في السياسة المغربية
للأستاذ محمد العربي العلمي
كبت الأستاذ محمود شاكر في العدد (758) مقالا بعنوان (لا تملوا) تناول فيه قضية الاستعمار الفرنسي في المغرب من بعض جوانبها، فلم يتعمق البحث، ولم يستقص الوقائع، ولم يتبع المقدمات إلى نتائجها، فأدى به ذلك إلى بعض ما لا تحمد عاقبته وأثره في الوطنيين من أهل المغرب، على حين انهم زعماءهم وأهل الرأي فيهم بالسفه والغفلة والتخاذل والتهاون في حقوق البلاد، أو ما يشبه ذلك من أنواع التهم ليخلص من ذلك إلى الإشادة برجل أو رجال من أهل المغرب اثروا البقاء في مصر مختارين فسماهم بذلك مجاهدين وأبطالا وقادة، حينما رمى غيرهم من زعماء المغرب بما رمى من أنواع التهم لأنهم اثروا أن يبقوا في مجال المعركة بين مواطنيهم يشدون عزائمهم ويقودونهم للكفاح وقد كنت ممن تعرض لهم الأستاذ شاكر في مقاله فحق لي بهذه الصفة أن أصحح بعض الوقائع التي ألقيت إليه فحكاها في مقاله بلا تحقيق ولا روية.
ولست أتهم الأستاذ شاكرا في عروبته ووطنيته وحذقه، ولكنه قد رضى أن يدخل في قضية ليس في يده من أسبابها إلا حديث ألقى إليه فاعتقده كل الحق واغفل ما وراءه من أسباب العلم إذ كان محدثه صديقا غير متهم عنده بالهوى.
وللأستاذ شاكر موقف مثل هذا في قضية المغرب نفسها منذ سنين وقد راجع فيه اليوم نفسه؛ فقد كتب في مجلة المقتطف منذ بضع عشرة سنة مقالا ضافيا يمجد فيه الشيخ عبد الحي ويصفه بما لم يوصف به الصديقون والشهداء والصالحون، والشيخ يومئذ وإلى اليوم شوكة دامية في جنوب الوطنيين. وقد عزف ذلك الأستاذ شاكر اليوم عن الزاهد العابد المحدث الراوية الذي وصفه بما وصف منذ بضع عشرة سنة بلا تحقيق ولا روية؛ ثم انكشف له باطنه وقد كان حسبه هذا مثالا يحمله على ضرورة التروي قبل أن يكتب مقاله الأخير يصف به من يصف من المجاهدين بالغفلة والضعف ليضفي صفات البطولة والمجد على القاعدين المترفين
ويتحدث الأستاذ شاكر في مقاله عن حزب الشورى والاستقلالبالمغرب فيزعم انه حزب بلا شعب لأنه رئيس ونائبه بلا أعضاء ولا أنصار، إذ الأعضاء والأنصار والشعب المغربي(759/5)
كله لا يستمعون إلا لرأي الزعماء القاعدين في القاهرة؛ وهو يزعم إلى ذلك أن الزعيم محمد بن حسن الوازني الذي يقود قضية المغرب اليوم كان في سالف أيامه تبعا من اتباع هؤلاء القاعدين ثم الشعب وانشعب وانشأ حزبه. ويزعم أن حزب الاستقلال الذي يرأسه علال الفاسي في القاهرة. هو الذي يمثل الرأي الحق حين ينادي من القاهرة بان لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال وإنه صاحب رأي المغاربة لا يبرم أمر دونه ويزعم أن زعماء تونس والجزائر وممثليهم في القاهرة يرون رأي علال الفاسي في القعود وعدم المفاوضة.
يزعم هذا وغيره، وقد قلت أن ما ألقى إليه من ذلك غير الحق، وأن الحديث عن هذه المزاعم من شانه أن يفتح للقول أبوابا لعلها أن تفسد بين زعماء المغاربة وتضر قضية المغرب اكثر مما يفسد حديث المفاوضات وما يتوقع من منافسات الانتخاب وغير ذلك مما استوحاه الكاتب من الجو المصري الذي يعيش فيه غير متفطن إلى انه يتحدث عن بلاد لم يرها وليس له من أسباب العلم بها وبأهلها إلا القليل أو ما دون القليل.
أما زعمه أن حزب الشورى والاستقلال لا شعب له ولا أنصار فلست أستطيع أن أرد عليه رأيه في ذلك ما دام بعيدا عن البلاد؛ وهي على كل حال قضية حزبية ليس من حسن الرأي أن يشتغل بها قراء الرسالة، إذ كان البرهان العملي فيها في المغرب نفسه لا على صفحات جرائد القاهرة. وثمة برهان عملي آخر على مكانة حزب الشورى في المغرب هو ما بذل من تضحيات، وما لقي رئيسه وأعضاءه من نفي وتشريد، وما زهق من أرواح مجاهدين تحت سياط الفرنسيين في صحراء المغرب ولم يرجع آخر أعضائه من المنافي والسجون منذ سنة 1937 إلا في سنة 1946. ولو علم الكاتب أن المعاهد العلمية الوطنية التي أنشأها هذا الحزب (مضافة إلى أنواع الجهاد الوطني) تضم في مختلف بلاد المغرب اكثر من 35 ألف تلميذ لعرف ما في اتهامه لهذا الحزب من التجني والجحود.
أما أن حزب علال الفاسي يرى أن لا مفاوضة إلا بعد الجلاء يفاوض الفرنسيين في العام الماضي، ومضى في هذه المحاولة خطوات واتصل ما بينه وبين المقيم الفرنسي السابق قبل أن يأخذ حزب الشورى في مباحثاته الجارية، ولسنا بهذا ننكر على علال أو غيره محاولته وإنما نريد أن فكرة لا مفاوضة هذه إنما نشأت منذ قريب لأسباب لا أجد داعيا(759/6)
لاشتغال قراء الرسالة بها.
وحزب الشورى وإن كان يمثل الأكثرية في المغرب لا يريد أن يقطع السبيل على أحد من المجاهدين أو يبرم رأيا لا تقتضيه البلاد ملكا وشعبا. وإذا كان هناك من ينبغي أن ترجع إليه الصحف المصرية في قضية مراكش فهو الأمير عبد الكريم الرجل الذي لا يدفع أحد في الشرق ولا في المغرب زعامته وإخلاصه ووطنيته التي ترتفع فوق الأهواء الحزبية المضللة. ولعلى لا أكون فضوليا أن زعمت أن الذين ذكرهم الأستاذ شاكر من زعماء تونس والجزائر ليسوا معه على الرأي الذي نسب إليهم. وارى من حقي بعد ذلك على الرسالة وقرائها وعلى الأستاذ شاكر نفسه وهو عندي ارفع منزلة مما وضع نفسه أن أبين له ولهم أن إفحام المثقفين من قراء الرسالة في قضية حزبية كهذه القضية التي نحن بصددها ليس من مصلحة المغرب ولا من مصلحة العرب، وليس فيه شئ من الحكمة وأصالة الرأي وبخاصة في هذا الوقت الذي اجتمعت فيه أحزاب المغرب جميعا على رأي مشترك وهدف موحد في لجنة التحرير التي أنشئت بالقاهرة منذ أيام بحسن راس سمو الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم وبرياسته، فقد كان الأمل أن يحرث أبناء العروبة جميعا على تدعيم هذا الائتلاف الوطني المغربي الذي تمثله هذه الهيئة الناشئة لا أن يحاول كاتب ذو مكانة مثل الأستاذ شاكر أن يجعل فيه ثلمة ويلقى حوله بذرة من بذور الشقاق.
أما حديث المفاوضة قبل الجلاء أو بعد الجلاء فأننا نأمل أن لا يتأثر إخواننا في مصر بالجو الذي يعيشون فيه حين يعرضون للحديث عنه وعن قضايا بلاد لا يعرفون على وجه التدقيق ولا التقريب عن جوها السياسي شيئا. وحسبي هذا التلميح دون التصريح خدمة لقضية المغرب العربي. وأحب أن أؤكد للأستاذ شاكر أن ما يجري الآن إنما هو مخابرات، وانه لن يدخل في أية مفاوضة إلا بعد إعلان استقلال البلاد.
محمد العربي العلمي(759/7)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (1، 2)
1 - فيدون
للأستاذ كمال دسوقي
للمحاورة من المحاولات الأفلاطونية تاريخان: تاريخ حدوث وتاريخ تدوين، وقد تكون الواحدة منها من أولى المحاورات وقوعا وآخرها تدوينا - وقد تكون العكس - حسبما تصادف الرواية من ظروف الجدل على يد سقراط، والكتابة على يد أفلاطون.
وفيدون آخر المحاورات السقراطية وقوعا على التحقيق لأنها تنتهي بآخر مشهد من حياة سقراط؛ بتجرعه السم وموته، ولهذا يؤرخ لها بسنة تسع وتسعين وثلثمائة التي مات فيها سقراط على ارجح الآراء. ومع هذا فهي لست من أوائل المحاورات تدوينا عند أفلاطون - لما يبدو فيها من العمق والمثالية التي هي أدنى إلى الأفلاطونية - مع أن المؤرخين يسلكونها في المرحلة الأولى من تأليف أأأفلاطون: أو طيفرون، واحتجاج سقراط، واقريطون، وفيدون - التي يسمونها المرحلة السقراطية لقرب عهدها به؛ ولذلك فالمنتظر أن يكون فيدون قدوري هذه المحاورة - ودونها أفلاطونبالتالي، بعد زمن طويل من وفاة سقراط.
والمحاورة قسمان غير متعادلين يفصل بينهما انصراف سقراط إلى ذكر شئ من تجربة - حين بلغ الشك مبلغه في نفس محدثيه وكان من قبل قد استطاع أن يزيل كل شك في نفسيهما، أما هنا - فهو يتوقف عن الجدل مضطرا لكي يتحدث عن نفسه واشتغاله بالعلوم والمذاهب.
والقسم الأول هو إذن اكبر القسمين - ويتناول، بعد شئ من المقدمات تتعلق بظروف المحاورة وشهودها وما انتابهم من شعور، ثم زوجة سقراط - وفك أغلاله. الخ - تقول - يتناول الموت والانتحار وموقف الفيلسوف من كليهما، والحديث عن الموت بوصفه (انفصال الروح عن الجسد) يستتبع الحديث عن الروح والبدن والتفرقة بين المحسوس والمثالي المطلق حيث ينتهي سقراط إلى أن سبيل المعرفة الأوحد أن تعود الروح إلى مفارقة البدن وإلى أن واجب الفيلسوف أن يعد نفسه للموت. ويثير هذا خوفا على مصير الأرواح في نفس سيبيس فيطمئنه سقراط على خلود الروح بأدلة ثلاثة يتبعها رابع - تثير(759/8)
مناقشتها مشكلات التذكر والتضاد وأزلية الروح وأبديتها. . . وتناسقها وتناسخها. . الخ. . .
ولنفصل القول بإيجاز في كل مشكلة من هذه.
1 - الموت والانتحار
1 - الحكيم لا يهاب الموت ولا يحفله - بل ينشده ويرحب به - فهل معنى هذا أن ينتحر؟ وهل له بدلا من أن ينتظر وقوع الموت ويستجديه من الآلهة أن يضع لحياته حدا؟ لا - أن عليه أن يضع نفسه حيث وضعته الآلهة، وألا يخلص روحه من سجن البدن إلا متى ارادت، فالآلهة وألا يخلص منه من سجن البدن إلا متى ارادت، فالآلهة أدرى بخيره منه - وهو حين يخرج على إرادتهم بفعل هذه الجريمة - كالثور أو الحمار يعصي صاحبه - فقد ارتكب اكثر من نكر واحد:
(ا) فهو أولا قد ظن في نفسه القدرة على الموت والحياة. وهو خلو منها.
(ب) وافتراض في نفسه حكة اكثر من الآلهة - ومعرفة بخيره منهم. . وعناية بنفسه اكثر من عنايتهم، حيث يكون الخير في الواقع ما أرادوه هم - ولو كان سجنا أو موتا هو الذي يفر من خيره في غير حكمة.
(ج) ثم هو يهب نفسه حرية واختيار أن يفعل ما يشاء أكثر مما له في الحقيقة.
والنتيجة أن واجب الفيلسوف أن يرغب الموت ولا يرتكبه، ولكن له أن يحاول فصل روحه عن بدنه وتعطيل حواسه عن فكره حتى يتهيأ له سبيل المعرفة الصحيح، ووسيلة التطهير والخلاص وعليه حتى حين الخلاص النهائي أن يمهد نفسه له، وأن يميتها مرة ومرات، فيعادي البدن ويتجنب كل ما يمت إليه بسبب، حتى تحصل روحه الحكمة من العالم الآخر قبل أن تصل إليه وحتى تالف الموت فلا تفرع له أو تفرع منه، وبهذا المران على تطهير الروح يصل إلى الاعتدال الذي لا تطرق معه في صفة من الصفات كما يصبح سعيه للحكمة وخلاص النفس وتطهيرها مقصودا لذاته، لا لمقايضة ومبادلة أو ترجح للذة أو خير ابعد - بمعنى أن يتطبعوا بالحكمة لا يبغونها لنفع أو غرض.
2 - خلود الروح:
وهنا يسوق سيبيس على لسام العامة تشكيكا في مصير الروح بعد انفصالها عن الجسد،(759/9)
وقولهم إنها تصبح هباء أو دخانا تذروه الرياح - فيقدم له سقراط الأدلة على بقاء الروح في العالم الأزلي - وسنسوقها بترتيب ورودها.
2 - فأولا يقدم سقراط دليلا يبدو انه يريد به نظرية تناسخ الأرواح انتقالها من بدن إلى آخر بعد موته - وإلى هذا يرمز بقوله (المذهب القديم الذي كنت أتحدث عنه) أي الفيثاغورية؛ وعلى هذا فلا بد أن تظل الروح باقية كيما يخرج الحي من الميت. ولا تقوم صحة هذا دليل إلا إذا سلمنا بهذه النظرية الفيثاغورية، بمعنى إنه إذا قام الدليل على أن الحي لا يولد إلا من الميت، فقد صحت النظرية، وثبت بالتالي خلود الروح وتناسخها، وإذا لم يقم على ذلك دليل سقطت هذه الحجة
ب - ولكي يقدم سقراط دليلا أخر يبحث مسالة التضاد فيما بين الأشياء: الكبر والصغر. والعدل والظلم، واليقظة والنوم. . . الخ والفعل الذي به يتم الانتقال من الضد إلى الضد ذهابا وجيئة، وينتهي إلى أن الموت الذي نراه لا بد أن يكون ضده الحياة التي لا نراها موجودة - فأرواحنا لابد إذن موجودة في العالم الأدنى - والحي لابد أن يكون خروجه من الميت كذلك، وإلا لا نعدم توالد الأشياء واصبح مصيرها مصير (أنديميون) النائم أبدا - فهذا الدور أو التعاقب بين الأضداد هو الذي يؤكد لنا خلود الروح. . وهذا الدليل كما نرى وجودي فكرى اكثر منه حقيقيا فالتضاد بين الأشياء مقولة من مقولات الفكر، ومن عمل العقل والمنطق - نحن ندرك النوم باليقظة - ونميز الصحة بالمرض ولكن ليس محتوما أن يتولد المرض من الصحة ولا النوم من اليقظة. حقا أن الكون والفساد من نواميس الطبيعة - التي هي كما يقول - لا يفترض إنها تسير على ساق واحدة فحسب - وما نسلم بنظرية التناسخ السابقة - فإن هذه الحجة لا تدل وحدها على خلود الروح.
(ج) والحجة الثالثة هي نظرية التذكر، ويقصد بها أن أرواحنا قد أقامت قبل حلولها في البدن في عالم أخر نتذكر الآن الإجابة الصحيحة التي يدل بها شخص ما عن سؤال صحيح مينون - إليه - ويكون التذكر بالتلازم - كالمحبوب والقيثارة - وسيمياس وسيبيس - أو بالتشابه أو التضاد - كما في الحجة السابقة، أو بالتساوي الذي يوجد مثاله - ككل المثل - في عالم التجريد والذي نفيس عليه تساوي العصى أو الحجارة أو قطع الخشب - التي ليست في حقيقتها متساوية - بل تنزع إلى التساوي الحق دون أن تبلغه - وهذه المثل نحن(759/10)
لم ندركها بالحواس بل الحواس هي التي تذكرنابها في عالم المثل. وقد ولدنا ومعنا هذه المعرفة - أي إننا قد حصلناها قبل أن نولد - وهانحن الآن نتذكرها بطريق الحواس؛ وإلا فلو إننا قد حصلناها ساعة الميلاد أو بعده - فكيف سلبت منا بعد أن أعطيت لما حتى ننساها ثم نعود فنتذكرها وإذن فأرواحنا قد كانت موجودة قبل أن نولد، وكذلك المثل المطلقة للخير والعدل والحق والتساوي. . . الخ، التي تذكرنا بها حواسنا ألان. وهذه الحجة نثبت أزلية الروح - ولا تثبت أبديتها - كما شك سيمياس، وعليه يرد سقراط بأنه من مجموع هذه الأدلة يقوم الدليل على خلود الروح.
(د) على أن أهم دليل يقدمه سقراط على خلود الروح - هو الحجة القائلة - بأنه إذا كان الجسم يفنى لأنه مركب يتحلل بالفساد - فالروح باقيه لأنها بسيطة لا تتحلل ولا يجوز عليها التغير - لأنها ثابتة خفية يدركها العقل ولا تقف عليها أي الحواس، وبذلك فهي أبدية خالدة شان كل ما هو الهي - حقا أن المادة الجسمية تغشى بكثافتها على صفاء الروح وتدنسها بمخالطتها ولكن الفلسفة كما قلنا هي وسيلة تطهير البدن من هذ1 الجسم وأماتته مرات قبل أن يموت نهائيا - فإذا سح هذا طاهرة، ورفلت في نعيم الهي مقيم. وأما إذا كانت الروح تجر وراءها دنس المادة وكدر الشهوة، لم تزل تحوم حائرة حول المقابر - جزاء إثم أصحابها الفجار في الحياة. ورما تقمصت هذه الأرواح الفاجرة الشريرة أجسام حمير أو ذئاب أو حدا يزاولوا فيها ميولهم وبائعهم ولذا كانت الفلسفة سبيلا لتحرير الفيلسوف، واعتداله، وتخلص روحه وخلودها سعيدة مع الآلهة ولذلك أيضا لم يكن سقراط اكثر اعتدالا أو هناءة أو تغريدا في أي وقت من حياته منه ساعة إعدامه - وهو يشبه نفسه بطيور التم التي تغريدها قبيل موتها.
(يتبع)
كمال دسوقي
المدرس بالمنصورة الثانوية(759/11)
حول رسائل الصاحب بن عباد واعتزاله
للأستاذ محمد خليفة التونسي
قدم الدكتور احمد فؤاد الأهواني إلى قراء (الرسالة) في عددها 755 رسائل الصاحب بن عباد التي حققها وقدم لها الدكتور عبد الوهاب عزام بك عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، والدكتور الأهواني - ومن قبله المحققان - نزعة الصاحب إلى الاعتزال، فقرر انه وقف طويلا عند قول المحققين للرسائل: (ونحن نجد في الرسائل نزعة واضحة إلى القول بالاعتزال والدعوة إليه) وأشار إلى أن البحث في الاعتزال والكلام وما يتصل بهما مما تهفو إليه نفسه، ليس هذا بغريب منه وهو معنى بالفلسفة، كما أشار إلى انه كان يحب أن يجد في الرسائل ما يشبع رغبته ويرى من نصوص الصاحب نفسه ما يؤيد قول ياقوت: أن الصاحب كان (مثل أبيه يذهب مذهب الاعتزال) وذكر أن ما اعتمد عليه المحققان في نسبة الاعتزال إليه ثلاثة نصوص في الرسائل نقلها الدكتور، وأشار إلى مواضعها من الرسائل، أحدها في الرسالة التاسعة من الباب العاشر وهو باب التعازي، ذكر فيها تعديل الله ولطفه في صنعه وصلاح فعله، وثانيها في الرسالة الثانية من الباب السابع عشر وهو باب الآداب والمواعظ، ذكر فيها الصاحب بلدا كان مستغلقا (على أهل عدل الله وتوحيده، والتصديق بوعده ووعيده) وثالث النصوص في الرسالة الثالثة من الباب العاشر ايضا، وهي رسالة إلى أهل الصيمرة وصفهم فيا بشهرتهم (بالذنب عن توحيد الله وعدله، وصدقه في وعيده ووعده) وكان بلدكم من بين البلاد كغرة ادهم، وشهاب في ليل مظلم، وما النعم اجل موقعا واهنا مشرعا من النعمة في القول بالحق والدعاء إليه، والتدين به والبعث عليه ومهانة من شبه الله بخلفة فتتابع في جهده أو جوره في فعله، فشك في حسن نظرة وطوله).
وقد علق الدكتور الأهواني على النص الثاني بقوله (وشهرة المعتزلة بأنهم أهل العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، اعظم من شهرتهم بالتعديل والصلاح) كما علق على النص الثالث بقوله (وهذا نص آخر أكثر في الاعتزال بيانا، فيه العدل والتوحيد والصدق في الوعد والوعيد، ونفى التشبيه وامتناع التجوير) وقد وجد الدكتور في هذه النصوص بعد أن وضحها على هذا النحو ما يكفي في نسبة الاعتزال إلى الصاحب، فعقب عليها بقوله (وهنا نستطيع أن نطمئن إلى ما ذكره عنه ياقوت من انه كان يذهب مذهب الاعتزال) واستدرك(759/12)
على محققي الرسائل ترددها فقال (ولكن الدكتور عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان هذا من عمله هو أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال)
ولي أربع ملاحظات على ما سردته هنا من كلام الدكتور الأهواني وما يتضمنه من كلام الدكتورين المحققين والعهدة عليه هو فينا نقلت عنهما وعن الرسائل إذ لم يتح لي حتى الآن الاطلاع عليها كما نشرها المحققان الفاضلان.
أولها: ما أشار إليه المحققان، ونقله الدكتور الأهواني من نصوص الصاحب الثلاثة - المشار إليها قبل - ولاسيما ثالثها يحمل الباحث على الاطمئنان إلى أن الصاحب كان يقول بالتوحيد والعدل، والعد والوعيد، وهذه - دون شك - أصول ثلاثة من أصول مذهب المعتزلة الكلامي، ولا داعي للتشكك في نسبتها إلى الصاحب مع ورودها في نصوصه، إذ ليس الباحث مطالبا ببينات أقوى ولا اكثر من هذه البينات، وإن كان مما يرحب به وجود بينات نصية كذلك تكون أكثر تفصيلا ليضمها إلى ما لديه، كما انه ليس على الباحث أن ينبش عن قلب الرجل ليرى ما في سريرته، ولا مبرر بعد ذلك للشك أو التردد حتى يثبت أن للصاحب نصوصا تعارض هذه النصوص، وهذا ما لم يثبت حتى الآن، والدكتور الأهواني لم يحد عن مسلك العالم حين اطمأن إلى نسبة هذه الأصول الثلاثة إلى الصاحب، ولم يتابع المحققين في شكهما وترددهما، وأنا أشاركه هذا الاطمئنان، ولكني لا اذهب معه إلى اكثر من نسبة هذه الأصول اليه، ولا أتعدى معه إلى القول باعتزال الصاحب على الإطلاق بهذه النصوص وحدها حسبما ذكر الدكتور اتباعا لرأي ياقوت فيه، وسأوضح هذا في الملاحظة الرابعة.
ثانيتها: ومن أجل هذا الاطمئنان حق للدكتور أن يستدرك على المحققين ترددهما الذي لا مبرر له، وعدم جوابهما على سؤالهما (أكان هذا (أي الاعتزال) من عمله هو، أم من علم الدولة، فقد كان عضد الدولة - فيما يظهر - يذهب إلى الاعتزال)
ولشك - كما يظهر من السؤال - لا مبرر له بعد النصوص لا سابقة - إلى ما ذكر ياقوت ونقل هنا - ولم لم يكن لدينا غيرها، فضلا عما سنذكر في الملاحظة الثالثة، كما أن السؤال لا موضع له على هذا النحو فماذا يطعن في اعتزال الصاحب أن كان من عمله هو أو من(759/13)
عمل الدولة لأنه كما ذكر المحققان. - (قد كان عضد الدولة يذهب فيما يظهر - إلى الاعتزال) فهل يوهن ذلك من اعتزال الصاحب ويحملنا على الشك فيه؟ ليكن أن (عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال) أو لا يكن، فأي قيمة لاعتزال عضد الدولة في هذا الموضع لموج به فيه؟ أيطعن في إسلام ثابت لوزير أن يكون الملك الذي استوزره مسلما، وأن تكون دولته إسلامية؟ ثم ما قيمة اعتزال عضد الدولة أن كان منتهى الثقة في القول به إنه - كما ذكر المحققان - فيما يظهرلهما، لا فيما ثبت لهما ثبوتا قاطعا أو راجحا؟ ثم ما قيمته إذا لم يكن هناك دليل عليه؟ بل ما قيمته إذا لم يثبت أن عضد الدولة كان يؤثر المعتزلة دون غيرهم بامتياز يدل على ميله إليهم فضلا عن ذهابه مذهبهم؟
لقد قرأت مما كتب في تاريخ عضد الدولة - وما هو بالقليل - فلم أجد فيه ما يدل على أن عضد الدولة كان نؤثر مذهب الاعتزال أو المعتزلة بعطف خاص؟ فمن أين هذا الذي ظهر للمحققين الفاضلين حين أشاروا إلى اعتزاله؟ وكيف ظهر لهما؟
لا أزعم إني قرأت من تاريخ عضد الدولة اكثر مما قرأ المحققان، فلعل عندهما علم ما لا اعلم منه، وهما - دون شك - كثر اطلاعا وفهما مني - ولست ابغي من معرفة ما ظهر لهما من اعتزال الصاحب غير مصدره وكيفية ظهوره!
ومع هذا قد وفقت في دراستي لتاريخ الاعتزال على أن هذا المذهب كان ذائعا قويا في أيام عضد الدولة وفي دولته خاصة، إذ ظهر فيها كثير من شيوخ الاعتزال، وتولى بعضهم الأعمال لها، ومنهم من كان على صلة بعضد الدولة نفسه، وكانت الدولة تعرفهم وتعرف ميولهم واعتناقهم الاعتزال ومع ذلك لم تجد ما يدل من قريب ولا بعيد أن الدولة كانت تؤثرهم بعناية خاصة إلا في أيام الصاحبة نفسه، وهذا الإيثار كان من عمل الصاحب وحده لا من عمل الدولة، ومن المعروف أن عضد الدولة - هذا الذي يرى المحققان فيما ظهر لهما إنه يذهب إلى الاعتزال - جاءته رسالة من إلا أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني، أو الباقلاني، وابن الباقلانيكان - دون شك - متكلما على مذهب الأشعري شيخ أهل السنة، وكان من اشد خصوم المعتزلة آلف الكتب للرد عليهم والحط من أقدارهم. ويروى إنه أبى أن يخض لرسوم البلاط البوهي حين لقي عضد الدولة فلم يكفر له في مدينته أفلم يكن في دولة عضد الدولة من رجال المعتزلة الذين تعرفهم الدولة(759/14)
وتعرف فضلهم من يحمل هذا الجواب كما حمله ابن الباقلاني السني خصم المعتزلة؟
لو أن الدولة البويهية عطفت على المعتزلة وآثرتهم بعناية خاصة لكان هذا موافقا لأصلها العام لأنها شيعية زيدية، والزيدية في كل زمان ومكان - منذ عهد زعيمهم زيد بن علي تلميذ واصل بن عطاء شيخ المنعزلة - يدينون بالاعتزال أصوله كلها أو بعضها، أو يعطفون عليه، وكانت الفتن كثيرة في عهد الدولة البويهية بين أهل السنة والشيعة، وكانت الدولة دائما تنصر الشيعة على أهل السنة، بل كان بعض هذه الفتن يثير أهل السنة تمردا على تشيع الدولة، ومع ذلك لم نقرا خبرا عن فتنة بين المعتزلة وأهل السنة نصرت الدولة فيها لا معتزلة على أهل السنة كما نصرت الشيعة عليهم
لقد ظهر إلى الصاحب في عهد ركن الدولة وعضد الدولة، ووزر لمؤيد الدولة ثم أخيه فخر الدولة، فأما ركن الدولة فلا نعلم من أمر نظره إلى الاعتزال إلا خبرا واحدا مؤداه انه أرسل مرة إلى الصاحب عينا من عيونه يشاكسه في مجلسه ويتحدى سلطانه ومذهبه الاعتزالي ويجادله في بعض تعليماته: وهو القول بخلق القران. وأما عضد الدولة فقد قدمنا مبلغ علمنا في نظرة إلى الاعتزال، وأما مؤيد الدولة فلا اعرف من أخباره ما يدل على ولاء ولا عداء للاعتزال وأما فخر الدولة فلا نعرف في نظره إلى الاعتزال غير خبر واحد ذكره الصاحب في صدد علاقته واحتشامه فقال ما استؤذن لي على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا انتقل إلى مجلس الحشمة فيأذن لي فيه، وما اذكر انه تبذل بين يدي ومازحني قط إلا مرة واحدة فانه قال لي في شجون الحديث: (بلغني إنك تقول: المذهب مذهب الاعتزال والنيل نيل الرجال) فأظهرت الكراهية لانبساطه، وقلت: (بنا من الجد ما لا نفرغ معه للهزل) ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إلى مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها لما يجري مجرى الهزل والمرح) وليس في هذا الخبر ما يدل على أن فخر الدولة يشارك وزيره اعتزاله، ولا انه يرى للاعتزال امتيازا على غيره، وإلا لم يستدرك على الصاحب ميزه الاعتزال بعنايته من سائر المذاهب الإسلامية الكلامية.
هذا إلى أن فخر الدولة - كما يجب أن يعلم - كان يعرف خطر وزيره في دولته، وحاجته إليه في تدبيرها بل فضله عليه إذ جعله هو وأعوانه على أملاك أخيه مؤيد الدولة في أصفهان بعد موته سنة 373 هـ (984م) وأضاف إليها غيرها من حصون المتمردين(759/15)
عليها، وكانت كلمته فوق كلمة ملكه في دولته ولم يكن ينزل عن جلاله وكبريائه وحشمته معه.
ومن هذا العرض الموجز تنكشف علاقة ملوك البويهية الذين عاصرهم الصاحب جميعا بالاعتزال والمعتزلة، وليس فيه من قريب ولا بعيد أية دلالة على تحيز من الدولة أيام الصاحب إلى الاعتزال فضلا عن اعتناقه.
ومن هنا يتضح لنا أن لا موضع للسؤال الذي سأله المحققان الفاضلان كما نقله عنهما الدكتور عزام بك الأهواني في استدراكه عليهما فقال (. . . فقال ولكن الدكتور عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان من عمله هو (الصاحب) أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب فيما يظهر إلى الاعتزال.
بل أن هذا السؤال الذي ترك المحققان الجواب عنه دون مبرر يتضح من وضعه على هذا النحو انه محاولة للإفلات من القضاء بحكم مع هذه المقدمات الواضحة، وهذه المحاولة لم تحل الإشكال الأصيل بل خلقت إشكالا آخر لم يكن داع لخلقه، وأقحمته في غير موضعه ثم تركته دون حل كما تركت سابقه وأثارت شكا لا موضع له ولا حاجة إليه وكان حل الإشكالين ميسورا.
(له بقية)
محمد خليفة التونسي(759/16)
طرائف من العصر المملوكي:
الحركة العلمية
للأستاذ محمود رزق سليم
جميل بنا أن نعني بدراسة تاريخ مصر، ونتعرف إلى نواحيه المختلفة، لنشهد ما قدمه بنوها في أجيالهم المتعاقبة من جهود في مضمار العلم والأدب، ولنعرف مكاننا من المدينة، وموقفنا من الحضارة الفكرية. فان مصر في عصورها المتعددة كانت تشترك باستمرار وبرغبة ذاتية في بناء المدينة والحضارة، وتسعى دائبة لرفع لوائهما ونشر سلطانهما.
والعصر الذي نحن بصدده، عصر فريد من عصور مصر، وبخاصة في اتجاهاته العلمية، وهو لذلك جدير بالبحث والتمحيص اكثر مما بحث ومحص. بل لا أغلو إذا قلت أن الغموض لا يزال يكتفه من نواح عدة. بل لا تزال الفكرة المركزة في أذهان كثير من الأدباء عنه، مشوهة ظالمة. ولذلك يتأبى بعضهم على البحث فيه وتمحيص نواحيه. مع أن أبناءه حملوا من أمانة العلم والأدب ما يئود. ألقته المقادير على كواهلهم إلقاء فحملوا الأمانة وأدوا الرسالة، صابرين في الحمل، محسنين في الأداء.
نهضت بغداد من قبل، برسالة العلم، والأدب زهاء خمسة قرون وكانت - في الجملة - شمسا للبلاد الإسلامية شرقيها وغربيها تستضئ بهديها. وتسير على قبس منها. فلما دهمها التتار عام 656هـ، وأزالوا خلافتها، ونكلوا بأبنائها وعبثوا بمؤلفاتها، ضاعت بذلك ثمار كثيرة من ثمار هذه القرون الخمسة، ووقفت بها رحى العلوم والآداب إلا لماما. هنا لم تجد القاهرة بداً من الظهور في الميدان، أكثر مما كانت ظاهرة، وتقدمت لحمل أمانة العلم والأدب برغبة وشجاعة. ولولا تقدمها لخبا الزناد وكبا الجواد، وانقطعت سلسلة العلوم والآداب الإسلامية، وتوارت عن الأنظار أمداً طويلا.
وقد هيأ الله للقاهرة من الأسباب ما عاونها على بلوغ غايتها. فقد كانت حينذاك عاصمة لأقوى مملكة إسلامية، ورزقت ملوكا أحسوا أن عليهم واجب حماية الدين والحرص على بلاد المسلمين. فدافعوا عنها أعداءها، ووطئوا للعلماء أكتافهم، ورحبوا بالقادمين منهم إلى مصر. وأغرى العلماء ما في مصر من خير وكرم وحسن وفادة وطيب لقاء. فوفدوا إليها تباعا من كل فج، واتخذها بعضهم دار مقام، حتى أصبحت منتدى العرب وحج المسلمين،(759/17)
وقبلة علمائهم وطلاب العلم فيهم من كل بلد ومحلة.
وقد دعمت هذه الحياة بتجديد الخلافة الإسلامية منذ عصر الظاهر بيبرس. فأصبحت الخلافة - على علاتها - ذات قوة أدبية لها تأثيرها الروحي في نشاط الحركة العلمية الإسلامية، وعاونت مصر على أن تكون بيئة دينية صالحة جليلة القدر، ينبت فيها ويفئ إليها علماء الدين على اختلاف مذاهبهم.
ولم يدخر السلاطين وسعا - كما نوهنا - في تبجيل العلماء وتعظيمهم أمام الخاصة والعامة، حتى اطمأنت نفوسهم، ولم يلههم عن الإنتاج العلمي شئ من جوع أو خوف، وحرصت أجيالهم الناشئة على متابعة جهودهم العلمية لتظل لهم هذه المنزلة السامية لدى السلاطين والشعب.
ونذكر منهم على سبيل المثال: عز الدين بن عبد السلام وكان يدعى بسلطان العلماء، وكان الظاهر بيبرس يهابه ويقدر رأيه. وتقي الدين بن دقيق العيد، كان السلطان لاجين يقبل يده. وعلاء الدين السيرامي فرش له السلطان برقوق السجادة بيده.
والى جانب هذا سرت في السلاطين والأمراء ومن إليهم، روح عجيبة قوية لإبقاء أثرهم وتخليد ذكراهم. واتخذوا إنشاء المساجد الجامعة في مقدمة وسائل هذا الإبقاء والتخليد، قربى إلى الله وزلفى، وليتعبد فيا الناس وليتفقهوا في دينهم؛ وقرروا فيا الدروس، وعينوا لكل درس شيخا، ورصدوا لذلك الأوقاف الطائلة، ليقضوا لهذه المدارس بقاء طويلا، واجروا على الطلبة المنقطعين فيها لطلب العلم نفقات وأطعمة وأكسية، والحقوا بكل مدرسة دار كتب قيمة حسدوا إليها الآلاف من المؤلفات الثمينة.
ولم تكن هذه الجهود مقصورة على مدينة القاهرة وحدها. بل اشتهرت إلى جانبها مدن أخرى كثيرة كالإسكندرية وأسيوط وقوص ودمياط ومنفلوط وبوتيج وأخميم وأسوان وبلببيس، هذه فضلا عن المدن الشامية والحلبية والحجازية.
وبلغ عدد مدارس القاهرة نحو خمسين فوق ما أنشأه الأيوبيون والفاطميون من قبل ولا يزال كثير منها مائلا للعيان في القاهرة حتى اليوم.
وفي مقدمة هذه المعاهد التعليمية مستشفى قلاوون. بناء عام 682 هـ. وكان عبارة عن مدرسة للطب كبيرة. به قسم للحميات، وقسم للرمد، وقسم للجراحة، وقسم للأمراض(759/18)
النسوية، غير ذلك. وجهز بمن يهيمن عليه من الأطباء والموظفين والممرضين والصيدلانيين. كما زود بأدوات العلاج والصيدليات. واعدت به أسرة للمرضى، وقسم للعلاج الخارجي وكل ذلك بالمجان. وهيئت به قاعة محاضرات تلقى بها دروس الطب، كما زود بخزانة كتب جليلة القدر.
هذه العوامل جميعها من شانها أن توقظ الهمة وتشحذ العزيمة، وتهيئ السبيل إلى الاشتغال الجدي العلم. وقد انتهز العلماء هذه الفرصة النادرة، وتلك الموارد الشهية التي أتيحت لهم، فنهلوا منها وعلوا. وكان لهم مما أصاب العرب والمسلمين في ثرائهم الفكري، ببغداد وغيرها خير حافز على النهوض بتدوين العلوم تدوينا جديدا، وبالإضافة إليه كلما وجدوا مزيدا، حتى يعوضوا اللغة والدين شيئا مما فقداه في محنهما، وحتى يبرئوا الذمة أمام الله والتاريخ ويبرهنوا إنهم حملوا العبء بلقب ثابت ونفس راضية
وقد كان لهذه الحركة العلمية مظاهر متعددة، أهمها مظهران هما: الحركة التعليمية، والحركة التأليفية.
أما الحركة التعليمية فقد انتعشت انتعاشا محمودا. وكان بالبلاد نوعان من التعليم هما: التعليم العسكري، والتعليم الشعبي.
أما العسكري فقد كان مقصورة على طائفة المماليك، محظورا على أفراد الشعب. وهذه إحدى نقائصه على طائفة المماليك، محظورا على أفراد الشعب. وهذه إحدى نقائصه في نظر المؤرخ الوطني. وكانت طباق القلعة المقر الرسمي لجنود الدولة منذ عصر قلاوون. يجلبون إليها من الأسواق صغار ويقسمون فرقا حسب أجناسهم ويقيم في كل طبقة جنس يشرف عليه عدد من الزمامين (الأغوات) ويقوم هؤلاء الصغار بتمرينات رياضية سهلة مناسبة ويعلمون الكتابة والقراءة ويلقون آيات من الذكر الحكيم. ويعودون الصلات وبعض الفروض الدينية، ويحفظون شيئا من الأدعية وتحبب إليهم الأخلاق الفاضلة والدفاع عن الدين والجهاد في سبيل الله. ثم إذا بلغوا الحلم يعلمون تمرينات رياضية اشد قسوة، ويمرنون على السباحة واستعمال السيف والرمح، وقذف الأطواق وركوب الخيل والمبارزة ورمي النشاب ولعب الكرة. وفي هذه المرحلة تنضج مواهب المملوك وتبرز خصائصه وتبدو مهارته وشجاعته. فإذا عرف فضله وشهد بلاؤه صار في عداد المحاربين ثم قد يدفع(759/19)
به حظه إلى العتق ثم الترقي في سلك الامارة، وقد تسوق إليه المقادير في أعقاب ذلك سلطنة البلاد.
وقد عنى السلاطين عناية بالغة بتنشئة مماليكهم تنشئة عسكرية صالحة، كما عنوا بطعامهم وشرابهم وصحتهم فتخرجوا - كما قال المقريزي - (سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل) وبتوالي الأيام تراخى السلاطين في بذل هذه العناية فاضطرب نظامهم شيئا فشيئا، وكان لذلك أثره السيئ في أخلاقهم، فانقسموا شيعا، وتدخلوا في سياسة الدولة فافسدوها، وشغلوها بأطماعهم غير المشروعة وقعدوا عن الجهاد الصادق، حتى صاروا كما قال المقريزي (أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدراً، وأشحهم نفساً، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضاً عن الدين، ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فارة، وافسد من ذئب).
أما التعليم الشعبي فقد كان مقره المساجد وما شابهها مما أنشأه السلاطين والأمراء ومن لف لفهم - كما ذكرنا - ومهما قيل في سبب انشائها، فهي لا شك كانت الدعامة الأولى من دعائم هذا التعليم. وقد كانت بمثابة جامعات علمية عظيمة الشان بها من الجامعات الحديثة خصائصها ومميزاتها، وإن افترقت عنها في الشكل والعرض بل لعل التعليم بها كان ميسرا اكثر مما هو ميسر اليوم. وكان الطالب بها حرات يندمج في إعداد من يشاء من الطلاب ويقعد أمام من يشاء من الأساتذة. ويضع جدول حصصه بنفسه، ويطوف على كل مسجد إذا شاء ليقتطف منه أشهى ثمراته. ولا يتحمل في سبيل ذلك من نفقات التعليم، بل بالعكس كان يجد البر والمعونة من كثير من أهل الفضل فإذا أتم إحدى مراحل تعليمه بقراءة كتاب في مادة أو بحفظ طائفة من الأحاديث أو نحو ذلك، منحه شيخه إجازة يشهد له فيها بتمام هذه المرحلة.
وكان السلاطين يعنون عناية دقيقة باختيار الشيوخ المدرسين في مدارسهم، ينتخبونهم من بين الأفذاذ المشهود لهم بالعلم والفضل والذين لا ينون يجعلون العلم ونشره غايتهم الكبرى. وكان بعض هؤلاء الشيوخ يستمر في مدرسته طويلا، ويلازمها، حتى لنستطيع القول - جملة - أن كل مدرسة كان بها منهم هيئة تدريس خاصة بها. لكل مادة من المواد المقررة بها أستاذ. ونذكر على سبيل المثال شيوخ الجامع المؤيدي وهم: شهاب الدين بن حجر(759/20)
العسقلاني لفقه الشافعية. ويحيى بن محمد بن احمد البخائي المغربي لفقه المالكية. وعز الدين عبد العزيز بن علي بن الفخر البغدادي لفقه الحنابلة. وبدر الدين محمود العينتابي للحديث. وشمس الدين محمد بن يحيى للقراءات. وشمس الدين محمد بن الديري لفقه الحنفية وشيخ للصوفية. وهكذا.
أما مواد التعليم فقد كان طبيعيا أن تكون العلوم الدينية في مقدمتها، بدافع من رد الفعل الذي أحدثته حوادث اغتيال العلماء ومؤلفاتهم، في بغداد وسواها من عواصم المسلمين. وبدافع ما أشرنا إليه من أن البيئة المصرية تحولت إلى حد ما بيئة دينية ألقيت عليها تبعات الذود عن الدين وعلومه وأهله. ويليها علوم اللغة للحاجة الماسة إليها في درس العلوم الدينية وضبط شئون الدولة. ويليها غيرها من المواد لأنها تكمل المتعلم وتؤهله لتركيز علمه. وكانت مواد التعليم هي الفقه بمذاهبه الأربعة، وأصول الفقه، والحديث والتفسير والقراءات والوعظ والكلام والتصوف ثم درس النحو والصرف والأدب، ثم الطب والفلك والهندسة والتاريخ والتقويم والرياضة.
وقبل أن يدرس الطالب هذه الدراسة، يمر بأحد المكاتب المنشأة بجوار المساجد، ليحفظ به القرآن الكريم ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
ولم يكن لدور التعليم مناهج خاصة في موادها المقررة. واغلب الظن أن منهج المادة كان رهنا برغبة أستاذها. فهو وحده يختار الكتاب الذي يقرؤه فيها لطلابه. ومهما يكن من شئ فقد سعدت كتب خاصة باتخاذها مناهج لموادها المقررة. نعرف ذلك إذا اطلعنا على تراجم الأعلام من علماء العصر؛ لذلك نستطيع القول أن من بين الكتب التي اتجهت العناية إليها لدراستها ما يلي: التنبيه. المنهاج الأصلي للنووي. الشاطبيتان في القراءات العمدة للحافظ النسفي في الأصول. والكافية لابن الحاجب في العربية. ومختصر القدوري في الفقه. وجمع الجوامع. والأربعون حديثا النووية وتلخيص المفتاح في البلاغة، والكنز في فقه الأحناف. والمنار في الأصول. وألفية ابن مالك في النحو. والملحة. والمختار والمنظومة كلاهما للنسفي في الفقه. ونظم قواعد الإعراب لابن الهائم. وايساغوجي في المنطق وكتب الحديث الستة.
وقد امتلأت المساجد بطلاب العلم على اختلاف مذاهبهم، واختلاف بلادهم، ممن وفدوا على(759/21)
مصر يستظلون بطلها ويستمدون رفدها وينهلون من مواردها. حتى ضاف بهم بعضها على رحبة، وكان منهم (المنتسبون) وهم الدائمون الذين قيدت أسماؤهم لينالوا شيئا من الأوقاف بصفة مستمرة. أما غيرهم فأخلاط شتى من محبي العلم من الشعب.
وأهم ما يوجه إلى هذا الضرب التعليمي من النقد - إذا نظرنا إليه نظرة حديثة - أنه لم يكن سياسة للدولة مرسومة، بل كان نتيجة جهود فردية، وأنه لم يؤد إلى الشعب باعتباره حقا من حقوقه، بل باعتباره منحة له وتفضلا عليه، وأن الأساتذة عنوا بنشر العلم فحسب، ولم يتخذوه وسيلة إلى إيقاظ الشعب وتنبيهه إلى حقوقه وواجباته.
غير أنه - بلا شك - نظام قد انجب. واغلب بخبائه من رجال الدين. وبلغ بعضهم مرتبة الأئمة المجتهدين. قاموا بحركة تأليفيه مباركة، هي حلقة غريدة من حلقات العلوم والآداب كان لا بد لحياة العلم والأدب من وجودها.
أما هذه الحركة التأليفية فكانت المظهر الخالد للحركة العلمية. وشجعها السلاطيندعوا العلماء أحيانا إلى التأليف برسم الخزانات الشريفة. فمنهم المؤرخ أبو بكر بن ايبك، الف كتابه (كنز الدرر) للناصر بن قلاوون. والطبيب محمد القوصي ألف للغوري كتاب (كمال الفرحة) في الطب وعماد الدين موسى بن محمد الحروب) للسلطان جقمق.
على أن التأليف لم يكن وقفا على تشجيع السلاطين أو سواهم، بل كان غاية من غايات العلماء. لذلك نشطوا في ميدانه نشاطا هو مثار الدهشة والعجب، لبلوغه حدا من الإعجاز وتعددت مؤلفات بعضهم حتى عدت بالمئات، وفي فنون شتى. واتسعت أحيانا حتى صارت موسوعات جامعة امتدت فيها أفاق العلم. وعنوا بعلوم الدين أولا، ثم التاريخ وفنون العربية، ثم غيرها. وحظي تاريخ الأعلام والخطط بنصيب كبير من العناية. وهكذا ترى أن مؤلفاتهم لا غنية عنها للفقيه والمؤرخ واللغوي والأديب والمحدث والنحوي والبلاغي وغيرهم. وبعضها يعد فريدا في بابه منقطع النظير.
وأهم ما يوجهه الناقد إليها أن بعضها رسائل صغيرة، وأن منها ما يشوبه الجمع والنقل ويندر فيه الابتكار. وأن منها المتون وشروحها ومختصرات شروحها. غير أن هذه النقدات يسهل الرد عليها وتعليلها فيساق العصر كان يدعو إليها إسراعاً إلى تدوين المحفوظ وعجلة إلى تسجيله حذرا من أن تعبث به يد الزمان ثم هيهات أن تقلل هذه النقدات من خطر تلك(759/22)
المؤلفات. وإلا فأين فيما ألفه السابقون كتاب كالإتقان للسيوطي، أو شرح البخاري ومقدمته لابن حجر، أو الفتاوى لابن تيميه، أو المدارج لابن القيم أو المغني لابن هشام، أو الجموع للنووي، أو تكملة للتقي السبكي. أو الخطط للمقريزي. بل اين مثل ما كتبه مؤرخ مصر في تاريخها وتاريخ أعلامها من أمثال الإدفوي وابن خلكان والتاج السبكي وصاحب الدرر، وأبي المحاسن والصفدي وابن إياس والسخاوي بل أين الموسعات التي تشابه موسعات القلقشندي والنويري وابن منظور وابن فضل الله؟
وبعد فهذا غيض من فيض وقل من كثر ولمحة خاطفة من شمس ضاحية، وقبس عاجل من سراج وهاج.
(حلوان)
محمود رزق سليم(759/23)
سؤال ينتظر الجواب
لمهندس كبير
تأتينا مياه النيل سنة بعد أخرى بطريقة منتظمة متكررة، إلا أن مقدار ما يصلنا منها يختلف في الأوقات المختلفة من السنة نفسها كما يختلف من سنة لأخرى، ولسنا هنا بصدد البحث في أسباب هذه الاختلافات الموسمية أو السنوية أو معرفة النتائج التي ترتب عليها لأن هذه معناه دراسة نظم الري بالقطر المصري.
ولكننا بصدد أن نلفت النظر إلى ناحية واحدة من هذا الموضوع وهي المماطلة في تنفيذ المشروع الذي يدفع خطر الفيضانات العالية. إن الخسارة التي نتكبدها من جراء هذه الفيضانات العالية الخطرة ليست بالقدر اليسير الذي يمكن إهماله أو غض النظر عنه لأنها ليست قاصرة على ما يصيب هؤلاء الذين يطغى عليهم الفيضان فيكتسح زراعاتهم ويحرمهم أرزاقهم ويعدمهم أقواتهم، بل إن الحكومة تخسر ما تحصله من أموال هذه الجهات المنكوبة كما تتحمل مصروفات أخرى كبيرة فيما تتخذه من إجراءات لدره خطر هذه الفيضانات وهذا بجانب ما يستحوذ على الأمة من قلق واضطراب أن مشروع اتقاء الفيضانات العالية تدرسه الجهات المختصة؛ وقد حصل الدارسون على معلومات وأبحاث كثيرة بدئ بدرسها، ولكننا نتساءل ألم تكن هذه المدة كافيه للوصول إلى نتيجة يصح أن تكون أساساً لقرار ينفذ؟
إن هذه الفيضانات العالية الخطرة ليست خاصة بنيلنا وحده. لأن هناك كثيرا من الأنهر في البلدان الراقية تفيض على الأودية التي تجري فيها وقد كانت فيما مضى سببا في نكبات ساحقة وكوارث ماحقة، ولكنها عولجت على النحو الذي منع حدوثها أو حد من شدتها، وليس من الميسور أن نذكر هذه الطرق الفنية المختلفة التي تكيفت تبعاً لظروف كل حالة منها على حدة، ولكننا نعلم أن وجهة النظر الفنية في مصر تتجه إلى تصريف مياه الفيضان في موقع منخفض قريب من مجرى النهر يتسع لاستيعاب هذه المقادير الكبيرة من مياه الفيضان؛ على أن تحفر قناة لتصل النهر بهذا المنخفض، فكيف لا يقرر إلى الآن أين يكون هذا المنخفض وصيانة القناة وغير ذلك وما هي النفقات التي يطلبها تنفيذ المشروع؟
إننا لا نجد سببا يبرر هذا التأخير غير ما سمعناه من أن ملفات هذا الموضوع تظهر وقت(759/24)
وقوع الكارثة حتى إذا ما مرت اختفت هذه الملفات لتظهر مرة أخرى عند حدوث الكارثة التالية. أن في الولايات المتحدة حالة في وادي التيس تشبه حالتنا، قد كانت الأمطار الغزيرة والسيول المدمرة تكتسح الوادي من وقتاً لأخر فتهلك الزرع وتجرف معها تربة الأرض نفسها فتتركها جرداء لا تصلح للزراعة إلا بعد مشقةوتبع ذلك حتما أن عاش سكان هذا الوادي في ذعر مستمر يحاربون الطبيعة ولا معين، ويتلقون النكبات ولا منقذ، إلى أن قام أولو الأمر فنفذوا المشروع المناسب لمواجهة هذه الحالة فحفروا القنوات لحصر جريان الماء حيث يريدون، وأقاموا الخزانات والسدود، وانشئوا الجسور فخلقوا من الذعر طمأنينة، ومن البؤس والفقر سعادة وثراء، وأصبحت هذه الجهات جنات خضراء يعيش أهلها ألان في نعيم مستديم وزيادة على ذلك فقد أمكن توليد القوة المحركة من مساقط المياه فيها فزادها رفاهية وخيرا عميماً. أما نحن فسوف يأتينا الفيضان الخطر التالي ونحن كما تجدنا ألان! فهل هذا يجوز؟
إذا كان هناك من الأسباب ما يبرر هذا الإبطاء أو التأجيل فلينبئنا به أولو الأمر إذا كانت الصعوبة مالية أو فينة حتى لا تصبح عرضة للوم أو التنديد.
إننا نريد أن نثبت للشعب أن الرجال الذين يشرفون على شئونه ساهرون على مصلحته يعملون على إصلاح هذه الشئون وهذه واحدة من عدة مسائل أخرى أرى ضرورة الكتابة عنا إذا ما أردنا الخير لهذا البلاد.
(مهندس)(759/25)
2 - فن المسرح
(تحية للأستاذ الفاضل زكي طليمات)
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
المسرح وقيمته التصويرية:
ماذا يصور المسرح؟ إنه بصور ما أودعه المؤلف في مسرحيته من أفكار وتجارب. ولما كان لهذا الفن - كما لكل فن - أسلوب خاص في التصوير كان من اللازم أن تكون تلك الأفكار والتجارب مما يمكن تصويره بهذا الأسلوب دون سواه. والمفروض أن طريقة التأليف المسرحي تجري - فينا - على النسق الآتي: يلتقط خيال المؤلف بعض احتمالات الحياة ويكون منها مجموعة مستقلة من الحوادث المتصلة تستحيل في ذهنه إلى حوادث مرتبة ترتيبا معينا وهذه يعبر عنها بواسطة شخصيات وهؤلاء يعبر عنهم شعورهم وتفكيرهم عن طريق ما يلفظون به من قول
فإذا جاز لنا أن نقارن بين الفنون عامة من حيث أساليب التصوير فماذا يكون شان المسرح؟.
المشاهد أن من الفنون ما يجنح للخيال المبهم ومنها ما يهبط إلى الواقع السطحي بينما المسرح - فيما يبدو - يشكل التجارب والأفكار المجردة في قوالب ملموسة دون أن يقلل من روعة ما كانت عليه (خيالا) أو يزري بما صارت إليه (واقعا) يقول (آبركرمبي) وهو يشرح رأي أرسطو بهذا الصدد ما مؤداه: (إن الفن المسرحي إنما وجد لكي يعطي صورةومادة لضرب خاص من التنبه الخيالي. ووجود الفن يستلزم وجود التنبيه الخيالي. . . ومن الممكن أن نصور الحياة كما هي تماما ولكن الأمر الذي يحرك الشعور هو أن نتصور الحياة كما يمكن أن تكون وهنا يصبح الخيال قوة قادرة على الإيحاء. . . وربما كان عمل الخيال لا يعدو مجرد تقطير الأحداث الواقعية باستبعاد جميع نواحيها السخيفة. .)
فهل لنا أن نتخذ من هذه الواقعية الفنية مبررا قويا لتفضيل الفن المسرحي على غيره؟ المصطلح عليه انه من الصعب - إن لم يكن من العبث - أن نفاضل بين الفنون(759/26)
بإخضاعها كلها لمقاييس جمالية واحدة بل ينبغي أن نراعى (الخامة) التي يستعملها كل فن على حدة. ومع هذا فقد نستطيع المقارنة بينها بالمقارنة بين هذه الخامات المختلفة وحينئذ يتبين لنا بجلاء أن خامة المسرح أغناها عنصرا وأقواها قدرة على التصوير الحي. فالمسرح بعناصره الثلاثة - أي التأليف والإخراج والتمثيل وأدواتها ووسائلها الخاصة المتآلفة - يمتاز على الفنون التي تصور (الجسم) - كالنحت - بالحياة والحركة. . . ويمتاز على الفنون التي تصور (الشكل) - كالتصوير اليدوي والآلي - بأبعاده الثلاثة. . . ويمتاز على الفنون التي تصور - (الحركة) - كالرقص والبانتوميم والميم - بالإفصاح الذي لا يغنى عنه الإيماء. . . ويمتاز على الفنون التي تصور (الفعل) كالشعر والقصة - بالتجسيد والتحديد. . . . أكثر من هذا فالمسرح يمتاز على الفنون جميعا في تصوير (اللحظات الفنية) التي هي مناط الاهتمام من كل فن. بيان ذلك إننا إذا أردنا - فرضا - تصوير حقيقة كبرى كالموت - وليكن موت أحد الفنانين مثلا - بشتى الطرق الفنية فان الفنون المكانية أي التي تشغل من الوجود مكانا ما كالنحت - ستتمثل اللحظة الفنية في غمضه عينية. . . والفنون الزمانية - أي التي تشغل من الدهر زمانا ما كالموسيقى - ستتمثل اللحظة الفنية في صوته وهو يتهدج ويخفت قبيل موته. . أو نحو ذلك بينما المسرح ستمثل اللحظة الفنية في كل ما بينه وبين الحياة من صلة: فمشهد يظهر شعور تلاميذه وعارفيه بالألم. . . ومشهد يظهر احتفال الناس بآثاره ومشهد يظهر ما ألم به من ظلم في حياته ومشهد يظهر ما صار إليه من مجد وهكذا.
بمثل هذه المزايا التي لا تتوفر الفن آخر استأثر التصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون بتصوير الطبيعة البشرية والدوافع الإنسانية على مدى العصور فمن تصوير للنزعات العنيفة قديما إلى تصوير للمثاليات في عهود الرومانتيكية إلى تصوير للواقعية المجردة من الرياء أو العرف الاجتماعي، ثم الكشف عن مكنونات العقل الباطن في العصر الحديث.
وبمثل هذه المزايا كان للتصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون فضل احتضان الآراء والنظريات الفلسفية والنقدية على مدى العصور. وليس أدل على ذلك من أن المسرح أمكنه حتى في العصور الاستبدادية أن يردد - وحده - ما يشاء من الآراء(759/27)
بفضل قدرته البارعة على تصوير ما يشاء من الأجواء. ولنضرب مثالاً واحد لذلك بعهد الديكتاتورية الرومانية القديمة فقد استطاع بعض المسرحيين وقتذاك أن يصوروا كثيرا من الأجواء الحرة الطليقة - نقلا عن اليونان - بينما تشكلت سائر الفنون الأخرى قسرا بما يوائم سياسة تلك الديكتاتورية البغيضة.
كذلك انفرد التصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون بالتوغل في أعماق النفس البشرية وإظهار دفائنها التي لا نكاد نصدق بها أحيانا. من ذلك مثلا (عاطفة الكراهية) التي يقال إنها تتولد في الخفاء بين الأب وابنه تمشيا مع قانون البقاء. فهذه العاطفة لم يكتشف مجرد احتمال وجودها إلا منذ بدا فرويد واتباعه في القرن الماضي يهتدون إليها. . ومع هذا فالمسرح يصورها منذ مئات السنين! فبالرغم مما يبدو في المسرحيات - نقلا عن مظاهر الحياة - من توقير الأبناء لآبائهم وعطف الآباء على أبنائهم (أو ما يسمونه عقدة الكترا وعقدة أوديب نسبة إلى تعلق الفتاة الكترا بابيها القائد أجاممنون وتعلق الملك أوديب بابنته انتيجونا واسمينا في الأساطير والروايات الإغريقية) إلا إننا نجد بالاستقراء أن للآباء أو في نصيب من السخرية والتحقير في الروايات الهزلية كما نجد أن معظم الروايات - هزلية وغير هزلية - تدور حول شاب يحب فتاة ويقوم أبوها أو أبوه بدور (العاذل) أو ما شاكل ذلك. وربما لا نجد تفسيرا لهذا كله إلا عاطفة الكراهية التي أسلفنا الإشارة إليها.
ولكن. . . قد يقال أن التصوير المسرحي مهما بلغت قيمته في العصور السالفة ذات الطابع الهادئ فقد اصبح في العصر الحديث ذي الأساليب الميكانيكية اقل قيمة من بعض الفنون الأخرى - والسينما على الأخص - لأسباب كثيرة منها: انه يصور الحوادث تصويرا بطيئا ويحصرها في زمان معين ومكان معين، الفكرة الواحدة إلى فصول متقطعة. . ويصطنع التقديم والتأخير في ترتيب حوادثها والتضخيم في تعبيره عنها لفظا وحركة، وهذا في مجموعه لا يطابق الواقع ولا المعقول بل لعله يتنافى معها! بينما السينما تعرض للناس ألواناً مجهولة لهم وتروح عن نفوسهم وتؤثر فيهم بواقعيتهم ومنطقها المعقول. . . الخ.
والحق أن الأمر - من الناحية الفنية على الأقل - ليس كذلك.(759/28)
فبطأ التصوير ميزة للمسرح لأنه يهيئ للمشاهد فرصة الانفعال في كل مشهد بينما السينما لتتابع اللقطات - التي لا تعد أن تكون مشاهد - تتابعا فظيع السرعة لا تتيح حتى مهلة التأثر.
وأيضا حصر القصة في زمان معين ومكان معين ميزة للمسرح. إذ يضطر المؤلف إلى قصرها على اعظم حوادثها دلالة وأثاره ومغزى وبذلك بكون مركزة وخالصة من الشوائب فتزداد روعتها.
وكذلك تجزئة الفكرة الواحدة إلى فصول متقطعة ميزة للمسرح. فمن المعلوم أن المسرحية تتطور دائما في مصطرع فكري وعاطفي وفني هو (الحبكة) لذلك فان تجزئتها إلى فصول تتيح للجمهور شيئا من الراحة واستعادة النشاط وتتيح للمؤلف - وهذا هو المهم فنيا - الانتقال من تيار إلى آخر واستئناف التصوير كلما وصل تطور الحوادث وتعقدها إلى ما يسميه الفنيون (الطريق المسدود) بعكس السينما التي تتخطى هذه الطرق المسدود بالانتقالات المفاجئة في قفزات آلية لا جمال فيها.
وأما ترتيب الحوادث ترتيبا يغاير الواقع بتقديم بعضها وتأخير البعض الآخر فميزة من ميزات المسرح الهامة لأنه لا يغار الواقع على هذا النحو إلا تنظيما لحوادثه التي قد تقع كيفما اتفق وانتشالا لها من الفوضى والتماسا لتعليل حدوثها منطقيا وتهيئة لما يتوخى في العمل الفني من انسجام وتناسق.
وكذا التضخم في الإلقاء والأداء من ميزات المسرح التي يعتد بها لأن في تضخيم الألفاظ والحركات - في الحدود الفنية - إجلالا لما تدل عليه من مدلولات وإظهار لملامح الشخصيات ومواطن الانفعالات تماما كما ينحت النحات تمثاله من مادة فخمة وكما يصبغ الرسام لوحاته بأصباغ فخمة وهكذا بل أن هذا لا يعدو أن يكون مقاربا لما نفعله في حياتنا العادية حين نقص نبا نظنه هاما فنتكئ على بعض الألفاظ ونتحرك حركات خاصة بقصد التفهيم والتأثير. المسرح على هذا النحو يعمل ما وسعه على التفهيم والتأثير لذلك يضفي بأساليبه جلالا على الحوادث يجعلها ذات وزن.
وقل مثل ذلك عما يأخذونه على الفن المسرحي من إيهام أو تخييل أو مبالغة لأن العبرة بمدى إحساسنا بالصورة النهائية التي يصورها لا سيما ونحن نعلم أن ما يجري فوق(759/29)
المسرح أن هو إلا (تمثيل) بحت وليس واقعا. فقد نشاهد في نصف ساعة مشهدا يصور قرونا بأكملها. وقد نسمع تهامس ممثلين وبجانبها مباشرة ثالث لهما (يمثل) أنه لا يسمعهما. . إلى غير ذلك دون أن نصدم بمخالفة الواقع أو دون أن نحس من هذه المخالفة بنفور أو شذوذ طالما إننا نعلم أن للمسرح (اصطلاحات) لا تحول دون التأثر النهائي المطلوب.
ولهذا يجوز أن نشاهد في بعض الروايات سمات يكاد يستحيل وجودها بين البشر (كما في: رومير وجوليت) أو حلول للمشكلات غير معهودة الحديث في دنيانا (كما في: ولكننا ننتهي من المشاهدة متأثرين اعظم التأثر سواء بتصوير (شكسبير) في الرواية الأولى لقوة الحب الطاهر أو بتصوير في الرواية الثانية لمغزاها الرائع: (الظروف تغير الأحوال
وأياما كان الأمر الدفاع عن فن ما لا يستلزم الزراية على فم آخر. ويكفينا من الفنون جميعا أن تنهض بما تمارسه في حدود قدرتها على هذه الممارسة. غير أن هذه لا يبرر الأخذ بظواهر الأمور فنغتر بالسينما دون اعتبارات فنية ونجاري العامة وأوساط الناس في نظرتهم المتواضعة إلى المسرح العظيم. . .
(للبحث بقية)
عبد الفتاح البارودي(759/30)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشبي
964 - إن الله جميل يحب الجمال
في (تيسير الوصول) وقد جمع (الأصول الستة)
لا يخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: أن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال أن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمص الناس
أن رجلا جميلا أتى النبي فقال: إني أحب الجمال، وقد أعطيت منه ما ترى حتى احب أن يفوقني أحد بشراك نعل، أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ قال لا، ولكن الكبر من بطر الحق، وغمص الناس.
عن أبي قتادة قال: قلت يا رسول الله، أن لي جمة أفأرجلها قال: نعم، وأكرمها. فكان أبو قتادة ربما دهنها باليوم مرتين من اجل قوله نعم وأكرمها.
أتى رجل النبي ثائر الرأس واللحية فأشار إليه كأنه يأمره بإصلاح شعره ففعل ثم رجع. فقال: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان. . .
عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي وعلى ثوب دون فقال: ألك مال؟ قلت: نعم قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال قد أعطاني الله. قال: فإذا أتاك الله تعالى مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته.
965 - لما تكلم فوقنا القدر
ابن هانئ الأندلسي:
مما دهانا أن حاضرنا ... أجفاننا والغائب الفكر
وإذا تدبرنا جوارحنا ... فأكلهن الغين والنظر
لو كان للألباب ممتحن ... ما عدّ منها السمع والبصر
أيُّ الحياة ألذ عيشتها ... من بعد علمي إننا بشر؟
خرست لعمر الله ألسننا ... لما تكلم فوقنا القدر
966 - يا أبا صالح احفظها(759/31)
في (تاريخ الولاة) للكندي: لما ولى (مصر) أبو صالح يحيى بن داؤد من قبل المهدي، وكان من اشد الناس سلطانا، وأعظمهم هيبة - منع من غلق الأبواب بالليل، ومنع أهل الحوانيت من غلقها حتى حطوا عليها شرائح القصب تمنع الكلاب منها. ومنع حراس الحمامات أن يجلسوا فيها وقال: من ضاع له شئ فعلي أداؤه فكان الرجل يدخل الحمام فيضع ثيابه ويقول: يا أبا صالح احفظها فكانت الأمور على هذه مدة ولاته.
في (تاريخ الولاة) للكندي: ولى مصر عيسى بن منصور سنة (216). فانقضت اسفل الأرض كلها عربها وقبطها واخرجوا العمال، وخالفوا الطاعة وكان ذلك لسوء سيرة العمال فيهم. وقدم المأمون مصر سنة (217) فسخط على عيسى بن منصور، وأمر بحل لوائه وبلباس البياض، وقال: لم يكن هذا الحديث العظيم إلا عن فعلك وفعل عملك: حملتم الناس مالا يطيقون وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد!
967 - إن لاتصال حقا في أموالنا لا في أعراض الناس
وأموالهم
في (مواسم الأدب):
قال: الربيع للمنصور: أن لفلان حقا فان رأيت أن تقضيه، وتوليه ناحية فقال يا ربيع: أن لاتصاله حقا في أموالنا لا في أعراض (الناس) وأموالهم. أنا لا نولي للحرمة والرعاية بل للاستحقاق والكفاية. ولا تؤثر ذا النسب والقرابة على ذي الدراية فمن كان منكم كما وصفنا شاركناه في أعمالنا. ومن كان عطلا لم يكن لنا عذر عند الناس في توليتنا إياه، وكان العذر في تركنا له وفي خاص أموالنا ما يسع.
968 - أدبنا الله قبل معرفتنا بحكمة ارسطاطاليس
قال أرسطو للإسكندر: ليكن ملكك في البلاد بالتودد إلى أهلها لا كقهر الراعي غنمه بالعصا، فانك في طاعة المودة احمد بدءا وعاقبة من طاعة والاستطالة.
فحدث بهذا القول المأمون فقال: لقد حث على التودد فاحسن، وقد أدبنا الله قبل معرفتنا بحكمة ارسطاطاليس (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
969 - قصيدة مبيدة. . .(759/32)
في (نفخ الطيب):
لما استوزر باديس صاحب غرناطة اليهودي الشهير بابن نقولة، واعضل داؤه المسلمين قال زاهد البيرة وغرناطة أبو إسحاق الألبيري قصيدته النونية المشهورة التي منها في إغراء ضهاجة باليهود:
ألا قل لصهاجة أجمعين ... بدور الزمان وأسد العرين
مقالة ذي مقة مشفق صحيح النصيحة دنيا دين
لقد زل سيدكم زلة ... اقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافراً ... ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهودُ به وانتموا ... وسادوا وتاهوا على المسلمين
فثارت إذ ذاك، صنهاجة على اليهود وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. وفيهم الوزير المذكور. وعادة الأندلس أن الوزير هو الكاتب.(759/33)
من وراء المنظار
الزواج سنة 1948
لعل هذه البلاغة التي أنا محدثك عنها قد سلف بها الزمن، ولكني لم
اهتد إليها إلا أمس وأنا جالس في ركن من أركان مقهى هادئ جميل
احسب أن أصحابه أعدوه لمن ينشد الهدوء ولشيء آخر أظنه عندهم
أحلى من الهدوء وأمتع. . .
جلست وحدي منكدر الخاطر بما ينعكس على ذهني من هذه الوحدة. . . ودرت ببصري وفي عيني شئ من أثرا لهم، أدرأ السام عن قلبي، وانفض الخواطر الكابية عن ذهني فانقلب إلى البصر محزونا فما يخلو ركن من رفقة وقلما رأيت شابا إلا ومعه صاحبته أو زوجه، ولم يكن هناك من يجلس مثلي وحيدا إلا اثنان أو ثلاثة لعلهم كانوا ينتظرون من يؤنس هذه الوحدة. . .
البهو هادئ على كظته، خال مما يحدث الضجيج والصخب من أدوات اللعب، والمقاعد منسقة تنسيقا جميلا، والندل يجيئون ويذهبون بما يشرب أو يؤكل في خفة وفي هيئة تغري بطلب المزيد والضحى دافئ ضاح، والوجوه كلها مستبشرة مطمئنة، وأنغام الموسيقى يصغي لها من يصغي ويصفق لها من يصفق ويلهو عنها بالحديث العذب من يلهو، وأنا وحدي على حالي من السام والضيق وانكدار الخاطر.
وجاء رفقة من الشباب فتحلقوا حول منضدة غير بعيد منى، واخذوا يتحدثون ويضحكون، وما فيهم فيما أرى من هو دون الثلاثين ولا من يزيد على الأربعين؛ وكان بينهم فتى يبدو لأول وهلة انه روح الحلقة ففي وجهه وإشاراته وحركاته ما ينطق بخفة روحه، وفي ضحك رفاقه من كل كلمة يقولها ما يدل على انه فارسهم المعلم. .
وتشقق الحديث بينهم في غير نظام حتى مال الكلام إلى الزواج فسال واحد منهم: لم كانوا جميعاً أعزاب؟ وإلام يظلون على هذه الحال؟ ورد أحدهم قائلا في لهجة المتحمس: (ينحصر ذلك في أمر واحد هو عندي علة العلل، فان بعض أسرنا وبخاصة ما سيمونها الأسرة الراقية وا أسفاه قد أخذت ببعض التقاليد الأوربية التي تنبو عن روحنا الشرقية،(759/34)
فاندفع بناتنا إلى أما يعد في الغرب من مألوف الأمور، وما يعد الشرق مهما خادعنا أنفسنا من التدهور الخلقي والفوضى والأباحية، ولما انطلقت الأوانس من بعض القيود أغراهن ذلك بما سميته حرية فانزلق أكثرهن حتى وقفن على حافة الهاوية وسقط بعضهن فعلا، واعرض الشباب أو اقدموا ثم ما لبثوا أن طلقوا. . .).
وضاق فارس الحلقة بهذا الجد فقال لصاحبه: (دعنا من هذه الفلسفة: المسالة أن الزواج الآن زواج منفعة أيها العبيط؛ العبيط لا يملكها إلا الحزب الحاكم، وعلى ذلك فهذا يطلب عروسا وفدية إذا كان الوفد في الحكم، وآخر يطلبها سعدية إذا كان السعديون هم الحاكمين، ويحرص غير هذين وهو امهر منهما أن يأتي بها وفدية الوالد سعدية العم دستورية الخال كتلية الأخ، وامهر من هؤلاء من يأتي بها إنجليزية فتغنى عن الجميع على قاعدة ألمانيا فوق الجميع، ومن هذا صعب اختيار الزوجة يا عبيط)
وضحك الرفاق وقال أحدهم (مثال ذلك أن فلانا يطلب يد ابنة فلان باشا ولكنه يشترط على أبيها الدرجة الثالثة). . . وضحك الفارس وقال: (قل لأبيها أنا اقبل بالرابعة).
وعاد الفيلسوف يقول: (أف لم يطلب المال والدرجات! الجمال هو كل شئ) وقاطعة الفارس قائلا (والخلق يا حضرة الفيلسوف) وقال الفيلسوف (والخلق بالضرورة) فقال الفارس يقلد لهجته متهكما، ً يظهر انك تصنع العروسة على يدك جمال وخلق وأين ذلك وقد وصفت العصر بما وصفت؟).
والتفت الرفاق والتفت إلى الفتاة كالزهرة فتحها الربيع: فهي نضرة وفتنة وعطر وسحر وشعر، وقد وضعت كتابها على المنضدة وأخرجت إبرتها وغزلها وأعملت أناملها، دون أن تنظر إلى أحد. . . وسكن الشبان لحظة كان على رؤوسهم الطير ثم تخافتوا بينهم، وقال الفارس فيما يقرب الهمس: (أتزوج هذه ولو ذهبت درجتي ومالي. . بلا قيد ولا شرط) وقال الفيلسوف (أنا معك! أرأيت كيف يعلو الجمال على المال؟ ولكن. . . يا خسارة! تأتي هكذا وحدها إلى المقهى. . . من يدري؟) وآمن الرفاق بالجمال وقالوا نقبلها ولو كان أبوها طريد الأحزاب كلها) إلا واحدا منهم لم يتكلم قبل أبداً) كان صهيوني الملامح والنظرة فهز رأسه منكرا وقال (كلا لست معكم! والله لن اقبلها إلا ومعها الدرجة)
الخفيف(759/35)
من التراب:
ماضي شهيد!
للأستاذ محي الدين صابر
هكذا دارت حواليه ولفته الحياهْ
فارتمي في السفح، في عينيه وحي صلاه
وعلى المنهل قد أنكره حتى الرعاه
هو حلم ظلّ يسّاقط ليلاً في ضحاهْ
ضلَّ في أعماقه معناه وأرتاب هُداه
وسوستْ أشواقُه من أفق ليس يراه
صاعداتٍ لضمير في دم الغيب مداه
دمعت جبهتُه آه وكم تبكي الجباه
قال، والذُّلُّ على عطفيه يا مجد إلهْ
هكذا دارت حواليه ولفته الحياهْ
وتلوَّى في طريق سارب بين الشَّعابْ
ذاهلاّ يدفنُ في عينه كوناً من عذاب
مهجةّ مجروحة الأقدار تاهت في ضباب
نشرت من شعره الريح وجاشت في الثياب
قدماهُ فوق ناب الصخر موتٌ في شبابْ
وهوَ سهوانُ كما يطردُ معنىً في كتاب
يتملى صوراً تْغُبرُ ما ضيه رطاب
قال في قهقة المجنون يا ذلَّ التراب
ورأى في وهمه الواثب في السفح، سراب
فتلوَّى في طريق سارب بين الشّعاب
وتهاوى تحت سرح شائخ الجذْع عتيدْ
ظُّلهُ الرَّاعش رحمانٌ على البيد طريد(759/37)
شد من لحيته يرُقبُ طيفا من بعيد
من بعيد بين جبنيه رمادٌ وحصيد
واستوى يعزف للقمة لحناً من جديد
جحظت عيناهُ هذا النايُ صمتٌ وجليد
ذهب الوحيُ جميعاً من يديه والنشيدْ
مصه الجدبُ امتصاصاً فهو بيد فوق بيدْ
قال في حشرجة المذبوح يا قبر شهيد
وتهاوى تحت سرح شائخ الجذع عتيد
ومشت قافهُ تصعد من خلف السنينْ
في هواديها غناء وعلى الخلف أنين
هي من أين؟ إلى أين؟ أظن أم يقين
هي لا تعرفُ إلا إنها في السائرين
عبرت مصرع إنسان على الذَّكر دفين
كبرياءٌ ردَّها الفكرُ حطاماً من حنين
فهو راسٌ يثبُ الموتُ عليه وجبين
قال حاديها: غريبٌ قد دعانا منذ حين
فدعوه أن في الماضي حياة الخالدين
ومشت قافلةٌ تغرقُ في جوف السنينْ
(باريس)
محي الدين صابر(759/38)
الأدب والفن في أسبوع
الأديب والسياسة:
هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين بك في مساء يوم الاثنين بقاعة الليسيه فرنسيه، وقد بدأ بالتساؤل عن معنى الأدب والسياسة، فانتهى إلى الكلام لا يكون أدبا إلا إذا زيد فيه على تأدية المعاني العادية الإمتاع الفني الذي يتحقق في المعنى واللفظ وطريقة الأداء حين يريد الأديب أن يؤثر في النفوس ويثير فيها العواطف المختلفة، كما انتهى إلى أن السياسة اعم مما يفهم منها حين يراد بها العلاقة بين الحكومة والشعب، أو بين البرلمان والحكومة وحين يراد بها النزاع بين الأحزاب على الحكم ونظمه لان السياسة تشمل شئون الشعب من حيث علاقات أفراده وجماعاته وطبقاته بعضها ببعض كما تشمل علاقة الشعب بالشعوب الأخرى في شتى نواحي الحياة، أي إنها تشمل الحياة الاجتماعية كلها. وقال الدكتور: أن هذا هو المعنى الذي افهمه للسياسة حين أتحدث إليكم في العلاقة بين الأديب والسياسة.
وعلى هذا الوضع نستطيع أن نتبين هل يمكن للأديب أن يعيش في عزلة عن المجتمع؟ أن ذلك لا يمكن لأن الأدب ظاهرة اجتماعية والأديب أداة اجتماعية لا يستطيع أن يعيش بنفسه ولنفسه، ساق حياة المعري مثلا على العزلة الظاهرية التي تدل على عدم إمكان الانقطاع عن حياة الناس؛ لأنه لزم داره حقا، ولكنه أنشأ أدبه في شئون الناس؛ ينتقد حياتهم ويسفه اراءهم؛ فاعتزال الأديب غير ممكن، وما مسالة البرج العاجي غير خداع وأوهام. وقال انه عرف بعض الأدباء الذين يزعمون انهم يعتصمون بالبرج العاجي من المصريين وغير المصريين فلم ير أحداً اشد منهم تهالكا على نشر آدابهم وحرصا على رضا الناس عنهم وخوفا من سخطهم على إنتاجهم.
فلندع إذن هذه المسالة الوهمية لننظر فيما يضطلع به الأديب؛ فهو أما أن يكون مترفا في أدبه يخلص من مشاغل الحياة إلى إمتاع العقل والقلب بفن رفيع وهذا الحقيقة لا يتجنب مسائل الحياة، وإنما يعالجها على نحو لا يدركه إلا الخاصة، أو يكون الترف بالتلهية والتسلية كالذي يقصر الوقت بين الاستلقاء على الفرش والاستغراق في النوم، أو يعمد الأدب إلى جد الحياة فيشارك في التوجيه والتثقيف وبصور الآلام والآمال.(759/39)
والأديب على كل حال من هذه الأحوال فرد في المجتمع يعمل كل يعمل أفراده ويتحمل نصيبا من التبعات قل أو كثر حتى أديب التسلية فانه يعين على التخفف من التبعات في بعض أوقات الفراغ.
وبعد أن استعرض الدكتور بعض العصور الماضية مبينا اثر السياسة في الأدب وانشغاله بها، خلص إلى الوقت الحاضر فقال أن أدباءنا جميعا - وأنا منهم - غارقون في السياسة إلى الأذقان، فهم جميعا يتحدثون في كتبهم وفي الفصول التي تنشرها لهم الصحف. والمجلات. عن شئون الحياة ومشاكل العصر، ولو لم يفعلوا ذلك لكانوا طفيليين في الحياة، وغاية ما في الأمر إننا نستطيع أن نحدد ما ينفع وما لا ينفع ومن الثاني الاشتغال بخصومات الأشخاص وأغراضهم ومطامعهم، وفي غير ذلك لا يجعل بالأديب أن يتجنب السياسة. ويحدث أن يلقاني بعض الناس أو يلقوا غيري من الأدباء فيقولوا: لو تركت السياسة وخلصت للأدب! وهؤلاء لا يفهمون السياسة ولا الأدب.
تعقيب:
رأيت أن الدكتور طه وسع معنى السياسة حتى جعلها تشمل كل شئون الحياة، وليس هذا هو مدلولها الذي جرى الناس عليه وقد انساق في هذا التوسيع - كما يخيل إلى - ليدخل السياسة في اختصاص الأديب. وكن هل هذا الفرض في حاجة إلى التوصل إليه بذلك المزج؟ أن الأديب يتناول كل شئ في الحياة بطريقته الفنية فيكتب الأدب السياسي والأدب الاجتماعي وغيرهما؛ وليس معنى هذا أن كل شئون الحياة سياسة، وإلا فهل تعد القصة التي يكتبها الأديب ممثلا ويدبر فكرتها وحوادثها على زوجين لم يسعدا لاختلافهما في العمر اختلافا كبيرا هل يعد مثل هذا سياسة؟
أما هل يكتب الأديب في السياسة أو لا يكتب فيها فهذه مسالة أخرى وان كان مما لا شك فيه انه حين يكتب في السياسة فيمتع ويشعر بجمال الفن، لا يبعد عن الأدب، ولكن أدبه سياسي يختلف عن ألوان أخرى من الآداب.
مؤتمر المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين بافتتاح مؤتمره السنوي أي الجلسات التي(759/40)
تنعقد بحضور الأعضاء الأجانب شرقيين وغربيين، وقد جرى المجمع على أن يحتفل في أولى هذه الجلسات بافتتاح هذا المؤتمر.
افتتح الحفل معالي رئيس المجمع احمد لطفي السيد باشا ثم ألقى معالي وزير المعارف عبد الرزاق السنهوري باشا كلمة لا احسبني مغاليا أن قلت إنها ثورة لغوية. . . فقد أشار إلى ما ذكره في خطاب العام الماضي من أن هناك علامتين لسلامة اللغة، هما اقتراب لغة الخاصة من لغة العامة، وابتعاد لغة الحاضر عن لغة الماضي. ثم قال أن لغتنا العربية في الوقت الحاضر قد تطورت تطور كبيرا لأنها اليوم اقرب إلى لغة العامة وابعد عن لغة الماضي إلى حد كبير، فهي لغة سليمة، وليست اللغة السليمة هي التي تقراها في كتب القرون الماضية، فهذا صورة تاريخية من صور تطور اللغة الغربية؛ والذين يقولوا أن اللغة العربية قد دخل عليها الفساد وركبتها البدعة يعتقدون أن اللغة العربية ليست إلا هذه الألفاظ والعبارات التي جرت بها الألسن في القرون الأولى ودونتها الكتب والمعاجم في العصور السالفة ولكنا نذهب إلى غير رأيهم فلا تملك الأموات من هذه اللغة اكثر مما تملك الأحياء.
ووصلت الثورة إلى مداها عند ما قال معاليه: هأنذا استعمل لفظ (التطور) وهو لفظ عربي لا أخال انه يستند إلى نص أو قياس ولكنه لفظ اجمع عليه كتاب العربية في عصرنا الحاضر، فهل يجوز لأحد اليوم أن يخطئ في استعماله؟ وقد أكون استعملت في كلمتي هذه أو في غيرها ألفاظا قد تكون مضبطة على القاموس أو غير منضبطة وقد تكون واردة في المعاجم الأولى أو غير واردة فسواء كان هذا أو ذاك فأنها ألفاظ عربية سليمة متى انعقد عليها إجماعنا في العصر الحاضر.
ونوه معاليه بأهمية الإجماع في اللغة وتطورها وحياتها، ثم نبه على انه لا يقصد به الفوضى التي تأتى من استعمال ألفاظ بعيدة عن أصول اللغة وقواعدها
وألقى الأستاذ عباس محمود العقاد بحثا في (موفق الأدب العربي من الآداب الأجنبية في القديم والحديث) فأوضح معالم الموضوع وبينه بيانا حسنا على اضطراره إلى الإيجاز فيه. قال أن الأدب العربي تأثر بمخالطة الأمم الأجنبية قديما كما تأثر بها حديثا، غير أن تأثره بها في القديم كان على أكثره - من ناحية الحضارة بملابسة الأمم في أصول المعيشة(759/41)
وعادات المجتمع، وان تأثره بها حديثا كان - على أكثره - من ناحية الثقافة بالاطلاع على آداب الأمم في لغاتها والتوفر على دراستها.
قال الأستاذ في بيان التأثر القديم: كان اعتزاز العرب بلغتهم صافا لهم عن تعلم اللغات الأجنبية منذ أيام الجاهلية فلما جاء الإسلام أضاف الاعتزاز بالعقيدة إلى الاعتزاز باللسان، لكنهم خالطوا الأمم في حضارتها وان لك يتكلموا بألسنتها فاثر ذلك في أدبهم وطهر أثره في أوزان القصيدة ومعانية، وفي الإسلام زاد الاتصال فدخل في أغراض الشعر كثير من مظاهر الحضارات التي تجمعت في بلاد الدولة الإسلامية كوصف المهرجانات والمواسم.
ثم قال في بيان التأثر الحديث: أن موقف الأدب العربي من الأمم الأجنبية في العصر الحديث هو على الأغلب موفقه من الأمم الأوربية، وصبغة الثقافة فيه اظهر من الحضارة على وجه التعميم، ولقد كانت اللغتان الفرنسية والإنجليزية اقرب مسالك الثقافة الأوربية إلى البلاد العربية، واتفق أن كان هذا الاتصال في عهد النهضة العلمية أو عهد التحقيق والتمحيص فقرا أدباء العرب كتب القوم وهي تضيف مزايا التعبير العلمي إلى مزايا التعبير الأدبي في أقلام البلغاء، فكان من اثر ذلك دقة الأداء وتخصيص اللفظ بمعناه وكان من أثره اتساع أفق الكتابة والشعر، وبخاصة ما كتب أو نظم في تمثيل الجوانب النفسية وتحليل دواعي الحس والعاطفة.
وألقى الشيخ عبد القادر المغربي كلمة عن (مجامعنا اللغوية وأوضاعها) تحدث فيها عن المحاولات الأولى في إنشاء هذه المجامع فالمجمع الأول أنشئ سنة 1892 برياسة السيد توفيق البكري والمجمع الثاني أنشئ سنة 1917 برياسة الشيخ سليم البشري وكان الأستاذ لطفي السيد (باشا) مقررا له وقد انتج هذان المجمعان نتاجا لم يكد يولد حتى مات لأسباب منها ما يرجع إلى طبيعة الألفاظ التي وضعت ومنها ما يرجع إلى التغافل عن الطرق المؤدية إلى استعمال تلك الألفاظ واستمالة أنظار الجمهور إليها. وعد الأستاذ المغربي من تلك المحاولات، ما كان منه ومن المغفور له احمد تيمور باشا إذا اتفقا على العمل على استعمال ألفاظ فصيحة بدلا من العامية والدخيلة وانتقى تيمور باشا عشرين كلمة من الفصيح ونشرها في المؤيد سنة 1908 ونصح الجمهور باستعمالها، ثم كتب الشيخ المغربي تطبيقا عليها مقالا في المؤيد بعنوان (تمرين على الكلمات العشرين).(759/42)
ثم تحدث الأستاذ عن المجمع العربي بدمشق ومجمع فؤاد الأول بمصر أثرهما في اللغة وما يرجى منهما.
وألقى الأستاذ محمد كرد على بحثا في (عجائب اللهجات) بين فيه اثر اختلاط العرب بغيره وخاصة بعد الإسلام في تعدد اللهجات، واستمر في بحثه حتى وصل إلى العصر الحاضر فساق أمثلة كثيرة لاختلاف اللهجات في الأمم العربية.
ووقف الأستاذ جب المستشرقين الإنجليزي فاعتذر من عدم حضوره مؤتمر المجمع في السنتين الماضيتين لانشغاله مع زملائه أساتذة الثقافة الشرقية في الجامعات الإنجليزية بتنظيم الدراسات الشرقية وقال انهم ألفوا جميعه خاصة بهم في السنة الماضية.
أعمال المجمع:
وقد ألقى الدكتور منصور فهمي باشا كاتب سر المجمع كلمة في (أعمال المجمع خلال الدورة الماضية) وأرهفت الآذان لتلقى أنباء هذه الأعمال فإذا هي تتلخص في إلقاء بحوث في الجلسات من بعض الأعضاء وفي النظر في بعض المصطلحات العلمية وتقرير تعريفها والنظر في منهاج العمل بالمعجم الوسيط والمعجم الكبير، وفي مواصلة اللجان أعمالها، فلجنة الأدب أنجزت مسابقة الإنتاج الأدبي في العام الماضي وتعمل في مسابقة العام الحالي، ولجنة الأصول أمامها مقترحات في تيسير الكتابة العربية لا تزال تبحثها.
وكل تلك الأعمال عدا المسابقة الأدبية لم تظهر لأعين الناس بعد، ولم يزل المجمع يتحدث عنها منذ سنين كما يتحدث عنها الآن حتى المجلة، التي قالوا منذ اكثر من عام إنها على وشك الظهور لا تزال طي الخفاء. . وقد فاتني أن اذكر من أعمال المجمع انه قرر نشر المجلة مرتين في السنة
أشعر الشعراء:
كانت مجلة الهلال قد نشرت في أكتوبر الماضي استفتاء لقرائها عن الشعراء الخمسة الأول بين العرب الأحياء، وعمن هو أجدرهم بلقب الإمارة الآن. وكنت قد عقبت على ذلك ببيان عدم الحاجة إلى هذه الإمارة، وتفنيد طريقة استفتاء قراء أكثرهم ليس أهلاً لمثل هذه الأحكام الأدبية.(759/43)
وقد أحسنت الهلال إذ أعلنت في الشهر نتيجة الاستفتاء خالية من (أمير الشعراء) قاصرة على (الشعراء الخمسة الأول) واصطنعتن اللباقة في (دغم) مسالة الإمارة، إذ ذكرت أن المشتركين في الاستفتاء (قالوا أن آثار كبار شعرائنا تكاد تكون في مستوى واحد من القوة والإبداع، ويكاد لا يوجد وجه لتقديم بعضهم على البعض الأخر) وهكذا خلصت إلى ما عرف عن دار الهلال من الاتزان وإرضاء الجميع. ثم أعلنت (إن الشعراء الخمسة الأول بين الشعراء الأقطار العربية هم بالترتيب الذين حازوا اكثر الأصوات: خليل مطران بك. علي الجارم بك. السيد بشارة الخوري. الأستاذ علي محمود طه. الأستاذ أحمد رامي).
وقد جاءت هذه النتيجة - كما ترى - وفقا لما ينتظر من قراء يتوخون اكثر الأسماء شهرة في المحيط العام دون التفات أو دراية بما تستحق من تقديم أو تأخير - وأنت تعلم - كما اعلم - أن ثمة شعراء يرجحون بعض هؤلاء في الموازين الأدبية. وقد نشرت المجلة تعقيبا على هذا الاستفتاء للدكتور عبد الوهاب عزام بك قال فيه أن الناقد لا يستطيع أن يوازن بين جماعة من الشعراء (إلا أن يقرا ديوان كل واحد منها قراءة ناقد مثبت ويكون قد عنى بها وقراها واستقر على رأي فيها على مر الزمان. . . . وليت شعري من فعل هذه من النقاد؟) أقول: إذا كان هذه مستبعدا على النقاد فما بالك بالقراء. . . .؟
ملك الشعراء:
ومما قاله الدكتور عزام بك في ذلك التعقيب: (وإذا نظرنا في تاريخ الآداب الشرقية. وجدنا ألقاب الإمارة والملك معروفة بين شعراء إيران مثل ملك الشعراء معزى. وقد تلقب بلقب ملك آخرون من شعراء الفرس من بعده وفي عصرنا هذا يعرف الشاعر الكبير بها بلقب ملك الشعراء وهو أستاذ في جامعة طهران، وأما في تاريخ الأدب العربي فلم تعهد الألقاب. . . وبعد فان لم يكن بد من بيعة أحد الشعراء المعاصرين بالإمارة أو الملك فايسر وسيلة لذلك أن يجتمع الشعراء وحدهم ويختاروا لأنفسهم ملكا أو أميرا عليهم. فان فعلوا فليس بعد رأيهم مقال لقائل) وأنا لا أرى أن هذه وسيلة يسيرة فضلا عن أن تكون ايسر وسيلة. فمن يضمن لنا أن كلا من شعرائنا سينتخب غيره وأن سيكون لهذا الانتخاب نتيجة سوى أن يكون عدد الفائزين مساويا لعدد الشعراء وخاصة إذا كان المطلوب صاحب جلالة في الشعر لا أميرا فحسب.(759/44)
ولم كل هذه وعندنا (ملك الشعراء) الدكتور زكي مبارك وقد كفى سائر الشعراء مشاق الاجتماع والنزاع والاختيار، فأعلن نفسه ملكا عليهم ولعلة كان قد انتظر أن يشعروا بأحقيته لهذا المنصب الخطير فلما رآهم مشغولين كلبنفسه وجد من حق نفسه هو أيضا أن يتقدم إلى مكانه.
والدكتور زكي مبارك أو ملك الشعراء، يفوق الشعراء جميعا بالحرية التامة في التعبير عما يريد فيشعر صورة صادقة لنفسه ليس فيها مداجاة ولا تزوير وهو رجل سليم الطوية لا يخشى - إذا ملك - أغن يجور وفيم يجور.؟
(العباسي)(759/45)
رسالة النقد
أدب المليم المزيف
للأستاذ حبيب الزحلاوي
إلى صدقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب:
يعسر على الكاتب في النقد الأدبي ما يسهل على الكاتب المنشئ في كتم خليقته وستر سريرة نفسه، لأن النقد بيان وتفصيل ولئلا محيد للناقد عن التجرد الذاتي لينطلق حرا، يقول الحق وبصور الحقيقة.
الناقد المتجرد تمام واش، يشي بنفسه على نفسه، ويعترف بما في قرارتها من اسرار، وينشر ما تتطور عليه ضلوعه من سجايا وخلائق ومن كوامن دفينة أيضا لأن طبيعة التجرد توجب ذلك ولان التجرد والانطلاق صفتان بعيدتان كل البعد عن خلال المواربة والختل والمداورة والنفاق التي تعسر كل العسر على الكاتب في النقد الأدبي
قرأت ما كتب النقاد في كتابي (أنات غريب) وأصخت بسمعي إلى ما ساقه البعض إلى من لوم وتجريح من ناحية، وثناء وإطراء ومغالاة في التقدير من البعض الآخر من ناحية ثانية، فلم اقف طويلا عند واحد من أولئك المسرفين في اللوم أو الإطراء، ولكني اشعر ألان بما يدفعني إلى الوقوف طويلا - وجها لوجه - من صديقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب، الكاتب الهادئ النفس، المنكر لذاته، القانع بالقليل القليل من الشهرة وذيوع الصيت، الدؤوب على المطالعة والدرس والتنقيب والتعقيب المثابر على نشر فصل في (الحياة الأدبية) مرة واحدة في كل أسبوع، في صحيفة يعبد أربابها المال، ويروجون للمضاربة في أسواق المال، وقد لا يقراها أديب واحد غير يوم الجمعة، لأنه ليس في الأدباء ممن اعرف غير يهودي واحد يضاربان ليكسبا المال في سهولة الكسول ومغامرة المقامر المضارب، في هذه الصحيفة المالية يختبئ صديق الكريم وراء حرفين متواضعين من حروف الهجاء (صاد شين) فبينا نراه في فصل من فصوله الأسبوعية يدرس كتابا في تاريخ قدماء المصرين أو الرومان واليونان، نجده في بوادي الجاهلية وصحاري الإسلام يقارن ويوازن وينسق ويعادل هؤلاء بأولئك. وبينا نسمعه يروى أسطورة أو خرافة نراه ينشر قصة تصويرية لواقعة حال أو بحثا تحليليا لأديب جرى عليه النسيان أو يلخص كتابا(759/46)
في الأدب الفرنسي أو رواية عصرية وهو بين هذا وذاك يكتب فصولا بارعة في دراسة الكتب التي تهدي اليه، فيقرظها تقريظ المشجع أو المحبذ تقريظ الأديب الغيور الذي يدفع بالمؤلف إلى الاستزادة والإجادة. ولكني ما قرأت في فصول في النقد كان يخص بها الأصدقاء والمعارف من المؤلفين ولعلي انصف صديقي شيبوب إذا قلت أن فصوله في النقد الأدبي هي المتفوقة في قيمتها والمتقدمة في شانها على بقية فصول يكتبها (في الحياة الأدبية).
على هذا الأساس إذن اقف من صديقي الناقد البارع أساجله مساجلة الراغب في بلوغ الحق، القاصد وجه الحقيقة: قال الأستاذ شيبوب في العدد السابق من الرسالة:
(. . . . ولا يقف أدب الأستاذ حبيب الزحلاوي عند التأليف القصصي، فانه نقادة ادبي، ولعل النقد الأدبي كان أول ما عالجه من فنون الأدب، إذ تقدم كتابه (أدباء معاصرون) غير هـ من الكتب وقد ظهرميله إلى النقد في أقصوصة (الدميم) لأنه عرض فيها للحبكة، والعرض والفكرة، والوحدة؛ وذكر انه (ليست قيمة القصة في المادة التي تتألف منها، ولا في كيفية ترتيب تلك المادة، بل قيمتها في الكيفية التي تؤدي بها، وفي عرضها عرضا خاصا بمهارة فنية، بالتشويق والترغيب وفي صدق الرواية عن الحياة. . . .).
(وقد اضطر لبيان ذلك، إلى حشر أقصوصتين في أقصوصة واحدة، وهما لا رابط بينهما غير فكرة العرض بمهارة وبغير مهارة).
يعلم صديقي ولا شك أن مجال القصة واسع سعة الفضاء الذي يضم الكون، وأن القاص إذا قصر في تجواله بأجوائه، إنما يكون تقصيره نتيجة لضعف في خوافيه وقوادمه، وفقر إلى الخيال المنسرح والذهن المبتدع. وأن المجالات الضيقة التي رسمها نقاد القصة ليست في الضيق إلى الحد الذي يصد المبتكر عن شرح درس في بناء القصة وتعليم من لا يعلمون إنها تسع كل ضرب من ضروب العلوم والفنون، وكل رسم وصورة للحياة بكامل ظواهرها وبواطنها فكيف تضيق القصة إذن بالنقد الأدبي؟.)
أقول القاص المبتكر تمييزا له عن أولئك (الهلافيت) الذين يملئون الصحف (السوقية) بقصص فاجرة يضل القارئ في مبتداها ومنتهاها، ويتيه قاص الأثر البارع في تتبع معالم وأغراض كاتبيها، هذه إذا كانت لهم أغراض ومقاصد ثم أي حرج على القاص وقد جعل(759/47)
بطل قصته معلما حكيما يعلم تلاميذه الأصول والقواعد ويهديهم سواء السبيل؟ أيعاب عليه إبراز مثل ناطق يشهد على العشرات من القصصيين الذين يرتجلون القصة ارتجالا ولا غاية لهم سوى الغرائز والهاب الشهوات! كيف، بل لم يؤاخذني يا صديقي على بيان (يميز بين قصة معروضة بمهارة، وقصة لا مهارة في عرضها؟.)
على هذا الأساس كتبت قصتي (الدميم) وبهذا الرباط ربطت بين القصتين، قصة مرتجلة لا ضوابط لها ولا قواعد، مرماها إثارة الشهوات الجنسية، وقصة تتفاعل فيها عوامل الحياة الزاخرة بالصدق، ويه معلومة الحدود والمعالم، واضحة الطريقة والمذهب والغرض والأسلوب أيجوز لك يا صديقي بعد هذا أن تقول أن القصة مفتعلة لبيان فضل الأقصوصة الثانية على الأقصوصة الأولى)؟؟
لا أحسب أن هذه التجني من صديق الكريم جاء عفوا، بل اعتقد انه كان وسيلة لغالية، لأن المقال الذي تفضل بكتابته عني، إنما كتب بروح من النقد، والناقد كما علمنا نمام واش يشي على نفسه بنفسه: قال الأستاذ شيبوب:
(تناول الأستاذ حبيب الزحلاوي النقد الأدبي في شئ من الجراة، وكثير من العنف، مما جعل له خصومات أدبية قديمة وحديثة كانت إحداها مع أديب له مقامة المرموق في عالم البحث والأدب والشعر، والتجديد الذي يحاوله هذا الأديب الفاضل لا يروق الأستاذ الزحلاوي، وهو حر في رأيه، وكنت اعتقد أن هذه الخصومة تقف عند حد النقد الأدبي ولا تتعداه إلى التعريض في إحدى القصص بذلك الأديب. والحق إني كنت اجل صديقي الأستاذ الزحلاوي عن أن يستعمل مثل هذه الوسيلة لينال من أديب نابه لا يرضى هو عن أدبه).
هنا مربط الفرس كما يقولون، هنا يتجرد الناقد الذاتي المنطلق حرا في القول والتصوير، هنا تظهر وشاية النفس بالنفس، هنا تبدو الكوامن وتطفو مخبآت السرائر وهنا اقف من صديقي الناقد وجها لوجه أساله، من هو ذلك الأديب صاحب المقام المرموق في البحث والأدب والشعر والتجديد؟ ما قيمة أدبه وشعره وتجديده، وكيف صح لصديقي الأستاذ شيبوب السكوت عن الإشادة بهذه الفضائل المطمورة تحت الأطلال والملقاة في الدمن؟ هل استحي صديقي الناقد من ذكر اسم ذلك الأديب الشاعر المرموق؟ أيرضى صديقي الناقد أن(759/48)
أشفق على صاحبه فلا اذكر اسمه بل ارمز إليه بالإشارة؟ أليس ذلك الأديب المرموق هو الذي مات مختنقا عند وصيد باب مجلة (المقتطف) ولم يرثه زجال ماجور؟ اليس هو الذي أضناني شعره فرصدت مبلغا من المال أغرى به أصحاب العقول السليمة على شرح شعره المضني فلم يظفر بمالي أحد؟
قد يعوزك الدليل يا صديقي تدحض به ما رميت به أديبك المرموق، أما أنا فلا اعدم الحجة استمدها من شاعرك المجدد لأزيد الطين بلة.
نشر الشاعر المجدد قطعة عنوانها (نهار وليل) قال فيها:
(بودي لو انهض والنهار باسم، فالمح إلى عجائب فاستملي، ولكني أخو العجز، لا أزال ظلا للنعاس المتثائب.
(ذات مساء إلى وليجة نفسي تحدرت - بدوه من بدوات - هل أردت تصفح البستان لا ثمر فيه ولا زهر؟ تحدرت وما استطعت الصعود، لوجهي صرعني هول ما دريت ما يكون.
(الحب وحده كان يقوى أن يسعفني فاصعد، لكنه جاء من بعد، من على، من مغيب البعد، اقبل علاجا مترعا بالضوء فيضئ غير مستحق شد ما فتنني فذو بته في خاطري وفي الخاطر ظللنا روحا لصق روح كلانا جاثم مخفق.
(هل كان في وسعي أن أدرك قبل أن اغفوا واذهب في الغفوة - يا له من سبات لطيف في ضميره خصب ونشاط - هل كان في وسعي أن احلم باليقظة الناعمة، بالأعجوبة يعانقها النور؟.
(في البدء داخل الليل نهاري وأسرف فغلظت العتمة، ولكني أصررت على التبصر، أحر، وألان الآن اذكر كيف لفت العتمة خاطري، يا لله! يا ظلمة تجري الحذارق في وليجة نفسي يا ظلمة أصبحت منبت مصير محير مصيري الوهاج). هاهي ذي قطعة كتبها الأديب المرموق الذي تطوع للدفاع عنه صديقي الأستاذ صديق شيبوب أقدمها له راجيا منه أن يتفضل علينا بترجمتها إلى اللغة العربية التي يفهمها أمثالي من عباد الله المتواضعين.
ليسمح لي صديقي الأستاذ شيبوب أن اذهب معه في التسامح كل مذهب في الافتراض الجدلي فأساله هل إذا استطاع تذليل الصعاب، وحل الطلاسم، وفك الرموز، هل في مقدوره(759/49)
أن يرسم لنا صورة واضحة لمعاني هذه الكلام الذي قاله صديقه الشاعر المرموق؟ هب أن المعاني كانت سامية حقا، ولكن ما هي قيمة المعاني إذا صيغت صياغة متشابكة متضاربة متنافرة؟ لنفرض جدلا أن لكلمات هذه القطعة الفنية بمفردها وبمجموعها معان طيبة ودلالات إنسانية ولكن ما هو آثرها الفعال في النفس هل هزتها وأسرت الرعشة فيها، وهل علق معنى واحد في ذهن قارئها؟ لنفرض جدلا انه قدم المتأخر من الكلمات وأخر المتقدم ووضعها في وضعها الصحيح وأقحمها على الذهن إقحاماً وحشرها فيه حشرا فما هن قيمة هذا الأدب وما هو قدر هذا الكاتب؟ ولم هذا العناء المضني؟
أردت يا صديقي خصومة بين الأدباء لا عداوة، ورفعت لواء هذه الخصومة عاليا في كتابي (أدباء معاصرون) وما برح علمي يخفق فوق سيارته ليراه كل كاتب أو شاعر طمل يفاتك بالكذب والشر على الأدب والفن فيسمى الهرف تجديدا واللوثة حصافة وأعيذك يا صديقي أن تكون طبيبا في مصحة الأمراض العقلية.
تستوي عندي خصومة وعداوة من يعتدي على كرامة الأدب أو يحاول الدنس الأدبي بنهضتنا التي لم يعرف تاريخ الأدب العربي لها ضريباً في كل عصره.
وليعلم صديقي الكريم الأستاذ صديق شيبوب أن أدب صديقه الشاعر المرموق لا يساوي في سوق الناقدين المتجردين غير المتحيزين مليماً زيفه مراب خسيس.
حبيب الزحلاوي(759/50)
البريد الأدبي
1 - أنطوان الجميل باشا:
رزئت الصحافة العربية هذا الأسبوع في ركن من أركانها، وخسر الأدب علما من أعلامه، وهو المغفور له الأستاذ أنطوان الجميل باشا. فكانت الفجيعة بفقده قاسية أليمة على ابنا العروبة عامة، وعلى رجال الصحافة والأدب خاصة.
ولقد زاد في هول الفجيعة به رحمه الله أن قضى بموت الفجاءة وهو في ميدان العمل يناضل ويجاهد في أداء واجبه، حتى لقد خرجت (الأهرام) إلى أيدي قرائها وفيها أثار قلمه وتوجيهه، ولكنها لم تدرك نعيه، لأنه كان قد أتم عمله فيها، وانصرف إلى داره متمتعا بالعافية التامة، وفي الصباح الباكر ليوم الثلاثاء الماضي وافته المنية ولم يشعر بثر من مقدماتها إلا بضيق خفيف في التنفس، ثم كان السكون الأيدي، وهكذا نفض الرجل يده من الحياة في رفق وسهولة وهدوء، وقد كانت هذه هي اظهر خلاله في الحياة ودستوره في العمل وفي صلاته بالناس.
لقد أمضى أنطوان باشا في الحياة نيفا وستين عاما، أو قل على التحديد ثلاثة وستين عاما، ولكنه لم يأخذ من هذا العمر الطويل لنفسه وشخصيته شيئاً يذكر إلى جانب ما بذل في سبيل المصلحة العامة، وانفق للخير والإنسانية وضحى لخدمة الشرق العربي والوطن جميعه، وإنه ليخرج من الدنيا وليس من ورائه زوج تندبه أو ولد يبكيه ولكنه لا شك قد ترك من ورائه مئات من الإخوان والتلاميذ الذي أضفى عليهم من روحه وطبعهم بطابعه، وألوف بل ملايين من أبناء العروبة عاش ينشد لهم المجد والسعادة على مدى الأيام فهو في نفوسهم ذكرى باقية وأثر خالد على كر السنين والأعوام.
وفد أنطوان باشا وهو شاب في ريعان العمر من لبنان على مصر، ولقد خرج من وطنه الأول تبرما بالجبروت السياسي الذي كان مسلطاً على الأحرار في تلك البلاد، وجاء إلى مصر وطنه الثاني لعله يتنسم نسيم الحرية، وكان أديباً موهوبا، فحمل القلم ونزل إلى الميدان، فاصدر مجلة (الزهور) لتكون حلقة اتصال بين أدباء العروبة في جميع الأقطار والأمصار، وما هي إلا جولة حتى برز إلى الطليعة وظهر في الرعيل الأول وظل يصدر مجلته أربع سنوات ثم كان أن قامت الحرب العالمية الأولى، وكان من قيودها ما حمله على(759/51)
وقف إصدار المجلة والدخول في خدمة الحكومة، ولقد صعد في هذا المجال درجات وتبوأ مكانة مرموقة، ولكن هذا لم يغلبه على طبعه إذ اثر اعتزال الخدمة والعودة إلى ميدان الأدب والصحافة، وكان أن تولى رئاسة تحرير (الأهرام) واسهم بجهده وبقلمه في تشييد ذلك الصرح العظيم، وكان إلى جانب ذلك أن اختير عضوافي الشيوخ ثم عضوا في مجمع فؤاده الأول للغة العربية، كما هو معروف في الفترة الأخيرة من حياته. .
لقد كان أنطوان باشا صحفيا عف القلم، نزيه التعبير، يرعى آداب اللباقة دائما فيما يكتب، ويعرف كيف يسيطر على أعصابه في الموقف الحرج، وكان هذا سر عظمته الصحفية، قال لي في مرة حكم أخلاقك دائما فيما تكتبه عن الناس، وأسال نفسك وأنت تكتب عن غيرك، هل تحتمل أن يقال عنك هذا الذي تقوله عن غيرك وحذار من طغيان القلم وأنت في خلوتك بل تمثل أن أمامك من تكتب عنه وانك تقرا عليه ما تكتب.
وكان رحمه الله أديبا قلبه وعاطفته، وكان في بيانه يؤثر الأسلوب الأنيق، والتعبير المشرق، والديباجة الموسيقية، وكان رواية يحفظ كثير من الشعر القديم، كما كان يحفظ جميع شعر الشعراء المحدثين، أمثال شوقي وحافظ ومطران وإسماعيل صبري وولى الدين يكن، وكان لا يطرب لشيء مثل ما يطرب لسماع الشعر الجيد، وكان لا يسر بشيء مثل ما يسر بشاب أديب يظهر في أدبه مخايل النجابة والنبوغ فيتعهده كأنه ولده. قابلته رحمه الله قبل وفاته بيوم واحد وهو منصرف من احتفال المجمع اللغوي، فسألته لماذا لم يتكلم في الحفل؟ فقال وكأنه كان ينعى نفسه: وماذا تريد أن اقول، وقد أنهكتنا الأيام ومتاعب الحياة؟ لقد قلنا كثيرا فقولوا انتم فو الله انه ليس أطيب إلى نفوسنا من أن نراكم تقولون. . . .
وبعد، فليس اليوم مجال القول في شخصية ذلك الرجل العظيم، ولكنها كلمة يجري بها القلم من خلال الدمع، فإلى فرصة أخرى حتى نؤدي واجب الوفاء نحو فقيد الوفاء، نضر الله قبره، اكرم مثواه
2 - أدوار لامبير:
نعت الأنباء البرقية في هذا الأسبوع العالم الفرنسي الأستاذ أدوار لامبير، وإن في مصر لكثيراً من رجال القانون وأعلام السياسة لا يزالون يحملون بين جوانحهم أطيب الذكرى لذلك الرجل الذي كان أستاذا لهم والذي وقف فيوجه الطاغية (دنلوب) منتصرا للعلم(759/52)
والكرامة حتى لقد ضحى بمنصبه في هذا السبيل، وضيع على دولته فرنسا مركزا علميا كانت تستأثر به في مصر.
ذلك أن مدرسة الحقوق في مصر كان يتولى نظارتها عالم من أبناء فرنسا، وكانت فرنسا تعتز بهذا المركز وتعتبره مظهر شرف لها إلى جانب ما كان قائما من تسلط الإنجليز على التعليم في مصر، وحدث أن أسندت نظارة هذه المدرسة إلى رجل فرنسي يدعى (تستو) وكان هذا الرجل ينزع إلى حب السيطرة والتغلب، وكان المسيطر على شئون التعليم في مصر يومذاك الطاغية (دنلوب) ونزعته الاستعمارية معروفه مشهورة، فتلاقى الرجلان في اتجاه واحد، وكان كل منهما أداة طغيان وبهتان. ومما يذكر أن (تستو) هذا هو الذي فصل الزعيم مصطفى كامل من مدرسة الحقوق فاضطر إلى السفرلإتمام دراسته في فرنسا، وحدث في عام 1896 أن اجتمع فريق من طلاب المعاهد العالية والثانوية في مطعم بالأزبكية واحتفلوا بعيد جلوس الخديوي عباس الثاني. وصادف أن دخل (تستو) ليتناول العشاء فنقل أسماءهم إلى دنلوب ففصلهم جميعا من مدارسهم.
ثم تولى (أدوار لامبير) نظارة مدرسة الحقوق وكان رجلا يعرف للعلم كرامته ويرتفع به عن تلك الأساليب الغاشمة، فكان من الطبيعي أن يتصدى (دنلوب) لهذا الرجل لا يجاريه في إذلال المصريين ومسخ روحهم وتشويه ثقافتهم ولكن (لامبير) لم يخنع ولم يطأطئ رأسه وظل دائما عند عقيدته واتجاهه، فلما أعياه الأمر استقال وضحى بمنصبه وضيع نظارة مدرسة الحقوق المصرية على فرنسا، إذ تولاها من بعده رجل إنجليزي يدعى (هيل) وكان رجلا لا يدري من الحقوق شيئا، ولكن السياسة الإنجليزية شاءت ذلك في تلك الأيام
إنها ذكريات تحتل جانبا من تاريخنا الوطني، وهو جانب يجب أن يكتب ويروى، ولعل نعي الأستاذ لامبير قد أثار ألواناً من هذه الذكريات في نفوس أبناء الجيل السابق ممن كانوا من تلاميذه ومريديه. . .
محمد فهمي عبد اللطيف(759/53)
القصص
إنه ضوء القمر
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ جمال الدين الحجازي
كانت مدام جولي روبير تنتظر أختها مدام هنرييت ليتور التي عادت من سويسرا منذ خمسة أسابيع، بعد أن سمحت لزوجها بالبقاء وحده في كالفادوس لإنجاز بعض الأعمال التي تطلب وجوده، واتت لتقضي بعض أيام مع أختها في باريس للترويح عن نفسها، وفي الصالون الهادئ، جلست مدام روبير تقرأ وهي شارة الذهن، ترفع عينيها بين وقت وأخر كلما سمعت صوتا. وأخيراً سمعت دقا على الباب، فظهرت أختها حالا وكانت تلبس معطف السفر، وفجأة وقبل التحية تعانقتا بشدة ثم بدا الحديث عن الصحة والعائلة وأشياء أخرى تجيدها النساء. . .
كان الوقت مساء. فأضاءت مدام روبير المصباح، ولما رأت وجه أختها رغبت في عناقها مرة ثانية، فاقتربت منها، ولشد ما كانت دهشتها عندما رأت ضفيرتي أختها الطويلتين قد ابيضتا، بينما كان القسم الآخر من شعرها اسود لامعا وظهر شعرها الأبيض كالفضة تحوطه هالة من السواد.
كانت مدام هنرييت شابة لم تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها، فما هو السر في ابيضاض شعرها! إنها لم تره هكذا إلا بعد عودة أختها من سويسرا.
نظرت مدام روبير إلى أختها بدهشة والدمع يترقرق في ما فيها لأنها اعتقدت بان حادثا مخيفا ألم بأختها فسألتها بابتسامة حزينة:
- ماذا حصل لك يا هنرييت؟
- لا شئ يا شقيقتي. . . أكنت تنظرين إلى شعري الأبيض؟
ولكن مدام روبير قبضت على ذراعيها بشدة وكررت عليها السؤال:
أخبريني ماذا حصل لك. . . أخبريني بالحقيقة وإياك والكذب: ومكثتا برهة تنظر إحداهما إلى الأخرى وقد امتقع وجه هنرييت وكان دمعتان تبللان وجنتيها فسألتها أختها بلطف:(759/54)
ألا تودين إخباري بما ألم بك؟
وفي صوت خافت قالت بعد أن أخفت جبهتها بين ذراعي شقيقتها:
لي. . . لي حبيب!
وهناك الكنبة جلست الأختان في أحد أركان الغرفة تتحادثان وقد وضعت الأخت الصغرى ذراعها على عنق أختها الكبرى بدلال وأخذت تنصت إلى حديثها:
إنك تعرفين زوجي وتعرفين كم احبه! فهو رقيق الشعور طيب، باسم الثغر، لطيف ومستقيم إلا أن به عيبا واحدا وهو انه لا يستطيع أن يطرى محاسن المرآة! ولست ادري لماذا؟ آه كم كنت أتمنى أن يضمني بين ذراعية بشدة، ويقبلني قبلات حارة تمتزج بها أنفاسنا! وكم تمنيت أن يكون ضعيفا بين يدي فيحتاج إلى رقتي وعطفي ودموعي! قد يظهر أن ما قلته لك تافه ولكننا نحن النساء جبلنا على هذا فما العمل! ومع ذلك لم أفكر لحظة في خيانته حتى على شاطئ بحيرة لوكيرن!
هناك على شاطئ البحيرة، كان القمر يرسل أشعته الفضية على الكون فيملأ بهجة وحبورا، وشعرت حينئذ بشيء لست اعرف كيف أفسره! ففي الشهر الذي قضيناه نتنزه في سويسرا ونمتع أنفسنا بجمال تلك البلاد، أثار زوجي احساساتي بهدوئه وصمته وتركني وحدي سابحة أهيم في الحسن والجمال! إلا يثير الجمال النفوس ويبعث فيها الحب إلا تثير ممرات الجبال الضيقة والأودية العميقة والغابات الواسعة والجداول الرقراقة والقرى الصغيرة الجميلة كل حب للجمال!
أجل لقد سحرتني هذه المناظر بجمالها فقلت لزوجي وقد ارتميت بين أحضانه ما اجمل هذه المناظر يا حبيبي. . . انظر إلى القمر المنير والبحيرة الجميلة. . . . إلا تدعو هذه المناظر الساحرة المحبين للقبل!! قبلني الآن وفي هذا المكان قبلة حارة وامزج أنفاسك بقلبي المذاب! ولكنه أجابني بابتسامة لطيفة باهته: (لا يوجد سبب يدعو إلى القبل) فتأثرت جدا من كلماته.
غاظني زوجي بمسلكه هذا، فقد منع تلك الخيالات الشعرية والسبحات الفكرية من أن تخرج إلى دنيا الجمال وأبقاها مكنونة في نفسي عديمة الجدوى.
وفي إحدى الأمسيات ذهب روبير إلى فراشه بعد العشاء، وكان قد أصابه صداع، فذهبت(759/55)
في نزهة على البحيرة وهل لي غير البحيرة وشاطئها الجميل؟
كانت الليلة مقمرة كتلك الليالي التي نقرأ عنها في أساطير الخيال؛ وكان القمر يزهو باكتماله في كبد السماء ويحي الأرض بأنواره الفضية، فيكسبها جمالا وبهاء. وظهرت الجبال العالية بثلوجها البيضاء كملوك تلبس تيجانا فضية، ولمعت مياه البحيرة لمعانا أخاذاً في ضوء القمر الجميل، وكان النسيم عليلا يهيج الذكريات ويبعث الشوق في القلوب.
جلست على العشب، ونظرت إلى البحيرة وقد استولى علي سحرها، فمر بي طيف عابر، وأحسست أن الحب قد تملكني وأصبحت في حاجة اليه، فتذكرت حياتي الأولى وما بها من سآمة ويأس فحزنت وتساءلت: ترى هل يبسم لي الزمان فأجد نفسي على شاطئ البحيرة ف ضوء القمر الساطع بين أحضان حبيب يلهبني بقبلاته فأنتعش بتلك القبلات الحارة التي ينعم بها العشاق!! وعندها شعرت بحبات لؤلؤية تتساقط على وجنتي لم ادر بسببها وسمعت من يقول: (لم هذا البكاء يا سيدتي؟ خففي عنك ما تجدين. . . فعلا الحزم وعلام البكاء) وكنت مضطربة فقلت إني مريضة فسار إلى جانبي وكان طيب القلب وبدا يحدثني عما رأيناه في رحلتنا من المناظر الجميلة، وترجم كل ما أحسست به إلى كلمات جذابة وشعرت بأنه فهم احساساتي وشعوري كل الفهم، وفجأة اسمعني بعض الأبيات الشعرية لألفرد دي موسيه فشعرت كأنني في عالم غير عالمنا وخيل إلي إن الجبال والبحيرة وضوء القمر تغني وتسبح مبدع هذه المناظر الجميلة الساحرة.
وفي الصباح بينما أنا غارقة في هذه النشوة تركني هذا الحبيب واختفى بعد أن قدم إلي بطاقته! وهنا تأوهت مدام ليتور وكادت تصيح. . .
فقالت مدام روبير وقد سرها ما سمعت:
(لتعلمي يا شقيقتي العزيزة إننا لا نحب الرجل دائما ولا يستطيع أن يثير أشواقنا؛ فلا غرور أن حبيبك الحقيقي وأنيسك الذي سحرك بحلو ألفاظه ورقة شمائله وأثارك وبعث فيك الحب والغرام في تلك الليلة وأنار لك السبيل هو ضوء القمر. . . أجل إنه ضوء القمر!)
جمال الدين الحجازي(759/56)
العدد 760 - بتاريخ: 26 - 01 - 1948(/)
بلاغة الرسول
كلفتني الإذاعة في احتفالها بذكرى مولد الرسول الكريم أن أكتب كلمة في بلاغته تذاع في عشر دقائق، وهذا تكليف بالمحال، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فإن عشر دقائق لا تتسع للحديث الموجز عن بلاغة كاتب وسط، فكيف تتسع للحديث عن بلاغة رسول اصطفاه الله لرسالته، واصطنعه لوحيه، وعلمه من علمه؟
إن بلاغة الرسول من صنع الله، وما كان من صنع الله تضيق موازين الإنسان عن وزنه، وتقصر مقاييسه عن قياسه؛ فنحن لا ندرك كنهه وإنما ندرك أثره، ونحن لا نعلم إنشاءه وإنما نعلم خبره. هل يدرك المرء من آثار الشمس غير الضوء والحرارة؟ وهل يعلم من أسرار الروض غير العطر والنضارة؟ وهل يجد في نفسه من أغوار البحر غير الشعور بالجلالة والروعة؟ إن البلاغة النبوية هي المثل الأعلى للبلاغة العربية. وإذا كان كلام الله كتابَ البيان المعجز، فإن كلام الرسول سُنة هذا البيان. وإذا كان البلاغ صفة كل رسول، فإن البلاغة صفة محمد وحده. تجمعت فيه صلى الله عليه وسلم خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة، فقد ولد في بني هاشم، ونشأ في قريش، واسترضع في بني سعد، وتزوج من بني أسد، وهاجر إلى بني عمرو وهم الأوس والخزرج، وهذه القبائل التي تقلب فيها الرسول هي بالإجماع أخلص القبائل لساناً وأفصحها بياناً وأعذبها لهجة. والوسيلة الطبيعية لاكتساب اللغة والمنطق إنما هي المخالطة والمحاكاة. ثم تولى الله عز وجل تأديبه، فكمله برجاحة العقل وسجاحة الخلق وصفاء الحس وقوة الطبع وثقوب الذهن وتمكن اللسان ومحض السليقة، ليكون لساناً لكلمته ومظهراً لنوره. ثم أخذ يتصرف في التجارة على عادة قومه، فضرب في الآفاق وتنقل في الأسواق، فرأى المناظر الجديدة، وسمع المناطق المختلفة، وحصَّل المعارف العامة. والأسفار والأخطار والهجرة بعد توفيق الله تفتق الذهن وترفد العقل وتزيد المعرفة. ثم كان بخلي ذرعه من صوارف الدنيا الليالي الطوال فيعتكف في حار حراء يتعبد ويتأمل ويتجه بروحه الصافي اللطيف إلى الملأ الأعلى. ثم كان من طبعه أن يديم التفكير ويطيل السكوت، فإذا تكلم اختصر من اللفظ، واقتصر على الحاجة، وألقى الكلام بيناً فصْلاً يحفظه من جلس إليه، ولوعده العادَّ لأحصاه، كما قالت السيدة عائشة. كل أولئك قد مكن للرسول من ناصية البلاغة، فأسلس له الألفاظ، وأسمح له المعاني، فلم يندْ في لسانه لفظ، ولم(760/1)
يضطرب في أسلوبه عبارة، ولم يعرب عن علمه لغة، ولم ينْب عن خاطره فكرة؛ حتى كان كلامه كما قال الجاحظ (هو الكلامَ الذي قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة وتنزه عن التكلف. استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، وتنزه عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة وشُد بالتأييد ويُسر بالتوفيق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً ولا أعدل معنى، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح من معناه، ولا أبين من فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم) لذلك قال وقوله الحق: (أنا أفصح العرب، بيْد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر. وقد قال له صاحبه أبو بكر: لقد طفت في بلاد العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي)، ومن أولى بذلك كله ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً؟
إن أخص ما يميز الأسلوب النبوي الأصالة والإيجاز. فالأصالة وهي خصوصية اللفظ وطرافة العبارة تتجلى فيما كان ينهجه الرسول من المذاهب البيانية، ويرتجله من الأوضاع التركيبية، ويضعه من الألفاظ الاصطلاحية، كقوله عليه الصلاة والسلام: مات حتف أنفه، والآن حمى الوطيس، وهدنة على دخَنْ؛ وقوله لحادي النساء: رويدك! رفقاً بالقوارير. وقوله في يوم بدر: هذا يوم له ما بعده. ولتمكن الأصالة فيه كان يقتضب ويتجوز ويشتق ويبتدع، فيصبح ما أمضاه من ذلك حسنة من حسنات البيان، وسراً من أسرار اللسان، يزيد في ميراث اللغة، ويرفع من قدر الأدب.
والإيجاز وهو تأدية المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة غالب على أسلوب الرسول، لأن الإيجاز قوة في التعبير، وامتلاء في اللفظ، وشدة في التماسك؛ وهذه صفات تلازم قوة العقل وقوة الروح وقوة الشعور وقوة الذهن، وهذه القوى كلها على أكمل ما تكون في الرسول، ومن هنا شاعت جوامع الكلم في خطبه وأحاديثه حتى عُدَّت من خصائصه.
على أن الرسول عليه السلام كان يطيل إذا اقتضت الحال ذلك. فقد روى أبو سعيد الخُدري أنه خطب بعد العصر فقال: (ألا إن الدنيا خضرة حلوة! ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر(760/2)
كيف تعملون. اتقوا الدنيا، واتقوا النساء. ألا لا يمنعن رجلا مخافةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه. . . قال أبو سعيد ولم يزل يخطب حتى لم يبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف، فقال: (أنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى)،
والمأثور من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم خطب وكتب وأحاديث، وكلها تتسم بالإلهام والإبداع والعبقرية، وتمتاز بالجزالة والجلالة والسبك. وهو في بعضها يستعمل الغريب ويلتزم السجع تبعاً لما جرى على ألسنة الوافدين عليه من مختلف القبائل. من ذلك حديثه مع طهفة بن أبي زهير النهدي، ومع لقيط بن عامر بن المنتفق، وذلك من حسن أدبه وسمو بلاغته وقوة تأثيره.
وللرسول قدرة عجيبة على التشبيه والتمثيل وإرسال الحكمة وإجادة الحوار. وتلك ميزة الرسل من قبل، لأن المرسلين في مقام المعلمين، وأنجح ما يكون التعليم إذا كان على طريقة التمثيل والمحاورة، كقوله عليه السلام: (إن المنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. المؤمن هين لَيَّن كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ. أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. لو توكلتم على الله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً. إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم. إياكم وخضراء الدمن: المرأة الحسناء في المنبت السوء. المرأة كالضلع إن رُمت قوامها كسرتها. الناس كلهم سواسية كأسنان المشط. جنة الرجل داره. ومن روائع تشبيهاته عليه السلام قوله: إن قوماً ركبوا سفينة فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع. فنقر رجل منهم موضعه بفأس؛ فقالوا له ما تصنع؟ قال هو مكاني أصنع فيه ما أشاء. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا.
والسفينة التي ضربها الرسول مثلا هي اليوم دنيا الإسلام والعروبة، تقسمها الإخوان والبنون في عهود الضعف والانحلال فصار لكل منهم وطن ودولة، ولكن هذه الأوطان المتعددة تجمعها دنيا واحدة، كما تجمع السفينة مواضع الركاب؛ فكل وطن وإن استقل بنفسه مرتبط في قوام حياته بغيره؛ فهو حري ألا يوبق بحريته الوطن الجمع حري ألا يُغرق في عبابه الوطن المفرد. وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله من ألمعية الذهن وإشراق الروح كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فضرب هذا المثل لجامعة(760/3)
الدول العربية لعلها تتذكر فتتدبر. وهذه هي بلاغة الإلهام والفيض، تكشف الحجب بنور الله، وتخترق الغيوب بنفاذ البصيرة، وترسل الكلمة من فيض الخاطر وعفو البديهة فتكون حكمة الحاضر ونبوءة المستقبل!
صلى الله عليك يا رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وإمام السياسة والتشريع، وأمير الفصاحة والبلاغة، وداعية السلام والوئام والمحبة!
احمد حسن الزيات(760/4)
كلمة أخرى
للأستاذ محمود محمد شاكر
قرأت كلمة الأستاذ محمد العربي العلمي في عدد الرسالة (759) يردَ على ما كتبته في قضية الاستقلال الذي تطالب به بلاد المغرب، ومن حق الأستاذ أن يردَ، ومن حقه أن يعلمني ما أجهل، ومن حقه أن يرشدني إلى وجه الصواب فيما زعمت أو رأيت، كلّ هذا من حقه، ولكن ليس من حقه أن يخرج الكلام عن جادّته، أو أن يستنبط منه أشياء ليست فيه كقوله إني عرضت للوطنيين من أهل المغرب (فاتهمت زعماءهم وأهل الرأي فيهم بالسفه والغفلة والتخاذل والتهاون في حقوق البلاد أو ما يشبه ذلك من أنواع التهم)، فهذا شئ مردُّه إلى ما كتبتُ لا إلى ما يقول به الأستاذ العلمي. والسفه والغفلة وما يشبه ذلك من أنواع التهم!! كلمات كبيرة لا يحل للأستاذ أن يدّعى أنى أردتها بغير برهان من نص كلامي الذي كتبته.
ثم كرر الأستاذ العلمي أن الذي جاء في كلمتي إنما هي أشياء ألقيت إلى فحكيتها بلا تحقيق ولا روية، أو ألقيت إلى فاعتقدتها كل الحقّ وأغفلت ما وراءها. وأظن أيضاً أن هذا شئ غير لائق به أن يقوله، فضلا عن أن يكتبه. ولم أكن أظن أن الأستاذ العلمي يجترئ على أن يصفني بأني أُذُن تصرفه عن الحق صداقة صديق أو عداوة عدو، ولكنه فعل، فلا أقل من أن أجزيه بالصفح عنه إكراماً لصديقي الأستاذ محمد بن الحسن الوزّانى، فهو رسوله وسفيره والنائب عنه.
ثم رأيت الأستاذ أكرمه الله يزعم أنى بما كتبت إنما كنت أحاول أن أحدث في الائتلاف الوطني المغربي (ثلمة) وأن ألقى حوله (بذرة من بذور الشقاق)، وهذا شئ كثير، ولكنى أعود فأصفح عن الأستاذ، لا لشيء إلا لأني أترك الحكم في هذا الأمر لمن يقرأ فيفهم، وما أظن أحداّ ممن يطلع على ما كتبت يستطيع أن يقول أني (حاولت) هذا الذي زعمه الأستاذ.
ثم رأيت الأستاذ يقول: (ولعلى لا أكون فضولياّ إن زعمت أن الذين ذكرهم الأستاذ شاكر من زعماء تونس والجزائر ليسوا معه على الرأي الذي نسب إليهم)، وأنا لم أنسب إليهم شيئاً قالوه إلا قولهم (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال)، وليس يهمنى أن يكون الأستاذ العلمي(760/5)
فضولياً أو غير فضولي، ولكن الذي يهمني ويهمّ قراء الرسالة وسائر العرب والمسلمين هو أن الذي حكيت عن زعماء تونس والجزائر صحيح قد اتفقوا عليه وقيدوه بالكتابة كما جاء في بيان سمو الأمير الجليل محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي نشره في صحيفة الأهرام. وقد جاء فيه أن الأمير أعزّه الله خابر جميع (رؤساء الأحزاب المغربية ومندوبيها) فاتفق رأيهم على تكوين (لجنة تحرير المغرب العربي) من كافة الأحزاب الاستقلالية في كل من تونس والجزائر ومراكش على أساس مبادئ الميثاق التالي: ثم جاء في نص هذا الميثاق (د - لا غاية يسمى لها قبل الاستقلال - هـ - لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر - و - لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال) وقد وقع هذا الميثاق جميع من ذكرتهم في كلمتي ومن لم أذكرهم من رجال الأحزاب المغربية في تونس والجزائر ومراكش، ومن بينهم الأستاذ محمد العربي العلمي، والأستاذ الناصر الكتاني نيابة عن حزب الشورى والاستقلال.
والعجيب الذي لا يقضى منه عجب هو أمر الأستاذ العلمي، فقد كتبت كلمتي للرسالة بعد أن قرأت في الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) تحت عنوان (محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب) وقد جاء في هذا النبأ ما نصه. (ويقول الحزب في مذكرته إنه يعتزم تحقيق المطالب الوطنية وهى استقلال البلاد - في نطاق وحدته الجغرافية والسياسية، وفى دائرة ملكية دستورية - من طريق المفاوضات، ولاتجاه بالمغرب في مرحلة انتقال تسمح له بأن ينظم شئونه تنظيماً حراً وبأسرع الطرق إلى تحقيق سيادته التامة واستقلاله المضمونين بمعاهدة تحالف وصداقة تبرم في ظل الحرية والمساواة بين المتحالفين. ويمكن تهيئة الجو السياسي الملائم لتحقيق ما تقدم، بأن يعلن رسمياً باسم فرنسا حق الشعب المغربي في تدبير شئونه في وقت قريب، وبأن تعتبر مصالح المغاربة ذات أسبقية في بلادهم، مع الصيانة التامة لسيادة البلاد واستقلالها الوطني)،
هذا ما جاء في المذكرة التي قدمها حزب الشورى والاستقلال إلى الجنرال جوان المقيم الفرنسي، وهو صريح في النص على تحقيق (استقلال البلاد من طريق المفاوضات)، وهذا الذي دفعني إلى كتابة ما كتبت عن حزب الشورى والاستقلال، وهو الذي دفعني إلى أن أتوسل إلى الصديق محمد بن الحسن الوزاني (أن يفئ إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه(760/6)
خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشرّ الناظرين، لا يقربها إلا مقاتلا مجاهداّ رافعاً باسم بلاده وحريتها وكرامتها واستقلالها)، كما جاء في آخر كلامي. وقد تحدث الأستاذ العلمي إلى مندوب الأهرام بما يطابق هذا المبدأ، بيد أنى رأيته في اليوم الثاني يوقع على ميثاق لجنة التحرير الذي ينص نصاً صريحاً على أنه لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال. فهذا تناقض بين لا ينقضي منه العجب، كما ينقضي عجب القارئ حين يقرأ كلمته في الرد علىَّ فيراه يقول إني أزعم (أن زعماء تونس والجزائر في القاهرة يرون رأى علال الفاسي في القعود وعدم المفاوضة)، ثم قوله إنه يؤكد لي (أن فكرة لا مفاوضة هذه إنما نشأت منذ قريب لا أجد داعياً لاشتغال قراء الرسالة بها)، ومعنى ذلك أنه يرى أن عدم المفاوضة قعود عن الجهاد، وأن كلمة (لا مفاوضة) كلمة مستحدثة لا عهد لحزب الاستقلال ولا لحزب الشورى والاستقلال بها، ثم يختم مقاله بأن يؤكد لي بأنه (لن يدخل في أية مفاوضات إلا بعد إعلان الاستقلال)!! فهذا تناقض مُرٌّ شديد المرارة.
وأنا لا أكتب هذا لأرد على الأستاذ العلمي، فإن هذا التناقض العجيب المر الشديد المرارة، جعلني أرى أن لا فائدة من الرد، ولكنى آثرت أن أعرض على القراء سيئاً كنت أخشى أن يفوتهم الاطلاع عليه، وهم في حاجة إلى الاطلاع على مثله.
وأما ما جاء في كلامه من ذكر فلان وفلان من رجال المغرب، فلست أنبري، ولا يحق لي أن أنبري، للدفاع عنه، لأني كما قال الأستاذ: (غير متفطن إلى أنى أتحدث عن بلاد لم أرها، وليس لي من أسباب العلم بها وبأهلها إلا القليل أو ما دون القليل)،
بقى شئ واحد يشق على مثلى أن يرضى عنه، وهو إقحام الأستاذ لأسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي في معرض هذا التناقض المر الشديد المرارة. فهذا البطل الذي نشأنا منذ الصغر ونحن نمجد اسمه، ونسمو بأبصارنا إليه، ونحوطه بقلوبنا وإيماننا، ونجعله المثل الأعلى للعربي الأبي الذي لا يقبل ضيماً ولا يقيم على هوان، هو نفسه الذي علمنا بفعله لا بلسانه أنه (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، فقد هبّ أسد الريف وانطلق يجاهد بالسيف. وأنى أن يسلم للفرنسيس والأسبان شيئاً إلا سيفه بعد أن تقطعت أسباب الجهاد بالسيف. وأعرض عن كل مهادنة بينه وبين الفرنسيس والأسبان. واحتمل بلاء النفي والتعذيب صابراً راضياً مستعيناً بالله على أعدائه. أفلم يكن مما يرضى الفرنسيس(760/7)
والأسبان أن يهادنهم هذا الأسد ويفاوضهم ولا شك. ولكنه لم يفعل. فمعنى ذلك كما فهمناه وكما فهمه الناس هو أن أسد الريف يرى رأياً واحداً هو أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، ولذلك احتمل، وصبر صبر المؤمنين الذين لا يفتهم عن الحق عذاب ولا نفى ولا تشريد. وإذا لم يكن الأستاذ العلمي قد فهم هذا من بطولة أسد الريف، فليحدثنا إذن ما فهم؟ وفيم كان صبر أسد الريف وبطل العرب على البلاء الغليظ عمراً طويلا تحيا فيه رجال وتموت رجال؟ وفيهم كان جهاده وقتاله واحتماله رؤية أبنائه وهم يسقطون في ميدان الوغى بين يديه؟ أفعل كل ذلك ليفاوض، فيأخذ شيئاً ويغضي عن أشياء؟ حاشا لله.
أما الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني، فأنا لم أرده بإساءة كما أراد الأستاذ العلمي أن يقول، بل كان كل كلامي منصباً على المبدأ الذي جاء في المذكرة المرفوعة إلى القيم الفرنسي الجنرال جوان، وهو مبدأ المفاوضة في الاستقلال، وهو مبدأ فاسد لن يسكت قلمي عن هدمه وتقويضه، ولو قال به أعز الناس علي وأكرمهم في قلبى، وهو عندي مذهب أقلية، ولو قالت به أمة بأسرها. وسأبقى ما حييت أدعو الأمم التي ابتليت بالاستعمار إلى مبدأ واحد هو أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، فهو عندي مذهب أكثرية، ولو لم يقل به إلا فرد واحد طريد شريد لا يجد في الأرض مكاناً يؤويه، أو عشيرة تنصره، أو أذناً تسمعه. وكل حزب يدعو إلى المفاوضة، فهو عندي حزب بغير شعب ولو تبعته الجماهير المضللة، وكل زعيم يدعو إليها فهو زعيم بغير شعب، وأن استطاع أن يجمع الألوف تصرخ من ورائه مؤيدة وناصرة. وقد كتبت هذا مرات في قضية مصر والسودان، وفي قضية العراق، وفي قضية الهند. فكل ما جاء في كلامي عن حزب الشورى والاستقلال، فهو مبني على هذا الأصل، وأظن أن الأستاذ الوزاني يعرف هذا مما قرأه من كلامي منذ قديم، وأظن أنه فهم من كلامي عنه غير الذي فهم الأستاذ العلمي، وأظن أنه لم بغضب حين قرأ ما كتبت مثل الغضب الذي احتمل الأستاذ العلمي حتى كتب ما كتب، ما كان ينبغي أن ينزه عنه قلمه البليغ الجريء.
وأنا أختم هذه الكلمة بأن أدعو صديقي محمد بن الحسن الوزاني إلى صراط الحق، إلى أن (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال)، وأتوسل إليه مرة أخرى أن ينسي نفسه، وأن يملأ قلبه إيماناً بالحق الأعظم، وهو حق شعبه وبلاده في الاستقلال والحرية والكرامة، ذلك(760/8)
الحق الذي لا يتجزأ ولا يقبل مفاوضة ولا مهادنة، وأدعوه إلى الجهاد الشديد في سبيل هذا الحق الذي لا تستطيع فرنسا ولا إسبانيا ولا بريطانيا ولا الدنيا كلها مجتمعة أن تمحو منه شيئاً أو تغير منه قليلاً أو كثيراً.
أيها الزعماء كونوا يداً واحدة، ولتكن دعوتكم واحدة، واصبروا في جهادكم، ولا تفاوضوا عدوكم في حق شعوبكم، ولا تخاذلوا ولا تدبروا ولا تقاطعوا فتذهب ريحكم، واعلموا أن المفاوضة ليست سوى ملل من طول الجهاد ومشقته، وأن الملل من كاذب الأخلاق، وأن الزعيم لا يكون زعيماً إلا بأخلاقه، وقوام أخلاقه الصدق في كل شيء - في العداوة والصداقة، وفي الحب والبغض، وفي الرضى والغضب. سدد الله خطاكم، ومهد لكم سبيل الهدى، وطهر قلوبكم من كل كذب لا خير فيه.
محمود محمد شاكر
-(760/9)
في مستشفى الكلب
للأستاذ نقولا الحداد
قصدت بعد أن عضني الكلب إلى مستشفى الكلب المجاور للقصر العيني. وكان أول ما أنعش نفسي أن رأيت على باب المكتب الداخلي لوحة كُتب عليها ما مفاده: - أنشأ هذا المستشفى الدكتور محمد باشا شاهين لعهد وزارة دولة صدقي باشا، وقد افتتحه رسمياً المغفور له الملك فؤاد الأول في أبريل سنة 1932. فقلت في نفسي: كم كانت لشاهين باشا غفر الله له من مآثر جسام في مصلحة الصحة قبل أن صارت وزارة! وكان أول وزير لها، ثم توفاه الله إلى جواره بعد بضعة أسابيع مأسوفاً عليه. (أقول هذا لأني كنت على صلة صداقة خالصة به كل حياته. وكنت أذيع مآثره في الجرائد والمجلات كما يعلم كثيرون من أصدقائه وأصدقائي.
قدمت نفسي إلى مدير المستشفى؛ وكم كانت دهشتي عظيمة حين علمت أن هذا المدير هو الدكتور إبراهيم بك شاهين نجل المغفور له مؤسس هذا المستشفى. وعجبت أن ملامحه الرضية وسماحة محياه ووداعته استظهرت في مخيلتي صورة أبيه محمد باشا - سبحان من خلق وسوَّى.
وكان الدكتور إبراهيم يتوقع قدومي لأني رأيت أن نبأ عقر الكلب لي قد سبقني إلى المستشفى وسُجل في سجل (الحجاج) إليه. ورأيت فيه اسمي وعنواني وحادث الكلب نفسه الذي عقرني. فعجبت من هذه العناية والتدقيق في تناول المعلومات عن حوادث الكلب من المستشفى الكلاب في العباسية تلفونياً كل يوم. فقلت له: (هب أني لم آت إليكم للعلاج) قال (نطلبك أولاً وثانياً فإن لم تأت كان ذنبك على جنبك)،
قلت: وهب إني لم آت لظني أن الكلب سليم ثم ظهرت علىَّ الأعراض، أفلا يخشى أن أعدي أحداً؟ قال: نعم يحتمل أن يتلوث شخص آخر بلعابك فيصاب. فقلت: وهل يجدي العلاج حينئذ؟ قال كلا. لا يجدي علاج بعد ظهور الأعراض. وما جنت ألا على نفسها براقش. ولكن ما من أحد اشتبه بعقر الكلب إياه إلا أسرع إلى المستشفى إذا لم يكن غبياً. وستنزعج قليلاً من الحقن بالمصل كل يوم مدة 15 يوماً. قلت أليس العذاب في سبيل الحياة خيراً من العذاب في سبيل الهلاك، العذاب الذي لا يطاق والذي لا يريحني منه إلا(760/10)
الموت.
وجعلت أتردد كل يوم في الميعاد المعين 15 يوماً إلى أن أمنت الداء وحصلت على مناعة سنة كاملة. وعلمت أن ذلك الكلب التعس نفق في اليوم الثاني في المستشفى.
قلت يوماً لمدير المكتب، إن هذا المستشفى نعمة عظيمة للناس لا تقدَّر بمقدار. قال: ليت الناس كلهم يعرفون هذا. نأتي بكثير منهم بالوعد أو بالوعيد لكي نعالجهم مجاناً لوجه الله فلا يلبثون أن يهربوا. والذين يُجاء بهم من الأرياف ينزلون في المستشفى فيعالجون من جراحهم ويحقنون بالمصل ويأكلون ويشربون وينامون مجاناً ومع ذلك لا يرضون!
قال لي أحد أطباء المستشفى وهو الدكتور عزمي توفيق إن في المستشفى نحو 170 سريراً في طابقين من البناء، وإذا زاد عدد المصابين على عدد الأسرَّة دبرناهم بالتي هي أحسن. فنضع الطفل منهم مع شخص آخر في سرير كبير مثلاً، وقد يكون عندنا في وقت واحد نحو 220 مصاباً أو أكثر. ومن كان له أقارب في القاهرة ينزل عندهم ويتردد على المستشفى فيبقى محله لغيره.
قد يدهش القارئ إذا علم أن هذا المستشفى يعالج أكثر من عشرة آلاف مصاب في السنة يعطيهم فيها نحو 150 ألف حقنة من اللقاح الذي يحضر في المستشفى عدا معالجة الجراح. لا تكون الإصابات من عضة كلب فقط، بل تكون من الحيوانات الأخرى كالحمار أو الجمل أو الحصان أو الدجاج. لأن هذه تسعر كالكلاب ويعدى بعضها بعضاً وتعدى الإنسان، فإذا عقر الحيوان الكبير إنساناً فقد يكسر ساقه أو يسحق ذراعه أو كتفه. وهذه الجروح تستغرق وقتاً طويلاً وعلاجاً متواصلاً فضلاً عن الحقن بالمصل.
والمصل يحضر في معمل المستشفى فيُستعمل طازجاً في اليوم الثالث من تحضيره النهائي. ويحضر اللقاح من مخ الأرنب أو دماغه. ويمكن أن يحضر من مخ أي حيوان مصاب. ولكن الأرنب أرخص الحيوانات ثمناً وأسهلها مراساً. ويستعمل لهذا الغرض كل يوم نحو 50 أرنباً تقريباً يقدمها متعهدون للمستشفى.
وأما كيفية تحضير المصل فدراسة فكهة، وهي أن تجرح جلدة قمة رأس الأرنب جرحاً بقدر سنتيمترين وتقلب إلى الجانبين ليظهر من الجمجمة قدر القرش الصغير. ثم تثقب الجمجمة ثقباً صغيراً، ثم يحقن النخاع بنقطة من سائل فيه ميكروب الكلب، ثم يضمد(760/11)
الجرح ويعاد الأرنب إلى مأواه. وفي اليوم الرابع أو الخامس تظهر عليه أعراض الداء. يبدأ بشلل في قوادمه، ثم تتزايد الأعراض بضعة أيام إلى أن يدنو الموت فيذبح الأرنب ويؤخذ نخاع رأسه لتحضير المصل منه.
وبينما كانت هذه العملية تعمل أمامي قلت: مسكين هذا الأرنب! ما ذنبه حتى تثقب جمجمته لكي تزرع في دماغه جرثومة الكلب ثم يقاسي آلام الداء وأخيراً يُقتل.
فقال الدكتور عزمي توفيق الذي كان يريني سلسلة عمليات المصل: حقاً إنه لظلم. ولكن إذا علمت أن الأرنب يفدى ثلاثة أو أربعة من المصابين بهذا الداء العقام لا يعود يصعب عليك أن يؤلم أرنب لكي يوقي أربعة أشخاص من آلام لا تطاق. ويظن أن الأرنب أقل إحساساً من الإنسان بالآلام.
يوضع خمسون جراماً من نخاع الأرنب في هاون وتدهس دهساً شديداً حتى تصبح كالعجين الرخو. ثم تمرث بواسطة شاشة سميكة في محلول من الملح النقي 7 بالألف، وعشرة بالألف من المغنبول. تمرث رثاً دقيقاً حتى تخرج من الشاشة مستحلباً دقيقاً جداً ليس فيه كتل البتة، ثم يصب في زجاجة خاصة بسعة لتر وتكمل الزجاجة من المحلول الملحي نفسه. بعد ذلك تودع الزجاجات في ثلاجة مدة 24 ساعة. وفي أثناء ذلك تفحص (عيَّنة) منها فحصاً بكتيريولوجياً لئلا يكون قد تطرق إليها مكروب آخر أجنبي. ومتى ثبت أن ليس فيها مكروب ولا جراثيم حية يصبح المصل صالحاً للاستعمال.
قال الدكتور عزمي: ولكن في جميع عملياتنا لم نجد المصل ولا مرة ملوثاً بأي مكروب. على عملية الفحص البكتيريولوجي لابد منها للاطمئنان على سلامة من نعالجهم.
في هذا المصل مادة مولدة من نمو المكروب في مخ الأرنب تسمى أنتجن هذه المادة تولد في جسم الشخص المحقون أخرى تسمى (ضد الجسيمات) ولها وظيفتان: الأولى أنها تتلف المادة السامة التي تولدت من مكروب الكلب بأنها تتحد معها فتتكتلان أو ترسبان، وفي كلتا الحالتين تبطل قوتهما السامة والثانية أنها تحرض كريات الدم البيض على التمام المكروب، أو بالأحرى أنها تهيئ المكروب أو تطبخه ليكون غذاء لهذه الكريات التي تعتبر جنود الجسم المدافعة عنه في مدة العلاج التي تتراوح بين عشرة وعشرين يوماً حسبما يتراءى للطبيب من ظروف الإصابة، يهلك الميكروب وينعدم سمه وينجو المصاب من العذاب(760/12)
والموت، وقاك الله.
مكروب الكلب لا يرى تحت الميكروسكوب ولا تمنعه مصفاة
ويقدر حجمه بنحو15000 من الملليمتر فتأمل: ذرة لا ترى
بمجهر (ميكروسكوب) ولا تفرز بمصفاة تفعل هذا الفعل
الفظيع بهذل الإنسان الجبار! بالله ما أضعف هذا الإنسان تجاه
أحقر المخلوقات. فحتى متى هذه النفخة يا إنسان! إن جرثومة
صغيرة جداً كجرثومة الكلب أو الكولرا أو الملاريا تبيد من
البشر إذا لم تتق أكثر مما تبيد القنبلة الذرية.
ليس في القطر المصري غير هذا المستشفى للكلب. وإنما توجد وحدة صغيرة في الإسكندرية بإدارة الهلال الأحمر. وقد تقرر أن تتخذها وزارة الصحة وتجعلها مستشفى تاماً تحت إدارة مستشفى القاهرة. وسينشأ أيضاً مستشفى آخر في أسيوط أو في الأقصر، وآخر في بور سعيد أو السويس ويكونان بإدارة مستشفى القاهرة - فألف شكر للحكومة الجليلة!
وكنت أود أن أعيذ القارئ من تصديع خاطره بوصف أعراض هذا الداء الخبيث لولا أن البحث يبقى ناقصاً. فأوجز الوصف ما أمكن لكي يعرف الجمهور خطر هذا الداء العقام ويتخذ الحذر الشديد من التعرض له وتعريض الآخرين. وعند أقل شبهة في كلب أو حيوان يجب أن يعرض الحيوان على الطبيب البيطري، والطبيب وضعه تحت المراقبة حتى إذا اشتدت الشبهة أعدمه.
ومن نكد الدنيا أن هذا المكروب اللئيم لا يتبوأ عرشه إلا في دماغ فريسته، فيجعل جميع الجهاز العصبي تحت سلطانه. وهذا هو سر ما ينجم عنه من الآلام؛ لأن الجهاز العصبي مصدر اللذة والألم. وتكون العدوى بعقر المخلوق المعدي إنساناً أو حيوانا أو تلويث أي غشاء مخاطي فيه كالفم أو أي جرح أو خمش أو سجح بلعاب الحيوان المسعر (المسعور)، وفي بحر أسبوع إلى أسبوعين تظهر الأعراض وأحياناً ندرة تتأخر شهراً أو أشهراً.(760/13)
في الإنسان تبتدئ الأعراض بهبوط عقلي وخوف شديد وهلع وترديد الكلام اللغو. ثم الهياج العصبي والاضطراب الجسدي. ثم تفقد الشهية للطعام ويستمر الأرق والصداع والشعور بما لا يطاق من الاضطراب الفظيع.
ثم يتعذر الازدراد بسبب شلل الحلقوم والبلعوم إلى أن يستحيل البلع، فيكره المصاب السوائل ويخاف منها وينزعج من رؤية الماء ومن سماع خريره من صنبور. ويصبح حساساً جداً لكل باعث خارجي أو حركة أو صوت أو منظر.
ثم يتشنج ويتلوى ويمتد الشلل إلى أطرافه وأحياناً يشخر ونخر فيحسبه المشاهدون نابحاً أو عاوياً. وأحياناً يعض أي شيء، ولكن لا يلبث أن يرتخي فكه الأسفل ويتدلى، ويمتلئ فمه لعاباً كثيفاً لزجاً لا يستطيع أن ينفثه أو يبتلعه، وبالطبع يشتد عطشه، ولكنه لا يستطيع الشرب ولا المضغ؛ وتطرأ عليه حمى عالية. ومتى بلغت هذه الأعراض أشدها تضعضع العقل وذهب الوجدان وأشرف المصاب على الموت الساعة بعد الساعة.
ولو كان فقد الوجدان يبتدئ مع الأعراض لكان المصاب قليل الشعور بالألم ثم عديمه. ولكن وا أسفاه يبقى واعياً شاعراً متعبا إلى أن يقترب ملاك الموت. وقد تدوم هذه الأعراض يومين أو ثلاثة أو أكثر قبل أن يرحمه الله ويريحه من هذا الجحيم بسل روحه من جسده - اللهم رفقاً بعبادك - ترى لو أعطى المصاب جرعات من المورفين في العضل أما تخفف عنه هذه الآلام؟
أما وقد عرف القراء عذاب هذا الداء وعجز أي دواء عن تخفيف آلامه أو عن شفائه، أفلا يجدر بهم أن يأخذوا حذرهم من كلابهم المحبوبة ومن اختلاطه بكلاب أخرى؛ أو ما يجب عليهم أن يقضوا عليها في الحال بلا شفقة ولا أسف إذا ظهرت بعض الأعراض للطبيب البيطري سواء كانت الأعراض مشككة أو مؤكدة لئلا يقع البلاء في الأهل؟ أو ما عليهم إذا لامسهم لعاب الكلب المصاب أن يسرعوا إلى هذا المستشفى الكريم لاتقاء المرض؟
نقولا الحداد
في مراكش:(760/14)
ذكرى الجهاد الوطني
للأستاذ عبد الكريم غلاب
تستقبل مراكش ذكرى جهادها الوطني وهي أشد ما تكون حماسة وأقوى ما تكون إيماناً بعدالة قضيتها، وأحقيتها في أن تنال حريتها واستقلالها، كاملا ناجزاً، غير مشروط بقيود، ولا مغلل بأغلال.
وتستعرض الأمة المراكشية في هذه الذكرى السنوات الأربع التي مرت منذ أن قدمت (وثيقة الاستقلال) في 11يناير من سنة 1944 فتجدها حافلة بالكفاح المجيد من اجل حرية الوطن واستقلاله.
وتتلفت حول نفسها لترى ما قطعته من أشواط في سبيل هذا الكفاح فتجد نفسها وقد تقدمت قضيتها إلى الأمام، حتى أصبحت من القضايا العربية الهامة في المحيط العربي، والمحيط الدولي. كما أصبح مركزها في داخل البلاد أقوى من أن تقف فرنسا أمامه مكتوفة اليدين، تنظر إلى نفوذها يتحطم، ثم يتقلص ثم يصبح مهدداً بالزوال بين غمضه عين وانتباهها.
أليس في ذلك كله ما يجعل مراكش تستقبل هذه الذكرى وقد تضاعف إيمانها بأن الحق سيتغلب وإن أعوزته القوة المادية؛ وسينتصر وإن تغلبت عليه قوة الشر وطغيان الرجعية الاستعمارية، وتجمد عقلية المسيطرين على هذه البلاد.
لقد كانت الأمة المراكشية تكافح في صمت، وتناضل في شجاعة، وسيف المعتدين مصلت فوق رؤوس الأحرار، وسياط الرجعيين تلهب ظهورهم، وأبواب السجون مفتحة في وجوههم، والمنافي السحيقة معدة لاستقبالهم، والعالم كله في غفلة عما يجري في هذه البلاد النائية من ظلم واضطهاد وقال تشريد، وأبواق المعتدين تبشر العالم بما قدموه للإنسانية وللحضارة البشرية وللديانة الإسلامية من خير وبركة، في هذا البلد الذي أسعده الحظ فوقع تحت سيطرتهم، وشملوه برعايتهم وحمايتهم.
ولكن مراكش الحية المكافحة تحدت كل هذه القوى - والحرب مشتعلة الأوار - وأعلنت عن مطالبتها بالاستقلال التام، واتحدت كلمة أبنائها حول هذه الغاية. فكانت الدهشة التي غمرت الفرنسيين، وكان الانتقام الذي دفعتهم إليه جراحهم الدامية التي سببتها الهزيمة المنكرة. وكانت مدافعهم وعتادهم الحربي وجيوشهم - البيض منهم والسود - في خدمة(760/15)
الطغيان المنتقم، وكانت المجازر البشرية الكبرى التي شهدتها فاس وسلا والرباط وغيرها من المدن والقرى المراكشية.
ولكن ذلك كله لم يكن غير وقود ألهب عزيمة المراكشيين وقوى إيمانهم. وكانت محنة امتحن بها صبر هذه الأمة المجاهدة المكافحة فاجتازت الامتحان وخرجت منه وهي اصلب عوداً وأقوى شكيمة وأشد مراساً.
ولم تكن المحنة التي ابتليت بها الأمة المراكشية محنة الشعب وحده، ولكن جلالة ملكها الشاب كان أول من خفق قلبه لما يبيته الفرنسيون لشعبه؛ فأعلن تأييده لوثيقة الاستقلال، ووقف مع أمته يكافح لتحقيق الحرية والاستقلال، ويتزعم الحركة بنفسه، فيدفع عنها الأذى، ويلتف الشعب من حوله فيعلن رئيسه الأعلى إرادة أمته في شجاعة وعزم وإيمان، على رغم ما تعرض له جلالته من تهديد، وما حف حول العرش العلوي من أخطار. ولكنه الإيمان - الذي امتلأ به قلبه الكبير - بحق بلاده في الحياة الحرة الكريمة دفع به إلى الميدان، حيث واصل جلالته الكفاح إلى أن زار مدينة (طنجة) لا ليؤكد وحدة مراكش فحسب، ولا ليتصل بشعبه في شمال البلاد فقط؛ ولكن ليعلن للعالم كله أيضاً أن مراكش تريد أن تستقل، وأنها بلاد عربية مسلمة ستربط مصيرها بالبلاد العربية في الشرق، وستعمل جاهدة على أن تنال حريتها وتحافظ على استقلالها. وبذلك تزعم المليك المحبوب الفكرة الاستقلالية. ويكفي أن يتزعم المليك الحركة لنضمن لها وسائل النجاح ولتسير على هدى وبصيرة إلى الغاية المقصودة.
وهكذا كانت الأمة المراكشية بزعامة ملكها تطلب شيئاً واحداً، وتسعى لغاية واحدة، هي الاستقلال التام الناجز.
واليوم ومراكش تحيى ذكرى جهادها، وتستعيد مراحل هذا الجهاد أثناء السنين الماضية، لتبتهج بما آلت إليه القضية المراكشية بعد هذا الكفاح الصادق الذي يقوم به أبناؤها المخلصون داخل البلاد وخارجها، تحت راية الوطني الأول جلالة الملك محمد الخامس. فقد كان من فضل هذا الجهاد أن آمن الشعب المراكشي بأن حياته لن تستقيم ما دام الأجنبي يسيطر على موارد هذه الحياة، ويخنق فيها الحيوية المتدفقة، ويميت فيها الشعور الحي. وكان من ذلك أن جند الشعب نفسه لمكافحة هذا الطغيان الأجنبي الذي يتشبث بأذيال(760/16)
مراكش تشبث الحريص ولمناهضة وسائله التي يتخذها حتى فشلت كلها؛ برغم تغيير المشرفين عليها، وبرغم الخطط التي اتبعها هؤلاء المشرفون وما أحاطوا به مشروعاتهم من ضمانات النجاح. ولأول مرة في مراكش شعر الفرنسيون بأنهم في حاجة إلى أساليب جديدة لمواجهة الشعور الوطني ولمقاومة الفكرة الاستقلالية التي تمكنت من قلوب الشعب، فأصبحت خطراً على كيانهم ووجودهم في مراكش. ومن ثم بدأ المقيم العام يفكر في تغيير معاهدة الحماية لا لتتخلص منها البلاد، ولكن ليستطيع أن يحكم وهو في حل من أية معاهدة تقيده، ومن أية سلطة تعطيها هذه المعاهدة للملك، وذلك هو الذي أوحى إليه بفكرة (فترة الانتقال) الذي وضع مشروعه الجديد على أساسها. وهكذا يحلم المقيم أن يحكم مراكش وقد تخلص من القيود التي تتمثل في سلطة الملك العليا. ولكن الشعور القومي في البلاد قد تنبه إلى هذه الألاعيب وأعلن (حزب الاستقلال) على لسان الشعب أن (لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال) وبذلك سقط المشروع الجديد الذي أراد المقيم الفرنسي أن يحكم البلاد على أساسه. وكانت الضربة القاضية التي ذهبت بالمشروع وأصحابه مذكرة جلالة الملك إلى رئيس الجمهورية الفرنسية التي أذيع خبرها أخيراً، وارتجت لها الدوائر الفرنسية؛ فقد شعر جلالة الملك بأن المقيم يريد أن يلعب لعبة يقضي بها على ما بقي لمراكش من كيان، فأرسل جلالته مذكرته هذه يحتج على تصرفات المقيم ويؤكد مطالبته باستقلال بلاده. وهكذا تنهار السياسة الفرنسية في مراكش أمام عزم المليك، ويقظة الشعب؛ وحرص الأمة على استقلالها التام الناجز.
وكان من فضل هذا الجهاد الوطني أيضاً أن أصبحت قضية مراكش قضية البلاد العربية كلها، وأصبح لها دوي في الشرق العربي وفي أوربا وأمريكا. فقد كان الاستعمار من قبل يقوم باعتداءاته الصارخة دون أن يسمع لهذه البلاد صوت، ودون أن يتردد صدى أنينها في خارج البلاد، وذلك بفضل النطاق الحديدي الذي ضربته فرنسا على بلاد المغرب العربي حتى تمكنت من كبت كل صوت يرتفع، والقضاء على كل حركة تحررية. ولكن الحركة الاستقلالية في المغرب العربي أخذت عدتها هذه المرة فأصبح لها مكاتب عدة في الشرق العربي وفي أوربا وأمريكا. وقامت هذه المكاتب بفضح أعمال الاستعمار الفرنسي، فأصبح صوتها مدوياً في البلاد العربية، وربطت قضية مراكش بالقضايا التي تكافح(760/17)
الجامعة من أجلها، وأصبح صوتها أيضاً في أوربا وأمريكا مسموعاً. وبذلك استحال على الإدارة الفرنسية أن تقضي على الحركة الاستقلالية، أو أن تخلق في البلاد اتجاهاً يرمي إلى الإصلاح بدل الاستقلال، دون أن تثير عليها الأمة العربية جمعاء ودون أن يتردد صدى ذلك في العالم كله.
وكان هذا سبباً في انهيار المشروعات الاستعمارية التي طالما بيتتها الإدارة الفرنسية لبلاد المغرب العربي.
وهكذا أخذت الحركة الاستقلالية في مراكش تضرب نطاقاً من حديد على الاستعمار الفرنسي فتحطم صروحه واحداً بعد الآخر، وتعد البلاد المراكشية لتحمل أعباء الاستقلال والتحرر من طغيان الرجعية الاستعمارية.
وتحل ذكرى الجهاد الوطني اليوم والمراكشيون منهمكون في كفاحهم، يقودهم وببارك حركتهم مليكهم الذي تزعم الحركة الاستقلالية فدفع بها إلى الأمام ورسم خطتها، فأصبحت تهدف إلى غاية واحدة.
عبد الكريم غلاب(760/18)
فاس عاصمة الأدارسة
للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي
بقيام الخلافة العباسية تبدأ صفحة جديدة في تاريخ العلويين تختلف تمام الاختلاف عما ألفناه في عهد بني أمية؛ فهم في هذه المرة يلجون إلى وسيلة جديدة لمناهضة أعدائهم وتحقيق أغراضهم.
هذه الطريقة الجديدة هي الانتشار في الأقطار الإسلامية بعيداً عن العاصمة وعيون الخلافة ومحاولة إنشاء خلافة علوية.
وربما كان العلويون في ذلك قد اهتدوا بهدي العباسيين عندما بعثوا بدعاتهم إلى البلاد الشرقية ولا سيما خراسان حيث نمت دعوتهم وترعرعت. وإذا كانت الخلافة العباسية قد وجدت من الظروف والملابسات ما ساعدها على القيام في المشرق فإن العلويين قد وجدوا في بلاد المغرب ظروفاً أخرى مشابهة ساعدتهم على تحقيق أغراضهم؛ فهي بعيدة عن مركز الخلافة بعداً كافياً يساعدهم على العمل والحركة بالإضافة إلى ما كان يسود تلك الجهات من تذمر بين اهلها الذين رأوا الغبن ينزل بهم رغم ما أبدوه من مساعدة فعالة للعرب في فتوحاتهم في أسبانيا، ولكنهم لم يقاسموهم الأغنام بل ولم يخفف الولاة ما كانوا يفرضونه عليهم من ضرائب. وبجانب هذا كله كانت النزعة الاستقلالية عند البربر في شمال أفريقية مازالت متحفزة تتحين الفرص لإظهار نفسها. وقد عانى العرب الكثير من جراء ذلك في سبيل إخضاع هذا الإقليم. لذلك كان أهله على استعداد للترحيب بأي داع للخروج على الخلافة العباسية في بغداد، وهذا ما نستطيع أن نعلل به انتشار مذهب الخوارج هناك وبالتالي المذهب الشيعي.
أما متى وكيف وصل الأدارسة إلى المغرب الأقصى وكيف استطاعوا إنشاء دولتهم هناك فهذا ما يمكن تلخيصه في السطور التالية.
على أثر فشل الحركة التي قام بها الحسين بن علي بن الحسن المثلث في عهد الخليفة الهادي تفرق أتباعه ومن بينهم عمه إدريس ابن عبد الله الكامل الذي فر إلى مصر صحبة مولاه وأمينة راشد ابن مرشد الزبيدي ومنها إلى شمال أفريقية بمساعدة الواضح صاحب بريد مصر الذي كان يبطن العقيدة الشيعية. وهناك أخذ يتنقل بين مدن المغرب الأقصى(760/19)
حتى انتهى به المطاف في مدينة وليلى حيث أكرمه أميرها إسحاق بن محمد زعيم قبيلة أوربة البربرية وأكثرها عدداً.
ولما علم إسحاق بحقيقة أمره وتأكد من صحة نسبه تنازل له عن إمارته وطلب من قبيلته وبقية القبائل الأخرى مبايعته فأجيب إلى طلبه.
وهنا يحق لنا أن نتساءل هل فعل إسحاق ذلك لاعتقاده أحقية إدريس في الإمارة دونه فأقدم على هذه التضحية في سبيل مبدئه، أم فعل ذلك لأغراض سياسية؟ ربما كان السبب الثاني أقوى للأخذ به؛ ذلك أن مظهر التضحية في سبيل العقيدة يتنافى مع ما كان عليه هذا الأمير من اعتناق لمذهب الخوارج في أول الأمر ثم تحوله إلى المذهب الشيعي. والواقع أن هذا الأمير أراد بسلوكه هذا أن يكسب لقومه أكثر مما خسر؛ فهو يأمل أن تقام هناك دولة في شمال أفريقية يكون له فيها ولأتباعه من البربر نفوذ كبير بعد أم يئسوا من إنصاف العرب لهم. فكأنهم كانوا يرمون إلى إنشاء دولة يكونون فيها العماد الرئيسي كما كان للفرس النفوذ الأكبر في العصر الأول للدولة العباسية. ويمكننا أيضاً تعليل هذا النجاح الذي صادفه إدريس في أول أمره بأنه كان قد اصطحب معه مولاه راشد بن مرشد الزبيدي وهو على ما قيل بربري الأصل أُسر أبوه في إحدى غزوات موسى بن نصير، فلما رجع مع إدريس إلى موطنه الأصلي كان خير مساعد له على بسط نفوذه هناك. هذا إلى ما كان عليه إدريس من ذكاء خارق وحسن سياسة؛ يتجلى لنا ذلك عندما أراد أن يشغل أتباعه حتى يضمن ولاءهم له، فخرج غازياً ناشراً الدين الإسلامي في البقاع المجاورة التي لم ينتشر فيها بعد.
هكذا وضع إدريس النواة الأولى لدولة الأدارسة في مدينة وليلى، واستطاع أن يكتسب صداقة الحكم بن هشام أمير الأندلس الذي أرسل إليه وفداً يهنئه بالأمارة الجديدة ويطلب إليه التحالف على من يناوئهما؛ فقابل الوفد بالحفاوة والإجلال. ولا شك أن الأغراض السياسية هي التي وحدت وقاربت بين نظريهما.
خاف الرشيد استفحال خطر إدريس بالمغرب الأقصى فسعى للتخلص منه؛ ولكن كيف السبيل إلى ذلك وهو على بعد لا يساعده على إرسال الجيوش للقضاء عليه؟ استشار في ذلك يحيى بن خالد البرمكي فأشار عليه بإرسال من يستطيع قتله فلقيت هذه الفكرة قبولاً(760/20)
في نفس الرشيد فعول على تنفيذها. وإذا كانت الروايات قد اختلفت في طريقة دس السم لإدريس، وهل أرسل إليه الرشيد مباشرة شخصاً لتنفيذ ذلك أو كلف إبراهيم بن الأغلب لإرسال من يقوم بهذه المهمة فإنها قد أجمعت كلها على وفاة إدريس مسموماً.
وعلى أي حال لم ينقرض حكم الأدارسة بموت إدريس الأول على رغم أنه لم يترك من يخلفه، وربما كان ذلك راجعاً لإخلاص البربر وحسن تدبير راشد السابق الذكر الذي استطاع أن يقنعهم بضرورة الانتظار حتى تضع كنزة جارية إدريس البربرية طفلها فإن كان ذكراً بايعوه، وإن كان أنثى أجمعوا رأيهم على من ينتخبوه. وتحقق الأمر ووضعت كنزة طفلاً هو إدريس الثاني الذي قضى عصر الوصاية كله في فتن لما كان يظهره إبراهيم بن الأغلب من تحرش بأتباعه. ولما كبر ذاع اسمه وأتته الوفود من سائر البلاد. وكان ممن وفد عليه خمسمائة فارس من أفريقية والأندلس من القيسية ولأزد والخزرج ومدلج وبني يحصب. فأكرم الإمام وفادتهم وأجزل صلاتهم وقربهم ورفعهم وجعلهم بطانته دون البربر. وربما كان هذا راجعاً إلى أنه كان يرى نفسه وحيداً بين البربر. ولكن الأمر ما لبث أن تطور إلى تفضيلهم علانية على البربر الذين انقلب عليهم فاستوزر رجلاً من العرب هو عمير بن مصعب الأزدي بدل إسحاق بن محمد الذي أنزل به غضبه فقتله رغم ما أداه لوالده من جلائل الأعمال بحجة موالاته لإبراهيم ابن الأغلب. وربما كان إدريس في عمله هذا غير محق؛ فهو قد اعتمد على البربر وتأييدهم ولولاهم ما وصل أبوه ولا هو من بعده إلى هذا المركز. ثم هو أيضاً يمت بصلة القربى إلى القبائل البربرية من جهة أمه، فتمرده عليه مظهر إن دل على شيء فهو يدل على حب التحرر من القيود والشعور بالخوف من البربر؛ وليس هذا بغريب في تاريخ قيام البيوت الإسلامية؛ فالخلافة العباسية في أول قيامها اعتمدت على العنصر الفارسي حتى إذا ما وثقت من نجاحها انقلبت عليه. وكذلك الحال في الخلافة الفاطمية؛ فالعوامل السياسية والأهواء الشخصية تتحكم كثيراً في مجرى الحوادث التاريخية.
ولما رأى إدريس الثاني أن الأمر قد استقام له، وأن مدينة وليلى لم تعد صالحة لأن تكون عاصمة لدولته عزم على الانتقال منها إلى مدينة يقوم بتخطيطها فيسكنها هو وخاصته وجنوده ووجوه أهل بيته. وربما كان إدريس في بنائه لهذه المدينة الجديدة وأعنى بها مدينة(760/21)
فاس مدفوعاً بعامل آخر هو ما اعتدنا ملاحظته عند قيام أي خلافة أو دولة إسلامية جديدة حتى يكون التجديد عاماً شاملاً. واختيار العواصم الجديدة ليس من الأمور السهلة؛ فهو يحتاج إلى دراسة وخبرة بالأمكنة المختارة حتى تؤدي العاصمة الغرض من إنشائها.
وقع بصره على جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه وطيب تربته واعتدال هوائه فأمر ببناء العاصمة في سفحه. وبدأ العمل بسورها، ولكن ما لبث أن انحدر سيل من أعلى الجبل فهدم ما كان قد بناه من السور وحمل معه ما كان حوله من خيام العرب، فاضطر أن يرحل عن هذا المكان فانتقل إلى وادي سبوا فأعجبه المكان ولكنه خاف كثرة مياهه حتى لا تتكرر الحوادث. وأخيراً ترك أمر اختيار مكان عاصمته الجديدة لوزيره عمير بن مصعب الذي وفق كل التوفيق.
ذلك أن عميرا قد استمر يختبر البقاع حتى انتهى به المطاف إلى العيون التي ينبع منها نهر فاس، فلفت نظره كثرة عددها وقد سالت مياهها فسار مع مسيل الوادي حتى وصل إلى موضع مدينة فاس فأعجبه المكان إذ هو في وسط منبسط يفصل تلال الساحل عن جبال الأطلس الكبرى، وعلى الطريق الرئيسي الذي يعبر هضاب الأطلس، وحيث تلتقي أهم طرق مراكش البرية، وحيث يبدأ المخرج النهري لهذه الناحية وأعني به نهر سبوا الذي يصب في المحيط الأطلس والذي يعتبر أكبر أنهار مراكش. نظر عمير إلى ما بين الجبلين فإذا غيضة ملتفة الأشجار بها خيام من شعر لقبائل من زناته يعرفون بزواغة وبني يزغة فرجع إلى مولاه وأخبره بنتيجة بحثه فتفاءل إدريس باسم مالك هذه الجهة عندما عرف أنها ملك لقوم من زواغة يعرفون ببني الخير فاشتراها منهم.
(البقية في العدد القادم)
مصطفى بعيو الطرابلسي
ليسانسيه في الآداب من جامعة فاروق الأول(760/22)
معاني الفلسفة
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
تفضل صديقي الأديب الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن فكتب عن كتاب (معاني الفلسفة) كلمة، فلا يسعني إلا أن أشكره على ذلك، فقراءة الكتاب دليل على العناية، ونقده أدل في الرعاية.
وصديقنا يمتاز بخصلة حميدة هي التواضع، فما كاد يقرأ الرأي الذي دعوت إليه من أن إنسان ما دام يفكر فهو صاحب فلسفة، حتى نظر إلى نفسه فأدرك آخر الأمر أنه (ككل إنسان عادي ليس فيلسوفاً مشتغلاً بالفلسفة. وأدرك أن نظرة كل إنسان إلى الحياة لا تسمى فلسفة، ولا يسمى صاحبها فيلسوفاً)،
ولا شك عندي أن التواضع هو الذي صرف الأستاذ عبد الغني عن الانتساب إلى الفلسفة، والدخول في زمرة الفلاسفة، لأنه يقنع بصحبة الأدب والانتساب إلى الشعراء؛ كأنه يريد أن يقول إن الشعر والفلسفة يتعارضان فلا يلتقيان ولا يجتمعان، ولهذا ضرب المثل بشاعرين وقال (وإلا لكان زهير بن أبي سلمى الشاعر الحكيم فيلسوفاً بسبب هذه الحفنة من النظرات التي وضعها في معلقته، أو كان أبو العلاء المعري فيلسوفاً بما له من وجهة نظر خاصة في الحياة)،
الشعر لا يتنافى مع الفلسفة، فقد عبر الفلاسفة الأقدمون عن آرائهم نظماً، وفي اليونان كثير من الفلاسفة سجلوا فلسفتهم في قصائد، مثل اكسانوفان الذي دعا إلى الوحدانية، وبارمنيدس صاحب الفلسفة المثالية. وإذا كان الأمر كذلك فلم يجد كثير من النقاد بأساً أن يسمعوا أبا العلاء المعري فيلسوفاً، حتى لقد اشتهر بفيلسوف المعرة، وجرت هذه العبارة على الألسن وشاعت بين الأدباء.
وعندي أن النزعة الجديدة التي نجدها عند فلاسفة اليوم من الاتجاه نحو تعريف الفلسفة بمعناها الواسع، فتشمل جميع الناس والخلاف بينهم في الدرجة، ومن الانصراف عن المعنى التقليدي الذي ساد في العصور القديمة والوسطى، هذه النزعة ترجع إلى قرنين من الزمان. ذلك أن ديكارت، أبا الفلسفة الحديثة، دعا في القرن السابع عشر إلى أفكار جديدة، كانت أساساً للحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية والعقلية التي نحياها الآن. فهو يستهل(760/23)
أعظم كتبه أثراً، مقال عن المنهج، بقوله: (العقل السليم أكثر الأشياء توزعاً بين الناس بالتساوي)، وإنما يقع الخلاف بينهم في المنهج الذي يسلكونه في التفكير. ولقد أدت هذه الدعوة إلى المساواة القائمة على أساس من المساواة في العقل، إلى الثورة الفرنسية التي نشبت تطلب الحرية، والإخاء، والمساواة. ونجحت الثورة، وأصبحت المساواة في الحقوق السياسية وأمام القانون حقيقة ثابتة اعتنقتها جميع الدول، وقامت عليها الدساتير.
أليس غريباً بعد ذلك أن نبيح الحقوق السياسية لجميع الناس، ثم نقصر حق التفكير على بعض الناس دون بعضهم الآخر، لأن التفكير هو النظر ومعرفة حقائق الأشياء، فيترتب على ذلك سلوك كل إنسان في الحياة بمقتضى تلك المعرفة، ولا يهمنا أن يكون ما يعرفه زيد صحيحاً أو فاسداً، وإنما يهمنا أنه يعتقد بما يعرف، وأنه يزعم أنه يعرف.
وهل يوجد من هو معصوم من الخطأ، أو يبلغ مرتبة الكمال في التفكير؟
ولقد كان هذا التعريف مقبولا عندما كانت الفلسفة تشمل كل فرع من فروع المعرفة، أو بمعنى أصح عندما كانت العلوم فروعاً من شجرة الفلسفة. فلما بدأت العلوم تستقل وتنفصل واحداً عن الآخر، لم يبق للفلسفة موضوع في زعم بعض المفكرين، وأن موضوعها عند البعض الآخر هو البحث في العقل، ذلك الذي يبحث في العلوم نفسها وفي المسائل الإنسانية التي تتعلق بالسلوك وقيمته من خير وشر.
فإذا كان الأمر كذلك فقد ارتدت الفلسفة إلى ما كانت تبحث فيه أيام سقراط، إذ انصرف عن البحث في الطبيعة إلى البحث في الإنسان.
ولذا قيل إن سقراط هو الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. فإذا عرفنا ذلك لم نعجب إذا رأينا سقراط يعلم حكمته في الأزقة والملاعب والأروقة وفي كل مكان، ويلقيها على كل إنسان. ذلك أنه كان يعد المعرفة صادرة عن باطن النفس، ولهذا يكفي أن ينعطف المرء على نفسه ويتأمل فيها ليصل إلى الحقيقة؛ وهذا هو السبب الذي من أجله اتخذ الشعار المكتوب على معبد دلفي (اعرف شعار نفسك) شعاراً له.
فالفلسفة السقراطية لم تقصر هذا الفن على فئة دون فئة، بل ذهبت إلى أنها حق مشاع لكل إنسان، يهتدي إليها بالتفكير والنظر.
ولقد كانت الفلسفة في عهد سقراط حية، تدور على الألسنة وتصيغ حياة الناس في أعمالهم.(760/24)
وهذا هو الذي نريده ونرمي إليه: أن تكون الفلسفة حية تخرج من (الأبراج العاجية) حيث تنحصر في اصطلاحات يعلم الله إذا كان أصحابها يفهمونها أو لايفهمونها، لتنزل إلى ميدان الحياة، فإن كانت جديرة بالوقوف على أقدامها بحيث تقبلها (العقول السليمة) التي حكي عنها ديكارت، كانت جديرة بالحياة. والرأي الذي أدعو إليه الآن من إشاعة الفلسفة في كل إنسان، هو أجدر الآراء ملاءمة للعصر الذي نعيش فيه، عصر الديمقراطية والحرية.
ومهما يكن من شيء فالمسألة خلاف بين القديم والجديد: رأى القدماء أن الفلسفة جماع الأفكار المنظمة عن الكون والإنسان، ورأي كثير من المحدثين أنها الأفكار عن الكون والإنسان، أما تنظيمها باصطلاحات خاصة وبشكل خاص فليس هذا ضروريا.
ذكر الأستاذ آدم نوكس، أستاذ الأدب بجامعة اكسفورد في مقدمة كتابه عن أفلاكون وكيف ينبغي أن نقرأ محاوراته، يقول ما فحواه: إن الذين كانوا يقرءون أفلاطون كانوا يهدفون طول الوقت إلى استنباط قصده وفكره، ويحملون النصوص فوق ما تطيق. وليست هذه الطريقة هي أجدر الطرق في معالجة كبار المؤلفين. ولن تكون هذه الطريقة هي الطريقة المثلى لفهم شكسبير مثلاً، ولو أنه كان فيلسوفاً كبيراً على طريقته. ولكنه لم يكن الفيلسوف صاحب المذهب أو الفيلسوف قبل كل شيء)
)
فالأستاذ آدم ذوكس يعد شكسبير فيلسوفاً، وفيلسوفاً على طريقته الخاصة، وهي أن لكل إنسان نظرة في الحياة. ولا بعده فيسلوفاً على المعنى الضيق المصطلح عليه.
وهو كذلك يعد أفلاطون فيلسوفاً حسب النزعة القديمة، ويريد أن يجعل منه أديباً فناناً قبل أن يكون فيلسوفاً، لأن محاوراته تعد من روائع الأدب والفن الرفيع.
وإني أعتقد أن الأستاذ عبد الغني لو عاد إلى نفسه وتأمل فيها على الطيقة السقراطية لتبين له أنه على هذا المعنى، فيلسوف. . . ولكن إلى حد ما.
أحمد فؤاد الأهواني(760/25)
الوكر المهجور. .!
للأستاذ عبد العزيز الكرداني
هذا العش الوداع الجميل لمن يا أخت تهجرين؟! هذا الوكر الدافئ من يؤرث مسراته ومن يخمد جذوات أحزانه. .؟!
من يستقبل رواده ومن يشيع ضيفانه ومن يقف ببابه يهش لمقدم راعيه؟!
من يرفع بأنامله الدقيقة ستائر منافذه الشفيفة، ويطل من خلالها بعينين زائغتين لهيفتين، تترقبان أوبة حاميه_والقلب واجف، والدمع مهراق. .؟!
من يهون عليه رحلاته الجاهدة في خضم الحياة؟ من يبارك فتوته وينضد عقود أمانيه؟. .
من يكفكف عبرته، من يضم رأسه المثقل العاني إلى صدره الرحيب الحاني؟ من يزيل عن جبهته أو ضار الكلالة والسآمة والكمد. . .
من؟ من غيرك يا أخت؟!
هذا العش الودع الجميل، لمن يا أخت تهجرين؟! من غيرك يدب في أرجائه دبيب الروح في الهيكل المبعوث؟ من غيرك يحيل (الكلمات) بين جدرانه الصماء كائنات حية، تضفي على جمادات الحياة، وبفيض على أحيائه الحيوية، وتنسكب في النفس بلسما للجراحات، وتكون للمشاعر المضطربة والأهواء الحائرة مثابة، وتكون للقلوب عن كل خطب داهم موجع سلوى وتعزية؟
من؟! من غيرك يا أخت؟!
هذا الوكر الدافئ الجميل - يا أخت - هو (الطيف) الذي يغازل تهاويل الصبا المراهق. . هو (الفجر) الذي يعانق آمال الشباب الوضئ اليافع، هو (الفكرة) الملحة المخامرة لذهن الرجولة الواعية العاقلة، هو (العزاء) للكهولة الجاهدة الصابرة، هو (الرحمة) الهابطة على حطام الشيخوخة العاجزة الفانية، هو (الحلم) الذهبي السرمدي لكل عذراء استهدت فطرتها الكاملة!
هذا الوكر الدافئ الجميل - يا أخت - هو موضع السويداء من قلب الإنسانية، هو جوهرها وحقيقتها الخفية، هو الملاذ لها في كل أحوالها، هو الغطاء الساتر لضعفها، هو النشيد المستحث لخطاها، هو المحط الذي ترتد إليه بعد كل سعي دؤوب، وإثر كل إخفاق أو(760/26)
فلاح. . .!
فمَن غيرُك - يا أخت - يخلع على هذا الوكر معناه؟ من غيرك يعطيه مغزاه ويهبه قداسته؟!
من؟ من غيرك يا أخت؟
هذا الأصوات الناعبة بالحرية المزعومة، هي الشبح الذي يطارد هناءتك، هي المعول الذي دك أنوثتك، وأوهن بناء عزتك هي (الديدبان) الراصد لمميزاته وخصائصه، يحصيها واحدة واحدة، ليفنيها واحدة إثر واحدة. . .!
هذه الأصوات الناعبة بالحرية الموهومة - يا أخت - هي ذلك (الساحر الخبيث)، الذي أر تخص معدنك النفيس. . .!
عبد العزيز الكرداني
مسابقة لطلاب السنة التوجيهية (1، 2)(760/27)
فيدون
للأستاذ كمال دسوقي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
- وهنا - وبعد هذه الأدلة على خلود الروح التي قدمها سقراط - ما يزال بسيمياس وسيبيز بقية من شك تبدو في تهامسها - حتى إذا استوضحهما سقراط جلية رأيهما في تدليله على خلود الروح تقدم سيمياس، فشكك في إمكان البحث عن حقيقة الروح ما دمنا في هذه الحياة، ورأى مع هذا أن البحث عن كنه الروح ومصيرها أمر لابد منه - ثم قدم للتشكيك في أدلة سقراط نظريتهم الفيثاغورسية القائلة بأن الروح هي انسجام عناصر البدن واتساقه - والتي لو أخذنا بها لجاز أن تفتى الروح قبل فناء الجسد - على نحو ما يفنى النغم المنسجم الإلهي لمجرد تمزق أوتار القيثارة أو تحطمها مع بقاء مادتها.
وهنا يشاء سقراط أن يعارض فيثاغورية بفيثاغوري، فيحث سيبيز على مناهضة زميله، ويقول هذا إنه يؤمن بأزلية الروح في عالمها الأول - ولكنه لا يعتقد بخلود الروح في عالمها الآخر. وهو إذ ينكر عليها الخلود لا ينكر قوتها وسموها وبقاءها على ضعف البدن وخضوعه وفنائه، وليس ينهض لديه دليلاً على هذا الامتياز ما يقول به العامة من ضرورة بقاء النساج بعد موته زمناً أطول لأن آخر معطف قام بنسجه لم يزل باقيا. بل كل ما يدل عليه هذا التشبيه أن كل روح تفنى عدة أجساد كما أفنى النساج عدة أثواب - ومن يدري - فلعلها لكثرة ما تعاني من إرهاق التولد والوفاة وتكررهما تفنى ذات مرة إلى الأبد. دون أن نحس بها يكون لنا بمصيرها علم - إذ لا قدرة لنا على تتبعها في كل جسد جديد تحل فيه. وعلى هذا - فما لم نستوثق من خلود الروح إلى الأبد - لم نزل نرهب الموت.
ويأخذ هذا القول من نفس السامعين، ومن نفس الذين يقص عليهم فيدون بعد - كل مأخذ - فيرتابون ويشكون في كل ما قيل، ويعاودهم الجزع والإشفاق على مصير الروح، ولكن سقراط يستجمع فطنته ولباقته ليستأنف الجدل أقوى مما كان. وليطمئن المجتمع على أن أرواحهم بعد الموت لن تذروها الرياح، فيداعب خصلات شعر فيدون، ثم يحذر من المغالاة في كره المنطق، وعدم الثقة بالناس نتيجة الجهل بالعلم، وقلة الخبرة في اختيارهم - وكون أكثرهم شريرين وأقلهم أخياراً - والمآل كذلك في البراهين والأدلة، التي يظهر لنا كبار(760/28)
المجادلين أكثرها باطلاً وأقلها حقاً فيكرهون إلينا الأدلة فلا نثق بها أو نوقن بمعرفتها - ويحاول سقراط أن يبين لمحدثيه حقيقة موقفه من الجدل، وبعُده عن أن يخدعهما أو يخدع نفسه، ثم يطلب إليهما أن يقوِّماهُ إذا أخطأ، وأن يعملا معه لنصرة الحقيقة.
ويعود سقراط إلى تلخيص شكوك صاحبته في قضية أو قضيتين، ثم ينتزع منها إقرارا أكيداً على ما في قوله بالتذكر وأزلية الروح من طرافة وصدق لا يشكان فيه، ثم يناقض هذا التسليم منها برأيها في الروح كاتساق للبدن، قائلا إنه إذا كانت الروح تشبه انسجام النغم، وكان البدن هو أوتار القيثارة ومادتها فلا يعقل أن يكون للروح توافق قبل وجود البدن الذي هو القيثارة في مذهبهما. بل لابد - لو صحت نظريتهما - ألا يتم توافق الأصوات والنغم إلا بعد الأوتار وتنافرها - كما أنه يفني قبلها جميعاً. وينتهي بهما سقراط إلى ضرورة إسقاط أحد الرأيين، فيطرح سيمياس مبدأه لأنه ظني، ويسلم بنظرية التذكر لأنها عنده يقينية - ويستطرد به سقراط فيبين له أن الانسجام نتيجة تناسق الأجزاء، ولهذا كان يتدرج بين التناسق التام والتناسق الأقل - تبعاً لتفاوت تناسق الأجزاء في ذاتها كعناصر - مكونة لهذا المركب، وأن الروح إذن تصبح تنافراً فيما لو اتصفت بالرذيلة، لأن الروح هي دائماً التي تقود الجسد، وتفرض عليه رغباتها - فلا هي إذن في انسجام معه - ولا هي نتيجة له كالأنغام للقيثارة.
ويردد سيبيس مخاوفه الأولى من فناء الروح لحلولها في عدة أجساد، فيرى سقراط أن هذا يمت بصلة إلى موضوع الكون والفساد. ويقترح أن يدلي إليهم فيه بتجربته. ومؤداها أنه فتن منذ حداثته بالعلم الطبيعي ظناً منه أنه العلم الذي يبحث علل الأشياء - من أين توجد - إلى أين تصير، وفيم كان وجودها وفسادها، وما العنصر الذي تفكر به. . الخ ولكنه لم يجد لدى هذا العلم ما يقوله في هذه الأمور، وطبيعي ألا يجدها - فما يريده هو ليس من مباحث علم الطبيعة - ولكنه إلى الميتافيزيقا أدنى - والنتيجة أن تحثه عن علل هذه الأمور في علم الطبيعة قد شككه في أبسط معارفه - ثم إنه وجد بغيته في عبارة قيل له إنها توجد في كتاب لأنكساغوراس (وهي أن العقل هو العلة المدبرة لكل شيء) فراح يسعى وراءه ويعلق عليه آمالا كباراً - حتى إذا جاءه لم يجده سيئاً. . . لقد كان سقراط يبحث حينئذ عمن يقول له، إن الكون في أحسن صورة له - وأن ليس في الإمكان أبدع(760/29)
مما كان - ولكنه - يا للأسى!. وجد أنكساغوراس بعد أن ألقى بعبارته الجميلة - هذه جزافاً - يبعد في تفسيرها عما كان يريده سقراط أن يفعل - فأين إذن قوله بالعقل - وفيم إذن رجوعه إلى ما قال الأولون من خلط؟ لقد كان ينبغي عليه أن يعلل بقاء سقراط قابعاً هكذا في سجنه - بأن العقل هو الذي يشير عليه بهذا ما دام الأثينيون قد أرادوا ذلك ولو ظلماً - لا أن يأتي بتعليلات أخرى ولو كانت هي العلل الحقيقة في على الطبيعة، هو يريد من علم الطبيعة أن يبحث عن العلل الخفية والأسباب البعيدة - لا القريبة. . التي يسميها هو حالة - وبالجملة يريده أن يعلل كل شيء يرده إلى قوة عليا مدبرة تتصف بالعقل والخير والكمال، وهو ما لم يجد سقراط من يستطيع أن يعلمه إياه.
وعاد سقراط من دراسة هذه المذاهب خاوي الوفاض، وكل همه أن يبقى على عين بصيرته، ونقاء روحه - أو (عيانه) - الذي يستطيع به أن ينفذ إلى باطن الأشياء يتأملها ويتعرف حقيقتها، ويفض يده من الأشياء ليبحث عن صورها الكاملة في عالم المثل - وقولة: (هذا سبيلي التي سلكتها: فرضت بادئ الأمر مبدأ. . . . ثم أخذت أثبت صحة كل ما اتفق معه. . . الخ ص264 من الترجمة العربية) حجة يجب أن يقف عندها طويلا طلاب المسابقة - لأنها تثبت لسقراط السبق في القول بنظرية المثل كما عرضت لأول مرة في محاورة برمنيدس، باعتراف أفلاطون - وهو كاتب الحوار - ولكن مناقشة زينون وبرمنيدس إلايليين لهذه النظرية الجديدة التي يعرضها سقراط وهو في العشرين من عمره (سنة 450 ق. م - كما تدل عليه ظروف المحاورة) - قد حملت هذه المناقشة سقراط على التراجع والحذر، والعمل على أن يجمع لنظريته الأدلة التي تقويها - حتى لا يهاجمها أحد آخر غير هذين، دون أن يتحدث عنها إلا في ظروف خاصة، وفي هذه الحجة وحدها ما يكفي للرد على المؤرخين الذين لا يريدون أن يعترفوا لسقراط بنصيب في نظرية المثل.
إن الأشياء الجميلة توحي إلينا بالجمال المطلق، والخِّيرة بالخير المطلق، والعادلة بالعدل المطلق؛ فهذا مثل كلية مطلقة تذكرنا بها الأشياء الجزئية النسبية التي تدركها حواسنا، وهذه الأشياء جميلة وخِّيرة وعادلة بقدر مشاركتها في مثال الجمال والخير والعدالة، وكذلك مثل الكبر والصغر والتساوي، وبهذا نكون قد أثبتنا نظرية المثل ومشاركة الأشياء المحسوسة فيها مشاركة نسبية تتفاوت بين الكبر والصغر أو تجمع بينهما بالنسبة إلى شيء وآخر. أما(760/30)
المساواة التامة فلا يمكن أن تصلها الأشياء لأنها لا توجد إلا في مثال التساوي المطلق الذي تنزع إليه هي أبداً.
والكبر والصغر إن أمكن اجتماعهما في شخص بعينه بالنسبة إلى شخص وآخر، فإن مثالي الكبر والصغر لا يمكن إلا أن يكونا متضادين، لأن المثل كلية مطلقة بينما الأشياء المشاركة فيها جزئية نسبية. وبهذا يصح أن يتولد الصغير من الكبير، أو الحي من الميت، دون أن يعني ذلك تولد الكبر من الصغر والحياة من الموت - هي أن الأشياء التي تشارك في مثلها إلى حد كبير فتعارض مع أضدادا تعارض مثلها ذاتها - لأن جزيئاتها تصبح هي الأخرى مشاركة في المثال - كالنار والثلج - كل ذرة أو جوهر فيها مشارك في مثال الحرارة والبرودة. وكالزوجي والفردي من الأعداد - كل وحدة مما يدخل في تركيبها من العدد إما واحد واحد، أو زوج زوج - فالثلاثة ثلاث وحدات، والأربع وحدتين زوجيتين،. . الخ وهذه الأضداد تتعارض وتطارد، حتى يتراجع أحدها ويثبت الآخر. وتراجعه لا يدل على فنائه بل هو مجرد تراجع أمام خصم - أو التسليم له -.
وقس على هذا الموت والحياة، فهما متنافران متطاردان أبداً لا يتضمن أحدهما الآخر، وإن أمكن نشوء الحيِّ من الميت كما كان قرر سقراط - وإذا تأملنا الحياة وجدنا أن لها مبدأ ملازماً وشرطاً ضرورياً لا توجد إلا به هو الروح - وهو لمشاركته الكاملة في مثال الحياة لا يقبل الموت بدوره. فالروح كمثاله الذي يشارك فيه - مثال الحياة - غير قابل للفناء، اي أنه أبدي خالد - ولكنه يتوارى ويختفي - ولا يزول. إذا غلبه خصمهُ: الموت. فالروح الشاركة في مثال الحياة يتصارع عليها مبدأ الخلود والفناء , وحين يتغلب هذا الأخير تتراجع الروح وتختفي ولا تزول - لأنها بطبيعتها خالدة باقية يستحيل عليها أن تقبل ضدها: الفناء - أما البدن فهو الذي يفنى لأنه مشارك من قبل في مثل الموت والفناء.
الروح إذن خالدة أبدية. وهي أحق بالرعاية من البدن الفاني لأن كل خطر يتهدد مصيرها يهددها إلى الأبد - وإذا جاز لنا أن نفرح بخلاص أرواحنا من أجساد=هـ فيجب أن نكون قد هيأنا لها أسباب السعادة بمزاولة الحكمة والفضيلة. فهما زادها إلى الآخرة.
والطريق إلى الآخرة عسير ملتو، لا تهتدي له إلا الروح الفاضلة الحكيمة، حيث تخلد في نهاية في النعيم السرمدي. أما الأرواح الفاسدة الشريرة فتضل طريقها وتمضي متعثرة حتى(760/31)
تستقر في الشقاء الأبدي.
والحياة الآخرة يتقدم سقراط في وصف منازلها ومواضع الأرواح الخيرة والشريرة منها والمراحل التي تمر بها كل من هذه وتلك في نعيمها وسعادتها، أو في عذابها وهو أنها وبألمها، وهو يطلق لخياله العنان في هذا الوصف على ما وقف عليه من كتب الأساطير اليونانية وأقوال الشعراء. ولا يريد أن يقطع بصدق هذا الوصف كما ينبغي أن يفعل الحكيم.
ثم إن سقراط يكرر لأصحابه النصح أن يعنوا بأمرهم ومصير أنفسهم، وألا يدَّعوا ما لا يعلمون فيضروا أنفسهم، وُينبه رفاقه إلى أنهم إنما يوارون منه الثرى الجثة وحدها. أما الروح فهي صائرة إلى النعيم، وفي هذا عزاء الأقريطون. ثم يعد خادم السم أن يبادله جميلا بجميل، ومعروفاً بمعروف، فلا يؤذيه ولا يسوءا كما يفعل غيره عند موتهم. وحين يعود يستوضحه سقراط طريقة تعاطي السم، ثم يصلي، ويتجرع الكأس.
ويتباكى الرفاق فيهدئ سقراط روعهم ويخفف لوعتهم - ويرميهم بالجبن والأنوثة، ويوصى بدين كان له على إسكلابيوس ثم يسلم الروح. . .
كمال دسوقي
المدرس بالمنصورة الثانوية
شاعرة ترثي أباها
حنانك قلبي كفاك انهيارْ ... فما من شِراك المنايا فرارْ
أما كُنت تعلمُ أن المنايا ... كُؤُوسٌ على كل حي تُدار
أديرتْ على الخلق من آدم ... كُؤوسُ المنايا فلم تنج دار
أبي كان بيتك كهفاً رحيباً ... وأنساً بكل صديق وجار
فما ردَّ باُبك ذا حاجةٍ ... وكنْت المجير إذا الدهر جار
كريم الخلال جوادٌ بما ... لدْيك وقد شحَّ أهلُ اليسار
أَبي كُنت لي في حياتك نوراً ... هداني كما يُهتدي بالمنار
فهلاًّ عن الموْت حدَّثتني ... وعمَّا نُلاقي بتلك الدَّيار؟(760/32)
كأني سمعتُ الملائك إذْ ... تلقوك بدرا عليهم أنار
وقالوا اتخذْ منْ جنان الخلوُ ... د مقرَّاً رحيباً فنعم القرار
أَيا حُرقة الشوق لو كان قلبي ... حديداً لأردي به الانصهار
أبي كنت للعين والقلب نوراً ... فما لك أبدلت نوراً بنار
سَرتْ في ضلوعي وحاقت بقلبي ... فأسعفْته بالدُّموع الغزار
فلا النَّار ولت ولا العين كفت ... ومالي بهذا الفراق اصطبار
فعجَّلْ إلهي بصبر جميلٍ ... فمالي سواك به يُستجارْ
ناهد طه عبد البر(760/33)
من وراء المنظار
من أدلة المروءة
الناس يغذون في السير إذ يغدون إلى أعمالهم ولا تزال الشمس حمراء الخيوط فاترة الأشعة، وما من أحد إلا وفي مشيته النشاط والجد، وما من شارع إلا وقد دبت فيه الحياة أو تمثلت فيه أنماط من صور السعي إلى الرزق، وكل امرئ في شغل بسعيه عن غيره.
ومررت بباب أحد الفنادق الكبرى، فإذا بغانية كأن وجهها زهرة نَّضرتها أنسام الفجر وأنداؤه، وكأن عينيها نجمتان تخلفتا عن المغيب، وكان يضع خدم الفندق متاعها في سيارة من سيارات الأجرة، بينما كانت تحمل على ذراعها معطفها وفراءها وعدداً ليس بالقليل من ثيابها. . . وسقط ثوب على الأرض فأسرع ثلاثة أو أربعة من شبابنا يتنافسون في السبق إليه، وظفر أحدهم بالتقاطه فأزال عنه الغبار بمنديله وقدمه إلى الغانية مزهواً مسحوراً بابتسامتها؛ وهذه مروءة منه لاريب، ونحن قوم أولو مروءة، فلا تحسبن أن مرد ما فعل ذلك الشاب إلى ما جذبه من جمال. ولو أنها كانت عجوزاً فهل تشك في أنه كان يسعى إليها؟ إنك إذن لمن الجاحدين. . .
ومضيت أغبط الفتى على مروءته، أو قل أحسده على ما ظفر به جزاء على فعلته، وأذكر ليلة الأمس إذ نزل من النادي أحد الكبراء من أصحاب الديوان، فدفعت المروءة بعض الأساتذة الأماثل إلى الحفاوة به: فهذا يفتح له باب السيرة، وذلك يحنى له رأسه، بل لقد رأيت فيهم من عظمت مروءته فحمل له معطفه على ذراعه من أعلى النادي فناوله إياه في سيارته. ولكن أحداً من هؤلاء لم يظفر بشيء كتلك الابتسامة الحلوة التي ظفر بها من الغانية هذا الشاب الذي لا يزال منى على خطوات.
وبينما تنهال على ذهني صور تلك المروءات التي هي إحدى صفاتنا العامة، آمنت بذلك أو لم تؤمن، إذ التفت على صوت (موتسيكل) انقلب براكبه الشاب الأنيق وتفجرت منه النيران وقد اشتبك سروال الراكب المسكين بأحد أجزائه فما يستطيع النهوض، وعلقت النار بثيابه، وكلماهم وقع من الرعب ومن نشوب ثوبه بالحديد وهو يفرك النار عن ثوبه بيديه في لهفة ولا يدرى ماذا هو فاعل، وإنه ليدور بعينيه مستنجداً في صورة من الرعب لا توصف، وذلك الشاب ذو المروءة الذي يحترق من بنى وطنه. ولا تسلني بالتقصير(760/34)
أهون عندي من أن تعيب على الفخر.
واشتعلت النار في ثياب ذلك المسكين، وأيقن الناس أنه هالك لا محالة، وكلهم ينظرون وكأنهم لا يرون شيئاً، حتى أقبل كهل مقبع ليس من بنى جلدتنا وليس له مثل مروءتنا فخلع معطفه وكان والله جديداً ثميناً وألقاه على الشاب المحترق وضرب عليه بكفيه فأطفأ النار، ثم خلص الشاب وأعانه حتى بلغ به الطوار وأجلسه ثم نادى زميلا له ممن يتقبعون وإن كان حاسر الرأس ليستدعى الإسعاف، ولبث يقلب البصر في بدن الشاب ويهدئ روعه ويسأله عما أصابه من حروق ويهون عليه الأمر حتى جاءت عربة الإسعاف فحملته وهو يسأل ذلك الذي أنقذه عن اسمه وعنوانه ويلح عليه فلا يزيد على أن يبتسم له قائلا: (الحمد لله! مرسى يا حبيبي)،
وتناول الرجل معطفه ومضى مطرقاً هادئاً لا ينظر إلى ما أصاب المعطف من احتراق في أكثر من موضع، وكأنه لم يفل شيئاً، ونحن ينظر بعضنا في وجوه بعض نظرات حمدت الله أن كان فيها شئ من الخزي لم يغرق كل الغرق فيما كانت تقطر من بلادة.
ولم أمض غير بعيد حتى أبصرت عربة انزلق أحد جواديها في منعطف فخر وجذب الجواد الثاني حتى كاد يخنقه، ووثب الحوذي ينهض الجواد وحده فما يستطيع؛ فيستغيث الناس قائلا (يا هوه! يا مسلمين!) حتى جاءه بعد لأي رجلان فأعاناه مكرهين.
وقلت في نفسي إن الدابة في القرية تقع في الترعة، وإن النار تعلق بالدور فيقبل الشباب والكهول من كل صوب للنجدة لا ينتظرون دعاء ولا يحفلون أذى. أيكون مرد ذلك إلى أن أهل القرية يعرف بعضهم بعضاً؟ أم أن مرده إلى أنهم أهل نجدة لم تفسد المدنية فطرتهم؟ لست أدرى. ولكن ذلك المقبع ليس من أهل القرية، ولا هو من أهل هذه المدينة!
الخفيف(760/35)
أناهيد
للأستاذ شفيق معلوف
(وجعل العرب الزهرة امرأة بغياً مسخت نجما وكان اسمها أناهيد) (الجاحظ)
- 1 -
وبعدما عرا ... خرافةَ الذهول
جمجم وانبرى ... من كهفه يقول
في غابر الأزمان ... مضى يحث السرى
ركب من العربان
حتى إذا جرى ... يوغل في السهول
إذا به يرى ... من حوله الخيول
تضرب بالحافر صدر الثرى
معقوفة الذيول ... منصوبة الآذان
تقطَّع الأرسان
وترجع القهقري
وأرغت النياق ... ذعراً وجرجرت
وشالت الأعناق ... ثم تقهقرت
وانطلقت في القفر أي انطلاق
وشب في الصحراء
عاصف نار ونور
يمد في الديجور
عنقه للسماء
ثم علا شيئاً فشيئاً يدور
في قبة العوالم الشاسعه
حتى غدا شمساً فبدراً يغور
فكوكباً فنجمة ساطعه(760/36)
- 2 -
ولملم العربان أشتاتهم ... واسترجعت هدوءها البيد
وانطلقوا إلى كثيب به ... شعاع ذاك النجم مشدود
فأبصروا فوق الثرى غادة ... لم تتشح بحسنها غيد
لها محيا هو زين الصبا ... من كبد الصباح مقدود
ساكنة الحس فلا صدرها ... رف ولا أهدابها السودُ
ونهدها ذاو كما لو ذوت ... على دواليها العناقيد
سمراء أغواها الردى فالتوى ... على يد الموت لها جيد
يشخص في نجم العلا جعنها ... كأنه بالنجم معقود
صاحوا أناهيد وراح الصدى ... يزقو أناهيد أناهيدُ
كان في الأرض لها مأتم ... وفي مقاصير العلا عيد
- 3 -
كانت أناهيد بغياً متى ... غفا بفرعيها الفتى يسكر
تقطّر الخمر بكاساتها ... لفتية الحي وتستقطر
ولم يكن إلا جحيم الهوى ... وسادها الملتهب الأحمر
مر على خيمتها فارس ... تبارك الطيب الذي ينشر
كأن عيني مهرة أبدتا ... لها عن الفارس ما يضمر
فاختلجت للحب أعماقها ... واهتز منها الغصن المثمر
وودت السمراء لو لم يكن ... شُق عليها للهوى مئزر
ولا روت ثغر فتى قبلما ... أطل ذاك الفارس الأسمر
ثلاث ليلات تقضت كما ... لوهُن ظل الرمح أو أقصر
لا الفارس الأسمر يفضي إلى ... قلب أناهيد بما يشعر
ولا أناهيد التي جربت ... كل رُقى السحر به تظفر
حتى إذا مالت بأجفانها ... يد الكرى لطول ما تسهر(760/37)
أيقظها ركض جواد جرى ... من بابها محمحما يدبر
فزاحت الستر ومذ أبصرت ... فارسها يلفه العثير
وقد لوى عنانه هارباً ... كأنه الحلم الذي يعبر
راحت أناهيد على إثره ... بحافر الجواد تستأثر
تضرب في البيداء حتى إذا ... أنهكها السير فلا تقدر
لاح لها من جانب المنحني ... مارج نار ضوءه يبهر
وسيد كأن محبوبها ... أطل من مقلته ينظر
صاح بها ويك كفى وارجعي ... ما أنا إلا هُبَل الأكبر
هذا عقاب العهر فليعتبر ... إن ذاق طعم الحب من يفجر
حلت أناهيد له شعرها ... وانطرحت تبكي وتستغفر
وتسأل الإله في ذلة ... لو غدها من أمسها يطهر
فيخلد الحب على جفنها ... وينطوي في قلبها المنكر
فمال عنها هبل قائلا ... والرفق من جبينه يقطر
حبك يا هذي كما شئته ... قلب السماوات به أجدر
واندلعت نار تلوي بها ... ملء البوادي عاصف صرصر
وغل في صدر العلا حاملا ... روح أناهيد اللظى المسعر
وشع في السماء قبل الضحى ... على البرايا كوكب نير
تلك أناهيد لها من عل ... عين على أهل الهوى تسهر
شفيق معلوف
من العصبة الأندلسية(760/38)
الأدب والفن في أسبوع
نشوء القومية في أوربا:
دعت كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول إلى سماع سلسلة المحاضرات العامة التي يلقيها بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية الأستاذ ساطع الحصري الأستاذ الزائر بمعهد التربية العالي للمعلمين، والمستشار الثقافي لجامعة الدول العربية؛ وموضوع هذه السلسلة (الفكرة القومية منذ أوائل القرن التاسع عشر) وهي ست محاضرات، ألقى يوم السبت أولاها، وموضوعها (نشوء الفكرة القومية في أوربا والانقلابات السياسية التي نجمت عنها) وقد تحدث الأستاذ في هذه المحاضرة عن الانقلابات السياسية في خريطة أوربا منذ العقد الثاني من القرن التاسع عشر إلى العقد الثاني من القرن العشرين، فقال إن أهم هذه الانقلابات زوال الدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية وحلول الدول الصغيرة محلها، وحدث عكس ذلك في إيطاليا إذ اتحدت الدول الثمان وكونت إيطاليا الحديثة، كما اتحدت 39 دولة على الأراضي الألمانية وكونت الدولة الألمانية، وانفصلت بلجيكا عن هولندا، كما انفصلت النرويج عن السويد، وتكون على سواحل البلطيق أربع دول جديدة، وهكذا تبدلت أوربا ما عدا إنجلترا وفرنسا وروسيا وأسبانيا. وكان العامل الأصلي في كل هذا التبدل فكرة القومية الناشئة من شعور الأمم بالروابط المختلفة، فتجمع المؤتلف، وتفرق المختلف؛ وكانت النتيجة أن قامت الدولة على الفكرة القومية التي شعر بها الشعب، بخلاف الدول القديمة التي كانت تتكون بحسب قوة الملوك ومقدار بسط سلطانهم وما ينشأ عن معاهداتهم ومصاهراتهم، ولم يكن للشعوب حساب في ذلك لأن الملوك كانوا يتصرفون تصرف المالك المستمد من التفويض الإلهي. ودلل الأستاذ على أن الدول الجديدة لم تقم نتيجة للحروب بل كان منشؤها الفكرة القومية - دلل على ذلك باستعراض الحوادث التاريخية ومقارنة نشأة الدول بقيام الحروب.
وخَتم الأستاذ ساطع الحصري محاضرته القيمة بالإشارة إلى ما يقوله المفكرون في أوربا من أن حركة القوميات انتهت بانتهاء القرن التاسع عشر، ولكن الذين يرددون هذا القول عندنا في الشرق يخطئون، لأن عصر القوميات إذا كان قد انتهى في الغرب لبلوغ حركات القومية مراميها فإنه يبدأ في الشرق لأن ظروفه تقتضي ذلك.
الفنان بين الصعود والهبوط:(760/39)
أراد الأستاذ توفيق الحكيم أن يبرر مسلكه الأخير في الكتابة الذي نعيته عليه في عدد مضى من الرسالة، فأدار الكلام في مقال بأخبار اليوم حول قضية من قضايا الأدب والفن أثارها بهذا السؤال: (هل يجب على الفنان أن يهبط إلى الجمهور أو أن يصعد إليه الجمهور؟) وقد سار بطبيعة الحال في معالجة هذه القضية إلى جانب الهابط إلى الجمهور، محاولاً أن يؤيد مذهبه بالتماس المثال (عند المبدع الأعظم لهذا الكون) لأنه تعالى لم ينتظر من الناس أن يصعدوا إليه، بل رأى أن يدنو منهم برسالته، لا أن يتركهم يصعدون إليها من أرضهم، فأرسل إليهم الرسل وبنى على ذلك أن الفنان هو الذي يجب أن يهبط إلى الجمهور.
لا يا سيدي، إن الله أنزل رسالته إلى الناس، لأنه إله لا يراه الناس ولا يخالطونه ولا يعايشونه، ولكن الرسل الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق تلقوا رسالات الله ولم يهبطوا بها إلى الجمهور بل رفعوا إليها، وما علمنا أن أحداً منهم أسفَّ وابتذل، وهذا نبينا محمد قد أدى رسالته ببلاغة عالية فتح بها آفاقاً في الأدب الرفيع لم يلحقه فيها لاحق.
مرة أخرى: لا يا سيدي، إن المثال الذي أتيت به إنما هو سلم درجاته للصعود وليس به دركات للهبوط. .
على أن الهبوط الذي نعيبه ليس هو الدنو من إفهام الناس ومداركهم لتأدية رسالة، وإنما هو أن يستهلك الكاتب طاقته ويستنفد جهده، ثم يدور ولا يُرى له طحن. . . فيتستر بالتسلية والتلهية، ويدعي أنه يسير للدنو من الناس، وإنما هو في محله يسير!
الفنون في الجامعة الشعبية:
عندما لبيت دعوة الجامعة الشعبية لحضور احتفالها باستقبال هيئة اللجنة الثقافية للجامعة العربية يوم الخميس كان أكبر همي أن أسمع النشيد المقترح للجامعة العربية الذي طلب إلى قسم الموسيقى بالجامعة الشعبية تلحينه، فدعت هذه الجامعة هيئة اللجنة الثقافية إلى سماعه من فريق الأغاني والأناشيد بها.
ولكن كان هذا النشيد أقل شأناً من سائر ما سمعنا وما رأينا في الجامعة الشعبية، رأينا بقسم الرسم والحفر جماعات من أفراد الشعب، هنا ذكور وهناك إناث، قد أقبلوا على العمل في(760/40)
هذين الفنين بدافع ميولهم وطبائعهم الفنية، يشبعون وينمون فيه مواهبهم في المساء بعد أن فرغوا من مشاغل حياتهم في أثناء النهار، ثم دلفنا إلى قاعة المسرح، فما أخذنا بها أما كننا حتى ابتدأت (حفلة العروبة) كما سمتها بحق إدارة الجامعة الشعبية، فسمعنا موسيقى وأناشيد مختلفة: سورية وعراقية ومصرية، وشاهدنا تمثيلاً غنائياً، قام بكل ذلك طلبة مختلطون من أفراد الشعب ظهروا على طبيعتهم في ثيابهم العادية، أسمعونا أصواتاً جميلة وألحاناً عذبة، فكانوا لساناً معبراً عن طبيعة هذا الشعب الفنان.
ولقد تأملت هؤلاء كما وقفت أتأمل من زرناهم في قسم الرسم والحفر، ثم تخيلتهم في غير هذا المكان لو لم تتح لهم هذه الفرص، فذهب خيالي بهم إلى المقاهي وغيرها من أما كن الضياع، ثم رجع بهم حيث هم الآن ينتظمون في دراسات توافق أمزجتهم ويتعهدهم المدربون والمعلون. فقرت عيني بهم وطابت نفسي بما بيسر لهؤلاء المواطنين ورجوت أن بيسر للكثيرين من أمثالهم.
وقد انشعب بي التفكير، لما أطربنا فريق الأغاني والأناشيد بفنون من الموسيقى والتمثيل والغناء، فرأيت أن أقترح على الجامعة الشعبية أن تعمل على تنظيم حفلات تمثيلية غنائية يحضرها أقرباء الطلبة ومعارفهم وغيرهم من الجمهور مقابل أجور قليلة، فتحقق بهذا فائدتين: إمتاع الناس بالفن، واجتناء أرباح تستعين بها على تحسين حال فرقها وتقدمها في مضمار الفن وإني لأرجو أن يتاح لهذه الفرق أن تأخذ (ركنا) في الإذاعة، فلا يقل هذا الركن فائدة - إن لم يزد - عن غيره من (أركان) الإذاعة.
نشيد فلسطين:
سمعنا في (حفلة العروبة) النشيد المقترح للجامعة العربية، فإذا هو - من حيث التأليف ومن حيث التلحين - شيء كغيره، من الأشياء التي نسمعها والتي يسمونها أناشيد وطنية وحماسية وليس فيها من الوطنية غير ألفاظ كالهرم، وليس فيها من الحماسة إلا أصوات ترتفع حتى تصك الأسماع. وقد أحسنت الإدارة الثقافية بتجربته قبل إقراره، وما أخالها إلا قد اقتنعت بأن نشيداً كهذا لا يليق بالجامعة العربية.
ثم سمعنا نشيداً ختمت به الحفلة فكان أحسن ختام، هو (نشيد الجهاد العربي لفلسطين) وقد وفق قسم الموسيقى بالجامعة الشعبية في تلحينه، وأداه فريق الأناشيد أداء حسناً، أما التأليف(760/41)
فلا أحدثك عند حتى ترى شيئاً منه، أوله:
قد بدأنا الكفاح ... وشحذنا الرماح
وامتشقنا السلاح ... وملأنا البطاح
بجيوش العرب
نحن العرب ... نحن العرب
ومنه:
سترى تل أبيب ... حتفها عن قريب
يوم تصلى اللهيب ... والدمار الرهيب
في جحيم العرب
نحن العرب ... نحن العرب
ومنه:
ونصون الصليب ... والهلال الحبيب
وسلام الشعوب ... من مثيري الحروب
وخصوم العرب
نحن العرب ... نحن العرب
فلا ترى فيه التهاويل و (الكليشهات) المعهودة، وإنما يستمد قوته من طبيعته ومن تعبيره عن الحال الواقعة. وقد قدمه مؤلفه الأستاذ حسن أحمد بالكثير إلى الجامعة العربية، فاستحسنته ودفعته إلى الجامعة الشعبية لتلحينه.
الرسالة الثقافية للجامعة العربية:
ألقى الأستاذ سعيد فهيم وكيل الإدارة الثقافية بالجامعة العربية يوم الأربعاء بنادي جبهة مصر محاضرة عنوانها: هل أدت الجامعة العربية رسالتها الثقافية) بدأها بإجمال الجواب عن هذا السؤال فقال إن الجامعة العربية نصبت سلم الثقافة المكون من مائة درجة وارتقت منه خمس درجات، وهي طريقها لارتقاء الدرجات الباقية.
ثم عرض لتفصيل ذلك فقال: من أهم ما قامت به الإدارة الثقافية تكوين قسم إحياء المخطوطات العربية، وقد جلبت أحدث الأجهزة الفنية من أمريكا لتصوير المخطوطات(760/42)
النادرة والقيمة على أفلام صغيرة. وقد أرسلت في صيف سنة 1946 بعثة إلى سورية ولبنان فصورت ما رأته جديرا بالتصوير من الكتب. والتصوير يجري الآن في مصر، وسترسل البعثات إلى البلاد العربية المختلفة لتصوير ما في مكتباتها من المخطوطات. ومما قامت به الإدارة لتشجيع التأليف والترجمة، أن اختارت موضوعين للمسابقة في تأليف كتاب في كل منهما خلال هذه السنة، أحدهما في تاريخ الأندلس من فتح العرب لها إلى خروجهم منها، والآخر في تاريخ البلاد العربية من سقوط بغداد إلى عصر النهضة الحديثة، وخصصت جائزة لكل منهما قدرها 500 جنيه، وخصصت أيضاً 2000 جنيه لتأليف كتاب مفصل في جغرافية العالم العربي تنفيذاً لتوصية المؤتمر الثقافي الأول. أما في الترجمة فهي تعمل في اختيار الكتب التي تحسن ترجمتها، وستختار اللجنة الثقافية عشرة كتب لتترجم على نفقة الأمانة العامة في هذا العام وسيوزع نحو مائتي كتاب على دول الجامعة لتساهم كل منها بطبع قسم من هذه الكتب. وقال الأستاذ إن الإدارة الثقافية تعتزم استخدام الإذاعة والسينما والصحافة في نشر الثقافة العربية، فتذيع من محطات العواصم العربية أحاديث ثقافية وحفلات موسيقية وقصصا تمثيلية وأناشيد ترمي إلى تقوية الروح القومية العربية؛ وستشجع الأفلام السينمائية التي تحقق هذه الغاية، وتساعد على أخذ أفلام في البلاد العربية لتعريف بعضها ببعض، وتساهم في وضع أفلام ثقافية، وفي ترجمة نطق الأفلام الثقافية الغربية إلى العربية؛ وقد قررت استكتاب بعض كبار الكتاب في مختلف البلاد العربية مقالات في الشئون الثقافية، لتنشر في أهم الصحف العربية؛ وستوفد خمسة عشر أستاذا إلى مختلف العواصم العربية للمحاضرة في أهم الموضوعات التي تشغل بال العالم العربي.
وبعد أن تحدث الأستاذ المحاضر عن المؤتمر الثقافي الذي عقد بلبنان في الصيف الماضي، قال إنه يؤمل أن يعقد المؤتمر الثقافي الثاني بالإسكندرية في أواخر الصيف القادم.
وقد عقب الأستاذ سعد اللبان على هذه المحاضرة، فقال بأن الجامعة العربية يجب أن تخرج، في تأدية رسالتها الثقافية، عن النطاق الحكومي، فلا تقتصر على الرجال الرسميين، بل يجب أن تتجه أيضاً إلى غيرهم من رجال العلم والأدب، كما يجب ألا تقصر اهتمامها الثقافي على دول الجامعة الرسمية، بل يجب أن توجه أكبر عنايتها إلى(760/43)
شمال أفريقية الذي يكاد يقطعه الاستعمار عن مصادر الثقافة العربية المشرقية. ونبه الأستاذ سعد على أن البحث عن المخطوطات العربية في المكتبات الغربية أهم من البحث عنها في المكتبات العربية، وقال إنه يرجو أن يكون الغرض من تصوير هذه المخطوطات طبعها ونشرها لا مجرد تسجيلها على أفلام.
العربية تصارع:
لا أشك في أن الحكومة جادة في فرض استعمال اللغة العربية في مكاتباتها وفي إلزام أصحاب المحال التجارية والصناعية بكتابة أسمائها بها. وقد أذاعت أخيراً وزارة الشئون الاجتماعية على هؤلاء تلفت نظرهم إلى ما يقضي به القانون على من يكتب اسم محله بلغة أجنبية دون أن يضع إلى جانبه اسمه باللغة العربية على ألا تكون الأجنبية أكثر بروزاً من العربية، والقانون يقضي على من يخالف ذلك بالحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تزيد على خمسين جنيها أو بإحدى هاتين العقوبتين.
لا أشك في أن الحكومة جادة في تنفيذ كل ذلك، ولكني لا أدري لماذا تستمر، في أختام بريدها، على كتابة التاريخ بلغة أجنبية دون كتابته بالعربية!
إنني أدل وزارة الشؤون الاجتماعية على مصلحة البريد لتلفت نظرها إلى ذلك القانون وإلى ضرورة تطبيقه. . . كما لا أرى بأساً في أن أكون مرشداً لها في غير ذلك، فأدلها أيضاً على شركة المعادي، لتلفت نظرها إلى وجوب تغيير كتابة أسماء شوارع هذه الضاحية الجميلة، بحيث تكتب بالعربية إلى جانب الأعجمية التي هي مكتوبة بها، لأن المعادي جزء من القاهرة عاصمة العروبة.
أكتب ذلك على ذكر المقال النير الذي كتبه في الرسالة الأستاذ وديع فلسطين بعنوان (اللغة العربية تصارع) وإني مطمئن معه إلى ظفرها في النهاية.
(العباس)(760/44)
الكتب
جنة العبيط أو أدب المقالة
تأليف الدكتور زكي نجيب محمود
تمنيت لو لم يكن هذا الكتاب لصديق، إذن لاستطعت أن أوفيه ما هو كفاء له من ثناء في غير حرج، ولكن فيم الحرج، وأنا أنظر إليه بعين النقد وبعين الحب معاً فأتحدث حديث الخبير الواثق؟
لم يعد زكي نجيب في حاجة إلى أن يقدم إلى القراء فقد صارت له في نفوسهم مكانة حميدة بمؤلفاته المجيدة في الفلسفة والأدب، وإنما أقدم كتابه هذا إلى القارئ مغتبطاً أشد الاغتباط، فإن له لشأناً عما قريب في أدبنا واتجاهه وفي جانب المقالة منه بوجه خاص. . .
رأى الدكتور زكي أن المقالة الأدبية في مصر تسير على غير نهج معلوم، فهي تصلح أن تكون خطبة أو موعظة أو جدلاً أو بحثاً علمياً أو تاريخياً أو ما شئت غيرها، ولكنها ليست بسبب من المقالة التي اصطلح عليها نقدة الأدب الإنكليزي في قليل أو كثير، وهو لم يكتب كتابه هذا ليصحح به هذا الوضع، ولكنه كتب مقالاته على غرار ما فهم بعد درس، وأشهد لقد بلغ فيها جميعاً من التجويد مالا ينزل به قط عن مستوى فحول المقالة في الأدب الإنكليزي، ولقد جاء بعضها في نسق لا أتردد أن أقول إني قلما وقعت على نظائره، خذ لذلك مثلاً البرتقالة الرخيصة، والكبش الجريح، وحكمة البوم، وجنة العبيط، وشعر مصبوغ، وبيضة الفيل.
واجتمعت له طائفة من هذه المقالات فأشرت عليه وألحفت أن يطبعها وهو يتردد ويتعلل، ولكني ما زلت به حتى أجابني إلى ما أردت. . . اختار المؤلف اسم أحد مقالاته عنواناً لكتابه فكان جد موفق وهذا الاسم هو جنة العبيط (أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية عدت إلى جنتي أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنان الصقر الهرم، تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه فإذا بغاث الطير تفرى جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته)،(760/45)
ولكم نعمتُ أنا في هذه الجنة وتفيأت ظلالها حتى ما أطيق أن أخرج منها، ولكم عدت إليها، أجل كم عدت إلى هاتيك المقالات أكثر من مرة فما زدت إلا استمتاعاً بها وبأدب صاحبها ولكم أعجبت بهدوء نقمته وصدق نظرته وعمق فكرته وحلو فكاهته ورقيق سمره، كل أولئك دون أن أحس أنه قصد إلى شيء من هذا، وهذا هو فن الكتاب، وهذا هو أدب المقالة كما بينه المؤلف في مقدمة كتابه، ثم هذا هو سر الجمال في هذا الكتاب البديع. ولقد خاطب المؤلف الفاضل قارئه في صدر كتابه بقوله (أنشدتك الله لا تحكم على قيمة هذا الكتاب بقيمة كاتبه، إن كاتبه ليرجو أن يكبر في عينيك بهذا الكتاب. . . أنشدتك الله لا تحكم على هذا الكتاب بمعيار قادة الأدب في بلادنا؛ إنما نشرت هذا الكتاب لأناهض به أولئك القادة فكأنما بهذا الكتاب أقول: من هنا الطريق يا سادة لا من هناك)،
زكي يا صديقي. . . هات، هات من أحلام جنتك فإنا إلى مثل هذا الأدب عطاش.
الخفيف
إخوان الصفا
تأليف الأستاذ عمر الدسوقي
الأستاذ بكلية دار العلوم
إخوان الصفا جماعة بارزة بين مفكري الإسلام، يعتز الباحثون بآرائهم، وإن اختلفوا في حقيقة أمرهم، وقد كتبت عنهم رسائل صغار، ومقالات قصار، ولكن الأستاذ عمر الدسوقي قصر كتابه هذا عليهم، وتفرد ببحوث مفصلة عن عوامل ظهورهم، وروافد ثقافتهم وحقيقتهم، وناقش المرحوم أحمد زكي باشا مناقشة عنيفة في نسبته هذه الرسائل إلى مسلمة بن قاسم الأندلسي وفي نفيه أن المجريطي ألف رسائل مثلها، ثم كان له السبق في تجلية آرائهم، وجمع شتاتها، والموازنة بينها وبين آراء من سبقهم أو جاء بعدهم من فلاسفة الشرق والغرب، منتفعاً بدراسته العربية في كلية دار العلوم وبثقافته الغربية في جامعة لندن، ثم تميز ببحث قيم مبتكر عن آرائهم في التربية.
عقد المؤلف الفصل الأول لدراسة الحياة السياسية في القرن الرابع؛ لأنهم ثمرة عوامل عدة منها الحالة السياسية (والكائن المستقل عما قبله وما بعده والذي لا يتأثر بشيء مما حلوه(760/46)
ولا يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به - لا عهد للعالم به حتى اليوم، فالمصادفة محال)،
ثم عقد الفصل الثاني للحياة العقلية، فتكلم عن السريان وأثرهم، وعن نشأة الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، وأثر الفلسفة اليونانية في العقل العربي، وخلص من ذلك إلى أنهم تأثروا بالكندي في فلسفته الطبيعية، وبالمترجمين وآرائهم، وبالفارابي في إحصائه للعلوم، حتى وضعوا رسائلهم التي تشبه دوائر المعارف بالنسبة إلى زمانهم.
ثم تتوالى الفصول بعد ذلك عن إخوان الصفا، وزمانهم، ومكانهم، ونظام جماعتهم، ومذهبهم، وفلسفتهم، ورأيهم في النفس الإنسانية وفي التربية، معروضة عرضاً علمياً واضحاً مستخلصاً من رسائلهم.
ويجمل بنا أن نعرض بعض آرائهم التي استخلصها المؤلف من رسائلهم، فهم مثلاً يدينون بخلود النفس بعد أن تفارق الجسد، ويوازن المؤلف بين رأيهم ورأى أفلاطون في (الجمهورية) وفي (جورجياس)، ثم بين الرأيين في خلود كل نفس وبين رأى أرسطو في خلود النوع الإنساني. وهم يذهبون إلى أن البعث إنما يكون بأحوال تطرأ على النفس بعد انسلاخها من الجسد، ويقولون بخلود العالم، ويتساءل المؤلف: كيف يتفق هذا الرأي المخالف للدين الإسلامي مع آيات القرآن الكريم؟ ويورد تفسيرهم لآيات البعث تفسيراً قائماً على التأويل، وُيحكم بأن هذا تعسف وتكلف. ثم هم يذهبون إلى أن المعلم دعامة في صرح الأمة، وعلى الآباء أن يتخيروا بنيهم المعلم الصالح المستنير المتحلي بفضائل عَدُّوها والمبرأ من رذائل أحصوها، والمعلم كالأب له على تلميذه حقوق الأب.
وتكلموا عن التلميذ والمنهج الدراسي الملائم له وطريقة تحصيله للعلم، واهتموا باستخدام الحواس في التحصيل اهتماماً زائداً في مواضع شتى، وسبقوا برأيهم (بستالوتزى) في عنايته بالملاحظة والإدراك الحسى، وسبقوا (هربارت) في نظرية الاستطلاع، وبقولهم إن قوى النفس الإنسانية متحدة مرتبط بعضها.
ثم هم يذهبون في التربية الخلقية إلى أن الخير يجب أن يعمل حباً في الخير، لا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، لأن هذا الخير المحض هو السعادة، ويقرر المؤلف أنهم سبقوا بهذا الرأي الفيلسوف الألماني (كانت) الذي بنى فلسفته الأخلاقية على أن الخير يجب أن يعمل لذاته. ثم يعرض المؤلف رأيهم في الفضيلة ويأثرهم بأرسطو في أنها وسط بين(760/47)
رذيلتين.
وبعد، فهذه لمحات أو قاطفات سراع من هذا البحث الممتع القيم، وكانت آراء إخوان الصفاء زهرات مبعثرات، فجمعها المؤلف في طاقة منسقة كانت هذا الكتاب، ومن ذا الذي لا تهفو نفسه إلى أن يستمتع من هذه الطاقة بنظرات وسبحات؟
أحمد محمد الحوفي
زقاق المدق
(قصة للأستاذ نجيب محفوظ)
هو اللوحة الحية الرائعة التي رفعت عنها ريشة الفنان البارع الأستاذ نجيب محفوظ. وقد يعجب القارئ من ناقد يفتتح مقال نقده بهذا المديح الجارف؛ ولكن مهما يكن الناقد مسرفاً في تزمته، فإنه إزاء نجيب لا يملك غير المديح المتدفق يجرى على قلمه لا يقف في سبيله أي عارض من عوارض التوقر التي تركب النقاد. بل إنه يجد خلف هذا الاندفاع ما يشجعه على المضي في السبيل التي يسلك حتى يريح ضميره الأدبي مما يحسه نحو هذا النابغة الفنان. . . وقد أصبح الهدم في أيامنا هذه بضاعة سهلة، يسومها كل محاول للكتابة. . . يظنون أن الشتيمة جرأة. . . يا هؤلاء! إنكم إذ تشتمون تظهرون بمظهر الجرأة حين لا جرأة لديكم، لأن من تشتمون لا يملك أن يلحق بكم أذى. ولكنكم إن مدحتم استهدفتم لقول القوم: إنهم يتملقون. وما أجرأ من يعرض نفسه لهذه المقالة. . . وهاأنذا أمدح. . . لاعن رغبة في إظهار جرأتي، فلن يظن بي أحد تملقاً. . . لكن رغبة في أن يكون الحق - حتى ولو كان مديحاً - هو الحكم الوحيد الذي نخضع له ضمائرنا. . . إنني أعلن في يقين راسخ أن نجيباً أصبح في القمة الشاهقة التي يعتليها كبار كتاب القصة المصرية.
واضح من العنوان أن القصة قد أخذت مساربها في أحياء وطنية خالصة. . . ولكن الغريب في أمر هذه القصة أن الأستاذ نجيب لم يطارد شابا بذاته من شبان المدق ليجعله بطل قصته، ولم يجر خلف فتاة معينة من فتيات الزقاق ليقيم منها الشخصية الأولى في القصة. لم تكن شخصية البطل آدمية، بل كانت الزقاق أجمعه بما يحويه من مشايخ وكهول وفتيان، وما يحويه أيضاً من عجوز متصابية، وكهلا تريد الزواج، وفتاة تستعرض فتيان(760/48)
الزقاق. . كان بطل القصة هو الزقاق. . كان لكل شخص قصته وصورته. . ولكل معهد من معاهد الزقاق رفاقه يكونون رسمه ويروون روايته. . ثم كان لكل قصة نهايتها. .
إن زقاق المدق هي القصة الأولى من نوعها في اللغة العربية. إذ جرى كتاب القصة على أخذ شخص أو شخصين ينسجون حوله أو حولهما قصتهم نسيجاً لحمته أشخاص آخرون. أما أن يكون كل شئ في القصة بطلا، فهذا نوع جديد في القصة العربية. ونجيب بارع كل البراعة حين يظل ممسكا بقياد القصة بين يديه لا يدع مجالا لها تلفت منه، حتى يصل بكل شخصية خلقها إلى النهاية التي أرادها.
وعجيب أن يستقيم له هذا الأمر مع هذا الحشد الهائل من شخصيات روايته. . . وقد انتفع الأستاذ نجيب بكل الظروف التي أحاطت بعهد القصة. فكان للحرب دور كبير في الرواية. فهي التي مهدت السبيل لابن المقهى أن يكون غنياً يستطيع أن يذهب إلى السينما، وأن يمشى بين رفاقه مزهواً يعيرهم ببقائهم على حالتهم لا يبذلون في سبيل (التريش) مجهوداً. وما زال بعجرفته حتى حدا بالحلاق أن يشد الرحال إلى الإسماعيلية فيعمل (بالأرنس) يجمع أموالا تليق بفتاة أحلامه وفتاة المدق التي خطبها قبل السفر. . والحرب هي التي هيأت للفتاة أن تكون (أرتست) ونرى نجيباً وقد أنشأ مدرسة قائمة بذاتها لتعليم أرتستات الحرب كيف يأخذن المال من (جونى) ونرى معلم المدرسة وقد رسمه نجيب رسماً عجيباً. . . مزيجاً من الشدة واللين،. ولئن كانت ومن اللطف والفظاظة المدرسة حقيقة سمع بها نجيب، فتسجيلها في قصته لفته جميلة. وإن كانت بنت خياله فهو رائع إذ ينشئها.
وكما أفاد نجيب من الحرب، أفاد من نهايتها أيضاً. . فأخرج العامل المتعجرف من عمله. وأطلقه سكيراً، هائماً على وجهه، ثم قاتلا لأخته من الرضاعة التي أصبحت في نظره جريحة العفة.
وأعادت نهاية الحرب الحلاق النازح للغني إلى الزقاق حيث يجد فتاته وقد أصبحت ذات ثراء واسع سكبه عليها لينها، فهو يساعد أخاها في قتلها.
وقد كان للظروف الطبيعية التي يمر بها كل قوم دور في الرواية. فنرى شاعر الربابة يضم قيثارته ويخرج من قهوته الأخيرة بعد أن ابتاعت (راديو) وأصبحت في غنى عن قصصه التي حفظها جميع رواد القهوة.(760/49)
ويمتاز نجيب برسم شخصياته كما يخلقهم الله. فترى في الشرير خيراً وسراً. ولكنه يغلِّب فيه ناحية الشر على الخير، وترى في الخير شراً وخيراً، ولكن خيره غالب على شره.
ولنأخذ مثلا للشخصيات الخيرة في الرواية الشيخ رضوان الحسيني فترى الخير فيه غالباً. فهو الذي يلجأ إليه سكان الزقاق في الملمات. وهو المثل الذي تشير إليه الأمهات إذا شئن أن ينصحن أبناءهن. . ولكنه مع هذا شرير مع أهل بيته، يفرغ فيهم ما يكظمه من غضب في مخاطبته لأهل الزقاق. أما الشخصيات الشريرة فهي كثيرة؛ ولكن لنأخذ مثلنا المقهى، فهو رجل ذو أمزجة مختلفة كلها شاذ يدعو إلى الاستنكار الشنيع. ولكنه مع هذا لا يطيق أن يبذل وعداً بالصلاح حين يطلب إليه الشيخ أن يبذله. فهو رجل لا يعد دون تنفيذ.
لن أحوال الكلام عن جميع الشخصيات التي رسمها الأستاذ نجيب، فهي - كما قلت - كثيرة، وكلها بطل؛ ولكن ثمة شخصية رسمها نجيب حاد في لمحة منها عن طريق كنا ننتظر أن تسلكه، هي شخصية صاحب الوكالة. وهو بك كبير في السن، كان يأمل أن نتزوج من فتاة الزقاق. وكم كان الأستاذ نجيب موفقاً في عرضه لهذا الحب العجيب بين الغسق والضحى. ولكن قبل أن يتم الزواج سقط الرجل مريضاً، ولج به المرض، ثم شاء له الله الشفاء وكنا ننتظر أن يقوم من مرضه مؤمناً بالله، شاكراً له، ولكن الأستاذ نجيب أقامه ساخطاً على الدنيا، برما بها، كافراً بنعمة من شفاه. . . ومن الناس من يصاب بهذا. . . وكل ما ألاحظه أننا كنا ننتظر غير ذلك. . . ولا ضير عليه إذا أخلف ظننا.
وبعد. فلا يسعني إلا أن أقدم للحياة المصرية العصرية كل تهنئتي أن وفقت إلى قصاص كنجيب، يرسمها فيترك منها للأجيال القادمة صورة واضحة المعالم جلية المعارف.
ثروت أباظة(760/50)
البَريدُ الأدَبيَ
وا أسفاه! مات النشاشيبي:
قُضي الأمر وقَضي إمام العربية الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي! توفاه الله إلَّيه في منتصف ليلة الخميس الماضي بالمستشفى بعد أن نقلناه إليه من الفندق بأربع ساعات؛ ثم انتشر نعيه في الصباح الباكر فلم يبق أحد ممن يعرفون الفضل أو يقدرون الأدب أو يقوِّمون الخلق إلا أرسل عينيه أو قلب كفيه حزناً على استشهاد هذا البطل المخلص في الميدان الذي ارتضاه لجهاده في سبيل دينه ولغته وعروبته.
كان نعيه يقابل في كل مكان ومن كل إنسان بالحسرة والدهشة: بالحسرة، لأن من قرأ النشاشيبي يعتقد أن مكانه لن يملأ وأن خلفه لن يكون. وبالدهشة، لأن من رأى النشاشيبي لا يتصور أن هذه الشعلة الذهنية تخمد، ولا أن هذه الحركة العصبية تسكن. أخلد النشاشيبي مضطراً إلى سكينة الموت بعد خمسة وستين عاماً قضاها في جهاد متصل: جاهد في شبابه للحياة من غير هدنة؛ ثم جاهد في شيخوخته للخلود من غير راحة؛ ثم ألقى السلاح ومضى كما يمضى الربيع تاركا وراءه الخصب والعشب والثمر.
كانت جنازته في يوم الجمعة تكريماً للأدب والعلم سار فيها مندوب جلالة الملك، وصاحب السماحة مفتى فلسطين، ومندوب صاحب الدولة رئيس الوزراء، وممثلو الدول العربية والإسلامية، وصفوة من رجالات مصر، حتى مثواه الأخير. تغمده الله برحمة من عنده، وألهم أسرة الرسالة وأمة العروبة الصبر على فقده!
المهرجان الأدبي والفني:
عينت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف يوم20 فبراير القادم لإقامة المهرجان الأدبي والفني. وجعلت يوم 21 يناير الحالي آخر موعد لقبول الإنتاج الأدبي وآخر الشهر بالنسبة للإنتاج الفني (التصوير والنحت والأشغال والزخرفة)
وتوالى الآن لجان التحكيم النظر في الشعر والقصص والمسرحيات والأغاني والأناشيد، وسيختار موضوع للخطابة يتبارى فيه الخطباء.
وقد اختيرت مسرحية (إسماعيل الفاتح) الأستاذ إبراهيم رمزي بك موضوعاً للمباراة بين الفرق التمثيلية المدرسية، والفصل الثالث من رواية (مصرع كليوبترا) للمرحوم شوقي بك(760/51)
موضوعاً للمباراة بين الفرق التمثيلية الجامعية. أما فرق الهواة فلها أن تتقدم بالمسرحية التي تراها كما يجوز لها أن تحصل بعد 21 يناير على إحدى المسرحيات الفائزة في مباراة الأدب لتدخل بها مباراة التمثيل.
وسيمنح الفائزون الجوائز الآتية:
أنواط ذهبية تذكارية للفائزين من الأدباء والفنانين من غير الطلبة، وأنواط فضية تذكارية للفائزين من الأدباء والفنانين الطلبة، وشهادات تقدير وتفوق مصحوبة بنوط للفرق المدرسية والجامعية الفائزة في الموسيقى والتمثيل والأناشيد، وجوائز مالية مختلفة يخص بها الأدباء والفنانون الذين ترى اللجان ضرورة تشجيعهم واستنهاض هممهم وملكاتهم.
معرض الكتب والفنون:
وتقرر أن يقام معرض الكتب الصادرة في سنة 1947 ومعرض لفنون التصوير والنحت والاشتغال والزخرفة. من20 فبراير إلى آخر الشهر، وذلك بدار إدارة خدمة الشباب (رقم7 شارع سليمان باشا) التابعة للإدارة العامة للثقافة.
البانتوميم والميم:
ذكر الأستاذ الفاضل عبد الفتاح البارودي في الحلقة الثانية من سلسلة مقالاته القيمة عن فن المسرح (عدد759) أن البانتوميم والميم فَنَّانِ من فنون الرومان في العصور القديمة. فليسمح لي الأستاذ أن أقول إن اليونان عرفوا هذين النوعين بل إن أشهر ممثليهما هو بِيلاَدِس الممثل اليوناني المعروف وأذن يكون هذان الفنان يونانيين وليسا رومانيين.
رمزي خليل
الغوغاء:
المفهوم أن لفظ الغوغاء مذكر وأن همزته ليست للتأنيث وأنها مقلوبة عن الواو، ولكن جاء في الرسالة الغراء عدد 758 في الفقرة 961 من نقل الأديب في السطر السادس منها - قامت عليه الغوغاء - وفى هذا ما يشعر بتأنيث اللفظ فما قول الأدباء.
أبو ماضي(760/52)
المتبارون على جائزة جونكور:
تنشر الصحف الفرنسية تكهنات مختلفة عمن يمنح جائزة (جونكور)، ويؤخذ من مجموع ما نشر حتى الآن أن هناك ثلاثة في طليعة المرشحين لهذه الجائزة وهم:
1 - جاك بيريه الذي قضى شبابه في حياة مضطربة. إذ سافر إلى (لاجويان) على سفينة لنقل الموز واشتغل عاملا في مناجم الذهب ثم اشترك في الحرب الأخيرة وأسر سنة 1940 واعتقل في معسكر بالقرب من برلين حتى سنة 1942 وهناك وضع كتابه الذي عرضه أخيراً باسم (الجاويش) الذي أحرز درجة الشرف.
2 - مارى ليهادوان وقد تقدمت بمؤلف عنوانه (النجم المر)،
3 - ريمون دوماي رئيس تحرير جريدة (الآداب) الذي بدأ حياته خادماً في عزبة وقد كان لحياته الخلوية تأثير في كتاباته فأخرج (الحشيش الذي ينبت في المرعى) وقد تقدم أخيراً بمؤلف آخر بعنوان (عنب من الذرة)،
جائزة فمينا:
منحت جائزة (فمينا) أخيراً لمدام جابرييل روى وهى كاتبة فرنسية من أصل كندى. عن رواية أخرجتها باسم (سعادة طارئة) وقد وصفت فيها حياة أسرة تقيم في ح العمال بمدينة (مونتريال) وتتألف من أم مجدة وأب تعس. وبنت (وهى بطلة الرواية) خادمة في بار.(760/53)
القَصَصُ
قوة الحب
للقصصي الإنجليزي الشهير فيرنيك مولنار
بقلم الأديب سيد أحمد قناوى
(حيث لا يوجد الذهب، يوجد ما هو أقوى منه ذلك هو الحب القوى الجارف الذي لا يقاوم)
أخذ الهواء يعبث بالدخان الذي يتصاعد من إحدى مداخن قصر الكونت (سكارلث) ولكن أحداً في الأرض الفسيحة لا يستطيع أن طهاة (الكونت) يعدون له طعام الإفطار في الساعة المبكرة، ولو تسنى لأحد من سكان هذه القرى التي بعثرت حولها قصور النبلاء أن يدرك حقيقة ما يحدث في قصر الكونت - لعرف أن هذا الدخان يتصاعد من معمل الكيماوي (كونارد سوبابولو) الذي يقيم في قصر الكونت منذ ثمانية عشر شهراً ليحول له الرصاص وغيره من المعادن الخسيسة ذهباً. . .
والواقع أن الكيميائي الكهل لم ينجح في تجربة واحدة من تجاربه العديدة على رغم ما أنفق من الجهد في هذا السبيل.
وكان يبعث بكل ما يصل إلى يده من أموال (الكونت) إلى زوجة قد أنكرها وطفل قيل له إنه ابنه. . .
وعندما أحس بأن (الكونت) قد أخذ يضيق بإقامته ونفقاته، أراه قطعة صغيرة من الذهب لم تتحول من الرصاص ولا من غيره، ولكن (الكونت) الشرير برغم درايته بكل وسائل الخداع لم يدرك أن قطعة الذهب وضعت خفية مع الرصاص الذي ترك يغلي على النار أمام عينيه طوال الليل.
إلا أن هذه القطعة الذهبية، قد فتحت ثغرة في حياة الكيميائي الكهل فإن (الكونت) قد اعتقد أن الرجل ليس جاهلا ولكنه لص يسرق الذهب الذي يستخرجه من الرصاص.
وقد أقسم له الكونت أنه إذا لم يقدم إليه في الصباح قطعة كبيرة من الذهب الخالص فسيقوده بيده إلى أعلى برج في القصر ثم يقذف به إلى أرض الحديقة.
وكان (كونارد) يعرف أنه سيلقى حتفه في غده، فإن (الكونت) لا يحنث في يمينه. فقد أقسم(760/54)
من عام أن يقطع أذني خدمه وبر بقسمه، فأخذ الرجل ينتفض من الخوف، ومع هذا استيقظ مبكراً ووضع بعض الآنية على نار الموقد وهو يعلم أن لا شئ فيها غير بعض المعادن الخسيسة.
ودقت ساعة القصر الكبير السابعة، وعرف (كونارد) أنه من الموت على خمس ساعات، ولكنه كان متفائلا، وقبل أن يخفت رنين دقات الساعة فتح باب غرفته، وهال أن يرى الكونت العجوز بعظام وجهه البارزة يسد الباب بقامته الفارغة وسمع صوته الأجش يقول:
- أين الذهب الذي تستخرجه من الرصاص أيها اللص؟
وجثا (كونارد) بين يديه وهو يقول:
- لا شئ في البوتقة يا سيدي الكونت!
واصفر وجه العجوز ووثب إليه بسرعة، وأمسك بتلابيبه ليقتاده إلى البرج، ولكن الكيميائي قال هامساً:
- تمهل يا سيدي فإني لم أجد الذهب وإنما وجدت ما هو أغلى منه ثمناً.
فضحك (الكونت) ضحكة ساخرة وقال:
- وأي شئ هذا المعدن الجديد؟
- إنه ليس بالمعدن يا سيدي (الكونت) وإنما هو مركب كيميائي يحتوي على قوى الحب الذي لا يقاوم. . .
عندئذ تراخت قبضة (الكونت) عن عنق الرجل وقال:
- وهل أبتلع هذه الأكذوبة أيضاً كنا ابتلعت قصة الذهب ثمانية عشر شهراً أيها المحتال؟
وقال الكيميائي لنفسه: إن المتردد نصف المصدق.
فتنفس الصعداء وراح يتابع أكذوبته:
- ليست هذه أكذوبة بل هي حقيقة أعرف بها كيف أجعلك تقهر قلوب النساء.
واتسعت حدقتا (الكونت) الهرم، فقد كان فيما مضى زير نساء شهير فلما تقدمت به السن ويبست سواعده وبرزت عظام وجهه دعته النساء الهيكل وأشحن بوجوههن عنه، وبدت على وجهه علائم السرور فتابع الكيميائي الكهل حديثه.
- لقد خلطت مسحوق الفضة بالرماد، ثم أضفت إلى المسحوق مواد خاصة أحتفظ بسرها.(760/55)
فهب (الكونت) يسأله وهو يلهث:
- ثم ماذا؟
- لا شيء إلا أنني سأصنع لك من هذه المواد قطعة صغيرة من المعدن تثبت في مقبض سيفك، فإذا أردت أن تهاجم سيدة بغرامك وضعت يدك اليسرى على مقبض السيف فوق القطعة الفضية الداكنة وثق أنها لن تستطيع مقاومة نظراتك وستنصت من توها لغزلك.
فقال الكونت:
- وهل تثق بهذا؟
- كل الثقة، وأرجو أن تترك لي سيفك الليلة، وفي الصباح سيكون كل شيء وفق ما تريد، وسأترك لك تقدير المنحة التي تمنحني إياها.
واستفاضت الأنباء بقصة القطعة الفضية التي وضعت عند قبضة سيف (الكونت اسكارلت) لتمكنه من غزو قلوب النساء.
وقبل أن تمر ثلاثة أيام كان الكيميائي الكهل قد تلقى ثماني عشرة رسالة من النبلاء الذين يقيمون في المناطق المجاورة بدعوته إلى الإقامة في قصورهم ويعدونه المنح والهدايا لو باح لهم بسر قواه الجديد.
ولكن (سكارلت) كان أبسط يداً كما كان أضن بأن يترك (كونازلد) يبارح قصره.
وفي اليوم الرابع بدأ (الكونت سكارلت) أولى غزواته وقد تقلد السيف الذي يحمل القوى العجيبة. . . فتخير لغزوته قصر سيدة صغيرة موسرة تعيش على مقربة منه وقد فشل أكثر من مرة في التقرب إليها. . . وكانت هذه النبيلة الحسناء تعيش عيشة البذخ تحيط بها اثنتان وثلاثون سيدة من وصيفات الشرف.
فبعث (الكونت) في الصباح الباكر إلى جاريته الحسناء ينبؤها بقدومه عند الظهر. . . وأثارت رسالته ضجة عالية، كانت (الثلاث والثلاثون) سيدة ينتظرنه وكل واحدة منهن تزعم لنفسها أنها أقوى من هذه القطعة الفضية التي وضعت عند مقبض السيف، ولكن سيدة القصر صرفتهن عندما دخل عليها (الكونت) وتقدمت إلى لقائه في البهو الكبير وقدمت إليه مقعداً وهي لا تعلم أن أربعاً وستين عيناً كانت ترقب كل حركاتها من وراء السجف.(760/56)
واتكأت الحسناء على مقعدها، وكانت حتى تلك اللحظة تسخر من منظر (الكونت) الهرم وتضحك من عظام وجهه البارزة ولكنه عندما وضع سيفه بين ركبتيه على عادة الفرسان أخذت تحدق في السيف، فراعها مرآه، وخلبتها هذه الماسات الكبيرة التي زادها الضوء القليل سواداً.
ولم يفطن الكونت والحسناء الشابة أن اثنتين وثلاثين سيدة يراقبنهما، وقد قررن في أنفسهن أن (الكونت) يبدو مهيب الطلعة.
قال الكونت بثقة:
- إنه يوم جميل.
فقالت السيدة وهي لا تزال تنظر إلى القطعة الفضية ساخرة:
- أجل جميل.
ووضع (الكونت) يده اليسرى على القطعة الفضية وهو يقول:
- وهو دافئ أيضاً.
وأحست السيدة برعدة عابرة وتحركت السجف ودار همس خافت (لقد قبض بيده على القطعة الفضية)،
ولم ترفع الحسناء عينيها عن يده، ولم تلق بالها لحديثه التافه ولكنها كانت تستشعر الخوف فلم تفطن إليه وهو يقترب منها حتى جلس بجوارها في المقعد الكبير وأخذ يقول:
- مم تخافين؟ مني. . . إنني أكن لك احتراماً منذ أمد بعيد. وكان من الممكن أن تسمع السيدة الهمس وراء السجف فقد كانت اثنتان وثلاثون امرأة يتهامسن بعد أن قررن أن الرجل قد انتصر وأنهن يجب أن ينصرفن.
وأحست السيدة رهبة خفية عندما سمعت صوته يقول إنه يحبها منذ أمد بعيد فهمست:
- إن كنت تحبني فارفع يدك عن تلك القطعة الفضية التي تحلى مقبض سيفك.
فقهقه (الكونت) وهو يقول:
- محال!
وازداد تمسكا بقبضة سيفه.
وفي اللحظة التالية كان يطوق خصرها بيده اليمنى ويقبلها، وحاولت الحسناء أن تقف فلم(760/57)
تستطيع وسقط رأسها الجميل كزهرة يانعة فألصق شفتيه بشفتيها وراح يقول هامساً:
- إنني أحبك وسأقصر حياتي كلها عليك.
- وأنا كذلك سأظل لك. . .
ومضت عشرة أعوام كانت مليئة بنجاح غرامي متصل (للكونت سكارلت) لم يقطعه إلا الموت.
وانتقل الكيميائي الشيخ وقد أشرف على التسعين إلى منزل (البارون دويرون) وكان الكيميائي قد هده المرض العضال، ولكن البارون لم يطق صبراً، فقرر في نفسه خطة وذهب إلى الكيميائي المريض يسأله عن سر القوى؛ فقال إلا مريض بصوت خافت متهافت:
أقسم لك يا سيدي (البارون) أن المسألة خرافة؛ فليس هناك قوى سحرية ولا شبه ذلك، فالقطعة الفضية لا فرق بينها وبين حدوة الفرس.
إن سر المسألة: ثقة الرجل بنفسه، وهذه الثقة هي قوة الحب. ولا مخلص لامرأة حسناء من قبضة رجل يثق بنفسه، وإذا وثق الرجل بشيء وثقت المرأة به. إنك ستكذبني وستذهب إلى السيدة التي تريدها وأنت فاقد الثقة بقوتك الحقيقية، وهي القوة الكامنة في عينيك ولسانك وشخصيتك فتفقد كل شيء، ولذا. . . ولم يكد يتم الكيميائي الشيخ حديثه حتى ضربه (البارون) بجمع يده على رأسه يريد أن يسخر منه.
ولكن الرجل قد مات والحقيقة على شفتيه لأن الناس دائماً لا يصدقون الحقيقة!.
(السودان)
سيد أحمد قناوي(760/58)
العدد 761 - بتاريخ: 02 - 02 - 1948(/)
محمد إسعاف النشاشيبي
أهكذا، وفي أسرع من رجع النفس يسكت اللسان الذليق، ويسكن العصب الثائر، ويخمد الذهن المتوقد، ويقف الفؤاد الذكي، ويصبح النشاشيبي نفيا في الصحف وخبرا في البلاد، وحديثا في المجالس، لا يقول فنسمع ولا يكتب فنقرا؟!
أهكذا وفي مثل ارتداد الطرف يترك النشاشيبي قلمه سائلا بالمداد، وكتبه مهيأة للطبع، ومجلسه مشتاقا للسماع، ومجلته منتظرة (للنقل) ويذهب إلى حيث لا يرجع ولا يكتب ولا يتحدث؟!
سبحانك يا رب! شعاع أرسلته ثم رددته، وروح ثنته ثم أعدته، وظل بسطته ثم قبضته ولواء رفعته ثم خفضته وبنو آدم العاجزون الضعاف لا يملكون أمام أمرك البادي وسرك المكنون إلا أن يشكروا على العطاء والأخذ، ويحمدوا على المحبوب والمكروه!
كنت ثالث ثلاثة استبقاهم الوفاء بجانب إسعاف في ساعاته الأخيرة؛ وكان الطبيب واقفا يصف الدواء وينظم العلاج ويرشد الممرضة؛ وكان المريض جالسا في سريره حاضر الذهن حافل الخاطر يغالب انبهار النفس من الربو، ويجاذب المواد مارق من الحديث: فهو يضع لسانه حيث شاء من نوادر اللغة، وطرائف الأدب، فينتقل من الكلام في (ليس غير) إلى الكلام في ترجمة (حوتة) لقصيدة خلف الأحمر، حتى إذا سمع الطبيب يصف له البنسلين قطع الحديث وقال بلهجته المعروفة: أنا اكره البنسلين لأنه أنقذ تشرشل! فقلنا له: ونحن نحبه لأنه سينقذ أبا عبيده! وكانت مظاهر العزم في حديث (أبي عبيده) توسع في أنظارنا فسحة الأمل، وتصرف عن أذهاننا فكرة الخوف فلم يدور في خلدنا أن المنية كانت مرنقة فوق سريره تنتظر أنفاسه المعدودة أن تنقضي، وألفاظه المسرودة أن تنفد، فلم يكد السامر ينفض والساهر ينام حتى ختمت على فمه المنون فسكت سكوت الأبد!
ولد محمد إسعاف بن عثمان النشاشيبي بالقدس حولي سنة 1882 في أحد البيوتات التي تجاذبت السيادة على فلسطين، وكان أبوه من ذوي الثراء والدين والخلق فنشاه على الطباع العربية الأصيلة من جراء القلب وصراحة الرأي وحرية الضمير. ثم أراد أن يجمع له أطراف المجد بالعلم والمال فبعث به إلى المدرسة البطر بركية ببيروت فشدا شيئا من مبادئ الآداب والعلوم، ثم انقلب إلى أبيه، وكان يومئذ وحيده فنظمه بالعمل في سلكه، ونزل له بالبيع عن اكثر ملكه. واخذ إسعاف يتقلب في ظلال أبيه على مهاد النعيم والخفض حتى(761/1)
تزوج أبوه زوجه أخرى، ورزقه الله ولدا آخر، فأراد إسعافا على أن يرد إليه ما أعطاه ليكون شركة بينه وبين أخيه، فأبى إسعاف أن ينزل عن شئ دخل في رزقه واصبح من حقه. . . وانشقت العصا بين الأب وابنه، فخرج إسعاف من كنف الأبوة مغاضبا يضطرب في المعاش ويسعى على نفسه، ومنذ ذلك اليوم عرف إسعاف الهم وذاق الألم وكابد البؤس. كان يعمل ليلهو فاصبح يعمل ليعيش؛ وكان يقرا ليلذ فاصبح يحيا ليموت. وولى أبوه غفر الله له وساطة الناس أذناً صماء فلم يعنه على تكاليف العيش بتمكينه من ريع أرضه، فذهب يستقطر الرزق من تعليم العربية في بعض المدارس. وكان يعول بعض الضعيفات من أهله. فتحمل في سبيل ذلك رهقا شديدا بقى أثره بارزا في نفسه طيلة حياته، تعاوده ذكراه في سكينته فيضطرب وفي لذته فيتألم. ثم حسم الله الخلاف بينه وبين أبيه بالموت. فوضع إسعاف يده على نصيبه من الثراء العريض وعاد إليه الحظ باسما بتملقه ويعتذر إليه. فتلقاه الكادح المحروم كما يتلقى الثري المكروب ماء المزن وفي القدس شيد قصره المنيف ليكون مثابة للأدباء ومجمعا للأدب، ثم اقتنى مكتبة من انفس الكتب وأندرها واقبل عليها وهو لا يزال في ربيع العمر فقتلها علما وفهمها وتدقيقا وتعليقا واختيارا واستظهار فلم يترك كتابا مما أخرجته المطابع أو نسخته الأقلام في القديم والحديث إلا قراه وعلق عليه واستفاد منه، ثم وقف بعد ذلك نفسه ووقته وجهده على دراسة الإسلام الصحيح في مصادره الأولى، وتحصيل اللغة وعلومها وآدابها من منابعها الصافية، وأعانه على ذلك قريحة سمحة وبصيرة نيرة وحافظة قوية وذوق سليم، فكان أية من آيات الله في سعة الاطلاع وكثرة الحفظ وتقصي الأطراف وتمحيص الحقائق. ثم جلس على مكتبة كما كان يجلس ابن دريد. عن يمينه زجاجة فيها مداد القلم، وعن يساره أخرى فيها مداد الفكر واخذ يعسل كما تعسل النحل إذا امتلأ جوفها بالرحيق وفاضت بهذا العسل المصفى انهر الصحف والمجلات في الشام ومصر فاشتاره القراء متنوع الطعوم مختلف الألوان متعدد الأسماء ولئن سألوا لمن هذا الشراب أعياهم أن يجدوا الجواب في إمضاءاته الرمزية من نحو (ن) و (أزهري المنصور) و (* * * *) و (السهمي)؛ لأن النشاشيبي لم يكتب للشهرة والمجد، إنما كان يكتب للعصبية والعقيدة. اخلص لله فاخلص لقرآنه، واولع بمحمد فأولع بلسانه. فإذا جلس إلى الناس في القدس أو في دمشق أو في القاهرة كان مجلسه ندوة(761/2)
علم وأدب وفكاهة، لا تذكر مسالة إلا كان له عنها جواب، ولا تثار مشكلة إلا اشرق له فيها رأى، ولا تروى حادثة إلا ورد له عليها مثل، ولا يحضر ندوته أديب مطلع إلا جلس فيها جلسة المستفيد، ثم كان في غير مكتبه ومجلسه يشارك في معارف فلسطين بعمله، وفي المحافل الأدبية بخطبة وفي المساعي الخيرية بماله. ثم اقلع منذ أربعة عشر عاما عن شهوات الجسد فلم يبق له من لذاذات العيش إلا الكتاب العربي والسكارة التركية. ولكن إسرافه على شبابه أعقبه علة في شعاب الرئة جرت إليه الربو؛ واصطلحت هاتان العلتان على القلب طيلة عشر سنين حتى أضعفتاه، ومن هنا جاءت منيته.
كان النشاشيبي جاد الله بالرحمة ثراه رجل وحده في الأسلوب والخط والحديث والتحصيل اسلبه عصبي ناري تكاد تحس الوهج من الفاظه، وتبصر الشعاع من مراميه. وخطه نمط عجيب بين الكوفي والتعليق لم يأخذه عن أحد ولم يأخذه منه أحد. وحديثه نبرات قوية تبرز الألفاظ، وحركات سرية تمثل المعاني، وانفعالات شتى تتعاقب على قسمات وجهه وأصابع يده. وتحصيله عجب من العجيب؛ لا تستطيع أن تذكر له كتابا من كتب العربية لم يقراه ولا بيتا من شعر الفحول لم يحفظه، ولا خبرا من تاريخ العرب والإسلام لم يروه، ولا شيئا من قواعد اللغة ونوادر التركيب وطرائف الأمثال لم يعلمه، فهو من طراز أبي عبيده والمبرد ولذلك كان اكثر ما يكتب تحقيقا واختيارا وأمالي. ثم كان إلى كل أولئك متواضع النفس فكه الأخلاق لطيف الروح، نفاح اليد، عفيف اللسان، مأمون المغيب لا يتعزز بحسبه ولا يطاول بماله، ولا يباهي بعلمه، ولا يفخر بشيء مما يتمدح به الناس إلا بالانتساب إلى العرب والانتماء إلى محمد! أن النشاشيبي كان خاتم طبقة من الأدباء اللغويين المحققين لا يستطيع الزمن الحاضر بطبيعته وثقافته أن يجود بمثله فمن حق المحافظين على التراث الكريم، والمعتزين بالماضي العظيم، أن يطيلوا البكاء على فقده، وأن يرثوا الحال العروبة والعربية من بعده!
أحمد حسن الزيات(761/3)
عود إلى مسألة العقل
للأستاذ عباس محمود العقاد
تلقيت تعليقين على مقالي السابق في الرسالة حول مناقشة الأستاذ نقولا الحداد في مسالة العقل والدماغ.
أول هذين التعليقين ينبهني إلى مسائل أخرى في مقال الأستاذ الحداد لم أتناولها بالرد، وهي كثيرة لا تنحصر في اصل العقل وعلاقته بالدماغ.
والتعليق الثاني يشير إلى قولي في ذلك المقال: (المعقول أن الإنسان تكلم لأنه فكر، وليس بمعقول انه يفكر لأنه يفكر لأنه يتكلم) ويسألني مزيدا من الإيضاح لرأي السلوكيين في هذا الموضوع.
أما أنني تناولت مسالة العقل دون غيرها من المسائل التي تضمنها مقال الأستاذ الحداد في عدد (المقتطف) الأخير فذلك صحيح وسببه إنني أردت التمثيل بطريقة الأستاذ الحداد في التفكير ولم أرد أن أتعقبه في كل فكرة وكل دليل.
فالأستاذ الحداد رجل فاضل مطلع على الآراء العلمية محب للبحث على الطريقة التي يسميها بالطريقة التجريبية، ولكنني احسبه - من كلامه - لم يشغل نفسه كثيرا بالمباحث الفلسفية، ولم يعود عقله أن يعطيها حقها من التقدير الواجب والتأمل الطويل. ولا يعاب الأستاذ على ذلك لأن الناس جميعاً لم يخلقوا لمباحث الفلسفة ودراساتها، بل حسب العارف من المعرفة ما تهيا له وجنح إليه بطبعه واستعداده، وإنما يؤخذ عليه أن يقدح في معرفة لم يملك أسباب الحكم عليه وأن يتصدى لرأي من الآراء بغير عدته التي تعينه على نقده وتمحيصه.
ولا نريد في هذا المقال أن نتعقب كل ما كتبه الأستاذ الحداد في مقاله بالمقتطف فربما أغنانا عن ذلك زيادة مثل أخر على انفراج الشقة بين طريقته الفكرية وبين الموضوعات التي يتصدى لها بغير عدتها.
فالأستاذ يستغرب مثلا قولنا (إن الموجود غير المعدوم) ويتساءل: (أي معنى تفيده عبارة غير المعدوم زيادة على الموجود؟ أليست عبارة غير المعدوم مرادفة لكلمة الموجود لا مفسرة لها؟ بل أليست كلمة موجود أوضح من عبارة غير المعدوم؟. . .)(761/4)
فلو أن الأستاذ الحداد كلف نفسه أن يراجع تعريفا واحدا من التعريفات المصطلح عليها لاستغنى عن هذه الأسئلة وأعادها إلى نفسه ليعلم إنها لا تبطل شيئا مما أراد إبطاله.
فتعريف الجزيرة مثلا هو إنها قطعة من الأرض يحيط بها الماء من جميع الجهات. فماذا نفهم من قطعة الأرض التي يحيط بها الماء إلا إنها الجزيرة؟.
وتعريف الخط المستقيم مثلا هو انه اقرب موصل بين نقطتين فماذا نفهم من اقرب موصل بين نقطتين إلا انه الخط المستقيم؟ هل تطالبني بإفهامك ما هي النقطة قبل أن تسلم بالوصل بين النقطتين؟ هل تطالبني بتعريف الجهات حول الدائرة أو حول المثلث أو حول المربع أو حلو المستطيل إذا كانت الجزيرة على شكل من هذه الأشكال؟.
كل ما يطلب من التعريف انه ينفي الالتباس ويحصر الصفة. فإذا قلت لي ما هي مزية وصفك الموجود بغير المعدوم؟ فهذه المزية هي إننا نخرج من هنا (غير المحسوس) و (غير المفهوم) و (غير المدرك) وغير المعلوم؛ فلا ننفي وجود شئ لأننا لا نحسه أو لا نفهمه أو لا ندركه أو لا نعلمه، ويصبح الموجود بذلك اعم واكبر من أن يلتبس بالمحسوسات والمدركات والمفهومات والمعلومات.
ولو أن الأستاذ احسن تطبيق هذا التعريف لما استطاع أن يقول أن المكان (هو العدم المطلق) كما قال في ذلك المقال.
فعلى طريقتنا نحن نقول أن المكان موجود لأنه غير معدوم ونقيم الدليل على انه غير معدوم بأنه يقاس ويحتوى الموجود ولا عدم لا يقاس ولا يحتوى الموجودات فلا يسعك أن تقول أن مترا مكعبا من العدم اكبر من قدم مكعبة من العدم. ولا يسعك أن تقول أن العدم المطلق يحتوى جميع الموجودات.
ولقد رأينا عقلا من اكبر العقول البشرية - كعقل اينشتين - يكاد يفسر الموجودات كلها بهذا الفضاء الذي يحسبه الأستاذ الحداد عدما مطلقا لا يوصف بمجرد الوجود.
فقد قال انشتين أن كل وصف للأثير يمكن أن ينطبق تمام الانطباق على الفضاء. ومن ثم وضع تلك الصيغة المشهورة عن المادة الفضائية وعنى بها أن الفضاء جوهر وقد يكون مصدر جميع الموجودات. فان مصدر جميع الموجودات من العدم المطلق في رأي الأستاذ الحداد؟(761/5)
إذا كان رجحان الفكرة إنما يظهر لنا بمقدار ما تفسره من الأشياء التي لا تقبل التفسير بغيرها فالقول بان الفضاء مصدر جميع الموجودات يفسر لنا أمورا كثيرة لا نستطيع أن نفسرها الآن ومنها أن الأفلاك وما فيها من المادة نشأت من السدم الملتهبة. . . فمن جاءت السدم الملتهبة بالحرارة؟ هل جاءت بها منها أو من خارجها؟ فإذا كانت قد جاءت بها منها فقد فسرنا الماء بالماء. وإذا كان الفضاء هو مصدر كل حرارة فليس هو بالعدم المطلق كما يقول الأستاذ الحداد.
وهكذا يجهل الأستاذ الحداد معنى (غير المعدوم) فينتهي به الأمر إلى وصف اثبت الموجودات - أو مصدر الموجودات على هذا التقدير - بأنه العدم المطلق الذي لا يتصور له وجود. .!
أن إظهار الخطأ في مقياس التفكير عند الأستاذ الحداد يغنينا عن متابعة كل اعتراض يعترض به لي وجه التفصيل فذلك عناء يطول كل نقاش بين طرفين يجري على غير قياس.
ولعل هذا التمثيل قد أغنانا عن التفصيل والتطويل.
أما قولنا أن الإنسان يتكلم لأنه يفكر - فمرجعه عندنا إلى الحقيقة المشاهدة في التفكير والكلام.
فالحقيقة المشاهدة أن الإنسان قد يجد الفكرة ولا يجد لها كلاما. ولو كان الكلام هو مصدر التفكير لما وجد الفكر إلا حيث يوجد الكلام.
والحقيقة المشاهدة أننا نجد عقولا رياضية وعقولا فنية وعقولا علمية وعقولا فلسفية، وليس اختلافها في التفكير متوقفا على اختلافها في الكلام.
والحقيقة المشاهدة أن الكلام قد يضيق بأفكارنا فنلجأ إلى التعبير عنها بالرموز أو بتشبيهات المجاز أو بالأنغام والألحان ولو كان هو الأصل في تفكيرنا لما جاشت أنفسنا بفكرة واحدة لم تخلق لها قبل ذلك كلمة أو كلمات. والحقيقة المشاهدة أن كثيرا من المعاني العقلية ليست مما يتمثل للحس ويتسمى بالأسماء، ومنها الأقيسة والمقارنات.
ومذهب السلوكيين ينقض نفسه بنفسه في تعليل التفكير بالقدرة على الكلام. فانهم يزعمون أن الإنسان لم ينفرد بالسلوك أو يتفاعل الغرائز الجسدية التي تجري مجرى التصرف(761/6)
والتفكير. ولكنهم لا يذكرون لنا لغة للحيوان تصدر منها أفكاره أو تصرفاته، ولا مناص لهم من ذلك أن صح عندهم أن كل تفكير فمصدره لا محالة من الكلام.
وقد ناقش العالم النفساني الكبير وودورث هذا المذهب فساق من الأدلة على بطلانه أن الإنسان قد يقرأ قصيدة طويلة وهو يفكر - أثناء قراءتها - في شئ أخر. وليس ذلك بممكن لو كانت مسالة التفكير مسالة (عضلية) تتحرك فيها العضلات حين تحركها الكلمات.
وفي كتب هذه العلامة وكتب وليام مكدوجال على الخصوص إشباع واف للبحث في مذهب السلوكيين عن التفكير يرجع إليه من أراد التوسع في هذا الموضع.
ونوشك أن تقول أن تعليل التفكير بالكلام قد يكون تعليلا كافياً لأفكار السلوكيين ومن جرى مجراهم؛ ولكنه غير كاف لتعليل كل ضرب من ضروب الأفكار. . .!
عباس محمود العقاد(761/7)
مصاب العرب والعربية
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض لدى المملكة العربية السعودية
روعت الأمة العربية ليلة الخميس حادي عشر ربيع الأول بنعي علم من أعلام لغة العرب، وأديب نابغ من أدبائها، وكتاب مبدع من كتابها. فجعت أمة العرب في ابن بار منحها قلبه ولسانه وقلمه عشرات السنين؛ فما حل بها خطب، أو حز بها أمر إلا تصدى له ينصر امته، ويرمى عدوها بنيران من الكلم، يرمى بها عن قلبه ولسانه وقلمه. وما اتهم العرب متهم، أو ازدرى تاريخهم مزدر، أو تجنى على نعتهم متجن إلا انبرى يشيد بالعرب وتاريخ العرب ولغة العرب دفاع ذي الحفاظ الحر العارف الثبت وما كتب كاتب فجار عن القصد في كلمة من العربية أو قاعدة من قواعدها أو أخطأ في رواية من الشعر أو النثر إلا سارع يرده إلى الصواب، ويقيمه على المنهاج وهو في كل هذا لا يدعي ولا يزهي ولا يجور ولا يفخر بل كثيرا ما كان يخفى نفسه بأسماء يستعيرها وإن دل عليه أسلوبه، ونادت عليه طريقته.
وما ضم نديه جماعة من الأدباء - وما كان اشد حرصه على لقاء الأدباء - إلا أفاض في حديثه ودل على تمكنه في الأدب وسعة روايته، وقل أن ينصرف جليسه إلا بجديد يستفيده في اللغة والأدب.
ما احسب القارئ إلا قد أيقن إني عنيت مدرة العربية، الذائد عنها والمجاهد لها محمد إسعاف النشابيبي رحمه الله رحمه واسعة.
فمن شاء فليقرأ كلمته عن اللغة العربية التي نشرها قبل عشرين عاما، ومن شاء فليقرا كلمته عن شاعرنا شوقي وكلمته عن المعري، وخطته عن صلاح الدين في ذكرى موقعة حطين. ومن شاء فليقرأ رثاءه لإبراهيم هنانو ولعبد المحسن السعدون، ومن شاء فليقرا غير هذه من أثاره ليعرف أي قلب كبير فجع به العرب، وأي قلم فياض صوال حرمته العرب. وأي مدد فقدته الأمة العربية وهي في حومة الوغى. وما عهد القراء بعيد بهذه النقل التي والى نشرها في مجلة الرسالة منذ سنين فعرف بطرف من تاريخنا، ونوادر من أدبنا، وغرائب من سيرنا فملا ثارت الثائرة في فلسطين رأينا نقله في آيات الجهاد وأخبار(761/8)
المجاهدين لا تدري اجمعها بديهة أم كان لهذا اليوم عدها. ولقد مات رحمة الله وهو ينشر هذه الكلمات تثبيتا للمجاهدين وتوهينا للباغين.
وكان طيب الله ثراه، نسيج وحده، في كتابته وخطابته لا يتقبل أحدا ولا يشبه أحد انم كان صورة نفسه، وترجمان فطرته، ووحي نبوغه وعبقريته.
وحسب الإنسان أن يكون صورة متميزة ونجزة مستقلة واكثر الناس كما قال أبو الطيب:
في الناس أمثلة تدور حياتها ... كمماتها ومماتها كحياتها
وكان محمد إسعاف، طاب مثواه، خلقا من الأدب والمودة والوفاء يحرص على أصدقائه ويبالغ في إكرامهم والاحتفاء بهم، وكان إلى ذلك أبياً متجبرا ثائرا أن سيم خسف، أو عرض أحد لكرامته، أو توهم أن أحدا يحاول الازدراء به. هنالك يتجلى العربي الأبي فيما ورث من أخلاق العرب، وما أشربته نفسه من تاريخ العرب وأدبهم.
وكان، رحمه الله، يحرص في بلده على أن يلقى كل أديب يمر به، ويرى فرضا عليه أن يحتفي به ويؤنسه ويدعوه إلى داره. وكم كانت داره ندوة الأدباء ومجمع العلماء، وقد قال فيها بعض أصدقائه: (ولهذا شدتها على الجبل وفي ملتقى السبل، علما على علم وراية للمروءة والكرم).
لقد عظمت فجعة إسعاف على كل من عرفه حق المعرفة، وتبين الفراغ الذي خلفه هذا العربي العبقري، وإن مصيبة العرب كلهم فيك لكبيرة، وإن خسارة اللغة والأدب بفقده لفادحة: ولكن الرجل ترك فؤاده ولسانه وقلمه في هذه الآثار الخافقة النابضة التي يقرا فيها كل عربي وكل متأدب بأدب العرب علم إسعاف، وأدب إسعاف وحماسة إسعاف وجهاده لقومه.
وبعد فحسب الرجل أن جعل مثله الأعلى محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعل إعظامه وإجلاله ديدنه وهجيراه. ولقد رأيت في مكتبه من داره لوحا كتب فيه (محمد) وقد علقه على الجدار أمامه يرمقه وهو جالس إلى مكتبة. ولقد قال لي: حسبي هذا الاسم استوحى منه كل خير، واستمد منه كل سؤدد.
وقد حدثني انه كان في أزمة من أزمات حياته يناجي رسول الله قائلا: (يا محمد، خادمك وخادم دينك ولغتك تتركه لنفسه وتسلمه للأحداث).(761/9)
يا صديقي إسعاف، من لي بقلمك لأرثيك؟ انموا هذه كلمات كتبتها على عجل في هول الفاجعة التي تذهب باللب، ويطيش لها البيان، وان ذكراك لفي قلوبنا وعلى ألسننا وستبقى على أقلامنا ما ذكر الأدب العربي واللغة العربية، وما ذكر تاريخ العرب في العصور الثائرة التي نعانيها.
رحمك الله ورزقنا الصبر في المصيبة، وعوض العرب فيك خيرا.
عبد الوهاب عزام(761/10)
1 - الفتنة الكبرى
للأستاذ محمود محمد شاكر
بادرت إلى قرأت كتاب (الفتنة الكبرى) الذي صنفه الدكتور طه حسين، لأنه أول كتاب له عن رجل من رجاله الصدر الأول من الإسلام، وهو (عثمان بن عفان) أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنا اعرف الدكتور مكانه من العلم والتحقيق، وحسن تأتيه في تخريج الكلام؛ فمن اجل ذلك أيقنت انه سيملأ هذه الكتاب علما يضارع قدر هذا الرجل، ويوازن خطر الفتنة التي اضطرم سيرها في أخر خلافته، وانتهى باغتيال خليفة رسول الله اغتيالا لم يعرف تاريخ الإسلام ابشع منه ولا افظع. وقلت لنفسي أن أتجاوز الكلمة الأولى من الكتاب: أن طه خير من يصور للناس هذه الأحداث المختلطة المضطربة، وخير من يهديهم في شعابها إلى مفصل الرأي ومقطع البيان. وقديما ما ضل الناس في بيداء هذه الفتنة المظلمة، وقديما ما أخطأ الكتاب فهم هذه الحادث الجلل، وقديما ما حار الناس في أمر المسلمين الذين ذبحوا خليفتهم كما تذبح الشاة المظلومة، وقديما وحديثا ما خاض الناس فما خاضوا إلا مضلة لا يهتدي فيها سار إلى علم يفضي إلى جادة واضحة أو إلى غاية معروفة.
رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب، وأنا على مثل هذه الثقة التي وصفت، وبمثل هذا الأمل الذي أمليت، فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي، ولست احب أن يعرف القارئ لم اختلج الكتاب. فهذا حديث طويل لو بدأت القصة لما عرفت أين انتهي، فأنا طاويه عنه؛ لأني أوثر أن ادع قلبه حيث هو من الاستقرار والأمن والرضى، وأنا افعل هذا وإن شاء هو أن أنشر هذا الذي طويت، وافعله وإن كره لنفسه هذا الاستقرار والأمن من الرضى، وحسب القارئ أن ينظر معي إلى موضعين في هذا الكتاب، لم ينفض عجبي منهما ولن ينفض عجبه حين يقف على خبرهما.
وأسبق القلم فازعم أني أسلم جدلا، كما يقولون، بأن كل الذي أتى به الدكتور طه صحيح في جملته وتفصيله، وأن الصورة التي أراد أن يصور بها تاريخ عثمان رضى الله عنه وتاريخ أصحابه ومعاصريه صحيحة أيضاً في جملتها وتفصيلها، وأزعم فوق ذلك أني لا أخالفه في شئ منها خلافا ما، وإني لو كتبت تاريخ عثمان، وتاريخ الفتنة، لم اقل إلا بما(761/11)
قال إذ ذكر هذه الفتنة الخبيثة فقال ص109 (فالفتنة إذن إنما كانت عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء) وأنت خليق أن تنظر في هذا التكرار لهذه الصفة (وفتنة عربية) و (عامة عربية) لتعلم ماذا يريد بهذا التكرار، وما الذي يريد أن ينفيه من شركة أحد غير العرب في دم عثمان وأنت خليق وحري وجدير بان تفعل هذا وأن تتأمل فتطيل التأمل؛ لأنك سوف تلقى بعد قليل شيئا جديد كل الجدة، وحسنا كل الحسن؛ فما تكاد تمضي صفحات حتى ترى بابا في ص131 يبدأ هكذا:
(وهناك قصة اكبر الرواة (المتأخرون) من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثارها بعد، وهي قصة عبد الله بن سبا الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبد الله بن سبا يهوديا من أهل صنعاء حبشي الأم، فاسلم في أيام عثمان ثم جعل ينتقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغرى به ويحرض عليه، ويذيع به الناس آراء محدثه أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعا) ثم يقول: (وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلى أنه احكم كيده إحكاما، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد، وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور، وثبت على الخليفة فكان ما كان من الخروج ولحصار وقتل الإمام).
فأنت ترى من هذا لماذا أصر الدكتور منذ قليل على أن يصف الفتنة بأنها (عربية) وبان العامة الذين كانوا شرار هذه الفتنة كانوا (عامة عربية) أي أنه ليس لهذا اليهودي الخبيث عبد الله بن سبا يد فيها، وأن ليس لليهود عمل في تأريث نارها. وهذا تخريج بين جدا، لا يخالفنا فيه أحد ولا الدكتور طه نفسه فيما نعلم. ثم يمضي الدكتور في حديثه ليقول بعقب ذلك: (ويخيل إلى أن الذين يكبرون من أمر ابن سبا إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافا شديداً. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرا في (المصادر المهمة) التي فصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه. ولم يذكره البلاذري في انساب الإشراف، وهو فيما(761/12)
أرى (أهم المصادر) لهذه القصة وأكثرها تفصيلا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه اخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فما يظهر) واراني مضطر أن انقل لك أيضاً ما قاله الدكتور بعد ذلك في ترجيح رأيه وبيان حجته قال:
(ولست ادري أكان لابن سبا خطر أيام عثمان أم لم يكن؟ ولكني اقطع بان خطره، أن كان له خطر، ليس ذا شان. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم سلطانهم طارئ من أهل الكتاب اسلم أيام عثمان. . . . . ولو قد اخذ عبد الله ابن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديا فلم يسلم إلا كائدا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به ـأحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد الله بن سعد ابن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين (محمد ابن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة). لولا خوفه من عثمان. . . . ولم يكن ايسر من أن يتتبع الولاة هذه الطارئ ومن أن يأخذوه ويعاقبوه) ثم يقول في ص134 (فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط. ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل اقبل من صنعاء، وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديا ثم اسلم لا رغبا ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا، ثم أتيح له من النجاح ما كان يبتغى، فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه) ثم يقول: (هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ) هكذا يقطع الدكتور الرأي جملة واحدة!!
هذا هو الموضع الأول، أما الموضع الثاني فهو اشد الأشياء علاقة بهذا، ولكن الدكتور قطعه عنه قطعا كريما فترك صفحة 134 ومضى على وجهه في هذا البحث الجليل إلى أن بلغ ص209 لكي يقول: (وهنا تأتي قصة الكتاب الذي يقول الرواة أن المصريين قد أخذوه أثناء عودتهم إلى مصر، فكروا راجعين فهذه القصة فيما أرى ملفقة من اصلها) ثم اختصر قصة الكتاب اختصارا وقال: (كل هذا أشبه بان يكون ملهاة سخيفة منه بان يكون شيئا قد وقع. الأمر ايسر من هذا تلقى أهل الأمصار وعدا من أمامهم فاطمئنوا إليه، ثم تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده! فاقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذه الأمر وأن لا يعودوا إليه حتى يفرغوا). ثم تبين للدكتور أن إلغاء هذا الكتاب الذي أرسل إلى والى مصر يأمره بقتل رؤوس الوفد الذي جاء من مصر، ليس يحل الإشكال في عودة الوفد بعد أن فصل عن(761/13)
المدينة راجعا إلى مصر، وتبين له أيضاً أن الغرض الذي ذهب إليه من أهل الأمصار تبينوا أن الخليفة لم يصدق وعده، أي انه كذب عليهم باللفظ الصريح، شئ غير مستساغ فانه سال نفسه كيف تبينوا انه كذب عليهم فلم يعرف كيف يجيب فألقى الغرض كما هو وزاد عليه انهم اقبلوا ثائرين، (فلما بلغوا المدينة وجدوا أصحاب رسول الله قد تهيأوا لقتالهم، فكرهوا هذا القتال وانصرفوا كائدين، حتى إذا عرفوا أن هؤلاء الشيوخ قد القوا سلاحهم وأمنوا في دورهم، كروا راجعين فاحتلوا المدينة بغير قتال) ولكن رأي الدكتور طه وهو خير من يرى الآراء أن الغرض مدخول كله إذا لم يعزز بفرض آخر، ففكر وقدر، ثم نظر ثم قال: (وأكاد اقطع بان قد كان لهم من أهل المدينة أنفسهم أعوان دعوهم وشجعوهم ثم أعلموهم با عزم عليه أصحاب النبي، ثم أعلموهم بعودة المدينة إلى الهدوء والدعة، ثم انضموا إليهم حين حاصروا عثمان). وهذه كلها كما ترى فروض وتخيل، وإقرار أيضاً بما أنكره في أمر عبد الله بن سبا من تنظيم (الجماعات الخفية) التي تتستر بالكيد، فهو ينكر هذه المبدأ هناك ويقره هنا!! ثم يمضي الدكتور في فروض، فرضا من بعد فرض، حتى يريك كيف تعقدت الأمور فجأة إلى أن كان مقتل عثمان، ولكنه يختصر ذلك اختصارا غريباً عجيباً لم اعرف له مثيلا في كل ما كتب الدكتور وفرض وادعى ثم جزم الرأي وقطع به، مما يعرفه اكثر قراء العربية الذين قرأوا للدكتور منذ أول نشأته في الكتابة.
ولست احب أن اقف بك عند شئ إلا عند هذين الموضعين فأنا اكره الإطالة في تفليه كلام الدكتور، خشية أن لا انتهي، فان تحت كل حرف مما كتب علما كثيرا لابد من تفليه وغربلته ورده إلى وجوه الحق التي زال عنها إلى سواها، وأنت ترى إننا اضطررنا اضطرارا إلى الإطالة بالنقل. لئلا يفوت عليك شئ من لب حديث الدكتور وعلمه. وقد بدا الدكتور حديثه في إسقاط قصة اليهودي ابن السوداء عبد الله بن سبا فذكر أن (الرواة المتأخرين) اكبروا من شانها وأسرفوا فيها، وإنها لم ترد في (المصادر المهمة)، وان (ابن سعد) لم يذكرها وأن البلاذري لم يذكرها في انساب الأشراف (وهو فيما يرى الدكتور أهم المصادر)، أن الذي ذكرها هو الطبري (وأخذه عنه المؤرخين الذين جاءوا بعده فيما يظهر) كما يقول الدكتور.
1 - وبدء الدكتور بقوله. (الرواة المتأخرون) فيه إيهام شديد، متعمد فيما يظهر!! فان(761/14)
الطبري ليس من الرواة المتأخرين، فهو قد ولد سنة 225 ومات سنة 310 فهو معاصر (البلاذري) وفي طبقة تلاميذ (ابن سعد) صاحب الطبقات.
2 - أن سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري هذه الخبر هو من كبار المؤرخين القدماء، فهو شيخ شيوخ الطبري والبلاذري وهو في مرتبة شيوخ (ابن سعد)، فقد مات في زمن الرشيد، أي فيما قبل سنة 190 من الهجرة فلا يقال عنه ولا عن الطبري انهما من (الرواة المتأخرين) كما أراد الدكتور طه أن يوهم قارئه.
3 - إن ذكر الدكتور (المصادر المهمة) فيه إيهام شديد وإجحاف جارف، فإذا لم يكن كتاب الطبري من (المصادر المهمة) فليت شعري ما هي المصادر المهمة التي يبن أيدينا؟
4 - إن الدكتور طه يعلم أن كتاب ابن سعد الذي بين أيدينا كتاب ناقص، وانه ملفق من نسخ مختلفة بعضها تام وبعضها ناقص وبعضها مختصر، والدليل على ذلك مما نحن بسبيله انه ترجم لعمر في 84 صفحة ولأبي بكر في 33 صفحة فلما جاء إلى عثمان، والأحداث في خلافته هي ما يعلم الدكتور طه ويعلم الناس، لم يكتب سوى 22 صفحة فما ذكر علي بن أبي طالب والأمر في زمنه افدح لم يكتب عنه سوى 16 صفحة. هذه على أن في الكلام على طريق ابن سعد في تراجم الرجال شئ آخر غير كتابة التاريخ فانه لم يذكر في هذا الفصل إلا قيلا جدا مما ينبغي أن يكتب لو انه ألف كتابه في التاريخ العام لا في الترجمة للرجال. وهذا شئ يعلمه الدكتور طه حق العلم ولا ريب.
5 - انه كان من حجة الدكتور في نفي خبر عبد الله بن سبا اليهودي اللعين أن البلاذري لم يذكره، وهو فيما يرى (أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلا): ثم عاد فنفى أيضاً خبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل وقد مصر مع أن البلاذري ذكره وأطال واتى فيه بما لم يأت في كتاب غيره. ولا ندري كيف يستقيم أن يجعل عدم ذكره خبراً ما حجة في نفيه ثم ينفي أيضاً خبر أخر قد ذكره ولج فيه؟
وهذه الخمسة أشياء كنت استحي أن احدث الدكتور بها أو أناقشه فيها؛ لأنها من الوضوح والجلاء بحيث لا تخفى على رجل مثله خراج ولاج بصير بالعلم احسن البصر، ولكن بقى شئ واحد احب أيضاً أن يتاح لي يوما ما أن اعرفه، وهو: هل كان في نص البلاذري قديما ذكر عبد الله بن سبا اليهودي ثم سقط أو اسقط من الكتاب؟ وهذا لا يتاح لي إلا إذا(761/15)
وقفت على نسخة قديمة وثيقة من كتاب انساب الأشراف، فان هذه النسخة التي بين أيدينا إنما طبعت في اورشليم، وطبعها رجل من طغاة الصهيونية، وقدم لها مقدمة لم تكتب لا بالعربية ولا بالإنجليزية بل باللغة العربية! وليأذن لنا الدكتور أن نشك اكبر الشك في ذمة هذا اليهودي الصهيوني الذي طبع الكتاب في مطابع الصهيونية في أورشليم. فقد رأينا من قبل رجلا آخر حاطه الدكتور طه يوما ما برعايته وعنايته واستقدامه إلى الجامعة المصرية، وكان يسمى نفسه (أبا ذؤيب) إسرائيل ولفسون، (وهو الآن في فلسطين يجاهد في سبيل الصهيونية) فألف كتابا في تاريخ اليهود في بلاد العرب، وطبع في مصر وقدم له الدكتور طه مقدمة أثنى فيها عليه ثناء بالغا، ومع ذلك فقد وجدنا في الذي نقله من الأخبار، والأحاديث تحريفا وبترا واقتطاعا من نصوص محفوظة معروفة. أفلا يجوز لنا على الأقل أن نشك في أن اليهودي الآخر طابع كتاب البلاذري، يفعل مثل هذا؟ إننا على الأقل نشك ونتوقف هذا إلى أن طريقة التأليف القديمة وبخاصة ما كان على غرار تأليف البلاذري، قد يترك المؤلف فيها شيئا في مكان، ثم يذكره في مكان آخر، وكان أولى أن يذكر في المكان الأول، وهذا شئ يعرفه الدكتور كما نعرفه واحسن مما نعرفه، أفلا يجوز أن يكون البلاذري قد ذكره مثلا في ترجمة (عمار بن ياسر) أو (محمد بن أبي بكر) أو (محمد بن أبي حذيفة) أو رجل من اشترك في هذه الفتنة؟ وهو يعلم أن الذي وجد من كتاب البلاذري قسم ضئيل جدا طبع منه جزء في ألمانيا سنة 1883، ثم تولى اليهودي الصهيوني طبع جزء آخر هو الذي فيه ترجمة عثمان في سنة 1936، ثم طبع جزء سنة 1938 قال الناشر في مقدمته المكتوبة بالعربية أن هناك حوادث جرت في عهد يزيد بن معاوية، هي وقعة كربلاء وموت الحسين (ولم تذكر في ترجمة يزيد بل ذكرهما في تراجم بني أبي طالب، وذلك حسب ما اقتضاه نظام الكتاب وفقا لتسلسل الأنساب) كما قال بنص كلامه أفلا يجوز إذن أن يكون البلاذري قد ادمج أمر عبد الله بن سبا في مكان آخر كما فعل فيما لاحظه وذكره هذا اليهودي؟ كل هذا جائز ولكن الدكتور حين يريد أن ينفي شيئا لا يبالي أن يجتاز كل هذا ويغضي عنه ليقول فيه بالرأي الذي يشتهيه ويؤثره غير متلجلج ولا متوقف.
ثم كيف نسى الدكتور أن من لم يرو خبرا ما ليس حجة على من روى هذا الخبر وبخاصة(761/16)
إذا كان الرجلان من طبقة واحدة كالبلاذري والطبري؟ بل لعل الطبري أقوى الرجلين واعلمهما وأكثرهما دراية بالتاريخ وتحصيلا له وهو الذي روى عنه انه قال لأصحابه: (أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه. فاختصر لهم في ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك فقال: أنا لله!! ماتت الهمم!).
ومن قرأ كتاب الطبري في تاريخه أو تفسيره علم أن هذه حق، وان الرجل كان فارغا للعلم لا يلفته عنه شئ قط، ولا يدع شاردة ولا واردة إلا تقصاها وحققها ورأى فيها الرأي الذي لا يكاد ينقض. والفرق بينه وبين البلاذري لا يخطئه بصير بهذا العلم فليس من الحجة في شئ أن يقال (في عصرنا هذا): أن البلاذري لم يذكر هذا، فيكون ذلك كافيا في الرد على ما ذكره الطبري. وهذا شئ بين لا يحتاج إلى جدال كثير.
وإذن فالدكتور قد اشتط وركب مركبا لا يليق بمثله حين نفى خبر عبد الله بن سبا، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل المصريين بعد الذي قد رأيت من تهافت أسلوبه في البحث العلمي؛ وإذن فالدكتور قد خالف سنة العلم والعلماء في نفي الأخبار وتكذيبها بلا حجة من طريقة أهل التمحيص، بل تحكم تحكما بلا دليل يسوقه عن فضيلة البلاذري وتقديمه على الطبري، وبلا مراجعة للصورة التي طبعت عليها الكتب، وبلا دراسة لنفس الكتب التي ينقل عنها كما هو القول في ابن سعد والبلاذري معا. وإذن فيحق لنا أن ننقل هنا كلمة للدكتور طه نفسه قالها عندما ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الخلاف الذي كان بينهم، وذكر أو زعم انهم تراموا بالكبائر وقاتل بعضهم بعضا وزعم انه لا ينبغي لنا أن يكون رأينا فيهم احسن من رأيهم هم في أنفسهم فقال في ص172 من كتابه:
(ينبغي أن نذهب مذهب الذين يكذبون اكثر الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بينهم من (فتنة) واختلاف. فنحن أن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء فما ينبغي أن نصدقهم حين يرون ما يروقنا، وان نكذبهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكتب بعضه الأخر لا لشيء إلا لأن بعضه(761/17)
يرضينا وبعضه يؤذينا). وهذا حق، ولكن الدكتور يحتج به في معرض الطعن في الصحابة ومعرض القول في نسبة الأخطاء الماحقة إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعود فيسقط هذا الرأي، ولا يبالي به، ويخالفه اشد المخالفة في معرض رد الرواة الذين رووا لنا خبر الفتنة الخبيثة التي تولى كبرها عبد الله بن سبا اليهودي ولماذا بفعل ذلك لا ندري، بل الحق إننا ندري ولكننا نأبى أن نتعجل القارئ بحكم لم نأت فيه بالبينة التي تدفع كل أقوال الدكتور في قضية هذا اللعين ابن السوداء، فللقارئ علينا حق لا يحل لنا أن نخونه فيه وحقه هو أن يرى حجج الدكتور كلها أولاً، ثم حججنا متابعة ثانيا، ثم نعطيه الحكم ليأخذه أو يدعه على هدى وبصيرة.
وموعدنا المقال الآتي بأذن الله.
محمود محمد شاكر(761/18)
رأي مفتي حضرموت
فيما دار بين عزام باشا والسيد محمد بهجت الأثري
كان السيد محمد بهجت الأثري قد ناقش رأياً ورد في كتاب عزام باشا (الرسالة الخالدة) حول مسالة العدول عن النص إيثاراً للمصلحة، ونشرت هذه المناقشة في العدد 712 من الرسالة، وقد اطلع على هذه المناقشة السيد بامطرف من الكلام بحر موت، وعرضها على العلامة السيد عبد الرحمن ابن عبيد الله مفتي الديار الحضرمية، فأرسل في الموضوع: وهذا هو:
الجواب والله الموفق للصواب أن الحق فيما ظهر لي كان في جانب الأستاذ عبد الرحمن عزام ولكني رايته سلك من الإنصاف ما لا يلزمه حتى اقله إذ لم يزل مع الصواب في قرن فهو في مياسرة الدالة على طيب النية وصدق الإخلاص شبيه بذي الرمة إذ ورد الكوفة فاعترضه ابن شبرمة في قوله:
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
وقال انه يدل على زوال رسيس الهوى لأن نفى كاد للإثبات فلم ينفصل وقد قال عنبسه حدثت أبي بذلك فقال أخطأ ابن شبرمة وكان لذي الرمة الانفصال إنما هو كقوله تعالى لم يكد يراها والمعنى انه لم يرها وهذه شبيهة بتلك وليس الأستاذ بأول من قال بالعدول عن النص إيثاراً للمصلحة العامة بل له في ذلك السلف الطيب من السادة المالكية والحنفية والشافعية وحسبه من الحنابلة قول أحد أئمتهم وهو العلامة ابن تيميه في منهاج السنة أن الله بعث رسوله صلى الله عليه واله وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقبلها اهـ.
وقال الشوكاني في المسألة مذهب المنع مطلقا وعليه الجمهور والجواز مطلقا اي وإن خالف المنقول وهو المحكي عن مالك والثالث أن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي أو جزئي من أصول الشرع جاز العمل بها وإلا فلا قال ابن برهان وهو الحق المختار والرابع أن كانت المصلحة طردية قطعية كلية كانت معتبرة وإلا فلا، واختاره الغزالي والبيضاوي اهـ.
ولن يعوز الأستاذ عزام المبرر ولا سيما من الثاني والثالث، وإشهاد الخليفة الثاني(761/19)
بمراعاتها اظهر من ابن جلا، بل هو قطب تلك القاعدة فلا معنى لاستنكارها وذلك الخليفة الجليل نقطة بيكارها وسنذكر عنه من مثلها ما يشاء الله أن نذكر. منها ما استدل به الأستاذ عزام من قضية الخراج فقد عدل ابن الخطاب عن الآية المحكمة فيه وهي قوله جل ذكره: واعلموا إنما غنمتم من شئ فان لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل أن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير وقد قال الأكثرون ومنهم الشافعية إنما فتح السواد عنوة فكان غنيمة لا فيئاً. أما ما نقله الأستاذ الأثري عن أبي يوسف عن ابن الخطاب من احتجاجه على منازعيه بآيات الحشر فانه على الأستاذ لا له أما أولاً فلان آيات الحشر صريحة في الفيء الذي لا أيجاف فيه بخيل ولا ركاب لا في الغنيمة وبينهما بعد المشرقين. وأما ثانيا فان الشافعية يتأولون لابن الخطاب تأويلين أحدهما ما ذكره شراح المنهاج بأنه قسمه بين الغانمين ومنهم أولو القربى ثم استمال قلوبهم فبذلوه له فوقفه على المسلمين ولكن ما نقله الأستاذ الأثري من احتجاج ابن الخطاب بآيات الحشر بقطع خط الرجعة على هذا التأويل لأنه لو كان لم يكن للاحتجاج بتلك الآيات معنى وثانيهما ما ذكره الماوردي في الحاوي وأبو الطيب الطبري في شرح المزني أن عمر عوض الغانمين من ارض السواد وقفه على المسلمين، وهو مثل سابقه ومن أين لابن الخطاب ما يعوضهم به حينئذ عن تلك الأرض الطويلة العريضة وهو الذي لا يدع في بيت المال صفراء، ولا بيضاء إلا بترا منها إلى من يستحق وقال قدامة ابن جعفر في كتاب الخراج اختلف الفقهاء في ارض السواد فقال بعض تحمس ثم تقسم الأربعة الأخماس على الفاتحين كما فعل صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر لآية الأنفال المحكمة في ذلك وقال بعضهم إنها إلى رأي الإمام أن شاء جعلها غنيمة وان شاء جعلها فيئا كما فعل عمر بأرض السواد مصر انتهى مختصراً.
وهذا أيضاً لا يتناسب مع ما نقله العلامة الأثري من احتجاج ابن الخطاب بآيات الحشر وقال ابن جرير أن عمرهم أن يقسم ارض السواد بين الغانمين كما تقسم الغنايم ثم قال كيف بالأجام ومنابع المياه والغياض والهضب المرتفع والغائط المنخفض وكيف يصنع هؤلاء بالماء وقسمته أخاف أن يضرب بعضهم وجوه بعض ثم جمع الغانمين فقال لهم ذلك فرضوا أن تقر الأرض حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليها ثم يقتسمون غلتها في كل عام(761/20)
فقال عمر اللهم أني قد اجتهدت وقد قضيت ما علي اللهم إني أشهدك عليهم فاشهد اهـ.
وهو صريح في أنه إنما جمع الغانمين ليتلو عليهم ما رآه وما أداه إليه اجتهاده. وهو من أقوى الأدلة لما ذهب إليه الأستاذ عزام في أن أبن الخطاب إذا وقف به الأمر بين المصلحة والدليل كان من اجتهاده إيثارها عليه لاحتماله التخصيص والتأويل بخلافها وأما قول ابن جرير انهم رضوا فبعيد جدا مع كثرتهم وغيبة كثير من أولى القربى المشروط رضاهم مع شح الأنفس بالأموال بل قد أشار الأستاذ الأثري إلى حصول نزاع بين ابن الخطاب وبعض الصحابة في ذلك مما يدفع ادعاء الرضى، وقال ابن القيم ونازع في ذلك بلال وأصحابه فطلبوا منه أن يقسم بينهم الأرض التي فتحوها فقال عمر: (هذا غير المال، ولكن احبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين فقال بلال وأصحابه: اقسمها بيننا، فقال عمر: اللهم اكفني بلالاً وذويه فما حال الحول وفهم عين تطرف ثم وافق سائر الصحابة على ذلك وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق وارض فارس وسائر البلاد التي فتحت عنوة لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة ولا يصح أن يقال انه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم فانهم قد نزعوه في ذلك وهو يأبى عليهم ثم قال اعني ابن القيم وليس هذا الذي فعله عمر رضى الله عنه بمخالف للقرآن فان الأرض ليست من الغنايم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها.
وقوله أن الأرض ليست من الغنايم مبنى على قول ابن الخطاب أن الأرض ليست المال ولكنه مخالف للحقيقة اللغوية وان اخذ به السادة الحنابلة كما في المقنع وغيره من كتبهم أن المسلمين إذ غنموا أرضا فتحوها بالسيف خير الإمام بين قسمتها ووقفها على المسلمين وذهب مالك إلى أن الأرض المغنومة لا تقسم بل تكون وقفا يصرف خراجها ف مصالح المسلمين وقالت الحنفية بتخيير الإمام بين أن يقسمها بين الغانمين وان يقرها لأربابها على خراج أو ينتزعها منهم ويقرها مع آخرين وذهبت الشافعية إلى أن الغانمين يملكونها بانقضاء الحرب وهم اسعد القوم في هذه القضية بالدليل وعليه فدعاء ابن الخطاب على بلال وأصحابه كان بدون مبرر وقد اخرج البخاري عن عمر انه قال: أما والذي نفسي بيده لولا أن اترك آخر الناس ليس لهم من شئ ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر قال الشوكاني فيه تصريح بما وقع منه صلى الله عليه(761/21)
وآله وسلم إلا انه عارض ذلك عنده حسن النظر لآخر المسلمين فيما يتعلق بالأرض خاصة فوقفها عليهم
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد القادر(761/22)
رجل استأثر به الموت
للأستاذ شكري فيصل
لم اعرف المرحوم العلامة النشاشيبي من قرب، فقد كان اكثر ما عرفه عنه ما اقرأه، له؛ ولم القه أو اجتمع إليه لقاء طويلا وإنما هي صورة مما يتحدث به الناس عنه؛ ولم استمع إليه إلا مرة واحدة في دمشق لعلها كانت في مهرجان المتنبي في عيده الألفي،. . .
واستمعت إلى النبأ الفاجع بوفاته وأنا في هدأة من الليل، احتمي فيه من أذى الناس وعن قصد أو غير قصد. . . فاغرورقت عيناي بالدموع، وندت مني آهة عميقة، وأقفلت المذياع وجلست كما لو كنت أفكر.
ولم يكن بي من حاجة إلى تفكير، فليس اشق على نفسي من أن تلجا إلى التفكير البارد في حرارة المصاب ولوعة الفجيعة، وإنما كان ذلك انسياحاً في عالم من الخواطر تنساب على غير نسق وتمضي في غير نظام.
وتمثلت الأستاذ، وقد لمحته مرة في فندق الكونتننتال في العام الماضي، كتلة من الحيوية على اعتلال الجسم، وغلبة السقم، وتهدم البنيان؛ وغيرة على العربية على قلة الغير، وانعدام النصير، وغلبة التطرف.
وتخيلت صوته في مهرجان المتنبي، لكأني اسمعه الآن. . . دفقة من القلب. يتفجر من نبعه الإخلاص كما يتفجر الماء من العين الثرة الغزيرة، ويسري فيه الوفاء للعربية، ويطغى ويفيض حتى ليملأ كل ما حوله فإذا الذين يستمعون إليه يمضون معه وينساقون في هذه الموجة التي يخلقها صوت متهدج ولكنه قوي عنيف، وتسايرها يد مرتجفة ولكنها بيضاء نقية ويطفو عليها الحق فلا يلبث أن يأخذك الحق بالرضا عنه والقناعة به.
وعرضت في ذاكرتي هذه المقالات، وهذه التعليقات وهذه النقل. . . فكنت كالذي يعرض الثقافة العربية على اختلاف قطوفها وتباين ألوانها، وتعدد ثمرها. . . وانتبهت فجأة: أي ثروة عميقة خسرت الثقافة العربية حين استأثرت الخلود بروح النشاشيبي. . .
إن أصدقاء العلامة المرحوم اقدر على الوفاء بحقه، والذين خالطوه في عواصم العرب في القاهرة والقدس والشام وكانوا يستمتعون بكرم خلقه وكريم فضله اقرب إلى الإحاطة بصفاته والكشف عن نواحي التقدير في هذا الجسم الذي ناء بالمرض وأنما هي كلمة لرجل(761/23)
كانت تترك كتاباته وفصوله في نفسي إيمانا بحبه للعربية، ووفائه لها إيمانا لا أجده إلا عند القليل القليل. . .
إن الموت ليتخطف هؤلاء الأعلام. . . ولكن النشاشيبي لم يمت. . . فقد صارع الموت الذي كان يندس في كل أعضائه صراعا عنيفا وانتصر عليه في هذه الثروة الأدبية التي خلقها وهذه الآثار التي تركها، وهذه الروح العالية التي كان يفيضها على العربية والعرب، وعلى الإسلام والمسلمين.
أيها الغريب الذي طارده الموت حتى ظفر به بعيداً عن أهله ووطنه. . . . رحمة الله عليك. . . فقد أردت للعربية أن تعيش رفيعة مكرمة. . . فبذلت لها جهدك وكرست لها عمرك وأنفقت فيها حياتك. . . . اجزل الله لك الثواب، وجعلك في الخالدين في جنات النعيم. . . .
(القاهرة)
شكري فيصل(761/24)
ترجمة وتحليل
جزيرة الحب والجمال
بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
. . . عند مدخل خليج (نابولي) بإيطاليا جزيرة جميلة تسمى (إيسكيا أوحت إلى الشاعر الفرنسي المشهور (الفونس دي لامرتين قصيدة من عيون الشعر، فيها وصف رائع، وخيال خصيب وتصوير دقيق!
اختار الشاعر لوصف الجزيرة انسب الأوقات وأدناها إلى سعة الخيال، فعرض علينا صورة من إيذان الشمس بالمغيب وطلوع القمر بعدها في رفق وأناة فكان مبتكر في تصويره رائعا في خياله.
أصغ إليه وهو يرسل الشعر أنغاماً حلوة في مستهل قصيدته:
1 - (آن للشمس أن تحمل النهار إلى عوالم أخرى
فاخذ القمر يطلع في الأفق الخالي بلا ضوضاء
وراح - وهو يخترق الظلمات الحالكة -
يلقى برقعا وضاء على جبين الليل!)
فجعل القمر ينتظر رحيل الشمس بنهارها إلى عوالم أخرى لا تحد، ليطلع بليله في أفق خال ما فيه من الناس أحد. وجعله وقورا يتعالى في هدوء وسكون ليبدل دجى الليل نورا فإذا جبينه وضاح بعد أن ألقي عليه برقعة الشفاف، ثم يبدع في إبراز نور القمر فيدعوك إلى الطالة النظر ورجع البصر:
2 - (انظر من أعالي الجبال إلى أنواره المتموجة
كيف تغرق السهولة كأنها نهر من اللهب،
وكيف تنام في الأودية وتتزحلق على الهضاب
أو تتدفق من بعيد من صدر يتلألأ بالمياه!)
فلو تابعت أنوار القمر كما تابعها (لامرتين) لخيل إليك كما خيل إليه إنها تستطع من وراء رءوس الجبال، فرايتها تشع رويداً رويدا على السهولة، فإذا هي تنساب من فوقها كالأمواج: فتنقلب السهول في عينيك نهرا غزيرا؛ ولكنه نهر من السنة اللهيب لا من(761/25)
منهمر الماء؛ ورايتها تهبط إلى الأودية وئيدة مسترخية وإذا هي تستلقي عليها كالذي أخذته سنة من النوم: فتستحيل الأودية في عينيك فرشا وثيرة، غير إنها فرش بطائنها من النجم والشجرة لا من سندس وإستبرق؛ ثم رايتها تثب من نومها موفورة النشاط، وتتسلق الهضاب بخفة ورشاقة ثم إذا هي تزحف عليها في دلال كالذي استهواه الجليد فتزحلق عليه: فتصبح الهضاب في عينيك قطعا متجاورات من الجليد إلا انه جليد متناثر الحصى لا من متساقط الثلوج وبعد ذلك تراها تعدو كالسهم إلى مكان سحيق وتطوف في مجهل بعيد، فتبين من شعاعها إنها تحوم حول عيون وينابيع، فتغوص فيها ثم تتفجر من صدرها وتتدفق: فتصير الينابيع في عينيك حسانا باديات النحور بيد أن نحورها تتلألأ بلجين الماء لا بالدر والياقوت!
ويتأمل الشاعر المشهد تأملة الفيلسوف الذي يريد أن يتعمق كل مبهم، ويستبطن كل سر، ويجلو كل غامض ولو كان بعيد المتناول وعر الملتمس، غائبا عن الأبصار - فيرى بعين بصيرته ما لم يره بعين وجهه: يرى ظلا ممدودا ووميضا غامضا، فأما الظل فما مده إلا نتيجة عن منطقة النور وانزواؤه في بقاع الظلام الشاحب نورا وهاجا، وأن يضفي على ليله الفاحم البهيم شعاعاً من نهار لا زوردي بديع، ويزيد هذا الوميض غموضا وريبة وإبهاماً واستغلاقاً انه يعود حائلا خفيفا باهتا ضعيفا حيثما بعد عن العين في فضاء لا يتناهى واتساع لا يحد ومع ذلك فالآفاق تؤثر أن تسبح معه هنالك لتغرق في نوره.
3 - (والوميض الغامض. . في الظل الممدود
يضفي على الظلام الشاحب شعاعا من نهار لازوردي،
ومن بعيد. . . في فضاء لا يتناهى
يسبح بالآفاق غريقة في نوره الباهت!
ولكن لا مرتين يريد أن يصف الجزيرة وجمالها، لا الشمس وغيابها، ولا القمر وطلوعه، وإنما عرض للشمس في بيت وللقمر في ابيات، ليستلهم من ذهاب النهار بضجته، واقبال الليل بروعته معاني الخلود في قصيدته.
من أجل ذلك عاد إلى الجزيرة بقلبه ووجدانه وقلب البصر بين البحر وبين شطأنه، فوجد البحر عاشقا وألفى الشطئان معشوقة؛ وما كان البحر ليعشقها لولا إنها ساكنة وادعة وهو(761/26)
عاصف هائج - ولا يغلب العاصفة كالسكون، ولا يهدئ الهياج مثل الوداعة - فليسرع إلى تقبيل أقدامها كلما اشتدت به ريح ولا يحسبن في ذلك ذلة أو صغارا، ولضم بين ذراعيه جزرها وخلجانها كلما أرغى وأزيد، ولا يخافن في هذا لومه ولا عذلاً، ولتدب الحياة في هاتيك الشواطئ، فعشاقها (البحر) ينفخ فيها من روحه، وينعشها بأنفاسه الرطبة الخارجة من أعماق أعماقه. . . .
4 - (والبحر عاشق هذه الشطئان الوادعة
يهدئ وهو يقبل أقدامها، من عواصفه الهائجة
ثم يضم بين ذراعيه هذه الخلجان والجزر. . .
فتنتعش الشواطئ بنفسه الرطيب. . .)
ولا يفوت الشاعر أن يسجل منظرا عجبا سريع التغير، شديد الانقلاب كثير الالتواء: منظر الموج إذ يتقدم متلاحقا متدافعا، ثم يتراجع متقهقرا مهزوما، ففي تقدمه شوق كشوق المستهام إلى حبيبته ساعة يهذي كلوعة المتحسر ساعة يعود إلى الحقيقة، فيعلم أن الطيف خيال وان الخيال سريع الزوال.
5 - (ومن بعيد. . . يسر العين أن تتابع منظرا عجباً
فترى الموج يتقدم تارة ويتراجعأخرى
كالمدنف الولهان يضم إليه في هذيانه. . .
عذراءه التي تمثل أمامه ثم نقلت من بين يديه!
وكما رأى بعين بصيرته ما لم يره بعين وجهه، يسمع (لامرتين) بأذن قلبه ما لا يسمعه بأذن رأسه: يسمع لحن الموج والشاطئ إذ يتنفسان بتأوه وأنين أما الموج فيتنفس في تقدمه وتراجعه ويبث في الفضاء شكواه! وأما الشاطئ فيتنفس كلما ارتطم الموج بصخوره ويبث مع الفضاء شكواه! فكلاهما يتنفسان تنفس الصبي الحالم النائم الذي لم يبل الحياة بعد ويبث مع ذلك شكواه!. .
حقا إنها أصوات غامضة لا نعرف مبدأها ولا منتهاها، ولا نصل إلى سرها ولا نجواها؛ ولكنها - على غموضها - تطرب أسماعنا وتشغف اذاننا، وتشفغ اذاننا، وتسعد نفوسنا فهل هي أصداء لألحان السماء؟ أم هي أنفاس الحب ترددها ارض الشاطئ وموج البحار؟(761/27)
6 - (اثنان كمثل الصبي النائم إذ يتنفس
بصوت غامض يبث في الفضاء شكواه.
ليت شعري أصدى للسماء ما يطرب منه أسماعنا؟
أم نفس الحب ترددها الأرض والبحار؟
ثم يعود إلى الموج فلا يراه ثابتا على حال، يعلو طورا كالجبال ويهبط يتلاشى، فلا يبقى من لججه شئ، كهذه الإنسان يولد طفلا فيتم تكوينه ويبلغ اشده في الشباب، ثم يضعف مع تصرم الأيام كلما رد إلى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا، ثم يلقيه العجز على فراش الموت فيحتضر بعد أن يبلو الحياة حلوها ومرها ويجرب منها سعدها ونحسها، حتى إذا عجز عنها زهد في أمتع ما فيها وإذا ذاق من لذائذها شيئا ضاق به ذرعا وطلب سواه فما يزال يتحسر على المفقود ويسام من الموجود حتى يطوى اجله في كتاب.
فكأن تنفس الموج أنين الكئيب الذي يحزن على ما فاته من مفقود، لا على ما فقده من موجود فهو ملول مما عرف، راغب فيما لم يعرف وهو من ملله ورغبته يتنفس في ضيق، ويتلوه في حنين!
بل كان كل ما في هذه الطبيعة - لا الموج وحده - يتحسر مثلنا معشر الناس حتى في ساعات الهناء والنعيم!
7 - (إنه يعلو ويهبط. . . ويولد ثم يحتضر
كأنه ضاق ذرعا بأنواع اللذائذ
وي! كان الطبيعة تتنفس في هذه الليالي
متحسرة مثلنا حتى في ساعات الهناء!)
ويرى الشاعر عند هذا أن الإنسان خلق عجولا، يسرف في أنواع طلبه، ويزيد في ضروب رغبته، ولا يقنع بالحاضر من لذته، فيشيح بوجهه عن قليل بين يديه، حبا لكثير لا يصل اليه، فتضيق عليه الأرض بما رحبت ويعيش كاسفاً باله قليل الرجاء؛ فهو لم يمت فيستريح ولكنه ميت بين الأحياء فينادي لامرتين هذا الميت - وهو في اعتقادي لا ينادي غير نفسه - ليثوب إلى رشده، ويفتح لتيارات الحياة روحه: إذ الحياة لا تضيق إلا بضيق الأنفس ولا تظلم إلا بظلمها، كما لا تتسع إلا بسعتها ولا تشرق إلا بإشراقها. فليفتح الإنسان(761/28)
للحياة ما استغلق من أبواب قلبه حتى يشعر بأنه حي، أما إذا جعل دونها سدا فلا يلومن إلا نفسه إذا بقى ميت الروح. وليتلق الإنسان لذاذات الليل الحاضر، ومتعه العاجلة بجماع حواسه، حتى يشترك سمعه وبصره وذوقه وشمه وكل عضو فيه في الشعور بالحياة الحقيقية. وليغتنم الليل إذا سجا؛ فإن له لباسا يغشى وحجابا يستر، وظلا يناجي، وكوكبا يهدي. وليسكر بخمرة الغرام. فإنها أشهى المدام: أما إذا لم يفعل فهو في نظر هذا الشاعر ميت الروح حقيق بان يسمع النداء:
8 - (أيها الميت! افتح روحك لتيارات الحياة
وتلق بجميع الحساسات لذاذات الليل
فظله يناجيك ليسكرك بالغرام وكوكبه في السماء يطلع ليهديك!).
وإن في هذا الإغراء ما كان لمثلي أن يتقبله بقبول حسن ولا كان لي أن اسكت عليه لولا إني أمام قصيدة نصيبي منها ترجمتها وتحليلها، ولولا ما يشفع للشاعر من انه في (جزيرة الحب والجمال) وان له في تلك الجزيرة محبوبة تواعدت معه على اللقاء عند هضبة قريبة واتفقا على أن توقد نارا لتكون منارا يضئ بين الحب فيجد هدى في الاستدلال إلى الطريق. فالشاعر هنا يخاطب نفسه ويصور أحاسيسها قبل أن يخاطب أحداً أو يصور أحاسيس أحد. وإن ما في هذه القصيدة من قوة الروح لعائد إلى إنها نابعة من إعجاب قلب (لامرتين) في شئ من خصوصيات حياته.
فالنتيجة التي يريد أن يبلغها بنظمه هي إحاطة نفسه بشيء من معاني الجمال التي لا تتناهى في الزمان والمكان، وفيما تسمعه الأذان وفيما تبصره العين وفيما تمسه اليد وفيما يحسه القلب، قبل أن يصل إلى موعد اللقاء الذي تبدو فيه الحبيبة من بعيد منحنية انحناءة الزنبقة العطشى إلى الماء، لأنها عطشى إلى لقاء المحبوب، تتسمع كل نامة في الليل وكل حركة وتحسبها خطاه التي تذرع الأرض في سبيله، إليها لتكتحل عينه بمرآها، ويفرح قبلها برضاه.
9 - (أترى على الهضبة ناراً ترتجف من بعيد
هناك بيد الحب منار يضيء
هناك تنحني الحبيبة انحناءة الزنبقة(761/29)
وقد أعارت إذناً صاغية تتربص خطى المحبوب!).
هذه (ايسكيا) جزيرة الحب والجمال وصفها لامرتين فاحسن وصفها وسكب روحه كلها في أبياتها، لذلك اخترتها من بين قصائده لأترجمها وأحللها ما استطعت دليلا على إرهاف حسه وصدق شعوره وعمق خياله، ولأسجل إعجاب النثر بشاعر عظيم.
صبحي إبراهيم الصالح(761/30)
مسابقة الفلسفة الطلابية للسنة التوجيهية (3، 4، 5،)
3 - الحرية
للأستاذ كمال دسوقي
1 - جون استيوارت مل:
تضافرت ظروف (مل) الشخصية على أن تخلق منه رجلا متعدد نواحي الكتابة، فالتربية الشاقة التي أخذه بها أبوه كما رايت، وتدرجه حتى الرياسة في العمل بشركة الهند منذ السابعة عشرة حتى الخمسين، ثم رفضه الاستمرار في أي عمل بعد أن انحلت شركة الهند الشرقية فيما عدا عضوية البرلمان عن وستمنستر (1865 - 1868) قد أتاح له حتى وفاته سنة (1873) من الفراغ ما تمكن معه من نشر مذهب واسع. يتضمن - عدا كثير من المقالات في مجلة وستمنستر، ونشر مذهب بنتام وأبيه طائفة من الكتب - تكون مذهبا عاما - وان يكن لكل منها فكرته الخاصة.
تعدد شخصية استيوارت مل العلمية من خطر طلاب المسابقة، فانه لن يتحتم عليه أن يلموا بملء المنطق الكبير في مؤلفه الضخم (1843) ولا بملء الاقتصادي بحكم دراسته الأولى في كتابه: الاقتصاد السياسي (1848) ولا بملء الفيلسوف والإنجليزي النزعة في كتابه (النفعية الذي جمع مقالاته (1861) ولا بملء السياسي في كتابه: تأملات في الحكم النيابي (1861) ولا بملء الاجتماعي في كتاباته عن المرآة والدين والمنفعة - إلى آخره - اعني أن الكتاب الذي عن سيدرسه طلاب المسابقة يمكن تفهمه وحده في حدود معلومات عامة عن مل - كما يمكن - ابتغاه الاتفاق والتعميق فصل هذا الكتاب عن بقية آثار مل)
ومع هذا فلن يستطيع طالب المسابقة إلا أن يربط بين (الحرية) وكتاب (النفعية) على الأقل لأن هذا يبدأ حين ينتهي ذاك ومع أن الحرية قد تم نشره أولا (1859) بعد أن كانت فكرته منذ 1854 موضع الدرس والتمحيص والنقد من المؤلف وزوجته فان كتاب (النفعية) ترجع فكرته إلى مقالات قد نشرها من قبل تنقيحا لمذهب أبيه وصاحبه بنتام - ولكنه لم ينشر إلا (1861) - وفوق هذا فان مذهب النفعية لمل - كما يمثله هذا الكتاب - أوسع نطاقا من الحرية، لأنه يشمل الحياة الفردية والاجتماعية والخلقية والنفسية، كما يدخل في(761/31)
السياسة والاقتصاد ولذا تجد أن الناشرين الإنجليز يقدمون بين يدي مؤلفات (مل) بكتابه (النفعية) وإن كان كتابه عن الحرية أوفرها حظا من الدقة والعناية في دراسته وبالتالي أهم معبرا عن آراء الفيلسوف الخاصة واكثر كتبه ذيوعا.
لقد كان (مل) الصغير. وهو يسمى بذلك تمييزا له عن مل الكبير - أبيه جيمس من اتساع العقل ونفوذ الفكر بما لم يكن كثير من المؤلفين، فحقق الأمل الذي عقده عليه أبوه في اصطناع مذهب النفعية التي ورثه وصاحبه بنتام إياه وان يكن قد خرج به عما قصد إليه بعض الشيء فان المذهب بعد تعديل فيلسوفنا له قد قبله العامة اكثر من ذي قبل، مع انه لم يخل من الغموض والتناقض.
وخلاصة هذا المذهب في كلمة واحدة هي ما يتسع لها المقام هنا - ما تقول به نظرية المنفعة أو مبدأ السعادة من أن الأفعال تكون صوابا بمقدار ما ترمي إلى تحقيق السعادة، وخاطئة بقدر ما تؤدي إلى نقيض السعادة - ويعني بالسعادة هنا تحقيق اللذة وتجنب الألم كما يعني بالشفاء، تحقيق الألم، وامتناع اللذة. ويقوم هذا المبدأ على فكرة اللذة النفسية التي تفترض رغبة الإنسان بفطرته في أن يحقق لنفسه اكبر لذة ممكنة وأن يجتنبها كل ألم، على إلا يتعارض في رغبته مع رغبات غيره، وعلى أساس التضحية بالسعادة الفردية في سبيل سعادة المجموع، والسعادة، العاجلة انتظار لسعادة اكبر منها أجلة. اي تقديم الكيف في نشدان هذه السعادة على الكم وأخذها بأوسع معانيها بالنسبة لكائن متطور.
ولكي تفهم هذه النظرية - وغيرها من نظريات مل - ينبغي أن تقرنها بالنظرية التي يعارضها بها المؤلف قديما وحديثا - فإن مؤلفنا كل حريصا اشد الحرص على أن يميز نظرياته عما يسبقها، وأن يبين وجوه الشبه والخلاف بينها وبين غيرها - كما كنت طريقته في الكتابة أن يشرع بعد تعريف موضوع كتابه - وربما قبله - في نقد النظريات التاريخية السابقة، وتفنيد الآراء الحديثة الشائعة، ثم يعرض لنظريات بنتام وابيه، فيقد من هذه ويعدل ما استحق النقد والتعديل.
فهو في مذهبه النفعي الذي يؤكده ويحوم حوله في كل كتاباته، ويخصص له هذا الكتاب، إنجليزي حق، يتشبث بالواقع والتجربة المستمدة من التاريخ في تطوره والأمور في حقيقتها، ويحمل على المبادئ المثالية العقلية والافتراضات الميتافيزيقية القبلية (السابقة(761/32)
على التجربة ونظريته هذه في النفعية تعارض - اشد ما تعارض - نظرية (كانت) الأخلاقية، التي تجعل من الضمير والواجب والحدس الأخلاقي أساسا للفعل، فبينما هذه النظرية مثالية تزن السلوك الخلقي بالدافع عليه الذي هو أوامر قطعية يفرضها الضمير والواجب؛ إذا بهذه الأخرى واقعية مادية تزن السلوك بمقدار ما تحقق لنا غايته من سعادة ولذة ومنفعة.
2 - كتاب الحربية:
ولن يعنينا أن نتبع نفعية (مل) اكثر من هذا، ولكنا نعود إلى حيث قلنا انه حيث ينتهي قوله في هذه يبدأ مقاله عن (الحرية) فقد انتهت به مناقشاته لهذه النظرية إلى توكيد مبدأ على جانب كبير من الأهمية في فلسفته السياسية لأنه لما جعل من المنفعة مقياسا عاما ليقيم الأفعال، والحكم عليها بالخطأ والصواب بما تحمل في غايتها من تحقيق اللذة وتجنب الألم، تبين له أن تمت منافع جماعية هي اكبر أهمية من المنفعة الفردية بكثير، وأنها أولى بأن تكون مقدمة وقاطعة وأن هذه المنافع العمة - مع أن القانون والسلطة يقومان على حمايتها - لابد لها أن تستند إلى تأييد شعور الفرد وعاطفته وتفضيله بمحض أرادته أي إلى حريته.
ولم تنحل المشكلة بذلك حلا حاسما، بل أن النزاع لا يزال قائما منذ اقدم العصور فيما بين الحرية الفردية، والسلطة الاجتماعية نتيجة لتعارض المنفعة الشخصية والمنافع العامة المشتركة بين المجموع، واتخذ هذا الصراع بين المنافع مظاهر شتى يعرض لها بالتفصيل.
فالكتاب ككثير من الكتب قبله لأفلاطون وأرسطو وهوبز وغيرهم التي تبحث في فلسفة السياسة والحرية التي يقصدها المؤلف هنا ليست حرية الإرادة التي ضدها الجبرية في الميتافيزيقا والأخلاق بل الحرية الفردية التي ضدها السلطات الحاكمة في السياسة والاجتماع ومدى ما لهذه الأخيرة من سلطان على الأولى؛ فما نشا عنه على طول التاريخ - كما قلنا - صراع نجد اهم مظاهره عند اليونان والرومان وفي إنجلترا، بين طبقات الأهلين والحكومة أو بين الأهلين أنفسهم.
ذلك أن مشكلة الناس - حين يعيشون في جماعة - انه يلزمهم الخضوع لقانون وضعي، أو(761/33)
لسلطان المجتمع، حتى يحترم بعضهم حق بعض، وهذه المشكلة الأساسية في الحياة، وإن لم يحسن الناس حلا فيما يرى (مل) وذلك لتعدد الأهواء الشخصية وتعارض المنافع الخاصة والمنفعة العامة، ثم لسعي السادرة وراء مصالحهم الشخصية ومحاولة المسودين تملق هؤلاء السادة بفعل ما يحبون، وما يظن انهم يحبون وبغض ما يكرهون أو يبدو انهم يكرهون ما تزال مشكلة كل عصر وإن كانت تبدو في صور جديدة متغيرة.
وقد تتساءل: ولم تتعارض رغبات الفرد ورغبات المجتمع، وما دخل السلطات الحاكمة في هذا التعارض؟ فاعلم إذن أن الناس يختلفون في رغباتهم كما وكيفما، وأن الناس وإن أتحدث رغباتهم أفرادا، فأنه يتكون من مجموعهم (مجتمع) له هو الآخر رغبته الخاصة التي تختلف عن رغبة كل فرد على حدة - مع انه في حقيقة الأمر ليس إلا مجموع هؤلاء الأفراد - فثمة تعارض أبدا بين رغبات الفرد وبين (مجتمع) الأفراد وتمتد هذه العداوة إلى الحكام أنفسهم بوصفهم ممثلي هذا المجتمع والمعبرين عن رغباتهم، بمعنى أن عداوة الفرد للمجتمع الذي ينازعه لذته ومنافعه تتجسم شخص الحكام أنفسهم القائمين على حمايته وتنعقد المشكلة اكثر حين تتدخل في الأمر رغبات الحاكم نفسه كفرد - بان تكون له لذاته ومنافعه وأهواؤه الفردية - إلى جانب ما يقوم عليه باسم المجتمع.
وباسم هذه الحرية الفردية في التفكير والنقاش واستقلال الشخصية وصلاح المعيشة يتحدث (مل) في الفصول الثلاثة الوسطى من كتابه، فيمهد لها بمقدمة، ويلحق بها تطبيقات مما سيفصل القول فيه في المقالتين التاليتين.
كمال دسوقي(761/34)
فاس عاصمة الأدارسة
للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
بدأ إدريس في إنشاء هذه المدينة ببناء السور أولا وتشجيعا للعمال لإنجاز مشروعه اشترك بنفسه معهم. ويمكننا أن نستدل من وصف كتاب (زهرة الآس في بناء مدينة فاس) لأبي الحسن الجزنائي لكيفية بناء السور أن المدينة كانت على شكل دائري وأن أبوابها قد تعددت حتى زادت عن السبعة. تزل إدريس وحاشيته في المكان الذي عرق فيما بعد بعدوة الأندلس بعد أن خصص مكان لإقامة المرضى شرقي المدينة حتى تساعد الرياح الغربية على أبعاد رائحتهم وحتى يكون تصرفهم من الماء بعد خروجه من المدينة فلا يصل ضررهم إلى سكانها وكما هي العادة المتبعة في بناء المدن الإسلامية الجديدة شرع إدريس في بناء مسجد الشرفا في عدوة الأندلسيين.
واتبع إدريس خطة حكيمة لتعمير عاصمته الجديدة ذلك انه نادى في الناس بان كل من بنى موضعا أو اغترسه قبل بناء السور فهو له هبة لله فتبارى الناس في ذلك فاكثروا من العمارة ونوعوا في الغرس حتى أصبحت المحاصيل وفيرة مختلفة رخيصة أسعارها مما ساعد على ازدياد عمرانها ما كان يقع في ذلك الوقت من حوادث في الأندلس أبان أمارة الحكم بن هشام مما ترتب عليه هجرة بعض الأندلسيين إلى فاس على اثر ثورة أهل الربض وما أنزله بهم من عقاب صارم.
خصص إدريس لهؤلاء المهاجرين حياً خاصا عرف فما بعد بعدوة الأندلسيين وهو إلى الشرق من المدينة واصبح ينزل فيه كل من ترك الأندلس كما نزل الوافدين عليه من القيروان بحي خاص بهم يعرف فيما بعد بعدوة القرويين فكان مدينة فاس عبارة عن حيين كل منهما بفريق خاص.
وكما هو الملاحظ في نشأة المدن الجديدة فان فاس سرعان ما ازدهرت وأصبحت محط رجال كثير من العلماء والفقهاء حتى ينالوا حظ التقرب من رجال هذه الدولة الجديدة فاشتهر اسمها في الآفاق وأصبحت مقصد مسلمي مراكش منذ نشأنها وعلى كل حال إليها يرجع الفضل في تخليد ذكرى دولة الأدارسة ولولاها ما انتبه إليهم المؤرخ.(761/35)
ومن محاسن هذه المدينة موقعها الفريد؛ فهي بعيدة عن الصحراء المجسدية وعن البحار وأخطارها ولكنها تتصل بهما بطريق غير مباشر. تتصل بالصحراء بطريق بري وبالبحر بنهر سبوا. ثم أن هذه النهر أيضاً يشقها نصفين وتتشعب جداوله بين دورها وأنحائها ثم يخرج منها وقد حمل أقذارها وبعد أن يدبر رحيها. ولهذا النهر وكذلك ميزة خاصة في مياهه التي تساعد على شفاء كثير من الأمراض وأخيرا يجب إلا ننسى انه إلى القرب منها توجد كثير من مقاطع الأحجار وكميات وافرة من الكلس تساعد على نشاط حركة البناء.
وبعد أن اتم ادريس بناء مدينته اخذ يخرج لغزو ما جاوره من بلاد على فترات متقطعة منتظمة ولكن المنية لم تمهله اذ مات في ريعان شبابه قيل مسموما وقيل انه شرق بحبة عنب فمات. واختلفت الروايات في مكان دفنه فبعضها يقول في مسجد الشرفا بفاس وبعضها يقول انه دفن يجوار أبيه في وليلي. وبموته أخذت دولة الأدارسة في الاضمحلال ذلك أن اولاده قد تقاسموا البلاد مما ترتب عليه وقوع الشحناء والتنافس بينهم ومن ثم إلى انقسام الدولة وتفككها ومما زاد الطين بلة تلك الأخطار التي كانت تحدق بالدولة من الخارج.
فالفاطميون ومن قبلهم الأغالبة في أفريقية والمغرب الأوسط والأمويون في الأندلس وكل بعمل على محوها. وهكذا ترتب على هذا الاضمحلال السياسي اضمحلال حالة مدينة فاس فافل نجمها بعد أن سطع فترة من الزمن واصبح لا يقصدها إلا من أراد التبرك بزيادة بعض قبور الأدارسة لذلك لا نعجب إذا رأينا من الأمثلة المشهورة (فاس بلد بلا ناس).
أما لماذا اختارت إدريس الثاني هذه التسمية (فاس) لمدينته فقد تعددت في ذلك الروايات وان اختلف بعضها في التفاصيل فان اغلبها قد اجتمعت على وجود مدينة قديمة قبلها قد طمرت معالمها وانمحت أثارها حتى جاء إدريس الثاني فجددها في شكل مدينة فاس. فقيل أن هذا الاسم قد اختاره لها إدريس عقب ذهابه لرؤية المكان الذي تم اختياره إذ صادفه رجل اسمه على انه (فاس) فسمى المدينة باسمه. ولكن هذه الروايات ضعيفة، ولا يمكن الأخذ بها. ويرى صاحب الدرر السنية ويشاركه في هذه الرواية الجزنائي أن احسن ما يمكن أن نعلل به هذه التسمية أن الإمام إدريس عندما خرج لمعاينة المكان الذي اختير لمشروعه مر به شيخ كبير من رهبان النصارى قد زاد عمره على المائة والخمسين سنة(761/36)
كان مترهبنا في صومعة قريبة من تلك الجهة؛ فوقف على مولانا ادريس وسلم عليه ثم قال أيها الأمير ما تريد أن تصنع بين هذين الجبلين. قال أريد أن اختط مدينة هنا يعبد اله تعالى بها، ويتلى بها كتابه وتقام بها حدوده. قال أيها الأمير أن لك عندي بشرى. قال: وما هي أيها الراهب؟ قال: انه اخبرني راهب كان قبلي في هذا الدير له منذ توفى مائة سنة انه وجد في كتاب علمه انه كان بهذا الموضع مدينة تسمى (ساف) خربت منذ ألف سنة وانه يجددها ويحيى أثارها ويقيم دارسها رجل من آل بيت النبوة يسمى ادريس، ويكون له شان عظيم وقدر جسيم لا يزال دين الإسلام قائما بها إلى يوم القيامة فقال مولانا إدريس: الحمد لله أنا إدريس وأنا من آل بيت رسول اله صلى الله عليه وسلم وأنا بانيها أن شاء الله تعالى. فلما بناها قيل له: كيف تسميها؟ قال: باسم المدينة التي كانت قبلها (ساف) ولكن اقلب اسمها الأول ونسميها بقلبة وسماها (فاس) وهذه العامة المتفق عليها ولكن في الغالب انه كانت هناك مدينة قد اندثرت معالمها وهذا ما دفع الجزنائي إلى القول (ويدل على ذلك ما رواه البرنس أن رجلا من اليهود احتقر أساس دار من قنطرة عزيلة من المدينة المذكورة. . . فوجد في الأساس قطعة رخام على صورة جارية منقوش على صدرها بالخط الهندي هذا موضع حمام عمر ألف سنة ثم خرب فأقيم موضعه بيعة العبادة)
ويذكر لنا الجزنائي رواية أخرى ينقلها عن صاحب الاستبصار وهي أن الأمام إدريس عندما شرع في بناء مدينته كان يعمل فيها بيده كما سبق ذكره فصنع اله فاس من ذهب وفضة فكان الإمام إدريس يمسكه بيده ويبدأ به الحفر ويختط به الأساسات للفعلة فكثر ذلك على السنتهم طوال مدة البناء فكان الفعلة يقولون هاتوا الفأس، خذوا الفأس، احفروا بالفاس، فسميت مدينة فاس. وربما كان هذه الرواية اقرب إلى الصحة على الرغم من أن الجزئاني لا يأخذ بها ولا يؤيدها بل يعارضها لأنه يرى فيها ما يتنافى مع تمسك الإمام إدريس بعقيدته الإسلامية التي تتنافى مع استعمال الذهب بهذا الشكل وعلى أي حال فان استعمال الذهب أو الفضة بهذا الشكل، ما زالوا معمولا به حتى يومنا هذا عندما يقوم بعض الملوك أو من يمثلهم في الاحتفال بوضع الحجر الأساسي لأية منشاة جديدة لذلك نراه ينتقل إلى ذكر رواية أخرى وجدوا فأسا كبيرا طوله أربعة أشبار سعته شبر واحدة وزنته ستون رطلا من علم الأوائل فسميت المدينة به.(761/37)
بقيت كلمة صغيرة عن جامع القرويين ذلك انه لما كثر على مدينة فاس الواردون أيام يحي بن محمد بن ادريس كان ممن قدم عليها من القيروان محمد بن عبد الله. الفهري القروي ونزل كما هو المتبع بعدوة القرويين مع اهل بلده. وعند وفاته ترك ابنتين قد تحصل لهما ميراث كثير رغبتا أن تصرفاه في وجوه البر فلما علمتا أن الناس في حاجة لبناء جامع كبير في كل عدوة من فاس لضيق الجامعين القديمين بالناس، شرعت إحداهما في بناء جامع عدوة القرويين أما الآخر فقد تكفلت ببناء جامع الأندلس. وفي سنة 307هـ أزيلت الخطبة من جامع الشرفا لصغره وحل محله في ذلك جامع القرويين لاتساعه وكبره والذي اصبح ملتقى العلماء والطلاب لسماع بعض الدروس الدينية فيه وما زالت حلقاته عامرة إلى يومنا هذا.
مصطفى بعبو الطرابلسي(761/38)
من وراء المنظار
انتقام!
صخاب ثائر لا يقر له قرار، ينبعث صوته الغليظ الضخم من قاع حنجرته فإذا به مثله خوار الثوار إذا اهتاج؛ وانه ليحدث من الضجيج وحده مالا يحدثه نفر من الرجال مجتمعين، وما انبعث جلبة من الشارع في اي ساعة من النهار أو الليل إلا ردها أهل الحي اليه؛ ولا شهدوا زحمة أما دكانه إلا أيقنوا إنها (خناقة) وهو بطلها، ولا وقعت مشاجرة فعلا إلا سألوا من المضروب هذه المرة فما يقع في وهمهم قط إلا انه هو الضارب، وما احسبهم لو رعدت السماء وأرقت إلا ظنوا بادئ الرأي انه بدا إحدى معاركه. . ذلك هو بائع عصير القصب الذي ابتلانا به الله فجعل دكانه تجاه بيتنا يفصل بيننا وبينه الشارع، والذي استغنى به من يخوفون الأطفال عن (البعبع) والغول والدب وأبى رجل مسلوخة واضرابها، ولا عجب فانه والله لحري أن يخوف به الرجال.
فظ غليظ في حدود الأربعين، بين الطول والقصر، متكرش كأنه بطنه قربة سقاه تحت ثوبه تترجرج، ضخم الزندين، متشحم العاتقين، غليظ العنق، منتفخ الأوداج، مترهل اللغاديد، صغير الراس حتى لتبدو عمامته الصوفية البيضاء نصف وجهه، مفتول الشاربين صغير الحدقتين ضيق الجبهة، واسع الفم طويل الأنياب: يحسبك أن تنظر إليه لتوقن أن في بني ادم من ينتسبون إلى الآدمية ظلماً. .
وقف هذا العتل أما دكانه يصفع بيده الغليظة (صبيه) وهو فتى في نحو الخامسة والعشرين قصير غير بدين ولا نحيف، وعجبت إذ رايته مطرقا مسبل العينين وملابس العمل تحت إبطه، لا يتحرك إلا بقدر ما يتحاشى الصفعات واللكمات ولكنها تنزل جميعا على وجهه وقفاه وعاتقيه؛ والمني هذا العدوان وما فيه من فظاظه كما أحزنتني هذه المذلة التي كثير ما يكرب نفسي أمثالها، ولعمرك ما أتألم لشيء ولا اثور لمنظر بقدر ما أتألم وأثور لمرائ إنسان في موقف المذلة حتى لو كان من الأثمين؛ ولطالما سالت نفسي متى اج في شعبنا هذا من الأنفة والحفاظ ما ينسيه ذل القرون وأقول متى يستكبر عامة الناس في هذه الأمة فيتطامن لهم من عليته وغاصبيه المستكبرين؟
وحسبت أول الأمر أن هذا العامل قد اقترف سرقة أو خيانة، حتى سمعته يقول وهو مسبل(761/39)
العينين في تخشع (عم على. . . . لم تضربني.؟ أنت أخرجتني) وكان أحرى به، أن يقول: يا ايها الغول أو (يا عم الدب) وقال الغول في صوته الفظيع وكأنما يريد أن ينشب أظافره في عنق هذا المسكين (لأنك لا تريد أن تبقى حتى أتى بغيرك).
وامتلأت حنقا وألما لهذا البغي يقع من الغول صاحب راس المال على الفريسة المسكينة ذلك العامل الضعيف، ولو كنت في ملابسي التي اخرج بها إلى الشارع لاقتحمت على الدب كهفه ولو ادى الأمر إلى وقوعه بين أنيابه.
ونظرت فإذا فتى في مثل عمر المضروب وفي مثل قامته وجرمه، يقف أمام الدب ويسأله في عنف والشر ملء وجهه وقد تجمع السابلة والألم في وجوههم جميعا (لم تضرب هذا الرجل؟. .) ونظر إليه الدب نظرة استهزاء ظن إنها حسبه ليخاف وعاد يضرب العامل مبالغة منه في عدم المبالاة فما كاد يرفع كفه حتى نزلت على صدغه هو، اي والله على صدغ الدب السميك، كف ذلك الفتى! ودهش الناس جميعا وتحمس بعضهم فصفقوا وهرول الغول إلى دكانه فاحضر سكنيا، ولكن الفتى باغته بكرسي ألقاه على رأسه، ثم اختطف سكينة واخذ بتلابيبه بيده ورفع السكين بالأخرى قائلا (هيه. . . افتح كرشك يا. .) واخذ الناس السكين من الفتى وخاف البعض عليه من الدب، ولكن ما راعنا جميعا إلا الدب يرتمي على الأرض كأنه جذع شجرة ضخم والناس يصفقون للفتى ضاحكين معجبين. .
ونهض الفحل ثقيلا مستخزيا واستنوق الجمل، وحال الناس بين الفتى وبينه وإن الفتى ليتوثب ويتهدد، ولست ادري لم طرأت على ذهني وقتئذ صورة ديكتاتور إيطاليا وكيف لبث يخوف العالم زمنا حتى اكتشف أمره.
وحسبت أن بين الفتى وبين ذلك العامل المسكين صلة من قرابة أو نسب، ولكن لم يكن بينهما كما علمت شئ من ذلك حتى ولا مجرد المعرفة ونزلت إلى الشارع في ثياب البيت لأقابل البطل إذ يمر ببابنا بعد أن دخل ذلك الجمجاع دكانه لا يلفظ كلمة، ومددت يدي للبطل وقلت (أترضي أن تتخذني صديقا) فضحك وقد فظن إلى أني رأيت كل شئ وقال في تأدب (يا فندم أنا محسوبك) وعزمت عليه فشكرني ومضى وأنا معجب بنخوته أسال الله أن يكثر من أمثاله.
الخفيف(761/40)
الشاعر
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
(مهداة إلى الطائر الصامت الصديق الشاعر الأستاذ المهدي
مصطفى)
إلى مثله تصبو عذارى الخواطر ... وفي يومه تصحو سكارى المزاهر
وفي كل همس حول معناه ضجة ... وفي كل معنى منه أقنوم ساحر
ألَّم على الأيام يسقى جديبها ... ويبني جديداً فوق أطلال دائر
هو الشعر ما غنى ربيع، وما بكى ... خريف، وما اخضلت عيون الأزاهر
تراتيل أنسام، وتسبيح جدول ... وانه موجوع، ومصباح جائر
تشهته أم الفجر معنى لضوئه ... وعاقره في الليل صمت الدياجر
وودت بنات الزهر لو أن غرفها ... من الفن نهب للسوافي الثوائر
وإن حياة لا تحس جمالها ... لتكنيف مصفود، وصفقة خاسر
هو الشعر ما كانت حياة، وما جرى ... على صفحة المقدور إلهام قادر
تغنت به الآباد من قبل عزفه ... كلاماً فجاب الدهر اول عابر
وأرهض للأوتار من قبل عزفه ... كلاماً فجاب إلهام قادر
ودقت نواقيس الحياة، وأطلقت ... رهابينها في الأرض سحر المزامر
ونادى مناد في السماوات: أو قدموا ... كواكبها فاليوم ميلاد شاعر
فضج باعراس السماوات عيدها ... وقر على شط الحياة شريدها
تجردت الأنغام فهي عوالم ... يترجم أسرار الوجود وجودها
وأقبل رب الشعر في آي موكب ... تحف به حور السماء وغيدها
وطاف به جبريل قبل نزوله ... إلى العالم المحدود والرض بيدها
فلما دنا من جوهر الشعر زلزلت ... به الساحة الكبرى، وماج أبيدها
وقيل له: يا شاعر الكون هذه ... هي الجذوة الأولى، وأنت وقيدها
وغوث بالنار القديمة كاهن ... ومس بها الدنيا فضاء عمودها(761/42)
ودب بها معنى جديد، وامرعت ... بطائحها الجدباء واخضر عودها
واطلع ساقي الشعر في البيد كرمة ... منغمة يحدو الزمان نشيدها
ونادى نبي قومه: تلك واحة ... على الأفق عذراء الجنان ولودها
فما آمنت بالشعر إلا لحونه ... وران على الأرض العجوز جمودها
وقدر للدنيا الشقاء فألحدت ... وجدف غاويها، وضل رشيدها
واشرعت الأطماع فيها ضغائناً ... يجادل في معنى السلام حديدخت
وما كدر الأيام إلا ظماؤها ... وهل شاب ماء العين إلا ورودها
فلا طاب نفسا بالحياة شقيها ... ولا قر عينا بالحياة سعيدها
أنشد في دنيا الحيارى من اهتدى؟! ... أفي الحانة الحمراء ترتاد معبدا؟!
هرقت إذن - يا سادن الشعر - لحنه ... وأهدرت للغافلين نايا مسهدا
هي الأرض طبع في بنيها. ومن تكن ... جبلته الأولى ترابا تمردا
وكم ضارب فيها تعكاز تائه ... يعد من الموتى ترابا تمردا
وكانت حياة الناس لولا زحامهم ... عليها طريقا للسلام معبدا
فلا تك نجما جاوز الليل وحده ... ببيداء فأنثالت أشعته سدى
لمن شارق في الأفق أن كنت لا ترى ... وفيم هتاف الورق أن كنت جلمدا
هنالك والدنيا رواية ظالم ... إلى وقصة مظلوم، وتلفيق منتدى
وفي ليلة ظلماء ينسل برقها ... كما جردت كف الكمي المهندا
وفوق رباة يكمن الدهر عندها ... وتبصر فيها - قبل مولده - غدا
دعا ربه الشادي، وأوفى بشعره ... إلى العالم الثاني، ومد له بدا
وكف عن الأوتاد فهي نواشز ... كأعصاب محموم ألح به الصدى
وقال بنو الموتى: (لقد مات شارعر) ... وكيف يذوق الموت من كان مخلدا
بقدر شعور المرء يمتد عمره ... وفي حماة الأوهام يردى بنو الردى
وما مات شاد بالجمال، وإنما ... إلى عالم الألحان عاد كما بدا
ومن فهو الأيام لحنا مجدداً ... قرأت له الأيام لحنا مجددا
طاهر محمد أبو فاشا(761/43)
الأدب والفن في أسبوع
الفنون في المولد النبوي:
كان الأسبوع الماضي أسبوع المولد النبوي، على صاحبه الصلاة والسلام، فقد تعطرت النوادي بهذه الذكرى الحبيبة، وتحلت الصحف والمجلات بما نشرته فيها من الكلمات الطيبات، وأذاعت لها دار الإذاعة برنامجا حافلا استثمر أسبوعا، وقد افتتحه صاحب الفضيلة الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية واختتمه الأستاذ احمد حسن الزيات بحديث بليغ عن (بلاغة الرسول).
ولا أحب إلى من أن أبدا في هذا الأسبوع بالكتابة في هذه المناسبة الكريمة، مسجلا المظهر الرائع الذي بدا في الاحتفال بالمولد هذا العام، من حيث اتجاه الفنون الجميلة إلى الاشتراك فيه، فإلى جانب الأدب من كتابة وخطابة وشعر، نسمع المطربين يصدحون بالأغاني المؤلفة في مدح الرسول وذكرى مولده ونسمع كذلك التمثيليات الإذاعية والبرامج الخاصة ومما يلفت النظر أن الجمعيات الدينية كالشبان المسلمين والإخوان المسلمين، أدخلت التمثيل في بارمج احتفالاتها، فمثلت على بعض المسارح تمثيليات في تاريخ الصدر الأول من الإسلام. وهكذا تعاونت فنون الأدب والغناء والتمثيل على الحفاوة بمولد الرسول في هذا العام، ولا أقول إنها أكسبته جمالا وروعة، بل هي التي اتخذت منه موضوعا لإبراز جمالها الفني. . . وأي موضوع ادعى إلى الإبداع الفني من ذكرى الحبيب محمد بن عبد الله الذي انتقل حبه إلى قلوبنا على تعاقب الأجيال بتيار رسالته المشعة الهادية واي شئ اليق بالفن من الحب. . .؟
السفينة العربية:
وقد استرعى انتباهي حسن التفات الأستاذ الزيات في حديثه إلى قوله عليه السلام (إن قوما ركبوا سفينة فاقتسموا فصار لكل رجل منهم موضع فنقر رجل منهم موضعه بفاس، فقالوا: ما تصنع؟ قال: هو مكاني اصنع لا فيه ما أشاء فان اخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا) وذلك من حيث تطبقه على دنيا الإسلام والعروبة اليوم إلى أن قال بالأستاذ: (وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بما أتاه الله من المعية الذهن وإشراق الروح كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، فضرب هذا المثل الجامعة الدول العربية لعلها تتذكر فتتدبر)(761/45)
أقول: حيا الله شعب العراق، فقد حال دون خرق السفينة العربية بهبته في وجه المعاهدة التي تهدد سلامة السفينة إذا اختلفت إحدى الشقيقات مع الإنجليز. . . وحيا الله دولتي سوريا ولبنان، فقد أبتا أن تصنعا في مكانهما شيئا برفضهما التعاهد مع الإنجليز حتى ينتهي الخلاف بينهم وبين مصر، وعلى جامعة الدول العربية قائدة السفينة أن تتذكر فتتدبر.
لقد قوض العرب الأولون أركان الدولة الشرقية (الفارسية) والدولة الغربية (الرومانية) وكانت عدتهم في ذلك الوحدة والأيمان والتضحية ونحن ألان لا عاصم لنا من الكتابة الشرقية والكتلة الغربية إلا هذه الصفات، ويخيل إلى أننا أخذنا بالوحدة واقتربنا من الإيمان، ولكنا لا نزال بعيدين عن التضحية لأننا غارقون في الأثرة متعلقون بالرياسة وحب السلامة.
ويوم تتم لنا تلك الصفات تجد (الكتلة العربية) مكانها على قدم المساواة أن لم يكن في موضع المتغلب، وليس هذا اليوم ببعيد،
نشوء القومية في المانيا:
كان (نشوء القومية في المانيا وتصادم النظريتين الألمانية والفرنسية في تعريفها وتحديدها) موضوع المحاضرة الثانية من سلسلة المحاضرات التي يلقيها الأستاذ ساطع الحصري في الجمعية الجغرافية الملكية والتي حدد لها يوم السبت من كل أسبوع.
قال الأستاذ: كانت المانيا في أواخر القرن الثامن عشر إمارات ودويلات متفككة سياسيا وان كانت ذات وحدة لغوية ثقافية ولم يكن أهلوها يشعرون بالقومية، وكان علماؤها وأدباؤها يتجهون في تفكيرهم وإنتاجهم نحو الإنسانية والعالمية فلما قامت الثورة في فرنسا أيدوا ارتياحهم أليها مؤملين أن تقضى على النعرات الوطنية وتهدف إلى تحقيق الخير للبشر ولكن لم يلبث أملهم أن خاب عندما غزاهم نابليون، وفرض عليهم حكما استبداديا لحقت بهم الكوارث من جرائه؛ فشعروا بالحاجة إلى الوحدة والتكتل وبدا المفكرون يوجهون الشعب نحو القومية، وشرع الأدباء والشعراء في إنتاج الأدب الوطني الحماسي الذي جعل لهذه الفترة مظهرا بارزا في تاريخ الآداب.
وكان على راس أولئك المفرين (فخته) الذي دعا إلى محاربة التفرق واضعف والى تعميم(761/46)
التعليم وتربية الشعب تربية تنتقي فيا الأنانية، وبث في أبنائه أن عليهم رسالة كبيرة يؤديها للبشر عامة، برفع شان وطنهم أولا، ثم نشر الرسالة في خارجه وبهذا مزج بين الوطنية والعالمية، وكان يوجه كلامه إلى سكان جميع البلاد التي تتكلم الألمانية برابطة اللغة.
وأدت هذه الحركة إلى تكوين جامعة الدول الألمانية التي كانت تنظم العلاقة بين هذه الدول وإن كان يحكم كل منها حاكم مستقل وتحققت وحدة اقتصادية وتقدمت الصناعات وقوى الجيش. ووجدت المانيا الفرصة سانحة في الانضمام إلى الحلفاء ضد نابليون فاشتركت في حربه معها، ولكن الحلفاء بعد أن تغلبوا على نابليون عاكسوا الحركة القومية في المانيا زمنا طويلا، حتى قيض لها بسمارك، فعمل على تحقيقها بمختلف الوسائل.
وبعد أن أفاض الأستاذ في بيان ذلك انتقل إلى النقطة الثانية من المحاضرة، فقال انه في خلاف تلك الحوادث نشأت نظريتان في تعريف القومية: النظرية الألمانية القائلة بان القومية كائن حي روحه اللغة الواحدة، والنظرية الفرنسية التي تقول بان القومية ليست كذلك وإنما هي شئ يقوم على مشيئة الشعب، وواضح أن كلا من النظريتين كان يدفع أصحابها إلى القول بها مصالح بلاده فالفرنسيون لا يقولون باللغة أساسا للقومية لأنهم كانوا يريدون أن يضموا جزءاً كبيرا من المانيا إليهم بحيث تكون حدودهم عند نهر الرين، والألمانيين يقفون في سبيلهم داعين إلى وحدة بلادهم وهي ذات لغة واحدة.
واستعرض الأستاذ آراء كل من الطرفين، ثم قال انه كان متأثرا بالنظرية الفرنسية ولكنه بالبحث والتأمل تبين له بطلانها لأن المشيئة ليست أمرا ثابتا محدودا، وارد حوادث دلت على تغيرها، ولأن هذه المشيئة إنما تكون نتيجة للعوامل الأساسية كاللغة والتاريخ، وختم الأستاذ المحاضرة بقوله أن صحة نظرية القومية القائمة على اللغة وفساد نظرية المشيئة، سيتبين بشكل أوضح في المحاضرة القادمة عندما نتكلم على الفكرة القومية في النمسا والبلقان وتأثير اللغة والتاريخ فيها.
الشعر الآن:
رددت الصحف أخيرا قولا للأديب الفرنسي جيد: (إذا وجد في أي بلد شعراء مجيدون وإذا احب أهل هذا البلد قراءة الشعر، فاعلم أن النظام السياسي هناك نظام صالح قويم. أما إذا خلا البلد من الشعراء والنوابغ، وإذا عزف الناس عن قراءة الشعر وترتيله، فاعلم أن(761/47)
النظام السياسي هناك نظام فاسد معوج. وفي البلد الأول قلما تقوم الثورات والقلائل، وفي البلد الثاني قلما يهدا الناس ويرضون عن حياتهم).
ويبدو لي أن الربط بين وجود الشعراء وإقبال الناس على الشعر وبين استقرار الأحوال واطمئنان الناس في حياتهم 0يبدو لي أن هذا الربط يقوم على اعتبار الشعر ترفا فنيا وعلى ما يسود حياة الناس من هدوء بال وهناءة عيش فيقبلون على الشعر يلتمسون فيه المتعة الفنية او قلق وشظف فينصرفون عن هذا الكمال الفني إلى مسائلهم ومشاكلهم.
ونحن ولا شك من الفريق الثاني والناس عندنا عازفون عن قراءة الشعر من غير شك أيضاً ولكن هل عندنا شعراء مجيدون؟ يتوقف الجواب عن هذا السؤال على تعليل عزوف تعجبهم الضاعة الموجودة؟
أما الشواغل والقلاقل فهي متوافرة، وأما الإنتاج الشعري فليس من السهل إطلاق الحكم عليه.
أحسب أن شيئا من التبعة في كساد الشعر يرجع إلى أولئك النقاد الذين هبوا في فترة ماضية يعيبون على الشعراء العائشين في حياة الناس القائلين في مسراتهم وأحزانهم، ويدعون إلى التجارب الذاتية والتحليق الفني ولهؤلاء النقاد وجهة فنية سليمة إذا نظرنا إلى ما هالهم من التهالك على الرثاء المصنوع والتهاني النتعلقة وغير ذلك مما ليس بسبيل التعبير الصادق، ولكن كانت نتيجة تلك الحركة أن انكشف شعراء المناسبات عن الميدان، وإن كان لا يزال فيه من يوالون تزييف التعبير وقد أصبحت تفاهة صنيعهم معروفة. أما التحقيل فلم يلف أجنحة في اكثر أمره. . . . ومن حلق قصد إلى ترف المشاعر، مزورا عن مضطرب هذه الأمة النكوبة في حريتها وفي عيشتها. ونظر الناس إلى هؤلاء والى هؤلاء شذرا. لأنهم وجدوهم أما بعيدين عن الإجادة أو غير مسددين إلى أهداف المجتمع فكانوا عنهم معرضين وليس الأمر مقصورا على جمهرة القراء، فالإعراض عن قراءة الشعر يشمل الخاصة من المثقفين، ولا اخفي أنني قلما أقع على شعر يقرا، وأكلف نفسي أحيانا أن أقرا شعرا صابرا إلى نهايته ثم أقول في نفسي: أترى هذا الكلام ينشر إذا جرد من الوزن والقافية وكتب نثرا. .؟ والجواب مفهوم طبعا وأذن فنحن نتخذ النظم (جوازا) للنشر ليس إلا. . .(761/48)
كتب كاتب في إحدى صحفنا الكبيرة (تقريظا) لديوان إخراجه أخيرا شاب يتعلق بالشعر فتمثل الكاتب بما كتبه فيكتور هوجو عن لامرتين عقب نشر أول مجموعة شعرية له، وهو قوله: (لقد ولد لنا الليلة شارع عظيم جديد) فاستبشرت خيرا بمن ولد لنا وهو صاحب الديوان الذي يقرظه الكاتب، ولكنه عفي على ما أملت بإيراده طائفة من روائع شعره فقد نظرت في هذه (الروائع) متخيلا تجردها من الوزن والقافية فوجدتها كالذي وصفت. . وكذلك شأن اكثر من يولدون في هذه الأيام!
وأعود إلى ما أسلفت من انه ليس من السهل إطلاقا الحكم على الجميع، فثمة قلة من الشعراء يرتفع شعرهم عن مستوى الكثرة التي كادت تحملني على القول بان الشعر لقي حتفه، أما الظاهرة الشاملة الملحوظة وهي انصراف الناس عن قراءة الشعر فان خالفتني في تعليلها فلن تختلف في تقريرها.
وموقف الشعراء - في نظري - لا يخلو من ثلاثة: أن يظلموا يقولون لأنفسهم أو يقولوا فيما يعنى الناس وما يعجبهم، أو يسكتوا حتى يفرغ الناس لهم.
معرض الفن الحديث:
في يوم الخميس افتتح المعرض الأول للفن الحديث، لخريجي قسم الرسم من معهد التربية العالي للمعلمين.
والفن الحديث في الرسم ليس شيئا مغايرا للفنون السابقة وإنما يعد تطورا لها، إذ يرى أصحابه أن الأسلوب (الفوتغرافي) في الرسم صناعة آلية لا تغذي الفكر أو العواطف الإنسانية، فهو أسلوب جامد لا يساير الحياة المتحركة، ثم هو لا يتصل بالثقافات الأخرى من علمية واجتماعية وفلسفية. أما الفنان الحديث فقد اخذ بنصيب من هذه الثقافات التي تفاعلت في نفسه مع الطبيعة الفنية، فهو حينما ينتج لا يصور الحياة كما هي، وإنما يضيف عليها من فكره وشحنة من حسه فيتسلل إلى الحقائق والمتناقضات سعيا وراء الافضل، أو هو بتعبير آخر لا يقبل الواقع المائل بل يدرك الواقع المتطور ويعبر عنه، وهو يتحرر من كثير من القيود والأصول المعروفة.
وقد شاهدت المعروضات، وفهمت بعضها (ولا فخر) واستعنت على فهم البعض الآخر بأصحابه الأساتذة العارضين ومع ذلك لم افهم كل شئ. . ولم أحرج لا من مصارحتهم(761/49)
بذلك، فكانوا يجيبون بان الفنان قد يعبر عن شعور غامض في نفسه أو عن تجربة له لم تتفق لمن لا يدرك مرماه.
وإذا كنا لم تقبل - في الشعر - القول المأثور: المعنى في بطن الشاعر، فهل نقبل - في الرسم - أن يقال: الفكرة في بطن الفنان!
يجب أن توضح معالم هذا الفن حتى يتصل الشعور بين المنتج والمتفرج وأي قيمة لعمل فني فيه الصلة بين المشاهد والفنان. .؟
استعمار الأوبرا:
بدأ الموسم الشتوي للتمثيل في الأوبرا، بتمثيل الفرقة المصرية على هذا المسرح نحو شهر، ثم جلت عنه للفرقة الأجنبية التي تتعاقب عليه. عملت فيه أولاً فرقة (البالية) الفرنسية، وتعمل به ألان الفرقة الإيطاليه، وستعقبها فرقة (الكوميدي فرانسيز) وهكذا تشغل هذه الفرق الثلاث مسرحنا الرسمي اكثر الموسم في الوقت الذي تتعطل فيه الفرق المصرية لأنها لا تجد مسرحا تعمل فيه؟
وتلك الفرق الأجنبية بذلت لها حكومتنا المصرية، إلى جانب مسرح الأوبرا، إعانات كبيرة وأنفق مدير الأوبرا في سفره إلى أوربا في الصيف لاختيارها والاتفاق مع متعهديها مبلغا آخر من المال، ويجمع هؤلاء المتعهدون من (شبال التذاكر) أموالا طائلة قد يذهب بعضها من بعض المتعهدين اليهود إلى الصهيونيين في فلسطين.
ولم كل هذا الإغداق وذاك الاحتلال؟ يقولون: لأن دار الأوبرا تقدم بتلك الفرق للجمهور المثقف نماذج من رائع التمثيل الغربي. .
ألم تر في الأيام الماضية القريبة تلك الصور التي نشرتها الصحف والمجلات لفتيات (الباليه) آلائي يرقصن بأجسام شبه عارية؟ وفي الفرق نحو عشرين فتاة من الفرنسيات، أعمارهن بين الثامنة عشرة والرابعة عشرة. . . أهذا هو الفن الرائع الذي تقدمه الدولة الإسلامية للمثقفين فيها وليكون مدرسة يقيد منها الفن في مصر؟!
ثم ما هو الجمهور الذي يستفيد من هذا التمثيل؟ انه يتكون من صنفين: الأول الأجانب، والثاني الأغنياء الذين يتخذون من مشاهدة هذه الحفلات مجالا للأرستقراطية المزهوة. . . ومعرضا لثمين الفراء ونادر الجواهر.(761/50)
على أنه إذا فرضنا أن لهذا التمثيل الغربي فائدة تثقيفية فنية فان هذه الفائدة لن تكون إلا كمالي، ونحن أحوج إلى العناية التي تبذل لها في تدعيم الضروري من فن التمثيل المسرحي الذي يكاد يختنق في بلادنا، لأن حياة المسرح المصري أساس لتقدمه فكيف نعمل على تقدمه وهو يحتضر!
لقد كانت فرقة واحدة تكفي 0إن كان لا بد من النماذج الغربية - للعمل شهرا واحدا. ثم تمكن الفرق المصرية من أن نأخذ نصيبها من مسرح الدولة ومن تشجيع الدولة.
وبعد فإلى متى تظل دار الأوبرا مستعمرة للفرق الأجنبية؟ ومتى نضع حدا للاستكثار من الخير للأجانب والمترفين؟
(العباسي)
حول رسائل الصاحب بن عبار:
هذه كلمة اكتبها مضطرا تعليقا على مقال نشره بالرسالة الغراء في عددها 759 الأستاذ محمد خليفة التونسي فقد كتب يصحح نصا ورد في الرسائل كما كتب يصحح فكرة اتصلت باعتزال الصاحب.
ولو أنه كان يصحح نصا حقا واردا في الرسائل أو يصحح فكرة جاءت حقا في مقدمتها ما كتبت هذه الكلمة إذ من حق كل قارئ على ناشر لكتاب قديم أن يراجعه في صحة بعض الألفاظ التي نشرها كما أن من حقه أن يراجعه في صحة بعض أفكاره التي يقدم بها هذا الكتاب.
وهنا يظهر التناقض، فالأستاذ يصحح نصا في الرسائل وليس في الرسائل، أو قل بعبارة اصح انه يصحح لفظه جاءت في إحدى عبارات الرسائل وليست في الرسائل، وكذلك هو يصحح فكرة نسبها الدكتور الأهواني إلى مقدمة الرسائل أو بعبارة اصح إلى المدخل الذي وضع بين يديها، وليست في المدخل.
أما اللفظة التي صححها الأستاذ التونيسي فقد سيقت فيما رواه الدكتور الأهواني من قول الصاحب: (وما في النعم اجل موقعا واهنا مشرعا، من النعمة في القول بالحق والدعاء إليه، والتدين به والبعث عليه، ومهانة من شبة حسن نظره وطوله) فقد تصادف أن كلمة(761/51)
جهله اصابها خطا مطبعي فكتبت في مقال الدكتور الأهواني هكذا: (جهده) وحينئذ رأينا الأستاذ التونسي يفترض لها فرضين، فهي في رأيه أما أن تكون حقه أو جهله، ورجع أن يكون اصلها (حقه) كما رجح أن تكوم كلمة (فتتابع) ليست كذلك وإنما هي (فتتابع) وأظنه يرى الآن انه ليس هناك داع لكلمة حقه ولا لكلمة تتابع ولو رجع إلى الرسائل نفسها في تحقيق هذه العبارة لكان في غنى عن كل ما أورده في هذا الباب.
والمسألة الثانية التي حاول أن يصححها هي ما جاء على لسان الدكتور الأهواني في مقاله عن اعتزال الصاحب إذ قال: (نستطيع أن نطمئن إلى ما ذكره ياقوت عن عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان هذا من عمله هو أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال (وأخر كلام الدكتور الأهواني يوهم حقا أن نظن أن اعتزال الصاحب يرجع إلى اعتزال سيده).
ومن هنا ذهب الأستاذ الفاضل التونسي يتحدث تحت تأثير هذا الوهم عن اعتزال الصاحب ولماذا نربطه باعتزال سيده، ثم استطرد يتحدث عن صلة البويهيين بالاعتزال، وهو يشكر على ما بذل في ذلك من جهد لكنا كنا نؤثر أن يعود إلى مقدمتنا للرسائل اذن لعرف انه كان في غنى أيضاً عن كل ما ساقه في هذا الباب.
وقد تكون العهدة في ذلك على الدكتور الأهواني الذي كتب المقال الأول، ولكن ذلك لا يعفي الأستاذ التونسي من حقنا عليه وهو أن يحاسبنا على ما نكتبه لا على ما يكتبه غيرنا وإن بدا انه ينقل عنا. والمسألة - يا سيدي - لم تكن مسألة اعتزال الصاحب إنما كانت مسألة دعوة الصاحب إلى الاعتزال، فقد رأيناه في الرسائل يدعو الناس إلى الاعتزال ولم نره يدعو إلى التشيع، ومعروف أن البويهسسن كانوا متشيعين وكذلك كان الصاحب متشيعا، والمعقول أن نجده يدعو إلى التشيع لا إلى الاعتزال، وقد جعلنا ذلك نبحث عن صلة البويهيين بالاعتزال نوخاصة عضد الدولة التي توجت الوسائل غالبا باسمه، ووجدنا آدم ميتز يقول أن عضد الدولة كان يعمل على مذهب المعتزلة (راجع الحضارة الإسلامية لآدم ميتز بل رجعنا إلى الأصل الذي أشار اليه، وهو كتاب احسن التقاسيم في معرفة الإقليم للمقدس ص439 ووجدنا النص هناك مضطربا لذلك قيدنا فكرة اعتزال عضد الدولة وقلنا فيما يظهر، وأيضاً فأننا حاولنا أن نربط بين دعوة الصاحب إلى الاعتزال وبين عضد(761/52)
الدولة فربما كان هو الذي دفعه إلى ذلك ونحن نورد ما جاء بمدخل الرسائل في هذه المسالة، جاء:
(وليس في الرسائل ما يدل أي دلالة على أن دولة بني بويه كانت تدعو إلى التشيع. . ونحن نجد في الرسائل نزعة واضحة إلى القول بالاعتزال والدعوة اليه، فقد جاء في الرسالة التاسعة من الباب العاشر (مولاي يتدين بتعديل ربه، ويعرف مواعق اللطف من صنعه ولا يشك في اقتران الصلاح بفعله) وتتكرر فكرة التعديل هذه في الرسائل كثيرا، والغريب أن الصاحب لا يدعو إلى التشيع في رسائله ويدعو إلى الاعتزال! وهناك رسالتان طريفتان في الباب السابع عشر وهما نصان صريحان في انه كان يبعث دعاة له إلى البلدان المختلفة يدعون الناس إلى الدخول في مذهب المتعزلة، ولسنا ندري أكان هذا من عمله هو ام كان عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال، ويعرف التاريخ صلة دائمة بين التشيع والاعتزال منذ كانا. ويظهر أن التشيع اقترن في هذا العصر اقترانا تاما بالاعتزال إذ كان أهل السنة يكرهون التشيع والاعتزال جميعاً).
وأظن قد اتضح الآن أننا لم نرجع اعتزال الصاحب إلى سيده عضد الدولة أننا كنا بصدد مسالة اخرى هي مسالة دعوة الصاحب إلى الاعتزال دعوة رسمية وهل كانت من عمله أو بتفويض من سادته واكبر الظن أن السؤال لا يزال مفتوحا للإجابة عليه وإن كنا نميل - كما يبدو من كلامنا - إلى أنه كان بتفويض من سادته.
أما الصلة التي عرض لها الأستاذ الفاضل بين البويهيين والاعتزال فلعله يوافقه على انه كان متسرعا في تفصيل الحديث عنها وأنها في حاجة إلى بحث عميق واسع، وهو بحث يعتبر جزاء من بحث اكبر وهو بحث الصلة بين المعتزلة والشيعة وخاصة في القرن الرابع قرن الصاحب بن عباد.
وبعد فإني أنتهز هذه الفرصة لتحية أخي الأستاذ التونسي مقدرا ما دعاه إلى كتابة مقاله من محبة البحث واستيفائه، وانه ليشكر على أن أتاح لي هذه الفرصة لأصحح بعض ما جاء في مقال صديقي الدكتور الاهواني وإن له الآخر مني اجمل الشكر والثناء. . .
شوقي ضيف(761/53)
تصحيح نسبة كتاب:
في الجزء الثاني من كتاب (المفصل في تاريخ الأدب العربي) ترجمة للأمام ابن تيمية.
وقد عادني ما فيها من المبالغة لقراءة الترجمة مرات فكنت اقف في كل مرة عند قول المؤلفين (وبلغت مصنفاته مجلد) قائلا فيمه؟ حتى لفت نظري قولهم (أكثرها في التفسير والفقه والأصول).
لفت نظري ذلك لأن الذي كان معروفا بالفقة والأصول والتفسير انما هو ابن تيمية الجد لا الحفيد وهو المترجم. وما أن تأملت قول المؤلفين (واشهر هذه الكتب منتفي الأخبار!! وفتاوي ابن تيمية الخ حتى آمنت بان هناك خلطا نشا من عدم التفرقة بين الجد الذي هو صاحب (منتفي الأخبار) قطعا وبين الحفيد وهو المترجم.
وإني لأسال عن تلك المصنافات التي ذكروها في التفسير والفقه والأصول. اهي للحفيد حقا كما زعموا أم هي للجد ولكنها نسبت إليه كما كتاب منتقى الأخبار؟
فهل من محقق يزيل هذا الشك؟
محمد الأمين
جوائز فاروق الأول للصحافة الشرقية:
(مؤسسة ادجار جلاد بك)
تذكر إدارة جريدتي الزمان والجونال ديجبت حضرات الصحفيين بقرب حلول موعد الجوائز التي تمنحها (مؤسسة ادجار جلاد بك لجوائز فاروق الأول للصحافة الشرقية) في 11 فبراير من كل عام بمناسبة عيد ميلاد حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم فاروق الأول للصحفيين في مصر والبلاد الشرقية الذين يتفرقون في مهنتهم ولا تزيد سنهم على الثلاثين سنة. وستمنح هذه الجوائز حسب النظام ألان.
100 جنيه للصحفي الذي يكون قد كتب احسن مقال باللغة العربية في موضع وطني.
100 جنيه للصحفي الذي يكون قد قام بأوفى تحقيق صحفي في موضوع عام ونشر باللغة العربية.
100 جنيه للصحفي الشرقي الذي يكون قد كتب احسن مقال بلغة أجنبية (الإنجليزية أو(761/54)
الفرنسية) في موضوع شرقي.
ويجب أن تكون هذه المقالات قد نشرت في المدة من 11 فبراير سنة 1947 إلى 15 يناير سنة 1948.
ويرسل من المقال المقدم للمباراة ثلاث نسخ إلى إدارة جريدتي الزمان والجورنال ديجبت بالقاهرة وستحكم في هذه المباراة لجنة من كبار الصحفيين وتعلن النتيجة في 11 فبراير سنة 1948. يوم عيد ميلادها حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المعظم فاروق الأول.
المجمع العلمي العراقي الجديد:
أنشئ في العراق هذه الأيام مجمع علمي لخدمة اللغة العربية والنهضة الأدبية على مثال المجمع العلمي العربي في الشام.
وتكون أعضاؤه بمقتضى قانون المجمع من اربعة مؤسسين عينتهم وزارة المعارف هم الشيخ محمد رضا الشبيبي والدكتور فاضل الجمالي، وزير الخارجية العراقية السابق، والدكتور متى عقداوي مدير التعليم العالي في وزارة المعارف، والدكتور هاشم الوتري عميد كلية الطب البغدادية وانتخب الأربعة السيد توفيق وهبي وزير المعارف والأستاذ منير القاضي عميد كلية الحقوق والدكتور شريف عسيران والأستاذ نصرت الفارسي.
وقد اجتمع العشرة لانتخاب مجلس إدارة المجمع ففاز الشيخ رضا الشبيبي بالرياسة (وهو المنتخب حديثا عضوا في مجمع فؤاد اللغوي بمصر) وتوفيق وهبي والدكتور الوتري نائبي رئيس والدكتور جواد علي سكرتيرا.(761/55)
القصص
سعدى التميمية
للأستاذ نجاتي صدقي
لقد شغل هذا الحادث قبيلة بنى تميم الضاربة خيامها على ضفتي الدجلة ردحا طويلا من الزمن ولم يهدا لها بال إلا بعد أن دفع الثمن، وكان غالياً.
ولهذا الحادث صلة متينة بالحب البدوي. . والحب البدري اعنف من الحب الحضري لأنه يقوم على الطبيعة عناصر غريبة من المادة والاجتماع والرياء. . . وهكذا صار للحب البدوي ملكه، وصار للحب الحضري شيطانه.
وزار ملك الحب بيت (سركال) من بني تميم، وصوب السهم إلى قلب الفتاة سعدي وحيدة أبويها فترنحت وسقطت اسيرة الهووى البرئ.
ولسوء طالع سعدي أن يكون فتاها محسن غريبا عن قبيلة بني تميم التي لا تبيح لأحد من غير قيلتها أن يتزاوج من فتياتها؛ فتشاور الفتى والفتاة في الأمر، واتفقا على الفرار، فرحلا إلى بغداد وسكنا في كرادة زوية، وهي ضاحية من ضواحي العاصمة تقع على ضفة الدجلة الشرقية، تحيط بها حدائق غناء وإحراج من النخل الباسقات الشبيهات بسرب من الصبايا الرشيقات.
وإذ كانت سعدى تتقلب بين ذراعي حبيبها وتشعر في جواره إنها اسعد فتاة في قبيلتها. كان أبوها يقلب (الدلة) مقسما بأغلظ الأيمان إلا يقدم لأحد قهوة حتى يمحو العار الذي لصق به وبقبيلته.
ولقب (الدلة) عند بني تميم مغزاه. . فالدلة حي ابريق القهوة، وإذا ما أراد أحدهم أن يثار لنفسه قلب ابريق القهوة رأسا على عقب، وتركه مقلوبا إلى أن ينال بغيته.
وبعد ثلاثة اشهر أفاقت سعدي من سكرة الحب، واخذ ضميرها يؤنبها على فعلتها الشنيعة، وراحت تتصول ما يلاقيه أهلها في القبيلة من عار ومذلة بل ما تلاقيه القبيلة كلها من مهانة واحتقار بين القبائل المجاورة، فارتبكت وجعلت تفكر في مخرج من هذه الكارثة. وللبدوية في حالة كهذه أحد طريقين لا ثالث لهما: أما الاستمرار في الغي أو الاستسلام وكلا الطرفين محفوف بالمخاطر.(761/56)
أتعود إلى أبيها وتجثو على قدميه تسأله الرحمة والمغفرة أم تواصل حياتها السعيدة إلى جانب شقيق روحها محسن؟
أتعود إلى أبيها وترفع عن كاهله وعن كاهل بني تميم كلهم عبئا معنويا ثقيلا، أم تظل مع (ولفها) تبادله هذه الهفوات الهنوات اللذيذة في العاطفة والأعصاب التي يطلق عليها الناس اسم الحب.
و (الدلة) اتظل طويلا مقلوبة؟
لا تدري سعدى كيف انسلت في صباح أحد الأيام من فراش حبيبها، وهو يغط في نومه وخرجت تتغثر في أذيالها ووجهتها بغداد،
وفي عاصمة الرافدين لجأت إلى بيت أحد الوجهاء من معارف أبيها بمثابة (دخيلة) فقبلها الوجيه مع ما في ذلك من متاعب لا حصر لها.
و (الدخالة) من العادات البدوية القديمة الجميلة، ولا تزال متبعة في العراق حتى أيامنا هذه.
قالت سعدى للوجية (دخيلة) عليك؟. . فرحب بها، ثم عهد إليها أمر العناية بأطفاله إلى أن تتم وساطته مع أهلها.
وقضت سعدى للوجيه (دخيلة) مدة ستة اشهر، والوجيه لا يألو جهدا في الوساطة لدى أبيها. . . غير أن هذا كان يابى دائما أن يعد الوجيه بشيء وكان يطالب بان تسلم ابنته نفسها دون قيد أو شرط. . . أو كما قال للوجية مرة: (لقد خرجت قضية سعدى من يدي، فالقبيلة هي التي تقرر مصيرها. . وما أنا في مثل هذا الظرف إلا منفذ لرغبة بني تميم).
وظلت (الدلة) مقلوبة كما كانت منذ تسعة اشهر.
أما سعدى، فكانت تعنى بأطفال الوجيه. وتقص عليهم القصص اللطيفة، التي تتحدث فيها عن الغزلان، والإبل والسراب، والعواصف الرملية، والرياح السموم، والفقار الوعرة والواحات النضرة. . كما كانت تغنى لهم أغاني تذكر فيها الدجلة والفرات. واليمام، وليالي بغداد، ونسيمها العليل، ونجومها الساطعة.
واستمرت الوساطة، ولكن دون جدوى، وظلت (الدلة) مقلوبة. . وغدت عينا سعدى محمرتين مثل الجمر من قلة النوم، وكثرة البكاء، فهي لم تظفر بعطف أبيها وخسرت حبيبها الذي خيل إليه أن ذويها اختطفوها وقطع الأمل من رؤيتها أو الاجتماع بها إلى(761/57)
الأبد.
ولما رأى الوجيه أن لا فائدة من الوساطة وأن من الخطر إبقاء سعدى في بيته اكثر مما بقيت، عقد النية على نقلها إلى بيت منعزل في حي (الكاظمين) ولأهلها أن يأخذوها من ذلك البيت إذا أرادوا وليس من بيته. . وبذلك يصبح في حل من مسئولية (الدخالة) الأدبية.
وغادرت سعدى بيت الوجيه وهي تعانق أطفاله وتغسل وجناتهم بدموعها، فيسألونها متألمين: إلى اين أنت ذاهبة يا سعدى؟ كيف تتركينا؟ ومن الذي سيقص علينا القصص الجميلة ويغنينا الأغاني العذبة؟.
فتجيبهم بكلمات ليس لم يفقهوا لها معنى. أني ذاهبة لأرى ما قدر لي، وما كتب على جبيني.
ومكثت سعدى في ذلك البيت المنعزل في الكاظمين ثلاثة ايام تنام على الحصير وتتغذى بالخبز والماء.
وكانت في هذه الأيام الثلاثة لا تنفك تغني هذه الأغنية الشعبية:
هلي يا ظلام هلي
جيبوا لي ولفي إلي
خايبين يا ظلام
ترى الفركة جوت
قلبي جوى
لا يا هلي الظلام
لا رحم عدكم
جيبوا لي ولفي عاد
موش أنا بنكم؟
لا يا هلي الظلام
ماكز مروه
جيبوا لي ولفي عاد
قلبي نجوه(761/58)
جيت ولقيت الدار
خالي من الأحباب
صين دموع العين
يم عتبة الباب
وفي فجر اليوم الرابع طرق سمع سعدى وقع أقدام وصرير مفتاح. . وهمهمة ودمدمة. . فانتصبت مذعورة فرأت نفسها وجها لوجه قبالة أبيها، واشقائها، وممثلين عن قبيلة بني تميم.
أدركت سعدى لساعتها عاصم القوم عليه، فجئت تبكي، وتطلب العفو لكن يدا قوية أخذتها من ناصيتها، ويدا أخرى أقوى أخذت تسلب النفس وكانت في حشرجتها الأخيرة تقول إنني عذراء. . إنني عذراء!. .
وفي مساء ذلك اليوم أشيع في قبيلة بني تميم أن أبا سعدى عدل (الدلة)!
نجاتي صدقي(761/59)
العدد 762 - بتاريخ: 09 - 02 - 1948(/)
لوعة صديق على صديقه (إسعاف)
للأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي بك
يا زعيم العربية!، ويا إمام المحققين!
أما وقد حُمَّ قضاء الله فيك، وانفض سامرك، وانطوى بساطك، وذوي (نُقلك)؛ فإنني لا أجد ما يصَّبرني عنك، ولا ما يعزيني فيك، إلا أن أستعير من بيانك ما أناجى به روحك العذب، وإلاَّ أن أرثيك، بمراثيك!. . .
ألم تهتف غداة مات (شوقي) بشعر شوقي:
(إنما الدنيا شجون تلتقي ... وحزين يتأسى بحزين)
(ضَحِكُ الدنيا احتشاد للبكا ... وأغانيها معدات الأنين!)
ولقد استطعتَ أن تُبْهِجَنَا ليلتَك الأخيرة؛ لتُبكينَا أيامَنا الطويلة! ألم ترسل فيه اللوعة المريرة ثم تندبه بقول حبيب:
(أُصيبتُ فيه وكان عندي ... على المصيبات أن يُعينا)
(كنت عزيزاً به كثيراً ... وكنت صباً به ضنينا)
(آليتُ أنساهُ ما تجلى ... صبح نهار لمدلجينا)
ولقد آلينا لا ننساك!!
ألم تبعث فيه الأنين الوفيُّ، ثم تتمثل بقول (أبى تمام):
(تذكرت نضرة ذاك الزمان ... لديه؛ وعمران ذاك الفناء)
(وأذ علمُ مجلسه موردٌ ... زلال! لتلك العقول الظِّماء)
(وكنتُ أراه بعين الجلال ... وكان يراني بعين الإخاء!)
وإننا لنتذكر، ثم نتذكر. . .
ألم تسكب أنت في (شوقي) عَبرَتك الحرَّي، وروحك الملتاع، وشعورك المتأجج، في فقرات من البيان الذي هو نسيج وحده! كما أنت نسيج وحدك! فأخذت تهتف ببنات العروبة؛ ليُسعِدنك يوم (شوقي) بالنحيب، وجعلت تقول:
بلبل (الكرمة) ولّى، أين غاب البلبل؟، بهجة زالت وجاءت وحشة! مِدْرهُ العُرب قضى، يا فتاة العرب!، فالبسي ثوب الحداد اذكريه، اندُبيه، أبَّنيه، بمراثٍ، مشجيات، خالدات!(762/1)
ولقد حق لنا اليوم أن نهتف في يومك، بما كنتَ تهتفُ به في أمْسَك!
يا كريم الإخاء ويا سيد الأوفياء: إني لأشهدُ هذا الشعر كله على نفسي كما أشهدتَه، وأشهدُ بيانَك الذي أبدعته واخترعته، أن لوعتي عليك لمشبوبة، وإن فجيعتي في علمك وأدبك لا يذهبها كرُّ الغداة ولا مرُّ العشي! وأنى أصبت فيك، وأنك لِمدْرة العرب، وأنك لبهجة زالت. . .
ولقد خدعتْني نفسي، وأنا أصافحك في الليلة الموقوتة، فحسبتُني عائداً لك! غداً أو بعد غد! وإنما خدعتني قوةُ نفسك! ويقظة ذهنك، وأنك تركتَ الطب وراء ظهرك يعالج! وأقبلتَ علينا بوجهك تحاضر! فتقول:
(لقد ذكر القدامى أن الشعراء ثلاثة: المتنبي، وأبو تمام، والبحتري. ثم ذكروا الكتاب؛ فعينوا لنا اثنين: الجاحظ، وأبو حيَّان، فمن هو الثالث؟ ثم تسكت ونسكت!! فلمَّا لم تجدْ جواباً! جاهرتَ، وصحْتَ: (إنه (الزيات)، إنه (الزيات)، إنه أمير النثر والناثرين، وإنه لسيد البلغاء).
فهل حسبنا وأنت تحاضرنا، أنه لم يبق بيننا وبين أن ينطفئ هذا السراج الوهّاج، إلا سويعات! ألا لشدَّ ما تحطّمنا الأقدار، ويسخر منا ومن آمالنا الليل والنهار! لقد وعَظْتَنيِ حيا وميتاً! ألم تصحبني لمواساة (آل عبد الرزاق) عشيةَ فجيعتهم في (الشيخ الأكبر) فلما جلستَ إلى (عليَّ) إعتلج الهمُّ، وكان وجومٌ، فما راعنا إلاَّ صوتُك يقطع الصمتَ، ويعَّبر عن روعة المموت:
(خَرِسَتْ لعمرُ الله ألسنُنا ... لما تكلم فوقنا القدَرُ!!)
إن العربية اليوم لوْلهي، تتفرع من هول يومك، وإن مصر لحزينة على العالم الأكبر، والباحث الأكبر، الذي صات صوته في أرجائها: (ألا إن محمداً، وذكرى محمد، وقرآن محمد، ولغة محمد، وعربية محمد، وأدب محمد).
(كل ذلك لن يزول، كل ذلك لن يبيد وفي الدنيا مصر لقد عرفتْ مصرُ لك هذا الفضل وذلك الجميل، وإن جحده جاحد. فها هو ذا حوها يتلقى أنفاسك الطاهرة، وهاهو ذا ثراها يزكو بعظامك، ويستأثر برفاتك، حانياً عليها مزهواً بها! وها هي ذي سحائبها تروَّي أجداثك بكرة وعشيا، فلطالما روَّيت وأبهجت قلوباً، ثم نافحتَ وجاهدتَ وناضلت لتسود لغة(762/2)
القرآن.
يا شهيد العلم والتحقيق:
لقد رفعك الله مكاناً عليَّا، وجعل لك في الخالدين ذكراً سريَّا: وإنك ميت، وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون! ونشهد! ما عرفنا ولا رأينا لك ضريباً، يرسل قلبه في كلامه، ويسكب عقيدته في حديثه، ولا أدركنا أميناً يؤدي أمانة العربية كما أدْيتَها، ولا صادقاً ولا وفياً يتحرق وجداً ببيان القرآن، ولا شجاعاً مغواراً، إذا رأى أو سمع - الهجين - أَرسل عليه صيحات من بلاغته، لا بل سهاماً من كنانته. . .
إني لأمتثلُ فيك بقول (الشريف)، كما كنتَ تتمثلُ بقول (الشريف):
يا ليتَ أني ما اقتنيتُكَ صاحباً ... كم قُنيةٍ جلبتْ أسًى لفؤادي
أعْزِزْ عليَّ بأن يفارقَ ناظري ... لَماَنُ ذاك الكوكب الوَّقاد
فيا أرواح الشهداء والمجاهدين: لقد جاءكم روح (إسعاف)، فيا وحشتنا بعده، ويا أنسكم به!!
محمد عبد الرحمن الجديلي(762/3)
17 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض لدى المملكة العربية السعودية
في مدينة لاهور
كانت بوادر الفتن والهرج منتشرة في أرجاء الهند، وكانت لفحات الصيف بين الحين والحين تؤذن باقتراب الصيف، وكان الوقت أضيق من أن يتسع للتجول في أرجاء الهند وإجابة دعوات لزيارة كلكتا بل ما هو أقرب منها مثل لكهنو وديوبند، والله آباد؛ ولكن مدينة واحدة كانت تدعوني دعوة لا أستطيع ردَّها؛ كانت مدينة لاهور مدينة الشاعر الخالد محمد إقبال توحي إلىَّ كل حين أن أزور دار الشاعر وقبره. وكان إعجابي بالرجل وحبي إياه يقضيان بأن أذهب إلى لاهور مهما يضق الوقت وتكثر العوائق. ولم أجز لنفسي قط أن آتي إلى الهند وأرجع دون أن أزور قبر إقبال وداره في لاهور.
عزمت على السفر إلى لاهور ورأيت أن أهدي إلى مزار الشاعر الفيلسوف هدية من الشعر فنظمت أبياتاً وكلفت نقاشاً أن ينقشها على لوح من الرخام.
ويوم الاثنين 22 جمادى الأولى سنة 1316هـ (14 نيسان سنة 1937)، ركبت القطار الذي يسمى (بريد الحدود) وكان موعد سفره من دهلي الساعة التاسعة فأخذت مكاني فيه وتأخر سفره نحو ساعة. وكان في المقصورة سريران أخذت أحدهما واحتل الثاني ضابط من السيك.
ولما أصبحنا نظرت فإذا منظر الأرض أنضر مما عهدت في الطريق بين دهلي وأجرا. واجتاز القطار جسوراً عدة فوق أنهار. ورأيت محطات القطار أكبر وأعمر والناس أصح وأنظف. فقلت إنه إقليم البنجاب الذي تجري فيه روافد نهر السند الخمسة. وهو معروف بجودة هوائه وقوة أهله وغناهم.
وبعد الساعة التاسعة من الصباح وقف القطار على أمرِ تْسار مدينة السيك المقدسة. ولولا الاضطراب لزرتها. وقد حدثني رفيقي الضابط وهو يستعد للنزول في أمر تسار بما فيها من هيج بين المسلمين والسيك.(762/4)
وكانت وقفة القطار التالية في لاهور، وبينها وبين أمر تسار مسير نصف ساعة.
مدينة لاهور
هي عاصمة البنجاب. وكان الظن أن تكون عاصمة دولة الباكستان ولكن الحوادث جعلت كراتشي العاصمة اليوم.
وهي على مقربة من الشاطئ الأيسر لنهر راوي أحد فروع السند. وتقع على الدرجة 31 من خطوط العرض الشمالي وعلى الدرجة 74 من خطوط الطول الشرقي. فعرضها كعرض القاهرة ولكنها أشد حراً منها، بل هي من أحر بلاد الهند وإن كان ارتفاعها 1706 قدم لتوغلها في البر بعيدة من البحار.
وهي على المهيع من أفغانستان إلى الهند تلتقي بها سكك حديدية. وهي على بعد 1770 كيلو من كلكتا و438 من دهلي.
وسكانها أكثر من ربع مليون. وتشمل اليوم المدينة القديمة ومحلات حديثة فيها أبنية فخمة.
وهي مركز ثقافة واسعة بها جامعة البنجاب والكلية الأمريكية ومدارس أخرى كثيرة.
لا يعرف شئ من تاريخ لاهور قبل الإسلام. وفي أساطير الهند أن مؤسسها لوه بن راما بطل قصة الرّمايَنا المعروفة في الآداب الهندية.
وقد صارت ذات شأن في التاريخ الإسلامي منذ فتحت الدولة الغزنوية الأقاليم الشمالية الغربية من الهند. واتخذتها هذه الدولة حاضرة حينما زحزحها الغوريون عن أفغانستان فأقتصر سلطانها على ما فتحته من الهند. وذلك في عهد السلطان مسعود الثالث سنة 553. فهي أول حاضرة لدولة إسلامية في الهند.
وقد تقلبت عليها الخطوب ولقيت من غارات التتار ثم غارات تيمورلنك ما لقيت.
ثم اتسعت واستبحر عمرانها، وازدانت بالأبنية العظيمة الرائعة والحدائق أيام الدولة الإسلامية الهندية الكبرى دولة التيموريين.
استولى عليها ظهير الدين بابر مقيم الدولة التيمورية وتوالى على تعميرها خلفاؤه حتى صارت إحدى المدن الثلاث العظيمة في عهدهم. والأخريان دهلي وأجرا.
وقد أقام بها جلال الدين أكبر سنين كثيرة من سني ملكه. وجعلها ابنه جهانكير العاصمة الثانية (بعد دهلي). وبها مات وسنذكر قبره من بعد.(762/5)
وقد بنى فيها السلطان أبنية كثيرة منها القصر الجميل الذي سمى خوابكاه (المنام) ومنها موتى مسجد في القلعة (أي مسجد اللؤلؤة) وقد ذكرنا من قبل مسجدين بهذا الاسم في قلعتي دهلي وأجرا. وهي مساجد صغيرة في القلاع يصلي فيها السلاطين. وقد بالغوا في تشييدها بالمرمر وتجميلها.
ومن أبنية شاه جهان، وهي كثيرة، الرواق الذي يسمى نَولاك (تسعة لاكات) لأنه أنفق على بنائه هذا المقدار , واللاك مائة ألف (وكان كله مرصعاً بالجواهر).
وبنى السلطان أورنك زيب مسجد الجمعة. وهو مسجد فسيح جداً يقال إن السلطان بناه ليسع كل من تجب عليهم الجمعة في لاهور وسيأتي ذكره.
ولما ضعفت الدولة التيمورية وعجزت عن صدَّ المغيرين من إيران وأفغانستان أصاب لاهور شر عظيم من غزوات نادرشاه 1148 - 1160هـ والشاه أحمد الدرَّاني مؤسس الدولة الأفغانية 1160 - 1187هـ.
ولما قامت للسيك دولة في تلك الأرجاء كانت لاهور عاصمتها حيناً، إلى أن أزال الإنكليز الدولة وألحقوا بنجاب بالهند البريطانية.
وللسيك فيها آثار لا تدل على براعة في الفنون. وقد مسخت غراتهم وفنونهم كثيراً من الآثار الإسلامية الرائعة.
عبد الوهاب عزام(762/6)
هذا زماننا
للأستاذ محمود شاكر
أراد جماعة من الذين كتب الله عليهم أن يرتزقوا باصطناع السياسة، أن يعقدوا معاهدة بينهم وبين بريطانيا يقضون بها في أمر العراق على ما خيلت لهم أنفسهم وأنفس البريطانيين، ووقف بيفن يتعجبُ ممن زعم أنه يضع توقيعه الكريم على معاهدة فيها بخسٌ لحقوق العراق! وليس هذا بعجيب من ساسة بريطانيا، فقوام السياسة البريطانية هو الخداعُ، والإصرار على الخداع، وتسويغ الخداع، حتى يبلغُ الأمر مبلغ الصَّفاقة المهذَّبة في عرف الساسة البريطانيين. ولسنا نلوم بريطانيا ولا ساستها على هذا المذهب القبيح، فهم إنما يترفقون إلى غاياتهم بما وسعهم من الدهاء والمكر، ولكنّا نلوم أولئك المتبجحين ممن راموا أن يكونوا أهل سياسة في هذا الشرق العربي أو الإسلامي، إذ يخادعون أنفسهم ويخادعون أهليهم عن فساد بين في أمر هذه المعاهدات، وهم بذلك إنما يدَّمرون شعوبهم بما في أنفسهم من العجز واللجاجة وقلة المعرفة بسياسة الشعوب التي انبعثت من رقدتها مطالبة بالحياة الُحرة الكريمة. ومصداق هذا ما وقع في العراق، فلم يكد يظهر طرفٌ من سر تلك المعاهدة الخبيثة التي أرادت بريطانيا أن تكبل بها العراق، حتى هبَّ الشعب الأبي هبة واحدة فقوض أركان تلك المعاهدة على رؤوس (بناة الإمبراطورية)، وعلى رؤوس أذنابهم من الساسة المرتزقة، فدل ذلك دلالة بينةً على عجزهم ولجاجتهم وقلة معرفتهم بسياسة الشعوب الناهضة المريدة للحياة والحرية.
وما الذي كانت تريده بريطانيا من تلك المعاهدة الباغية؟ كانت تريد أن تجعلها مثالاً يحتذي في معاهدات تعقد بينها وبين مصر والسودان، ولبنان وسورية وجزيرة العرب واليمن وسائر بلاد هذا الشرق، فجاءت ثورةُ العراق فزلزلت قواعد هذا الوهم المنتشر الذي سوَّلت لبريطانيا نفسُها أنه بناء جديد تقوم على أساسه سياسة الإمبراطورية البريطانية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية. جاءت هذه الثورة فكانت سُنّةً جديدةً في توجيه سياسة العرب توجيهاً غفل عنه المرتزقة من السياسيين القدماء في هذا الشرق، وجاءت فكانت برهاناً جديداً على أن الشرق العربي والإسلامي لن ينام مرة أُخرى على خُدَع البريطانيين وخيانة المرتزقة من السياسيين، وعلى أن الحياة التي دَّبت في العرب لن تتسكع مرَّة أخرى في(762/7)
أوصال هذا الكيان القوي العميق المتراحب، بل سوف تتدفّق في نواحيه كلها إلى أن يستوي عوده على الهيئة التي تجعله كياناً صحيحاً في هذا الكون الذي يغلي من حوله بالثورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
ليس هذا فحسب، بل علينا منذ اليوم أن ننظر ماذا كانت تريد بريطانيا بعقد هذه المعاهدات؟ كانت تريد أن تجمع دول العرب على معاهدات يكون لها فيها الغنم وعلينا الغرم، أي أن بريطانيا كانت تريد أن تستعبد العرب جملةً واحدة وتسيرهم في أغراضها على نظام متفق لا تشذ عن دولة عربية واحدة، سواء أكانت مستقلة استقلالاً صحيحاً أم كانت مستقلة استقلالاً مشوباً بالعبودية للإمبراطورية البريطانية، ومعنى ذلك أيضاً أنها تعلم أن العرب سوف ينتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا أمة واحدة، فهي تريد أن تسبق الزمن وتجمع هذه الكتلة الواحدة في قبضة يديها حتى لا ينتشر عليها الأمر. وهذا غرض بين جداًّ، ودوافعه أشد وضوحاً واستبانه. فهل آن لنا أن نتنبه إلى الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه مطالب العرب فيما هم بسبيله من إحراز حقوقهم كلها جملة واحدة؟
لقد كتبت منذ سبعة أشهر كلمة في هذه المجلة بعنوان (شعب واحد، وقضية واحدة)، وذلك في العدد 730 بتاريخ 30 يونيه سنة 1947 قلت فيها: (إن قضية العرب قضية واحدة بينة المعالم: هي أننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعاً مستقلة حرة، لا يحتل عراقها جنديٌّ واحدٌ، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطاني أو غير بريطاني، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب، ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي خبيث القول والفعل مجنون الإرادة) ثم قلت في آخرها: (وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضي بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلاعب بها هذا ويلهو بها ذاك. إنها واحدة، يرفعها شعب واحد، وطالباً بحق واحد، هو أننا أحرار في بلادنا).
وأنا لا أنقل هذا أعرض على الناس شيئاً مما كنت توقعت، بل لأقول إن السياسة البريطانية قد علمت علم هذا كله، فهي تريد أن تسبق الزمن لتضعنا في الإصر الشديد الذي يسمى بالمعاهدات، ولتستعبدنا في أغراضها، ولتنتقم منا ومن تاريخنا، ومن قديمنا وحديثنا. وأقول إن ساسة الشرق وساسة العرب لا يزالون يعيشون في غفلة الخيانات(762/8)
القديمة التي تولى كبرها رجال ظنوا أنهم زعماء هذه الشعوب، أي أنهم قد ملكوا رقابتها فهم يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه، وذهبوا يفاوضون بريطانيا فيأخذون منها شيئاً وينزلون لها عن أشياء كثيرة، فقد جروا الشرق كله إلى مضلة لا يهتدي فيها سارٍ إلى علم.
ولكن الشعوب العربية كانت أشد منهم قوة، وأهدى إلى مواطن الحق، فما كادت تشب الثورة في العراق حتى نادى أهل العراق بالجلاء الناجز (عن جميع البلاد العربية)، وهذه الكلمة الشاردة هي كلمة الحق التي سوف ينتهي أمرنا إليها، أبى السياسيون القدماء أم رضوا. فالبلاد العربية من العراق إلى الجزيرة إلى الشام إلى لبنان إلى فلسطين إلى مصر والسودان، إلى تونس والجزائر ومراكش، أمة واحدة، والاستعمار فيها واحد، ومطالبها واحدة. فينبغي إذن أن تصاغ قضية العرب على هيئة واحدة، لا في السياسة الخارجية وحسب، بل في موقفنا جملة واحدة في وجه الطغيان الاستعماري كله، سواء جاء بهذا الاستعمار بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا أو روسيا أو هولندة أو أية دولة على ظهر الأرض. وينبغي أن تعدل سياسة الدول العربية جملة واحدة، فتطالب بمطلب واحد لا تقبل فيه هوادة ولا تخضيعاً ولا مساومة، هو جلاء الاستعمار عن بلاد العرب كلها. ولقد سبق الشعب العراقي حكومته إلى هذا الرأي، فنحن نرجو أن يحمل الشعب العراقي حكومته على أن تصرح بهذا المطالب تصريحاً رسمياً في بيان تصدره بطلب الجلاء الناجز عن جميع البلاد العربية، وتتعهد بأن لا تقبل مفاوضة ولا محادثة ولا مخابرة ولا مهادنة في هذا المطلب أبداً. فإذا فعلت العراق ذلك، فعلى سائر الحكومات العربية أن تصدر مثل هذا البيان الشامل الذي لا يفرق شيئاً بين الوطن العربي كله ولا بين المستعمرين أيا كانوا.
إني ادعوا الجامعة العربية ورجال السياسة الأحرار أن لا يفرقوا في الدعوة إلى الحرية، أدعوهم أن لا يفرقوا قضية العرب أجزاء كل جزء منها يخضع لسياسة تضعف أو تقوى في يد من يتولاها. فقد فهمت بريطانيا هذا، فأرادت أن تنشئ مثالا يحتذى في المعاهدات التي تعقد بينها وبين العرب، وأرادت أن تحمل فرنسا وأسبانيا على الاتفاق على أسلوب جديد يصطلحان عليه في الاتفاق مع بلاد المغرب العربي، يسير على أساس السياسة التي تريدها بريطانيا في اعتبار العالم العربي جملة واحدة تسخَّر في ركاب الاستعمار البريطاني والفرنسي والإسباني. فواجب الجامعة العربية وواجب الحكومات العربية أن تسبق هذه(762/9)
السياسة اللئيمة سبقاً يكفل للشعوب العربية أن تعرف الوجه الذي تسير فيه. فلا مناص إذن من أن تتفق كلمة الدول العربية على أن لا تعقد إحداها معاهدة قط مع إحدى الدول المستعمرة، وعلى أن لا تقبل تقسيم القضية العربية إلى أجزاء، وعلى أن تكون دعوتها ودعوة شعوبها صرخة واحدة مجتمعة في وجه الاستعمار على اختلاف ألوانه وأسبابه والقائمين به، وهى الجلاء الناجز عن بلاد العرب جميعاً، ثم عن بلاد الإسلام كلها في نواحي الأرض. فإذا توانت حكومات العرب، وإذا تلجلجت الجامعة العربية؛ فمغبة ذلك أن تفوت على هذه الشعوب زمناً يطول أو يقصر، كانت خليقة أن تبلغ فيه ما تريد من نيل الحرية الكاملة، والاستقلال الناجز التام.
إن ضعف القائمين بالسياسة العربية، لا ينتهي إلا إلى ضياع الوقت وضياع الحقوق. ونحن لا نطالب المستعمرين بشئ، لأنهم لا يملكون شيئاً هم قادرون على أدائه. إنهم مغتصبون، وهم يملكون أسباب القوة المادية ونحن نملك أسباب القوة الروحية، وهم ظلام ونحن لا نرضى بهذا الظلم، وهم يتحكمون بالاستعمار والاستعباد، ونحن نتعالى عن الاستعمار والاستعباد. فهذه القوة التي انطوى عليها حقنا، يقابلها ضعف ينطوي عليه افتياتهم علينا. ومصير ذلك كله إلى الغلبة والنصر إذا أحن رجالنا الاستعداد لهذه الموقعة الفاصلة في تاريخ البشر.
لم يبق شئ في تاريخ البشر يحمل طابع الفساد والبوار والدمار، إلا هذا الجشع الذي يحمل أمم الغرب على إن يضعوا أيديهم على كنوز العالم؛ ليقاتل بعضهم بعضاً في حرب مبيدة مدمرة. وقد عرف هذا الغرب أن الشرق كنوز كله؛ فهو يجاهد أن يستولي عليها بما استطاع من الحيلة ومن اللؤم، ومن إهدار الكرامة الإنسانية، ومن قلة المبالاة إفساد هذا الشرق وإفساد أهله حتى ينال منه منالاً يكفل له حرية التصرف في كنوزه. فعلينا أن نقف حُراساً على كنوزنا لا نبيحها بعد اليوم لأحد. وعلى رجال السياسة منا أن يغيروا مناهجهم السياسية تغييراً تاماً يقوم على أساس واحد، هو أننا لن نعاون هذا الغرب على الفجور في الأرض، وأننا نمنع عنه مادة الفساد التي يريدها لتدمير حضارات العالم، وأننا قد عزمنا أن ننشئ مدينة جديدة وحضارة جديدة لا تقوم على الجشع ولا على الاستبداد. وأننا أحرار في بلادنا كل الحرية وإن اجتمعت دول العالم كله على إنكار هذه الحرية. ولا يصل العرب(762/10)
والمسلمون إلى هذا إلا بشيء واحد هو أن تجتمع الكلمة في الأرض العربية والأرض الإسلامية على هذا الشيء الواحد، وهو أن لا مفاوضة ولا معاهدة ولا مخابرة ولامهادنة، وأن الشرق لن يستقر على تجلو الجنود المستعمرة عن أراضيه كلها، وأن كل عون للاستعمار في هذا الشرق من الأجانب واليهود الصهيونيين قد كتب عليهم أن يخرجوا من بلادنا إلى حيث شاءوا، وأننا لن نقبل دون هذا شيئاً يصرفنا عن الغرض الأعظم، وهو تجديد حضارة العالم على أسس من العدل والحق والمساواة والحرية. هذا هو المطلب الأعظم الذي ينبغي أن توجه إليه سياستنا كلها، لا تخدعنا عنه خطرفة السياسيين المتهالكين الذي يقولون للشرق: أنت عاجز، فمن لك ببلوغ هذا المطلب البعيد المغرق في الخيال!
كلا، ليس الشرق عاجزاً بل هو أهل لما حُمِّل، وإن تراءى للناس على غير الحقيقة المستكنة وراء هذا الطوفان من الفقر والجهل والفساد. فإذا عزم العرب وعزم رجاله وقواده أن يفعلوا، فلن يحول بينهم وبين ما يبتغون شئ جل أو تفاقم. بيد أننا اليوم في حاجة إلى الأخذ بهذا المبدأ الواحد، وإلى إزالة أولئك السياسيين القدماء عن مكان القيادة في بلادنا، وإلى تقدم الفئة الصالحة إلى هذه التبعة الجليلة لتحملها حملا لا يعجزها ولا يصرفها عنه خوف ولا تردد. ولقد سبق العراق، وسوف تتبعه سائر البلاد العربية والإسلامية، ولن نلبث قليلا حتى نرى في هذا الشرق عجائب القوة العظيمة التي انطوت عليها جوانحه، فلا بد من تفسح الحكومات الطريق للعمل القوى الماضي الذي لا يرتد عن غايته، ولا بد من أن تدفع الشعوب عن نفسها طغيان السياسيين المخادعين المنافقين، ولا بد من أن يتولى العرب بأنفسهم حل هذه القضية الواحدة بالصبر والمقاطعة، وبالعزم والجلاد، وبالتضحية الكبرى في سبيل إنقاذ البشر من فتن كقطع الليل المظلم، ومن فساد جارف كالسيل المتدفق، ومن طغيان قذر قد ارتطم فيه هذا العالم القديم الذي قام على أسس فاجرة من الجشع.
أفيقوا أيها الناس، واستيقظي أيتها الحكومات، وتقدمي أيتها الجامعة العربية باسم العرب إلى حمل التبعة العظيمة. والزمن أسرع منكم، فبادروه بالعمل والصرامة، وبالصدق والإخلاص، فإن حياتكم وحياة أممكم معقودة بشيء واحد، هو ثباتكم على المبدأ الأعظم،(762/11)
وأخذكم بالقوة التي استودعها الله في قومكم وغفلتم عنها أجيالا طوالا. هبوا فقد أَنَى زمنكم، وأعدَّكم الله لشيء أنتم بالغون في الناس وفي أنفسكم.
محمود محمد شاكر(762/12)
لقد مات غاندي!
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
نعم لقد مات غاندي مقتولا، واغتيل غدراً بيد هنوكية آثمة، ظنت أن في موت غاندي استقلال الهند واتحادها، وفي حياته تعطيلا لهذا الاستقلال وعرقلة لذلك الاتحاد، فصوبت رصاص مسدسها إلى جسد غاندي الهزيل لتستقل الهند وتتحد.
من العجيب أن يموت ذلك الإنسان الإلهي الذي قضى حياته يمرن الهنود على مقابلة العنف والعدوان والكراهية بالحب والعفو، ويعودهم اتخاذ السبل السلمية وسائل لنيل جميع أغراضهم السياسية. وعجيب أن يقتل ذلك الزعيم الروحي عنفاً وعدواناً بيد أحد من علمهم اللا عنف والحب والطرق السلمية. وعجيب أن نسمع نحن المصريين عن شعب خاف أن يقضي الصوم على حياة بطله المقدس، ويخضع لشروطه السلمية لإيقاف الاضطرابات الدينية في الهند، ويقبل بعد مدة وجيزة أن يقتله شر قتلة.
إن الأمر يتطلب توضيحاً. ويقوم هذا التوضيح في أن في الهند منذ الحرب العالمية الأولى اتجاهين سياسيين: أحدهما اتجاه غاندي وهو ينادي بأنه لا يجب أن نتخذ من السبل لتحقيق أمانينا غير سبيل الحب واللا عنف والمقاومة السلبية لسلمية، أما الاتجاه الآخر فهو اتجاه منافس غاندي الزعيم الهندي الكبير لقمانيابل قندار طيلاق، وهو عالم رياضي واسع الاطلاع، ضحى بمستقبله العلمي واعتزل الرياضة وخاض ميدان السياسة ليعمل لتحقيق استقلال الهند. وهو كغاندي لم يكن له مطمع شخصي بل كل ما كان يتمناه أن تفوز الهند باستقلالها حتى يعود إلى أبحاثه العلمية. وكان اتجاه طيلاق السياسي اتجاهاً عملياً بحتاً، ويرى أن السياسة ليست من أعمال الزهاد والأتقياء ورجال الدين، ويعتقد أنه لا يجوز تطبيق المبادئ الدينية على الطرق السياسية ويميز بين السياسة والدين، ولا يتورع - بخلاف غاندي - على أن يسلك أي سبيل مهما تعارض مع التعاليم الدينية ما دام يؤدي إلى استقلال وطنه. فعنده حرية الوطن أجل من الدين؛ بينما غاندي يؤمن بأن مبادئ الدين أسمى من حبه للهند. فاختلف غاندي وطيلاق في أسلوب محاربة المستعمرين: فحارب غاندي الإنجليز بقوى الروح وسلاح الحب وبالعصيان المدني السلمي وكان طيلاق يود أن يحاربهم بالعنف وبالثورة، ولكن الزمن لم يعط له فرصة لينافس غاندي طويلا فاختطفه(762/13)
الموت سنة 1920؛ إذ لو بقى طيلاق حياً لما كان لغاندي غير الزعامة الروحية وكان لطيلاق الزعامة السياسية، وبموته أصبح غاندي الزعيم الروحي والسياسي جميعاً ردحاً من الزمن.
ولئن مات طيلاق فإن روحه لم تمت. بل حاولت مبادئه السياسية أن تظهر في مناسبات كثيرة، لولا يقظة غاندي الروحية وقوة تأثيره على الشعب ومقاومته لكل هياج همجي، وتسليحه الهنود بأسلحة سلمية مثل مقاطعة الإنجليز سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولما لم تفلح هذه المقاطعة في إخراج الإنجليز من الهند كما لم تهدأ من سخط المنادين بضرورة استخدام الثورة في طرد الإنجليز من بلادهم، اضطر غاندي إلى أن يلجأ إلى العصيان المدني السلمي، وظل يشجع قومه على محاربة الإنجليز سلمياً، إلى أن أجيرت الحكومة البريطانية على أن ترد للهند حريتها.
بذلك فازت طرق غاندي السلمية على طرق منافسيه العنيفة وحصلت الهند على حريتها بدون ثورة ولا حرب، ولكن غاندي إن نجح في إقناع مواطنيه باتخاذ الطرق السلمية وسيلة لنيل الاستقلال، فإن قتله يدل على أنه لم ينجح في إقناع هؤلاء المواطنين باتخاذ الطرق السلمية في سبيل اتحاد الهند، ونبذ الحزازات الدينية.
إن الهند بعد أن نالت استقلالها واجهت مشكلة تقسيمها إلى دولتين: إحداهما إسلامية، والأخرى هندوكية؛ وسبب ذلك التقسيم يرجع إلى ما بين المسلمين والهندوس من عداء قديم، نشأ من يوم أن غزا محمود الفزتوي الهند، وكون إمبراطورية إسلامية فيها وظلت هذه الإمبراطورية من بعده إلى أن أتى الإنجليز واستعمروا الهند. وفي هذه القرون الطويلة عامل المسلمون من ترك وتتار وفرس الهندوس كما يعامل عبدة الأصنام فقتلوا فيهم وهدموا كثيراً من معابدهم، وحطموا تماثيلهم وأنزلوا بهم مختلف أنواع القسوة لعبادتهم الأوثان وتأليههم الحيوان، فولدت هذه القسوة الحقد والبغضاء، وظل الهندوس يكرهون المسلمين من عهد الفزنوي إلى الآن.
ولما تحقق استقلال الهند، وكان الهندوس أغلبية السكان، خاف المسلمين من انتقام الهندوس، ووطدوا العزم على أن يكون لهم دولة مستقلة تضم جميع المسلمين وتسمى بالباكستان. ولكن الهندوس يرغبون في أن تكون الهند دولة واحدة متحدة ولا يرغبون في(762/14)
أن تكون منقسمة. فما كادوا يعلنون تقسيم الهند إلى باكستان وهندستان حتى أخذت الاضطرابات تنتشر في بعض المقاطعات الهندية، وأخذ المسلمون يقتلون الهندوس في الولايات الإسلامية، وأخذ الهندوس يذبحون المسلمين في الولايات الهندوسية مما أضطر غاندي إلى أن يستعين بالصوم على منع تلك المذابح البشرية، فنذر صوماً طويلا يدوم بدوام هذا الصراع الدموي الذي بين المسلمين والهندوس. ولم يمض على صومه خمسة أيام حتى تعرضت حياته للخطر، فأنذر الأطباء الذي يشرفون على علاجه، بأنه إن لم يقلع غاندي عن الصوم، فإنه يقضي على حياته. فلم يكد زعماء الهنود من مسلمين وهندوس وسيخ يسمعون هذا الإنذار حتى وعدوا غاندي بأنهم سيتعاونون في الحال على إنهاء الاضطرابات الدينية حتى يسود الود والسلام والحب بين جميع سكان الهند على اختلاف أديانهم. ولكن يبدو أن بعض الهنود الذين يميلون إلى العنف وإلى الثورة وإلى الحرب، لم يرتاحوا إلى صوم غاندي الذي خلص الهند من المجازر البربرية مع بقائها منقسمة إلى باكستان وهندستان وفضلوا أن يستمر النضال بين المسلمين والهندوس إلى أن تقبل الباكستان أن تنضم إلى الهندستان وتصبح الهند متحدة، وشعروا في الوقت نفسه أن غاندي بنفوذه الروحي استطاع أن يخمد حرباً أهلية همجية ويحيط حركة ثورية كانوا يعولون عليها كل التعويل، فسخطوا على نفوذ غاندي الروحي على الشعب، وكرهوا ان تحسن معاملة الهندوس للمسلمين، وترد إليهم مساجدهم التي حولت إلى معابد هندوسية من الاضطرابات الأخيرة، واحتفوا على أن يكون للمسلمين أي سلطة في الهند، فأقدموا على قتل بطل روحي ضحى بشبابه وكهولته في سبيل الهند، وفي سبيل إصلاح الهند، وفي سبيل تحرير الهند، ورأى أن التعاون بين المسلمين والهندوس أمر ضروري لاتحاد الهند، وبدون تبادل الحب بين أهل الهند لن تكون هناك هند متحدة، فمات غاندي شهيد مبادئه الروحية. بينما كان منافسوه السياسيون يرون أن القضاء على المسلمين وإبادتهم من الهند أسلم من التعاون معهم، وأفضل من مبادلتهم الحب فأقدموا على قتل غاندي بقلوب حاقدة لا تقدر عواقب فقده، ولا تدرك عظم الخسارة التي لا تعوض، فإن الهند بفقدها غاندي قد فقدت زعيما روحياً، يفهم تمام الفهم الروح الهندية، ويملك قوة روحية يعرف كيف يسيطر بها على الهنود ويوجههم الوجهة التي تتفق مع تعاليم الدين الهندوسي والمبادئ الإنسانية،(762/15)
وتجنب الهند ويلات الثورات وأشرارها. أما الآن فمن يضمن للهند بأن هناك من يحل محله. إن أمثال غاندي لا يظهر إلا مرة واحدة كل عدة قرون فكيف عجل قومه بإبعاده عن الدنيا؟ أحسب أن موت غاندي ترك فراغاً كبيراً في الهند في وقت هي في أشد الحاجة إليه. إن اغتياله سيورث الهند مشاكل خطيرة ويثير زوابع نفسية متعارضة يخاف منها على مستقبل الهند، ويقلب آراء بعض الهيئات الهندوسية المتطرفة التي نرى أن الحرب أسرع في توحيد الهند من أي طريق آخر، فتعود الهند إلى ما كانت عليه من فوضى، وتكتسح الاضطرابات الدينية جميع أنحاء الهند بعد أن كانت قاصرة على بعض الولايات، وتنتصر طرق العنف وأساليب القوة على القيم السلمية التي وضعها غاندي كدستور إنساني شريف للهند.
(الإسكندرية)
عبد العزيز محمد الزكي
ليسانسيه فلسفة(762/16)
محمد إسعاف النشاشيبي
مدرسة أدبية
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
لو شئت أن ترى الأديب الذي يعد بحق عنواناً على (الأديب) لكان عليك أن تسعى إلى لقاء إسعاف النشاشيبي في مجلسه.
ولكنه مات، فاختفت بموته صورة فذة فريدة لن يظفر التاريخ بمثلها. وقد تجد نماذج للكثير من أدبائنا البارزين، وصوراً تحاكى أساليبهم وطرائقهم وفكرهم، ولكنك لن تعثر مع التنقيب الشديد، على صورة تشبه إسعاف، مع كثرة تلاميذه واحتفال مجلسه بالناس، واطلاع القراء على الإسلام الصحيح من كتبه، وشوقي وحافظ وغيرهما من خطبه، ونقل الأديب مما كان يتابع نشره في الرسالة.
ذلك لأنه أعلى من المحاكاة، وأسمى من التقليد.
ومع ذلك فهو الأديب الذي كلما تمثلته تمثلت الأديب في الجاهلية وصدر الإسلام كيف كان، وكيف ينبغي أن يكون. فقد قيل (إن الأدب أن تجمع من كل شئ بطرف) وكان هذا شأن إسعاف النشاشيبي: يحدثك في الفقه والشريعة، وآراء المعتزلة وعلماء الكلام، ونظريات الفلاسفة والحكماء، وطرائف الكتاب ونوادر الشعراء، مع امتلاك ناصية العربية وهى كما تعلم من أوسع اللغات، وإلمام بالأدب والعلم والفلسفة في أوربا الحديثة إلماماً يدل على طول الباع وعظيم المنزلة.
فإن قلت: عندنا كثير من الأدباء يجمعون بين هذه المعارف، ويأخذون من كل شئ بطرف.
قلتُ: ولكنك لم تحظ بالاستماع إلى إسعاف، فهو في مجلسه وحديثه غيره في كتبه ومقالاته. والفرق بين هذا وذاك هو الفرق بين المقروء والمسموع، بين اللفظة وهى على الورق جثة هامدة، والعبارة وقد خرجت من فمه تمتلئ بالحياة، وتنفذ إلى القلوب، وتستقر في الأسماع.
وهل كان الأدب في القديم إلا مجالس وأسواقاً؟.
وهو يفسد حين يؤخذ من الكتب ويحفظه المتأدبون كما تفعل الببغاء.
يُروى أن أفلاطون لم يدوّن دروسه في الأكاديمية، لأن العلم عنده لا يكون إلا سماعاً أو حواراً.(762/17)
عرفت إسعافاً منذ بضع سنين في مجلسه بالكونتنتال، فكان حلقة تضم صفوة الأدباء والشعراء وهو فيهم درة العقد، أو كأنه الشمس تحف به الكواكب.
فإذا جاء ذكر محمد عليه السلام، قال إسعاف: الله أكبر نبي الإسلام.
كان يتغنى بهذا الدين، ويترنم باسم الرسول.
وفى ذلك ألف كتابه (الإسلام الصحيح). نفذت طبعته، وكان يفكر في إعادتها بعد إضافة شواهد وتعليقات جديدة من خمسمائة مرجع. ولا يهولنك هذا الرقم، فهو حفاً عظيم الإحاطة واسع الاطلاع.
أراد أن يهدى إلى هذا الكتاب، ولكنه لم يكن يملك منه نسخة واحدة. وسعيت أن أجد منه نسخة فلم أعثر. وسمع الأستاذ عادل زعيتر بطلبي فقال عندي نسختان فأرسل يطلب من فلسطين واحدة هي الآن في حوزتي. تقرأ في استهلال الكتاب (الإسلام هو الدين الحق [ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه] ومحمد خير الخلق. وهذا الكتاب، وهذا الأثر، وهذا تاريخ البشر. فاقرأ كتاب كل دين، وانظر أثر كل عظيم، وفتش صحف التاريخ. واحكم إن كنتَ من الحاكمين).
هذا شعر منثور.
وهذا كلام لا يجري به القلم أو ينطق به اللسان، بل هو صدى القلب، وقبس من نور اليقين.
ما كنت تسمع في مجلسه إلا اعتزازاً بالعروبة ودفاعاً عن الإسلام الصحيح. فهو حلقة أو مدرسة سرت روحه في شباب الجيل.
طيب الله ثراه، وأدخله فسيح الجنات.
أحمد فؤاد الأهواني(762/18)
الله وفلسفة الوجود
للأستاذ نقولا الحداد
حتى كتابة هذه السطور لم أطلع على (العقدة المنحلة) التي تفضل بها الأستاذ الكبير العقاد على الرسالة لأنه لم يأت دور الرسالة في مطالعاتي إلاَّ اليوم.
لم أدر لماذا زج الأستاذ الكبير بالفيلسوف القديم فيثاغوراس في مناقشته لمقالي الذي نشره المقتطف في أول هذا الشهر يناير بعنوان (الله وفلسفة الوجود). راجعت مقالي فلم أجد فيه ذكراً لفيثاغوراس الفيلسوف الذي سبق المسيح ببضعة قرون. فما الذي حدا الأستاذ الكبير أن يقول: (إني أرى أن فيثاغوراس لم يكن إلا مخرفاً سخيفاً حين قال أن الكون عدد ونغمة).
لم أذكر فيثاغوراس في مقالي الذي رد عليه الأستاذ ولم أقل هذا القول وإنما الآن أقوله ولعلي قلته في مناسبة قديمة لا أتذكر.
فيثاغوراس لم يكن فيلسوفاً في عرفنا اليوم وإنما كان عالماً رياضياً في عصره وله قضية خالدة هي قضية مربعات أضلاع المثلث القائم الزاوية. ولا تذكر هذه الفضية إلا مقرونة باسمه. والظاهر أن تعمقه في الرياضيات ساقه في تبحره في الكون إلى الظن أن العدد هو أصل الهيولي، أي المادة الأصلية. وربما كان هذا القول السخيف، بل لا شك أنه كان معقولا عند قومه وفي عصره حين لم يكن معروفاً عن المادة إلا ظاهرها. وفلسفة فيثاغوراس هي أن المادة مؤلفة من العدد (سبعة) لأن هذا العدد موجود في كل ظاهرة من ظاهرات الكون. فالسيارات سبعة في زمانه. والأنغام في السلم الموسيقية سبعة وألوان الطيف الشمسي سبعة، وأيام الأسبوع سبعة، والسموات السبع الطباق سبعة إلى غير هذا مما كانوا يعرفونه. فالعدد سبعة المقدس هو أصل الهيولي.
وأستاذنا الكبير العقاد يرى رأي صديقه المغفور له الأستاذ فيثاغوراس وبينهما نحو 25 قرناً تقريباً. وهو يريد أن يؤيد هذا الرأي العتيق بالعلم الحديث الذي اكتشف ان المادة مؤلفة من ذرات مختلفة العناصر عددها 92 ذرة، والذرة مهما اختلف عنصرها مؤلفة من ثلاث ذريرات البروتون والألكترون والنيروترون. ولكن خاب التطبيق بين فلسفة فيثاغوراس وعلم هذا العصر.(762/19)
فالمادة بحسب صديق الأستاذ مؤلفة من سبعة، وبحسب رأي العلم الحديث مؤلفة من ثلاثة. وإنما هو (العدد) على كل حال. العدد الذي يتعلق به الأستاذان طرفا تاريخ الفلسفة.
لم أقل في حياتي أن فيثاغوراس كان مخرفاً. وإنما أقول الآن أن الفلسفة السبعية على ضوء العلم الحاضر سخيفة، وكل قارئ يقول أنها سخيفة. فإن رام الأستاذ الكبير تقريرها وأن يؤيد نظرية الإلكترون به فمرحى.
ولو كانت نظرية فيثاغوراس تؤيد نظرية الإلكترون لأمكن الميكانيكيين لعهده أن يخترعوا القنبلة والطاقة الذرية، ولكان العالم الأرضي اليوم غير ما نراه.
ولكن إلى الآن لم أفهم ما الذي زج بفيثاغوراس هنا في هذه المناقشة ولم يرد له ذكر في مقالي المنشور في المقتطف. وكأني بالأستاذ الكبير يختلق لي تهمة لكي يحاسبني عليها ويجعلني خصما. وأيم الله ما قصدت في تعليقي على (كتاب الله) خصومة. وليس بيني وبين الأستاذ العقاد إلا كل وداد وهو يعلم جيداً أني أجله وأقدر علمه. ولو لم تسقط جملة طويلة برمتها من مقالي في المقتطف لتأكد مقدار اعتباري له. ولا أرى في ذلك التعليق ما يمس عواطفه الرقيقة.
والواضح أن الأستاذ الكبير يصعب عليه جداً أن يحاسبه محاسب من القراء على بعض ما يكتبه أحياناً مصيباً كان أو مخطئاً.
العصمة لله يا كبير الكتاب.
إن مليكان وادينجتون وجينز وغيرهم من علماء العصر هم أساتذتي العظام وأساتذة كل طالب علم. ومنهم استمددت معلوماتي المتواضعة، وإذا كان الأستاذ الكبير يدرس هؤلاء العلماء الأعلام جيداً يفهم مقالي تمام الفهم.
فلو درس جينز وادينجتون واينشطين ونيوتن ورصل وأمثالهم لعلم لماذا سرعة النور لا تتغير في الفراغ المطلق بل تتغير بمرورها في وسط مادي كالزجاج والهواء والماء، ولعلم لماذا لا يسير النور في خط مستقيم، ولماذا لا ينتهي خط النور في مكان معين أو أين ينتهي لأن النور يسير منحنياً بفعل جوٌ جاذبي لأنه خاضع لتأثير الجاذبية فهو يدور حول ذلك المركز الجاذبي ولا ينتهي في مكان، ولعلم لماذا الكهرطيسية تتموج ولا تستقيم، ولعلم أشياء كثيرة. ولكل ظاهرة طبيعية سبب ولا بد من سبب، وصار العلم الآن يوضح لنا(762/20)
معظم الأسباب ولا زلنا نجهل كثيراً منها.
لا تدبير في الكون ولا مصادفة ولا فلتة على الإطلاق يا أستاذ لأن للكون سنة رتبها الله منذ الأزل ولن تجد لسنة الله تبديلا، فالقوانين الطبيعية التي يجري عليها الكون منذ الأزل وإلى الأبد لا تتغير. وإذا كنا في بعض الأحيان لا نعرف بعض القوانين أو لا نرى الظاهرة الفلانية تنطبق على قانون فليس المعنى أن حركات الأكوان غير منطقية على قانون أو هي مصادفات أو تدبيرات أو فلتات.
فما لا نستطيع تعليله فلأننا لا نعرف بالضبط القانون الذي يمشي عليه، ولا بد أن يعلمه علماء المستقبل.
وإذا أطلع الأستاذ على كتاب (كيف يعمل العقل) لجود فلعله يفهم شيئاً على صلة العقل بالمادة، وهناك مؤلفات أخرى تبين لك أن العقل إنما هو وظيفة من وظائف الدماغ، ولهذا يرى بعض علماء العقل أن ينقل البحث في العقل إلى علم الفسيولوجيا هذا موضوع حديث سيوفيه العلم في المستقبل القريب أو البعيد وقد استدركت في مقالتي أن البحث في هذا الموضوع ليس في طوقي.
لا يسع المقام أن أرد على كل نقطة من مقال الأستاذ الكبير وإنما أرده إلى نفس مقالي الذي ناقشني فيه. ففيه كل ما يريد أن يعرفه وفيه الرد على كل ما قاله في مناقشته اللهم إلا صديقه فيثاغورس. فيه (السؤال وفيه الجواب). وهو بعض العلم لمن يريد أن يعلم فلا لزوم للإعادة.
قال الأستاذ العقاد (إن الأستاذ نقولا الحداد لم يرزق بداهة فلسفية كبداهة فيثاغورس (ولا كبداهة صديقه الأستاذ الأكبر) ولم يرزق نظرة علمية إلى ما وراء الظواهر) سبحان الرازق.
ولكنه رزق من العقل ما رزق الناس وهو يكفيه أن يفهم أن القول بأن المادة مؤلفة من العدد والنغم سخافة ليس بعدها سخافة.
ولكن الأستاذ الكبير رزق من البداهة الفلسفية أن فلسفة فيثاغورس هي وحي أزلي أبدي سرمدي، وبها تفسير نظريات العلم الحديث، ومهما تقدم العلم وتجرد من السخافات القديمة تبقى هي الوحي العلمي الفلسفي الذي يهتدي بنوره. فهو إذا شاء الكلام بموضوع طريف(762/21)
رجع إلى فلسفة فيثاغورس المقدسة.
فكيف تبقى الرجعية في العلم؟
إن التهكم يا أستاذ ليس برهاناً ولا حجة، وإن كان في مقالي في المقتطف ما يشتم منه رائحة التهكم فاستغفر. لم أقصده. ولكن ليس فيه شئ منه. والسلام عليك ونحن صديقان. . .
المكان والعدم المطلق:
بعد كتابة ما تقدم اطلعت على مقال الأستاذ العقاد (ولا أقول الأستاذ الكبير لأن كلمة العقاد أكبر من الكبير) في 2 فبراير من الرسالة فإذا بالأستاذ يختلق لي تهمة أخرى لكي يحاسبني عليها. وهي زعمه أني قلت: (أن المكان هو العدم المطلق).
لم أقل هذا القول. ولكن الذي قلته بهذا الشأن هو في صفحة 30 من مقتطف يناير بحروفه.
(لولا حركة المادة لما كان زمان. وكذلك لولا وجود المادة لما كان مكان.
(فوجود المادة خلق المكان. وحدوث حركة المادة خلق الزمان).
(تصور جميع أجرام السماء وذرات الأرض غير موجودة. فكيف يتراءى لك المكان - الحيز الذي كانت المادة تشغله - ألا يهولك العدم المطلق؟ وما هو العدم المطلق؟ هو اللا شئ. فالمكان (بلا مادة) إذن لا شئ. هو العدم غير موجود. لماذا؟ لأن المادة تجعل للمكان حدوداً. فإذا زالت المادة زالت الحدود فكيف تفهم المكان بلا حدود).
(نوجز القول: المادة أوجدت المكان. وحركتها أوجدت الزمان. فالمكان والزمان لولا المادة وحركتها هما عدمان).
هذا نص ما قلته في مقالي في المقتطف. فهل يستفاد منه: (أن المكان هو العدم المطلق؟)
إذا فنيت المادة التي تشغل المكان فني المكان بفنائها. فهو بلاها عدم
ولما قال اينشطين عني المكان المشغول باملادة. ولم يعن الفراغ المطلق. فمتى قلنا (المكان) عنينا مكاناً مملوءاً مادة. وإذا قلنا فراغاً مطلقاً عنينا أن لامكان موجود حتما لأن المادة موجودة. ولا عدم في الوجود.
إذن أصبح كل ما قاله الأستاذ الكبير بهذا الشأن (لاأقول فضولا لأن فيه فوائد للقارئ ولي) بل أقول لم يعد تفنيداً لمِا قلته بل لما لم أقله.(762/22)
أما تعريفه للموجود والمعدوم والمعلوم والمجهول فقد عرف القراء ما قلته وما قاله فلكل قارئ أن يقبل هذا أو ذاك.
وأما قضية أن الإنسان يتكلم لأنه يفكر أو بالعكس فلم أتعرض له البتة. فلا أدري لماذا جعلها الأستاذ موضوعاً للنقاش.
كان مطلع مقالي في المقتطف: (منذ مدة كتب الأستاذ العقاد في الرسالة أنه (صار عندنا فلسفة) والآن صار يمكننا أن نقول إنه صار عندنا فلسفة وفيلسوف) أي بعد صدور كتاب الله.
ونكن لسوء الحظ سقطت العبارة الأخيرة والمصحح لم يفطن لسقوطها. وغرضي من هذه الإشارة إليها الآن أن أؤكد للقارئ اعتباري العظيم لعلم العقاد واتساع دائرة معارفه وأهليته لخوض المسائل الفلسفية.
وما تصديت إلى التعليق على بعض نقط في (كتاب الله) إلا لأني كنت أملك شيئاً من (العدة) لهذا التعليق. فلا أدري كيف استنتج الأستاذ (من كلامي) أني لم أشتغل في المباحث الفلسفية، ولم أعود عقلي أن يعطيها حقها من التقدير الواجب والتأمل الطويل، وإني لا أملك العدة التي تعينني على النقد والتمحيص
نعم لم أكتب في الفلسفة يا سيدي الأستاذ. ولكن ما أدراك إني مطلع على بعض كتب الفلسفة البحتة التي اطلعت أنت عليها ككتاب (المرشد إلى الفلسفة) للعلامة جود أستاذ الفلسفة في جامعته وكتاب (قصة الفلسفة) للعلامة ول دورانت. و (العلم والفلسفة) لكبير العلماء جينز (رحمة الله عليه) القضايا الفلسفية لبرتراند رصل وقد درستها غير مرة.
فلا أظنني بعد هذه الدراسات كنت خلواً من (العدة) للتعليق على بعض نقط (كتاب الله) مع ذلك لا أقول أن هذه العدة المتواضعة تعصمني لله وحده.
نقولا الحداد(762/23)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5)
الحرية
للأستاذ كمال دسوقي
3 - الحرية بوجه عام:
بيناً فيما مضى طبيعة الصراع بين الرعايا المحكومين والسلطات الحاكمة، وقلنا إن الأمر هنا يتعلق بتعارض المنافع الفردية والحرية الشخصية من ناحية، والحكام بوصفهم ممثلي المجتمع المعبرين عن رغباته، والقائمين على تحقيق المنافع العامة بالحد من الحرية الفردية من ناحية أخرى. وقلنا كذلك إن الشعوب لم تفتأ تحاول الحد من سلطان الحاكم عليها، بأن تحمله على أن يقطع على نفسه عهوداً ومواثيق حيناً، وبأن تشترط موافقة الأمة ممثلة في هيئاتها حيناً آخر، لتضمن في الحالين عدم استبداد الحاكم واضطهاد الرعية.
وكلما زاد فهم المحكومين لطبيعة الحاكم بوصفه ممثل إرادتهم، قلت مسافة الخلف بينهما، لتتحد إرادتهما، ورأى المحكومين بالتالي أن يفوضوا إلى الحكام أمرهم، ويركزوا في أشخاصهم سلطتهم - ثم يحّاسبوهم أو يعزلوهم إن لم يكونوا لذلك أهلا، ولكن هذا الحكم الذاتي - حكم الشعب نفسه لا يلبث أن يتكشف عن مجرد إرادة الأغلبية، ويبدو هذا الاستبداد من الأكثرية - ولو أنه الديمقراطية حقاً - إجحافاً بحرية الأقلية أصحاب المصالح أيضاً التي لا تتفق معها في الرأي، ويصبح طغيان الأكثرية هذا خطراً دونه خطر استبداد الحكام وموظفيهم، لأنه يصدر عن الشعور العام والاتجاه السائد لغالبية المجتمع فثمت خطران يهددان حرية الفرد: الاستبداد السياسي من الحكام، وطغيان أكثرية المجتمع. التوفيق بينهما مستحيل، كما أن تعيين قواعد السلوك التي يتحتم علينا اتباعها بقوة القانون أو المجتمع حتى لا تتعارض الحريات هي مشكلة المشاكل. لا يتفق في تحديدها جيلان متعاقبان، أو شعبان في جيل واحد.
وآفة هذا كله أن الناس يسلكون وفق أهوائهم غير المعقولة، وقد يعززونها بأهواء غيرهم لتتخذ صورة إجماعية مقبولة، بالإجماع لا بالمنطق، وإن كان مصدرها في واقع الأمر وهما أو عاطفة، أو خرافة أو هوى، أو خوفا وحسدا، أو كبرا وبغضاء، أو أنانية ونفاقا، أو(762/24)
تملقا لعواطف السادة وتقربا إلى الحكام، إلى غير ذلك من وسائل المنفعة الذاتية المشروعة وغير المشروعة، ولكنها مع هذا - بحكم العادة - تصبح ذات أثر بليغ في تحديد السلوك والآداب وتقاليد المجتمع، وخصوصاً أن الحكام لم يحاولوا مراجعة هذا المبدأ - مبدأ التشريع على أساس العاطفة الجماعية كما رأينا - بل أخذوه قضية مسلمة، وشرعوا ينظرون في تفاصيل الأمور التي يرضى عنها أو يعاقب عليها المجتمع على هذا الأساس، ويضرب (مل) مثلا لخطر استبداد الأكثرية بدافع الهوى، مسألة العقائد الدينية وتعصب الجماعات فيها.
ومجمل ما يقرره المؤلف في (تمهيد) كتابه بعد ذلك، يتلخص في القضايا التالية.
1 - سلطة القانون في بلاده أقل نفوذاً من سلطان الرأي العام الذي يجعل من الحكومة خصماً له، ومهدداً لحريته، وإن كان القوم بين مؤبد لتدخل الحكومة في حرية الأفراد، ومعارض لهذا التدخل - لم يضعوا له قاعدة مقررة.
2 - منع الفرد من الإضرار بغيره هو المسوغ الأوحد لتدخل السلطات في حرية مواطن متمدين، وفيما عدا هذا، فللإنسان مطلق التصرف في جسمه وعقله، ومالم يخرج عن دائرة شخصه فلا سلطان للمجتمع عليه. ويستثنى من ذلك من لا يزال قاصراً من الأفراد والجماعات، فإنه يجوز استبداد حكامهم حتى ينضجوا ويصلحوا.
3 - ومع أن الحرية حق طبيعي يعود على الفرد بالمنفعة الشخصية، فإن للمجتمع أن يجبر الفرد على الدفاع الوطني والشهادة أمام الفضاء وعمل البر وهي أمور واجبة عليه، ويحاسبه إذا امتنع عنها أو قصر فيها، أو أهمل فعلها فترتب على الإهمال نتائج خطيرة عن طريق القانون أو سلطة المجتمع، إذ الأمر هنا يتعلق بالصالح العام المقدم على المنفعة الشخصية، وفيما عدا هذا لا يتعرض المجتمع لحرية الفرد.
4 - وثمت أحوال يكون فيها الفرد مسئولاً أمام المجتمع؛ ولكن مسئوليته تحيط بها ظروف وملابسات تجعل من الخير تركه وشأنه، فهنا يجب ترك الفرد لضميره يحكم عليه ويؤاخذه.
5 - أما الأحوال التي لا يجوز للمجتمع أن يتدخل فيها مالم تؤثر في الغير تأثيراً مباشراً فهي حرية الاعتقاد والفكر والميل والشعور، والتعبير عنها، وحرية الأذواق والمشارب، ثم(762/25)
حرية الاجتماع والتعاون.
6 - يقاس رقي المجتمع بمبلغ تحقيق هذه الحريات، وما لم تكن الدولة في خطر فليس ثمت ما يبرر تدخلها في أخص شئون الأفراد الذاتية، مهما يكن أمر دعاة سيطرة المجتمع أمثال أوجست كونت وغيره.
4 - حرية الرأي وحرية التصرف:
وبعد تلخيص هذه المقدمة يقبل على الفصلين الثاني والثالث، وهما أهم فصول الكتاب، وأنضج آراء المؤلف، وأكثر الكتابات قيمة لمن يحاول الدفاع عن الحرية الشخصية في الفكر والعمل، أولهما يتناول بالحديث حرية الرأي والاعتقاد، والتعبير عما نفكر بالمناقشة أو الخطابة أو النشر. وثانيهما يعرض لحرية التصرف والفعل والتنفيذ في حيز العمل كما هو في حيز القول، ما دمنا لا نتعارض في هذه أو تلك مع الصالح العام.
وما الذي يسوغ لحكومة أياً كانت أن تقيد تفكيرنا أو تحمنا على ما لا نريد من الرأي، ولو كان ذلك بإرادتنا؟ إن الحقيقة في مسائل الرأي ليست من الجلاء بحيث تكون دائماً مع الحكام، ويكون المجكومون - فرداً أو جماعة - هم المخطئين، وحتى لو جاز ذلك، فتدخل السلطات لمنع الخطأ هو سبيل انتشاره. حقاً إن الناس كثيراً ما يتعصبون من الناحية العملية - وإن أنكروا ذلك جدلاً - لآرائهم التي يهديهم لها محض الصدفة أو مجرد الإجماع - كأنما هم معصومون من الزَّلل، ولكن هذا الخطأ في استعمال العقل لا يدعو إلى تحريم التفكير أصلاً، وكل ما في وسعنا أن نهيب بالأفراد والحكومات أن يبذلوا كل جهد للوقوف على الحقيقة والتيقن منها قبل نشرها وإذاعتها - فحرية المعارضة والمناقشة هي وسيلة الصواب واليقين، وما دامت أخطاؤنا وهفوات لحسن حظ البشرية وصلاح أمرها - قابلة للتقويم والتعديل فينبغي أن نطلق للأفرد أكبر حرية في الفكر والمناقشة حتى يتأدوا إلى الحقيقة التي تصلح من أخطائهم، وتردهم إلى الصواب.
ولإطلاق حرية المناقشة - فوق تحقيق الميزة الجوهرية للعقل الإنساني بتقويمه وتعديله التي قدمنا - ميزة أخرى موضوعية تتعلق بالشيء ذاته موضع المناقشة، فإن ثباته للجدل حوله والمناقشة فيه وسيلة الثقة به والاطمئنان إليه، إذ أنه لو كان ثمت حقيقة نستطيع أن نهتدي إليها، فلن نصل فيها إلى اليقين المطلق، بل لما يشبه اليقين ويظن به الصواب،(762/26)
وحتى هذا القدر لن نصل إليه بالتقييد والتحريم، بل بإفساح مجال الدرس والمباحثة، فنصلح تفكيرنا، ونقوي في الوقت نفسه حجة الشيء ذاته، إذ أن دعامة الثقة بشيء إنما تقوم في قدرته على تحدي خصومه للمبارزة، فإن لم يكن له معارض، أو كان له معارض سقطت حجته في الميدان؛ فقد حكم له بقربه من الصواب.
وكما أنه لا يجوز حمل الناس على غير ما يريدون بادعاء العصمة في أنفسنا وفيما نريدهم عليه، حتى ولو كان معنا الإجماع؛ ما دام من الممكن أن يكونوا هم على حق، وما دمنا لم نفسح المجال لنتبين خطأ الأمر من صوابه في مناقشات حرة؛ كذلك ليس لن أن نحملهم عليه بحجة المنفعة، أو بدعوى الفائدة للمجتمع أو أية ذريعة أخرى، فما دمنا لم نسمع رأي الفريق المعارض، ولو كان نفراً قليلا لا نجزم بأن المنفعة في جانبه أو في جانبنا، فالمشكلة باقية لم تحل، ولم نزل ندعي العصمة في أنفسنا - ونرمي معارضينا بالخطأ - في تعرف النفع كما ادعيناها من قبل في الاهتداء إلى الحق.
فنحن حين نقيد حرية الرأي في الأفراد إنما نحملهم على اتباع رأينا، ونسوقهم إليه باسم الإجماع على الحق حيناً، ومنفعة المجتمع حيناً آخر - مما يحمل في طيه ادعاء العصمة من الفساد في آرائنا - والعصمة من الصواب في معارضينا، وليست الحقيقة - كما قلنا - بحيث نتعرفها بهذه السهولة، بل لا بد للوصول إلى بعض اليقين من حرية مناقشة واسعة النطاق، حتى في أخص مسائل الحياة كالدين وحسب البشرية ما ترتب على العصب الديني والطائفي والكنسي من اضطهادات ومظالم وشهداء - يتوسع (مل) في الاستشهاد بها - ليس ينهض عذراً لها ما يقال من ضرورة اجتياز الحق لهذه المحن، فإن في إتيان هذه الفظائع قضاء على التجديد والإحسان والعمل على ترقية الجنس البشري. وفضلا عن أن الاضطهاد يزهق الحق ويخفيه ويعوق انتشاره، وينزل بدعاته العذاب، فإنه يقتل الشجاعة الأدبية ويصادر حرية الفكر، وجرأة الحق، ويعوق نمو السلطات وانتشار ثمرات الإبداع في حينها، ويؤدي إلى تستر المفكرين وذلتهم وسعيهم لتملق عواطف المجتمع بدلا من البحث عن الحقيقة. ومع هذا فالحق لا بد يوماً أن يظهر ويبهرنا ضوءه فنضطر متأخرين إلى الإيمان به - بعد إذ أسأنا إلى أصحابه وعذبناهم - وبعد أن لم نسلم من الثورات الفكرية التي يولدها الضغط والتقييد.(762/27)
وبعد أن فرغ (مل) من إثبات شطر حجته الأول: عدم ادعاء العصمة في حمل الفرد على حق أو منفعة، انتقل إلى الشطر الثاني منها - وهو خطر إخماد رأي الفرد ولو كان خطأ - إذ أن منع المناقشة منعاً باتاً أمر ضار ومستحيل - خصوصاً في المباحث المتعارضة الآراء - ولضرورة دراسة حجة الخصم وتفهيمه علة خطئه ليتثقف عقله، بعد أن نسمعها منه بنزاهة وصدق رغبة، بلا تحيز ولا محاباة، أو تفريق بين عام وخاص. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن تقييد المناقشة يتعدى أثره الخمود العقلي إلى خمود المعاني الأخلاقية في العقائد موضوع المناقشة - بما يجعل منها ألفاظاً منسية جوفاء - وإلى جمود العقائد والأقطار ذاتها بعد أن تصبح تقليداً محافظاً مستقراً، اطمأن عليه حماته ونام عنه خصومه، وهذا التحجر في العقائد - دينية أو غير دينية - يجعل منها رسوماً وطقوساً أولى منها معاني جميلة وعقائد. فلا بد من الخلاف والمناقشة حتى نصل إلى الحقائق اليقينية التي تعين على رقي النوع البشري، ولا بد من تهيئة الوسائل التي تثير هذا النقاش المستمر حول الحقائق حتى لا تموت باستقرارها، ولا بد أخيراً أن نكمل جزء اليقين الذي في آرائنا بيقين آراء معارضينا. وأن نشفع نزعة المحافظة دائماً بنزعة مساوقة إلى التقدم والإصلاح في سياستنا.
كمال دسوقي(762/28)
رأي مفتي حضرموت
فيما دار بين عزام باشا والسيد محمد بهجت الأثري
تتمة ما نشر في العدد الماضي
ولو لم يكن إلا هذا وحده لكفى مبرراً لقول عزام ورد كلام الأثري وهو نص جلي فيما قدمناه فلله الحمد على الهداية، ولم يذكر ابن القيم احتجاج عمر بآيات الحشر لأنها لا تصلح للغنيمة وإنما جرى ابن الخطاب في السواد على النص ما اشتهر من قوله متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما فإنه ظاهر المصادفة للنص وقد حاولوا بجواب عنه فلم يأتوا إلا بالتافه المردود وذكر بن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم أن المأمون يسوقه مساق المتفتي عليه يقول ومن أنت يا جعل حتى تنهى عمى أقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر القصة التي يكفين منها موضع الشاهد وهو هذا وأصله في صحيح مسلم عن جابر قال كنا نستمع بالقبضة من الدقيق والتمر الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر حتى نهانا عنهما، عمر وبعيد جداً أن يقول ابن الخطاب عنها ذلك القول الغليظ، وهو ذاكر النص بدون أدنى إشارة إليه وإنما جرى منه على انقياد من ترجيح المصلحة، ولابن الخطاب في قضية المتعة مزمية إذ قد ظهرت النصوص بعد ذلك متظاهرة على تحريمها موافقة لما ذهب إليه بأصالة رأيه وبُعد نظره، ومنها حديث سيرة الجهني عند مسلم وأبي داود وأحمد، ومما يتأكد به أن قول عمر في متعة النساء كافية رأياً أرتاه جمعه إياها ومتعة الحج في سياقه واحدة، وقد أخرج مسلم عن ابن أبي هليكة عن عروة ابن الزبير قال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر الناس بالعمرة في هؤلاء العشرة وليس فيها عمرة فقال أو لا تسأل أمك عن ذلك، قال عروة فإن أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك فقال الرجل من ها هنا هلكتم ما أرى الله عز وجل إلا سيعذبكم أني أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتخبروني بأبى بكر وعمر والحديث أطول من هذا والرجل هو ابن عباس وله شواهد كثيرة وحسبنا منها أن قول عمر في متعة الحج كان برأيه المخالف للنص والمصلحة التي رآها في ذلك هي كرهه لأن يدخل الناس في الحج ومذاكيرهم تقطر لأن الرفهينة لا تليف باخشيشان النسك وقول ابن عباس لعروة(762/29)
أولا تسأل أمك النسب بمتعة النساء وله قصة طويلة مذكورة في السير، ولكن لعل الحديث اختصر فانتقل النظر ولا ينكر أحد أن عمر رضى الله عنه كان وقافاً عند كتاب الله ولكن إذا استنار له الدليل وإلا فإنه يذهب عند ظهور المصلحة إلى التأويل، ولعل منه قياس الغنيمة سوى من سماهم الأستاذ الأثرى.
وحسبك بما جرى منه يوم الحديبية فإنه لم يقبل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو وجد أعواناً لرده وخرج مغضباً ثم لم تنكسر سورة غضبه إلا عند انقطاع الحيلة وتعقب مراجعات له من أبى بكر طويلة، وعذره في ذلك شدة غيرته على الدين، ومنها إشفاقه عليه وقوة شكيمته وصلابة عوده في الحق وصحة إخلاصه لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فجرى على سجيته العربية من خشونة اللفظ مع نسيان لتحفظ تحت تلك التأثيرات ولو قالها غيره لطعنوا فيه، أما هو فعلى حد قوله:
ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاكا
وهل فوق هذا دليل على أن ابن الخطاب يسير مع ما يراه من المصلحة للإسلام وإن حادت عن النص الخاص والعام، ولقد فعل يوم مات ابن أبى من اعتراضه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجذبه بثوبه ما هو معلوم وكان له في ذلك منقبه إذ نزل الذكر الحكيم بموافقته بعد، وفى الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم يوم اشتد وجعه ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فمنع عمر فليس في ذلك إيثار للمصلحة التي رآها على النص الصريح بلى وألف بلى فمرحى للأستاذ عزام مرحى إذ ألهمه الصواب من أوحى إلى عبده ما أوحى، وأكبر من هذا كله ما جاء في لتمدن الإسلامي 217 ج اطبعة ثالثة من ص 121 ج 2 من خطط المقريزي من تقرير ابن الخطاب للمكوس في الإسلام مع مصادمة ذلك للنصوص حتى لقد قال بعض الشافعية أن استحلال المكس كفر، ونقل العصامي في تاريخه عن قطب الدين النهرواني أن الألسنة انطلقت بالوقيعة في القضاة الأربعة بالقاهرة الذين أفتوا بحل المكس في جده وقالوا إنهم اعتمدوا هوى الملك حفظاً لمناصبهم.
وما أخطأ صاحب التمدن إلا في تعيين الصفحة والجزء من الخطط وإلا فقد جاء في ص 166 منها وأصل ذلك في الإسلام أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه بلغه(762/30)
أن تجاراً من المسلمين يأتون أرض الجند فيأخذون منهم العشر فكتب إلى أبى موسى الأشعري وهو على البصرة أن خذ من كل تاجر يمر بك من المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم وخذ من كل تاجر من تجار العهد من كل عشرين درهماً درهماً، ومن تجار الحرب من كل عشرة دراهم درهماً، ونهى عمر بن عبد العزيز عن ذلك وكتب ضعوا عن الناس هذه المكوس فليس بالمكس ولكنه البخس.
ومن تلك الأمثال ما رواه طاوس عن ابن عباس قال كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم رواه أحمد ومسلم وفي لفظ آخر رواه مسلم فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليه وفي آخر رواه مسلم أيضاً أن عمر قال أجيزوهن عليهم رواه أبو داود وكنت أستنكر القول بأن الثلاث واحدة لما حصل من تشنيع العلماء على ابن القيم وشيخه في اختيار ذلك ولأن الحنابلة على اعترافهم بفضل هذين الشيخين لم يوافقوهما على ذلكن ولأن الأئمة الأربعة على خلافه حتى رأيت العلامة الشوكاني يبالغ في تأييده ويعد من الأجلاء من يقول به والإمام الرازي يقول في تفسير آية الطلاق من البقرة أنه الأقيس وبلغني أن من لا يشك في دينه من الحضارمة يقره فرجعت عما كنت عليه فيه، ومعاذ الله أن نقول أن ابن الخطاب أو من دونه من العلماء القائلين بالاستصلاح يقصدون مراغمة النصوص الشرعية إنا إذاً لظالمون، ولكنهم إذا ظهرت المصلحة المحققة رجحوها متحيزين إلى النصوص العامة في ذلك كقوله جل ذكره: ما جعل عليكم في لدين من حرج وقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وأمثالها مما لا يحصى وفي الصحيح يسرا ولا تعسرا، ومن أساطين الشريعة ما أخرجه ابن ماجه مرفوعاً لا ضرر ولا ضرار، ولقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل ببدر منزلا لم يره الأنصار موافقاً للقتال فخالفوه فرجع إلى رأيهم وقال للأنصار عام قدومه المدينة ما يضركم أن لا تؤبروا فخرج نخل المدينة شيصاً فقال لهم انتم أعرف بدنياكم واتفق أصحاب السير على أنه عليه السلام عزم على أن يصالح رئيسي غطفان عيينة بن حصن والحارث بن عوف على أن ينصرفا بقومهما في حادثة الأحزاب ولهما ثلث ثمار المدينة ثم شاور السعدين بعد تمام المراوضة(762/31)
فقالا إن يكن الله أمرك فسمعاً وطاعة، وإن كنت إنما تريد أن تصنع لنا بذلك فلا حاجة لنا به، فرجع إلى قولهما ووجه الدلالة فيه من جهتين أن النبي أراد التصرف في أموال الأنصار بدون استرضائهم كلهم للمصلحة وأن السعدين خالفاه للمصلحة أيضاً فرجع إلى رأيهما وأكبر من ذلك ما أخرجه مسلم عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ رجلا من غفار بجريرة حلفائه من ثقيف وما كان إلا من أجل المصلحة وإلا فالباري جل شأنه يقول في غير موضع من التنزيل: (ولا تزر وازرة وزر أُخرى)، ويقول عن العبد الصالح (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون) وقالت الصديقة عائشة لو علم رسول الله صلى الله وآله وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد أو ما يقرب منه، وقال ابن عبد السلام لله أحكام تحدث عند وجود أسبابها، وقال بعض الأئمة يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثوا من الفجور، وقال بعض متأخري الشافعية الشرع مبني على دره المفاسد وجلب المصالح، بل لو كن حكم شرعي يخالف العادة ترك للعادة سداً للذريعة المؤدية إلى الشقاق والعداوة التي لا ينقطع بابها إذا فتح ولا ينسد.
ولئن كنت ناقشته في بعض كتبي الفقهية لتقيدي في الفتوى بمنقول المذهب فلا بأس أن استدل به هنا للاستصلاح لفرق ما بين الجهتين لا سيما وقد رجحته علامة اليمن الحبر البدل شيخ شيخنا السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل فيما ذهب إليه من تقوية كلام العلامة ابن زياد في نفس الموضوع وقال كثير من العلماء كالحنفية بالاستحسان، وفسر بدليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عنه عبارته وفسر أيضاً بعدول عن الدليل إلى العادة للمصلحة ومن المقرر بين الأصوليين حتى في المتون جواز التخصيص بالعقل وليس الاستصلاح عند مصادمة الدليل إلا من ذلك القبيل وعلى خاطري أن بعض الصحابة أحرم بصلاة المغرب فانفلتت راحلته فذهب وراءها حتى ردها وعقلها فعاد إلى مكانه وأتم صلاته فقيل له فقال أأدع ناقتي تضيع وأنا شيخ ضعيف؟ ولقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا غزوة فرأيت من تيسيره ما يتسع لأكثر من عملي هذا أو ما يقرب من هذا أو ما هذا نخيله وهو من الثابت وقد ذكرته في بعض كتبي ولكني لا أدري أين مكانه الآن فترى هذا الصحابي رضوان الله عليه تجاوز النصوص الخاصة في(762/32)
منع الأعمال في الصلاة إلى الدليل العام من التيسير ولكل ما فعله مبرر من الفقه عندنا إلا عوده إلى مكانه الأول إن ثبت، وإلا فقد قال في التحفة من أخذ له مال في الصلاة لا يجوز له أن يبقى فيها ويتبعه ويصليها صلاة شدة الخوف على الأوجه بل يقطعها ويتبعه إن شاء.
ومقابل الأوجه الجواز وهو مما يسوغ العمل به في حق النفس والشريعة كما سبق مبنية على حفظ المصالح ودره المفاسد فليس الأستاذ عزام بالأوحد في هذه الطريقة ولكنها المهيع الواضح والسبيل العظيم وقد أطلت القول في ذلك لبعض المناسبات التاريخية في كتابي بضايع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت المنوي تقديمه للطبع بهمة الشاب الفاضل الأديب عبد الله. بالخير ونسيت وما إنساني إلا الشيطان أن أذكر فيه ما يصلح لأن يكون أكبر شاهد للاستصلاح وهو قوله جل ثناؤه في سورة الأحزاب (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما) إذ لو لم يضمن دينه حماية العدل والنظام إلى يوم البعث والقيام بقبوله للمصالح لما انقطعت النبوة ولبقيت الحاجة شديدة إليها لكنها انتهت فلم يبق للرسالة معنى بعد انقضائها لأن هذا الدين المتين ملائم لكل زمان ومكان وإن اختلفت الأحوال واضطربت الأمور، وأرجحت الفتن، وتقلبت الظروف، وتباينت المؤثرات فلا حاجة مع لطف مرونته واتساع صدره وغزارة مواده وفضيلة قابليته إلى قانون سواه يتجدد لحفظ النظام ونفع الأنام مع مسايرة الأيام ومنه تعرف بديع مناسبة الفاصلة لأن العلم واسع لن يضيق بأية حادثة تعرض له في مستقبل الزمان وإن انقطع سلاها واطلخم دجاها ولذا كان سهم بن الخطاب هو الصايب وفكره هو الثاقب وحزه يطبق المفاصل وكثيراً ما يصف الباري نفسه في الفواصل بأنه واسع عليم وواسع حكيم أفتضيق تلك السعة التي بالغ فيها التنزيل عن مصلحة كلية إزاء دليل جزئي محتمل لنفوذ التخصيص إليه بالمنفصل من كل ناحية لا والله فإن هذا ما لا يكون ولئن فاتني هذا الدليل في البضايع فلم يكن لدى بضائع إذ كم عالجت به مريض وتعرضت له في النثر والقريض وكررته بالتصريح والتعريض حتى لقد قلت من القصيدة النبوية التي أنشأتها في سنة 1360هـ على نهج البردة الشريفة.
وما بغير الذي تقضى شريعته ... للناس منجى من الأرزاء والغمم
إذ لا يوازيه دين في عدالته ... ولم يكن مع إصلاح بمصطدم(762/33)
أما شريعة عيسى فالنجاة بها ... مع التمدن شئ غير ملتئم
والله جل شأنه يقول قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، ويقول وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. وهل يمكن مع تقدم الطب بهذه الأيام أن يتأخر الطب الذي بعث به عليه السلام أو أن يعجز عن مكافحة بعض الآلام كلا أنه لينقطع دون هذا الكلام لكن الجمود حجاب وداعي التقليد الأعمى لا يجاب وإنما يستحق الفهم كما في آية سليمان الإعجاب وبعض هذا كان للإلزام بما قاله الشيخ عزام ولئن لم نطلع على رسالته بحذافيرها فقد أنبأتنا تلك الجمل بأخابيرها والله أعلم. قاله وأملاه خادم العلم ابن عبيد الله. في 5 العقدة سنة 1366.(762/34)
دمعة على محمد إسعاف النشاشيبي:
كل أرض ضمتك فهي وساد
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يستوي الموتُ في المكان النائي ... ومكان الأجداد والآباءِ
يا غريب الممات ما نحنُ إلا ... غرباء في منزل الغرباءِ
كلُّ أَرض ضمتكَ فهي وسادٌ ... يستوي عندها مصيرُ الفناءِ
من دعته منيةٌ لبلاد ... مات فيها إجابةً للنداءِ
قدَرٌ حائن على المرء لم ينْ ... أقريبٌ عنه ولم ينجُ نأئي
من تفته المنونُ في بأساء ... لم تفته المنونُ في النَّعماءِ
أَخطأتك الأقدارُ والبأس يغلي ... في فلسطين والحمى في دماءِ
وأصابتك في مكانٍ أَمين ... رُبَّ أَمْن يجذُّ حبل الرَّجاءِ
لم تمت ميتة الجبان ولكن ... متَّ في العلم ميتة الشهداءِ
كُنت في ساحة العروبة سيفاً ... من نفاذ ومُنصلاً من مضاءِ
لم تُجاهد بالسيف فيها ولكن ... كُنت فيها مُجاهد الآراءِ
رُبَّ فكر أمضى من السيف في الذَّو ... د ورأىٍ أحمى من الهيجاءِ
حاجة الشرق للسيوف المواضي ... مثلُ حاجاته إلى العلماء. . .
لغة الضاد رُوِّعت فيك لما ... فقدت فيك واحد الأُدباءِ
كنت صدر الرُّواة في مجلس القو ... م وشيخ التقات في الأنبياءِ
كنت جيلا من الرواية ولىَّ ... بعد جيل الرُّواة والقرَّاءِ
وزماناً في الحفظ غير خلاء ... ومكاناً في الفضل غير خواءِ
حافظاً للتراث في غير زهو ... كاختيال الغبيّ أو خُيلاءِ
كنت تروى كقارئ من كتاب ... عصبىَّ البيان فخم الأداءِ
تنشر المكرمات من عهد عدنا ... ن وتحي مكارم الصحراءِ
وتعيد الحديث عن كل ماض ... حافل بالفخار والعلياءِ
كُنت تتلوهُ في اعتزاز المباهي ... وافتخار البنين بالآباءِ(762/35)
كانت العربُ كلها لك قوماً ... تنتمي عندها أعزَّ انتماءِ
لم تُكاثر إلا بهم وتفاخر ... لم تكاثر في مجلس بثراءِ
شهد اللهُ ما سمعتك يوماً ... مسرفاً في ظواهر الأشياءِ
شهد اللهُ ما رأيتك تُعنى ... بخداع المنى وزُور الثناءِ
تعس الناسُ فيم يشمخ منهم ... شامخ بالمظاهر الجوفاءِ؟
كيف يُزهى بالمال والجاه من لا ... يملك المالُ عنه ردَّ القضاءِ
كيف يُزهى بالمال والجاه من لا ... يتوقى في صحة من داءِ؟؟
يا دفيناً في أرض مصر وكانت ... لك في القدس أرحب الأرجاءِ
كيف ضنَّ الحمى عليك بشبر ... من تراب وحفنة من هباءِ؟
مصر ضمت ثرَاك وهي وعاء ... لكنوز مذخورة للِبقاءِ. .
قدًرٌ ساقك الغداة إلينا ... لِتلبى بمصر حُكم السماءِ
كلُّ شبر من العرُوبةِ مأوى ... لِوداد وَملجأ لإخاءِ. . .
لا أقولُ انتهت حياتك فينا ... أنت باق بالذكر في الأحياءِ
أنت على من الرثاء. . ولكن ... هذِه أدمعي. وهن رثائي
محمد عبد الغني حسن
ذكرى الرسول الكريم
للأستاذ مختار الوكيل
سيد الخلق وزين الأنبياء ... جئت في ساحك أستجدي الضياءْ
فأنلني غوثك المأمول يا ... موئل العاني وكهف الضعفاء
واعف عن ضعفي فما شعري سوى ... قطرة من فيض رب الفصحاء
الذي أدبه الله، فلم ... يعرف الهزل، ولم يدر الهُراءا
والذي علّمه الباري، فما ... خفيت عنه تهاويل الفضاء
والذي نزهه المولى، فلم ... يقل الهُجر، ولم يرو الهجاء
جئتك اليوم مُنيبساً، لا أرى ... غير باب الطهر باباً للنجاء(762/36)
لائذاً بالستر أسعى مُهطعاً ... لشفيع صفحه كلُّ الرجاء
كانت الدنيا ظلاماً دامساً ... والديانات بها محض هباء
فضعيفٌ من قويّ يشتكي ... وظلوم ليس يُعفى البؤساء
وأخو شرك على الأرض ظغى ... ولو اسطاع تمادي في السماء
وأخو كاس على الخمر ارتمى ... يرشف الراح ويحسو ما يشاء
وبغاة وعتاة أمعنوا ... في المعاصي وتمادوا في الدهاء
عُكّفٌ حول الذي قد نمقوا ... من شخوص وتماثيل خواء
عندما أقبلت موفور السنى ... حصحص الحق ونور العدل جاء
وأقمت الحكم شورى لم يكن ... حكم مُستعل ولا حكم افتراء
وسننت العدل قسطاساً فما ... عرف البغي ضعيف في القضاء
مُذ دنا ركبك من (أم القرى) ... زهق الباطل والحق أضاء
يا رسول الله يا خير الورى ... نفحة منك بها يدنو الشفاء
عالم اليوم طغى فيه الألى ... سفَّهوا الدين وعابوا الأتقياء
زعموا قنبلة ذرية ... سوف تفني الكون، فالكون خلاء
ومضوا في غيهم إن خرجوا ... من شقاء سربلوا ثوب شقاء
ما العداوات التي نشهدها ... غير إرهاصات حرب ودماء
ما الدعايات التي نسمعها ... غير سم منه قد فاض الإناء
كفروا بالله، ياويحهمو ... واستهانوا بكلام الأنبياء
ومشوا في موكب من لهب ... سقطوا فيه ضحايا الخيلاء
قومك اليوم، رسول الله في ... محنة نكراء يشكون العناء
شتت الباغون إجماعهم ... وأحالوهم طيوفاً وذماء
مسلمو اليوم على أرضهم ... أصبحوا أحلاف ذل غرباء
سادة للكون كانوا، فغدوا ... غرضاً للطامعين السفهاء
يطلبون القوت، لا تحفزهم ... لطلاب المجد أحلام وضاء
قنعوا بالرسف في القيد فلم ... يسألوا غير كفاف الأجراء(762/37)
كانت الدنيا لهم مذ حملوا ... سيفهم يبغون للدين العلاء
كانت الدنيا لهم فانقلبوا ... همهم كسرة خبز وكساء
يدَّعون الدين والدين براء ... من نفوس خاويات كالهواء
ويريدون جلاء ناجزاً ... أين من مستضعف نيل الجلاء
جوهر الدين نأوا عن هديه ... وأراهم زخرفوا منه الطلاء
ما ينال الحق بالعجز وما ... تهزم القطعان ذئب الصحراء
إنما الحق، له السيف يد ... وأرى الغفلة قبر البلهاء
ونبي الله بالسيف غزا ... وعدو الله بالخسران باء
فأقيموا الدين بالسيف، ولا ... تطلبوا المجد بمبذول الدعاء
أنقذوا أرض فلسطين، ولا ... ترهبوا الموت ففي الموت البقاء
واطلبوا المجد بسيف لهذم ... يدع العادين صرعى في العراء
وأقيلوا الدين من عثرته ... بجهاد يذهل الأرض الفضاء
نادت الدنيا بكم أن أقدموا ... فأصيخوا إن عقلتم للنداء
وأقيموا الملك بالدين كما ... كان في عصر نبي الأنبياء
واذكروا سيرته واقتبسوا ... من سناء يذهب الداء العياء
إن أخذتم قبساً من هديه ... حزتم النصر، وإلا فالعفاء
يا أبا الزهراء يا رمز الإباء ... نحن للإسلام والعرب فداء
نفحة منك بها نحمي الحمى ... ونقي الأرض مغبات العداء
مختار الوكيل(762/38)
الأدب والفنّ في أسبُوع
نشوء القومية في البلقان:
ألقى الأستاذ ساطع الحصري يوم السبت المحاضرة الثانية من سلسلة محاضراته التي يلقيها في الجمعية الجغرافية الملكية. وكان موضوع هذه المحاضرة (نشوء الفكرة القومية في النمسا والبلقان - تأثير اللغة والتاريخ والكنيسة فيها).
وقد عنى الأستاذ في هذه المحاضرة بإبراز تأثير اللغة في بعث القوميات تأييداً لما أبداه في المحاضرة السابقة من ترجيح كفة النظرية الألمانية القائلة بأن القومية كائن حي روحه اللغة، ضد النظرية الفرنسية التي ترى أنها إنما تقوم على مشيئة الأمة؛ ولذلك استعرض دول البلقان مبينا ذلك في كل واحدة منها، فاليونان كانت موحدة اللغة والثقافة بفضل الكنيسة التي تركها العثمانيون حرة في شعائرها، وقد حفظت الكنيسة اللغة اليونانية وثقافتها في بلاد اليونان بل نشرتها فيما جاورها من البلاد، ولهذه الوحدة اللغوية الثقافية التي يضاف إليها التاريخ القومي وجهود الكنيسة كانت بلاد اليونان مهيأة لنشوء الفكرة القومية فيها ومستعدة للثورة في سبيل استقلالها وقوميتها، فلم تكن الثورة تنتظر غير الإشارة. وفي بلغاريا كان الأمر على عكس ذلك، لأن الكنيسة اليونانية كانت هي المتسلطة على البلاد البلغارية بسلطانها الديني الذي يستتبع فرض اللغة اليونانية في الصلاة وسائر الشعائر الدينية وفي كل ما يمت إلى الثقافة، ولم تكن اللغة البلغارية ذات أدب ولا ثقافة، بل لم يكن لها نحو ولا صرف، وفي أوائل القرن التاسع عشر بدأت الجهود تتجه إلى ترقية اللغة البلغارية واستعمالها في الدين والثقافة، أي الاستفناء بها عن اليونانية. وجاهد البلغاريون في هذا السبيل رغم ما لاقوه من مقامات وعقبات، حتى وصلوا إلى ما أرادوا من إحياء لغتهم، ثم التفتوا إلى كيانهم السياسي فعملوا على استقلالهم حتى تحقق.
وكذلك فعلت رومانيا في كفاحها اللغوي مع اليونان والسياسي مع الدولة العثمانية، وإن كانت الحال فيها تختلف عن بلغاريا من عدة وجوه، منها التاريخ، إذ استشعر الرومان مجد أبطالهم القديم.
أما يوغسلافيا فكانت قسمين: قسم يتبع تركيا وقسم يتبع النمسا، وقد قامت فكرة القومية في القسمين على توحيد اللغة. ولما ساعدت الظروف القسم الأول على الاستقلال قبل الثاني(762/39)
ظل يتجه نحو الاتحاد مع القسم الآخر حتى تم ذلك. وقامت في تلك الأثناء دعوات مختلفة إلى اللغة التي يرى كل فريق اتخاذها لغة قومية. ومن ظريف ما حدث أن أحد الشعراء صنع مخطوطات طبقاً للغة التي يدعو إليها وادعى أنها ترجع إلى القرن الثالث عشر، واحتال حتى أظهر أنها كانت محفوظة في سراديب إحدى الكنائس، وجعل ينشد الشعر ويكتب الأقاصيص على أوضاع لغة هذه المخطوطات، وتنبه له بعض المعارضين، ولكن بمضي الزمن سار الجميع عليها.
وهكذا كانت اللغة هي أساس القوميات في دول البلقان، وكان النزاع الكنسي يدور حولها، فلم يكن ثمة اختلاف في العقائد، ولكن كانت اللغة هي الغاية. وبين الأستاذ ذلك أيضاً بوصف حالة البلاد التي تقع بين دول البلقان وهي بلاد مقدونيا، فقد كانت مختلفة في اللغات على حسب موقع كل منها من الأمة التي تجاورها - وصف الأستاذ حالة التنازع بين هذه البلاد في مراحله المختلفة، بسبب اختلاف اللغة، ولم ينته هذا التنازع حتى تقسمت الدول المجاورة تلك البلاد، وأخذت كل دولة منها ما يماثلها في اللغة.
ثم قال الأستاذ: أيد الفرنسيون نظريتهم بسويسرا، إذ قالوا إن الأمة السويسرية شاءت أن تكون أمة فكانت، على الرغم من تعدد لغاتها، والواقع أن سويسرا بلاد كثيفة السكان بخلاف مقدونية وهي تتبع في نظام حكمها أن يقوم كل إقليم بنفسه في الإدارة، والقضاء وغيرها، والحكومة المركزية إنما تنظم العلاقات الخارجية. وقد ساعد موقع البلاد الجغرافي على المحافظة على كيانها وحيادها، لأنها محاطة بدول كبيرة مصلحتها في أن تبقى سويسرا على الحياد، وهنا شبه الأستاذ اللغة في القومية بجاذبية الأرض، فكما أن المصباح المعلق لا يلتصق بالأرض والدخان يصعد إلى السماء ولا يهبط إلى أسفل، دون أن ينقض ذلك جاذبية الأرض - كذلك القومية في سويسرا، تقتضيها عوامل أخرى غير اللغة، ولكن هذا لا يدفع أن اللغة هي أساس القومية وروحها.
هذا هو الإنسان:
لا يستطيع متتبع الآداب أن يغفل ذلك المقال الذي كتبه بالأساس الأستاذ عباس محمود العقاد في مقتل غاندي، فهو مقال لا يظفر الناس بكثير من أمثاله، وخاصة في هذه الأيام التي أصبحت الأقلام فيها تجري على الصفحات لمجرد ملئها بأي كلام.(762/40)
قتل غاندي في هذا الأسبوع، فكتب كاتبون ونظم شعراء. وقرأت لهؤلاء وهؤلاء، فلم أقع على مثل ما كتب العقاد.
قال في تصوير هذا الحادث: (لم يحدث قط أن ترتفع يد بالشر إلى رجل لا يسفه الأحلام ولا يبشر بغير الإسلام، رجل في الثامنة والسبعين يكف الشر في النفوس بوقار سنه وضعف شيخوخته وطيب سكينته واستسلامه رجل يدين بما يدين به قاتله المتعصب لعقيدته. وقصارى ما تنتهي إليه تلك العقيدة - عند ذلك القاتل التعس - أن قتل البقرة حرام، وأن قتل القديس العظيم مَباح).
وقال: (قيل منذ أيام أن قذيفة ألقيت على غاندي فنجا منها. فوقع في الأنفس أن نجاته من تلك القذيفة من أحداث الطبيعة لا غرابة فيه. . . كأن المادة نفسها تهاب أن تمضي بالأذى إلى هيكل ذلك الروح. . . كأن القذيفة ترتد - ولا تستطيع إلا أن ترتد وحدها - عن القداسة التي أخضعتها، ولم تخضع لها قط في تجارب الحياة. فلما قيل إنه قتل بيد إنسان، قد والله سألت: كيف تحركت عضلة في جسد بشري بضربة قاتلة لذلك الشهيد؟ قد والله سألت عن اليد التي لا تعقل، لأنها كانت خليقة أن تعجز عن الحراك إذا سيمت مثل هذا الحراك الذي يشذ عن كل قانون. . . ولم أسأل كيف سولت نفس ولا كيف هجس ضمير، لأن من الهول الهائل أن يدخل مثل هذا الجرم في حساب نفس أو ضمير).
وقد بلغ الغاية في تحقير القاتل مع الرثاء له بقوله: (ومن يقتل شرف الإنسانية كلها إلا مخلوق يخجل من إنسانيته كل إنسان، بل كل حي من الأحياء، وكل ضاربة من ناهشات الأبدان، وكل ساعية من نافثات السموم. ويسألون: أي جزاء يجزى به وراء الإعدام في جانب الوصمة الأبدية يحملها المسكين وحده في تاريخ البشرية بأسرها. فيذكر وحده إذا ذكر الخزي الذي لا خزي مثله في طوايا التاريخ. هذا هو الإنسان في بؤرته السفلى. وذاك هو الإنسان في ذروته العليا).
ولقد دفع إلى صاحبي بهذا المقال فقرأته، ودفعته إلى صاحبنا الثالث ليقرأه، وقد اعتدنا أن نتناول شيوخنا بألسنة حداد فما نُفلت أحداً منهم، ولكن حينما قرأنا مقال (هذا هو الإنسان) نظر بعضنا إلى بعض وسكتنا، لا لأنا جاحدون، بل لأننا متفاهمون.
في تأبين هدى شعراوي:(762/41)
شهدت يوم الجمعة احتفال الاتحاد النسائي بتأبين رئيسته السابقة السيدة هدى شعراوي، وقد اشترك في هذا التأبين أربعة من الأدباء، اثنان من الأعلام: الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور محمد حسين هيكل باشا، ألقى الأول قصيدة، وتحدث الثاني عن أثر الفقيدة في نهضة المرأة؛ والآخران هما الأستاذان محمد الأسمر ومحمود أبو الوفا، وقد ألقى كل منهما قصيدة. أما قصيدة أبو الوفا فقد كانت أدق في تصوير شخصية الفقيدة، وأما الأسمر فقد ساعد تعبيره الخطابي وجرس إلقائه على اجتذاب أسماع الجمهور واجتلاب استحسانه.
المرأة المصرية والعربية:
وأريد أن أتجاوز الرجال سريعاً إلى النساء، فإن لي معهن شأناً. تكلم في هذا الاحتفال عشر نساء، ثلاث من العراق ولبنان وفلسطين، وست مصريات، وواحدة أوربية. وأريد أن أقارن بين المصريات وبين العربيات الأخريات، وأقارن بين العربيات جميعاً وبين الأوربية.
مثلت العراق السيدة منيبة الكيلاني، ومثلت لبنان وسوريا السيدة ابتهاج قدورة، وألقت الآنسة تحية محمد كلمة فلسطين، ثم تعاقب بعدهن الست المصريات، فكان الفرق واضحاً كل الوضوح بين الفريقين، فقد امتاز الأوائل لا بفصاحة النطق وسلامته ونصاعته الأسلوب فحسب، بل كذلك بالبراعة في تصوير شخصية هدى شعراوي باعتبارها زعيمة نساء العرب، وفي التعبير عن شعورهن إزاء فقدها، وقد شعرنا ونحن نستمع إلى كل منهن أننا أمام إنسان حي يؤدي إلينا ما يريد من فكره وإحساسه بأسلوب قويم ولسان مبين.
وقد تعمدت أن أصف أولئك الثلاث العربيات بتلك الصفات لأقول صراحة إن المصريات تجردن منها، فالنطق عامي، واللحن كثير، والإعراب لا رقيب عليه، ولا شئ وراء الكلام العادي الجامد، بكت إحداهن - وهي سيدة كريمة لها نشاط محمود في الخدمة الاجتماعية - وهي تلقي كلمها، فعوضت بلاغة بكائها من قصور كلامها. ونابت إحداهن عن خريجات الجامعة، فلم تكن خيراُ من الباقيات.
ولقد جنى العربيات على المصريات اللائي لا أراهن جديرات بأن يوصفن بأنهن عربيات، لأن الأوالي لو لم يشتركن في هذا التأبين لسمعنا من نسائنا وغفرنا لهن قائلين: إنهن جنس(762/42)
ناعم واللغة العربية خشنة. . ألسن يتحدثن بالفرنسية الرقيقة. .؟ ولكن العربيات وصفت ألسنتهن رقة اللغة العربية وسحر بيانها وبدت المصرية بجانبهن في صورة المتخلفة عن ركب النهضة العربية ولن تكون سائرة في هذا الركب حتى تجيد لغتها وتعالج بيانها.
ومن العجيب أن المرأة المصرية المتعلمة خطت خطوات واسعة في نواحي الحياة المختلفة، ولكنها ما تزال على عجمتها لا تكاد تبين وننظر في ميدان الأدب فلا نرى إلا عدداً لا يبلغ حد المجمع إلا بالتساهل.
فلم لا تتعلم المرأة المصرية اللغة العربية. . .؟ إنها ما دامت وكيلته، فارتجلت كلمتها، وتخلصت بالارتجال من قيود القراءة، وواجهت الجمهور بكل قواها الخطابية. وأنا لم أر بعد امرأة عربية ترتجل بلغة فصيحة، أما الرجال فمنهم من يقرأ وكثيرون يرتجلون، وقد كان موقف هذه السيدة الأوروبية قوياً بالقدرة على الخطابة بلغتها مرتجلة، فبدا الفرق كبيراً بينها وبين من تحبر أو يحبر لها، ثم يتعثر لسانها في الإلقاء!
صدى من لبنان:
يذكر القراء ما كتبته في النهج الذي سلكه أخيراً في الكتابة الأستاذ توفيق الحكيم، وقد رجع إلينا الصدى من لبنان في مجلة الأديب (عدد فبراير) قالت:
(رد الأستاذ توفيق الحكيم على الذين ينعون عليه، بأنه ودع الفن يوم ترك برجه العاجي وانحط إلى مستوى الجمهور، بقوله: يجب على الفنان نفسه أن ينزل السفح إليهم. . . يهدينا إلى ذلك فعل المبدع الأعظم لهذا الكون. . . لقد أراد وهو في عليائه أن يبلغ الناس رسالته فلم ينتظر منهم أن يصعدوا إليه فأرسل إليهم رسولا أو نزل هو نفسه فتجسد في المسيح كما هو القول عند المسيحيين. وبهذا التشبيه البعيد يعتقد الحكيم بأنه أقنع الناس بسر فعلته).
(العباسي)(762/43)
البَريدُ الأدَبيَ
في كتابة التاريخ:
(إلى الأستاذين عبد الرحمن الرافعي بك وعباس محمود
العقاد)
من بضعة أسابيع نشرت مقالا بعنوان (اللغة العربية تصارع) أطريت فيه يداً أسداها للضاد الأساتذة سعد زغلول باشا والدكتور عبد السلام ذهني عبد بك وعبد الحميد عبد الحق، فقد كان للأول فضل تعميم العربية في معاهد الدرس بدل الإنجليزية، وكان للثاني يدٌ طولى في إقرار مبدأ المرافعة بالعربية في محاكم الاختلاط، وانتصر ثالثهم لاستخدام العربية في شركات التجارة وبيوتات المال.
وحسبت حين نشرت ذلك المقال أني لم أزد على أن استقيت من التاريخ تعض وقائعه ونسجت حولها خيوطاً جعلت منه وحدة أدبية تفضل الأستاذ العباس بنعتها (بمقالة نيرة).
ولكن أدبياً - هو الأستاذ عزت المنشاوي - عقب على مقالي في جريدة منبر الشرق، مشككا في فضل سعد زغلول على اللغة العربية، مستشهداً على ذلك بما أورده الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك في كتابه (مصطفى كامل)، وهذا نصه:
(واشتد الفقيد (مصطفى كامل) في نقد سعد باشا حين طلبت الجمعية العمومية من الحكومة في مارس سنة 1907 جعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية، وكان وقتئذ باللغة الإنجليزية، فاعترض سعد باشا وألقى خطبة طويلة في هذا الصدد سوغ فيها جعل التعليم باللغة الإنجليزية قائلا: إن الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الأجنبية لمحض رغبتها أو اتباعاً لشهوتها، ولكنها فعلت ذلك مراعاة لمصلحة الأمة. . . وقال: إذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية وشرعنا فيه فعلا، فإننا نكون أسأنا إلى بلادنا وإلى أنفسنا إساءة كبرى لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوستة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة.)
ومن ثم عدت إلى كتاب (سعد زغلول. سيرة وتحية) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد لأستفتيه في هذا الأمر وأقف على ما أورده في هذا الصدد. فلم يخرج ما قاله العقاد عما(762/44)
أودته في مقالي، وهو ما أجمع عليه المؤرخون من أن لسعد زغلول فضل تعميم العربية في المعاهد، وإليكم نص ما جاء في كتاب العقاد:
(ومن أجل الأعمال التي قام بها سعد في وزارة المعارف وجازف من أجلها بمنصبه وبحسن العلاقة بينه وبين الأقوياء عملان: أحدهما كان مغضباً للإنجليز، والآخر كان مغضباً للخديو وأتباعه من الشيوخ الأزهريين. . .
(نقل التعليم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، فأغضب الإنجليز أشد الغضب واحتاج إلى تذليل عقبات أخرى غير عقبات المقاومة السياسية، وهي تحضير الكتب وتحضير المدرسين وتهيئة الجو للتدرج من نظام متغلغل متشعب مضت عليه خمس وعشرون سنة إلى نظام طارئ لا يزال في دور التمهيد، محتاجاً إلى المعدات والمنفذين)
فنحن إذاً أمام روايتين غير متطابقتين، يقول بالواحدة الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك، ويقول بالثانية الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد. وهذه واقعة تاريخية لا يجدي المنطق في إثباتها إن كانت باطلة، أو تفنيدها إن كانت صائبة. ولذلك أراني مناشداً الأستاذين الكبيرين أن يفيضا - على صفحات الرسالة إذا تسنى ذلك - في تبيان ما عندهما من ملابسات لهذه الحادثة التاريخية لنستطيع أن نخلص برأي أيا كان محوره.
وما دمنا بصدد هذه الواقعة التاريخية، أذكر ملاحظتين قد تكونا معواناً في فهم النهج الذي يتبع في كتابة التاريخ القومي في مصر.
وأول الملاحظتين أن شيخاً كبيراً في المقام عاشر التاريخ المصري في القرن الأخير (وعاش) معظم وقائعه قال لي - وهو اليوم عضو في مجمع فؤاد للغة العربية - إنه يقسم بأن التاريخ المصري المطبوع حافل بأخطاء لا حصر لها، وأنه دأب على أن يسعى التاريخ المصري (تاريخاً لولبياً) لأنه دائم الانحراف عن الحقيقة بسبب عدم تدوينه في حينه، وإرجاء مهمة التأريخ إلى ما بعد انقضاء زمان بعيد على الأحداث المرجو تأريخها.
وقد ألححت على هذا الشيخ في نشر مذكراته إنصافاً للتاريخ وللواقع، فتأبى متعللا بأنه بلغ من طول العمر وشدة الهزال مرتبة لا تمكنه من الرد على ما يتعرض له من حملات إذا ما رأت مذكراته ضوء النهار في حياته.
للشيخ الكبير من المقام ومن العلم ومن الثقافة ما يجعلني أتردد كثيراً قبل أن أحكم ببطلان(762/45)
رأيه. هذه ملاحظة.
أما الملاحظة الثانية، فلعلها لم تبرح بعد مخيلة القارئين، لأن الصحف ما فتئت تتناول موضوعها من جوانب شتى.
فقد عرف القاصي والداني ما حل بمصر في 4 فبراير عام 1942، وكنا نحسب من عامين أو ثلاثة أن تاريخ تلك الواقعة قد سجل فعلا، ولم يعد هناك مزيد لمستزيد. بيد أ، هـ اتضح أخيراً من محاكمات المتهمين في قضية الجرائم السياسية أن في جعب الساسة كثيراً من البيانات المستورة، وأن الحادث لا يزال حتى الآن غير واضح وضوحاً تاماً.
أولا يحق للمرء أن يسأل: إذا كان هذا الحادث التاريخي الذي حدث من خمسة أعوام أو ستة لا يزال موضعه في التاريخ بين شد وجذب، فكيف يكون الحال إذا بعدت المشقة بين الحادث والمؤرخ، وامتدت المسافة بين الواقعة والمسجلين لها؟
وبعد، فلعل الأستاذين الجليلين العقاد والرافعي بك يتفضلان - مشكورين - بإطلاع القراء على ما يعرفان عن فضل سعد على اللغة العربية - أو إساءته إليها، لأن من حق الجيل الجديد أن يعرف حقيقة أمر تضاربت فيه الآراء.
وديع فلسطين
في أدب المهجر:
أشكر للأستاذ مناور عويس هذه اللفتة الحميدة للتحدث عن أديب المهجر الكبير ميخائيل نعيمه الذي رفع منارة الأدب العربي في الدنيا الجديدة هو وإخوانه الأدباء من مهاجري العرب. والحديث عن ميخائيل نعيمه وإخوانه ممتع لأنه يتصل بالشاعرية التي تمردت على القيود الكلاسيكية القديمة وأنطلقت حرة في الفضاء إلا من المعاني السامية واللمحات الدقيقة ومنذ زمن مضى وأنا أتطلع إلى أدباء المشرق لعلهم يتحدثون عن تلك النهضة المهجرية ويشيدون بمفاخر إخوانهم هناك وينشرون في الجيل الجديد هنا ما كتبه أولئك وما نظموه، فهناك نثر، وهناك شعر ينبضان بالحياة المشرقة الضحوك، ويفيضان بالإبداع الذي يماشي الحياة في موكبها النشيط لأنهما يتدفقان من ينبوع الواقع، وينبعثان من الوعي والوجدان، ففيها فلسفة، وفيها حب وغزل، ودعوة للإنسانية المثالية الشاملة.(762/46)
ما أكثر إنتاج نعيمه، والريحاني، وجبران، وإيليا، وإلياس فرحات، ونسيب عريضه، وأمين مشرق، وغيرهم، ولكن هذا الإنتاج على كثرته وقوة الإبداع فيه لم يكن له ذلك الصدى المحسوس في دنيا الشرق إلا قليلا عند من ترسموا خطي المهجريين وتابعوا سيرتهم، وإذا كان بعض مؤلفات جبران والريحاني، وقصائد نعيمه وإيليا قد أخذ نصيبه من الذيوع والانتشار في ربوعنا فليس ذلك بكاف في التتبع والدراسات الصحيحة، فهناك غير هؤلاء من الشعراء والكتاب قد ملأوا الدنيا الجديدة بعصارة عقولهم وقلوبهم، ونشروا عليها أجنحة ضافية من أخيلتهم السمحة، وليس أدل على ذلك من الصحف الكثيرات التي يصدرها إخواننا المهجريون في ديار الغربة أمثال مجلة (الشرق) و (العصبة) و (السمير) و (الهدى) وأمثال جريدة (البيان) التي كانت بحق لسان القومية العربية الذرب وقد قرأت من هذه الجريدة أعداداً كثيرة يوم كانت تصل إلى العراق قبيل الحرب ولا أغالي إذا قلت: إني لم أجد من بين صحفنا العربية هنا ما يشبهها حماسة وعروبة ودفاعاً عن البلاد العربية.
وحتى الأدب الشعبي كان له نصيب كبير من جهود المهجريين فقد كانت جريدة (أبجد هوز) التي يصدرها ناصر شاتيلا أروع مثال لهذا اللون الفكه فقد كان فيها نقد لاذع وفكاهة ممتعة باللسان اللبناني المحلى، وأجمل ما فيها تلك المحاكمات التي تعقدها لمحاسبة الأدباء فتخلط الهزل بالجد والنقد بالفكاهة، ومن الظريف أن تعرف - وإن كان خروجاً عن الموضوع - أن للشعر الشعبي قيمة ليست قليلة عند المهجريين وقد تدخل هذا الشعر في الإعلانات عن البضائع والمتاجر ولشد ما يضحكك أن تقرأ البيتين الآتيين على لسان بنت تخاطب أمها:
تا أحلي بعين الشبان ... بلكي حد إينحطبي
يا أمي بدي فستان ... من حرير لويس كمزي
وهذا اللون من الإعلانات بالشعر العامي يرجع بك إلى التأريخ العربي القديم في قصة (المحلق) عندما كسدت سوق بناته فلم يخطبهن أحد فاستضافه الأعشى وأطعمه وسقاه ثم طلب إليه يشيد بذكره فكانت تلك القصيدة المشهورة التي منها في وصف نار المحلق:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
ثم كان بعدها زواج بنات المحلق بأصدقة عالية. وفي قصة بائع (اُلخمُر) حين لم يجد من(762/47)
يشتري شيئاً من بضاعته فاستنجد بأحد الشعراء وكانت تلك القصيدة التي منها:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بناسك متعبد
وأما مجلتا (الشرق) و (العصبة) فإنهما أسمى مثال للفن الصحفي العالمي من حيث الطباعة والإتقان وأسمى مثال للأدب العربي في عهده الحاضر من حيث التطور الفكري والإبداع في الشعر والنثر.
هذه لمحة استعراضية عن جهود إخواننا المهجريين في بعث الأدب العربي والدعوة إلى العروبة في المهاجر الغربية وتركيزهما على قاعدة التطور ومماشاة الزمن.
أفلا يجدر بهذا الأدب أن يأخذ نصيبه في مناهج الأدب الشرقي ومعاهد التعليم فيه ونشره بين الشباب المتطلع إلى الحياة الجديدة، ثم ألا يجدر بهذا الجيل أن يضيف إلى معلوماته عن امرئ القيس، والمتنبي، وشوقي، والرصافي شيئاً عن جبران وميخائيل وإيليا؟.
إن مناهجنا التعليمية ودراساتنا الحديثة تجحف أشد الإجحاف بحقوق المهجريين بل بحقوق الأدب العربي والناشئة الحديثة، وليس ذنب هذا الأدب إلا أنه عصارة الروح والعقل والمثل الإنسانية العليا، وإلا كونه خالياُ من الزخرف والصناعة والتقليد. وحتى المطابع والمكتبات عندنا لا نجد فيها أثراً بارزاً لأدب المهجر إلا القليل الذي لا يغني ولا يسمن. أليس من الغريب أن تبحث عن (الجداول) لإيليا أبي ماضي فلا تجد له أثراً في مكتبات القاهرة من أنه قد طبع في أمريكا والعراق.
ولعلي قد خرجت عن الموضوع وتجاوزت إلى الزيادة في القول فلأعد مرة ثانية لأشكر الأستاذ مناور عويس على اتجاهه هذا والتنويه بأدب ميخائيل نعيمه ويسرني أن يكون انتخابه لبعض القطع الشعرية خالياً من الحذف والتحريف ولاسيما إذا كان المحذوف شطراً في نهاية مقطع كحذفه قول الشاعر: بخشوع جاثيه. بعد قوله: (وتجزى كنبي هبط الوحي عليه) في قصيدة (من أنت يا نفس).
وكذكره البيت الآتي:
أنت برق أنت رعد ... أنت ليل أنت فجر
مخالفا لنصه الأصلي:
أنت شمس أنت رعد ... أنت برق أنت فجر(762/48)
ولعل للأستاذ عذرا في ذلك أنه اعتمد على (همس الجفون) وفيه بعض المغايرات لما نشر قديماً في الصحف والمجاميع وقد يكون ذلك من رأي الشاعر نفسه. ومهما يكن من شيء فإن هذه تبعات لا يؤاخذ عليها الكاتب الفاضل إلى جانب اهتمامه بالأدب المهجري وخصوصاً أدب ميخائيل نعيمه.
إبراهيم الوائلي(762/49)
الكتب
معالم تاريخ الإنسانية
للكاتب الإنجليزي هـ. ج ويلز
ترجمة الأستاذ عبد العزيز توفيق المدرس بمدرسة مصر
الجديدة الثانوية
ليس بين المثقفين من يجهل كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) للكاتب الإنجليزي هـ. ج ويلز الذي أصدره بعيد الحرب الكبرى الماضية، وترجع شهرة هذا الكتاب القيم إلى أن ويلز عندما فكر في المنازعات الدائمة والحروب المستمرة التي تخوضها الجماعات البشرية، أدرك أنها إنما تعود إلى العصبية الدينية أو العنصرية أو الإقليمية، وأنه لا سبيل إلى تقارب هذه الجماعات إلا بإيجاد مستوى سام من الثقافة تشترك فيه جميع الأجناس. وإلا بإعادة النظر في التاريخ وكتابته من جديد كتابة موضوعية تبرأ من شوائب العصبيات وتقوم على أساس العلم الصحيح، رابطة الأسباب بالمسببات ومسايرة ركب الحضارة في نشأتها وتطورها حتى استقرت على حالها الذي تراه اليوم في النزوع إلى التوحد وترسيخ المبادئ الديمقراطية وإقرار حقوق الإنسان وصيانة كرامته. فانطلق ويلز يؤسس كتابه هذا على مبادئ هذه الدعوة الشريفة.
(ومعالم تاريخ الإنسانية) هو حجر الزاوية بين مؤلفات ويلز الكثيرة التي عكف فيها على دراسة مشكلات الجماعة الإنسانية، والتي يربط فيها بين تاريخ الإنسان وتاريخ الحياة على تعدد صورها وأشكالها.
وقد ترجم هذا الكتاب إلى جميع اللغات الحية تقريباً وتأخر نقله إلى العربية حتى نهض الأستاذ عبد العزيز توفيق فترجمه فيما تيسر له طيلة أربع سنوات من كل ليل وكل نهار كما يقول في المقدمة. وها هي لجنة التأليف والترجمة والنشر تصدر المجلد الأول منه، حاوياً ثلاثة من أجزاء الكتاب الثمانية.
ولعل هذا المجلد الأول هو أعسر الأجزاء وأشقها على المترجمين لأنه يتناول الحقائق الفلكية والجيولوجية ويضم المعارف المتصلة بالحياة على الأرض قبل الإنسان، ويغص(762/50)
آثار الإنسان البدائي، ويظهر كيف نشأت أجناس البشرية وتفرقت لغاتها، وكيف تفتق الذهن الإنساني عن عمليات التفكير مذ صارت له لغة. وكيف انتقل التفكير بالإنسان إلى البحث البدائي في الأديان والفلسفة. وكيف نشأت الزراعة والرعي والملاحة. ويتتبع المدنيات الأولى من آشورية بابلية، ومصرية ويونانية، ويبين خصائص هذه المدنيات ومظاهرها ويتغلغل في مجتمعاتها. فالكتاب كله تاريخ اجتماعي للإنسان. ولهذه الأبواب مصطلحات علمية لم ينقل بعضها إلى لغتنا العربية بعد، أو لم يتفق المترجمون عليها. وقد بذل مترجم هذا السفر عناء كبيراً في نقل هذه المصطلحات.
وويلز وإن كان علمي النشأة والتربية والنظرة، إلا أنه صاحب أسلوب ممتاز، جعله في الطليعة من كتاب عصره وأدبائه، وهو يعالج التاريخ في هذا الكتاب بطريقة علمية لم يسبق أن تهيأت لغيره من كتاب التاريخ. والذين يطالعونه يقدرون له هذه المزية فضلا عن الأصالة في التناول والأداء؛ وهو إلى ذلك يقدم إلى القارئ ضروباً من التشويق والإمتاع لا نظير لها في كتاب آخر من كتب التاريخ العامة والخاصة على السواء. نرحب كل الترحيب بهذا الجزء راجين أن تبادر لجنة التأليف إلى إصدار أجزائه الأخرى ليأخذ مكانه اللائق به جليل المؤلفات، مقدرين للمترجم ما بذل في تعريب هذا المؤلف الضخم من عناء وجهد، وبعد فهذا كتاب جليل يجب ألاّ تخلو منه مكتبة كل أديب وكل مثقف.
الخفيف
الخزف الإسلامي المبكر
تأليف الأستاذ أرثرلين
يعتمد مؤرخو الحضارات على الخزف لقياس مدنيات الأمم، فهو من أولى الصناعات التي تمتزج بحياة الإنسان وتتصل بأهم أسباب معاشه، أعني بها طعامه وشرابه.
والشرق موطن الخزف كما هو موطن الحضارات والثقافات. ولما كانت الحضارات تستقر أولا على ضفاف الأنهار - والنيل أقدمها وأعرقها - فقد رأينا المصريين القدماء يحرزون قصب السبق في صناعة الخزف بل لقد توصلوا إلى استخدامه في تزيين جدران إحدى قاعات الدفن في هرم زوسر بصقاره في أواخر الألف الثالث قبل مولد المسيح، وهو أقدم(762/51)
ما نعرف عن استخدام الخزف في تغطية الجدران، بل لعله أقدم ما تعرف عن الخزف المطلي بالمينا جميعاً.
لهذا اهتم العلماء بالخزف فكتب عن الخزف الإسلامي من المصريين علي بك بهجت، ثم الدكتور زكي محمد حسن. ومن المستشرقين فبيت وكونل ولام ممن خدموا جامعة فؤاد الأول، وغيرهم كثير لا داعي لذكرهم، حتى وصل إلى أيدينا أحدث المؤلفات بقلم الأستاذ أرثرلين أحد رجال متحف فكتورياً وألبرت.
والمؤلف عالم وقف دراساته على الخزف؛ فكتب عن الخزف اليوناني والخزف الفرنسي، ثم هاهو يكتب عن الخزف الإسلامي فيلم به إلماماً شاملاً هادئاً، ويعالج المشاكل القائمة في تاريخ الفن بقوة، ويطلعنا على تمكنه ورسوخه، فلا يدفع به البحث إلى مزالق الهوى كما حدث للأستاذ بتلر في مجلده الضخم (الخزف الإسلامي).
وتناول المؤلف الدول الإسلامية في مواطنها كلا على حدة، فيما بين حدود الهند ووادي النيل؛ فيبدأ بترجمة سريعة للنهضة الفنية والأحداث السياسية التي مهدت لها وأحاطت بها، ثم يعكف على الأساليب الفنية في صناعة الفخار والخزف ونقشه وتزيينه وتلميعه بالمعادن والمينا فيقتلها بحثاً، ثم يعرض لنا المراحل المختلفة التي يمر بها كل لون من ألوان هذا الفن الجميل من ناحية الصناعة، ويكشف عن المواد الأولية ومزجها وحرقها والتصوير عليها حتى تخرج تحفة فنية.
والأستاذ (لين) منصف للفن والفنانين، فهو يحدثنا عن التأثيرات الفنية الغريبة عن الإسلام كالبيزنطية والساسانية والصينية، وكيف تمكن المسلمون من استيعابها جميعاً ومزجها مزجاً هيناً لطيفاً وكيف أضافوا إليها من ذوقهم الحساس وروحهم الشاعرة حتى أخرجوا منها عصارة فنية طيبة تفوح بأريج عبقرية الفنان المسلم. وكيف رسم الفنان المسلم خطوطاً واضحة لفنه فخلق له طابعاً فذاً فريداً له مميزاته الخاصة وشخصيته الواضحة. ثم يخلص المؤلف من هذا إلى المقارنة بين مختلف المدارس الفنية في العالم الإسلامي فيبين خواصها ومميزاتها بوضوح وجلاء بعيدين عن التعقيد الذي يعمد إليه عادة الفنانون.
ويؤمن الكاتب بالرأي القائل بأن الأحاديث النبوية الشريفة التي تنهي عن استعمال الذهب والفضة كان لها أكبر الأثر في سمو هذه الصناعة وبلوغها ذروة المجد: فإن الخلفاء التمسوا(762/52)
في أواني الخزف ما يختلف مادته عن الذهب والفضة ولا يقل عنها رقة وفخامة وجمالا. ثم ما صحب عصر (النهضة الإسلامية في دولة بني العباس من تشجيع للعلوم والفنون، جذب إلى بغداد وسامرا عباقرة الخزفيين من جميع بقاع العالم الإسلامي وأنشئوا مصانعهم حولها وأغدق عليهم الخلفاء ما شجعهم على التفنن والإتقان).
أما في مصر الفاطمية فللمصريين فخر إنشاء مدارس فنية تتمتع بذاتية لامعة تنافس بها سائر المدارس حتى في إيران نفسها، وقد أصيب فنان الفاطميين برعشة من رعشات الفن الوافدة أوحت إليه من خزف الصين الذي كان زهرة أسواق الخزف في العالم.
وأما من ناحية موقف الإسلام من التصوير، فقد وافق على الكراهية التي أشاعتها الأحاديث الشريفة ولم يأت خبر تحريمها في القرآن الكريم. على أن الخلفاء يتقيدوا كثيراً بهذه الكراهية، سواء في ذلك السنيون والشيعة.
ولما بدأ المغول يكيلون للضربات القاسية المتلاحقة للعالم الإسلامي في مطلع القرن الرابع عشر وقف بنا البحث عند هذا الحد. فقد انتهى المؤلف من الكلام عن الخزف الإسلامي المبكر ويعدنا بأن يتناول ما يلي ذلك فيما يتبع من مؤلفات.
وبالكتاب أكثر من 250 صورة ضوئية - أربع منها ملونة كما في الأصل - مبين عليها مقاسات التحف وتأريخها وأما كن عرضها. وقد أخرجته مؤسسة (قابر أند فابر) إخراجها لا يقل أناقة عما كنا نراه من كتب ما قبل الحرب الأخيرة التي كانت السبب في حبس التحف في المخابئ، وتعطيل الإنتاج الفني طوال هذه السنين.
ولنا أن نزجي التهنئة إلى الأستاذ المؤلف لتوفيقه في بحثه الذي يهم كل متتبع لسيرة الحضارة الإسلامية وإنتاجها الفني الفياض وكل مشتغل بالفن أو كلف به.
مصطفى كامل إبراهيم
وكيل اتحاد الثقافة الأثرية(762/53)
حياتنا اليومية وعلاقتها بالقانون
تأليف الأستاذ كامل البهفساوي بك
القاضي بمحكمة مصر المختلطة
ليس أدل على صدق القول المأثور (يعرف الكتاب من عنوانه) من هذا
الكتاب وعنوانه (حياتنا اليومية وعلاقتها بالقانون) وقد أذاعه مؤلفه
الفاضل بالراديو قبل أن يضم فصوله في كتاب تتداوله الأيدي، وهو
ينبه فيه أذهان الناس إلى حقوقهم وواجباتهم، ويرشدهم إلى السبيل
الموصل إلى معرفة ما لابد من معرفته لأوليات القانون، فقد شرح
المؤلف أهمية القانون وعلاقته بالناس، وبسط معنى (الحق والواجب
وأساسها وعلاقتهما بالقوة) ثم نظر نظرة إجمالية تاريخية تشمل
الأدوار التي نشأت فيها علاقة القانون بعلم الاجتماع والأطوار التي
تحول إليها، وتكلم في (كيف بدأ الإنسان بعرف حقوقه وكيف تكونت
هذه الحقوق، وإن القواعد القانونية هي في حقيقتها إما اقتصادية أو
أخلاقية، وقد تقرر لها جزاء مادي يسمى بالإكراه الاجتماعي، وهذا
الجزاء إنما هو رد فعل في نفس الجماعة ضد المخالف لها، وأساسه
شعور الفرد بالعدالة وإيجابها على أهل بيئته).
وحدثنا عما أفضى إليه التطور في الدولة الواحدة من وجود السلطات الثلاث التي تسيرها وهي، التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ ثم نظر نظرة في مختلف الشرائع القديمة والحديثة المتولدة من عوامل الثقافة الاجتماعية كالشريعة اليونانية والرومانية والإسلامية ثم الفرنسية، وعن النظام الحكومي الذي يتولى خدمة القوانين وتعديلها وتنقيحها وتطبيقها وتفسيرها بما تقدم به السلطات التشريعية إصداراً، والقضائية تفسيراً، والتنفيذية إجراء(762/54)
وتطبيقاً ثم أوضح ما انتهت إليه الحال في مصر بعد تقرير الدستور فيها من تقديس سلطة الأمة، وشرح شرحاً جلياً الجهاز الدستوري والبرلماني، وذكر كيف جمعت القوانين في مصر.
في الكتاب فصلان: الأول فيما آل إليه القضاء في مصر من مدني وتجارى وجنائي بعد أن كان محصوراً في المحاكم الشرعية إلى أن تولى حكم البلاد محمد على الكبير، وما كان من إنشاء مجلس الأحكام، ثم في قيام المحاكم المختلطة في عهد الخديوي إسماعيل والمحاكم الأهلية وما كانت هذه المحاكم الوطنية في بدئها وما انتهت إليه اليوم. والثاني بيان لأقسام القوانين من الضابط للرابطة الأولى فيما بينها ويسعى القانون العام، ومنه يتفرع القانون الأساسي، أي الدستور والقانون الجنائي ويلحق بهما تحقيق الجنايات؛ إلى القانون الخاص، ومنه يتفرع القانون المدني والتجاري ويلحق بهما قانون المرافعات.
ثم شرح واف في القانون المدنى، والبحث في طبيعة الأموال المنقولة والثابتة والفرق بينهما، والحقوق التي يمكن أن تقرر عليها وكيفية اكتسابها، ومتى تكون ملكية الشيء صحيحة وجائرة قانوناً، ومتى لا تكون.
وقال في واجبات التجار (يجب على التاجر أن يمسك دفاتر منظمه، ويعد) دفتر يومية يشتمل على بيان ماله وما عليه، وعلى بيان أعمال تجارته، وبيان ما اشتراه أوباعه، أو قبله أو أحاله من الأوراق التجارية، وما أنفقه على منزله شهراً فشهراً، وعدد الروابط القانونية بين الناس ومنها (الشخصية) والأهلية، ومحل الإقامة، والشخصية المعنوية أو الاعتبارية، والميلاد والوفاة، وفى المجمل لم يترك المؤلف ناحية من نواحي حياتنا وعلاقتها بالقانون لم يتناولها قلمه بالشرح الوافر والتبسيط الشامل الواضح.
إن في الناس من يتوهم أن لا حاجة به إلى معرفة القانون، وقد أوضح المؤلف البارع في كتابه القيم هذا وببيانه السليم بطلان هذا الوهم لأن ضرورات الحياة الاجتماعية ومستلزماتها تضطرنا إلى السير في طريقها القديم، وليس سبيل حياتنا الحاضرة سوى مواد مستمدة من قوانين المجتمع ومن صنع الشعب.
يقول المسرع إن القانون إدارة منظمة غايتها مصلحة الجماعة الإنسانية، ومصلحة الفرد. ويقول الرجل غير المتشرع أن القانون أداة تحايل تمكن القوى من الضعيف والأبرع من(762/55)
البارع، والغنى من الفقير، والسيد من الأجير. ويقول رجل الفكر: الويل للأمة التي يتحايل سراتها على القوانين.
ح. ز(762/56)
القَصَصُ
قلب موزع
للكاتب أنطون تشيكوف
بقلم الأديب كمال الدين الحجازي
عادت (ناديازلينينا) وأمها من الملهى بعد أن شهدت إحدى الروايات، وعندما دخلت غرفتها خلعت ملابس السهرة وأرخت شعرها وبدأت تكتب رسالة إلى حبيبها: (أحبك. . ولكنك لا تحبني. . أجل لا تحبني) ولما كتبت ذلك ابتسمت طويلاً. كانت ناديا في السادسة عشرة من عمرها، وكانت فتاة غريرة لم يطرق الحب قلبها، إلا أنها كانت تعلم أن (جورني) الضابط و (جروندف) الطالب كانا يحبانها. ولكنها بعد مشاهدتها الرواية في الملهى بدأ الشك يتسرب إلى قلبها في حبهما لها، وكم تمنت لو كانا يكرهانها حتى تصبح سعيدة. فما أجمل أن يحب المرء شخصاً ويتهالك في حبه، بينما الآخر لا يبادله ذلك الحب! إن بطل الرواية (أونيجن) كان محقاً عندما كان يهزأ بالحب! بينما كانت (تاتيانا) تؤمن به. وقالت ناديا في نفسها: ترى لو أحب كل منهما الآخر حباً شديداً هل يكونان سعيدين؟ لا بل اعتقد أن السآمة ستنتابهما لا محالة! ثم واصلت ناديا الكتابة إلى جورني: (لا. . لا تزعم أنك تحبني. . إنني لا أصدقك، حقاً إنك شجاع جداً، ومثقف واسع الثقافة؟ وأنك تنظر إلى المستقبل متفائلاً، إلا أنني فتاة ساذجة لا أصلح لك، وأنت تعتقد في قرارة نفسك أنك لا تستطيع العيش معي. إنني لا أنكر أنك تعلقت بي وأحببتني واعتقدت أنك وجدت فيَّ فتاة أحلامك. . . إلا أنك مخطئ في هذا الاعتقاد، وكنت تسائل نفسك: لماذا أحببت هذه الفتاة! وإنني أعتقد أن طيبة نفسك لا تعترف بذلك وما إن أتمت كلماتها هذه حتى بكت بكاء طويلاً! ولما خف بكاؤها واصلت الكتابة (كم تمنيت أن أرتدي لباس الراهبات وأذهب إلى الدير لولا أنني أخشى أن يكون ذلك عبئاً ثقيلاً على أمي. . وعندها تستطيع أن تحب فتاة غيري. . آه كم أتمنى الموت!!) وكانت تتساقط دموعها على الطاولة وتشكل أقواساً متقطعة. ثم كفت عن الكتابة وأسندت رأسها على الكرسي تفكر! كان جورني جميل الخلق والُخلق، وما أبرعه في الموسيقى! وكم كنت أطرب لصوته العاطفي الحنون! كان يخفي(762/57)
عني حبه للموسيقى، ولكنني عرفت ولعه بها، ولو لم يكن ضابطاً لكان موسيقاراً عظيماً! ولما كفت ناديا عن الكتابة. تذكرته وهو يناغيها بكلمات الحب والغرام. . . وفجأة شعرت أن نفسها تكتب إلى حبيبها (جرونسدف) الطالب (إنه طالب ماهر، وكان يسهر معنا بالأمس، وكنا سعيدين حقاً) ثم مدت ذراعيها على المنضدة وأحنت رأسها، فتذكرت أن جرونسدف يحبها وله الحق أن ينال في كتابتها ما هو أهل له مثل جورني. وشعرت أن طيفاً بدأ يداعب خيالها فأحست بسرور لم تعهده قبلاً وانثالت عليها الذكريات بشدة، وقد سرى هذا السرور من صدرها إلى يديها ورجليها، فكأن نسيماً عليلاً داعبها وحرك شعرها فارتجفت ذراعاها فضحكت ضحكة هادئة، فاهتزت المنضدة والمصباح كأنهما يشاركانها الفرح!! وكانت الدموع تتساقط على الرسالة. . . ثم بدأت الذكريات تتوالى عليها كرة أخرى عن الطالب وحبه لها، فتمددت هذه الذكريات في رأسها وتغلبت عليها وأصبحت موزعة بين جميع الأشياء، فبينما هي تفكر في أمها إذ بها تفكر في الشارع وفي قلمها وفي البيانو، وكانت سعيدة في تفكيرها ووجدت أن كل ما يخطر على بالها حسن وجميل! وكانت تشعر أن السعادة تناديها قائلة: (ليس هذا كل شئ. . بل ستشعرين بسعادة أكثر في الغد، سيهل الربيع والصيف وسيذهب الحبيبان معك إلى (جوربكي) بصحبة أمك، وسيزورك جورني في عطلته، ويسير معك في الحديقة فينتعش حبكما سيزورك جرونسدف وستلعبان معاً لعبة الكركت ويقص عليك قصصه الحلوة اللذيذة). . .
وعندما وجدت نفسها تسير في الحديقة وتخيلت جورني يسير معها في ظلمة الليل، ترعاهما النجوم وتحجبهما الأشجار عن أعين العذال! فضحكت لهذه التخيلات الجميلة وتمنت لو تحققت في الحال. ثم عادت إلى فراشها ولم تدر كيف توزع سرورها وفرحها بالقسطاس فقد تغلبت عليها! فنظرت إلى تمثال المسيح المعلق في صدر غرفتها وقالت: (يا إلهي. . . يا إلهي، كم أقاسي!). . .
(القدس)
جمال الدين الحجازي(762/58)
العدد 763 - بتاريخ: 16 - 02 - 1948(/)
أسئلة في سؤالين!
للأستاذ عباس محمود العقاد
سؤال عن الله، وسؤال عن (الفاروق) خليفة رسول الله.
أما السؤال عن الله فهو من الأديب (عبد الستار شمس الدين) الطالب بالجامعة الأمريكية في بيروت، وفيه يقول: (إن الدكتور عبد الرحمن بدوي ألقى محاضرة عن الجانب الصوفي من حياة النبي في قاعة (وست) بالجامعة الأمريكية فقال: إن محمداً رأى ربه عندما بلغ الغاية من عبادته الصوفية، واستشهد بالآيات التالية من سورة النجم. . . (وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى ربه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى).
فإذا كان ما قال الله صحيحاً فهل الله جسم؟ وهل هذه الصفة الجسمية تجعله واجب الوجود؟ وهل تتعارض هذه مع الآية: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).
والمشهور المتفق عليه بين المفسرين - ومنهم أهل السنة والشيعة والفلاسفة - أن المقصود بالرؤية هنا هو الروح الأمين رسول الوحي جبريل: (إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى).
فالإمام الرازي وهو من الفلاسفة يقول: (والمشهور أن هو ضمير جبريل. . . والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم. معناه استوى بمكان - وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر - لا حقيقة في الحصول في المكان، فإن قيل: كيف يجوز هذا والله تعالى يقول: ولقد رآه بالأفق المبين إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين؟ نقول: وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا هاهنا أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وهو بالأفق المبين، يقول القائل: رأيت الهلال. فيقال له: أين؟ فيقول: فوق السطح. أي أن الرائي فوقي السطح لا المرئي).
والشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي من كبار علماء الإمامية يقول في مجمع البيان: (معناه: ولا يتكلم بالقرآن وما يؤديه إليكم من الأحكام إلا بوحي من الله يوحى إليه أي يأتيه به جبرائيل وهو قوله: علمه شديد القوى يعني جبرائيل، أي القوى في نفسه وخلقته، عن ابن عباس والربيع وقتادة).(763/1)
وهذا أيضاً هو المعنى المشهور بين أهل السنة من المقدمين والمحدثين.
أما رؤية الله - من حيث هي بحث مستقل عن تفسير هذه الآية - فهي موضوع كثر فيه الخلاف بين المعتزلة والمتكلمين.
فالمعتزلة عامة يمنعون الرؤية لأنها في رأيهم لا تكون إلا لمحسوس.
والمتكلمون لا يمنعونها، بل يجيزون رؤية كل موجود على اعتبار أن الرؤية نوع من العلم، وأن العلم يحصل بغير اتصال النور بين الرائي والمرئيات.
بعض الفلاسفة من يوافق المتكلمين في ذلك على هذا الاعتبار. قال المازني: (الحق الأول لا يخفى عليه ذاته، وليس على ذلك باستدلال، فجائز على ذاته مشاهدة كماله من ذاته، فإذا تجلى لغيره نوعاً من الاستدلال، وكان بلا مباشرة ولا مماسة كان مرئياً لذلك الغير. . . وإذا كان في قدرة الصانع أن يجعل قوة هذا الإدراك في عضو البصر الذي يكون بعد البعث لمم يبعد أن يكون كائناً مرئياً يوم القيامة من غير تشبيه ولا تكييف ولا مسامعة تعالى عما يشركون)
تكلم أبو البركات هبة الله في كتابه المعتبر عن المدركات، فيقول: (إنما يتم إدراكها للنفس بذاتها عند آلاتها بالتفاتها عنها إلى ذاتها).
يقول: (حتى تنتهي إلى ما يرى كل شئ ويصدر عنه أنوار بأسرها، خفيها وظاهرها، وعلتها ومعلولها، فهو كما هو مبدأ المبادئ، فهو أبعد من أن يرى بالعين، أن يرى، لكونه الأظهر في الوجود، والأسبق بالوجود. فالنفس إذا تطلعت بذاتها نحو مبادئها وعادت إلى جهة بدايتها انتهت بنظرها إليه واستعانت بمبادئها عليه).
وبهذا المعنى يتفق المتكلمون والفلاسفة على أن رؤية الله علم لا يأتي عن طريق العين كما ترى هذه المحسوسات. فليست هي ملازمة للتجسيد ولا تدل عليه. وما البصر الحسي نفسه إلا نوع من الترجمة يمثل لنا ما نحسه ولا يعطينا صورته على التحقيق، ما استطاع القيام معنى الوجود الإلهي في وجدان الإنسان على نحو من المعاني يخلو من كل تجسيد).
ولا أعرف أحداً قال برؤية الله حساً غير جماعة المجسمة الذين يفهمون الوجه واليد كما يفهمون أعضاء الأجسام، وهم فئة لا يؤبه لهم ولا في الدين.
وأما السؤال عن الفاروق خليفة رسول الله، فهو من الأديب (عبد المنعم محمد السيد) بالقسم(763/2)
التوجيهي بمدرسة الثانوية.
يسأل عن مهابة عمر فيقول: (أوردت في الكتاب قصة النبي عليه السلام مع زوجته عائشة وسودة حين لطخت كل منهما وجه الأخرى بالحرير. فضحك النبي ثم أمرهما بأن تغسلا ودهيهما حين مر عمر فناداه النبي. . . وهذه القصة اختلفت أنا والأساتذة في تفسيرها لأنني أرى أنها لا تثبت هيبة النبي لعمر - وإن كان ذلك صحيحاً - لأنني أظن ظناً يرتقي إلى مرتبة الاعتقاد أنه لو رأى رجل غير عمر ودعاه محمد رسول الله إلى منزله لأمر زوجتيه بأن تغسلا وجهيهما. . .).
ونحن مع ترحيبنا بهذه الملاحظة وتقديرنا لذكاء الطالب النجيب في التفاته إليها، نحب أن نلفت نظره إلى شئ غاب عنه، وهو يتكلم عن المهابة وما إليها.
فالمهم في وصف المهابة وما يماثلها من الأحاسيس النفسية، كوصف الجمال أو الدهشة أو الخوف، إنما هو فيما يقوم بالنفس من آثارها قبل كل شئ.
فإذا قال لك أحد: إنني أحببت هذا المنظر لأنه جميل، فليس لك أن تقول له: كلا! إنك لم تحب جماله ولم تشعر بأنه جميل، وإن خالفته كل المخالفة في تصور الجمال.
وإذا قال لك أحد: إنني دهشت لهذا الخبر، فليس لك أن تقول له: كلا! إنك لم تدهش له؛ لأنه لا يدهش.
وإذا قال لك أحد: إنني أخاف الظلام أو أخاف الفضاء الواسع، أو أخاف الحجرات المغلقة، فليس لك أن تكذب خوفه، وإن جاز لك أن تكذبه في أمثال هذه المواضع ولا تخاف
وكذلك حين تقول لنا السيدة عائشة أنه هابت عمر وشعرت بأن النبي يهابه، لا يحق لنا أن نقول لها: كلا. ليس في الأمر ما يدعو إلى المهابة.
وينبغي أن نذكر في هذه القصة - على الخصوص - أن السيدة عائشة امرأة، وأن المرأة أحس لهذه المعاني وأفطن؛ لأنها خلقت لتحس الرجل، ولاسيما جانب المهابة والقوة فيه.
فإذا وقع في نفسها أنها هابت عمر وشعرت بمهابة النبي له، فليس للمهابة دليل نفساني أصدق من هذا الدليل،
وأشار الطالب النجيب إلى قولنا بعد ذلك: (إن من أدب الرسول عليه السلام أنه كان يرعى تلك الهيبة رضى عنها واغتباطاً بها في نصرة الحق وهزيمة الباطل وتأمين الخير(763/3)
والصدق وإخافة أهل البغي والبهتان.
ثم سأل: ماذا تقصد بكلمة (أدب) بالضبط؟ أحسن تقدير هو أم ماذا؟
ويبدو لنا أن الذي دعا الطالب النجيب إلى هذا السؤال ما سبق إلى فهمه من أن الأدب لا يكون إلا من صغير لكبير.
والواقع أن الأدب صفة مطلوبة في كل معاملة، كما تطلب في أدب الراعي نحو الرعية، وأدب السيد نحو الخادم، وأدب العظيم نحو الصغير.
وأدب النبي هنا هو أدب المربي الذي يتعهد أتباعه ومريديه فيهيئ كلاً منهم لما يصلح له، ويقوي فيه ما يصلح مع القوة، ويضعف فيه ما ليس به صلاح له ولا لغيره. ومهابة عمر إنما هي مهابة للعدل والحق والإيمان، فمن الخير أن يبقيها له وينتظر منها النفع للدين ومعتقديه.
وفي الأسئلة بقية ترجع إلى جملة من الكلام على صفات الفاروق، بعد رواية ما قيل عن إقامته الحد على ولده عبد الرحمن
وهذه هي الجملة: (لو كان المصدر واحداً معروفاً بالحذق في القصص لحسبناها من وضعه وتلفيقه. ولكنها سمعت من غير مصدر موثوق به، فهي أقرب إلى الواقع).
والسؤال هو: (أتقصد أنها سمعت من مصدر غير موثوق به أم أنها سمعت من أكثر من مصدر واحد موثوق به؟
وعلى قدر ما كان الطالب موفقاً في سؤاله عن المهابة خانه التوفيق في هذه الأسئلة. فلا يمكن أن يكون المقصود مصدراً واحداً؛ لأننا استبعدنا ذلك، ولا يمكن أن يكون عدة مصادر غير موثوق بها؛ لأننا نقول إنها أقرب إلى الواقع، ولا التباس بعد هذا في المعنى لأننا ننفي وحدة المصدر، وننفي وضعه وتلفيقه ونقول قبل ذلك عن القصة (إننا لا نستغربها في جميع تفصيلاتها إلا حين تطرأ عليها المبالغة التي تتسرب إلى كل خبر من أخبار البطولات المشهورة. . .)
وبعد، فهو على كل حال اجتهاد يدل على حب الفهم والاسترشاد
عباس محمود العقاد
من أحاديث الإذاعة:(763/4)
من أحاديث الإذاعة
حكمة القدر
للأستاذ علي الطنطاوي
دخل علينا أمس، وكنا جماعة في المجلس صديق لنا، فقال: إن ابنة الأستاذ حبيب زحلاوي قد سقطت من الطبقة السادسة إلى الشارع! فارتعنا جميعاً، وأعظمنا الخطب، وكنا نعرفها طفلة حلوة ملء إهابها الطهر والجمال والنشاط، فلم نستطع أن نتصورها وهي ممزق من اللحم قد اختلط بعضه ببعض، ووجمنا وكانت سكتة لم يقطعها إلا ضحك صديقنا المخبر، فعرفنا أنها مزحة ثقيلة من مزحاته، وأقبلنا عليه نسبه ونشتمه، فقال: والله ما كذبت عليكم، ولقد وقعت من الطبقة السادسة ولكنها لم تصب بشيء، وهي سليمة. . .
فصرخنا جميعاً: سليمة؟! قال: نعم والله. ألا تصدقون؟ إنها وقعت على حبال الغسيل الممدودة بين الشرفتين حيال الطبقة الخامسة، فعاقتها قليلاً، ونفذت منها إلى حبال الطبقة الرابعة، وما زالت تمر من حبال إلى حبال، حتى إذا بلغت الشارع، كانت سقطتها على كومة من الرمال، صبتها سيارة صباح ذلك اليوم، فلم تصب بأذى.
ومضى يحلف ويذكر الإيمان أن الذي يرويه هو الصدق والحق، وأن صبياً لصديق آخر لا أسميه لئلا أسوءه، وأذكره بمصابه، وقف على مكتب أبيه يلعب، فرأى صورة معلقة بالجدار، فوثب يريد أن يصل إليها، فوقع على أرض الغرفة، وكانت من البلاط، وكانت السقطة على يافوخه، فمات لساعته. . .
وقال معلقاً ومفلسفاً: ففيم إذن نفكر وندبر، مادام لا ينفعنا فكر ولا يفيدنا تدبير، ولم لا ندع الأمور للقدر ونتركها تجري في أعنتها كما يريد لها مجريها، مادمنا لا نملك أنفسنا ولا نعرف مصائرنا، ومادام هذا الكون كالمعمل الضخم، المشتبك الآلات، المتعدد الحركات، وما نحن إلا مسمار صغير فيه، نسير كما يسيرنا (مهندسه) الأعظم. . .
وأسرع واحد منا، فقال مصدقاً: نعم، ولكنا خلقنا للشقاء، وأقمنا هدفاً للمصائب، ووضعنا في دنيا ما فيها إلا الآلام من سلم منها السوم وقع غداً، ولم يمت ولده من سقطته مات من علته، أو مات وهو صحيح معافى ما من الموت بد. . . ولابد قبل الموت من البلايا والمتاعب. . .(763/6)
وتكلم الثالث، يرى نفسه من كبار العقلاء، فأنكر القدر، وجحد المقدر. وزعم أن الحياة ليست إلا عجينة في يدك، أنت تديرها وتصورها، فإن صنعت منها تمثال غادة جميلة كان لك جمالها، وإن عملت منها هولة قبيحة كان عليك قبحها. . . إن مرضت فمن إقلالك الغذاء وإهمالك التوقي، وإن دعيت فمن تركك الحذر، وإن افتقرت فمن قعودك عن السعي. . . وأمثال هذا الكلام.
فقلت له: فلم ولد هذا في دار علم وتهذيب فتعلم وعرف سبل الوقاية، وخطر الأمراض، ونشأ ذاك في بيت جهل وفساد، فشب جاهلاً فاسداً، لا يعرف كيف يتقي الداء، ولماذا دعس هذا من قلة حذره، وسلم من هو أقل منه حذراً، وطريقه أشد خطراً، ولماذا يسعى الرجل حتى تنقطع من السعي أنفاسه ويرجع ولم يصل ولا إلى مثل خفي حنين، وتأتي الأموال لآخر بلا سعي ولا طلب؟. . .
ولماذا يتاح لهذا النابغة أن يظهر نبوغه، حتى يكون اسمه تسبيحاً على كل لسان، وعنواناً في كل كتاب، ويجهل من هو أحد منه ذكاء، وأكبر موهبة، وأظهر استعداداً للنبوغ؟.
ولماذا؟ ولماذا؟ وألف لماذا؟ لو شئت لسقتها لك فما استطعت الجواب على واحد منها، فما أنت في الوجود، هل تسير أنت الفلك على هواك، وهل تسوق الكون إلى غايتك. هل أنت إله؟ إنك ما كونت نفسك، ولا شققت بيدك سمعك ولا بصرك.
قال: فهل ترى أنت أن الإنسان مسير؟.
قلت: ما مسير؟ وما مخير؟ وما هذه الفلسفة الفارغة؟ لقد اشتغل بها البشر، من ابتدأوا يفكرون واختلفوا عليها، وتجادلوا، ولا يزالون يختلفون ويتجادلون، ولم يصلوا إلى شئ. وإنما تاهوا في بيداء لا أول لها ولا آخر، وهاموا على وجوههم في مهمه متشابه الأرجاء، بلا أمل ولا رجاء، فذهب هذا ينكر القدر، ويزعم أن الحياة ملك الإنسان، وأحداثها صنع يديه، وراح ذاك ينكر إنسانيته، ويجحد نفسه ويراه مسماراً في آلة الكون، وحجراً في جبل، يدور مع الأرض أنى دارت. وكان هذا متشائماً لا يرى إلا الذي وقع عن الكرسي فمات، فاعتقد أن الدنيا دار المصائب، وكان ذلك مغروراً، لم يبصر إلا التي وقعت من الطبقة السادسة ولم تمت، فحسب أنه يسلم من كل أذى.
ونحن مع القدر بشر، لا آلهة ولا حجر، والدنيا ليست مسرة كلها ولا مصائب ولكنها مسرة(763/7)
وكدر.:.
وأنا كلما فكرت، وذكرت ما رأيت من الحوادث بعيني ازددت يقيناً بأن أكثر الناس لا يعرفون سر الإيمان بالقدر:
رأيت الترام مرة وقد انكسر مِقوده، فنحط من المنحدر الهائل عند (الجسر) في دمشق، وكانت امرأة واقفة بين خطيه بعد المنعطف، فلما رأته مقبلاً كالموت النازل، سمرت رجلاها من فزعها بالأرض، وجمدت ولم يجرؤ أحد أن يدنو لإنقاذها فيموت معها، والوقت أضيق من أن يتسع لشيء، فأغمضوا عيونهم حتى لا يروا. . . فلما وصلت الحافلة إلى المنحنى تركت الخط وسارت قُدُماً، فصدمت جداراً من اللبن ضعيفاً، ومرت منه إلى قوم في دارهم فقتلتهم.
ورأيت مرة شباباً يمشون تحت فندق (إيدن بالاس) في دمشق، فرفع أحدهم رأسه فجأة فرأى شيئاً ساقطاً فتناوله بيده، وإذا هو صبي رضيع وقع من شباك الفندق، وهبطت أمه كالمجنونة، وهي امرأة من (حماه) فرأته سالماً. .
ورأى غيري حوادث مثل هذه الحوادث. وفي كتاب (الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي) مئات من القصص عمن نجا وهو في لج الهلاك، وفي كتاب الحياة آلاف من الأخبار عمن هلك وهو على بر النجاة.
فما سر هذه العجائب؟ وكيف عاشت المرأة وقد فرطت وعرضت نفسها للموت بسيرها بين خطي الترام، ومات قوم اتخذوا كل أسباب الوقاية، فدخلوا دارهم وأغلقوا بابهم، فشق الترام الحائط ودخل عليهم فدعسهم، وكيف وقعت البنت فلم تمت، وتموت كل يوم مئات من البنات من غير وقوع؟.
إن هذا السر، سر الله لا يعرفه أحد، فلا تحاولوا كشف سر القدر، ولكن استفيدوا من حكمة القدر. وهذا ما سقت له حديثي.
ستقولون، وماذا نعمل؟ هل ندع أولادنا يسقطون من الشبابيك لا نبالي لأنها إن كانت لهم حياة فسيبعث الله لهم حبالاً تمسكهم، أو رجالاً تتلقاهم، ولنقعد عن السعي لأنه إن كان لنا رزق فسيأتينا بلا سعي!.
لا يا سادة، ما هذا طريق فهم القدر، ولا هذه حكمة القدر.(763/8)
صحيح أن الرزق مقدر، فهذا وضع له رزقه على مكتبه، فما عليه إلا أن يقعد على كرسيه، ويمسك قلمه، ويكتب اسمه الكريم كل نصف ساعة مرة على أوراق تعرض عليه، وهو يشرب قهوته، ويدخن دخينته، فيأتيه الرزق؛ وآخر وضع رزقه في رأس الجبل عليه أن يصعد إليه، أو في بلد بعيد عليه أن يمشي إليه، أو في باطن الأرض ينزل إليه، أو في جوف البحر يغوص فيه، أو في جيوب الناس يأخذه منها، ليقبض عليه، فيتحول رزقه إلى السجن.
كل يأكل لقمة، ولكن من الناس من تجيئه اللقمة في صحفة من الفضة، ومن يأكلها مغموسة بالدم، أو مبللة بالعرق، أو ملطخة بالوحل.
لا لا تقل ما سر القدر، فما كشفه حاجة لأحد، ولكن، مادام الأمر مجهولاً، فاسع أن تأكل أنت لقمتك بطبق الذهب، وجد وابذل الجهد، فإن لم تصل إلى ذلك وصلت إلى الرضى والتسليم بحكم القدر وهذي من حكم القدر.
والأجل محدود، لا يدفعه إذا حضر حذر، ولا يضر إن امتد خطر، وقد يموت الشاب الصحيح، ويعيش الشيخ العليل، ويهلك المعتصم بسبعة أسوار، ويسلم الجندي الذي يقتحم النار، أعرف رجلاً من أبطال الثورة السورية، رمى نفسه على الموت خمسين مرة فكان الموت يروغ من تحته ويهرب منه، ثم انتهت الثورة، ونام في فراشه، فاختصم اثنان من السكارى، فأطلق أحدهما رصاص مسدسه، فأصاب خطأ رأس صاحبنا الذي نام فما قام.
وروى ابن الجوزي أن رجلاً أغمي عليه فحسبوه مات، ونصبوه على السرير، وجاؤوا بالمغسل ليغسله، فلما أحس برد الماء، تيقظ ونهض، فارتاع المغسل وسقط ميتاً.
فلا تسأل ما السر، ولكن جاهد في سبيل الله، وناضل عن الحق، ولا تخف الموت في جهادك ونضالك لأن الأجل محدود، فقد تعيش مائة سنة ولو خضت غمرات الموت، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لأخراك كأنك ميت غداً، فتكون قد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة، وهذي حكمة من حكم القدر.
فالإيمان بالقدر حياة لأنه يفتح لك في كل ظلمة شعاع ضياء، وفي كل عسرة باب رجاء، ولولا الرجاء لمات المريض من وهمه قبل أن يميته المرض، ولقتل الجندي في الحرب من خوفه قبل أن يقتله العدو، ولولا الرجاء ما كانت الحياة.(763/9)
ولو تركت الأمور لاحتمالات العقل، وقوانين المادة، لما استطعت أن تتنفس الهواء أو تشرب الماء خشية أن تكون فيه جرثومة داء، ولا ركبت سيارة لاحتمال أن تصطدم، ولا صعدت بناء لإمكان أن ينهدم، ولما استولدت ولداً لأنه قد يموت، ولا اتخذت خليلاً لأنه قد يخون، ولما اطمأننت على مال لأنه قد يسرق، ولا دار لأنها قد تحرق.
والإيمان بالقدر راحة لأنه لو كان الفشل من عملك وحدك، وكان النجاح من صنع يدك لقطعت نفسك أسفاً إن فشلت، أو سبقت.
والإيمان بالقدر عزاء، لأنك إن قدر عليك المصاب بولد، فاحمد الله ففي الناس من أصيب بولدين، وإن خسرت ألفاً ففيهم من خسر ألفين.
فهل عرفتم الآن ما حكمة القدر؟
هي أن نجد ونعمل ونسعى، ونبذل الجهد، ثم لا نحزن إن فشلنا، ولا نأس إن لم نصل إلى ما نريد وأن نكون مع القدر كمن يجتاز طريقاً فيه السيارات المزدحمات، فإن ذكر حوادثها وأخطارها وحدها لم يستطع أن يتقدم خطوة، وإن اعتقد من غروره أنه يستطيع أن يرد عنه السيارة المقبلة، ويدفع الخطر الآتي، لم يسلم، ولكن إن انتبه وسار بحذر، فهذا هو العاقل، ثم إن نجا حمد الهه أن قدر عليه النجاة، وإن أصيب ذكر أنه لم يقصر، وإنما هو حكم القدر. . .
(دمشق) علي الطنطاوي(763/10)
18 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض لدى المملكة العربية السعودية
في مدينة لاهور:
كانت الإقامة في هذه المدينة قصيرة وكان المقعد الأول من السفر إليها زيارة محمد إقبال فلم أر كثيراً من مشاهدها القديمة والحديثة.
رأيت من آثارها يوم الأربعاء 24 جمادى الأول مسجد وزير خان. اجترنا إليه سوقاً ضيقة فيها مكتبات تجارية. والمسجد كبير له صحن واسع وفي المصلى عقود مزينة بنقوش وآيات من القرآن وأحاديث وكلمات للصوفية، ومأثورات من الشعر الفارسي والنثر.
وفي العشى ذهبنا إلى قلعة لاهور في صحبة أستاذ أمريكي خبير بالآثار. وهي قلعة واسعة كثيرة الأبنية ولكن الخراب غالب عليها، وكان السيك استولوا عليها حيناً إذ ملكوا في تلك الأصقاع. ولهم فيها آثار لا تدل على براعة في العمارة والتصوير.
والذي يستحق الذكر في هذه القلعة نقوش بالفسيفساء على جدار شاهق على يسار الداخل. وفيها مناظر كثيرة لحيوان ونبات، وهي من آثار جلال الدين أكبر. ويوم الخميس دعينا إلى حفل في الجامعة الأمريكية، وكنا زرناها يوم الأربعاء فتكلمت فيما بين مصر والهند من صلات، وذكرت الشاعر الكبير محمد إقبال، وتكلم السيد علي أصغر حكمت رئيس الوفد الإيراني.
وزرت هذا اليوم قبر السلطان جهانكير وهو على بعد أميال من المدينة في حديقة واسعة كقبور سلاطين المغول التي وصفت قبلاً، وهو طبقة واحدة من البناء مربعة يحيط بها عقود مفضية إلى حجرات. وللبناء مآذن أربع في أركانه. وليس في أصرحة آباء جهانكير مآذن كهذه، وقد بنى مثلها ابنه شاه جهان في تاج محل، ولكنه فصلها من البناء وجعلها مسمتة لأركانه كما ذكرت آنفاً.
وظاهر أن ضريح جهانكير كان في تاريخ الآثار تمهيداً لبناء التاج.
وفي الحديقة من الطرق والأحواض والنافورات، وفي البناء من جمال الهندسة وإحكامها،(763/11)
ومن التناظر الذي يسيطر على أبنية التيموريين كلها ما قدمت مثلاً منه حينما ذكرت أضرحة همايون وأكبر وشاه جهان (تاج محل).
ويفضي مدخل البناء إلى القاعة الوسطى وفيها قبر السلطان جهانكير رحمه الله وهو من المرمر الملون مرصع بأحجار أخرى جميلة. وكان فيها من الجواهر أكثر من مائة قطعة نزعها السيك حينما تغلبوا على لاهور. وعلى الصحيفة التي فوق القبر أسماء الله الحسنى. وعلى الجوانب كتابة فيها:
(مرقد ملون أمليحضرت غفران بناه نور الدين محمد شهانكير بادشاه.) والسلطان جهانكير هو السلطان الرابع من سلاطين الدولة التيمورية.
في دار إقبال وعلى قبره:
ذهبت أنا والصديق الأستاذ علي أصغر رئيس الوفد الإيراني إلى دار إقبال وهي دار صغيره قابلنا فيها ابنه جاويد وقد سمى إقبال باسمه منظومته (جاويد نامه) وجاويد معناه خالد. وجاويد نامه كتاب جاويد أو الكتاب الخالد ففيه تورية.
ورأينا حجرة كان الشاعر الخالد رحمه الله يكتب فيها أشعاره ومقالاته وفيها فاضت روحه. وهي حجرة تسع على صغرها ذكريات لا يسعها الفكر.
وجلسنا ساعة نتحدث مع جاويد. وقد أهدى إلينا بعض صور والده.
وفي العشى ذهبنا لزيارة قبر إقبال وهو في الحديقة المحيطة بالجامع الكبير الذي بناه السلطان محي الدين الملقب أورنك زيب (زينة العرش) وهو جامع فسيح جداً يشبه جامع دهلي الكبير الذي بناه شاه خان، ولكن ليس فيه من الحلي والزينة والنقش والتحلية بالرخام المجزع ما في جامع دهلي. كان شاه جهان كلفاً بتشييد الأبنية وتزيينها وقد بالغ في التشييد والتزيين. وحسبه تاج محل. وكان ابنه أورنك زيب زاهداً لا يبالي بالزينة والأبهة.
وإلى جانب الجامع على مقربة من مدخله حجرة لم يكمل بناؤها فيها قبر الشاعر الفيلسوف محمد إقبال.
زرنا القبر في جلال الموت وروعة الذكرى ثم جلسنا في حفل أعد لاستقبالنا هناك بجانب الحجرة التي فيها الضريح، وأهديت إلينا منظمات إقبال الفارسية، وتكلم الأستاذ علي أصغر وغيره وألقيت الكلمة الآتية:(763/12)
إقبال
إقبال يا شاعر الإسلام! أنرت مقاصده، وجلوت فضائله وأضأت سراجه، وأوضحت منهاجه، ودعوت المسلمين إلى المجد الذي كافئ دعوتهم، ويلائم سنتهم، ويناسب تاريخهم.
إقبال يا شاعر الشرق، أشدت بمآثره، وفخرت بروحانيته، وأخذت على الغرب المادية الصماء، والغرور والكبرياء. ونقدت قادته فدحضت باطلهم، وأبطلت سحرهم، ووقفتهم للحساب العدل وأبنت ما لهم وما عليهم، ولاسيما في كتابك (بيام مشرق)
إقبال يا شاعر الحياة! كشفت عن قواها. وبصّرت بمجراها ومنتهاها، وعرفت مغزاها، وأقمت منابرها وصواها.
إقبال يا شاعر النفس! أثرت خفاياها، وأظهرت خباياها، وأبنت ما في (خودى) من كهرباء، فيها القوة والنار والضياء. ودعوت إلى إثارة معادنها، واستخراج دفائنها وقلت.
بركش إين نغمه كه سر ماية آب وكل تست ... أي زخود رفته تهي شوز نراي ديكران
إقبال يا شاعر (بيخودى) أوضحت كيف يكون الإيثار، وكيف ينظم الفرد في الجماعة.
إقبال يا شاعر الحرية! أشدت بذكرها، وأكبرت نعمتها، ودعوت إليها كاملة، وأردتها شاملة، وأبغضت العبودية في شتى مظاهرها، ومختلف صورها.
إقبال يا شاعر الجهاد والدأب، والكفاح والنصب، قلت إن الحياة جهاد مستمر، وكفاح لا يفتر، وإن الحياة في الموج الهائل، والموت في سكون الساحل.
إقبال يا شاعر التجديد والتقدم، قلت إن الحياة حركة متجددة تكره التكرار، وإقدام دائم يأبى التقهقر، ودعوت الإنسان أن يمضي قدماً في الحياة مبتكراً مقدماً، له كل حين فكرة. وفي كل ساعة نغمة، وبينت أن التقدم والابتكار، هما فرق ما بين العبيد والأحرار.
إقبال يا شاعر الجمال! صورته في الأرض والسماء، واليبس والماء، وفي الصحاري الجرداء، والحدائق الغناء، وفي الصبح والمساء، والضياء والظلماء، وصورته في كل خلق كريم، وفي كل نزعة سامية.
إقبال يا شاعر الجلال! جلوت عظمته في الخالق والخليقة وفي الهمم العالية، والعزائم الماضية، والآمال الكبيرة. والمقاصد البعيدة.
إقبال! أيها الشاعر الملهم. بانت لك الأسرار، ورفعت عن الغيب الأستار فرأيت الباطن(763/13)
كالظاهر. وأدركت المستقبل كالحاضر.
إقبال يا شاعر الإسلام! ويا شاعر الشرق، ويا شاعر الحياة، ويا شاعر الإنسانية، ويا شاعر الحرية والجهاد، والتجديد والتقدم والإقدام، ويا شاعر الجمال والجلال.
لقد حييتك على بعد الديار وشط المزار، وأشدت بذكرك، وعرفت بفضلك، وأهديت إليك منظومة اللمعات جواباً لكتابيك وموزخودى وأسرار بيخودى.
وأنا اليوم أحييك على القرب، وسيان في عظمتك القريب والبعيد. إن هذا الضياء لا يعترف بالمسافات. ولا تبعد عليه الغايات إن هذا الفكر الذي يطوي الآفاق، ويخترق السبع الطباق، لا تختلف عنده الأرجاء، فالقريب والنائي لده سواء. كان من أماني أن أزورك في حياتي؛ ثم تمنيت أن أزور ضريحك بعد مماتك. وهأنذا أشرف بأن ألقي أمامك هذه الكلمات، وأودع ضريحك هذه الزهرات.
عربي يهدي لروضك زهراً ... ذا فخار بروضه واعتزاز
كلمات تضمنت كل معنى ... من ديار الإسلام في إيجاز
بلسان القرآن خطت ففيها ... نفحات التنزيل والإعجاز
فاقبلنها على ضآلة قدري ... فهي في الحق (أرمقان) الحجاز
لقد ضمنت آثارك لك الخلود في هذه الدنيا، وعند الله جزاؤك في العقبى جزاء المجاهدين المخلصين.
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.
عبد الوهاب عزام(763/14)
2 - الفتنة الكبرى
للأستاذ محمود محمد شاكر
وإذن، فقد أراد الدكتور طه أن يقول إن الفتنة الكبرى التي أفضت إلى قتل عثمان إنما هي (فتنة عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء في ص109 فمن أجل تحقيق هذه الكلمة الكبيرة ركب كل مركب في تصوير الحياة الإسلامية الأولى بعد الفتوح بالصورة التي تنتهي به إلى هذا الغرض وحده دون سواه، وهو الغنى والمال والسلطان، وتزاحُ الأغنياء على الغنى والمال والسلطان، وحسد العامة العربية لأصحاب الغنى والمال والسلطان. وأنا - كما قلت آنفاً - لن أحاول أن أنقض هذه الصورة، ولن أعمل عملاً في الرد عليها إلا بمقدار ما ينبغي في سياق التحقيق التاريخي لناحية من نواحي هذه الفتنة. ولكن الدكتور كشف عن هدف آخر حين جاء معرض هذه الفتنة، فنفى خبر عبد الله بن سبأ اليهودي، وخبر الكتاب الذي كتب في الأمر بقتل رؤوس وفد مصر. وهذا الهدف هو أن ينفي عن اليهود الشركة في دم عثمان، والتحريض على قتل الإمام، فركب مركباً وعراً خالف فيه أسلوب العلماء في جرح الأخبار، وكذّب الرواة في شئ بغير برهان، وصدقهم في شئ آخر بغير برهان أيضاً، وهو نفسه ينعى في كتابه على (الذين يكذبون الأخبار التي نقلت إلينا ما كان بين الناس من فتنة واختلاف) فقال في ص172: (فنحن إن فعلنا ذلك لم نزد على أن نكذب التاريخ الإسلامي كله منذ بعث النبي، لأن الذين رووا أخبار هذه الفتن، هم أنفسهم الذين رووا أخبار الفتح وأخبار المغازي وسيرة النبي والخلفاء. فما ينبغي أن نصدقهم حين يروون ما لا يعجبنا. وما ينبغي أن نصدق بعض التاريخ ونكذب بعضه الآخر؛ لا لشيء إلا لأن بعضه يرضينا وبعضه يؤذينا). بيد أن الدكتور طه نفسه، قائل هذا الكلام، قد فعل ذلك فكذبهم حين روى الرواة ما لا يعجبه، وحين رووا ما يؤذيه. وفعل ذلك أيضاً فصدقهم حين رووا ما يروقه، وحين رووا ما يرضيه. فإن الذين رووا أخبار الغنى والمال والسلطان، هم الذين رووا أخبار عبد الله بن سبأ اليهودي وأخبار الكتاب الآمر بقتل وفد مصر، فلم أخذ شيئاً بغير برهان، ونفى أخاه بغير برهان؟
والشيء البين هو أن الدكتور الجليل أراد كما قال في ص134 أن يكبر المسلمين في صدر(763/15)
الإسلام (عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً، وكانت أمه سوداء، وكان هو يهودياً ثم أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً). وهذا قصد حسن ونية جميلة، ولكن الحق أحسن منها وأجمل. وليس يجمل بنا ولا بالدكتور طه أن يغالط في الحق لشيء يراه هو أو نراه نحن حسناً جميلاً. والتاريخ لا يكتب بالتحكم، وإنما يكتب بالرواية، ثم بالاستدلال، ثم يبذل الجهد في سد الفجوات، وسبيل ذلك أن تأخذ من الماضي أسباباً وعللاً وحوادث ذات خطر، فإن استقامت أن تمتد معك إلى الحاضر الذي تؤرخه، فهي حقيقة بأن تكون شيئاً من التاريخ يوشك أن يكون حقاً كله أو بعضه.
ولست أحب أن أعلم الدكتور طه، ولكني سأضع بين يديه حقائق لا يدخلها الريب أبداً، ثم أسأله أن ينظر فيها، وأن يحكم هو بيني وبينه. وسأختصر القول اختصاراً، فإن أكثر مادة هذا الحديث مما لا أظن بالدكتور أن يجهله أو يغفل عنه.
فلنعد إلى حديث قديم كان قبل البعثة بقليل، وكان شديد الخطر في تاريخ العرب، وكان يوشك أن ينتهي إلى حديث جليل في تاريخ مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان يسكن هذه البلدة الكريمة بنو أم واحدة وأب واحد من قبائل الأزد بن الغوث: أمهما قيلة، وأبوهما حارثة بن ثعلبة، وهؤلاء هم لأوس والخزرج، وكان يعيش بينهم هذا الجيل من اليهود الذي سكن جزيرة العرب، أو سكن المدينة، فكان من خبر ذلك شئ لم يكن مثله مثلاً بين بني هاشم وبني أمية، وهو الحرب المتطاولة بين هذين الحيين الذين ولدتهما أم واحدة، ويسكنان معاً بلدة واحدة. وظل هذا القتال بين الحيين متجدد النيران إلى أن كان (يوم بُعاث) وهو كما قال ابن سعد ج3 قسم2 ص135: (آخر وقعة كانت بين الأوس والخزرج في الحروب التي كانت بينهم. . . وكانت هذه الوقعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قد تنبأ ودعا إلى الإسلام، ثم هاجر بعدها بست سنين إلى المدينة).
ونشأة هذه العداوة العجيبة بين الأخوين: الأوس والخزرج، واقتتالهما هذا القتال المر العنيف حقباً متطاولة، ودخل اليهود في الحلف، بعضهم مع الأوس وبعضهم مع الخزرج، لا يصيبهم من أذى القتال بين هذين الحيين الأخوين إلا القليل، وتداعيهم باسم اليهودية إذا حزب الأمر، فيكونون يداً واحدة على هذه العرب، ليس له معنى إلا أن تكون هذه اليهود(763/16)
هي التي أرّثت الحرب والعداوة بينهما لتؤثّل في هذه الأرض أموالاً وآطاماً وحصوناً تكون لها عدة وقوة، وتظهرها على أهل البلاد المالكين لها، وتصرف وجه هؤلاء القوم عن الزراعة والتجارة وتثمير الأموال بالربا ومآكل السحت. وهذا عمل يهود في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل زمان إلى يوم الناس هذا.
ثم لا يلبث أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً من الخزرج عند العقبة، وكانت يهود كما قال ابن إسحاق، قد عَزُّوهم ببلادهم، أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، فلما دعاهم رسول الله إلى الإسلام قالوا له: (إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك). فيؤلف الله قلوب الأوس والخزرج، وهما الأخوان، على الإسلام فيفشو بينهما فُشواً ظاهراً. ولا يلبث رسول الله أن يهاجر إلى المدينة، فلا يبقى حي من الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام وظهر فيه. فيمر شأس بن قيس من يهود بني قينقاع - وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، فيغيظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم من العداوة في الجاهلية، فيقول: (قد اجتمع ملأ بني قيلة (يعني الأوس والخزرج) بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار). فيأمر فتى شاباً من يهود أن يجلس إليهم فيذكر (يوم بعاث) وما كان قبله، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فيفعل هذا اليهودي، فإذا الجماعة المؤتلفة على الإسلام تتنازع وتتفاخر، فيتواثب رجلان من الأوس والخزرج، فيقول أحدهما لصاحبه: (إن شئتم رددناها الآن جَذَعة)، ويغضب الفريقان جميعاً ويقولون: (قد فعلنا، موعدكم الظاهرة (يعنون مكاناً بعينه)) ويتداعون: (السلاحَ السلاحَ). ويخرجون إلى موعدهم، فيبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فيخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى إذا جاءهم قال: (يا معشر المسلمين! الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم؟) فيعرف الأنصار، أوسهم وخزرجهم، أنها نزعة من الشيطان وكيد من (عدوهم)، فيبكون ويتعانقون، ثم ينصرفون مع رسول الله سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله(763/17)
شأس بن قيس اليهودي. (عن ابن إسحاق وغيره).
وأنا ألست أروي لك هذا إلا لتقف على كيد يهود كيف كان؟ ولتعرف كيف كان ترفقهم إلى إثارة العداوة بين هذين الحيّين منذ قديم؟ ولتنظر لم كانوا يحبون أن تظل هذه العداوة حية متوقدة ليأكلوا من ثمراتها مالاً وغلبة وسلطاناً على العرب؟ ولتقارن هذا كله بما لا يزال يجري إلى أيامنا هذه على يد هذه الشرذمة الخبيثة من بني إسرائيل!
ثم ينزل الله جلت أسماؤه في أمر هذه الفتنة يخاطب المسلمين الذين كان رسول الله بين أظهرهم، لم يمُت بعد: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتابَ يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آياتُ الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم).
وإذن، فنحن لا نستطيع أن نكبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج عن أن يطيعوا فريقاً من اليهود حتى كادوا يردونهم بعد إيمانهم كافرين، ولا أن ننزههم عن ذلك وهم تتلى عليهم آيات الله وفيهم رسوله! كما فعل الدكتور طه حين أراد أن ينزه أهل الصدر الأول من الإسلام في سنة 53 من الهجرة بعد أن قبض الله إليه نبيه بأكثر من عشرين سنة، وبعد أن نشأت ناشئة من الشباب لا يدَّعي أحد أنهم جميعاً كانوا أحرص على إيمانهم من أصحاب محمد وأنصاره الأولين. وهذا خبر واحد رويته، فإن شئت أن أروي الأخبار كلها لما وسعني كتاب أشرح فيه أمر هذه الفتن التي أرّثتها اليهود في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسعني أن أنص على كل آيات كتاب الله التي نزلت في أخبار هذه الفتن. وحسبي أن أذكر من نسي أن أخبار المنافقين والآيات التي نزلت فيه، كانت كلها في المدينة لا في مكة، وأن ذلك دليل على النفاق كان حيث تكون يهود، وأن (الأعراب) لم يذكروا إلا في السور المدنية مقروناً بالنفاق والمنافقين، وأن قول الله تعالى في سورة راءة (الأعرابُ أشد كُفراً ونفاقاً) نزلت في بني أسد وغطفان، وهم كانوا حلفاء يهود في الجاهلية وفي زمان الإسلام. وهذا شئ أرجو أن يتذكره الدكتور حتى نعود إليه.
ولم يكن كل هذا المكر والكيد والإيقاع عملاً جاء عفو الخاطر من اليهود. ولا كان مأتاه من إساءة لحقتهم من حلفائهم الأوس والخزرج من المؤمنين غير المنافقين، بل هو شر انطوت(763/18)
عليه يهود لا يزايلهم ولو أحسن المسلمون إليهم، وهو حقد وضغينة وكفر وعدوان على أهل هذا الدين، وهم كما وصفهم الله أشد الناس عداوة للذين آمنوا بمحمد صلوات الله عليه. ودليل ذلك أن رجالاً كثيراً من الأوس والخزرج كانوا يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فكانوا يصافونهم المودة بهذه الأسباب، ويستنصحونهم في أمورهم دون أن يشكوا فيهم أو يتوجسوا منهم خيفة. فأنزل الله في محكم كتابه ينهاهم عن فعل ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونَكم خبالاً ودُّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أؤلاءِ تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، قُل موتوا بغيظكم إنَّ الله عليم بذات الصدور). وهؤلاء (الذين قالوا آمنا) هم الذين نزلت فيهم الآية السابقة قبل هذه في سورة آل عمران: (وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون).
وهذه الآية وسبب نزولها يدل دلالة صريحة على أن أهل الإسلام الأول، كانوا لا يزالون يعدون الحلف بينهم وبين يهود حلفاً صادقاً لا غش فيه، وأن يهود كانت تظهر المودة وتخفي أشد العداوة وأشد الغيظ على هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يتخافتون بهذه العداوة، وأنهم كانوا يخدعون هؤلاء المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، حتى إذا صدّقهم بعض المؤمنين عادوا فأظهروا الكفر ليفتنوهم ويخدعوهم عن دينهم. فإذا صح هذا، وهو صحيح، ورسول الله بين أظهرهم، فهو أحق بالصحة في سنة 53 من الهجرة، لا نكبر أهل الصدر الأول من الإسلام أن يقعوا في مثله وفي أشد منه.
ويستطيع الدكتور طه، ويستطيع كل من أطاق القراءة، أن يقرأ كتب السير والمغازي منذ هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة، إلى يوم دعاه ربه إلى الرفيق الأعلى، فسيجد أنه لا تكاد تنتهي وقعة بدر الكبرى بالنصر الأعظم لجند الله حتى يسلم رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول وجماعته من المنافقين، وكانوا أعوان يهود، ومن يومئذ ينفجر النفاق ويستشري خطره، حتى تنزل فيه الآيات الكثيرة، وحتى يطلع الله ورسوله على خبايا نفوسهم وعلى أعيانهم. ومن يومئذ يجاهر بعض اليهود بنقض العهد الذي كتبه رسول الله(763/19)
بينه وبينهم عند مقدمه إلى المدينة، فيكون مقتل اليهودي أبي عَفَك، ثم تكون غزوة يهود بني قينقاع، ثم استعانة أبي سفيان بن حرب بيهود بني النضير ينقلون إليه أخبار نبي الله. ثم يكون ما كان يوم أحد من خروج عبد الله ابن أبي ابن سلول المنافق مع رسول الله حتى إذا بلغ رسول الله أحُداً انخزل ابن أبي في كتيبة أشياعه وهو يقول: (أيعصيني ويطيع الولدان؟)، ثم يهزم المسلمون، فإذا عادوا إلى المدينة شمت بهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه المنافقون، وأظهرت يهود القول السيئ يقولون: ما محمد إلا طالب ملك! ما أصيب هكذا نبي قط! أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه: ثم لا تمضي خمسة أشهر حتى يحاول يهود بني النضير قتل رسول لله غدراً حين جاء منازلهم، فأتمروا أن يطرحوا عليه صخرة من فوق البيت الذي هو تحته، فجاءه الوحي بما هموا به. ثم يخرج أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي بعد أشهر إلى (غطفان) ومن حولهم من مشركي العرب، يغريهم بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم. . .
ولا تزال تمضي من حدث إلى حدث، ومن غدر إلى غدر، ومن نفاق إلى نفاق، واليهود رأس ذلك كله، والعاملون عليه، والموغلون فيه، إلى أن تنتهي إلى خبر اليهودية التي وضعت السم في الشاة ودعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيير، فأكل من شاتها ثم نبئ أنها مسمومة فلفظها.
فما معنى هذا كله؟ معناه أن اليهود لم يفتر لهم لسان ولا يد ولا غش ولا غدر ولا خديعة ولا ضغن منذ ظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الشحناء لم تكن عن إساءة لحقتهم من الذين آمنوا بل كانت عصبية يهودية محضاً، وخليقة مركبة في طباع هذا الجنس من البشر، وأن النفاق كان طرفاً من دسائسهم ومتنفساً لأضغانهم على أهل هذا الدين، وأن الله قد وصفهم وصف الحق إذ يقول تباركت أسماؤه: (لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون. لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن(763/20)
منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون)
وهذه الصفة التي وصفهم الله تعالى بها، لم تنقطع ولن تنقطع ما بقي على الأرض مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وسترى في الكلمة الآتية كيف استطاع اليهود أن يفسدوا على المسلمين أموراً كثيرة، وأن يثيروا فتنة كادت تذهب بالإسلام كله لولا أن الله قد وعد عباده أن يظهر هذا الدين كله ولو كره الكافرون.
محمود محمد شاكر(763/21)
إسعاف النشاشيبي
للأستاذ أحمد لطفي السيد
اختار الله لجواره في الأسبوع الماضي الكاتب الشهير إسعاف النشاشيبي زعيم الأسرة المعروفة في فلسطين منذ القرن التاسع الهجري إلى اليوم.
ارتقى - رحمه الله - إلى أعظم المناصب الحكومية في عهد الحكومتين العثمانية والحاضرة - بجده واجتهاده، فكان المفتش الأول للغة العربية في فلسطين - نظم المدارس وأصلح التعليم في هذا القطر الشقي - ونشر علم العربية عالياً تشهد بذلك مؤلفاته ومقالاته الذائعة الصيت في العالم العربي - وقد كان السيد إسعاف بك شديد الحنين لوطن أسرته الأول مصر - فكان يزورها كلما سنحت الفرصة - وهو فوق ذلك يؤلف فيها الكتب - ويحيي علماءها وشعراءها وزعماءها - ويتعرف إلى أحيائها وأمواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً - وحادثة وقوفه بين يدي المغفور له سعد باشا معروفة مشهورة.
ونحن بهذه المناسبة نكشف لقراء الرسالة الغراء عن أصل هذه الأسرة المصرية الكريمة حتى تقر عين الصديق الراحل بكلمة وفاء صغيرة من أحد أبنائه المعترفين بفضله. . . يتصل أول هذه الأسرة بالشيخ المعتقد أحمد بن رجب النشاشيبي - سمي بذلك لأن أجداده كانوا يحترفون صناعة النشاب - وكان الشيخ أحمد المذكور من رجال السلطان الملك الظاهر جقمق - كان خازنداره الخاص في أيام إمارته الأولى في فجر القرن التاسع الهجري - وتوفي الشيخ أحمد المذكور على عهد المؤرخ الشهير ابن تغري بردى صاحب كتاب النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة وقد وصفه بقوله: (الشيخ المعتقد أحمد بن النشاشيبي كان خيراً يحب العلماء الصالحين) وترك ابنه الأمير ناصر الدين محمد وهو غرة هذا البيت وواسطة هذا العقد وطراز هذه الحلية ولد في مصر سنة 821هـ وبها نشأ وحفظ القرآن الكريم في صغره وجوده على أشهر علماء عصره ثم اتصل كأبيه بخدمة الملك الظاهر جقمق. وفي سنة 875 اختاره الملك الأشرف قايتباي لوظيفة ناظر الحرمين الشريفين (القدس والخليل) فدام في هذه الوظيفة ما يقرب من الثمانية عشر عاماً، كانت كلها خيراً وبركة على القدس والخليل وأهلهما. وقد فصل العليمي في كتابه تاريخ القدس وأخليل حكم هذا الأمير لتلك البلاد فقال كانت أيامه كلها مواسم. . . وناهيك بهذه الشهادة(763/22)
من شاهد عيان.
وحتى يكون القارئ على بينة من سر حنين المرحوم إسعاف بك لوطن أسرته الأول مصر نفصل له قليلاً من أخبار الأمير ناصر الدين في القدس وكيف استقرت فيها هذه الأسرة المصرية الكريمة منذ خمسة قرون إلى الآن. . . قال العليمي في حوادث 873هـ كثرت الفتن في القدس بين نائب السلطنة (حاكم القدس) دمرداش وناظر الحرمين الشريفين (القدس والخليل) برد بك التاجي واشتد الخلاف بينهما وكثر القيل والقال فأدى الحال إلى انفصال الأخير عن نظر الحرمين الشريفين وعين السلطان قايتباي الأمير ناصر الدين بن النشاشيبي أحد الخازندارية بالخدمة الشريفة (أحد رجال الديوان العالي كما هو متعارف اليوم) للكشف عن أوقاف الحرمين الشريفين بالقدس والخليل وتحرير أمرهما وإصلاح ما فسد من نظامهما فحضر إلى القدس وأصلح ما فسد من أيام برد برك التاجي وعصر المسجد الأقصى وصرف المعاليم (المرتبات) واستبشر الناس بالخير وعد ذلك من بركة الأمير ناصر الدين ثم توجه إلى مصر في آخر سنة 874هـ وفي سنة 875 استقر الأمير المذكور في نظر الحرمين الشريفين ودخل إلى القدس في يوم مشهود وشرع في عمارة الأوقاف بهمة وشهامة وحصل للأراضي المقدسة الجمال بوجوده وكان يكثر من مجالسة العلماء والفقهاء ويحسن إليهم بالبشر والقبول. وفي سنة 877هـ وفي هذه السنة خلع عليه السلطان قايتباي وعلى القاضي شهاب الدين بن عبيسه ووهبهما ألف دينار وحضر الاثنان إلى القدس وعليهما خلعة السلطان فكان يوماً مشهوداً. . .
وفي سنة 892هـ اشتد الغلاء بالقدس والخليل وساءت سيرة نائب السلطان خضر بك وكان يناصره قاضي المالكية شرف الدين بن يحيى المغربي فكثرت الشكاوى في حقهما فعزل الأمير ناصر الدين القاضي بناء على أمر جاءه من القاهرة فلما كانت سنة 893هـ توجه خضر بك نائب السلطنة والأمير ناصر الدين ناظر الحرمين الشريفين إلى القاهرة ومثل كلاهما بين يدي السلطان فعزز السلطان خضر بك وأمر بعزله والتمس الأمير ناصر من السلطان إعفاءه. . . من الخدمة فتوقف السلطان ولكن الأمير ناصر الدين ألح في طلب الاستعفاء فأعفاه السلطان من الخدمة كارهاً لنزاهته وعفته واستقامته.
قال شيخ العليمي ودخلت سنة 892 والوظيفتان شاغرتان النيابة والنظر قال ثم عين(763/23)
السلطان دقاق في نظر الحرمين فكان بعكس سلفه ظالماً فاجراً.
قال السخاوي في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع كان الأمير ناصر الدين بن النشاشيبي من أهل الخير والصلاح حفظ القرآن الكريم وهو صغير وجوده على ابن كوزلبنا والزين طاهر وآخرين وبعد أن ذكر خدماته في القدس والخليل قال وصرفه السلطان قايتباي بدقماق. والعليمي يؤكد أن النشاشيبي هو الذي استعفى من تلقاء نفسه وأن السلطان ألح عليه في البقاء في نظير الحرمين فرفض الخ وصاحب الدار أدرى.
ولم ينس الأمير ناصر الدين تلك البلاد التي صرف فيها زهرة العمر فرجع إلى القدس وتائل الدور والقصور والحقول والبساتين وانتهت الأسرة كلها بالانتقال من مصر إليها منذ القرن التاسع إلى الآن. . .
وبعد فهذه لمعة صغيرة عن أصل هذا الأمير الشهير والكاتب النحرير والحجة الثبت واللغوي الضليع عظيم القدس والخليل البلد المعلوم وموطن القبر الموهوم الذي من أجله تقاتل الأخوان كأنهما وحشان قروناً وأجيالاً حتى اصطبغت الأراضي المقدسة بالدماء فشربتها شرب الهيم ولم يغن فيها دعاء إبراهيم وهي اليوم كما كانت بالأمس وا أسفا والفرق في الاسم فقط فتلك حروب صليبية وهذه حروب صهيونية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أحمد لطفي السيد(763/24)
طرائف من العصر المملوكي:
ابن حجر الأديب
للأستاذ محمود رزق سليم
أعني بابن حجر هنا، شهاب الدين أبا الفضل أحمد العسقلاني المصري. المنسوب إلى عسقلان من بلاد الشام، والمولود بمصر - الفسطاط - والذي عاش بين سنتي 773هـ، 852هـ. فإن هناك ابن حجر آخر، وهو الهيثمي من علماء العصر العثماني.
أما ابن حجر العسقلاني فهو أشهر من أن يشار إليه، وأجل من أن تكتب عنه عجالة، وأحرى أن تؤلف فيه رسالة مسهبة فياضة تنم عن علمه وتحدث عن فضله. فإن آفاق علمه واسعة، وفجاج فضله رحيبة. وهو في الجبهة الأولى بين علماء العصر المملوكي. وفي الصف الأول بين نابغيه، وممن نبه العصر بنباهته، وسما بسمو مكانته.
أخذ العم على أئمة زمانه كالزين العراقي، والسراج البلقيني، وابن الملقن والإيناسي، والعز بن جماعة، والمجد الفيروزابادي، والعماري والبدر البشتيكي - وطوف في آفاق مصر، وربوع الشام، وجال في نواحي حلب، وحج إلى بلاد الحجاز، وزار اليمن، فأفاده التجوال علماً غزيراً وأدباً جماً وخبرة صائبة ومعرفة سديدة.
وفره في العلم حتى تصدر للإفتاء وقعد للتدريس وعكف على التأليف. ووكلت إليه مناصب عدة من مناصب الدولة من بينها قضاء الشافعية، فنبه فيها شأنه بكفايته ومهابته. فعظم في عيون أهل جيله وعلى رأسهم السلطان الملك المؤيد المشهور، الذي كان ابن حجر في مقدمة هيئة التدريس فيه.
لم يقتصر بروز ابن حجر على مادة علمية واحدة بل تجاوزها إلى غيرها. فقد أغرم بالحديث النبوي الشريف فتلقاه عن حفاظه. وظل يجمعه ويحفظه حتى غدا أحفظ أهل زمانه. وعني بالتأليف فيه وفي تاريخ رجاله، فوضع كتباً عدة منها كتابه المشهور (فتح الباري) الذي شرح فيه صحيح البخاري، وقدمه بمقدمة جليلة سماها (هدى الساري). قال بعضهم (لو وقف عليه ابن خلدون القائل بأن شرح البخاري إلى الآن دين على هذه الأمة، لقرت عينه بالوفاء والاستيفاء). وقال عنه السخاوي في الضوء (إن هذا الكتاب لم يسبق نظيره وكان أمراً عجباً). والحق أنه كان فتحاً مبيناً في تاريخ شرح الحديث - ولابن حجر(763/25)
عشرات الرسائل في الحديث ورجاله ومصطلحه.
ودرس ابن حجر فقه الشافعي حتى نبغ فيه وأصبح رأساً بين فقهائه، واختير لذلك قاضياً لقضاة الشافعية وظل بين تعيين وعزل قرابة إحدى وعشرين سنة، بعفة وجدارة.
وأقبل على التاريخ وعلى التأليف فيه حتى كون بعض مؤلفاته حلقة هامة من حلقات تلك السلسلة الفريدة من كتب التاريخ التي صنفها مؤرخو مصر في تاريخها وتاريخ رجالها. ومنها (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة).
وتخرج به طائفة من الفضلاء ومنهم تلميذه الأثير شمس الدين السخاوي صاحب (الضوء اللامع) ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري. وهكذا جمع ابن حجر الفضل من أقطاره، والمكارم من آفاقها. وإذا ذهبنا نعد مؤلفاته وأعماله وننوه بخطرها وجلال قدرها ضاق المقام وأعيا الكلام.
وما بنا من رغبة هنا إلا أن نعرض لميزة من مميزاته قد يكون انتابها شئ من الخفاء، فاحتجب خبرها وتمنع ذكرها، وتلك هي أدبه.
لقد كان ابن حجر أديباً له نفسية الأديب وحساسيته، وله عاطفته وشعوره، وله تأثره وإنتاجه. . . ولكنه انساق بدافع من روح عصره إلى طلب الحديث ودراسة الفقه وعلوم الدين، فبرز في ذلك كله بروزاً تطامن أمامه بروزه في فنون الأدب.
لقد كان بالعصر تجهم للأدب وانصراف عن الأدباء. ولولا ثقة انبثت في نفوس الأدباء بأدبهم، وولوع شاع فيهم بفنهم، لتجهموا للأدب في المتجهمين، ولانصرفوا عنه مع المنصرفين. ولقد كان ابن حجر من هؤلاء الأدباء. . . ولكن كانت به إلى جوار ذلك نزعة طاغية إلى المجادة، ورغبة جامحة إلى معالي الأمور؛ وشعر حينذاك أن الأدب لا يبل أوام أديب ولا يؤدم لقمته، فضلاً عن أن يسدل عليه أردية المجد ضافية، ويرخي فوقه أثواب الجاه سابغة، فإذا ركن إلى الأدب وحده اعتاص عليه السبيل إلى المجد وانسد أمامه الطريق إلى الجاه. لذلك عدل ابن حجر من الأدب إلى غيره، وطلب المجد من باب غير بابه. فحفظ الحديث ودرس الفقه. . .
شعر ابن حجر وهو في حداثة سنه بميله الفطري إلى الأدب، فعكف على دراسته ومعالجته، ونظم الشعر حتى بلغ في نظمه مبلغاً محموداً. ثم تفتحت فيه زهرات الآمال،(763/26)
وقوى حب المجد في نفسه، ورأى للبارزين من علماء الدين وفقهاء المذاهب في عصره منازل دونها منازل الأدباء والشعراء، فاشرأبت عنقه إلى منزلة من منازلهم، ورجا أن يكون في آتي أيامه واحداً منهم، لذلك سلك طريقهم ونهج نهجهم، وعدل عن الأدب فحفظ الحديث ودرس الفقه. . . ورأى أن يستغل فيهما ذكاءه ومواهبه. فكان له ما أراد.
ولكن هل أزال هذا النهج الجديد نزعة الأدب من نفسه، كلا! بل ظلت كامنة فيها كمون العطر في زهرته، متربصة تربص اللحن في وتره. فإذا مرت عليها نسمة وانية رفيقة استجابت لها فمطرت الأرجاء بأرجها: أو هزتها يد حانية رقيقة لبتها فأطربت النفوس بنغمها. وهيهات هيهات أن تصدأ نفس الأديب الموهوب.
وبعد، فأين نجد أدبه ومظاهره؟ نجد ذلك في كتابته وخطبه وفي شعره.
وحقاً إذا أنت قرأت في مؤلفاته رأيت أسلوبه الكتابي علمياً فيه من مصطلحات العلم لفظها وأسلوبها كما أنه يغلب عليه في كتب التاريخ سرد حديثه وقص تراجمه في غير تأنق. غير أنك يصادفك كثيراً في تضاعيف هذه التراجموغيرها سطور من الأدب الخالص يعود إليه فيها طبع الأديب فيتأنق، ويتخير اللفظ ويحسن في الأسلوب وتبدو عليه سيما عصره من مراعاة البديع، ولكن في غير إغراق ولا استكراه.
وقد كان ابن حجر خطيباً دينياً يعظ الناس فوق المنابر وغيرها، وولي خطابة جوامع عدة منها الجامع الأزهر وجامع عمرو.
ولعل شعره أوضح مظاهر أدبه. وقد كان يظن أن شعره هذا سيتأثر بالاتجاه العلمي البحت الذي اتجهه، فيسمج ويتخاذل وينوء بالمصطلحات. ولكن الحق أنه بقي له شئ كثير من طرب الأديب وأنسه وإيناسه ومرحه ودعابته. وقل أن مرت به مناسبة من مناسبات الأدباء لم يدل عندها بدلوه في الدلاء. فمدح وهنأ وتغزل وشكا ورثى وعاتب وتشوق وحن، ووصف، ونظم في المديح النبوي وألغز وحاجى وتفكه وراسل وساجل ودبج القصائد الطوال، وقطع المقطعات الصغار. وأولع في رفق وكياسة ولطف وسياسة بما أولع به أدباء عصره ممن شغفوا بتعاليم القاضي الفاضل أو تخرجوا في مدرسة ابن نباتة، فورى وضمن واقتبس وطابق وجانس. إلى غير ذلك.
وفضلاً عن ان شعر ابن حجر قد انتثر في بعض مؤلفات ابن حجة الحموي كخزانة(763/27)
الأدب، وترى منه طرفاً في حسن المحاضرة للسيوطي، فإن له ديوان شعر مخطوطاً، لما يطبع - كما نعتقد -
قال جميل العظم إن ديوان شعر ابن حجر اسمه (الدرر). وقيل في فهرس دار الكتب إن صاحب كشف الظنون قال (إن لابن حجر ديوان شعر كبيراً انتخب منه قطعة ورتبها على سبعة أبواب وسماها (السبعة السيارة النيرات) وهي ديوانه الصغير) ثم قيل في الفهرس (لعل هذا الأخير هو الذي بأيدينا). ويؤيد كلام الفهرس خطبة هذا الديوان التي كتبها ابن حجر في مقدمته فهي ناطقة بأن ما في هذا الديوان جزء من شعره لا شعره كله.
شعر الديوان إذن، جملة مختارة من الديوان الكبير. وقد جمع فيه ابن حجر بعض شعره المبكر إلى بعض من شعره المتأخر. ومن محاسنه ذكر تاريخ بعض القصائد بالسنة واليوم، وذكر أسماء ممن وجهت إليهم من ملوك أو إخوان، فمنهم الملك الأشرف إسماعيل صاحب اليمن، وعبد العزيز صاحب تونس، والعباس ابن محمد الخليفة العباسي بمصر، مدحه ابن حجر بقصيدة بارعة لما ولي السلطنة المصرية عام 815هـ، قال في مطلعها:
الملك أصبح ثابت الأساس ... بالمستعين العادل العباسي
رجعت مكانة آل عم المصطفى ... لمحلها من بعد طول تناسي
وقد قسم ابن حجر ديوانه المذكور إلى سبعة أبواب. فافتتحه بالنبويات ثم الملوكيات - أي المدائح - ثم الإخوانيات ثم الغزليات ثم الأغراض المختلفة ثم الموشحات ثم المقاطيع.
أما نبوياته فلم يأت فيها بجديد وهي على نمط ممن جاء في بردة البوصيري من ذكر ما عرف من سيرة النبي عليه السلام كالمولد والمعجزات والإسراء والمعراج إلى غير ذلك. ومنها قوله عن النبي عليه السلام:
هو رحمة للناس مهداة فيا ... ويح المعاند إنه لا يرحم
نال الأمان المؤمنون به إذا ... شبت وقوداً بالطغاة جهنم
الله أيده فليس من الهوى ... في أمره أو نهيه يتكلم
فليحذر المرء المخالف أمره ... من فتنة أو من عذاب يؤلم
أما مدائحه الأخرى وهي ما سماه (الملوكيات) فأجمل أبياتها ما بدا في صدرها من غزل. وكذلك كان دأب ابن حجر في أغلب قصائده حتى النبويات يبدأها بأبيات غزلية على سنة(763/28)
القدامى. ولكنها رقيقة لطيفة تنم عن عاطفة جميلة وشعور صادق. وبمناسبة الغزل نذكر أن بعض علماء العصر وفقهائه ممن نظموا الشعر، تغزلوا ووصفوا المؤنث والمذكر، وصرح بعضهم بأن هذا كان منهم على سبيل تمرين القريحة. وما هو إلا حب التقليد أو حب الظهور دفعاهم إلى شعر الغزل. وما كانت بهم من حاجة إلى الاعتذار أو التنصل، فكثير من شعرهم بدا متكلفاً ممجوجاً مستخذي العاطفة ضيق الحيلة ففضح نفسه بنفسه. ولكنا نشعر أن غزل ابن حجر ينم عن عاطفة جميلة وشعور صادق - كما ذكرنا - ولا نستطيع أن نقدم على هذه الدعوى دليلاً غير ما يفيض به غزله دون سائر شعره من رقة ولطف وسلاسة. قال في مطلع مدحة نبوية:
إن كنت تنكر حباً زادني كلفا ... حسبي الذي قد جرى من مدمعي وكفى
وإن شككت فسائل عاذلي شجني ... هل بت أشكو الهوى والبين والأسفا
أحبابنا ويد الأسقام قد عبثت ... بالجسم هل منكم بالوصال شفا
كدرت عيشاً تقضي في بعادكم ... وراق مني نسيب فيكم وصفا
ومنها:
وكنت أكتم حبي في الهوى زمناً ... حتى تكلم دمع العين فانكشفا
سألت قلبي عن صبري فأخبرني ... بأنه حين سرتم عني انصرفا
وقلت للطرف أين النوم بعدهم ... فقال: نومي وبحر الدمع قد نزفا
وهذه الأبيات أليق بباب الشكوى منها بباب الغزل، غير أن الشكوى هنا هي من صميم الغزل بل هي لبه وجوهره. وهي أدل على صدق العاطفة من الوصف الصريح. ومع هذا فاسمع قول ابن حجر من غزلية رقيقة:
طيف لمن يهوى ألما ... يطوي ذيول الليل لما
أهلاً به لو أن طر ... في للمنام يذوق طعما
حتام يا ريق الحبيـ ... ب أراك موروداً وأظما
وإلام يا قلب الكئيـ ... ب بأسهم الألحاظ ترمى
هلا صحوت من الغرا ... م فلم أراجع فيه عزما
وصبرت عمن لا يطا ... وع ما تشا نهباً وغرما. الخ(763/29)
وبعد فلعل القارئ معي يلحظ في هذا الشعر ما لحظته فيه من رقة ولطف. ويضيق المقام دون الحديث كما ينبغي وكما نشتهي عن شعر ابن حجر. وليس به ما يشوب إلا هنات قليلة شاعت في فرسان عصره كخطأ لغوي أو استعمال عامي.
وإذ آن لنا أن نختم هذه الموجزة، نذكر أن ابن حجر كان يتخذ حكماً في المباريات الأدبية، مما يدل على علو كعبه في ذوق الأدب وتمييزه. حكوا أن ابن نباتة المصري مدح الكمال ابن الزملكاني القاضي بتائية بارعة صدرها بغزل مليح، ومنه في مطلعها:
قضى وما قضيت منكم لبانات ... متيم عبثت فيه الصبابات
فعارضها كثير من الشعراء، ومنهم برهان الدين القيراطي، قال في مطلع قصيدته:
ما لابتداء صباباتي نهايات ... يا غاية ما لعشقي فيه غايات
ثم جاء ابن حجة الحموي من بعدهما فعارضهما بقصيدة أخرى قال في مطلعها:
لعجبه ولذيل الهجر شمرات ... وللقلوب من الأجفان كسرات
ثم احتكم ابن حجة في التائيات الثلاث إلى ابن حجر، فحكم له ابن حجر وفضله عليهما وسجل ذلك في مكاتبة أدبية طريفة قال في صدرها: (لله الأمر من قبل ومن بعد. الحكم بين النظراء إنما يحسن ممن يماثلهم فيما به يرتفع الحكم. وفي إقدام من لم يرتق إلى تلك الطبقة نوع من الظلم. ولا يرتاب لبيب في أن كلاً من الثلاثة رأس هذا الفن في ومانه، وأنه لا يوازنه أحد من أقرانه.
وثلاثة كثلاثة الراح استوى ... لك لونها ومذاقها وشميمها). الخ
وبعد فهذه أثارة من أدب ابن حجر نوهنا بها أملاً في أن تثير الرغبة في دراسته بتفصيل وروية.
(حلوان)
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(763/30)
للحقيقة والتاريخ:
حول الفتنة الكبرى
للدكتور شوقي ضيف
قرأت بعناية مقال الأستاذ الأديب محمود محمد شاكر بمجلة الرسالة في عددها 761 عن كتاب (الفتنة الكبرى أو عثمان) لأستاذنا الدكتور طه حسين. وقد رأيت الأستاذ صاحب المقال يقول في أوائل كلامه: (رميت بنفسي وعقلي في هذا الكتاب. . . فما كدت أفرغ حتى رأيت الكتاب كله يختلج بين يدي). وذهب الأستاذ يوضح أسباب ذلك فإذا هو يعود بها إلى خبرين أو روايتين نفاهما مؤلف الفتنة الكبرى.
وأقام الأستاذ شاكر الدنيا وأقعدها لأن المؤلف نفى هاتين الروايتين وما كان ينبغي له. وإن كتاباً يخرج عن عثمان وتنفى فيه هاتان الروايتان لخليق بأن يختلج، على الأقل، بين يدي الأستاذ شاكر!
أما الرواية الأولى، فهي أن مؤلف الفتنة الكبرى ينفي ما يروى من عمل لابن سبأ في فتنة عثمان. وأما الرواية الثانية، فهي أن المؤلف ينفي ما يروى من كتاب المصريين الثائرين الذي خرجوا به عن عثمان إلى واليه على مصر، فلما فضوه في بعض الطريق وجدوه يأمره أن يقتلهم، فرجعوا إلى عثمان وحاصروه حتى كان مقتله.
وإنكار الرواية الأولى هو الذي أثار ثائرة الأستاذ شاكر؛ فقد رأى مؤلف الفتنة الكبرى أن هذه الرواية لم تأت في الكتب التاريخية القديمة كلها، وأن المؤرخين المتأخرين توسعوا فيها، فشك فيما صارت إليه، بل شك أيضاً في أصلها، لأن ابن سبأ أسلم في عصر عثمان ومثله - وهو ليس من السابقين الأولين ولا من قريش ولا من الأنصار - لا يؤثر تأثيراً عميقاً في هذه الفتنة الكبرى التي انتهت بقتل الخليفة. وقد كان الإسلام لا يزال في دوره الأول، وما كان المسلمون الأولون ليثوروا على خليفة وراء يهودي أسلم حديثاً. وإن وصفهم بذلك ليحط من شأنهم؛ إذ يكونون أطفالاً أغراراً يتبعون هذا الناعق الذي يكيد للإسلام. والحق أن المسلمين ثاروا على عثمان لأسباب داخلية يفصلها مؤلف الفتنة الكبرى.
ومن المسلم به أن من حق المؤرخ أن ينفي بعض الروايات وأن يثبت الأخرى؛ معتمداً في(763/31)
ذلك على القرائن والأدلة المختلفة وقد رأى صاحب كتاب الفتنة الكبرى قصة ابن سبأ هذه أو ابن السوداء تروى في بعض الكتب التاريخية الموثقة ولا تروى في أخرى، بل رأى أن الكتب التي كانت أكثر اهتماماً من غيرها بفتنة عثمان لا تروي هذه القصة من مثل طبقات ابن سعد وأنساب الأشراف للبلاذري فازداد شكه في القصة وازداد اتهامه وخاصة وأنه رآها تكبر وتتضخم مع مر الزمن فقال: (إن هذه القصة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدراً لما كان من الاختلاف على عثمان).
وعلق على ذلك الأستاذ شاكر بأن الطبري كان أحد رواة هذه القصة، وقد ذكر مؤلف الفتنة الكبرى نفسه ذلك. وإذن فكلمة الرواة المتأخرين السابقة فيها إبهام شديد متعمد فيما يظهر. فإن الطبري ليس من الرواة المتأخرين، وقد روى القصة عن سيف بن عمر بشهادة المؤلف نفسه، وأظن أن كان ينبغي للأستاذ شاكر أن يلاحظ أن المؤلف لا ينفي عن بعض الرواة السابقين ذكر القصة، بل هو يثبت ذلك ويثبت بجانبه أن الرواة المتأخرين بالغوا في القصة أو على حد تعبيره أكبروا من شأنها وأسرفوا فيها.
وهذا كلام مستقيم، فقد أخذت القصة تطول وتتسع في البيئات الشيعية وعند خصومهم كلما تقدم الزمن حتى أصبحت أشبه ما يكون بالأسطورة. وكان هذا سبباً في أن يتهم مؤلف الفتنة الكبرى في بعض الوجوه. وأيضاً فقد لاحظ أن المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان لم تذكرها من مثل طبقات ابن سعد وأنساب الأشراف للبلاذري.
وليس معنى ذلك أن المؤلف يقصد بذلك إلى التقليل من شأن الطبري كمصدر مهم في التاريخ الإسلامي وإنما معناه أنه يقارن ويقابل فيجد ابن سعد لا يذكر القصة كما يجد البلاذري، وهو أهم المصادر - في رأيه - لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً، لا يرويها، إنما يرويها الطبري وحده بين المصادر القديمة، وهو يرويها عن سيف بن عمر.
وهذه المقارنة بين الطبري وغيره في هذه القصة جعلت مؤلف الفتنة الكبرى يتهمها، فقد أثار ذلك الشك في نفسه، وأظن من حق كل مؤرخ أن يشك ويتهم بعض الروايات القديمة وخاصة إذا لم تتآزر الكتب التاريخية المختلفة في روايتها.
وقد ذهب الأستاذ شاكر يبرهن على صحة القصة بأن طبقات ابن سعد طبعت من نسخ(763/32)
ناقصة وربما كانت القصة موجودة في الأصل وسقطت. واتسع بهذا البرهان في أنساب الأشراف للبلاذري فقال إن ناشره يهودي من طغاة الصهيونية وربما حذف الرواية الخاصة بابن سبأ. ولست أدري ماذا يضير اليهودي الناشر من رواية هذا الخبر!. وقد رجع الأستاذ شاكر يقول ربما ذكر البلاذري هذا الخبر في ترجمة مفقودة.
وواضح أن هذين البرهانين أو قل هذا البرهان لا يثبت قصة ابن سبأ، فإن ما جاء به الأستاذ شاكر إنما هو فرض ولا يقين في يده.
وقد أخذ بعد ذلك يناقش المؤلف في الخبر أو في القصة على أساس أن من لم يرو خبراً ما ليس حجة على من روى هذا الخبر وخاصة إذا كان الراوي مثل الطبري علماً وفهماً وهو الذي روي عنه أنه قال لأصحابه (أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ قال ثلاثون ألف ورقة، فقالوا هذا مما تفنى فيه الأعمار قبل تمامه، فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال لهم: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا كم يكون قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال إنا لله، ماتت الهمم).
وأحسب الأستاذ شاكر نقل هذا الخبر عن كتاب معجم الأدباء لياقوت، ولو أن استمر بعد هذا النص الذي نقله عن معجم الأدباء يقرأ في ترجمة الطبري لرأى ياقوت يقول عنه: (إنه لم يدخل في كتابه (التفسير) شيئاً عن كتاب محمد بن السائب الكلبي ولا مقاتل بن سليمان ولا محمد بن عمر الواقدي، لأنهم عنده أظناء) ثم يقول ياقوت عقب ذلك مباشرة: (وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي وعن ابنه هشام وعن محمد بن عمر الواقدي وغيرهم فيما يفتقر إليه).
وإذن فالطبري لم يكن يحقق في روايات التاريخ كما كان يحقق في روايات التفسير، ومع ذلك يقول الأستاذ شاكر: (من قرأ كتاب الطبري في تاريخه. . . علم أن هذا حق، وأن الرجل كان فارغاً للعلم لا يلفته عنه شئ). وأنا لا أنفي أن الطبري كان فارغاً للعلم، ولكن أنفي أن تاريخه حق خالص لأنه قد يروي عن الكلبي وابنه هشام والواقدي وغيرهم كما يقول ياقوت:
وإذا أضفنا إلى ذلك ما تقوله دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة تاريخ ص493 من المجلد الرابع في الترجمة العربية من أن (مواطن الضعف عند الطبري في تاريخه هي ما يتوقع(763/33)
من محدث مثله - مثال ذلك إيثاره لمصنف سيف المنحول عن التاريخ.) ثم عرفنا أن سيفاً هذا هو سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري قصة عبد الله بن سبأ؛ أفلا يكون هذا كله سبباً في أن يتهم مؤرخ حديث قصة ابن سبأ؟
وإن من رجع إلى ابن عساكر يلاحظ أنه يروي كل ما يتصل بفتنة عثمان عن طرق مختلفة أكثرها طرق محدثين إلا قصة ابن سبأ فإنه يرويها مثل الطبري عن سيف بن عمر.
على أن ابن سبأ كان له ضربان من النشاط، نشاط مزعوم في عصر عثمان، ونشاط حقيقي في عصر علي. ومع ذلك فالنشاط الأخير قد بولغ فيه على ما هو معروف في قصته من الحرق والنفي الخ.
وهذا ما جعل مؤلف الفتنة الكبرى يؤخر الحديث المفصل عنه إلى الجزء الثاني من كتابه حتى يلم بهذه الشخصية من جميع أقطارها إلماماً دقيقاً. ألم يق في ص232: (لم نفصل في هذا الجزء حديث عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، لأنه طويل معقد، ولأن نشاطه الخطير إنما يظهر في رأينا أثناء خلافة علي فقد أرجأنا حديثه إذن إلى الجزء الثاني من هذا الكتاب). وقبل ذلك يقول في ص134: (وأكبر الظن أن عبد الله ابن سبأ هذا - إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً - إنما قال ما قال ودعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها، وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولائه من ناحية وليشنعوا على عيٍّ وشيعته من ناحية أخرى، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة).
ليست قصة ابن سبأ ' ذن قصة سهلة يسيرة يمكن أن تقبل لمجرد أن يرويها الطبري عن سيف بن عمر، بل هي أعمق من ذلك وأبعد. وأكبر الظن أن من حق المؤرخ إزاءها أن يقابل بين الروايات بعضها وبعض وألا يكتفي بوجودها في الطبري عن سيف بن عمر.
أما الروايات الثانية أو القصة الثانية التي وقف عندها الأستاذ شاكر فقصة كتاب المصريين وما كان من فضهم له في الطريق واطلاعهم عليه ثم عودتهم إلى المدينة ومحاصرتهم لعثمان، فإن الأستاذ شاكراً لا يأتي بدليل عليها سوى أنها جاءت عند البلاذري! كأن الأصل(763/34)
أن يجيء الخبر أو القصة ثم نصدق بها من غير بحث ولا درس ولا امتحان ولا فحص. ومجيء قصة في البلاذري لا يحتم صدقها ومن حق كل مؤرخ أن يختبرها ويمتحنها ويتهمها إن كان هناك ما يدعو إلى تهمة.
وبعد فهذه آراء رأيت أن أعلق بها على مقال الأستاذ محمود محمد شاكر للحقيقة والتاريخ.
شوقي ضيف(763/35)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية: (3، 4، 5)
الحرية
للأستاذ كمال دسوقي
5 - حرية التصرف:
وعلى أساس هذه الحرية العقلية التي قررها (مل) بوضوح وجلاء حتى الآن، تترتب الحرية العملية في التصرف، فللإنسان مطلق الحرية في إبراز آرائه من حيز الفكر إلى حيز العمل، ومن نطاق العزم إلى نطاق التنفيذ، مادام أن عواقب هذه الأمور قاصرة على صاحبها، ومادام تنفيذها ليس من شأنه أن يضر بالغير، فحرية الفعل والعمل هي الشق المتمم لحرية الفكر والقول. على أن استخفاف الناس بهذه الحرية الشخصية في ناحيتيها، وقلة إيمانهم بها، وعدم حرصهم عليها ومراعاتهم لها، وإغفالها كذلك في برامج الفلاسفة والمصلحين، هو العقبة دون تحقيقها، ولو قد حرص أولئك وهؤلاء فيما يرى (مل) - على امتلاك هذه الحرية والإبقاء عليها وحسن استخدامها؛ لما كان للمجتمع في أي أمر من أمورهم أدنى تدخل، ولو كان ذلك بإرادتهم أنفسهم.
وإنما تأتي ضرورة هذه الحرية الشخصية في الفكر والعمل جميعاً، من أنها لابد لازمة لنمو الملكات، وظهور المواهب، ولا يتأتى ذلك للأفراد إلا بأن يلموا أولاً بتجاريب السلف وخبراتهم، وأن يستفيدوا بها بادئ الأمر، حتى يتهيأ لهم تأويلها وتحويرها بما يوافق ظروفهم ومواقفهم، وحتى لا يصدرون في أفعالهم وآرائهم عن تقليد وجمود وانسياق، بل اختيار ومفاضلة ومران عقلي وشجاعة أدبية، تتحقق معها نفوسهم بما هي نفوس إنسانية، وتنتظر ملكات هذه النفوس من ملاحظة وتأمل، وحكم وتدبر، وعزم وإرادة. فلم توهب هذه الملكات لنعطلها ونقضي عليها بحجة التسليم للمشيئة - وفي هذا ما يكفي للرد على أنصار المذهب الكلفاني - ولن يكون إنكار الذات بالنسبة للشخص أكثر شرفاً وفائدة من تقرير الذات بالنسبة للمجتمع، فإن في ارتقاء شخصية الفرد علواً بنفسه ومجموعه وخصباً لحياتهم خصوصاً وأن آفة مجتمعنا الحديث لم تعد طغيان شخصية الأفراد وبطشها وجماحها بقدر ما في خضوعها للمجتمع واستكانتها لرغباته، وانقيادها لإرادته في العادات وأخص(763/36)
الخصائص كالذوق والحب والكره، مما يترتب عليه تضاؤل شخصية الفرد بجانب شخصية المجموع، حتى لقد وجب على المجتمع أن يتدخل لتربية الذوق وتهذيب الحس وإذكاء الضمير في كل فرد. رعاية لمصالح المجموع، حتى يوجه عواطف الأفراد وميولهم هذه الوجهة. وفي هذا رد كذلك على الذين يقولون بضرورة حد العواطف والنزعات مع حرية العقل والفكر.
حرية التصرف إذن حق ثابت لجميع أفراد المجتمع خاصهم وعامهم، لا الحرية المطلقةالكاملة التي لا تعرف حدوداً، بل القدر الذي لا يتعارض مع حرية الغير، أو يترتب عليه اعتداء القوي على الضعيف، ولا ضير على الحرية الشخصية من هذا القيد مادامت تعوض عن تقييد الأناني منها بإنماء الشطر الإجتماعي والخلقي: أما إن حرية التصرف لازمة للخاصة أو العباقرة - على قلتهم - فذلك لأن المجتمع في حاجة أبداً إلى من يفتح عينيه على أخطائه، ويسن له عاداته وتشريعه وتقاليده في تطور تاريخه ويبتكر له ما يرقى حياة أهله في الفكر والعمل، ويلفت فيه روح الحياة والتقدم، ولا يتأتى ذلك إلا بتنشئة الأفراد جميعاً في جوّ صالح يعين على إظهار مواهبهم، والاستفادة بهم، فهذه الأقلية الممتازة هي القادة، وإلى هذه الأرستقراطية الفكرية يجب أن يوكل زمام الحكم، فإن حكومة الطبقة المتوسطة هي كذلك متوسطة، وكل شذوذ في المجتمع دليل على وعيه وعبقرية أفراده وابتكارهم. فهم سيقودون وطنهم وإن لم يحكموا، وأما ضرورة الحرية الشخصية للعاديين من الناس فحجتها أن تنوع الأفراد في المجتمع، وتنوع ظروف الفرد الواحد منهم، يستتبع منتهى الحرية في تنويع أساليب الحياة والتصرف التي يأخذ بها الفرد في كل ظرف يواجهه، حتى يتكيف في بيئته، ويوائم بين نفسه ومجتمعه، على نحو يجعله غمير عاجز عن النهوض بنفسه.
و (مل) يشير في غير موضع من هذا الفصل إلى الدور الخطير الذي يقوم به المجتمع في محاربة العباقرة وتحبيذ حكومة الطبقة المتوسطة، وإلى تعصب الرأي العام فيه على أي مظهر من مظاهر التفوق والامتياز، وإلى تحكم العادة واعتراضها سبيل ل تجديد وإصلاح، وإلى أن الخلاف وتنوع المذاهب وعدم المماثلة - أي في كلمة فون همبولت - الحرية وتنوع المواقف هي ضمان عدم انزلاق الدول الغربية في مصير الصين، ويرى ضرورة(763/37)
الإصلاح آنئذ قبل أن يتم وقوع هذا الخطر.
6 - مدى سلطان المجتمع على الفرد:
ثمت إذن حقوق فردية تهم الفرد بنوع خاص، وهو أبصر الناس بها لأنه أعلمهم بمأتها ووسائلها - وثمت - في مقابل ذلك حقوق مشتركة تهم المجتمع بوجه خاص، وله من يدافع عنها ضد من يمسها أو يعتدي عليها، بوسائله الخاصة وحقوق كل من الطرفين تعد واجباً على الآخر. فحق المجتمع على الفرد - مادام يتمتع بالأمن في كنف رعايته - أن يسلك سبيلاً يبعد به عن الإضرار بمصالح الغير وحقوقه، وأن يتحمل نصيبه من التبعات التي يفرضها عيه مجرد كونه عضواً في المجتمع. وحق الفرد على المجتمع أن ينظم له القواعد التي تبصره بما عليه من واجبات في معاملته للغير وما له عليه من حقوق، وأن يدعه في شئونه الخاصة به يتصرف تصرفاً خالياً من كل قيد، وأن يكيف جريمة الفرد قبل إنزال العقوبة، فإن كان قد انتهك القواعد التي سنت لحماية المجموع، فترتب على ذلك إضرار بغيره؛ تدخل المجتمع للضرب على يده حماية لإخوانه، وأما إن كان تصرفه ناشئاً عن عيوب ذاتية أو اجتماعية فيه، يترتب عليها الإخلال بالتزاماته الاجتماعية نحو أسرته أو دائنيه أو واجباته بوجه عام، فللمجتمع أن يوقع عليه المسئولية الأدبية أو القانونية حسبما يراه لا بسبب هذه العيوب الذاتية أو الاجتماعية فحسب الفرد بلاءً وجودها فيه - ولكن لما ترتب عليها من إخلال - إذ الأمر هنا يخرج عن نطاق الحرية إلى الآداب والمعاملة، وأما ما عدا هذا من الأضرار العرضية التي لا ضرر فيها - فعلى المجتمع أن يتحملها عن طيب خاطر، فإن كفة الخير الذي يصيبه من إطلاق الحرية أرجح من كفة هذا الضرر مهما بلغ، خصوصاً وأن المجتمع يجب أن يعد نفسه المسئول الأول عن عدم توجيه الأفراد وجهة قويمة - مع ما كان له من سلطة. وأن التعرض للحرية كثيراً ما يؤدي إلى عكس المراد منه، مادام الجمهور - أكثرية الأفراد - يحكم في ذلك على الأقلية المخالفة المستنيرة - بحكم هواه وصالحه - لا بمنطق سليم يرى في الشيء ضرورة ذاتية تسوغ الأخذ به، ولا ضرر من القدوة السيئة، فإنها - وإن كانت تعرض نماذج سيئة من السلوك، فهي تعرض كذلك عاقبة أصحابها الوخيمة. وعلى الأفراد - على أي حال - أن يتعاونوا ويتناصحوا ويتواصوا فيما بينهم في أدب ومجاملة بما يحقق خيرهم.(763/38)
ولتأييد ما يقول (مل) من أن قوانين المجتمع ليست في حقيقتها إلا هوى الجمهور. وما يرى معه من خطر مبدأ التعرض لو أخذنا به؛ يضرب أمثلة كثيرة من التاريخ الواقع، منها عبادة الله على غير المذهب الروماني الكاثوليكي في نظر الأسبان، وموقف أهل أوربا الجنوبية من زواج القسس، ومصادرة البيوريتانيين أيام نفوذهم في نيوانجلند لكل أنواع الملاهي والتسلية، والنزعة الديمقراطية التي ترمي أن تجعل للجمهور أن يتدخل في تحديد طريقة إنفاق دخل الأفراد، ومطالبة العمال غير المهرة بألا تزيد أقليتهم الماهرة عن بقيتهم في الأجر، واختلافهم حول ضرورة التشريع الخاص بالعطلة الأسبوعية وتبرير الجمهور فعله هذا بالدين، وأن من حقه حمل الخارجين على إطاعة الدين، مما ترتب عليه أبشع صنوف الاضطهاد الديني، كما حدث في مذهب (مورمن) الذيوإن كان قد دعا إلى شئ رجعي مستنكر عندهم هو تعدد الزوجات؛ فلم يكن ينبغي أن يقابل بمثل هذه الوحشية فليس لجماعة أن تحمل غيرها على الرقي والحضارة عفواً؛ بقدر ما تستطيع التبشير ومحاربة العقائد الفاسدة في عقر دارها بوسائل التنوير والإقناع، ولكنه المجتمع يشرع دائماً وفق هواه، ثم يستبد بحجة الرأي العام.
تطبيقات:
وإذا تقررت لدى (مل) حرية الفرد في الفكر والعقل، في الرأي والتصرف، وثبت ضرورتهما لصلاح حال المعيشة وشخصية الأفراد، شرع يطبق هذه المبادئ على كثير من مشكلات عصره وبلاده - مبيناً في كل منها متى يحل للحكومة أن تتدخل في حرية الأفراد - منحازاً - كعادته دائماً - إلى جانب الحرية الشخصية وإطلاقها في أوسع مدى ممكن، متخذاً لهذا التطبيق مقياساً تتحد به مسؤولية الفرد أمام المجتمع ينحصر في قاعدتين:
1 - لا يسأل الفرد أمام المجتمع عن شئ من تصرفاته مادامت لا تمس غير شخصه، وهنا فلا سبيل للمجتمع إلا أن يظهر بغضه وكراهته، وأن يقدم نصحه وإرشاده، وأن يقضي على ما لا يرضى عنه بمجرد مقاطعته ونبذه.
2 - أما إذا أتى الفرد تصرفات تعترض مصالح الغير. فللمجتمع في هذه الحالة أن يوقع الجزاء القانوني أو الأدبي الذي يراه كافياً للزجر ودرء الأعداء.
ولا يعد إضراراً بمصالح الغير التنافس والمسابقة، لما يترتب عليهما من إخفاق البعض(763/39)
نتيجة لنجاح البعض الآخر - طالما أن وسائل هذه المنافسة شريفة - لا يدخل فيها غش أو خيانة أو إكراه، ومادامت الظروف مهيأة للمجتمع على قدم المساواة - ومسألة حرية التجارة - وإن تكن بعيدة عن الحرية الشخصية - ينطبق عليها هذا القول فيجب إطلاق منتهى الحرية للتجار في الدعاية والعرض والإعلان وتجويد الأصناف وتحديد الأسعار، حتى لا يتحكم فيها إلا حرية المشترين وتفضيل صالحهم فيسير العرض والطلب على قاعدة الحرية للمنتج والمستهلك، حقاً إن من واجبات الحكومة اتخاذ الاحتياط لمنع الجرائم قبل وقوعها والأهبة لاكتشافها بعد وقوعها، وعلى هذا فليس لها بإزاء منع استخدام المواد السامة في الجرائم إلا أن تحتاط (بالأدلة السلفية) أي إجراءات التوقيع والشهود وما يساعدها على كشف الجريمة إن وجدت، وإزاء التصرف الشخصي السيئ كالسكر والبطالة إلا المراقبة والمعونة على عدم الإضرار بالغير. أما بإزاء التحريض على إتيان أفعال شخصية يعتبر الجهر بها إخلالاً بالآداب كبيع الخمور وفتح بؤر القمار، في أماكن عامة. ابتغاء المنفعة الشخصية فيجوز تدخل الحكومة لحمل هؤلاء على التحجب والخفاء، وحصر هذه في أقل نطاق ممكن، بفرض ضرائب باهضة على المسكرات تقلل من طلابها وتحرمها على غير القادرين، وتحديد عدد الحانات ومراقبة سلوك أصحابها وموعد عملهم والترخيص لهم، وإزاء العقود والاتفاقات التي يبرمها الأفراد لمصلحتهم فيما بينهم القيام على الوفاء بها في النواحي المالية خصوصاً، وفسخها وعدم الاعتراف بها إذا كانت تحمل بيع حرية الفرد - مع مراعاة التزاماته وواجباته قبل هذا الفسخ - كما في عقود الزواج والطلاق - وفيما عدا هذا فليس ما يمنع على الفرد خيار التقايل والنكول.
وفي مقابل هذه الأمور التي يجوز للحكومة أن تمنعها. هناك أمور يجب عليها أن تمنحها. ومنها تسوية المرأة بالرجل وحمايتها من استبداده وما يزعم لنفسه من سلطان، وأن تهيئ لكل وليد من رعاياها حق التربية وقسطاً من التعليم؛ متحملة هي نفقات الفقراء، وإعانة الآباء؛ تاركة للمختصين بالتعليم أن يقوموا عليه حافزة إياهم على منافسة مدارسها الأميرية والقضاء عليها، وأن تجعل امتحاناتها بعد المرحلة الأولى اختيارية في حقائق العلم الثانية، خصوصاً في العلوم العليا كالفلسفة والعقائد (اللاهوت)، وأن تمنح من يؤدي هذا الامتحان بنجاح شهادة يزاول بها مهنته دون أن يعترضه أحد. وبالجملة تهيئة الفرص التي قد يفوت(763/40)
الآباء إدراكها حين يسترسلون في معارضة الحد من عجزهم عن إسعاده.
و (مل) يناقش أخيراً مدى حق الحكومة في تولي شئون الأفراد، فيرى أنه لا وجه لتدخل الحكومة للعمل لهم - حين يكون لطائفة منهم القدرة على إتقانه أكثر - أو لا يكون ذلك. ولكن من الخير أن يروض الأفراد أنفسهم على القيام به. أو حين يكون في اتساع اختصاص الحكومة ذهاب بالإتقان والتخصص، وهو هنا يميل إلى اللامركزية، وإلى توزيع سلطات الحكومة على المختصين والمهرة، على أن يظلوا خارج الحكم، فإن حشدهم للخدمة الأميرية يميت ملكاتهم، ويجعلهم أكثر استبداداً، والشعب أكثر عجزاً وخضوعاً، وانسياقاً إلى خدمتهم؛ فيموت العمل الحر. بل الواجب أن نجعل كل طائفة بحيث تصلح حكومة بذاتها. وأن نعود الأمة الاعتماد على النفس، ونخلق منها عناصر جديدة أبداً ولا نحتكر الواهب في طبقة منها؛ بل نعمل دائماً على تنشيط هممهم وحفز عزائمهم وإنماء كفايتهم؛ فإنما قيمة الدولة بأفرادها
وبعد: أرأيت كاتباً ينتصر للحرية ويدافع عنها بمثل هذه البراعة والقدرة، والتحمس والإقناع؟. . .
كمال دسوقي(763/41)
الأدب والفن في أسبوع
نشوء القومية عند الأتراك:
كانت المحاضرات الثلاثة السابقة التي ألقاها الأستاذ ساطع الحصري بالجمعية الجغرافية الملكية في نشوء فكرة القومية في أوربا، وقد انتقل إلى الشرق في المحاضرة الرابعة التي ألقاها يوم السبت، فتحد عن (نشوء فكرة القومية عند الأتراك - التيارات اللغوية والتاريخية التي رافقتها وساعدتها) فقال إن الدولة العثمانية كانت في أول أمرها تتجه إلى الفكرة الإسلامية العامة وخاصة بعد أن تم لها فتح مصر وانتقلت إليها الخلافة الإسلامية، وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت الأفكار الوطنية قد امتدت إليها من أوربا ولكنها أخذت صبغة إسلامية، فكان الأدباء والشعراء يتحدثون عن الوطنية والقومية متجهين نحو التاريخ الإسلامي والعواطف الدينية، وتطورت الأفكار بعد ذلك حتى أخذت فكرة القومية وضعها الأخير. وبيان ذلك أن هذا التطور قام على نواح ثلاث: اللغة التاريخ والسياسة؛ أما من حيث اللغة فقد كان هناك لغتان: لغة الأدب الراقي، ولغة الأدب الشعبي، وكانت الأولى خليطاً من التركية والعربية والفارسية في الألفاظ والتراكيب والقواعد وأوزان الشعر، وكانت لغة شعراء القصور الذين هم عماد الحياة الأدبية الراقية، أما لغة الشعبيين فكانت تركية بحتة ولها أوزان عامية ليس فيها شئ من العربية. وحدث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أن ظهرت دعوات إلى التجديد في اللغة والأدب، ونشأت مذاهب في ذلك، بعضها - وهو المعتدل - يدعو إلى بقاء الألفاظ العربية والفارسية التي سارت على الألسنة مع التزام القواعد التركية ونبذ القواعد العربية والفارسية كالإضافة والنسب وغيرهما، ودعا بعض المذاهب إلى التخلص من كل ما هو أجنبي في اللغة والأدب، ونظم الشعراء المجددون على الأوزان العامية. وقد اشتجرت الأقلام في هذا الميدان، حتى انتهى الأمر أخيراً إلى تغلب اللغة التركية، فهجرت الأوزان والقواعد العربية والفارسية، واصطبغت الأخيلة بالألوان الأوربية والآداب الشعبية؛ أما الألفاظ فقد بقي كثير منها حتى تغيرت حروف الكتابة، فتغير نطق الكلمات العربية وهيآنها تبعاً لتغير الحروف.
وأما التاريخ فقد كانت الدولة العثمانية تسير فيه على العناية بالتاريخ الإسلامي وعدم(763/42)
الالتفات إلى التاريخ التركي قبل الإسلام ولكن لما اتجهت الأنظار نحو القومية التركية تغير الاتجاه في الدراسة التاريخية، فأخذ تاريخ الترك قبل الإسلام مكانه في التاريخ الإسلامي، وتغير نظر الأتراك إلى بعض الشخصيات التركية التي كانت تذكر في التاريخ باللعن والسخط.
وبذلك سايرت اللغة والتاريخ فكرة القومية في تركيا، فأثرا فيها، وأثرت فيهما. وقد أدى كل ذلك إلى نشوء الشعور الوطني وحدوث التطور السياسي الذي جاء بعده التجديد في اللغة والتاريخ. وبدأ العمل السياسي في أوائل القرن العشرين خارج تركيا. وذلك أن الدعاة إلى الأفكار السياسية هاجروا إلى بعض البلاد كمصر وسويسرا، ونشروا فيها أفكارهم بوساطة الصحف وإرسال المنشورات السرية إلى البلاد التركية، وكانت الآراء السياسية مختلفة، فجماعة يدعون إلى الوحدة الإسلامية، وآخرون يدعون إلى العثمانية، وفريق ثالث يعتنق الفكرة التركية البحتة.
ولما أعلن الدستور في تركيا ظهرت الدعوات في داخل البلاد، وأخذ كل فريق يؤيد رأيه، وتعاقبت الحوادث، ففصلت بين هذه الآراء بحكمها.
وختم الأستاذ المحاضرة بأن كل ذلك يدل على أثر اللغة والتاريخ في الفكرة القومية عند الأتراك، وأن هذا يؤيد ما ذهب إليه في المحاضرات السابقة من أن القومية كائن حي روحه اللغة ووعيه التاريخ، وقال إنه سيبين ذلك أيضاً في نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية، بالمحضرتين الآتيتين.
نشيد الجامعة العربية:
في أوائل العام الماضي أعلنت الجامعة العربية عن مباراة لوضع نشيد للجامعة العربية. ولما دنا الموعد المحدد لقبول الأناشيد نظرت فيما تجمع لديها، فلم تجد فيه ما يصلح، فأفسحت الوقت وأمدت الأجل، ثم ألفت لجنة للفحص. وانتهى الأجل الممدود وفحصت اللجنة الأناشيد المقدمة، فلم تجد بينها ما يصلح اتخاذه نشيداً للجامعة. ومما يذكر أنه لم يتقدم إليها أحد من الشعراء المعروفين، ورأت اللجنة أن تجيز أحسن ما قدم، فاختارت نشيدين عهدت بأحدهما إلى المعهد العالي للتمثيل والموسيقى، وبالثاني إلى الجامعة الشعبية، على نحو ما ذكرت قبل الآن. وقام المعهدان بالتلحين والإلقاء، وحضرت اللجنة(763/43)
الثقافية بالجامعة العربية التجربة في كل من المعهدين؛ واستقر الرأي بعد ذلك على عدم صلاحية أي النشيدين ليكون نشيداً للجامعة العربية. ورئي بعد ذلك أن يظل الباب مفتوحاً للراغبين في نظم الأناشيد ليتسنى اختيار أحدها واعتباره نشيداً رسمياً للجامعة العربية.
قلت في مناسبة سابقة إن طريقة المسابقات للحصول على إنتاج أدبي لغرض ما - طريقة أصبحت غير مجدية، لأن المعتزين بأنفسهم من ذوي الكفايات يأنفون من دخولها بغض النظر عما يبديه الساخطون من عدم الثقة بالمحكمين، وأشرت وقت ذاك بأن يطلب ما يراد ممن تعرف مقدرتهم فيه. وكان (البسام) الذي يحلو له أن يعاكسني في الاسم غير مكتف بمعاكستي في بعض ما أرى - قد كتب إليّ يقول: (قد يكون الذي يطلب منه أن يضع نشيداً شاعراً عبقرياً ولكنه لا يحسن الأناشيد أو لا يميل بطبعه إلى نظمها فكيف يطلب منه ما لا يحسنه أو لا يوافق طبعه؟) وليس عندي دفع لهذا الاعتراض وإن كنت أحتفظ برأيي للتجريب على الأقل، فهل تأخذ به الجامعة العربية فتعهد إلى من تأنس فيهم القدرة بوضع أناشيد كما صنعت مع من يضع لها معجم البلدان العربية؟ أو تأخذ برأي (البسام) فتسكت حتى يفتح الله على من يضع لها النشيد المطلوب؟ وإني أسبق (البسام) فأقول قبل أن يكتب إلى: هذا نشيد الجهاد لفلسطين، تقدم به الأستاذ حسن أحمد باكثير، من غير مسابقة، فاستحسن ونجح قسم الموسيقى بالجامعة الشعبية في تلحينه وأدائه. فهل يصنع مثل هذا غيره من المجيين المتحرجين من التسابق؟
قواعد جديدة للإملاء:
وضعت لجنة الإملاء بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، مشروعاً يتضمن قواعد جديدة للإملاء، وقد مهد له ببيان الحافز على هذا العمل وهو تسهيل الكتابة على المبتدئين ومتعلمي العربية من غير أهلها والقضاء على اختلاف الكتابة بين الأفراد وبين الأمم العربية الناشئ عن اختلاف العلماء في قواعد رسم الحروف، وذكرت أن أساس مشروعها أن تطابق الكتابة النطق.
والقواعد التي تضمنها هذا المشروع هي كما يلي:
1 - كل ما ينطق به يرسم في الإملاء، إلا كلمة (الله).
2 - كل ما لا ينطق به لا يرسم، إلا همزة الوصل، وإلا لام (أل) الشمسية.(763/44)
3 - الهمزة في أول الكلمة ترسم على ألف مطلقاً، المضمومة والمفتوحة فوقها والمكسورة تحتها.
4 - الهمزة المتحركة متوسطة ومتطرفة تكتب على حرف مناسب لحركتها، ويستثنى من ذلك الهمزة إذا كانت متطرفة وقبلها ألف فتكتب مفردة.
5 - الهمزة الساكنة متوسطة ومتطرفة ترسم على حرف مناسب لحركة ما قبلها.
6 - الألف اللينة يرى بعض أعضاء اللجنة أن ترسم ألفاً مطلقاً، ويستثني بعضهم على وإلى وحتى وبلى ومتى وأنى.
7 - كل كلمتين اجتمعتا تكتب كل منهما منفصلة عن الأخرى، إلا إذا كانت الكلمة الأولى (أل) أو كانت كلتا الكلمتين أو إحداهما على حرف واحد، وإذا حصل بين الكلمتين إدغام كتبتا كلمة واحدة على حسب النطق.
8 - يرسم التنوين ألفاً في حالة النصب، إلا المختوم بالتاء المربوطة.
وقد نظر مؤتمر المجتمع في هذا المشروع، فرأى أن يستمر مجلس المجمع في بحثه ومقارنته بالقواعد الإملائية التي أوصى بها المؤتمر الثقافي العربي الأول، ثم تعرض النتيجة على مؤتمر المجمع في السنة الآتية.
وقد قارنت بين هذه القواعد وبين قواعد المؤتمر الثقافي فلم أجد بينهما إلا اختلافاً يسيراً جداً. وقد فرغ المؤتمر الثقافي من تقرير قواعده مع كثير غيرها في بضعة أيام. فما الداعي إلى إرجاء هذا الموضوع، اليسير في مادته الكبير في أثره، إلى السنة القادمة؟ أهي طبيعة المجمع تلازمه في كل أمر وإن هان؟
سياسة تشجيع التمثيل:
دعت نقابة ممثلي المسرح والسينما لسماع محاضرة الدكتور محمد صلاح الدين بك في: (سياسة تشجيع التمثيل) يوم الاثنين، وقد بدأ يذكر الآساس التي تقوم عليها رعاية الحكومة لهذا الفن، فقال: إنها تبدو في نواح أربع، هي الفرقة المصرية للتمثيل، والفرق المدرسية، والمسرح الشعبي. وأسهب في الكلام على الفرقة المصرية، ومن أهم ما أفاض فيه كيفية اختيار الروايات. فقال: إن هناك لجنة لهذا الاختيار اسمها: لجنة القراءة (والمحاضر عضو فيها) مهمتها بطبيعة الحال اختيار الرواية الصالحة للتمثيل. ولاشك أن الروايات الغربية(763/45)
تتوافر فيها العناصر الفنية، وهي وإن كان يجب تقديم بعضها ولاسيما العالي منها، إلا أنه لابد من رعاية الجانب المحلي في التأليف بتقديم روايات مصرية. ولكن الواقع أن المسرح لا يجد ما يصلح من هذا النوع إلا قليلاً؛ لأن كبار الأدباء عازفون عن التأليف للمسرح، إما ترفعاً عنه، أو لعدم الميل إليه، أو لقلة ما يتوقع من كسبه بالنسبة إلى ما يكسبونه من تأليف الكتب. وقد جربت طريقة المسابقات فلم تؤد إلى نتيجة طيبة؛ لأن الكبار يأنفون الدخول فيها، وما قدم لم يلف صالحاً؛ حتى إنه في إحدى المسابقات رأت اللجنة عدم استحقاق أي رواية مما قدم إليها لأي جائزة، وفي المسابقة الأخيرة أعلنت اللجنة أنها ستمنح الجوائز للأحسن، ومنحت فعلاً الجوائز لخير ما قدم وإن كان لا يصلح للتمثيل. فرأت اللجنة علاجاً لهذه الحال أن تطلب زيادة المبلغ المخصص لتشجيع التمثيل، حتى تستطيع أن تغري كبار المؤلفين بأجور ترضيهم. ولكن وزارة المالية لم توافق على هذه الزيادة. وهنا ذكر المحاضر رأياً للدكتور هيكل باشا أفضى إليه به، وكان يحدثه في هذا الموضوع، وهو أن تذكر اللجنة في طلبها أسماء المؤلفين الذين ستطلب منهم تأليف روايات لمواجهة النقص البادي في التأليف المسرحي، وتحدد العمل والأجر، فإذا تم ذلك فستوافق المالية.
ومن أهم ما ذكره المحاضر أيضاً: مسألة (الاعتمادات) المخصصة لتشجيع التمثيل، قال: إن الجهود الفردية في المسرح لا تستطيع أن تستمر وحدها من حيث المال. لأن المسرح ليس له جمهور يكفيه من هذه الناحية فلابد من إعانة الحكومة وهناك عدة نواح تتطلب هذه الإعانة لتشجيع التأليف وتكبير الفرق المصرية منافسة يستفيد منها الفن. ولكن المبلغ المخصص لذلك هو ثلاثة عشر ألف جنيه، لا يكفي، وقد فكرنا في تحويل بعض الإعانة التي تبذلها الحكومة للفرق الأجنبية ومقدارها أربعة عشر ألف جنيه إلى التمثيل المحلي، وذلك بالاكتفاء ببعض هذه الفرق، مع ما في ذلك من إفساح المجال للفرق المصرية على مسرح الأوبرا.
وقد عقب الأستاذ يوسف وهبي بك، بأن المحاضر لم يتناول في محاضرته مسألة إيجاد المسارح اللازمة للعمل، والواقع أن القاهرة ليس فيها مسرح يصلح للتمثيل غير مسرح الأوبرا الذي تحتله الفرق الأجنبية جزءاً كبيراً من العام. أما مسرح الأزبكية الذي تمثل في الفرقة المصرية عندما تضطرها إليه الفرق الأجنبية فهو غير صالح من الوجهة الفنية.(763/46)
وقال يوسف بك إنه يجب أن تحول إعانة الفرق الأجنبية كلها إلى التمثيل المصري، فليس من الجائز أن يأكل الضيف كل ما في البيت والعيال والزوجة جائعون.
وعلى أثر ذلك صعد الأستاذ محمد الشريف فأعلن أن لجنة الشئون الاجتماعية بمجلس النواب وافقت على إنشاء مسرحين بالقاهرة، أحدهما صيفي والآخر شتوي.
والملاحظ أن كل هذه الأفكار والاتجاهات الطيبة ليس فيها شئ انتهى الأمر فيه إلى التنفيذ، فما هي إلا أمان ومقترحات. والملاحظ أيضاً أن الدولة لم تقدم بعد على عمل شئ لإنقاذ هذا الفن الجميل في مصر. والغريب أنك ترى مما تقدم أن ما تعان به الفرق الأجنبية أكثر مما يناله التمثيل المحلي، مع أن الأولى تلاقي رواجاً كبيراً من جانب جمهورها الذي يتألف من الأجانب وبعض الأثرياء، وهي تقتضيهم أجوراً مرتفعة، مما لا حاجة معه إلى إعانة الدولة، وإن لم يكفها جمهورها فلتذهب إلى جهنم.
العباسي(763/47)
في مولد الرسول:
لمن النور؟!
للشاعر أحمد هيكل
لمن النور يغمر الأرجاء ... ويحيل الظلام فيها ضياء؟
أهو البدر قد تفجر نبعاً ... من لجين يفضِّض الصحراء؟
أهو الفجر قد تقدم جيشاً ... رفع النور في يديه لواء؟
أهو الصبح حائكاً عبقرياً ... نسج الضوء للوجود رداء؟
لا، فهذا الضياء يُسكب فـ ... ي الأعين هدياً ورحمة وشفاء.
وجدته العيون أعذب ري ... كورود ترشَّفت أنداء
إنه نور وجه خير وليد ... هبط الأرض باسماً لألاء
ما لنخل الصحراء يرقص كالغيـ ... د ويبدي تخلعاً وانثناء؟
ما لهذي الجبال أضحت قلوباً ... في ضلوع الصحراء تُحيي الررجاء؟
ما لتلك الغدران تضحك والم ... اء سكوب من ثغرها صهباء؟
ما لهذي القفار صارت رياضاً ... ثم أضحى هجيرها أفياء
لا، فإن الربيع يمكث حيناً ... ثم يمسي هواجراً أو شتاء؟
والربيع القدسي خلده الل ... هـ ليمحو عن الوجود الشقاء؟
ليس هذا الربيع غير وليد ... جعل الأرض جنة فيحاء
يا يتيماً كالدر سُدْت - على اليت ... م - ملايين أدركوا الآباء
يا وحيداً له نفوس البرايا ... يتمنّين أن يكنَّ إماء
يا عليماً وما خططت حروفاً ... أنت أعجزت في الورى العلماء؟
يا فقيراً وبين جنبيك كنز ... ترب نعليك يشتري الأغنياء
قم تراهم عموا وصموا قلوباً ... ودعاء الفقير شق السماء
ولقد كنت من قليلك تسخو ... فإذا جدبها يصير رخاء
كم قسمت الأموال تمسك بعضاً ... ثم تعطي جميعها الفقراء
فتآخى الجميع وانبسط الع ... دل ظلالاً وريفة سجواء(763/48)
إن حق الأفراد في أي أرض ... أن يعيشوا في أرضهم أحياء
يا رسولاً دعا القلوب إلى الح ... ب وأنسى الخصام والبغضاء
أنت شيدت بالتآلف للعُ ... رْب صروحاً تصافح الحوزاء
في ظلال الإسلام أقدس دوح ... عطَّر الكون ألفة ورخاء
ثم دار الزمان وافترق الق ... وم دروباً وفرقوا أهواء
فمشى النسر كالزواحف في الأ ... رض يجرُّ العظام والأشلاء
وغدا الجمع كالقطيع شتيتاً ... راح ناب الذئاب فيهم وجاء
ثم قالوا: مذلة واحتلال ... وأرادوا تحرراً وجلاء
ومن الحمق أن نكون شتيتاً ... ثم نبغي تقدماً وارتقاء
ليس ينجي سوى تآلف قومي ... ليردوا تلك النِّقاض بناء
ثم نمضي إلى الأعادي جيوشاً ... نعشق الموت لا نهاب الفناء
فمن الخزي أن نعيش علـ ... ى القيد ونحيا في أرضنا غرباء
أحمد هيكل
دنياي قبر. . .
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
يا حبيبي ما بين كفيك روحي ... تتلوى وللأماني بكاء
كيف أسلمتها إلى ليل هجر ... تتعامى به وأنت الضياء
لم تزل تشكي الصدى يا رحيقاً ... تشتهي برده القلوب الظماء
هي ترضى من ناظريك بوعد ... لا تدعها يقضي عليها الجفاء
يا حبيبي عطِّر شبابي ونظِّر ... أمنياتي فقد جفاها الدواء
كيف خلفتني ببيداء حبي ... أتلظى وأنت ظلٌّ وماء
أنت لي واحة من الحب نشوى ... فوق شطآنها يرف الهناء
ملء أرباضها صفاءٌ وسحرٌ ... ملء أجوائها الهوى والوفاء
عالم للجمال باركه الحب ... ووشته كفه السمحاء(763/49)
يا حبيبي لولاك دنيايَ قبرٌ ... ملؤه من هواجس أشلاء
أنا في ظلك الحبيب أغني ... أغنيات الهوى فتصغي السماء
أنا أهواك يا متمم نقصي ... أنت بعضي فالبعد عنك فناء
يا فكاك الأسير من قبضة الأش ... واق رفقاً فأنت أنت الشفاء
أو تنسى ما قلت بالأمس إني ... لست أنسى هواك أنت الرجاء
لا تخن ود شاعر بك صب ... وارع عهداً يصونه الشعراء
(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري(763/50)
البريد الأدبي
معروف الأرناؤوط في حمى الرافدين:
استردّت السماء إليها في الأسبوع الخالي إحدى ودائعها العزيزة عند الأرض، حين وافى الأجل فقيدنا الغالي معروف الأرناؤوط. .
والأرض والسماء تتبادلان ودائعهما في غير انقطاع؛ ولكن فرحة الإنسانية باستقبال إحدى هذه الودائع قلما تعادل نكبتها بالخروج عنها وتشييعها إلى مستقرها.
وأبناء الحياة يودعون كل يوم أو كل ساعة راحلاً منهم إلى العالم الآخر، ويأسى منهم من يأسى، حيناً من الدهر، ثم ترقأ الدموع، وتندمل الجراح، ويمر النسيان بكفه على الأثر، فيمحي كل شئ إلى الأبد.
ولكن الوقت يخترم منهم بين الفينة والأخرى واحداً بعينه، فإذا صوتُ النائح يعلو على الأصوات كلها، وإذا سحابة الحزن تخيم على الرؤوس جميعها، ثم إذا الجرح أعمق من أن تأسوه الأيام، والأثر أبلغ من أن يغطي عليه النسيان. .
لقد نعى إلينا الناعي معروفاً في ساعة مبكرة من يوم الجمعة الثلاثين من شهر يناير 1948، فعقدت المفاجأة ألسنتنا، وبلبلت أفكارنا، وأثارت لواعجنا، وأطلقت شؤوننا؛ ولم نكد نثوب إلى أنفسنا حتى عرفنا أية خسارة فادحة خسرتها الأمة العربية بفقده، وأي رفد عظيم حرمته العربية بحرمانها منه.
وسار الموكب الرهيب بجثمان الفقيد، بعد ظهر السبت، ومشى خلفه نائب صاحب الفخامة رئيس الجمهورية، وفئة من الوزراء وأصحاب المناصب العليا، وجمهور غفير من حاصة أهل الفضل والعلماء والأدباء الذين تداعوا إلى العاصمة من لبنان والعراق، وجيش لجب من رجال التربية والثقافة وعامة الناس. سار الموكب الرهيب خاشعاً موقراً حتى إذ لمع الراحل مأمنه، انقلب الناس راجعين، وفي كل عين دمعة، وعلى كل شفة خلجة، وبين كل نفس ونفس معنى يصوغ الأحزان ويهيج الخواطر الباكية!.
والآن، لقد تجاوز معروف الأرناؤوط هذا الأفق الأرضي، وانبتت صلة المادة بينه وبين أبنائه، وانصرف عن هذا التهافت العاجز، وابتعد عن هذا الضجيج العابث، الذي نفرغ جهدنا - نحن - فيه. وعرجت روحه إلى أولمب الخالدين، وانضم إلى زمرة أرباب الفن،(763/51)
لينعم بمباهج ذلك العالم الخالد الذي طالما طمح إليه بأفكاره، وليطمئن إلى محاسن تلك الحياة التي طالما حلق بخياله إليها، وليغمر قلبه بنور الأبد الذي طالما حلم به وحن إليه. .
وعاد من عرف معروفاً، فاعتزل الناس، وخلا إلى نفسه، يغالب لوعته وينطوي على أشجانه.
ولئن خلا هو إلى رحمة ربه، فإن عمل معروف وروح معروف وفن معروف، هنا فيما ترك بين أيدينا من كتب ومقالات، وفيما حفظنا له من أحاديث وأقوال!
كان معروف الأرناؤوط طبقة وحده بين الأدباء، تهيأ له الذوق الفني، والخيال الخصب، والذهن المشرق، والقلب الزاخر بالحياة والإحساس، والنظرة النافذة إلى دقائق المعاني، والقدرة العجيبة على انتقاء الألفاظ وتنسيقها وصوغ العبارات التي تستأثر بالإعجاب. .
كان، كما لا يمكن أن يكون كل كاتب، يريق من روحه وعواطفه وعبقريته على ما يكتب، فإذا هذا الذي كتبه ينضح عطراً، ويلتمع ألواناً، ويترقرق عذوبة وألحاناً. . .
كان حسبي، إذا اصطلحت على نفسي الهموم، وتذاءبت على قلبي الأحزان، وتضافرت عليّ المخاوف، في ساعة من ساعات القلق والشك، أن أمد يدي إلى (سيد قريش)، حتى أجد عنده سكينة نفسي، وحتى أجد حلاوة هذه الفصول قد اتصلت بقلبي، وحتى أجد فن معروف يرفعني رويداً رويداً إلى دنيا غريبة فذة من المعاني المحببة والأحلام الجميلة والأخيلة البديعة. . . ولم يزل ذلك حسبي!
إيه معروف! لقد خلفتنا في دنيا غلب عليها الشر، وعدا عليها وعلى أبنائها الشقاء، والتائتْ عليهم سبل العيش، وابتذلت المقايس الكريمة والمثل الرفيعة، وعز عليهم أن يجدوا الطمأنينة لأنفسهم المرهقة. . خلفتهم وهم أحوج ما يكونون إلى نفحات القلب الكبير الذي يحمله الأدباء الكبار أمثالك، وإلى نفثات القلم الملهم الذي يتحرك في يد الكتاب أندادك، يلتمسون عندها الراحة والعزاء والسلوة.
رحمك الله، وأنعم عليك بالجنة والرضوان.
محمد الأرناؤوط
الفتنة الكبرى(763/52)
اطلعت على الكلمة التي نشرت في هذا العدد تعليقاً على مقال لي عن كتاب الدكتور طه حسين عن الفتنة (الكبرى) فلما قرأته آثرت أن لا أضيع على قراء الرسالة صفحات في نقد كلام الدكتور شوقي ضيف، فعجلت بكتابة هذه الكلمة.
وليأذن لي الدكتور طه حسين أن أوجه الكلام إلى الدكتور شوقي ضيف، في بعض ما جاء في رده عليَّ.
فأول ذلك أن الدكتور شوقي قد أطال في كلام أكثره موجود في كتاب الدكتور طه، كأنه أراد أن يشرحه، وكان وكنا في غنى عن مثل هذا الشرح.
والثانية أنه أطال أيضاً في الأسباب الموجبة لنفي قصة عبد الله ابن سبأ، ونحن لم نقل أننا نثبتها برواية الطبري وحسب، بل قلنا إن الدكتور طه زيف القصة بأسباب لا تستقيم، وهذه الأسباب مذكورة في مقالي ولم يتنبه الدكتور شوقي إلى ضعفها وتهافتها. أما إثباتنا لها فسيأتي فيما بعد بطريق آخر غير الذي ظنه الدكتور ضيف.
والثالثة أنه ذكر عن ياقوت شيئاً في شأن تفسير الطبري وتاريخه، وهو أن الطبري روى في تاريخه أشياء عن رجال ليسوا عنده بثقات، وأنه لم يرو عنهم مثل ذلك في تفسيره لمكانهم في التهمة في رأيه. وشرح ذلك أن للطبري رأياً في قوم ليسوا بثقات عنده، فنزه التفسير عنهم لأنه أمر دين تجب منه الحيطة الشديدة؛ أما التاريخ فليس لمثل هذه الحيطة فيه مكان. وموازين المحدثين والمفسرين في رد الرجال وتجريحهم، لا يمكن أن تطبق على أهل التاريخ وسواهم من أدباء ورواة. ولو صح ذلك لأسقطنا رواية التاريخ كله، ورواية الأدب كله، ورواية اللغة كلها،. وأظن أن الدكتور ضيف لم يعط هذا الأمر حقه من النظر والتدبر. ولست فيما أظن أيضاً مكلفاً بشرح أصول هذه الفنون لكل امرئ لم يطلع عليها أو لم يعرفها حق المعرفة، إلا أن يسأل سؤالاً منزهاً عن مواضع اللجاجة في الانتصار لفلان أو فلان.
والرابعة أنه تسرع في ذكر أشياء نعفيه من نقدها، لأنها تطول وشرحها يطول أيضاً. ولكني على ثقة من أن الدكتور طه يعرفها كما يعرفها، وتبين مواضع الغمز فيها
ومهما يكن من شئ، فإني كتبت ما كتبت عن (الفتنة الكبرى) ولم أتممه بعد، ولعل الأستاذ لو صبر قليلاً لرأى ما يرضيه أو يقنعه. أما العجلة فلا تأتيه بشيء إلا تراكب الخطأ على(763/53)
الخطأ، ونحن إنما نكتب لنزيل الأخطاء لا لنراكمها بعضها على بعض.
وليعذرني الأستاذ إذا رأى أني لم أبين له البيان الشافي في مسألة الرواية في التاريخ والحديث والتفسير، وكيف تكون وما شروطها، وما ينبغي أن ينظر إليه الباحث مرة، ويتجاوز عنه أخرى في هذه الأشياء، فإن شاء أن يتحرَّاه على وجهه، فليسأل الدكتور طه نفسه، فهو يدله على المصادر التي تعينه على بيانها إن شاء الله. . .
محمود محمد شاكر
1 - تصانيف ابن تيمية:
قرأت ما كتبه الأستاذ محمد الأمين في عدد (الرسالة) 761 فرأيت أن أنقل من كتب الثقات ما يؤيد قول (المفصل في تاريخ الأدب العربي): وبلغت مصنفاته ثلاثمائة مجلد.
جاء في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) ج6 ص84 في ترجمة الحافظ تقي الدين بن تيمية: قال الذهبي في عدد مصنفاته المجودة: وما أبعد أن مصنفاته إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة.
وقال ابن كثير نقلاً عن البرزالي: وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع كمل منها جملة بيضت وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يكملها، وجملة كملها ولم تبيض إلى الآن.
وقال الحافظ ابن حجر في (الدرر). إن مصنفاته ربما تزيد على أربعة آلاف كراسة. وفي (فوات الوفيات) إنها تبلغ ثلاثمائة مجلد.
وقد كثر القول في هذا الرجل بين نقد وجرح وإطراء ومدح، وأعدل الأقوال هو ما قاله تلميذه ابن كثير: وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب. . . قال مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.
إما (المنتقى) فهو من تأليف جده، وذلك مشهور.
2 - إلى الأستاذ محمود شاكر:
في عدد الرسالة 761 (وهذه الخمسة أشياء) فهل هذا تطبيع، والصواب (وهذه الخمسة الأشياء) والأعلى من هذا والأصح (وهذه خمسة الأشياء) أم تذهبون إلى غير هذا؟(763/54)
محمد أسامة عليبة(763/55)
القصص
نهاية حب
للأستاذ زهدي الشواف
لو قدر لكل إنسان أن يحب كما أحببت، وأن يمنى بالحبيبة كما منيت؛ لفاض ينبوع العواطف في هذه الدنيا.
لقد قضيت ريق شبابي على مقعد الدرس، وصرفت زهرة أيامي وأن أقلب صفحات الكتب. ولقد كنت أحسب أن هذه الأوراق الجامدة ستنال مني؛ فتحد نشاط عاطفتي. ولكني كنت مخطئاً في ظني؛ إذ كنت كلما انصرفت لحظة عن الدرس طالعتني العيون الناعسة فعدت وكأن لم أقظ لحظة إلى جانب كتاب، ولم أمض ثانية بعيداً عن تيار العاطفة الجارفة.
وظللت تبيع العاطفة؛ فأمضيت حقبة من الزمن سادراً لا أرعوي، حتى قيض الله لي الصدمة التي أبرأتني من الداء.
كان ذلك في صبيحة يوم من أيام الربيع في حماة؛ فقد استيقظت باكراً ومضيت للحقول أمتع العين بمفاتن الطبيعة، ولم يطل بي الطواف كثيراً؛ فقد كان عقرب الساعة يسرع في جريه فيدنو من الثامنة. وكانت المدرسة تتمثل لي من ورائه، وكانت دقات الجرس ترن في أذني مؤذنة بحلول الدرس الأول. . . يا إلهي كيف أترك هذا الهواء الطلق، وهذه الجنان الرحبة. . . لأنحدر إلى الغرفة الضيقة. . . إلى الهواء الحبيس!. وكيف أضحي بهذه الحرية المطلقة لأستريح إلى نظام أقل ما يقال فيه إنه غول الحرية! ولم أذهب في تفكيري بعيداً فلم يبق للثامنة إلا دقائق عشر لا تكاد تكفي للوصول إلى المدرسة.
وعدت أدراجي آسفاً، وانحدرت إلى المدينة لا ألوي على شئ. وبينا أنا في الطريق قرع مسمعي نبرات صوت عذب فرفعت رأسي لأتبين مصدرها، فإذا أنا أمام جبين وضاح يبهر بنوره شمس تلك الصبيحة الفاتنة.
إنها فتاة في مقتبل العمر، وقفت في نافذة بيتها تتلهى برؤية المارة. لقد انحنت قليلاً ممسكة شعرها المتهدل بيمناها وراحت تداعب بيسراها قطتها الجميلة. ولقد لبثت هذه القطة تونو إليها شاخصة ذاهلة، وكأنها قد سحرت بزرقة تلك العيون، أو أنها فتنت بمنظر ذلك الجبين. . . ولم أشعر إلا وقد طرحت كتبي على الأرض ثم جلست فوقها ورحت أرنو إلى(763/56)
النافذة شاخصاً ذاهلاً. . لقد أنساني هذا الجمال كل ما قد شهدت في الحقول من جمال، وأبعدت هذه الحقول شبح المدرسة عن فكري. وكأن فعلتي هذه لم ترق للآنسة المحترمة؛ فإنها لم تكد تراني أحدق في وجهها حتى اعتدلت بوقفتها وسوت شعرها بيدها ثم أغلقت النافذة وانصرفت.
أما أنا فقد لبثت في مكاني أفكر بحظي التاعس، وأقرن نفسي إلى تلك القطة السعيدة! إنها أسعد من على الأرض! ألا يكفيها أنها تستمتع بحريتها وتعيش إلى جانب الآنسة الفتانة!. . ألا يكفيها أنها لا تمسك نفسها ساعات طويلة على مقعد الدرس. ألا يكفيها أنها لا تشغل بالها بقوانين الجبر، ولا ترهق نفسها بحفظ قواعد الصرف والنحو! سعيدة أنت أيتها القطة.
وبينا أنا سابح في سماء الخيال؛ وقعت عيني على الساعة فإذا بها تشير إلى الثامنة والربع. . . يا للمصيبة!. . . أين المدرسة؟. بأي وجه أقابل الناظر؟. . . ومضيت أجر ساقي جراً، وكنت كلما سرت خطوتين تلفت لأرى النافذة ومن وراء النافذة. حتى إذا ما خفي المنزل عني عدوت نحو المدرسة ودخلتها متأخراً؛ فاستقبلني الناظر بطلعته الكالحة. وبعد السؤال والجواب سجل لي ما يناسبني من جزاء ثم سمح لي بالدخول إلى الصف.
ودخلت الصف فألفيت زملائي الطلاب ساكتين كأن على رؤوسهم الطير. لقد كان الوجوم يخيم في سماء الغرفة، وكان الصمت يستأثر بالأفواه. . . أين هذا الكلوح من تلك البشاشة! وأين هذا التزمت من ذلك المرح؟. . .
وأخذت وقعدي ورحت أفكر. ولقد كان لي في صمت الطلاب وهدوئهم ما يحملني على الانطلاق في سماء الخيال. . . لقد فتحت الكتاب لأتابع الأستاذ في قراءته، ولكن العيون الزرقاء كانت تطالعني من بين الأسطر. . . لقد كانت كل كلمى عيناً زرقاء، وكان كل سطر خصلة شقراء. لقد كنت في زاد والطلاب في واد. وانتهى الدرس الأول، وتبعه الثاني، وانصرم النهار وأنا لا أعلم كيف انصرم؛ ولكن الذي أذكره هو أنه كان طويلاً، وأني لم أفد به من العلم لا كثيراً ولا قليلاً.
ورجعت البيت في المساء كاسف البال محطم الأعصاب، ولم أقدر على المطالعة، فأغلقت الكتاب واضطجعت في الفراش. . . ولكن أنى للنوم أن يزور الأجفان التي تتطلع من وراء الخيال إلى صورة الحبيب المجهول.(763/57)
وتوالت الأيام وأنا أزداد بالآنسة شغفاً، وتتابعت الليالي وأنا أطوف حول بيتها لعلي أظفر منها بنظرة. ولكن هيهات! فقد كانت لا تكترث بوجودي، ولا تبالي بمروري وإنما تعتدل في وقفتها فتغلق النافذة ثم تنادي قطتها وتنصرف. وكنت إذا لحظت منها الصدود غضبت وأقسمت أن لا أمر من أمام بيتها، ولكن ما أسرع ما أحنث بهذا القسم فلا أجدني إلا سائراً في طريق بيتها. لقد كانت هذه القصة تتمثل كل يوم، ولكنها تنتهي وكأني لم ألحظ صدوداً ولم أحلف يميناً.
وأقبل الصيف وأغلقت المدارس أبوابها فوجدت في العطلة الصيفية عوناً على تحقيق رغباتي. لقد رحت أقضي الأيام الطوال حول منزل آنستي فأستقصي أخبارها وأتنشق عبير رائحتها. . . ولقد تخطت معرفتي بها الحدود التي كان الربيع قد رسمها فلم أعد أقنع برؤيتها في النافذة، وإنما أصبحت أراها في الطريق رائحة غادية برفقة مربيتها العجوز (نانو).
وإن أنس لا أنس تلك اللحظات التي كنت أقضيها بانتظار خروجها. لقد كانت اللحظة شهراً، وكانت الساعة دهراً، ولكني ما كنت لأشعر بوطأة هذا الطول. فقد كان لي خلفه آمال تعدل كل ما ألقاه من آلام. لقد كنت أنتظر طويلاً ثم لا ألبث أن أسمع صوتاً ملائكياً يرن في أذني. إنه صوتها وهي تقول: (نانو. . . امشي يا نانو) ثم ينفتح الباب وتخرج منه وهي تخطو خطوة وئيدة وإلى جانبها (نانو) فأقف في الطريق محاولاً استدراجها إلى ابتسامة رقيقة. ولكني كنت أعود كل مرة خائباً. فقد كانت تمر بي دون أن تشعر بوجودي أو تفطن إلى عواطفي. وإني لا أزال أعجب لتلك العواطف الجامدة كيف لم تعصف بها نظراتي الحادة، وإني لا أزال أكبر ذلك القلب الهادئ الذي لم تستطع أن تحركه نبرات قلبي المتأججة. . .
وقد أوشك الصيف أن ينقضي قبل أن أنتهي إلى تنيجة مرضية، فقد ظل قلب الآنسة بعيداً عن قلبي وبقيت آذانها مغلقة عن سماع صوتي، وقد تراءى لي أنها تكتم عواطفها خوفاً من (نانو) العجوز، فاعتقدت أن الحب يقضي علي أن استعطف (نانو) وأن استدر رحمتها.
ولما كان الغد ملت بنظري نحو (نانو) فابتسمت لي وابتسمت لها وقلت في نفسي إنها ولاشك قد أدركت معنى ابتسامتي وفهمت مغزى وقوفي، وتتابعت النظرات والابتسامات(763/58)
ورأيت (نانو) ذات صباح وحدها فدنوت منها وتكلفت من الشجاعة أكثر مما أطيق، ثم اعترضتها وقلت لها: (الهوى صعب يا نانو!) فهجزت برأسها هزة العجب والكبرياء ثم أجابتني (والصبر طيب. . . طيب يا حبيبي!.) ثم مضت لسبيلها وظللت وحدي أفكر في معنى كلمتها. . .
(البقية في العدد القادم)
زهدي الشواف(763/59)
العدد 764 - بتاريخ: 23 - 02 - 1948(/)
من مذكراتي اليومية:(764/1)
قصة فتاة. . .
يوم الاثنين 7 مايو 1945:
عرفت من بين الرسائل الكثيرة التي ألقيت إليّ صباح اليوم رسالة الآنسة (س) من غلافها الوردي الأنيق، فوضعتها ناحية ريثما أفرغ من بريد الرسالة، ثم عدت إليها فشققت كمامها عن أربعة أسطر تقول فيها: إنها حضرت القاهرة منذ يومين، وإنها ترجو أن تراني في الساعة الخامسة من مساء الخميس المقبل بمحْلى (جروبي) الجديد، وإنها ستضع مجلة (الرسالة) على المائدة التي ستجلس إليها، لتكون دليلاً عليها؛ فإننا تعارفنا منذ عام بالكتابة نفساً لنفس، ولكننا لم نتعارف إلى اليوم باللقاء وجهاً لوجه
كيف أفلتت هذه الفتاة الغريرة من ربقة التقاليد الصعيدية المحكمة فتركت عزبتها إلى المدينة، وبيتها إلى الفندق، وحديقتها إلى جروبي؟ هل أقدمت على ما كانت تسوله له نفسها الطموح من الانعتاق والانطلاق، فخرجت مما كانت تسميه (قبراً) لتدخل فيما كانت تسميه (دنيا)؟ سؤالان ألقيتهما على نفسي ورسالتها عالقة بيدي، وحياتها ماثلة في ذهني، فلم تدر نفسي ماذا تجيب. قد أستطيع بما نمت عليه رسائلها من أخبارها وأسرارها أن أخمن بعض الأسباب التي أقدمتها إلى القاهرة، ولكن بين التخمين واليقين ثلاثة أيام، فلأنتظر حتى ألقاها
ألقى إليّ البريد أولى رسائلها من الصعيد الأوسط في أوائل إبريل من سنة 1944 حين سرى الروح الإلهي في همود الطبيعة فأيقظ الراقد وأنعش الخامد وأعلن المستكن. كانت في تلك الرسالة متهينة متحفظة، كالغريب الطارئ يقرع الباب بلطف، ويدخل البيت في استحياء، حتى إذا وجد من أهل الدار بشاشة القبول وكرم المثوى، علّق العصا وخلع المعطف. وما كان لكاتب نصب نفسه للتوجيه والإرشاد أن يذود عن بابه المفتوح فتاة تلتمس نفَساً من كربها وسندها لضعفها وسبيلاً لهداها
لم تقل في رسالتها القصيرة أكثر من أنها آنسة في الخامسة عشرة فقدت في السن الباكرة أبويها فكفلها أخوها. وأخوها على طباع أهل الصعيد شديد الحفاظ صارم النخوة لم يسمح لها بالمضي إلى غاية التعليم الثانوي فضمها إليه في العزبة. والعزبة حديقة تتوسطها دار يسكنها الأخ وزوجه وابناه الصغيران، ثم الدوار وبيوت الفلاحين يفصلها عن حمى المالك(764/2)
طريق واسع وسور مرتفع، ثم حقول مترامية الأطراف يغشاها السكون وتلفّها الوحشة. وزوجة أخيها امرأة ضيقة الفكر واسعة العمل حيية الطبع لا تحب الاجتماع ولا تحسن الحديث. فهي لا تمتلك في هذه البيئة وهذه الطبيعة إلا أن تزجِّي فراغها الثقيل بقراءة قصة أو كتابة رسالة أو رسم صورة أو نسج قطعة. ولكن وجهة آمالها وحديث أحلامها أن تكون يوماً ما أديبة. وقد قرأت لي (آلام فرتر) و (رفائيل) فراقها الأسلوب وسحرها الروح. وهي تطمح أن تبلغ من الفن الكتابي مبلغاً يهيئها أن تعبر عن نفسها هذا التعبير، وأن تكشف عن روحها هذا الكشف؛ وتطلب مني في ابتهال وضراعة أن أجيب عما ترسل إليّ من رسائل، فأوجهها إلى ما تقرأ، وأحاسبها على ما تكتب، وأناقشها فيما تفكر، وأملأ يومها الفارغ الطويل بتحرير الكتب إليّ، وانتظار الأجوبة مني؛ وذلك فيما تزعم جزء من رسالة الأديب الذي اصطفاه الله ليجمّل بفنه قبح الحياة، ويخفف بعلمه شقاء الناس.
إن الرد على ما يأتيك من الرسائل واجب، وهو بالطبع على رسائل السيدات أوجب؛ ولكن هناك - ولا أكْذِبك - دافعاً أقوى من الواجب، هو تلك اللذة الطبيعية التي يجدها الرجل في الحديث إلى المرأة أو عن المرأة. لذلك لم أكد أقضي حاجة النفس من جمال تلك الرسالة، بإجالة الفكر في الأسلوب، وإطالة النظر في الخط، حتى كتبت الجواب عنها إلى الفتاة بأسلوب أب يحاول أن يكون لابنته كما تريد، ويجتهد في أن يفتح أمامها باب الأمل من جديد.
للقصة بقايا
أحمد حسن الزيات(764/3)
الحرية! الحرية!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أصبحت الجامعة العربية حديث العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، قد ناطوا بها كل آمالهم في بلوغ غاياتهم وإدراك ما تتمناه قلوبهم وضمائرهم، وحسب الجامعة أن تكون قبلة أربعمئة مليون عربي ومسلم في دنيا كلها عدوّ لنا يبغينا الغوائل. ولكن لا أحسب، فليس من الحق أن نترك الجامعة تسير وحدها في الطريق دون أن ترتفع أصوات طلاب الحق تؤيدها وتسددها وتشير عليها بالرأي بعد الرأي، فإن رجال الجامعة رجال من أنفسنا، قد رضيت العرب أن تعهد إليهم بقيادة هذه الشعوب المطالبة بالتحرر من قيود الاستعمار التي ضربت علينا ونحن في غفلة عن الدنيا الضارية التي أرسلت علينا وحوشها ترتع في حمانا، وتستأثر بخير بلادنا، وتنال منا نيلاً شديداً.
وقد آن أوان تغيير ما كان وما سار عليه العمل في السنوات الماضية. فالجامعة ترى كما يرى كل عربي ومسلم منذ وضعت الحرب العالمية الماضية أوزارها، أن أوربة الجائعة التي لا تشبع، قد خرجت من تحت أنقاض الحرب وفي زمان الحرب. وأنها تريد أن تلتهم كل شئ فتشبع ونجوع نحن، وتعبث ونئن نحن، وتستغرق في الترف وناعم العيش وإن أغرقتنا نحن في الضنك وبؤس الحياة. فهذه روسيا تريد أن توغل حيث أطاقت وحيث تيسر لها أن تتوغل. وهذه بريطانيا الكاهنة العتيقة العاتية تريد أن تتلو زمازم كهانتها على شعوبنا لتنيَمنا مرة أخرى على الخسف الذي نمنا عليها أجيالاً طوالاً. ثم هذه ثالثة الثلاثة أمريكا التي لا ينطفئ أوار ظمئها إلى البترول، تريد أن تستنفد كل شئ ما استطاعت، لتنعم هي به وبكل ما يطيق العلم أن يحدثه من ترف أو قوة، فتدخل مع بريطانيا في الحلف الاستعماري، لا تبالي أن تناقض تاريخ الأحرار القدماء من رجالها وبناة مجدها.
وترى الجامعة كما يرى كل عربي ومسلم، أن الشرق العربي والشرق الإسلامي لم يقرّ له قرار منذ سكنت نار الحرب، فقد انبعثت أندونيسيا تريد الحرية فلم يبال بها أحد، وانبعثت الهند تريد الحرية فأناموها بأن أدخلوها في نظام الدومنيون، وهبت مصر والسودان تجادل عن حقها في مجلس الأمن فأصمت الأمم الداعية إلى الحرية آذانها، وعلقوا القضية في هيكل الوثنية الحديثة التي تعبد إله الشهوات، وثار العراق يريد أن يحطم قيود الذل فأرادت(764/4)
بريطانيا أن تختدعه عن نفسه فأبى إباء الأحرار، وماج المغرب العربي في تونس والجزائر ومراكش، فضربت عليه فرنسا حكم الجبروت وألقت بينه وبين العالم أسداداً من فولاذ الظلم والطغيان، وسكت العالم الجديد عن هذا البغي اللئيم الذي ليس له رادع من نفسه ولا من الناس. وفارت مدغشقر فأطفأ المستعمرون تلك الأرواح المستعرة بأسنة الحراب. وأخيراً كشفت روسيا وبريطانيا وأمريكا وسائر الدول الصليبية قناع النفاق والرياء، فقضت أن تطلق على فلسطين أنذال البشرية من يهود، ليطردوا العرب من أرض آبائهم وأجدادهم منذ كان للعرب على هذه الأرض تاريخ، فأجمعت الأمم الإسلامية على أن ترد هذا العدوان وإن اجتمعت الدنيا كلها على تحقيقه ومناصرته.
ترى الجامعة العربية كل هذا كما يراه كل مسلم وعربي، ولكنها لا تزال تسير في أمر هذه الثورة الجامحة - التي يريد بها العرب والمسلمون أن يطهروا أنفسهم من الاستعباد، وأن يطهروا أرض الله من البغي والعدوان - سيرةً لم يسرها قبل مطالب بحق يعلم أنه حق لا نزاع فيه. فهي تشغل نفسها مثلاً بقضية فلسطين وحدها - على خطر شأنها - وتنسى ما يجري في مراكش وتونس والجزائر، وما يحدث في العراق، وما هو كائن في مصر والسودان، وما لا يزال يحدث في أندونيسيا وسائر البلدان والأمم المطالبة بالحرية. ولعلها تقول إنها تنظر في الأهم ثم المهم، وإنها لا تريد أن تخرج عن الأصل الذي وضعت له والذي يدل عليه اسمها وهو (جامعة الدول العربية)، لا جامعة العرب، ولا جامعة الإسلام، ولا جامعة الشرق. وهذا حق، ولكن ما الذي يحسبها على هذا وحده؟ وما معنى أن تقصر أمرها على الدول العربية (المستقلة) في ظاهر الأمر؟ إن هذه الدول العربية (المستقلة) ليست مستقلة في حقيقة الأمر، وإلا ففيم ثورة مصر والسودان؟ وفيم ثورة العراق؟ وفيم غليان شرق الأردن؟ فليس من الرأي أن تظل الجامعة العربية مقيدة بأشياء هي حبر على ورق؛ بل ينبغي أن تضم إليها رجالاً من تونس والجزائر ومراكش، وينبغي أن تضم إليها رجالاً من سائر الدول الإسلامية والشرقية ممن لهم مع العرب صلات لا يمكن أن تقطعها هذه القواطع المزيفة، وينبغي أن تعلن الجامعة العربية أنها قد أخذت على عاتقها أن تدافع عن حرية العرب وحرية المسلمين، وينبغي أن تكون هي المؤتمر العام الذي ينضم إليه كل ناشد للحرية في هذه الأرض مهما اختلفت الأجناس والأديان.(764/5)
بل ينبغي أن تجمع الجامعة العربية في يدها أمر السياسة العربية والإسلامية جملة واحدة، وأن تضع المبادئ التي يجب على كل أمة تنضم إليها أن تعمل بها، وأن تكون هي المعبرة عن النداء العام الذي تنادي به هذه الأمم والشعوب وهو: الحرية! وينبغي أن تسير في ذلك كله مرة واحدة، فلا تفرق قضية الحرية إلى قضايا كل واحدة منها تعالج على أسلوب يخالف أخاه أو يتخلف عنه
إن روسيا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وسائر الدول المستعمرة، أو أذيال الدول المستعمرة، قد اتفقوا جميعاً على العرب والمسلمين وأهل الشرق، ففيم نتأخر نحن أو نحجم أو نتلجلج؟ ولم لا نعمل جميعاً جملة واحدة، ويداً واحدة، وفي وقت واحد، وأي عائق يعوق المطالبين بالحرية والناشدين لها عن اجتماع الكلمة على هذا الحق الذي لا يملك أحد أن يمنحه أحداً، لأنه عطية الله ونعمته، ليس لأحد أن يسلبه؟ وكيف يسلبه وهو قوام هذا البنيان الإلهي؟ فإذا خلا هذا البنيان من الحرية، فقد خلا من الحياة وانهدم، وكان أنقاضاً تسعى على أرض تلفظها، وتستظل بسماء تلعنها.
إن جامعة الدول العربية، إنما تتكلم اليوم باسم الشعوب العربية لا باسم الحكومات وحدها. فلتعلم الجامعة أن الشعوب قد سئمت هذه السياسة العتيقة البالية، سياسة المداورة والمحاورة، سياسة الظنون الخداعة، سياسة المغررين الذي يحسبون أن سينالون حقوقهم بالمفاوضات والمحادثات والمخابرات والمخادعات. فلتحذر إذن أن تقف دون الغاية التي تسعى إليها شعوبها، ولتخط الخطوة الواسعة التي خطتها الشعوب في سبيل درك الحرية وانتزاعها من الجبابرة الظالمين. إنها اليوم أعظم قوة في هذا الشرق العربي والإسلامي، فلزام عليها أن تنطق بإرادة هذه الشعوب مجتمعة، لا بإدارة حكومات تغرر بها السياسة، ولا بإدارة أفراد مهما بلغ سلطانهم فهو دون سلطان الشعوب التي يمثلونها، بل ينبغي أن تكون الجامعة هي الرقيب الذي لا ينام على إرادة هذه الحكومات وعلى إرادة هؤلاء الأفراد، طبقاً لإرادة الشعوب وحدها.
إني لا أزال أنذر الناس أننا نعيش اليوم في زمن غير الزمن الذي ألفوه منذ خمس سنوات وحسب، فاليقظة التي تدب اليوم في كيان الشعوب العربية والإسلامية أضخم وأعظم وأقوى مما يخطر ببال أحد، إنها القوة التي لا يقف دونها سلطان ولا طغيان ولا بأس. نعم،(764/6)
إن النظر العابر الخاطف لا يكاد يدل على هذه الحقيقة، ولكن النظرة المتأنية المتعمقة تستطيع أن تحس بهذه الحركة الجياشة التي فار فائرها تحت هذا الظاهر الساكن المطمئن. وإنما يغفل من يغفل عن إدراك هذه القوة، لأنه ألف شيئاً مضى، فقاس عليه شيئاً جديداً يراه وهو متأثر بهذا الماضي، ولأنه مسوق في عنان هذه السرعة الخاطفة التي يجري بها عالمنا الحاضر إلى الغايات التي لا يعلم غيبها إلا عالم غيب السموات والأرض. ولكن الجامعة العربية قد فرض عليها أن تنظر النظرة المتأنية العميقة لتدرك هذه الحقيقة التي لا تخفى، ثم نقيم سياستها على هذا الأصل وحده دون الأصول الأخرى التي ورثتها عن السياسات العتيقة، سياسة المفاوضات والمخادعات، وسياسة الأخذ والإعطاء، وسياسة تقسيم القضية الواحدة - قضية الحرية
إني أنذر الحكومات، وأنذر الجامعة العربية بأن هذه اليقظة القوية العنيفة سوف تنكشف عن قريب، وأنها إذا لم تجد الحكومات، ولم تجد الجامعة العربية، قد تهيئوا للسير في خطاها. فهي ستدمرهم جميعاً عصف الرياح بهشيم النبات. فليتق الله كل عامل منا، ولينظر إلى غد، وليعرف حقيقة هذه الشعوب، وليأخذ نصيبه من التبعة التي ألقاها عليه مكانه من الناس ومن الشعوب
إن قضية الشعوب العربية والشرقية والإسلامية (قضية واحدة)، فاكتبوا هذه الكلمة في كل مكان، ورددوها بكل لسان، واهدروا بها هدير الأمواج في هذه البحار المظلمة، فإنها كلمة النجاة لكم ولشعوبكم وللناس جميعاً.
إن ساعة الخطر الأعظم قد دنت وتطابقت علينا عقاربها من هنا ومن ثم، وإن بريطانيا أولاً ثم أمريكا وروسيا وأذيالهم من أمم الاستعمار الصليبية، تدرك هذه الحقيقة كل الإدراك، فهي تريد أن تمزق شمل هذه القوة قبل أن تجتمع وتبدو جملة واحدة. فبريطانيا تريد أن تشغل كل قبيل منا أول كل دولة بشأن من شئونها التي تثير جماهير رجال السياسة القدماء، أولئك الرجال الذي نشئوا في أحضانها، أو في أحضان استعمارها الخبيث. وأمريكا تريد أن تشغل كل أمة منا باللعنة الماحقة التي تقوم عليها قوتها وهي البترول ومنابع البترول، تشتريه من هذه الأمم الفقيرة بأبخس الأثمان، فتنقله إلى بلادها فيكون أرخص ثمناً من البترول الذي تستخرجه من نفس أرضها! وتخدع هؤلاء المساكين(764/7)
بالدولار تعطيه، وهو ليس عطية، بل محنة وبلاء واستعباداً للإنسان الفقير الذي يظن أن المال هو كل شئ في هذه الدنيا. وأما روسيا فهي تعمل جاهدة على أن تأتي هذه الشعوب من طريق فتنتها عن الهدف الأعظم وهي الحرية، وتوجهها إلى الفتنة الخبيثة توقدها بين الغني والفقير، والمالك والمستأجر، والعامل وصاحب المال، حتى إذا صرفت الوجوه عن حقيقة الحياة - أي عن الحرية - دخلت فاستقرت وتحكمت واستبدت، وفعلت بنا ما فعل هؤلاء الديمقراطيون: زعموا أنهم يدافعون عن الحرية ثم سلبونا حريتنا، وتدعي روسيا أنها تريد المساواة بين الناس؛ فإذا دخلت بيننا حرمتنا هذه المساواة. إن هذه الدول جميعاً على اختلافها واختلاف مصالحها قد اتفقت على مصلحة واحدة هي أن تقتلنا، ثم يأتي بعد ذلك تنازعهم واقتتالهم على أسلاب هذا القتيل.
فالجامعة العربية هي التي كتب عليها منذ اليوم أن تقف حيال هذه القوى مجتمعة لتردّها عن هذا الهدف اللئيم الذي تسعى إليه. فلتجمع في لسنها ضمير هذه الشعوب المستهدفة للخطر الأعظم، ولتنطق بالكلمة الواحدة التي تعبر عن هذا الضمير، وهي أن قضية العرب والشرق والإسلام قضية واحدة، قضية لا تتجزأ لأن الحرية لا تتجزأ. والجامعة العربية تعلم - أو ينبغي أن تعلم - أنها إذا نطقت بهذه الكلمة وجعلتها أصل سياستها التي لا تقبل فيها مهادنة ولا مفاوضة ولا مجادلة، انبعث من ورائها قوة أربعمئة مليون نسمة تهتف من ورائها هتافاً يهدّ الجبال الراسيات، ويشتت بأس الأمم الطاغية بسلاحها ومدمراتها وجبروتها وبغيها ويهودها أيضاً. إنهم أربعمئة مليون يهتفون بلسان واحد في وقت واحد: الحرية الحرية!
إنها قضية واحدة أيتها الجامعة! إنها قضية واحدة أيتها الحكومات! إنها قضية واحدة أيها الملوك والأمراء! فاجمعوا أمركم وتنادوا جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها - من حدود الصين إلى بلاد المغرب الأقصى، ومن بلاد الشام إلى جنوب إفريقية. تنادوا بالكلمة الواحدة التي تزلزل هذه الأرض التي امتلأت جوانبها بغياً وظلماً وفساداً، تنادوا بحرف واحد، وبلسان واحد، وفي وقت واحد: الحرية! الحرية! (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
محمود محمد شاكر(764/8)
القتل في الشرائع
لحضرة صاحب العزة الأستاذ علي بك حلمي مدير البحيرة
قتل النفس بغير حق جريمة من أقسى الجرائم وأشدها إخلالاً بالأمن العام. فهي تقضي على حياة الإنسان فتسلبه صفة الوجود دون رحمة ولا شفقة. وكثيراً ما تعتمد على الغدر والخيانة، فلا يجد المجني عليه فرصة للدفاع عن نفسه والذود على وجوده.
وقد نشأت هذه الجريمة منذ وجدت الجماعة وحدث بين أفرادها تعارض الرغبات والشهوات. وورد ذكرها في جميع الشرائع والديانات القديمة، ونص فيها على عقوبة مقترفيها بجزاء يختلف شدة وضعفاً باختلاف درجة الجماعة من رقي واضمحلال.
القتل قبل الشرائع:
لم يكن لجريمة القتل جزاء محدود ولا تشريع مرسوم. ولقد حدثنا القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة المائدة: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) عن أول جريمة وقعت من الإنسان على أخيه، وعن أول تشريع جنائي لهذه الجريمة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: (ليس من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل)
القتل في التوراة:
فرقت التوراة بين الأحوال المختلفة لجريمة القتل وبين العمد منها وغير العمد، ورسمت لكل نوع عقوبة خاصة تتناسب مع درجتها في الإجرام. ومن نصوصها: (من ضرب إنساناً فمات فليقتل قتلاً؛ فإن لم يتعمد قتله بل أوقعه الله في يده فسأجعل له موضعاً يهرب منه. وإذا بغى رجل على آخر فقتله اغتيالاً؛ فمن قدام مذبحه يأخذه ليقتل. ومن ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً. وإذا تخاصم رجلان فضرب أحدهما الآخر بحجر أو تكلم ولم يقتل بل سقط في الفراش؛ فإن قام وتمشى خارجاً على عكازه يكون الضارب بريئاً إلى أن يعوضه عطلته، وينفق على شفائه. وإن حصلت أذية تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكياً بكي وجرحاً بجرح ورضاً برض).(764/10)
ومن هذه النصوص يظهر للباحث أن شريعة اليهود تنص على القصاص في كل الحالات دون ذكر العفو عن أية حالة منها.
القتل في الإنجيل:
جاء في إنجيل متي: (سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر؛ بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له خدك الأيسر، ومن رأى أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين)
وبمقارنة هذه النصوص مع نصوص التوراة نجد أن الأولى تقرر العفو دون القصاص مما حدا ببعض الناس إلى القول بأن الإنجيل لا يجعل القتل من شرائعه - وقال آخرون إن الذي لم يذكره الإنجيل إنما هو القود؛ إذ أن الدية كانت واجبة في جريمة القتل العمد، وأنكر ذلك الشخ الإمام محمد عبده في رواية عن السيد رشيد رضا. ويتفرع عن هذا البحث آراء كثيرة لا يتسع الموضوع لذكرها الآن؛ غير أننا نلاحظ فارقاًَ بيننا في تقرير عقوبة القتل في كلا التشريعين السابقين - فبينما نرى التوراة تميل في تشريعها إلى جانب المجني عليه فتفرض القصاص وتتجاهل العفو نجد الإنجيل يفرض العفو على ولي الدم ويمنع مقابلة الجرم بمثله؛ ولذلك يقال: إن في التشريع الأول تفريطاً في شأن الجاني وفي التشريع الثاني إفراطاً في النظر إليه.
القتل عند البدو:
كان العرب قبل الإسلام أمة فطرية تعيش على البداوة بنظامها وعاداتها الخاصة - وقد شاع في بيئتها القتل وجرت عاداتها على قتل القاتل - ولكن بالنسبة لما جبلت عليه العرب من الحمية الجاهلية والعصبية وكلفهم بالأخذ بالثأر أسرفوا في القصاص وتمادوا فيه فأصبحت الجماعة تقتل بالواحد دون النظر إلى قواعد العدل والإنصاف، ولم يرفع هذا الظلم إلا بنزول القرآن وظهور الإسلام.
القتل عند الرومان:
يتساوى الرومان والعرب في أن جريمة القتل عرفت عندهم من قديم الزمان واعتبروها عقوبة لنفس الجريمة - غير أنهما يختلفان في ناحيتين جوهريتين.(764/11)
فالأولون ينوعون في تطبيق عقوبة القتل ولا يسرفون في القصاص؛ كما كان عليه الشأن عندالعرب - والناحية الثانية أن نظام الطبقات عند الرومان كان ملحوظاً في تطبيق هذه العقوبة؛ فإذا كان الجاني من الأشراف استبدل النفي بعقوبة القتل وإذا كان من الطبقة الوسطى كانت عقوبته قطع الرقبة؛ وإذا كان من الطبقة الدنيا كانت عقوبته الصلب أو إلقاءه طعاماً لحيوان مفترس، أو يشنق.
وقد دخل على هذا النظام عدة تغييرات انتهت بتدخل الحكومة في إقرار العقوبة وتنفيذها، كما هو الحال عليه في القوانين الحديثة
القتل في الإسلام:
نزل في عقوبة القتل آيتان أولاهما مكية وهي أول ما نزل في القتل وهي قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) والأخرى مدنية وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان؛ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة؛ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون). كما وردت نصوص أخرى متفرقة في القرآن نهت عن القتل منها: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون). ومنها قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً. ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات وذكر فيها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)
أسباب النزول:
روي في أسباب نزول القصاص أن بدوياً قتل آخر من الأشراف؛ فاجتمع أقارب القاتل عند ولي المقتول وسألوه عما يريد، فخيرهم بين إحدى ثلاث قالوا: ما هي؟ قال: إما أن تحيوا ولدي، أو تملأوا داري من نجوم السماء، أو تدفعوا لي جملة قومكم ثم لا أرى أني(764/12)
أخذت عوضاً.
تبين هذه الرواية مقدار ما جبلت عليه نفوس العرب من الإسراف في طلب القصاص والتعنت فيه كأخذ الجاني بغيره والجملة بالواحد
استمر العرب يقتلون الجماعة بالواحد والرومان يفرقون بين الشريف وغير الشريف؛ والتوراة تحابي المجني عليه؛ والإنجيل يفرط في شأنه حتى ظهر الإسلام فنزلت آيات القصاص التي تنظم جزاء جريمة القتل وترسم عقوبتها على أسس من العدل والإنصاف سنذكرها في مقال تال إن شاء الله فارتفع من الشرائع الأخرى مساوئها واستقرت محاسنها.
علي حلمي(764/13)
التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لقد ظهر الإسلام والدولة الرومية تحكم فلسطين وغيرها من بلاد الشام، وكانت قد قضت على دولة اليهود فيها من قبل الميلاد المسيحي، وفرقتهم منها في سائر البلاد، وكانت دولة اتلروم تحكم فلسطين وغيرها من البلاد الشرقية حكماً استعمارياً، يستبد في الأوربيون بالشرقيين كما يستبدون بهم في عصرنا، ويقوم على أساس الطمع في بلادهم كما يقوم الآن بيننا، فلما ظهر المسلمون مال أهل هذه البلاد إلى حكمهم، لأنه لم يكن حكم طغيان واستبداد كحكم الدولة الرومية، فدخلت في حكم المسلمين بحق الفتح، ودخل كثير من أهلها في الإسلام عن طواعية واختيار وبقي بعض أهلها على دينهم، فعاشوا بين إخوانهم من المسلمين تجمعهم كلمة الوطن، ولا يؤثر فيهم ما بينهم من اختلاف في الدين حتى مضى عليهم فيه أكثر من ثلاثة عشر قرناً، وإنه ليكفي أقل منها لتثبيت حقهم فيه، ولإبطال حق الروم الذين كانوا يحكمون قبلهم، فما ظنك باليهود الذين لم يكن لهم أثر فيه على عهد فتح المسلمين له، وهذا هو حكم التاريخ والسياسة في أمر فلسطين، وهو حكم صريح في أنها للعرب من مسلمين ومسيحيين لا لليهود ولا للصهيونيين، ولا لغيرهم ممن يريد سلبها منهم، ويستغل حمق اليهود والصهيونيين في الوصول إلى مأربه، ليضرب العرب بهم ويضربهم بالعرب، ويظفر بعد هذا بما له من مأرب وحينئذ يندم اليهود ولات ساعة مندم، ويأسفون على إساءتهم لمن أحسن إليهم ولات ساعة أسف.
وأما حكم الدين فهو كحكم التاريخ والسياسة أيضاً، لأن اليهود قد وعدوا بذلك الوطن في عهد إبراهيم حقاً، إذ جاء في الآية - 7 - من الأصحاح - 12 - من سفر التكوين (وظهر الرب لإبرام وقال: (لنسلك أعطي هذه الأرض) وجاء في الآية 21 - من سورة المائدة (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) وهذا خطاب من موسى إلى قومه حين ذهب بهم من مصر إلى هذه الأرض المقدسة.
ولكن الله تعالى لم يكتب هذه الأرض لهم لأنهم يهود، ولا لأنهم أبناء إبراهيم عليه السلام، ولا لأنهم قوم موسى عليه السلام، لأن البشر عنده سواء، وهما جميعاً خلقه وعبيده، وعدله يشملهم عامة، ورحمته تعمهم كافة، وإنما كتب لهم هذه الأرض ليقوموا فيها بعهده، ويؤدوا(764/14)
فيها حقه عليهم، كما قال تعالى في الآية - 40 - من سورة البقرة (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون)
وكان عهد الله تعالى عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن يصدقوا أنبياءه الذين يرسلهم إليهم، فلم يفوا له بهذا العهد وكذبوا بعض من أرسله إليهم، وقتلوا بعضهم، كما قال تعالى في الآية - 70 - من سورة المائدة (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذّبوا وفريقاً يقتلون) والتوراة وما بعدها من كتب العهد القديم مملوءة بأخبار نقضهم هذا العهد، وكفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم أنبياءه.
وقد سلط الله عليهم من أخرجهم من هذا الوطن جزاء لهم على
نقض هذا العهد، وكان بختنصر أول من سلطه عليهم،
فأجلاهم من فلسطين إلى بابل، وقد مكثوا بها إلى أن أعادهم
كورش الفارسي إلى فلسطين، فأقاموا بها ثانياً مدة من الزمان،
وأقاموا دولة لهم فيها دون دولتهم الأولى.
ثم سلط الله عليهم دولة الروم قبيل ظهور المسيح، فقضوا على دولتهم قضاء لا مرد له، وأجلوهم من فلسطين آخر جلاء، لأنهم كذبوا مسيحه وحاولوا قتله، وقتلوا ابن خالته يحيى بن زكريا قبله، فعظم بغيهم، وتفاقم شرهم، وانقطع الأمل في صلاح حالهم ولم يبق معنى لبقائهم في فلسطين، بعد أن ظهر المسيح بشريعة لا تختص بهم وحدهم. ثم جاء الإسلام فجعل الرسالة عامة للناس جميعاً، واستوى فيها الخلق كافة، فدان للمسيح من دان من الشعوب، ودان للإسلام من دان منهم، وبقي اليهود وحدهم يزعمون أن رسالة الله لا تتعداهم، وأنه لم يصطف من الناس غيرهم
فاتفقت النصرانية والإسلام على نزع هذا الوطن منهم ليتحقق وعد الله بنزعه منهم إذا لم يفوا بعهده، ويؤمنوا بأنبيائه لأن وعد الله حق، وخبره لابد من تحققه في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن يمكن لهؤلاء اليهود في فلسطين من مسيحيي أوروبا وأمريكا يخالف المسيحية قبل أن يخالف الإسلام، ويجري وراء السياسة الباغية التي توقع الناس في أفظع(764/15)
الحروب، وتؤدي إلى خراب العالم، ولا يقرها دين من الأديان.
وللأخلاق حكم في طمع اليهود في فلسطين أيضاً، لأن العرب فتحوا لهم بلادهم في فلسطين وغيرها، فوجدوا فيها جواراً كريماً، ولقوا فيها عدلاً وأمناً، وقد لفظتهم أوربا في القرون الوسطى كما تلفظهم الآن، فلم يجدوا مأوى لهم إلا في بلاد العرب، فقضوا فيها تلك القرون الطويلة، لا ينالهم أحد بشر، ولا تنظر إليهم عين بسوء، بل يجدون منا أكرم عطف، وينتفعون بنا أقوى نفع، حتى صاروا ولهم بيننا أموال لا تحصى ولا تعد وأصبحوا وبيدهم زمام التجارة والصناعة، فلا يحقد أحد هذا عليهم، ولا يحاول أحد أن ينتزع شيئاً منهم.
أفيكون جزاؤنا على هذا كله أن يطمعوا في هذه البلاد التي آوتهم؟ وأن يتخذوا أعداؤنا وأعداؤهم من متعصبي أوربا وأمريكا وسيلة لقضاء مطامعهم، حتى إذا قضوا أغراضهم من تسخيرهم في حربنا قلبوا لهم ظهر المجن، وطردوهم من فلسطين كما يطردونهم الآن من أوربا، اللهم إنه لا يجوز شيئاً من هذا في شريعة الأخلاق، وإن اليهود قد خرجوا في هذا الطمع الشنيع على حكم الخلق الكريم، كما خرجوا على حكم السياسة والتاريخ والدين
ولاشك أن الظلم مرتعه وخيم، والبغي عاقبته شر، وقد بغى اليهود على المسلمين الأولين في المدينة وكانوا قلة يعدون بالعشرات، وليس لهم من العالم على سعته إلا بقعة صغيرة في المدينة وما حولها، فجزاهم الله على بغيهم شر جزاء، وأعان هذه القلة عليهم فطردتهم من المدينة شر طرد، ولم ينفعهم ما حاولوه من إثارة العرب على المسلمين، وما جمعوه من الأحزاب لإخراجهم من المدينة، لأن الله لا ينصر بغياً على عدل، ولا يرفع باطلاً على حق
واليوم يبغي اليهود على المسلمين وهم يملؤون الأرض من أقصاها شرقاً إلى أقصاها غرباً، ومن أقصاها جنوباً إلى أقصاها شمالاً، واليهود هم اليهود في قلة وذلة، والعالم ينبذهم نبذة النواة من هنا وهناك، فهل يمكنهم أن يتغلبوا على المسلمين في بلادهم؟ ويمكن المسلمين أن يناموا على ضيمهم؟ وهل يرضى الله عن هذا الظلم والبغي فلا يوقع اليهود في شر بغيهم وظلمهم، ولا يمكن للمسلمين منهم، لينبذوهم إلى حيث لا يجدون مأوى، لأن العالم كله قد اجتمع على كراهتهم، ولم يبق لهم إلا المسلمون الذين يحملونهم على عداوتهم.
ووالله أيها اليهود الجاحدون، إنا لن ننسى لكم أنا آويناكم وأنتم ضعاف، وقد طردكم أهل أوربا من بلادهم، ففتحنا لكم بلادنا، وها أنتم أولاء اليوم تحاربوننا لتمكنوا لهم من رقابنا(764/16)
وتكونوا لهم مخالب قطط علينا، وقد عفونا عنكم بعد إساءتكم الأولى لمسلمي المدينة، ولن يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين
ووالله أيها اليهود الجاحدون، إنا لن ننسى أنا نعيش نحن وإخواننا المسيحيون في كل بلد عربي عيشة سمحة كريمة، وهم يوافقون أولئك المتعصبين من أهل أوربا في الدين، وكانوا أولى منكم بأن يكونوا مخالب قطط لهم، ولكنهم أكرم على أنفسهم من أن يكونوا مطايا للطامعين في بلادهم، أما أنتم فلم ترعوا للوطن العربي حقاً عليكم، ولم تذكروا إحساننا إليكم، فانقلبتم أعداء لنا من غير ذنب جنيناه، وخنتم بلادنا وعهودنا، وسترون عاقبة هذا البغي، فنطردكم من فلسطين كما طردناكم من المدينة وما حولها، والتاريخ يعيد نفسه. . .
عبد المتعال الصعيدي(764/17)
إسعاف النشاشيبي
للأستاذ داود حمدان
ودعا أيها الحفيان ذاك الشخ ... ص إن الوداع أيسر زاد
واغسلاه بالدمع إن كان طهراً ... وادفناه بين الحشى والفؤاد
واحبواه الأكفان من ورق المصح ... ف كبراً عن أنفس الأبراد
واتبعوا النعش بالقراءة والتس ... بيح لا بالنحيب والتعداد
إي والله هذا مقامك يا أديب العرب، وواحد الدهر، ويا حبيب المصحف، وعاشق لغة القرآن، ويا خليل محمد وخلصان دينه.
وإنه لقليل عليك أن تغسل بالدمع الطهور، وتدفن بين الحشى والفؤاد، ولكن. . . من أين لنا الدمع وقد جف من هول المصيبة، وتمزق الحشى وذاب الفؤاد من شدة الحزن وحرارة الأسى. . .
أي أديب العرب! إنك لتجل عن أن يقول مثلي رثاءك، ولن يقول رثاءك الحق إلا من يقول مثل هذه الأبيات، أو من يقول مثل قولك في شوقي وهنانو، وهيهات. . . وما هذه الكلمة إلا وفاء لحق لزم، وتنفيس لحزن أقام ولا إخاله يريم، لتعذر العزاء عنك بسواك، ومن سواك يسد مسدك ويغني غناءك؟ وهل تعود الدهر الجود بالأفذاذ؟ أنت لم يأت نظيرك من ألف سنة. . . فإن كانت هذه سنة الدهر، فيا طول ما ينتظر المنتظرون!
إن العربية ستؤرخ ابتداء فقرها من هذا النمط المجيد بارتفاع روحك الطاهرة إلى الرفيق الأعلى.
أي إسعاف، لقد كنت والله إسعافاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى: لقد أسعفت اللغة فقالت بلسان المرحوم أمير البيان: (قد أحسن الله إسعاف بإسفاف)، وأسعفت الدين (بالإسلام الصحيح) مما يفتري عليه المفترون ويطعن في مساواته الطاعنون، وأسعفت الأخلاق الكريمة فتمثلت بك بشراً سوياً لا يعرف الكذب قط ولا يستطيعه، ولا الغش، ولا الرياء، ولا الجبن، ولا البخل، ولا القسوة، ولا الكبر، بل كأنما خلقت من الصدق والصراحة والجرأة والكرم والرحمة والتواضع، وكيف لا تكون كذلك وإمامك محمد وطريقتك القرآن؟ وأسعفت الفقراء والمحتاجين والغارمين، فكم من فقير أعطيت، ومحتاج أغنيت، وغارم(764/18)
لولاك كان من المفلسين؟
فعليك رحمة الله ما نطق باللسان الفصيح ناطق، وخفق بالإسلام الصحيح خافق، وسلام عليك ما ذكر المكرمات ذاكر
وبعد، فالرثاء حزن يتبدى أو مناقب تعدد، وكلاهما يحتاج إلى بيان، ولست ممن يدعيه، غير أني أشهد أن حزني على إسعاف عظيم، وإني لا أستوفي مناقبه حصراً وعداً.
كنت لم أره بعد، وكان ذلك منذ أكثر من خمس عشرة سنة، حين كتب كاتب في بعض الصحف الفلسطينية ينتقده وينتقد شوقي معاً، فحملني حبي لهما على أن أدفع عنهما ما قاله بغير حق، فكتبت الدفاع في جريدة الجامعة العربية، وعلى أثر ذلك أهدى إلي كتبه، ثم زرته وتوثقت روابطنا حتى كان لا يدعو إلى بيته أحداً من ضيوفه، وكلهم من أهل الفضل والأدب، إلا دعاني مدة إقامتي في القدس، فلم أجد مجلساً أحفل بالفوائد الأدبية والإنسانية من مجلسه، ولم أجد محدثاً أجذب للسمع والفؤاد منه، ولم أجد أغير منه على كتاب الله ودين محمد، فمحمد عليه السلام عنده معنى الكون، وكان اسمه الكريم مكتوباً بخط جميل ومعلقاً أمامه لا يحب أن يقع نظره إلا عليه.
ولا يستثيره شئ أكثر من أن يمس الإسلام أو القرآن من قريب أو بعيد، وشدة غيرته هي التي تأتي بالعجب، فكتابه (الإسلام الصحيح) إذا رأيته بتحقيقاته وحواشيه ظننت أنه تهيأ له من سنين، والحقيقة أن موضوعه لم يكن يخطر له ببال، وما هي إلا مناسبة عرضت حتى هب كالأسد يزمجر بالإسلام الصحيح، وواتته سعة الاطلاع وسلامة الفهم والذوق فكان الكتاب، وكذلك كان رده على كتاب المبشرين الذي نشر تباعاً في الرسالة. ولم يكن يضيع شيئاً من وقته، فما هو إلا قارئ أو كاتب، وكانت رحلته في الصيف إلى الشام رحلة في طلب المزيد من العم، وكان نهماً في القراءة، حتى لقد طالع في مكتبات دمشق أكثر من خمسمائة كتاب في رحلة واحدة، ونقل منها نصوصاً تؤيد كتابه الإسلام الصحيح، وكانت رحلته في الشتاء إلى مصر ليتزود كذلك من مكتباتها. وهذا كله بالإضافة لما عنده من مكتبة عظيمة نادرة المثال.
وكانت معرفته لما اطلع عليه من آداب الغربيين وهو كثير معرفة اتفاق، وكان يحسن التحدث عن آداب الغرب ويقارنها بآدابنا، ويجد لكل جديد منها مثالاً من قديمنا يفوقه روعة(764/19)
وبهاء
وكان طيب الله ثراه يحب التجويد في كلامه، وإذا بدا له خاطر في تغيير حرف أو كلمة من مقالة ذهبت للنشر أبرق إلى المجلة بوقف النشر حتى يأتي تصحيحه، وكان يسارع بالرجوع إلى الحق ويحمد من ينبهه إلى خطئه، وقراء الرسالة يعرفون ذلك. ومرة أشرت بكتاب خاص إلى نقلة من نقله، فكتب إليّ أن هذه النقلة ستحذف هي وأخوات لها. وكان إذا عملت له معروفاً يبدو وكأنه عاجز عن شكرك بكثرة ما يحاوله بأساليب مختلفة، ولكن بشعور صادق، وطالما أخجلني من ثنائه عندما نشرت مقالاً في جريدة الدفاع علقت فيه على (الإسلام الصحيح) بما أراه حقاً.
قبل سفره إلى مصر رأيته في القدس ضعيفاً متهدم الجسم، فشعرت بالخوف عليه، ثم سافر إلى مصر ولم أره، ثم جرى اختيار عضو فلسطين لمجمع اللغة العربية، وعجبنا بل شدهنا لذلك الاختيار العجيب، وسكت مدة وأنا في حيرة ودهشة، ثم رأيت أن من حق الأستاذ عليّ أن أكتب في هذا الموضوع، فكتبت كلمة أنصفته فيها ولم أطعن في العضو المنتخب، وهيأتها لأرسلها إلى الرسالة، ولكن يا للأسف في صباح ذلك اليوم الأغبر قرأت نعيه في الجرائد، فطويت الكلمة، وطويت ضلوعي على الحزن.
(اللد - فلسطين)
داود حمدان(764/20)
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
تمهيد:
1 - ظننت بعد نشر تعقيبي في مجلة المجتمع الجديد على رأي معالي عبد العزيز فهمي باشا في تعدد الزوجات، وإمساكه عن الرد فترة طويلة، أن معاليه قد اقتنع بما سقت إليه من حجج دفعاً لشبهاته التي أوردها على التشريع القائم في هذا الموضوع؛ أما وقد نشر أخيراً بحثه المستفيض رداً على تعقيبي فإنه لا يسعني سوى أن أبدي إعجابي بهذا الجهد يبذله معاليه في شيخوخته المباركة دفاعاً عن رأيه، فيضرب بذلك أروع الأمثلة لشباب الجيل.
2 - وأبدأ بالرد على عتب وجهه معالي الباشاً ناسباً إلى أنني تلقفت كلمة شردت منه في حديثه الشفوي وهي كلمة (بتاتاً) التي توهم بظاهرها أنه تحريم مطلق لا مثنوية فيه (فبينت اعتراضي على هذه الكلمة الشاردة تاركاً ما في تفصيل الحديث. والحقيقة أنني لم أتلقف كلمة بعينها في الحديث شاردة أو مستقرة حتى يتوجه إلي هذا العتب، ولكن معاليه هو الذي عدل رأيه المنشور في الحديث تعديلاً جوهرياً أصبح بعده يرى في هذه الكلمة شروداً، ويمكن مقارنة ما استقر عليه رأي معاليه في بحثه الأخير بما كان عليه رأيه أولاً في النقط الآتية:
(أ) استقر رأي معاليه في بحثه الأخير على أن آية (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) (ليست مسوقة لتحديد عدد الزوجات مطلقاً، بل هي مسوقة بالذات وبالقصد الأول إلى التضييق على المخاطبين في نكاح من تحت حجرهم من اليتيمات) المفضي بهم إلى أكل أموالهن بما ينافي العدل فأراد المولى سبحانه تقريعهم على إتيان هذا المنكر تحت ستار النكاح بما بينه من أن لهم في نكاح الأخريات غير اليتيمات متسعاً (لا واحدة ولا اثنتين واحدة بعد أخرى ولا ثلاثاً واحدة بعد الاثنتين الأوليين بل حتى مثنى وثلاث ورباع، أي جزافاً بلا حساب ولا عدد) غير أنه تعالى قيد هذا العدد غير المحدود العدد باشتراطه العدل الذي هو أساس القول في هذه الآية فأردفها بقوله (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) - بينما كان معاليه يرى في(764/21)
حديثه أن الآية المتقدمة (هزؤ وسخرية ممن يريد تعدد الزوجات وأن فيها إيكال الأمر لمن يعلم الله أنه لا يستطيع القيام بالأمر. فمخاطبة غير المستطيع بما هو من شأن المستطيع تلك كلها سخرية بالمخاطب: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. . .! ثم إنه كيما يرد المخاطب إلى مقتضى العقل الصحيح، ولكي يعبر عما يجده المخاطب في نفسه من عدم الاستطاعة أضاف فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة. . . أي وأنا أعلم كما تعلمون أنكم تخافون عدم العدل لأن غرائزكم الفطرية تحملكم على هذا الخوف (ومؤدى ذلك أنها مسوقة قصداً لبيان حكم تعدد الزوجات، وإنه التحريم في الجملة على نهج خاص من الأسلوب، لا لغرض آخر. فالفرق أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح.
(ب) استقر رأي معاليه أيضاً على أن آية (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) مقصود بها بيان أن العدل المطلوب في الآية المتقدمة - وهو العدل المطلق الكامل - وإن كان غير مستطاع إلا أنه غير مشروط في الوجات الموجودات وقت نزولها فرخص سبحانه - تخفيفاً ورعاية لحقوقهن المكتسبة قبل هذا التشريع - بالإبقاء عليهن وإن كن متعددات للرجل الواحد بشرط العدل المستطاع بينهن، وذلك بقوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) على أن يكون ذلك حكماً مؤقتاً خاصاً بهن دون من يعقد عليهن بعد ذلك اللائي يسري عليهن شرط العدل المطلق الذي هو الحكم الدائم. فهذه الآية (مجرد تخصيص أو بيان لحكم (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) من جهة زمان تطبيقه) بينما كان يرى في حديثه أن أحد شقي هذه الآية وهي قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) إنما هو تعبير عن فكرة الآية الأولى القائمة على السخرية بمريدي التعدد وتحديهم باشتراط العدل (تعبيراً هو من أشد ما يكون بياناً للواقع الذي يعلمه هو فقال. ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم. . . ولن، كما يقرر النحاة، هي أشد أدوات النفي للمستقبل إذ تنفيه نفياً باتاً؛ فالقرآن يسجل بصريح العبارة أن الاستطاعة مستحيلة. أي أن العلة المتوهمة للتصريح بالتعديد لن تتحقق أبداً) هذا ولم يتعرض في حديثه إطلاقاً للشطر الثاني المكمل للآية وهي قوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) مع أنه اعتبره في رأيه الأخير مناطاً للحكم المقصود بالآية كلها وهو استثناء الزوجات الموجودات وقت النزول من اشتراط العدل المطلق على(764/22)
ما بينا.
(ج) وبعدما بسط معاليه ما استقر عليه رأيه أخيراً في تأويل الآيتين على النحو المتقدم استشعر تضارباً ظاهراً بين التأويل يتمثل في تقريره أن الآية الأولى ليست مسوقة لتحديد عدد الزوجات الجائز الجمع بينهن مطلقاً وإنما هي مسوقة لغرض آخر، وتقريره في الوقت نفسه أن الآية الأولى في الجملة مما يتعين معه أن تكون هذه مسوقة للحكم المذكور وإلا لما احتيج إلى تخصيصه، كما استشعر أيضاً ركة تشوب النظم الحكيم بالأخذ والرد في غير ما حاجة لذلك لهذا التأويل، فتكلف لسد هذه الثغرة تعليلاً ينطوي على كثير من البراعة وقد جاء ذلك في البند 15 من بحثه تحت عنوان. . لا إشكال في النصوص، وفي البند 15 في سياق محاولة رد تمسكي عليه بكلمة (بتاتاً) - وحاصل هذا التعليل (أن الآية الأولى لم تأت قط بقصد التصريح بتعديد الزوجات إلى أربع فقط كما هو مزعوم وإنما أتت بظاهرها. غير مانعة من أخذ أي عدد كان من النساء، ولكنها مع هذا التوسيع التفريعي الجزاف خشيت أن يسيء المخاطبون فهمها فنبهتهم إلى لزوم الاقتصار على واحدة عند خوف عدم العدل. وبما أنه يبدو أن النبي وكثيراً من الناس كانوا على عادة العرب متزوجين بأكثر من واحدة، فخوفهم من عدم العدل حاصل بالطبع وقلوبهم واجفة واقعة في الاضطراب حتماً، وهي حال لا تطاق، فما العمل؟ هل يسارعون إلى العمل بقوله (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وحينئذ يفارقون ما زاد على واحدة؟ أم إن الله في لطفه وكرمه والدين الإسلامي في يسره وسهولته ينظر إلى الزوجات التي تبين، والأطفال التي تهمل، والبيوت التي تخرب، والعرب الواجب تأليف قلوبهم لا تنفيرهم، فيجعل تشريعه للمستقبل ويتساهل في الماضي وفي أثر النكاح القائم ويتركه حتى يزول بطبعه بعد قليل من الزمن، شأن كل تشريع سليم يرضاه العقل ويطيقه الاجتماع؟ يبدو لي أن هذا هو الواقع، وأن المسلمين هلعوا وجأروا هم والنبي إلى الله متململين من هذه المحنة الراهنة فلطف بهم فبين مراده بأن أنزل قوله (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة). . . الخ) إلى أن قال معاليه: (لأننا جميعاً نعرف - كما أشرت إليه من قبل - أن الدين الإسلامي عالج نقائص العرب تدريجاً مع الأناة والتلطف والابتعاد عن كل ما ينفرهم بلا مقتض. ومسألة تعديد الزوجات كانت من العادات المتأصلة فيهم، فمصادمتهم بتحريمها بالنص القاطع القاسي لا محل لها لكنه(764/23)
اتخذ لهذا أسهل طريق واحكمه، طريق التحدي بالعدل. . . الخ) وهذا، كما قدمت، تعليل بارع من معالي الباشا، لكنطه لا يقوم إلا على محض افتراض ولم يدفع، مع ذلك، التعارض بين تأويل الآيتين كما هو ظاهر. أما رأيه الأول فقد كان منسقاً على الأساس الذي بني عليه فبدهي أنه لم يرد فيه شئ من هذا التعليل إذ لم يكن صاحبه بحاجة إليه قبل تعديل رأيه.
(د) فليس عجيب إذن بعدما عدل معاليه رأيه هذا التعديل الجوهري الذي تكلف كثيراً لتبرير تعارضه محاولاً بهذا كله دفع ما أوردناه على رأيه الأول بمقتضى قوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) - أقول ليس بعجيب إذن بعد كل هذا أن ياتي على تلخيص ما استبقى من رأيه في عبارات تحمل طابع التردد والحذر الشديد فيقول في البند 14 (القرآن الكريم لم يحرم تعدد الزوجات بنص صريح قاطع خاص بل أني إذا كنت ذكرت في حديثي الأول أنه يحرم التعدد فواضح من الحديث أن ذلك استنتاج من الآيتين رقم 3 و (رقم 129) واحتياط مني بصفتي مسلماً يجب أن يعنى بتقرير ما يغلب على ظنه أنه هو المقصود للنصوص الواردة بكتاب شريعة (ويقول في البند 17) قد ترك القرآن الناس على حريتهم وعاداتهم يتزوجون أي عدد من النساء يريدون. وغير صحيح - في نظري - أنه حد من هذه الحرية نصاً أي تحديد، بل كل الأمر أنه نبههم إلى القاعدة الأساسية في تشريعه وهي مراعاة العدل والانتعاد عن مزالق الجور فأوجب على المسلم عندما يقوم في نفسه الخوف من عدم العدل أن يقتصر على واحدة. ثم أكد هذا المعنى تأكيداً لا هوادة فيه (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) فأصبح الأصل الواجب أن يحتذيه كل مسلم يريد الاحتياط لنفسه هو الاقتصار على زوجة واحدة) ثم يقرر إمكان (المحيص) و (الهوادة) حتى عن هذا الأصل بإمكان الاستثناء منه على أساس القواعد العامة في دفع الحرج وإباحة المحظورات عند الضرورة لأن (هذا الأصل قد يقضي العدل نفسه بالخروج عليه في بعض الصور) واستثنى الباشا بالفعل حالتين قال بإباحة التعدد فيهما. فأين هذا كله من رأيه الأول الذي أجملناه في الفقرة ب؟ أين هذه العبارات المحتاطة أشد الحيطة في التعبير عن تحريم مقيد للتعدد مستنتج من ثنايا نصوص مقيدة (بظاهرها كما هو رأي الباشا أخيراً) للإباحة المطلقة غير المحدودة بعدد؟ أقول أين هذا من إنكار(764/24)
معاليه - في حديثه الأول - على الحكومة وضع تشريع لتقييد تعدد الزوجات بجعل إباحته رهينة برقابة القضاء الشرعي على توفر الأسباب الداعية إليه والمقدرة على الوفاء بشرط العدل بين الزوجات، وقوله (وخير للحكومة أن تأتي للأمر مباشرة فتعالجه من جذوره، وذلك بأن تحرم بتاتاً تعدد الزوجات) ثم قوله في موضع آخر من الحديث (لا أوافق البتة على طريقة المشروع تلك الطريقة التي يراد بها عدم تعدد الزوجات ولكن بسبل ملتوية مراد بها قطع أسباب الاعتراض ممن يظنون أن لهم على خلاف مفهوم نصوص القرآن الصريحة حق الاعتراض)؟ هلا وسع معاليه - إن كان حقاً قصد ببحثه الأخير تأييد عين رأيه الأول - الاقتصار على طلب تعديل مشروع التشريع طبقاً لنتيجة هذا البحث، والبون بينهما غير بعيد، بدل إيجاب نقض المشروع من أساسه بما في ذلك من زلزلة تشريعية بنقض التشريع القائم أيضاً من أساسه؟ بل أن معاليه ليستهين في حديثه ذاك - في سبيل القضاء على كل عائق يحول دون تنفيذ رأيه في التحريم البات الحاسم - فيجيب على اعتراض وجه إليه بحق بأن إصدار التشريع الذي أشار به معاليه مدعاة للزنا وهو فساد كبير بقوله (للفرنسيين مثل يقولونه ' أي شر لابد منه) بينما هو في رأيه الأخير يقول بإباحة التعدد - ابتغاء تكثير النسل عقب حرب تدخل فيها الأمة فتقضي على كثير من رجالها) إذ الضرر من خوف الجور فيها لا يصح أن يقام له وزن بجانب ذلك النفع العظيم الذي يأتي به التعديد (مع أن القاعدة المعمول بها في جميع الشرائع أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
3 - لقد أطلت في بيان هذه النقطة الشكلية لكنني أرى هذا القدر من البيان ضرورياً لا تعريضاً بمعالي الباشا - وحاشاي أن أقصد إلى شئ من ذلك - ولكن قصد إظهار الناس على الحقيقة التي اتضحت لي من مقابلة الرأيين - وأرجو أن يغتفر لي معاليه التصريح بها - وهي أن رأي معاليه في هذا الموضوع الخطير لم يكن نتيجة الدراسة والتمحيص بقدر ما كانت الدراسة والتمحيص نتيجة للإسراع بإبداء هذا الرأي أولاً والحاجة بعد ذلك إلى دفع ما وجه إليه؛ وهذه الحقيقة قد تساعد الكثيرين - فيما أرى - على وزن رأي معاليه في هذا الموضوع بميزان صحيح
4 - هذا وبمناسبة عتب الباشا - لا يفوتني أن أنوه بأنه إذا كان ثمة من يتوجه إليه العتب(764/25)
فهي (مجلة المجتمع الجديد) لتقريرها في تقديم بحث معالي الباشا الأخير عبارة راعت فيها المجاملة أكثر من رعايتها لأي شئ آخر، وبخاصة ما نادت به من حيادها التام في الموضوع، وهي التي عبرت فيها عن رأي معاليه الأول (بأن الشريعة الإسلامية تحرم تعدد الزوجات تحريماً باتاً، إلا في أحوال الضرورة القصوى) فالاستثناء الوارد في هذه العبارة محض تبرع من المجلة إذ الواقع أنه لم يرد في حديث معاليه ذكر لاستثناء من أي نوع فضلاً عن أن الحديث بجملته وتفصيله مبنى وعنى يقطع بالتحريم البات الذي لا يدع مجالاً للاستثناء على ما سبق أن بينت.
(يتبع)
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد(764/26)
الحمامة الطريدة
للأستاذ محمود الخفيف
في وحدة سامرت فيها الأسى ... طافت بي الذكرى فلم أهجع
شكوت لليل الضنى والجوى ... والوجد والسهد وهذا الدجى
زادت غواشي الهم أسدافه ... ودلت الوهم على مضجعي
في ليلة غارقة الأنجم ... ضل بها الفجر عن المطلع!
لكل ألوان الأسى تنتمي ... حلكتها من همي الأقتم
الذئب مقرور بها هاجع ... والجن لم تأنس إلى موضع
الليل جهم، صرصر ريحه ... صفيرها يزداد في مسمعي
أجش وحشيّ الصدى نوحه ... مرتعش من قره دوحه
أطل لا تبصر عيني سوى ... أشباحه في الأفق الأسفع
واعجبا ماذا أرى في ظلام ... والصرصر الهوجاء لم تقلع؟
يقظان إذ أبصر لا في منام ... ورقاء في سمعي منها بغام
قد أقبلت ملهوفة في الدجى ... على هدى المصباح في مخدعي
حطت على نافذتي خائفة ... ما دونها في الليل من مفزع
نازفة واحزنا راعفه ... بالغوث في أناتها هاتفه
كم ذا رنت صوبي في لهفة ... رف لها الخافق في أضلعي
وهنانة تلهث في زاويه ... كجاهد أفلت من مصرع
من جارح أحسبها ناجيه ... تخفيه عني الظلمة الغاشيه
وربما كان على خطوة ... لو لم ير المصباح لم يرجع
مددت بالماء يدي في وعاء ... فأجفلت من ذلك المشرع
تلهث لا تطلب غير الثواء ... تنكر تنكر ما أبدي لها من رثاء
مشبهتي في الوجد لا تنفري ... ما كنت يا ورقاء بالمدعي
أنت وما أوجع هذا الأنين ... حسي ما في خافقي الموجع
طريدة الظلمة، قلبي الحزين ... أبكاه هذا الحزن لو تعلمين(764/27)
بكاؤك المكتوم كم هزني ... والأصل أن تلهي وأن تسجعي
كم هجت يا ورقاء أشجانيه ... أنا الذي كم أسبلت أدمعي
كم ذا بكى عان فأبكانيه ... وكم بكت في الطرس ألحانيه
طالبة المأوى كلي واشربي ... آمنه في جيرتي واهجعي
كم صورة مثلت في خاطري ... يشقى بها كل فؤاد يعي
وارحمتا للساهد الساهر ... الواجد المنفرد الشاعر
مؤنستي كم صورة للأسى ... ألقي بها في قلبي المترع
فيك خيال للشقي الطريد ... لم يأوه في الأرض من موضع
مروع في كل آن شريد ... تسلمه الدنيا لخوف جديد
جهم العشايا منذر ليله ... في صبحه بالحادث المفزع
وفيك طيف البائس المعدم ... منكس الهامة مستضرع
مبتئس النظرة مستسلم ... عان، هنا أو هاهنا يرتمي
بكل باب أن مستصرخاً ... لم يرو منه الغل أو يشبع
وفيك يا ورقاء ذل الضعيف ... لم ينجه الضعف ولم يشفع
أضناه في دنياه كسب الرغيف ... في زحمة العيش هزيل لهيف
من دمه كم عاش ذو قوة ... لم يدر ما الرحمة أو يقنع
وفي جراحاتك مرأى الجريح ... خاض الردى في هوله المفظع
ممزق ظمآن عان طريح ... في ركنه بعد الفضاء الفسيح
يذكر طعم الموت في موطن ... يا هوله للموت من مرتع
أطائر، أم أنت روح شفيق ... جاء يواسيني ويبكي معي؟
وهم به في الوجد قلبي خليق ... غير الأسى ما إن له من رفيق
مشبهتي في الوجد كم دمعة ... ذرفتها في الليل أن تدمعي
الخفيف(764/28)
طرائف من العصر المملوكي:
الشعر والنقد الاجتماعي
للأستاذ محمود رزق سليم
نقد المجتمع من أهم ما يعنى به المصلحون، إذ يقوم إصلاحهم على دعامة منه، ينظرون في شئون مجتمعهم، ويتتبعون ضروب الفساد فيه، ثم يحملون عليها حملات شعواء لا تبقي ولا تذر، ويبينون للناس ما هم متردون فيه من شقاء. ثم يعملون جاهدين على إنقاذهم من مترداهم، وتوجيههم إلى سبل السعادة المرجوة. فمثلهم مثل الأطباء يتحسسون الداء ويصفون الدواء. وكلما اتضحت ضروب الفساد، وناء المجتمع بما فيه من أمراض، اشتدت الحاجة إلى هؤلاء المصلحين، ودعت الداعية إلى بروزهم في الميدان ليعملوا ويكافحوا. فيلجأ الخطيب منهم إلى خطابته والكاتب إلى مقالته والشاعر إلى قصيدته وذو الرأي إلى قريحته وفكرته وقد يكون الشعراء أبعد القادة وأولي الرأي عن النظر في شئون المجتمع من ناحية تلمس نقائصه، وتتبع مثالبه، والعمل على تلافيها والدأب على إصلاحها. إذ هم في أغلب أمرهم صدى للمجتمع نفسه بما فيه من نقائص ومثالب، لذلك يلتمس مؤرخ الأدب أحياناً نقائص عصر ومثالبه في شعر شعرائه، كما يلتمس مزاياه وفضائله سواء بسواء. فكم يكون جميلاً إذن، أن نرى الشعراء يدلون بدلوهم في الدلاء، ويشاركون في باب الإصلاح، ويتتبعون مثالب مجتمعهم ونقائصه فينحون عليها باللائمة ويثقلون ليها بالنقد اللاذع، ويشهرون أمر فساده بين الناس حتى تتضح معالمه وتبين شياته وهناته. . .
إنها لظاهرة أدبية طيبة واتجاه فكري سام، يسجله مؤرخ الأدب لشعراء عصر من العصور، إذا ما وجد من بينهم ثلة صالحة يهولها فساد المجتمع، ويروعها اتضاعه وترديه، فتعمل جاهدة في صدق على نقده وتنفيره مما هو فيه، على أمل أن يثوب إليه رشده، ويثوب إليه صوابه. ثم هي بذلك تمد التاريخ بوثائق صادقة يقرأ فيها بوضوح بعض نواحي العصر.
هكذا نسجل - ونحن نؤرخ العصر المملوكي وأدبه - هذه الظاهرة النابهة لشعرائه. فقد أضحى النقد الاجتماعي غرضاً شائعاً هاماً بين أغراضه الشعرية المطروقة.
وإن القارئ ليملؤه العجب ويأخذه الدهش إذا علم أن شعراء هذا العصر هم وحدهم الذين(764/29)
حملوا راية النقد الاجتماعي دون سواهم من القادة وأولي الرأي والبصر. لذلك كان حمدنا لهم مضاعفاً وثناؤنا عليهم مستطاباً.
ولا نتجنى على غيرهم من أصحاب البيان وأهل القلم واللسان، فقد ترى لكاتب نقدة عابرة، أو تسمع لخطيب زجرة طائرة، ولكن ذلك كان على وحي وارتياب. ولم يكن خطة موضوعة ولا منهاجاً متبعاً. بل حوادث فردية ووقائع شخصية. وإنك لو طويت الكشح عن عظات لبعض علماء العصر على المنابر أو غيرها، يوجهونها للشعب أو حكامه، وإنك لو لويت الجيد عن بعض ما تخلل مقدمة ابن خلدون وبعض كتب التاريخ من نقدات، ما وجدت بعد ذلك من النقد الاجتماعي شيئاً يدل عليه ويشار إليه. فإذا أردت أن ترى أين النقد حقاً، فانظر في شعر شعراء العصر، فإنك واجد في - بلا ريب - ما تشتهي.
أما خطباء العصر فكانوا من علماء الدين جلهم اتخذ الخطابة المنبرية وسيلة إلى الرزق أكثر منها سبيلاً إلى النصيحة، وطريقاً إلى الجاه أقرب منها أداة إلى الإصلاح. وكتاب العصر كانوا في شغل شاغل بوظائف الدواوين وتدبيج رسائل السلاطين، وما يدره عليهم ذاك من خير وفير ورزق كثير. وعلماء العصر ممن شغلوا أنفسهم بالتأليف كانوا في أبراجهم العاجية يعيشون بمنجى عن الشعب ومنأى، بين ترف ذهني ونعيم فكري. وليس لهم هم إلا أن يؤدوا للعلم أمانته ويدونوا ما خلفته العصور وما وعته الصدور. فلم يبق إلا الشعراء فهم من الشعب وإليه، وهم تراجمته ومرائيه، ولسنه المشروع، وحناجره النافثة، صوتهم من صوته، ونداؤهم من ضميره، ونقدهم قبس مما يتردد في أعماقه ويتراءى في آفاقه. والشعب - على ضعفه وغفلته - له نقدات مريرة ولفتات خطيرة، تتنزى برنينها نفسه، ويموج بأنّاتها فؤاده. ولكن فكره موءود، ولسانه معقود، وغضبته مطروحة، وحدته مكبوحة. ولا من يترجم عنه أو يتحدث بما في نفسه إلا شعراؤه. هكذا كان شعراء العصر المملوكي.
والمجتمع المصري حينذاك كان فياضاً من الفساد لا حد لها، غاصاً بمواضع النقد، قميناً بالحملة عليه والسعي في إصلاحه. ولكن هيهات.
لقد كان الشعب يعاني من حكامه جوراً وعسفاً، ومن موظفيه نهباً وسلباً وإهمالاً. وكان هؤلاء طبقتين متميزتين عن بقية طبقات الشعب التي منها طبقات التجار والزراع(764/30)
والصناع، لا تكاد تجمع بينهم جامعة صالحة إلا جامعة الدين والوطن. وكانت مشاكل الأسرة لا تقف عند حد، وادعاءات الطوائف لا تعرف هوادة. وكثر أدعياء العلم والأب، ومحترفو الزهد والورع. وكادت الرشوة والسعي بها إلى المناصب تصبح قانوناً منظماً. وذاعت السرقات الأدبية في غير مبالاة. وانتشر الزنى واللواط والتسري بالغلمان. . . وشرب الخمر وتعاطي الحشيش، إلى غير ذلك من مفاسد شائعة ذائعة.
نظر الشعراء إلى كل ذلك فنقدوه وحملوا عليه، وخلدوا عنه في التاريخ صفحة لا تلين ولا تمين. ولسائل أن يقول لم أهتم الشعراء كل هذا الاهتمام بنقد مجتمعهم، ولم ينصرفوا عنه انصراف سواهم راضين منه بالعافية والسلامة؟ نعتقد أن في مقدمة أسباب هذا أن العصر بحكامه وشعبه جهل مكانتهم ونكر منزلتهم وأن الثراء عن طريق القريض كان قد صوح زمانه، وضوى ينعه وريعانه، فلا سلطان يسخو ولا أمير يجود. لهذا قاسى الشعراء مع ألم النكران مرارة الحرمان. فأحقد ذلك نفوسهم وأحنقها، وأثار خواطرهم وأقلقها، والمحروم واجد النفس مفتوح العين على الثغرات يرى منها ما لا يراه سواه. . . ثم هم أمنوا المغبة واطمأنوا إلى العاقبة، وذلك لأن الحكام أعاجم بالفطرة لا يفهمون من الشعر إلا أثارة. وهم عن مساقط الشعراء مشغولون بحروبهم في الخارج أو فتنتهم في الداخل، ثم هم بين هذه وتلك يخبون في نعيم وارف وترف فياض، يحجب عن أسماعهم شكوى المحروم وأنة المكلوم ودعاء المظلوم - كان الشعراء إذن في حرية رافهة وأمن واسع، وانطلقوا من كل قيد يخشاه الأديب على نفسه حتى قيود المجاملة والرياء، وثارت ثائرة بعضهم حتى خلط في حديثه بين النقد والهجاء
ولو قد وجدا في الشعب مستجيباً وملبياً لكان لنقدهم أثر حميد وعاقبة نافعة، وفعل رشيد.
ولا يهولن القارئ - إذا ما عرضنا عليه نماذج النقد - ما يراه فيها أو في بعضها من نزول في مستوى أسلوبه، وبخاصة إذا قاسه بما درس من شعر أندادهم في عصور كانت فيها الملكات العربية لا تزال على مجادتها أو في عصور التقت فيها الثقافات ولفحت العقول وكرمت المغريات على القول.
ويطالعنا في أول ما نسوقه، نقد شرف الدين البوصيري (695هـ). كان البوصيري حسن السيرة صادق السريرة وظف في مطالع حياته في دواوين الدولة كاتباً، فرأى من عبث(764/31)
كتابها وجباتها ما هاله من عبث. وشهد من إهمالهم ما راعه من إهمال. فجأر منهم بالشكاية وأنحى عليهم بالزراية فقال يخاطب أحد أولي الأمر:
فلا تدن منهم واحداً منك ساعة ... ولو فاح من برديه مسك وعنبر
وبرد فؤادي بانتقامك منهم ... فقد كاد قلبي منهم يتفطر
منعت بهم حظي شهوراً ولم أصل ... إلى حظهم حتى مضت لي أشهر
فما فيهم - لا بارك الله فيهم - ... أخو قلم إلا يخون ويغدر
وقال فيهم أيضاً:
نقدت طوائف المستخدمينا ... فلم أر فيهم رجلاً أمينا
فقد عاشرتهم ولبثت فيهم ... مع التجريب من عمري سنينا
فكتاب الشمال هم جميعاً ... فلا صحبت شمالهم اليمينا
فكم سرقوا الغلال وما عرفنا ... بهم فكأنهم سرقوا العيونا
ومنها يذكر من ادعى منهم النسك، ويذكر اختلاف الطوائف في مصر وادعاء كل طائفة بحقها فيها:
تنسك معشر منهم وعدوا ... من الزهاد والمتورعينا
وقيل: لهم دعاء مستجاب ... وقد ملئوا من السحت البطونا
تفقهت القضاة فخان كل ... أمانته وسموه الأمينا
وما أخشى على أموال مصر ... سوى من معشر يتأولونا
يقول المسلمون: لنا حقوق ... بها ولنحن أولى الآخذينا
وقال القبط: نحن ملوك مصر ... وإن سواهمو هم غاصبونا
وحللت اليهود بحفظ سبت ... لهم مال الطوائف أجمعينا
ومن طريف نقد البوصيري قصيدته الرائية الفكاهية التي وصف فيها حال أسرته في رمضان وعيد الفطر، وما استحدثاه بين أفرادها من خلف ونزاع هما نتيجة الحرمان. وهو وصف يشعرك بما للفاقة من أثر سيئ في التفرقة بين أفراد الأسرة. ويشعرك بأن أسرة البوصيري هي نموذج للأسرة المصرية المتوسطة، ونموذج لمشاكلها من عهده إلى الآن ومنها يصف أفرادها قال:(764/32)
صاموا مع الناس ولكنهم ... كانوا لمن أبصرهم عبره
إن شربوا فالبئر زير لهم ... ما برحت والشربة الجره
لهم من الخبيز مصلوقة ... في كل يوم تشبه النشره
أقول مهما اجتمعوا حولها ... تنزهوا في الماء والخضره
ثم يصف العيد وتطلع الأبناء فيه إلى الكعك والنقل، ثم ما يدب من النزاع بينه وبين زوجته، وتدخل أخت الزوجة في هذا النزاع لمصلحة أختها، فهي بذلك تضرم نار العداوة بين الزوجين، وتهون شأن الزوج وتجري عليه زوجته، فتنتهي المأساة بأن تستقبل رأسه بآجرة. وهكذا ترى كيف يغشى الجهل بأصول الحياة وروابط الأسرة عيون أفراد الأسرة المصرية من قديم الزمان فلا يفهم بعضهم أن رابطة الأسر شركة تعاونية بل فرصة استغلالية وهكذا. ومما يشبه قول البوصيري في كتاب الدواوين، قول علاء الدين الواسطي يشكو قوماً إلى نائب السلطان بالشام قال:
يا نائب السلطان لا تك غافلاً ... عن قتل قوم للظواهر زوقوا
ما هم تجار بل لصوص كلهم ... فأمر بهم أن يقتلوا أو يشنقوا
وأراك لا تجدي إليك شكاية ... إلا لأنك حائط لا ينطق. . . الخ
وقال شهاب الدين الأعرج ينقد الأتراك والقبط ويذكر استئثارهم بالرزق:
وكيف يروم الرزق في مصر عاقل ... ومن دونه الأتراك بالسيف والترس
وقد جمعته القبط من كل وجهة ... لأنفسهم بالربع والثمن والخمس
فللترك والسلطان ثلث خراجها ... وللقبط نصف الخلائق في السدس
ونقد كمال الدين الإدفوي (748) هـ صاحب كتاب (الطالع السعيد) حالة التعليم والمعلمين في عصره فقال:
إن الدروس بمصرنا في عصرنا ... طبعت على لغط وفرط عياط
ومباحث لا تنتهي لنهاية ... جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط
ومدرس يبدي مباحث كلها ... نشأت عن التخليط والأخلاط
ومنها قوله:
والفاضل النحرير فيهم دأبه ... أقوال رسطاليس أو بقراط(764/33)
وعلوم دين الله نادت جهرة ... هذا زمان فيه طي بساطي
وقال مجد الدين بن الخياط يصف شعارير زمانه - وهم كثر في كل زمان -:
وفي متشاعري عصري أناس ... أقل صفات شعرهم الجنون
يظنون القريض قيام وزن ... وقافية وما شاءت تكون
وبمناسبة ذكر الشعراء نسوق بيتين من أبيات لشهاب الدين أحمد الأنصاري يهجو منهم من يقترف ذنب المديح فقال:
مالي أرى الشعراء تكسب عاراً ... بهجائهم وتحملوا الأوزارا
مدحوا الأخساء اللئام فضيعوا ال ... أشعار لما أرخصوا الأشعارا
هذا مع العلم بأن قوماً من الشعراء ربئوا بأنفسهم عن المدح بل عن صناعة الشعر وفضلوا عليها حرفة متواضعة احترفوها. انظر إلى أبي الحسين الجزار يقول:
كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ ... ت حفاظاً وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجيـ ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكثير من الشعراء نعى حظ الآداب ورثى لحال الشعراء وشكا انصراف الناس عنهموعن إنصافهم.
وكانت الصوفية قد وجدت في هذا العصر مراحاً خصيباً ورعى رطيباً، غير أنه - بلا ريب - اندس بين أهلها من ليس منهم فشابوها وعابوها:
فكان ذلك مثاراً للنقد القاسي المقذع. قال الأديب المؤرخ فتح الدين بن سيد الناس:
ما شروط الصوفي في عصرنا قط ... عاً سوى سنة بغير زيادة
وهي. . . . . . والسكر والسط ... لة والرقص والغنا والقيادة
وإذا ما اهتدى وأبدى اتحاداً ... وجميلاً من خلوة وإعادة
وأتى المنكرات عقلاً وشرعاً ... فهو شيخ الشيوخ ذو السجادة
ونختتم هذا الحديث بذكر أد أدباء العصر وهو الشاعر جمال الدين السلموني من شعراء العصر الغوري فقد وقعت بينه وبين قاضي قضاة عصره عبد البر بن الشحنة الحنفي، فتنة أوذي الشاعر بسببها، وليس هنا مجال تفصيلها وكان الشاعر قد هجا القاضي ونقده بقصيدة لاذعة مريرة رددها كل لسان وسارت بذكرها الركبان، وأبياتها إذا أغضينا النظر عن(764/34)
القاضي عبد البر - تصور إلى حد ما مفاسد القضاة تصويراً صادقاً. قال منها:
فشا الزور في مصر وفي جنباتها ... ولم لا وعبد البر قاضي قضاتها
أينكر في الأحكام زور وباطل ... وأحكامه فيها بمختلفاتها
إذا جاءه الدينار من وجه رشوة ... يرى أنه حل عن شبهاتها
ومنها:
ألست ترى الأوقاف كيف تبدلت ... وكانت على تقديرها وثباتها
وقد وثبت فيها قضاياه بالأذى ... وبالبيع مثل الأسد في وثباتها
وبعد فهذه فضالة مما وعاه الرأس وثمالة من رحيق الكأس، تنبئان عنهما كما ينبئ الشعاع عن الشمس.
محمود رزق سليم
مدرس بكلية اللغة العربية(764/35)
معروف الأرناؤوط
صاحب جريدة (فتى العرب) وعضو المجمع العلمي العربي
بدمشق
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
توفي الأستاذ الكبير السيد معروف الأرناؤوط، أحد كبار رجال الصحافة والعلم والأدب في دمشق، وانتقل إلى دار الخلود بعد أن أبلى كثيراً في سبيل رفع شأن أمته ورقي بلاده، وجاهد طويلاً بقلمه ولسانه في جريدته (فتى العرب) التي كان يبذل في سبيلها من ذات نفسه وماله الشيء الكثير. كما كان عضواً بارزاً ذا أثر بالغ في المجمع العلمي العربي بدمشق.
توفي - رحمه الله - والصحافة المصرية في شبه حمى مما تذيعه وتنشره صباح مساء من تفاصيل دقيقة مما أحاط باغتيال (غاندي) وما إلى اغتياله من أساليب إحراقه وتأريث النار تحت جثته!. . .
نعم كانت الصحافة هنا في شغل شاغل بنشر هذه التفصيلات الدقيقة لما توفى إلى رحمة الله ذلك الصحفي العربي، والكاتب الأديب الأستاذ معروف الأرناؤوط، فلم يتنبه لموته أحد، ومر نعيه هادئاً هناً من غير جلبة ولا ضوضاء، حتى أن الكثير من أصدقائه وخلصائه في مصر - وهم بحمد الله كثر - لم يعلم بموته ولم يقرأ خبر نعيه المنشور في (أهرام) يوم الأحد أول فبراير سنة 1948
كان الأستاذ معروف الأرناؤوط حركة دائبة، كثير الطواف والتجوال، فقد زار كل بقعة من البلاد العربية، وقابل كل ملوكها وأمرائها وقادة الرأي فيها، وكتب الكثير عن هذه البلاد وأهل هذه البلاد، وكان يناصر بقلمه كل حركة تقوم في أي بلد من بلاد العروبة والإسلام للدعوة إلى الحرية ونيل الاستقلال.
كان - رحمه الله - خفيف الظل، عذب الروح، سريع البديهة حاضر النكتة، برماً فيما تعكارفه الناس في مجتمعاتهم من قيود ورسوم وتكاليف، كثير المرح، يشيع في مجلسه الحركة ورفع الكلفة، يشعر جليسه لأول مرة أنه صديقه من أمد بعيد، وإنه يعرفه معرفة(764/36)
وثيقة!.
كنت أسمع باسم معروف الأرناؤوط، وأقرأ له كثيراً، ولكن لم أكن رأيته، فلما كنت في دمشق صيف سنة 1943 ذهبت إلى لقائه في دار (فتى العرب) فوجدته جالساً في المقهى الصغير المجاور لدار (فتى العرب)، في ذلك المنفسح الواسع الجميل بين دار البلدية ودار الحكومة، وما كدت أسلم وأجلس معه حتى شعرت بأني مع شخص أعرفه من قديم!، وكنت عجلاً لقضاء بعض المهام فأنساني ما ينتظرني من عمل، وطالت جلستنا، وتشعب الحديث وذهب كل مذهب، فكان رحمه الله في أحاديثه شديد التحمس للعروبة والأمة العربية، قوي الإيمان بقدرة هذا الشعب على القيام بالدور المقدر له أن يقوم به في ركب الحضارة. وبعد أن أخذ علي العهد أن أزوره في فترة أخرى، ودعته وفارقته، ولكن لم تسنح لي فرصة زيارته مرة ثانية، فكانت تلك الزيارة هي الأولى والأخيرة.
ولكن تلك الفترة التي قضيتها مع الأستاذ معروف الأرناؤوط في ذلك المقهى الصغير المتواضع تركت في نفسي أثراً لا ينمحي عن خلق الفقيد وكرم نفسه، وحلاوة حديثة وخفة روحه، فكنت أذكره كثيراً، وأتمنى لو تتاح لي فرصة لقائه مرة أخرى، حتى قرأت في (أهرام) يوم الأحد أول فبراير سنة 1948 نعيه، فحزنت عليه، وبكته نفسي. رحمه الله رحمة واسعة.
الأستاذ معروف الأرناؤوط ثالث أديب كبير ترزأ به البلاد العربية وتفقده الصحافة العربية، والأدب العربي والقارئ العربي في أقل من شهر، ففي مطلع الفجر من يوم الثلاثاء الثالث عشر من يناير سنة 1948 فجعت الصحافة العربية بعميدها طيب الذكر أنطون الجميل باشا، فبكته أحر بكاء، وقبل أن يجف الدمع عليه أو يلتئم جرح القلوب على فقده، فجعت بأيب العربية غير مدافع الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشيبي، فقد ذهب إلى لقاء ربه في مطلع الفجر من يوم الخميس الثاني والعشرين من يناير سنة 1948، فحرك بموته كوامن الأسى وجدد الحزن والألم، فبكته الصحافة العربية أحر بكاء!.
وفي الساعات الأخيرة من ليلة الجمعة الموافق ثلاثين يناير سنة 1948 لفظ الأستاذ معروف الأرناؤوط أنفاسه الأخيرة، وسكنت تلك الحركة الدائبة أثر سكتة قلبية، قضى ثلاثتهم في غضون ثمانية عشر يوماً. وفي حالات متشابهة أصح ما يكونون أجساماً أثر(764/37)
سكتة قلبية أحسن الله عزاء البلاد العربية عن فقدهم، وعوضها خيراً!
برهان الدين الداغستاني(764/38)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (726)
6 - في الوجود وعلله
للأستاذ كمال الدسوقي
ابن سينا والإشارات:
تجدون الترجمة الكاملة لحياة ابن سينا وكتاباته، وأسفاره وتجاربه وأشعاره؛ كما دنها ورواها تلميذه أبو عبيد الجوزجاني؛ في تاريخ الحكماء لابن أبي أصيبعة (جزء2 ص1 - 16) الذي يوجد في مكتبات مدارسكم وأقاليمكم، وفي مقدمة كتاب منطق المشرقيين - الذي قالوا إنه القسم المنطقي من كتاب (الشفاء) لابن سينا، والذي نشر في مصر غير مرة: تجدون ذلك كله في هذين المرجعين وفي غيرهما بما لا تحتاجون معه إلى مزيد من الإيضاح.
ومنه يتبين لكم أن ابن سينا (373 - 427هـ) لم يبلغ السادسة عشرة حتى كان قد ألم بالكتب الأولية في الحكمة رياضية وطبيعية ومنطقية، وأما ما بعد الطبيعة، فقد هداه إلى فهم ما استغلق من تعاليم أرسطو فيها كتاب أبي نصر الفارابي، كما فقهه إسماعيل الزاهد) من قبل في مسائل الفقه والخلاف، وأبو عبد الله الناتلي المتفلسف في الحساب والهندسة وعلم الهيئة (الفلك) ورياضيات إقليدس؛ وأنه منذ ذلك الحين قد دأب على المطالعة والدرس حتى أتيح له في هذه السن أن يلحق بخدمة الأمير نوح بن منصور الساماني فيمن لحق من الأطباء المعالجين؛ وأنه انفرد من بينهم في الوقوف على مكتبة الأمير والإحاطة بما فيها، حتى اتهم بحرقها ليتفرد بعلم ما حوت؛ وأنه قد حصل حينئذ كل ما صار له من علم ومعرفة، فلم يزد على علمه فيما بعد ذلك شئ - كما قال هو؛ وأنه لم يكن بعدئذ يقرأ كتاباً على الولاء، بل يقصد المواضع الصعبة والمسائل المشكلة ليتبين ما قاله صاحب الكتاب فيها - على نحو ما حدثنا الجوزجاني المذكور.
وأتم الشيخ الرئيس مرحلة الدرس وهو ابن ثماني عشرة سنة، وبدأ يكتب ويصنف، وكانت تصانيفه في ذلك الحين على الطريقة الأرسطية، تأخذ معظم مادتها من هذه الفلسفة اليونانية بادئة أولاً بالمنطق الآلة التي تعصم الذهن من الخطأ في التصور والتصديق والاعتقاد(764/39)
الصحيح، ومثنية بعد بالطبيعيات وما يتعلق بها من رياضيات وحساب وهيئة وموسيقى، ومختتمة في النهاية بما بعد الطبيعة أو العلم الإلهي كما سماه الإسلاميون ملحقين به الحديث عن النبوة والمعاد والخلاص من الدنيا، تجد هذه الفلسفة الأرسطية في معظمها في أهم كتب ابن سينا الأولى (كالمجموع) (الشفاء) ومختصره (النجاة) وفي رسالته في النفس التي كتبها إلى الأمير نوح بن منصور والتي تشبه أن تكون تعريباً لكتاب أرسطو (في التنفس).
أما الكتاب الذي بين أيديكم فهو من نوع مخالف لنوع هذه الكتب: وهو يمثل الفلسفة المشرقية في تمام نضجها عند ابن سينا وغيره، تلك الفلسفة التي لا تأخذ عن أرسطو إلا بمقدار ما تأخذ عن أفلاطون وأفلوطين والمتكلمين والصوفية من الإسلاميين والفرس، مكونة من هذه في جملتها مذهباً خاصاً، وروحاً جديدة، فيها طرافة وفيها عمق وإمتاع هي بعض ما يتميز به كتاب (الإشارات والتنبيهات) لأبي علي الحسين ابن عبد الله بن سينا.
ولعل الظروف التي أحاطت بتأليف هذا الكتاب قد هيأت له أن يكون على هذه الصورة من العمق والجلال: فهو لم يكتبه استجابة لطلب أصحابه أو أميره كما ترى في سائر كتبه إنما كتبه وهو سجين بقلعة (فردجان) حين اتهم بأنه يكاتب سراً علاء الدولة أمير أصفهان. ويصف هو محنة السجن هذه التي كتب أثناءها هذا الكتاب بقوله في آخر صفحة من إشاراته: رقمت معظمها في حال صعب لا يمكن أصعب منها حال، ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال، بل في أزمة يكون كل منها ظرفاً لغصة وعذاب أليم. . . ما مضى وقت ليس عيني فيه مقطراً. ولا بالي مكدراً. . . الخ ص145 حـ2) كما إن سجنه عند الإسماعيلية (الباطنية) هؤلاء قد جعله يذهب مذهبهم في التستر والإخفاء، والضن بكتابه ذاك على من لم يؤت الفطنة أو الدربة، أو كان من الجاهلين المبتذلين، والملاحدة المكابرين؛ وفي التوصية بالحرص على تخير من يهدي إليهم في هذا الكتاب واختبارهم، صوناً لهذا العلم من الضياع - كما نبه على ذلك في آخر الكتاب (ص143 - 144 حـ2) وكرر ذلك التنبيه في أوله (ص2 حـ1) بشروط واختبارات خاصة، نرجو أن تتوافر كلها لطلاب المسابقة حتى يتهيأ لهم أن يقفوا على حقيقة هذا الكتاب.
وكما يتضح من أول كلمة للشيخ أبي علي في كتابه: الإشارات إنما تشعر إلى الأصول - والتنبيهات تنبه على الجمل، هذه تتعلق بالمبادئ العامة، وتلك بالقضايا الخاصة، والذي(764/40)
تشير له هذه أو تنبه عليه تلك؛ مسائل من العلم الطبيعي والإلهي مختلطة، يتدرك فيها ابن سينا من المحسوس إلى المعقول، ومن المادة إلى الصورة، ولذا نجده قد قسم أبواب هذا الكتاب إلى أنماط - على عكس المنطق الذي تنقسم أبوابه عنده إلى أنهاج - لأن النمط ضرب من البسط والتمهيد يقصد لذاته - بينما النهج ممهد لكل سالك إلى غاية معينة مما يحقق الغرض من المنطق كعلم لمناهج العقل - وكم في النمط الواحد من (إشارة) إلى أصل من الأصول، و (تنبيه) على جملة من الجمل، أو (وهم) من الأوهام، و (تذنيب) أو خاتمة ونتيجة لكل ذلك.
والكتاب الأول من الإشارات في خمسة أنماط. يهمنا منها الرابع (في الوجود وعلله) (ص189 - 214) والوجود المطلق الذي لا علة له على الإطلاق، أي الوجود في ذاته من حيث هو وجود؛ والوجود الآخر الذي هو محمول على أشياء مختلفة - هي معلولة له، والوجود عارض فيها وليس من ماهيتها، ومباحث هذا النمط - كما لخصها الرازي - ثمانية: (1) الرد على من لا يؤمن بوجود إلا المحسوس، (2) العلل بوجه عام (3) إثبات واجب الوجود (4) ووحدته (5) وتجرده عن الكثرة والنوع والجنس والعقل والحس، (6) ومن الضد والشبيه، (7) هو عاقل ومعقول (8) تلك خير الطرق لإثباته.
والنشرة المتداولة لهذا الكتاب، هي تلك المطبوعة في المطبعة الخيرية بمصر سنة 1325هـ، المشتملة على شرحي العلامة فخر الدين الرازي (في الهامش الخارجي) والخاجه نصير الدين الطوسي (هكذا تنطق في الفارسية بمعنى الأستاذ) - وكلاهما عالم محقق قام على شرح الإشارات مع فارق بينهما غير كبير - لا يعنيكم أمره - وحسبكم أن تتخيروا لأنفسكم أي الشرحين على هذا النص (المذكور في كليهما بين أقواس) - فإذا تعذر عليكم تفهم الواحد فليكمل بشرح الآخر.
2 - العلل الأربع:
وابن سينا - قبل أن يشرع في تفصيل علل الوجود - ينبه على ما قد يتبادر لأذهان العامة من أن كل موجود فهو محسوس، وأن كل ما لا وضع له في المكان وفي الجهة وفي سائر أحوال الجسم المحسوس فلا نصيب له من الوجود - وهو رأي المشبهة ومن لفّ لفهم - فإننا حين نتأمل هذه المحسوسات الجزئية نجدها تشترك في معنى كلي مجرد - كالإنسان(764/41)
الذي أفراده زيد وعمرو من الناس - الواحد منها محسوس، له وضع ومقدار وأين وكيف، ومن هذا المحسوس يأتي معنى الإنسان المجرد من الكم والكيف والأين والوضع الذي هو الإنسان الحقيقي - والمعنى الكلي للإنسان من حيث هو حيوان ناطق.
فإن قيل إن هذا الإنسان بالمعنى الكلي الثاني موجود في العقل لا في الخارج، ونحن نقصد الوجود الخارجي لا الذهني؛ قلنا إن معنى الإنسانية لا يوجد في الذهن إلا مقترناً بالإنسان الواقعي المحسوس المشترك في التصور العقلي المجرد لكلمة إنسان. وسقط بذلك الاعتراض.
وإن قيل إن للإنسان هنا كفرد تصوراً ذهنياً كلياً من حيث هو يتركب من أعضاء كثيرة مختلفة يشتمل عليها مفهوم كلمة (إنسان) بالمعنى الفردي، قلنا إنه يسهل دفع هذا الاعتراض بتصور نفس الحال في كل عضو من أعضاء الإنسان أي أن يكون لكل منها وجوده في الذهن كلياً مجرداً فضلاً عن وجوده في الواقع والحقيقة.
وحجة أخرى تلزم أولئك الذين لا يعترفون بوجود إلا للحسي من الأشياء، والموهوم من الموجودات، هي أنه عن المحسوسات يأتي الحس، وعن الموهوم ينشأ الوهم، وهي ليست أموراً حسية، فإن أنكروها وجب أن ينكروا ما يتعلق بها والعقل الذي يحكم عليها ويميز بينها، دون أن يكون محسوساً ولا موهوماً هو الآخر. وقل مثل ذلك في طبائع الأمور المدركة بالوهم كالعشق والخجل، والشجاعة والجبن - التي ليست تدرك بالحس، وإن تعلقت بالمحسوس والموهوم من الأشياء. والنتيجة التي يخلص منها الشيخ الرئيس بعد إدحاض هذه الأوهام ودفع ما يعترض به عليها - أن كل موجود فإن له ماهية مجردة عن كل مشخصاته الحسية - هي التي يتحقق بها وجوده، وإن لم تكن محسوسة ولا موهومة.
ذلك أن الشيء إنما يتحقق وجوده بإحدى اثنتين: إما بماهيته وحقيقته كالمثلث من حيث هو سطح وأضلاع تحيط به وتحدده - أي من حيث مادة المثلث والصورة الناشئة له من مجموع هذه المادة أي المثلث بالقوة والمثلث بالفعل وإما بوجود ذاته من حيث موجده أو المؤثر في حدوثه، وما لأجله وجد - أي من حيث فاعله، ومن حيث غاية وجوده، وعلل الوجود الأربعة هي إذن قسمان: علتا الماهية، وعلتا الوجود، الأوليان منها هما: العلة المادية والعلة الصورية وعلتا الوجود هما العلة الفاعلة أو علة الفاعلية والعلة الغانية(764/42)
- الأوليان جزء من الشيء لأنهما الشيء بالقوة (المادة) والشيء بالفعل (الصورة). والأخيرتين ليستا جزءاً منه - بل هما فاعله (أو موضوعه بالقوة)، وغايته (أي تحققه بالفعل)، ولذا كانت العلتان الأولى والثالثة سالبتين والثانية والرابعة موجبتين.
والفرق بين علل الماهية وعلل الوجود يتبين في الفرق بين وجود الشيء في ذاته ووجوده في الأعيان؛ الأولى تلزم الشيء لتحقيق ذاته في الخارج وفي العقل، ومقومات هذه العلل هي الجنس والنوع والفصل. . . مما يدخل في باب المنطق، أما الأخرى فيفتقر إليها الشيء في كونه موجوداً كالفاعل والغاية. وابن سينا يخصص هذا الفصل لدراسة هذه الأخيرة، بعد إذ فرغ من الأولى في المنطق. مما سنتابعه فيه في المقال التالي.
كمال الدسوقي(764/43)
الأدب والفن في أسبوع
نشوء القومية في البلاد العربية:
ألقى الأستاذ ساطع الحصري يوم السبت المحاضرة الخامسة من سلسلة محاضراته بالجمعية الجغرافية الملكية، فتحدث عن (نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية حتى الحرب العالمية الأولى).
قال الأستاذ إن البلاد العربية كانت خاضعة للدولة العثمانية باعتبارها دولة إسلامية، وكانت تنظر إليها على أنها حلقة في سلسلة التاريخ الإسلامي، وقد سيطرت الدولة على هذه البلاد بتغلبها على الجنود والحكام، ولم تقاومها الشعوب، باستثناء اليمن لاعتناقها (الزيدية) التي ترى أن يكون الخليفة من آل البيت ومن نسل زيد. وكان المسلمون ينضوون تحت لواء الدولة متجهين إليها سياسياً ودينياً، على خلاف المسيحيين العرب الذين كانت لهم هيئات دينية منفصلة عن الدولة، وكانوا يمجدون الفكرة العربية منفصلة عن الدين؛ وكان هؤلاء المسيحيون ثلاثة طوائف: الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، وكان يلي المناصب الدينية بالكنائس الأرثوذكسية الشرقية رجال الدين من اليونان، وكانوا يفرضون اللغة اليونانية في الصلاة وغيرها من شعائر الدين؛ وكذلك كان الرومان واللغة اللاتينية في الكنائس الكاثوليكية الشرقية، وتحدث الأستاذ عن جهود العرب المسيحيين في مقاومة اليونانية واللاتينية في البيئات الدينية حتى استبدلوا بهما اللغة العربية؛ أما البروتستانت فكانوا من الأمريكيين الذين تعلموا اللغة وعملوا على نشر مذهبهم في البلاد العربية بلغتها، وأنشأت الطوائف الثلاث مدارس كانت تهتم باللغة العربية وتعلم بها، على حين كانت مدارس الحكومة تعلم بالتركية ولا تلقى العربية من عنايتها إلا قليلاً.
وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نشأت تيارات فكرية مختلفة، فالمسيحيون وبعض المستنيرين من المسلمين كانوا يدعون إلى انفصال البلاد العربية عن الدولة العثمانية وكان فريق كبير من المسلمين يعمل على جعل الخلافة عربية، ودعا فريق آخر إلى الإصلاح والاشتراك مع العثمانيين في إدارة دفة الأمور. ثم أعلن الدستور العثماني سنة 1908، فشاركت الأمم العربية الأتراك في السرور بانتهاء حكم الاستبداد، واتجه شعور الجميع نحو التكتل ونسيان الخلافات؛ ولكن ذلك لم يدم طويلاً لأنه كان من(764/44)
نتيجة الحرية بعد إعلان الدستور أن امتدت الأقلام إلى تناول بعض الشخصيات التي كانت مشتركة في الحكم الاستبدادي فكان هذا إلى عوامل أخرى بينها الأستاذ سبباً في الانقسام بين العرب والأتراك، واستمر هذا النزاع إلى أن عقد مؤتمر العرب بباريس وكان من مطالبه جعل التعليم باللغة العربية وإشراك العرب في مناصب الحكم، وحدث في أثناء انعقاد هذا المؤتمر أن اتصل به رسل تركية، وأمكن الوصول إلى الاتفاق تحققت به بعض المطالب العربية وفي جملتها جعل التعليم في بعض المدارس باللغة العربية. على أن هذا الاتفاق لم يقض على المنازعات نهائياً، بل ظلت قائمة حتى نشبت الحرب العالمية الأولى.
وكان الأستاذ قد ذكر السامعين في بدء المحاضرة بما دل عليه تتبع نشوء القوميات في البلاد الأوربية من أن القومية كائن حي روحه اللغة ووعيه التأريخ؛ ويبدو أن الخيط الذي يربط هذه المحاضرة بتلك النظرية هو جهود المسيحيين العرب في مقاومة طغيان اللغات الأجنبية وتمسكهم بالعربية، ثم اهتمام العرب جميعاً باللغة العربية في حركاتهم ومطالبهم السياسية. والمتوقع أن الفكرة ستكون أكثر وضوحاً أو ستصل إلى نتيجتها في المحاضرة القادمة وهي (نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية منذ الحرب العالمية الأولى حتى تكون جامعة الدول العربية).
عبث أدبي فني:
الملك بين يديك في إقباله ... عوذت ملكك بالنبي وآله
حر، وأنت الحر في تاريخه ... سمح، وأنت السمح في إقباله
يفديك نصرانيه بصليبه ... والمنتمي لمحمد بهلاله
يجدون دولتك التي سعدوا بها ... من رحمة المولى ومن أفضاله
فاروق جملها وزان بساطها ... عرش يلوذ الشعب تحت ظلاله
وكأن عيدك عيدها لما مشى ... فيها البشير ببشره وجماله
هذه هي الأغنية التي غنتها أم كلثوم ثلاث مرات في يوم عيد ميلاد جلالة الفاروق. وقدمها المذيع بقوله: (عيد الدهر، من شعر أحمد شوقي بك وغناء أم كلثوم) ولاشك أن المستمعين دهشوا. . . فما عيد الدهر؟ وما خطب شوقي؟ وما غَناء ذلك في الميلاد الملكي؟.
أنشأ شوقي قصيدة (عيد الدهر) منذ قرابة أربعين عاماً، منح بها الخليفة العثماني محمد(764/45)
رشاد الخامس، وأشاد فيها بمدينة الآستانة. وقد أخذت من هذه القصيدة الأبيات السابقة التي غنتها أم كلثوم، وليست كل هذه الأبيات من تلك القصيدة، ففيها بيت وربع بيت من نظم غير شوقي، وبيان هذا كما يلي:
أخذ من القصيدة أربعة أبيات بنصها، ثم قصد إلى بيت في القصيدة يعبر فيه الشاعر عن ولوعه بالآستانة، وهو:
في كل عام أنت نزهة روحه ... ونعيم مهجته وراحة باله
فحُذف قوله: (في كل عام أنت) ووضع مكانه: (يا جنة الوادي) وجيء بعد هذه (العملية) ببيت (من الخارج) ثم ختمت الأغنية ببيت من أصل القصيدة وهو: (وكأن عيدك الخ).
ولاشك أنك - وقد علمت كيف تم (إخراج) هذه الأغنية - قد تحولت دهشتك إلى العجب من هذا الصنيع والسؤال عن الحكمة في هذا التحوير والتبديل! أليس هناك غير شعر شوقي؟ لقد فاضت قرائح الشعراء ليلة ميلاد الملك، وما زالت القرائح تفيض مستمدة من معين حبه، أفما كان يغني بعض شعرهم عن هذا الموقف المخجل أمام التاريخ!
وبعد فنحن أمام طريقة جديدة أصدق ما توصف به أنها عبث أدبي فني. وما كان يليق أن يقع ذلك في هذه المناسبة السامية.
الخطابة في مهرجان الشباب:
دعت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف يوم الثلاثاء لفيفاً من الصحفيين والأدباء إلى حفل أقامته بإدارة خدمة الشباب لاختبار المتقدمين إلى مباراة الخطابة، وهي إحدى مباريات المهرجان الأدبي والفني الذي تنظمه الإدارة لمناسبة عيد الميلاد الملكي.
انعقدت لجنة التحكيم، وهي مكونة من الأستاذ العقاد والأستاذ توفيق دياب والأستاذ توفيق الحكيم والدكتور إبراهيم ناجي والدكتور محمد صلاح الدين، وقبل أن تبدأ في الاختبار وقف الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك المدير العام للثقافة بوزارة المعارف، وألقى كلمة تحدث فيها عن قلق الشباب وحيرته وعام يدل عليه هذا القلق من الحيوية والاستعداد، ووجوب استغلاله في التوجيه والإرشاد. وقال إننا نريد بهذا المهرجان وغيره أن نكشف مواهب الشباب لنشجعها وننميها، وأشار إلى ما تعتزمه الإدارة من إنشاء نواد صيفية للشباب تتوافر فيها الوسائل المختلفة لتنمية المواهب الأدبية والفنية وغير ذلك مما يستغل(764/46)
فيه وقت الفراغ استغلالاً نافعاً.
وتكلم الأستاذ توفيق دياب فقال إنه يلاحظ أن الحياة الثقافية عندنا تنقصها الروح والتشبع بالفكرة، وأننا نماثل الأمم الكبيرة في ضخامة الأبنية وفخامة المظاهر فقط دون أن يكون لدينا شعور قوي برسالة نؤديها، رسالة حاضرة يؤديها الأستاذ، ورسالة للمستقبل يستعد لها الطالب.
وقال الدكتور إبراهيم ناجي إنه وصل من دراسته النفسية لشبابنا أنهم مصابون بمرضين نفسيين: الأول تصيد الأمور وعدم فهم حقائق الأشياء، فكثيرون منهم يتصدون لقرض الشعر وكتابة القصة مثلاً، دون أن يعرفوا ما هو الشعر، ودون أن يقفوا على دقائق فن القصة. والمرض الثاني هو عدم وجود الأهداف أو تعددها، فإما أن لا يكون لهم هدف، أو يريد الواحد منهم أن يكون كل شئ.
ثم شرعت اللجنة في عملها، فأبلغت المتبارين موضوع الخطابة وهو هذا البيت:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
ووزعت الدرجات على النواحي الثلاث التي يقدر فيها الخطيب وهي التفكير والأداء والتأثير. ثم تعاقب الأدباء من الشباب وكان الزمن المعين لكل منهم عشر دقائق. وكانوا خمسة عشر شاباً، بينهم فتاة واحدة، هي الآنسة عزيزة توفيق (وأخصها بالتسمية لأن الرجل لم ينل بعد المساواة بالمرأة!) ولا أريد أن أتعرض بالحكم عليها أو على غيرها من المتبارين، فالأمر للمحكمين وحدهم، أو - كما يقول زملاؤنا الصحفيون - بين يدي القضاة. . . ولكن لا أرى بأساً في بعض الملاحظات العامة
1 - المفروض أن الخطيب إنما يخطب جمهوراً في أمر يهمهم أو قضية تشغل بالهم، فيعالج المسألة معالجة خطابية، ليؤثر فيهم ويوجههم إلى ما يريد، وطبعاً لا يكون ذلك حقيقة في المباراة بل يتمثله فيها الخطيب، وهل يقع في الحياة أن جمهوراً يشغل باله موضوع حكمة عامة ويتهيأ لأن يخطبه أحد فيها؟.
2 - لذلك لاحظت أن أكثر الخطباء اتخذ القضية العربية والقضية المصرية موضوعاً لتطبيق هذه الحكمة وقصر كلامه عليها، على ما في ذلك من بعد عما تصدق عليه وهو الأفراد، أما الأمم فكثير منها يهون ولكن لا يسهل الهوان عليه، لأنه يتحفز ويتحين الفرصة(764/47)
لنيل حريته.
3 - انتهز أحد الخطباء الفرصة ووجه الكلام إلى المحكمين باعتبارهم من قادة الفكر، وقال لهم: دعونا من هذه المسابقة، ماذا فعلتم لعزة البلاد ودفع الهوان عنها؟ وهكذا قلب الوضع فأراد أن يمتحن الممتحنين. . ولكنها فورة الشباب. .
هذا وسيختار من هؤلاء المتبارين في الخطابة أربعة يمنحون جوائز، ويلقي الفائز الأول خطبة في المهرجان العام الذي سيقام في يوم 27 فبراير الحالي.
رقاعة فرنسية:
بعث إلى (المصري) مراسلها من باريس، بحيث جرى بينه وبين وزير الشؤون الإسلامية في الوزارة الفرنسية الجديدة؛ وقد تناول هذا الحديث موضوعاً اتجهت إليه أخيراً الإدارة الثقافة بالجامعة العربية، وهو أن يشمل التعاون الثقافي العربي البلاد المغربية. سأل المراسل الوزير الفرنسي: هل للجاعة العربية أن تحصل على موافقة فرنسا إذا عرضت عليها إرسال مندوبين فرنسيين وجزائريين ومراكشيين إلى القاهرة لتمثيل هذه البلاد في اللجنة الثقافية للجامعة العربية كما وافق فرانكو على إرسال مندوب عن مراكش الإسبانية في هذه اللجنة؟ فقال الوزير الفرنسي في إجابته: (أحب أن أقول لك أنه إذا ثبت قطعاً أن هذه اللجنة تعمل في نطاق ثقافي وروحي فقط فليس مستحيلاً أن تنفذ وزارة الشئون الإسلامية اقتراحك هذا).
ومن المحقق أنه لن يثبت قطعاً ولا من غير قطع أن لجنة الثقافة بالجامعة العربية تعمل في النطاق الثقافي الروحي الذي تريده فرنسا! كما أنه من المحقق أن الشعوب المغلوبة على أمرها لا يمكن أن تفصل بين الثقافة والسياسة إلا على أيدي الممالئين لغالبيها، والثقافة التي لا تبعث شعور الحرية وتغذيه إنما هي ثقافة العبيد.
وإذن فلن توافق فرنسا على إرسال مندوبين يمثلون البلاد المنكوبة بها في تنظيم التعاون الثقافي العربي. وإذا فرض أنه ثبت قطعاً. . الخ، فماذا تفعل فرنسا؟ تقول: ليس مستحيلاً أن تنفذ الاقتراح!
ومن الغريب مع هذا أن ينوه ذلك الوزير في حديثه بالعلاقات الثقافية بين فرنسا ومصر، فيشير بتبادل المحاضرين بين البلدين. . . إلى آخر هذا الكلام المعروف المحلول.(764/48)
ومعنى كل ذلك أن فرنسا تريد أن توطد علاقاتها الثقافية بمصر التي تجمعها بالمغرب فكرة الوطن العربي الأكبر، وتعمل في الوقت نفسه على توطيد استعمارها للمغرب بقطع صلته الثقافية الطليقة في المشرق، ولها أنشأت (وزارة الشؤون الإسلامية) التي تقابل عند الإنجليز (وزارة المستعمرات البريطانية) مع فرق واحد هو انعدام الحياء في التسمية الفرنسية!
وبعد فانظر إلى تسمية هذه الوزارة، وأضف إليها ما انطوت عليه إجابة وزيرها، وخذ أيضاً تقطيع العلاقة الثقافية بين بلاد متحدة في الثقافة والدعوة أو الدعاية لتوطيدها مع جزء من هذه البلاد - ثم انظر ماذا نصنع بكلمة (الرقاعة) إن لم نضعها هنا.
العباس(764/49)
سلالة يعرب
للأستاذ محمود غنيم
نسب أُدِل به على الأقمار ... أنا من سلالة يعرب ونزار
وأولئك الشم الأباة أخوتي ... والمكرمات شعارهم وشعاري
يا دار إسماعيل كيف وسعتهم ... أشَرى أسود أم سماء دراري؟
أم أنت في وادي الكنانة دوحة ... أخرى تشاهد بيعة الأنصار؟
حي الوفود تحية ممزوجة ... بعبير غالية ونفح عُمار
واخشع إذا حدثت عن أسلافهم ... أو زرت ما تركوا من الآثار
كانوا إذا رفعوا قواعد دولة ... وضعوا العلوم مواضع الأحجار
حاطوا ممالكهم بعدل ملوكهم ... كحياطة البستان بالأسوار
لم تكف هارون البسيطة كلها ... حتى تحدى دولة الأمطار
كانوا وكان على البرية حكمهم ... يمضي فصاروا قصة السمار
كانوا إذا نشروا السلام على الورى ... رسلاً وإن خاضوا الحروب ضواري
من جندل الفلوات قدوا عزمهم ... أو سيلهن الجارف التيار
ومن الحيا المدرار صيغ سخاؤهم ... فسخاؤهم صنو الحيا المدرار
وتنفسوا ريح البوادي حرة ... إن البوادي معدن الأحرار
المجد في الصحراء ينبت والعلا ... بدل المروج الخضر والأشجار
إن كان للباري شعوب خصها ... برعاية فالعرب شعب الباري
أو قيل: إن العالمين عناصر ... فهمو همو حسباً وطيب نجار
خلق البرايا من تراب خالص ... والعرب شيب ترابهم بنضار
قد وحدت أمم العروبة جمعها ... توحيدها للبارئ القهار
حلف برئ القصد ما أوحى به ... نزق الهوى أو حب الاستعمار
والحلف ما أوحت به الشهوات إن ... هو قام قام على شفير هار
قل للعروبة: أنت دين آخر ... دين المساجد أنت والأديار
لا تسأل العربي عن وطن فقد ... محت الدماء فواصل الأقطار(764/50)
بالضاد نحن وبالدماء قبيلة ... وبوحدة الأهداف والأفكار
عدنان جدي والعروبة كلها ... لي عترة والشرق أجمع داري
قل للكماة الذائدين عن الحمى ... والمرخصين غوالي الأعمار
من كل زي أنف حمي بالردى ... يرضى ولا يرضى هوان الجار
قد أرهف التاريخ غرب يراعه ... ماذا يخط يراعه للقاري؟
الكون أنصت والأثير بمرصد ... بدل الحمام يطير بالأخبار
نادت فلسطين الشهيدة فاستجب ... يا سيف واخطب يا لسان النار
لا ترشقوهم بالزهور تحية ... أهل القبور أحق بالأزهار
بل فارشقوا الأبطال في ساح الوغى ... بذخيرة أو عسكر جرار
من كل أروع في ظهر جواده ... ينقضّ إعصاراً على إعصار
حرب أثار الجائرون غبارها ... ما كان لولاهم جورهم بمثار
هم أوقدوها فاجعلوهم فحمها ... في يوم نحس شمسه من قار
يوم كيوم الروم في (اليرموك) أو ... يوم كيوم الفرس في (ذي قار)
هذا تراث الراشدين وفتحهم ... نفديه بالأسماع والأبصار
إن تعبثوا بتراثهم خلفتمو ... في القبر أعظمهم بغير قرار
المسجد الأقصى الذي أسرى إلى ... محرابه جبريل بالمختار
والقبلة الأولى لكل مكبر ... في الأرض قبل البيت ذي الأستار
لا تبتنى الدولات حول موائد ... كموائد الندمان حول عقار
لا تبتنى الدولات فوق خرائط ... جدب الحقول نواضب الأنهار
الحق في عصر الحضارة يشتري ... بالدرهم المضروب والدينار
أقسمت ما ردّ المظالم حاكم ... عدل كحد الصارم البتار
قالوا: الحقوق فقلت هن قوائم ... يصطدن من بحر الدماء الجاري
فاروق إنك للعروبة موئل ... قوت الفقير بها وبرد العاري
إن أدلج الركب المغذ لطية ... تنضي المطي فأنت نجم الساري
فاروق واسمك في العروبة أرغن ... أشجى لها من رنة الأوتار(764/51)
أنت الذي داويت معضل دائها ... وأسوت ما جرحت يد الأقدار
خطت يمينك أس وحدتها وما ... خطت يمينك ليس بالمنهار
محمود غنيم(764/52)
رسالة النقد
مبادئ علم النفس العام
للدكتور يوسف مراد
بقلم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
كنا قد وجهنا إلى الدكتور يوسف مراد منذ عام سؤالاً في مجلة الكتاب، فحواه هل علم النفس علم أو فلسفة أو بين هذا وذاك؛ ولم يحر جواباً، وأبى أن يواجه السؤال، فقلت لعله يريد أن يفصِل المسألة، ويعد لها العدة، ويقرأ المراجع ويفيض في الجواب. حتى أصدر كتابه (مبادئ علم النفس العام) وهو يقع في أربعمائة صفحة من القطع الكبير، فحمدنا الله، وبادرنا إلى قراءته كي نستفيد منه هذا العلم الذي يقوم على تدرسه، وشغل كرسي الأستاذية في كلية الآداب.
وقد استباح الدكتور مراد لنفسه أن يحكم على كتب المؤلفين في علم النفس، ونصب الموازين التي يصدر بناء عليها حكمة عليها، فتراه يقول في التصدير (وهناك نقص آخر يكاد لا يخلو منه كتاب مدرسي في علم النفس، وهو عدم الربط بين الوظائف السيكولوجية والمظاهر السلوكية ربطاً كافياً مطابقاً للوقائع.). ويقول أيضاً (من واجب كل من يشرع في وضع كتاب في علم النفس لمعالجة جميع موضوعات العلم، كما تنص عليها عادة برامج الدراسة الثانوية في مختلف البلاد، أن يتوخى الأساليب العلمية التي تمتاز بالأمانة والدقة، وبضرورة التمييز بين ما هو يقيني وما هو عرضة للاحتمال والشك، وبين الوضع العلمي لبعض المشاكل كمشكلة الغريزة مثلاً، ووضعها الفلسفي) وفي التصدير إشارات كثيرة من هذا القبيل.
فهو يضع نفسه موضع المعلم لجميع من ألف في مصر في علم النفس. ونحن لا نرفض أن نتعلم من الدكتور مراد إذا كان حقاً في كتابه من الحقائق الموثوق بها ما نأخذ به.
ولسنا نجد جواباً صريحاً عن السؤال الذي وجهناه من قبل، ولكنه يوثر أن يعتمد في علم النفس الجانب التجريبي
أما الجانب الذي لم تتناوله التجارب، فإنه يقول فيه (إنه صورة لا تشمل كافة مسائل علم(764/53)
النفس العام. فهي صورة ناقصة للحياة النفسية) ولا غرو في ذلك إذ كان المؤلف يقصر حديثه على الحقائق التجريبية الموثوق بها. وهو يشير هنا إلى كتاب وودورث في علم النفس التجريبي.
ونحن لا نقر وجهة نظر الدكتور مراد وزعمه أن علم النفس لا يكون علماً موثوقاً به إلا إذا كان تجريبياً، فهناك مسائل كثيرة لا يمكن أن تنالها التجربة من جهة، وليس من الضروري أن يكون العلم علماً لأنه تجريبي.
هذا الخطأ في فهم منهج علم النفس، جعله يقول في ص10 (ونحن ندرك هذه الأحداث من الداخل، مندمجة في حياتنا النفسية، بطريقة مباشرة وبوساطة حس باطن يسمى الشعور. ولكن إذا ظلت هذه الأحداث سراً مطوياً بدون أن تكون مصحوبة بتعبير لفظي أو حركي بقيت في نظر العلم كأنها غير موجودة. ولا تصبح هذه الأحداث الداخلية صالحة للمعالجة العلمية إلا إذا عبر عنها بواسطة حركات خارجية).
الله أكبر. . . كيف تزعم أن الإنسان حين يفكر بينه وبين نفسه، يكون هذا التفكير (غير موجود) وكيف تستبيح لنفسك أن تنطق باسم العلم فتنكر وجود هذه الأحداث الباطنية.
وكان خليقاً بك، إذا أردت أن تكون منطقياً مع نفسك أو مذهبك في إنكار هذه الأحداث الباطنة، ألا تذكرها بعد ذلك في كتابك، ولا تعتمد عليها. ولكنك مضطر إلى الاعتراف بها، لأن علم النفس لابد أن يقوم على التأمل الباطني، وهذا أحد مناهجه، ولذلك قلت في ص14 (أما الحالات الشعورية من حيث هي حالاتي أنا، أختبرها بنفسي وأحياها، فإحساسي بها إحساس مباشر. وتمتاز الشعوريات، كما أحس بها وكما أخبرها بنفسي، بكونها داخلية ومباشرة وتلقائية. .)
ونحن لا نجد هذا الاضطراب في المنهج الذي يسلكه المؤلف فحسب، بل في الموضوع كذلك. وهو أخطر فهو يقول في ص10، عن موضوع علم النفس. (وبعبارة أخرى، موضوع علم النفس هو الإنسان من حيث هو كائن حي يرغب ويحس ويدرك وينفعل ويتذكر ويتعلم ويتخيل ويفكر ويعبر ويريد ويفعل).
وواضح أن هذا هو التعريف الذي يرتضيه لعلم النفس. فهو يقول في ص11 (يستنتج أيضاً من تعريفنا لموضوع علم النفس أن لهذا العلم صلة وثيقة بعلمين هما علم الحياة وعلم(764/54)
الاجتماع من جهة أخرى).
ونحن نحاسب الدكتور مراد بمقتضى كلامه، فهو يقول في استهلال الكتاب (يتميز كل علم من غيره بموضوعه ونهجه).
وقد رأيت أن المنهج الذي وضعه مضطرب، والموضوع الذي ينص عليه لا يرضى به العلماء، وقد ناقشه العلماء منذ زمن طويل.
ذكر الأستاذ ألفرد بينيه في كتابه (النفس والجسم) إن هناك سبعة تعاريف لعلم النفس، الميثافيزيقي، والعددي، والمنهجي، والتعريف بدرجة اليقين، وبالمضمون، وبوجهة النظر، وبالقوانين العقلية. وآخر هذه التعاريف هو الصحيح.
أما الثاني، وهو الذي جاء في كتاب الدكتور مراد، وهو الموسوم بالعددي أي بتعديد المسائل التي يتناولها موضوع العلم؛ فيقول فيه الأستاذ بينيه: (إنه يفيد بالتقريب الأولى للأشياء، وفي تذكير أولئك الذين لا يشكون في أن علم النفس يدرس أفكارنا. ومهما يكن العدد الحقيقي لهؤلاء الجهال؛ فإنهم، فيما أعتقد، عدد لا يحسب له حساب).
ويقول في ص12 (ولتحديد العلاقة بين الظاهرة وشروطها يستعان بالطريقة الإحصائية، ويوصف القانون العلمي بأنه قانون إحصائي).
ولسنا نفهم لماذا يقصر الدكتور مراد القوانين العلمية على الإحصاء فهناك قوانين ليس من الضروري أن تقوم على الإحصاء ويكفي أن ينظر العالم إلى بعض الحالات، دون أن يستقرئ أو يحصي جميعها. مثال ذلك تمدد الحديد بالحرارة، فإننا لا نحصي كل قطعة من الحديد، وليس في مقدورنا ذلك. والمنطق الحديث الذي ينحو نحو الإحصاء لا يقول عن القانون إنه (علاقة) كما قال، بل اقتران. . . وذلك ليفادى القول بالعلية.
ولسنا ندري لماذا يقول في ص13 (فاللغة إذن هي حلقة التصال بين علم الاجتماع وعلم النفس) أليس ذلك مما يتنافى مع القواعد التي سنها للباحثين في التصدير حتى يهديهم سواء السبيل فقال: (فهناك خطر جسيم يهدد الباحث في هذا العلم وهو التجريد، وما ينجم عنه من التبسيط المسرف المخل الذي يتحول بسهولة إلى إبهام وغموض)
ولسنا نريد أن نتعرض لأسلوب الكتاب ولغته، فليس الكتاب في الأدب وليس صاحبه ممن درس العربية أو يحسنها، غير أننا كنا نحب أن يتجنب مثل هذه اللفظة كالبطانة عند قوله(764/55)
عن المؤثرات في الإنسان (من حيث هي معان لها بطانتها الوجدانية، ويمكن تصورها وإدماجها في منظومة ذهنية واستخدامها لإنشاء ضروب من الاستجابات الذهنية الصامتة أو اللفظية أو الحركية، تختلف باختلاف الغرض الذي يسعى إلى تحقيقه).
وليس هذا الأسلوب عربياً بل أعجمياً، لا يفهم القارئ منه شيئاً، أما (بطانة) فهي لغة البزازين لا لغة العلماء المتثبتين.
وبعد فقد عرضنا عليك نموذجاً مما جاء في هذا الكتاب من اضطراب في التفكير، وتناقض في الآراء، وأخطاء جسيمة في صميم العلم. ولا تتسع صفحات هذه المجلة لتعقب المؤلف في سائر الكتاب، فهو يجري على هذا النحو من الاضطراب والزلل.
ومادام الدكتور مراد قد نصب الموازين في صدر كتابه يحاسب بها الذين ألفوا في علم النفس، وقد ذكرنا لك طرفاً من هذه الموازين في سياق المقال، فنحن نرجو العلماء أن ينصبوا له نفس هذه الموازين، ليحكموا على مبلغ علم أستاذ علم نفس بالجامعة، وهو المسئول عن تثقيف الطلاب.
أحمد فؤاد الأهواني(764/56)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ علي الطنطاوي:
أعجبت كل الإعجاب بمقالك (حكمة القدر) فهو فلسفة صائبة في تفسير معنى القدر الذي تحير فيه الناس منذ القديم إلى اليوم؛ فهو تحفة أدبية لولا بقعة سوداء فيه طمست الحق والحقيقة جميعاً، وهي حكاية الطفلة (الحلوة) التي وقعت من الطبقة السادسة فنزلت إلى الأرض سليمة.
إن مخترع هذه الأكذوبة الفظيعة، ظن أن استعارة حبال الغسيل المتعاقبة في طبقة بعد طبقة لكي تتلقف الطفلة وهي هابطة إلى أن وقعت أخيراً على كومة رمل سليمة - تجوز على كل الناس على السواء.
دلني على بناية ذات طبقة سادسة في شارع عريض يكون في كل طبقة منها حبال غسيل فوق الشارع على مرأى من السابلة. وإن كانت فيجب أن تثب الطفلة إليها وثباً أو تقذف إليها قذفاً عمداً لكي تتلقاها الحبال لأن الحبال بعيدة عن الجدار. وإلا فإن وقعت وقوعاً تقع بين الحبال والجدار ولا يعيق هبوطها عائق. . حتى لو كانت الحبال شباكاً فلا تضبطها، وإن ضبطتها الشبكة الأولى فلا تسقط إلى الثانية؛ وإن اخترقت الأولى إلى الثانية تخترق الشباك الست، وأخيراً تقع على كومة الرمل عجينة مختلطة.
فهذه الحكاية أكذوبة، وإن لم تكن أكذوبة؛ تكن أعجوبة. والأعجوبة والقدر لا يجتمعان.
ولا بدع أن تكون أعجوبة إذا كان مخترعها قد أبطل فعل الجاذبية نصف دقيقة لكي تصل الطفلة إلى الأرض من غير زخم كما وقف يشوع بن نون (في التوراة) الشمس نصف ساعة لكي تنتهي المعركة بانتصار شعب الله المختار.
يا صاحبي في حوادث الزمن ألوف تريك حكمة القدر. فلماذا بنيت مقالك على أكذوبة الطفلة، ثم تدع الناس السذج يتناقلونها وهم يستشهدون على صدقها بالأستاذ علي الطنطاوي.
نقولا الحداد
أبو سفيان بن الحارث لا أبو سفيان بن حرب:(764/57)
في كتاب من الكتب القيمة لكاتب من كتاب الشرق الأفذاذ ذوي اليد الطولى على العلم والأدب وقعت رواية أبيات في مناسبة من المناسبات، ولكنها فسرت على غير ما تعارفناه وتناقلناه في معناها. وعلى غير ما تدل عليه عوامل القصيدة التي قيلت من أجلها الأبيات لحسان بن ثابت يهجو بها أبا سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب. وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعبد الله بن الزبعري وعمرو بن العاص، وكان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة
وهي من قصيدة حسان الهمزية التي يمدح فيها قومه ويذكر نصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويرد على أبا سفيان بن الحارث، أحد أولئك الشعراء الهجائين له كما بين ذلك في موضوعه من كتب السير وشروح الديوان. ومطلع القصيدة:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء
وأما الأبيات فهاكها:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت محوف نخب هواء
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
ولعل في قول الشاعر هجوت محمداً وقوله أتهجوه ولست له بكفء ما يوجه إلى ذلك التفسير الذي قلنا به، فإن الذي قد درج من معنى الهجاء هو ما يكون من نوع الشعر.
ولم يكن أبو سفيان بن حرب ممن عرفوا بنصب أنفسهم لذلك، وإنما الذي عرف له هذا الوصف هو أبو سفيان بن الحارث وإن كان كل منهما إذ ذاك عدواً شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم.
فإن كان لدى سيدي الكاتب الأديب نبأ أصح مما نعلم فليتفضل وليفدنا فكلنا كارع من حياضه قاطف من أزهاره.
وإن يكن ذلك شيئاً سبق به القلم فهو كبوة الجواد. ويحضرني في هذه المناسبة ما وقع للإمام الجاحظ في تفسير كلمة (اللحن) وقد وقعت في أبيات لمالك بن أسام بن خارجة الفزاري من شعراء الدولة الأموية منها البيتان.(764/58)
حديث ألذه وهو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزناً
منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحناً
يقول الشاعر إن هذا الشعر لمالك يقوله في استملاح اللحن في الكلام من بعض جواريه وهو من أوهام الجاحظ.
قال علي المنجم: قلت للجاحظ: إني قرأت في فصل من كتابك المسمى كتاب البيان: إن مما يستحسن من النساء اللحن في الكلام وأنشدت بيتي مالك بن أسماء. قال هو كذلك. قلت أما سمعت بخبر هند بنت أسماء مع الحجاج حين لحنت في كلامها فعاب ذلك عليها، فاحتجت ببيتي أخيها فقال إنما أراد أخوك أن المرأة فطنة فهي تلحن بالكلام إلى غير المعنى في الظاهر لتوري عنه ويفهمه من أراد بالتعريض كما قال الله سبحانه (ولتعرفنهم في لحن القول) ولم يرد أخوك الخطأ في الكلام، والخطأ لا يستحسن من أحد. فوجم الجاحظ وقال: لو سقط إلي هذا الخبر ما قلت ما تقدم. قال فقلت له: أصلحه؛ قال: الآن وقد سار الكتاب في الآفاق؟
وفي المسألة بحث بين الأدباء. والظاهر أن المعنى في شعر الفزاري من قبيل المعنى في شعر النظامي:
يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه باد
فهن ينبذن من قول يصبن به ... موقع الماء من ذي الغلة الصادي
وهو الذي ذهب إليه أبو الطيب في قوله:
وإذا الفتى ألقى الكلام معرضاً ... في مجلس أخذ الكلام اللذعني
أما إرادة اللحن الحقيقي فبعيدة جداً لأن اللحن لا يستحسن من أحد كما قال الحجاج ولاسيما في صدر دولة بني أمية. ولئن استحسن من المرأة في بعض مناسبات فإن كلمة الشاعر عامة مطلقة. وخير الحديث ما كان لحناً.
فإن حمل ذلك على التخصيص في الحديث يجعله مصروفاً إلى حديث المرأة فأقرب به من التكلف من غير مبرر من ذوق سليم.
وبعد فلعلي لا أكون قد جاوزت قدري بمراجعتي علماً من أعلام الأدب، فإن الحق ينطق، والحق ضالة كل حكيم وعليم.(764/59)
محمود النواوي مدرس البلاغة والأدب بمعهد القاهرة
النساء ملائكة:
إي والله، هكذا يدعي الأستاذ محمود يوسف الأمين بدار الكتب المصرية في كتاب له بهذا الاسم أصدره في هذا الشهر وحشده بصورة عارية آثمة، وهي طعنات في صميم الأخلاق والفضيلة. ولست أدري، والله، كيف يجرؤ رجل له خلق ودين على أن يحمل هذا الكتاب إلى بيته؛ فيراه أخ له أو ولد، فتثور في نفسه أحط الغرائز، وأخبث النزعات؛ أو تراه أخته، أو بنته، أو زوجته فتتعرض لامتحان لئيم وضيع لا نستطيع تحديد آثاره أو أخطاره.
الواقع أن كثيراً من كتابنا وأدبائنا قد جاروا المرأة المعاصرة في حريتها وانطلاقها فسوغوا لها الآثام، وشجعوها على الإجرام وزينوا لها ما أتت من مقابح ومآثم، على الشواطئ، وفي الملاهي والمراقص والمواخير والحفلات الماجنة الداعرة. بل حاول بعضهم في خبث وإجرام أن يلتمسوا لحرية المرأة وانطلاقها على وجهها شواهد من ماضي الإسلام؛ فحرفوا الكلم عن مواضعه، وأخطأوا في التأويل عن عمد أو عن غير عمد. وقد آن الأوان لكي يتنبه إلى تلك المشكلة أحرار الرجال وقادة الفكر والإصلاح الاجتماعي في الشرق الإسلامي؛ فإن حالة المرأة اليوم هي مشكلة المشكلات في عصرنا الحاضر؛ لأن المرأة قلب المجتمع، والقلب كما يقول محمد العظيم عليه الصلاة والتسليم: مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله!. . .
ولو أننا عرّفنا المرأة رسالتها في الوجود، وقصرناها عليها رغباً أو رهباً، ومنعناها من الميادين التي لا تصلح لها لسعدت النساء، وسعد الرجال، وصلح الحال!. . .
ولكن ماذا نفعل وقد قيض الله المرأة الشرقية المسكينة من قرناء السوء، وشياطين الإنس، وأبالسة البهتان، من يغرها ويخدعها ويكذب عليها ويتقرب إليها؛ لا ليسعدها، بل ليقضي على البقية الباقية من شرفها وعرضها.
حسبكم عبثاً أيها المؤلفون، وأنقذوا المرأة من هذا المنحدر، واذكروا أنكم رجال!. .
أحمد الشرباصي
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي(764/60)
جاء في البريد الأدبي من العدد (763) تعليق على كلمة في مقالة (الفتنة الكبرى) يسأل السائل فيها عن صحة الكلام في قوله تعالى: (وهذه الخمسة أشياء) وصواب قراءة هذه الجملة: (وهذه الخمسة - أشياء) وقراءتها هكذا تعرب عن إعرابها.
محمود محمد شاكر(764/61)
القصص
نهاية حب
للأستاذ زهدي الشواف
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وبعد هذه المقابلة تغيرت (نانو) علي، فراحت تبخل بابتساماتها الغراء، وباتت تقتصد بنظراتها العرجاء. . . لقد أصبحت (نانو) تتيه علي، وكان تيهها ذا معنى خاص لم أستطع فهمه!. . . أتراها حسبت أني موله بثغرها الأدرد؟. . أم تراها ظنت أني مدله بوجهها الأجعد!. . هذا مستحيل!. . إن للحب دائرة موصدة في أوجه الشياطين!. . . إن في الحب نفحة سماوية لا يدركها أولئك الذين التصقوا بالأرض فلم يتجهوا بأعينهم إلى السماء ليبصروا ما أبدع الله فيها من جمال!. . إن في الحب وقف على القلوب الزاخرة بالحياة، الشاعرة بجمال الوجود؛ أما (نانو) فإنها بعيدة عن الحياة. . . بعيدة عن الحب. . . إن الحب ليلفظها لفظ النواة!. . إذاً ما بالها تتيه علي؟. . هذا سر مستغلق!. . وما أكثر ما يستغلق على المرء من أسرار!.
ما (نانو) ومالي!. . إنها وسيلة غير صالحة للوصول إلى آنستي. وقد بقيت يومين أفكر، لم أذق خلالهما طعاماً ولم أرق في فمي شراباً. وكان من نتيجة تفكيري أني عولت على أن أكتب إلى آنستي رسالة أشرح فيها حبي وقمت إلى مكتبتي وأمسكت بالقلم وأخذت أشرح ما يخاطرني من أشواق. ثم ختمت الرسالة بالكلمة التالية: (أي آنستي!. . . إني لأرجو منك أن تعلميني رأيك صريحاً. . . فإما قبول أنعم فيه بعطفك، وإما رفض يبرئني من حبك. . . وإني لأنتظر كلمتك الفاصلة آملاً أن ألقاها غداً معلقة في مصراع الشباك. . .)
ولم تكد شمس الغد تطلع حتى كنت أمام المنزل أنتظر. وبعد فترة وجيزة بصرت بالقطة الحبيبة تمد رأسها من الباب، فلوحت لها بقطعة لحم كنت أحضرتها من السوق، ولم تكد تراها حتى عدت نحوي فأمسكتها بيدي وربطت الرسالة في عنقها وتركتها تعود أدراجها.
ولما كان الغد دلفت إلى المنزل وأنا أقدم رجلاً وأؤخر رجلاً. لقد كان قلبي يخفق هلعاً، وكانت عيناي تتشوقان وكأنهما تتحريان شيئاً مضاعاً. وكان ذهني غارقاً في التفكير أي(764/62)
غلطة هذه الغلطة التي ارتكبتها؟ وأي حماقة هذه الحماقة التي أتيتها؟. وهل ثمت أكثر جنوناً من فتى يسلم سره إلى قطة!؟ إن كل ما كنت أخشاه هو أن تكون الرسالة قد وقعت في يد غيرها فينفضح الأمر، ويطلع الأهل على السر.
وما كدت أدنو من المنزل حتى لمحت قطعة من الورق معلقة في النافذة، ومددت يدي المرتجفة فأخذتها وفتحتها وقرأتها!. . يا للسعادة!. . . إنها من آنستي. . . آنستي الحبيبة. . . يا للعجب إنها تدعوني لمقابلتها بعد منتصف الليل في بيتها!. هذا لا يكاد يصدق. . . يا لله!. . أتراني في اليقظة أم في المنام!. . ماذا أصابها فبدلها؟. . وماذا عراها فغيرها؟. . أيكون الصدود الذي كانت تبديه مجرد وهم باطل ألجأها إليه عيون القوم المفتحة حولها؟ هذه هي الحقيقة بعينها. . . إنها تحبني وتحبني ولكنها لم تكن لتجرأ على البوح بهذا الحب!. . . غفرانك يا آنستي!. . . لقد اتهمتك بالقسوة ولكني كنت مخطئاً في ظني، وإن بعض الظن إثم.
لقد قرأت الورقة ثم طويتها، ورحت أنتظر الساعة الموعودة بفارغ الصبر، ودقت الثانية عشرة، ثم الواحدة بعد منتصف الليل؛ فانحدرت إلى المنزل والآمال المعسولة تحدوني. ولم أكد أصل الباب حتى وجدته مفتوحاً، ولم أكد ألجه حتى وجدتني أمام شبح لم أتبينه لشدة الظلام. . . إنه ولا ريب شبح آنستي المحبوبة. . .
وتقدمت منها وأنا لا أكاد أصدق نفسي! وعرتني رعشة من الفرح كادت تنسيني صوابي، وانحنت آنستي عليّ وراحت تمطرني بوابل من القبل؛ فانتشيت من السرور ومددت يدي محاولاً لمس ثغرها. . . وكم كانت دهشتي عظيمة حين وجدت أن يدي قد دخلت في فوهة لا قرار لها. . يا إلهي!. . أين الأسنان الناصعة، أسنان آنستي المحبوبة؟
وفتحت عيني وحدقت في الثغر الذي كان يقبلني، إنه ثغر أورد وأمعنت النظر بالوجه الذي يقابلني. . . يا للغرابة!. . . إنه وجه (نانو) العجوز التي أبغضها. ولا يستطيع أن يتمثل خيبتي هذه إلا أولئك المقامرون الذين أضاعوا في ثانية واحدة كل ما قد ربحوه في ساعات. لقد تبدلت عواطفي بعد اشتعالها وخمد الدم في عروقي. وما هي إلا ساعات معدودات حتى انقلب التبلد العاطفي إلى ثورة غضب كادت تطيح بصوابي فانقضضت على (نانو) ودفعتها بيدي دفعة قوية فسقطت مغشياً عليها.(764/63)
ولقد خشيت الفضيحة فحاولت أن ألوذ بالفرار، ولكني حين هممت بفتح الباب غشيت عيناي فلم أعد أبصر شيئاً. ولقد زاد في ارتباكي أني سمعت وقع أقدام متجهة نحوي. . . إنه رب البيت. لقد نبهه صوت وقوع (نانو) فجاء يستطلع الخبر. يا للكارثة! إنه يحمل في يده عصا غليظة لو أهوى بها على جدار لدكه. ولقد حاولت أن أجد لنفسي مفراً ولكن سهمي قد طاش فلم أعد أدري ما أصنع. ولم أجد بداً من طلب الأمان.
ولقد عجب رب البيت من أمري: إن ملامحي لا تنبئ عن سوء الطوية الذي أتى بي إلى بيته بعد منتصف الليل؟. . هذا سر لم يستطع له تفسيراً. وحاولت أن أفضي له بالحقيقة الواقعة، ولكن هل يصدق أن (نانو) تحب. . إنه سيتهمني بالجنون وسيرميني بالكذب. . ولم أجد بداً من اللجوء إلى الحيلة فادعيت أن كلباً عقوراً تبعني في الشارع وحاصرني فلم أستطع الخلاص منه. واتفق أن مررت بالقرب من باب هذا المنزل فوجدته مفتوحاً، فولجته وسرعان ما اصطدمت بشخص ارتاع من دخولي فسقط مغشياً عليه.
وكانت (نانو) قد أفاقت من غشيتها وسمعت كلامي. ويبدو أن هذا التخلص الحسن قد أعجبها؛ فأنبأت رب البيت بأنها قد نسيت الباب مفتوحاً منذ المساء، وأنها استفاقت عند منتصف الليل وذكرت ما قد نسيت فخرجت تغلقه فكان أن صدفتني.
وقد جازت هذه الحيلة على رب البيت فأحسن بي الظن، ورثى لحالي، وطيب خاطري ثم فتح لي الباب، وتركني أنصرف بسلام.
ولقد خرجت من البيت وآليت على نفسي أن لا أعود إليه ثانية. لقد ألقيت شبكتي طامعاً بالسمكة الجميلة ولكني لم أعثر إلا على سلحفاة بشعة. ولقد خشيت أن ألقيها ثانية فأعثر على ثعبان يقضي على حياتي. لقد خرجت من البيت بعد أن نذرت التوبة عن الحب. نعم لقد تبت ولقد مضى علي سنون عدة ركن قلبي خلالها للسكينة، وارتاح للهدوء لولا بعض نزوات كانت تعتاده في الفترات فيتحرك بين أضلاعه، ويحاول الانطلاق من أغلال التوبة ولكنه سرعان ما يذكر العيون الزرقاء، ويتخيل (نانو) العجوز؛ فيعود إلى هدوئه ويخلد إلى سكينته وهو يقول: (إني تبت عن الحب منذ زمن بعيد. . .)
(حماه - سوريا)
زهدي الشواف(764/64)
العدد 765 - بتاريخ: 01 - 03 - 1948(/)
من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة. .
- 2 -
يوم الثلاثاء 8 مايو سنة 1945:
شغلت بالي الآنسة (س) بقدومها المفاجئ وموعدها المضروب، فجهدت أن أتذكر ما أُنسيت من تلك الوساوس التي كان يلقيها على صدرها الشيطان فتنفثها هي في رسائلها إليّ شواظاً يضطرم ولا يحرق، وسعاراً يحتدم ولا يُذوي. وهل أستطيع أن أتذكر أضغاث أحلام تذهب عند الصباح، أو هواجس أوهام تهرب من العقل؟ لقد كانت في رسائلها أشبه بالمحمومة تهيج بها الحرارة فتهذي، أو يأخذها النعاس فتحلم. إذن أعود إلى أوراقي الخاصة لعلي أجد في ثناياها بعض تلك الرسائل فأعيد قراءتها لأستجلي ما غمض في ذهني منها، ولأستعد لما أتوقع يوم اللقاء من الحديث عنها
وجدت بتوفيق من حسن الحظ طائفة من هذه الكتب الوردية الورق، المعطرة المداد، المنمقة الخط، فرتبتها على حسب تواريخها ثم أخذت أقرأها كتاباً بعد كتاب حتى فرغت منها، وفي نفسي لهذه الفتاة صورة مكتملة الأعضاء ما كانت لتبرز في ذهني على هذا المثال لو بقيتُ على تصورها من كتبها المتفرقة، كل عضو على انفراد، ول قَسَمة على حِدة.
كان أسلوب رسائلها في طورها الأول أسلوب التلميذة الراغبة في العلم: تشاور فيما تفعل، وتسأل عما تجهل، وتجادل فيما أجيب. ثم صار في طورها الثاني أسلوب الصديقة الطامعة في المعونة: تشكو ضيقها لتلتمس الفرج، وتصف وحشتها لتطلب الأنس، وتذكر خطأها لتتلمس الصواب، وترسم غايتها لتتبين الطريق. ثم أصبح في طوره الثالث أسلوب العاشقة الظامئة إلى الغزَل: تعطف كل حديث إلى الحب، وتقصر كل نعيم على الحب، وتحاول أن تعرف رأيي في الحب، وتسألني أن أروي لها ما قيل في الحب، وتطلب مني أن أكتب رسالة غرام إلى آنسة مجهولة، لتعرف كيف تهفو روح إلى روح، وتنجذب نفس إلى نفس، وينسكب قلب في قلب، فأحاول في ردي عليها أن أعيد السكينة إلى قلبها، وأن أصل بالموعظة الحسنة بينها وبين ربها، ولكني كنت معها أشبه بالسائس يريد أن يكبح الفرس(765/1)
الجموح من غير شكيمة، أو بالسائق يحاول أن يقف السيارة المنحدرة من غير فرملة. لقد انفجر في صدرها شريان العواطف الطاغية، فهو لا ينفك يفور بالهوى الجياش وينفح بالشهوة الدافقة. وهيهات أن يحسمه رَقوء أو ضماد! أعياني الانفجار فتركت العرق العاند ينزف، ووقفت منه موقف الحائر المشدوه أنظر إلى العواطف المسفوحة وهي تتمثل في ألوان قوس الغمام، وتتشكل في صور من الأخيلة والأحلام، ثم تتحول إلى قطع من الأسجاع والأنغام، فأعجب أو أطرب أو أغضب، ولكني لا أملك غير ذلك، ولا أستطيع وا أسفاه أن أصدها عن هذه المهالك!
أخذت كتبها تنثال علي بعجيب الأحاديث وغريب الحوادث فأقرأها ولا أجيب عنها. لقد برزت في رسائل هذا الطور عارية، فلا حياء على الوجه، ولا احتشام على الجسد. صرحت بأنها لم تكن صادقة حين كتبت إليّ في أول الأمر تطلب المعرفة أو تبغي النصيحة، إنما لبست هذا البرقع الكاذب لتستطيع أن تدخل علي في وضح النهار من الباب العام، حتى إذا حصل التعارف وبدأ التآلف حسرت برقع الرياء ووضعت وجه المرأة أمام عين الرجل وقالت له! ها أنا ذي كما خلقني الله ووجهني القدر! خلت حياتي من كل عمل ومن كل أمل فلا أفكر إلا في الحب، ولا أحلم إلا بالحبيب. كنت في المدرسة الداخلية لا أسمع من أترابي غير أحاديث الهوى، يؤلفنها في حوادثهن وخيالهن، أو يسرقنها من أمهاتهن وأخواتهن، أو يروينها عن جاراتهن وصديقاتهن. فصديقتي فلانة تقول لي إنها عرفت صاحبها من النافذة، وراسلته مع الخادمة، وقابلته في سينما مترو! وصديقتي علانة تروي لي أن صاحبها صديق أخيها، عرفته في غرفة الاستقبال، وكلمته في حديقة المنزل، ثم واعدته في حديقة الأسماك! وصديقتي ترتانة تحكي لي أن صاحبها صاحب سيارة - والسيارة لو تعلمين فخ البنات - رآني أول مرة وأنا عائدة وحدي إلى البيت، فعز عليه أن أمشي، وناشدني الله أن أركب، فركبت وتعاهدنا على الوداد المحض في طريق الماظة! وكانت كل واحدة منهن تصف القبل الطاهرة، والعناق البريء، والحديث الغزِل، والخلوة العفيفة، والخروج المختلَس، والرجوع الخفي، والعلل المكذوبة، والمواعيد المضروبة، بأسلوب يحرك الساكن ويظهر الباطن ويجرئ الهَيوب، وأنا أصغي إلى هذه الأحاديث بحواسي الخمس، حتى إذا خلوت بنفسي ورقدت على سريري استذكرت هذه الأحاديث،(765/2)
واستحضرت تلك الصور، فأشعر بقلبي يذوب، وبجسمي ينحل، وبنفسي تسّاقط حسرات على مجهول لا أعرفه ومطلوب لا أناله. وفي أكثر أيام الآحاد كانت إحدى قريباتي تجيء إلى المدرسة فتستأذن لي في الخروج وتذهب بي إلى دور السينما فأرى أحاديث رفيقاتي وأمانيّ نفسي مصورة على الشاشة بالألوان الفاتنة والأوضاع المغوية، فينماع جَلدي كما ينماع الثلج، ويذوب صبري كما يذوب الشمع، وأتمنى لو لم تكن معي قريبتي، أو كانت قريبتي في سن رفيقتي! ثم استشعر الحزن الممض والهم المبرح كلما تذكرت أني سأعود وحدي إلى الغرفة الموحشة والفراش القلق.
وأخيراً تركت حياة المدرسة وجو القاهرة، إلى حياة العزبة وجو الريف. جئت هذه العزبة التي وصفتها لك من قبل وفي ذاكرتي أجناس من أحاديث الهوى، وفي حقيبتي أكداس من قصص الحب. فاتخذت من قمرية الحديقة محراباً لكيوبيد أؤدي فيه صلواتي، وأتقرب إليه بنزواتي وصبواتي، والروايات الماجنة تثير عواطفي، والمجلات الخليعة تلهب مشاعري، والرغبات الجامحة تملأ فراغي، وليس بجانبي أم ترشد، ولا بين جوانبي عقيدة تهدي؛ فأنا أعيش في دنيا القصص أقاسم بطلاتها قطوف اللذة، وأساقي أبطالها كؤوس الصبابة، فإذا سأمت القراءة وأجمت الذكرى سيلت همي برؤية حمامة تلاطف حمامة، أو قط يسافد قطة، أو فلاح يداعب فلاحة، حتى ضاق وسعي بما أختزن من ذكريات أمسي ورغبات يومي، فأردت أن أجد لي متنفساً بالكتابة، ولكن الكتابة لم تردّ عليّ، لأنها مني وعني وإليّ. أريد أن أكون موضوعاً لمقالة أو حديثاً لرسالة أو عروساً لقصة؛ ولا يمكن أن أكون شيئاً من ذلك إلا إذا عشقني كاتب. فالكاتب وحده هو الذي يستطيع أن يحب من بعيد! يستطيع بفنه الخالق وخياله المبدع أن يعايش من يحب روحاً لروح، فيقابله من غير لُقية، ويحادثه من غير رؤية، ويرسل إليه الكتاب فيكون هو اليوم الموعود واللقاء منتظر والحديث المشتهى والأمل المرجو والوداع والمتوقع! ولقد اخترتك لتكون حبيبي النائي، تصف مني ما وصفت من (حياة) و (ليلى)، وتترجم عني ما ترجمت عن (شرلوت) وجوليا. وليس في منطق الحب أن أقول اخترت فتختار، أو أردتُ فتريد. إن سلطان الحب طاغ لا يخضع لاختيار ولا يخشع لإرادة. وكيف يتسنى لنا أن بتحابّ ونحن لا نتراءى؟ لو كنت أملك رؤيتك لأمكن أن يأسرك جمالي، أو لو كنت أحسن الكتابة لجاز أن يسحرك خيالي. إنما هو(765/3)
الرجاء والحظ، وهو القضاء والقدر.
هذه خلاصة أمينة لما قرأت من رسائلها في هذا اليوم أسجله في مذكراتي، وما أسجل فيها إلا ما له أثر في نفسي أو خطر في حياتي.
احمد حسن الزيات(765/4)
مراجعات
في فلسفة الوجود، وفي الفاروق
للأستاذ عباس محمود العقاد
ظن الأستاذ نقولا الحداد أننا تهكمنا حين قلنا له ما فحواه: إنه محتاج إلى أن يراجع مصادره الفلسفية.
وسيرى الأستاذ الآن أننا نجد ولا نتهكم حين نقول له أكثر من هذا: إن مرجعته لمصادره العلمية ألزم وأعجل، ولاسيما مصادره عن أينشتين الذي يلوح على الأستاذ الحداد أنه يريد أن يتكلم عنه في مصر كما يتكلم الحواريون عن رسلهم المختارين.
في شهر يونيو سنة 1930 ألقى العلامة أينشتين في جامعة نوتنجهام - بإنجلترا - محاضرة علمية كان لها دوي كبير في المعاهد العلمية والفلسفية، لأنه ألمع فيها إلى خاطرة جديدة يحاول أن يفسر بها اتصال القوى بين الأجسام بغير الوسائط المفروضة، وتحدث عن جوهر الفضاء، أو مادة الفضاء، أو المادة الفضائية لأن التجارب الكثيرة لم تثبت للأثير المزعوم وصفاً من الأوصاف لا ينطبق على الفضاء. فمن المحتمل على هذا التقدير أن يكون الفضاء جوهراً مادياً لا نحتاج معه إلى فرض الأثير.
ولم يكن إينشتين أول من قال إن الفضاء ليس بخلاء؛ فإن الفلسفة القديمة التي يحاول الأستاذ الحداد أن يترفع عنها، قد سبقت إلى القول بامتناع تصور الخلاء في الوجود، وقال معظم أساطينها بأن الفضاء لا يعني العدم ولا يعني الخلاء.
قلنا هذا للأستاذ الحداد فعاد يكتب في الرسالة قائلاً - بكل ثقة واطمئنان -: إن إينشتين لما قال عنى المكان المشغول بالمادة ولم يعن الفراغ المطلق. فمتى قلنا المكان عنينا مكاناً مملوءاً بالمادة.
والعجب أن يخطر للأستاذ الحداد - أو لغير الأستاذ الحداد - أن جامعة من الجامعات تدعو عالماً من أكبر علماء الأرض إلى المحاضرة فيها فيقول للناس أن المقصود بالمادة الفضائية هي المادة التي توجد في المكان.
والعجب أن يخطر للأستاذ الحداد - أو لغيره - أن المعاهد العلمية تهتز لهذا النبأ وتوفد الرسل إلى إينشتين لتحصل على المزيد من شرح هذا الرأي الجديد.(765/5)
ولكن الواقع أن المعاهد العلمية قد اهتزت لهذه المحاضرة، أو لهذه النظرية؛ لأنها فهمت منها شيئاً غير الذي فهمه الأستاذ الحداد: فهمت منها أن الفضاء نفسه مادة قد تغني عن فرض وجود الأثير.
وليس أكثر من الكتب والرسائل التي خاضت في هذا الموضوع، ولكننا نكتفي منها برسالة مبسّطة أصدرتها دار الطباعة التي يديرها (هالدمان جولياس) في كانساس بالولايات المتحدة؛ لأن السؤال فيها بسيط لا إبهام فيه، والجواب كذلك على قدر السؤال.
سئل الدكتور لويس لونشنين تلميذ إينشتين وشارحه المعروف عما يعنيه أستاذه الكبير. فقال ما نصه بالإنجليزية:
' '
وترجمة هذه العبارة: (إن إينشتين يذهب إلى أبعد من هذا. ويزعم. . . أن الفضاء الذي كان في عصور متقدمة يعتبر خلاء، واخترعوا له في علم الطبيعة الحديث اسم الأثير للاستعانة به على تفسير بعض الظواهر الطبيعية التي تقع في الفضاء، وهو الآن مادة، أو جوهر.
ومضى الدكتور لوينشنين يقول إن مادة إينشتين الفضائية قد يتضح أن تكون من جوهر لن تدركه حواسنا ويروع من كل دليل مباشر في المعامل.
أما الدكتور لونشتين هذا فهو الذي قدم إينشتين إلى الجامعات وقاعات المحاضرات عند زيارته للولايات المتحدة في سنة 1921. وهو على علمه بمباحث الضوء والكهرباء، حجة في شؤونها العلمية ومستشار فني معروف لشركات من أكبر الشركات الكهربائية، وعلمه بهذه المسائل لا يقل عن علم الأستاذ الحداد على أقل تقدير.
فليس قصارى الأمر أن الفضاء لا يوجد إلا إذا وجدت فيه هذه المادة التي نعرفها. بل تقضي هذه الخاطرة بأن الفضاء نفسه هو مصدر تكوين المادة، وأن جوهره قد يدق عن الحس وعن التجارب في معامل العلماء.
والأستاذ الحداد يقول بأن الوقت عدم أو وهم من الأوهام.
فله أن يضيع منه ما يشاء. أما نحن فلا نقول بأنه عدم ولا بأنه وهم. ولهذا لن نضيع منه(765/6)
أكثر مما أضعناه في إقناع الأستاذ الحداد بأنه محتاج إلى التواضع بين يدي الفلسفة التي يعالجها، على هذا النحو من التفكير.
هذه مراجعة.
أما المراجعة - أو المراجعات الأخرى - فهي عن صفات الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي مما نتلقاه كثيراً في هذه الأيام من جانب الأساتذة، ومن جانب التلاميذ والتلميذات
وبودنا أن نجيبها جميعاً لولا أن السؤال عن المفردات اللغوية يغني فيه الرجوعاللغوية يغني فيه الرجوع إلى المعجمات، ولا تتسع له الصحف والمجلات التي يقرأها من يعرفون تلك المفردات، أو يملكون الرجوع إلى تلك المعجمات.
ولهذا نكتفي بالجواب عن المسائل الفكرية أو النفسية، وهي المسائل التي يسرنا من التلاميذ والتلميذات على الخصوص أن يقبلوا على بحثها والنظر في معانيها وتكوين الرأي في دقائقها بالمراجعة والاستفسار.
سأل أستاذ فاضل عن أسلوب عمر فقال إن بعض العبارات التي نسبت إلى عمر قد تكون من قبيل العبارات التي تضاف إلى العظماء المشهورين، وليست هي من أقوالهم على التحقيق.
ورأينا في هذا أن ميزان التشكيك ينبغي أن يحمل بكفتيه ولا يحمل بكفة واحدة.
فإذا كان العظماء جميعاً سواء في نسبة العبارات إليهم، فهل اجتمع مثل هذه العبارات فيما نسب إلى الصديق؟ هل اجتمع مثلها فيما نسب إلى الإمام؟ وهل اجتمع مثلها فيما نسب إلى معاوية أو إلى عمرو بن العاص؟
إن كان الأسلوب واحداً فيما نسب إلى جميع هؤلاء فالشك هنا معقول.
أما إن كانت العبارات المنسوبة إلى عمر كلها مما تنفرد به، فهي صالحة للاستدلال بها على أسلوبه الخاص الذي لا يشركه فيه سواه، وبخاصة حين تتواتر ذلك التواتر الذي أحصينا شواهده في الكتاب.
وسأل الأستاذ الفاضل عن قصة الحيلة التي استغلها عمر مع أبي سفيان حين مد يده إلى خاتم في يد أبي سفيان فأخذه منه وبعثه إلى زوجته، وأمر الرسول أن يقول لها باسم(765/7)
زوجها: انظري الخرجين اللذين جئت بهما فابعثيهما.
ويقول الأستاذ إنه يخالف الرواية ويرى أن عمر كان أولى أن يبهم العدد لأنه ربما يكون في العدد الذي ذكره نقص أو زيادة.
ورأينا أنها رواية أمامنا، وأن الجزم بنفيها هو (الادعاء) الذي يقوم على غير دليل لأن الجزم بالنفي هنا حكم باستحالة جميع الاحتمالات التي تقع في الخاطر، وليس شئ منها بمستحيل.
فمن المحتمل أن عمر كان يعرف عادات السروات من العرب في رحلاتهم، أو يعرف على التخصيص عادات أبي سفيان.
ومن المحتمل أن عمر استكثر ثلاثة أخرجة على رحلة واحدة، واستقل خرجاً واحداً يعود به أبو معاوية من عنده وهو أمير علي على الشام؛ فتوسط بين العددين.
ومن المحتمل أن عمر رأى ضرورة التحديد؛ لأنه لو طلب كل ما جاء به أبو سفيان من أمتعة السفر لاسترابت زوجة أبي سفيان وفطنت لما يراد. فجازف هذه المجازفة - بعد ذلك التقدير - وصحت مجازفته فحفظت ورويت، ولو لم تصح لما سمعنا بها أو لسمعنا من شأنها غير ذاك.
ومن المحتمل أن عمر قد علم بنبأ الخرجين وكانت له عيون تترقب العائدين من الرحلات، كما ذكرنا في الكتاب.
فلماذا ندعي أن الذي حصل هو غير ما جاء في الرواية، وليس لدينا ما نمنع به احتمالاً واحداً من جميع هذه الاحتمالات؟
أما الأسئلة التي تلقيتها من التلاميذ والتلميذات، فمنها سؤال من الآنسة (رسمية علي خليل) بالمدرسة السنية تطلب فيه مثلاً على فطنة الفاروق، وهي صفة من صفاته التي وردت في باب الصفات من الكتاب.
والفطنة إنما يستدل عليها بالكلام الذي ينم عن فهم الطبائع والأخلاق، وفي كلام الفاروق الذي أوردناه ما يدل على فطنته لهذه الأمور.
أو يستدل عليها بالأعمال، وقد دلت أعمال الفاروق على الفطنة في كل ما تولاه تسيير الجيوش وتدبير الفتوح وتنظيم البلدان وتوجيه النصائح إلى الولاة والقادة والقضاه، وإنشاء(765/8)
الدواوين واستشارة ذوي الرأي من الشيوخ والشبان.
أو يستدل عليها بشهادة العارفين، وقد شهد له بها أكبر دهاة العرب كالمغيرة وعمرو بن العاص.
وقد سألت الآنسة عن الفرق بين الرؤية والرؤيا والشعور على البعد، وكلها مما يدل على الاهتمام بعالم الغيب، أو أن الإنسان لا يقصر همه على الواقع المحسوس، ومن هنا يكون على استعداد للتدين والإيمان، ولهذا ذُكرت هذه الخصال، أو هذه الملكات لبيان استعداد الفاروق بطبيعته لقبول الدين.
والرؤية هي أن يتراءى للإنسان منظر أو صورة لا يراها غيره بحواسه المعهودة؛ لأنها تتمثل في النفس على نحو من ظهور الأشباح للنائم في حلمه. وقد يراها المستعد للرؤية وهو في حالة من حالات الغيبوبة. وقد تكون رمزية يفهم منها الرائي معنى من المعاني على طريقة الفهم من الرموز والكنايات. والفرق بين الرؤية والتلبائي أن التلبائي ينتقل بين شعورين على البعد، وقد تظهر الرؤية لإنسان واحد ولا تكون لمناظرها صورة خارجية يتلقاها الآخرون بحاسة النظر المعهود.
والاعتداد بالرؤيا هو اهتمام الإنسان بما يراه في أحلامه، وليس من دأب كل إنسان أن يهتم بهذه الأحلام أو يتخذ منها دليلاً على حادث مخبوء له في الغيب.
على أنني أرجو الآنسة معذرة إذا أحلتها على نفسها وهي تستوضح هذه العبارة: (كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة)؛ فإنها تسأل عن معنى هذا مع تفصيل الكلام فيه عدة صفحات، وعليها هي أن تجهد نفسها لتجيب سؤالها، وهي قادرة على الإجابة بغير جهد كبير.
وأسألها وزميلاتها معذرة إذا أحلتها على علم أساتذتها وعلم المعجمات في تفسير بعض المفردات؛ فليست هي مما يخفى على الأساتذة أو يخفى عليها إذا رجعت إلى تفكيرها، أو رجعت إلى معجم صغير مما يتيسر للطلاب في معاهد التعليم.
عباس محمود العقاد(765/9)
من أحاديث الإذاعة:
تسعة قروش!
للأستاذ علي الطنطاوي
من أسبوعين ابتليت من أولادي ببلية، هي أني كلما دخلت الدار، تعلقوا بي طالبين تمثال العبد الأسود ذي الطربوش الأحمر وأنا لا أدري ما هذا التمثال، ولا أعرف من أين آتيهم به، وهم يلحون لا يشغلهم عنه شئ من غالي اللعب، ونادر الطرف، حتى كرّهوا إليّ البقاء في البيت. . .
وكنت مرة خارجاً إلى عملي مستعجلاً، فوجدت بياعاً يحمل هذه التماثيل، ينادي (الواحد بقرش) ففرحت به فرح الضال في البادية يرى معالم الطريق، واشتريت تمثالين وحملتهما معتزاً بهما كأني أحمل كنزاً وعدت بهما حتى إذا دنوت من الدار وجدت ولدين صغيرين قاعدين في ظل جدار، فلما أبصرا التمثالين برقت عيناهما، ودنا رأساهما في همس، وارتفعت يداهما في إشارة خفية متهيبة، وشخص بصراهما كما يفعل شابان غريران طلعت عليهما من الطريق فتاة فتانة. . وقاما فتبعاني وعيونهما معلقة بالتماثيل، فلما رأيت ذلك منهما فكرت أن أدفعها إليهما. ولكني خشيت أن أرجع فلا أرى البائع، وتخيلت رغبة أولادي فيها، فلم تطب نفسي أن أحرمهم هذه المتعة، ولم أستطع الإعراض عن الولدين الفقيرين فدعوتهما فدفعت إليهما قرشين، وقلت لهما
- هو ذا البائع، فالحقاه فاشتريا مثلهما، الواحد بقرش!
فأخذا القرشين وعهدي بمثلهما أن القرش الصاغ ثروة له. لا يناله إلا بشق النفس، فما حفلا بهما ولا هشا لهما، ولبثا شاخصين في التمثالين كأنهما لم يريا القرشين، ولم يسمعا الكلام أو كأن عقلهما فارقهما فاستقرا على ما في يدي، فلم يفهما كلامي وحاولت نسيانهما، وسرت فتبعاني كأنهما كلبان وكنت أحس بحرّ نظراتهما على ظهري، وبثقلها على روحي فأهم أن أمد يدي باللعب إليهما ثم تدركني محبة الولد فأكف، حتى وصلت الدار وصورتهما أمام عيني، تمنع عن عيني رؤية فرحة أولادي باللعب وغوايتهم إليها. . .
ولما خرجت وجدت الولدين لا يزالان في الطريق، يفتشان عن البائع، يعدوان هنا وهناك، كأم أضاعت طفلها ولا تدري أية سبيل سلك. فدعوتهما - فأقرخت روعهما - وسألتهما عن(765/10)
اسميهما فمشيا معي فما درت مع الطريق دورة حتى لقيت البياع أمامي، فشريت لهما تمثالين وتركت لهما القرشين، ووجدت حول البياع أولاداً مثلهما، فقلت له:
- أعط كل ولد تمثالاً
وكانوا تسعة فدفعت إليه تسعة قروش
هل تصدقون أو أحلف لكم، أني لما نظرت في وجوه الأولاد وقد بدا فيها بهاء الفرح، وما عرفتْ هذه الوجوه الفرح قط، ولاحت عليها سمات الطفولة الراضية الشاكرة، وما كان يلوح عليها إلا الألم والحقد المرير وأشرق عليها نور إلهي سطع من وراء ما حملت من الأوساخ والأقذار، ولما رأيت عيون الأمهات الواقفات تدمع، وألسنة الرجال الواقفين تدعو، أحسست في قلبي فرحة لا تعدلها فرحة الجائع بالمائدة الملوكية المترعة، ولا الضجِر بالقصة العبقرية الممتعة، ولا المحب المدنف بلقاء الحبيب بعد طول الهجران. . .
لا والله فتلك أفراح أرضية، وهذه فرحة سماوية، قد تعيش آلاف البشر وتموت، ولا تحس مثلها. وشعرت كأني كبرت في عين نفسي، وأني سموت وأني صرت أقوى وأقدر، وأني نلت الأماني ومتعت بالخلود.
إننا ننفق أكثر الأموال، نشتري أيسر المتع، وهذي متعة ما كاد يجد الإنسان مثلها، نلتها بتسعة قروش، وما تسعة قروش بالنسبة لي؟ إنها شئ كالعدم؛ شئ لا يغنيني وجوده، ولا يفقرني فقده، فهل تحبون أن تشتروا مثل هذه المتعة؟ هل تحبون أن تعرفوا ما هي لذة الروح، وما هي راحة القلب؟ هل تريدون أن تذوقوا نعيم الجنة وأنتم في الدنيا؟
ولا تحسبوا أني أصف كلاماً. وأرصف ألفاظاً، إني والله أسوق لكم حقائق، فإن أردتم معرفتها، ففتشوا حولكم عن هذه الطفولة المحرومة وهذه النفوس المعذبة، ثم أولوها الإحسان
وليست قيمة الإحسان بكثرة المال، إن المال ينفع الفقير ولكنه لا ينزع من قلبه النقمة على الحياة، ولا يستل منها بغض الأغنياء ولا يملؤها بالحب. إن الذي يفعل هذا كله هو العطف، وأن تشعر الفقير بأنه مثلك، وأن تعيد إليه كرامته وعزة نفسه. ورب تحية صادقة تلقيها على سائل تكون أحب إليه من درهم، ودرهم تعطيه فقيراً وأنت تصافحه يكون آثر عنده من دينار تدفعه إليه متكبراً مترفعاً، يدك تمتد إليه بالمال، ووجهك يجرعه كأس(765/11)
الإذلال. . .
إن كل غني يستطيع أن يتصدق بالكثير؛ ولكن غنى القلب بالإنسانية والنبل والحب، هو وحده الذي يستطيع أن يتصدق، مع المال، بالعاطفة المنعشة. . . فلا تضنوا على الفقراء بإنسانيتكم، ولا تبخلوا عليها بعطاء قلوبكم، وذكروهم أنهم لا يزالون معدودين من البشر، وأنهم مثلكم لأب واحد ولأم، لآدم وحواء، وأنهم لم ينحدروا إلى دركة الدواب والبهائم.
ذكروهم بهذه الحقيقة التي طالما نسيتموها أنتم، ونسوها هم أنفسهم. ولم لا ينسونها وهم يعيشون كما تعيش البهائم: ينامون مثلها على الأقذار، في الأكواخ والحقول، وفي الأزقة المعتمة، وفي الخرائب المهجورة، ويأكلون مثلها من فضلات الناس، ويشربون مثلها من البرك الآسنة، والأنهار العكرة، ولم ينالوا تعليماً يرفعهم عنها ولا مدنية تميزهم منها؛ يسهرون في عصر الكهرباء على السرج والقناديل، ويركبون في عهد الطيران على العربات التي تجرها الحمير، ويسكنون في الأكواخ على التراب في زمان ناطحات السحاب؛ ومن تشبه منهم بالناس المتحضرين، لم يكد يصل إلى مثل حضارة الإنسانية الأولى، يحلق مثل (الناس) ولكنه يقعد على الأرض، على رصيف الشارع، وبيده مرآة مكسورة يرى فيها وجهه، والصابون القذر يغطيه، وموسى الحلاق المفلولة تجري فيه، والدم ينبثق من نواحيه، ثم تمر على هذا الوجه البشري ممسحة لا ترضونها أنتم والله لمسح أحذيتكم. ويركبون مثلما يركب الناس، ولكن على عربات الكارو، العشرة على متر مربع من الخشب، محمول على دولابين من الحديد يسحبه حيوان هزيل، والعربة ترتج بهم، فترقص معدهم، وتزلزل أمعاءهم، ثم لا تصل بهم إلى نهاية الميل الواحد إلا بعد ساعة. ولهم قهوات، ولكن قهواتهم اصطبلات فيها ركائز تسمى مناضد أمامها عيدان تدعى كراسي. ولهم مطاعم ولكن مطاعمهم يقدم فيها المرض في طباق قذرة. . .
فتداركوهم قبل أن يكفروا بالإنسان، فينقلبوا حرباً عليه ليس معها أمان. أشعروهم أنه لا يزال في الدنيا فضل وعدل ونبل. ليجد كل واحد منكم على من هو دونه لا بالمال وحده، بل بالعاطفة والتواضع والإنسانية. . . الرئيس على المرؤوس، والوزير على الوكيل، والوكيل على المدير، والضابط على العريف، والعريف على الجندي، فإن كل واحد من هؤلاء هو اليوم عبد لمن هو أعلى منه، وفرعون على من هو دونه، يتكبر عليه من هو(765/12)
فوقه، ويتكبر هو على من تحته، حتى أن الشرطي ليطغى على البائع المتجول، والبائع يطغى على امرأته، والمرأة على ولدها، والولد على القطة يضربها بالعصا أو الكلب يرميه بالحجر، كل يحاول أن يظلم كما ظُلم. والمجرم الأكبر هو الظالم الأول. إنهم كالحيوانات تماماً، الجرادة تأكل البعوض، والعصفور يأكل الجرادة، والحية تقتل العصفور، والقنفذ يقتل الحية، والثعلب يسطو على القنفذ، والذئب يسطو على الثعلب، والأسد يفترس الذئب، والإنسان يقتل الأسد، والبعوضة تقتل الإنسان، فتغلق الحلقة على عدوان بعد عدوان. . .
كم تلقون كل يوم من هم دونكم فلا تتنازلون بالالتفات إليهم، ولا تفكرون فيهم، ولا تشعرون بوجودهم، ثم تتألمون إذا أعرض عنكم من هو فوقكم، وتجاهل مكانكم، وترون ذلك جرحاً لشعوركم وكسراً لقلوبكم، فلماذا تطلبون ممن فوقكم ما لا تعطونه من هم دونكم؟ أليس لهؤلاء نفوس تحس، وقلوب تتألم؟
درت أمس بشحاذة على شط النيل الصغير، في الروضة، وأمامها بنت لها تحبو، وصلت إلى كومة أوساخ فنبشت فيها حتى وجدت بقية لعبة فحملتها فرحة بها وعادت إلى أمها مستبشرة فأخذتها منها ومسحتها وحاولت أن تصلحها وتعيد الحياة إليها وقد فارقتها الحياة منذ أزمان. . .
فلويت وجهي ألماً من منظر هذه القذارة، ثم عدت ألوم نفسي وأسائلها، ما ذنب هذه الأم إذا أحبت ابنتها وأرادت إسعادها؟ وما ذنب هذه البنت إذا طلبت حق الطفولة الطبيعي باللعب؟
لماذا أشتري لبناتي كل أسبوع لعبة، ولم يخطر على بالي أبداً أن في البلد أطفالاً لا يجدون لعباً. إننا نحسب أننا إذا أطعمنا أطفال الفقراء الخبز، فقد أدينا حق الله وحق المروءة والإنسانية علينا. ولكن الطفل لا يكفيه الخبز ولا يرضيه، يرى أطفال الناس يمرون به كل ساعة، وعليهم أبهى الثياب، ومعهم أغلى اللعب، إنه بين أمرين إما أن يتبلد حسه، وتموت نفسه، فلا يطمع أن يجاري هؤلاء ولا يأمل أن يكون مثلهم أبداً فينشأ ضعيف الهمة، ذليلاً مهيناً، فيكون من أسباب ضعف هذه الأمة وهوانها على الأمم، وإما أن يثور ويغضب ويمتلئ قلبه الصغير حقداً، ثم يكبر ويكبر الحقد معه حتى يكون عدواً للمجتمع ونقمة على الناس، يظلمهم كما ظلموه، يسرق من يستطيع سرقة ماله. ويزهق روح من يتمكن من إزهاق روحه، وينشر الفساد في الأرض. . .(765/13)
فلماذا نجعل من هؤلاء الأطفال أعداء لنا؟ لماذا لا نحبهم فنعلمهم الحب؟ أليسوا أزهاراً في روض الحياة؟ أليست كل زهرة حلوة ولو تلطخت بالوحل؟ أليس كل صغير جميلاً ولو كان قطاً أو كلباً؟ أفنحب القطة الصغيرة ونمسحها ونضعها على الأحضان ونكره هؤلاء الأطفال؟ وما لهم؟ ألأنهم قذروا الوجوه والثياب؟ إن القذارة لا تحب، ولكن أهذا ذنب أمهاتهم، لا يغسلن وجوههم وهن على النيل؟ لا، بل هو ذنبي وذنب كل واحد منكم وذنب الكتاب وأولي الأمر، إنهم لم يعلموا هؤلاء الأمهات النظافة، ولم يقل لهن أحد أن النظافة لازمة والوساخة مؤذية. ومن يقول لهن، وهن شحاذات على الطرقات، لا يكلمن أحداً بغير السؤال، ولا يكلمهن أحد أبداً؟!
وما يدريني أن ابنتي أو ابنة أحدكم، لا سمح الله، ستلقى مثل هذا المصير؟ من منا أخذ على الدهر عهداً أن لا يزيل عنه نعمة؟ هل أمنا المرض والفقر؟ هل وقفنا حركة الفلك؟
وهل نسينا أن في الوجود إلهاً، وأن بعد الدنيا آخرة؟ فكيف سوغنا لأنفسنا مع هذا كله إهمال هذه (الإنسانية) الصغيرة المبرأة الطاهرة؟ لقد كان فينا مقلدون متحذلقون ألفوا جمعيات للرفق بالحيوان. . . ولكن لم ينشأ فينا إلى اليوم من يؤلف جمعية للرفق بالإنسان؟ لقد بلغ الخزي من نفوسنا أن كان فينا أناس يطعمون الكلاب المدللة، اللحم السمين والشكولاتة الغالية، وحولهم بشر لا يأكلون اللحم مرة في الشهر؛ ولم يتذوقوا الشكولاتة أبداً. . .
إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا، وأحلى أفراح القلوب، فجودوا بالحب وبالعواطف كما تجودون بالمال. . .
دمشق (صندوق البريد 19)
علي الطنطاوي(765/14)
مجمع فؤاد الأول بين الأمس واليوم
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
مجمع فؤاد الأول للغة العربية
حسنة من حسنات محيي النهضة العلمية والفنية، ومجدد شباب اللغة العربية، المغفور له الملك فؤاد، له من الله الرحمة والرضوان، وهو أثر من آثار أياديه الكريمة، ومأثرة من مآثره العظمى التي أسداها إلى اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن الكريم، ومفتاح أسراره، ومشرق هدايته، ومطلع أنواره.
أراد رحمه الله بإنشاء مجمع اللغة العربية المحافظة على سلامة هذه اللغة الكريمة، وأن يكون المجمع متابة للعروبة تتجدد فيه عناصرها وتتوثق أواصرها، وأن يكون أمناً للغة الذكر الحكيم يجمع شتاتها ويحيي مواتها ويحميها من عبث العابثين، وجور المعتدين؛ ويدفع عنها طغيان العجمة ويرد عنها وثبات العامية، حتى لا تستهلكها أشتات اللهجات، ولا تذهب بفصاحتها وصباحتها الندوب والآفات، فندب إلى هذا الغرض السامي النبيل، واختار لهذا المهم الجليل، كل عالم ندب من علماء اللسان، وفرسان اللغة والبيان ممن أنجبتهم معاهد العلم: الأزهر ودار العلوم وجامع الزيتونة، ومن أنبغتهم المدارس الإسلامية ومدارس اللغات الشرقية في بلاد المشرق والمغرب.
ولقد بذل هؤلاء الأفاضل الأعلام جهداً مذكوراً، وسعوا إلى تحقيق الغرض الذي ندبوا له سعياً مشكوراً. وجعلوا منذ اللحظة الأولى يمهدون السبيل، ويقيمون فيه لمن يريد أن يسلكه النار والدليل، حتى لا يخبط في مسيره خبط العشواء، ولا يهيم في أودية الأوهام؛ فوسعوا من القواعد وأقروا أموراً تكفل مراعاتها سلامة اللغة وتحقق لها النماء والزيادة، وتيسر على أهل العلم التصرف في مفرداتها حتى تستغني بما تنسله من لفظ أصيل كريم عما يراد إلصاقه بها من كل لفظ دعي زنيم.
وقد أشار رئيس المجمع المغفور له الدكتور محمد توفيق رفعت باشا في كلمته التي ألقاها في افتتاح دور الانعقاد الثالث سنة 1937 إلى الطريقة المثلى، وأومأ إلى بعض القرارات التي اتخذها المجمع في دور انعقاده الثاني للوصول إلى تحقيق الغرض المقصود من إنشاء المجمع، وأبان في تلك الكلمة المنشورة في الجزء الثالث من مجلة المجمع طبع سنة(765/15)
1937 - خطأ الذين يؤثرون الأعجمي الشائع على ما لم يتداول في الاستعمال من فصيح اللفظ العربي، وفند هذا الرأي الفائل إذ يقول: وليس يذهب عنا في هذا المقام أن ننبه هؤلاء إلى أن لغتنا قد تخلفت دهراً طويلاً عن مواتاة العلوم ومسايرة كثير من أسباب الحضارة. فلو أننا آثرنا الأعجمي الدائر في كل ما يعرض لنا من هذا لأصبح الفصيح بين لغتنا أقل من القلة ولاستهلكته العجمة استهلاكاً بحيث لا يصح لنا وقتئذ أن نزعم أننا نتحدث بلسان العرب، وذلك هو البلاء العظيم. . . ومما ينبغي ألا يسقط من الحساب أنه لو ساغ لكل أمة أن تعدل عن اتخاذ الفصيح من لغتها لمثل تلكم الأسباب إلى الشائع على ألسنة أبنائها من المحرف والدخيل لاختلفت لغات الأمم العربية وما اجتمعت على هذه اللغة الكريمة، وهذا في الوقت الذي يدعو فيه المصلحون الصادقون إلى توحيد الثقافة في العالم العربي بأسره بحيث إذا استقلت كل أمة بأرض وطنها فإن العربية تظل لها جميعها الوطن العام على تطاول الأزمان.
وفي كلمة العلامة المستشرق (الأستاذ جب) عضو المجمع - وصف للعلاج الناجع الذي يتوقف عليه نجاح المجمع في تأدية وظيفته نحو العالم العربي حيث يقول. وإن تجاربنا في سنتي الطفولة (يقصد تجارب المجمع في السنتين اللتين مرتا عليه منذ أنشئ) - قد برهنت على أن نجاح المجمع في تأدية وظيفته نحو العالم العربي يتوقف على استعدادنا لسلوك طريق طويل المدى دارس العالم - طريق الاكتشاف والتوسع وهو طريق لا يسلك إلا بشيء من الجرأة، ولا يسلم من الضلالة فيه إلا من استعد له بكامل العدد.
ويقول: ولن يتحقق صعوبة وظيفة المجمع في القرن بين تيار الجديد وتراث القديم إلا من جربها، فويل للغة مصادرها ومعجماتها دون الشعور الحي للناطقين بها. وويل أيضاً للغة ينطق ويكتب الناطقون بها طوع أهوائهم ويضربون بمعجماتها عرض الأفق.
فإذا كانت التجارب قد دلت على أن نجاح المجمع في تأدية وظيفته نحو العالم العربي متوقف (كما يقول الأستاذ جب) على الاستعداد بكامل العدد لسلوك طريق الاكتشاف والتوسع في اللغة حتى يأمن سالكو هذا الطريق من التردي والضلالة فيه، وإذا كان من أهم هذه العدد العلم بقواعد اللغة نحوها وتصريف كلماتها ومعرفة أحوال تراكيبها وتذوق أساليبها ومعاني النظم فيها، والإحساس بما بين نظم ونظم من فرق وتفاوت في الحسن(765/16)
والجمال والصحة والاعتلال - فهل فكر أولئك الكرام البررة الذين عناهم أمر هذه اللغة الكريمة في إعداد الوسائل التي تكفل حياتها وإن تبقى سليمة نامية، وهل أخذوا لهذا الأمر أهبته، وأعدوا له عدته؟
لقد أنبأنا الأستاذ الجليل محمد كرد علي بك في كلمته التي ألقاها في افتتاح انعقاد المجمع في ذلك الدور أن مجمع اللغة العربية يسير في أوضاعه على النهج الذي سنه الملك الأعظم (المغفور له) الملك فؤاد، وأنه (أعلى الله في الجنة منزلته) تفضل فأطلع عليه الأستاذ حين شرفه بالمثول بين يديه من نحو عشر سنين خلت قبل إنشائه مجمع اللغة. والمتتبع لسير النهضة العلمية في ذلك الوقت يجد أن ذلك التاريخ يوافق الوقت الذي كان فيه جلالة الملك الراحل يفكر في التوحيد بين المعاهد التي تقوم بتعليم اللغة العربية والشريعة الإسلامية في مصر ليكون من هذه المعاهد مجموعة مؤتلفة موحدة النظام والغاية مندمجة في الأزهر، يتخرج منها الفقهاء المشرعون والعلماء الراسخون في علوم الشريعة واللغة ليجددوا ما اخلولق من آثارهما ويحيوا ما عفا من رسومهما وليكون من هؤلاء العلماء المختصين باللغة والشريعة مدى يغذي مجمع اللغة العربية وما ينشأ على غراره من مجامع الفقه والتشريع الإسلامي لا الروماني والفرنسي، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض الجليل ألغيت مدرسة القضاء الشرعي وبدئ في إلغاء دار العلوم، واستبدل بها نظام الكليات وأقسام التخصص في الأزهر. فترى أن مجمع فؤاد كان جزءاً متمماً لذلك المشروع الجليل الذي اختط فؤاد العظيم خطته وأراد منه إحياء اللغة العربية لغة القرآن الفصحى وأن يبعث الاجتهاد في الفقه الإسلامي من مرقده لتتوثق باللغة روابط الوحدة بين الشعوب العربية، وتسهل مشارع الشريعة فيتيسر ورودها، ويصفو وردها لجميع الأمم الإسلامية.
ذلكم هو المشروع الذي ابتكره فؤاد الملك العظيم، وأبرزته عزيمته القوية الجبارة من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة، لإحياء اللغة العربية والشريعة الإسلامية معاً؛ فماذا كان حظ هذه المؤسسات العلمية والعالمية من الحياة، وماذا كان نصيبها من البقاء؟
فأما أقسام التخصص فقد غلقت أبوابها، إذ لم يقصدها للعلم بل لأكل العيش طلابها. وأما كليات الأزهر فقد أمست مسارح شحناء، ومسابح دماء، يسعى طلابها بالفساد ليجعلوها مثل دار العلوم مدرسة لتخريج معلمين، لا لتكوين رجال عالمين!(765/17)
ومجمع فؤاد اللغوي - وقد عرفت مكانه من المشروع العظيم - هل تراه اليوم على العهد الذي كان عليه بالأمس مجمع فؤاد للغة العربية، وهل تحسبه آخذاً بأخذه، أو متبعاً سننه الذي سنه له منشئه، أو سائراً على النهج الذي قرر رجال مجمع اللغة العربية بالأمس أنه هو النهج الأقوم الموصل إلى الغاية المنشودة من إنشاء المجمع؟
إن الذين سمعوا كلمة معالي وزير المعارف التي ألقاها في مؤتمر المجمع في دور انعقاده الحاضر في أولى جلساته في الشهر المنصرم، يرون فيها خرجاً على إجماع المجمع بالأمس، وإهداراً للقواعد السليمة التي أقرها، وتوجيهاً للمجمع في غير الوجهة التي أنشئ من أجلها، وجواربه عن سواء السبيل الذي يقول العلماء الخبيرون إنه يجب على من يريد للغة العربية الحياة والبقاء والبركة والنماء أن يسلكه.
فمعالي الوزير يدعو المجمع دعوة صريحة بل إنه ليأمره بألا يقف في طريقه إلى تحقيق مهمته عند اللغة الرسمية (اللغة العربية الصحيحة) وأن يتجاوزها إلى اللغة الواقعية البعيدة عن صحيح اللغة (وهي اللغة العامية) وأن يتقبل كل كلمة ترد إليه هجينة أو أعجمية؛ ولئن كانت كلمة المجمع بالأمس على أن العدول عن اتخاذ الفصيح من اللغة إلى الشائع على الألسنة من المحرف والدخيل يستهلك الفصيح من اللغة، ويؤدي إلى اختلاف لغات الأمم العربية وتفرقها عن لغتها الكريمة - فإن كلمة وزير المعارف اليوم على النقيض من كلمة المجمع بالأمس؛ فمعاليه يفتح الباب على مصراعيه للمحرف والدخيل، ويطلب إلى المجمع أن يسجل على لغة العرب كل ما يرد عليه من الكلمات المحرفة، وأن يحمل عليها كل ما يصل إليه على ألسنة العامة من الألفاظ الأعجمية والدخيلة؛ فقد أصبحت مهمة المجمع إذن سهلة يسيرة وأمسى عمل المجمع في نظر معالي الوزير هو الإثبات والتسجيل، وليس له في الابتداع أو الخلق والتقدير.
لقد هانت إذن مهمة المجمع، وتبخرت في الهواء تجارب المجربين، وضرب بعرض الأفق كلام الخبراء العالمين، وأمنا ما خوفنا الأستاذ جب من ضلالة الطريق ووعورته، فما بنا بعد اليوم من حاجة في سلوكه إلى استعداد له بعدة أو اتخاذ دليل أو اصطحاب رفيق. يقول معالي الوزير: إن باب الاجتهاد في اللغة العربية مفتوح فعلاً فهو ليس منتظراً أحداً حتى يفتحه. فليت شعري من هم هؤلاء المجتهدون الذي يقول معاليه أن باب الاجتهاد قد فتح(765/18)
فعلاً لهم؟ أهم أولئك العلماء الذين استعدوا بكامل العدد ليأمنوا من الضلالة في طريق الاكتشاف والتوسع في اللغة، وأولئك الكتاب والناطقون باللغة، الذين يلتزمون قوانين اللغة وقواعدها ويرجعون إلى معجماتها فيما يكتبون وينطقون كما يشترط الأستاذ جب؟ أم هم هؤلاء الذين ينطقون ويكتبون طوع أهوائهم ولا يستطيعون تقديم ألسنتهم، والذين أنذر الأستاذ اللغة شرهم وتوعدها بالهلاك والويل منهم؟
يقول معالي الوزير إننا لا نستطيع أن ننكر على أي جيل حقه في أن يساهم في صنع لغته وفي أن يبتدع من الألفاظ ما يفي حاجته ويتمشى مع حضارته
فالمجتهدون في اللغة إذا في عرف وزير المعارف - هم أولئك الذين يتقبلون كل ما يفد عليهم من دخيل اللفظ، وتلوك ألسنتهم كل ما يسهل عليها من عابر القول من غير معيار ولا قاعدة.
هؤلاء هم المجتهدون في اللغة العارفون، وهؤلاء هم صنعة اللغة الحاذقون، ومبتكرو ألفاظها ونظمها والمبتدعون، وما يصدر عن هؤلاء من عابر القول، وما يتقبلونه مما يفد عليهم من متشرد الألفاظ الأعجمية فهو اللغة الفصحى التي اجتمعت عليها الأمة، والتي يجب على المجمع القائم أن يرصدها في سجلاته ويسجلها في اجتماعاته لحساب اللغة الجديدة الإقليمية، التي يراد إحلالها محل اللغة العربية، وتسجيتها ببردها وتسميتها بإسمها.
لقد اتضحت إذاً مهمة المجمع وعرف أن مهمته المطلوبة في عهده الجديد هي أن يسجل في دفاتره ما يرد إليه من بضاعة مزجاة من الألفاظ الأعجمية، ويضيفها لحساب اللغة الجديدة الإقليمية الدهماوية التي يراد بها إبعاد الأمة المصرية وإبعاد العرب عن لغتهم العربية التي هي رباط وحدتهم، ومنتدى جماعتهم.
ومهمة أخرى على المجمع أن يقوم بها، وهي كما وصفها معالي الوزير مهمة شاقة عسيرة، تلك المهمة هي أن ينصب المجمع للمولود الجديد الأنصاب ويتلمس له العلل والأسباب التي تصله بأسباب الوجود، وتكفل (لا قدر الله) له الحياة والخلود.
منذ أمد غير بعيد نشرت جريدة الأهرام نبذة لمراسلها الخاص بلندن اقتبسها من الفصل الافتتاحي الذي عقدته جريدة المانشستر جارديان عن إصلاح النحو في مصر، تضمنت هذه النبذة أن أدباء مصر يتوفرون على إصلاح النحو العربي. وقالت (بلغة المستعمرين الذين(765/19)
يسمون الأشياء بأسماء أضدادها فيسمون الإفساد إصلاحاً واستعباد الأمم حرية)! قالت: إن هذا الإصلاح قد يكون بين ضروب الرقي العديدة (التي تمت منذ ولي الملك فاروق العرش) - أبعدها أثراً على الإطلاق. وقالت: إن من العوائق العظيمة لنشر العلم ومن ثم لتحقيق التقدم الاجتماعي في شتى النواحي هو الاختلاف الكبير بين العربية الفصحى واللغة العامية مما جعل ملايين من الناطقين بالضاد لا يستطيعون فهم اللغة الفصحى فضلاً عن قراءتها وكتابتها.
فاللغة العربية في نظر المانشستر جارديان، ومن ينفخ في بوقها من دعاة الاستعمار هي سبب انحطاط العرب وتأخرهم في العلم وفي التقدم الاجتماعي في شتى النواحي. وهذا الذي تذيعه هذه الجريدة وغيرها من جرائد الاستعمار هو ما يتقوله عداة اللغة العربية ودعاة العنصرية في مصر على هذه اللغة الكريمة من المثالب والأكاذيب ليكرهوها إلى أهلها فهم يقبحون منها كل ما حسن، حتى ليودون أن يستبدلوا بحروفها الرشيقة الجميلة حروفاً أفعوية لاتينية ليقيموا بذلك حداً منيعاً يحولون به بين الأجيال المقبلة من أبناء الأمم الإسلامية وبين تراث أسلافهم العلمي، وليقطعوا الصلة بينهم وبين كتاب الله الكريم فلا يهتدوا بنوره ولا يقتدوا بهداه.
فهل ما ينادي به معالي وزير المعارف في دار المجمع وما يدعو إليه من تجاوز اللغة العربية إلى اللغة الإقليمية العامية، وما يردده دعاة السوء من وجوب أقلمة اللغة وتمصيرها، وتبسيط قواعدها وتلتين حروفها هو الذي تعنيه جريدة المانشستر من إصلاح النحو في مصر؟
وهل هذا هو الغرض من إنشاء مجمع فؤاد للغة العربية؟
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
محمود أحمد الغمراوي
من علماء الأزهر
شيخ معهدي دسوقي والزقازيق سابقاً(765/20)
الأسس التي وضعها الإسلام لعقوبة القتل
لصاحب العزة الأستاذ علي بك حلمي مدير البحيرة
بينا في مقالنا السابق أن التشريعات القديمة كانت تميل تارة إلى جانب التشديد في العقوبة وتارة أخرى إلى جانب التراخي فيها - واستشهدنا ببعض أقوال من الإنجيل والتوراة نفهم منها أن الأول يطلب العفو من ولي الدم وفيه تفريط في حق المجني عليه، وإفراط في أمر الجاني إلى أن نزل القرآن فسلك الإسلام الطريق الوسطى بين جانبي الإفراط والتفريط في المعاملات والعقائد والعبادات - قال الله تعالى (وكذلك جعلناك أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس)
كما أصبح للدين الإسلامي أسس موضوعة جنبت عقوبة القتل في جميع أحوالها جانبي الإسراف والتقصير - وهذه الأسس أربعة.
القصاص:
فرض الإسلام بهذا المبدأ عقوبة القتل جزاء لجريمة القتل وأباح به دم الجاني - وفي ذلك نزلت آيات القصاص، وقد ذكرنا بعضها في موضوع سابق. ومعنى هذا أن الإسلام لا يجيز التراخي في شأن الجاني ولا يسمح بوقوع هذه الجريمة دون أن يقتص من فاعلها بالقتل - فسد بذلك نقصاً ملحوظاً في شريعة الإنجيل على فهم كثير من الناس.
حق القصاص والعفو لولي الدم:
وكما أن ديننا حد من جانب التفريط كما دعا إليه الإنجيل - كذلك خفف من إفراط التوراة بشأن المجني عليه ولم يحتم عقوبة القتل لهذه الجريمة فخير ولي الدم بين القصاص والعفو وزين له الأخير قال تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وقال بعض الفقهاء (العفو أفضل من الصلح والصلح أفضل من القصاص)
وهنا لم يقل الإسلام بالقصاص دون رحمة ولا شفقة بل شرعه مع خبار العفو وإجازة الصلح وأباح أن يكون العفو ببدل أو بغير بدل كما حبب الإسلام العفو إلى النفوس، وبذلك اتخذ طريقاً وسطاً فتحاشى قسوة التوراة التي تحتم القصاص وتراخي الإنجيل الذي يحتم العفو.(765/21)
حق ولي الدم:
أ - في القصاص - جريمة القتل اعتداء على نفس المجني عليه وسلب لوجوده وامتهان لجماعته الذين يعتزون بحياته ويتأثرون بنشاطه؛ فإذا افتقدوا وجوده وكيانه وحرموا من عونه ونشاطه كانت هذه الجريمة من بعض نواحيها واقعة على ولي الدم؛ وطبيعي أن أول المسارعين إلى رفع هذا الذل والامتهان والأخذ بالثأر لقتيلهم هم عصبة الذين رزئوا بوفاته وأصيبوا في مقتله.
ولما كان في جريمة القتل أيضاً إخلال بالأمن العام وإفساد لراحة الجماعة وإزعاج لطمأنينتهم أعطى الشرع الإسلامي حق القصاص لولي الدم كما أعطاه للجماعة في شخص الحاكم إذا كان الجاني مسرفاً بالإجرام معروفاً بالشر وجب بتره من المجتمع
وكما أن لولي الدم حق القصاص فقد جعل له حق العفو أيضاً لأن في ذلك اطمئناناً للنفوس وتطهيراً لها من الأحقاد والضغائن، فليس أحب إلى الإنسان من العفو عند المقدرة - ولم يجعل الإسلام لولي الأمر حق العفو إذا ما تمسك ولي الدم بالقصاص وذلك تجنباً لوقوع الفتن والاضطراب وخشية الإسراف في الأخذ بالثأر وإفلات زمام الأمر من الحاكم.
أما إذا اختار ولي الدم العفو فخياره نافذ - ما لم يتمسك ولي الأمر بعقوبة الجاني تعزيراً في حالة ما إذا كان معروفاً بشدة إجرامه وظهر للحاكم أن عقابه ضروري لحفظ الجماعة واستتباب الأمن - وقد احتضن هذه الفكرة القانون الوضعي الحديث وتوسع فيها إلى أن سلب من المجني عليه حق القصاص والعفو وقصرهما عليه كما سيأتي.
المساواة في العقوبة:
- كان نظام الطبقات معروفاً عند الرومان فجاء الإسلام ومحا هذه الفروق وسوى بين النفوس وجعل الدماء متكاتفة والجراحات متناسبة في القصاص. روي عن عائشة رضي الله عنها قالت - كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع ولا ترجعه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد وكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقال له: (يا أسامة ألا أراك تشفع في حد من حدود الله. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف(765/22)
قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) وقطع يد المخزومية.
من هذا ترى أن الإسلام قد سوى بين أفراد الرعية من جهة، وبين الرعية والحاكم من جهة أخرى في القصاص والحدود وجاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد - كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم - ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى)
المسئولية الفردية:
قلنا إن العرب جرت في الزمان الغابر على الإسراف في الثأر دون توخي مقدار العدل الذي يوجب الوقوف عند حد القصاص الصحيح - وكان في أغلب الأحيان يأخذون غير القاتل بالقاتل والجماعة بالواحد والرجل بالمرأة والحر بالعبد - بل كانوا في بعض آخر يأخذون الإنسان بالحيوان إلى أن جاء الإسلام فقرر أن مسئولية الجاني لا يتحملها إلا الجاني - قال تعالى: (ولا تزروا وازرة وزر أخرى) ومنع مسئولية الجماعة عن عن جناية الواحد كما قرر أن العقوبة من جنس الجناية وبقدرها فلا تضاعف الجراحات ولا الديات قال تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها. وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)
القتل في القانون الوضعي الحديث:
قلنا إن الإسلام منح العفو لولي الدم كما أجاز لولي الأمر القصاص إذا عفا ولي الدم في حالة ما إذا كان القاتل يميل إلى الإجرام وتحتم إصلاح شأنه لصلاح حال الجماعة - وقلنا أن القانون الوضعي احتضن هذا المبدأ الأخير ثم توسع فيه إلى حد أن جعل من حق القصاص والعفو حقاً آخر ثابتاً للمجتمع واعتبر أن جرائم الأفراد جرائم عامة، وأن المجني عليه في جريمة القتل هو المجتمع، ومنح لشخص ولي الأمر القصاص والعفو دون مراعاة إلى حق ولي الدم فيها، أي بمعنى أنه إذا وصل إلى علم الحاكم وقوع جريمة على فرد من الأفراد سواء بتبليغ المجني عليه أو أي شخص آخر نهض حق المجتمع ينادي بالقصاص من الجاني أو العفو عنه حسب ما يتراءى لولي الأمر لصيانة الصالح العام
وعلى هذا الأساس تقررت العقوبات لمختلف أنواع جرائم القتل
علي حلمي(765/23)
3 - الفتنة الكبرى
للأستاذ محمود محمد شاكر
كان من البيّن - كما رأيت قبلُ - أن يهود الحجاز قد شبوا في الجاهلية نار العداوة بين بني أم واحدة وأب واحد، يسكنون بلدة واحدة، وهم الأوس والخزرج، فتمادت الحرب بين الأخوين أحقاباً من زمن الجاهلية حتى كادوا يتفانون في يوم (بُعاث) الذي كان قبل هجرة نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بست سنين. وكان الذي كان بين هذين الأخوين أمراً جللاً شديداً على بعض عقلاء الأوس والخزرج، إذ صاروا إلى ما وصفهم به أصحاب بيعة العقبة الأولى من الأنصار إذ قالوا لنبي الله: (إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بيننا)، ويهود يومئذ، (قد عَزُّوهم ببلادهم) أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، كما قال رجال من الصحابة وكما قال أكثر رواة التاريخ القديم. وكان بعض اليهود يحالف الأوس، وبعضهم يحالف الخزرج، ولكنهم كانوا يداً واحدة إذا جد الجد، فيخرجون من معارك هذين الأخوين لا يصيبهم شر كثير أو قليل، بل كانوا يقولون لهم: (إن نبياً مبعوث الآن قد أظل بزمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإِرَم) وشغلت الحرب والعداوة هذين الحيين، فانصرفوا عن الزراعة واستولت عليها يهود، وشغلتهم عن التجارة فاستبدت بها يهود، وشغلتهم عن حماية أرضهم فعاثت فيها يهود. وأخذت يهود تبني في المدينة وما جاورها آطاماً وحصوناً كثيرة متفرقة، وتجمع في هذه الحصون ما استطاعت من السلاح والحلقة وعدة الحرب، وهي شئ كثير جداً كما ظهر ذلك بعد فتح هذه الحصون والآطام على يد رسول الله وأصحابه من المهاجرين والأنصار. ولم يكن ذلك من فعلهم في المدينة وما جاورها وحسب، بل كان مثله أيضاً في جنوب الجزيرة، في اليمن وتلك البقعة من نجران وصنعاء إلى ناحية البحرين، كانوا يقيمون الحصون والآطام ويجمعون فيها السلاح فيكثرون الجمع، وينشئون لأنفسهم مدناً أو شبه مدن في هذه النواحي كلها، هي لهم خالصة لا يساكنهم فيها أحد.
نعم، ينشئون المدن والحصون والآطام ويجمعون السلاح، ويحالفون من جاورهم من الأعراب والبدو، ويوقعون بين حلفائهم العداوة والشر، في المدينة وفي غير المدينة من جزيرة العرب. فماذا كانت تريد يهود بإعداد كل هذه العدة من البناء والسلاح وإيقاد(765/25)
البغضاء، وصرف وجوه الناس عن أسباب الحياة إلى معترك الحرب؟ كانت تريد في المدينة مثلاً أن تسقط البلاد في أيديهم خالصة لهم، بعد أن يتفانى الأوس والخزرج في حروبهم التي يؤرّثونها بينهم، كما رأيت ذلك من فعلهم يوم رأى شأس بن قيس اليهودي ما رأى من صلاح ذات البين بين الأوس والخزرج بالإسلام، فيرسل إليهم فتى من يهود يناشدهم ما تقاولوا من الشعر في حروبهم، فتكاد الحرب تقع بين الأوس المسلمين والخزرج المسلمين، لولا أن أدركهم رسول الله فردّهم إلى عقولهم وأطفأ كيد اليهودي شأس بن قيس. ومن قارن بين فعل يهود قديماً وفعلهم حديثاً في فلسطين، ومن إقامتهم الحصون والآطام والمدن في المدينة وغيرها من الجزيرة، وما فعلوا من إنشاء المدن والحصون والمستعمرات حديثاً في فلسطين، عرف أن هذه شيمة يهود منذ قديم، وهذا هو أسلوبهم قديماً وحديثاً حذوك النعل بالنعل. وإذن فقد كانت تريد يهود أن تنشئ دولة في المدينة شمالاً وفي اليمن جنوباً كما تريد اليوم أن تنشئ دولة لليهود في فلسطين، وفي غير فلسطين أيضاً.
هكذا كان أمرهم في الجاهلية، ثم يرسل الله رسوله ويهاجر إلى المدينة فلا يكاد يفعل حتى يمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم بأخبار اليهود وفتنتهم وتأريثهم العداوة بين العرب المشركين والعرب المؤمنين، وبسعايتهم في تأليب الأحزاب على رسول الله، وبغدرهم ونكثهم ودسائسهم، لم يكفوا ساعة عن التماس غرة المؤمنين والمؤمنات، وعن ابتغاء الوقيعة بين المؤمنين أنفسهم. ويمتلئ تاريخ الإسلام منذ ذلك اليوم أيضاً بأخبار المنافقين، وقد أجاد الله لنا صفتهم في كتابه، وبين لنا أحسن البيان صلتهم باليهود وإيواء اليهود لهم، ويكثر ما نزل من الآيات في شأن اليهود والمنافقين جميعاً، مقرون ذكرهما معاً. وتكون أول سورة نزلت من القرآن في المدينة هي السورة التي تذكر فيها (البقرة)، يقول الطبري في تفسيره ج1 ص84 بإسناده عن ابن عباس: (إن صدر سورة البقرة إلى المئة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم). ثم ماذا؟ ثم تكون آخر سورة نزلت بالمدينة، أو آخر سورة نزلت من القرآن، هي سورة (براءة) أو سورة (التوبة)، تلك السورة التي فضحت اليهود والمنافقين وهتكت عن سرائرهم، وكشفت عما كانوا يبيتون من القول ومن الكيد،(765/26)
والتي يقول الله فيها: (يحذر المنافقين تنزّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون)، والتي سماها بعضهم (الفاضحة) و (المخزية) و (المنكلة) و (المشردة) و (المدمدمة) دلالة على ما جلبت على اليهود والمنافقين من الفضيحة والخزي والتنكيل والتشريد والدمدمة. ثم تكون هي السورة التي يذكر فيها (الأعراب) الذين حول المدينة من حلفاء يهود، ست مرات.
تنزل أول سورة من القرآن، فإذا هي في اليهود والمنافقين، وتنزل آخر سورة من القرآن فإذا هي في اليهود والمنافقين ومن حول المدينة من الأعراب حلفاء يهود، وينزل ما بينهما من القرآن في عشر سنوات متواليات يصف ما كان من أمر هؤلاء، وينذرهم، ويكشف عن دسائسهم وكيدهم، فإذا بك ترى تاريخ الإسلام في هذه الحقبة - منذ هاجر رسول الله إلى أن توفاه الله - حافلاً بالغدر والكيد والتأليب ونكث العهود ونقض المواثيق. ويكون أول ذلك أن تسلم طائفة من أحبار يهود سماهم أصحاب السير والتاريخ، يسلمون نفاقاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما فعل كعب الأحبار وعبد الله بن سبأ وغيرهما في عهد عمر وعثمان)، فكانوا يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم، ويحدثنا ابن هشام عنهم فيقول: (فاجتمع يوماً في المسجد ناس منهم، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله فأخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفاً)، فهل تجد أوضح ولا أبين من هذا في صفة المتآمرين حين يجلسون يتخافتون بينهم أمراً يكيدون به ويبيّتونه؟ ويظل هذا حال المنافقين وحال اليهود معاً إلى أن يدعو الله إليه رسوله: يأوي المنافقون إلى أشياخ من اليهود يتآمرون يوماً بعد يوم عشر سنوات متواليات، ويكون على رأس هؤلاء المتآمرين رجال كأمثال رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي الذي أظهر الإسلام وأبطن النفاق، فيسميه المسلمون (كهف المنافقين)، لأنهم كانوا يخلون إليه، ويتآمرون فيه بليل، ويستودعون ظلام هذا الكهف السميع البصير سرَّ تآمرهم وخفي كيدهم. ورسول الله في خلال ذلك كله يجاهدهم ويرجو هدايتهم، ويظل يفعل ذلك ثماني سنوات غير قانط ولا يائس، يصلي على من مات من المنافقين ويستغفر لهم، فإذا طال ذلك أنزل عليه ربه في سورة (براءة) آخر سورة نزلت، أشد آية في القرآن خاطب الله بها عبده ونبيه محمداً(765/27)
صلى الله عليه وسلم: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الظالمين) ثم ينهاه أشد النهي فيقول: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله وبرسوله وماتوا وهم فاسقون). كلمات قاطعة وأوامر حاسمة كحد السيف!!
عشر سنوات والقرآن ينزل على رسول الله في المنافقين واليهود مقرون ذكرهما معاً!! عشر سنوات تقرأ تاريخها في كتب السيرة فلا تمضي صفحة واحدة إلا وفيها ذكر لليهود والمنافقين معاً، عشر سنوات واليهود والمنافقون معاً يؤلبون على رسول الله القبائل ويفتنون المسلمين، ويدبرون الكيد للمؤمنين والمؤمنات ولرسول الله، حتى كان ما كان من اليهودية التي دست له ولأصحابه السم في الشاة فينبأ صلى الله عليه وسلم بما فعلت، فيلفظ بضعة اللحم من فمه صلى الله عليه وسلم.
ثم ماذا؟ ثم يحدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثنا منهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فيقول: (كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم أن قال: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب). آخر كلمة ينطق بها صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة! آخر كلمة تجري على لسانه وهو يلبي دعوة ربه إلى الرفيق الأعلى! ويروي الرواة هذه الكلمة ويأتي علماؤنا أحسن الله جزاءهم فيقفون عند هذا الحديث ينظرون ما سرّ هذا الأمر الحازم القاطع؟ إنهم لا يهتدون إلى سر، ولا يقفون على خبر، إلا أن يقولوا جميعاً كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص99: (وإنما نُراه قال ذلك صلى الله عليه وسلم لنكث كان الأمر، أو لأمر أحدثوه بعد الصلح) رويدكم أيها العلماء! إنه تأويل متهافت، ولا تجعلوا الظن أصلاً في التأويل. لقد كان أولى بكم أن تسألوا أنفسكم: أي نكث ذلك الذي كان من يهود الحجاز ومن أهل نجران؟ وكيف ذهب خبره فلم يرو لنا؟ وأي أمر ذلك الذي أحدثوه بعد الصلح؟ وكيف غاب عنا خبره؟ ولكن غفر الله لكم وجزاكم خيراً إذ لم تقطعوا برأي تدلسونه على الناس كما يفعل أدعياء العلم وكذبة العلماء في عصرنا هذا، بل قلتم جميعاً كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (إنما نراه) (بضم النون) أي إنما نظنه ظناً. ولكن ما قيمة الظن في أمر كهذا الأمر؟ وكيف تريدون أن تفسروا حديثاً بظن من الظنون لم تأت(765/28)
به رواية، ولم يعرف له خبر يؤيده من حوادث التاريخ؟
كلا أيها العلماء! إنها آخر كلمة تكلم بها رسول الله وهو معرض عن الدنيا مقبل على الآخرة، آخر كلمة ينطق بها لسان نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى. كلا فالأمر أعظم وأجل وأخطر مما تظنون. إنها كلمة من كلمات النبوة! إنها تنبيه من الله على لسان نبيه إلى أحداث ستكون، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً. لقد كشف الغطاء وتتجلى لرسول الله غيب ما سيكون، فرآه وهو على فراش الموت كما رآه المؤمنون عياناً من بعد: فتنة ماحقة في الحجاز وما جاورها، وفي نجران وما أطاف بها. نار مشعلة فيما حول المدينة من الحجاز، وأخرى مستعرة فيما حول نجران من اليمن. إنه يقولها صلى الله عليه وسلم لا لشيء كان بل لشيء سيكون، يراه هو ولا يراه أصحابه رضي الله عنهم.
ولقد نزل الموت برسول الله صلى الله عليه وسلم كأشد ما ينزل حتى دعا بقدح من ماء، يدخل يده فيه ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: (اللهم أعني على سكرات الموت. الله أعني على كرب الموت. ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل! ادن مني يا جبريل!) وعنده صلى الله عليه وسلم خميصة (ثوب من خز) يأخذها فيلقيها على وجهه، حتى إذا اغتمّ بها وضاق ألقاها عن وجهه وهو يقول (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ويقول أيضاً: (لئن بقيت لا أدع بجزيرة العرب دينين، وتكون آخر كلمة يتكلم بها وهو في مثل ما ترى من كرب الموت: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب): أي أدركوا النار قبل أن تشتعل، أنقذوا العرب من فتن لا تبقي ولا تذر! أحذروا يهود الحجاز، وأحذروا أهل نجران خذوا عليهم طريق الفتنة وأخرجوهم قبل أن يخرجوكم ويسفكوا دماءكم أيتها العصابة القليلة المؤمنة! ويقبض الله إليه نبيه قبل أن يقول لهم في هذا الأمر قولاً لا يضلون بعده، وتبقى هذه الكلمة بغير تفسير حتى يقول العلماء في سرها ما قالوا رجماً بالغيب.
ثم ماذا؟ ثم لا تكاد تتم بيعة أبي بكر حتى تنفجر الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب، فتقول عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين قولاً يروى لنا، لم يلق إليه أحد بالاً إلى يوم الناس هذا: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بأب ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها! اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب وصار أصحاب محمد كأنهم(765/29)
معزى مطيرة، في حُش، في ليلة مطيرة، بأرض مسبعة. فو الله، ما اختلفوا في واحدة إلا طار أبي بحظها وغنائها عن الإسلام). ويحدثنا أيضاً عروة بن الزبير العوام: (وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم).
وخليق بي وبك، أن نقف قليلاً عند هذا. نقف حيث وقف بنا أمر رسول الله أن: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب)، نقف حيث وقفت بنا آخر كلمات تكلم بها صلى الله عليه وسلم، وحيث وقف بنا قوله وهو في كرب الموت (لئن بقيت لا أدع جزيرة العرب دينين)، وحيث وقف بنا قول أم المؤمنين عائشة: (اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب)، وحيث وقف بنا حديث عروة (ارتدت العرب. . . ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى). ثم نأخذ جميعاً نقرأ تاريخ حروب الردة في كتب القدماء من المؤرخين، وماذا قالوا في أسبابها، ونقرأ تاريخها أيضاً في كتب المحدثين من المؤلفين والمؤرخين، ونقرأ أيضاً كتب المستشرقين الذين يجلّهم الدكتور طه ويرفع بذكرهم رفعاً شديداً فماذا نجد؟ نجد غموضاً شديداً كأننا نسير في ليلة مظلمة في بطن واد عميق، عن يمينه جبل شامخ وعن يساره جبل شامخ قد أطبقا عليه جميعاً. وإذا الردة في كتب القدماء أخبار مجموعة كما اتفق لهم أن يجمعوها، لم ينظر أحد في أسبابها، ولا في الحوافز التي أغرت العرب بها، ولا في أمر المرتدين وصفتهم وعلاقة بعضهم ببعض، ولا في وجه الشبه الذي يجمع بينهم قبل أن يرتدوا. وإذا الردة في كتب المحدثين أخبار أيضاً حاول أصحابها أن يرتبوها ما استطاعوا، فلما نظروا في أسبابها، وفي حوافزها، وفي صفة أهلها وفي علاقة بعضهم ببعض، وفي وجه الشبه الجامع بينهم قبل أن يرتدوا - إذا بهم يخلطون خلطاً شديداً كأنهم يبحثون عن ذرة في بحر من الوحل. وإذا المستشرقون يملئون كتبهم كعادتهم بالجهل الذي يضرب بعضه في وجوه بعض.
نعم، نقرأ تاريخ الردة في كل هذه الكتب جميعاً، فإذا هي خالية جميعاً من ذكر اليهود ومن ذكر المنافقين إلا كلمة شاردة ككلمة عائشة وكلمة عروة بن الزبير بن العوام تعرض في كتب القدماء، وإذا المحدثون من المستشرقين الخائضين فيما ليسوا له بأهل، لا يكادون(765/30)
يذكرون اليهود والمنافقين في حرب الردة، وإذا هذا عجب من أعجب أمرهم، فهم أشد ولعاً بالبحث عن الأسباب واستقصائها ونبشها، من أن تخفى عليهم هذه الحقيقة البينة التي بين أيديهم، حقيقة اليهود والمنافقين وما كان لهم من خطر في تاريخ الإسلام منذ هاجر رسول الله إلى أن قبضه الله إليه!! وإذا بك ترى المؤلفين من رجالنا قد ضلوا إلى حيث أضلهم أساتذتهم من المستشرقين، فغفلوا عن تعليل الردة كيف كانت؟ وكيف بدأت؟ ومن بدأ بها؟ وكيف تم أمرها؟ ولم يسأل واحد منهم نفسه. أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن يقضي نبي الله عشر سنوات منذ هاجر إلى المدينة حتى قبضه الله إليه، فلا يمضي يوم واحد لا يلقى فيه أشد البلاء من كيد يهود، ومن كيد أشياعهم وصنائعهم من المنافقين، ثم يظل رسول الله هذه السنوات العشر وهو يقاتل اليهود ويقاتل مكايدهم في الأوس والخزرج، وفي القبائل، وفي الأعراب حول المدينة، ثم يظل رسول الله يتلقى الوحي من ربه هذه السنوات العشر، فإذا أول سورة تنزل عليه وهي البقرة، أكثرها في ذكر اليهود والمنافقين وبيان حالهم وصلة بعضهم ببعض وأتمارهم جميعاً بالمؤمنين الذين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله. وإذا آخر سورة تنزل عليه صلى الله عليه وسلم وهي براءة كلها في صفة اليهود والمنافقين، وفي الكشف عن أقوالهم ودسائسهم وكذبهم وخداعهم حتى فضحتهم ونبأتهم بما تخفي صدورهم من الكيد والغيظ والنفاق، ثم يكون آخر ما يتكلم به صلى الله عليه وسلم وهو في كرب الموت: (لئن بقيت لا أدع في جزيرة العرب دينين)، وأمره لصحابته: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب)، ثم يقبض الله إليه رسوله ويبايَع أبو بكر، وما هي إلا أيام قلائل حتى تشعل نيران الردة في أماكن بعينها من جزيرة العرب شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً - أليس من العجيب الذي لا يقضى منه عجب أن لا نجد بعد هذا كله شيئاً في كتب القدماء أو المحدثين - أو المستشرقين إن شئت - ذكراً لليهود والمنافقين في أمر الردة؟ أهكذا ينتهي فجأة من تاريخ العرب ذكر اليهود والمنافقين بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيجوز في العقول أن تظل يهود وأشياعها من المنافقين تكيد للإسلام ولرسول الله وللمؤمنين والمؤمنات عشر سنوات كاملة متتابعة يوماً بعد يوم، فإذا لحق رسول الله بالرفيق الأعلى (في سنة 11 من الهجرة) نزعوا أيديهم من كل كيد، وبرئوا من كل حدث كان بعد ذلك في تاريخ الإسلام - برئوا من الردة(765/31)
(في سنة 11 من الهجرة)، وبرئوا من مقتل عمر (في سنة 23)، وبرئوا من الفتك بعثمان بن عفان رضي الله عنه (في سنة 35).
ولكن كيف غاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى قوله: (أخرجوا اليهود من الحجاز، أخرجوا أعل نجران من جزيرة العرب)؟ وكيف غفل قدماء علمائنا عن معنى هذا الحديث وفيم قيل؟ وكيف ذهل المؤرخون القدماء عن أن يربطوا بين تاريخ الردة وبين تاريخ اليهود والنافقين؟ وأخيراً كيف كانت الردة في الإسلام؟ وما آثارها التي تخلفت عنها؟
هذا حديث أحدثك به إن أنسأ الله في أجلي حتى ألقاك في مكاني من هذه الصفحات.
محمود محمد شاكر(765/32)
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
- 2 -
تفنيد رأي الباشا الجديد
5 - بينت فيما تقدم أن ما استقر عليه رأي الباشا في بحثه الأخير يقوم على عناصر ثلاثة.
(أ) تفسيره لقوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا)
(ب) تفسيره لقوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)
(ح) محاولة التوفيق والتنسيق بين التفسيرين أو التأويلين. كما أتيت فيما سبق أيضاً على خلاصة وافية لهذه العناصر. وهاأنذا أوجز فيما يلي ما استدل به معاليه لكل منها مردفاً كل دليل بردي عليه: -
6 - أدلة العنصر الأول: استدل معاليه لرأيه في تفسير الآية الأولى بالأدلة الآتية: -
الدليل الأول - أن تحديد عدد الزوجات من الأمور الأساسية في التشريع للعرب، فلا يستقيم مع بلاغة القرآن الإتيان بحكمه بصفة عرضية جواباً لعبارة شرطية واردة لغرض آخر هو الإقساط لليتامى، (بدليل أنها مسبوقة بقوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم - الآية 2 من سورة النساء) فهي بعيدة بظاهرها كل البعد عن نكاح النساء وتقييد التعدد ولا مناسبة بينها وبينه.
وردي على هذا الدليل:
1 - أن السورة الواردة فيها هذه الآية تسمى (سورة النساء) وهي من أكثر سور الأحكام اشتمالاً على أنواع مختلفة منها، فمن أحكام خاصة باليتامى والسفهاء ومعاملتهم والإقساط لهم إلى أخرى خاصة بالنساء ونكاحهن والمحرمات منهن إلى ثالثة خاصة بالمواريث والمعاملات المالية إلى رابعة خاصة بالقتال والجهاد في سبيل الله، وفي التلاوة ليست الآيات الخاصة بكل نوع مجموعة في موضع واحد من السورة بل تجد بعض آيات النوع(765/33)
الواحد متفرقة في مواضع مختلفة منها، فمثلاً أحكام المواريث وردت عنها الآيات ذوات الأرقام 11 و12 و18 و175، وأحكام القتال والجهاد في سبيل الله وردت عنها الآيات ذوات الأرقام من 71 إلى 77 و83 و89 و90 ومن 94 إلى 96. وكذلك أحكام النساء وردت آياتها متفرقة في مواضع مختلفة من السور ومثلها أحكام اليتامى، وفي بعض المواضع تتعاقب آيات النوعين كما في الآية ذات الرقم 3 التي نحن بصددها إذ سبقتها الآية ذات الرقم 2 وعن اليتامى وهي قوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أنه كان حوباً كبيرا) ولحقتها الآية ذات الرقم 4 وهي قوله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئا) ثم الآية ذات الرقم 5 عن السفهاء والآية ذات الرقم 6 عن اليتامى؛ ومن الآيات ما تشتمل الواحدة منها على نوعين أو أكثر من الأحكام، كالآية 5 من سورة المائدة. وهذا النهج الدالة عليه جزئيات أخرى كثيرة في مختلف الصور، راجع إلى مراعاة ما بين بعض موضوعات الأحكام المتعاقبة آياتها من وجوه المشاكلة والمناسبة بالرغم من اختلاف هذه الموضوعات، وإلى أن التنزيل كان منجماً تبعاً لأسباب ومناسبات النزول. وإذن فليس في مجرد سبق الآية ذات الرقم 2 الخاصة باليتامى للآية ذات الرقم 3 ما يدل على أن الأخيرة نزلت أيضاً في شأن اليتامى قصداً وأن ما ورد فيها عن النساء جاء بصفة عرضية غير مقصودة.
2 - والدليل على أن الكلام في هذه الآية وارد في شأن نكاح النساء قصداً لا عرضاً الآية ذات الرقم 127 المبدوءة بقوله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) وهي التي تشير كما ذكر معالي الباشا إلى حكم الآية السابقة ذات الرقم 3 مما يبين أن تلك الآية نزلت قصداً في حكم النساء أيضاً، ولذا اتبعت كما قدمنا بالآية ذات الرقم 4 الواردة في حكم آخر خاص بنكاح النساء، وهو حكم صداقهن
3 - أن في تفسير هذه الآية أقوالاً أربعة ذكرها ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية مؤيدة بالمأثور عن الصحابة والتابعين في بيان سبب نزولها وتفسيرها على ضوئه. وأحد هذه الأقوال ما ذكره الباشا من أنها أمر لأولياء، اليتيمات بنكاح سواهن إن خافوا ألا(765/34)
يقسطوا لهن في أموالهن. لكن ابن جرير بعدما ذكر هذه الأقوال الأربعة قال: (وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال بتأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن من واحدة إلى الأربع إلى أن قال) وإن خفتم أيضاً الجور على أنفسكم في أمر الواحدة بإلا تقدروا على إنصافها فلا تنكحوها ولكن تسروا من المماليك فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن لأنهن أموالكم وأملاككم ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر). فعلى هذا التفسير المختار تكون الآية كلها بما فيها من عبارة الشرط وعبارة الجواب واردة في نكاح النساء عامة، ويكون ذكر اليتامى في عبارة الشرط لمجرد قياس وجوب العدل في النساء على وجوب العدل فيهم ليكون ذلك أفعل في النفوس ورعاية للمناسبة بين هذه الآية والآية السابقة الواردة في اليتامى. وسواء أكان المقصود بالآية رعاية الإقساط الواجب للنساء كالإقساط الواجب لليتامى أو رعاية الإقساط لليتيمات أنفسهن، فلفظها صريح في تحديد نكاح النساء بعدد معين، وحكم إباحة التعدد مأخوذ منها اتفاقاً لأن العبرة كما هو معلوم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
ومما تقدم يتضح وجه الارتباط بين عبارتي الشرط والواجب في الآية ويندفع الاعتراض على إفادتها حكم التعدد.
الدليل الثاني. إن كلمة (ما) في قوله تعالى (ما طاب لكم) هي من أقوى ما يكون في إفادة العموم، والباشا يميل إلى القول بأنها نكرة بمعنى (أي شئ) أي أية امرأة أو مجموعة من النساء ولا يميل إلى القول بأنها موصولة بمعنى (من) وقد استعمل مشاكلة لها كلمة (طاب) ولم يستعمل كلمة (حل) لأن الطائب قد يكون حلالاً وقد يكون حراماً، فما يطعن على بلاغة القرآن وتساوق عباراته أن ينحدر من هذا العموم الكلي إلى التحديد والقصر على الأربع.
وأقول في الرد على هذا الدليل أنه فضلاً عن أنه لم يرد عن أحد من رجال اللغة - الذين يقول الباشا أنه اعتمد على مقرراتهم في فهم الألفاظ التي تناولها بالتفسير - القول بأن (ما) هنا نكرة، وبالرغم من أن لطاب معنيين: المعنى الذي أورده الباشا، ومعنى آخر هو (حل) وهذا المعنى هو ما قال به أئمة اللغة في تفسيرها هنا وما استقر عليه اصطلاح الأئمة والفقهاء في استعمالها، فكان أحدهم إذا استفتي في حكم فعل من الأفعال قال: أراه طيباً أو(765/35)
أراه يطيب له (أي للفاعل) بمعنى أنه حلال أو يحل - أقول فضلاً عن ذلك فليس فيما فهم به الباشا هذين اللفظين ما يعكر على دلالة الآية على تحديد التعدد، ذلك أن العموم المستفاد من (ما) إنما هو (عموم وصفي) أي مستغرق لجميع الأفراد المندرجة تحت وصفها (لأنها نكرة موصوفة فتكون مقيدة، بوصفها كما هو معلوم) لا (عموم عددي) فالتحديد بعد ذلك في العدد لا يتعارض والعموم لأنه تحديد لغير الجهة المقصود عمومها، وإنما يمس عموم هذا اللفظ ما يخرج منه بعض أفراده أي ما يخرج بعض النساء الطيبات عن حل نكاحهن كما لو قال (فأنكحوا ما طاب لكم من النساءِ على أن كن مسلمات (أو غير يتيمات)) فتخرج في هذه الحالة الكتابيات واليتيمات مع اندرجهن تحت عموم النكرة الموصوفة. وإلا فليتفضل معالي الباشا فيدلنا على صيغة أخرى كان يمكن نزول القرآن بها للدلالة على حل نكاح ما يطيب للرجل من النساء في حدود الأربع. على أني أسارع فأنبه إلى أنه حتى على التسليم بأن في القول بدلالة الآية على تحديد التعدد قصراً وتحديداً لعمومها المستفاد من لفظ (ما) فليس في ذلك ما يصح اعتباره عدم تساوق يطعن على البلاغة إذ غاية ما فيه أنه تخصيص علم وذلك مألوف ومتعارف في القرآن وفي غيره من بليغ كلام العرب حتى قالوا (إنه ما من عام إلا وخصص) وجعلوا من أنواع العام: العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص.
الدليل الثالث: أن القول بدلالة الآية على حكم تحديد التعدد يؤول بنا إلى نتيجة منكرة: ذلك أن مثنى وثلاث ورباع معناها المتفق عليه عند الجميع اثنان اثنان وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فيكون المعنى أن يأتي الرجل لامرأتين فيتزوجهما في وقت واحد بعقد واحد، أو لثلاث نساء أو لأربع فيتزوجهن في وقت واحد بعقد واحد كذلك. وهذا من أشد ما يكون إفساداً للفكر لمخالفته ما هو معلوم من مجريات العادة عند العرب وغير العرب في الزواج. فليس إذن المعنى الحرفي هو المقصود وإنما هذه الألفاظ كناية عن الأخذ الجزاف المنافي لكل تحديد؛ لأن عبارة (مثنى وثلاث ورباع) أتت بكل ما في العربية من ألفاظ الصفات العددية التوزيعية إذ لم يسمع في العربية بعدها إلا لفظ (عشار) فقط
ويرد على هذا الدليل من وجهين: (الوجه الأول) إقرار معاليه على ما رآه من أن المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ لا يمكن أن يكون مراداً بها، ومع أن يكون الأخذ الجزاف المنافي لكل(765/36)
تحديد لازماً لهذا المعنى الذي ليس له في الواقع لازم عقلي، وغاية ما فيه أنه يمكن الخروج من النص - إذا أغفلنا معنى تحديد التعدد المتعارف منه - بأنه لم يرد فيه ما يوجب التحديد، والفرق بين الناحيتين واضح إذ الأولى ناحية إيجابية كان يجوز لو وجدت أن تكون مقصودة للشارع، أما الثانية فلا يمكن أن تكون مقصودة له لأنها أمر سلبي.
(الوجه الثاني) أنه حتى على التسليم بأنه هذا المعنى لازم للعبارة فلا يمكن أن يكون مكنياً بها عنه إذ يشترط في الكناية - كما هو معلوم - جواز إرادة المعنى الأصلي. وقد سلم معنا الباشا بأن هذا المعنى لا يمكن أن يكون مراداً. على أنه ليس مما يناسب بلاغة القرآن ومقاصده - وهو بصدد تأليف العرب بعد مصادمتهم في العادات المتأصلة فيهم كما يقول الباشا - أن يستعمل في ذلك عبارة تخالف - في ظاهرها على الأقل - ماجريات هذه العادات وقد كانت له مندوحة عن ذلك باستعمال الحقيقة، بدلاً من الكناية، في هذا المقام.
الدليل الرابع - أن القرآن لو أراد بهذه الآية تحديد تعدد الزوجات بالأربع لعبر عن ذلك بعبارة بسيطة موجزة (يحل نكاح النساء إلى أربع) بل لنص على تحريم ما وراء الأربع في آية المحرمات
والرد على الشق الأول من هذا الدليل أن التعبير على هذا النحو لا يتناسب والمستوى الرفيع لأسلوب القرآن القائم على قواعد من الترغيب والترهيب، والتبشير والتنفير، والوعظ والزجر، والوعد والوعيد، مما هو وحده كفيل بتحقيق أغراضه السامية؛ فقد أراد سبحانه أن يبين للعرب بهذه الآية الكريمة مما أطلقه لهم من سعة في أمر النكاح المشروع تغنيهم عن مقارفة الحرام فشرع لهم نكاح كل منهم اثنتين بدلاً من واحدة إن أمن الجور، فثلاثاً بدلاً من اثنتين إن أمن ذلك، فأربعاً بدلاً من الثلاث إن أمن ذلك أيضاً، فإن هم خافوا الجور في الأربع فليعدل الخائف عنهن إلى الثلاث أو الثنتين، أو الواحدة، أو ما ملكت يمينه. ولا يخفى ما في سوق التعبير على هذا النحو من بلاغة مقنعة للمخاطبين مما لا تفي به العبارة التي رآها الباشا (بسيطة موجزة)
والرد على الشق الثاني من الدليل أن آية المحرمات لم تستقص كل النساء المحرم نكاحهن، فلم يرد فيها مثلاً ذكر لزوجات الأب اللائي حرم نكاحهن بآية أخرى هي قوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا) وذلك عناية منه(765/37)
عز شأنه بهذا التحريم يخصه استقلالاً بآية توضح شناعة ما كان متعارفاً مألوفاً من ذلك النوع من النكاح، كما لم يرد فيها ذكر المشركات المحرم نكاحهن بقوله تعالى في آية أخرى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وذلك قصد بيان أغراض خاصة بمدى هذا التحريم (حتى يؤمن) وعلة (أولئك يدعون إلى النار) مما لا يشترك فيه تحريم آية المحرمات، فكذلك الحال فيما يتعلق بتحريم ما زاد على الأربع يخصه استقلالاً بآية تفي بالأغراض السابق بيانها. على أن الأمر في هذه الآية ليس مقصوراً على تحريم ما زاد على الأربع حتى كان يمكن أن تشمل مدلولها آية المحرمات، بل قصد أيضاً بيان حل التعدد إلى الأربع وترتيب التحريم لما جاوزهن على بيان حلهن وما فيه من سعة مجزئة تناسب تخصيص آية لذلك تنتظم هذه الأغراض التي لا يتناولها شأن الوارد ذكرهن بآية المحرمات واللائي قصد إلى تحريمهن لذواتهن، لا لأمر عارض كزيادتهن على الأربع. . .
(يتبع)
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد(765/38)
رسالة حائرة:
الرسالة الرابعة. . .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
لا تسأليني حين أرجع والأسى باد عليا
والدمع يلمح فوق أهدابي، ويعشي ناظريا:
(ما سر هذا الحزن؟ ما لك تذرف الدمع الأبيا)
نظراتك السجواء تنسيني كآباتي مليا
بسماتك الغراء تملأ عالمي زهراً نديا
لمساتك الزهراء تبعث في دمي نغماً شجيا
إني ليحزنني سؤال الناس عن سري الدفين
فبحق ما بيني وبينك من هوى لا تسأليني
لا تسأليني إذ نكون معاً هنالك في خميله
فترينني مستغرقاً في الفكر آونة طويلة:
(ما سر هذا الفكر؟ ما تلك الخيالات الجميله؟)
إني - وحبك - لست أدرك سره حتى أقوله
إني على رغمي أفكر، ليس لي في الفكر حيله
أنا زورق في لجة الأفكار لا يدري سبيله
حيران يبحث دون ما جدوى عن الشط الأمين
فبحق ما بيني وبينك من هوى لا تسأليني
لا تسأليني: (هل تراك تقول هذا الشعر عني؟
أتراك ترفعه إلي، وتستمد الوحي مني؟)
إني من الغيد الملاح الفتنات أخذت فني
من كل فارعة القوام، وكل بارعة التثني
إن حدثت، فحديثها في الروح لحن أي لحن
وإذا بدت، فكأنها فجر الربيع بدا يغني(765/39)
يا منيتي أنا بلبل يشدو على كل الغصون
فبحق ما بيني وبينك من هوى لا تسأليني
لا تسأليني أن أراك، وأنت في حضن الضياء
إن الضياء يذيع أسراراً تحن إلى الخفاء
إني لأهوى أن أراك، وأنت في ظل المساء
فالليل عند ذوي القلوب يزيد في سحر النساء
والليل لحن ساحر الأنغام، مسحور الأداء
والليل قيثار تداعبه ملائكة السماء
هذي مناي أذعتها بيضاء سافرة الجبين
فإذا فهمت حديثها، فعساك ألا تسألني
لا تحرجيني بالسؤال؛ فقد يحيرني الجواب
ما كل شئ في الضمير يبين معناء الخطاب
ومن الأماني ما يبينه الحياء والاضطراب
وأرى المعاني كالنساء، فبعضهن له نقاب
وأرى العيون لها حديث ليس يخطئه الصواب
تبدي السرائر مثلما يبدو من الكأس الشراب
فتعرفي بالروح روحي، وافهمي لغة العيون
وبحق ما بيني وبينك من هوى لا تسأليني
إبراهيم محمد نجا
من الأدب البرازيلي(765/40)
من الأدب البرازيلي
ترجمة الأستاذ شفيق معلوف
شراعان
طريقك غير طريقي وروح ... ك رائدها لم يعد رائدي
شراعان نحن فسيري ولا ... تعودي فما أنا بالعائد
يرانا القريب فيدرك بعد ... شراعك عن زورقي الشارد
وأما البعيد فيحسب أنا ... شراعان في زورق واحد
(جودس ازغور وغوتا)
ضحك وبكاء
لئن بكى الطفل في المساجد تجد ... في خده فجر لؤلؤ ضحكا
ويبسم الشيخ للضحى فترى ... غياب شمس في مقلتيه بكى
(الفريدو ده اسيس)
الذكريات
كأنيَ بالذكريات ازدحمن ... على الصدر مختلجات الجناح
حمامات برج توارت وعادت ... إلى البرج مثخنة بالجراح
(الفريدو ده اسيس)(765/41)
الأدب والفن في أسبوع
القومية العربية حتى تكون الجامعة:
كانت المحاضرة الأخيرة للأستاذ ساطع الحصري هي: (نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية منذ الحرب العالمية الأولى حتى تكون جامعة الدول العربية)؛ وقد ألقاها يوم السبت في الجمعية الجغرافية الملكية، فختم بها بحثه القيم في نشوء القوميات في بعض البلاد الأوربية وفي تركيا وفي البلاد العربية، وقد استعرض في كل هذه البلاد الحوادث والتيارات الفكرية الدالة على أن القومية نشأت وتكونت في كل منها على أساس اللغة والتاريخ.
وقد أشار في بدء هذه المحاضرة إلى الاتفاق الذي تم قبيل الحرب العالمية الأولى بين العرب والأتراك، والذي يقضي بجعل التعليم في المدارس باللغة العربية بدل التركية وبإشراك العرب في بعض المناصب والهيئات النيابية، فقال إن هذا الاتفاق قوبل بالارتياح من الجانبين، ولكن التيارات السايسية المختلفة ظلت آخذة في مجراها، وجدت حوادث منها الانتقام من زعماء العرب واضطهادهم، مما بث فكرة الثورة في نفوس العرب، حتى حانت الفرصة، وقامت الثورة العربية فعلاً ضد الدولة العثمانية، وتقدم الجيش العربي إلى سوريا، وكان يساعده الإنجليز والفرنسيون، وتكونت دولة عربية في قلب سوريا، فقوي الشعور بالقومية العربية وبلغ الحماس لها أشده، وغذاها الكتاب والشعراء.
ولما انتهت الحرب كان الانتداب الفرنسي من قسمة سوريا ولبنان، فأخذت فرنسا تعمل على إضعاف القومية العربية بالطريقة التي تتبعها في شمال إفريقية، فكما كانت تقول لأهل تونس والجزائر، إنهم ليسوا عرباً، وإنما هم من سلائل الرومان، وتمنع التعليم باللغة العربية وتقصره على الفرنسية فيما عدا القرآن؛ كذلك كانت تصنع مع السوريين، وخاصة المسيحيين منهم الذين كانت تقول لهم إنهم من سلالة الصليبيين؛ وعلى الرغم من كل ذلك وغيره من الوسائل ظلت القومية العربية متمكنة من نفوس العرب في سوريا ولبنان. أما في العراق فلم تقاوم الفكرة العربية، لأن الإنجليز كان أكبر اهتمامهم موجهاً إلى الاستراتيجية والشئون الاقتصادية؛ واشتدت العروبة في فلسطين لقوة الشعور بها أمام الصهيونية.(765/42)
ثم قال الأستاذ: إن مصر كانت بعيدة عن الحركة العربية الأولى، لأنها كانت في شبه استقلال عن الدولة العثمانية، وكانت اللغة الرسمية فيها العربية، وكانت تنظر إلى الدولة العثمانية على أنها دولة الخلافة الإسلامية، فهي تتجه إليها بعواطفها، بل كانت تتطلع إليها للخلاص من الإنجليز؛ ومن الغريب أن الأتراك الذين ينظر إليهم المصريون هذه النظرة - كانوا يحسدون المصريين على ما هم فيه من الحرية المفقودة عندهم، لأنهم كانوا يعانون الاستبداد وتقييد الحريات.
ولكن مع مرور الزمن تنبه المصريون إلى الحقائق وأدركوا مرامي الفكرة العربية، وشعروا بضرورة التقارب بين البلاد العربية، وأخذ الأفراد والجماعات في جميع البلاد العربية تسير نحو هذا التقارب بمختلف الرسائل، حتى انتهى الأمر إلى شعور الحكومات بذلك، فجعلت تتقارب، حتى تكونت جامعة الدول العربية، فأخذت الفكرة العربية بذلك صبغة رسمية.
ثم قال الأستاذ: إلى هنا ينتهي الجانب التاريخي، أما بعده فهو الجانب السياسي لأنه كلام في الحاضر، وأنا أريد أن أتجاوز هذا الحاضر فأتنبأ بالمستقبل، لأني أرى الظواهر الاجتماعية كالظواهر الطبيعية من حيث دلالة الأمور على ما تفضي إليه، وقد صحت نبوءتي منذ نحو عشرين عاماً بأن مصر ستتحول إلى الفكرة العربية وتعتنقها - لذلك أستطيع أن أقول - بعدما أذكركم بما لاحظناه في المحاضرات السابقة من أن اللغة والتاريخ يدفعان إلى القومية حتماً - بأن جامعة الدول العربية ما هي إلا بذرة وخطوة في سبيل كالتي سارت فيها الإمارات الألمانية. . .
تأبين الجميل باشا
أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الأحد حفلة تأبين لعضوه المغفور له أنطون الجميل باشا بدار الجمعية الجغرافية الملكية، فافتتح الحفل الدكتور فارس نمر باشا بكلمة قصيرة نائباً عن الرئيس الذي لم يحضر لانحراف ألم بصحته. ثم ألقى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كلمة ضافية تتبع فيها مراحل حياة الفقيد وعمله في خدمة الأدب والصحافة، وأفاض في بيان مزاياه وصفاته الخلقية الكريمة.
ثم ألقى الأستاذ علي الجارم بك قصيدة متينة التركيب عالية البيان، وأستطيع أن أصفها(765/43)
بغير ذلك من جزالة اللفظ ووفرة المعنى والاستعارة والخيال، ولكني آخذ عليه قوله:
نسي الشعر في صراع الرزايا ... رنة الكأس والغزال الأغنا
شغلته مآتم ونعوش ... عن هوى زينب وعن وعد لبنى
فإن مجرد ذكر الكأس المرنة والغزال الأغن وهوى زينب ووعد لبنى - لا يتفق والمقام
وبعد قصيدة الجارم بك ختم نائب الرئيس الحفل بشكر الحاضرين.
المحندأ والمبهوأ:
اتخذت إحدى المجلات من هاتين الكلمتين مقرونتين بالجمع اللغوي، عنواناً وموضوعاً للتفكهة، لما يبدو بين الكلمتين العاميتين وبين مجمع اللغة العربية من المفارقة والغرابة، وطاب للمجلة - على أسلوبها - أن تتندر بأن أعضاء المجمع يدعون إلى استعمال بعض الألفاظ العامية دون اعتبار لما ورد في المعاجم من فصيح اللغة، وأوردت بعض أقوالهم في ذلك.
وحقيقة الأمر أن مؤتمر المجمع كان يناقش البحث الذي قدمه إلى الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك في (العامية الفصحى) والذي يرى فيه وجوب دراسة اللغة العامية لأنها لغة قائمة في حياتنا دراسة تعين على تعزيز الفصحى ببعض الكلمات العامية المحرفة عن العربية، وذلك بردها إلى أصلها، لأن هذه الكلمات يجعلها شيوعها محاطة بهالة تحدد معناها، فيكون ذلك كسباً كبيراً للغة الفصحى.
وقال الأستاذ أحمد أمين بك في مناقشة هذا الموضوع: (تستعمل اللغة العامية كلمات لها معان محددة لا نستطيع التعبير عنها في الفصحى تعبيراً دقيقاً، فقد عرضت على المجمع من قبل كلمة فترجمت بـ (نموذج) إلا أن هذه الترجمة ليست دقيقة في أداء المعنى وأن كلمة (عينة) العامية ندل على هذا المعنى دلالة تامة. وقد رأى المجمع أن صياغتها عربية فوافق عليها. وإذا قال العامة (بيت محندأ) أي ضيق في جمال، و (بيت مبهوأ) أي واسع في غير نظام فإن الدلالة العامية أدق من الدلالة العربية وهي ضيق وواسع، فلو وجدنا أنفسنا في حاجة إلى مثل هذه الكلمات وليس في الفصحى ما يطابق معناها مطابقة دقيقة فلا مانع من إدخالها في اللغة العربية بعد ردها إلى الصيغ العربية).
وقال الدكتور طه حسين بك (في العامية ألفاظ عربية فصيحة تغير النطق بها مثل (السيدة)(765/44)
و (الست) فالسيدة عربية والست عربية أيضاً ولكننا حين نبحث في القاموس لا نجد لفظة (الست) مع أننا نعلم أن من بين نساء العرب من تسمى بـ (ست الكل) و (ست الملك).
وقال منصور فهمي باشا: (لقد عثرت على كلمتي (جواني) و (براني) الدارجتين في اللغة العامية وأصبحت أستعملهما في الفلسفة).
والمتأمل في هذا الموضوع يجد له ناحيتين: الأولى البحث عن الكلمات العامية المنحرفة عن الفصحى وردها إلى أصلها. وهذا عمل صالح من غير شك، فنحن ورثة اللغة العربية وسلائل العرب، وأكثر ما يجري على ألسنتنا له أصول وجذور في لغة أجدادنا، ولست أرى جريه على الألسنة ابتذالاً له، بل هو يكسبه ظلالاً وأطيافاً نستطيع أن نجمعها إلى الفصاحة برد الكلمة إلى الفصحى. والناحية الثانية أخذ كلمات من العامية لمعان لا نجد لها في العربية ألفاظاً تفي بدقة التعبير وفاء تلك الكلمات العامية. ويمكن رد هذه الناحية إلى الأولى وإقفال هذا الباب المؤدي إلى خطر العجمة. وهنا تظهر فائدة الدراسة التي قال بها فريد بك، فإننا نستطيع بها تعرف الأصل العربي لكثير من الألفاظ العامية فنقضي بها حاجات التسمية والتعبير، وترجع إلى أمها الفصحى كما يرجع الغائب إلى أهله.
ونأخذ مثلاً هذه الألفاظ التي مثل بها حضرات أعضاء المجمع فكلمة (عينة) التي رأى المجمع صياغتها عربية فوافق عليها كان يمكن إقرار كلمة (عينية) بدلها، فهذه مصدر مصنوع من كلمة (عين) بمعنى نفس الشيء، وهي نص في المعنى المطلوب، ولا حاجة مع هذا إلى التخريج الذي لجأ إليه المجمع في كلمة (عينة) وما أرى (المحندأ) إلا مأخوذاً من (حندوقة العين) وهذا الأخذ مبني على تشبيه الشيء (المحندأ) بالحندوقة في الجمال والصغر والاستدارة. وما أرى (المبهوأ) إلا من (البهو) بما يدل عليه من السعة وبعثرة الأثاث في جوانبه. أما (الست) فهي كلمة مولدة بالتحريف عن (السيدة) وقد وردت كثيراً في كلام المتأخرين، وأما (جواني) و (براني) فقد أوردهما الصرفيون في المنسوب على غير قياس.
هذا وقد قرر مؤتمر المجمع إحالة ذلك البحث إلى لجنتي (اللهجات) و (الألفاظ والأساليب)، ومما يذكر أن اللجنة الثانية أنشئت أخيراً في المجمع، أما لجنة اللهجات فهي موجودة منذ إنشائه، ولم تنجز شيئاً إلى الآن، وأرى أنها تستطيع أن تثبت وجودها وفائدتها بتنظيم(765/45)
دراسة الموضوع الذي نحن بصدده للوصول إلى نتائج عملية فيه، كما أرى أن هذا أجدر بجهودها من الدراسات اللغوية التاريخية التي هي أليق بالمعاهد والجامعات.
حق المؤلف:
وافق مجلس الجامعة العربية على مشروع القانون الذي وضعته اللجنة القانونية لحماية حق المؤلف، وأوصى مجلس الجامعة حكومات الدول العربية باتخاذه في كل منها.
وقد بين المشروع الذين يتمتعون بحماية هذا القانون، وهم مؤلفو المصنفات المبتكرة في الآداب والفنون والعلوم أياً كانت قيمة هذه المصنفات وبصرف النظر عن استعمالها أو الغرض من تصنيفها. وتشمل هذه الحماية المصنفات التي يكون مظهر التعبير عنها الكتابة أو الصوت أو الرسم أو التصوير أو الحركة. ويعتبر مؤلفاً الشخص الذي ينسب إليه المصنف عند نشره. ويتمتع بالحماية من ترجم مصنفاً إلى لغة أخرى، ومن قام بتحويل مصنف من ضرب من ضروب الأدب والفنون إلى ضرب آخر، أو من قام بتلخيصه أو تحريره بما في ذلك كل صور إظهار المصنفات الموجودة بشكل جديد، ولا تخل هذه الحماية بحقوق مؤلفي المصنفات الأصلية وللمؤلف وحده الحق في تقرير نشر مصنفه، وفي تعيين طريقة هذا النشر، وله أيضاً الحق في استغلال مصنفه مالياً بأية طريقة يختارها، وله كذلك الحق في أن يجيز نقله إلى الجمهور بأية وسيلة كانت، ولا يجوز لغيره أن يباشر شيئاً من ذلك إلا بإذن كتابي منه. ولا يجوز نقل الروايات المتسلسلة أو القصص الصغيرة وغيرها من المصنفات الأدبية أو الفنية أو العلمية، التي ينشرها مؤلفوها في الصحف أو النشرات الدورية إلا بإذن منهم.
وتضمن القانون عدا ذلك مواد أخرى وتفصيلات لحالات مختلفة في التأليف الموسيقي والسينمائي وغير ذلك، كما بين حقوق ورثة المؤلفين.
وقد بين أيضاً جزاء المخالف لأحكامه، وهو الحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، عدا ما تقضي به الحال من التعويضات.
العباس(765/46)
البريد الأدبي
أكذوبة فظيعة:
سامحك الله يا أستاذ طنطاوي على اتخاذك من الأكاذيب موضوعاً للكلام الفلسفي في (حكمة القدر).
سامحك الله مرة أخرى على تصديقك (الأكذوبة الفظيعة) أكذوبة سقوط ابنتي من شرفة الطابق الخامس وقد بلغت سالمة ولم (تعجنها السقطة عجناً).
ألا تعلم يا صاحبي أن قاص ألفق الحكايات فأنفخ في الممكنات من روحي فأصيرها خلقاً سوياً من جسد وروح؟ أليس من حق القاص أن يتذرع بالأكاذيب عله بها يدرك (حكمة القدر)؟
قد تعرف يا صديقي أني كنت أتغرد في حبك الأكاذيب سواء فيما كتبت ونشرت في النقد الأدبي، وفي كتابة القصة ولم أشرك في تلفيقي أحداً، أما هذه المرة، فإني أعترف لك بأني لم أكن - ويا للأسف - الملفق وحدي لأكذوبة سقوط ابنتي (الحلوة) حقاً من شاهق، بل اشترك في توشيتها وتنميقها وتنسيقها وعرضها حتى وصلت إليك على النحو الصحيح الذي أذعته ثم نشرته في (الرسالة) بل اشترك معي فيها.
1 - جيران بيتي وفيه من الطوابق خمسة ومن (الشقق) ثلاثون شقة فمن هؤلاء الجيران من رأى الحادث رأى العين، ومنهم من سمع به.
2 - رجال الإسعاف وقد نقلوا ابنتي إلى مستشفى القصر العيني
3 - أطباء قصر العيني وقد آووها عندهم مدة يومين كاملين
4 - رجال بوليس قسم الأزبكية وقد أجروا تحقيقاً لمعرفةأسباب السقوط بمحضر رقم (325).
5 - رجال النيابة وقد حفظوا القضية بنمرة (9830).
6 - وأخيراً أطباء مستشفى عانوس وقد عالجوا ابنتي وقد أصيبت بارتجاج في المخ وقد زال بحمد الله بعد عشرة أيام.
هؤلاء كلهم اشتركوا معي في تلفيق هذه الأكذوبة التي لا تنطبق حقاً على ناموس الجاذبية، ولا على القانون الطبيعي، ولا على أساطير العجائب والمعجزات، بل ربما تنطبق على(765/48)
(حكمة القدر).
حبيب الزحلاوي
النساء ملائكة:
عندما صخب أمراء فرنسا ورجال الإقطاع فيها في دار ندوتهم على الوزير العظيم الكردينال (ريشيليو) وانهالوا يسلقونه بألسنة حداد، استمع الوزير لصخبهم وضجيجهم في هدوء المطمئن، الواثق من نبل غرضه، وشريف قصده، وعندما استهل كلامه رداً على ما جاء على ألسنتهم من هجر القول وفحشه قال:
(أكثروا من الشتائم واتخذوا منها أكمة فلن تدركوا مقدار إشفاقي عليكم) ثم استمر يتحدث في صلب الموضوع وصميمه دون الدخول في مهاترة أو إسفاف. ووالله لا أجد ما أستهل به ردي على الأستاذ الكريم أحمد الشرباصي المدرس بمعهد القاهرة الثانوي، خيراً مما استهل به الكردينال حديثه. ثم أدلف إلى الصديق أعاتبه، وإلى العالم أحاسبه، في هدوء المؤمن بمبدئه والعامل على تنفيذه وما أقصد غير وجه الحق وحده.
لقد شغلك يا صديقي ألوان الصور وجمال المناظر، عن التعمق في درس ما بين سطور كتابي (النساء ملائكة) من أغراض نبيلة، ومبادئ جليلة وآراء. هي كلها دعامات للأخلاق الحميدة. فكم فيه من دفاع عن الفضيلة وكؤوس مترعة بالخمر البريئة، يستقيها الظمآن فتتشرب نفسه ما فيها من حلال زلال.
وبقدر ما راعتك الصور التي أخرجتك عما أعرفه فيك من هدوء، وأعهده فيك من إنصاف، بقدر ما أهملت أيها الأخ الصديق تصفح الكتاب ومحاولة نقده نقداً عادلاً أرتضي حكمك بعده، فتصفح الكتاب، وأنا راض بعد ذلك حكمك، ومتقبل نقدك.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
محمود يوسف الأمين بدار الكتب المصرية
الغوغاء
في العدد (760) من الرسالة الغراء، تساءل الأستاذ أبو ماضي عن رأي الأدباء في ورود كلمة (الغوغاء) مؤنثة في الفقرة (961) من نقل الأديب، مع أن المفهوم أن لفظ (الغوغاء)(765/49)
مذكر، وأن همزته ليست للتأنيث الخ.
غير أن هذا الذي يعتبره الأستاذ أبو ماضي مفهوماً لا خلاف فيه ليس هو كل شئ في الموضوع
فقد جاء في اللسان: الغوغاء، الجراد إذا احمر وانسلخ من الألوان كلها، وبدت أجنحته. . . الجراد أول ما يكون سروة، فإذا تحرك فدباً قبل أن تنبت أجنحته، ثم يكون غوغاء وبه سمي الغوغاء، والغاغة من الناس. وهم الكثير المختلطون. . يذكر ويؤنث، ويصرف ولا يصرف. . . فمن صرفه وذكره جعله بمنزلة قمقام والهمزة بدل من واو، ومن لم يصرفه جعله بمنزلة عوراء. قال أبو العباس: إذا سميت رجلاً بغوغاء فهو على وجهين: إن نويت به ميزان حمراء لم تصرفه، وأن نويت به ميزان قعقاع صرفته.
وجاء في تاج العروس: الغوغاء الجراد، يذكر ويؤنث، ويصرف ولا يصرف، هو أولاً سروة، فإذا تحرك فدباً، فإذا نبتت أجنحته فغوغاء. كذا في التهذيب.
وقال الأصمعي: والغوغاء الكثير المختلط من الناس، سموا بغوغاء الجراد على التشبيه.
وفي نوادر قطرب: مذكر الغوغاء أغوغ، وهذا نادر غير معروف. ومما تقدم نرى أن كلمة غوغاء تذكر وتؤنث وتصرف ولا تصرف وأن همزتها مختلف فيها بين أن تكون منقلبة على الواو وبين أن تكون للتأنيث.
وبالغ قطرب فاعتبر الكلمة مؤنثة بلا نزاع، واخترع لها مذكراً! هذا هو حكم اللغة ورأي علماء اللغة، فلا حرج على ابن السبكي إذا أنث (الغوغاء) في طبقات الشافعية، ولا تثريب على فقيد العربية النشاشيبي إذا نقل ذلك بلا تعقيب.
برهان الدين الداغستاني
(لن) لا تقتضي تأكيداً ولا تأييداً:
قرأت بإعجاب ما كتبه الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي معقباً على كلام صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا
غير أنه قد استرعى انتباهي في كلام معاليه هذه العبارة (ولن كما يقرر النحاة هي أشد أدوات النفي للمستقبل إذ تنفيه نفياً باتاً فالقرآن يسجل بصريح العبارة أن الاستطاعة(765/50)
مستحيلة أي أن العلة المتوهمة للتصريح بالتعديد لن تتحقق أبداً)
والذي أعلمه أن لن كما ذهبت إليه جمهرة النحاة لا تقتضي تأييداً للنفي ولا تأكيداً، ولم يقل بذلك إلا الزمخشري في كتابيه (الأنموذج والكشاف) مستدلاً على مذهب المعتزلة في نفس رؤية الله تعالى حينما تعرض لتفسير الآية الكريمة من سورة الأعراف (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) حتى لقد صار كلامه في لن مضرباً للأمثال فقال الأدباء (لن الزمخشرية) وإنني مع احترامي لألمعية الزمخشري - أضع يدي في يد النحاة وأذكر للرد على كلامه أدلة منها
1 - أنه لم يقم دليل على كونها للتأييد
2 - وأنها لو كانت كذلك للزم التناقض بذكر اليوم في قوله تعالى (فلن أكلم اليوم إنسياً)
3 - وللزم التكرار بذكر الأبد في قوله تعالى (قل لن تخرجوه معي أبدا).
وأما التأييد في قوله تعالى (لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) فمن أمر خارجي لا من مقتضيات لن، والله الموفق للصواب.
هارون محمد أمين(765/51)
القصص
أسطورة الحب الخالد
عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ ماجد فرحان سعيد
كان لأحد الملوك ثلاث بنات. وكان جمال الكبريين رائعاً ساحراً. أما الصغيرة فلقد تفردت بجمال عبقري يعجز البيان عن إيفائه حقه من الوصف الصادق البليغ. وتضوعت فتنة سحرها وجمالها حتى صار الناس يتوافدون عليها من كل صوب وحدب ليتمتعوا بمشاهدتها، ويؤدوا لها فروض الاحترام الذي لا يليق إلا بفينوس - إلهة الحب والجمال.
وغضبت فينوس على هذا التمرد الذي بدا لها من الناس، فهزت رأسها بسخط قائلة: (أمن المعقول أن تقوى هذه المخلوقة البشرية على إهدار كرامتي واغتصابها؟ ولكنني سأجعلها تندم وتتمنى لو لم يكن لها ذاك الجمال الخارق!). ثم دعت ابنها كيوبيد - وهو كما نعلم إله الحب - واستثارته بشكواها قائلة: (كل ما أريده منك يا ولدي العزيز أن تعاقب بسيشي، تلك الحسناء المتمردة؛ أريد أن تنتقم لي منها انتقاماً يطفئ غلتي؛ دعها مثلاً تعلق بحب شخص حقير، يذيقها من صنوف الإهانات أمرها وأقساها!). فتأهب كيوبيد لتنفيذ أوامرها؛ وذهب إلى حديقتها الجميلة، حيث يوجد نبعان، أحدهما عذب، والآخر ملح أجاج. وملأ من كل منهما إناء، وأسرع به إلى مخدع بسيشي، حيث وجدها نائمة؛ وذرف على شفتيها بضع قطرات من الماء الملح؛ ولكن منظرها الفاتن كان قد أثار في قلبه آنذاك كوامن الحب والإشفاق. ثم وخز جانبها بطرف سهمه فاستفاقت مذعورة، وفتحت عينيها لتشاهده، إلا أنها لم تتمكن من رؤيته لأنه كان متخفياً. فاضطرب حركاتها حتى جرح نفسه بطرف سهمه. ولكنه لم يعبأ بجرحه، وكل ما كان يبتغيه أن يخفف من الضر الذي ألحقه بها؛ ولذلك عاد فذرف على جرحها بضع قطرات من البلسم الصافي.
ولم تجن بسيشي نفعاً من سحرها وجمالها بعد أن حل عليها غضب فينوس، لأن أحداً لم يتقدم إليها طالباً الزواج، مع أن أختيها، وهما لا تضاهيانها سحراً وجمالاً تزوجتا منذ وقت طويل. وجلست الحسناء وحيدة في مخدعها، وسئمت هذه الوحدة حتى وهذا الجمال، هذا(765/52)
الجمال الذي نالت به أكبر المدح والإطراء ولكنه عجز عن إيقاظ الحب في القلوب.
وخشي أبواها أن يكونا قد أثارا سخط الآلهة، ولذلك استشارا الكهان في أمرها؛ فعلما إذ ذاك بأنه كتب لها أن لا يكون زوجها من البشر، وإنما هو وحش مروع ينتظرها على قمة جبل قريب. فملأت هذه الكلمات قلبيهما رعباً وحزناً؛ ولكن بسيشي قالت لهما: - (ولم تنتحبان علي الآن؟ لقد كان أجدر بكما لو حزنتما عندما كان الناس ينثرون علي باقات الثناء الذي لا أستحقه، حتى بلغ بهم إجلالي أن دعوني فينوس! إنني أقدر الآن بأنني ضحية ذلك اللقب؛ هيا إذاً أوصلاني إلى الجبل الذي سألقى عليه حظي العازب!).
وتمت جميع الترتيبات؛ وأخذت الحسناء مكانها في الموكب المتوجه إلى الجبل، ما بين نحيب الناس وعويلهم. وهناك تركوها وحيدة، وعادوا إلى بيوتهم.
وقفت الحسناء على حافة الجبل بقلب لاهث من شدة الخوف، وعينين محمرتين من كثرة الدموع. وإذا بالريح الغريبة اللطيفة تأتي وتحملها إلى واد مزهر. وهناك ألقت بنفسها على الضفة الخضراء واستسلمت للنومز ولما استفاقت نظرت حولها، وإذا بها ترى حديقة غناء ضفرت على حفافي ممراتها أكاليل من الخضرة الزاهية؛ فدخلتها، ودهشت إذ رأت في وسطها نبعاً تفيض منه مياه بلورية صافية، وبالقرب من النبع قصراً بهياً، أعمدته ذهبية لامعة، وجدرانه مرصعة بالرسوم والنقوش البديعة التي ترتاح لها العين، وتنعم القلب بالبهجة والسرور.
وعندما توغلت في الحديقة، رأت غرفاً وقاعات فخمة، تغص بالكنوز الثمينة وبثمرات الفن الرفيع والطبيعة الخلابة. وإنها لكذلك، إذ بها تسمع صوتاً يخاطبها قائلاً: (أيتها الفتاة الفاضلة! إن كل ما ترينه ملك لك! وإنما الأصوات التي تسمعينها أصوات جواريك اللواتي ينتظرن تنفيذ ما تأمرين به. فإذا ما أردت الاستراحة فهناك على فراشك الوثير؛ أما العشاء، فإنه ينتظرك في الخميلة المجاورة).
وفعلت الحسناء كما أشير عليها؛ فبعد أن استراحت جلست في الخميلة، حيث وجدت مائدة معدة، عليها من المأكولات ألذها، ومن الخمور أجودها. كما وإنها شنفت أذنيها لسماع الألحان العذبة التي كانت تعزفها فرقة موسيقية خفية.
ولكنها حتى ذلك الوقت لم تكن قد رأت زوجها الموعود، لأنه كان يأتيها في ساعات(765/53)
الظلام، ويغادرها قبل انبثاق الفجر. ولطالما تضرعت إليه أن يمكث عندها لتتمكن من مشاهدته؛ ولكنه لم يكن ليوافق أبداً، بل كان يقول لها: - (ولم ترغبين في مشاهدتي؟ هل تشكين في حبي لك؟ إنني أخشى إن رأيتني إما أن تخافي مني، أو أن يستحيل حبك لي عبادة حارة؛ وكل ما أرجوه أن تقابليني بمثل حبي!).
وكأن هذا الجدال قد هدأها مدة من الزمن، لاسيما وقد استمرأت تلك السعادة التي رتعت فيها. ولكنها عندما كانت تخلو بنفسها، كانت تحن إلى أبويها وأختيها. وفي إحدى الليالي طلبت من زوجها أن يسمح لأختيها بزيارتها. فمنحها ذلك الطلب عن طيبة خاطر.
وأمرت الحسناء الريح الغربية بإحضارهما. فأقبلتا في الحال، وعانقاها وتبادلن القبل مراراً. ثم دعتهما لدخول مخدعها والقصر الذهبي، وأرتهما هناك كنوزها العديدة. فلما شاهدتا ما هي عليه من النعمة ورخاء البال، بدأ الحسد ينخر في صدريهما. ولما استدرجتاهما إلى الاعتراف بأنها حتى ذلك الحين لم تكن قد رأت زوجها، بأتا تغويانها على خيانته، وتوغران صدرها بشتى أنواع الشكوك؛ وفي ذات مرة قالتا لها: - (أنسيت ما تنبأ به الكهان من أن زوجك ليس إنساناً؟ إنه وحش مريع يغذيك الآن بكل لذيذ ليأكلك في النهاية لقمة سائغة! فاعمل فاعمل يا أختاه بنصيحتنا؛ جهزي نفسك في الحال بمصباح وسكين حادة؛ وعندما يكون زوجك غارقاً في نومه، أشعلي المصباح، واقتربي منه، وقفي بنفسك على حقيقة حاله. فإذا تأكدت من صحة ما نقول، فلا تتواني دقيقة في قطع رأسه لتتخلصي منه!)
وقاومت بسيشي هذا الإغراء في بادئ الأمر؛ غير إنها استسلمت له في النهاية. وما إن أضاءت المصباح واقتربت من زوجها، حتى شاهدت بدلاً من الوحش المخيف الذي حذرت منه، إلهاً جميلاً ساحراً، تتدلى على رقبته العاجية ووجنتيه الموردتين، ضفائر ذهبية من الشعر، وينتصب على كتفيه جناحان نديان أبيضان، عليهما ريش لامع كنوار الربيع. وعندما أدنت المصباح من وجهه، سقطت على كتفه قطرة من الزيت الساخن فاستفاق إذ ذاك مذعوراً، وحدق فيها برهة، ثم أطلق جناحيه للريح؛ وطار من النافذة دون أن يفوه بكلمة واحدة. وعبثاً حاولت بسيشي أن تلحق به؛ فلقد سقطت من النافذة على الأرض. وعندما رآها كيوبيد تتمرغ بالتراب، توقف عن طيرانه ورجع إليها ثم قال: - (أكذا(765/54)
تقابلين حبي أيتها البلهاء؟ أهكذا، بعد أن عصيت أوامر والدتي واتخذتك زوجة لي، تذعنين لإغواء أختيك وتحاولين قتلي؟ ولكن ارجعي إليهما وافعلي ما تشائين! واذكري أنني لن ألحق بك أي قصاص سوى أن أهجرك إلى الأبد؛ إذ كيف يمكن للحب أن يأوي ما بين الشكوك؟!) وما كاد ينهي كلامه حتى طار بعيداً وتركها مستلقية على الأرض تملأ المكان بعويلها ونحيبها.
واستعادت الحسناء بعض رشدها ونظرت حولها، وإذا بالقصر والجنان قد تلاشت واختفت؛ ووجدت نفسها على مقربة من مسكن أختيها. فقصدته، وقصت عليهما ما حدث. فتظاهرتا بالحزن والإشفاق، ولكنهما قد ابتهجتا داخلياً، وظنتا بأنه من الممكن أن يختار كيوبيد إحداهما بدلاً منها. غير أنهما لم تجهرا بتلك الخطة، بل صعدتا في الصباح التالي إلى الجبل، ونادتا على الريح الغربية لكي تحملهما إلى كيوبيد. فلما قفزتا في الهواء، سقطتا في الهواية وقضي على حياتيهما.
أما بسيشي، فقد أخذت تهيم على وجهها ليل نهار، باحثة عن زوجها. فوقعت عيناها على رأس جبل شامخ، يطل من فوق حاجبه هيكل بهي، فتنهدت وقالت في نفسها: - (أليس ممكناً أن يكون حبيبي هناك؟!). وأسرعت صوب قمته. وما كادت تدخله حتى رأت فيه أكواماً كبيرة من الحنطة والشعير، نثرت حولها المناجل وآلات الحصاد. وأرادت أن تسترضي فينوس، ولذا عمدت إلى فصل هذه الأشياء بعضها عن بعض. فلما رأتها سيريس - إلهة الحصاد - منهمكة في العمل، خاطبتها قائة: (مسكينة أيتها الفتاة! ولكن لا تكتئبي، فسأرشدك إلى طريقة تهدئين بها غضب فينوس , اذهبي إليها، وأظهري لها كل خضوع واحترام، تنالي عفوها، وتسترجعي زوجك المفقود) فوافقت بسيشي على هذا، وتوجهت إلى هيكل فينوس. فلما رأتها الإلهة، لمعت عيناها ببارق من الغضب، وقالت: - (أتذكرين الآن فقط بأنني سيدتك، أم جئت ههنا لتزوري زوجك المريض؟ سأختبرك الآن لأرى ما إذا كنت صالحة لأن تكوني زوجة له!)، وأمرت أن تتبعها إلى مخازن الهيكل حيث توجد كميات كبيرة من القمح والشعير والفول والذرة، وقالت لها: - (أريني اجتهادك الآن في فصل هذه الحبوب، بعضها عن بعض، على أن تنتهي من ذلك قبل حلول المساء!). فلما أجالت بسيشي النظر فيما حولها، وقفت بدهشة ويأس وذهول أمام تلك(765/55)
الكومة الكبيرة التي تحتاج إلى عمل مضن طويل. وأثار كيوبيد الشفقة في نفوس جيش من النمل؛ وإذ ذاك توجه نحو الكومة حيث فصل كل نوع على جانب؛ ثم اختفى كيوبيد ومن معه في أقل من طرفة عين.
وعند حلول الغسق، جاءت فينوس تميس بقدها اللطيف، وتتيه بتاجها المحلى بالزهور. ولما رأت العمل قد تم، لم تصدق أن بسيشي هي التي أنجزته. ولذا عزمت على اختبارها مرة ثانية. فدعتها في الصباح التالي وقالت لها: (أترين تلك الحديقة الممتدة على حفافي النهر؟ هناك ستجدين قطيعاً من الخراف، عليها أصواف ذهبية لامعة. اذهبي في الحال وأحضري إلي عينات مختلفة منها)
وذهبت بسيشي إلى ضفة النهر عازمة على تنفيذ ما أمرت به ولكن إله النهر أوحى إلى الأقصاب النابتة على ضفتيه بغمغمات موزونة انسابت تخاطبها قائلة: - لا تحاولي أيتها الحسناء أن تقتربي الآن من النهر لئلا يغمرك فيضانه العظيم! ولا تقربي أيضاً من الكباش لئلا تقتلك بقرونها الطويلة! ولكن انتظري إلى ما بعد الظهر، فيستريح القطيع تحت ظلال الأشجار وتستطيعي آنذاك أن تجوزي بأمان، فتجدي قطع الصوف الذهبي عالقة على الأشواك وعلى جذوع الأشجار؛ وما عليك آنئذ إلا أن تجمعيها وتعودي بها إلى سيدتك!) فعملت بسيشي كما أشير عليها، ورجعت ويداها مملوءتان صوفاً لامعاً براقاً. وللمرة الثانية لم تحظ بسيشي برضى سيدتها التي أرادت أن تختبرها في ما ستؤول إليه تجربتها الثالثة والأخيرة؛ فقالت لها: - (خذي هذا الصندوق واذهبي به إلى بروزرباين - مليكة عالم الأموات - وقولي لها: إن سيدتي فينوس ترجوك بأن تضعي لها في هذا الصندوق شيئاً من جمالك، كيما تستعيد بواسطته ما فقدته من حسنها وروائها في أثناء اعتنائها بابنها المريض. . .
ولكن حذار من أن تتأخري عن الرجوع به قبل حلول المساء!). فظنت بسيشي أن هذا واسطة للقضاء عليها، إذ كيف تستطيع الوصول إلى الظلال الجهنمية مشياً على الأقدام؟ ولذا صعدت إلى برج عال لتقذف بنفسها عنه، فتهبط إلى الظلال الخانقة في أقصر وقت. ولكن صوتاً من البرج صاح بها قائلاً: (ولم تعمدين أيتها الحسناء إلى الانتحار بهذه الطريقة المريعة؟) ثم دلها الصوت على طريقة تستطيع بها إلى العوالم الجهنمية بأمان؛(765/56)
ولكنه حذرها من فتح الصندوق. فعملت بموجب إشارته ووصلت بسلام إلى قصر الإلهة بروزرباين حيث ملئ لها الصندوق بأثمن نوع من الجمال، ثم أغلق وأعيدإليها؛ فرجعت به قانعة مسرورة؛ ولكن ألحت عليها في الطريق رغبة حافزة في فتحه، لتأخذ شيئاً من الجمال الإلهي، فتطلي به وجنتيها، وتظهر أمام حبيبها بمظهر فاتن أنيق، وفتحته؛ وبلغت بها الدهشة أقصاها عندما لم تجد فيه شيئاً من الجمال قط، وإنما انبعث منه نوم جهنمي استولى عليها وأسقطها في الحال على قارعة الطريق.
أما كيوبيد فقد برح به الشوق للقاء حبيبته؛ فذهب إليها، وجمع النوم عن جسمها، وأعاده إلى الصندوق، وأيقظها بوخزة خفيفة من طرف سهمه، ثم قال: (أهكذا يعود بك حب الاستطلاع فيغويك مرة ثانية ويكاد يودي بك إلى الهلاك؟! ولكن ما عليك من بأس؛ أتمي الآن فقط ما فرضته عليك والدتي، وستنسى الماضي ثم طار كالبرق وحلق في أجواء الفضاء، وطلب من المشتري - إله السماء العظيم وملك الآلهة جميعاً - أن يتوسط لدى أمه لتوافق على زواجه من بسيشي وتباركه. ففعل المشتري كذلك وعندما نال موافقتها، أمر بإحضار بسيشي إلى القصر السماوي حيث قدم لها شراب الآلهة ثم قال: (تشربين منه فتصبحين خالدة وسيدوم زواجكما إلى الأبد!
وهكذا استطاعت بسيشي بعد أن طهرتها المصائب والتجارب من أدران الخطيئة أن تتحد مع كيوبيد، وأن تنعم معه بسعادة الحب الخالد.
ماجد فرحان سعيد(765/57)
العدد 766 - بتاريخ: 08 - 03 - 1948(/)
من مذكراتي اليومية:(766/1)
قصة فتاة
- 3 -
الأربعاء 9 مايو سنة 1945:
كلمتني ضحى اليوم بالتليفون تذكرني بموعدها عصر الغد بجروبي؛ وتعتذر من هذا التذكير بأنها تخشى أن تكون استجابتي لمواعيدها في القاهرة كإجابتي عن رسائلها من العزبة. ولو لم يكن في مكتبي وهي تتكلم بعض المتزمتين لقلت لها إن الأمر بين الحالين جدُّ مختلف؛ فإن إجابتي عن رسائلها قد أصبحت من فضول القول بعد أن صارحتني بأنها تطلب الحب ولا تطلب المعرفة، وتريد الغزل ولا تريد النصيحة؛ ولكن استجابتي لموعدها أدب من آداب النفس المهذبة، يزيد في الحرص عليه شوقي إلى رؤية وجه يتجلى في اليقظة بعد أن تمثل لي طويلاً في الحُلم، ثم أملي أن ينجح في كبحها اللسان بعد أن فشل في كبحها القلم. ولقد استخفى علم الله صوتها الموسيقي في السماعة فهممت أن أطلب منها تقديم الموعد يوماً ولكنني لم أفعل؛ لأني أكبر نفسي أن تخضع في أية حال لهواها، ولأني أوثر أن أقرأ ما بقي من رسائلها قبل أن ألقاها.
حملتُها على قطع الحديث بأجوبتي البطيئة المقتضبة، لأن الجالسين إلي كانوا قد كفوا عن حديثهم وجعلوا بالهم لحديثي، وما أدري أكان ذلك منهم اتباعاً لأدب السلوك أم استطلاعاً لحديث امرأة! وضعت السماعة وعدت إلى زوّاري الأكرمين أناقلهم حديث الأدب وأراجيف السياسة، حتى انفض المجلس وخلا المكتب فنشرت بين يديّ ما عثرت عليه ليلة أمس من بقايا رسائلها الحمر، وأخذت أصفحها ورقة ورقة فأُلقي المكرر أو السخيف، وأُبقي المفيد أو الطريف، ثم رجعت النظر فيما استبقيت فلم أجد غير رسالتين اثنتين تستحقان التلخيص والتسجيل، وتستأهلان التعليل والتحليل، فأثبتهما ملخصتين في صفحة هذا اليوم من مذكراتي، لتكونا تكملة لصورتها وتغذية لتصوراتي
قالت الآنسة في رسالتيها ما ترجمته: (ما لك تبتعد عني متراً كلما دنوت منك فِتراً؟ لقد أوصدت بابك دوني ثم تركتني أطرقه وأطرقه حتى أصم أذنيّ الطرق وأنت لا تجيب! هل تجد في ردك على رسائلي إحراجاً لك أو إزراءً بك أو تبعة عليك؟ إن كنت لا تحبني - كما أعتقد - فهلا تظاهرت لي بالحب إشفاقاً على هذا القلب الذي يحترق ولا يجد بَرده إلا(766/2)
فيك، ويذوب ولا يرى مساكه إلا بك! كان يقنعني منك أن تحبني بالكلام حتى لا تظل موجة حبي حائرة في الفضاء لا تجد جهاز استقبال ولا أُذن مستمع! لقد تركني بسكوتك عني أشبه بالمصوّت في المغارة لا يسمع غير الصدى، أو المنقطع في المفازة لا يجد غير السكون! أريد أن أعرف هذا المجهول وأستدني ذلك البعيد! يخيل إلي أحياناً أنه يناديني في زفيف الريح، أو يقبلني في انعطاف الغصن، أو يعانقني في لين الفراش، فأرهف أذني، أو أعرض خدي، أو أنصب صدري، فلا أحس وا لهفتاه إلا الرهبة والعزلة والفراغ! دعني أبحث عنه في كل مكان، وأتصوره في كل إنسان، ما دمت لا ترسله إلي بالبريد!
دخلت الإسطبل ذات صباح فرأيت الحلاّبة تحلب إحدى الجواميس، فطاب لي أن أرى هذا المنظر، وقام بي أن أجرب هذا العمل، فأخذت الوعاء من فوق ركبة الحلابة، وجلست القرفصاء تحت بطن الجاموسة، وقبضت بيمناي على حلمة من حلمات الضرع وجذبتها إلي فشخب اللبن حاراً في يدي. ولذّ لي لسبب لا أدريه أن أمعن في غمز الحلمة وعصر الضرع الحلب اللبن، شخباً في الإناء وشخباً في الأرض، وقد دب في بدني رعشة خفيفة، وسرى في دمي نشوة لطيفة، وجرى في نفسي إلى الرجل المشتَهى نزعة قوية! ولا أدري ما الذي ربط في ذهني بين حلب اللبن وشهوة الحب، ولا بين رؤية الجاموسة وذكرى الحبيب. ولكن ذلك كان وإن جهلت كيف كان. ولا يزال الشوق إلى هذه اللذة يعاودني فأذهب إلى الإسطبل في الصباح والمساء، حتى غدوت أبرع من يحلب في العزبة من الرجال والنساء!
ماذا تصنع الفتاة الوحِدة يا (حبيبي) لتهدئ قلبها الثائر، وترضي هواها الطموح، وتملأ فراغها الموحش؟ أخي لا يترك الدوار ولا يتكلم إلا في الزرع والضرع، وزوجه لا تفارق الدار ولا تتكلم إلا في الطهي والغسل، وأنت لا تدع الصمت ولا تتكلم إن تكلمت إلا في الفضيلة والفضل! أما الكلام الذي يمتزج بالنفس ويأتلف مع الشعور فلا أسمعه إلا في هتاف حمامة لإلفها، أو حمحمة فرس لسائسها، أو غمغمة بقرة لولدها، أو تحية ابن البستاني لي وهو ذاهب إلى الحديقة أو عائد منها. وابن البستاني فتى ريان الشباب، وثيق التركيب، على وجهه وسامة، وفي عينيه ملاحة، وعلى شفتيه جاذبية. يجيء أباه في أكثر الأيام ليعاونه في أعمال الحديقة؛ فكنت كلما رأيته تمنيت أن أديم النظر إليه وأطيل الحديث(766/3)
معه؛ ولكن الفروق الاجتماعية التي بيني وبينه كانت تكسر من طرْفه وتعقل من لسانه فلا ينظر إلا خُلسة ولا يتكلم إلا جمجمة. دعوته ذات مرة ليقطف لي رمانة لم تصل إليها يدي ولا مجناتي؛ فلما قطفها وقدمها إلي وقف ينتظر أمراً آخر؛ فقلت له بعد أن جسست بعيني نوافذ الدار ومماشي الحديقة: تعال معي نقطف باقة من الزهر، ونجن سلة من الثمر. فمشى الفتى بجانبي على استحياء وحذر، فأردت أن أزيل احتشامه فسألته في لهجة تسيل أنوثة وعذوبة: أمتزوج أنت أم خاطب؟ فقال والخجل يضرج محياه: خطبوا لي يا سيدتي ابنة الخولي، وستزفّ إلي في موسم القصب. فقلت له ضاحكة: إذن سيكون شهر العسل عظيماً! فنظر الصعيدي إلي مبهوتاً كأنه لم يدرك النكتة ولم يفهم الجملة! فقلت له: وماذا تقول لفتاتك إذا خلوت بها؟ فأجاب الفتى في حرج ودهشة: وكيف أخلو بها قبل الزفاف يا سيدتي؟ إني أراها في الحقل أو أقابلها في الطريق أو ألمحها في البيت، فتغض هي من طرفها، وأشيح أنا بوجهي، لكي لا تتلاقى النظرتان فنأمن مقالة السوء ونضمن دوام الخطبة. فقلت له وأنا أعبر بصوتي الممطوط عن الرثاء والشفقة: مساكين! إن الخطبة عند المتمدنين تدريب وتجريب ومتعة. تدريب على الزوجية بالفعل، وتجريب للشخصية بالخبرة، ومتعة للنفس بالرقص والرياضة والرحلة. إذا كانت خطيبتك بخراء فكيف تعرفها بغير القبل؟ وإذا كانت مصنَّة فكيف تكشفها بغير العناق؟ وإذا كانت مذياعة فكيف تمتحنها بغير الائتمان على (سر)؟ سأمثل معك دور الخطيبة الحبيبة رحمةً بك وحناناً عليك، وسأعلمك ما ينبغي أن تعمل، وألقنك ما يجب أن تقول. وفي ظل شجرة غيناء من شجر التفاح أخرجت منديلي الرقيق فمسحت به ملاغم الفتى؛ ثم جذبت بيديّ جانبي رأسه، ودسست شفتيّ في زاوية فمه؛ ثم وثّقت القبلة وعمقتها وطوّلتها وعرّضتها، وكان الشاب قد صدمته المفاجأة فتصلب أولاً ثم استرخى، وأردت أن انزع فمي من فمه فاستعصى؛ ورفعت بصري إلى أعلى الشجرة فرأيت أفعى (حواء) بجانب التفاحة تريد أن تسقطها إليّ، ففرت مذعورة ففرت مذعورة إلى المنزل. وفي اليوم التالي عدت إلى التعليم وعاد. وفي اليوم التالي عدت إلى التعليم وعاد إلى التعلم. وكان الفتى في هذا اليوم على غير عادته نظيف الوجه جديد الثياب جرئ القلب، فأطلنا الدرس وشفينا النفس وشققنا الحديث. وتعاقبت الأيام على هذه الحال الراضية، فسكت في رأسي صوت كان لا يفتر عن(766/4)
الصراخ، وسكن في نفسي وسواس كان لا يني عن الحركة. وكدت أُشغل بالفتى عنك، وباللهو المتحقق عن الحب المتخيَّل، لولا أن أخي وقف من زوجته على الحقيقة، فضربني علقه دامية وحرمني النزول إلى الحديقة. . .
(للقصة بقية)
أحمد حسن الزيات(766/5)
الحمّادون الثلاثة
للدكتور جواد علي
هم حمّاد الراوية، وحماد عجرد، وحماد الزبرقان. هم ثلاثة كانت أسماؤهم واحدة، وعاشوا في عصر واحد، وكانوا من أصل واحد، وعلى رأي واحد، ووجهة نظر واحدة، بالنسبة إلى العالم والحياة.
وكانوا من الموالي، وكانوا متهمين في دينهم وفي أخلاقهم، وكانوا يروون الشعر ويتعاطونه، وكانوا جميعاً أصحاب عبث ودعابة ومجانة، وكانوا على رأس طبقة (الزنادقة) التي ظهرت في العصر الأموي وصدر الدولة العباسية، والتي ضمت عدداً من الأعاجم كانوا في الأصل من عبدة النار ومن الثنوية القائلين بعنصرين: عنصر النور والظلام، وعنصر النار والتراب، وبتفوق النار على الطين، أمثال عبد الله بن المقفع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الأردي، وعلي بن خليل الشيباني وغير هؤلاء ممن أسلمت ألسنتهم وكفرت قلوبهم.
ظهرت هذه الطبقة في مدن العراق الرئيسية خاصة، حيث كان الاختلاط فيها بين العرب والعجم على أشد ما يكون، وحيث كانت حرية القول على أوسع ما يتصوره إنسان، وكان معظم رجالها من الأدباء الموالي المتعصبين لقوميتهم، ولذلك اقترنت هذه الحركة حركة الزندقة بالنزعة الشعوبية المعروفة التي تتحامل على العرب وعلى كل ما هو عربي وإسلامي بنفس الوقت.
وكان كل من ذكرنا من طبقة الأدباء الظرفاء، المتمكنين من ناصية اللغة والأدب، ومن المتساهلين في الآداب العامة والتقاليد، وكانوا كما وصفهم الجاحظ (يجتمعون على الشرب وقول الشعر وهجاء بعضهم بعضاً وكل منهم متهم في دينه) وكانوا يقضون أكثر لياليهم في سمر صاخب في بيوت المجّان ومحيي العبث، ينفقون ما حصلوا عليه من أثمان المديح أو رشوة (بخلاء) الأغنياء استرضاء لهؤلاء السفهاء الذين قد يتجاسرون عليهم فيهجونهم بآخر ما عرفه فن الهجاء وآخر ما وصل إليه قانون الشتائم عند هؤلاء الشطار من سباب.
وطبيعي أن تكون مجالس هؤلاء متحررة من كل قيود، بعيدة عن كل مظهر من مظاهر(766/6)
الرزانة والاحتشام، مبدعة أحياناً ومسفة غاية الإسفاف أحياناً أخرى. وقدحفظ لنا بعض الشهود والرواة شيئاً مما كان يدور في أمثال هذه المجالس الخاصة التي كان يقصدها رهط هؤلاء وجلهم ممن جبل على هذه الجبلة، الدعابة والمرح والتحلل، والاستهتار بكل شئ وبالكذب على الماضي والحاضر إن احتاج الأمر لذلك، فكانوا يضعون ويقولون ويتنادمون ويتقارضون الشعر ساعات طويلة من ليل أو نهار
وعلى الرغم مما عرف عن هذه الطبقة من العبث والابتعاد عن حياة الجد، كانوا في جملتهم أصحاب علم بلغة العرب واطلاع على مذاهب الشعر في الجاهلية والإسلام، ووقوف على أسرار اللسان. مثل حماد الراوية الذي (كان من أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها) والذي قال عنه بعض الرواة (إنه قد أفسد الشعر لأنه كان رجلاً يقدر على صنعتهفيدس في شعر كل رجل ما يشكل طريقته فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم) ومثل حماد عجرد وكان نفسه من الشعراء المجيدين، وقد أزعج بشار بن برد الشاعر بأهاجيه الفاحشة وبالمعاني الغريبة المبتكرة التي كان يأتي بها في هجاء ذلك الشاعر السليط الذي كان يخشى الناس لسانه ويرجون من الابتعاد عنه السلامة. ومثل ابن المقفع وغيرهم ممن ذكرنا.
وحماد الراوية هو أبو القاسم حماد بن ميسرة أو ابن أبي ليلى سابور بن عبيد الديلمي الكوفي مولى بني بكر بن وائل أو مكنف ابن زيد خبارها الخيل الطائي وكان زعيم أهل الكوفة في الرواية وحفظ الأشعار كما كان خلف الأحمر وهو من هذه الطبقة ومن هذا الطراز زعيم أهل البصرة في الرواية وحفظ الشعر أيضاً. وكان من المقدمين لدى نبي أمية ولاسيما عند (الوليد بن يزيد) الذي عرف بالميل إلى الشعر والشعراء وبالإغداق عليهم وعلى الأخص على أمثال هؤلاء الشعراء. ويظهر أنه لم يكن من المرغوب فيهم عند بني العباس.
ويظهر أن الرجل كان ذكياً جداً غير أنه لم يكن يحسن الاستفادة من ذلك الذكاء. وأنه لم يتمكن من استغلال مواهبه والقابليات التي كانت عنده. وأنه كان يبالغ في الدعاية لنفسه. فكان يشيد دائماً بمقدار ما كان يحفظ، حتى غلبت عليه الرواية وعُرف بين الناس بحماد الراوية. وقد اضطرته المواقف على الانتحال والوضع لكي يتفوق على خصومه ويثبت(766/7)
تغلبه على منافسيه وقد كانوا ما شاء الله. فافتضح أمره وانكشف كما انكشف أمر رواة آخرين. ولو كان صاحبنا قد سلك سبيل العقل وتمسك بأذيال الرزانة وشاطر الشعراء النظم وأظهر مواهبه من هذه الناحية وهي مواهب شعرية كان يعترف بها الناس ويمكن التعرف عليها من تلك القصائد التقليدية التي كان يضعها على ألسنة الشعراء ويصبها بقوالب لا تظهر عليها آثار التزييف إلا بصعوبة، لو كان قد فعل ذلك لكان اسمه اليوم بين تلك الأسماء المخلدة في صفحات شعر الدولتين بدون شك. وكان ملوك بني أمية يقدمونه ويؤثرونه ويستزيرونه فيفد عليهم وينال منهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، وقال له الوليد بن يزيد الأموي يوماً وقد حضر مجلسه بم استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية؟ فقال بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر ممن تعرف أنك لا تعرفه ولا سمعت به ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا محدثاً إلا ميزت القديم من المحدث، فقال له فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال سأمتحنك في هذا. ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه فأشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية، وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم.)
ولا أعتقد أن إنساناً يمكن أن يمر بهذه القصة مر الكرام بدون تعليق عليها ولا تنادر، والرواية نفسها إن صحت أنها حقيقة من حماد تبين لنا مبلغ ادعاء الرجل وإسرافه في الادعاء، وإسراف أهل الكوفة معه، وقد كان أهل الكوفة وحماد يشعرون بافتضاح أمرهم فكانوا يقولون: كان النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج وهي الكراريس ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن عبيد الثقفي أمر بإخراجها فأخرجت. فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالشعر من غيرهم أما صاحب هذه الرواية فحماد نفسه ولك أن تقول فيها ما تريد.
والظاهر أن ما ذكره ابن سلام في كتابه (طبقات الشعراء) من أنه كان عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه، ويرجع إلى روايات أهل الكوفة. وقد رووا ذلك على ما يخيل إلى(766/8)
لبيان سبب تفوقهم على أهل البصرة وسبب كثرة الروايات عندهم ولم يحدثنا أحد لا من أهل الكوفة ولا من أهل البصرة أنه رأى ذلك الديوان أو أخذ منه، ولو كان ذلك حقاً لما ترك الناس الأخذ منه ولو بأي ثمن كان.
ومن أمثلة تلاعب حماد بالرواية ما يروى من أن الخليفة المهدي سأل المفضل الضبي عن سبب افتتاح زهير قصيدته:
دع ذا وعد القول في هرم ... خير البُداة وسيد الحضر
ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال المفضل أني توهمته كان مفكراً في شئ من شأنه فتركه وقال دع ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. فأمسك عنه ودعا حماداً فسأله فقال ليس هكذا قال زهير وأنشده:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر
قفر بمندفع النحائت من ... ضفوى آلات الضال والسدر
فاستحلفه المهدي فأقر أنه هو الذي أدخلها في شعر زهير. فأمر المهدي أن من أراد شعراً محدثاً فليأخذه من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها من المفضل. وهكذا أعلنت الحكومة رسمياً كذب رواية حماد.
وهاك مثلاً آخر على كذب حماد: قدم حماد البصرة على بلال ابن أبي بردة فقال ما أطرفتني شيئاً. فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الخطيئة مديح أبي موسى، فقال ويحك! يمدح الخطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروي للخطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس، فذهبت في الناس وهي في ديوان الخطيئة، والرواة أنفسهم يختلفون فمنهم من يزعم أن الخطيئة قالها حقاً
وهناك أمثلة أخرى كثيرة تريك مبلغ استهتار الرواة بالرواية ومبلغ استهتارهم بالناس. ولم يكن حماد أول من سن هذه السنة بل كان هنالك عدد عديد كل واحد منهم (حماد) في الوضع بل كان في هذا الوقت وقبله وضعوا أقوالاً على لسان الرسول والصحابة ثم شاعت بين الناس.
وقد اهتم صاحبنا بالكذب وباللحن وبكسر الكلام. وصاحب روايتنا هذه هو يونس بن حبيب وهو أحد المراجع التي يعتمد عليها ابن قتيبة صاحب (طبقات الشعراء) وعلماء آخرون.(766/9)
وإليك ما قاله عن حماد: (العجب لمن يأخذ عن حماد وكان يكذب ويلحن ويكسر) وهنالك شهادة أخرى هي شهادة ابن سلام وآخرون إذ قال عنه (وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به: كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار).
أما الكذب فأمر ثابت عليه ولا أعتقد أن حماداً نفسه كان ينكر ذلك علينا لو كان حياً، ولا هو من الأشخاص الذين كانوا يرون في الكذب حرجاً، ولعله كان يجد ذلك نوعاً من أنواع التسلية وضرباً من ضروب العبث والدعابة. وأما اللحن وكسر الكلام فيجوز صدورهما منه مع علمه بالعربية وتمكنه منها لأنه من أب غير عربي ومن أصل فارسي قريب.
وكان حماد - على ما يدعيه حماد نفسه - من المقربين إلى الخليفة الأموي يزيد الثاني ومن المنقطعين له، ولم يكن هذا شأنه مع هشام بن عبد الملك فلقد كان هشام يجفوه فلما توفي يزيد وولي الخلافة هشام من بعده خاف (حماد) على نفسه واستتر عاماً عن الناس لا يخرج إلا إلى من يثق به، ثم خرج بعد ذلك. فلما كان في جامع (الرصافة) يوم الجمعة طلب الأمير (يوسف بن عمر الثقفي) وكان والياً على العراق فصار إليه فلما رآه ألقى إليه كتاباً فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر الثقفي، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق وسار حماد على جمل مهري حتى وصل باب هشام واستأذن فأذن له فدخل عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب حمر من الخز وقد تضمخ بالمسك والعنبر فسلم حماد عليه فرد عليه السلام واستدناه حتى دنا منه فقبل رجله وإذا جاريتان في أذني كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ فقال حماد بخير يا أمير المؤمنين. فقال أتدري فيم بعثت إليك؟ قال حماد لا، قال بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله. قال حماد وما هو قال:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينه في يمينها إبريق
قال حماد لعدي بن زيد العبادي في قصيدة منها:(766/10)
بكر العاذلون في وضح الص ... بح يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد الله
و ... القلب عندكم موهوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدوٌّ يلومني أم صديق
إلى أن بلغ قوله:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينه في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين الدي ... ك صفى سلافها الراووق
مرة قبل مزجها فإذا مزج ... ت لذ طعمها من يذوق
وطَفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سجاب ... لا صر آجن ولا مطروق
فطرب هشام ثم قال أحسنت يا حماد ثم قال اسقيه يا جارية فسقته حتى ثمل، ثم قال يا حماد سل حاجتك. فقال كائنة ما كانت؟ قال نعم. قال إحدى الجاريتين. قال هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما. وأنزله في داره، ثم نقله من الغد إلى منزل أعده له فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه، وأقام عنده مدة ووصله بمائة ألف درهم
وصاحب هذا الحديث هو حماد نفسه، وحماد من الأشخاص المتهمين كما قلنا، ونحن في وضع لا نستطيع فيه تصديق هذه الرواية التي تحمل طابع الدعاية والإعلان، وهل خلت الأرض من رواة غير حماد ومن أناس لهم إلمام بالشعر؟ وهل أمن الخليفة من كذب حماد عليه ومن نظم قصيدة في الحال على الوزن والقافية وهو صاحب أكبر معمل من معامل صنع الشعر؟ وهل يعقل صدور ذلك من الخليفة هشام بن عبد الملك مع ما عرف عنه من الجد والإمساك والانصراف إلى السياسة والعمل وعدم شرب المسكرات ولكنها قصة من القصص التي كان يروجها هذا الراوية (حماد). . .
(للكلام صلة)
الدكتور جواد علي(766/11)
لمن أكتب؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
بيني وبينها أيام معتقة كأنها خمر في دِنان الزمن، فإذا ما قدّر الله لنا أن نجتمع يوماً، طارت بلبي نشوة ترمي بي إلى عالم ساكن ناضر ناعم النسمات، فأفارق بها عالماً صاخباً محترقاً لافح الرياح عاصف الأعاصير. واجتماعنا هو إحدى الأماني التي يقول في مثلها الشاعر:
أماني من سعدي رِواءٌ، كأنما ... سقتك بها سعدي على ظمأ بردا
وإذا اجتمعنا وتنهدت بيننا الأحاديث، فربما فاجأتني بالسؤال لا أتوقعه، فيردني سؤالها إلى نفسي رداً عنيفاً لا أملك معه إلا أن أديم طرفي إلى هذا الوجه الذي يخفي وراءه نفساً ثائرة، ولكنها ساكنة على ثورتها سكون الجبال الراسيات. ولست أدري أتلك إحدى لطائف الحيل التي تحب أن توقظني بها من غفوة الأحلام، أم تلك يقظة دائمة في نفس لا تطيق إلا أن تكون متيقظة حين يدعوها الهوى إلى إغفاءة تريحها من ثورة نفسها واضطرابها؟ وأي ذلك كان، فهي قد أخذتني أخذاً شديداً حين استوت في جلستها وقالت: حدثني، لمن تكتب هذا الذي تكتبه؟ إنهم جميعاً نيام يغطون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها.
فلما أفقت على سؤالها، جعلت أردده في نفسي وأنا أملأ عيني من صفاء هذه الينابيع التي تترقرق في وجهها وفي عينيها. وأخيراً قلت لها: لن أجيبك إلا حيث تقرئين كلامي، ودعينا لما بنا، فإن لقاءنا ساعةٌ فرت إلينا من هذا الفراق السرمدي.
لمن أكتب؟ لم أحاول قط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحس الآن من سر قلبي أني إنما كنت أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو: أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد بعد سوف يقدَّر له أن يقرأني؟ ولست على يقين من شئ إلا أن الذي أدعو إليه سوف يتحقق يوماً على يد من يحسن توجيه هذه الأمم العربية والإسلامية إلى الغاية التي خلقت لها، وهي إنشاء حضارة جديدة في هذا العالم، تطمس هذه الحضارة التي فارت بالأحقاد والأضغان والمظالم، ولم يتورع أهلها عن الجور والبغي في كل شئ، حتى في أنبل الأشياء - وهو العلم.(766/12)
لم يخامر قلبي يأس قط من هذه الفترة التي نعيش فيها من زمننا، ولم يداخلني الشك في حقيقة هذه الشعوب، وإن كانت لا تزال تعيش في بلبلة جياشة بأخلاط من الغرور والخداع والعبث، وفي أكفان من الفقر والجهل والمخافة، وفي كهوف من الظلم والاستبداد وقلة الرحمة. كل ذلك شئ أراه وأعرفه، ولكني أستشف تحت ذلك كله نقاء وطهراً وقوة تدب في أوصال هذا العالم الذي أوجه إليه كلامي، وهو خليق أن يتجمع للوثبة في الساعة التي كتب له فيها أن يهب مرة واحدة تذهل الناس كما أذهلتهم من قبل، وهو خليق أن يكون سر الحياة الجديدة التي تضرب عروقها إلى عصور بعيدة في تاريخ البشر. ولعل هذه المحن التي أحاطت به من خارج، والتي استبطنته من داخل، هي حوافز البعث الجديد، وهي نار التمحيص التي تنفي خبثه كما ينفي الكير خَبَث الحديد.
أنا أعلم أن رجال السياسة عندنا لا يزالون أوزاعاً من خلق الله لا ندري كيف نشأوا، وعلى أي شئ قامت شهرتهم، ولا إلى أين تمضي أهدافهم، وهم فوق ذلك كله قد لوّثوا ضمائرهم وعقولهم وأخلاقهم وعزائمهم بأشياء لا يمكن أن تؤدي إلى خير، وهم قد أشربوا فتنة بأخلاق الساسة الطغاة الذين ابتلي بهم الغرب وامتحنت بهم الحضارة الغربية. ولست أشك ساعة في أنهم فئة لا خير فيها البتة، مهما دل ظاهر تدليسهم أو تدليس الصحافة بأسمائهم على أنهم يفعلون خيراً أو أنهم سوف ينتهون إلى خير. ولست أرتاب البتة في أن الخير كل الخير هو في زوالهم جملة واحدة من مكانهم، لكي يتسنى لهذه الشعوب العربية والإسلامية أن تهتدي إلى الحق في حياتها وفي جهادها وفي أهدافها.
وأنا أعلم أن رجال العلم من أي أقسامه كانوا، لا يزالون يتعبّدون أنفسهم لكثير مما لا نفع فيه لأممهم، بل لعلهم لا يزالون يترفعون عن هذه الشعوب الفقيرة الجاهلة، والتي هي شعوبهم، ظناً منهم أنها شعوب لا تستطيع أن تبلغ ما بلغ أن الناس في العلم، فضلاً عن أن يدركوا سوابق العلماء في هذه الفترة من زماننا، فضلاً عن يسبقوا أمم الحضارة الحاضرة في ميدان هذه العلوم. وهم في خلال ذلك - إلا من عصم الله - يبسطون ألسنتهم بسطاً شديداً في أعراض هذه الشعوب، فيقرفونها بكل مسبة، ثم يصرفون وجوههم إلى أوربة وأمريكا وغيرها كأنما هم منها ومن صميمها، لا من هذه الشعوب البائسة التي ظنوا أن الموت كتاب محتوم عليها.(766/13)
وأنا أعلم أن أكثر أهل السلطان في هذا الشرق، لا يزالون يعيشون في عزلة لا يبالون قليلاً ولا كثيراً بما فيه خير بلادهم، وأنهم يحتقرون جماهير الشعوب احتقاراً ينسرب في خاص كلامهم كما ينسرب في أكثر أفعالهم. وهم فئة قليلة فتنتها النعمة والترف واللذالذات، حتى ما تبالي أن تصب على أممها ضروباً من المظالم كان ينبغي أن تترفع عن ارتكابها، لا رحمة بالناس، بل مخافة من الناس، فالشعوب إذا هاجها ما يهيجها لم تبق على شئ وإن كان في بقائه خيرها.
وأنا أعلم أن أهل الدين - إلا من رحم ربك - قد رمَوا بدينهم ظِهرياً، وإن لبسوا لباسه وشهبوا على الناس وغرّوهم باسم هذا الدين. وهم يأكلون باسم الدين ناراً حامية، وهم قد فقدوا بفقد آداب هذا الدين كل شئ يجعل لهم عند الناس مكانة ترفعهم عن الشبهات، وبذلك أصبحوا كالعامة التي تحتاج إلى من يقودها ويهديها.
وقصارى ما يقال هو أن الحياة في هذا الشرق على اختلاف نحله ومذاهبه وأديانه وأحزابه، قد صار كأهل سفينة جن أكثر من فيها، وكلهم يريد أن يقود السفينة كما خيلت له طوائف وساوسه وأوهامه، مستبداً بما يرى من الرأي. ولكني مع ذلك لن أيأس ساعة من أهل الخير، لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المحيطة بالجماعة، فيدفعها حب الحياة وحب الخير إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم، ثم تنشط من عقالها إلى قيادة هذه الناس بقوة تنفث في هؤلاء جميعاً روحاً مسدّدة هادية تبرئهم مما أصابهم، وتستنقذ منهم من يصلح للبقاء والعمل في جيل جديد، له هدف معين، وله طريق لا يفارقه، وله همة جياشة تجعله يطوي المسافات المترامية طياً حتى يصل إلى غايته لم يلحقه كلل ولا سآمة ولا إعياء.
فأنا أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الحلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروي أرضاً صالحة تنبت نباتاً طيباً
ومهما كان من أمر تلك الطوائف التي ذكرتها، ومهما كان رأيها في هذه الشعوب التي تنتمي إليها، ومهما عدت شعوبها سائمة ترعى أياماً معدودة حتى تتخطفها أرماح الأجل، فمن هذه (السائمة) سوف ينفرد رجل يقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر(766/14)
به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي كانت تنبض في قلوبها. وهو وحده الذي يعرف كيف يرفع عن عيونها حجاب الجهل، ويطرح عن كواهلها قواصم الفقر، ويملأ قلوبها بما امتلأ به قلبه من حب هذه الأرض التي تعيش فيها مضطهدة ذليلة خائفة.
إنه الرجل الذي قد خُلطت طينته التي خلق منها بالحرية، فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبداً لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض، فهو يشرق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس ترمي بأشعتها هنا وهنا، ولا يملك الناس إلا أن ينصبوا لها وجوههم وأبدانهم ليذهب عنهم هذا البرد الشديد الذي شلهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتسري نفسه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شئ مهما بلغت قوته أو جبروته.
ألا إن الشرق العربي لينتظر صابراً كعادته هذا الرجل. وإني لأحس أن كل شرقي قد أصبح اليوم يتلفت لا من حيرة وضلال، بل توقعاً لشيء سوف يأتي قد أنَى زمانه، ففي كل نفس منه خاطرة تختلج. وهذا الإحساس فينا هو الذي يحملني على الإيمان بأن ذلك كائن عن قريب، وأننا قد أشرفنا على زمن قد كتب الله علينا فيه أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل، لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد إرتضعنا لبانها منذ الأزل البعيد. وكل ما دخل علينا في القرون الماضية من المظالم والأكاذيب والاستبداد، لم يستطع أن يخفت ذلك الصوت الذي تتجاوب به نفوسنا باسم الحق والحرية والعدل.
إن هذه الشعوب التي تُرى اليوم كأنها على بلادها أسمالٌ بالية ممزقة، قد بدأت تحس أن عليها أن تتجدد أو أن تزول، وطبيعة الحياة تأبى لها أن تزول، فهي لابد أن تتجدد. وهذا الدافع وحده سوف يمهد للرجل المنتظر أن يزأر زئيره فتصغي له آذان الملايين من أبناء الشرق، ثم تنطلق من مجاثمها إليه مجيبة لندائه، فإذا انطبقت إليه أرسالاً، فيومئذ لن يقف في طريقها أولئك الساسة المنافقون، ولا أولئك العلماء المتبجحون، ولا أولئك الديّانون المخادعون، بل سوف يصيرون تبعا، وقد طال ما خيلت لهم نفوسهم أنهم الرؤوس والسادة.
فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا العبث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة التي ورثناها بحقها،(766/15)
ليس لنا في فتر منها شريك.
محمود محمد شاكر(766/16)
غاندي الفيلسوف المجاهد
للأستاذ حسين مهدي الغنام
- 1 -
في اليوم الثلاثين من شهر يناير الماضي قتل موهانداس كارامشانذ غاندي، وهو ذاهب إلى الصلاة، برصاص أحد أبناء جلدته ودينه المتعصبين، فأعاد إلى الأذهان سيرة الأنبياء والمصلحين كما أعاد بحياته حياة السيد المسيح.
لقد كانت حياة غاندي مأساة كما كان موته مأساة أشد وأروع. كان غاندي فيلسوفاً جعل السياسة مذهبه.
وقد ظل خمسين عاماً يكافح في سبيل استقلال بلاده، حتى نالته في حياته، ولكنه لم يعش حتى يرى السلام يرفرف على ربوعها المترامية، وهو الذي وهب نفسه لخدمة السلام.
عاش غاندي كالناسك. لبس ملابس خشنة في غاية البساطة، حراماً غزله بنفسه على مغزل يد بدائي، وخفين (صندلين) من القش!
ولم يأكل اللحم، بل عاش على الفاكهة والخضر واللبن
وقضى حياته كلها مجاهداً. وقد اتخذ جهاده ثلاث وجهات رئيسية:
الأولى ضد الطبقات المعينة العالية التي فرضها المستعمر على مئات الملايين من طبقات الهند الدنيا، التي لا تجد القوت.
والثانية جهاده ضد المستعمر.
والثالثة جهاده في سبيل السلام والحب، ومناضلة الشرور والخطايا، آخذاً بمبدأ المقاومة السلبية وعدم العنف.
كما أنه كافح كفاحاً اقتصادياً واجتماعياً عظيماً، فنبه الوعي القومي والاقتصادي، وأنشأ آلاف المدارس، وحارب الرجعية ونادى بحق المرأة الهندية، ولكنه غالى في تقديس الناحية الدينية وغذاها بين الشعب، جاعلاً من التسامح والإخاء بين الهندوس والمسلمين والمنبوذين هدفه الأول. . .
ولقد شابه غاندي الفيلسوف الروسي الإنساني الشهير، ليو تولستوي، وتأثر به في حياته تأثراً كبيراً.(766/17)
وكان دائماً يبشر بقوله: (أنكم سوف لا تقترفون القتل) ولكنه مات قتيلاً!
وكان مثل تولستوي في لباسه الخشن، وفي نظرية عدم العنف والمقاومة السلبية، وفي دفاعه عن السلام ودعوته لإتيان الخير، والمعروف وللمحبة بين الناس جميعاً، وإن لم يكن تولستوي في مثل إخلاص غاندي!
وكان الناس في كل مكان يتشوقون إلى تذوق ثمار فلسفته، ولكن قلوبهم لم تعمر بمثل الإيمان الذي عمر به قلبه، فلم يفعلوا في سبيل تأدية رسالته شيئاً أكثر من التمني!
كان غاندي يعمل في سبيل الروح، ولكن الناس الذين بشر بينهم بمبادئه كانت تربطهم أسباب قوية بعالم الماديات الدنيوي في عالم الوقائع والأرقام التي عمته جميعاً حتى غزت الشرق نفسه، الشرق أبا الروحانيات ومهد السلام.
إلا أن الشرقي شرقي بطبعه وغريزته. وفي الشرقي لطف غريزي، فلم ينعت هؤلاء الناس غاندي بالجنون، كما نعت الروسيون والأوربيون تولستوي، ولكنهم بالغوا في نعتهم للفيلسوف الشرقي حتى ألهوه، وسموه القديس. . . سموه المهاتما!
ولعل غاندي أخطأ في مخاطبته لعامة الجماهير، وتبشيره بينهم، كما قال بعض مفكري الهند، وقالوا لو أن غاندي أنصف نفسه لجمع حوله خلاصة الشباب الطامحين إلى بناء الهند الحديثة، فإن التعاليم السامية العميقة تفعل فعلها في نفوس الذين أصابوا من الثقافة حظاً كبيراً؛ وإلى هذا يعزون بعض فشله في تعميم دعوته.
يقول السردار إقبال علي شاه عن غاندي والشعب الإنجليزي (لقد أخطأ غاندي في فهم عقلية الرجل الإنجليزي المتوسط، إذا كان هذا الشخص وجد، ولهذا لم تفهمه الغالبية من الشعب البريطاني، فلقد اختلفت العقليتان كما يختلف القطبان شمالاً وجنوباً. . .
(ولم يكن غاندي كذلك بالشخصية الرسمية القوية العنصر، ومن هنا كان اختلافه عن ساسة الهند اليساريين، فقد كان دائماً يغتفر للرسميات خطاياها، وإن صح هذا في الهفوات، فإنه لا يصح في الخطايا قطعاً!
(وكان غاندي في نظر الرجل الإنجليزي فيلسوفاً ضالاً، أو الكاهن الرفيع المقهور. وعقلية الرجل الإنجليزي لا تقبل هذا الوضع، فلم تأبه له كثيراً، لأنها لم تفهمه.
(ولكن للإنجليز ذاكرة قوية. . . وإنهم ليذكرون ما فعل غاندي قديماً من أجل أبناء وطنه(766/18)
المهضومين المدقعين الذين تدوسهم العلية من القوم، ويذكرون ما صنع في حرب البوير والزولو من عمل جليل وهو يرأس كتيبة الإسعاف الطبي.
(إلا أن غاندي احتل من تفكير الإنجليز ما يحتله كبار الإنجليز أنفسهم. والإنجليز تسوءه الحملات العنيفة على أمثال هؤلاء، لأنه يعتقد أنهم مخلصون، والإنجليز يرحب بالصراحة والإخلاص ويحترمها!
(ولقد استاء الرأي الإنجليزي العام من الحملات التي كانت توجه إلى غاندي في بعض جرائدهم، ومن الصور الهزلية التي تصوره قارحاً بلا أسنان، أصلع الرأس، مخلوقاً عريان إلا من ذلك اللباس التقليدي.
(والمسلمون والإنجليز يتفقون في هذه الناحية، فكلاهما يحترم الشخصيات الفذة، ويأنف من السخرية اللاذعة منها ومن مهاجمتها بلا اعتدال، على عكس الغربيين الآخرين.
(وكان غاندي الوطني، والفيلسوف، والداعية، مجهولاً من العالم كله، حتى اعتزم أن يعتزل المحاماة في جنوب أفريقيا، وينقلب مجاهداً وسياسياً قوياً. .
(وكان قبل ذلك قد رأى بعض أنحاء الدنيا، ورأى تعصب البيض ضد الملونين، وإن كان هذا خف اليوم إلى درجة ما!)
ولقد حورب غاندي كثيراً حتى الكسندر العظيم كان يساعد معارضي غاندي مساعدات مادية كبيرة، ليحدوا من نجاحه في الهند.
ولكن ذلك الناسك الهزيل استحوذ على ألباب الملايين من الهنود ببساطته الدينية المتناهية، فاحترموه ثم أحبوه ثم عبدوه واعتقدوا أنه شبه إله!
في سنة 1922 سجن غاندي، ثم أطلق سراحه بعد عامين وفي تلك الأثناء كان معارضوه في حزب المؤتمر، وهم المعروفون باسم سواراجست، أكثر من أتباعه، وأحسن منهم تدريباً واستعداداً، وحضروا اجتماعاً لهم وعارضوا ما سموه دكتاتورية غاندي في حزب المؤتمر، ثم انسحبوا، فاعتبر غاندي هذا هزيمة له وانسحب. . .
وعلى الرغم من تلك الهزيمة، فقد كان لهذه اللفتة النفسانية البليغة أثرها في تقوية غاندي فقد جلس صامتاً، وأخذ يتحدث بعد قليل، ثم تكلم عن هزيمته، وعن حالة الهند المؤسية، ثم انحدرت دموعه على خديه وتتابعت سريعة. وهنا بكى جميع الحاضرين معه بدموع غزار.(766/19)
وانضموا إليه واحداً واحداً، وهنا عادوا إلى صفه ثانيةً، وكسبهم إلى جانبه من أضعف نقطة حساسة هاجمهم فيها.
فهذه القوة - في بساطة مظهرها - وبتلك النفحة السيكولوجية حرك غاندي قلب الهند على بكرة أبيها. . .
وكانت الجماهير تنظر إلى آرائه على أنها غير مستحيلة التحقيق فصدقوه فيما قال، إذ كان في نظرهم مبعوثاً سماوياً، ويجب أن يكون صادقاً في آرائه.
وقد سمى غاندي الحكومات الإنجليزية بالحكومات الشيطانية فصدقه الملايين من الهنود. . . وما زالوا يعتقدون نفس الاعتقاد، ولكنهم نسوا أن غاندي هو صائغ هذا التعبير.
وكلما مرت السنون، وكلما فشل غاندي في تحقيق ما وعد به شعبه، وكلما كان فشله مريعاً، زادت مكانته في نظر الشعب وازداد هذا الشعب له حباً واحتراماً وتبجيلاً وتقديساً!
(يتبع)
حسين مهدي الغنام(766/20)
الشعر في العصر المملوكي هل يمثل الحياة فيه؟
للأستاذ يوسف البيومي
نستطيع أن نقول نعم ولا نكون مجازفين، ونستطيع أن نقول لا ولا نكون مبعدين.
نستطيع أن نقول أن الشعر في هذا العصر على الرغم من جنوحه إلى التقليد والصنعة قد يستطيع الباحث المنقب أن ينظر من خلاله أحياناً إلى بعض مظاهر الحياة سياسية أو اجتماعية. ونستطيع أن نقول إن الشعر قد صمت عن أهم مظاهر الحياة في هذا العصر فلم يفصح عن رأيها فيها: صمت عن مظالم العصر، ومفاسد المماليك أمراء وسلاطين. وصمت عن المفاسد الاجتماعية ووصف ملاهي مصر والقاهرة ومغانيهما وما كان يحدث عند الاحتفالات للأعياد القبطية وغيرها من تجاهر بالفسق والدعارة، ومن تظاهر بشرب الخمر والحشيش. وإذا صمت عن هذين ثم تحدث عن غيرهما فإنه يكون حديثاً لا فائدة منه ولا غناء فيه.
نستطيع أن نقول ذلك كما نستطيع أن نعلل قلة ما ورد من الشعر في هذين الموضوعين الخطيرين بضياع جل الشعر الذي قيل فيهما ضمن ما ضاع من أشعار الشعراء ودواوينهم وهو كثير
ولما كانت مظاهر الحياة قد تعددت في هذا العصر وتنوعت فأنا سنقسمها وندرس كل قسم على حدة لنستطيع أن نبين عن هذا الإجمال بالتفصيل ممثلين.
خضع الشعب لحكم استبدادي قاس أبنا عن قسوته ووصفنا موقف الشعب منها وعللنا هذا الموقف فيما سبق ونذكر الآن أن موقف الشعر من هذا الحكم الظالم، ومن حياة السلاطين الخاصة وقد ملئت دعارة وفسقاً - إلا في القليل النادر - لم يختلف عن موقف الشعب عامة والعلماء خاصة، فتكميم الأفواه وحبس الحريات، وكبت الشعور كان قدراً مشتركاً بين عامة الشعب وخاصته بين السوقة والكتاب والسراة ورجال الدين. ولكنا رأينا أحياناً تنفيساً عن الصدور المخنوقة ببعض المقطوعات وأكثر ما كان ذلك حينما يولي زمن السلطان أو الأمير وتذهب دولته ولا يجد الشاعر في ذلك حرجاً ولا يخشى منه بأساً. بل حينما يرى في ذلك إرضاء لخلفاء ووارثي الملك بعده أو مغتصبيه منه.
كان المظفر حاجي مغرماً ببعض المغنيات منقطعاً إليهن عن النظر في أمور الدولة فأرغم(766/21)
على إخراجهن من القصر فكانت بنفسه عليهن حسرة لم تنقض. وقد حاول أن يتسلى عنهن بلعب الحمام الذي أنفق عليه أموالاً ضخمة، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (في رسالة الشعر في عصر المماليك) ونريد أن نذكر الآن أنه لما قتل ذبحاً قال صلاح الدين الصفدي:
أيها العاقل اللبيب تفكر ... في المليك المظفر الضرغام
كم تمادى في البغي والغي حتى ... كان لعب الحمام جد الحمام
وقال فيه أيضاً:
حان الردى للمظفر ... وفي التراب تعفر
كم قد أباد أميراً ... على المعالي توفر
وقاتل النفس ظلماً ... ذنوبه ما تكفر
وكان الناصر (حسين بن محمد بن قلاوون) مغرماً بالنساء ويستصحبهن معه في أسفاره (لأنه لم يكن له ميل إلى الشباب كعادة الملوك من قبله) فلما قتله يلبغا قال بعض الأدباء في قصته مع يلبغا ومحبته للنساء موجهاً أسماء سور من القرآن الكريم - ونلاحظ أن الشعر قيل بعد مقتله كما نلاحظ أن الرغبة في التوجيه هي مبعث هذا الشعر:
لما أتى للعاديات وزلزلت ... حفظ النساء وما قرا للواقعه
فلأجل ذاك الملك أضحى لم يكن ... وأتى القتال وفصلت بالقارعه
لو عامل الرحمن فاز بكهفه ... وبنصره في قصره في السابعة
من كانت القينات من أحزابه ... عطعط به الدخان ناراً لامعه
تبت يدا من لا يخاف من الدعا ... في الليل إذا يغشى يقع في القارعة
وكان سنجر الشجاعي مشد عمارة مدرسة قلاوون ووزير الديار المصرية في عهد الناصر محمد بن قلاوون من أقسى المماليك وأظلمهم، فلما قتل وطافوا برأسه على مشعل قال سراج الدين الوراق:
أباد الشجاعي رب العباد ... وعقباه في الحشر أضعاف ذلك
عصا ربه فالعصا نعشه ... وشيع للدفن في نار مالك
والشجاعي هذا هو الذي يحذر ابن السلعوس منه بعض الشعراء حيث يقول:
تنبه يا وزير الأرض واعلم ... بأنك قد وطئت على أفاعي(766/22)
وكن بالله معتصماً فأني ... أخاف عليك من نهش (الشجاعي)
وكانت عادة التسمير والتعليق منتشرة يعاقب بها الخارجون حتى الوزراء، فهذا الفخر بن مكانس قد علق (بسرياق) من رجليه لما غضب عليه برقوق بعد أن ضرب ضرباً مبرحاً وهاهو ذا يذكر هذه الحادثة معتذراً عنها بقوله:
وما تعلقت (بالسرياق) منتكساً ... لزلة أوجبت تعذيب ناسوتي
لكنني مذ نفثت السحر من أدبي ... عذبت تعذيب هاروت وماروت
وكانت المظالم تصب على خلفاء المسلمين فيخلعون ويسجنون وقد حكى الشعر بعض ذلك في المقطوعات: قبض برقوق على الخليفة المتوكل على الله وخلعه وسجنه فقال شهاب الدين ابن العطار:
أبشر أمير المؤمنين فما جرى ... أقوى دليل أن عزك سرمد
لا تختشي فيد العدا مغلولة ... ويد الخلافة لا تطاولها يد
وابن الوردي أجرأ شعراء العصر على التعرض لمظاهر الحياة العباسية ومظالم السلاطين في كثير من مقطوعاته
المولى الأشرف كجك وهو ابن ثماني سنين قال ابن الوردي في ذلك واصفاً خلف الأمراء وتنازعهم!
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهما الشيطان قد نزغا
وكيف يطمع من مسته مظلمة ... أن يبلغ السؤل والسلطال ما بلغا
وفي سنة 742 عوقب الأمير لؤلؤ القندشي بدار العدل بحلب حتى مات واستصفى ماله وشمت به الناس فقال ابن الوردي في ذلك:
الؤلؤ قد ظلمت الناس لكن ... بقدر طلوعك اتفق النزول
كبرت فكنت في تاج فلما ... صغرت سحقت سنة كل لولو
وفي سنة 740هـ قبض الناصر محمد بن قلاوون على النشو شرف الدين القبطي الأصل وعاقبه حتى هلك تحت العقوبة بعد أن كان قد قهر أهل القاهرة وبالغ في الإيذاء والمصادرة والقتل والخنق فقال ابن الوردي:
النشو لا عدل ولا معرفة ... قد آن للأقدار أن تصرفه(766/23)
من أتلف الناس وأموالهم ... يحق للسلطان أن يتلفه
وتاريخه وديوانه مملوءان بأمثال ذلك وهكذا على الرغم من انصباب المظالم من كل جانب على هذا الشعب وعلى الرغم من أنها أخذت على المحكومين كل تفكيرهم حتى رأيناها تظهر في أخيلتهم الشعرية ويستمدون منها التشبيهات المختلفة كقول بدر الدين بن حبيب يتحدث عن الخمر.
مظلومة سجنت من بعد ما عصرت ... مع أنها ما جنت ذنباً ولا اجترحت
فإنهم قد وقفوا عامة وشعراء وعلماء حيالها هذا الوقف المزري الشائن: لم يجأروا بشكوى ولم يظهروا ما كمن في نفوسهم من استياء وألم، وإن ظهر شئ من ذلك فعلى ما رأيت من هذا الاحتياط وبعد أن يكون المشكو مشلول القوى عاجزاً عن أن يظلم أو يرفع ظلماً، وبعد أن يكون خلفه الذي يتقرب إليه بما يقال فيه ينهج نهجه ويؤذي الشعب إيذاءه وربما كان إيذاؤه أشنع وأقسى وأفظع وأنكى وأشد وقعاً على نفوس الشعب شعرائه وعلمائه وذوي النفوذ فيه.
يوسف البيومي
المدرس في كلية اللغة العربية(766/24)
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
- 3 -
ولا يفوتني بمناسبة الرد على هذا الدليل بشقيه - أن أوجه النظر بوجه عام إلى أن القرآن الكريم ليس مجرد مجموعة تشريع بل للمشرع الأعظم إلى جانب ذلك - كما قدمنا - أغراض ومقاصد أخرى يبلغها بأسلوبه الخاص مما لا يدخل مثله في نطاق مهمة المشرعين الوضعيين فحرام أن يحاول أحد إخضاع نهج القرآن الفذ لنهج هؤلاء المشرعين القائم على مجرد السرد الجاف لمواد مبوبة. فيقال مثلاً في مقام الاعتراض على المعاني والأغراض الواضحة من آية تعدد الزوجات؛ لماذا عبر بكذا ولم يعبر بعبارة (بسيطة موجزة)، ولماذا يعبر عن مدلول الآية في ضمن آية أخرى لها تعلق بموضوعها، أو لماذا عبر عن هذا المدلول في سياق غرض آخر لا أعلق له بموضوعه وجواباً لعبارة شرطية عن هذا الغرض، ويجعل مثل هذا التحكم في الأسلوب القرآني الرفيع أساساً للتأويل البعيد للنص صرفاً له عن معناه الصريح في حل التعدد؛ هذا المعنى الذي ظاهرته الأحاديث والأخبار وإجماع الأمة قاطبة قولاً وعملاً منذ عصر النبوة حتى الآن
7 - أدلة العنصر الثاني: واستدل معاليه لرأيه في تفسير الآية الثانية بالدليلين الآتيين:
الدليل الأول - أن لفظ العدل وارد في هذه الآية والآية السابقة بحروفه فلا يمكن أن يكون معناه فيهما إلا واحداً على حقيقته الشاملة للماديات ثم المعنويات العاطفية جميعاً، وأن الآيتين متكاملتان أوجبت أولاهما الاقتصار على الواحدة وجوباً لا انفكاك منه.
والرد: أن هذا الدليل إنما يجري فيما يتكرر من (المعرف بأل) من الأسماء، فيكون المراد بالسابق واللاحق واحداً. وأساس هذه القاعدة اللغوية أن المعرف بأل إذا تكرر كانت (أل) فيه للعهد، فيدل على أن المراد بالاسم اللاحق عين المراد بالاسم السابق المعهود. والتعبير عن العدل لم يرد (اسماً) بل ورد (فعلاً) في الآيتين وأبان الشق الثاني من الآية الثانية وهو المبدوء بقوله تعالى (فلا تميلوا) أن المراد بالعدل في الآية الأولى هو العدل المستطاع وبه في الآية الثانية العدل المطلق على ما قررته في مقالي السابق وما سأزيده بيناً فيما يلي:
الدليل الثاني - أنه لو صح أن الشق الثاني من الآية الثانية مبين أن المراد بالعدل الذي(766/25)
جعل شرطاً لجواز التعدد هو العدل المستطاع ليتعارض هذا النص مع قوله تعالى (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ولكان في ذلك إشكال شديد يضطرب له قلب المسلم وتصطرع فيه ذمة من يريد السير على مقتضى شريعة الله القائمة؛ إذ كيف يأمر سبحانه بالاقتصار على الواحدة عند خوف عدم العدل، ومع حكمه بتحقق هذا الخوف حتماً لعدم إمكان العدل يسقط عمل مقتضى هذا الحكم فيجعل الرجل حراً في تعديد الزوجات بشرط مراعاة (العدل المستطاع) بينهن؟ إن هذا يستلزم أن قوله تعالى: (فلا تميلوا) ناسخ لقوله: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) ولا يجرؤ أحد أن يقول بهذا النسخ.
والحقيقة أن الأمر أيسر من ذلك، فلا تعارض بين النصين ولا حاجة إلى القول بالنسخ، وما الإشكال الذي بدا لمعالي الباشا شديداً إلا نتيجة لأخذه جزء الدعوى في الدليل مما يعتبر مصادرة على المطلوب وهي من مفسدات الدليل كما هو معلوم. فدعوى معاليه - فيما استقر عليه رأيه أخيراً - ذات شقين: الأول أن العدل الوارد في النصين واحد وهو العدل المطلق، والثاني أن العدل المستطاع المعبر عنه بقوله تعالى (فلا تميلوا كل الميل فتذروها) هو مجرد حكم وقتي خاص بالزوجات الموجودات وقت نزول هذه النصوص. ومعاليه أقام دليله على أساس ثبوت الشق الأول مع أن الدعوى بشقيها هي محل النقاش وهو في مقام الاستدلال لها. فقد استدل إذن على الدعوى بالدعوى نفسها وهذا باطل.
8 - أدلة العنصر الثالث. الواقع أن هذا العنصر من رأي معالي الباشا الذي اضطر إلى تكلفه - كما قدمنا في التمهيد - دفعاً لما استشعره من تضارب ظاهر بين تأويله للآيتين وركه تشوب النظم الحكيم نتيجة لهذا التأويل، لم يقمه على سند من دليل عقلي أو نقلي، وإنما افترض افتراضاً حالة محنة وقع فيها المسلمون لما نزلت الآية مقتضية بجملتها - فيما يرى معاليه - تحريم التعدد، وإن المسلمين هلعوا وجأروا هم والنبي إلى الله متململين من هذه المحنة الراهنة، فلطف بهم فبين مراده بأن أنزل قوله (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) لا تنظيماً للمستقبل الأدبي كما يقولون (أي كما يقول أصحاب الرأي المخالف لرأي معاليه) بل تنظيماً للحالة الوقتية الناشئة عن تلك المحنة التي وجدها المسلمون حائفة بهم، وهي حالة الزوجات المتعددات الموجودات فعلاً عند نزول هذا القول. . . ما الدليل على وقوع المسلمين في مثل هذه المحنة وجأرهم هم والنبي بالشكوى، وإن الآية الثانية(766/26)
نزلت للتخفيف من ذلك؟! لا دليل!! وإنما يصرح معاليه بأن هذا الاستنتاج يؤيده فيه قوله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) مع أن هذه الآية لا تؤيد استنتاجه في قليل أو كثير، فقد كان دأب المسلمين سؤال النبي واستفتاؤه في كل شأن من شؤونهم بوصفه صاحب الرسالة والتشريع الجديدين، فسألوه عن الخمر والميسر والمحيض والقتال في الشهر الحراموالمواريث والساعة والروح وعن المولى جل وعلا وغير ذلك من مختلف الشؤون المتعلقة بالتشريع والعقائد والأمور الغيبية، كما سألوه عن النساء أيضاً، فلماذا يختص معاليه السؤال عن النساء بالدلالة على وقوع محنة وجأر بالشكوى واستجابة للتخفيف الخ! أم أن ذلك كان قاعدة مطردة في كل ما سألوا النبي عنه في هذه الموضوعات فوجب القول بحدوثه أيضاً في سؤالهم عن النساء؟!
وهل كان شأن المسلمين في الصدر الأول التململ والجأر بالشكوى هم والنبي من كل ما ورد به الشرع مخالفاً لعاداتهم كقاعدة عامة يمكن طردها في جميع في جميع جزئيات التشريع - ومنها ما يختص بتحريم تعدد الزوجات - بغير ما حاجة إلى دليل خاص؛ أم أنهم كانوا وعلى رأسهم النبي عليه السلام على العكس من ذلك يتقبلون كل ما يرد به الشرع عن رضى وإيمان بأن فيه صلاحهمفي الدنيا والآخرة وتطهيرهم من أوضار الجاهلية وأرجاسها؟ ثم لماذا يجعل معاليه هذه الآية دالة على تململ العرب من التعدد خاصة مع أنه ليس سوى أحد الشؤون المتعلقة بالنساء والواردة هذه الآية وما يليها مباشرة من آيات يبين السياق أنها معها نزلت معها للرد على الاستفتاء في هذه الشؤون؟.
وإذا نحن ضربنا صفحاً عن المطالبة بالدليل على وقوع المحنة والشكوى أفلا يحق لنا أن نطالب بالدليل على أن المقصود بقوله تعالى (فلا تميلوا. الآية) ليس سوى حكم وقتي، مع أن الظاهر هذا النص دال بطريق الإشارة على أن إمكان مراعاة العدل المستطاع مجزئ بصفة عامة في حل التعدد المشروع وليس ثمة ما يصرف النص عما يدل عليه بظاهرة؟ (بيان ذلك أن الحكم بتحريم الميل كل الميل مرتب على وصف الرجال بعدم استطاعة العدل ولو حرصوا، فما ورد في عبارة هذا النص هو من قبيل ترتيب الحكم على الوصف بالفاء، ولفظ (النساء) الوارد في الوصف عام مما يجعل النص مفيداً بظاهرة جريان الحكم في جميع النساء، فلا يمكن قصره على الموجودات في عصمة الرجال وقت نزول الآية إلا(766/27)
بمخصص؛ وأين هو المخصص؟). وإذا كان ما استنتجه الباشا مراداً للشارع بهذه الآية فكيف يعبر جل وعلا عن ذلك بعبارة يخالف ظاهرها مراده فيقع الناس بسبب ذلك في لبس تشريعي لم تكن لهم عنه مندوحة القرون الطوال يقارفون فيها المحرم نتيجة لهذا اللبس؟! وكيف لم يدل بأي طريق من طرق الدلالة على حقيقة المراد بهذه العبارة غير المقصود ظاهرها وبخاصة أنه دل على ما هو أهون شأناً لتعلقه بالماضي لا بالحاضر حينذاك وذلك بتعقيبه تحريم نكاح كل من زوجات الأب والأختين باستثناء ما قد سلف؟ ثم أين بيان النبي في ذلك ومهمته عليه السلام أن يبين للناس مل نزل إليهم، وبخاصة في مثل هذا الذي وقعوا فيه في أشد اللبس إذا نحن تمشينا مع رأي الباشا؛ أين الدليل على هذه النقطة التي هي حجر الزاوية في نظرية الباشا الجديدة والتي أراد معاليه أن يجعل منها حلقة اتصال بين تأويليه المتعارضين للآيتين فكانت بحق (الحلقة المفقودة)؟! فليتفضل علينا معالي الباشا بهذا الدليل - إن وجد - فنكون لصنيعه من العارفين، ونسلم له رأيه على طول الخط. إذ ليس رائدنا - علم الله - سوى التزام جانب الحق.
(يتبع)
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد(766/28)
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6، 7):
7 - في الوجود وعلله
للأستاذ كمال دسوقي
أما وقد وقفت على العلل الأربع لابن سينا وأرسطو من قبله، وعرفت ما هي منها علل الوجود، وما هي علل الماهية، ورأيت أن غرضنا هنا ليس إلا علتي الوجود: الفاعلية والغائية من حيث هما موجودتان لعلتي الماهية: الهيولي والصورة؛ فإنه يجدر بنا أن نبسط لك أنواعاً من الفروض في ترتيب الموجودات وأقسامها عند ابن سينا، قبل أن نوغل معه في إلهياته.
ذلك أن الموجودات تنقسم باعتبارها المادة والصورة إلى ما لا مادة له ولا صورة، وإلى ما له مادة وصورة، والصورة وإن كانت توجد مفارقة للمادة، فإن هذه لا يمكن أن تعري عن الصورة، ولا يكون وجودها بدونها وجوداً بالفعل - بل بالقوة، وترتيب الموجودات على هذا الأساس - وبحسب شرفها وأحقها بالوجود هو أولاً: الجوهر المفارق غير المجسم، ثم الصورة المجردة، ثم الجسم - الذي هو في مادة وصورة - ثم الهيولي التي هي مجرد مادة وجودها بالقوة، وأخيراً الأغراض التي تلحق بهذه الجواهر: كالكيف والكم والمتى (الزمان) والأين (المكان) والفعل والانفعال - والوضع. . . الخ
والموجودات باعتبار وجودها واجبة وممكنة، فواجب الوجود هو الموجود الذي متى فُرض غير موجود عرَض منه محال، وممكن الوجود هو الذي متى فرض موجوداً أو غير موجود لم يعرض منه - هذا ضروري وذاك لا ضرورة له، وليس وجوده أولى من عدمه أو العكس. واجب الوجود يكون واجب الوجود بذاته أو لا بذاته - أي بغيره، فالذي بذاته هو الذي لا بشيء آخر، أي شئ يلزم محال من فرض عدم وجوده. والذي لا بذاته هو الذي لو وضع شئ غيره مكانه صار واجب الوجود مثله كالأربعة عند فرض اثنين واثنين، وكالاحتراق عند وجود المادة المحرقة والمحترقة وعلة الاحتراق.
وتستطيع على ضوء هذه المعلومات أن تفهم كيف يتدرج بك ابن سينا إلى إثبات واجب الوجود لذاته - الذي هو الله - فالعلل الموجدة للشيء في مقابل العلل المقومة للماهية، تكون علة للصورة وحدها كالسرير بعد أن يصنعه النجار - أو علة للصورة والمادة معاً -(766/29)
كالجوهر المفارق الذي للسرير أو لغيره من مجموع مادته وصورته - أو علة الإيجاد والتركيب والجمع بين المادة والصورة - وهي العلة الفاعلة أو الموجدة التي هي علة واحدة أو أكثر مما سبقها من العلل أعني أنها علة وجودها وليست علة عليتها أو معناها كالعلة الغائية التي من أحكامها أنها علة في ماهيتها لعلية العلة الفاعلة بالفعل، وأنها معلولة في وجودها للعلة الفاعلة هذه؛ لأن الفاعل أو الموجد إنما يتحرك لتحصيل هذا الغرض، فتصبح الغاية الأخيرة دافعاً أول له.
وعلى هذا فكل موجود - إذا نظر إليه في ذاته - ومن غير التفات إلى علله الموجدة، فهو بحيث يجب له الوجود في ذاته أو لا يجب، أي أن يكون واجب الوجود لذاته - كالحق القيوم - أو ممكن الوجود بحسب ذاته - كبقية الموجودات وما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإن وجوده أولى من عدمه لحضور شئ فيه أو غيبته، فممكن الوجود بذاته هو إذن واجب الوجود بغيره - أي أنه ممكن الوجود من حيث هو علة لغيره - ويستمر هذا التسلسل لا إلى غير نهاية، فإذا كان كل معلول لابد له من علة، والعلة إلى علة أسمى؛ فلابد من الوقوف إلى علة العلل أو العلة الأولى التي هي نهاية السلسلة وهي واجبة الوجود بذاتها - والتي هي علة كل وجود - وموجدة حقيقة كل وجود في الوجود، والعلة النهائية التي ليس قبلها علة.
وبيان ذلك أنه إذا كان لديك سلسلة آحاد من الموجودات كل واحد منها ممكن بذاته واجب بغيره، وظللت تترقى بهذه السلسلة، فأنت في النهاية بين إحدى ثلاث:
1 - إما أن ينتهي بك هذا الترقي أو هذه الطغمة من الموجودات إلى علة ليست معلولة - فتكون حينئذ واجبة بذاتها - وعلة هذه العلل - وتسمى حينئذ بواجب الوجود.
2 - وإما أن يكون التسلسل إلى غير حد، بأن لا تجد في آحاد السلسلة علة غير معلولة، وحينئذ تكون علة هذه الآحاد خارجة عن جملتها، وتكون مغايرة لآحادها وواجبة بذاتها، إذ لو كانت غير ذلك لكانت واحدة من السلسلة.
3 - أو يكون التسلسل دائرياً لا يتناهى - فتكون بعض الآحاد أو جملتها علتها جميعاً، فتكون معلولة لذاتها، ويصبح الجملة والكل شيئاً واحداً - وفي هذه الحالة لن تكون الجملة معلولة للواحد - لأنه هو معلول بها، ولن يكون بعضها هو العلة؛ إذ ليس بعضها أولى بهذه(766/30)
العلة من غيره، والجملة لا تكون علة للآحاد، وإلا لم يحتج إليها مادام كل واحد في السلسلة معلولاً لما قبله علة لما بعده - فسقطت هذه الحجة - وبقيت سابقتاها التي لابد أن تنتهي في كليهما - مع التناهي في التسلسل أو اللاتناهي - إلى طرف خارج عنها - غير متقدم لها في الزمان - وهو علتها اللامعلولة - وهو واجب الوجود التي هي ممكنة به.
وبعد إذ فرغ الشيخ الرئيس من إثبات واجب الوجود في ذاته على هذا النحو، شرع في إثبات صفاته إيجابيها وسلبيها: كالوحدة وعدم الكثرة أو التركيب والانقسام، وعدم المشابهة أو الضدية، وأنه تعالى عاقل لذاته معقول لذاته، أي أنه عالم قيوم
ولإثبات وجود واجب الوجود، يقرر أن الأشياء قد تختلف بأعيانها وقد تتفق - والمختلفة بأعيانها قد تتفق في مقوماتها أو في أمر عارض لها، فينتج لدينا أربعة أقسام يهمنا منها النوع الأول من الأشياء: أعني المختلفة بالأعيان (بالذات أو الهوية المتفقة في مقوماتها (حدودها الرئيسية من جنس ونوع وبينها أمر تتفق فيه وآخر تختلف فيه اتفاقاً واختلافاً لازمين أو عارضين من جانب وجه الشبه أو وجه الخلاف، أما اللزوم فيما تتفق فيه كاشتراك الإنسان الناطق والحيوان الأعجم في الجنس (حيوان) فهو صحيح، وأما اللزوم فيما تختلف فيه لزوم النطق والعجمة في الإنسان أو الحيوان فمحال كذلك عروض ما تتفق فيه لما تختلف فيه جائز، وعروض ما تتفق فيه ليس بمنكر، كإطلاق الإنسانية على هذا الإنسان أو ذاك، فالعرضية هنا واضحة الجواز.
ومقدمة أخرى يسوقها فيلسوفنا للبرهنة على حدة واجب الوجود أي أنه يجوز أن تكون صفة ما كلية سبباً لصفة أخرى جزئية - فماهية الشيء أو فصله أو خاصته أو عرضه يمكن أن تكون سبباً لصفات أخرى فيما عدا الوجود - إذ الفرق بين الوجود وسائر الصفات أن هذه توجد بسبب الماهية، والماهية سببها الوجود. فما هو سبب لا يكون مسبباً - وما هو علة لا يصبح معلولاً، وما هو متقدم في الوجود لا يتقدم عليه غيره في الوجود. وللإمام الرازي على حجج ابن سينا هنا مناقشات ومحاكمات، وللطوسي على هذا الشارح الفاضل مآخذ واعتراضات. وجملة القول بعد هاتين المقدمتين أن واجب الوجود ما لم يتعين لم يكن علة لغيره، لأنه بغير هذا التعين لا يوجد في الخارج - وما شأنه ذلك يمتنع أن يكون موجداً لغيره، وتعينه ذاك إما أن يأتيه من كونه واجب الوجود - وحينئذ لن يكون(766/31)
ثمة واجب وجود غيره، وتثبتت وحدانيته؛ وإما أن يكون لأمر غير كونه واجب الوجود - فيكون حينئذ معلوماً - لأن وجوده يكون إذ ذاك من غيره، ويكون الوجود ماهية أو صفة لغيره، - وهو محال - هذا من حيث لزوم ما به الاشتراك وما به الاختلاف بين التعين والوجود الواجب، وبإتمام ذلك بتطبيق عروض وجوه الاتفاق ووجوه الامتياز بينهما - على حد تقسيمنا الرباعي السابق في المقدمة (كما تجد في شرح الرازي ص205 والطوسي 204 - 206) ينتهي ابن سينا إلى فساد الثلاثة الأخيرة، وإثبات تعين واجب الوجود - وبالتالي وحدته - ذلك لأن الأشياء التي لها حد نوعي واحد - أي لا تطلق على كثيرين، وخصوصاً إن هي لم تكن في مادة - لم تتعدد أشخاصها، بل كان تعينها لازما لنوعها أو لشخصها وحده، وواجب الوجود ليس نوعاً يشترك فيه أشخاص، ولا جنساً تشترك فيه أنواع، ولا يقال على كثرة أصلاً
ومن هذا نرى أن واجب الوجود لا ينقسم في الكم ولا في المعنى؛ لا في الكمية ولا في الماهية، إذ لو تركبت ذاته من شيئين أو أشياء مجتمعة، لكانت هذه كلها أو آحادها أسبق منه في الوجود ومقومة له، ولكانت بالتالية علة وجوده، وهو كما قلنا ليس معلولاً ولا مركباً ولا منقسماً في الكم إلى أجزاء متشابهة، أو في المعنى إلى واجب وجود وماهية، بل هو جوهر بسيط غير متجزئ، وحتى وجوده ذاته ليس جزءاً من ماهيته أم متمماً أو مقوماً لها، فماهيته هي أنيته (وجوده الخاص الذي هو المبدأ لعامة الموجودات) وإنما المتكثر بالقسمة الكمية إلى مادة وصورة؛ وبالقسمة المعنوية إلى وجود وهيولي؛ فهو الجسم الممكن المحسوس الذي له من نوعه أشباه - ولا كذلك واجب الوجود، فإنه لا يشارك شيئاً من الأشياء الممكنة في ماهيتها أو جنسها أو نوعها، بل هو مستقل بذاته التي لا جنس لها ولا فصل - والتي من ثم لا يمكن تعريفها أو تصورها في العقل بحد، أو تصويرها في موضوع أو جوهر.
وكما أن الأول لا ندّ له ولا شبيه، ولا جنس له ولا فصل، ولا حد ولا تعريف، بل شهود وعرفان بالقلب والنظر؛ فلا ضد له كذلك، سواء أكان هذا الضد عند العامة المساوي في القوة المانع، وعند الخاصة المشارك في الموضوع المعاقب غير جامع: إذ الضد في الحالة الأولى معلول، ومثله لا ينهض ضداً للواجب الأول، وفي الحالة الثانية ليس للأول(766/32)
موضوع فيشاركه فيه أحد، أويتعاقب عليه بعده أحد.
وطبيعة الأول تجعله بحيث يعقل ذاته وتتعقله، فهو واحد قيوم، ذاته غير قائمة بغيرها - بل بنفسها، ومجردة عن علائق المادة، منزهة عن العهد والضعف وكل حس أو وهم أو تخيل من شأنه أن يجعل غير معقول أو يمت إلى الحس بسبب، ومن كان ذلك شأنه فقد بين الشيخ الرئيس في النمط السابق لهذا أنه يصير عاقلاً ومعقولاً - وعاشقاً ومعشوقاً - فأنظره.
ونهاية المطاف ما ينبه عليه ابن سينا من الفرق بين مذهبه في إثبات وجود الله وبين غيره من المذاهب، فبينما المتكلمون من المسلمين يستدلون بالمخلوقات على الخالق، وبالصنعة على الصانع، وهو ما ذهب إليه كثير من الفلاسفة المتوحدين - مسلمين ومسيحيين؛ وبينما الحكماء الطبيعيون يستدلون بوجود الحركة على محرك، والمحركات إلى محرك أول - كما هي حجة أرسطو خصوصاً؛ إذ الفلاسفة الإلهيون - وهم منهم - يستدلون بالنظر في الوجود ذاته على إثبات واجب الوجود، في مقابل الممكن، ثم يتبعون ذلك النظر في ذات واجب الوجود بإثبات صفاته - على هذا النحو الذي فعل ابن سينا - بمعنى أنهم يستدلون بالعلة على المعلول - لا العكس - وهو أكثر يقيناً، وأتم شرفاً، وأولى بقومه الإلهيين الصدّيقين الذين لا يرون الله في (الآفاق وفي أنفسهم) بل يستشهدون بالحق على كل شئ - عملاً بقوله: (أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد)؟ فلم يحتج إثبات وجود الحق ووحدانيته وبراءته عن السمات التي تأمل لغير نفس الوجود ليشهد به الوجود من حيث هو وجوده - ثم يشهد هو بعد ذلك على ما هو واجب بعده.
تلك هي طريقة إثبات وجود الله عند الإلهيين من الإسلاميين كما يعبر عنهم ابن سينا في أروع كتاب له في الحكمة المشرقية.
كمال دسوقي(766/33)
من وراء المنظار
صوف و (دمور)
جلست ذات مساء في دكان الخياط ضجراً من ضياع وقتي في انتظار بدلتي متعجباً من أن يخلف الخياط موعده إياي أربع مرات وهو لا يزداد خجلاً في كل مرة عنه في سالفتها وإنما يزداد هدوءاً وصفاقة وجه لأنه لم يخجل قط وذلك فيما أرى لكثرة ما ألف من خلف الوعد. . .
ولم أجد شيئاً أتفرج به بعد أن فرغت من التفكر في صفاقته فثقل عليّ الانتظار وهممت بالانصراف، وإذ ذاك دخل الدكان شابان حاسرا الرأس لم ألبث أن أحسست أن فيهما ما أنشد من فرجة. . . كان أحدهما فيما قدرت في العشرين أو فوق ذلك قليلاً، وكان الثاني دونه بنحو عامين، وكانا كلاهما من أناقة الملبس وسطوع الألوان بحيث يستوقف ذلك منهما البصر قبل أي صفة غيره. . ونظرت فإذا بأصغرهما يتخطر إلى المرآة فينظر فيها نظرات أشاعت في عينيه وملامحه جميعاً الإعجاب والغبطة، ثم يصلح رباط عنقه ويصف شعره فودية، وقد اطمأن إلى بريقه ونعومته، ويستدير يمنة ويسرة فينظر إلى عطفيه وجانبيه، ثم يلقي نظرة على هيكل كله في بدلته الجديدة، ويستدير المرآة مزهواً يصفر بشفتيه لحناً وفي مشيته من الطراوة والتخلج ما لا يدع في بدنه من الرجولة إلا الاسم. وأخرج الثاني مشطه ومشى إلى المرآة فأصلح شعره ووثق في لمحات قصيرة من جمال طلعته وأناقة بدلته، ثم جاء فجر مقعداً وجلس عليه قبالة صاحبه الذي اختار أن يجلس على حافة منضدة في وسط الدكان معتقلاً ركبته بيده تارة، مستنداً إلى ذراعيه يكاد يستلقي على ظهره فوق المنضدة تارة أخرى. . . وما اختار المنضدة مقعداً فيما اعتقد إلا ليبقى تجاه المرآة يستمتع بما يرى من وجاهة.
وأخرج أصغرهما علبة سجائره ومدها إلى صاحبه، وراحا يرسلان الدخان في جو الدكان ورأيت لأصغرهما أوضاعاً يتكلفها للسيجارة بين أصابعه وفي فمه وفي كفه إذ يشير بها أثناء الحديث، وأوضاعاً للدخان كيف ينفثه وذلك عنده من مصطلحات الأناقة والظرف، واستبطأ الخياط، وضجرا من أن تضيع دقائق من وقتهما الثمين في انتظاره؛ وكان الأصغر يثب إلى الباب كل دقيقتين أو ثلاث يضن بأناقة ورشاقة أن يذهبا سدى طول هذا(766/34)
الوقت الذي يحجبه فيه الدكان وهو ما خرج ورفيقه من دارهما إلا لتعجب بهما الغانيات! وصحبه رفيقه إلى الباب وقد أبصرا من بعد في ضوء المصابيح بعض الفتيات، وعادا ينتقدان ساقي هذه ويمتدحان قوام تلك؛ ثم جلسا يستعرضان في ضحك وتحمس ما يعجبهما فيمن يعرفن من كواكب السينما من سيقان وعيون وشفاه، وكل منهما يدافع عن وجهة نظره في قوة، كما لو كانا يتجادلان في مسألة من مسائل العلم أو الأدب أو الاقتصاد، وهيهات أن يبقى ما برعا فيه من علم الجمال وما حفظاه من أسماء الكواكب الزهر في رأسيهما فراغاً لشي من ذلك الجد وهما بعد كما عرفت من كلامهما طالبان في الجامعة. . . وجاء الخياط فسأله الأصغر عما عنده من قماش، ونظر نظرة في الألوان وسأله عما يطلب ثمناً لبدله منه؛ فقال الخياط أربعة وعشرين جنيهاً. وإذ ذاك ألقى الفتى بالقماش من يده، وقال وهل ألبس بدله بأربعة وعشرين جنيهاً؟ وتملقه الخياط بقوله إذا كان مثلك يا سعادة ألبك لا يدفع هذه القيمة فمن يدفع؟ وضحك الفتى ورفع رأسه وتأبه وشمخ بأنفه وقال للخياط أريد بدله كهذه وأشار إلى بدلته، لقد أخذ خياطي ثمناً لها خمسين جنيهاً. . . وكأنما أراد الفتى أأن يبين للخياط بدليل آخر مبلغ جهله بقدره، فأشار إلى رباط رقبته وسأله كم تظن ثمن هذه الكرافتة؟ فقال الخياط لا يقل عن جنيه ونصف يا سعادة ألبك! فضحك الفتى ثانية ضحكة مازجتها الكدرة وقال ثمنها ثلاثة جنيهات ونصف. . ثم سلم هو وصاحبه وخرجا من الدكان. . ونظر إلى الخياط وقال لهذا السبب ينجح الخواجات فما يهم الواحد من هؤلاء اللاعبين بالمال إلا أن يقال إنه يلبس بدله ثمنها كذا، أما قيمتها الحقيقية فآخر ما يفكرون فيه، وفي البلد آلاف بل ملايين لا يجدون بضعة أمتار من الدمور. .
وملت بموضوع الحديث عن وجهته لما في نفسي من ضجر وغيظ من الخياط الناقد، فقلت وهل ينجح الخواجات بهذا وحده؟ فهز رأسه مستفهماً فقلت: وبصدقهم في المواعيد. . . ومضيت بدون بدلتي ضجراً من خلف الخياط وإن بقي لكلماته أثر قوي في نفسي ظل يذكرني أياماً بالجنيهات الخمسين وبضعة الأمتار من الدمور
الخفيف(766/35)
على الأعراف
للأستاذ محمود غنيم
ما للكنانة بعد طول مطافِ ... وقفَتْ سفينتُها على الأعراف؟
ولقد تكشّفت الأمور وأمرها ... داجي الغياهبِ حالكُ الأسداف
قالوا: السلام فقلت: دون سلامكم ... وقع الصوارم والقنا الرعّاف
والله ما ساد السلام بعالم ... حُرِمَ الضعيف به من الإنصاف
إن الذين ولوا السلام قضوا بما ... يدع السلامَ مزعزَعَ الأكناف
حكموا ففاحت من بوادر حكمهم ... ريحُ الدم الفوَّار للمُسْتاف
طرحوا القضية في السِّلالَ فهل تُرَى ... يومَ القيامة يومَ الاستئناف
قل للألى طال التداول بينهم ... ليس الصباح على البصير بخاف
فيم التداول إن قُرصَ الشمس لا ... يحتاج ناظره إلى كشّاف
خدعت بمعسول الوعود ممالكٌ ... لم تجن غير مرارة الإخلاف
هل كان ميثاقُ المحيط روايةً ... وهمية محبوكةَ الأطراف
كشفت قضية مصر ثوب ريائهم ... يا للرياء وثوبه الشفّاف
حلفاؤنا الأحرار لما نكّلوا ... بخصومهم مالوا على الأحلاف
سبعون عاماً في احتلال دائم ... يا للكنانة من سنين عجاف
ضيفٌ ألمّ بها فأصبح ربَّها ... ثم استباح كرامة المضياف
قالوا: استقل النيل والمحتل في ... واديه محمولٌ على الأكتاف
إن الأسار له مذاق واحد ... ولو أنه متعدِّدُ الأوصاف
لسنا بأحرار لعمري ما بدا ... لوجوههم طيف من الأطياف
أبني أبينا في الجنوب تحيةً ... كالزهر كللِّ بالندى الرفاف
في مصر عترتكم وما في غيرها ... من عترة لكموا ولا أسلاف
النيل ألف بيننا بنميره ... كتألف الندمان حول سلاف
أخوا رضاع ليس يفصل بيننا ... في الوضع غير شريعة الإجحاف
لا يخدعنكم الدهاة بزائف ... من قولهم عذب المذاق زعاف(766/36)
الأجنبي بأرضنا وبأرضكم ... كالغيم في الجوّ الطليق الصافي
إن الذي تبع الدخيل منوَّمٌ ... في الصحو مسلوبُ الإرادة غاف
إن غرّه كرم الدخيل فطالما ... ذُبح الفصيلُ بمدية العلاّف
ضموا الصفوف إلى الصفوف وأرهفوا ... بيضَ العزائم أيَّما إرهاف
إن الأماني كالغوانيَ دأبها ... ألاّ تلينَ لخاملين ضعاف
لا ينفُذُ الحقُّ الصريح بنفسه ... كلا ولا عدل القضاة بكاف
الحقُّ يعوزُهُ مُحقٌّ ساهر ... كالسيف تعوزه يد السيّاف
ولقد تألّبت الخطوب على الحمى ... وبنوه رهنُ تناحر وخلاف
ما ضر لو نسي الجميع نفوسهم ... فيعودَ صفوُ الوُدّ بعد تجاف
شتّى فئاتٍ يهتفون لغاية ... فكأنهم سِفُرٌ بألف غلاف
هتفوا لزيد بالحياة وخالد ... لكن وقفت على الجلاء هتافي
بطل الجلاء سقت ضريحك ديمةٌ ... تسقي الرياض بها طل وكاف
درجت عليك الأربعون ولم تزل ... من كل قلب عالقاً بشغاف
لك سيرة يتلو الشباب فصولها ... كالآي من ياسين والأحقاف
سور ترتّلها فتشعل في الدِّما ... ما تشعل النيران في الألياف
قف بالفلاة وقل: هنا الكنز الذي ... دفنوه بين جنادل وفياف
قف بالفلاة وقل: هنا فردٌ إذا ... قيس الرجال يُقاس بالآلاف
حمل الأمانة وحده فكأنه ... من نفسه في فيلق زحاف
ما ضر أعظمه تواضع قبره ... فالدرّ درّ وهو في الأصداف
يا سيد الشهداء غرسك لم يزل ... نسقيه من دمنا ليوم قطاف
وتراثك الوطنيُّ في دم معشر ... لا واهن عزماً ولا وقاف
نفرٌ من الأشراف أن جدَّ الحي ... في البحث عن نفر من الأشراف
رجعوا إلى أعراقهم فتجمّعوا ... بعد الخلاف تجمع الآلاف
من كل باذل نفسه أو ماله ... للنيل مقتنع بعيش كفاف
ما أنكروا حقاً ولا إن جادلوا ... في باطل لجئوا إلى الإسفاف(766/37)
لا الحكم طأطأ من رسؤسهمو ولا ... لانت قناتهمو لغمز ثقاف
لا تستخف الحادثات حلومَهم ... ويقابلون الموت باستخفاف
قالوا معاهدة الفخار وقلتمو ... داءٌ عضال لا دواء شاف
حتى إذا لاح الصباح لناظر ... شهدوا لكم بإصابة الأهداف
أدركتمو عيب الأمور كأنكم ... تتلونها من صفحة العرّاف
وتزعزع المتزعزعون وأنتمو ... كالطود في عصف الرياح وقاف
ووفيتمو لبلادكم بالعهد في ... زمن يقل به الأمين الوافي
محمود غنيم(766/38)
الأدب والفن في أسبوع
مهرجان الشباب:
كان يوم الجمعة يوم الشباب، وهو اليوم الذي أقامت في الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف، المهرجان الأدبي والفني لتعرض به نتائج المباريات التي نظمتها للشباب في الأدب والفنون فمنذ أكثر من شهر يقوم المشرفون على هذا المهرجان بالإعداد له، وتقوم لجان التحكيم بالفحص وكشف المواهب؛ حتى وضعوا أيديهم على ألبوا كير، وقدموا ما طاب منها على مسرح الأوبرا الملكية يوم المهرجان.
افتتح الحفل الأستاذ فريد أبو حديد بك المدير العام للثقافة بكلمة أبدى بها فكرة المهرجان الذي اعتزمت وزارة المعارف تنظيمه سنوياً في شهر عيد الميلاد الملكي، لحفز قوى الشباب الأدبية والفنية وتدعيم نبوغه، وبين آثار الفنون في حياة الأمم ورقيها، ومما قاله أن مصر التي نشطت فيها الحركات الأدبية والفنية ولم يعقها الاحتلال - حرية أن تبلغ في هذا المضمار شأواً أبعد، على أيدي الشباب في العهد الجديد، وقال إنه كان يلاحظ علامات السرور على وجوه أعضاء لجان التحكيم حين تلوح لهم لمعات في إنتاج الشباب، إن ذلك يدل على ما يرجون فيهم من خير وما يودون لهم من توفيق.
وبعد أن ألقى الفائزون في مباراة الغناء نشيداً، تقدم الفائز الأول في مباراة الشعر (وترى بعد هذا كلمة عنه) فألقى قصيدة، ثم ألقى الفائز الأول في الزجل زجلاً مطلعة (كلمة فاروق حلوة) ثم تلا ذلك عزف موسيقي إجماعي وانفرادي على مختلف الآلات من طلاب ومحترفين وهواة، وتخلل العزف نشيد وقطعة غنائية ثم وزعت الجوائز على الفائزين في المباريات، وبعد ذلك مثل فريق مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية مسرحية إسماعيل الفاتح، وأعقبه فريق هواة الأسرة الأباظية بتمثيل الفصل الثاني من مسرحية قيس ولبنى.
الشاعر الأول:
كانت مفاجأة المهرجان هذا الشاب الشاعر عبد العليم محمد القباني الذي يشتغل بخياطة الملابس البلدية بالإسكندرية، وكانت القصائد التي قدمها في المباراة الشعرية قد استرعت التفات لجنة التحكيم في الشعر وأثارت إلى جانب دهشتها شيئاً من الشك؛ فلما كان الأستاذ فريد بك أبو حديد بالإسكندرية عرج على دكان هذا الترزي الشاعر، وجلس بجانبه يحادثه(766/39)
متوسماً أمره، وجذب عبد العليم كراسة من درج بدكانه، وجعل يسمع فريد بك أشعاره. . .
فاز الأستاذ عبد العليم في المباراة بقصيدتين هما (من ليالي البحيرة) و (ليلة في حان) وقد ألقى الأولى في المهرجان، وأولها:
قلت لي لما تلاقينا على شط البحيرة
في مساء رائع الفتنة موفور المسرة
كلما حاولت أن أنساه لا أذكر غيره
يا حبيبي ابتسم الدهر لنا
فتعال نجتني زهر المنى
لا تقل لي في غد موعدنا
نحن لا نملك إلا يومنا
ويقول في القصيدة الثانية (ليلة في حان):
يا ابنة الحان هفا قلبي إليك ... فاتركيه يحتسي من خمر ثغرك
طاف بالدنيا وأمسى في يديك ... ظامئاً لا يرتوي إلا بخمرك
فدعيه يحتسي حتى الصباح
من جني الكرمة والحسن المباح
يا ابنة الحان دنا الفجر ولاح
وأنا لا أرتجي عنك رواح
على أن التمثيل بأجزاء من هاتين القصيدتين لا يعطي فكرة صحيحة لقيمتهما، فكل منهما ذات وحدة وخيال متصل.
شاعر من الجنوب:
وقد فاز في مباراة الشعر شاب من إخواننا السودانيين هو الشاعر إدريس محمد جماع، وهو طالب بكلية دار العلوم، ومن قصيدته يصف النيل حين يغضب:
إذا الجنادل قامت دون مسربه ... أرغى وأزبد فيها وهو غضبان
ونشّر الهول في الأجواء منطلقاً ... وكان في كل صوب منه بركان
فحول الصخر ذراً في مدارجه ... فبات وهو على الشطين كثبان(766/40)
عزيمة النيل تفني الصخر حدتها ... فكيف إن مسه بالضيم إنسان
الخطيب الأول:
يذكر القراء ما كتبته في عدد مضى عن مباراة الخطابة وما لاحظته على موضوعها وهو بيت من حكم المتنبي؛ وكان ذلك في إحدى جلسات المباراة، وفي جلسة أخرى اقترح على المتبارين الموضوع التالي: (تمثل وقد جئت إلى هذه المباراة جمعاً من ثراة مصر جاؤا ينتظرون كلمتك فوجهها إليهم ولتكن غايتك حثهم على افتداء فلسطين بالمال فإن غيرهم يفتديها بالأرواح) وحدد للتفكير ساعة، وجعل للخطابة عشر دقائق، وكان بين المتبارين الشاب الأديب عبد الصبور مرزوق الطالب بكلية دار العلوم، فروي ساعة ثم تقدم يقول:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي ... أي شئ غدوت منه حزيناً
قلت حرب وفتنة وجحيم ... في فلسطين، أين نلقى المعينا
موطن الوحي أصبح اليوم نهباً ... وعرين الأسود بات مهينا
ثم سار بعد ذلك في الموضوع نثراً، ووجدتني أسرع إلى تسجيل بعض قوله، فمنه (فلن يزيدنا عسفهم إلا إباء وثورة، ولن يزيدنا كيدهم إلا كفاحاً وقوة، ولن يفل عزيمة الشرقي أنه مهدد، ولن يحول دون نجاحه أنه مستعبد) ومنه (فقد شربنا مع الفطام كيف نجالد اليأس فنحيله أملا، وكيف نغالب الأقدار فتزيدنا أجلا، وكيف نستعذب الموت في كفاح المحن، ونستعيد الماضي وإن طال على الماضي الزمن).
وقد عاد إلى ارتجال الشعر في أثناء الخطابة فقال:
فسلوا الأرض في فلسطي ... ن أترضى من بعد طهر برجس
وسلوا المسجد المقدس عنهم ... وهو يبكي بروعة وتأس
(أمحرام على بلابله الدو ... ح حلال للطير من كل جنس)
والبيت الأخير لسوقي بك، أتى به على سبيل التضمين.
وكان عبد الصبور هو الفائز الأول في الخطابة، ولم يلق في المهرجان بالأوبرا، لأن المهرجان كان يذاع ما يلقى فيه، والإذاعة تحتم الاطلاع على النص من قبل، والخطابة ارتجال.
يريد أن يشبع قراءة:(766/41)
هو أحد الفائزين في مباراة القصة، وهو الشاب الأديب محمد يسري أحمد الطالب بكلية الطب؛ قدم إلى المباراة قصتين قصيرتين: (الغربال) و (الأعمى) والتي فازت الأولى، لا لأنها أحسن من الثانية، ولكن اللجنة قرأت قصة (الأعمى) فألفتها قصة جيدة من حيث القيمة الفنية، بل إنها دهشت لبراعة كاتبها في التحليل وتبين الدوافع التي حملت بطل القصة على ارتكاب أمر محرم يعافه الطبع المستقيم، ولهذا صرفت النظر عن القيمة الفنية وأسقطت القصة من الحساب، واكتفت بقصة (الغربال).
وقد استرعى أمر هذا الشاب التفات لجنة القصص، من حيث نبوغه في فن القصة مع صغر سنه التي لا تتجاوز الثانية والعشرين، فكان موقفها منه كموقف لجنة الشعر من الشاعر الترزي. . . أثار إلى جانب دهشتها شيئاً من الشك. . . وقصد إلى منزله بحلمية الزيتون الأستاذ عبد الله حبيب عضو لجنة التحكيم في القصة، وجلس معه في غرفة الاستقبال، وعلم الشاب أنه فاز في المباراة، وأنه سيمنح ميدالية ذهبية، فقال:
- كم تساوي هذه الميدالية إذا بعتها؟
- إنها يا بني تتكلف نحو ثلاثة جنيهات لدقة صنعها، ولكنك إذا بعتها فلن يزيد ثمنها على خمسين قرشاً.
- إنني جائع إلى القراءة. . . أمر بالمكتبات فأرى في واجهاتها (شهي) المؤلفات في الآداب والفنون، فأحس بالشوق إلى التهامها، ولكني أنصرف عنها آسفاً كأسف البال، لأني لا أقدر على ثمنها، وكم أفضل جائزة مالية على هذه الميدالية، لكي أشبع من قراءة هذه الكتب. . .
وكان المقرر أن تقصر الجوائز المالية على الفائزين من غير الطلبة، أما هؤلاء فيمنحون ميداليات، خشية أن تصرفهم النقود عن الجد، فينفقونها على شئ من اللهو. . . ولكن الرغبة التي أبداها محمد يسري كانت من أسباب الرجوع عن هذا القرار فمنح جائزة مالية كما منح غيره من الطلبة الفائزين.
بقية الفائزين:
فاز في الشعر عدا الفائز الأول والشاعر السوداني - كمال النجمي وعبد المنعم حسن قنديل(766/42)
ومحمد الحناوي وسعد دعبس ويوسف زاهر، وفاز في الخطابة - عدا الأول - حسين دياب وطه محمود عثمان ومحي الدين الحلواني، وفاز في القصة محمد أمين حسنونة (الأول) ومحمد يسري أحمد الذي تقدم ذكره ومحمد رشاد حجازي وعبد الفتاح مجدي ونعيمة وصفي وإنعام إبراهيم النجار ومحمد شريف وفاز في المسرحيات أحمد جاب الله شلبي، وفاز في التمثيليات الإذاعية عز الدين فراج، وفاز محمد محمود زيتون في الخطابة والشعر والتمثيليات الإذاعية، وفاز محمد علي ناصف في القصة وفي المسرحيات (الأول) وفي التمثيليات الإذاعية؛ وفاز محمد عبد الرزاق مرزوق في القصة وفي المسرحيات. وبلغ مجموع الفائزين في فنون الأدب وباقي الفنون 120، وكانت الجوائز بعضها أدبي وبعضها مالي، وبلغ مجموع الجوائز المالية 500 جنيه.
ويلاحظ أنه لم يفز من الفتيات في الأدب غير اثنتين فازتا في القصة، وقد كانت نسبتهن في الموسيقى كبيرة وقد برعن في العزف وخاصة على البيان رفيق الأنامل الناعمة.
الموسيقى والتمثيل:
كانت الأناشيد والموسيقى أضعف برنامج المهرجان، وكان أغلب العزف بأنواعه ضربات على الآلات لا فن ولا طرب فيها، وقد شغل مع هذا أكثر وقت المهرجان، حتى مله الحاضرون. وإن لم يخل من ومضات، كعزف ذلك الصغير على الكمان، وضرب هذه الصغيرة على البيان، وهما صغيران قدمهما نبوغها المبكر إلى صفوف الشباب. .
وقد مثل فريق مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية مسرحية إسماعيل الفاتح، ومثل فريق هواة الأسرة الأباظية الفصل الثاني من مسرحية قيس ولبنى، فأزال الفريقان ما وان على النفوس من ملل الموسيقى، ودلا على كفاية الفرق المدرسية والهواة في فن التمثيل المسرحي.
معرض الكتب والفنون:
وفي اليوم التالي لمهرجان الأوبرا، وهو يوم السبت، ناب عن معالي وزير المعارف الأستاذ إسماعيل القباني المستشار الفني لوزارة المعارف - في افتتاح معرض الكتب ومعرض الفنون بدار خدمة الشباب (7 شارع سليمان باشا).(766/43)
ويشتمل المعرض الأول على الكتب الصادرة في سنة 1947 التي بعث بها المؤلفون ودور النشر إلى المعرض بناء على طلب الإدارة. ويحوي معرض الفنون لوحات في الرسم والتصوير بأنواعه، وتماثيل وأشغالاً يدوية وصناعات زخرفية، قدمتها هيئات وأفراد وفرق وهواة ومحترفين.
ويظل المعرضان مفتوحين للجمهور أسبوعاً من يوم الافتتاح.
العباس(766/44)
رسالة النقد
ميزان الحكمة
لأبي الفتح عبد الرحمن المنصور الخازن
حققه وعلق عليه الأستاذ فؤاد جميعان
بقلم الأستاذ محمد عبد الغني حسن
هذا كتاب كان مخطوطاً فنشره لأول مرة في المطبعة العربية الأستاذ فؤاد جميعان، وذلك فضل يجب أن نسجله للناشر الذي رأى أثراً من الآثار الإسلامية مجهولاً عند المسلمين اليوم فآثر أن يعرضه على قراء العربية في طبعة أنيقة وذوق في الإخراج مع التعليق في بعض المواطن التي تحتاج إلى تعليق.
والحق أننا محتاجون إلى إحياء التراث العربي وكشف النقاب عن ذخائره، فإن كثيراً من هذه الآثار لا يزال مطموراً في ظلمات لم يكتب لها إلى اليوم أن ترى النور. كما حدثني بذلك الأستاذ الدكتور محمد سامي الدهان الذي رأى بعينيه كثيراً من مخطوطات برلين العربية مدفوناً في دير من الأديرة الكاثوليكية في ألمانيا بعد أن صارت العاصمة الألمانية غرضاً للقنابل الإنجليزية
لذلك فرحت أشد الفرح حينما رأيت كتاب (ميزان الحكمة) للخازن يظهر إلى دنيا المطبوعات بعد أن كان في دنيا المخطوطات؛ فإن كل مخطوط عربي يقدم إلى المطبعة اليوم فإنما هو يد يسديها ناشره إلى الأمة العربية وإلى تاريخها الطويل الذي أسهمت به في بناء الحضارة مدة من الزمان.
وينبغي أن لا تخرجنا العجلة في طبع المخطوطات ونشرها عن القواعد الصحيحة للنشر والتحقيق، وأن لا تعجلنا الفرحة بالإخراج عن الأناة في التحقيق والتحري له وحسن الضبط فيه؛ فإن من الخير أن يظل المخطوط مخطوطاً على أن يخرج إلى الناس على غير الوجه الذي أراده مؤلفه. وإن من الأمانة لتراث الأسلاف أن يظهر كما كان لا كما نتوهم نحن أن يكون.
ولا أعني بذلك أن أنقص من عمل الأستاذ فؤاد جميعان أو أن أهون من أمر إخراجه لكتاب(766/45)
(ميزان الحكمة) على هذا الوجه الذي طالعنا به مكتب الشروق للطباعة والنشر، فأنا على ثقة أن عناية كبيرة بذلت في سبيل إخراج هذا المخطوط الذي تلفت منه كثير من الصفحات، والذي فقد منه فوق ذلك جزء ليس بالقليل. فإن الفصول الثلاثة الأولى من الباب الثاني من المقالة الخامسة مفقودة، وقد أشار الناشر إلى ذلك في ذيل صفحة 107. أما الباب الثالث من هذه المقالة فلم أقف له على أثر في موضعه من الكتاب ولم أجد المحقق أشار إلى ذلك، بل وصل ما بين البابين الثاني والرابع من غير تعرض لهذا الباب المفقود.
على أن إخراج المخطوطات يجب أن يرجع فيه إلى أكثر من مخطوط واحد حتى تتم المقابلة بين النسخ الخطية من الكتاب على أتم الوجوه. ولكن هذا العمل قد يعني القائمين به ويرهقهم من أمرهم عسراً. ولكن العسر في سبيل التحقيق العلمي هو وسيلة يهون عندها الوصول إلى أنبل الغايات؛ وهي إظهار النص على حال لا يبعد به عن أصله الذي أراده له مؤلفه. ولا يلجأ إلى المخطوط الواحد إلا حين تنعدم من العالم نسخ خطية أخرى. فهل كان الشأن كذلك حين نشر الأستاذ جميعان هذا الكتاب عن نسخة خطية واحدة؟
يقول الأستاذ قدري حافظ طوقان في التصدير الذي قدم بين يدي الكتاب (إن قنصل روسيا في تبريز عثر صدفة في منتصف القرن الماضي على هذا الكتاب (كتاب ميزان الحكمة) ويقول في موضع آخر: (وأخيراً توفق الأستاذ فؤاد جميعان في الحصول على مخطوط لميزان الحكمة فنقله مع شئ من الشرح والتعليق) ويقول الأستاذ جميعان ناشر الكتاب في صفحة 17: (وربما كانت النسخة التي بين أيدينا هي تلك النسخة الموجودة في فارس إذ لم أستطع أن أتبين تاريخها وذلك التشويه الكبير الذي ألم بها). ويقول أيضاً في الصفحة نفسها: (لكن المستشرق الألماني ويدمان يذكر أن نسخة منه موجودة في أحد جوامع بمباي في الهند).
هذه خلاصة قصة هذه المخطوطة كما ذكرها الناشر ومقدم الكتاب، وليأذن لي الأستاذان الفاضلان أن نسخة خطية من هذا الكتاب توجد في (الخزانة الآصفية) وهي خزانة عامة (تحت نظم الدولة الآصفية) بالهند. واسم الكتاب مذكور في فهرس الخزانة جـ1 ص125 كما ورد في كتاب (تذكرة النوادر) المطبوع في حيدر أباد الدكن والذي أخرجته جمعية(766/46)
دائرة المعارف العثمانية سنة 1350هجرية. - راجع التذكرة ص166 وهذا المخطوط كما وصفته التذكرة بمقالاته الثمان - هو الذي نشره الأستاذ جميعان. ومعنى هذا أن من هذا الكتاب نسختين خطيتين كان أولى بالناشر أن يحصل على ثانيتهما بطريق التصوير مثلاً؛ فربما كانت هذا النسخة الآصفية أكثر ضبطاً وأكمل صفحات وأسلم من التلف. وبهذا كان يتجنب هذا الفراغ الكبير الذي تركه في الكتاب المطبوع معتذراً بتلف الأوراق أو فقدانها.
أما النسخة التي يذكر المؤلف أن المستشرق الألماني ويدمان يقول إنها موجودة في أحد جوامع بمباي في الهند فقد وقفت طويلاً عند ذكرها وأطلت الوقوف. . . ويظهر أنها مقالة أو أكثر من مقالات (ميزان الحكمة) نسخت في ربيع الآخر سنة 585 بساحل بحر عمان في موضع نفال أي بعد حياة الخازن ببضع عشرات من السنين. ولكن (تذكرة النوادر) ومؤلفها أحد علماء الهند المعاصرين يذكر أن بين مخطوطتي الآصفية وجامع بمباي اختلافاً في عبارتهما وإن كان يذكر على سبيل الاحتمال أن الكتابين شئ واحد.
ويذكر الأستاذ قدري حافظ طوقان شيئاً عن ترجمة الخازن في الكلمة التي عنونها بهذا العنوان؟ (من هو الخازن مؤلف هذا الكتاب؟). والحق أنها كلمة لا يسمو بها الإيجاز والاقتضاب أن ترتفع إلى مرتبة التعريف بعالم طبيعي من علماء المسلمين. ولو أنه نقل ما كتبه البيهتي في كتابه (تاريخ حكماء الإسلام) الذي حققه الأستاذ محمد كرد علي بك لأضاف إلى التعريف بالخازن شيئاً عن زهادة هذا العالم الجليل وعفة نفسه وجمال خلقه (ونقاء جيبه عن الأطماع الخسيسة). كما يذكر المؤرخ (ظهير الدين) في كتابه صفحة 162.
ويظهر لي - والله أعلم بالسرائر - أن الأستاذ الناشر أراد أن يخرج كتاب الخازن على أي وجه. . . وأن الأستاذ طوقان أراد - أو أريد له - أن يقدم الكتاب على أي وجه. . . فخرج الكتاب وظهرت المقدمة. . . ولكن الكتاب لم يُظهر لنا (ميزان الحكمة) على أصله وحقيقته؛ ومقدمة الأستاذ طوقان لم تظهر لنا (الخازن) الحكيم العربي على حقيقته. فإن الأستاذ طوقان يعلي من قدر (الخازن) إلى حد خشي معه أن يتوهم القارئ أن في ذلك انتقاصاً من قدر العلماء الأوربيين: (تورشلي) و (بسكال) و (بويل). وما هناك بأس أن ننصف آباءنا العرب حين تجب النصفة. ولكن ماذا يقول الأستاذ طوقان في أن مقدمته(766/47)
كانت تحتاج إلى كثير من الشرح العلمي الطبيعي، لا مقدمة عابرة يسد بها فراغ. وما كان هناك موضع أولي بشرح نظريات (الخازن) من مقدمة لكتاب ألفه الخازن ليفهم على حقيقته بعد موته بأكثر من سبعة قرون وما كان هناك أحد أولى بمثل هذه المقدمة من الأستاذ العالم قدري حافظ طوقان. ولعل عالمنا العربي الجليل يعوض ذلك بمقال عن (الخازن) في إحدى المجلات العربية العلمية الرصينية.
أستغفر الله ما قصدت أن أعنف على ناشر له فضل النشر كالأستاذ جميعان، ولا على عالم - له فضل التعريف بعالم عبقري - كالأستاذ طوقان؛ فكلا الرجلين له فضل التقديم بأثر يعتز بذكراه المسلمون والعرب حين كانت لهم مقاليد العلم وميادين البحث - ولله عاقبة الأمور. . .
محمد عبد الغني حسن(766/48)
الكتب
ثمار المطابع:
89 شهراً في المنفى 1931 - 1938
تأليف الأستاذ محمود حسني العرابي
لو كان مؤلف هذا الكتاب أوروبياً أو أمريكياً لنال من نباهة الذكر وذيوع الصيت قسطاً وافراً ملحوظاً! ولو أن صاحبه أزجاه - إذ قدمه لقراء العربية - على أنه ترجمة لمغامرات إنجليزي أو فرنسي أو أمريكي لاشتد إقبالنا على الكتاب، وازداد إكبارنا لصاحبه، وعظمت في عيوننا شخصيته، ولشمر الكتاب عن سواعد الجد والنشاط، وانطلقوا يعددون مآثر ذلك المغامر الإفرنجي، وراحوا ينعتونه بنعوت البطولة والمجد، وخلعوا عليه صفات الشرف والإباء والمصابرة!
ولكن هذا الكتاب ليس سوى بعض ما صادفه الأديب الكاتب المعروف الأستاذ محمود حسني العرابي في حياته الحافلة، من ألوان الشدائد والصعاب، وضروب التجارب والمغامرات، منذ رحيله مكرهاً عن أرض وطنه الأول العزيز في عام 1931 إلى أن شاءت الظروف عودته إلى أحضانه في غضون عام 1938، قبيل اندلاع نيران الحرب الأخيرة.
وقد أجمل المؤلف الفاضل في فصول هذا الكتاب الضخم وصف ما صادفه وما ألم به طوال مرحلة اغترابه عن مصر في عبارة رقيقة عذبة وأسلوب قصصي أخاذ، تتجلى فيه شخصية صاحبه على نحو يندر الاهتداء إلى نظائره في هذه الأيام!! فهو يمتاح من تجاربه ويكتب دون حاجة ملحة إلى اصطناع الخيال أو التأنق في الوصف الفني، ذلك أن الأيام التي مرت به في غربته قد احتشد بها كثير من الأحداث التي يعجز الخيال الموغل عن تصوير بعضها، بل إن في بعضها ما يفوق الخيال الذي يتخيله القابعون في عقر دورهم، والمعتصمون (ببروجهم العاجية) الأنيقة المترفة!
ولقد سجل الأستاذ العرابي حوادث تلك الفترة العاصفة من حياته الدائمة الصخب والضجيج تسجيلاً فنياً لم نحظ بمثله - كما قدمنا - في كثير من كتب المغامرات عند الأوربيين! ولقد(766/49)
جعله على نسق القصة، فروى لنا حوادث تلك الفترة من حياته منذ غادر أرض مصر، إلى أن قضى الله بأن يؤوب المغترب إلى أحضان أمه سالماً، وسرد في غضون ذلك ما قاسى من آلام وغصص، ونوه بما صادفه من عقبات وما عاناه من أوصاب، ولم ينس أن يفضي إلى القارئ ببعض غرامياته وصداقاته التي هونت عليه أهوال الغربة وغصص الحرمان والفاقة!
وفي الكتاب تصوير صادق لحنينه إلى الوطن. فقد حدث وهو في محنته ببرلين، أن قدم رهط من المصريين لشهود مهرجانات الألعاب الأولمبية التي أقيمت بالعاصمة الألمانية عام 1936، وتصادف أن جلس ذات مساء في مقهى بها، إلى مائدة مجاورة لمائدة جماعة من أولئك المواطنين الزائرين الذين انطلقوا ينتقصون وطنهم في غير رحمة، ويبدون إعجابهم بعظمة الحضارة الألمانية، ويعربون عن أملهم في الإقامة ببرلين، ينهلون من مفاتنها، ويقبسون من سني حضارتها ولألائها؛ فانبرى لهم يسفه آراءهم وينصح لهم بالإبقاء على حب أمهم الرءوم مصر، والعودة إلى أحضانها حيث يعملون على الرقي بها إلى حيث العلا والفلاح. واشتبك معهم في حوار رائع حقاً، تجلى فيه حنين المغترب المحروم إلى وطنه النائي العزيز. ولولا معرفة صاحب هذا القلم بالأستاذ العرابي. وإدراكه مبلغ ما تنطوي عليه نفسه الشاعرة الحساسة من هوى مضطرم لا حد له بمصر وكل ما يتصل بمصر، لخال ذلك ضرباً من الإيغال في الخيال، أو نوعاً من المبالغات التي يعمد إليها الكتاب في معظم الأحيان توسلاً بها إلى ترويج بضاعتهم المزجاة!
والجزء الثالث من هذه الذكريات قد وقفه الكاتب على نشاطه في سبيل العروبة والعرب، وهو في منفاه؛ ففيه سرد مسهب مفصل لنشاطه حينما تولى رياسة النادي العربي في برلين، ذلك النادي الذي بذل المؤلف من وقته ونشاطه ما عاد عليه بالنجح والتوفيق في أداء رسالته الثقافية والرياضية، أما عن النشاط السياسي لذلك النادي، فيكفي الإلماع إلى مظاهرته قضية فلسطين وتأييده الصادق لها في فترة الاضطرابات التي عمت البلاد المقدسة قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.
هذا والأستاذ المؤلف لا يعرف التأنق في العبارة، ولا يعشق المبالغة في إظهار عواطفه، وأسلوبه خير شاهد على ذلك الصدق الفني المنقطع النظير.(766/50)
والحق أن المكتبة العربية لتفخر بتلك الذكريات الحاشدة الحافلة، وترحب بها كل ترحيب، وتفسح لها مكاناً بارزاً مرموقاً، وترجو لها الذيوع والانتشار الجديرين بأمثال هذه الدراسات الجادة المنطوية على التجربة الصادقة والنظرة المستقيمة المستوية، والروح المؤمنة المطمئنة إلى عدالة موقفها وعدالة قضية بلادها، وأحقيتها في الحياة الحرة الكريمة.
مختار الوكيل(766/51)
أنات غريب
تأليف الأستاذ حبيب الزحلاوي
كان أدب الأقصوصة إلى وقت قريب هو أكثر الآداب تأخراً في اللغة العربية، ولعل للسينما أثراً كبيراً في هذا التخلف، فقد كانت تخطف كل نجم تأمل فيه الخير حتى احتسبنا الله في الأقصوصة وقنعنا من الأدب بألوانه البواقي الأخرى.
قد كان ذا. . حتى خرج إلينا الأستاذ حبيب بهذه المجموعة الأخيرة فإذا بها ترد إلينا أملاً كدنا نفقده، وتطمئننا أن للأقصوصة أصحابها. . والأستاذ حبيب أديب مطبوع بارع في حبكة قصته، ماهر في إيجاد العقدة وحلها، وهو بعد ذو قدرة فاتنة في التمسك بقارئه حتى ينتهي من قصته.
ليس من الميسور أن أتكلم عن جميع الأقاصيص التي دبجها الأستاذ حبيب في مجموعته الأخيرة ولكنني في قصته الثانية لاحظت له رأياً متطرفاً بعض الشيء نظم فيه قواعد عامة للقصة يصعب علينا أن نقبلها مرة واحدة. . وقبل تأمل هذه القواعد يطيب لي أن ألفت الأستاذ حبيباً - وهو أستاذ لا مراء - إلى أن صفة الأستاذية يجب علينا نحن أن نضفيها عليه منزلين بذلك الأمر في منزله، أما إذا قالها هو عن نفسه فإنني أخشى أن يظن الجاهلون أننا لا نعطي ذا الحق حقه حتى في الأدب.
عنوان هذه الأقصوصة (دميم) وهي في ذاتها جميلة. . ولكنه حين ساقها قدم لها بنقاش بينه وبين شاب من شداة الأدب، وكان الشاب يستنكر على الأستاذ حبيب دعواه بأن الأقصوصة لابد لها من عقدة وحل وحبكة ووحدة زاعماً - أي الشاب - أنه سريع الخلق لأشخاص روايته قوي الديباجة في عرض للقصة وهو قانع بهاته المواهب معتقداً أنها فوق الكفاية؛ ثم هو يعرض على الأستاذ حبيب مثالاً هزيلاً يستطيع أي قارئ أن يهدم الصلة بينه وبين القصة غير محتاج في ذلك للأستاذ حبيب ليظهر زيفه ويقارن بينه وبين أقصوصته الكاملة (دميم) التي خلقها في جلسته ليقنع الشاب بتفوقه عليه.
ولكن أيعتقد الأستاذ حبيب حقاً أنه لا غنى للقصة عن العقدة والحل؟! فماذا نسمي (غاية المرأة). . أهي أقصوصة أم مقال. . وإن كانت أقصوصة فأين العقدة. . فإن رشينا بحب الفتاة لرفيق صباها الذي ظهر فجأة عقدة. . فأين الحل؟!. . لا والله إنها أقصوصة رائعة(766/52)
كل الروعة ولكنها ما زالت بغير عقدة ولا حل. (غاية المرأة) هذه أقصوصة يعالج فيها الأستاذ حبيب فتاة على أبواب الزواج ويتعمق نفسيتها من يوم أن تعرفت بخطيبها حتى ولدت منه. . وكم كان الأستاذ حبيب بارعاً في عرضه هذا! وكم كانت ريشته دقيقة في رسم الخلجات المتغايرة التي تمر بها نفسية الفتاة الشابة!
والأقاصيص الأخرى كلها من هذا النوع في السمو. . تهدف جميعها إلى غاية، وتخرج من أيها بعبرة. . وهذا لون من ألوان القصص. . لكنه لا يمنع القصص غير ذات الهدف أن تكون هي الأخرى جميلة. . ولا يمنعنا نحن أن نقدر الطاقة الفنية المبذولة في هاته القصص.
(أنات غريب) عنوان يجبه القارئ ويوقفه مشفقاً على هذا الغريب يعز عليه أن يحل بمصر عربي أديب ويطلق في أجوائها الرحبة أنه مهما خفتت. . وهي التي تنزل الضيوف جميعاً أهلاً فكيف بالأديب. . ولكن قبل هذا التساؤل. . أهو غريب!. أيحل أي منا غريباً بأي قطر عربي!. . لا والله كلنا فيه الأهل. دارت بذهني هذه الأسئلة وما زالت به تدور حتى قرأت الإهداء فأشرقت نفسي واستقرت. . لقد كان العنوان ابن غمامة زائلة بددتها شمس مصر الضاحكة فأطلقت أستاذنا حبيباً مشرقاً ضاحكاً
ثروت أباظة(766/53)
البريد الأدبي
حقيقة الفضاء:
عاد الأستاذ العقاد يناقشني فيما لم أقله، ويعرض عما قلته، ولو كان يستوعب (مصادره العلمية) جيداً لما كان مضطراً أن يجعل رده الأخير مقتصراً على الإشارة إلى محاضرة ألقاها العلامة إينشطين سنة 1930 في جامعة نوتنجهام لكي يأخذ منها فقرة يظن أنه جبهني بها.
ليست هذه الفقرة محور المحاضرة وإنما جاءت في سياقها لأن إينشط
ين قالها قبلاً منذ أعلن نظريته النسبية سنة 1902، وقالها بعد ذلك مراراً، وقالها آخرون قبله وبعده، وما هي خافية على أحد، وهي أن الأمواج الكهرطيسية مالئة الفضاء. ومنها أمواج الضوء الذي نراه وأمواج الراديو التي نحس بها. والكهرطيسية شئ مادي لا روحي؛ لأنها ذرات منحلة صادرة من الشمس والنجوم , وهي ما سموه ضوئيات (فوتونات). وهي التي سماها إينشطين وغيره من العلماء (مادة الفضاء).
وهذا ما قلته أنا مراراً. وفي هذه المجلة أيضاً قلته غير مرة. انظر صفحة 2444. فماذا الذي يرد عليه أستاذنا؟
لا أدري سوى أنه يريد أن يكون المتكلم الأخير في هذه المناقشة. فأنا أتعهد له منذ الآن أن هذه العجالة، هي كلمتي الأخيرة في موضوع وفيته حقه في جميع مقالاتي في هذه المجلة ولاسيما المقالة الأخيرة وفي كتابي النسبية. وله بعد ذلك أن يقول ما يشاء.
كل ما قلته في هذا الموضوع لا أنقص منه حرفاً. فأرجو من الأستاذ أن يستوعبه جيداً.
وأما قوله أن الفضاء نفسه هو مصدر تكوين المادة فهو فلسفته الخاصة لأننا لم نعلمه من سواه وإلا فليدلنا على من قاله.
الحقيقة الراهنة أن المادة أوجدت الفضاء. لولا المادة ما كان فضاء. (والمراد بالفضاء الحيز الذي تشغله المادة - هذه الملاحظة للقارئ الكريم).
أما الزمن أو (الوقت) فما هو إلا مقياس الحركة، أي حركة المادة. لولا حركة المادة لما كان وقت، وإلا فما معنى دقيقة وساعة ويوم وعام وقرن؟
بقي أن الأستاذ لم يقل لنا شيئاً عن فيثاغورس الذي أدخله في المناقشة عنوة ولماذا أدخله؟(766/54)
ألم يجد في مقالي في المقتطف ما يناقشني فيه، فاستعار ذلك الفيلسوف القديم ليجعله موضوع مناقشة. والسلام والتحية للأستاذ.
نقولا الحداد
حول تعليق العباس على قصيدة الجارم بك:
قرأت ما كتبه الأستاذ العباس تعليقاً على قصيدة الشاعر الكبير علي الجارم بك في تأبين المغفور له أنطون الجميل باشا وفي هذا التعليق يقول الأستاذ - ولكني آخذ عليه قوله:
نسي الشعر في صراع الرزايا ... رنة الكأس والغزال الأغنا
شغلته مآتم ونعوش ... عن هوى زينب وعن وعد لبنى
فإن مجرد ذكر الكأس المرنة والغزال الأغن وهوى زينب ووعد زينب لا يتفق والمقام.
وفي رأيي أن مجرد ذكر هذه الأشياء لا يحط من قدر الشاعر ولا يهجن شعره في الرثاء - ما دام ذلك مشفوعاً بصراع الرزايا، وبالمآتم والنعوش - ولعل الشاعر يريد أن يصف حالة يعانيها في نفسه لا نحيط بها نحن - وأنت ترى أن دريد بن الصمة قد افتتح قصيدته المشهورة في رثاء أخيه عبد الله بالنسيب إذ يقول:
أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعاقبة أم أخلفت كل موعد؟
ولم أسمع من النقاد من اعترض عليه أو تصدى لنقده، لأنه أراد أن يسجل الحادثة التي دارت بينه وبين أم معبد زوجه حينما لامته في حزنه على أخيه فطلقها.
وما أرى أن نسير في ركاب (ابن وكيع) وهو صاحب كتاب المنصف الذي ألفه في بيان سرقات المتنبي - وكان ينظر دائماً بعين السخط إلى شعره - لآن أبا الطيب كان قد هجاه - كما يقول بعض المؤرخين - فعاب عليه من جملة ما عاب هذا البيت.
صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال
وقال (ووصفه أم الملك بالوجه الجميل غير مختار).
قال الأستاذ قسطاكي الحمصي - صاحب منهل الوراد - (لو ذاق ابن وكيع طعم الخواطر السامية، وما كانت تولده مخيلة أبي الطيب له من الصور الصادقة لما انتقد هذا الانتقاد البارد فإن المتنبي لما تصورت له الميتة في ساعة النزع وما بعدها، دعا لها بالرحمة فجعل(766/55)
الحنوط صلاة الرحمن، وخطرت في فكره شناعة منظر الموت وما يجره على أبدع الصور من الانقلاب فاستدرك الدعاء بقوله على الوجه المكفن بالجمال، وقال اليازجي (وجعل وجهها مكفناً بالجمال إشارة إلى أن الموت لم يغير محاسنها وإنما بقي عليها جمالها كالكفن)
أمين محمد عثمان
كشف تاريخي:
طبع تاريخ (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للمؤرخ الناقد شمس الدين السخاوي) فكتب كاتبون في (الرسالة) و (الثقافة) و (مجلة المجمع العلمي العربي) في الكشف عن مؤلف محاسن المساعي في مناقب الأوزاعي الذي كان نشره الكاتب الأكبر الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، غفلاً من اسم المؤلف، لأنه لم يهتد إليه. فقد جاء في الجزء 2 ص72 من (الضوء اللامع) أن مؤلفه هو شهاب الدين أحمد بن زيد الحنبلي المتوفى سنة 870 كما في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد) ج7 ص310 ثم رأى بعضهم في فهرس دار الكتب المصرية أن فيها نسخة من محاسن المساعي منسوبة إلى الحافظ بن حجر، فاستبعدوا صحة هذه النسبة، دون أن يعارضوا المطبوعة بالمخطوطة للفصل في هذا الشأن. فقمت أنا بهذا الأمر فتبينت أن المخطوطة هي المطبوعة إلا أن في تلك زيادات كثيرة في المقدمة وفي غضون الكتاب ولاسيما في الفصل المعقود لذكر بعض ما اختاره الأوزاعي من المسائل الفقهية، ففي المخطوطة أكثر من ضعفي ما في المطبوعة من الإنفرادات والاختيارات الفقهية. وفي المطبوعة من مراثي الأوزاعي 6 أبيات ليس غير، وفي المخطوطة 68 بيتاً لبضعة شعراء
واسم المؤلف في المخطوطة مكتوب بخط غير خط النسخة، فلعلها وقعت في يد أحدهم غفلاً من اسم المؤلف فنسبها إلى الحافظ ابن حجر بلا تحقيق.
وفي (لإعلان بالتوبيخ لمن ذمالتوريخ) للشمس السخاوي، إن مؤلفه سرد أسماء المؤلفات التي ألفت في تاريخ رجال مخصوصين، وذلك في آخر كتابه الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ ابن حجر، فلعله يتيسر الرجوع إلى نسخة دار الكتب المصرية من هذا الكتاب لزيادة التثبت، ولنرى هناك في جريدة مؤلفات ابن حجر إن كان ألف في هذا الموضوع؛(766/56)
لأن تلميذه الأثير السخاوي هو أعرف الناس بذلك.
محمد أسامة عليبة
جواني وبراني:
هاتان الكلمتان عربيتان فصيحتان فقد وردتا في حديث أفصح العرب والعجم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الكشكول لبهاء الدين العاملي صفحة 87، 88 صبعة المليجي سنة 1318 وهذا نص الحديث.
روى الحارث الهمداني عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي ما من عبد إلا وله جواني وبراني، بمعنى سريرة وعلانية؛ فمن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه؛ ومن أفسد جوانيه أفسد الله برانيه. وما من أحد إلا وله صيت في أهل السماء فإذا حسن وضع الله له ذلك في الأرض؛ وإذا ساء صيته في السماء وضع له ذلك في الأرض. فسئل عن صيته ما هو قال: ذكره.
فلا غضاضة إذا استعملنا هاتين الكلمتين بمعنى الداخل والخارج لأنهما صدرتا من أفصح ولد عدنان القائل (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)
حسين سلامة دياب
ليست في رسالة الغفران:
ورد في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري عند العبور على الصراط (فوجدتني لا استمسك. فقالت الزهراء صلى الله عليها لجارية من جواريها يا فلانة: أجيزيه. فجعلت تمارسني وأنا أتساقط عن يمين وشمال. فقلت يا هذه إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل:
ستِّ إن أعياك أمري ... فاحمليني زقفونة
هارون محمد أمين
(الرسالة): (سي) مختزلة من سِيدي المحرفة من سَيّدي ثم لحقتها الثاء للتفريق بين المذكر والمؤنث(766/57)
القصص
الاعتزال!
للكاتب الإنجليزي هاتسفورد جونسون
بقلم الأديب سيد أحمد قناوي
غطت الآنسة (ويلدون) آلة الكاتبة بعد أن نال منها الملال وأدركها الكلال ثم ارتدت معطفها الخفيف الداكن اللون وألقت نظرة سريعة على المنضدة الكبيرة التي أمامها ثم أطفأت المصباح الصغير لتبارح مكان عملها.
كانت قد تأخرت عن موعد انصرافها من العمل كل ليلة، فكل الغرف قد أقفرت من شاغليها وأمستالعمارة الكبيرة في صمت موحش، وسكون رهيب. . . ولكنها لمتكن في حاجة إلى الإسراع في العودة إلى منزلها الصغير، فليس هناك من ينتظرها. . .
وهذا العمل ينسيها إلى حد ما عزلتها الموحشة التي تعيش فيها فضلاً عن أن تأخرها يساعدها على أن تجد مقعداً في السيارة تستريح فيه من عناء يوم قضته في العمل بدون انقطاع ولا فتور.
كانت الآنسة (ويلدون) قد بلغت السادسة والثلاثين من عمرها. . . ولم تسعد بما تسميه الفتيات (اللحظة السعيدة)؛ فهي لم تحظ بزوج يخفف عنها أعباء الحياة، ولم تعرف رجلاً شريفاً يذهب بها إلى (دور السينما)، ولم يقدر لها قط أن تجد شاباً عند الباب ينتظرها ليتأبط ذراعها ويسير بها إلى حيث يعلم هو وحده. كانت قد سمعت بهذا كله همساً من الفتيات الكثيرات اللاتي عملت إلى جانبهن. . . ولكنها هي لم تعرف حقيقة المشاعر التي تجيء في ضوء هذه الحوادث. . . ومع ذلك فهي سعيدة بعملها سعيدة بغرفتها الصغيرة في (بييزووتر). وبذلك الطريق الهادئ الذي تقطعه على قدميها كل صباح وسط (كنجستون جاردتر)، فإذا أظلم الليل وعادت إلى غرفتها وجدت فرصة طيبة لتتناول كوباً من الشاي ثم لتأكل بعض البيض والجبن ثم تنصرف إلى المطالعة. . .
وتذكرت (الآنسة ويلدون) وهي تهبط الدرج إلى باب المنزل أن برنامج الإذاعة جميل، وعلى هذا فستستطيع أن تقضي بعض الوقت في سماع الموسيقى؛ وقد تستطيع بعد ذلك أن(766/59)
تضطجع في فراشها لتقرأ قصة من القصص العاطفية التي تدخرها للحظات العزلة.
وبلغت الآنسة (ويلدون) الطريق ولكنها وجدت ما أدهشها. . . فقد كانت السماء تمطر مطراً خيل إليها أنه يزداد لحظة بعد لحظة، وصدمتها هذه الحقيقة فهي لم تفكر في هذا المطر ولم تتوقعه. ثم إن معطفها الخفيف لا يمكن أن يرد عنها البرد وإن ردّ عنها قطرات المطر إلى حين، وضاقت بالمارة الكثيرين الذين يسرعون الخطى إلى محطة السيارات لأنها لن تجد المقعد الخالي الذي ترجو أن تستريح فيه. وإنه لا يبقى أمامها إلا أن تسير على قدميها مسافة لا تقل عن ميل حتى تصل إلى محطة المترو، وهي مسافة ليست قصيرة ولا يسيرة في هذا المطر الوابل
ولكن الآنسة (ويلدون) تكره البقاء بلا عمل فجمعت أطراف معطفها حولها وراحت تجد في السير. . . وفجأة أحست يداً تلمس ذراعها فدارت على عقبيها لتجد نفسها أمام وجه باسم لرجل في قرابة الثلاثين من عمره. قطبت الآنسة (ويلدون) حاجبيها، فهي لا تعرف هذا العبث ولا تستمرئه، ولكن الرجل لم يلبث أن قال لها في هدوء:
- لا تسرعي هكذا، إن ثيابك مبللة. . خذي هذا.
ومد الرجل يده بمعطف من المعاطف التي تقي من المطر. . ودون أن تدرك ما تقول أجابت في همس:
- شكراً لك. . إنني راضية بهذا البلل. .
ولعلها كانت تريد أن تضع حداً لهذه القصة التي لا تسيغها ولا تريدها. . ولكن الرجل لم ينصرف بل قال:
- لا تكوني حمقاء. إنك تسيرين بنفسك إلى حتفك فهمست قائلة:
- ولو كان هذا حقاً فماذا فيه؟
فابتسم الرجل وهو يقول:
- ليس جميلاً أن يموت الإنسان في مثل هذا السن. تدثري بالمعطف، وأنقذي هذا الصدر الجميل.
وكان صوت الرجل قوياً يحمل على الطاعة، وكان جديداً على سمعها لم تعرفه من قبل، وهي إلى جانب هذا في حاجة إلى هذا المعطف، فلم تشعر إلا بالمعطف حول جسمها،(766/60)
فمدت ذراعها لتستكمل ارتداءه ثم ضمت أطرافه حول صدرها وهي تقول:
- ولكن ماذا تصنع أنت؟
- إن ثيابي غليظة، وأنا رجل.
- شكراً لك.
ولم تكن الآنسة (ويلدون) تعرف ما تقول، فهي لم تشعر قط بأنها كانت يوماً ما موضع عناية أو اهتمام من أحد، اللهم إلا مستر (بردفور) الشيخ الذي تعمل سكرتيرة له، ولكن شتان بين هذا وذاك! على أن الذي كان يشغلها هو ماذا يكون بعد هذا. . .
ولم تلبث الدهشة أن استولت عليها عندما سمعت الرجل يقول لها:
- هل تناولت الشاي؟
ولم تكن في الواقع قد تناولت شيئاً بعد الظهر ولهذا أجابت بسرعة: - لا. . .
ولعلها أحست في سؤال الرجل أنه يدعوها إلى قدح من الشاي؛ وهي وإن كانت حقاً في حاجة إلى شراب ساخن بعد أن بللها المطر إلا أنها لم تكن لها خبرة بمثل هذه الدعوات فاعتذرت شاكرة، ولكن الرجل تظاهر بأنه لم يسمع شيئاً وقال:
- هيا بنا، هناك مكان دافئ نجد فيه حاجتنا.
ولدهشة الآنسة (ويلدون) رأت نفسها تسير إلى جانب الرجل وقد تأبط ذراعها، وأحست بأصابعه تلامس صدرها. . ورأت كأنها تقرأ قصة من قصص الفراغ التي تدخرها لوقت النوم. وولجا الباب وأعجبها المكان كما لذها لدفء فلما انتحيا ركناً بجوار المدفأة قال الرجل وقد تهلل وجهه:
- الآن تستطيعين أن تخلعي المعطف حتى تجف ثيابك. ورجت هي أن تهنأ بلحظة سعيدة كهذه اللحظات التي سمعت عنها فأطاعت الرجل وراحت تحتسي الشاي في سكون.
ومرت اللحظات في أحاديث عن الجو والرياضة، وفجأة نظر الرجل في ساعته ثم قال:
- يا إلهي! لقد كدت أنسى أن أمي دعتني إلى العشاء هذه الليلة. لقد أعدت لي دجاجة كبيرة. . . إنني أتركك الآن؛ ولكن لا تسرعي في الخروج فسأدفع للساقي ثمن الشاي.
- ولكن كيف أرد إليك معطفك؟ وكانت وهي تقول ذلك تأمل أن يتفقا على موعد لعله يكون في الغد. وضحك الرجل ضحكة مرحة ثم قال:(766/61)
لقد نسيت هذا. . . على أية حال هذه بطاقتي إذا شئت أن تتحدثي إلي في أمر المعطف. ومد الرجل يده بالبطاقة ثم انصرف. وظلت الآنسة (ويلدون) برهة في شبه حلم، فقد كان الحادث كله غريباً لم تألفه، وكان كل ما مر بها منذ أن تركت مكان عملها يرغمها على أن تفكر في أشياء لم تكن لتتوقع حدوثها قط.
وألقت نظرة خاطفة على البطاقة فقرأت فيها:
(جون برونت) وكيل شركة المعاطف الواقية من المطر. ولقيت في طرف البطاقة إشارة تلفت النظر إلى ما خط في ظاهر البطاقة، فلما قلبت البطاقة قرأت ما يأتي:
(إذا أعجبك هذا المعطف فأرسلي لنا جنيهاً وعشرة شلنات وإلا فاتصلي بنا تلفونياً فنرسل إليك من يتسلمه منك).
وبذلك تبددت أحلا الآنسة (ويلدون) ومرت بها قصة عاطفية قصيرة كلفتها جنيهاً وعشرة شلنات ولكنها أبقت لديها أثراً لها هو معطف جديد للمطر. . .
وهكذا انصرفت الآنسة (ويلدون) عن الناس وآثرت أن تعيش على هامش الحياة.
سيد أحمد قناوي(766/62)
العدد 767 - بتاريخ: 15 - 03 - 1948(/)
من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة. .
- 4 -
يوم الخميس 10 مايو سنة 1945
كانت الساعة خمساً بالتمام حين دخلت محلي جروبي الجديد أبحث عن الآنسة (س)؛ وكانت العلامة التي سأتعرفها بها أن أجد نسخة من (الرسالة) على المنضدة التي تجلس إليها. ولكن ماذا أصنع والناس قد فروا من وهج الحر في قلب المكان فتكونوا حول الموائد في حواشيه مماشيه فلا يجد المار طريقه بين المقاعد إلا بصعوبة، والربع الزاهر المعطار قد خلع من حلله وحلاه على الأشخاص والأشياء، فالجو عطر والمنظر سحر والأزياء وشى والنساء ورود والرجال أشواك والأحاديث أغاريد، فلا أستطيع لشيوع الجمال وعموم الحسن أن أعرف صورة من صورة، ولا أن أميز زهرة من زهرة!
لو كنت حديد البصر لنفضت المكان من بعيد، فعرفت على أي منضدة تنام (الرسالة)، وفي أي كرسي تقعد الفتاة؛ ولكن البصر كليل والمساء مقبل، فلا مناص من الجولان المتهم بالفضول، ولا بد من النظر القريب من اللمس. على أنني توخيت المناضد المفردة فجعلت وجهي إليها ونظري عليها، فلم أخط غير قليل حتى رأيت منضدة صغيرة عليها يدان رقيقتان تقلبان (الرسالة)، فكنت في خروجي برؤيتها من ربكة المشي وحيرة النظر أشبه بالزورق العامه في ظلام المحيط أبصر في المرفأ ومض المنارة، أو بالسائر التائه في مجاهل القفر سمع في الواحة نبض الحياة.
أقبلت عليها فاستقبلتني واقفة كما يستقبل النساء الرجال في الريف، ومدت يدها إلي فتصافحنا باسمين، وجلسنا متقابلين، وكلانا يصعد النظر في الآخر ويصوبه، ويوازن في نفسه بين ما تصوره في الخيال بذهنه، وبين ما رآه في الحقيقة بعينه. أما هي فلم أدر ماذا كنت في خاطرها من قبل، وماذا أنا في ناظرها الآن. وربما حملني العجب المضمر في كل نفس أن أسألها عن ذلك في مؤتنف الحديث. وأما أنا فقد كنت موزع النفس والحس بين صورتين تختلفان في الذات كل الاختلاف، وتتشابهان في المعنى بعض التشابه: فتاة العزبة في نفسي كزنبقة الروضة المطلولة، بضة الجسم، لدنة القوام، مطهمة الوجه، قد نظرت(767/1)
وجنتيها النعمة، وغلظت شفتيها اللذة، وسوت خلقها الطبيعة؛ وفتاة (جروبي) في حسي نوارة من نوار الفول أبطأ عن حقله الغيث؛ فهي رقيقة البدن، مخروطة الوجه، دعجاء العين، فاترة اللحظ، طويلة الأنف، ظمياء الشفة، حلوة الافترار، هواها أكبر من جثنانها، وقلمها أجرأ من لسانها، وخبرها أضخم من عيانها؛ ولكنها على الجملة وضيئة الطلعة، مليحة القسمات، لطيفة الروح، تحمل الرجل بصباحة وجهها وصراحة قلبها على أن يأنس بها إذا حضرت، وأن يفكر فيها إذا غابت.
قلت لها بعد التحيات المنوعة والترحيب المكرر والأسئلة المعتادة: لقد انقطعت رسائلك عني منذ شهر فلم أعرف الأسباب التي أقدمتك إلى القاهرة؛ وما احسبني أعلم أن لك هنا أقارب تصلين رحمتهم بالزيارة، وتمنحين كرمهم بالضيافة. فلعلك قدمت مع أخيك أو بعض أهلك لغرض من الأغراض الخاصة أرجو ألا يكون من بينها المرض. فقالت الفتاة وقد أرسلت نفسها على سجيتها بعد احتشام من اللقاء الأول لم يدم طويلاً: ليس بجسمي والحمد لله ما أشكوه؛ ولنا في حي المنيرة منزل موروث تقيم فيه أختي الكبرى وزوجها وابنتاها، فأنا نازلة عليها به، ومطمئنة إلى حياتي فيه. وأما سبب قدومي فله حديث عرفت بعضه وغاب عنك بعضه، ولو كنت مطلقة اليد لما انقطعت رسائلي عنك، ولا التبست أموري عليك. ذكرت لك في رسالتي الأخيرة - لو تتذكر - ما كان بيني وبين ابن البستاني، وكيف استرقت زوجة أخي هذا السر من أفواه الخدم وأفشته إلى زوجها، وما أعقب ذلك من الضرب المبرح، والحجاب الكثيف، والمراقبة الشديدة. وكنت أظن أن لذلك العقاب حداً يقف عنده ووقتاً ينتهي فيه؛ ولكن العذاب أشتد وأمتد حتى ضاق مكاني في البيت، وساء مقامي في الأسرة؛ فأخي يعاملني بقسوة، وزوجته تكلمني بجفوة، وخادماته القرويات ينظرن إلي بازدراء. ومما سود نهاري وأطال ليلي أن أخي صادر بريدي فحرمني أن أقرأ ما أحب، وأن أكتب إلى من أريد، فأصبحت كسجينة الزنزانة محرومة من اعتبار النفس واستشعار الأنس واستحضار الوجود.
كان لا بد للإناء أن يطفح، وللجلد أن يهي، وللصبر أن ينفذ، فوطنت نفسي على الفرار إلى القاهرة. ولكن كيف الفرار وليس في يدي مال ولا في قدرتي مشي ولا في أسرتي مساعد؟ الأمر سهل! بين العزبة والقرية مسافة قصيرة وسكة معبدة، وبين أخي وعمدتها صداقة(767/2)
وثيقة ومعاملة متصلة. وهو يعرفني منذ أن كنت طفلة، ويسأل عني كلما زار الأسرة؛ فإذا ذهبت إليه وطلبت منه باسم أخي بعض المال فما أظنه يمتنع أو يتلكأ أو يستريب. على أن معي خواتمي وأساوري فأستطيع أن أستعين ببعضها إذا حبطت هذه الخطة. وفي تباشير الصبح قبل أن يتيقظ البيت ويسرح الفلاحون وضعت ألزم أشيائي وأخفها في حقيبة صغيرة، ثم تسللت إلى الطريق الذاهب إلى القرية، وكانت الأرض قد طلنا الندى، والنبات قد كلله الحباب، والطبيعة الراقدة تحت جنح الليل قد أخذت تستفيق وتنتعش وتتحرك؛ فالطير تصدح بأغاريد الصباح، والشجر يتجه بالتحيات إلى الشمس، وآحاد من الفلاحين المبكرين ينقلون كالأشباح خطاهم الوئيدة على ضفاف القنوات وحواشي الزروع، وأنا في هذه الصحوة الجميلة أسير بين حقول القمح خائفة مسرعة، أترقب كل أمر، وأتأهب لكل طارئ، فأعد لكل سؤال جواباً، ولكل تصرف علة. وستر الله علي حتى بلغت القرية وطرقت باب العمدة، فتلقاني أهله بوجوه منطلقة وصدور رحبة، ثم قدموا إلى الفطور فملت منه ما ينال العجلان القلق. ثم دخلت على العمدة في غرفته وقلت له: أن أخي غائب في المدينة، وقد أبرقت أختي إلي تنبئني أن ابنتها في نزاع الروح وأنها في حاجة إلي، فلا بد من سفري في قطار الصباح وليس معي نقود فما كان جواب الرجل إلا أن قدم إلي عشرة جنيهات وأمر الحوذي أن يهيئ لي العربة.
دخلت القاهرة عشية يوم الأحد الماضي، وكان حالي وأنا أسير في زحمة الخارجين من المحطة حال الهارب من السجن، يتوهم في كل مكان جاسوساً يسمعه، وفي كل طريق شرطياً يتبعه. فلم تكد عيني تقع على سيارة عامة بجانب الإفريز حتى دخلت فيها وقلت للسائق: المنيرة، شارع كذا، رقم كذا. وما هي إلا عشر دقائق حتى وقفت السيارة أمام البيت، فصعدت الدرج، وغمزت الجرس، فأسرعن أختي في لهفة إلى باب الشقة وفتحته وهي ترتجف، وعانقتني وهي تنتحب! وكان مبعث ذلك كله أن أخي أرسل برقية إلى زوج أختي يعلن إليه هربي، ويلح عليه في طلبي، فساورت أختي الهموم، وتنازعتها الظنون، وعللت هذا الهرب بما أقاسيه في العزبة من العدوان المستمر، والحرمان المتصل؛ لأن أخي لا يهتم بها فهي تسيء به الظن، ولأن امرأته لا تخف على قلبها فهي تعتقد فيها الظلم! وقويت أنا في نفسها هذا التعليل بما افتريت من الأكاذيب واختلقت من المظالم.(767/3)
فكتبت أختي إلى أخيه تسترضيه عني وتسأله أن يأذن لي في البقاء معها أياماً لتجلو عن جسمي هذا المرض، وتكشف عن نفسي هذا الهم. ولكنني قطعت العزم على أن أموت هنا ولا أعيش هناك، وأن أخسر رضا الناس أجمعين إذا كسبت رضاك. .
(للقصة بقية)
أحمد حسن الزيات(767/4)
حول كتاب (عثمان)
حكومة النبي وخلفائه
للأستاذ عباس محمود العقاد
(يقول. . . الدكتور طه حسين في كتابه عثمان! (إن حكومة الرسول والخلفاء الراشدين من بعده كانت وضعيته وليس للدين الإسلامي يد فيها. ويستنتج من هذا أن لا فرق بين المسيحية والإسلام من هذه الوجهة وأعنى نظام الحكم والمجتمع، ويأتي بدليل قوله تعالى: وشاورهم في الأمر ويقصد الأمور الدنيوية بأسرها. . .
(ولكن ألم يقرأ قوله تعالى عز من قائل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
(هل كانت حكومة المسلمين من وضع محمد عليه الصلاة والسلام دون إيحاء من رب السماء؟ وهل كان أبو بكر وعمر يقومان بأعمالهما من تلقاء نفسيهما وليست هي من جوهر الإسلام في شيء؟ وهل كان عمر رضي الله عنه يقصد من قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء). . . أقول هل كان يقصد الأموال بأنواعها كما يعتقد الدكتور، أو يقصد الزكاة والصدقات؟
أرجو إيضاح ذلك على صفحات الرسالة الغراء. . . الخ
(الأعظمية)
عبد الكريم الوهاب
جاءنا هذا الكتاب فحذفنا منه بعض العبارات التي لا تدخل في السؤال، واكتفينا منه بما نشرناه.
والذي نراه أن الأديب صاحب السؤال قد ظلم الفكرة التي نقلها عن كتاب عثمان، لأن الدكتور طه حسين لم يقل شيئاً مما فهمه في سؤاله، وكل ما يفهم من كلام الدكتور طه أن حكومة النبي عليه السلام لم تكن حكومة (ثيوقراطية) أي حكومة تستأثر بها طائفة من الكهان والأحبار ولا تشرك فيها الأمة برأي في اختيار الحاكم وتقرير الأحكام.
وهذا في رأينا صحيح.
فمسألة الحكم في الإسلام حق لجميع المسلمين يتولاه من يصلح له وتتفق جمهرة المسلمين(767/5)
على صلاحه. وليس العالم بالفقه فيه إلا كالعالم بأصول الحكم في هذه الأيام، يختار لحاجة المجتمع إلى هذه الأصول، ولا يختار لأن علمه يجعل الولاية حكراً له أو حقاً محصوراً فيه وفي طائفة من أمثاله.
وليس رأي المسلمين في صلاح الحاكم بمانع أن تكون أصول الشريعة التي يحكم بها من عند الله، وكل ما يمنعه أن يعتبر (الحق الإلهي) الذي ادعاه بعض ملوك أوربة وسيلة إلى إنكار حق الرعية في الشورى والرقابة على الحكومة. وقد أبى الإسلام هذه الدعوى فكانت سنته هذه مزية بين الأديان.
وقد أوضح الدكتور طه حسين هذا المعنى فقال يرد على القائلين بالثيوقراطية في الإسلام أنهم قد يرون: (أن الحكومة التي كانت تحكم المسلمين في هذا العهد إنما كانت تستمد سلطانها من الله، ومن الله وحده، لا ترى أن للناس شأناً في هذا السلطان ولا ترى أن من حقهم أن يشاركوا فيه أو يعترضوا عليه أو ينكروا منه قليلاً أو كثيراً).
فالواقع أن الإسلام لا يعترف للحاكم بحق إلهي يمنع الناس من حسابه والتعقيب على حكمه، وهذا الذي فهمناه من كتاب عثمان حين رجعنا إليه، فلا غبار في رأينا عليه.
أما كلمة عمر عن الأموال فقد عقبنا عليها في كتابنا عن عبقرية عمر فقلنا: (إنه لم يرد في كلامه تفصيل لهذه النية. ولكن الذي نعلمه من آرائه في هذا الصدد كان لاستخلاص ما كان ينويه. فعمر على حبه للمساواة بين الناس كان يفرق أبداً بين المساواة في الآداب النفسية والمساواة في السنن الاجتماعية. . ولم تكن المساواة في أدب النفس عند عمر مما ينفي التفاضل بالدرجات، ولم يكن يرضيه كذلك أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا، ويعرضوا عن العمل واتخاذ المهنة، فكان يقول لهم في خطبه: يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالاً على المسلمين. وكان يوصي الفقراء والأغنياء معاً أن يتعلموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدهم إلى مهنة وإن كان من الأغنياء. . . فيسوغ لنا أن نفهم من هذا جميعه معنى ما انتواه من أخذ فضول الغني وتقسيمه بين ذوي الحاجة، وهو تحصيل بعض الضرائب من الثروات الفاضلة وتقسيمها في وجوه البر والإصلاح).
هذا مجمل رأينا في سؤال الأستاذ الوهاب.(767/6)
وقد تلقينا كنباً أخرى في هذا السياق يسأل كتابها عن مواطن في كتاب عثمان لا نرى حاجة إلى تفسيرها، لأن إنعام النظر في الكتاب نفسه يغني عن ذلك التفسير.
على أننا نعتقد أن الذين يستقبلون كتاب عثمان بمثل هذا النقد لم يظلموه كما ظلمه المقرظون له بلسان التزلف والدهان، فإنهم يقولون فيه ما لا يقوله إلا عاجز عن التقدير الصحيح. وهو كاف لإعطاء الكتاب حقه من الثناء.
فهؤلاء العجزة عن التقدير الصحيح يزعمون أن الفتنة الكبرى لم تبحث على قواعد التاريخ أو على قواعد السنن الطبيعية قبل كتاب عثمان.
ومن جرأة الجهل أن يصدر مثل هذا الادعاء في هذه السنوات على التخصيص؛ لأن هذه السنوات قد ظهر فيها كتاب يسمى عبقرية الإمام، طبعت منه طبعات قبل ظهور كتاب عثمان، وترجم إلى اللغات الشرقية، وانتشر في جميع الأقطار الإسلامية، وقرأه عشرات الألوف من أقصى المشرق الإسلامي في الهند إلى أقصى المغرب الإسلامي في مراكش وإفريقية.
وفي هذا الكتاب كلام عن الفتنة الكبرى التي برزت في أيام عثمان ودامت إلى قيام الدولة الإسلامية.
وقد وصف عصر عثمان وقال: (إنه هو العصر الذي تكون فيه المجتمع الإسلامي بعد نشأة الدولة الجديدة، فيه نظام جديد على أساس الثروة المجلوبة من الأقطار المفتوحة، وعلى أساس الولايات التي تولاها بعض الطبقات المرشحة للرئاسة من العلية وأشباهها).
وأحصى الكتاب أسباب التذمر سبباً سبباً فقال في مسألة الثروة: (كثر المترفون من جانب وكثر المتربون من جانب آخر، وشاع بين الجانبين ما يشيع دائماً في أمثال هذه الأحوال من الملاحاة والبغضاء).
وقال عن قلق أبناء الولايات: (إن المتذمرين توافدوا من الولايات إلى المدينة مجندين وغير مجندين، وتولى زعامة المتذمرين في بعض الأحيان جماعة من أجلاء الصحابة كتبوا صحيفة وقعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ الخليفة).
وقال عن التنافس بين العواصم (إن التنافس كان على أشده بين العاصمتين الحجازيتين وبين الكوفة، لا يرضي أهل المدينة بما يرضي أهل مكة، ولا يرضي أهل الكوفة بما(767/7)
يرضي هؤلاء وهؤلاء).
وقال عن أثره قريش: إن قبائل البادية (كانت تنفس على قريش غنائم الولاية ومناصب الدولة وينظرون إليهم نظرتهم إلى القوى المستأثر بجاه الدين والدنيا وحق الخلافة والسطوة).
وقال عن طبقات المسخرين (كان العبيد والموالي والأعراب المحرومون حانقين متبرمين لا يرضون عن حظهم من العيش بعد أن علمهم الإسلام حقوق المساواة وشرع لهم شريعة الإنصاف).
وقال عن جمهرة القراء والحفاظ وأصحاب النسك والفقه والشريعة: (إنهم خلق كثير يعدون بالألوف ويتفرقون في الحواضر والبوادي ولا يزالون كأنبياء بني إسرائيل منذرين متوعدين ساخطين على ترف المترفين).
وقال إن أبا بكر وعثمان كانا يمسكان الصحابة بالحجاز ويحذران منهم أن ينطلقوا في الأرض فيقبلوا على الدنيا، وأن عثمان أهمل هذه السياسة الحكيمة وشق عليه أن يطيل حبسهم بالحجاز والهيمنة عليهم بجواره.
وقال غير ذلك مما لا يخرج عنه سبب واحد من أسباب الفتنة، ولخصها كلها في مرجع واحد وهو افتراق عهد الخلافة وعهد الملك، وأن الموقف كان في خلافة عثمان (ملتبساً. . . متشابكاً؛ لأنه كان نصف ملك ونصف خلافة، أو كان نصف زعامة دينية ونصف إمارة دنيوية. فوجب أولاً أن يتضح الموقف بينهما وأن يزول الالتباس وتقابل الضدان اللذان لا يتفقان - أن يبلغ الخلاف مداه، ولن يزال قائماً حتى تكتب الغلبة لمبدأ من المبدأين وحكم من الحكمين).
هذا بعض ما جاء من عبقرية الإمام عم أسباب الفتنة الكبرى ما تردد في صفحات الكتاب كله في تفسير تلك العوارض الاجتماعية.
فمن الجرأة التي لا توصف إلا بأنها جرأة الجهل، أن يحاول غمر من الأغمار ستر هذه الحقيقة عن الأعين، وهي تعد بعشرات الألوف.
ونحن لا يعنينا الأمر، لأنه لا يضير كتابنا عن عبقرية الإمام؛ فإن عبقرية الإمام لا يحبه كلام يلغط به غمر من الأغمار.(767/8)
ولكننا ننبه إليه؛ لأن سكوتنا عنه يعد عجيباً جداً في هذا الزمن وفيما بعد هذا الزمن، ولأن وقحة الجهل خليقة أن تزجر، ليتعلم الجهلاء كيف يكتبون حين يريدون الثناء على مؤلف من طراز كتاب عثمان.
فهذا الكتاب من مؤلفات العصر التي يستطيع الناقد الخبير أن يثني عليها ولا يقول فيها إلا حقاً. فإذا لجأ إلى الباطل في الثناء عليه فإنما يسيء إلى نفسه ويسيء إلى الكتاب: يسيء إلى نفسه، لأنه يفضح عجزه؛ ويسيء إلى الكتاب، لأنه يرى الناس أنه محتاج إلى الباطل ليظفر ببعض الثناء.
عباس محمد العقاد(767/9)
2 - الحمادون الثلاثة
للدكتور جواد علي
وروى الرواة قصة حماد التي ذكرناها بشكل آخر قابل للتصديق موافق للعقل، فلم تدخل إليها المبالغة على الطريقة التي رأيناها في قصته مع هشام وردت في كتاب (العقد الفريد) بهذه الصورة: جلس الوليد يوماً وجارية تغنيه، فأنشدت الوليد
قينة في يمينها إبريق.
فاستنشده حماد الرواية، فقال:
ثم نادى إلا اصبحوني فقامت ... قيْنَةٌ في يمينها إبريق
قدَّمته على عُقار كعين الديك صفى سلافه الراووق
حرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق
وهي نفس الحكاية كما رأيت غير أنها دون مبالغات ولا تهويل، كما أن الخليفة الذي حدثت معه هذه الحكاية هو الوليد وليس الخليفة هشام وهو أمر مقبول معقول يجوز صدوره من الوليد، ولم يذكر بهذه الرواية عن أمر استدعائه شيئاً.
وفي (الأغاني) قصة أخرى مصدرها (حماد) والخليفة صاحب القصة هو الوليد، وردت على هذه الصورة:
كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر:
أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فسرح إلى حماداً الراوية على أحب دابة من دواب البريد وأعطه عشرة آلاف درهم يتهيأ بها.
قال فأناه الكتاب وأنا عنده فنبذه إلي، فقلت السمع والطاعة، فقال يا دكين، مر شجرة يعطيه عشرة آلا فدرهم، فأخذتها. فلما كان اليوم الذي أردت الخروج فيه أتيت يوسف بن عمر فقال يا حماد، أنا بالموضع الذي عرفته من أمير المؤمنين، ولست مستغنياً عن ثنائك. فقلت أصلح الله الأمير (أن العوان لا تعرف الخمرة) وسيبلغك قولي وثنائي. فخرجت حتى انتهيت إلى الوليد وهو بالبخراء، فاستأذنت عليه فأذن لي، فإذا هو على سرير ممهد، وعليه ثوبان أصفران: إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئاً، وإذا عنده معبد ومالك بن أسمح وأبو السمح وأبو كامل مولاه، فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال أنشدني:(767/10)
أمن المنون وريبها تتوجع ... فأنشدته حتى أتيت على آخرها
ولا تستبعد حكاية طلب الوليد لحماد فقد كان (حماد) من المقربين للوليد، وقال كان يقصده عند الحاجة فيحصل على هداياه ثم يرجع كما كان يجالسه ويدخل مجلسه. وكان الوليد يميل إلى الشعراء والأدباء وأهل الفن. ويجوز أن يكون فيما ذكره عن (يوسف بن عمر الثقفي) مبالغة إذ لم تكن صلاته بالوليد على الصورة التي ذكرها (حماد): كان على العكس مقرباً لديه طيلة مدة الحكم (الوليد) إلى أن قتل، فغضب عليه (يزيد) وعزله عن العراق ثم قتل بعد ذلك سنة 116 للهجرة.
كان حماد شيطاناً خبيثاً ماكراً يستطيع استخراج ما في القلوب. وكان يمضي وقته بالمداعبات والمهاترات وقول الشعر جاء في العقد الفريد: إنه كانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة، فاجتمع يوماً في مجلس بالكوفة فيه حماد الرواية، وحماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وبكر بن مصعب، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: ما بقى شيء إلا وقد تهيأ في مجلسنا هذا. فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي؛ فأرسلوا إليه فأقبل يقول مرهباً، مرهباً هياكم الله. وقد كان قال أحدهم: من يحتال لأبي عطاء حتى يقول جرادة، وزج، وشيطان؟ فقال حماد أنا، فقال يا أبا عطاء، كيف علمك باللغز؟ قال هسن، يريد حسن، فقال له.
فما صفراء تكني أم عوف ... كأن سويقتيها مِنجلان
قال زرادة؛ فقال أصبت، ثم قال:
أتعرف مسجداً لبني تميم ... فويق الميل دون بني أبان؟
قال في بني سيتان، فقال أصبت، ثم قال:
فما أسم حديدة في الرمح ترمي ... دوين الصدر ليست بالسنان
فقال زُزّ، فقال أصبت
وكان حماد كسائر أهل الكوفة يفضل (الأعشى) على شعراء الجاهلية. قال يحيى بن سليم الكاتب:
بعثني أبو جعفر أمير المؤمنين بالكوفة إلى حماد الراوية أسأله عن أشعر الشعراء، فأتيت باب حماد فاستأذنت وقلت: يا غلام! فأجابني إنسان من أقصى بيت في الدار فقال من أنت؟ فقلت يحيى ابن سليم رسول أمير المؤمنين. قال أدخل رحمك الله! فدخلت أتسمت الصوت(767/11)
حتى وقفت على باب البيت فإذا حماد عريان على فرجه دستجه شاهسفرم، فقلت إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس، فقال نعم، ذلك الأعشى صناجها.
وهذه القصة على ما يخيل إلي هي من وضع رواة الكوفة الذين كانوا يتعصبون للأعشى على سائر الشعراء ويقدمونه على الجميع؛ وإلا فقد كان بوسع الخليفة استدعاء الرواية إليه واستطلاع رأيه وأخذ الدليل. وكان أهل الكوفة يتعصبون للأعشى نكاية بالبصريين الذين كانوا يتعصبون لامرئ القيس.
والظاهر أن العباسيين لم يكونوا يعطفون عليه حتى ولا أعوانهم مثل أبي مسلم الخراساني، بل كان الرواية يخاف منهم ويبتعد عنهم كلما استطاع ذلك. كالذي جاء في حديث حماد عن استدعاء أبي مسلم الخراساني له حيث يقول: أرسل إلي أبو مسلم ليلاً، فراعني ذلك، فلبست أكفاني ومضيت، فلما دخلت عليه تركني حتى سكن جأشي، ثم قال لي ما شعر فيه أوتاد؟ قلت من قائله أصلح الله الأمير؟ قال لا أدري. قال فأطرقت حيناً أفكر فيه حتى بدر إلي وهمي شعر الأفوه الأزدري حيث يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهاً لهم سادوا
والبيت لا يبتني إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
فقلت هو قول الأفوه الأزدري أصلح الله الأمير، وأنشدته الأبيات، فقال صدقت، انصرف إذ شئت! فقمت، فلما خطوت الباب لحقني أعوان له ومعهم بدرة فصحبوني إلى الباب، فلما أردت أن أقبضها منهم قالوا لا بد من إدخالها إلى موضع منامك فدخلوا معي، فعرضت أن أعطيهم منها شيئاً فقالوا لا نقدم على الأمير. ثم من يدري فلعل الخوف هو الذي أوحى إلى حماد الراوية بهذا الشعر الذي لا يمكن نظمه إلا من رجل حضري على طراز حماد، أو لعل القصة موضوعة من أساسها أن أردنا أن نذهب مذهب الشك في أكثر أقوال حماد.
والظاهر أن إعراض العباسيين عن (حماد) الذي كان يلتجئ إلى الأمويين هو الذي حمله على مغادرة (بغداد) في أيام المنصور بعد أن وفد إليها يلتمس الرزق في قصور خلفاء بني العباس. والظاهر أن الحظ كان قد ابتعد عنه وظل يبتعد عنه ولا سيما في أيام المهدي عدو الزنادقة اللدود. وكان حظ أكثرهم مثل حظ حماد. ويقال إنه سافر بعد ذلك من الكوفة إلى(767/12)
البصرة حيث كانت له هنالك عصابة ثم عاد بعدئذ إلى بغداد. ولكنه وجد إعراضاً من المهدي ومطاردة فاضطر إلى مغادرة العاصمة إلى أن توفي عام 155 أو 156 أو 158 للهجرة.
مسكين حماد! كلن شاعراً مجيداً من الشعراء المجيدين. وكان ذكياً شاطراً ما في ذلك شك، وكان حافظاً ما في ذلك شك أيضاً؛ غير أنه لم يستغل ذكاءه ولم يستعمل مواهبه في قول الشعر فكان كصاحبه خلف الأحمر ينظم باسم الغير، ويقول الشعر ثم ينسبه إلى القدماء. ولعله كان يجد في ذلك رواجاً أكثر من رواج النظم المنسوب إلى نفسه، وهو رجل يريد أن يعيش كثير من أترابه الشعراء على حساب شعرهم!
لقد كان خلف الأحمر أحسن منه حظاً ولا شك، فقد حفظ الرواة عنه ما لم يحفظوه عن حماد، وذكروا عنه ما لم يذكروه عن زميله حماد. ولم نجد في الكتب من أخبار حماد غير اليسير مع كل المبالغات التي رويت عن محفوظه من الشعر، لقد ذهبت معه إلى القبر فقبرت معه إلى أبد الآبين.
والعادة كما يقول العوام أن تطول رجل الإنسان بعد الموت؛ غير أن رجل حماد ظلت قصيرة، فلم يتبار الناس في رثائه، ولم يعبأ إخوانه على ما يظهر لوفاته، إنهم لا يقيمون وزناً إلا للأحياء؛ أما الأموات فإلى أناس آخرين، فلم يرد مما قيل في رثائه غير ما رثاه به عبد الأعلى بن عبد الله بن خليفة أبو يحيى محمد بن كناسة بقوله:
لو كان ينجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو ودّه كدر
فهكذا يفسد الزمان ويفني العلم فيه ويدرس الأثر.
وحماد هو الذي جمع السبع الطوال فيما ذكره أبو جعفر النحاس والتي يقال لها (المعلقات السبع). جمعها من قصائد كثيرة واختارها من بين الشعر الجاهلي اختياراً، والتي قيل عنا إنها كانت قد كتبت بالذهب وعلقت بالكعبة. والتي شرحها جماعة من الشراح. والتي جاء عنها في (جمهرة أشعار العرب).
(وقال المفضل القول عندنا ما قاله أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم وهو أن أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات وهم أمرؤ القيس وزهير النابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم(767/13)
وطرفه ابن العبد. قال المفضل هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط ومن زعم غير ذلك فقد خالف جمهور العلماء. .) وقد أورد أبو زيد محمد القرشي أسماء الطبقات الأخرى مثل المجمهرات والمذهبات. . الخ.
ويرى المستشرق (نولدكه) أن اسم (السموط) هو الذي أوحى إلى مخيلة الرواة بوضع تلك القصص من المعلقات السبع وعن تعليقها في جوف الكعبة دون دليل قائم ولا حجة مقنعة، ومع أن رواة السيرة والمغازي لم يذكروا عند بحثهم فتح مكة من أمر هذه المعلقات شيئاً كما أن الحديث النبوي لم يتعرض لها. وهذا ما يجعلنا نشك في صحة ما ورد من روايات.
الدكتور جواد علي(767/14)
2 - غاندي الصوام
للأستاذ حسين مهدي الغنام
من أقوال غاندي المأثورة قوله: (إن المواطن الذي يريد أن يخدم وطنه، يجب عليه أن يحتفظ بجسده وعقله طاهرين، حتى يجعل من نفسه أداة صالحة لخدمة هذا الوطن. والإنسان الذي يخدم السلم والإنسانية، عليه ألا يتجه في نضاله إلى الأشخاص، بل عليه أن يجارب النظم الفاسدة ويستأصل روح الشر التي تسيطر على بعض الناس).
وكان هذا الرأي دستور غاندي في حياته، ومبدأه ومذهبه الفلسفي الذي نادى به، ثم اعتنقه عملياً وأداه بنفسه في حياته، وعمل على نشره في العالمين. . .
فلما بدأ حركة العصيان المدني أمر أتباعه أن يتخلوا عن كل متاعهم الدنيوي، ويهبوا أنفسهم لخدمة غرضهم الأسمى، ويتطهروا روحاً وجسماً ويتهيأوا لمحاربة الشر الكامن في الإنسان، حرباً روحية بلا عنف أو قسوة.
وبدأ الرجل حركته الجديدة. وتبعه مريدوه وتلامذته.
ولكن إحدى تابعاته ضلت، فانقطعت عنهم واحداً وعشرين يوماً، عادت بعدها تستغفر زعيمها، فاستيقن من صدق تويتها، عزم أمره على شراء خطاياها بالصوم واحداً وعشرين يوماً. . .
وهكذا بدأ غاندي سياسة الصوم، التي تتلخص فيها فلسفته!
والذي قاله السردار إقبال على شاه عن قوة غاندي الروحية وتأثيرها على الهنود، صحيح في جملته. وكان سلاح الرجل الوحيد ذلك السلاح الهادئ الذي لا يحدث صوتاً ولا فرقعة، سلاح الصوم، والصوم يعني الإنسانية العليا والصبر والقناعة والرضى.
وكان هذا السلاح ذا تأثير عظيم في الهنود، بل لم تكن مجموعة من القنابل الذرية بكافية لأن تهز ملايين الهنود كما يزلزلها صيام ذلك الشيخ الهندوكي الواهن الجسم.
كان المتنبئون والروحيون من الهنود يقدرون لزعيمهم أنه سيعمر ما بين 125 و 133 عاماً. وكان غاندي يعتقد مثل هذا الاعتقاد. ولكنه قبل اغتياله نذر أن يصوم حتى الموت إذا لم ينفذ الهندوس ما طلب منهم في صالح المسلمين واتحادهم معاً.
ولطالما عمد غاندي إلى الصوم الذي كان أشد أسلحته، فكان هذا الصوم يقف الاضطرابات(767/15)
الطائفية في بلاده، فتنقلب دعوات البغضاء إلى أغاني حب. وكان يتلافى الأزمات الحادة التي كانت تجر الخراب والمار على الملايين، ويهدئ الأعصاب والثورات، ويحفظ اتحاد الهنود، وينقذ أرواح الملايين، بهذا السلاح الضعيف القوي، الذي برع فيه فكان يفل عزائم الأبطال. . .
ولقد هدأ غاندي ثورة كلكتا مرة، بأن صام، ففعل صومه ما لم يستطع فعله 55 ألف جندي لم يستطيعوا حفظ السلام في مقاطعة البنجاب.
وكان غاندي، أشهر صائم في العالم، لا يشجع غيره على تقليده في الصوم بلا روح.
لما أفطر بعد صومه الخامس عشر الذي استغرق 121 ساعة قال لأبناء وطنه: (في هذا العصر المقلد بلا تمييز ولا شعور، أحذركم وأقول إنه لمن الغباء من أي شخص آخر أن يفعل مثلي وينتظر نتائج سريعة، فستذهب آماله وآلامه هباء، فإنه للصيام مؤهلات قاسية يجب أن تتوفر في القائم به، إذ يجب أن يكون صاحب عقيدة صادقة في الله، وأن يكون صومه بدعوة من الله ودعاء له. وبهذا يكون للصوم أثره ونتائجه التي أدى من أجلها وقبل أن يؤدي يجب أن يمهد له بتمهيدات طويلة، فلا تدعو إنساناً ما أن يقوم إذن بهذا الصيام ما لم يكن مستعداً له استعداداً قلبياً خالصاً. . . إنه ليس مجرد تقليد).
وقبل سنين طويلة كتب غاندي عن الصيام فقال: (أن الصيام نظام قديم قدم آدم. وكان يتخذ إما وسيلة لتطهير النفوس وإما لغايات نبيلة أو رذيلة. ومن قبل صام بوذا وعيسى ومحمد حتى يتمكنوا من رؤية الله وجهاً لوجه. أن الصيام قطعة من كياني، وأني أتمسك به، لأنه وسيلة كل باحث عن الحقيقة)
وقد كتب طبيب غاندي الذي كان يعني به أيام صيامه، وهو الدكتور روي: (أن الصيام عند غاندي عقيدة دينية. فقد كان يبدؤه بالصلاة، ثم يختتمه بالصلاة، كما كان في أثناء صومه - طال أم قصر - يبدو كأنه متصل بقوة روحية عليا)
وقبل أربع وعشرين سنة صام غاندي 21 يوماً في دلهي، لكي يربط بين الهندوس والمسلمين. ثم صام لنفس الغرض في كلكتا هذا العام، وقد أدى صيامه إلى نتائج طيبة، كما صام في سبتمبر الماضي في ثانية المدن الكبرى في الكومنولث الإنجليزي، وكانت الاضطرابات بين الطوائف تهددها وتهدد أهليها بالدمار والفناء، وأدى صومه إلى نتيجة(767/16)
عظيمة، حتى سمى هذا الصوم معجزة كلكتا. . .
وبدأ غاندي صيامه التاسع عندما اعتقل أثناء الحرب الماضية في (فيلا) أغا خان في بونا، ثم رفض عرضاً بريطانياً بإطلاق سراحه إذا أنهى صومه، وقد أطلقوا سراحه عام 1944.
ولقد لعبت غاندي دوراً عظيماً في جميع المحادثات التي أدت إلى استقلال الهند في أغسطس من العام المنصرم، فأعلن قبل تحقيق حلم حياته الذهبي بأيام قلائل، إنه أعتزم أن يعتزل السياسة، واصطحب معه حسين السهروردي - الزعيم المسلم المعروف - وعاشا في اكثر أحياء كلكتا اضطراباً وشغباً، ثم بدأ في أول سبتمبر صومه حتى يعود إلى كلكتا عقلها!
وقد أنهى صيامه بعد أربعة أيام حينما بدأت قوة (بوليس) شمالي كلكتا صيامها لمدة أربع وعشرين ساعة، مشاركة للزعيم وكان في تلك القوة ضباط أوربيون وانجليز وهنود كثيرون.
وفي السادس من سبتمبر الماضي، قبل أن يغادر غاندي كلكتا، أخبر المصلين معه أنه إذا أقلق سلام كلكتا مرة أخرى، فليس أمامه إلا الصوم حتى الموت. . .
وفي الثالث عشر من يناير هذا العام، بدأ صيامه إلى أجل غير معلوم، ليحقق اتحاد الهندوس والمسلمين. وعندئذ أرسلت الهند والباكستان، مندوبيهما (ليك سكسس) ليقدموا إلى مجلس الأمن وجهات أنظارهما عن ولاية كشمير، ولكن المهاتما قال أنه لا شأن لصيامه بأعمال الأمم المتحدة.
وفي الثاني عشر من نفس الشهر، عندما وقعت حكومة الهند ورؤساء أحزابها تعهداً بتحقيق شروط غاندي السبعة التي اشترطها عليهم في صالح المسلمين، أنهى صومه، وكانت مدته 121 ساعة ثم قال: (لا أستطيع أن أعتقد في استحالة الصداقة والأخوة بين الهندوس والمسلمين والسيخ والمسيحيين واليهود والفارسيين فإذا تحطمت هذه الصداقة التقليدية تحطم الشعب الهندي كله. وإذا تحقق هذا العهد، فأني أؤكد لكم أن تحقيقه سينعش قوتي وسيضاعف ابتهالي إلى الله، وسيعينني هذا على أن أحيا بقية حياتي قرير العين، مؤدياً للإنسانية الخدمة التي فرضتها علي حتى اللحظة الخيرة من حياتي، التي يقدر لها بعض المتنبئين أنها ستكون 125 سنة، ويقول البعض الآخر بل ستكون 133 عاماً)(767/17)
ومن حوادث صومه الطريفة، صومه الذي قام ع مشاركاً (أباشد تواردهان) الذي رفض أن يقوم بعمل (الزبال) في سجن (برفادا)، ورفض كذلك أن يمس أي طعام حتى لا يقوم بعمل الكناس كما أمر، فصام، وصام غاندي معه، وهنا خشيت السلطات على حياة الزعيم فأعفت (أباشد) من أوامرها، وهنا أفطر الرجلان. . .
وكان من ثمرات صيامه الطيبة، صومه ضد الحكم الذي تبع محادثات ماكدونالد سنة 1932، ضد المنبوذين، وهم أحط الهنود حياة وأشدهم فقراً، فكان من نتائج هذا الصوم أن تفتحت أبواب المعابد الهندية الضخمة للمنبوذين، ومنذ ذلك اليوم صاروا يعرفون باسم (الهاريجان) وهي تعني أحباب الله!
وفي الخامسة والعشرين من يونيو سنة 1934 حاول شخص مجهول أن يلقى قنبلة على غاندي في بونا، فأخطأته ولكنها أصابت سبعة أشخاص. وكان لهذا العمل الإرهابي أثره، فبعد أسبوعين استعمل أحد أنصار قضية (الهاريجان) العنف في التعبير عن اعتقاداته في مقاومة الهندوس، فصام غاندي سبعة أيام ليشعر هذا الخاطئ بخطيئته.
وقد قال البانديت نهرو مرة عن المهاتما: (لشد ما كان غاندي لغزاً غامضاً محيراً، ليس للحكومة الإنجليزية وحدها، بل لشعبه أيضاً، بل لأقرب المقربين إليه من أنصاره ومريديه)
ثم قتل هذا اللغز البسيط المعقد، الذي لم يفهمه أحد حق فهمه، فقضى شهيد اتحاد الهند، وشهيد الإنسانية في هذا العصر المادي المضطرب، ولكنه مات ميتة نبي. . . والأنبياء - كما قيل قديماً - غرباء في أوطانهم، بل في العالم، لأنه لا يفهمهم في حياتهم فهماً صحيحاً. . .
ولقد قتل غاندي قتلة دنيئة - وهو ذاهب للصلاة - بيد احد ابناء وطنه ودينه، فمات ميتة الأنبياء الشهداء الغرباء في أوطانهم.
ولكن العالم كله عرف غاندي، وأن لم يدن بمبادئه، مع اعترافه بها، إلا أنه تخبط في طريقه إلى تحقيق أهدافها العليا وهي أهداف كانت منذ الأزل وما برحت رسالة الأنبياء والشعراء والمرسلين.
حسين مهدي الغنام.(767/18)
على نفسها جنت براقش
للأستاذ نقولا الحداد
صرنا في هذه الأيام نسمع قول بعض الساسة أنه إذا لم ينفذ تقسيم فلسطين فهيئة الأمم تفقد هيبتها. أجل تفقد هيبتها من غير شك. ومشروع التقسيم لن ينفذ على الإطلاق، وهيئة الأمم ستفقد هيبتها حتماً؛ ويكون موتها فجأة لا كموت جمعية الأمم المرحومة، لأن هذه كانت مريضة بالسل وهيئتنا مريضة بالذبحة الصدرية. فبنوبة اخرى تقضي نحبها.
من الملوم على هذا المصير الفادح؟
هيئة الأمم نفسها ملومة. وعلى نفسها جنت براقش.
لأنها لم تكن محكمة للقضاء العادل كما كنا نظن، بل ظهر لنا أنها كمحكمة صلح، لا تقضي بين محكمتين بل تحاول مصالحة العرب واليهود مصالحة قهرية. ولكنها مصالحة مستحيلة، لأنه ما من أحد في الدنيا يصالحك على بيته وأنت تحتله عنوة وتعمد إلى اقتسام شطر منه وليس لك فيه حق لا أولاً ولا آخراً.
أجل لم تكن هيئة الأمم محكمة قضاء ولا محكمة صلح؛ بل كانت سوقاً للمساومة على المصالح الشخصية على حساب صاحبها. فالإنصاف لا يمكن أن يكون رائدها بتاتاً. بل كانت ساحة مناوأة بين الدول ذوات المصالح التي كانت تتذرع بالمسألة الفلسطينية إلى اقتناص أغراض اقتصادية واستراتيجية ونحوها.
وقد رأينا في عرض قضية فلسطين في هيئة الأمم كيف كانت هذه الأغراض تتبارى بلؤم ودناءة. فلكي يرقى شخص واحد لا عبقرية له إلى كرسي الرئاسة يستغيث باليهود القابضين على زمام الدعاية. وقد ساعده مركزه الوقتي في كرسي الرئاسة على أن يضغط على بعض الدول الصغيرة بالوعود والوعيد لكي يصوتوا مع التقسيم، فأطاعوا كما يطيع صبيان المدارس. ولما كسب مشروع التقسيم الأكثرية ظن الصهيونيون أنهم امتلكوا نصف فلسطين وأنهم سيمتلكونها كلها ثم يمتلكون جميع البلاد العربية من النيل إلى الفرات. فصاروا يرقصون في الشوارع. ولكن ما لبث هذا الرقص أن تحول إلى مناحات.
والغريب العجيب المدهش أن اليهود والذين انحازوا إلى جانبهم لم يفكروا في كيفية تنفيذ هذا المشروع السخيف بل ظنوا أنهم بمجرد صدوره يصبح العرب أمام أمر واقع وأن(767/19)
العرب يسلمون حالاً ويخنعون. وما عتموا إن رأوا أن دون التنفيذ خرط القتاد. وأن الأمر الواقع هو العكس.
تطاولوا على العرب كما تطاولوا على الإنجليز. ولكنهم ما لبثوا أن رأوا أن العرب لا يستخذون لهم كما يستخذي الإنجليز بل كالوا لهم الصاع صاعين. فزعوا وجعلوا يستغيثون بالقوة الإنجليزية لكي تحميهم من العرب.
أين السبعون ألف هاجانة الذين طلبوا للعالم بهم؟ لم يظهر من السبعين ألفاً سبعون صعلوكاً. وأخيراً اعترفوا في الأسبوع الماضي أن عندهم ثلاثة آلاف وخمس مئة، وسيجندون عشرة آلاف آخرين ثم 15 ألفاً! هذا ما يدعونه الآن وهم كاذبون.
وهكذا على الرغم من انفضاح كذبهم ما زالوا يخدعون العالم بقوتهم الوهمية وبضعف العرب الذي يزعمونه. فلماذا إذن يستغيثون بهيئة الأمم وبمجلس الأمن وبأمريكا كلها لكي ترسل لهم قوة بوليسية لكي تنفذ التقسيم؟ وما هي وظيفة الهاجاناه إذن؟
ولكن ليس لمجلي الأمن بوليس دولي ليقوم بدور التنفيذ. وما من أميركي أو غير أميركي يبعث إلى فلسطين لكي يوطد دولة يهودية وما من أحد ممن صوتوا لقرار التقسيم يتجاسر أن يطلب من دولته أن تساهم بقوة عسكرية لتنفيذ التقسيم بل أن كلا منهم يقول: لقد أعطيناكم أصواتنا , أفلا تكفي؟ والآن تطلبون جنودنا أيضاً! ما هو فضلكم على البشرية؟ حكمنا لكم بنصف فلسطين. فخذوه إن كنتم قادرين.
إني أراهن على أن مجلس الأمن لا يستطيع أن يحصل على جندي واحد لكي يرسله إلى فلسطين لأجل زرقة عيون الصهيونيين وشقرة وجوههم وصفرة شعورهم. كما إني أراهن على أن لجنة الدول الخمس لن تأتي إلى فلسطين لكي تنفذ التقسيم. لأنه ما من أحد منهم بائع دمه جزافاً لأجل خاطر كوهين وليفي وشارول وإضرابهم.
إن الصهيونيين الماكرين خدعوا ترومان وأمثاله من أنصار التقسيم بأكاذيبهم في جرائدهم ودعاياتهم لكي يوهموا أن عندهم سبعين ألفاً من الهاجانة وكذا ألوفاً من الإرهابيين مدججين بالسلاح الحديث، وأن العرب تنقصهم الشجاعة والسلاح والإنفاق فلا يمكن قرار التقسيم حتى يخروا ساجدين مستسلمين للأمر الواقع.
طالما طلبوا وزمروا بهذه الدعاية حتى تجاوبت أصداؤها في أقاصي الدنيا، وصدقهم سذج(767/20)
الأمير كان وعلى رأس قائمة الساذجين السيد ترومان فانحازوا إلى جانبهم. وقبل أن يجيء دور التنفيذ رآهم أولئك المنخدعون يستغيثون طالبين النجدة.
في أثناء كتابة هذه العجالة ينعقد مجلس الأمن للنظر في القضية. ولا يلبث أن يقع في حيص بيص لا يدري ماذا يفعل فيها لأنه يدرك أن التنفيذ لا يمكن إلا بإرسال قوة عسكرية. وهو ليس عنده من القوة ظلها. وزد على هذا أن الخواجة ترومان هرب إلى جزر الكاريبي لكيلا يمشي في جنازة المشروع ولا يرى النائحين اللاطمين وقد أدرك بعضهم هذه الخيبة فرأى أن يتداركها باقتراح تأجيل القضية عسى أن تمكن تسوية الأمر بين العرب واليهود بطريقة ودية. رأي سخيف مضحك. ما أسخف منه إلا رسالة ترومان إلى حكومة العراق يناشدها بأن ترد العرب عن اليهود في هذا الصراع الرهيب.
فما أدرك هذا المخدوع أن اتفاق اللصوص معه على سرقة منزله أسهل جداً وأمكن من اتفاق العرب واليهود. أفما علم حتى الآن أن العراق وكل دولة عربية تحسب نفسها ضلعاً من فلسطين.
ليست هيئة الأمم ومجلس الأمن والحكومة الأميركية أقل حيرة في هذه القضية وأقل ارتباكاً من الصهيونيين الذين رأوا أنفسهم الآن أمام أمر واقع عكس ما كانوا يتوقعونه. لم يخدعوا العالم بأكاذيبهم وتهويلهم أكثر مما خدعوا أنفسهم. هم الآن في ورطة لا يدرون كيف يخرجون منها.
لقد عرضوا في أول الأمر على بريطانيا أن تحسب دولتهم من جملة الدومنيون التابعة لها، يعني أن تجعلهم تحت حمايتها. فظهر أن إنكلترا لم تطمئن لمعاملة اليهود فنفرت من اقتراحهم هذا. ثم جعلوا يتقربون إلى روسيا. ولكن هذه السياسة الخرقاء لا تجوز على بريطانيا وأميركا ولا على روسيا.
لم يبق في قوس الصبر منزع. لقد جنت على نفسها براقش وقد وقعت الحرب بين العرب والصهيونيين فلم يعد في وسع هيئة الأمم ولا مجلس الأمن ولا أميركا ولا دول أوروبا الصغيرة أن تنقذهم من براثن العرب الأشاوس.
مهما تكن نتائج مساعيهم ومساعي أحبابهم فقد استل السيف من غمده ولا يمكن أن يغمد في غمده ثانية إلا بأحد أمرين: إما أن يقاتلوا حتى يفنوا ويبقى العرب أهل بلادهم ولا شركاء(767/21)
لهم فيها، أو أن يرجعوا قانعين بالسلامة.
وأما أن يقترحوا اقتراحات متوسطة أو أن يأملوا أن يكونوا وطنيين في الحكومة العربية المستقلة ذات السيادة فلم يعد العرب يقبلون اقتراحات كهذه. لقد خسروا القضية فخير لهم أن يرحلوا. وأن قبلت الحكومة الفلسطينية بقاءهم فلا يعتبرون فلسطينيين لهم ما للشعب الفلسطيني بل يعتبرون غرباء عن البلاد.
كل يوم تذيعون أن مالاً يجمع لكم من أميركا فمهما وفر هذا المال المزعوم المكذوب فلا يكفيكم لأن الألف التي تكفي المجاهدين العرب تحتاجون مقابلها إلى مليون، فلا تهولوا بملايينكم.
أنتم في الشرق لا تبلغون مليوناً. والعرب يبلغون الثلاثين مليوناً على الأقل. فقبل أن يفنى من العرب ألف يكون مليونكم قد فنى. فعودوا إلى رشدكم وارحلوا قبل أن تفنوا.
نقولا الحداد(767/22)
3 - فن المسرح
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
ربما يكون من المناسب - قبل أن استطرد في حدثي عن القيم المسرحية - أن أناقش ما أثاره الأستاذ (رمزي خليل) من خلاف حول قولي (بالعدد 759): إن البانتوميم والميم فنان رومانيان إذ قال (بالعدد 760) ما نصه: (. . . إن اليونان عرفوا هذين النوعين بل إن أهر ممثليها هو بيلادس الممثل اليوناني المعروف وإذن يكون هذا الفنانان يونانيين وليسا رومانيين).
وقد كان من الممكن أن أحسم هذا الخلاف بنقل عبارة تكاد تكون مشتركة في شتى المعاجم الأدبية بصددهما وهي: أي ابتداع روماني بحت) ولكني أوثر أن أنساق مع حجة الأستاذ المعترض إلى أقصى ما تحمله من فروض. وقبل كل شيء أبادر فأوافقه على أن بيلادس ممثل يوناني. . ولكن ما العلاقة الحتمية بين جنسية الممثل وبين الفن الذي يمثله؟ ألا يجوز أن تمثل (الفرقة المصرية) رواية فرنسية ثم يظل الممثلون مصريين وتظل الرواية فرنسية؟ لو أن بيلادس هو الذي ابتدع البانتوميم والميم ابتداعاً لجاز أن نجد مبرراً، وأن كان بمفرده ضعيفاً، لعزوهما إلى جنسه. أما وهو مجرد ممثل من جهة وهناك من هو أشهر منه - كما سنوضح بعد - من جهة ثانية ومقر تمثيلياته روما من جهة ثالثة وشهرته قاصرة على البانتوميم وحده دون الميم من جهة رابعة. فكيف يتأتى لنا إذن أن ننسبهما معاً إليه؟! وحتى لو فرضنا إن هذا الممثل بالذات ابتدع فناً ما - أي فن - لما صح أن نعزوه إلى (اليونانية) إلا بتحامل شديد؛ لأن المصطلح عليه في الآداب والفنون القديمة أن العصر اليوناني أو الهليني ينتهي بانتهاء الكلاسيكية اليونانية في أواخر القرن الرابع ق. م ثم يبدأ العصر الهلينستي مزدهراً في المدرسة الإسكندرية التي حملت لراء النهضة العلمية والأدبية بعد أثينا. ثم تزدهر روما بانتقال النفوذ السياسي إليها ويمتد عصرها الأدبي من منتصف القرن الثاني ق. م إلى القرن الخامس ب. م تقريباً. فإذا عرفنا بعد ذلك أن بيلادس بلغ أقصى شهرته في فن البانتوميم حوالي عام 20 ق. م. أدركنا بسهولة أن عصر بيلادس كله واقع في العصر الروماني الأدبي.
ومع هذا فلعل من المستحسن أن نتحدث بإيجاز عن كل من البانتوميم والميم زيادة في(767/23)
التعريف بهما وشرحاً لما قد يكتنفهما من غموض وغرابة.
(البانوميم) لون من ألوان التمثيليات ابتدعته روما لمجرد (التسلية) وتستمد موضوعاته من الأساطير غالباً. وبينما تنشد الجوقة أناشيدها يؤدي الممثل دوره برقص معبر يعتمد على الحركة لا أكثر. وقد زاد الممثل اليوناني بيلادس الذي أسلفنا ذكره عدد أفراد الأوركسترا زيادة كبيرة؛ وهذا هو مصدر شهرته. وكان للروايات مناظر مناسبة، ولكن لم يزد عدد الممثلين عن ممثل واحد فقط يكون بمختلف الأدوار مستعيناً على أداء كل منها بالتقنع بقناع خاص به. ويعتبر باثيلس أشهر ممثلي البانتوميم وقد بلغت شهرته إلى حد أن اسمه صار يطلق على كل من يمثل هذا اللون.
أما (الميم) فقد عرفه الدوريون والسيراكوزيون في حالة ساذجة. ويعد هيروداس (300 - 250 ق. م.) من أبرع واضعيه. والى هنا لا يمكن اعتباره فناً بالمعنى الصحيح بل لا يعدو أن يكون تصويراً تهكمياً لبعض حوادث الحياة اليومية العادية في المدن مقصوداً به (تسلية) الجمهور بين فصول الروايات التمثيلية، وقوامه الحركة المعبرة بمصاحبة الآلات الموسيقية وأهمها (الفلوت) وبغير كلام إطلاقاً. ثم ظل يتطور إلى أن صار فناً في القرن الأول ق. م. منذ استطلاع لابريس أن يتخذاه وسيلة هامة من وسائل النقد اجتماعياً وسياسياً. ومما يجدر ذكره أن البانتوميم أدى إلى انحطاط التراجيديا، وكذلك أدى الميم إلى انزواء الكوميديا.
ويعزى شيوع هذين الفنين وبين الرومان إلى أن مجتمعهم كلن مكوناً من طبقتين: قلة ضئيلة مثقفة مؤمنة بعظمة التراث الإغريقي وتحاول تقليده. . . وكثرة عابثة تنشد التسلية ولا تحس بصلة بينها وبين ذاك التراث الغريب عنها. فاتجاه الفئة الأولى نحو الإغريق باعد بين الجماهير والأدب فأصبحوا يكرهون التراجيديا ويفضلون عليها الملاهي بصفة عامة. وانتهى الأمر بأن هجروا المسارح التي تقدم مسرحيات يونانية مترجمة أو مقتبسة إلى دور تعرض البانتوميم والميم.
وأظن في هذا الكفاية ولا بأس من العودة لى حديثنا المعتاد.
المسرح وقيمته الاجتماعية
الفن المسرحي فن اجتماعي الغاية والوسيلة معاً. فهو بواسطة مجتمع مصغر فوق المسرح(767/24)
يصور للمجتمع الكبير في الحياة: نزواته ونزعاته وميوله تصويراً يبرز له عيوبها ويحضه على إصلاحها. وقد تكون لبعض الفنون الأخرى علاقة مباشرة بالمجتمع ولكنها على الأرجح لا تستطيع أن تجاري المسرح في معالجة مشكلاته؛ لأنها إما أن تتناولها من بعيد بالإيماء والرمز فلا تفيد الجماهير أو بالشرح والتفصيل فتبعث الملل فضلاً عن أنه بهذا وذاك تتعارض غالباً مع أصول الفن فيها. أما المسرح فإنه بطبيعته الفنية يقوم على تمثيل (الفعل ورد الفعل) في صورة تتفق مع مجتمع إنساني، بمعنى أن أشخاص الرواية يجسمون المشكلات بشتى نواحيها تجسيماً لا يلزم ما قد لا يتاح له في سائر الفنون. وإنه لمن المعجز أن نجد بالاستقراء بين شتى الفنون في شتى العصور فناً أوثق صلة بالمجتمع من المسرح. بل أكثر من ذلك أننا نجد أن المسرحيات تبلغ أوجها كلما حافظت على هذه الصلة وتهوى إلى الحضيض إذا أغفلتها مهما كانت الظروف والاعتبارات. فبالرغم من أن مسرحيات أرستوفانيس مثلاً كانت أرستقراطية النزعة إلا أنها نجحت في المجتمع اليوناني الديمقراطي لأنها كانت مستوحاة من ذلك المجتمع ذاته. وعلى النقيض أخفقت الروايات الرومانية التي يطلق عليها أو أخفق معظمها. ولو أنها كانت مستمدة من التراث اليوناني العظيم وذلك لأن هذا التراث على عظمته التي لا شك فيها لم يكن معبراً عن العواطف الجياشة في المجتمع الروماني وتكاد تكون الصلة الوثيقة بين المجتمع والمسرح أهم الالتزامات الواجب مراعاتها في التأليف المسرحي لضمان نجاحه. وصحيح أن نجاح أو إخفاق المسرحيات يرجع - إلى حد كبير - إلى براعة المؤلف؟ لأن الصور المسرحية النهائية لها تطور داخلي خاص خاضع له. ولكن الشيء الذي لا جدال فيه أن هذا التطور ذاته يتأثر وينفعل مع التغيرات العامة التي تطرأ على المجتمع. من هنا يرى بل يشترط بعض النقاد على المؤلفين ضرورة استيحاء المجتمع الذي فيه حتى في الروايات التاريخية التي تدور حوادثها في الماضي السحيق ولا تمت إلى حاضرهم بصلة مباشرة. وأغلب الظن أن هذا هو ما حدا بمؤلف مسرحي عظيم مثل برناردشو إلى استهلال روايته التاريخية (قيصر وكليوباترة) ببداية تدور حول المجتمع الإنجليزي الحالي! إذ يخرج الإله حورس من الظلام ويحدث الجمهور عن الإنجليز وعقائدهم وخصالهم مندداً متهكماً عليهم مقارناً في ذلك جميعاً بين الإنسان الحالي والإنسان في العصور القديمة مستنتجاً من ذلك(767/25)
جميعاً أن الإنسانية لم تتقدم منذ عصر قيصر إلى الآن إلا تقدماً آلياً لا ينبغي أن يؤبه له مادام لا يصاحبه التقدم المنشود في المشاعر والاحساسات.
وقد يقال أن ارتباط المسرح بالمجتمع هكذا يجعله (تابعاً) خاضعاً له وبذلك يفقده قوته الإصلاحية المزعومة! ولا جدال في أن هذه التبعية حقيقة ملحوظة بل إنها غير مقصورة على النواحي الفنية والأدبية. فالناحية الأقتصادية أيضاً لا يمكن تجاهلها؛ إذ المسرح يخضع إلى أبعد الحدود لقانون العرض والطلب؛ ولذا يحاول - ما وسعه - أرضاء الجماهير ولو على حساب الفن أحياناً، حتى لقد جاز لناقد كبير مثل وليم آرتشر أن يطالب المؤلفين (بأن لا يضعوا شيئاً جوهرياً في المنظر الأول من الفصل الأول من مسرحياتهم) لغير ما سبب سوى أن الجماهير من طبعها التلكؤ. وقلما تصل إلى مكان العرض في موعده المحدد أي لسبب لا علاقة له بصميم الفن.
فكيف يتسنى للمسرح أن تكون له قوة إصلاحية وهو خاضع على هذا النحو للجماهير التي كثيراً ما تثور على كل إصلاح؟ الواقع إنه على الرغم من كل هذه الاعتبارات وعلى الرغم من أن كل فن مقيد بقيود مختلفة بالمجتمع إلى حد ما فليس هناك فن يمكن أن يخلص من أكبر عدد ممكن من هذه القيود مثل المسرح لسبب صغير جداً هو أن في أوضاعه من المرونة والجاذبية ما يهيئ للمؤلف المسرحي البارع الفرصة لبث آرائه بسهولة. ومهما تكن مخالفة لعقائد المجتمع، فكثيراً جداً ما يستطيع بالإفصاح والإيضاح والإلحاح أن يتغلب في النهاية. إذن فحرية المسرحي ليست منعدمة كما أنها ليست مطلقة ولا مفر له من أن يعمل في حدود ممكنات الفن ومزاج المجتمع ولكن البراعة في الملاءمة بينهما. ومهمته هذه في غاية الدقة والمشقة. فليس أغنى للمجتمع من المسرحيات ذات الآراء الإصلاحية ولكن بشرط أن تتصل به اتصالاً ناعماً ليناً رفيقاً وتفتح له الطريق سهلاً ممهداً وتنيره له إلى حيث تهدف في رضى وطمأنينة.
والمجتمع في مراحل تقدمه لا يكاد يذكر فضل فن عليه كما يذكر فضل المسرح؛ فمسرحيات موباسان وأمثالها في فرنسا، ومسرحيات جوزيف أديسون وأمثالها في إنجلترا، ومسرحيات تولستوي وأمثالها في روسيا، هي من أهم العوامل التي انتشلت المجتمع الأوروبي من نزعات المجون التي كانت مستولية عليه فعلاً. وقل مثل ذلك عن شتى(767/26)
المسرحيات قديماً وحديثاً في أغلب النهضات الاجتماعية.
على أن المجتمع الإنساني في العالم كله لم يكن في حاجة إلى المسرح في وقت من الأوقات كما هو الآن. فقد سبب له الحرب الأخيرة ومشكلاتها ونتائجها كثيراً من الاضطرابات التي غيرت القيم وحجرت العواطف وألقت في روعه حب المال واقتناص الفرص. ومثل هذه الانحرافات لا يكفل علاجها غير المسرح لأنه أقمن الفنون بتحليل أسبابها الدفينة وإظهار المجتمع عليها وبذلك يمهد له إعادة بناء مقوماته الصحيحة ويساعده - كما يقول هيكل - على استرداد قوة التنسيق بين العقل والشهوات وبين الفطرة والشذوذ.
للبحث بقية
عبد الفتاح البارودي(767/27)
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
- 3 -
الاعتراضات ما زالت متوجهة
في تعقيبي السابق على حديث معالي الباشا وجهت إليه جملة اعتراضات فصلت القول في بعضها واجتزأت بالإشارة إلى باقيها، وقد حاول معاليه - في بحثه الأخير دفع كل منها بما لا مقنع فيه، وهاك البيان.
9 - الاعتراض الأول: أن معاليه قد اغفل في رأيه الوارد في حديثه والنصوص القرآنية التي استدل لهذا الرأي قوله تعالى. (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالملعقة) هذا النص الذي هو تتمة الآية التي جعلها معاليه مناطاً للتأييد رأيه، وهي قوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) وأن عمل معاليه في أغفال هذا النص الذي هو موطن الحكم الصحيح في هذا الموضوع كعمل من يستدل على تحريم الصلاة بقوله (فويل للمصلين) ضارباً صفحاً عن باقي الآية.
وقد حاول الباشا دفع هذا الاعتراض من ناحيتين: ناحية الشكل حيث قرر أن القياس مع الفارق وأن الشأن في إغفال باقي آية النص الذي أغفله معاليه يختلف عن الشأن في إغفال باقي آية (فويل للمصلين) وسواء أكان ما قرره معاليه في ذلك أو ما قررته أنا صحيحاً فلا أحب أن أضيع الوقت في مناقشته في هذه النقطة الشكلية البحت. وحسبي أن معاليه قد اقرني ضمناً في رده على أن للنص الذي أغفله وهو جزء متمم للآية التي استشهد بها شأناً أي شأن في الموضوع الذي كان بصدد الإدلاء عن رأيه فيما هو حكم الشرع فيه، بدليل تسليمه بأنه موطن الحكم في الآية كلها (ولن تستطيعوا لت تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا) وإن كان اعتبره حكماً موقوتاً، وبدليل احتياجه في محاولة دفع ايراده عليه إلى تكليف ما تكلف من افتراض حدوث محن وأمور بين العرب عند نزول آية (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) وهو ما ورد به على الاعتراض من ناحية الموضوع مستدلاً بذلك في الوقت نفسه على صحة رأيه وقد بسطنا(767/28)
القول في ذلك وفي الرد عليه في كلامنا السابق عما استدل به معاليه للعنصر الثالث من رأيه.
10 - الاعتراض الثاني: إذا كان المولى سبحانه قد عني بالآيتين اللتين استشهد بهما معاليه مجرد تحريم التعدد، ففيم كان الأخذ والرد بإباحته في إحداهما التعدد بشرط العدل، ثم بتقريره في الثانية أن العدل غير مستطاع إطلاقاً، وتوزيع المعنى بذلك بين آيتين وكانت آية واحدة تجزئ في تحريم التعدد وبيان علته وهي عدم استطاعة العدل الواجب. . . وفيم التعبير بمثنى وثلاث ورباع؟!
وقد أجاب عن ذلك بما سبق أن أشرنا إليه من تأويله عبارة (مثنى وثلاث ورباع) بما لا تحتمله ولا يناسب المقام ولا سياق النص؛ وقد فندنا هذا التأويل فيما تقدم بما في الكفاية فلا حاجة إلى تكراره هنا.
كما أجاب أيضاً محاولاً دفع ما يشوب النصوص - على أساس تأويله - من الأخذ والرد وتوزيع المعنى بغير مقتض، بما سبق أن أشرنا إليه في التمهيد من أن المولى سبحانه أراد ألا يجابه العرب دفعة واحدة بحكم تحريم التعدد الذي كان من عاداتهم المتأصلة (فتدرج) معهم في هذا الحكم كشأنه في كثير من الأحكام الواردة لمعالجة نقائض العرب بطريق التدرج. فتحداهم أولاً بما يبيح - في ظاهره التعدد بشرط العدل ثم أبان لهم بعد ذلك أن العدل غير مستطاع إطلاقاً.
وردنا على هذا الوجه من الدفع أن ما ذكره ليس من قبيل (التدرج) في الأحكام؛ إذ التدرج فيها - كما هو مفهوم اللفظ بداهة وكما وقع فعلاً بالنسبة للأحكام الواردة حقيقة على طريقة التدرج كحكم الخمر مثلاً - هو إتيان المشرع بحكمين أو أكثر منتقلاً من التخفيف إلى التشديد، والوارد في التعدد من أول الأمر على رأي معاليه - حكم واحد هو التحريم لأن العدل في ذاته غير مستطاع. ويؤيد ذلك ما افترضه معاليه نفسه من اضطراب النبي والمسلمين وتململهم وجأرهم بالشكوى عند نزول الآية الأولى لعلمهم أن العدل في ذاته غير مستطاع إطلاقاً مما استجاب له المولى - في رأي معاليه أيضاً - بتخفيف الحكم بالآية الثانية بجعله العدل المطلق غير مشروط في الزوجات الموجودات فعلاً وقت النزول، فلولا أنهم فهموا الحكم من أول الأمر على أنه التحريم لما تململوا وجأروا بالشكوى. فليس ثمة(767/29)
أذن تعدد أحكام تدرجت إلى حكم أخير. أما التعديل الوارد للحكم فيما يرى معاليه فليس تعديلاً دائماً بل موقوتاً. وهو تعديل إلى التخفيف لا إلى التشديد، فأين التدرج إذن؟
11 - الاعتراض الثالث: أن أحاديث كثيرة قد وردت بأمر النبي لمن كان تحته من الصحابة أكثر من أربع زوجات عند نزول الآية الأولى، بالإبقاء على أربع منهن ومفارقة الباقيات كما وردت أحاديث أخرى مختلفة الألفاظ وتؤول كلها إلى معنى واحد هو أنه عليه السلام طلب من ربه ألا يلومه على اجترائه بما يملك من العدل المستطاع بين زوجاته دون العدل المطلق مما يدل على أن الأول هو المراد بالعدل المشروط لجواز التعدد.
وقد رد معاليه على الأحاديث الأولى بأنها تقضي إلى الظلم بتشتيت بعض الزوجات اللائي كن موجودات من قبل وما قد يكون لهن من أطفال مما يعتبر اعتداء على الحقوق المكتسبة فلا يعقل أن تاتي به شريعة سماوية أو وضعية.
ولو أن معالي الباشا ناقشني في إسناد هذه الأحاديث - والأمانة العلمية تقتضيني أن أصرح بأن في إسناد بعضها مقالاً من رجال الإسناد - لقلت له وجهة نظر وإن كانت مدفوعة كما سأبين ذلك فيما يلي، لكنه اقتصر على مناقشتي في المتن، فأجيبه عن ذلك بأن ليس فيما ذكره ظلم ولا اعتداء إذ لم يطلب إلى الرجال سوى استعمال ما لهم من حقوق سابقة في التطليق الذي كانت الزوجات معرضات لوقوعه عليهن قبل ورود الشرع بتحديد التعدد. فأين هو الحق المكتسب لهن إذن مع وجود حق الطلاق للرجال؟ وإذا قيل أن الطلاق وإن كان حلالاً فهو أبغض الحلال كما وردت بذلك ألسنة فلا ينبغي أن يستعمل إلا عند وجود مسوغاته، رددت على ذلك بأن في مقدمة المسوغات وضع حد لعلاقات دمغها الشارع بالفساد، بتحريمها، ومهما بلغت درجة البغض في الحلال فهي لا تنتقل به إلى مرتبة الحرام، ففي الأمر باستعمال هذا الحق ارتكاب أخف الضررين مما يتفق وعمومات الشريعة. ثم أن شانهن بعد الطلاق كشأن سائر المطلقات في احترام حقوقهن المتخلفة عن الزواج السابق وإمكان التزوج بهن في نطاق أحكام الشرع، كما أن أطفالهن لا يظلمون بفقد شيء من حقوقهم على آبائهم بل تظل لهم كافة الحقوق كما كانت قبل الطلاق. فما هو الظلم في ذلك؟
على أن ما يجري في أوامر النبي المتقدمة يجري أيضاً في أوامر الخاصة بباقي من ورد(767/30)
الشرع بتحريم ما كان من نكاحهن في الجاهلية، كزوجات الآباء والختين المجموع بينهما، وقد يرى معالي الباشا أن هذه الأحاديث مفضية بدورها إلى الظلم مما لا يمكن معه الاطمئنان إلى صحتها؟
ورد معاليه على النوع الثاني من الأحاديث رداً مسهباً عن زوجات النبي عليه السلام وظروف زواجه بكل منهن، وانتهى إلى أن التعدد كان من خصوصيات النبي التي ابتلاه بها ربه جل وعلا فلا محل للاستشهاد بالأحاديث الواردة عنها، وأن النبي لم يكن مكلفاً فيما يختص بزوجاته الموجودات وقت نزول آية التعدد إلا بما كلف به سائر المسلمين حينذاك من وجوب مراعاة (العدل المستطاع) بل أنه رفع عنه هذا التكليف مراعاة لظروف؟؟ وذلك بقوله تعالى (ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغت ممن عزلت فلا جناح عليك).
(البقية في العدد القادم)
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد(767/31)
طرائف من العصر المملوكي
صفى بلاط بني أرتق
للأستاذ محمود رزق سليم
قد نشعر في هذا المقال أننا نبعد عن ديار مصر والشام وهما محور الحديث في العصر المملوكي، وأننا نيمم شطر ديار أخرى هي ديار بني أرتق بماردين وديار بكر. ولكنا مع هذا لا نزال في صميم العصر. فأن الشاعر صفي الدين الحلي من أجل شعرائه، وكان هو وجمال الدين بن نباتة فرسي ميدان فيه، لا يشآهما شاعر آخر من رجال حلبتهما. فإذا تحدثنا عن صفي الدين وعلاقته ببني أرتق فإنما نتحدث عن خاصة بارزة من خواص أحد شعراء العصر، وعن وشيجة أثيرة من وشائجه كان لها أثر كبير في أدبه.
وحقاً ولد صفي الدين بالحلة بالعراق عام 677هـ ويبدو أنها (حلة بابل) التي عناها بقوله بعد انتزاحه عنها وعن قومه فيها إلى ملوك الدولة الأرتقية:
ألا أبلغ - هديت - سماة قومي ... بحلة بابل عند الورود
ألا لا تشغلوا قلباً لبعدي ... فإني كل يوم في مزيد
لأني قد حللت حمى ملوك ... ربوع عبيدهم كهف الطريد
ثم انتزح إلى الملكة الأرتقية وطوف في آفاق الديار الحلبية والشامية والحجازية، ولكنه عرج آنا على مصر وأقام بها ردحاً من الزمن، اتصل من خلاله بسلطانها العظيم الناصر محمد بن قلاوون وكاتب سره النابه علاء الدين تأثر - بلا ريب - بالثقافة المصرية، وتأثر بالمدرسة الأدبية المصرية التي قدست مناهج القاضي الفاضل في الكتابة والشعر، وقدست من بعده مناهج ابن نباتة فيهما، وعنيت اكثر ما عنيت بالتورية والتضمين. غير أن صفي الدين مع هذا كان نسيج وبخاصة في شعره، وافتن في هذا الشعر افتناناً ليس الآن مجال الحديث عنه، سوى أننا نشير إلى أنه سلك البديع فيه، ولج في هذا السلوك حتى لنشعر أن ألفاظ اللغة أصبحت كالعبد رهن يديه يصرفها كيف يشاء. وحتى استطاع أن يكون من مبتكري فن شعري جديد هو فن البديعيات، والبديعيات في الشعر تعادل المقامات في النثر، بلغ بها الفن البديعي أوجه شعراً، كما بلغ بالمقامات أوجه نثراً. وللبديعيات حديث طويل قد نعود إليه في مقال جديد. ويعنينا أن نتحدث عن صلة صفي الدين ببني(767/32)
أرتق وأثر هذه الصلة في أدبه.
فمن هم بنو أرتق؟ هم ملوك ماردين وديار بكر منذ أواخر الخامس الهجري. وهم بقايا من الدول التي خلفتها الدولة السلجوقية الناشئة في أواخر القرن الرابع الهجري وامتد ملكها مكن أواسط آسيا إلى غربها، واستولت علة بغداد والعراق في نحو منتصف القرن الخامس الهجري. ثم تشققت فيما بعد وانبثق منها دويلات عدة، كان في جملتها الدولة الأرتقية. وينتسب ملوك هذه الدويلة إلى جدهم أرتق الذي كان أحد قواد السلاجقة. فملك بيت المقدس زمناً ثم ملكها من بعده ابناه؛ فدهمتهما جيوش الدولة الفاطمية عام 489هـ وانتزعت منهما بيت المقدس، فسار إلى الجزيرة الفراتية فملكها بها ديار بكر وقلعة ماردين واستقر بها عام 491هـ. وتتابعت أبناؤهما من بعدهما حتى ملك منهم المنصور وابنه الصالح اللذان عاشا في أوائل القرن الثامن الهجري، وهما اللذان اتصل بهما صفي الدين اتصالاً وثيقاً، وعاش في حاشيتهما زمناً طويلاً.
وكان صفي الدين من قبل هذا يعيش بين قومه في الحلة. ويبدو أن العشائر العربية فيها كانت لا تزال تعلق بها أشياء من الروح القبلية والعصبية الجاهلية. وكان قوم صفي الدين فريقين: فريق أبيه بنو سبنس من طي، وفريق أمه بنو محاسن. وكان بنو محاسن هؤلاء ذوي رياسة وثراء ومنهم (صفي الدين بن محاسن) وأخوه (جلال الدين بن محاسن). نشأ الشاعر بين هؤلاء وهؤلاء فأحس بما لقومه من عراقة في الأصل وفراهة في الحسب فحميت نفسه ووثبها الشباب فنشط شعره في باب الحماسة والفخر وربأ عن التكسب بالشعر. ثم وقعت الوقيعة بين أخواله، وآل أبي الفضل، فغدروا خاله (صفي الدين) وقتلوه بمسجده، فثارت ثائرة قومه وفي مقدمتهم شاعرهم صفي الدين الذي أهاب بخاله (جلال الدين) أن ينتقم. وما زالوا حتى أوقعوا بأعدائهم وأمعنوا فيهم كيداً وإذلالاً، فكان هذا ضراماً جديداً لحماسة الشاعر وفخره.
ويبدو أن الشاعر لم تهدأ ثائرته، ولم تثب أناته، ولم يقنع بهذا الانتقام، فظل يؤلب قومه على أعدائهم ويضري بين الفريقين نار العداوة والبغضاء حتى اصبح شجى في حلوق الأعداء وأصبحوا يتلمسون منه مقتلاً. فملكه الخوف، فآثر الفرار.
فر صفي الدين إلى بني أرتق يتطلب في كنفهم ملجأ يأوى إليه، ودرعاً يستجن بها فأجاروه(767/33)
وأكرموا مستقبله، واستمعوا لحديثه، وأصغوا لشكاته. ورفعوا مكانته ووهبوا له الكثير من النعيم؛ مما الهج لسانه بشكرهم، وأبهج بيانه بذكرهم، ونظم في مديحهم أجود القصيد وأخلده استجابة لداعي الوفاء والولاء.
قال يمدح المنصور وإجارته له.
وأجارني إذا حاولت دمي العدا ... ورأت شفاء صدورها من ورده
من كل مذَّاق تبسم ثغره ... وتوقدت في الصدر جذوة حقده
ولذلك لم يرني بمنظر شاعر ... تبغي قصائده جوائز قصده
بل بامرئ أسدى إليه سماحه ... نعماً فكان المدح غاية جهده
هذه الأبيات من قصيدة له في مدح الملك الصالح بن المنصور تغزل في مطلعها فقال:
دبت عقارب صدغه في خده ... وسعى على الأرداف أرقم جعده
وبدا محياه ففوق لحظه ... نبلا يذود بشوكه عن ورده
ومنها يمدحه:
الصالح الملك الذي صلحت به ... رتب العلاء ولاح طالع سعده
ملك حوى رتب الفخار بسعيه ... والملك إرثاً عن أبيه وجده
متسهل في دست رتبة ملكه ... متعصب من فوق صهوة جرده
فإذا بدا ملأ العيون مهابة ... وإذا سخا ملأ الأكف برفده
كالغيث يولي الناس جوداً بعدما ... بهر العقول ببرقه وبرعده
وهكذا يرى القارئ كيف انساق صفي الدين إلى المديح وإلى التكسب بالشعر وهو الذي يقول: (وكنت عاهدت نفسي ألا أمدح كريماً وإن جل، ولا أهجو لئماً وإن ذل).
ولعل أول مدائحه للملك المنصور فائيته التي يقول فيها:
لاقيتنا ملقى الكريم لضيفه ... وضممتنا ضم الكمي لسيفه
وجعلت ربعك المؤمل كعبة ... هي رحلة لشتائه ولصيفه
يا من اشتبه الصواب أعاره ... رأياً يخلص نقده من زيفه
وإذا أتى أرض العدو فوحشها ... من وفده ونسورها من ضيفه الخ
انضم صفي الدين إلى حاشية الملك المنصور وبنيهن وأصبح من سمارهم وجلسائهم ثم(767/34)
أصبح شاعرهم الأثير، يفيضون عليه بصنوف من النعم، حتى حسده على مكانته أهل ديار بكر. وفي ذلك يقول مخاطباً المنصور:
حسدت أهيل ديار بكر منطقي ... فيها كما حسد الهزار اللقلق
أعيت أكابرها أصاغر لفظها ... ولربما أعيا الرخاخ البيدق
جاءوك بذاك جبلة جبلية ... لكن رأيت الفضل عندك ينفق
قالوا خلقت موفقاً لمديحه ... فأجبتهم أن السعيد موفق
هكذا كانت منزلة صفي الدين عند بني أرتق. وكلما زادوه براً زادهم ذكراً، وكلما جادوه عطاء جادهم بقاء، وكلما آثروه قربا آثرهم حبا، وكان لذلك أثره الكبير في إنتاجه الأدبي؛ إذ نظم عدة من القصائد في مدح المنصور سميت (المنصوريات) وهي من أجود آثاره الأدبية: ونظم تسعاً وعشرين قصيدة مرتبة على حروف الهجاء سميت (الأرتقيات). وكأنما أراد بهذه الأرتقيات أن يطلع ملكية على ضرب من فن النظم الشعري جديد، وعلى منزع من منازع الشعر لم يحوم حوله شاعر من قبل ليدله بذلك على ثبات قدمه في صناعته، وعلو كعبه في حرفته، وعلى امتلاكه ناصية الافتنان إلى حد الافتتان.
والأرتقيات بعدد حروف الهجاء فلكل حرف قصيدة. فواحدة همزية وواحدة بائية وهلم جرا. . . والتزم أن يبدأ كل بيت في القصيدة بحرف رويها، وأن تكون عدة أبياتها تسعة وعشرين. وقد يكون هذا الالتزام كله من عبث الصناعة ومن عبث الفراغ. ولكن إذا علمنا أن الشاعر قل أن سقط في بيت منها، بلغنا به حد العجب وشهدنا بمجادته وإجادته بالرغم من كل هذه القيود التي تعلق بها.
والأرتقيات - وإن كانت مسوقة للمدح - بدت مسرحاً لفنون غير المدح عدة، كالغزل والخمريات، والفخر والشكوى. ومن رقيق أبياتها ما صدر به أرتقيته الكافية حيث قال:
كفي القتال وفكي قيد أسراك ... يكفيك ما فعلت بالناس عيناك
كلت لحاظك مما قد فتكت بنا ... فمن ترى في دم العشاق أفتاك
كفاك ما أنت بالعشاق فاعلة ... لو أنصف الدهر في العشاق عزاك
كملت أوصاف حسن غير ناقصة ... لو أن حسنك مقرون بحسناك
كيف انثنيت إلى الأعداء كاشفة ... غوامض السر لما استنطقوا فاك(767/35)
كتمت سرك حتى قال فيك فمي ... شعراً ولم يدر أن القلب يهواك. الخ
لم يعش صفي الدين في الدولة الأرتقية عيش الشاعر المادح المتكسب، بل تهذيب منزلته، وتوطدت مكانته حتى بلغ مبلغ المشير، وكأنما أصبحت له ضلع في سياسة الدولة وتوجيه ملوكها. تشعرنا بهذا قصائده، فقد رفع إلى المنصور عام 702هـ قصيدة بارعة، وكان المنصور قد أرسل جنوده ليحاصروا أعداءه في (قلعة إربل) ولم يرافقهم في المسير إليها. فحرضه صفي الدين في قصيدته تلك على اللحاق بهم ليشد بوجوده أزرهم ويشحذ همتهم، ويكون خوفاً لأعدائه، ومضطرباً بصفوفهم. ومزج في هذه القصيدة المدح بالنصح، والتحريض الجرئ بالتأدب. واستخلص من الحوادث ما توحي به من حكم وأمثال، مع دقة تمثيل وكثرة تشبيه، وتنقل بالفكرة بين حججها وبراهينها، إغراء بالأخذ بها، ومنها يقول:
أبد سنا وجهك من حجابه ... فالسيف لا يقطع في قرابه
والليث لا يرهب من زئيره ... إذا اغتدى محتجباً بغابه
والنجم لا يهدي السبيل سارياً ... إلا إذا أسفر عن حجابه
والشهد لولا السبيل طعمه ... لما غدا مميزاً عن صابه
إذا بدا نورك لا يصده ... تزاحم الموكب في ارتكابه
ويقول:
قم - غير مأمور - ولكن مثلما ... هز الحسام ساعة اجتذابه
فالعمى لا تعلم إرزام الحيا ... حتى يكون الرعد في سحابه
كم مدرك في يومه بعزمه ... ما لم يكن بالأمس في حسابه
ومنها يغريه بأعدائه ويرسم له طريق معاملتهم:
لا تبذل الحلم لغير شاكر ... فإنه يفضي إلى إعجابه
ويقول:
لا تقبل العذر فإن ربه ... قد أضمر التصحيف في كتابه
فتربة المقلع إثر ذنبه ... وتوبة الغادر مع عقابه
لو أنهم خافوا كفاء ذنبهم ... لم يقدموا يوماً على ارتكابه
ويقول في خاتمتها معتذراً عن التحريض، ومنسلاً إلى الفخر بنفسه على عادته:(767/36)
لم يك تحريضي لكم إساءة ... ولم أحل في القول عن آدابه
ولا يعبث السيف وهو صارم ... هزُّ يد الجاذب في انتدابه
ذكرك مشهور ونظمي سائر ... كلاهما أمعن في اغترابه
ذكر جميل غير أن نظمه ... يزيده حسناً مع اصطحابه
كالدر لا يُظهر حسنَ عقده ... إلا جواز السلك في أثقابه
ولما مات المنصور وولي الملك من بعده ابنه العادل فالصالح، حسنت صلة صفي الدين بالصالح بعد لأي، ومدحه بجملة من الروائع سميت (الصالحيات). وتشعرنا هي الأخرى بسمو مكانته لدى الصالح، بل لتشعرنا أنه كان عنده أقرب وآثر مما كان لدى المنصور حتى سماه صفي الدين بولي نعمته، وتشعرنا أنه كان أكثر دالة عليه، حتى كان في خطابه له أجرأ مما كان في خطابه للمنصور ويشير إلى المنصور في مدحة رفعها إلى الملك الصالح فقال مبيناً سبب ندحه بعد أن كان قد طوى بساط المدح بعد المنصور:
ولقد عهدت إلى عرائس فكرتي ... ألا تزف إلى منعم بعده
لكنك الفرع الذي هو أصله ... شرفاً ومجدك بضعة من مجده
ونجيه في سره ووصيه ... في أمره وصفيه من بعده
ويقول منها:
لله كم قلدتني من ملَّة ... والقطر أعظم أن يحاط بعده
ويقول:
فاستجل دراً أنت لجة بحره ... والبس ثناء أنت ناسج برده
يزداد حسناً كلما كررته ... كالتبر يظهر حسنه في نقده
وقد عاود صفي الدين النصح للصالح كما كان ينصح لأبيه من قبله، ويحرضه على أعدائه ويلحب له الطريق إلى المعاملتهم ويجنبه الحلم والعفو، فيقول من قصيدة:
فيا ملكاً قد أطمع الناس حلمه ... لكثرة ما تهفو فيعفو ويصفح
أعد - غير مأمور - على الضد كيده ... وأذك النار التي بات يقدح
فقد أيقن الأعداء أنك راحم ... فباهوا بأفعال الخنا وتبججوا
ويقول منها:(767/37)
تهن بعيد النحر وانحر به العدى ... فجودك عيد للورى ليس يبرح الخ
عاش صفي الدين ما عاش واتصل بغير بني أرتق من ملوك وأمراء ورؤساء، وافتن في الشعر ما شاء له الافتنان حتى مات عام 750هـ بعد أن ترك أدباً خالداً وتراثاً ماجداً.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية
-
من نوادر المخطوطات:(767/38)
شرح المشكل من شعر أبي تمام
لأبي علي أحمد بن الحسن المرزوقي المتوفي سنة 421هـ
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
في أواخر سبتمبر سنة1946 كنت في حلب انتظر قطار طوروس، في طريقي إلى الموصل، للقيام بتدريس اللغة العربية وآدابها في كلية الموصل، فكلفني أحد الأصدقاء أن أبحث له عن بعض المخطوطات الواردة في كتاب مخطوطات الموصل للدكتور داود الجلبي، فأصف له بعضها وصفاً علمياً واضحاً، وأبحث عن مؤلفي بعضها مما لا وجود له في كتاب الدكتور الجلبي.
وكان من تلك المخطوطات التي كتبها صديقي في ورقة صغيرة (شرح مشكلات أبي تمام)، وكان المطلوب وصفه والتعريف بمؤلفه، ولما بلغت الموصل، وأستقر بي المقام بها، ذهبت ابحث عن (شرح مشكلات أبي تمام)، فكان مما وقفت عليه:
(كتاب شرح مشكلات ديوان أبي تمام حبيب بن أوس الطائي مخطوط في 132 صفحة، في كل صفحة19 سطراً مكتوب بخط نسخي جميل بقلم محمد صالح الشريف، ضبط الكثير من كلماته الغريبة بالشكل الكامل. كتبت الأبيات المشكلة من شعر أبي تمام بالمداد الأحمر، والشرح بالمداد الأسود، للتفريق بين المتن والشرح، فرغ من كتابة هذه النسخة في 24 من المحرم سنة 1156هـ.
وهذا الكتاب مما اهداه السيد أحمد بك الجليلي إلى النادي العلمي بالموصل في 27 من شهر صفر سنة 1337هت، ولما انحل النادي العلمي ضمت كتبه إلى المدرسة الإسلامية - الفيصلية العلمية الآن - وفي بعض المواضيع تقييدات واستدراكات وتصحيحات لما ورد في الشرح بقلم صادق.
هذا كل ما أمكن الوقوف عليه في وصف كتاب (شرح مشكلات ديوان أبي تمام)، وأما موضوعه فإني أفضل أن أنقل إلى القارئ نص مقدمة المؤلف ليرى بنفسه أي كتاب هو هذا الذي نكتب عنه وهذه هي المقدمة (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم.
جاريتني - أيدك الله - أمر شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، وما فيه من عويص(767/39)
الأبيات، وبديع المعاني والألفاظ إلى غير ذلك مما يستبديه فنه فلا يساهم؛ ويختص به نهجه فلا يقاسم، ثم سألت أن أتتبع مشاهير كلماته، فألتقط من فقرها ما يفتقر إلى تبيين، ومن بيوتها ما يحوج إلى تفسير، ثم أتبع كلا منه ما يحتمل من تلخيص بأوجز ما أمكن من لفظ، وأقرب ما أعرض من يسط. لنجعل ذلك دليلاً إلى الأغمض من باقيه، ومعيناً إلى ألطف ما فيه.
وقد نظرت في عظم ديوانه، وجمعت منه جل ما يلقى في المجالس من أبياته، ثم تحريت في شرحها مسارك، وتوخيت فيما سهل منه أو توعر تحصيل مرادك. غير محتفل بما يلحق من كد، ولا مفكر فيما يعرض من تعب. حتى حصل على حد يملك الناظر فيه - مع أدنى تأمل له - عنان هذا الشعر وزمامه، ويخبر المذاكر - بعد أيسر تمرن به - غرض هذا الشاعر وسهامه. فمتى جارى فيه سبق، وإذا ناضل به قرطس.
والله أسأل التوفيق، وإياه أعبد واستعين، وهو حسبي ونعم الوكيل).
هذا هو وصف كتاب شرح مشكلات شعر أبي تمام من حيث شكله، وهذه هي مقدمته التي تبين عن موضوعه وتشرحه، ولكن بقي شيء آخر لم نعرفه إلى الآن وهو من هو مؤلف هذا الكتاب؟
الواقع أن هذا السؤال لا يزال بلا جاوب إلى الآن. فأني قرأت الكتاب وفحصت كل جوانبه وحواشيه، فلم أجد أي إشارة إلى اسم مؤلفه، فأخذت أسأل كل أصدقائي معارفي، فلما أعيتني الحيلة كتبت كتاباً إلى الأستاذ كوركيس عواد الموظف بمكتبة المتحف العراقي ببغداد، أشرح له خبر العثور على هذه التحفة الفنية، وسأله إن كان يعرف شيئاً عن مؤلف هذا الكتاب، فكتب إلي كتاباً مؤرخاً في 22 - 1 - 1946 يقول فيه:. . . أما شرح مشكلات أبي تمام، فقد تملكني الفرح لوقوفكم على نسخة منه. بحثت كثيراً عن هذا الكتاب، وراجعت فهارس المخطوطات العربية لخزائن الكتب المختلفة في بلدان الشرق والغرب! غير أنني لم أجد ذكراً لكتاب بهذا العنوان، فضلاً عن معرفة مؤلفه! الخ والأستاذ كوركيس عواد رجل عرف بالدقة والأمانة فيما يتناول من عمل، فهو عندما يقول: إنه لم يجد ذكراً لكتاب بهذا العنوان، يقول ذلك بعدما استفرغ الجهد في البحث والدرس، ولكن هل يكون هذا مثبطاً لعزمي، واقطع الأمل في معرفة المؤلف؟(767/40)
وذات يوم كنا نتجاذب الحديث على شاطئ دجلة مع نفر من كرام رجال التعليم في الموصل، فاخبرني الأستاذ الصديق السيد عبد النافع حكيم أنه قرأ - فيما قرأ - أن كتاب شرح مشكلات أبي تمام هو للمرزوقي، ويغلب على الظن أنه قرأ هذا في مقدمة أخبار أبي تمام للصولى الذي نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة.
ولما رجعت إلى مقدمة أخبار أبي تمام للصولى، وجدت أن الناشرين ذكروا فيها أن للمرزوقي كتاباً باسم شرح المشكل من شعر أبي تمام، وأن في مكتبة الجامعة المصرية صورة شمسية من هذا الكتاب مأخوذة عن أصل محفوظ في الأستانة.
والى هنا استطعت أن أمسك بأول الخيط في سبيل معرفة مؤلف هذا الكتاب، ولكن لا سبيل إلى المضي في البحث أو الجزم بنسبة كتابنا الذي بين أيدينا إلى المرزوقي حتى نرى نسخة الجامعة المصرية، ونقارن بينها وبين نسختنا لنعرف هل هما كتاب واحد أم لا؟ فلنترك هذا الآن لنبحث عن المرزوقي هذا من هو؟
يقول ياقوت الحموي في إرشاد الأريب - ج5 ص34 - 35 - : أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، أبو علي بن أصبهان كان غاية في الذكاء والفطنة وحسن التصنيف وإقامة الحجج وحسن الاختيار. وتصانيفه لا مزيد عليها في الجودة، وكان قد قرأ كتاب سيبويه على أبي علي الفارسي، وتتلمذ له بعد أن كان رأساً بنفسه، وله من الكتب: كتاب شرح الفصيح، كتاب شرح أشعار هذيل، كتاب الأزمنة، كتاب شرح الموجز، كتاب شرح النحو؛ ثم ينقل ياقوت عن الأبيوردي أن المرزوقي كان يتفاصح في تصانيفه كابن جني، وأنه كان معلم أولاد بني بويه باصبهان، ودخل عليه الصاحب بن عباد، فما قام له، فلما أفضت الوزارة إلى الصاحب جفاه.
ثم نقل عن ابن مندة أن المرزوقي توفي في ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. هذه خلاصة وافية من ترجمة المرزوقي التي ذكرها ياقوت، ونقل السيوطي في بغية الوعاة بعض ما ذكره ياقوت من غير أن يزيد عليه شيئاً.
وقد لاحظت أن كتاب شرح مشكلات ديوان أبي تمام لم يذكر في كتبه التي أوردها ياقوت في إرشاد الأريب والسيوطي في بغية الوعاة.
ولما عدت إلى القاهرة في أواخر سبتمبر سنة 1947 سارعت بالذهاب إلى مكتبة الجامعة(767/41)
المصرية، فوجدت الصورة الشمسية لكتاب شرح مشكل ديوان أبي تمام - وهو برقم (48 - 24) أدب معارة للأستاذ عبده عزام أحد مدرسي كلية الآداب في الجامعة المصرية لأن الأستاذ عبده عزام يشتغل من أمد بعيد في إخراج شرح التبريزي لديوان أبي تمام إخراجاً علمياً.
فبعثت بقطعة من نسخة الموصل لمقارنتها بالصورة الشمسية التي لدى الأستاذ عزام بواسطة الصديق الكريم الأستاذ محمد رشاد عبد المطلب الموظف بالقسم الثقافي بالجامعة العربية، وظهر من المقارنة أن النسختين لكتاب واحد هو شرح مشكل ديوان أبي تمام كما ظهر أنه لا دليل على أن الكتاب للمرزوقي إلا ما كتب على ظهر نسخة الآستانة.
ولكن هل تكفي هذه الكتابة التي على ظهر النسخة الآستانة لإثبات أن الكتاب للمرزوقي، مع أن مترجمي المرزوقي لم يذكروا في كتبه اسم هذا الكتاب؟ ومما قوى هذا الشك في نسبة هذا الكتاب إلى المرزوقي أن صاحب كشف الظنون أيضاً لم يعرض لذكر هذا الكتاب مع أنه ذكر كتاباً آخر للمرزوقي لم يذكره مترجموه. وهو كتاب (الانتصار لأبي تمام من ظلمته) وهو - كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية ج5 ص321 - كتاب ألفه المرزوقي في الرد على كتاب لأحمد ابن عبيد الله القطربلي المعروف بالفريد أظهر فيه أخطاء أبي تمام في الأسلوب وغيره.
أليس من الممكن أن يكون كتاب (شرح مشكلات ديوان أبي تمام) الذي بين أيدينا هو كتاب (الانتصار لأبي تمام من ظلمته؟) وهذا شك جديد يلقي ظله على اسم الكتاب الذي نحن بصدده غير أني اطلعت أخيراً في دار الكتب المصرية على كتاب (النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام) لأبي البركات المبارك بن أحمد بن المستوفي الأربلي المتوفى سنة 637هـ فوجدت أنه يذكر في المقدمة الكتب التي أعتمد عليها في شرح ديوان أبي تمام إلى أن يقول: (وعلى كتابي أبي تمام على أحمد بن محمد ابن الحسن المرزوقي، أحدهما في شرح مشكل أبياته المفردة، والآخر في الانتصار لأبي تمام من ظلمته) فكان هذا نصاً صريحاً من ابن المستوفي الأربلي المتوفى بعد المرزوقي بنحو مائتي سنة باب للمرزوقي كتابين - غير الكتب التي ذكرها ياقوت والسيوطي هما: (شرح المشكل) و (الانتصار).
ويذكر ابن المستوفي في مقدمة كتابه أنه ينقل في كتابه نصوص الكتب التي اعتمد عليها(767/42)
فراجعت إلى كتاب (النظام) وقابلت ما نقله بن المستوفي عن المرزوقي بالنسخة الخطية التي استنسختها عن نسخة الموصل لشرح مشكل ديوان أبي تمام، فوجدت النصوص متحدة لا تزيد حرفاً ولا تنقص حرفاً.
وبعد فإني - الآن - أستطيع الجزم - وأنا مطمئن القلب - بأن كتاب (شرح المشكل من شعر ابي تمام) (المحفوظ في خزانة المدرسة الفيصلية العلمية بالموصل هو لأبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي المتوفى سنة 421هـ، وأن لهذا الكتاب نسخة في إحدى مكاتب الآستانة وصورة شمسية في مكتبة الجامعة المصرية، ونسخة أخرى مدرجة في كتاب (النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام) لابن المستوفي الأربلي.
وأرجو أن أكون وفقت بعض التوفيق في وصف كتاب المشكل من شعر أبي تمام والتعريف بمؤلفه.
برهان الدين الداغستاني(767/43)
من هي. . .؟
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
أنا لا أهوى سواها ... ملأ القلب هواها
إن تناَءت قلت: آها! ... أو تراَءت قلت: واها!
ألهمتني الشعر سحريَّ ... المعاني - مقلتاها
وسقتني الحب عطريَّ ... الأماني - شفتاها
وجلت للقلب فجراً ... وربيعاً من صباها
فتغني في رباها ... وتهادي في سناها
هي عذراء براها الله ... في أبهى مثالِ
فتراءت مثلما كن - ت أراها في خيالي
وتهادت فتنة يق - ظي بأحلام الليالي
وحواليها رؤى السح - ر، وأطياف الجمال
ولها إشراقة النو - ر، وأسرار الظلال
فهفا قلبي إليها ... بحنيني وابتهالي
كنت من قبل هواها ... حائراً بين الغواني
لا أرى الروح الذي أب - حث عنه في زماني
ذلك الروح الذي يد - عوه روحي وكياني
والتقينا فتعارف - نا كأنا توءَمان
ونشأنا في ربا الحب، ... وفي ظل التداني
وشربنا الصفو خمراً ... في كئوس من حنان
سالتني ذات يوم ... وعراها ما عراها!
من تراها ألهمتك الشعر ... سحراً؟ من تراها؟
قلت: يا أحلام أيامي ... ، ويا سر مناها
أنت أغنيَّة حب ... وأنا شعري صداها
أنت في صحراءِ عمري ... روْضة طاب شذاها(767/44)
وأنا البلبل يحيا ... شادياً فوق رباها
كل حرف في قصيدي ... مهجة تهفو إليك
كل لحن في نشيدي ... لهفة تحنو عليك
إن أفراح شبابي ... نبعُها السامي لديك
وصبابات فؤادي ... سرها في ناظريك
وأزاهير غرامي ... عطرها في وجنتيك
وحياتي - يا حياتي - ... كلها ملْك يديك
سوف يبقى لك في رو - حي وفي قلبي حنينُ
سوف يبقى لأسمك المح - بوب في شعري رنين
قلت فيك الشعر حتى ... ذهبت فيك الظنون
واشتهي رؤياك أص - حابي وقالوا: من تكون؟
يا صاحبي: حسبكم أو - صافها، فهي تبين
يا صاحبي: إنها سرُّ به ... قلبي ضنين(767/45)
مع المطر
للأستاذ إدوار حنا سعد
على نافذتي بنان المطر ... تدق فتوقظني للسمر
لنا ألفة من زمان الطفو - لة في صفحتيها تنام الذَّكر
فتحت لها شرفتي مثلما ... تلاقي الحبيبان بعد السفر
تقبلني قطرات الرذاذ ... ويندى بها خديَ المستعر
وقد مال للغرب غصن الظلام ... ونوّر في الشرق ورد السحر
تتابع وقعك فوق الطريق=شجي الرنين رتيب الخطى
غسلت الهموم ومر الموا - جد عن مهجتي وأذبت الأسى
شعرت بروحي تندى كما - ترف الأزاهير تحت الندى
وتورق، كالغصن إن جدته ... وتفرح، كالقفر بعد الظما
وتلمع مثل الطريق الجديد ... إذا نمت فيه، زها وازدهى
فيا لبن السمو ويا ابن الصفاء ... إلى عنصريك تناهي الرجاء
فلم يبق فوق الثرى - للسماء ... سوى نفحة من شذى الأنبياء
سوى شاعر يستشف الآله ... بكل جمال - خبا أو أضاء
سوى عاشق أريحي الحنين ... كيعقوب أو عيسوي الحياء
فيغني بأحبابه ذاته ... ويعرف في الله معنى الفناء
كلانا على الأرض، ملقي بها ... ومنبعنا من كروم السما
إذا ما تسامى بأرواحنا ... جناح الصفا - وهي وارتمي
فلما نزل بين تصعيدة ... وإسفافة، شردا حوما
أيكرهنا نفر في الحمى ... ونحن نجن هوى بالحمى
إذا جدت لمتم، فيا ويحكم ... وإن جرت لم أجد اللوما(767/46)
من وراء المنظار
صدقة ترفض
الصباح بارد الأنفاس يلذع نسيمه الوجوه وينفذ إلى العظم، والأرض مبتلة من أثر مطر خفيف، وليس خارج داره بل ليس خارج فراشه إلا من يغدو إلى عمله فما يملك أن يتراخى أو يقعد.
ووقفت أنتظر إحدى السيارات العامة، وأنقل بصري في وجوه السابلة أرى كيف يسعى الناس سعيهم في سبيل العيش، وكيف تقوم الحياة في المدينة على كدح من لا يأبه لهم، وأتبين ذلك الجد المحبوب في خطوات الناس وفي صفحات وجوههم الصابرة الشاحبة التي محا الإشراق منا الغلاء والكدح. . .
وانعطف أحد بائعي اللبن على عجلته المثقلة بصفائحه من أحد الشوارع وهو غلام في نحو الثامنة عشرة، فما كاد يستقيم حيث أقف حتى أنزلقت به العجلة فوقعت على الأرض، وهوى المسكين على جنبه واللبن يتدفق فيجري على الأسفلت دفاقاً. . .
وخف إليه بعض السابلة فأنهضوه ورفعوا العجلة يحفظون ما بقي من اللبن، وراح بعضهم يحوقل، وراح البعض يمص شفتيه يظهر الأسف، ولكن لم يخل الحال من ماجنين راحوا يصيحون من هنا ومن هناك: عليه ميه. . . عليه ميه! وأخذوا يضحكون في غير مبالاة كأنما يشتمون من الغلام شماتة الواثق من أنه أضاف إلى اللبن ماء. . .
وذهل الغلام عن نفسه لحظة ثم نظر إلى اللبن يجري بين يديه ومن خلفه، فما أحسبه والله لو أنه كان ينظر إلى دمه يجري هكذا على الأرض ما كان يبدو أكثر مما بدا جزعاً وهلعاً. . . لقد كانت ترتعد فرائص المسكين كأن بهما زلزلة، وكأن مفاصله لا تقوى على حمله، وكان يمسك العجلة بيد مرتجفة ويلطم وجهه بالأخرى وفي هذا الوجه صفرة كصفرة الموتى. . . ثم كان يصرخ بين الفينة والفينة صرخة أشبه بصرخة الثاكلة تزفر النار على كبدها ويرمض الحزن مهجتها، وكان يلفظ لفظة من ألفاظ الثكالى يعبر بها عن ألمه. . .
ورأيتني على رغمي أمام صورة من صور الفزع الإنساني اشمئز منها خاطري وتحرك لها قلبي، ففيها مع الخوف الذلة والمكنة وما أثقل على قلبي رؤية ضعيف في موقف الضعف فما بالك بموقف الفجيعة والخوف.(767/47)
وأدخل بعضنا أيديهم في جيوبهم ثم مدوها بما جادوا به إلى فتى نبأتني كتبه ودفاتره أنه من الطلبة، تولى جمع صدقة لذلك المكين واجتمع عدد من السابلة يواسونه بكلماتهم التي كان يمجها سمعه فما فيها غناء تلقاء هذه الكارثة. . . ودنا منه أحدهم وهو شاب في ملابس العمال فقال له في لهجة قوية. وماذا جرى حتى تفعل هذا كله. . . عيب. . . أسكت. . . خليك جدع. . . وقال المسكين: سيطردني الخواجة فلا أجد عملاً. . . واقترب منه عدد من العمال وفي يد كل منهم بعض أدوات حرفته أو منديل طعامه، وكان جميعاً يستشعرون العار مما يفعل، فكانوا يطلبون إليه أن يكف وهو في حيرة من أمثال كلماتهم. . . (بلاش عبط) (خليك عاقل و (إيه يعني) وإضرابها لا يرى فيها حلاً لورطته القطيعة. . .
ونظر هؤلاء العمال إلى ذلك الطالب الذي كان يجمع الصدقة، فارتاحت نفوسهم، وإن بدا شيء من الخجل في وجوه بعضهم؛ ومشى الطالب إلى كهل بادي الوجاهة شهد الحادث من أوله، فرجا منه أن يجود بشيء؛ فتكره لح واحمر من الغضب وجهه، وحار لحظة ماذا يذكر من علة للرفض؟ ثم انفرجت شفتاه الغليظتان الصارمتان عن قوله، وهو يشير إلى اللبن بسبابته: من غير شك دا عليه ميه!
وضحكت، وما كان أحوجني إلى الضحك ساعتئذ، فقد أثقل الألم قلبي. . . ونظر إليه العمال نظرات كريهة، ومشى الطالب إلى بائع اللبن المسكين يعطيه ما جمع له، فما كان أشد عجبي أن رأيت أحد هؤلاء العمال يعود إلينا بتلك القروش ويطلب إلى كل منا أن يسترد ما أعطى؛ ونظرت فإذا بهم يخرجون أيديهم من جيوبهم الفقيرة بالقروش يدفعونها للغلام المسكين ويكفكفون بها دمعه، ومضيت وما سرى عن قلبي ما أثقله إلا ما في عملهم هذا من مغزى: لقد رفضوا الصدقة التي صحبها الأذى واحلوا محلها العون، وقالوا لنا، وإن لم ينطقوا: لسنا في حاجة إلى عطفكم وأن كنتم إلى سعينا وكدحنا أبداً محتاجين. .
الخفيف(767/48)
الأدب والفن في أسبوع
مسابقة المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول مساء الأربعاء الماضي في الجمعية الجغرافية الملكية، بإعلان نتيجة المسابقة الأدبية لسنة 1948 وهي كما يلي:
فاز في الشعر الأستاذ علي الجندي عن ديوان (أغاريد السحر) والأستاذ عثمان حلمي عما أرسله إلى المجمع من شعره، وجائزة كل منهما ثمانون جنيهاً؛ والأستاذ محمود حسن إسماعيل عن ديوان (الملك) والأستاذ إلياس فرحات من المهارجين اللبنانيين بالبرازيل عما أرسله إلى المجمع من شعره، وجائزة كل منهما سبعون جنيهاً. وفاز في القصة الأستاذ نجيب محفوظ عن قصة (خان الخليلي) والأستاذ محمد سعيد العريان عن قصة (على باب زويلة) وجائزة كل منهما مائة خمسون جنيهاً.
وفاز في البحث الأدبي الأستاذ علي علي الفلال عن بحث (مهيار الديلمي) بجائزة مائتي جنيه.
وقد قدم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الشعراء الفائزين وألقى كلمة عن الشعر، وقدم الفائزين في القصة الدكتور إبراهيم مذكور وتحدث عن فن القصة، وألقى الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف كلمة عن البحث الأدبي وقدم الفائز فيه.
مؤتمر المجمع وقراراته:
عقد مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية لسنة 1948 اثنتي عشرة جلسة، كانت أخراها في أواخر فبراير الماضي؛ ومؤتمر المجمع هم الاجتماعات السنوية التي يحضرها جميع الأعضاء من أجانب ومصريين، وتكون في أوائل السنة، وهو غير مجلس المجمع الذي يحضره المصريون فقط، وينعقد في غير أوقات المؤتمر ويستمر طوال السنة عدا الإجازة الصيفية.
وقد ألقيت في جلسات المؤتمر هذا العام محاضرات، منها محاضرة عن صلة اللغة العربية باللغات السامية للدكتور عبد الوهاب عزام بك، ومحاضرة عن الاصطلاحات الفقهية للشيخ عبد الوهاب خلاف، ومحاضرة عن نشأة المصطلحات الفلسفية للدكتور إبراهيم بيومي مدكور؛ وعرضت عليه بحوث في الإملاء وموقف العامية من الفصحى، والنحت، ووصف(767/49)
جمع غير العاقل بصيغة فعلاء، وملاحظات بين اللغة والنحو؛ ونوقشت في هذه الجلسات طائفة من المقترحات. وقد انتهى المؤتمر إلى القرارات الآتية:
1 - اختيار الدكتور طه حسين بك والدكتور إبراهيم بيومي مدكور لمثلا المجمع في مؤتمر اللغويين السادس ومؤتمر المستشرقين الحادي عشر اللذين سيعقدان بباريس في شهر يوليه المقبل.
2 - ضرورة شرح المصطلحات العلمية الجديدة شرحاً يوضحها، على أن تنشر مقرونة بشرحها في الأوساط العلمية بمختلف البلاد العربية بعد إقرار المجلس لها، وإذا ما استكملت وسائل نشرها عرضت على المؤتمر مصحوبة بتعاريفها النهائية ثم تسجل في جزازات خاصة.
3 - الموافقة على نموذج المعجم الكبير من حيث المبدأ، على أن يتابع السير فيه ويمد بما يتطلبه العمل من موظفين وخبراء.
4 - تشجيع دراسة العامية واللهجات المختلفة تحقيقاً لما رمى إليه مرسوم إنشاء المجمع واختيار بعض الخبراء لذلك كي يعملوا تحت إشراف لجنتي اللهجات وألفاظ الحضارة.
5 - إحالة مشروع تيسير الإملاء إلى المجلس، كي يبحث في ضوء قرارات المؤتمر الثقافي العربي الذي عقد بلبنان في العام الماضي، ثم تقدم نتيجة ذلك إلى مؤتمر المجمع في دورته القادمة.
6 - تكوين لجنة لوضع كتاب في النحو طبقاً لقواعد تيسيره التي أقرها المجمع من قبل.
7 - الموافقة على جواز وصف جمع غير عاقل بصيغة فعلاء إلى جانب الصيغ الأخرى التي يستسيغها الذوق العربي.
8 - الموافقة على جواز النحت عندما تلجئ إليه الضرورة العلمية.
9 - الموافقة علة جواز توهم أصالة الحروف في بعض الكلمات العربية.
وسنرجع إلى بيان بعض هذه القرارات في الأعداد القادمة بمشيئة الله.
أعضاء مراسلون بالمجمع:
وقد عرض على المؤتمر في جلسته الأخيرة موضوع اختيار أعضاء مراسلين بالمجمع من الخارج، وبعد مناقشة اتفق على ترشيح الآتية أسماؤهم.(767/50)
الأستاذ جبرييل من روما، والأستاذ أربري من لندن، والأستاذ لاوست من ليون، والأستاذ نيبرج من أبسال، والأستاذ خليل مردم والأستاذ شفيق جبري والأمير مصطفى الشهابي والأستاذ جميل صليبا والأستاذ عارف النكدي من سوريا، والأستاذ محمد بهجة الأثري من العراق، والأستاذ الشيخ طاهر ابن عاشور، والأستاذ الشيخ علال الفاسي من تونس، والأستاذ الشيخ محمد الحجوي من مراكش، والأستاذ الشيخ محمد نور الحسن من السودان ومدرس بالأزهر.
وستعرض هذه الأسماء على مجلس المجمع لاتباع ما يقضي به مرسوم المجمع ولائحته في شأن تعيين الأعضاء المراسلين.
ضيفان من لبنان:
في القاهرة الآن ضيفان كريمان من إخواننا أدباء لبنان، هما الأستاذ سعيد تقي الدين، والأستاذ سهيل إدريس، والأستاذ سعيد هو قنصل لبنان في الفلبين، وقد قضى في هذه البلاد بعيداً عن البلاد العربية اثنين وعشرين عاماً، وقد بدا نشاطه الأدبي في السنوات الأخيرة بما نشره في صحف لبنان وما ألفه من الكتب في القصص والنقد الأدبي، وآخر كتاب ظهر له (حفنة ريح). والأستاذ في طريقه من أمريكا إلى لبنان بعد هذه الغيبة الطويلة، وقد تحدث إلي عن شعوره لما حل بمصر فعبر عن سروره بتطور الشعور القومي العربي وقال إن هذا الشعور قد تجاوز الرسميين والمتقين إلى أفراد الشعب، كما قال أن التمازج بين شعوب العرب هو غاية الفكرة العربية.
أما الأستاذ سهيل إدريس فقد جاء من لبنان للقاء الأستاذ سعيد تقي الدين بمصر، وهو يهتم في هذه الزيارة القصيرة بالتعارف مع أدباء مصر والوقوف على نواحي النشاط الأدبي فيها.
الأدب الشعبي:
سمعت يوم الجمعة من محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية، حواراً بين الأساتذة شوقي أمين وكامل عجلان ومصطفى حبيب، كان موضوعه (توحيد المنهج الأدبي بين الأمم العربية) وقد تتبعت حديثهم باهتمام لأرى كيف يختلفون في هذا الموضوع، فلم أجد بينهم(767/51)
خلافاً في الصميم، فأصل القضية أن الأمم العربية ذات لغة واحدة تصوغ بها آدابها التي تجتمع في خصائص عامة، ولم يكن بين الأساتذة المتحاورين من يقول بغير ذلك، وإنما كانوا يشققون الكلام دائرين حول ذلك المحور. ولكنهم أثاروا في ضمن الموضوع مسألة الأدب الشعبي فاختلفوا فيها حقاً، فقد قال الأستاذ عجلان: أريد أن تكون حياة الشعوب العربية في فنها الرفيع صورة متحدة، وهذا يدعوني إلى أن أغضي عن الأدب الشعبي الذي لا ينفذ إلى طوايا الخلود. فقال الأستاذ حبيب: أنا لا أوافق على الغض من الأدب الشعبي، لأنه الأدب الحي الذي يمثل مشاعر الشعب وآماله وآلامه. فقال الأستاذ شوقي: أثرتما حديث الأدب الشعبي وكأنكما تجاهلتما أننا اتفقنا على ضرورة التوحيد اللغوي بين العلم العربي، فإذا فهم من الأدب الشعبي أنه لن يقوى على البقاء، فاللغات العامية في تطور وشيك، وهي بتعميم الثقافة تتعرض للتداعي، وستذهب جهود أولئك الأدباء الشعبيين هباء بعد سنوات هي وأن كثرت قليلة في عمر الزمان، وإن المصري اليوم ليعجز عن تفهم قطعة كتبت بالعامية منذ نصف قرن فقط؛ وأما أن أريد بالأدب الشعبي الذي يصور منازع الطبقات العامية ويجلو أوضاع حياتها فإن هذا الأدب أن كان مكتوباً باللغة العربية كان بقاؤه مرهوناً بالدرجة التي هو عليها من الجودة والروعة، وقد بقيت لنا روائع في الأدب العربي بقوة تصويرها لا بجلالة موضوعها ولا بأنها تمثل أدب الخاصة.
النهضة التعليمية في القرن الأخير:
هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها يوم الخميس الأستاذ إسماعيل القباني بك المستشار الفني لوزارة المعارف بنادي اتحاد خريجي الجامعة، وقد استعرض فيها المراحل التي مر بها التعليم في مصر منذ عصر محمد علي، وعني بإبراز مشاكله الحاضرة مبيناً أن أصولها ترجع إلى ذلك العصر؛ فقد كان بمصر قبل محمد علي تعليم ديني بالأزهر والكتاتيب، وكان هذا التعليم يتفق مع الشعب وعواطفه، ولكنه لم يكن بلائم الحضارة الأوربية التي أخذ بها محمد علي في الإصلاح والنهوض بالبلاد، فلجأ إلى إرسال البعوث وإنشاء المدارس لتخريج فنيين يستعين بهم على ما اختطه من الإصلاح، فلم يكن الغرض نشر التعليم بين أفراد الشعب وإنما كان وسيلة إلى إعداد طائفة من الفنيين؛ فكان هناك تعليمان، تعليم شعبي وهو الديني، وتعليم خاص يعد الموظفين والحكام، فنشأ عن هذا مشكلة(767/52)
الازدواج في التعليم التي لا تزال الدولة تعالجها بالعمل على توحيد المرحلة الأولى في التعليم.
وبين الأستاذ اتجاه التعليم في عصر إسماعيل وما تلاه إلى ناحية الشعب ونشر الثقافة بين أفراده، حتى نكبت البلاد بالاحتلال الذي عمل على قصر مهمة المدارس على تخريج موظفين، وقال إنه يلاحظ أن النهضات التعليمية في مائة السنة الأخيرة اقترنت بالشعور الوطني القومي، وذلك يتمثل في اجتماع مجلس الشورى في عهد إسماعيل الذي نادى بوجوب الاهتمام بالتعليم فكانت نهضته وكان تنظيمه على يد باشا مبارك سنة 1866، وفي الحركة الأعرابية اهتم الخديو توفيق بإصلاح التعليم، فوضعت النظم لنشره في جميع أنحاء البلاد، ولكن الاحتلال لم يمهل هذه النظم لتؤتي ثمراتها، ويتمثل ذلك أيضاً في دعوة مصطفى كامل إلى إنشاء المدارس الأهلية وفي الدعوة إلى إنشاء الجامعة المصرية وفي مجاراة حكومة الاحتلال للشعور الوطني بإنشاء مدارس مجالس المديريات، ثم يتمثل في أوائل العهد الدستوري سنة 1925 وما صاحبه من توسيع التعليم، ويتمثل أخيراً في اشتداد الوعي الاجتماعي والقومي الحالي وما يجري معه من العمل على تهيئة فرص التعليم للجميع.
ومما قاله الأستاذ القباني بك أن التعليم كان منذ محمد علي إلى وقت الاحتلال بالمجان، وكانت مجانيته حقيقية لا كالمجانية الحالية التي أخذ بها في التعليم الابتدائي، لأن المدارس إذ ذاك كانت مفتوحة لكل راغب في التعليم مع ملاحظة قلة الراغبين، أما الآن فإن المدارس لا تتسع للجميع؛ لأن الدولة لا تستطيع أن تلبي كل الرغبات لقصر وسائلها، ولأن تكون المجانية محققة حتى تستطيع الدولة أن تفتح أبواب مدارسها لجميع أبناء الأمة على السواء في تعليم موحد.
تعريب الأفلام:
شغل الوسط السينمائي والصحف الفنية في هذا الأسبوع بموضوع ترجمة الأفلام الأجنبية إلى اللغة العربية المعروفة بعملية (الدبلاج) وقد أثار هذا الموضوع عرض فلم (لص بغداد) الأمريكي بسينما ستوديو مصر ناطقاً باللغة العربية. وقد أبدى السينمائيون المصريون سخطهم واحتجاجهم على هذا العمل بدعوى أنه خطر على الأفلام المصرية ويهدد عمال(767/53)
السينما بالتعطل. والى جانب هذا يرى بعض النقاد أنه لا خطر على السينما المصرية من الدبلاج بل هو يؤدي إلى ترقيتها؛ لأن المنافسة القوية تبعث على الإجادة، ويرى بعضهم أن الذي يهدد السينما المصرية حقاً إنما هو هذه الأفلام التي كثرت أخيراً وسادها التهريج والابتذال والاستخفاف بالجماهير وتخديرها واستغلال جهلها، وأنه إذا كان السينمائيون يطالبون بحمايتهم من المنافسة الأجنبية فالواجب قبل ذلك هو حماية الفن السينمائي الصحيح وحماية الجمهور من الفوضى والاستغلال. وقد تلقى منتجو هذه الأفلام الدرس القاسي من الجمهور بإعراضه أخيراً قبل أن يهددهم به الدبلاج.
والعجب أن منتجي الأفلام المصرية يثورون الآن على تعريب الأفلام الأجنبية وهم يزاولون هذا التعريب في أفلامهم مع التمصير والمسخ والتشويه. . . ثم ادعاء التأليف!
هذا وقد تألفت لجنة للنظر في هذا الموضوع برياسة معالي وزير الشؤون الاجتماعية، واجتمعت وقررت السماح بإطلاق تعريب الأفلام العلمية والثقافية وتحديده للأفلام التاريخية والتمثيلية بثلاثة أفلام في السنة، كما وافقت اللجنة على السماح بتعريب أفلام الدول التي تستورد أفلاماً من مصر، على أن يكون عدد الأفلام الأجنبية التي يسمح بتعريبها في هذه الحالة مساوياً لعدد الأفلام المصدرة من مصر إلى هذه الدول ,
العباسي(767/54)
البريد الأدبي
رد على نقد:
نشر الأستاذ (زيتون) في الثقافة نقداً لكتبي الثلاثة: أحمد عرابي وإبراهام ومن وراء المنظار؛ ومما جاء في نقده قوله: (وأحب أن أقدم للقارئ مفتاحاً لكل ما كتب الأستاذ الخفيف وما سيكتب، بل مفتاحاً لكل ما تحدث به إذا ما تحدث، فقد وجدت هذا المفتاح إذ كنت أقرأ له هذه الكتب الثلاثة التي أخرجها وهو جماع ظاهرتين معروفتين في علم النفس، أما أولاهما فهي ما يسمونه اتحاد المدرك بالمدرك وأما الثانية فهي ما يسمونه بتفكير المتمني).
جعل الأستاذ هاتين الظاهرتين أساس ما أكتبه بل ما سأكتبه وذلك أعجب، وقال (فلا تقرأ له هذا التاريخ الذي سطره بحيث تحاسبه الحساب العسير الذي تحاسب به مؤرخاً أخذ على نفسه أن يثبت لك الحق أجرد بارداً، بل أقرأه قراءتك لأديب قادر ماهر أضفى خياله ألواناً زاهية على ما يكتب وما يصور من مواقف).
عجبت إذ قرأت هذا، وازداد عجبي لأن كاتبه هو الأستاذ (زيتون) بالذات، وهو من أعلم رجاحة عقل وصدق نظر وسعة أطلاع، وأنه ليعلم كما أعلم أن تفكير المتمني أن جاز في القصة فهو لا يجوز في التاريخ؛ لأن التاريخ مسائل تقرر أو تنقض بالدليل فإن (جرى فيه الفكر بما يتمنى الكاتب أن يكون هو الواقع) لم يعد تاريخاً وإنما أصبح قصة. والأستاذ (زيتون) قد قرأ كتبي كما قال، وأنا من ناحيتي قد بنيت كتابي وبخاصة الأول على الوثائق أستخرج منها الدليل، وأحسب أني ما قدمت رأياً واحداً بغير برهان أو عدة براهين أرجعتها إلى مصادرها، وهذا هو ما تفضل بعض حضرات القراء فأثنوا به على كتابي (أحمد عرابي)؛ وإذا كان الأمر كذلك فلي أن أعجب من تفكير المتمني) هذا الذي نسبه إلى الناقد الفاضل وجاء في نقده قوله عني (اقرأه قراءتك لخطيب أخذ يلوح بيديه لسامعيه ويرفع ويخفض من صوته، لا يعنيه أن يقول الحق جافاً كما تفهمه العلوم، بل يريد أن يقع من نفوس سامعيه بما أراد أن يقع) والأستاذ (زيتون) يعلم كذلك كما أعلم أن لكتابة التاريخ طرقاً منها أن يكون حول شخصيته، ولهذه الطريقة دعاة كثيرون اليوم وهو في هذه الحال مزج بين الأدب والتاريخ كما يصنع أساطين كتاب التراجم المحدثين من أمثال زويج(767/55)
ولدوج وكما فعل بلوتارخ في الأقدمين، ومن المؤرخين من أصطنع هذا في غير الشخصيات كذلك، وما أظن خلود جيبون إلا لأنه كان أديباً في كتابه ومؤرخاً معاً، وأنا أستطيع أن أفعل مثل ذلك على قدر طاقتي، واحسبني فعلته في كتابي فأوردت الحقائق وتقيدت بها ثم أضفى خيالي الأدبي ما شاء (من ألوان زاهية على ما كتبت وما صورت من مواقف) ولكن دون أن أضحي بالحقائق أو أفكر تفكير المتمني؛ وإذا كان الأستاذ الناقد قد أورد ما أورد من الشواهد ليؤيد بها خطابتي، فليت شعري لم اقتصر عليها، ولم يورد شواهد من براهيني ومناقشاتي وتحليلي؟ أذلك لأنه يريد أن يجعلني على رغمي أفكر تفكير المتمني؟
أؤكد للأستاذ الفاضل (زيتون) أني ما أردت بردي هذا دفاعاً عن كتبي بقدر ما أردت أن أبرهن له أن ما سماه تفكير المتمني لن يكون في كتابة كاتب وتسمى مع ذلك تأريخ فقط، وأنا أعاهده وأشهد القراء على عهد هذا، أنه أن دلني على شيء فيما كتبت لا يستند إلى دليل، أخطأت فيه أو أصبت، فلن أكتب تاريخاً بعد ذلك أبداً، ولعله لا يتبرم، بما في عهدي هذا من خطابة، ولعله واجد فيه منطقاً، أو على الأقل، شيئاً يشبه أن يكون منطقاً.
أما عن وراء المنظار، فإنه يقول: أن دقة التصوير التي زادت فيه عن حدها قد أنقصت بعض الشيء من قيمة هذا الكتاب الفنية، وأحب أن أقول أن هذه الدقة التي زادت عن حدها هي أقوى مدح يوجه إلى مثل هذا الكتاب وهي جوهر فنه، فهو ليس بقصة فيها أحذف شيئاً من الطبيعة وأضيف شيئاً)، وإنما هو (من وراء المنظار) أعني أني أكتب ما أرى وكلما توافى لي من الدقة قدر كنت إلى هدفي أقرب. . . وليت لي حقاً هذه الدقة التي زادت عن حدها، فإنه لم ينلها إلا كل طويل الباع من القصصيين الواقعيين وهي مجال سبقهم وموضع تبريزهم.
هذا، وللأستاذ (زيتون) صادق مودتي وعظيم شكري على ما تفضل به علي من ثناء أرجو أن أظل عاملاً عليه.
الخفيف(767/56)
القصص
أقصوصة من روائع الأدب الإيطالي:
من شابه أباه
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
عاش قدماً من بلاد (الإغريق) ملك ذو بأس وسلطان عظيم، يدعى (فيليب). . . وقد ألقى ذلك الملك في غياهب السجن بأحد العلماء الراسخين في العلم. . . لما قارفه من أثم وركبه من عدوان!. .
وكان ذلك العالم ممن حباهم الله بالحكمة وآثاهم المعرفة. . حتى ذاع صيته في كل أفق. . وجرى ذكره على كل لسان. .
وحدث ذات يوم أن أهدى ملك (أسبانيا) إلى الملك (فيليب) جواداً كريماً الأصل جميل الشكل أشهب اللون ذا جرم عظيم. . .! فأرسل الملك في طلب (البيطار) ليعلمه الرأي في هذا الحصان، بيد أن هذا أسر في أذنه أن الحكيم الإغريقي هو أعلم أهل الأرض بكل أمر، وأخبرهم بكل شيء!. .
فدعاه الملك من شجنه!. وقال له: (أيها السيد. . لقد ألقى في روعي ما أصبت من العلم البعيد، وترامى إلى سمعي ما جنيت من الخبرة العميقة!. فخبرني بما تراه في هذا الجواد؟!.)
فلما أنعم الحكيم فيه النظر، وفحصه عن دقة وبينة. . تبسم وقال للملك: (يا مولاي. . إن هذا الجواد جميل حقاً وسريع الركض!. بيد أنه أرضع لبن الحمير!. .)
فأوقد الملك (فيليب) إلى (أسبانيا)! ليلموا بجلية الأمر، فانثنوا على أعقابهم يسوقون له اليقين على أن التي أرضعت الجواد حمارة. . فقد نفقت أمة إثر ولادته!. .
فأخذت الدهشة الملك وتولاه الإعجاب!. . وأمر بأن يقدم إلى الحكيم في سجنه، نصف رغيف من الخبز - جزاء له على صدق ما نظر - من نفقة القصر!.
ثم حدث بعد ذلك أن جلس الملك إلى مجموعة من جواهره الثمينة ولآلئه الغالية، يختبرها. . فلم يلبث أن بعث إلى الحكيم يدعوه!. وقال له سيدي إن غور علمك بعيد لا يدرك له(767/57)
العقل نهاية ولا يبلغ منه غاية! ويلوح أنك عليم خبير بكل دقيقة في هذا الوجود!. وها هي ذي أحجاري الثمينة التي أعتز بها، وأهتز زهواً لها! فدعني - بربك - أعلم أيها أعظم - في نظرك الثاقب - قيمة وأكرم معدناً. .) فأجابه الحكيم هازئاً: (هلا أنبأتني يا مولاي أي واحدة تحسبها أثمن هذه الجواهر وأكرمها؟)
فانتقى الملك من بينها جوهرة تتألق جمالاً وتفيض بهاء. . ومد يده بها إلى الحكيم وهو يقول (إن هذه - أيها السعيد الجليل - تبدو لي أشد حسناً وأرفع قيمة!. .)
فتناولها (الحكيم الإغريقي) وراح يفحصها بين أنامله ويقلبها في راحته، ثم أدناها من مسمعه، وأصغى برهة إليها! ثم قال في صوت هادئ رزين: (يخيل إلي يا مولاي. . أن هذا الحجر يضم في جوفه حشرة حية!. .) فأمر الملك - مستغرباً: - بالجوهرة أن تكسر في رفق!. . فخرجت منها أمام ناظريه - دودة تسعى!
فزاد دهش الملك وعظم إعجابه بحكمة الإغريقي، وعقله الفذ وعلمه العجيب. . وأمر بأن يقدم له - في سجنه - رغيف كامل كل يوم!. .
وانسلخت أيام وانقضت شهور، وكان الشك لا يفتأ ينتاب الملك، والظنة لا تبرح تراوده بين حين وحين في نسبه إلى أبيه!. فأرسل في طلب الحكيم، وقال له: (أيها الرجل العليم. . . أن بلاءك اليوم لعظيم. . أريدك على أن تخبرني إبن من أنا؟ ّ)
فأجابه العجوز - مظهراً الدهشة - في صوته الهادئ وحكمته الرزينة: (يا مولاي. . إن هذا لعجيب! لا ريب في أنك إبن سلفك الملك العظيم. . والدك!. (فصاح الملك حانقاً في غلظة: (إياك والمراوغة من سؤالي: أخبرني الحقيقة وأنت آمن! فإن خالجك تردد، فسوف أضرب عنقك كخائن حقير!)
فأجابه الإغريقي: (إذن يا مولاي! لا تثريب علي ولا حرج، أني أخبرك أنك سليل خباز!) فدخل الملك (فيليب) على (الملكة لوالدة). . قلقاً ظامئاً إلى جلاء الحقيقة. . وهددها وشدد النكير عليها. . فاعترفت له بأن الحكيم لم يتجاوز الحق فيما قاله!.
حينئذ بلغ إعجاب الملك بالحكيم حداً عظيماً، فاحتبسه معه في غرفة بمنأى عن القوم - وقال له: (يا سيدي الجليل!. . لقد تجلت لي آيات بينات من علمك، وبراهين ساطعة على قدرتك! وقد حان أن تكشف لي النقاب عن سر معرفتك بها وحكمك عليها!. .)(767/58)
فأجابه الحكيم - وهو يبتسم في لطف -: (يا مولاي! سأنبئك بتأويل ما لم تحط به خبراً!. . . أما الحصان فقد علمت أنه رضع لبن حمير من أذنيه المتدليتين المتراخيتين، وليست هذه من طبيعة الخيل!. . وعلمت أن في جوف الجوهرة حشرة حية، لأني استشعرت حرارة لما قبضت عليها. . وعهدنا بالأحجار باردة! ومن الحلي أن الحرارة لا تصدر إلا عن كائن حي داخلها)
ثم سكت الحكيم. . فقال له الملك مستحثاً: -
(هه. . وكيف فطنت إلى أني ابن خباز؟)
فاستطرد الحكيم في قوله وهو يبتسم في خبث ورقة: (حينما أخبرتك بحقيقة الحصان لم تجد علي إلا بنصف رغيف من الخبز، وعندما أنبأتك عن الحشرة الحية في بطن الجوهرة أمرت لي برغيف كامل من الخبز كل يوم! فأدركت عن يقين من هو أبوك!
فلو أنك ولدت من صلب ملك حقاً لوهبتني مدينة بأسرها كمنحة أستحقها. . ولكنك اكتفيت برغيف من الخبز وهو ما كان يفعله أبوك الخباز!. . ومن شابه أباه فما ظلم!. .)
حينئذ خجل الملك من ضعة أصله ودناءة سجاياه! وأطلق أسر (الحكيم الإغريقي) ورد عليه حريته. .! ثم أعاده إلى أهله مثقلاً بالعطايا. . وولاه منصباً رفيعاً!. .
مصطفى جميل مرسي(767/59)
صانع الخير
للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد
كان الوقت ليلاً،؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فلاحت له من بعيد أسوار مدينة مخططة على شكل دائرة، فوجد خطاه نحوها. ولما دنا منها سمع في داخلها خفق أرجل طروبة، وقهقهة أفواه جذلة وأنغام وقيثارات كثيرة صادحة؛ فقرع الباب ففتح له البوابون فرأى أمامه قصراً من المرمر، أعمدته الرخامية الرائعة الجمال متوجة بأكاليل الأزهار، وفي داخله وخارجه مشاعل مضاءة من الأرز. فدخله وبعد أن أجتاز ردهات من العقيق الأبيض الخلكيدوني وأواوين من اليشم وبلغ قاعة الوليمة المستطيلة رأى على متكأ من الأرجوان شاباً مكلل الشعر بالورود، قرمزي الشفتين من أثار الخمر. فدنا منه ولمس كتفه قائلاً: (لماذا تعيش هذه المعيشة؟) فالتفت الشاب ورآه فعرفه وقال: (قد كنت أبرص فأتيت أنت وشفيتني. فكيف أعيش غير هذه العيشة؟).
ترك القصر وخرج إلى الجادة ورأى بعد هنيهة امرأة موشاة الثياب بالنقوش تنتعل حذاء مرصعاً باللؤلؤ، ورأى شاباً مرتدياً ثوباً ذا لونين يسير في أثرها الهويناء مترقباً كأنه صياد. وكان وجه المرأة شبيهاً بوجوه الدمى الجميلة، وعينا الشاب تشتعلان لذة وتدفقان شهوة، فتأثرهما مسرعاً حتى داناهما. فلمس يدي الشاب وقال له: (لماذا تنظر إلى تلك المرأة هذه النظرات؟). فالتفت الشاب ورآه فعرفه وقال: (قد كنت فيما مضى أعمى فأرجعت إلي بصري. فإلي أي شيء لأنظر إذا لم أنظر إلى ما ترى؟).
فتركه وتبع المرأة حتى أدركها. فمس ثيابها المزركشة وقال لها: (أليس من سبيل غير سبيل الخطيئة؟). فالتفتت المرأة إليه وعرفته فضحكت وقالت: (ولكنك قد غفرت لي ما أسلفت من خطايا من قبل. وهذا السبيل طريق المسرات!)
فخرج من المدينة حتى إذا كان في ظاهرها رأي شاباً ينتحب على قارعة الطريق فاقترب منه، ولمس غدائره المسترسلة وسأله. (لماذا تبكي؟) فرفع الشاب طرفه إليه فعرفه وقال له:
(لقد كنت ميتاً، فجئت أنت فأحييتني، فماذا أصنع غير البكاء؟)
عبد الوهاب مصطفى(767/60)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(767/62)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(767/63)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(767/64)
العدد 768 - بتاريخ: 22 - 03 - 1948(/)
من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة
- 5 -
يوم الجمعة 11 مايو سنة 1945
كان لحديث لقائنا الأول بقية ضاق عن تسجيلها الوقت في صفحة الأمس فأنا أسجلها ملخصة في صفحة اليوم.
قلت للآنسة (س) بعد أن قصت علي مغامرتها الحمقاء بخروجها من العزبة شريدة، وسفرها إلى القاهرة فريدة: إن حكايتك في تحررك من أخيك أشبه بحكاية العنزة (بلانكيت) في تحررها من سيدها (سيجان)
قالت وما خبر هذه العنزة؟ قلت: خلاصة خبرها فيما زعم (دودية) أنها كانت عنزة جميلة الشكل خفيفة الظل ذات قرنين مفوفين، وعينين كحلاوين، وشعر أبيض ناصع، وظلف أسود لامع؛ وأنها كانت تعيش في حظيرة مولاها عيش الرافهين الأغرار، تنزو وتلعب في حبلها الطويل، وتأكل وتشرب في مذودها الحافل. وفي ذات يوم أطلت من النافذة فأبصرت الجبل يوشيه الزهر، والسهل يغشيه النبات، فقالت لنفسها: يا لله! ما أجمل الحياة هناك! وما أسعد من ترتع في تلك المروج طليقة من هذا الحبل! ما للمعز وللحظائر والقيود؟ إنها بالحمير والبقر أخلق. ومنذ تلك الساعة غرضت العنزة من المكان، وبرمت بالقيد، وعزفت عن الطعام، حتى هزل بدنها وشح لبنها. وكان السيد سيجان كلما دخل عليها الحظيرة وجدها جاثمة على الأرض أمام الباب، تنظر نظر المشوقة، وتثغو ثغاء الولهى! فأدرك آخر الأمر أن بها شيئاً تخفيه، فسألها: ماذا بك يا بلانكيت؟ لعل حبلك قصير فأطيله، أو علفك قليل فأزيده! فقالت العنزة مغضية في غير اكتراث: أرح نفسك يا سيد سيجان، فليس ما أشكوه قصر الحبل ولا قلة العلف.
- إذن ماذا تشكين؟
- أشكو القيد.
- وماذا تريدين؟(768/1)
- أريد الجبل.
- الجبل؟! ألم تسمعي أن هناك الذئب؟
- بلى سمعت، ولكن لي قرنين طويلين يخشاهما الأسد.
- ليس قرناك يا مسكينة أطول من قرني أختك (رينود)، فقد صاولت الذئب بشجاعة طول الليل، ولكنه أفطر عليها في الصباح!
- يا للمسكينة! ولكن لا بأس. دعني بربك أجرب حظي مع الذئب يا سيد سيجان.
فلما رأى سيجان أن عنزته لا يقنعها المنطق ولا يعظها التاريخ، حبسها في حجرة بالحظيرة ثم أغلق عليها الباب، ولكنه نسي أن يغلق النافذة، ففرت منها إلى الجبل! ورأى الجبل في بلانكيت غير ما رأى في سائر الماعز من جمال اللون وحسن الشارة فلقيها لقاء جميلاً، وأمر أشجاره أن يظللن لها الطريق، وأزهاره أن يعطرن لها الجو. ووجدت العنزة نفسها مرسلة من كل قيد؛ فلا وتد ولا حبل ولا جدار، فأخذت تمرح في الخلاء الرحب، وتسرح في الكلأ الرطب، وتوازن في اشمئزاز بين ضيق الحظيرة وسعة المرج، وبين تفاهة العلف ومراءة العشب، فتحمد الله على ما رزقها من نعمة الحرية ومتعة العيش. فلما قضت حاجتها من الشبع والري، أخذت نثب في الهواء، وتركض على الأرض، وقفز فوق الصخور؛ ثم تبلل شعرها بماء الغدير، وترقد لتجففه بحر الشمس، ثم تنهض فتصعد في شعاف الجبل حتى تقف على قمته، فيخيل إليها من فرط العلف وسحر الغرور أنها حورية مرجه وملكة واديه! وبينما هي ترسل النظر الساخر من زروة الجبل إلى حظيرة سيجان أبصرت قطيعاً من الوعول ينال من شجر الكرم فتحلب ريقها شرهاً إليه، وما هي إلا وثبات حتى نزلت على القطيع تفسح لها المجال بأدب، وقرب إليها المنال في لطف. ثم وقع بقلبها بعض الوعول فاختلت به ساعة أو ساعتين في ظلال الغاب. وجملة القول أنها قضت يوماً من أيام الجنة لم تقضه قبلها عنز من عناز سيجان، ولا نعجة من نعاج داود.
ولكن الهواء برد والمساء أقبل، فخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، وانبعث من جانب الحظيرة بوق السيد ىسيجان يدعو الآبقة إلى الرجوع. حينئذ تذكرت الذئب وقد أنساها إياه قصف النهار ولهوه، فاعتراها شيء من الحيرة والتردد؛ ولكنها تذكرت كذلك الوتد والحبل، فمطت شفتيها وأصمت أذنيها وقررت البقاء. وانكفأت بلانكيت تبحث عن مرقد وثير في(768/2)
مغاور الجبل فرأت بين الأوراق أذنين مصرورتين تحتهما عينان تشعان الخطر، وتقدحان الشرر، فعلمت أنه الذئب! وأرادت أن تمضي في سبيلها، فضحك منها الذئب حتى بدت أنيابه المصل، واندلع لسانه الغليظ؛ فاستيقنت الموت وتذكرت ما سمعته عن مصرع العنزة رينود، فهمت بالاستسلام؛ ولكن بدا لها أن تدافع، لا لأنها تعتقد أن العنزة تقتل الذئب، ولكن لأنها تربأ بكرامتها أن تكون أقل شجاعة من رينود. والحق أن بلانكيت اضطرت الذئب أن يستريح عشر مرات أثناء المعركة، وفي كل استراحة كانت تملا فمها بالعشب الندي، وترقب طلعة الفجر في الأفق الحالك، ثم تعود إلى الصراع؛ حتى لاح الضوء الشاحب، وصاح الديك المؤذن، فخرت شهيدة الحرية بين يدي الذئب وهي تلفظ مع نفسها هذه الجملة:
الحمد لله قد بلغت أمنيتي، وإن لحقت بي منيتي!
قالت الفتاة: قصة طريفة! ولكني أعدك مادمت عندك أن الزم الحظيرة ولا أفك القيد ولا أخلع الزمام. فقلت لها: لا تنسي يا بنيتي أن حظيرتك عند أخيك لا عندي، وأن حريتك في قيده لا في قيدي، وأن زمامك بيده لا بيدي. وهيهات أن أكون لك إلا أباً يشفق أو أخاً يعين أو معلماً يرشد. فقالت وهي تنهنه عبرة تريد أن تقطر: ليكن! حسبي أن أراك وأن أسمعك! لقد حاولت أن أغويك فلم أستطع، فحاول أنت أن ترشدني فلعلك تستطيع. سأجعل في يديك مقاليد أمري، وأودع بين جنبيك مكنون سري. وسأتبين معالم الطريق في ضوء مصباحك، وأنشد سكينة القلب في ظل جناحك. فقلت لها أعانني الله وأعانك. ثم افترقنا ونفسي تغالب الضلال ونفسها تغالب الهدى، وما تدري نفسي ولا نفسها ماذا نكسب غداً!
يوم الخميس 17 مايو سنة 1945:
كان لقاؤنا الثاني في مطعم الكرسال ظهر هذا اليوم؛ وكنت قد واعدتها على هذا اللقاء ساعة انصرافنا من جروبي. وكانت هي شديدة الحرص على أن نلتقي كل يوم، ولكنني أقنعتها بأن تجعل بين اللقاءين أسبوعاً لتعرف فيه خبيئة نفسها ودخيلة هواها، لترد يوم ترد عن بينة، وتصدر حين تصدر عن بصيرة. سبقتها إلى الموعد في هذه المرة فتخيرت مائدتنا في ركن من أركان المطعم الفخم. ولم يكد يطمئن بي الجلوس حتى رأيتها مقبلة في زينتها الكاملة: فرأسها النفرتيتي الساحر قد خلص من يد الحلاق الساعة؛ وفستانها(768/3)
الفيروزي الأنيق قد خرج من محل الخياط اليوم؛ وشنطة يدها اللازوردية المعلقة على كتفها قد تدلت في فراغ الخصر واستقرت على الجانب؛ وشفتاها القرمزيتان قد انفرجتا عن ثغرها الشتيت لتلقي التحية ثم تواصل الحديث. وكانت الجوقة حينئذ تعزف لحناً رقيقاً رفيقاً ينسجم مع شحوب الضوء وهدوء المكان ونشوة الجلاس، ولكنها جعلت الموسيقى دبر أذنها وفضلت أن تتكلم على أن تسمع، فأخذت تناقلني على الطعام شهي النوادر وطلي الأخبار حتى جرها الحديث إلى أنشودتها الغرامية المعتادة، فعطفتها برفق إلى حديث يوم الأحد الماضي وسألتها: لعلك في هذا الأسبوع قد وجدت النور الذي تفتقدين، والسلام الذي تنشدين!
فقالت وهي تنغض رأسها إلي: أي نور وأي سلام وقد شد الله عضد شيطاني بشياطين أخر؟ لقد وجدت في بنت أختي وأترابها من الإغواء ما يضل العابد بلفظه، ويفتن الراهبة في لحظة!
فقلت لها: إذن لا بد من الرجوع إلى العزبة.
فقالت: أرجع إلى الوتد والحبل؟ لا يا سيد سيجان! دعني بربك أجرب حظي مع الذئب!
لم أكن بعد ذلك في نصيحتي لبلانكيت إلا كمن يرقم على ماء أو ينفخ في رماد، ففوضت أمرها إلى الله ثم افترقنا على غير ميعاد.
(للقصة بقية)
أحمد حسن الزيات(768/4)
الحمادون الثلاثة
للدكتور جواد علي
- 3 -
وننتقل بك أيها القارئ من حياة حماد الراوية وقد سقت لك بعض أخباره إلى حياة حماد آخر هو (حماد عجرد) وهو يفوق المرحوم صاحبنا عبثاً وزندقة، ولست أقصد من وراء هذا الحديث رواية أخبار الزنادقة، وإحياء ذكرى الزندقة، وفي عصرنا من يفوق من ذكرنا عبثاً واستهتاراً وزندقة وتفاخراً بالخروج على أنظمة البلد والمجتمع. ولكننا نقصد من وراء هذه الدراسة إظهار صورة من صور حياة الناس في ذلك العهد غامضة على كثير من القراء، ترينا لوناً من ألوان الحياة وفوضوية من تلك الفوضويات التي قوضت دعائم المجتمع العربي القديم.
وحماد عجرد الذي أريد أن أتحدث عنه هو أبو عمرو وقيل أبو يحيى حماد بن عمر بن يونس بن كليب الكوفي وقيل الواسطي. وبعد فلا تغرنك هذه الأسماء وهذا النسب الطويل العريض وتلك النسبة العربية التي تتحدث في الظاهر عن عربية أصيلة وفي الواقع غير ذلك. ولست بمبيح لك سراً إن قلت لك أن الرجل كصاحبه مولى من موالي سواءة بن عامر ابن صعصعة. شأن أكثر العابثين والمجان الذين ظهروا في هذا الوقت خاصة وقت تدهور السياسة العربية وتولي الملوك المترفين من بني أمية مقاليد الحكم في الإسلام. وفي بلد وإن كانت العروبة غالبة عليه غير أن العجمة كانت تبذر مفاسدها فيه وتؤسس نواديها في كل مكان.
لقد كان حماد عجرد على الرغم مما أتهم به من الزندقة سليط اللسان بذئ الكلام لا يقف أمامه في هذا الفن أحد. وقد عرف بشار بن برد وهو من المتهمين بالزندقة كذلك بأنه من أبذأ الناس لساناً وأنه من الهجائين والمقذعين في هجائهم. وكان مسرفاً في الهجاء حتى عجل بنهاية نفسه. ومع هذا الهجاء لم يتمكن من التغلب على حماد ولا من إسكاته وقطع انفاسه فكانت بينهما أهلج شديدة وكانت بينهما سباب وشتائم فقال حماد في بشار أهاج فاحشة جاء فيها بمعان غريبة وإقذاع فاقت حد الوصف حتى كان بشار يضج منه.
روى الصباح الكوفي قال دخلت على بشار بالبصرة فقال لي: يا أبا علي، أما أني قد(768/5)
أوجعت صاحبكم وبلغت منه، يعني حماد عجرد. فقلت بماذا يا أبا معاذ؟ فقال بقولي فيه:
يا أبن نهيا رأس على ثقيل ... واحتمال الرأسين خطب جليل
فادع غيري إلى عبادة رب ... ين فإني بواحد مشغول
فقلت لن أدعه في عماه. ثم قلت له قد بلغ حماداً هذا الشعر وهو يرويه على خلاف هذا. قال ماذا يقول؟ قلت يقول:
فادع غيري إلى عبادة رب ... ين فإني عن واحد مشغول
فلما سمعه أطرق وقال أحسن والله لبن الفاعلة؛ ثم قال إنني لا أحتشمك فلا تنشد أحداً هذين البيتين. وكان إذا سئل عنهما بعد ذلك قال ما هما لي.
واشتد الهجاء بين الشاعرين فكان بشار يهجو حماد وهو في البصرة وكان حماد يرد عليه أو ينظم ما هو شر منه وهو في الكوفة. فكان من جملة ما قال حماد في بشار:
والله ما الخنزير في نتنه ... بربعه في النتن من مسه
بل ريحه أطيب من ريحه ... ومسه ألين من مسه
ووجهه أحسن من وجهه ... ونفسه أفضل من نفسه
وعوده أكرم من عوده ... وجنسه أكرم من جنسه
ولما سمع بشار هذه الأبيات تظاهر بعدم الاكتراث وقال: ويلي على الزنديق! لقد نفث بما في صدره. فقي له وكيف ذاك؟ فأجاب ما أراد الزنديق إلا قول الله تعالى (لقد خلق الإنسان في أحسن تقويم) فأخرج الجحود بها مخرج هجائي. وهو قول متهم في متهم.
قال الرواة وهذا خبث من بشار وتغلل شديد. وهو خبث حقاً والتفات فطن، فيه سرعة خاطر، يتقطر غيظاً وحقداً من هذا الشاعر الأعمى على ذلك الخصم الذي يراه ولا يتمكن بشار من رؤيته فيصفه:
قال الشريف المرتضي وأول من جعل نفي الإلحاد تأكيداً للوصف به وأخرج ذلك مخرج المبالغة، مساور الوراق في حماد عجرد حيث قال:
لو أن ماني وديصانا وعصبتهم ... جاءوا إليك لما قلناك زنديق
أنت العبادة والتوحيد مذ خلقا ... وذا التزندق نيرنج مخاريق
ومساور الوراق صاحب هذه الأبيات شاعر رقيق ماكر من الهجائين وله في الهجاء مكانه.(768/6)
وكان ممن يخشى لسانه. وهو القائل في أهل الرأي والقياس:
كنا من الدين قبل اليوم في سعة ... حتى بلينا بأصحاب المقاييس
قاموا من السوق إذا قامت مكاسبهم ... فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبوس
أما الغريب فأمسوا لا عطاء لهم ... وفي الموالي من شح علاميس
وكان موجعاً في هجائه. ويمتاز عن أقرانه الشعراء بسعة ثقافته واطلاعه على الكتب بحكم مهنته ولذلك كان يخشى المثقفون وهجاءه فكانوا يسترضونه بالدراهم ويشترون مدحه بالمال.
وكان ظريفاً صاحب مجلس ومعشر محدثاً يدل ما تبقى من شعره على خفة روحه، له قصيدة جميلة في وصف الطعام يصف فيها أنواع الأطعمة والأصناف الفاخرة من الأشربة، من أوائلها:
اسمع بنعتي للملوك ولا ترى ... فيما سمعت كميت الأحياء
إن الملوك لهم طعام طيب ... يستأثرون به على الفقراء
أني نعت لذيذ عيشي كله ... والعيش ليس لذيذه بسواء
ومن الهجاء الذي قاله بشار في حماد عجرد وهو يمثل بخل المهجو وبعده عن الكرم قوله:
إذا جئته في الحي أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى متى تبلغ العلا ... وفي كل معروف عليك يمين
وهنا لك أبيات أخرى قيل إنها في هجاء حماد عجرد وقيل أنها في هجاء حماد بن الزبرقان وهو رجل من هذه الفصيلة. وقيل بل إنها في هجاء حماد الراوية وهي:
نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد
هدلت مشافره الدنان فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد
وأبيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد
وكانت لحماد عجرد بطانة وجماعة ترتاح إليه ويرتاح إليها وهي على شاكلته بالطبع، مثل حريث بن عمر وكان حماد ينزل عليه وكان من المشهورين بالزندقة. ومثل مطيع بن إياس وهو علم بالزندقة لا يحتاج إلى تعريف، ومثل يحيى بن زياد. وكانوا يجتمعون ويتنادمون ويتنابزون بالألقاب. حدث علي بن الجعد فقال: (قدم علينا في أيام المهدي هؤلاء(768/7)
القوم حماد عجرد ومطيع بن إياس الكناني ويحيى بن زياد فنزلوا بالقرب منا فكانوا لا يطاقون خبثاً ومجانة).
وكانت محجة القوم في الكوفة بيت رجل يقال له (ابن رامين) قدم من الحجاز ولعله كان من أصل يهودي وكان صاحب قيان ونبيذ (فكان من يسمع الغناء ويشرب النبيذ يأتونه ويقيمون عنده مثل يحيى بن زياد الحارثي وشراعة بن الزند بوذ ومطيع ابن إياس وعبد الله بن العباس المفتون وعون العبادي الجيري ومحمد بن الأشعث الزهري المغني وكان نازلاً في بني أسد في جيران إسماعيل بن عماد فكان إسماعيل يغشاه ويشرب عنده، ثم انتقل لبعد ما بينهما. وكان لابن رامين جوار ويقال لهن سلامة الزرقاء وسعدة وربيحة وكن من أحسن الناس غناء).
وقد اشتهر أهل الحجاز بالميل إلى الغناء وبإتقانهم فنونه، ولذلك كان مجلس (ابن رامين) من مجال طلاب الغناء المشهورة في الكوفة. وكان عامة من يقصده من أصحاب الفن يحسنون الغناء وقول الشعر أو روايته على الأقل. وكان إسماعيل بن عماد مثلا صاحب شعر رقيق جميل وحس مرهف يقول الشعر في (ابن رامين) وفي صاحبات ابن رامين وفي شعره نغم موسيقي. وأما محمد بن الأشعث الزهري وهو من رواد هذا المحل ومن المقيمين في بني أسد فكان مطرب النادي، كان يغني تلك الأشعار ويأتي بألوان من الغناء تهز السامعين هزاً. وكان مطيع بن إياس وهو صديق حميم من أصدقاء حماد عجرد من هؤلاء الفنانين الموهوبين أيضاً وكان ينظم الشعر ويرويه. فكانت هذه الندوة ندوة الفنانين، هذا ينظم وهذا يغني وهذا يروي وهذا ينكت، ومن هذا الخليط يتكون ذلك الجو الأدبي الذي امتازت به مدينة الكوفة كما امتازت حانات باريس وأمهات المدن الأوربية التي اشتهرت بالنتاج الأدبي فتجد فيها الشذوذ والعبقرية والسذاجة والإتقان والمتناقضات التي لا تجتمع في نوادي العاديين من الناس.
أما بضاعة هذه الطبقة التي كانت تدر عليهم الأرباح فكانت الشعر وروايته، وكانوا يحصلون على العطايا والهدايا إما عن طريق المديح وإما عن طريق الذم وهجاء الناس. وكانوا ينفقون أموالهم بغير حساب على القيان والشراب والمجالس والذهاب إلى البساتين لتمضية الوقت بين الماء والخضراء والوجوه الحسنة. وكان بستان شورين من البساتين(768/8)
التي كان يقصدها إسماعيل بن عمار وصحبه وفي صحبتهم قيان بن رامين. فهنالك شراب وهنالك شواء وهنالك غناء. وهنالك الحياة التي كان يقضيها فرسان العصور الوسطى. أو جماعة من طلاب الجامعات في ألمانيا التي كانوا يقضون أوقاتهم على هذا النحو أيام الفراغ.
جواد علي(768/9)
الأدب الماجن وأثره في نكبة فرنسا
للأستاذ يوسف البعيني
منذ خمسين عاماً على التقريب لمع في سماء الغرب كاتب من أوسع كتابه ثقافة، وحكيم من أعمق حكمائه فكرة - هو الأديب الفرنسي المشهور رومان رولان الذي لا يجهله أحد من قراء الأدب العالمي الحديث.
ومما طالعته لهذا الكاتب الخلاب مقالة مطولة فيها نكبة فرنسا في الحرب الأخيرة وانتهى في تحليله إلى نتيجة فلسفية رائعة أن الأمم الضعيفة الأخلاق الماجنة التفكير في أدبها وحياتها، يتسرب إليها الخمول والاستسلام تسرب الانحلال في الشجرة لنخرة. فإذا لم تتلاف الأمم هذا الداء الوبيل قاضية على جراثيمه الفتاكة إلى الانقراض على ما يذكر التاريخ.
لقد أصاب هذا المصلح الكبير في تحليله. فهذه أمم الأرض وهي بين منقرضة هجرتها الحياة وخاملة يواكبها الفناء، نرى أن الضعف الأخلاقي والأدب الماجن المستهتر والانغماس في أقذار الدعارة كانت السبب الأهم في انهيار صولتها، وانطفاء أنوارها، وانطواء أعلامها في ساح الجهاد.
ذكرني وقال رومان رولان بما قرأته من أعوام للبحاثة الأسباني (أسين بالسيوس) عن تأريخ الشعب الفارسي وقد عزا سقوط الفرس، بعد أن دوخوا الأمصار واستظهروا في مختلف مرافق الحياة، إلى الضعف الأخلاقي الذي تمشي في آدابهم وضروب معيشتهم مثبتاً صحة كلامه بشواهد عديدة تشير كلها إلى أنواع الدعارة والفحشاء والانحطاط النفسي التي تمرغوا في أوحالها مستهينين في إرضاء حواسهم البهيمة بهدم كل قانون سام ونظام اجتماعي. ومن شواهده التي أودعها كتابه المذكور هذه الدعوة الوحشية وقد شاعت في عصرها شيوعاً عظيماً وهي للحكيم (شنهار). وفيها يقول:
(الويل كل الويل، لمن يكفر بالخمرة واللذة المصحوبة بنوبة من الذهول. فإن جزاءه الجحيم إذ تكوى روحه الشريرة بالنار، وتقطع أطرافه وأوصاله بالسكاكين والكلاليب، ثم يقذف في بئر من الدم طعاماً للأفاعي والغيلان. أما الذي يقبل على تقديس الخمرة واللذة فطوبى له إذ ينال رضي خالقه فيعيش سعيداً، ويموت سعيداً).(768/10)
وهذه دعوة ثانية للشاعر (سنطور) الملقب بالعطار الفارسي وقد لاقت إقبالاً كبيراً عند خاصة الفرس وعامتهم:
(ملت إلى شفة الكأس الصينية المزخرفة
لارتشف منها ما ينبه حواسي الجسدية
وبينما الشفة على الشفة،
همست شفتيها الرطيبة:
اشرب ما دمت حياً
فاللذة ستفقدها بعد حين وعندها تمسي الحياة بلا جمال)
وزاد العلامة الأسباني على أدلته البليغة في كتابه قوله: إن الشعب الفارسي لم يرض بالذل والهوان، ولم يألف الانكماش والتواني إلا بعد أن فقد أخلاقه في أدبه واتجاهات حياته. هذه حقيقة ناصعة لا تقبل التأويل والاعتراض؛ لأن انحطاط الأخلاق فاتحة لتضعضع الأفراد والجماعات وهو أشد خطراً على المجتمع من الضعف المادي نفسه. وما أصدق كلام الشاعر العربي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وهوت الدولة الفرنسية في الحرب الخيرة أمام عدوها التاريخي اللد، فلم تغن عنها حصونها المنيعة ولم يجدها نفعاً جيشها المدرب. وغدت باريس - عاصمة النور - مسرحاً لعدوها المنتصر الذي طالما حلم بانتهاك تلك المدينة العظيمة التي ارتفعت تحت سمائها الصافية تماثل الجبابرة ودور العلم والاختراع ومتاحف الفن والجمال، وكلها تحتفظ بالذكريات الخالدة خلود الدهر.
وقد تبارى فريق من أمراء اليراعة في تشخيص هذه الفاجعة وتحليل أسبابها فقال أندريه موروا الكاتب العالمي أن تفكك بلاده كان سببه قلة السلاح. وأكد جول رومان صاحب المؤلفات القيمة في علم النفس أن تدهور أمته يعزى إلى خمول الساسة وزيغ أصحاب المقامات العليا. ونسب جاك ماريتان وشارل مورا وسواهما من انصار الملكية إنكسار الامبراطورية إلى الاشتراكية وغيرها من الآفات. . . ما خلا الحكيم الكبير والمصلح الاجتماعي رومان رولان فقد خالف أقرانه وجلا بوضوح وجرأة نكبة الشعب الفرنسي(768/11)
وأسبابها التي مهد لها الضعف الأخلاقي الذي تمشى في الأوضاع الاجتماعية والأدبية بعد الحرب الأولى قاضياً على عزة النفوس، وأمسى الرجل المسئول لا يفكر إلا في قضاء شهواته الحقيرة!
فهل صحيح قول هذا الحكيم؟
إن من تدبر الأدب الفرنسي الحديث الذي ظهر بعد أن عصفت زعازع الحرب الأولى على العالم مكتسحة من الحياة كل ما يجمل الحياة. . ويقر بحقيقة ما يقوله هذا المفكر البصير الذي عالج قضايا المجتمع في كتابه (جان كريستوف) بما لم يعالجه قبله أحد من كتاب الغرب. وحسب القارئ أن يقابل بين إنتاج أعلام الماضي وأدباء اليوم حتى يدرك موطن الحق وإن يكن جارحاً، ويحبس موضع الداء وإن يكن مؤلماً.
وعندي أن هذا النوع من الأدب الحديث هو الذي جنى على الأمة الفرنسية إذ أفسد أخلاقها وأمات فيها تقديس الكرامة وتلك النزعة إلى الحرية التي اشتهرت بها على مدى العصور. وأنا لم أقرأ رواية من هذه الروايات الماجنة المستهترة التي ظهرت بعد الحرب الأولى إلا رأيت الحب الجنسي والميول الساقطة تكاد تكون كل شيء، فلا يستوقف المطالع من شؤونها الطويلة العريضة سوى تصوير أمور شاذة معيبة يندى لها الجبين حياء وخجلاً لأنها تحمل في طواياها العفونة والفساد مع الإغراء الفاضح المتهتك. . .
وأكثر من شط هذا الباب زعماء مذهب (اللاوعي) الذي يلاقي اليوم أكبر تأييد في الشرق العربي وعلى الأخص في لبنان. ولزعماء اللاوعي شبه جنون في درس المسائل الجنسية فلا يرون في العالم شيئاً خلافها يستحق الاهتمام، وهكذا لا تجري أقلامهم إلا بوصف الشهوات وتفاعيلها وبكل مثير للأهواء ودوافع إلى الاستهانة بضوابط النفس والنظم الاجتماعية.
إليك مثالاً من هذا الأدب وهو للشاعرة (جان فالكر):
(لا أريد النوم!
إذ في النوم غفلة القلب، وغياب الحب، وحياة تمر ضياعاً قد أطوق ذراعي وأنا نائمة، ولكن فمي لا يقول للحبيب: اقترب
ومتى غرقت في سبات عميق تسكن همومي فلا أعود أشعر باللوعة تضني قلبي وتحطم(768/12)
جسدي. لذلك لا أريد النوم!
إني أحب آلامي الشديدة التي تضغط على كل شيء فيّ
أحب ساعات اليأس يسود فيها الجنون فتخور عزيمتي، وتضيع أنفاسي، وتتلاشى قواي
أحب الاستسلام إلى كل أنواع العذاب، لأنني بعد مجيء الصباح، أتلذذ بذكرى ما جرى لي تحت سدول الليل، لذلك (لا أريد النوم).
وإليك مثالاً ثانياً وهو للشاعرة (ماري درمار):
(كم فكرت عندما أكون بعيدة عنك قائلة في نفسي: - أي سر فيه يجذبني إليه؟ إنه ليس فتى جميلاً.
بل هو متسلط، قاس بمظاهره العنيفة!
كم قسوت علي بشراسة، وكم آلمتني حاملاً إلي العذاب بحبك الوحشي.
نعم لقد ملأت حياتي بالعذاب. ولكي أتخلص منك، أريد أن أبغضك.
ولكنني أشعر تحت تأثير قبلاتك الطائشة أنني ملكك إلى الأبد. . .)
وهاك مثالاً ثالثاً وهو للشاعر بول فرلين:
(وقفت أمام رسمه الجميل وقد لوى عنقه العاجي إلى اليمين
فعاودتني منه ذكرى ليالينا المبطنة بالآهات والدموع والغرام - وقد ذوى ربيعه، ما زال يئن في القلب قيثاره. والنظرة السارحة ألقيتها البارحة على جدث يضم رفاته الذي أمسى طعاماً للديدان.
وآهاً - كيف تعرى غصنه
حب تنوح في الدجى أشباحه
أهكذا يتلف الموت أعيادنا
ويغيَّب في الثرى أحلامنا
فيسمى بعد زهو المنى شبابنا ترابا
ويكفن النسيان بكفه العاتية،
ذكرياتنا الصَّباح العِذاب. . .
نظم فرلين هذه القصيدة بعد وفاة (صديقه) أرتور رامبو صاحب عدة مؤلفات شعرية وبينها(768/13)
ديوان (الزورق السكران) وقد تمكنت بينهما علاقات مريبة شاع خبرها في أوربا ثم انتهت في عاصمة بلجيكا بعد حادثة مشؤومة لا تزال وقائعها محفوظة طي إضبارة في المكتبة الملكية بتلك العاصمة. وأنا ما جئت على ذكر هذين الأدبيين إلا لأقول أن أتباعهما منتشرون في الغرب انتشار الدمامل الخبيثة. ففي أسبانيا تزعمهم الشاعر غرسيا لوركا الذي ذهب ضحية فرنكو في الثورة الأسبانية الأخيرة وقد ترك آثاراً يندى لها جبين الشعر. وفي البورتغال يعد أنطونيو يوتو في طليعتهم. أما في البرازيل فيعرفون باسم (الاعتزاليين) وهم أكثر من هموم إبليس. . . لكن المحيط البرازيلي الراقي يواجههم بالنقد القاسي والتقريع الصارم.
وهذا المذهب العاطل بما فيه من تفكك أخلاقي مهيض لأجنحة الشعر يقوم على التغزل بالرجل دون المرأة. والتغزل بالغلمان عرفه الفرس والعرب في عصر الانحطاط.
على أن ما يحيط بهذا المذهب المغري المشوق من صور ورؤى تموج في ظلال وألوان زاهية حيناً وقاتمة أحياناً وقع من نفوس أنصاره موقع التأييد والاستحسان فحسبوا غموضه إلهاماً علوياً وإباحيته فما غريباً. وفي المحاضرة التي ألقاها الأديب الكبير بول فالري عن فرلين برهان أكيد على شذوذهم وقد جاء فيها ما يأتي:
(إن السلوك الشاذ، والصراع مع الحياة القاسية، وسكنى السجون والمستشفيات، والعربدة المتصلة، ومخالطة الأدنياء، وحتى الإجرام نفسه - كل ذلك مما يلتئم والإنتاج الشعري الرفيع. والحق أن الشاعر ليس رجلاً اجتماعياً بالمعنى المعروف لهذا الاصطلاح، فما دام الشاعر شاعراً فلن يستطيع أن ينتظم في أية هيئة من الهيئات التي تنشد مصلحتها من طريق الحرص على الخلاق والقانون، فالقوانين المدنية تلفظ أنفاسها على عتبة شعره).
ويضيق بي المجال إذا جئت أعرض لكل ما هنالك من شؤون وعبر. ولكنني بإيراد مثال واحد وهو للشاعر بول جيرالدي صاحب ديوان (أنت وأنا) الذي قال عنه الفنان والفيلسوف الأسباني المشهور ميكال أوناموتو إنه من أحط ما نظمه الشعراء.
وهاته:
(وكنا اثنين، في الغاب مجتمعين، تحجبنا أشجاره عن أعين الرقباء، فإذا ساقية تسير مترنحة، وبلبل على الأغصان يغني.(768/14)
كأنهما من صدى قبلاتنا ثملان. . . مترنحان.
قلت لرفيقي - وقد غمرته نشوة الحب - أمن قوامك الأهيف، ومن شفتيك الورديتين، تمتد رعشة سحرية في الغاب وفي الأشجار، في المياه والأطيار، وفي كياني المعذب بوخز الغرام!
غرام طام كالسيل، مستعر كالنار؟
وعلى هذا النسق المتعاظل يكتب الأدباء المعاصرون كتبهم ورواياتهم ويظنون أنهم يخدعون أمتهم المسكينة التي هوت إلى حضيض الهوان فكانوا هم الجانين عليها كما يقول رومان رولان كبير مفكريها في هذا العصر. وأنا حتى لا أتهم بالتحامل والخروج على الأمة التي أحببتها ووقفت على أدبها وتاريخها كأبنائها الحقيقيين أورد فيما بلى رأي أسطفان زويك الناقد العبقري المشهور في أدباء فرنسا المعاصرين وهو: (إن أدباء فرنسا الذين لمعوا بعد الحرب الكبرى متأثرين بمذهب عار من الخلق السامي الكريم والتصور الذي لا حدود له سيجرون المثل العليا إلى الهاوية. وإني آسف الأسف كله لمصير الشعب الذي سطر في التاريخ البشري أروع الصفحات وأمجدها).
وأورد أيضاً رأي الرئيس مازاريك الذي تمتع في حياته بزعامة الأدب والسياسة وقد أدلى به إلى الوزير لويس بارتو عندما زار تشيكوسلوفاكيا في عام 1933 وهو: (إن أبطال قصصكم الجديدة عامة تحركهم الشهوات الوضيعة والحب الجنسي الشره. ويمكنكم أن تتأكدوا أننا قد مللنا، بل قد اجتوينا هذا الضرب المأفون من الروايات العاطلة السقيمة التي لا تطالعنا فيها سوى امرأة سليطة يحبها اثنان أو ثلاثة عدا زوجها (الصنديد) الذي تخدعه بشتى الحيل. وهكذا في دائرة بغير انتهاء. فهل هذا هو الفن الكتابي الرائع الذي اشتهرتم به على مدى العصور؟ ذلك لا يمكن أن يكون بل هو زيغ وكبوة في الأدباء المعاصرين، فإذا لم تقضوا على هذا الداء الوبيل دفعتم غالباً ثمن تهاونكم في المستقبل.
إن تحت قباب قوس النصر ووراءستائر البانتيون عيوناً تحدق. فحذار من تلك النظرات المخيفة، حذار منها!!)
ولقد صدق الرئيس مازاريك رحمه الله في نبوءته وأدى الشعب الفرنسي ثمناً فاحشاً لقاء رضاه عن ذلك الأدب الماجن المخدر. فهل في نكبة فرنسا درس لنا أفراداً وجماعات؟(768/15)
عندما حمل المصلح الاجتماعي الكبير المرحوم أمين الريحاني على الأدب المائع السخيف لم يكن يقصد في حملته الصادقة إلا الأدب الماجن المستهتر الذي نشره في لبنان بعض الكتاب والشعراء من أنصار مذهب (اللاوعي). وقد أحسن الريحاني الفيلسوف أيامئذ إلى أمته الصغيرة التي لا تملك من مفاخر الحياة سوى خلقها العالي المتين، والأمة التي تخسر خلقها تخسر كل شيء.
إن نكبة فرنسا درساً بليغاً لكل من ضعف خلقه وانحط تفكيره. ولو أن هذه الأمة اختطت لنفسها طريقاً قويماً غير الذي سلكته في العقد الخير مستوحية تاريخها العظيم الحافل بالأمجاد والزاخر بشواهد العبقرية لما اندحرت ذلك الاندحار الأليم الذي يشبه الأحلام!!
فهل يعتبر أنصار أدب الغموض والإبهام؟
يوسف البعيني
من العصبة الأندلسية(768/16)
شخصيات عباسية:
جحظة المغني الشاعر
224 - 324هـ
للشيخ محمد رجب البيومي
كان للشعر والغناء في الدولة العباسية سوق رائجة، فما ينظم شاعر قصيدة، أو يبدع مغن صوتاً، حتى تتطلع إليه الأنظار ويتصل ذكره بالرؤساء والأعيان فتخلع عليه الهبات الوافرة وتهدي إليه المنح الجزيلة، وقد يطير ذكره إلى الخليفة، فيقر به من ساحته، ويسمر معه في أطيب أوقاته، حتى يكون نديمه المحظوظ، وصفيه المختار.
لذلك أكب الناشئون على الأدب، يقيدون شوارده، ويقتنصون فرائده، فحفلت بهم المجالس، وأورثوا الثقافة العربية ثروة خلدت العصر العباسي في سجل التاريخ حتى لا يكاد يوجد نظيره في شتى عهود العربية وقد توالت عليها السنون وامتدت بها الأحقاب.
ولقد كان أبو الحسن أحمد بن جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي أحد هؤلاء الذين أوتوا نصيباً وافراً من المعرفة، فقد سلخ من عمره وقتاً مديداً في البحث والدراسة حتى استطاع أن يكون عالماً متعدد الثقافة، ومؤلفاً غزير المادة، وشاعراً خفيف الظل ثم هو بعد ذلك مغن بارع تحن إليه المسامع وتتعلق به القلوب.
انحدر أبو الحسن - وقد اشتهر بجحظه - من سلالة البرامكة فحرص جهده على أن يكون بعيداً عن المزالق السياسية كيلا تحوم حوله الشبهة فيؤخذ بجريرة آبائه وأجداده، لا سيما وقد وجد في عصر أهدرت فيه دماء الساسة، وتناثرت أشلاء القادة من وزراء ورؤساء، بل لقد انتقل الخطر إلى أمراء المؤمنين فكان الخليفة يهوى في ليلة واحدة من القصر إلى القبر، وحسبك أن تعلم أن جحظة قد شهد في مدى عمره عشرة خلفاء فارقوا تيجانهم ما بين قتيل وجريح.
ولم يستطع أبو الحسن أن يستفيد من أدبه كما استفاد غيره لأنه كان ذا نمط خاص في حياته فلم يسر في ركاب أمير، ولم يجامل عظيماً، والرؤساء في كل زمان ومكان لا يجزلون حياءهم الوافر إلا لمن يحبر فيهم المدائح الطويلة، لاهجاً بالثناء عليهم في غدوه(768/17)
ورواحه، ولهذا كان الشاعر يشكو من دهره، ويعجب من حرمانه، أضف إلى ذلك ما وقر في نفسه من إنه سليل البرامكة ذوي الأموال المصادرة، والتراث السليب، وهو بعد ذلك فقير معدم تسأله عن حاله فيجيب.
لست الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
أنا الذي دينه إسعاف نائله ... والفقر يعرفه والبؤس والعدم
أنا الذي حب أهل البيت أفقره ... فالعدل مستعبر والجوْر مبتسم
وكأن السياسة قد حرمت عليه أن يتمدح بآبائه وأهله فكان يعاني من ذلك هما ناصباً وشجناً مبرحاً، وقد ينفجر صبره فيسفر عن مراده في وضوح، ويروح عن نفسه فيقول:
أنا أبن أناس موّل الناس جودهم ... فلم يخل من إحسانهم بطن دفتر
ولقد كان الغناء يدر عليه بعض الخير والنعمة ولكنه مسرف متلاف لا يبقي على شيء فهو في حاجة ماسة إلى العطاء المتواصل، والغريب أنه ابتلى بمن يغنيه فيكتب إليه رقاعاً عديدة دون أن يأذن بصرف واحدة منها وقد يكون جحظة في ضيق من عيشه فيعلن إليه تبرمه إذ يقول:
إذا كانت صلاتكمو رقاعاً ... تُخطّط بالأنامل والأكف
ولم تكن الرقاع تجر نفعاً ... فها خطي خذوه بألف ألف
وشر من ذلك أن يغني جماعة فيقولون له أحسنت ثم لا يعطونه قليلاً أو كثيراً وهو ينتظر أن يحظى ببعض ما يتمتع به زملاؤه المغنون من منح وهبات فلا يسعه إلا أن يعبر عن هذه الحقيقة المريرة فيهتف.
لي صديق مغرى بقربي وشدوي ... وله عند ذاك وجه صفيق
قوله إن شدوت أحسنت زدني ... وبأحسنت لا يباع الدقيق
ولقد دفعه ضيق يده إلى التهافت على موائد الخلان والأصدقاء فكان لا يترك صاحباً إلا فجعه في مأكله ومشربه، فإذا صادف منه بشراً وابتساماً سكت عنه، وإذا لمح في وجهه عبوساً سلقه بهجائه المقذع، وأخذ يشهر به في كل مكان، راوياً عن بخله ما يمتع من النوادر المضحكة كأن يقول (سلمت على بعض لرؤساء وكان مبخلاً فلما أردت الانصراف قال لي يا أبا الحسن ماذا تقول في أكل القطائف؟ فقلت ما آبي ذلك، فأحضر لي جاماً فيه(768/18)
قطائف فأوغلت فيها وصادفت مني سغبة، وهو ينظر إلي؟؟ فقال يا أبا الحسن أن القطائف إن كانت بجوز أتخمتك، أو كانت بلوز أبشمتك، فتعجبت من شأنه، وقلت في أمره:
دعاني صديق لي لأكل القطائف ... فأمعنت فيها آمناً غير خائف
فقال وقد أوجعت بالأكل بطنه ... رويدك مهلاً فهي إحدى المتالف
فقلت له ما إن سمعنا بها لك ... ينادي عليه يا قتيل القطائف
لذلك تجد أكثر معارفه قد أقفلوا أبوابهم في وجهه حذراً من لسانه كما نهوا على الحجاب أن يصرفوه بمجرد رؤيته، وجحظة يعلم جيداً ما يبطنون له، فيشنع عليهم في تهكم يصل به إلى الوقاحة والتبجح فيقول:
ولي صاحب زرته للسلام ... فقابلني بالحجاب الصراح
وقالوا تغيّب عن داره ... لخوف غريم ملح وقاح
ولو كان عن داره غائباً ... لأدخلني أهله للنكاح
وكان إذا امتدا الموائد لا يرحم معدته بل يأخذ على نفسه عهداً أن يبتلع ما تقع عينه عليه، وقد بلغ من بعض البخلاء أن ضربه فأوجعه لما صادف من نهمه الزائد، فقد دخل على هرون ابن عريب فقدم إليه (مضيرة) فأوغل فيها إيغالاً جعل ابن عريب يقول له: جعلت فداك أنت عليل، وبدنك نحيل، والعصب ثقيل. فأجابه النهم في تهكم! والعظيم الجليل، المفضل المنيل، لا أترك منها الكثير ولا القليل. فغضب هرون وضربه عشرين مقرعة، ولم يترك جحظة حادثته تمر بل سجلها في شعره فقال:
ولي صاحب لا قدس الله روحه ... وكان من الخيرات غير قريب
أكلت طعاماً عنده في مضيرة ... فيا لك من يوم عليّ عصيب
ومهما يكن من شيء ففي هذه الأخبار ما يدل على كلفه بالطعام ولا ريب فقد كان فمه يستولي على جانب كبير من إنتاجه وتأليفه، ولم يقتصر على ما ترغم به من الشعر في هذا الباب بل ألف كتباً خاصة ذات فصول وعناوين، والذي يقرأ هجاءه للبخلاء يعتقد أنه كان على شيء من الكرم في بيته، والحقيقة أن أبا الحسن ممن اشتهروا بالكزازة والشح فقد طار له في هذا الباب صيت بعيد، قال أبو علي الأعرابي: كنت في بيت جحظة فدخل علينا رجل من البادية ونحن نأكل فدعوناه وكان طاوي؟؟ تسع، فأتى على القصعة ونحن(768/19)
نرمقهما ونضحك، فلما فرغ من مضغه قال له جحظة أتلعب معي النرد؟ قال نعم فوضعاه بينهما ولعبا فانهزم جحظة هزيمة لم تعد له، فأخرج رأسه من الخيمة ورفع يده إلى السماء قائلاً: لعمري إني لأستحق هذا لأني أشبع من أجاعه الله.
وهنا وقد أوقعه شرهه في مضحكات غريبة فقد كان يتحين الخلوة في رمضان ليشبع جوفه، وأحياناً يذهب إلى المرحاض وفي كمه كسرات من الخبز يلوكها في غفلة من العيون، قال الحسن البغدادي: كان جحظة عند أبي يوماً في شهر رمضان فأجلسته فلما انتصف النهار سرق رغيفاً ودخل المستراح، واتفق أن دخل أبي فرآه فاستعظم ذلك وقال ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال أفت لبنات وردان ما تأكل. وبنت وردان دوبية كالخنفساء توجد كثيراً بالمستراح.
وغير كثير على جحظة أن يفعل ذلك فقد كان من المستهترين بالدين إلى أبعد حد وأقصاه، فهو يشرب الخمر، ويأتي المحرمات ويتعرض للنساء مع أن الله قد منحه من الدمامة قسطاً لا يحتمل معه تماجن وخلاعة، وقد سماه ابن المعتز بجحظة لنتوء قبيح في عينه قد شوه سحنته حتى ضرب بها المثل.
وكان فوق ذلك قذر الثياب، رث الأردان، مع إنه كان يغشى المحافل العامة ويتصدر منتديات السمر، وكذلك كان من معارفه البحتري وأبو الفرج، ولست أفهم لذلك علة غير أن هؤلاء وأمثالهم ربما أرادوا أن يحاربوا ما شاع ببغداد من الترف الفاحش في الزي والملبس، فدفعتهم المغالاة إلى ما صاروا عليه من قذارة وحطة، وإلا فلو كان جحظة قد اضطر إلى ذلك لفقره المدقع فلماذا أصر الوليد وأبو الفرج على ما كانا عليه من رثاثة وامتهان.
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي(768/20)
هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
(تتمة)
وأقول رداً على هذا الدفع أنه بغض عما إذا كان التعدد في ذاته من حيث المبدأ خصوصية للنبي أو أن الزيادة على الأربع فيه هي وحدها الخصوصية فإن ما سبق أن سقته من الإشارة إلى الأحاديث المذكورة إنما كان للاستدلال على أن المولى جل شأنه لم يكلف إلا بالعدل المستطاع بين الزوجات المتعددات، وقد رددت فيما تقدم على ما ذكره معاليه من أن ذلك كان حكماً وقتياً. أما قوله أن النبي قد أعفى من تكليف العدل فجوابه أنه ثابت بالآثار المستفيضة أنه كان عليه السلام يحافظ على القسم بين زوجاته بالرغم من رفع التكليف عنه بذلك. وقد بين عليه السلام القسم على النحو الوارد في تلك الأحاديث فوجب على المسلمين الافتداء به في ذلك. ويؤيد هذا الآثار الواردة عن بعض الصحابة - ومنهم عمر رضي الله عنه وهو من علم تشدده في مراعاة أحكام الدين - بمعنى القسم على النحو الوارد في السنة مما يدل على إنهم كانوا يرون أنهم غير مكلفين إلا بما كلف نفسه به النبي من العدل المستطاع. هذا وقد ختم معالي الباشا رده على الاعتراض المذكور، بمعارضته بأنه إن فرض أن آية (وأن خفتم إلا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا) مسوقة للتصريح بتعديد النساء إلى أربع فقط فإنها تقرر أيضاً وجوب الاقتصار على الواحدة عند خوف عدم العدل فلماذا لم يأمر النبي الناس بمفارقة ما زاد على واحدة لأن خوف عدم العدل يملأ كل نفس حتى نفس النبي، واقتصر على أمرهم بما هو مقتضى الشق الأول من النص أي بعدم الزيادة على الأربع وأردف هذه المعارضة بقوله (أن هذا يجعلنا نرتاب أشد الارتياب في صدق تلك الأحاديث التي يحتجون بها).
والحقيقة أن ليس فيما ورده أية مدعاة للارتياب لأنه إن أراد بالعدل هنا العدل المستطاع فليس مرد القول بالخوف من عدمه إلى النبي بالنظر إلى غيره، وإنما مرده إلى الشخص نفسه وما يشعر به من قدرته أو عدمها على إجراء هذا العدل، وهذه مسألة نسبية تختلف باختلاف الأشخاص وأحوال كل وظروفه، فلم يكن للنبي إذن ما يأمر به فيها زيادة على ما ورد في الكتابة وقد كان عليه السلام يقول في مثل هذه الأمور (سل قلبك ولو أفتوك). أما(768/21)
إن أراد به العدل المطلق (وهو ما يظهر أنه مراده بدليل قوله أن الخوف من عدمه كان يملأ قلب النبي نفسه) فإن معارضته مدفوعة حينئذ بأنها مصادرة على المطلوب على الوجه الذي بينته فيما تقدم، وفيها - عدا ذلك - حجة عليه لا له، وهي أن عدم ورود أمر من النبي للناس بمفارقة ما زاد على الواحدة عند نزول الآية دليل على أن العدل المشروط فيها لجواز التعدد ليس هو العدل المطلق وإلا لأمر بمفارقة ما زاد على الواحدة للقطع بخوف الجميع عدم هذا العدل.
12 - الاعتراض الرابع
إن الأمة قاطبة قد أجمعت قولاً وعملاً منذ عصر النبوة حتى اليوم على حل تعدد الزوجات في الإسلام؛ فهل كانوا جميعاً بما فيهم الصحابة والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم غير عالمين ولا فاهمين لحقيقة ما ورد به الشرع من تحريم ذلك؟ أم كانوا محلين لما حرم الله؟
وقد حاول معالي الباشا دفع هذا الاعتراض بأن الإجماع الذي يسري على المسلم ديانة له صور ثلاث: الأولى أن يقوم في أساسه على نصوص قرآنية مسلم بصحة قيامه عليها مباشرة أو بطريق القياس الصحيح. والثانية أن يقوم على سنة نبوية يطمئن الضمير على صحتها وإلى صحة قيامه عليها مباشرة أو بالقياس الصحيح كذلك. والثالثة أن يكون إقراراً من الناس كافة لعادة من المباحات لم يأمر بها كتاب ولا سنة ولم يمنع منها كتاب ولا سنة مباشرة ولا بالقياس. هذه الصورة الثالثة هي التي يصح أن يطلق عليها اصطلاح (الإجماع) أما الصورتان الأولى والثانية فإن الدليل الشرعي فيهما ليس هو إجماع الناس إنما هو نص الكتاب لو السنة أو القياس الصحيح على نص أيهما. والمسألة التي نحن بصددها غير مقول أن فيها إجماعاً من قبيل الاصطلاح المذكور بالصورة الثالثة؛ بل يقولون أن الإجماع فيها قائم على العمل مباشرة بقوله تعالى: (فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع) وقوله من بعد (فلا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلقة) ولا شك أن الحكم ما دام مرده إلى النص فإن لكل مسلم وإن انصاع قضاء للإجماع المرتب عليه؛ أن يعترض ويبين ما يعتقده في الأساس من خطأ التأويل.
وردي على هذا الدفع أن المتفق عليه بين القائلين بحجية الإجماع - وهم جمهور مجتهدي الأمة المعتد بآرائهم في ذلك لتأيدها بما جرى عليه العمل فعلاً في عهد الصحابة من(768/22)
الاحتجاج بالإجماع والتقيد بما أقره من أحكام - أنه لا بد أن يكون له سند من النص أو القياس بمعناه الواسع الشامل للاستنباط من عمومات الشريعة.
وعلى ذلك فالصورتان الأولى والثانية من الصور الثلاث التي ذكرها الباشا هي من صور الإجماع لا محالة؛ وثمرة وجود الإجماع في هاتين الصورتين - إلى جانب سنده من النص أو القياس عليه - أن هذا السند قد يكون ظني الثبوت (كما هو الحال بالنسبة لأحاديث الآحاد ومعظم السنن منها كما هو معروف) وقد يكون ظني الدلالة (كما هو الشأن في النصوص المحتملة بظاهرها لأكثر من معنى واحد، وكما هو الشأن في القياس) وقد يكون ظني الثبوت والدلالة معاً (كما هو الشأن في بعض أحاديث الآحاد التي تحتمل بظاهرها أكثر من معنى واحد؛ أو التي يظهر بينها وبين نصوص أخرى من الكتاب أو السنة وجه تعارض) والإجماع حجة قاطعة؛ فإذا ما أقر في عصر من العصور حكماً مستنبطاً من النص نفسه أو مقيساً عليه أصبح هذا الحكم مما تحرم؟؟ مخالفته ولا يكون النص بعد ذلك محل اجتهاد، فلا يحل بعد ذلك لمسلم مخالفته بدعوى أن سند الإجماع محل اجتهاد، وإنما يحل في هذه الحالة قبل نعقاد الإجماع.
هذه هي ثمرة وجود الإجماع مع النص؛ فهو - إذا سلم معنا الباشا بحجيته وانعقاده في هذا الموضوع - مانع لمعاليه من التأويل فيما تأول فيه من النصوص بما يخالف ذلك الإجماع، ومانع للمسلمين كافة من الأخذ برأيه في ذلك إن هو أصر عليه بعد هذا البيان.
هذا ولا يفوتني أن أنبه هنا إلى ما هو الحق في نقطة أثارها الباشا في بحثه ومن شأنها أن توجب بعض اللبس على الناس في صحة انعقاد الإجماع على هذه المسألة، فقد قرر أن بعض المتطرفين قالوا بجواز التعدد إلى تسع وبعضهم إلى ثماني عشرة مستندين إلى تفسيرهم لعبارة (وثنى وثلاث ورباع) بما يوافق ذلك. والحق أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا القول بل كل ما نقل عنهم يفيد العكس أي أن الحكم الشرعي جواز التعدد إلى الأربع فحسب. فإجماعهم إذن لم يخرقه أحد، وقد قررت ذلك صراحة معظم كتب الحديث والتفسير فليرجع إليها من يشاء كما نقل هذا الإجماع عدة من الثقات في هذا الباب. أما مخالفة ذلك النفر ممن سلم الباشا بتطرفهم وسفه رأيهم؛ فهي - إن ثبتت - فلا يعتد بها من خرق الإجماع المذكور لأنهم وجدوا بعد انعقاد الإجماع على هذه المسألة(768/23)
واستقراره بانتهاء العصر الذي انعقد فيه؛ وذلك لأن هذا الرأي منسوب إلى بعض الظاهرية وهؤلاء لم يوجدوا إلا بعد عصر الصحابة. على أن شيوخ هذا المذهب أنكروا صدور هذا الرأي عن أحد ممن ينتمون إليهم؛ فثبوت قولهم به إن محل نظر. وحتى على التسليم جدلاً بأن خلافهم ثابت وأنه قادح في هذا الإجماع؛ فأن قدحه لا يتناول منه إلا إفادة الآية لتقييد التعدد بالأربع؛ فهو يمس ناحية الحظر في التعدد لا ناحية الإباحة التي تظل بعد ذلك قدراً متفقاً على انعقاد الإجماع على دلالة الآية عليه، وهو ما يخالف رأي الباشا القائم على الحظر وعلى أن عبارة (مثنى وثلاث ورُباع) مفيدة بظاهرها الإباحة المطلقة للتعدد الجزاف وإنها - مع ذلك - ليس مقصوداً بها حل التعدد مطلقاً ولا تفيد هذا الحكم بحقيقتها، فرأيه إذن مخالف للقدر المتفق على انعقاد الإجماع عليه قطعاً في جميع العصور. . .
ولمعالي الباشا أيضاً في دفع هذا الاعتراض - فيما يتصل بالإجماع العلمي قصة عجيبة مسلسلة الحلقات قوامها أن فترة الإسلام الأولى منذ الهجرة حتى آخر الدولة الأموية كانت عهداً مليئاً بحروب المسلمين وفتوحاتهم (والجنود في كل أمة يدللون ويتجازون لهم عن كثير من الآثام في مقابل أنهم وهبوا حياتهم. . .) والشباب من جند المسلمين كانت تتنبه فيهم الغريزة الجنسية في فترات الفراغ والراحة بين المواقع الحربية ولا سبيل لهم إلى إجابة داعيها بغير التزوج لأن الزنا محرم (لكنهم كانوا) إذ أراد الواحد منهم بعد إحدى الوقائع أن يتزوج فوق من تزوجها بعد واقعة سابقة - كانوا يجدون قوله تعالى (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) مانعاً من التعدد. . . ولكنهم من جهة أخرى يعرفون أن آباءهم وأجدادهم المسلمين متزوجون قبل وفاة النبي (أو كانوا في حياته وقبل وفاتهم هم متزوجين) بعدة من النساء ليس عليهم (أو ما كان عليهم) إلا العدل بينهن بقدر الاستطاعة عملاً بقوله تعالى فلا تميلوا - الآية، فيتأففون لسلبهم ميزة التعدد لمجرد تأخرهم في الوجود عمن أبقيت لهم هذه الميزة وهؤلاء كانوا من القاعدين عن القتال لتقدم السن بهم، لذلك كان الشباب المجاهدون يرون أنفسهم أجدر بهذه الميزة ممن خصوا بها مما دفعهم (إلى التحلل من حكم الآية، والى تعديد النساء واغتفر أولوا الحل والعقد للجنود هذا التجاوز. . . وبديهي أن السياسة الشرعية ما كانت تأبى هذا الاغتفار لأن النفع الذي كان يحدث للدين الإسلامي من استرضاء الجندي وتحصينه من الزنا أكثر بكثير من إثم التعدد)(768/24)
(استمر الجنود إذن على التعدد كما إخال، ولكنهم في ديانة الاقتصار على واحدة، فما العمل؟ لم يعدموا من يهون عليهم هذا الوضع بالحيل الشرعية) فتلمسها لهم المتلمسون في لفظ (رباع) في الآية وحللوا لهم الأربع وألزموهم الوقوف عندها وكان لهم في السبيات الجميلات اللاتي توزعهن ملكاً لهم ما يغني عن التزوج زيادة عن الأربع بالمهيرات الثقيلات النفقة من الحرائر (ولولا هذه الظروف المسهلة لما تنازل الجنود عن التعدد ولاستحلوه إلى ما فوق الأربع ولوجدوا من يعينهم على هذا. . .)
(ولقد يخيل إلي (هذا نص كلام معاليه) أن أولئك الجنود الذين استنوا تلك السنة قد شايعتهم عليها أهلوهم (المتخلفون عن القتال ممن كان سارياً عليهم حكم (فلا تميلوا) والذين كانوا - مع ذلك - بحاجة إلى (الاستزادة من الأزواج فوق الواحدة الباقية ممن كن عندهم وقت نزول هذه العبارة، فكان من مصلحة الجميع المبادرة إلى تحبيذ سنة الجنود إلى تعميمها والسياسة الشرعية أيضاً كانت ترى المصلحة في هذه المناصرة، وذك لأن الحرب تهلك الجنود وتقلل عدد المواطنين، ومن الواجب التغاضي عن العمل بالواحدة في حق المتخلفين (أي عن القتال) وإباحة تعديد زوجاتهم بزيادة النسل. . .)
(استمرت إذن عادة الأربع. . . ودامت بدوام الحروب والثورات في القرنين الأول والثاني) فلما جاء عصر التدوين في آخر الثاني وأوائل الثالث كانت قد صارت من التقاليد القديمة المستقرة المحببة إلى المسلمين والملائمة لغرائزهم الموروثة. . . فاضطر الفقهاء في كثير منالجهات إلى مسايرتها وتدوين الواقع من متابعة الناس لها وتساهلوا في تأويل سندها القرآني كما تساهل فيه المحاربون الأولون. . وما كان في استطاعتهم غير هذا خصوصاً وليست المسألة من العقائد التي تدعو إلى التحرج ونبذ المسايرات)
ذلك تلخيص القصة التي أوردها معاليه لما قصد دفعه من هذا الاعتراض وقد أدعمنا هذا التلخيص وبنصوص كلامه نفسها كيلا تتسرب إلى القراء أدنى شك في صحة نقلنا، وندع لحضراتهم بعد ذلك الحكم على قيمة هذا الاتهام الخطير الذي تناول بالتأثيم - على الأقل - جميع الصحابة والخلفاء الراشدين والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين وفقهاء المذاهب في جميع الأزمنة والعصور، إن لم يكن بارتكاب المحرم فبإقراره بالتغاضي والسكوت عنه طوراً وابتكار الحيل التأويلية للنصوص طوراً آخر، ثم ينشر ذلك على الناس أخيراً في(768/25)
عهد التدوين على أنه حكم الله في هذا الموضوع متغافلين - طبعاً - عن أنهم مسؤولون أمام الله عما أحدثوه من هذا الحدث الخطير وهذه (الجريمة المستمرة) في الإسلام بالخرق لأحكامه وتقريرهم الحرام للناس على أنه حكم الله فيما أحل ليتبعوه فاتبعوه فعلاً - في رأي معال الباشا حتى يومنا هذا، ومتغافلين عن القاعدة التي قرروها استنباطاً من عمومات الشريعة وهي أن (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وعما توعد به الله من يحكم بالهوى وبغير ما أنزله.
وإنما قلت فيما تقدم أن رأي الباشا يتنازل بالتأثيم جميع من ذكرت (على الأقل) لأن الوقائع الحربية لم تبدأ منذ عهد الصحابة بل بدأت في عهد النبي عليه السلام كما هو معروف. . .
وأخيراً أدع لحضرات القراء الحكم على رأي هذا سناده في تأويل القرآن بما يخالف المتفق عليه في تفسيره، ورد السنن المؤيدة لهذا التفسير، وتسفيه الإجماع المقرر لكل ذلكقولاً وعملاً. والله أحكم الحاكمين.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد(768/26)
زواج تولستوي
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
كان الطبيب بيرز يعيش وأسرته عيشة راضية في موسكو منذ أن تزوج سنة 1742 وهو في الرابعة والثلاثين من عمره بالآنسة ليوبوف إسلافين، وكانت فتاة في السادسة عشرة. . .
كان هذا الطبيب الألماني الأصل موفور الرزق بما كان يكسب من حرفته ومن وظيفته في بلاد القيصر، وإن لم يك من ذوي الثراء الواسع؛ وكان له ولأسرته مكانة اجتماعية مردها إلى منصبه الرسمي الذي حصل فيه على لقب النبل جزاءاً على خدماته في القصر الإمبراطوري. . .
وقد أنجبت الزوجة الفتية لبعلها حتى سنة 1862 ثلاث عشرة عاش منهم ثمانية، ومن هؤلاء ثلاث بنات كانت كبراهن واسمها إليزابيث في التاسعة عشرة، ويليها سوفيا وهي دونها بسنة، ثم تاتيانا وهي دون سوفيا بسنتين. . .
ولم تكن زوجة الطبيب بيرز إلا تلك البنت التي أحبها تولستوي وهو طفل، والتي أدت به الغيرة، ذات يوم، إلى أن يدفعها من شرفة فأصابها بالعرج زمناً غير قصير؛ لم تكن إلا إسلنيف الصغيرة التي عاشت في كنف أبيه، وقد ولدتها أمها لرجل يدعى الاسكندر إسلنيف عاشت معه بعد أن هجرت زوجها ولم تستطع أن تحصل منه على الطلاق.
وقد تعلم البنات على أيدي معلمين ومعلمات من ألمان وفرنسيين، وكان أبوهن يعدهن ليكسبن قوتهن بعملهن، ولذلك كن يتعلمن ليكن معلمات. . .
وقرأ البنات، وبخاصة سوفيا، كثيراً من الكتب. وكان لقصة ترجنيف الآباء والأبناء أثر عظيم في نفوسهن، وقد اشتد عطفهن على بطل القصة بازاروف.
وفي ربيع سنة 1861 نجحت إليزابيث وصوفيا في امتحان تبيح لهما الالتحاق بجامعة موسكو.
وكان البنات في غير أوقات الدرس يخطن ويطرزن وينظفن المنزل ويقمن على مختلف شؤونه، ويعلمن اخوتهن الصغار؛ ولم يكن يكدر عليهن صفو حياتهن إلا ما يكون أحياناً من(768/27)
غضب أبيهن، ولكنهن لم يرين أمهن الصبور الهادئة كيف تحتال بكل حيلة لتفتأ غضبه. فأثر ذلك فيهن أثراً حميداً.
كانت إليزابيث كبرى البنات فتاة طويلة القامة، ساحرة العينين، في ملامحها كثير من الجد والسكون؛ وكانت هادة باردة الطبع، قليلة النشاط نوعاً ما؛ وكانت أعمال البيت تضايقها وتثير نفسها الاشمئزاز، ولعل مرد ذلك إلى كسلها والى ورغبتها في القراءة؛ فكثيراً ما كان يرى في يدها كتاب، لا تكاد تفرغ من عمل حتى تعود إليه. . .
وكانت تانيا صغراهن على نقيض إليزابيث، فتاة لعوبا مرحة لا تفتأ تثب هنا وهناك حتى لتملأ البيت كله بضحكها وصوتها الساحر الجميل. وكانت تسمى في البيت (الشيطانة الصغيرة)، وكان لها ولع بالموسيقى، وكانت متقدة العاطفة؛ تملأ قلبها حرارة الشباب، تحب صاحباتها فتستغرق في الحب، ولا تني تظهر لكل من يراها إعجاباً بنفسها وفرط إحساسها بذاتها.
وكانت وسطاهن صوفيا، أو سونيا كما كانت تسمى في البيت، وسطاً بين أختيها: تميل إلى تاتيانا وتحب مرحها وتنكر من إليزابيث سكونها وانطواءها على نفسها.
وكانت سونيا موفورة العافية، نشطة متوردة الوجنتين، براقة العينين؛ وكانت ذات جمال وفتنة وبخاصة عيناها الواسعتان الرماديتان. . .
ولئن كانت تحب صوفيا مرح أختها تاتيانا، إلا أنها كانت تحس أبداً أن هاجساً خفياً لا تدريه ولا تنكره يوحي إليها شيئاً من الحزن المبهم الذي يشوب مرحها دائماً، فلا تحس سروراً إلا أحست معه شيئاً من الحزن؛ كتبت لتاتيانا ذات مرة تقول (إن تلك الموهبة التي تحسدين عليها وهي الاستمتاع بكل شيء وبكل شخص بارزة فيك كل البروز، أما أنا فعلى عكس ذلك، إذ أجد ثمة شيئاً حزيناً في كل مرح وكل سعادة).
وكانت سونيا رحيمة بأخوتها، تؤدي عمل البيت في غير ضجر أو كلال؛ وكانت مولعة بالأدب والتصوير الموسيقي؛ وقد احتفظت منذ الحادية عشرة بدفتر تثبت فيه ملاحظاتها؛ وقد جاء فيه عن قراءتها قولها (لقد أحدث كل من (عهد الطفولة لتولستوي ودافيد كوبر فيلد لدكنزي في نفسي أعظم الأثر، ولقد بكيت حين فرغت من قراءة كوبر فيلد لأني سوف أفترق عن أولئك الأشخاص الذين باتوا أعزاء إلى قلبي).(768/28)
وكان يغشى بيت بيرز كثير من الأضياف، وبخاصة في يومي السبت والأحد، وكانت بنات الطبيب زينة الدار، وكانت أمهن شديدة الرقابة عليهن تحدجهن حدج الملامة أمام الضيوف، أو تنصح لهن بكلماتها إذا خلت إليهن. . .
وأخذ البنات يغشين المجتمعات ويشهدن حفلات الرقص ويشاركن فيها، وقد ذهب لهن صيت في الجمال والظرف والرشاقة وحسن الذوق.
وكان أول من أعجب بسونيا معلمها الشاب، ولكنها كانت لا تكترث له، ولا تعبأ بتنهداته، وبينما كان يعينها على نقل مقعد إذ أمسك بيدها وقبلها، فصاحت به كيف تجرؤ على ذلك؟ ثم أرادت أن تريه مدى احتقارها إياه فمسحت بمنديلها موضع شفتيه من يدها؛ ثم إنها أخبرت أمها بما فعل فلم تعفها من اللوم قائلة (لم لا تسلكين مسلك أختك إليزابيث من الجد والاحتشام) وأبعد المعلم المسكين عن البيت. . .
وأعجب بها بعده ضابط شاب، وكان ينتمي إلى أسرة غنية يدعى بولفانوف، وأحست سونيا انجذاباً نحوه، ولما قبل يديها ذات مرة لم تغضب ولم تشمئز، ولكنها أحست النشوة في هيكلها كله وباتت تتوقع ةتحلم. . .
ولما هم بالرحيل صارحها برغبته في أن يتزوجها، وجعل لها الخيار أن تعدل عن رضائها إذا رضيت، وذلك إذا اضطرته ظروف الحياة أن يغيب عنها. . . وأخذ أهلها هذا على أنه بعض عبث الشباب. . .
كانت أول زيارة ذات بال من جانب تولستوي لأسرة بيرز سنة 1856، وقد أشرنا إلى هذه الزيارة من قبل، وقد أعدت المائدة له ولمن كان معه من الضيوف إليزابيث أوليزا كما كانت تدعىوأختها سونيا، وكانتا يومئذ طفلتين فلاعبهما تولستوي وضاحكهما وجلس بعد الطعام يقص عليهما القصص من سباستبول وما كان من أنباء الحرب، وكانتا قد قرأتا (عهد الطفولة) و (عهد الشباب) وسرهما ما جاء في الكتابين عن جدهما لأمهما وقد كان كما ذكرنا صديقاً لأبيه. . . وأحست البنتان سروراً عظيماً لجلوسهما بين يدي الكاتب النابه، وداخل تولستوي السرور مما أحس في الأسرة كلها من هناءة وأعجب بالبنتين وأختهما الصغيرة وما أشعنه حولهن من مسرة. . . ولقد أسرعت سونيا بعد رحيله إلى الكرسي الذي كان يجلس عليه فربطت رجله شريطاً لتعرفه. .(768/29)
وفي سنة 1861 بعد عودته من رحلته الثانية إلى أوربا، زار تولستوي أسرة بيرز، فأعجبه ما رأى من تغير البنات فقد غدون آنسات يغشين المجتمعات ويأخذن زينتهن في كل مجتمع؛ وتهفو إليهن أفئدة الشباب. . .
وتحدث إلى ليزا حديثاً في الأدب والدين وأفاض في الكلام عن مدرسته، وأوحى إليها أن تكتب شيئاً عن محمد النبي العربي وعن مارتن لوثر؛ وجلس مع سونيا إلى البيان، ولعب معها الشطرنج؛ وعابث تانيا وضاحكها وقص عليها من قصصه. . .
ولم يصرفه اهتمامه بمدرسته عن أسرة بيرز فأكثر من زيارتها، ورفعت الكلفة بينه وبينهم فكان يأتي إليهم في أي وقت وكأنه واحد منهم، وألفه البنات وألفهن، وكن يشرن إليه بقولهن (الكونت) وألفه كذلك خدم الدار وبات يحبه ويأنس بلقائه كل من يراه. . .
وتحدث الناس أنه عما قريب سوف يخطب ليزا إلى أهلها، فقد قيل إنه ذكر لأخته مرة أنه تزوج يوماً ما فستكون عروسه من آل بيرز. . .
وبلغ حديث الناس آل بيرز فسرهم ذلك أبلغ السرور، ففي زعمهم أن ليزا خير من تصلح زوجة للكونت، وبات الأبوان يرتقبان الخطبة، وسمعت بذلك ليزا فزادت من عنايتها بمظهرها، وباتت تحلم أحلام الحب والسعادة وفي نفسها عن (الكونت) أنها قد شغفته حباً. . .
ولكن تولستوي كان لا يحس في نفسه أنه يحبها، فقد جاء في مذكراته في شهر مايو سنة 1861 قوله (قضيت يوماً بهيجاً عند آل بيرز، يجب ألا أقدم على زواج ليزا) وقال في سبتمبر (أن إليزابيث بيرز تغريني، ولكني لن أدع ذلك يحدث، فإن مجرد الإغراء الذي لا يصحبه أي شعور ما غير مجد).
وأحس أن سونيا تزداد كل يوم قرباً إلى قلبه، كما كانت تزداد حسناً، وأحست الفتاة زيادة اهتمامه بها، وكان صاحبها بوليفانوف قد غاب عنها غيبة تشبه القطيعة، وكانت تتوجد أحياناً، حتى لتجهش إذا خلت إلى نفسها. ولما رأت إقبال تولستوي عليها أحست مع حسرتها على صاحبها وحيرتها من مسلك الكونت، وباتت تسأل نفسها: أهو حقاً يحبها؟ ثم لا تلبث أن ترى أنها واهمة فتذكر بوليفانوف، ولكنها لا تكاد تلقى تولستوي حتى تملأ نفسها الحيرة.(768/30)
وعرج تولستوي على موسكو في صيف سنة 1862 وهو في طريقه إلى سمارا، فزار آل بيرز؛ وكانت سونيا يومئذ تميل بخيالها إلى تولستوي، ولا تكاد تذكر بوليفانوف، وكان يحس الكونت نحوها أن قد أخذ يمس قلبه الحب.
ولما قص تولستوي على الأسرة كيف اضطر إلى بيع قصته قبل أن يتمها أو يهذبها ليؤدي بثمنها دينه بعد خسارة في الميسر، لم تقو سونيا على حبس دموعها رثاء له وتألماً من مسلكه. ولما رحل عنهم كانت سونيا حزينة تطيل النظر صلواتها فدنت منها (الشيطانة الصغيرة) تاتيانا وسألتها في خبث (أتحبين الكونت يا سونيا؟) فأجابت أختها في دهشة (لست أدري. . .)
ولما عاد تولستوي من سمارا إلى قريته والغضب ملء نفسه مما فعل الشرطة بداره ومدرسته، أنساه غضبه زيارة من زوجة بيرز ومعها بناتها في أجمل ملابسهن الصيفية لأخته ماري في ياسنايا بوليانا.
وشاع في نفسه السرور بهذه الزيارة، وكانت تراه عمته تاتيانا وأخته ماري وكأنه من فرط مرحه قد عاد إلى سن العشرين، وباتتا ترتقبان أن يطلب يد ليزا.
وبلغ من حفاوة تولستوي بالفتيات أن عمل مع الخدم في إعداد سرر نومهن بنفسه، وكن في الحجرة التي جعلت لهن يؤدين بعض ما يتطلبه هذا الإعداد وكم ضحكن في مرح وغيظة والتقت عينا تولستوي بعيني سونيا، وكانت بينهما نظرة طويلة وكأنه لم يرها إلا في هذه اللحظة فإن شيئاً يحسه ولا يدري كنهه يسري في هيكله كله، وأن عينيها لتحدثانه حديثاً يفهمه حتى كأنه الهمس، وأن عينيه كذلك لتحدثانها بكل ما في نفسه. .
وضرجت الحمرة وجهها فأشردت نظرتها ولكن بعد أن نفذت إلى قلبه.
وزاره في اليوم التالي صديقه فت وبعض أصحابه فخرجوا مع البنات إلى الغابة قضوا نهارهم فيمرح كان البنات مبعثه كما كن مبعث ما شاع حولهن من جمال وفتنة.
ولما رحلن إلى إفتسي حيث أرادت أمهن أن تزور أباها في ضيعة التي ورثها من أمها في هذه القرية التي كانت تبعد نحر أربعين ميلاً عن ياسنايا، لم يطق تولستوي الوحشة بعدهن، فلحق بهن على جواد أبيض ونظرن فإذا به بينهن.
وكان القصر في افتسي حافلاً بالضيوف، وكان عدد السيدات والآنسات بينهن بنات بيرز(768/31)
يتهيأن للرقص، ولكن تولستوي كان في شغل بما توسوس به نفسه عما يدور حوله، وجلس يحدث رب الدار حديثاً كانت تكدره خلجات وجدانه، فأن كل شيء من مراح الشباب وزياطه يذكره بشبابه الذي ينطوي وروحه التي تخمد؛ وإنه ليحس وهو يعد في الرابعة والثلاثين كأن بينه وبين الشباب أمداً بعيداً.
وجلس غير بعيد يترقب ويغالب ما في نفسه من حسرة، وجاءته سونيا تمشي على استحياء وقد حان وقت الرقص فقالت: ألا ترقص؟ فأجابها وهو يخفي همه بابتسامة: إني اليوم أكبر سناً من أن أفعل ذلك. .
وقد جعل باله في تلك الليلة إلى سونيا، يدور بعينيه إلى حيث تكون، وكانت سونيا تقابل نظراته بنظراتها وكأنما تقول له إنها تدرك ما في نفسه، وكان يحمر وجهها في صورة ملحوظة كلما دنت منه.
ولحظت ذلك عينا ليزا فأفلت منها زمام أعصابها وقالت لأختها الصغرى، بعد الحفلة وهي تجهش: أن سونيا لتحاول أن تأخذ مني الكونت. . ألم تري ذلك؟ إن مسلكها وان عينيها وإن رغبتها في أن تنفرد به، كل أولئك الآن يبدو جلياً. . .
(البقية في العدد القادم)
محمود الخفيف(768/32)
سلافان
محنة الفردية في الأدب المعاصر
للأستاذ شكري محمد عياد
لا أعرف كاتباً صور محنة الفردية في هذا العصر كما صورها جورج ديهامل. ولك أن تقول: محنة الفردية، أو محنة الفرد حسبما يحلو لك من رغبة في التجريد الفلسفي، أو التخصيص الإنساني. . وأنت مصيب على الحالين، فهي محنة يعانيها الأفراد المثقفون اليوم، لا في فرنسا وحدها بل في كل بلد مسته الحضارة الصناعية والإنتاج بالجملة. ومصدر هذه المحنة إحساس هؤلاء المثقفين ذوي الذكاء اللامع أو الإحساس المرهف أو الخيال الوثاب بأن هذا المجتمع الحديث لم يعد محتاجاً إلى ذكائهم اللامع ولا إلى إحساسهم المرهف ولا إلى خيالهم الوثاب، بل لعله ينظر إلى هذه الأمور التي كانت تعدها الإنسانية من قبل ميزات نظرة الشك والارتياب لأنها أصبحت تعد في دنيا العمل عوائق ومعطلات. وهم يلاقون من ذلك عناء غير قليل، حتى ليضطرون إلى إحدى اثنتين: إما أن ينسوا أنهم أفراد، ويلقوا بأنفسهم إلقاء في جيش الساخطين على هذا المجتمع، المعدين العدة لتغييره وفق ما يرونه الحق والصواب. وهم على الحالين لا يستطيعون الاحتفاظ بفرديتهم، ولا تحقيق ذواتهم، وقلما ينجون من هذا القلق الذي ينوشهم من كل جانب، وقلما يصلون إلى حالة من السلام النفسي الذي ينشدونه. وأكثرهم ينطوون على أنفسهم، ويختبرون إحساساتهم، ويطعمون أحلامهم وآلامهم، وربما وجدوا في الألم لذة أكبرن لأنه لا يلوح لهم بأشياء مستحيلة، ولا يعرضهم لخيبة قاسية.
هذه الفرقة من الناس، إذاً، ظاهرة بارزة في الحياة الإنسانية لعصرنا الحاضر، يعني بها علماء الاجتماع، وعلماء النفس، والفلاسفة، والأخلاقيون، والأدباء، والفنانون. ولعل مما يزيد عنايتهم بها أن هذا الفريق من الناس هم الجمهور الأكبر من قراء الأدب والفلسفة، وأهل الفكر، ومتذوقي الفن. فكأن رجال الفكر والفن إذ يعالجون مشاكلهم هم أنفسهم في نطاق أوسع، وكأن هذا الجمهور إذ يطالع ما يكتبه له الأدباء والمفكرون إنما يطلع على مشاكله الخاصة، وما يقدمون لها من حلول.
كتب جورج ديهامل سلسلة من خمس قصص تدور كلها حول محنة الفردية في العصر(768/33)
الحديث، أي حول التنافر بين الفرد ونفسه، وبين الفرد ومجتمعه. وابتدع في هذه شخصية (سلافان)، وهي شخصية لا تقل حياة ولا صدقاً ولا عمقاً عن شخصية (هملت) أو (دون كيشوت). وهي شخصية ذلك المثقف المرهف الحس الذي يلفظه المجتمع الحاضر، وتخنقه أوضاع الحياة التافهة العادية. على أن ديهامل لا يتخذ بطله من أولئك المثقفين ذوي الثقافة العالية المنظمة، ولا من أولئك المفكرين السحابيين الذين يعيشون في أبراج عاجية، وإنما هو رجل من عامة الشعب، لم ينل ما اصطلح الناس على تسميته بالثقافة العالية ولا الثقافة الثانوية، ولكنه قرأ كثيراً وفكر كثيراً. . يقول لصديق: (إنني فقير، وقد كنت فقيراً دائماً، فدرست كما يدرس الفقراء، أعني أنني درست دراسة فقيرة. وقد آلمني ذلك وبخاصة في السن التي يتألم فيها المرء لمثل هذه الأمور. ثم أخذت أثقف نفسي بنفسي، وعلى قدر استطاعتي، فأنا أعلم اليوم أكثر مما يعلمه غالبية البورجوازيين في مثل سني. ولكن الراجح أني لم أتعلم هذه الأشياء بطريقة منظمة، كما تقول. ومن ثم لا يعدني الناس مثقفاً، وأصدقك القول إنني مستني العدوى من أفكار الناس عني، فأصبحت أشك أنا أيضاً في ثقافتي. إنها لثقافة طيبة، لا تخلو من رسوخ وغنى، ولكنها ليست ثقافة (أصيلة). لا ضير! إنني مثابر على القراءة.
وهو يقضي سحابة نهاره في بعض تلك المكاتب التي تؤوي عشرات أو مئات من طبقته، يؤدون أعمالاً تافهة. وهو مشغوف بالموسيقى يعالج النفخ بالناي، ولكنه يقول عن نفسه: (والأمر المؤلم أنني لنقص الدربة والدراية والدرس أوقع بطريقة عاجزة صبيانية قطعاً أحسها إحساساً طيباً؛ إذ ينبغي أن أقول - لأكون عادلاً في الحكم على نفسي - إني مشغوف بالموسيقى، وإني أدين لها بأنبل مشاعري. ولكني حين أجاهد آلتي لا يبدو علي أنني أفهم شيئاً مما أرقعه، على حين أن أورين مثلاً - وهو ينفخ في الناي أيضاً - أورين هذا الذي لا يفهم شيئاً من الموسيقى، ولكن له أصابع متمرنة، يخيل إلي من يسمعه أنه مشبوب الوجدان).
وقد تسأل: لماذا جعل ديهامل بطله مثقفاً عامياً وفناناً عاجزاًن ولم يختره رجلاً ممتازاً في ثقافته أو فنه؟ ألا يكون في هذه الصورة الأخيرة أصدق تمثيلاً لمشكلة المثقفين في هذا العصر؟ ولكنني أذكرك بأمرين اثنين: أولهما أن ديهامل لا يعالج مشكلة المثقفين الممتازين(768/34)
وحدهم، ولا مشكلة هؤلاء المثقفين الممتازين بوجه خاص، بل مشكلة كل من يتغلب فيهم جانبا الفكر والوجدان على جانب العمل، وطبيعي ألا يبلغ هؤلاء جميعاً رتبة العبقرية. والأمر الثاني أن القصة والأدب على العموم اتجها وجهة شعبية منذ ظهر المذهب الواقعي في الأدب واتخذ موضوعاته من الحياة العادية، حياة الناس العاديين. لم يبق الأدب تصويراً لحياة الأبطال وصراعهم، بل أخذ أشخاصه من زحمة الحياة العادية التي تعج بصنوف المآسي والمساخر. ولعل هذا هو الأمر الخالد للمذهب الواقعي في التراث الأدبي الإنساني، فما أظنه قد اصبح في استطاعة الأدب في حاضره أو مستقبله أن يترفع عن مشاكل جماهير الناس مهما تكن طبقتهم أو ثقافتهم أو نحلتهم، ولا أن ينتزع العواطف الإنسانية من مجالها الطبيعي، ليضعها في إطار من العظمة المصنوعة. وقد ظهر المذهب الطبيعي وعميده زولا بعد المذهب الواقعين فزاد هذا الاتجاه الأدب الفرنسي الخالد، وهو في الوقت ذاته دقيق الإحساس بالمشكلة التي يعالجها حين يختار بطله نكرة من النكرات، أو كما يقول هذا البطل عن نفسه:
(رجلاً لا يختلف في شيء عما ألفه الناس، رجلا يشبه كل الرجال إلى حد مخيف!)
ظهرت قصتنا - وهي الأولى من مجموعة سلافان - سنة 1920، ثم تلاها (رجلان) سنة 1924، و (يوميات سلافان) سنة 1926، و (نادي ليونيه) 1929، وأخيراً (كما هو) ' سنة 1932. حلل ديهامل في القصة الأولى عناصر التناقض بين الفرد ومجتمعه، وبين واقع الفرد وآماله، وبين أفكاره وأعماله. صور ذلك كله منعكساً على ذهن سلافان فهو لا يقص أحداثاً، بل أفكاراً بلغت من قوتها وتمكنها مبلغ الأحداث؛ فهي أحداث بالنسبة لصاحبها، وهي مغامرات حقهتمسك أنفاسك وأنت تقرؤها. . . أحداث هذه القصة لا تعدو أن سلافان يفصل من عمله على أثر حادثة يعدها الناس حمقاً منه وشذوذاً، ويراها هو عملاً ضرورياً يرد إليه ثقته بأنه إنسان يعيش بين أناس. وليس بعد ذلك إلا البطالة والتشرد والفاقة، وأحلام الحرمان، وأوهام القلب الوحيد.
وفي القصة التالية (رجلان) نرى سلافان الصديق. . . نراه في ضوء تلك الصلة النفسية العميقة التي تكشف من أسرار النفوس ما لا تكشفه الأفكارولا الأحلام ولا الأوهام. وصديقه رجل لا يشبهه في شيء من الأشياء، إذا كان سلافان مثال الرجل الذي لا ينسجم فكره(768/35)
وعمله فإدوار مثال الرجل الذي يقيس فكره على قدر عمله. وإذا كان سلافان مثال الرجل الساخط على وجوده فإدوار مثال الرجل الراضي عن وجوده. وإذا كان سلافان مثال الرجل الذي يزداد انحداراً كل يوم، فإدوار مثال الرجل الناجح الذي يزداد كل يوم صعوداً. إدوار هو على الجملة صورة حية للمجتمع الحديث. هو الرجل الذي تخضع حياته لنظام لا يحيد أو لا يكاد يحيد. هو الرجل الذي يترجم جميع أفكاره إلى أعمال، وجميع دوافعه ونوازعه إلى مصالح. هو الرجل الذي تنسجم رغباته مع واقع الحياة، حتى لتحار أيهما يستجيب للآخر. . . أهو يكيف وجوده طبقاً لواقع حياته، أم هي أحداث الحياة تنساق مع رغباته؟ يصرف سلافان من مطعم كانا يترددان عليه وكأنه يحس فيه ضعفاً وعجزاً عن المضي في تيار الحياة الزاخر، فيود لو يسنده بذراعه القوية؛ ليزداد التذاذاً بقوته. . . ويقبل سلافان - بعد تردد - هذه اليد الممدودة إليه، ويبذل له الصديق من جاهه ومالهن ويقبل سلافان هذه الهبات أيضاً، ولكن على حساب كرامته وكبريائه، حتى إذا ضاق صدره بعد سنين طوال من هذه الصداقة غير المتكافئة، ثار على ما ألقى فيه من عبودية، وفارق صاحبه فراقاً غير جميل.
والقصص الثلاث الأخيرة تصور صراع سلافان لتحقيق فرديته، فإنه لم يحدد بعد مطلبه من الحياة، وإنما كانت نفسه أشبه بصندوق رنان، كل عمله أنه يضخم الذبذبات التي تصل إليه من الخارج: ولكنه قد بدأ يحس نزوعاً إلى إكمال نفسه، فصاحبه يقول له قبل أن يفارقه: (ما بك؟) فيجيب: (بي كل ما ليس بي. . . أشياء لا تستطيع أن تمنحني إياها يا إدوار. . . السلام. السعادة. روح خالدة. الله.)
(البقية في العدد القادم)
شكري محمد عباد(768/36)
نظرات في الأدب العراقي
للأديب غائب طعمة فرمان
هل هناك أدب عراقي؟
سؤال يسأله كثيرون زلا يظفرون له بجواب مقنع، ولا برأي صائب صحيح.
أما الشيوخ فيزمون بشفاههم احتقاراً وسخرية، ويهزون رؤوسهم ضحكاً من السائل واستخفافاً بالسؤال، فيكفرون بالواقع وينكرون على العراق أدبه، وعلى الشباب يقظتهن وعلى الجيل الجديد رسالته؛ ثم يلقون عليك المواعظ والأمثال ناعين لك الأدب ساخطين على شياطينه الجديدة.
أما الشبان فيرفعون رؤوسهم افتخاراً، ويقرون بوجود أدب عراقي يواكب الحضارة، ويتفق مع روح العصر الحاضر، ويستجيب لضرورات الحياة الحاضرة، وينظر إلى الوجود كينبوع يستمد منه الأدب إلهامهن ويقتطف منه زهرات وحيه.
أما الأولون فمغالون، وأما الآخرون فمغرورون.
والأدب لن يزول عن الوجود ما دامت هناك حياة، وما دام هناك شعور بالحياة. فالوجود العامر بالشعور، المكلل بإكليل الحياة، المتنعم بنعيم الإحساس لم يفقد الأدب ولن يفقده أبد الآبدين.
لأن الأدب - في أبسط مدلولاته - مجموعات تجارب حية يسجلها الفنان في ألفاظ، ويرمز لها برموز ليستدل بها عن رصيدها الكامن من الأحاسيس والمشاعر. . . وهنا يتحدد وجود الحياة، ويترتب عليه إنشاء الفن.
وأخطل الرأي أن نتصور انعدام أدب أمة وهي ما زالت تتنعم بالحياة.
لأنك في ذلك تنكر وجودها، وتسلبها نعمة الحياة، أو تجعلها في رتبة الجماد سواء بسواء.
فلا بد من وجود أدب إذا وجدت أمة، لأنه لا بد من وجود شعور إذا وجدت حياة. والأشياء المحيطة بنا، الملازمة لنا، نتأثر بها، ونشعر بوجودها أو بمكان وجودها في مخيلتنا الواعية؛ ولهذا كله كان الأدب قديم المولد قدم الحياة، واكب الإنسانية في تاريخها، وصاحبها في نضالها، ورسم لها صورة الكفاح مع الطبيعة.
وبعض الناس لا يفرق بين وجود الأدب وازدهاره واكتمال أساليبه الفنية؛ فهم إذ قالوا: إن(768/37)
العراق ليس له أدب عنوا بذلك أنه لا يملك أدباً فنياً مزدهراً.
والحقيقة أن العراق - ككل أمة حية - لها أدب، ولكنه لم يكتمل بعد أساليبه الفنية، وأن الرواد الأولين عند ابتداء القرن العشرين ليذكرون بالإجلال والاحترام لا لأنهم ارتفعوا بالأدب العراقي إلى منزلته العليا، ولا لأنهم أصابوا حظاً عظيماً من التجديد، بل لأنهم عبروا عن الجيل الناشئ، وواكبوا الشعب العراقي في قصة نضاله، وسجلوا آثاره وعواطفه وانفعالاته. ولم يتأخروا عن قافلة الحرية السائرة.
والعراق قريب عهد بنور الحضارة، وقريب عهد بنور الحرية وقريب عهد بنصر النضال والكفاح في سبيل السيادة الوطنية، والاستقلال الذاتي. وما زالت صور الاحتلال العثماني البغيض وتعسفه المؤلم، وأصداء الثورةالعراقية ترن في الآذان، ولا زالت قصة الكفاح لنيل الحقوق كاملة، والاستمتاع بالحياة حرة، والإنعتاق من القيود والأصفاد قصة الشعب العراقي المتكررة الباقية المعادة.
والعراق بلد الثورات والانتفاضات، ومهد الحرية الفكرية في عصر الإسلام الذهبي؛ والعراقي عابد الحرية والاستقلال أبداً لأنه مجبول على الاستمتاع بها، والتضحية لأجلها. وتأريخ العراق سلسلة من الثورات الداخلية والخارجية، وسلسلة من التمرد والتحرر من الوضع القائم. وقصة الشكاية قصة الشعب العراقي التي ستبقى خالدة سرمدية، يشتكي من السلطان، ويشتكي من الطبيعة، ويشتكي من الحياة، ويشتكي من الناس جميعا. ولن تنهى هذه الشكايات لأنها لازمة من لوازم طبعه أو التأمين على حياته.
فمنذ عهد مغرق في القدم كان العراق بركاناً للثورات، وناراً مضطرمة الأوار، لا تخمد نار ثورة إلا لتقوم ثورة أخرى؛ ففي العهد الإسلامي لم يهدأ في حقبة من الحقب ولم ينل منه الاستقرار أي منال. والخلفاء العباسيون لم يستطيعوا على رغم قوتهم ونفوذهم، وامتداد سلطانهم أن يهيمنوا على الوضع، ويسكتوا لهيب النار، فما فتأت الثورات تتوالى، والتمردات تتعاقب، وتراخى الزمن يزيدها عظمة واتساعاً.
والحال كانت أعظم اضطراباً، وأشد نكاية، وأكثر تلهباً عندما زال نفوذ العباسيين، واضطر حبل الأمن، وتناهبت الإمبراطورية الإسلامية أمارات، ودولة نشأت في بقع مختلفة، واشتد النزاع فيها على السيادة السياسية والفكرية، وطال الصراع ولم ينته إلا باجتياح العثمانيين(768/38)
الإمبراطورية المقطعة الأوصال الكثيرة الاضطراب.
والعهد العثماني مظلم كئيب، سارت فيه المأساة بخفوت وصمت، وامتلأت النفوس غيظاً، والقلوب حقداً على الترك المحتلين، ومقتاً لهم، وحباً للتخلص من تعسفهم وظلمهم. . . ولم يسكت العراق عما يجول في ضميره، وعما يضطرم في قلبه من نوازع الحرية، ودوافع الثورة وما أنفك يطالب بالإصلاح ويعلن سخطه على الولاة الظالمين.
وفي العهد الوطني لم يسكت العراقيون، وظلوا يطالبون بالحقوق، ويلهجون بالاستقلال التام، ويتحرقون للعدالة الاجتماعية والديمقراطية الصادقة. والحكومات تتوالى والوزارات تتبع الواحدة الأخرى، والشعب دائب على إعلان السخط. .
فما سبب كل ذلك؟
ما علة التمرد الطويل، والتقلب الدائم، والسخط المستمر؟
من الشائع المفهوم أن للبيئة الأثر الأكبر في تكوين مزاج الفرد، وتلوين نفسه وتمييز طباعه.
فلننظر إلى الطبيعة العراقية لنستشف من خلالها طبائع العراقيين، وأمزجتهم الخاصة، وطابعهم المميز لهم.
الجغرافيون يقولون: أن طبيعة العراق متقلبة لا تثبت على حال، ثائرة لا تستقر على منوال. . . فهو بلد قاري متغير الطقس تغيراً سريعاً ملحوظاً: قارس الشتاء، حاد القيظ، وشمال العراق متوج بجبال عالية تكللها الثلوج، وجنوبه مكتنف بصحراء واسعة جافة، حمراء الرمال، كثيرة الزوابع فكثيراً ما تهب الرياح حاملة معها رمالاً مزعجة حمراء.
في هذا الجو الغاضب المتقلب يعيش العراقي. فماذا يكون مزاجه وطبائعه؟
فلا بد من أن يتقلب كما يتقلب جوه، ويتلون كما تتلون بيئته، ويثور كما تثور صحراؤه وتصخب.
واصطبغ الأدب العراقي الصميم - منذ عصور ازدهاره - بصبغة التمرد على الحياة، والضجر من الطبيعة، والتأفف من الناس. وهذا ما نقرأه في شعر العراقيين الذين يمثلون الطبيعة العراقية، ويستجيبون لوحي البيئة والمحيط. . . وتلك الصرخات الداوية في الشعر العراقي العباسي ما هي إلا استجابة للبيئة. والشريف الرضي والمتنبي جبلان شامخان(768/39)
يبرزان في محيط الأدب العربي واضحي الدلالة، مميزي الأعلام.
ولولا الأثر الذي تركه تمازج العرب بالأمم الأجنبية، وتهافت الأجانب على العراق، وتأثير السياسة العباسية لظهر الأثر، أكثر وضوحا، وأبرز سمات.
ووسم الأدب العراقي بالسخط كما وسم بالثورة، وفقد الرجل العراقي إيمانه الثابت الراسخ بما تسن من نظم، وبما تقوم من حكومات. . . لأن مسرحه المتقلب أفقده الإيمان بالبقاء الدائم في كل ما يرى من الأشياء التي تواضع الناس عليها.
وهذه العوامل مضافاً إليها أثر الإخفاق الدائم في أغلب ما يحاول من أمور، في أعم ما يؤمن به من دساتير وحكومات - خلقت روح الكآبة المرة في نفسه، وأشاعت الألم فيه. . . والإخفاق الدائم يبلغ الفرد إلى الانطواء على نفسهن وإلى الكآبة القاتمة ويضفي روحاً تشاؤمياً خفيفاً على آرائه وعواطفه. . . فهذا لم نشهد في تاريخ العراق الطويل رجلاً نستطيع أن نضمه إلى دعاة التفاؤل، والمؤمنين بسير البشرية إلى الحياة السعيدة، وبلوغها مراتب الاطمئنان والأمان.
وللأسباب ذاتها لم يخلق في العراق فيلسوف يحسب له حسابه، ويشمخ مع الشوامخ من الفلاسفة العالميين.
والأدب الشعبي العراقي يرسم لك النفس العراقية التي صورتها لك تصويراً صادقاً تاماً.
وتلك الخطوط والملامح تعين لك الأدب العراقي وتجسمه تجسيماً واضحاً. . . ولا مناص من وجودها في الأدب العراقي الصادق.
وإذا استطاع العصر الحاضر أن يضع حداً لهذه الملامح والخطوط ويخرج لنا أدباً يميل إلى التحرر من عبودية هذه السمات فالفضل في ذلك لنور الحضارة القائمة على تقارب الأمزجة، وترابط الأمم.
فلم يعد كل قطر مهما بلغ من عزلته وانطوائه على نفسه، وحرصه على البقاء في حدود ذاتيته مستطيعاً أن يقاوم تيار الحياة الجارف القائم على الإخاء والتعاون.
ولكن حذار من أن نفهم من ذلك أن ننسى أنفسنا ونبتر قوميتنا، ونتجنى على تاريخنا ومن الخطأ أن يظن أن القومية والأخذ بأسباب الحضارة الحاضرة طرفاً نقيض. . . ومهما يكن من طغيان التيار الأممي فإن ملامح القومية لا تزول ولن تزول أبد الدهر. . . ونحن(768/40)
العرب لا نزال نعتز بقوميتنا، مقدسين لتاريخنا.
والسمات والملامح التي رسمتها لن تزول كلها أبداً.
وهي قد عنيت لنا الأدب العراقي وصورته، وبينت حدوده وقسماته، وعلى ضوئها يمكن أن ندرس من نحب دراسته من شعراء العصر الجديد لنرى مصداق ما كتبت.
ويجب أن أنبه إلى ملاحظة واحدة قبل بدء الدراسة وهي: أن تلك العوامل السالفة الذكر لم تعط مجالاً لظهور الأدب الذاتي ولم نر إلا بعض الأشباح الهزيلة تظهر شفافة ضعيفة ثم تختفي. .
لأن الحياة الصاخبة القاتمة الممتلئة بالنشاط والحيوية لا تدع للأدب أن ينشئ أدباً ذاتياً بعيداً عن واقع الحياة ودوافعها، بعيداً عن أحاسيس الجمهور وشعوره.
غائب طعمة قرمان
كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول(768/41)
من ديوان (الشرق)
موت فنان
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
رثاء فنان مسجى على فراش الموت وقد سكن كل شيء في الليل إلا من نحيب الباكين من حوله وقد حمل الأثير على أجنحته صدى صوته في أغنية من أغنياته
غناؤك العذْبُ الظلامْ ... يرنُّ في مِسمع الزَّمن
وأنت في قبضة الحِمامْ ... كالحُلم في قبضة الوَسنْ
أَأَنتَ يا صامتاً تؤوبْ ... أيامُه للمَدى البعيدْ
الصادحُ المرقصُ القلوب ... الساحرُ الفاتنُ النشيدْ؟!
أَأَنت. . .!؟ لا. . . أَنت غيرُه ... فأين لي شدوُكَ الجميلْ؟
قد فارَق العُشَّ طيرُهُ ... وهام كالحائر الضَّلُول
كم خيم الحُزنُ في رحابكْ ... ونام في ساحك الرنينْ
تمزَّقُ الليلَ بانتحابكْ ... وتُرعِشُ النجمَ بالأنين!
يا مُغرقَ الكون في الأغاني ... الكونَ يشتاقُ للهَزارْ
غرقتَ في لُجَّة الزمان ... فهل تعمقت للقرارْ؟
هجرتَ ألحانك العِذاب ... وعِشتَ في صمتك الحزين
تجرَّع اليأسَ والعَذابْ ... وتشربُ السُّقمَ والمنون
أأنت من حرَّك النفوس ... بصوته الساحر لرؤوم؟!
أأنت من أرقص الكؤوس ... أأنت من أرَّق النجومْ؟!
أأنت. . .؟! لا. . . أنت غيرُه ... فأين لي صوتُك الحنون؟
قد بانَ لِلَّيل فجرُه ... وأنت مُستلم الجفون!
أصمتك الموحشُ الكئيب ... يا هاتف الأمس سُخريَةْ
بعالَمٍ مُغرم يذُوبْ ... على ترانيم أُغنيهْ؟
قد غالك السُّقم واستبدْ ... وأنت في ميْعَة الشَّبابْ
سلمتَ قيثارة الأبدْ ... لجاهل لحنُه اضطراب(768/42)
يطوف في ساحك القدر ... مُجعَّدَ الجبهة اكتئابا
يضمُّ من كوبك الزَّهَرْ ... ويَحطمُ الفنَّ والشَّبابا
قد خفَّ في صمتك المنون ... برُوحك الحيَّة الصَّدى
فمتَّ في الليل. . والسكون ... يكفكفُ الطلَّ والندى
غناؤك العذبُ في الظلام ... يرنُّ في مسمع الزَّمن
وأنت في قبضة الحِمام ... كالحُلم في قبضة الوَسنْ
حسن كامل الصيرفي(768/43)
اذكريني. . .
للأستاذ عبد القادر القط
افترقنا. . فاذكري الماضي ولا تنسَيْ صداهْ
والمحي في كل محزون خيالاً من رؤاه
وإذا طالعت في دنياك ألوان الحياه
من شقاء وصفاء ومهانات وجاه
فأطيلي وقفةَ الآسي على النُّبل المهين
وصُبابات أمانيَّ وجاه. . . واذكريني
وإذا رفرفَ عصفورٌ بأجواز السحتبْ
مرِحَ الخفقةِ واللفتة صدّاحَ الإياب
وتدلى. . فرأى في العش أظفاره الخراب
ورأى أفراخهُ الزُّغب دماءً في التراب
فاذْرِ في من دمعكِ الغالي على الطير الطعين
ونفوس شفَّها ذلُّ التراب. . واذكريني
وإذا ألقت بأيديها إلى القيظ الظلال
واستباحت لفحةُ الشمس محاريب الجمال
ورنا الزهرُ إلى النور بأجفان ثقال
وتمشت في رحاب الكون أنفاسُ الكلال
فأحسَّى اللفحَ والضيقَ مع الظلَّ السجين
وانشُدي الرَّوْحَ لأبناء الكلالْ. . واذكريني
وإذ أتتْ على صمت من الليل الرياح
وتوارت في دياجي السحب آفاقُ الصباح
وأفاق الطير من نجواه مذعور الجناح
وصحت من حولك الدنيا على وخز الجراح
فدعي روحك تنسابُ مع اللحن الحزين(768/44)
وامنحي الرحمةَ أنضاء الجراح. . . واذكريني
وإذا ما خفق الشجو على سُمر الغصون
باكيات تاجها الأخضرَ في كفّ المنون
وتبدَّى الأفقُ الشاحبُ مقرورَ الجبين
وَطفت في خلَد الإعياء أحزان السنين
فابعثي في نفسك الممراح مطويَّ الشجون
وجراحات أَفرْتها السنين. . . واذكريني
عبد القادر القط(768/45)
الأدب والفن في أسبوع
تقديم الفائزين في مسابقة المجمع اللغوي:
أتينا في العدد الماضي على نتيجة المسابقات الأدبية التي احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بإعلانها في دار الجمعية الجغرافية الملكية، وقد حملنا التهيؤ للطبع على الاقتصار بذكر أسماء الفائزين وجوائزهم، ونذكر الآن أهم ما كان في هذا الحفل وخاصة تقديم الجوائز.
ألقى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كلمة عن الشعر قال فيها أن الشعراء الذين يظهرون في الأمم أكثرهم ينسون، لأن الشعر كسائر الفنون، لا يخلد فيه إلا الأعلون أو الذين يقول فيكتور هيجو أن حرارة نفوسهم تبلغ درجة الغليان التي ما فوقها درجة. وما أكثر من قالوا الشعر كل أمة وكل جيل من أجيالها، وما أقل من بقيت أسماؤهم مذكورة، لأن الأوساط لا يحصون وذاكرة الدنيا أضعف وأضيق من أن تعي غير الأفذاذ، والوسط كالرديء في ميزانها أو حسابها، كلاهما يسقط من الحساب أو يميل في الميزان.
ولقد تلقى مجمعنا في هذه المسابقة أكثر من ثلاثين ديواناً كلها من الوسط، فكان بين أمرين، لن يتشبث بالمثل الأعلى وذلك عزيز، أو أن يؤثر التشجيع وسبيله أهدى، فآثره، ونطر في الشعر الذي عرض عليه متسامحاً، واستخلص أربعة دواوين قسم الجوائز بين أصحابها، لتعذر المفاضلة الصريحة مع التقارب الشديد، ومن هذه الدواوين ما يجري على النهج القديم أو التقليدي، وما يؤثر نهجاً جديداً، وما يتبع القديم حيناً وينحرف عنه حيناً، ولكن فيها كلها اجتهاداً واضحاً وإخلاصاً بيناً، وثير مما تركت إجازته ليس دون هذه كثيراً، ولكنه كان لا بد من مقياس للمفاضلة، والمقياس هو وضوح الشاعرية وحسن الأداء ووفاؤه أو على الأقل سلامته من الشوائب.
وهكذا كاد الأستاذ المازني يخلع أصحابه من الشعر (مع الفارق بينه وبين أبي موسى الأشعري) كما خلع نفسه من قبل.
وقد قدم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف الفائز في البحث الأدبي (مهيار الديلمي وشعره) فأفاض في الثناء عليه وفي بيان قيمة بحثه، ولم يأخذ عليه شيئاً. . ومما يذكر أنه لم يقدم في مسابقة البحوث الأدبية غير هذا البحث وبحث آخر في (البيئة الأدبية في المدينة أيام(768/46)
بني أمية) وكانت المفاضلة بين البحثين، ففاز الأول.
وقدم الدكتور إبراهيم بيومي مذكور الفائزين في القصة، فعرف بكل منهما وبين أثر دراسته في أدبه، وقال أن قصة الأستاذ نجيب محفوظ (خان الخليلي) تمتاز بالروعة القصصية الفنية ولكن يلاحظ على أسلوبها عدم الدقة في الناحية اللغوية أما قصة (على باب زويلة) للأستاذ محمد سعيد العريان فتمتاز بصدق التاريخ وسلامة الأسلوب وصفاء الديباجة وصحة اللغة والعمل الفني فيها مقبول.
المعجم الكبير:
من قرارات مؤتمر المجمع الموافقة علة نموذج المعجم الكبير من حيث المبدأ، على أن يتابع السير فيه ويمد بما يتطلبه العمل من موظفين وخبراء.
وهذا المعجم مقرر أن يخرج بمقتضى المرسوم الملكي بإنشاء المجمع، ليكون شاملاً لألفاظ اللغة العربية وتحقيقها وبيان مشتقاتها بأسلوب جديد وعلى نمط يلائم التقدم العلمي الحديث. وقد اتفق على أن يكون الدكتور طه حسين بك مقرراً لهذا المعجم على أن يختار له مساعدين لإعداده، ومن بين هؤلاء المساعدين من يكون ملماً باللغات السامية باحثاً في العلاقات بينها وبين اللغة العربية، وقد طلب إلى الدكتور طه حسين بك وضع نموذج لهذا العمل يعرض على المؤتمر حتى إذا أقره أمكن المضي في إعداد المعجم على أساسه، فقام الدكتور طه ومعاونوه بوضع نموذج يتضمن مادتي (أبر) و (أجر) وأظهر ما في هذا النموذج تقسيم المادة الأصلية إلى معان رئيسية تتوزع الصيغ المسموعة في هذه المعاني، على أن يصدر كل قسم من أقسام المعاني الرئيسية ببيان ما يقابله في اللغات الأكاديمية والعبرية وغيرهما من الشقائق السامية، وكذلك تضمنت المواد بيان أهم الأعلام الجغرافية والتاريخية التي توافق هاتين المادتين، وأضيف إلى الصيغ العربية الأصيلة ما جد في الاستعمال العربي من مصطلحات وكلمات تجري في الشؤون العامة مما عنى بتسجيله دوزي ولين وغيرهما.
وقد طبع هذا النموذج وعرض على أعضاءه المؤتمر لدراسته ونوقش في إحدى جلساته، وأذن المؤتمر بالجري في وضع المعجم على هذا النسق بعد إبداء ملاحظات طلب أن تكون موضع النظر.(768/47)
وإدارة المجمع الآن بصدد اختيار المعاونين في وضع المعجم وعرض الأمر على مكتب المجمع لتدبير الوظائف وتقدير مكافآت المعاونين الذين يندبون من خارج المجمع.
الواجب الثقافي نحو الجنوب:
لبى الدكتور طه حسين بك دعوة رابطة الطلبة السودانيين إلى اختتام موسمها الثقافي بإلقاء محاضرة عن (واجب مصر الثقافي نحو الجنوب) بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية يوم الجمعة.
قال الدكتور طه: أن مصر قصرت في نشر الثقافة بالسودان تقصيراً لم يكن لها فيه حيلة لأنها كانت مكرهة عليه بل هو كتقصيرها في حق نفسها، لتحكم الإنجليز في شؤونها، واستمر تقصيرها الثقافي إزاء السودان بعد أن حصلت على استقلالها الداخلي وتمكنت من تدبير أمرها في التعليم، لأن الإنجليز حالوا بينها وبين السودان بخلق المشاكل التي بدأت بقتل السردار وإخراج الجيش المصري من السودان، وظل الإنجليز يخلقون المشاكل ويضعون العقبات في سبيل الثقافة المصرية بالسودان إلى اليوم، وأشار الدكتور إلى الصعوبات التي صحبت إنشاء مدرسة الملك فاروق الثانوية بالخرطوم، تلك الصعوبات التي لا يعرفها أكثر الناس والتي لا تزال قائمة إلى الآن. قم قال: على أنني أفترض أن هذه الصعوبات والعقبات لم تكن وأن مصر خلى بينها وبين تدبير أمر الثقافة بوادي النيل شماله وجنوبه، فماذا كان يحدث؟ كان لا بد أن تولي التعليم بالجنوب من عنايتها ما تبذله للشمال، فكانت تنتشر المدارس على اختلاف درجاتها في أقاليم السودان انتشارها في أقاليم مصر، وكانت جامعة فؤاد الأول بالقاهرة تستقبل الطلبة من الجنوب كما تستقبلهم من الشمال، وحين فكرت مصر في إنشاء جامعة ثانية لم يكن مكانها إلا الخرطوم قبل الإسكندرية. ولكن الإنجليز حالوا دون كل ذلك ليفرقوا بيننا في الثقافة، وفي الوقت الذي حاربوا فيه الثقافة المصرية في الجنوب أباحوا لأنفسهم ما منعونا منه فصبغوا التعليم هناك بصبغة إنجليزية وجعلوه على أوضاع تخالف أوضاع التعليم المصري، وأن مما يؤسف له أن المدرسة المصرية الوحيدة التي أنشأتها الحكومة المصرية بالسودان على منهاج التعليم المصري، تخضع لنظم الحكومات السودانية المركزية وتحكمها، ولا تظفر هذه المدرسة من الحرية في تدبير أمرها بشيء مما تظفر به المدارس الأجنبية في مصر.(768/48)
ثم انتقل الدكتور إلى الكلام على الوحدة الثقافية فقال إننا يجب أن نتفق على أن هذه الوحدة أساسها توحيد التعليم في جميع مراحله بجنوب الوادي وشماله، عدا ما تقتضيه أحوال الأقاليم الجغرافية والاقتصادية من اختلاف كالمتبع في مراحل التعليم الأولى بأقاليم القطر المصري، وقال أن وحدة الثقافة هي الخطوة الأولى والأخيرة والمتوسطة في وحدة الوادي، لأنها تشع في القلوب شعوراً واحداً وفي العقل تفكيراً واحداً وفي النفوس عاطفة واحدة، وحينما يتم ذلك لا يستطيع الإنجليز ولا مجلي الأمن ولا أية هيئة أخرى أن تفصل جنوب الوادي عن شماله.
وقال الدكتور: إننا ما دمنا مؤمنين بالوحدة الثقافية إيماناً حقاً لا رياء فيه فيجب أن نعمل على تحقيقها، وذلك بفتح المدارس المصرية على مختلف درجاتها وعلى مصاريعها للطلبة السودانيين، وإذا اختلفنا في التعليم بمصر أيكون للمصريين بالمجان أم بالثمن فلا ينبغي أن نختلف هذا الاختلاف بالنسبة إلى السودانيين، بل يجب أن يتعلموا في جميع المدارس المصرية بالمجان، ويجب أن تهيأ إلى جانب ذلك وسائل الحياة المطمئنة وتيسر لهم المشقات التي تنشأ في الانتقال من بيئة إلى بيئة، ويجب على الحكومة المصرية ألا تكتفي بذلك بل تبذل كل الوسائل لإغراء السودانيين بالتعليم في مصر. وهنا قال الدكتور: لقد احتملت مصر الامتيازات الأجنبية أربعة قرون، فمن واجبها أن تجعل للسودانيين امتيازات في التعليم نحو نصف قرن حتى يصلوا إلى المكانة التي وصلنا إليها فتعوضهم بذلك عما لحق بهم من ظلم في الماضي؛ وإلى أن يمن إنشاء المدارس في الجنوب كما في الشمال، بعد أي نوع من تعويق تعليم السودانيين في مصر إجراماً في حق الوطن.
تشجيع التأليف المسرحي:
وضعت اللجنة المالية بمجلس النواب تقريرها عن ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية لسنة 1948 - 1949. وقد جاء في هذا التقرير أن اللجنة رأت رفع الاعتماد المخصص لمكفآت المؤلفين للمسرح من 500 جنيه إلى 1500 جنيه، لأنها رأت أن المبلغ الأول تافه إلى حد نأى بكبار الكتاب عن الدخول في ميدان التأليف المسرحي مما أدى إلى حرمان المسرح المصري من جهود أولئك الكتاب وهبط بالمستوى الفني للمسرحية المصرية في الآونة الأخيرة بصفة عامة.(768/49)
وسائل النهوض بالسينما:
ومما جاء في ذلك التقرير خاصاً بالسينما أن اللجنة رأت في العام الماضي ضرورة وضع تشريع ينظم صناعة السينما في مصر، ويضع حداً للعوامل التي أدت إلى هبوط مستواها الفني، فقد كانت صناعة السينما في مصر قبل الحرب مزدهرة، وكان لإقبال الأقطار الشقيقة وترحيبها بالأفلام المصرية أثر بارز في هذا الازدهار ثم زاد ازدهارها إبان الحرب لعدم ورود الأفلام الأجنبية، لكن رجال المال تدخلوا في هذه الصناعة بغية الكسب، واستعانوا ببعض الفنيين الذي لم تتوافر لديهم الدراية الكافية في هذا الفن لحمل هذا العبء، ومن ثم هبط المستوى الفني، مما أثار الشكوى من ضعف الأفلام. وإلى جانب هذا التشريع رأت اللجنة وجوب إيفاد بعثة فنية إلى الخارج لتزود بأحدث ما وصلت إليه هذه الصناعة، كي تساير نهضتنا السينمائية جميع مراحل التطور السينمائي. ولكن الوزارة لم تخط نحو هذا العلاج أية خطوة، فالتشريع لم يصدر، والبعوث لم توفد. لهذا تكرر اللجنة رغبتها في وضع هذا التشريع سريعاً كما ترى إدراج الاعتماد اللازم في ميزانية إدارة البعثات لإيفاد أربعة شبان إلى أوربا وأمريكا لدراسة فنون الإخراج السينمائي وغيرها مما يتعلق بصناعة السينما. وتقترح اللجنة لدعم هذه الصناعة وتوجيهها إنشاء مجلس أعلى للسينما يضم الفنيين الممتازين، وترى اللجنة أن من وسائل التشجيع وضع جوائز قيمة للذين ينتجون أحسن الأفلام العربية فنياً واجتماعياً، لأن هذه الجوائز تحفز كبار المنتجين على خوض هذا المضمار. واللجنة لا تردد في أن تخطو هذه الخطوة من جانبها فترى إدراج 500 جنيه جائزة لأحسن فلم ينشأ خلال العام، على أن يكون المجلس الأعلى هو الحكم في وضع شروط هذه الجائزة وتقدير العمل ومنحه الجائزة التي يستحقها.
العباس(768/50)
البريد الأدبي
التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود:
جاء في مقال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي المنشور في العدد (764) من (الرسالة) الغراء تحت هذا العنوان ما يلي: (ثم سلط الله عليهم دولة الروم قبيل ظهور المسيح، فقضوا على دولتهم قضاء لا مرد له، وأجلوهم من فلسطين آخر جلاء، لأنهم كذبوا مسيحه وحاولوا قتله، وقتلوا ابن خالته يحيى بن زكريا قبله. . . الخ)
قلت: إن هذا لا يتسق والتسلسل الزمني للتاريخ، إذ كيف يقضي الروم على دولة اليهود ويجلوهم من فلسطين لأنهم كذبوا المسيح وحاولوا قتله قبل ظهوره؟
والذي تذكره المراجع التاريخية أن الروم احتلوا أورشليم على يد قائدهم بمبيوس قبيل ظهور المسيح، وظلت البلاد تحت حكمهم حتى استولى عليها العرب زمن الخليفة العادل عمر ابن الخطاب.
أما تدمير أورشليم وتشتيت شمل اليهود للمرة الثانية في التاريخ - بعد وقيعة نبوخذ نصر بهم - فكان سنة 135 ميلادية في عهد الإمبراطور دريانوس، وذلك بعد أن نفذ صبر الروم من كثرة الثورات التي كانوا يقومون بها والدسائس التي يدسونها ولن تقوم لهم قائمة إلى ما شاء الله. . .
وللأستاذ الصعيدي تحياتي وإعجابي.
(بغداد)
علي الشويكي
إلى الأستاذ علي بك حلمي:
جاء في عدد الرسالة (764) في مقالة (القتل في الشرائع) أن استشهدت على القتل في الإنجيل بما جاء في هذه الآية:
(سمعتم إنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لهم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيسر فحول له الآخر أيضاً).
وهذه الآية لا تتضمن في معناها سوى الحض على التسامح وعدم مقابلة الشر بمثله، ولا(768/51)
نلمح فيها جانباً يشير إلى القتل؛ وقد ذهبت نتيجة لذلك إلى أن الإنجيل تساهل في عقوبة القاتل. والصحيح أن الإنجيل نص على عقوبة القاتل نصاً صريحاً في الآية التالية من إنجيل متى:
(سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم أن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم ومن قال يا أحمق يستحق نار جهنم).
فإذا نستنج مما تقدم أن الإنجيل لم يحرم القتل ووضع له عقوبة فحسب بل حرم ما هو أقل منه بدرجات.
الرسالة - فلسطين
رزق عيسى زعرور
أسس التعليم الأولي:
أخرج الأستاذ (خورشيد عبد العزيز) المعلم بمدرسة (دميرة) باكورته الأولى. أسس التعليم الأولى في مصر (وكان ذلك نتيجة سنوات قضاها المؤلف في مزاولة مهنة التعليم، وهو في كتابه هذا يعالج مشاكل مختلفة تمس المعلم والتلميذ وغير ذلك مما هبط بذلك الضرب من التعليم. وهذه المشاكل إن عولجت فستظهر ثمرات التعليم الأولى في مصر، وسيلمس المواطنون تلك الرسالة التي يؤديها المعلم الأولى. ولم ينس المؤلف لن يسجل فضل رجالات مصر العاملين على نهضة التعليم وفي مقدمتهم أستاذنا الجليل الزيات وإنا لنحيي في المؤلف هذا المجهود والله ولي التوفيق.
علي زين العابدين منصور
تنبيه لا بد منه:
كثيراً ما يخلط الكاتبون بين استعمال (ثم) العاطفة و (ثم) التي بمعنى هناك للشيء البعيد دون القريب، وذلك بإلحاقهم التاء المفتوحة والمربوطة على كليهما دون مراعاة الأصل. والصواب ألا يدخل (ثم) العاطفة سوى تلك التاء المفتوحة لا غير. كقول من قال:
ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل(768/52)
أو كقول الآخر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
أما (ثم) المكانية التي بمعنى هناك، فلا يلحق بها إلا التاء المربوطة تمييزاً لها عن أختها العاطفة. .
وكلاهما يستعمل في لغة البيان، غير أن ثمت العاطفة ترد في الأعم الأغلب في الشعر دون النثر وذلك للضرورة التي يقتضيها الوزن في ساق القصيدة. فتنبه شكر الله لك.
(الزيتون)
عدنان
المجمع اللغوي وتشجيع الإنتاج الأدبي:
وافق المجمع اللغوي على إجراء مسابقة جديدة لتشجيع الإنتاج الأدبي وتوزيع جوائز على الفائزين على الأساس الآتي:
مائتا جنيه لكل من احسن إنتاجاً من الشعر العربي الفصيح سواء كان مخطوطاً أو مطبوعاً ومن أحسن قصة وضعت بالعربية الفصحى سواء أكانت مخطوطة أم مطبوعة منذ أكتوبر الماضي إلى أكتوبر القادم على ألا تقل القصة المقدمة عن مائتي صفحة من القطع المتوسط.
ومائتا جنيه لأحسن بحث بالعربية الفصحى عن أثر الحروب الصليبية في الأدب العربي في مصر والشام. ومائتا جنيه لأحسن بحث بالعربية الفصحى عن أبي الفرج الاصفهاني وكتاب الأغاني وألا يقل البحث المقدم في كليهما عن مائتي صفحة من القطع المتوسط.
وعلى الراغبين في الحصول على هذه الجوائز أن يرسلوا إلى المجمع اللغوي صورتين مطبوعتين أو مكتوبتين على الآلة الكاتبة من الموضوع المتقدم للحصول على الجائزة وذلك في موعد لا يتجاوز أول أكتوبر سنة 1948 والمجمع سيحتفظ بنسختي الإنتاج الفائز وللمتبارين أن يذكروا أسماءهم أو أسماء مستعارة وعليهم أن يكتبوا عنوانهم واضحاً ويوقعوا على كل صورة يقدمونها وتقدم الموضوعات المتباري عليها باسم لجنة الأدب بالمجمع.(768/53)
الكتب
ديوان أبي فراس الحمداني
حققه وحرره ووضع فهارسه الدكتور سامي الدهان
دكتوراه دولة في الآداب من باريس مع مرتبة الشرف
الممتازة
العصر الحمداني من أزهى عصور الأدب العربي عاش في ظله جمهرة من الشعراء خلد شعرهم على الزمان، وحفظت لهم العربية تراثهم في بطون الكتب يتداولها جيل بعد جيل مخطوطة بعد مخطوطة حتى كانت الطباعة فلم يلقوا منها ما لقي أقرانهم، ولم يظهروا على نورها كما ظهر أندادهم؛ فظلموا ظلماً لا يقره الأدب الرفيع وفيهم: النامي والناشئ والصنوبري وكشاجم وأبو فراس والسري الرفاء، وكلهم فحول أقوياء لو تفرقوا على العصور العربية لكان لكل منهم واحدها.
ولكن هذا الظلم قد انتهى - والحمد لله - فيما نعتقد، وانقضى اجله فيما نرى، بعد أن تصدى لهذا العصر الحمداني من عاصمة بني حمدان في القرن العشرين الأديب الباحث المحقق الدكتور سامي الدهان، يسعى في جمع تراث العصر الحمداني كله ليظهره على الناس كاملاً يزهو في القرن الرابع عشر الهجري كما كان في القرن الرابع. فهو يعمل في اختصاص دقيق كما يعمل علماء الغرب لشعرائهم سواء بسواء.
وهو إذ يخرج لنا اليوم (ديوان أبي فراس الحمداني) نرى في طيات عمله تهيئة كاملة، وإعداداً شاملاً لشعراء العصر كله، نرجو أن نرى أثره قريباً فيما ينشر من نصوصه ويظهر من متونه. ونلمس هذه المعرفة الشاملة للعصر الحمداني مما أثبت لنا حضرة الناشر في حواشي (الديوان) وتعليقاته، من وقوف على مخطوطات العصر، وشغف بمراحله، واضطلاع بكل ما فيه من شعر ونثر، وتأريخ وسير.
ونرجو أن يزهو الشعراء الحمدانيون جميعاً بعد قليل بدواوينهم كاملة كما يزهو اليوم (أبو فراس) بديوانه الجديد الذي حققه ونشره الدكتور الدهان بعد جهد نافع طويل وجد مثمر كبير، فقد مضى الشاعر وخلف بعده ما شدا به في جولاته، وما كان منه مع تلك الحياة(768/55)
لقريبة ما بين طرفيها، من شعر جمعه ديوانه على تقصير في الاستيعاب، وتخلف في تحرير الكلمات، وجنف عن إقامة الأوزان، وبعد عن التيسير بالضبط والشرح.
وغبر الديوان يخرج من طبعة إلى طبعة حاملا مع الأوزار الأولى أوزاراً أخرى، والناس قانعون من شعر الشاعر بما صح لهم في مبناه ومعناه، أو بما لان لتوجيههم فاستقام، متخففين مما استعصى على الفهم، وند عن الإقامة، فعاش من الديوان قلة. هذا غير شعر غاب عن النشر كثير خفي بإخفائه جانب من حياة صاحبه، وأخفى الاستغلاق جانباً آخر. وما لدراسة يتنازعها هذان نجاء من الزلل أو قرب من السداد.
ذكرت ذلك كله وأنا أنظر في ديوان أبي فراس الجديد الذي أخرجه حضرة الباحث المحقق، فقد وجدتني بين أجزاء ثلاثة كبار تربى صفحاتها على الثمانمائة، في ثوب جد أنيق. وكنت أجدني بالمس القريب بين صفحات تبلغ المائة أو تزيد عنها، في رثاثة وبذاذة. وجدتني أطالع جهداً جديداً على النشر في الشرق طالما رقبناه ورجوناه، فهذا استقصاء في المقابلة بنسخ من الديوان جاوزت الأربعين خف إليها الدكتور يحصيها ويجمعها، وكانت هنا وهناك في مكتبات الشرق والغرب، أفادت الكثير بما زادت وحررت. وهذا شرح لابن خالويه على الديوان بين تمهيد لقصائده وتفصيل لحوادثه وإبانة عن غوامضه لا عهد للناس به من قبل. وغير هذا وهذا مما جاء من إشارات إلى أماكن شعر أبي فراس من كتب الأدب والتأريخ، وفيها نفع واستئناس. ثم ما كان من إشارات إلى أماكن الحديث عن أبي فراس في هذه المراجع. صنع الدكتور الدهان بديوان (أبي فراس) هذا وغيره فوفاه ضبطاً وشرحاً وزوده بفهارس عشرة، بعضها للشعر المروي في كتب الأدب والتاريخ، وبعضها لما تفردت به هذه الطبعة ولم يحمله ديوان لأبي فراس قبل، وبعضها للمعاني والأبواب، ثم القوافي والأعلام والقبائل والأماكن والكتب والموضوعات.
ذاك عدا دوحة انتظمت بأصولها وفروعها الأسرة وما ضمنته المراجع. وعدا جدول تكاد العين تضل في سعته جمع المقابلات بين القصائد والنسخ الخطية في بسط واستيفاء.
هذا ديوان أبي فراس الجديد يدلل على ما بذل فيه من جهد وما حمل في سبيله من عناء. وقد حبس الدكتور الناشر على هذا العمل نفسه سنين عشراً بين إعداد وطبع. وما عشر سنين بكثير على مثل هذا العمل الجليل. وما أحوجنا ونحن بسبيل إحياء نصوصنا القديمة(768/56)
أن تكون لنا التفاتة إلى مثل هذا الاستقصاء لا نبالي امتد بها الأجل أم قصر.
وبين أيدينا مؤلفات عنى بها مستشرقون كتب لها الخلود وليس عليها إلا أن تعاد طبعاً؛ وليس بدونها أن يفضلها أبو فراس الحمداني. فما في الظن أنه تبقى لأبي فراس شيء في عالم الغيب لم يهتك عنه الدكتور الدهان ستراً، ولا مكتوبة من ديوانه لا تزال سراً. فما أحقه من عمل بالثناء، وأجدره من نهج بالجزاء، وأولاها من طريقة بالاقتداء. . .
إبراهيم الابياري
إبراهيم بن سيار النظام
تأليف الدكتور عبد الهادي أبو ربده
كتاب فلسفي أخرجه منذ عهد غير بعيد الدكتور عبد الهادي أبو ريدة المدرس بكلية الآداب وقد عرض فيه حياة النظام وآراءه الفلسفية سواء كانت آراء طبيعية تتصل بالجسم والحركة والخلق والكمون والتداخل، أو آراء أخلاقية أو سياسية تتصل بالخير والشر والجبر والاختيار والإرادة والاستطاعة، عرضها في نهج نظيم وأسلوب قويم. وقد تحدث الدكتور أبو ريدة إلى جانب هذا عن النظام من الناحية الفكرية فبين رأيه في الحديث ومسائل الفقه وتفسير القرآن وإعجازه، وذكر طرفاً من أدبه وشعره، ولكنه طرف موجز مقتضب؛ فالكتاب كتاب فلسفة وليس بكتاب أدب. وقد خصص الدكتور أبو ريدة فصلين في الكتاب أحدهما عن الله والآخر عن الإنسان لعلهما أروع ما في الكتاب.
ولي كلمة موجزة أحب أن أوجهها إلى الدكتور أبو ريدة بمناسبة إخراجه كتاب النظام والتمهيد للباقلاني وهي أننا كنا ننتظر منه شيئاً آخر؛ فالدكتور أبو ريدة يكاد يكون ألمانياً في حياته الخاصة ولا يرى إلا متكلماً بالألمانية بين ردهات الكلية؛ ولكن للأسف لم تستفد المكتبة العربية من ألمانيا شيئاً يذكر. وخليق به أن يترجم لنا عيون كتب الفلسفة الألمانية ويحدثنا عن الفلاسفة الألمان حديثاً مستفيضاً صحيحاً. ويظهر أن الدكتور يحس بقلة إنتاجه الفكري وقصر مدة تدريسه بالجامعة وهي سنتان فيلجأ إلى تلاميذه في البحث ومراجعة التجارب. والواقع أن الأستاذ أبو ريدة في وسعه أن ينتج كثيراً وأن ينتج شيئاً مرضياً أيضاً ولكنه يؤثر العافية! كتاب النظام كتاب قيم ما في هذا شك وقد ألجأ إلى تحليله في(768/57)
فرصة أخرى.
إبراهيم جمال الدين الرمادي
شباب قريش
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
خصبة ممتعة تلك الأبحاث التي تكتشف لك نواحي محجبة لم يجس خلالها فكر، ولا حلق في أرجائها خيال؛ فتكون بمثابة الرائد في عالم الفكر؛ يشوقك ويحفزك إلى التطلع والمغامرة بما يعرضه من صور وما يغريك به من مشاهد؛ فيكون أثرها في إثارة الهمم وشحذ القرائح عميقاً مثمراً من هذه الأبحاث - شباب قريش - في العهد السري للإسلام - فقد تناول - المؤلف - جانباً من تلك الجوانب الكثيرة المتشعبة في حياة الدعوة الإسلامية، وهو أثر هذه الدعوة في نفوس الشباب وتدفق تيارها القوي الفعال في نضارة قلوبهم الزاخرة الجياشة وكيف كان انفعال هذه النفوس بها وإيمانهم بمبادئها! حتى غدت تلك المبادئ وقد أصبحت جزءا من كيانهم الروحي والعقلي والخلقي؛ فوثبت تلك المبادئ بشبابهم واكتسبت الدنيا من إخلاصهم ونشاطهم ذلك الرداء الروحي والاجتماعي؛ البهيج حول تلك الرسالة وتلقى شباب قريش لها وبذل كل ما يدخل في الطوق بذله في سبيل تبليغها والتمكين لها.
أقام المؤلف هذا البحث فوفق في تجلية هذه الناحية وفتح لنا طريقاً جديداً لمن يريد أن يعالج هذه النواحي من الجانب النفسي والاجتماعي والتاريخي. وقد مهد المؤلف لتاريخ أولئك الشباب بنظرات عن سبق الشباب إلى الإسلام وأسماء الشباب والشابات؛ ثم أخذ يقدم لك هؤلاء الشباب صور موجزة طلية تدعو إلى الإيمان بأن كل دعوة لا يناصرها إخلاص الشباب وفداء الشباب مقضي عليها. نأمل أن يحدث هذا الكتاب في نفوس شبابنا ما أحدثته الدعوة الإسلامية في نفوس شباب قريش.
محمد عبد الحليم أبو زيد(768/58)
العدد 769 - بتاريخ: 29 - 03 - 1948(/)
من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة
- 6 -
يوم الأحد 29 يوليو سنة 1945:
أخذت الفتاة منذ يوم الكرسال تطاردني بالتليفون ثم بالرسائل ثم بالرسل تريد أن نتلاقى في شرفة فندق من الفنادق الكبرى، أو في مقصف حديقة من الحدائق العامة، فكنت أجيبها بالمعاذير، أو أعللها بالمواعيد، أو أدافعها بالمطل، حتى لجأت آخر الأمر إلى الخديعة فادعت أنها ملت حياة المدينة، وحنت إلى حياة الريف، وأنها تود أن تلقاني لقاء الوداع لأنهج لها الحياة التي تحياها في العزبة، وأنتقى لها الكتب التي تقرأها في العزلة، وأعين لها الغاية التي تتوخاها في المستقبل. فقلت لنفسي المرتابة: ولم لا يجوز أن يكون الله قد كشف للفتاة عن بصيرتها، وأراد للشاردة أن تعود إلى حظيرتها؟ ثم واعدتها السادسة من هذا اليوم في شرفة الكنتنتال. فلما التقينا أخذت تبتدئ في العتاب وتعيد، وتلوم على الصدود وتحتج، وتعبر عن الشوق وتبالغ، وأنا قبالتها هادئ النفس، رزين الشعور، أسمع عتابها ولا أعتذر، وأقبل احتجاجها ولا أعترض؛ حتى إذا قرت الفورة وسكنت الريح قلت لها وقد لاحظت أن لسانها قد طال وأن احتشامها قد قل: أرجو أن تكوني قد سئمت الجبل ولما يلقك الذئب يا بلانكيت!
فضحكت الفتاة بملء فيها، ثم قالت: أوه! أنا أسأم الجبل؟! لقد وجدت فيه حرية نفسي ومتاع قلبي؛ أما ذئابه فقد تألفتها حتى صارت كلاباً، وأما نموره فقد رضتها حتى عادت هررة.
- إذن ما هذا الذي تزعمين من أنك عزمت الرجوع إلى العزبة؟
- ماذا أصنع؟ جربت الصدق في استدعائك فأخفق، فقلت أجرب الكذب!
- أظنك تذكرين أني عينت مكانك مني في حديث سبق، فوضعتك في موضع البنت أو الأخت أو التلميذة. ولكنك عققت الأب، وجحدت الأخ، وعصين المعلم! فماذا عساي أن أملك لفتاة ركبت رأسها وظلمت نفسها وأنكرت حجاها؟(769/1)
- تملك أن تكون لها الصديق الذي يضاعف سرورها ويحفظ سرها؛ وتملك أن تكون لها الفنان الذي يرضى شعورها ويفهم شعرها. إن لروحي ما لجسدي من الرغائب والمتع؛ وقد أجد ما يلذ النفس والجسم في ملاهي القاهرة وأفاكيه الناس، ولكنني لا أجد ما يلذ العقل والروح في غير لقائك والحديث إليك.
لقد كنت وأنا في العزبة كلما أحسست أن هواي يستبد، وخطاى تتعثر، وخطاياي تثقل، كتبت إليك بما أعتزمت أو أجترمت، فأشعر بما يشعر به المسلم الذي تاب إلى الله فغسل بتوبته ذنبه، أو المسيحي الذي أعترف للقسيس فمحا باعترافه خطيئته.
كذلك وأنا هنا أحس بأثقال نفسي تهبط قواي، فأنا أريد أن أخفف منها بالاعتراف لك بها. وقديماً قالوا: لا ذنب لمن أقر، والاعتراف يهدم الاقتراف.
ثم استمرت الفتاة تقول دون أن تنتظر تعقبي على كلامها أو موافقتي على استرسالها:
ظفرت من أختي وزوجها بالحرية التي لا تحفل التبعة ولا تبالي المراقبة؛ ووجدت في أبنة أختي وصواحبها النمط الذي تجمعه وحدة الهوى وتملكه شهوة المغامرة؛ فالخروج غير مقيد بسبب، والرجوع غير محدد بزمن، والبيت كالفندق يجتمع فيه أهله للأكل والنوم ثم لا يسأل أحدهم الأخر أين كنت ولا متى جئت!
خرجت أول ما خرجت مع زوزو أبنة أختي إلى معارض الأزياء ومحال الزينة في شارع فؤاد؛ وكنا ساعتئذ في الضحى، والشبان يملئون طوارئ الشارع كأنما كانت المدارس في إضراب أو عطلة؛ فمشينا مشية العروس في ثياب الربيع ووشية، نقف هنا ونميل هناك، ونستحسن هذا ونستفتح ذاك ذاك، وزوزو تلمح اللمحة أو تبسم البسمة فتكون مغناطيساً يجذب القلب الحديد ويوهن الإرادة الصلبة. ثم ألتفت فإذا وراءنا أفراد وأزواج من الأيفاع والشبان والكهول، يوقعون خطاهم على ما نرسم، ويرهفون آذانهم لما نقول. فنبهت زوزو، فقالت أعلم! ثم مالت بي إلى معرض (شملا) فأخذنا نقلب النظر في معروضاته من وراء الزجاج، حتى وقع في اسماعنا صوت رقيق يدعونا إلى نزهة في (كرزلر)، فتشاغلنا فكرر، ثم تجاهلنا فأشار إلى العربة، فسرنا بجانبه صامتتين شامختين كأنما كنا ننتظر سواقنا ليرجع بنا في عربتنا إلى المنزل!
كان للفتى رفيق ينتظره في مكان القيادة من السيارة؛ فلما رآنا هش بوجهه ورحب بلسانه؛(769/2)
ثم فتح الباب، فركبنا نحن الأربعة إلى الجزيرة الشاي، فشربنا بالأكواب الصغيرة، وأكلنا في الصحون الكبيرة؛ ثم ساعدنا المعد على الهضم بجولة في الحديقة خرجنا فيها قليلا عن المألوف من المزح والدعابة. حتى إذا فثر الحر وهبت نسمات الأصيل، ذهبنا نستنشق أنفاس الصحراء من وراء (مينا هاوس)؛ ثم عدنا فقضينا الهزيع الأول من الليل في سينما (ديانا)؛ ثم رجعنا في كرزلر بعد العشاء إلى البيت، فوجدنا الصالون قد أخذ زينته بمن حضرن من صواحب زوزو، وكن يقضين ساعة أنتظارنا في العزف والقصف والرقص. فأخذنا مجلسنا بينهن، وأخذت كل واحدة منهن تنشر على الأخريات خوائن عينها ودفائن صدرها، فاستنتجت من جملة أحاديثهن وحوادثهن أنهن يغامرن إما طلباً للزواج، وإما رغبة في المال، وإما أبتغاء للهو، وإما حباً للزهو؛ فاللائي يطلبن الزواج يتعرضن للشباب أو الأعز اب، يترصدنهم في كل طريق، ويتصيدنهم بأي وسيلة. واللائي يرغبن في المال يتوخين الكهول والشيوخ، فيبذلن لهم ظواهر اللذات أو بواطنها أبتغاء الهدايا من ثياب وزينة وعطر. واللائي يبتغين اللهو يخترن ذوي الوجوه الحسان والطباع الفكهة، فيساقينهم كأساً بكأس، ويبادلنهم متاعاً بمتاع. واللائي يحببن الزهو ينشدن أولى الجاه والنعمة، فيراكبنهم في العربات الفخمة، ويجالسنهم في الحفلات العظمى. وهؤلاء جميعاً قد ينجحن، إلا طالبات الزواج فإنهن بالتجربة يخسرن حيث يرجون الربح، وينقصن حيث يبتغين الكمال.
تركت زوزو تذهب إلى موعد الشابين في عصر اليوم التالي ومضيت وحدي إلى مواطن الفتنة ومزالق الصبي لشعر بعزة الأستقلال، وأنعم بلذة المغامرة. فما كان أدهشني حين علمت من نفسي أني فتانة بالطبع، خداعة بالفطرة، ألحظ فيصبو الشيخ، وأفتر فيخيف الحليم، وأشير فيعنو المتكبر، وأطلب فيسخو البخيل؛ وأقلب في كفي النفوس والقلوب فلا أجد نفساً تتأبه عن ضراعة، ولا قلباً يتأبى على أمرأة!
أولعت على الأخص بتجار الكلام من المحامين والصحفيين والممثلين، لأنهم يحسنون الحديث، ويجيدون الكتابة، ويحملون الواقع. وقد أغويت منهم حتى اليوم أربعة عشر رجلا بين شاب وكهل، وغني وفقير، وكيس وأحمق! وسأقص عليك حديث كل منهم لتعلم كيف يجعل الله من الرخاوة سلطاناً ومن الضعف قوة. فقلت لها وأنا أصفق للنادل وأتهيأ للقيام:(769/3)
حسبي يا أبنتي! لقد رأيت العينة وسمعت البينة. وما أحسبك تذكرين هذه المخازي لتندمي عليها وتتوبي منها؛ إنما تذكرينها كما تذكر العاشقة ما جرعت من رحيق الحب لتلتذ؛ وتجترينها كما تجتر بلانكيت ما أكلت من زهور المرج لتهضم. لا يغرنك يا مسكينة أنك لقيت أربعة عشر خروفاً في السهل وزيادة، فإنك عما قليل ستلاقين ذئباً واحداً في الجبل وكفى!
(النهاية في العدد القادم)
أحمد حسن الزيات(769/4)
بين المهابة والعدل
للأستاذ عباس محمود العقاد
بارك الله في سيرة أبن الخطاب حياً وميتاً. أي رجل كان؟
إنه ليعمل ما دام يذكر، وإن أثره بعد موته بأربعة عشر ألف سنة لمن أكبر آثار هذه الحياة الخالدة. فإن أكثر من عشرين ألف شاب في مقتبل الحياة يشغلون اليوم عقولهم ونفوسهم بفهم العظماء العمرية في شتى مناحيها، وليس أنفع للشاب الناشئ من عرفانه بهذه السليقة العظيمة وهذا الخلق العظيم.
ومن أحب الأشياء إلى أن أتلقى في البريد، حيناً بعد حين، سؤالاً من طلاب العلم الناشئين يدل على عنايتهم بالنفاذ إلى حقيقة هذا الرجل النادر الذي يقل نظراؤه في تواريخ الأمم كافة. فإن العقول الفتية لن تسمو في أفق النبوغ بمعراج أشرف من هذا المعراج ولا اوثق منه في اساسه المكين.
وقد أخذت نفسي بالإجابة عن كل سؤال من هذه الأسئلة ينتظره مؤلف الكتاب من قرائه المجتهدين في استيعاب معانيه. وحدّ هذه الأسئلة أن تدور على الموضوع ولا تنحصر في معاني المفردات، لأن المفردات من شأن المعجمات التي تتداولها الأيدي وليست من صميم الموضوع الذي يرجع فيه إلى المؤلفين.
ومن هذه الأسئلة هذا السؤال من الأديب صاحب الإمضاء قال بعد تمهيد نشكره عليه:
(. . . . لقد كنا نقرأ في باب إسلام عمر فغمضت علينا نقطة فأردت أن أرسل إليكم كتاباً أرجو فيه التوضيح، وترددت كثيراً ولكني تشجعت وكتبته. فأود أن تفسحوا صدركم الرحب لهذا السؤال.
(ذكرتم في باب إسلام عمر أنه بعد أن أسلم أبى إلا أن يخرج ليضر به أناس كما كان يضرب أناساً في سبيل ذلك الدين، وأنه سار إلى الناس يضربونه ويضربهم إلى آخر ما في هذه القصة، وهي إن اتفقت مع عدل عمر وحبه للمساواة، فإنها تناقض مهابته وشجاعته. إذ من كان يجرؤ على أن يمد نظره - فضلاً عن يده - إلى عمر رضي الله عنه وهو الذي تنحنح مرة والحجام يقص شعره فما كان من الحجام إلا أن ذهل عن نفسه وكاد أن يغش عليه. وكذلك في قصة هجرته التي رواها علي رضي الله عنه: قلتم إنها تدل(769/5)
على شجاعة عمر وعدله، وأنا أرى أن هذه القصة - وأن كانت برهاناً ساطعاً على شجاعة الفاروق - فإنها لا تحمل من معانيها أي شيء من العدل. . .
(هذا ما أردت أن أسألكم فيه. . . والسلام عليكم ورحمة الله.
فتحي زكي الحداد
بمدرسة شبين الكوم الثانوية
ولا شك أن سؤال الطالب النجيب له وجهه، أو له ما يسوغه؛ ومن مسوغاته على الأقل توضيح شيء في علم النفس، يتعلق بحياة ذلك الرجل العظيم، كما يتعلق بكل حياة.
فالتناقض لا يكون إلا في أختلاف الأثرين لصفة من الصفات في حالة واحدة، أو حالات متشابهة.
أما إذا اختلفت الحالات واختلفت الآثار، فلا تناقض هنالك على الإطلاق.
لأن الاختلاف يؤدي إلى الاختلاف، ولا يؤدي إلى اتفاق.
ورب عمل واحد يؤدي أختلاف مناسباته إلى أختلاف الحكم عليه، حتى الحكم عليه في إحدى المناسبات نقيض الحكم عليه في مناسبات أخرى.
فأنت تقدم الطعام إلى السائل الجائع فأنت محسن اليه وهو في مقام المحتاج إليك!
وأنت تقدم الطعام إلى صديقك فهو يسرك بذلك كما تسره، ولا تقف منه في هذه الحالة موقف صاحب اليد العليا من صاحب اليد السفلى، كما يقولون في مواقف الإحسان.
وأنت تقدم الطعام إلى أميرك فيشرفك أن يقبله ويستجيب دعوته، ويوشك أن يكون محسناً إليك بقبول طعامك، ولا تكون أنت المحسن إليه.
والعمل هنا واحد وهو تقديم الطعام.
ولكن أختلاف المناسبة هو الذي يوجب أختلاف الحكم عليه إلى هذا المدى الواسع من الاختلاف.
ونقترب من المثل في إسلام عمر فنقول: إن البطل الرياضي مخيف إذا وقف في حلقة المصارعة، لا يقترب منه كل مصارع إلا إذا أنس من نفسه القدرة على الصمود له والأمل في التغلب عليه.(769/6)
ولكن هذا البطل الرياضي يعلم تلاميذه ويتعرض لمنازلتهم ويدعوهم إليها، فيتقدم له أصغرهم وأكبرهم على السواء، وربما تعمد أن يتمكنوا منه ليريهم كيف يكون التمكن من الخصوم. فلا يشعرون بين يديه بتلك الهيبة التي يشعر بها خصومه عند الجد في الصرع.
ونقترب خطوة أخرى فنقول: إن الطفل يهاب الرجل الكبير ولا يخطر له أنه قادر على ضربه، ولكنه إذا علم أن أباه، أو أن رجلا في قوة أبيه، يستدرجه إلى ملاكمته هجم عليه ونسى الفارق بين قوته وقوة ذلك الرجل الكبير.
وعمر بن الخطاب كان يتعمد أن يتعرض للضرب في ذلك الموقف، ويسعى بنفسه إلى ضاربيه.
وكان المشركون يعلمون ذلك من عمله ومن كلامه، ثم يعلمون أنه رد جواز خاله لأنه لا يريد أن يحتمي من ضربهم بذلك الجوار.
ومهما يبلغ من مهابة إنسان، فإن المهابة لا تمنع أن يتكاثر عليه عشرون أو ثلاثون وهم في حماسة الغيرة على العقيدة حول البيت وأصنامه. ثم ينجلي لهم الخطأ بعد التجربة (حتى يحجموا عنه ويفتر من طول الصراع) فيجلس وهم قائمون على رأسه يثلبونه، وتمنعهم مهابته مع ذلك كله أن يجهزوا عليه، وهو متعب بين الفتور.
وينبغي أن نذكر هنا أن حماسة الدين كانت تضاف إلى مهابة عمر بعد إسلامه، فإن حماسة المسلم لدينه كانت تزيد مهابته لهذا المسلم العظيم.
أما حماسة الدين في أنفس المشركين فقد كانت تثور على هذه المهابة ولا تضاف إليها. فهي هنا من أسباب الأجتراء وليست من اسباب التوقير.
وقصة الهجرة التي رواها علي رضي الله عنه هي كما قال: (ما علمت إن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً إلا عمر ابن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وأنتضى في يده أسهماً وأختصر عنزته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها. فطاف بالبيت سبعاً متمكناً ثم أتى المحراب فصلى، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة يقول لهم: شاهت الوجوه. لا يرغم الله إلا هذه المعاطس! من أراد أن يثكل أمه أو يوتم ولده، أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي. . .)
وقد عقبنا على ذلك فقلنا (إنه كان في تحديه هذا لقريش عدنان: شجاعته وعدله).(769/7)
والطالب الأديب يقول إنه يرى في هذه القصة دليل الشجاعة ولا يرى فيها دليل العدل.
وليست الشجاعة والعدل نقيضين.
وإنما تعرف الصفات بالبواعث عليها، أو بالنيات كما قال النبي عليه السلام. فتكون الشجاعة على الظلم على قدر النفور منه وأنطباع النفس على الإنصاف.
ولو كان أبن الخطاب يقصد إلى الهجرة وكفى لما كانت به حاجة إلى هذا التحدي في حرم الكعبة.
ولكنه تحدي الظلم من فرط شعوره بالعدل.
وقد كان يشتد على المسلمين وهو مشرك، فليس من الإنصاف أن يتراجع عن المشركين وهو مسلم.
ولقد رأينا أن صديقه أبا بكر لم يستثره بكلمة حين أراد أن يستثيره لحرب الردة كانت أفعل في نفسه من قوله: أجباراً في الجاهلية وخوراً في الإسلام!.
فكانت شجاعته هنا منوطة بعدله، وكان عدله هو الذي أوجب عليه أن يقدم بعد إحجام، ولم يكن إحجامه لقلة الشجاعة فيه؛ بل أحجم حتى لمس موضع العدل في المعاملة، فأشفق أن يكون له ميزان في الجاهلية وميزان في الإسلام.
إن الشجاعة تصدر في النفس من بواعث كثيرة: تصدر من حب الأستعلاء فلا تبالي بظلم الضعفاء.
وتصدر من حب الإنصاف فلا تبالي بقوة الطغاة.
وتصدر من الطمع أو من السورة الحيوانية، أو من جهل العواقب، أو من غفلة الحس عن مواطن الخوف.
فأي هذه الشجاعات كانت شجاعة أبن الخطاب؟
إنها شجاعة الرجل المطبوع على العدل، والرجل الجريء على الظالمين، والرجل الذي يأبى أن يصيب مخطئاً وأن يسلم من المصاب ما أصيب غيره من المسلمين.
ولو لم يكن حب العدل مصدراً من مصادر تلك الشجاعة لكفاءة أن يهاجر، وأن يدخر شجاعته لمن يلقاه، حين يلقاه.
ولكنه تحدى المشركين؛ لأنه كان من قبل يتحدى المسلمين، وكان هذا التحدي هو(769/8)
المقصود. ولم تكن شجاعته هي المقصودة لأن شجاعته تثبت له بلقاء من يتعقبونه، حينما تعقبوه.
أما العدل فهو الذي يوحي اليه ألا يكون الظالم في نظره أعز من المظلوم.
ذلك هو عمر في صميم ضميره. شجاع لأنه عادل لا يقبل الظلم، وعادل لأنه شجاع يقدر على الظالمين. وقد تنفصل طبيعة الشجاعة وطبيعة العدل في نفس غيره. . أما في نفسه الشريفة فلا تنفصلان رحمه الله ونفع الناس بقدوته العالية ما ذكره الذاكرون.
عباس محمود العقاد(769/9)
هيئة الأمم تترنح وتتداعى
للأستاذ نقولا الحداد
مات مشروع التقسيم (تقسيم فلسطين) وماتت معه هيئة الأمم، ثم مات وليدها (مجلس الأمن). فإن تكن الأم وأبنها لم يموتا بعد فإنهما في حالة النزع. ولن يسير في جنازتها سوى بني إسرائيل الذين كانوا ينوون أن يجعلوهما مطيتين للوصول إلى عرش السيادة على العالم ولكن العناية الإلهية لا تشاء أن يكون سطح الكرة الارضية كله أرض الميعاد، ولا أن يكون أرض ميعاد على مدى الزمان. إن هؤلاء الناس قد خدعهم غرورهم وغرر بهم وعد موسى أولاً ثم وعد بلفور ثانياً. فمشوا في طريق وعر، فإذا هم يقعون في واد عميق تحطمت فيه آمالهم كلها.
ظننا أن الحرب الأخيرة كانت عبرة لساسة الأمم يتعلمون منها أن الجنس البشري لا يعمر على الأرض إلا على أساس السلام، وأن السلام لا تقوم له قائمة إلا على أساس العدل، وأن المرشد إلى العدل هو الضمير الصالح؛ كذا كنا نظن، فإذا بنا نرى حمامة السلام على الأرض مذبوحة تتخبط بدمها.
وكنا نظن ايضاً أن هؤلاء الساسة أدركوا في نور الحكمة السياسية أن الناس وهم أمم متفرقة يتعذر أن تتفق مصالحهم وتهمد غلواء مطامعهم في هذا العصر الذي تهدمت فيه الحدود بين المماليك، وأصبحت الأمم متشابكة في المعاملات رغم أنوفها، فيصعب أن يتفق ساستها على الأتحاد الاجتماعى، وأصطنعوا للجنس البشري كله نظاماً عاماً يربط بعضهم ببعض ويتفادون به الاحتكاك المثير لحروب عالمية. فإذا بنا نراهم يزيدون شقة الخلافات بينهم أتساعاً بحيث يستحيل الوئام والسلام.
ثم رأينا أنهم أنشئوا المنشأة العظمى - هيئة الأمم - ثم المنشأة الصغرى - مجلس الأمن - التابعة لها، فاستبشرنا باهتداء الوجدان العالمي إلى أن السبيل الوحيد إلى اتحاد الأمم وتفادي خصوماتها هو إنشاء دولة عالمية كبرى تجمع جميع الدول وتقيم لها نظاماً عادلاً عاماً ينصفها بعضها من بعض ويوزع أسباب المعايش لها جميعاً بالتساوي المتناسب. وأملنا أن العالم سيعيش في ظل هذا النظام الدولي بسلام متمتعاً بما أسبغ الله عليه من نعم الأرض.(769/10)
هذه كانت أمنية جميع الناس المفكرين في كل دولة على الكرة الارضية.
ولكن وا أسفاه ما لبثنا أن رأينا أن (ريمة عادت إلى عادتها القديمة) - عاد التنازع الدولي أشد فجوراً منه قبل الحرب. رأينا أن هيئة الأمم ليست برلماناً دولياً كما كنا نظن، ولا مجلس الأمن وزارة دولية كما اعتقدنا، بل رأينا أن هذه الهيئة ليست إلا ساحة لاقتسام الغنائم، وأن اجتماعات بأشكال مختلفة، كل دولة على قدر مالها من حول وطوح، وإذا بالقوى يمعن بالنهب والسلب والضعيف المنهوب يصرخ متألماً من تمزق لحمه عن عظمه.
يعني أن هذا النظام الدولي الجديد لم يكن إلا محمياً شيطانياً جهنمياً ينذر العالم بثورة قادمة مآلها هلاك الجنس البشري أو انقراض المدنية على الأقل.
جعل الميثاق الإتلانتي دستوراً لهيئة الأمم. وهو يقضي بأن تلغى الانتدابات وتبطل الحمايات وتنتهي الاحتلالات ويترك لكل أمة أمر مصيرها تقرره بنفسها كما تشاء، وأن تكون حقوق الأمم كحقوق الإنسان، والحرية والإخاء والتساوي في الشؤون السياسية. وإذا بنا نرى مجلس هذه الهيئة يخالف جميع نصوص الميثاق من غير تورع وليس عنده حرمة لدستوره أو لأي قانون دولي.
فيسمح لإنكلترا مثلا أن تبقى جيوشها في مصر والسودان والعراق وغيرها. ويقرر بأن تذبح فلسطين وتشطر شطرين يعطى منهما شطر لشعب أفاق ململم من ممالك مختلفة لكي ينشئ لنفسه دولة جديدة دينية في فلسطين، في حين أن دساتير هذا العصر ى تعتبر الدين دولة أو مملكة.
لا لزوم لإيراد أمثلة أخرى لتمرد هذه الهيئة على دستورها وعلى الميثاق الذي استندت اليه. فكأنها حكومة عالمية. ولكن بلا دستور ولا قانون ولا وازع عن الاعتداء والطغيان.
ولا مستند لها في أحكامها إلا المطامع الأشعبية. فهل يمكن أن تستقر حكومة أو دولة أو هيئة دولية على أساس التناهب والإعتداء والجشع؟.
ما فقدت هيئة الأمم هيبتها بسبب أنها لا تحرز قوة لتنفيذ أحكامها، بل فقدت هيبتها لأنها فقدت ثقة العالم بها، وإلا لزودها العالم ببوليس دولي ينفذ قراراتها العادلة. ولكن العالم رأى أنها لا تستند إلى القوانين القويمة في أحكامها وخشى أن تتورط في الظلم والعسف فتاب عن تأييدها. ولهذا يتحفز العالم لنعيها.(769/11)
إن التاريخ منذ نشوئه إلى مئات القرون التي عبرها يذيع بصوت جمهوري وبصراحة أنه ما من دولة أو مملكة صمدت جيلا أو بضعة أجيال على مخالفة القوانين القويمة ونقض النظم الصالحة بل كان الاستبداد والاعتساف ونقض القوانين أسباباً لتقوض أركانها وتداعي بنيانها وتضعضع كيانها.
إن هيئة الأمم هذه تترنح الآن متداعية للسقوط لذلك السبب عينه وهو السبب الطبيعي لسقوط كل بناء اجتماعي وهيئة ودولة ونظام بشري وحكم إنساني منذ نشأ الإنسان اجتماعياً إلى الآن.
فلنبك هذا النظام الاجتماعي العالمي (هيئة الأمم) الذي كنا ننشده ونتمنى أن يكون فتحاً جديداً لملوك السلام على الأرض.
ما أسخف هذا الإنسان.
بل ما اسخف اساطين الساسة هؤلاء.
إذا كان رجل واحد يضحي بالعدالة ويفادي بالسلام ويذبح الحق ذبحاً على مذبح أنانيته - إذا كان يفعل هذه وأكثر منها لكي يرقى إلى كرسي رئاسة الولايات المتحدة فهل تحسب هذا الرجل إنساناً صالحاً للحكم؟ هل يصلح هذا الرجل أن يدير شؤون أمة مؤلفة من 135 مليون نسمة في الدرجة العليا من الرقي؟ وبماذا نميز بين الرجل الذي يضحي بسلام العالم وأمن الأمم الصغيرة ومصالح شعبه الحيوية على مذبح شهوته وغرامه بالرئاسة - بماذا نميزه عن إبليس الرجيم؟
لا يتورع عن أن يرصد 300 بليون ريال لحرب قادمة قد تكون ماحقة ساحقة. لا يتورع بأن يغتصب من ملايين الأمة هذه البلايين لكي يجعلها وقيداً لملايين الشباب في حرب أصارها على الأبواب.
مهلا يا هذا إلى أن يتنفس العالم الصعداء بعد هلاك الملايين من الأرواح وضياع الملايين من الأهوال. مهلا إلى أن يشبع الجائع ويدفأ العريان ويرتاح المتعب.
إن عصر الآلات الذي نحن فيه كفيل بأن يعيش الناس كلهم برغد في عمل اسبوع واحد من كل شهر وأن يرتاحوا أربعة أسابيع. ولكن هؤلاء الساسة الشرار لا يتورعون أن يستغلوا الناس شهراً كاملا لكي ينفقوا تسعة أعشار نتاجه في التقتيل والتخريب.(769/12)
من أين يأتي ترومان بثلاث مائة بليون لأجل الحرب؟ أليس من مجهود قومه في العمل مدة 30 يوماً في كل شهر.
ليست هذه الجريمة جريمة ترومان وحده، بل هي جريمة كل سياسي من ساسة العالم الذين يلعبون بشؤون الأمم.
لقد نكب العالم بطبقة من الناس ليست على قدر كاف من العلم ولا على شئ من الحكمة ولا على ذرة من الضمير الصالح.
ألا رحمة الله على أفلاطون الذي توصل بحكمته (فلسفته إلى معرفة أن الدولة لا تصلح لإدارة شؤون الأمة ولا تعيش طويلا إلا إذا تولى أمورها فلاسفة. لأن الفلاسفة تنطبع نفوسهم على حب العدالة بحكم فلسفتهم. وإدارة الدولة لا تحتاج إلا إلى كثير من العدالة وقليل من العلم.
الأمم الآن فقيرة بفلسفة أفلاطون وغنية بفلسفة نيتشه الذي نادى بالسورمان (الإنسان المتفوق). فتفوق من أتباعه على غرار فلسفته غليوم الثاني وهتلر الأول. فذهبا ضحية فلسفته - رحم الله الثلاثة جميعاً.
نقولا الحداد.(769/13)
ومضات فكر
للأستاذ أنور المعداوي
أفق. . . وأفق!
مسيو أندريه جيد - كما لا يخفى على القراء - عميد من عمداء الأدب الفرنسي المعاصر، وكاتب لم يشأ أن يحتل مكانه في الأكاديمي فسرانسيز، وهو بعد ذلك قد ظفر بجائزة نوبل للأدب عن عام 1947، ولكن منزلته الأدبية ظلت فترة طويلة وهي مترجحة بين آراء النقاد من خصومه وأنصاره؛ أما خصومه فينظرون إليه نظرة قوامها أن شهرته أكثر من علمه. وما زلت أذكر رأي الناقد الفرنسي هنري بيرو في أندريه جيد حين وصفه بأن عقيلته منظمة ولكنها قليلا ما تبدع، وأنه كاتب ضيق الأفق إذا ما قيس بغيره من أصحاب الآفاق الرحيبة! وكنت اقول لنفسي إن بيرو ينفس على الرجل شهرته، وإن رأيه فيه رأي أملاه الهوى ولعل ما بينهما من خصومة قد دفعه إلى أن يهاجم فنه بهذا النقد الذي يفيض قسوة ومرارة.
كنت أقول لنفسي هذا قبل أن أقرأ (الباب الضيق) لأندريه جيد، ورسالته إلى معربه حين سأله أن يأذن له بنقله إلى العربية. . . . ولكني رجعت بذاكرتي إلى الوراء بعد أن قرأت رسالة الأديب الفرنسي إلى معرب كتابه؛ رجعت بذاكرتي إلى رأي هنري بيرو في أندريه جيد حين وصفه بأنه كاتب ضيق الأفق إذا ما قيس بغيره من أصحاب الآفاق الرحيبة، وانتهت إلى أن بيرو قد يكون متجنياً في اتهاماته الأخرى، ولكنه لم يعد الحق حين رمى جيد بضيق الأفق! ولعل أقوى دليل يمكن أن أقدمه إلى القراء هو أن أنقل اليهم فقرات من رسالته إلى معرب كتابه (الباب الضيق) يقول فيها (. . . ترجمة كتبي إلى لغتكم؟ إلى أي قارئ يمكن أن تساق؟ وأي الرغبات يمكن أن تلبي؟ ذلك أن واحدة من الخصائص الجوهرية في العالم المسلم، فيما بدا لي، أنه وهو الإنساني الروح يحمل من الأجوبة أكثر مما يثير من أسئلة. أمخطئ أنا؟ هذا ممكن. ولكني لا إحساس قط كثير قلق في نفوس هؤلاء الذين كونهم القرآن وأدبهم. إنه مدرسة للطمأنينة قلما تغرى بالبحث، وهذا فيما أظن هو الذي يجعل تعليمه محدوداً! وأحسب أن ليس في كتبي كلها أبعد عما يشغل نفوسكم من كتابي (الباب الضيق)، فبم يستطيع هذا الظمأ الصوفي الذي صورته هنا أن يمس نفوساً(769/14)
هي قعيدة اليقين)؟.
إن رجلاً هذه نظرته إلى من كونهم القرآن وأدبهم لرجل ضيق الأفق ما في ذلك شك؛ وإن الحياة العقلية في الإسلام، تلك الحياة المليئة بالنضال الفكري في القرنين الأول والثاني للهجرة، والتي كانت ميداناً هائلا لتطاحن الآراء والأفكار حول هذا الدين وما يثيره في النفوس من قلق وجدل وأسئلة، لتزلزل كل كلمة من كلمات أندريه جيد. إنه لم يقرأ شيئاً عن الفرق الدينية المختلفة التي لنا في فضلها الفكري من أدب وعلم وفلسفة تراث قد تعتز به العربية على مر الأجيال! ولو أنه قرأ ما كتبه المستشرق الألماني جولد تسيهر عن العقائد الإسلامية، أو ما كتبه المستشرق الألماني لويس ماسينيون عن التصرف الإسلامي، لما هرف بما هرف، ولما أرسل القول على عواهنه، ولكنه كما قال هنزي بيرو بحق: كاتب ضيق الأفق إذا ما قيس بغيره من أصحاب الآفاق الرحيبة!
هذا أفق ضيق نضعه أمام أفق آخر لأديب آخر هو توماس كارلايل في كتابه (الأبطال)، ولو أن الزاوية التي نظر منها كارلايل إلى الإسلام تختلف عن الزاوية التي نظر منها جيد، ولكنها زاوية تضع الفارق من أجل الحلال وأشرفها ألا وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الارض، والناس في الإسلام سواء، والاسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضاً حتماً على كل مسلم وقاعدة من قواعده، ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل فتكون جزءاً من أربعين من الثروة تعطى للفقراء والمساكين. جميل والله كل هذا، وما هو إلا صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة ينبعث من فؤاد ذلك الرجل محمد أبن القفار والصحراء). . .
كلام أديب؛ حين يكون الأدب ومضة فكر، وخفقة قلب، واستجابة شعور. وحديث عالم؛ حين يكون العلم سعة إطلاع، ورجابه أفق، وسلامة تقدير!
كرامة فنان:
هذه قصة عن العبقري الإيطالي مايكل انجلو، قليلة الألفاظ ولكنها كثيرة المعاني. . . وتستطيع بعد قراءتها أن توافقني على أن خير عنوان يمكن أن يوضع لها هو هذا العنوان (كرامة الفنان).(769/15)
إنها قصة فريدة تتمثل فيها غيرة الفنان على فنه، وثورته على كل من يمس كرامة العبقري أو ينال من جلالها، ولو كان المعتدي هو البابا يوليوس الثاني. . .! قرأت هذه القصة وعجبت كيف يجرؤ مايكل انجلو على أن يقف من البابا موقفاً لا يستطيع أن يقفه ملك من ملوك أوربا في القرن السادس عشر! ولكنه الفنان. . . الفنان الذي كان يشعر في أعماق نفسه أن قداسة فنه لا تقل منزلة عن قداسة الكنيسة!
لقد ترامت إلى البابا أنباء العبقري الشاب الذي بهر فلورنسة بعظمة آثاره الفنية في الرسم والنحت، فأرسل يستدعيه ليزين جدران القصر البابوي وردهاته بمعجزات فنه الخالد. . . .
ومثل رجل الفن أمام الدين، وكان لقاء أفاض فيه البابا على الفنان كثيراً من عطفه وتشجيعه. . . وحين طلب أنجلو مائة ألف (سكودي) أجراً لعمله قال البابا: فلتكن مائتي ألف يا سيدي!. . . وبدأ الفنان العظيم يستلهم الوحي في صوره وتماثيله، ويبعث فيها الحياة تنبض في كل ناحية من نواحيها، مما جعل يوليوس يحله من نفسه مكاناً لا يدانيه مكان. ودب الحقد والحسد في نفوس رجال القصر لهذه المنزلة الرفيعة التي حظى بها أنجلو فوشوا به إلى البابا. . . ويفاجأ يوماً بأحدهم يقول له في لهجة لا تخلو من وقاحة: (سيدي، لدي أمر من قداسة البابا بطردك من قصره، ويحسن بك ألا تريه وجهك بعد اليوم!) وفي كبرياء العظيم يودع أنجلو آثاره الحبيبة وقصر البابا وروما ومن فيها، تاركا له رسالة يخاطبه فيها بقوله: (أيها الأب المقدس، لقد أمرت بطردي من قصرك، ويؤسفني أنك ستحتاج اليّ مرة أخرى، فإذا احتجت ألي - وهذا أمر ليس منه بد - فعليك أن تبحث عني في مكان آخر. . . غير روما!).
ويستشعر البابا فداحة الخسارة بعد رحيله، ويسأل عنه فيعلم أنه في فلورنسة، فلا يسعه إلا أن يبعث إلى حاكمها برسالة يطلب إليه فيها أن يقدم اعتذاره لأنجلو، وأن يرجوه في أمر العودة مرة أخرى. . . ويمتنع أنجلو. . . وتصل رسالة أخرى إلى البابا يؤكد فيها اعتذاره ويلح في إحضاره. ويمعن أنجلو في التغاضي وتصل رسالة ثالثة فيصر أنجلو على أن يلقاه البابا في منتصف الطريق بين روما وفلورنسة. . . وقد كان!!
هل تستطيع أن تعثر في العالم كله، وفي تاريخ الفن كله، على فنان من هذا الطراز؟ لا(769/16)
أظن! إن مايكلانجو قد قدم أروع مثال يمكن أن يحتذيه فنان!
ترى لمن أهدى هذه القصة الفريدة في تاريخ الفن؟ أهديها إلى بعض الناس هنا في مصر، اولئك الذين دفعوا بكرامة الفن إلى الحضيض في سبيل مآربهم الشخصية والمادية. . زهل أسميه؟ كلا. إنهم يعرفون أنفسهم. . . ويعرفهم الناس!.
أنور المعداوي.(769/17)
زواج تولستوي
للأستاذ محمود الخفيف
- 2 -
وجلس تولستوي يحدث رب الدار وأبنته في إحدى الحجرات، ويستعيد ذكريات الماضي، وأنضم البنات إلى أمهن وجدهن ليجلسن يستمعن وكانت أمهن تصيح بهن الفينة بعد الفينة ليأوين إلى مضاجعهن ولكن حديث الكونت كان يسحرهن حتى تبين الجد في لهجة أمهن فقمن متثاقلات لينمن.
وتبعهن تولستوي إلى باب الحجرة، ثم استوقف سونيا قائلا إنه يريد أن يفضي إليها بحديث وخفق قلب الفتاة، ومشت معه إلى منضدة للعب الورق في إحدى الحجرات، ولندع تاتيانا تقص علينا ما كان بينهما من حديث قالت (الشيطانة الصغيرة) في مذكراتها (لقد طلب اليّ أن أغني ولما كان ذلك آخر ما أرغب فيه وقتئذ، فقد هربت إلى الثوى واختفيت تحت البيان. . . وبعد دقائق دخل الحجرة تولستوي وسنويا، وكان يبدو عليهما الأضطراب في صورة غير عادية، وجلسا إلى منضدة اللعب. . . وقالت سنويا: هكذا ترحل غداً؟ ولماذا تعجل على هذا النحو؟ إننا سوف نفتقدك، وأجاب تولستوي: إن ماري وحدها وهي تتأهب للسفر إلى الخارج. وسألته سونيا: أتسافر معها؟ وقال الكونت: كلا. لقد كنت أرغب في ذلك ولكني الآن لا أستطيع. وتراجعت سونيا فلم تسأله لم لا يستطيع فأنها تدرك ماذا يكون الجواب، ورأيت في وجهها ما يشعر أن شيئاً خطيراً يوشك أن يحدث، ووددت أن أخرج من مخبئي ولكني خجلت من ذلك فبقيت ساكتة. وقالت سونيا: هيا بنا إلى الفناء فإنهم لا بد يبحثون عنا؛ وقال الكونت: لا. . أرجو منك أن تظلى لحظة. . . وكان يكتب شيئاً ما على المنضدة بقطعة من الطباشير، ثم قال في صوت متهدج من أثر اضطرابه: أتستطيعين أن تقرئي ما أكتب لك إذا استعملت الحرف الأول من كل كلمة فحسب؟ وأثبتت في وجهه نظرة وقالت: أظن أني أستطيع. وكتب تولستوي الحروف، وكأنما أوحى إلى أختي فقرأت: إن شبابك وتطلعك للسعادة يذكرني تذكيراً قوياً بشيخوختي وباستحالة السعادة على وكان يعنيها تولستوي بعض العون في قليل من هذه الكلمات.
وكتب حروف غيرها، فقرأت إن في أسرتك خطأ حول أختك وحولي، ينبغي أن تعينيني(769/18)
أنت وتاتيانا. . .
هذا ما ذكرته تاتيانا، ونضيف إليه أنها ما كادت تجيب حتى صاحت بها أمها: سونيا! أذهبي إلى سريرك. هل تفعلين؟ وأسرعت سونيا إلى مخدعها.
وبعد بضعة أيام زارت زوجة بيرز وبناتها ياسنايا ثانية لتودع ماري قبل سفرها، وكان تولستوي ساكناً يطيل التفكير اثناء هذه الزيارة، ولما تأهبن للرحيل قال لهن: سوف أذهب معكن إلى موسكو إذ كيف استطيع أن أبقى هنا دونكن. . . إن مقامي هنا يكون من الكآبة والوحشة بحيث لا أطيقه. . . . ثم سافرن فكان معهن حتى بلغن موسكو. . . .
وذهب آل بيرز من موسكو إلى بيتهن الريفي في قريتهم بوكروفسكوي، ووعدهم تولستوي أن يوافيهم اليها بعد قليل. . .
وعادت اليه في وحدته هواجس نفسه، كما كانت حاله مع فاليزيا وأخذ يسأل نفسه عما يشعر به، أهو الحب حقاً أم أنها الرغبة في الحب؟.
وذهب إلى بوكروفسكوي كما وعد، وكانت لا تزال تعتقد ليزا أنه يحبها وأنه سوف يخطبها إلى نفسه؛ وكانت تتنازع الأحلام والمخاوف قلب سونيا.
ووجد تولستوي في بوكروفسكوي معلماً شاباً يدعى بويوف في الخامسة والثلاثين من عمره يخفى في نفسه نحو سونيا ما يبديه تودده اليها وما يشبهه الغزل من حديثه ونظراته؛ وكانت تحس سونيا ميله اليها فأغرته بعض الأغراء، ولكن بالها وقلبها كانا إلى الكونت وأن غاب.
وفعلت الغيرة فعلها في قلب تولستوي، فكان كثيراً ما يأتي إلى القرية وكانت على نحو أثني عشر ميلاً من موسطو وكان يؤثر أن يذهب إلى هناك ماشياً بأكثر الأحيان.
وبات موقفه من الأسرة غريباً فهو لا يتقدم بالخطبة إلى ليزا وأنه في الوقت نفسه وإنه في الوقت نفسه ليكثر من غشيان بيتهم أينما كانوا كما لو كان واحداً منهم؛ ولذلك لم يكن عجبا أن يظن الطبيب أن جمال امرأته هو الذي يجذب إلى بيته هذا الكونت الغامض.
وكان لا يفتأ يسأل تولستوي نفسه أما آن له أن يستبطن دخيلة سونيا وأن يدرك حقيقة عقلها ووجدانها، فأن أختياره زوجة لا تصلح له يعدو عنده كارثة لا يكون معها رجاء. . .
وسألها هل تكتب مذكرات، فقالت: لا ولكنني عبرت عن حقيقة شعوي في قصة كتبتها؟(769/19)
وألح عليها الكونت أن يقرأها فأبت اول الأمر، ثم تضاهرت أمام إصراره أنها تعطيها إياه على كره.
ترى هل كتبت سونيا هذه القصة ليقرأها تولستوي؟ وهل ما يكاد يؤدي إلى الحزن بموضوعها.
كان في القصة رجلان: أولهما البرنس دوبلتسكي، وهو في منتصف العمر نشط ذكي قليل الآراء، ليس على قدر كبير من الوجاهة؛ وثانيهما فتى في الثالثة والعشرين، هادئ ساكن يتمسك بكثير من المثل العليا وأسمه سمير نوف.
وكانت بطلة القصة تدعى هيلين وهي فتاة جميلة ذات عينين دعجاوين ساحرتين؛ ولهيلين أختان واحدة أكبر منها تدعى زنايدا وهي فتاة بارد الطبع، والأخرى أصغر منها وتدعى نتاشا وهي بنت في الخامسة عشرة لعوب مرحة.
وكان يغشى دوبلتسكي بيت الأسرة دون أن تخالجه أفكار الحب؛ وكان سمير نوف يحب هيلين، وكانت تحس بميل نحوه، وقد أقترح عليها الزواج ولكنها لم تستطع أن تقطع برأي وأعترض أهلها على هذا الاقتراح من شاب في مثل سنه وعدوه بعض عبث الشباب، ثم اضطرته ظروف العيش إلى السفر فغاب غيبة طويلة.
وكانت زناديا تميل إلى دوبلتسكي، وكان يكثر غشيان البيت ولكنها ظلت بحيرة من أمره كما كانت هيلين في حيرة من أمر شعورها لا تدري ماذا تريد، ولا تستطيع أن تقول حتى لنفسها أنها أوشكت إن تحب دوبلتسكي؛ وكان يؤلمها أنها ربما كانت تخدعه وتخدع أختها؛ وطالما حاولت أن تغالب عواطفها ولكن تلك العواطف كانت تغلبها؛ وظهر من دوبلتسكي أنه يحبها أكثر مما يحب أختها وذلك ما جعله يبدو في نظرها أكثر مما كان جذباً لها، لم تفهم حقيقة شعوره وكان يتعبها ويضايقها غموضه وانطواؤه على نفسه.
وعاد سمير نوف، ولم تطق هيلين أن ترى ما يظهر من تألم إذ شعر أنها تحب دوبلتسكي، فأعتزمت أن تدخل الدير؛ ثم أنها احتالت حتى قرضت بين دوبلتسكي وأختها زناديا، وزفت هي بعد ذلك إلى سمير نوف.
سهر تولستوي حتى قرأ القصة ولقد وقف عند أشياء فيها ومن أهمها ما وصف به دوبلتسكي من بعد أن الوجاهة ومن غموض في الفكر. . . أهذه صورته في نفس سونيا؟(769/20)
لقد طالما كانت هيأته مبعث ألم لنفسه وهو صغير فهل يتجدد اليوم ألمه وهو في الرابعة والثلاثين؟. ذلك ما تحدثه به نفسها بعد قراءة القصة يسمى نفسه دوبلتسكي؟
وما هذه الخاتمة التي أختارها لقصتها؟ أتنصرف عن دوبلتسكي فتتزوج سمير نوف؟ أتريد بذلك إغراءه وإخراجه من تردده، أم أنها تؤثر عليه سمير نوف؟ ومن يكون سمير نوف هذا؟ أهو بويوف الذي تطارحه الحديث وتظهر له الود، أم هو ذلك الضابط الشاب بوليفانوف؟ وهل تستعمل سونيا على التقريب بينه وبين أختها ليزا؟
ألا تحب سونيا هيئته فهي لذلك غير واثقة من إنها تحبه؟ يا لها من حيرة! لقد كتب في مذكراته في الثامن والعشرين من أغسطس سنة 1962 بعد قراءة القصة بيومين يقول (أيها الوجه القبيح لا تحلم بالزواج. . . أنك لست أهلاً لهذا. . . وأن أهليتك لمن نوع أخر وأنه لكثير ما منحته منها).
وعلى الرغم من ذلك ذهب إلى الضيعة في اليوم التالي فلما رجع أثبت في مذكراته قوله (لا شئ من حب كما سلف ولا من غيره حتى ولا من ندم، ولكني لا أجد مثيلاً لحالتي وذلك ما يجعلها حلوة. . . كانت ليلة لذيذة وكانت العواطف رقيقة سارة أن بويوف في غاية الذكاء وفي غاية الرقة) وكتب في ماء اليوم التالي يقول (لست أغار قط من بويوف إذ يتحدث إلى سونيا ولا أستطيع أن أصدق أن يكون ذلك حقيقة حالي. إنها كذلك تتكلم في حزن وهدوء. . . أيها الأحمق أنك غير أهل لها. . . . . لقد قضيت الليلة معهم. . . . لم أنم. . . أنها هي أبداً. . .)
(البقية في العدد القادم)
محمود الخفيف.(769/21)
طرائف من العصر المملوكي
النقد الأدبي
للأستاذ محمود رزق سليم
النقد الأدبي كما نفهم فيلا العصر الحديث، هو النظر في النتاج الأدبي لأمة أو فرد، لنرى مبلغ دلالته على الصدق ومقدار نطقه بالحق. نقلبه على وجوهه المتعددة تحرياً لمظاهر الحسن فيه وتلمساً لمواضع النقص منه، جاهدين في إبراز حسنه أو نقصه، مع الإشارة إلى الحسن لم كان حسناً، والى النقص لم كان نقصاً. ومعنى ذلك تحليل الأدب وتعليله لفظاً ونظماً وفكرة، وتوضيح المؤثرات التي يتأثر بها، ثقافية أو جغرافية أو تاريخية أو اجتماعية أو شخصية أو نحوها، مع توضيح أثارها فيه. ثم بيان مدى تأثير هذا الأدب لدوره في فرد أخر أو جماعة أخرى، باعتباره عاملا جديداً من العوامل الحيوية المؤثرة في حياتهما. ثم موازنة هذا الأدب بغيره ومعرفة مدى الفوارق بينهما، إبرازاً لقوة أحدهما أو ضعفه وسموه أوضعته، وصدقه أو مينه، وتأثره بغيره أو عدم تأثره. والموازنة بذلك تعيين على تشخيص الأدب وإبراز عناصره وإيضاح مميزاته وخصائصه.
والناقد الكامل يحتاج - لكماله - إلى سعة من العلم وأحاطته بالأدب، ودراسة اجتماعية حادقة وفلسفة نفسية عميقة. هذا إلى ذوق فني سليم، وإطلاع على ما كتبه ارباب النقد البياني ورجال البلاغة للاستئناس به والاسترشاد لقواعده، حتى يكون بذلك كامل العدة واضح الحجة، جامعاً لأصول النقد الصحيح من ذوق ومعرفة.
مثل هذا الناقد إذا جلس للحكم على الأدب نرجح أن يكون حكمه عادلاً ونافعاً.
ونقول: نافعاً، لأن النفع الجديد الذي يتضمنه حكمه هو مزية النقد الكبرى، ومزية الناقدين، وأبسط ما توصف به هذه المزية أنها تبصير حق بالأدب المنقود، يضاعف أثره، وتمهيد جميل للأدب الجديد يذلل سيره، وإذا كان النقد في العرف الحديث أدباً وصفياً، فهو أدب إنشائي من ناحية أخرى. وعلى الأقل من ناحية أنه يسن السبيل أمام الأدب الجديد، ويرسم له الطريق الذي يسلكه، ويهيئه - بزعمه - لبلوغ كماله. والنقاد - في هذا - يعبرون عن مزاج جيلهم وذوق معاصريهم وحاجة جمهورهم ويجهد الأدباء كتاباً وشعراء، في، تحري أذواق النقاد، والتجانف عما يريبهم. فينضج أدبهم مطبوعاً بطابع نقادهم. لهذا يقال أن النقاد(769/22)
هم موجهو الأدب في الأمة وهداته. ولا يحرر من ربقتهم ألا أديب معاصر، ولكن لديه من المؤثرات الخاصة عدة عوامل جنحة به إلى أفق من الحرية. على أنه قد يعيش غريباً بين قومه، وقد لا يتأثرون بأدبه ألا بعد فترة من الزمن.
هذا هو الذي فهمناه في العصر الحديث من معاني النقد الأدبي. فهل ولد النقد قبل اليوم مولداً على هذا الغرار؟ الحديث عن ذلك طويل يضطرنا إلى النظر في اتجاهات النقد في كل من العصور الأدبية المنصرمة، وهذا ما لم نقصده هنا الآن. وإنما قصدنا أن نعرض في إيجاز إلى الحديث عن النقد الأدبي في العصر المملوكي.
غير أنه لا ريب في أن النقد الأدبي ولد بمولد الأدب، إذا راعينا أن قارئي الأدب أو سامعيه سواء أكانوا من الخاصة ام العامة مولعون أبداً بالنقد والتعليق على كل ما يقرءون أو يسمعون ولو بكلمة عابرة، أو نقدة طائرة، أو تعليقة حائرة. وهكذا نستطيع القول أن النقد قد ولد مع الأدب الجاهلي. غير أنه كان نقداً فطرياً في نطاق ضيق وبين خليط من اعتبارات شتى، ومرجعه الذوق الخاص، وغير مقعد بقواعد ولا مرتبط بذوق عام. . . ثم نضج النقد الأدبي بعد النضوج بمجيء الإسلام وأقبل الناس على سماع الأدب والنظر فيه، وكانت بالأمويين عناية فائقة بسماع الشعر قديمه وحديثه، والتعليق عليه، وقياس شعر بشعر، وموازنة بيت وببيت، حتى جاء العصر العباسي، وأقبل القوم على الدرس والتصنيف والترجمة. ولقحت العقول بالمترجمات، وفاضت المجالس بما ينشده الشعراء والرواة من محاسن الآداب العربية، ونشط النقد، وتكون ما يشبه الذوق العام. وعني بالدفاع عن الأساليب القرآنية وبيان ما فيها من أسرار التراكيب. فظهرت بوادر العلوم البلاغية ثم أشتد أزرها وقوى أمرها وتجمعت حقائقها حتى تألفت علوماً لها موضوعاتها وأبوابها وقواعدها. وصنفت كتب في النقد والموازنات اعتمدت فيما اعتمدت عليه، على الذوق الخاص، وهكذا أنتهى عصر العباسين بعد أن خلف في ميداني النقد الأدبي والبياني ذخيرة نفيسة. ولكن النقد - على كل حال - لم يبلغ ذلك المبلغ الذي رسمنا صورته في أول المقال، والذي يتقاضاه منا العصر الحديث:
وبعد فما نصيب العصر المملوكي من هذا التراث، فما الذي أضافه اليه؟ أهم ما يجبهنا من ذلك، ذوق بديعي عام استحوذ على الأدباء والنقاد جميعاً. لم يعتمد على ما خلفه الأقدمون(769/23)
من قواعد في النقد البياني فحسب، وأن كانت هذه القواعد من أهم دعائمه ومصادر الهامه. وأن كان قد جمع كل أبواب البلاغة جديدها وقديمها تحت راية البديع.
ولقد كان للقاضي الفاضل عميد الأدباء في العصر الايوبي، أثر بارز في الكتابة والشعر في العصر المملوكي. لأنه أبتدع للأسلوب طريقته البديعية الخاصة التي اساسها الإكثار من المحسنات وبخاصة السجع فقد ألتزمه، والجناس والطباق، مع الغلو في سوق التروية والاستخدام والإمعان في التشبيه والاستمارة، والتلميح إلى الحوادث، والتوجيه بالمصطلح العلمي، وتضمين المأثور والاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف، إلى غير ذلك من محسنات وسمات. وهذه طريقة في الأسلوب مبنية على ما سنه من قبله الكاتب الشهير أبن العميد (300هـ - 360هـ) وغيره من أدباء العراق. غير أن الفاضل غلا في التزام ما استحسنوه وأن قاد الأدباء من بعده - وبخاصة في العصر المملوكي - إلى طريقته وتعصبوا لها، حتى تركزت في أذواقهم وفي اذواق النقاد معاً، وأصبحت نهجاً متبعاً وقاعدة مرعية بين قواعد النقد التي يزنون بها الآثار الأدبية الجديد منها والقديم على حد سواء.
وظهر شاعر مصر الكبير جمال الدين بن نباته (686 - 748هـ) فنهج نهج القاضي الفاضل، وتعصب لطريقته؛ فكان بذلك زعيماً ثانياً للطريقة الفاضلية في الشعر والكتابة. واتجهت عناية أبن نباته إلى أيجادة التورية والتضمين، فأبدع فيهما أيما إبداع، وأتى منهما بالعجب العجاب، واتجهت كذلك إلى الجناس؛ ولكن عني بإخراجه مخرج التورية، فأجاد وأطرب، وأفاد وأعجب؛ فكان بذلك وغيره ذا طريقة جديدة هي الطريقة النباتية، وأصبح لها أتباع ومتعصبون هم جهرة عظيمة من أدباء العصر المملوكي ونقاده، وتركزت بدورها في أذواقهم حتى صاغوا أساليبهم في قالبها، أو اتخذوا منها قواعد جديدة للنقد وزنوا بها ووازنوا بين أدب وأدب، وبين شعر وشعر. وفي مقدمة المتعصبين لها والناقدين على أساس منها ومن الطريقة الفاضلية: شهاب الدين أو الثناء محمود بن سليمان الحلبي (725 هـ) صاحب كتاب (حسن التوسل إلى صناعة الترسل). وتقي الدين أبن حجة الحموي (837هـ) صاحب كتاب (خزانة الأدب وغاية الارب). وهذا الكتاب أوسع نطاقاً من سابقه. وقد ألفه أبن حجة ليشرح فيه بديعيته، وهي المنظومة التي مدح بها سيد المرسلين عليه السلام، وضمن كل بيت من ابياتها شيئاً من البديع. فقد وزن فيه بينها وبين بديعيتي(769/24)
عز الدين الموصلي وصفي الدين الحلي موازنة أساسها البديع، ذاكر أسم النوع البديعي واختلاف العلماء فيه، وشواهد الأدباء عليه. وقد استطاع أبن حجة أن يخرج كثيراً عن النطاق العلمي الذي ضربه علماء البلاغة أخريات العصر العباسي، كالسكاكي مثلا. واستطاع أن يجعل من كتابه هذا معرضاً أدبياً ضافياً تألق فيه كثير من شعر العصر المملوكي ونثره، ومع نقده نقداً هو مزاج من النقد الأدبي الصحيح الذي اساسه الذوق، ومن النقد البياني الموروث الذي أساسه العلم؛ مبيناً، بين الفينة والفينة، مذاهب الشواذ والخارجين على الطريقة النباتية من شعراء هذا العصر. ومن بينهم صلاح الدين الصفدي الذي جن جنوناً بالجناس وأنواعه، كما جن به الصاحب بن عباد من قبل، وأكثر مما جن. وقد حمل أبن حجة على الصفدي وسفه ولوعه بالجناس مبيناً أن هذا المذهب يخالف مذهب أبن نباته وتابعيه، من العناية بالتورية واعتبارها اسمي ضروب البديع، بل أجود أبواب البلاغة. وقد أنساق الصفدي بدافع حب الجناس إلى وضع كتاب فيه بخاصة وسماه (جنان الجناس) ملأه أمثلة من الجناس. وقد نقده أبن حجة في كتابه (خزانة الأدب) نقداً مراً وأورد من نظمه عدة أمثلة، وذكر أن جمال الدين بن نباته لما قرأ عنوان الكتاب قرأه هكذا: (جنان الخناس) وجرى بين الرجلين بسبب ذلك ما يطول شرحه. وذكر ايضاً من بين ناقدي الصفدي الشيخ بدر الدين البشتكي الذي قال قال عن الصفدي بمناسبة نضمه هذا: (وأن من ذلك مبلغه من النظم لجدير أن يقعد مع صغار المتأدبين). هذا إلى أن أبن حجة قد ألف كتاباً أخر في نقد الصفدي وتسفيهي كتابيه (جنان الجناس) و (فض الختام) وهو (كشف اللثام).
هذا كله يشعرنا بأن أبن حجة وغيره من نقاد العصر لم يتقيدوا بالقواعد البلاغية ولا بما وصل اليه النقد البياني من تقعيد بل حكموا بكثير مما نقدوه أذواقهم وقواعد نهجهم البديعي.
وهذا لا يمنعنا من الإشارة إلى أن هناك رجالاً صرفوا جهودهم إلى النقد البياني وقواعده الموروثة عن العصر السابق، فكانوا علماء أكثر منه علماء. وفي رأينا أنهم لم يأتوا من وراء هذه الجهود بجديد وما مؤلفاتهم ألا شروح أو مختصرات لمؤلفات السالفين من علماء البلاغة. وقد حظى كتاب (مفتاح العلوم) للسكاكي (626هـ) بنصيب كبير من هذه المؤلفات، ومنها ما وضعه الجلال القزويني، والجلال السيوطي، وزكريا الأنصاري،(769/25)
والبهاء السبكي. غير أننا لا نبالغ إذا قلنا أن هؤلاء لم يمثلوا العصر ولا ذوقه الأدبي ولا قواعده في النقد. أما الفريق الأخر فهم أدنا إلى هذا التمثيل وأقرب.
على أن النقد الأدبي - في الحق - كان أوسع نطاقاً مما وصفنا. وأكثر شغلاً للقوم مما رسمنا؛ إذ كانت له عوامل عدة أذكت ناره وأشعلت أواره وأكثر سماره ففضلاً عن حب البديع والتسابق إلى ابتكار التوريات والتضمينات، كانت هناك منافسات أدبية شديدة بين أدباء مصر وأدباء الشام، ومنافسات أخرى بين شاعر وشاعر، وكان من الناس من يتعصب لهذا أو يتحسم لذاك. وكانت هناك مباريات بين المتعاصرين من الشعراء ومساجلات ومعارضات. وكان كير من وجوه الناس وأعيان الرؤساء يضرى هذه المعارضات حتى ولو لم تكن بين المتعاصرين وكان بعض الملوك والرؤساء ذوي بصر بالشعر ومكانه. وكان بالشعراء ولوع بالتظمين فولجوا اليه كل باب حتى تهاووا إلى السرقة عمداً أو دون عمد. كل هذه الأمور ترينا أن النقد الأدبي قد وجد الأسباب فدق الأبواب وولج الأعتاب وعاش بين القوم في أخفض جناح وأخصب مراح.
ويضيق المقام إذا ذهبنا نعد الأمثال ونضربها. فلنكتف بالإشارة عن العبارة، وبالتلميح عن التصريح فنقول.
روي المقربزي في خططه أن الملك الأشرف خليلا عاد في عام 690هـ من الشام بعد أن فتح عكا، فلقيته القاهرة برجالها في حفل عظيم، وتقدم ابن العنبري الشاعر فأنشد قصيدة قال في مطلعها:
زر والديك وقف على قبرهما ... فكأنني بك قد نقلت اليهما
فتطير الأشرف من هذا البيت ونهض قائماً حانقاً وهو يقول: ما وجد هذا شيئاً يقوله سوى هذا البيت!؟
وروى تاج الدين السبكي في طبقاته عن تاج الدين المراكشي، قال: دخلت عليه مرة وهو ينشد قول أبن تقي.
حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئاً وكان معانقي
أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على وساد خافق
وقول الحكم بن عقال:(769/26)
إن كان لا بد من رقاد ... فأضلعي هاك عن وساد
ونم على خفقها هدوءاً ... كالطفل في هزة المهاد
وهو ومن عنده يقولون أن قول الحكم أجدر بالصواب فإنه لا يتناسب المحب أن يبعد حبيبه. وينشدون قول صلاح الدين الصفدي - أمتع الله ببقائه - في ذلك رداً على أبن تقي:
ابعدته من بعد ما زحزحته ... ما أنت عند ذوي الغرام بعاشق
إن شئت قل أبعدت عنه أضالعي ... ليكون فعل المستهام الوامق
أو قل فبات على اضطراب جوانحي=كالطفل مضطجعا بمهد خافق
قلت - أي السبكي - (إن أبن تقي وإن ساء لفظاً حيث قال (أبعدته) فقد أحسن معنى، لأنه وصف أضلعه بالخفقان والأضطراب الزائد الذي لا يستطيع الحبيب النوم معه عليها فقدم مصلحته على مصلحته وترك ما يريد لما يريد، وأبعده عما يقلقه، ولو قال (أبعدت عنه أضلعاً تشتاقه) لأحسن لفظاً كما أحسن معنى. وأما الحكم فإنه وصف خفقانه بالهدوء، وهو خفقان يسير يشبه اضطراب سرير الطفل. وهكذا نقص، فوقع النزاع في ذلك. وأرسلوا إلى القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل العمري - رحمه الله - صورة سؤال عن الرجلين (أبن تقي) و (الحكم) أيهما المصيب. فكتب: قول أبن تقي عليه مأخذ لكنه قول المحب الصادق.
يكفيه في صدق المحبة قوله ... كي لا ينام على وساد خافق
ما الحب إلا ما يهد له الحشا ... ويهد أيسره فؤاد العاشق الخ
هذا مثل من أمثلة المجالس الأدبية ومجالس النقد، وفي الطبقات وغيره أشباه له كثيرة.
أما السرقات الأدبية فقد زاد خطرها وتطاير سررها في هذا العصر. ومن شعرائه من سطا على غيره بدعوى التضمين قال مجير الدين بن تميم:
أطالع كل يدوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري
أضمن كل بيت فيه معنى ... فشعري نصفه من شعر غيري
واشتهرت سرقات أبن نباته من علاء الدين الوداعي، كما أشتهرت سرقات صلاح الدين من الجمال بن نباتة ولما وقف أبن نباتة على مسروقات ألف في ذلك كتاباً سماه (خبز(769/27)
الشعير) لأنه مأكول مذموم ونقد فيه الصفدي وأورد كثيراً مما سرقته - وقد نتبع أبن حجة في كتبه عشرات من سرقات الصفدي وأبن نباتة وغيرهما. ومن ذلك قول أبن نباتة:
ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك
قالت لي العين ماذا ... يصيد قلت كراكي
فقال الصفدي:
أغار على سرح الكرى عندي ما رمى ال - كراكي غزال للبدور يحاكي
فقلت أرجعي يا عين عن ورد حسنه=ألم تنظريه كيف صاد كراكي
على أن أبن حجة هذا قد تعقبه أديب آخر هو شمس الدين النواجي فنقده في كتاب سماه (المحجة في سرقات أبن حجة) وللبدر الدماميني كتاب آخر نقد فيه شرح الصفدي للأمية العجم وأسمه (نزول الغيث).
وبعد فما تقدم نشعر بمقدار عناية أدباء هذا العصر بنقد الأدب، وبيان زائفه من طارفه وهذا دليل على الحيوية الأدبية واليقظة الفكرية، ولا يقدح في هذا أختلاف أذواقهم عن أذواقنا فلكل أهل عصر في آدابه ونقده أتجاه وقواعد وأذواق.
محمود رزق سليم
مدرس الأدب بكلية اللغة العربية(769/28)
شخصيات عباسية
جحظة المغني الشاعر
224 - 324هـ
للشيخ محمد رجب البيومي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
لم يكلف جحظة بالطعام وحدة بل كان كلفه بالشراب موضع الغرابة حتى تلاشت بجانبه الشهوة إلى المأكل في أواخر شبابه فهو يقول:
قد قلل الإدمان أكلي فما ... أطعم زاداً قيس أبهام
فالحمد لله وشكراً له ... قد صرت من بائد اقوام
قوماً ترى أولادهم بينهم ... للجوع في حلة أيتام
وقد حدا به الإدمان الفاحش إلى التردد إلى الديارات المنتشرة في بغداد وضواحيها المتقابلة، فأخذ الراية من أبي نواس، ووكل إلى نفسه الدعاية البارعة إلى ما في الأديرة من متع وملاذ، وأصبح شعره في هذا الموضوع وسيلة كبيرة من وسائل التعريف بما هناك. وأنت ترى الشابشتي وياقوت والعمري وجميع من كتبوا في هذه الناحية يروحون عن قرائهم بقصائد جحظة، والواقع أن الديارات كانت فتنة كبيرة من فتن الشيطان، فهي تقام بين الحدائق والبساتين وبها من العذارى الراهبات ما يستخف الوقور؛ والغريب أن خلفاء المسلمين كانوا يؤمونها مع الشعراء والماجنين، وأي إنسان يرى نفسه في حديقة مورقة، وعن يمينه ثم لا يقدم على انتهاك الحرم في هذا الجو الإباحي الخلاب، واليك ما وصف به جحظة دير الزندورد لتقف على ما بهذه الأماكن من مغريات جاذبات:
سقيا ورعيا لدير الزندورد وما ... يحوي ويجمع من راح وريحان
دير تدور به الأقداح مترعة ... من كاف ساق مريض الطرف وسنان
فالعود يتبعه ناي يوافقه ... والشدو يحكمه غصن من البان
والقوم فوضى ترى هذا يقبل ذا ... وذاك إنسان سوء فوق إنسان
هذا ودجلة للرائين معترض ... والطير إنسان يدعو هديلا بين أغصان(769/29)
ولقد اختص أبو الحسن دير العذارى بوده ومحبته؛ فقد رأى فيه من المتعة واللذاذة ما ليس فى غيره. فكان فيه معانة ومغداه؟ واليه مراحه ومأواه، وطالما جمعه بكثير من الشعراء والأدباء، فيتذاكرون ويتناشدون. وقد يغلبه السكر فيخرج على حال كريهة في المنظر والهيئة: فثيابه مبتلة، ورائحة الخمر تتقدمه، ثم هو يدافع عن نفسه في هذا الوضع البغيض، فيقول:
قالوا قميصك مغمور بآثار ... من المدامة والريحان والقار
فقلت من كان مأواه ومسكنه ... دير العذارى لدى حانوت الخمار
لم ينكر الناس فيه أن حلته ... خضراء كالروض أو حمراء كالنار
وعشاق الأدب يطربون لما تغني به جحظة في دير العذارى، فقد رسم لهم منظراً من مناظره الضاحكة فسمعوا صلصلة الناقوس ورأوا القسيس يترنح من السكر، ثم ينهض إلى القيام فيرتعش من الإدمان، ويغنى فتتقاطر دموعه على خده، وأخيراً يخلص إلى الحنين لهذا العهد فيقولك
ألا هل إلى دير العذارى ونظرة ... إلى الخير من قبل الممات سبيل
وقد نطق الناقوس بعد سكوته ... وشمعل قسيس ولاح فتيل
يريد انتصابا للقيام بزعمه ... ويرعشه الإدمان فهو يميل
يغنى وأسباب الصواب كمده ... وليس له فيما يقول عديل
(ألا هل إلى شم الحزامي ونظره ... إلى قرقري قبل الممات سبيل)
وثنى يغني وهو يلمس كأسه ... وأدمعه في وجنتيه تسيل
سيعرض عن ذكرى وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
سقى الله عهداً لم تكن فيه علقة ... لهم، ولم ينكر على عذول
وأنا أعجب كيف عرج أبو الحسن على قسيس الدير فلم يتنقصه مع أنه كان يقع الجلسات الطويلة متحدثاً فيما يعرفه من علائق القسس بالراهبات، وكثيراً ما كان يغنى
بقول القائل:
أن بالحيرة قساً قد مجن ... فتن النساء فيه وأفتنن
هجر الإنجيل من حب الصبا ... ورأى الدنيا متاعاً فركن(769/30)
وأنا أعتقد أن رجال الدين على جانب كبير من التقوى والصلاح وقد ينذر فيهم من تزن قدمه في وهدة الخطأ، فيأخذ البرءاة على كثرتهم بآثار المذنبين، ومن ذلك ما زعمه الجاحظ من أن فتياناً من تغلب أرادوا قطع الطريق على ركب يمر بهم ثم جاءتهم العين بأن السلطان قد عرفهم وجد في طلبهم، قال أحدهم فأحتجبنا في الدير فلما أملنا قال بعضنا لبعض: ما عنينا أن نشد القس بوثاق ثم يخلو كل واحد إلى راهبة عذراء، فأذا طلع الفجر تفرقنا في البلاد وكنا جماعة بعدد الراهبات فوجدناهن كلهن ثيبات قد فرغ منهن القس، فهذه قصة قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة، ولكن الشعراء قد ندووا بها أفضح تنديد فكان مما قيل:
وأفسق من راهب يدعى ... بأن النساء عليه حرام
إذا ما مشى غض من طرفه ... وبالدير في الليل منه عرام
ودير العذاري فضوح لهن ... وعند اللصوص حديث تمام
ولقد حظيت الراهبات بالروائع البديعة من شعر جحظة، وما ظنك بشاعر قضى عمره الطويل في تطلبهن بأديارهن فهو لا يفتأ يرحل إلى كل مكان عراقي يحللن به، ولولا فقره المدقع لا تنقل إلى الشام ومصر في تصيدهن كما فعل أستاذه أبو نواس وهو في غزله يعبر عن الواقع ولا يتعداه فيقول:
وظباء يتلون سفراً من الإنجيل باكرن سحرة قربانا
لابسات متن المسوح ثيابا ... جعل الله تحتها أغصانا
خفرات حتى إذا دارت الكأ ... س كشفن النحور والصلبانا
كما أنه كان يستعين بأصدقائه الموسرين على نفقات السفر وأجور الارتحال، ومن هؤلاء إبراهيم بن المدبر أحد ولاة الدولة وكتابها وسراتها، ولعل السر في صداقتهما الوطيدة هو اجتماعهما على حب عريب المغنية فقد جن إبراهيم بها جنوناً عارماً، وكان أبو الحسن من صنائعها المقربين فقد منحته الهبات الوافرة لانتسابه إلى سيدها وولي نعمتها الأول جعفر البرمكي، لذلك نجده يتحمس لغنائها، ويبالغ في مدحها على غير عادته، قال جحظة: قال أبو العباس بن حمدون: ليس غناء عريب مما يعتد به لكثرته، لأن سقطه كثير وصناعته ساذجة، فقلت له: ومن من مغني الدولة العباسية سلمت صناعته كلها حتى تكون عريب(769/31)
مثله وأخذت أعد أكثر من مائة صوت لها وهو يعترف بجودتها، فقال لي أخيراً ما خلفت عريب امرأة مثلها في الغناء، فقلت له، ولا كثيراً مثلها في الرجال.
فأنظر إلى دفاع جحظة عن عريب وأقرلاته بما تعرفه عنه من تحامله على كل مغن وتنقصه لما يسمع من الألحان، جيداً كان أو رديئاً، قال أبو الفرج: (ومذهبه - أي جحظة - في كتاب الطنبوريين أن يثلب جميع من ذكره من أهل صناعته بما يقدر عليه من الثلب، وبما يعلم وما لا يعلم من الراي) وليس الكتاب بأيدينا لنستدل على ما ذكره صاحب الأغاني، ولكنه ثقة فيما يقول:
وكنت أتمنى أن يبقى الدهر على شيء من كتب أبي الحسن حتى نعرف طريقته في البحث والتبويب، فقد ألف كتابين في الطعام، وآخرين في الغناء، وكتاباً في التنجيم، وديواناً جمع أشعاره الكثيرة ولكن حظه النكد قد اضاع ثروته الأدبية ونحن ننظر إلى ما بقى من كلماته النثرية فنشهد له بالجودة كأن يقول في حمل مشوي: الشهيد بن الشهيد، ذهبي الدثار، فضي الشعار، وكأن يواسي رجلا سرق ثوبه فيقول: هون عليك فليس قميص يوسف، ولا برد النبي، ولا رداء الشباب، أضف إلى ذلك نكاته الفكهة كقوله عن دعوة حضرها: كل ما فيها بارد إلا الماء وأمثال ذلك كثير.
أما منزلته في الغناء فقد قال صاحب زهر الآداب: (إنه ممتد النفس حسن المسموع، طيب الصوت، إلا أنه كان ثقيل اليد في الضرب! ويذكر جحظة عن نفسه أنه وفد على المقتدر مع جماعة من المغنين فأعطاه مائتي دينار، وأعطى كنيزة ثلاثمائة، وأعطى غيرهما مائة، ومن هنا ندرك أنه كان فوق الوسط في صنعته، ولا سيما وقد أعترف أبن الرومي به - على عدائه له - فقال يهجوه:
نبئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
وارحمتا لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذة الآذان
ولو كان رديء الصنعة ما كان لصوته لذة، ولست أدرى السبب في تحامل أبن الرومي عليه، ولعله لما اشتركا فيه من التزاحم على الموائد، والشره في الأكل؛ فقد قيل في المثل العامي: الضيف يكره الضيف، وصاحب المنزل يلعنهما بلا انقطاع!! ويهمنا أن نتحدث عن شعره فنعلن انه لم يجر على عادة غيره من شعراء عصره فيرسل المدائح الطويلة،(769/32)
مفتتحة بالغزل الصناعي بل كان يجيش صدره بالمعنى، فيصوغه في عدة أبيات، وأحياناً يسهب في نظمه ولكن فيما يتعلق بحياته الخاصة، فهو من هذه الناحية شاعر يحترم فنه فلا يعبر عن غير ما يختلج في حناياه، لذلك تجد إنتاجه منصرفاً إلى مجالس اللهو وتصوير ما يمثل في الحانات من مناظر العبث والشراب، على أنك تلمس إبداعه حين يبتدئ فيصف المكان اولا ويتكلم عن المدامة والساقي ثانياً ثم ينتقل إلى المغنى فيسمعك رنين الأوتار، ويريك ترنح الشاربين، إذ يقول:
طرقنا (بزوغي) حين أينع زهرها ... وفيها لعمر الله للعين منظر
فكم من بهار يبهر العين ضوؤه ... ومن جدول بالبارد العذب يزخر
ومن مستحث للمدام كأنه ... وإن كان ذمياً أمير مؤمر
شقائق تندى بالندى فكأنما ... خدود عليهن المدامع تقطر
فكم ساقط سكراً يلوك لسانه ... وكم قائل هجراً وما كان يهجر
وكم منشد بيتاً وفيه بقية ... من العقل إلا أنه متحير
وكم من حسان جس أوتار عوده ... فألهب ناراً في الحشا تتسعر
يغني وأسباب الصواب تمده ... بصوت جليل ذكره حين يذكر
(فكان مجني دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص كأعيان ومعصر)
ولعل فيما أسلفنا من شعر أبي الحسن ما يوقفك على اشراق لفظه ورقة معناه، والحق أنه تأثر بأبي نواس في أغراضه، وإن تخلف عنه جزالته، وعذره أنه كان يوزع جهده بين الشعر والغناء والتأليف، هذا إلى ثقافته الواسعة في اللغة والنحو والفلك فقد أثقلت عقله فلم يتمكن من التحليق كما تمكن الحسن بن هانئ، على أنه كان تشبيه بارع لا يتأتي للكثيرين كأن يقول:
ورق الجو حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان
أو يقول:
دليل في جوانبه حران ... فليس لطول مدته أنقضاء
عدمت مشارق الإصباح فيه ... كأن الصبح جود أو وفاء
وأحياناً يعمد إلى الفكاهة الماجنة، فيصوغها في خفة ودعابة إذ يقول:(769/33)
رأيت الغانيات صددن عني ... وأعرضت المقبلة الرداح
وقلن مضت بشرتك الليالي ... فقلت نعم وقد رث السلاح
وقد جرى مع البحتري في وصف ثقيل بارد فقال الوليد أبياته الشهيرة في هجاء أبن الجهم وقال جحظة على طريقته ونهجه:
يا لفظة النعي بموت الخليل ... يا وقفة التدويع بين الحمول
يا طلعة النعش ويا منزلا ... أقفر من بعد الأنيس الحلول
يا نهضة المحبوب من غضبة ... يا نعمة قد آذنت بالرحيل
يا بكرة الثكلى إلى حفرة ... مستودع فيها عزيز الثكول
يا شوكة في قدم رخصة ... ليس إلى إخراجها من سبيل
وهذا طراز من الشعر إن دل على شئ فإنما يدل على تمكن صاحبه من صناعته، وإن كان لا يرضى من يتطلب التنويع في المنحي والتعدد في الاتجاه، لا أن يسير الشاعر على نمط واحد، وكأنه بناء آلي يضع حجراً على حجر.
وقد عاش الشاعر قرناً كاملا قضى فيه أربه من اللذة والمتعة وإن كان الوهن قد دب اليه في أواخر عمره فوقع فيما ى يرتضيه من المرض والهزال، وحينذاك تقوست قناته وثقلت حركته، وأصبح من الموت قاب قوسين فصاح يرثى نفسه:
هي التسعون قد عطفت قناتي ... ونفرت الغواني من وصالي
كأني بالنوادب قائلات ... وجسمي فوق أعناق الرجال
إلا سقياً لجسمك كيف يبلى ... وذكرك في النوادب غير بالي
ثم خمدت أنفاسه، فسكت وتر، وجف كأس، وخلا سامر، ومات إنسان.
محمد رجب البيومي.(769/34)
سلافان
محنة القردية في الأدب المعاصر
للأستاذ شكري محمد عياد
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ويعود سلافان إلى وحدته المريرة اللذيذة، ويستدير أعوامه الأربعين، وقد شغل بتحديد وجهته في الحياة، فهو يقول عن حياته في تيك الأعوام: (أربعون سنة ولم أفعل شيئاً: ولو مت هذا المساء ما استحققت أن يذكر أسمي على لسان، ولا أن تبقى صورتي في ذاكرة. ليتني لا أموت هذا المساء! دعاء أرفعه إلى الفضاء، أو قل إنني أسأل القدر، ما دمنا لا نعرف غيره، فما أظن أن الدعوة الحارة لا تجد صدى ولو لفظت في الصحراء). وهو ينظر في أمره كله ويقبله على جميع وجوهه، حتى إذا أستقبل عامه الأول بعد الأربعين كان
قد أستقر عزمه على أن يتأ له أو يكون قديساً، فهو يبدأ (يومياته) ليسجل خطواته في هذا السبيل.
ولكنه لا يؤمن بالدين، فهو لا يريد أن يكون قديساً كقديسي الكنيسة، بل يريد أن يحيا حياة القديسين، يريد أن ينعم بلذة الفضيلة، يريد أن يرفع الفضائل النفسية - في ذاته هو - إلى أوج من العظمة. وهو يرى أنه بهذا يفي بحاجة من حاجات العصر: حاجته إلى قديسين، فقد كان لكل عصر قديسوه، ولكنه لا يرى لهذا العصر قديسين.
ويأخذ في جهاد نفسه جهاداً منظماً، يدونه في (يومياته) وكلما خرج من معركة من هذه المعارك النفسية وجد نفسه مريضاً أو مستغفلاً، أو محتقراً. . . ووجد أنه لم يبلغ من فضائله المنشودة شيئاً. وذلك لأن قديسي العصور القديمة كانوا يمارسون فضائلهم معتمدين على إيمان وثيق بالله واليوم الآخر، كانوا يعتقدون أن الحق في جانبهم، وإن الله معهم، فكان في أعماقهم ثقة وأطمئنان وجلال. أما هو فلا يؤمن بقوة خارج نفسه، ولا يبحث في جهاده إلا عن نفسه، ففضائله تبدو سخيفة مضحكة، إذ يعوزها الوسط الذي لا تنشط إلا فيه، وكأنما هو رجل يحرك شفتيه بالغناء فلا يتجاوز غناؤه حنجرته.(769/35)
ويتمنى سلافان أن يؤمن، ويرتاد الكنائس، ويعترف، ولكنه يحس في هذه التجارب كلها شيئاً من الصدق. إنما هي حركات وأقوال لا تصدر من قلوب قائليها، ولا تصل إلى قلوب سامعيها. هي اشبه بالبقايا المتحجرة من عصور إنسانية بائدة.
ويكتب إلى قس بروتستنتي يسأله النصح لروح ضالة، فيكتب اليه كتاباً موجزاً ذا رقم وتاريخ، ويحدد له ساعة يلقاه فيها بعد أسابيع. . . . ويقابله في مكتب كمكاتب رجال الأعمال، وإذا هو امام قس يرشد الارواح الضالة (بالجملة)، على طريقة الإنتاج بالجملة، ويرد الإيمان إلى النفوس الحائرة بأحدث أساليب التحليل النفسي.
لا يستطيع سلافان، إذا، أن يكون قديساً. وتنتهي هذه التجربة الأليمة بمرض طويل في مستشفى مجاني، دخله على أثر حمى أصابته لأنه قدم معطفه وحذاءه - في الشارع وفي ليلة من ليالي الشتاء - إلى أفاق لئيم، لم يجد ما يعطيه إياه، فآثر أن يقدم اليه كساءه على أن يحتمل نظرة الشك التي صوبها اليه.
ويخرج سلافان من المستشفى وقد كسبته هذه التجربة نوعاً من الهدوء، ولكنه ما زال يبحث. . . يبحث بالمعنى المطلق لهذا الفعل، كما يقول. ويهديه البحث إلى (نادي شارع ليونيه)، وهو ليس بناد على الحقيقة، إنما هو حانوت إسكاف فقير يجتمع فيه بعض الشيوعيين الثوريين الذين يدعون إلى مجتمع جديد. يجتمعون فيه خفية حيث يتباحثون في مشاكلهم ويدبرون أموهم، وليس سلافان واحداً منهم وإنما هو في اصطلاحهم (عاطف) وكما يقول أحدهم: (من أولئك المثقفين الذين ينزلون إلى الشعب. طراز 1900). فهم لا يطلعونه اذاً على كثير من أسرارهم، ولكنه يفهم أنهم يطمحون إلى حياة أسعد، ويراهم يعيشون عيشة خشنة، ويعلم أنهم يلاقون ألوان الاضطهاد، ونفسه نزاعة إلى السمو، ذواقة للألم، فبينما هو يفكر أن يلقى بنفسه في تلك النار، يعلم من أمرهم ما لم يكن يعلم، فهم ثوريون فنيون، لا يبالون كثيراً بالفرد، لأن همهم تغيير المجتمع، وإنما يأتي صلاح الفرد بعد صلاح المجتمع، عندئذ تنفر منهم فرديته فيقول لهم: (إنني لا أسمح لنفسي بأنتقادكم، وأغلب ظني أنكم ما دمتم مقدمين على هذا الأمر فيم ما يدعوكم إلى ذلك. ولكنكم تستطيعون أن تغيروا ما يسمى النظام، وتستطيعون أن تخلفوا الطبقة الحاكمة، تستطيعون أن تغيروا كل شئ ولكنكم إذا لم تغيروني أنا 0أنا سلافان مثلا - فإنكم لم تغيروا شيئاً!).(769/36)
فإذا سأله سائل منهم: (ولماذا تلح هكذا في تغيير نفسك؟) أجاب في صوت خفيض ولكنه واضح يسمعه الجميع: (لأني. . . لأني جبان).
ويعكف وحده على هذه الفكرة يديرها في نفسه حتى ينتهي فيها إلى نوع من الفسلفة. إنه يريد أن يغير روحه، ولكن ليس في ذلك شئ من المغالاة ولا تكليف الأمور غير طبائعها، بل أنه تجربة معقولة. فروحه لست إلا أربعين سنة من الحوادث والأفكار والإشارات والأقوال. إنها الحي الذي يعيش فيه، والمنزل الذي يسكنه، وملابسه وأثاث بيته، وزوجه وأمه العجوز. إن ما يسميه روحه هو ذلك العالم المألوف الذي يضغط عليه ويخنقه، والذي هو أن يرفعه عن عاتقه ويطوح به.
ولكن سلافان لا يفارق أصحابه الثوريين حتى يدهمهم البوليس ويقضي ليلته في السجن. ويعود إلى داره في صبيحة ذلك اليوم ليجد أمه تهلك أسى. . .
كأنما أنفسح له المجال لينفذ مشروعه الجديد، فهو يودع زوجته بخطاب قصير، ويمضي ليجرب أن يكون رجلا آخر غير سلافان. وقد تعلم هذه المرة ألا يطمح إلى أفعال رائعة. .
لن يحاول أن يكون قديساً، بل يكفيه أن يكون إنساناً، يخفف آلام المنكوبين من البشر، وما أكثرهم! فتراه في القصة الأخيرة (كما هو) يعيش في الجزائر بأسم (سيمون شافجران)، وكيلا لشركة (فونوغرافات)، وقد حلق لحيته واستبدل بنظارته المعدنية عوينات ذهبية الإطار، وأصبح يحظى بإجلال عارفيه لأنه لا يفتأ يضرب الأمثال على تضحيته وإيثاره وحبه للإنسانية. فهو قد أنقذ صبية صغيرة من بين عجلات القطار في مرسيليا، وقد تبرع بدمه لجريح، وتطوع لتمريض المصابين بالطاعون. ثم هو يرعى خادمه (مختاراً) ويعلمه القراءة والكتابة ويحاول أن يثنيه عما هو منغمس فيه من قبيح العادات. إذن فقد أصبح يمارس أعمال الخير حقاً، ولم يعد يجرب أكتساب الفضائل بطرق خيالية. ولكنه على ذلك كله غير راض عما يفعل! لماذا؟ إنه غير مجرد من كل تفكير جماعي، فلعله يرى أن طيبته وإنسانيته لم تخففا شيئاً من آلام الناس. ولكنه لم يقدم على هذه التجربة الكبيرة لينقذ الإنسانية، بل أراد أن ينقذ الإنسانية في نفسه اولاً، بأن يكون إنساناً فاضلا فيما يأتي وما يدع، عن سليقة وعادة لا عن تفكير وإرادة. وهو يرى أنه لم يبلغ من ذلك شيئاً. فهو يرتد ثانية إلى نفسه، ويصارح صاحباً له: (كيف يستطيع المرء ألا يكون إلا ما هو؟ وكيف(769/37)
يحاول أن يكون غير ما هو بغير أن يصيبه الجنون؟).
هو إذاً لم يتقدم خطوة منذ فكر أن (يغير روحه). ولكنه يتعلم شيئاً واحداً: يتعلم (أن العمل الطيب إنما هو ثمرة تفكير يوازن ويختار. أنه النتيجة الثابتة الرائعة لصراع باطني كبير). وتدخل هذه الحكمة على نفسه شيئاً من الهدوء. . . فهو يستطيع اذاً أن يصل إلى السلام النفسي الذي ينشده عن طريق هذا الصراع الباطني الموجه دائماً نحو غرض طيب.
وتأتي نهاية سلافان في عمل من هذه الأعمال الطيبة.
قتل خادمه مختار رجلاً إيطالياً برصاصة مسدس، وكان سلافان يستطيع - بشيء من حضور الذهن - أن يمنع الحادث، ولكنه لم يفعل، وأعتصم الخادم بقبو المنزل. فسار اليه سلافان يصرع اليه بأن يخرج ويعده أن يدافع عنه، وإذا بالخادم يرديه بطلقة من مسدسه.
عمل من أعمال الطيبة! عمل يودي بصاحبه دون جدوى ولكنه يأتيه بالسلام النفسي الذي ينشده، لأنه انتصار على تردد النفسي وجبنها، ومواجهة للجهل والظلم والشر، ولأنه لطف ورحمة، ولأنه عفو ومغفرة. وتلك هي الفضائل النفسية التي جاهد سلافان ليبلغها. فليكن عزاؤه إذ لم يحظ بها في حياته، إنه احسها في مماته، وليكن عذره إذ لم يبلغ السلام النفسي الذي ينشده، أنه دفع حياته ثمناً له!.
لست أدري ماذا عسى أن يكون رأيك في سلافان. وقد أردت بهذه المقدحة شرحاً وتفسيراً، ولم أرد نقداً وموانة، على أني أكتفي بأن أقول إن سلافان أبعد عن الواقع وأقرب إلى أن يكون دعاوة لأفكار الكاتب، ولأن سلافان الشاب أ {وع سخرية وأقل تشاؤماً على رغم ما ينتابه من يأس عنيف.
شكري محمد عباد(769/38)
أقرأ معي
وقف برناردشو في جماعة العمل الحر بالجمعية الغابية بلندن يلخص العدالة الأجتماعية التي يرجوها لبني وطنه فقال:
إن مطالبي من لندن، ومنزل ريفي جميل، وسيارتان، وثلاثة أو أربعة آلاف من الجنيهات، ومع ذلك لا يكون هناك شخص أقنع من برناردشو في إنجلترا. إن أصحاب الملايين العديدة يصفونني لطلبي المتواضع هذا بأنني شيطان فقير؛ ولكني أرى أن ما طلبت يكفيني أن أعيش بسهولة في هذا الوضع الاجتماعي العادل أحب أن أرى كل رجل وأمرأة.
الولايات التسع (لجبران خليل جبران)
ويل لأمة تنصرف عن الدين إلى المذهب، وعن الحقل إلى الزقاق، وعن الحكمة إلى المنطق.
ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر.
ويل لأمة مغلوبة تحسب الزركشة في غالبيها كمالاً، والقبيح فيها جمالاً.
ويل لأمة تكره الضيم في منامها وتخنع اليه في يقظتها.
ويل لأمة لا ترفع صوتها الا إذا سارت وراء النعش، ولا تفاخر الا إذا وقفت في المقبرة، ولا تتمرد الا وعنقها بين السيف والنطع.
ويل لأمة سياستها ثعلبة، وفلسفتها شعوذة، أما صناعتها ففي الترقيع.
ويل لأمة تقابل كل فاتح بالتطبيل والتزمير، ثم تشيعه بالفحيح والصفير، لتقابل فاتحاً آخر بالتزمير والتطبيل.
ويل لأمة عاقلها أبكم وقويها أعمى ومحتالها ثرثار.
ويل لأمة كل قبيلة فيها أمة.
وضعت جمعية المحامين في نيويورك بناء على اختباراتها الكثيرة في القضايا المختلفة بين الزوجين، والمؤدية إلى شقاء السرة وخراب البيت عشر وصايا للزوج، هي:
لا تكن بخيلا فالزوجة وإن يكن لها صبر على الفقر لا تحتمل البخل والتقتير متى كان زوجها في سعة.
أترك الأمور المنزلية لزوجتك تديرها كيف شاءت.
أبتسم في بيتك. أبتسم دائماً ولو كنت مهموماً؛ فالابتسام أحسن ما يقوي السعادة الزوجية.(769/39)
لا تخف أن تطلع امرأتك على محبتك الشديدة وتقديرك لها، وأقرها الطيب في حياتك.
كن دائماً حبيباً لا زوجاً فقط، فالمرأة تكره أن ينتهي الحب حالما ينتهي شهر العسل.
لا تعنف زوجتك مهما كانت الظروف صعبة.
أبتعد عن أقاربك وأقاربها ما أستطعت، وأبنيا بيتكما كما تريدان.
لا تسكن معك رجى غريباً؛ فإن النمر في بيتك أقل خطراً من ذلك.
لا تهمل في لباسك وهيئتك وعوائدك أمام زوجتك بل أبق معها كما كنت أيام الخطبة.
عامل أولادك بالحنان والمحبة والعدل؛ فأنك بذلك تأسر قلوبهم وقلب أمهم معهم.
قرأت في إحدى نشرات جمعية التاريخ الجديد بنيويورك الفقرات التالية عن السلام لبعض شبيبة العالم.
تحولوا إلى الشبيبة الراغبة في السلام وفي حياة أفضل فالشيوخ لا يفهمون. (تشيكوسلوفاكيا)
تظل الحروب أخذة مجراها ما دام الرأي العام لا يعترض عليها. (إنجلترا)
لتمت الأمم لكي تحيا البشرية. (فرنسا)
اغرسوا في الفتيان تلك الفضائل التي تجعلهم من وطني ولايات العالم المتحدة. (هولندا)
يجب على الفتيان أن يحرروا أنفسهم من تعصبات الهيئة الأجتماعية المفلسة. (رومانيا)
قاطعوا خطب الأساتذة الممالئين للجندية وأثيروا هياجاً هائلاً ضد الحرب. (إيطاليا)
على الشيبة أن تحرر نفسها من عادة المغالاة في احترام التقاليد الميتة وأن تنهض من غفلة الإذعان للأصنام التي يجب عليها أنزالها عن عروشها. (البرازيل)
نشرت مجلة عدة حقائق عن السكر نقتطف منها ما يلي:
عرفت زراعة قصب السكر منذ 300 سنة قبل الميلاد في الهند ومنها عرف في بلاد الفرس ثم بلاد العرب وبعد ذلك بألف سنة أخذه أهل مراكش إلى أسبانيا ومنها عرف في إنجلترا بعد خمسة قرون.
كان السكر حتى القرن الخامس عشر يستعمل كدواء فقط ولثمنه المرتفع في ذلك الوقت لم يكن في قدرة السواد الأعظم من الناس أن يشتروه.
كان أول من أستخرج السكر من البنجر هو بنيامين دليسه عام 1811 عندما لم تتمكن(769/40)
فرنسا أبان حروبها من الحصول عليه من الخارج. وقد أنعم عليه نابليون بوسام الشرف تقديراً له.
أجمع أطباء نيوزيلندا على أن نقص السكر في الجسم يسبب ميلا إلى الإجرام وقد فحصوا دم عدد كبير من المجرمين فوجدوا فيه نقصاً كبيراً في الجليكوز.
(الأبيض - السودان)
إيليا حليم حنا.(769/41)
عادت النار. . . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(إلى النار التي أندلع لهيبها في رمادي. . . فكادت تورق في
عذابه أغصان الزوال!)
وما كدت ابصرها في الظلام ... وأصغي لأنوارها في دجاه
تلفتُّ فأهتزَّ فِيّ الرَّمادُ ... وشبتْ من الموت رؤيا لظاه
وأَما اليها سكونْ الزَّوال ... فضجتْ بجنبيه نارَ الحياهْ
وهَّبت قبورُ سلاها الفناءُ ... ولم يبق فيها لباكِ شكاه
سلونا وضعنا وضاع الرباب ... وسرنا خريفاً جفاه الرعاه
وكل الذي كان في كأسنا ... بقايا الندامة عند العصاه
وجرح خفي حملنا أساه ... ودرنا به صرخة في فلاه!
فمن أين يا رب هذا الضياء ... ولا أعرض فيها نقيم الصلاه؟!
تلفت! واهاً على الحائرين ... إذا بوغتوا باخضرار الفلاه!
عناء، وعشب، ومجرى غدير ... توهج من نشوة شاطئاه
وصبحُ مزاميره في الفضاء ... وترجيعها كامن في حشاه
وماض رخيم الردى، كلما ... تزايلت معناه، ألقى عصاه
فأطرقت حتى عبرت الزوال ... وهيّلت أحلامه في ثراه!!
وقلتُ الهوى لم يضع. . إنما ... أضاعت خطاها إليه فتاه
تعالى نسرْ في خضم العذاب ... وزورقنا ساخر من أساه
تعالى نواصل سرى العاشقين ... ونركب جنون الصبا للحياه
ونمشي. . ونمشي. . إلى أن نزول ... ويلقفنا سكرة منّهاه
فإن ساورتنا رياح الزمان ... دفنا أساها بنار الشفاه
تعالى نحلق بهذا العذاب ... ونمضِ إلى كل أفق نراه
تعالى فإني لمحت الوجود ... بعينيك حيران تعوى رباه(769/42)
خمائله باكيات الظلال ... وغدراته ظامئات المياه
ونوح نجفنيك شاجي الأنين ... عبرت الدجى مطرقاً في صداه
وليل بصدرك خابي النجوم ... صفير الأعاصير أشقى دجاه
سمعت الخيانة في غابه ... وحياتها تستفز الرقاه
تدب إلى كل أيك رطيب ... وتُجري مهالكها في ثراه!
وجنات شوق رطاب اللهيب ... قريبات عهد بسحر الإله
بجنبيك فضت أفانينها ... شواظاً من العطر يبكي شذاه
لهن أرتجاس تبيد الذنوب ... إذا وسوست شهقة في حماه
وفيهن مهوى ضلال السنين ... إذا أزهقت شارداً في هواه
وبحر من التيه نائى الضفاف ... تلاشى وأوغل بي شاطئاه
عبرنا بأمواجه اللاهثات ... عذاباً تضلّ الليالي سُراه
على زورق رافضي الشراع ... تلجلج في عاصف ثم تاه. . .
وتهنا به في خضم حزين ... جفا الفلك تياره وأشهاه!
تعالي فإني مناد غريب ... على قمة لم تقم في حياه
عبرت الليالي بناد شجي ... وقلب شقي طغت علّتاه!
فهيا نغني لهذا الرماد ... وحلماً عميقاً يناغي كراه!
تعالي. . . فما في حياة العباد ... لأمثالنا غير تلك الصلاه!
محمود حسن إسماعيل(769/43)
الأدب والفن في أسبوع
حول جوائز فؤاد الأول الأدبية:
قالت (أخبار اليوم) إن الأدبيين الكبيرين إبراهيم عبد القادر المازني وتوفيق الحكيم أرسلا إلى معالي وزير المعارف خطابا نشرت نصه، وهما يقولان فيه إنه قد بلغهما أن كتباً لهما قدمت إلى مسابقة لنيل جائزة فؤاد الأول، ويرجوان استبعاد هذه الكتب، حتى يقولا: (وإن إقحامنا في مباراة للجميع نزاحم فيها بالمناكب ناشئة الأدباء والمؤلفين فيما يستحقون من تشجيع، ليظهرنا بمظهر فيه مجافاة للذوق ومنافاة للمروءة).
وأود أولا أن أقول إن جوائز فؤاد الأول الأدبية لا تمنح لفائز في مسابقة وإنما تمنح لخير كتاب أو كتب ظهرت في السنوات الخمس الأخيرة؛ وينص مرسوم إنشاء هذه الجوائز على أن اللجنة تبحث فيما تختاره من الإنتاج وما يقدم إليها من أصحاب الإنتاج أو غيرهم من الهيئات التي ينتمون إليها.
وأقول ثانياً إن جوائز فؤاد الأول ليست مباراة لناشئة الأدباء والمؤلفين، وأستطيع أن أقول استنتاجاً من فهمي لوضعها الرسمي: إن من سمنح الجائزة سواء أكان واحداً أو أكثر لا يمكن أنه يقل مستواه الأدبي عن طبقة الأستاذين المازني وتوفيق الحكيم. . . . فلهما أن يطمئنا على مروءتهما وعدم مجافاتهما للذوق.
وقد فرغت اللجنة من مهمتها في يوم الأربعاء الماضي وقد علمنا أنها اقتصرت في منح الجوائز هذا العام على الدراسات الإسلامية الأدبية.
الذوق الأدبي عند الطفل:
ألقى الدكتور إبراهيم سلامة الأستاذ بكلية دار العلوم، محاضرة عن (الذوق الأدبي عند الطفل) يوم الخميس بمعهد التربية للمعلمين، بدأها بقوله: الأدب في آخر تحليله فكرة مصورة تزجيها عاطفة. فعناصره ثلاثة: الفكرة والصورة والعاطفة.
ثم قال لا بد لنا من أن نرجع بالأدب إذا بحثنا عنه في الطفل إلى العاطفة. كما لا بد من مجاراة بعض علماء النفس الذين يمثلون الطفل بالرجل البدائي الذي تحركت في نفسه المشاعر أول شئ، وكان أتجاه عاطفته نحو المعبود، وإذا تلمسنا الأدب في تلك الأزمنة البعيدة ألفيناه عند المقربين إلى الآلهة من الكنهة والسحرة فهم القادرون على التعبير عن(769/44)
عواطفهم بالكلام الذي ينمقونه ويزوقونه ليكون مخالفاً لكلام سائر الناس، ومن السهل أن نتصور حلقة من هذه الحلقات البدائية المقدسة، فنتصور إنشاداً وغناء وتوقيعاً وتصنيفاً ودورات متعددة مقسمة بين الكلام والحركة، ففي هذه الحلقات كان الرقص والغناء والموسيقى تعبيرات عن العاطفة عامة وعن العاطفة الدينية خاصة.
فالطفل في المرحلة الأولى من طفولته لا نستطيع أن نعتمد غي إيقاظ ذوقه الأدبي إلا على الناحية العاطفية والرقص والغناء والموسيقى نافعة في تكوين الذوق الأدبي لا بد أن ننتقل من الرمزية الحركية إلى الرمزية الكلامية أي إلى إنشاد وإلقاء وغناء، فالأناشيد الجمعية المغنية والموقعة على الموسيقى نافعة جداً في هذه المرحلة. وأن يقظة الذوق الأدبي عن طريقف النثر صعبة حتى في الكبار، فليست لنا وسيلة لهذه اليقظة الأدبية مع الصغار إلا بالأناشيد والموسيقى وأختيار العبارات الانفعالية الراقصة.
ثم قال الدكتور: إن طبيعة الطفولة طبيعة أدبية، فالطفل يقول لأمه أحبك كما يقول الشاعر لحبيبته، بل الطفل أرقى أحياناً من أبن أبي ربيعة الذي أحب الرباب (عدد النجم والحصى والتراب) وأحب الطفل لأمه (قد السكر وقد العسل والشكولاته؛ فالطفل أديب بطبعه وذوقه والمعلمون يفسدون عليه هذا الذوق. وهو يخاطب الجماد ويناجيه، فالطفلة تخاطب دميتها ويخاطب الطفل كلبه ويكلمه ويسأله ويجيب عنه، كما يخاطب الشعراء الديار والأطلال. وكلاباريد يقول: إن الطفل وهو يلعب يحلم وعيناه مفتوحتان، والشاعر إذا شعر كان في شنبه غيبوبة، والشاعر الحالم أرقى الشعراء. ولكن هذه الفنية الأدبية في الطفل لا تلبث إن تختفي بعد الثامنة لاشتغاله بالقيم اللغوية في الألفاظ ولهجرة اللغة الحرة الطبيعية التي نشأ عليها إلى لغة كلاسيكية ليس في قاموسه منها الا قليل، والمأزق هنا ضيق ليس فيه الا منفذان، إما ضياع القيم الوضعية للغة، وإما ضياع اللغة الأدبية للطفولة التي لا يعبأ فيها بالقيمة اللغوية، والمعلم اللبق من يستبقي لغة الطفل فيعد لها بدل أن يميتها ويميت معها كثيراً من العواطف والأحاسيس اللغوية والتصورات الفنية.
الشعر بين حاضره ومستقبله.
استمعت مرة اخرى يوم الجمعة الماضي إلى الأساتذة شوقي أمين وكامل عجلان ومصطفى حبيب، يتحاورون في إذاعة الشرق الأدنى العربية، وكان موضوع الحوار (الشعر العربي(769/45)
بين حاضره ومستقبله) وقد اختلفت آراؤهم ونظراتهم إلى حالة الشعر الحاضرة، فعجلان يحمل على شعرائنا الأحياء حملة شعواء ويقول إنه قلب نظره بين الشعراء بعد شوقي فلم يجد نفسه إلا ملتفتاً نحو شوقي، حتى يقول إن شوقي هو ماضينا في الشعر وحاضرنا والمستقبل غيب. ويرى أن شعراءنا لم يكونوا هم أصحاب السبق في تصوير حياتنا وخوالجنا وآمالنا في الفترة الحاضرة، وأن موقفهم يكاد يكون موقف المتخلف عن الركب.
وينكر شوقي أمين أن ترمي قرائح الشعراء بالعقم أو بعده، ويرى أن شوقي بمكانته التي نالها كان من عمل الظروف الخاصة به، ولو أتيحت هذه الظروف أو أشباهها لغيره من الشعراء لرأينا شوقيين كثيرين، ويتخيل أن المجتمع الأدبي كأنما أراد حداداً على شوقي فلم يفسح المجال لشعرائنا المعاصرين كي يغنوا غناءه ويقوموا مقامه؛ ويقول إن واجبنا هو أن نتيح لناشئتنا مختلف المناهل الثقافية والأدبية، ونمهد لكل ذي نزعة أن يجد له متنفساً، وبهذا التيسير والتمهيد تتكشف العبقرية ويظهر العبقري، وسيشق لنا ذلك العبقري أفقاً نتطلع إليه معجبين، وترى فيه المثل الأعلى.
ولا يرى حبيب أن الظروف وحدها أو الطبيعة وحدها تستطيع أن تخلق شاعراً نابغاً وعبقرياً، بل ثمة عوامل أخرى ترجع إلى الهبة أولا ونفاذ البصر والبصيرة ثانياً هي التي تعين على خلق الفنان. وليست البطولة العبقرية وقف على الأبهة والعظمة، فكثيرون من الأبطال شعراء وغير شعراء قد ذاقوا مرارة المنبت وعاشوا حياتهم في شظف، ومع ذلك تركوا تراثا خالداً من الأدب والمجد. ويقول لعجلان: أنت تتحامل على الشعراء، فما زلنا نقرأ لمحات من الحياة في شعر أبناء هذا الجيل، ولعلنا نظلمهم إذا قلنا إنهم متأخرون عن السابقين لأننا في مثل هذا الحكم نصدر عن مقاييس فرضنا فيها الثبات، مع أن المقاييس تتغير والحياة تسير، حتى إن معظم الشعراء والأدباء الآن ما يزالون ينسجون على منوال الأعصر الحالية في الشعر والأدب، ولذلك فإن إنتاج قرائحهم لا يملأ نفوسنا نحن الشباب، والناس يريدون أن يسمعوا شيئاً عما جد في الوجود وأثره في الحياة، فاعذروا الشعراء إن هم لم يصادفوا هوى في نفوس الشيب لأنهم يستحدثون، ولا في نفوس الشباب لأنهم لم يبلغوا بهم ما يريدون والذنب ذنب العصر لأنه لم يستقر.
السينما الثقافية في خدمة الشباب.(769/46)
تعمل إدارة خدمة الشباب بوزارة المعارف في إعداد بعض الرسائل التثقيفية التي ترمي بها إلى إفادة الشباب وأستغلال أوقات فراغهم فيما تميل اليه نفوسهم من الهوايات الأدبية والفنية.
وقد بدأت بأختيار طائفة من الأفلام الثقافية لعرضها على جمهور من طلاب المدارس الثانوية، وقد أعدت لهذا العرض حجرة كبيرة بدارها في شارع سليمان باشا.
وقد أختارت تلك الأفلام من الإنتاج السينمائي الجيد، ومما يؤسف له أنها لم تجد فلما مصرياً واحداً يمكن أن يسمى ثقافياً. . وقد عرض في هذا الأسبوع فلم (إجازة الأسبوع المفقودة) لشركة بارا مونت، و (حياة مدهشة) لشركة راديو، و (البداية أو النهاية) لشركة مترو. وستعرض أفلاما أخرى في الفترة القادمة إلى أوائل مايو. ثم تنتظر حتى يفرغ الطلاب من الأمتحانات وفي العطلة الصيفية توسع الإدارة مدى نشاطها ليشمل لتيسر من الوسائل كما يشمل أكبر عدد ممكن من الشباب، فلا يقتصر الأمر على العدد القليل الذي يختار الآن من المدارس.
والواقع أن إدارة خدمة السباب تعمل الآن في دائرة ضيقة جداً، فليس كل الشباب هؤلاء العشرات الذين يترددون على دارها في القاهرة، يوم تستطيع أن تمد أسبابها إلى الشباب في أكثر جهات القطر، يصح لها أن تغتبط بتأدية رسالتها.
الإذاعة وأنتاج السباب.
كانت إدارة الإذاعة قد كتبت إلى إدارة خدمة الشباب التي قامت بتنظيم المهرجان الأدبي والفني للشباب ترجو منها أن تبعث اليها ببعض الإنتاج الفائز في المهرجان من أناشيد وتمثيليات إذاعية لإذاعتها؛ ولم تذكر إدارة الإذاعة أنها ستدفع أجوراً لأصحاب هذا الإنتاج. فرد عليها الأستاذ عبد الله حبيب وكيل إدارة خدمة الشباب بأن الوزارة أجازت هؤلاء الشباب بجوائز أدبية وجوائز مادية قليلة على قدر ما سمح به (الأعتماد) وأن الإذاعة تتمم لهم التشجيع إذا منحتهم أجوراً على ما تريد إذاعته لهم، فإذا رأت ذلك فإن الإدارة ترسل إليها ما تطلب من ذلك الإنتاج ولكن الإذاعة لم تجب ولعلها تنظر في الأمر؛ ولا شك أن أحد إنتاج الشباب لإذاعته بالمجان ليس من العدل، كما أنه ليس من العدل ولا من الحزم أن(769/47)
تقتصد محطة الإذاعة وتدخر لتستطيع أن ترضي كبار المطربين والموسيقيين الذي يتحكمون فيها على حساب الشباب الذي هم أحوج إلى التشجيع والى أن يجنبوا شيئاً من ثمرات قرائحهم ومواهبهم.
الفن المعاصر والفن المصري:
كانت وزارة المعارف قد استقدمت جماعة من كبار الفنانين الفرنسيين والأسبانيين، لغرض طائفة من إنتاجهم في الرسم والنحت ولإلقاء محاضرات بمدرسة الفنون الجميلة العليا؛ وأقامت معرضاً لصورهم وتماثيلهم بدار الجمعية الزراعية الملكية، هو معرض الفن المعاصر. وقد تفضل جلالة الملك بزيارة هذا المعرض، وفي خلال هذه الزيارة الكريمة قال جلالته للمشرفين على المعرض: هل يمكن إقامة معرض مصري كهذا؟ وكانت هذه رغبة سامية ولفتة بارعة من جلالة الفاروق. ولا شك في أن الوزارة ستعمل على تحقيق ذلك.
وقد وافقت هذه الإشارة الملكية هوى كثير من الفنانين المصريين الذين كانوا يشكون من أموالهم ويوجهون النقد إلى استدعاء الفنانين الأجانب وبذل الأموال لهم، مع أن لهم أي المصريين - إنتاجاً لا تقل قيمته الفنية عن إنتاج هؤلاء الأجانب. ومما يذكره بعضهم أن أستدعاء هؤلاء الفنانين كان بوساطة مليونير مصري معروف له شغف بهذا الفن، وهم من أصدقائه. .
ومما لوحظ في معرض الفن المعاصر أن الرسوم واللوحات كتبت عليها أسماؤها وموضوعاتها بلغة أجنبية، ولم تكتب حتى بجانب الأجنبية - باللغة العربية. وهذه ظاهرة يؤسف لها أشد الأسف، وخاصة أن هذا المعرض تنظمه الحكومة المصرية التي تفرض اللغة العربية في مكاتباتها، فكان يجب على الأقل أن يترجم المكتوب باللغة الأجنبية إلى العربية ويكتب في أوراق منفصلة تعلق بجوار الصور والتماثيل.
(العباسي)
-(769/48)
البريد الأدبي
التاريخ يعير نفسه بين المسلمين واليهود:
ذكر الأستاذ على الشويكي أنه جاء في مقالي بهذا العنوان (ثم سلط الله عليهم دولة الروم قبيل ظهور المسيح، فقضوا على دولتهم قضاء لا مرد له، وأجلوهم عن فلسطين آخر جلاء، لأنهم كذبوا مسيحه وحاولوا قتله، وقتلوا أبن خالته يحيى بن زكريا قبله) وعلق عليه بأنه لا يتسق والتسلسل الزمني للتاريخ، إذ كيف يقضي الروم على دولة اليهود ويجلوهم عن فلسطين لأنهم كذبوا المسيح وحاولوا قتله قبل ظهوره.
ولا شك أن مثل هذا لا يفهم من كلامي، لأن الذي جاء فيه أن تسليط دولة الروم على اليهود هو الذي كان قبيل ظهور المسيح، وعطف ما بعده عليه من القضاء عليهم وإجلائهم لا يقتضي أن يكون قبل ظهور المسيح ايضاً، لأنه لا يلزم من تسليط دولة على أمة أن تقضي على دولتها عند تسلطها عليها، ولا أن تجليها بعد مضي زمن على الفعل الأول.
وللأستاذ الشويكي تحياتي وشكري.
عبد المتعال الصعيدي.
استدراك على صاحب العقد الفريد:
اورد صاحب العقد الفريد في الجزء السابع باب (من سمع صوتاً فوفقه معناه فأستخفه الطرب) ما نصه: وغنى إبراهيم الموصلي محمد ابن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانئ فيه:
رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن
كل يوم يسترق له ... حسنه عبداً بلا ثمن
يا أمين الله عش أبداً ... دم على الأيام والزمن
أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن
سن للناس القرى فقروا ... فكأن البخل لم يكن
قال: فأستخفه الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه؛ فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه وما وطئتا من البساط؛ فأمر له بثلاث آلاف درهم؛ فقال إبراهيم(769/49)
يا سيدي قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم! فقال الأمين: وهل ذلك الإخراج بعض الكور؟ والذي أذكره أن هذا تجن على الأمين اولا، واختلاف على إبراهيم ثانياً؛ فلقد فات الأستاذ العريان محقق الكتاب - كما فات صاحب العقد أن إبراهيم الموصلي لم يدرك زمن الأمين إذ كانت وفاته على عهد الرشيد سنة ثمان وثمانين ومائة. قال صاحب نهاية الأرب: لما مرض إبراهيم مرض الموت ركب الرشيد حماراً ودخل على إبراهيم يعوده وهو جالس في الأبزن (حوض يغتسل فيه) فقال له: كيف أنت يا إبراهيم؟ فقال: أنا والله يا سيدي كما قال الشاعر:
سقيم مل منه أقربوه ... وأسلمه المداوي والحميم
فقال الرشيد: إنا لله، فخرج فما بعد حتى سمع الداعية عليه. وذكر صاحب الأغاني: قال أسحق بن إبراهيم الموصلي: دخلت على الرشيد بعقب وفاة أبي. . . إلى أن قال فأدناني منه فقبلت يده ورجله والارض بين يديه فاستعبروا كان رفيقا فوثبت قائماً ثم قلت:
في بقاء الخليفة الميمون ... خلف مصيبة المحزون
لا يضير المصاب رزء إذا ما ... كان ذا مفزع إلى هارون
فقال لي: كذاك والله هو، ولن تفقد من أبيك ما دمت حياً إلا شخصه.
هارون محمد أمين
في مقال
في العدد (768) من (الرسالة) الغراء أطلعت على مقال الأديب غائب طعمه فرمان (نظرات في الأدب العراقي) ولي عليه تعقيبان لغويان، هما:
قال في سياق المقال: (. . . وتلك الصرخات (لداوية) في الشعر العراقي. .) فأستعمل الفعل الثلاثي (دوي) من الدويّ أي إحداث الصوت! وهو خطأ ما في ذلك شك! إذ لا يقال: دوي الرعد. وإنما: دويّ الرعد. . . لأن الثلاثي ماضيه - وهو من باب صدى - بمعنى مرض، والدوي - على القصر - المرض. وإذا ّ فالصواب أن يقال (الصرخات المدوية لا (الداوية). . .).
وقال: (. . . و (على) ضوئها يمكن أن ندرس. . .) وهو استعمال (مصلحي) بحت لا(769/50)
ينتمي إلى لغة الضاد على وجه الصواب بسبب أو بأسباب. والصحيح أن يقال: (. . . (في) ضوئها. .). وقال تعالى في كتابه العزيز (كلما أضاء لهم مشوا (فيه). .). ومن أصدق من الله قيلا!.
وبعد: فليس غرضنا من تعقيبنا هذا الخاطف إلا الذود عن لغة الضاد، هدى الله الجميع إلى الرشاد والسداد.
(الزيتون)
عدنان
كتاب تاريخ الأدب العربي:
تجرأ أحد المجرمين من الكتبيين فقلد الطبعة العاشرة من كتاب (تاريخ الأدب العربي) وعرضها للبيع، وهي طبعة ناقصة محرفة مشوهة، يعرفها القارئ لأول وهلة من صغر حجمها، وسوء طبعها، وأختلاف حرفها، وخلوها من الشكل، وكتابة عناوين الأبواب بالخط الفارسي وهي في الأصل مكتوبة بخط الثلث. وأولى علامات هذه الطبعة المزيفة أن تجد على صفحة الغلاف الأولى جملة (حقوق الطبع محفوظة) غير محصورة بحاصرتين وهي في الطبعة الأصلية الصحيحة محصورة بهما وشكلهما هكذا [].
وقد اتخذت الإجراءات الرسمية لضبط المزيف ومصادرة النسخ المزيفة. وأنا لننصح لحضرات القراء أن يميزوا بين الطبعتين بما ذكرنا من الفروق، وأن يتفضلوا - متى وقعت في أيديهم نسخة مزورة - فيخبروا إدارة الرسالة بمكانها ومصدرها وعلى الأخص في الأقطار العربية. وقد شرعنا نطبع الكتاب طبعته الحادية عشرة وستكون مزيدة منقحة كما عودنا القراء في كل طبعة.
حول ديوان أبي فراس:
لأمراء في أن هذا الديوان في ثوبه الجديد خليق بكل ما قوبل به من حفاوة وتنويه. فهو طراز لا عهد للشرق به في الإخراج، وأسلوب يجب احتذاؤه في نشر تراثنا القديم؟ ولكن ما فائدة كل هذه المجهودات في التحقيق والنشر إذا عقيما لم ينتفع بها منتفع، وباتت حتى فوق متناول اساتذة الأدب في معاهد الأدب العالية؟(769/51)
جرى ذكر نشر هذا الديوان وتمنه في مجلس شيخ من شيوخ اللغة والأدب في مصر. فتبسم ضاحكا وقال: ما معنى أن يبلغ ثمن الديوان فوق الثلاثة جنيهات. وكم أستاذا ممن يدرسون الأدب يتحمل دخله أن يبذل في أمثال هذا الديوان هذا المبلغ؟ وكم يبقى لما تخرجه المطابع العربية؛ وما يحمل الينا من المطبوعات الأجنبية، يجب أن تظل هذه الأعمال العلمية، (ما أمكن) بمناي عن روح التجارة بعيدة عن أن يكدر صفاءها غبار الأستغلال، حتى يتهيأ لها أن تؤثر آثارها المرجوة. وإن كنا نريد أن نزود الأمة: ونهض بذوقها وفكرها.
إن أهم ما ينال من مكانة هذا الأثر في النفوس أنه قد شق مطلبه وعسر سبيله على كثير من الأستاذة الذين هم حماة اللغة ورعاة الأدب فضلا عن الشباب.
محمد عبد الحليم أبو زيد.
مهرجان للشعر في النادي النوبي العام:
يقيم النادي النوبي لعام بالإسكندرية مهرجاناً شعرياً احتفالاً بالربيع في الساعة السابعة من مساء يوم الأحد 28 مارس سنة 1948 برئاسة صاحب العزة البكباشي أحمد الطاهر بك رئيس جماعة نشر الثقافة بالسكندرية. ومن خطبائه وشعرائه الأساتذة: إدوار حنا سعد، حسين محمود البشبيشي، خليل شيبوب، عبد اللطيف النشار، عثمان العزب، الآنسة عواطف بيومي، الأستاذ محمد فضل إسماعيل(769/52)
القصص
طبيعة مبهمة!
للكاتب الروسي أنطوق تشيكوف
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
مالت السيدة الوضيئة جانباً، وهي جالسة على مقعد وثير مغطى بالمخمل الأحمر في عربة فاخرة من عربات السكة الحديدية!. وقد ضمت أناملها البضة الرقيقة مروحة مريشة أنيقة الصنع رائعة الوشى. . . راحت تهتز وتتراقص عن يمين تارة وعن شمال!. .
وطفق المنظار المعلق على أنفها الدقيق الفاتن لا يقر له قرار، بينما بدت (الحلية الماسية) مشرقة تتألق على جيدها كزورق يسبح في ماء المحيط!. .
وجلس في مقعد قبالتها الناموس الإقليمي للجمعيات الخاصة وهو شاب حديث المنبت في الأدب، يخرج على القوم بين حين وحين بقصص طوال - من النسق الرفيع كما يحلو له أن يسميها - ينشرها في جريدة الإقليم. .
راح يحملق في صفحة وجهها، ويحدق عن قصد لا يحول. . بعين العارف الخبير! إنه يتأمل ويدرس. . ويتصيد ظلالا عابرة وأطيافاً حائرة بين ثنايا هذه الطبيعة المبهمة، والغموض يكتنفها!، إنه يحاول أن يفهمها ويسبر غورها. . . فروحها ونفسها. . . كلتاهما مبسوطة بينه الجلاء أمام ناظريه. . .
ثم لم يلبث أن قال لها، وهو يلثم رسغها البض على مقربة من السوار!.
(أه. . . لقد أدركت!. أدركت إلى أبعد مدى ما يدور بين جوانحك. . إن روحك ذات الحس المرهف والأمل الطامح. . تسعى في سبيل الخلاص من ربقة الحيرة الطاغية، والفكاك من أسر القاتل! إنه لصراع عنيف (نضال مخيف! ولكن تمالكي روعك وأمسكي عليك صوابك وتذرعي بالصبر فلسوف يأتيك الفوز من حيث لا تعلمين. . . أجل!)
فقالت السيدة الأنيقة في صوت خفيض مضطرب النبرات، وقد علت وجهها بسمة حزينة: (أكتب عني يا (فلدمار). . .
إن حياتي عامرة مختلفة ألوانها!. زاخرة بالمال والذهب. . بيد أني - على الرغم من ذاك(769/53)
- لا أذوق للسعادة طعماً، ولا أجد الهناءة إلا حلماً!. ما أنا إلا نفسي معذبة وروح شقية في صفحة من صفحات (دستوفسكي)!.
(عرف العالم بهذه النفس يا (فلدمار)، وأذع خبر هذه الروح ذات الحظ العاثر والطالع النحس!. لقد أوشكت أن تبلغ من قلبي مبلغاً عظيماً. ولعلك لا تجدني بعد ساعة في هذا القطار) - خبرني!. ناشدتك الله. . . خبريني!.)
- (أعرني مسمعيك. . . لقد كان أبي كاتباً في (الخدمة) قتر عليه رزقه. . وكان ذا قلب تعمره الطيبة ويفيض عطفاً وحنواً وذا عقل ليس بالعاطل من الفطنة والمعرفة. . بيد أن الزمام أفلت من بناته وهو في غاية العمر، وتنكب جادة الرشد وهو على شفا القبر!. . فأدمن الخمر وأغرق في الميسر. . وأمتدت يده إلى الرشوة فلوثها دنسها!. وأني لا أضمر له لوماً. . بل طالما رثيت له وأشفقت عليه!.
وأمي! - ولكن ما الذي يدعوني إلى أن أمضي في هذا!. المتربة والعوز. . والنضال المرير في سبيل لقمة تسد الرمق!. . والمشاعر التي تكتنف المرء لإحساسه بتفاهة شأنه وحقارة أمره في موكب الحياة الصاخب! أوه! دعني. . لا تدفعني إلى أن أبعث هذه الذكريات وأثير تلك الشجون. . . لقد جاهدت في أن أشق سبيلي وأنت أدرى بحال التعليم في تلك المعاهد التي تأوي من يطلب العلم فيها، وما يجتاح الشباب - وهو يتفتح - من حماقات ونوات. . ثم هذه الخفقات الأولى بين الضلوع. . . للحب الوليد! إن ذلك لرهيب مهيب!. الحيرة والأضطراب، وتلك الآلام المبرحة التي تحز في نفسي حزاً عند من يفقد يقينه بالحياة!. . .
أوه إنك مؤلف!. وتدرك ما يفعم قلوبنا. . معشر النساء! لسوف تفهم كل شئ!. كم كنت تعسة شقية!: أتلمس السعادة وأي سعادة! وأتوق إلى أن أطلق لروحي عنان الحرية! أجل فها هنا. . . تكمن سعادتي وتستكن راحتي!.)
فغمغم (المؤلف). . وهو ينهال على رسغها العاجي فيلثمه مرة أخرى عند السوار!. (يا لك من مخلوق رائع! إني لا أقبلك أنت. . . بل أحي فيك الإنسانة المعذبة. . ألا تذكرين (رسكولنكوف) وبقبلته الخالدة!. .)
- (أوه. . . يا فلدمار. . إني لتواقة إلى المجد، مشوقة إلى الرفعة ظامئة إلى الشهرة! إني(769/54)
لأحن إلى أمر غير هذه الأمور التي لا تفتأ تدور على وتيرة واحدة. . . أمر غريب عجيب لا تألفه النساء!.
وبعد هذا!. ألفت إلى المقادير قائداً عجوزاً عظيم الثراء وافر النعمة!. هلا فهمتني يا فلدمار. لقد كانت تضحية بالنفس وأي تضحية!. وإنكاراً للذات وأي إنكار! ينبغي أن تعلم هذا!
لم يكن بوسعي أمر غيره فقد علقت (الأسرة) آمالها وعقدت أمانيها على أن أقبله. كم عانيت منه فلشد ما أثار سخطي وأهاج بغضي فقد كان عناقه شيئاً كريهاً وحديثه تافه النفس.
وكنت - على الرغم مني - أظهر له اللطف وأتكلف الرقة؛ إنها لحظات مريعة. بيد أن الرجاء كان يراود نفسي والأمل يداعبها فأمنيها اليوم الذي يوارى الرجل فيه التراب ويضمه اللحد حينئذ سوف يخلو سبيلي، فأحيا كما يروق لي وأهب نفسي إلى الإنسان الذي أعبده سعيدة راضية لا مجال للريب في أنه ثمة إنسان يقع من النفس موقع الشغف يا فلدمار).
وراحت السيدة الوضيئة تحرك مروحتها في شئ من العنف وبدا وجهها وكأنما اتخذت سماته الأهبة للبكاء، ومضت في حديثها مستأنفة (وأخيراً خمدت أنفاس الرجل وذاق منيته فحلق لي نصيباً ليس باليسير. لقد صرت طليقة كالطائر الذي يحوم في جو السماء فيقع على ما يهوى إنها الساعة التي حانت فيها سعادتي أليس كذلك يا فلدمار؟ لقد أقبلت السعادة تطرق نافذتي ولم يكن علي إلا أدعها تدخل.
ولكن أسمع يا فلدمار ففي هذه اللحظة التي كنت فيها أسعى لرجل الذي أهيم به حباً لأهبه نفسي وأصبح شريكة حياته، وساعد عون له وناصره لشوكته فأسعد به وأستريح اليه.
في هذه اللحظة تبددت الأوهام وطارت الأحلام شعاعاً. وإن حياتنا حقيرة تمجها النفس، تافهة لا معنى لها. إني بائسة أشد البؤس، يائسة أبلغ اليأس. . .!
لقد كانت ثمة عقبة أخرى في سبيلي فلما أنثنيت أتلمس السعادة إذا بها نائية عني بعيدة كل البعد. . . أوه! ما اشد هذا ألما وتبريحاً لو أنك تحس هذا الألم وتستشعر ذاك العذاب).
- (ولكن ما الذي قام في سبيلك ونهض في وجهك هذه المرة؟! بالله خبريني ما هو؟!).(769/55)
- (قائد عجوز آخر واسع الثراء ف: اني مثل الذي فر من الموت، وفي الموت وقع).
وأنسدلت المروحة (المحطة) على الوجه الوضئ، وأعتمد (المؤلف) رأسه الضخم على راحة يده وأغرق في لجة من الفكر وقد لاح في هيئة الفيلسوف الحكيم.
وانطلقت القاطرة تدوي بصفيرها وصليلها بينما اصطبغت سجف النافذة بالحمرة الموردة وقد أشاعتها الشمس الغاربة!.
(الدقي)
مصطفى جميل مرسي(769/56)
العدد 770 - بتاريخ: 05 - 04 - 1948(/)
من مذكراتي اليومية:(770/1)
قصة فتاة
يوم السبت 29 سبتمبر سنة 1945:
ظلت الفتاة أسبوعين بعد لقائنا في الكنتننتال تتردد فيهما على مكتبي، فلا تجد الفرصة مواتية لتقول مثل ما كانت تقول؛ ولا الجلسة خاصة لتسمع مثل ما كانت تسمع. ثم انقطع عني عيانها وخبرها فجأة، فلم أعد أراها في المكتب، ولا أسمعها في التليفون، ولا أقرأها في البريد؛ فعللت هذا الانقطاع بما يجوز من العلل في مثل هذه الحال، ولكنها لم تعْدُ أن تكون ظنوناً لا يطمئن عليها البال:
هل عادت إلى القرية؟ ولكن لماذا لم تودعني قبل سفرها؟ ولماذا لم تخبرني بعودتها وهي تعلم أني أسر بخبرها؟
هل أصابها مرض ألزمها الفراش؟ ولكنها مرضت قبل ذلك فلم يمنعها المرض أن تبعث إليّ برسالتها مرة وبرسولتها أخرى.
هل قطعت بينها وبيني الأسباب؟ ولكنها قنعت مني بالسبب الضعيف الذي لا يربط، فلا ينفعها أن تقطعه، ولا يضرها أن تصله. إذن ما عسى أن تكون العلة الصحيحة لانقطاع خبرها عن علمي هذا الشهر كله؟
كنت أدير في خاطري هذا السؤال حين ألقى إلىَّ البريد في مساء هذا اليوم كتاباً ورقه كذلك الورق، وخطه كذلك الخط؛ ولكن أسلوبه مختلف وإمضاءه مغاير! مَن (زوزو) هذه التي تكتب إلىَّ بهذا الطول وتخاطبني بهذه اللهجة؟ عرفت بعد ما قرأت أنها ابنة أختها، وأنها تقص علىَّ في هذا الكتاب مأساة خالتها، وما غاب عني من عقدة هذه المأساة ونهايتها.
سألخص كتابها في صفحة هذا اليوم وهو التاسع والعشرون من سبتمبر، لأرفه عن نفسي المحزونة بهذا الأسلوب الطريف، ولأكمل به هذه القصة التي بدأت في الربيع انتهت في الخريف!
قالت الآنسة زوزو ما معناه: أكتب إليك يا سيدي ولست غريبة عن بالك، فإنك سمعت بي ولا شك من خالتي المسكينة (س)، وقد كنت رسولتها إليك في ذات يوم لو تذكر. ولطالما حدثتني عن أثرك في نفسها فأشتهي أن أراك، وخوفتني من رأيك في مثلها فأستحي أن(770/2)
تراني. ولولا أن في ذمتي عهداً لخالتي ورفيقتي أن أقص عليك عاقبة أمرها لما أبحت لنفسي أن أبكيك بذكر حادثتها الأليمة وخاتمتها المحزنة!
لقد لقيها الذئب فعلاً يا سيدي! لقيها في أصيل يوم من أيام أغسطس الأخيرة، وكان الحر فيه يزهق النفوس ويضيق الأنفاس؛ فجلسنا أنا وهي في (سان سوسى) بميدان الجيزة نستروح نسيم النيل ونستنشي عبير الرياض. وكان الذئب يجلس إلى المنضدة التي تقابلنا في زى شاب وضئ الطلعة ظريف الهيئة، فخالسَنا النظر وخالسناه، وأشار أن يجالسنا فجالسناه. وعرفنا من فحوى كلامه أنه مخبر في إحدى جرائد الصباح، فزويت وجهي عنه لأنه لم يكن من الصنف الذي أتعاطاه. ولكنه كان حسن الحديث حاضر البديهة بارع النكتة لطيف الدعابة، فاستخفَّت خالتي ظله وصغت إليه. وقضينا في مناقلة الطرائف والأسمار أربع ساعات كانت أربع سنوات في رفع الكلفة بينها وبينه. ثم عدنا مع الفتى في الترام إلى المنيرة، وهنالك ودعناه وواعدناه. وباتت خالتي على هوى جديد لم تذق مثله منذ قدمت القاهرة ونازعت الندمان كؤوس الحب!
تجدد بعد ذلك الموعد، وتعدد اللقاء، وتأكد الود، حتى أصبحت تخرج وحدها إليه، فيقضيان أواخر النهار وأوائل الليل متنقلين في القاهرة بين مقاهيها وملاهيها، وبين أرباضها ورياضها، فيتساهمان اللهو، ويتقاسمان الصفو، والشاب يبذل لها من الوعود، مقدار ما تبذل له من النقود؛ فيزعم أن أحد الأحزاب المعارضة سينشئ له صحيفة، ويشترى للصحيفة مطبعة، ويبنى للمطبعة داراً؛ وأن رئيس الحكومة قد بلغه ذلك، فهو يساومه على قلمه الحوَّل القلَّب، وعقله الخرَّاج الوَّلاج، بمورد ذهبي يتفجر في بيته كل شهر من خزانة الداخلية وخزانة الحزب. وهو على يقين جازم من أحد الموردين إن لم يكن من كليهما؛ ولذلك أمر سماسرة البيوت أن يبحثوا له عن دارة في المعادى، ووكلاءَ السيارات أن يسجلوا اسمه على سيارة (بويك)!
ماذا تصنع خالتي وقد جمع الله لها كل أمانيها في هذا الصحفي الشاب؟ حب مكنون يملأ شعاب القلب، ومنطق معسول يلائم هوى النفس، ومستقبل مأمون يضمن رفاهية العيش! أخلدت إليه بالثقة، ورفَّت عليه بالأنس، وقبلت أن تزوره في غرفته الخاصة على سطح من سطوح النازل الحقيرة! وهنالك رأت أن ثروة الشاب لا تزيد على بذلة نظيفة فوق(770/3)
جسمه، ولسان ذهبي في فمه، وطمع أشعبي في قلبه! ولكن الهوى يعمى ويصم، والشباب يغوى ويصل، والشراب يغرى ويجرئ. فباتت لأول مرة في بيت غير بيتها، من دون إيذان لرفيقتها ولا استئذان من أختها!
وفى الصباح أفاقت المسكينة من سكرة الهوى فأحست بعقرة الذئب! فقالت له وهى تمزج الدم بالدمع: ما علاج هذا الأمر وأخي لا يزال على حفاظ أهل الصعيد: يفرق بين الحرية والإباحة، وبين المدنية والتبرج؛ فهو يسامح إلا في الشرف، ويغضي إلا عن العرض؟
فأجابها الفتى باسماً: العلاج الزواج! وكان قد علم من قبل أن لها مالا مدخراً وأرضاً مستغلَّة؛ فالزواج له فرصة، ولكنه لخالتي غصة. فقالت له: إن أسرتنا تشترط في الزواج التكافؤ في الطبقة والثروة؛ وحالك على ما أرى لا تطمعك في رضا أهلي. فقال لها الفتى في إصرار وقوة: المهم أن نستر بالزواج جريمة العرض؛ أما جريمة الفقر فجريرتها هينة، وعقوبتها محتملة. وسنجابه أخاك بالأمر الواقع فيثور قليلا ثم يسكن، ويغضب طويلا ثم يرضى.
وصارحت الأخت أختها بالحادث والحديث؛ فباركت أمي الخطبة وأقرت الزواج. واتفقت الحماة والعروسان على ليلة العقد وحفلة الزفاف. وتسامع الناس بالخطبة المفاجئة والقران الخفي، فظنوا الظنون، وتقولوا الأقاويل؛ وأبرق بعضهم بهذه الشائعات إلى خالي فلم يبت إلا في القاهرة.
تطلب منى المحال إذا طلبتَ أن أصف لك كيف دخل خالي الصالون فوجد المأذون وبيده الدفتر، وأبى وبإزائه العريس، وأمي وبقربها العروس، والبواب وبجانبه الشاهد الآخر، وهؤلاء جميعاً شملهم السكون وغشاهم الوجوم؛ فكأنهم يودعون مريضاً يُحتضَر، أو يشيعون ميتاً يدفن. . . تصور أنت بخيالك هذا المنظر الأليم على ما يكون المجلس عبوساً وجهامة، وفي أشنع ما يكون الجلوس خزياً وندامة.
سلم خالي إيماءً باليد ثم جلس وعيناه تلتهبان من الحنق، وشفتاه ترتجفان من الغضب، والتفت إلى أمي وقال لها بصوت فيه روعة القضاء ورهبة القدر: متى كنا يا فلانة نزوج بناتنا في مثل هذا المكان، ومن مثل هذا الإنسان، في غيبة عن الأهل وخفية من الناس؟ لقد سبقتمونا إلى (المدنية) فلم يعُد رأينا متفقاً في معنى الشرف، ولا شعورنا متحداً في(770/4)
إدراك الكرامة!! ثم لحظ العروس البائسة وقال لها بلهجة صارمة: اذهبي يا فاجرة فأعدي حقيبتك وسأنتظرك أمام البيت.
حاولت أمي أن تجيب لتبرر الموقف المريب، وهمَّ أبي أن يتكلم ليدفع الخطر الداهم، وأراد المأذون أن يفتي لينقذ العقد المهدَّد، ولكن خالي أزلقَهم ببصره؛ ثم خرج وهو يتسعر من الغيظ وينتفض من الغضب كأنه لم ير أحداً ولم يسنع كلاماً. وقضى هو وأخته الليل في أحد الفنادق ثم ركبا أول قطار إلى العزبة. والقوم هناك يا سيدي يرجمون بالظنون؛ فبعضهم يزعمون أنها سجينة القصر، وأكثرهم يعتقدون أنها دفينة القبر. والأمر الذي لا مرية فيه أنها خرجت من دنيا الناس!
هذه قصة فتاتي، وما أظنها تختلف كثيراً عن قصص أكثر الفتيات اليوم! ذهبت غفر الله لها ضحية للتربية المهملة، والرقابة المغفَّلة، والتعليم الفاسد، والقدوة السيئة، والقصص الماجنة، والصحف الخليعة، والسينما المثيرة! فهل يُضطر الذين لا يزالون لسوء حظهم يغارون غلى أن يعودوا فيسألوا الله العصمة من ولادة البنات، أو يقولوا كما كان يقول الجاهليون: وأْدَ البنات من المكرمات؟
احمد حسن الزيات(770/5)
الحمام الزاجل
للأستاذ أحمد رمزي بك
في الحروب الحديثة:
يعتمد فن تحريك الوحدات الكبرى وسوقها للقتال على شبكة من طرق الاتصال أصبحت بعد استعمال الراديو بأصنافه مع التلفون العادي والتلغراف عملا من أدقِّ وأصعب الأعمال لضبط المخابرات ونقل المعلومات وتوجيه الأوامر، وتصبح هذه الآلة المحكمة التنظيم عرضة للوقوف والتعطيل إذا اشتبكت الوحدات العسكرية في معركة حاسمة؛ إذ هنا تفرض الحرب نوعاً من المفاجآت قد تعطل كل ما أنتجه العقل البشري من مخترعات: ويبرز الحمام الزاجل كواسطة لنقل المعلومات لا يمكن إغفالها.
نعم إن الحرب الحديثة، الخاطفة أو الثابتة أمام الحصون، الزاحفة أو المتراصة، الهجومية أو الدفاعية بأصنافها المختلفة، تخلق أحياناً من الظروف الطارئة ما يشل عمل هذه الوسائل المستحدثة التي أوجدها العلم والتي يستطيع العلم وحده أن يبطل أثرها، فيحتم على المقاتلة العود إلى استعمال أساليب القدماء التي خيل إلينا أننا تركناها ومن بينها الحمام الزاجل الذي قد يصبح الوسيلة الوحيدة التي نتمكن بواسطتها من إنقاذ موقع محاصر أو نقل رسالة هامة يتوقف عليها مصير جيش من الجيوش أو نتيجة معركة ناشبة.
نظامه في الجيوش:
لذلك أصبح للحمام الزاجل أنظمة محكمة في جيوش العالم؛ فقد رأيت في الحروب الماضية والحرب الأخيرة عدة أبراج متنقلة للحمام مركبة على السيارات، وعرفت أن كل برج منها يحوي مجموعة من الحمام تقرب من المئة وأنها مقسمة ثلاثة أسراب:
سرب غائب، وآخر يستريح، وثالث كاحتياطي. وكانت حمائم كل سرب توزع على ثمانية مراكز أو تسعة يراعى في ترتيبها أن تكون على صف واحد بين الأبراج وتتناوب الحمائم الانتقال والتمرين عليها لنقل الرسائل.
ويقوم على خدمة الحمام جنود مدربون لهم صبر على تربيته ومران على تعليمه والاستفادة منه. والحمام الزاجل أليف يسهل تعويده وتدريبه على الرحلات ما دامت الأبراج ثابتة، أما(770/6)
إذا تحركت وتبعت الوحدات في تنقلاتها احتاج الأمر إلى استخلاص نوع من الحمام المدرب الذي اعتاد اكتشاف طريق برجه ولو تغير موقعه. وهذا النوع من الحمام إذا رُبي وأحسن تدريبه يكتشف أبراجه في دائرة قطرها عشرون كيلومتراً مهما تبدّل أو تغير موقع الأبراج.
وتعلق الجيوش كما قلنا أهمية خاصة على هذا النوع الممتاز من الحمام لأنها تعتمد عليه في إنقاذ حالات لا تجدي فيها الوسائل العادية؛ إذ يرجع إليه الفضل في الحربين العالميتين الأولى والثانية ووسط قوات متحاربة تملك غاية ما أوجده العقل البشري من وسائل الاتصال، يرجع إليه الفضل في تغيير خطة عسكرية أو تقديم موعد هجوم حاسم أو تأجيله. وكم من وحدات انقطعت عنها النجدات وتعذر عليها استعمال اللاسلكي لئلا تفضح أماكن تجمعها، أنقذها الحمام الزاجل!!
الحمام الزاجل في الجيوش الإسلامية:
ويعتبر استعمال الحمام الزاجل من وسائل المخابرات التي أحكم أمرها في أنظمة الجيوش الإسلامية وخصوصاً في مصر أيام استقلالها؛ إذ كانت لها اليد الطولى في هذا المضمار: وكانت قلعة القاهرة المحروسة مركز الإرسال والوصول للمكاتبات التي يحملها الحمام الزاجل: وكان يربى في أبراجها نوع ممتاز من الحمام أطلق عليه اسم الرسائلي لاتخاذه من فصيلة أعدت لحمل الرسائل السلطانية التي كانت توضع في داخل أنابيب من المعدن الخفيف أو في داخل أكياس من الحرير.
وتفنن كتاب ديوان الإنشاء بقلعة مصر في أسلوب هذه الرسائل وبلاغتها وجعلها في منتهى الاختصار لنقل ما كانوا يريدون إيصاله من المعاني، بل حرصوا على اختيار نوع الورق الذي يكتبون عليه رسائلهم ليخف وزنه على الطائر.
وانتهى بهم الذوق إلى إكرام الحمام الناقل للبشري بتولية السلاطين أو الحمام الحامل لأنباء الظفر والانتصارات في المعارك فكانوا يطوقون جوانبه بالمسك والعنبر والروائح العطرية، كما كانوا يتعمدون طلاءه بالسواد إذا نقل أخبار الهزائم والوفاة.
حوادثه في التاريخ الإسلامي:(770/7)
حينما هوجمت مصر مرتين من الشمال بالجيوش الصليبية الأولى أيام السلطان الملك الكامل بن العادل الأيوبي، والثانية أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهي حوادث أفزعت العالم الإسلامي، كانت أسراب الحمام الزاجل تنقل أخبار المعارك وشدتها فيقع كل طائر منها على أبراج القلعة وهو مجلل بالسواد دليلا على حمله للأخبار السيئة التي يعانيها المسلمون في دمياط وميادين القتال.
وكانت القاهرة تقوم لها وتقعد ويكثر الابتهال إلى الله إذ يهرع الناس إلى المساجد لإقامة الصلوات.
ولما انتصر المصريون وأمراء مصر نزل الحمام الزاجل على أبراج القلعة مطوقاً بالعطر والمسك والزعفران ينقل بشرى زوال المحن والمصائب وأنباء الانتصارات الحاسمة المتتالية: هذا ما سجله التاريخ للحمام الزاجل.
ويظهر أن الإفرنج كانوا يجهلون أمر هذا الحمام بدليل ما ورد في تاريخ حصارهم لمدينة القدس قبل فتحها؛ فقد بعث قائد القوات المصرية المحاصرة_وكانت من جنود الدولة الفاطمية_طائراً لنقل أخباره إلى خارج المدينة فلم يلتفت إليها الإفرنج لولا أن جاء من أعلمهم بأن الطير ينقل الأخبار فتربصوا به وأطلقوا النشاب عليه فأصابوا الطير، ولما وقع عثروا على القصاصة المراد إرسالها فتنبهوا إلى خطورته، وضيقوا الحصار على المدينة حتى فتحوها.
الحمام الزاجل وآل سلجوق
كانت دولة آل سلجوق من أعظم دول الأرض، وكان لحمام الزاجل معروفاً قبلها، ولكن في عهدها أدخلت أنظمة شبكات الخطوط الرسائلية في أنحاء هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف؛ فإليها يرجع الفضل في جعل تربية الحمام وتنظيم استعماله فناً من الفنون اللازمة للدولة. وهذا كغيره من مستحدثات السلاجقة الذين لهم الأيادي التي تزال خافية. وعنهم أخذ نور الدين الشهيد بن زنكي هذا النظام السلجوقي فأحكم أمره في الشام ثم انتقل إلى آل أيوب فكانوا أول من أتقنه وأحكمه بأبراجه وأسرابه في مصر ثم بلغ منتهاه في العصور التالية.(770/8)
تربيته وتدريبه والعناية به
أفتتن القدماء بالحمام الزاجل بعد أن رأوا نفعه، فأصبحت لهم دراية بتربيته والعناية به، وكانوا يقسمونه على حسب لونه وعدد الرياش المعتبرة في الأجنحة والأذناب، وفرقوا بين الذكر والأنثى؛ فجعلوا لكل عملاً خاصاً به، وصنفوا الطير، فميزوا بالفراسة ما لمسوا نجابته من صغره، واختاروا الزمان والمكان الملائمين للأفراخ، وهي أمور لم تصل إليها الجيوش الحديثة التي تربى الحمام الزاجل الآن.
ويبالغ المؤرخون فينسبون إلى أن القدماء جعلوا للطير أنساباً كأنساب الخيل، وألفوا الكتب فيها وفي أعمال الحمام الزاجل وبطولته، فنسبوا إلى خلفاء العباسيين والفاطميين أنهم دفعوا أثماناً باهظة ثمناً له، وأن ملوك الروم كانوا ينافسونهم في ذلك. فمن قبيل المبالغات أن الحمام المصري بدمشق نقل بعض أنواع الفاكهة النادرة في الشام لمصر أيام العزيز بالله ثاني خلفاء الفاطميين، أو ما ذكروه عن الطير الذي قطع المسافة بين القسطنطينية وبغداد مرة واحدة؛ إذ يندر أن تعرف الحمامة أما كنها إذ زادت المسافة عن عدد معلوم من الكيلومترات قلما يتعدى العشرين أو الثلاثين؛ كما أن سرعة سفرها محدودة ومعلومة فلا يصح أن ينسب إلى الطير مالا يصدقه العقل.
نظام القدماء في نقل الرسائل:
قلنا إن الدولة السلجوقية هي التي أتقنت نظام شبكات الحمام الزاجل لأحكام طرق الاتصال ونقل المخابرات بأسرع الطرق، وكانت الدولة المصرية في العصور الإسلامية قوية الجانب تحكم مساحات واسعة من أراضي آسيا تمتد على نهر الفرات وتصل أحياناً إلى دجلة، وكانت تسيطر في الشمال على منطقة عسكرية تحيط بها القلاع والمدن المحصنة. فكان من أول ما اهتمت به الدولة إحكام المخابرات مع هذه المناطق فاستعملت طرق البريد السريعة وإيقاد النيران لنقل الإشارات بين القلاع وبعضها ثم أحكمت نظام الحمام الزاجل.
ويعود الفضل في تنظيم المخابرات وتلقي الحمام الرسائلي إلى شبكة الأبراج ومحطات الإرسال المنشأة بين العاصمة والأماكن المختلفة وأهمها قلعة دمشق وقلعة حلب. وكانت أبراج القلعة بمصر نقطة مركزية تتلقى الحمام من دمشق وأسوان والإسكندرية على(770/9)
السواء.
وتليها شبكة دمشق العاصمة الثانية في أهميتها: لأن لنائب السلطة حق المخابرة رأساً مع القاهرة وله الحمام الخاص به. وكان لنائب قلعة دمشق هذا الحق أيضاً وله الحمام الزاجل الخاص به، وحق الاتصال المباشر مع السلطان بصفته قائداً لموقع عسكري محصن. وكانت المسافة تقطع على مراحل: فالحمام الذي يطلق من دمشق يهبط الصنميني ومنها يقوم آخر إلى أبراج محطة طفس ثم قلعة أربد بفلسطين ثم بيسان ثم جنين ثم قافون ثم غزة وهي نهاية شبكة الشام.
والحمام القائم من أبراج قلعة مصر يهبط في سرياقوس ومنها إلى بلبيس ثم الصالحية ثم قطيا ثم الواردة ثم غزة وهي ملتقى الشبكة المصرية على الشامية.
أما قلاع الشمال وأهمها البهنسا وقلعة الروم أو قلاع جبل طوروس فكانت تبعث برسائلها إلى مدينة حلب ومنها إلى المعرة ثم حماة ثم حمص ثم قارة إلى قلعة دمشق وإليها تصل حمائم الأعمال الفراتية أي قلعة الرحبة وقلعة جعبر. وكانت المسافات بين هذه الأماكن تسمى مسارح الحمام بحيث لا يمكن أن يتعداها بل يجب أن يعود الحمام ثانية بعد أداء واجبه إلى أبراجه الدائمة بمحطات الإرسال. وكانت القلاع مشحونة بالجند والمقاتلة وأبراج الحمام وعلى اتصال دائم بقلعة الجبل بمصر: مركز الحكم وأبهة الملك.
بهذا حفظت مصر الحصون والثغور والقلاع وتمكن جندها من كسب الحروب الصليبية وكسر التتار عدة مرات.
كانت قوات مصر لا تقهر ولذلك سميت مصر بالمحروسة وعساكرها بالمنصورة، وأطلق عليها في المستندات والوثائق الرسمية: هذه الدولة القاهرة.
كانت الحمام الزاجل تعمل للنصر في خدمة مصر القاهرة.
أحمد رمزي(770/10)
التلمود واليهود
للأستاذ نقولا الحداد
تلقيت من مجلة (الرسالة) مقالتين ضافيتين رداً على مقالي: (التلمود خدع اليهود) الذي نشر في (الرسالة) في 23 ديسمبر سنة 1947؛ إحداهما بلا تاريخ ولا ذكر لمكان صدورها ولا إمضاء سوى كلمة (عاصف). وما هي إلا عاصفة هراء وسباب وبذاء. فهذه لا تستحق إلا أن ترمى في أقصى مكان من الدار، أو أن تلقى في النار لكي يطهر جوها من عفونة الأقذار.
وأما الأخرى فعلى النقيض: هي نقد كالربت الخفيف على الكتف، من أديب أريب بتوقيع (لطيف مختار) من بغداد يدافع فيها عن التلمود واليهود، ويرد على كل فقرة في مقالي. فلو نشرت في (الرسالة) لشغلت نحو 6 صفحات على الأقل؛ ولو رددت على كل نقطة فيها لشغلت (الرسالة) كلها.
و (الرسالة) وقف على قراء ينشدون العلم والأدب الصافيين. لذلك اجتزئ عن البحث الطويل بالكلام في أمرين: التلمود ونيات اليهود.
أولاً: لم يكن التلمود مقصوراً في مقالي؛ وإنما كان المقصود موسى عليه السلام؛ لأنه هو الذي ساق بني إسرائيل من أرض مصر إلى أرض كنعان بعد أن أوصى الإسرائيليات أن يستعرن من المصريات حليهن، بحجة أن عندهن احتفالا عظيماً. فرحلن في اليوم التالي والحلي معهن. ولما بلغ موسى بهم أرض كنعان قال: إن الله يرسل أمامهم ملاكاً ويطرد من أمامهم الكنعانيين والأثوريين والحثيين والغرزيين والحويين والبيوسيين (انظر الإصحاح 33 العدد 2، والإصحاح 23، والعدد 23 من سفر الخروج. وكان كلما تذمروا من بطئهم في برية سينا مناهم بأنهم سيمتلكون منازل الكنعانيين وأثاثهم وفرشهم ولحفهم وطناجرهم ومواشيهم وكرومهم الخ.
لماذا طرد الله أولئك من أمامهم، أليسوا خليقته؟ أما كان ممكناً أن يحولهم إلى عباده؟ هذه مسألة لا هوتية لا نبحث فيها، وإنما اقتضتها سياسة موسى في قيادة بني إسرائيل.
وإذا كانوا في ذلك الزمن شعب الله المختار؛ فقد صار ملايين من البشر من عباده، أفلا يزال شعبه المختار؟ إذا كان الله قد وعدهم أرض كنعان في ذلك الزمان، أفيبقى هذا الوعد(770/11)
نافذاً أربعين قرناً؟ وإذا كان نافذاً إلى اليوم، فسكان فلسطين اليوم هم من سلالة إسرائيل، ولما ظهر الإسلام أسلموا. فهم الآن في وطنهم والقادمون من وراء البحار دخلاء.
وإنما جنبت موسى هذه المسؤولية تورعاً وألقيتها على التلمود لأن التلمود هو شريعة اليهود الأولى والصحيحة، وشريعة موسى جاءت ثانوية. وإن كان التلمود قد جمع من شرائع مختلفة منذ قرنين بعد المسيح، وفيه ما ليس في التوراة من عجائب الفروض والسنن وغرائب المقدسات والمحرمات الخ كما سترى. فلا بدع أن نستند إليه في مقال أو كتاب.
يقول الأستاذ لطيف وهو يدافع عن التلمود: إنه قرأ التلمود بنفسه فلم يجد فيه إلا تعاليم إنسانية ومدنية، مما يوصي بمراعاة القريب (ومن هو القريب) وإيوائه كفرد من الأسرة إلى غير هذا من الفضائل. حسن! ولكن هل مر في أثناء مطالعته للتلمود على هذه الآيات البينات التالية:
(إن التلمود وجد قبل الخليقة. ولولا التلمود لزال الكون) (انظر سفر بشليم 54، 58 من التلمود الأصيل).
(أحذر يا بني - يقول الحاخام رابا - واتبع التلمود لا التوراة؛ فالتوراة تتضمن أحكاماً لا تستوجب مخالفتها عقاب الموت. وإما من يخالف حرفاً جاء في التلمود فالقتل عقابه. ومن يهزأ بكلمة من كلمات التلمود يغمس في الغائط ويساق فيه حياً إلى أن يموت)، (سفر رُوبين 21 حرف ب من التلمود) - ويحكم يا هؤلاء! ما فطن مأمور هتلر إلى تعذيب فظيع كهذا.
(إن الله يدرس التلمود منتصباً على قدميه)، (سفر مجيلا 21).
(من يعارض حاخاماً أو يناقشه أو يتململ منه يعارض العزة الإلهية نفسها). (كلام الحاخام إن ناقض كلام حاخام آخر هو من وحي الله أيضاً؛ فلليهودي أن يختار من الكلامين المتناقضين ما يوافقه)، (سفر شولبين وسفر جيباموت).
(إن الحاخامين ملوك، ويجب إكرامهم كملوك)، (سفر جينين 62).
(دخلت يوماً قدس الأقداس فرأيت الله جالساً على كرسي مرتفع، فقال لي: باركني يا بني. إذ باركته شكرني وسلم وانصرف) (سفر بيراشون 7 حرف أ).(770/12)
(ما يقرره الحاخامون على الأرض هو شريعة الله)، (سفر روش هشاشا 8 حرف ب).
(الحاخامون يصبحون جميعاً آلهة ويُدعون بَهوَه أي: (الله). (سفر بابا تبرا 75 حرف أ).
(للحاخامين السيادة على الله، وعليه إجراء ما يرغبون فيه) (سفر مويدقنان 1 حرف أ).
(إذا احتدم الخلاف بين الحاخامين والله فالحق مع الحاخامين) (سفر بابا مزيا 86 حرف أ). وهناك كثير من هذه الطرائف.
إذا كان الأستاذ لطيف المختار لم يجد هذه الآيات في التلمود الذي طالعه فأسأله: أي تلمود قرأ؟ طبعاً لم يقرأ التلمود الأصيل بل قرأ التلمود المنقح.
التلمود الأصيل ذو 14 جزءاً جمعت محتوياته في القرن الثاني للميلاد. وقد قرَّظه الكاتبان اليهوديان: جيروم ونارو فقالا فيه: إنه مجموعة شاذة لمعتقدات وعواطف وأمال وخرافات وقصص وتقاليد وقواعد تشريعية وأدبية.
وقد ظهر من هذه المجموعة طبعات مختلفة أقدمها عهداً ظهرت في مدينة البندقية سنة 1520 ثم طبعت بعد ذلك مراراً. فما لبثت أن جاءت حجة ضد اليهود؛ فنقحها مجمع منهم واستعبد منها كل ما هو شاذ وناب وأصدر أمراً بأن لا يطبع إلا النسخة المنقحة. ولكن الناشرين ضربوا بهذا الأمر عرض الحائط. وأما النابيات فحفظت على حدة يلقنها الحاخامون لبني جلدتهم شفوياً.
والظاهر أن الأستاذ لطيف لم يطلع إلا على التلمود المنقح الذي قدمه إليه أحد اليهود الذي يخجل من إظهار التلمود الأصيل.
وإذا شاء حضرة الأستاذ أن يعرف أشياء أخرى عن التلمود الأصيل وعن أخلاق اليهود ومبادئهم ودسائسهم الخ فأنصح له أن يطلع على كتاب الصهيونية ونشأتها وأثرها الاجتماعي (الذي أخذت عنه معلومات عن التلمود في هذا المقال) بقلم م كفوري وقد طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاءه. فإذا لم يجده في بغداد فلعل الأستاذ محمود حامي صاحب المكتبة العصرية يستطيع أن يجلبه له.
وإذا شاء الأستاذ لطيف المختار أن يعرف أسرار سلوك اليهود الخاص في جميع الأمم وكنه رغبتهم في إنشاء دولة يهودية في فلسطين يتوسلون بها إلى السيطرة على كل العالم واستعباد جميع الأمم؛ فنرشده إلى مجموعة (البروتوكولات) الأربعة والعشرين السرية التي(770/13)
طبعتها
40
وثمنه شلن ونصف ما عدا البريد.
وهي خلاصة مباحثات مؤتمر مؤلف من 300 من حكماء اليهود، وهذه المجموعة تسمى قوانين شيوخ صهيون العلماء.
وهي تعتبر التلمود الجديد الذي يطبقون عليه حياتهم في هذا العصر. ففي هذه الوثائق السرية يرى حضرة الأستاذ فلسفة إبليس الرجيم. ويرى الأساليب الشيطانية لاستخدام الحرية للاستعباد، والديموقراطية للفوضى، وسلطان الذهب لدك الشعوب. وهناك يرى كيف أن الدعارة أقرب الوسائل لاستيلاء الضعفاء على الأقوياء، والخبثاء على الحكام، والمال لزلزلة كل نظام_كل ذلك توطئة لسيادة صهيون على العالم.
لست أنا مفتئتاً على اليهود وإنما أنا مستمد أخلاقهم وسلوكهم من تلمودهم ومن بروتوكولاتهم. وفي التاريخ منذ عهد إبراهيم إلى اليوم ترى في أعمالهم أدلة ناصعة على سلوكهم وتصرفاتهم. ترى سياستهم الجهنمية ظاهرة في جميع الانقلابات الدولية التي حدثت. وكان آخرها الانقلاب العثماني الذي بيت له يهود سلانيك منذ نصف قرن حتى تم على أيدي مسلمين كانوا يهوداً في الأصل فأسلموا لأجل هذه الغاية. ثم تلاه الانقلاب الروسي الهائل وكان أنصار لينين فيه كلهم يهوداً. ثم انمحقوا، وآخر من امحق منهم تروتسكي. ثم الحرب الأخيرة الآتي كان اليهود من عواملها السرية في أوروبا وأمريكا. وكان كل انقلاب ينتهي بافرنقاع اليهود من حوله. فلا يهمهم هذا الافرنقاع مادام الغرض الهدم وقد حصل.
لو يتسع المجال لاقتبسنا كثيراً من فضائح هذه البروتوكولات وفظائعها فنكتفي الآن بنزر يسير منها للدلالة على نمطها.
فبينما البند السابع من البروتوكول الأول يتكلم عن الحرية يقول (يكفي أن تدفع شعباً إلى الحكم الذاتي برهة من الزمن إلى أن يتحول إلى غوغاء بلا نظام، فلا يلبث أن نحوله نحن إلى جهاد قتَّال ثم إلى معارك بين الطبقات. وفي وسط هذه المعارك تحترق الحكومات(770/14)
وتهبط أهميتها إلى رماد).
ثم يقول البند الثامن: (سواء كانت الحكومة قد انتهكت قواها في أثناء تشنجها، أو أن الشقاق في داخلها تحت أقدام عدوها_في كلتا الحالتين تعتبر ساقطة خاسرة_تصبح في قبضة يدنا. إن رأس المال الذي هو برمته في يدنا يصل منه غصن إلى الدولة وهي في إبان تخبطها، فلا بد أن نتشبث به لخلاصها من ورطتها وإلا فتهبط إلى القمر).
البند 22 يصف إحدى الوسائل للتوصل إلى القوة والسلطة (إن الجوبيم (والجوبيم هم الشعوب غير اليهودية بحسب اصطلاحهم) يتلهون بالخمرة فينشأ فتيانهم بلهاً ضعاف الأدبيات يسهل قيادهم؛ فيقودهم رسلنا الاختصاصيين من معلمين وخدم ومربيات أطفال في منازل الأثرياء، وكتبة في مكاتب الأشغال وأمثالهم، وعلى الأخص نساؤنا اللواتي في مواخير الدعارة المختلفة الدرجات التي يختلف إليها الجوبيم. وأحسب بين هؤلاء سيدات المجتمع (سيدات الصالونات) اللواتي يسعين طواعية مع أولئك في الإفساد والبذخ والترف).
البند 24 من البروتوكول الأول يقول: (إن حكومتنا وهي ماضية في سبيل النصر يمكنها أن تبدل إرهاب الحرب بأحكام الإعدام الأقل إرهاباً والأكثر تأثيراً لكي تقيم الرعب الذي يؤدي إلى الطاعة العمياء. على أن القساوة التي بلا رحمة هي العامل الأقوى في الحكومة. ليس لأجل الحصول على الفوز فقط، بل باسم الواجب، ولأجل النصر يجب أن نواظب على الشدة وعلى جعل الناس يعتقدون بصواب ما نفعله. . . لذلك ليس بالوسائل المشروعة بل بعقيدة القساوة ننتصر ونخضع جميع الحكومات إلى حكومتنا العليا. حسبهم أن يعلموا أننا بلا رحمة لكيلا يجرءوا على العصيان).
وعلى هذا الطراز تتمشى البروتوكولات الـ 24 في 60 صفحة من القطع الوسط بحرف الجرائد. وإذا سنحت الفرص نقتطف منها أيضاً وأيضاً.
وإذا ظفر الأستاذ لطيف بهذا الدستور الجديد أو التلمود الثاني، رأى ليهود العصر الأخير نيات فاضحة في هدم الفضائل المسيحية والإسلامية وغيرها، وتقويض أركان الأنظمة الاجتماعية، ونسف كل نوع من الحكم طالحاً كان أو صالحاً؛ لكى يرقوا على أنقاض خراب العالم إلى منصة السلطة. ومن هناك يملون على الأمم أنظمتهم التي تضمن لهم(770/15)
السؤدد والاستبداد والاستعباد.
لا ريب أن هذه السياسة الخرقاء التي يتعلمونها سخيفة فلا يمكن أن يعوموا بها على سطح هذا الخضم الإنساني وهم مثقلون بهذه الأضاليل؛ فهم فاشلون على كل حال في فلسطين وفى أوروبا وفى أمريكا. فليجربوا حظهم في أمم الشرق الأقصى فلعلهم يفرقون هناك إلى قصر الأوقيانوس الاجتماعي، إذا لم يتوبوا من غيهم ويعودوا إلى وجدانهم السليم ويندمجوا بسائر الأمم طارحين عن عواتقهم تلمودهم. وإن أصروا على عزلتهم تكرر فيهم ما كان حظهم في ألمانيا.
فإذا لم تكن أيها الأستاذ لطيف يهودياً وإنما تتبرع للدفاع عن اليهود من قبيل العطف فشكراً لك، ولكنى لا أرى أن اليهود يستحقون العطف ما داموا يبيتون لجميع الأمم غدراً وأذى. فأرجو أن تطلع على التلمود الأصيل لا المنقح، ثم على التلمود الجديد أي مجموعة البروتوكولات، ثم قل لي ألا ترى أن التلمود خدع اليهود بإبهامهم أنهم شعب الله المختار، وانهم يمتازون على جميع الشعوب؛ فصمموا على أن ينشئوا دولة لأنفسهم على الرغم من تشتتهم ثم يغزوا سائر حكومات العالم ويخضعوها لسلطان حكومتهم العليا.
أرى أيها الأستاذ أنك رددت على مقالي بعد مرور ثلاثة أشهر على نشره في (الرسالة). فهل كان ردك هذا نتيجة مؤامرة فجاء بروتوكولا خامساً وعشرين؟ فعسى أن تكون قد نجحت فيما فعلت، ونلت ما انطوت عليه رغبتك وسلام عليك ولك.
بقيت لي كلمة أوجهها إلى اليهود أنفسهم. ألا يرى يهود العالم أنهم حيثما كانوا مصدر خوف وأذى أفلا يتساءلون فيما بينهم: لماذا كان يكرههم الشعب الألماني ثم جميع شعوب أوربا، ثم الشعب الإنكليزي الذي كان أعطف الشعوب عليهم، وقد منحهم وعد بلفور، ثم الشعب الأمريكاني وقد قسم لهم قطعة من فلسطين ثم ردها لأهلها لأسباب سياسية.
لماذا لا يعقدون مؤتمراً ويبحثون في أسباب جفاء العالم لهم، ويبحثون عن وسائل لإزالة هذه الأسباب لكي يعيشوا مع العالم بسلام؟.
وأما قولهم إن العالم يحسدهم لأنهم أذكياء؛ فهذا سبب سخيف لا يقيم وزناً.
لا نريد لهم الشر؛ فليريدوا الخير لأنفسهم والسلام.
نقولا الحداد(770/16)