رمزية الغريب لحضور الدراسات الخاصة بموضوع (تربية المعلمين) والتي ستكون في لندن من منتصف يولية إلى 25 أغسطس سنة 1948، وندب السيدة إحسان العابد لحضور الدراسات الخاصة بموضوع (تزويد النشء بمعلومات وافية عن هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة) والتي ستكون في (لأيك سكسس) من 7 يولية إلى 18 أغسطس سنة 1948.
التنويه الأدبي:
اجتمعت لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية ونظرت في موضوع التنويه بالكتب الأدبية، وانتهت إلى ما يلي.
1 - تؤلف لجان من أعضاء المجمع في أكتوبر من كل عام لكل فرع من فروع الأدب من شعر وقصص وبحوث ودراسات أدبية ولغوية الخ. ويكون من وظيفة كل لجنة تتبع ما يصدر في العالم العربي من كتب تتصل بموضوع التنويه وقراءتها، وتقديم تقرير عنها للجنة العامة للأدب ثم لمجلس المجمع.
2 - يقتصر عمل كل لجنة على ما يصدر من الكتب في هذه الموضوعات في العالم السابق، على أن تنظر مع ذلك في الكتب التي قدمت إليها فعلا.
3 - في ضوء تقارير اللجان الفرعية تتخذ لجنة الأدب قرارها فيما يصح أن ينوه به.
4 - لا تكون الكتب المترجمة موضعاً للبحث والقراءة والتنويه إلا إذا كان المترجم من أمهات الكتب العالمية التي تعود على العالم العربي بفائدة محققة وكان في ترجمته ما(778/49)
يضيف ثروة إلى اللغة العربية.
5 - يكون التنويه بالكتب فقط، لكن يجوز للجنة الأدب أن تقترح على المجالس التنويه بخير المؤلفين ذوي الآثار الأدبية الممتازة ممن خدم الأدب مدة طويلة فيستحق التقدير.
6 - ينص في قرار التنويه على أن ما تنوه به اللجنة هو خير ما قدم إليها لا خير الكتب الموجودة.
وقد عهد إلى الأستاذ محمود خلاف سكرتير لجنة الأدب، الاتصال بدور النشر والمكاتب والمجامع والهيئات العلمية وإدارة التسجيل الثقافي بوزارة المعارف، لجمع خير الكتب التي ظهرت في العالم العربي سنة 1947 - 1948.
من طرف المجالس:
كنا في ندوة الرسالة، وكان الحديث في ترجمة الآداب، وأن كثير ممن يتصدرن للترجمة لا يراعون الدقة فيها، فقال أحد الزملاء.
تصور أن أحد هؤلاء يقول في حوار برواية ترجمها عن الانجليزية: (أنت أكرم من حاتم يا لورد!)
العباس(778/50)
الكُتبُ
1 - رائد التراث العربي
ألفه الأستاذ جان سوفاجيه وترجمه الأستاذ صلاح الدين المنجد
مؤلف هذا الكتاب هو المستشرق الفرنسي الأستاذ جان سوفاجيه رئيس دائرة تاريخ الشرق الإسلامي، وقد اقتبس منه الجزء الذي بين يدينا، وترجمه الأستاذ صلاح الدين المنجد رئيس ديوان مصلحة الآثار العامة في الجمهورية السورية. ألفه مؤلفه للمتبدئين من طلاب الاستشراق الفرنسيين، وهو فهرس للمراجع وفهارس المراجع لاسيما الأجنبية، مرتب حسب الموضوعات، وهو قسمان: أولهما في كتب المراجع والوثائق كتاب الآداب الشرقية والقرآن والحديث والنحو والمعاجم والرحلات والتراجم، وثاني القسمين في مصارد تاريخ الإسلام وتشمل مصادر تاريخ النبي والأمويين والعباسيين والسلاجقة والمغول والعثمانيين. . وقد كتب له الأستاذ المنجد مقدمة عرف فيها المؤلف وبين غرضه في كتابه ونقده. والكتاب مفيد لمن يطلبون الوقوف منا على ما كتبه المستشرقون من شتى الأقطار في تراثنا لأنه فهرس لبحوثهم فيه، وقد وصفه الأستاذ المنجد بقوله (مسرد نقدي جامع لكل ما ألفه علماء المشرقيات عن التراث العربي في مختلف العصور والموضوعات) وهو تعريف به غير جامع ولا مانع كما يقول المناطقة: فمؤلفه يغفل عن كثير من منشورات المستشرقين ومؤلفاتهم، وقد أشارت إليها دائرة المعارف الإسلامية ويذكر بعض ما كتب الشرقيون - وهو غير مستشرقين - بينما يغفل عن بعض، ويحيل الباحث إلى مصادر عربية ليس لها ترجمة في لغة أجنبية. مثال ذلك أنه يشير - في قسم المؤسسات - إلى كتاب النوبختي عن الشيعة الذي نشره ريتر في استنبول سنة 1931م، ولا يذكر كتاباً أعم فائدة منه هو كتاب (مقالات الإسلاميين) للأشعري وقد نشره ريتر نفسه في استنبول سنة 1930م والكتابان من سلسلة واحدة، هي المنشورات الإسلامية للمستشرقين الألمانيين، وكل حلقاتها مطبوعة حوالي هذا الوقت، كما أن المؤلف يغفل في الموضوع نفسه عن (مختصر الفرق بين الفرق) للرسعني وناشره الدكتور فليب حتى , ' بينما يذكر له في مكان آخر كتابه تاريخ العرب وهو شرقي لا مستشرق، والكتب الثلاثة الأولى لم تترجم فيما نعلم إلى لغة أوربية. وهناك تقصير في الكتاب يحسن التنبيه إليه هو أن(778/51)
المؤلف لا يذكر أسماء الكتب في العربية واللغات الأوربية غالباً. بل يكتفي بقوله كتاب فلان، ويقصر المترجم فلا يستدرك على المؤلف هذا النقص فيسده، وذكر الكتاب في العربية أهم من ذكر مؤلفه، ونحن نذكره قبل مؤلفه، وقد نغفل عن ذكر المؤلف فلا نحس بخسارة كبيرة والأوربيون على العكس من ذلك وهاك فقرة تمثل ذلك وتمثل سمات أخرى، جاء (في ص 50) ما نصه (كتاب البغدادي الذي نقل القسم الأول منه إلى الإنكليزية , وطبع في نيويورك عام 1919) فماذا يفهم القارئ العربي الناشيء من ذلك؟ ما اسم كتاب البغدادي في العربية؟ وما اسمه في الإنجليزية؟ أرجل مترجم أم امرأة؟ متى طبع حقاً! واسمه في العربية (الفرق بين الفرق) واسمه في الإنجليزية ومترجمته - لا مترجمه - السيدة كيت كامبرز سيلي - وطبع في نيويورك سنة 1920 كل ذلك كان حرياً بالأستاذ المنجد استدراكه، ولعله فاعل في في الطبعة التالية.
قد يكون هذا الكتاب جليل الوفاء بغرضه لمن وضع لهم وهم طلاب الاستشراق الفرنسيون كما ذكر الأستاذ المنجد في مقدمته، ولكن ما أقل فائدته التي تعود على الباحث العربي والتي لا فائدة غيرها تبرر نقل الكتاب، ومن أجل ذلك نترقب حلقات السلسلة التي وعد بها الأستاذ المنجد لتكون دليلاً لباحثينا صغاراً وكباراً على مصادر التراث العربي فنحن به أجدر وعلى فهمه أقدر
2 - شاعرية أبي فراس
ألفه الضابط العراقي نعمان ماهر الكنعاني
2 - ومؤلف (شاعرية أبي فراس) الأديب نعمان ماهر الكنعاني الرئيس في الجيش العراقي. ويسرنا أن يقبل على البحث والتأليف ضباطنا العرب كما يفعل الضباط في البلاد الغربية، ولا يقتصروا على دراسة عملهم الذي اختصوب به فإن مشاركتهم في المعرفة بحثاً وتأليفاً أمر ضروري لهم أولا ومفيد لغيرهم ثانياً. فإن المشاركة تفتق أذهانهم، وتخصب حياتهم وتبصرهم حتى بعملهم العسكري، وتجنبهم الجفاف العقلي والنفسي وتملأ فراغهم بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالخير. هم في حاجة المعرفة ولاسيما الأدبية التي هي قسط مشترك، لأنهم (ناس) أولاً (وجنود) ثانياً، ولا غِنى للإنسان إنساناً وجندياً في هذا(778/52)
العصر المعقد المستنير من المعرفة ولاسيما الأدبية لأن الأدب هو التعبير عن الحياة، ولهذا نرحب بهذه الرسالة من ضابطا الأديب ونتمنى له ولأمثاله مزيداً من البحث والتأليف.
تتضمن الرسالة إهداء ومقدمة وبحثاً في (شاعرية أبي فراس) ومختارات من شعره.
فأما الإهداء فلجيش العراق، ولا عجب فالموضوع شاعرية (جندي) قضى عمره القصير في خوض الحروب والأسر بسببها وأما المقدمة فكاتبها الدكتور المحقق المعروف مصطفى جواد، وهي (كلمة في أدب القرن الرابع) وربما كانت هي ذاتها مفيدة ولكن لا موضع لها في الرسالة، وقد كان حرياً بالدكتور جواد أن يجعل سبباً بينها وبين موضوع الرسالة أو مؤلفها كأن يستبدل بهذا الحشو المضطرب الزائد بياناً لمنزلة أبي فراس بين أدباء عصره أو شعرائه خاصة، أو يلقي ضوءاً على حوادث عصره المتصلة به - ولاسيما أن الرسالة خالية من ذلك - تستبين فيه منزلة الشاعر أو بيئته التي نشأ فيها، أو كأن يعرف القراء بالمؤلف أو يجلي منهجه في كتابه أو ما إلى ذلك. بل لو اقتصر الدكتور - هو الباحث اللغوي النحوي الذي طالما سوَّد الصفحات في الكتب والصحف والمجلات عرضاً يتتبع المؤلفين بالتزييف - على تصحيح أخطاء الرسالة لكان فيه بلاغ.
وأما البحث فهو - فيما نعلم - أول بحث مستقل في موضوعه، وهو خال من الحشو والفضول، وإنه ليدل على فهم (جندي) مستقيم مستقل يتأذى إلى غرضه بحزم وثقة دون أن يعتوره تردد ولا التواء.
والبحث مقسوم عشرة أقسام أولها في أسلوب أبي فراس، وثانيها في معانيه المبتكرة، وثالثها في موضوعات شعره إجمالاً والموازنة بينها من حيث إجادته وكثرة قصائده فيها وهو يرتبها هكذا نازلاً: الفخر فالعزل فالمدح فالوصف فالرثاء فالحكمة. ويذكر أن هجاءه كان نادراً وبين أسباب ذلك كله، ورابعها في فخره، وخامسها في مديحه، وسادسها في وصفه الطبيعة والمعارك، وسابعها في غزله، وثامنها في رثائه، وتاسعها في حِكمه وأمثاله، وعاشرها في أسره ورومياته التي قالها في أسره شاكياً أو مستعطفاً أو عاتباً أو ثائراً، وفي خلال ذلك أحكام لا نوافق على كثير منها وإن كنا نقر بعضها ونطمئن إليه.
وأما المختارات فقد أحسن اختيارها شواهد على أقسام البحث: أولها خمسة طويلة من (رومياته) متممة للقسم العاشر وتليها ستة (متفرقات) قصيرة شواهد على الأغراض(778/53)
الأخرى
والبحث (مدرسي) في منهجه ودراسته، ومن أجل ذلك جاء (خفيفاً) سهلا بسيطاً. وإذا كان لم يعطنا (صورة) ولا (ترجمة) حيَّة نابضة لشخصية أبي فراس من خلال دراسة شاعريته في شعره وهو (ديوان شخصيته) فقد رسم أمامنا خطوطاً بارزة من هذه (الصورة)، وعين لنا معالم واضحة من هذه (الترجمة) وكشف لنا كثيراً من العواطف والآمال التي كانت تصطرع وتمور في قلب هذا (الجندي) الطموح، وفي هذا بلاغ أي بلاغ من ضابطنا الأديب.
ولعله معيد النظر بعد في رسالته في ضوء (ديوان أبي فراس) في طبعته الجديدة التي أخرجها منذ أسابيع الدكتور محمد سامي الدهان، فإنها أوفى بمطلوبه لزيادة نصوصها، وصحة ضبطها، وفهارسها المفصلة، وخلوها من عيوب الطبعة القديمة التي شكاها ضابطنا الأديب في مطلع بحثه، وإنا لآثار قلمه الناضج إن شاء الله منتظرون.
القاهرة
محمد خليفة التونسي(778/54)
البَريدُ الأدَبي
مسألة نحوية:
جاءني من بعض الطلاب النجباء في السنوات التوجيهية أن أساتذتهم قد لاحظوا في مذكراتهم على (عبقرية عمر) أن في الصفحة الخامسة والأربعين منه خطأ نحوياً حيث جاء فيها أن عمر رضي الله عنه (تفقد رجلا يعرفه فقيل له إنه يتابع الشراب، فكتب إليه: إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوْب شديد العقاب ذي الطوْل لا إله إلا هو إليه المصير)
قالوا: والصواب (ذا الطوال) لأنه صفة لله، والله في الجملة مفعول لفعل أحمد في أولها. . .
وظاهر من ملاحظة الأساتذة أنهم قد فاتهم أن عمر رضي الله عنه إنما اقتبس آية من القرآن الكريم في أول سورة غافر وهي: (حم تنزيل الكتابِ منَ اللهِ العزيز العليم، غافِر الذَّنب وقَابل التوْب شَديد العقاب ذي الطوْل لا إله إلا هو إليه المصير. . .)
وقد جرت عادة عمر وعادة المسلمين عامة أن يقتبسوا الآية بنصها ولا يغيروا فيها مراعاة لموقعها من إعراب كلامهم الذي اقتبسوها فيه.
ومن ذلك في الكتاب نفسه أن عمر قال لمن هابوه: (. . . كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله: بالمؤمنين رؤوف رحيم) ص 17
ولو أنه أجاز التغيير في الآية الكريمة مراعاة موقعها من إعراب كلامه لقال: (رؤوفاً رحيماً) خبراً لِكان.
هذا هو الوجه فيما أوردناه من كلام عمر واقتباسه.
على أنه لو لم يكن اقتباساً لما صح الجزم بتخطئته على جميع الوجوه، لأن باب الاتباع في النحو معروف. . . ومنه (جحر ضب خرب) بكسر الباء في خرب، وصوابها أن تضم لأنها وصف جحر وليست بوصف لضب، وإنما كسروها على الاتباع
ونحن نود من كل من يعثر بخطأ في الكتاب أن يعلنه، ولكن بعد مراجعة نفسه ومراجعة مصادره. لأن المحاسبة بعد المراجعة أو خصلة تستفاد من سيرة ابن الخطاب. . .(778/55)
عباس محمود العقاد
جددوا ميثاق عمر فقد نقضه اليهود!
رضي الله عن الفاروق عمر بن الخطاب، وأبقى ذكره في الخالدين، فقد زان الإسلام والمسلمين بورعه وتقواه وألمعيته، وكان ملهماً ينكشف له في باطن قلبه من جهة الداخل ما يعرف به خلجات القلوب ووساوس النفوس، ولذا كانت أحكامه وقضاياه مضرب المثل إلى اليوم في الحكمة والقوة والوضوح.
وكان أن شرط على أهل الكتاب شروطاً متى أخذوا بها وحافظوا على نصوصها فقد أمنوا على أنفسهم وذريتهم وأموالهم. وقد صار ميثاقه هذا دستوراً للأمة المحمدية في جميع الأزمنة والعصور، يجدده حكام المسلمين وملوكهم وقت الحاجة تنبيهاً لمن أخذ عليهم وتأديباً.
(وقد جدد هذا العهد السلطان الناصر حسن بن قلاوون، فقد جمع اليهود والسامرة وغيرهم، وجدد عليهم البيعة، وشرط شروطاً، وأرسل بذلك مراسيم إلى بلاد مصر والشام ليجمع النائب بها أكابر اليهود، وأن يقرأ عليهم نص كتاب الإمام عمر بن الخطاب ليعتمدوا أحكام الشريعة المطهرة فيما يلزمهم من الشروط التي يترتب عليها عقد الذمة اقتداء بالشروط العمرية فيهم وتقريراً لأحكامها، وتجديداً لما تقادم من أيامها، وتعظيما لدين الإسلام وأهله)
وهذه الشروط سطور في آخرها وأن يرشدوا المسلمين ولا يطلعوا على عورات المسلمين في منازلهم، ولا يضربوا أحداً من المسلمين، ومتى خالفوا ذلك فلا ذمة لهم، وقد حل فيهم ما يحل في أهل الشقاق والمعاندة. .
شطانوف
محمد منصور خضر
1 - سؤال:
يقول امرؤ القيس: ولاسيما يوم بدارة جلجل، ويستعمل المعاصرون هذه الكلمة فيقلون مثلا (الأمل في النصر كبير بفلسطين سيما وقد تدخلت القوات العربية النظامية) فأي(778/56)
الاستعمالين أصح؟
(الرسالة): الأصح استعمال امرئ القيس ولا يجوز غير ذلك.
2 - غوري:
عاب الأستاذ أنو المعداوي كلمة (غوري) في شعر نزار قباني بالعدد 774 من الرسالة، وهي كلمة صحيحة من غار يغور.
ولعل الذي دعا الأستاذ إلى هذه التخطئة أن العامة استعملت هذا الفعل بمعنى قريب جداً من هذا المعنى.
3 - إسحاق:
قال الأستاذ (العباس) في معرض الحديث عن محاضرات تيمور بك (وقال إن هذا المذهب يستمد من العقل الباطن، ويجب أن يكون له رقيب من العقل الواعي).
والمفهوم أن الباطن والواعي اسمان لمسمى واحد. فما رأى الأستاذ مع كبير تقديري له؟
عثمان موسى
كوستى: السودان
مجلة الأمير فاروق الثانوية بالقاهرة:
أهدى إلينا الأستاذ إسماعيل بك خيري ناظر مدرسة الأمير فاروق الثانوية، مجلة المدرسة السنوية حافلة بشتى الموضوعات العلمية والأدبية بأقلام أساتذة المدرسة وطلبتها، وبها حديثان مهمان للكاتبين الكبيرين الأستاذين عباس محمود العقاد وأحمد حسن الزيات. والمجلة رائعة التنسيق جميلة التبويب حسنة الطبع. والفضل في ذلك لمراقبها الأستاذ بدوي طبانة، ورئيس تحريرها الطالب حسين حسين الجزار.(778/57)
العدد 779 - بتاريخ: 07 - 06 - 1948(/)
زعيمان
للأستاذ عباس محمود العقاد
والزعيمان هما أحمد عرابي المصري، وإبراهام لنكولن الأمريكي، وكلاهما كان صاحب دور حاسم في تاريخ وطنه، وكلاهما كانت سيرته موضوع كتاب من تأليف كاتب واحد، وهو الكاتب المحقق الأستاذ محمود الخفيف.
تقرأ في الصفحات الأولى من كتاب أحمد عرابي: (مهما يكن في الأمر فما أحسب أن في الناقمين على عرابي من يستطيع أن يماري في أنه كان زعيم حركة وداعية فكرة، وأنه - أخطأ أو أصاب - كان مخلصاً فيما يفعل أو يقول، وأنه قبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، كان أول مصري فلاح في مصر الحديثة نجم من بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية من القضايا الوطنية الكبرى).
ثم تقرأ الكتاب إلى صفحاته الأخيرة فتخرج منه بهذه الصورة التي إرتسمها المؤلف وثبت ألوانها وظلالها بالوقائع والأسانيد وجمع لها من الوثائق ما لا غنى عنه في فهم هذا الزعيم، ولا في فهم مصر الحديثة وعوامل نهضتها ودخائل تاريخها في الجيلين الأخيرين:
ومما لا شك فيه أن زعيم الثورة المصرية في القرن التاسع عشر قد أصاب وأخطأ، وقد نجح وأخفق، وقد أحسن وأساء. ولكنه لم يكن قط خائناً متواطئا مع الإنجليز على مصلحة وطنه كما افترى عليه خصومه، وإنما خانه التوفيق كما خانه بعض أعوانه، وكان تصرف الإنجليز معه بعد إخفاقه تصرفا طبيعياً لا غرابة فيه إذا رجعنا إلى المعهود من سياستهم ومن خططهم في معاملة أمثاله، فهم لم يرفعوا عنه العقوبة القصوى لتواطؤه بينهم وبينه قبل الثورة العرابية أو بعدها، ولكنهم فعلوا ذلك لأنهم لم يعاقبوا أحداً من الزعماء الوطنيين بعقوبة أشد من عقوبته كما رأينا في مصر والهند والسودان وأفريقية الجنوبية وغيرها من البلدان التي كانت لهم يد في محاسبة زعمائها، ولأنهم من الجهة الأخرى كانوا يسوغون احتلالهم لمصر بفساد الأحوال فيها، فلم يكن في وسعهم أن يحكموا بأقصى العقوبة على رجل يثور على فساد الأحوال.
وليس تمحيص التاريخ المصري، ولا تمحيص الزعيم المصري، كل ما يستفاد من قراءة كتاب الأستاذ الخفيف عن فترة الثورة العرابية، فإن أساليب السياسة الأوربية في القرن(779/1)
العشرين، وأساليب الاستعمار الأوربي على العموم، بعض ما يستفاد من هذه الكتاب الذي يعد في بابه قليل النظير.
أما سيرة إبراهام لنكولن فهي السيرة الوحيدة التي ظهرت في اللغة العربية لهذا الرجل العظيم، وهي سيرة لم يستوعبها كتاب واحد ولا كتب عدة في اللغة الإنجليزية بين المتكلمين بها أو القادرين على الاطلاع فيها، حيث يعلم الناس كثيراً من تاريخ الولايات المتحدة، فيستغنون عن إقحام هذا التاريخ في سيرة هذا الزعيم أو ذاك.
والواقع أنه لا توجد في التاريخ كله فائدة أو عبرة لا تستخلص من سيرة إبراهام لنكولن في حياته الشخصية أو حياته العمومية سواء تعلقت هذه العبرة بأطوار العظماء أو بأطوار الأمم في نشأتها، أو بأطوار السلم والحرب، أو بعجائب الأخلاق ونقائض الأراء.
فقد يستغني القارئ بسيرة مستوفاة لإبراهام لنكولن عن سير مئات من العظماء ومئات من الحوادث، ولا يفوته شيء ذو بال.
وهنا موضع الصعوبة في استيفاء كتاب عربي لهذه السيرة الجامعة، وقد كانت صعوبة قائمة أمام كل مؤلف تعرض لهذه السيرة من الغربيين فضلا عن الشرقيين.
ويستطيع القارئ أن يعرف لنكولن معرفة صحيحة من كتاب الأستاذ محمود الخفيف، لأنه يعرفه كما كان عظيما غاية في البساطة، بسيطاً غاية في العظمة، أميناً في السياسة، سياسياً في الأمانة، فكها يضحك الثكالى، وحزيناً لا يفارقه حزنه مدى الحياة، كريماً في الصداقة والخصومة: يقف جلسات الوزارة ليستقبل فلاحاً صديقاً من رفقة صباه، ويقهر خصومه كل القهر فلا ينتقم منهم ولا يفكر في إذلالهم، بل يعرف لهم حقهم ويصون عليهم كرامتهم، ويسعى في ذلك كأنه يسعى في مكافأة ولي من أوليائه يدينه بالحب والوفاء.
تلك صفات لهذا الرجل العظيم تعرفها من هذا الكتاب، ولكنك مع هذا لا تحيط بكل شيء ولا تعرف كل شيء، بل تعرف ما لابد منه ويبقى من وراء هذا التعريف الضروري مجال واسع للمزيد.
ومن المباحث التي تجاوزها الكتاب، ما يساعد القارئ كثيراً على تعليل هذه الصورة الصادقة التي تتجلى له من سيرة هذا الزعيم العجيب.
فليس في الكتاب تعريف كاف بأسلاف لنكولن من جانب أبيه وأمه، وليس فيه إلمام كاف(779/2)
بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رئاسة الجمهورية، وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه، يشرح هذه الجريمة شرحاً يناسب مكانها في تاريخ الإجرام عامة وفي تاريخ الولايات المتحدة على التخصيص.
ولا تتم العبرة من تاريخ لنكولن إذا لم تكن نشأته وارتقاؤه إلى رئاسة الجمهورية، وحقائق مصرعه موضع اهتمام خاص يفوق كل اهتمام بغيرها من الموضوعات.
فقد كان لنكولن مديناً بتعليمه لأمه، ولولا هذه العناية من أمه لعاش ومات فلاحاً لا يسمع أحد باسمه في غير بلده الذي يعيش فيه.
وقد كانت هذه العناية وراثة من أعجب الوراثات، لأن أمه كانت من سلالة غير شرعية لفتاة بلغ من رغبتها في العلم - على خلاف عادة النساء والرجال في زمانها، أنها أقبلت على دروسها الخاصة فأحبت أستاذها واستسلمت له وتعرضت للمهانة في سبيله.
وكان لنكولن يعلم هذا ويتحدث به على دأبه من الصدق والصراحة، وكان يعزو إلى هذه السلالة كثيراً من خلائقه وميوله، ولاسيما الميل إلى المعرفة والاستزادة منها ولو لم تكن من لوازم عمله، كاقباله على تعلم الهندسة والفلك ودراسة شكسبير وبعض الآثار اليونانية، وهو محام لا يحتاج إلى هذه المعلومات.
وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية، لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح.
وعمل المصادفة في تواريخ العظماء يفتقر إلى توضيح هذه المواقف وتحليل أسبابها وملابساتها، لأننا نرى فيها عمل العظيم وعمل البيئة في توجيه أكبر الحوادث التي اشتغل بها التاريخ.
أما مقتله فلا يفهم على حقيقته من التاريخ الأمريكي إلا إذا عرف القاتل وعرفت دواعيه إلى اقتراف هذه الجريمة، وجملة ما يقال عنه أنه ممثل فاشل أراد أن يعوض فشله في أدواره المسرحية بهذا الدور من أدوار المغامرات المعهودة في تاريخ البلاد الأمريكية؛ ولولا عوارض شخصية في طبيعة هذا المفتون لما وقع الحادث على الإطلاق.
والذي يبدو للوهلة الأولى من كتابي الأستاذ الخفيف أنه موفق في تحقيق معلوماته وفي وزن أبطاله.(779/3)
إلا أنه حين يحتاج إلى الميزان المشترك بين أبطال متعددين، يضطرب في الميزان بعض الاضطراب.
ومن أمثلة ذلك في تاريخ لنكولن أن كلامه عن بطله صحيح، وأن كلامه عن دوجلاس مزاحمه صحيح؛ ولكنه إذا عرض الرجلين على (الميزان المشترك) لم يبلغ من الدقة ما يبلغه من وزن كل منهما على انفراد.
ومن أمثلته في تاريخ أحمد عرابي أنه لم يحرر الميزان كل التحرير عند الحكم على عرابي ومن يمده مثلا، أو عند الحكم على سائر النابهين الذين اشتركوا في حوادث الثورة العرابية.
فقد يكون عشرات من الرجال في الحادث الواحد مختلفين متنابذين، ويكون لكل منهم حقه في الرأي، وحقه من العذر وحقه من التعظيم.
ولكننا نلاحظ هذه الملاحظات العابرة وننتهي منها إلى تقدير لا شك فيه لكتابي المؤلف عن هذين الزعيمين، وذاك أنهما على التحقيق مصدر لا غنى عنه للعمل بكلا الرجلين في اللغة العربية، وإن الصعوبة التي واجهت مؤلفهما الفاضل لا تغمط الجهد الكبير الذي توفر عليه، فاستحق به ثناء الناقد وإقبال القارئ واستزادة المستزيد
عباس محمود العقاد(779/4)
منادمة الماضي:
2 - زيارة لحصن الأكراد
أدب وحرب
للأستاذ أحمد رمزي بك
22 - لفت حصن الأكراد أنظار رجال الآثار والعلماء من أواخر القرن الماضي، وكتبوا الكثير عنه، ولهم المطبوعات والرسوم التي تدل على عملهم المتواصل.
23 - وكان آخر ما ظهر من عمل جدي إنشائي: هو عمل البعثة التي أقامت اكثر من عشر سنوات ابتداء من عام 1927 وظهرت نتيجة أبحاثها في المجموعة المسماة التي طبعتها مصلحة الآثار الفرنسية تحت عنوان وهو كتاب من أعظم الكتب الأثرية تأليف ويزيد من قيمة هذا العمل أن البعثة أعادت هذا الحصن إلى بعض رونقه القديم، وأخذت في هذا العمل سنوات عدة، ولذا جاء عملها في الوجهتين: الأثرية والعلمية من الأعمال الخالدة.
24 - وإني إذ أشير إلى هذا ارجوا أن أجد من السلطات المصرية والسورية اهتماماً يفوق هذا الاهتمام لإعادة قلاع القاهرة ودمشق وحلب إلى ما كانت عليه في إبان سطوتها وعزها على نمط لا يقل في قيمته العلمية والأثرية عما قامت به بعثة حصن الأكراد الفرنسية.
25 - وأخذ على البعثة الفرنسية هدمها لقبور من ماتوا من المسلمين ودفنوا داخل الحصن، ومنهم من كان يحكم هذا الحصن باسم مصر نائباً عن السلطة المصرية، أذكر من ذلك تربة الأمير صارم الدين قايماز الظاهري السعيدي أول نائب للسلطنة بعد الفتح، توفي سنة 673 ودفن بالحصن. وحقق سوبرنهيم الكتابة التي على شاهد القبر ورسمها، وليس لهذه التربة أثر بعد الترميمات، ولم يكن من حقوق البعثة أن تعبث برفات قائد مصري كبير بعد أن رقدت بالحصن الذي افتتحته جنوده مئات السنين.
26 - اعتاد الناس حينما يتحدثون عن أثر مثل حصن الأكراد أن يشيروا إلى الحروب الصليبية وأثرها ونتائجها وبعض حملاتها، وموضع هذا الأثر في تاريخ هذه الحروب: ولا شك في أن هذه الطريقة واجبة الاتباع، ولكني سأخالف هذه القاعدة من بعض النواحي.(779/5)
27 - ذلك لأن أغلب حملات الحروب الصليبية قد أصبحت معروفة ومتداولة، ولم يعد من المفيد إعادة الكثير مما قرأه الناس عنها: ثم قد يتسع البحث إلى مناطق تبعدنا عن الغاية التي رسمناها لأنفسنا وهي حصن الأكراد وزيارته.
28 - ولذلك سنشير إلى المنطقة التي فيها حصن الأكراد وأثرها في الحروب الصليبية، ونأتي ببعض النتائج التي حصلنا عليها من أثر هذه الحروب فينا.
29 - يفسر الأتاتورك مصطفى كمال رئيس الجمهورية السابق تاريخ الحروب الصليبية بأنها الهجوم المضاد الأول من الدول المسيحية ضد الإسلام: لأن الفتوحات الإسلامية وانتصارات المسلمين أثارت بوقفتها هجوماً مضاداً فهو يرى أن حروب الصليبين الأولى كادت تقتلع ملك المسلمين بأكمله، وأن وقفة الحروب الصليبية في الامارات اللاتينية أوجد الحرب الثابتة في المراكز المحصنة، والتي دامت حتى أتم المسلمون أهبتهم، وجاءت هجماتهم التالية التي قدفت بالفرنج إلى الساحل: فكانت الرد على الهجوم المضاد المسيحي.
30 - ففي فترة الهدوء والاستجمام بين الهجومين أنشأ الصليبيون خطاً من الحصون والقلاع، يبدأ من خليج العقبة ويمر بالكرك والشوبك، ويلتقي مع سلسلة الحصون التي تحمي إنطاكية، وتنحدر مع جبال العلويين حتى جبل لبنان.
ففي منطقة الوسط تماماً يقع مثلث مكون من الحصون الثلاثة: في شمال مصياف، وفي الجنوب حصن الأكراد، وإلى الغرب صافيتا
31 - فهذا المثلث الواقع على منطقة جبلية يسيطر على عدة طرق حيوية بالنسبة لمقاطعة طرابلس الصليبية، وعلى مناطق زراعية خصبة تجعل المحتلين لهذه القلاع لا يهتمون بغير قلاعهم وأملاكهم، ويسهل عليهم الاتصال فيما بينهم بالنيران لتبادل المساعدة، ولصد كل عدوان يأتي إليهم. ولذلك استمرت هذه البقعة شوكة في جنب المسلمين منذ أيام صلاح الدين ومن قبله إلى أيام الملك الظاهر بيبرس.
32 - والحرب هي الحرب في كل الأزمان تتطور قواعدها وأساليبها ولا تتبدل أهدافها. فهدفها الأول: هو تحطيم قوة المقاومة لدى الخصم وتدميره.
ولا شك في أن الحملات الصليبية الأولى لم تصل إلى أغراضها؛ فإن قوة المسلمين لم تحطم في يوم من الأيام - وإن الفترة بين دخولهم فلسطين وإخراج صلاح الدين لهم من(779/6)
القدس بعد معركة خطين كانت من فترات الثبات والتركز كما قال مصطفى كمال. وقد دامت 90 عاماً - وكانت كل المعارك الصغيرة من قبيل الهجمات التعرضية التي يقوم بها جيش من وراء الاستحكامات ثم يعود إليها بعد إتمام غرضه.
33 - هذه الاستحكامات الدائمة هي القلاع التي أشرنا إليها والتي تمكن صلاح الدين بعد هجومه العام من انتزاع أكثرها من أيدي الصليبيين، ولكنه توفى قبل أن يتم العمل الذي بدأه لذلك وبقى حصن الأكراد لم يسلم إليه، وعادت حالة الاستقرار والهدوء من وراء القلاع، وإن كانت تغيرت عقلية ملوك الصليبيين فأصبحت مصر هدفاً لحملاتهم للقضاء عليها حتى يتم لهم تحطيم قوة المسلمين وتدميرها تدميراً تاماً.
34 - وهناك حقيقة لابد من إعلانها وهي تتلخص في إفلاس الخلافتين العباسية في بغداد والفاطمية في مصر في اتخاذ موقف يسمح لكل واحدة أو لكلتيهما معاً من البروز كقوة مجاهدة مكافحة تصلح لقيادة المسلمين في عراك يمثل الموت والحياة للعالم الإسلامي، فهذا الموقف السلبي انتهى بهما إلى النتيجة الطبيقية المحتمة وهي زوال الخلافة الفاطمية من الوجود وضعف الخلافة العباسية إلى أن صفيت على يد هولاكو.
35 - والقارئ لأخبار الصليبيين عند نزولهم لدمياط وخصوصاً لأخبار نشاطهم وحماسهم عندما وصلت لهم أنباء استيلاء التتار على بغداد يخيل إليه أن قواد الصليبيين قد وثقوا من أن العالم الإسلامي قد زال من الوجود بزوالها مع أن أثر الخلافة العباسية كان ضئيلا جداً في الحروب الصليبية لدرجة لا يصدقها العقل
36 - والفضل الأكبر في صد الحروب الصليبية وإعداد أول هجوم إسلامي على معاقل الصليبيين في فلسطين هو لمصر تحت قيادة صلاح الدين الذي ورث هذا النشاط عن نور الدين الشهير.
وهذا ما أدركه كتاب الصليبيين، وما شعر به قوادهم بعد وقت طويل، وما باح به الجنرال كاترو بقوله: إن مصر في مطالبتها بعودة الدستور والحياة النيابية في سوريا ولبنان إنما تريد أن أن تعلب الدور الذي لعبه من قبل صلاح الدين في شئون دمشق
37 - والعمل الحاسم لآخر هجوم إسلامي كان لمصر تحت قيادة الملك الظاهر بيبرس هذا الهجوم العام الذي سقطت فيه إنطاكية وحصون الشمال، وأخيراً حصن الأكراد وغيره من(779/7)
حصون الوسط.
38 - ولو أعقبت وفاة بيبرس فترة هدوء واستجمام لعادت الحروب الصليبية مرة أخرى، ولكن قلاوون وابنه الأشرف كانا أسرع إلى مداومة الزحف واستغلال الموقف، فلم يقف الهجوم الثالث حتى حقق ما كان يؤمله كل من صلاح الدين وبيبرس، فسقطت طرابلس ثم عكا التي قال عنها الشاعر في مدح الأشرف خليل بن قلاوون:
صدمتها بجيوش لو صدمت بها ... صم الجبال أزالتها ولم تزل
(البقية في العدد القادم)
أحمد رمزي(779/8)
بين بدر وأحد:
الفدائي الأول
للأستاذ عمر الخطيب
مد الليل جناحه وشمل الكون ظلام دامس. . . وتحرك الجيش الصغير في هدأة الليل وغمرة الظلام من المدينة يتقدمه القائد الأعظم (رسول الله) ومن ورائه أصحابه كالكواكب المتلالئة حول البدر المنير. . . ساروا وقد سبقهم الخيال إلى ماء (بدر) حيث يعسكر المشركون الذين تجمعوا ليحبطوا دين الله ويقتلوا رسول الله ويؤدبوا أصحابه (الصابئين). . . فاستحث القوم جيادهم وأسلسوا لها القياد، وقلوبهم تخفق شوقاً للجهاد، ونفوسهم ترقص طرباً بلقاء أعداء الله الذين آذوهم وأخرجوهم من ديارهم. . . ولم يكن أحب للمسلم إذ ذاك من خوض ساحات الشرف حيث يصول ويجول ويجندل الأقران ويصدع الشجعان، وقد آلى على نفسه أن يستشهد في سبيل العقيدة التي يؤمن بها، والمبدأ الذي ملك عليه لبه. . .
ولما كانوا (بعرق الظبية) استشار الرسول أصحابه، فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، وقام المقداد بن عمرو فقال: (يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أن وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون)!
وسكت الناس بعد أن استمعوا لمقالة المقداد، فقال رسول الله: أشيروا عليّ أيها الناس، وكان يريد بكلمته الأنصار الذين أعطوه موثقاً أن يؤازروه وينصروه ويمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. . .
فقام صاحب رايتهم (سعد بن معاذ) وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ فقال سعد: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهدنا ومواثيقنا. . . على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك. . . فوالذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد. فتهلل وجه الرسول واطمأنت نفسه، ووثق من إخلاص الجند لقائدهم واستبسالهم في سبيل دينهم
جاء (أنس بن النضر)، وقد كان غائباً عن المدينة، فغدا إلى المسجد ليؤدي الفريضة خلف رسول الله ويستمع إلى حديثه العذب الجميل ويجتمع مع إخوانه الصادقين ليتدارسوا(779/9)
القرآن، ويتعاونوا على الخير، ويفكروا فيما يرفع شأن دينهم ويحقق لهم أمانيهم. . . وما إن دخل المسجد حتى ألفى نفسه وحيداً بين شيوخ كبار، وصبية صغار، يركعون ويسجدون، ويضرعون ويبتهلون، فراعه أن يجد المسجد على غير ما ألفه، واستوضح من القوم الخبر فأنبؤوه بأن الرسول في غزوة يقاتل المشركين. . . فأفلت من يده ودمعت عينه ندماً على ما فاته من الجهاد مع رسول الله، ورجع خائباً إلى بيته وفي قلبه أسى وفي صدره غصة وفي نفسه حسرة!
ورجع المسلمون من (بدر)، وقد نصر الله حزبه وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وقتلوا من قريش مقتلة عظيمة، ونالوا منها مغانم كثيرة، ومكن الله للمسلمين من أعدائهم حتى صرعوا رؤوس الجاهلية وأقطاب الشرك. . . عادوا وأكاليل النصر فوق هاماتهم يتقدمهم الرسول الكريم، فاستقبلتهم المدينة جذلة فرحة، وزغرد النساء، وأنشد الصبيان، والقلوب مفعمة بالعزة والفرح. . . وجاء (كعب بن مالك) شاعر الرسول ينشد:
عجيب لأمر الله والله قادر ... على ما أراد ليس لله قاهر
قضى يوم بدر أن نلاقي معشراً ... بغوا وسبيل البغي بالناس جائر
وقد حشدوا واستنفروا من يليهم ... من الناس حتى جمعهم متكاثر
وفينا رسول الله والأوس حوله ... له معقل منهم عزيز وناصر
فلما لقيناهم وكل مجاهد ... لأصحابه مستبسل النفس صابر
شهدنا بأن الله لا رب غيرُه ... وأن رسول الله بالحق ظاهر
وقد عريت بيض خفاف كأنها ... مقاييس يزهيها لعينيك شاهر
بهن أبدنا جمعهم فتبددوا ... وكان يلاقي الحين من هو فاجر
فكب أو جهل صريعاً لوجهه ... وعتبة قد غادرنه وهو عاثر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به ... وليس لأمر حمَّه الله زاجر
وما إن استقر بالرسول المقام ووزع الغنائم على الجنود وأعطى كل ذي حق حقه حتى جاءه (أنس بن النضر) والدموع تذرف من عينيه والأسى يعقد لسانه والحسرة تلوح من أسارير جبينه. . . جلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ليعتذر عما صنع ويعطيه عهداً وموثقاً على أن يكون الجندي الأمين و (الفدائي) الصادق إذا ما حارب الرسول المشركين(779/10)
مرة أخرى. . .
قال: (يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين. لئن الله أشهدني قتال المشركين. . . ليرين الله ما أصنع. . .
رجعت قريش إلى مكة تبكي قتلاها وناح النساء عليهم شهراً كاملاً بعد أن جززن رؤوسهن. . . رجعوا وقد تركت (بدر) في نفوسهم أثراً عميقاً حز في قلوبهم وحفزهم إلى العمل على الأخذ بالثأر ولم الشعث وجمع الشتات والاستعداد لمعركة أخرى ينتقمون فيها لما أصاب ساداتهم يوم بدر ويمحون عار الهزيمة الذي لحقهم وكاد يودي بمكانتهم بين العرب وقد أدركوا أنهم إن لم يأخذوا على يد هؤلاء المسلمين ويفصموا عروتهم ويضعفوا قوتهم فسيقضي على قريش بالذلة والضعة بعد العزة والمنعة.
وعزموا على القتال وحشدوا الجموع وجهزوا الجيش والتقوا مع المسلمين جانب (أحد) وكان المسلمون إذ ذاك قلة وقد باغتهم العدو وأصبح قريباً من ديارهم. . وكان اليوم جمعة، فصلى الرسول بالناس وأخبرهم بأن النصر لهم ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم؛ ولبس لأمة الحرب وتقلد السيف وتقدم بالمسلمين نحو (أحد) وأمر بعضاً من أصحابه أن يرابطوا في أعلى الجبل وأن يرشقوا المشركين بالسهام، وأوصاهم بأن لا يتركوا مكانهم حتى ولو ظهر المسلمون على أعدائهم. . . ودقت الساعة وابتدأت المعركة فكان النصر فيها باديء ذي بدء حليف المسلمين إذ حملوا على أعدائهم حملات صادقة زعزعتهم وقذفت في قلوبهم الرعب وأدركوا أنهم إزاء قوم ذوي بأس شديد يكرهون الحياة ويطلبون الموت نصرة للعقيدة ودفاعاً عن المبدأ. . فتراجعوا وفروا منهزمين. . ولما رأى (النابلة) أن العدو قد انهزم وترك وراءه الأموال والمتاع والسلاح نسوا أمر رسول الله فتركوا أماكنهم وأسرعوا لينالوا ما بقى من الغنائم. . وهنا اغتنم الأعداء الفرصة فكروا عليهم من خلفهم وأخذوا مواقعهم وأشروا عليهم وشرعوا يرمونهم بالنبال، وجعل الفرسان يحملون عليهم بالسيوف حتى رجحت كفة الأعداء وكاد يقضي على المسلمين. . .
رأى (أنس بن النضر) ما أصاب المسلمين وكيف أن الله قد أخدهم ببعض ما كسبوا، وذكر العهد الذي قطعه لرسول الله على نفسه، وثارت في نفسه عزة الإسلام وطفرت الدمعة من عينيه حزناً على ما أصاب المسلمين فرفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما(779/11)
صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين)) ثم امتطى صهوة جواده واستل سيفه وشرع رمحه وتقدم نحو صفوف الكفار فاستقبله (سعد بن معاذ) فقال له أنس (يا سعد بن معاذ!. . . واهاً لريح الجنة! إني لأجد ريحها ورب النضر عند هذا الجبل) وألفى أبا بكر وعمر وقد انتحيا جانب الجبل وألقيا بأيديهما فقال: ما يجلسكم!. . . قالوا: قتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه) ثم ألقى بنفسه في أنون المعركة واستقبل الموت استقبالا رهيباً لا عهد للناس بمثله وقد وهب روحه (فداء) للإسلام الذي آمن به والرسول الذي اتبعه.
انجلى غبار المعركة وهدا صليل السيوف ورجعت الجيوش أدراجها وبقى من المسلمين من يلم القتلى ويحمل الجرحى. . . وافتقد المسلمون (أنس بن النضر) فلم يجدوه بين الجرحى أو القتلى فاشتد حزنهم عليه وعظم مصابهم به وأيقنوا بأنه قد أصبح أسيراً في يد المشركين يسمونه سوء العذاب وينتقمون منه شر انتقام؛ وبعد قليل جاءت أخته (الربيع) لترى أخاها فألفت المسلمين حيارى لا يعرفون من أمره شيئاً، وأخبروها بأنهم لم يجدوه بين القتلى أو الجرحى، فأنعمت النظر في وجوههم التي مثل بها المشركون فلم تجد بين هذه الوجوه التي شوهها الأعداء ما يدل على أن أخاها منهم، وكادت تقطع بما قطع به القوم لولا أن وقع بصرها عقواً على (بنانه) وكان جميل البنان فعرفته بها وأيقنت أنه (أنس) فأكتب عليه وهي تبكي ووقف المسلمون إزاءه يترحمون عليه ويسألون الله له الجنة.
يقول أنس بن مالك (فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون).
ويقول (كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا).
(المعادي)
عمر الخطيب
(فتى الفيحاء)(779/12)
كم بيننا من الكتاب؟
للأستاذ عبد المنعم الصاوي
من الكاتب؟. . .
إذا كان كل من يحمل قلماً يستطيع أن يخط به كلاما يمكن أن يقرأ، ويؤدي إلى معنى من المعاني، أيا كان هذا المعنى.
إذا كان هذا يسمى كاتباً، إذن لجاز لنا أن نسمى أطفال المدارس الابتدائية كتاباً!!
وإذا كان الكاتب هو ذلك الذي يستطيع أن يملأ عدة أعمدة من صحيفة أو مجلة أو كتاب، في أي وقت يشاء، أو في أي وقت يطلب إليه أن يكتب. . .
إذا كان هذا هو الكاتب، إذن لأخرجنا الكتابة عن نطاقها الفني، وحدودها المتسامية، وجعلناها أقرب إلى الصناعة منها إلى الفن الجميل المتسامي!!
فمن إذن الكاتب؟. . . من هو؟
هو الذي يحمل قلماً، وفكرة، وأمانة. . فأما القلم فوسيلة، وأما الفكرة فنهج، وأما الأمانة فهي الهدف.
وليس القلم هو ذلك الشيء الصغير المتواضع الذي يستطيع أي إنسان أن يملكه، مادام يستطيع أن يدفع ثمنه الزهيد الصغير. . . وإنما القلم معنى من المعاني الكامنة في النفس، قبل أن تكون كامنة في الجيب، أو في مجال بيع الأقلام بمختلف أنواعها. .
هذا المعنى الكامن في النفس، يستمد عناصره، ووجوده، وكيانه كله. . . من الدم، والألم، والقلب معاً.
وليست فكرة، هي أن تدرس كتاباً، أو عدة كتب. . . أو أن تنتهي من دراسة، ولو كانت جامعية.
لا، ليست هذه هي الفكرة، وإنما هي قبل كل شيء فلسفة تتخذها بعد أن تكون قراءات الزمن في الكتب وفي الحياة، وتجارب السنوات وشدائد الأيام، واستقصاء المعارف والحقائق الكونية الراسخة في طبيعة البشر. . . بعد أن تكون كل هذه العناصر قد تفاعلت في نفس إنسانية ذواقة، متفتحة، مشرقة، لماعة، بارعة، فاستقرت أخيراً فيها حقيقة واحدة، تكون منهجاً واحداً، يتخذه الكاتب فلسفة في الحياة.(779/14)
وليست الأمانة هي أن تحمل رسالة معينة وتسعى إلى تحقيقها بمختلف الوسائل. . ليست هذه هي الأمانة. . . وإنما هي أسمى من هذا بكثير.
هي أمانة الكاتب لقلمه المستمد من دمه وعرقه وآلامه وقلبه. . . أمانته تجاه هذا القلم، فإذا هذا القلم أقدس ما يملك، لا يستبيح لنفسه أن يتجنى عليه باستعماله استعمالا غير مشروع، أو استعمالا يجاوز الحق، ولو في واحد من مائة، فان مجاوزة الحق تتساوى: واحداً في المائة، ومائة في المائة.
وهي أمانة الكاتب تجاه منهجه الذي كونته الدراسات والقراءات والتجارب والدموع. . . لا يتصرف في هذه الفكرة إلا في حدود تتسق معها ولا تنبو عنها. . ولا تتنافر أو تتناحر مع فلسفة الكاتب في حياته.
وهي أمانة الكاتب تجاه مجتمعه الذي يعيش فيه. . . أمانته تجاه العقول والأفكار التي تتناول إنتاجه وتتأثر به، وتحذو حذوه. . .
وهي أمانة الكاتب تجاه التاريخ الذي يتناوله، ويسجل عليه، ما أفاد، وما أضر، ويضعه في القائمة البيضاء، أو ينخفض به إلى مستوى الذين لا يرتفعون عن القائمة السوداء.
إذا توفرت هذه العناصر كلها في شخص فهو الكاتب، وإلا لم يكن كاتباً، وأصبح من الجناية على المجتمع وعلى الأفكار وعلى الأخلاق، وعلى مستقبل الجيل أن بعد هذا الشخص كاتباً. . . بل أصبح من الجناية فعلا، أن تفتح لأمثال هذا الإنسان المتجني صفحات الصحف، وأنهار المجلات، وأبواب دور النشر.
والسؤال الآن هو: كم كاتباً في مصر؟
في مصر سبع صحف يومية تصدر كل صباح، وثلاث تصدر كل مساء، عدا المجلات الأسبوعية التي لا يدركها الحصر، غير المجلات الشهرية، والنشرات الكثيرة العديدة.
وفي كل صحيفة من هذه الصحف، مقال واحد على الأقل، أما في المجلات فكل منها تحوي عدة مقالات.
ولو أننا استعرنا الطريقة الأمريكية في الأحصاء، لأمكننا أن نقول إن القراء المصريين يواجهون كل يوم بحوالي عشر مقالات وقصص لعشرة كتاب. . .
ومعنى هذا أن هناك سبعين قلماً تسود هذه الصفحات البيض، وتطلع بها على القراء!!(779/15)
كم مقالة من هذه المقالات، وكم قلماً من هذه الأقلام، يستحق أن يعني به عقل واحد، أو تفكير واحد، أو قارئ واحد؟. .
وكم من هؤلاء الكتاب، لهم أقلام، وأفكار، وأمانات؟
هل هم هؤلاء الحزبيون الذين لا يمسكون أقلامهم إلا ليصفوا وجه كبير بأنه أقرب إلى وجوه الملائكة طهراً. . . ويصفوا ذاك الكبير بأنه مقلوب السحنة يحاكي الشياطين!!
أم هم أولئك الذين يتعرضون لخفايا السياسة، دون أي علم بعلم السياسة أو فن السياسة أو خفايا السياسة. . . ويتبجحون فإذا هم يوجهون، ويرسمون الخطوط وينقدون، بل ويكيلون اتهامات لا حصر لها، زاعمين أن لهم مكان القيادة بين الساسة والزعماء!!
أم هم هؤلاء الذين يتناولون حقائق الفن بأقلام هزلت وضعفت حتى لا تكاد ترى ولا تبصر، فإذا الكلام عن الفنون كله وصف لعيون هذه الممثلة أو تلك، أو صيحات هذا الممثل أو ذاك، أو هزات بطن هذه الراقصة أو تلك!!
أم هم أولئك الذين ينتجون ألوان الأدب من شعر وقصة ومسرحية، دون دراية بفن ولا علم. . . ودون أن تتكون لديهم ملكة الخلق والانتاج، فإذا إنتاجهم كله وصف سخيف، وحوار ممل، وحوادث تهدف إلى استغلال أرخص العواطف وأحط النزعات!!
أين هم إذن. . . على صفحات الصحف والمجلات؟.
لو استطعنا أن نجد واحداً أو اثنين أو ثلاثة. . . فمن يكون بقية السبعين؟
هل هم كتاب؟
لست أجيب، وإنما أترك الإجابة لقراء هؤلاء المساكين. . .
بقيت الكتب. . . ودور النشر التي أصبحت مفتوحة الأبواب لكل طارق.
كم من هذه الكتب يمكن أن يكون ذا فائدة أو أثر للقراء. . .؟
وكم من كتابها يصح أن يعدوا بين الكتاب؟
إننا لحسن الحظ نجد أن عدد قراء الكتب، المنكوبين بما فيها قليل، ولهذا يهون الشر.
ما سبب هذا الوضع الغريب المخجل الشاذ؟
وماذا يكون علاج هذه الحالة العجيبة؟
وكيف يمكن أن تتعدل هذه الأوضاع الغريبة؟(779/16)
نترك هذا الآن. . . إلى عودة.
عبد المنعم الصاوي
الأستاذ بقسم الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة(779/17)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
- 4 -
ذكرنا في حديثنا السابق محملا عن طب العرب في الجاهلية، ونبذة عن مصادر الطب الإسلامي وتأثير علوم اليونان فيه، وتحدثنا عن كيفية نقل علوم اليونان وسائر الأمم إلى العربية، وذكرنا أن المسلمين بدأوا ترجمة العلوم منذ القرون الأول الهجري أي من بدء تعرفهم عى الأمم الأخرى واتصالهم بها، وقلنا إن هذه التراجم قد تحسنت بالتدريج واتسعت دائرتها حتى بلغت ذروتها في زمن المأمون، وكان للايرانيين حينذاك نفوذ كبير في المجتمع الإسلامي، أي عندما كانت النهضة العلمية الإسلامية في أوجها، وإن عدداً كبيراً من مترجمي هذا العصر قام بإصلاح التراجم السابقة.
وفي حديثنا اليوم سنتكلم بإيجاز عن هذا العصر ثم نتحدث عن ظهور كبار الأطباء المسلمين من أصحاب الرأي والنظر وعن مطالعاتهم ودراساتهم في الأمراض والعلل وعلاجها، وفي مطالعاتهم عن أحوال المريض بجانب سريره، ونذكر نبذة عن البيمارستانات عند المسلمين.
كان المأمون مهتما بهذا الأمر لدرجة أنه كان يبعث الهدايا الثمينة لملوك الروم ويسألهم مقابل ذلك الإذن في إنفاذ بعض المختار من كتب الفلسفة والعلوم القديمة المخزونة المدخرة لديهم إليه، وكان من جملة شروط الصلح بين الخلافة الإسلامية، وامبراطورية روما الشرقية، أن يأذن امبراطور الروم للمسلمين بشراء الكتب العلمية اليونانية من البلاد التابعة له، وكانت الكتب التي تصل إلى المأمون خير الهدايا التي يبعث بها إليه الملوك.
يقول ويتينجتون في مؤلفه عن تاريخ الطب: (إن فتوح المسلمين العلمية ليست بأقل أهمية من فتوحهم للبلاد وغزوهم لها)
وقد اقتدى بالمأمون كثير من السراة الأغنياء من أهل الفضل والذوق وبذلوا جهوداً كبيرة في ترجمة الكتب العلمية ونقلها إلى العربية.(779/18)
وكان من نتائج هذا الاهتمام والتشجيع أن ظهر عدد كبير من مهرة النقلة في ذلك العصر.
يذكر المؤرخون أن المأمون كان يعطي حنين بن اسحق العبادي ما يعادل وزن الكتب التي يقوم بنقلها إلى العربية ذهباً
وكان يشتغل في دار الترجمة التي كان يرأسها حنين أكثر من تسعين مترجماً ينقل الكتب، ومن مشاهيرهم ابن أخته حبيش الأعسم، وعيسى بن علي، وعلي بن يحيى، وأيوب الأبرش، وحجاج بن مطران.
وبفضل جهود هؤلاء وعلو هممهم وبصرف الأموال الكثيرة وتحري الدقة المتناهية نقلت إلى العربية كتب كثيرة نفيسة حقاً تجد في كثير من كتب التاريخ، ولاسيما في كتاب الفهرست لابن النديم، أسماءها وعناوينها بالتفصيل. غير أن كثيراً من هذه الكتب قد ضاع بسبب ما أصاب القسم الأكبر من البلاد الإسلامية في القرن السابع للهجرة من الخسائر نتيجة لحملة المغول عليها. وليس لدينا الآن من آلاف الكتب غير أسمائها؛ وربما كان هناك كتب كثيرة ضاعت وضاعت معها أسماؤها أيضاً
وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن شيوع عقيدة الأشاعرة الجامدة الشديدة التحفظ، وتغلبها على طريقة المعتزلة الحرة في البحث العلمي والديني، وعوامل كثيرة أخرى كانت قد أثرت في النهضة العلمية الإسلامية فحدَّت من تقدمها قبل حملة المغول، إلا أن هذه النهضة العلمية كانت لا تزال بعد على شيء من القوة، وكان مقام العلم والأدب لا يزال شامخاً إلى ان جاءت حملة المغول كالسيل الجارف فأصابتها بصدمة قوية فلم تقم لها بعد ذلك قائمة.
إلا أن حملة المغول هذه لم تصب العلوم الطبية بما أصابت به غيرها من العلوم من ضرر، لأن أفراد قبائل المغول على رغم بربريتها كانوا يهتمون بصحتهم وسلامة أبدانهم، لذلك فقد حفظوا كتب الطب من الإضمحلال والضَياع، كما أن حبهم الشديد للشهرة وخلود الذكر كان من الأسباب التي صانت كتب التاريخ من الضياع والفناء.
إن هذه العاطفة اعني حبهم للشهرة وخلود الذكر لم تصن كتب التاريخ من الضياع فحسب، بل كانت سبباً لتأليف كتب أخرى نفيسة في هذا الباب، مثل تاريخ جهانكشاي للجويني، وجامع التواريخ لرشيد الدين بن فضل الله الحمداني، وتاريخ الوصاف لفضل الله الشيرازي، وتاريخ كزيده لحمد الله المستوفي القزويني، وهي كلها معتبرة من الآثار(779/19)
والمؤلفات التاريخية الخالدة
والخلاصة أن أكثر المؤلفات التي نقلت في عهد المأمون إلى العربية كانت تراجم متقنة تدل على دقة المترجمين وحسن قريحتهم، وأن تبويب الكتب المترجمة إلى فصول ومقالات وأبواب مع ذكر المراجع والمصادر التي نقلت عنها التراجم تدل على ذوقهم السليم.
وبعد أن تعرف المسلمون عن طريق هذه التراجم على مصادر الطب الأصلية، وبعد أن عم البحث العلمي وأنشئت البيمارستانات والمعاهد العلمية وتكونت حلقات الدرس - ولهذا بحث مهم خاص ليس الآن محله - بدأ دور استقلال الأطباء المسلمين في بحثهم وتأليفهم. وفي هذا العهد الجديد شرع هؤلاء بتدوين ما فهموه من التراجم في مؤلفات خاصة حسب ذوقهم الخاص، وأضافوا إلى ذلك كله خلاصة مطالعاتهم وتجاربهم الشخصية فكان من نتاج ذلك كتب مستقلة في الطب للمؤلفين المسلمين.
وكان لمسلمي إيران خدمات مهمة في هذا الباب أيضاً لسابقتهم وماضيهم الطويل في الطب منذ عهد الساسانيين بفضل المدارس الطبية العظيمة التي كانت في إيران ومنها مدرسة جنديسابور. لذلك فإن كثيراً من الأطباء ذوي الرأي والنظر والأساتذة الكبار والمؤلفين المشهورين كانوا من الإيرانيين ولاسيما في القسم الشرقي من البلاد الإسلامية.
أم الطب في المغرب والأندلس، فإن له بحثاً خاصاً مستقلا؛ والكلام في أحوال فلاسفة تلك البلاد وأطبائها كابن رشد وابن زهر وخلف بن العباس الزهراوي الشهير بجراح العرب وابن جلجل وابن وافد واسحق بن عمران وأحمد بن الجزار القيرواني وأضرابهم، يحتاج لبحث طويل في عدة محاضرات، ولاسيما الكلام عن أثرهم في البلاد المجاورة لأسبانيا والطلبة الذين وفدوا إلى الأندلس من سائر بلاد اوروبا للدرس والتحصيل، والكتب العربية التي نقلوها إلى اللاتينية والعبرية وغيرهما - وهذه كلها أمور ذات شأن تقتضينا أن ندرسها دراسة عميقة، ونخصها بمحاضرة أخرى إن سمح الوقت بذلك.
كان أكبر هَمِّ معظم العرب في العصور الإسلامية الأولى هو درس اللغة العربية وعلوم القرآن والشريعة، ولم يكونوا ليهتموا كثيراً بسائر العلوم.
يقول جولد زيهير المستشرق المعروف وهو من أكبر المستشرقين تضلعاً في اللغة العربية، وله اطلاع واسع على الفقه الإسلامي - إن عدد علماء العرب حتى في علوم(779/20)
القرأن والشريعة كالتفسير والحديث والفقه كان أقل من عدد العلماء من غير العرب في هذه العلوم أيضاً.
ومن الأمور التي استرعت نظر الأستاذ ادوارد براون فأشار إليها في مؤلفه (الطب الإسلامي) إن الأطباء العرب ولاسيما المسلمين منهم لم يكونوا محل ثقة العرب واعتمادهم في العلاج؛ وقلما كانوا يرجعون إليهم في ذلك. ويستشهد الأستاذ براون برواية ذكرها الجاحظ في كتاب البخلاء عن طبيب مسلم من العرب اسمه أسد بن جاني أكسد، فقال له قائل: (السنة وبئة والأمراض فاشية وأنت عالم ولك جد وخدمة، ولك بيان ومعرفة، فمن اين تأتي هذا الكساد؟ قال أما واحدة فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبب، بل قبل أن أخلق، أن المسلمين لا يفلحون في الطب، واسمي أسد، وكان ينبغي أن يكون اسمي صليباً ومرايل ويوحنا وبيرا (ويقصد الأسماء اليونانية أو السريانية أو الآرامية) وكنيتي أبو الحارث، وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى وأبو زكريا وأبو إبراهيم (أي كنى اليهود أو النصارى) وعلى رداء قطن أبيض، وكان ينبغي أن يكون رداء حرير أسود؛ ولفظي لفظ عربي، وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جند يسابور (يقصد لسان أهل إيران). والخلاصة أن معظم الأطباء الكبار من المسلمين في عصر النهضة العلمية والاستقلال الفكري في الإسلام كانوا من الإيرانيين، وكان أطباء هذه الحقبة من أصحاب الرأي والنظر مما جازوا مرحلة التقليد والتسليم لآراء أسلافهم؛ فإنهم كانوا يبذلون غاية الجهد ويعملون رأيهم فيميزون بين الصحيح والسقيم من الآراء، ويضيفون إليها من عندهم الشيء الكثير؛ وخير مثال لهؤلاء محمد بن زكريا الرازي الذي جمع في مؤلفيه كتاب المنصوري وكتاب الحاوي كل المعارف الطبية التي كانت موجودة في زمنه من مؤلفات من سبقه من الأطباء من يونانية وغير يونانية، ونقدها نقداً علمياً يدل على علو كعبه وطول باعه وإحاطته التامة، وزاد عليها مشاهداته وتجاربه الشخصية، كما أنه ألف كتاباً في الحصبة والجدري، ولم يكن أحد من الأطباء الذين سبقوه، قد عرف أن هذين المرضين مرضان مستقلان. وله غير هذه الكتب رسائل خاصة عن تجاربه الشخصية ومطالعاته في البيمارستانات، وبجانب فراش المرضى، ورسائل أخرى في المبادئ الخلقية التي يجب على الطبيب مراعاتها والسير بموجبها بحكم الواجب، وفي هذه الرسائل أيضاً تتجلى اختباراته الشخصية(779/21)
بوضوح تام.
ومن مؤلفات الرازي كتاب باسم شكوك الرازي على كلام جالينوس فاضل الأطباء في الكتب التي نسبت إليه؛ ولديَّ نسخة خطبة منه يقول في مقدمتها:
(إني لأعلم أن كثيراً من الناس يستجهلوني في تأليف هذا الكتاب، وكثيراً منهم يلوموني ويعنفوني على مناقضة رجل مثل جالينوس في جلاله ومعرفته وتقدمه في جميع أجزاء الفلسفة ومكانه منها، وأجد أنا لذلك مضضاً في نفسي، إذ كنت قد بليت بمقابلة من هو أعظم الخلق على منة، وأكثرهم لي منفعة؛ به أهديت، وإثره اقتفيت، ومن بحره استقيت، مما لا ينبغي أن يقابل به العبد سيده، والتلميذ أستاذه، والمنعم عليه ولي نعمته، وبودي يشهد الله أن هذه الشكوك التي أنا ذاكرها في هذا الكتاب، لم تكن في كتب هذا الرجل الخير الفاضل العظيم قدره، الجليل خطره، والعام نفعه، الباقي في الخير ذكره، لكن صناعة الفلسفة لا تحتمل التسليم للرؤساء والقبول منهم ولا مساهلتهم، وترك الاستقصاء عليهم، ولا الفيلسوف يحب ذلك من تلاميذه والمتعلمين منه كما قد ذكر ذلك أيضاً جالينوس في كتابه في منافع الأعضاء حيث وَّبخ الذين يكلفون أتباعهم وأشباعهم القبول منهم بلا برهان. وكان أكثر ما عزاني وسهل على أن هذا الرجل الجليل لو كان حياً حاضراً لم يلمني على تأليف هذا الكتاب، ولم يثقل ذلك عليه إيثاراً منه للحق وحباً لتقصي المباحث. إلى أن يقول: (وأما من لا منى وجهلني في استخراج هذه الشكوك والكلام فيها فإني لا أرتفع به ولا أعده فيلسوفاً إذ كان قد نبذ سنة الفلاسفة وراء ظهره، وتمسك بسنة الرعاع من تقليد الرؤساء وترك الاعتراض عليهم.
هذا أرسطاطاليس يقول - اختلف الحق وفلاطن وكلاهما صديقان لنا، إلا أن الحق أصدق لنا من فلاطن. وهو يقاومه ويناقضه من أجل آرائه، فقد ناقض أرسطاطاليس في أوضح أجزاء الفلسفة بعد الهندسة الذي هو المنطق يبين غلطه في كثير من المواضع، حتى أنه يتعجب ويقول: لست أدري كيف ذهب على الحكيم هذا المعنى وهو في غاية الوضوح!
وتذكرنا هذه المقدمة بمقدمة أخرى للشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه حكمة المشرقيين وفيها ينتقد فلسفة المشائين.
والذين يتبين من مطالعة هذه المقدمة أن تحولا فكرياً عظيما كان قد طرأ على ابن سينا في(779/22)
أخريات أيام حياته نتيجة المطالعة والدرس، إذ نراه يبدي آراءه دون أن يتقيد بفلسفة المشائين، وبينهما حسب فلسفة اليونان ولو خالفت فلسفة المشائين، أو باينت آراءه التي كان قد أبداها الشيخ نفسه حتى ذلك التاريخ.
وبما أن النمو العقلي والفكري عند الحكماء والفلاسفة وتقدمهم في هذا الباب يشبهان إلى حد كبير تقدم الأطباء المسلمين في العلوم الطبية، أعني أن النسبة بين أطباء عصور النهضة وعهد ظهور التأليف المستقلة، وبين مترجمي الكتب الطبية في العصور الأولى من الإسلام هي نفس النسبة بين مترجمي المؤلفات الفلسفية في العصور الأولى ومترجمي كتب الفلسفة في العصور المتأخرة، أرى أن أذكر لحضاراتكم هنا هذه المقدمة القيمة.
(يتبع)(779/23)
من مغموري العلماء
للأستاذ محمد كرد علي بك
ابن حيان - (بقية ما نشر في العدد 777)
من الحكايات التي ساقها ابن حيان قوله: سمعت إسحق بن أحمد القطان البغدادي بتستر يقول: كان لنا جار ببغداد كنا نسميه طبيب القراء، كان يتفقد الصالحين ويتعاهدهم. فقال لي دخلت يوماً على أحمد بن حنبل؛ فإذا هو مغموم مكروب. فقلت. مالك يا أبا عبد الله؟ قال: خير. قلت: ومع الخير؟ قال: امتحنت بتلك المحنة (القول بخلق القرآن) حتى ضُربتُ ثم عالجوني وبرأت، إلا أنه بقى في صلبي موضع يوجعني هو أشد عليَّ من ذلك الضرب. قال: قلت اكشف لي عن صلبك، قال: فكشف لي فلم أر فيه إلا أثر الضرب فقط؛ فقلت: ليس لي به معرفة، ولكن سأستخبر عن هذا. قال: فخرجت من عنده حتى أتيت صاحب الحبس، وكان بيني وبينه فضل معرفة. فقلت له: أدخل الحبس في حاجة؟ قال: ادخل. فدخلت وجمعت فتيانهم، وكان معي دريهمات فرقتها عليهم، وجعلت أحدثهم حتى أنسو بي؛ ثم قلت: من منكم ضُرب أكثر؟ قال: فأخذوا يتفاخرون حتى اتفقوا على واحد منهم أنه أكثرهم ضرباً، وأشدهم صبراً. قال: فقلت له أسألك عن شيء؟ قال: هات. فقلت: شيخ ضعيف ليس صناعته كصناعتكم، ضرب على الجوع للقتل سياطاً يسيرة؛ إلا انه لم يمت وعالجوه وبرأ؛ إلا أن موضعاً في صلبه يوجعه وجعاً ليس له عليه صبر. قال: فضحك. فقلت: مالك؟ قال: الذي عالجه كان حائكا. قلت: فما الحيلة؟ قال: يُبطُّ صلبه، وتؤخذ تلك القطعة ويرمى بها، وإن تركت بلغت إلى فؤاده فقتلته. قال: فخرجت من الحبس؛ فدخلت على أحمد ابن حنبل، فوجدته على حالته؛ فقصصت عليه القصة. قال: ومن يبطه؟ قلت: أنا. قال: أوَ نفعل؟ قلت: نعم. قال: فقام فدخل ثم خرج وبيده مخدتان، وعلى كتفه فوطة؛ فوضع إحداهما لي والأخرى له؛ ثم قعد عليها، وقال: استخر الله. فكشفت عن صلبه وقلت: أرني موضع الوجع. قال: ضع إصبعك عليه؛ فإني أخبرك به. فوضعت إصبعي وقلت: هاهنا موضع الوجع قال: ههنا أحمد الله على العافيه. فقلت: ههنا؟ قال: هاهنا أحمد الله على العافية. فقلت: هاهنا؟ قال: هاهنا أسأل الله العافية. قال: فعلمت أنه موضع الوجع. قال: فوضعت المبضع عليه فلما أحس بحرارة المبضع وضع يده على(779/24)
رأسه وجعل يقول: اللهم اغفر للمعتصم حتى بططته. فأخذت القطعة الميتة ورميت بها، وشددت العصابة عليه، وهو لا يزيد على قوله: اللهم اغفر للمعتصم. قال: ثم هدأ وسكن؛ ثم قال: كأني كنت معلقاً فأحدرت. قلت: يا أبا عبد الله إن الناس إذا امتحنوا محنة دعوا على من ظلمهم، ورأيتك تدعو للمعتصم. قال: إني فكرت فيما تقول، وهو ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكرهت أن آتي يوم القيامة وبيني وبين أحد من قرابته خصومة. هو مني في حلّ.
ومن حكاياته أيضاً: أنبأنا محمد بن صالح الطبري بالصيمرة، حدثنا محمد بن عثمان العجلي قال: لما حدث شريك بحديث الأعمش عن سالم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإذا خالفوكم فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم؛ فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء. فسعى به إلى المهدي فبعث إلى شريك فأتاه فقال: حدثت بها؟ قال: نعم. قال: عمن رويتها؟ قلت: عن الأعمش. قال: وبلى عليه! لو عرفت مكان قبره لأخرجته فأحرقته بالنار. قلت: إن كان لمأموناً على ما روى. قال: يا زنديق لأقتلنك. قلت: الزنديق من يشرب الخمر ويسفك الدم قال: والله لأقتلنك. قلت: والله لأقتلنك. قلت: أو يكفي الله. قال: فخرجنا من عند فاستقبلني الفضل بن الربيع فقال: ليس لك موضع تهرب إليه. قلت: بلى. قال: فانه أمر بقتلك. قال: فخرجت إلى جبل، فخرجت يوماً أتجسس الخبر فأقبل ملاح من بغداد، فاستقبله ملاح آخر من البصرة؛ فسأله: ما الخبر؟ قال: مات أمير المؤمنين. قلت يا ملاح قرب فقرب.
الماوردي سنة 450
إمام في الفقه والأصول والتفسير، بصير بالعربية، كاتب من الطراز الاول؛ نشأ في البصرة، وتولى القضاء في بلدان كثيرة، وكان شافعي المذهب، وقيل إن فيه عبقة من الاعتزال. صنف كتباً لم ينشر بالطبع منها غير (الأحكام السلطانية) و (أدب الدنيا والدين) و (أعلام النبوة) و (قانون الوزارة)، ومن كتبه الضائعة (الحاوي) في الفقه، قيل لم يصنف مثله. وله تفسير القرآن الكريم، والنكت والعيون، والإقناع في المذهب، وغير ذلك، وعمَّر ستاً وثمانين سنة وسكن بغداد بأخرة.
هذا موجز ما ترجم له المترجمون، وما أثر من كتبه غاية الإبداع في تصنيفه، تظهر فيها(779/25)
شخصيته، وتتجلى تجاربه ومعرفته بأمور الدول، وتاريخ الحركات الفكرية والسياسية في الإسلام. تتمثل الماوردي وأنت تقرأ الأحكام السلطانية عالماً عصرياً قتل الحياة تجربة، وما دَوَّن للناس إلا ما ينفعهم بإيجاز لا خلل فيه، وهو من الكتب التي إذا قرأتها مرة ساقتك بدون نقصد منك إلى معاودة قراءتها؛ بل لو قرأتها مرات شاقتك فتتصفحها مرة ومرة. وحقاً إن هذا السفر الممتع هو مرجع فريد في فنه: كتاب في جرم صغير ونفع غزير. ولو لم يكن غيره من المصنفات لكفي أن يعدّ صاحبه من أعظم المؤلفين المجودين وأنت إذا حدقت النظر في هذا الإبداع تراءى لك أن الماوردي لم يتقن من فنون العلم غير هذا العلم، وإنه شغل بوضعه زمناً طويلاً في حياته، فقد جمع هذا العظيم إلى معرفته الكاملة بشرع الإسلام معرفة توازيها في سياسة الناس، وحسن القضاء بينهم، وقيام الدول ونُظمها. ولقد أفاض في الأحكام السلطانية في الخلافة، وتقليدها، والوزارات وأنواعها، والإمارات والولايات، والقضاء وضروبه، والمظالم والنقابات والجبايات من خراج وجزية وصدقات وحمى وأرفاق وإقطاعات، وكلام على أنواع الدواوين، وأحكام الجرائم والحسبة والمنكرات والمعروفات، وغير ذلك مما له مساس بأحوال المجتمع، وفيه مقنع لمن ادعوا أن المسلمين أيام عزهم كانوا يسيرون على غير قوانين مدونة. وما أشبه كتاب الأحكام السلطانية بالشريعة الإسلامية يصلح لكل جيل وكل قرن، لا يعروه عتق ولا وهن. وأنت كلما أمعنت النظر في صفحاته زدت حرمة لصاحبه، وإعجاباً بما خطته أنامله على القرطاس، ولا نعدو الحق إذا قررنا أن كتاب (أدب الدنيا والدين) هو أيضاً من أمتع ما كتب علماء الأخلاق والتربية، مصادره الكتاب الكريم، والسنة الصحيحة، وأقوال الحكماء والبلغاء، وفيه طائفة من الشعر البديع والنثر المنسجم؛ لو درسه الطالب أجزأه عن المطولات، وكان له مادة يستشهد بها مدى حياته.
وبعد فان الماوردي لا يعدُّ من المكثرين جداً من التأليف، ولكنه يحشر في المجودين جداً فيه؛ فهو نابغة عصره في تطبيق مفاصل الشريعة، واستبطان أسرارها، أتى بجديد ما كان يعرفه الناس، ولا اهتدت إليه القرائح قبله، وأخذ من القديم كل ما ينفع ويرفع، وكان له من توليه القضاء درس حال البيئات الكثيرة ومن طول عمره معوان على تفهم ما قرأ وثقف ودرّس، وتمثل ما روى وروى. وبتفرغ قلبه من هموم الحياة فرغ وقته لنشر أنوار علمه؛(779/26)
فأخذ بمجامع القلوب في حياته ومماته، وكان اعتداله وإخلاصه ما كف الألسن عنه حياً، وخالف عرف أبناء جيله في مسائل اجتهد فيها فتحملوه وما تبرموا به، واكتفى من دنياه بما أعطته فكان خير معلم ومرشد.
ولقد روى في أدب الدنيا والدين شيئاً دل على بعد غوره وفرط دهائه قال: وربما صنع ذا السفاهة من طلب العلم أن يصور في نفسه حرفة اهله وتضايق الأمور مع الاشتغال به حتى يسمهم بالأدباء، ويتوسمهم بالحرمان؛ فإن رأى متحلياً بالعلم هرب منه، كأنه لم ير عالماً مقبلاً وجاهلاً مدبراً. ولقد رأيت من هذه الطبقة جماعة ذوي منازل وأصول، كنت أخفي عنهم ما يصحبني من محبرة وكتاب لئلا أكون عندهم مستثقلا وإن كان البعد عنهم مؤنساً ومصلحاً، والقرب منهم موحشاً مفسداً
وهاك مثالاً واحداً من إخلاصه في قضائه وتحريه للحق: أما أمر الخليفة أن يزداد في ألقاب جلال الدولة ابن بويه لقب (ملك الملوك) لم يُفتِ مع من أفتى بجواز ذلك؛ مع أنه كان من خواص جلال الدولة، فلما أفتى بالمنع انقطع عنه. فطلبه جلال الدولة، فمضى إليه، على وجل شديد؛ فلما دخل قال له: أنا أتحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني لما بيني وبينك، وما حملك إلا الدين؛ فزاد بذلك محلك عندي.
وقال عن نفسه في كتاب أدب الدنيا والدين: ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتاباً جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعا بعلمه؛ حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لواحدة منهن جواباً، فأطرقت مفكراً، وبحالي وحالهما معتبراً؛ فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب. . . أنت زعيم هذه الجماعة؛ فقلت: لا. فقالا: واهاً لك، وانصرفا ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي؛ فسألاه فأجابهما مسرعاً بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه حامدين لعلمه. فبقيت مرتبكا، وبحالتهما وحالي معتبراً؛ وإني لعلي ما كنت عليه في تلك المسائل إلى وقتي. فكان ذلك زاجر نصيحة ونذير عظة تذلل بها قياد النفس، وانخفض لها جناح العبج؛ توفيقاً منحته ورشداً أوتيته. وحق عليّ من ترك العجب بما يحسن أن يدع التكلف لما لا يحسن، فقد نهى الناس عنهما(779/27)
واستعاذوا بالله منهما.
محمد كرد علي(779/28)
نهاية شاعر
للأستاذ علي العماري
كانت ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة في السنة الثالثة والعشرين بعد الهجرة ليلة فاصلة بين عهدين من عهود الإسلام: عهد الأمن والسلامة والهدوء، وعهد الغدر والعدوان والفتنة؛ فقد تنفس صبحها عن حادث جليل، وجناية مروعة اهتزت لها أركان الدولة العربية، وأحدثت في الإسلام الحدث، وأي نازلة أروع من قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؟!
في هذه الليلة ولد لرجل من رجالات قريش طفل أسماه (عمر) وكناه (أبا الخطاب) ذاك أمير العدل والحزم والحكمة، وهذا أمير اللهو والغزل والشعر، لذلك كأن أهل التوقي إذا تذاكروا - فيما بعد - شئون هذه الليلة جرت على ألسنتهم هذه الكلمة (أي حق رفع، وأي باطل وضع)
نشأ (أبو الخطاب) كما ينشأ لذاته من فتيان قريش المترفين يسحب ذيول الصبا، ويجري ملء عنانه في مراتع الهوى والجمال. غنى واسع، وجاه عريض، وعز باذخ، وقد أعانه على ذلك وسامة تحب، وظرف يعشق، ولسان ساحر، وقلب شاعر، وإنما تركه سراة قريش، وأغضى عنه شيوخها، يمتع في مجالي شبابه، ويفتن في ذكر فنونه وفتونه، ويتبع فتياتها، ويشبب بهن (رعاية لأسرته، وفخراً بشاعريته، وترقباً لتوبته)
وربما كانوا يرجعون أن يرفع في الشعر قدرهم، ويعلي فيه سناهم، ولقد نالوا من ذلك ما أرادوا، فإن العرب كانت تقر لقريش بالفضل في كل شيء إلا الشعر، حتى نبغ ابن أبي ربيعة فأقرت لها بالشعر أيضاً.
وكأنما أغرته كل هذه الأسباب مجتمعة، فاندفع لا يلوي على شيء، وسدر في غوايته لا يبالي أحداً، وكان عبثه لا يكاد يتعدى النساء، فهو يواعدهن ويتحدث إليهن ويخدعهن، ثم يودع ذلك كله في شعر قصصي رقيق، وأسلوب لين عذب (وإن له لموقعاً في القلوب، ومدخلا لطيفاً، لو كان شعر يسحر لكان هو). (فلشعر ابن أبي ربيعة لوطة بالقلب، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة، وما عصى الله بشعر قط اكثر مما عصى بشعر ابن أبي ربيعة). وقد جمح به الصبا والغزل، فاتخذ أيام الحج مواسم لصبواته، ومشاعر البيت الحرام مرابع(779/29)
لهواه:
ليت ذا الدهر كان حتما علينا ... كل يومين حجة واعتمارا
وهكذا كان ينظر هو وأترابه لأيام الحج:
تلبث حولا كاملا كله ... لا نلتقي إلا على منهج
في الحج إن حجت وماذا مني ... وأهله إن هي لم تحجج
ما منىً وما أهله إن لم يلق صاحبته؟
ولم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفلتن ذاهوى
وكم مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
نعم كان شعره السحر، يستميل به القلوب، ويستنزل به المتأبى، ويتأنس الشارد، وينزل الأعصم من فنده، وكأنما انفجر له - وحده - ينبوع الشعر الغزِل، فورد منه المنهل الصافي النمير. وليس هناك شك في أن سؤوات الناس، بل وعامتهم أحسوا بالشر يتمثل في شعره، ورأوا رءوس الشياطين تطل من قوافيه، فخافوا على فتياتهم أن يتصباهن هذا العبث، ومنعوا أن تدخل دفاتره البيوت، أو يسمر به مع ربات الخدور، وقالوا: (ما دخل على العواتق في خدورهن شيء أضر عليهن من شعر عمر بن أبي ربيعة). وقال هشام بن عروة: (لا ترووا فتياتكم شعر عمر لا يتورطن في الزنا تورطاً).
غير أن هذا الشاعر يتنصل من كل ما ينسبه إلى نفسه، ويزعم أنه يقول وقلبه مطمئن بالإيمان، ويذيع في الناس.
إني امرؤ مولع الحسن أتبعه ... لا خطر لي منه إلا لذة النظر
وما نلت منها محرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المورد لابس
نجيين نقضي اللهو في غير مأتم ... وإن رغمت مِ الكاشحين المعاطس
ويساير بعض فتيان قريش، وقد تقدمت به السن فيقول له: يا ابن أخي قد سمعتني أقول في شعري: قلت لها وقالت لي، وكل مملوك لي حر إن كنت كشفت عن فرج حرام قط، فيقول الفتى: قمت وأنا متشكك في يمينه فسألت عن رقيقه فقيل لي: أما في الحوك فله سبعون سوى غيرهم.
ويمرض فيجزع أخوه الحارث جزعاً شديداً، فيقول له عمر: أحسبك إنما تجزع لما تظنه(779/30)
بي، والله ما أعلم أني ركبت فاحشة قط
وهكذا يحاول أن يدفع عن نفسه ما وقر في أذهان الناس مما أخذوه من شعره، فيصدقه قوم، ويؤكدون عفته وطهارته، فيذكر بعض الرواة أن عمر عاش ثمانين سنة فتك منها أربعين سنة، ونسك أربعين سنة. ويروي صاحب الأغاني عن الزبير بن بكار قال: (لم يذهب على أحد من الرواة أن عمر كان عفيفاً، يصف ويقف، ويحوم ولا يرد). ويكذبه آخرون، ويجابهونه بهذا التكذيب، ويعتمدون فيما يعتمدون على اعترافه على نفسه في بعض الأحايين، وتشك طائفة ثالثة في مبلغ قوله من الصدق حتى معاصروه أنفسهم لا يطمئنون إِلى شيء من هذا.
ولاشك أنه بذلت محاولات كثيرة لرده عن غوايته، وصرفه عن حياة اللهو والعبث. ويبدو أن شيئاً منها لم يفلح، وأن الأمر كان كما يقول عبد الملك بن مروان: (أما أن قريشاً تعلم أنك أطولها صبوة، وإبطاؤها توبة).
وفي بعض الروايات أنه تاب على حدود الأربعين، ونذر لئن قال بيتاً ليعتقن به رقبة، ثم انصرف إلى بيته مهموماً مكتئباً، وربما مكث على هذه التوبة أياماً، لكن الحنين عاوده، والشوق إلى الشعر استبد به، فأطرق وفكر، فأدركت جارية ما بنفسه من أسف على توبته فقالت له إن لك لأمراً، فاندفع يقول شعراً، فكان تسعة أبيات، فأعتق تسعة من عبيده، وفي هذا الشعر يقول:
تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أقصرت حينا
أراك اليوم قد أحدثت شوقاً ... وهاج لك الهوى داء دفينا
وكنت زعمت أنك ذو عزاء ... إذا ما شئت فارقت القرينا
فقلت شكا إلى أخ محب ... كبعض زماننا إذ تعلمينا
وذو القلب المصاب وإن تعزى ... مشوق حين يلقي العاشقينا
ولعل أخاه الحارث - وكان ديناً عفيفاً لم تلد أمة خيراً منه كما يقول عبد الملك - كان أكثر الناس وعظاً له، وربما حاول غير مرة أن يكبح جماحة، ويصرفه عن صويحباته، وربما بذل في ذلك غاية وسعه، وأفرغ له كل جهده، ولكنه لم يفلح أيضاً؛ وعاد يقول: (ما أرى عمر ينتفع بوعظنا) أغراه بالمال، وبعث به إلى اليمن حيث أخواله، رجاه أن يثوب إلى(779/31)
رشده، ويقلع عن أباطيله إذا فارق هذه البسمات الوضاء، وترك تلك الوجوه الصِّباح التي ألفها وألفته، ولكن الحنين يراجعه، والشوق يعاوده، إلى صاحبته الثريا فيقول:
هيهات من أمة الوهاب منزلنا=إذا حللنا بسِيف البحر من عدن
لا داركم دارنا يا وهب أن نزحت ... نواك عنا ولا أوطانكم وطني
فلست أملك إلا أن أقول إذا ... ذكرت لا يبعدنْكِ الله يا سكني
بل ما نسيت ببطن الخيف موقفها ... وموقفي وكلان ثم ذو شحن
وقولها للثريا يوم ذي خشب ... والدمع منها على الخدين ذو سنن
بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في يمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن
وهكذا يعتذر بغير العذر، ويتكئ على غير عصاه، وإلا فما لهذا الفاتك والحج يتعلل به، ويتباكى على فوته؟!!
ومهما يكن من أمره فإن طول نظري قيما أحاط بأخريات حياته يقضي على أنه نسك، ولكنه لم ينسك استجابة لوعظ واعظ، ولا خضوعاً لإرادة مريد، وإنما رأى الستين نقلت على كاهله، والسن تخونته، وغزلان الحجاز تنفر منه، بعد أن انطفأت جمرة شبابه، وخمد مشبوب عاطفته، فماذا يصنع؟ هربت منه اللذات، وتنكرت له الصبابات، فليمل إلى جنب الله، وليستجب لداعي التوبة، وهو يرى الموت على حبل ذراعه، وينظر قبره قد حفر، وإنها لفرصة قد انتهزها، لما تولى عمر ابن عبد العزيز الخلافة بعث إليه فلما جاءه قال له: هيه:
(فلم أر كالتجمير منظر ناظر) وذكر له البيتين اللذين ذكرناهما آنفاً، ثم قال: فإذا لم يفت الناس منك في هذه الأيام، فمتى يفتلون؟ أما والله لو اهتممت بأمر حجك لم تنظر إلى شيء غيرك؛ ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين أو خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: إنما هو الله ألا أعود إلى مثل هذا الشعر، وأجدد توبة على يديك. قال: أو تفعل؟ قال: نعم. فعاهد الله على التوبة
والذين يؤكدون أن عمر تاب رهبة من خليفة المسلمين يجهلون كل الجهل طبائع النفوس إذا عمرت، فإن الرجل مهما أسرف على نفسه، فسيجد من تقدم سنه ما يوحي إليه بالإنانة(779/32)
إلى الله، ولاسيما إذا كان ما تصبو إليه نفسه غير ممكن، ويجهلون كذلك مكانة ابن أبي ربيعة في قريش، وأنه أرفع - لو أراد - من أن يخضع لتهديد خليفة. وكيف هو الذي شبب ببنات الخلفاء وأخواتهم؟
ورواية أخرى تحدثنا أنه مد خطوه إلى أبعد من ذلك، فإنه عرض على الخليفة يغزو في البحر، وكأن الله أراد به الخير، فمات شهيدا. قال عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (فاز ابن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة؛ غزا في البحر فأحرقوا سفينته فاحترق)
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان(779/33)
اللقيطة
للأستاذ حسني كنعان
إن هذه الوليدة التي أولدها (ترومان) بالأمس معترفاً بصراحة نسبها، وسماها أهلوها (دولة إسرائيل) ما كادت تتلقفها أيدي القابلات الآسيات حتى تلففتها يد عزرائيل وخنقت في مهدها قبل أن تهبط الأرض وتتفتح عيناها للنور وتستنشق النسيم، حتى أن بعض أعضاء مجلس الأمن من المحبذين لها اضطروا إلى استبدال هذا الإسم تحت تأثير ممثل سورية العلامة الداهية الأستاذ فارس بك الخوري، فأطلقوا عليها (السلطات اليهودية)، وبهذا التأثير وهذه الحملة الصادقة قضى على أحلام اليهود ودفنت آمالهم، وبات من المحقق أن يبحث لها مولدوها عن قبر بدلا من هذا المهد الذهبي الذي كان ينتظرها طوال هذه السنين تمخضت بها. وهكذا شأن كل وليدة لقيطة غير صريحة النسب، فاعتراف بعض الدول الموالية لأهلها بها لم يفت في سواعد العرب المناضلين المكافحين عن عروبة الديار التي يراد إقامة المهد فيها، ولم يفل من عزائمهم ومضائهم. إن الأمة العربية جمعاء من أقصى حدود النيل إلى تهامة فنجد فاليمن فإلى الغوطتين وشواطئ فينيقية فإلى مياه الرافدين والأردن كلها هبت هبة رجل واحد وبقلب واحد شاهرة الحسام في وجه هذه اللقيطة الباغية، وفي وجه كل من لف لفها أو والاها أو قال بقولها، ولن تتراجع عن تصميمها ما لم يكتب لها النصر - بإذن الله - أو الموت والإبادة - لاسمح الله ولاقدر -!
وليست الأمة العربية وحدها هي التي ستكون حائلا دون تحوي وتقوي هذه اللقيطة الأفعى، بله جميع الأمم الشرقية التي تتاخم حدود أراضيها للبحر الأبيض المتوسط، ستكون عوناً للعرب على خنق اللقيطة وعدم السماح لها بالظهور والبقاء. وستقف بجانبها دول أوربية لها ضمائر تساند العرب في حقهم. وسوف لا تتكرر مأساة التصويت على التقسيم مرة ثانية، لأن الدول بدأت تتراءى لها مناورات البيت الأبيض والكرملين، وبدأت تنظر إلى القضية الفلسطينية العادلة بغير النظرة التي كانت تنظرها يوم عرضت على التقسيم والتصويت. .
حتى أن الشعب الأمريكي جله إن لم نقل كله ناقم على سياسة حكومته لتحيزها لجانب دون آخر لأن الأوربيين والأمريكيين وإن كانوا لا يمتون إلى العرب بصلة أو نسب، فإن(779/34)
بعضهم (عندهم ضمائر). . . ودليلي على ذلك حادثة المستر كارلتون عميد الكلية الأمريكية في الشهباء وقنصل أمريكا الفخري، والحديث الذي دار بينه وبين المحافظ الأستاذ عادل العظمة الذي جاء فيه أن اعتراف المستر ترومان بالدولة اليهودية (التي ولدت ميتة) لا يعبر عن وجهة نظر الشعب الأمريكي، وهو يعبر عن رأيه بمفرده. . . وإن جميع الأمريكيين يعرفون مكر اليهود وخداعهم ومقدرتهم على اشتراء الضمائر والأصوات والتلاعب بالعواطف ببذل الأموال وبذل أشياء أخر.
ثم قال العميد: (إن الأغلبية في الشعب الأمريكي تشجب عمل ترومان وتمقته، وسيظهر أثر ذلك في الانتخابات الآتية، حيث ينتظر أن يسقط فيها هذا الصهيوني الأول سقوطاً مربعاً ما بعده من سقوط. . .)
فرد عليه المحافظ شاكراً له هذه العواطف الفياضة نحو العرب وقضيتهم العادلة. وقال فيما قاله: يحق للسوريين أن يدهشوا كل الدهشة لموقف الشعب الأمريكي النبيل الذي لم تمت فيه الضمائر ولم تبلغ منه الغايات، فالسوريون قاطبة يقدرون مزايا الإخلاص والحرية والعدالة في الشعب الأمريكي الذي لهم بينه جاليات ومؤسسات، وما من أحد ينكر فضل الدنيا الجديدة على المدنية والحضارة. ولأمر ما صوت السوريون للأمريكيين مفضلهم على جميع أمم أوربا يوم عرض عليهم الانتداب عام 1920، عندما أبصروا أن لابد من انتداب دولة ما من الدول الحليفة عليهم)
وكان لكلمة عطوفة المحافظ التأثير الحسن لدى العميد الأمريكي، ذهب بعدها شاكراً، مودعاً بمثل ما استقبل، وهذا دليل قاطع على نقرة الشعوب الحرة من سياسة حكوماتها، ومقت الصهيونية المتجنية الآثمة العاتية.
فالأمة العربية بأسرها لا يرتضى واحد من رجالاتها المسئولين ان يمثل الدور الذي مثله من قبله أبو عبد الله الصغير فيستحق لعنة الأحفاد كما استحقها ذلك الخليفة (الضعيف الإرادة).
وإنما يريد كل واحد منهم أن يمثل ذلك الدور الذي مثله المعتصم العباسي، فيلبي نداء الفتاة العربية السبية في فلسطين، كما لباها ذلك الخليفة بعمورية.
وبهذا يصبح كل عربي في نفسه معتصما، فلا يتخلف أحد عن إجابة النداء والواجب. إن(779/35)
في تقديم الدم كما فعل طلاب المدارس العليا بدمشق، وذلك بتقديم دمائهم لجرحى المجاهدين، وهي أقصى ما يملكونه، أو في المال أو في التضحية بكل ما يمتلكون
إن هذه الجيوش العتيدة الزاحفة إلى ساحات الجهاد في الأراضي المقدسة، أولى القبلتين، لتطهيرها من أرجاسها وأنجاسها تخوض اليوم هناك مع شذاذ الآفاق معركة الموت أو الحياة، وهي لن تتراجع عن تصميمها - كما جاء سابقاً - ما لم يكتب لها الظفر بدفن اللقيطة وأهلها. . . وما غلب قوم عن قلة إن كانوا متساندين متعاضدين، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء من عباده، وهو جدير بمنحه للمؤمنين. . .
وإن مصر وهي المتبنية لهذه الحركة التحريرية نظراً لنمو نواة الجامعة العربية في واديها وعلى ضفاف نيلها السعيد، لن يعجزها المال والرجال، وتكتل الشعوب العربية في ظليل راياتها لمتابعة هذه الحركة حتى النصر النهائي، فإما رايات خفاقة إلى الأبد، وإما ميتة شريفة - لا قدر الله - وحياة خالدة عامرة بالجهاد والمفاخر. . .
وليست هذه هي المأثرة الأولى التي حفزت هذا القطر الشقيق إلى تبني قضايا العرب، وهو مأثرة من مآثر لا تزال مائلة للعيان في الزحف المصري لإقامة الدولة العربية الكبرى في ظل ساكن الجنان جد الأسرة العلوية محمد علي باشا وولده إبراهيم. . .
(دمشق)
حسني كنعان(779/36)
في أخريات الشباب
للأستاذ حسين الظريفي
أصبحت لا غضا ولا ذاويا ... أحيي شباباً لم يعد ذاهيا
مالت إلى المغرب شمس له ... كان الضحى أمس بها ضاحيا
لقد مضى عهد الصبا وانقضى ... مقتضيا أوطاره قاضيا
إذا تذكرت احايينه ... كنت به القصة والراويا
يا حُسن أيام بصدر الصبا ... لم يبق منها الدهر لي باقيا
كانت بها لي ميعة من صبا ... أسحب من أذيالها الضافيا
تغفل عيني عين دهري إذا ... ما رحت فيها لاعباً لاهيا
لا أحسب الشمس سوى غادة ... تستأسر الحاضر والباديا
دانية منا على نأيها ... يا رُب ناء لم يكن نائيا
إذا أطلت من عل لم تدع ... شيئاً على وجه الثرى خافيا
كانت ترى مني أخا غفلة ... عما جرى أو لم يزل جاريا
طفلا ترى في جنبات الحمى ... لم يرى أهلوه له ثانيا
وطالما كانت على دجلة ... تبصر مني كاتبا ما حيا
ألبس من أنوارها حلة ... لا تعدم العاطل والحاليا
وقد أظل الصبح مستدفئاً ... من شدة البرد بها شاتيا
ولا تغيب الشمس حتى أرى ... عنها بديلا ولها قافيا
وربما مر سحاب بها ... فاتخذت منه لها واقيا
تبدو نجوم الليل من بعدها ... مبدية ما لم يكن باديا
أطمع أن تطرح في راحتي ... ولو بذلت الثمن الغاليا
وما لعينيَّ هلال بدا ... إلا وأعجبت به رائيا
أحسبه من فضة زورقا ... من الحبيبين جرى خاليا
والبدر يهدي الليل من نوره ... ما لم يعد ليلا به داجيا
لم ألفه للشمس إلا أخا ... كان وما زال لها تاليا(779/37)
وكلما مر نسيم الصبا ... مر بجنبي رائقا صافيا
ولم يزل دهري بي ماضيا ... لا تعبا يوما ولا وانيا
حتى انجلى شرخ شبابي به ... مستهديا مهتديا هاديا
يبسط من راح الهوى راحة ... ولم يكن من راحة صاحيا
إذا دعته للعلى دعوة ... أدرك فيها المثل العاليا
شرخ شباب ما تذكرته ... إلا وقد عدت له ثانيا
يحضرني معتملا آملا ... ورائحاً في يومه غاديا
صاحبت مذ صاحبته مهجة ... تفتح الحب بها ناميا
ثم استوى فيها على سوقه ... ثم تبدى زاهراً ذاهيا
ثم انثنى يعطي الجنى عن غنى ... يشبع من كان به طاويا
غذيت آدابي بأثماره ... وما يزال الطاعم الكاسيا
سقيا لشرخ من شباب مضى ... ما كنت في يوم له ساليا
أصبح أبياتاً يغني بها ... فتطرب السامع والشاديا
حليت ديواني بها قائلا ... لولا حلاها لم يكن حاليا
لم تبقى عندي من شبابي سوى ... بقية لست لها باقيا
ولست بالجاهل ما في غد ... ولو على الناس بدا خافيا
كأنني بالشيب في لمتي ... أوقد ناراً وانتضي ماضيا
لا يترك الدهر له صاحبا ... حتى يرى شيخاً به فانيا
ذان الجديدان يجدان بي ... ولا يجددان لي باليا
فلا أطاش الله لي رمية ... كنت عليهما بها راميا
حسين الظريفي(779/38)
الأدب والفنّ في أسبُوع
عاصفة بولندية حول (بانت سعاد):
لأول مرة تقع في يدي - من بريد الرسالة - (النشرة الإخبارية)
للمفوضية البولونية بالقاهرة، وثبتت عيني بها على موضوع أخذ نحو
صفحتين منها، جعل عنوانه (خطاب مفتوح إلى الدوائر العلمية: كعب
بن زهير بين وارسو والقاهرة - قصة مخطوط عربي قديم)
وتتلخص القصة كما رونها النشرة في ان مستشرقين يملكان نسختين خطيتين لقصيدة (بانت سعاد) لكعب بن زهير، وهذان المستشرقان هما البروفسور كوفالسكي البولندي، والدكتور فيشر الألماني؛ أما فيشر فقد أهدى نسخته إلى دار الكتب المصرية، وأما كوفالسكس فهو يعمل منذ ثلاثين عاماً في تصحيح المخطوط وإعداده للنشر، وأبلغ المستشرقين بشروعه في العمل (كما أعلن احتفاظه بحق الأسبقية في هذا العمل) ولما شرع في طبع الكتاب جاءت الحرب فتوقف نشر الكتاب وما كادت تنتهي حتى استألف عمله، وأتم طبع الكتاب. وفي يناير سنة 1948 بلغ كوفالسكي أن دار الكتب المصرية في سبيل إعداد المخطوط الذي لديها للنشر معتمدة في ذلك على ما تركه لها فيشر، فأرسل إليها كتاباً (يعرب فيه عن رأيه في أن قيام دار الكتب بإعداد مخطوط انتهى طبعه بالفعل، مضيعة للوقت وإسراف في الجهد والمال، وأن من المصلحة العلمية توحيد الجهود والاقتصار على ما أتمه بالفعل) ولما لم يتلق رداً على هذا الكتاب أرسل إلى المفوضوية البولندية بالقاهرة لتتصل بدار الكتب في هذا الشأن، فكتبت المفوضية إلى الدار تسأل عن حقيقة هذا الموضوع، فلم تتلق منها رداً (فأرسلت أحد موظفيها في يوم 17 مارس 1948 فقابل حضرة مدير دار الكتب الذي أبلغه صحة ما وصل إلى علم البروفسور كوفالسكي، وأن الأستاذ أحمد زكي العدوي رئيس القمص الأدبي في الدار يقوم في الوقت الحاضر بإعداد المخطوط وأنه أنجز نصفه تقريباً. ووعد حضرة مدير دار الكتب ممثل المفوضية بإرسال رد رسمي إلى المفوضية بوجهة نظر الدار، ولكن لم يصل هذا الرد إلى المفوضية).
ثم ختمت النشرة الموضوع بقولها: (ولما كانت مهمة المفوضية هي حماية حقوق المواطنين(779/39)
البولنديين، ولما كانت المفوضية حريصة كل الحرص على تجنب أي شائبة تشوب العلاقات الثقافية بين بولندا ومصر والعالم العربي، فإنها تنشر هذه القصة لتحيط المهتمين بالأمر بأسبقية البروفيسور كوفالسكي في هذا العمل العلمي، وهي ترجو مخلصة في أن يوفر الآخرين (كذا) الجهد والمال الذي يبذل لإنجازه بالفعل).
وأول ما يسترعي النظر في هذه القصة هو اشتغال المستشرق كوفالسكي بتصحيح قصيدة (بانت سعاد) منذ ثلاثين عاماً، وحرصه على إعلان أسبقيته في إخراجها وطبعها، مع أنها غير محتاجة إلى كل هذا الجهد، ومع أنها كما قال جورجي زيدان في آداب اللغة العربية (طبعت مراراً بمصر وأوربا وشرحها كثيرون منهم ابن دريد والتبريزي وغيرهما في العصور المختلفة إلى الآن، ومن الأصل والشروح نسخ كثيرة في مكاتب برلين ولندن والاسكوريال ومصر وغيرها).
والظاهر أن المخطوط الذي طبعه كوفالسكي هو ديوان كعب ابن زهير وفي جملته قصيدة (بانت سعاد) وأن املوفضية البولندية لم تفهم عنه تماماً، ويدل على هذا أيضاً أن النسخة التي أهداها فيشر إلى دار الكتب المصرية (والتي تقول النشرة إنها مثل نسخة كوفالكسي) هي مخطوط جامع لشعر زهير بن أبي سلمى وابنه كعب، وقد وصفه فيشر في كتابه المصاحب للمخطوط، إلى مدير دار الكتب المصرية (وكان إذ ذاك الدكتور منصور فهمي) بقوله: (يحوي هذا المخطوط القديم ديوانين من الشعر العربي القديم، أحدهما للشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمى والآخر لإبنه كعب بن زهير شاعر (البردة). وسبق أن قلت لكم: إن من رأيي أن هذا المخطوط القديم جدير بأن يصور تصويراً شمسياً وأن تضم النسخة المصورة إلى مجموعة المخطوطات التي بدار الكتب المصرية. كذلك جدير بأن يصدر في طبعة منقولة عن هذه النسخة المصورة. واليوم لازالت عند رأيي هذا وعلى أي حال فديوان كعب بن زهير جدير بهذا، لأنه لا يعرف له نسخة ثانية. وهذا سبب عدم نشره حتى الآن ما عدا البردة) وقد نشر هذا الكتاب في صدر (ديوان زهير بن أبي سلمى) الذي أخرجته دار الكتب المصرية والذي قالت في أول مقدمته: (هذا ديوان زهير بن أبي سلمى، وسيليه في النشر ديوان ابنه كعب. ولم يعرف شعر كعب مجموعاً في دوان قبل ذلك وسنشرع في إخراج شعر كعب عقب ظهور هذا الديوان الجامع لشعر زهير وقد(779/40)
اعتزمت الدار نشر هذين الديوانين بعد أن اهتدت إلى مخطوط جامع لشعرهما محفوظ بمكتبة الجمعية الشرقية الألمانية بمدينة هلة يرجع تاريخه إلى سنة 533 هجرية).
ودار الكتب تعمل الآن فعلا في إخراج ديوان كعب بن زهير، وقد تولى إتمام تصحيحه الأستاذ عبد الرحيم محمود بعد وفاة الأستاذ زكي العدوي في أوائل مايو الفائت، وقد أوشك الأستاذ عبد الرحيم علي الفراغ منه، وستصدره الدار قريباً. ومما يذكر أن الأستاذ الميمني الهندي عثر في استامبول على مخطوط لديوان كعب بن زهير مع شرح له، وأرسله إلى دار الكتب لطبعه، فوجدت الدار أن شرح مخطوط فيشر (وهو للسكري) أو في من شرح مخطوط الميمني (وهو للاحول) ومع ذلك فهي تستفيد من شرح الأحوال في تصحيح المحرف من شرح السكري وغير ذلك.
ومن غيريب الاتفاق أن المستشرق كوفالسكي توفى في أول مايو الماضي فقد نشرت المفوضية البولندية نبأ وفاته في نفس النشرة التي فصلت فيها الموضوع الذي نحن بصدده، وغرابة الاتفاق أنه توفى في الأسبوع الذي توفى فيه الأستاذ زكي العدوي. .
وقال لي الأستاذ مرسي قنديل مدير دار الكتب المصرية: جاء إلى موظف مصري بالمفوضية البولندية، وكلمني في هذا الموضوع، وعرض على ملازم من علم المستشرق كوفالسكي في ديوان كعب نب زهير فوجدتها تختلف عن عملنا في بعض النواحي فمنهجه يفيد المستشرقين أكثر مما يفيد القارئ العربي بخلاف منهجنا الذي يتجه إلى تحقيق الفائدة الكاملة للقارئ العربي، على أننا ننشر ديوان كعب بن زُهير تنفيذاً للبرنامج الموضوع لإحياء آدابنا العربية، ولنا في ذلك طريقتنا وجهودنا الخاصة، فهل نقطع العمل في إخراج كتاب لأن أحداً ما أبلغنا أنه أخرج هذا الكتاب؟
وبعد فماذا تريد المفوضية البولندية؟ إنها تذكر أمرين: (حماية حقوق المواطنين البولنديين) و (الحرص على العلاقات الثقافية بين بولندا ومصر والعالم العربي) فما هو حق المواطن البولندي الذي طبع كتاباً تطبعه دار الكتب المصرية؟ إن كانت تريد إعلان سبقه فلم يعتد أحد على هذا الحق؟ وإن كانت تبغي النصح لنا بادخار الجهد والمال وعدم بذلهما في علم تم مثله كما قالت، فنحن أدرى - مع الشكر - بتقدير قيم العمل في خدمة أدبنا، ولا أريد أن أظن أنها ترمي إلى عدم المنافسة في بيع نسخ الديوان. .(779/41)
أما (العلاقات الثقافية) فإن الأمر لا ينبغي أن يمسها بسوء. . . وهو على كل حال أهون من حادث السفينة البولندية في مياه تل أبيب، ومن تأييد بولندا قيام دولة يهودية بفلسطين فإذا كان هذا وذاك لم يؤثرا في العلاقات السياسية فإن ديوان كعب بن زهير سيمر هو أيضاً بسلام.
دعاء جديد:
وضع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي شيخ الجامع الأزهر دعاء، ليقنت به المسلمون في صلاتهم، نصه:
(اللهم انصرنا فإنك خير الناصرين، وثبت أقدام عبادك المجاهدين، واضرب بسيوفهم أعناق أعدائك الباغين، وأنزل سكينتك على قلوب المؤمنين، وأيدهم بنصر من عندك مبين، يا أرحم الراحمين، وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)
وقد ألف فضيلته هذا الدعاء لمناسبة الحال الحاضرة، حال القتال في فلسطين، وفضيلته يعلم أن المجاهدين في فلسطين لا يحاربون بالسيوف، ولو أن السيوف كانت أسلحتهم لما طالت أعناق أعداد الله الباغين، فدونها إذن حقول الألغام ومرامي المدافع ومساحب الدبابات والمصفحات.
وذلك الدعاء - ولاشك - تجديد، فقد ألفه شيخ الأزهر زيادة على الدعاء المأثور، ولكن التعبير بالسيوف لا يتلاءم مع هذا التجديد، فهلا قال فضيلته بدلا من ذلك:
(واضرب بقاذفات قنابلهم مستعمرات الصهيونيين، ودك بدباباتهم ومدافعهم حصون الباغين، واجعل ألغام الأعداء برداً وسلاماً على عبادك الفدائيين).
أغنيات قومية:
قالت إدارة الإذاعة إنها عنيت منذ بداية الحرب واشتراك الجيش المصري فيها، بتقديم برامج حماسية لتقوية الروح القومية وإن المطربين بها اتجهوا بوحي من شعورهم، وبتوجيه في إدارة الإذاعة، إلى هذا الغرض مما أضفى على برامجنا لوناً جديداً لم يكن مأوفاً منذ وقت طويل.
قرأت هذا الكلام في مجلة الإذاعة، ثم سمعت مطرباً يغني إحدى الأغنيات التي وصفتها(779/42)
الإذاعة بأنها قومية، سمعته يردد:
ما نفوتش مطرحنا ... إحنا العرب إحنا
وسمعت مطربة تغني أغنية (قومية) أيضاً مطلعها:
عايز أعيش عايز اتهنى ... عايز أشوف نفسي في جنة
فهل قصارى جهادنا أننا (ما نفوتش مطرحنا)؟ وهل يُضفي الذي (عايز يتهنى) لوناً جديداً على برامج الإذاعة. .؟
فرحة النصر:
كنت قرأت إعلاناً عن ظهور ديوان شعر منثور اسمه: (وحي القيثارة) لزينب محمد حسين. ولم يتح لي بعد أن أقرأ هذا الديوان، ولكني قرأت لصاحبته بالعدد الأخير من جريدة الحوادث قصيدة عنوانها (فرحة النصر) قالت فيها:
(إن حبيبي الشجاع في سبيل الحق قد ذهب بعيدا. . .
تحرسه عين الله ودعوات قلبي الشاب. . .
وتهتف له ملائكة السماء هتافات الحب وتباركه. . .
غداً تعود إليَّ يا بطلي الحبيب مكللا بأكاليل النصر. . .
وفي عينيك نظرة مشرقة جذابة. . .
تتحدث عن بطولتك وجهادك. . .
وبسمتك الرقيقة تزيدها شجاعتك فتنة وجمالا. . .
وصوتك الهادئ المعبر. . يضفي بكلماتك المتحمسة على رجولتك قوة ومهابة. . .)
لم أستطع أن أخفي ارتياحي إلى هذا المسلك الشعري وإن يكن في أول الطريق، فهذه الشاعرة تحس بما حولها، وتؤدي مشاعرها هذا الأداء السليم الصادق الذي ينم على شخصية الأنثى وحسن تقديرها للبطولة.
وإذا كنا قد اغتبطنا بالمقاتل الشجاع في فلسطين فإنا نغتبط أيضاً بشاعرة تحدثه هذا الحديث. . .
مسابقة أدبية ثقافية:(779/43)
قررت وزارة المعارف تنظيم مسابقة أدبية ثقافية، تمنح للفائزين فيها جوائز مختلفة، وهي كما يلي:
1 - تمثيليات قصيرة للمسرح المدرسي، وقيمة جائزتها الأولى أربعون جنيهاً للتمثيلية ذات الفصل الواحد، وسبعون جنيهاً لذات الفصلين؛ وقيمة الجائزة الثانية ثلاثون جنيهاً لذات الفصل الواحد، وخمسون جنيهاً لذات الفصلين.
2 - تمثيليات قصيرة للاذاعة المدرسية، وجائزتها الأولى ثلاثون جنيهاً، والثانية عشرون جنيهاً.
3 - المسرحيات العامة، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.
4 - القصة الطويلة، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.
5 - القصص القصيرة، وجائزتها الأولى خمسة وعشرون جنيهاً، والثانية عشرون جنيهاً.
6 - بحوث أدبية وفنية، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.
7 - بحوث في التاريخ والآثار، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.
8 - الرحلات، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.
9 - العلوم المبسطة، وجائزتها الأولى مائة وخمسون جنيهاً، والثانية مائة جنيه.
الباطن غير الواعي:
عقب الأديب (عثمان موسى) على فقرة مما كتبته في تلخيص محاضرات تيمور، تقتضي تفريقاً بين العقل الباطن والواعي - قال: (والمفهوم أن الباطن والواعي اسمان لمسمى واحد).
ويظهر أن هذا الفهم مستقر عند الأديب في عقله الباطن، وكان في حاجة إلى مراقبة من عقله الواعي. .
من قال لك يا سيد عثمان إن الباطن والواعي اسمان لمسمى واحد؟!. .
العباس(779/44)
رسَالة النقد
على هامش كتاب:
سعد زغلول من أقضيته
(إلى القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات تحية شكري
وإعجابي)
للأستاذ عدنان الخطيب
خسارة:
عرف الشاب (العمل الحكومي) صغيراً، عرفه في أبشع صورة وفي أجملها، عرفه يوم كان (راتبه) يملأ جيبه وكلتا يديه، عرفه جميلا في مظهره ومكانته عند الناس، ولكنه عرفه قبل كل شيء سماً قاتلا يميت المواهب، ويقضي على ما في النفس الأبية من عزة وكرامة، عرفه قيداً في عنق صاحبه، يحد من نشاطه ويقيد من حركاته، ومايزال يضيق حوله حتى تنفلج أعصابه وتنشل حركته، ثم لا يكون إلا كالقبر لا هواء فيه ولا نور، ولا حيلة لمن فيه إلا انتظار يوم البعث والنشور، يوم الإحالة على (المعاش) والاعتكاف في البيت شيخاً أحنت الأيامه عظامه، وتصلبت منها شرايينه، ينتظر يومه الأخير، كما كان ينتظر آخر الشهر يوم القبض ووفاء الديون.
نعم عرف الشابق (الوظيفة) وخير حقيقتها فجزع من مصير كمصير أربابها، وهو الذي شرب لنا الكرامة والأنفة رضيعاً، وعشق الحرية وجوّها يافعاً، ثم كان جريئاً بفطرته وولائته، لا يعرف كبيراً لا يقال الحق في وجهه، ولا يعترف بفضل لمن لم يكن من أهل الفضل ولا الفضيلة من صفاته، جزع من أن تطول أيامه فيها فتخف قدرته على الانفلات من أسارها، فتركها غير آسف عليها، ثم ساح في الأرض ليزيد في علومه وتجاربه، ويرضى ضميره وطموحه، وعاد يعمل حراً طليقاً في المهنة التي ارتضاها لنفسه وأحب العمل فيها على منهج رسمه بنفسه، وأسلوب يتفق وآماله ومبادئه.
بدأ الشاب يعيش العيشة التي كان يهواها ويصبو إليها، وأخذ يملأ أوقات فراغه بتدوين(779/45)
ذكرياته ورحلاته، وكان (للوظيفة) وقصص (الموظفين) حظ منها عظيم. لقد فضح شيئاً من حياتهم والجو الذي يعيشون فيه، وحلل نفسية (الموظف) تحليلا ليس فيه رفق ولا محاباة، وإن كان فيه بعض العطف وكثير من الشفقة. قرأ الناس بعض ما نشر من هذه المذكرات فعجبوا منها واستغربوا ما فيها. أضحك بها بعض زملائه القدماء، وأبكى الكثير منهم على نفوس أفسدها جو (الوظيفة) وحياة خسروا فيها أثمن ما في الحياة، خسروا فيها حرية التفكير، ولذة الانطلاق من القيود.
هذه هي قصة الشاب الذي خسر اليوم حرية (المحامي) التي أحبها، وجو (المحامات) الذي عاش فيه طلقاً عاملا على تحقيق رغباته العلمية، وبلوغ أهدافه الثقافية.
أليس من الغريب أن يخبرك هذا الشاب بنفسه أنه ترك اليوم مهنته ليقوم (بعمل حكومي) كلف به، وهو الذي رفض قبله عدة مرات تكليفاً له في (الوظائف) الهامة قيمته، وفيه تقدير لدراسة عالية أضافها إلى دراسته القانونية. إن قائداً من قواد الجبهة الوطنية ومعلماً من معلمي الإخلاص والنزاهة يدير اليوم وزارة العدل في سورية، يطلب من الشاب أن يؤدي (خدمة مدنية) في جبهة (القضاء) الوطنية فيحار الفتى ويكاد يرفض لولا أن ثقة الطالب ثقة غالية نادرة لا تباع ولا تشترى بمال، ولولا أن مقر (الخدمة) في (جبهة) لا ذل فيها ولا صغار، ولا يخرج من فيها إلا ظافراً منتصراً مادام ناصع الجبين و (سلاحه أبيض) لا يعرف صدأ الأيام، ولم تلوثه (رغبة أو رهبة)؛ نعم كاد يرفض لولا أنه ما يزال يشعر بقوة ومناعة يستطيع معها دفع ما وضع على عاتقه يوم يجد فيه أعراض (الوظيفة) أو شيئاً من سمومها الفتاكة.
من غرائب المصادفات:
للمصادفات في هذه الحياة أثر عظيم، ولغريبها تاريخ يدون ويقرأ، وجميلها من النوادر التي تذكر وتنشر، فإن في ذكرها متعة ولذة، وإن في نشرها اعترافاً بجمالها وتقديراً لموقعه من النفس الشاعرة المقدرة.
لقد أخرج القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات كتابه القيمة عن القاضي العظيم سعد زغلول سنة 1942، وقد أحب يوم عقد مؤتمر المحامين العرب في دمشق التلطف بإهدائي نسخة منه لو وجد معه من الكتاب نسخة، ثم عاد الأستاذ الصديق إلى مصر وانقضت على(779/46)
عودته بضعة أشهر عمل فيها على ما يظهر، على إخراج كتابه الظريف (من يوميات محام) وما كادت الصحف تعلن خروج الكتاب إلى الأسواق، حتى سارعت إلى إرسال من يقتني لي نسخة منه، ويعود الرسول يخبرني على لسان بائع الكتب، أن الكتاب لم يصل بعد إلى دمشق. وتشاء الصدف أن يدخل إلى مكتبي ساعتئذ ساعي البريد يحمل إليَّ رزمة مصدرها مصر، ففضضت غلافها، فإذا هي كتاب (سعد زغلول من أقضيته) موشحاً بإهداء يدل على رقة في الشمائل، وكرم في الأخلاق. . .
وضعت الكتاب أمامي وأخذت أفكر في تلك المصادفة الغريبة، وأبت الصدف إلا أن تأتي بالعجائب، فأتلقى في تلك الجلسة مرسوماً جمهورياً يدخلني في عداد (القضاة) وينيط بي عضوية دائرة الجنح والجنايات في مدينة حمص!!. . . ولئن كانت هذه المصادفة من الغرائب فهي بلا شك أجمل ما لاقيته في حياتي منها، لمكانة سعد في نفس، وهو القائد العظيم والزعيم المرشد المحبوب، ولما أكنه للأستاذ الصديق عبده حسن الزيات من آيات التقدير والإعجاب بأدبه الرفيع وأخلاقه السامية.
صلة القانون بالأدب:
سئلت مرة عن رأيي في صلة القانون بالأدب، فأجبت السائل وكان جوابي مقالاً نشرته مجلة (الصباح) السورية، بدأت فيه بتعريف الأدب والقانون، ثم ألمعت إلى تاريخيهما اللذين يتصلان بالإنسانية في مهدها، وبعد أن تكلمت عن صلاتهما في الماضي قلت (ولا شك أن صلة القانون بالأدب أصبحت بحكم المستوى الثقافي العام، أحكم ارتباطا، وأكثر تداخلا، كما أصبح رجل كل منهما يشعر بأنه لا يستطيع الانفراد بأحدهما دون أن يتمه الآخر؛ فرجل الأدب وهو اليوم صاحب رسالة اجتماعية هامة، لم يعد في إمكانه الاستغناء عن الثقافة القانونية ليؤدي رسالته على وجهها الأكمل، وليتبوأ المركز اللائق بمن يحمل مثل رسالته، رسالة الحياة الخالدة. إن الأديب في العصر الحديث أصبح محتاجاً إلى الإلمام بكثير من الثقافات على اختلاف أنواعها، والثقافة القانونية في مقدمة هذه الثقافات، وبقدر سعة هذا الإلمام وعمقه يبرهن الأديب للناس أنه في صميم الحياة التي يحمل رسالتها).
ثم تكلمت عن رجل القانون فقلت إن حاجته (إلى الأديب كحاجة المادة إلى الروح لتصبح جسما حياً، ومكانه القانوني في المجتمع إنما تتناسب في قيمتها مع حظه عن الأدب(779/47)
ومميزاته الأدبية سواء كان مشروعاً أو قاضياً أو محاميا. . .)
ولقد فصلت هذا القول بالكلام عن حاجة رجال التشريع والقضاء والمحاماة إلى الأدب ومنه قولي: (والقاضي يجب أن يكون أديباً يحسن الأنابة عن وجوه الحق، قادراً على مناقشة دفوع. المحامين اللحانين بلغة صحيحة لا تترك لهم مجالا للبحث أو التذمر. تقرأ قراراته فتقرأ علماً وأدبا يستهويانك وإن لم تكن ذا صلة بها، وكثير من المثقفين يقرأون أحكام بعض القضاة فيعجبون بالتفكير السليم والفقه القانوني يعرض بأسلوب متين ولغة راقية، بينما يعرض المشتغلون بالقانون عن تتبع أحكام أكثر المحاكم لضعف لغتها وتفكك أسلوبها مما يشوه المادة القانونية إن وجدت فيها) ثم ضربت مثلا فقلت: (فالميزات الأدبية، مثلا، هي التي جعلت نجم القاضي سعد زغلول يتألق في سماء القضاء كما تألق في سماء السياسة والوطنية. وشخصية سعد القاضي كانت موضوعاً طريفاً طرقه أحد رجال القانون الأدباء، عزز به مكانة سعد في النفوس وأضاف إلى شخصيته لوناً جديداً من ألوان الخلود).
وكان كلامي هذا صورة حاطفة وأثراً من آثار قراءتي لكتاب (سعد زغلول من أقضيته) يوم صدوره. أما اليوم فلابد من عودة إلى (سعد) عودة فيها تؤدة (القاضي) وتدقيقه واستيعابه، وفيها دراسة التلميذ الطموح لشخصية يعتقد أن صاحبها مثال يحتذي ومرشد تقتفي آثاره، وقائع تستلهم من روحه الشجاعة بعد أن قرر لهذا التلميذ النزول إلى ساحة الجهاد التي خلف الزعيم فيها آيات من الجهد والبطولة.
كتاب الزيات:
لاشك في أن كتاب الأستاذ الزيات يعتبر أول كتاب من نوعه في العربية، فموضوعه شخصية سعد زغلول من خلال أحكامه في القضاء، وبالرغم من صعوبة العمل الذي أخذه المؤلف على عاتقه، ووعورة الطرق التي سلكها توصلا إلى غايته، فقد انتهى إليها بعد أن ملأنا إعجابا بأدبه وطول أناته ودقة تمحيصه وعمق تبعاته، وتقديراً لما بذله من جهود جبارة وأوقات ثمينة قضاها في تتبع آثار سعد القضائية، ونسخ ما عثر عليه من أحكامه بعد قراءة ملفاتها المطروحة في مستودعاتها ما يقرب من نصف قرن.
وأنا أرى أن أفضل تقريظ لهذا الكتاب أقوم اليوم به، بعد مرور سنتين على صدوره، إهداء(779/48)
هذه الباقة التي اقتطفتها من حديقة الأستاذ الزيات إلى الألوف من قراء (الرسالة) الذين لم تتح لهم فرصة قراءة هذا الكتاب الفريد الذي يقع في أربعمائة صفحة قسمت إلى تسعة فصول، هذه زبدتها بعناوينها مرتبة بترتيبها في الكتاب.
1 - ثورة المصلح وغيرة العادل:
أصدر سعد أحكاماً كثيرة في دعاوي رفعت إليه، وإنها لأحكام خالدة تجلت فيها روح الثائر المصلح والحاكم العادل، أحكام تملأك إعجابا وتقديراً، أحكام كل ما فيها ينبئ (عن قريحة قانونية ذات مرونة ولباقة، ونفس شديدة الاستجابة لأوامر العدل المطلق ونواهيه)، وأن الحكم الواحد منها ليخدم (أغراضا اجتماعية ووطنية كبيرة قبل أن يخدم صاحب حق بإيتائه حقه: يخدم القضاء بما يؤكد ويعلن استقلاله، ويخدم العدالة بما يمهد أمامها من طريق أفسده الشوك، ويخدم التشريع بما يوضح له من نقصه وسخفه، ويخدم الفقه بترحيب آفاقه وتسديد خطاه في سبيل العدل والمعقول)؛ فإن أردت الدليل على هذا الكلام فاسمع ما يقوله سعد في أحد أحكامه (. . . لا يمكن أن يكون المراد بهذه الأعمال الإجراءات الاستبدادية المخالفة للعدل والقانون والمضرة بحقوق الأفراد وليست فيها مصلحة عامة للناس، لأن ذلك لا ينطبق بوجه من الوجوه على مبدأ الحكومات العادلة، ولا يصح أن تتضمنه شرائعها)!
وسعد الذي كان يطبق القانون على الناس لم يكن ينظر إلى القانون كنصوص مجردة واجبة التطبيق، بل كان ينظر إلى القانون كوسيلة غايتها (إثبات جوهر الحق والعدل، ونفي الغش والحيلة والغضب، وأن مساره هذا لينتظم أحكامه) جميعاً؛ وهو إذا حاول مرة أن يقضي على حيلة تسلب شخصاً حقا له، رغب إلى القانون ألا يحاول حماية المحتال لأنه من العار (أن يمنح القانون حقاً ثم يجيز الحيلة لإسقاطه).
قد كان سعد يصدر من وراء قوس القضاء أحكاما جديرة بالخلود لأنها كانت (تستخلص الحق من ركام الإنكار واللجج) وإن هي اصطدمت يوماً بصلابة القانون وجدتها (قد لانت شيئاً تحت معول بناء حازم، في حزمه رفق، وفي رفقه عدل، وفي هدمه خلق وإيحاء وتجديد وتشييد). .
إن حكماً يحوي هذه الفقرات (. . . أن وقوع مثل هذه التصرفات بحجة إظهار الفاعل أو كشف الحقيقة، أشد خطراً على النظام العام من خفاء الجاني أو تخليصه من العقاب، لأنه لا(779/49)
شيء أسلب للأمن، وأقلق للراحة، وأزعج للنفوس، من أن يعبث بالنظام من عهد إليه حفظ النظام!) ليس بحكم (قاض يفصل في تهمة أفراد، إن هو إلا - حكم - مصلح ثائر يعرف للثورة قواعدها، وللتمرد أبانه، واجتماعي مرشد يثبت للمجتمع بالعدل أركانه، ورجل دولة حريص على (تحديد المسؤوليات وتعيين المسؤولين).
(يتبع)
عدنان الخطيب(779/50)
الكُتبُ
أثر التشيع في الأدب العربي
للأديب محمد سيد كيلاني
مؤلف كتاب (أثر التشيع في الأدب العربي) هو الأديب محمد سيد كيلاني، والمؤلف وكتابه حريان بأن نهش بهما ونبش لهما، فقد ألف الأديب كتابه على نحو مقبول (سنعرضه) وهو طالب بالسنة الأولى بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وأسلوبه فيه واضح سليم يدل على وضوح موضوعه في ذهنه وتمكن قلمه منه، بل إن أسلوبه فيه أسلم وأوضح من أسلوب كثير من أساتذته فيما يخرجون لنا اليوم، ونحن نقرر هذه الحقيقة آسفين، والمؤلف يتناول كثيراً من أطراف موضوعه المختلفة ويعرضها عرضاً رفيقاً واضحاً. ولذلك كله نتلقى كتاب مؤلفنا (الطالب الأديب) بالرضا والغبطة على رغم ما لنا عليه من مؤاخذات كثيرة سنذكر بعضها بعد.
الكتاب مقدمة تبين أقسام البحث، وأربعة أبواب: الباب الأول فيه فصلان: أحدهما تحدث فيه الأديب بالخلافة وتفرق الآراء فيمن تكون له بعد موت النبي وموقف الأحزاب المختلفة من ذلك وموقف كبار الصحابة ولاسيما أبو بكر وعمر، ثم خلافتهما وخلافة عثمان، وموقف الصحابة بعد قتله من علي. والفصل الثاني: حديث سطحي بفرق الشيعة ومعتقداتها. والباب الثاني يبدأ بمقدمة في مقتل الحسين وما لحق بالعلويين عامة زمن الأمويين والعباسيين، ويليها فصلان: أحدهما في النثر الشيعي، ويبدأ: بالخطابة فالرسائل فالأحاديث الموضوعة فالقصص فنحل الشيعة بعض أوليائهم وأعدائهم القول وأكثره تكرار لما في القصص. والفصل الثاني في خطباء الشيعة وفيه ترجمة لعلي ونقد ممتع واف لكتاب (نهج البلاغة) المنسوب إليه، ولا ترجمة لغير علي هنا فيما عدا إشارة خاطفة إلى أنه لم يظهر بعد علي من الخطباء غير الحسن والحسين، وأن الشيعة انصرفوا عن نشر الدعوة بالخطابة إلى نشرها سراً، وأن لفاطمة خطباً نسبت إليها ولعلي بن الحسين رسالة تعرف برسالة الحقوق. والباب الثالث في الشعر وهو فصلان: أولهما في الشعر الذي نحله الشيعة بعض أوليائهم وأعدائهم، كعلي وأبي طالب ومعاوية وعمر ويزيد بن معاوية والوليد بن يزيد؛ وثانيهما في الشعر الذي قاله شعراء الشيعة في التشيع، وأغراض هذا الشعر:(779/51)
كالمدح، والرثاء، والهجاء، والدفاع عن حق علي وبنيه في الخلافة، وشعر النقائض بين شعراء الشيعة وخصومهم من الشعراء. والباب الرابع في: شعراء الشيعة وفيه ترجمة لعشرة شعراءهم: الكميت، وكثير، وعبد الله بن عمر العبلي، والسيد الحميري، ودعبل، وابن الرومي والمفجع البصري، والشريف الرضي، ومهيار، وابن هانئ الأندلسي.
وقد توخى المؤلف في كتابه النهج العلمي فجنبه ذلك كثيراً من المزالق، ولكن صحة المنهج لا تغني وحدها ولابد معها من وعي ناضج يحسن استخدام المنهج، وهذا ما ليس في وسع الأديب ولذاته. والكتاب يعتمد على مراجع كلها - إلا واحداً - قديمة، ولو اعتمد على المراجع الحديثة إلى جانبها لأنارت له الطريق. وهذا هو السر في أن كثيراً من أقسام الكتاب بتراء، وفي تهجم الأديب على بعض الصحابة كعمر وتصديقه خرافة المؤامرة الثلاثية بينه وبين أبي بكر وأبي عبيده، ولم يشر الأديب إلى مصدرها. وأظن أن مخترعها الأب لامنس المستشرق. وهو قسيس اشتهر بقدحه في الإسلام ورجاله، ولو قرأ الأديب كتاب (عبقرية عمر) للأستاذ العقاد لبان له زيفها. ولقد كانت عبقريات العقاد وابن الرومي كفيلة بتجنيبه كثيراً من هذه المزالق، كما أنه غفل في بعض الفصول عن مراجعها الصحيحة كالفصل الذي كتبه في فرق الشيعة ومعتقداتهم، وكان حرياً به أن يعتمد على كتاب (فرق الشيعة) للنوبختي وهو أقدم وأوفى مرجع في موضوعه ومؤلفه أجدر المؤلفين باحترام آرائهم في هذا الموضوع، ولا يزال كثير من العلماء غير محيطين بفضل هذا الكتاب ومؤلفه، وكان عليه أيضاً أن يعتمد على كتابي فجر الإسلام وضحى الإسلام للدكتور أحمد أمين بك، ومقالات الإسلاميين والإبانة للأشعري، وإلى جانب هذا التقصير في بعض الفصول، فضول في بعضها الآخر، فهو في الباب الرابع يطيل الشواهد التي لا موضع لها، ولا يكتفي في تراجم الشعراء بما يتصل بتشيعهم بل يطيل ترجمتهم، ويكتفي في تراجم أكثرهم ببضعة سطور في تشيعهم. ومن أقسام الكتاب التي يجدر التنويه بها ما كتبه في نقد نهج البلاغة والتشكيك في صحة نسبه إلى علي وهذا الشك - وإن كان قديماً - قد أيده الأديب بحجج له قوية طريفة.
وإذا كان الأديب مسئولا عن كل ما أشرنا إليه من مآخذ كالاضطراب والتقصير في جانب والفضول في جانب، وكالأخطاء التاريخية واللغوية التي نكتفي بالإشارة إليها عن التمثيل(779/52)
لها - فجدير بنا إنصافاً له أن نحمل بعض هذه المسئولية على الضرورة التي تكره صاحبها على عمل قبل استكمال معداته له، وإلا ناله من وراء العصيان شر متطير، وأن نحمل بعض المسئولية على المرشدين الذين نصبوا للإرشاد إن بالحق وإن بالباطل - فإذا ما استرشدوا لا يرشدون.
محمد خليفة التونسي(779/53)
من هنا وهناك
في المملكة الأردنية الهاشمية:
لمناسبة قيام القيادة العليا للدول العربية المحاربة في عمان، أنشر هذه
الكلمة، أوجز فيها القول عن وصف حاضرتها وبعض مدنها،
وتجارتها، وشؤونها العلمية وغير ذلك:
في الصيف الماضي هبطنا (عمان) حاضرة المملكة فرأيناها مدينة جميلة تتسع شوارعها المعبدة تارة وتضيق تارة، وهي في واد تكتنفه جبال تقوم عليها أكثر بيوت المدينة، ودورها حديثة البناء من الحجر الأبيض المنحوت، وفيها دور لا تقل حدائقها عن بعض حدائق دور مصر الجميلة. وفيها بضعة مساجد جليلة.
وكان لعمان في هذه الحرب شأن عظيم في التجارة، وقد كانت البلد الوحيد في الشرق الذي يسمح لتجاره بالاستيراد من أوربة، لذلك قصدها التجار في سورية وفلسطين وغيرهما فصدروا منها كثيراً مما كانت غاصة به من البضائع.
وأهل المملكة الأردنية عرب أقحاح، يشتغلون بالزراعة والتجارة وتربية الأغنام. وتنتج أرضها فواكه من كل الثمرات، وذلك لجودة تربتها في أوديتها ومرتفعاتها، ولطيب مائها.
وقد خطت هذه المملكة الصغير في عددها، الكبيرة في مساحتها، خطوات التنظيم والعمران والتعليم والحضارة بمدة يسيرة، وذلك بفضل عناية مليكها العالم، واعتماده على أهل العلم من السوريين والفلسطينيين وأهل البلاد، وقد قاربت أن تضاهي الأقطار الأخرى في الإقبال على العلم وفي نسبة المتخرجين الذين يردون مناهل الجامعات. وجل أساتذة مدرستها الثانوية من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت. وفيها مدرسة للعلوم الدينية، ومدرسة للصناعة تعلم النشء بعض الحرف. يضاف إلى ذلك مدارس عسكرية قائمة في المعسكرات. وفيها صحف ثلاث، ونواد عدة، من أكبرها نادي جلالة الملك حسين الذي يختلف إليه كثير من الأدباء لالقاء المحاضرات الممتعة. وفيها من علماء شنقيط والمغرب وسورية وفلسطين وغيرها. وسكان الحاضرة نحو خمسين ألفاً يعيشون عيشة مدنية مترفة. وفيها آثار مدرج فرعوني عتيق، وفي جبلها آثار قلقة قديمة.(779/54)
وأما مدينة (السلط) التي تبعد عن عمان نحو نصف ساعة بالسيارة، فأبنيتها أبنية المدن لا أبنية القرى، وبيوتها قائمة على ثلاثة تلال. وكان فيها حركة تجارية طيبة، لكنها انتقلت إلى عمان. وفيها مدرسة ثانوية كبيرة قائمة على ربوة شاهقة تطل على واد أغن ممرع. وفيها مسجدان، وآثار قلقة عتيقة، ويشرب أهلها من عينين فيها. ويسعون لمد الكهرباء إليها. ومواردها من كرومها التي تمشي فيها نحو ثلاث ساعات، وهي محيطة بالمدينة من كل ناحية. والعنب والزيت هما المحصولان اللذان تنتجهما هذه البلدة الجميلة، فتصدر منهما إلى كل مكان، وفي جبالها كثير من الينابيع التي تروي وديانها المكتظة بالأشجار والأثمار المختلفة. ويبلغ سكانها نحو 18 ألفاً جلهم متحضرون يشتغلون بالتجارة والزراعة. وكان السلط في زمن الدولة العثمانيو مركزاً للتجارة ومركزاً للحكومة. وفيها جبل يرتفع نحو ألف متر عن سطح البحر، فيه مقام للنبي يوشع، تظهر من عنده أنوار بيت المقدس.
وفي طريق الذاهب من عمان إلى القدس أغوار قريبة من البحر الميت تزرع فيها الخضر في الشتاء، ولاسيما في (الشونة) الزاخرة بحدائق الموز التي تبعث بثمراتها إلى فلسطين بلا انقطاع. وفيها تبربة صالحة لإنبات ما يخرج في أراضي البلاد الحارة. ويخترق هذه الأغوار نهر الأرن العظيم. وفي (الشونة) يقضي جلالة الملك فصل الشتاء، ويؤمها كثيرون من جهات مختلفة لدفئها. وهي منخفضة نحو 300 متر عن سطح البحر. ولو أتيح إصلاح الري في هذه الأغوار لأفاضت على الناس من خيرتها وبركاتها ما يكفي الملايين.
وأما (اربد) فقائمة وسط سهول فسيحة، وهي في طريق المسافر من عمان إلى دمشق. وهواؤها ألطف وأبرد من هواء عمان في الصيف، إلا أن مرتفعات عمان تضاهيها في ذلك. وهي من المدن الكبيرة في شرقي الأردن. وكانت تابعة في زمن العثمانيين للواء عجلون الذي يشمل الرقة وجرس والطيبة والمزار. وحول اربد قرى فيها آثار كثيرة كقريبة (رأس قيس) وغيرها
أما (جرش) فقرية فيها جامع كبير بناه الشاميين المقيمون فيها، وجامع قديم أقامه الجركس سكان القرية الأولون، وأعظم ما فيها هي آثارها الرومانية المدهشة في الجبل. ويشرب الناس هناك من عين فيها عذبة. . .(779/55)
من شئون الحرب في الإسلام:
أوصى أبو بكر قواده بوصايا خليق أن يوصى بها كل قائد، منها:
1 - أحسن صحبة جند.
2 - ابدأهم بالخير وعدهم به.
3 - إذا وعظتهم فأوجز، فإن كثير الكلام ينسى بعضه بعضاً.
4 - أصلح نفسك يصلح لك الناس.
5 - أكرم رسل عدوك، وأقلل مكثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبَلك من محادثتهم وكن المتولي لكلامهم.
6 - أصدق الحديث تصدق المشورة.
7 - اسهر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار.
8 - أكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم، وأحسن أدب الغافل وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم في الليل واجعل النوبة الأولى أطول من الآخرة.
9 - لا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها.
10 - لا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم، ولا تكشف للناس عن أسرارهم.
11 - جالس أهل الصدق والوفاء.
12 - أصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس.
13 - ستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له.
لما التقى الجمعان في وقعة اليرموك قال رجل لخالد القائد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم! إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال.
وقال عكرمة: قاتلت مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن ثم أفر اليوم! ثم نادى (من يبايع على الموت؟) فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من فرسان المسلمين ثم حملوا أمام فسطاط خالد حتى ضعضعوا الروم، وهجم خالد بين خيلهم ورجلهم، فانهزم فرسان العدو وتركوا الرجال. ولما رأى المسلمون خيل الروم تريد الفرار(779/56)
أفرجوا لها فتفرقت. وقتل الرجالة واقتحموا في خندقهم وهوى فيه ألوف مؤلفة بين قتيل وجريح ودارت الدائرة على الروم. . . وكان المسلمون نحو خمسين ألفاً؛ والروم أكثر من مائتي ألف. . .
محمد أسامة عليية(779/57)
القَصصُ
أقصوصة روسية:
تحفة يتيمة!
للكاتب الروسي أنطوان تشيكوف
بقلم الأديب كمال الدين الحجازي
وصل (ساشا سمير نوف) إلى عيادة الطبيب (كوشلكلوف) يحمل تحت إبطيه شيئاً ملفوفاً.
كان ساشا وحيد أمه فسأله الطبيب: كيف حالك يا ولدي؟ فأجاب شكراً أيها الطبيب، إن أمي ليعجز لسانها عن شكرك على حسن صنيعك بشفاء ولدها! فقال الطبيب: إنني لم أعمل سوى ما يفرضه الواجب على كل طبيب. فقال الولد: إن أمي فقيرة أيها الطبيب الفاضل ولا تملك سوى هذه التحفة الثمينة التي أحملها بين يدَّي والتي أرجوا أن تتقبلها. فقال الطبيب: لا داعي لذلك ولا ضرورة له. ولكن ساشا أصرَّ على تقديم الهدية إليه وألح عليه بقبولها، وقال إن رفض الهدية يعد إهانة له وتصغيراً من شأنه ومن شأن أبيه الذي أورته ذلك الأثر الفني والذي هو بمثابة تذكار منه، فقد اعتاد أبوه أن يشتري الآثار البرنزية ويبيعها من عشاق الآثار القديمة. ثم وضع الأثر على المنضدة.
كان الأثر شمعداناً من البرنز، جلس على قاعدته تمثالان كالمرأتين عاريتين على هيئة حواء، يستحي المرء من وصفهما، كان هذان التمثالان يبتسمان ويميل أحدهما على الآخر بدلال كأنه يقبله ويتأهبان للرقص! ولما أنعم الطبيب النظر في الهدية حك رأسه وقال: لا ريب أها تحفة فنية ولكنها. . . لست أدري ما أقوله، فالشيطان يوسوس في صدور الناس! وهل من اللائق أن أضع هذا التمثال الملوث على المنضدة؟ فقال ساشا غاضباً: ولم لا يا دكتور؟ إنك تحمل على الفن حملة شديدة. إن هذا عمل فني خالد. إن الروحانية تتمثل فيه بأجمل صورها. ولا ريب أن الناظر إليه سينسى كل ما يحيط به من الأمور المادية ويتطلع إلى المثل العليا! دقق النظر فيه تجد الجمال والروحانية تدعوانك إليهما! فقال الطبيب: إنه أثر خالد يا ولدي، ولكنك تعلم أنني متزوج، وأعتقد أن من غير اللائق أن أضعه في هذه الغرفة التي يغشاها كثير من النساء والأولاد دائماً. فقال ساشا: أنك تنظر(779/58)
إلى التمثال نظرة الشك والريبة وتتطلع إليه بأعين السوقة وعامة الناس، ويجب أن تسمو عن ذلك يا دكتور. إنه الأثر الوحيد الذي أورثنه أبي وقد آليت لأهدينه إليك، فقد شفيتني من المرض. فقال الطبيب، وقد أراد التخلص من هذه الورطة، لا بأس يا ولدي، ضعه على المنضدة. وضع ساشا الشمعدان كما أشار وقال للطبيب: آسف إذ لم أجد رفيقه ولكني سأجد في البحث عنه، ولم يدر الطبيب ما يقصده ساشا من رفيقه أو شريكه، ثم ودعه وخرج.
أراد الطبيب التخلص من هذا التمثال ونظر إليه ملياً، فخطر بباله أن يهديه إلى صديقه المحامي الذي كان مديناً له ببعض النقود وقال في نفسه: إنها فكرة حسنة، سأقدم إليه هذ التحفة وهو رجل أعزب كالطير الطليق. سار الطبيب إلى مكتب صديقه المحامي، وبعد أن شكره على حسن دفاعه عنه وخدماته السابقة له، رجا منه أن يتقبل منه هدية متواضعة وهي تمثال البرونز النفيس. وما إن وقع نظر المحامي عليه حتى أعجب بجماله ولكنه بعد أن أدمن النظر فيه قال: أعتذر يا صديقي من قبوله، فإن أمي تزورني دائماً، كما أن مكتبي يؤمه كثير من الناس كل يوم! فقال الطبيب: لا تقل ذلك يا صديقي، إن مع نكران الجميل أن ترفض مثل هذا الأثر الفني. فقال المحامي متهكما: (حبذا لو كانت السيقان مصقولة أو مغطاة ببعض ورق التين على الأقل) ولكن الطبيب لم يأبه له واغتنم فرصة انشغاله ببعض شأنه ووضعه على مكتبه وانصرف.
تأمل المحامي في هذا الأثر وهم يقذفه من نافذته ولكن يده لم تطاوعه فقد كان الأثر جميلا، وقال في نفسه: ليس لي إلا أن أقدمه هدية إلى الممثل الفكاهي (شوشكين) فإن الممثلين يحبون مثل هذه الأشياء الفنية البديعة.
ولما قدم الأثر إلى شوشكين أعبج به أيما إعجاب، كما أعجب به كثير من الناس الذين رأوه، وقد غصت غرفته بالمتفرجين والممثلين الذين كانوا يأتون إليه في أي وقت يشاءون. ولما رأى شوشكين هذا العدد الغفير من الناس لم يجد بداً من التخلص من هذا الأثر الذي جلب إليه كثيراً من التعب والشقاء، وتمنى لو كان التمثال صغيراً ليتمكن من وضعه في درج مكتبه، ففكر في بيعه لإحدى النساء المولعات بمثل تلك التحف الفنية، ولم يلبث أن باعه لها.(779/59)
وبعد يومين بينما كان الطبيب كوشلكوف جالساً في عيادته، فتح الباب فجأة ودخله ساشا وهو يحمل شيئاً ملفوفاً بين يديه، والابتسامة تداعب شفتيه وقال للطبيب: إنك لا تستطيع أن تتصور مقدار سروري وابتهاجي، فقد استطعت بعد جهد جهيد أن أحصل على رفيق التمثال وشريكه، وأن والدتي تشاركني الفرح أيضاً، ثم وضع ساشا الشمعدان على الطاولة فرحاً مسروراً وخرج.
نظر الطبيب إلى التمثال وقال في نفسه: (ترى هل شعر ساشا بأن تمثال حواء الذي أهداني إياه قبلا كان ينقصه تمثال آخر لن تستطيع حواء أن تعيش بدونه، فأحضر لها تمثال آدم!!.
(القدس)
جمال الدين الحجازي
الندوة الأدبية(779/60)
العدد 780 - بتاريخ: 14 - 06 - 1948(/)
أدباء معاصرون
أرشحهم للخلود
لحضرة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا
رئيس جامعة أدباء العروبة
يسألني السائلون عمن أرشحهم للخلود من أدبائنا المعاصرين، وأحْبب إلى أن يكون الجواب على صفحات (الرسالة) الغراء.
إذا ما ذكر الناثرون، كان أول من أذكره، وأول من يستأثر بإعجابي، الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات، فهو أقوى كتاب العصر ديباجة وأنقاهم أسلوبا وأعرفهم بالصيغ العربية الصحيحة، ومن أراد البيان العربي في أسمى درجاته فعليه بما يكتبه الزيات.
أما الكاتبان القادران، العقاد وهيكل، فإن عنايتهما بالموضوع الذي يعالجانه - وهما أقدر كتابنا جميعاً من الناحية الموضوعية - أقوى من عنايتهما بسمو الديباجة وإشراقها؛ وبالديباجة يعني أشد العناية، الكاتبان الكبيران، المازني، وتوفيق دياب.
وإذا كان الذين ذكرتهم من الناثرين قد كتب لهم الخلود فعلا، فقد كنت أود أن أرشح للخلود بجانبهم بعض الناثرين من الشباب، لكني أراهم مع الأسف لا يولون هذه الناحية من الأدب الرفيع ما تستحقه من اهتمام، ولا أجد بينهم من يحاول أن يبلغ في هذا الفن الجميل درجة الكمال.
أما الشعراء، فإذا تجاوزنا الذين بلغوا القمة من زمان بعيد، كمطران والعقاد والجارم ومن إليهم، فإن لدينا ممن يلونهم شعراء لا شك أنهم سيبلغون في العالم العربي أعلى مكانة. ولست أدري من يكون أولهم؟ ففي بعض المواقف يمتاز أحدهم، ثم يبرزه سواه في موقف آخر. وقد يتفوق عليهما زميل ثالث في موقف جديد؛ لهذا تصعب المفاضلة بينهم. فهل يكون الأول ناجي، أم طاهر أبو فاشا، أم غنيم، أم العوضي الوكيل، أم الغزالي، أم حممام، أم الصاوي شعلان؟
وكثيراً ما تفوق الحناوي ومخيمر والجرنوسي والجنبلاطي وعبد المنعم إبراهيم وشمس الدين وغيرهم.(780/1)
وهنا كلمة لابد منها، وهي أن هؤلاء الذين توهت بهم، هم من شعراء جامعة أدباء العروبة، وليس المقصود بشعراء الجامعة أعضاء مجلس إدارتها وحدهم، فإن لها أعضاء أنصاراً، كالشاعرين الكبيرين رامي والأسمر، وهما من أكبر شعراء هذا الجيل.
وإني لحريص على أن أصحح فهما خاطئا سرى إلى بعض الأذهان وأثار حملات لا مبرر لها، فأقول إني لا أحتكر لرجال جامعة أدباء العروبة المجد الأدبي في هذا العصر، وإن كانوا في الحقيقة أقوى مجموعة عرفها التاريخ الأدبي الحديث، وأنا أعد الجامعة مكونة من أعضائها العاملين ومن أنصارها جميعاً. . أما أعضاء مجلس إدارتها فهم فوق مقدرتهم الأدبية الممتازة، أنشط الأدباء وأشدهم دأبا، وأغزرهم إنتاجا، وأكثرهم مثابرة على خدمة الأدب والأدباء، وتنظيم المهرجانات، وإحيائها بخطبهم وقصائدهم التي يحملها المذياع إلى دنيا العروبة فتملأ مسامع الملايين في سائر الأقطار العربية، وتحفر النفوس إلى طلب المجد، وتغرس فيها الشجاعة ومكارم الأخلاق.
وإن شعراء الجامعة لآثار أدبية جديرة بالخلود، أراني فخوراً بأن أعرض ما يحضرني منها في هذه الساعة.
فهذا ناجي يقول في (الغريب).
يا قاسيَ البعد كيف تبتعد؟ ... إني غريب الديار منفرد
إن خانني اليوم فيك قلت غد ... وأين مني ومن لقاك غد
إن غداً هوة لنا ظرها ... تكاد فيها الظنون ترتعد
أطل في عمقها أسائلها ... أفيك أخفي خياله الأبد؟
يا لامس الجرح ما الذي صنعت ... به شفاه رحيمة ويد؟
ملء فؤادي لظى وأعجبه ... أني بهذا اللهيب أبترد!
ومن شعره الوطني:
مر الغزاة بمصر وانتهو رمرا ... فأين بالله تيجان ودولات
كأن صخرة أقدار تحطمهم ... وما من القدر المحتوم إفلات
مروا ومصر على التاريخ باقية ... كأنما حولها للنور هالات
فاعجب لمنطق أذيال يقوم له ... محض من الزور شَّته الضلالات(780/2)
ومسرح في الليالي لا جديد به ... لكن يعاد عليه الذئب والشاة
ومن شعر طاهر أبي فاشا في قصيدة وطنية نظمها لدى عودة دولة النقراشي باشا من أمريكا بعد دفاعه المجيد عن قضية مصر في مجلس الأمن:
ألْق عن وجهها الغضوب النقابا ... لا تخاصم إلى الذئاب الذئابا
أمر الأمر فادَّرعهم شيُوخا ... عاقروا الصبر وادَّرعهم شبابا
وأدر لحنك الذي أيقظ الثو - رة واخمر في صهده الأعصابا
أمة تنشد السلام فما با - ل حمام السلام أمسى غرابا؟
والذي يطلب الحياة سلاما ... كالذي يطلب الحياة سرابا
ومن شعر غنيم في قصيدة (ثورة على الضارة).
ذرعتم الجو أشباراً وأميالا ... وجبتم البحر أعماقا وأطوالا
فهل نقصتم هموم الكون خردلة ... أو زدتمو في نعيم الكون مثقالا
يا طالما حدثتني النفس قائلة ... أنحن أسعد أم أجدادنا حالا؟
ومن قصيدة له في الكلب البوليسي (هول)
كلب ينم على الحناه ... تمشي العدالة في خطاه
إن قال أرهفت النيا - بة سمعها وصغى القضاه
قد بات يرعى الأمن (هو - لُ) وغيره يرعى الشياه
شيخَ الكلاب أخفت ذئ - ب الإنس لا ذئب الفلاه
وأنفت من صيد البزا - ة فصدت صياد البزاه
وسلبت كلب الكهف ما ... بيديه من عز وجاه
لم تقض في النوم الحيا - ة كما قضى فيها الحياة
إن طوقوك فطالما ... طوقت أعناق الطغاه
ومن قصيدة لحمام في (القمر)
ويا رقيبا على العشاق مؤتمنا ... السر عندك مكنون ومدخر
ويا رسولا من الماضي الرهيب إلى ... من كان يخشع للماضي ويدَّكر
ويا شهيداً على أعمالنا يقظا ... عدلا، ويا مقلة يرنو بها القدر(780/3)
يا من يعيش بأعمار مجددة ... وكل يوم يرى الأعمار تهتصر
يا قيصر اعراشه الدنيا وما وسعت ... وجنده الأنجم المضاءة الزهر
يا صورة من جمال الله مشرقة ... والشاعر الحق تسبى لبه الصور
إليك يا بدر عتباً كنت أكتمه ... فالآن يا بدر لا كتم ولا حذر
أتذكر الحرب إذ تارت جهنمها ... وطار منها على آفاقنا شرر
وكنت للخصم جاسوسا فكم نزلت ... على هدى نورك الغارات والغير
قد سخروك لشر ما خلقت له ... لا تأس يا بدر إني عنك أعتذر!
كم ليلة لحت فيها شاحبا أرقا ... كأنما شقك التطويف والسهر
أوضقت بالظلم يغشى الأرض قاطبة ... أأنت مثلي طريد الظلم يا قمر؟!
ومن شعر عبد المنعم إبراهيم في العروبة
الجود والحلم والأقدام والأدب ... شمائل علمتها للورى العرب
الصيد إن ركبوا والصفو إن طربوا ... والعفو إن غلبوا والنار إن غضبوا
السحر ما كتبوا والطهر ما شربوا ... والبحر ما وهبوا، والأمر ما رغبوا
هذه شواهد من أشعارهم، بل أزهار من رياضهم، وإن لهم ولإخوانهم لبدائع وروائع، زادهم الله اتقانا وإحسانا، وجعلهم للأدب والعروبة أسنادا وأركانا.
إبراهيم دسوقي أباظه(780/4)
صور من الحياة
للدكتور عبد العزيز برهام
(إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)
(اكثم بن صيفي)
لا يجرح غير الحقيقة (مثل فرنسي)
جمعتني الصدفة بصديق قديم كنت آخذ عليه دائماً إخلاف المواعيد. زرته في مقر عمله فوجدت عنده عدداً عديداً من الزوار كلهم يرجوه في أن يشفع له عند فلان أو فلان في أمر كذا أو كيت، ورأيته يمنيهم جميعاً بقضاء حاجاتهم، فيخرجون من لدنه، وقد امتلأت نفوسهم بالآمال، وظنوا أنفسهم قاب قوسين أو أدنى من بلوغ المرام. ولكنهم ما كادوا يبرحون مكتبه حتى تنفس الصعداء، والتفت إليَّ وعلى شفتيه ابتسامة ثم قال: أفً لهؤلاء الناس! أيظنونني عبداً مسخراً لهم؟ ما أكثر ما هم عليه من بله! قلت: وماذا يحملك على أن تمنيهم كل هذه الأماني؟ قال: وماذا يضيرني، وقد بلغ الحمق بالناس أن يصدقوا كل ما يقال لهم؟ أو لا يسرك أن تراهم وقد خشعت أبصارهم أمامك، وانخفضت أصواتهم، وبدت عليهم الذلة والمسكنة، وهم يضرعون إليك بالرجاء؟ قلت: وأي لذة في هذا؟ قال: إن فيها لذة لا يشعر بها إلا من مر بمثل ما أمر به. قلت: أما آن لك أن ترعوي يا (نيرون) ومانه؟ قال: وأنت! أما آن لك أن تقصد في نصحك؟ قلت: بلى. ثم افترقنا.
انقضت ثلاثة أشهر لم أر فيها صديقي، ثم عدت إليه أزوره، ولشد ما كانت دهشتي عندما رأيت بين زواره فريقاً ممن رأيتهم عنده من قبل يطلبون شفاعته، وإذا به يعود فيعدهم ويمنيهم. لم أطق صبرا على رؤية هذه المسرحية الموجعة، فملت عليه بعد أن صرف واحداً منهم بالحسنى، وكنت أرى في مظهره ما يستاهل المساعدة: أتنوي حقاً قضاء حاجة هذا الرجل؟ فقال، وهو يهمس في أذني: وكيف لي بقضاء ما يطلب؟ إنه يطلب أن أعينه في وظيفة ممرض، وأنا لا أعرف من أطباء الصحة أحداً. قلت: فقيم إذن كل هذه الأماني المعسولة؟ قال: دعه، فستنجلي له الحقيقة يوماً ما، وسيريحني من تردده المملي عليَّ. قلت: ولماذا لا تصارحه بها؟ قال: يا لك من غر! أتريد أن أقول له إنني لا أعرف من أطباء(780/5)
الصحة أحداً؟ قلت: ولم لا؟ قال: هذه حماقة لا أرضاها لنفسي.
لم أكد أسمع منه هذا الحديث حتى يعثت فاستدعيت الزائر الذي انصرف، وكان لا يزال على مرأى منا، وقلت له على مسمع من الجالسين: أيها الأخ! إن فلاناً هذا يأسف لأنه لن يستطيع قضاء أمرك، فهو لا يعرف أحداً من أطباء الصحة.
فوقف الرجل مشدوهاً من سماع هذه الكلمات، وهو لا يكاد يصدق ما يسمع، وكأن لسان حاله يقول: ففيم إذن كانت كل هذه المقابلات؟ وانتفض صديقي انتفاضة تدل على الغضب البالغ فلقد فوجيء بما قلت. ثم التفت إليَّ يقول: هذا لا يليق بي أن تقوله. هذه إهانة لا أقبلها منك. قلت: أو ليس ما قلت حقاً؟ قال: وما كل حق يقال. قلت: ولكن هذا الرجل يجب أن يعرف إلى أين يسير؟ قال: لا شأن لك بي وبأموري. ثم مدَّ إليَّ يده وهو يقول. وداعاً، يا صديقي. فوقفت وانصرفت وأنا أقول: وداعاً لا لقاء بعده.
وأردت أن أتزوَّج، فأوصيت كل من تصلني بهم صلة أن يعنينوني في البحث عن (نصفي الثاني). ثم طرقتْ بابي ذات مساء سيدة هي مني بمنزلة الوالدة، ووجهها يطفق بشراً. وما كادت عينها تقع عليَّ حتى صاحت: أبشر يا صاح! فقد وجدت ضالتك المنشودة. إنها فتاة في ريعان الشباب ومقتبل العمر، من أسرة كريمة، وإن لم تكن غنية. قلت: وهل نقلت إليهم ما تعرفين عني؟ قالت: لقد قلت عنك كيت وكيت، وقلت إنك تملك خمسين فداناً. قلت: في أي بلد؟ قالت: لا أدري. قلت: فكيف إذن قلت ذلك وأنت تعلمين أنني لا أملك قيراطاً واحداً؟ قالت: أو لست جديراً بأن تملك هذا المقدار وأكثر منه؟ قلت: الجدارة شيء والواقع شيء آخر. وما كان لك ان تقولي غير الحقيقة.
القيت بأصهاري (الجدد) وكان استقبال بالغ الحفاوة، وترحيب لا نظير له، ثم اتفقنا على كل شيء، ولكن. . . وما أقسى لكن هذه! دار بخلدي أن هؤلاء الأصهار (الجدد) الذين سأكون واحداً منهم ليس من اللياقة أن أحبس عنهم حقيقة ثروتي، فجمعت أطراف سجاعتي (وصححت) المعلومات التي وصلتهم عني. وما كنت أدري أنني بهذا القول قد بخست في نظرهم من قدر نفسي، فلم أكد أصل منزلي، حتى لحق بي رسولي، والغضب باد على وجهه، وهو يصيح في وجهي: لقد أفسدت كل شيء! قلت: ماذا؟ قال: ما لك وللحديث عن أطيانك؟ لماذا لا تتركهم في ضلالتهم؟ لقد اعتذروا من عدم قبولك صهراً لهم، وفهمت أن(780/6)
السبب هو أنك قلت لهم إنك لا تملك شيئاً. أو ما كان الأحرى أن تموه عليهم حتى ينتهي كل شيء؟ قلت: لا أستطيع. وإياك أن تفعلي هذا مرة ثانية. قالت: إذن فأعفني من هذه المهمة ووداعاً يا صديقي! قلت: وداعاً
وكنت ذات يوم منهمكاً في عملي، وقد قدرت للفراغ منه ساعة من زمان، وإذا بزميل لي يقتحم عليَّ الباب، والبشر يطفح من وجهه، ويقطع عليَّ سلسلة أفكاري، وهو يدندن بألفاظ لم أفهم لها معنى. ثم قال: أما تهنئني؟ قلت: بلى، ماذا أصبت؟ قال: كنت مع المدير الآن أحمل إليه (توصية) من فلان باشا وقد وعدني بترقيتي في الشهر القادم. قلت: ولكننا لا زلنا على بعد ستة أشهر من الميزانية الجديدة؟ قال: وما شأن الميزانية الجديدة الآن؟ قلت: لأن الترقية إنما تكون على درجات خالية وقد استنفدت المصلحة في ترقياتها الأخيرة جميع ما لديها من درجات. قال: كيف، وقد وعدني بما قلت لك؟ قلت: لقد خدعك. قال: هذا محال؛ وخير لك أن تبشر ولا تنفر. قلت: لقد أعذر من أنذر. قال: لا، إنك تسعي بقولك هذا في تثبيط همتي، ولا تود لي خيراً؛ إن المدير لا يكذب. قلت: شأنك وما تريد. قال: الآن قد كشفت ما تنطوي عليه نفسك من حسد لي، وحقد علي، وكان أولى بك أن تفرح لفرحي. قلت: لو أن هناك ما يستحق الفرح. فانفلت زميلي من الغرفة حانقاً ولم أعد أرى وجهه. ثم مضى شهر أعقبه شهر آخر، ثم تلته شهور أخرى وصاحبي لا يزال ينتظر الترقية الموعودة. ولكن هذا لم يحل دون تجنبه إياي، ونشره بين زملائي أن فلاناً يكره الخير للناس، ثم روايته القصة بصوره تؤيد ادعاءه. وما أقل المحققين للأخبار!
دكتور
عبد العزيز برهام(780/7)
أساتذة الجيل:
أحمد تيمور باشا
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
(إلى الصديق الكريم، والباحث المحقق، الدكتور محمد سامي
الدهان، وفاء بما وعدته من الإفاضة في الحديث عن أولئك
الأساتذة الأماثل الذين مهدوا الطريق أمام هذا الجيل. . .)
تيمور، بفتح التاء، ويحققها بعض العلماء بالكسر، كلمة تركية ينطقها الأتراك في لغتهم دمير أو دمور، ومعناها عندهم الحديد، وكانت تستعمل لقب تمجيد في المملكة العثمانية، والولايات التابعة لها، وبها لقب السيد محمد كاشف جد الأسرة التيمورية، وأول من وفد منهم إلى مصر. . .
وأصل السيد محمد هذا من بلاد كردستان بولاية الموصل، ويذهب آل تيمور في إثبات نسبهم إلى أنهم من أصل عربي اعتماداً على ما ذكره ابن الكلبي وابن خلكان، من أن نسب الأكراد ينتهي إلى عمر مزيقياء بن عامر بن ماء السماء، أو ينتهي إلى عدنان كما ذكر بعض العلماء. على أن آل تيمور يذهبون من ناحية أخرى إلى أن جدتهم زوجة السيد محمد كاشف، وهي السيدة عائشة الصديقية، كانت كريمة السيد عبد الرحمن الاستانبولي، وهو كما يقولون شريف النسب، صريح العروبة، كان يتولى الكتابة في الديوان السلطاني للسلطان سليم الثالث، وكان السلطان يحبه ويقربه ويثق به، فلما قتل السلطان فرّ إلى مصر، وعاش في رعاية عزيزها محمد علي باشا مكرماً إلى آخر حياته. . .
ولقد كان السيد كاشف جد الأسرة التيمورية من رجال السيف، وقد جاء إلى مصر في رفقة محمد علي مع الجند الذين أرسلهم السلطان لتثبيت سلطة الخلافة العثمانية على مصر بعد خروج الفرنسيين منها واضطراب الأحوال فيها، وقد كانت بينه وبين محمد علي في أول أمرهما صداقة ومودة. فلما تم الأمر لمحمد علي باشا في الولاية على مصر، فرب إليه صاحبه القديم، وأخذ يعتمد عليه في تنفيذ خططه وتدبيراته، وقد كان ساعده في حادثة الفتك بالمماليك في مأدبة القلعة، كما كان عضده في إخماد ما كان من فتن وما قام من ثورات،(780/8)
وكما أرسل محمد علي ابنه طوسون على رأس الحملة المصرية لحرب الوهابيين أرسل برفقته السيد محمد، فأبلى في هذه الحرب بلاء حسناً، وكان أن عينه محمد علي كاشفاً على الشرقية، وهو مثل منصب المدير في هذه الأيام، ومن ثمّ لزمه لقب كاشف وعرف به، حتى إذا ما استقرت الأمور في الحجاز عينه والياً للروضة الشريفة، فبقى هناك خمس سنوات، ثم عاد إلى مصر، وتخلى عن الأعمال الرسمية، ولكنه بقى مع محمد علي على حسن الصلة والمودة. وفي أواخر حياته انقطع للعبادة، وعكف على الأخذ بأسباب الصلاح والتقوى حتى توفى عام 1848م وهو في حدود الثمانين من العمر ولم يترك من الخلف إلا ابنه إسماعيل.
لم ينشأ إسماعيل على غرار والده، ولم يكن له مثل غرامه بالجندية وأساليب النضال، ولكنه نشأ من صغره وفي طبعه الميل إلى العلم والأدب، وقد عنى والده بإشباع رغبته، فأحضر له المعلمين في العلوم العربية والدينية، وعهد إلى أحد رجال الترك الأفذاذ بتعليمه اللغة التركية وآدابها، ولقد كان هذا التعليم المنزلي للعلوم الإسلامية والآداب التركية هي المظهر السائد بين الأسر الكبيرة في مصر يوم ذاك، إذ كانت روح الدولة إسلامية خالصة، وكانت الصلة بين مصر وتركيا صلة خلطة ونسب ودين أكثر مما هي صلة حكم، وكان رجال الحكومة كلهم أو جلهم من الأتراك، وكانت الطبقة العالية تتكون من الأسر التركية التي وفدت على مصر فملكت الضياع والثروات والمناصب، ومن ثم كانت اللغة التركية والآداب التركية لها مكانة كبيرة في نفوس الخاصة، وكانت الأسرات الكبيرة تحرص عليها وتراها غاية الكمال في تثقيف أبنائهم وإعدادهم لمناصب الحكومة ودواوينها، كما هو الشأن اليوم في الحرص على تعليم الإنجليزية والفرنسية.
برع إسماعيل في الإنشاء التركي، وأخذ بحفظ وافر من الثقافة التركية، لهذا ولما كان من متانة الصلة بين والده وبين محمد علي باشا، فقد شمله محمد علي بعطفه، واتخذه كاتباً خاصاً له، ثم عينه وكيلا لمديرية الشرقية التي كان والده كاشفاً عليها من قبل، ثم زاد في العطف عليه فعينه مديراً، وظل إسماعيل في هذا المنصب ينتقل من مديرية إلى أخرى. ولكن يظهر أن حياة الإدارة وما تقتضيه من الصرامة لم توافق طبعه الأدبي وإحساسه المرهف، ولهذا سعى بنفسه عند محمد علي في التخلي عن هذا المنصب والعودة إلى(780/9)
الديوان فحقق له رغبته. . . ولما تولى عباس باشا الأول عينه وكيلا لديوان كتخدا، وكان أكبر ديوان في الحكومة المصرية، وكان وكيله يعتبر أكبر رجال الدولة بعد الوالي، فله الإشراف على جميع شئون الدولة مثل ما لرئيس الوزراء في هذه الأيام، ومنصب كهذا يقتضي لا شك من صاحبه كثيراً من اليقظة والحذر، ولكن إسماعيل كما قلنا كان صاحب طبع أدبي لا يسنده في مثل هذا المركز السياسي، ولهذا لم يلبث أن عزل من هذا المنصب بوشاية كاشح، غير أن عباس باشا تبين حقيقة الأمر فأعاده ناظراً لخاصته. ولما تولى سعيد باشا أرجعه إلى الديوان كما كان من قبل، ولكنه لم يلبث أن استقال لإهانة لحقته من الوالي، وكأن الرجل كان قد عاف الحياة الحكومية وشبع منها، أو كأن ما أحاط به من ظروف اضطرته إلى الخروج من الديوان الخديوي مرتين قد بغضه في تلك الحياة فظل بقية عهد سعيد وشطراً كبيراً من عهد إسماعيل منعزلا عن الناس، عاكفاً على كتبه وتدبير الأمور في أملاكه، وجعل من داره نادياً للسمر والمذاكرة مع أهل العلم والأدب. وفي آخر حياته أنعم عليه إسماعيل باشا برتبة الباشوية، واختاره ناظراً لخاصة ولي عهده توفيق باشا، ولكنه توفى بعد ستة شهور من تولي هذه النظارة سنة 1872م ولم ينجب إلا ابنتين كبراهما السيدة عائشة عصمت تيمور الشاعرة المعروفة، وابنا هو المغفور له أحمد تيمور باشا، كما ترك خزانة كتب تضم كثيراً من النوادر، وخاصة في اللغة التركية وآدابها، ولكنها ضاعت وبعثرت، ولم يبق منها إلا فهرسها. . .
نشأ المغفور له أحمد تيمور يتيما، لم ير والده، ولم يتمتع بحنان الأبوة، فقد ولد عام 1871م، أي قبل وفاة والده بعام واحد، فتعهدته شقيقته الكبرى السيدة عائشة تيمور بالرعاية، وتولته بالتثقيف، والتعليم، وكان الابن صورة ممتدة للأب في هدوء الطبع، والميل إلى العلم، والشغف بالثقافة، فدرس العلوم الأولية على مدرسين خصوصيين بالمنزل، ثم أخذ يدرس اللغة العربية على الشيخ رضوان محمد أحد العلماء المشهورين في ذلك العهد واللغة الفرنسية في مدرسة كليبر ثم على الأستاذ عبيد بك، كما أخذ في دراسة التركية والفارسية. وكان بطبعه ميالا إلى الإفادة والتحصيل، فنبغ في دراسة اللغات الأربع. وإذا كان أحمد تيمور لم يحضر عهد والده ولم يتمتع بتلك الندوة العامرة التي كان يقيمها في بيته لمذاكرة العلماء ومسامرة الأدباء، فإن الله قد هيأ له من ذلك ندوة أحفل في(780/10)
دار ابن أخته محمود توفيق بك، فكان يتردد عليها للإفادة. ويحدثنا تيمور باشا بطرف من أخبار هذه الندوة في الترجمة التي كتبها لصديقه محمد أفندي أكمل فيقول: (وكان أول التقائي بالمترجم في دار ابن أختي محمود توفيق بك، وهي إذ ذاك مجمع الأدباء ومحط رجال الفضلاء، فلما رأيته استغربت شكله واستملحت محاضرته، ثم رأيته يناقش الأدباء ويطارحهم الشعر، فدنوت منه وكنت صغيراً في أول الطلب، وقد تعذر على فهم باب أفعل التفضيل، وأجهدت نفسي في درسين متواليين على تفهمه، فلم يفتح عليَّ بشيء فيه، فسألته عنه فأوضحه لي بعبارة سهلت على فهمه، فكان بعد ذلك كثيراً ما يقول لي ممازحاً: إذا ذكرت شيوخك فاذكرني معهم ولا تنسني. . .)
وهناك شيخان جليلان تتلمذ عليهما أحمد تيمور، وكان لهما أبعد الأثر في توجيه وفي ثقافته، وكان رحمه الله يذكرهما دائماً بالإجلال والتبجيل، أولهما العلامة اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي، وثانيهما العلامة المنطقي الشيخ حسن الطويل.
أما الشنقيطي فقد كان تيمور باشا يقصد إليه في داره، ويجلس أمامه لتلقي الدرس، وكان الوقت يطول به وهو متربع على الأرض، فكان حينما يشعر بألم ويريد أن يبدل رجلا بأخرى يقول الشنقيطي له: لا تتألم يا أحمد، فقد كنا نقطع بالراحلة شهوراً وراء البحث والاستقصاء عن مسألة علمية. ويحكي تيمور باشا عن نفسه فيقول: وأشار عليَّ مرة أستاذنا العلامة الشنقيطي أن أطالع آمالي أبي علي القالي مطالعة إمعان وتدبر، ولم تكن طبعت بعد، فاستنسخت منها كراريس عكفت على مطالعتها، واحتجبت عن الناس بضعة أيام، حتى استوفيت ما بهذه الكراريس. . .
وأما الشيخ حسن الطويل فيظهر أنه كان أشد خلطة وأعلق بنفس أحمد تيمور، وهو يعتبره أستاذه الذي قومه وثقفه وأخذ بيده إلى الطريق المستقيم، وقد كتب تيمور باشا ترجمة مطولة لهذا الأستاذ الفاضل أورد فيها سبب اجتماعه به وتحدث عن مدى انتفاعه بعمله وفضله فقال: (أما سبب اجتماعي به وقراءتي عليه فإني كنت خرجت من المدارس بعد تلقي ما يلقى بها من العلوم المعروفة وأنا في سن العشرين، وقد علق بالعقيدة شيء من آثار التربية بهذه المدارس، إلا أني كنت مولعاً من الصغر بالإسلام ومحاسنه والمطالعة في السيرة النبوية، ومناقب الأصحاب والخلفاء الراشدين، فكان ينشرح صدري لأشياء(780/11)
وينقبض من أشياء تعرض لي فيها شبهات، ثم كنت أعرض ما يظهر لي من مكارم الشريعة ومقاصدها على ما عليه الناس من البدع والمحدثات التي تمسكوا بها وجعلوها من الأصول الدينية، فأجد التصادم والتناقض فصرت أتردد على كثير من كبار علماء الأزهر وغيرهم لعلي أجد عندهم مفرجاً، فأراهم أحرص من العامة على هذه الخزعبلات حتى كدت أحكم بأنها من الدين، وأن الأمر دائر بين شيئين: فإما أن يكون الدين دين خرافات وخزعبلات تنفر منها الطباع السليمة، وإما أن يكون ما نراه حقاً، ولكن يمنعنا من قبوله إلحاد تأصل في النفس، حتى أرشدني بعض الأصحاب للمترجم، فأخذت في السؤال عنه من أهل العلم، فكانوا ينفرونني منه حتى بالغ بعضهم ورماه بالزندقة، فقلت: إذا كنت لم أجد طلبتي عند من تسمونهم بالصلاح والورع فلعلي أصيبها عند الزنادقة. ثم سعيت في الاجتماع به، وسألته القراءة عليه والاهتداء بهديه، فقرأت عليه العلوم العربية والمنطق، وأعدت عليه الصرف وعلوم البلاغة بتوسع، ثم قرأت طرفاً من الحكمة. ولما رآني مجداً في التحصيل قرر لي درساً ثانياً بعد العشاء كنا نقرأ فيه كتب الأدب ونحوها. وكان من عاداته الخروج إلى الريف كل خميس ترويحاً للنفس، فكان يسافر إلى ضيعتنا التي بقويسنا أو إلى حلوان حينما نسكن بها شتاء، فكنت أقضي معه هذين اليومين في مطالعة واشتغال، حتى في حالة المشي والتنزه كنت أحمل الكتاب معي وأسمعه فيه، فيقرر لي المسائل ونحن سائران. . . فكان اجتماعي به ومصاحبتي إياه من أكبر نعم الله عليَّ في ديني، ولو لم يكن له عليَّ سوى تصحيح العقيدة وتأديبي بآداب الحنيفة السمحة لكفي
(للحديث بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف(780/12)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
- 5 -
يقول ابن سينا في المقدمة المذكورة:
(وبعد) فقد نزعت الهمة بنا إلى أن نجمع كلاماً فيما اختلف أهل البحث فيه لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى أو عادة أو ألف، ولا نبالي من مفارقة تظهر منا لما ألفه متعلموا كتب اليونانيين إلفاً عن غفلة وقلة فهم، ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أن الله لم يهد إلا إياهم، ولم ينل رحمته سواهم، مع اعتراف منا بفضل أفضل سلفهم (يعني أرسطو) في تنبيهه لما نام عنه ذووه وأستاذوه، وفي تمييزه أقسام العلوم بعضها عن بعض، وفي ترتيبه العلوم خيراً مما رتبوه، وفي إدراكه الحق في كثير من الأشياء، وفي تفطنه لأصول صحيحة سرية في أكثر العلوم وفي إطلاعه الناس على ما بينها فيه السلف وأهل بلاده، وذلك أقصى ما يقدر عليه إنسان يكون أول من مدَّ يديه إلى تمييز مخلوط وتهذيب مفسد ويحق على من بعده أن يلموا شعثه ويرموا ثلماً يجدونه فيما بناه ويفرعوا أصولا أعطاها فما قدر من بعده على أن يفرغ نفسه عن عهدة ما ررثه منه وذهب عمره في تفهم ما أحسن فيه والتعصب لبعض ما فرط من تقصيره، فهو مشغول عمره بما سلف، ليس له مهلة يراجع فيها عقله، ولو وجدها ما استحل أن يضع ما قاله الأولون موضع المفتقر إلى ما زيد عليه أو إصلاح له أو تنقيح إياه.
وأما نحن فسهل علينا التفهم لما قالوه أول ما اشتغلنا به ولا يبعد أن يكون قد وقع إلينا من غير جهة اليونانيين علوم وكان الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك ريعان الحداثة، ووجدنا من توفيق الله ما قصر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه. ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي يسميه اليونانيون (المنطق) - ولا يبعد أن يكون له عند المشرقيين اسم غيره - حرفاً حرفاً فوقفنا على ما تقابل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهة فحق ما حق وزاف ما زاف.(780/13)
ولما كان المشتغلون بالعلم شديدي الاعتزاز إلى (المشائين) من اليونانيين كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائين إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم - وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه وأغضينا عما تخبطوا فيه، وجعلنا له وجهاً ومخرجاً ونحن بدخلته شاعرون وعلى ظله واقفون. فإن جاهرنا بمخالفتهم ففي الشيء الذي لم يكن الصبر عليه، وأما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل. فمن جملة ذلك ما كرهنا أن يقف الجهال على مخالفة ما هو عندهم من الشهرة بحيث لا يشكون فيه ويشكون في النهار الواضح. وبعضه قد كان من الدقة بحيث تعمش عنه عيون هؤلاء الذين في العصر - فقد بلينا برفقة منهم عاري الفهم كأنهم خُشب مسندة يرون التعمق في النظرة بدعة، ومخالفة المشهور ضلالة كأنهم الحنابلة في كتب الحديث لو وجدنا منهم رشيداً أثبتناه بما حققناه - فكنا نفعهم به، وربما تسنى لهم الإيغال في معناه فعوضونا منفعة استبدوا بالتنفير عنها.
ومن جملة ما ضننا بإعلانه عابرين عليه - حق مغفول عنه يشار إليه فلا يتلقى إلا بالتعصب. فلذلك جرينا في كثير مما في نحن خبراء ببجدته مجرى المساعدة دون المحاقة. لو كان ما انكشف لنا أول ما انصببنا إلى هذا الشأن لم نبد فيه مراجعات منا لأنفسنا ومعاودات من نظرنا - لما تبينا فيه رأياً ولا ختلط علينا الرأي وسرى في عقائدنا الشك، وقلنا لعل وعسى. لكنكم أصحابنا تعلمون حالنا في أول أمرنا وآخره وطول المدة التي بين حكمنا الأول والثاني، وإذا وجدنا صورتنا هذه فبالأحرى أن نثق بأكثر ما قضيناه وحكمنا به واستدركناه، ولاسيما في الأشياء التي هي الأغراض الكبرى والغايات القصوى التي اعتبرناها وتعقبناها مئين من المرات. ولما كانت الصورة هذه والقضية على هذه الجملة، أحببنا أن نجمع كتاباً يحتوي على أمهات العلم الحق الذي استنبله من نظر كثيراً وفكر ملياً، ولم يكن من جودة الحدس بعيداً واجتهد في التعصب لكثير فيما يخالفه الحق فوجد لتعصبه وما يقوله وفاقاً عند الجماعة غير نفسه، ولا أحق بالإصغاء إليه من التعصب لطائفة إذا أخذ يصدق عليهم فإنه لا ينجيهم من العيوب إلا الصدق.
وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا - أعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا - وأما العامة من مزاولي هذا الشأن فقد أعطيناهم في (كتاب الشفاء) ما هو كثير لهم وفوق(780/14)
حاجتهم، وسنعطيهم وفي اللواحق ما يصلح لهم زيادة على ما أخذوه، وعلى كل حال فالاستعانة بالله وحده).
ويظهر لنا من هذه المقدمة الفرق الشاسع بين المترجمين ومتتبعي فلسفة اليونان الذين كانوا يتلقون آراء فلاسفة اليونان في جميع الأحوال بأحسن قبول ويعتبرون عقولهم منتهى ما يصل إليه العقل، وبين الحكماء أصحاب الرأي والنظر من المتأخرين أمثال ابن سينا ممن لم يكونوا يرون في عقول فلاسفة اليونان أقصى ما يبلغه العقل البشري ولم يكونوا يتقبلون آراءهم كحقائق لا تقبل الشك والجدل.
كان يرى الشيخ الرئيس أن فلسفة أرسطو تعتبر كاملة لزمان أرسطو فحسب، وأن للأجيال القادمة أن تبدي فيها رأيها تنقدها وتصحح ما تراه فيها من الخطأ كما كانت نظرة الرازي لأراء جالينوس في الطب.
وهناك أمر آخر أرى من المناسب أن أشير إليه وهو أن ابن سينا لم يقتصر في كتابه (الشفاء) وهو عن فلسفة المشائين - على نقل ما وصله من أقوال أرسطو عن طريق التراجم بل أنه (أي كتاب الشفاء) هو حاصل ما فهمه هو نفسه من فلسفة أرسطو
اتصل أبو عبيد الجوزجاني تلميذ الشيخ وصاحبه وجامع أكثر كتبه بابن سينا في جرجان وصاحبه حتى آخر أيام حياته أي ما يقارب خمسة وعشرين عاماً ولازمه في كل حال وكل مكان لم ينفك عنه في سفر أو حضر، وكان الراوي الثقة الذي نقل إلينا تاريخ حياة الشيخ.
يقول أبو عبيد هذا في شرح أحوال الشيخ: (ثم سألته أنا شرح كتب أرسطو طاليس فذكر أنه لا فراغ له إلى ذلك القوت، وقال ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صح عندي من هذه العلوم بلا مناظرة مع المخالفين ولا اشتغال بالرد عليهم، فعلت ذلك، فرضيت به.
وكان بعد محمد بن زكريا الرازي وقبل زمن الشيخ الرئيس ابن سينا طبيب آخر وهو علي بن العباس المجوسي الأهوازي، وكان تلميذاً لأبي ماهر موسى بن سبار المجوسي وله كتاب جامع في الطب اسمه (كامل الصناعة الطبية) ألفه وقدمه لعضد الدولة الدبلمي الملقب بشاهنشاه أو ملك الملوك. وكان طبيبه الخاص ومن هنا سمي الكتاب بالملكي.
ينتقد علي بن العباس في مقدمة مؤلفه هذا - وهو من الآثار الخالدة في الطب الإسلامي،(780/15)
جميع الأطباء الكبار الذين سبقوه.
نراه يقول في المقدمة المذكورة:
فأما أبقراط الذي كان أمام هذه الصناعة وأول من دونها في الكتب فقد وضع كتباً كثيرة في كل نوع من أنواع هذا العلم، منها كتاب واحد جامع لكثير مما يحتاج إليه طالب هذه الصناعة ضرورة، وهذا الكتاب هو كتاب الفصول، وقد يسهل جمع هذه الكتب حتى تصير كتاباً واحداً حاوياً لجميع ما قد يحتاج إليه في بلوغ غاية هذه الصناعة، إلا أنه استعمل فيه كسائر كتبه الإيجاز حتى صارت معان كثيرة من كلامه غامضة يحتاج القارئ لها إلى تفسير، وأما جالينوس المقدم المفضل في هذه الصناعة فإنه وضع كتباً كل واحد منها مفرد في نوع من أنواع هذا العلم وطول الكلام فيه وكرره لما احتاج إليه من الاستقصاء في الشرح وإقامة البراهين والرد على من عاند الحق وسلك سبيل المغالطين، ولم أجد له كتاباً واحداً يصف فيه ما يحتاج إليه في درك هذه الصناعة وبلوغ الغرض المقصود إليه منها للسبب الذي ذكرته آنفاً.
وقد وضع أورنياسيوس كتباً وكذلك فولس الأجنطي ورام كل واحد منهما أن يبين في كتابه جميع ما يحتاج إليه، فوجدت أوربناسيوس قد قصر في كتابه الصغير الذي وضعه لابنه (أوناقس) وإلى عوام الناس، فلم يذكر في الكتاب الذي وضعه لابنه (اسطات) في تسع مقالات فإنه لم يذكر فيه شيئاً من الأمور الطبيعية التي هي الاستقصات من الأمزجة والأخلاط والأعضاء والقوى والأفعال والأرواح إلا اليسير، ولم يذكر في هذين الكتابين شيئاً من العمل باليد؛ فأما كتابه الكبير الذي وضعه في سبعين مقالة فلم أجد فيه إلا مقالة واحدة فيها ذكر تشريح الأعضاء. وأما فولس فلم يذكر في كتابه من الأمور الطبيعية إلا اليسير. وأما أمر الأسباب والعلاقات وسائر أنواع المداواة والعلاج باليد فقد بالغ في بيانه؛ إلا أنه لم يذكر ما ذكره في كتابه على طريق من طرق التعليم. وأما المحدثون فلم أجد لأحد منهم كتاباً يصف فيه جميع ما يحتاج إليه في مداواة الأمراض والعلل وأسبابها وعلاماتها وما سوى ذلك فذكره على جهة الإيجاز من غير شرح واضح؛ ومع ذلك فإن ترجمته ترجمة سوء رديئة تعمي على القارئ له كثيراً من المعاني التي قصد إلى شرحها ولاسيما من لم ينظر في ترجمة حنين وأشباهه. وأما يوحنا بن سرابيون فإنه وضع كتاباً يذكر فيه(780/16)
شيئاً سوى مداواة العلل والأمراض التي تكون بالأدوية والتدبير ولم يذكر العلاج الذي يكون باليد، وترك أشياء كثيرة من العلل ولم يذكرها من ذلك أنه ترك من علل الدماغ ذكر العلل المعروفة بالطرب والعشق والاسترخاء الحادث عن القولنج ولم يذكر في علاج العين مداواة النتوء على ما ينبغي ولم يذكر علاج السرطان في العين وغير ذلك من علل الأجفان.
وأما مسيح فإنه وضع كتاباً نحا فيه النحو الذي نحاه هرون في قلة شرح الأمور الطبيعية والأمور التي ليست بطبيعية مع سوء ترتيبه لما وضعه في كتابه من العلم وقلة معرفته بتصنيف الكتب.
وأما محمد بن زكريا الرازي فإنه وضع كتابه المعروف بالمنصوري وذكر فيه جملا وجوامع من صناعة الطب ولم يغفل عن ذكر شيء مما يحتاج إليه، إلا أنه لم يستقص شرح ما ذكره لكنه استعمل فيه الإيجاز والاختصار وهذا كان غرضه وقصده فيه؛ فأما كتابه المعروف بالحاوي فوجدته قد ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه المتطببون من حفظ الصحة ومداواة الأمراض والعلل التي تكون بالتدبير بالأدوية والأغذية وعلاماتها، ولم يغفل عن ذكر شيء مما يحتاج إليه الطالب لهذه الصناعة من تدبير الأمراض والعلل؛ غير أنه لم يذكر فيه شيئاً من الأمور الطبيعية كعلم الاستقصات والأمزجة والأخلاط وتشريح الأعضاء ولا العلاج باليد ولا ذكر ما ذكره من ذلك على ترتيب ونظام ولا على وجه من وجوه التعاليم ولاجزاه بالمقالات والفصول والأبواب. والذي يقع لي من أمره وأنو همه على ما يوجبه القياس من علمه ومعرفته لصناعة الطب وتصنيف الكتب وفهمه في هذا الكتاب إحدى الحالتين: إما أن يكون وضعه وذكر فيها ما ذكر من جميع علم الطب ليكون تذكرة له خاصة يرجع إليه فيما يحتاج من حفظ الصحة ومداواة الأمراض عند الشيخوخة ووقت الهرم أو النسيان أو خوفاً من آفة تعرض لكتبه فيعتاض منها بهذا الكتاب، وكذلك لكثرة تجريده التأليف من التعظيم، وإما أن ينتفع الناس به ويكون له ذكر حسن من بعده، فعلق جميع ما ذكره فيه تعليقاً ليعود فيه فينظمه ويرتبه ويضيف كل نوع منه إلى ما يشاكله ويثبته في بابه على ما يليق بمعرفته لهذه الصناعة فيكون الكتاب بذلك كاملا تاماً فعاقه عن ذلك عوائق وجاءه الموت قبل إتمامه؛ فإن كان إنما قصد به هذا الباب فقد طول فيه الكلام(780/17)
وعظمه من غير حاجة اضطرارية دعته إلى ذلك حتى قد عجز أكثر العلماء عن نسخه واقتنائه إلا اليسير من ذوي اليسار من أهل الأدب فقل وجوده، وذلك أنه ذكر في صفه كل واحد من الأمراض وأسبابه وعلاقاته ومداواته ما قاله كل واحد من الأطباء القدماء والمحدثين في ذلك المرض من ابقراط وجالينوس إلى أسحق بن حنين ومن كان بينهما من الأطباء القدماء والمحدثين ولم يترك شيئاً مما ذكر كل واحد منهم من ذلك إلا أورده في هذا الكتاب وعلى هذا القياس فقد صارت جميع كتب الطب محصورة في كتابه هذا.
وأما أنا فإني أذكر في كتابي هذا جميع ما يحتاج إليه في حفظ الصحة ومداواة الأمراض والعلل وطبائعها وأسبابها والأعراض التابعة لها والعلامات الدالة عليها مما يستغنى الطبيب الماهر عن معرفته إلى أن يقول (وأنا مثل لك مثالا للطريق الذي أسلكه في كتابي هذا من صفة الأمراض وأسبابها وعلاماتها ومداوتها وأجعل ذلك في ذات الجنب).
(يتبع)(780/18)
منادمة الماضي:
زيارة لحصن الأكراد
أدب وحرب
للأستاذ أحمد رمزي بك
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
39 - ويرجع الفضل إلى إحراز هذا النصر إلى عقيدة القضاء على الفرنج وإنهاء الجروب الصليبية إنهاء تاماً، تلك العقيدة التي تملكت عقول الجنود والقواد وملوك مصر منذ بدأ بيبرس حملاته والتي تتلخص في الاستيلاء على الحصون والقلاع وعدم ترك الفرصة حتى تسترد الولايات اللاتينية استعدادها مرة أخرى، وعليه أفرغ كتاب الفرنج جعبة شتائمهم على هؤلاء الأبطال، وكتب جبون يرثى الحروب الصليبية يقول: (ساد سكون محزن غريب مظلم على طول ذلك الشاطئ الذي ظل زماناً طويلا تترد فيه أصداء النزاع العالمي وتمر عليها كتائب المقاتلة)
40 - أنشأ الصليبيون معاقل وأبراجاً في الحصون التي احتلوها تشهد لهم بطول الباع والأناة وللعرب والبيزنطيين، بل وللفرس وغيرهم آثار تشهد لهم أيضاً:
وهذا فن يهم أربابه، وقد أخرجت البعثة الفرنسية حجارة نحتها العرب وأخرى نحتها الفرنج من أسوار حصن الأكراد، وفي أسوار قلعة القاهرة من الحجارة ما نحته أسرى الفرنج، فقد كانت الطريقة المتبعة استعمال الأسرى في هذه الأعمال.
41 - وقد استعمل حصن الأكراد وغيره من الحصون في فترات الهدوء التي دامت بين هجومين عظيمين: استعمل كرأس حربه مدة احتلاله بالصليبيين لإدخال الرعب في قلوب المسلمين، ثم كملجأ يلجأ إليه المقاتلة والفرسان بعد عودتهم من حملة موفقة ليستجموا ويستعيدوا قوتهم ليعودوا مرة أخرى إلى الغزو.
42 - وقد بقى حصن الأكراد 130 عاماً وهو رأس حربة كما قلنا يهددون بها حمص وما حولها، ويحولون دون المسلمين والاتصال بالجهات التي تحت حكمهم في بعلبك والبلاد الأخرى. المجاورة لها.(780/19)
43 - ولما شعر المسلمون بأهمية هذا الموقع العسكري وأذاه في صفوفهم لجأوا إلى نور الدين الشهيد صاحب دمشق الذي جمع جنوده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ونزل تحت حصن الأكراد، فبينما هو في معسكره وفي وسط النهار، دهمته كتائب الفرنج من خلف الجبل القائم عليه الحصن، وأحاطت بالجيش الإسلامي وهو على غير أهبة فأعملت فيه السيف، وقد الإفرنج خيمة العادل نور الدين، فكاد أن يقع أسيراً لولا رباطة جأشه وسرعة خاطره إذ خرج من الباب الخلفي وركب فرساً للنوية، وكانت بقيدها الخلفي فنزل أحد أتباعه من الأكراد فحلها وقتل لساعته، ولولاه لوقع نور الدين في الأسر.
44 - وفي هذه الحادثة بالذات يقول أبو الفرج عبيد الله ابن سعد الموصلي من قصيدة فائقة:
بنى الأصافر ما نلتم بمكركم ... والمكر في كل إنسان أخو الفشل
وما رجعتم بأسرى خاب سعيكم ... غير الأراذل والأتباع والسفل
هل آخذ الخيل قد أردى فوارسها ... مثال آخذها في الشكل والطول
أم سالب الرمح مركوزاً كسالبه ... والحرب دائرة من كف معتمل
وفيها يخاطب نور الدين:
لانكبت هتك الأقدار عن غرض ... ولاتنت يدك الأيام عن أمل
45 - وبرغم ما في القصيدة من محاولة الاعتذار أمام الهزيمة والفرار، فإن العملية الحربية الصليبية كانت ناجحة إذ تجلى فيها عنصر المفاجأة وظاهرة السرعة بدليل تتبع المنهزمين حتى حمص. والفضل للموقع الممتاز لحصن الأكراد، ذلك الموقع الذي أتعب المسلمين أكثر من قرن من الزمن كما قلنا.
46 - ولدينا من قبيل هذا المقال الكثير من الهجمات والمتاعب التي سببتها حامية حصن الأكراد الصليبية لمدينتي حمص وحماة وغيرهما من بلاد المسلمين.
ففي عام 599 زحف الفرنج من حصن الأكراد إلى مدينة حماة فركب صاحبها وحاربهم في رمضان. وجاء في السلوك ضمن حوادث سنة 603 أن الملك العادل الأيوبي صاحب مصر خرج من مصر إلى العباسة ومنها إلى دمشق ثم برز إلى حمص، وذلك عقب الحملات المتتالية التي شنتها حامية حصن الأكراد وتعدد الغارات على كل من حمص(780/20)
وحماة، ونازل الحصن وأسر خمسمائة رجل من أطرافه. ولقد نازله قبله صلاح الدين وغيره من ملوك المسلمين ولكنها كانت جميعاً حملات تعرضيه استكشافية، أو إذا شئت تأديبية ضد المقاتلين من جماعة الصليبيين المستحكمين في هذه القلعة ولم يعقبها حصار كامل الأهبة والاستعداد كما حدث بعد ذلك.
47 - وقد بقى هذا الحصن قذى في أعين المسلمين يهدد بلادهم حتى تم فتحه في عام 668 هجرية على يد الملك الظاهر بيبرس سلطان مصر وصاحب الفتوحات وهو ما سنفرد له فقرة خاصة تأتي بعد ذلك.
48 - وقبل أن يتم الفتح على يديه اتبع طريقة أسلافه، وهي الهجماب التعرضية السريعة لجس نبض الحامية واستنفارها للخروج من وراء الخنادق والأبراج؛ ففي هذا العام أي في 3 جمادس سنة 668 ركب الملك في مائتي فارس وأغار على أطراف الحصن ثم صعد إلى الرابية ومعه قدر أربعين من الفرسان فخرج عليه عدة من الفرنج ملبسين بالدروع فحمل عليهم وقاتلهم وتتبعهم حتى دخلوا الحصن. وتقول الراوية إنه صاح بهم ليدعوا رفقاءهم إلى الخروج، وأشار إلى عدد من معه وأنهم جميعاً بأقبية بيض أي غير مدرعين بالزرد والحديد.
وتشير الراوية إلى أنه عاد إلى مخيمه وأطلق الخيول في المروج الخضراء والمزارع التي كانت حول الحصن.
49 - وكانت هذه آخر الحملات التأديبية إذ سقط الحصن بعدها في أيدي الملك الظاهر الذي بادر إلى ترميمه وإعادة إصلاح أبراجه وخنادقه واتخاذه نقطة ارتكاز لجيوشه في عملياته الحربية ضد الفرنج المحتلين لمقاطعة طرابلس، فأصبح حصن الأكراد رأس حربة موجها إلى الغرب بعد أن كان موجها إلى الشرق أي إلى قلب الأراضي الإسلامية.
50 - ولهذا الوضع أمثلة في الحروب الحديثة فإن الزائرين لمنطقة جبال الكارسو في شمال إيطاليا لابد عاينوا الحصون الكائنة في جهة سان ميشيل وسابوتينو حيث لا تزال أماكن المدفعية التي استعملها النمسيون وأماكن تلك التي استعملها الإيطاليون بعدهم ظاهرة.
51 - وتحدثنا الراوية بالتفصيل عن بعض ما قام به الملك الظاهر فقد أمضى أياماً في الصيد، وكان يصنع السهام بيده وبريش النشاب، وكان يحضر العمارة بنفسه ويشحذ همم(780/21)
العمال ويشجعهم بل كان يشمر وينقل الحجارة على كتفيه، وكان ينزل في الخندق ويحفر بيديه. ولما أتم العمارة وأعاد تركيب المنجنيقات أمر بتجربتها أمامه ليعرف أماكن سقوط حجارتها ومدى إصابتها للأهداف.
52 - وتنتظم الحياة مرة أخرى بحصن الأكراد إذ تولى القيادة فيه الامير حسام الدين قيماز الذي مر ذكره: وأطلق عليه اسم نائب حصن الأكراد والسواحل والفتوحات على رأس حامية مؤلفة من 500 جندي وعشرة امراء طبلخانة و 15 أمير عشرة
53 - وبمقارنة هذه الحامية تظهر أنها أقل مما كان يحتل الحصن من جنود الصليبيين إذ كانت تتراوح بين 2000 و 3 آلاف وهؤلاء يدخل بينهم الخدم والزراع وطوائف من أهل البلاد.
54 - وبعد حسام الدين قيماز تعين سيف الدين بلبنان الطباخي ثم الأمير علم الدين سنجر الداواداري. ويوسع المهتمون بالتاريخ المصري استكمال هذا الكشف حتى يكون مكملا للكشف الذي ضم أسماء من تولوا القيادة بالحصن أيام الاحتلال الصليبي.
55 - انتهى الحصن في عهد المنصور قلاوون إلى أن أصبح مركز تجمع الجيوش التي حشدت هناك للزحف على مقاطعة طرابلس، وكان الطباخي يقود الحامية من البرج الذي كان يحتله عميد الاستبار، ويبعث بطلائعه لاكتشاف الأماكن التي نزلها الجنود قبل حصار طرابلس.
56 - وفي عهد الملك الأشرف خليل بن قلاوون اشتركت الحامية في أعمال الحصار الرائعة حول مدينة عكا وقد قامت ومعها المجانيق التي ركبها الملك الظاهر ومن بينها منجنيق هائل أطلق عليه اسم المنصوري.
57 - أتينا بصورة من الحياة والقتال في الحصن في العهدين الصليبي والإسلامي لكي تسهل المقارنة وتركنا فتح الحصن على أيدي المسلمين جانباً حتى لا يكون فاصلا يضيع المقارنة بين العملين.
58 - فقد أشرنا إلى عملية قام بها الملك الظاهر تشبه الهجمات التي اعتادها ملوك المسلمين وأمراؤهم ولم يكن يرمي من ورائها إلى هدف معين. وسنرى في حملته على حصن الأكراد كيف يلجأ إلى أساليب المفاجأة والسرعة وتضليل الخصم.(780/22)
59 - ففي السنة التي أتم فيها الملك الظاهر إنشاء الجسر والقناطر القائمة بقرب شبرا، قرر فتح حصن الأكراد الذي استعصى على غيره من الملوك والأمراء.
60 - وإليك برنامج السفر: غادر القاهرة في 18 جمادي الآخرة، وصل دمشق الخميس 18 رجب، وفي المدة السابقة لوصوله أي بين 18 جمادي و 18 رجب أشغل العدو إذ ابتدأت الحملات الخاطفة ضد قلاع الصليبيين في:
جبلة. وسقطت حصون اللاذقية. صافيتا. المرقب. المجدل. القليعات. طرطوس:
61 - في يوم 19 رجب الموافق 3 مارس سنة 1267 تجمعت قوات الملك الظاهر أمام حصن الأكراد.
ونلاحظ في هذه الأعمال اختفاء الهدف الرئيسي حتى اللحظة الأخيرة.
62 - جاء إليه ابنه الملك السعيد والأمير بيليك الخازندار وبمجرد وصولهما بدأت أعمال الحصار: إذ أخذت الجنود في نصب المجانيق وعمل الستائر لحماية الرماة.
63 - اقتحمت الأسوار الثلاثة على التوالي عنوة ما عدا البرج الأخير الذي استحكم فيه فرسان الاسبتار حتى آخر مراحل الحصار.
64 - في 7 شعبان سقطت الباشورة الثانية التي تؤدي إلى الحصن الداخلي، ودخلت العساكر البلد بالسيف وأسروا من فيه الجبلية والمزارعين ثم أطلقوهم.
65 - وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من شعبان طلبت الحامية الأمان فأمنهم الظاهر وتسلم البرج الأخير فدخله وكتبت البشائر وترتب أرباب الوظائف بالحصن من جهة المملكة المصرية أي النواب والقضاة وبقى بيد مصر حتى دخول السلطان سليم ديار الشام، فزال ملك مصر عنها كما زال عن غيرها من البلاد.
66 - هذا هو حصن الأكراد الذي توجهنا لزيارته ومررنا بأقسامه، ووقفنا أمام أبراجه، وفيها أبراج بناها المنصور قلاوون، ولا تزال الأسماء والآيات القرآنية كما كانت.
67 - ودخلنا أماكن الخيول، وقد كشفت عنها البعثة الفرنسية فرأينا ما أدهشنا: أثر حوافر الخيل ومواضع ربطها والحديد الذي كانت تشكل به. لقد كان الردم يغطي كل هذا، ولما أخرجته يد الإنسان من تحت التراب إذا به كما كان يوم تركه أصحابه منذ مئات السنين.
68 - وكان للحصن آبار ومجار للمياه حينما كشف عنها وجدت أواني من النحاس من(780/23)
عصر الملك الناصر محمد ورؤوس النبال والرماح.
وعدت من الحصن وقد غمرتني نفحة من تلك النفحات التي تؤذن بخروج الإنسان من طور ودخوله إلى طور جديد من أطوار الحياة: فقد تغيرت نظرتي إلى بعض الأشياء، وأخذت طريقاً لإشباع نفسي بتقليب صفحات الماضي الذي بدأت أحس بأننا قطعة منه.
69 - وإذا بي أؤمن بأن تاريخ مصر والشام وحدة لا تتجزأ، وأن أية محاولة للفصل بينهما تؤدي بنا إلى نتائج معكوسة أي تقرير مبادئ سلبية يقصد أصحابها توزيع القوى والعزائم وتجريح الأمم وإنقاص الدور الذي ألقته علينا الأقدار وحمله لنا التاريخ كقوة مقاتلة منشئة منتصرة.
70 - وها نحن نعيش في عصر طابعه السرعة والإقدام، والبناء والخلق والتجديد ومع هذا لا نزال نسير على خطوات وئيدة والزمن يعدو أمامنا: ذلك لأن عوامل التفكك والانحلال والسلبية لا تزال تعمل في صفوفنا وتعوقنا عن الأهداف الكبرى.
71 - هل كان الذين انتصروا في هذه الحروب وقادوا الحملات وتغلبوا على الحوادث لهم نظرة خاصة ومنطق خاص حتى تغلبوا على قوات تفوقهم: وأحرزوا النصر، وأننا لا نستطيع أن تكون لنا مثل نظرتهم ومنطقهم ومثلهم العليا؟
إن الذين خاضوا هذه المعارك أظهروا نهاية ما يمكن من الإقدام حينما وجدوا القيادة الصالحة، فهل يجدها معاصرونا الآن؟ إن استمرار الكفاح والجهاد لمدة تقرب من قرنين لهو أظهر دليل على أن صفات الاستمرار والمداومة ثابتة في الصفوف بين الأمم الإسلامية، ولا نحتاج إلا لمن يظهرها ويحسن قيادتها وتوجيهها.
72 - نحن لا نعيد الحروب الصليبية بمآسيها ومتاعبها وإن كانت تتكرر على مقربة منا في فلسطين ولكننا نقول: إننا في حاجة وقت السلم إلى صفات لا تقل عن الصفات التي تحتاجها الأمة وقت الحرب بل قد تزيد.
73 - إننا في عصر يتطلب انتزاع النصر في السلم كما انتزعه أسلافنا في الحرب؛ وتحضير هذا يتطلب جمع القوى المشتتة وتنظيمها وتعبئتها، وهذا التنظيم نوع من الكفاح الدائم المستمر
74 - إنه يتطلب نوعاً من الهدوء والثبات والتركيز، والأقدام وهي من قبيل الصفات التي(780/24)
تمكن بها أسلافنا من انتزاع النصر في المعارك التي ذكرتها أو أشرت إليها في الكلام عن حصن الأكراد ولا أشك في أن هذه الصفات كامنة فينا وأؤمن أنها ستخرج من القريب كلي نحقق في السلم ما يرى الكثيرون أنه بعيد التحقيق وليس في طاقة شعوب الشرق أن تقوم به، ولكن وثبتها نحو تحقيق مثلها العليا ستجعل هذا الرأي حقيقة ماثلة للعالم أجمع.
أحمد رمزي(780/25)
طرائف من العصر المملوكي:
أدب الحرب
للأستاذ محمود رزق سليم
ما أكثر امتلاء العصر المملوكي بالحروب الخارجية، وما كان أسرع ملوكه وأمراءه إلى تلبية ندائها كلما دعت، والاستجابة لها كلما أهابت. ومن يتضح تاريخ هذه الحقبة الفريدة من تاريخ مصر يجد أن جيشها كان يكافح عدوين لدودين طاغيين معتديين، هما التتار والفرنجة. ولم يكن في كفاحه متجنياً ولا معتدياً، وإنما كان يذود عن ممتلكات مصر وأرض المسلمين ومقدساتهم. فلم تكن حروبه حروب أطماع وأهواء، ولكن حروب دفاع ورد اعتداء. فهي حروب مشروعة لها سند من الدين والعقل والقانون.
أما التتار فكانوا في بداءة أمرهم وفي جملته، وثنيين جهلاء، وسفاكين للدماء. وما دفعهم من أقاصي بلادهم في آسيا، إلا حسب الفتح والاستعمار. وما أشبههم في العصر الحديث - لا بألمانيا وحدها - ولكن بكل دولة من تلك الدول الكبرى الفاغرة فاها للشرق وخيرات الشرق تبغي استلابها والتهامها، استلاب اللصوص والتهام القطاع. وكان يظن أنهم القوة لا تهزم، فكفكف المماليك غربهم، وفلوا سيوفهم، وردوهم داحرين على أعقابهم في جملة مواقع حاسمة قاصمة. وزالت بذلك خرافة قوتهم.
أما الفرنجة فقد حركتهم إذ ذاك أطماع استعمارية كذلك، وشنوا الحروب على سواحل البحر الأبيض الشرقية تحت ستار من المسيحية - والمسيحية الطاهرة منهم براء - وكانت هذه السواحل من شمال البلا الحلبية إلى الشامية إلى الفلسطينية في جملة ممتلكات مصر، يعيش فيها جميعاً شعب واحد متحد المشارب مجتمع الأهواء متجانس المقومات، له دينه ولغته وجنسه وتقاليده وله مشاعره المتشابهة ومصالحه المشتركة. فذاد عنها سلاطين مصر الأباة، عارفين للدين حرمته، وللوطن كرامته، ودافعوا عنها دفاع المستميت، لا ونى ولا وجل.
وإلى جانب ذلك كله كانت لهم حروب أخرى بعضها لتأديب أمير شق عصا الطاعة، أورد عدوان جار من جيرانهم، أو نحو ذلك. وأبدى كثير منهم سلاطين وأمراء وجنوداً ضروباً من الشجاعة خارقة.(780/26)
وكانت هذه الحروب - في كثير من ظروفها - منشطة لشياطين الشعراء والأدباء، فتابعوا سيرها وتحولاتها، مستمنحين منها الوحي، مستشعرين الإلهام. فمدحوا الملوك والأمراء الذين أبدوا من ضروب الشجاعة والمهارة ما استحق التخليد، وكان لأعمالهم أثر مجيد في الانتصار. وحمسوا وفاخروا بما نال جيش مصر من الظفر، ووصفوا الوقائع وما حل بها من حوادث وما صاحبها من آلات القتال، كالرماح والسيوف والخيل واللامات، وسجلوا بذلك كله كثيراً من حوادث أجيالهم، وشاركوا العصر إلى حد ما في آلامه وأحلامه.
ولم يقصر الكتاب الناثرون عن إخوانهم الشعراء في هذا المضمار. فقد كان بمصر حينذاك ديوان من دواوين الدولة خاص بالكتابة وهو (ديوان الإنشاء) تصدر عنه الرسائل الرسمية الهامة. ويلي أمر الكتابة فيه حذاق المنشئين وبارعوهم. وكان في جملة الرسائل التي يعنون بكتابتها (البشارات) وهي أنواع، ومنها: البشارة بانتصارات الجيش على أعدائه، فيوصف فيها تحرك الجيش واستعداده للاشتباك في القتال وما يأتيه السلطان أو أعوانه من ضروب المغامرة والشجاعة، وما يصبونه على عدوهم من أهوال، وما يصيبونه بعد هذا من نصر وظفر، إلى غير ذلك. وكانت هذه الرسائل تكتب بعبارة أدبية طريفة مطولة يجري أسلوبها على الطريقة الفاضلية أو النباتية، يبدع فيها الكتاب ما شاء لهم الإبداع والفن الكتابي الذي يسلكون سبله. وتنشر هذه الرسائل على الناس أو تتلى في المجامع. فهي إلى حد ما شبيهة بما يكتبه مراسلو الصحف في أيامها، ممن يصحب الجيوش في تحركاتها. وذلك لما يسري فيها من روح أدبية ونزعة عاطفية. ومن هنا تفارق البلاغات الرسمية الحربية التي يذيعها أولو الشأن اليوم عن حركات الجيش في لطف وإيجاز. ولو استطعنا جمع هذه البشارات كلها لكان لنا منها سجل أدبي رائع عن حروب المماليك وانتصاراتهم.
وقد روى أن الظاهر بيبرس سلطان مصر غزا في الشام، واستطاع بجيشه المصري أن يقوع بالتتار ويذل الفرنجة ويفتح المدن المنية ويدك الحصون المستعصية. وقد شارك جنوده وعماله بيده في أداء أعمالهم، وأظهر خوارق من المغامرات. ولما فتح قيسارية - وكانت من قلاع الفرنجة ومدنهم الحصينة - كشف بلادها وقمَّم خراجها، وورع ذلك كله على أمراه الذين شاركوه في جهاده. وكتب بذلك (مكتوب جامع بالتمليك) وهو ضروب(780/27)
آخر من الرسائل الرسمية. وقد جاء في مطالعة بعد الحمد والصلاة ما يلي في وصف الانتصار:
(إن خير النعمة نعمة وردت بعد الياس، وأقبلت على فترة من تخاذل املوك وتهاون الناس. فأكرم بها نعمة وصلت للأمة المحمدية أسباباً، وفتحت للفتوحات الإسلامية أبواباً. وهزمت من التتار والفرنج العدوين، وربطت من الملح الأجاج والعذب الفرات بالبرين والبحرين. وجعلت عساكر الإسلام تذل الفرنج بغزوهم في عقر الدار، وتجوس من حصونهم المانعة خلال الديار والأمصار. وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب إلى حلقات الإسار. ففرقة منهم تقتلع للفرنج قلاعاً وتهدم حصوناً، وفرقة تبنى ما هدم التتار بالمشرق وتعليه تحصيناً. وفرقة تتسلم بالحجاز قلاعاً شاهقة، وتتسم هضاباً سامقة، فهي بحمد الله البانية الهادمة، والقاسمة الراحمة. كل ذلك بمن أقامه الله وجرده سيفاً ففري، وحملت رياح النصرة ركابه تسخيراً فسار إلى مواطن الظفر وسرى. وكونته السعادة ملكا إذا رأته في دستها قالت تعظيما له ما هذا بشرا. . .) إلى آخر هذا المكتوب.
وقد نظم أديب عصره وشاعره محيي الدين بن عبد الظاهر، هذه الأبيات يصف فيها جنود مصر ومغامرات بيبرس في حرب التتار، فقال:
تجمع جيش الشرك من كل فرقة ... وظنوا بأنا لا نطيق لهم غلبا
وجاءوا إلى شط الفرات وما دروا ... بأن جياد الخيل تقطعه وثبا
وجاءت جنود الله في العدد التي ... تميس لها الأبطال يوم الوغى عجبا
فعمنا بسد من حديد سباحةً ... إليهم فما اسطاع العدو له نقبا
واعتقادنا أن هذه الأبيات بقايا قصيدة طويلة بارعة للقاضي محيي الدين، وهي تحدثنا في طلاقة ووضوح بما كان ثم من شجاعة بيبرس وجنوده. فإنه خاض نهر الفرات بنفسه للقاء التتار على شاطئه الآخر، فاندفع جنوده في إثره خائضين، فدحروا العدو وشتتوا شمله. وفي البيت الثالث يصف الشاعر الجنود بأنها جنود الله، وفي ذلك دلالة على عقيدتهم في أنهم إنما يخرجون للجهاد في سبيل الله وحماية دينه. وقد أبدع الشاعر في البيت الرابع إذ يقول (فعمنا بسد من حديد) كناية عما يلبسون من درع وعما يحملون من سلاح، وعمالهم من كثرة، وعما فيهم من جرأة. وهذه أهم أدوات النصر، وقد انتصروا فعلا، فإن العدو لم(780/28)
يستطع لهذا السد العظيم نقباً، وفي العبارة الأخيرة شيء من الاقتباس وفيه إشعار بتشبيه سدهم هذا بسد ذي القرنين.
وقد نظم الشاعر بدر الدين يوسف بن المهمندار في نفس الواقعة أبياتاً بديعة دقيقة الوصف رائعة التصوير تنضح بالمجد وتوحي بالفخار وتسجل عظمة أولئك الأسلاف الصيد، والغضافر الصناديد: ومن هذه الأبيات قوله:
لو عاينت عيناك يوم نزالنا ... والخيل تطفح في العجاج الأكدر
وقد اطلخم الأمر واحتدم الوغى ... ووهى الجبان وساء ظن المجترى
لرأيت سدا من حديد ما يرى ... فوق الفرات وفوقه نار تُرى
ومنها:
ورأيت سيل الخيل قد بلغ الزبى ... ومن الفوارس أبحرا في أبحر
لما سبغنا أسهما طاشت لنا ... منهم إلينا بالخيول الضمر
لم يفتحوا للرمي منهم أعيناً ... حتى كحلن بكل لدن أسمر
فتسابقوا هربا ولكن ردَّهم ... دون الهزيمة ريح كل غضنفر
وانظر حسن التعليل، أو توكيد المدح بما يشبه الذم، في قوله:
ما كان أجرى خيلنا في إثرهم ... لو أنها برءوسهم لم تعثر
ومنها:
وجرت دماؤهم على وجه الثرى ... حتى جرت منها مجاري الأنهر
والظاهر السلطان في آثارهم ... يذري الرءوس بكل عضب أبتر
ذهب الغبار مع النجيع بصقله ... فكأنه في غمده لم يشهر
ومن سلاطين مصر الأشراف خليل بن قلاوون، وقد حارب كذلك في بلاد الشام وفتح مدينة (عكا) الحصينة بعد أن رماها بالمنجنيق وهدم سورها وقلعتها. وكانت بيد الفرنجة. فمدحه القاضي شهاب الدين محمود الحلبي بقصيدة بائية في نحو خمسة وستين بيتاً. قال في مطلعها:
الحمد لله ذلت دولة الصلب ... وعز بالترك دين المصطفى العربي
هذا الذي كانت الآمال لو طلبت ... رؤياه في النوم لا ستحيت من الطلب(780/29)
ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ... في البحر للشرك عند البر من أرب
عقيلة ذهبت أيدي الخطوب بها ... دهراً وشدت عليها كف مغتصب
لم يبق من بعدها للكفر مذ خربت ... في البحر والبر ما ينجي سوى الهرب
كانت تخيلنا آمالنا فنرى ... أن التفكر فيها غاية العجب
أما الحروب فكم قد أنشأت فتنا ... شاب الوليد بها هو لا ولم تشب
سوران بر وبحر حول ساحتها ... دارا وأدناهما أنأى من العطب
مصفح بصفاح حولها أكم ... من الرماح وأبراج من اليلب
مثل الغمائم تهدي من صواعقها ... بالنبل أضعاف ما تهدي من السحب
كأنما كل برج حوله فلك ... من المجانيق ترمي الأرض بالشهب
ففاجأتها جنود الله يقدمها ... غضبان لله لا للملك والنشب
كم رامها ورماها قبله ملك ... جم الجيوش فلم يظفر ولم يجب
لم ترض همته إلا الذي قعدت ... للعجز عنه ملوك العجم والعرب
ثم أخذ الشاعر في مدح السلطان ثم وصف جيشه ووصف الحرب منوها بالأغراض المتوخاة منها، إلى غير ذلك من الأغراض الشعرية.
وفي عام 691هـ فتح السلطان الأشرف خليل قلعة الروم، فهنأه شاعرة هذا وهو القاضي محمود الحلبي بقصيدة رائية على نمط القصيدة السالفة في الروعة ودقة الوصف وجمال التصوير ووضوح المعنى. وقد بدأها بوصف راية السلطان وهي صفراء اللون، فكان له من اصفرارها ممد جميل لوصفه قال:
لك الراية الصفراء يقدمها النصر ... فمن كيقباذإن رآهاو كيخسرو
إذا خفقت في الأرض تهدي بنورها ... هوى الشرك واستعلى الهدى وانجلى الثغر
وإن نشرت مثل الأصائل في وغى ... جلا النقع من لألاء طلعتها البدر
وإن يممت زرق العدى سار تحتها ... كتائب خضر تحتها البيض والسمر
كأن مثار النقع ليل وخفقها ... بروق وأنت البدر والفلك والبحر
لها كل يوم أين سار لواؤها ... هدية تقليد يقدمها الدهر
وفتح بدا في إثر فتح كأنما ... سماء بدت تترى كواكبها الزهر(780/30)
فكم وطئت طوعا وكرها معاقل ... مضى الدهر عنها وهي عانسة بكر
وكان الأديب ابن جحة الحموي من خلصان سلطان مصر الملك المؤيد شيخ المحمودي اتصل به قبل سلطنته أيام أن كان أميراً في بلاد الشام، وقدم إلى مصر بعد سلطنته أيام أن كان أميراً في بلاد الشام، وقدم إلى مصر بعد سلطنته وأقام في خدمته ردحا. وكان المؤيد قبل سلطنته قد وقعت فتن بينه وبين سلطان مصر حينذاك الناصر فرج بن برقوق. فانهزم فرج أمامه في ضيعة من ضياع الشام اسمها (اللجون) فكان ذلك مثاراً لشاعرية ابن حجة إذ مدح المؤيد وذكر المعركة ووصف ما دار فيها موفقا في كثير من أبياته. فقال يخاطب المؤيد:
يا حامي الحرمين والأقصى ومن ... لولاه لم يسمر بمكة سامر
والله إن الله نحوك ناظر ... هذا وما في العالمين مناظر
فرج على (اللجون) نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر
فأبنت منه زحافه في وقفة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر
وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر
وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر
ومنها:
وإذا مددت يراع رمحك ماله ... إلا قلوب الدارعين محابر
ونعال خيلك كالعيون وما لها ... إلا جماجم من قتلت محاجر
ويعتبر القتال بين السلطان فرج وأميره شيخ حربا أهلية إذ أن كليهما من رجال الطبقة الحاكمة المصرية حينذاك وما كان أكثر الحروب الأهلية ووقائعها في هذا العصر!
ويطول بنا المقال لو استرسلنا في الحديث. غير أننا نختتمه بأن نذكر أن الزجالين كانوا في عداد الأدباء عناية بذكر الوقائع ووصف الحروب، وأن الشعراء طرقوا في باب الوصف، السيوف والرماح ونحوها من آلات القتال، ومنهم من أخرج غزله مخرجاً حماسيا، فاستعار لأدواته وملابساته ما للحرب من أدوات وملابسات. - ومن لطيف ما يروى أن الأمير (الطنبغا الجوباني) الذي كان نائبا عن سلطان مصر في كفالة الشام، زمنا دعا فضلاء الأدباء لكي ينظموا أبياتا تكتب على أسنة الرماح، وعددها أربعة. فتبارى في(780/31)
ذلك كثيرون. ومنهم فتح الدين ابن الشهيد فقال على لسان الرمح:
إذا الغبار علا في الجو عثيره ... فأظلم الجو ما للشمس أنوار
هذا سناني نجم يستضاء به ... كأنني علم في رأسه نار
والسيف إن نام ملء الجفن في علق ... فإنني بارز للحرب خطار
إن الرماح لأغصان وليس لها ... سوى النجوم على العيدان أزهار
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(780/32)
زعيمان
للأستاذ محمود الخفيف
هما أحمد عرابي وإبراهام لنكولن، يجمع بينهما في مجال الزعامة أن كليهما كانت الحرية متصلة بطبعه، وأن كليهما اضطلع بقضية كبرى في قومه خلد بها اسمه، ويجمع بينهما في هذا المقال وفي مقال في العدد السالف من الرسالة (الرسالة) بنفس العنوان ما تفضل به من حديث عنهما، أو بالأحرى عن كتابيَّ فيهما، الناقد الكبير الأستاذ العقاد.
ولقد أثار ما كتب الأستاذ الجليل أعظم اهتمامي، فإني لأنزله من نفسي منزلة الأستاذ، تلك المنزله التي ينزله إياها بالحق جمهور القارئين في العالم العربي، وأحرص على الإفادة من كل ما يكتب في الأدب، فكيف إذا كان ما يكتب متصلا بكتابين أخرجتهما؟
على أن اهتمامي بما قال عن الزعيمين كان أعظم مما ذكره متفضلا عن الكتابين، وللأستاذ الكبير عظيم شكري على ما تفضل به عليَّ من ثناء أرجو أن أظل له عاملا.
وإن الحديث عن هذين الرجلين لفرصة يجب ألا تفوت، فقد أردت بكتابي عن أولهما الدفاع عنه لاعتقادي أنه ظلم، وأن ظلمه مما يشين هذا الجيل الذي أصاب حظاً غير قليل من الثقافة؛ وأردت بكتابي عن ثانيهما أن أجعل منه، وهو الشخصية العالمية المحبوبة، قدوة لشبابنا، ومثلا لسادتنا وكبرائنا. . . وإن الشباب والكهول في كل أمة متمدنة ليقرأون عشرات الكتب في سيرته ويجدون فيه للعصامية المثل الأعلى!
أما عن عرابي، فحسبي مما بلغت بدفاعي عنه أن أقول في غير زهو أو فخر: أنه ما من قارئ لكتابي حدثني عنه إلا آمن لي، ورأى في عرابي ما كان من قبل ينكره أو يأخذه في كثير من الشك والتردد، وهو أنه زعيم قومي مخلص لعقيدته فذ في وطنيته؛ وحسب عرابي أن يشهد له بالإخلاص والوطنية من زعماء الكتاب في جيلنا هذا أستاذنا الجليل صاحب (الرسالة)، الذي شرفني فجعل عملي في الدفاع عن عرابي عمل إميل زولا في الدفاع عن دريفوس، ثم أستاذنا الكبير العقاد الذي نفى عن عرابي في كلمته الأخيرة ما اتهمه به المفترون طلماً والجاهلون، والذي تفضل فقال عن كتابي: (إنه يعد في بابه قليل النظير).
ومما أطيب به نفساً أن أجد رأي الناس عن عرابي قد أخذ يتغير، فالصحف والمجلات(780/33)
تتحدث عنه اليوم على أنه زعيمنا الأول، ويشيع فيما تكتب عنه كثير من التحمس له، والمثقفون في ندواتهم يذكرونه بالخير ويأسفون على ما لحقه فيما سلف من ظلم؛ فإذا كان مرد هذا أو بعضه إلى ذلك الدفاع الذي دافعت به عنه، فأي اغتباط ذلك الذي تشعر به نفسي، ومعاذ الله أن أقصد بهذا إلى شيء من الفخر، وإنما هو شعور الراحة في نفس من يوقن أنه أنصف رجلا قضى نحبه مظلوماً وقد أحسن إلى بلاده، وأنه أول من تصدى إلى هذا الإنصاف. وليغفر لي القارئ ما قد يجده في كلامي هذا مما يشبه الزهو.
وأما عن لنكولن، فقد أخذ الكتاب الكبير على كتابي مآخذ قرأتها في كثير من الترحيب والاطمئنان، فالعقاد من يصدر في النقد عن أستاذية توجب هذا الاطمئنان، وتوجب معه الاهتمام والحرص على الانتفاع من جانب كل مؤلف وإن علا كعبه في التأليف؛ مقام المبتدئ؛ غير أني أحسن في بعض ما ذكر الناقد الفاضل ما لا ترتاح إليه نفسي، وأؤكد للأستاذ الكبير أن أذكر ذلك عن إخلاص وصدق رغبة في الفهم والتعلم، وهي على أية حال فرصة طيبة لأسمعه رأيي لعله يتفضل بإرشادي إلى موضع الخطأ فيما أقول، وفرصة طيبة للحديث عن لنكولن لعل في الحديث عنه ما فيه للقارئ بعض الفائدة. . .
أخذ الأستاذ على كتابي (أنه ليس فيه تعريف كاف بأسلاف لنكولن من جانب أبيه وأمه)؛ وهذا الذي يأخذه على الأستاذ حق لا مرية فيه، ولكن كيف السبيل إلى معرفة هؤلاء الأسلاف؟ هذا هو موضع التسأول بيني وبين الأستاذ الجليل.
لقد عرف لنكولن أول ما عرف نجاراً ابن نجار أمي، وولد في كوخ وسط الأحراش والأدغال البرية بعيداً عن الدنيا الحضارة، ولم يحدثه أبوه عن أسلافه إلا قليلا، ومرد ذلك إلى بيئته وجهله، وكان حديث أمه أقل لما أحاط بسيرتها من ملابسات ذكرتها بموضعها في الكتاب، نقلا عن لنكولن، إذ أفضى بها ذات مرة إلى صديقه هرندن ولم يعد إليها أبداً، حتى لقد كانت إذاعتها على لسان صديقه مثار جدل وضجة في الولايات المتحدة كلها.
ولم يتحدث لنكولن نفسه عن أسلافه إلا قليلا، لأنه لم يكن يعرف عنهم إلا القليل؛ ولقد كان يقتضب الحديث عنهم اقتضاباً كأنه يكرهه، بينما يفيض إذا تحدث عن نشأته في بيئته الأولى.
لهذا حار كتاب حياته في معرفة أسلافه، وتحت يدي أكثر من عشر تراجم له ومن بينها(780/34)
كتاب إميل لدوج الذي عرف باستيعابه كل شيء، وأهم منه كتاب صديقه وزميله في المحاماة هرندن الذي كان أعلم الناس به، وهو الذي اعتمد عليه لدوج وغيره، وهؤلاء جميعاً لم يذكروا عن أسلافه إلا قليل وما لهم في ذلك حيلة. . .
افتتح هرندن الفصل الأول من كتابه بقوله: (لم يكن لدى مستر لنكولن عادة ما يقوله إذا تحدث عن نفسه وعن آبائه وتاريخ أسرته قبل مجيئهم إلى إنديانا أكثر من تلك الحقيقة، وهي أنه ولد في الثاني عشر من فبراير سنة 1809 في ناحية هاردن بكفطكي؛ وكان إذا تحدث عن هذا الموضوع، وقليلا ما تحدث، يفعل ذلك في كثير من التردد والتحفظ)؛ وأورد هرندن بعد ذلك بقليل قول لنكولن لأحد أصدقائه فيما بعد، وكان يسعى لكتابة تاريخ حياته: (لماذا تعني نفسك يا صاحبي سكربس؟ إنه لمن أكبر الحمق أن تحاول أن تجد شيئاً ذا بال في شخصي وفي حياتي الأولى. إنك لتستطيع أن تحصرها في جملة، وتجد هذه الجملة في مرثية جراي وهي (سيرة الفقراء القصيرة البسيطة)
وأنا أرجو من أستاذنا العقاد، وهو أطول مني باعاً وأكثر اطلاعاً، أن يرشدني إلى ما أقف منه على أسلاف لنكولن؛ وإني لشديد الحرص على إرشاده، ذلك أن الأستاذ الجليل قد عقب على ذلك الذي أخذه عليَّ مما يتصل بأولئك الأسلاف بقوله: (ولا تتم العبرة من تاريخ لنكولن إذا لم تكن نشأته وارتقاؤه إلى رئاسة الجمهورية، وحقائق مصرعه موضع اهتمام خاص يفوق كل اهتمام بغيرها من الموضوعات)؛ ولقد تشعر هذه العبارة من لم يقرأ كتابي بأني لم أهتم بنشأته وارتقائه إلى رياسة الجمهورية، والواقع أن نشأته وارتقاءه إلى رياسة الجمهورية استغرق من هذا الكتاب الذي يقع في خمسين وثلاثمائة صفحة كبيرة نحو ثلثيه، فقد تحدثت حديثاً طويلا عن حياته وهو صبي في الغابة، ثم وصفت أخلاقه شاباً يعمل في حانوت، وقد خرج من الغابة، ويعمل في البريد، وفي تخطيط الأرض، ثم انتقلت الى اشتغاله بالمحاماة، والى تدخله في السياسة، واختياره عضواً في الكونجرس، وما زلت أتتبع في تفصيل ارتقاءه في المحاماة والسياسة، واهتمامه بمسألة الرق، وردوده على خصومه، وما كان من الأحوال السياسية المحيطة به ليفهم سيرته حق الفهم من لا يلم بتاريخ الولايات المتحدة، حتى بلغت ترشيحه للرياسة، فبينت في إسهاب كيف رشح، ومن نافسه، وما قيمة منافسيه، ثم شرحت المعركة الانتخابية في استيعاب لا أذكر له نظيراً في(780/35)
كتاب واحد مما قرأت، وأخيراً بلغت بسيرته ارتقاءه للرياسة، وأعتقد أني وضحت ذلك جميعاً مع جهلي بتاريخ أسلافه، ذلك الجهل الذي لم تكن لي ولا لغيري فيه حيلة. . .
وثمة مسألة أخرى أخاصم ناقدي الكبير فيها خصاماً شديداً، وهي أنه ذكر عن كتابي أنه (ليس فيه إلمام كاف بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رياسة الجمهورية)؛ وليسمح لي الأستاذ الكبير أن أقول له - وهو العليم الذي لا يُعلَّم - أن المصادفات إذا كان لها شأن في حياة بعض العظماء، فإن لنكولن أحد من تخلو حياتهم من المصادفات خلواً تاماً. ولعله أوضح مثل في هذا الصدد، وإلا فأي عصامية أقوى من عصاميته؟ وما عمل المصادفات في حياة نجار ابن نجار شق طريقه في الحياة كما كان يشق طريقه بين أحراش الغابة، فقيراً لا جاه له ولا نسب يعتمد عليه، ومازال يتكئ على نفسه حتى أصبح رئيس الولايات المتحدة؟ كلا، ليس للمصادفات دخل في حياة لنكولن، بل لقد كان تعترض له أشد الصعاب، وقد كان يخفق مرات فيما يسعى إليه، ولقد نافسه في حزبه خصوم شداد، وكاد يتغلب عليه سيوارد أقوى خصومه، فيظفر بأغلبية المؤتمرين من الحزب الجمهوري الذين أرادوا ترشيح رجل من الحزب للرياسة؛ ولقد كان هو ينتظر الفشل ويتحدث به إلى هرندن؛ وإذا كانت المسألة مسألة اختيار يقوم على الموازنة والخصومة، فأي دخل في ذلك للمصادفة التي تقوم على الحظ؟ ذلك - كما أسلفت - ما أخاصم فيه ناقدي الفاضل، وكنت أحب أن يضرب مثلا لأثر المصادفة في حياة لنكولن. والحق اني حرت في قوله (وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية، لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح). ولكم يسرني ويسر قراء الأستاذ الكبير أن يصرب لنا بعض الأمثلة لما يذكر.
وذكر الأستاذ الفاضل عن الكتاب قوله: (وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه (؛ والحق أنها جريمة غير محددة الدوافع أشبه بجريمة أبي لؤلؤة في ضيق نطاقها المعلوم. وأما بطل الجريمة فلم يذكر شيئاً، ولم يصل القصاص فيها إلا إلى ثلاثة أشخاص من شركائه؛ وخير ما يقال عن ذلك القاتل ما ذكره الأستاذ العقاد نفسه حين يقول: (وجملة ما يقال عنه أنه ممثل فاشل أراد أن يعوض فشله في أدواره المسرحية بهذا الدور من أدوار المغامرات المعهودة في تاريخ البلاد الأمريكية، ولولا عوارض شخصية في طبيعة هذا(780/36)
المفتون لما وقع الحادث على الإطلاق). . . وأظن أنه لا محل بعد هذا لأن يؤخذ على الكتاب أن (ليس فيه تعليق على مقتله ولا عن المتآمرين عليه) فضلا عما أوجبه الأستاذ من اهتمام خاص بحقائق مصرعه فيما أوجب من أمور ذكر أن العبرة من تاريخه لا تتم إلا بها.
بقيت مسألة واحدة، وهي أن الأستاذ الجليل يرى أني - كما يبدو لأول وهلة من كتابي - موفق في تحقيق معلوماتي ووزن أبطالي، إلا أني حين أحتاج إلى الميزان المشترك بين أبطال متعددين أضطرب في الميزان بعض الاضطراب، وقد يكون هذا صحيحاً، ولكني لا أستطيع الجزم بصحته كما لا أستطيع الجزم بنفيه؛ وذلك لأني لست أذكر أني عنيت بالميزان المشترك، فقد كنت أصف كل شخص وحده، ولم أصدر حكما على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره، ولهذا لم تتضح في ذهني عبارة الأستاذ الناقد: (ومن أمثلة ذلك في تاريخ لنكولن أن كلامه عن بطله صحيح، وأن كلامه عن دوجلاس مزاحمه صحيح، ولكنه إذا عرض الرجلين على الميزان المشترك لم يبلغ من الدقة ما يبلغه من وزن كل منهما على انفراد).
وبعد، فإني أعود فأقدم للأستاذ الجليل عظيم شكري على فضله، وأعبر له عن بالغ سروري واهتمامي بنقده، وشديد حرصي على الإفادة من إرشاده ونصحه، فذلك دأبي معه في كل ما أقرأ له منذ نشأتي. . .
الخفيف(780/37)
مزامير:
أين راحت؟
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
- 1 -
(إلى واهبة الضحي السمراء في أغلالها الجديدة. . .)
لم أكد أسبح في وادي شذاها
وأذل المطر من عاتي ذراها
وأصيد السحر، لو كانت رباها
هاجعات بين ألفاف الأبد
كل ظل حول جنبيها رصد. .
لم أكد. . والكأس في كفي صاد
وعلى أغصانها الخمر تنادي
حانة فيها. . . وأخرى في فؤادي
أقبلي. . . والكأس كادت تتقد
وممدت الكف. . لكن لم أكد
لم أكد. . والنهر نشوان الضفاف
وخطا الزورق أرست بالمطاف
والهوى ما بين عب وارتشاف
حائر السكرة عات مستبد
وهي بركان توارى في جسد
لم أكد. . حتى تلفت إليها
فإذا النار صلاة في يديها
وإذا وعد هفا من حاجبيها
فأرقت الكأس إيماناً بغد(780/38)
وارتقبت الوعد. . . لكن لم تعد!!
محمود حسن اسماعيل(780/39)
الأدب والفنّ في أسبُوع
لماذا خاضت مصر معركة فلسطين؟
كان هذا عنوان الحديث الذي ألقاه بالإذاعة معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات، ولم يكن هذا الحديث كالذي عهدناه من الوزراء والسياسيين الذين تحكمهم الرسمية والدبلوماسية، ولم يكن حديث رجل فارق الشباب، إنما كان حديث (شاب) مصري عربي، استشعر مصريته وعروبته، وواتاه البيان العربي، فراح يتدفق في حماس وقوة، ولم يقف في الحق عند حد، بل كان صريحاً جريئاً لاذعاً. حمل على الولايات المتحدة حملة شعواء، إذ قال: إننا دخلنا الحرب مضطرين بسبب المعاملة الجائرة التي عاملتنا بها هيئة الأمم والولايات المتحدة على الخصوص، وهي التي كانت في أثناء الحرب تنادي بالمبادئ السامية، فأصبحت تزود عن المطامع الصهيونية. وليس هناك ظل من الشك في أنها ضغطت على الدول لتحصل على أغلبية تقول بالتقسيم، وقد اعترف ممثلو تلك الدول بذلك وأعلنوه. وندد معاليه بموقف الرئيس ترومان قائلا: إن موقفه يدعو للعجب والدهشة، فهو في سبيل عدد ضئيل من الصهيونيين لا يبلغ نصف مليون من المشردين والأفاقين والمرتزقين من حثالة الشعوب لفظتهم بلادهم فانهالوا على فلسطين من كل فج لا على أساس من الجنسية أو اللغة أو أي مقوم من مقومات الشعوب، بل على أساس الدين وحده - في سبيل هذه الحثالة يمزق الرئيس ترومان ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ويعبث بالمبادئ التي أعلنها العالم بأسره ممثلا في تلك الهيئة من احترام الحريات وحقوق الشعوب والمساواة بين الأمم؛ ومن أجل هذه الحثالة الشريرة المحتالة يقف الرئيس ترومان إلى جانب ويزمان زعيم الصهيونية، فينزله في البيت الأبيض، ويحمله على الظهور بجانبه في صورة فوتغرافية وهو يقبل منه التوراة هدية، وفي صورة أخرى وهو إلى جانبه يحتضن شارة العصابة الصهيونية متلعفاً بها فخوراً رغم أنف العدالة الدولية. من أجل هذه الحثالة يعرض بلاده لعداوة ثلثمائة مليون من المسلمين في أنحاء الأرض - الرئيس ترومان المحب الواله والصب المدنف والمغرم المدله المشغوف بالصهيونية!
ثم قال معاليه: دخلت مصر الحرب مكرهة، لأنها لم تجد عدلا لدى هيئة الأمم، فاعتقدت أن العدل لن يكون إلا إذا دعمه السلاح. دخلت مصر الحرب دفاعاً عن فلسطين وعن نفسها،(780/40)
فإن قيام دولة صهيونية تتاخمها فيه القضاء عليها من كل وجهة، وقد اكتشفنا بعد التوغل في فلسطين أننا كنا نعيش على فوهة بركان، لأن استعداد الصهيونيين بمصر، وضبط العدد الهائل من الجهازات اللاسلكية والمدافع والبنادق والخرط الدقيقة وقوائم الاكتتابات، مما يدعو للأسف والدهشة ويضعف حجتي في إقناع الكثيرين بوجوب التفرقة بين اليهود والصهيونيين. دخلت مصر الحرب - كما قال صديقنا فوزي بك في مجلس الأمن - لأن النار اشتعلت في دار جارنا، فوجب علينا أن نطفئها. وكان من حقه أن يقول بأن النار اشتعلت في بيتنا، لأننا والجار نسكن بيتاً واحداً. دخلناها تضامناً مع البلاد العربية الشقيقة المحبوبة، التي عاهدناها على أن نكون يداً واحدة، إذا هددنا خطر وقفنا ندافع عن حياتنا ونذب عن كياننا، والعالم بأسره يتطلع إلينا، فلا يحسبنا بعد الآن كمية مهملة ولقي لا يساوي قلامة!!
العالم يطل على مصر
يتحدث الأستاذ محمد رفعت بك في الإذاعة عن شئون عالمية تتصل بمصر، وكان يسمى سلسلة أحاديثه (مصر تطل على العالم) فلما شغلت مصر بال العالم منذ دخت جيوشها فلسطين للقضاء على الصهيونية، أطلق على تلك الأحاديث (العالم يطل على مصر) وفي هذا الأسبوع تحدث عن المسألة الفلسطينية فتناول عدة نقط هامة، منها أن الغرب لما هاله انتصار الشرق، أراد أن يقاومه بالدبلوماسية، فلجأ إلى مسألة الهدنة، وهو ليس مخلصاً في ذلك وإنما يريد أن يحمي الصهيونية من بطش العرب، في الوقت الذي يغض فيه عن أعمال الهولنديين بأندونسيا، وهو ينتصر للعصابات الإرهابية في فلسطين في الوقت الذي يساعد فيه على العصابات الشيوعية في اليونان. وقال الأستاذ: إن ما كان مجلس الأمن قرره من وقف القتال بأندونسيا لم يحسم الموقف هناك بل صارت الحال أسوأ مما كانت لاستمرار حرب العصابات، مما يدل على أن القتال لا ينتهي بوقف الحرب بين الجيوش النظامية مادامت أسبابها قائمة.
ومن النقط التي تناولها رفعت بك، أن العرب حينما يستجيبون لطلب الهدنة إنما يستجيبون لنداء الإنسانية والشرف الدولي؛ ولا يفيدهم وقف القتال ما دامت شروط الهدنة تنص على احتفاظهم بمراكزهم، لأنهم قابضون على معظم المراكز الهامة في فلسطين وخاصة أنهم(780/41)
الآن يطوقون تل أبيب وكر الصهيونيين ومقر حكومتهم المزعومة. وقال إن اليهود إن أخلوا بشرط من شروط الهدنة فللعرب أن يستأنفوا القتال كما تنص على ذلك القوانين الدولية.
أعمال المجمع اللغوي:
أرسل مجموع فؤاد الأول للغة العربية إلى إدارة التسجيل الثقافي بوزارة المعارف، بياناً شاملا بمثابة تعريف بالمجمع بناء على طلب الإدارة لتضمينه السجل الثقافي لسنة 1948 الذي تعمل الآن في إعداده.
ومما تضمنه ذلك البيان موجز عن أعمال المجمع منذ إنشائه إلى الآن، ونوجز هذا الموجز فيما يلي:
1 - اتخذ المجمع طائفة من القرارات العملية واللغوية في قياسية الصيغ والتعريب والاشتقاق والتضمين ونحو ذلك، لتوسيع آفاق العربية والعون على أداء الأغراض العلمية والفنية التي جاءت بها الحضارة الحديثة.
2 - وجه المجمع أكبر همه إلى المصطلحات العلمية والفنية ولاسيما ما يدخل في التعليم الثانوي، فاستخرج طوائف منها في علوم الأحياء والرياضة والطبيعة والموسيقى والطباعة والتصوير والكهرباء واللاسلكي وتاريخ القرون الوسطى والمغنطيسية وغير ذلك، وتبلغ هذه المصطلحات نحوا من عشرة آلاف مصطلح، وقد دخل كثير منها في كتب التعليم وفي قوانين بعض الأمم العربية والثقافية العامة.
3 - وضع المجمع نظما ثابتة لتعريب الأعلام الأجنبية للممالك والبلدان، حتى يزول الاضطراب في كتابتها أو النطق بها، واستحدث رقوما وعلامات تلحق بالحروف العربية ليمكن النطق بالعلم الأجنبي على وجه الدقة، وأصدر قائمة بأعلام بلاد السودان والحبشة والصومال وشمال إفريقية وغرب آسيا على وجهها الصحيح
4 - عنى المجمع بمشكلة الكتابة العربية قصداً إلى وضع نظام يكفل أن تؤدي الحروف إلى نطق الكلمة نطقاً سديداً، وقد أرصد جائزة مقدارها ألف جنيه لمن يقدم له أحسن اقتراح في تيسير الكتابة العربية، وقد تلقى المجمع في هذه المسابقة أكثر من مائتي مقترح، وما تزال قيد النظر.(780/42)
5 - عنى المجمع بمشكلة القواعد ومناهجها في التعليم رغبة في التيسير على الناشئين، وقد درس مشروعاً لهذا التيسير على أساس المشروع الذي وضعته لجنة ألفتها وزارة المعارف من قبل لهذا الغرض، وبعثت به إلى وزارة المعارف لوضع كتاب على أساسه، وفي هذا العام قرر المجمع أن تضع لجنة فنية هذا الكتاب.
6 - قرر المجمع تأليف معجم لغوي لأوساط المثقفين يجري في ترتيبه وتنسيقه على أحدث الأساليب العصرية، على أن يتضمن إلى الألفاظ العربية أشهر الكلمات المستحدثة، وتوضح أعلام الحيوان والنبات بالصور والرسم، وقد أنجز معظم هذا المعجم.
7 - قرر المجمع الشروع في وضع المعجم اللغوي الكبير الحاوي لألفاظ اللغة العربية واستعمالاتها مع التوسع في اختلاف المعاني وأصول الكلمات.
8 - قرر المجمع أن يؤلف معجما لألفاظ القرآن يراد به أن يعين المثقفين على أن يتزودوا من ألفاظ القرآن الكريم وتعابيره.
9 - يقوم المجمع بالإجابة عما توجهه إليه شتى المصالح الحكومية وطوائف العلماء والمؤلفين، لترجمة ما يحتاجون إليه من المصطلحات وما يرغبون في تصحيحه من الألفاظ.
10 - قرر المجمع طبع معجم الدكتور فيشر أحد أعضائه، وهو معجم لغوي تاريخي يعتمد على النصوص الأدبية القديمة، وقد توقف العمل في هذا المعجم لانقطاع الدكتور فيشر عن مصر بسبب الحرب.
11 - قرر المجمع جمع ألفاظ الحضارة الحديثة والحياة العامة قصداً إلى العمل على التقريب بين الفصحى وبين لغة الحياة الاجتماعية.
12 - عنى المجمع بتشجيع الإنتاج الأدبي الحديث، وذلك يعقد مسابقات أرصد لها ثمانمائة جنيه سنويا في ميزانية المجمع.
13 - نشر المجمع أربعة أجزاء من مجلته، وقريباً يصدر العدد الخامس من المجلة مشتملا على القسم الرسمي في الدورات التي لم تتضمنها الأعداد السابقة
تعدد المجامع في البلاد العربية:
ومما تضمنه البيان السابق أغراض المجمع، وأهمها أن يحافظ على سلامة اللغة العربية،(780/43)
وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر.
وقد أتيت في عدد مضى من الرسالة على أغراض المجمع العلمي العراقي الذي أنشئ في أوائل هذا العام، وأهم أغراض هذا المجمع المحافظة على سلامة اللغة العربية والعمل على جعلها وافية بمطالب العلوم والفنون وشئون الحياة الحاضرة. وفي سورية، من زمن المجمع العلمي العربي، وهو يتفق مع مجمعي مصر والعراق في الغاية التي يعمل لها، فالثلاثة مجامع لغوية عربية أهم ما تعني به سلامة اللغة ومسايرتها للحياة العصرية، وهذا يقتضي بطبيعة الحال وضع ألفاظ ومصطلحات، وقد يضع أحدها لفظاً لشيء غير الذي يضعه الآخر لنفس الشيء، بل لابد أن يحدث هذا. ونتيجة ذلك اختلاف البلاد العربية ذات اللغة الواحدة في بعض كلمات هذه اللغة ومصطلحاتها، بل إن هذا الاختلاف واقع فعلا فلم لا تتجمع هذه المجامع في مجمع واحد تكون له صفة (العالمية العربية) ويكون من عمله توحيد ما تختلف فيه البلاد العربية من أسماء لمسميات حديثة، وتوحيد المنهج في العمل لتحقيق الأغراض اللغوية والأدبية والثقافية التي تتصل بمهمة هذه المجامع ويكون المجمع المنشود فوق كل ذلك صرحاً من صروح الوحدة العربية التي أصبحت حقيقة واقعة. وبدل أن يكون كل مجمع من المجامع الحالية مرتبطاً بحكومته المحلية، يصبح المجمع الموحد مرتبطاً بجامعة الدول العربية.
هدف لغوي:
في إحدى ليالي هذا الأسبوع سمعت متحدثاً بالمذياع أثار انتباهي بطريقة إلقائهن والعناية بإعراب الكلمات، وإخراج الحروف من مخارجها، ومراعاة قواعد الوقف والوصل، وتعطيش الجيم، وما إلى ذلك. ولم يكن الحديث في اللغة ولا في الأدب، فالإذاعة لا تذيع في اللغة، والأدب فيها قليل. . على أن أحاديث الأدب لا تظفر بمثل هذه العناية التي يبذلها محدثنا، وإنما كان الحديث في السياسة، ولهذا كان انتباهي وعجبي. وقد زاد هذا العجب عندما انتهى المتحدث وقال المذيع: سمعتم الدكتور فلان بك. لأن الرجل ليس من أهل ذلك. . ولم يعهده أحد من قبل على مثل هذه الحال من إخراج القاف من أقصى الحلق، وقضم همزة الوصل، وملء الشدقين باللفظ، وتنعيم حرف اللين الأخير. .(780/44)
ومن قبل ذلك سمعت الرجل بأحد النوادي يقلي محاضرة يخيل إلى أنه اختار عنوانها كلمة معينة، ليذكر جهادة في أنه أول من اهتدى إلى استعمالها في مدلولها الحديث، ولكن أسلوبه في هذه المحاضرة كان على عهد الأول، ولم يكن قد بلغ هذا الطور الذي بدا في إذاعته الأخيرة.
قل لي هكذا! كدت أصبح بهذه الكلمة عندما سمعت اسم صاحبنا يتردد في أثناء الحديث عن شغل الكرسي الذي خلا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية بوفاة أنطوان الجميل باشا.
ومن أعمال المجمع ذات الأثر الحميد أنه قرر تأجيل شغل هذا الكرسي متجهة نيته إلى شغله في العام القادم. وأثر هذا القرار المفيد ظاهر في صالح اللغة العربية كما رأيت على لسان المتحدث الفاضل، ومن يدري فقد ينهج آخرون مثل هذا النهج القويم، ولا شك أن استمرارهم عليه عاماً يكسبهم قدرة على الفصاحة ويعيد إلى الدقة اللغوية اعتبارها لدى بعض (التقدميين)
من طرف المجالس:
كان بيد أحد الجالسين مطبوع صغير كتب عليه (ملحمة) وهو نشيد طويل قدمه صاحبه إلى جامعة الدول العربية ليكون (نشيد العروبة) وقدم له بتقاريظ من بعض الكبراء والزعماء
ودار الحديث حول انتقاد هذا الصنيع وهو إقحام الكبراء في الكم على الشئون الأدبية والفنية.
ثم أقبل أحد الأصحاب وأخذ مجلسه، فقال لمن بيده (الملحمة):
- ما هذا؟
- نابلسي فاروق. . .
العباس(780/45)
مِن هنا ومن هناك
من خدع المستعمرين:
(مقدمة إلى المجاهدين من شمال أفريقية)
بتاريخ 5 مايو سنة 1865 أرسل نابليون الثالث ملك فرنسة إلى مسلمي الجزائر بعهد ننشره تبياناً لمقدمات الاستعمار، وخدع المستعمرين المختلفة:
السلطنة الفرنسية - إعلان من حضرة الإمبراطور سلطان الفرنسيين إلى جميع المسلمين في المملكة الجزائرية: إن الدولة الفرنسية لما وضعت قدمها في وطن الجزائر منذ 35 سنة لم يكن مرادها تمزيق شمل سكان الوطن المذكور، بل المراد خلاصه من الظلم المترادف عليه منذ أحقاب. وقد جاءتكم بحكم أعدل وأبلغ رشداً مما كانت عليه القوانين التركية التي خلفناها. ومع ذلك فإنكم في السنين الأولى من الاستيلاء وقع لكم قلق واضطراب لرؤيتكم أمة أجنبية تتصرف فيكم، فلذلك قاتلتم من خلصكم من الظلم. ومعاذ الله أن نظن أن ما صدر منكم يومئذ كان ذنباً يوجب الملام، بل نجل ما جبلتم عليه من الخصال الحربية التي حملتكم على رفع السلاح في وجوهنا، وأنتم منتظرون قبل الإذعان لنا إجراء حكم الله.
ولكن قد نفذ حكمه بما أراد فليس إلا الرضا بما قدرته الحكمة الإلهية التي تبلغ المرء إلى الخير في الغالب وتضطره أحياناً إلى عدم نيل مراده وخيبة قصده وعكس اجتهاده.
ومثل ما وقع بكم حل بأسلافنا منذ عشرين قرناً فقد هجمت عليهم أمة أجنبية، فلم يخضعوا لها وقابلوها مكافحين ثم هزموا. ومن يومئذ تحولت حالهم إلى أحسن منها، وهو مبدأ تاريخ رقيهم، وإن (الفولر) أسلافنا لما انهزموا تخلقوا بخلق الرومانيين المنتصرين عليهم. وبالاتصال الدائم، مع اختلاف فضائلهم وعاداتهم تولدت منهم على مرور الأزمنة هذه الأمة الفرنسية التي وقت الله لها وقتا لتنشر في الدنيا ما ألهمها الله من محاسنها.
ومن يدري! لعل العرب في يوم آت يجدون مساعدة وعونا على الاستقلال في بلادهم، كما كانوا قبل في القرون الماضية مسيطرين على بعض سواحل البحر الأبيض المتوسط ولكن لا يكون ذلك إلا بعد صلاح أحوالهم واختلاطهم بالأمة الفرنسية.
فارضوا أيها العرب بما حكم الله به، وقد قال تعالى (تؤتي الملك من تشاء) وحيث أقدرني الله على هذا الملك بقدرته، أريد أن أصرف أموركم بما يؤمن مصالحكم وخيركم، وقد(780/46)
قررت لكم ملكية الأرض التي كنتم تستغلونها تقريراً قاطعاً مستمراً، وأجللت مقام كبرائكم مع احترام دينكم، ورغبتي أن أزيد في رفاهيتكم وأن أشرككم في حكم الوطن، أكثر مما أنتم عليه الآن، كما أرغب في مساهمتكم في أنواع خيرات التمدن. لكن ذلك مقرون بشرط طاعتكم واحترامكم لمن ينوب عني في الحكم وأخبروا إخوانكم المغرورين بأن استمرار سعيهم بعدم الطاعة سيعود بالخسران عليهم، فالمليونان من العرب لا يقدرون على معاندة أربعين مليونا من الفرنسيين. وحيث تحققتم بأني سلطان عليكم فاعلموا أني محام لكم، وأن كل من عاش طائعاً في ظل حكمنا فله حق المساواة، واذكروا أنكم منتسبون إلينا إذ كنتم منذ عشرة أعوام أحرزتم نصراً مع جنودنا، ووقف أولادكم إلى جنب أبنائنا في المعارك التي وقعت في القرم وإيطالية والصين والمكسيك، ولا تنحل الرابطة التي تقع في ساحات الحرب. وقد رأيتم قوتنا وما نفعله بعدونا عند عدوانه، وما نبذله من مودتنا حين تودده. فاعتمدوا معشر العرب على الدولة الفرنسية لأن شؤونكم وشؤونها متحدة، ومن يهدي الله فهو المهتد، كما في القرآن.
انتهى من (جريدة المؤيد) بتاريخ 13 أكتوبر 1991.
من شئون الحرب في الإسلام:
وفي حصار العرب لدمشق ولد للبطريق الذي على دمشق ولد فدعا قومه فأكلوا وشربوا وتركوا مواقفهم الحربية، ولم يعلم سوى خالد فإنه كان لا ينام ولا ينيم ولا تخفى عليه من أمور الروم خافية، وكان قد اتخذ حبالا كهيئة السلم، فلما أمسى ذلك اليوم نهض مع بعض رجاله وقال للجند: إذا سمعتهم تكبيراً على السور فاصعدوا إلينا واقصدوا الباب. فلما وصل مع رجاله إلى السور ألقوا الحبال فصعد عليها الرجال، وكان المكان الذي صعدوا إليه أحصن موضع بدمشق وأكثره ماء، ثم استوى على دمشق.
وفي وقعة أجنادين بعث قائد الروم من يأتيه بأخبار المسلمين، فلما دعا قال (بالليل رهبان، وفي النهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوه، ولو زنى رجم، لإقامة الحق فيهم) فقال القائد إن كنت صدقني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.
وفي فتح القادسية ظل رستم قائد الفرس مدة يعرض على قومه مصالحة المسلمين فلم يقبلوا، فنصب سريره ورتب جنده، وجعل أمامه الفيلة، كما أن يزدجرد وضع جنداً بين(780/47)
المدائن والقادسية لتأتيه بالأخبار. أما سعد بن أبي وقاص فقد كان به دماميل لا يستطيع الجلوس بسببها، فاختص قصراً له ثم عبأ الجند وحثهم على القتال. ثم التحم الجيشان، وارتجز الشعراء، فاشتد عواء الفيلة وأجفالها، ثم انكسر الفرس وأسر هرمز من ملوكهم، ووقعت الصناديق عن الفيلة، وكانت سبعين فيلا وهلك من عليها، ثم أعادوها في ثالث يوم فدمروا أيضاً. ثم هبت ريح قلبت سرير رستم فقام يستظل بظل بغل فضربه هلال بن علقمة فقتله، وطيف برأسه، فتفرق الفرس وأخذ العرب رايتهم الكبرى، وكان عدد قتلى العرب في هذه الوقعة نحو ثمانية آلاف، وعدد قتلى الفرس زهاء ثلاثين ألفا. وبسبها سقطت بلاد العراق في يد العرب حياهم الله.
الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
في ص 571 من عدد (الرسالة) 676 (لقد كان الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، وفي صدر خلافة عمر، ولكن الناس خالفوا ذلك فأوقعوه ثلاثا فأمضاه عمر عليهم عقوبة لهم، وأخذ الأئمة الأربعة بحكم عمر في ذلك). . .
وفي سنن البيهقي وعند الطبراني وغيرهم بأسانيدهم: كانت عائشة بنت الفضل عند الحسن بن علي، فلما بويع بالخلافة هنأته، فقال الحسن: أتظهرين الشماتة بأمير المؤمنين، وأنت طالق ثلاثا - ومتعها بعشرة آلاف - ثم قال لولا أني سمعت جدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو سمعت أبي يحدث عن جدي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا عند الإقراء أو طلقها ثلاثا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، لراجعتها وإسناده صحيح.
ومن الدليل على وقوع الثلاث بلفظ واحد في عهد النبي عليه الصلاة والسلام حديث الملاعنة المخرج في صحيح البخاري، حيث قال عويمر العجلاني في مجلس الملاعنة: كذبت عليها إن أمسكتها يا رسول الله، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يرد في رواية ما أنه عليه الصلاة والسلام أنكر عليه ذلك، فدل على وقوع الثلاث مجموعة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدع الناس يفهمون وقوع الثالث بلفظ واحد لو لم يكن هذا الفهم صحيحاً. قال ابن حزم: لولا وقوع الثلاث مجموعة(780/48)
لأنكر ذلك عليه. وفهم البخاريث أيضاً من هذا الحديث ما فهمته الأمة جمعاء من الوقوع حيث ساق هذا الحديث في صحيحه في (باب من أجاز طلاق الثلاث).
وفي المجموع الفقهي عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام أن رجلا من قريش طلق امرأته مائة تطليقة فأخبر بذلك النبي عليه السلام فقال بانت منه بثلاث وسبع وتسعون معصبة في عنقه. وبمعناه أحاديث في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج 4 ص 338)، ومن حديث ابن عمر قال أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، كانت تبين. . .
وأما حديث ابن عباس (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. . .) الذي أخرجه مسلم في صحيحه. فقد رده النقاد لعلل كثيرة، منها:
1 - مخالفته لمذهب راويه ابن عباس فقد ثبت عنه أنه يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا. روى ذلك عنه عطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس والنعمان بن أبي عياش وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم، بل طاوس نفسه راوى الحديث السابق عنه.
2 - انفراد طاوس بروايته، وإنه لم يتابع عليه، وقال القاضي إسماعيل في أحكام القرآن وقال غيره أيضا: طاوس يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث. . .
3 - وجود انقطاع في الحديث، وفي صحيح مسلم بعض أحاديث منقطعة.
4 - إن أب الصهباء أحد رواته إن كان مولى ابن عباس فهو ضعيف على ما ذكره النسائي، وإن كان غيره فهو مجهول.
5 - إن في بعض طرقه (هات من هناتك) وجل قدر ابن عباس عن أن يواجهه أحد من الصحابة في طبقته فضلاً عن مولاه بمثل هذا الخطاب، وعلى تقدير إجابته يكون الجواب من هناته المردودة باعترافه، وقد اشتهر حكم رخص ابن عباس عند السلف والخلف.
6 - استحالة خروج عمر رضي الله عنه على الشرع بالرأي، وسكوت الصحابة على ذلك.
7 - حديث ركانة الذي بمعنى هذا الخبر، هو حديث منكر على ما يقول الجصاص وابن(780/49)
عبد البر وابن الهمام والحافظ انب حجر، وأعله البخاري بالاضطراب. . .
8 - حديث ابن عباس لفظه محتمل، وعند الاحتمال يسقط الاستدلال.
هذه كلمة موجزة استخلصتها من (الإشفاق على أحكام الطلاق) و (ذيول تذكرة الحفاظ) و (أحكام القرآن للجصاص) و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي).
لاظ أو غلى:
كانت الإذاعة المصرية أذاعت كلمة مقتضبة عن هذا الرجل، فأزيد عليها بأن معنى اسمه (ابن لاظ) وهي قبيلة قوقازية على ساحل البحر الأسود، وهي فرع من الجركس. وكان سلاحدار خسرو باشا وإلى مصر قبل محمد علي باشا، ثم تولى في عهد محمد علي باشا الكتخدائية (وزارة الداخلية) بعد إقالة طوبوز أو غلى.
محمد أسامة عليية(780/50)
البَريدُ الأدَبي
حديث البرد أو البرداء:
قرأت من أسابيع حديث الدكتور زكي مبارك الأسبوعي في صفحة جريدة (البلاغ) الأدبية، فوجدته يفتتح الحديث بالبرد وخوفه منه، وشدة هلعه من آثاره في جسمه، ثم ختم الحديث - حديث البرد - بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البرد: اتقوا البرد، فإنه قتل أخاكم أبا الدرداء.
ويغلب على الظن - بل أكاد أكون جازماً - أن تلك القولة إنما هي سجعة سجع بها بعض المتفاصحين فإن أبا الدرداء - واسمه عويمر بن مالك الأنصاري الخزرجي - لم يمت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخبر الرسول عن وفاته بسبب الرد أو غير البرد من أسباب الموت المتعددة، بل عاش إلى ما بعد ذلك بأمد طويل، فقد عاش إلى سنة 2 من الهجرة حيث توفى في الشام وقد ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي الدرداء هذا عويمر حكيم أمتي. وفي حديث آخر عن رسول الله صلى عليه وسلم: نعم الغازي عويمر. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه تاجراً من كبار تجار المدينة قبل الإسلام، وصار بعد أن أسلم من نساك الفرسان، وشجعان النساك. عليه رضوان الله.
(حلوان)
برهان الدين الداغستاني
1 - طريق الهجرة النبوية:
كنت استدركت على الأستاذ الحمصاني بعض مواضع مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته، معتمداً على (عيون الأثر في فنون المغازي والسير) لابن سيد الناس - طبعة مصر - و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي) - طبعة مصر - مما لم يذكره الأستاذ محمود الحمصاني في (خريطة الهجرة النبوية) وقد زارني عالم أديب نجدي فاطلع على هذه الخريطة وعلق عليها بما يأتي - وأهل مكة أدرى بشعابها -:(780/51)
1 - منازل ثقيف هي في الطائف وما حوله، وليست لهم منازل في شمال خيبر.
2 - الرجيع من منازل هذيل بقرب مكة، لا في شمال المدينة.
3 - بعاث بالثاء المثلثة، لا بالتاء المثناة.
4 - بواط بدون أل التعريفية، على ما في (عيون الأثر) ومعجمات اللغة.
5 - العشيرة هي من قرى ينبع النخل وبقربها، لا على الساحل.
6 - العيص هي قرية تابعة لينبع، وليست على الساحل.
7 - بئر معاوية صوابها (بئر معونة) في أرض بني عامر.
8 - بنو زبيد مساكنهم رابغ وما يجاورها، ولم يكونوا هنا في عهد الهجرة بل كانوا باليمين.
9 - غران بالنون، لا بالراء.
10 - وادي حنين يقع بين نخلة ومكة، لا في شرق نخلة.
11 - عكاظ هو في الجنوب الشرقي من الطائف، لا في الشمال الغربي منها.
12 - كرا الواقع بين الطائف وعرفات هو بالراء لا بالدال، وهو جيل عظيم، وأما (كدا) فهي ثنية بمكة، وتسمى الآن (ريع الحجون).
13 - الوتير هو بالتاء المثناة، لا بالثاء المثلثة.
14 - نخلة ليست موضعاً واحداً، بل هما واديان عظيمان بقرب مكة، أحدهما وادي نخلة اليمانية، والآخر وادي نخلة الشامية ويجتمعان فيكونا وادياً يسمى مر الظهران، يصب في البحر الأحمر، في جنوب جدة.
2 - من أوهام الأقلام:
1 - لكم تداولت أقلام الكتاب (حبذت عمل فلان) يريدون بذلك استحسنت عمله. مع إن أئمة اللغة أمسكوا عن الإقرار بصحته، إلا صاحب القاموس فقد قال: (لا تحبذي أي لا تقل لي أنت حبيبي) وقد أثبته تباهياً علي الجوهري في أن القاموس أغزر مادة في الصحاح، وقال صاحب التاج؛ في زيادة مثله على الصحاح نظر. فلو تسامح أعلام اللغة في استعماله ما تسامحوا في جواز دلالته على المعنى الذي استحدثه له بعض كتاب هذا الزمن.
2 - واحلوا (المواطن) في موضع (الوطني) مع أنه لا يدل على شيء مما يعنون، فهو(780/52)
اسم فاعل من واطنت فلانا على هذا الأمر إذا أضمرت في نفسك أن تفعله معه.
3 - ويستعملون (الحياد) في عدم الدخول في الحرب، مع أنه من اللفظ المهمل عند العرب، بهذا المعنى فالاعتزال أدل من غيره على التنحي عن الحرب، قال الحارث بن عباد:
قد تجنبت وائلا كي يفيقوا ... وأبت تغلب على اعتزالي
4 - ويقولون (لبثوا هناك برهة من الزمن) يعنون به وقتاً قصيراً. مع أن البرهة هي الوقت الطويل. وللوقت القصير ألفاظ كثيرة عند العرب، منها (هنيهة).
5 - ويقولون (إخصائي) والصواب (متخصص) وهو المنقطع إلى ممارسة فن واحد يحذقه. لأن الإخصاء هو سل الخصيتين. وقول القاموس: (أخصى تعلم علماً واحداً) خطأ.
6 - ويقولون (المخابرة - المخابرات) والصواب (المراسلة) لأن المخابرة هي المزارعة على نصيب معين.
انتهى بإيجاز من (المناظرة اللغوية الأدبية بين الأسانيد: عبد اله البستاني والمغربي والكرملي) المطبوعة بمصر.
محمد أسامة عليية
حول كلمة (غورى):
في نقدي لديوان (طفولة نهد) للشاعر السوري نزار قباني
يقول الأديب الفاضل عثمان موسى معقباً على بعض ما قلت في نقدي ليديوان (طفولة نهد) إنني عبت على كلمة (غورى) في شعر نزار قباني، وهي كلمة صحيحة من غار يغور، وإن الذي دعاني إلى هذه التخطئة هو أن العامة استعملت هذا الفعل بمعنى قريب جداً من هذا المعنى. . . والشيء الذي أود أن أقوله له هو أن الراوية التي نظرت منها إلى الكلمة بعيدة كل البعد عما ذهب إليه فأنا - مع علمي بأن الكلمة صحيحة - لم أتعرض لها بالتخطئة وإنما تعرضت لها من ناحية تأثيرها في الصياغة الشعرية؛ لأن كلمة (غورى) حين ترد في بيت من الأبيات تجعل القالب الشعري أقرب إلى النثر منه إلى الشعر. . ولا يعيب المعاني مثل صبها في قوالب نثرية.(780/53)
هذا هو كل ما قصدت إليه، وعلى الأديب الفاضل أن يرجع إلى ما كتبت، وأن يراجع بعد ذلك نفسه!. .
أنور المعداوي(780/54)
رسَالة النقد
على هامش كتاب:
2 - سعد زغلول من أقضيته
(إلى القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات تحية شكرية
وإعجابي)
للأستاذ عدنان الخطيب
2 - الغيرة القومية:
في مصر قضاءان، كان الأجنبي منها دائرة تحصيل وتشجيع للأجانب على امتصاص أموال البلاد، والتمادي في الاستعلاء على أصحابها الشرعيين، يوم كان (. . يقاد الفلاح الأمي، ويقاد المصري الذي يتصبب عرقاً فلا يملك وقار نفسه حين يستطيع أن يقرأ أنباء الوفيات في صحيفة عربية، وتقاد الأرامل الغرير، يقاد هؤلاء، ويقاد من هو أجهل منهم وأضعف إلى أقلام كتاب المحاكم المختلطة فيمضون أو يبصمون أوراقاً لا يميزون أسفلها من أعلاها، ولا يجرءون أن يرفعوا عيونهم إلى الموثق العظيم الذي يحررها، ثم ينصرفون ويقال (عقود رسمية) لا يكلف تنفيذها هذا الدائن المرابي أو المخاتل، إلا أن يدفعها إلى أقلام المحضرين أو ينزع بها ملكية العقار، فهي كالحاكم أو أقوى، هي الحكم الذي ظهر بغير دفاع، وبغير مستندات، وبغير معارضة، وبغير استئناف، وبغير التماس.
وكان أيضاء الأهلي مفخرة يفاخر بها الشرق العربي إذ كان فيه رجال كسعد وإخوانه، تقرأ أحكامهم فتجد فيها (فقهاً جباراً سليما، وعقلا قانونياً بالطبع، لا تختلط عليه شعرة بشعرة) وإذا انتهيت منها انتهيت (إلى نتيجة لا ترضى القانون وحده، ولكنها ترضى العاطفة الوطنية أيضاً).
اسمع سعداً يرد على مصري أحب أن يحتمي بالقضاء الأجنبي صارخاً في وجهه (لا سلطة لقوانين المحاكم المختلطة إلا على الحقوق المختلطة)، وهناك أحكام كثيرة إن قرأتها وجدت فيها صورة صادقة عن (جهاد سعد الأول في مكافحة الامتيازات وتمصير القضاء) ذلك(780/55)
الجهاد الذي أثمر معاهدة مونترو يوم ظفر (تلامذة سعد وأصدقاؤه بتقليم أظافر نظرية الصالح المختلط) والذي نرجو أن ينتهي قريباً بقطع كل يد أجنبية تنقص من استقلالنا، وفي وجودها اعتداء على حريتنا أو عدم ثقة بعدالتنا، ونحن يوم كنا فاتحين غالبين، لم يكن في الدنيا عدل غير عدلنا.
3 - التصون عن العبث:
(في قواعد الإجراءات مدنية وجنائية، وفي دفوع الخصوم، تحكمات كثيرة قد يؤدي تطبيقها تطبيقاً أعمى إلى نتائج غير عادلة ومضحكة أحياناً) ولكنك إذا رأيت قضاء سعد عندما يصطدم بتلك التحكمات رأيته (قضاء جمع بين السلامة والحكمة) وإذا قرأت الأسباب التي يستهل بها أكثر أحكامه قرأت أسباباً (محمة قوية التدليل. . . تنبئ عن التحرر من الشكليات وصون الحق من أن يضحي في سبيلها إذا أمكن تضحيتها هي بغير خرق للقانون) فاسمع سعداً يقول في حكم له (إن هذا يعتبر خطأ في التطبيق. وكان يوجب الغاء الحكم المطعون فيه لو أنه أضر بالمتهم) أو قوله (إن الخطأ في تطبيق القانون لا يكون وجهاً للنقض إلا إذا نشأ منه ضرر) لا بل انظر سعداً حين يقرر (أن عدم تبيان تاريخ الحكم المستأنف في عريضه الاستئناف لا يستلزم بطلانها إلا إذا ترتب عليه عدم تمييزه عما عداه) لتعرف سعداً أي القضاة كان في سعة أفقه وتحرر فكره، واستجابته للحق المجرد.
4 - وضع الأمور في نصابها وصبر القضاء:
(دقة التمييز بين المتشابهات هي ميزة الفقيه الأولى، والصبر من ألزم وأجمل ما يتحلى به القاضي الكامل) وقد كرس الأستاذ الزيات هذا الفصل (لبيان مدى تمكن هاتين الصفتين من عقل سعد ومن نفسه) وهو لم يحاول فيه أن يكيل الثناء لسعد كيلا (بالحق وبالباطل، إنما كان يحاول تحليله) ودراسة آثاره دراسة عميقة تصور للقارئ عظمة سعد في تفكيره، وعظمته في أخلاقه وأنك إذا قرأت حكما من الأحكام التي نقلها لعجبت أن ترى الدائرة التي أصدرته (لا تهمل في أسبابها أن تؤاخذ، وتتعب ولا ترى عبثاً أن تسمع إلى المبطل لتقول له بعد ذلك - أو لتقول للناس فهو أدرى بنفسه - بأسباب طويلة مفصلة، كيف وفيم(780/56)
كان مبطلا) ولوجدت خير شاهد على كل هذا في مثل قول سعد (نعم إن ذلك ربما يفضي إلى. . . ولكن عكسه يؤدي إلى. . .) ثم (وحيث أنه وإن كان الحكم الصادر في مواجهة أحد الشركاء في حق غير قابل للانقسام لا يسري على بقيتهم فإن قطع المدة الخ) ثم (وليس هذا لأن. . . بل لأن. . .)
إن جميع تلك الأحكام التي صدرت عن دائرة فيها سعد يكفيك النظر إليها لتقر الأستاذ الزيات على أن محررها كان سعداً لاعتبارات عديدة وفي طليعتها (ظاهرة اللوم يوجه إلى دفاع الحكومة وصوت المرشد والمعلم الذي لا يأسف حين تسنح له فرصة تشبع فيه شهوتين: شهوة الإرشاد للإصلاح، وشهوة الإرشاد للاستعلاء على الضعاف والمهملين)
اقرأ تلك الأحكام، اقرأها لتعرف معجباً كيف كان (يضع (المعلم) ويضع (الفقيه) كل شيء في نصابه) وكيف كان (الفاضي) يصبر صبر القاضي العادل الرزين.
5 - حدية الدفاع وحقوقه:
كان في سعد (حرص القاضي العادل على مظهر العدل، وحب الخطيب المترافع لسماع المرافعات) وكان لا يعترض صاحب حق أو صاحب دعوى في الدفاع عن موقفه. . . ولا يضيق فرص الدفاع أمام شاك أو مشكو) والأستاذ الزيات لا يعني بلفظة (الدفاع) هذه (الترافع عن المتهم فقط، إنما يعني الدفاع عامة في الميدان المدني والجنائي، ويعني به هذا المعنى الفني المتخصص الذي يرادف (المحاماة) و (المحامين) فسعد الذي يقول إن (حفظ النظام الذي من أهم أركانه ألا يحكم انتهائنا على أحد إلا بعد تمكينه من الدفاع عن نفسه) يوجب (أن يكون الدفاع عن المتهم حراً خالياً عن جميع المؤثرات التي تقيد المحامي)
ولكن سعداً إن احترام الدفاع ولم يضيق عليه لم يكن ليتساهل معه إذا تجاوز حقوقه أو أخل (في نظام التخاصم، أو لم يحفظ للقضاء هيبته) وهو لم يتأخر مرة عن أن يصدر حكما يعرض فيه بمن أخل بالنظام، إن قرأته رأيت فيه (عصا المؤدب ترتفع. . . وهو كاشر عن نابه، ممتد بمقعده العالى، يفعمه السخط على هؤلاء الذين اجترءوا على مقامه، اجتراء إن لم يبلغ حد الخلاف لأمره، فقد بلغ حد التصرف بغير إذنه!) بل إنه لا يتأخر أحياناً عن الرد على المحامين وهو (يبيع لهم بضاعتهم، ويأخذهم بمنطقهم، ويقيدهم بحبال من صنعهم)؛ بل هو لم يتأخر مرة أو مرات عن إحالة بعض المحامين إلى مجلس التأديب(780/57)
لأنهم أهملوا واجباتهم، أو لأنهم استعملوا الخديعة مع خصومهم؛ وليس هذا بمستغرب من قاض لم يتأخر عن القول (أن الخطة التي جرت الحكومة عليها في هذه الدعوى لا توجب ارتياح القضاء لأعمال مندوبها فيها)
(لا توجب ارتياح القضاء! وليس هذا بالقليل حين يصدر من القضاء!
وليس هذا بالقليل حين يصدر على الحكومة! إنه اتهام! فإدانة! فعقاب!!)
6 - الفقه الشرعي:
درس سعد في الأزهر، فتفقه في الدين، ثم درس الحقوق وتقلد منصب القضاء، وأخذ يحكم بين الناس بموجب القوانين المدنية الحديثة، ولكنه (لم يهمل الإفادة من دراسته الفقهية الأزهرية؛ بيد أنه لم يتعمد التعالم بها وإقحامها في غير مقحم، وإنما كان يضعها موضعها حين يكون العرض لها والأخذ منها أمراً لازماً أو شبه لازم) لقد أصدر مرة حكماً يقول فيه (إن المعول عليه في الشريعة الغراء. . . هو الموافق للعدل، إذ لا يجوز لمدين أن يتبرع بمال تعلقت به حقوق الغير)
لقد كتب سعد هذا الحكم وهو بلا شك (مغتبط بما وجد عند الشريعة الإسلامية من رأى معول عليه، اغتباط القاضي العادل حين يجد النص (الموافق للعدل) وإذا علم القارئ أن صاحبي سعد في حكمه هذا كانا أجنبيين لا يجد أية صعوبة في (تمييز الولد العظيم لهذا الأثر العظيم)
7 - القاضي المحافظ:
تكلم الأستاذ الزيات في كتابه كثيراً عن (ثورة المصلح وغيرة العادل، وتحرره من الأوضاع وتمرده على شكليات القانون والبحث عن الحق أنى ثقفه، وتوفير العدل من كل طريق) ولكنه أسرع في فصله السابع إلى الكلام عن سعد المحافظ حتى لا (ترسم للرجل في الأذهان المتسرعة المشغوفة بالأحكام المطلقة صورة ذات أود لا تصدق التعبير عنه أو لا تستوفيه) ونقل لنا أحكاماً من قراءتها نجد سعداً ليس بالمحافظ الجامد ولا بالمجدد المائع، بل هو القاضي المفكر الذي (يستقصي الحقيقة) وينطق بالحكم الذي يرضى وجدانه، وليس في أحكامه (ما يند عن مزاج محافظ، وليس فيها أيضاً ما يتعارض مع مزاج مجدد).(780/58)
وليس أجمل من هذه الفقرة يختم بها الأستاذ الزيات فصله إذ يقول (ويتصل بمعنى المحافظة الروح العائلي الذي يطالعنا في أكثر من حكم واحد: كره سعد في نظار الوقف أن تحيفوا حقوق المستحقين، وأبى على بعض الورثة أن يتملكوا حصص الآخرين بما يزعمون من وضع يد مستطيل، ثم كره من صغار الأخوة أن يستأسدوا كبارهم الريع عما مضى، ذلك بأنهم حيوا في أكنافهم، فليكن الريع في النفقة، ولتكن الأسرة وحدة، ولتظل المحبة أخوة متآخين على سرور متابلين.
فإذا دخلت الجريمة بين الأخ وأخيه، أو بين الوالد وبينه، فالويل للجرم الأثيم: لن يظفر من رفق سعد واسماحه بغير (القصاص) الجسيم.
8 - القاضي الجنائي:
خير كلمة وصف بها الأستاذ الزيات سعداً القاضي الجنائي (هي كلمة (الموزون) وصفه بها بعد أن نقل كثيراً من أقضيته الجنائية، وأثبت كيف كان كل واحداً منها (قضاء رفيقاً عادلا موزوناً كما أثبت أن سعداً لم يكن (بالقاضي الذي يجهل أو يحصل وظيفته الاجتماعية، ولا شك أن القاضي الجنائي الذي يقدر دوره الاجتماعي حق قدره لا يستطيع أن يحمل لوزن العقوبة ميزاناً من نحاس أو حديد، فميزان هذا شأنه لن يغني مهما يكن مدى انضباطه) إنما العدالة (تريد ميزاناً حساساً مستجيباً بلون العقوبة باللون المناسب للمتهم، ويفردها كما يقول أصحاب علم العقاب).
كان سعد إذا اقتنع لا يتأخر عن الإدانة أبداً، ولكنه كان (لا يكتفي بأن يقتنع، وإنما يرى حقاً عليه للعدل والضمير الاجتماعي وللمتهم نفسه) أن يقنع كل الناس (بما اقتنع به)، ومع كل هذا فقد سمح كاتب جلساته لنفسه بأن يقول عنه أنه كان (يبتعد عن الإعدام، وأنه كان يتهم بأنه مازال في قضائه متأثراً بحرفة المحاماة والدفاع عن المتهمين) والحقيقة الناصعة أن أحكام سعد كلها ليس فيها (تضييع لحق الجماعة، ولا إهدار لمصحلة الفرد والدفاع)؛ أسمعه، وقد تألم من عقوبة حصلت بنتيجة خطأ، كيف ثار وصرخ (إن العدالة الإنسانية التي وضع القانون لاحترامها تأبى إيلام نفس بعقوبة) تنتج عن خطأ. لا بل أسمع هذا المبدأ على لسان سعد المشرع (لا يجوز أصلا أن يلقي الشخص عقابه ويعذب ويتألم، بينما تكون العدالة لا تزال مشتغلة بشأنه، باحثة فيما إذا كان مستحقاً لذلك العقاب أم لا)(780/59)
وصفوة القول أن قاضينا الجنائي (لم يكن بالمتحرج في تأويل النص المعاقب، ولا بالمترخص فيه، ولم يكن الجانح إلى الإدانة، أو الشغف بالتبرئة، ولم يصطنع قسوة الحكم كمبدأ، ولا اختط الأسهل طريقة) بل كان القاضي الذي (عرف أين يلين وأين يقسو) أنه كان (القاضي الموزون).
(البقية في العدد القادم)
عدنان الخطيب(780/60)
العدد 781 - بتاريخ: 21 - 06 - 1948(/)
في النقد التاريخي
للأستاذ عباس محمود العقاد
يشيع في هذا العصر نقد التاريخ، لأن أبواب التاريخ على اختلافها قد أصبحت من موضوعات الدراسة الشائعة في المدارس والجامعات، وأصبح التعليق عليها من عمل الأساتذة والطلاب والقراء.
وقد لاحظنا أن نقد التاريخ عندنا يثبتون وينفون، ويصوبون ويخطئون، ويعرضون للروايات والأسانيد بين قبول ورفض، وبين ترجيح وتوهين، ولكن الكثيرين منهم لا يلتفتون إلى الفرق بين صحة الرواية ودلالة الرواية، وهما شيئان مختلفان، لأن الرواية الصحيحة قد تكون خلواً من الدلالة في تاريخ الأمة أو سيرة العظيم، وقد تكون الرواية الكاذبة أدل على الأمة أو على العظيم من كل خبر صحيح.
لهذا لا يصح أن يكون عمل الناقد التاريخي مقصوراً على إثبات الصحيح وإسقاط غير الصحيح؛ لأن الخبر الذي له دلالة نفسية أو دلالة اجتماعية لا يسقط من سجل التاريخ، وإن كان مقطوعاً بكذبه أو مشكوكا فيه؛ فإنما المهم - جد المهم - في التاريخ هو ما يدل عليه.
ولنذكر مثلا لذلك ما قيل عن حروب الإمام علي رضي الله عنه مع كفرة الجن في الكهوف والمغور، وما كان من تأليبه الجن المسلمين على الجن الكافرين في أيام الدعوة الإسلامية.
فقل في صحتها ما تشاء. قل إنها كذب محض وتوليف من نسج الخيال، ولكنك لا يجوز لك من أجل ذلك أن تلقي بها في سلة المهملات كما يقولون، لأنها لا تكون من المهملات وفيها دلالة على شيء كثير، وفيها بيان للفارق بين (شخصية) علي وشخصية غيره من الشجعان في نظر الناس.
لم لم ترو أمثال هذه المعارك عن خالد بن الوليد؟ إن خالدا رضي الله عنه كان من أشجع فرسان العرب والإسلام؛ فليس اعتقاد الشجاعة في إنسان هو الذي يوحي إلى الخيال أن يتمثله في تلك الصورة وينسج حوله أشباه تلك الروايات، ولكنها الشجاعة وشيء أخر غير الشجاعة، وهو الإيمان بقدرة غيبية أو بسر من الإسرار الإلهية يملكه هذا الشجاع ولا يملكه ذلك الشجاع.(781/1)
وإذا بلغ من رواية (خيالية) أنها تريك كيف كان بطل من الأبطال في نظر الناس، فتلك دلالة نفسية لا تظفر بها في كثير من صادق الأخبار.
هذه التفرقة بين حجة الرواية ودلالتها هي التي نلاحظها في إيراد بعض الروايات التي نشك فيها أو نقطع بنفيها، ولكننا لا نسقطها من الحساب عند الكتابة عن سيرة عظيم من العظماء لأنها لا يصح أن تسقط من الحساب وفيها دلالة عليه أو على نظر الناس إليه.
لاحظناها في سيرة كل عظيم من عظماء العرب الذين كتبنا عنهم، ولو أننا أسقطناها لفاتنا أن نفهم حقيقة العظيم كما كان، وأن نفهم حقيقته كما كان في نظر الناس.
من ذلك في سيرة عمرو بن العاص أننا أوردنا رواية ابن الكلبي حيث قال: (لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة، فبعث إليه عالجها أن ابعث إلى رجلا من أصحابك أكلمه ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري، وخرج حتى دخل على العلج فكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع قط مثله: فقال العلج: حدثني! هل من أصحابك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هذا؛ إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني له ولا يدرون ما تصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده فمر برجل من نصارى غسان فعرفه، فقال: يا عمرو! قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده، ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا! قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت. أعجل بهم، وبعث إلى البواب أن خلّ سبيله).
فهذه القصة تذكر ويقال فيها إنها غير مقطوع بصحتها، ولكنها تذكر لدلالتها النفسية ودلالتها التاريخية. وكذلك فعلنا حين عقبنا عليها فقلنا (إنها لا تؤخذ على علاتها في تفصيلاتها ولا يلزم أن تصح أصولها ولا فروعها، ولكنها تدل - ولو كانت مؤلفة - على أشياء قريبة من الحقيقة، بل لابد أن تكون قريبة منها، لأن صدق الأخبار عامة لا يستقيم ولا ينتظم بغيرها. فمن تلك الأشياء شهرة عمرو بالدخول في أمثال هذه المداخل العويصة التي يجرب فيها حيلته كما يجرب إقدامه. ومنها أن عرب الشام كان فريق منهم على الأقل ينظر إلى الحرب بين الروم والمسلمين نظر العصبية الجنسية على ما بينهم من الفارق في(781/2)
العقيدة. . . الخ)
وهكذا فعلنا فيما رويناه عن فراسة عمر بن الخطاب وملكاته الغيبية واشتهاره بها بين المسلمين. فإن الرواية في هذا المقام تذكر وتشفع بالتعقيب عليها وبيان حكم العلم والتاريخ فيها، ثم تؤخذ منها دلالتها على كل فرض من الفروض، وإن كان بعض هذه الفروض إنها مخترعة أو أنها نقلت مع المبالغة فيها والزيادة عليها.
فرق إذن بين الصحة والدلالة في الروايات التاريخية.
وفرق آخر - شبيه بهذا الفرق - بين أمرين آخرين لا يعطيان حقهما من التفرقة، وهما النفي وعدم التصديق.
فإذا مر بك خبر مقرر فجزمت بنفيه فأنت المطالب بالدليل.
ولكنك إذا مر بك خبر من الأخبار فلم تصدقه فأنت الذي تطلب الدليل، وليس عليك أن تقيم دليلا لأنك لم تصدق خبراً تعوزه الأدلة، بل كل ما عليك أن تذكر أسباب الشك أو أسباب عدم التصديق.
وهذا الذي فعلناه فيما روي عن وأد الفاروق لبنت من بناته، فإن الرواية ناقصة تبعث الشك ولا تطرد مع سائر الأخبار، فليس علينا أن نصدقها ولا يقال إذا نحن لم نصدقها إننا مطالبون بدليل أو أننا نفينا كلاما بغير برهان.
ولعلنا نقرب الفرق بين الأمرين بتشبيه عصري من مسائلنا المعهودة في الدعاوي اليومية. فكلام المدعي لا يلزمك ما لم يقم دليلا عليه، ولكن حكم المحكمة يلزمك فلا تنقضه أنت إلا بدليل أقوى من أسبابه التي بني عليها.
ومن الفروق التي تعرض لها في هذا الصدد ذلك الفرق البعيد بين الحوادث كما تدل عليه في ذاتها، وبين الحوادث كما تدل عليه في تقدير صاحبها الذي تنسب إليه.
ولنضرب لذلك مثلا من حديث مكتبة الإسكندرية.
فإننا أشرنا إليها واتبعناها بالأدلة التي تبرئ الفاروق من تبعة إحراقها، ثم قلنا إن الفاروق لا يلام على إحراقها لو صح أنه أحرقها وهو غير صحيح؛ لأنه لا يطالب بعلم الفلسفة اليونانية ولا يتبين صلاح تلك الفلسفة من أحوال أهلها. (فقد كانوا على شر حال من الضعف والفساد والجهل والهزيمة والشقاق والتهالك على سفساف الأمور. فإذا كان عمر(781/3)
غير مطالب بعلم الفلسفة اليونانية أو غير ملوم على قوات الاطلاع عليها، وإذا كانت أحوال الأمم التي هي أهلها لا تدل على قيمتها بل تسوغ الاعتقاد بخلوها من كل قيمة، فأين هو العيب في تفكيره إن صح أنه فكر على هذا المنوال؟).
وقد جاءنا من الطالب النجيب (السيد رشاد هاشم) بمدرسة الزقازيق الثانوية تعقيب يقول فيه: (إن كونهم على شر حال لا يعطي القوة حقاً: إذ لو فرضنا أن عدواً غاضباً هجم علينا ونحن ضعاف بشر حال والقرآن بيننا أيجوز له أن يحرق القرآن؟)
وقبل كل شيء نحن أن يذكر الطالب النجيب أن الفاروق لم يحرق كتاب الدين فيضرب المثل هنا بما يقابله وهو القرآن، وإنما أحرق فيما زعموا أوراقاً لا يعتقدها أصحاب ملة، وترك الكتب التي يدينون بها وهو يعلم أنها تخالف الإسلام.
ثم نحن أن يذكر أننا لا نعطي القوة حقاً وإنما ندفع عنها لوماً، وإن مثل الفاروق ومكتبة الإسكندرية كمثل رجل باع بيتاً فيه كنز مدفون يساوي أضعاف ثمن البيت. فأنت لا تتهمه بالجهل لأنه لم يطلع على خبر ذلك الكنز، ولا تتهمه بالسفه لأنه باع البيت بأقل من قيمته المدخرة فيه، ولا تقول إنه لا يعرف قيمة الكنوز، لأنه لم يدخلها في ثمن البيت.
كل ما هنالك أنه لا يهتم على أساس معقول، وليس من اللازم أن تقول إنه كان على حق أو على صواب.
وهذا هو الفرق بين دلالة الحادثة في ذاتها، ودلالتها كما تدخل في تقدير صاحبها الذي نسبت إليه.
فالذي يحسب على الفاروق هنا هو ما يدخل في تقديره، ولا لوم عليه أن أحرق مكتبة الإسكندرية بهذا التقدير.
وهذه الفوارق بين الصحة والدلالة، وبين حق النفي وحق الشك، وبين الحادث كما وقع والحادث كما أريد، ألزم ما يكون استحضاراً عند قراءة التاريخ، بل عند مباشرة كل عمل من أعمال الحياة.
عباس محمود العقاد(781/4)
ضربت عليهم الذّلة والمسكنة
للأستاذ نقولا الحداد
يدعي اليهود أن الذي حملهم على اختلاق دولة يهودية هو أنهم مضطَهدون في كل مكان. لأنهم أقلية مسحوقة في كل مكان. فإذا صار لهم دولة لجأوا إليها فراراً من الظلمِ والاضطهاد
إذا صدق زعمهم هذا فليعتبوا على ربهم لأنه صرَّح في القرآن الشريف أنهم: ضُربتْ عليهمُ الذِّلةُ وَالمسكَنةُ. وليسألوا ربهم يهوَه رب الجنود لماذا ضربهما عليهم دون سائر البشر:
والله ما هم بمضطهَدين. بل هم مضطهِدون (بفتح الهاء في الأولى وكسرها في الثانية).
كيف يكونون مضطهَدين وقد جمعوا ثروات العالم وبها يتحكمون بالضعفاء والمنكويين؟ كيف يكونون مظلومين وهم خمسة ملايين في الولايات المتحدة الأمريكية يسيطرون على 130 مليوناً؟ وكيف يكونون مظلمومين ومضطهَين وهم يحاربون الآن بمائة واثنين وسبعين مليون ريال تصدق عليهم بها الأمريكيون المسيحيون المغفلون بصفة كونها إعانة لمتشرديهم في أوربا؟ وكيف يكونون مضطهَدين وقد منحتهم إنكلترا الغشوم وعد بلفور وأطلقت يدهم على فلسطين فملكوا أثمن ما فيها وأعز؟ وأخيراً جاءت أمريكا ومنحتهم مملكة ودولة في فلسطين ومنها يبسطون أيديهم على جميع أمم الشرق.
ماذا يريد هؤلاء الأذلاء المساكين بعد هذا؟ أيريدون أن يكونوا أسياد العالم والعالم كله مملكتهم وأن تكون أمم الأرض عبيداً لهم حتى يرضوا عن الله؟
العالم لا يضطهدهم ولكنه يكره أعمالهم وتصرفاتهم المناقضة للإنسانية، ألا يتساءلون فيما بينهم لماذا يكرههم جميع الأمم؟ في كل بلد أقليات فلماذا لا تشتكي هذه الأقليات من الاضطهاد؟
لماذا لا يعقدون مؤتمراً شاملا من أساطينهم من جميع جهات العالم ليبحثونا سبب بغض العالم لهم فيزيلوا السبب ويعودا إلى حظيرة الأمم محبوبين مكرمين ككل أمة وشعب؟
لا نظنهم يجهلون سبب كره العالم لهم. إنهم يعلمون السبب وهو أنهم يكرهون العالم كله، لأن كل من ليس يهودياً هو في نظرهم (جوييم) ومعناه في لغتهم نجس دنس رجس. وهم(781/5)
يتصرفون مع الناس بمقتضى هذه العقلية الخبيثة. فيحللون لأنفسهم مال (الجوييم) ويستحلون سفك دمهم واغتصاب أملاكهم وهضم حقوقهم. ولا يردهم تلمودهم عن هذا. بل بالعكس يبيح لهم كل هذا وأكثر منه. لا يردهم عن هذه الإباحية إلا قوانين البلاد وقضاؤها. فإذا أمكنهم أن يفعلوا فعلتهم ويتحاشوا القضاء فلا خوف عندهم من الله لكي يردهم.
قد ينبري بعضهم وبعض مناصريهم لتسفيه قولي هذا واعتباره افتئاتاً عليهم وتحاملاً. فليقل المتشيعون لهم: ماذا يحسبون تفظيع اليهود في دير يسين وطبريا وميرون وغيرها بالأطفال والنساء والشيوخ؟ هل يفعل هذه الفظائع من يخافون الله؟ هل يفعله المتمدنون؟
وماذا يفسر المدافعون عنهم تعمدهم تسميم الآبار في غزة بميكروب الكوليرا والتيفوئيد لكي يباد الجيش المصري هناك عن آخره.
والله إن الذي لم يفعله هتلر بهم فعلوه هم بالعرب. تورع هتلر عن استعمال الغازات السامة وعن تلويث المياه بالميكروبات المرضية. وأما هم فلا يتورعون. فماذا كان هؤلاء اللئام يقولون لو فعل العرب بهم مثل فعلتهم؟!؟ ولكنهم يعلمون جيداً أن العرب لا يرتكبون هذه الدناءات. ولهذا هم يستغلون هذه النزاهة العربية.
كم مرة تعهدوا بهدنة وكانت الهدنة من مصلحتهم فنقضوها ما سكت العرب عن القتال احتراماً للهدنة حتى أسرعوا إلى الخيانة والغدر.
والغريب أن هؤلاء المنافقين يترجون الصليب الأمر أن يسمع لهم العرب بإخراج 600 امرأة وطفل من القدس القديمة لكيلا يقتتلوا تحت وابل رصاص العرب. يطلبون هذا الطلب لأنهم يعلمون جيداً أن العرب يشفقون على الأطفال والنساء فيريدون أن يستغلوا شفقة العرب. ولكن جلالة الملك عبد الله لم يعد يصدق مكرهم فأبى أن ينيلهم هذا الاستغلال.
وهل تنطوي هذه الهدنة الأخيرة ذات الـ 4 أسابيع من غير أن ينقضها الصهيونيون مراراً؟ والعرب يصبرون عليهم صبر الكرام. لا أعتقد أن هذه تطول فسينقضها اليهود وثم ينقضُّ العرب عليهم انقضاضهم الأخير فيمحقونهم.
العرب لم يقترحوا الهدنة لأنهم لا ينتفعون بها بل يأبونها، ولأنها من مصلحة الصهيونيين. وما رضى العرب بها إلا لكيلا يقال إن العرب لا يريدون سلاماً. فليعلم العالم الآن من يريد(781/6)
هدم السلام.
إني أتخيل دولة صهيون الخيالية تقول مع شمشمون الجبار: (عليّ وعلى أعدائي يا رب) إذا شبت الحرب العالمية الثالثة بسببهم. هذه هي أخلاق هذه الطائفة التي تدعي أنها مضطهدة. وهي ذليلة مسكينة. ولكنها غادرة خائنة، فكيف تستحق الشفقة اللهم إنها لا تنال الشفقة إلا من المتيَّم بها عاهل الأمريكان الذي يهون عليه أن يضحي بمصلحة بلاده وبسلام العالم على مذبح رضى الصهيونيين. ولا يزال هذا الأحمق يتحبب لليهود ويتسضيف زعيمهم ويزمان على الرغم من أن أمريكان الشرق قد احتجوا على سياسته الخرفان. ولكي يظهر أنه لا يحسب حساباً إلا لاحتجاج أمريكان أمريكا نفسها وسيظهر احتجاجهم في أنهم لن ينتخبوه.
وقد علمت من مصدر ثقة أن جلالة الملك عبد العزيز آل سعود أبلغ الشركة الأمريكية المتعاقدة معه على البترول، أنه سيضرب بالعقد الذي بينهما عرض الحائط، إذا كان ترومان سيسلح الصهيونيين أو يؤيد الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
نقولا الحداد(781/7)
الجنس والحضارة
للأستاذ عبد العزيز جادو
لقد كان قليلا ذلك الذي فهمناه عن اللاشعور وصلته بالأحلام، وعن الجنس وظواهره العقلية العجيبة قبل أن يبدأ سيجموند فرويد علمه العظيم. فلقد أوضحت دراسة التطور العلاقات التي بين كل المخلوقات الحية، وتماثل البناء التشريحي بين كثير من الأجناس. ولا يزال علم السيكولوجية يعوزه بعض استكشافات لتوطد أركانه نهائياً على أساس ثابت من قانون؛ وليتتبع النمو التدريجي للعقل من بسيط إلى مركب.
ومما يجدر بالذكر أن الدكتور بريور الذي عمل معه فرويد أول الأمر في (العلاجات الناطقة) لاحظ بعض أعراض شادة في حالة امرأة شابة عزاها إلى الهستيريا. وعجز عن إزالة هذه الأعراض باستخدام التنويم المغنطيسي، الذي كان يزاول فيما مضى بتوسع أكثر من الآن، وكان شائعاً إذ ذاك في صناعة الطب، وأخذت حالتها تزداد سوءاً. ولاحظ الدكتور بريور أن مريضته في حالات (ذهولها) تغمغم مع نفسها. فجعلها تكرر الكلمات التي تفوهت بها، وبهذه الطريقة علل الباعث على الفكر التي تسلطت على عقلها حتى توالدت. وكان الأثر لمنشأ هذه الأوهام والتخيلات التي تسلطت على الفتاة هو في الواقع وجود (الدوافع المخبوءة) الشركة في مظاهر اللاشعور التي تفوق الحصر في علاقاتها بالحياة اليومية وبالحالات العقلية المرضية.
وعاد فرويد، الذي كان يدرس في ذات الوقت على العالم الشهير شاركوت - إلى فينا ليلتقي بالدكتور بريور، الذي كان يستعمل حينذاك (طريقة المسهل وظهر لفرويد أن بريور لم يفهم تماماً علاقة هذه الطريقة بالسيكولوجية العلاجية، فأقنعه بإتمام أبحاثها في الإجراءات التي ابتكرها حديثاً، ومع ذلك فقد أضاع بريور بعض حماسته بخصوصها.
ولم تتزعزع ثقة فرويد في كشفه ولم تغتر همته. فواصلا استقصاءاتها مدة من الزمن تراءى لها في نهايتها إقامة الدليل على قيمة كشفها، وانتهيا إلى النتيجة بأن العاطفة المحبوسة في مريض إذا ما عوقت في طريقها إلى الإفلات الصريح، فإنها تتحول إلى أعراض شاذة، إما فيزيقية وإما عقلية. وبملاحظة مرضاهما في عيادتهما، وجدا أن الأعراض كثيراً ما يكون لها صلة ببعض حادثات في حياتهم. وقادهما هذا إلى الاعتقاد بأن(781/8)
الاختبارات المرضية كانت تتعلق بأخرى قبلها، وتلك التي كانت قبلها ليست في حاجة إلى الباثولوجية في طبيعتها؛ وأن التجارب التي سبقتها زودت المصادفة الباثولوجية الأخيرة بخلق عقلي. وبعد أن تعاون فرويد وبريور معاً مدة من الزمن في هذه الملاحظات والتجارب انفصلا أحدهما عن الآخر فقد دب الخلاف إذ لعب الجنس دوره في تكوين العصاب وهكذا مضى فرويد قدماً بمفرده ثم نشر تطبيقاً عملياً من نتاج مجهوده. بسماحة لمريضه أن يتكلم بكل ما يدور بخلده، وبعد ملاحظة بالغة منتهاها في الدقة، اقتنع بأن أي شيء يحدث للمريض له صلة مباشرة أو غير مباشرة (بجرح) ما في لا شعوره.
وفي عام 1895 ألقى فرويد أولى محاضراته عن اكتشافاته، التي قدر لها أن تكون بشيراً بميلاد التحليل النفساني. ولقد تبعه باديء الرأي ثلاثة نفر من الوسط الطبي هم أدلر وستيكل وسادجر ولكن في سنة 1900 بدأ يانج وثلة صغيرة من أتباعه الفيزقيين، يستعملن الطريقة الفرويدية بعيادة طلب الأمراض العقلية في زيوريخ. وبعد ثمانية أعوام، وبناء على دعوة يانج قام أول مؤتمر لمدرسة الفيزيقيين هذه في سالزبورج.
عند ذلك أخذ الطلبةٍ الجادون ذوو الضمير الحي يدخلون الميدان أفواجاً. وظهرت المؤلفات الفكرية والانتقادية تحمل طابعي مقدرة المدرسة وحمية الرائد. ومن ميدان علم النفس العلاجي انتشر علم التحليل النفساني، وامتد إلى ميادين علم الأساطير والحواديت - وبدأت تظهر الشروح التي تعوزها التفسيرات السيكولوجية، وبدأت تطغى على أساطير الجنس البشري وخرافاته. واتضح أن رغبات السلالة البشرية التي كانت تتوق إلى الرضى خلال العصور جاء وصفها في الخرافات والأساطير، وأنه إذا فهم الشخص المفتاح السري الذي يمده به التحليل النفساني لأمكنه أن يفسر معنى كل تلك القصص القديمة. فقد قال علماء التحليل النفساني أن عواطف البشر لونها فنان أعمى على لوحة من الفكر.
ومن المعروف قطعاً لدى علماء الأنثربولوجيا أن الرمز لعب دوراً هاماً في الإنتاج البدائي لعقل الإنسان. بل إن طريقتنا اليوم في التعبير عن الفكر قائمة على أساس صورة من الرمزية؛ فالمهندس الذي يتصور تجويف مدخنة، والموسيقى الذي يوفق السيمفونيات السماوية، والفنان الأديب، كل أولئك يستعملون الرموز كثيراً. وقد أشار أندريه تريدون في أحد مؤلفاته إلى أن: (لغة جميع الشعوب رمزية، ودائماً ما يفرض الإنسان في كلامه(781/9)
مقارنات بين مظاهر ثابتة في الطبيعة واجزاء من جسم الإنسان. فنحن نتكلم عن فم النهر أو الكهف؛ وعن مهاد الأرض أو جوفها أو بطنها؛ وعن قمة الجبل أو سفحه. ونقول إن في البطاطس عيوناً؛ وأن اللون دافئ، وحقائق جافة، وأننا نشم رائحة التعب وغير ذلك.
كيف دخلت هذه التعبيرات في كلامنا، وكيف سبر علماء التحليل النفساني صلتها بأسس تفكيرنا؟. . لن نحتاج إلى كبير عناء لنعرف أن هناك معنى عميقاً وراء كل هذا اللف في كلامنا. إن علاقة ما، ليست معروفة إلى الآن، كانت متوثقة بين عناصر ثابتة موجودة في اللغة وهي الفكرة البدائية عند بني الإنسان.
والإنسان يملك في داخل نفسه اتجاهين: يوصف أحدهما بالمتقارب أو المائل نحو المركز والآخر بعيد أو منحرف عن المركز الأول يميل إلى نقله إلى الأمام؛ والآخر يظهر رغبة صريحة للرجوع إلى حالة بدائية. ونرى هذا الاتجاه، مثلا، في البناء التشريحي للانسان حيث تثابر أحياناً بعض أعضاء جرثومية ثابتة على النمو، يشيع التعب العظيم في الإنسان. ولقد سرد ميشنكوف في مؤلفه القيم (طبيعة الإنسان) أمثلة كثيرة عن النشاز الموجود في تشريح الإنسان، وهل يمكننا أن نشير إلى (النشاز) في بنائه العقلي أيضاً؟ أن نيتشه الذي سبق علماء التحليل النفساني، تنبأ بكثير من كشوفهم، فذكر في أحد مؤلفاته: (في نومنا، وفي أحلامنا، نمر بجميع فكر البشرية القديمة. وأعني بهذا أن الإنسان يدرك في أحلامه ما أدركه أثناء حالات اليقظة منذ آلاف السنين. فالحلم يرجع بنا إلى حالات قديمة من التهذيب الإنساني، ويقدم لنا الوسيلة لنفهمها بطريقة أجدى وأحسن. أبدى هذه الملاحظة أخيراً علماء النفس المشتغلين بالفروض الحديثة التي أظهرتها نظريات فرويد وحسنتها، كما أنها الملاحظة قررت ما لهذا الفيلسوف الشهير من بُعد نظر ونفاذ بصيرة.
لا يخفى أن لك شخص دافعاً جنسياً يطالب بإرضاء رغباته. وإذا لم يقدم له هذا الإرضاء بوسيلة سوية فإن الميل إلى الرغبة يكون في حل من التسرب من أضعف نقطة في خط التقييد. وإذا لم يتم هذا أيضاً، فهناك تسليم من العقل لما يسميه علماء التحليل النفساني بالتعالي أو التسامي. هذا لأن الرغبة تتسرب من خلال قنوات لا يستعملها العقل لمنفعته حين تكون الرغبة قادرة على الإرضاء بطريقة اعتيادية. ومن قوانين الطبيعة أن القوة تميل إلى قهر العوامل المكبوتة في بيئتها بغضِّ النظر عما تكون عليه هذه العوامل. وليس(781/10)
من قوة في الطبيعة أعظم ولا أكثر أهمية - حسب الترتيب البيولوجي للأشياء - من الدوافع الجنسي.
يقول العالم النفساني المعروف كوريات (إن الفكر اللاشعورية موجودة وفعَّالة في الفرد العادي كما هي في المريض بالأعصاب. والفكر اللاشعورية أو الآراء غالباً ما تظل هكذا، لأن قوة يطلق عليها المقاومة تمنعها من أن تصير شعورية. وعمل الكبت كثيراً ما يلتقي بالفشل وعدم التوفيق، لأن الدافع المكبوت الرغبات والعقد النفسية تواصل البقاء في اللاشعور ومن ثم تبعث إلى الشعور بديلا متنكراً في هيئة أعراض عصبية). حينما ينقضي النهار وما فيه من مؤثرات، يدخل الفرد في دولة النوم، فتتسلل الرغبات اللاشعورية لتمثل دورها في هيئة حلم. ولكن هنا، كما في حالة اليقظة، يكون الرقيب مُتنبهاً يقظاً، وبالتالي تسدل على المشهد ستار الرمزية لتخفي طبيعة الرغبات الواقعية التي تعلن عن نفسها.
وفي هذا الصدد كتب أحد تلامذة فرويد التقدير الآتي: (إن الرقيب هو الذي يجبر الأحلام على اتخاذ لغة الرمزية الغامضة لكي يكفل إمكان ترتيب رواية المادة الجنسية في الأحلام. فإذا أقنع الشخص نفسه بفائدة الرمزية العظيمة في ترتيب رواية المادة الجنسية في الأحلام، لابد أن يصطدم بالسؤال عما إذا كان كثير من هذه الرموز تبدو كأنها حروف اختزال بمعنى ثابت لكل الحالات. ويجب أن نلاحظ بهذه المناسبة أن هذه الرمزية لا تتعلق بالأحلام فحسب، ولكنها تتعلق أيضاً بفكر لا شعورية لأناس، وإنها لكائنة في (الحوادث) والأساطير وفي الأمثال السائرة وفي الحكم المأثورة وفي النكات كوجودها في الأحلام. ومن بين هذه الرموز المستعملة أشياء كثيرة تعني بانتظام الشيء ذاته؛ وفوق هذا، وفي الغالب، فإن الفهم العام والنشاط الجم إنما يعتمد على عقلية هذه المخلوقات)
ولكل جيل دستوره الخاص بمعاملته وعاداته، وفكره، وآدابه، وقِيَمه، الخ. . وهذه كلها تلقي قيودها على الفرد وعلى رغباته. وإذن فكل جيل بنوع ما، يمكن أن يقال إن له مرتبته اللاشعورية. والجماعة لا تنفك تغير البيئة على الدوام لأن الفرد يضطرها أن تختار وترتب لنفسها المقاييس التي لا يمكن عملها دائماً له ليعيش لها. والفرد إذ يحاط بسور من القمع الذي تسببه الجماعة، لا يسمح له بالتحدث في هذا البحث الحيوي بالطريقة الصريحة(781/11)
التي يعالج بها أي موضوع آخر ذي أهمية لوجوده. ولا يخرج الأمر كله عن كونه تحريماً ومن هنا ينشأ الإحساس بأنه لابد من وجود شيء قبيح يختص به. وهكذا ترقي المرتبة في اللاشعور - مرتبة الكتب. وقد تبدو كلها واضحة في الظاهر. والفرد يدور حول واجبه اليومي ولا يُظهر أي أعراض لطبيعته الجنسية. ولكن، في أعماق عقله توجد شخصية تختلف تمام الاختلاف عن التي تظهر سطحياً
ولقد أوضحت تقصيات علماء الأمراض العقلية كل هذا بمهارة فائقة. ولوحظ مرة تلو أن السيدات الفضليات اللاتي يعانين هيئة معينة من الانحراف العقلي يتفوهن بسباب عنيف وفحش شديد. والنساء الخليعات، من جهة أخرى، اللائى يعانين نفس هيئة المرض بالذات لا يمكنهن إظهار هذا العرض بالصيغة التي تظهرها أخواتهن الأحسن منهن. والصورة الواضحة للكبت ونتيجته تؤثر على بعض الأنواع.
ودراسة مذهب الروحيين يمدنا بالدليل الأول عن المادة. فالإنسان القديم يعتقد أن له نفساً أو روحاً تحرك حياته على هذه البسيطة. وتنتقل هذه الروح بعد الممات إلى دائرة أو بيئة أخرى لتبقى موجودة ككيل مستقل. وما كان الجسم إلا مجرد مسكن للنفس، وكان ينظر إليها كمخلوق ممتاز. ولم يكن هناك بالتأكيد أي فهم لتأثير الجسم على العقل كما هو معروف في هذا الزمن.
ويأتي الإنسان بالتدريج ليكبِرّ نفسه كي تحيط بأشياء لا حياة لها. ويعتقد بأن لكل شيء روحاً. فالريح الصاخبة التي تثور في الغابات فتحطم كل ما يصادفها في طريقها لها روح والنسيم العليل الذي يسلم جسمه لنوم مريح فيه روح ولن الإنسان في الوقت ذاته يعتقد أن هناك وراء الحياة جميعها تكمن قوة غامضة - التكوين الجنس - فمد رغباته الجنسية واحساساته إلى أشيائه المؤلهة. والانفعالات البشرية في الطبيعة، كيفما تكن، كانت محجوبة فوق الآلهة. وبعد مدة من الزمن أصبح الجنس الصيغة الأصلية لعبادة الإنسان وعقيدته. وكان هذا في حال من الشعور الاجتماعي في كثير أو قليل من الصفاء. وأصبح الجنس قبيحاً بظهور الحياة المعقدة، أو كما اصطلح على تسميتها الحضارة. والإنسان المجرد بالنسبة إلى الطبيعة يبدو أقل الأجناس بالنسبة لانحطاط الفكر ولكنه أسماها في الوظيفة.
والإنسان اللاشعوري يظل مخلوقاً طبيعياً. فهو يعبر عن رغباته سواء سُمح له بذلك أم لم(781/12)
يسمح. والطريقة التي يعبر بها عن ذلك تتوقف على مقدار التحديدات التي تفرضها عليه البيئة. وهو يرى جاذبية سرية لدافعه الجنسي في أشكال وفي أبنية أشياء كثيرة في بيئته كما تعود أن يرى حين كان همجياً. وإنه ليختبر صنفاً من الإرضاء الجنسي بتفرسه فيه وترك أفكاره تجول كما تريد. وبعض عوامل البيئة كالقصص الفكاهة والصور الفنية التي من طراز معين، خلقت بصراحة لهذا الميل الذي يميل إليه الإنسان، وإنها تقدم المنفذ لبعض النماذج المكبوتة.
فالإعلان مثلا له جاذبية على المشاهد أساسها الروابط الجنسية. وإعلانات الحائط الكبيرة والرسوم التي تعلن عن المنتجات التجارية، بمظهرها ذي الرونق الزاهي لنساء نصف عاريات، يرسم بجلاء ووضوح أن الإنسان سينظر إلى شيء يفتنه جنسياً، أسرع وأطول مما ينظر إلى أي شيء آخر ليست فيه هذه المزايا. والإنسان يرغب، بوعي أو بغير وهي، في إطالة لذته الجنسية. والدافع الجنسي بفطرته سيتمسك بأي شيء يساعده في هذا الاتجاه. فهو راقد في طبيعة الإنسان ذاتها للسعي وراء اللذة والعمل على اجتناب الألم.
وإطالة الحب بوساطة العنصر الروحي أشار إليها الفيلسوف كنت بقوله: (وعلى قدر سرعة الذهن في النشاط، فهو لا يتواني عن بذلك تأثيره أيضاً في الميحط الجنسي. وسرعان ما اكتشف الإنسان أن منبه الجنس الذي اعتمد في الحيوانات على مجرد دافع دوري غالباً ما يكون وقتياً، كان في حالته الخاصة مقتدراً على الإطالة، وفي الغالب على الزيادة والكثرة بواسطة قوة التخيل).
ونجد أن الرغبة تتحقق في شكل رمزي لا في الأحلام فقط، سواء أحلام النوم أو أحلام اليقظة، ولكن في الشعر والموسيقى والفن والأدب، الخ. . .
والحياة في طريقها السريع لتكون أكثر تعقيداً، وسرعة الحياة الحديثة تجبر الإنسان على تنظيم نشاطه اليومي بالنسبة للزمن الذي تسمح به بيئته. فمركبات الترام المزدحمة، والمطاعم، والملاهي، والحوانيت والشوارع، تشهد على ازدياد السرعة التي جلبتها الحضارة الحديثة ملايين الأنفس تسير قطعانا ضمن الحدود الضيقة بالمدينة. وهذه الحاجة التي تتطلبها السرعة المجنونة ترقى في عقولنا هيولية غامضة وبلاد اليونان لم تنجب مفكريها العظام إلا لأنها منحت سكانها وقتاً للراحة، هذا الوقت الذي يعد من المستلزمات(781/13)
التي لا تقدر قيمتها لكل نفس فنانة.
وفي أثناء كل هذه السرعة وكل هذا التزاحم، كيفما يكن، تعمل الجنسية صامتة على التأثير في الإنسان والضغط عليه وإقناعه، وحثه طوال حياته. ولكن الإنسان لا يعير كل هذا أي التفات. فهو جد مشغول بالعوامل الموضوعية في بيئته، هذه العوامل التي هي، بعد كل هذا، أكثر وضوحاً وأكثر أهمية في نظره، وفي بعض الأحيان تكشف الجنسية عن نفسها مع نسمات الصيف الرقيقة، وفي أحيان أخرى، مع عواصف الشتاء الهوجاء. ولكننا في كل الحالات نتعامل مع المادة نفسها - اللبيدو. وأعمال اللبيدو لا تخضع للتأثير مع مرور الزمن. هذا التأثير الذمي أصبحنا نعرفه الآن وندريه بواسطة استقصاءاتنا السيكولوجية.
عبد العزيز جادو(781/14)
الذين جنوا علينا
الذين جنوا علينا. . . فبذروا في طبعنا الحرمان، وغرسوا في قلبنا الألم، وأقاموا حياتنا على دعائم من الشك اليائس، والحيرة المضنية، والفكر الحزين، والحب الغشوم. . . بيت ومدرسة وتقاليد! في أرجاء البيت، تحكم الوالد. . . فمنع النافع، وأجاز الضار؛ وفي حلقة الدرس، أفلس الأستاذ. . . فدرس الغث وترك المفيد، وعنى بالقشور وأهمل اللباب، وفي جحيم البيئة، تسلطت التقاليد. . . ففرضت الحياء، وأكسبت الجبن، والتواكل، وراضتنا على خلق العبيد!
ومن ثم، فلم يكن أمل في ابتكار، ولم يعد رجاء في انتظار، وأرواحنا ظمأى إلى المعرفة حنانة إلى الثقافة، عطشى إلى الجمال، يمتعها البيان العالي، ويشجيها الأسلوب الرصين، ويطر بها اللحن البديع، فتندفع في غير تحفظ، وتسرع في غير اعتدال، لتلحق نركب الفن والأدب، والحب والخير، علها تصيب من ثمار الأذهان مفيداً، ومن قرائح العباقرة جديداً، يؤهلها لأن تدرك وجودها في الحياة. . . وما عاش فاقد المعرفة، وما خلق صدئ المشاعر، وما تمتع بليد الإحساس، وليس جدير بالبقاء، حي لا تختلط ذرات الحب الأسمى، بدمائه وقلبه، وأهازيجه وأفكاره حتى ذلك الحيوان الأعجم!
تلك هي محنة الشباب الأبي، في عصرنا الحر، حرمان رهيب عنيف، يتلاشى مع الزمن، أو يتحطم مع العصيان، تنطلق الغرائز على سجيتها متطرفة، ويستجيب الفرد لشهواته طائعاً، ويجد اللذة في أن يركب رأسه، فلا يسمع من أبويه نصيحة، ولا يطيع لأستاذه رأيا، ثم يدفع الثمن أجراً غالياً، من ثقافته وجهده، ومن صحته وسمعته، وعلى حساب مستقبله وكرامته، ويذهب ضحية بريئة، لأخطاء جسيمة، وتوارثناها فيما خلف لنا الماضي البعيد، من جهالة وخرافة، ومن محن وارزاء! أيها الآباء المشفقون على أبنائكم، والأساتذة المحبون لتلاميذهم. . . لن يقيم هذا العوج، قانون يسنه البرلمان، ولا سلطة يمنحها الناظر، ولا شدة يطبقها الوالد، ولن يصلح الخلل في معاهدنا، والضعف في السنتنا، والغثاثة في ثقافتنا، إلا تربية قويمة، وتنشئة مستقلة، وتعاون بين البيت والمعهد، وثقة بين الوالد والمربي وحرية للأبن أن يعبر عما يريد، وأن يعالج ما يحب!
فإن أبيتم لنا ألا حصار المدرسة، وخناق البيت، وقبر المواهب، ووأد الرغبات، فلا تعذرونا. . . إذا خرجنا إلى الشارع نهتف، أو بقينا في الدرس نصفق، أو أسلمنا فكرنا(781/15)
وعقلنا، لتيارات لا تتفق ورسالتنا السامية، وما يعلقه الوطن على جهودنا وبحوثنا من خير عظيم. . .
الطاهر أحمد مكي(781/16)
أسطورة
للأستاذ علي عبد الحي الحسني
من الأساطير التي سمعناها في الصغر وبقيت في غضون الذاكرة، وبعض ئناياها أن رجلا اعتدى عليه عفريت من الجن بمثل ما كان يعتدي به الجن على البشر فبرز الرجل بكل ما أوتي من حول وطول وبكل ما قدر عليه من سلاح وشكة ليقتله.
هجم الرجل على العفريت بكل سلاح ماض ولم يدع في القوس مزعا لكنه لم ينكأ عدوه ولم يصب منه مقتلا.
ومازال الرجل يعيد الكرة بعد الكرة ويجرب سلاحاً بعد سلاح والعفريت ساخر منه غير محتفل به كأنه من نفسه على أمان، ومن سهام الرجل وهجماته في حصن حصين.
حار الرجل في أمره وأعياه أمر العفريت وكاد يقطع من قتله الرجاء إذ أخبره أحد العقلاء أن روح هذا العفريت في حوصلة ببغاء وهذه الببغاء في قفص من حديد، وهذا القفص معلق في غصن شجرة، وهذه الشجرة في غباة كثيفة يسكنها سباع ضارية وحيات فاتكة، وعقارب سامة، ودونها خرط القتاد، وحولها شم الجبال.
ومازال الرجل يطلع جبلا بعد جبل، ويقطع وادياً بعد واد ويقتل وحشياً بعد وحش، حتى خلص إلى هذا القفص وخنق هذه الببغاء، ولم يكد يقتلها حتى حدثت رجة عظيمة دارت بها الأرض والفضاء، وأظلمت بها آفاق السماء، وصاح العفريت صيحته الأخيرة وكان جثة هامدة. . وهكذا قتل الرجل عدوه بعد ما لقى منه عرق القربة.
لعلك سمعت هذه الأسطورة من عجوز في البيت تحكيها لأحفادها أو أسباطها فمررت بها مستهزئاً وقلت:
حديث خرافة يا أم عمرو!
نعم إنها لحديث خرافة وأسطورة من أساطير الأولين، ولكنها تفيدنا بأن كل حي له مقتل ووريد ولا يؤثر فيه عدو حتى يصيبه في مقتله ويقطع منه الوريد، وأن دون ذلك المقتل وحول هذا الوريد حواجز وحصوناً.
وقد تسلط على الأمة الإسلامية عفريت من الحياة الجاهلية واعتدى عليها بصنوف من الخبال وضروب من الأذى والوبال ظهرت في كثير من أخلاقها وأفعالها كاستخفاف بأحكام(781/17)
الشرع وتجرؤ على المعاصي؛ ووقوع في محارم الله، واستعباد لعباد الله وإمعان في الشهوات، وإسراف في سبيل المتع واللذات، وتهافت على الخسائس والرذائل، وفرار من مكارم الأخلاق والفضائل (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا).
والناس طبقات: (عامة) و (أوساط) و (عظماء).
فأما العامة فمساكين تدور حولهم رحى الحياة بسرعة لا يرفعون فيها إلى الدين والسعادة الأخروية والاستعداد للموت رأساً، وإنما همهم أن يؤدوا ضرائبهم، ويجمعوا لأيام فراغهم، ويكسوا عيلالهم فهم يكدحون في الحياة كدح الحمير والثيران لا يتبعون إلا للراحة الموهومة، ولا يستريحون إلا للتعب الواقع، فهم من البيت إلى الدكان، ومن الفراش إلى المصنع أو السوق أو الإدارة، ومن نصب إلى نصب، ومن هم إلى هم، لا تنتهي همومهم ولا تنقضي متاعبهم، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها.
وأما الأوساط فهم أسوأ منهم حالاً وأكدر منهم بالاً، عذبهم الله بالحرص والجشع، ينظرون دائماً إلى من فوقهم، ولا ينظرون أبداً إلى من دونهم، فهم في هم متواصل وأحزان متسلسلة وشقاء مستمر وتدمر جبار وشكوى قائمة وأنين باق، يجرون في رهان لا ينتهي، ويسابقون جياداً لا تكل ولا تسبق، لا يزال قصب السبق بعيداً كلما انتهوا إلى غاية أخرى فجروا وراءها وهي تبتعد عنهم كما يبتعد الأفق من الطفل الذي يحاول دركه وشعاع الشمس الذي يريد قبضه، وهكذا يتفلت منهم (المثل الأعلى) في الغنى والثروة والرخاء والجاه، فيموت الواحد منهم كئيباً منكسراً لم يستعد ليوم الجد ولم يأخذ لنفسه عدتها، ويأتيه الموت فيقول (رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين)
وأما العظماء من الملوك وأبناء الملوك والأمراء فإنهم يريدون أن يلتهموا الدنيا طولا وعرضاً، وينّهبوا المسرات جرياً وركضاً لا يشفى غليلهم ولا يروى غليلهم وهم من دقائق الراحة إلى دقائق، ومن بدائع إلى بدائع، ومن ابتكار إلى ابتكار، ومن لذيذ في الطعام والشراب إلى ألذ، ومن حديث من مستحدثات المراكب والقصور والأزياء إلى أحدث، لا تكفيهم في ذلك موارد قطر بأسره، ومنابع ثروة أمة بطولها، حتى يلجئوا إلى استقراض وتجارات وضرائب جديدة وإتاوات ولا يبالون في سبيل ذلك أن يرهنوا بأيدي عدوهم رداء(781/18)
الزهراء أو كساء أبي ذر أو شملة أو يس أو مصحف عثمان أو صمصامة عمرو بن معدي كرب أو رمح الزبير أو بردة كعب بن زهير ويهيئوا صبوحاً أو غبوقا.
وقد هجم على عفريت الجاهلية جيش من المصلحين فصاحوا به من كل جانب ورموه عن قوس واحدة ولكن لم ينكأوا عدوهم ولم يصيبوا منه مقتلا.
ألقى الوعاظ والأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دروساً في الأخلاق وأحاديث في الترغيب والترهيب، وطمعوا الناس في الجنة وحذروهم من النار وبشروهم بالوعد وخوفوهم من الوعيد فسمع الناس كل ذلك في هدوء، ولم يحرك منهم ساكناً ولم يغير منهم خلقاً.
ألف المؤلفون كتباً جاءوا فيها بكل رقيق، أوردوا فيها حكايات زهد العمرين، وتقشف علي بن أبي طالب، ومواعظ الحسن البصري، وكلمات ذي النون المصري، ورقائق الفضيل بن عياض، وزهديات أبي العتاهية، وفصاحة الواعظ ابن الجوزي وتحليل الإمام الغزالي.
قوارع تبرى العظم من كلم مض
فقام الأغنياء والأمراء والملوك فاقتنوا هذه الكتب وزينوا بها مكاتبهم وتحدثوا عنها إلى ندمائهم وزائريهم في لباقة ورشاقة ولكن لم تنفذ سهامها من العيون إلى القلوب ولم تجاوز أحاديثها تراقيهم.
قام الخطباء البارعون فألقوا خطباً أسمعت الصم واستنزلت العصم فسمعها هؤلاء وأثنواعلى براعتهم وفصاحتهم ومضوا لسبيلهم لم يبكوا على زلة ولم يقلعوا عن سيئة ولم يحدثوا لله عهداً.
لقد كان والله أقل من هذا يهز القلوب في الجوانح ويستفرغ الدموع من الشئون ويرجف القصور ويقلب عروش الملوك، ويجعل من أبناء السلاطين والأمراء مثل ابن أدهم وشقيق البلخي، يسمع أحدهم - وهو خارج في قنص أو رائح في لهو - قارئاً يقرأ: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) الآية فيقول والله لقد آن، والله لقد آن، ويرمي آلات اللهو ويخرج من أبهة الملوك وحشمة السلاطين إلى تبذل الفقراء وتقشف الزهاد.
فهل فقدت الألفاظ على تعاقب الأيام معانيها، أم اعتلت الأذواق أم استعجمت اللغات أم ماذا؟(781/19)
إن شيئاً من ذلك لم يقع، ولكن نفسية الإنسان تغيرت تغيراً عظيماً. كان أمر الدين في الزمان الماضي - برغم جميع أدوائه وعيوبه الخلقية والاجتماعية - جداً غير هزل. وكان أمر الدين يعني كل واحد ويهمه كما تهم الحقائق والأمور الواقعة، وكان دونه في بعض الأحيان حجب من الترف والطبع والرسم وسوء المعرفة وقلة العلم فإذا ارتفعت هذه الحجب وتطرقت دعوة الدين إلى القلوب لم يحل دون التوبة وإصلاح الحال شيء.
أما الآن فقد أصبح الدين موضوعاً تاريخياً أو حديثاً علمياً بحتاً، وأصبح الحديث عنه في المجتمع العصري كالحديث عن كوكب المريخ وعجائبه وعن القطب الشمالي وأخباره لا يعود على المتحدث والمستمعين بضرر أو نفع ولا يطالبهم بعمل أو ترك ولا يمسهم في صميم مسائلهم ولا يعني الإنسان ولا يهمه في حياته إلا بقدار ما يتطرف بمعرفته ودراسته في بعض المجالس أو ما يحادث به أهله عند الحاجة أو ما يجلب به نفعاً ويدفعبه ضراً في مجتمع لا يزال يدين بالدين أو يحترمه فليس له إلا قيمته المادية المؤقته.
وأصبحت الحياة وتكاليفها جد الجد ولب اللباب وأصبحت مسائلها هم الشيخ ودروس الصبي وشغل الشاب، وأصبح الجهاد في سبيلها والنجاح في ميدانها، مقياس الفتنة والذكاء ومعيار الظرفة واللباقة ورمز المروءة والشهامة.
وهنا يقف الداعي الديني حائراً في أمره كيف يواجه هذه العقلية الهامدة والنفسية الباردة في سبيل الدين، أنه واجه العقول الثائرة على الدين فأخضعها ببراهنه، وشكوكا وريباً تمكنت من النفوس فسلها بحكمته وملأ القلب وطمأنينة ولكنه ههنا يجد نفسه في موقف غريب لم يعهده، فلا إنكار ولا جحود ولا إباء ولا استكبار، ولا عناد ولا اعتراض، ولا دليل ولا فلسفة ولكن حياد تام في مسألة الدين واستغناء عن كل ما يتصل بالآخرة، وإخلاء الأرض، ورضىً بالحياة الدنيا واطمئنان بها.
هنا يقف الداعي حائراً في أمره كيف يواجه هذه النفسية ومن أي باب يدخلها، إنه يجد حولها غشاء من حب الدنيا والمال فلا سبيل إليها ولا نفوذ فيها إلا بطريق الدنيا والمال، وأن سبيل الدين غير سبيل المال، وأن طريق الغيب غير طيق الحس والشهود، فماذا يصنع ومن أين يبدأ؟
إنه ألقى على القوم مواعظه ووجه إليهم خطابه وحكمته وأجلب عليهم بخيل العلم(781/20)
والبراهين، فذهب كل ذلك فيهم صدى وأجابه لسان الحال قائلا (قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون).
قرأنا في حكايات (ألف ليلة وليلة) أن السندباد البحري وجد بيضة عنقاء فظنها لكبرها وضخامتها وملاستها قصراً من رخام فدار حولها لعله يجد باباً يدخل منه في داخل القصر ودار مراراً عديدة، ولكنه لم يجد باباً وعرف بعد ذلك أنها بيضة عنقاء لا قصر من القصور.
كذلك يدور الداعي حول هذه النفسية المستديرة التي استهوتها الدنيا، وغشى عليها حب المال أو الحياة فلا يجد فيها منفذاً منه إلى النفسية وينزل في أعماقها فيقطع منها الرجاء وينقلب منها خاسئاً وهو حسير.
روح هذا العفريت الجاهلي إذن هو الإخلاد إلى الأرض والرضى بالحياة الدنيا وعبادة المال والمادة. . .
هذا مقتل هذا العفريت وهذا أبهره ووريده.
وإنما ضاعت فصاحة الفصحاء، وخطابة الخطباء، وبلاغة المؤلفين، وأصحاب اليراع وإخلاص المخلصين وحكمة الحكماء لأنهم لم يضربوا على الوتر الحساس ولم يصيبوا العدو في مقتله.
بلغت المادية أوجهاً في عهد الاستيلاء الأوربي وأصبحت فلسفة وفناً وحياة ودنيا، وليس مظهر من مظاهر حياتها، ولا مركز من مراكز نشاطها اليوم إلا والفضل فيه يرجع إلى أوربا وسيطرتها السياسية والاقتصادية مباشرة أو بواسطة والى غزوها التجاري والعالمي.
نافس تجار الغرب بدافع من حب الغنى والثروة واحتكار الأموال - في الصناعة والانتاج وغزوا ببضائعهم الشرق وامتصوا بها دماءه، ولم يقض ذلك لبانتهم لأن نطاق الضرورة ضيق والجشع ما له نطاق فنافسوا في انتاج دقائق المدنية وفضول الصنائع وكماليات الحياة وصبوها على الشرق صباً واستغلوا سذاجة الشرق وحبه للدعة والفخر، فما لبثت هذه الدقائق والكماليات إن دخلت في أصول المعاش ولوازم الحياة في الشرق، وأصبح الذي لا يتحلى بها لا يعد من الإحياء، ولا يعامل في المجتمع معاملة سواء، وأخذت بتلابيب الشرقي وأذهلته عن الدين والآخرة، وعن كل شيء غيرها في الدنيا، وهاجت(781/21)
عليه هموماً لا إرجاء لها وبعثت فيه شرها للمال لا نهاية له، وأجنحت عليه الحاية حجيما لا يسمع فيها إلا (هل من مزيد).
وما يكاد الشرقي يصل إلى هذه المنتجات وشروط الحياة على جسر من المتاعب والمصائب وعلى طريق من شوك وقتاد، ولا يكاد يتحلى بها إلا وتصبح هذه المستحدثات آثاراً عتيقة وأطماراً بالية، ويهجم عليه الغرب بطراز حديث من المنتجات والمصنوعات فينكص على عقيبه ويتزود لاقتنائها بالمال اللازم - بوجه مشروع أو غير مشروع - ولا يكاد يطلع بها على مجتمعه إلا ويرحل المنسوخ ويحل الناسخ - وهكذا لا يزال من حياته في جهاد مضن شاق، ومع المصانع الغربية والتصدير الغربي في رهان دائم يسبقه فيلحقه ويلحقه فيسبقه، ولا يزال من عيشه في مضض وغصص يتجرعه، ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
أفسدت المدينة الغربية والتجارة الغربية طبائع أهل الشرق وأذواقهم على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ألا منهم الفتاة وأطفأت فيهم جمرة الحياة، وأحدثت فيهم التخنث الأوربي. وأصبحت الفروسية العربية والنخوة التركية والفتوة الفارسية والبطولة الهندية والغيرة الأفغانية حديثاً من أحاديث التاريخ وأصبحت الحياة في حواضر الشرق بل وفي بواديه نسخة قاصرة ممسوخة من الحياة الغربية المصطنعة لها ضرائها وليست لها سرائها ولها الغرم دون الغنم.
أصبح الناس في كل بلاد من تيار الحضارة الغربية يسيل بهم سيلها الجارف ولا يملكون من أمرهم شيئاً وأصبح الوالد لا يملك ولده والعاهل لا يملك أهل بيته بل وأصبح الإنسان لا يملك نفسه أمام الهوى وانتقاد المجتمع اللاذع ووخز الضمير وغاص الناس في بحر المدينة إلى آذانهم فترى الصعاليك من العجم يغدون في حلة ويرجعون في أخرى، وترى الحفاة العراة العالة من العرب رعاة الثناء، يتطاولون في البنيان ويتفاخرون باقتناء السيارات الأمريكية من أحدث الطراز وأفخر الأنواع، حتى يخاف أن تنقرض الخيل العتاق من أرض الجزيرة التي ملأت التاريخ والأدب لجديتها وأخبارها.
شحنت البضائع الغربية أسواق الشرق الإسلامي وأنبتت شرائين التجارة الغربية وعروقها - وهي طلائع السيادة الغربية وسيطرتها السياسية وسهامها التي لا تطيش - في جوف(781/22)
أقداس البلاد الإسلامية واحشائها وجاست خلال الديار وأصبح أهلا عالة على البضائع الأجنبية حتى عادوا لا يتصورون الحياة والمعيشة بغيرها ولا يقضون حقوق الأعياد والأفراح إلا بها، وامتصت هذه البضائع أموالهم بل دماءهم كالإسفنج تشربتها في بلادهم، وصبتها في بلادها - وهكذا أصبح ما يكسبه المسلم بعرق جبينه وكد يمينه وبرز ميتة في أخلاقه، وعلى حساب دينه ينتقل إلى البلاد الأجنبية.
التجأت الحكومات الإسلامية لتحقيق مشاريعها العمرانية كما تقول أو لقضاء مأرب رجالها كما يقول الناس إلا الاستدانة من الدول الأجنبية فخفت لذلك ورحبت به ورضخت لها بعض المال على شروط تجارية وامتيازات سياسية، وأقبلت على البلاد الإسلامية تحلب ضرعها وتستخرج الذهب الوهاج وماء حياة الصناعة والتجارة (البترول) من بطونها وتهتبل فرصة العمل في أرضها فتنشط إرسالياتها وتنشر في أهلها المسلمين (رسالة الدين والحضارة) وتلحق عدواها الممعنين في الجهالة والفقر والبداوة، ويتهافت الفقراء الذين أجهدتهم الضرائب وتكاليف الحياة على أجورها وخدمتها تهافت الفراش على الضوء والجياع على المائدة وهكذا أُتصبح بلاد الإسلام بين أخطار من التنُّصر والإلحاد والاحتلال الأجنبي).
ثم هنالك (الطابور الخامس) وهو ذلك الأدب المسلوك المسموم الذي ولدته الثورة الفرنسية وارتضعته الفوضى الخلقية، والإباحة في أوربا وغذته الشيوعية، ذلك الأدب الخليع المستهتر الذي ينبت في القلوب النفاق، ويسقى غرس الشهوات ويقوّض دعائم العمران ويفسد نظام الأسرة ويسخر من كل فضيلة، ويستهين بكل أدب ونظام ويزين للقارئ مذهب اللذة والانتفاع وانتهاز الفرص ويلخص التاريخ ويوجز الفلسفة والعلم في حب الميل الجنسي، ويصور العالم كله كأنه ليس إلا ظهور هاتين العاطفتين وليس وراء ذلك حقيقة علمية أو مبدأ سام، أو غرض شريف.
وقد انتشر هذا الطابور في أنحاء العالم عن طريق الأدب، والروايات والمجلات والراديو، والسينما وتأثر به الحاضر والبادي وتحدثت به العواتق في خدورها، وصار ينخر صرح الحضارة الدينية والأدب الإسلامي حتى تسرب العطب اليوم إلى لبابه.
وهكذا أصبح العالم كله شعوباً وحكومات وأفراداً تحت سلطان المادية والجاه والشهوات، قد(781/23)
شغلت منه كل موضوع ومنفذ وملكت عليه جميع مشاعره، واستهلكت في سبيلها جميع مواهبه وقواه وتفكيره وذكائه، وخلقت في الإنسان نفسية لا تؤمن إلا بالمحسوس ولا تفكر إلى في اللذة والهناءة والسعادة الدنيوية ولا تهتم إلا بهذه الحياة ومطالبها الكاذبة التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي إنما فرضها على الإنسان الحياة المزورة والمجتمع الفاسد والتجارة الجشعة.
كيف يحل في هذه المادية الدين الذي أساسه الإيمان بالغيب وإيثار الآخرة على العاجلة الذي يقول (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون) والذي يقول (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) والذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) ويقول (حفت الجنة بالمكاره)
إذن فالمادية في هذا العصر هي علة العلل وعدو الدين الألد ومزاحمه الأكبر، وأن أوربا هي زعيمها الذي تولى كبرها ووكرها الذي تطير منه وتأوي إليه وفيه تبيض وتفرخ.
فأين ذلك البطل الذي يمثل قصة الآدمي مع الجني على مسرح التاريخ والواقع؟؟
لكهنو (الهند)
علي عبد الحي الحسني(781/24)
خطرات في الأدب المعاصر:
1 - حالة أدبنا
أدبنا عكر لا لون له ولا طابع ولا شرعة ولا منهاج ولا هدف. أدبنا أكسح تنقصه الحيوية وتعوزه الروح ويغتفر إلى التوجيه الصحيح.
ونحن نريد أدباً يدفع إلى المجد؛ يغذي الفكر ويهذب المشاعر ويروض النشء على تذوق كل جميل وفي هذه الصدور اليائسة ينفح هزة الحياة لتشرع وتفكر ثم تعمل لتحي سعيداً.
أدبنا عكر لأن فيه من كل مذهب بدعة، ولكل طائفة شرعة، ولكل أديب أو متأدب دعوة، وكل ثائر ناقم يمجد نهجه ويعيب غيره. فمن مشرق يتمسك بالقديم البالي؛ يركب نهج القديم باسم الاصالة، ويفتعل في الأدب باسم القومية، وعلى المعنى يجني باسم التعمق، وعلى اللفظ باسم الجزالة بل وعلى الأدب باسم الأدب. هذا القديم ضال في غوايته، تائه في ضلالته، ناس أو متناس أن الأدب فن رفيع من فنون الحياة يتجدد بتجددها ويتأثر بكل ما فيها من مؤثرات اجتماعية كانت أو فلسفية أو علمية، وأن أدب أية أمة مهما تعالي وتسامي متأثر بالآداب الأخرى مؤثر فيها.
وأسانيد المدرسة القديمة وتلاميذها من أدبائنا كثيرون، ومعظم أدب هؤلاء دوار في مجالات القديم، وأكثر موضوعاته لا تعدو اجتراراً لمآثر الماضي، ومناهل هذا الأدب فلي المعاجم ونبش وريقات الماضي.
ولهذا الطراز من الأدب أسلوبه الخاص، فلغته عربية سليمة، وألفاظ جزلة ومعان عميقة وتراكيب مرصوفة لها منسقة النفوس. وهي لغة القرآن فلها قدسيتها ورفعتها وإذن فهي أسمى من أن تؤنس بغريب، وأوسع من أن تقصر عن أداء معنى، وأرفع من أن تنالها يد التحوير والتغير. . . أما خيالاته فصافية هادئة إلا أن أجواءها ساجية حزينة قل أن تجد فيها تصويراً حركياً أو وضعاً نابضاً بالحياة.
ومن مغرب قدر له أن يطلع على شيء من أدب الغرب فبهره التجديد وانغمس فيه ثم عاد يحمل رزماً من الطرائق والمناهج وجهر يدعو لتطبيقها كاملة غير منقوصة. وليته دري أن لكل بيئة خصائصها وفي كل مجتمع ميزات ينفرد بها ولكل قوم أمزجتهم وأهواءهم، فما يصلح في بيئة قد لا يصلح كله في الأخرى، وما يستساغ عند قوم يمجه آخرون.(781/25)
هذا بالإضافة إلى أن أسس الخبرات الشائعة في أي مجتمع من المجتمعات تختلف باختلاف طعومه الفنية ومراتب حضارته وأن أي عزم لبناء صرح جديد لابد وأن يسند بهذه الأسس.
وابتلى الأدب العربي بحملة المشاعل المستعارة، فهذا داعية جديد أمه فرنسا رشف لبنها واستطعم آدابها فملكته رقتها وأَسرته طرائق تصويرها وبهرته مناهج البحث الفرنسية فعاد يدعو لتطبيقها وافية كاملة. وهذا آخر لقف العلم في إنكلترا أو اتصل بعلومها وآدابها فانغمس في رومانتيكية الإنكليز وماع معها وهام في دنا أريافا ثم عاد يدعو إلى البساطة والتحلل من القيود قيود الشعر وتعقيدات النثر. . . وثالث ألماني الثقافة واقعي النزعة جاء يحمل على هذا الأدب الضعيف اللين المائع لأن القوة - في نظره - هي المظهر السامي للكائن الحي والأدب مظهر من مظاهر الحياة يصورها ويمثلها ويعالجها فلابد وأن يكون قوياً.
وأدب هؤلاء المجددين متلون وفق أهواء كل منهم، مصطبغ بنهج من درس عليه، متأثر بطرائق من أخذ عنه وتكاد أساليبه تمتاز بأنها أسلس قياداً للقارئ فلغته عذبة ألفها في حياته العامة، ليس فيها الغريب الشاذ ولا العميق المعقد. ولئن كان جرس الكلمة ورنين العبارة ومنسقة السبك هي أنصار الأسلوب القديم في إثارة مشاعر القاري فلا شك أن وضوح الفكرة وبساطة التركيب وطرافة الموضوع هي أهم ما يعتمد عليها الأسلوب الجديد في استهوائه نفوس قرائه.
وموضوعات هذا الأدب بنت الواقع تصوره وتعالجه فهي منه وإليه، ومعظمها إما من صميم حياتنا أو منقول مترجم. وفي الأولى ملح كوميدية عذبة وفي الثانية روائع رومانتيكية مزيدة.
وبين هاتين الفئتين المجددين ودعاه القديم تأرجح الأدب العربي، وبين الاثنتين تاه السبيل وطال عليه الأمد.
وفي الأجواء الجديدة تعالت صيحات حق صارخة من (الشاعرين بأنفسهم) الذين يؤمنون أن على الإنسان أن يستغل جميع خبراته ومواهبه في سبيل شيء واحد هو أن يعيش واعياً نافعاً متعاوناً؛ وهدف هؤلاء (أن يكون درس الأدب وتاريخه على منهج تصححه الخبرة(781/26)
الإنسانية بالحياة والنفس والجماعة ويمثل التقدم الإنساني والرقي العقلي)، وعلى رأس هؤلاء أستاذنا الجليل أمين الخولي وتحرص هذه الفئة على (ألا يكون درس الأدب وتأريخه تناولاً سطحياً وترديداً تقليدياً لما لا يساير تقدم الإنسانية ورقي الحياة العقليه).
هذه الفئات الثلاث أهل الأدب الحي والثوار المجددون ودعاة القديم قد التفت جميعها في حلبة واحدة هي هذا الشرق العربي واستمر التصادم وطال التنافس فطالت على أدبنا نقاد الانتقال. واشتد التزاحم فكثر النتاج لكنه ظل كدراً، وتأرجح أدباؤنا بين مذاهب هذه الفئات يميلون إلى التجديد باسم المرونة والواقعية ومع القديم باسم الأصالة والقومية فجاءوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وتذبذب نتاجهم فجاء ضخما كبيراً لكنه ظل كدرا لا لون له ولا طابع ولا شرعة ولا منهاج. بل ولا هدف.
ونحن إذ نقدر للقديم أصالته نؤمن أن الاستعانة به في السبك الجديد ضرورة وأن الاعتداء به مفخرة، ولكننا ندعو ألا يلهينا هذا القديم عن خلق أدب حي يصور مسراتنا وآلامنا ومشاكلنا فتستطيبه أنفسنا وتأنس به، كما أننا نأمل أن تنظم هذه الاندفاعات التجديدية تنظيما أساسه التبصر ورائده الإصلاح لأنا نريد أن يكون لنا أدب حي دفاع يخلق من ناشئتنا جيلا يتذوق الجمال ويقدر الفن ويملأ صدورهم بسمات.
وفي هذه النفوس الذابلة ينفتح هذه الحياة لتنطلق راضية مطمئنة تستقبل عالم الغد. . .
(القاهرة)(781/27)
من تاريخ الطب الإسلامي
لصاحب السعادة الدكتور قاسم غني
سفير إيران بمصر
- 6 -
من كل ما ذكرنا نستطيع أن نفهم مبلغ التطور الفكري والنضج العلمي الذي كان قد بلغه العلماء والأطباء المسلمون في القرنين الثالث والرابع من الهجرة ويعدان في الحقيقة عصر كمال الرقي العلمي لدى المسلمين، ومن أهم العصور في تاريخ تكامل الثقافة والعلوم عند البشر.
في هذا العهد ظهر كثير من الأطباء الكبار من أصحاب التأليف المهمة في المسلمين، كانت آثارهم ومؤلفاتهم تدرس في المدارس، وكتب العلماء مئات من الشروح والحواشي عليها، وترجمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية، ودرست في مدارس أوربا الطبية وكانت مدار علم الطب عندهم، وكان كثير منهم من إيران، وقد بلغت شهرة خمسة منهم حداً عظيما وخلدت أسماؤهم في تاريخ الطب وهم:
1 - علي بن ربن الطبري صاحب كتاب (فردوس الحكمة) وكتب أخرى في الطب، وقد تلقى عنه الطب محمد بن زكريا الرازي كما روي معظم المؤرخين.
2 - محمد بن زكريا الرازي وهو أكبر الأطباء المسلمين ومن أعظم الأطباء والكيماويين في العالم، وله تآليف متعددة في الطب والكيمياء.
3 - علي بن العباس المجوسي الأهوازي وكان طبيب عضد الدولةالديلمي، ومن تأليفاته كتاب (كامل الصناعة الطبية)
4 - الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا الفيلسوف والطبيب المشهور مؤلف القانون في الطب والشفاء والنجاة والإرشادات ورسائل أخرى في الفلسفة.
5 - السيد إسمعيل الجرجاني مؤلف كتاب (ذخيرة خوارز مشاهي) في الطب باللغة الفارسية.
6 - علي بن ربن الطبري:(781/28)
وقد كان علي بن ربَنْ الطبري متقدماً عليهم في الزمان، ويعتبر مؤلفه (فردوس الحكمة) أول تأليف طبي مستقل لأطباء المسلمين، لذلك نكتفي في حديثنا هذا بذكر مجمل من تاريخ حياته مقتبساً مما ذكره معظم المؤرخين عنه وما ذكره هو نفسه في مقدمة مؤلفه كتاب فردوس الحكمة.
هو أبو الحسن علي بن سهل بن ربن الطبري وكان من أسرة برعت في العلوم، وتولت أهم الأعمال لولاة طبرستان، وكان أبوه من أبناء كتاب مدينة مروو ذوي الأحساب والآداب، وكانت له براعة في الطب والفلسفة، يقدم الطب على صناعة آبائه، وقد قام بتثقيف ابنه وتعليمه العربية والسريانية علاوة على الطب والهندسة والفلسفة والعبرانية وقليلا من اليونانية أيضاً، والدليل على أنه كان له إلمام بهذه الألسنة أنه قد شحن فردوس الحكمة ببسط القول في الهندسة والفلسفة وشرح فيه بعض اللغات اليونانية، ونشر ترجمة باللغة السريانية.
وبعد أن فرغ من التعليم في طبرستان، توجه إلى العراق وأقام بها وأخذ يتطبب فيها، وبعد أن عين مازيارين قارن لولاية طبرستان من قبل العباسيين، ترك علي بن ربَنْ الطب وأسرع إلى هناك، وتولى الكتابة في ديوان مازيار، واستمر في عمله حتى قتل مازيار، ثم توجه إلى الري وعاد فيها إلى التطبب ثانياً، وهناك أخذ الرازي يقرأ عليه الطب، ثم رحل إلى سر من رأى وأقام بها وفيها وفقه الله للانتهاء من تأليفه فردوس الحكمة وكان ذلك في العام الثاني من خلافة المتوكل على الله.
يقول ابن أسفندبار في المجلد الأول من مؤلفه تاريخ طبرسان ما ترجمته أن الخليفة المعتصم عين علياً بن ربن الطبري بعد مازيار بديوان الإنشاء فوجدوا معاني ما يكتب أقل منها في مازيار، فسألوه عن العلة فقال إن مازيار كان يكتب تلك المعاني بلغته، أما أنا فإني أدونها بالعربية وفي هذا ما يدل على قوة عقل مازيار.
ولما تولى المتوكل الخلافة دعاه إلى الإسلام فلباه واعتنقه، فلقبه بمولى أمير المؤمنين، ولشرف فضله جعله من ندمائه، وفي رواية لابن النديم أنه أسلم على يد المعتصم.
وقد اختلف المؤرخون في دين علي بن ربن، فقال بعض مشاهيرهم ومنهم محمد بن جرير الطبري أنه نصراني، وقال آخرون منهم كالقفطي إنه من اليهود.(781/29)
يقول القفطي: (وكان له تقدم في علم اليهود والروبن والربين والراب أسماء لمقدمي شريعة اليهود)، ويظهر من هذا الكلام أن سبب وقوع القفطي وغيره ممن يعدونه يهودياً ناشئ من كلمة (ربن) إذ أن هذه الكلمة تطلق عادة على العلماء المتبحرين في علوم الدين عند اليهود - وقد كان لأبيه كما روى عن علي بن ربن نفسه وعن غيره من المؤرخين - إحاطة تامة بالكتب المقدسة وعلوم التوراة - أما بعد نشر كتاب (الدين والدولة) بواسطة الأستاذ منغانا المستشرق، وفيه يصف علي بن ربن نفسه أيام نصرانيته لا يبقى أي شك في أنه كان من النصارى وأن الذين يعدونه يهودياً مخطئون، وسبب وقوعهم في هذا الخطأ هو لقب والده (ربن).
أما تآليفه فهي حسب رواية ابن النديم وابن أبي أصيبعة والقفطي كالآتي:
1 - تحفة الملوك
2 - فردوس الحكمة
3 - كناش الحضرة
4 - منافع الأدوية والأطعمة والعقاقير
5 - كتاب في الأمثال والأدب على مذاهب الفرس والروم والعرب، وقد أضاف إليها ابن أبي أصيبعة كتباً أخرى منها:
1 - كتاب عرفان الحياة أو إرفاق الحياة
2 - كتاب حفظ الصحة
3 - كتاب في ترتيب الأغذية
4 - كتاب في الرقي
5 - كتاب في الحجامة
ويجدر بنا أن نزيد عليها كتابين آخرين هما:
1 - (الدين والدولة) الذي نشرته مطبعة المقتطف والذي يشير على بن ربن نفسه في مقدمة مؤلفه (فردوس الحكمة) إلى أنه قام بنقله إلى السريانية بعد إنجاز تأليفه.
2 - كتاب الرد على أصناف النصارى الذي أشار إليه المؤلف في مطاوي كتاب الدين والدولة.(781/30)
وقد ذكر ابن أسفنديار في مؤلفه تاريخ طبرستان مؤلفاً آخر له باسم (بحر الفوائد) ولم يسلم من عوادي الزمان من كل هذه المؤلفات التي ذكرناها غير ثلاثة كتب هي:
1 - كتاب فردوس الحكمة في الطب
2 - كتاب حفظ الصحة، وتوجد نسخة منه في مكتبة بودلين باكسفورد.
3 - كتاب الدين والدولة، وقد طبع بمطبعة المقتطف، ونذكر هنا نبذة عن كتاب فردوس الحكمة، قام بمراجعة هذا الكتاب وطبعه ونشره الدكتور محمد زبيو الصديق أستاذ جامعة لكنو في مطبعة أفتاب ببرلين بتشجيع المرحوم الأستاذ ادوارد برون المستشرق الإنجليزي المعروف وإرشاده - وكان طبيباً محباً لإحياء الكتب الطبية - وبمساعدة أوقاف جمعية جيب التذكارية) وذلك بمراجعة النسخ الخطية الثلاث الموجودة في أوربا والنسختين الموجودتين في الهند وكان ذلك عام 1928 بعد وفاة الأستاذ براون.
وقد كان كتاب (فردوس الحكمة) معروفاً منذ بدء تاريخ تأليفه حتى إن أشهر المؤرخين محمد بن جرير الطبري كان يطالعه وهو مريض قد لزم الفراش، واستشهد به الرازي والمسعودي وياقوت وأبو ريحان وغيره من المحققين في مواضع شتى من كتبهم.
والكتاب مقسم إلى سبعة أنواع من العلوم، والأنواع مقسمة إلى ثلاثين مقالة، والمقالات إلى ثلاثمائة وستين باباً.
ونجتزيء في حديثنا هذا الآن بالإشارة إلى أن النوع الأول من الكتاب مشتمل على مقالة واحدة يذكر فيها أنه أخذ المعارف التي ضمنها كتابه من بقراط وجالينوس وآخرين من علماء الطب ومن كتب أرسطو وسائر الفلاسفة ومن آثار معاصريه كيوحنا ابن ماسويه وحنين بن إسحق، وأضاف إلى ذلك كله خلاصة كتب أخرى طالعها وألحق بها زيادة في الإفادة مقالة خاصة في كتب الطب.
وفي أبواب هذا المقالة يتحدث عن كليات المسائل الفلسفية والعلوم الطبيعية من قبيل الهيولي والصورة والكم والكيف وتأثير الفلك والأجرام السماوية والهواء والشهب والحيوان البري والبحري والهوائي وغير ذلك. وفي النوع الثاني ويحتوي على خمس مقالات يشرح المسائل الطبية كالحمل والجنين وعلل العقم والعقر وخلقة الأعضاء والحواس والقوى المدبرة في البدن والقوى النفسانية والرويا والكابوس.(781/31)
وفي النوع الثالث يبحث عن الأغذية وأنواعها والكمية اللازمة من أنواعها المختلفة وقوة كل نوع منها.
وفي النوع الرابع وهو أكبر أنواع الكتاب وأكثرها تفصيلا يتحدث أولا عن الأمراض بصفة عامة كالبحث عن الأمراض الخاصة بكل دور من أدوار الحياة والأمراض الخاصة بكل فصل من فصول - السنة وعلة هيجان الأخلاط والطبائع ثم يشرح بعد ذلك الأمراض الخاصة بكل عضور من أعضاء الجسم من قمة الرأس إلى أخمص القدم ويتحدث عن العلاج والفصد والحجامة وخصوصيات كل دواء وذكر علاجه.
وفي النوع الخامس يبين خواص الأشياء وروائحها وألوانها وفي النوع السادس منه يتحدث بالتفصيل عن المواد الغذائية والأدوية المختلفة كالحبوب والغلال والبقول والخضر والفواكه والزيوت واللحوم والمربيات والمخللات والأدوية المفردة والعقاقير والمسهلات ويذكر فيه أيضاً منافع أعضاء كثير من أنواع الحيوان وعن السموم وعلاماتها وترياقها والمراهم والأضمدة وغيرها.
وفي النوع السابع يتكلم عن الماء والهواء والأقليم والفصول والعلاقة الموجودة بينها وبين الصحة والمرض وفائدة علم الطب.
ويتبين من مطالعة كتب على بين ربن أنه لم يسهب في الكلام عن الجراحة العملية والتشريح بينما نراه في النوع الرابع من الكتاب وهو أهم قسم فيه ويولف خمسي الكتاب على وجه التقريب، يتحدث عن الأمراض بتفصيل كلي غير أنه لا يذكر حتى في هذا النوع شيئاً مهما عن تجاريه الشخصية أو مطالعاته عن المرضى في المستشفيات على عكس تلميذه العظيم الذي يمكن اعتباره أكبر الأطباء المسلمين أعني محمد بن زكريا الرازي فإن كل كتبه ومؤلفاته مشحونة بمطالعاته الخاصة في المستشفيات وبتجاربه المختلفة وبحوثه الدقيقة الشخصية.
ويستفاد من هذه الكتب الثلاثة الباقية من آثار هذا الرجل العظيم أنه فضلا عن مهارته في العلوم العربية والأدب وحسن الإنشاء ومعرفة اللغات المتداولة في زمانه كان عالماً بالطب والفلسفة والنجوم أيضاً كما أنه كان لديه اطلاع واسع على الديانات اليهودية والنصرانية والإسلامية.(781/32)