المخطوطات العربية مصورة، هدية من مكتبة (الاسكريال) الأسبانية، وهي:
1 - جزء من مسائل لصفي الدين الحلي (في الأغلاط الشائعة على الألسن) يبدأ بحرف (س)
2 - (إصلاح المنطق) لابن السكيت.
3 - (رسائل في المنطق والفلسفة والطب) لابن سينا.
4 - ديوان أبي الحسن الششتري
5 - من تراسيل ابن نباتة
6 - الكامل للمبرد
وقد كان لهذه الهدية موقع حسن في قسم المخطوطات بالإدارة الثقافية بالجامعة العربية، لأنه يهتم بجميع المخطوطات العربية الثمينة المبعثرة في مكتبات الدول الأوربية أو على الأقل الاحتفاظ بصور لها.
وقد جاءت هذه الهدية الثمينة نتيجة لمسعى السنيور جارسيا جومز المستشرق الأسباني الذي قدم إلى مصر في العام الماضي وزار الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، فتباحث معه الأستاذ أحمد أمين بك مدير الإدارة الثقافية في مسألة تصوير المخطوطات العربية الموجودة في أسبانيا، ورحاه حث الهيئات الثقافية في أسبانيا على مد الجامعة العربية بنسخ مصورة من هذه المخطوطات فأبدى المستشرق الأسباني روحاً طيباً ووعد بالاتصال بالهيئات الأسبانية المختصة.
(العباس)(747/52)
البريد الأدبي
كرنكو وفعلاء والأدب انستاس:
أشرت في كلمتي (فعلاء) في الرسالة الغراء (745) إلى تخطئة الأستاذ كرنكو الأب انستاس في وصفه الجمع بذلك المفرد وقد رأيت أن أنقل تغليط المغلط وجواب المخطأ.
قال الأستاذ فريتس كرنكو: في مطالعتي مجلتكم (لغة العرب) بعض الأحيان تستعملون مفرد أفعل المؤنث أي فعلاء في مكان الجمع كما يفعل كتاب مصر، فقد جاء في لغة العرب (252: 6) الأشجار الخضراء في مكان الأشجار الخضر.
فرد عليه الأب انستاس ماري الكرملي قائلاً: (من مزايا لغتنا وصف المنعوت المجموع من غير العاقل بصفة مفردة مؤنثة ومنه في سورة الحاقة: قطوفها داينة أي دانيات. وقوله في الأيام الخالية أي الخاليات وفي سورة البقرة: إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وهذا لا يحصى لغة العرب مج6 ص782)
وتخطئة الأستاذ كرنكو هي قول مفلت مجرد، ولا يعبأ بشيء في مثل هذه المعاني لا يصحبه نص يبرهن به عليه أو دليل قوي أو ضعيف.
وقد توهم فاضل كبير درج أن قول سيبويه وقول المبرد يؤيدان المقالة الكرنكوية فكان يحتج بهما في ردوده الكثيرة على مجادليه ومناظريه. والقولان - كما رأى قراء الرسالة - إنما يشرحان ويقرران أن أفعل وفعلاء يجمعان يكسران - إذا كانا صفتين - على فعل.
من المتقدمين الذين إذا وصفوا الجمع بمفرد الشاعر الأبيوردي قال في مرثية (الديوان ص8).
ولو أستطيل على الحمام بعزة ... رفعت لها اليزنية السمراء
لتحدبت صيد الملوك على القنا ... حيث القلوب تطيرها الهيجاء
والأبيوردي الأموي شاعر كبير وعالم نحرير، قال ابن خلكان كان من الأدباء المشاهير راوية نسابة شاعراً، نقل عنه الإثبات الحفاظ الثقات، قال أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في حقه (في كتابه في الأنساب) كان أوحد زمانه في علوم عديدة، وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء (وإني وإن كنت) قال ابن خلكان: وله تصانيف كثيرة مفيدة وله في اللغة مصنفات كثيرة لم يسبق إلى مثلها.(747/53)
السهمي
حول الفن القصصي في القرآن الكريم:
(إلى الأستاذ محمد أحمد خلف الله)
سلام الله عليك وبعد، لقد طلبت المشاركة في البحث، وقدرت منذ اللحظة الأولى أنه من الجائز أن تكون أخطأت القصد أو ضللت السبيل، وهذه روح تذكر فتشكر وسأذكر لك ما أذكر مجادلاً بالتي هي أحسن.
وسأضع يدك أول الأمر على تناقض في مقالك؛ فإنك قد عنيت في أوله ببيان أن الأسطورة ليست الكذب والمين ولا الخرافات والأوهام، وإنه يجب ألا تزعجنا هذه اللفظة فنجري وراء الخيال ونعتقد أنها الأكذوبة أو الخرافة.
وأنت تريد بذلك طبعاً أن أساطير القرآن الكريم ليست كذباً ولا خرافة وإنما هي صدق وحق، فما رأيك في قولك:
(إن تمسكنا بالرأي الذي يقول: إن جسم القصة أو هيكل الحكاية حق ثابت، بعد أن ثبت لدى العلماء الدارسين أنها من الأساطير أمر بعرض القرآن لشر مستطير) فأنت بالمقابلة بين الأساطير والحق الثابت أردت بها غيره وما هو إلا الكذب والمين وبذلك وقع التناقض بين أول المقال وآخره.
بعد هذا أنتقل بك أيها الأخ إلى تفرقتك بين جسم القصة أو هيكل الحكاية وبين ما فيها من توجيه فأقول لك: إن صح هذا من الأفراد الذين يعن لهم المعنى فيريدون إيضاحه وبيانه فيتجسمونه ويمثلونه ويضعون له الأشخاص والحوار والأصباغ كما في قصة الأستاذ الخفيف التالية لمقالك (ذات صباح) - فلن يصح في قصص القرآن؛ إذ ليس فيه فاصل بين جسم القصة وتوجيهها، بل هما توأمان؛ ونحن نفهم في قصة الأستاذ الخفيف أن (بهيجة) شخصية خيالية للفتاة التي يضحي بها أهلها حين يزوجونها ممن يحبون وتكره؛ ولكنا لا نفهم في قصة يوسف عليه السلام أنه وامرأة العزيز شخصان خيالين رمز بالأول للعفة وبالثاني للاستهتار.
فالحوادث والأشخاص في القرآن الكريم ليسا رضعاً ولا خيالاً وإنما هما حق ثابت ولو كان(747/54)
هناك شك فيهما ما خفي مئات السنين حتى ظهر الآن للعلماء الدارسين!!
وما كنت أحب أيها الأخ أن تقتضب كلام الإمام الجليل الفخر الرازي حين تستشهد بتفسيره فتكون كمن قال. . . لا تقربوا الصلاة وسكت. هلا ذكرت لنا - رحمك الله - قوله يفسر الأمور الأخرى:
(وثالثها) أنه صلى املله عليه وسلم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ دل ذلك على أنه بوحي من الله نهالى.
وهلا تأملت في قول الإمام الجليل من غير تحريف ولا تغيير وعلمت أنه يقصد جسم القصة وهيكل الحكاية وهو بذلك يرى رأي المسلمين قاطبة؟!
وأخيراً، لعلك أيها الأخ قصدت حين فرقت بين جسم القصة وما فيها من توجيه أن لا تكتفي برد عادية الملاحدة والمستشرقين عن القرآن الكريم بل بإقناعهم ليدخلوا في دين الله أفواجاً حين تبدد شبههم بهذا التخريج الجميل!!
هلا أدركت - عافاك الله - أنك تضم نصلاً إلى حرابهم حين تجعل القرآن عضين؟! كفاك الله شر المقتسمين، واعلم أن الملاحدة والمستشرقين مع القرآن الكريم:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وأنك مهما بشرت لهم فلن يؤمنوا لك حتى تتبع ملتهم وما أظنك من الفاعلين. وسلام الله عليك.
إتياي البارود محمد علم الدين مفتش المعارف
بين الأزهر والجامعة:
أرسل صاحب الفضيلة السكرتير العام للجامع الأزهر والمعاهد الدينية كتاباً (رسمياً) إلى سعادة عميد كلية الآداب يسأل فيه عما تم في مسألة القصص الفني في القرآن: ويقول فيه:
(وإنه ليهمني أن أقف على حقيقة هذا الموضوع لأن من أخطر الأمور أن تتعرض قداسة القرآن، وكرامة العقائد لمثل هذه التخرصات).(747/55)
القصص
قصة من الأدب الروسي:
حبة من القمح كبيضة الدجاج!
للفيلسوف الروسي ليو تولستوي
بقل الأستاذ مصطفى جميل مرسي
بينما الصبية في لهوهم يعبثون ذات يوم. . . عثر أحدهم في ثلمة في الأرض على شئ عجيب فيه مشابه من حبة القمح. . بيد أنه كبير في حجمه حتى كاد أن يداني بيضة الدجاجة!!.
ومر بهم - وقد استخفهم المرح وتملكهم الفرح بلقيتهم - مسافر من جوّابي البقاع. . فلما أبصر ذلك الشيء بين أناملهم، عوضهم عنه بفلس وحمله معه إلى المدينة. . حيث باعه للملك بمال كثير كعجيبة من العجائب التي تمخض عنها الزمن. . .
فدعا الملك إلى مجلسه أهل العلم وأولي الحكمة وأرادهم أن يأتوه بحقيقة ذلك الشيء. . . فانثنى العلماء إلى كتبهم يتفحصونها، وانقلب الحكماء إلى عقولهم يستحثونها. ولكنهم لم يحيروا لهذا الشيء معرفة لماهيته وإدراكاً لحقيقته!. . حتى كان اليوم الذي طارت فيه دجاجة إلى عتبة النافذة حيث ترك ذلك الشيء العجيب عليها. . فراحت تضرب فيه بمنقارها حتى خلفت ثقباً في جانب منه!. ويومها أدرك العلماء أن ذلك الشيء ليس إلا حبة من القمح!.
فلما حملوا إلى الملك ذلك النبأ. . اشتدت حيرته وتزايد عجبه وأمرهم بالبحث في أي يحن من الزمن وفي أي بقعة من الأرض. كان الناس يزرعون مثل هذا القمح!
فعاد العلماء إلى كتبهم يقلبونها وانثنى أهل الحكمة إلى عقولهم يتروون من جديد. . ولكنهم باءوا بمثل ما كان نصيبهم في المرة الأولى!. فذهب إلى الملك وفد منهم. . وقال له:
- ليس في قدرتنا الإجابة على ما تطلبه مولانا.! فما حوت كتبنا نبأ عنه. . ولا انتهت عقولنا إلى فهم له. . ولكن في مكنة مولانا أن يسأل الفلاحين لعل بعضهم يعلم عن آبائه. . في أي حين وفي أي بقعة كان القمح يزرع في مثل هذا الحجم.!.)(747/56)
فأمر الملك أن ينبعث أعوانه في أرجاء البلاد وينتشروا في مختلف ربوعها. ويأتوه ببعض الفلاحين الذين بلغوا من العمر عتياً.
فلم يلبثوا بعد حين أن فازوا ببغيتهم. . فأحضروا إلى الملك رجل تقدمت به السنين فأحنى ظهره ثقلها. . فراح يتوكأ على دعامتينز معروق الوجه، شاحب اللون مهدل العارضين مغضن البشرة. .
فناوله الملك حبة القمح. . . بيد أن كفافة بصره قصرت به عن رؤيتها. . . فراح يتحسسها بين أنامله الجاسية. فسأله الملك:
(هل لك في أن تخبرنا. . . أيها العجوز عن المكان الذي كان يزرع فيه مثل هذه القمحة؟! ونبئنا إن كنت قد اشتريت أو زرعت شيئاً مثلها في حقولك؟!. . .)
كان بسمع الشيخ وقر جعله عاجزاً عن الإصغاء إلى ما قاله الملك. . . بيد أنه لم يلبث أن أدركه في مشقة وجهد. فقال بعد أن مكث حيناً لا ينبس:
- (كلا. . . إني لم أزرع ولم أحصد مثلها قط في حقلي. كما أني لم أشتر أبداً شيئاً يشبهها. . . وحينما كنا نتبايع القمح كانت حبوبه صغيرة في مثل حجمها اليوم. . . غير أنه يجمل بك أن تسأل أبي لعله سمعه قد وعى عن الفج الذي كانت تزرع فيه!)
فبعث الملك برجاله في طلب والد الشيخ. . . فعادوا به وهو يمشي معتمداً على عصا غليظة. . . فلما ناوله الملك حبة القمح. . . قلبها بين يديه، وراح يمعن فيها النظر، وقد عجز الكبر عن أن يذهب بحدته!. . . فسأله الملك: (أما في قدرتك أيها العجوز أن تخبرنا عن المكان الذي كان يزرع فيه مثل هذه القمحة؟! وهلا أنبأتنا إن كنت قد اشتريت أو زرعت مثلها في حقولك؟)
لم يذهب الثقل بمسمع الشيخ، بل ما زال سمعه خيراً من سمع ولده. . فأجاب الملك في صوت هادئ رزين:
- (كلا!. إني لم أزرع ولم أحصد مثلها في حقلي!. . كما أني لم أشتر شيئاً يشبهها!. فما كان للنقود تداول في أيامنا. . فكان كل امئ يزرع قمحة. . . وما زاد عن حاجته يهبه من في عوز!.
لست أدري أين كان يزرع مثل هذا القمح. . . ولكنني أعتقد أن القمح في عهدنا كان أكبر(747/57)
حجماً وأكثر دقيقاً منه في أيامنا هذه. . . بيد أنه - مع ذلك - لم يبلغ حجم هذه القمحة. وأحسبك واجداً عند أبي فائدة وعلماً عنها! فسله)
فأرسل الملك من يأتي بوالد الشيخ. . فغابوا حيناً، ثم عادوا به إلى حضرة الملك!. . يسعى في سيره في خفة ونشاط له بصر ثاقب وسمع مرهف. . . ولسان ينطق في جلاء!. .
فلما مد الملك له يداً بحبة القمح. . . تناولها منه. . . وراح يقلبها في راحتيه. . . ويمعن فيها النظر. . ثم لم يلبث أن ارتفع صوته في هدوء (لم أر مثل هذه القمحة إلا منذ زمن سحيق. . سحيق جداً!.) وقضم شطراً من الحبة بثناياه، وأخذ يتذوقها بفمه!! واستطرد في قوله:
- (إنها نفس النوع!. . .) فسأله الملك:
- (ألا حدثنا أيها الجد الوقور. . . في أي مكان وفي أي زمان، كان الناس يزرعون هذا القمح. . . وهلا خبرتنا إن كنت قد ابتعت أو زرعت مثلها في حقولك؟!. .)
فأجابه الشيخ: -
. . . كان هذا القمح يزرع في كل البقاع في أيامي لقد طعمته في شبابي، وأطعمت غيري منه!. وطالما زرعناه في أراضينا. . وحصدناه. . . ودرسناه!!.)
فقال الملك وقد استبد به العجب وتملكه الفضول: -
(هل كنت تبتاعه؟! أم كنت تزرعه بيديك؟!)
فتريث الشيخ حيناً. . . كأنه يسبر غور الماضي، ويستعيد ذكراه - وقد ضرب النسيان عليها سجنه وأرخى دونها سندوله - ثم أجابه: (لم يكن ثمت واحد. . في أيامي. . يجسر على أن يأتي هذه الخطيئة. . أن يبيع أو يشتري الخبز. . ولم نكن ندري شيئاً عن هذه النقود التي تتداولونها الآن. . فكان لكل امرئ كفايته من القمح والزاد!.)
- بالله خبرني أين توجد أراضيك حيث كنت تزرع فيها ذلك القمح؟!.)
فتبسم الشيخ وأجابه في هدوء:
- (كان حقلي هو (أرض الله) الواسعة. . . أينما زرعت وحيثما غرست فهذا حقلي. . . فكانت الأرض مباحة طليقة بين الناس! وما كنت تجد واحداً يجرؤ على القول بأن هذه الأرض ملكه. . بل العمل هو وحده الذي كان ملكاً للناس):(747/58)
- (هلا أجبتني أيها الجد الكريم. . إلى سؤالين آخرين؟ أولهما: لماذا كانت الأرض تنبت مثل هذا القمح، ثم لماذا كفت عن إخراجه الآن؟!!. .
وثانيهما: ما العلة في أن حفيدك لا يخطو إلا على دعامتين وابنك يتوكأ على عصا واحدة. أما أنت فلا تعتد على شئ؟! وما الذي جعلك ذا بصر ثاقب وسمع مرهف وصوت واضح جلي تهفو الأذن لسماعه؟!)
فهز الشيخ رأسه، وما زالت البسمة مرتسمة على شفتيه وقال:
- (لقد صار الأمر إلى هذا الحال. . لأن الناس كفوا عن العيش بما تعمله أيديهم، وراحوا يسخرون غيرهم لعمل ما تعوزهم الحاجة إليه!.
في أيامنا الخوالي. . كان الناس يعيشون حسب ما سنته لهم شريعة (الله). . (العامل بعمله)!. فلم تملأ الضغائن نفوسهم ولم تفسد الأحقاد قلوبهم. . ولم يكن بينهم من ينظر بعين الحسد إلى ما متع الله به بعضاً منهم!. .)
(طنطا) مصطفى جميل مرسي(747/59)
العدد 748 - بتاريخ: 03 - 11 - 1947(/)
يا أغنيائنا! قولوا أسلمنا ولا تقولوا آمنا
لا أزال معجبا بالحديث الديني الذي نشرته الأهرام منذ أسبوعين
لصاحب السمو الملكي أمير الأمراء محمد علي بلغه الله انفس العمر.
واشد ما حرك إعجابي به، واثلج صدري منه، قول الأمير عن نفسه:
(إني اشهد الله على أن كل توفيق أصبته وكل خير نلته منذ نشأتي
إلى اليوم، كان مرجعه إلى ائتماري بأوامر الدين وانتهائي بنواهيه)
وقوله عن مصر وأخواتها: (إنهن لو رجعن إلى الماضي العظيم لعلمن
أننا لم نأت بخير ولم نظفر بسؤدد إلا برعاية الدين).
جميل من سمو الولي أن يعتقد الدين ويعمل به ويتعصب له ويدعو إليه في وقت نسى الناس فيه الله، فعبد الأمراء الشهوة، واله الأغنياء المال، واتبع الزعماء الهوى، واستجد الفقراء الحظ. ولكن - وما (لكن) إلا حرف جرئ ملعون يستدرك على كل موجود ما خلا الله - لماذا اقتصر أمير الأمراء من فضائل الإسلام على (المحبة والسلام والصلاة والصيام والعمل والصبر والطهارة) وقد كنا نطمع في صدق إيمانه وسمو بيانه أن يذكر كذلك الزكاة والإحسان والبر والتعاون، ليعلم أولئك الأمراء الذين اسلموا ولم يؤمنوا، وهؤلاء الذين أساءوا ولم يحسنوا، إن الدين عمل ومعاملة، وتثقيف وتكليف، وإيثار وتضحية؟ نعم كنا نطمع في سمو الأمير وهو القدوة الحسنى في قول الحق وعمل المعروف إن يدعو إلى الجهة العملية من الدين عسى أن يستجيب له أولئك الذوات المدللون المرفهون الذين ميزهم الوطن كرها على بنيه، وآثرهم الشعب جهلا على نفسه، فيؤتوا حق الله في أموالهم لتقوى الحكومة على أن تدفع عنهم الوباء، ويشجع الفقراء على أن يشغلوا عنهم الموت. وحق الله الذي يشبع الجائع ويكسو العاري ويداوي المريض ويكفن الميت، ضئيل بجانب حق الشيطان الذي يولم الولائم الفاجرة، ويقيم السهرات الداعرة، ويجود على انجلترة الخؤون من غير مطلب، وينفق على تركية العقوق من غير حساب، ولكن حق الله على ضآلته ثقيل لأنه ينفق على العامل والفلاح، وحق الشيطان على ضخامته خفيف لأنه ينفق في الميسر والراح!(748/1)
إن اكثر الكبراء عقام أو أعزاب، فلا عمال يكلفون في الحياة، ولا أعقاب يرثون بعد الموت. فليت شعري لم لا يتبنون هذا الشعب الكريم وهو الذي وضعهم في ركب الحياة على كاهله، فأقدامه تحفى من الكلال وهم دعة، وجسمه يضوي من الإقلال وهم سعة، ونفسه تضطرب من الأهوال وهم في أمن؟ انهم إلا يفعلوا يندموا، فان من المشكوك فيه إن يتسع حلم الشعب طويلا لهذا التفريط في جنبه. وان من الصعب أن يغمض عن كزازة أغنيائه وهم يرون وباء الهيضة يقطع السبل ويشل الأيدي ويصد الأنفس فلا يبسطون لسانا بمعروف، ولا يمدون يدا بمعونة!.
إن السيادة لا تكفي للسعادة، وان المال لا يجزى عن الشرف، وان الدنيا لا تغني عن الآخرة.
(المنصورة)
احمد حسن الزيات(748/2)
إنصاف البيت المظلوم
شباب قنع لا خير فيهم
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 1 -
شباب قنع لا خير فيهم ... وبورك في الشباب الطامحينا
قال هذا البيت (احمد شوقي) رحمه الله! في قصيدته الشهيرة (توت عنخ آمون) وقبله:
فغالى في بنيك الصيد غالى ... فقد حب الغلو إلى بنينا
والبيتان فيهما مدح عظيم لبني مصر ولشبابها محبي الغلو الطامحين. . .
فكيف رآه الأديب (محمود) صاحب (كلمات) في (البلاغ) يوم السبت - ذما؟
وكيف يكون شاعر مصر والعرب كلهم أجمعين قد هجا شباب مصر وهو يغالي في بيتيه في مدحهم؟
إن البيت الأول يوضح الثاني، والثاني يوضح الأول، وإذا فهم البيتان جيدا استيقن أن هناك مدحا عظيما. وقد قالوا: إذا أردت إعراب بيت فافهم معناه، وإذا أردت فهم معناه فأعربه، فتعال إلى إعراب (شباب قنع لا خير فيهم) (شباب) مبتدأ و (قنع) نعت، وجملة (لا خير فيهم) خبر إلى المبتدأ.
فان قلت. قد جاءني الإشكال لأني أعربت (شباب) خبر المبتدأ محذوف تقديره هم، قيل لك: البيت الأول والشطر الثاني من البيت الثاني يظاهران إعرابنا هذا، ويثبتان إن البيت مدح، مدح كبير. . . . . .
- 2 -
من اصعب الأشياء في الدنيا توضيح الواضح.
قلت: إن بيت شوقي مدح، وقلت ليفهم البيتان جيدا، وجئت بما جئت به. فبقى الأديب (محمود) حيث تركناه لم يتخلخل، ووجدناه يقول: (بل القول ذم، وكان معنى البيتين هو: فغالى في بنيك الصيد غالى فقد حب الغلو إلى بنينا الذين هم شباب قنع لا خير فيهم، وبورك في الشباب الطامحين).(748/3)
فقد حب الغلو إلى بنينا الذين هم شباب قنع لا خير فيهم ما هذه المسلطة؟ هل لغا شوقي بما حكيت، هل نظم ما نثرت، وهل هذا من كتاب (الوشى المرقوم في حل المنظوم) لابن الأثير؟. . .
الذي قلته في كلمتي السابقة هو كاف شاف ولكن هذا الأديب، حال تسال زيادة، فله ما يريد:
1 - ليس المقام في قول شوقي مقام ذم، ولكل مقام مقال، وقد جاء البيت يعزز الذي قبله، وهو بيت حكيم أرسله شوقي مثلا كدأب المتنبي في حكمه وأمثاله التي تؤيد مقاصده في أقواله.
2 - كيف يصف شوقي شباب مصر انهم مغالون وأنهم قانعون وكيف يقنع المغالى، وكيف يغالي القانع؟
دع ميزان الذوق واللغة و (الإعراب) وخذ ميزان العقل وزن. . . .
3 - رأى الأديب محمود إن البيت ذم إذ يدعو إلى حب الغلو، وقال في كلمته: (وكانت العرب تقول وهي تذم (ما عنده من المعالي إلا الرمي بالمغالي) أي الغلو والادعاء والتجاوز عن الحد).
وقد فهم الناقد السجعة كما فهم بيتي شوقي والمعنى الصحيح هو (ما عنده من المعالي إلا الرمي بالسهام) والمغالى جمع مغلاة وهى السهم يغلى به أي يرمى به لا (الغلو والادعاء والتجاوز عن الحد).
والقول الذي نسبه إلى العرب هو للزمخشري، وهو من سجعات الأساس، وقد جاء في هذا الكتاب: (غلا بسهمه وغالى به وتغالينا بالسهام، وترامينا بالمغالى، وتقول: ما عنده من المعالي إلا الرمي بالمغالى، وتقول: أنا لا احب الغلو في الدين والغلاء في السعر، والغلاء في الرمي).
ثم إن الغلو صفة ذم في موطن وصفة مدح في موطن، والقائل هنا هو القائل في (أمين الرافعي) رحمة الله عليهما:
قيل: (غال) في الرأي قلت هبوه ... وقد يكون (الغلو) رأياً أصيلا
وقديماً بنى (الغلو) نفوسا ... وقديماً بنى (الغلو) عقولا(748/4)
والسرف صفة ذم وقد تجدها في أقوال مدحاً: (قيل للحسن ابن سهل: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير).
وهل الغلو في التخلص من الاستعباد مذموم؟ ونحن معشر المصريين مغالون وحالنا مع هؤلاء الإنجليز منذ اثنتين وخمسين سنة معلوم، فكيف لو كنا من المقتصدين المعتدلين المتسامحين.
كان فاضل معروف من أدباء مدينتنا هذه قال منذ سبع سنين مثل قولك في ذلك البيت (ما أشبه الليلة بالبارحة) ونشر نقده في جريدة، وليم كما تلام الفضلاء الكرام، وقيل له: أخطأت، وقد رأينا ذلك الفاضل بعد أن جاء هذا الظلام وفقد الأقوام (الناطق عن خواطرهم) يبكي (أبا علي) في قصائده طويلاً، ويصيح أين شوقي، أين شاعر الإسلام؟!
وإذا طال المراء في الشيء الثابت وأراد المجادل أن (يطين عين الشمس) جاء قول شوقي:
ومن الرأي ما يكون نفاقا ... أو يكون اتجاهه التضليلا
ومن النقد والجدال كلام ... يشبه البغي والخنى والفضولا
والفتى لا يضع منه رجوعه إلى الحق، وهو بعد العودة (محمود) والعود أحمد.
محمد إسعاف النشاشيبي(748/5)
بلبلة
للأستاذ محمود محمد شاكر
لست امرءاً قانطاً ولا متشائماً ولا يائساً من خير الأمة العربية، بل لعلني أشد إيماناً بحقيقة جوهرها وطيب عنصرها وكرم غرائزها، بل لعلني أشد إيغالا في الإيمان بأنها صائرة إلى السؤدد الأعظم والشرف السري والغلبة الظاهرة إن شاء الله، وأنها الأمة التي أرصدها بارئ النسم لرد العقل على هذه الإنسانية المجنونة في هذه الحضارة الهوجاء. فالعرب مذ كانوا هم الجوهرة التي أطبقت عليها صحراء الجزيرة، فما زالت تكتمهم في ضميرها وتحنوا عليهم وتمنعهم من كل فساد داخل حتى صفا ملئوهم ورف شبابهم وأضاءوا من جميع نواحيهم. فلما جاءهم محمد ابن عبد الله بشيراً ونذيراً وهادياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صار كل رجل من صحابته نجما يهتدي به الضال ويأتم به المسدد. ويومئذ تمت المعجزة الكبرى في تاريخ العالم، فانطلقت هذه الفئة الصالحة من عباد الله كأنها السيل المتدفع، وكانها الرياح العاصفة، وكأنها الأشعة المتلألئة، وكأنها قدر الله، فدكت حصون الروم، وثلت عروش الفرس، ودوخت جبابرة الأمم، حتى ورثوا أرض الله وأقاموا فيها الحق والعدل بالميزان والقسط، وجاءت سلالتهم فجددت حضارة الدنيا، وإذا الذين كانوا بالأمس بداة جفاة غلاضاً فيما يرى الناس من أهل الحضارات السالفة، هم الناس وهم العلم وهم أصحاب الإمرة في كل فن وعلم وسياسة وتدبير ملك. إنها لمعجزة لم يوفها مؤرخ حقها من المجد والقوة والظهور.
فهذا الجيل من عباد الله مطوي على صلاح كثير وخير عميم وقوة خارقة، لا أظن أن الزمن قد ذهب بها ومحقها، فلذلك أراني وملء قلبي الإيمان بأنه سوف ينتهي إلى الغاية التي كتبت له التاريخ هذه الإنسانية. وعسى أن يكون زمن ذلك كله قد أتى وأظل، فإني أسمع نشيش الحياة وهي تتخلق في مرجل الوجود وقد أحاطت به النيران المجنونة المتضرمة من كل مكان. ولكن لابد من عمل يتولاه رجال من هذه الامة، فينفخون في الضرم حتى تستعر النار الخالدة لتنفي عن هذا الجيل كل خبث ألم به من أدران الحضارة التي يعيش فيها عالمنا اليوم غير أني أخشى أن يكون الإهمال والعجلة وقلة المبالاة واخذ الأمور بالاستخفاف، مما يفضي إلى فوات الفرصة التي أمكنت، ويقضي على هذا الأمل(748/6)
الذي يضئ لنا من بعيد ينادينا إلى ما فيه خيرنا وخير هذا الناس.
ويخيل إلي أننا نعيش اليوم في عصر بلبلة واختلاط، وهذا شئ قد أصاب أمما كثيرة من قبلنا، فلم يعقها ذلك عن إدراك الغايات التي حرصت على السعي إليها وعلى بلوغها. بيد أن لابد لأمة أرادت أن تخلص من هذه البلبلة أن يتجرد من رجالها ونسائها فئة لا ترهب في الحق سطوة ولا بطشاً ولا اضطهاداً ولا تدخر دون مطلبها جهداً ولا عزيمة، ولا يثنيها إخفاق، ولا تلفتها فتنة، ولا يصفها الفرح بقليل تناله عن الكدح في سبيل ما ينبغي أن تناله.
وقد أراد الله بمصر أن تكون في هذا العصر قدوة العرب ومجتمع أمرهم وكعبة قصادهم، وهذه البلبلة في مصر اشد ظهورا وغلبة منها في غيرها من بلاد العرب، فأخوف مخافة أن تظل مصر غافلة عن شر هذه البلبلة فتعدى سائر العرب بالأسوة والقدوة، فينتشر الأمر انتشاراً يعجز المخلصين أن يلموه. فبين ظهر أنينا اليوم ألوف من الطلاب العرب قد جاءوا من كل قطر لينهلوا من علم مصر، ويعودوا إلى بلادهم يجاهدوا في سبيلها، فإذا أعدتهم هذه البلبلة فسوف يحملونها معهم إلى بلادهم فيفرقوا المجتمع من كلمة أممهم، ويرتكز الأمر حتى يصبح ولا علاج له هذا، وأنت لا تعدم صدى البلبلة في الصحف والكتب والمجلات المصرية التي أخذت تزداد انتشارا واتساعا، فكيف لا يخشى أن يعم هذا البلاء كل بلاد العرب ويتغلغل في نواحيها؟ ويومئذ نصبح طعما للأمم الضارية التي تحيط بنا من كل مكان، وتحد لنا أنياباً عصلا تنهشنا بها يوم يتاح لها أن تنقض على هذه الفريسة التي لا تدفع عن نفسها.
فمن شر هذه البلبلة، ما نرى من سوء تدمير الأحزاب السياسية المصرية، فهي قائمة على نزاع دائم في سبيل الحكم، بكيد بعضها لبعض، ويأكل بعضها بعضا، ولا يرى أحد لأحد حرمة. وتنشئ هذه الأحزاب صحافة يكون هم محرريها التشهير بمن يخالفهم في الرأي والمذهب، فيدلسون الحقائق، ويكتمون الحق، ويفترون على الناس الكذب، ويلون ألسنتهم بالحديث ويحرفون أعمال من يعادونهم تحريفا لئيما مستهجناً، كل ذلك ابتغاء مرضاة رؤساء الأحزاب وأصحاب الأمر فيها. هذا على أن هذه الأحزاب قد نشأت أو أنشئت بغير أهداف مبينة للناس تعاهدهم على أن تسعى إليها، وبغير برنامج لإصلاح هذه الأمة التي لم(748/7)
تجد لها نصيرا من أبنائها، وبغير نظام ينفي عن الحزب الدخلاء والملوثين وذوي الأغراض الخبيثة.
ثم يأتي بعد ذلك نوع من الصحافة يتلبس بالورع، ويتظاهر بالتقوى، ويتخشع بالبراءة من التعصب، ويبدي للناس انه طالب خير للناس، وانه يريد النفع هذه الأمة وعامل على ترقيتها وتهذيبها وهو في خلال ذلك يدس لها سما زعافاً ومنية قاتلة، شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً وساعة بعد ساعة حتى لا تمجه الألسنة لأول مذاق، ثم إذا بان طعمه شيئا لم تستنكره، ثم يستمر حتى إذا دام قليلا الفتح وربت عليه، ثم إذا زادته شيئا لم يكن إلا طيبا مستساغاً، ثم إذا الناس يطالبونه أو يخيل إليهم انهم يطلبونه لأنه مما يتصل بأدنأ الغرائز الحيوانية والشهوات البهيمية، ويجند لكل هذا الخبث جمع من الكتاب الذين ظلوا عن حقيقة أنفسهم وطائفة من الشباب الذين أفسدتهم المدارس الأجنبية والجامعات الغربية عن هذه الأمة، وهذا الطرف من الصحافة الخبيثة هو البلاء المستطير الذي لم يجد إلى اليوم من يكشف عن طواياه الخبيثة وأساليبه القاتلة، وعن دبيب رأي هذه الأمة العربية دبيب الضلالة في قلب الغرير المفتون.
ثم يأتي بعد ذلك كتاب وعلماء ورجال من أصحاب الرأي، ليس في قلب أحد منهم تقوى لله ولا خشية للاثم ولا محبة للحق، فيرى أحدهم الرأي الفطير فلا يلبث أن يمسك القلم فيجري السواد على بياض الورق، فإذا هي مقالة أو كتاب أو رأي اخبث منه صاحبه والناطق به، فيأخذه المبتدئ المتطلع، فيعتقده كأنه لقطة نفيسة بغير تحقيق ولا تمحيص، فإذا سمع رأي يخالف ما قرا لهذا الكتاب البليغ أو الأستاذ الكبير أو الفيلسوف القدير، أنكره وأدبر عنه، فيزيده هذا الإنكار لجاجة، وتزيده اللجاجة عنادا، ويملئوه العناد كبرا، فيعما عن الحق وهو بين، ولا يزال يهوى في العناد حتى يصير ذلك عادة في مسألة بعد مسألة ورأي بعد رأي، وإذا هو عند نفسه أكبر من أن يأخذ عن فلان لأنه يخالفه في الرأي.
وتزيد الدولة هذا الأمر ضراوة واستعاراً، فتولى الأمور غير اهلها، وتضع الناس في غير منازلهم وتكرم فلان بإلحاقه بوظيفة كذا لأنه من أشياع الحزب الذي يتولى الحكم، فإذا خافت عليه أن ينزع من مكانه إذا جاءت وزارة أخرى، ألحقته بعمل لا يقبل العزل. فإذا جاء وزير للمعارف مثلا وله أصحاب من شيعته ممن عرفوا بشيء من الأدب ألحقه(748/8)
بالمجمع اللغوي مثلا تكريما له، فيريد هذا الرجل أن يحقق معنى هذا التكريم على ما خيلت، فينبري لإبداء الرأي فيما لا يحسن، ويكشف عن عورة من الجهل لا تستر. وليتها كانت رأياً بدا له فكان صاحبه الأول كلا، بل هو يعمد إلى آراء أماتها الذي أمات الخرافات والأساطير فيخيل إليه انه وهو الأديب المؤلف الكاتب مستطيع أن يحيى هذه الرمم البالية برأيه وحجته وحسن معرضه، فكيف تكون مغبة هذا الجهل على شاب ناشئ يقرا ملفقات السخف المدلس، وليس عنده قدرة على تمحيصه.
ويأتي آخر يلقيه صديق مثلا على كرسي الجامعة ليدرس العلم لطلاب العلم، فإذا هو عازم على أن ينشئ علماً جديداً لطلابه، فيبحث في تحاريب عقله عن أشياء يخيل إليه أنها فن جديد وبلاغة جديدة وعلم لم يصل إلى إدراكه سابق ولن يناله لاحق إلا بالتلقي عته والوقوف بين يديه. ويخرج هذا الأستاذ جيلا من مساكين الطلاب لا يحسنون شيئا إلا التعصب له والتسمي باسمه والتشبه به في فساد الرأي وقلة العلم وضعف الملكة. ويجتمع منهم ومن شيخهم فئة تهجم على العلم بغير علم، فإذا أراد أحد أن يقف في سبيلها تناعقت باسم حرية الرأي وحرمة الجامعة. فكيف تكون العاقبة إذا خرج مثل هؤلاء الشباب الناشئين بأمثال آرائهم المقيتة الجاهلة، وعلى رأس كل منهم تاج مكتوب عليه (دكتور في الآداب) أو (دكتور في الفلسفة) أو (دكتور في التاريخ)؟ وكيف يسلط هؤلاء على عقول ناشئة العرب، يفتنونهم بالألقاب والأسماء، وبتعاون هذه الفئة المضللة على نصرة بعضهم لبعض؟ فإذا بقى الأمر على ما ترى في أمر زعمائنا، وفي أمر سياستنا، وفي أمر اجتماعنا، وفي أمر أدبنا، وفي أمر صحافتنا، وفي أمر مدارسنا وجامعاتنا: فكيف نرجو أن نصل إلى غاياتنا؟ وكيف يتاح لهذه الشعوب العربية الكريمة أن تتأهب للمعركة الفاصلة في تاريخ العرب على بلوغ الهدف الأعظم، وهو هدف يرمي إلى إنقاذ الإنسانية كلها من ردغة الخبال التي ألقت بها حضارة ضخمة، ولكنها قد حشيت شراً كثيراً وخبثاً؟
ولو شئنا أن نتقصى ظواهر هذه البلبلة في أشياء كثيرة مما يتعرض لها الشعب مرغماً أو مريداً أو مخدوعاً لأطلنا، فما من شئ إلا وقد اختلط فيه الأمر على غير هدى. وإذا شئت أن تقدر سوء ما جنينا من شرها، فجالس من شئت من طوائف الشباب وجاذبهم الحديث، واستدرجهم إلى المناقشة في رأي أو علم أو فن، تسمع العجب العاجب من الخلل في(748/9)
موازين الأشياء المطبقة في تقدير ما يقع تحت أبصارهم وأسماعهم، والعجز المضطرب عن ضبط الرأي، والضعف المطلق عن القيام بحق العقل والإدراك واكبر من ذلك كله انهم اصبحوا لا يرون صاحب رأي إلا وهو دونهم، فلا يسلم من انتقاصهم ونقدهم، فإذا صححت لهم وأردت أن تقيمهم على الطريق استكبروا واعرضوا، فكيف تأتي أنت فتعلم حامل شهادة الحقوق أو الطب أو الأدب أو الفلسفة شيئا يستيقن هو في نفسه انه قد فرغ منه وعلمه علما ليس بعده إلا العروج إلى سماء الخلود.
وكذلك الأمر في طبقات أخرى من العلماء إلى الأدباء إلى رجال القلم إلى أصحاب الصناعات إلى عامة الناس. وهذا شيء مخوف مدمر للجهود الذي بذلتها طائفة من السلف القريب في تسديد خطى هذا الشعب وترقيته وتهذيبه وتطهيره من الجهل والبلادة والغفلة. وإذا طال ذلك ولم نعالجه في مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا، وفي دور التسلية، وفي أندية المجتمع، فالعاقبة الوخيمة بالمرصاد لمن أهمل وأضاع وترك الأشياء تمضي في غير عنان وعلى غير هدى. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى صحافة جديدة حرة لا تخاف شيئا ولا تخشى، تدل على مواطن العيب لا الطعن والتشهير وسب هذه الأمة، بل لعلاجها والدفاع عنها ونصرتها على نفسها. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى شباب من الكتاب وشيوخ من المحنكين يخلصون الرأي لهذه الأمة، فلا يدعون الفرصة تفوت ويحملون الشعلة الجديدة إلى الجيل الجديد الذي لم يلوثه العناد والكبرياء واللجاجة والمراء. ونحن الآن أحوج ما نكون إلى طائفة ممن خبروا الحياة وعرفوها ليكونوا شهداء على مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا، تستعين بهم الدولة على نهج جديد يمنع عن جماهير الشباب وطوائف الأمة كل ما يزيد هذه البلبلة إيغالا وضراوة.
إن الزمن يمضي مضاء حثيثا كالنار في الهشيم، فان شئنا أن نحيي وان نستعد للذي أعدنا الله له من الظهور في الارض، واصلاح ما اختل من شئونها. فعلى كل قادر أن يجمع أمره، وأن يدعوا أصحابه، وان يلم الشعث المتفرق ممن يظن فيهم خيرا، لكي يتعاونوا جميعا على رد هذا البلاء بالرفق في مواضع الرفق، وبالبأس في مواضع البأس، وبالبتر حيث لا يجدي شئ إلا البتر بلا هوادة ولا رحمة. . . . .
محمود محمد شاكر(748/10)
11 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
ضريح همايون
إلى الغرب والشمال من دلهي تقوم أبنية كثيرة هي بقايا الأحداث والغير من مقابر الملوك التيموريين. وأعظمهم تمثال المجد المائل على ضريح نصر الدين همايون.
همايون الملك الثاني من هذه الأسرة المجيدة العظيمة التي سيطرت على الهند قرونا. وهي سيرة عجيبة من الهمة التي تحقر الصعاب، والعزم الذي ينكر الاهوال، والامل الذي يكفر بالمستحيل.
أبوه ظهير الدين بابر ورث إمارة في سمرقند وفرغانة وهو صبي في الثانية عشرة. فلما غلب عليهما مد خطوب طويلة، وجه همته إلى أفغانستان ففتحها واستولى على بدخشان ثم كابل وقنهار ومدن أخرى. واستعاض عن الإمارة الصغيرة التي فقدها إمارة اعظم. وأحال الهزيمة انتصارا، وزوال الملك وسيلة إلى ملك اكبر، واليأس من سمرقند يقينا بفتح كابل. ثم وجه أمله وهمته وعزمه وعقله وعبقريته في السياسة والحرب، إلى الهند فلم يثبت لجيشه جيش، ولم يقم لدهائه دهاء، ولم يصد تدبيره تدبير. فامتد به الفتح شمالا وجنوبا.
ومات بابر بعد خمس سنوات من انتصاره الهائل في معركة باني بات التي فتحت له أبواب الهند، وما رسخت قواعد الملك، ولا اطأدت أساطين الدولة، بل ما قر نجاح الحروب، ولا فارق الأسماع صدى السلاح. فورث ملكه ابنه همايون وسنه تسع عشرة سنة. فاستأنف فتوح ابيه، ولكن شير شاه أمير بهار استطاع أن يصد السيل ثم يرده صوب الغرب شيئاً فشيئاً حتى اضطر همايون إلى السند. ثم أخرجه إلى إيران مغلوبا قد فقد ملك أبيه كله فعاذ بملوك الدولة الصفوية وبقى همايون خمس عشر سنة لاجئا لا ملك له ولا وطن.
ولكن العزيمة التي سخر بها بابر أفغانستان والهند ليفتحها ويسترد ملكه كأنه لم يغلب عليه، ولم يطرد منه، ولم يلبث خمسة عشر عاما بعيد عنه في حماية ملوك إيران، ففتح دهلى(748/12)
سنة 962 بعد ثلاثين عاما من فتح بابر إياها. وبعد سنة مات همايون وسنه خمس وأربعون سنة.
بنى خزانة كتب عظيمة وصعد عليها يوما فزلت قدمه فسقط فمات. ومن العجيب أن تاريخ وفاته في هذه الجملة: (الملك همايون سقط من السطح) (همايون بادشاه آزبام أمتاد).
حزنت زوجه حميدة بانو بيكمم على زوجها بل ولهت فخرجت إلى الحج ورجعت مستصحبة مهرة البنائين والصناع لتبني لهمايون ضريحا يكافئ عظمته، ويمثل مكانته في قلبها، ويخلد ذكراه على الأرض. وبنت هذا الأثر الرائع. وهو أول نموذج لمقابر الملوك المغول التي افتتنوا فيما بعد حتى بلغ ذروته في تاج محل.
وفي جانب حديقة المقبرة دار خربه تسمى عرب سراي (دار العرب) يقال إنها كانت دار الصناع الذين قدموا مع السيدة من البلاد العربية.
كان هذا أول قبر على هذا الأسلوب في الهند. وأما بابر أبو همايون فلم يدفن في الهند بل قبره في كابل.
وقد حدثني الأديب الكبير سرور كويا أستاذ الأدب الفارسي في جامعة كابل - وقد سعدت بلقائه في إيران قبل ثلاث عشرة سنة وفي الهند هذا العام قال كنت في صحبة الشاعر العظيم الفيلسوف محمد إقبال حينما زار قبر بابر في كابل. فالتفت إلى قائلاً يا سرور أكتب وأملي علي هذين البيتين بالفارسية:
خوشا نصيب كه خاك تو آرسيد اينجا ... كه اين زمين ز طلسم فرنك آزاد ست
هزار مرتبه كابل خوش است ازدلي ... كه ابن عجوزة عروس هزار دامادست
وترجمتها:
طوبى لك إذ استراح ترابك هنا ... فهذه الأرض منزهة عن سحر الفرنج
إن كابل خير من دهلى ألف مرة ... فتلك العجوز عروس لألف زوج
والشطر الأخير شطر معروف لحافظ الشيرازي في وصف الدنيا.
ورحم الله إقبالا! كأنه رأى بظهر الغيب غدر هذه العجوز بالمسلمين. فهي اليوم تطردهم وتفتك بهم ولا ترعى عهدهم وقد سيطر عليها سلطان المسلمين ثمانية قرون عدلوا فيها واحسنوا ورحموا رعاياهم وتركوهم أحرارا فيما يدينون. فبقيت الكثرة لغير المسلمين في(748/13)
دار الملك الإسلامي حتى زالت دولتهم.
تدخل حديقة واسعة جدا في وسطها بناء تفضي إليه طرق أربعة مبلطة فيها قنوات وأحواض. وكل طريق يمتد بين باب للحديقة وهذا البناء. سرنا من المدخل في إحدى هذه الطرق إلى دكة رقينا إليها ست درجات. وفوقها دكة أخرى عظيمة عالية مربعة في كل ضلع منها خمسة عشر عقدا أوسطها يفضي إلى خمس وعشرين درجة تصعد إلى القبة الحانية على الضريح - كما يرى في الصورة.
وعلى الدكة العالية بناء مربع الجوانب وسطه قبة شامخة من الرخام الأبيض تحيط بها حجرات متواصلة في هندسة محكمة جميلة. وفي هذه الحجرات قبور قيل لي أنها ست وخمسون لأمراء الدولة وأعيانها.
ودخلت فإذا قطعة من المرمر جاثمة في الوسط تحتها رفات همايون وفوقها قبة تقوم على ثمانية عقود. ولا تبدوا القبة عالية من الداخل لأنها قبة مزدوجة أي قبتان إحداهما فوق الأخرى. وهي أول قبة من هذا النوع في الهند. وقد رأيت في مسجد الشاه بأصفهان قبة عظيمة فوق القبلة مزدوجة يتردد صدى الصوت تحتها عشر مرات او اكثر، ولكن قبة همايون لا تردد الصدى كأنما أخرسها جلال الموت، أو هيبة الملك.
خلعت نعلي وخطوت خطوات إلى القبر فوقفت واجما خاشعا حينا ورافعا بصري إلى القبة حينا. فقلت: قبر عظيم ولكن ذكرى همايون اعظم. إن عزمك الماضي أيها الملك الهمام، وهمتك العالية طويتا في هذا اللحد. لا بل هما ملئ التاريخ.
قرأت الفاتحة خاشعا وخرجت.
ثم صعدت إلى السطح المحيط بالقبة فإذا هذا التناسق الكامل الذي يميز لبنية السلاطين التيموريين كلها. في كل جانب قباب يصعد إليها درج. وفي الزوايا قباب اصغر منها في تناظر تام وتناسب لا يتسع المجال لتفصيله.
نزلت وخرجت مع الرفاق والتاريخ يمر أمامي سريعا فأرى همايون فاتحا، وهمايون دفينا، وارى الأحداث تتوالى فتشمل الدولة أرجاء الهند كلها ويجمع البلاد سلطان واحد لأول مرة في تاريخها ثم يجزر البحر فتضعف الدولة ويتسلط الإنكليز.
وتتوالى الخطوب حتى أرى بهادر شاه آخر السلاطين من ذرية همايون يحتمي بحرم جده،(748/14)
بهذه المقبرة وهو يحارب الإنكليز قبل تسعين عاما فيؤسر وينفى. ويؤخذ من هذا الحرم بنوه الثلاثة مغل وخضر وأبو بكر فيقتلون صبرا على مشهد من الناس.
قلت: ما دفن هنا همايون وحده ولكن دفن كل تاريخ الدولة التيمورية. فيا لك أول ضريح للدولة العظيمة في الهند وآخر ضريح.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(748/15)
الفضاء والعدم
للأستاذ نقولا الحداد
أستأذن الكاتب الكبير الأستاذ العقاد بان اقفي على مقاله (أساطين الآخرين) في 13 أكتوبر الحالي من الرسالة بكلمة في موضوع العدم والفضاء.
العدم اسم لغير مسمى. اعني انه لا يوجد في الوجود شئ أو كائن يصح أن يسمى (عدما) هو في غير لغتنا (لا شئ) وفي نفسنا هو لا شئ أيضا. واللاشئ ليس ذاتية حتى يعرف أو يوصف أو (تفسر له ماهية)
أما الفضاء فهو الحيز الذي تشغله أو تشغل بعضه مادة ذات حدود. وأما الخلاء فهو الفراغ بين مادة ومادة. والمادة تحده ولهذا يمكن أن يقاس بمقياس.
يستحيل علينا أن نتصور الفضاء مطلقا خلوا من مادة مهما أمعنا في التصور
لولا وجود المادة لما كان فضاء البتة. هل تستطيع أن تتصور فضاء فارغا لا شئ فيه. تصور وقل لي ماذا تتصور.
المادة كثيفة كانت أو لطيفة قضت بوجود الفضاء (الحيز) انف المادة ينتف الفضاء. هذا هو العدم - اللاشيء،
فهذا الحيز الذي نسميه فضاء لا بد أن يكون مشغولا بمادة حتما. المادة نوعان: كثيفة وهي الأجرام الفلكية التي نحس بوجودها بالحس البصري. ولطيفة هي الأشعة الموجبة الكهرطيسية (الكهربائية المغنطيسية) التي نحس بها بالبصر كالنور أو بالآلات الرصدية المختلفة كأمواج اللاسلكي غير المنظورة أما النور وكل درجة من درجات الكهرطيسية كالأشعة السينية وأشعة ما فوق البنفسجي وتحت الأحمر هي أمواج أو تموج فحقيقة لا شك فيها لان العمليات الامتحانية العديدة لاكتشاف طبيعة النور وحركة اللاسلكي في الفضاء أثبتت بوضوح إن هذه الأشعة الكهرطيسية هي موجات في الفضاء.
فلذلك تساءل العلماء فيما بينهم: ما هو هذا الشيء المتموج؟
لم يستطيعوا جوابا على السؤال إلا بفرض الأثير. وهو في نظرهم مادة متناهية في اللطف تملا هذا الفضاء. وذرات المادة أو ذريراتها السابحة في الفضاء الثائرة الحركة فيه تصدم هذا البحر الأثيري فيتموج وأمواجه تصدم مشاعرنا البصرية والعصبية فنحس بوجود تلك(748/16)
المواد الثائرة. فالكهرطيسية في نظرهم هي تلك الأمواج الأثيرية. وهي ما يسمونه بالإشعاع
ولكن هذا التعليل الكهرطيسية (التي منها النور) لم يكشف لهم أسرار الوجود. فقد رأى العلماء في سياق أبحاثهم أن هذا الإشعاع ليس مجرد صدم المادة أو ذراتها لبحر الأثير بل هو أيضا انتثار ذريرات من الجسم المادي في هذا البحر (ويسميها العلماء فوتونات) وهي من ضرب ذربرات الأثير بعينها. وبعض العلماء يعتقدون أن مادة الأكوان مؤلفة من فوتونات الأثير. أي إن الأثير هو اصل المادة - هو الهيولي.
ولهذا وجد العلماء أنفسهم أمام نظريتين مختلفتين بشان النور وكل إشعاع كهروطيسي: الأول أمواج أثيرية يحدثها اصطدام ذرات المادة ببحر الأثير. والثانية تدفق فوتونات المادة في هذا البحر انحلت إليها ذرات المادة، فجرت فيه كما يتدفق ماء المطر في البحر فيجري فيه. وهذا سمى تجايمس تجينز هذا الإشعاع الكهرطيسي مشتقة من وبغية جمع النظريتين في نظرية واحدة.
أعود إلى مظنة الزهاوي إن الله الأثير
والظاهر أن الزهاوي بقوله هذا يريد أن يعرفنا بحقيقة الله في الطبيعة فخاب قصدا. لان المفهوم من معنى الألوهية عند الكتابين أن الله روح غير منظور سرمدي (أبدي أزلي) خالق كل شئ وقادر على كل شئ وموجود في كل مكان وكل زمان وهذا الوصف لا ينطبق على طبيعة الأثير في كل شئ لا ينطبق عليه في أن الأثير خالق كل شئ بل كل المادة الكونية مؤلفة منه ولكنه لم يؤلفها هذا في رأي علماء هذا العصر. وليس الأثير قادر على كل شئ أو ليس له قدرة ولا قوة بحد ذاته وإنما هو الوسط الذي تتحرك فيه مادة الأكوان.
ولو قال إن قوة الجاذبية هي الله أو أنها الأداة التي في يد الله وبها يحرك الله الأكوان جميعا، وكل حركة كلية أو جزئية صادرة من قوة الجاذبية لربما اقترب من الحقيقة لان الجاذبية قوة سرمدية موجودة في كل زمان ومكان وبها تتحرك جميع الأكوان عظيمها وصغيرها من أدق الحركات الكونية إلى اعظم حركات الأجرام الفلكية. والله اعلم
نقولا حداد(748/17)
الأسطورة والإعجاز القرآني
للأستاذ محمد احمد خلف الله
قلنا في مقالنا السابق إن الأقدمين من المفسرين قد فهموا من الأسطورة أنها ما سطره الأولون من قصصهم وأحاديثهم ونقلنا عن كتبهم من النصوص ما يثبت ذلك. ولعلنا لم ننس بعد ما ذهب إليه الطبري في آخر عبارته من القول بان المشركين ما كانوا يقصدون من وراء كل هذا إلا القول بان هذه الأساطير من عند محمد لم يجئه بها الوحي ولم تنزل عليه من السماء.
وقلنا في نفس المقال أن الرازي قد فطن إلى الصنيع الأدبي في بعض القصص القرآني حين فرق بين جسم القصة وما فيها من توجيهات دينية هي قصد القرآن من قصصه. ولعلنا لم ننس بعد ما ذهب إليه الرازي من أن الأمر الأول هو الذي ادخل الشبهة على عقول المشركين وعلى قلوبهم وانهم من اجل هذا قالوا بان ما يجئ به محمد ليس إلا أساطير الأولين. ومعنى ذلك أيضا انهم ينكرون أن يكون قد جاء بها الوحي أو نزلت عليه من السماء.
واليوم نريد أن ندرس مع القراء موقف القرآن نفسه من هذه الأساطير.
وموقف القرآن يتلخص في الإجابة عن هذا السؤال. هل نفى القرآن عن نفسه بناءه بعض القصص على الأساطير؟.
هذه هي الآيات التي تعرضت لهذه المسالة من القران الكريم:
(1) قال الله تعالى (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونه يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) أنعام 25.
(2) وقال تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم) الأنفال 31، 32.
(3) وقال تعالى (وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين) النحل 24
(4) وقال (بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد(748/19)
وعدنا نحن وآبائنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) المؤمنون 81، 83
(5) وقال (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض انه كان غفورا رحيما) الفرقان 5، 6
(6) وقال (وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) النمل 67، 68
(7) وقال (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين) الأحقاف 17
(8) وقال (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) القلم 10، 15
(9) وقال (ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) المطففين 10، 13
هذه هي الآيات التي صور القران فيها هذه العقيدة فلننظر لنرى ماذا فيها من حديث؟.
أول الأشياء أنها جميعا من القرآن المكي حتى ما نزل فيها من سورة الأنفال المدنية إذ نص القدماء واعتمد ذلك المصحف المكي على أن الآيات من 30 - 36 من سورة الأنفال مكية. ومعنى ذلك أن هذا القول إنما كان من المشركين من أهل مكة وانه اختفى بانتقال النبي إلى المدينة ولذلك سر سنقف عليه بعد حين.
وثاني الأشياء أن القائلين لهذا القول هم في الغالب الذين ينكرون البعث ولا يؤمنون بالآخرة ولك واضح كل الوضوح من آيات سور. المؤمنون، النمل، الأحقاف، المطففين، ذلك لان الحديث معهم في هذه المسالة بالذات.
ثم هو متصل بسبب قوي بالحديث عن الحياة الآخرة في آيات سور الأنعام والنحل.
ومعنى ذلك فيما نرى انهم كانوا يعتبرون الأقاصيص التي تجسم عملية الإحياء بعد الإماتة والتي تمثلها للناس على أنها قد وقعت. من الأساطير.
وإذا ما ضممنا إلى هذا أمرا آخر هو أن تلك الأقاصيص القرآنية التي يذهب المستشرقون إلى إنها من الأساطير كقصة أهل الكهف تلك التي يسمونها أسطورة السبعة النيام وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال(748/20)
أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم أن الله على كل شئ قدير) كان موضوعها البعث وأنها تجسم عملية الإحياء بعد الإماتة وتمثيلها للناس على أنها قد وقعت. تبين لنا أن الشبهة قد دخلت على أولئك من الباب الذي دخلت منه على هؤلاء.
ومعنى ذلك أن هيكل القصة لا ما فيها من توجيهات دينية كان العامل القوي في الذهاب إلى هذا القول من أولئك وهؤلاء.
ومن الصدف الغريبة ان المحدثين من المفسرين يرون أن هذه القصة الأخيرة قصة الذي مر على قرية وهي خاوية قد يكون القصد منها التمثيل. فقد جاء في المنار ج3 ص49 بعد تفسيره لتلك القصة ما يأتي (ويحتمل أن تكون القصة من قبيل التمثيل).
إن الأمر كما قلت في مقالي السابق يحتاج إلى النظرة الدقيقة الفاحصة. نظرة العلماء الذين يقفون على أسرار الصناعة الأدبية ويفقهون المسائل القرآنية ويواجهون الحقائق مواجهة العلماء. أما أولئك الذين يفزعون ويهرعون إلى وهمهم كلما تحدث متحدث ليقذفوه بالكفر ويرموه بالإلحاد فأولى للقرآن ثم أولى لهم أن يختفوا من الميدان.
إن قوة عقيدة المشركين وسعة أفق المستشرقين يضطراننا إلى أن نتناول المسالة كما يجب أن يتناولها العلماء.
لنستعرض سويا هذه الآيات ولننظر فسنرى:
في سورة الأنعام يذهب المشركون إلى النبي يستمعون إلى القرآن لكنهم بعد الاستماع يجادلونه ويقولون له ما هذا إلا أساطير الأولين. ونعتقد انهم لم يقولوا هذا القول في مواجهته وأمام سمعه وبصره إلا وهم يعتقدون أن ما يقولونه الحق وما يرونه الصواب. ومعنى ذلك أن الشبهة عندهم قوية جارفة.
وفي سورة الأنفال يذهبون ويستمعون وبعد هذا وذاك يقولون قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ولا يكتفون في هذا الموطن بهذا القول وإنما يذهبون إلى ابعد من هذا في التحدي ويقولون. اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا(748/21)
حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم.
وإذا كنا نعتقد بصدق القرآن في تصوير احساساتهم كان لا بد لنا من التسليم بان هذه العقيدة قوية جارفة وتقوم على أساس يطمئن إليه المشركون ذلك هو ورود بعض الأساطير في القرآن الكريم.
وفي الأحقاف يقف ولد هو فيما يروى المفسرون ابن أبي بكر من والديه هذا الموقف القاسي العنيف (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين).
وإذا كنا نعتقد بصدق القرآن في تصويره لخلجات الأنفس فان الأمر الذي لا بد لنا منه هو الاعتراف بان هذا الشخص الذي يضجر من والديه ويتأفف من قولهما ويشك في عودته إلى الحياة مرة ثانية ويقيم في هذا الشك على ملاحظته لظاهرة من الظواهر هي أن القرون قد خلت من قبله ولم يعد إلى الحياة أحد كان قوي العقيدة شديد اليقين في أن ما يروى له من الأساطير.
وهكذا نلحظ إن الشبهة قوية عنيفة وأن القرآن يصورها تصوير الصادق الأمين. ونحس نحن من تصوير القرآن لها أن القوم كانوا صادقين في التعبير عما يحسون ويشعرون به نحو ما يتلى عليهم من أي القران الكريم.
والمسالة عقلا لا تحتمل اكثر من فرضين.
الأول أن القوم يقولون هذا القول كذبا وادعاء لتضليل الناس وصرفهم عما يتلو عليهم محمد من آي الذكر الحكيم.
الثاني أن القوم كانوا يعبرون التعبير الصادق عما يدور في خلدهم من إحساسهم بان فيما يتلى عليهم بعض الأساطير.
ونرجح نحن الغرض الثاني ولكن نكتفي في ترجيحنا له على القول السابق من صدق القرآن في تصوير إحساسهم من أن الذي يتلى عليهم فيه بعض الأساطير. وإنما سنعمد إلى شئ آخر يدل على صدق عقيدتهم هو موقف القرآن الكريم.
لنستعرض الآيات مرة أخرى فسنرى.
1 - اكتفى القرآن بوصف هذا الصنيع من المشركين في آيات سور الأنفال والمؤمنون(748/22)
والنمل والأحقاف.
2 - اكتفى القرآن بتهديد القوم في آيات سور الأنعام والقلم والمطففين. وهو تهديد يقوم على إنكارهم ليوم البعث أو على صدهم الناس من اتباع النبي وليس منه التهديد على قولهم بان الأساطير قد وردت في القرآن الكريم.
3 - ومرة واحدة رد القرآن عليهم قولهم وهي المرة التي ترد في سورة الفرقان وهذه هي الآيات. قال تعالى (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم سر السموات والأرض انه كان غفوراً رحيماً).
وهو رد لا ينفي كما نرى ورود الأساطير في القرآن وإنما ينفي أنها من عند محمد يكتبها وتملى عليه، ويثبت أنها من عند الله. قل أنزله الذي يعلم السر. . . . الخ.
ويحسن بنا أن نثبت هنا نصاً للرازي في هذه المسالة فقد قال رحمه الله في ج6 ص 354 ما يأتي (البحث الأول في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وتقريره ما قدمنا من انه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بان استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن فلما عجزوا عنه ثبت انه وحي الله وكلامه فلهذا قال (قل أنزله الذي يعلم السر. . . . . .) انتهى.
والذي يحسن بنا ان نلتفت إليه هنا إن الرازي يسال عن كيفية أن يكون قوله تعالى: قل أنزله الذي يعلم السر. . . . . . . الخ إجابة عن قولهم وقالوا أساطير الأولين. . . الخ. ذلك لان الرد الذي كان يتوقعه الرازي إنما يكون بنفي الأسطورية عن القرآن ومن هنا حاول ما حاول ليجعل القرآن ملاقية للشبهة.
واعتقد إن الرازي لم يفطن إلى الصواب فإجابة القرآن هي الإجابة الطبيعية وهي الإجابة التي لا محيد عنها في هذا الميدان ذلك لان مدار الحوار بين القران والمشركين لم يكن عن ورود الأساطير في القرآن وإنما كان على اتخاذهم ورود الأساطير دليلا على إن القرآن من عند محمد لم يجئه به الوحي ولم ينزل علية من السماء. ومن هنا كانت الإجابة في محلها وكانت إثبات أن القرآن من عند الله (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض). ولم تكن الإجابة نفي ورود القصص الأسطوري في القرآن. وهذا هو الذي(748/23)
نص عليه الطبري فيما نقلنا منه من حديث في مقالنا السابق. وهذا هو الذي يدل عليه ما ذكره القران من قبلهم (وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا أساطير الأولين).
ذلك لأنهم كانوا يستبعدون أن يصدر مثل هذا القصص الأسطوري عن الله. ومن هنا وقفوا موقفهم من النبي وقالوا عنه وعن القران ما قالوا.
والآن نستطيع أن نلتفت قليلا إلى الوراء.
لقد رصدنا في مقالنا السابق ما نجنيه من الفوائد وقلنا إن أهمها تخليص القران من مطاعن الملاحدة والمستشرقين. والآن نعود إلى رصد شئ آخر هو اعز علينا واثر عندنا من كل ماعداه ذلك لأنه سر قوى من أسرار الإعجاز القرآن الكريم.
لقد كان هذا الصنيع الأدبي من القرآن - وهو بناءه بعض قصصه الدينية على أساس من الأساطير القديمة - تجديدا في الحياة الأدبية عند العرب المكيين. وكان تجديدا لم يعرفه القوم من قبل لبعدهم عن الكتب السماوية ومن هنا أنكروه وقالوا ما قالوا عن النبي وعن القرآن الكريم.
ولقد كان هذا الصنيع الأدبي مما ألفه القوم من المدنيين خاصة أهل الكتاب ذلك الصنيع الذي جرت علية التوراة وجاء به الإنجيل ومن هنا لم ينكروه ولم يقولوا فيه مثل ما قال الأولون من المكيين. ولا يزال هذا الصنيع حتى اليوم من عمل الأدباء المجيدين ولا بدع في ان يكون صنيع القرآن وهو في أعلى ما عرفت العربية من طبقات البلاغة وأدب القائلين.
وهذا ما نحسب انه السر الذي أشرنا إليه في أول هذا المقال من وجود هذه العقيدة بمكة واختفائها بانتقال النبي إلى المدينة لمعرفة الآخرين لذلك الصنيع.
تلك هي نظرة القرآن في موقفه من حديث القوم عن الأساطير ألممت بها وشرحتها كما فهمتها وأرجو أن أكون في هذا الفهم من الموفقين.
والآن أفلا يزال الأحمدان الفاضلان عند رأيهما من أنا نستحق أن نتهم بالكفر ونرمى بالزندقة ونوصم بالإلحاد.
اللهم إنك لتعلم أنا نحرص على فقه كتابك المعجز ووحيك العربي المبين.
واللهم إنك لتعلم أنا قلنا ما قلنا طلباً للفهم الدقيق لآياتك وحباً في الوقوف على سر من(748/24)
أسرار إعجازك.
واللهم إنك لتعلم أنا نؤمن إيماناً قوياً جازماً بصدق قولك المنزل على نبيك المرسل (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون).
ولقد صدقت يا الله فانتصر الحق وآمن بالرأي من لم يؤمن به من قبل، والسلام.
محمد أحمد خلف الله
كلية الآداب - جامعة فؤاد(748/25)
بين السياسة والأدب:
إنجلترا في مرآة حافظ
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ونعود ثانية إلى حافظ، فنذكر انه استقبل السير غورست خليفة اللورد كرومر بقصيدة حافلة، نطق فيها بآلام الشعب وآماله وعاوده السخط على العميد الراحل، فسلقه بلسان حاد قاتل، ثم انتقل به الحديث إلى عدو اللغة العربية (دنلوب) وما ارتكبته في دار المعارف من حماقة ونزق، فقال.
رمى دارة المعارف بالرزايا ... وجاء بكل جبار عنيد
يدل بحوله ويتيه تيها ... ويعبث بالنهى عبث الوليد
فبدد شملها وأدال منها ... وصاح سبيلك أن تبيدي
فليت كرومرا قد دام فينا ... يطوق بالسلاسل كل جيد
لننزع هذه الأكفان عنا ... ونبعث في العوالم من جديد
وقد كان شاعر النيل صادقاً حين عبر في هذه القصيدة عما يضمره المصريون للمحتلين من غضب وغيظ. وكيف نغرت في النفوس جراح دامية لا تكاد تندمل حتى يهيجها الشر مرة أخرى فتنفث ما بها من قيح وصديد، اسمعه إذ يقول:
جراح في النفوس نغرن نغرا ... وكن قد اندملن على صديد
إذا ما هاجهن أسى جديد ... هتكن سرائر القلب الجليد
فتح غضاضة التاميز عنا ... كفانا سائغ النيل السعيد
أرى أحداثكم ملكوا علينا ... بمصر موارد العيش الرغيد
أكل موظف منكم قدير ... على التشريع في ظل العميد
إذ يقونا الرجاء فقد ظمئنا ... بعهد المصلحين إلى الورود
وإذا كان اللورد السابق قد ارتكب جرائمه في وضح النهار فإن السير غورست قد تقنع بالمكر والخديعة فأظهر كثيراً من البشر والابتسام، بينما أخذ ينفث سمومه القاتلة في دامس(748/26)
الظلام ففرق بين العنصرين الوطنين، وأعاد النعرة الطائفية جذعة، ثم اتفق مع أولياء الأمر على محاربة المخلصين من أشياع الحزب الوطني وما لبث المصريون أن عرفوا نيته الخبيثة، فقام حافظ يندد بهذه الملاينة الماكرة، وصاح في ذكرى مصطفى كامل يقول:
وللسياسة فينا كل آونة ... لون جديد ورأي ليس يحترم
بينا ترى جمرها تخشى ملامسه ... إذا به عند لمس المصطلى فحم
تصغي لأصواتنا طوراً لتخدعنا ... وتارة يزدهيها الكبر والصمم
فمن ملاينة أستارها خدع ... إلى مصالبة أستارها وهم
إذا سكتنا تناجوا تلك عادتهم ... وإن نطقنا تنادوا: فتنة عمم
ماذا يريدون لا قرت عيونهم ... إن الكنانة لا يطوى لها علم
قالوا لقد ظلموا بالحق أنفسهم ... والله يعلم أن الظالمين هم
وأنت ترى شاعر النيل في أبياته المتقدمة غير قاس في هجومه وله العذر في ذلك، فقد كان قانون المطبوعات قد بعث من مرقده إبان ذلك، فقيد حرية الرأي والكتابة، وعملت وزارة بطرس غالي باشا - بإيعاز من غورست - على محاربة الكرام الكاتبين والشعراء النابهين من أبناء الوطن المخلصين، ولم تفلح الضجة الكبيرة التي قام بها الشعب في وجه هذا المشروع الخطير، فأضطر حافظ إلى الملاينة قليلاً بعد أن أصبح القانون ضربة لازب، وبعد أن حاربه في جد وصرامة فقال.
كانت تواسينا على آلامنا ... صحف إذا نزل البلاء وأطبقا
فإذا دعوت الدمع فاستعصى بكت ... عنا أسى حتى تفض وتشرقا
كانت لنا يوم الشدائد أسهماً ... نرمي بها وسوابقاً عند اللقا
مالي أنوح على الصحافة جازعاً ... ماذا ألم بها وماذا أحدقا
قصوا حواشيها وظنوا أنهم ... أمنوا صواعقها فكانت أحذقا
كانت صماماً للنفوس إذا غلت ... فيها الهموم وأوشكت أن تزهقا
كم نفست عن صدر حر واجد ... لولا الصمام من الأسى لتمزقا
وفي النهاية قد لجأ حافظ إلى الصراحة التامة في موقفه بعد أن عيل صبره، فحذر المصريين من بسمات خورست وندد بوعوده الكاذبة، وأرتاب في ملاينة هذا الثعلب الماكر(748/27)
فهو يقول في شأنه.
فكم ضحك العميد على لحانا ... وغر سراتنا منه ابتسام
فلا تتقوا بوعد القوم يوماً ... فإن سحاب سادتهم جهام
وخافوهم إذا لانوا فإني ... أرى السواس ليس لهم ذمام
فما سادوا بمعجزة علينا ... ولكن في صفوفهم انضمام
وقد أراد الله لمصر بعض الخير فمات السير خورست واستراح الشعب من حبائله الصائدة، ولكن حافظاً لم ينتظر في دنيا الحرية كثيراً بعده حتى يواصل حملاته العادلة، بل انتقل إلى العمل في دار الكتب المصرية، وللوظيفة قيود تكبل بها الألسنة الصارخة لا سيما إذا كان صاحبها ذا ضرورة إلى ما تدره عليه من أجر، فألجم الشاعر فاه عن السياسة، وحطم قيثارته الشادية، وتلك خسارة فادحة غرمها حافظ أكبر غرم، كما قابلها عشاق أدبه الرفيع بهم زائد وأسف وجيع.
وقد يقول قائل: لماذا أمسك حافظ عن النظم السياسي كموظف في الحكومة؟ مع إن زملاءه الموظفين من الشعراء النابهين كعبد الحليم المصري، وأحمد نسيم، ومحمد الهراوي، وعبد المطلب قد واصلوا العزف على أوتارهم السياسية، دون أن يقف في طريقهم واقف؟! وأنا أقول عن الرقابة كانت موجهة إليه أكثر من غيره لما يغرفه أولوا الأمر من تأثيره القوي في الجمهور، وإلا فهل كان من المعقول أن تندلع الثورة المصرية، وينفى الزعماء، ويعتقل الشباب، وتنشق الكلمة وتختلف الأحزاب؛ وشاعر النيل ساكت عن ذلك كله بإرادته ومشيئته! كلا ثم كلا! بل إنه نظم قصائد حية، ونشرها غفلاً من إمضائه كما وزعت بعض المنشورات السياسية تحمل قلائده اللامعة، وجميع ما قاله في هذه الآونة لم ينشر على الناس عامة إلا بعد استقرار الحالة في مصر، وقد أشار إلى ذلك ديوانه في مفتتح بعض القصائد، كما أنه كان ينتهز الظروف التي تحميه من العقاب فينفض ما في وعائه، واقرأ قصيدته التي قالها في تهنئة سعد زغلول بنجاته سنة 1924 فستجده يقول.
لا تقرب التاميز وأحذر ماءه ... مهما بدا لك أنه معسول
الكيد ممزوج بأصفى مائه ... والختل فيه مذوب مصقول
كم وارد يا سعد قبلك ماءه ... قد عاد منه وفي الفؤاد غليل(748/28)
القوم قد ملكوا عنان زمانهم ... ولهم روايات به وفصول
ولهم أحاييل إذا ألقوا بها ... قنصوا النهى فأسيرهم مخبول
ولكل لفظ في المعاجم عندهم ... معنى يقال بأنه معقول
نصلت سياستهم وحال صباغها ... ولكل كاذبة الخضاب نصول
جمعوا عقاقير الدواء وركبوا ... ما ركبوه وعندك التحليل
وهذه نفثة حارة ترى لها نظائر عديدة في مرائيه الخالدة لزعماء النهضة المصرية، وهي - على كل - قد أفصحت عن لواعجه الكظيمة، وإن لم تكن الغرض الأول الذي قصد إليه الشاعر، وإنما مهد لها فاحسن التمهيد.
هكذا وقد مكث حافظ في منصبه الحكومي عشرين عاماً خسر فيها الشعر السياسي كثيراً من دوره، ثم أحيل إلى المعاش قبل وفاته بأربعة أشهر فقط، وما كاد يستنشق نسيم الحرية حتى نظم في هذه الأيام المعدودة قصائد عامرة من قوله البليغ، ندد فيها بأساليب الدخلاء، وصنائعهم من المصريين، وقد بلغت إحدى قصائده مائتي بيت!! ولو مد الله في أجله لبل الصدى ونقع الغليل على أنه - رحمه الله - لم يتعمل مطلقاً في شعره الأخير، بل كان ينظمه في سرعة تشبه الارتجال، كقوله في مخاطبة المندوب السامي.
ألم تر في الطريق إلى كياد ... تصيد البط بؤس العالمينا
ألم تلمح دموع الناس تجري ... من البلوى ألم تسمع أنينا
ألم تخبر بني التاميز عنا ... وقد بعثوك مندوباً أمينا
بأنا قد لمسنا الغدر لمسا ... وأصبح ظننا فيكم يقينا
كشفنا عن نواياكم فلستم ... وإن برح الخفاء محايدينا
ضربتم حول قادتنا نطاقاً ... من النيران يعيي الدارعينا
على رغم المروءة قد ظفرتم ... ولكن بالأسور مصفدينا
ولعل القارئ قد نظر من وراء هذه الأبيات الحزينة روح قائلها اليائس، ولا جرم فهي زفرة حارة صعدت من صدر ضيق يشعر أنه في عهده الأخير.
ولا نختم هذه البحث دون أن نشير إلى الأبيات التي مدح بها حافظ أخلاق الإنجليز أثناء قيام الحرب العالمية الأولى فقد خدع رحمه الله - وكان طيب القلب - بما كانوا يصفون به(748/29)
أنفسهم من دفاع عن الحرية، وتضحية في سبيل المبادئ الإنسانية، فقال يخاطب السلطان حسين كامل.
ووال القوم انهموا كرام ... ميامين النقيبة أين حلوا
وليس كقومهم في الغرب قوم ... من الخلاق قد نهلوا وعلوا
فما درهم حبال الود وأنهض ... بنا فقيادنا للخير سهل
وما لبث الشاعر أن أدرك خطأه الواضح. حيث صدق دعايتهم الجوفاء، فانبرى يشهد بأخلاقهم مستغفراً عن ذنبه السالف وآخر ما قاله في ذلك.
لا تذكروا الأخلاق بعد حيادكم ... فمصابكم ومصابنا سيان
جاربتمو أخلاقكم لتحاربوا ... أخلاقنا فتألم الشعبان
ثم استسلم رحمه الله إلى نومه الطويل
(وبعد) فقد كان الأولون من المؤرخين، يذكرون الحادث السياسي مشفوعاً بما قاله الشعراء فيه، وقد رأينا كثيراً ممن أرخوا فترة الاحتلال الداجية قد تنكبوا عن هذا الطريق، فلم يسجلوا ما ذاع به الشعراء في هذه المحنة القاسية، على ما فيه من ترويح للباحث، وإمتاع لروحه الملول، ولك أن تقدر سرور القارئ حين يرى بجانب تاريخ كرومر نفثة حارة لشاعر قومي كمحمد حافظ إبراهيم.
(الكفر الجديد)(748/30)
مولد شاعر
للآنسة نعمت فؤاد
أرى خلل الرماد وميض نار ... وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن كانوا لحينهموا نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام
بهذه الأبيات سار كتاب نصر بن سيار والي خراسان إلى مولاه أمير المؤمنين مروان بن محمد. وكانت الدعوة للرضا من (آل محمد) تسير بنجاح في أنحاء دولة العروبة لاسيما في خراسان موطن الفرس الذين تغلي صدورهم حقداً على بني أمية. ألم يدعوهم (الموالي) إدلالاً عليهم بالسيادة العربية؟ ألم يقصوهم عن المناصب الرفيعة ضناً بها على غير العرب؟ لينتقم الفرس إذن وليهتبلوا الفرصة وهاهي تي قد حانت. إن العرب منقسمون على أنفسهم إلى هاشميين وأمويين كما انقسموا في السقيفة إلى مكيين ومدنيين فليضربوا هؤلاء بهؤلاء عسى أن يذهبوا فينفسح الطريق لعودة المجد السليب.
بث الفرس الدعوة لبني هاشم عساهم إن آل الملك إليهم عرفوا لهم صنيعهم وأثابوهم عليه نفوذاً حرموه، وجاهاً ولى حين آذن القدر شمسهم بالمغيب.
وأنضم إلى الفرس ربيعة واليمن ولم يبق مع بني أمية إلا المضربون. وكان مروان خليقاً بالقضاء على الثورة والانتصار عليها كما انتصر معاوية على أبطال صفين لولا أنها اندلعت في كل مكان فهي تمور.
إذن حان القيام كما قال نصر بن سيار فأرسل الخليفة الجيوش إلى أطراف الدولة لتطفئ الفتنة وتقر السلام.
وسار الجيش الرئيسي إلى خوزستان جيش لهام لا تتبين العين جنوده من العثير المثار. وما إن دخل الأهواز عاصمة خوزستان حتى ألقى الرعب في القلوب قبل أن تقتضي السيوف وتفوق السهام وتشرع الرماح.
وسر الخليفة إذ اطمأن على هيبته وسلطانه في ملكه وفرح الجنود إذ كفاهم الله القتال. ورجع القائد بجيشه بعد أن ترك قوة تقمع من تحدثه نفسه بالوثوب.(748/31)
وكان (هاني) ممن بقي في الأهواز من الجنود. وتاقت نفسه يوماً إلى الخلوة في ناحية من المدينة يتملى الذكريات ويحيا في الشام بفكره ساعة أو بعض ساعة يستجلي مغازل صباه، ومغاني هواه، وتربة آبائه وأجداده على الذكرى تفيض على قلبه سلاماً بهدهد حنينه ويفثأ لوعته.
وأطاعت (هاني) قدماه حتى انتهى إلى النهير الذي تقع عليه مدينة الأهواز والذي يصب في شط العرب. فرآه أبيض الصفحة صافياً تتهامس مويجاته ويميل النسيم بأغصان الشجر عليها فتخالها تسترق السمع.
ويسير (هاني) مع النهر في اتجاهه مأخوذاً بسحره، طروباً من الأغنية الرائعة التي تتألف من هسيس النهر، وهفهفة النسيم، ومغامسة الشجر.
وسار (هاني) بضع خطوات ثم وقف فجأة مبهوتاً أو كالمبهوت أي فتاة هذه التي راعته هذه الروعة؟
إنها فارسية صغيرة لم تتجاوز بعد عامها العشرين قد أخذت مكانها تحت شجرة فينانة على شاطئ النهر. وكانت بنت الفرس تتألق في ثوب أرجواني جميل قد أرخت غدائر نصف منحلة كليل امرئ القيس إذ كانت تتهدل على كتفيها تارة ويلقي بها النسيم على صدرها تارة أخرى في حركة تشبه موج البحر.
ورجعت الفتاة إلى قريتها (استانة أتار) ومعناها بالفارسية باب النهار وصاحبنا في إثرها لا يلوي على شيء وهناك عرف أن اسم فتاته (جلبان) ومعناها بلغة قومها (غصن الورد).
لكأنما وضع لها هذا الاسم الجميل بعد ما تفتحت من كمها فهذه القامة الفارعة أشبه شيء بالغصن الريان، وهذا الوجه المشرق الذي يتورد إلى كل من لاقاه هو في جمال الورد يجذب إليه الفراش من كل لون.
ولم يمض على زواج (هاني) من جلبان شهور حتى دعي إلى الانضمام إلى الجيش المحارب.
ولبى الفتى العربي داعي الوطن وداعي العصبية التي طالما فخرت على الفرس.
والتقى الجيشان عند نهر الزاب وكان قتال. . . قتال رهيب يحضأ في ناره الفرس الذين هزمهم العرب في القادسية واليرموك فأرادوه ثأراً يبرئ النفوس التي تتمزع من الغيظ،(748/32)
ويغسل العار.
وعثر جد أمية لما أراد الله أن يذهب بدولتهم وطاحت الحرب بمروان ورجع جنود الأمير عندما أصبحت المقاومة عديمة الجدوى وآب هانئ إلى عروسه كاسف البال تعس النفس لهزيمة العرب فوجدها جذلة لظفر الفرس فخورة بنصرهم.
ولما كان القلب لا يعرف الجنس في هواه فقد عاش الزوجان في سعادة لا يرنق صفوها كدر.
وولد لهما في دولة العباس ابنهما (الحسن) الذي عرفته قصور الرشيد والأمين نديماً شاعراً، وعرفته بغداد طائرها الغرد الذي طالما شدا بحضارتها وشاد بمجدها وصور نعيمها، وغنى مجالس انسها. وعرفته البصرة شادياً للعلم والأدب والشعر في مسجدها ومربدها ثم عالماً شاعراً، وعرفته مصر شاعراً فحلاً يفد عليها مادحاً للخسيب مدحته البلقاء التي مطلعها:
أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير
تلك القصيدة التي عارضها شاعرنا البارودي بقصيدته التي مطلعها هذا البيت الرقيق الشجي:
تلاهيت إلا ما يجن ضمير ... وداريت إلا ما يتم زفير
هذا هو الحسن بن هانئ الذي كنى نفسه أو حمله أستاذه خلف الأحمر على التكني بكنى اليمن فتكنى أبا نؤاس.
نعمت فؤاد(748/33)
من وراء المنظار
عجول وأناسي. . .!
- يا شيخ. . . يا معلم. . . صلي عا النبي!
- أصلي عا النبي إيه. . . اسكت يا عم خليك في حالك. . .!
صاح بالعبارة الأولى رجل في المدخل الشمالي لميدان السيدة زينب، ينادي بها فظاً غليظ القلب من بني آدم كان بالليل يسوق أمامه عدداً من العجول الصغيرة قد سلكها جميعاً في حبل، وصار يدفعها بإحدى يديه في غير هوادة إلى حيث تذبح، ويهوي على أجسامها لا يبالي أين يقع ضربه بحبل غليظ معقد كلما أبطأت، أو على الأصح كلما جهدت وتقطعت أنفاسها فاضطرها الإعياء والكلال إلى الإبطاء. . .
ورد ذلك اللفظ في غلظة ووحشية يطلب إلى من يسأله الرفق أن يبقى في حاله فلا يتدخل في شأنه؛ وما ملك هذا إلا أن يحوقل ويستغفر الله ويستعيذ به، ويركن بعد لسانه إلى أضعف الإيمان!
ونظرت فإذا بذلك الغليظ اللفظ يزيد الضرب بحبله على أجسام هاتيك العجول الجاهدة ويزيدها دفعاً ولكماً؛ ووقع أحدها على الأرض فجذب الصف كله وجذبه الصف فانقلب على ظهره وزعق زعقة مثلت لي ألمه بصورة لم يكن ليمثلها في كلامه لو أنه تكلم!. . . زعقة أشبه بزعقة الآدمي يبتعثها منه الألم وفمه مزموم، فهي بين حنجرته وخيشومه. . . وكأنما يقول العجل الصغير آه. . . وخيل إلي كأنما يدعو العجل ضاربه أن يصلي على النبي! وأهوى الغليظ الجلف بحبله المعقد على العجل المسكين وحده، وقد تمدد على جنبيه وهو يحاول أن يضع صدغه على الأرض فتجذبه العجول وقد أضطرب نظامها، وإن جسده كله لينتفخ ويهبط في سرعة من فرط ما يلهث، وإنه ليحاول النهوض من ألم الضرب فما يزيد على أن يبسط أرجله ويثنيها في الهواء تارة، وعلى الإسفلت الجامد جمود قلب هذا الغليظ تارة أخرى. . . ثم جذبه من إحدى أذنيه ومن ذيله جذبة قوية وركله ركلة شديدة، فوقف على رجليه يلهث، ومشى مع بقية العجول، وصاحبه الفظ يمسك بذيله مخافة أن يقع ثانية على الأرض. . .!
وتحرك قلبي لما رأيت، ولكني لم استطع أن أصنع شيئاً، ولا يعيبن القارئ على أضعف(748/34)
الإيمان، فالرجل غليظ وحبله أغلظ، وما تعلمت الملاكمة، أو كانت لي حتى بمخاطبة الغلاظ الجهال طاقة. . . ولم يكن على مقربة مني شرطي استعينه. . . شرطي؟ والله لو وجد لسخر مني أن أدعوه إلى مؤاخذة الرجل على صنعه، ولظن بعقلي الظنون. . .
وأعيذك أيها القارئ أن تعجب أن يتحرك قلبي لمثل هذا المنظر، فما أحب إلا أن تكون رفيقاً، وإذا أنت ترفقت بالعجول كنت حرياً أن تترفق ببني آدم. . . ولقد تداعى لهذا المنظر الأليم في ذهني معنى. . . بل معان. . . فكم من الآدميين من يرتبطون هكذا على خسف ويسقطون من كلال وإعياء، وعلى جنوبهم وظهورهم تهوي أيد خفية بما هو أقسى من الحبل المعقد الغليظ. . . أجل كم من آدمي في الأصفاد والأغلال وإن لم تعض بساقيه سلسلة، أو يخنق عنقه غل. . . كم من البشر من يساقون كما تساق هذه العجول ليكدحوا في لظى الصيف وفي زمهرير الشتاء كي يسعد فريق مثلهم من بني آدم بطيبات الحياة، وأي فرق لعمري بين هذا وبين الرق؟!
آه لقلبي. . . وأف لمنظاري. . . يا عجباً! ما أسرع ما تمثل لي هذا المعنى الذي طاف بخاطري، فإذا هو صورة مجسدة تدب على الأرض، فهاهو ذا عسكري غليظ شديد يسوق أمامه رهطاً من الغلمان، قد ربط ذيل هذا في ذيل ذاك، أو يد هذا في يد جاره، إن لم يكن لهما ذيلان يربطان، وقد التقطهم جميعاً من الشارع، وكان ذلك في نفس الميدان من مدخله الجنوبي، ولا بد أن قطيع العجول قد مر برهط الصبية قبل أن تقع عيني عليهم بدقيقتين أو ثلاث!
وأخذ العسكري الغليظ الفظيع يهوي بكفه الثقيلة المعقدة بما يتحلى به من خواتم غليظة على قفا هذا الصبي الهزيل مرة، وعلى قفا ذاك المريض النحيل مرة، والويل لمن يلتفت وراءه من الصبية؛ وكان هؤلاء المساكين كلما سمعوا وقع الكف الثقيلة المعقدة على قفا أحدهم، رفعوا أكتافهم ونزلوا برؤوسهم ليخفوا أقفيتهم، والرعب ملء جسومهم، وحسبهم ما هم فيه من جوع وعري ومرض وشقاء. . .
ولم أطق صبراً فدنوت من هذا العسكري العاتي، فليس في يده حبل أخاف منه، وإنه لحري أن يغره تدخلي وجرأتي فيحسبني من رجال النيابة مثلاً أو من أولي الجاه على أي حال وقلت في لهجة الآمر لا في لهجة المستفهم (لا تضرب هؤلاء المساكين يا شاويش).(748/35)
وصدق ظني فقد رفع العسكري يده إلى رأسه بالتحية، وراح يفهمني أن هؤلاء هم سارقو الجيوب وخاطفو الحلي. . . و. . . و. . . فقاطعته وأنا أوهمه أني أحفظ رقمه قائلاً (لا تضربهم مرة ثانية) ونظر إلى هؤلاء المساكين وقرأت في كل وجه من وجوههم الشاحبة معنى أسمى من أن أصفه بالشكر. . . ووقعت نظراتهم من نفسي موقعاً لن ينهض لتصويره أبلغ الكلام. . .
وتدخل شاب حاسر الرأس عليه حلة أنيقة وتحت إبطه مجلات وكتب فخاطب الشرطي في عنف قائلاً: (ألك أولاد يا شاويش؟ أترضى أن يعامل أولادك هذه المعاملة؟) ثم أدار إلي الحديث قائلاً (ومع ذلك فنحن كما نزعم أمة متمدنة. . . في أي بلد متمدن يوجد مثل هؤلاء المساكين في الشوارع على هذه الصورة؟ وأين ما نسمع عنه من أسماء المبرات وجمعيات الإحسان والخير؟. . لقد مر بي منذ لحظة قطيع من العجول يدفعه فلاح عات كما يدفع هذا الشرطي الصبية فاشمازت نفسي لذلك المنظر وتكدر خاطري، ثم ما لبثت أن رأيت هؤلاء المساكين. . . ألا إن بيننا وبين الرقي أجيالاً وأجيالا وإنما تخدعنا العمارات الضخمة والسيارات الفخمة والعواصم الكبيرة).
وانطلق الشاب وقد غاب عن بصره وبصري الشرطي والغلمان، وقلت لنفسي ما أوسع الفرق بين مصير العجول ومصير الصبية، فإنما تساق هذه العجول إلى حيث تريحها سكين الجزار، ويساق هؤلاء الصبية إلى حيث ينتظرهم العذاب الأليم!
الخفيف
رسائل حائرة:
الرسالة الثالثة. . .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
حسبتك تعرفين دواء روحي ... وخلتك تعطفين على جروحي
ولكني وجدتك لم تبالي ... بما يلقى أخو القلب الطليح!
بثثتك ما ألاقي من زماني ... وبحت بما لدي؛ لكي تبوحي
فكان الصمت والإعراض رداً ... أقض مضاجعي، وأمض روحي(748/36)
عرفتك. . . فأذهبي أو كفاك أني ... من الآلام كالعاني الطريح
سأحيا طول أيامي وحيداً ... على الحرمان، واليأس المريح
سأجعل هذه الأيام تهوى ... هوى الصخر من فوق السفوح
وأعزف للغناء نشيد روحي ... ليحملها إلى الأفق الفسيح!
فإن حمل الغناء حطام روحي ... فلا تبكي عليَّ، ولا تنوحي
وإن وارى الثرى ذرات جسمي ... فقري عند ذلك، واستريحي
ولا تضعي ورودك فوق رمسي ... ولا تبكي هناك على ضريحي
فأنت قتلت آمالي جميعاً ... وبعثرت الشباب بكل ريح!
وأنت جرحتني في القلب جرحاً ... أراه غير مندمل القروح
ولو أني وصفتك في قصيدي ... بما تدرين من وصف فصيح
لقالوا إنني إياك أعني ... فمن باغ عليك، ومن نصيح
ولكني سأكتم ما بنفسي ... وأمنعها من القول الصريح
واحفظ في حنايا القلب شيئاً ... بعثت به من الوطن الجريح!
رسالتك التي صورت فيها ... تعارفنا على رغم النزوح!
وما أنا قد نسيت جراح قلبي ... ولا أنا عن جفائك بالصفوح
ولكني أرق لكل أنثى ... وإن جارت على الأمل الطموح!
وأدفع عن صباها كل سوء ... وأحمله بقلب مستريح
سأنسى أنني أفضيت يوماً ... بأسراري إلى قلب جموح
سأنسى أنني منيت قلبي ... بأن يروى من النبع الشحيح!
سأنسى. . . ثم أذكر أن يوماً ... سيأتي قد تطيب به جروحي
إبراهيم محمد نجا
صوت من الشمال. . .
للأديب أحمد هيكل
أشقاءنا هذي لٌحون من الخلد ... وشعر كأنفاس الأزاهير والورد(748/37)
وليست لحوني رجع ناي وإنما ... صدى نبض مصر بالمحبة والود
وما هو شعر بل قلوب تجمعت ... أكاليل من آل الشمال لكم عندي
تحايا أشقاء تناهى حنينهم ... فأضحوا على شوق وباتوا على سهد
تحايا ظماء رَيِّهٌم أن يقبلوا ... أشقاءهم ألفاً على الثغر والخد
تحايا الملايين الذين قلوبهم ... تكن لكم حباً هو النار في الزند
تحايا الوفيين الذين رجاؤهم ... تفيؤكم ظل الزفاهة والسعد
وآمالهم أن تبقوا - الدهر - إخوة ... وغاياتهم أن تبلغوا ذروة المجد
أشقاءنا يا من بلادي بلادكم ... وخالكم خالي وجدكم جدي
ويا من رآنا الدهر شعباً موحداً ... على حين كان الدهر يلعب في المهد
ويا من توحدنا: دماء وألسناً ... وديناً نهينا فيه عن فرقة تردي
ويا من سقانا النيل ماء ووحدة ... ستبقى على رغم الدسائس والكيد
فهيهات أن يقووا على فصم عروة ... تناهت بها عقدا يد الأحد الفرد
أشقاءنا أنا على العهد لم نزل ... وإيماننا أن الجنوب على العهد
فنحن وأنتم مثل جسم وروحه ... يواريهما التفريق في ظلمة اللحد
ونحن وأنتم كالعيون بياضها ... بغير سواد ليس يبصر أو يهدي
أشقاءنا إن الأفاعي توافدت ... علينا من (التاميز) سافرة القصد
خذوا حذركم فاللدغ منها سجية ... وإن خادعت باللين فيء لمس الجلد
خذوا حذركم لا تتركوها سلاسلاً ... مسممة حول الرقاب وفي الأيدي
خذوا حذركم لا تتركوها مقارضاً ... فتشطرنا شطرين كالقوم في الهند
خذوا حذركم لا يقرب النيل سمها ... ليبقى على الأحقاب أحلى من الشهد
فترشف من السلسل العذب اخوة ... يظللنا تاج على مفرق المجد
أحمد هيكل
البنفسج
للأستاذ محمود عماد(748/38)
لك يا بنفسج زرقة ... عيني إليها تستريح
من زرقة البحر استعير ... ت أو من الجو الفسيح
أو من عيون الراهبا ... ت الشقر ترنو للمسيح
كم قلت رغم لسانك المعقو ... د من قول فصيح
وأريجك الوسنان ما ... أحناه في صدري الجريح
مالي إذا أستافه ... يعتادني خدر مريح
يسري بروحي بين أو ... دية من الأحلام فسيح
فأخالني البدويَّ طا ... لع مرج قيصوم وشيح
أو راوحته من حمى ... ليلاه عند الفجر ريح
تدري بسري يا بنف ... سج من صباي وما تبوح
كنت الهدية والتحي ... ة في الدنو وفي النزوح
إني كبرت ولم تزل ... بشبابك الغض الصبيح
تهواك كل مليحة ... وشذى هواك بها يفوح
وبصدرها العالي تح ... لك حين تغدو أو تروح
إذ أنت فوق الصدر ريحا ... ن وطي الصدر روح
عجيباً تصبيت المل ... يح وما تصباك المليح
سيماك تشعر بالوقا ... ر الجم والعقل الرجيح
يا راهب الزهر الوقو ... ر عليه قائمة المسوح
في ديره يرعى عذا ... رى الورد دامية الجروح
هات اسقني من خمر دير ... ك في الغبوق وفي الصبوح
محمود عماد(748/39)
الأدب والفن في أسبوع
الناصر:
مسرحية شعرية وضعها الأستاذ عزيز أباظه باشا، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، وافتتحت بها الفرقة المصرية موسم التمثيل بالشتاء على مسرح الأوبرا الملكية.
تتكون المسرحية من أربعة فصول، يظهر على المسرح في الفصل الأول عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي بالأندلس، وقد عقد مجلساً حضره الوزراء والقواد والعلماء والأمراء والشعراء، لاستقبال الوفود التي بعث بها إليه ملوك البلاد الأوربية، ليخطبوا وده ويؤكدوا حسن علاقاتهم به، ولبعضهم إلى هذا مطالب كإيفاد طبيب معالج أو قائد مدرب يشبه ما يقال له اليوم (البعثة العسكرية) أو (الخبراء العسكريون).
وتتلخص حوادث الفصول الثلاثة الأخر، في علاقة حب بين (الحكم) ولي عهد الناصر وولده الأكبر وبين فتاة من نسل أحد ملوك أسبانيا الذين تغلب عليهم الناصر، وهي تعيش في كنف الخليفة كابنة له وتدعى (شفق) وتحاول جارية أخرى اسمها (منى) من بني جلدتها أن توغر صدرها على الدولة العربية لتشاركها في العمل لصالح قومهما بالتجسس ونقل أنباء جيش الناصر إليهم، فمرة تنصاع لها، ومرة تغلب جانب الوفاء لحبيبها ولي العهد وأبيه الخليفة الذي يتبناها ويرعاها.
وفي خلال ذلك تظهر منافسة بين ولدي الناصر: الحكم وعبد الله، لأن الثاني ينفس على أخيه إيثار أبيه إياه وتقديمه عليه، فلا يجد وسيلة لنقل ولاية العهد إليه إلا الاتصال بدعاة الفاطميين في الأندلس الذين يغشون القصر لملاقاة عبد الله، فتكشف أمرهم الزهراء الجارية التي فتنت الناصر وملكت هواه، فتحاول إصلاح عبد الله، ويبلغ الأمر مسمع الخليفة فيأمر بقتله. أما الجاريتان شفق ومنى فيجري الأمر بينهما على ما تقدم، حتى يبلغ (الزهراء) أن أخبار الجيش تتسرب إلى الأعداء، فتبلغ عبد الناصر، فيهم باتهام ولده الحكم ولي العهد وقائد الجيش، ولكن تسرع شفق فتعترف بأنها الخائنة التي استغلت حب الحكم في انتزاع الأسرار منه وإيصالها إلى الأعداء، فيوبخها الناصر، ويبكتها الحكم، ثم يتركانها تبكي وتنتحب. . . فتأتي إليها منى، ويحتدم الجدل بينهما، شفق تبدي الندم على الخيانة، ومنى تحاول أن تغير شعورها، ولكنها تيأس منها فتطعنها بخنجر وتتركها تتلوى وتهوى.(748/40)
فيقبل الحكم ويبدي جزعه، ويأتي الناصر، ويستحث الحكم على النهوض للسير بالجيش المعبأ إلى ميدان القتال، فيتثاقل، فيؤنبه الناصر ويبدي استعداده لقيادة الجيش بنفسه وهو في الشيخوخة، فينهض الحكم من جوار جثة حبيبته، ليذهب إلى ملاقاة الأعداء. وتلتقي الستارتان.
فترى من حوادث المسرحية أن الخيط الذي ينتظمها واهن وهذا الخيط هو حب الحكم لشفق، والظاهر أن الهدف عرض صفحة مشرقة من التاريخ العربي الإسلامي في الأندلس، فيمكن أن يقال غن مسرحية (الناصر) هي مجموعة من المناظر المتخيلة في عصر عبد الرحمن الناصر، ويكون هذا القول أدق من أن تكون قصة أو رواية ذات حبكة، ولها محور تدور عليه الوقائع التي تعبر عن الغرض منها، فهي من هذه الناحية تختلف عن مسرحيتي (قيس ولبنى) و (العباسة) اللتين وضعهما المؤلف من قبل.
وكذلك تختلف مسرحية الناصر عن المسرحيتين السابقتين في أسلوب الحوار، فقد عدل الشاعر في هذه المرة عن الأسلوب الخطابي المطول إلى المخاطبة بالقدر الطبيعي المعقول وإلى اللباقة وبراعة اللفتة، مما بعث الحياة في الحركة على المسرح. وقد تجلت إنسانيته في المواقف التي أنطق فيها أشخاصه بالألم من ألوان في الحياة يبدو في ظاهرها النعيم، كحياة الخصي في القصور الخالية من الزوجة والأبناء، وكعيش الجواري في ظلال النعمة السابغة، محرومات من الحرية والكرامة. . . وسمت شاعريته على لسان شفق وهي تتذكر معاهد صباها في ديار قومها وتقارنها بحياة الذل والإسار في ديار الغالبين، وأجادت أمينة رزق في تمثيل ذلك كل الإجادة.
والمسرحية جيدة من حيث هي شعر، وقد نجحت بعض النجاح في تحقيق الغرض منها، وهو إظهار صفحة مشرقة من مجد العرب بالأندلس، ولم أقل بتمام نجاحها في هذا، لأنها لم تستكمل عرض عناصر ذلك المجد، فقد كان عصر عبد الرحمن الناصر العصر العربي الذهبي بالأندلس الذي يماثل عصر الرشيد بالمشرق، ولم تقم (ذهبية) ذلك العصر على القوة العسكرية فحسب بل قامت، إلى جانبها، على التقدم في العلوم والفنون والآداب، والحديث عن شغف الناصر بها وارتقائها على يديه مأثور مستفيض. ولكن مسرحية (الناصر) قليلة الحظ من هذه العناصر، وبعض هذا القصور يرجع إلى الإخراج وبعضه(748/41)
إلى التأليف، فقد كان يمكن أن يعرض شيء من النقوش والتماثيل التي كانت يتحلى بها قصر الزهراء والقصر الكبير في قرطبة، والتي أفاض المؤرخون في الحديث عنها والإشادة بفخامتها ورقائق صنعها. وقلت الموسيقى، وأهمل الغناء كل الإهمال، وقد قدمت إحدى الجواري المهداة إلى الخليفة ووصفت بأنها تجيد الضرب على الطريقة العربية، وكانت الزهراء مغنية، ولكنا لم نسمع من الزهراء ولا من تلك الجارية شيئاً. . . هذا واسم الفرقة التي تقدم المسرحية (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى والغناء!).
وقد أثر عن عبد الرحمن الناصر الشغف بالعلوم والولع باقتناء الكتب، ولكنك تراه على مسرح الأوبرا يتلقى هدية من ملك الروم هي كتاب في النبات، ولا يظهر من الاهتمام أكثر مما تظهر وأنت تساوم أحد الباعة الطائفين بالكتب على المقاهي.
وقد وقع المؤلف أو المخرج، لا أدري أيهما، في أمر شائع في التمثيل المسرحي والسينمي عندنا، وهو تهيئة (أدوار) لبعض الممثلين والممثلات اشتهروا بها وعرفوا بالظهور فيها، (والدور) هنا أعد لأمينة رزق، أعد لها لكي تبكي وتصرخ وتنتحب. . ندماً على الإثم الذي اقترفته. وقد بالغت في ذلك حتى جاوزت الحد.
وقد نقل إلينا التاريخ من وصف عبد الله بن عبد الرحمن الناصر، انه كان تقياً ورعاً، ولكنا رأيناه على مسرح الأوبرا على خلاف ذلك، رأيناه يغازل الزهراء جارية أبيه مغازلة جريئة حتى اضطرت إلى زجره والعنف في مخاطبته، ورأيناه يغاضب أخاه ويعارض في ولايته للعهد، ويخرج عن طاعة أبيه، دون أسباب تتفق ووصف المؤرخين له. . ويبدو لي أن المؤلف كان هنا في مأزق، لأنه مضطر بحكم الغرض أن يظهر شأن الناصر في مظهر حسن، وهذا المظهر لا يتفق مع إيراد أسباب معقولة للخروج عليه، فضحى بعبد الله!
وقد رأيت آخر حوادث المسرحية اعتراف (شفق) بجريمتها وهي نقل أسرار الدولة غلى الأعداء، فلم يقبض عليها، ولم يحقق أمرها، ولم يبحث عمن تتصل بهم، بل وبخها الخليفة وانصرف وعاتبها ولي العهد ومضى. . ثم طعنت بخنجر وأقبل ولي العهد، فجعل يتوجع لها ويتفجع، ويطيل في التعبير عن ألمه وعاطفته بصوت جامد لا تخالطه نبرة حزن. . وكل ذلك دون أن يسألها عمن طعنها ودون أن يبحث عن القاتل الأثيم، ويقبل الناصر ويرى القتيل ولا يسأل أيضاً ولا يبحث عن اليد الخفية المتصلة بالأعداء وتلتقي الستارتان.(748/42)
غزل علية:
قرأت في العدد الأسبق من الرسالة مقال الشيخ محمد رجب البيومي الذي عنوانه (الغزل في شعر المرأة) وهو المقال الأول في هذا الموضوع الجدير بالبحث، ويدل بدء تناوله للموضوع على ما يرجى من التوفيق في السير فيه.
وقد وقفت في هذا المقال عندما عرض لغزل علية بنت المهدي إذ قال إنها افتدت بحميد بن ثور الهلالي في التجائه إلى الكناية في الغزل عندما تعذر عليه، كما تعذر عليها، الغزل الصريح، ولذلك تغزلت، كما تغزل، في السرحة، قال الشيخ رجب فقد علقت (علية) غلاماً لها يسمى طلا ونظمت فيه من الرقائق الأنيقة ما هو جدير بأمثالها من المثقفات الناعمات، ولكن هرون يقف أمامها وقفة تحدى بها الفن تحدياص صارخاً، فلجأت إلى التغزل في المسرحة مقتدية بحميد إذ تقول
أيا سرحة البستان طال تشوقي ... ومالي إلى ظل لديك سبيل
فالشيخ رجب يرى أن علية تكنى بالسرحة عن وطل، وليس الأمر كذلك، إنما صحفت (طل) بنقط الطاء فصار (ظل) وتشوقت إليه تحت السرحة، قال أبو الفرج في الأغاني:
(حجب طل عن علية فقالت وصحفت اسمه في أول بيت:
أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى الظل لديك سبيل)
ومن صنيع علية في مثل هذا أنها كانت تقول الشعر في غلام آخر يقال له (رشأ) وتكنى عنه بزينب. . . ومن قولها فيه.
وجد الفؤاد بزينباً ... وجداً شديداً متعبا
أصبحت من كلفي بها ... أدعى سقيماً منصبا
ولقد كنيت عن اسمها ... عمداً لكي لا تغضبا
وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمراً معجبا
وقالت في موضع آخر:
خبأت في شعري اسم الذي ... أردته كالخبء في الجيب
سفير الفن المصري:(748/43)
أرسلك إحدى شركات السينما نسخة من الفلم المصري (سفير جهنم) إلى نيويورك لكي يعرض هناك. وهذا حسن لأنه خطوة في سبيل ما يرجى للفلم المصري من الرواج في البلاد الأجنبية وأخذ مكانه في فن السينما العالمي.
ولكن قال النبأ: وعرض (سفير جهنم) على الرقابة الأمريكية لكي تجيز عرضه. وجلس الرقيب يشاهد الفلم، من جاء منظر ترقص فيه هاجر حمدي، فإذا الرقيب يصيح: قف. ثم يأخذ رقم المنظر. ويمضي العرض. . ومرة أخرى يصيح الرقيب: قف. ثم يأخذ رقم منظر آخر. ثم يأمر بقص المنظرين ويقول في تقريره عن المنظر الأول (يحذف منظر الفتاة التي ترتدي ملابس الرقص وترقص بطريقة فاضحة) ويقول عن المنظر الثاني (تحذف الحركات التي تأتيها الفتاة بجسمها في أثناء الرقصة)
وتحذف الرقابة الأمريكية المنظرين الفاضحين المخلين بالآداب واللذين مرت بهما رقابة الأفلام بالقاهرة مر الكرام. .
ورقابة الأفلام المصرية لم تخص سفير جهنم بالكرم والتسامح، وإنما يعم فضلها سائر الأفلام. وليس الأمر مؤسفاً من ناحية الآداب العامة فحسب، وإنما هو مؤسف أيضاً من الناحية الفنية. . ذلك أن القوم عندنا يسترون العجز في الفن بالاستثارة المخزية والإضحاك الفارغ، وإنك لتراهم يعلنون فيقولون شركة كذا تقدم فلاناً وفلانة في فلم كذا. . فالمقصود فلان الذي يضحك (الطوب) وفلانة التي. . .
أما الفلم وقيمته الفنية فشيء يأتي في المرتبة الثانية على أحسن تقدير.
ولا أنسى منظر إحدى الملهيات وقد قامت في الحفل تؤدي مهمتها، وأمر ما لم تكن في تلك الليلة (متحلية) فأعدى جمودها الجمهور، فران عليه الفتور. . . وما أن حركت الفتاة جسمها فتثنت وهزت ما برز منها، حتى صحا النائم وتنبه الغافل. وشارك الرقص التصفيق (على الوحدة!)
فهذه الفتاة لما لم تستطع التأثير بالفن لجأت إلى غير الفن مثلها في ذلك مثل كبير من الأفلام!
وأنظر. . . لقد كنا ندعو إلى عدم محاكاة الأجانب في استهتارهم وتبذلهم، فإذا نحن نسبقهم حتى يخشوا على أخلاقهم منا! وإذا نحن وهم كما قال أبو نؤاس:(748/44)
وكنت فتى من جند إبليس فارتمى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي
الراجع في هبته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: الراجع في هبته كالراجع في قيئه.
وهذا التشبيه من روائع البلاغة النبوية، ومساقه هنا الآن لمناسبة رجوع البدراوي باشا عن تبرعه بأربعين ألف جنيه لإنشاء معمل أمصال الكوليرا.
(العباس)(748/45)
الكتب
أنات غريب
تأليف الأستاذ حبيب الزحلاوي
يجمع صديقنا الأستاذ حبيب الزحلاوي بين موهبتين، موهبة النقد، وموهبة القصة، والأولى عنده أقوى وأعنف، ولهذا نجده في قصصه كثيراً ما ينسى أشخاصه ويقف هو ليتكلم فينصح ويرشد، ويوجه اللوم والنقد، ويصف ويمعن في الوصف ويستخلص لك العبرة والحكمة، وهو في هذا أشبه بالأستاذ ميخائيل نعيمة، وكل منهما ناقد، وكل منهما قاص. . . .
وهذا اللون من القصص لا يقف بالقارئ عند طرافة الحكاية والسرد القصصي ولكنه يقدم له زاداً موفوراً من المعلومات التاريخية، والتجارب الخاصة، والأوصاف التي تتعلق بالطبائع الإنسانية ومظاهر الحياة، والنقد للأوضاع السائدة بين الناس، فإذا ما تناول القارئ قصة من هذا اللون فإنه يخرج منها وهو يفكر فيما تضمنته من هذا أكثر مما يفكر في طرافتها القصصية ورشاقتها في السرد والحكاية. . . .
وهذه المجموعة (أنات غريب) للأستاذ الفاضل تشتمل على ثماني قصص، وكلها أو أكثرها من هذا اللون الزاخر بالذكرى والمعرفة، فقصة (الدميم) إنما هي درس في القصة، وقصة (ذكريات) إنما هي صفحة من تاريخ الثورة السورية وتصوير لذلك النضال المر الذي قام به شباب سورية لتحرير بلادهم من الاستعمار الفرنسي. وهكذا نجده في قصصه يصعد بك إلى مرافئ لبنان وينحدر معك إلى ربوع مصر، ويطوح بك في مطارح الغربة بأمريكا فيعطيك في هذا كله صوراً دقيقة محشوة بالأوصاف والمناظر والسمات، وهو يمزج هذا كله بمواضع الألم في قلبه، ومن هنا كانت قصصه (أنات) صادقة، ولكن صديقنا الزحلاوي يبدو في هذه الناحية قاسياً كل القسوة على قرائه، ففي كل قصة من قصصه فجيعة تحطم القلب وتهز الكيان. . . وجماع القول في هذه المجموعة القصصية أنها ليست من القصص الذي يقرأ بالتسلية وقتل الوقت، ولكنها تقرأ فتترك أثرها في نفس القارئ، وتبقى فيعود إليها مرة. . . ومرات. . .
2 - روح وجسد(748/46)
تأليف الأستاذ عبد المعطي المسيري
وهذه المجموعة (روح وجسد) لصديقنا الأستاذ عبد المعطي المسيري، وهي تشتمل على اثنتي عشرة قصة وقد أسماها باسم القصة الأولى منها ما هو مألوف عند كتاب القصة.
والأستاذ المسيري شاب وهبته الطبيعة أكثر مما وهبه الدرس، وأخذ عن الحياة أكثر مما أخذه عن المدرس، وهو يبدو كآلة موسيقية مشدودة الأوتار، كلما نقرت عليها حادثة من الحوادث، أو هبت عليها تجربة قاسية مع الناس والحياة، رددت ذلك في نغمة مشبوبة بالأسى والشجن، وهكذا نجد القصة عند الأستاذ المسيري، فهو في قصصه شاعر، يهتز لكل ما يجري حوله، ويقع عليه بصره، وتبدو عاطفته مرسومة في تعبيراته وانفعالاته، وهذا النوع من الكتاب إذا لم ينفعل لم يستطع أن يكتب. لا تجد عند الأستاذ المسيري الحادثة الضخمة، ولا الواقعة المروعة، ولكنها حوادث ووقائع يراها الكثيرون فلا يفطنون إليها، وإنما يفطن إليها الفنان، وتهتز بها الأوتار المرهفة المشدودة فإذا هي أنغام تتردد في الآذان وتؤثر في كل نفس، وهذا هو موقع الفارق بين الفنان وغبر الفنان. على أنه يتميز إلى جانب هذه الحساسية الفنية بروح صوفية شفافة، وهذا مما يزيد في توثيق الصلة بينه وبين القارئ، فأنت إذا ما تناولت هذه المجموعة القصصية فأنك لا تضم ضفتيها إلا إذا أتيت عليها كلها، وكأنك تقرأ قصة متسلسلة الفصول متصلة الحلقات. وستجد في كل قصة من قصصها مهما كان موضوعها ولونها روحاً وجسداً يتقاتلان.
محمد فهمي عبد اللطيف
- 1 - فهارس المكتبة العربية في الخافقين
تأليف الأستاذ يوسف أسعد داغر
كتاب وضعه أو - جمعه إن شئت - الأستاذ يوسف داغر أمين دار الكتب اللبنانية. تكلم فيه على فهارس الكتب العربية في الشرق عن المطبوعات والمخطوطات، وعلى فهارس المخطوطات في البلاد العربية وشمال إفريقية والهند. وعلى مجموعات المخطوطات في الخزائن الخاصة الموجودة في سوريا وفلسطين والعراق وإيران ومصر. وعلى تزويق(748/47)
المخطوطات وتهذيبها، وعلى فهارس الكتب العربية في أوروبا والولايات المتحدة وفهارس المجلات الاستشراقية والصحافين المستشرقين. وغير ذلك.
والمؤلف يشكر على اهتمامه بهذه الموضوعات التي جمعها ودل عليها. ويبدو أنه بذل في سبيل ذلك جهداً محموداً غير أنه يؤخذ على الكتاب أمور.
1 - الفوضى وعدم الترتيب. فالذي شعرت به أن الأستاذ داغر سرد كل ما في قصاصاته (فيشه) دون أن ينقح أو يرتب أو يهذب.
2 - النقل بلا ذكر المصادر. فقد لاحظت أنه ينقل فصولاً برمتها من كتب معروفة، ولا يذكر أنه نقلها منها وهذا مناف للأمانة العلمية. ففصل المجلات الاستشراقية مثلاً منقول من كتاب سوفاجه حرفاً حرفا. ومع ذلك فلم يشر إلى المصدر، ولم يشر إلى كتاب رائد التراث العربي، - وهو اقتباس كتاب سوفاجه باللغة العربية - أيضاً.
3 - أغفل الأستاذ داغر كثيراً من الكتب المخطوطة التي تكلم كثيرون عليها. وقد لاحظت أنه نقل كل ما جاء في مجلة المجمع العلمي من وصف للمخطوطات. وأغفل كثيراً من المخطوطات التي وصفت في الرسالة أو المقتطف أو غيرهما.
4 - في الكتاب أخطاء كثيرة في أسماء المخطوطات، أو في أسماء الكتب. وهذا يدل على عدم اطلاع الأستاذ داغر غليها، وقد أورد الأستاذ عمر كحاله في نقده هذه الكتاب في مجلة المجمع العلمي عدداً من هذه الأخطاء.
وأياً كان أمر الكتاب. فإننا نشكر للأستاذ داغر جهده ودأبه على العمل. كما نشكر له تخصيصه ريع الكتاب لصندوق إنقاذ الأراضي في فلسطين.
- 2 - مرايا
تأليف الأستاذ عبد اللطيف الضاشوالي
الأستاذ الضاشوالي فنان سوري بارع. برع في الرسم الكاريكاتوري الذي يعبر فيه عن خصائص الرجال وطباعهم، فهو يبين بخطوط قليلة خفايا نفوس كثيرة. وقد أصدر كتابه الذي أسماه مرايا وكتب عليه:
تريك المرايا الخلق فيهن ماثلا ... وهذي تريك الخلق والنفس والطبعا(748/48)
وهذا البيت يدل تماماً على ما في الكتاب، فالرسوم التي توجد فيه، رسوم ذات شأن. يعجبك منها براعتها وصدقها، ويعجبك فيها هذا الوضوح الذي تراه، وتلك الخفايا النفسية التي يظهرها. لقد أظهر كل رجل كما هو. فهذا بخيل، وهذا بطل، وهذا يحلم بالمجلس النيابي. . . إلى غير ذلك.
ذيل المؤلف كل رسم بيت من الشعر أو جملة تفسران الرسم وقد كان موفقاً في هذا التذييل إلى حد بعيد. وإن كان أخطأ في بعضها.
وقد أثبت الأستاذ الضاشوالي إنه عالم نفسي أيضاً إلى جانب كونه رساماً ماهراً.
وشأن آخر للكتاب هو كونه يجمع عدداً من الرسوم لأعظم رجالات سورية. وسيكون هذا الكتاب يوماً مرجعاً يرجع إليه لدراسة هؤلاء الرجال.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(748/49)
البريد الأدبي
تقدير كريم لكتاب قيم
من التقاريظ التي تفضل بها بعض من رفع لهم محمود بك
نصير كتابه أبطال الفتح الإسلامي من العرب والتركز كتاب
ورد له من حضرة صاحب العزة الكاتب الفاضل والأديب
الممتاز والإداري المصلح حسين بك رأفت مدير الدقهلية.
حضرة صاحب العزة العالم المؤرخ محمد نصير بك السلام عليكم ورحمة الله.
وبعد - في هذه الساعات الحاسمة من تاريخ الشرق، التي تنبه فيها وعيه ودبت فيها روح اليقظة والنهوض، في هذه الساعات التي هب فيها العرب - موحدة أهدافهم، متضافرة جهودهم - للعمل على استخلاص حقوقهم واسترداد أمجادهم.
في هذه الساعات فقد بدا المسلمون يشعرون بأسباب ضعفهم ومدى تخلفهم عن ركب الحياة ويلتمسون السبيل إلى عزتهم وقوتهم.
في هذه الساعات الحاسمة الحالكة ظهر سفرك القيم - أبطال الفتح الإسلامي من العرب والترك - فأضاء المهجة وهدى النجدين قدمت فيه للناس مثلاً عليا يقتدى بها في الهمة والشجاعة والإقدام، ونماذج حية تحتذى في إنكار الذات والإيثار والثناء في العقيدة وإعلاء كلمة الله.
بينت لهم إن علة تأخرهم أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم - كما أعلنت لهم أنكم (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) - (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
ورسمت لهم كيف أن الرعيل الأول من الخلفاء والقادة والفئة القليلة من الجنود المؤمنين تمكنوا من بسط راية الإسلام على إمبراطورية مترامية الأطراف في أقل من قرن من الزمان فبهروا العالم وأتوا بالعجب العجاب.
وإني لأرجو أن تكون هذه الأمثال التي ضربتها للناس نبراساً لهم في ليل الحوادث - وأن يجعلهم الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. إنه هو الهادي ومنه المنة.(748/50)
وأخصك بشكر عاطر على تفضلك بإهدائي نسخة من هذا الكتاب النافع وأزجي لك تحية كريمة مقرونة ببالغ التقدير والاحترام.
حسين رأفت
مدير الدقهلية
الدكتور قاسم غني سفير إيران في مصر:
قدم القاهرة منذ أسبوعين الدكتور قاسم غني سفير الدولة الإيرانية، فرحب به كثير من الناس على أنه سفير دولة إسلامية كبيرة بيننا وبينها كثير من صلات الماضي والحاضر ولكن قليلاً من الناس في مصر يعرفون أن الدكتور قاسم طبيب له في الطب مؤلفات وأدب كبير له في اللغة الفارسية كتب تقر بفضله وتشهد بمكانته بين الأدباء في إيران وكل الدارسين للأدب الفارسي خاصة، والآداب الإسلامية عامة، في أقطار الشرق والغرب.
وقد سمعت بلقائه حين قدم القاهرة منذ سنين فعرفت من حديثه اطلاعه الواسع، وتعمقه في الأدب الفارسي وحبه للأدب العربي وإلمامه بتاريخه.
ثم جاءت كتبه تترى معرفة بفضله، شاهدة بعلمه فلقيت اهتماماً وإعجاباً من القائمين على درس الآداب الشرقية في جامعتنا.
وكان الدكتور قاسم حين لقيته مهتماً بأحكام الأواصر بين مصر وإيران، راغباً في تبادل الأساتذة بين المملكتين وزيادة التعارف بين المثقفين في القطرين.
على أن الدكتور الفاضل نشأ طبيباً وتولى تدريس الطب في إيران وله في تاريخ الطب كتاب قيم. ولكن الأدب غلب عليه فكثر بحثه فيه وتأليفه.
وفيما يلي كلمة موجزة في سيرته وتأليفاته:
ولد الدكتور قاسم غني من أسرة علوية شريفة في مدينة سبردار من أعمال خراسان، وسبردار هي مدينة بيهن القديمة المعروفة في تاريخ الحضارة الإسلامية.
ثم رحل إلى طهران للدرس، ثم سافر إلى بيروت حيث لبث سبع سنوات حتى أكمل دراسة الطب في الجامعة الأمريكية، ثم أمضى أربع سنوات في فرنسا للاستزادة من العلوم الطبية.(748/51)
ولما رجع إلى بلاده مارس الطب في خراسان سنين، ثم دخل المجلس النيابي نائباً عن مدينة مشهد، وبقي نائباً مدة طويلة.
وكان حين إقامته بطهران يدرس العلوم الطبية بكلية الطب، كما كان يدرس علم النفس في مدرسة سيهالار التي تسمى (كلية العقول والنقول).
وانتخب للمجمع اللغوي الإيراني حينئذ
قد اشترك في الوزارة الإيرانية منذ خمس سنوات فكان وزيراً للصحة ثم للمعارف وعام 1945 أوفدنه الحكومة الإيرانية ليمثلها في مؤتمر سان فرانسيسكو في أمريكا فبقى عامين ونصف عام يمثل إيران في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة وفي لجنة حقوق افنسان واللجنة الطبية.
ثم عين وهو في أمريكا سفيراً لإيران في مصر فرجع إلى إيران ثم قدم مصر منذ أسبوعين. وقد لقيته منذ قدم مرتين فسمعت في أحاديثه ما عرفت من قبل من علم وأدب، واهتمام بالتقريب بين الأمم الشرقية وإخلاص في العمل لإسعادها وإعلاء شأنها ومن مؤلفاته
1 - رسالة عن ابن سينا وفلسفته وطبه وعلمه وهي الرسالة التي قبل بها عضواً في المجمع اللغوي الإيراني.
2 - تاريخ علم الطب، وفيه بحث مسهب عن الطب الإسلامي.
3 - حقوق الطبيب وواجباته (الأخلاق والطب).
4 - محاضرات في علم النفس.
5 - ترجمة بعض مؤلفات أناطول فرنس.
6 - مقالات من أناطول فرنس والمقارنة بينه وبين بعض أدباء إيران القدماء.
7 - عصر حافظ الشيرازي - وهو بحث واسع في أحوال إيران في القرن الثامن الهجري، القرن الذي عاش فيه هذا الشاعر الفارس العظيم.
8 - تاريخ التصوف في الإسلام وهو الجزء الثاني من كتابه عن حافظ الشيرازي بين فيه تاريخ التصوف ومذاهب الصوفية المسلمين إلى عصر حافظ. وهو كتاب جليل في هذا الموضوع ينبغي أن يترجم إلى العربية.(748/52)
9 - واشترك مع الأديب الكبير العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني في نشر ديوان حافظ بعد تصحيحه ومقارنة بين نسخه، وكتابة مقدمة للديوان مفصلة وافية.
10 - واشترك مع الدكتور على أكبر فياض في نشر التاريخ المسعودي لأبي الفضل البيهقي.
وقد حدثني السفير الجليل برغبته في أن يجد بين الحين والحين فراغاً للانتفاع بخزائن الكتب في القاهرة ومواصلة بحثه في هذه المدينة العظيمة.
وإنا لنرحب بالسفير العالم الأديب الدكتور قاسم كل الترحيب أملين أن يجد في القاهرة أهلاً بأهل وأخواناً بإخوان، وأن تتاح له الفرص للبحث في مكتبات القاهرة ومواصلة سيرته الجليلة في الدرس والتأليف.
عبد الوهاب عزام
الكلمة الأخيرة:
كتب سكرتير الأزهر إلى عميد كلية الآداب الدكتور عزام يسأله عن حقيقة ما قيل عن رسالة (القصص الفني في القرآن) فأجاب العميد بكتاب نشر في الصحف، وأذيع في الناس، قال فيه: (وحقيقة الأمر أن طالباً قدم رسالة عن القصص في القراَن لينال بها درجة دكتور فردتها لجنة الفحص، فهي رسالة بين طالب وأستاذته عرض عليهم رأيه فعرفوه خطأه، كما يسأل التلميذ لأستاذه أو يعرض عليهم ما بدا له في مسألة مسترشداً. . .
(إلى أن قال) وكاتب الرسالة فيما أعرف عنه وكما يبدو من كتابته شاب مسلم قصد أن يدفع عن القراَن بعض شبه الملاحدة أو رجال الأديان الأخرى فجار به رأيه عن القصد وحاد به اجتهاده عن سواء السبيل.
(إلى أن قال) وأرى أن الأمر لا يعدو أن يكون غلطة تلميذ اجتهد وأحسن النية فرد عليه رأيه ولم يؤذن له أن ينشر هذا الرأي أو يتقدم بهذا الكتاب إلى الامتحان).
(قلت) جزى الله صديقنا الجليل الدكتور عزام خيراً، فقد هون الخطب علينا حين عرفنا أن صاحب الرسالة ليس إلا تلميذاً مخطئاً، وكنا قد سمعنا من قبل أنه مدرس في الكلية، فكبر علينا أن يكون في الجامعة التي نرسل إليها أبنائنا، يقطعون البر والبحر ليردوا معين(748/53)
علمها، مدرس غاية جهده مثل هذه الرسالة التي أمتزج فيها الدين المتين. . . بالمنطق السديد. . . بالعلم الفياض. . . بالبيان العذب. . . حتى كانت معجزة العصر، ونادرة الدهر!
ولكني أريد أن أسأل الدكتور عن قوله (وكاتب الرسالة فيما أعرف عنه، وكما يبدو من كتابته شاب مسلم) - هل قرأ كتابته في رسالته فرآه يبدو منها شاباً مسلماً؟ أما أنا فقد قرأت الرسالة، (وصلت إلي كما وصل إلي تقرير الأستاذ أحمد أمين الذي نشرته في الرسالة) ونقلت منها صفحات بحروفها.
وأنا أؤكد القول أن ما نقلته منها، لو قاله معتقداً به أبو بكر وعمر، لكفر به أبو بكر وعمر، وصار به أبا جهل وأبا لهب، وأنا قاض شرعي أدري إذا تكلمت عن الكفر والإيمان ماذا أقول، وأثبته بالدلائل وأؤيده بالنصوص وأناظر فيه من شاء من أهل العلم أن يناظرني؛ لست كالأستاذ توفيق الحكيم الذي لمس الجبة فجأة ولاث العمة، وتصدر للفتوى في. . . (أخبار اليوم! (
وعلى ذكر مقالة الأستاذ توفيق الحكيم هذه، أقول أني سألت الشيخين الجليلين عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت عن صحة ما نسب إليهما في (أخبار اليوم) عن تبرئة الرسالة وصاحبها من الكفر، فقال لي الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم حفظه الله (إنه ما اطلع على الرسالة، وإنما قرأ تقرير الأستاذ احمد أمين عنها، ولاشك عنده أن الأقوال التي عزها في التقرير إلى الرسالة كفر وأن معتقدها كافر) وأذن لي أن أنشر ذلك على لسانه.
وقال لي الأستاذ الشيخ محمود شلتوت أنه إنما سأل عن المكفرات ما هي فقال فيها ما قاله الفقهاء ولم يفت في الرسالة بشيء، ثم قرأت له بياناً في الصحف هذا معناه.
فما دام صاحب الرسالة ليس إلا تلميذاً مخطئاً لا مدرساً ولا معيداً، وما دامت الرسالة قد ردت وأسقطت، وعلماء الزهر وأساتذة الجامعة قد اتفقوا على القول بمخالفتها للإسلام، وإدارة الكلية منعت (كما قال العميد) نشرها، فلا داعي عندي لإعادة القول فيها، وتسخير صحف المجلات، وأقلام الكاتبين، وأذهان القارئين، لإجابة شهوة الشهرة، وحب الظهور، في نفس هذا التلميذ المخطئ.
ورأيي أن خبر دواء له الإعراض عن ذكره!(748/54)
علي الطنطاوي
إلى الأستاذ السهمي:
قرأت في العدد (745) من الرسالة الغراء تحت عنوان (فعلاء) كلمة للأستاذ الجليل (السهمي) عن جميع صيغتي (أفعل وفعلاء) على (فعل) مثل أحمر وحمر وحمراء وحمر، ونقل ذلك عن (عمرو) في (البحر) وكتب الأستاذ السهمي في الحاشية تعليقاً وتكميلاً للعبارة المنقولة ما لفظه: (وقال وأما الأصغر والأكبر فإنه يكسر على أفاعل، ألا ترى أنك لا تصف به كما تصف بأحمر نحوه. . . فلما لم يتمكن هذا في الصفة كتمكن أحمر أجرى مجرى أجدل وأنكل كما قالوا: الأباطح والأساود حيث استعمل استعمال الأسماء).
ومعنى ذلك أن (الأكبر والأصغر) إنما لم يجمعا تكسيراً على فعل كما يجمع (الأحمر) لأنهما لم يتمكنا في معنى الصفة بل يستعملان استعمال الأسماء فلذا جمعا على أفاعل فقيل فيهما أكابر وأصاغر كما يقال أباطح في جمع أبطح.
والذي أراه أن الأكبر والأصغر ليسا من الموضوع المبحوث فيه لأن الموضوع هو جمع أفعل الذي مؤثثه فعلاه فهو الذي يجمع على (فعل) كأحمر وحمر، فأما الأكبر والأصغر فهما في الأصل من قبيل أفعل التفضيل، وأنثاه فعلى على وزن (حبلى) فقياس جمعه في الأصل أفاعل نحو أكابر واصاغر وأفاضل وأكارم وأماجد وأعاظم في جمع أكبر وأصغر وأفضل وأكرم وأمجد وأعظم، وليس جمعه كذلك من قبيل الخروج على قاعدة (أحمر وحمر) لسبب استعماله استعمال الأسماء.
فما رأى الأستاذ السهمي في ذلك؟
مصطفى أحمد الزرقا
لفظة لازاربت:
قال الأستاذ الجاحظ في العدد الماضي من الرسالة إن بعض الغربيين زعم إن كلمة لازريت الفرنسية. (ومعناها المعتزل أو المحجر الصحي) مشتقة من كلمة (الأزهر) (لأن الأزهر في مصر ملجأ للعميان والشيوخ والمتقاعدين)
وبعدما أنحى الجاحظ باللائمة على أولئك المتعجلين من االباحثين لتورطهم في أخطاء(748/55)
الاشتقاق، وقال إن الأصل اللاتيني لكلمة لازاريت معناه المجذوم وأن الصلة بين الحجر الصحي والمجذوم اقري وأكثر جلاء منها بين لفظتي الأزهر ولازاريت
ويخيل غلي أن الاشتقاق - إذا كان هناك اشتقاق - مستمد من اسم (لعازر) وهو رجل فقير أخذت جميع الأمراض بتلابيبه - ومنها الجذام - وكان طريح الأرض عند باب ثري يريد أن يشبع بطنه الفتات الساقط من مائدة ذاك السري. وقد روى قصة هذا الفقير السيد المسيح كما جاء في إنجيل لوقا إصحاح 16 عدد 19 - وقال إن كلا من الفقير والغني مات فكان جزاء الأول أن ينعم في حضن إبراهيم وكان جزاء الثاني هاوية العذاب يشتهي حتى أن يبل لعازر طرف إصبعه بماء ويبرد به لسانه.
وأحسب أن هذه القصة بسبب كثرة تداولها وشيوعها بجميع اللغات ولا سيما اللاتينية واشتقاقاتها، كانت السبب الأول في أن يقترن اسم لعازار بالبلايا والأمراض والفقر وتلك هي عين المعاني التي ترمز إليها ترمز كلمة الفرنسية ومنها اشتقت كلمة لازاريت
هذا في ظني مصدر الاشتقاق، وإذا كان عند المليمين شيء فليطلعونا عليه للنفع العام.
وديع فلسطين
المحرر بالمقطم - القاهرة(748/56)
القصص
من مذكرات سجين
للقصصي الكبير فرانسوا كوبيه
بقلم الأديب عبد اللطيف حسين الأرناؤوط
في صباح الغد، ينقضي أمد ستة الأشهر التي حكم علي بقضائها في السجن لسرقتي ألفي فرنك من خزانة المحل الذي كنت موظفاً فيه. وفي صباح الغد أكون قد كفرت عن خطيئتي وقضيت ما علي من دين للمجتمع الإنساني.
في صباح الغد في الساعة الثامنة سيطرق السجان باب سجني ومعه ثيابي التي خلعتها قبل دخولي السجن. وإني لأذكر تلك الثياب، فإنها كانت جديدة متقنة الصنع على أحدث طراز وسأرتديها غداً وأخرج إلى الطرقات. فمن يظن وأنا في مثل هذه البزة أني خارج من أعماق السجون! سأخرج في الساعة الثامنة وأرى مرغريت كوعدها تنتظرني في عربة أمام باب السجن. . .
بين مساء اليوم وصباح الغد سأصير حراً طليقاً وسأكون سعيداً لو أردت، فمرغريت التي ارتكبت من أجلها هذه السرقة تقسم لي في خطاب الأمس إنها ما زالت حافظة لعهدي متمسكة بودي، وإنها ستعيش معي حتى الموت، إذن فسنعيش آمنين بين أحضان باريس العظيمة التي وسعت كل عار وسترت كل ذنبن ومن كان في نشاطي لم يعجزه مرتزق بعيش من وراءه هو وحبيبته. . . ولكن لندع عمل المستقبل للمستقبل، ولا نفكر الآن إلا في الغد، وما سيتبلج عنه صبحه، إن مرغريت ستنتظرني في عربة فعندما أرى هذه العربة أمام السجن، أجري إليها، فألمح مرغريت منزوية في ركن منها، فاخذ مكاني بجانبها وآمر السائق باحتثاث السير، وبعد ذلك امسك يد مرغريت وانظر إليها فتهتاش المسكينة شوقاً، وترتمي على صدري باكية. . .
ما أعذب القبلة التي تعقب ذلك. وتكون العربة أثناء ذلك قد أوصلتنا إلى منزلنا فنصعد إلى غرفتنا في الطابق الرابع، التي تشرف نافذتها على حدائق اللوكسمبورج. ونعد مائدة إفطارنا أمام النافذة حيث تداعب أشعة شمس الصباح أنينها فتبدو لامعة كأنها تبتسم(748/57)
لملاقاتي، وبعد أن نتناول طعامنا بين حديث ولعب، تجيء مرغريت بالقهوة، فأجلس أحتسيها، وتجلس هي بجانبي وتسند رأسها إلى كتفي، فأستنشق عبيرها، وأستروح أنفاسها، ثم أقبلها قبلة طويلة.
هذا ما يعده لي صباح الغد، وهذا ما سألقاه فيه من حرية وسعادة وحب. . .
ولكن كل هذا لن يكون. . . فسأنتحر بعد قليل. . ريثما يسود وجه الصحيفة التي اكتتبت عليها هذه الكلمات. فالحبل الذي أعددته من غطائي متين والقضبان الحديدية في النافذة سميكة!
يجب أن لا أخرج صباح الغد من قبري هذا إلى الحياة. إذ لو خرجت لارتكبت آثاماً أخرى. فإني لا أقوى على رؤية مرغريت واقفة أمام حانوت الجوهري تلتهب نظراتها إلى أساور من ذهب أو تصعد زفراتها وراء قرط من جوهر، أو تنظر إلى خاتم من ماس ثم ترجع النظر حاسراً إلى أصابعها العاطلة. عند ذلك أقسم بالله أني أعود فأسرق لأجيء لها بما يرضي نظرتها ويهدأ زفرتها ويحقق رغبتها. . . يالله. هل انا مجرم من أكبر الناس إجراماً؟ أم أنا مجنون ضل عني رشادي؟ لا أعلم غير أمر واحد، هو أني أعود فأسرق لرضى مرغريت. . .
يا لها من امرأة. ويا لعظيم حبي لها ووجدي بها منذ أول يوم رأيتها. إني لأذكر ذلك اليوم وأذكر أني كنت مع صديقين دعياني للذهاب معهما إلى (مونمارتر) حيث كانت حفلات العيد قائمة واللهو رخيص ثمنه، سهل مناله. وكنت متعباً ذاك المساء فرفضت دعوتهما أولاً ولكنهما الحا علي فقبلت أخيراً. . .
وجئنا (مونمارتر) فكانت مساحاته تموج بآلاف من الخلق فوقفنا أمام احد مراقصه فوجدنا فتاتين ترقصان، فحادثاهما أحد صديقي وجلسنا معهما. وكان مجلسي بجانب إحدى الفتاتين وكانت شقراء الشعر جميلة الوجه محتشمة الحديث فقيرة الهيئة. وحادثتهما فكان صوتها جذاباً كعينيها وقال لها أحد صاحبي كلمة غليظة خلال الحديث فلم تجبه إلا بابتسامة مغتصبة تدل على أدب الفتاة وأنها غير راضية لما هي فيه من حال، ودعوتها لمنزلي، وقصت على الفتاة باكية - وإني لأحس حرارة دموعها حتى اليوم - قصة مجيئها إلى هذه الحياة من أحد أبوابها المظلمة وطفولتها البائسة وفقرها المؤلم وإيصاد كل باب رزق دونها(748/58)
وتشريدها آناء الليل في شوارع باريس الباردة المظلمة. ثم زلتها الأولى، واندفاعها في ذلك التيار الذي طالما حمل في سيره ضحايا لا عداد لها، فبكيت رحمة لبكائها، وعرضت عليها أن تجيء فتعيش معي عيشة الفضل والعفاف فقبلت راضية وسرني رضاها وأظنني أتيت أمراً لا طاقة لي به غذ ذاك، فإن ما أتقاضاه من مرتب ما كان يسمح لي بمعاشرة امرأة اللهم إلا إذا كانت امرأة مقتصدة تقنع بالقليل ولا تطلب الكثير ومرغريت با للأسف ليست كذلك. فقد كانت تختبئ في قرارة نفسها الفتاة الباريسية التي تشارف في غدوها ورواحها حوانيت الحلي والحلل، وتلامس في سيرها وركوبها السيدات اللائي رزقن الغنى بثمين اللباس وغالي الزخرف وكنت أرجع من عملي ظهر كل يوم فأراها ملازمة لسريرها لا تفكر فيما يقتضيه المنزل من عمل فحاولت أن أصلح من أمرها وأقوم من خلقها فأجابتني بقسوة ماذا تريد؟ هكذا خلقت فدعني وابحث عن سواي، فلن تصلحني مهما حاولت فلم ادر كيف أجيبها على قولها، فإنها لا تبالي بي. وأصبحت لا أستطيع عنها فراقاً ففكرت في أن أضحي قليلاً من راحة فؤادي وأقطع ما بيني وبينها من صلة. ولكني فكرت أيضاً في أنها لن تكاد تفارق بابي حتى تعود سيرتها الأولى؟ من حياة يملؤها العار، ومن ليل بؤس ليس له نهار، فعدلت عن فكرتي رحمة بها وحباً لها، ثم كيف أهجرها وقد تغلغل حبها في صميم فؤادي وأصبحت أرى ليالي الطويلة الباردة عامرة بمن يسلي وحدتي ويزيل وحشتي، أأهجرها وأنا أحبها أكثر من أمس وأقل من غد؟ أأهجرها وهي أول امرأة خفق لها فؤادي وأول من غرام مشت ناره بين أضلاعي!
واشتريت لها كل ما وسعته ثروتي من لوازم النساء وصحبتها إلى كل مسارح اللهو ومراتع السرور خشية أن تمل مكثها في المنزل وهي ابنة اللهو والسرور. وضاقت يدي ذات يوم عن قضاء حاجة لها فاستدنت وكان أول ما استدنت. . فأهمني أمره وأرقني وقره. . . ولم أنج به لمرغريت. . . وعلام وأنا أتوقع ردها، وماذا تريد أن أفعل لك، دعني وشأني!. . ولنفصل أحدنا عن الآخر ثم استدنت مرة أخرى. وأنا لا أبوح لها بما في نفسي من خوف مؤلم من المستقبل المظلم.
وإني أقول ما سأقول الآن وأنا واثق من صحته. ذلك أن كل الرجال الذين رمت بهم يد الغرام أو يد المرأة إلى مثل موقفي هذا يحاولون خلاصاً من هذا الموقف بغشيانهم ما(748/59)
يسمونه طريق الحظ أو السعد فيقصدون بيوت القمار. أو ساحات السباق. . وذلك أن أحد رفقائي في عمل كان يغشاها وطالما أسعده الحظ بأن ربح. وكان جالساً أمام مكتبه باسطاً صحيفة تدل لقرائها بما تراه في أمر الخيل وأيها السابق وأيها المصلي. وأخذ ينافس آخر في أمر جواد معلوم، يرى أنه ولا شك السابق. وأنه لا شك مراهن عليه.
فقلت إذ ذاك ولم لا أعمل مثل صديقي فربما أسعدني الدهر فربحت فأسعدت نفسي ومرغريت وضربت بيدي إلى حبيبي فوجدت فيه دراهم معدودة. فطرحت فكرة القمار مرغماً.
وذات ليلة ونحن في طريقنا إلى الملهى وقفت مرغريت أمام حانوت جوهري ونظرت إلى أساور من ذهب وماس وقالت لي: ما ثمن هذه الحلية؟
فقلت إنها تساوي أربعين جنيهاً!
فقالت: إن مثل هذه الأشياء جعلت للأغنياء ولا أدري لم لم يجعلني الله من عبادهم. . . ونظرت غلى دمعة تترقرق في مآقي عينيها. فكدت أبكي لها ولنفسي. وفجأة طرقت رأسي فكرة القمار في سباق الخيل، وفكرة الجواد السابق، ولكن أين لي المال لأراهن عليه؟. . . ولكن المال كثير في خزانة المحل وأنا الأمين عليه. وما دام الكسب مضموناً مع هذا الجواد، فلم لا أمد يدي إلى ألفي فرنك أرمي بها في سوق القمار ثم أربح وأعيدها إلى مكانها الأول واحفظ الربح لنفسي؟ هذا خير رأي، وأصوب فكر. ولكن ما العمل إذا خسرت؟ قلت ذلك لنفسي. ونظرت نظرة غضبى إلى مرغريت وهي عالقة بذراعي. ولكن احمد الله فإنها كانت ملتفتة إلى ناحية أخرى تنظر إلى معروضات المخازن. إذ لو رأت نظرتي لارتاعت ذعراً. . إذا خسرت؟ نعم إذا خسرت لا شيء غير أن يجيء رجل أو اثنان من الشرطة فيقبضان علي باسم القانون، وأجلس محني الظهر على مقعد المتهمين في محكمة الجنايات، ثم أفضي بعد ذلك جزءاً غير قصير من عمري في غياهب السجن، ذلك إذا خسرت؟ ولكن أكون بعملي هذا قد قدمت إلى مرغريت برهاناً قويا ودليلاً قاطعاً على حبي لها؟ وربما أحبتني إذ ذاك لعلمها أني أتيت ما أتيت مرضاة لها.
ولكن لماذا هذا الخلط في الحديث فالساعة أزفت. ولا فائدة من أن أُثقل على قارئ هذه الصفحات بتفاصيل ما ارتكبت ولم أقص عليه كيف ارتكبت السرقة، ولا كيف وقفت(748/60)
تتنازعني العوامل المختلفة من خوف إلى حزن، إلى ندم، إلى أمل إلى فرح، وأنا في ميدان السباق. ولا كيف خسر الجواد وجاء مجلياً، ولا كيف اكتشفت سرقتي، والقبض علي، ومحاكمتي ثم سجني. . .
الوداع يا مرغريت. إني أحبك، وأغفر لك وأعفو عنك. فلربما سالت دمعة من عينيك عندما تقرئين هذه الصفحات المملوءة يذكرك، كوني فخورة أمام عاشقك الجديد بأن هناك رجلاً انتحر لأجلك. . .
ها هو ذا نصف الليل لقد دقت الساعة، وأنا قد أحكمت الحبل إلى النافذة فلأتشجع ولأنهي الأمر!. . .
(دمشق)
عبد اللطيف حسين الأرناؤوط(748/61)
العدد 749 - بتاريخ: 10 - 11 - 1947(/)
حرية الرأي وتبعة الرأي
للأستاذ عباس محمود العقاد
حرية الرأي مكفولة لكل إنسان.
ولكن لا حرية بغير تبعة. فكل ذي رأي مسئول وحدة عن رأيه، وعليه وحده أن يحمل جميع تبعاته، وليس له أن يلقى هذه التبعات على غيره. لأن حريته تنتهي عند انتهاء التبعة التي يحملها باختياره. . . فلا اختيار له في حريات الآخرين.
وذلك عن الحد الفاصل بين الرأي الذي يسأل عنه الباحث أو الكاتب وحده، وبين الرأي الذي يشرط فيه غيره.
فمن حقه بلا نراع أن ما يشاء في حدود القانون ولكن ليس من حقه أن يحمل غيره على تزكية رأيه وترويجه أو الأذن بأجازته ونشره، ولا سيما إذ يكون ذلك (الغير) هيئة رسمية مفروضة بقوة الدولة على جميع أبناء الأمة، كالجامعة المصرية وما جرى مجراها.
فالجامعة المصرية جامعة حكومة، ومعنى أنها جامعة حكومة أن إلزامها لطلابها هو إلزام يقوم به القانون، وتحميه الدولة، وليس فيه للطالب أو لولى أمره خيار كالذي يملكه الطلاب وأولياء الأمور في الجامعات الأهلية. فهم لا يملكون أن ينتقلوا منها إلى غيرها إذا لم توافقهم دروسها، وليس في وسعهم أن يستغنوا عن شهاداتها وإجازاتها، لأن مستقبلهم في الوظائف أو المزاولات العلمية مرتبط بها. فليس لأحد أن يطلب من هذه الجامعة أن تجيز دروساً تحتاج إلى احتمال تبعة، وليس له أن يلقى عليها تبعاته وينتظر منها أن تقرها وتزكيها، وهم يزعم أنه حر فيما يصنع، وأنها هي المقيدة أمامه فلا حرية لها في رفض هذا الصنيع من شاء أن يقدر حريته فليقدر تبعته قبل تقديره لحريته. ومن تقدير التبعة أن يفهم ما يجوز له عرضه للإقرار والإجازة، وما ينفرد به أو يشرك فيه سواه. فإن لم يفهم ذلك فليس هو بأهل لتقدير الحريات ولا لتقدير التبعات.
وقد سبقتنا إلى النظام الجامعي أمم كثيرة، وسبقتنا إلى حرية الرأي أمم كثيرة، وترجع تقاليد الجامعات في بعض هذه الأمم إلى مئات السنين، وكلها تدين بهذا المبدأ فيما يعرض عليها من الرسائل للإجازة والاقرار، ولم يقل أحد أنها تصادر حرية الآراء، أو تحجر على مباحث المفكرين.(749/1)
فلم نسمع قط أن أحداً تقدم إلى جامعة السوربون ببحث في تدوين الأناجيل هل هي من كتابة الرسل أو كتابة أناس آخرين مجهولين أو معلومين.
والجامعات الإنجليزية تدرس تواريخ الأديان وتدرس المقابلة بينها، فلم نسمع قط أن دراستها هذه أجازت لصاحب رأى أن يطلب منها إقرار قول من الأقوال، يخالف ما تلتزمه أمام جميع المتعلمين كذلك تدرس الجامعات الإنجليزية، كما تدرس الجامعات الفرنسية، علوماً شتى في نظم الدول، وقواعد الدساتير. فلم نسمع قط أن طالباً فرنسياً عرض على جامعة فرنسية بحثاً في إنكار النظام الجمهوري. وتفضيل النظام الملكي عليه، ولا أن طالباً إنجليزياً عرض على جامعة إنجليزية بحثاً في ترجيح النظام الجمهوري على نظام الدولة الملكية. لأن المسألة ليست مسألة حرية وكفى، بل هي مسألة حرية مقرونة بتعبه. فينبغي التفرقة بين ما تكتبه باسمك على تبعة نفسك، وبين ما تكتبه ثم تلقى بتبعاته كلها أو بعضها، على مؤسسات تحميها الدولة وتلقى دروسها على جميع أبناء الأمة، وهم أحرار أيضاً فيما يقبلون وفيما يرفضون.
فلا خلاف على حرية الرأي كائنا ما كان في حدود القانون وإنما الخلاف في احتمال التبعة وتقديرها، وفي موضع التبعة وتمييزه، وليس بأهل لحرية الرأي ولا بقادر على أمانته من يفوته هذا التمييز.
وكاتب هذه السطور يحرص على حرية الرأي، ويعتقد أن الحرية الشخصية هي غاية كل تقدم وارتقاء في تاريخ بني الإنسان، وأن مقاومة الرأي إنما تكون برأي مثله، ومقابلة البرهان إنما تكون ببرهان على قياسه، وأن المصادرة بالقوة عمل لا يليق بأصحاب الآراء ولا يحسن بهم أن يهيبوا بالحكومة إلى اتخاذه، إلا أن يكون في الرأي إخلال بالآداب متفق على تحريمه.
لكننا لا نعطي حرية الرأي كل هذا الحق إلا لأننا ندين بأنه حق ينتهي عند حده ولا يجوز أن يتعداه.
فليقل من شاء ما شاء ما دام هو صاحب التبعة الوحيد في كل ما يقول:
ولكن هل هو صاحب التبعة الوحيد فيما يلقيه إلى الجامعات الرسمية لتقره باسم الدولة، واسم الأمة بأسرها من وراء الدولة؟ هنا محل التقدير والتمييز.(749/2)
وليس بعالم ولا مستحق لأمانة العلم من لا يقدر ولا يميز، ولا يفرق بين ما يقرره باسمه، وما يطلب من المشرفين على التعليم في الأمة أن يقرروه.
وقلما يعنيني هنا أمة رسالة بعينها أو بحث بعينه، وإنما يعنيني توضيح الحد الفاصل في مسألة الحرية، ومسألة التبعة الفكرية، وهو حد منسىُّ على ما نرى في حسبان بعض المبتدئين، بل بعض الأدباء المعدودين.
ولو لم يكن هذا الحد محتاجاً إلى التذكير في مرحلتنا هذه من الحياة الفكرية لما رأينا رجلا كصديقنا الأستاذ توفيق الحكيم ينساه وهو ينتقد الجامعة المصرية لأنها رافضة تبعةً تلقى عليها، وليس من حقها أن تقبلها باسم الدولة، وليس من مقتضى رفضها أن تحول بين طالب من الطلاب، أو مدرس من المدرسين، وبين إعلان ما يراه بغير واسطتها إذ شاء.
على أننا نهنئ صديقنا الحكيم ولا نقصر القول كله على الأسف لنسيانه أو تناسيه.
نهنئه لأن حرية الرأي كانت رخيصة عنده يوم كان ينعى على الديمقراطية ويشيد بمآثر الدكتاتورية. فإذا عاد يغليها بعد إرتخاص فإنه بالتهنئة من هذه الناحية لجدير.
أما (التقدميون) الذين حنقوا على الجامعة المصرية لالتزامها حدود حقها وواجبها، فحسبهم من التذكير أن نطلب منهم سطراً واحداً يكتب في روسيا اليوم نقداً لعقيدتهم في التفسير المادي للتاريخ، وهي بعد لم تتجاوز عندهم أن تكون رأي إنسان!. . . فكيف بما يعتقد المؤمنون به أن من عند الله، خالق كل إنسان، وخالق جميع الأكوان؟
عباس محمود العقاد(749/3)
12 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
نظام الدين أوليا وأمير خسرو
وإلى القرب من المقبرة التي بها ضريح همايون مقبرة أخرى بها قباب منثورة أعظمها مكانة عند الناس وأجملها هندسة قبة نظام الدين أوليا.
وهو أعظم صوفية الهند في زمانه، وأكبر أوليائها حرمة عند الناس حتى اليوم؛ اسمه محمد بن أحمد بن علي البخاري، وفد أجداده من بخارى إلى الهند فاستقروا في إقليم بدايون حيث ولد هو سنة 636هـ.
وأخذ العلوم العربية عن علاء الدين الأصولي. ثم رحل إلى دهلى فتلمذ للشيخ الملك والشيخ كمال الدين الزاهد.
وسنة 655 لحق بالشيخ الصوفي فريد الدين كنج شكر (كنز السكر) المتوفى سنة 664هـ فصار من مريديه المقرّبين واختاره الشيخ خليفة له سنة 656هـ فرجع نظام الدين إلى دهلى إلى أن توفى سنة 725هـ.
وقد ذاع صيته، وعظمت مكانته؛ فجاءه المريدون من كل صوب، واجتمع حوله العلماء والأدباء والموسيقيون، وعظمه المسلمون وغير المسلمين.
وكتب في التصوف والتفسير والحديث ونظم بالفارسية شعراً صوفياً، ومزاره اليوم يقصد من أرجاء الهند، ويعدّه الناس أعظم الأولياء أو من أعظمهم ويسمونه: سلطان الأولياء.
قصدنا إلى مزار نظام الدين فنزلنا في محلة تزدحم فيها القبور والمنازل، ومررنا خلال قبور تختلف مظاهرها ضخامة وصغراً، وأبهة وحقارة ومعرفة ونكراً وتتفق على المعنى الذي انطوت عليه؛ بل اللفظ الذي تنطق به؛ حتى جئنا حجرة عالية مصنّعة بالرخام والحديد والنحاس سقفها مستطيل مبطّن بالصوف في أشكال جميلة، والحجرة في جملتها هندسة جميلة أو شعر بليغ. هنا قبر الشاعر الكبير المعروف في الأدب الفارسي والأدب الأردي؛ الذي يعدّ أول ناظم باللغة الأردية، وهو أمير خسرو الدهاوي المتوفى سنة(749/4)
725هـ.
وكان مروري بقبر الأمير خسرو سروراً مفاجئاً، ونعمة غير مرتقبة. فوقفت على قبره وقفة تمنيت أنها طالت وكُرْرت.
أقف بالقارئ وقفة قصيرة على تاريخ هذا الرجل الكبير قبل أن نزور نظام الدين أوليا:
هو الأمي أبو الحسن بن الأمير سيف الدين الشمسي ولد في الهند سنة 651هـ وكان أبوه تركياً هاجر من نواحي بلخ إلى الهند أيام جنكيز خان وتزوج بنت عماد الدين أحد أعيان الدولة في دهلى، ومات وابنه خسرو في التاسعة من عمره فكفله جدّه لأمه.
وكان خسروا ذكياً شغوفاً بالتعلم. فنشأ محبوباً مقرْباً عند سلاطين دهلى، وحظي برعاية سبعة سلاطين متتابعين؛ من السلطان محمد بن غياث الدين (664هـ - 686) إلى السلطان محمد الثاني بن تفلق (725 - 752هـ).
ونبغ في الشعر فنظم منظومات كثيرة منها ديوانه وسبع منظومات قصصية حاكى فيها الشاعر المعروف نظامي الكنجوي منها قصة ليلى والمجنون، وقصة خسرو وشيرين.
وقد قسّم ديوانه على سني عمره، وسمى كل قسم اسماً يلائمه:
تحفة الصغر: وهي القصائد التي نظمها من سن 15 إلى 19.
وسط الحياة: وهي القصائد التي نظمها من سن 20 إلى 34.
غرّة الكمال: وهي القصائد التي نظمها من سن 34 إلى 43.
البقّية النقَّية: وهي مختارات من شعر الشيخوخة.
وقد ألف من الكتب والرسائل ما يقارب المائة، ويقال إن أشعاره تبلغ أربعمائة ألف بيت، والمجموع منها زهاء مائة وعشرين ألفاً جمعها السلطان الأديب بالسنقر من بني تيمور، وكان من المعجبين بالشاعر، وقد فضّل منظوماته الخمس على (خمسة نظامي)، وجرت بينه وبين الأمير التيموري ألُغ بك مناظرات كثيرة في هذا التفضيل.
وكان خسرو من مريدي الشيخ نظام الدين يبالغ في حبّه وإعظامه، ويروى أنه بينما كان خسرو في صحبة السلطان غياث الدين تفلق شاه في سفره إلى بنغالة جاء نعى شيخ فأسرع راجعاً إلى دهلى، واعتزل خدمة السلطان، وتصدّق بأمواله، وأقام على مقربة من قبر شيخه حتى مات بعد ستة أشهر، ودفن بجوار الشيخ الذي أحبه وصحبه في حياته، وزهد في(749/5)
العيش بعد مماته. فكان في تجاوز القبرين لمن يعرف سيرة الرجلين قصيدة صوفية بليغة.
وزرنا ضريح نظام الدين وهو حجرة واحدة حولها سياج من الرخام الأبيض المخرّم في دقة وإتقان وعليها قبة جميلة، وعلى جدران الحجرة وعلى المقصورة من بدائع الصنع، والتحلْية ما يشغل بصر الزائر حتى في هذا المقام الجليل المهيب، ورأينا هناك حلية مهداة من نظام حيدر أباد.
ورأينا أبياتاً فارسية أرّخ فيها موت الشيخ بكلمة (شهنشاه دين) =725.
وكذلك قرأت عند قبر أمير خسرو أبياتاً فيها تاريخ وفاته بكلمات فارسية (طوطي شكر مقال)، وكلمتين عربيتين (عديم المثل) وكلتا العبارتين يدلان على سنة 725هـ.
ورأينا على مقربة من هذه الحجرة قبة كبيرة على قاعة واسعة يقال إن السلطان علاء الدين بناها ليدفن فيها الشيخ فأبى الشيخ أن يكون فيها قبره، واتخذها مسجداً.
وفي جواز الشيخ قبور لأمراء الدولة التيمورية وأميراتها، عائذاتٌ بهذا الجوار الكريم. كل قبر حوله سياج من الرخام أظهرت فيه الصنعة قدرتها وإبداعها كأنما هذا الحجر كان شمعاً في يد الصانع أو عجيناً.
وشدّ ما أثر في نفسي بين هذه القبور قبر جهان آرا (زينة الدنيا) بنت السلطان شاه جهان، وقد بلغ منى بيت بالفارسية منقوش على لوح من الرخام هناك:
بغير سبزه نبو شد كسى مزاريرا ... كه قبر بوسن غريبان همين كياه بس است
لا يكسُ أحد قبراً بغير خضرة النبات العشب ... فكسوة قبور الغرباء هذا العشب وكفى
وبعد هذا البيت باللغة العربية:
الفقيرة الفانية جهان آرا مريدة خواجكان (أي الشيخ نظام الدين) بنت شاه جهان بادشاه غازي أنار الله برهانه سنة 1092 وما فصلنا من هذا العالم عالم الأخرى، وفي النفس ملؤها من ذكريات الدنيا أوينا إلى قاعة فاسترحنا وشربنا الشاي في ضيافة الشيخ حسن نظامي من ذرية الشيخ.
وقرأت على الجدار أشعاراً صوفية بالفارسية من مأثورات نظام الدين أوليا.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(749/6)
أسئلة!
للأستاذ علي الطنطاوي
كان حديث الناس في الأسبوع الذي مضى، وحديث الصحف. هذه الـ (أربعون ألف جنيه) التي تبرع بها البدراوي باشا وشهد عليه بها الشهود، وجاءته عليها رسائل الشكر وبرقيات التهاني، حتى إذا شبع من الثناء، وروى من المدح، وانتشى من الفخر، ونال ما كان يريده من تبرعه، ولم يبق وراءه غنم يناله، ما بقى إلا الغرم بالـ (أربعون ألف جنيه) عاد فجحد قوله، وأنكر هبته، وطعن على الشهود، وكذب الناقلين، فعاد المهنئون له يعزون، والمادحون إياه يهجونه، وانطلقت الألسنة بالوقيعة فيه، والنيل منه، وأذهب هذا القدح لذة المدح الأول، واشتاق إليه لما فقده، ولكن عزّ عليه أن يشتريه بـ (أربعين ألف جنيه)، وأن يؤديها كاملة فيكذب نفسه، ويثبت قول من شهد عليه، فاقتادها بعشرة آلاف رفعها إلى السدة الملكية، فردتها عليه، ولم تقبلها منه. وقالوا، إنه سيدعى الشعب إلى اكتتاب عام يشترك فيه الغني والفقير، يحقق به ما كان التبرع له، وهو إنشاء ويقطع الأعناق، ويودي بالأسر.
انتهيت من قراءة هذا الخير، فنشأت في نفسي أسئلة كثيرة، أحببت إذاعتها لأني أتمنى أن أجد مجيباً عليها:
أولها: السؤال عن هذا التفاوت العجيب بين الناس الذي صار شعار الحياة المصرية، وآيتها. . . من أين جاء؟ وكيف تركه العلماء والمصلحون وأصحاب الرأي، وذوو السلطان، ينمو ويمتد حتى يصير كالدوحة العظيمة، ولم يقطعوه وهو بعد غصن طري؟ وكيف انتهت الحال إلى أن يكون في مصر نفر من المصريين دون الأجانب فرغت أيديهم من كل شيء.
وكيف امتد هذا التفاوت إلى غير المال؛ فكان في مصر نفر هم أكابر أدباء العربية، ونفرهم أئمة علماء الإسلام، ونفر هم أعلام الفلسفة والحقوق وعلوم الطبيعة، وجماهير لا تحصى، (إلا في دفاتر الإحصاء عند الحكومة)، لا تعرف من العربية ولا من الإسلام ولا من هذه العلوم شيئاً، بل هي لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وصارت مصر بحيث لو ذهب منها مائتا رجل فقط، من عشرين مليوناً، صارت زعامة مصر الثقافية، بين الأقطار العربية، خبراً بعد عين.(749/8)
وكان في مصر، بل في القاهرة نفسها العمارة التي تشتمل على خمس عشرة طبقة، والأكواخ التي لا شباك لها ولا ماء فيها ولا مرحاض، وفيها أفخم السيارات تسير بجانب عربات الكارو، تحمل أهل القاهرة من حي إلى حي، وفيها شارع فؤاد وشارع سليمان، وفيها الزمالك وجاردن سيتي، وفيها مقابل ذلك زين العابدين والدراسة وبولاق، وفيها فندق شبرد ووراء حديقته أزقة مسدودة لا تراها الشمس، ولا يمر منها الهواء، ولا ينيرها الكهرباء، ولا تعرف الطريق إليها مصلحة التنظيم. . .
إن الناس يتفاوتون في بلدنا، وفي بلاد الناس كلها، ففيهم الغني والفقير، والعالم والجاهل، وعندنا العمارات الكبيرة، والدور الحقيرة، ولكن المسافة بين عالينا ونازلنا قصيرة متحملة فليس في دمشق كلها عمارة كالـ (ايموبليا) ولا كنصفها، أن أعلى عمارة فيها في ست طبقات. ولكن ليس في دمشق أيضاً، بيوت كبيوت مصر القديمة أو عشش الترجمان. . .
وعندنا فقراء، ولكن فقراءنا لهم ثياب نظيفة تسترهم، وأحذية تحملهم، وبيوت تكنهم، وعندنا مالكون للأرض، ولكن الناس يملكون معهم، ليسوا عبيداً لهم، ولا إجراء عندهم، ما عندنا هذه (الإقطاعية. . .) إلا في حماة وأمثالها، وهي مناطق محدودة، وسائر الأرض مقسمة بين الناس، يملك الواحد منهم ربع الفدان فما فوقه، ولا يرى نفسه دون مالك الآلاف، ولا يذل له ولا يرى له عليه فضلا.
لذلك يعجب الشاي عندما يقدم مصر، ويرى هذا التفاوت فيها، ويسأل من أين جاء؟
وثانيهما: السؤال عن الكتاب والعلماء، لماذا لا يدعون إلى تخليص البلد من هذا الداء العياء، وتعديل كفتى الميزان وتحقيق طبيعة العرب في المساواة، ومقصد الإسلام في العدالة لا أريد المساواة المطلقة التي لا تبقى غنياً ولا فقيراً، فهذا ما لا يكون ولا ترضاه سنن الكون، ولا طبائع الأشياء. لا يكون إلا في أذهان الفلاسفة والشعراء، وأصحاب الأغراض من الدعاة، يشعبذون به على ألا، ويتخذونه سلما إلى غاياتهم، ووسيلة إلى أغراضهم، ولكن أريد المساواة المعقولة، التي لا ينزل بها إنسان إلى منزلة البهيمية في طعامه وشرابه ومسكنه، ولا يرتقى إنسان إلى منزلة الألوهية، يدعيها كذباً وبهتاناً كما ادعاها فرعون من قبل، وأن يكفل لكل مصري (مهما كانت مهنته، وكان عمله) طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه، كما يليق بالإنسان أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، كما يليق(749/9)
بالإنسان أن يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، وأن لا يترك في مصر رجل واحد، يعيش كما تعيش السائمة، يأكل قريباً من طعامها، وينام مثل منامها، في الطرقات، والحقول، وعلى الأرصفة، وفي الأكواخ؛ وأناس يطعمون كلابهم الشكولاته، وينفقون أموالهم في المراقص، ويذيبون ذهبهم في الكؤوس.
فماذا يصنع العلماء والكتاب؟
وثالثهما: السؤال. . . إذا كان يجوز لمثلى السؤال، عن الحكومة ما لها تقر هذه الحال، أولا، في كثير من قوانينها وأنظمتها، فتجعل المدارس الأولية متفاوتة الدرجات، ولا تسوق ابن المغني وابن الفقير بعصا واحدة، وتحشرهم في مدرسة واحدة، كما تفعل وزارة معارفنا في الشام؛ وما لها تعنى بالمشروعات الضخمة الكمالية، قبل إتمام الضروري، كأن القصد تنويع الحلوى للأغنياء، قبل تقديم الخبر للفقراء؟!
وما لها لا تضع، ثانياً، القوانين التي تؤدي إلى إبطال هذا التفاوت، وإلى رفع المنخفض وخفض المرتفع، حتى تقترب الدرجتان، وتتدانى الكفتان، فتعمل بالإسلام في أخذ الزكاة من الأغنياء، وردها على الفقراء، وحينئذ تأخذ هذه الـ (أربعين ألف جنيه) قسراً بلا رجاء ولا شكر، أو تعمل عمل الأمم الغربية، فتكثر الضرائب على الدخل وعلى المواريث وتشرف على المعامل والشركات والمصارف، ويكون لها الرأي في كل ما يمس المصلحة العامة - وهذه (اشتراكية) ليست من مبادئ الإسلام، ولكنه لا يمنعها إن دعت إليه ضرورة، والضرورات لها أحكام، وتعريف الضرورة وأحكامها، مبيّن في كتب الفقه ليس هذا موضع بيانه.
ورابعها: سؤال عقلاء مصر وقادتها، ألا تخافون أن تأتيكم هذه الحال بالشيوعية؟ ألا ترون بوادرها؟ ألا تعرفون أخطارها؟ ألا تقدرون أضرارها؟ فلماذا تلبثون نائمين ولهيب النار يقترب من منازلكم، فلا يلبث أن يشعلها عليكم، فيجعلكم فيها كالمحبوس في الجحيم؟
إن الناس لا يقبلون على الشيوعية عن معرفة بها، ولا عن حب لها، ولكن دعاتها رأوا ما هم فيه، وعلموا أنهم يتمنون أن يجدوا الخلاص منه ولو على يد الشيطان فأوهموم أن الشيوعية هي سبيل الخلاص، وأنها طريق السعادة وأنهم إن كانوا دعاتها ملكوا بها قصور الأغنياء، وحقولهم وسيارتهم، فلذلك تعصبوا لها ولا يدرون ماذا فيها، فهم منها كما قال عبد(749/10)
الله بن عمر، لمن لامه على ترك مؤازرة ابن الزبير في دعوته إلى الإصلاح: أرأيت بغلات معاوية الشهب اللائي يحج عليهن؟
قال: نعم. قال: ذلك ما يريد ابن الزبير!
إنهم يئسوا منكم ومن دينكم، فأروهم أنكم معنّيون بهم، وأن دينكم لا يرضى ما هم فيه، إن الإسلام دين العدالة، دين المساواة، دين الخير، أفيرضى أن يستعبد بعض الناس بعضاً في قرن العشرين الميلادي، وقد أنكر ذلك عمر في القرن الأول الهجري؟
فلماذا لا تأتونهم بحق الإسلام، لتخلصوهم به من باطل الشيوعية؟
أما والله إذا صار هذا البلد (لا سمح الله ولن يسمح) شيوعياً فأنتم يا أيها العقلاء، ويا قادة الرأي، المذنبون، لا العامة ولا الدهماء ولا الأغرار من الشباب!
وخامسها: سؤال المصريين جميعاً، ألم يروا هؤلاء الأجانب، أصحاب المتاجر والمعامل والمصارف لم تمتد يد منهم بقرش لرد هذا الوباء، ومساعدة المنكوبين به، ورفع البيوت التي هدمها، وإطعام الأطفال التي يتمها، والنساء اللاتي إيّمها؟ ألم يأن لهم أن يتنبهوا إلى أنهم أحق بخيرات بلادهم؟ لا النهب والسلب والثورة أخذ المال من أصحابه، لا ما ذلك أردت، ولا يريد هذا عاقل، بل بأن تطرحوا عنكم ثوب الكسل، وتشمروا عن ساق العمل، وتنزلوا للميدان؛ وتتعلموا حب المال، والرغبة في الأسفار، وتتقنوا فن الاقتصاد، وصيد الدراهم، والتعاون على الكسب. بذلك تخلص إخوانكم الشاميين من سيطرة الأجانب، وأنقذوا بلادهم منهم، ثم ذهبوا فغزوهم في بلادهم، وانتزعوا أموالهم من أكفهم، وزاحموهم، في مانشستر ونيويورك وبوينس أيرس والكونغو وبومباي وطوكيو، وكل بلد في الدنيا، ما خلت مدينة من تجار الشام.
إن بعض العراقيين يقولون مازحين: إن الشاميين يهود العرب!
يهود العرب. . . طيب والله!. . . وهل تقاوم اليهود إلا بهذا؟ بارك الله في تجار الشام - وإن كن (أشهد الله) أكرههم، لما رأيت من طمعهم وجشع نفوسهم. وأتمنى أن أشد أصابعي على أغنياء الحرب منهم، ولكن الحق أحق أن يقال، ولا تنجح أمة إلا بأمثال هؤلاء التجار.
هؤلاء الذين يشيدون مجدها، ويثبتون بناءها، ويحفظون مالها. فمتى يكون المصريون مثل(749/11)
هؤلاء؟ ومتى أجئ مصر، فلا أرى فيها إلا لوحة عربية، باسم عربي، على مؤسسة عربية؟! يا مصر، هذا هو الطريق! وهذا والله كلام صديق!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(749/12)
النظرية الحديثة في تفسير الأحلام
للأستاذ عبد العزيز جادو
إن آداب كل أمة توضح بجلاء رغبة الرجل الملحَّة، المستديمة، في تعليق بعض الأهمية على أحلامه وإلباسها بعض المعاني. فمن فجز التاريخ إلى بداية هذا القرن كانت الأحلام تعتبر في بعض الأحيان كأصوات للالهية الباطنية، وجولات للذات النجومية، وزيارات للروح، وتنبؤات بالمستقبل، أو نتيجة اضطرابات جسمية باطنية.
وفي عام 1900 حوّل الأستاذ سيجموند فرويد ما اعتبروه خرافات وأوهاماً خاطئة في تعليل الأحلام إلى (دراسة علمية). فلقد وجد، ككل العلماء، أن الالتجاء إلى الحدس والتخمين عمل محفوف بالمكارة.
وإن رجالاً من أمثال جوليان هكسلي، وهـ. ج. ويلز، وهافلوك أليس، ليدفعون إتاوة لفرويد. كما أن العالم أجمع يقدره حق قدره ويعده من أنبغ النابغين في جيله.
للأحلام وجهان:
لا يخفى أن لكل قطعة من العملة وجهين، لا نرى منهما إذا وضعت القطعة على نضد إلا الجانب الفوقي. كذلك لكل حلم وجهان؛ فالحلم الذي نعيه عند الاستيقاظ هو الرأس أو الوجه، ويعرف في الاصطلاح الفني بالمحتوى الظاهر؛ أما الحلم الحقيقي، الذي لا يفسره التحليل أو يوضحه فهو (الخلفي) أو المحتوى الباطن. ومشكلة تحليل الحلم هي أن نرجع إلى الحلم الحقيقي، وأي المادة المستترة.
ولكن لم هذه الضرورة لحلم حقيقي وحلم غير حقيقي؟
إن حلماً كهذا الذي تذكره عند استيقاظك من النوم إن هو إلا شيء باطل ملفق، وتمويه مطبق. وإنه لوسيلة لإخفاء القصة الحقيقية. قد تسأل: (لم هذا الإخفاء؛) ونحن لا يسعنا إلا أن ندلي برأينا كاشفين عن السر القناع.
إن للعقل (جزئين) كما هو معروف؛ الواعي والباطن. الأول كتاب قانون للجماعة، وهكذا نسميه، لأنه يحوي جميع النواهي وكل الأوامر، كما يحوي على قواعد حسن السير والسلوك. وإنه بمثابة مجموع أو حاصل لمبلغ تربيتنا وتهذيبنا من عهد الطفولة وما بعدها.
أما العقل الباطن فإنه يحتوي على نواة الرغبة. ويتبع نظام حفظ الأوراق بالترتيب مع(749/13)
الذات الفيزيقية، على نسق فهرس، يشتمل على فكر وتصورات في غاية الهمجية - تصورات تدل على الطبيعة الفجة (الخام).
ويمكنك أن ترى بين العقلين خلافاً جوهرياً؛ أحدهما يريد، والآخر لا يريد. . . أحدهما ذو الطبيعة الهمجية يلتقى بحاجيات الطبيعة؛ والأخر إنسان متمدن يوفق بين طلبات المدنية.
ومن تعارض هذين العقلين تنشأ الأحلام.
الحوار الداخلي:
قد يتوقع المرء أن يؤثر الحوار الداخلي في الفرد فيوقظه، ولكن آلية الحلم جعلت هذا الجدال الداخلي محرفاً في معناه، ومشوهاً في شكله، لكي يكون النوم باقياً مستمراً ومحفوظاً. والحلم إذ نذكره - أي في حالة المحتوى الظاهر - إنما يستخدم غرضاً واحداً، هو قيامه بمثابة حارس للنوم. وإنه ليلجأ إلى أنواع التزويق والخداع لكي يصادف هذا الغرض.
والمحتوى الكامن أو الباطن للحلم، أي الحلم الحقيقي، يخدم غاية تختلف تمام الاختلاف عما سبق. فهو يرضى رغبة عقلية داخلية، تحرك عاطفة خاصة وتحثها لإنشاء تحوّل كيمي وفزيقي، أو أصوات متعددة ذات وتيرة واحدة منسجية أي إنها تسبب قيام غدد معينة بالإفراز وتحدث تغيرات كيمائية مختلفة، أكثر مما لو كان الشخص قد تناول علاجاً منعشاً عند النوم. وإلى هذا يرجع السبب في شعور المرء بالراحة عند استيقاظه.
الآن وقد كونا فكرة صحيحة بل صورة ذهنية حية لهذين العقلين المتناقضين، نستعرضهما وكأنهما غرفتان متلاصقتان ونتخيل حارساً يقف عند المدخل كديدبان ولنسمه (الرقيب). وهذا مهمته كمهمة الرقباء أثناء الحرب سواء بسواء - يصرحون بنشر أخبار معينة ويمنعون من النشر أخرى. وهذا الرقيب هو الذي جعل للحلم وجهين بطائفة من الحيل كالرمزية، والتحريف، والتكاثف، والعواطف المزيفة، والاستبدال. وكل هذه، بطبيعة الحال، معلومات فنية عالية، وهي مع ذلك يمكن شرحها بسهولة.
إن المرء لفي حاجة ماسة للتعرف على كيفية عمل الرقيب، وإنا لذلك سنمضي في متابعة الطرائق المختلفة، ونعرض أحلاماً رمزية بطريقة التصوير.
الرموز:(749/14)
الرمز عبارة عن علامة تعني شيئاً ما. فالدوائر الثلاث المتداخلة معناها التضامن أو التعاون. والبولدوج رمز للمتانة أو التشبث. كما أن الأسد رمز للشجاعة والإقدام. والثعلب رمز للمكر والدهاء. وهذا قليل من كثير لا حصر له ولا عد. وثمة شيء غريب آخر عن الرموز، هو أنها تحرك العواطف وتستفز الشعور على الفور بأسرع ما يمكن. يقول الشارع أو الناثر أو الخطيب (زمجر كالأسد). كم يكون وقع هذه الجملة في السامع! وكم تكون حيويتها وتأثيرها! أليست أشد وقعاً في النفس مما لو قال (زمجر عالياً!). . . ومن ذا الذي لا تهزه الأريحية ولا تأخذه النخوة عند سماع النشيد القومي أو السلام الملكي!
ثم أليس هناك آلاف ممن جندوا أنفسهم واستعدوا للدخول في غمار المهالك، واستنفاد آخر قطرة من دمائهم من أجل حقوق قطعة من قماش مصبوغة باللون الأخضر ومرسوم عليها هلال وثلاثة أنجم؟ لا لأنها تقوم على نصرة المملكة المصرية فحسب، ولكن لأنها رمز يحرك العواطف ويذكيها حماسة.
وعلى ذلك يمكننا أن نرى أن الرمز ليس إلا مؤثراً آلياً أو ميكانيكياً في الأحلام لا يقدّر بثمن، لأنه يحرك العاطفة لسعادة جسمية.
أما رموز الأحلام فهي غالباً ما تكون سرية (أو خاصة بالحالم ذاته) ومن ثم فإنك، أنت نفسك، عندما تستيقظ من النوم، ولا تفهم شيئاً من معاني ما رأيت في حلمك.
دراسة الأحلام:
إن الرموز التي أسلفنا القول فيها هي في الواقع معروفة وليس هناك من يجهلها. ولكن لرموز الأحلام ميزة الخصوصية والسرية. فمن ذا الذي يعرف تلك الرموز؟
الخبرة في تحليل الحلم تعرفنا بالقليل من معاني الرموز، ولكن أفضل طريقة لدراستها هي دراسة الحالم. والطريقة المتبعة في ذلك من السهولة بمكان، وهي أن تستقصي ما يذكر بالأشياء. مثال ذلك أني حلمت بامرأة ذات أسمال بالية تقوم بعمل أشياء مختلفة، فتساءلت عما يذكرنيه امرأة ذات ثوب خلق. وذكرت أني منذ سنين قليلة كنت في حفلة رقص تنكرية حيث كانت فتاة ترتدي ثوباً خلقاً ممثلة الفاقة. فكان من الواضح إذن أن الفتاة التي رأيتها في الحلم تعني الفاقة. بيد أني لم أحلم بالفاقة، لأن هذا قد لا أستسيغه فيزعجني(749/15)
ويوقظني من النوم. فيتكرم (الرقيب) مشكوراً ويريني تلك الفتاة الجميلة، الرشيقة، بهيئة مريضة، ليستدرجني في دروبه كيف شاء له الهوى تاركا إياي أغط في نوم عميق مريح.
ولنأت بحلم رمزي بسيط:
كان الحالم طفلا في الثامنة من عمره. رأى أن كلباً وقطاً يتشاجران. كان الكلب أسمر اللون، وكان القط أحمر اللون. ورأى فجأة أن الكلب والقط قد دخل كلاهما في الآخر وتكون منهما حيوان فرد فيه شبه من القط، وفيه شبه من الكلب، فاستيقظ من نومه باسماً. ولما سئل عن أقرب شجار شاهده أمامه كانت النتيجة أن أمه وأباه كانا يتشاجران دائماً شجار الكلاب والقطط. وفي ذلك اليوم على الأخص كان عراكهما فظيعاً. وكانت هذه آخر معركة رآها قل ان يرى في الحلم كلباً وقطاً يتشاجران. . .
لقد كان أبوه أسمر اللون، وكانت أمه شقراء. فمن الواضح أن الكلب كان أباه، وكانت القطة أمه. ولقد كان انزعاجه من رؤية حيوانين يتشاجران لا يقاس بجانب انزعاجه من عراك والديه. إنه يريد أن يقف عراكهما عند حد، وأن يتصافيا، لأنه تصورهما وقد امتزجا معاً وصارا واحدة. وإن هذا ليسره فيستيقظ باسماً. وهكذا نرى أن تفسير الحلم بسيط غاية البساطة. ولكني أرجو أن تدرك تماماً أيها القارئ العزيز أن الحلم لا يوضح ولا يشير إلى ما سوف يفعله أناسه أو ما قد يفعلونه، ولكنه يبين ما يفكر الطفل فيه. بيد أن هناك ما هو جدير بكل اعتبار ألا وهو أنه ما من حلم إلا ويبين اتجاه الحالم نفسه لا اتجاه أحد غيره. وعلى كل من اشتغل بدراسة الأحلام أن يذكر أن هذه النقطة من الأهمية بمكان.
وبما أنه لا يجود للان أي حلم يبين بوضوح لأي شخص تركيباً آليا، بل تراكيب من مختلف الأساليب، فإننا نخطو إلى أحلام أكثر تعقيداً. وقبل أن نقدم على هذا، علينا أن نتعرف السبب الذي يجعل الأحلام أو فيها شيء من التعقيد. ذلك لأنها ذات تحريم جنسي.
التحريمات الجنسية:
لقد هاجم رجال الدين فرويد بسبب اعتماد على الجنس. فرد عليهم مازحاً، ولكنه أظهر الناس على بعض الحقائق السافرة وأظهر بالتحليل تسلط الجنس على النفس الداخلية، وأزال كثيراً من أوهام المتصوفين.(749/16)
على أن فرويد لم يقل أن كل الأحلام جنسية، أو إنها يجب أن تكون جنسية، وكل ما في الأمر أنه دون في بيانات صحيحة وأن السواد الأعظم ذو طبيعة جنسية. وقبلما نحاول تحريم أو نبذ هذه النظرية التي تحاول الكشف عن الطبيعة الجنسية في الناس يستحسن أن نرفع النقاب عن المعلومات الجنسية. ولنكن صرحاء للغاية القصوى بدل أن نخفي أنفسنا على طريقة النعامة، إذ نضع رؤوسنا في رمال الزمن المرتحل.
إن البيولوجيا تبين بوضوح وجلاء أن هدف الحياة ما هو إلا حفظ الحياة والتكاثر فيها. فبدون النشاط الجنسي، وبدون الحافز للحياة، يموت كل شيء، ولا يبقى شيء.
وإذا كان هذا هو أهم شيء في العالم، وهو بالفعل كذلك، فلم ندعى أنه يقوم بدور بسيط تافه لا يعتد به في ذواتنا الفيزيقية؟
إن الحقائق الجنسية أصعب من أن تواجه في حالة طبيعية. فهي اختيار قاس. ولا داعي لبيان أهمية الجنس ولا للتعريف بأنه أعظم شيء في الحياة، إذ أن كثيراً من العقول المفكرة قد أقامت البرهان القاطع على أنها نواة كل سلوك.
عبد العزيز جادو(749/17)
حول جدل في الجامعة
للأستاذ عبد الفتاح بدوي
منذ نشرت مجلة (الرسالة) تقرير الأستاذ أحمد أمين بك عن (الفن القصصي في القرآن)، والأستاذ محمد خلف الله يبعث بالمقال تلو المقال تارة يستجدي وتارة يستعدي، وليس العلم تناصراً ولا استصراخاً فليعلم أن الناس جميعاً علماءهم وفنانيهم لن يغنوا عنه من الحق شيئاً ولا من وقع الحجة وأصابتها مقتله فتيلا وليست شتائمه أساتذته أوةأوبيسبتيسمنبتيسبمنتيسبمنيستأبيسنبتيسكمنبتيساو غير أساتذته ولا خوضه في مقاماتهم بالكلم الخبيث ما نعته من صولة البرهان.
ولقد وجهنا إليه في مقالنا السابق تهمة أولى أنه يجهل المقررات المنطقية التي تجمع عليها العقول؛ فهل هو مجيب عن هذه التهمة؟
ووجهنا إليه في مقالنا السابق تهمة الكذب على الأستاذ الإمام محمد عبدة أنه يجري في تفسيره على اعتبار أن ما في القرآن من قصص لا يدل على أحداث وقعت وأقمنا البرهان على كذبه هذا بما نقلنا من نص عبارة المنار.
واليوم نقول للأستاذ خلف الله أنه جهل فهم كلام الأستاذ محمد عبدة في الفقرة التي نقلها في مقاله المنشور في ص1068 من مجلة (الرسالة) الغراء، وأنه جهل المنهج الذي يدرس عليه القرآن الكريم.
يدرس القرآن الكريم على منهجين: الأول منهج (الباطنية) وهم فرقة من الملاحدة يعطلون ألفاظ القرآن عن مدلولاتها، ويسلكون بها سبيلا تخيلية وهمية توصلا بذلك إلى تعطيل الشريعة الغراء فهم يدعون للألفاظ أو للجمل مراداً عاماً لا ينبني على أسس علمية وهؤلاء كفار والجري على طريقتهم كفر وجهالة.
لأن مذهبهم هذا مجرد دعاوى لا تنبني على شيء من العلم. فهم يقولون مثلا في تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) استقيموا لله وطهروا أنفسكم بالأخلاق الحسنة وكنوا خاضعين، وليست هناك صلاة شرعية ولا زكاة شرعية ولا سجود ولا ركوع.
والمنهج الثاني: في دراسة القرآن الكريم منهج المسلمين، وهو منهج العلم والعقل الذي تقوم(749/18)
عليه نواحي الحياة كلها وليس خاصاً بالقرآن الكريم وحده؛ ذلك أن الكلام يجب أن يكون لألفاظه مدلولات حقيقية تنصرف إليها تلك الألفاظ ولا يعدل عنها إلا إذا وجدت قرينة تمنع من إرادة تلك المدلولات الحقيقة فإنما هو في غير القرآن خبل وجهالة وإذا ادعى شيء من ذلك في مقام القرآن الكريم فهو خبل وجهالة وزندقة يخرج بها صاحبها من عداد المسلمين لأنها تعطيل لكلام الله تعالى الذي أنزل لهداية البشر أجمعين.
ومن المسلمين من يقف في تفسير القرآن الكريم عند هذا الحد لا يتعداه؛ بل يحمل الكلام على الحقيقة من أمكن ذلك ثم على المجاز الذي تدل عليه القرينة عند وجودها، ولا يقولون إن القرآن يشير من وراء هذه الحقيقة أو هذا المجاز إلى شيء من باب الإشارة والإيماء لأن هذه الإشارة وهذا الإيماء لا تدل الألفاظ عليه.
ويقول الصوفيون من المسلمين إن في القرآن إشارات وأسماء من وراء تلك الدلائل الحقيقية، وهذه الدلائل الإشارية الإيمائية ملحوظة عند هؤلاء الصوفيين مرعية لديهم حق رعايتها.
فمذهب الصوفية يخالف مذهب الباطنية كل المخالفة لأن الباطنية يعطلون الألفاظ عن مدلولاتها. فهم لا يعتبرون آدم شخصاً ولا الملائكة موجودات، ولا الجنة شيئاً، ولا لإبليس حقيقة؛ إنما يقولون في ذلك كله مل يقول الأستاذ خلف الله إن القرآن في ذلك لم يتشبث بالواقع، أما الصوفية فيقولون بأن كل هذه الألفاظ لها مدلولاتها الحقيقية ثم يشير مجموع القصة إلى أمور أخر كالتي ذكرها الأستاذ الإمام في قوله: وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا: (إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خلفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه إلى آخر ما قال. فمحال أن يكون الإمام قد قصد إلى تعطيل الألفاظ والذهاب مذهب الباطنية.
وإني ناقل هنا عبارة الأستاذ الألوسي إذ تشرح هذا المنهج وترى الأستاذ خلف الله أنه كان على جهل حين زعم أن من المسلمين من يرى أن القصص القرآني لا يتصل بالواقع وكان على خطأ لم يفهم به كلام الأستاذ محمد عبدة؛ قال الألوسي: وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر(749/19)
غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية، وحاشا سادتنا من ذلك؛ كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا: لا بد منه أولاً إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادعى فهم أسرار القرآن قبل أحكام التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب.
والألوسي في تفسيره ينهج هذا المنهج أبداً فهو يفسر الأسلوب القرآني على حقائقه اللغوية فإن قامت قرينة على غير الحقائق انصرف إلى المجاز الذي تدل عليه اللغة؛ ثم يعقب على ذلك كله بتفسير الصوفية فيقول: ومن باب الإشارة. . . ويذكر الإشارات الصوفية في ذلك المقام.
والأستاذ محمد عبدة نهج هذا المنهج نفسه، واختار لنفسه في المتشابه منهج السلف والأخذ برأي الخلف فيه عند الإمكان وعند الداعية إليه في فهم الكلام ثم يذكر مذهب الصوفية وهم من الخلف ويقرر مذهبهم الإشاري كذلك ويصرح في كثير من كلامه بكلمة الإشارة وبكلمة الإيماء؛ فقال في ص269 من الجزء الأول من المنار: فإذا صح الجري على هذا التفسير فلا يستبعد أن تكون (الإشارة) في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها؛ وجعل كل صنف من القوى مخصوصاً بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعداً للتصرف بجميع هذه القوى. . .
وقال صاحب المنار في تلك الصفحة نفسها: (وأقول إن غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة إقناع منكري الملائكة بوجودهم. وكان مساق هذا الكلام كله بعد عبارة طويلة نقلها من كلام الغزالي في الإحياء. فهو إذن بيان لمذهب الصوفيين.
فمن الافتيات على الأستاذ محمد عبدة افتياتاً جريئاً فيه عدم الاستحياء من الحق ما قاله الأستاذ محمد خلف الله عن الإمام محمد عبدة إذ ينسب إليه أنه يرى أن القصص القرآني لا يلتزم الواقع أو أنه جرى مع أحد هذا المجرى وذهب معه هذا المذهب الذي يدعيه.
ولقد حاولت أن ألتمس للأستاذ خلف الله بعض المعاذير، ولو أوهاها في التورط فيما تورط فيه فمنعني سلوكه، وحالت بيني وبين ذلك خلائقه؛ ذلك أنني وجدته مدلساً في النقل خائناً(749/20)
للأمانة العلمية فهو يكذب في النقل أو يبتر المنقول ولا يتمه بل يخفي منه ما يبين المراد تمويهاً للحقيقة وإلباساً على الناس.
لقد قال في ص1122 من مجلة (الرسالة) الغراء: ويؤكد الرازي هذا المر في مناسبات أخرى حين يجعل أحياناً كلمة (بالحق) التي ترد كثيراً في القرآن بعد القصص وصفاً لما في القصة من توجيهات دينية فهو مثلا يقول عند تفسيره لقوله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) ما يأتي: (أما الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة).
وإني ناقل عبارة الفخر الرازي بنصها شاهداً على تدليس الأستاذ محمد خلف اله فيما ينقل من عبارات العلماء قال الفخر قوله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة أولهما تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك أن الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية، فإذا رأى له فيه مشاركا خف ذلك على قلبه كما يقال المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا سهل عليه تتحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه. والفائدة الثانية قوله: وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين. وفي قوله (في هذه) وجوه أحدها في هذه السورة. وثانيهما في هذه الآية. وثالثها في هذه الدنيا، وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع، واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالا مما ذكر في سائر السور، ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى فاستقم كما أمرت لكان الأمر كما ذكرنا، ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة: الحق والموعظة والذكرى.
أما الحق، فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة؛ وأما الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة؛ وأما الموعظة فهي إشارة إلى التنفير عن الدنيا. . . اهـ.
فالفخر الرازي ليس فيه شيء مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد مما نسبه إليه الأستاذ محمد(749/21)
خلف الله فرية واختلاقاً، فالفخر يجعل اسم الإشارة راجعاً إلى السورة، يعنى سورة هود، ويجعل الحق الذي فيها هو الدلائل الدالة على التوحيد، ولعل عند الأستاذ خلف الله، أو الذي كان يشرف معه على رسالته نسخة خطية خاصة من كتاب الفخر الرازي عملت لهما فقط وخط لهما فيها ما يشاءان؟ ما هذا يا أستاذ؟ وما هذه الخيانة في العلم؟!
ومثال البتر في النقل ما قاله الأستاذ خلف الله في نفس الصفحة إذ نقل قول الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعمله ولما يأتهم تأويله) الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها).
والفخر الرازي قال ذلك ولكنه أتم كلامه فقال في شرح تلك الأمور (فأولها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم. وثانيهما أنها تدل على العبرة. . . وثالثهما أنه (ص) لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتتلمذ دل ذلك على أنه بوحي من الله. . . الخ.
فكلام الرازي صريح في أن القرآن لا يذكر القصة لأنه كتاب تاريخ بل يذكرها لما في ذكرها من الفوائد التي ذكرها وكلام الفخر الرازي صريح في أن القرآن لم يحرف في القصص ولم يغير وكان ذلك دليلا على أنه بوحي من الله.
أما دعوى الأستاذ خلف الله فهي أن القصص القرآني لا يتشبث بالواقع وإذن فلا بد له من التدليس في النقل ليتوهم القارئ أن الكلام الذي يقوله الأستاذ خلف الله أصلا في كلام السابقين صارت الصفات التي يتمتع بها الأستاذ خلف الله في مقاليه في الرسالة ثلاث صفات الجهل والكذب والخيانة.
وإذا كان للكانون عند العرب ثلاث أثافي فإن كانون الأستاذ خلف الله له أربع أثافي تلك الثلاث التي مضت وسنرميه بالرابعة.
ولقد كان يمكننا أن نرميه بها بادئ ذي بدء بعد أن حصلنا على ما حصلنا عليه ولكنا آثرنا أن تقدم بين يدي ذلك جهله وكذبه وخيانته، ثم نقيم عليه الحجة والدعوى معاً.
لقد وقعت الرسالة في أيدينا وقرأناها كما قرأها سوانا ولكم الويل مما تصفون. لكم الويل فانتظروه في الأعداد القوادم وفي ساحات القضاء.(749/22)
عبد الفتاح بدوي
كلية اللغة العربية(749/23)
الصدق في الأدب
للأستاذ مهدي القزاز
في بعض الأوقات تكون قلوبنا عامرة بالعواطف، مثقلة بالاحساسات، تتدفق بألوان الشعور، وتحيا بفيض من الإشراق وتنبض بمختلف الأماني والأحلام. . . تحاول الانطلاق في أجواء فاتنة تضج بالأنغام والأضواء والشذى والعطر، لتنغمر في الوجود الذي يهيئ لها الإبداع والخلق والابتكار، إذا كان لها نصيب من حسن الذوق وبراعة الإنتاج. . .
يشعر القلب في مثل هذه الفترة أن الحياة تتفجر نوراً وجمالا وتتضوع أريجاً مسكراً، فيختلج ليلهم الأديب الفنان والشاعر الملهم والكاتب الموهوب أروع الصور الذهنية ويضفي على إنتاجهم روعة الصدق وحرارة الإخلاص وسمو العاطفة، فيحيا في كل أعمالهم وما يفكرون وينتجون ويبدعون، فيكون لأدبهم وكتاباتهم أثر في كل نفس وصدى في كل روح لأنها نتيجة شعور صادق وإيمان عميق بما يكتبون ويفكرون. . .
وفي بعض الأحيان قلوبنا وينتابها التبلد والخمول وتتيه في ظلمة قاسية من الجفاف والخواء ترقد فيها العواطف وتشيع الكآبة في النفس ويرين الحزن على القلب فلا يشعر بالنور ولا تتلاشى فيه الأضواء وتنعدم الأخيلة، فيحس أن الحياة مغمورة بالضباب فلا ترى العين ولا ينفذ الفكر ولا يومض الذهن وفي مثل هذا العدم يتوقف القلب عن الإيحاء الصادق ولا يوحي إلا بالتافه من الأمور والضحل من الأفكار.
في مثل هذه الحالات يجب على الأديب الصادق الذي يكتب بعاطفة وشعور يستمدهما من قلبه أن يريح قلمه إلى حين وإلا بدا عليه الإسفاف ظاهراً والاجترار ملموسا والتكلف واضحاً لأن نبضات قلبه يجب أن تبرز دائماً في كل عمل من أعماله الأدبية وإنتاجه الذهني فإذا فقدها خلت كتاباته من عنصرها الأساسي وهو (روح الكاتب).
يقول الأستاذ (توفيق الحكيم) في كتابه (زهرة العمر): (إن تربية ملكة العقل وحدها لا تكفي عند رجل الأدب والفن إن لم يصحبها إيحاء القلب وإلهام العاطفة وملكة التذوق. . .
وهو يشترط اشتراك القلب ووحيه في كل عمل من الأعمال الذهنية والإنتاج الفكري).
فالقلب ينبوع العواطف والأحاسيس منه تنبعث أحلى الأنغام وأسطع الأضواء وأعذب الألحان وأعمق الأفكار. وفيه تحيا كل القوى التي تسيطر على حياتنا واجعلها مشرقة(749/24)
ومضيئة حيناً وقاتمة مظلمة حيناً آخر. أما العقل فهو القوة التي تنظم ما يجول في القلب من تيارات وينبض فيه من عواطف وأحاسيس، وعمله كعمل الفنان أو المصور الذي يضفي بريشته وألوانه على الصور والألحان ما يزيدها عذوبة وجمالا ويعطيها جاذبية وإيحاء يكسبها الخلود.
يحسب بعض الناس أن الأدب لا يعدو كونه صناعة من الصناعات لا يحتاج إلى فهمه والنبوغ فيه كبير مشققة وعناء إلا ما يحتاجه صاحب المهنة لإتقان إحدى الصناعات اليدوية والبروز فيها والتفنن في إظهارها للناس بالمظهر الذي يجعلها أكثر اتقاناً وإغراء للشارين. كما يحسبه بعضهم تجارة تخضع لقاعدة العرض والطلب فيفهمون الأديب الناجح بمقدار ثروته وما تدر عليه كتاباته من مال وثراء فإذا أخفق في جلب الثروة ولم يتمكن من الربح المادي عدوه فاشلاً ونظروا إلى كتاباته نظرة عدم اهتمام كما ينظرون إلى بضاعة من البضاعات كسدت ولم يبق لها شار في السوق.
وبعضهم يرى الأديب الناجح من كثر إنتاجه وتعددت الصحف التي يكتب فيها والتي تنشر اسمه وتنوه بكتبه وآثاره غاضين النظر عن قيمة هذه الكتب والآثار الأدبية من وجهة الجمال والفن والإبداع، وما في أفكار صاحبها من ابتذال وفسولة.
وهؤلاء الذين فهموا الأدب والأديب هذا الفهم الخاطئ معذورون لأنهم لم يتوصلوا إلى فهم الحياة أو يتذوقوا ما في الوجود من أسرار وجمال وعواطف. لأنهم يكتبون ويفكرون ويحكمون، بعقولهم فقط تاركين قلوبهم هملاً لا تحيا في أعمالهم الأدبية وما يصدرونه من أحكام. كالآلات الميكانيكية تعمل وتنتج في كل وقت وفق خطة مرسومة لا تحيد عنها قيد شعرة.
وبسبب هذا الفهم المغلوط وانتشاره في الأدب العربي والأدباء العرب نشاهد كثيراً من الذين يكتبون ويؤلفون تبدو آثار الصنعة والتقليد وبرودة الموت في إنتاجهم لأنهم يكتبون بدون عاطفة وإحساس بهذا الخارق العظيم في الحياة وهو القلب ولزوم اشتراكه أو ظهوره في إنتاجهم وكل أعمالهم. وذلك لأنهم تعلموا الأدب ودرسوه كصنعة من الصناعات ومهنة من المهن لذلك جمد إحساسهم وماتت عواطفهم فجاء أدبهم صورة تنطق بالفقر من الإحساس والتصوير والابتكار.(749/25)
وإني أطالع أحياناً ما يكتبه الكاتبون والأدباء، وخاصة في الأدب الوجداني، فأرى في آثارهم صدق الإحساس وحرارة التعبير وشبوب العاطفة، وهذه هي صفات الأدب الصادر في صدقه وحرارته وشبوبه عن وجدان حساس تهزه العاطفة فينتفض وتمسه الأزمة فيرتعش. وأطالع أحياناً أخرى آثار بعض الأحباء الآخرين فأرى التكلف فيها واضحاً والاجترار ملموساً والصنعة ظاهرة وهذه هي صفات أدب التصنع الذي لا يثير في النفس إحساساً ولا يحرك عاطفة ولا يعالج عقدة، وذلك لأنهم يكتبون كتابة آلية لا تدعوهم إليها دواعي الوجدان أو تثيرهم إحدى الأزمات النفسية فتلهب عواطفهم وتحرك قلوبهم.
وإني امرؤ أقرأ الأدب بقلبي وعاطفتي وأحكم على صدقه بما يثيره في نفسي من اهتزازات وأحاسيس تجعلني أشارك كاتبه في الشعور والإحساس رغماً عني لأنه صادر عن قلب حساس يتألم أو ينتشي، ويصور بصدق ما ينتفض في القلب من اختلاجات وما يجول في الذهن من أماني وآراء. أما الأدب الكاذب فهو الذي لا يثير أدنى شعور ولا يحرك خلجة فؤاد لأنه صادر عن عقل جامد صدئ يتصنع الشعور ويتكلف الإحساس.
إن القلب يجب أن يحيا في كل ما يكتبه الكاتب والأديب وإلا جاء إنتاجه ممسوخاً وخالياً من كل شعور أو إحساس، لأنه يكتشف بذلك عوالم مليئة بالجمال حافة بالمتع والمباهج. حتى الألم عنده له لذة غريبة تكسب أدبه جمالاً فنياً رائعاً كجمال تماثيل الفواجع الخالدة. وعندها يكون تفكيره وإنتاجه صادقاُ ينقل الصور ويسجل الحوادث ويزيد في ذخيرة الأدب لوناً يكسبه الخلود. . .
لذلك يجب على الأديب الحق الذي يحاول أن يكون في أدبه خالقاً وفي آرائه مبدعاً وفي تفكيره ناضجاً، أن تكون هناك صلة وثيقة دائمة بين عقله وقلبه وقلمه وبما يفكر ويكتب ويصور، لن جميع الأعمال الأدبية والفنية لا يكتب لها الخلود إلا إذا كانت صادرة من قلب ينبض وعقل ينظم وقلم يكتب ويصور.
أما هؤلاء الذين نراهم، في كل يوم، يسودون الورق بهزيل الأفكار وتنميق الألفاظ وبهرجة العبارات بدون أن يكون لإنتاجهم صدى يبعث فينا الروعة التي نشعر بها أو نحسها عندما نطالع أثراً أدبياً أو نرى عملا فنياً اشترك فيه القلب العقل. أما هؤلاء فسيظلون على الهامش وستذهب كتاباتهم مع الريح.(749/26)
(بغداد)
مهدي القزاز(749/27)
من صور الطريق
للأستاذ مهدي السامرائي
هذا الطريق المرصوف بالحجارة والقار، كم تطأه من الأقدام وكم تمر عليه من الأجسام وكم تسير فيه من النفوس، كل مهتم بشأنه كل سابح في عالمه وأحلامه وكل لاه بأمره عن أخيه الذي يسير بجنبه ويعيش وإياه في بلد واحد ووطن واحد.
يكاد يكون هذا الطريق كتاباً مفتوحاً تقرأ فيه تاريخ البشرية من أقدم عصورها حتى أرقى ما وصلت إليه من حضارة وتقدم، وفيه يشاهد المتأمل كثيراً من الصور الآدمية تعكس له حياة المجتمع الذي نعيش فيه وما به من فوضى واضطراب وما هو عليه من تناقض وتباين.
في بدء هذا الطريق الذي أسلكه كل يوم صورة من تلك الصور التي رسمتها يد الحياة الجائرة بريشة من شقاء وبألوان من فقر وجوع ومرض؛ صورة لا أبالغ إذا ما قلت رسمها فنان وهو في ثورة جنونية فجاءت فنية رائعة تمثل لنا شقاء البشرية في القرن العشرين.
كان لا يتجاوز العاشرة من عمره كفيف البصر؛ ذهب المرض بكلتى عينيه فأفقده نور الحياة وتركه يتعذب ويحيا في عالم من الظلام الحالك ويتخبط في ديجور من الفاقة والذل، ولكنه كان يشعر ويحس ويرى بعقله ما لا يراه كثير ممن أوتوا نعمة النظر؛ أولئك الذين ينعمون في حياتهم، ويسعدون بأحلامهم وآمالهم لاهين عن أمثاله من بني الإنسان ممن ظلمهم نظام اجتماعي فاسد وفوضى اقتصادية ضاربة إطنابها في طول البلاد وعرضها. كان يحس ويشعر لأنه دقيق الإحساس رقيق العاطفة أوتي من الذكاء حظاً وافراً، ومن الفطنة قدراً كبيراً فكأنه أوتي حكمة الشيوخ وهو لم يقرأ كتاباً واحداً. اتخذ من قنطرة بالقرب من (دارهم) ملجأ يلجأ إليه، وكان يسميها دارنا مفتخراً ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى زريبة حيوانات لا تتعدى مساحتها العشرين متراً تضمه هو وأمه وأخوته الخمسة الصغار يضاف لذلك عدد كبير من الدجاج وحمار كان يربط في ساحة الدار.
عند هذه القنطرة كان يرابط كفلنا من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساء يؤدي واجبه دون ما كلل أو عناء يؤدي واجبه الذي فرضه عليه أبوه المريض وأمه الجائعة يؤديه بنفس معذبة وروح متألمة لأنه واجب بغيض لهذه النفس الأبية وتلك الروح الحساسة. وطريقته(749/28)
في تأدية هذا الواجب كانت غريبة في بابها وبأسلوب مبتكر عجيب لم أشاهد مثله عند مئات بل آلاف أمثاله من المستجدين أولئك الذين يملئون الشوارع والأزقة ويتغنون في أساليب الشحاذة والاستجداء كان إذا سمع وقع أقدام تمر بجانبه قام متثاقلا من جلسته المؤلمة التي يتمثل فيها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان قام وهو يردد جملتين بلغة إنكليزية ركيكة مؤداهما (أنا فقير) (اعطني درهماً).
كانت هذه طريقته في الاستجداء وطلب المال وكثيراً ما تندربه الصحاب والمارة وأذاقوه من نطاتهم ما يبعث الألم إلى نفسه والعذاب لروحه وكثيراً ما نهره جفاتهم بطريقة تستنزل الدموع من عينيه البيضاوين لأنه يستجدي بلغة الإنكليز لغة الأجانب لغة المستعمرين والمسكين يظن أن استجداءه بهذه اللغة يجلب له عطف المارة ويستدر القروش من جيوبهم ولكنه لا يعلم بأن استجداءه بهذه اللغة يثير فيهم كوامن الحقد ويذكرهم بظلم طال أمده وقيود صدأ حديدها. هو لا يدري أن هذه اللغة تذكرهم بالمذكرات التي كتبها السير هنري مكماهون والتي تعهد بها للعرب ما تعهد ولكنه وقومه لم يبروا بوعودهم ونكثوا بعهودهم وصوروا لنا أبشع صورة من صور أطماعهم. هو لا يدري أن أصحاب هذه اللغة هم الذين وقعوا معاهدة سايكس بيكو تلك الوثيقة المشينة وليدة الأطماع والتي رافقها الريبة بل كانت مثالا بارزاً للختل والخداع والغدر. هو لا يدري أن هذه اللغة تذكرهم بوعد بلفور المشئوم ذلك الوعد الجائر الذي عبد الطريق للصهيونية لكي تغزو فلسطين العزيزة، هو لا يدري بكل ذلك بل حتى ولا يدري بأن هناك شعباً على ضفاف النيل يئن من ظلم أصحاب هذه اللغة ويعمل ليل نهار للتخلص من تدخلهم في شؤونه وفرض سيطرتهم عليه.
قلت: تعالى يا صغيري فلي معك حديث قصير. قال: وهل أنا ممن يحذقون الأحاديث يا سيدي ألا أعطيتني قرشاً فأنا فقير؟ قلت: من علمك هذه اللغة الإنكليزية فكأنك تحسنها؟
قال: تعلمتها منهم أنفسهم عندما كانت جنودهم تحط رحالها بالقرب من دارنا ليستريحوا قليلا ثم يستقلوا القطار إلى حيث لا أعلم. . .
قلت وهل هم أنفسهم قالوا لك بأنك فقير؟
قال: هم علموني كلمة فقير ولكني أعلم بأني فقير وفقير حقاً ولو لم أكن فقيراً لم طلبت منك ومن غيرك القرش أو القرشين كي أسد بهما رمقي ورمق أخوتي ثم سكت سكوتاً(749/29)
عميقاً ولكني بأسارير وجهه تصرخ وتصيح فقير. . . فقير كلمة كم تحمل حروفها من ويلات وكم تضم تحتها من شقاء وكم يتعذب بها من بشر وهل هو وحده ممن عضهم هذا الوحش بنابه فمثله الآلاف بل الملايين من الفقراء يضنيهم الجوع ويؤلمهم العوز وتمرضهم الفاقة والفقر هذا الشبح المرعب هذا الحيوان المفترس ينشب أظفاره في أجسامهم فيمزقها ويتركها منهوكة القوى ويخلي عقولهم من العلم فيتركها خاوية خالية تعيش في جهالة القرون الماضية ويسري في دمائهم كالميكروب القاتل يميت المئات منهم دون ما رحمة أو عطف ولكن (آه من لكن هذه) ولكن هل هناك من يشعر بوجودهم وعذابهم أو يناضل ويكافح باسمهم لأجلهم؟ هل هناك من تضطرم في نفسه عواطف النبل الإنساني ليسعى في تخفيف الضنك الذي يكتنف حياتهم؟ هل هناك من يعمل باسم الإنسانية لدفع الحيف اللاحق بهم غير طامع في اسم أو جاه أو مركز أو سلطان؟. . .
هم ضحايا الطمع والجشع هم قرابين ذوي الكروش المنتفخة والخزائن الممتلئة، عم أكباش الفداء للمحتكرين والمستعمرين الذين يحترمهم العالم باسم القانون.
أثار في نفسي منظر هذا الطفل ثورة كانت مكبوتة ونيراناً كانت تتأجج كلما رأيت أمثاله من المساكين ممن أصيبوا بعاهة أقعدتهم عن العمل والكفاح أوصدت في وجوههم أبواب الرزق فالتجئوا لطريق الاستجداء راضين أو مكرهين.
قلت لنفسي ما ذنب هذا الطفل البائس وأمثاله ما جريرتهم وما الذي جنوه ليكون هذا حظهم من الحياة وأي إثم اقترفوه ليجزوا بمثل هذا الجزاء، وهذا الأعمى الصغير أي حياة حالكة سيقضيها وأي مستقبل ينتظره بل أي عذاب دائم مستمر سيلاقيه في هذا المستقبل المظلم؟ وقد أنستني تأملاتي هذه ذلك الطفل وما كان يطلب ولكنني تنبهت أخيراً على صوته وهو يردد بتلك اللغة الإنكليزية الركيكة (أنا فقير) (اعطني درهماً) فأخرجت من جيبي مبلغاً زهيداً وضعته في يده ولكني كنت في قرارة نفسي متأكداً أن هذا المبلغ الزهيد أو أي مبلغ ضئيل آخر يعطيه له أمثالي سيزيد من عذابه وألمه وسوف لا يحل مشكلته هو وأصحابه ما لم يعمل الناس جميعاً والحكومة معهم عملا جديداً لتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي وما لم يعمل الشعب كله والحكومة معه على محاربة المستعمر حرباً عواناً لا هوادة فيها أو وهن.(749/30)
(العراق)
مهدي السامرائي(749/31)
ساعة مع الحاج أمين
للأديب صبحي إبراهيم الصالح
في اليوم العاشر من ذي الحجة سنة 1365 (الخامس من نوفمبر سنة 1946) كنت من فرحي في عيدين: عيد الأضحى المبارك، وعيد مقابلتي لسماحة المفتي الأكبر!
كانت المقابلة في ساعة الأصيل، وكنت أقول بيني وبين نفسي:
(يا ليتني أستطيع أن أجلس إليه وحدي، أو ليت زملائي الطلاب الفلسطينيين الأزهريين - الذين قدمت معهم لزيارة سماحته - يدخلون مَوْحَد موحد، ليتيسر لي أن أنفرد معه فأفضي إليه بكل ما في قلبي، هذا القلب الذي لم ينطو لحظة إلا على حب العروبة والرغبة في الدفاع عن كل شبر من أراضيها، والحماسة في كره خصومها.
وأذنوا لنا بالمقابلة، فخفق قلبي - ونحن نَجوزُ الحديقة في طريقنا إلى قاعة الاستقبال - فأدركت أني سأقابل عظيما، أني ما عهدت قلبي يخفق لمقابلة إنسان، مثل ذلك الخفقان.
ولم يكن بين زملائي من هو أصغر مني سناً، فتركتهم يتقدمونني ويسلمون على سماحة المفتي ثم يجلس كل واحد منهم حيث ينتهي به المجلس. حتى إذا جاء دوري انحنيت محاولاً لثم اليد الطاهرة، فسحبها بلطف. ونظرت حولي فلم أجد إلا مقعداً خالياً عن يمين مقعد سماحته قد تهيب الجميع الجلوس عليه، فتهيبت مثلهم لولا أن المفتي أشار إليه بنفسه، قال بصوت يسيل رقة وعذوبة:
- (اجلس هنا. . . أهلاً وسهلاً بكن جميعاً).
ولا تسل عن سروري بهذه الجلسة المجاورة التي مكنتني من إطالة النظر إلى ذلك الرجل الربعة القامة، والمعتدل الهامة، الصبوح الوجه، المتلألئ الجبين، ذي العينين الزرقاوين البراقتين اللتين ما وقع بصري على أصفى منهما، ولا أصرح منهما، ولا أشد تعبيراً منهما، والأنف المستقيم، والشفتين المنفرجتين عن ابتسامة مشرقة، واللحية الكستنائية التي وخطها المشيب فأضفى عليها مهابة على مهابة، ثم زاده في نظري جمالاً - وما فيه إلا جميل - بلك العمة على رأسه كأنها تاج - وإنها لأكرم من التيجان - وهذه الجبة تكسو بدنه كأنها لباس الملوك - وإنها لأعز من لباسهم - فتمثل في كل ما فيه أصدق صورة للرجل العربي الفخور بزيه، المعتز به.(749/32)
وكتمت أنفاسي لألتقط الكلمة الأولى التي كنت أرجو أن تطرب لها أذني ذلك اليوم كله - بل عمري كله - وكنت أنتظر بأن يجلجل في القاعة صوت جَهْوَري رنان، فإذا بي أنصت لصوت خافت كأنه الوسوسة، وحديث هادئ موزون لا تخرج من بين شفتي سماحته كلمة من كلماته إلا بعد أن يتأكد أنه لا يعطي ما يريد معناها إلا هِيَهْ، مستعيناً على إيضاح فكرته بحركات من يد محكمة، وإشارات ناعمة: فعلمت أن سماحته يؤثر أن يكون هادئ الحديث، خافت الصوت، قليل الحركات بحكمة الرجل الرشيد، على أن يكون وَحِيَّ الحديث، جهير الصوت، كثير الحركات، بتهور لا يغني، وحماسة لا تفيد.
تساءل سماحته عن كل فرد منا، وعن الكلية التي ينتسب إليها، والسنة التي أصبح فيها، والعلوم التي ندرسها، ثم أحب أن يتعرض لقلة المدارس العربية في فلسطين، وأن يستنهض الهمم إلى المطالبة بجعل المعارف في أيدي العرب فقال:
- (إن قلة مدارسنا العالية من ويلات الاستعمار ولعناته، فما يريد لنا خصومنا أن نحيا أحراراً كما يحيا الناس، وأن نكون متعلمين كما يتعلمون، وأن نكون متسلحين كما يتسلحون.
كنا في بلادنا قُرحْاناً قليلا ما يصيبنا داء، أصحاء نادراً ما يدهمنا وباء: فإذا اعتللنا عرفنا كيف نتناول بأنفسنا الدواء. . ثم ما أصابنا الداء إلا من جراثيم اليهود، ولا دهمنا الوباء إلا من عدوى الإنكليز، ولا عافت أنفسنا الدواء إلا لأنهم أرادوا أن يَدُفوه بأيديهم وقد كنا ما نزال لا نقبل من الدواء إلا ما كان مدوفاً بأيدينا؛ لأن مناعتنا أبداً بِحِمْيتنا، ولأن قوتنا في كل حين بالاستغناء عن الآخرين).
ولعلك تحسب أن سماحة المفتي الأكبر كان - وهو يلقي هذه الكلمات التي أشعلت صدورنا ناراً - يعمد إلى الخطابة والبيان، فيرتفع صوته، ويبدو الانفعال عليه. كلا. . . وإنما كان يتحدث هذا الحديث الخطير، بصوت أنعم من الحرير، حتى أصبحت أومن بأن الإنسان العظيم يستطيع في آن أن يكون في رشاقة الغزال وقوة الأسد الهصور.
ورأيت إلى يدي سماحته فإذا هما كحرير الورد، وأخذت أطيل إليه النظر من جديد لأرى أين تكمن تلك القوة الهائلة التي جعلته يَلقَى العقبات الكأداء فيذللها، وتعترضه الصّعاب فيقتحمها، فقاد الثورة الفلسطينية، وهاجر إلى لبنان ثم إلى العراق ثم إلى إيران ثم إلى(749/33)
ألمانيا ثم إلى فرنسا ثم لجأ إلى مصر بلد الفاروق. . . ألا كيف تكمن القوة في طي الوداعة، وأنى تختبئ الشدة وراء المسالمة؟ حقاً إنها قوة الروح! وما أدراك ما قوة الروح!
وكأنما استفزت كلمات الحاج أمين أكبرَ زملائي الفلسطينيين سناً، فألقى كلمة كان يهتز معها جسده تأثراً، وتقشعر جلودنا لسماعها حماسةً، فكان مما قاله:
- (يا سماحة المفتي الأكبر! إن قلوب المغتصبين اليبيسة، تريد أن تُبقي أفكارنا حبيسة! لكن لنا أرواحاً لن يمنعها من الوثوب، توالي المصائب والخطوب. فسماحتكم رمزنا الذي نلتف حوله، ونعتصم به؛ وإنا لنتضرع إلى الله أن يعيدك إلى وطنك مظفراً منصوراً، لتدخله دخول الفاتحين، فتجمع الكلمة، وتضم الشتات، وتسوي الصفوف؛ ويومئذ لا تذر على أرض فلسطين من الصهاينة دياراً: فليعيشوا إن شاءوا في أدوية مهلكة أو مدائن عامرة، وفي مفازة موحشة أو في ناطحات السحاب، فلن نسمح لهم بالتوهين والكيد فيما بيننا ونحن ساهرون، ولا بالتقريد والخداع ونحن أيقاظ مفتحو العيون.
عُد إلى موطنك فلسطين - يا سماحة المفتي الأكبر - ولا تخشَ في الله لومة اللائمين).
فقال سماحته على الفور:
- (حاش لله - يا أبنائي - أن أعتبر فلسطين وحدها موطناً لي، فإن الوطن العربي قطعة واحدة، وما من بلد ينطق أهله بالضاد إلا وهو موطني، وموطن كل عربي.
ألا وإن الدول الكبرى التي تستطيع أن تستغني - لو أرادت بثرواتها وقواها، واستعداداتها ومواردها - قد أدركت فائدة التعاون، فانضم بعضها إلى بعض، وخطب بعضها ود بعض، وحالف بعضها بعضاَ؛ ألا وأننا أشد منهم حاجة إلى التعاون، وأقرب منهم سبيلا إلى التفاهم: لأن شعورنا واحد، وآلامنا واحدة، وآمالنا واحدة.
وإن العروبة - لتعلق عليكم - يا شبابها الأبرار - أملاً كبيراً في أن تعملوا أنتم في الحقل الدراسي وفي الحقل الاجتماعي على توحيد الصفوف، وتكتيل القوى، حتى لا يمر عربي بفلسطين فيبكي دماً حين يرى المزرعة القَراح ليس عليها بناء ولا فيها شجر فيؤكدون له أنها ليست ملك اليهود، ويرى المستعمرة المنظمة عليها البناء وفيها الشجر فيؤكدون له أنها من صنع اليهود.
تخصصوا جيداً في شؤون دراستكم، فإن العلم أقوى سلاح في هذا العالم بعد الإيمان(749/34)
بالعقيدة والوثوق بسمو الفكرة).
ولاحظنا بعض الزائرين يريدون الدخول، فرأينا أن نقنع بسماع هذه النصائح القيمة، فقام أكبرنا سناً فقمنا، ودنا من سماحة المفتي فدنونا، واستأذن بالانصراف فاستأذن الجميع، فقام الحاج أمين - من لطفه - يودعنا إلى الباب، ويصافح كلا منا وهو يدعو لنا بالتوفيق.
لقد خرجت من حضرته - وإن صورته ماثلة في عيني وفي أعماق قلبي - شاعراً بأني أريد أن أقبل على خدمة بلادي بفؤاد مخلص إخلاص فؤاده، وبضمير نقي نقاء ضميره.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح
خريج كلية أصول الدين بالأزهر(749/35)
صوت من الريف المريض:
وباء الكوليرا
للشيخ محمد رجب البيومي
(كانت الكفر الجديد من قرى الدقهلية الحزينة التي داهمها الوباء فقد ثكلت مائة نفس في أسبوع واحد، وهي لا تزيد عن ثلاثة آلاف، وقد شاهدت محنتها القاسية، فكان الصراخ الفاجع يشرد نومي، وقد كنت أتحدث مع الرجل ثم يجيئني نعيه بعد ساعة واحدة من حديثه، وما زلنا ننتظر رحمة السماء).
شبت تحت الضلوع يعصف بالجسم ... كما يعصف اللظى بالهشيم
ذعر الناس فاستهلت دموع ... كانهمار الغيوث تحت الغيوم
وأفاق الشعب الجريح كما استيقظ ... جفن على صراخ أليم
زأر الرعب في القلوب فجاش الحز - ن يغلي بها كغلي الحميم
الصبور الشجاع غير صبور ... والحليم الرزين غير حليم
جزعت أنفس وطارت عقول ... قد دهاها الردى بخطب جسيم
سلمت أمرها إلى الله لكن ... هل يرد القضاء بالتسليم
خطر هب يمحق الناس محقا ... كرجوم تهوى وراء رجوم
كلما قد قرأت عنه حديثاً ... شب في أضلعي لهيب الجحيم
قيل لي أنت خالك فتطعم ... أي خير يكون في تطعيمي
أنا أمشي وبين طيات قلبي ... خيفة منه رعدة المحموم
ينفث السم كالأفاعي مجداً ... ويبيد الجسوم تلو الجسوم
الشديد القوي صريع لديه ... والسليم الصحيح غير سليم
جثث ترتمي كساحة حرب ... أسفرت عن فناء جيش عظيم
جنت الأرض فهي تغفر فاها ... طمعاً في ابتلاع عظم رميم
أكلت أهلها ولم تبق شيئاً ... ما صنيعي في الآكل المنهوم؟
طفت بالريف اجتليه صباحاً ... وهو دنيا لذاذتي ونعيمي
كان يبدو لناظري وسيماً ... كيف أضحى الغداة غير وسيم(749/36)
لا الأزاهير ذات عرف شذى ... لا النواعير ذات صوت رخيم
لا الغواني الصباح يخطرن في الس - هل ولا الطير بارع الترنيم
إنظر الحقل فالطبيعة فيه ... كبنى الإنس أسرفت في الوجوم
هي والله ذات فكر حصيف ... قد هداها فشاركت في الهموم
النخيل الوفي يخفض عطفيه ... كئيباً كبائس محروم
وعلى القطن غبرة سودته ... بعد ما لاح ساطعاً النجوم
والغراب العجيب يرسل نحوي ... نظرات كالفيلسوف الحكيم
خطر هدد الجميع فكل ... صارخ من مصيره المحتوم
إن دها منزلا رأيت ذويه ... بين فانٍ يمضي وحي سقيم
يهجر الوالد ابنه ثم يعدو ... خيفة من أذاه عدو الظليم
وحنان الأم الرءوم توارى ... فهي عند المصاب غير رءوم
ترك الزوج زوجه تتلظى ... في جحيم يفوق كل جحيم
فر منها وكان يخشى عليها ... قبل هذا الوباء مر النسيم
فادخل البيت لست تبصر فيه ... غير أم ثكلى وطفل يتيم
فتح القبر فاطمأنت جنوب ... غرقت في سكونها المستديم
مرض يملأ الخواطر بالوهم ... فيالي من خاطري الموهوم
أنا منه مكبل بقيود ... قذفت بي إلى عذاب أليم
حرموا الماء الفواكه ظلماً ... من مجيري من ذلك التحريم
قيل لي إن في المياه سموماً ... فكرهت المياه ذات السموم
وكذاك الفواكه الحلوة الطعم ... مجال لكل داء وخيم
عجباً أبغض الرحيق المصفى ... وأعاف الجنان ذات الكروم
قيل لي لا تسر جوار صديق ... واعتزل في الأنام كل نديم
أحذر العدوى أن تصيبك من ... خل وفيّ أو من عدو خصيم
فاجتنبت الورى وعشت وحيداً ... وتوغلت في ضلالي القديم
ليت شعري من أصطفيه لنفسي ... إن تخوفت من صديقي الحميم(749/37)
عشت حتى غدوت مثل المعري ... ألزم الدار غارقاً في همومي
يا لحمي تفرى لحوم البرايا ... أو ما أتخمت بتلك اللحوم
مهدها الكنج مذ بدت فلماذا ... تطعن (النيل) ويحها في الصميم
نزلت في الوادي كشمطاء لاحت ... لعيون الورى بوجه دميم
وأتتنا مع العدو كما تسعى ... الأفاعي مع الظلام البهيم
ليتها أهلكته أبشع هلك ... ورمته بكل داء عقيم
هكذا الإنجليز جرثومة الشـ - ر ونار مشبوبة اليحموم
رب من للضعيف هاجمه الخط - ب وما يستطيع صد الهجوم
يكظم الغيظ في الحياة إلى أن ... يتلقى الردى بغيظ كظيم
المناحات لا تزال بسمعي ... كدوي الرعود ذات الهزيم
والثكالى يسرن خلف الثكالى ... ساهمات وقبت شر السهوم
كلما صاحت الديوك توهمت ... صداها صراخ عان كليم
إرحم الناس يا إلهي واكشف ... كل سوء فأنت خير رحيم
محمد رجب البيومي(749/38)
من وراء المنظار
حمار آخر. . .!
الترام الجاهد يسير محملاً ليس فيه ركن أو ممر أو مدخل أو شبر على السلم إلا ويشغله الراكبون متلاصقين متضاغطين كأنما لم يأتهم نبأ هذا الوباء الذي خوف الناس بعضهم من بعض. . .
وأنا في مقعدي أسأل نفسي متعجباً كيف ينزل من يريد أن ينزل فضلاً عن أن يركب من يريد أن يركب! ودقت باب الدرجة الأولى بد وحاولت فتحه ولكنه لم يفتح لأن شخصاً كان يسند ظهره إليه، وهو لا يستطيع أن يتحرك من موضعه إلا أن يتحرك من يقف أمامه، ولن يستطيع هذا أن يفعل إلا أن يمكنه من يليه. . . واشتد طرق الباب فتضاغط الواقفون، وانفتح الباب ودخل هذه الحجرة المكتظة فتاتان عجبت وعجب الراكبون كيف خلصتا من الزحام حتى دخلتا الحجرة، وما أحسبهما إلا استحالتا هواء فنفذتا من بين الأرجل أو من فوق الرؤوس حتى بلغتا حيث وقفتا بين الواقفين.
ووقف الترام فنزل اثنان من الواقفين وقد شقا طريقهما في جهد من جهة السائق ولم يركب أحد، ثم وقف ونزل ثلاثة ولم يركب أحد، وبقيت الفتاتان فاستندت إحداهما إلى باب والثانية إلى الآخر.
وكانت إحداهما على جانب عظيم من الملاحة والسحر تحدث أثرها في النفوس بنظراتها وبما يبدو من براعة ذوقها في اختيار ألوانها وأشياء زينتها، وكانت الثانية كأنما تصحبها لتزيد جمالها أو لتنبه عليه فقد كانت بحيث أن انتماءها إلى جنسها مما يجعل أحياناً نعته باللطف نوعاً من السخرية. . .
وصوبت الحسناء نظرة إلى شاب كان في سمت بصرها فكأنما نفذت نظرتها إلى قلبه وكأنما أراد أن يبرهن لها على أنه جدير منها بهذه النظرة، فنهض واقفاً ودعا الفتاة إلى الجلوس في موضعه وإنه ليتظرف ويتأنق ويستلين في إشارته وحركته ويلطف في نبرته وعبارته حتى لقد أوشك أن يكون ما ينعت به جنسه من الخشونة ضرباً من التعسف. . .
ونظرت الفتاة وقد استقرت في مقعدها إلى صاحبتها مزهوة دون أن تشكر هذا المتظرف المتلطف بكلمة، وضحكت وقالت عبارة لا هي عربية ولا فرنسية ولا إنجليزية؛ وضحكت(749/39)
الثانية وأظهرها ضحكها برهاناً آخر على مبلغ ما يكون بين جنسها وبين اللطف من بعد الشقة. . . واحمر وجه الفتى حتى كاد أن يقطر منه الدم، وأشار بيده إلى التي سحرته فتخلى لها عن مكانه إشارة مَن نسي شيئاً على المقعد فلم تكد تقف حتى انفعل فعاد إلى مكانه وجلس وهو يقول لها في غيظ ابحثي عن حمار غيري فلست حماراً!
وأصفر وجه الفتاة بقدر ما أحمر وجه الفتى الظريف الناعم إلى من حوله وهو يدق يداً بيد ويقول إنها تقول لصاحبتها انتظري ريثما يقف حمار آخر فاجلسي؛ فيكون جزائي على إنسانيتي أن أكون عندها حماراً وأن يكون هذا مبلغ شكرها لي!
وكان حقاً أن نغضب جميعاً وأن يحاول كل منا أن ينفصل من حماريته بكل ما في طاقته، فقال كهل من الجالسين يخاطب الفتى: (ليس هذا جزائك على إنسانيتك وإنما هو جزاؤك على مصريتك وإنا في الواقع لسنا كرماء لضيوفنا بل نحن عبيد لهم.
أفْهِمْ أن تنهض لتجلس مريضة أو عجوزاً أو أماً بين ذراعيها طفلها أما أن تقف لهذه. . . أرأيت أجنبياً ينهض لمصرية قط؟ متى نفهم هؤلاء الأجانب أننا سادة في بلادنا وإذا كنا لا نستطيع الآن أن نفهمهم ذلك بأخذ ما في أيديهم مما بنوه في غفلتنا فلا أقل من أن يعلموا أننا صحونا. لا أقل من أن يفهموا أننا لم نعد بعد حميراً).
ونظر هذا الثائر الكهل إلى الفتاة المسيئة وقال لها في مثل شراسة النمر (أنزلي من هنا روحي في داهية). . . وتنمرت الملعونة كأنما تذكرت أيام الامتيازات ورأيتها بجوار الباب كالقطة وجدت نفسها في مأزق فعولت على أن تعض بأسنانها وتخمش بمخالبها. . .
ولكن النمر الغضب جذبها من ذراعها، ونادى السائق فوقف، وصرخت القطة صرخة جمعت علينا الركاب من العربة الأخرى وأقسم الرجل إن لم تنزل في وصاحبتها على أرجلهما فسوف يلقي بهما من النافذة. . .
وتساءل الناس وتألموا مما علموا وأجبرت الفتاتان على النزول وفي نظرنا أن كلا منهما تنتمي إلى اللطف ظلما، هذه بوقاحتها، وتلك بقبحها.
وخجل الشاب الذي استرد إنسانيته حتى ما يستطيع أن ينظر طويلا في وجه ذلك النمر الغضب. . .
وضحك أحد الجالسين يريد أن يذهب عنا الغضب، وقال أحب أن أعرف منذا يرضى بعد(749/40)
هذا في الترام أو في السيارة أو في المتجر أو في المصنع أو في السينما أو في الشارع أو يكون الـ (حمار الآخر)؟ وضحكنا وضحك حتى النمر الهائج.
الخفيف(749/41)
الأدب والفن في أسبوع
الثقافة والسياسة في السودان:
اتصل حديث الثقافة المصرية في السودان بحديث السياسة هناك، وأخذ هذا الحديث المتصل مكانه في الصدارة من المسائل العامة التي تهتم بها الدولة والرأي العام في هذه الأيام، فلم تكتف حكومة السودان الإنجليزية بمنع البعثة الثقافية المصرية ومراقب التعليم المصري من الدخول إلى السودان، بل أرادت إبعاد مدرس مصري في مدرسة الملك فاروق بالخرطوم لأنه أرسل برقية إلى رئيس الوزراء تضمنت كلمة (الجهاد)! وقالت الأنباء الأخيرة إن المسألة سويت بعد أن تعهد المدرس بعدم الاشتغال بالسياسة.
ولن يستطيع هذا المدرس ولا أي مدرس مصري آخر في السودان أن يتجنب الاشتغال بالسياسة. . السياسة التي تقلق بال الإنجليز في السودان، وهي العمل على وحدة الوادي وإبراز الروابط بين شماله وجنوبه وإحكامها، ولا يوثق هذا الربط مثل الثقافة العربية الإسلامية التي يشعر سكان الوادي جميعاً بأنهم يرضعونها من ثدي واحد.
والأساتذة المصريون الذين يذهبون إلى السودان هم رسل هذه الثقافة، ولذلك يجزع منهم المحتلون ويترقبون الفرص للتخلص منهم.
ولكن ألا يحسن تجنب السياسة التي يستطاع إمساكها بأطراف الأصابع، أو بعبارة أخرى الأمور التي تؤول بأنها سياسة والتي تفتح منها الأبواب إلى المؤاخذة والتعنت؟ وفي المهمة الثقافية مجال لخدمة الوطن، حتى إذا أراد المتعنت بعد ذلك شيئاً كان تعنته أظهر، مع كسبنا بالعمل المجدي في الحقل المخصب، ومع كسب ثقة المخدوعين لإصلاحهم وهدايتهم للسير في ركب الوادي الموحد.
الغزل السياسي:
نشرت (الأهرام) أبياتاً للأستاذ محمد الأسمر تحت عنوان (الغزل السياسي - إليها) قال فيها:
ما للمليحة غضبى وهي ظالمة ... لا تعرف العدل في فعل ولا كلم
أبعدما سلبتني كل ما ملكت ... يدي أكون لديها موضع التهم
وقال:(749/42)
قل للمليحة جاوزت المدى فكفى ... أين الوعود، وما غلظت من قسم
كوني كما شئت لا أشكو إلى حد ... الله يحكم بين اللؤم والكرم
ولا شك أن هذه المليحة ليست فتاة ممن يتغزل في مثلها الشعراء، لأن الغزل هنا سياسي، وما أظن الشاعر يحب فتاة سياسية ولو كانت خيالية كجاسوسة (المصور) الحسناء. . على أنه يصفها باللؤم، مما لا يليق بالمحبوب. وما أظن تلك المليحة الدرجة الرابعة التي أخلفته في التنسيق، فليس الوصف بمنطبق عليها ولا هي من السياسة في شيء.
فماذا عسى أن تكون تلك المليحة؟
أتكون إنجلترا؟ لابد أنها هي، فهي الغضبى الظالمة التي لا تعرف العدل في قول ولا عمل، وهي التي سلبتنا ما نملك وأكلت لحمنا وشربت دمنا ثم اتهمتنا بالتجني عليها، وهي التي أقسمت على الود أيام شدتها، ثم تنكرت لمن كان يألفها في الموطن الخشن، فبلغت غاية اللؤم.
ولكن كيف يقول إنها مليحة، وكيف يضعها موضع الحبيب الذي يتغزل فيه؟ وما هي - من وجهة نظرنا على الأقل - إلا عجوز شوهاء شمطاء. ولم يكن بيننا وبينها حب لأنها معتدية علينا منذ خمس وستين سنة ولا تزال في اعتدائها.
والشاعر - بطبيعة الحال - يريد التهكم، ولكنه بعد عن هذا الغرض بما أسرف فيه من عبارات الحب.
العربية تزحف:
أذاعت وكالة الأنباء العربية من (كراتشي) أن جلالة الملك فاروق يبدي عناية بالعة بنشاط جمعية أدبية ثقافية جديدة أنشئت أخيراً في (الباكستان) ترمي إلى جعل العالم الإسلامي على مر الأيام وحدة ثقافية سياسية دينية.
وأذيع أن هذه الجماعة بدأت عملها في هذا السبيل بالعمل على تشر اللغة العربية، وقد أنشأت لذلك كلية في كراتشي أقبل عليها كثير من الكبار في جملتهم محافظ المدينة.
وكانت الصحف قد رددت أن البابا في روما أخذ يتعلم اللغة العربية.
وقرأت في مجلة (الأديب) أنه قد تأسس في الأرجنتين (معهد التبادل الثقافي الأرجنتيني العربي) للعمل على تعزيز التبادل بين الثقافتين العربية والأرجنتينية، وقد أنشأ هذا المعهد(749/43)
مكتبة حافلة بالمؤلفات الثقافية النافعة وأعد برنامجاً لإلقاء المحاضرات في شتى المواضيع ذات الصلة المتينة بهاتين الثقافتين، ولترجمة الكتب العربية إلى اللغة الأرجنتينية كي يطلع الشعب الأرجنتيني على ألوان الثقافة العربية والأدب العربي في شتى عصوره.
ومما يثير العجب والأسف أنه بينما تزحف اللغة العربية هكذا في آسيا وأوروبا وأمريكا إذ تقرأ في أخبارنا المحلية أن إحدى المصالح الحكومية (بدأت) في تطبيق قانون اللغة العربية فعولت على ألا تقبل ما يكتب إليها بغير اللغة العربية إلا إذا كان مصحوباً بترجمة عربية.
ولا نزال جارين على مقتضيات (كرم الضيافة) التي منها التيسير على الأجانب بالمخاطبة بلغاتهم، وإراحتهم بذلك عن عناء تعلم اللغة العربية. . . ومن المناظر المخزية منظر المصري يتحدث إلى (الخواجة) الذي يعرف العربية بلغة أجنبية! والمصريون هم - وحدهم - الذين يشجعون على عدم تعلم لغتهم. . .
وتحيتي إلى أسلافنا في العصور العربية، الذين كان يفد إليهم الفارسي والرومي وغيرهما، فيصبح، بعد قليل، من شعراء العربية وكتابها. . .
تمثال نهضة مصر:
وجهت مجلة (الهلال) إلى طائفة من الأعلام والفنانين هذا السؤال: هل نهدم تمثال نهضة مصر؟ وقالت إنه (سؤال خطير الغرض منه حفز الهمم لمسايرة التطور الذي انتقلت إليه نهضتنا الوطنية، فإن التمثال الحالي مع قيمته وبراعة صانعه الفنان الخالد محمود مختار لم يعد يصلح - في رأي البعض - للتعبير عن هذه النهضة إلا في مرحلتها الأولى).
وقد أجاب محمد علي علوبة باشا بأنه لا يرى هذا التمثال منذ صنع يمثل الفكرة الوطنية وليس صالحاً ليكون رمزاً لنهضة مصر الوطنية وثورتها على الاحتلال وقيود الذل والاستعباد، وهو لا يمثل إلا فلاحة ساكنة لا حركة فيها وأسداً متكاسلا لا يكاد ينهض! ورأى أن يقوم تمثال آخر في أحد ميادين القاهرة الكبرى يمثل مصرياً وسودانياً قد تكاتفا في النهوض والوثب وهما يحملان مشعلاً أو سيفاً وقد تقدما إلى الأمام في عزم وقوة هاتفين بالحرية والجلاء والاستقلال.
وقال أحمد راسم بك: (لو أن تمثال نهضة مصر، كان قد استنفد أغراضه أو أصبح غير ذي موضوع كما يقال لكان من الواجب أن نبقى عليه لقيمته الفنية الخالصة، على أن نقيم(749/44)
لتخليد فكرتنا الجديدة ما نشاء من التماثيل غيره).
وأجاب آخرون بما لا يخرج في مجموعه عن وجوب الإبقاء على التمثال الحالي، على أن يقام تمثال آخر يعبر عن النهضة القومية المتوثبة.
والتمثال الحالي الماثل في ميدان المحطة بالقاهرة يرمز إلى (سكون) مصر ممثلة في قروية، إلى مجدها القديم ممثلاً في أبي الهول!
فإذا كانت المسألة هي اعتماد مصر على مجدها القديم فإن هذا التمثال يصلح رمزاً لها في كل العصور وفي جملتها عهود الضعف والاستكانة، أما النهوض فهو شيء آخر قد يصاحب المجد القديم وقد لا يصاحبه.
والملاحظ أن أغلب الذين دافعوا عن (تمثال نهضة مصر) عللوا دفاعهم بأنه صنيعة مثالنا الخالد مختار، ولم يبينوا لنا مدى تعبيره عن نهضة مصر.
وأنا أخالف الجميع فأرى إزالة التمثال الحالي من مكانه والاحتفاظ به في أحد المتاحف باعتباره نتاج مثالنا الخالد (إن كان لابد من هذا الاعتبار) وذلك لأنه لا يصح أبداً أن يكون مظهر نهضتنا الاعتماد على المجد القديم، بل ينبغي ألا يذكر هذا المجد إذا كان كل الغرض منه الوقوف إلى جانبه والركون إليه.
أما التمثال الجديد فليكن كما اقترح علوبة باشا، أو ليكن على أي هيئة أخرى حسبما يرى الفنانون، على أن يمثل مصر المتوثبة التي أصرت على أن تعيش حرة كريمة، وعلى أن يحقق الغرض الأساسي منه وهو أن يبعث في المصري الذي يمر به في غدوه ورواحه شعور العزة بالقومية المصرية.
الفنانون الشرقيون:
جاء في أخبار (آخر ساعة) ما يلي: (ترفض وزارة الداخلية الآن الترخيص لأي فنان شرقي بالإقامة في مصر إلا إذا تعهد كتابةً بالا يتعدى الغناء الذي اشتهر به في بلاده. . . وهذا نتيجة لشكوى بعض الفنانين والفنانات المصريين.
وهذا أمر عجيب لعدة أسباب منها:
1 - أنه يخالف اتجاه الوحدة العربية وما تقتضيه من تعاون وتواد.
2 - الفن المصري يغمر البلاد العربية، وهي ترحب به، ولم تمنع إحداها فناناً مصرياً من(749/45)
الاشتغال بها، تعدى الذي اشتهر به في بلاده أم لم يتعد.
3 - الحيلولة دون تفاعل عناصر الفن العربية المختلفة ما ينشأ عن هذا التفاعل من الرقي والتقارب.
4 - السبب أعجب العجب، وهو شكوى الفنانين والفنانات المصريين من المنافسة، لأن هذه الشكوى غير لائقة ولم يكن يصح أن تسمع.
5 - لو فرضنا أن الفنان الشرقي الذي تعهد بالا يتعدى الغناء الذي اشتهر به في بلاده - (تأقلم) وتأثرت نفسه بالإيحاءات المصرية فستجاب لها وغنى غناء مصرياً - فهل يقبض عليه متهماً بهذه الجريمة ويطرد من مصر جزاء وفاقاً. .؟
المسرح أداة ثقافة:
كانت منظمة التعاون الثقافي لهيئة الأمم المتحدة قد عقدت في شهر يوليو الماضي بباريس مؤتمراً لخبراء المسرح. وقد تلقت الجهات المصرية المختصة التوصيات التي قررها هذا المؤتمر، ويؤخذ منها أنه تقرر اعتبار المسرح جزءاً من الفن كالأدب والموسيقى وسائر الفنون الجميلة، أي أنه أداة ثقافية لا وسيلة للتسلية والترفيه وحسب.
كذلك تقرر إنشاء معهد مسرحي عالمي، وتأليف جمعية دولية من المسرحيين النظريين الفنيين والمسرحيين العاملين، على أن تكون مهمة هاتين المؤسستين النهوض بالمسرح باعتباره أداة ثقافية رفيعة، مع كفالة أسباب التعاون بين رجال المسرح في العالم، وأن يكون إعداد الرواية المسرحية على أسس إنسانية، والمحافظة على هذا الفن العالمي القديم من طغيان السينما عليه، والعمل على وقف حركة الخروج من ميدانه إلى ميدان السينما.
وفن المسرح جدير بالجهود العالية وتعاونها على النهوض به، والواقع أنه ليس فناً من الفنون فحسب، بل هو مجمع الفنون، ففيه الأدب ممثلاً في القصة، ومن أدواته الموسيقى والغناء وباقي الفنون الجميلة، وهو بحكم أنه فن أداة ثقافة، وهذه هي الحقيقة التي ننشدها في مصر ويعيينا نشدانها، فالفن عندنا يتخذ أكثر ما يتخذ أداة لهو وتسلية، وتسميته فناً تسمية إدعائية، لن العمل الفني لا يستوي إلا على موضوع، ولابد أن يكون له هدف، يرمي إليه إلى جانب التسلية والترفيه.
وقد تفشت طريقة التسلية الخالية من الموضوع، وانتقلت من المواطن الموبوءة إلى ميدان(749/46)
الكتابة، حتى لنرى بعض الأدباء يكتبون لمجرد التسلية!
وبعد فالمأمول من الجهات الفنية في مصر أن تشارك في ذلك المجهود العالمي، لتساير النهضة المسرحية العالمية، ولتجني بلادنا ثمراتها.
(العباس)(749/47)
تعقيبات
أم كلثوم ونهج البردة:
نهج البردة للمغفور له أحمد شوقي بك قصيدة معروفة مشهورة قالها في التوسل ومدح النبي صلوات الله عليه عندما قصد الخديوي عباس الثاني إلى الحج عام 1909م، وعارض بها قصيدة البردة - أو البرءة - للشاعر شرف الدين محمد بن سعيد الأبوصيري، وقصيدة البردة هذه أشهر من كل تعريف، فما رزقت قصيدة في الأدب العربي ما رزقت من الذيوع في ألسنة الناس، حتى إنها في القرى لتعتبر نشيد الوداع الذي يردده (الفقهاء) في أذن الميت وهو في طريقه إلى القبر. .
أما قصيدة نهج البردة فلها قصة، فقد نظمها شوقي في مناسبة حج الخديوي كما قلنا؛ وكان يرجو أن تكون هذه المناسبة إلى جانب الاتجاه الديني في القصيدة مما يضمن لها الذيوع بين الناس كما ذاعت البردة، وطبع يوم ذاك شرح لتلك القصيدة قيل إنه من عمل المغفور له الشيخ سليم البشري - وهو في مقامه الديني ما هو - ليضفي عليها القداسة، ولكن أهل الخبرة يؤكدون أن ذلك الشرح كان من عمل نجله المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري، وإن كان الشيخ عبد العزيز ظل ينفي هذه التهمة إلى آخر أيامه، عليه رحمة الله. .
ومهما يكن من شيء فإن نهج البردة لم تبلغ مبلغ البردة وغنتها كما سمع الناس، أقول غنتها والصحيح أن أقول إنها ألقتها، أو أنشدتها، لن أم كلثوم لم توفق في غناء القصيدة كما هو شرط الفن وشرط الغناء، وذلك يرجع إلى عدة أسباب:
أولاً: لأنهم اختاروا للمطربة ثلاثين بيتاً من القصيدة، ومهما يكن المطرب من قوة الحنجرة وبراعة الصناعة وحسن التصرف فإنه لا يستطيع أن ينهض بهذا المقدار في الغناء دفعة واحدة وخاصة في الشعر القوي الرصين.
ثانياً: لأنهم لم يراعوا في الاختيار درجة صوت أم كلثوم في مقاماته الفنية، ومن المعروف أن كل شعر لا يصلح لكل لحن، وأن كل لحن لا يلائم كل صوت. .
ثالثاً: جعلوا الغناء محدوداً بمدة من الزمن، ولهذا عمد الملحن إلى إخراجها دفعة واحدة، ولم يتمكن من خلق فترات موسيقية لاستراحة المطربة إلا مرة واحدة.
وعلى أي حال فإن الملحن لم يكن موفقاً، لأنه جرى على نغمة واحدة رتيبة، وهي النغمة(749/48)
التي آثرها الموسيقار رياض السنباطي في تلحين قصيدة (سلوا قلبي) وقصيدة (السودان) ولهذا شعر الناس بأن أم كلثوم لم تأت بجديد في قصيدة نهج البردة، وقد سمعوها وكأنهم كانوا يسمعون شيئاً معاداً في آذانهم وأكثر من ذلك فإن اللحن كان يتخلى عن المعنى في كثير من الأحيان.
شيخنا الجارم:
وشيخنا علي الجارم بك لم يكن موفقاً في ذلك الشرح الذي قدم به الأبيات التي غنتها أم كلثوم إلى السامعين، فقد جرى في ذلك على ما ألف من الطريقة المدرسية وهي طريقة عقيمة لا تجدي في فهم الشعر وإظهار جماله، فقد عمد إلى شرح الكلمات اللغوية على ما هو وارد في القاموس، ثم أخذ يورد المعنى على مقتضى هذا التفسير، فهو مثلا يشرح قول شوقي:
لما رنا حدثتني النفس قائلة ... يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمى
فيقول: رنا إليه: أطال النظر. . . الخ. . كلا. ثم كلا. فإن إطالة النظر هنا تهدم قوة البيت وتقلل من جماله. .
وعجيب من شيخنا الجارم أن يذكر معارضة البارودي للأبصيري، ويذكر مطلع تلك المعارضة، ولكنه لم يذكر بيتاً واحداً للأبصيري، وهو الأصل والأساس الذي قام عليه كل هذا البنيان.
ويقول شوقي:
يا رب هبت شعوب من منيتها ... واستيقظت أمم من رقدة العدم
رأى قضاؤك فينا رأى حكمته=أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
وكان شوقي رحمه الله يشير بكلمة (منتقم) إلى معنى مقصود فقد قال قصيدته في أعقاب حادثة دنشواي التي أدمت قلوب المصريين، وكانت مصر في ذلك الوقت تسام الضيم والهوان من أساليب الاستعمار، وكان الخديوي في ضيق من هذا ما بعده ضيق، فتوسل شوقي إلى الله في (الانتقام) من هؤلاء الظالمين المستبدين، وجمجم بذلك ولم يستطع الإبانة نظراً لصلته الرسمية يوم ذاك بالقصر، فجاء الجارم بك بعد طول تلك السنين وجمجم كذلك في شرح هذا المعنى.(749/49)
لقد كنت أعتقد أن غناء أم كلثوم لهذه القطعة من نهج البردة إنما هو لإثارة عواطف الشعب بهذا المعنى لمناسبة ما هو قائم اليوم بيننا وبين الإنجليز وكنت أعتقد أن الجارم سيعمد إلى الكشف عن هذه الحقيقة، ولكنه لم يحوم على ذلك أبداً، ولست أدري إذن لأية مناسبة كان اختيار هذه القطعة وتلحينها وغنائها وشرحها ذلك الشرح الجارمي.
البصائر للتوحيدي:
أبو حيان التوحيدي شيخ من شيوخ الأدب العربي، فهو تلميذ الجاحظ غير مدافع، من بحره اغترف، وفي طريقه درج، ولكنه في آخر حياته ضاق بالناس وبالدنيا لطول ما لقي من عنت الناس وقسوة الحياة، فجمع كل مؤلفاته وقدمها طعمة للنار، حتى لا تكون وشيجة بينه وبين الناس بعد مماته، وحتى يريح عظامه في القبر من جهل العيابين كما قال. .
ولكن المنقبون من العلماء عثروا على مخطوطات لبعض مؤلفات هذا الأديب الثائر فعمدوا إلى تحقيقها ونشرها، فمن قبل أخرجت له مطبعة بولاق كتاب (الصداقة والصديق) كما طبعت له رسالة صغيرة في (العلوم) ثم نشر الأستاذ حسن السندوبي له كتاب (المقابسات) وهو من أمتع مؤلفاته، ومنذ أعوام أخرج الأستاذ أحمد أمين بك والأستاذ الشاعر أحمد الزين كتاب (الإمتاع والمؤانسة) مصححاً محققاً، وقد حدثني الأستاذ أحمد الزين منذ سنوات أنه أعد العدة مع الأستاذ أحمد أمين لنشر كتاب (بصائر القدماء وسرائر الحكماء) للتوحيدي، وأنهما جمعا له كل ما يمكن من الأصول، وبذلا لتحقيقه وتصحيحه غاية الجهد حتى يخرج على أتم ما يكون. .
أقول هذا بمناسبة ما جاء أخيراً في بريد سورية من أن الأستاذ إبراهيم الكيلاني قد قدم الكتاب للطبع بعد أن حققه وعلق عليه، فلعل الأستاذ الكيلاني - ما دام لم يمض في الطبع - يرجع إلى الأستاذ أحمد أمين فيما حقق من أصول هذا الكتاب وجمع من مصادره ومخطوطاته ولا بأس أن يكون الجهد مشتركاً حتى يخرج الكتاب كاملاً في التصحيح والتحقيق، ولا معنى لأن يطبع الكتاب طبعة في الشام وأخرى في مصر وتكون كل منهما تكمل الأخرى.
اللغة العربية والجنسية الإسلامية:(749/50)
من أنباء الباكستان، الدولة الإسلامية الجديدة في الهند، أن الرجال المسئولين والهيئات الثقافية هناك قد أخذت تهتم بتعليم اللغة العربية وتوسيع الدائرة في دراستها نظراً لما يقتضيه وضع الباكستان الجديد من توطيد الصلات بالعالم الإسلامي.
واللغة العربية لا شك دعامة قوية في بناء الجنسية الإسلامية فما ربط المسلمين ولا أمسك بوحدتهم وبقوميتهم على طول السنين وعلى رغم الحوادث والكوارث مثل اللغة العربية التي توحدت في كتاب الله عز وجل كما توحدت في مظاهر العبادة الإسلامية وأدائها، وليس هناك ما يبعث الروعة ويهز المشاعر مثل نداء المسلمين جميعاً وهم يدخلون الصلاة هاتفين: الله أكبر.
والمسلمون في الهند أهل غيرة على دينهم، وهم معرفون من قديم بمواقفهم المشهورة في جانب الوحدة الإسلامية ولا أظن أن هناك من يجهل جهاد المغفور له محمد علي وشقيقه شوكت علي، ولا أظن أن هناك من يجهل جهاد الهنود المسلمين للإبقاء على الخلافة الإسلامية حتى تكون تاجاً للوحدة ودعامة من دعائمها.
فهذا الاتجاه الذي تتجه إليه الباكستان اليوم، وهي في أول عهدها بالوضع الجديد، مما يدعو إلى توطيد صلتها بالعالم الإسلامي، والواجب على الجامعة العربية أن تشجع فيها هذا الاتجاه، وواجب على مصر خاصة أن تساعدها في هذا، وأن تمدها بالمدرسين للغة العربية، وإنه لأل ما يجب على مصر في هذا السبيل.
حيا الله (الباكستان) في عهدها الجديد ووقاها شر الدسائس الاستعمارية، وصانها مما يحيطها من الزلازل والقلاقل.
(الجاحظ)(749/51)
البريد الأدبي
الشيخ محمد عبدة والطير الأبابيل:
أقول (تعليقاً على المقال القيم (القرآن النظريات العلمية) للأستاذ الكبير العقاد): إن الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبدة لم يقل بأن الطير الأبابيل هي جراثيم الأمراض التي اكتشفت على يد (باستور) وما هذا إلا رأي شاعت نسبته إلى الشيخ محمد عبدة منذ أن هاجمه جماعة من العلماء وعدوا له زلات من جملتها هذا الرأي الذي نسبوه إليه في تفسير سورة الفيل وأخذوا عليه فيه أنه قد ابتدع في التفسير آراء خرج بها على معاني العربية وأساليبها التي نزل بها القرآن ويفهمه بها العرب الخ. ثم عزا الكثيرون هذا الرأي في تفسير الطير الأبابيل إلى الشيخ محمد عبدة دون رجوع إلى كلام الشيخ نفسه رحمه الله في تفسيره لجزء عم الذي هو مرجع القضية.
والواقع أنه رحمه الله بعد أن نقل بعض الروايات التفسيرية غير الثابتة في بيان طريقة انهزام أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، وقول بعضهم إن الطير كانت تلقي الحجارة الصغيرة كالعدس فتقع الواحدة على رأس الرجل من جيش أبرهة فتخرج من دبره قال الشيخ محمد عبدة رحمه الله ما خلاصته أن الشيء المروي في التاريخ هو أن جيش أبرهة تفشى فيه مرض الجدري وقضى على معظمه وبدده وتلك الروايات المغربة غير ثابتة، والقرآن في غنى عن تفسيره بها، فالمنهج السديد أن يجمع بين القدر الذي حكاه القرآن من الخوارق وبين الروايات التاريخية، بعد أن تبين أن مرض الجدري وغيره من الأمراض السارية ينشأ عن عوامل حية هي الجراثيم المسماة بالميكروبات.
وإذا علمنا أيضاً أن الطير في اللغة كل ما يطير بجناحيه كبيراً كان أو صغيراً كالذباب والزنابير فإن المناسب في تفسير السورة أن يقال: إن الله تعالى أرسل على جيش أبرهة نوعاً من الطيور تحمل حجارة صغيرة ملوثة بجراثيم حمى الجدري من مكان موبوء بها هدى الله هذه الطير إليه فكانت تلقيها على الجيش فتفشى فيه الجدري من هذه الحجارة الموبوءة بجراثيم المرض.
وبذلك يجمع بين ما حكاه القرآن العظيم وبين الواقع التاريخي، ويكفي لبيان قدرة الله تعالى ونقمته مع التعليل بسبب طبيعي معقول.(749/52)
فالشيخ رحمه الله لم يفسر الطير الأبابيل بالجراثيم، وإنما أفاد أن الحجارة التي حملتها الطير كانت ملوثة بالجراثيم، أما الطير فطير بالمعنى اللغوي غير أنها لا يعرف نوعها.
وبهذه المناسبة أذكر أن من جملة ما يشاع الآن من آراء عن الشيخ محمد عبدة رحمه الله أنه ينكر وجود الجن الذين جاء القرآن معلناً وجودهم، أو أنه يؤولهم بالجراثيم وغير ذلك، وكثير من الطاعنين يأخذون هذا من الألسنة ثم يناقشون به مع حملهم إياه على الشيخ رحمه الله على أنه رأي صريح له في تفسير سورة الناس كما ينسب إليه اليوم لغرض ما أنه يرى ويقول بأن قصص الأمم الغابرة التي حكاها القرآن إنما هي تمثيل فني مخترع للعظة ولا تدل على واقع تاريخي!!
وقد اشتملتني وبعض هؤلاء قديماً مناقشة حول الشيخ رحمه الله ولما قلت لهم إنه لا يفسر الطير الأبابيل بالجراثيم المرضية ولا ينكر وجود الجن عدوا هذا الزعم مني مخالفاً للحس الظاهر أو دفاعاً غير مشروع حتى أتيتهم بتفسير جزء عم الذي يستندون إليه فقرؤوا بأنفسهم تفسير الشيخ رحمه الله لسورتي الفيل والناس فهتوا وقد كانوا زعموا أنهم إنما يتكلمون عن اطلاع على كلامه، فلم يسعهم بعد ذلك إلا أن يقولوا أنهم لم يفهموا كلامه، وإنما وهموا من نظرة فيه سريعة غير منعمة.
على أنه لا ينبغي أن يتوهم من كلامي إنني أعد الأستاذ الكبير العقاد من هذه الفئة، فهو في نظري - كما هو في الواقع - ذلك المحقق المجلي الذي لا يشق له غبار ولا نزال ننتفع وستنتفع الأجيال من قلمه، ولكن لعله اعتمد في قضية الطير الأبابيل على رواية أحد نسب ذلك إلى الشيخ محمد عبدة أخذاً مما أشيع عنه واشتهر.
مصطفى أحمد الزرقا
الفرق بين سنة وعام:
جاء في مقال الأستاذ علي الطنطاوي (من شوارد الشواهد) المنشور في عدد الرسالة 746 الصادر في 20 أكتوبر سنة 1947 - السنة الخامسة عشرة، صفحة 1144 ما أعيد نقله هنا بالحرف الواحد وهو (يخلط الناس في الاستعمال بين العام والسنة، وهما مترادفتان ولكن ليس في اللغة كلمتان بمعنى واحد - انظر في كتاب الصاحبي وكتاب الفروق اللغوية(749/53)
- ولا بد من اختصاص كل لفظة بشيء لا تدل عليه الأخرى.
فالسنة في الأصل للشدة والقحط والعام لليسر والرخاء - اقرأ آيات سورة يوسف - والسنة عند العرب مرادفة الشدة والبلاء تقول أصيبوا بالسنين وأصابتهم السنة ومن تتبع كلام العرب وجد ذلك مستفيضاً وقد نبه عليه شيخنا المغربي في الرسالة من أمد بعيد). انتهى كلام الأستاذ الطنطاوي ومن تتبع الكتب يجد
1 - إن السنة لأي يوم عددته إلى مثله فقد يدخل فيه نصف الشتاء ونصف الصيف. وأما العام فلا يكون إلا صيفاً وشتاء - ذيل الفصيح ص4.
2 - وقد نقل محمد عبد الجواد ذلك في الصفحة 21 من كتابه البحاثة اللغوية.
3 - الفرق بين العام والسنة أن العام كالسنة لكن كثيراً ما نستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة والجدب. ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام لما فيه الرخاء والخصب.
وقيل سمي السنة عاماً لعوم الشمس في جميع بروجها والعوم السباحة. ويدل قوله تعالى وكل في فلك يسبحون. ص161 فروق حقي.
4 - العام أربعة فصول من السنة كاملة متوالية. يبدأ من أول أحدها ويدوم إلى مثله من القابل. وأما السنة فتبدأ من أي يوم اتفق إلى مثله من القابل فربما بدأت من بعض الفصول لا من أوله. وعلى هذا فالعام أخص من السنة فكل عام سنة وليس كل سنة عاماً. مجلة الضياء لليازجي 7 ص353.
5 - وبعبارة أخرى أن العام هو السنة كاملة تبدأ من أول فصل من فصولها. فإن لم تبدأ من أحد الفصول فلا تسمى عاماً بل سنة وحولا كتاب مغلط الكتاب للأب جرجي جنن البولسي. هذا ما يحضرني الآن من فوارق بين السنة والعام.
عمان
أحمد الظاهر
القاضي في محكمة الاستئناف
إلى الأستاذ (خلف الله):
في مقال لك في (الرسالة) طلبت إلى القراء وكل ذي رأي الاشتراك في موضوع الجدال(749/54)
حول رسالتك (الفن القصصي في القرآن) ولما كانت الرسالة - أعني رسالتك - محجوزة في يد الحاجزين للنظر، فقد صار من اللازم الحتم - لإشراك القراء معك - جوابك على هذين السؤالين، وهما:
1 - هل تعتبر القصة القرآنية (فناً) من الفنون كالقصص الفنية في هذا الزمان؟
2 - هل تنكر (واقعية) القصص في القرآن، وأنها - كما قال الأولون - من أساطير الأولين؟
وبجوابك على السؤالين يصح النقاش، وينحسم - من بعد - الجدال، ولا جدال.
(الزيتون)
عدنان أسعد
إنجلترا في مرآة حافظ:
تحية فقد اطلعت في العدد رقم 747 من مجلتكم الغراء على
مقال (إنجلترا في مرآة حافظ) وفيه يشيد الأستاذ الكاتب
بوطنية حافظ الصادقة، وعدائه للمحتل البريطاني وعميد
البريطانيين في مصر بما أورده من شعر حافظ، ولست أدري
إذا ما كان الأستاذ البيومي قد اطلع على ما كتبه الأستاذ
محمود محمد شاكر بعنوان: (أوطان) بمجلة الكتاب وفيه يقطع
بأن حافظاً إنما كان يمالئ البريطانيين وعميدهم وأنه لم يكن
وطنياً صادقاً في شعره.
وإذن فلا مناص من أن يبين لنا كل من الأستاذين وهما من كتاب (الرسالة) وجهة نظرهما الصادقة في هذا الموضوع. ونحن في الانتظار، والسلام عليكم ورحمة الله،(749/55)
أحمد محمد حلمي
إلى رحمة الله:
نُعي إلى الرسالة، وهي على المطبعة الشاعر العالم الرواية البليغ الشيخ أحمد الزين.
ولئن عقدت روعة المفاجأة اللسان، وحبست لوعة الرزية القلم، وضاق المجال اليوم عن قيام الرسالة بواجب الوفاء للصديق، والتأريخ للأديب، فلن تضيق صفحاتها غداً إن شاء الله.
رحم الله الفقيد، وعوض على الأدب ما خسر بفقده، وعلى البيان ما خسر بمعناه.(749/56)
القصص
طريق الدوفر
بقلم الأديب عبد الكريم محمود
(طريق الدوفر) كوميدية مسرحية، ليست بذات الحوادث المعقدة، بل هي مسرحية بسيطة غاية البساطة تعالج مشكلة من أهم المشكلات. . . مشكلة الزواج بأسلوب تهكمي ساخر. وقد لاقت نجاحاً عظيماً عندما مثلت على أحد مسارح لندن. . . وهو لعمري نجاح تستحقه المسرحية ويستحقه كاتبها. أما مؤلفها فكاتب إنكليزي يدعى وهو ما يزال حياً يرزق.
المستر (لاتيمر) كهل أعزب له هواية غريبة حقاً. أنه يسعى إلى أن يحل مشاكل الزواج التي تعترض الشبان.
وعلى باب بيته على طريق الدوفر الذي سكنه على هذا الأساس. . . أساس صيد العازمين على الزواج قبل فرارهم - عن هذه الطريق - إلى فرنسا حيث الزواج وشهر العسل. . . على باب بيته يقف اثنان، شاب وشابة. . . ليونارد وآن.
إن مجيئهما ليس عن طريق الصدفة بحال من الأحوال بل هو أمر محكم التدبير؛ فقد رشى المستر (لاتيمر) سائق سيارتهما طالباً منه تعطيل السيارة أو التظاهر بأنها عطلت أمام منزله.
إن ليونارد يطرق الباب الآن. وها هو الخادم (دومينيك) يفتحه له. فيقول ليونارد (أهذا فندق؟) فيجيبه دومينيك بالإيجاب.
يدخل الاثنان. وبعد أن يستقرا نستطيع بكل سهولة أن نفهم من حديثهما أن (ليونارد) شخص ترك زوجته (يوستاسيا) ليهرب مع الفتاة (آن) التي تركت هي بدورها أباها.
يستقبلهما المستر لاتيمر - صاحب المنزل أو الفندق كما ظناه - بعد ذلك، فيظهر هذا لنا بمظهر من يفهم السبب الذي قاما من أجله برحلتهما. ثم يبدأ يسأل آن عما تنتويه وتريد فعله ملقياً بعد الأسئلة درساً في فائدة الأناة والتفكير في تصرف المرأة فقبل أن تقدم على عمل بعد من أخطر الأعمال بالنسبة إليها بل هو - أي هذا العمل - حياتها كلها وغرضها الأسمى الذي خلقت من أجله.
هنا نفهم عقلية ليونارد جيداً. . . إننا نراه يفقد أعصابه بسرعة فلا يستطيع أن يحكمها(749/57)
ويتملكها، ونراه يحاول أن يسحب فتاته آن ليخرجا من هذه الدار التي كرهها. لكن المستر (لاتيمر) يكشف أوراقه عندما يبلغ الأمر هذا الحد، فيصارحهما بأن أمر مجيئهما كان نتيجة لخطة دبرها هو فاحكم تدبيرها ثم تراه يطلب منهما بعد ذلك أن يمكثا أسبوعاً. . . أسبوعاً واحداً فقط يختبر فيه أحدهما الآخر ويمتحنه لكيلا يكون اتصالهما بعد ذلك عرضة للانفصال.
تذهب آن بعد هذا الاقتراح إلى الغرفة التي أعدت لها لتنام ويبقى المستر لاتيمر مع ليونارد ليكون الأخير مادة جيدة لتهكم الأول وسخريته بعد أن عرف هذا جيداً أخلاق ليونارد. ولكن ليونارد يضطرب وينزعج كعادته فيترك لاتيمر متجهاً إلى غرفة نومه.
وما يهل صباح اليوم التالي حتى يصاب ليونارد بالبرد. . . وتبدأ آن بعد هذا تشعر بأن الحياة مع فتاها ليونارد لن تكون دائماً بساطاً مفروشاً بالورود؛ كما أنها تعلم في الوقت نفسه من حديث يجري بين المستر لاتيمر والخادم دومينيك أمامها أنها وليونارد ليسا الشخصين الوحيدين في هذا المنزل العتيد.
والواقع أن هناك شخصين آخرين غير ليونارد وآن على أهبة أن ينتهيا من (أسبوع التجربة) كما يسميه المستر (لاتيمر). ولكن الذي أدهش ليونارد هو أن ذينك الشخصين لم يكونا إلا (يوستاسيا) زوجته وعاشقها (نيكولاس).
إن منزل المستر لاتيمر يؤدي رسالته بالنسبة لهذين الشخصين الأخيرين؛ لأن الأسبوع ما يكاد يمضي حتى يبرم نيكولاس بيوستاسيا أشد البرم، ذلك لأنها ذات عادة قبيحة مستحكمة فيها، يثير النفرة والابتعاد عنها: إن تلك العادة مزيج من الإلحاح والعناية الكثيرة غير المستحبة بمن يعيش معها تحت سقف واحد. إن يوستاسيا خير مثال لإمرأة تفيض منها (غريزة الأمومة) فيضاً.
يبرم نيكولاس بها إذن ولما ينتهي بعد أسبوع التجربة، ولكنه لا يستطيع أن يتركها وحدها ليرحل فذلك مما تمنعه قوانين منزل المستر لاتيمر الخالد.
هذا إلى أن يوستاسيا ونيكولاس يعلمان في هذه الأثناء بوجود الشخصين الآخرين في المنزل.
ولهذا فإن يوستاسيا ما تكاد تعلم بأن زوجها قد أصيب بالزكام حتى تهرع إليه - بعد ما(749/58)
لقيت من أعراض عاشقها - لترضي عادتها غير المستحبة تلك. . . وهي إلى هذا تنسى كل شيء عن نيكولاس خلال انغمارها في تحضير الدواء لزوجها.
أما نيكولاس فيبدأ بعد هذا يعجب بـ (آن) التي شعرت بخيبة أمل بعد ما رأت من انصراف يوستاسيا إلى العناية بليونارد. ولهذا نظن نيكولاس أنها في بداية ميل جديد نحوه. إلا أن أمله يخيب هو الآخر عند ما يعلم أن آن لم تمل إليه إلا لرغبتها في استدانة نفوذ تكفيها للعود إلى منزلها. . . وإلى أبيها ذلك الذي تركته هاربة.
هنا يصبح نيكولاس في حالة غضب شديد فيصمم على الهرب من هاتين المرأتين اللتين آذته وأزعجته أولاهما وخيبت أمله ثانيتهما فيتشاور مع ليونارد الذي تعدى المرحلة النهائية لمرضه الخطير. . . الزكام!!! وهنا نراهما وكل منهما يبث الآخر أحزانه وآلامه. وفيما عما على هذه الحال إذ تخطر لكليهما فكرة. . . فكرة الهرب. فيصمم الاثنان على الهرب إلى فرنسا لقضاء عطلة تريحهما من عناء المرأتين وخصوصاً ليونارد هذا الذي أرهقته زوجته بعنايتها الكثيرة ومحاولتها التسرية عنه بقراءة كتب صعبة الأسلوب جافة البحث ككتاب (جيبون) عن انهيار الإمبراطورية الرومانية.
ولكن عقبة واحدة تقف أمامها. . . عقبة بغيضة. . . ذلك أن ليونارد متأكد تمام التأكيد من أن يوستاسيا - مالم نجد شخصاً آخر غيره ترضى عن طريقة غريزتها - ستحاول أن تتبعه أينما سار.
ها هما يحاولان نتيجة لعزمهما على الهرب إقناع المستر لاتيمر بأن يدعي أنه مريض لتنصرف يوستاسيا إليه تعنى بأمره، لكنه يرفض. وها هما يتحولان عنه إلى الخادم دومينيك فيرفض هو الآخر. غير أن طيبة قلب المستر لاتيمر تدفعه - بعد أن رفض - إلى قبول اقتراحهما لولا أن الخادم دومينيك يخبره بأن الخادم الآخر جوزيف. . . ذلك البطل الملاكم. . . مريض.
ستجد يوستاسيا إذن من ترضى غريزتها عن طريق العناية به.
والفرضة - إذن - سنحت. يتسلل ليونارد ونيكولاس بحذر محاولين الابتعاد ليقضيا في فرنسا عطلة جميلة.
من بقي في الدار بعدهما؟ المستر لاتيمر وخدمه. . . آن ويوستاسيا. وهنا نرى المستر(749/59)
لاتيمير ذلك الرجل الذي كرس حياته لمساعدة الغير وحل مشاكل الزواج. وذلك الرجل الذي ظل بطل القصة حتى النهاية. . . نراه يصارح آن بحبه ويقع ضحية لخطة دبرها هو، لكن الفتاة الرزينة العاقلة - والتي إن عد المستر لاتيمر بطل القصة فلابد أن نقول أنها البطلة - تبين له أنها ما زالت تعامله وتحبه. . . ليس ذلك الحب الجامح العنيف بل تعامله وتحبه كما لو كان أباها.
وهاهي ذي بعد هذا تأخذ حقيبتها لتقول للمستر لاتيمر. . . وداعاً.
إن المستر لاتيمر الآن أمام المرآة يتبين ما عملته يد السنين في وجهه وتقاطيعه، فيرى أنه قدر لنفسه عمراً أقل من الواقع والحقيقة.
يدخل الخادم دومينيك ليرى سيده في هذه الحال فيبتسم الاثنان. . . وفي لحظة نراهما صديقين كأحسن ما يكون الأصدقاء لا رجلين أحدهما سيد والآخر مسود.
طرق على الباب. شخصا جديدان يقفان أمام المنزل. المستر لاتيمر ودومينيك يزاولان المهنة مرة أخرى.
(بغداد - دار المعلمين العالية)
عبد الكريم محمود(749/60)
العدد 750 - بتاريخ: 17 - 11 - 1947(/)
ذكرى عيد الجهاد الوطني
لصاحب العزة محمد كامل سليم بك
السكرتير العام لمجلس الوزراء
عيد الجهاد للشعب، كعيد الميلاد للفرد، كلاهما حادث ضخم عظيم في تاريخ الحياة، وكلاهما جدير بالتحية والتكريم والاحتفال.
فعيد الجهاد للشعب، إحياء لمولد نهضة، يبتدئ بها عصر جديد، وعيد الميلاد، إحياء لمولد فرد، يبتدئ به أمل جديد.
وفي العيدين معاً تظهر الحركة والنشاط محل السكون والخمود، ويبدأ النمو ويطرد التقدم بعد التوقف والجمود.
وهذا ما كان من أمر يوم 13 نوفمبر الذي حفظه التاريخ في سجلات الخلود. تسجيلا لمولد النهضة الوطنية المصرية الكبرى. التي أخذت منذ ذلك اليوم المشهود، في النمو والتقدم والتطور على مر الأيام والسنين، وأستيقظ فيها الوعي القومي يقظة ليس بعدها نوم ولا هجوع ولا همود.
في هذا اليوم التاريخي المجيد، قامت في مصر حركة شاملة. تطورت إلى ثورة كاملة، كانت مظاهرها الأولى، اتحاداً بديعاً بين جميع رجالات مصر البارزين وغير البارزين وظهور أهل مصر شعباً جديداً متجدداً، نقض الغبار، وهب وثار، وأشتعل كالنار، صارخاً في صوت واحد بالمطالبة بحقوقه المسلوبة في الحرية الكاملة والاستقلال التام كتمهيد لا بد منه للحياة الرفيعة الشريفة التي ينشدها المصريون والتي لا خير في الوجود بدونها.
أنجبت مصر في هذا اليوم زعيما قديراً فذاً ممتازاً في شخص سعد زغلول، ورجالاً ذوى بأس شديد في طليعتهم عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، كان كل منهم جذوة متأججة، مثلت روح الجيل، أصدق تمثيل.
ولا يسعني في هذا المقام الرهيب، إلا أن أقدم في خشوع، أخلص التحية وأصدق الإجلال، إلى الشيخ النبيل، المصري العظيم، المجاهد الكريم عبد العزيز فهمي باشا (حفظه الله ورعاه)، فهو بيننا اليوم يشهد أثراً من آثار أياديه حين نحتفل بعيد الجهاد، وإني لأشهد أن هذا الوطني الصامت، والعالم المدقق. قد خدم النهضة الوطنية في فجر نشأتها أجل(750/1)
الخدمات، وبذل في سبيلها أوفى نصيب من عقله وعلمه وفضله، وعاش بنجوة عن لغو القول، زهداً في مظاهر الحياة الباطلة وزخارفها الزائلة، وقد أدى رسالته على أكمل وجه.
بعد هذه التحية الخالصة الواجبة على كل مصري يزجى بها إلى هذا المصري الأبي العظيم أعود ال السؤال:
ماذا عمل هؤلاء الزعماء الثلاثة، وفي أي جو عملوا؟
وماذا عملوا المصريون، وفي أي جو يعيشون؟
ذهب أشبال مصر الثلاثة يحملون رؤوسهم على أكفهم إلى مقر ممثل أكبر دولة في العالم حينذاك، في صبيحة اليوم التالي لأكبر انتصار أحرزته في تاريخها الطويل، كانت الجيوش البريطانية في سكرة الانتصار، وفرحة السلامة تملأ القاهرة والاسكندرية، وكل مكان في أرض مصر، وفي الشوارع والميادين ودور السينما والملاهي والاندية والحدائق والطرقات، وكانت الاحكام العرفية البريطانية رافعة سيوفها على أعناق المصريين بغير حساب ولا رقيب، والسجون والمعاقل متعددة مفتوحة الأبواب، للمغضوب عليهم والمشكوك فيهم من غير سؤال ولا جواب.
وكانت الحماية البريطانية مبسوطة على البلاد رغم انفها، وبغير اكتراث لشعور أبنائها، وليس أمام المصريين إلا الخنوع والاستكانة أو الموت والتعذيب في هذا الجو الخانق، والصاعق، الساحق، ذهب اشبال مصر الثلاثة في شجاعة الحق وعزم البطولة، وفي صراحة المؤمن وحزم الرجولة، وطالبوا بجلاء الجيوش البريطانية عن أرض الموطن، حتى تتمتع مصر باستقلالها التام.
حركة طائشة خيالية جنونية، في نظر الأقوياء المستعمرين المنتصرين المزهوين، وحركة وطنية جريئة طبيعية في نظر المصريين، وجميع المنصفين.
فأي النظرتين كانت أصح وأصدق؟ ولأي فريق كتب التوفيق؟ لست الآن بصدد تفصيل ما وقع. حسبي أن أذكر أن الإنجليز نكلوا بالحركة الوطنية ونكلت الحركة الوطنية بالإنجليز. فكان صدام وصراع. وكان سجن واعتقال ونفي وتشريد وتقبيل وتعذيب وآلام. وكان ثبات واحتمال وصبر ومثابرة ومقاومة وأقدام. وتضحيات جسام. وإذا بهدنة تتخللها محادثات ومفاوضات وإذا بالحماية البريطانية تعترف بأنها علاقة غير مرضية. ثم إذا هي ملغاة بعد(750/2)
قليل وإذا بالاستقلال يعترف به مثقلا بالقيود والاصفاد في تصريح 28 فبراير سنة 1922. ثم استقلال مخفف القيود في عام 1936.
أدركت مصر كل ذلك بفضل تلك الحركة الطائشة الخيالية الجنوبية في نظر المستعمرين، أو الحركة الوطنية الطبيعية في نظر المصريين ونظر القدر.
كيف كانت حال مصر حين قامت وتحركت. وحين نهضت وغضبت. وحين فارت وثارت. وحين تغلبت على العقبات وانتصرت في ظروف كاد النصر فيها يبدو محالا أو حلماً من الاحلام.
هل كان لدى مصر طائرات ودبابات، وجيوش جرارة ومدافع ولوريات؟
هل كانت لديها كنوز البحار. أو ذخائر من الحديد والنار وكل أدوات الدمار؟
كلا. لم يكن لدى مصر شيء من ذلك على الإطلاق. وإنما كانت عندها ذخيرة لا تنفذ من الوطنية وحماستها. والكرامة وعزتها. والشجاعة وغيرتها. والإيمان العميق بعدالة القضية وحق الوطن. يدعم ذلك كله اتحاد رائع وإجماع كامل في المشاعر والعزمات والايثار.
كان شعب مصر في ظلال الحماية والاحتلال يعيش آحاداً وأفراداً وشيعاً ممزقة. فلما بزغت شمس 13 نوفمبر فاجأت مصر العالم عامة، وبريطانيا خاصة بشعب متحد، لا ثغرة فيه، نبض بشعور واحد، ولا نشوز فيه، واتجه في اتجاه واحد، لا عوج فيه بهذه الكتلة المتحدة صمدت مصر للاحداث الجسام. وغالبتها، فغلبتها. وكان الفضل في هذا التوفيق راجعاً إلى توحيد الصفوف، وتوحيد الرأي والشعور فكانت مصر من أقصاها إلى أقصاها تتحرك بكلمة واحدة يلقيها زعيمها الأوحد وأعوانه المتضامنون المتحدون.
كان الأغنياء يبذلون المال سخياً، متبارين متنافسين لتمويل خزانة الجهاد وشد أزر المجاهدين.
وكانت التضحية وكان الايثار وانعدام الأثرة، شعار الجميع: كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء.
وكان الجيش والبوليس والعمال والفلاحون والطلبة والأعيان والموظفون والمحامون والمهندسون وكل أصحاب المهن الحرة جماعات تفيض صدروها بشعور واحد في بذل كل مجهود يطلب لإنقاذ الوطن. ولم يكن هناك خلاف بين هذه الجماعات إلا في الأزياء والأرزاق والأعمار.(750/3)
وكانت الصحافة والمجلات، والنشرات الظاهرة والنشرات الخفية تصدر كلها عن وحي واحد، وليس فيها إلا نداء واحد، وتوجيه واحد ودعوة واحدة. ولم يكن في كل ما ينشر ويقرأ إلا ما يزيد لهيب الشعور الوطني. إلا ما فيه غذاء لأرواح المصريين.
بهذا شحذت الهمم في مضاء، وبذلت الجهود، في سخاء وأطرد العمل في اتحاد وانسجام، وازدادت حماسة الناس بذكريات الماضي واستوحوا قوتهم من رجاء المستقبل.
ذلك كان جو يوم 13 نوفمبر والأيام والشهور والسنوات التي تلته هي المعجزة التي أتتها مصر فكانت عبرة العبر: اتحاد في الزعامة والرياسة والقيادة، وتوحيد في المشاعر والصفوف. لقد جربت مصر الاتحاد وشهدت خيراته وآثاره وجنت أطيب ثماره.
وجربت تفرق الكلمة وشهدت ويلاته ومضاره وأخطاره نالت مصر بفضل الاتحاد الكامل الشامل كل ما أحرزته من فوز. وكل ما نالته من خير حتى اليوم. ولم تنل من الفرقة والحزبية الجامحة الكالحة غير بعثرة الجهود والخيبة والفشل والآلام والأحزان.
لقد وقعت معجزة ذلك الاتحاد الرائع في 13 نوفمبر سنة 1918 على غير انتظار من الأصدقاء والأعداء على السواء.
أفلا تتكرر المعجزة في 13 نوفمبر سنة 1947. والأصدقاء يرجونها وينتظرونها ويتحرقون عليها ويعملون لها. والأعداء يخشونها ويحاربونها ويفزعون ويتطيرون منها ويعملون ضدها. أمعجزة أن يتم اتحاد؟ والاتحاد واقع فعلاً على الأهداف القومية، ووسائل تحقيقها، وآية ذلك أن الأحزاب والهيئات جميعاً على اتفاق تام على هذه وتلك إذا أبعدنا التشويه وسوء التأويل.
أليس المانع الوحيد بعد ذلك من عدم اتحاد الرجال هو طغيان الأهواء والحقاد من ثمرات الألفة التي تفرقت والوحدة التي تشتت. والعلاقات التي تمزقت وعكس الأوضاع بتقديم المصلحة الفردية على المصلحة الحزبية. ورفع المصلحة الحزبية فوق رأس المصلحة القومية.
أوضاع معكوسة. وخطط منكوسة مركوسة ليست فيها ذرة من الخير على الإطلاق ولو استجابوا إلى صوت الضمير والمصلحة العليا للبلاد وحدهما دون سواهما لا نقشعت السحب. وزالت الحمى ولعادت الحال كما كانت في ذلك اليوم المشهود - عيد الجهاد(750/4)
الوطني - أصفى وأصح. وأروع وأكمل مما كانت. وحينذاك تتحقق الحكمة من الاحتفال به والتغني بمزاياه، عاماً بعد عام.
فينا كل بواعث النشاط. وأمامنا كل حوافز الأمل. ووراءنا كل نماذج العمل. فلنعمل على توحيد الصفوف اولا وقبل كل شيء. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
محمد كامل سليم
السكرتير العام لمجلس الوزراء(750/5)
13 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
مشاهد أخرى في دهلي
ضريح صَفدًر جَنك:
ومن الآثار التي رأيتها في دهلي ضريح لوزير من وزراء الدولة التيمورية، وهو آخر ما شاد رجال الدولة من أضرحة كبيرة. كان صفدر جنك وزيراً للسلطان أحمد شاه (1161 - 1167هـ). وذلك قبل زوال الدولة من بعد عن رفع الآثار الفخمة، وتشييد مثل ما شيدت من قبل إبان شبابها وقوتها.
والمزار، في جملته، صورة من مقابر الملوك التيموريين. وكلها تتفق في القواعد وتختلف في التفصيل، فهو كقبر همايون بناء عال عليه قبة، حولها أبراج، يقوم على دكة عالية وسط حديقة واسعة. ولكنه أيسر هندسة وأبسط خطة. فليس حول القبة حجرات كثيرة متواصلة كما في مزار همايون بل يرى الواقف تحت القبة أربعة عقود في الجهات الأربع يخترقها البصر إلى الحديقة المحيطة بالبناء على ما بالعقود من شبابيك الرخام.
ويمتاز هذا المزار بأربعة أبراج ضخام على زواياه الأربع، تذكر بالمآذن الأربع في أركان مزار جهانكير في لاهور والمآذن الأربع القائمة حول تاج محل منفصلة عن البناء.
ويقال إن في المزار مادته وهندسته ما يؤذن بشيخوخة الدولة والفنون إذا قيس إلى نضارة الدولة وشبابها ممثلة في أبنية همايون وشاهجهان وأكبر.
وسنصف بعض آثارهم في المقالات الآتية إن شاء الله.
ولكن هذا المزار لوزير لا لسلطان فينبغي أن يحسب هذا في تقويم البناء.
ومن المشاهد التي رأيتها سقيفة جميلة من الرخام لا تدور عليها جدران ولكن تحملها عمد كثيرة أجيد نحتها وتشكيلها. وفوق السقيفة قباب كثيرة من الرخام.
ووسط السقيفة قبر عليه صفائح الرخام، البيضاء البراقة كقبور التيموريين الأخرى. وفيها كلها روعة وجمال.(750/6)
والقبر لأمير أسمه ميرزا عزيز كموكل تاش (الأخ من الرضاع) وهو أخو السلطان جلال الدين أكبر من الرضاع، وأبن أتكاخان أحد وزراء أكبر.
وتسمى هذه السقيفة الرواق ذا الأربعة والستين عموداً (جونسته كهمبا).
ولما خرجت من هذه السقيفة أبصرت أمامها على الطريق قبوراً فأشار دليلنا إلى واحد منها أخذت الحوادث من أحجاره وتراكم حوله غبار العصور فتأملت كتابة عليه فإذا هي:
رشك عرفي وفخر طالب مرد ... اسد الله خان غالب مرد
1285
قلت: قبر الشاعر؟ قيل نعم. ومعنى البيت: مات غيره (عرفي) وفخر طالب. مات أسد الله خان غالب أي مات الذي يحسده عرفي ويفخر به طالب الخ.
فأما عرفي فهو الشاعر الفارسي عرفي الشيرازي من كبار شعراء الفارسية. رحل إلى الهند وأتصل بجلال الدين أكبر وعاش هناك حتى أدركته الوفاة في لاهور سنة 999 وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
وكنت في لاهور في شهر نيسان الماضي (أبريل) وكان بها الصديق العالم الأديب علي أصغر حكمت وزير المعارف في ايران قبلا. فقال يوماً في أحاديثه إن عرفي شيرازي وأنا شيرازي وقد مات هنا. وضحك. قلت يطيل الله عمرك، ويقيك كل سوء.
وأما طالب فهو شاعر فارسي أخر من شعراء الفرس الذين رحلوا إلى الهند وأتصل بجلال الدين أكبر وأبنه جهانكير من بعده فحظى عندهما، وذاع صيته ولقب (ملك الشعراء) وتوفي سنة 1035 في كشمير بعد أن جاوز المائة من عمره.
وأسد الله غالب هذا له شأن في الأدب الأردى، إلى مكانته في الأدب الفارسي. ولا بد من وقفة على قبر هذا الشاعر الذي زرته على غير قصد. وكان عليّ أن أسأل عنه، وأسعى إليه، أقضى حقه بوقفة:
وقفة في العقيق نطرح ثقلاً من دموع بوقفة في العقيق: هو نجم الدولة، دبير الملك ميرزا اسد الله خان.
وغالب لقبه الشعري المعروف في الأدب الفارسي بالتخلص. وأصله من تركستان كأمير خسرو الذي ذكرناه من قبل قدم جده إلى الهند في عهد شاه عالم (1173 - 1202) ورحل(750/7)
أبوه عبد الله من دهلي إلى لكنهو ثم حيدر آباد.
وتقلبت به أمور حتى قتل في إحدى الحروب. وأسد طفل في الخامسة من عمره. وقد كفل اليتيم عمه نصر الله بك خان. ولما بلغ التاسعة توفى عمه، فرتب له ملك دهلي إذ ذاك رزقاً شهرياً. ثم ترعرع وتقلبت به الغير، وذاع صيته في الشعر ونال جوائز الأمراء وأرزاقهم حتى رجع إلى دهلي وأجريت عليه وظيفة. وأستقر هناك حتى أدركه الموت سنة 1286 هـ (1869م) بعد زوال الدولة الإسلامية من الهند.
وكان غالب رضى الخلق، حسن الفكاهة محسناً إلى أصحابه وتلاميذه، ولكنه كان قلقاً لا يصبر على الاحداث.
ولغالب مذهب في الشعر أنيق دقيق يحتفل فيه بالمعنى واللفظ وله في الفارسية ديوان وثمانية مؤلفات بين نظم ونثر وله ديوان باللغة الاردية كذلك وبضعة مؤلفات منظومة ومنثورة.
وقد عنى الناس بديوانه الأردى كثيراً إذ كان الشاعر على قرب زمانه من أوائل المجيدين في هذا اللسان. وقد شرح ديوانه هذا ثماني مرات. وهو بعيد الغور فيه كثير من دقائق الصوفية.
وطبع الديوان في ألمانيا طبعة مصورة جميلة بيعت النسخة منها بخمسة وثلاثين جنيهاً. ثم أعيدت هذه الطبعة في حيدر آباد فبيعت النسخة بخمسة جنيهات. وأعيدت مرة أخرى فرخص ثمنها قليلا. وللديوان طبعات أخرى رخيصة.
وقد نشرت منذ سنين ترجمة غالب وترجمت أبياتاً متفرقة من شعره، منها:
أرى شبك الأمواج في كل لجة ... بأفواه وحش البحر حيك وقدرا
فماذا تلاقى قطرة الماء من ردى ... إلى أن ترى في لجة الماء جوهرا
وهو يشير إلى أن الكمال لا يتاح الا بعد نصب ومقاساة أهوال ومن شعره:
وكنا ببرق الطور لو أنه ... على قدر الأقداح أعطيت الخمر
ويقول في مضي العمر سريعاً:
أسوم جواد العمر ريثاً وما له ... ركاب برجلي أو عنان بأنملى
ونرى في طبعة برلين مع هذا البيت صورة فرس ينهب الأرض عدواً عليه فارس مشدوه(750/8)
ليس في يده عنان ولا في رجاه ركاب.
ويقول في البلاغة:
وينفذ في الالباب سحر بيانه ... فأحسب ما قد قاله كان في لبى
هذه وقفة قصيرة على قبر اسد الله غالب الشاعر الكبير.
وليت الزمن أمهلنا أياماً في دهلى لنعود إلى قبره، أو ساعات في زيارتنا إياه لنستمد المعاني من هذا الرخام الحاني على رفات الشاعر الخالد كما تنطبق الصدفة على لؤلؤتها؛ ولكن رحم الله الشاعر القائل:
اسوم جواد العمر ريثاً وما له ... ركاب برجلي أو عنان بأنملى
(للحديث صلة)
عبد الوهاب عزام
وقع في المقال السابق أغلاط هي:
مبطن بالصوفصوابهبالصدف
تَفلَق=تغلق
بالسنقر=بايسُنقر
لا يكس أحد قبراً بغير النبات العشب - وكلمة النبات زائدة(750/9)
لسان السياسة البريطانية
للأستاذ محمود محمد شاكر
دعت السفارة المصرية في لندن إلى مأدبة عشاء تكريماً لأعضاء الغرفة التجارية المصرية الإنجليزية، في يوم الخميس 6 نوفمبر سنة 1947، وكان من المدعوين السير ستافورد وألقى على الحاضرين خطبة من أخطر الخطب التي تناولت شؤون مصر السياسية والتجارية، وقد نشرت الصحف البريطانية هذه الخطبة في الصدر، وترجمتها أكثر الصحف العربية، ومع ذلك فلم أجد أحداً علق عليها بما ينبغي أن يقال في تفسيرها وتأويل مراميها.
كان من أول مرامى السير ستافورد أن يبين بأجلى بيان أن (التعاون الثقافي) و (التعاون التجاري) بين مصر وبريطانيا كفيلان بأن ينهيا على مر الأيام إلى حل النزاع السياسي الناشب بين الدولتين، وهو يرجو أن ينسأ الله في أجله حتى يرى هذا الحل الموفق بين المتنازعين. وقال إن هذا النزاع بين مصر وبريطانيا ليس سوى (خلاف) يسير في تاريخ طويل حافل بعلاقات المودة، وبالذكريات الجميلة بين البلدان فيما يعتقد. وزعم أنه على يقين من أن الصلات التجارية والروابط الثقافية إذا هي سارت على نهج موافق ينفي عنها كل ما يزعج أو يثير الخواطر، فإنه سوف يعيش بإذن الله حتى يرى حلا موفقاً مرضياً يفض ذلك الخلاف السياسي اليسير، ويومئذ تخرج الدولتان منه وقد أصبحت الصلات التي بينهما أقوى، وأصبحت المودة أصدق، وأصبحت النفوس أسلم. وزعم ايضاً أن هذا الضرب من الصلات والروابط سيظل هو الغالب بين الأمتين على كل خلاف سياسي. ثم امتلأت جوانب هذه الخطبة بإشارات خفية إلى أسلوب بريطانيا في الاستبداد التجاري الذي اعتصرت به الحياة من أهم كثيرة غير مصر والسودان، والى التهديد الملثم بأن بريطانيا مضطرة إلى تحطيم هذا التعاون إذا أصرت مصر على إنقاذ قانون الشركات الذي أصدرته منذ عهد قريب، ثم لم ينس السير ستافورد كريبس الوزير البريطاني عادة قومه في المن الخبيث البغيض المتلفع بالعواطف الإنسانية النبيلة، فزعم أن عطف بريطانيا على مصر في محنة الكوليرا كان مبعثه العطف الإنساني البالغ والرثاء العميق، لا الدافع السياسي أو الحافز التجاري. وفي الخطبة كثير من أمثال هذه التلفيقات العجيبة.(750/10)
زعم السير ستافورد أن الروابط الثقافية والتجارية كفيلة بحل ما سماه (خلافاً) سياسياً، وهو يرمى بهذا إلى تحقير هذا (الخلاف السياسي) الطارئ، لأن تاريخ العلاقات البريطانية المصرية فيما يدعي حافل بعلاقات المودة وبالذكريات الجميلة!!. فهل سمعت أذن بأغرب من هذه الدعوى؟ إن أجمل الذكريات بيننا وبين بريطانيا هو احتلالها أرض مصر والسودان أكثر من خمس وستين سنة، وسعيها الحثيث في فصم عرى مصر والسودان فصما لا مجالة فيه ولا هوادة. إن هذا الخطيب السياسي يعلم أنه يلقى خطبته في دار السفارة المصرية التي دعت لتكريم أعضاء الغرفة التجارية المصرية الإنجليزية، ولكنه يتجاهل هذا ويستهين بالمنزلة السياسية التي ينبغي أن تكفل لدار السفارة المصرية، فيقف ليحط من قدر النزاع السياسي بين مصر والسودان وبريطانيا، ويسميه (خلافاً يسيراً)، كأن حرية شعب واستقلال أمة ليس شيئاً يقام له وزن بازاء ما يسميه العلاقات التجارية والروابط الثقافية؟ ونحن نعجب لم سكت رجال السفارة عن رد هذا التحقير للهدف الأعظم الذي أراقت مصر والسودان في سبيله، ما أراقت من دماء، وجادت في سبيله بالأموال والأرواح والأبناء، وصبرت في الجهاد من أجله على مر الحياة وبأسائها صبراً طويلاً كله آلام وتباريح؟
إن كل حرف في خطبة السير ستافورد كان كأنه يقهقه ساخراً من هذا الشعب الذي يريد أن يعيش حراً في بلاده، فكيف فات من سمع هذه الخطبة من المصريين أن يقف ليعلم السير ستافورد أن النزاع السياسي بيننا وبين بريطانيا هو الحياة وهو الحرية، وهو الهدف الذي لن تلفتنا عنه مودة نشأت من رابطة ثقافية أو علاقة تجارية؟
ثم ماذا يعني السير ستافورد بقوله إن العلاقات التجارية والروابط الثقافية كفيلة بحل هذا النزاع السياسي؟ إنها كلمة يلقيها وهو يقدر كل ما وراءها من سياسة بريطانيا في إذلال شعوب الأرض التي وقعت تحت سلطانها الجائر. فعلاقات بريطانيا التجارية بالبلاد الضعيفة هي أن تجعل رؤوس الأموال المستثمرة في البلاد في يد فئة من الخونة أو فئة من الاجانب، وبذلك تضمن لتجارتها ميداناً هي صاحبة الكلمة الأولى فيه وتضمن أن يكون لهذه الفئة من الخونة أو الاجانب السيادة التامة على الشعب المستذل البائس الفقير الجاهل، وتضمن أن لا تقوم لهذا الشعب قائمة ما دامت هذه الفئة هي صاحبة القوة المدمرة في(750/11)
الحياة، وهي قوة المال، وتضمن ايضاً ناساً من هؤلاء الخونة وهؤلاء الاجانب يقولون للبلد الفقير الجاهل البائس الذي سلب قوة المال: لم لا تفعل أنت مثل الذي نفعل؟ وهم يعلمون أنه غير مطيق أن يفعل، لأن قيادة أخطبوط القوة المالية في ايديهم هم لا في يد الشعب المسكين. وليس في الدنيا شيء هو أوضح من هذه السياسة اللئيمة، فإن نكون أقوى دولة على شاطئ البحرين الأبيض والأحمر، وأعظم دولة في افريقية، وذلك في عهد محمد علي، وأدخلت من ضروب الإصلاح والتدبير في مجتمعها وفي سياستها وفي صناعتها وزراعتها، ما لا غناء في ترديده الآن، فأبت بريطانيا أن ترى دولة قوية تنازعها سيادة الشرق الأوسط كله، فألبت عليها الدول حتى حطمت اسطولها في نفارين، ثم تخونها من أطرافها حتى انكمشت في أضيق وقعة، ثم انتهت إلى احتلال مصر والسودان مرة واحدة في سنة 1882. ومنذ ذلك اليوم وبريطانيا تدعى أنها جاءت لإصلاح أمرنا، فإذا هذا الإصلاح قاصر على أن تطلق يد الخونة والأجانب في مال مصر وثرواتها، وأن تحرم الشعب المصري من كل خير، وتضطهده وتقاتله بأخبث الأسلحة، ثم تتركه جائعاً عارياً جاهلاً لا يطيق أن يدفع عن نفسه. فأي خير جنيناه من هذه العلاقات التجارية بيننا وبين بريطانيا إلا الذل القاتل والإذلال المهين؟
وما الذي فعلته بريطانيا منذ سنة 1882 لهذا اليوم؟ إنها لم تأل جهداً في فتح باب الهجرة للأفاقين واللصوص والمجرمين من كل جنس وملة، وأطلقتهم على هذا البلد الأمين يعيشون في أرجائه فساداً، وحمتهم بامتيازاتها وامتيازات الدول، ويسرت لهم أن يعيشوا عيشة البذخ والرفاهية إلى يوم الناس هذا. وقد ذكر السير ستافورد أن مصر كانت في زمن هذه الحرب الأخيرة (تستمتع برخاء غير طبيعي في عدة وجوه، على حين كانت بريطانيا على النقيض تماماً، فقد كانت مجبرة على الإنفاق عن سعة في الخارج خلال فترة الحرب، لحماية نفسها وحماية الديمقراطية في العالم)، وهو يعلم أحسن العلم إن هذا الرخاء لم تعرفه مصر ولا المصريون، ولا السودان ولا السودانيون، بل عرفته الجاليات من الأجانب الذين عاشوا في مصر أو الذين وفدوا على مصر. وهو يعلم أحسن العلم أن الذين تسميهم بعض الصحف تندراً بأغنياء الحرب، وترمز اليهم برجل مصري يلبس لباساً محدثاً عليه، ليسوا سوى فئة قليلة إذا قيست بالآلاف المؤلفة من الأجانب الذين عقدوا الأموال وجمعوها وصاروا شيئاً(750/12)
بعد أن لم يكونوا إلا حضيضاً موطؤاً، وأنا أعرف مئات من هؤلاء الأجانب كانوا يعيشون قبل الحرب عيشة الكفاف بل عيشة الصعاليك، فإذا كلهم قد أصبحوا من الثروة والعزة بحيث إذا رأيت أحدهم ظننت أنه قوة إلهية تمشي على الأرض المصرية لتستذل هذا الشعب وحده. وبقى الشعب المصري أسوأ حالا مما كان فيما قبل سنة 1882، فما الذي فعلته بريطانيا؟ وما دعواها في إصلاح هذه البلاد؟.
وهذا كله بين لكل مصري، وهو أشد بياناً ووضوحاً في عيني السير ستافورد كريبس، ومغالطته في الحقائق التي يعلمها لا هدف لها إلا أن تدل على أنه سياسي بريطاني حقاً؟!.
ثم ما هذه الروابط الثقافية التي يرجو أو يزعم أو يحقق السير ستافورد أنها كفيلة بأن تغطى هذا النزاع بين الدولتين: بين الدولة المتغطرسة المستبدة التي تحتل بلادنا، وبين الشعب المسكين الذي ظل خمساً وستين سنة يجاهد في نيل استقلاله والتمتع بحرية الدولة المستقلة؟ لقد أغناها السير ستافورد عن طلب الدليل بأن ذكر عدد الطلاب الذين أكرمت بريطانيا وفادتهم في هذه السنة ففتحت لهم أبواب جامعاتها. ولسنا ندري كيف يرجو السير ستافورد أن يكون هؤلاء الطلبة الذين درسوا في بريطانيا عاملاً في حل النزاع السياسي بين مصر وبريطانيا؟ ولكنا نعلم يقيناً أنه ما من شاب نعرفه ذهب إلى بريطانيا وعاد إلى مصر وهو مصري القلب واللسان، إلا وهو نعرفه منهم عاد إلى مصر وهو يبرأ منها بلسانه وقلبه وجوارحه إلا كفلته بريطانيا ومهدت له حتى يتبوأ المنزلة التي تنبغي لمثله. ونحن لا نحب أن نسمى أحداً بأسمه، ولكني أعرف أن آلافاً غيري يعرفون أحسن مما أعرف، وعندهم من خبر ذلك أوثق مما عندي. أفهذا هو التعاون الثقافي الذي رمى إليه السير ستافورد؟
لا ريب في أن هذا هو التعاون الثقافي الذي يعنيه، وهو لا يلقى بالا كثيراً إلى شيء غيره من ضروب التعاون الثقافي لنشر العلم والمعرفة. بل إن بريطانيا نفسها لم تعن أحداً يجهل ما كان من أمر البريطانيين يوم دخلوا مصر فمزقوا مدارسها، وعملوا عمل الحريص على نزاع كل شيء يفضى إلى تعليم الشعب المصري من يد المصريين، وأصروا على أن يأتوا بداهية من دهاتهم هو دنلوب، ليضع برامج التعليم المصري. فكانت العاقبة أننا بقينا إلى هذا اليوم نرتطم في الأوحال التي قذفنا بها دنلوب، ونعي عن إصلاح التعليم بعد الذي(750/13)
ابتلى به، وبعد تلك الفئة من الرجال الذين أنشأتهم الثقافة البريطانية وأنشأتهم الثقافة وأنشأهم دنلوب على ما يريد وأعطتهم بريطانيا مقاليد التحكم في وزارة المعارف المصرية.
ولم يقف الأمر عند شأن التعليم بعدئذ، بل سار على هذا النهج في كل عمل في الوزارات المصرية، منذ كان وزير الاحتلال مصطفى فهمي باشا إلى هذا اليوم إلا من عصم الله.
ومع ذلك فالفساد الذي لحق الإدارة المصرية كلها من جراء هذا الضرب من التعاون الثقافي، قد تغلغل وضرب بجذوره في كل شيء حتى في الاجتماع المصري. وكل هذا بين لا خفاء فيه. ولنا عودة اليه إن شاء الله.
ثم إن تعجب فاعجب لهذا الغضب الرقيق والعقاب الحلو الذي جرى على لسان السير ستافورد وكريبس من جراء (تهور) الحكومة المصرية في سن قانون الشركات. إن هذا القانون لا يكاد يعد شيئاً إذا قيس بقوانين الشركات وغير الشركات في بريطانيا نفسها ثم في سائر بلاد العالم، ولكن السير ستافورد يغضب هذا الغضب الرقيق ويعاتبنا هذا العتاب الحلو، لأن هذا القانون ينال شيئاً قليلاً من الأجانب الذين يعيشون في مصر. وكيف لا يعاتب ولا يغضب علينا، والأجانب هم الناس، وهم مصر، وهم أصحاب المصالح الحقيقية كما كانت تقول بريطانيا قديماً إن الذي يرده السير ستافورد، أو الذي تريده بريطانيا، شيء واضح هو أنه لا يحل للشعب المصري أن يفكر ساعة واحدة في أن يسن في بلاده قانوناً يقيد حرية الأجانب أو يحد من ضراوتهم وفجورهم، وإلا فعلى هذا الشعب المصري أن يحتمل تبعة هذه الجرأة وهذه الوقاحة التي تدفعه إلى الحد من سلطان سادته وأصحاب الكلمة العليا في بلاده. ولذلك رأينا الصحف البريطانية تغمز وتلمز ايضاً حين صدر قانونا إقامة الأجانب في مصر مع أن مثل هذا القانون في بريطانيا نفسها يجعل الأجنبي يعيش في أرضها وعليه ملكان يكتبان كل شيء حتى ما توسوس به نفسه. ولكننا لا نستطيع إن نسن في بلادنا قانوناً كقانونهم وإلا فإننا متعصبون يضطهدون الأجانب، وهذا التعصب كفيل بأن يقضي على كل نهضة في بلادنا، وكفيل بأن يزعزع ثقة الأمم فينا، وكفيل بأن يمنع عنا مدد بريطانيا الصالحة التقية الورعة!!
إن هذه الخطبة التي ألقاها السير ستافورد كريبس هي خلاصة موجزة لأسلوب بريطانيا(750/14)
في إذلال الشعوب، وإذلال شعب مصر خاصة، فعسى أن لا يفوت الحكومة المصرية أن توغل في شرحها وتنحس سائر مراميها، لكي تعرف أن ساعة الجد قد دنت، وأنه ليس بيننا وبين بريطانيا إلا العداوة المكشوفة، وأن علينا أن نعمل رضيت بريطانيا أو أبت، وعلينا أن نصابرها وأن نحتمل الضنك والبأساء في سبيل إنقاذ مصر والسودان من براثن هذا الوحش الضاري.
محمود محمد شاكر(750/15)
من شواهد الشواهد
للأستاذ علي الطنطاوي
40 - إذا ماغضبنا غضبة مضرية=هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
للقحيف بن خمير (أو خمير) بن سليم الندي (أو البدى) شاعر اسلامي كوفي أدرك الدولة العباسية، أخذه منه بشار فأدخله في قصيدته، وقبله:
لقد لقيت أفناء بكر بن وائل ... وهزان بالبطحاء ضرباً غشمشما
41 - ومن لم يمت بالسيف مات بغيره=تعددت الأسباب والموت واحد
لأبن نباته السمدي الشاعر عصري المتنبي، روى ابن خلكان أنه قال: كنت يوماً في دهليزي فدق عليّ الباب، فقلت: من؟ قال: رجل من أهل المشرق. قلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل (وذكر البيت)؟ فقلت: نعم. قال: أرويه عنك؟ قلت: نعم. فمضى. فلما كان آخر النهار، دق عليّ الباب. فقلت: من؟ قال: رجل من أهل المغرب. فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل (وذكر البيت)؟ قلت: نعم. قال: أرويه عنك؟ فقلت: نعم. وعجبت كيف وصل إلى المشرق والمغرب
42 - والناس ألف منهم كواحد=وواحد كالألف إن أمر عني
لأبي بكر بن دريد، الأمام اللغوي، من مقصورته المشهورة، التي يقول فيها:
من ظلم الناس تحاموا ظلمه ... وعز عنهم جانباه واحتمى
من لم يعظه الدهر لم ينفعه ما - راح به الواعظ يوماً أو غدا
من لم تفده عبراً أيامه ... كان العمى أولى به من الهدى
من عارض الأطماع باليأس رنت ... إليه عين العزّ من حيث رنا
من عطف النفس على مكروهما ... كان الغنى قرينه حيث انتوى. الخ
وقد عارضها هازلاً محمد بن عبد الواحد الشاعر المعروف بصريع الدّلاء، بمقصورة عجيبة، أسوق أبياتاً منها، وإن لم تكن من صلب موضوعي، قال:
من لم يرد أن تلتقب نعاله ... يحملها بكفه إذا مشى
ومن أراد أن يصون رجله ... فلبسها خير له من الحفى
من دخلت في عينه مسلة ... فاسأله من ساعته عن العمى(750/16)
من أكل الفحم تسود فمه ... وصار صحن خده مثل الدجى
من صفع الناس، ولم يدعهم ... أن يصفعوه فعليهم أعتدى
من ناطح الكبش تفجر رأسه ... وسال من فوقه شبه الدما
من طبخ الديك ولا يذبحه ... طار من القدر إلى حيث يشا
من شرب المسهل في فصل الشتا ... أطال ترداداً إلى بيت الخلا
من مازح السبع ولا يعرفه ... مازحه السبع مزاحاً بجفا
من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حد سوا
والدرج يلفى بالنشا ملتصقاً ... والسرج لا يلصق إلا بالغرا
والذقن شعر في الوجوه نابت ... وإنما الاست التي تحت ال (كذا)
فأستمعوها فهي أولى بكم ... من زخرف القول ومن طول المرا
فتلك كالدر يضيء لونها ... وهذه في وزنها مثل الخ. . . . . . .
43 - إذا لم يكن صدر المجالس سيداً=فلا خير فيمن صدرته المجالس
لأبن خالويه الحسن بن أحمد اللغوي النحوي، وكان له شعر حسن رواه في اليتيمة، وبعده:
وكم قائل: مالي رأيتك راجلاً؟ فقلت له: من أجل أنك فارس!
44 - مالي سوى قرعي لبابك حيلة=فلئن رددت فأي باب أقرع؟
لأبي القاسم عبد الرحمن الخطيب الأندلسي الشاعر الصوفي توفي في مراكش في أواخر القرن السادس الهجري. من قطعته المشهورة عند الصوفية، وهي:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنمت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكي والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن ... أمين فإن الخير عندك أجمع
مالي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع
مالي سوى قرعي. . . (البيت)
من ذا الذي أدعو وأهتف يأسمه ... إن كان فضلك عن عبيدك يمنع
حاشا لمجدك أن تقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع
45 - إن الثمانين (وبلغتها) =قد أحوجت سمعي إلى ترجمان(750/17)
لعوف بن محلم الشيباني شاعر مجيد كان نديماً لطاهر بن الحسين ثلاثين سنة لا يفارقه ثم لأبنه من بعده. من قصيدة قالها لعبد الله ابن طاهر، وقد دخل عليه فكلمه فلم يسمع، فأرتجل هذه القصيدة، وقبله:
يا أبن الذي دان له المشرقان ... طراً وقد دان له المغربان
وبعده:
وبدلتني بالشطاط انحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وقاربت مني خطاً لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان
ولم تدع فيّ لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان
46 - لايعرف الشوق إلا من يكابده=ولا الصبابة إلا من يعانيها
للأبله البغدادي محمد بن بختيار من شعراء الجريدة شاعر مولد رقيق توفي في أواخر القرن السادس الهجري، لقب بالأبله لقوة ذكائه. .
47 - ما أنت أول سار غره قمر
شطر بيت للحريري صاحب المقامات. وبعده:
= ورائد أعجبته خضرة الدمن
فأختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيدي فأسمع بي ولا تراني
48 - منذا يعيرك عينه تبكي بها=أرأيت عيناً للبكاء تعار
للعباس بن الأحنف، وقبله:
نزف البكاء دموع عينيك فأستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرار
49 - قالوا أقترح شيئاً نجد لك طبخه=قلت أطبخوا لي جبة وقميصاً
لأحمد بن محمد الأنطاكي المعروف بأبي الرقعمق المتوفي في نهاية القرن الرابع، شاعر يغلب على شعره الهزل كأبن حجاج وصريع الدلاء، وقبله:
إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة ... فأني رسولهم الىّ خصوماً
وله في الهزل قصيدة طويلة، أولها:
وقوققي وقوققي ... هدية في طبق
أما ترون بينكم ... تيساً طويل العنق(750/18)
50 - والناس من يلق خيراً قائلون له=ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
للقطامي وأسمه عمير بن شيسيم التغلبي شاعر إسلامي متقدم من الفحول ولقب القطامي ببيت قاله، وقبله:
والعيش لا عيش إلا ما تقرّ به ... عين ولا حال إلا سوف ينتقل
وبعده:
51 - قد يدرك المتأني بعض حاجته=وقد يكون مع المستعجل الزلل
52 - وربما ضرّ بعض الناس حزمهم=وكان خيراً لهم لو أنهم عجلوا
53 - فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره=ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
للمرقش الأصغر، وأسمه عمرو (وقيل ربيعة) بن حرملة وقبله:
أمن حلم أصبحت تمكث واجماً ... وقد تعترى الأحلام من كان نائماً
53 - ألهي بني جشم عن كل مكرمة=قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
لِمَوْج بن قيس بن مازن وهو ابن أخت القطامي شاعر خبيث اللسان، وبعده:
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مَسْؤوم
إن القديم إذا ما ضاع آخره ... كساعد فّله الأيام محطوم
54 - لو بغير الماء حلقي شرق=كنت كالغصان بالماء أعتصاري
لعدي بن زيد العبادي، من أبيات له يستعطف بها النعمان. وقبله:
أبلغ النعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وأنتظاري
وبعده:
ليت شعري من دخيل يعترى ... حيث ما أدراك ليلي ونهاري
قاعداً يكرب نفسي بثها ... وحراماً كان سجني واحتصاري
55 - جاء شقيق عارضاً رمحه=إن بني عمك فيهم رماح
لَحجل بن نضلة الباهلي، جاهلي، وشقيق هذا هو شقيق ابن جزء بن رياح من بني قتيبة بن معن.
56 - على نحت القوافي من معادنها=وما عليّ إذا لم تفهم البقر
للبحتري.(750/19)
57 - يا أيها الرجل المعلم غيره=هلاّ لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السقام وذي الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم
لأبي الأسود الدؤلي من قصيدته التي يقول فيها:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
58 - قومي هم قتلوا أميم أخي=فإذا رميت أصابني سهمي
للحارث بن وعلة الجرمي من شعراء الحماسة، من قصيدته التي مطلعها:
لمن الديار بجانب الرضم ... فمدافع الترباع فالرجم
وبعده:
فلئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمى
59 - أنا أبن جلا وطلاع الثنايا=متى أضع العمامة تعرفوني
لسحيم بن وثيل بن عمرو بن جوين بن وهيب الرياحي من قصيدة له طويلة، وقبله:
أنا أبن الغرّ من سلفي رياح ... كنصل السيف وضاح الجبين
وبعده:
عذرت البزل إن هي صاولتني ... فما بالي وبال أبني لبون
60 - وماذا تبتغي الشعراء مني=وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدي ... ونجذني مداراة الشؤون
سأجني ما جنيت وإن ظهري ... لذو سند إلى نضد أمين
61 - شاور سواك إذا نايتك نائبة=يوماً وإن كنت من أهل المشورات
للقاضي الأرجاني، وهو ناصح الدين ابو بكر أحمد بن محمد أبن الحسين، قاضي تستر، شاعر فقيه وبعده:
فالعين تبصر منها ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة
وله البيت المشهور الذي يقلب حروف صدره فيجيء معك عجزه:
مودة تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم
62 - فألقت عصاها وأستقر بها النوى=كما قرّ عيناً بالإباب المسافر
لمعقر بن حمار البارقي، شاعر جاهلي محسن متمكن، وأسمه عمرو، وفي نسبه أختلاف.(750/20)
وسمى معقراً لقوله في هذه القصيدة:
لها ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر
63 - فيا شجر الخابور مالك مورقا=كأنك لم تجزع على أبن طريف
للفارعة بنت طريف بن الصلت الشيبانية، ترثى أخاها الوليد الشاري البطل الخارجي، الذي خرج أيام الرشيد في نصيبين والخابور وتلك النواحي، من قصيدة لها معروفة، ومنها:
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنى وسيوف
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندا بحليف
فقدناك فقدان الشباب وليتنا ... فديناك من فتياتنا بألوف
وما زال حتى أزهق الموت نفسه ... شجى لعدو أو لحىّ لضعيف
ألا يا لقومي للحمام وللبلى ... وللأرض همت بعده برجيف
وللبدر من بين الكواكب قد هوى ... وللشمس لما أزمعت لكسوف
ولليث كل الليث إذ يحملونه ... إلى حفرة ملحودة وسقيف
عليك سلام الله وقفاً فأنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف
(القاهرة)
علي الطنطاوي(750/21)
ليل الهوى
للأستاذ أنور العطار
أسألي الليل فهو ينبيك عني ... يا غنائي ويا رحيق ودني
أنت منه هذا الوشاح المحلى ... بالدرارى، والشعر واللحن مني
عالم الليل مثله عالم الشـ - رغنى بألف فن وفن
أنت منه هذا الجمال الذي يو - حي ويذكي الجوى ويحيى ويفنى
وينقى الآرواح من عنت الإثـ - م فتهتز كالربيع الأغن
جل من صاغه إطاراً من الحسـ - ن وأحياك للهوى والتغني
يستعير الجمال منك يناه ... وتشيد المنى القصور وتبني
حار في كنهك المضلل فكري ... وشفى غيضه سرابي وظني
ضمك الوهم صورة ليس تفنى ... وأحتواك الخيال تمثال حسن
أتمنى وأنت منى الأماني ... وأغنى وأنت منىَ لحني
وأناجي حتى كأنىَ نجوى ... وكأنى طيف الهوى المتثني
أي سحر هذا الذي أمتلك النفـ - س فأغرى طرفي وأسكر أذني
كل نجم عين تصافح عيني ... كل روح سن تضاحك سني
إنه الحب عبقري يغني ... ويهد القوي ويوهي ويضني
ويثير النؤوم في عالم الغيـ - ب ويحيى الذكرى ويقصي ويدني
إن شدا كان فرحة لا تبارى ... وحمى آمناً وجنة عدن
وملاذاً تصبو اللحون إليه ... من خلىّ حلو المنى مطمئن
وشجىّ كبلبل مستهام ... يستمد الغناء من كل غصن
في دناني بقية من شراب ... هي قوت الهوى وروح التمني
ويدي لم تزل على الوتر المـ - راب والقلب لا يزال يغني(750/22)
طرس وعود. .
للآنسة دنانير
إذا عصفت أشواق روحي إليكم ... بروحي، وهاجت عبرتي وأنيني
فزعت بآلامي
فطوراَ على طرسي أريق حشاشة ... تساقط أنفاساً وخفق وتين
وطوراَ على عودي أوقع أنه ... سماوية الأصداء، ذات رنين
إذا غمرت أوتاره الخرس أنملى ... تناغت بأشواقي لكم وحنيني
نجيان أدنى من قريب وصاحب ... إليّ، وأحنى من أخ وخدين(750/23)
بحث في الكولرا
للدكتور فضل أبو بكر
هي داء عضال وشر مستطير، وإحدى ما يسمونه في الزمان الغابر بالأوبئة الثلاثة: الطاعون، والحمى الصفراء، والكولرا، وهي حقاً ثالثة الأثافي لشدة وطأتها ولما تزهقه من أرواح وقد لقبها الغربيون بالوباء الأسيوي نسبة لوجودها في بعض المدن والبلاد الأسيوية كالهند ولا سيما مقاطعة الهندستان والبنغال.
تاريخها:
الهند - كما ذكرنا - وطنها الأول إذ توجد فيها بحالة مستوطنة كامنة وذلك منذ أجيال سحيقة كما جاء ذكرها في المراجع الهندية القديمة المكتوبة باللغة السنسكريتية لغة قدماء الهنود.
هذا ولما كان البرتغاليون من أسبق الأوربيين في فن الملاحة والأسفار كان أطباؤهم ايضاً أول من عني بدراسة الكولرا ووصفها نذكر منهم (جاسبار) و (جوريا) و (جارسيا دي هورتا) سنة 1543.
فتك هذا المرض - في القرن الثامن عشر - فتكاً ذريعاً بالجيوش الفرنسية والإنجليزية. غير أنه لم ينتشر بحالة وبائية إلا في أوائل القرن التاسع عشر. وقسموا هذه الأوبئة - على وجه التقريب - إلى سبعة أقسام بالنسبة إلى تاريخ حدوثها وهي كما يأتي:
الوباء الأول:
من سنة 1817 إلى 1823 بدأ في الزنجبار وجزيرة موريس والهند الصينية الفرنسية والصين واليابان وبلاد الفرس وبغداد.
الوباء الثاني:
من سنة 1826 إلى سنة 1837 أنتقل من الهند إلى الأفغانستان وتركستان وبلاد العجم كما وصل إلى روسيا وبلغاريا ومن ثم إلى بولندا وبروسيا الشرقية، وأمتد لهبة إلى أوربا الوسطى ولم تنج منه أمريكا الشمالية والمكسيك.
الوباء الثالث:
من سنة 1846 إلى سنة 1851 وقد ظل محصوراً في البلاد الأسيوية وشمال أفريقيا ومنها(750/24)
إلى البلجيك وهولندا والسويد والنرويج ثم عرج على اليونان وشمل على وجه الأجمال كل أوربا ووصل إلى شمال أمريكا.
الوباء الرابع:
من سنة 1863 إلى سنة 1876 منيت به أسيا الصغرى وبعض مدن أوربا كما أعلن ظهوره في الأرجنتين وفي عام 1866 كان بالسنغال وأواسط أفريقيا والحبشة.
الوباء الخامس:
سنة 1883 اصيبت به مصر، وفي أثناء هذا الوباء أحرز العلم نصراً كبيراً على يد خدن من أخدانه وأكبر ركن من أركانه هو العالم الألماني الكبير (روبرت كوخ) مكتشف مكروب السل المعروف باسمه. أكتشف كوخ مكروب الكولرا لأول مرة في مصر، وذهب إلى الهند بعد عام واحد، وقصد مدينة كلكتا وأثبت للمرة الثانية حقيقة المكروب إثباتاُ قاطعاُ.
وصل الوباء بعد ذلك إلى جنوب أفريقيا وتمادى إلى أسبانيا وإيطاليا وسواحل البحر الأدرياتيكي.
الوباء السادس:
من سنة 1892 إلى سنة 1896 نشب في الهند وأمتد لظاه إلى روسيا وألمانيا وإنجلترا وفرنسا وهولندا وبلجيكا.
الوباء السابع:
بدأ سنة 1900، وبعد عام من نشوبه عم جميع بلاد الشرق الأقصى وأمتد إلى أسيا الصغرى كما منيت به مصر وروسيا وتركيا وإيطاليا وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى ظهر من جديد في روسيا ودام بها بضع سنوات ومات بسببه نحو 207389 من السكان.
أثر المواصلات في انتشار الوباء:
إن المواصلات على أختلاف أنواعها من برية وبحرية وجوية كانت وما زالت ضمن العوامل المساعدة على انتشار الوباء. لهذا كانت الرقابة الصحية على اشدها على الحدود والمرافئ والمطارات حيث المحاجر الصحية، وتكون الرقابة عليها صارمة عنيفة وقت نشوب الأوبئة في بقعة من السكرة الأرضية. فقد ارتبطت أجزاء العالم المترامية وقربت المسافات بفضل هذه المواصلات.(750/25)
فالطريق البري مثلا ينقسم إلى قسمين: احدهما شمالي ينتقل بواسطته المرض من جهات الهند والصين إلى روسيا بواسطة بحر قزوين ونهر الفلجا ومن روسيا إلى بلاد البلقان وربما كل أوربا.
والطريق الآخر جنوبي بواسطة السهل الواقع بين صحراء سوريا وإيران والذي يرويه نهر دجلة والفرات، ومن هذا السهل تنتقل العدوى إلى مكة وربما يأتي بها الحجاج إلى مصر وشمال أفريقيا.
والطريق البحري يساعد على نشر الداء من كلكتا إلى الهند الصينية الفرنسية والصين وميناء سنجابور، والطريق الآخر من بومباي إلى الخليج الفارسي واسيا الصغرى وسوريا وتركيا.
طرق الإصابة وانتشار العدوى:
أهم ناشر للعدوى هو الإنسان نفسه؛ ونقصد به المريض في طور الإصابة بل والناقة من المرض كذلك ما يسمونه: (بحامل المكروب) وهذا الأخير ليس بمريض في حد نفسه إذ لا يتأثر بالمرض ولا تظهر عليه عوارضه ولكنه جسمه يأوى جرثومة المرض ويضيفها تشهد عليه بذلك إفرازاته من برازية وبولية وأحياناً العصارة الصفراوية كل هذه المواد والسوائل تحوي بعض المكروبات ومن هنا كان خطر هؤلاء الحملة كبيراً على السكان.
المياه ونقل العدوى:
تلعب المياه دوراً خطيراً في هذا الصدد ونقصد بها الموارد العذبة من أنهار وآبار وينابيع المستعملة في الشرب والغسل والطبخ وغير ذلك من الحوائج المنزلية سيما إذا استعملت بحالتها الطبيعية من غير تعقيم ولا تطهير.
تلوث تلك المياه بما يصل اليها من إفرازات المريض أو غسل ملابسه أو ما يستعمل له من أوان أو غيرها وكذلك الأمطار وقت هطولها قد تجرف بعض المكروبات وتفضي بها إلى الموارد المذكورة.
الحيوانات ونقل العدوى:
أهم هذه الحيوانات الحشرات , اهمها الذباب الذي يهبط ويحط رحاله على إفرازات المريض يتغذى منها ثم ينقلها إلى الأطعمة والمواد الغذائية كذلك نوع خاص من النحل كما(750/26)
أدينت بعض الاسماك والقواقع المائية.
بواسطة المواد الغذائية:
إن المواد الغذائية على أختلاف أنواعها قابلة للتلوث بمكروب الكولرا وذلك بسهولة وبشتى الطرق عن طريق الذباب مثلا أو غسلها وتحضيرها بماء ملوث أو التي يقوم بطبخها بعض المصابين أو الناقهين أو (حاملي المكروب)، وقد شوهد أن المكروب يمكنه أن يعيش على اللحوم مدة ثمانية أيام وعلى الخبز سبعة أيام وعلى الكسر والملح نحو ثلاثين ساعة وعلى الخيار والطماطم نحو ثلاثة أيام وعلى البطيخ نحو ثمانية أيام. أما اللبن فقد يكون أقل تعرضاً للإصابة من غيره وذلك لأنه قابل للحموضة والتخمير ومكروب الكولرا تؤذيه البيئة الحمضية وتؤدي به إذ أرتفع منسوبها.
الانتشار بواسطة الأشياء:
أي جميع الأشياء التي تلامس المريض عن طريق مباشر أو غير مباشر وأهم هذه الأشياء الملابس، وقد وجد الطبيب (سمطن) سنة 1821 أن مريضة ماتت من مرض الكولرا وكانت ترتدي قناعاً وقت مرضها وقد أحتفظت أبنتها بذلك القناع كتذكار وحفظته في مكان وبعض مصي عشرة أشهر على ذلك ظنت الأبنة أنه ليس هناك خطر أو بأس من أرتداء القناع وقد أصيبت بالمرض على أثر الارتداء من هنا نعلم خطر الملابس الشديد.
الأعمار وأثرها في الإصابة:
دلت التجارب على إن السن لها دخل في الإصابة فالطفل الصغير في طور الرضاعة لا يصاب بالمرض ولا تظهر عليه عوارضه حتى ولو كانت أمه أو مرضعته مصابة بالداء ولكنه قد يصير من جراء تعرضه من (حملة الميكروب).
كما أن الأطفال أقل قابلية من البالغين والكهول والشيوخ أقل من الكهول ولكن أصابتهم تكون في الغالب أخطر على حياتهم من غيرهم وذلك لضعف أجسامهم وعجزها عن المقاومة.
عوارض المرض:
هناك فترة قصيرة بين إصابة الجسم بالمكروب وظهور أول العوارض وهي ما تسمى بال تتراوح بين ثلاث ساعات إلى خمس وقد تمتد إلى خمسة أيام، وإن كان متوسطها لا يعدو(750/27)
يومين، وقد وضع القانون الدولي للمحاجر الصحية حداً لتلك المدة وقدرها بخمسة أيام تتخذ في أثنائها جميع الاحتياطات اللازمة.
الطور الأول:
يبدأ المرض باسهال شديد مسبوق بأوجاع مؤلمة على طول أمعاء القولون نتيجة لالتهابه ويشعر المريض بتعب وفتور عام ويكون لون المواد البرازية مخضراً أو رمادياً.
الطور الثاني:
يبدأ غالباً في الهزيع الثاني من الليل معلناً ظهوره بألم شديد في أعلى البطن وأسفل الصدر مع شعور المريض بالبرد الشديد ولا سيما في الأطراف التي تهبط حرارتها ويشعر المريض بضيق في التنفس وبشي من الاختناق لذلك يلهث ويكثر تنفسه ويسرع نبضه ودقات قلبه التي تضعف ضرباتها في نفس الوقت. أما الإسهال فتشتد وطأته وقد تبلغ كمية المواد نحو ست لترات وهي عبارة عن سائل مبيض أشبه بشربة الأرز من حيث اللون والشكل ويفقد رائحته المألوفة كذلك يتقايأ المريض وقد يبلغ كمية القيء مبلغ البراز. أما البول فيندر وتقل كميته ويصبح التبول عسيراً ومصحوباً بالأم شديدة.
الطور الثالث:
تشتد فيه العوارض المذكورة ويزداد حرج المريض وكربه ويقل البول بل ينعدم إفرازه ويشعر المريض بالاختناق وبالبرد الشديد كما يهبط ضغط الدم ويهزل الجسم وتغور العينان ويصبح الجسم كالعود اليابس الذي جف ماؤه وزالت نضرته. وقد يلاقي المريض حتفه في هذا الطور.
أنواع المرض بالنسبة لحدته وشدة وطأته:
هنالك نوع أخف وطأة مما ذكرنا وهو أقل خطراً بالطبع كما أن هنالك أنواعاً حادة أشد بأساً مما سلف ذكره وقد تؤدي بالمريض في مدى يومين، وصنف أخر أكثر حدة وأشد خطراً من كل ما ذكر وهو أشبه بالذبحة الصدرية ويسمونه (بالكولرا الجافة) لأنه لا يكون فيه إسهال ولا قيء وهو يصيب غالباً الشيوخ وضعاف الجسم وقد يموت من جرائه المريض بعد يوم واحد أو بعد بضع ساعات.
(البقية في العدد القادم)(750/28)
فضل أبو بكر(750/29)
حول جدل في الجامعة.
للأستاذ محمد أحمد خلف الله
تحت هذا العنوان كتب حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الفتاح بدوي المدرس بكلية اللغة العربية بالأزهر يقول (ولكن الذي لنا وللعلماء خاصة هو القيامة على الحقائق العلمية وعلى الحقائق الدينية ننفي عنهما الخبث وندافع عنهما كل من يحاول عليهما العدوان.) وأنه ما دام يملك المقال الذي كتبته في الرسالة. عدد 743 فإنه يملك باباً وسيعاً من المناقشة والحساب في مسائل علمية ودينية لها أكبر الخطر ويترتب عليها أعظم النتائج العلمية والأدبية والأجتماعية والقانونية إلى أن يحصل على أشياء أخرى غير المقال.
ومناقشة الاستاذ لهذا المقال قسمان مسائل وشتائم فلنبدأ الحديث عن المسائل:
1 - قلت من المعروف دينيا ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد اليه القرآن. فقال الشيخ هذه الدعوى تهجم عارم على العلم وعلى القرآن جميعاً وبين ذلك بقوله أليس القرآن الكريم كلاماً له الدلالات المنطقية الثلاث المطابقية والتضمينية والالتزامية التي لكل كلام سواء في ذلك كل أنواع الكلام.
ولا نفهم كيف يكون لكل كلام دلالات ثلاث تقصد منه مع أن عياره المتن - الذي يعرف بعلم البيان - (والإيراد المذكور لا يتأنى بالوضعية أي بالدلالة المطابقية ويتأتى بالعقلية أي التضمنية والألتزامية.)
ومعنى ذلك كما يلحظ القارئ أن الإيراد البياني بالتجويز والاستعارة والكناية. . . . الخ لا يكون إلا ببعض هذه الدلالات. ولذا لا ندري كيف حكم الشيخ بالدلالات الثلاث لكل كلام. ثم أين ما يقوله البيانيون ورجال البلاغة من حال المتكلم وحال المخاطب والقرائن العقلية وأين السياق والمقام حيث يقولون لكل مقام مقال أين كل هذا يا صاحب الفضيلة أليس كل هذا يدل على أنه لا يصح أن نستنتج من أي نص أمرا لم يقصد اليه القائل.
ثم هذه الآية نفسها التي أوردها الشيخ وهي أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة تدل الدلالة القوية على تأصيل القاعدة التي تقول بها إن لم تكن مؤصلة وإلا فليدلني الشيخ وقد ماذا يكون موقفه من العلم حين يثبت بقرائن مادية يقول بها علماء الجيولوجيا من أن هذا البيت ليس أول بيت وضع للناس من الناحية الزمنية أيصر على موقفه أم يرجع إلى قصد(750/30)
القرآن ويفهم ما فهمه بعض المفسرين من أن الأولية هنا ليست أولية الزمان.
ولو قرأ الشيخ المقال الافتتاحي في عدد الرسالة الذي نشر فيه مقالة وعنوانه (القرآن والنظريات العلمية) لوجد الضرورة القصوى الداعية إلى تأصيل هذا الأصل في فهم نصوص القرآن لو كان غير مؤصل في فهم عبارة كل متكلم. لكنه أصل لا نعرف أحداً يستطيع المشاحة فيه؟ ولكن؟.
2 - وقلت إن القصص القرآني من المتشابه فقال الشيخ فلسنا نعرف أحداً من الأصوليين ولا أحداً من المسلمين يعتبر القصص القرآني متشابهاً. . كما يقول في موطن آخر فالأستاذ الأمام لم يقل إن القصص من المتشابه ولم يقل بذلك مسلم قبله أو بعده. .
ونبدأ مع الشيخ بالعموم الجريء في قوله إنه لا يعرف أحداً من المسلمين يعتبر القصص القرآني متشابهاً ونضع بين يديه ما في التفسير الكبير المسمى بالبحر المحيط لأبي حيان ج 2ص 381 طبعة السعادة سنة 1328 هـ ونصه [وقال مقاتل المحكمات خمسمائة آية. . . الخ والمتشابه القصص والأمثال. وقال يحيى بن يعمر المحكم الفرائض والوعد والوعيد والمتشابه القصص والأمثال.]
ثم نضع قول الطبري في جامع البيان في تفسير القرآن ج3 ص107 المطبعة اليمنية ونصه [والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ واختلاف المعاني وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.]
ثم نضع قول الطبري في كتابه مجمع البيان في تفسير القرآن ج1 طبع صيداً ص 409 ونصه [
والمتشابه ما تكرر ألفاظه كقصة موسى وغير ذلك عن أبن زيد]. وهذا الرأي هو الذي نقله الأستاذ الإمام في تفسير المنار حيث لم يكتف بما نقله الرازي من أقواله في المتشابه (أنظر المنار ج3 ص165) ولا نطيل بنقله ولعل في هؤلاء واحداً يكون من المسلمين عند الشيخ؟
فإذا انتقلنا إلى الخاص وهو الأصوليين أحلنا الشيخ على إيراد الآمدي لهذا الرأي في كتابه الأحكام ج1 ص238 طبعة المعارف ومناقشته له.
كما نضع بين يديه عبارة الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم(750/31)
الأصول ص28 ونصها (ومثل المحكم الفرائض والوعد والوعيد والمتشابه القصص والأمثال).
فهل لم يعرف الشيخ واحداً من هؤلاء جميعاً؟.
3 - وقلت إن من المفسرين من لا يلتزم أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع بل بعضه أحداث غير واقعة فقال الشيخ:
ولا نعرف أحداً من الأصوليين ولا من المسلمين لا يقول بأن ما ورد في القرآن من القصص إنما هو أحداث وقعت وحوادث هي خلاصة الحقيقة التي وقعت في سوالف الأزمان.
وإقحام الشيخ الأصوليين هناك لا معنى له فليسمع كلام المفسرين الذين تحدثت عنهم إذ يقررون أن من القصص القرآني أحداث لم تقع.
جاء في أبن كثير ج1 ص590 بعد تفسيره لقوله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. . . الخ ما نصه (عن أبن جريح عن عطاء أن هذا مثل) وقد وضع على لفظة مثل رقم 1وكتب على الهامش بآلة الطباعة هذه العبارة (يعني أنها ضرب مثل لا قصة واقعة).
وجاء في الرازي ج2 ص333 نسخة الصالة بدار الكتب وذلك بصدد الحديث عن قصة إبراهيم والطير ما نصه [المسألة الثانية. أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها على بعض غير أني مسلم فأنه أنكر ذلك وقال: إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة أي فعود الطير الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك فأذا صارت كذلك فأجعل على كل جبل واحداً حال حياته ثم أدعهن يأتينك سعياً والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة].
وجاء في المنار ج3 ص52 بعد تفسيره لقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ما نصه [ويحتمل أن تكون القصة من قبيل التمثيل والله أعلم].
وقد كرر الأستاذ الأمام تفسير بعض القصص القرآني على هذا الاساس ويكفي أن نحيل(750/32)
الشيخ إلى الصفحات من 280 - 282 من الجزء الأول ليعرف أن الأستاذ الأمام قد فسر قصة آدم من سورة البقرة على أنها قصة تمثيلية.
على أنا نستطيع أن نضع بين يدي الشيخ هذا النص القاطع الذي لا يحتمل شكا في أن مذهب الأستاذ الأمام هو هذا.
جاء في المنار ج2ص399 الطبعة الأولى ما نصه [ومن البديهي أن ذكر القصة في القرآن لا يقتضي أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس منه كما أن نسبة الكفر إلى سليمان في القرآن ولو لم يكن ذكرها في سياق النفي.
قال الأستاذ الأمام ما مثله. بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل ومن تقاليدهم الصادق والكاذب ومن عاداتهم النافع والضار لأجل الموعظة والاعتبار فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز مواطن الهداية ولا بد أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح.
وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكى عنهم وأن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله (كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وكقوله (بلغ مطلع الشمس) وهذا الأسلوب مألوف فأننا نرى كثيراً من كتاب العربية وكتاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم لا سيما في سياق كلامهم عم اليونان والمصريين القدماء ولا يعتقد أحد منهم شيئاً من تلك الخرافات الوثنية.
ويقول أهل السواحل غربت الشمس أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئى]. أنتهى بنصه من حديثه عن قصة هاروت وماروت وبعد أفلا يرى الشيخ أن الأستاذ الأمام وأن الشيخ رشيد رضا يذهبان إلى أن كل ما ذكر في القصص القرآني لا يلزم أن يكون صحيحاً لأنه ذكر في القرآن بل يكون غير صحيح وانما ذكره القرآن وهو يعتقد بعدم صحته لأن ذلك هو الاسلوب العادي في التخاطب وهو الذي يجري عليه الأدباء.
على أني أستطيع أن أذهب مع الشيخ إلى أبعد من هذا فأقول له إن الأستاذ الإمام يفضل(750/33)
هذه الطريقة في التفسير وهي طريقة التأويل على غيرها.
قال رحمه الله ج1 ص273 ما نصه (أفلا تزعم أن لله ملائكة في الأرض وملائكة في السماء؟ هل عرفت أين تسكن ملائكة الأرض؟ وهل حددت أمكنتها؟ ورسمت مساكنها؟ وهل عرفت أين يجلس من يكون منهم عن يمينك؟ ومن يكون عن يسارك؟ هل ترى أجسامهم النورانية تضئ لك في الظلام أو تؤنسك إذا هجمت عليك الأوهام؟ فلو ركنت إلى أنها قوى أو أرواح منبثة فيما حولك وما بين يديك وما خلفك وأن الله ذكرها لك بما كان يعرفها سلفك وبالعبارة التي تطمئن اليه نفسك من وجوه تعرفها أفلا يكون ذلك أروح لنفسك وأدعى إلى طمأنينة عقلك؟ أفلا يكون قد أبصرت شيئاً من وراء حجاب؟ ووقفت على سر من أسرار الكتاب؟ فإن لم تجد في نفسك استعداد القبول أشعة هذه الحقائق وكنت ممن يؤمن بالغيب ويفوض في أدراك الحقيقة ويقول (آمنا به كل من عند ربنا) فلا ترم طلاب العرفان بالريب ما داموا يصدقون بالكتاب الذي آمنت به ويؤمنون بالرسول الذي صدقت برسالته وهم في إيمانهم أعلى منك كعباً وأرضى بربهم نفساً.
ألا إن مؤمناً لو مالت نفسه إلى فهم ما أنزل إليه من ربه على النحو الذي يطمئن إليه قلبه كما قلنا كان من دينه في ثقة ومن فضل ربه في سعة) انتهى بنصه.
والآن ماذا يرى الشيخ؟ وماذا يرى غيره من الثائرين؟ إنا لنمتثل معهم بقول القرآن الكريم (وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
ومن هنا سنعرض عن القسم الثاني من مقال الشيخ وهو قسم الشتائم لعله يفقه الحق ويصل إلى الرشد ويقف على أسرار قرآننا الكريم.
محمد أحمد خلف الله
كلية الآداب - جامعة بغداد.(750/34)
هجرة المختار:
يا صاحب الحوض المطهر. .
للشاعر محمد هارون الحلو.
هل غير بابك للمؤملى باب ... يا خير من تسمو به الألقابُ
شعت بنورك في البرية آية ... هي في الخلائق سنة وكتاب
كفل الإله لنا بظلك نجوة ... من كل ما يخشى الورى ويهاب
الكوكب الدري في أفق الورى ... هذا النبي، تبارك الوهاب
نزل الأمين عليه يحمل معجزاً ... للمرتجين به هدى وثواب
آي من الكلم الجوامع لم يزل ... للعقل منها منطق وخطاب
فيض من الألق السنى تفرقت ... منه وشائع سحرهن عجاب
ما كان شاعر أمة وقبيلة ... هذا الزكي الطاهر الأواب
بل كان ملهم حكمة وشريعة ... تسمو بها الأخلاق والآداب
بعث النبي وقومه في غمرة ... وحديثهم في المرسلين كذاب
ورثوا عن الاشياخ من أبائهم ... بهتان ما شبوا عليه وشابوا
اللات والعزي وآلهة الهوى ... تسعى لها الأعاناق والذناب
والراي وهو من الفطانة والحجى ... تقضي به الأزلام والأنصاب
والقتل وهو على النفوس محرم ... لم يبق منه الثأر ما هو عاب
والخلف داء في القلوب اصابهم ... في مقتل فغدوا وهم أحزاب
فغدا الرسول عليهم بيقينه ... والحق سيف يمينه وقراب
فأضلهم شيطانهم إذ ردهم ... في غيهم خاب الدعى وخابوا
ما ضر لو تبعوا الهدى من ربهم ... وسعى بهم نحو الفلاح ركاب
قد كذبوه وناهضوه وإنه ... فيهم لينبوع جرى وسحاب
يدعو إلى التوحيد وهو جبلة ... دانت بها وبنورها الألباب
رهانه نور الكتاب مفصلا ... ولهم حجاج خاسر وسباب
أيقر عقل أن تقوم خليفة ... وبطلها تتسابق الأرباب(750/35)
ما غير رب العرش في ملكوته ... بين الخلائق قاهر غلاب
حملوا الأذى عنه وحمل عنهم ... ما يحمل النصراء والأصحاب
يتأمرون عليه وهو مناصح ... أيفيد نصح فيهم وعتاب
ضاقوا بدين الله وهو مبلج ... ضاح يشع ضياؤه الخلاب
نفث الغوى ضلالهم في روعهم ... فغدوا وهم يصول وناب
يتوثبون ودون ما قد قدروا ... للقاء أحمد حاصب وشهاب
داروا ببيت المصطفى وحيالهم ... دون النبي مسالك وشعاب
واستلأموا كي يقتلوه وما غنى ... في البيت إلا الفارس الوثاب
ينتظرون مع الصباح غدوة ... وصباح ليل المشركين ضباب
يا نائماً والروح حارس مهده ... وسيوف مكة من فراشك قاب
خفوا إليك يناوشونك بالأذى ... يا بائس ما خفت له الأعراب
بكروا على ما بيتوا من أمرهم ... وبهم هدير صاخب ووثاب
ويتمتمون بحسرة وفجيعة: ... هذا عليّ دثرته ثياب
وافوا على أمل يقر عيونهم ... وغدوا بخزي الخاسرين وآبوا
ومضى رسول الله يطلب غاية ... يرعاه من ظل الإله جناب
هل يعلمون بأن دون لحاقة ... ووثاقه تتقطع الاسباب!!
ساخت يدا فرس يجد بفارس ... القلب منه واجل هياب
ويد النبي تشير: قف متصاغراً ... يا أيهذا الواغل الطلاب
وسراقة المصروع يهتف بالهدى ... أنت النبي وما يدينك عاب
ولوى العنان وكان أول مؤمن ... حملت عليه وصاولته هضاب
وطوى الرسول البيد وهو على خطأ ... من غار ثور والطريق يباب
أو ما اليه المصطفى بتحية ... فأنهل منه البشر والترحاب
قف بي حيال الغار وقفة خاشع ... فالغار في بطائحه محراب
حشد الملائك حوله مستلئمين وهم لدين المصطفين غضاب
وكأن روح القدس في أجناده ... من حوله أسد العرين وغاب(750/36)
هذا هو الغار المحجب سره ... رف الظلام به فما ينجاب
فيه ونور الحق أبلج مشرق ... دون البصائر ظله ونقاب
لا يستبين القلب منه مظنة ... فيها لسعي الطالبين رغاب
فعشاشة فيها الحمائم فرخت ... وعليه من نسج العناكب باب
صور يحار الفكر في تدبيرها ... عجباً وليس له بهن جواب
الله أكبر ذاك نصر محمد ... ما فيه شك أو به مرتاب
منعته كف الله من أعدائه ... فمضى على التوفيق وهو مهاب
لله درك يا أبا بكر فقد ... شدت بك الأوتاد والأطناب
وبك الشريعة قد توطد ركنها ... وسمت بها في المشرقين قباب
مذ جاءك النبأ العظيم وأنت في ... ظل النبي السائح الجواب
تفدى وتبذل عن يقي صادق ... لم يثن عزمك شدة وصعاب
في الغار كنت المفتدى خير الورى ... والقلب ظام والنفوس جداب
حين ابتليت بواثب متربص ... والسم منه تفحه الأنياب
والمصطفى حان عليك مطبب ... والجرح بلسمه الطهور لعاب
علمتنا معنى الوفاء ولم يزل ... لك في وفاء الصادقين كتاب
هذا الخضم أما له من شاطئ ... يا رب ترسو عنده الآراب
فالليل داج والمسالك وعرة ... فيها بروع الماخرات عباب
والمرفأ المأمول منه محجب ... ووراء عين الناظرين سراب
لولا هدى المولى تبارك وجهه ... ما لاح نجم أو أضاء شهاب
فسفينة الملاح يهدى سعيها ... صوت من الله العلي مجاب
الروح حاديها إلى شط السلا - م فكيف يستبق الخطأ جواب؟
هذي مشارف يثرب أئتلقت وأشـ ... رق بينها للصاحبين رحاب
وسرت مع الصبح المنور نفحة ... تهفو بها النسمات وهي عذاب
وغدا النبي ووجهه متهلل ... جذل فغمره ليلة تنجاب
ومواكب البشرى تحف ركابه ... وبها قلوب بالنشيد طراب(750/37)
ونجيبة المختار يحدو خطوها ... بين الهتاف الصحب والأحباب
ويرف حول المصطفى نسم وظل ... (م) فيه من مسك الربى أطياب
فالسهل بلله الندى برضانه ... وسقاه فهو منضر معشاب
والنخل ذو الأكمام مال مصفقا ... وله أكف زانهن خضاب
وترى الجحافل والكتائب بالسيو - ف تشابكت منها عليه قباب
والطير باللحن الشجي تسابقت ... منها لترجيع الهوى أسراب
عرس به غدت المدينة مشهداً ... عجباً تهيم بسحره الألباب
يا قدس هذا اليوم يوم محمد ... فيه تجلى الواحد التواب
هي هجرة ميمونة لجلالها ... ذات كواهل في الورى ورقاب
يا صاحب الحوض المطهر هل إلى ... ظام بحبك نفحة وشراب؟
ورد الهوى لو يستباح لظامئ ... لذ المدام ورقت الأكواب
أنا من يغالبه الهوى وله به ... روح وريحان ند وملاب
نهواك نهوى في حماك مثوبة ... والأمن في يوم يقوم حساب
لي منك يا جد الحسين شفاعة ... ترجى إذا غشى النفوس عذاب
في يوم تصطفى الجوانح خشية ... ويشف عن كشف الغيوب حجاب
صلى عليك الله جل جلاله ... ما أنهل بالعذب النمير سحاب
محمد هارون الحلو(750/38)
الأدب والفن في أسبوع
مات الزين
مات أحمد الزين! فكان موته فجيعة الأدب في الشاعر الكبير ووجيعة القلب في الصديق الكريم، ومأساة الأسرة في العائل الراحل.
أما الصديق الكريم فقد غشينا من الأسى لفقده ما غشينا. وتلاقينا بعد نعيه وكان الواحد منا يقول لصاحبه: مات الزين! ويكاد يجهش لولا التجلد والتجميل. ونطرق صامتين برهة. . ثم تتلاقى نظراتنا كليلة منداة. . وفي نفس كل منا ما فيها من المشاعر والخواطر، وكلها تدور حول ذلك الفقيد الذي ظل حياته ينفح بأدبه وينافح بجلده، حتى صرعه الموت، بعد أن عرقته العلة، وأستنفد العلاج القليل المدخر، ولم يبق إلا الصغير اليتيم الذي لم يكد يضع قدمه الغضة على عتبة المدرسة. . .
صفحة للتاريخ الأدبي:
كان الزين من أعلام الشعر في هذا العصر، وكان يستمد شعره من نبع فياض هو نفسه الشاعرة، وكان يجل فنه ويقدسه، فلم يقصد به إلى منفعة، ولم يتوسل به إلى كسب. كان يقول الشعر يصور به نفسه ويعبر عن مشاعره، فقال كثيراً في الغزل العاطفي الرقيق، الذي يدل على عاطفته القوية الصادقة التي تتجلى أيضاً في رثائه لأصدقائه الراحلين. والمستوعب لشعره يجد العاطفة هي السلك الذي ينتظم حباته، ومن ذلك قصر مدائحه على أصدقائه من كبار الرجال، وله خواطر ألمعية في نقد المجتمع وأحوال الناس، كان يصوغها صياغة فنية بارعة. ولعل آخر مطولاته القصيدة التي قالها في ذكرى أحمد تيمور باشا سنة 1945 ومطلعها: -
ذكرى على صدق الوفاء دليل ... يمضي بها جيل ويقبل جيل
وفيها يقول:
لا تبك من عاش عمراً واحداً ... إن التراب على التراب مهيل
هل عاش أو هل مات لا تسأل به ... فمماته بحياته موصول
ما زاد عن تعب الولاد لأمه ... والناس وهو إلى الثرى محمول
ومن البلية أن أكثر من نرى ... في الناس ذاك العائش المتكول(750/39)
فأملأ موازين الزمان فلن ترى ... في الناس ميزان الزمان يميل
تقضي العصور على الرجال بحكمها ... والباقيات الصالحات عدول
تيمور إن نفقد حديثك بيننا ... فصداه في أفق الزمان يجول
وقال بعد هذه القصيدة قطعاً مختلفة لعل آخرها عشرة أبيات مدح بها معالي إبراهيم عبد الهادي باشا، في أوائل هذا العام، منها قوله:
ماذا تزيدك في العلا أقوال ... من بعد ما شهدت لك الأعمال
عمر تضيق سنوه عن أعماله ... فكأنما أعوامه أجيال
ماض ملئ بالجهاد وحاضر ... حفل، وآت كله آمال
ومواهب جمعت لديك لو أنها ... في أمة لم يكفها استقلال
ومواقف أغنى خلود حديثها ... عن أن يقام لخلدها تمثال
وكان صديقاً لمعاليه. ولك أن تعجب من صداقة موظف باليومية لم يبلغ الدرجة السادسة إلا أخيراً لرئيس ديوان جلالة الملك! ولكن عجبك يتحول إلى الإكبار عندما تعلم أن فقيدنا كان، إلى عظم منزلته الأدبية، كبير النفس، فلم يكن ليصغرها بطلب شيء لذاته، وربما رجا لغيره. . . ومن هنا ظل شعره بعيداً عن أن يكون سبباً من أسباب الحاجات مع توفر هذه الحاجات!
ولم يكن الزين من المقلدين في الشعر والمزيفين للشعور، بل كان صادق الفن، يصدر عن ذات نفسه ويعبر عن خالص وجدانه، وكان مرهف الحس دقيق الشعور واضح المعاني، يؤدي كل ذلك في ديباجة مشرقة وألفاظ عذبة، لا تجد له لفظاً مستكرهاً ولا معنى ملتوياً.
وكان يعني بالتوقيع الموسيقي في شعره، يؤلف أجزاءه منسجمة متآخية، ثم يردده في تنغيم خاص يطرب له، ويستدعي به ما بقي من القصيدة. . .
وكان رحمه الله يريد أن يجمع شعره في ديوان، ولكن شغلته شواغل العيش ثم متاعب المرض ثم عاجلته المنية. . . وقد نشر أكثر شعره بالرسالة والأهرام والثقافة، وقد طبع في مستهل حياته الأدبية ديواناً سماه (قلائد الحكمة) أكثره أراجيز تدل على بدء معالجته للقريض كما يدل على ذلك تخميسه لقصيدة امرئ القيس (قفانبك) الذي أخرجه أيضاً في مطبوع صغير. وأطلق عليه لقب (الراوية لكثرة ما كان يحفظه ويرويه من أشعار العرب.(750/40)
وكان للزين جهد جليل الشأن في تحقيق الآثار الأدبية وتصحيحها وإخراجها - وكان يعمل في ذلك بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، وقد أخرج ستة أجزاء من (نهاية الأرب) وأخرج الجزء الأول من أشعار الهزليين وكان يعمل في الثاني، ومن مجهوده في هذا الميدان خارج دار الكتب اشتراكه مع الأستاذ أحمد أمين بك في إخراج كتاب (الإمتاع والمؤانسة) ومعه ومع الأستاذ إبراهيم الأبياري في إخراج أربعة أجزاء من كتاب (العقد الفريد). وقد أشترك الثلاثة أيضاً في إخراج (ديوان حافظ) بتكليف من وزارة المعارف وأخرج الأستاذ الزين (ديوان إسماعيل صبري) وقدمه بدراسة قيمة.
وقد تخرج الفقيد في الأزهر إذ حصل على شهادة العالمية سنة 1925 وكان وهو طالب يتردد على الجامعة المصرية القديمة لسماع محاضراتها الأدبية. وفي سنة 1926 عين مصححاً بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية، وظل بها حتى نقل في هذا العام إلى المراقبة العامة للثقافة بوزارة المعارف. وقد توفى في العقد الخامس، وكانت وفاته يوم الأربعاء 5 نوفمبر سنة 1947.
المأساة:
كان الزين موظفاً باليومية في دار الكتب المصرية، ولا تحسب في أجره الضئل أيام الاثنين (العطلة الأسبوعية في دار الكتب) والإجازات والأعياد، وظل مرتبه اليومي يزداد قروشاً طيلة مدة خدمته، حتى وصل إلى ثلاثة وأربعين قرشاً يعطي منها ثمانية قروش لكاتبه الذي كان يلزم له في عمله بحكم حالته إذ كان مكفوف البصر. وجاء أخيراً (كادر العمال) فقفزت به أحكامه إلى الدرجة السادسة. . وقد عد من العمال لأنه يعمل باليومية مثلهم!
وعاش الشاعر الكبير صابراً على هذه الحال، متجملا بالتعفف، منطوياً على عزة نفسه، يروح ويغدو وفي وجهه ماء الكرامة والكبرياء. . وظل مع ذلك يصدح على أيكة الشعر ويخرج الأدب المصفى في هذا البلد الذي يحترق فيه كرام الأدباء وينال خطوة أوليائه الهتافون ومن إليهم من سائر الوصوليين. . . . ثم داهمه المرض من نحو ستة أشهر، وتعاوره الأطباء. . . هذا يقول: (قرحة المعدة) وذاك يقول له: (داؤك في الكبد) وثالث يقول بثالث. . . وكل يعطي حقناً ويكتب (روشتة) ويأخذ (كشفاً) حتى نفد القليل الذي(750/41)
أدخره من أجرة على تصحيح الكتب التي أشترك فيها خارج عمله الحكومي، وحتى نفدت أثمان حلي الزوجة. . . ثم نفد الرجل. . وخلف ثروة أدبية لا نفع فيها للأيم واليتيم الذي تركه في نحو العاشرة من عمره. ويقضي قانون الحكومة بمنح الورثة مكافأة تجمع من أجر نصف شهر عن كل سنة من مدة خدمة موظف اليومية!.
وبعد فماذا عسى أن يكون مصير أبن أحمد الزين الشاعر الرواية والأديب الكبير؟
أيتها الدولة. عينك بصيرة وليست يدك قصيرة. . . .
ذكرى شوقي في الأوبرا:
لعل القراء يذكرون ما كنا قد أخذناه على اللجنة التي ائتلفت لإحياء ذكرى شوقي من اعتزامها الاحتفاء بالذكرى في (أوبرج) الأهرام، وتسعير مشاهدة الحفل، واشتمال البرنامج على رقص و (منلوجات).
وقد حدث بعد تنفيذنا ذلك أن أعاد أعضاء اللجنة النظر في الموضوع، واقتضى ذلك تأخير الاحتفاء بالذكرى عن موعدها وقد أستقر الرأي أخيراً على أن تقام حفلة إحياء ذكرى شوقي في مسرح الأوبرا بدلا من (الأوبرج) وقد عين لإقامة هذه الحفلة يوم 28 نوفمبر الحالي.
ويشتمل برنامج الحفلة على شعر من خليل مطران بك والأستاذ محمود حسن إسماعيل والأستاذ علي محمود طه والدكتور إبراهيم ناجي والأستاذ طاهر أبو فاشا.
وممن سيلقى كلمات نثرية معالي إبراهيم دسوقي أباظه باشا ومحمد صلاح الدين بك وعزيز أباظه باشا والأستاذ أنور أحمد. ويتخلل ذلك موسيقى، وتمثيل من مسرحيات شوقي، وغناء شعر لأحد الشعراء في ذكراه.
وقد جرت محادثات أو مفاوضات مع عبد الوهاب وأم كلثوم للاشتراك في الحفلة بغناء في شعر شوقي. أما عبد الوهاب فأبى أن يغني أمام الجمهور ورأى الاكتفاء بتسجيل قطعة تذاع في الحفلة. فلم تقبل اللجنة هذا الوضع الذي طالما غنى شعره أمام الجماهير وأما أم كلثوم فكانت قد تمنعت، ولكن لا تزال المفاوضة جارية معها، والمأمول أن تساهم في ذكرى شوقي، ولو مقابل (سلوا قلبي) و (أغنية السودان) و (ريم على القاع) التي أخذتها بالمجان من ديوان المحتفى بإحياء ذكراه. . .(750/42)
بقى أمران لا بد من الإشارة إليهما، الأول أن الحفلة لا تزال مسعرة، أي أن مشاهدتها ستكون بنقود تدفع ثمناُ (لتذكرة الدخول) ولم تجر العادة بذلك في الحفلات الأدبية.
الأمر الثاني رياسة (شرف) الحفلة، المسندة إلى هيكل باشا الموجود الآن في أمريكا. ولو فرضنا أنه في القاهرة وسيحضر الحفلة فما أظن أنه يترفع عن الرياسة (الفعلية) لحفلة إحياء ذكرى شوقي، كما أظن أن (رياسة الشرف) شيء قديم لم يعد الآن مستساغاً.
المازني يتزوج الأدباء:
كتب الأستاذ المازني في (أخبار اليوم) مقالا عناونه (لو أصبحت امرأة) وما كنت لأتعرض لمثل هذا الموضوع لولا أن كاتبه المازني، ولولا أنه يصور طوراً من الأطوار التي يمر بها إنتاج هذا الأديب الكبير. ذلك الإنتاج الذي يخف ولكنه لا يبرد، فهو دائماً تشيع فيه روح الدعابة والظرف، وقد تشبع هذا الموضوع الأخير من ذلك، بل زاد فيه حتى جاوز درجة التشبع. . .
نفر المازني من تصور أمرأة، فأبعد هذا الانقلاب التصوري عن نفسه، وحوله إلى الأدباء، متصوراً أنهم نساء وأنه يختار أحدهم أو إحداهن زوجة. أستقبح هذا التصور وجعل يصور قبحه، فقال عن العقاد: (. . ثم من هذا الذي يطيق امرأة فيلسوفة تأتي إلا الغوص والتعمق في كل شيء، وإلا أن تتناول كل مسألة بالعقل والمنطق) ثم أنتقل إلى غيره فقال: (أوخذ توفيق الحكيم - أو توتو، أو فيفي، أو حكمت، إذا جعلناه امرأة) إلى أن قال (. . . . وتنقدها كل شهر (مصروف) البيت فتثير عليك، وتقدم لك الطعام - إذا قدمت شيئاً - في (برشامة) ويدع الحكيم فيقول: (وإن طه حسين لكريم يجب لين العيش وخصبه، ولكن هذه الرفاهة ستكون على حسابي لأعلى حساب (حسنية)! ثم إنه يجب السيطرة والتحكم وإن كان يبدو ليناً، وأنا أكره حسنية هذه - كفانا الله السوء زوجتي فسينتهي الأمر بأن أخنقها أو تخنقني. وحسنية تحب باريس والغرب وأنا أكرههما وأحب الشرق. . . الخ).
ولم يخل الموضوع من شيء، فقد أشار - كما ترى - إلى صفات في هؤلاء الأدباء بهذا المزح الأكثر من اللازم. . . كل ذلك وعنوان المقال (لو أصبحت امرأة) ويظهر أنه وضعه ليسير في التخيل ونسى العنوان، أو أبقاه على طريقة لفت الأنظار بالعناوين الشاذة!
ونرجع إلى حيث بدأ، فتصور المازني في امرأة! لا عليك من المنظر. . . إنه كريم(750/43)
ظريف حلو الشمائل لين الجانب، ولكن من يتزوج (زيزي) التي لن تفرغ له، لأنها تكتب في 99 % من الصحف والمجلات المصرية؟! إن الحياة مع (زيزي) هذه لا بد أن تكون سلسلة من المتاعب والمقالات. . .
(العباس)(750/44)
البريد الأدبي
الطير الأبابيل في تفسير الأستاذ الأمام:
قلنا في كلامنا الذي نشر بالرسالة عن القرآن والنظريات العلمية أن محاولات التوفيق (قد تكون مأمونة معقولة كقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير الطير الأبابيل بجراثيم الأمراض التي تسمى بالميكروبات. فالميكروبات موجودة لا شك فيها، والإصابة بها محققة كذلك في مشاهدات مجرية لا تقبل الجدال. فإذا قال المفسر كما قال الأستاذ الإمام أن هزيمة أصحاب الفيل ربما كانت من فعل هذه الجراثيم فذلك قول مأمون على الجواز والترجيح).
وهذا الذي فعله الأستاذ الإمام حين أجاز أن تكون إصابة أحجار الفيل من قبيل الإصابة بجراثيم الأمراض.
وقد كتب الأستاذ الفاضل الشيخ مصطفى أحمد الزرقا إلى الرسالة معقباً على مقالي فقال: (لعله أعتمد في قضية الطير الأبابيل على رواية أحد نسب ذلك الرأي إلى الشيخ محمد عبده أخذاً مما أشيع عنه وأشتهر).
ولكن الواقع أننا لم نعتمد على الرواية بل اعتمدنا على كلام الإمام نفسه، ولم تنسب إليه غير ما جاء في نص تفسيره حيث قال في الصفحة الـ (158) من تفسير جزء عم يتساءلون: (فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا أتصل بجسد دخل في مسامه فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير الذي يسمونه الآن بالمكروب لا يخرج عنها، وهو فرق وجماعات لا يحصى عددها إلا بارئها ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله في قهر الطاغين على أن يكون الطير في فخامة رؤوس الجبال. . . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكة).
إلى أن قال رحمه الله: (هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة وما عدا ذلك فهو مما(750/45)
لا يصح قبوله إلا بتأويل إن صحت روايته، ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسماً ويهلك بحيوان صغير ولا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر).
وفي هذا النص يرى الفاضل الأستاذ (الزرقا) إننا لم نعتمد على الرواية المنقولة، ولم نتجاوز بالنص معناه حين قلنا أن الأستاذ الإمام أجاز تفسير الطير الأبابيل بجراثيم الأمراض التي تسمى بالميكروبات، وهو تفسير مقبول ولا شك - كما قلنا - على سبيل الجواز والترجيح.
عباس محمود العقاد.
بيان:
خاضت الصحف في الكلام عن رسالة (فن القصص في القرآن الكريم) قدمها طالب في كلية الآداب لينال بها درجة دكتور، وتحدثت بعض الصحف عن حرية البحث وعن أمور تتصل بهذا الموضوع.
وحقيقة الأمر أن رسالة قدمت إلى كلية الآداب فألفت لجنة لفحصها طبقاً للوائح، فرأت اللجنة أنها لا تصلح إن تكون موضوعاً للمناقشة المعتادة في درجة الدكتوراه، فردت الرسالة إلى صاحبها وهذا يقع في الجامعة كثيراً.
فما كان ينبغي أن تكون الرسالة بعد هذا موضوع جدال في الصحف، فرسائل الجامعات التي تقبلها الكلية المختصة وتأذن بالمناقشة فيها ونشرها تبقى سراً بين الطالب وأساتذته، وكل ما فيها من آراء عرضة للإصلاح والتغيير والحذف، فإن رفضتها الكلية فهي كورقة امتحان لنم ينجح صاحبها.
هذه حقيقة الأمر. ولكن بعض الكتاب؛ ومنهم الطالب كاتب الرسالة، خاضوا في جدال فيها، وكنت حينئذ غائباً عن مصر فلما رجعت عملت على ألا ينشر شيء في هذا الموضوع، وأحببت حضرتي صاحب الفضيلة وكيل الأزهر وسكرتيره العام مبيناً أن هذه الرسالة لا تجوز المناقشة فيها ولا المؤاخذة بها ما دامت ورقة امتحان يقدمها طالب لأساتذته منتظراً رأيهم فيها وقد نشر فضيلة السكرتير العام خطابه إلى وجوابي له.(750/46)
رجوت أن ينتهي الجدل عند هذا الحد، ولكن الطالب كتب مرة أخرى متحدثاً عن الانتكاس في الجامعة، وسألت الجريدة التي كتب فيها الطالب كلمته الأستاذ المشرف على الرسالة فكتب كلمة عن حرية الرأي، وذكر المحنة العقلية والأخلاقية الخ، وقد أسفت الكلية لاشتراك الأساتذة في جدل في الصحف حول موضوع من موضوعات الامتحان. والتمست من الأساتذة الذين لهم صلة بهذا الموضوع أن يكفوا عن كل جدل صحفي، وألححت على الأستاذ الذي أشارت إليه الكلمة التي نشرها زميله ألا يجيب مهما يكن له حق في الإجابة، ومهما يكن عنده من أدلة لتأييد رأيه ونصحته الكلية ألا يدخل في هذا الجدل، وعرفته أن ليس من سنن الجامعات ولا من كرامة الأساتذة أن ينقلوا أبحاثهم من الجامعة إلى جدال في الصحف. فكتب هذا الأستاذ إلى الصحيفة التي وعد بالكتابة فيها معتذراً عن الرد؛ قائلا إن الجهات الرسمية منعته من الكلام، والجهات الرسمية التي أشار إليها هي الجامعة، ولم تدخل جهة رسمية أخرى في هذا المنع.
الجامعة لم تمنع الطالب من أن ينشر أراءه بعيداً عنها بكل وسيلة يراها، ولم تزد الجامعة على أن قالت إن البحث الذي في هذه الرسالة لا يستحق عندي درجة عليمة، وبقيت الحرية للطالب ومن يرى رأيه، في أن ينشر أراءه في كتاب من عنده لا في رسالة من رسائل الجامعة، بعد أن أبدت الجامعة رأيها فيها وردتهاـ وحينئذ يحتمل وحده تبعة ما فيها من غلط أو ضلال. وما دام هذا في مقدرة الطالب فلا حق لأحد في أن يدعى أن الجامعة تمنع حرية البحث.
وبعد، فالجامعة أعرف بحرية الرأي، وأدرى بحدوده هذه الحرية، وأبصر بتوجيه طلابها، وأقدر على نقد ما يكتبون. فالمرجو من أنصار حرية الرأي أن يتذكروا هذا، ولا ينكروا على الجامعة حريتها في التصرف فيما هو من خصائصها، فأن الجامعة تطالب بحقها في الحرية أيضاً وتتمسك به قبل الناس جميعاً.
عبد الوهاب عزام
عميد كلية الآداب
من شوارد الشواهد:(750/47)
إن جميع ما يكتبه الأديب البارع الأستاذ الطنطاوي مما يحرص الأديب الناقد على تلاوته، لعلمه بأنه لا يكتب إلا طريفاً ممتعاً ولا يكون إلا محسناً مبدعاً، ومن تلك الأبحاث المفيدة التي ينشرها في مجلة الرسالة مجلة العلم والأدب والإسلام والعرب مقالته (من شوارد الشواهد)، التي علق عليها في الحاشية بقوله: (فأرجو ممن وقف على نص فيه تصحيح نسبة بيت مما ذكرت أن يرشد إليه فقد يعزى البيت إلى غير رواية، أو ينحل غير بانيه).
والطنطاوي عهدناه من المحافظين في الآداب على الأنساب، وهو ممن لا يرد رجاؤه، وقد وجد الشاهد (24) معزوا إلى إبراهيم الصولي وهو:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وهذا البيت المعدود من شوارد الشواهد، لأبي تمام من قصيدة يمدح بها أبا الحسن علي بن مرة، وأرسلها إليه من سامراء إلى دمشق مع أخيه سهم؛ ويروي هذا البيت في غير الديوان (إذا ما أيسروا)، ويروى مؤلفو كتاب البيان والبديع أن إبراهيم الصولي قد ضمنه أبياتاً منها قوله قبل هذا البيت:
أولى البرية طراً أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن
وليس هذا البيت للصولي بل هو لأبي تمام، وهو في ديوانه قبل الشاهد، وتختلف عنه رواية الديوان قليلاً، فهو فيه:
أولى البرية حقاً أن تراعيه ... عند السرور الذي آساك في الحزن
وقبل هذا البيت في الديوان:
لي حرمة بك فاحفظها وجاز بها ... يا حافظ العهد والعواد بالمنن
وللصاحب بن عباد تضمين حقيقي لهذا الشاهد بقوله:
أشكو إليك زمانا ظل يعركني ... عرك الأديم، ومن يعدو على الزمن
وصاحباً كنت مغبوطاً بصحبته ... دهراً فغادرني فرداً بلا سكن
وباع صفو وداد كنت أقصره ... عليه مجتهداً في السر والعلن
كأنه كان مطوياً على أحسن ... ولم يكن في قديم الدهر أنشدني:
(إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن)
(دمشق)(750/48)
التنوخي
تذكير:
أنا لم أكن أرى مواصلة الرد على ما جاء في الرسالة (الفن القصصي في القرآن) لأن الرد على هذا الطالب يوهمه أن في رسالته علما وأنه أهل لأن يكلم بكلام العلماء، ويجرئ غيره من طلاب الجامعة على ابتغاء الشهرة قبل أوانها بحماقة أخرى مثل هذه. .
ولكن ما دام قد ورد عليه جماعة من أهل الفضل فإني أذكرهم بأمرين ما أنتبه لهما واحد منهم.
أولهما: أن هذا الطالب لم يبتكر هذا الذي جاء به في رسالته وعقدها عليه، بل نقله عن سان كلير المبشر من كتابه الذي وضعه لتكذيب القرآن، وسماه (مصادر الإسلام) وهو مترجم إلى العربية ومطبوع، وفي رسالة الطالب نقل منه وعزو إليه كثير.
وثانيهما: أن هذا القول يمس جوهر الشريعة، لأن أدلة الشرع منها ما هو متفق عليه، وهو الكتاب والسنة والقياس (ولا عبرة بخلاف الظاهرية فيه) والإجماع، ومنها ما هو مختلف فيه (وهو معتبر في الدين كل حال) كالاستحسان والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا، وعلى ذلك يكون ما حكاه الله (في قصص القرآن) من شرائع من قبلنا شرعاً لنا، ويكون ما جاء في كتاب المبشر وفي رسالة الطالب، هدماً لهذا الأصل من أصول الدين، ولما بنى عليه من أحكام فقيهة، في المذهب الذي هو مذهب القضاء والفتوى في مصر.
علي الطنطاوي
العجول والأناسي:
حضرة العلامة صاحب الرسالة
أرجو أن تضيفوا إلى إمضاء (الخفيف) كاتب المقال بهذا العنوان، لأني مشاطره في تأثره وانفعاله من تصرف البهيم الذي كان يسوق بهائم هي أرأف منه وأعطف. وأني لشريكة أيضاً في الأسى والأسف لبؤس الغلمان الذين كان النفر الشرطي يقودهم كالأغنام ويجلدهم.
مثل هذه القسوة الفظيعة على البهائم نراها كل يوم في شوارع العاصمة حتى في أهم(750/49)
شوارعها وأرقاها (ولا أقول أنظفها لأنها لم يقسوها الشرطة على الغلمان البائسين في سوقهم إلى دار الشحنة نرى كل يوم.
فأين جمعية الرفق بالحيوان تثبت وجودها؟ أم أنها نفقت مع الحيوانات الموبوءة وما بقى إلا ذكر اسمها لكي لا يقال أن مصر خالي ة من معالم المدنية. وأين جمعية الشفقة على الإنسان؟ أم أنها لم تولد حتى الآن.
إن هؤلاء الذين يزعم الجاويش أنهم من سارقي الجيوب وخاطفي الحلي قد يكونون كما زعم. وهم مئات الألوف في البلد. فماذا تفعل بهم دار الشرطة؟ هل تسجنهم؟ ترحمهم إذا سجنتهم. ولكنها لا تسع جيشا من المتشردين والنشالين. تتهددهم ثم تطلق سراحهم. ويعودون إلى جرائمهم.
والله إنهم ليسوا مجرمين. إنما المجرم هذا النظام الذي حرمهم أسباب الرزق وأسباب التربية والتعليم. علموهم وربوهم ثم اعتقلوهم بذنوب إن أذنبوا.
نقولا الحداد
الأبيات لأبن رهيمة وليست لعلية:
في كلمة الأستاذ الفاضل (العباس) تحت عنوان (غزل علية) - الرسالة رقم 748 - وردت الأبيات (وجد الفؤاد بزينبا) على أنها للأميرة الشاعرة. وألحق أن هذه الأبيات لأبن رهيمة المدني وهو شاعر أموي. وقد ذكر ذلك أبو الفرج في أخبار علية، إذ قال بعد أن ورد هذه الأبيات منسوبة إلى علية: (هكذا ذكر ميمون ابن هرون، وروايته فيه عن المعروف بالشطرنجي، ولم يحصل ما ورواه، وهذا الصوت شعره لأبن رهيمة المدني والغناء ليونس الكاتب، وهو من زيانيب يونس المشهورات، وقد ذكرته معها، والصحيح أن علية غنت لحناً) انتهى قول أبي الفرج.
أما زنيانيب يونس هذه، أو زيانبه، فقد جاءت كلها في أخبار يونس الكاتب (أغاني جزء 3) وعددها سبعة، والشرط فيها أن تكون من شعر أبن رهيمة، وكان يقولها في زينب بنت عكرمة وقد أباح هشام بن عبد الملك دمه أن هو عاد لذكرها، وفعل ذلك بكل من غنى في شيء من شعره، فهرب هو ويونس فلم يقدر عليهما، فلما ولى الوليد بن يزيد ظهراً، وقال(750/50)
أبن رهيمة في ذلك:
لئن كنت أطردتني ظالماً ... لقد كشف الله ما أرهب
ولو نلت مني ما تشتهي ... لقل إذا رضيت زينب
وما شئت فاصنعه بي بعدذا ... فحبي لزينب لا يذهب
هذا وللأستاذ (العباس) أصدق الإعجاب والتقدير لما يمتعنا به في صفحة (الأدب والفن في أسبوع) من أدب وفن.
فدوى عبد الفتاح طوفان.
نابلس
رأيت (الناصر)
عظيمة وعظيمة وعظيمة. . . لقد قامت دليلا ناهضاً على أن العربية تتسع للمسرحية. لقد جاءت برهاناً جديداً على عبقرية أباظة. . لقد أبانت بجلاء قيمة الفرقة المصرية. . أنه لمن حسن حظ المرء أن يتمتع برؤية الناصر، إذن سيجد الشعر الممتلئ روحاً المتين نسجاً البليغ تعبيراً. . سيجد التمثيل المكلل بالنجاح المتوج بالفوز المتشع بالبهاء. . . سيجد كيف أجاد الشاعر وأجادت (فردوس) وكيف تمكن الشاعر وتمكنت (أمينة) وكيف أبدع الشاعر وأبدع (علام). . . ولن ينسى طليمات. . .
وعلى كل حال. . فما لهذا بعثت بكلمتي إلى (البريد الأدبي) فإن لذلك مكانه الخاص الذي يقتضي التفصيل والتحليل والإفاضة أما الذي أريده فهو ملاحظات عابرة خطر لي أن أذيعها أملا في تدارك الصحيح الممكن منها. . .
1 - معلوم أن المسرحية شعرية عربية فصيحة وإذن فمن المناسب جداً أن لا نلفظ (الثاء) سيناً والذال (زاياً) والجيم (كيما). . . الخ.
2 - وإني إذ أكبر تمكن الممثلين من إعراب كلامهم - مع جهل أكثرهم بقواعد النحو - أقول إذ أكبر ذلك. فإني أرجو أن لا نسمع مرة ثانية مثل (في ظل كرامة) وما شابهها.
3 - ومع احترامي (لزهراء) وإجادتها التمثيل. . . فإن الإنسان ربما لاحظ أن (تكوينها) لا يصلح لأن تكون المرأة التي بنيت من أجلها (الزهراء). . .(750/51)
4 - ومع الإخراج فهو ممتاز بالطبع. . ولكني لا أدري كيف يحدث جرح من دون إراقة دماء. . . لقد طعنت (منى) (شفق) طعنتين قاتلتين ولكنا لم نر أثراً للدماء. . . ولا تمزقاً في الثياب. . . أترى ذلك إنما حدث لأن منى لم تعرف كيف تقبض على الخنجر!! لا أدري. .
5 - ولا أدري ما هي الضرورة التي تدعو (الجاسوس) لأن يلبس (حذاءاً) بحيث تحسبه وقع خطوة إذا ما مشى على خشبة المسرح وقع قائد جيش منتصر. . أظن أن الجاسوس يعنى التستر في كل زمان ومكان.
6 - هذا وهناك عادة أخالها جارية في أكثر بلاد الله. .
إذا ما انتهى فصل من فصول (الرواية) أسدل الستار فصفق المشاهدون إعراباً عن إعجابهم فرفعت الستارة ليظهر الممثلون بوضع (طبيعي) يردون فيه التحية. . .
ومع أنه من حق الجماهير أن يعبروا عن تقديرهم ومن واجب الممثلين أن يردوا التحية. . . إلا أني أرى في هذا المظهر ما يبعد المشاهدين عن جو (الرواية) ويعيد إلى أذهانهم بأنهم أمام تمثيل بعد أن أنستهم الإجادة ذلك وغمرتهم في جو جعلهم يتصورون أن (فردوس) هي (منى) حقيقة وأن (أمينة) هي (شفق) واقعاً وأن (فاخر) هو عبد الله صدقاً. . . وعليه وعليه فمن المستحسن ترك هذه العادة. .
7 - أما الروح الشعري الذي سكبه أباظة في مسرحيته فلا يخفى على أحد. . ولكن قد يحس الإنسان أن هناك بعض الألفاظ القليلة التي هي أقرب إلى الاستعمال النثري من قبيل (اكفوا) ومن قبيل (الكوب) وقبيل (يركد قلبي ركداً).
8 - وإذ أجل تمكن الأستاذ الشاعر من إضفاء الروح الوطنية على مسرحيته. . . تمكناً يشعرك أنها متلائمة مع عصر الناصر. . . أقول إذ أجل ذلك فلا يضير أن أشير إلى أن الأستاذ الشاعر قد ينسى (الناصر) فيظهر في عصر أباظة) فيدعه يتحمس بالدعوة إلى (جبهة عربية) هذا مع العلم أن (أمية) الأندلسي ليست مثل (أمية) الشام في هذا الموضوع. . أقول هذا مع احترامي (للجبهة العربية).
9 - ومعلوم أن ذكر الناصر و (الحكم) يقترن به دائماً بنهضة الثقافة ولكن الأستاذ المؤلف لم يجهل لنا هذه الناحية التي تصور مجداً إنسانياً عالياً، الناحية التي تركت أسبانيا تحتفل(750/52)
بمرور ألف سنة على (الناصر) الناحية التي تركت الغرب يحسدون العرب من أجلها. . . لقد دخلت (الأوبرا) وكلي أمل أن أمتع برؤية (المدارس) وألذ بمشاهدة مجالس الأدب، واسعد بالنظر إلى (المكتبات). . ولكن. . ولكن شيئاً من ذلك لم يظفر به. . لقد قصر الأستاذ المؤلف (الناصر) على (الدسائس) وعلى ما يجب أن يكون عليه الملوك إزاء رعيتهم. . وأنا لا أنكر فضل كل أولئك على كل من (الملك والرعية في كل زمان ومكان). . بل إن العناية بذلك في مسرحية كالناصر ضرورة لا بد منها وقد وفق فيها الأستاذ الشاعر أيما توفيق، توفيقاً لا يقل عن مهارته البارعة في تصوير الحالة النفسية لشفق والحكم والناصر أجل لقد وفق وأجاد ولكني كنت أطمع بالإضافة إلى ذلك بأن أتمتع برؤية النهضة الثقافية بعيني. .
تلكم هي بعض الملاحظات العابرة التي خطرت لي في أثناء مشاهدة (الناصر) للمرة الأولى في الليلة الأولى. . وهي لا تغض من عظمة المسرحية. إنها لعظيمة وعظيمة وعظيمة، ولقد كان من موحيات تلك الليلة أن أقترح على الفرقة القومية بل على وزارة المعارف - رغم جهلي ما بين السينما والمسرح من فروق - أن تجتهد لتخرج المسرحيات الناجحات أمثال العباسة وقيس لبنى والناصر. . على الشاشة، لكي يتسنى للناس خارج القاهرة مشاهدتها ويتسنى للأجيال المقبلة أن تلذ برؤيتها ويتسنى لتاريخ المسرح أن يلمس مصادره الأولية. . .
(ط)
مذكرات سجين:
كتب إلينا من دمشق أن قصة (مذكرات سجين) المنشورة في عدد الرسالة الأسبق، سبق نشرها في الرواية، مترجمة ترجمة جيدة بقلم الأستاذ ناجي الطنطاوي.
حول رسالة (القصص الفتى في القرآن):
تشرف وفد من علماء الأزهر بزيارة قصر عابدين ورفع إلى السدة الملكية مذكرة علماء الأزهر التي يطلبون فيها:
(أ) تحويل الرسالة إلى فضيلة مفتي الديار المصرية ليقي فيها من ناحيته باعتباره جهة(750/53)
الاختصاص.
(ب) دعوة كبار العلماء لعقد اجتماع لمناقشة الأستاذ أمين الخولي باعتباره (علما) فيما أعترف به من تأييد الرسالة.
(ج) وقف الأستاذ أمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله أفندي عن عملهما حتى يفصل في أمرهما.
(د) عدم تجديد عضوية الأستاذ أمين الخولي بمجلس إدارة كلية أصول الدين والمذكرة موقعة بتوقيع فضيلة الشيخ الشربيني رئيس الجبهة وعضو هيئة كبار العلماء وفضيلة الشيخ الزرقاني سكرتيرها الأستاذ بكلية أصول الدين.(750/54)
القصص
نظرات حادة
مترجمة عن كنجسلي جوردوق
بقلم الأديب سيد أحمد قناوي
استهل (بنيامين هارفورد) حياته كمحام وهو يؤمن تمام الإيمان بهذه العبارة التي طالما طالعها فيما كان يطالع حتى نزلت منه بمنزلة العقيدة الراسخة، وهي بالنص (الشخصية مصدر للقوة). فقد كان (هارفورد) مقتنعاً بأنه ذو (شخصية) لها مقوماتها الخاصة وذاتيتها البارزة. . .
كان (هارفورد) طويل القامة مهيب الطلعة - كما وأنه في مشيته أدنى إلى الاختيال والزهو. . وحق له أن يزهو بعد فعاله الباعثة للدهشة. .
خذ على سبيل المثال قضيته الأخيرة. . فقد أفلح في دفاعه عن (بلنكي لويس) حين أتهم هذا الرجل بقتل أحد رجال البوليس. . . وكانت وقتئذ الأدلة موفورة ضد (بلنكي) حتى عده القاضي مداناً ومال المحلفون إلى مشاطرته هذا الرأي قبل استكمال إجراءات المحاكمة؛ ولكن المحامي (بنيامين هارفورد) كان يعلم أن بلنكي برئ. . وذلك بعدما أختبره اختباراً عاتياً وأمتحنه امتحاناً قاسياً بعد أن ركز فيه كل شخصيته وسلط عليه (نظراته الحادة) حتى أنتزع منه الاعتراف الأخير الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ قال له المتهم المعرض لحبل المشنقة هذه الجملة المؤثرة: (نجني يا أستاذ. . فلست أنا الذي ارتكبت هذه الجريمة).
نعم. قال (بلنكي) هذا. . وما كان لإنسان أن يستغفل (هارفورد) أو يقول له غير الحق!. . والواقع أن دفاع (هارفورد) الحار البليغ مصحوباً بسحر شخصيته القوية، قد نال من ثبات القاضي، وزعزع يقين المحلفين، فإذ بالحكم يصدر آخر الأمر بتبرئة ساحة (بلنكي). . ويا لها من تحية عاطرة تزجى إلى (هارفورد) فلولاها لأدين (بلنكي لويس) حتماً وسيق إلى حبل المشنقة. . . وكذلك (هارفورد) يؤمن في قرارة نفسه أن (بلنكي) لم ينجح بفضل ذلاقة لسانه ولباقة دفاعه، بل بفضل نظراته الساحقة الحادة التي سلطها على المحلفين وهو(750/55)
يتوجه إليهم بالحديث فإذ هم من سحرها متهاوون متخاذلون.
ولقد راح (هارفورد) يفاخر بقوته وهيبته هذه في النادي الذي يختلف إليه حتى ضاق الأعضاء ذرعاً به ونفروا منه وجعلوه يسفهون آرائه. . . فلما ألمت آخر الأمر نازلة بأحد أعضاء النادي، إذ الوحي يهبط على (هارفورد) بالفكرة الرائعة والرأي الباهر فإن هذا العضو قد استهدف للسطو عليه وهو عائد إلى داره ليلا. وما كاد يفرغ من سرد قصته على الأعضاء ويتلقى تعازيهم على مصيبته حتى راح (هارفورد) يقهقه عالياً ويقول بلهجة التوكيد - لو كنت مكانك لما اعتدى علي اللص وسلبني مالي. . .
فقال العضو المسروق المسكين: أحقاً؟. وماذا كنت تفعل؟ فأجاب (هارفورد) جاداً متفلسفاً: إن اللص مخلوق جبان. . . وهو يظفر من (مركب النقص) بحظ كبير. . . ومن السهل تخويف مخلوق كهذا بمجرد نظرة من رجل يملك قوة الشخصية. . فقال العضو اليائس: - حسناً. . ربما يعتدي عليك في إحدى الليالي. . . وسنرى حينئذ ما يكون. . وفي الحق أن (هارفورد) الذي يؤمن كل الإيمان بقوة شخصيته، تمنى أن يقع له مثل هذا الحادث. . وأن مصاولة مع لص معتد لهي المحك الواقع والبرهان الساطع. . . ولئن خرج من هذه المصاولة فائزاً مظفراً لكان فيها أبلغ الدليل، حتى أمام أعضاء النادي الأغبياء، على أنه حقاً ذو نظرات حادة خارقة.
لكن هذا اللص المنتظر لم يتفضل بالظهور وإسداء الجميل الذي ينشده (هارفورد). . فقد راح يختلف إلى الشوارع المظلمة دون جدوى. . وطالما كان يلمح في الزوايا والمنحنيات أشباح رجال كامنين متربصين، ولكنهم كانوا لا يلبثون أن يختفوا إذا دنا منهم. . .
هنالك ذاق (هارفورد) بهذا حتى كان يسير في جولاته الليلية مفتوح السترة لعل سلسلته الذهبية اللامعة تغري الطامعين وتحرك الراصدين بل راح يمسك قفازة بيده عسى أن يكون في تألق خاتمه الماسي ما يدفع اللص المرتقب إلى الهجوم والعدوان. . لكن عبثاً كان يرجو ويمني النفس، فلم يقع شيء مما أراد. . ولما جعل زملاؤه في النادي يقولون له متهمكين: ألم تقابل اللص الموعود بعد؟) فيزيد بذلك (هارفورد) ضيقاً حتى حمله هذا على أن يقوم برحلات خاصة إلى المناطق الخطرة المشبوهة، بيد أن اللصوص رغم ذلك كله تجاهلوه كل التجاهل!.(750/56)
لكن (لكل شيء وقته) (وكل آت قريب). فقد كان (هارفورد) مؤمناً بهذه الحكم وأمثالها. . وقد زاد إيمانه بها حين وقع له الحادث السعيد وهو يوشك أن يستسلم للقنوط. . وبينما هو ذات ليلة في الطريق إلى داره وقد أوشك أن يبلغها إذا شبح يبرز له من أحد الأركان ويعترض سبيله بهذه العبارة: (أرفع يديك!!. .)
فخفق قلب (هارفورد). . رجاء وأملا!. . ورفع يديه على الفور فإنه كان قد رسم في ذهنه خطة العمل سلفاً، ورأى أن الامتثال لأمر اللص برفع يديه هو مما يتمشى مع هذه الخطة. أما إظهار الشخصية فمسألة لها وقتها المرسوم المقدور!. . . وكان اللص كريه المنظر، بيده مسدس وعلى وجهه قناع. وهو بلا ريب لص حقيقي خطير من الطراز الذي يشتهيه (هارفورد). . ولا يفل الحديد إلا الحديد. .
وقال له (هارفورد) بهدوء. . بل بكل هدوء: نعم؟؟ فبدأ كأن اللص بهت بهذه المقدمة. إذ ساد الصمت برهة. فقال له (هارفورد) في لهجة واضحة المخارج: ماذا تريد يا صديقي الفاضل؟. .
ومن عجب أن اللص لاح عليه التردد وكأنه غرق في ذكريات عميقة فراح يتفرس في وجه فريسته في هذه البقعة المظلمة التي أختارها مسرحاً لهجومه. . على أنه أجاب قائلا: نقودك. . . وساعتك. . . وكل ما معك. . . فقال المحامي العبقري: (يبدو لي أنك تسلم مقدماً بأني أحمل أشياء ذات قيمة؟. .).
فأنتهره اللص قائلا: أسرع! وأقفل فمك!. . فقال (هارفورد) متجاهلا الأمر:
- وفضلا عن ذلك. فإن اليسر الذي تجنيه بهذه الطريقة، لا يجلب لك غير الضرر. . .
وأدنى اللص وجهه من وجه المحامي فزاد عجباً فيما يظهر، وهم بالكلام، ولكنه كف عن اتمام جملته. فأستطرد (هارفورد): فخير لك يا صديقي أن تكف عن هذه المحاولة. ضع مسدسك هذا. . .
ذلك وما برح اللص يزيد تفرساً في وجه المحامي وكان الضوء لا يساعده على تبين ما كان يريد أن يتبينه. . والواقع أن (هارفورد) نفسه كان يريد مزيداً من الضوء. . فأن نظراته الحادة الأخاذة لا تكاد تظهر قوتها في مثل هذه الظلمة، وإن كانت حتى الآن قد جعلت اللص يتردد. . .(750/57)
وما لبث (هارفورد) أن أيقن أن قوته الخارقة أخذت تؤتى ثمارها. .
لقد سمع أن المنومين المغناطيسيين يأمرون (وسائطهم) بأشياء هينة فيفعلونها صاغرين. . وقد قرأ أن الإنسان إذا تفرس في عيني الأسد محدقاً تراجع (ملك الوحوش) أمامه وذيله منكس بين قدميه. . .
وما دام السد يفعل هذا، فمن المحقق أن مثل هذا اللص الحقير التافه سوف يفعله. وهكذا هبط الوحي وتجلت لحظة العمل. فسلط (هارفورد) وابلا من نظراته الحادة على اللص تسليطاً، وركزها تركيزاً، وأستجمع كل ما يملك من لهجة الأمر والنهي وصرخ فيه قائلاً:
- ضع مسدسك وأرجع إلى بيتك!! وفجأة أضاء اللص مصباحه الكهربائي فإذا ضوؤه يبين هذه النظرات الحادة الخارقة التي تشع من عيني (هارفورد). إذ هتف اللص في نبرات المأخوذة المرتاع: ويلي!
لا بأس. . أنزل يديك!!. وأطفأ اللص مصباحه. واستدار في مكانه. وولى الأدبار هارباً حتى اختفى في غمار الظلام. . . وبعد نصف ساعة كان (هارفورد) يجلس في النادي ممدود الساقين مشبكاً إبهاميه في صدريته وهو ينظر مزهواً مختالا إلى زملائه الأعضاء الذين استمعوا إلى قصته مرات. . .
وأخيراً دفع (هارفورد) صدره إلى الأمام وأخرج من جيبه سيجاراً كبيراً أشعله ونفث دخانه راضياً قرير العين، وأختتم حديثه قائلاً:
لقد صدق ظني. . . وتم كل شيء كما كنت أتوقعه. . . ومتى كانت للإنسان شخصية قوية فإنه يستطيع أن يلزم بالطاعة عصابة لصوص بأسرها، ناهيكم بلص واحد. فالمسألة إذن مسألة قوة إرادة وشخصية!.
ولم يكن (هارفورد) المحامي العبقري الفذ هو وحده الذي كان يتفلسف ليسمع آخر أقل أبهة وفخامة من النادي، كانت امرأة دميمة الوجه متجهمة السحنة تصب جام غضبها على رأس أضطلع بها. إذ راحت تقول له. يا للشيطان!. أتسمي نفسك رجلا. وأنت تترك هذا المنحوس يفلت منك. بعد أن وقف أمامك رافع اليدين في الهواء؟ فقال (بلنكي لويس) - اللص المقنع - مدافعاً عن نفسه: - لم يكن بإمكاني غير هذا. . . فإني لما سلطت عليه ضوء مصباحي وعرفت من هو، لم أستطع أن أنسى أنه دافع عني دفاعه البليغ أمام(750/58)
المحلفين وأنفذني من الإعدام بتهمة القتل إن لهذا المحامي ما يسمونه (الشخصية). وكان يعلم مثل غيره أني قتلت رجل البوليس فعلا. . فليس هو بالمحامي الذي يستغله الإنسان. . . لكنه أخذ يتكلم ويدافع حتى برؤوني. فهل كان يصح بعد هذا أن أسرقه.
عطبرة - سودان
سيد أحمد قناوي.(750/59)
العدد 751 - بتاريخ: 24 - 11 - 1947(/)
أندريه جيد
صاحب جائزة نوبل هذا العام
للأستاذ عباس محمود العقاد
منذ أمد قصير قرأت للكاتب الفرنسي - أندريه جيد - فصلاً من كتابه (قوت الأرض) يفيض بنشوة الحياة، ويشع بنور الأمل، يوجه فيه الخطاب إلى ناشئ مجهول من ناشئة المستقبل يسميه (ناثنائيل) ويصوغ كلامه في ذلك الفصل بصيغة هي أقرب إلى تسبيح المؤمن منها إلى إنشاء الأديب.
يقول لصاحبها ناثنائيل: (ما الحيوان إلا حقيبة من الفرح: كل كائن يجب أن يوجد، وكل موجود يفرح بوجوده. . . إنه لهو الفرح الذي يمتلئ بالجزالة فيسمى الثمرة، ويترنم بالغناء فيسمى العصفور. والحق الحق أن الطبيعة كلها تنبئنا أن الإنسان مخلوق للسعادة، وأن النزوع إلى لذة الحس هو محيى نواة الشجرة ومالئ الخلية بالشهد، ومفعم قلب الإنسان بالحنان. .).
ويقول: (لن تكون الحياة أجمل مما يرتضيها الإنسان، وليست الحكمة في العقل بل في الحب. . . آه! إنني إلى اليوم قد عشت بأكثر مما ينبغي من الحزم والروية. وعلى الإنسان أن يكون بلا شريعة لكي يفتح أذنيه للشريعة الجديدة. أين أنت أيها الخلاص! أين أنت أيها الحرية. إنني لذاهب إلى حيث تمتد بي نوازع الرغبة. وأنت يا من أحب تعالى معي، فأنني لذاهب بعيداً، وسآخذك معي لعلك تذهب إلى أبعد. . .).
ثم انقضت فترة بعد ذلك فسمعت أن (أندريه جيد) في القاهرة، وأنه يأتي إليها منزوياً مستخفياً ليخلو بنفسه، أو يخلو بسآمته ويأسه، في جو بعيد عن ضجيج الحياة الاجتماعية وتكاليفها الممضة، وأنه لا يلقى أحداً ولا يحب أن يلقاه أحد. ولكني صادفته في الطريق فعرفته من صورته وقال لي صاحب المكتبة التي لقيته عندها: أنه جيد!. فتجاهلت ما قال، لأنني لم أشأ أن أزعج الرجل في عزلته، ولأنني لا أحس في نفسي الشوق إلى لقاء أحد ممن أقرأ لهم فيعجبني ما قرأت. عن عقيدة مستقرة عندي: أن الكاتب أحسن ما يكون في كتبه، وأن القارئ الذي تفوته حقيقة كاتب قرأه، فلما يعرف من محضره فوق ما عرف من مضامين كلامه.(751/1)
رأيت وجهاً كاسفاً حزيناً في غير نقمة، منزوياً في غير جفوة مستسلماً لما به لا يبالي ما سيصير، لأنه قد بالى كثيراً بما قد صار.
قلت في نفسي لأول وهلة: أهذا هو جيد بشير الحياة؟ أيكتب اليوم ما كتبه في قوت الأرض قبل سبع وأربعين سنة؟
وأياً ما كان كلامه المنظور منه اليوم، فإن الرجل لم ينقض نفسه، ولم يخل في خواتيم القرن التاسع عشر من نظر إلى ما عسى أن يصير إليه في أنصاف القرن العشرين.
إنه لم ينس رحمة الموت يوم أشاد بنعمة الحياة، لأنه قال في ذلك الكتاب أن الموت يعودنا لقاءه كلما اقتربنا منه (وإنه يغطي يديه بقفاز ناعم حين يأتي إلينا، ولا يكظم أنفاسنا قبل أن يعودنا الكظيمة. والعالم الذي ينتزعنا منه يكون في موعد النزع قد أضاع وضاحته، ومأنسه، وقد أضاع من أجل ذلك حقيقته، وأصبح أمامنا ناصل اللون لا يبعث فراقه فينا ألماً ولا ندامة)
لقد عملت الخمس والسبعون عملها في بشير الحياة، وهو الآن يعيش في العالم الناصل، الذي نظر إليه من بعيد، وهو في الثامنة والعشرين.
ولكن السن وحدها فيما نعتقد لم تفعل كل هذه الأفاعيل.
فمثل أندريه جيد خليق أن يصطدم بالميئسات وهو في ريعان الشباب، لأنه يدين (بالعيشة الاعتباطية) أو العيشة بغير داع ولا مسوغ لعمل من الأعمال كما بشر بها في كتب صباه، ولأنه يدين مع ذلك بالصراحة التي لا تعرف الحدود، ولا تطيق ثقلة الرقابة الاجتماعية في شأن من شؤون الفكر، أو الفن، أو الأخلاق. فلا جرم تسلمه (العيشة الاعتباطية) والصراحة الجامحة، إلى الغم والخيبة، قبل نصول العالم في عينيه من ألوانه الزاهيات.
أي صراحة لا تحجم من السخط والحرمان، ولا تحجم مما هو أرهب للنفس من كل سخط وحرمان، وهما الخزي والسخرية.
وأعجب ما فيها أنها صراحة لا تنشد غرضاً من الأغراض، ولا تتجه إلى هدف من الأهداف، غير التبرم بالكتمان، والأنفة من تسليمه لسلطان لا يؤمن به ولا يرى ما يراه.
ذهب إلى مستعمرة (الكونغو) وعاد منها في سنة 1928 فكانت حملته على الاستعمار(751/2)
الأوربي، وفي مقدمته الاستعمار الفرنسي
- أشد مما يكتبه زنوج (الكونغو) لو دافعوا عن أنفسهم في وجود سادتهم البيض.
وقد كان يحسب أن السادة البيض رسل حضارة إنسانية إلى القارة السوداء. فخاب حسبانه وعاد وهو يائس من هذه الرسالة المزعومة، ومن حاجة العالم الإنساني إليها، وشنها غارة شعواء لم تصمد لها الدول المستعمرة، ولم يسعها أن تدفعها بالتكذيب والمداورة، وأسفرت آخر الأمر عن (لجنة التحقيق) المشهورة التي أوشكت أن تؤيد كل ما قال.
وقيل يومئذ أن (جيد) قد انقلب إلى أحزاب الشمال، وقد انقلب فعلاً إلى أحزاب الشمال، وكفر بمذاهب المجتمع القائم جميعاً وهو يظن أن الأمل كله منعقد بنجاح الاشتراكية، بل الشيوعية، كما يبشر بها الماركسيون.
ولكن الشيوعية تأسست بعد ذلك في البلاد الروسية، ودعى (جيد) مع من دعتهم حكومة السوفييت إلى شهود آثارها في تلك البلاد، وعدتهم لا تقل عن مائة وخمسين من الأنصار والمعجبين. فخاب أمله، وتهدم يقينه، ولم يكتم ما خامره من الأسف والحسرة على ذلك الأمل الخائب واليقين المهدوم، وكتب رسالته الأولى عن هذه الرحلة ثم قفاها برسالة أخرى، يرد بها على ناقديه وثالبيه، ويؤيد ما قال في هذه المرة بالرقم والدليل.
على أن هذه الصراحة الجريئة كلها لا تبلغ من العجب مبلغ صراحته في المسألة الجنسية كما يعرض لها في بعض تمثيلياته وبعض أقاصيصه واعترافاته.
فهو يعلن في غير مواربة أن (الشذوذ الجنسي) طبيعة في بعض الناس كطبيعة الذكورة والأنوثة، وأن الحكم عليه حكم على بنية خاصة ومزاج خاص، ولا يصح أن نجعله حكماً على رذيلة أو معابة من معائب الأخلاق.
وتصدى له (هنري ماسي) من الحزب الكاثوليكي الوطني، فاغتنم هذه الفرصة لمهاجمة علم من أعلام البروتستانت الفرنسيين، - لأن (جيد) من أسرة بروتستانتية عريقة - وأنحى عليه بالتشهير والتجريس، ورماه بالحطة وإفساد الآداب. فكان جواب (جيد) عليه كتاب كوريدون الذي يقول فيه ما لم يقله من قبل، في شرح (الشذوذ الجنسي) ونفى أضراره من وجهة الصحة ووجهة الأخلاق، ووجهة المصالح الاجتماعية، فبلغ في صراحته هذه - كما أسلفنا - مبلغاً لا تقرن به صراحته في الهجوم على المذاهب أو(751/3)
الهجوم على الحكومات.
وليست صراحة الرجل في الرأي مسألة فكر وحسب، أو مسألة كلام وكفى. لأن هذه الحرية تكلفه كثيراً من المال، وتجشمه كثيراً من العناء، وهو غني بما ورثه من أمه وبعض أقربائه، فلا يبخل بمال ينفقه على اللاجئين إلى باريس من المضطهدين في بلادهم، سواء كانوا من الألمان أو النمسويين أو الأسبان أو البلجيك، وبعضهم بكل ما استطاع من المعونة فوق معونة المال.
أما قيمة (جيد) الأدبية، فهي في بعض نواحيها مما تتفق عليه آراء النقاد، على صعوبة الاتفاق في هذه الآراء.
فناقدوه والمعجبون به متفقون على جمال أسلوبه، يقول بعض ناقديه قبل المعجبين به: أن مجرد المطالعة في جمل من عباراته ورسائله متعة فنية، تكفي وحدها للعودة إليه.
وليست لجيد براعة كبراعة (أناتول فرانس) في لباقة التعبير وسهولة الفكاهة. ولكنه يوازنه بما هو أفضل منه فيه، وهو جد الرأي وحماسة الروح.
وليست له قدرة بروست في الوصف والتحليل، ولكنه يعوض هذا الضعف بقدرته في الحوار والحركة، فيصل بك من طريقهما إلى المقصد الذي يتوخاه الكاتب بالوصف والتحليل.
وقد علق بالرمزية واللهجة الغنائية في أوائل حياته، ثم جنح إلى البساطة والوضوح فاتخذ له أسلوباً يلائمه، وينتقل بفحواه إلى اللغة التي يترجم إليها، وتقرأه مترجماً فلا تفوتك معالمه الشخصية من وراء الألفاظ والعبارات.
وقد ورث سليقة المعرفة من بيئته التي نشأ فيها، لأن أباه جان بول جيد هو علامة الاقتصاد المشهور، وعمه شارل كان أستاذاً من أساتذة (كوليج دي فرانس) الممتازين، وأسرته كلها من بيئة المثقفين والمطلعين، ولكنه مع هذا يحسب من ذوي السلائق والأذواق، ولا يحسب من ذوي الأذهان والأفكار، ونفوره من المدرسة الذهنية عرض من أعراض هذا الاستعداد.
ولا تقل ملكة النقد عند هذا الأديب عن ملكة الإنشاء والابتكار. فإن آراءه في دستيفسكي الروسي، وفي وتيمان الأمريكي، وفي مونتاني الفرنسي، وفي الآداب الإنجليزية والألمانية(751/4)
على العموم، هي مثل في النقد الصائب والإنصاف المنزه عن الغاية، والتصرف في الجمع بين نماذج الفن في شتى الأمم، وشتى اللغات، وشتى العصور.
وقد مارس الكتابة مستتراً، ومارسها مصرحاً باسمه، ولكنه ظل عازفاً عن المظاهر والألقاب من شبابه إلى هرمه، وعرضت عليه العضوية في (الأكاديمية الفرنسية) فلم يخف إلى قبولها، وهي أشرف ما يتطلع إليه الكاتب الفرنسي من وراء الصيت والتقدير وهاهي لجنة (نوبل) تخصه هذا العام بجائزتها الأدبية وهو يجاوز الثامنة والسبعين، فلا تقع الغرابة في هذا الاختيار إلا من ناحية واحدة: وهي ناحية الإغضاء عن رأيه في المسائل الجنسية، ولعلها قدرت صراحته في الارتداد على مذاهب الهدم، وقدرت عطفه على الضعفاء والمخذولين، وقدرت ملكاته الفنية، وأقامت الميزان بين دواعي التنويه ودواعي الإهمال، فرجحت كفة الحسنات عندها على كفة السيئات.
عباس محمود العقاد(751/5)
في منظار (الخفيف)
للأستاذ على الطنطاوي
لم يعلم أحد لِم لم يكتب الصديق النبيل الأستاذ محمود الخفيف في العدد الماضي من (الرسالة)، ولم يعلم هو من الأمر إلا أنه فقد منظاره فجأة، ثم وجده كما فقده فجأة، لم يدر أين ذهب ولا كيف أتى، ولم يعرف سر المسألة إلا أنا، لأني سرقت (المنظار) من جيبه لما زارني في (الرسالة) في الأسبوع الماضي، ورددته إلى جيبه لما مر بي أمس، وقد كان عرض علي أن يعيرنيه لما رأى رغبتي فيه، ولكني خشيت (وسوء الظن عصمة) أن يفسده أو يصنع به شيئاً يمنعني من الاستمتاع به، كيلا أعود إلى طلبه منه، فآثرت أن آخذه على حين غفلة منه لأستعمله صحيحاً غير فاسد، ثم أن السرقة أخت الاغتصاب؛ وقد نص (الشاعر) على أن:
من أطاق التماس شيء غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا
والشعراء أئمة الأدب، ولا يستطيع (مقلد) مثلي مخالفة نصوص (الأئمة). . . لذلك
سرقت (المنظار)، ولكني لم أر مثل تلك الصور الفنية الكاملة التي كان يراها الأستاذ محمود، وإنما رأيت. . . اسمعوا ماذا رأيت:
وضعت (المنظار) على عيني، وخرجت به من الدار، وكنت على موعد مع الأستاذ نهاد القاسم لنزور جامع محمد علي، وسرت أنظر إلى بعيد، فلم أخط خطوات حتى أحسست برجة في جسدين وألم في ركبتي وقدمي، وإذا أنا قد سقطت في حفرة لم أنتبه لها.
وأقبل المارة يخرجونني ويسألونني كيف وقعت؟!
قلت: كما وقع الفلكي الذي كان ينظر في النجوم ومسالكها، ويدقق في حركاتها وسكناتها، ويعمى عما تحت قدميه، وكما (يسقط) الكاتب الذي يتكلم في الفلسفات العليا، ويغفل عن أدواء أمته وأمراضها، والشاعر الذي يحلق في سماوات الخيال، ويدع أمته تتمرغ في حضيض الشقاء. . .
وتركتهم يعجبون من هذا الكلام الذي حسبوه كلام مجنون. . . وسرت حذراً. . . أنظر حولي كيلا ألدغ مرتين من جحر واحد، فأكون شراً من الحمار، لأن الحمار إن سقط في حفرة مرة، يجتنبها فلا يسقط فيها أخرى، والإنسان (الذي يؤمن به أخونا الأستاذ خلاف)(751/6)
يسقط في الحفرة الواحدة خمسين مرة، ثم لا يجتنبها ولا يبتعد عنها. . .
ونظرت في (المنظار) فلم أر في وجهي. . . إلا سوءات مكشوفة و (أوساخاً) ظاهرة؛ وبلايا من هذه البلايا. . . فكدت من غضبي أكسر هذا (المنظار) المسحور الذي ينظر فيه الأستاذ محمود فيرى (زهرتي) الوزارة، ويبصر غادة (الحمار الآخر)؛ وأنظر أنا فلا أرى إلا الأوساخ والسوءات، ورفعته عن عيني، وأنعمت النظر. . . فإذا الذي أراه حقيقة كنت أمر بها فلا أتنبه لها، لتعودي عليها، وتنبهت لها الآن لما ركبت على عيني (المنظار)، وهي أن الطريق الذي أسلكه كل يوم من داري إلى جسر الملك الصالح وأحسبه نزهاً جميلاً، قد فاض بالأقذار من الجانبين، فمن هنا هؤلاء الناس من الرجال: الشيب والشبان، والأولاد: البنات والصبيان، والنساء أحياناً. . . (حتى النساء!) يدعون جميعاً بيوت الطهارة وهي أمامهم: فيها الماء، وعليها الحارس، وفيها الستر والنظافة، و (يقضون حاجاتهم) على طول (الشط) أمام الناس، ومن هناك البنات المصريات في آخر الشارع، والأولاد المصريون في أولهن يدعون جميعاً المدارس المصرية الطاهرة النظيفة، ويقصدون هاتين المدرستين الإنكليزيتين، ويفتحون أدمغتهم للإنكليز وصنائعهم من أصحاب الأغراض والحاجات، ليحققوا فيها
أغراضهم، و (يقضوا حاجاتهم) ويجعلوا عشاً لكل وباء وكل مرض، يضعف الوطنية، ويؤذي الدين. وإذا طهر الشط من أقذاره الكناس، ورشاش (الدالين)، فلن يطهر البلد من أقذار هذه المدارس، إلا أن تكنسها الحكومة من أرض مصر، وتلقيها وأهلها في البحر. . .
وركبت الترام وأنا مغيظ مما رأيت محنق، فرأيت (المنظار) على عيني، ما سلاني وسرى عني، رأيت أمامي وجهاً حلواً، دقيق القسمات، نظيفاً لم تنزل ساحته الأصباغ، ولامسته يد التجميل، ولكن جمله ربه، وصبغه بصبغته. . . ومن أحسن من الله صبغة؟ فيه عينان زرقاوان، وفم متجمع مستدير ناضج الشفتين، فوق شعر أشقر، لا هو بالطويل المسترسل، ولا هو بالقصير المحلوق، وسوالف ليست مقطوعة كسوالف الرجال، ولا مطلقة كسوالف النساء، على جسم قد غطته سراويل سابغة، ورداء له أكمام طويلة، تبرز منها يد بضة ملفوفة، ما تعرف أهي يد بنت مدللة، أم يد غلام مترف، والعمر في نحو الخامسة عشرة، فجعلت أتساءل حائراً: هل هذا شاب أم فتاة؟ وحاولت أن أجد علامة دالة، أو أمارة ظاهرة،(751/7)
فعدمت العلامات، وخفيت عني الأمارات، وطالت حيرتي حتى لقد هممت أن أمد يدي فأتلمس. . . ومنعني أن أفعل أني استحييت وخفت العواقب، وأن الشاب قام، أو أن الفتاة قامت، فنزل، أو نزلت، وكل راكب في الترام يتساءل مثل تساؤلي، ويحار مثل حيرتي!
وركب مكانها (أو مكانه)، امرأة فرنجية كأنها من لطافتها. . . (سيد قشطة) تجر وراءها ثلاثة: ولدين كالخنزيرين السمينين، لا يعرف طولهما من عرضهما إلا بالقياس، وعجيزة مثل كيس التبن. . . وصلت هي إلى المقعد، ولا تزال العجيزة تصعد السلم، ثم جلست بين الرجلين على طرف المقعد، وهي تلهث كأنها قاطرة حلوان. . . ثم اندفعت في المقعد فضغطت الرجلين، فأدخلت واحداً في الزاوية من هنا، وواحداً من هناك، وأقعدت الخنزيرين (أي الولدين) على الركبتين، وتنفست الصعداء بعد هذا الجهد، فكانت نفخة مفاجئة أطارت جريدة كانت في يد الراكب أمامها. . .
وأقبل الجابي (الكمساري) وهو رجل أسمر طويل، عبوس الوجه، متين البناء، له شاربان كساريتي مركب، فقال لها:
- فلوس!
فمدت إليه يدها بثمانية مليمات، كأنها تمدها إلى سائل، فقال لها:
- هنا بريمو، خمسة عشر مليماً.
فرفعت إليه هذه الكرة المفلطحة التي تسمى في جغرافية جسمها (رأساً)، ولوت شدقها، وصعرت خدها، ومدت شفتها، حتى صار وجهها مثل القرعة اليابسة، وقالت:
- أنا ما بياطي، أنا مش آهد كويس.
- خمسة عشر مليماً يا مدام.
فغضبت، وصاحت:
- أنتي مسريين ما بسير لتيف أبداً، بيتم متوهش!
فأسرعت أنزع (المنظار) لألعن أباها، ومن جاء بها إلى مصر، ولكني وجدت (الكمساري) قد سبقني إلى هذه المكرمة، ورأيته قد انقلبت عيناه في أم رأسه، واصفر وجهه حتى صار كقشرة الليمونة، وارتجفت شواربه، ولكنه تماسك وتثبت، وصفر فوقف الترام، وقال لها:
- لو كنت رجلاً لرأيت، ولكنك امرأة، ونحن لا نمد أيدينا إلى النساء، فقومي انزلي. . .(751/8)
وأكبرت فعله، وقمت أهنئه وأصافحه، ولولا خشونة خده، وأنها لا تطيب قبلته، لوثبت عليه فقبلته، وتمنيت أن يكون كل مصري مثله، وحمدت للمنظار ما أرانيه، ولكن الفرصة لم تطل، فقد فتح الباب ودخل منه سائل كأنه في جسمه وفي عينيه بشار ابن برد، عليه ثياب لو أن للقذارة (جائزة) عالمية، لنال بها الجائزة، يغني بصوت تخاله - والعياذ بالله - صوت ثلاث حمير تنهق معاً، على نغمة (الجازبند) نهيقاً مقلوباً، كأنه صراخ الجن في الأودية المسحورة، أو نواح المردة في قعر الجحيم، أو كأنه الموسيقى الفرنجية. . . بشعر لا تفهم له وزناً ولا قافية ولا معنى ولا تجد فيه طرباً ولا متعة ولا لذة، فكأنه شعر بشر فارس. . .
فلما اقترب مني لم أجد أحسن من الفرار، فنزلت من الترام عند الشارع الذي كان اسمه أيام الاحتلال (شارع مستشفى اللادي كرومر)، وكنت أنا المصري الأصل، الدمشقي المولد والبلد، أتألم وأقول ماذا يكون لهذه التسمية من ألم في نفوس المصريين أصلاً ومولداً وبلداً، وهي تذكرهم بأعدى عدو لهم، وتمن عليهم بمستشفى أنشأته زوجته ببعض ما سرقت من مال مصر، مع ما أصيبت به مصر على يد زوجها وقومه، من ذهاب الأنفس والأموال، ومن ضياع الحرية وهي أعز على الأبي من النفس والمال، وأوثر أن نموت في العراء (إن لم يكن إلا هذا المستشفى)، على أن نشفى فيه، لأن شفاء أجسامنا فيه، يمرض وطنيتنا، بمحبة هذه (اللادي) وذكرها بالخير، وعرفان الجميل لها. فلما تنبهت مصر، وذهبت تخطب أهل الأرض من فوق منبر مجلس الأمن، تعرفهم ظلم الإنكليز إياها، وعدوانهم عليها، رفع الشباب هذه اللوحة ووضعوا مكانها لوحة سموه فيها (شارع دنشواي)، وأشهد لقد كانت تسمية عبقرية، وكان رداً بارعاً، وكان جواباً لا يصدر إلا عن إلهام. . .
ووجهت (المنظار) إلى هذه اللوحة الجديدة، أمتع بها روحي وأنعش نفسي، فلم أجدها، ووجدت اللوحة القديمة قد جددت، فمسحت (المنظار) ونظرت فلم أر غيرها، فرفعته عن عيني ونظرت، فإذا أنا أجد اللوحة القديمة قد جددت حقاً. . .
لماذا؟ هل عادت أيام الاحتلال؟!
ورفعت (المنظار) عن عيني لئلا أسقط في حفرة، أو أصدم أحداً، حتى دخلنا المسجد،(751/9)
فقلت: أضعه لحظة، علّي أرى في المسجد ما يسر ويفرح بعد تلك المحزنات، وكانت الصلاة قد اقتربت، والمسجد لبعده، ولازدحام المساجد من حوله، كأنه خال فما فيه إلا أربعة صفوف، ونظرت فرأيت ثلاث فتيات سوافر كسائر نساء مصر، شعرهن يموج على أكتافهن، وأذرعهن بارزات كلها من الكم الياباني (الجابونيز) الذي يبدي ما تحت الإبط لكل ذي عينين، والسيقان مكشوفات لا جوارب تصعد لسترها، ولا ثوب ينزل لتغطيتها، ومعهن أمهن ترتدي هذه الملاءة ذات البرقع الذي لا يستر من الوجه إلا مداخل النفس من الأنف فقط، ويظهر الباقي كله. . . وأسرعت الأم وبناتها إلى حوض الماء يتوضأن، ويمددن أرجلهن لغسلها، فلا يبقى مستوراً إلا. . . الذي لم يكشف. . . ثم يقفن هكذا للصلاة. . . وفي المسجد مشايخ، رأوهن فلم يكلمهن أحد منهم، والخطيب رآهن فلم يعرض لهن، فنزعت (المنظار) وأغمضت عيني، وحاولت أن أنساهن وأتوجه إلى الصلاة، فلم أستطع، لأن صورتهن لا تزال (أقول الحق) أمام عيني. فإذا كن يلحقننا حتى إلى المسجد، فكيف نفر يا قوم منهن؟ وكيف يصنع الشاب العزب ليتقي إغراءهن؟
ألم يخطر على بال أحد من العلماء، والآباء، هذا السؤال؟!
ورجعنا و (المنظار) على عيني، ولكنه أخذ يكذب ويشوه الحقائق، فيريني خياماً من القماش في أول شارع الخديوي اسماعيل، وعليها لوحة تقول: أن هذه الخيام (إدارة تنظيم عمارة المدن). . .
فأقول: ينظمون عمارة المدن، ولا يستطيعون عمارة حجرتين من اللبن والخشب؟ هذا لا يمكن. . . وأهم بطرح المنظار، ثم أذكر أن هذا ممكن جداً في الشرق!
أليس يأمر الناس بالتقوى من غير تقياً، ويدرس البلاغة من ليس بليغاً، ويقود الأمة من يحتاج إلى من يقوده، ويعطي الأشياء فاقدها، ويولي الأمور غير أهلها؟!
وتابع (المنظار) الكذب، حتى إذا وصل إلى دار المفوضية السورية، وهي أفخم من أختها: الأمريكية والروسية!! زاغ (المنظار) عن كل ما في الدار، واستقر على (عقد الإيجار)، فأراني فيه رقم (300) جنيه في الشهر، ثم ذهب بي إلى دمشق، فبصرني بآلاف التلاميذ يزدحمون كل سنة على أبواب المدارس، ثم يرتدون عنها لأنها لا تتسع لهم، وليس عند الوزارة ما تستأجر به دوراً جديدة، لأن أجرة الدار (300) جنيه في السنة! ثم دار بي على(751/10)
المفوضيات السورية في آفاق الأرض ليريني. . .
ولكني أغمضت عيني فلم أنظر، لأن هذا كذب ظاهر، ونحن أعقل من أن تؤثر المظاهر على الجواهر، والتزاويق على الحقائق، والخارجية على المعارف، وثوب العرس على العروس! ونحن أعقل من أن نشتري (كرافته) بخمسة جنيهات، ونمشي بلا سراويل!
وسرت. . . فإذا (المنظار) يريني (كذبة) أشنع وأبشع: إعلانات، في كل مكان، وكل شارع، أن الأخوان المسلمين سيمثلون رواية الهجرة، على مسرح الأزبكية. . .
كذبة قطعاً، وإلا فهل استحالت دعوة الإخوان، وهجرة الرسول، إلى مسرح وتياترو؟ النبي والصديق وعلي؟ أهذه آخرتها؟
جمعية الشبان المسلمين، مثلت مع زوزو نبيل، وسمتها؟؟ ممثلة المسرح الإسلامي! وجماعة الإخوان تنزل الصحابة إلى تياترو الأزبكية. . . فهل تنشر مجلة الأزهر صورة امرأة عارية لتكمل الرواية؟ هل يوضع في جامع الكيخيا أوركسترا أفرنجية، وفي مسجد الحسين تخت شرقي؟!
لا. . . خذ (منظارك) يا أستاذ محمود. . . حسبي ما رأيت!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(751/11)
النفوذ اليهودي
بين الصحف الأميركية والصحف العربية
للأستاذ نقولا الحداد
صوت صاروخ فينا وفي سائر البلاد العربية أن اليهود محتكرو الصحف الأميركية للدعاية الصهيونية. وليس للهيئات العربية سبيل للرد على إفك اليهود وتشنيعهم بالعرب والدعاية لصهينة فلسطين. لأن اليهوديين يسيطرون على الجرائد الأميركية فلا يسمحون لجريدة أن تنشر كلمة حسنة عن العرب ولو بثمن غال.
لا تعتبوا يا قوم على الصحف الأميركية في حين أن بعض صحفنا المصرية ليست أقل خضوعاً لنفوذ اليهود من صحف أميركا ومن يتحقق هذه التهمة يجد أنها حقيقة ناصعة. ومن جملة الحوادث التي تؤيد هذه الحقيقة ما يأتي:
تقدم في حين من الأحيان إلى رئيس تحرير جريدة كبيرة مندوب من قبل هيئة عربية كبرى محترمة بكلمة موجزة ذات شأن عظيم لمصلحة العرب في المسألة الفلسطينية. فوعد الرئيس بنشرها. ولكن مضت بضعة أيام ولم تنشر. فعاتب المندوب رئيس تحرير الجريدة على عدم نشرها. فأجابه أن القيم على إعلانات الجريدة أبى أن تنشر لأن نشرها ليس من مصلحة الجريدة بل هو ضار بها. واعتذر الرئيس بأنه إذا نشر خبراً ضاراً بالجريدة، فالجريدة تضعف ولا تعود تستطيع أن تخدم الأمة والعرب عجباً! لا تستطيع أن تخدم الأمة إذا كان نشر خبر يضرها. وإذا كان الخبر ضرورياً لحياة الأمة وهي لا تنشره فإذاً متى وكيف تخدم الأمة؟
وما لبث المندوب أن عرف أن ذلك القيم على الإعلانات يهودي وحجته أنه إذا نشر الخبر انقطع عن الإعلان في الجريدة. فتأمل.!
حكاية ثانية: منذ نحو سنتين أو أكثر أرسلت إلى إحدى محلاتنا الكبرى مقالاً بعنوان (لمن فلسطين؟) وأثبت فيه بالإسناد التاريخية وغيرها أن اليهود الأجانب الذين يدعون الآن ملكية فلسطين ليسوا من نسل إسرائيل. بل هم أوروبيون تهودوا منذ تشتت الإسرائيليون في آسيا وأوربا فأغروا بعض الوثنيين باليهودية فتهودوا. فهم ليسوا ساميين كما كان هتلر يزعم. بل هم آريون أكثر من هتلر. ولذلك ليس لهم ضلع البتة في فلسطين. بل أن(751/12)
فلسطين لأهلها المقيمين فيها من قبل مرسى إلى اليوم. وقد غيروا ديانتهم من يهود إلى مسيحيين ثم إلى مسلمين حسب تقلبات الحوادث التاريخية والسياسية الخ. هذا كان فحوى المقالة.
ومضت أشهر ولم أر المقالة في المجلة فذهبت إلى إدارة المجلة عاتباً. ولكن سكرتير التحرير قابلني بأنه لا يدري سبب عدم نشرها. وصاحب المجلة كان وتغيباً فلم أتصل به فقلت: هاتها. فتبرم وقال لا أدري إن كنت أجدها.
فبحثنا بين أوراق التحرير. ومن حسن الحظ وجدناها ثم أرستها إلى مجلة أخرى رائجة. ومضت الشهور ولم تنشر فكتبت إلى إدارة التحرير مطالباً بها. ولم أحصل على جواب ففهمت أنها ذهبت في سلة المهملات. ثم علمت أنها لا تنشر لأنها ضد مصلحة اليهود الذين ينشرون إعلانات في المجلة.
ومنذ عهد غير بعيد كتب أديب لإحدى الجرائد اليومية بضعة عشر سطراً يطلب من اليهود الذين في مصر أن يعلنوا شجبهم للصهيونية وبراءتهم منها قولاً وعملاً وأن هذا الشجب من مصلحتهم ما داموا مواطنين لأكثرية ساخطة على الصهيونية فلم تنشر الجريدة هذه النبذة. ولما عاتب ذلك الكاتب رئيس تحريرها قال أن هذه النبذة صعبة ملعونة يعني أنها شبه تهديد لليهود. وهو لا يريد من جريدته لئلا يحرموها إعلاناتهم. فترى أن الجرائد تحت رحمة يهود البلاد بسبب إعلاناتهم.
هذا قليل جداً من كثير جداً من الأخبار المشينة المؤلمة عن سيطرة اليهود في مصر على بعض الجرائد الرائجة والمجلات المنتشرة.
فلماذا نلوم الصحف الأميركية إذا أذعنت لليهود بعدم نشر شيء من مصلحة العرب ولا سيما لأن قضية العرب ليست قضية الأمريكان ولا تهم الشعب الأميركي. ولماذا لا نلوم الصحف العربية التي تراعي خاطر اليهود في قضية العرب والقضية قضيتهم فبالله أهكذا تخدم الصحف العربية شعبها وعروبة قرائها؟ تخدم مصالح اليهود، واليهود يتذرعون بكل وسيلة لامتصاص مالية البلاد العربية والسيطرة على سياستها إلى غير ذلك مما هو معلوم.
لا نجهل أن الصحف في كل العالم تعيش على الإعلانات. وإيراد الإعلانات يعيش على رواج الجرائد، ورواج الجرائد يعيش على إقبال القراء عليها، وهذا الإقبال هو ثمرة جهاد(751/13)
المحررين وإدارة أصحاب الصحف وجهاد عمالها، ومتى تزايد عدد الفراء أو النسخ التي تطبع ارتفعت أجور الإعلانات، وهذه الإيرادات الأخيرة من الإعلانات تستغلها شركة الإعلانات اليهودية التي تتوسط بين المعلنين والجرائد.
لا نجهل هذا، ولكن لا نفهم لماذا تكون الوساطة بين المعلنين والجرائد في يد شركة يهودية تتحكم بالجرائد وأصحابها وأقلامها وعمالها وقرائها أيضاً فلا تسمح بنشر شيء ضد مصلحة الصهيونية أو ليس من مصلحة اليهود. وأصبحت الصحف والأقلام العربية مسخرة لليهود. هذه عبودية لا تطاق، واستخذاء عربي لليهود لا يكاد يصدق.
ولا ندري لماذا لا تكون الشركة الوسيطة بين المعلنين والصحف وطنية بحتة وتكون مكاسبها لمساهمين وطنيين ويكون الكتاب أحراراً فيما يكتبون لمصلحة بلادهم وإخوانهم العرب.
ترى هل فطن الصحفيون لهذا الضرر العظيم من جراء استلام اليهود لزمام الصحافة في البلاد يسيرونها على هواهم؟ أم أنهم فطنوا ولا يبالون؟ ألا يبالون أن يكون مصير القضية العربية وجميع القضايا المخالفة لمصالح اليهود الصهيونيين الخيبة؟
أم أنهم لا يبالون بالمصاب إلا إن وقع، ولا يبادرن إلى تدارك الخطر، ألا متى أبرق وأرعد، وحينذاك لا حين تداركه.
من المدهشات أن يتولى أمر الدعايات بالإعلانات والمقالات والأخبار في الصحافة العربية لأجل القضية الفلسطينية يهود هم أعداء العروبة الألداء.
أما وجد بين العرب أناس لهم ذكاء اليهود وماليته كمالية اليهود وحيلة كحيلة اليهود لكي يحلوا محل اليهود في هذه السيطرة على أقلام كتابنا وصحافتنا وإدارة الدعاية عندنا.
لماذا لا ينبري أناس ممن يفهمون فن الدعاية ويؤلفون شركة كبرى لتولي هذا العمل المنتج أي الوساطة بين المعلنين والجرائد، ثم تنازع الشركة اليهودية هذا العمل؟ وحينئذ على جميع جرائدنا أن تتحول من الشركة اليهودية إلى الشركة الوطنية المصرية الخالصة.
لا بد أن يتسرع بعض القراء إلى الاعتراض على هذا المشروع الوطني بأنه إذا برز إلى حيز الفعل انقطع اليهود عن الإعلان في الجرائد بواسطة هذه الشركة الوطنية. فلينقطعوا إذا كانت الجرائد لا تقبل وساطة الشركة اليهودية بتاتاً ولا تقبل إلا وساطة الشركة(751/14)
الوطنية. لا يستطيعون أن يقاطعوا الصحف لئلا تستأثر المتاجر والمصالح الوطنية بالدعاية وحدها فتروج هذه وتكسب تلك، لا يستغنون عن الدعاية والإعلانات، وليس لهم إلا الصحف الوطنية ووساطة الشركة الوطنية.
المشروع لا يحتاج إلا لقليل من الوطنية:
1 - يتصدى له متمولون قليلون، قد يتراءى لهم في أول الأمر محتاجاً إلى شيء من التضحية، ولكنه متى استتب رأوا أنه نتج بلا تضحية.
2 - على جميع الجرائد أن تتحول إلى وساطة الشركة الوطنية للحصول على الإعلانات. والشركة تخدمهم كما تخدمهم تلك.
3 - على التجار الوطنيين وأصحاب الأعمال أن يقبلوا على هذه الشركة في الدعاية لهم بالإعلانات وغيرها.
فأين الوطنية وأين الوطنيون، ينقذون الدعاية العربية من براثن الصهيونية؟ لماذا لا تسعى نقابة الصحفيين هذا السعي.
أن الصهيونيين عازمون على استعباد الشرق العربي كله ولسوف ينجحون إذا لم تنهض لمناهضتهم في الحال.
نقولا الحداد(751/15)
حول جدل في الجامعة
للأستاذ عبد الفتاح بدوي
يقول الأستاذ محمد خلف الله في صفحة 1298 من مجلة الرسالة إن نقاشنا إياه ينقسم قسمين مسائل وشتائم وأنه يعرض عن قسم الشتائم ويناقش المسائل.
وليس في مقالينا اللذين ناقشناه فيهما شتائم فاتنا نعيد قلمنا أن يكون شتاماً فأن الشتائم عيب الشاتم لا عيب المشتوم ولكنه العلم يا أستاذ وهو الجدل العلمي الناصح والعلم لا يعرف الملق ولا التأنق ولا الفرك في الذروة والغارب إنما العلم هو الألفاظ على دلالاتها: حق وباطل، وجاهل وعالم، وصادق وكذاب، وأمين وخائن وهو سوق الحجة ولإقامة الدليل؛ ولو أننا في غير مقام علمي لأسبغت عليك من لين الحديث ونعومة الأسلوب ما في الحرير من طراوة وما في النسيم من لطف رقيق؛ الست ترى أنني حين أتكلم عن شخصك أقول الأستاذ خلف الله وما أنت بأستاذ؟ فأما إذا وصلنا إلى تحديد الأوصاف في مقام الجدل العلمي فاعذرني فالتبعة على نصاحة العلم وعدم قبوله الملق والدهان.
1 - وقال: المعروف دينياً ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد إليه القرآن. فقلنا له أن كل كلام لا بد له من دلالات ثلاث المطابقية والتضمنية والالتزامية ولا يملك أحد في الدنيا أن يجرد كلاماً من هذه الثلاث الدلالات أو من بعضها ما دام يملك مسكة من العقل؛ فجاءنا في العدد الذي ذكرنا يقول بنصه (ولا نفهم كيف يكون لكل كلام دلالات ثلاث تقصد منه مع أن عبارة المتن - الذي يعرف بعلم البيان - والإيرادات المذكورة لا يتأتى بالوضعية أي بالدلالة المطابقية ويتأتى بالعقلية أي التضمنية والالتزامية).
وأنا وأهل العلم جميعاً لا يعرفون متنا اسمه على البيان (أليست هذه جرأة مني يا أستاذ خلف؟) ذلك لأنه لا يوجد متن هكذا وإلا فأين هذا الهراء يا أستاذ؟
ولا أتركك تتخبط كثيراً بل أصحح لك المقام؛ إنها عبارة مستفيضة في كتب البلاغة (وأظنك لم تدرسها كما تدل عليه عبارتك) تجدها في تلخيص المفتاح وفي المفتاح وفي الإيضاح وفي، وفي؛ بنصها أو قريب منه؛ وكأن شيطاناً من الشياطين حولك خطف لك هذه الخطفة من علم البلاغة وهو لا يعيها فألقاها إليك وأنت لا تعيها؛ وأودعتها مقالك وأنت كذلك لا تعيها؛ وظننت أنك أتيت بشيء وما هو بشيء.(751/16)
وإذا كانت هذه عبارة من عبارات البلاغة فما لها وما كنا وما زلنا في من مقام الاستنتاج؟ ومقام الاستنتاج هو مقام الفهم والتفاهم أي تحميل الكلام دلالاته التي لا يكابر فيها إلا غير عاقل أي في الدلالات المنطقية كما قلت لك في مقالي الذي ناقشتك فيه فقلت لك ما نصه (أليس القرآن كلاماً له الدلالات المنطقية الثلاث المطابقية والتضمنية والالتزامية التي لكل كلام؟) هذا مقام الاستنتاج الذي كنا وما زلنا نتكلم فيه، وما له ولعبارة البلاغة تدسها في غير موضعها دساً ونقحمها اقحاماً؟ ما للتفاهم والاستنتاج ولإمكان استعمال دلالة دون أخرى في التجوز والاستعارة؟! عجيب منك هذا. أتعرف أدب البحث والمناظرة يا أستاذ خلف الله؟ اعلم أن هذا العلم يقول لك: كلامك في غير محل النزاع فلا معنى له. ولقد جرك الحق أن تصف نفسك بنفسك فتقول عن نفسك انك لا تفهم كيف يكون لكل كلام دلالات ثلاث تقصد منه وأنا والله لا أستطيع أن أصفك بغير ما وصفت به نفسك أنه الحق والحق لا محيد عنه.
ولقد كنت أظنني أجادل في جو علمي عال فلا أجدني بعد الذي ذكرت في مقالك هذا إلا مضطراً أن أتنزل إلى تلميذ صغير مبتدئ في تعلم المنطق والبلاغة.
إعلم وفقك الله تعالى أن اللفظ المستعمل في حقيقته يجب أن تثبت له دلالة المطابقة (قطعاً) ومتى ثبتت له دلالة المطابقة ثبتت له دلالة التضمن (قطعاً) ومتى ثبتت المطابقة والتضمن ثبتت دلالة الالتزام (قطعاً)؛
فإن كابرت في شيء من هذا فلا كلام لنا ولا لأحد معك إلا أن تتعلم مبادئ المنطق وتساير العقول.
أما المجاز والتجوز والاستعارة إلى غير هذا مما قال علماء البلاغة فلا علاقة له بالاستنتاج وإنما علاقته بإدارة نقل الكلام عن معناه الحقيقي إلى معنى غير حقيقي أو بعبارتهم: في أداء المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة والفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض أو يزيد.
هذا هو العلم وهذا هو الحق أفقهه العلماء فهل تفقهه أنت أيضاً يا أستاذ خلف الله أو تفقهه أنت والذين معك؟ وهذه أولى مسائلك التي تكلمت معي فيها؛ بل مازال لها ملحق أذكره لك فإنك تقول عني: ماذا يكون موقفه من العلم حين يثبت بقرائن مادية يقول بها علماء(751/17)
الجيولوجيا من أن هذا البيت (الذي ببكة) ليس أول بيت وضع للناس؟
وإني سائلك أنت؛ أهذا كلام منهج علمي ورجل يتكلم في العلم؟ من يقول أن العلم ينبني على قرائن يا أستاذ خلف الله؟ أن العلم لا ينبني إلا على حقائق، أما الذي ينبني على القرائن فهو الظن وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً فلو قامت قرائن طبقات الأرض كلها بل وطبقات الهواء والماء والسماء ما دلت إلا على قرائن وظنون لا تنفع في العلم ولا تقدر في العلم وإنما الذي يقدر ويعلو ويصول قول الله تعالى: (أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) ولست يلائمك على هذا التدهور الفكري الذي تبنى فيه علماً على قرائن فان رسالتك كلها من هذا القبيل أدلتها: الفرض والحدس؛ والتخمين؛ وأحب أن ألفت الذهن؛ معنى ذلك كما يلحظ القارئ، وهلم جراً من العبارات الجوف المزوقات، ثم النتيجة التي تبنيها على هذه العبارات المزوقات الجوف تجعلها حقائق وتسمها بسمات اليقين؛ عجائب يا أستاذ خلف الله عجائب.
اعلم وفقك الله تعالى أن العلم لا ينبني على قرائن بل ينبني على حقائق فإن لم تصدق هذا فابحث أنت عمن يصدقك في ابتناء العلم على قرائن وظنون ولن يصدقك إلا مجنون؛ أولم تقرأ أنت المقال الذي تحيلني عليه (القرآن والنظريات العلمية)؟ اقرأ وتعلم وافقه ورد وتكلم. . .
2 - والمسألة الثانية التي تناقشني فيها أنك قلت أن القصص القرآني من المتشابه فقلت لك: لسنا نعرف أحداً من المسلمين يقول أن القصص القرآني من المتشابه.
وجئت في مقالك آنف الذكر صفحة 1268 من مجلة الرسالة تضع بين يدي نصوصاً كثيرة تنطق بأن من العلماء المسلمين من يقول بأن القصص القرآني من المتشابه أو ما كان أجدر بك أن تضع الأمور في أنصبتها ولو مرة واحدة ليكون الجدل أو النقاش علمياً لامهاترة.
وأنا واضعلك الأمور في أنصبتها ومعيد عليك وعلى الناس جميعاً ما قلته سابقاً أنه لم يقل مسلم ولا يقول مسلم ولن يقول مسلم أن القصص القرآني من المتشابه رغم ما نقلته أنت من النصوص التي وعيتها أنا وعرفتها قبل أن تراها بعينيك.
لقد كتبت في 19 سبتمبر سنة 1947 أولى مقالاتك التي تقول فيها بعد كلامك عن الصلة(751/18)
بين القرآن والتاريخ ما نصه: (على أن هذه المسألة قديمة ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه) و (أل) في كلمة (المسألة) المتقدمة للعهد أفاهم أنت؟ والعهد ههنا ذكرى؛ أفاهم أنت؟ والمذكور المتقدم صلة القرآن بالتاريخ.
وفي 6 أكتوبر سنة 1947 نشر في الرسالة تقرير الأستاذ أحمد أمين بك وفسر هذا التقرير الصلة بين القرآن والتاريخ في نظر الأستاذ خلف الله وفي رسالة الأستاذ خلف الله وهذه الصلة عنده أن القرآن لا يتقيد قصصه بالواقع وأنه يحتوي أساطير وأنه ينطق الشخص في قصة بشيء وينطق سواه بهذا الشيء في نفس القصة في مكان آخر، وأنه ينطق قوماً بما لم ينطقوا به ويقولهم ما لم يقولوا وأنه يقول على شيء لم يقع إنه وقع وأنه قد لا يكون للقصص مدلول واقعي أصلاً وإنما هو حكاية عن واقع نفساني وأنه لا يتحرى الصدق العقلي والواقع.
وفي 13 أكتوبر سنة 1947 كتبت يا أستاذ خلف لله مقالاً ثانياً ثبت منه جميع ما قاله الأستاذ أحمد بك أمين في تقريره فأصبحت الصلة بين القرآن وبين التاريخ على أتم وضوح وصارت المسألة التي قال عنها الأستاذ خلف الله أنها مسألة قديمة هي مسألة الصلة بين القرآن والتاريخ على هذا المعنى الجلي الواضح أن القرآن لا يتحرى الصدق العقلي ولا الواقع؛ وأنه مملوء بالأساطير طالما أن فيه القصص الأسطوري؛ هذه هي المسألة التي يقول أنها مسألة قديمة فإذا ضم إليها بقية الجملة وهي قوله ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه كان الكلام الذي ينصرف إليه نقاشنا هو ما ادعاه الأستاذ خلف الله من أن مسألة الصلة بين القرآن والتاريخ بالمعنى الذي ذكره من المتشابه؛ أليس كلامنا كله في مناقشة كلام الأستاذ خلف الله أم هو في مناقشة كلام من لا كلام لنا معه؟!
وأعود بك مرة أخرى فأقول: لسنا نعرف أحداً من المسلمين بل أزيد فأقول أنه لم يقل أحد من المسلمين، ولا يقول أحد من المسلمين، ولن يقول أحد من المسلمين أن القصص القرآني من المتشابه؛ وما دمت تحاول الإفلات من النقاش العلمي إفلات المهاترة فإني أزيد لك الكلمة التي هي مكان العهد فأقول لك أي بالمعنى الذي تذكره في قولك (على أن هذه المسألة قديمة. . .) والتي فسرها تقرير الأستاذ أحمد أمين وأقوالك فيما كتبت بعد فإني لم أرد عليك إلا في 27 أكتوبر سنة 1947 بعد مقالين لك وبعد تقرير الأستاذ أحمد بك أمين.(751/19)
أما المتشابه بالمعنى الذي يعرفه مقاتل أو الطبري أو يوهما فليس من محل النزاع كما يقول أهل العلم فكيف ساغ لك أن تضع شيئاً مكان شيء؟ لكن هي الطريقة التي دأبت عليها في مقالاتك وفي رسالتك ألم أثبت عليك التدليس في النقل والخيانة في العلم؟
وكيف طوعت لك نفسك أن تجعل المتشابه عند هؤلاء القدامى هو الذي نفيته في مقالي وع أنني أثبته لك في مقالي؟! ألم أنقل لك عبارة المنار وفيها قال الأستاذ الإمام: إن الآيات متشابهات؟ أولم أقل لك أنا في نفس المقال ما نصه (فالأستاذ الإمام لم يقل أن القصص القرآني من المتشابه بل قال أن الآيات من المتشابه) وفسر هذا التشابه. . .)
هذه هي المسألة الثانية التي تناقشني فيها وما زال علم أدب البحث والمناظرة يقول لك أن كل النقول التي نقلتها في غير محل النزاع فلا معنى للاستشهاد بها وإنما يفصل فيها المثل المشهور أريه السهى ويريني القمر بل لهذه المسألة ذيل قصير فإنه أي الأستاذ خلف الله يقول أنه يعرض على أن الآمدي أورد رأي الأصوليين في القصص في كتابة (الأحكام) وليس كتاب اسمه (الأحكام) إنما هو (الإحكام) وقد درست هذا الكتاب مع كتاب ابن الحاجب أعظمكتب الأصول في القسم العالي بمعهد الإسكندرية، بل لعلها غلطة مطبعية، بل الأشبه أنها غلطة الأستاذ وأنه ينقل أو ينقل له من حيث يعرف أو لا يعرف فقد سألت مطبعة مجلة الرسالة إن كان لديها (لام ألف) بهمزة قطع من تحت فأرانيها مدير المطبعة، والخطب في هذا الذيل يسير على كل حال؛ بيد أنها الدقة والاستنتاج أردت أن ألفت إليها ذهن الأستاذ خلف الله.
3 - والمسألة الثالثة التي يناقش فيها أنه يقول: أن من المفسرين من لا يلتزم أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث غير واقعة فقلت له: ولا نعرف أحداً من الأصوليين ولا من المسلمين لا يقول بأن ما ورد في القرآن من القصص إنما هو أحداث وقعت وحوادث هي خلاصة الحقيقة التي وقعت في سوالف الزمان.
ولقد قال هذا؛ وقلت له هذا؛ وجاء اليوم يرد علينا فيقول وإقحام الشيخ الأصوليين هنا لا معنى له؛ فلماذا لا معنى له؟ وكلامك هو الذي لا معنى له؟ أليس الأصوليين قد تكلموا في القصص كما تكلم فيه سواهم فكان متشابهاً عندهم لو غير متشابه كن ذكوراً يا أستاذ خلف الله فقد نقلت تعرضهم للقصص قبل ذلك بسطور قلائل.(751/20)
ثم استمعنا كلام المفسرين إذ يقررون أن من القصص القرآنيأحداث (هكذا بالرفع فليسأل الأستاذ خلف الله عن سبب ذلك) لم تقع؛ وإني مستمع ومنصت ومصيخ قال: جاء في ابن كثير ج1 ص590 بعد تفسيره لقوله تعالى (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. . . الخ ما نصه (عن ابن جريج عن عطاءأن هذا مثل) وقد وضع على لفظة مثل رقم (1) وكتب على الهامش بآلة الطباعة هذه العبارة، يعني أنها ضرب مثل لا قصة واقعية. . .
أين الاستدلال يا عباد الله في نقل الأستاذ خلف الله؟ عطاء يقول أن هذا مثل، والمفسرون جميعاً يجعلون القصص مقابلاً للمثل وقد نقلت يا أستاذ خلف ذلك في نفس هذا المقال غير مرة ففي أي عقل يقال لك لن هذا ليس قصة وإنما هو مثل فتقول أنت أن هذا الذي قيل لك دليل على أنه قصة وعلى أن القائل بهذا القول يقول أن في قصص القرآن أحداثاً لم تقع؟! احموا العقول ارحموا العقول.
وأنا آخذ بأذنك مرة أخرىوقائل لك يا أستاذ خلف الله من الذي وضع رقم (1) على الهامش؟ وكيف ساغ لك أن تجعله من الاستدلال في كلامك مع أنه صفعة لك لا ترحمك؟ ألم يقل لك الهامش (على عدم اعتدادي به كمستند علمي) أنه ضرب مثل لا قصة واقعية - أفلا يوجهك هذا الهامش (أي يضربك بالكف على وجهك) فيصرخفي وجهك يقول القصة واقعية وضرب المثل قد يكون بغير الواقع؟ انتبه يا أستاذ خلف الله انتبه انتبه أيقظك الله الذي أيقظ أهل الكهف لا السبعة النيام.
ثم نستمع إليه أي الأستاذ خلف الله مرة أخرى يقول: وجاء في الرازي ج2 ص333 الصالة بدار الكتب وذلك بصدد الحديث عن قصة إبراهيم والطير (المسألة الثانية أجمع أهل التفسير على أن المواد بالآية قطعهن. . . غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك وقال أن إبراهيم عليه السلام لما طلب أحياء الميت من الله تعالى أراه الله مثالاًقرب به الأمر عليه والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين. . .
يا عباد الله ويا أهل العقول - مرة ثانية - أين الاستدلال بأن في القصص القرآني أحداثاً لم تقع؟
يجمع المفسرون على أن هذه قصة واقعية فيقول الأستاذ خلف الله أن ذلك الإجماع دليل(751/21)
على أن القصة غير واقعية.
ويقول أبو مسلم أنها مثل لا قصة وأن الله تعالى أرى إبراهيم مثالاً يقرب به الأمر فيقول الأستاذ خلف الله أن أقول أبي مسلم أنه مثل لا قصة دليل على أنه قصة وأنها غير واقعة وأن في القرآن قصصاً أحداثه لم تقع.
إسمع يا أستاذ خلف الله لا تعليق لي على استدلالك إلا أن أقول لك المثل (احترت يا بخراء من أين أقبلك). البخراء لا تقبل لأن رائحتها لا تطاق قل شيئاً يشبه العلم وإلا فاسكت.
ثم نستمع مرة أخرى فإذا به يتحكك كما تحكك أستاذه المشرف على رسالته في الأستاذ الإمام محمد عبده ويريد أن يسمعنا من قوله شيئاً
ولقد كنت كتبت المقال في استعراض أقوال الإمام محمد عبده كلها منذ أول قصة الخليفة إلى آخرها وبينت تمام البيان مأتى الخطأ الكبير الذي تردى فيه كاتب الرسالة الأستاذ خلف الله ومشرفها على السواء، ولكن اعجلني الرد ولفتني على حد تعبير الأستاذ خلف الله عما سواه.
فليكن الكلام في كل ما قال الأستاذ الإمام محمد عبده وهو كلام كله وجاهة وعلم لمن قرأه ووعاه إلى العدد القادم إن شاء الله.
ألست ترى يا أستاذ خلف الله بعد هذا أينا أولى أن يصل إلى الرشد؟ أما فقه أسرار القرآن الكريم فلا نقول لك في إلا ما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أما والله لا نغمز من هذه الجهة؛ سنريك منه ما لم تكن تعلم وكان فضل الله علي عظيماً.
وإن شئت علمك منه كثير من تلاميذي.
عبد الفتاح بدوي
كلية اللغات العربية(751/22)
بحث الكولرا
للدكتور فضل أبو البكر
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
العلاج وطرق الوقاية
أن الحكمة القائلة (الوقاية خير من العلاج) هي من أصدق الحكم ويجب تطبيقها على الدوام وعلى سائر الأمراض. وهي أصدق ما تكون في حالة الكولرا إذ من السهل جداً الوقاية منها وعلى النقيض من ذلك يصعب علاجها وقد يتعذر إذا حل مكروبها بالإنسان وظهرت عوارض المرض إذ لم يوجد إلى الآن دواء حاسم غير الدواء الواقي كما وجدت الكينا للملاريا والطرطير للبلهارسيا والزرنيخ والزئبق للزهري والبنسلين لكثير من الأمراض ليس من ضمنها الكولرا من سوء الحظ.
أما العلاج الواقي الذي تتوقف عليه نجاة الفرد ونجاة المجموعة فهو الحقن بالمصل الواقي يحقن الفرد باللقاح مرتين تحت الجلد يكون مقدار الأولى سنتيمتراً مكعباً وبعد ثمانية أيام من الأولى يحقن مرة ثانية بكمية قدرها سنتيمتران مكعبان. تبدأ مناعة الجسم في اليوم الخامس وتكون من أشدها بعد اليوم الخامس عشر ويستمر مفعولها مدة ستة أشهر.
أما تطعيم (حامل المكروب) فقد وجد في بعض الأحيان غير كاف ويمكن معرفة هؤلاء (الحملة) بتحليل البراز مرتين وتكون المرة الثانية بعد أسبوع من الأولى ويجب أن تكون النتيجة سلبية في المرتين وإلا كان الفرد من حامل المكروب وفي هذه الحالة زيادة على حقنهم يعطونهم ما يسمونه (بالباكتربوفاج) أي آكل البكتريا ولكل مكروب آكل خاص.
طرق الوقاية
1 - حقن جميع الأفراد في المناطق التي يظهر فيها الوباء أولاً وتعميم الحقن على جميع السكان على قدر الإمكان.
2 - عزل المريض في الحال بأماكن العزل بالمستشفيات الخاصة بالأوبئة.
3 - منع التعرض لجثة المريض بحال من الأحوال واقتراب ذويه منها لغسل الجثة وتكفينها والمشي في موكب لدفنها، بل المصلحة العامة - وهي فوق كل الاعتبارات - لا(751/23)
تسمح بذلك.
4 - تطهير كل إفرازات المريض قبل أن يدفع بها إلى المراحيض كذلك تطهير كل ما لامس المريض عن طريق مباشر أو غير مباشر بإحدى المواد الكيمياوية وهي كثيرة متوفرة.
5 - تطهير الغرف والأثاث كذلك تطهير ملابس الممرضين والممرضات وكذلك أحذيتهم وبعناية تامة يومياً وعدم السماح لهم بالأكل في حجرات المرضى.
6 - مراقبة الناقهين والبحث عن (حامل المكروب) وفحصهم طبياً.
7 - تطهير الخضراوات والفواكه وقد يكون أضمن وأسلم طبخها قبل استعمالها. كذلك يستحسن عدم الإفراط في الأكل أو تعاطي الأطعمة عسرة الهضم أو المواد التي تلهب الأغشية المخاطية للأمعاء مثل التوابل والبهارات.
8 - العناية التامة بمياه الشرب وتحليل عينات منها كل يوم أما السكان بالقرى الذين لم يتوفر عندهم الماء الصالح والذين يشربون من ماء الأنهر والآبار فيجب غلي الماء أو تعقيمه بمادة مطهرة قبل شربه أو استعماله بطريقة ما.
9 - محاربة الحشرات ولا سيما الذباب بجميع الطرق المؤدية لإبادته وحفظ الأطعمة بمعزل عنه. كذلك حرق القمامات وفضلات الأكل أولاً بأول وهي الأوكار والمراتع الخصبة للذباب يقتات منها ويبيض على هاماتها.
هذا بحث موجز عن وباء الكولرا ذكرنا فيه باختصار بعض ما يهم الجمهور معرفته عن هذا الداء الوبيل وعن طرق الوقاية منه عسى أن يكون فيه بعض النفع.
ولا يفوتني أن أذكر اهتمام الرأي العام الدولي بهذا الداء وقد علم القارئ مما سلف أن ظهور وباء في بقعة من الكرة الأرضية فيه خطر يهدد سلامة العالم بأسره وخصوصاً أوربا وقد أضحت جائعة عارية بعد الحرب لهذا بادرت الدول الغربية لنصرتنا ومدت يدها بالمعونة لنا كما تقضي بذلك الإنسانية وكما تتطلب ذلك سلامتها نفسها وسلامة الإنسانية جمعاء.
غير أن بعض المستعمرين بدأوا يستغلون هذا الحادث استغلالاً دنيئاً مغرضاً وأداة للدعاية ضدنا كما يبالغون في نعت عامة الشعب بالجهل والتأخر ونلمح من حين لآخر خلال ما(751/24)
يكتبون شماتة ظاهرة وذلك ما يؤلمنا حقاً ويذكرنا بقول من قال.
كل المصائب قد تمر على الفتى وتهون غير شماتة الحساد مع أن المنصفين من الغربيين أثنوا على ما تبذله الأمة حكومة وشعباً من مجهودات جبارة لمكافحة الداء إلى أن قال بعض الأمريكيين بأنه لو أصيبت أمريكا بهذا الوباء لما أمكنها أن تعمل أكثر مما يعمله ولاة الأمور في هذا الصدد.
ولكن بعض المستعمرين لا يحلو لهم إلا أن يرمونا بالجهل والتقهقر. الجهل الذي بدأنا نحاربه والذي كان الاحتلال يشجعه ويذكي ناره. الجهل الذي كان (دنلوب) يحمل لواءه ويحمي حماة بل يحارب من يحاربه هذا ويعلم القارئ مما تقدم بأن هذا الوباء لم تنج منه أمة وقد اكتسح العالم عدة مرات ولم يكن وقفاً علينا دون غيرنا ولا أكون مبالغاً إن قلت إننا كنا أقل إصابة من غيرنا من الدول الأوربية خلال الأوبئة الماضية مع كوننا أقرب منهم إلى الهند موطن الداء ومعقله.
أن هذا الوباء مهما اشتدت وطأته لا يمكنه أن يلهى شعب وادي النيل عن عزمه لنيل مطالبه وهي جلاء الدخيل عن أرضه بدون قيد ولا شرط بل بعكس ذلك من شأنه أن يزيدنا كراهية وحنقاً على الدخيل المغتصب سيما وقد تحددت مسئوليته عن نشر هذا الداء ولو بطريقة غير مباشرة أو مقصودة مهما تنصل من ذلك.
أن سكان الوادي سوف يقضون بإذن الله على مكروب الكولرا كما سوف يستأصلون مكروب الاستعمار ويفتكون بجراثيمه وهم يعلمون أنها أدهى وأشد فتكاً من الكولرا.
باريس
دكتور فضل أبو بكر(751/25)
الفن القصصي في القرآن
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وأخيراً عزمت أن أكتب في هذا الموضوع، بعد أن رأيت الذين كتبوا فيه لم يتناولوه من الناحية التي يجب أن تتناول فيه، وتجعل المخطئ يلمس خطأه فلا يسعه إلا أن يعترف به، وهذا هو الذي يجب أن يؤخذ به المخطئ في الإسلام، لأنه دين الإقناع، ولأن وسيلته هي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا جاوز من يريد الدفاع عنه هذه الوسيلة أضربه من حيث يريد نفعه، ولا سيما في هذا العصر الذي صار الناس يمقتون فيه هذه الوسائل في المسائل الدينية، ويأخذونها على أصحابها أقسى مؤاخذة.
وإني أحب أن انبه الذين يتخذون هذه الوسائل إلى أنها تؤدي إلى عكس ما يقصدون، وتحمل بعض الناس على أن يشتط في رأيه، ليقسوا في الحملة عليه، ويذهبوا إلى أنه ملحد يجب أن يعاقب أشد عقاب، فيصير في نظره ونظر بعض الناس مثل غاليلو وغيره من فلاسفة أوربا، فقد اضطهدهم رجال الدين في أوربا على بعض آرائهم، فصار هذا الاضطهاد محمدة من محامدهم، وصار مذمة لمضطهديهم.
فلنقتصر على تخطئة من يذهب به عندنا حب الشهرة إلى مثل ذلك الشطط في الرأي، ولنبخل عليه بما يريد من رميه بالإلحاد والزندقة، حتى لا نمكنه من أن يظهر بين الناس بما يحب، أو يجعل نفسه ضحية من ضحايا الرأي، فليس أوجع في نفسه من أن نأخذه في رفق حتى نبين للناس خطأه، وحتى يرى أنه لا سبيل له إلا أن يعترف بالخطأ فيعترف، فإن لم يعترف على نفسه كفاه حكم الناس عليه، وللناس عقول تفهم، والحلال بين والحرام بين.
لقد أراد بعض الناس أن يرد على صاحب رسالة الفن القصصي في القرآن، ففتحوا أمامه المجال في الرد عليهم، فأردت أن أقوم بما يجب علي في هذا الموضوع، ليصل الناس فيه إلى رأي حاسم، وينصرفوا عنه إلى ما هو أجدى عليهم، ويعرفوا أن صاحب هذه الرسالة لم يكن له أن يطفر إلى الكتابة في موضوع القرآن، وهو يجهل تعريف التناقض في المنطق، ويبني على جهله به حكماً خطيراً في قصة إبراهيم عليه السلام، كما جاء في التقرير الذي رفعه الأستاذ أحمد الأمين إلى عميد كلية الآداب، وقد نشر بالعدد - 744 -(751/26)
من مجلة الرسالة في الغراء، وهو يدل على مستوى صاحب هذه الرسالة في العلم، وعلى أنه جرى في رسالته على هذا المنوال، فقذف بنفسه في بحر لا يحسن السباحة فيه، ولم يخض فيه إلا فحول العلماء، وأكابر الحكماء، من الطبري إلى الزمخشري إلى الرازي، إلى أمثالهم في علمهم وحكمتهم.
فقد ذكر الأستاذ أحمد أمين في تقريره أن صاحب هذه الرسالة يرى أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويراً فنياً، بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد، مثل أن البشرى كانت لإبراهيم أو لامرأته.
فدعوى هذا التناقض تدل على أن صاحب هذه الرسالة لا يعرف تعريف التناقض، وعلى أنه سار في رسالته بهذا العلم الذي لا يزال في طور الطفولة، فضل الصواب، وخبط خبط عشواء، والقرآن أجل من أن يتناول بمثل هذا العلم، وأخطر من أن يحكم في مسائله من لا يزال يجهل تعريف التناقض.
لقد قال الله تعالى في البشرى بهذا الغلام (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها ومن وراء إسحاق يعقوب) الآية - 71 من سورة هود، وفي هذه الآية كانت البشرى لسارة امرأة إبراهيم عليه السلام.
ثم قال في هذه البشرى (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) الآية - 53 - من سورة الحجر، وقال (فبشرناه بغلام حليم) الآية - 101 - من سورة الصافات، فكانت البشرى في الآيتين لإبراهيم عليه السلام.
فهل تبشير سارة مرة بهذا الغلام وتبشير إبراهيم مرة به من التناقض الذي يصح أن تضرب به قصة إبراهيم مثلاً للقصة التي لا يلتزم فيها الصدق التاريخي؟ للهم لا، لأن التناقض اختلاف قضيتين في الإيجاب والسلب اختلافاً يلزم لذاته من صدق إحدى القضيتين كذب الأخرى، فلا بد فيه من الاختلاف في الإيجاب والسلب، ولا بد فيه من الاتحاد في الموضوع والمحمول وقيودهما، وليس في هذه القصة اختلاف في قضية البشرى من جهة الإيجاب والسلب، فلا تكون من التناقض الذي يلزم فيه صدق إحدى القضيتين وكذب الأخرى، وإنما كان أن كلا من إبراهيم وامرأته بشر بهذا الغلام، وقد تكررت هذه القصة في هذه السور، فذكرت في بعضها بشرى إبراهيم به، وذكرت في(751/27)
بعضها بشرى امرأته به، تنويعاً في الأسلوب، وتصريفاً في القصة، لمقامات تقتضي ذلك التنويع، وتستدعي ذلك التصريف.
ولا شك أن صاحب هذه الرسالة قد سار فيها على هذا التخبط في الحكم، لا يفرق بين القصص التي نص القرآن على وقوعها، وبين الأمثال التي يجوز فيها الوقوع وعدمه، وهي أمثال لا أساطير وقد ورد كثير منها في القرآن أيضاً، ولكن صاحب هذه الرسالة لم يرزق قوة التمييز بينها، فخبط فيها خبط عشواء، وسقط سقوط من يتناول ما هو فوق طاقته.
لقد ذكر الله تعالى قصة مريم في سورة آل عمران، ثم قال فيما ذكره منها (ذلك من أبناء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) الآية - 44 - من سورة آل عمران، وهذا نص قاطع في وقوع هذه القصة، وذكر قصة نوح في سورة هود، ثم ختمها بقوله (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر أن العاقبة للمتقين) فجعل تلك الأنباء وهي من الغيب من دلائل نبوته، ولا يصح الاستدلال بها على نبوته إلا إذا كانت صحية، وذكر قصة يوسف في سورة يوسف، ثم ختمها بقوله (ذلك من أبناء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) وهذا نص قاطع في وقوع هذه القصة، وهكذا غير هذه القصص من قصص الأنبياء ونحوها.
وهناك أمثال يضربها الله تعالى للناس، كقوله تعالى (ضرب الله عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) للآية - 75 - من سورة النحل، فهذا مثل لا يلزم أن يكون واقعاً، وكذلك ما أشبهه من أمثال القرآن.
وقد أتى صاحب هذه الرسالة فيما فاته من الفرق بين هذين الأسلوبين، فأساء إلى نفسه، وأساء إلى علمه، وأساء إلى جامعته، وما كان له أن يطفر إلى مثل هذا الموضوع في أول نشأته.
عبد المتعال الصعيدي(751/28)
من ذكرياتي في بلاد النوبة
سد أسوان
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
لا يعنيني الحديث عن سد أسوان، إلا بقدر اتصاله من قريب، ببلاد النوبة. وإذا كان هذا السد العظيم، قد لعب دوراً هاماً في حياة القطر الزراعية، فزاد القدر المنزرع إلى أضعاف أضعافه، وإنعاش الحياة التجارية، والاقتصادية، وزيادة الثروات المصرية إلى حد التضخم في كثير من النواحي، حتى أصبح هذا السد بحق مفخرة من مفاخر بلادنا المصرية، له شهرة عالمية طائرة، وصيت دولي ذائع - إذا كان قد لعب دوراً آخر في حياة بلاد النوبة، إحدى مناطق قطرنا العزيز، ولكنه مع الأسف دور عكسي على طول الخط، وامتداد الطريق.!!
وبيان ذلك، أن منطقة النوبة لم تكن تعرف قبل سنة ثمان وتسعين وثمانمائة وألف شيئاً عن هذا السد، وإن كانت بعض الأفكار قد اتجهت إلى الانتفاع بهذا الشلال الطبيعي قرب أسوان، وبخاصة وأن مياه الفيضان تتدفق في موعدها من صيف كل عام، حاملة الغرين، والطمي الذي يكسب الأرض خصباً، والزرع نماء ونضرة، ويفيض بالخير والبركات في أنحاء البلاد المصرية. . .
ونما هذا الشعور، وكبر ذلك الإحساس، فرئى أن ضياع مياه النيل في البحر البيض المتوسط عبث لا طائل تحته، ولا غاية ترجى منه، وأن في الإمكان لإفادة من هذه المياه طوال أيام السنة وبخاصة وقد أصبحت البلاد تزرع القطن من أيام محمد علي باشا، وغيره من المحصولات التي تتطلب رياً دائماً. . .
وولدت الفكرة، فكرة إقامة خزان قرب أسوان، على الشلال الأول، وبدأ العاملون يبحثونها سنة أربع وتسعين وثمانمائة وألف، وكللت بالنجاح، وتم بناء السد سنة ثنتين وتسعمائة وألف، بطول قدره خمسون وتسعمائة وألف متر، وبه ثمانون ومائة فتحة.
وقد لحق الأهليين بعض الأضرار بسبب إقامة السد لأن منطقة النوبة، ارتفعت في المياه فأتلفت الأراضي المنخفضة، وأغرقت المنازل التي على الشاطئ مباشرة، فعوضتهم الحكومة عن هذا كله، وبلغت تكاليف إقامة السد، بما في ذلك التعويضات التي أعفيت(751/29)
الأهليين مليونين وأربعمائة وأربعين ألف جنيه كما أثبت ذلك أحمد خيري بك في مقال له بمجلة الصناعة. . .
وبعد مضي زمن قصير، تآكلت بعض الأجزاء خلف الخزان، بفعل المياه، فأنشئ له فرش خلفي سنة خمس وتسعمائة وألف ثم سنة ست وتسعمائة وألف كذلك، وبلغت تكاليف ذلك مائتين وثلاثة وثمانين ألف جنيه. .!!
وبهذا أصبح السد قوي الدعائم، وطيد الأركان، وظل يؤدي رسالته في البلاد نماء، وخصباً، ويبعث فيها الحياة والنضرة والنعيم، ويفيض عليها الخير والبركة، إذ استفادت البلاد من كمية البلاد المخزونة عظيم الفائدة، وانتفعت بها جليل النفع.
وبعد بضعة أعوام من إنشاء السد، رئى تعليته خمسة أمتار، لأن تصرف النيل الطبيعي مدة الصيف، مضافاً إليه كمية المياه المخزونة، لا تكفي حاجة القطر الزراعية، وبحث الموضوع من جميع نواحيه، إذ خيف أن تضر هذه التعلية ببناء الخزان نفسه، وفي ذلك ضرر ماحق وخطر عظيم. . . وانتهى البحث إلى إمكان ذلك. دون حدوث أي ضرر أو خطر، وتمت التعلية فعلاً، وسميت بالتعلية الأولى. . .
ولا جرم أن هذه التعلية أضرت إلى حد كبير ببلاد النوبة. إذ ارتفع منسوب مياه الخزان فأغرق كثيراً من المنازل، وجرف الأراضي المنخفضة نسبياً وأتلف ما بها من زروع، فقامت الحكومة للمرة الثانية بتعويض الأهليين عن هذا كله. . . وبلغت تكاليف التعلية، بما في ذلك التعويضات، مليون وخمسمائة ألف جنيه. . .
وكثر عدد السكان، وبلغ أضعافاً مضاعفة بالنسبة لما كان عليه قبل إنشاء السد، فالرخاء يمن وبركة، ودعامة من دعائم العمران، وزيادة النسل. . . وقفزت الأرقام من سبعة ملايين، وتسعة ملايين. . . إلى خمسة عشر مليوناً بعد إقامة السد بحوالي سبع وعشرين سنة!!
ولهذا اشتدت حالة البلاد إلى هذه الكميات المائية التي تذهب سدى، وتضيع هباء، فنبتت فكرة التعلية الثانية. . . بيد أن هذه الفكرة لم تلق تحبيذاً على طول الخط. بل عورضت معارضة شديدة. ونقدت نقداً لاذعاً، مما دعا الحكومة للاهتمام بأقوال الناقدين، والمحبذين على السواء. والتروي في الأمر والاستعداد له فليس الموضوع من السهولة بحيث يمر مر(751/30)
الكرام. . . فأنشأت مكتباً خاصاً بذلك سنة سبع وعشرين وتسعمائة وألف كان أهم ما قام به، إعداد المشروع، وبحثه من جميع نواحيه، والنظر في موضوع التعويضات التي ستعطي للنوبيين بعين الرعاية والعطف لما سيلحقهم من أضرار في منازلهم ونخيلهم وأراضيهم الزراعية وجميع مرافقها، بسبب هذه التعلية.
وأخيراً عرض المشروع على لجنة دولية مكونة من ثلاثة مهندسين عالميين: أمريكي، وإنجليزي، وسويسري، وقد وافقت هذه اللجنة على المشروع، وأقرت تعلية السد تسعة أمتار، دون إحداث ضرر ولا خلل به!.
ووقع هذا الخبر بين أبناء البلاد موقعاً حسناً جميلاًن وأنعش كثيراً من الآمال البراقة، والأماني الحلوة اللامعة، فعن قريب ستحيا كثير من الأراضي البور، أسباب هذه المياه التي سيحجزها السد ويمنع تسريحها وضياعها، وعن قريب تبيع الحكومة كثيراً من الأراضي التي تحتاج إلى إصلاح، وبعد أن تقيم لها المشروعات اللازمة، من ري وصرف وغير ذلك.
بيد أن هذا الخبر نفسه، وقع مع النوبيين موقعاً قاسياً. . . وقوع الصاعقة، التي تهدم قصور الأماني، وتقوض صروح الآمال في قسوة وعنف وجبروت. . . فهم يعلمون معنى التعلية، ويفهمونه على وجهه الصحيح. ويدركون تمام الإدراك هذه الأمتار التسعة، التي سترفع منسوب المياه أمام الخزان، وتجعل من بلادهم للخزن، يخرب ديارهم، ويجلوهم عن مساكنهم ويلقي بهم في مهب الريح، تعصف بهم عواصف الأقدار، وتشتت شملهم دوافع الفرقة. وأهوال الفقر والحاجة والاضطراب. . .!
وشرعت الحكومة في تنفيذ التعلية، وابتدأ العمل في نوفمبر سنة تسع وعشرين وتسعمائة وألف، على قدم وساق، وعناية بالغة، حتى انتهى بصفة عامة في ديسمبر سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف، بالغة تكاليف المباني، مليونين وستمائة وسبع وعشرين ألف جنيه. . .!
بيد أن هذه التعلية أضرت بمناطق النوبة بالغ الضرر، بقدر ما أفادت باقي البلاد المصرية، عظيم الفائدة. ونفعتها جليل النفع إذا احتاجت مياه الخزن منازل الأهليين كلها، وجرفت بيوتهم، وأتلفت مزارعهم، فعوضتهم الحكومة عن هذا كله، حسب تقدير قامت به،(751/31)
وقد بلغت التعويضات بسبب التعلية الثانية الأخيرة مليون وستمائة وخمسين ألف جنيه.
ورأت الحكومةأنها مضطرة لإقامة مشاريع اقتضاها ارتفاع المياه في أيام الحزن، وإنشاء مرافق جديدة لهذه البلاد، ودرست كل مصلحة من المصالح واجبها في هذا الصدد، وقامت به على وجه، وإن لم يكن من التمام والكمال، فقد أرضى إلى حد بعيد أكثر المخلصين في هذه البلاد، الذين يعلمون حقيقة موقف الحكومة، وما تكبدته من نفقات طائلة في سبيل إنشاء السد، إذ بلغت التكاليف لإنشاء محطات الري ومبان للحكومة مائتين وثلاثة وسبعين ألف جنيه، فإذا ضممت هذا المبلغ إلى المبالغ السابقة يوم أنشئ السد كان المجموع ثمانية ملايين وسبعمائة وثلاثة وسبعين جنيهاً، وهو مبلغ ضخم دون ريب. . .!!
وأهم المشروعات التي قامت بها مصلحة الري، إقامة جسور واقية في مناطق أبي سمبل لوقاية تسعمائة وخمسة أفدنة تقريباً، وأدندان لوقاية مائتي فدان تقريباً، وفي فرسي، بالسودان لوقاية منطقة حوضية، مع عمل بربخ ري وصرف. . . وإقامة مضخة لري سبعمائة فدان بمنطقة العلاقى لزرعها زراعة شتوية. . . ومضخة لكل من توماس، وعنيبة بحري وعنيبة قبلي، وتوشكي شرق وتوشكي غرب، ومضخة احتياطية لهذه المنطقة، وذلك لزراعة خمسمائة فدان بكل منطقة لزراعتها زراعة نيلية فقط، وهذه المضخات مقامة على عوامات ترسو على شاطئ النيل أمام كل منطقة. . . وإقامة مضختين بالدكة على عوامة لري خمسمائة فدان رياً مستديماً. وإقامة مضخات على ثلاث عوامات ببلانة لري ألف وخمسمائة فدان رياً مستديماً، وإقامة مضختين ثابتتين ببلانة كذلك لري سبعمائة فدان رياً مستديماً. . .
وقامت مصلحة المباني بإنشاء مكاتب ومساكن بعنيبة بدلاً من مبني الحكومة التي كانت بالدر مقراً للمركز ومصالح الحكومة المختلفة، كالمدرسة الابتدائية ودور الحكومة الشرعية والتلغراف والتليفون والبريد. . . الخ وأنشأت عدة مدارس أولية كتاتيب، ومساجد، ونقط بوليس. . . ونقلت خطوط التلغراف إلى مكانها الحالي. . . وأقامت دار الحجر الصحي للمواشي بالشلال (كورنتينا) بدلا من الذي غمرته مياه التخزين. . .
وهكذا تمت لهذه البلاد مرافقها الأساسية، التي بعثت الحركة والنشاط في جميع أنحائها، وجعلت النوبيين يهدؤون نفساً، ويرتاحون بالاً، ويعتقدون أن الحكومة مهتمة بأمرهم، معنية(751/32)
بشأنهم، عاملة على تحسي حالهم. . .
هذه هي الأدوار التي مر بها سد أسوان، والأثر الذي أحدثه في هذه البلاد، إذ قلب نظام الحياة فيها رأساً على عقب. وبدلها بحياتها الأولى، حياة الهدوء والسكون، والاطمئنان والاستقرار، حياة أخرى كلها الكد والجد والسعي والعناء. . . وهذه الأدوار تعطيك فكرة واضحة عن قيمة هذا السد العظيم، الذي أحال تراب القطر المصري إلى تبر وذهب براق، ورفع مستوى المعيشة في البلاد، وأنعش حياة المصريين أيما إنعاش، وسيكون في المستقبل القريب منبع رفاهيتها ورقيها، عندما يتم مشروع توليد الكهربائية، وفق الله القائمين بالأمر إلى ما فيه الخير والصلاح.
عبد الحفيظ أبو السعود(751/33)
من وراء المنظار
في زوايا الطريق
دقت إحدى الساعات الكبرى على مقربة من دقات ثمان والليل بارد الأنفاس وأنا أنقل الخطى في زحمة الناس على طور الشارع. وئيدة ثقيلة لا من كلال ولا من ضنى ولكن مما كان يثقل قلبي من صور وقع بي عليها هذا المنظار اللعين. . .
وأريد أيها القارئ أن تقاسمني بعض ما أثقل قلبي فما يزيده لعمرك ثقلاً أن أحمله وحدي، وكثيراً ما سقمت إليك ما أضحكك فإن أنا صببت عليك اليوم بعض همي فلا تكن من الغاضبين. . .
هؤلاء غلمان وبنات من أبناء الشارع وبناته قد أقعوا على باب أحد المطاعم يطعمون بأعينهم مع الطاعمين بأسنانهم وقد حرمهم التقمم رفع القمامة من الشوارع حذر الكوليرا، وهو منظر قد زال عنه معناه لكثرة ما ألفناه، ولكن هاهم أولاء جماعة ممن يأكلون بأسنانهم جماعة ليسوا من أهل هذا البلد الذي آواهم فأشبعهم يأبون إلا أن يبرزوا المعنى الذي غاب فهم يلقون ببعض اللقم والقشور ويلهون ضاحكين بمرأى هؤلاء الغلمان كيف يقعون عليها كما تقع الكلاب والقطط وكيف يتزاحمون ويختصمون.
ومضيت ثقيل الخطى ثقيل القلب فلم أذهب غير بعيد حتى انعطفت عند زاوية فإذا رجل خشبية تمتد إلى جوار رجل من عظام ولحم وإذا صاحب الرجلين قد أسند ظهره إلى الحائط واستراح من بعض همه بغفوة وأمامه علب الكبريت لعله لم يبع منها بما يتبلغ به فنام، وابنه الهزيل النحيل يدفعه بيده دفعاً رقيقاً ليوقظه لأنه جائع؛ وألقيت إلى الصبي قرشاً فما وثق منه في كفة حتى اندفع يوقظ أباه في شدة وسرعة ليزف إليه البشرى. . .
ومشيت ثقيل القلب وئيد الخطى فما هي إلا خطوات حتى وقفت حيال منظركم تمنيت لو رآه كل رجال الفن فهاهو ذا ضرير قد اضطجع حتى أوشك أن يتمدد على سلم دكان مغلق وأسند ظهره إلى دركة ورفع وجهه صوب السماء فانعكس عليه نور مصباح قريب، ومد يده يستجدي في صمت لا ينطق ولا يتحرك أية حركة فكان منه في هذا الوضع تمثال بالغر الروعة لو وقع عليه فنان لما ساوى ذلك عنده وقوعه على كنز فما يصور البؤس شيء أحسن مما تصوره هاتان العينان الغائرتان وهذا الوجه الضارع وهذه اليد المعروقة(751/34)
المرتجفة، ونور المصباح القوي في وجهه يجعل من ذلك كله صورة ترى ولا ينهص لوصفها كلام؛ وجاء غلام فانقض على التمثال كالفرخ الجائع وأخرج في مثل خطرة الطرف ما في جيبه من مليمات وقروش وولي لا يلوي على شيء وانتفض، التمثال انتفاضة حسبت أن قد تحرك لها رخام السلم، وأقبل بعض من شهدوا هذا السطو فألقوا إليه من قروشهم ما أذهب روعه. .
ومشيت موجع القلب ثقيل الخطى فلم أكد أنعطف عند زاوية أخرى حتى إذا بي تلقاء رجل يزحف على إسته ويديه وقد ثنى إحدى رجليه أما الرجل الأخرى فلم يبقى منها إلا جزء من الفخذ قد كشف عنه لأنه موضع (الإعلان) وبرهان العجز عن العمل، ومر الناس به لا يتألم أحد فيما أرى لأنهم ألفوا أن يردوا مثل هذا كما ألفت أنا ولكني تألمت وتألمت وأرجو منك أيها القارئ أن تصدقني أنني تألمت كما أتشفع عندك بكل عزيز لديك أن تتألم مثلي. . .
فإن لم يكن آلمك هذا فدونك شيء آخر وقعت عليه عند زاوية أخرى، دونك شيء ولا أقول رجلاً، فليس ثمة إلا الجذع فقط لا يدان ولا رجلان، ومع ذلك فهذا الشيء يزحف ويقطع الطوار كله زاحفاً. . . يا إله العالمين إني استغيثك! إن لم تكن الملاجئ لمثل هذا فلمن تكون؟ وفي أي شرع يكون على هذا أن يعمل - أستغفر الله - بل أن يزحف ليكسب قوته وحوله السيارات الفخمة تنهب الأرض باللاعبين بالذهب!
ومشيت باكي القلب بطيء الخطى حتى كنت أمام (جروبي) فإذا بنتان من بنات الشارع تتشاجران في عنف على أعين الناس، وقد ألقتا ما معهما من ورق اليانصيب، وأنشبت كل منهما أظفارها في عنق الأخرى، وذلك لأن إحداهما قطعت الطريق على صاحبتها فباعت دونها ورقة!
ونظرت فإذا معركة أخرى أشد عنفاً تدور غير بعيد بين فتاتين ناهدتين من خدم المنازل، وقد شدت كل منهما شعر الأخرى وأهوت عليها بحذائها، وذلك لأن إحداهما، كما علمت، غلبت الأخرى على عيشها فأخرجتها من عملها واستمتعت بالأجرة دونها؛ وتقاطر السابلة يشهدون هذه المعركة الكبر، وقال أجنبي من المارة لصاحبه وهو يضحك: أنظر. . . فهذا نذير الحرب العالمية الثالثة. . .(751/35)
والتفت على حرب أهلية ثالثة بين حوذي أوقف جواديه الهزيلين، ووثب من عربته التي شهدت فيها أحسب القاهرة في عهد إسماعيل، وراح يصخب في لهجة الحوذية ونغمتهم، ويطلب إلى الراكب بقية حقه، وإلا فمن أين يأكل، ومن أين تأكل الخيل، وهو يستغيث الله والمسلمين، ويخوف هذا الذي لا يريد أن يدفع عاقبة الظالمين، وقد دارت حولهما حلقة من المتفرجين، والحوذي يتدفق بلاغة، إذ يصف الغلاء وما صنع بالناس، وكأن في فمه (ميكروفون). .
ومشيت ضائق الصدر، حيران الخطى، ملء نفسي الألم مما أشهد من مخازي مجتمعنا العظيم، فإذا أنا تلقاء عتل يستوقفني قل أن رأيت مثله ضخامة وطولاً، له عنق هو وحده أضخم من ذلك الجذع الذي كان يزحف على الأرض، أما بدنه فيضل البصر في ضواحيه، ومد إلي ذلك المارد يداً تتسع قبضتها لتتلقى حملاً أو غلاماً، وقال فيغير تلعثم أو تردد: (يابيه. . . أنا جوعان. . . عاوز حق لقمة)! وحرت والله بين أن أضحك فأسري عن نفسي بعض ما بها، أو أن أصرخ في وجهه علي أنفس عني بعض همي وغلبتني الثانية فقلت: اغرب عني، فلن يشبعك كل ما في جيبي، إنك تبني عمارة وحدك، فهل يصح أن تطلب لقمة!
وبعد، فيا حكومة. . . يا وزارة الشؤون الاجتماعية. . . يا جماعات البر والإحسان. . . يا دعاة الإصلاح. . . يا من تغارون على كرامة وطنكم وسمعة عاصمتكم. . . الغوث. . . الغوث. . . أن جميع ما رأيته في زوايا الطريق في ليلة واحدة، وعلى أبعاد متقاربة في أهم بقاع القاهرة العظيمة مما بينته وكثيراً مثله مما لم أبين يصرخ صراخاً عالياً لمن كان له سمع أن هذا عيب. . . اجعلوها من باب الترف، فأزيلوا من الطرقات هذا الأذى، فما أطمع أن تجعلوها من الإنسانية!
الخفيف(751/36)
في محنة الوباء
يا للأغنياء للفقراء
للأستاذ فريد عين شوكة
جُهدي! وما عندي سوى الأقوال ... أدعو لمكرُمة، وحسن فِعال
جهد المقلَّ! وأين لي بخزائِنٍ=كالأغنياء تفيض بالأموال؟
لو كان عندي المال، لم أبخلْ به ... في النائبات، على رقيقي الحال!
الكادحين الرازحين من الطوى ... الغارقين بشِقوة وضلالِ!
غفراً سراةَ النيل لستُ بحاسدٍ ... لكم على فيض الغنى السلسال
كلا، ولا أنا سائل عن وردِه ... أجرى حراماً أم سرَى بحلالِ
لكن أُعاتبكم لِشُح نفوسكم ... يوم السباق إلى ندىً ونوال!
هذا الوباء طغى بمصرَ، فزادها ... ذاقَ الفقيرُ لدَيه الضَنى الغوَّال!
ما بالكم لا تنهضونَ لِغوثهِ ... بالمال يرخصُ في أجلّ نضال؟
أين الوفاءُ لِمصرَ إن لم تبذلوا ... في غير تقتير، ولا إقلالِ؟!
أتبيتُ في فزَع، وتصبحُ في أسىً ... وتظلُّ نهب عَواصف البلبال!
والأغنياء الناعِمون بخيرها ... يحيوْن في رَغد، وراحة بال!
بل أين حق الكادحين لكم من الز - رَّاع والصُّناع والعُمَّال؟!
مُدُّوا لهم كفَّ الحنان، فطالما ... جادوا لكم بجلائل الأعمال
واسعوا إلى مرضاتهم، ولا تنفثوا ... في البائس المحروم شرَّ خصال
واستعبدوا الأموالَ، لا تغدوا بها ... أسرَى، تعيش العمرَ في الأغلالِ
ما كانت الأموالُ غيرَ وسيلةٍ ... للحمد والمجدِ الرفيع الغالي
والمال مهما غرَّ سحرُ بريقه ... يفنى كما يفنى خِداعُ الآل!
برقٌ يشعُّن وفتنة خلاَّبةٌ ... إن أطعمت فإلى وشيك زوال
فابنوا لكم أسمى المكارم واشتروا=أبقى المحامد في فم الأجيال
(منوف)(751/37)
فريد عين شوكة(751/38)
من الشعر السياسي
إشراقة الفجر
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
فجر أضاء على إظلامة الزمن ... تكفي الليالي التي طالت على الوسن
هذا الأذان بشير الصبح في بلد ... يرن تسبيحه الله في الأذن
يا ثائرين على الأرسان موثقة ... أن الكريم عدو القيد والرسن
ما كان نومكمو يوماً على وهن ... أو كان مرقدكم يوماً على غبن
ولم تكن مصر في أغلال آسرها ... مأسورة الروح بل مأسورة البدن
يا موكب النصر أغلينا فرائده ... والمجد لا يشترى يوماً بلا ثمن
ما أرخص الروح في الأوطان هينة ... لكنها لسوى الأوطان لم تهن
ماذا شهدت من (الستين) زائدة ... إلا الثبات على الأحداث والمحن
تلين كل قناة عند غمزتها ... لكن قناتك عند الغمز لم تلن
شدت على البأس ما مالت لمختبر ... عند اللقاء ولا اهتزت لممتحن
كأن صعدتها الأهرام صاعدة ... أعيا على الزمن الباقي من الزمن
يا نائمين على أمجاد أمسكمو ... ما قيمة المجد في اللفات والكفن؟
أما كفى العمر نقضيه مفاخرة ... على الهياكل أو شدوا على الدمن؟
هبوا أبوتكم قد أعرقت نسباً ... فمن أبو الشمس في إشراقها الحسن؟
ما قيمة الأمس في ماضي تفطنه ... إن لم يكن سبباً في حاضر الفطن؟
قالوا (الجلاء) فقلت العبء أثقله ... عند التفرد بالأعباء والإجن
إن (الجلاء) عن الأرواح قد صدئت ... ليس (الجلاء) عن الكورات والمدن
وللخلاص التزامات أنحسبها ... نوعاً من اللهو أو ضرباً من الددن
والحق لم يحمه جيش بلا عدد ... عند اللقاء، وأسطول بلا سفن!!
والمجد لا يبتني إلا وحائطه ... دعامتان من الأخلاق والفطن
أمامكم تبعات المجد فاصطبروا ... في المركب الوعر أو في المطعم الخشن
هي العزائم لا تنبو على ريب ... من الزمان ولا تخبو على الظنن(751/39)
فما استحال على الإيمان مطلب ... إن قلت يا مستحيل الأمر كن يكن
نعمى الجلاء على الأعمال باقية ... ولا تدوم على الأقوال واللسن
شر البلية أوطان بلا سند ... من الرجولة لا قوم بلا وطن.
محمد عبد الغني حسن(751/40)
أغنية
(. . . وذاب الوجود في الأذن لحناً)
للأستاذ أنور العطار
إن تراءيت لي خيلاً وظناً ... رَقَصَ القلب فرحة وتثنى
واحتواني حلم رقيق حبيب ... هو منى الهوى الذي أتمنى
والنشيد العذب الذي أتغنى
وإذا رفرفت عليك شجوني ... وهفا خاطري وهاجَ حنيني
فاسألي الليل أن يرق لحالي ... فهو مثلي هيمان جم الفتون
شاعر خيّر الرؤى والفنون
يغتلى من دمي شبابك جمراً ... ويعيد الحياة زهراً وعطراً
ومضات من سحر عينيك لاحت ... فسرت في الفؤاد خمراً وشعراً
ومنى تغمر الجوانح غمراً
يا سنا خاطري ويا روض عمري ... يا صفائي ويا خيالي وشعري
طفت بالقلب فرحة وضياء ... كالشعاعات في تباشير فجر
والبشاشات في بواكير زهر
إن ترأفت بالمحب المعني ... ورحمت الشباب يذبل غصناً
هدهدتني الحياة مثل الأناشي - د، وذاب الوجود في الأذن لحناً
وشفتني المنى وقلبي غنى
نهر للحنان غنى بقلبي ... بنشيد حلو على الدهر عذب
بعث الماضي الحبيب لحوناً ... فاتنات تعيد سالف حبي
وتثير الجوى وتغرى وتصبى
دمشق
أنور العطار(751/41)
تعقيبات
مكتبة الجاحظ
أهم صديقنا الباحث المحقق الأستاذ عبد السلام هارون تحقيق كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ وأخرجه للناس مصححاً مقوماً مكملاً، فلو رآه الجاحظ لقرت به عينه وطابت نفسه وشكر للأستاذ الفاضل هذا الصنيع الذي أحيا به أثراً خالداً، وأسدى به إلى العربية يداً. .
ونشر الكتب وتحقيقها ليس بالأمر الهين، ولكنه عمل يشترك فيه الذوق والفهم، والعلم وسعة الاطلاع، ويقتضي بذل الجهد وطولالبحث والصبر على مراجعة النصوص، وهذا كله قد اجتمع للأستاذ عبد السلام هارون، وتجلى فيما أخرج من كتب قيمة وحقق من أسفار نافعة، وقد أعطى لكتب الجاحظ قدراً كبيراً من عنايته، فهو الآن يعد العدة لإخراج الحلقة الثانية من مكتبة أديب العربية الكبير، وهي كتاب البيان والتبين، وقد راجع الأصول المخطوطة لهذا الكتاب، وكمل مواضع النقص فيه، واستوفى مواقعه الناقصة شرحاً وتعليقاً، وما بقى إلا أن يقدمه إلى أبناء العربية في أجمل حلة من التنسيق والطبع. .
على أن الذي يدعو إلى الغبطة أكثر أنه الآن يهتم بجمع الأصول لرسائل الجاحظ المفقودة، وقد هيأ فعلاً رسالة (حيل اللصوص) لأبي عثمان، وكان الظن بهذه الرسالة أنها ضاعتفي أجواء العصور الخالية، وإنه لجهد نافع، وعمل مشكور.
أن هذا الذي ينهض به الأستاذ هارون لعمل تنوء به الجماعة، ولو نهضت به جامعة أو جماعة لحسبته من مفاخرها الخالدة، ولكنه عمل ينهض به فرد مخلص للعلم وهو صامت صابر، قانع بأنه يؤدي واجبه العلمي، ثم هو لا يظفر من جامعاتنا وهيئاتنا العلمية بكلمة تقدير أو شكر. .
علم وجهل
والعلم والجهل ضدان لا يجتمعان، ولكن محطة الإذاعة المصرية قد استطاعت أن تجمع بينهما في براعة تحسد عليها وتدل على عبقريتها. .
تقدم هذه المحطة إلى المستمعين برامج ثقافية تعرض فيها حياة بعض الشعراء والعلماء ورجال التاريخ، في أسلوب طريف خفيف يحمل الناس على الاستماع إليه والانتفاع به، والمحطة تقصد بهذا تثقيف المستمعين وتزويد الذين لم يطلعوا على التراث العربي بذلك(751/42)
الزاد الخفيف، وهو لا شك قصد حسن تشكر عليه، ولكن الخطر كل الخطر هو ما تتضمنه تلك البرامج من الأخطاء الشنيعة في التاريخ والأدب، وتحريف الوقائع والروايات، فأن ذلك يعكس القصد الذي تهدف إليه محطةالإذاعة بتقديم هذه البرامج، فتكون طريقاً إلى الجهل باسم العلم.
استمعت منذ ليال إلى برنامج قدمته المحطة عن الشاعر العالم إسماعيل حسن بن علي الطفرائي الاصبهاني، فلو أردت أن أنبه على ما وقع في ذلك من أخطاء تاريخية وتحريف للوقائع لاحتاج ذلك إلى صفحات من الرسالة.
فلعل المسئولين في محطة الإذاعة يعنون باستدراك هذا الأمر، وإذا كان ذلك مما يشق عليهم فمن السهل أن يؤلفوا لجنة علمية أدبية لمراجعة هذه البرامج حتى تخرج سليمة من كل تحريف خالية من تلك الأخطاء التي لا تحتمل. .
دعوة متهمة!!:
إنه لشيء طريف، وما أكثر الأشياء الطريفة في هذه الأيام!!
قالوا أن بعض المتخرجين في الجامعة وأساتذتها الشبان قد ألفوا من بينهم جمعية أسموها جمعية أنصار اللغة العامية! وغايتها الدعوة لهذه اللغة باعتبارها لغة الأدب القومي في مصر الحديثة. . ويبرز أعضاء هذه الجمعية دعوتهم بأن الشرق العربي يمر بالمرحلة التي مرت بها أوربا في عصر النهضة حينما تطورت اللهجات الشعبية إلى اللغات الأوربية الحديثة متفرعة كلها عن أصل واحد وهو اللغة اللاتينية!!
فاقرأ يا أخي وتحسر على هذا الثمر الذي أثمرته لنا الجامعة، وعلى هذا التفكير الذي يتحدر من وراء العقول. عقول الشباب المثقف الذي يقال إنه عماد التقدم والنهوض. .
أنا رجل لا أحب أن أخلط مسائل ونظريات الأدب بغيرها من الاتجاهات الأخرى، الاتجاهات التي تتصل بالأغراض والمآرب، ولكني أحب أسأل سؤالاً خفيفاً: لماذا ترتفع الأصوات بالدعوة إلى العامية في هذه الأيام التي ندعوا فيها للجامعة العربية وتوثيق الروابط بين أبناء العروبة وحجتنا ف يذلك أن لغتنا واحدة وتقاليدنا واحدة وقوميتنا واحدة. . .
إنني أسأل هذا السؤال، وإني لأضع يدي على شيء في هذا المجال، ولكني لا أحب أن(751/43)
أصرح به، ورجائي ألا يضطرني القائمون بهذه الدعوة المريبة المتهمة إلى التصريح والإفصاح. . .
على أن أدع هذه الناحية جانباًن وأسأل أولئك (الجامعيين): ما تلك العامية التي يريدونها لغة قومية لمصر؟ وفي مصر عشرات من اللهجات العامية التي لا تلتقي في كثير من الأحيان، حتى إنه ليصعب على أبناء الوجه البحري التفاهم مع أبناء مصر العليا، ثم ماذا يصنعون في رسم الكلمات ونطق الحروف ونحن نجد مثلاً حرف (القاف) ينطقه أبناء الصعيد جيما، وأبناء بعض المديريات الشمالية (قافا) وفي بعض المديريات الأخرى (كافاً) وفي القاهرة والمدن ينطقونه (همزة)؟!
ومن يدري؟ لعل وراء هذه الدعوة دعوة أخرى، ولعل (الجامعيون) يطلعون علينا بعد ذلك بالدعوة إلى استقلال كل مديرية من مديريات مصر بعاميتها وبقوميتها. . ألم أقل لك إنه شيء طريق!!
الجامعات في سائر بلاد العالم تخرج شباباً مثقفاً مهذباً يعمل لتثقيف العقول وتنوير الأذهان والسمو بها إلى أعلى، وجامعتنا تخرج شباباً ينحدرون من أعلى إلى أسفل، ويودون بجدع الأنف أن لو استطاعوا السير في الطريق على رءوسهم وأقدامهم إلى السماء ليوجهوا إليهم الأنظار. . .
حافظ. . ومكبث:
قال صديقنا الأستاذ دريني خشبة في مقال كتبه عن شوقي والمسرح في مجلة (الكتاب).
(. . . وكان لحافظ إبراهيم بدوات يحن فيها إلى المسرح وتشف عما كان يتمناه من استطاعة النظم له. وإلا فما الذي أغراه مثلاً بترجمة تلك القطعة الرائعة من نظم شكسبير، والتي يخاطب فيها مكبث خنجره قبل أن يغتال ابن عمه دنكان، والتي يقول في مطلعها:
كأني أرى في الليل نصلا مجداً ... يطير بكلتا صفحتيه شرار
تقلبه للعين كف خفية ... ففيه خفون نارة وقرار
وهي ترجمة جيدة تدل على حسن فهم حافظ لروح شكسبير.)
والحق أن حافظاً لم ينظم هذه المقطوعة المتداولة في وصف خنجر مكبث فحسب، بل إنه ترجم الرواية جميعها، ترجمها نثراً وشعراً، وبذل في ذلك مجهوداً كبيراًن وكان يعدها(751/44)
للتمثيل، ولكنها فقدت منه، وقد ظل حافظ رحمه الله يتحسر عليها إلى آخر حياته. .
ومما يذكر أن المرحوم سليم سركيس نشر صفحات من هذه الترجمة في مجلته التي كان يصدرها باسم (سركيس)، وقد كتب في العدد الذي صدر بتاريخ 15 فبراير سنة 1906 يقول: (عرب حافظ إبراهيم الشاعر الكبير رواية ما كبث مكلفاً بذلك من الشيخ سلامة حجازي ليمثلها جوقه، فاخترت أن أكون السابق إلى نشر شذرات من التعريب دلالة على إجادة المعرب وبياناً للغة هذه الرواية التي ستكون أفضل الروايات المصرية لغة). . . ثم أورد بعد ذلك نحو صفحتين من ذلك التعريب.
وقد عنيت من قديم بجمع كل ما نشر من الشذرات من تلك الترجمة التي تعد أروع آثار حافظ الأدبية، ولعلي أستطيع في فرصة قريبة أن أقدمها إلى قراء الرسالة. . .
ومما يذكر بهذه المناسبة أن الشاعر الكبير خليل مطران بك قد ترجم رواية مكبث وستمثلها الفرقة المصرية في هذا الموسم ولا شك أن شاعر القطرين قد عوض الدب العربي بهذه الترجمة ما خسره بضياع ترجمة حافظ. .
(الجاحظ)(751/45)
الأدب والفن في أسبوع
الأديب بين العزوبة والزواج
كتب الأستاذ سلامة موسى مقالاً في جريدة النداء، عنوانه (الأديب الأعزب والأديب المتزوج - أيهما أخدم للأدب وأخلص للمجتمع؟) بدأه بقوله (بين الأدباء كثيرون تزوجوا وكثير منهم التزموا العزوبة. ولم يقم بإحصاء إلى الآن يبين فيه لا فرق بين الأديب الأعزب والأديب المتزوج من حيث إخلاصهم للمجتمع وخدمتهما للأدب. مع أن هذا البحث جدير بأن يهدينا في باب الزواج وباب الأدب معاً) وختم المقال بالنتيجة التي رمى إليها فقال: (ولكنا نريد أن نثبت هنا بوجه عان أن العزوبة تخدم الأدب أكثر مما يخدمه الزواج) وقد خلص إلى هذه النتيجة من حيث ما ارتآه من أن الحرية التي يحتاج الأديب إليها قبل كل شيء لا تتوافر للمتزوج لأنه يعيش بعقلية عائلية تقيده فلا يستطيع أن يعالج مشكلات المجتمع معالجة قد تصطدم بشعائره الاجتماعية أو عقائده المذهبية، وأن الزوجة عامل محافظ تكره أن تشذ عن القالب الاجتماعي وهي تفكر في زواج بناتها ولذلك تصوغهن في القالب الذي يطلبه الناس، فهي تمنع زوجها أن يشذ أو يتطرف، إلى أن قال: (وفي مثل العصر الذي نعيش فيه، حيث تتغير الأوزان والقيم الاجتماعية، ويحتاج الأديب إلى الحرية حتى يفكر مخلصاُ، فإن كان أعزب استطاع ذلك. أما إذا كان متزوجاً فإنه يلتزم الصمت حيث يجب النطق ويرضى بالقيود حين يحتاج الحرية ويمتدح التقاليد التي يدرك مدى خطرها).
ويبدو بعض الذي ذكره الأستاذ سلامة صحيحاً كمحافظة الزوجة واندماجها في المجتمع وما عساها أن تجذب زوجها الأديب إليه من التقيد ومسايرة الأوضاع السيئة، ولكني لا أرى ذلك موصلاً إلى ما أراد أن يثبته من أن العزوبة تخدم الأدب أكثر مما يخدمه الزواج، ولا إلى ما قال به نم أن الأديب المتزوج يستحيل عليه أن يكون مبتدعاً فذاً كما يكون العزب. لأن المسألة هي شخصية الأديب وأصالة طبعه وإيمانه بفنه واندفاعه إلى أهدافه، فإذا كانت هذه صفاته فلن تستطيع الزوجة ولا (الرغبة في زواج بناته!) أن تقيد حريته فتحول دون إبداء ما يراه، والأستاذ سلامة نفسه مثل لذلك فهو متزوج وصاحب عيال وهو مع هذا يشذ ويتطرف. .(751/46)
وهذا كله مع وقوفنا معه ونظرنا إليه منها وهي التطرف في مهاجمة المجتمع ونظمه. ولم يقل أحد بأن الأديب لا يكون فذاً مبتدعا إلا إذا شذ عن المجتمع واصطدم به.
أن حياة الأديب المتزوج تزخر بألوان من العواطف والتجارب لا يعرفها العزب، وخاصة إذا كن ذا أولاد، ولا أعتقد أن في الدنيا عاطفة أقوى من عاطفة الأبوة (والأمومة) فهو يصورها ويقبس منها طاقات روحية ينبعث بها في كل ما يكتب، فيبدع
والمتزوج رجل عينه ملأى. فهو أقدر على فهم الجمال، ومقاييسه فيه أدق من مقاييس العزب الذي يخدعه حرمانه.
على أن الأهم من كل ذلك أن الأديب لا بد له من المرأة لا لأنه رجل فحسب بل كذلك لأنه فنان يتميز بخصب الوجدان، فهو إما يتزوجها، أو يخدعها، أو تكون من سواقط الحي. .
والأولى أقرب إلى الثلاث إلى شعوره والتغلغل في حياته والمشاركة في تبعاته، وكثيراً ما تتعهده وتحفزه.
هذا ولو نظرنا إلى الموضوع من الوجهة الإحصائية كما أراد الكاتب في أول مقالة، لوجدنا أدباءنا المعروفين عدا قليل منهم متزوجين، وفي جملتهم من كان معرضاً عن الزواج ثم تزوج، وفي هؤلاء المتزوجين من ينقد المجتمع ويكتب في السياسة، وبعنف في نقده وفي كتابته، غير حاسب أي حساب لسخط المجتمع، أو لجور السياسة، أو. . . لبوار بناته. .! ولم يحق عليه شيء من ذلك.
كراسي خالية في المجتمع اللغوي:
خلا في مجمع فؤاد الأول للغة العربية أربعة كراسي بوفاة الشيخ أحمد إبراهيم باشا والشيخ مصطفى عبد الرزاق والأب انستاس ماري الكرملي.
وينشط المجمع الآن - وقد استهل دورته الحالية - في العمل لشغل هذه الكراسي.
قلت لمحدثي: لعلهم يتجهون في اختيار هؤلاء الأربعة إلى استكمال عناصر تعوز المجمع. قال: أن المجمع لا تعوزه عناصر ولا كفايات، والعجيب أنه يؤثر الاتئاد والتباطؤ، أو إن شئت فقل التكاسل، في العمل مع أن كثيرين من أعضائه لهم نشاط أدبي خارجي عجيب! وحسبك أن تعلم أنه يشتمل على كبار الأدباء في مصر ولم يبق بعيداً عنه منهم إلا المازني والزيات.(751/47)
قلت: ليتهم يختارون له دما جديدا من الشباب الناضجين، أم تراهم يستكثرون على الشباب أن يكونوا من أعضاء المجمع اللغوي الخالدين فيه أبداً. . .
زينب:
قلت في كلمة سابقة أن علية بنت المهدي كانت تقول الشعر في غلام يقال له (رشأ) وتكنى عنه بزينب، ومن قولها فيه:
وجد الفؤاد بزينبا ... وجدا شديداً متعبا
أصبحت من كلفي بها ... أدعى سقيما منصبا
ولقد كنيت عن اسمها ... عمداً لكي لا تغضبا
وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمراً معجبا
فكتبت الأديبة النابهة فدوى عبد الفتاح طوقان في العدد الماضي من الرسالة، تقول أن الأبيات لابن رهيمة المدني وليست لعلية، وأوردت ما عقب به أبو الفرج على الأبيات بعد أن رواها عن ميمون بن هرون منسوبة إلى علية إذ قال: (هكذا ذكر ميمون بن هرون، وروايته فيه عن المعروف بالشطرنجي، ولم يحصل ما رواه، وهذا الصوت شعره لابن رهيمة المدني والغناء ليونس الكاتب، وهو من زيانب يونس المشهورات، وقد ذكرته معها، والصحيح أن علية غنت فيه لحنا) ثم قالت الآنسة فدوى أن زيانب يونسي سبع قطع من شعر ابن رهيمة كان يقولها في زينب بنت عكرمة.
وكنت قد قرأت تعقيب أبي الفرج الذي أوردته الآنسة، فلم أره يتسق مع مضمون الأبيات، لأن ابن رهيمة يتغزل في (زينب) وهو أسم حبيبته الصريح فلم يكن ولم يجعل زينب سترة، ومن قوله في إحدى زيانبه السبع:
إنما زينب همي ... بأبي تلك وأمي
بأبي زينب لا أكـ - نى ولكني أسمى
وروى أبو الفرج عن راو آخر، هو عبيد الله بن العباس الربيعي، قوله: لما علم من علية أنها تكنى عن رشأ بزينب قالت:
القلب مشتاق إلى ريب ... يا رب ما هذا من العيب
قد تيمت قلبي فلم أستطع ... إلا البكاء يا عالم الغيب(751/48)
خبأت في شعري أسم الذي ... أردته كالخبء في الجيب
وقال أبو الفرج (فصحفت اسمها في ريب)
فنحن الآن أمام أبيات، يقول صاحبها إنه يخفي أسم محبوبه ويستره ويكنى عنه، وعلية هي التي كانت تصنع ذلك واشتهرت به حتى اضطرت إلى التحول عن (زينب) إلى (ريب) وقد نسب الرواة إليها الأبيات، وكذلك فعل الحصري في كتابه (زهر الآداب) إذ قال بالجزء الأول في علية: (وعلقت بغلام اسمه رشأ وفيه تقول:
أضحى الفؤاد بزينبا ... صبا كئيباً متعبا
فجعلت زينب سترة ... وكتمت أمراً معجبا)
فكيف تكون الأبيات بعد ذلك لابن رهيمة واسم صاحبته زينب؟ أيكنى بزينب ويسترها بها؟!
وما أظن ذلك قد غاب عن فطنة الآنسة فدوى، ولكنها - فيما يبدو لي - وقعت فيما وقعت فيه من حيرة في اضطراب أبي الفرج، فأرادت أن تعرف ما أقول فيه. وقد قلت.
الأدب والسينما:
كان مساء الجمعة موعد للمناظرة التي قامت بنادي الخريجين المصري في موضوع (إخراج روائع الفكر على الشاشة متمم لقيمتها الفنية) وقد أيد الرأي الأستاذان كمال شكري ومصطفى حبيب، وعارضه الأستاذان يحيى نصار وعلي الراعي.
ومما قال المؤيدان أن السينما فن له خطره في قيادة الجماهير وتوجيهها، وقد اجتاز أو أوشك أن يجتاز المرحلة التي كان فيها كل الغرض منه الاتجار وإدرار المال بتقديم ما يسلي دون أن ينفع، وذلك بفضل الجمهور الذي استنار وطالب بغذاء فكري في منتجات السينما، فاضطر المخرجون أن يستجيبوا له فقدموا له ما كتبه الأدباء من القصص القيمة، وأخرجوها من الحيز المحدود إلى عالم أوسع. ولا يستطيع فن السينما أن يقوم ويواجه الجمهور المستنير إلا على جهود الكتاب الذين يعالجون في رواياتهم مشكلات المجتمع ويصورون آلام الناس وآمالهم، ولا تستطيع السينما أن تعيش طويلاً على ما يقدمه من لا حظ لهم من علم أو أدب أو فن.
وفن السينما يتمم قيمة الأدب بتجسيم ما يرمي إليه الأديب وتحريك أشخاصه وتوضيح(751/49)
الغامض من فكرته، وقد يركز الهدف المبسوط في صفحات - في منظر واحد. وهو بعد هذا يتمم رسالته بتبسيطها وتقريبها وتسهيل هضمها، وينشرها في جموع رواد السينما الذين هم أكثر من قراء الأدب، وبذلك تصبح السينما أداة نشر للأدب بعيدة المدى عظيمة الأثر.
وذهب معارضاً الرأي إلى أن الأدب والسينما فنان يختلف أحدهما عن الآخر، فالأدب يوحي إلى كل قارئ من قرائه الفرادى بمشاعر مختلفة ويؤثر فيهم تأثيرات متباينة، وعندما يعمد إليه المخرج يستمد تأثيره الخاص ويصبه في قالبه السينمائي فتتأثر به الجموع المشاهدة تأثيراً واحداً؛ والأدب أداته الأسلوب والألفاظ، أما السينما فتعتمد على الصور والحركات والحوار، فالرواية حين تنتقل إلى السينما تصبح شيئاً آخر غير الأدب. والسينما تتطلب من مشاهدها المتابعة السريعة، وهذا يقتضي ألا تحتاج مادتها إلى تأمل وإمعان فكر على خلاف الأدب الذي يتيح التأمل والتفكير لقارئه، بل هو يدعوه إليها بما فيه من تعمق وبعد غور. والسينما لا تكفي طالب الأدب بل هو بعد أن يشاهد القصة على الشاشة يتشوق إلى قراءتها ليجد فيها ما لم يؤده إليه عرض السينما.
وعلى ذلك فالسينما فن قائم بذاته مغاير للأدب، ومغاير الشيء لا يتممه.
وبعد أن ورد المؤيدون على ذلك وبينوا أن هذه اعتبارات نظرية تقوم على مغالطات يدركها المتأمل - أخذ رأي الحاضرين في الموضوع، فأيد الرأي الأكثرون.
قيود العملة ونشر الثقافة:
نشرت إحدى الصحف أن فريقاً من منتجي الأفلام السينمائية في مصر وأصحاب شركات السينما شكوا إلى وزارات المالية والتجارة والخارجية من الصعوبات التي يلاقونها في استيراد الأموال المستحقة لهم من البلاد الشرقية ثمناً للأفلام التي ترسل من مصر إلى تلك البلاد نظراً للقيود المفروضة على إخراج العملة في تلك البلاد إلى الخارج. وقد عنيت وزارة المالية ببحث هذا الموضوع ودراسته، فاستقر الرأي على أن تتولى وزارة الخارجية وزارة حكومات تلك البلاد في تيسير إخراج العملة من بلادها ثمناً لما يرسل إليها من الأفلام المصرية رغبة في نشر الثقافة عن هذا الطريق. وقد أرسلت وزارة المالية فعلاً إلى وزارة الخارجية نص كتاب بهذا الشأن لتوجيه إلى حكومات بعض البلاد الشرقية لتحقيق(751/50)
ذلك.
والواقع أن المؤلفين في مصر ودور النشر يشكون هذه الشكوى، لأنهم يجدون صعوبة في إصدار المؤلفات إلى بلاد الشقيقة لتلك الأسباب، والواقع كذلك أن أزمة إصدار المؤلفات المصرية إلى خارج القطر أقدم من قيود العملة، فقد بدأت هذه الأزمة من سنى الحرب التي قل فيها الورق، فلم يصرح إلا بتصدير ثلاثين في المائة من عدد نسخ الكتاب المقدر بما يمنح المؤلف من الورق، مما مكن لبعض الشقيقات من النشاط في إصدار مؤلفاتها.
ولم تكد ترفع قيود التصدير حتى جاءت قيود العملة فأصبحت زعامة مصر الأدبية مهددة، بل هدد التعاون الثقافي بين البلاد العربية، وكاد يقف انتشار الثقافة العربية في أرجاء الوطن العربي الكبر.
ولا شك أن هذا الأمر يدخل في اختصاص اللجنة الثقافية بالجامعة العربية، كما يعني وزارة المعارف المصرية التي تهتم بالتعاون الثقافي العربي. ولا بد أنهما تلتفتان إليه ستبذلان له عنايتهما بالاشتراك مع وزارتي المالية والخارجية، وإنه لجدير بعناية الجميع وإذا كان قد عنى بمسألة الأفلام رغبة في نشر الثقافة عن طريقها فإن الكتب هي الأداة الأصيلة لنشر الثقافة.
(العباسي)(751/51)
البريد الأدبي
القرقور في القاموس:
أخرج السيد (البر الريحاني) شقيق (الفيلسوف أمين الريحاني) في هذه الأيام للقارئين كتاباً كبيراً، أسمه (قلب لبنان) من إنشاء أخيه، وقد جاء فيه (ص522):
(وهاك مثالاً من مباحث (برار) التاريخية: بين الجزائر السبع اليونانية جزيرة فقدت أسمها القديم وأسمها الأقدم السامي. أما أسمها اليوم فهو (كرفو) أما أسمها القديم فهو (كركير) وهو غير يوناني. وان له قصة طريفة جاءت في الأدوسي.
يوم كان عولس عائداً إلى اثيكا نقم عليه اله البحر، فحول مركبه إلى صخرة عند الشاطئ، فسميت الجزيرة بأسم ذلك المركب تذكاراً للحادث المفجع.
ثم قال العلامة برار أن معنى كركيرا المركب السريع، وإن الاسم فنيقي سامي. (فقد كان العرب. يسمعون المركب السريع كركر أو كركور.)
قال الفيلسوف: إنه رجع إلى الفير وزبادي فصل الكاف باب الراء وفصل القاف باب الراء فلم يجد لا كركورا ولا قرقورا. وقد كان الفيلسوف العبقري (الأمين) في هذا القول من المتسرعين وأن كان خطب تسرعه يسيراً هيناً بالقياس إلى تسرع كثير من نظرائه من الفلاسفة والأئمة. يقول الأمام أبن السيد البطليوسي في كتابه (الاقتضاب في شرح لا لأدب الكاتب) ناعياً على الإمام الأصمعي تسرعه: (كان الأصمعي (عفا الله عنه) يتسرع إلى تخطئة الناس، وينكر أشياء كلها صحيح). (وقد يكون مع المستعجل الزلل) كما يقول القطامي.
إن (القرقور) هو في (القاموس) واليقين أن العلامة برار إنما عني هذه اللفظة، وقد قال (كركير أو كركور) إذ لا قاف في ألسن الفرنج ولا ضاض ولا عين، ولو سمع (أبو مهدية) حديث القوم لتعجب كيف يلغو هؤلاء الناس، كيف يحكون وقد خلا لحنهم أو لسنهم أو حكايتهم من أمثال هذه الحروف.
وهذا قول مجد الدين في مصنفة (القاموس): (والقرقور كعصفور السفينة أو الطويلة أو العظيمة) قال شارحه صاحب (التاج): (والجمع القراقير، ومنه قول النابغة: (قراقير النبيط على التلال)، وفي الحديث: فإذا دخل أهل الجنة الجنة ركب شهداء البحر في قراقير من(751/52)
در). وإذا شك في الحديث - وقد نقله (التاج) من (النهاية) - فلا ريب في صحة ألفاظه في اللغة. وروي أبو علي في (أماليه) ج1 ص279 مقطوعة مستطرفة لعبد الصمد بن المعذل في هجاء أبن أخيه. وردت تلك اللفظة في مطلعها:
لو كان يعطي المنى الأعمام في ابن الأخ ... أصبحت في جوف قرقور إلى الصين
وقال الهاجي في ختامها:
إن القلوب لتطوى منك يا ابن أخي ... إذا رأتك على مثل السكاكين
فعندنا - كما ترى - (القرقور) وهذه اللفظة وغيرها هي من الأدلة على أن العربية والنيقية - والفنيقية بنت العربية - كانتا تعطيان الإغريقية كما كانتا تأخذان منها، وشيخنا يقول:
(الناس بالناس من حضر وبادية) فلكل على كل يد، ولن يستبد بالفضل كله في هذه الدنيا مستبد. وما احتفلنا بتلك الكلمة وحرصنا عليها لتكتب في الصحف أو تقال لكن اهتممنا بها للتاريخ، وسيمكث (القرقور) في (القاموس) أو في الميناء مرسى بالأنجر لا يغدو ولا يروح، فلا نقول في وقت: باسم الله مجراه بل بإسم الله مرساه. . . والعربية - يا أخا العرب - بحر، فلا تعدم اللفظ الفصيح المأنوس القرآني.
(السهمي)
تعليق على كلمة:
قرأت في مجلة الرسالة الغراء مقالاً للدكتور عبد الوهاب عزام بك في العدد 748 وقد لفت نظري في أثناء المقال استعماله كلمة (اطأرت) جاء بها خلال تحدثه عن ضريح (همايون) في الهند بقوله: (وما رسخت قواعد الملك ولا اطأدت أساطين الدولة. . الخ) وهذه الكلمة لا تعترف بها القواعد الصرفية لأن ثلاثيها (وطد) وصوغ (افتعل) منها يكون اتطد كوعد وأتعد وهكذا، وزيادة للإيضاح أذكر ما كتبه صاحب (المثل السائر) في أوائل كتابه المذكور عن هذه الكلمة التي جاءت في شعر أبي تمام، قال صاحب المثل السائر: وقد غلط أبو تمام في قوله:
بالقائم الثامن المستخلف اطأدت ... قواعد الملك ممتداً لها الطول(751/53)
إلا ترى أنه قال: اطأدت والصواب اتطدت لأن التاء تبدل من الواو في موضوعين أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت: أتعد ومثله ما ورد في هذا البيت فإنه من وطد يطد ولا يقال اطأد.
وأما غير المقيس فقولهم: تجاه، من وجاه، وتكلان، من وكل فأبدلت الواو تاء للاستحسان. . . هذا نص ما قاله ابن الأثير الموصلي في المثل السائر صفحة7، ولعل للدكتور عزام حجة تفند زعم الموصلي ليصح قول أبي تمام فيصح قول الدكتور نفسه.
إبراهيم الوائلي
حول خبر في النجوم الزاهرة:
إلى الصديق الأستاذ المؤرخ أحمد رمزي بك.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. جاء في الجزء السابع من (النجوم الزاهرة) ص126 سطر 16.
قول مؤلفه أبي المحاسن يوسف بن تغري بردى حين يتحدث عن قضاة الشافعية بمصر: (وقاضي القضاة جلال الدين المذكور هو صهري وزوج كريمتي ومات عنها رحمهما الله تعالى وعفا عنهما) وفي هذا الكلام نظر لأن القاضي جلال الدين هذا توفي سنة 824 هجرية، والمؤلف ابن تغري بردي ولد سنة 813هـ على حسب قوله هو في ترجمته لنفسه. فكيف ينجب بنتاً تتزوج بالقاضي جلال الدين ويموت عنها زوجها سنة 824هـ؟ أتكفي هذه السنوات الإحدى عشرة لكي يبلغ الأب الحلم ثم يتزوج فينجب ثم تبلغ بنته سن الزواج؟
لقد ظننت - توقياً للاستحالة العقلية والطبعية في هذا الخبر أن بالنجوم خطأ في هذا الموضع؛ وأن القاضي جلال الدين لا بد أن يكون صهراً لصاحب النجوم الزاهرة ولكن في غير كريمته.
ورجعت إلى كتب التراجم فوجدت في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) لأبن العماد الحمبلي جزء7 ص317 أن القاضي جلال الدين تزوج بأخت مؤلف النجوم وهو الذي تولى تربيته. ووجدت في (الضوء اللامع للسخاوي) ما يفيد أن القاضي جلال الدين تزوج بأخت المؤلف بعد وفاة زوجها الأول الناصري بن العديم القاضي.(751/54)
ألا ترى معي أيها الصديق الكريم أن الخطأ في كتاب (كالنجوم الزاهرة) يجب أن يصلح حتى لا يضل الباحث ويضطرب. ثم ألا ترى معي أن رواية الشعر في (النجوم الزاهرة) لا تزال مضطربة، وأن همة (الدار) أكبر من أن يشق عليها التحري والتوفيق؟؟
محمد عبد الغني حسن
من خبر الجامعة:
جاءنا أن قسم اللغة العربية في كلية الآداب عقد اجتماعاً برياسة الأستاذ أمين الخولي، وبناء على اقتراحه تقرر (بمخالفة الأستاذين الشايب وشوقي ضيف) إسناد تدريس علوم القرآن إلى صاحب رسالة الفن القصصي في القرآن. وعلمنا أنها قد أتصلت بعض الهيئات الإسلامية على أثر ذيوع هذا الخبر بالعميد الدكتور عزام بك، وفهمت منه أن صاحب هذه الرسالة سيخرج من الجامعة حتماً.(751/55)
القصص
قصة تاريخية:
القائد المفقود
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
(إلى الذين يحسبون أن المفاوضات السياسية والمداولات الدبلوماسية ستنقذ فلسطين من محنتها. . .)
كانت آخر خفقة الذي ظل سبعة قرون يضئ أرجاء الدنيا. . . فقد استطاع الملك فرننادو في غفلة من ملوك العرب بالأندلس أن يتخطف ملكهم الواسع قطعة قطعة، وأن يطوح بهم من عرش الملك واحداً إثر واحد، وكان في الجولة الأخيرة قد استولى على وادي آش والمرية وبازة وغيرها من الأقاليم، ثم أرسل بجيوشه الجرارة للأستيلاء على غرناطة وكانت هي كل ما بقى للعرب من ذلك المجد الباذخ الذي بناه آباؤهم بالشجاعة والسيف، فأضاعوه هم بالجبن والخوف. .
واجتاحت تلك الجيوش الجرارة في يوم وليلة أراضي غرناطة واستولت على مشارفها، ثم وقفت بأبواب المدينة العظيمة فطوقتها من كل جانب وضربت عليها حصاراً خانقاً حتى تسلم أو تموت جوعاًن وكان يتولى الدفاع عن المدينة القائد العربي العظيم موسى ابن أبي الخازن، فلم يهن ولم يجزع أمام تلك القوة الساحقة، بل وقف يحشد كل ما يملك من شجاعة وحكمة وحيلة لذلك الموقف الرهيب، فوزع قوات الدفاع على أسوار المدينة، وجند الشبان الفدائيين للتسلل بين ثغرات الحصار وجلب المؤن للسكان، ووضع نظاماً لتوزيع الطعام حتى يستطيع السكان أن يثبتوا أطول ما يمكن من الزمن. وكانت لا تغتر لهذا القائد المجاهد عزيمة، فكان لا يرى في الليل وفي النهار إلا واقفاً يشد من عزائم جيشه وبني قومه. أو مشتبكاً مع الأعداء في مناشات عنيفة تقعقع فيها السيوف وتجري الدماء. .
طال الأمر بهذه الحال الرهيبة، وظلت غرناطة ترزح تحت الحصار الخانق سبعة أشهر حتى نفد منها الطعام، وأخذ الجوع يتهدد الأهالي بالفناء الساحق والدمار الماحق، ورأى أبو عبد الله الملك أنه لا أمل في النصر، وأنه ليس في طاقة السكان أن يتحملوا أكثر مما(751/56)
احتملوا، فجمع الوزراء والقواد وأهل الشورى وأخذوا يدبرون للخروج من هذه الشدة، فأجمعوا على أن الأمر أصبح لا يطاق، وأن التمادي في الدفاع لا يجدي بعد أن أخذ السكان يتساقطون إعياء وجوعاً، وأن الحكمة تقضي بالتماس طريق آخر للخروج من هذا الكرب، ثم اتفقوا على أن خير الطرق في ذلك هي أن يفاوضوا الملك فرننادو على وضع يحتمل وشروط للصلح يمكن أداؤها. .
فانتفض القائد موسى في مكانه ونهض قائلاً: ما هذا الذي أنتم فيه أيها القوم؟! وما هذا الرأي الذي ترون!! أجل! أن الجوع يعضنا بنابه الزرق، وانه يودي بفلذات أكبادنا، ولكن في شرعة الكرامة لا يزال لدينا الكثير! إننا لم نأكل القطط والكلاب والعشب والحطب بعد، وان الجوع في أسوأ حال أشرف وأكرم من الاستعباد على أي حال، أن الحر يحتمل أن يرى أطفاله وعشيرته يموتون جوعاً، وأن يواريهم التراب بيده ثم لا يذرف عليهم دمعة واحدة، ولكنه لا يحتمل أبداً أن يرى أبناءه وعشيرته أرقاء للغاصبين، وأن يرى زوجاته وبناته نهباً للفاتحين، وأن يرى نفسه غريباً طريداً في مرتع طفولته وصباه وموطن شبابه وشيخوخته، فاللهم لا تدمني حتى أعاني تلك الحال.
فعاد القوم يتشاورون، ولكنهم عادوا فأجمعوا على ما كانوا فيه، وقال قائلهم: إننا إذا دخلنا في مفاوضة مع الملك فرننادو وجرينا معه على طريقة التفاهم والمودة فأنه لا يشق علينا، لأننا أصبحنا بإزئه لا نملك حولا ولا قوة، وإنما حاجته إلى الملك لا إلى ظلم الناس والقسوة عليهم. فلنرسل إليه رسولاً يفاوضه على شروط التسليم ولننظر ما يأتي به الرسول. .
قال موسى: كيف تقولون إننا لا نملك حولا ولا قوة؟! كلا: إننا نملك الموت في سبيل الشرف، وما هذه المفاوضة التي تريدونها إلا إظهار للضعف ودعوة إلى التخاذل وإعلان للتسليم والاستسلام وثقوا إنكم لن تسمعوا في هذه المفاوضة من الملك فرننادو إلا كلمة القوي للضعيف. .
ضاعت كلمات القائد موسى صرخة في واد ونفخة في رماد، وما كان يستطيع أن يحرك النفوس الهامدة وأن ينفخ الحياة في الأموات، فتركه الموت لحماسته، وانصرفوا إلى ما اتفقوا عليه من الرأي، فأرسلوا بالوزير أبي القاسم عبد الملك إلى مفاوضة الملك فرننادو(751/57)
في الصلح والتفاهم معه على الشروط التي يريدها، فما علم الملك بمقدمه لهذه الغابة حتى رحب به أجمل ترحيب وأحاطه بالحفاوة والإكرام، ووكل إلى وزيره أمر المفاوضة مع الوزير العربي وكان أن أملى القوي شروطه على الضعيف. ثم عاد أبو القاسم يحمل إلى قومه معاهدة كثيرة البنود طويلة الشروح والتفاصيل، تنص في أول بنودها على تسليم غرناطة وإطلاق الأسرى الأسبان المتعلقين فيها، وأن يقسم الملك أبو عبد الله ورجال دولته يمين الطاعة والإخلاص للملك فرننادو، وأن يقطع له بعض الأراضي ليقضي فيها بقية حياته، وأن يأمن المسلمون على أموالهم وعباداتهم وعاداتهم، وألا يؤخذ منهم من الأموال والضرائب إلا ما كانوا يدفعونه لملوكهم، وإمهال الملك أبي عبد الله للتفكير في قبول هذه الشروط ستين يوماً تبتدئ من تأريخ تحرير هذه المعاهدة في الخامس من نوفمبر سنة 1491م الموافق الثاني والعشرين من المحرم سنة 897هـ.
رجع الوزير أبو القاسم يحمل هذه المعاهدة إلى قومه، فدعا الملك أبو عبد الله الوزراء والرؤساء والفقهاء وأهل الرأي ليشاورهم فيها، فلما وقفوا على مضمونها غامت الدنيا في وجوههم وأجهشوا بالبكاء، ورأوا أنه لا حيلة لهم إلا التسليم والإذعان، إلا القائد موسى أبن أبي الخازن فأنه صاح فيهم قائلاً: (وآسفاه، أنتم تبكون أيها الرجال، إذاً فالويل للنساء والأطفال، لقد حذرتكم فما سمعتم. وأنذرتكم فما أصغتم، وأنكم لتسمعون من الملك فرننادو كلمة القوي للضعيف، وهي كلمة لا يتبدل مدلولها في إرادة الأقوياء، ولا يتغير أثرها في إذعان الضعفاء، وهاأنتم أولاء أيها السادة ترون أنفسكم وقد أصبحتم بهذا الإذعان أرقاء إذلال، ففي الغد تبصرون الغاصبين يدخلون بيوتكم، ويستبيحون حرماتكم، ويعطلون شعائركم، ويتخطفون أقواتكم، ويتحكمون في رقابكم فلما ترهبون الموت والموت أهون مما سيصيبكم، وأشرف مما سيحل بكم، أن من الشرف أن نواجه الموت اختياراً قبل أن نرغم عليه إرغاماً، وأن من الكرامة أن ندافع العدو حتى آخر قطرة من دمائنا وحتى نبيد عن أخرنا. . .
إذا ما أفعم اليأس النفوس صمت الآذان وماتت العزائم وهكذا ضاع كلام القائد موسى هباء فلم يحرك من القوم ساكناً، فأذعنوا لما فرضه عليهم الملك فرننادو من الشروط، ووافقهم الملك أبو عبد الله على ذلك إيثاراً للسلامة في ملك طرد منه بعد قليل شر طردة. . أما(751/58)
القائد موسى أبن أبي الخازن فأنه أبى أن يستسلم وأن يذعن. . . فقصد من فوره إلى داره وتقلد سلاحه ولبس دروعه امتطى جواده ثم خرج ليدافع أولئك الغزاة الذين تقدموا ليكتبوا آخر سطر في تأريخ العرب بالأندلس. .
ولم يعرف أحد ماذا كان مصيره ولا كيف كانت نهايته. . وما يزال التاريخ يبحث إلى اليوم عن ذلك القائد المفقود. .
محمد فهمي عبد اللطيف(751/59)
العدد 752 - بتاريخ: 01 - 12 - 1947(/)
لا إله إلا الهوى!
أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة؟ ذلك هو إنسان اليوم، وإن شئت فقل هو إنسان الدهر كله! زعم أبن آدم إنه عرف الله وعلم الحق وحكم العقل وآثر العدل وتوخي السلام، وراءى بعضه بعضاً فتظاهروا بالتصديق، ونافقوا بالإيمان، وشقشق خطباؤهم بالهدى، وتشدق شعراؤهم بالحكمة، وفي قرارة كل امرئ أن الله معناه الهوى، وأن الحق معناه المنفعة، وأن العقل معناه الحيلة؛ فأنا وأنت وهو إنما نذكر عزائم الله وفضائل الخلق وفرائض القانون إذا لم يكن من ذكرها بد لإدراك الغنيمة مع الراحة، أو اتقاء الهزيمة عند العجز. وغاية السياسة الآدمية أن تكون ثعلباً مع الضعف وأسداً مع القوة!
أزل عن عينيك أن استطعت ما غشيها من رياء الإنسانية وخداع المدنية، ثم انظر إلى حقيقة الإنسان في نفسك، وفي عشرائك في البيت، ورفقائك في المدرسة، وخلطائك في القهوة، وزملائك في العمل، ورؤسائك في الديوان، ونوابك في البرلمان، ووزرائك في الحكومة، فلا تجد إلا غرائز الحيوان الوحش تسمت بأحسن الأسماء، وتزيت بأجمل الأزياء، وتجلت في أبهى المناظر: فالتفارس تنافس، والأثرة محبة، والطمع طموح، والاستغلال تعاون، والاستعمار تحالف، والقوة حق، والضعف عفة، والحرمان قناعة، والختل سياسة، والشعوذة دين، والعصبية وطنية!
قد يخدعك الغطاء الذهبي على الناب، والقفاز الحريري على المخلب، فنحسب أن هذا الإنسان الذي هتك بعلمه أستار الطبيعة، وكشف بعقله أسرار الوجود، قد هذبه العلم وصقله التمدن، فارتفع من الأرض إلى السماء، وانتقل من الحيوان إلى الملك، ولكن خلافاً يشجر بين الأخوة على ميراث، أو شقاقاً ينشأ بين الزعماء على منصب، أو نزاعاً يحدث بين الدول على بلد، يستطيع أن يشق الذهب ويمزق الحرير فترى الوحش الآدمي على جبلته بادي النواجذ متقد العينين، يتحلب الريق من أنيابه، ويقطر الدم من أظفاره!
ها نحن أولاء، كنا نظن لوفرة المساجد في المدن والقرى، وكثرة السبح في الرقاب والأيدي، وتنافس الفقراء في أقام الصلاة، وتسابق الأغنياء إلى أداء الحج، أن الدين قد سيطر على القلوب وهيمن على الضمائر. . . فلما ابتلانا الله بوباء الهيضة الجارف، ووقع الأيمان المزيف تحت المحك، تمزقت الأغشية عن عفن في نفوس أكثر الأغنياء والأطباء(752/1)
والمسئولين كان أزكى روائحه الرشوة والشح والسرقة والتواكل والتخاذل والتفريط والقسوة. . . وكل هذه الموبقات مشتقات من مصدر واحد هو الأثرة!
وهذه هيئة الأمم المتحدة، كنا نظن لفرط ما عانى الحلفاء من أهوال الحرب، وكابدوا من نتائجها، أنهم يقيمون العالم الجديد على قواعد الميثاق الأطلسي الأربع؛ فلما تقدمت مصر وفلسطين إليها تستعديان قوى ميثاقها على بغي إنجلترا وجور أمريكا لم تجدا في قاعة مجلس الأمن إلا مجمع الوحوش والبهائم الذي تخيله (لافونتين) في الغاب!
أن الرجل يعمل لنفسه ثم لأبنائه، وأن الحزب يعمل لرئيسه ثم لأعضائه، وان الشعب يعمل لمليكه ثم لوزرائه؛ فمن زعم أن الأنانية تتجه إلى الغيرية، وأن الحزبية تعمل للوطنية، وأن الوطنية ترمي إلى الإنسانية، فقد زور على الإنسان وكذب على الطبيعة!
(القاهرة)
أحمد حسن الزيات(752/2)
14 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
مدينة أكرا
سار بنا القطار والساعة ثمان وخمس وأربعون دقيقة من صباح السبت ثالث عشر جمادى سنة 1366هـ، وخامس نيسان سنة 1947م من دهلي إلى أكرا.
والمسافة بينهما زهاء أربع ساعات. واستقبلنا على محطة أكرا جماعة من بيت كنش لال أحد أعيان المدينة وأحد تجار الهند المعروفين في القاهرة. وأردنا أن ننزل بفندق كبير هناك أسمه إمبريال. وبينما نجلس في ساحة الفندق ننتظر جواب سؤالنا عن غرف في الفندق، جاء رجل هرم يحمل عصافير مرتبطة بخيوط، فجلي إلينا وشرع يعرض أعاجيبه. رمى بحلقة في الهواء وأشار إلى عصفور فأدركها فالتقطها قبل أن تقع على الأرض وردها إليه. وأشار إلى عصفور آخر فطار إلى شجرة قريبة فقطف منها ورقة وجاء إلى صاحبه. ووضع بطاقات من بطاقات اللعب مقلوبة وذكر عدداً فأخذ عصفور يقلب الأوراق حتى قلب البطاقة ذات العدد المذكور وأخذها بمنقاره وسلمها إلى معلمه. ثم جاء بأعواد عليها بكرة صغيرة فيها خيط ينتهي إلى دلو صغير وأشار إلى عصفور فشرع يمسك الخيط بمنقاره ويجره حتى يضعه تحت رجله ثم يأخذه كرة أخرى فيطويه تحت رجله حتى طوى الخيط وطلع الدلو فمد منقاره إليه وجذب إليه كأنه يستقي ماء من بئر برشأ ودلو. فقلنا: إحدى عجائب الهند.
ولم نجد غرفاً بالفندق فسرنا إلى دار كنش لال فلبثنا إلى اليوم الثاني في حفاوة وإكرام فاستحق المضيفون ثناءنا وشكرنا.
وأكرا مدينة يسمى باسمها إقليم. وهذا إقليم وإقليم أورده يؤلفان ولاية كبيرة تسمى وهذا رمز لأسمها بإنكليزية: في الهند: ممالك متحدة.
والمدينة مثل دهلي، ذات مكانة تجارية وحربية عظيمة. ويمر بالمدينتين كلتيهما نهر جمنه أحد أنهار الهند الكبيرة.(752/3)
وقد عرف ملوك الهند حصانة هذه البقعة بمكانها من هذا النهر فاتخذوا مدينة أكرا حاضرة للملك أو إحدى حواضره.
وقد أتخذها السلطان أسكندر اللودي داراً للملك بدل دهلي وهو من الأسرة اللودية التي تسلطت في الهند من سنة 855 إلى 932هـ. وإنما آثرها على دهلي حينما عرف غناءها في ضبط الثائرين عليه في الجنوب. فعظمت مكانتها من ذلك الحين.
ولما جاء إلى الهند الرجل العبقري بابر، وقد أسلفنا ذكره، فتح أكرا سنة 932. وأخذ فيما أخذ من مغانمها الماسة المعروفة باسم كوهِ نور أي جبل النور. وفي أكرا آذن بابر بأن فتحه الهند ليس غارة موقوتة ولكن ملكاً مؤثلاً، ولما ملك جلال الدين أكبر حفيد بابر بني قلعة أكرا، القلعة الحمراء التي تمتد أسوارها على نهر جمنه ميلاً ونصفاً.
وازدادت المدينة وأرباضها منذ بنى أكبر قلعته، بعجائب من أبنية السلاطين التيموريين بل بمفاخر من الحضارة الإسلامية وصناعاتها. ففي أكرا القلعة والتاج والمسجد، وفي سكندرة مزار أكبر وآثار أخرى. وعلى مقربة من المدينة فتح بور سكري وهي مزدحمة بآثار عظيمة رائعة.
مزار أكبر
خرجنا والساعة خمس مساء إلى سكندرة لنزور ضريح جلال الدين أكبر.
ولا يعرف روعة التوجه إلى زيارة ضريح أكبر إلا من عرف تأريخ هذا الرجل الذي لا يعرف تأريخ الإسلام بل تأريخ العالم من الملوك أمثاله إلا قليلاً.
ذكرت آنفاً ظهير الدين بابر مقيم الدولة التيمورية أعظم الدول الإسلامية في الهند. وكذلك ذكرت ابنه همايون.
وجلال الدين أكبر الذي أتوجه لزيارته الآن هو أبن همايون وحفيد بابر. وضع هذان له القواعد ليشيد ملكاً عظيماً، ويوطد دولة ينبسط سلطانها على الهند إلا قليلاً، ويترك على الزمان سيرة في الفتح والعدل والحضارة والعمارة لا تزال مثار إعجاب وتعجب. ولا تزال مفخرة من مفاخر التأريخ الإسلامي.
توفي همايون بعد أن استرد ملكه في الهند، وابنه جلال الدين في الرابعة عشر من عمره. فدبر له الملك بايرام خان فدفع عنه الطامعين، واخضع الثائرين، ولم تأخذ في إقرار(752/4)
السكينة، والنظام هوادة ولا شفقة. فلما سكنت الفتن واستوسق الأمر تولى جلال الدين تدبير الملك ولما يعد الثامنة عشرة. وقد حاول هذا الوصي أن يقتطع له إمارة في أرجاء المملكة وثار على أكبر إلى أن اضطر إلى التسليم له. فاحسن الملك الشاب إلى وصيه وخيره بين أن يتولى منصباً عالياً في الجيش أو يسير إلى الحج مرفهاً في موكب عظيم. فاختار الحج.
وكان عفو أكبر عن بايرام خان وإحسانه إليه إيذاناً بسيرة صالحة رفيقة؟؟، سارها أكبر طول عمره.
ثبت جلال الدين أكبر سلطانه في أرجاء المملكة كلها. ومد فتوحه لم يبق من الهند خارجاً عن سلطانه إلا قليل. ودان معظم الهند له واستقامت الأمور لحكمته وحكمة زمان سلطانه المديد وقد ملك أكثر من خمسين عاماً.
وكان مولعاً بالفتوح البعيدة، واجتياز الفيافي الموحشة، وركوب الخيل الجموحة، واخترع نظماً للجيش وأسلحة. وكان مثالاً عالياً في القيادة الجيوش، وركوب الأهوال. ولكن هذه الشجاعة والجرأة والفتح والسفر لم تكن إلا أقل مزاياه. فقد كان في السلم والعمران أعظم منه في الحرب.
سن من القوانين، وخط من الخطط في مسح الأرض وريها وجباية الخراج ما يشهد بسعة فكره، وبعد إدراكه، وقد بقيت بعض سننه متبعة في الهند إلى هذا العصر.
وجمع هذا الرجل الأمي حوله من أدباء العالم وشعرائه وكتابه وعلمائه وفلاسفته جمعاً كبيراً حتى كان في كنفه من شعراء الفارسية زهاء خمسين شاعراً.
وقد جاءه الصناع من أرجاء العالم من آسيا وأوربا.
وأنشأ المدارس في أنحاء المملكة ليعلم فيها المسلمين وغيرهم على السواء. وبنى خزائن الكتب وجمع فيها نفائس الكتب من الأقطار وافتن في صناعة التجليد والتذهيب حتى أنفقت على بعض الكتب آلاف الدنانير، وقد أبطل العادات الوحشية في الهند مثل إحراق الزوجات بعد موت أزواجهن.
وحاول أن يشيع المحبة والمودة والأخوة بين الناس بجمعهم على دين واحد. فألف من الإسلام والمجوسية والنصرانية وأديان أخرى ديناً سماه (التوحيد الإلهي) وبنى معبداً لهذا الدين ودعا الناس إليه فأتبعه قليل بالرغبة والرهبة. فلما مات لم يبق على دينه أحد.(752/5)
سرنا إلى سكندرة حيث ضريح هذا الملك العجيب، وفي النفس ثورة من ذكرياته بين سفره وحضره، وحربه وسلمه، وصوابه وخطئه، إلى قياس يتردد بين الماضي والحاضر، للنفس في حيرة وحسرة.
على نحو خمسة أميال من أكرا استقبلنا هذا البناء الهائل الرائع الذي تعاون على إنشائه الملك والثراء والصناعة بضعة عشر عاماً بين عهد أكبر وعهد أبنه جهانكير. هذا المدخل الفضي إلى الحديقة الغناء الفسيحة التي تحيط بالمزار. ولو أن هذا المدخل وحده شيد فوق ضريح ملك عظيم لكافأ عظمته وحسب بناء فخماً من أبنية الملوك العظيمة. بناء يعلو أربعاً وسبعين قدماً تقوم في أركانه الأربعة أربع منارات رفيعة تعلو كل واحدة فوق هذا البناء ستاً وثمانين قدماً. ويلقى هذا المدخل القادم إليه بعقد عال فخم فيه باب فوقه عقد يشابهه. وعلى جانبي العقد الكبير وجهتان في كل منهما عقدان (كما يرى في الصورة):
ويفضي هذا المدخل إلى حديقة واسعة تزدحم فيها الخضرة والنضرة ويتوسطها طريق واسع مبلط فيه أحواض ومجاري مياه ونافورات في هندسة جميلة.
ثم البناء الشامخ الرائع، خمس طبقات ذات عقود وأبراج، كل واحدة أكبر مما فوقها وأصغر مما تحتها كأن كل طبقة قاعدة للتي قبلها.
صعدنا الطبقة الأولى التي تلي الأرض فهبطنا في دهليز منحدر إلى قاعة في وسطها صفيحة واحدة من المرمر تحتها رفات جلال الدين أكبر شاه. وقفنا نقرأ آيات على القبر ونقرأ سطوراً غير مكتوبة من وحي التأريخ وإملاء الزمان.
ثم صعدنا إلى الطبقات الأخرى حتى الطبقة العليا وهي سطح محاط بدربزين من الرخام الأبيض أبدعت فيه الصناعة تشكيلاً وتخريماً. وفي وسطها دكة واسعة مربعة عليها مثال القبر الذي في بطن الأرض. وقد فجئني هذا المنظر العجيب فما يحسب الزائر وهو يصعد في هذه الطبقات أن يلقاه في قمتها هذا التمثال بعد أزار القبر في موضعه من جوف الأرض.
ويطلع الزائر من هذه القمة على مشاهد رائعة من الجمال والجلال على عبر متقاربة وعظات متوالية. فهو ينظر إلى هذا الهيكل العظيم تحار فيه العين بين عقوده وعمده وقبابه، تتوالى طبقاته في نظام محكم، وهندسة عجيبة. فإذا رمى ببصره في الفضاء مفكراً(752/6)
أخذته مشاهد من الأبنية الأثرية بين الشجر، كل منها تأريخ مبهم، وكل منها كتاب مطبق، وكل منها مجد غابر وعبرة حاضرة. ويسحر العين على القبر وعلى عقود الداخل آيات قرآنية أجيد خطها أو نحتها على الرخام.
يقال أن اكبر نفسه هذا البناء وأتمه ابنه وخليفته جهانكير بعد أن عمل فيه البناءون والصناع عشرين عاماً ويقال أن جهانكير بناه وحده في سبع سنوات.
ومهما يكن الأمر فقد أكمل هذا الأثر الخالد سنة 1021هـ وقد مرت عليه حوادث وزلازل؛ ولكنه لا يزال شاهداً بعظمة اكبر وجهانكير، ناطقاً بما بلغت الحضارة والأبهة في ظلال هذه الدولة العظيمة، أكبر الدول الإسلامية في الهند. ومن أعظم الدول التي عرفها التأريخ.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(752/7)
لبيك يا فلسطين!
للأستاذ محمود محمد شاكر
لقد عزمت الأمة العفيفة النبيلة الورعة، وهي بريطانيا العظمى بلا مراء، أن ترفع يدها عن فلسطين، وأن تجلو بجنودها عن هذه الأرض المطهرة، وأن تترك الأمر لأصحاب البلاد، هكذا، يصرفونه على ما توجبه مصالحهم!! وفي هذا الوقت نفسه قامت روسيا السوفيتية الغامضة تؤازر أمريكا الصريحة في صهيونيتها على تقسيم فلسطين تقسيماً لا يدري المرء كيف يصفه، أهو حماقة، أم جور، أم صفاقة، أم نذالة مركبة في طبائع الأمم الجشعة؟ ثم رأينا بريطانيا هبت تستنكر، أو تقول الصحف وألسنة الساسة أنها تستنكر هذا الذي تبيته روسيا وأمريكا لفلسطين.
هذا ملخص ما يدور في أمر فلسطين دون تزويق أو تدليس. ونحن لا نريد أن نبخس بريطانيا حقها في هذا الموقف الذي تقفه من مسألة فلسطين، ولكنها أيضاً لا نريد أن نلغي تصرف العقل فنصدق أن هذه الأمة البريطانية تفعل هذا حباً للعرب، وحفاظاً على حريتهم، ورغبة في معونتهم ونصرتهم. فإنها هي التي نفثت في هذه الصهيونية الخبيثة من روحها منذ دخل الرجل الصليبي (النبي) أرض الآباء المطهرة، وهي التي ضمنت لهؤلاء الصعاليك إنشاء وطن قومي في فلسطين، وهي التي أغضت عن تسلل هؤلاء اللصوص إلى بلاد ليست لهم، وهم الذين نكلوا بالعرب تنكيلاً لم يشهد التأريخ أفجر منه ولا ألأم أيام ثورة العرب عليهم وعلى جلائهم من اليهود، وهي التي استعانت باليهود في الحرب العالمية الثانية ودربتهم وجندتهم وفتحت لهم أبواب الأرض المقدسة، وهي التي أعانت تهريب اليهود وحمتهم ووقفت تعبث في مراقبة الهجرة اليهودية، وهي التي صبرت على إذلال اليهود لها وعلى جلدهم جنودها وضباطها واغتيالهم وخطفهم واتخاذهم رهائن، هذه بعض فضائل بريطانيا وشئ من نبيل مواقفها في مسألة فلسطين!!
وبعد أن فعلت كل هذا طلباً للأجر والحسبة من الله خالقهم وخالق الصهيونيين، زعمت أنها ولا شك نافضة يدها من هذا الأمر، وجالية بجنودها عن هذه الأرض، وتاركة الناس أحراراً يدبرون شؤونهم بأيديهم! فكيف يفهم العقل من كل هذا أن بريطانيا تعترض على مسألة التقسيم لأنها تريد خيراً للعرب، وتحافظ على وعودها لهم، وتعمل على رد شر(752/8)
اليهود ومن يعاونهم عن هذه الأمة المسكينة؟! كيف يا شياطين السياسة؟!
إن لها من وراء كل هذا التنكر للتقسيم أرباً آخر لا ندري ما هو على التحقيق، ولكنا إذا عرضناه على أفاعيل بريطانيا منذ كانت بريطانيا، فلم نعدم الشك في نيتها، ولا الاهتداء إلى موضع الدخل في تصرفها، ولا آيات الكذب في دعواها. وقبل هذا وذاك، لا يستطيع قلب عربي أن يطمئن إلى أن بريطانيا وأمريكا، وهما الدولتان المتعاونتان على الخير والشر، تختلفان بهذه المسألة بعينها، إلا أن يكون اختلافهما تعمية وتدليساً لشيء هو أجدى عليهما وعلى الصهيونيين اليهود من اتفاقهما! وليكن الأرب المكنون بعد ذلك ما يكون!
ونحن العرب لا نحب أن نلقي أثم هذه الصهيونية الجائرة على أمريكا وروسيا للذي نراه اليوم من موقفهما وتشددهما وحرصهما على تقسيم فلسطين، لا لأنهما أمتان بريئتان، بل لأن الدوافع التي تحملها على هذا الحرص وهذا التشدد، إنما جاءت بعد أن فعلت بريطانيا فعلتها، وأصلت لهذه الخبائث أصلاً قوياً في الأرض المطهرة، ونزعت من يد العرب كل حول وطول في تصريف شأن بلادهم، وبعد أن تكرمت بريطانيا على العالم كله بإحداث مشكلة لا حل لها إلا الحل الذي تفصم به كل عقدة خبيثة تستعصي على المحاول.
إننا لا نريد أن نخدع مرة أخرى بنفاق بريطانيا وأكاذيبها وتصنعها لأعين الناس بالبراءة وحب الخير والحرص على الوفاء بالعهود وإنجاز المواعيد، وبريطانيا تريد أن تذهب في أمر فلسطين مذهباً جديداً لتكون شهيداً جديداً يستنزل العطف والمحبة من قلوب العرب، وتريد أن تقف هذا الموقف لأنها تريد أن تخدع مصر والسودان، وتخدع سوريا ولبنان، وتخدع العراق وباكستان، وتخدع كل ناطق باللسان العربي في مشارق الأرض ومغاربها، ولكننا لن ننخدع مرة أخرى أيها الشهيد الذي استحل دم الأحرار في مشارق الأرض ومغاربها.
هذه بريطانيا، وأما أمريكا، فقد طالما ذهبت في الدفاع عن الحرية مذهباً كريماً، ولكن ذلك شيء كان ثم انقضى، فأمريكا اليوم دولة تصرفها الأحقاد الكثيرة، وعلى راس هذه الأحقاد إصرارها على التعصب البغيض إصراراً لا هوادة فيه، حتى في قلب بلادها. ثم يلي ذلك تحكم اليهود وتسلطهم على رؤوس أموالها، وعلى شركاتها، وعلى مجتمعها، وعلى رجال سياستها. فالشعب الأمريكي اليوم ألعوبة تلهو بها الصهيونية اليهودية وترفعها وتخفضها(752/9)
كما تشاء، ولسنا نحن الذين نقول هذا، بل هذا ما تقوله فئات من الأحرار الأمريكيين أنفسهم، ولكن هؤلاء الأحرار لا حول لهم ولا طول، لأن كل شيء هناك في قبضة اليهود، ولأن رئيس الولايات المتحدة، أياً كان هذا الرئيس، لا يكاد يصل إلى كرسي الرئاسة إذا خذلته اليهود وأعرضت عنه في الانتخابات، فهو بالاضطرار يدور حيثما داروا به حتى يصير رئيساً للولايات المتحدة، فإذا صار رئيساً، فهو في قبضة اليهود أيضاً طمعاً وخوفاً واضطراراً. وتظن أمريكا، أو يظن ساستها، أنهم إذا ناصروا إنشاء الوطن اليهودي، أو الدولة اليهودية، فهم بذلك سوف يخلصون من قبضة هذا الوحش اليهودي، وأنهم يومئذ قادرون على أن يطردوه من بلادهم ويقولوا له: هذه بالدك فاذهب إليها. وهذا تسويل من شياطين اليهود، وباطل من أباطيلهم يدنون به في آذان هؤلاء الساسة، فاليهود يريدون أن ينشئوا الدولة اليهودية، لا ليسكنوها ويتركوا البلاد التي أكرمتهم واستضافتهم وخالطتهم بأنفسها، كلا بل يريدون بهذه الدولة أن يسيطروا على قلب العالم، وهو الشرق الأوسط، وأن يحتفظوا بسيطرتهم في سائر بلاد الله كما هي، ليكون لهم السلطان في الأرض، والغلبة على الأمم جميعاً مسلمها ونصرانيها، فكلاهما عدو لها، وهي تحمل لهم جميعاً عداوة لا تفتر ولا تموت. والذين يستنكرون أن يكون هذا هدف اليهود، لم يقرءوا شيئاً من كلام الصهيونيين، ولم يعرفوا أن هؤلاء اليهود يطمعون طمعاً لا يشكون فيه، وهو أن الخلافة في الأرض ستكون لهم، وأن هذا الشعب المختار، هو الذي أختاره الله لسيادة الدنيا واستعباد البشر غير اليهود! فأمريكا مخدوعة هي وساستها، إذا ظنت إنها بمناصرتها لهؤلاء السفاحين اليهود، سوف تكسب شيئاً إلا ذل الحيرة والاضطراب.
وأما روسيا الغامضة، فسلطان اليهود فيها ليس أقل منه في أمريكا، وهم الذين يسولون للروس أنه إذا أنشئت في فلسطين دولة يهودية، وإذا ناصرها الروس حتىتكون، فمعنى ذلك أن روسيا سوف تجد منفذاً لها إلى قلب العالم، أي إلى الشرق الأوسط، وأن اليهود لن يخذلوا المذهب الشيوعي، بل سيفسحون لدعاته المكان، ويجعلون فلسطين مأوى لهم وملاذاً وكهفاً، وأن تعاون الروس واليهود سوف يخلص روسيا من سلطان بريطانيا وأمريكا في هذه الرقعة من الأرض، وأن اليهود في حاجة إلى معونة إحدى الدول الكبرى، فإلا تعنهم روسيا وهي أقرب إليهم من أمريكا وبريطانيا، فباضطرار ما يبسطون أيديهم إلى أمريكا(752/10)
وبريطانيا ويعاهدونها على الخير والشر في التسلط على هذا الشرق الأوسط. وروسيا دولة تصرفها فكرة غالبة كفكرة اليهود هي الاستيلاء على أغنى بقاع الأرض، لتستطيع أن تنشر مذهبها، وأن تتوسل بهذا المذهب إلى هدم الكيان الاجتماعي في الأمم، فإذا تم لها ذلك استطاعت أن تحكم هذه الأمم وتصرفها على ما يشاء لها هواها. فهي يومئذ صاحبة السلطان الأعلى، وهي القوة المدمرة، وهي الظافرة في الميدان الاجتماعي والسياسي، وهي يومئذ قد أمنت أن تخشى لبريطانيات العظمى والولايات المتحدة بأساً أو قوة.
هذا تفسير هذه المشكلة المعقدة التي تريدنا بريطانيا، وتريدنا أمريكا، وتريدنا روسيا، على أن نكون فيها كالشاة المذبوحة لا تألم السلخ. فتباً لهم جميعاً، والله المستعان.
بقى شيء آخر لا يخطئه أحد إذا فكر فيه، وأن هذه الدول جميعاً تعلم علم اليقين أنها ترتكب جريمة من أبشع الجرائم في تأريخ الإنسانية، جريمة لم ترتكب مثلها أمة من الأمم المتوحشة فضلاً عن الأمم الجاهلة، فضلاً عن الأمم المثقفة التي تدعي أنها حارسة الحضارة الإنسانية والقائمة عليها - تلك هي إقحام شعب على شعب آخر، ليجليه عن بلاده، وليستذله، وليستعبده. إن هذه الدول جميعاً تعلم أن هؤلاء اليهود هم أبشع خلق الله استبداداً إذا حكموا، وهي تعلم أنهم خلق قد خلت نفوسهم من كل معاني الشرف والنبل والمروءة، وأنهم خلق تملأ قلبه العداوة والبغضاء والحقد على البشر جميعاً، وأنهم خلق لا يتورع عن شيء قط يرده عن اقتراف أحط الآثام في سبيل ما يريد - أنها تعلم هذا وأكبر منه وأشنع، ومع ذلك فهي تريد أن تطلق هذه الوحوش الضارية من غابات الجهل والعصبية والحقد، لتعيث في هذا الشرق الأوسط كله بفجورها وبغيها وضراوتها، فتهدم ما تهدم، وترتكب ما ترتكب، باسم الحضارة والمدنية والثقافة. . . فيالها من جريمة! يا لها من جريمة أيتها الأمم الحارسة لتراث الحضارة الإنسانية!!
ثم بقى شيء وراء ذلك كله، ينبغي لكل عربي أن يعلمه، ولا سيما أولئك الذين يتعرضون اليوم لسياسة هذا الشرق العربي، وهذا الشرق الإسلامي كله - هو أن إقدام هذه الدول الثلاث على مناصرة المجرمين الصهيونيين تنطوي على معنى قد استقر في أنفسهم وغلب عليها، وهو احتقارهم للعرب وازدراؤهم لهم ولمدنيتهم ودينهم وحضارتهم واجتماعهم ودولهم وملوكهم، وقديمهم وحديثهم، وأن هذا لبان ارتضعوه منذ كانت الحروب الصليبية،(752/11)
وأن الثقافة والعلم وسهولة اتصال الأمم بعضها ببعض، كل ذلك لم يغير من شيئاً من عقائد الصليبية الأولى في هذا الشرق العربي، وكل ذلك لم ينفع شيئاً في نزع السم الذي اختلط بالدماء وجرى في العروق مع نسمات الهواء ومضغات الغذاء. وإنه لولا هذا الداء القديم، وهذه العلة المستعصية، لما ارتضت هذه الدول أن تبدي كل هذه الجرأة على الحق في مشكلة فلسطين، بل لوقفت كما وقف من قبل في مسألة دانزيج وغيرها مناصرة لحق الناس في الحرية كما تزعم. هذا معنى لا يفوت عربياً مسلماً كان أو نصرانياً، لأن هذه الدول تتصرف بأحقاد جاهلة عمياء، لا ببصر وتمييز وعدل.
وغاب عن هذه الدول جميعاً شيء واحد، هو أن هذه الأمم التي يصبون عليها أحقادهم المبذولة وسخائهم العتيقة، قد لقيت من قبل أشد مما تلقى اليوم، ومع ذلك فقد استطاعت أن تخرج على الدنيا ظافرة نبيلة لا تحمل حقداً ولا ضغناً، وانتشلت الحضارة الإنسانية من أوحال الجهل العميق الذي كانت تعيش فيه أوربا وأمريكا وروسيا، ورفعت المنار لكل مهتد حتى اهتدى.
أن هذه العرب لا تنام على ذل أبداً، فلتعلم هذا روسيا ولتعلمه بريطانيا، ولتعلمه أمريكا، وليعلمه الأفاقون من اليهود. لقد نادت فلسطين غير نيام، نادت أيقاظاً يحملون بين ضلوعهم تلك الشعلة الخالدة في تأريخ الإنسانية، والتي نحن القوام عليها والقائمون بها، والتي نحن لحاملوها حيثما سرنا في الأرض - شعلة الأيمان بالله الواحد القهار - إن كل سلاح، سلاح مفلول إذا لقي سلاحنا، لأننا لا نقاتل بالتدمير والخراب، بل بالتعمير والإنشاء ورد الحقوق على أهلها وأن كانون قد ظلمونا ونكلوا بنا من قبل. ولتعلم هذه الأمم العدو لنا جميعاً أن المعجزة التي كانت يوماً ما، سوف تكون مرة أخرى يوم ننبعث من ظلماء هذه الحوادث سراعاً إلى نجدة أمنا فلسطين، فتنبثق الأرض عن جنود الله القدماء:
عن كل أروَعَ ترتاعُ المنونُ له ... إذا تجرد، لا نِكسٌ ولا جحِد
يكاد حين يلاقي القِرْن من حنَق ... قبل السَّنان على حوْبائه يرِدُ
قلوا، ولكنهم طابوا، وأنجدهم ... جيش من الصبر لا يفنى له عدد
إذا رأوْا للمنايا عارضاً لبسوا ... من اليقين دُرُوعاً مالها زَرَدُ
هذه ليست خطابة ولا حماسة أيتها الأمم، بل هي الحق، وهي عادتنا وعادة الله فينا، والله(752/12)
غالب على أمركم وأمرنا، ونحن جند الله في الأرض على رغمكم، وأن سخرتم أو كذبتم!
محمود محمد شاكر(752/13)
تعقيب
للأستاذ علي الطنطاوي
كتب كاتب في مجلة أسبوعية أن (السيدة نفيسة) التي ينسب إليها القبر المعروف في مصر ليست إلا الست نفيسة زوجة مراد بك آخر المماليك، وجاء في مقالته استطراد إلى ذكر الثورات المصرية قر فيه أنها قامت كلها باسم الدين، وأثار ذلك طائفة من القراء فكتبوا إليه محتجين مصححين، وهاج كاتباً من الكتاب فرد عليه، مبيناً أن القبر للسيدة نفيسة النسيبة الشريفة الثابت نسبها إلى سيدنا علي، منكراً أن تكون ثورة مصر قامت باسم الدين. . . الخ.
ولست معقباً على هذا من جهة التاريخ، لأن من الواجب أن لا نخلط بين امرأتين بينهما ألف سنة. . . وأن نحقق القول في المساجد والقبور وسائر الآثار، وان نمحص أسباب الثورات ونعرف حقيقة الدوافع إليها، ولكني معقب عليها من جهة الدين.
والدين - كما افهمه - لا يبالي أكانت صاحبة القبر السيدة نفيسة العلوية، أم الست نفيسة المرادية، ولا ينفعها عند الله أن تكون الأولى أن كانت سيئة العمل، ولا يضرها أن تكون الثانية أن كانت صالحة السيرة، لأن ميزان الله غير موازين البشر، والله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأنساب، وإنما ينظر إلى القلوب والى الأعمال، فبالأعمال بعد الأيمان، تتفاوت أقدار الناس في الآخرة، ولو كان للنسب ثقل في ميزان الله ما رجح سلمان (الفارسي) وصهيب (الرومي) وبلال (الحبشي) وخف أبو لهب بن عبد المطلب العربي القرشي الهاشمي عم النبي!
والناس لا ينفعهم في أخراهم أن يكون هذا القبر، لهذه أو لتلك، أو لأي إنسان ممن خلق الله، أو يكون قبراً خالياً ليس فيه أحد، لأن الإسلام يأبى عبادة الأموات، وينكر تعظيمهم، ويسد الذرائع إليها، ولذلك منع رفع القبور وزخرفتها والمغالاة فيها، فضلاً عن اعتقاد النفع والضرر بها وبأصحابها.
ودين الإسلام أساسه التوحيد، ومنه أن تعتقد أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، لا أعني ما يدخل في الأسباب المعروفة والعلل الظاهرة، إذ لا ينكر نفعها ولا ضررها، فالطعام نافع والسم ضار، والطبيب نافع والجاهل ضار. . . والناس كلهم والأشياء جميعها منها ما يضر ومنها(752/14)
ما ينفع، في حدود سنن الله في هذا الكون، وطبيعته التي طبع الوجود عليها، ولكن أعني ما رواء هذه الأسباب والعلل، إذ رب مرض يستشير أكابر الأطباء، ويجلب أندر العقاقير، ويحظى بكامل العناية، ثم يموت، وآخر أصابه مثل مرضه فبرئ بأيسر العلاج، وأقل الجهد، فالطبيب دال، ولكن الله الموصل، والرسول هاد مرشد، ولكن الله هو الهادي الموفق لا تباع الرشاد، وفي الوجود شئ يدخل في طاقة الإنسان، وأشياء لا تدخل في طاقته، فإذا فعل كل ما يقدر عليه، ولم يبقى عليه إلا الالتجاء لقوة خفية قادرة على ما تقدر عليه قوته، فعليه بالالتجاء إلى الله وحده، واعتقاد أن هو الذي يضر وينفع، فإن التجأ إلى غيره، إلى نبي أو ولي، حي أو ميت، يؤمن به يستطيع أن يعينه هذه المعونة الغيبية، فهذا هو الشرك الذي جاء الإسلام لإبطاله!
أما ما يعتقده العامة من أن هؤلاء الصالحين مقربون إلى الله أكثر منا، فهم يتخذونهم وسائل، فلا بأس بذلك ما دامت بعيدة عن المعونة الغيبية، داخلة في نطاق الأسباب والعلل، كالتوسل بدعاء الصاحين. وقد توسل عمر يوم الاستسقاء بدعاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتوسل بالنبي نفسه، مع أنه أفضل من العباس ومن سائر البشر.
ومهما قيل في مسألة التوسل التي طال فيها الخلاف وكثر الجدال، ولم يبق فيها جديد يقال، فليس في القائلين بالتوسل، ولا في المانعين له، ولا في المتوقفين فيه، من يقر ما يرى في مصر عند قبر سيدنا الحسين، أو قبر السيدة زينب، والسيدة نفيسة، والإمام الشافعي، وعند كل قبر قائم في مصر، عليه قبة، وله مزار.
إن الذي يصنع عند هذه القبور يجاوز الحد الذي جوزه القائلون بالتوسل من العلماء، ويطغي حتى ليوشك أن يجاوز. . (لقد كدت أقول) الإسلام!
وأن من أوجب الواجبات على العلماء منعه وإزالته، حتى لا يظن بعض الشباب أن هذا هو الدين، فيؤثروا الإلحاد على هذا (الدين. . .) الخرافي! وهذا الذي صار!!
أما الكلام في الثورة والدين، وفرح الكاتب الثاني بضبطه رفيقه متلبساً بجريمة القول فيه، وفزع الكاتب الأول من نسبة هذا القول إليه، فهو دليل واحد من آلاف الدلائل على ما أنهت إليه صورة الدين في نفوس بعض المتعلمين. فقد استقر فيها أن الدين شيء عتيق لا يليق بالمتعلم أن يتمسك به، أو يتكلم باسمه إلا إذا لاق به أن يدع السيارة والطيارة ويركب(752/15)
الحمارة، وأن يترك عمارة إيموبليا ويسكن في منزل خرب، وأن يعدل عن مطعم سن جمس إلى وليمة في قرية يأكلون فيها الرز بالأصابع. . .
وأن الدين لا يجوز إدخاله في العلم ولا في السياسة ولا في الحياة اليومية.
وسبب ذلك كله جريمة أجرمها العثمانيون، هي أنه لما كان عهد البعث (الرونسانس) في أوربة، وهبت أوربة لتسابقنا بعد أن كنا نحن السابقين، لم تجارها الدولة العثمانية في هذا الطريق الجديد، ولم تقبس من هذه النار، ولم تستضيء بهذا الضوء، ولو هي فعلت (على ما كنا عليه من بقايا الحضارة الأولى) لبقينا نحن السابقين، فكان من نتيجة هذا الإهمال، أن وقفنا والدنيا تمشي، ثم صرنا وراء الدنيا؛ لا لأنا تأخرنا بل لأن الدنيا تقدمت، وغداً المسلمون دون الغربيين في الأخلاق وفي الصناعة والثقافة وفي القوة، وبقى فقهاؤنا يقرءون الفقه الذي وضعت أحكامه لعصر ما قبل البعث (الرونسانس) مع أن مصادر الفقه تصلح لكل زمان ومكان ونحن ملزمون بالمصادر لا باجتهادات الفقهاء، والشباب يتعلمون ما عند أوربا وأميركا من العلم ومن المذاهب السياسية والاجتماعية، ثم يتلفتون إلى العلماء يسألونهم عن حكم الشرع فيها، فلا يلقى العلماء أمامهم إلا هذه الكتب التي ألفت لغير هذا الزمان يعودون إليها فلا يرون فيها شيئاً من ذلك ولا يعرفون اقتباس الأحكام من مصادرها، وأصولها، فينصرف الشباب وقد أيقنوا أن الدين قاصر، وأنه لا يصلح لهذا الزمان.
ثم ينظرون حولهم فيرون هذه الخرافات والأوهام، وهذه البدع والضلالات المنسوبة كلها إلى الدين، من غير أن يجهر أحد بإنكارها وإعلان براءة الدين منها، فيزداد ظنهم بالدين سوءاً، ويعودون إلى الغرب فيتلقون عن كل شئ، حتى القواعد التي وضعت للديانة المسيحية ومنها (فصل الدين عن السياسة)، مع أن من أول ما ينبغي الاتفاق عليه في الجدل معاني الألفاظ، فما معنى الدين عند من وضعوا هذه القواعد؟
إن معناه (الأحكام التي تحدد صلة الإنسان بربه) والدين بهذا المعنى لا دخل في السياسة ولا في العلم، وهو شئ شخصي بين العبد وربه، ومن هنا سارت الكلمة المشهورة: الدين لله والوطن للجميع.
نحن لا ننازع في هذا، ولكن موطن النزاع ومكان الخلاف هو: هل الإسلام دين فقط،(752/16)
موضوعه الصلة بين الإنسان وربه، أو أن فيه ما يحدد صلات الناس بعضهم ببعض، حقوقياً وأخلاقياً؟ وصلات الدول بعضها ببعض خاصة وعامة؟
أليس في الإسلام أخلاق، وحقوق، خاصة وعامة ودولية، وهل يجب الفصل بين هذه القواعد الحقوقية التي تبدو عند المقابلة والمقارنة أعدل وأحكم من القواعد الحقوقية الموضوعة، هل يجب الفصل بينهما وبين السياسة؟ وكيف؟ ولماذا؟
هذه هي المسألة.
فمن يثبت لنا من الدين نفسه، أنه قاصر على المسجد والعبادة وأن سورة الأنفال وسورة براءة مثلاً ليستا من القرآن، وأن آلاف الأحاديث التي اعتمد عليها الفقهاء في المعاملات لست من الدين؟ وإذا كان ذلك كله من الدين، فمن يثبت لنا كيف تكون الأمة مسلمة وهي تتمسك ببعض الدين وتترك بعضه؟
هذا وأنا لا أدعو إلى أن نأخذ الأحكام المدونة في كتب الفقه كما هي فنجعلها قانوناً ملزماً لا تبديل له ولا تغيير، ولو كانت أحكاماً اجتهادية مبنية في الأصل على عرف أو مصلحة مرسلة أو استحسان. لا، ولا أدعو إلى تحقيق ذلك بثورة مدمرة، ومظاهرة صاخبة نكتفي بأن نصيح فيها: القرآن دستورنا، الإسلام دين ودولة، لا، بل بأن ينقطع نفر من أهل العالم إلى كتب الدين والى قوانين الدول، والى تعرف حاجات العصر، ونظريات علمائه، ثم يعدوا مشروعات هذه القوانين. وهذا العمل وأن كان صامتاً خفياً، لا يعرف صاحبه ولا يطبل حول أسمه بالطبول، فهو العمل النافع، وهو كالأساس للبناء العظيم، يختفي الأساس في الأرض فلا يظهر ولكن لولاه ما قام البناء.
وملاك المر تعريف الشباب بالإسلام، و (وترجمة) كتبه إلى لسانهم، لأن الإسلام في ذاته قوة هائلة، سره فيه، وفيه دلائله، فمن عرفه على حقيقته لم يستطع إلا أن يكون مسلماً، فإذا كان العلماء حريصين حقاً على ازدهاره، وعودة أهله إليه، ورجوع الأمة الإسلامية إلى مجدها، فهذا هو الطريق.
(القاهرة)
علي الطنطاوي(752/17)
مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)
للأستاذ مناور عويس
(أيها اللابسون عرى اليتامى كيف تدفئون؟
أيها الكارعون ري العطاش كيف تنقعون؟
أيها الآكلون خبز الجياع كيف تشبعون؟
أيها الراضعون ثدي الثكالى كيف تسمنون؟
أيها السائقون ظعن المنايا كيف تهزجون؟
أيها المستحمون بالدم الحي كيف تطهرون؟
أيها المدلجون، إذ يقبل الفجر، أين تدبرون؟
أيها البائعون سم الأفاعي هل سوى السلم تربحون؟!)
رأيتني إذا عددت الشعراء الذين أفزع إليهم كلما حزبني أمر وضقت بالحياة والأحياء أعد نعيمه في طليعة أولئك الشعراء فما أكثر ما أردد قوله:
إذا سماؤك يوماً ... تحجبت بالغيوم
اغمض جفونك تبصر ... خلف الغيوم نجوم
والأرض حولك إمّا ... توشحت بالثلوج
أغمض جفونك تبصر ... تحت الثلوج مروج!
وإن بليت بداء ... وقيل داء عياء
أغمض جفونك تبصر في الداء كل دواء!
وعندما الموت يدنو ... واللحد يغفر فاه
أغمض جفونك تبصر ... في اللحد مهد الحياة!
فما رددت هذه الأبيات إلا شعرت بأن المرارة التي كنت أغص بها قد خف وقعها وانقشعت عن سماء نفسي تلك السحب الدكناء وصغرت في عيني همومي وآلامي؛ فنعيمه من هذه الناحية طبيب أرواح وقلوب قبل أن يكون شاعراً!
فهو يدخل القلوب بعقاقيره الروحية دون استئذان، وببساطة فائقة يمتلك تلك القلوب التي أثقلتها هموم العيش وآدها ثقل السنين ويصبح فيها السيد المطاع، فلا يلبث أن يغسلها بزيته(752/19)
المقدس وينقيها مما علق بها من أوضار ورسب في قاعها من أقذار حتى تراها تعيش في عالم الروحاني الذي يشيع فيه الحب والخير والجمال، فنعيمه يقوم بمهمات ثلاث: مهمة الكاهن، ومهمة الفيلسوف، ومهمة الشاعر!. .
ليقل الناس ما شاءوا فلست أؤمن إلا بوجداني ولست أفهم الحياة والفن إلا به وعلى ضوئه، وقد هداني وجداني إلى حقيقة لا أتزحزح عنها قيد شعرة وهي أن نعيمه فيه نبوة، ولكنها من نوع جديد، وآثار الأدبية هي (امتداد) لأنبياء العهد القديم، أما الذين لا يرون إلا ما سطر على القرطاس فلم يكتب لهم هذا الكلام. وما دامت الفنون تقاس بمقدار ما تتصل بالنفوس، والأدب أحد تلك الفنون - ولعله أسماها جميعاً - فنعيمه من أشد الشعراء اتصالاً بالنفوس وأعلقهم بالأرواح. . . إنه من أولئك الشعراء والكتاب الذين يرتفعون بالإنسان إلى آفاق الروح الكلي ويمتزجون به امتزاج الليل بالنهار والروح بالجسد، فما قرأته مرة إلا أحسست بأنني أقرب ما أكون إلى الله وأبعد ما أكون عن (التراب)!
وهذا لعمري هو الفرق بين أدب السماء وأدب الغرائز والأحقاد. إن من ينعم النظر في شعر نعيمه ونثره يجد انه يهدف إلى غاية هي غاية الغايات، أي نشر المحبة والخير والسلام بين الناس، تلك المحبة التي طالما سعى إليها الأنبياء والشعراء والفلاسفة منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، وسوف يظلون يسعون إليها ما دام الإنسان إنساناً، وما دامت الأرض أرضاً، وفي سعيهم المتواصل هذا سعادتهم وسعادة البشرية، فالسعي إلى الكمال تطور وتجديد، أما الكمال فوقوف وجمود كما يقول عبقري ألمانيا الأعظم (جيتي).
ليست شاعرية نعيمه من تلك الشاعريات التي تعتمد على بلاغة الألفاظ ورنين القوافي وإنما هي شاعرية مجنحة تحلق بين الأرض والسماء، قوامها الروح ولحمتها وسداها الأفكار السامية والتأملات العميقة. في شعر نعيمه صوفية حالمة وحيرة وتساؤل وشك وإيمان، فيه ثورة وتمرد واستسلام، فيه امتزاج بالكون، فيه صلوات وابتهالات تحمل في تضاعيفها النور والطمأنينة، في شعر نعيمه هيمنة النسيم وأنداء الربيع!. . .
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى حمل نعيمه البندقية في جيش الولايات المتحدة فرأى بعينيه أشلاء إخوانه كيف تمزقها القنابل، كما سمع بأذنيه أنين الجرحى وصراخهم الذي يصم الآذان من ظلم الإنسان ووحشيته فانطبع في نفسه كره شديد للقوة الغاشمة والأقوياء(752/20)
الظالمين، وانتهت الحرب بانتصار الحلفاء على أعدائهم، ولكن المجاعة في سوريا ولبنان كانت تفتك بالألوف من أبناء وطنه فزفر نعيمه هذه الزفرة الحارة وأرسلها صرخة مدوية خالدة:
أخي، إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله
وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا، ولا تشمت بمن دانا
بل اركع صامتاً مثلي
بقلب خاشع دام
لنبكي حظ موتانا!
أخي، من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي العارُ
لقد خمت بنا الدنيا، كما خمت بموتانا!. . .
فهات الرفش واتبعني
لنحفر خندقاً آخر
نواري فيه أحياناً!! الخ.
هذا هو نعيمه الثائر الذي يريد أن يؤجج النار في الجليد! هذا هو نعيمه الإنسان الناقم الساخط على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
ولنصغ الآن إلى نعيمه الفيلسوف يفتش عن نفسه في الموج الذي يثور والبحر الذي يبكي عند أقدام الصخور، وفي الرعد الذي يدوي بين طيات الغمام والبرق الذي يفري سيفه جيش الظلام، وفي الريح الذي تذري الثلج عن رؤوس الجبال وفي الفجر الذي يمشي خلسة بين النجوم!
إن رأيتِ البحر يطغي الموج فيه ويثور،
أو سمعت البحر يبكي عند أقدام الصخور
ترقبي الموج إلى أن يحبس الموج هديره
وتناجى البحر حتى يسمع البحر زفيره(752/21)
راجعاً منك إليه
هل من الأمواج جئت؟!
إن رأيت الفجر يمشي خلسة بين النجوم
ويوشي جبة الليل المولى بالرسوم
يسمع الفجر ابتهالاً، صاعداً منك إليه
وتخرى كنبي هبط الوحي عليه
هل من الفجر انبعثت؟!
حقاً أن نعيمه في قصيدته (من أنت يا نفسي) التي شوهت جمالها وفرقت وحدتها باختياري هذين المقطعين منها لمن أبدع الشعراء تصويراً وأبرعهم تلويناً للفكرة الواحدة. فمن منا لم يحس بنفسه تحاول التفلت والانطلاق، وتحن إلى الامتزاج بمظاهر الكون؟ إلا أنني لا أعرف شاعراً كنعيمه استطاع أن يصور لنا تلك الارتعاشات التي تهيمن على النفس الإنسانية أمام هدير الأمواج وقصف الرعود ولمع البروق وانين الراح وانبثاق الصبح وغناء البلبل.
لقد بلغ نعيمه في هذه القصيدة درجة الإعجاز الفني لأنه شاعر فيض وإلهام لا شاعر قريحة ونحت ألفاظ. أنظر كيف يلخص قصيدته بهذا المقطع الرائع:
إيه نفسي! أنت لحن فيَ قد رن صداه
وقعتك يدُ فنان خفَي لا أراه
أنت ريحٌ ونسيمٌ، أنتِ موج أنت بحرُ
أنت برق، أنت رعدٌ، أنت ليلٌ، أنتِ فجرُ
أنتِ فيضٌمن إله!
وهنا لا بد لي من تسجيل هذه الخاطرة في شعر نعيمه، وهي أن شعر نعيمه من ذلك النوع الذي لا يرهق العقل ولا يكده - على ما فيه من عميق الفكر وسامي الخيال - بل يفيض على القلب طمأنينة ويشيع في النفس راحة ويقوي من أجنحة الخيال ويبسط على الروح جواً سحرياً فيه متعة وفيه إخلاد إلى التأملات والاشراقات الروحية التي تقرب الإنسان من خالقه وتبعده عن دنيا الأطماع والسفاسف والشهوات، ولعمري تلك مزية شعر الأمم(752/22)
والأجيال!.
قال نعيمه: (إذا سئلتم عن أبدع آيات الفن وأغلاها قولوا: ضمير لا يسخر وجبين لا يعفر ولسان حليم شكور، وقلب عفيف غفور، وعين لا تبصر القذى ويد لا تنزل الأذى وفكر يرى في البلية عطية وخيال يربط الأزلية بالأبدية) ولو طبق هذا الدستور الذي استنه نعيمه للفن الرائع لكان أدبه في طليعة الآداب التي ينطبق عليها هذا الدستور.
ولننتقل الآن إلى نعيمه المتصرف مبتهلاً إلى ربه، ففي ابتهالاته دليل ناصع على إنسانيته الشاملة وإيمانه الراسخ بوحدانية الحياة والوجود:
كحل اللهم عيني بشعاع من ضياك - كي تراك
في جميع الخلّق، في دور القبور،
في نور الجو في موج البحار
في قروح البرص في وجه السليم
في يد القاتل في نجع القتيل
في سرير العرس في نعش العظيم
في يد المحسن في كف البخيل
في قذى العاهر في طهر البتول. . . .
وإذا ما ساورتها سكتتة النوم العميق
فاغمض اللهم جفنيها إلى أن تستفيق. . .
وافتح اللهم أذني كي تعي دوماً نداك - من علاك
في ثناء الشاة، في زأر الأسود،
في نعيق البوم في نوح الحمام. . . .
في خرير الماء في قصف الرعود. . . .
في هدير البحر في مر الغمام. .
في صراخ الليل في همس الصباح
في بكا الأطفال في ضحك الكهول.
في ابتهالات العراة الجائعين. . . .(752/23)
في انتخاب الناي في دق الطبول. .
في صلاة الملك والعبد السجين. .
وإذا ما قرب الموت ووافاها الصمم. .
فأختمن ربي عليها ريثما تحيا الرمم.
وأجعل اللهم قلبي واحة - يستقي منها القريب - والغريب!
ماؤها الإيمان أما غرسها. . .
فالرجا والحب والصبر الطويل!. . .
إلى آخر تلك الابتهالات التي نستشف من بين ثناياها فلسفة نعيمه الإنسانية، المؤمنة الموحدة، ونطل من خلال مقاطعها على ذلك العالم الروحاني الذي يعبق من أرج (بوذا) ونفحات (لاوتسو). . .
وهلم بنا الآن إلى (أوراق الخريف). . .
قل أن تجتمع الفلسفة والشعر صعيد واحد، ذلك لأن نبعة الشعر الوجدان، ونبعة الفلسفة العقل، وإذا استطاع الشاعر أن يزاوج بين الشعر والفلسفة كما فعل أبو العلاء المعري (وجيتي) وغيرهما مما عمقت ثقافتهم وتسامت أرواحهم واتسعت آفاق وحيهم ودقت ملاحظتهم بواطن الحياة وظواهرها، أقول إذا استطاع الشاعر أن يجمع بين الشعر والفلسفة فهو الشاعر الخالد الذي لا يجوز لأمة أن تدعيه لنفسها دون أمة أخرى لأنه شاعر كل مكان وزمان. ونعيمه - في اعتقادي - أحد أولئك الشعراء وأن كره عشاق (موزاييك) الألفاظ وعباد الطنين والرنين والقوافي والجوفاء!
ففي المقطعين الأولين من (أوراق الخريف) نرى نعيمه شاعراً يؤلمه ويشجيه لأن يشاهد تلك الوراق المصفرة التي لوت أعناقها رياح الخريف وذرتها في الفضاء. .
إنني لأكاد المح دمعة التفجع في عينيه وهو ينظر إلى تلك الوريقات تتساقط الواحدة تلو الأخرى ناظرات إلى رفيقاتهن اللواتي ما برحن خضراً على غصنهن بأعينهن الدامعة وقلوبهن الواجفة لهول الفراق الذي لا لقاء بعده ولرهبة المصير الذي لا رجعة منه!
هذا المقطعان هما من رائع الشعر لأنهما غاية في البساطة والصديق والإحساس فضلاً عن الموسيقى المترقرقة بين السطور وفضلاً عن المعاني الإنسانية والأحاسيس المختلفة التي(752/24)
توحيها الأبيات للقارئ أو السامع. . .
(يتبع)
مناور عويس(752/25)
حول نقد الناصر:
في فن الإخراج المسرحي
للأستاذ زكي طليمات
في العدد 750 من هذه المجلة الغراء تفضل الأستاذ (ط) بكلمة طيبة عن تمثيل الفرقة المصرية رواية (الناصر) للشاعر الكبير عزيز أباظة باشا، وخصني فيها بالتفاته رعاية، ثم تكرم مخلصاً بألفات نظري إلى ناحية من نواحي الإخراج الذي أجريته في المسرحية، وهي ناحية جديرة بالكشف وفي التعقيب عليها تبيان لمنحي من مناحي الإخراج المسرحي في مرحلته الحديثة.
يعجب الأستاذ كيف يحدث جرح، فوق المسرح طبعاً، من غير إراقة دماء، فقد طعنت إحدى شخصيات الرواية أخرى بخنجر، ومع هذا فانه لم ير أثر للدماء ولا تمزق في الثياب.
وهذا عجب مشروع له ركائز من الحق إذا اعتبرنا فن التمثيل من حيث الأداء ومن حيث الإخراج، نسخاً للحياة ونقلاً عن الواقع في أدق تفاصيله، أو بالأحرى إذا اعتبرنا المسرح لوحة فوتوغرافية من الواقع.
هذا الاعتبار الذي يأخذ به نقاد المسرح المصري له أصل في تأريخ تطور الفكرة عن فنون المسرح، وأقصد بالفكرة وجهة النظر التي يأخذ بها الجمهور أدباؤنا وفنانوه، تبعاً للمزاج العام الذي تعمل على تكوينه الاتجاهات الصريحة في الأدب والفنون، وقد برزت في أتم طابع وجهة النظر في أن يكون فن التمثيل مماثلاً كل المماثلة للحياة الواقعية، في أواسط القرن الماضي، وانتشرت في أواخره وغيرت كل وجهات النظر الأخرى، على يد المخرج الكبير (أندرية أنطوان) في فرنسا (استانسلفسكي) في روسيا، وكانت هذه الحركة بمثابة رد فعل لما كانت عليه فنون المسرح إذ ذاك من ابتعاد عن الواقع وإغراق في الأخذ بالتزاويق.
ولم يك هذا أمراً مستغرباً لأن (المذهب الواقعي) كان سائداً في أوروبا، وشمل الأدب في جميع ألوانه، والفن في مختلف أنواعه.
ولم يك هذا المذهب الواقعي إلا صدى من إسداء المزاج العام والحركة الفكرية الواعية(752/26)
وغير الواعية. بفعل التقدم الآلي في الصناعات والمخترعات وبتأثير الحركة العلمية التي انتهت إلى اكتشاف جراثيم الجدري والدفتريا والسل وغيرها من الأدواء، وهي حركة قوامها (المجهر) و (معمل الأبحاث والتحليل) فكان أن خلد في أذهان الناس بتأثير هذا، أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى جوهر الأشياء إذا أخضعها للتحليل والتجزئة، وأن آلة (الفوتوغرافيا) في إمكانها أن تنقل الحياة الواقعية نقلاً دقيقاً يطابق الأصل فالفن والحالة هذه، لا يكون في أوج كماله إلا إذا نسخ الواقع وماثله.
ويروي تأريخ الإخراج المسرحي، في صدد هذه النزعة الواقعية أعجب الحوادث، فقد أخرج (أنطوان) زعيم هذه الحركة في المسرح منظراً في إحدى الروايات، يمثل مجزراً للماشية، فكان أن شاهد الجمهور عدداً من الماشية المذبوحة وقد سلخت جلودها، وشدت إلى المشاجب الحديدية، والدم يقطر منها فوق أرض المسرح، فصفق الجمهور إعجاباً.
وأخرج زميله الروسي منظراً يمثل مقدم باخرة تشق عباب البحر في يوم عاصف، فإذا برشاش الماء يتناثر على الصفوف المتقدمة من أمكنة النظارة. وهكذا أصبحت قدرة المخرجين على محاكاة الواقع مقياساً للتفوق والشهرة.
ولم يكن المخرجون في هذا منحرفين عن الجادة، لأنهم كانوا يصدرون عما يتفق ونظرتهم ونظرة الجمهور إلى الفن المسرحي من حيث أنه صورة شمسية من الواقع الملموس. وقد تناسوا أن المناظر التي يطالعونها فوق المسرح لا تأخذ من حقائق الأشياء غير مظاهرها، بدليل أن ما يرونه ممثلاً للجدران الصلبة، والأعمدة، وحوائط الباخرة ليس إلا أستار ملونة مشدودة إلى إطارات من الخشب، ويكفي للدلالة على زيف معدنها أن تقع يد أحد الممثلين عليها فإذ هي تهتز وترتعش.
هذه النظرة إلى فنون المسرح أو بالأحرى هذه (النزعة الواقعية)، ما برحت تسود الأكثرية الغالبة من الجمهور. وقد جاءت إلينا مع مجيء فن التمثيل باللسان العربي، وفي طيات الموجه الثقافية الغربية التي تكسرت على شواطئ وادي النيل فيما بعد أواسط القرن الماضي. وقد تأصلت لهذه النزعة في مجتمعنا جذور امتدت على مر الزمن، فإذا الفن بين أيدينا لا يتعدى أن يكون صوراً شمسية من الواقع في أدق تفاصيله.
ولكن الزمن قد تطور في أوروبا التي أخذنا فنون المسرح عنها، فتغيرت قيم وأوضاع في(752/27)
الأدب والفن، فبليت (واقعية) الفن بعد أن اتضح قصورها عن إشباع الواعية الأوروبية التي ازدادت نضجاً على وقع التقدم العلمي في نواحي الفلسفة وعلم النفس، الذي أثبت أن المرئيات إنما هي مظاهر ودلائل تشير إلى جوهر الأشياء ولا تفصل، وتوحي ولا تفصح، وتجمل ولا تحلل وأن الأخذ بالتركيب أصوب من الأخذ بالتحليل العاجز المتطاول. وقامت نزعة جديدة في الأدب والفنون تأخذ بالإيحاء الشامل بدلاً من نسخ الواقع وتفاصيله، وبالتركيز بدلاً من التحليل المفصح الذي يعنى بالتفاصيل ولا ينتهي إلى الجوهر. وقامت في المسرح، وذلك في أوائل القرن الحاضر، حركة تناهض (الواقعية) في فنون التمثيل وترتكز على ما تقدمت الإشارة إليه، سرعان ما قضت عليها إذ تركتها بين أيدي المتأخرين من متابعة قافلة التطور في الأدب والفن. فإذا المناظر المسرحية للأجمال والإشارة في التصوير، وإذا الإضاءة للتركيز على المواطن المهمة في الحركة المسرحية وليس لمجرد الإنارة، وإذا كل ما يبدو فوق المسرح للإيحاء، وإذا بالمسرح يصبح (تمويهاً للواقع) وليس (نقلاً واقعياً) عنه، وامتد تأثير الاتجاهات الفنية الحديثة إلى المرئي فوق المسرح فإذا بنا نطالع فوقه مذاهب (الإيحائية) و (التأثرية) و (التعبيرية) في التصوير والرسم.
وقد زاد في الأخذ بهذا ما فرضته السرعة في الانتقال من تأثير على النظرة إلى المرئيات، هذا التأثير الذي نسخ بدوره فعله على العقل الواعي وغير الواعي، فغداً مقياس العمل في كل نواحي الحياة، (أتيان أكبر الأثر بأبسط الوسائل وفي أسرع وقت). وكان من اكبر الأسباب التي دفعت بالمسرح إلى أن يأخذ اتجاهاً يجافي الواقعية، في تسجيل المرئيات، وهي قصوره عن مجاراة (السينما) في وسائل أحياء الواقع على الوجه الذي تراه العين المجردة.
من أجل هذا وعلى هدى ما تقدم ذكره فإننا نأخذ بهذا الاتجاه الجديد في إخراج مسرحياتنا، حتى نماشي روح العصر الذي نعيش فيه. الإيماءة تأخذ مكان الحركة الكاملة، وجذع الشجرة ينبئ عن فروعها ويشير إلى أغصانها، والعامود ذو الطراز المحدود، أو الحنية أو العقد في البناء، يغنى عن أيراد بهو كامل الجدران قد دقت اليد في إيراد تفاصيله وكذلك الحال فيما هو دون هذا فإن طعنة الخنجر أو ضربة السيف، توحي بما يصاحبها.
وقد يصح أن في اتباعي هذا المذهب أقدم غير ما يألقه السواد الأكبر من الجمهور، ولكن(752/28)
من واجبي أن أبشر بالجديد الذي يقبله الجمهور الأوروبي، وهو جمهور سبقنا في مضمار فنون المسرح، وعنه نأخذ في فنية المسرح وحرفيته، وهذا الجديد غير عسير استساغته، لأنه يرتكز على الطبيعة بقدر ولا يجافيها كل المجافاة.
وأؤكد للأستاذ (ط) أن مداركة ما أخذه علينا من أن الدم لم يتفجر على أثر طعنة الخنجر، من أيسر الأمور، ويكفي أن نضع في عب ممثلة دور الفتاة التي تطعن بالخنجر، (تفاحة) مملوءة بسائل أحمر، لا بالدم، فسرعان ما تتفجر تحت ضغط اليد التي تهوى عليها، فيغشى السائل الأحمر ثيابها ويسيل إلى الأرض، بل وينطلق رشاشة إلى الجمهور الذي يأخذ مكانه في الصفوف الأمامية.
ثم ماذا يكون قول الأستاذ (ط) إذا شاهد مرة في إحدى المسرحيات منظراً يمثل معركة حربية بين صليل السيوف التي من الخشب، وانفجار القنابل المزيفة التي تفرقع ولا تحدث أثراً، بماذا يحاسب المخرج إذا لم ير الدماء تسيل أنهاراً فوق المسرح، والأشلاء تتطاير هناك وهناك، ويضرب بعضها وجوه النظارة كما كان يجب أن يجري في الواقع، وهل يصح أن يقول أن المخرج أهدر جانب الواقع، وتورط في الخطأ الفاضح.
أقول أن الخدع المسرحية التافهة التي تدخل في نطاق ما ذكره الأستاذ الناقد أصبحت اليوم لا تؤثر في الجمهور المثقف، كما كانت تؤثر في نفوس أجدادنا مخدوعين أو متناسين الحقيقة، لأن النضج الذي نزل بالذهنية الحديثة من جراء التطور العلمي العام صار يميل إلى الأخذ بالإيحاء حتى ينسرح خيال المشاهد فيكمل التفاصيل، على وجه قد يكون أروع من تفاصيل مفروضة عليه من سواه.
أقول أن فن لمسرح في مظاهره العادية الخاصة بالإخراج ليس الحياة بواقعيتها وفي دقائقها وتفاصيلها، وإنما هو تمويه بهذا في حدود المعقول، الذي يبعث الإيحاء ويساعد على الرمز وينشط مخيلة النظارة على الإنسراح لاستخراج التفصيل من المجمل، والكل من الجزء.
زكي طليمات(752/29)
1 - من وحي الآثار:
مع ملاحي الشلال الأول
للأستاذ مصطفى كامل إبراهيم
(أولئك جزاؤهم من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها ونعم أجر العاملين).
(قرآن كريم)
حدثنا الأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود في العدد 746 من الرسالة عن ذكرياته الشائقة في بلاد النوبة فقال: (وللشلال شهرة بالملاحة، فأكثر الملاحين الذين يشتغلون في البواخر النيلية بوجه عام، تجارية وحكومية، وشراعية، من هذه البلاد الصغيرة المسماة بالشلال!!).
وتروي لنا مخلفات القدماء هاهنا، أن رجالات الشلال قد أدوا لوادي النيل من الخدمات في غابر الأيام ما يتوج المصريين بتاج الفخار وهي باقية ما بقي العلم وما بقي الاعتراف بالصنيع، وأن لهؤلاء الرجال في أعناقنا جميلاً فلنؤده إحياء لذكراهم وإن قل هذا الأداء.
ولقد لعب النيل دوراً هائلاً في حياة المصريين منذ نشأة الحياة الأولى على ضفافه ومنذ بدأ القوم يتعلمون الزرع والضرع على يد (أوزيريس) الطيب القلب، الكريم المحتد، فلا عجب إذاً أن ملاحي الشلال الأول الذين وقفوا حياتهم على خدمة النهر والعناية بأمره وحماية منابعه، أن يكتبوا بأحرف من نور، سجلاً تاريخياً حافلاً بجلائل الأعمال.
وقصة (أوزوريس وست)، هي القصة التي ملأت وجدان المصريين القدماء طوال أيام تاريخهم القديم، واحتلت مكان الصدارة من حياتهم الدنيوية، وأثرت في نفوسهم بالخير والبركة، ولعلها السبب الثاني بعد الطبيعة السهلة التي خلقت في المصريين النفس السمحة ولين العريكة وطيب القلب، مما أوحى إلى (هيرودوت) أن يصدر حكمه المشهور (المصريون قوم يخشون الله).
وطال ترديد القصة بين أفواه الناس وأسماع الزمن، حتى تجاوبت أصداؤها فيما وراء البحر وجاء بلوتارخ سنة 120 من ميلاد المسيح، يستنبئ الناس الخبر، ويستقرئ الآثار، فسمعها من الكهنة ثم كتبها للناس. ودلت الآثار على أن الرجل لم يكن متجنياً كغيره من(752/30)
المؤرخين.
وقد مست القصة مواطن العبقرية من الأدباء والشعراء المحدثين فقضوا الليالي الطوال ينعمون معها بفيض من الاطمئنان الروحي ثم انطلقت قرائحهم بالنثر والشعر الرصين ذلك لأنها من أجود القصص بل لعلها أجودها جميعاً، والذي يقرؤها من قلم (شيلير يشعر بأن الرجل كان هائماً بها هيامه بما يكتب فأخرجها آيات مبدعات من روائع الفن.
وأنا لا أستطيع أن أتهم المصريين القدماء بأنهم عبدوا الإنسان والحيوان والجماد لذاته، فأن ما خلفوه من مجد أثيل وثقافة عالية لا تسمح لهم أن ينزلوا هذه المنازل السحيقة من الجهل، بل الرأي عندي أنهم أدركوا صفات الله تعالى وبحثوا عنه في ملكوته، فلم يروه. . . ورؤا شيئاً من صفات الخالق فيما خلق، فقد سوها على أن بها سراً من أسرار الله. . . قدسوا (أوزوريس) لكرمه ورحمته بالعباد، والنيل لمثل ذلك (وخنوم) رب الشلال الأول لأنه يحمي منابع النيل ويصنع الخلق من طينته.
وبالرغم من أن مصر لم تكن مهبط الأنبياء، إلا أن المصريين القدماء قد أظهروا استعداداً طيباً لتقبل الأديان السماوية قد ينفردون به دون أمم الأرض، ففي أيام موسى عليه السلام، آمنت له امرأة فرعون وكل من شاهد برهان الله على يد رسوله، ولما جاءت المسيحية اعتنقوها حتى لم يبقى في الديار كافر بها، ثم لما أشرق نور الإسلام في شمال الوادي، سطع ضياؤه بين جنباته وتغلغل في نفوس أبنائه المؤمنين (الذين قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، وامتد هديه حتى عم كل بقعة وطئتها أقدام الداعين للإسلام، أولئك الذين شد الله في أزرهم وقوى نفوسهم فلم تصدهم عن رسالتهم أفاعيل السياسة ولم يقعدهم مال.
ومثل المصريين كمثل إبراهيم عليه السلام لما قلب وجهه في الكوكب والقمر والشمس باحثاً عن الله، فلما أعياه البحث تداركه الله برحمته، فهداه سواء السبيل.
وأنا ممن يعتقدون أن القصص الديني لم يكن كله حديث خرافة، فمهما خصبت عقول البشر ومهما حاول المرتزقة من كهنة المصريين القدماء أن يقدموا للناس غذاء روحياً دسماً من الأساطير يعيشون على حسابه، فلم يكن في طوقهم، ولا في طوق غيرهم، أن يخترعوا شيئاً من لا شيء، فقصة (أوزيريس وست) إذاً من قصة الأحياء من بني الإنسان، مثلتها(752/31)
الأيام وكان مسرحها جنبات الوادي الأخضر، وليس للكهنة عليها من فضل، اللهم إلا تأليه أشخاصها، وجلوها، وتجهيزها، ثم زفها للناس.
وتتلخص القصة من أن (ست) حاكم الصعيد الغشوم قد حقد على أخيه (أوزيريس) حاكم الدلتا لعدله وحب الناس له، فصنع له تابوتاً على قده واحتال عليه حتى أرقده فيه، وأحكم عليه الغطاء ثم ألقاه في النيل، وقذفته أمواج البحر إلى ببلوس (جبيل) من أعمال فينيقية (لبنان)، وهناك أنبت الله عليه شجرة أرز وارفه أعجب بها حاكم البلاد فقطعها، وجعل منها عموداً يحمل سقف قصره، وسعت (أيزيس) الزوجة المخلصة حتى عادت بتابوت الشهيد إلى الدلتا، ثم كشفت الغطاء وذرفت دمعة ساخنة سقطت على وجهه، فأعادت إليه حياته بأذن الله، إلا أن (ست) وافاه والمنية تسعى في ركابه، فمزق الشهيد قطعاً وبعثر أشلاءه في أقاليم الوادي. . . ثم عمد منه إلى عضو التذكير فيبتره وألقى به إلى سمكة في النيل، حتى لا ينجب ذرية قوية تنازعه الغلبة والسلطان.
إلا أن (إيزيس) التي حملت من روح زوجها أنجبت له (حوريس) فيعمل هذا على الانتقام لأبيه، ويطلب الاحتكام في أمره وتبدأ أولى جلسات المحكمة في (أون) عين شمس، ويخاف (ست) على هيئة المحكمة أن تعصف بها فتنة (إيزيس) الجميلة الساحرة، وتنتقل المحكمة إلى قاعة العدل العليا في جزيرة فيلة عند الشلال الأول، غير أن (إيزيس) تسافر إلى الشلال الأول وتطلب من أحد الملاحين أن ينقلها على سفينة إلى الجزيرة ويجيبها السفان أنه لن يستطيع هذا بأذن منها، وتتمكن أخيراً من إغرائه بالذهب فيحملها إلى الجزيرة.
. . . وتتم كلمة الله ويجيء الحق ويزهق الباطل يزهق معه روح (ست).
ومنذ ذلك اليوم من فجر التاريخ إلى آخر أيام الفرعنة، والملوك - إلا في فترات قصيرة - يعتبرون أنفسهم أحفاداً (لحوريس) وذلك لإقرار شرعية حكمهم، ومن أجل هذا كتبوا أسماءهم داخل إطار فيما يحاكى رسم القصر الملكي، وقد حط عليه الصقر رمز (حوريس) مشرعاً هامته إلى السماء.
وتروي لنا القصة فيما تروي من أنباء الماضي أن مصر قد تذوقت لوناً من ألوان الوحدة تحت حكم ملك واحد فيما قبل أيام (مينا) مؤسس (الأسرة الأولى). وتروي لنا أيضاً أن لمصر علاقة بلبنان قديمة قدم القصة، وتطالعنا الآثار بأن مصر أفادت من خشب الأرز(752/32)
اللبناني في بناء السفن والتوابيت، وأغلب الظن أن علاقتهما كانت علاقة الأخ الكريم بالأخ الكريم، ولم تكن غير ذلك طوال أيام تاريخهما، إلا في فترات التدخل الأجنبي وتسلطه البغيض.
ونحن لا ننظر إلى القصة من زاوية الخير والشر كما يفعل الوعاظ، ولكن نراها من ناحية علاقتها التاريخية بالشلال الأول فالنيل شخصية واضحة تلازم البطل (أوزوريس) في جميع مناظر القصة، إلا ما كان منها خارج واديه، بل لعل البطل يندمج مع النيل في بعض فصول القصة. وشخصية (أوزوريس) فيما يظهر، هي الصورة المجسمة العاملة المدبرة للنهر الميمون، بل أن اختيار قاعتي العدل المزدوجة ف يعين شمس أولاً، ثم في الشلال الأول أخيراً على وجه التحديد، كان سبب وجود مقياسين للنيل عند منبعه وبدء تفرعه إلى أفرع كثيرة ليست من صلب النيل، بل أن بعضها لا يمتلئ إلا في فترة الفيضان - وقد كان للمقياسين أخصائيون يقيسون زيادته ونقصانه ويزنون مياهه، ويرصدون عليه حركاته، ثم يقدرون من وراء هذا كله دخل الحكومة وأرزاق الناس.
وعندي أن اهتمام المصريين بمنابع النيل عند الشلال الأول لم يكن عبثاً بل كان لا بد لمنابع النيل من إدارة عليا تهيمن عليه، لا تدانيها في عظمتها إدارة الشمال، كما هو الحال في يومنا هذا، فأن مصلحة الري المصري بالسودان توافي البلاد بأخبار النيل على الدوام.
ويعزز رأينا هذا ما قاله الملاح (لإيزيس) من أنه لا يستطيع أن ينقلها بإذن منها - يعني بذلك أنه موظف مسئول وأنه لا يتلقى الأمر إلا من صاحب الأمر، وتطالعنا الآثار بأن حاكم الجنوب اتخذ كرسيه في جزيرة فيلة عند الشلال الأول متمتعاً بأقصى ما يتمتع به عامل من ثقة مليكه.
ونحن إذ نؤمن بوجود إدارة عليا للنيل عند منابعه مع وجود السفان وسفينته في هذا المكان والاهتمام (بفينيقيا) موطن أخشاب الأرز، كل أولئك يحملنا على الترجيح بأن ملاحي الشلال الأول هم أول من أنشئوا السفن تجري على صفحة النيل السعيد بسم الله مجريها ومرساها.
ولعل بين إسناد التاريخ الأثرية ما تكشفه لنا الأيام فيؤيد هذا بصورة قاطعة.
ولقد ظل ملاحو الشلال الأول محافظين على عهدهم مع النيل فصادقوه وحالفوه، وعاشوا(752/33)
بين كنفه فأطلعهم على مكنون سره ودخائل نفسه، فعرفوا كل صخرة من صخوره، وخبروا كل شعبه من شعابه، وتروي لنا مخلفات القدماء هنا بأن (أوني) أحد عمال (مون رع) في جزيرة فيلة في أيام الأسرة السادسة سنة 2328 قبل ميلاد المسيح تمكن من أن يقتطع طريقاً بين صخور الشلال ليفتح سبيلاً لسفن صاحب الجلالة إلى الجنوب، وبعد ذلك بستمائة سنة تمكن عمال الشلال الأول أن يعيدوا لسنوسرت الثالث فتح هذا الطريق ثم لما كانت أيام تحتمس الثالث الذي مد الله في سلطانه، فأمست له إمبراطورية عريضة تمتد من (قرن الأرض إلى أطراف المياه المعكوسة)، أراد قمع الثائرين في الجنوب، فوجد لقناة قد طمسها تيار النيل، فأمر ملاحي الشلال الأول أن يعبدوا حفرها وهكذا مكنوه من العودة إلى طيبة بطريقها. ومن ثم وضع في أيديهم أمر العناية بها لتبقى مفتوحة وتجري التجارة بين الشمال والجنوب ولإيصال ثقافات الشمال إلى أبناء الجنوب فيؤلف الله بين قلوبهم ويصبحوا بنعمته إخواناً. أو للضرب على أيدي الخونة المارقين من أشياع إبليس، الذين تتحرك فيهم الغرائز الدنيا، ويدفعهم الأثرة وحب النفس وشهوة المادة إلى تدمير وحدة الوادي السعيد وتقطيع أوصاله، لمغنم زائل، أو لجاه زائف، لا يلبث هذا أن يجرهم مقرنين بأصفاد الذلة، ويطوح بهم إلى الحضيض من وادي العدم.
فعليكم سلام الله، أيها الأمجاد من أبناء (ناستي) وإلى اللقاء مرة أخرى فنحيى ساعة نستمرئ لذيذ ذكراكم العبقة بعطر الخلود.
(أسوان)
مصطفى كامل إبراهيم
وكيل اتحاد الثقافة الأثرية(752/34)
من الأدب النسوي:
الغزل في شعر المرأة
للشيخ محمد رجب البيومي
- 2 -
سنتكلم اليوم عن الغزل السافر ونعني به ما قالته المرأة، لتذيع غرامها على رءوس الأشهاد، فينقله عنها البعيد والقريب، فهي إذن لا تخشى ملامة أو مسبة، بل تقدم جريئة على تحمل ما يهددها في موقفها الجريء.
ونعلن بادئ ذي بدء أننا لن نتعرض إلى غزل الجواري فيما نحن بصدده من الحديث، لأننا نبحث عن النسيب الصادق الذي يضطرم بالعاطفة المشبوبة، ويتأجج باللوعة المشتعلة، وجل ما بأيدينا من غزل هؤلاء لا يهدف لغير الإغواء والتغرير، بل كثيراً ما يهبطن إلى مستوى لا يرضى عنه خلق نبيل، حتى ليجوز لنا أن نشبههن بمن نرى من ساقطات الممثلات، حيث يشغلن الصحف الخليعة بالحديث عن رنين القبلات، وحرارة العناق، وما يقصدن - علم الله - غير العاقبة الذليلة والخداع المريب.
على أنك لا ترى في شعر الجواري مواربة أو كنانة، بل تجد نفسك أمام صراحة فاضحة، ومنطق مكشوف، كأن تقول إحداهن وهو أهون ما يمكننا أن نستشهد به:
إني لأرجو أن نكون معانقي ... فتبينت منى فوق ثدي ناهد
وأراك بين خلاخلي ودمالجي ... وأراك دون مراحلي ومجاسدي
وأنا لا أنكر أن هذا تصوير صادق لما تنشدهالجارية من أمل لذيذ، فهو من هذه الناحية غزل يرتكز على الإحساس والشعور، ولكن أدعو الشاعرة أن تبرز عاطفتها تلك، في سياق فني، يعتمد على التشبيه البارع، والرقة المتسلسلة حتى تطرب قارئها برونق الأسلوب، فينسى قسوة الفكرة ومرارة الهدف، وأصدق مثال لذلك قول حفصة بنت الحاج القرطبية:
أزورك أم تزور فأن قلبي ... إلى ما تشتهي أبداً يميل
فثغري مورد عذب زلال ... وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمأ وتضحى ... إذا وافى إليك بي المقيل(752/35)
تفضل بالجواب فما جميل ... سكوتك عن بثينة يا جميل
فواضح جداً أن هدف الشاعرة الأولى هو بعينه هدف الشاعرة الثانية، ولكن سياق حفصة جميل فاتن، ولا غرو فهو طراز أندلسي أخذ جماله من عصره، واستمد رقته من أهله فجاء صافياً كمرآة النهر الوديع.
ولا بد أن يعلم القارئ أن التصريح في نسيب المرأة كان في مجموعة أقل من التلميح. وقد قرأت في هذه الأيام أكثر ما روي لحواء من رائق التشبيب فلم أجد التصريح إلا في حالات خاصة تخفف من حدته، وتشفع لقائلته أتم شفاعة، وهي في جملتها لا تخرج عن حالات ثلاث:
فالحالة الأولى - وهي الجديرة بالإشفاق - تكون غالباً عندما تفقد المرأة صوابها الراشد، وفكرها المتيقظ، فتندفع في تيار الحب أعنف اندفاع وأقساه، ولا تعود تفكر في غير الشخصية المسيطرة على منافذ إحساسها، القابضة على زمام فؤادها، وما ظنك بمن ترسل أشعارها الذائبة ناطقة بجنونها الشقي، غير عابئة بما يلقاه بها الأقربون، من صنوف الإيذاء والتعذيب كشقراء بنت الحباب، فقد قاست في غرامها الطائش ما تقشعر لهوله الأبدان، وطالما أنهال عليها والدها بالسياط المحرقة تشوي الإهاب، وتمزق الأعضاء، وهي بعد لا تنسى في جحيمها المشتعل حبيبها يحيى بن حمزة بل تهتف:
أأضرب في يحيى وبيني وبينه ... مهامه لو سارت بها الريح كلت
ألا ليت يحيى يوم عيهم زارنا ... وإن نهلت منا السياط وعلت
وكأني بوالدها وقد رحمها بعض الشيء فبعث إليها صواحبها لائمات عاذلات، راجياً أن يثوب رشادها العازب إلى وكره، فتنسى ما تهذر به للغادي والرائح، ولكن أمل الحباب ينطفئ خابياً حين يجد ابنته تصيح في آذان اللائمات:
سأرعى ليحيى الحب ما هبت الصبا ... وإن قطعوا في ذاك عمداً لسانيا
فقد شف قلبي بعد طول تجلدي ... أحاديث من يحيى تشيب النواصيا
وهناك من المدنفات من لا تفرق بين النافع والضار، فهي إذ تصطلي بجحيم الشوق اللافح، لا تجد من تطلعه على خبيئة سرها غير والدها العنيف؛ مع أن الأب - لو عقلت الفتاة - أول من ينبغي أن يكتم عنه هذا النبأ المزعج، وخاصة إذا كان من قساة البدو، وجفاة(752/36)
الأعراب، كوالد الخنساء التيحانية، تلك التي علقت شاباً من بني خفاجة يدعى جحوشاً، وقاست في حبها العارم ما أقض مضجعها، وشرد نومها، فكتمت أمرها عن صواحبها، وبعثت إلى أبيها التيحان تقول في غير اكتراث:
وإن لنا بالشام لو نستطيعه ... حبيباً لنا (يا تيحان) مصافيا
نعد له الأيام من حب ذكره ... ونحصي له (يا تيحان) اللياليا
فليت المطايا قد رفعنك مصعداً ... تجوب بأيديها الحزون الفيافيا
وإذن فهي لا تكتفي بإزعاج والدها، بل تتمنى أن يقود بنفسه مطاياه مصعداً إلى جنوب الشام ليكون رسولها الأمين إلى جحوش الحبيب، والغرام جنون فاضح، يولد الغرائب، ويأتي بالمتناقضات!!
أما الحالة الثانية: فلها من الظروف والملابسات ما يبررها لدى المنصف الأريب، إذ تكون العاشقة ثيباً مطلقة، فلا تؤاخذ على هيامها مؤاخذة غيرها من العذارى الناهدات، بل يلقي لها الحبل على الغارب، ويسلم إلى كفها الزمام. أضف إلى ذلك ما غرب عنها من خفر الكواعب، فقد ودعته إلى غير رجعة، يوم أن انخرطت في سلك الزوجات، ولديك أم الضحاك المحاربية فقد أمسكت عن الشعر الغزلي، حتى طلقها زوجها، وأحتمل عنها إلى مكان نازح، فهاج بها الشوق واندفعت تقول:
سألت المحبين الذين تحملوا ... تباريح هذا الحب في سالف الدهر
فقلت لهم ما يذهب الحب بعدما ... تبوأ ما بين الجوانح والصدر
فقالوا شفاء الحب حب يزيله ... على الفور أو نأي طويل على الهجر
وما الحب إلا سمع إذن ونظرة ... وحنة قلب عن حديث وعن ذكر
وسيعجب القارئ حين يجدها تكشف نقاب الحياء دفعة واحدة، فتعبر عن الحقيقة المكظومة إذ تنشد:
شفاء الحب تقبيل وضم ... وجر بالبطون على البطون
ورهز تهمل العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون
وفي رأيي الغيرة أساس كل بلاء، فلولا أن الشاعرة قد تضايقت كثيراً بتطليقها وأقتران زوجها بغيرها، لما رددت هذا القول الجريء. وأن شئت فأنظر إلى ولادة بنت المستكفي(752/37)
وهي كما تعلم، جراءة قول، وتكبر نفس، فقد ضرع أمام جمالها الفاتن الوزيران الأدبيان ابن زيدون وابن عمار، فهزأت بهذا حيناً، وسخرت بذلك أحياناً، ولكن لم تكد ترى أبا الوليد يداعب جارتها (عتبة) حتى دبت عقارب الغيرة إلى قلبها، وعلى وجهها سحابة قاتمة، من الضجر والضيق، فتركت كبرياءها وكتبت إلى عاشقها تقول:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جارتي ولم تتخير
وتركت غصناً مثمراً بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني (بدر) الدجى ... لكن ولعت لشقوتي (بالمشتري)
فكيف إذن نلوم أم الضحاك وقد أبدت ولادة العظيمة ما أبدت من الغيرة والاندفاع. على أن للمحاربية الخاملة في باب النسيب ما يضعها في منزلة ولادة النابهة، وما زلت أردد في إعجاب قولها الرائع:
حديث لو أن اللحم يشوى بحره ... طرياً أتى أصحابه وهو ينضجُ
ونعرج على الحالة الثالثة، وهي كثيراً ما تتكرر أمامنا من حين إلى حين، فقد تكون المرأة عاشقة صبة، فتجاهد نفسها في إخفاء ما تكابده مجاهدة قائلة، ثم تمر الأعوام وراء الأعوام فإذا الشابة العاشقة تصير عجوزاً شوهاء، ذات أولاد وأحفاد، وإذ ذاك لا تبالي بنقد، أو تحفل بتجريح، بل يطيب لها أن تجلس مع العذارى الناهدات، قارئة تأريخ قلبها الحافل بالعجائب والغرائب، دامعة على صباها الغارب، وشبابها المرحوم، ولا عليها في ذلك ما دام الجميع يتهمها بالهتر والتخريف، وما دامت قريبة من القبر، فهي هامة اليوم أو الغد، وأي نقد يوجه إلى شمطاء شهربة، تدب على العصا، وتمشي بها مشي الأسير المكبل كعشرقة البدوية إذ تقول:
جريت مع العشاق في حلبة الهوى ... ففقتهمو سبقاً وجئت على رسلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى ... ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلى
ولا شربوا كأساً من الحب حلوة ... ولا مُرة إلا شرابهمو فضلي
ومع ما في هذا القول من الصراحة التامة، فأنه إذا قيس بشعر الرجل كان جميل الأثر، طيب الوقع؛ فنحن نرى الإباحيين من فساق الشعراء كامرئ القيس والفرزدق وبشار يطنبون في ذرياتهم الماجنة، إطناباً تنقبض له الصدور، ولو أننا لا نريد أن ننشر هذا(752/38)
اللون من الإفك، لذكرنا على سبيل ما تحمر له الوجوه؛ غير أننا نضع أمام القارئ أبياتاً لابن أبي ربيعة قد تواضع في سردها، فلم يملأها بما عهد عنه من إفك، وهي رغم ذلك من الإباحية في هوة لا ينحط إليها غزل الحرة، مهما فحش ولذع. قال أبو الخطاب:
فتناولتها فمالت كغصن ... حركته ريح عليه فمارا
ثم كانت دون اللحاف لِمشغو ... ف معّنى بها صبوب شعارا
واشتكت شدة الإزار من البه ... ر وألقت عنها لدَّي الخمارا
حبَّذا رجعها إليها يديها ... في يدي درعها تحل الإزار!
وإن شئت أن ترى للمرأة شيئاً من طراز عمر المكشوف فارجع إلى ما هجناه من غزل الجواري في صدر هذا المقال.
هذا وقد تكون الشاعرة مضطرة إلى التصريح بما يعجز عن بيانه اللفظ ويقف دونه الريق، فتأتي بالمعنى الجلي، في تركيب قوى، دون أن يصدمها المسلك الوعر، ويجبها الواقع المرير؛ فقد راود توبة بن الحمير الخفاجي صاحبته ليلى الأخيلية فشاحت عنه، وأرادت أن تفهمه موقفها النبيل، فلم تستعص عليها قافية أو تند عنها عبارة، بل أجابته في قوة أسر وبراعة نسج فهي تقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبحْ بها ... فليس إليها ما حييت سبيلُ
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وحليل
تخالك تهوى غيرها فكأنما ... لها في تظنيها عليك دليلُ
ولعمرى قد بلغت من السمو والروعة شأواً لم يصل إليه معن بن أوس، حين اصطدم كصخرتها العاتية فقد كان في جاهليته يغشى أم مالك خليلته، فأتت كعادتها إليه بعد إسلامه فقال من أبيات:
ولست كعهد الدار يا أم مالِك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسلُ
وعاد الفتى كالكهل ليس بفاعل ... سوى الحق شيئاً فاستراح العوازل
وشتان ما بين القولين وإن اتحدت الواقعة، واتفق المراد!!
ولليلى هذه مراث جيدة في توبة وكانت تصلها بقليل من الغزل الرائق فتطرب النفوس في موقفها الحزين، وأشهد لقد دلت على أن أبناء حواء كأبناء آدم، متانة تركيب، وجلجلة لفظ(752/39)
وارتفاع مسلك، ويهمنا أن نعرض نسيبها الدامع إذ تقول في معرض الرثاء:
هو المسك بالأرى الضحاكي شبته ... بدرياقة من خمر بيسان قرقف
فيا ألفَ يوم تأتي مسَّلماً ... فألقاك مثل القسور المتطرف
وهناك من العاشقات غير ليلى من أبدعت كثيراً حين نهجت هذا النهج الجذاب، وزادت فعمدت إلى الجناس الجميل إذ تقول:
كان مثل القضيب قداً ولكن ... قده صرف دهره أي قد
أو تقول:
هو الأبيض الريان لو ضربت به ... نواح من الريان زالت هضابها
وهكذا تكون الدموع مسرحاً للتشبيب البهيج!!
ولا نختم هذا الفصل دون أن نلم بنموذج من الغزل الصوفي الذي ترنمت به المرأة فنشرت أمام العيون بروداً قشيبة، عطرة الذيول. وإذا صح ما يقولون من أن الحب الصوفي في مبدئه حب إنساني شب وترعرع حتى وصل إلى نهايته العلوية، فالمرأة أشد قابلية له من الرجل، لما نعلمه من تأثرها العميق، وإحساسها الرقيق. ويكفي أن نستشهد برابعة العدوية رضى الله عنها فهي صاحبة اللواء الخفق بين أخواتها المتصوفات، ولها من النسيب الفاتن جداول صافية تبل الصدى وتنقع الغليل كأن تقول:
أحبك حبين حب الهوى ... وحبٌّ لأنك أهلٌ لِذاكا
فأما الذي هو حب الهوَى ... فشغلي بذكركَ عمن سِواكا
وأما الذي أنتَ أهلٌ لهُ ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمدُ في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكا
ورابعة كما ينطق التاريخ قد سبقت الشعراء جميعاً إلى الغزل الإلهي ففتحت بذلك الطريق لابن عربي وابن الفارض والبرعي ومن يجري معهم في ميدان التصوف الوسيع، ولا أدري كيف سكت محللو الشعر القدسي فلم يسجلوا يدها البيضاء!!
(وبعد) فهذه مرآة لامعة تجلو لنا طرائف من الغزل النسوي ونحن حين نزفها إلى القراء والقارئات نتساءل في عجب: أيوجد بين شاعراتنا الآن من لها - ولو في غير الغزل - هذه الديباجة المشرقة، والرقة المتسلسلة؟ أم أن ذلك عهد مضى ولن يعود؟!(752/40)
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي(752/41)
ربيعي في قلبي. . .
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
أضاءت زماني نشوةً ومكانيا ... حياةُ المنى رفّت بقلبي أغانيا
ربيعي في قلبي ونفسي وخاطري ... أسير به حياً. . . وأحياه هانيا
طريقي أعطارٌ تضوعُ ... تشيعُ وطير طاف بالسعد شاديا
وحولي من معنى الربيع أزهار ... وفي النفس عطرُ الزهر قد فاض صافيا
وقد كنت قبل اليوم أسوان شاكيا ... وقد كنت قبل اليوم لهفان باكيا
وقد كنت قبل اليوم وهماً مشرداً ... إلى أمل يُمسي ويُصبح كابيا
إذا أشرقت في الأفق أنوار بُغيتي ... رجعت وفي عيني من الليل ما بيا
فمن ذا الذي أحيا رمادي والذي ... أضاء زماني نشوةً ومكانيا
فعدت كما أهوى. . وتهوى مشاعري ... ترف بعينيَّ الحياةُ أمانيا
ربيعك يا أبن الشعر قد لاح فانطلق ... ربيعاً. . . وفجّر بالنشيد دمائيا
ففي الروح موجٌ من نعيمٍ تفجرت ... ينابيعه سعداً. وفاضت تهانيا
تطالعك الأيام. . . وهي بواسم ... ويا طالما مرت عليك ماسيا
وترنو لدنياك البشائر حيَّة ... وقد كنت في دنيا البشائر فانيا
وحولك جنّات فقم وانطلق بها ... حياةً وإحساساً وشعراً مواتيا
لدنياك. يا روح الربيع مشاعري ... تفيض قصيداً طاهراً اللحن ساميا
من الأمل البسام في جلوة المنى ... يبدد يأسي. . . أو يقبل عثاريا
من الدوح فيناناً، من الزهر عاطراً ... من النور فتّاناً يُضيء طلاميا
من الروضة الخضراء، من جنة الربى ... من البلبل الشادي، من النهر جاريا
من الظل والأنوار والزهر والشذا ... من الحب , , , من روحي وطهر فؤاديا
أصوغ لك الأشعار يا جنة الدنا ... تُضي زماني نشوةً ومكانيا!
إذا رفّت الأعطار حولي. . . تفتّحت=أزاهير نفسي واستنارت سمائيا
وأحسست أني صرتُ روحاً يقودهُ ... ويلهمه الأسرار وحْياً نقائيا
أحس دبيب العطر في الزهر قبلما ... تحس به الأزهار نشوان ساريا(752/42)
وأسمع همس اللحن في كل نغمة ... وأدركه نعسان في الطير خافيا!
كأن بنفس عالمٌ لا يحدُّه ... كيانٌ ولا تحدُوه بالحسى ذانيا
أكاد أرى بالروح ما كان خافيا ... وأدرك بالإلهام ما كان نائيا
تساميت عن دنيا الرغائب وانتهت ... حياتي. لآفاق تسامت معانيا
وآمنت حتى خلت أني نبضة ... بقلب الدنا قد باركتها صلاتيا
وأدركت أني والربيع يقودني ... أسير بأعماق الحياتين هاديا!
فتلك حياةُ الناس تنساب خدعة ... توارت ولكن أراها كما هيا
وتلك حياةُ الروح من طهر مهجتي ... تُضيء ضميري عفةً وكيانيا
ينادمني منها سموٌّ ونشوةٌ ... ويسكرها مني الحنين الذي بيا
حميمي لأعماق الحياةِ وسرها ... وإني لأحياها هُدى وتساميا
فبارك حياتي يا ربيع وطف بها ... على نبعك الفياض واسكب حياتيا
ربيع المنى، يا جنة الناي، يا صدى ... لأنشودة الفردوس يهتز شاديا
ربيع المنى، يا جنة العمر، يا سناً ... من الله، يا هدياً يُضيء الدواجيا
زمانك أضحى فرحة سرمدية ... ودنياك أحيت يا ربيع البواليا
وسهلك غذته الحياة، وأرضعت ... ورباك الصوادي فاستحالت مغانيا
أرى روحك النشوى تألق في الربى ... ظلالا. . وأنواراً. . وخمراً. . وساقيا
فيا حانة الأزمان! لا تنسي أنني ... وكأسي في كفي أتيتك ساعيا
فإن أنت لم تغمر حياتي نشوة ... لديك. . . فلا ذنب على ولاليا
وحسبك أني جئتك اليوم شاديا ... نعم واسقني واشرب وبارك شرابيا!
فلي فيك شعر طاهر الخمر خالد ... أضاء زماني نشوةً ومكانيا
حسين محمود البشبيشي(752/43)
من وراء المنظار
في حجرة البك الناظر
(البك الناظر) هي كلمة الإجلال التي يجري بها العرف على ألسنة الطلاب والموظفين والأساتذة في مدارسنا طول العام، وعلى ألسنة آباء التلاميذ وأولياء أمورهم في الأسبوع الأول من العام الدراسي فحسب. . .
وافتتحت المدارس أول الأسبوع الماضي وجلس البك الناظر في كل مدرسة على كرسيه المحترم أمام مكتبه الموقر وتأهب للقاء طالبي الأذن عليه وقد استجمع أكثر ما يطيق من الجد حتى لينقلب هذا الجد في كثير من الحالات عنفاً، وأقصى ما يستطيع من الحزم حتى ليستحيل هذا الحزم شططاً، ولا يسعك إلا أن تلتمس العذر لأكثرهم من فرط ما يتوسل المتوسلون ويلحف الملحفون. . .
ودخلت حجرة البك الناظر في مدرستنا وهو رجل طويل التجربة حازم عن أصالة تهز كريماً إذ تهزه، ولكنك على طيبة قلبه مهما بذلت من جهد ومهما اصطنعت من حيلة لا تستطيع أن تزحزحه قيد شعرة عن رأي اقتنع وبخاصة فيما يتصل بسلوك طلابه. . .
واستأذن والد أحد التلاميذ وهو موظف في أحد الدواوين وطرق الباب طرقة خفيفة ودخل يظهر التخشع والاحتشام وسلم وتلعثم ثم أخذ يتوسل إلى الناظر أن يقبل ابنه المفصول رحمة به؛ وقطع عليه الناظر حديث توسله بقوله: مثلت هذا الدور أول العام الماضي وقلت هذا الكلام وقبلت أبنك يومها على مضض فما كاد يدخل المدرسة حتى عاد إلى رذالته واستهتاره وطيشه، وكان هذا سبب رسوبه فكيف تعود إلى الرجاء، وكيف يتسنى لي أن أقبله؟
وقال الرجل: وما ذنبي وكيف تأخذني، بجريرة ابني؟ وتعجب البك الناظر وأوشك أن يغضب، ثم قال لم أفصلك ولكني فصلت ابنك، وما ذنب المدرسة وذنب أبناء الناس حتى أضع بينهم تلميذاً كهذا يفسد مدرسة وحده؟ وعاد الرجل إلى التوسل والتضرع والتخشع، واستنفذ عبارات الاسترحام من مثل قوله المسامح كريم. . . المعروف لن يضيع عند الله. . . اعمل معروف! وحياة أولادك. . . وهكذا حتى استحال الرجاء إلى نوع غريب من التنطع؛ وضاق صدر الناظر وضاق صدري؛ ولكني والله قد أخذتني الشفقة واحسبني لو(752/44)
كنت البك الناظر ما كنت إلا مفسد المدرسة بنصف هذا التوسل بل بثلثه. . . ولكن ناظرنا لم يشأ أن يستجيب له وخرج الرجل وهو يكاد يبكي. . .
وما كدت أرثي لحال الناظر مما يلاقي من ضيق حتى طرق الباب قادم آخر ودخل فإذا برجل يدلف للسبعين فيما يبدو لعيني، حسن الهندام بادي الوجاهة يتوكأ على عصا ولكنه يخطو في نشاط وإن كان في مشيته عرج، وقال قبل أن يصل إلى المكتب: أعذرني يا سعادة البك إذ أدخل بعصاي فساقي مكسورة في حادث سيارة. . وجلس وهو يتنفس في عسر ويحاول أن يجد ريقاً في فمه ليبتلعه فلا يكاد إلا في مشقة؛ ولمحت في عينيه الألم الممض وتعرفت في وجهه حيرة ذي الكبرياء بين كبرياء نفسه وبين ما تفرضه ظروف الحياة؛ واختلجت شفتا الرجل كأنما يجد عسراً في إخراج الكلام، ثم تهد تنهدة طويلة، وقال وإن كلامه ليتقطع بتقطع نفسه: أنا والد فلان وما جئت لأدافع عنه فأبني بطال. . . بطال. . . وإنما أردت أن أسألكم وأنتم أطباء الأرواح ماذا أصنع لعلاجه. لقد ضربته الآن حتى بكيت وبكى، وليست لي حيلة فيه وهو ابن هذه المدرسة طيلة خمس سنوات. وتوقف الرجل ومد يداً معروقة ناحلة شاحبة وهو يحك سبابتها بوسطاها إذ يشير بهما، وبلع شيئاً من ريقه في عسر وتنهد يستجمع نفسه وقال أريد أن أقول شيئاً آخر وإن لم يكن في الموضوع. . ليس لي ولد غير هذا ولكن لي بنات ستاً. . . وهذا موضع أملي وأنا رجل أودع الدنيا وخدمت الأمة مهندساً عشرات السنين. . .
ونظرت فإذا الرجل يحبس دمعه جاهداً وإذ العرق يلمح في جبينه وقد أزاح بيده طربوشه عنه وصار يدق بكفه على قبضة عصاه دقات ويتأوه في صوت خافت، وتدلت شفته السفلى فكشفت عن ثناياه الذهبية التي لاءمت صفرتها صفرة خديه الذابلين الغائرين، والتفت إلى البك الناظر فإذا وجهه رثاء كله لحال الرجل حتى لقد ظننته قبل ابنه؛ ولكنه أشار إلي وقال للرجل: هذا أستاذه فاسمع رأيه فيه. . . وحرت والله ماذا أصنع وما أستطيع الكذب. . . وفطن الرجل إلى حيرتي وإنه لذو فطنة وكياسة فقال أنا أعرف كل شيء وما جئت مدافعاً كما ذكرت وإنما عدمت الحيلة فأعينوني على أمري. وكدت لعمر الله أبكي وأعود فأقول لو أنني البك الناظر لغفرت لهذا التلميذ ذنوبه الماضية وذنوب عام قادم معها؛ أقول ذلك على علم بأنه خروج على ما يسمونه قواعد التربية، ولكن ما الحيلة(752/45)
وأنا رجل ضعيف، وأني أحذر وزارة المعارف أن تجعلني ناظراً أبداً وإلا أفسدت لها الدنيا. . . وإن كنت لأزعم أن ما أصنعه من مغفرة إنما هو إصلاح وأن خفي ذلك على فحول التربية. . .
وقال البك الناظر يوجه الكلام إلى رجل وهو يدق مقبض عصاه ويتأوه، لو كان الأمر أمر ابنك وحده لقبلته من اجل خاطرك ولكني أبعدت سبعة غيره. وارتاح الرجل لهذه الكلمة وقال: هذا كلام طيب أشكرك عليه وهو من كرم خلقك، ثم نهض يبتلع ريقه في عسر ويستجمع نفسه المتقطع وسلم اللم والحسرة في عينيه وملامحه، وخرج من الحجرة يتكئ على عصاه ويكرر عبارات الشكر والتحية. . .
وبعد، أفلم يأن لمدارسنا أن تغير أسلوبها فلا تجعل المسألة يوماً يبدأ وينتهي على أية صورة وبرامج تقطع تأهباً لامتحانات فاسدة لا تدل على شيء، ثم لا يبقى بعد ذلك التفات إلى خلق ولا عناية بتربية ولا رعاية لمستقبل أمة؟ إن على مدارسنا التبعة قبل الآباء في فساد من تطرد من الفاسدين، وإن علينا أن نصلحهم أجمعين وإلا فبأي وجه نكون من المربين.
الخفيف(752/46)
الأدب والفن في أسبوع
الصورة الجديدة للأدب:
هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين بك مساء الجمعة برابطة خريجي جامعات فرنسا وسويسرا وبلجيكا. وقد بدأ الدكتور بأن للأديب صوراً متعددة لا صورة واحدة، وأن المقصود بهذه المحاضرة على وجه الدقة هو التصور الجديد للأدب، وهو يختلف اشد الاختلاف بحسب العصور والبيئات. فقد كنا نقول منذ زمن قريب: الأدب مرآة الحياة، والأديب صورة عصره. فنزهي بذلك ونعده غاية ما يصل إليه الأديب، ولكننا الآن لا نطمئن إليه ولا ترضى به، لا نرضي بأن يكون الأدب صورة فحسب بل نطالبه إلى ذلك بشيء آخر، ثم قال إن الصلة بين الأديب وقرائه مبنية على حرية التعبير عما يريد ليؤثر بهذه الحرية في قارئه. وإننا لنسأل الأديب: لم تكتب؟ فيجيب في تواضع: أكتب لنفسي، أو يقول في كبرياء وزهو: أكتب للأجيال القادمة. وربما قال: أكتب للمثقفين، وهو على كل حال إنما يكتب ليقرأ وليجد صداه. واستعرض الدكتور العلاقة بين الأديب ومستهلكي أدبه، من العصور القديمة إلى هذا العصر فبين تطوراتها المتشابهة في الأدب الفرنسي والأدب العربي من حيث أن الأديب كان في كل منهما يخاطب طبقة خاصة محدودة أخذت تتسع وتكثر على ممر الأزمان، وإن كانت قد وقفت في البيئة العربية عندما أغار عليها المغيرون من خارجها، وظلت في جمودها إلى العصر الحديث، وبين أن الأدب انتقل عند بزوغ شمس الإسلام ونزول القرآن، وفي الثورة الفرنسية، من مجرد تصويره للحياة إلى الجمع بين هذا التصوير وتوجيه الناس إلى مثل عليا.
وانتهى الدكتور من كل ذلك إلى أن الأديب في هذا العصر وقد كثر قراؤه بانتشار التعليم، لا ينبغي له أن يقتصر على الحرية في التعبير والتصوير، بل عليه أن يشعر إلى جانبها بالتبعات والواجبات، فهو يكتب لجميع الناس وفيهم من يفهم ما يريد، ومن يفهم بعض ما يريد، ومن يفهم غير ما يريد، فيجب عليه أن يسهل أدبه وييسره ليكون واضحاً مفهوماً للجميع، والمجتمع الحديث لا يقنع منه أن يرى نفسه في مرآته بل يتطلب منه أن ينزل من برجه العاجي ليعيش مع الناس في بؤسهم ونعيمهم فيصوره البؤس لتغييره والخلاص منه، والنعيم للوصول إلى أصفى منه.(752/47)
فالصورة أو التصور الجديد للأدب أن يحيا الأديب في البيئة ويشارك الناس أحزانهم ومسراتهم، لا ليصور ذلك فحسب، بل ليضيف إلى التصوير التغيير والإصلاح للوصول بالجماهير إلى مستوى فيه السعادة والنعمة والخير.
ثم قال الدكتور: هذا هو سبيل الأديب إلى أن يكون نافعاً وله قراء. أما الأديب الذي ينظر في النجوم ويشاهد أشعة القمر في انعكاسها على مختلف الأشياء ولا يغادر برجه العاجي فلن يقرأه إلا المثقفون القليلون، وقد يسرون منه ويعجبون به، ولكنه ليس الأديب الذي يشعر إلى الحرية بالتبعات والواجبات، وليس الأديب الذي يقبل عليه القراء فيجدون أنفسهم وأمانيهم ومطامحهم فيما يكتبه.
عود إلى قريب:
عندما قال الدكتور طه إننا لا نكتفي من الأديب أن يكون مرآة عصره - داخلني شيء من الزهو الذي قال إنه يداخل الأدباء، وقلت في نفسي: أيكون هذا الرجل الخطير قد قرأ ما كتبته فأثار في خاطره هذا الذي قال؟
والذي كتبته كان تعليقاً على ما أفضي به إلى مجلة (الكتاب) من الرأي في شوقي وحافظ، إذ قال بأنهما لم يبلغا من الشعر ما كان يحب لهما وللشعر العربي الحديث، ومما علل به رأيه قوله: (فلم يكن هذان الشاعران إلا مرآتين صادقتين للعصر الذي عاشا فيه).
وكتبت تعليقاً على هذا: (ويحضرني - لذلك - رأي للدكتور طه حسين في كتابه (حديث الأربعاء) مؤداه أننا لا نعد الشاعر شاعراً إلا لأنه يعبر عن بيئته ويصور عصره فيحسن التعبير والتصوير. ورأي الدكتور طه في شوقي وافظ أنهما لم يبلغا من الشعر ما يحب فأي الرأيين ما زال يرى؟).
وسواء أكان ما قاله في المحاضرة صدى ما أنفذته في الرسالة منذ أكثر من شهر أم لم يكن، فإنني أعتبره جواباً شافياً لذلك التساؤل ولا أسوق هذا إشباعاً لما قلت إنه داخلني من الزهو، وإنما أذكره لإزالة الغبار الذي علق برأي الدكتور طه في شوقي وحافظ من جراء ذلك التعليق.
فننا وشعورنا وبلادنا:(752/48)
كتب بعض الكاتبين بجريدة الأهرام في تجميل القاهرة، فأثاروا في هذا الموضوع مسألة وضع التماثيل في الميادين والحدائق لتجميلها، وقالوا كما قلنا في عدد مضى من الرسالة بأن تمثال نهضة مصر لا قيمة له ولا داعي لاستمراره في ميدان المحطة. وقد اقترح أحدهم وضع التماثيل الفرعونية الفائضة في الميادين لجذب السائحين إليها. . فرد عليه الأستاذ عبد القادر مختار المثال المعروف بأنه يجب أن تكون لنا نهضة فنية تساير ظروفنا الحالية، فلا نكتفي بالتغني بالقديم واللجوء إليه كلما فكرنا في القيام بشيء، وقال: (ولهذا يجب أن نشجع الفنانين المصريين على الإنتاج ومسايرة ظروف البلاد وتطورها، فنضع تماثيلهم التي ترمز للنواحي الوطنية وتعالج شؤوننا القومية في الميادين والحدائق العامة حتى يتذوق الجمهور ما فيها من الفن وتكون وسيلة لهديه وتثقيفه وترقية إحساسه).
وإني أضيف إلى عدم الاكتفاء بالتغني بالقديم واللجوء إليه كما قال الأستاذ المثال - أن هذا القديم لا يثير فينا الشعور المنشود لنهضتنا ومرامينا القومية، وقد راقني من الأستاذ بيان الغرض من تجميل الميادين بالتماثيل العصرية بأنه تذوق الجمهور للفن وهديه. . . الخ، فلم ينزلق إلى ما انزلق إليه الآخرون من الحرص على جذب الأجانب وخشية وقوع أنظارهم على مقابحنا، فإني أفهم أن تجمل البلاد لأهلها متعرض عليهم بدائع الفنون لتربية الذوق الفني عندهم ولتحفزهم إلى المثل العليا، وهذه الأغراض نفسها ترفعنا في عين الأجانب وترغمهم على احترامنا. فلنتجه نحو أنفسنا ونشعر بشعورنا ونجمل بلادنا لنا، وحسبنا ما بذلناه عبثاً في مراعاة أمزجة (الخواجات) والتزويق لهم. . .
مهرجان الشباب الأدبي:
رأت المراقبة العامة للثقافة في وزارة المعرف أن تمكن شباب الجيل من إظهار مواهبه الأدبية والفنية، فألفت لجنة من الأساتذة عبد الرحمن كامل وعبد الله حبيب ومفيد الشوباشي والدكتور إبراهيم جمعة، لتنظيم مهرجان أدبي فني يتبارى فيه الشباب الذين لم يتجاوزوا الخامسة والثلاثين، في الشعر والزجل، وفي الموسيقى والتصوير والنحت. وسيكون المهرجان الأول لسنة 1948 في أوائل السنة، ولم يعين موعده بعد، على أن يكون بعد ذلك كل عام.(752/49)
وقد قصدت وزارة المعارف بهذه المباريات أن تحفز همة الشباب نحو الإجادة والتفوق، وأن تتيح الفرصة لإظهار مواهبهم الأدبية والفنية.
ولا شك أن الشباب سيجدون في هذا المهرجان منفذاً لإبرار كفاياتهم الدبية التي يتهمون شيوخ الأدب بأنهم يحولون دون ظهورها.
الشذوذ والتطرف:
كم هو ظريف هذا الذي يكتب إلي بتوقيع (البسام) فلا يكتفي بمعاكستي في الاتجاه الفكري، بل يعاكسني أيضاً في الاسم، وإن هذا الصنيع ليخرجني عما يدل عليه أسمي (العباس) من العبوس، فأبسم. . كأنني أنا - لا هو - (البسام).
قال البسام في رسالته: (قرأت كلمتك (الأديب بين العزوبة والزواج) ولا أريد أن ادخل في هذا الموضوع، وإنما استرعي انتباهي قولك في الرد على الأستاذ سلامة موسى فيما قال به من الزواج يمنع الأديب أن يشذ أو يتطرف: (وهذا كله مع وقوفنا معه ونظرنا إلى الموضوع من الزاوية التي نظر إليه منها وهي التطرف في مهاجمة المجتمع ونظمه.
ولم يقل أحد بأن الأديب لا يكون فذاً مبتدعاً إلا إذا شذ عن المجتمع وأصطدم به) فإني أراك بهذا غافلاً أو متغافلاً عن حقيقة بديهية، وهي أن في المجتمع عادات سخيفة ومعتقدات باطلة وأن الأديب الحر هو الذي يهاجم هذه العادات والمعتقدات فلا بد من الاصطدام).
هون عليك يا صديقي البسام. إني موافقك على أن في المجتمع عادات سخيفة ومعتقدات باطلة، وعلى أن الأديب الحر هو الذي يهاجم هذه العادات والمعتقدات، أما الذي نختلف فيه فهو أنه لا بد من الاصطدام، إن الأديب الفذ المبتدع هو الذي يمثل للمجتمع سخيف عاداته وباطل معتقداته تمثيلاً يجعله يلمس هذا السخف والبطلان، عدته في ذلك فنه واقتداره على التمثيل والتصوير، فيشعر المجتمع بنقصه ويتجه نحو الكمال، ولا صدام.
أما من يصادم المجتمع فهو الذي تعوزه الكفاية الفنية فليجئ إلى مواجهته بالكلام المجرد، وقد يتخذ له قرنين يلوح بهما، وكثيراً ما يتعمد المصادم ذو القرنين مخالفة الناس ليقول لهم: هاأنذا. . .
الأناشيد:(752/50)
منذ كانت قضية مصر تعرض على مجلس الأمن وكانت إذاعتنا تذيع الأنباء وبعض ما ألقي من الخطب، وكانت في فترات انتظار تجمع الأنباء تذيع ما تعودت إذاعته من الغاني الهزيلة التي تستعطف قلب الحبيب الهاجر. الخ، وانبرت الأقلام تنبه على هذه الفوضى وتشير بأن تذاع بدل ذلك أناشيد حماسية تغذي الوعي القومي والشعور المتوثب - منذ ذلك الحين تنبهت الأذهان إلى الفراغ الهائل الذي يحتاج إلى أن يشغل بالأناشيد، لأن الذي حدث أن الإذاعة أخرجت ما لديها من الأناشيد الوطنية وأطلقتها على الآذان التي تحملت شدة وقعها وأبت أن تنفذها إلى القلوب لخلوها مما يصلح وقوداً لشرر الوطنية فيها، فهذه أناشيد يتطرب بها بعض المغنين في لين وتكسر. .
وتلك أناشيد تنشدها جماعات من الصغار أو الكبار بطريقة آلية تخرج من حناجرهم ميتة رغم إعلاء الصوت بها، ومن هذه أناشيد وصفوها بأنها قومية وضعت بعد معاهدة سنة 936 وقت أن قبل ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا تزال تلك هي أناشيدها القومية لأننا لم نستعض عنها بجديد ولم نخل (طرفها) بعد. . . وكل هذه الأناشيد تسترك في أنها لا تؤدي شيئاً مما تجيش به الأفئدة في هذه الظروف وإنما هي كلام منظوم مؤلف من عبارات عامة و (أكلاشيهات) مرسومة فنحن أسد العرين وحماة الحمى وأجدادنا مدوا أيديهم إلى الشمس وامسكوا بقرصها الذهبي. الخ والإلقاء فهما منسجمان مع التأليف. . نغمات عالية وعقائر مرتفعة، كأن المشاعر الوطنية في مكان سحيق فهم يطلقون أقوى الحناجر لتبلغها الصيحات. . وأكبر دليل على أن تلك الأناشيد لا تنبض بحياة أننا لا نسمع أحداً يرددها طائعاً مختاراً. . ومن المخجل أنك لا تجد نشيداً واحداً يجري على الألسنة كما تجري الغاني المبتذلة من مثل (حموده ياني!)
وليست الأناشيد في مدارسنا بأحسن حالاً، فهي على ذلك الغرار بدليل أن التلميذ لا يرددها في خارج المدرسة، ومن أسباب قصورها أن المشرفين على الأناشيد في وزارة المعارف من ذوي الفن الموسيقي لهم خبرتهم في الإيقاع لا في التأليف لأنهم ليسوا من أهل الأدب، وكثيراً ما يختارون ما يسهل تلحينه أو يوافق قوالب عندهم.
وقد تنبهت الوزارة لذلك فألفت لجنة من الأساتذة عبد الحميد السيد ومحمود غنيم ومحمد الأسمر منذ نحو ستة أشهر لوضع نظام لمسابقة أناشيد مدرسية. وأخيراً أنمت اللجنة(752/51)
مهمتها فاختارت عدداً من الأناشيد التي قدمت إليها، والمهم في أمر هذه اللجنة أنها كتبت تقريراً عن مهمتها أشارت فيه إلى أن المسابقات ليست هي أضمن الطرق للحصول على الإنتاج الجيد، لأن التجارب دلت على أن الشعراء المعتدين بأنفسهم يرغبون عن هذه المسابقة وقد اضطرت اللجنة فيما اختارته من الأناشيد إلى الإغضاء عن عيوب الصالح منها وإصلاح هذه العيوب، وأشارت باتباع طريقة أخرى هي أن يختار بعض الأشخاص المعترف لهم بالكفاية ويكلفون بالإنتاج. ولا شك أننا الآن في حاجة إلى نشيد قومي له خواص الكائن الحي فيردده الجميع، فما السبيلإليه؟ أرى أن يختار عدد من شعرائنا الممتازين الذين يبدون استعداداً، ويكلف كل منهم بوضع نشيد يؤجر عليه، وتؤلف لجنة من ذوي الكفايات الأدبية والفنية لاختيار أحسنها. ولعل لدى قراء الرسالة من المقترحات ما ينفع في هذه المسألة فلا يضنون به.
(العباس)(752/52)
البريد الدبي
معهد الجزيرة لعربية:
لا يزال الذين يغارون على مستقبل الأدب العربي بجامعة فؤاد يبدون
الأسف على ما أشيع من نقل الدكتور عبد الوهاب عزام بك من عمادة
كلية الآداب إلى عمادة المفوضية المصرية في المملكة السعودية بعد أن
خلا في الجامعة مكانا الأستاذين طه حسين بك وأحمد أمين بك،
ويقولون أن نقل الأستاذ العميد من السلك الأدبي إلى السلك السياسي
خسارة لدراسة الأدب وقيادته لا تعوض.
ولكن الذين يعرفون أن آل عزام من أولي العزم، وأن عزمهم لا يكاد يعدو الإسلام والعروبة، يعتقدون أنهم في كل وجهة وفي كل عمل إنما يجاهدون في سبيل الدين والأدب، ويذكرون على سبيل المثال أن من رأى الدكتور عزام أن ينشأ في الجزيرة العربية معهد لدراستها من النواحي التاريخية والأدبية والجغرافية والجيولوجية تشرف عليه الحكومة السعودية ويتولى العمل فيه بعثة من جامعة فؤاد الأول أو لجنة من جامعة الدول العربية يكون من أعضائها الجغرافي والمهندس والأديب والطبيب والنباتي والمؤرخ، فيزورون معالمها، ويرودون مجاهلها، ويضعون في ذلك الكتب المطولة والخرائط المفصلة التي تتمم ما بدأ به الأقدمون، وتصحح ما أخطأ فيه المستشرقون، وتعين المواضع التي ذكرت في القرآن الكريم ووردت في السيرة النبوية والقصص والأشعار والأمثال، وتصف حيوان الجزيرة ونباتها ومعادنها وأحجارها على الأساليب العلمية الحديثة؛ فإن الجزيرة مهد العرب ومنشأ تاريخهم ولغتهم، ولا يزال الأدب العربي خارج الجزيرة يحمل ذكرى هذا الإقليم العظيم في الألفاظ والأخيلة والصور. فليس مما يزكو بالدول العربية اليوم أن تظل واقفة في علمها بالجزيرة عند ما كتب الهمداني في القرن الرابع، أو تصبح عالة على ما يكتب الأوربيون في العصر الحاضر. فإذا كان نقل الدكتور عزام من الأدب إلى السياسة، ومن مصر إلى الحجاز، سبيلاً إلى تنفيذ هذا الرأي، وتحقيق هذا الغرض، فإن العوض يكون أجل والمكسب يكون أعظم.(752/53)
الفضاء والعدم:
اطلعت على ما كتبه الأستاذ نقولا الحداد في العدد 748 من الرسالة الغراء عن الفضاء والعدم. وفيه يقول إن هذا الحيز الذي نسميه فضاء لا بد أن يكون مشغولاً بمادة حتماً. وأنا أقول أنه لا يجوز لنا أن نبني أقوالنا في علم الطبيعة على الحتم هذا، فأن أجازه حضرة الكاتب فيجوز لي ولأي شخص آخر أن يقول إن قوانين الجاذبية الأرضية التي صاغها إيزاك نيوتن ناقصة حتماً ولا يجوز الأخذ بها كقوانين ثابتة في علم الطبيعة، إذ ربما كان هناك مكان على سطح الأرض تسقط فيه الأثقال من أسفل إلى أعلى، وليس في وسع الأستاذ نقولا أو أي عالم من علماء الطبيعة أن يقول إن مكاناً كهذا لا وجود له في مكان ما على سطح الأرض ما دام في الأرض بقاع لم يردها رائد للتثبيت من أن سقوط الأجسام يجري فيها طبق العادة ووفقاً لقوانين نيوتن.
فإذا وجد ذلك المكان أنهدم وانهار أثبت وارسخ ما قام عليه بناء العلم من قوانين.
ونسى الأستاذ أو أغفل ما قاله أنيشتاين في نظريته النسبية وبما أجرى الكثير من علماء الطبيعة من تجارب علمية تنكر ما يسمى بالأثير.
أما أنيشتاين فقد قال إن السرعة النسبية بين جسمين ماديين قد يكون لها أثر محسوس في الظواهر المشاهدة، أما السرعة المطلقة لجسم في الأثير الراكد فلا أثر لها في المشاهدات ولا وسيلة لقياسها، وإذن فلا يجوز لنا أن نفترض وجود مكان مطلق إذا كانت كل الوسائل التي نملكها عاجزة عن قياس سرعتنا في هذا المكان. ولا معنى للقول بوجود أثير راكد إذا كنا لا نستطيع تحديد مقدار حركتنا في هذا الأثير ولا اتجاهها. وعليه يجب أن نعدل عن فرض وجود هذا الأثير المكاني وأن تقول بنسبية المكان.
وثبوت سرعة الضوء حسب (تجربة ميكلش ومورلي) مبدأ أساس في نظرية النسبية وهو قانون من قوانين الطبيعة وهو طبقاً لمبدأ النسبية مستقل عن الزمان وعن المكان وعن الحركة؛ وعلى ذلك فسرعة الضوء يجب أن تكون مستقلة عنها جميعاً.
أحمد محمد خلف
ضدان:(752/54)
الضدان في قانون المنطق يستحيل عليهما الاجتماع، ويمكن لهما الارتفاع ولكنهما في منطق السياسة، يمكن اجتماعهما، ويستحيل ارتفاعهما وهو منطق عجيب غريب. ومن ثم فهو مريب!
ذلك أن الروس والأمريكان، لأول مرة يلتقيان. فينفقان، وإن كان في تلاقيهما معنى الفراق، وفي فراقهما معنى التلاق، فقد اجتمعا. ويا سوء ما اجتمعا، على مشكلة فلسطين بالتقسيم، وإن اختلفت مصلحتهما في الصميم.
فأمريكا تريد أن تحفظ لنفسها بالوشل، عن طريق الدولة اليهودية المنتظرة! وروسيا تريد ان تقيم الدليل على إنجلترا بالفشل، عن طريق الحرب الأهلية المستعمرة. فيا لها من لعبة سياسية، لا شرقية ولا غربية. قد انكشف قناعها، وبطل اجتماعها وارتفاعها أيها العرب، الجهاد بالدماء. والذماء، فانه ليوشك ان يرد المنطق المعكوس، قوة الواقع الملموس.
أسنا
بكير أبو رجيلة
بيت في قصيدة:
في عدد (الهلال) الصادر في نوفمبر الجاري قصيدة للشاعر الكبير الأستاذ على الجارم بك بعنوان (صحوة مصر) استوقفني منها هذا البيت:
وإذا ما الأقوياء انتصروا ... فعلى الدنيا وأهليها العفاء!
إذ كيف لا ينتصر الأقوياء المتراصون كالبنيان والله سبحانه وتعالى في كتابة المنزل يقول (وأعدوا لهم ما استطعتم من (قوة) ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
إلا أن يكون المعنى بالأقوياء (الظالمين) كالحلاف.
(الزيتون)
عدنان
خضراء الدمن:(752/55)
ذكرى في عدد الرسالة الخيرة (إياكم وخضراء الدمن) على أنه حديث نبوي، وأنه من جوامع الكلم.
وقد بسط علماء الجرح والتعديل والقول في هذا الخبر فرأوا أنه إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة، وقال العلامة المحدث العجلوني في كتاب (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما أشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): قال الدارقطني: لا يصح من وجه.
أحمد مصطفى عليبة
رسالة (الفن القصصي في القرآن) والأزهر:
أصدر العلماء المدرسون في كليات الأزهر وفي مقدمتهم الشيخ الشربيني من هيئة كبار العلماء، والشيخ عبد الله عامر وكيل كلية الشريعة، والشيخ عبد العزيز خطاب وكيل كلية أصول الدين، والشيخ محمد أبو النجا وكيل كلية اللغة العربية، الفتوى الشرعية التالية:
(اطلعنا على الاستفتاء المقدم من فضيلة الشيخ عبد الفتاح بدوي المدرس بكلية اللغة العربية عن النصوص الواردة في رسالة الفن القصصي في القرآن المقدمة من محمد أحمد أفندي خلف الله العميد بكلية الآداب، ونفتي بأن هذه النصوص مكفرة يخرج بها صاحبها من دين الإسلام، وإنه متى ثبتت هذه النصوص، فإن مؤلفها كافر، والمشرف على تأليفها المقر لها كافر، ويجب أن لا يتصل أحد منهما بدراسة القرآن الكريم في الجامعة أو سواها، ويجب أن يعاقبا بما تقضي به قوانين المملكة المصرية، لأن عملهما هذا خروج على الإسلام دين الدولة). وقد أرسلت هذه الفتوى إلى المراجع العليا. وقد وجه النائب المحترم عبد العزيز الصوفاني بك سؤالاً إلى معالي وزير المعارف بشأن هذه الرسالة، فطلب معاليه تأجيل الإجابة، وطلب الرسالة من كلية الآداب، وألف لجنة برياسته تضم بعض كبار العلماء وأساتذة الجامعة لدراستها من الناحية الدينية.(752/56)
الكتب
الكتب المختارة:
1 - تأريخ المساجد الأثرية التي صلى بها جلالة الملك فاروق
فريضة الجمعة
تأليف الأستاذ حسن عبد الوهاب
يجود الدهر أحايين بملوك عظام، هم قلائد حسان، يتحلى بهم الزمان. ينسب العصر كله إليهم، ويسمى بهم. وعلى يدهم يبعث العلم، ويزهر الشعر، ويزدهر الفن، فإذا نهضت فرنسة بفضل لويس الرابع عشر، ورفت الحضارة في بغداد أيام الرشيد والمأمون وزهت دمشق أيام الوليد، فإنما تفخر وتنهض اليوم مصر في عهد الملك فاروق.
هذا العصر الذي يرعاه الملك اليوم، عصر نهضة قوية رائعة، بدأ بها محمد عل الكبير، وساهم في تقويتها إسماعيل وفؤاد، واليوم يدفع بها إلى الأمام جلالة الملك فاروق.
إن لديك أمثلة كثيرة عن تشجيع الملك العلم، وأخذه بيد العلماء والأدباء، والفنانين، والكتاب الذب أحدثك اليوم عنه، هو فضل للملك العظيم.
فلقد (استن جلالته سنة حسنة بأدائه فريضة الجمعة في مساجد متفرقة من أنحاء عاصمة ملكه السعيد).
(وخص جلالته المساجد الثرية بعنايته، فأولاها النصيب الأوفر من اختياره. وكان هذا أكبر الأسباب لإصلاحها وإعدادها، إذ تفضل - رعاه الله - فأمر بإصلاح كثير منها).
وقد كان الأستاذ العالم حسن عبد الوهاب، مفتش الآثار العربية في القاهرة، يكتب نبذة تاريخية عن هذه المساجد التي يصلي جلالة الملك بها فريضة الجمعة، ثم رأى جمعها، وشمله جلالة الملك برعايته، فأمر بطبعها على نفقة جلالته.
فهذه الرعاية الملكية، لرجل عالم، عصامي، بذ أقرانه بجده وتنقيره واطلاعه؛ لآية من آيات عظمة المليك، ودليل على روح جلالته المتوثبة للعلم المحبة للعلماء. وتشجيعه مساهمته في هذه النهضة التي يعود إليه الفضل الكبير منها
والكتاب في جزأين. في الأول (مجموعة من المساجد حوت أهمها أكبرها. جمعت بين(752/57)
المسجد الجامع، والمدرسة، والخانقاه، وتنوعت فيها العمارة الإسلامية في عصورها المختلفة بمصر تنوعاً يساعد الباحث على الوقوف على تطور تصميماتها وزخارفها، وتفاصيلها العمارية).
وقد مهد الأستاذ المؤلف كتابه تمهيداً حسناً موفقاً عن نشأة المساجد، وعن أثر الدول الإسلامية التي حكمت مصر في العمارة الإسلامية.
وقد اتبع الأستاذ طريقة جيدة في كلامه على هذه المدارس أو المساجد، فهو يترجم بادئ بدء للباني، وبدلنا على عصره وشأنه. ثم يتكلم على تأريخ المدرسة أو المسجد، فيصفه وصفاً مستمداً من المصادر التاريخية القديمة الموثوقة، ويضيف إليه الوصف العلمي الواقعي، ويعرض عليك التصميم ويحدثك عن الإصلاحات المختلفة التي طرأت على الأثر التاريخي ويستشهد بالكتابات القديمة الموجودة فيه، ويدلك على نواحي الجمال والروعة في بنائه أو عمارته أو ريازته أو زخارفه ونقوشه، وهو لا يغفل عن إيراد أقوال كبار الآثاريين الفرنسيين أو الإنجليز في البناء الذي يتكلم عليه، وعن مناقشتها ببصيرة، إذا كان مجال المناقشة ذا سعة.
أما الجزء الثاني فهو مجموعة صور فوتوغرافية توضح المساجد التي تناولها المؤلف بالبحث في الجزء الأول. وهي مجموعة ذات شأن لأنك تجد فيها (نماذج مختلفة للواجهات والأبواب والقباب والمنارات والمصاريع الخشبية المطعمة بالسن والمكسوة بالنحاس، والزخارف المنقوشة على السن والخشب والرخام والحجر والجص كما أنك تجد فيها أنموذجات من المنابر والمحاريب والوزرات والأرضياب الرخامية، والشبابيك النحاسية، والجصية، والكتابات الكوفية، والثريات مما يساعد الباحث والمهندس على تتبع تتطور العمارة وتدرجها في عصورها المختلفة).
وفي هذا الجزء مائتان وخمس وسبعون صورة.
وقد أردف المؤلف بحثه بذكر المراجع العربية والمراجع الفرنجية التي اعتمد عليها. وجعل لكتابه فهارس علمية مختلفة، كفهرس الموضوعات، وفهرس الأعلام، وفهرس الأماكن.
وقد عنى بإخراج الكتاب عناية فائقة من حيث إخراجه الفني وطبعه وورقه.
إن هذا الكتاب لجدير بأن يقرأ ويقتنى، وجدير بأن يرجع إليه في هذا الموضوع لأن فيه(752/58)
زبدة مطالعات، وخبرة أعوام طوال.
وإن من واجبنا، نحن الذين نهتم بالأمور الآثارية، أن نهنئ المؤلف على كتابه، كما هنأناه على نجاح المعرض الذي أقامه في مؤتمر الآثار بدمشق، وأن ترفع آيات الشكر إلى جلالة الملك فاروق لرعايته العلم، وتشجيعه العلماء، وأمره أن يطبع هذا الكتاب القيم على نفقة جلالته.
2 - بيان عن مشروع ري حمص - حماة
بمناسبة انعقاد المؤتمر الهندسي الثالث، الذي انعقد في دمشق بين الثامن والحادي عشر من أيلول الفائت أصدرت مصلحة الري للمنطقة الجنوبية بدمشق بياناً مفيداً عن مشروع ري حمص - حماة. بينت فيه شأن نهر العاصي وبحيرة حمص، وتأثير الراح في البحيرة، ونظامها، والسد القديم الذي كان فيها، والسد القديم الممتد على طول 1120 متراً الذي صنع لها. ثم تكلمت على الأقنية التي تخرج منها لتروي الأراضي الواسعة الممتدة بين حمص وحماة والتي لا يمر العاصي منها.
والبيان مفيد جيد. وهو يوضح أشياء كثيرة عن هذا المشروع المفيد الجليل. وهو في 16 صفحة مسبوق بمخطط للأقنية التي تروي المناطق، ومردف بست صور من صور تلك الأقنية.
فنشكر لمن أصدر هذه النشرة جهده.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
أطياف
تأليف الأستاذ يوسف السباعي
الولد سر أبيه كما يقولون، وإن هذه الحقيقة لتبدو واضحة الأثر في هذا التوافق الكبير بين (الابن) الأستاذ يوسف السباعي و (الأب) الكاتب الكبير الأستاذ محمد السباعي رحمة الله عليه.(752/59)
كان السباعي الكبير فياض العاطفة، مستوعب النظرة، كثير المداخل، يحاول جاهداً أن يعطيك كل ما في نفسه مفصلاً وهذه هي المظاهر والسمات التي تتجلى في قصص (الابن) ويلمسها القارئ في هذه المجموعة التي أخرجها باسم (أطياف).
وكان السباعي الكبير ينظر إلى الحياة على أنها لعبة ضخمة، ويرى الناس ممثلين، كل منهم يؤدي دوره على المسرح الفسيح ثم يتوارى خلف الستار، وهذه هي أيضاً نظرة (الابن) إلى الحياة والى الناس، وقد صدر مجموعته القصصية بتلك الكلمة المأثورة عن والده (نحن أطياف بملهى لاعب)، وسمى المجموعة باسم (أطياف) ومن العجيب أنك ترى هذه الفكرة تسيطر عليه حتى في تناول القصة ومعالجتها، فهو يقف دائماً وراء أشخاصه ثم يحركهم كما يبدو له، فمرة يدفعهم إلى الأمام، ومرة إلى الخلف وثالثة يلقي بهم في زحمة الحياة وهو واقف كأنه يتلهى بالتفرج عليهم.
وأنت تقرأ في هذه المجموعة قصة جرت على شاطئ الإسكندرية وثانية حدثت في صميم الريف، وثالثة وقعت في محيط أسرة من الأسرة العريقة المحافظة، ألوان مختلفة، وبيئات متباينة، ولكنك تجد صاحبنا في كل بيئة كأنه يقيم فيها، ويقف على أسرارها ومظاهرها، ثم هو لا يكرر نفسه أبداً، كما يصنع بعض الشبان الذين يعالجون كتابة القصة في هذه الأيام، إذ تجد الواحد منهم في كل ما يكتب يسير في طريق واحد لا يتعداه ويقف عند نمط من الوقائع كأنه لا يعرف سواه. . .
ولكن هناك ناحية يلمس فيها القارئ هوة بعيدة بين (الأب) و (الابن) فقد كان السباعي الكبير في أسلوبه قوة وكان يغضب ويثور إذ يقع على خطأ عربي لأحد الكتاب، فيا ترى ماذا كان يصنع لو انه رأى في أسلوب (الابن) ما فيه من مفارقات؟.
محمد فهمي عبد اللطيف(752/60)
العدد 753 - بتاريخ: 08 - 12 - 1947(/)
كتابان قيمان
للأستاذ عباس محمود العقاد
الأستاذان علي أدهم وعبد الرحمن صدقي أديبان من جيل واحد، أحدث سناً من جيل أدباء الشيوخ، وأكبر سناً من جيل الأدباء الناشئين.
فهما قد نشا في إبان النهضة الأدبية الحديثة التي قامت على أسسها الطبيعية وأسبابها المعقولة، وهي الأسباب التي أشار إليها الأستاذ علي أدهم في مقدمة كتابه (ألوان من أدب الغرب) فقال إنها تتلخص على الأغلب الأعم في تلاقي ثقافتين. . . (فالأدب اليوناني القديم لم ينهض إلا بعد احتكاكه بثقافة قدماء المصريين، والأدب الروماني لم يستكمل نضجه إلا بعد احتكاكه بالأدب اليوناني، والأدب العربي نهض نهضته المعروفة وتعددت مناحيه واتسعت آفاقه بعد احتكاكه بالأدب الفارسي والثقافة اليونانية والرومانية، والأدب المصري الحديث يسير الآن في طريق النهوض والتسامي باحتكاكه بالثقافة الغربية خاصة وسائر الثقافات العالمية عامة).
ومن مزايا هذه النهضة التي نشأ الأديبان معاً في أبانها أنها جمعت ذخيرتها من احتكاك الثقافات، فكان لأدبائها زاد من الأدب الأوروبي عامة والأدب الإنجليزي خاصة، فاستفادوا صحة الأسلوب وجودة اللغة، واستفادوا سعة الموضوعات ودقة الأداء، وسلموا من اللوثة الأخيرة الهوجاء التي أعقبت جيلهم أو اندفعت في طريق هي أقرب إلى التفانين أو (التقاليع) كما نقول في لهجتنا البلدية، مع قلة الزاد من اللغة وقلته من الاطلاع.
والأديبان على نشأتهما في جيل واحد، يتجه كل منهما حيث تهديه سليقته ويسلك به مزاجه وملكات طبعه. فالأستاذ علي أدهم أقرب إلى منزع البحث والتفكير والدراسات والفلسفية التاريخية، والأستاذ عبد الرحمن صدقي أقرب إلى منزع الأدب والشعر والدراسات الفنية، وليس أدل على السليقة المنتظمة من أن ترى كليهما يثبت معالم هذا الاستعداد في كل أثر يخرج من لمه ولو كان في حيز المقالة القصيرة، فضلا عن البحوث المطولات، وهكذا كانا في كتابيهما الأخيرين اللذين ظهرا على التوالي منذ أسابيع.
صدر كاتب الأستاذ علي أدهم ألوان من أدب الغرب ثم تلاه كتاب الأستاذ عبد الرحمن صدقي (ألحان الحان) أو سيرة الشاعر العباسي أبي نواس.(753/1)
ففي كتاب الأستاذ علي أدهم تقرأ فصولا عن أدباء من الروس أمثال سالتيكوف وتولسبوي وترجينف وكريلوف، وفصولا أخرى عن أدباء من الطليان مثل ماتزيني وليو باردي وبابيني، وعن أناتول فرانس الفرنسي، وعن أونامونو الأسباني، وعن جيتي الألماني، وعن كارليل وويلز من كتاب الأدب الإنجليزي، وعن مترلنك البلجيكي، وعن مازاريك الشيكوسلوفاكي، وعن لافكاديو هيرن اليوناني الأيرلندي الذي سحرته روح الشرق من العرب إلى اليابان.
فالكتاب بحقٍ ألوان من أدب الغرب كله على تعدد أجناسه وموضوعاته ومناحيه، ولا يخلو فصل من فصوله من فكرة مستقلة ورأي ناضج ووزن صحيح وفهم نافذ إلى اللباب، ويتسع المجال هنا للتمثيل بالكلمات والعبارات وإن لم يتسع للتمثيل بالعبارة المسهبة أو الفصل الطويل.
فمن عبارته التي تشتمل كل عبارة منها على حكم صحيح أو مقياس صادق، قوله عن الهجاءين في عصورهم أن (أكثر الهجاءين والساخرين لا يستطيعون الخلاص من أوهاق عصرهم والارتفاع فوق مشكلاته، ولكن الساخر الموهوب قد يستطيع أن يلمح المعنى الأبدي الخالد خلال ضجة العصر ومعمعان أحداثه) ومنها عن الشعوب والآداب إذ يقول في أحاديث تولستوي: (من الشعوب شعوبٌ آداب الأرستقراطية اشد تأصلاً في نفسها مثل العرب خاصة والأوروبية السامية عامة، ومنها شعوبٌ آداب الديمقراطية أبين في أخلاقها وأعرق في طباعها مثل الشعب الروسي السلافي).
ومنها في المقابلة بين جبابرة الأدب الروسي الثلاثة دستيفسكي وتولستوي وترجنيف أن (دستيفسكي يكثر في رواياته من التحليل ويسهب فيه إسهاباً ويصف أشخاصه من الداخل، وتولستوي تتعاون فيه القوتان: قوة التحليل والوصف الداخلي والقدرة على توضيح المظهر الخارجي ورسم السمات البارزة والخصائص البادية، أما ترجنيف فمجال براعته الوصف الخارجي الدقيق، وهو يكتفي به ولا يسرف في التحليل، والذي يميز ترجنيف عن أرابه من الروائيين الروسيين هو براعته في البناء الروائي، وضبط النسب والتقاسيم، وتوزيع الظلال والأضواء، ووضوح الحبكة الروائية).
وهذه تفرقة بين الأدباء الثلاثة بالغة في الدقة والصدق والإحاطة والإنصاف.(753/2)
ومن عبارته الجامعة التي هي أنسب الحقائق للزمان الذي نحن فيه: (هناك ما هو أسمى من الشعب ألا وهو الإنسانية. وإذا شئت العقل).
ومنها في وصف أدب أناتول فرانس: (قد امتاز أدبه بخير الصفات التي عرف بها الأدب الفرنسي بوجه عام، وهي دقة التعبير وسلاسته، ووضوحه وإشراقه، مع رشاقة اللمسات، والتزام الاعتدال، ومجافاة الغلو والإسراف. . . وهو ساخر بارع يتخذ سخره قالب البساطة والتواضع، فهو لا ينكر الأشياء في عنف، ولا ينتقص أحداً في جفاء وشدة، وإنما يبتسم ابتسامة خفية مهذبة، ويتحدث في رفق ولين).
ومنها عن الأدب الأسباني: (لم تظهر في جنوب جبال البرانس حركة فلسفية ملحوظة أو نهضة علمية مأثورة، ويعلل بعض المفكرين الأسبانيين ذلك بتغلغل الفردية في نفوس الأسبانيين، لأن تلك الفردية المتمادية تعوق تحول الأفكار الشخصية إلى مذاهب اجتماعية. . . ويحاول الأدب الأسباني أن يصف الإنسان من حيث هو إنسان مكون من لحم ودم وأعصاب وعظام، ولا يطيق أن يحيله فكرة باقية).
وقد استطاع الأستاذ أدهم أن يعجب بالساخر أناتول فرانس دون أن يعدى باستخفافه، وأن يعجب بالمتشائم ليو باردي دون أن يتشاءم مثله، وأن يعجب برجال العزم دون أن ينسى فضل التردد في تكوين الأفكار، وتلك علامة واضحة من علامات الفكر المستقل الذي يستطيع أن يفتح نوافذه لجميع جوانب الحياة، دون أن يستغرق في جانب منها أو يعطيه فوق حقه من التقدير.
أما الأستاذ عبد الرحمن صدقي فقد رتب أبا نواس ورتب عصر أبي نواس، فكان في تنسيقه للمتفرقات معيناً على وحدة النظر إليها، وتقريب أسباب النظر فيها والحكم عليها. فتكلم عن الحانات في عصر الشاعر بين عامة وخاصة، وتكلم عن مجالس الشراب في الأديرة والقلايات، وعن الغزل والسماع، وعن ملاهي مصر والشام والعراق ومنها حرب الأزهار. وشفع التاريخ بالشواهد الشعرية من ديوان أبي نواس على الأكثر ومن دواوين بعض الشعراء الآخرين حيناً بعد حين. فيقال بحق أن أبا نواس في ملاهيه وخمرياته يعرف من هذا الكتاب كما لا يعرف من كتاب غيره. وقد أخذ الكاتب نفسه بهذا الغرض دون غيره فقال في صدر كتابه: (هذه صورة شاعر من أكبر شعراء العربية في ساعات(753/3)
لهوه، وما كانت لتغنينا لولا ما أوحت إليه من روائع فنه. فإذا نحن قصرنا القول هنا على مجالس شرابه، ومن حوله غلمانه وقيانه، فذلك أن الخمر كانت عروس شعره، بل هي شيطانه).
وقد وفى الكتاب بهذا الغرض من ناحية الترتيب والتبويب على الخصوص.
والذي يطلب منا أن نلاحظه عرضاً في سياق التعقيب على (ألحان الجان) أن مؤلفه الأديب تجاهل كل رأي لنا في موضوعات كتابه ولا سيما رأينا في خمريات الخيام وخمريات المعري وعلاقتهما بخمريات أبي نواس، مع أنه يعلم هذا الرأي حق العلم ويقرر فحواه كل التقرير، وهو أن سكر الخيام هرب من مشكلة فلسفية، وأن سكر النواسي عكوف على لذة حسية، وقد عقد لهذه المقارنة فصلاً خاصاً في كتابه، وأتبعه بفصل عن المعري وما قاله في الخمر، وحرص على رد الآراء إلى أصحابها في الهوامش وثبت المؤلفات، ولعله قدر أن الإغضاء عن ذكر (العقاد) يرضي أناساً كان إرضاؤهم يومئذ مما يعنيه.
إلا أننا نشير إلى هذا التجاهل الذي لا عجب فيه لنقول إنه ينفعنا ولا يضيرنا، فلا يقولن قائل مع هذا أن العقاد يعطي فوق حقه من معاصريه، بل به - أو عليه - أن يقول: إن حقه قام على رغم الجهلاء والمتجاهلين، وأنهم لو استطاعوا لأنكروه، ولكن إنكاره بحمد الله مما لا يستطاع.
عباس محمود العقاد(753/4)
بعد قرار التقسيم:
القول للسيف ليس القول للقلم!
الأستاذ علي الطنطاوي
لو كان للكلام الآن مكان لقلنا فبذذنا القائلين، ولبعثناها في الأرض
مقالات تشتعل ح خفها ناراً وتتفجر كلماتها قنابل، ويكون منها براكين
تنفث الحمم ونحن (العربَ) أقرت لنا الدنيا بأنا ملوك المقال، وألسنة
البيان، كما أقرت لنا أننا أرباب الفعال، وأبطال الميدان، ولكن عهد
الكلام قد انقضى، وستسمع الدنيا غداً عنا، كما سمعت منا، أحاديث
تشيب النواصي، وتحرق فؤاد العدو، وتحير من هولها ذوي الأحلام،
وسترى الدنيا أن الذي نهدد به القوة التي خبأها الدهر في أعصابنا،
والتي صنعها لنا ميراث آباء صدق، في عشرة آلاف معركة مظفرة
خاضوها، ومائة ألف قاعة منيعة اقتحموها، وألف ألف روح طاهرة،
في سبيل الله والحق أزهقوها - حقائق، ليست خطابيات تسود بها
الصحف، ويتسلى بها القراء.
ولئن أخذت الأيام السلاح والمال منا، فوضعتهما في أيدي عدونا، فما أخذت منا إيماننا ولا مضاءنا، ولا سلبتنا عزتنا ولا نبلنا، ولا بدلت جوهرنا، ولا جعلت عدونا مثلنا، لأن الجبان الشاكي السلاح، لا يغدو بالسلاح بطلا، والبغل المحلّى سرجه بالدر لا يصير بالدر جواداً. . . والأمم الواغلة على المدنية، العابثة بالمبادئ الإنسانية، المتخذة العلم ذريعة إلى التدمير، والفن وسيلة إلى الفساد، ليست مصل الأمة التي حملت وحدها أمانة المدنية دهراً طويلا، فما عرفت يد آمن عليها، وأنفع لها، من يدها: أخذت المندل فنقّت روضة الحضارة من الأشواك، ثم مهدتها وحرثتها وشقت لها الجداول، وأقامت لها السدود، وسعتها الماء عذباً نقياً، حتى إذا بسقت أدواحها، وامتدت ظلالها، وملأ الِجواء ريَّا زهرها، وانتشى الناس(753/5)
بخمرة عطرها، وارتووا بعصير ثمرها، وعاشوا بوافر خيرها، سلمناها إلى هؤلاء. . . المتمدينين. . . ليحفظوها للأجيال الآتية، فلم يكن منهم إلا أن رموا عليها قنبلة ذرية. . .
وماذا تصنع القنبلة الذرية؟ إنها تميت ولكنها لا تحيي، فهل عندهم قنبلة أخرى تحيي هذه الحكومة اليهودية التي ماتت من ألفين وخمسمائة سنة، وتعيد إليها الروح، وإذا هم استطاعوا اليوم إقامتها وتسنيدها بالأخشاب حتى تبدو كأنها حية، ولن يستطيعوا، فهل يبقون معها دائماً يحمونها أن يبتلعها هذا اللج العربي الذي يحيط بها، أو تهدمها موجة عاتية من موجاته، فتأتي عليها من القواعد؟. . . أفلم يفكروا في هذا؟
أنا أسمع من زمان أن السياسة لا أخلاق لها، ولكني لم أعلم قبل اليوم أنها لا عقل فيها. . . ولا حياء!
أفلا يستحي هؤلاء (المحترمون) أعضاء هيئة الأمم المتحدة أن ينكروا بالأمس على هتلر أنه سلب حقوق اليهود فأعطاها الألمان، وأنه أراد العلو في الأرض بغير الحق، وأن يثوّروا عليه الدنيا، دفاعاً عن الحق وعن الديمقراطية، ثم يجيئوا اليوم فيفعلوا ما لم يفعله هتلر، ولا موسوليني. وما أدافع عن الملعون موسوليني، ولكن أقول إنه كان كالذئب يقتل الخروف ليأكله ويتغذى به، لذلك عدا (لا رحمه الله) على طرابلس، أما هؤلاء فيعتدون ليغذوا غيرهم، ويبيعون دينهم بدنيا سواهم!
أو لا يعقلون أيضاً؟! ولا يخطر على بالهم أنه ربما نشأ هتلر آخر، يكون اسمه ستالين مثلا، وربما احتاجوا أن يثيروا الناس عليه مرة ثانية باسم الحق والإنسانية وميثاق الأطلنطي. . . فهل يجدون في الأرض مغفلا واحداً يصدقهم، بعد الذي رأى منهم؟
أو لا يعتبرون بما انتهى إليه هتلر، ومن قبل هتلر نابليون، ومن قبلهما كسرى وقيصر، وكل طاغية جبار؟ فهل دامت الدنيا على أحد حتى تدوم لهم؟ أهم أشد سلطاناً في الأرض من الإسكندر، وتيمورلنك؟ لقد كان الاسكندر، وكان تيمور بطلين ليس أمامهما كفوٌ لهما، وهؤلاء مهما قويت كل دولة منهم، فإن لها أكفاء هم أعداء في ثياب أصدقاء، وسيضرب الله بعضهم ببعض، ويريح الإنسانية منهم ومن حضارتهم، ولا يبقى منهم إلا أخباراً يقرؤها غداً تلاميذ المدارس، فيعجبون من أصحابها ويلعنونهم عليها. وهذا أمر محقق وإن كان يبدو الآن كالخيال.(753/6)
أو لا يفكرون أنه لو اتخذ مثل هذا القرار ملك عات من ملوك الحكم المطلق، أو أمير ظالم من أمراء القرون الوسطى في أوربة، لفضحه كتاب التاريخ، وقالوا، لص يأخذ مال زيد ليعطيه لعمرو، وقالوا، مجنون نجود بما لا يملك، ولملئوا صحائفهم غيرة على الإنسانية وحقوق الإنسان. فلماذا يخرسون الآن فلا ينطقون؟ لماذا لا نسمع من أوربة وأمريكة، أصوات من يدعون أنهم أنصار الحق , أن أقرمهم للإنسانية ليست لفرد ولا لشعب؟
لقد غضب أميل زولا لدريفوس، فقالوا إنه رجل الحق والإنسانية، وصدقنا ما قالوا، فلم لا نلقى اليوم في الغرب كله زولا واحداً، يغضب لأمة بقضها وقضيضها، تزاح عن مكانها وتطرد من أرضها، ليحل اللص الواغل عليها في محلها، وتشترك في هذه المؤامرة الدنسة أمم الغرب كلها.؟
لماذا يخرسون الآن؟ ألأن الظلم صار ظلماً منظماً؟ ألأن قطاع الطرق تركوا الجبال والمغور وجلسوا في (ليك سكسس) ألأن محكمة التفتيش صار اسمها (هيئة الأمم المتحدة)؟ ألأن الجزارين أميركا وروسيا وفرنسا، والشاة فلسطين؟
خسأتم يا حلفاء الشيطان. . والله ما فلسطين بالشاة ولكنها القنفذ، على ظهرها الشوك، إنها السكين المشحوذة ذات الأربع شُعب، إنها زجاجة السم الناقع، فليتقدم لابتلاعها من شاء أن ينتحر. . .
لا، ما نريد أن نتكلم. ولو أردنا الكلام، لدمغنا جباه هذه الأمم التي أقرت التقسيم بأربعمائة مليون لعنة، تلفى التاريخ بها غدا، وتلقى الله بعد غد، وهي مخزاة لها، وعرَّة في جباهها ولكنا نريد العمل.
ونحن نعترف أننا لا نملك مثل أموال اليهود، ولا مثل أسلحة الأميركيين ولكنا نملك سبعين مليون روح، نريد أن نزهقها كلها، أو ندفع عنا هذا الضيم الذين تريدنا عليه أميركا وروسيا، فهل عندكم من القنابل الذرية ما يكفي لقتل أربعمائة مليون؟
أما نحن فإن عندنا من القوة ما ندمر به كل شيء لكم في بلادنا. . بضائعكم ومصالحكم ومدارسكم (وسمعتكم) فلا تستطيعون أن تأخذوا بعد اليوم بترولنا لتحرقونا به، ولا أموالنا لتحاربونا بها ولا أولادنا لتجعلوهم أعداء لنا، ولا تجدون فينا بعد اليوم من يسبح بحمدكم، ونحن نصلى بناركم.(753/7)
لقد خدعنا بفرنسا أولا، حتى فزع إليها الزعيم مصطفى كامل وحسب أنها أمة الحرية حقاً، وأمة حقوق الإنسان. . وخدعنا بإنكلترا ثانياً حتى ترك الملك حسين إخوانه في الإسلام وحلفاءه في المعركة، وانحاز إلى العدو، وفعل فعلته التي فعل. . .
وخدعنا بأميركا ثالثاً ومبادئ ولسن، وميثاق الأطلنطي. وخدعنا بروسيا رابعاً، والمبادئ الشيوعية المثالية التي تجعل الأرض جنة للفقراء. . فذقنا وبال ذلك كله علقماً مراً، ثمالة كأسه تقسيم فلسطين فلن نخدع بهم بعدُ أبداً، كفرنا بهم كفراً صريحاً لا تأويل له، ولا شبهة فيه، ولا رجوع عنه. كفرنا بكل شيء غربي، إلا الأدب الإنساني والعلم التجريبي، فما فيها شرقي ولا غربي. كفرنا بموسكو وواشنطون، ولندن وباريس. . حين رأينا أنه لم يكن معنا من الأمم يوم التقسيم إلا أمم الإسلام وأمم كاليونان والهند حكمه المسلمون ورأت جمال الإسلام، أفليست هذه حرباً صليبية دينية؟ اليس أولئك هم المتعصبين حقاً، ونحن المساكين نتهم بالتعصب، لأننا (من حماقتنا) نقول أننا متعصبون ولا نتعصب. . . وهم يتعصبون ولكن لا يقولون. . .
أنا لا أقول في هؤلاء المؤتمرين بالحق والعدل شيئاً، ولو أننا قلنا فيهم أقبح المقال، لما جزنا عن القصد، ولما حدنا عن الصدق، ولا نقول إن العرب لا يقر لهم قرار، حتى نيمحوا بدمائهم هذا (القرار)، ويطهروا ديار الشام من أقذار الصهيونية، وينظفوا منازل العربية من أوضار الاستعمار الظاهر منه والمستتر. لا، ولا أقول: سنفعل، ولكن سأقول: فعلنا. . . ولقد جاءت الأخبار بأن العرب شرعوا بالعمل، وهذي طلائعه بدت من دمشق، ودمشق قلب العربية، من القلب ينبثق دم الحياة إلى الرأس والجوارح والأعضاء. . .
هذي طلائعه وأوائله، وأول الغيث قطر ثم ينهمر!
ولست أفخر بأن دمشق ثارت، فما هي بأولى ثوراتها على الظلم، ولا بأنها سبقت عواصم العرب كلها، فدمشق أبداً السباقة إلى كل ما فيه إعزاز العربية الدفاع عنها، ولكن أفخر بخمسة أمثلة ضربتها دمشق أول أمس، فيها للعرب هدى ونور!
أولها: أن دمشق أدركت أن دعوى المساواة في الشيوعية كاذبة، كدعوى العدالة في الديمقراطية، وأنهم كلهم أعداء لنا يأتمرون بنا، ولصوص يتفقون علينا، وذئاب تجتمع على نهش لحومنا، وشرب دمائنا، فدمرت دار الحزب الشيوعي بعدما رأت فيها يوماً كيوم(753/8)
مارس 1945.
ففي مارس كانت النار تطلق على أطفالنا ونسائنا من نوافذ دار البعثة الفرنسية في (الشهداء) بأيدي الفرنسيين وأذنابهم حمير الاستعمار، أذناب موسكو.
وثانيها: وهذه خلة في دمشق لا توجد في غيرها، أن الأحزاب كلها اجتمعت أمس على اختلافها، وتقاربت على تباعدها، فلم تبق في دمشق حزبية، أن الحزبية في مثل هذا اليوم تعد في الشام خيانة وطنية.
وثالثها: أن الحكومة كانت مع الشعب، وأن رئيس الجمهورية خطب في الشباب والطلاب يدعو هو إلى الجهاد، ولا عجب فقد كان شكري بك القوتلي الوطني والمجاهد مقارع الاستعمار قبل أن يصير فخامة السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية.
وأنه خطب مثل ذلك رئيس الوزارة السيد جميل مردم، ووزير الداخلية السيد محسن الرازي، ووزير المعارف الصديق السيد منير العجلاني، وأن ثلث نواب المجلس تطوعوا مع المطوّعية لنصرة فلسطين وأنها لم تسق كتائب الشرطة وفرق الجنود، لضرب وجوه المتظاهرين، وسد الطرق عليهم، وكل ما صنعته الحكومة أن حاولت منع الناس من الأذى، فلما رأت أن الحماسة طاغية وأن المنع لا يكون إلا بإيذاء الناس لم تستطع أن تحتمل مقالة التاريخ عنها؛ (إن حكومة فلان وفلان، ذبحت شباب البلد لأنهم خرجوا يدافعون عن فلسطين) وما في الشام رجل واحد يرضى أن يكون رئيس وزارة، وأن تنسب إليه هذه المعرَّة!
وكان أجمل من ذلك كله. أ، فقررت الكحومة حل الحزب الشيوعي، ومحو هذه البقعة النجسة عن وجه دمشق وطرد الموظفين الشيوعيين، وكانت حسنة من حسنات (المحسن).
ورابعها: أن دمشق أغلقت ملاهيها وسينماتها إلى أجل غير مسمى أن الأمة التي تجدّ حقاً في جهاد هو لها مسألة حياة أو موت، لا تفكر في تسلية ولا لهو، وإن هي فعلت كانت أمة لاعبة كاذبة.
وخامسها: أنها جمعت البضائع الصهيونية، والأفلام الأميركية، وأحرقتها في الشوارع لأنها عرفت أننا إن شتمناهم ونحن نروج بضائعهم ونشتري أفلامهم نكون قد أيدناهم وقويناهم، وأضحكناهم على أنفسنا.(753/9)
وبعد فلن يصل عدد (الرسالة) إلى أيدي القراء، حتى يكون هذا الجديد الذي أحدث به عن دمشق قد صار قديماً، وحتى نسمع عن القاهرة ودمشق وحلب وبغداد والموصل ومكة وعمان والمغرب أدناه وأقصاه وأقطار الباكستان وإندونيسية أخباراً أجل وأعظم، ثم نسمع من فلسطين الخبر الذي يأكل الأخبار. . خبر الانتصار، وتحرير الديار.
ولن تقوم للصهيونيين دولة في فلسطين، ما دام المسلمون في الأرض والله في السماء.
على الطنطاوي(753/10)
وطن الأحرار في سوق العبيد
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
وقعت الواقعة، وحدث المستحيل: اتفقت روسيا مع أمريكا، لا على صيانة سلم العالم وأمنه من خط المنافسة بينهما وتوسيع كل منهما لنفوذه على حساب استقلال الأمم الصغيرة، ولكن على تقسيم (فلسطين). وكأن كلا من هذين العملاقين قد شعر بأن فلسطين الصغيرة، العربية الأبية، لن تخضع له منفرداً، فآثر أن يتفقا معاً تجاوزاً عن خصومتهما التي ملأت أسبابها كل بقعة على ظهر الأرض بدلا من الاعتراف بالعجز والتراجع أمام الإباء العربي والمقاومة الإسلامية. فإن كان في ذلك معجزة فليس بغريب أن تأتي فلسطين بالمعجزات، وإذا كانت فلسطين الصغيرة قد حققت تلك المعجزة بفضل تضامن العروبة معها؛ وهي بعد لم تبدأ المقاومة العملية والتجربة الدموية التي تتأهب لها، فإن العالم سيشهد قريباً لبطولتها جهادها بالمعجزة الأخرى؛ هي أن تنتصر إرادة هذا الشعب العربي الصغير الأبي على خطط الصهيونية وحليفيها العملاقين مجتمعين. وإذا كتبت فلسطين صحائف جهادها بدماء أبطالها، وسجلت العروبة تضامنها بنجدة شبابها، فإن قوى الأرض مجتمعة لن تنال من وجودها واستقلالها، ولو اتفق على ذلك الروس والأمريكان.
إيه يا فلسطين لا تيئسي ولا تترددي، ولا يقولن دعاة الذلة والاستكانة ماذا نفعل أما جحافل الشرق الروسي والغرب الأمريكي، وأين لنا بالقوة التي تحبط بها إرادة (الأمم المتحدة) فما تلك إلا حجة لجبان يبخل بدمه على مواطن الشهادة، وبراحته على متاعب الجهاد. أما سليل البطولة ومن تجري في دمه عزة العروبة فإنه يعلم أن هذا (الاتفاق) بين أنصار الباطل إنما هو وهم وتضليل يقصد به إرهابك وإضعاف عزيمتك، أملاً في أن ينصرف شعبك عن المقاومة ويرغب في الاستكانة. فإذا أنت تشبثت بعروبتك وصممت على الجهاد في سبيل استقلالك فستنهار كل هذه (الاتفاقات) وتتحطم هذه المؤامرات في ميدان العمل ولعمري إنه ليس بغريب أن اتفق الروس والأمريكان هذه المرة؛ فمن ذا الذي لا يتفق على اقتسام شعب لا يقاوم؟ ومن ذا الذي لا يتفق حتى مع عدوه على اقتسام غنيمة باردة، ما دام يظن أنها لن تكلفه شيئاً؟ ولكن مثل هذه الاتفاقات الرخيصة ستذوب وتتلاشى، وسترين أن دماء أبنائك كفيلة بمحوها متى أيقن العالم أن إرادتك قوية وأنك عازمة على الدفاع عن(753/11)
حقك بالدماء.
إيه يا فلسطين، أيتها العربية الأبية، إن هذا الاتفاق الذي يعلنه الصهيونيون نصراً لهم، سيعمل دعاتهم ما استطاعوا ليوقعوا في روع شعبك الباسل أن الأمر قد قضي ولا سبيل إلى المقاومة؛ والحقيقة أنك قد ارتفعتِ بهذا الأمر وشرّفت به، وإن كل أمريكي من المائة مليون الذين يسكنون الولايات المتحدة ليعلم اليوم أن بلاده قد أقدمت على تضحية كبرى باتفاقها مع الروس هذا الاتفاق، وهو يعرف لماذا أقدمت بلاده على هذه (التضحية) إنه يوقن أنها فعلت ذلك اعتقاداً منها أن ذلك سيجنبها عبء الاصطدام بالمقومة العربية التي لا تريد مواجهتها وقد أوهمها سماسرة الصهيونية أن هناك شيئاً واحداً يجنبها هـ1االصدام، وهو أن يصدر قرار قانوني من (الأمم المتحدة) ولابد لذلك من رضاء روسيا، فلتحصل عليه بأي ثمن. فانظري يا فلسطين الصغيرة أي ثمن تدفع أمريكا لتتفادى مواجهة مقاومتك وحدها وهل تظنين أن أمريكا كانت تقبل أن تنتظر موافقة روسيا لتفعل شيئاً لو كانت استطاعت أن تفعله وحدها؟ فما بالك إذا أصبحت مقاومتك حقيقة واقعة، وأرادت روسيا أن تطالب بنصيبها في (العمل) مستعينة في ذلك بسلاحها التقليدي (الفيتو)؟ قسما إن أمريكا تفضل حينذاك أن تهدم (الأمم المتحدة) بدلاً من قبول ذلك. . .
إيه يا فلسطين العزيزة، إنك ستحققين هذه المعجزة، وإن أبناء العروبة ليتحفزون للتضحية رهن إشارتك، ويدفعهم إيمانهم بالمثل العليا والمبادئ السامية التي سيكافحون من أجلها، غير عابئين بدعاة الذلة واليأس، الذين يتخذون من (الواقع) حجة لبذر أسباب الجزع والاستكانة، وإن لهم شياطين تعلمهم وتغذيهم بمنطق خادع مضلل، إنهم ليقولون: كيف تطلبون الإنصاف من عالم لا يعرف الإنصاف، وتنتظرون العدل من دول لم تؤسس إلا على الظلم، وبماذا تتسلحون؟ بقوة الروح وعزة النفس في ميدان لا يعرف إلا عدة الحرب وقوة السلاح. والواقع شهيد بذلك، فالأمم الصغيرة تباع اليوم في أسواق السياسة بيع الرقيق، وتعرض في مؤتمرات الاستعمار ظاهرها وخفيها عرض السلع. لقد قام مقام الرق الفردي رق جماعي هو الاستعمار بطل صوره من حماية أو وصاية أو انتداب، هو الرق الأوربي الذي ابتدعه شياطين السياسة ليتحكموا به في رقاب الأمم والشعوب. ألا ترون أوطانكم التي بيعت في هذه (الأسواق) السياسية واحداً بعد الآخر؟ وما (الأمم المتحدة) إلا(753/12)
سوق جديد من أسواق الرقيق، فإذا استطاع الذهب الصهيوني والنفوذ الأمريكي أن يتما الصفقة، وأن يملك اليهود فلسطين كلها أو بعضها، فقد ضاع الحق ولا سبيل إلى استنقاذه، وتأيد الظلم، وما هو بجديد. . .
ألا وإننا نرى الواقع ولكن بغير عين الجبناء الأذلاء. ونعلم منه ما هو أشد إيلاماً وأبلغ بياناً، نذكر أن الذين باعوا فلسطين، والذين يساومون على برقة وطرابلس لم يدخلوها فاتحين وإنما دخلوها حلفاء لأهلها، أصدقاء لشعوبها، بذلوا لهم الوعود وقدموا لهم العهود والمواثيق، فاطمأنوا إليهم وأمنوا لهم، حتى إذا انتهت الأزمة، وزالت عنهم الحرب، نقضوا العهود وتناسوا الميثاق، وباعوا إخوانهم في السلاح وأعوانهم في الكفاح، لا بيع غالب لمغلوب، ولا قاهر لمقهور، ولكنه بيع الصديق للصديق، وغدر الرفيق بالرفيق ووضع القيد في يد الحليف دون العدو. بلك والله الكبيرة التي لا يأتيها الوحش في الغابة ولا يجيزها حتى قانون الذئاب المفترسة، ولكن يأتيها الأوربي المتمدن ويعاملنا بها الإنجليز الحلفاء. . .
فما هي القوة إذن، ولكنها الخيانة والغدر، وإذا باع الحليف حليفه، واسترق الرفيق رفيقه، فإنما يبيع أولا شرفه وكرامته، ويخلع عن نفسه آدميته. فإذا وُجد في القرن العشرين دول تقوم على هذه الخطة وتثرى من هذه التجارة، فهو انحطاط جديد في الإنسانية قد أصيب به الأقوياء الذين يرضون أن ينزلوا بنفوسهم إلى أحط درجات الإنسانية، وأصبحوا هم أنفسهم عبيداً لأطماعهم وشهواتهم، ولا يغير من هذه الحطة وتلك الذلة التي يمارسونها أن كانوا في يوم من الأيام أقوياء، وأن تمكنوا بسبب هذه القوة من احتراف ذلك النوع الجديد من (النخاسة) والاتجار بالأحرار، وإذا كان الرق قد ألغى إلى غير رجعة، وعلت إرادة الإنسان أن تخضع لسيد مهما يكن، فإن أشد البلاء أن تصيب النكسة قوماً كانوا أول من دعا لإلغائه، ولابد لهم أن يفسروا لنا قيام هذه الأسواق الاستعمارية التي يمارسونها، وأن يقروا معنا أن العبودية وقد انتفت عن الأمم جميعها، متى أرادت ذلك وصممت عليه، فإن وصمتها تمكن أن تلقى على عصابة النخاسين الذين يمارسون حرفة قد أبطلتها الإنسانية ومبادئها السامية.
أيها الأحرار لم يعد بينكم وبين الحرية إلا عزيمتكم وإرادتكم وما العزيمة إلا البذل(753/13)
والتضحية والاستشهاد. لن يضيركم تلك الصكوك الزائفة الباطلة التي يعدها سماسرة (الأمم المتحدة) متى أعلنتم إرادتكم وقوتكم، وستحول دماؤكم هذه الصكوك إلى قصاصات حقيرة وتضعون حداً لهذه المهزلة التي تمثل على مسرح (ليك سكسس) والتي يراد بها بيع وطنكم فلسطين، بيع الرقيق، فإن العالم لم يعد يقر بعد اليوم أن يباع وطن الأحرار في سوق العبيد.
توفيق محمد الشاوي
مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول(753/14)
الأحلام الناجحة
للأستاذ عبد العزيز جادو
(س) فتاة ناهزت الخامسة والعشرين، وإنها لكالزهرة الناضرة في الروضة اليانعة، ترفل في صحة ضافية، وتزدهي بجمال فتان. وكان من نعمة الله عليها أن خلّى الله لها والديها يستمتعان بميسرة في العيش وبهجة في الحياة. وإذ كانت الآنسة (س) من خريجات الجامعة المتفوقات، فقد أبت أن تركن إلى الدعة وشاءت أن تشتغل معيدة في الجامعة، فوجدت في عملها هذا لذاذة وأقبلت عليه في شوق.
وما هي إلا أيام حتى تغير كل شيء، فانهارت صحتها، وكثر تغيبها عن عملها، بعذر وبغير عذر، وعاد شبابها البهيج وجوماً وانقباضاً.
ولما بحثت حالة هذه الفتاة، تبين أنها نتيجة حلم.
ولقد سرّها أن ترى الحلم أول مرة على ما فيه من إبهام وغموض، ولكنه لما تكرر ليلة بعد ليلة أفزعها وأرعبها، وحاولت جهدها أن تنفيه عن ذاكرتها أثناء ساعات نومها، ولكن بدون جدوى.
وبدأ الحلم أول مرة كأنما هي في صحراء موحشة، وبينا هي تكافح في سبيل بلوغ الطرف الآخر من البادية، حيث تعرف أن هناك شراباً ووسائل للترفيه، إذا بها ترى أن الرحلة طويلة شاقة، وإذا بالشمس اللاذعة تتسلط على رأسها وقفاها وليس لها من دونها حجاب. وكانت (س) تلهث من فرط العطش والتعب، وكل خطوة تخطوها في ذلك القفر تشعرها كأنها تقتلع صخراً بأقدامها. وأخيراً بلغت الواحة، وهنا بدأ الجزء المفزع في الحلم، فقد كانت المياه تترع الأنهار وتنصب في الشلالات، ثم تكون بركا عميقة في كل جانب، فأطفأت الفتاة عطشها بأن شربت جرعة، غير أنه كان يبدو إلى جانبها شخص في هيئة الشيطان يهيب بها في صوت عال ضاحكا: (اشربي! اشربي!) ولم يكن بالفتاة حاجة إلى الشرب بعد ما استوفت واكتفت، ولكنها أرغمت على اللعب والاكتراع حتى صار الماء يتدفق ثانية من شفتيها، ومع ذلك فهي مرغمة أبداً على الشرب. وأخيراً وجدت نفسها تسبح في مجرى مائي أسود اللون، ومع إشرافها على الغرق فإنها لا تغرق.
وهكذا تكرر الحلم ليلة بعد ليلة، حتى أمست الفتاة في حالة تدعو إلى الرثاء.(753/15)
ولما عرضت الآنسة (س) على أحد الأطباء النفسانيين، وبحث حالتها بحثاً شاملا، وجد أن إلى جوار المنزل الذي تسكن فيه غدير ماء كان موضع بهجتها في طفولتها، ولكنها الآن تخشاه، ولو أنه أصبح جزءاً من حياتها يلازمها في رواحها ومغداها وهذا ما تمثل لها في قول الشيطان: (اشربي! اشربي!).
فإذا خلينا حالة هذه الفتاة الشابة جانباً، وعالجنا الأحلام من جانبها العلمي، وجدنا أن بعض الناس يفتخر بأنه لا يرى في نومه حلماً؛ ومع ميلنا لتصديق هذا الزعم، إلا أننا نعتقد أن مثل هذا الشخص به ضعف في الذاكرة، فنحن لا يمكننا في كثير من الأحيان تذكر الأحلام بجملتها.
ويعتقد كثير من الناس أن الأحلام إنذارات بما ستأتي به الأيام من حوادث. وكتب تفسير الأحلام التي تباع في الأسواق بكثرة تستوقف النظر، والتي تفسر كل حلم على حدة، إنما تعالج الحلم ودلالته المستقبلة.
وأقطاب علم النفس اليوم لا ينكرون أن للأحلام معالم دالة على المستفبل؛ ونحن لا ننكر أن للأحلام تنبؤات، وإن كانت الأحلام في الغالب أشباحاً من الحاضر والماضي.
ويخبرنا النفسانيون فوق ذلك أن الأحلام تندرج بين تجاربنا الطبيعية الضرورية لحياتنا، وأنها تعبير عادي من تعبيرات العقل لا ضرر منه أكثر من الضرر الذي ينجم عن الطعام أو التنفس أو النوم ذاته.
وقد وضع الدكتور سييجموند فرويد منذ قرابة أربعين عاماً نظرية عن الأحلام سماها (نظرية الحراسة). وقصارى هذه النظرية أن النوم ضرورة جوهرية للجسم الصحيح، وأن العقل ذاته يفعل كل ما في مكنته ليتحقق من أن الجسد يأخذ حظه المقسوم من النوم المريح؛ وفي أثناء النوم يلزم العقل الواعي أن يكون في راحة تامة، بيد أن العقل الباطن يظل مزاولا وظيفته خلال النوم من غير أن يوقظ النائم. والعقل الباطن يختزن في أعماقه حوادث وذكريات اليوم الماضي، كما يختزن في قرارته ذكريات الأحداث القديمة التي نسيها تماماً العقل الواعي. ذلك أن العقل الباطن لا يعرف النسيان، وهو في كل لحظة على أهبة أن يبدي للعقل الواعي ما قد نسيه. ولو أن الأحداث التي تمر بالعقل الباطن خلال النوم طافت بالعقل الواعي، إذن لأرّقت النائم ونفت عنه الراحة. لذا أخذت الطبيعة حيطتها(753/16)
ضد هذا الخطر وقدّمت لنا الأحلام. وميكانيكية المخ هي التي تشكل الأحلام في صورها المختلفة، فطوراً تكون شائقة أخاذة، وطوراً مفزعة مرعبة.
على أن الأحلام كيفما تكن حالتها إنما في حجاب وحفاظ على النوم، وفي الصباح تبدو الأحلام مضحكة ووهمية كما تراءت في أشباحها وخيالاتها، ولكنها تعدّ ناجحة لأنها حفظت راحة الجسم وأدَّت وظيفتها المثلى.
والعلم الحديث يقسم الأحلام إلى ثلاث درجات:
الأولى: تختص بالأحلام التي تنجم عن اضطرابات في الغرفة التي ينام فيها النائم. فلو أن صنبور المياه القريب من حجرة النائم اختل وبدأ يساقط نقطا لها صوت؛ أو أن الوسادة التي تحت رأسه تكتلت وغلظت، فإنه في الحالة الأولى يطالع في حلمه مشهداً ريفياً بهيجاً، ويسمع ترنيم الطير على الأشجار. ويحلم في الحالة الأخرى بأنه يتسلق جبلاً ويستمتع بجمال قمته. فالحلم في الحالتين يؤدي وظيفته في حفظ الجسم مستريحا، وكأنه يقول في المرة الأولى للنائم (لا تستيقظ! ليس الأمر أمر صنبور المياه، ولكنها الطيور تغني!) وفي حالة الوسادة الخشنة يقول الحلم للنائم: (إنما أنت تتسلق صخوراً لتصل إلى القمة بعد قليل فتسر بمنظر جميل فلا تكترث!) وعندئذ يكون الحلم ناجحاً وموفقاً.
الثانية: تنشأ من حوادث اليوم الذي مرّ بالنائم. فلو أن أمراً جازت به في يومه أحداث غير سارَّة، فقد يرى في نومه أن رجل البوليس يضرب أحد المارَّة مثلاً. ويقول لك حلمك الحارس: (إنها مشاجرة تافهة، فامض في نومك مطمئناً!).
الثالثة: وهي أهم مما تقدم جميعاً - يستيقظ العقل الباطن في غضونها مستعيداً الأحداث المطوية في ضمير النائم. وتقوم ميكانيكية الحلم هنا بمساعدات ودَّية لاستمرار النوم، إذ تلوح للعقل بأنه يقفز فوق قنن الجبال أو أسطح المنازل أو يعبر المحيطات ومن ثم يسخر ممن هم دونه في القوة. هذه الأحلام تنصح للنائم بالا يبالي بما مرّ به من عقبات وصعاب، أو بما سيجيء به الزمان من مكابدة ومشاق، ولهذا يمنح قوة خارقة تجعله يستنيم إلى الراحة فلا يستيقظ. . .
فالأحلام تعدّ موفقة وناجحة إذا هي أفلحت في حفظ النائم نائماً فلا يفيق من غفوته قبل استيفائه قسطه من الراحة كاملاً.(753/17)
ولنعد الآن إلى حكاية الآنسة (س) التي صدرنا بها هذا البحث فنقول إن الأخصائي الذي حلل الفتاة نفسياً، أثبت أن للفتاة عمة انتهرتها ذات مرة لأنها تشرب الماء بطريقة غير مألوفة أثناء تناولها الطعام حتى أنها أصيبت بعسر هضم، الأمر الذي اضطرها إلى الإقلاع عن عادة تناول الماء خلال تناول الطعام. بل إنها زادت على ذلك فأمست لا تطفئ ظمأها إذا ما شربت في الأوقات العادية، ومن ثم كانت (س) تذهب إلى فراشها وهي ظمآى. . .
كان ذلك الظمأ حالة ثابتة في النوم. وكان يهدد بإيقاظ النائم وكان بادئ الرأي ألماً ممضاً يسبب التنشيط، فحول حارس أحلامها الألم إلى صحراء مجدبة قاحلة، مصحوباً بإيحاء ودي (ستحصلين فوراً على ماء كثير). وإذ يغدو ظمأ الجسم الفيزيقي أكثر ثبوتا، يصير حارس الحلم أكثر تأثيراً لا بتعقل فحسب ولكن بصواب أيضاً! فكان أن صاح الحلم (لا تستيقظي، ها هو الماء كثيراً ويمكنك أن تأخذي منه كفايتك!. . .)
ووجد أن الآنسة (س) كانت تتخيل أن الحلم بوفرة الماء قد يكون سببه تعودها الفعلي على الشرب الكثير قبل النوم. فكانت لذلك لا تشرب إلا قليلا قبل ذهابها إلى النوم، آملة أن يقف الحلم عند حده. وكان مغبة عملها هذا أنها أطلقت العنان لعناد الحلم. . .
وكان العلاج في غاية البساطة. هو أن تتناول قدحين من الماء قبل ما تذهب إلى فراشها. وبهذا العلاج البسيط زالت أهمية الحلم وصار لا لزوم له على الإطلاق، ولذا امتنع عن العودة. وبزوال الحلم زالت أيضاً المخاوف من الماء، تلك المخاوف التي بدأت تؤثر على عقلها لدرجة خطيرة. واستعادت (س) صحتها، وسعادتها.
والعلاج الذي نتخذه ضد ما نسميه الأحلام (السيئة) يوجد في الغالب في الحياة العادية الصحية، النظيفة. وإننا إن حكمنا أفكارنا ورتبناها، يصير نومنا هادئاً مريحاً. وليس هناك أي خوف إن حلمت. فإن كنت متمتعاً بالصحة فلا بد أنك ستحلم الأحلام التي ستحرسك من أي انفعال مزعج، سواء كان من العالم الذي حولك وأنت نائم أو من العالم الأكبر المخزون في ذاتك الداخلية. إذن ستنام، وستجد الصحة في (المجدد الهادئ للطبيعة الحلوة - النوم).
والشخص العاقل يستعمل النوم للنفع أيضاً. فالأفكار التي تلازم العقل الواعي قبل النوم مباشرة، بانتظام أو حتى باطراد، تتسلل وتأخذ طريقها إلى اللاشعور. فإن كانت الأفكار عن سعادة أو نجاح أو صحة، فإنها كتما تعجل نشاط اللاشعور وتتحقق تلك الرغبات.(753/18)
ما أكثر ممكنات النوم. وما أقل استعمالنا لها!
عبد العزيز جادو(753/19)
مع ميخائيل نعيمة في (همس الجفون)
للأستاذ منور عويس
وفي المقطعين الثالث والرابع نرى نعيمة يستسلم لحكم القضاء الذي يسخر كل ما في الوجود لكل ما في الوجود، كما نراه يعود إلى نغمته المستحبة - وحدة الوجود - وما أقرب فلسفة نعيمة من فلسفة (اسبنوزا) - ووحدة الوجود هذه التي يتغنى بها نعيمة هي وليدة اليأس وابنة الحيرة والشك، لقد حاول نعيمة أن يؤمن بما لقنوه صغيراً من عقائد وأديان فأبى عليه عقله النفاذ وقلبه الكبير الحساس الواعي أن يؤمن بما لا يرضاه عقله وقلبه الكبيران، فعكف من ثم على الأديان القديمة والحديثة يغربلها وينخلها ويقتلها درساً وتمحيصاً فاستخلص منها خير ما فيها وخلف قشورها وزؤانها للعميان الذين يؤمنون بالحرف ولا يدركون الروح، أولئك الذين (يكرمون النبتة ويرذلون التربة!).
أخذ نعيمة من الأديان أثمارها وأزهارها وأوراقها وترك فروعها الجافة الزائدة للغربان تنعق فوقها!. . . ثم خلع على معتقده هذا فنه وروحه فأبدع لنا ديناً وفناً جديدين لا عيب فيهما إلا أنهما إنسانيان شاملان ليس فيهما إرهاق للأرواح ولا استعمار للنفوس والعقول!.
دين نعيمة وفنه لا يعرفان للإنسانية حدوداً ولا للوطنية سدوداً وقيوداً.
ولقد رحب بأدب نعيمة وعقيدته قوم وأنكروهما آخرون؛ أما الذين أنكروهما فسوف يرجعون عن ضلالهم عندما تزول عن عقولهم رقى السحر وطلاسم الشعوذة؛ سوف يفزعون إلى تلك الواحة الوارفة الظلال حيث يستريح المتعبون وثقيلو الأحمال!.
لابد لكل عبقري من أن يؤدي تلك الضريبة الباهظة الأزلية - ضريبة العبقرية - لأهل وطنه وزمانه، ولابد له أيضاً من أن يلبس أكاليل الشوك قبل أن يزدان مفرقه بأكاليل النار! فلو لم يكن نعيمة شرقياً لسميت الشوارع باسمه وأقيمت له التماثيل أو على الأقل لوضعت كتبه بين أيدي طلبة الكليات والجامعات. ولكن نعيمة الروحاني الإنسان شرقي يعيش في مهبط الأنبياء ومصدر الوحي - وكم رجم الشرق من أنبياء وكم قتل من مرسلين! - عفواً أيها القارئ لقد نسيت (أوراق الخريف) مرة ثانية فها هي كاملة فاقرأ وتأمل وتحسس ثم احكم؟
تناثري تناثري ... يا بهجة النظر(753/20)
يا مرقص الشمس ... ويا أرجوحة القمر!
يا أرغن الليل ... ويا قيثارة السحر
يا رمز فكر حائر ... ورسم روح ثائر
يا ذكر مجد غاير ... قد عافك الشجر!
تناثري تناثري!
تعانقي، وعانقي ... أشباح ما مضى
وزودي أنظارك ... من طلعة الفضا
هيهات أن هيهات أن ... يعود ما انقضى!
وبعد أن تفارقي ... أتراب عهد سابق
سيري بقلب خافق ... في موكب القضا
تأنقي، وعانقي!. .
سيري ولا تعاتبي ... لا ينفع العتاب
ولا تلومي الغصن والريا ... ح والسحاب
فهي إذا خاطبتها ... لا بحسن الجواب
والدهر ذو العجائب ... وباعث النوائب
وخانق الرغائب ... لا يفهم الخطاب
سيري ولا تعاتبي!
عودي إلى حضن الثرى ... وجددي العهود
وانسي جمالا قد ذوى ... ما كان لن يعود!
كم أزهرت من قبلك ... وكم ذوت ورود!
فلا تخافي ما جرى ... ولا تلومي القدر!
من قد أضاع جوهراً ... يلقاه في اللحود!
عودي إلى حضن الثرى!. . .
ليست (أوراق الخريف) هذه سوى رمز للإنسان، أُلعوبة الأقدار، وسخرية الليل والنهار، الإنسان الذي لا يملك لتلك الأقدار دفعاً ولا لبطش الزمان به كفاً. إن (أوراق الخريف) من(753/21)
عيون شعر نعيمة لا بل يمكن وضعها إلى جانب ورائع شعراء الغرب الذين نظموا في هذا الموضوع، ومن شك في ذلك فليقرأها مترجمة، فالترجمة هي محك الآثار الأدبية، وبها نميز الشعر الرفيع من الشعر الزائف الذي أملته المناسبات التافهة والأغراض الرخيصة. . انظر إلى قوله:
سيري ولا تعاتبي ... لا ينفع العتاب!
أو قوله:
كم أزهرت من قبلك ... وكم ذوت ورود!
فأية مرارة تفيض من هذا الشعر؟ وأية بساطة، وأي إحساس وأية موسيقى؟! إنني أترك للقارئ الحكم والمقارنة بين هذا الشعر البسيط وبين شعر النحت والبلاغة اللفظية. وشتان بين بلاغة الروح وبلاغة اللفظ، وشتان بين شاعر يعرف ما يريد أن يقول وبين شاعر لا يهمه إلا أن تطول قصيدته التي يكثر فيها النظم ويندر الشعر. . إنني لعلى يقين من أن صاحب (همس الجفون) لم ينظم قصيدة من قصائده إلا بعد أن حبل بها فكره وتمخض عنها وجدانه. . . أصغ إليه في قصيدته (التائه) كيف يصور لنا أشواق روحه وأوجاعها وتعطشها إلى الإيمان كما يرسم لنا حيرته في تلك النار المقدسة التي تشب بين ضلوعه فيطلب أن تختار لها موقداً غير قلبه، ونحن نحمد الله على أن اختار لتلك النار قلباً شاعراً واعياً كقلب نعيمة، قلباً (يحول قضبان سجنه أوتار قيثارة) ويخلق لنا من لظى تلك النار واحات نقصدها كلما اشتد علينا قيظ هذه الحياة اللاهب!. .
أسير في طريقي ... في مهمه سحيق
ووحدتي رفيقي ... ووجهتي الفضا
مطيتي التراب ... وخوذتي السحاب
ودرعي السراب ... ورائدي القضا
تسوقني الثواني ... في موكب الزمان
ولست أدري شاني ... في معرض الورى
فلا القضا ينبيني ... ولا الرجا يهديني
ولا السما تعطيني ... نوراً لكي أرى(753/22)
أخالقي رحماكا ... بما برت يداك
إن لم أكن صداكا ... فصوتُ من أنا؟
ربي ألا ترَاني ... أساق كالحملان
ربي أما كفَاني ... عماي َوالونى؟
فأبدل لظى نيراني ... بجمرة الإيمان
واجعل من الحنان ... للقلب مرهَما
إذ ذلك بالتهليل ... أسيرُ في سبيلي
وخالقي دليلي ... ووجهتي السما!
هذا هو نعيمة الحائر بين موحيات الكتب التائه في مفاوز الأديان وشعابها المطلسمة، قد أضناه تساؤل العقل وأذابهُ حنين الروح للوصول إلى الحقيقة والإيمان!. . .
هذا هو نعيمة الذي استنجد بالسماء لتهبهُ راحة الإيمان فلما ضنت عليه السماء بتلك النعمة خلق من نفسه لنفسه سماء ولا كالسماء ونعيما ولا كالنعيم، وتلك السماء وهذا النعيم اللذان أبدعهما نعيمة بصبره الطويل وتهجداته الروحية المضنية إن لم نجدهما في (همس الجفون) فنحن واجدُوهما في (زاد المعاد) (والمراحل) (والبيادر).
نعم وصل نعيمة إلى السماء أو (النرفانا) التي حج إليها من قبله (الغزالي، وأبن عربي، والأسيزي) وطاف في رحابها (ابن الفارض، والجنيد، والحلاج) وغيرهم ممن صفت نفوسهم وطهرت قلوبهم من أقذار الأرض وأوضارها.
(البقية في العدد القادم)
مناور عويس(753/23)
طرائف من العصر المملوكي
للأستاذ محمود رزق سليم
تمهيد:
قيضت لي الظروف الاطلاع على كثير من تاريخ العصر
المملوكي وأدبه، واجتماعياته. واستخلصت من ذلك كله مؤلفة
موسوعة تصدر تباعاً في أجزاء. وأحببت أن أعجل إلى قراء
الرسالة الغراء؛ فأعرض على أنظارهم صوراً شتى لنواحي
هذا العصر، آملا أن يجدوا فيها طرافة، وأن يجدوا في هذه
الطرافة شيئاً نافعا يجلي أمامهم وجه هذا العصر وخصائصه،
ويزيل عن حواشيه ما اكتنفها من ظلام.
وستكون هذه الطرائف خليطاً منوعا ما بين تاريخية وأدبية واجتماعية ونحوها. وإلى القارئ نبذة تاريخية سريعة تعرف بالعصر.
1 - التعريف بالعصر
العصر المملوكي فترة من فترات التاريخ المصري الطويل، وحقبة من أحقابه الواسعة، تحتجز منه زهاء ثلاثة قرون بين سنتي 648هـ - 923هـ. وبدأت بدءاً هينا لينا لا ضجة فيه ولا صخب إلا لماماً لماما، كما بدأت عصور قبله. ثم أخذ فيه الضجيج يشتد، والعجيج يزداد، وما زال حتى انتهى بأن هوت البلاد تحت أعباء حادث جلل وخطب عظيم.
قامت الدولة الأيوبية بمصر بزعامة مؤسسها صلاح الدين الأيوبي وما زالت تعالج الحروب الصليبية وغيرها، حتى ملك البلاد الملك الصالح نجم الدين الأيوبي أحد ملوك هذه الدولة. فوقعت في عهده إحدى المعارك الحاسمة في تلك الحروب وهي معركة(753/24)
(المنصورة) التي أسر فيها ملك فرنسا (لويس التاسع). وكان الصالح نجم الدين قد استكثر من شراء المماليك من الأتراك، ورباهم، وابتنى لهم قلعة بجزيرة الروضة، واتخذ منهم حاشية وحرساً وجنداً، ووجد فيهم وفاء وولاء، كما وجد فيهم شجاعة وبلاء، في حوادثه المختلفة. . .
مات الصالح نجم الدين، والمعركة في أبانها وريعانها. فكتمت زوجته (شجرة الدر) خبر وفاته، لتحفظ على جيشه معنويته، ريثما يعود ابنه (توران شاه) ويتسلم مقاليد الأمور.
عاد توران شاه، فلم يستطع أن يستصفي زوجة أبيه (شجرة الدر) ولا أن يستخلص مماليك أبيه. فانتهى النزاع بينهما بأن قتلوه قتلة شنيعة.
حينذاك يصب الأمراء من المماليك (شجرة الدر) ملكة على البلاد. . .
(وشجرة) الدر تعتبر - من ناحية - بقية من بقايا الأيوبيين، فوجودها على العرش امتداد لوجودهم. ولكنها - من ناحية أخرى - كانت جارية من جواري الملك الصالح، وليست أيوبية من نسل الأيوبيين، فوجودها على العرش يعتبر بدءاً للعصر المملوكي، أو هو على الأقل إرهاص ببدئه.
قيل إن خلفة بغداد - إذ ذاك - المستعصم بالله العباسي أرسل إلى رجال مصر يعيرهم بها، ويوبخهم لأنهم ولوا عليهم امرأة. فخشيت (شجرة الدر) مغبة الأمر، وأخذ مركزها يتحرج، وخشيت كذلك أن تتحرك أطماع الطامعين من بقايا الأيوبيين. فأرادت أن تتلافى الأمر، وأن تحتمي هي وعرشها برجل صنيعه لها، يكون له من الملك اسمه وشكله، ويكون لها منه النفوذ والسلطان.
اختارت (شجرة الدر) لذلك مملوك زوجها وهو (أيبك الجاشنكير) وكان حينذاك أحد أمراء دولتها الكبار. فتزوجته وتنازلت له عن العرش، فارتقاه ملكا، وبقيت هي بجواره لها الأمر والنهي والحول والطول. وتلقب بالملك المعز، وكان أول ملوك هذه الدولة.
تسلم الملك المعز عرشه في غير كثير من الجلبة والضوضاء - كما أشرنا - وبذلك انتقل الملك من دولة إلى دولة، وبذلك أيضاً بدأت دولة الأرقاء.
ودرج الأمراء فيها على أن يعقدوا مجالس للشورى عند خلو العرش، ليختاروا من بينهم أميراً يجلس عليه. فإذا تم الأمر لأحدهم كان إليه وحده الحكم والسلطان.(753/25)
أما هؤلاء الأمراء فهم من المماليك المعتقين الذين وصلوا بذكائهم وبلائهم إلى هذه المرتبة. ولهم وحدهم حق اختيار سلطان البلاد. لهذا كانت طريقة الحكم في الدولة نمطا فريداً بين طرق الحكم المعروفة.
وقد عاشت هذه الدولة زهاء قرون ثلاثة - كما أشرنا - ويقسمها بعض المؤرخين إلى دولتين. والبحرية والبرجية، أو التركية والجركسية. وملك الدولة البحرية من المماليك الأتراك، وملوك الدولة البرجية من المماليك الجراكسة. ومؤسس الأولى الملك المعز (أيبك الجاشنكير)، ومؤسس الثانية الملك الظاهر (برقوق ابن آنص).
واتخذت كلتا الدولتين جنودها من المماليك، إذ عني الملوك والأمراء معاً بجلبهم وشرائهم من الأسواق الخارجية، كما عنوا بتنشئتهم تنشئة عسكرية، واتخذوا منهم بطانة وحرسا. ووكلوا إلى النابهين منهم - بعد عتقهم - مناصب الدولة. وكانت كلها مناصب عسكرية إذا استثنينا منها مناصب القضاء والكتابة وما إليها وتكون من هؤلاء الجنود والأمراء ومن السلطان، الطبقة الحاكمة في البلاد، التي لها دون سواها من نابتة البلاد، حق الحكم وتصريف الأمور.
واشتهر من ملوك الدولة البحرية غير أيبك. قطز وبيبرس وقلاوون وابنه الناصر محمد. واشتهر من ملوك الدولة الجركسية غير برقوق، ابنه فرج وقايتباي والغوري والأشرف طومان باي.
ولكل من هؤلاء أعمال مجيدة نافعة ما بين حروب خارجية وإصلاحات داخلية. ويعتبر بعض المؤرخين، هذا العصر امتداداً للعصر الأيوبي؛ لأن الدولة في أغلب نظمها نهجت نهج النظم الأيوبية. ولكن - دون شك ورغم هذا - كان للعصر خصائصه ومميزاته التي تفصله عما عداه.
وحقاً احتفظ سلاطين العصر بسلطنتهم مستقلة مرفوعة اللواء عزيزة الجانب تضم بين ممتلكاتها البلاد الشامية والحلبية والحجازية في أكثر أيامها. غير أنها امتازت ببعث الخلافة العباسية في القاهرة وتجديدها. بعد ما وئدت في بغداد على يد التتار عام 656هـ. فأصبحت القاهرة بذلك محوراً دينياً للمسلمين، وفي ذلك كسب أدبي عظيم كان له أثره في تثبيت ملك سلاطين مصر في هذه الحقبة، وإكسابهم الشرعية اللازمة، لأنهم كانوا عليها(753/26)
دخلاء. كما كان له أثره في تلك الحركة العلمية المباركة التي نشطت في القاهرة والمدن المصرية والمدن التابعة لمصر، طول العصر.
وكان لها إنتاجها القيم في ميدان العلوم والآداب الإسلامية والعربية. . .
وكما امتازت سلطنة المماليك بإحياء الخلافة العباسية وبالنشاط العلمي، امتازت بالنظام الرباعي في القضاء، إذ أصبح للبلاد أربعة قضاة، من كل مذهب من المذاهب السنية قاضي قضاة.
وهكذا ترى أن للعصر المملوكي كثيراً من الخصائص والمميزات ولابد لنا من القول إن هذه الدولة كافحت ثلاثة أعداء ألداء خارج حدودها، وهم التتار والفرنجة العثمانيون عدا الخارجين عليها من أتباعها أو محالفيها. ونجحت في درء خطرهم إلى حد كبير، وسجلت في سبيل الذود عن مصر وعن الإسلام صفحات خالدة.
غير أن الفتن الداخلية والأطماع غير المشروعة التي نبتت في رءوس أمرائها كانت علة مزمنة من عللها، ظلت مضاعفاتها تنهك قوتها وتخضد شوكتها، حتى أخذت تقربها من نهايتها.
وقد كانت هذه النهاية على يد السلطان سليم ملك العثمانية الذي احتل البلاد عام 923هـ بعد حرب عنيفة طاحنة أبلى فيها الأشرفان الغوري وطومان باي البلاء الحسن. وهذا الاحتلال هو الحاث الجلل الذي أشرنا إليه.
هذه عجالة موجزة تعرف بالعصر. ونحاول في العجالات القادمة أن نطرف القراء بما يجلي العصر، ويكشف عن كثير من مميزاته وخصائصه.
محمود رزق سليم(753/27)
6 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
نكبة الفيضان!!
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
وأعني بالفيضان مساه الخزن التي يبدأ ارتفاعها وفيضانها في أوائل نوفمبر من كل عام. ولا يستطيع إنسان كائناً ما كان أن ينكر خطر مياه الخزن على بلاد النوبة، وما جرته على أهلها من ألم ونَصب، ومشقة وَعناء، وما جلبته من فقر وجدب، وقحط ومسغبة!!
قد يبدو ذلك عجيباً، ولكنه ليس بعجيب، غريباً ولكنه ليس بغريب، لأنه الواقع لا مِرية فيه. وهو وإن حاولنا إخفاءه وستره، فإننا نخفي الواقع، ونماري في الحق، ونزيد الداء استفحالا، والشر طغياناً. ذلك أن الرجل في بلاد النوبة يشعر بهذا الشعور، ويبديه ولا يكتمه، ويجعله مادة الحديث في كل مجلس وكل مناسبة. . والمرأة في بلاد النوبة تشعر بذلك وتحس به وتعلنه في كل مكان. والصبي والصبية والطفل والطفلة يشعرون جميعاً بذلك ويعلنونه في صراحة.
هذه الحقيقة على مرارتها، يجب أن ننظر إليها وندخلها في حسابنا لنطلب لهذا الداء، وندرأ هذا الخطر.
ولا داعي للموارية، ما دام الأمر قد وصل إلى هذا الحد، وخير طريق نعالج به ذلك الشعور القوي بالغبن الفادح، والإحساس بالظلم المبين هو الإصغاء لشكاياتهم والعناية ببحث مشكلاتهم، بحثاً يدفع بها إلى الحياة لا على طريقة البحوث الآلية التي جرت بها عادة الحكومات والتي لا يكون مآلها بعد تشكيل اللجان إلا زوايا النسيان. .!!
والآن رُب سائل يقول: وهل كذب هؤلاء شعورهم؟ وهل جانبوا الصواب حينما اعتقدوا هذا، ورأوا في سد أسوان نقمة لا نعمة، وشراً لا خيرَ فيه؟ ثم أصبح مع الأيام عقيدة راسخة، متأصلة في نفوسهم لا يبغون عنها حِوَلا؟!
والجواب الحق، لا. لم يكذب هؤلاء شعورهم، ولم يحيدوا عن الحق، فلقد دهمتهم هذه المياه مرات عديدة. . دهمتهم عند إنشاء السد، فقالوا: شدة تزول، ولن تعود. . ورتبوا حياتهم على ذلك واطمأنوا إلى هذه الحياة. فتركوا منازلهم الأولى، وبنوا مساكن أخرى في نجوة من الغرق. ومأمن من الخطر وساروا على هذا النهج حيناً حتى ألفوا هذه الحياة، وكادوا(753/28)
ينسون حياتهم الأولى قبلَ أن ينتقص الفيضان ومياه الخزن أراضيهم التي يزرعونها، ودورهم التي يسكنونها وبخاصة والمساحة التي أتلفتها مياه الخزن بعد بناء السد لم تكن مساحة واسعة، بل كانت محدودة ضيقة، والخسائر، ليست فادحة، بل هينة عوضتهم الحكومة بما رأت فيه الكفاية، وارتضوا ذلك منها، اعتقاداً منهم أن هذا الخطر على أراضيهم ومنازلهم لن يتكرر ولن يعود، وبهذا ألفوا هذا الوضع، على ما به من أل وضني.
ثم ماذا؟ ثم كان ما كان من أمر التعلية الأولى، فتشتت شمل الجميع، وتفرقوا أيدي سبأ هنا وهناك، لا يدرون ماذا يعملون. وكانت حيرة، وكان اضطراب، وكأنما هذا الماء المخزون أمام السد، عدوٌّ لدودٌ لهم. . ثم هدءوا وسكنوا، وأنشئوا بيوتاً جديدة ولكن أرضهم انتقصت أكثر من ذي قبل وطمست مرافقها، وتلف ذرعها. ووجدوا من عطف الحكومة عليهم ما أعاد إلى نفوسهم الجريحة شيئاً من الطمأنينة والسكينة والاستقرار، ولكنهم ظلوا يرقبون الحوادث في يقظة، وكأنما علقت أنظارهم بالسد وارتبطت آذانهم بكل ما يقال عنه، حتى تكونت في نفوسهم عقدة نفسية تعجز عن حلها الأيام، ثم طال الزمن وامتد، فنسوا هذا كله، ووجد أكثرهم في الهجرة باباً من أبواب الكسب خير من الكد والعمل والزراعة والحرث، فهاجروا إلى القاهرة والإسكندرية، وإلى كثير من عواصم الأقاليم والمديريات. . وانبثوا في نواحي القطر، بحيث لا تكاد تخلو منهم بلدة من بلاده، أو قصر من القصور، أو مصلحة ما من مصالح الحكومة ووزاراتها. . .
أما التعلية الثانية أيام صدقي باشا عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف فقد أثارت كوامن النفوس، ودخائل القلوب، وطفح الكيل بأبناء النوبة وهم يرون منزلهم للمرة الثانية، أو الثالثة في بعض المناطق الواطئة، القريبة من سطح النيل، يفتك بها الماء ويطغى عليها في ثورة حانقة، واندفاع مغيظ. .
حدثني أحد النوبيين فقال: كان أكثرنا يرى منزله يغرقه الماء رويداً رويداً ويقضي على ما به من غلات مختزنة، وأثاث قليل، ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، لأنه مشغول بنفسه وأولاده الصغار، وضعاف النسوة والشيوخ.!
ويمكنك أن تدرك ذلك واضحاً جلياً حينما ترتفع مياه الخزن وتبلغ ذروتها في شهر فبراير ومارس تقريباً. . لقد كنا نخرج إلى النيل، نسير بجانب الشاطيء، فلا يتمالك الإنسان نفسه(753/29)
من الأسى واللوعة والحزن، حينما يرى ذلك النخيل وأشجار الدوم الذي كان في يوم من الأيام مورد ثروة وغنى لهؤلاء النوبيين، ومظهر فخار ويسار، يراه وقد تبدل الحال وتغير، فإذا به رمز الفقر والبؤس، تترقرق الدموع في عيون أصحابه كلما يرونه على هذه الحال، غريقاً في النيل، لا يبدو منه سوى رؤوسه الخضر التي أخذت هي الأخرى في الذبول والانقراض بتوالي الأيام، وكأنما هو عالم من البشر والعمالقة يبعث بآخر أنفاسه من جراء طوفان أليم. .
لقد كان إيراد النخلة الواحدة عشرة جنيهات على الأقل، فمن كان يملك عشر نخلات أو عشرين نخلة يحيا حياة سعيدة منعمة، كلها اليسر والرخاء. أما الآن فقد نقص ثمار النخلة إلى حد كبير، ولم تعد تغل أكثر من عُشر ما كانت تغله قبل أن تغمرها مياه الخزن، هذا فضلا عن النخيل الذي يتساقط على الدوام عاماً بعد عام. أما قبل التعلية الثانية، فكان عدد النخل وأشجار الدوم يتزايد يوماً بعد يوم، وثمره يحلو ويكثر عاماً بعد عام، وعناية الأهلين به تعظم كلما زاد دخلهم منه، وتحقق أملهم فيه. .!!
ولا زلت أذكر تلك الثورات الصاخبة الطاهرة، التي كانت تنبعث من قلوب تلاميذي في الفصل، وتهتف بها حناجرهم، وتبدو مغيظة مُدَمرة حينما كنت أتحدث معهم في موضوع إنشائي، يتناول سد أسوان، منافعه وآثاره. .!
منافعه وآثاره؟! إنه لا منفعة له ولا فائدة فيه. .
هكذا كانت عقيدة التلاميذ، وهكذا كانوا تعلنون هذه العقيدة على الرغم من حديثي الطويل معهم، ومناقشتي لهم، وشرحي لعناصر الموضوع. . إن واحداً منهم لا يؤمن بهذا السد ولا يعترف به، ولا يعتقد أنه أدى مصلحة ما إلى القطر عظمت أم حقرت، بل على العكس من ذلك يجب أن يكون الموضوع، وتعرض القضية. . .
لقد عذرتهم حينذاك، لأن كل واحد منهم، لا يرى سوى أثره في بلاده، وخطره عليها، وأضراره الماحقة بها، وأنه حرمهم اللقمة السائغة، والنبتة الناضرة، والدوحة الباسقة، والثمرة اليانعة، والخير الوفير. . وطاردتهم المياه المحجوزة أمامه في عنف وقسوة وجبروت، وأخرجتهم من دورهم، وهدمتها هدماً، وطمست معالمها طمساً، وظلت تطاردهم في إلحاح، حتى جعلتهم يسكنون قنن الجبال، وذري الهضاب حيث الصخر الصلد لا تؤثر(753/30)
فيه المعاول، ولا ينبت فيه نبات. .!!
وبالغ بعض النوبيين في تصوير هذه البلاد على صورة عجيبة غريبة، لقد قال: إنها كانت قبل التعلية الثانية جنة فيحاء ينعم أهلها بالخيرات صنوفاً وألواناً، ولا تكاد تفترق بحال من الأحوال عن أنضر بقعة من بلاد القطر، غنى وثراء. .!!
ولم يرقني هذا القول كثيراً، ولما فيه من المبالغة، التي لا يجدر بالمخلص أن يتصف بها، لأنها تضر أكثر مما تنفع، فليس الوضع على ما يفهمه المتطرفون، من أنه عداء ونضال، وبغية سلب هذه البلاد خيرها، وحظها من الخير والنعم، بل هي الحاجة التي دفعت إليها مصلحة القطر المصري كله، كما أبنت عن هذا آنفاً. . وهذه سنة الكون، وقانون الوجود. . فلا داعي إذن للمبالغة والمغالاة، وتصوير الواقع في غير صورته. . إذ أن المساحة المنزرعة قبل التعلية لا تكاد تذكر، ومهما كانت من الخصب والنماء، فإنها يجب ألا تصور على هذه الصورة، ولا تنال هذه المنزلة. . ويخيل إلي أن الغلو في التصوير، والمبالغة في التعبير، قد أصبح قاعدة يسير عليها الناس، حتى لا يكاد الباحث يدرك حقيقة الأمر كما يرجو ويحب، قداسة ونزاهة. . وأعتقد أن الأمور رو وُزنت كما يجب أن توزن، لعرفنا المهم والأهم ولبدأنا بالأهم، لأننا في مسيس الحاجة إليه، ولكن المجتمع لا يسير على هذا النهج، وإنما يجعل كل الأمور في أعلى درجات الاهتمام فيختلط الأمر على ذويه، وأصحاب الشأن، فتتعطل حركة الإصلاح في البلاد. .
ومهما يكن من شيء، فقد أضرت مياه الخزن بهذه البلاد وأعني بلاد النوبة، بقدر ما أفادت بقية بلاد القطر، ولقد فهمت ذلك جلياً جميع الحكومات المصرية. ولكن مجرد الفهم لا يكفي، وإنما الواجب أن نسرع بتنفيذ المشروعات العظيمة، المزمع إقامتها في هذه البلاد، وإن هذا الوقت وقتها، وأخشى ما أخشاه أن تصبح فكرة منسية في زوايا التاريخ. .!!
عبد الحفيظ أبو السعود(753/31)
لا ذمة ولا شرف!
للأستاذ نقولا الحداد
أول مرة في عمر الإنسانية نرى ونسمع أن أمم الأرض جمعاء وعددها 57 أمة تؤلف منها محكمة تقضي في مصير أمة صغيرة.
1 - من ندب هذه الأمم لهذا القضاء؟ - الله؟ - لا.
2 - أين كانت هذه المحكمة الأممية يوم كانت فلسطين الحديثة تعاني الأمرين تحت رق الانتداب البريطاني الذي كان يأخذ من العرب ويعطي لليهود؟ كانت مبعثرة ينهش بعضها بعضاً؟.
3 - هل لهذه المحكمة الأممية ضمير الفيصل العادل؟ لا.
4 - هل لهذه المحكمة الأممية أن تنفذ الحكم الذي تصدره؟ كيف؟
5 - هل جميع الأمم على الإطلاق خاضعة لأحكام هذه المحكمة؟ لا. . . بعضها تحت القانون. وبعضها فوق القانون. . . أليس هكذا تكون العدالة والمساواة؟
أولا - أن الذين ندبوا السبع والخمسين دولة للقضاء في هذه المحكمة الأممية. هم ثلاثة أشخاص، لا ثلاث أمم. هم زعيم روسيا وزعيم بريطانيا وزعيم أمريكا يعني ثلاثة آدميين يتحكمون بمصير 57 أمة أو بمصير ألفي مليون آدمي.
من خوَّل هؤلاء الثلاثة هذه السلطة؟ - الذكاء السياسي؟ العلم العملي؟ - لا. لا. لا.
خوَّلهم هذه السلطة الحسام الممتشق. والمدفع المنطلق. والأورانيوم المنبثق. أضف إلى هذه الثلاثة التوفيق الذي كان في عالم الغيب وليس لهم في تدريبه أقل نصيب.
ثانياً - كان أعضاء هذه المحكمة أو بالأحرى كانت أممها الكبيرة كالصغيرة تصخب كالخضم الهائج وتصرخ صراخ أهل الجحيم من شدة آلم ذلك الجنون الحربي المطبق. وأي جنون أفظع من أن يدمر الواحد في ساعة ما بناه في قرن، ومن أن يتلف الخيرات التي أغدقتها الطبيعة عليه ويصبح في يوم وليلة حائراً يبحث عن الغذاء والكساء والمأوى فلا يجدها.
كل بلك الثروات الطائلة ذهبت كالعاصفة تذريها الريح، كيف يكون الجنون غير هذا؟
هذه حال الأمم التي تقضي الآن في مصير أمة صغيرة هي جزء من ألفين من أمم(753/32)
الأرض.
عجباً! ما بالها تترك الأمم الكبرى التي تعد بمئات الملايين تهش بعضها بعضاً وهذه أحوج إلى الفيصل في قضاياها من أمة صغيرة كفلسطين.
أليست هذه المحكمة أجدر بأن تنصف روسيا من أميركا وبريطانيا أو تنصف أميركا من روسيا أو تنصف بريطانيا من هذه وتلك؟
هل إذا تمَّ قضاء هيئة الأمم ال57 على فلسطين يأمن العالم الحرب ويضمن السلام.
ثالثاً - هل لهذه المحكمة الأممية ضمير الفيصل العادل؟ يمكنك أن تحلف صادقاً بالله العظيم وبالأنبياء والرسل أجمعين أن أولئك الوفود المتكأكئين في لايك سكسس وفلاشنغ ميدوز وهم ينظرون في قضايا الأمم المظلومة خالون من الضمير الصالح بتاتاً، لا ذمة ولا شرف. ما معنى أن بعضهم يتغيبون عن المحكمة وبعضهم يمتنعون عن إعطاء أصواتهم؟. معناه أنهم ليسوا ذوي ذمة ولا ضمير، لأنهم يساومون الأقطاب الكبار أو يخافونهم أو يطمعون برشاوى مادية أو سياسية. وأخيراً ظهر أن دنيئاً منهم قبل رشوة 10 آلاف دولار. ألا تباً لهذه المحكمة التي ضميرها المال وذمتها المال وشرفها الريال.
قضية فلسطين واضحة كل الوضوح. وكل مندوب من مناديب الـ57 أمة فاهمها تمام الفهم. ولكن الضمير الخرب واقف دونها. فكيف نثق بمحكمة ليس لأعضائها ضمائر ولا شرف؟
حقاً. لم يعد عالم عصر الذرة والكهرباء الخ ممكناً أن يعيش بسلام إلا بقيام محكمة كهيئة الأمم. ولكن بكل أسف ليس لهذه المحكمة ضمير صالح، هي محكمة شيطانية جهنمية، وإبليس الرجيم هو الموحي لها، فماذا يكون مصير الأمم الصغيرة، بل مصير الأمم الكبرى إذا كان إبليس رائدها؟ الحرب طبعاً!.
نحن لم ننته من الحرب أنه لا يزال في العالم بقية من الخير والعيش، وإبليس لن يعود عن طغيانه على ملكوت الإنسان إلا متى دمر هذه البقية الباقية.
أصل السبب في طغيان الشيطان هو أن الرأسمالية تستفحل كل يوم أكثر من يوم، واليهود قابضون على زمامها لأنهم عباد المادة، فما دام في الأرض يهود فهناك أموال تكافح وتثير السلاح وتضع المدافع والقنابل الخ وتدفع الرجال إلى أتون جهنم.(753/33)
فلا سلام على الأرض ما دام اليهود يهوداً، ليتهم يسمعون وصايا موسى، وإن كانت نجحت بحقوق غير بني إسرائيل.
ما هيئة الأمم هذه إلا ألعوبة صبيانية يلعبها ستالين وتشرشل ثم خلفه بيفن وروزفلت، ثم خلفه ترومان.
ولكنها لعبة شريرة، زعموا أنهم يريدون بها إنصاف الأمم الصغيرة من الأمم الكبيرة، فإذا هم يضيفون ظلماً على ظلم.
أتعلم ما سبب نكبة فلسطين الأخيرة؟
شخص واحد من ألفي مليون شخص له غرام بكرسي الرئاسة، ولكنه ليس أهلا لها ولن يكونها، فإن صارها كان 5 ملايين يهودي يحكمون 140 مليون إنسان، ويتصرفون بمقدرات ألفي مليون إنسان.
رابعاً - هل لهذه المحكمة أن تنفذ الحكم الذي تصدره؟ وكيف؟
إنكلترا التي هي أصل نكبة فلسطين من أول الأمر تتنصل من تبعة حكم محكمة هيئة الأمم، لا تريد إلا أن يعلق العرب واليهود بعضهم ببعض وهي تتفرج، والله أعلم أي الفريقين تساعد من تحت لتحت، وأيهما تحرض سراً!
والأمريكان لا يريدون أن يرسلوا أولادهم إلى الأرض المقدسة لكي تغسل دماءهم دم المسيح.
وستالين يتمنى أن يحط رجله في الأرض المقدسة، ولكن أميركا وإنكلترا تمنعانه ولو بحرب.
إذن لا يبقى إلا أن العرب يطهرون أرضهم من جراثيم الشر وحكم محكمة الأمم يصبح (طش فش) لا شيء!
ولماذا نحن نتوقع من الأمم أن تكف شر الصهيونيين عنا، ونحن نعلم أنه (ما حك جلدك غير ظفرك)!
أليس جديراً بنا الآن بل من قبل الآن أن ندفع إنذاراً إلى بريطانيا (العظمى) أن انتدابها الذي كان وبالًا على فلسطين قد انتهى فلتتنح، ويدّعنا نحن نسوي حسابنا مع الصهيونيين الذين كانوا من صنع يديها.(753/34)
وعلينا، يا عرب جميعاً، أن نحتل فلسطين، ونقذف بالصهيونيين (لا باليهود) إلى البحر.
لا أتكلم هذا الكلام عن نفسي، لأني شخص ضعيف إلا بإيماني، بل أتكلمه عن لسان ستة وثلاثين مليون عربي.
نقولا الحداد(753/35)
من وراء المنظار
القران في شارع فؤاد!. .
إن عجبت من هذا الذي يطالعك به العنوان فأني أزيدك عجباً إذ أضيف إليه أن ذلك كان في نحو الساعة العاشرة من مساء يوم الأحد! حيث يمتلئ هذا الشارع وما تفرع منه بطلاب اللهو من الأجانب والمصريين في عطلة الأسبوع. . .
انعطفت وصديقيَّ من شارع عماد الدين إلى شارع فؤاد فإذا بميكروفون عظيم يملأ الشارع كله بكلام الله في صوت كان على شدة علوه من أحلى الأصوات وأبعثها للطرب.
وعجبت وعجب صاحباي وقلنا ما هذا؟ إنه والله للقرآن! ونظرنا فإذا متجر جديد جميل تزين الأنوار المتوهجة المتلألئة واجهته وجوانبه، ومنه ينبعث هذا الصوت القوي الساحر بقول الله سبحانه (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها. . .)
وأسرعنا الخطى صوب النور الذي نرى، والنور الذي استشعرته نفوسنا فيما يشرق في السمع من كلام الله؛ ووجدنا أنفسنا وسط أصناف من خلق الله يذهب البصر فيهم هنا وهناك وهم حائمون على هذا النور كالفراش يقعون عليه من كل صوب وأرواحهم مستشرفة إلى هذا الصوت الجميل القوي يسترسل في تنغيمه وتطريبه، وآذانهم مرهفة وقلوبهم خاشعة وكأن عليهم الطير مما سكنوا؛ وما أن يقف صاحب هذا اللحن العلوي عند قول الله (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) حتى تنبعث بالتصفيق أكفهم وتنطلق بعبارات الاستحسان حناجرهم.
وأجلت منظاري في الجمع المحتشد فإذا به خلق من كل طبقة ومنم كل نمط ففيه المقبعون والمقبعات والمعممون والمطربشون وفيه العلية يقفون إلى جوار سياراتهم الفخمة، وفيه المتواضعون مثلي من عباد الله ممن يدبون على أقدامهم، وفيه عدد من العمال والخدم والحوذية وسائقي سيارات الأجرة وغيرهم بيض وسود من كل سن وفي كل زي وفيه المسلمون وفيه لا ريب النصارى واليهود والجميع ينصتون إلى الشيخ مصطفى إسماعيل يتلو آيات الله وينظرون إلى اسم الطرابيشي المصري تلألئه الأنوار القوية على واجهة متجره الجميل الجديد. . .
وامتلأ طوار الشارع حتى لم يبق فيه موضع، وغص الشارع نفسه بالسيارات والعربات(753/36)
من كل نوع، حتى الترام نفسه يبطيء سائقوه إذ ينصتون ويفون على مقربة من المتجر فلا يحبون أن ينطلقوا فيبتعدوا عن هذا الصوت الندي الحلو الذي سحر الناس جميعاً، والذي يرسله الميكروفون قوياً صافياً لا حشرجة فيه ولا تسلخ ولا كدرة فيملأ به الشارع.
(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها).
بهذا التنزيل المجيد كان يصلصل حلق القارئ البارع في صوت يرتفع إلى عنان السماء ثم يهبط إلى قرار قريب، فتحس فيه تموج الشعاع وتأوه الجدول وترسل الكروان وتنغيم البلبل، وتجد نفسك مسحوراً بهذا الصوت اللين الحلو، وهذا الإيقاع العبقري الجميل في إمالة سائغة لأواخر هذه الآيات الكريمة يهفو لها السمع وتترشفها النفس، وكانت ترتفع مع اللحن نفوس السامعين وتهبط وعم صامتون خاشعون حتى يفرغ ذلك النفس الطويل، نفس القارئ المفتن فتضج أصوات السامعين بلفظ الجلالة. . .
كان المسلمون يطربون للتنزيل الحكيم وقد وجلت قلوبهم لذكر الله وزادتهم آياته إيمانا، وكانوا يعجبون بذلك الصوت العبقري القدر وهذا الترتيل الشجي الساحر؛ وكان غير المسلمين مأخوذين بهذا التطريب العجيب الذين يحسون أثره ولا يتبينون سره؛ وكان الأجانب مذهولين بهذا المتجر الذي ينبثق منه النور والذي جاء يزحم متاجرهم ويبدأ بهذا التحدي فيفتح أبوابه يوم الأحد ويذيع كلام الله في شارع فؤاد. . .!
ودخلنا على الرغم من الزحمة فناء المتجر فإذا به ممتلئ بالناس، وإذا باقات كبيرة من الزهر تبلغ الواحدة منها قامة الرجل طولا تزين جوانب الفناء وكلها مهداة إلى المتجر الجديد من أصحاب المتاجر الكبيرة كما دلت على ذلك ما علق عليها من بطاقات.
وكان كل ما في المتجر يملأ النفوس سحراً وشعراً فهذه الأنوار المتألقة وهذه الزهور الناضرة وهذت التلاوة العذبة، ثم هذه البضائع الجديدة المنسقة على الرفوف اللامعة النظيفة في أناقة وحسن ذوق كل أولئك كان يبعث البهجة في النفوس ويلقي السحر في الخواطر.
(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم، ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي(753/37)
انقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك) وأخذ الشيخ إسماعيل يرتل هذه السورة ويرددها وقد أفرغ فيها كل فنه وبلغ صوته فيها غاية حلاوته والناس يهزون رؤوسهم في تخضع ونشوة معاً ويودون لو ظلوا وقوفاً يستمعون حتى ينصدع على الأفق عامود الصباح. . .
(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم. . . والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى).
ما كاد الشيخ يقف عند هذا الوقف حتى انتزع الناس الزهور من الباقات وأمطروه بها من كل جانب وهو في الطابق الأوسط وتشققت حناجرهم بالهتاف، حتى كأنما طاف بهم طائف من الجنون وقال أحدهم (والله هذا رجل أنسرق من الجنة).
وختم الشيخ تلاوته وأخذ الناس ينصرفون وملء نفوسهم البهجة من هذا الافتتاح الموفق، ونظرت إلى المتاجر الأخرى فطاف برأسي معنى لعله طاف برؤوس غيري من الناس، وذلك أن المتاجر الأخرى على طوارى الشارع باتت تحس هذه الليلة ذل الغربة، وكأنما كان هذا القرآن فتحاً في هذا الحي الإفرنجي الذي ما شهدنا فيه مثل هذا من قبل، وكأنما كان متجر الطرابيشي غزواً يباركه كتاب الله. . . وشعرت بالعزة الوطنية حق العزة وأحسست لأول مرة في هذا الشارع أن الدار داري والأهل أهلي والوطن وطني. . . وأغتلى خيالي وأنا الشاعر الذي يطير به الخيال كل مطير، فخيل إلي أن الغافقي لم يرتد عن بواتييه، وأني أسمع القرآن لا في شارع فؤاد ولا في القاهرة ولكن على ضفة السين!
مناقشة هادئة
خلود الروح
للشيخ محمد رجب البيومي
أبي أين تصير الروح حين يضيق بي عمري
أتفنى الروح كالجسم إذا غيبت في قبري
سألت العقل إيضاحاً فقال العقل لا أدري
بني الروح حين تطير تمرح في ربى الخلد
لها في الأفق تغريد يثير كوامن الوجد(753/38)
ستحيا الروح في الأخرى ويفنى الجسم في اللحد
أبي الجسم يرى بالعين أما الروح بالوهم
فهل تنجو من الموت ويمضي الموت للجسم!
كلام يأبى كالسحر يستعصي على فهمي
بني الروح في جسمك مثل الملح في الماء
فهل تنكر أنت الملح إن لم يره الرائي
إذا وسوس إبليس فلا تهمم بإصغاء
أبي لست أماري في وجود الروح بالدنيا
ولكن حينما نمضي أتفنى الروح أم تحيا؟
شكوك جففت حلي وجئتك أنشد الريا
بني العطر مقياس به يتضح الحكم
مضت أوراقه عنه وكل منه يشتم
كذاك الروح تبقى بعد ما ينعدم الجسم
أبي أوضحت بالتمثير ما دق على فكري
ففي جيبي زجاجات بها قسط من العطر
ستبقى مثله الروح ويمضي الجسم كالزهر
محمد رجب البيومي(753/39)
تعقيبات
الإسلام. . والسلام
نشرت مجلة (تايم) الأمريكية صورة خيالية للنبي محمد عليه السلام، وقد رسمته في شكل زنجي يمتطي جواداً وبيده سيف، وكتبت تحت الصورة (الإسلام لا يعرف السلام)، وتقول الوكالة التي نقلت هذا النبأ إن سفير الباكستان كان هو الدبلوماسي المسلم الوحيد الذي احتج بشدة لدى سفير أمريكا على هذه الوقاحة، وأن الدوائر الدبلوماسية في لندن قد بذلت جهوداً جبارة لمنع الهنود المسلمين أبناء الباكستان من القيام بمظاهرات عدائية ضد أمريكا.
هذا ما كان من أبناء الباكستان في لندن. أما عندنا فقد اكتفت الحكومة المصرية بمصادرة عدد المجلة ومنعه من دخول مصر، وأنا أذكر أن حكومتنا هذه قد ألقت في الأيام الأخيرة بصحفي مصري في غياهب السجون لأنه تطاول وتجاوز الحد إذ كتب كلمة خفيفة يقول فيها إن ملك اليونان وقع في حب فتاة.
ولا عجب، فنحن ناس ظرفاء جداً، ومجاملون جداً، وإننا لنحاول أن نراعي مشاعر واحساسات أولئك الذين يهوون في غير مبالاة على مشاعرنا واحساساتنا بالنعال. .
لقد كان من الواجب على حكومتنا أن تمنع تلك المجلة منعاً باتاً من دخول مصر وأن تتفاهم مع الجامعة العربية على منعها من دخول الأقطار العربية الإسلامية كلها، حتى نؤدب عبيد المال وأرقاء المنفعة ولو كلفهم ذلك التهجم على الكرامات والاستخفاف بالعواطف والاحساسات. .
وبعد. . .
فهذه ليست أول وقاحة من نوعها، ولن نكون كذلك آخر وقاحة من نوعها، ونحن نقول لتلك المجلة ولبني قومها: حقاً إن نبي (الإسلام لا يعرف السلام) مع الظلم والطغيان والزور والبهتان، والاستعمار والاستعباد، وما تعث محمد عليه الصلاة والسلام إلا ليحطم الأصنام، ويدحض عبادة الإنسان للإنسان، وينادي أهل الأرض جميعاً إلى كلمة سواء، هي التوجه إلى الله العلي الكبير، ونحن أتباعه وأجناده (لن نعرف السلام) حتى نحطم طغيانكم، ونبطل بهتانكم، وندفع استعماركم الذي تطوقون به رقاب العباد.
نحن لا نعرف السلام إلا في رعاية الإنسانية وخامتها، فمن مبلغ ذلك الكاتب الأحمق أن(753/40)
نبي الإسلام هو الذي نادى منذ أربعة عشر قرناً بأن (لا فضلَ لعربي على عجمي إلا بالتقوى. .) على حين أن قومه الأمريكان يحلون في هذا العصر - الذي يقولون عنه إنه عصر النور والحضارة - قتل الزنوج والهنود لأنهم يعتبرونهم أقل مرتبة في الإنسانية. . وبعد هذا يتحدثون عن الإنسانية وعن المدنية وعن السلام. .
هذا المجمع اللغوي:
مر على إنشاء المجمع اللغوي خمسة عشر عاماً، فقد أنشئ في عام 1932، ويذكر الذاكرون أن المرسوم الملكي الذي صدر بإنشاء المجمع قد حدد الأغراض التي طلب إليه تحقيقها وهي: (أ) أن يحافظ على سلامة اللغة العربية وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يحدد في معاجم أو تفاسير خاصة أو بغير ذلك من الطرق ما ينبغي استعماله أو تجنبه من التراكيب. (ب) أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية , أن ينشر أبحاثاً دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغير مدلولاتها. (جـ) أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بخصر وغيرها من البلاد العربية.
والآن، وبعد أن مضت تلك السنوات الطويلة التي تغيرت فيها الدنيا، وتغير العالم والتاريخ، ماذا حقق المجمع من تلك الأغراض، وماذا أجدى على اللغة من تلك المهمات التي رسمها المرسوم؟!
قالوا من زمن طويل إنه يشتغل بإنجاز معجم وسيط، وأنه بعد العدة لوضع معجم مطول، وهو إلى الآن عندما قالوا: فلا المعجم الوسيط أخرج وأنجز، ولا في المعجم المطول فكر وبحث.
وقالوا إنه سيخرج معجما تاريخياً، ثم قالوا إنه سيكتفي في ذلك بإخراج معجم المستشرق الألماني (فيشر)، وإلى الآن لم يسمع أبناء العربية خبراً عن ذلك المعجم.
وقالوا إنه سينظم دراسات للهجات العربية، وقالوا إنه سيضع ويحقق من الألفاظ العربية ما يوسع في مادة اللغة ويجعلها وافية في التعبير عن حاجات العصر، وما أحس الناس أثراً لذلك، وكل ما كان أن وضع المجمع جملة من الألفاظ والمصطلحات ولكنه طواها في مضابطه التي لا ترى النور، أو نشرها في تلك المجلة التي يوزعها على الرجال الرسميين(753/41)
الذين لا يهمهم أمر اللغة في شيء. .
والسبب في ذلك أن حكومتنا نظرت إلى المجمع كأنه هيئة تشريفية، لا هيئة عاملة، فأخذت تلصق به من تريد تشريفهم وخدمتهم لا خدمة اللغة بهم، فما أشبه المجمع في حاله الراهنة بهيئة كبار العلماء، فليس لأيهما أي أثر في الحياة العلمية.
والعجيب أن الحكومة تعمد في كثير من الأحيان إلى اختيار أعضاء في المجمع من بين الرجال الذين لهم من مشاغلهم الخاصة وأعمالهم في الدولة ما لا يسمح لهم بالتفكير في اللغة ولا في معاجمها ولا في مجمعها!!
أيها الناس، لقد مرت خمسة عشر عاماً، فقولوا لنا ماذا كسبت اللغة من هذا المجمع، وماذا كانت تخسر لو لم يكن هذا المجمع. .
غيرة!!
كتب أحد الكتاب مقالاً في إحدى الصحف يقول فيه: (إن من المؤسف حقاً أن يلاحظ الإنسان أن الصلة قد انقطعت أو كادت بين القراء المصريين والأدب الفرنسي المعاصر، فبينما كان الجيل السابق من المثقفين المصريين يعرفون الكثير عن أناتول فرانس وأندريه جيد وفرانسوا مورياك وغيرهم من الأدباء الفرنسيين الذين بلغوا أوجهم بين سنة 1900 وسنة 1925 نجد القارئ المصري المعاصر لا يكاد يعرف إلا القليل جداً عن الظاهرين من الأدباء والمفكرين الفرنسيين اليوم. .)
هذا ما قاله ذلك الكاتب بلغته وبأسلوبه، وهذا هو ما دعاه إلى التأسف والتحسر، ونحن لا ندري: أهي غيرة على الشعب المصري، أم على الأدب الفرنسي؟!
يا سيدي المتأسف: إن شبابنا منصرفون عن أدبهم، عازفون عن تراث آبائهم وأجدادهم، ولا يعنيهم أن يأخذوا منه ما يقوم ألسنتهم ويشعرهم بذاتيتهم وقوميتهم، أفما كان الأولى أن تفزع لهذا بدل أن تفزع لذلك الأدب الفرنسي الغريب. . .
لقد عنينا من قبل بأدب فرنسا، وبحضارة فرنسا، وأخلصنا لها المودة والمحبة، وأشدنا بها يوم كانت، وبكينا عليها يوم ماتت، ومع ذلك فقد خذلتنا وهي لِما نزل ملفوفة في أكفان الموت، وأبت علينا حق الحرية والحياة والكرامة.
أنشدوا أدبكم قبل أن تنشدوا أدب الناس، واحرصوا على أن تكون لكم ذاتية في تفكيركم،(753/42)
واتجهوا إلى ما خلف لكم الآباء من ثروة فكرية فإنها ثروة ضخمة نافعة، واعلموا أن التظرف بالكلمات الأعجمية وقراءة القصص الأوربية أصبح مظهراً من مظاهر التفاهة التي لا تليق بالرجال. . .
ابن هشام والدكتور زكي مبارك:
عرض والدكتور زكي مبارك في مقال له بجريدة (البلاغ) للحديث عن العلامة النحو، أبن هشام الأنصاري فامتدحه وقال إنه يعرف من فلسفة النحو ما لا يعرف سيبويه، ثم انتقده في قوله: (ويجب في المؤكد كونه معرفة، وشذ قول عائشة رضي الله عنها: ما صام رسول الله شهراً كله إلا رمضان. .) فقال الدكتور: لأول مرة أستطيع الأخذ بتلابيب ابن هشام الأنصاري، فالذي سمعناه وقرأناه أن السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأنها زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبوها عربي صريح، وزوجها سيد العرب، فكيف يكون في كلامها شذوذ في لغة العرب؟.
وهنا أحب أن ألفت نظر والدكتور زكي إلى مسألة تناولها العلماء من قبل بالبحث والمناقشة حول الاستشهاد بالحديث. فقد رأى جمهرتهم أن الأحاديث إنما رويت بالمعنى كما دخلها كثير من الأحاديث الموضوعة والمصنوعة في العصر العباسي، ولهذا منع الكثيرون الاحتجاج بالحديث في اللغة، وعلى هذا نجد النحويين يناقشون ألفاظ الأحاديث فيحكمون في بعض الأحيان بشذوذها، وأحياناً بخطئها، وأحياناً بضعفها، ولو صح عندهم الحديث بلفظه لما كان لهم أن يحكموا بتلك الأحكام، فابن هشام إنما يحكم على هذا الكلام المروي عن عائشة، ولو أن والدكتور زكي مبارك رجع إلى ما قرره العلماء في هذا في كتب النحو المبسوطة، وكتب الشواهد خاصة مثل خزانة الأدب للبغدادي لأفاد كثيراً ولما نعجل الأخذ بتلابيب ابن هشام. .
هذه مسألة، وهناك مسألة أخرى يمكن أن يفطن إليها الباحث في النحو، وهي أن أكثر الأحاديث التي يرى النحويون في ألفاظها مخالفة نحوية إنما رويت عن عائشة رضي الله عنها. . وليس تحت يدي الآن شيء من المصادر لأسرد كل ما ورد في ذلك، وهي على أي حال مسألة جديرة بالنظر وبالبحث. .
(الجاحظ)(753/43)
الأدب والفن في أسبوع
ملء كرسيين في المجمع اللغوي
كان يوم الاثنين موعد الجلسة التي عينها مجمع فؤاد الأول للغة العربية لانتخاب عضوين يشغل بهما كرسيين من الأربعة الخالية به، وقد أسفرت عملية الانتخاب عن فوز معالي الأستاذ علي عبد الرازق وزير الأوقاف والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني. وقد جرى الانتخاب بين الذين رشحهم أعضاء المجمع في جلسة سابقة والمرشح هو من يزكيه عضوان مع بيان مؤهلاته، وكان قد رشح ثمانية هم: الأستاذ علي عبد الرازق والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني والأستاذ أحمد حسن الزيات ومحمد العشماوي باشا والأستاذ إبراهيم مصطفى والأستاذ محمد على مصطفى والدكتور رمسيس جرجس والشيخ عبد السلام القباني. وكان الأستاذ الزيات تالياً في عدد الأصوات للأستاذ المازني.
وقد عرفت مما سبق أن الكراسي الخالية بالمجمع أربعة: ثلاثة منها خلت بوفاة أعضاء مصريين، وواحد خلا بوفاة عضو عراقي. وقد رأى المجمع الاقتصار الآن على شغل كرسيين بمصريين، على أثر رغبة أبديت في زيادة عدد الأعضاء الأجانب وهم الآن ثمانية وقانون المجمع يفسح لهم المدى إلى عشرة، على أن المجمع لم يتقيد بعد بشيء في هذا الصدد وليس في القانون ما يقيده.
وبعد فليت مجمعنا الموقر يُشغل الناس بإنتاجه كما يشغلهم باختيار أعضائه وعقد جلساته وتأليف لجانه.
الثقافات العالية بالبلاد العربية
ألقى الأستاذ فريد أبو حديد بك محاضرة بنادي الخريجين المصري عنوانها (على هامش المؤتمر الثقافي) فبين أهمية المؤتمر الذي عقد بلبنان في الصيف الماضي، من حيث أثره في التقريب بين وجهات النظر العربية وما أسفر عنه من نجاح في هذا وفي الموضوع الذي انعقد من أجله المؤتمر وهو وضع قدر ثقافي مشترك لطلبة التعليم إلا ابتدائي والثانوي في جميع البلاد العربية. ثم قال إن ثمة أمراً هاماً يجب أن تلتفت إليه الجامعة العربية وتوليه عنايتها، وهو رفع مستوى الثقافات العالية بالبلاد العربية حتى تساير في ذل كبريات الأمم وتشارك في الحضارة العالمية مع هيئات العالم الثقافية التي اتجهت أخيراً(753/45)
إلى التقارب والتعاون بين جميع الأمم في العلوم والفنون والآداب، والتي تنظم جهودها مؤسسة التربية والعلوم والثقافة التابعة لهيئة الأمم المتحدة.
وقال الأستاذ فريد بك إن رفع مستوى التعليم لإيجاد علماء وفنيين ممتازين ضروري لترقية المجتمع ورفع مستوى المعيشة والكرامة الإنسانية، لأن هؤلاء الممتازين في العلوم والفنون المختلفة سيعكفون على الأبحاث ويضعون المشروعات التي تؤدي إلى استنباط موارد جديدة للثروة وإلى التقدم في ميادين الصناعة والزراعة.
أما قصر الاهتمام على نشر التعليم فإنه يؤدي إلى نتيجتين سيئتين: الأولى أن الذين يتعلمون ولا يجدون العيش اللائق بهم يلجئون إلى الانحراف والثورات. والنتيجة الثانية أن المتعلم الذي يخرج إلى بيئة منحطة المستوى لا يلبث أن يندمج فيها ويفند ما ناله من التعليم.
وقد أفاض الأستاذ في شرح هذه الفكرة وضرب الأمثلة لها. ومما قاله ان الحضارة الحديثة إنما قامت في الأمم الغربية على التخصص والتبحر، أما نشر التعليم بين أفراد الشعوب فقد تلا ذلك بعد أن اتجهت الرغبات إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتهيئة الفرص للجميع.
مؤسسة دولية للآداب
من أنباء مؤسسة التربية والعلوم والثقافة التابعة لهيئة الأمم المتحدة - أن لجنة البرنامج والميزانية بها أوصت مؤتمر المؤسسة العام بإنشاء مؤسسة دولية للآداب، لتوطيد التفاهم بين الشعوب بفضل تبادل مؤلفات كبار أدبائها في نطاق واسع.
وهذه أنباء نرددها، ولا ندري أتستمر هذه المؤسسات وتتحقق أهدافها حتى يجني العالم ثمراتها أم ستقضي عليها قوى الشر المتغلغلة في دول الغرب والتي بدت أخيراً نواجذها البشعة الكريهة لمحاولة قضم فلسطين.
لم هذا؟
كتب الأستاذ إبراهيم الابياري في مجلة الثقافي كلمة بعنوان (أحمد الزين - كلمة رثاء ووفاء) بدأها هكذا: (أليلت أزغ بلبالة صدرت بها فما أنجحت حتى أصبحت. فأممت أم دار الكتب ألتمس فرجاً في عملة، وأنساً بين زملة. فما وطئت أسكفة الباب حتى يدرني البائب(753/46)
ينعى إلى (أحمد) وما أحمد. هذا حميم أحم الله حمته فقضى، وخليل أخل لخه ومضى؛ شكا إلى الطب داءه فما أشكاه، واستأنى الأجل أجل صغير يرعاه فما آناه).
وأنا أعرف الأستاذ الأبياري رجلا دمثاً وديعاً موطأ الأكناف، فعجبت كيف عمل هذه (العملة) ولم عنى نفسه بهذا العناء؟ لم لم يقل: أتى على الليل وأنا أدافع هماً لزمني حتى الصباح، بدل (أليلتُ أزع بلبالة صدرت بها فما أنجحت حتى أصبحت) وماذا جرى للبواب حتى صار (البائب)؟ أمن الوفاء يا سيد إبراهيم أن ترثي صديقنا الراحل بمثل هذا؟ وماذا جنى حتى تحصبه بمثل (هذا حميم أحم الله حمته) أو بكلمة (بقواك) في قولك (وإما الإشفاق علي بقواك فما أعوزنا معه إلى ذي حول يعين بقول) أو هذا جزاء الصديق من الصديق؟!
أذكر أنني سمعت ثناء من فقيدنا الشاعر على الأستاذ الأبياري لنبالته وسهولة خلقه، فقد زامله في إخراج بعض الكتب، ولكنه لم يكن يدري أنه سيرثيه بـ (أليلت. . الخ) وفي (الثقافة) مجلة الأصدقاء!
وبعد فما غاية هذا (التفاصح) أيريد الكاتب أن يعبر عن أساه ولوعته أم يريد أن يظهر اقتداره على التشدق بالغريب؟ أما الثانية فله أن يحمد الله على نجاحه فيها وإن كان هذا النجاح لا يهم أحداً غيره. . وأما الأولى فليس سبيلها الجهد في تأليف الغريب وتكوين تلك التراكيب التي تصرف القارئ عن مضمونها إلى غرابتها والاستغراق في العجب من معاناتها، كما صرفت الكاتب من قبل عن الموضوع إلى هذه المعاناة. . ورحم الله الزين.
الأناشيد أيضاً:
كتبت في الأسبوع الماضي كلمة عن (الأناشيد) بينت فيها ضعف ما لدينا منها وعدم وفائه بالغرض المنشود، وأشرت إلى حاجتنا في الظرف الحاضر إلى نشيد قومي نابض بالحياة يردده الجميع. . وأذكر اليوم أن الأستاذ محمد عبد الوهاب كان قد كتب في (المصري) ينعي على الشعراء قصورهم في وضع الأناشيد القوية بمعانيها وحسن تعبيرها، وفي يوم الاثنين نشرت (المصري) ردوداً لجماعة من شعرائنا على عبد الوهاب.
قال الأستاذ علي محمود طه بعد أن أبدى موافقته لعبد الوهاب في نقد الشعراء: (ورأي الأستاذ في التأليف الشعري صائب وجميل، ولكنه ينصب في كل ألفاظه ومعانيه على التأليف الموسيقي، ويتهم صاحبه بألف دليل ودليل على أن موسيقانا في أغانينا أو أناشيدنا(753/47)
بعيدة أيضاً عن الأصالة الفنية والأحاسيس الإنسانية فإذا كان ينعى على الشعراء اصطناعهم لأناشيد لا تهتز بالإحساس الإنساني ولا تحتفل بالصدق فما له هو وأصحابه سادة الفن يؤلفون لها ألحاناً فيجيء التأليف الموسيقي فاتراً شاحباً أو تلفيقاً مزوقاً).
وقال الأستاذ صالح جودت: (لحن عبد الوهاب بعض الأغنيات الوطنية مثل (نشيد العلم) و (هتف الداعي) وغيرهما ولكن التوفيق لم يحالفه فيها لأن عبد الوهاب يتميز باللون العاطفي الدافق بالحنان، وهذا لا يعيبه مطلقاً، فهذا لونه، وإنما يلبيه أن يخرج عن لونه ويلحن شيئاً ليس له سدى في نفسه) وقال: (ومن الخير لنا حين نهم بنظم أغنية وطنية ليلحنها عبد الوهاب أن تكون أغنية صادقة حقاً، من ناحيتنا ومن ناحيته، وتكون عاطفية كطبيعتنا نحن المصريين وكطبيعة موسيقارنا عبد الوهاب، وتكون خالية من الألفاظ الجافة كقصف الرعود والدماء والفداء التي لا نصيب لها من الصحة في حياتنا الوطنية)
وقال الأستاذ محمود حسن إسماعيل: (كل الأناشيد التي ظهرت حتى اليوم من جميع الشعراء المعاصرين مما أعدوه بقصد المسايرة والإجابة ومداجاة للظروف لا يدخل في رأيي في حساب الأناشيد الوطنية الحقة التي تصدر عن إثارة داخلية تدفع الشاعر دفعاً إلى هذا الفيض الوطني، ولا أذكر في تاريخ الأدب الحديث شاعراً واحداً اندفع لشعوره الذاتي بالوطنية إلى إخراج نشيد وطني واحد). . . وهكذا أجمع هؤلاء الثلاثة - وهم من شعرائنا المبرزين - على أن ما وضع من الأناشيد الوطنية إلى الآن كلام فارغ. ونقد بعضهم تلحينها من حيث أن الأداء الموسيقي غير صادق في التعبير عن الإحساس والعاطفة، وكل هذا يتلاقى مع ما أبديته من الرأي في الأسبوع الماضي. والمهم الآن أن أسجل شعور فنانينا وشعرائنا بالنقص في هذا الجانب من حياتنا الأدبية الفنية، وأن أستبشر بهذا الشعور، وأعده إرهاصاً لما يرجى بعده.
بقي لي تعقيب على ما قاله الأستاذ صالح جودت من
تميز عبد الوهاب باللون العاطفي وأن بيعتنا عاطفية
ووجوب موافقة الأغنية الوطنية لذلك، فأقول له: إن(753/48)
عاطفة الحب والغرام غير عاطفة الوطنية، والثانية
تستلزم القوة من غير شك، ونحن وإن كنا لا نبتغي
هذه القوة من الكلمات الجوفاء فإننا نطلبها من الطاقة
الوطنية التي يشعر بها الشاعر والملحن. وإذا كان
تميز عبد الوهاب إنما هو في العاطفة الغرامية
اللينةفليس من اللازم أن يلحن الوطنيات.
الأدب والثقافة بالإذاعة:
رفع إلى الجهات المختصة تقرير عن الإذاعة اللاسلكية المصرية كتبه الأستاذ عبد الحميد يونس مبيناً فيه أسباب فسادها ووسائل علاجها، وتناول بهذا البيان النواحي المختلفة للإذاعة المصرية. وقد اطلعت على نسخة من هذا التقرير فوجدت به فقرات قيمة في الأدب والثقافة بالإذاعة رأيت أن آتي بصفوتها للفائدة:
كانت الإذاعة في العهد (الماركوني) مصرية العنوان إنجليزية الجوهر والروح. استخدمها البريطانيون في صرف الشعب عن جد الحياة بإيثار التسلية غير المفيدة والترفيه المسف على الإرشاد الخفيف والتثقيف المقبول، مما لا تزال آثاره باقية إلى الآن، فإذا كانت الإذاعة في عهدها القومي تريد أن تكون أداة تقدم ورقي فيجب أن تمحو آثار العهد الاحتلالي وأن تزاوج بين الفائدة والتسلية. ولن تستقيم الإذاعة في إدارتها وفيما يصدر عنها من فن أو ثقافة إلا إذا تم الفصل بين الإنتاج الفني والإدارة الإذاعية، وإلا إذا صلحت ضمائر الحاكمين على العمل الفني وكانوا من المتأهلين له، فينتفي بذلك ما يلاحظ من عدم التخصص ومن الوسائل التي يلجأ إليها المتقدم للإذاعة والتي أهونها التملق والمصانعة.
ولا ينبغي أن يكون عمل الإذاعة مقصوراً على الانتخاب مما يعرض عليها من الإنتاج(753/49)
الفني والعقلي، وإنما يتعدى ذلك إلى إكمال النقص باستدعاء المواهب المبتعدة عن الإذاعة والاستعانة بالبارزين في الحياة الفكرية مع عدم إغفال الموهوبين من الناشئين.
وعرض التقرير للتمثيلية الإذاعية فندد بتفاهتها وانعدام الهدف والقوام الفني فيها، وما يتضمنه بعضها من أفكار فجة ومعوجة، واقترح أن يحتفل بإنتاج الأدباء المبرزين في القصة، وأن يطلب إلى الأدباء إعداد برامج مستوحاة من القصص العربي والاقتباس من روائع الأدب الغربي في القصة والتمثيل، والإشادة بمفاخر مصر والإسلام والعرب، والحذر من الفرعونيات لأن أبناء الأمم العربية الشقيقة يمقتونها مقتهم للآشورية والفينيقية وما إليهما.
وقال التقرير إن الإذاعة كادت تهمل الأقصوصة يسردها مؤلفها، وهي فن قد أصبحت له مكانة بين فنون الأدب، وفي أقرب من (الحديث) إلى نفوس الناس؛ وإن الاحتكار سرى إلى الأحاديث حتى أصبح بعض المحدثين يتصيد موضوعه تصيداً يبدو الحرج عليه وهو يلقيه، وبعضهم يحشر في موضوعاته المصطلحات الفنية التي لا تتفق وما ينبغي للعمل الإذاعي من التعميم، وصار لبعضهم حقوق ارتفاق على أبواب بعينها، كالتعريف بالكتب الذي عهد به إلى فرد معين أيا كانت كفايته الشخصية فإنها لا يمكن أن تستوعب العلوم الفنون جميعاً التي تؤلف فيها أشتات الكتب التي يقدمها. وكذلك سرى الاحتكار إلى الشعر، فليس المعول فيه على حكم الرأي العام الأدبي، إذ لا تعنى الإذاعة بتقديم الألوان المختلفة من الشعر، وإنما كل ما هناك الفرق بين الشاعر ورجال الإذاعة.
وأشار التقرير إلى الركن الثقافي الذي اختص به خريجو قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب الذي يذيع باللغة العربية ثمرات القريحة الإنجليزية وصور الحياة البريطانية ويتفنن في عرضها تفنناً لو استخدمه في غير هذا الباب لمدحناه عليه. . وقال إن هذا الركن من أثر العهد الاحتلالي، وإن التعاون الذي بينه وبين الإذاعة التي كان يختار موظفوها من خريجي هذا القسم - لم يقم تعاون مثله مع أية هيئة أخرى. . .
(العباس)(753/50)
البريد الأدبي
الفضاء والعدم والأثير
اطلعت على ما قاله الأستاذ أحمد محمد خلف في العدد 752 من الرسالة انتقاداً لما كتبته في الرسالة في موضوع (الفضاء والعدم). وهو يستنكر قولي بحتمية وجود مادة في الفضاء، ويحجني بمنطقه أني إذا كنت أجيز هذا الحتم فيجوز له أن ينقض قانون الجاذبية لأنه يمكن أن يوجد على الأرض أجسام تسقط من تحت إلى فوق خلافاً لسنة الجاذبية التي تقضي بسقوط الأجسام إلى تحت (نحو مركز الجاذبية). ولم يعطنا مثلا أو شاهداً على هذا الغرض.
لست أيها الأستاذ أنقض ناموساً من نواميس الطبيعة، ولا أنا من يقول
إن هذا الفضاء مشغول حتماً بمادة، وإنما عيناك العزيزتان حفظهما الله
وعيناي ترى الحقيقة الناصعة، وهي أن أنوار النجوم تملأ الفضاء، وما
هذه الأنوار إلا أمواج كهرطيسية من جملة الأمواج الكهرطيسية التي
تحرك طبلة الراديو وترجها فتسمعنا الأصوات البعيدة، ولا فرق بين
أن تكون هذه الأمواج فوتونية سابحة في الفضاء من تلقاء نفسها، أو
أن تكون تموجات أثيرية.
أما الأثير فما نفاه أينشطين ولا أثبته وإنما قال: إن نظريته لا تحتاج إلى الأثير، فهي تثبت سواء ثبت وجود الأثير أو انتفى.
وإذا كانت عملية ميكلهن ومرولي لم تكشف لهما سرعة الأرض في بحر الأثير، وبالتالي حكما بعدم وجود الأثير، فلأن هذين العالمين كانا موجودين مع جهازهما الذي جربا به عمليتهما، فخابت العملية التي كرراها مراراً بطرق مختلفة، ولم تنتج شيئاً لا سرعة الأرض في الأثير ولا وجود الأثير نفسه، وكان يجب أن يكونا على غير الأرض لكي يكتشفا سرها.
وقد تحير جميع العلماء من خيبة العملية في كشف سر الأثير مع أنها عملية محكمة علمياً(753/51)
تمام الإحكام لا غبار عليها. ولكن أينشطين انبرى من دون جميع العلماء مدركاً السر، ومن جراء هذه العملية تجلى له سر النسبية، فقال لهم: لا تتعجبوا من اتفاق عملية ميكلهن ومورلي وهما على جهازهما على الأرض، فلو أمكنهما أن يراقبا العملية على الأرض من سطح القمر أو المريخ مثلا لكشفا سرعة الأرض في الفضاء سواء كان الفضاء أثيرياً أو لا أثيرياً، ولكنهما وهما على سطح الأرض مع جهازهما، فلا يمكن أن يكشفا شيئاً لا سرعة الأرض ولا سكونها، كما لو كنت على سطح سفينة ضخمة فلا تشعر بسرعة السفينة، ولكن إذا كنت على الشاطئ ومرت السفينة أمامك شعرت بسرعتها.
فالحركة أو السرعة تختلف باختلاف موقع الراصد، فالراصد على الأرض يرى الأرض ساكنة والفلك يدور حولها، ولكنه إذا كان في مكان بعيد عن الأرض كالمريخ مثلا، يرى الأرض تسير في الفضاء، فالأرض لأهلها ساكنة، ولكنها لأهل المريخ متحركة - هذه هي النسبية.
فإخفاق عملية ميكلهن - مورلي نجمت عن أن الراصد والمرصود كانا في مكان واحد، والمكان يتحرك بهما وبجهازهما معاً في وقت واحد، فهنا انتفت النسبية.
فالحركة، وأية حركة، يتوف ظهورها على مكان الراصد بالنسبة إلى مكان المرصود، وهذا هو سبب الصعوبة في تصور النسبية على من يحاول دراستها.
وحاصل القول أن إخفاق عملية ميكلهن - مورلي لم يثبت وجود الأثير ولا نفاه، لأن نتيجة العملية لا تتوقف على وجود الأثير أو عدمه، بل على انتفاء النسبية فيها، فلو كان الرصد في مكان خارج عن الأرض كالمريخ مثلا لظهرت سرعة الأرض للراصد. ونحن على الأرض نكشف سرعة المريخ، ولو كنا في المريخ لاستحال علينا أن نكشف سرعته الأبراقية ما في الأفلاك من الأجرام.
نقولا الحداد
رد على رد:
اطلعت في العدد الحادي عشر من المجلد الرارع من شهر تشرين الثاني على تعقيبين للأستاذين عدنان أسد وعادل الغضبان فيما يتعلق بموضعين من المسرحية الشعرية للشاعر(753/52)
الفلسطيني العربي محمد حسن علاء الدين. (امرؤ القيس بن حجر) والموضعان هما في البيت التالي ذكره وهو:
خليلي أما صاح بلبل سجا ... فأطرب سكانا وأطرب رودا
والموضع الثاني هو الشعر الهمزي الذي أنطق به الشاعر قسما من أشخاص المسرحية وبينهم همام بن سواد وصخر بن وقاص في الصفحة السادسة بعد المائة والذي أبياته تبتدئ بقول همام به سواد
هو (الطماح) من أغرى ... به، واندس وشاء
فالأستاذ عدنان أسعد والأستاذ عادل الغضبان توعما أن فعولن لا يجوز انقلابها إلى فعل في البيت التالي وهو:
خليلي أما صاح بلبل سجا ... فأطرب سكانا وأطرب رودا
واليقين هو جواز ذلك خصوصاً إذا كان انسجام الموسيقى الشعرية واضح في البيت كما هو الأمر في هذا البيت.
وأن توقيع الشعر لا تدخله الفوضى إلا عندما يصبح الارتكاز في قواعده على أوهام لم يأت بها ذوو الآذان السليمة من نقادي الشعر ومن قائليه.
أما فيما يختص بالشعر الهمزي فإن ذهاب السيد عدنان أسعد إلى أن الشاعر حذف الحرف الأخير من (غداء) في قوله:
طموح الشئوم غداء ... طموح الشئوم جياء
فهو وهم قاده إليه فيما يبدو إلينا جهله أن حرف المد يكون بعد كل حرف للتصريع سواء أكان هذا الحرف في آخر الشطر الأول أو في آخر الشطر الثاني.
وفي مواضع كثيرة معينة ينبغي أ، لا يكتب هذا الحرف وإن كان يلفظ. ثم إن السيد عدنان لا يجعل ما كتبه واضحاً فيما يخص بأن البيت ليس فيه قبض. والسيد عدنان فيما كتبه يجعل كون البيت فيه قبض أو ليس فيه قبض متروكا في حالة غامضة أمام أنظار القارئ.
وأما قول الأستاذ عادل الغضبان أن الشعر فيه مفاعيل واحدة فهو خطأ أيضاً، ويظهر أن الوهم ذاته الذي جعل السيد عدنان يخطئ جعله يخطئ هو أيضاً، فالأمر ليس أمر مفاعيل وإنما الأمر أن الشاعر جعل في الشعر مفاعيلن ومفاعلتن وكلاهما يردان في مجزوء(753/53)
الوافر.
وأما ذهاب الأستاذ عادل إلى أن التصريع يستجاد فقط في مطالع الأشعار، فهذا مناف كل المنافاة لأسلوب الشعر المتين. فالشاعر الجزل في أسلوبه كثيراً ما يأتي في الشعر الواحد له بأكثر من بيت واحد مصرع، ويكون مجيئه بالأبيات المصرعة أو بالبيتين المصرعين لغاية توقيعية موسيقية، والتنويع في الشعر لا ينفصل عن معنى الشعر ومبناه.
حيفا
إبراهيم عبد الستار
رئيس نادي الإخاء العربي
إلى الأستاذ الفاضل العباس:
قولك يا سيدي الأستاذ هو القول الفصل؛ ولست أماري في أن الأبيات لعلية بعد الذي سقته من وجهة نظرك في كلمتك البصيرة. ولعل مما يظاهر قولك قول أبي الفرج بعد أن أورد الأبيات (وجد الفؤاد بزينبا) ضمن زيانب يونس، فقد قال: (غناه يونس ثقيلا أول الخ. . وهو مما يشك فيه من غناء يونس؛ ولعلية بنت المهدي فيه ثقيل أول آخر لا يشك فيه أنه لها، كنت فيه عن رشأ الخادم).
الحق أقول، إن هذا الشك في غناء يونس لهذه الزينبية دون سائر الزيانب التي كان يغنيها من شعر ابن رهيمة؛ هذا الشك من ناحية، ثم ما تبعه من القول فيما يتعلق بعلية من ناحية أخرى، كل أولئك كان قد جعلني أتأرجح لحظات بين الهدى والضلال، ثم مل لبث أبو الفرج أن ساقني معه فأضلني - سامحه الله - إذ قال بعد ذلك: (ومن لا يعلم يزعم أن الشعر لها) أي لعلية.
لو قام اليوم أبو الفرج فقرأ تحقيق الأستاذ العباس لرجع إلى الحق واعترف بالخطأ، ولندم على تسرعه في قوله: (ومن لا يعلم يزعم أن الشعر لها).
شكر الله للأستاذ العباس رفقه ولينه، ومد في عمره، ونفع دولة الأدب بأدبه وعلمه وفضله.
(نابلس)(753/54)
فدوى عبد الفتاح طوقان
تعبير حسابي:
أكبر ظني - إن لم يخطئ الظن - أن قول من قال (شر في شر) الرسالة ص1126، أو قول غيره (نور في نور) أو (ظلام في ظلام) بمعنى الزيادة، هو (تعبير حسابي).
وهذا التعبير لا ترضى به الضاد في غير لغة الجداول والأعداد.
وإنما الصواب أن يقال (شر على شر أو فوق شر) والله تعالى يقول (فباءوا بغضب على غضب) أو (ظلام فوق ظلام) والله تعالى يقول (كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض) أو نور على نور) والله يقول (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور). وبعد: فهذا قول الله وهذا حديثه. ومن أصدق من الله قيلا؛ ومن أصدق من الله حديثاً. . .
(الزيتون)
عدنان(753/55)
القصص
شاعر. . .!
بقلم الأديب كمال رستم
كان قد مضى موهن من الليل، وهجدت الحكة، ونامت الكائنات، وتوارت النجوم وراء ستار الغمام؛ فعمت العتمة وانبسط رواق الظلام!.
وكان هناك بصيص من نور يتسلل من خصائص نافذة منزل قائم على ناصية الطريق. . .
في هذا المنزل وفي هذه الغرفة بالذات؛ كان الشاعر يصغي إلى إحدى القطع الموسيقية تذاع من محطة (صوفيا) وقد غابت أفكاره في عوالم من خيال!.
- رحمة بشبابك يا بني. ألا تعطي جسدك حظاً من راحة؟ قالتها أمه في نغمة مريرة، وراحت تنظر إليه بعينين قد رشحت فيهما الدموع!. ولم يشأ أن يجيبها على قالتها وظل يدور على إيقاع الموسيقى وهو شارد الذهن، تائه النظر كأنما هو غائب عنها في عالم آخر غير هذا العالم الأرضي!. . .
ولكنه ما عتم أن أستنبه إلى وجودها فجأة. فتوقف عن الرقص وقال أشبه ما يكون بالحالم:
- معذرة يا أماه. فإني لألتمس راحة البدن، وهدوء الضمير في الإصغاء إلى هذه الموسيقى الإلهية؛ فإنها لا تزال تنقلني على نغماتها السماوية من آفاق إلى آفاق، حتى ليخيل إلي أنني أفنى في الوجود المطلق وأغدو ذرة مذعورة فيه!. . .
وانطلق يدور في خطوات رتيبة إلا أنها ساذجة فما كان بينها وبين النغم الساري تطابق أو اتفاق! واستطرد يقول كمن يخاطب شخوصاً غير منظورة:
- أواه يا (أوتربي) يا ربة الموسيقى، أفيضي على كياني المكدود بموسيقاك العذبة فإنها غذاء روحي، أنصتي ي أماه إلى هذا اللحن الحالم. . . إنه (لموزار) ومن قبل استمعت إلى لحنين أحدهما (لباخ) والآخر (لبيتهوفن)!. . .
إن الناس هناك في (صوفيا) ليصحون على هذه الأنغام الخالدة، وإنهم ليغفون عليها، فتهدهد آلامهم، وتحيي فيهم موات الأمل!. . .
. . . وتجاوبت في نفس أمه أصداء الحيرة، وتكلمت فيها وساوسها فأشفقت على ابنها أن(753/56)
تكون مسته مواس الجنون قالت:
- يا بني نم، وأشفق على نفسك، فإنك مجهد الحس، مضعضع البدن!
. . . وتقدم منها في وناء ومهل، وأوسد راحتيه كتفيها وقال وهو يدفعها في هينة ورفق إلى الباب:
- أحرى بك يا أماه أن تعودي إلى فراشك، وأن تدعيني وحدي تسبح أفكاري وتنطلق شاعريتي. . . إن الشاعر يا أماه لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لسواه!. . .
. . . وشاءت أن تتكلم إلا أن الكلمات ماتت على شفتيها. . . وصلت فيها دمعها يفصح عما إستسر في نفسها من ألم وكمد، ووجدت أنه لا معدى لها من أن تغادره، فمضت إلى حجرتها. . .
وبرقت في ذهنها، وفي مسترخية على فراشها، صورة ابنها يوم أن كان لا يزال في المهد كفلا غريراً. وذكرت أنها أملت وقتها أن يكون لها في المستقبل أمناً من الزمان. . . ولكن الفتى ما كاد أن يشب عن الطوق حتى صدف عن الدرس واجتوى المدرسة إذ أنس في نفسه رغبة مشبوبة في قرض الشعر. . .
وبدا لأمه أنه لا غناء في كل الجهود التي بذلتها ليعود ابنها إلى الدرس، وقد كبر في وهمه أنه شاعر. . . فغدا يتغنى بشعره الناس، وغدا يتردد اسمه على الأفواه ويغدو ذكره ملء الأسماع.
وكانت أمه تنصت إلى تلك الكلمات وإلى سواها، وتبكي في ابنها مظها العثر. فإن أقرانه قد واصلوا الدرس، وما كادوا يحصلون على درجاتهم العلمية حتى تلقتهم الوظائف الممتازة. . . وكثيراً ما كان يستجلي في عينها ما يدور برأسها فكان يقول لنفسه:
- هذه أني تبكيني حياً. لتبك اليوم؛ فإنها لن تلبث أن تضحك طويلا حينما آخذ مكاني بين فحول الشعراء، وكبار الأدباء فإنهم ليقولون في الأمثال الفرائد. إن من يضحك كثيراً لهو الذي يضحك أخيراً. . .
. . . وبقى الفتى في غرفته يدور على نغمات الموسيقى. وقد شبه له أنه يستند إلى صدر فتاة ناهد في دورة راقصة. فكان يحتوي فراغا - يمثلها - بين ذراعيه، حتى إذا ما انتهت الرقصة قال في صوت يفيض رقة وحناناً:(753/57)
- غداً نلتقي هنا يا غرمي في نفس الموعد. . . فإلى اللقاء. . . وراحت ذراعاه تطوقانها، وسعت شفتاه إلى أن التقتا، في الخيال - بشفتيها في قبلة طويلة حالمة. . .
. . . إن أقسى اللحظات التي تمر بإنسان لهي التي يستشعر فيها أنه محروم من الحب. فإنه في أعقاب هذا الشعور بالحرمان، يجفل من الناس. ويعاف صحبتهم، وينطوي على نفسه ويستوحد ولم تنشب هذه الحال السالبة أن تتحقق في أحلام اليقظة؛ فيكبر في وهمه أنه قد أحبته فتاة وأنها صارت له خليصة فهي تقابله - في الخيال - في غفلة من الناس، وتبثه لواعج الحب، وتهبه كل ما أنتكرته عليه حياة الناس. وإذا ما اختلفت على إنسان هذه الحال أدت به إلى الجنون. . .
. . . وما كادت صورة الفتاة تبرح خيال الشاعر حتى جلس إلى مكتبه وغيب يده في درج من أدراجه، وأخرج قرطاساً وقلماً وسطر بضع كلمات أنشأ مطلعها بصوت عال:
(اللحن الإلهي). . . يا له من عنوان!
وأكب على القرطاس يثبت ما عن له، حتى إذا ما فرغ من كتابته نهض إلى نافذة، وفتحها ووقف وراءها.
وراحت أنسام الفجر الندية تصافح وجهه، وتاهت نظراته في الفضاء والمحيط ثم ارتدت إليه مذعورة؛ فأغلق النافذة، وتراجع إلى فراشه، وتطرح عليه، وأسلم عينيه لإغفاءة طويلة معسولة. . .
كان محمد أو الأستاذ محمد كما يحب أن يدعوه الناس، واحداً من هؤلاء الشبان الذين يسلمون أنفسهم لقراءات غير منظمة، وكان قد انقطع عن المدرسة في أولى مراحلها فاعتمد على خبرته الضئيلة في اختيار لون الثقافة الذي يتفق ومزاجه. فلم يفد شيئاً.
وكان يبعث بمحاولاته الساذجة إلى الصحف والمجلات فكانوا - كما هو منتظر - يغفلونها ولا ينشرونها. فانعكست هذه الحال السالبة على نفسه؛ فاستشعر لأصحاب الصحف والمحررين على السواء كراهة مرة. . وصور له الوهم أنهم يغارون منه، وينفسون عليه موهبته الخالقة. . .
وكثيراً ما كان يمضي في الطريق محتضناً أفكاره، حتى إذا ما صادف صديقاً لم يشأ أن يتركه قبل أن يلقى عليه إحدى قصائده؛ وكانت خبراته بالدورات العاطفية التي تختلف(753/58)
على الناس منعدمة. فكان يقع على الواحد من أصدقائه وهو مرح الصدر، غائم الخاطر يريد أن يسمعه إحدى قصائده. فيعتذر صاحبه من عدم إمكانه سماعها. فيناله من ذلك هم كبير ويقول في نفسه:
- إن الناس عيت عقولهم عن فهم أشعاري، وفيها تلك الالتماعات الذهنية التي لا تنقاد إلا لذهن جبار! وإني عهدتهم يتهافتون على ذلك الرخيص من الأدب الذي تطالعهم به الصحف والمجلات. . . أما أنت يا محمد؛ فإن في عنقك رسالة ينبغي أن تؤديها، وإن أصحاب الرسالات ليلاقون من عنت الناس وإجحافهم ما لا قبل لغيرهم به. فلتثابر وإنك واصل بإذن الله. . .
. . . ونهض من فراشه في رأد الضحى. . . وأمر يده بين الوسائد وأخرج القرطاس الذي سطر عليه قصيدته (اللحن الإلهي) ونادى اخته، فما إن أقبلت حتى قال لها:
- اجلسي فسألقي عليك قصيدتي الجديدة (اللحن الإلهي). . . وكانت الفتاة قد تعياها الجهد من تدبير البيت. وكان لا يزال أمامها عمل شاق متواصل. فأجابته في لهجة يشيع فيها الغضب المستور: إنني جد متعبة ولا قبل في بسماع قصائدك
ومضت عنه إلى طهي الطعام وتنظيف الصحاف. وبقي هو في فراشه بعض الوقت تتردد الحسرة بين جنبيه وتمتم
- حتى أنت يا شقيقتي تبالغين في تحقير شعري وامتهانه. . .
. . . وكانوا قد أعدوا له طعام الإفطار. فما قاربه، بل ارتدى ملابسه، وانطلق إلى الطريق كمن ركبه الشيطان. وكان النهار قد انتصف، وغامت السماء، وآذنت بإمطار. . .
ودرج في الطريق وهو ذاهل لا يدري أين تقوده قدماه. . .
ونسى نفسه فراح يتغنى بقصيدته (اللحن الإلهي) وخيل إليه أن الطبيعة أطرقت تنصت إليه! لقد عدم في الناس من يستمع إليه. فليحك إلى الطبيعة شعره وليبثها آلامه. . . الطبيعة. . . إنها أخته الخليصة، فليس فيها مكر الناس وليس فيها خبثهم! وهطل المطر مدراراً بينما تابع هو طريقه غير حافل حتى لاح له مقهى على رجع البصر فخف إليه!
وتهالك على المقعد في إعياء، وراح يرقب حبات البرد وهي تساقط على الأرض في ثورة وغضب. . .(753/59)
وعن له أن يستعرض - وهو جالس - رحلة حياته فهاله أنه احتمل صنوف الهوان والذل، والعسف الجور!
وأحس بالحزن ينوش صدره، والألم يهصر قلبه. . . وتزاحمت الصور في رأسه وبرزت من بينها صورة أمه تتكلم فيها نظراتها بأن آمالها خابت فيه
ثم ومضت في ذهنه لحظات السعادة الموهوبة التي استشعرها مرة يتيمة في هدأة حب عابر. فأغمض عينيه على الذكرى الحبيبة يلتذ مقامها فما أسرع أن خبت في الماضي البعيد!
وجثم على صدره ألم الحرمان. . . الحرمان المروع. . . وعندئذ جرت على شفتيه بسمة مريرة. وهانت لديه الحياة، وود لو عاجله الموت، وتمتم:
إن من الموهوبين من لم يعرف الناس أقدارهم إلا بعد مماتهم، وأنهم كانوا في حياتهم مضطهدين، محرومين. فلعلك أنت يا محمد أن يكتب لك الخلود بعد وفاتك. . .
. . . وهدأ عند هذه الخاطرة وسكن إليها، وأخرج القرطاس والقلم من جيبه وسطر عنواناً لقصيدة جديدة. . . (الشاعر الخالد) وجرى قلمه على الصفحة البيضاء كأنه ريشة رسام مفتن. ولما فرغ من تدوين أشعاره ونهض كانت حمرة الشفق قد انتشرت في السماء. . .
وكانت نظراته وهو يدرج في الطريق عائداً إلى بيته قلقة مذعورة لا تثبت على شيء!
وكان ذهنه في مثل نظراته من الغموض والشرود. . فراح يبرق بشتى ألوان التفكير.
وانطلق يضحك في أعماق نفسه، من وجوده هو، بل من وجود الناس أجمعين. فما هي الحكمة الكبرى في خلق هذه الجموع الآدمية؟. . . أليبقوا سنوات هي في عمر الزمان لحظات قصار، ثم تبتلعهم أمهم الأرض. وكأنهم لم يدرجوا عليها يوماً. بدا له كل شيء على حقيقته، وهمّ وقبض الريح. ماذا جناه من حياته؟ لا شيء!. .
ولد، وتألم، ولن يلبث أن يمضي على الدنيا كآلاف غيره مشيعاً بحزن مصطنع، وألم مفتعل!. . .
فمن العدم أقبل. . وإلى العدم يعود. وتبقى ذكراه بين الناس تبقى رسالته التي ضمنها أشعاره تلك التي لم يقدر لأحد أن يطلع عليها حتى اليوم. . من يدري؟. . .
لعل أحداً أن يقف عليها، ولعل كاتباً منصفاً أن يكتب عنه وسمه (بالشاعر العظيم). . .(753/60)
وبلغ منزله خائراً مكدوداً فصافحه وجه أمه يشيع فيه الألم كما يعهد به!. ولما قدما له الطعام. تناوله بشهوة منهومة. إذ كان جائعاً!. . .
ودلف إلى حجرته، وأغلق الباب وراءه كما ألف أن يفعل كل مساء وتهالك على المقعد في تراخي بدن مجهد، وأخرج قصيدته (الشاعر الخالد) من جيبه وراح يستعيد قراءتها!. .
وأدار مفتاح المذياع فتناهت إلى مسمعه نغمات موسيقى عذبة حنون وشالت به أفكاره إلى السماوات العلا وهو في حال من خدر الحس وسكرة النفس. . .
. . . ولما مضى موهن من الليل، وهجدت الحركة، ونامت الكائنات؛ تسلل الشاعر في خطوات مخنوقة إلى غرفة أمه واستملى منها ون أخته نظرات طويلة حانية. . .
ولما قفل راجعاً إلى غرفته كانت تلتمع في عينيه دمعات حرى وأمتدت يده المرتعشة في صلابة وعزم إلى زجاجة (الفيرونال) التي كانت أمه تتعاطى أقراصها لتطرد عنها السهر والأرق، وأفرغ حباتها في جوفه واحدة بعد الأخرى. . .
وبينا كان اللحن ينساب في هدأة الليل حزيناً مولولا، كان الشاعر قد خارت قواه وهوى على أرض الغرفة، جثة لا حراك بها!. . .
كمال رستم(753/61)
العدد 754 - بتاريخ: 15 - 12 - 1947(/)
صليبية من نوع جديد!
شتان بين الغزوات الثمانية التي شنتها أوربا النصرانية على الشرق المسلم في مدى قرنين من العصر الوسيط، وبين هذه الصليبية التاسعة التي تشنها أوربا وأمريكا على فلسطين في هذه الأيام من عصرنا الحديث!
تلك غزوات كان مبعثها الفروسية المسيحية والعصبية الدينية، صدرت عن الإيمان وابتغت مرضاة المسيح، وهذه غزوة بعثتها اللصوصية الدولية والطماعية الدنيوية فصدرت عن الكفر وابتغت مرضاة يهوذا! ويهوذا هو اليهودي الذي باع المسيح إلى عدوه بدوانق معدودة قبل أن يصيح الديك؛ وهو الذي روى بالدم المسفوح شجرة الصليب فأثمرت العذاب للناس والخراب للأرض!
ولا يزال يهوذا المسيح ينافس في الشر إبليس آدم: يبغي الغوائل لأتباع عيسى كما ينصب الحبائل لأتباع محمد؛ فلكل مصلح من يديه صليب، ولكل نهضة من وساوسه نصيب، ولكل أمة من دسائسه فتنة!
ومن أعجب الأمور أن تتعاون اليوم دول النصرانية على أن تجعل صانع الصليب سادناً لقبر المسيح وكاهناً لكنيسة القيامة!
لقد كان بطرس الناسك ولويس التاسع أدنى إلى الإيمان من بلفور الواعد وستالين المساعد وترومان المنفذ! كانا يؤلبان حملة الصلبان على أن ينتزعوا مفاتيح الأقداس المسيحية في فلسطين من أيدي المسلمين سدنتها الشرعيين ليضعوها في أيدي النصارى الغربيين سأماً فقد حملوا الأمم المتحدة المسيحية على ظان تجود بها على سلائل (اسخريوط) من صهاينة اليهود؛ والجود بما لا تملك على من لا يستحق أغرب حوادث الجود!
ليست المسألة إذن مسألة دين أو جنس؛ إنما هي مسألة استعمار وتنافس. وليست مدافعة الصهيونيين عن قلب العروبة أمراً يعني فلسطين وحدها أو المسلمين وحدهم، إنما هو أمر يعني الأقطار العربية جمعاء، ويهم العرب مسلمين ومسيحيين على السواء!
ذلك لأن الهيضة ظهرت جراثيمها في (القرين)، ثم ظهرت أعراضها بعد أيام في (قنا). والسرطان إذا نشبت جذوره في عضو نجمت فروعه في كل عضو. والصهيونية إذا عشش بومها في خرائب (سليمان) طبقت أفراخها الأرض ما بين النيل والفرات. والعلق إذا فشا في ماء شق على ذي الدم الحار أن يعيش فيه. واليهود علق البشرية يمتصون دمها(754/1)
ثم يفرزونه كالعنكبوت خيوطاً من الذهب يصيدون بها الذباب والبعوض من ساسة أوربا وأمريكا! وما دام أمر الصهيونيين والمستعمرين قائماً على العدوان والجور، فإن الفيصل بيننا وبينهم هو القوة. والقوة منذ جعلها الله قواماً لهذا الكون أودعها الإيمان والذهب والحديد. فأما الإيمان فيجيش في الصدور العربية جيشان السيل المزبد الهادر فتسمع اصطخابه في كل بلد. وأما الذهب فيفيض من الخزائن والجيوب ولن يبخل عربي على فلسطين بمال ولا ولد. وأما الحديد فسيصوغه الذهب بأساً للإيمان وروحاً للجلاد ومعنى للجلد. ومتى اجتمعت هذه الثلاثة للجيش المجاهد فهيهات أن يقف في سبيله أحد!
أحمد حسن الزيات(754/2)
15 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
مدينة أكرا
القلعة
وتوجهنا من مزار جلال الدين أكبر إلى تاج محل، دخلناه بعد الغروب ثم عدنا إلى زيارته صباح اليوم التالي ومساءه - وسأفرد له مقالاً.
ويوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى ذهبنا إلى قلعة أكرا. وهي قلعة كبيرة تمتد أسوارها ميلاً ونصف ميل على نهر جمنه. وفيها من المساكن والدواوين والأبراج والمساجد ما لا أستطيع وصفه في هذا المقال.
وقد ذكرت من قبل قلعة دهلي ووصفت بعض ما فيها، وهذه القلعة تشبهها سعة وضخامة وكثرة أبنية، ولكن هذه أقدم، بناها جلال الدين أكبر وزاد فيها ابنه جهانكير ثم شاهجهان أعظم سلاطين هذه الدولة عمارة، وأجملهم آثاراً. بز في هذا الشأن سلفه وخلفه على عظم ما شادوا وجميل ما اثر عنهم في التاريخ وفخامة ما تركوا على الأرض.
وفي قلعة أكرا آثار لأكبر على أسلوب العمارة الهندية القديمة كالدار التي بناها لزوجه الهندكية. وكان مولعاً بالجمع بين الأساليب المختلفة وقد أسلفنا أنه حاول أن يجمع الناس على دين واحد.
وقلعة دهلي فيها تأنق شاهجان في التشييد والتجلة، وهي فيما رأيت، أحسن آثاراً وأجمل بناء، وأبقى رونقاً.
وكلتا القلعتين من شواهد الملك الضخم الفخم، والحضارة ذات الثراء والصناعة، والرفاهية والأبهة.
ومن آثار القلعتين الديوان الخاص وهو مجلس السلطان على خاصته، والديوان العام وهو مجلسه للعامة.
ومع هذا المقال صورتا الديوان العام والخاص في قلعة أكرا، والأول مبنى بالحجر الوردي(754/3)
وعليه طلاء يخيل لرائيه أنه من الرخام. وطوله 198 قدماً في عرض 67 بناه شاهجهان سنة 1057هـ والديوان الخاص من آثار شاهجهان كذلك بناه سنة 1046هـ وهو من المرمر مرصع بالجواهر. وطوله 65 قدماً في عرض 34.
مزار اعتماد الدولة
وبعد أن رأينا من آثار القلعة، ما اتسع له الوقت خرجنا من بين الآثار العظيمة الكثيرة إلى أثر صغير جميل هو ضريح مرزا غياث الدين الملقب اعتماد الدولة وهو وزير السلطان جهانكيز وأبو نورجهان زوج السلطان.
وقد بنيت هذه الأعجوبة الهندسية نورجهان في عهد زوجها. تخليداً لذكرى أبيها.
ومزار اعتماد الدولة يشبه في مدخله وفنائه وخطته المزارات الأخرى التي شادتها هذه الدولة العظيمة ولكنه أضيق رقعة وأصغر حجماً.
وهو بناء مربع في أركانه أربع أبراج جميلة مصنعة وفوقه قبة أو ظلة مستطيلة. وفي وسط البناء تحت القبة قبران لاعتماد الدولة وزوجه. وفي جوانب البناء حجرات فيها قبور لأمراء وأميرات: حجرة فيها أصف جهان وامرأته، وهما والدا ممتاز محل دفينة التاج. وسنذكرها في مقال تاج محل، وحجرة أخرى فيها كريم بك أخو اعتماد الدولة الخ.
وفي البناء جدره وقبته وأبراجه من إبداع الهندسة وعجائب التلوين بالرخام، وأفانين الصناعة في التخريم والترصيع ما يسحر الزائر ويحيره، وفيه من الجمال ما يأنس به الزائر ويسكن إليه، إلى بساطة في التخطيط تشيع النور في أرجائه، وتأذن للزائر وهو تحت القبة أن يسرح طرفه في الفناء المحيط بالبناء.
وهو يشبه في زينته وترصيعه تاج محل. وقد كمل هذا المزار قبل الشروع في بناء التاج بثلاث سنوات. واستغرق بناؤه ثماني سنوات.
وفي المقال الآتي أحاول وصف الأثر الجميل الذائع الصيت الذي يضئ ذكره في الأجيال والآفاق. وذلكم تاج الآثار الإسلامية الهندية المسمى (تاج محل).
عبد الوهاب عزام(754/4)
فلسطين:
ثلاثة رجال
للأستاذ محمود محمد شاكر
أحب أن أقدم بين يدي كلامي هذا كلمة أو كلمتين لا بد منهما: الأولى، أن أبتهل إلى الله أن يبرئ قلوبنا من الجبن والخور والبخل، وان يؤيدنا بالصبر والقوة، وأن يرفع عنا غضبه ومقته، فقد كتب علينا الجهاد في سبيله بما استطعنا. واحب لكل كاتب وقارئ أن يتوب إلى الله مما اكتسب من إثم يده أو قلبه أو لسانه، ليتجرد إلى الجهاد وهو طاهر مصمم لا تلفته الدنيا عن الدفاع عن الحق.
والثانية: أني كنت كتبت عن قضايا العرب وعن فلسطين، فكنت لا أزال أذكر الإسلام وأشفعه بذكر نصارى الشرق، لأني أعدهم منا ومن أنفسنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وكنت أرى أن نصارى الشام والعراق قد بذلوا من الجهود في قضايا العرب ما صرح عن مكنون أنفسهم وعن إخلاصهم الذي لا يدفع، وأنهم جزء لا يتجزأ من العالم العربي ومن العالم الإسلامي، وكنت أتخوف أن يقف قبط مصر مترددين عن المشاركة الصريحة في جهاد العرب والمسلمين في مسألة فلسطين، ولكني أشهد الله اليوم أن قبط مصر قد ملئوا قلوب العرب والمسلمين غبطة بهم وإكباراً لهم، وحرصاً على مودتهم حرصاً لن يعمل فيه بعد اليوم دس ولا كيد ولا وقيعة. إنه لا يحل لامرئ مسلم أو عربي بعد اليوم أن يرتاب أو يتشكك في نبل هؤلاء الأخوان الذين نصرونا في ساعة العسرة لا تدفعهم إلى هذه النصرة رغبة ولا رهبة.
وسأسجل في هذه الكلمة مآثر لرجلين من أجل النصارى شأناً، لأنهما وقفا في الجهاد موقفاً يوجب علينا أن نخلد ذكرهما في تأريخ العرب وتأريخ المسلمين، ولا سبيل إلى جزاء هذين الرجلين إلا بأن نرفع ذكرهما في هذه الساعة والى أبد الدهر، لأنهما قطعاً السبيل على كل خبيث من شياطين السياسة القذرة التي انبعثت في أوربة وأمريكا، وعلى شياطين اللؤم الصهيوني الدنيء.
أما الأول فهو الشيخ الجليل الصادق غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا يوساب، فقد اجتمع المسلمون والعرب في المسجد الجامع الأزهر في يوم الجمعة 22 المحرم سنة(754/5)
1367، فإذا الناس يفاجئون بمقدم القمص مثياس الأنطوني سكرتير غبطته مندوباً من قبله، ومعه إخوانه من رؤساء الأقباط في مصر، القمص جرجس إبراهيم رئيس الكنيسة القبطية الكبرى، والقمص عبد المسيح سعد، والقمص مرقص غالي. ودخول هؤلاء الأربعة الكرام إلى المسجد الجامع في ساعة الجمعة، ونيابتهم عن غبطة البطريق الأعظم في شهود هذا اليوم المشهود، وخطبتهم الناس في هذا المسجد، ومشاركتهم في أكبر مؤتمر إسلامي في مصر، قد دل دلالة صريحة على أن الأنبا يوساب البطريق الأعظم، هو رجل قد نور الله قلبه بالحق، وآتاه من الفطنة والصدق والأمانة في دينه وخلقة ما يجعل عمل هذا أمانة في عنق كل مسلم عربي، يحميها ويدفع عنها ويعتز بها ويكرم أصحابها في عامة أمورنا وخاصتها. وقد فعل ذلك من تلقاء نفسه غير متردد، فدل ذلك على أنه رجل سياسي مخلص، وعلى أنه يدرك تمام الإدراك كل ما يحيط بهذا الفجور الصهيوني من الخبائث، وعلى أنه يأبى أن يدخل بين أقباط مصر ومسلميها مفسد يبغي الوقيعة.
ومن قبل ما وقف هذا البطريق الأعظم موقفاً رد كيد لبريطانيين في نحورهم، وذلك في حادثة الزقازيق التي دبرتها بريطانيا لإفساد ما بين المسلمين والأقباط، فلولا حكمة هذا الرجل النبيل، لكان هذا الحادث البغيض سبباً في اشتعال نار الفتنة التي أشعلت بريطانيا مثلها من قبل لتفرق كلمة الأمة تفريقاً يجعل بعضنا لبعض عدواً. ونحن نحمد الله إذ جعل في إخواننا القبط رجلاً كهذا الرجل الجليل، يقف حارساً يقظاً على أمته وأمنا، يرد عنها كل مكيدة. وما دام في الأقباط هذا الرجل وأمثاله، فالمسلمون والعرب جميعاً لا يبالون بعد اليوم أن يبذلوا مهجهم في الذود عن إخوانهم، وفي حمايتهم، وفي الدفع عن كل شيء يسوءهم، ما بقى على ظهر هذه الأرض مسلم يؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر. إنه دين في أعناقنا للقبط، نسأل الله أن يهبنا القدرة على أدائه وإن أبواهم أن يقبلوا عن هذه المأثرة جزاء.
وأما الرجل الآخر فهو كصاحبه يتلألأ قلبه بنور الإخلاص والإيمان، تكلم فأبان عن نفس حرة أفزعت (اليهود المسئولين في مدينة الإسكندرية) أي يهود مصر، فأقبلت طائفة منهم تريد أن تثني هذا الرجل الجليل عن إذاعة حديثه، فأجابهم بأنه ما قال ما قال إلا وهو يعتقد أنه قول صريح سليم، وليس إقحاماً للدين في السياسة، وأنه يقصد حماية التراث المقدس(754/6)
للمسيحية، وإنه إنما يتكلم عن عقيدة وإيمان بما يقول. ذلكم هو الرجل النبيل غبطة البابا كريستوفورس الثاني بطريرك الإسكندرية وإفريقية الأرثوذكس.
وقد جاء في هذا الحديث أن غبطة البطريق الأعظم للروم قد دهش لإنشاء دولتين في فلسطين، ودهش أيضاً من أن تكون أمريكا والاتحاد السوفيتي هما الداعيتين إلى هذا التقسيم. ثم قال:
(وإنه لتزداد دهشتنا أن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى هذه المحاولة الجريئة رغم أحداث التأريخ الدالة على فساد هذه الفكرة وخطرها. ولهم العبرة فيما حاوله الإمبراطور جوليان الروماني. ولا ندري كيف فكرتا في وضع الأراضي المسيحية المقدسة في حماية أولئك الذين رغبوا دائماً، جماعات وأفراداً، في أن يعيشوا حتى يروا اليوم الذي لا يسمع فيه ذكر للمسيح. وهل يستطيع إنسان أن يتصور اليهود حرساً وحماة للأمكنة المقدسة. وهم الذين سيعمدون إلى تدنيسها بمجرد السيادة فيها؟
(ونحن نرى أيضاً أنه لا يمكن أن يسمح للفاتيكان أن تكون له السيادة في فلسطين، فإن الحروب الصليبية قد برهنت على فساد هذه الفكرة. ولهذا فإننا نحن الروم الأرثوذكس نرى أنه في حالة إلغاء الانتداب الدولي على الأراضي المقدسة، أو عدم وجود دولة عربية مكان هذا الانتداب، أن تعطي للمسلمين حماية هذه الأراضي، لأنهم منذ مارسوا حكمها في هذه القرون الطويلة، قد برهنوا على أنهم جديرون بثقتنا).
وهذا كلام أقل ما يقال عنه إنه كلام رجل مؤرخ عالم بصير لا يدفعه إلى ما يقول هوى لشيء ولا رهبة لمكروه. فإن غبطة البابا كريستوفورس قد قضى طفولته وشبابه في فلسطين، وقد عرف بنفسه شعور اليهود ضد العرب وضد الأرض المقدسة، كما قال متكلم بلسان البطريركية الرومية.
وقد أثبت حديث البطريق الأعظم بتمامه لأنه سوف يصبح هو وقائله جزءاً لا يتجزأ من تأريخ الإسلام، ولأننا نحن المسلمين نحن أن نحمل المنن في أعناقنا فنحافظ عليها ونرعاها وندافع عنها ونجزيها أحسن الجزاء. إن حديث هذا الشيخ الأجل سوف يصير قطعة من تاريخنا يرويه أربع مائة مليون عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وهو حدث يفسر كل ما كنا نقول به من أن مشايعة الدول الأوربية والأمريكية للصهيونية الفاجرة،(754/7)
قائمة على الصليبية الحمقاء. فهم يحاربوننا حرباً صليبية لا يستثنون فيها مسلماً ولا نصرانياً في الأرض الإسلامية والعربية وقد كان بعض الناس يعيب علينا هذا الرأي، ولكن حديث البطريق الأعظم قد كشف الغطاء عن كل ذلك، ومهد للتاريخ أرضاً جديدة يدرس فيها هذا الصراع بين أهل الشرق العربي الإسلامي من مسلمين ونصارى، وبين الغرب الصليبي من نصارى ويهود. ولكن نصارى الشرق غير نصارى الغرب، فهؤلاء قوم ملئت قلوبهم أحقاداً صليبية مظلمة لا عقل فيها ولا ضمير لها، أما نصارى الشرق فهم يعرفون تمام المعرفة أن نصارى الغرب قوم مفترون جاهلون متعصبون يريدون أن يدنسوا هذه الأرض المقدسة باليهود عداوة للمسلمين غير ناظرين إلا بالعين الصليبية البغيضة، لا بعين الإنصاف والحق كما ينظر نصارى المشرق. وحسبنا هذا البيان من البطريق الأعظم، فإنه حسنة لن ينساها له مسلم إلى أن تقوم الساعة.
وقبل أن أنتهي إلى ذكر الرجل الثالث أحب أن أنبه القارئ، وأنبه قومي العرب في كل مكان، وفي مصر خاصة، إلى أنه ما كاد (يهود مصر) يعلمون نبأ إذاعة هذا الحديث في الصحف حتى تبادروا إلى غبطته يريدون أن يثنوه عن نشره وإذاعته. فما معنى هذا الذي يفعله اليهود الذين خلعنا نحن عليهم الجنسية المصرية؟ وماذا تقول حكومتنا في هؤلاء القوم الذين يريدون أن يكونوا أعواناً للصهيونية في قلب بلادنا في هذه الساعة؟ أو يحدث هذا في مصر في الأسبوع الماضي، وإذا بنا يقرأ اليوم (8 ديسمبر سنة 1947) أن الشرطة العراقية ألقت القبض عند الحدود العراقية السورية على ثلاثة يهود عراقيين من موظفي شركة الزيت العراقية ومعهم جهاز إرسال لاسلكي. فما معنى هذا؟ ليعلم اليهود أن العرب لن يقبلوا أن يكون للطابور الخامس عمل في بلادهم.
وننتهي من هذا التعليق لنضم إليه خبر الرجل الثالث الذي ينبغي أن يعرفه العرب والمسلمون، فقد أفضى سيادة حايم ناحوم أفندي الحاخام الأكبر للطائفة الإسرائيلية في مصر بالتصريح الآتي:
(إني أرى أن مركزي بوصف كوني رئيساً دنياً وروحياً لأبناء الطائفة الإسرائيلية، يحول بيني وبين الخوض على صفحات الصحف في أي مناقشات مهما كان نوعها أو الغرض منها. ولكن إزاء كثرة ما وجه إلينا من أسئلة واستفهامات أرى أن واجبي يحتم علي أن(754/8)
أتوجه إلى السائلين والى جموع الأمة المصرية الكريمة بكلمة أرجو أن تكون حداً فاصلاً لهذا الموضوع: فأبناء الطائفة الإسرائيلية التي أتشرف برياستهم الدينية هم جزء لا يتجزأ عن الأمة المصرية، يشعرون بشعورها ويتألمون لألمها. فكيف إذن يحاول البعض التشكيك في عواطفهم نحو أبناء بلدتهم المصريين. إن دستور البلاد يكفل لنا جميع الحقوق الممنوحة لبناء مصر الكريمة سواء سواء، ولذلك فإن واجبنا نحو بلادنا يجعلنا نعمل بشعورنا كمصريين. وقد أصدرت أمري إلى رجال الكنائس الإسرائيلية بإقامة الطقوس الدينية ليعظوا فيها أبناء الطائفة على أن يتضافروا مع إخوانهم المصريين في هذا الظرف العصيب).
ونحن نشكر الحاخام الأكبر، ولكن ليعلم سيادته أنه قبل أن يتوجه إلينا بكلام يكون (حداً فاصلاً ينبغي أن يعمل هو وأبناء طائفته عملاً يكون (حداً فاصلاً) وهذا مع الأسف لم يحدث قط، وأخشى أن أقول إنه لن يحدث قط. ثم ليأذن لنا سيادته أو نوجه نظرة الكريم إلى الذي ذكرناه وذكرته الصحف ولم يستنكره أحد من يهود مصر، وهو ذهاب بعض المسئولين من اليهود في ثغر الإسكندرية) كي يثنوا البطريق الأعظم للروم الأرثوذكس عن إذاعة حديثه. أهذا أيضاً إقحام للدين في السياسة.
وليأذن لنا سيادته أن نقول له إننا نعيش في أرض مصر، واليهود يعيشون معنا فيها لا في التاريخ، وأننا نعلم علماً يقيناً أن جمهوراً كبيراً من شباب اليهود في مصر، يجري بينهم الحديث وبين المصريين، فلا نجد أحداً منهم يكتم مشايعته لإنشاء دولة يهودية في فلسطين، بل يفرح بها ويصر على التصريح بأنها خير لبلادنا، وأنه ينبغي علينا نحن العرب أن نعاون على إنشاء هذه الدولة، وأن نعيش معاً في سعادة وأمن ورخاء!
وليأذن لنا سيادته أيضاً أن ننبهه إلى أن هذه الساعة التي جاش فيها العالم الإسلامي والعربي، ليدفع عن فلسطين الجور الذي أرادت هيئة (الأمم المتحدة) التي تصرفها روسيا وأمريكا وبريطانيا، هي ساعة فاصلة في تأريخ العرب والمسلمين ونصارى الشرق جميعاً، وليأذن لنا أن ننبهه أيضاً أن النار المشتعلة الآن تفصح كل الإفصاح عن المعنى الذي ينطوي عليه تقسيم فلسطين، فكيف ذهب عن فطنة سيادته أن يذكر كلمة واحدة صريحة تفصح أيضاً كل الإفصاح عن استنكاره واستنكار طائفته لهذا التقسيم الجائر الذي أرادت(754/9)
أن تفرضه على العرب هيئة الأمم المتحدة؟
وليأذن لنا سيادته أيضاً أن ننبهه إلى أن الصهيونية تدعى أنها تتكلم باسم يهود العالم جميعاً، وأن جميع الدلائل إلى اليوم تدل على أن كثرة يهود العالم منضمة إليهم، فما هو الضمان الذي يقدمه لنا سيادته حتى تطمئن قلوبنا إلى أن يهود مصر ليسوا كيهود سائر العالم؟
وليأذن لنا سيادته أيضاً أن ننبهه إلى أن الصهيونية قد أذاعت منذ القديم أنها تريد أن تستولي على أرض إسرائيل كلها من الفرات إلى النيل، وأن هذا مطبوع منشور في كتبهم، وأنه حين أذاع نبأ التقسيم وقف مفلوك صهيوني يستنكر التقسيم ثم يرضي به على مضض، لأنه الخطوة الأولى التي تفضي إلى استيلائهم على أرض بني إسرائيل كلها من الفرات إلى النيل. وأنا لا أظن أن مثل هذا مما يغيب عن الرجل الفاضل العالم أحد أعضاء المجمع اللغوي العربي.
وليأذن لنا سيادته أن نذكره بوصية في محكم تنزيله إذ يقول: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، فالمسلمون والعرب جميعاً سوف يقاتلون من يقاتلهم من الصهيونيين، أما سائر اليهود فلن يعتدي عليهم مسلم ولا عربي ما داموا في ذمتنا ولا يؤلبون علينا. فهل يأذن سيادته بأن يعلم أن المسألة ليست مسألة سياسية نريد أن نقحم الدين فيها، بل هي مصير العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل يأذن لنا أن نسأله أن يدفع عن يهود مصر كل شك وريبة بأن يصدر بياناً صريحاً عن موقف يهود مصر في مسألة التقسيم؟ وهل يأذن لنا سيادته أن نطالبه ونطالب أبناء ملته من يهود مصر بأن يفعلوا فعلاً صريحاً واضحاً يدل على أن عواطفهم هي عواطف الأمة المصرية تشعر بشعورها وتتألم بألمها؟ وهل يأذن لنا سيادته أن نقول له إن هذا الذي يجري الآن ليس (ظرفاً عصيباً) كما جاء في كلامه، بل هو أوضح من ذلك، هو حرب بيننا وبين يهود العالم وكل من يناصرهم من الأمم، وأنها حرب سوف تستمر إلى أن يستقر الحق في قراره ولو طالت مائة عام؟ أفليس من الحكمة إذن أن يتخلى الحاخام الأعظم عن العزلة التي يريدها لنفسه، ويدخل هو وأبناء طائفته في الجهاد الذي كتب علينا نحن العرب من مسلمين ونصارى ويهود لكي ندفع عن بيت المقدس أدناس الصهيونية؟(754/10)
هذه كلمة مجاهد عربي يتقدم بها إلى الحاخام الأعظم تعليقاً على حديثه الذي سوف يبقى مذكوراً في تأريخ الإسلام والعرب لم أعمد فيها إلى شرح أشياء أعرفها حق المعرفة، انتظاراً لما يكون من عمل سيادة الحاخام الأكبر ليعلم. وسيادته أن الأحداث أسرع من لمحات البرق في السحاب المتراكب، فليبادر إلى الخير مبادرة من عرف وجه الحق فلم يحجم به إلى الجهاد خوف ولا فزع ولا إرهاب. أن عمل الحاخام الأكبر هو (الحد الفاصل) الذي ينتظره اليوم أربعمائة مليون مسلم قد استيقظوا وأدركوا أن يهود العالم قد أعلنوا عليهم الحرب، فلم يخدعهم بعد اليوم شيء عن الطريق الذي سار آباؤهم من قبل، فنصرهم الله وأيدهم وهزم أعداءهم وأعلى كلمتهم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.
محمود محمد شاكر(754/11)
كيف حاولت أن أكون خطيباً
للأستاذ زهدي الشواف
إنها محاولة لا أذكرها الآن إلا ضحكت من نفسي. . . فلقد كانت نزوة من نزوات الشباب الطائش، وهفوة من هفوات العاطفة الجموح. . . وما أكثر ما تخطئ العاطفة، وما أكثر ما تزل المرء في مزالق السخف!. . ولقد قدر لنا أن نتحرر من ربقتها لبرئنا من الضحك من أنفسنا، ولترفعنا عن كثير من المهازل التي تتمثل على مسرح الحياة.
لقد عينتي وزارة المعارف معلماً في مدرسة ابتدائية فبادرت للعمل فرحاً، ولم أكد أدخل الصف حتى ألفيت نفسي بين حشد من الأطفال لا يحصيهم عد. . . لقد كانوا لحداثة عهدهم بالمدرسة أشبه بالمهارة الناشزة التي لم تروض على الركوب، وكانوا مزيجاً غريباً من طبقات اجتماعية مختلفة، متفاوتين فهما وخلقاً وإدراكاً.
وما أن رأوني مقبلاً عليهم حتى سكتوا لحظة، ثم راحوا يتطاولون بأعناقهم فينظرون إلي. وبعد هنيهة عادوا إلى حديثهم وعكفوا على لهوهم، كأني لم أحل بينهم أو كأنهم في ساحة البلد لا تجمعهم مدرسة ولا يهيمن عليهم نظام. ولقد فكرت في عصا ولكن التعاليم التربوية الحديثة تقول (إن الضرب ممنوع في المدارس. . .) نعم أن الضرب ممنوع لأنه ينافي التعاليم التربوية ولكن حشر مائة طالب في غرفة واحدة لا ينافيها!. هذا هو فهمنا للتعاليم!. . وهذا هو مدى تطبيقنا إياها!. . .
وقد حاولت تأمين النظام بكل ما أوتيت من حكمة ولكن جهودي كلها ذهبت عبثاً. وأنى لي أن أفلح والطلاب منصرفون عني. فهم بين جالس على مقعد، ومضطجع على حصير، وواقف خلف (درف) الشباك. . . إن المقاعد لم تكن لتسعهم كلهم. . . فما ذنبهم؟. . وما ذنبي؟. . .
لقد أتيت المدرسة مزوداً بالتعاليم الحديثة مشبعاً بالأفكار المثالية ولكن ما أسرع ما وجدت أن تلك التعاليم ظل لا حقيقة له، وأن هذه الأفكار بعيدة عن متناول اليد بعد السماء عن الأرض.
وانتصفت الساعة الأولى وأنا حائر في أمري لا أجد مخرجاً لي مما أنا فيه. فلما يئست من إصلاحهم ركنت للحيلة، وذكرت أني كنت رأيت قبيل مجيئي للمدرسة أناساً التفوا حول(754/12)
خطيب يتكلم بصوت جهوري، وذكرت أنهم كانوا يصغون إليه هادئين صامتين فأحببت أن أقلد هذا الخطيب لعلي أظفر بهدوء الطلاب وصمتهم. فصعدت المنبر وانطلقت أتكلم بصوت جهوري: (أيها الطلاب!. . .) ولم أكد أنبس بأول كلمة حتى صمتوا وتوجهوا إلي بأنظارهم وأفكارهم. . . يا للمعجزة!. . . لقد نجحت طريقتي على ما فيها من سخف!. . لقد عرفت لأول مرة أن النجاح في الحياة قد تقوم على السخف والتدجيل أكثر من يقوم على العبقرية. . . لقد توارت التعاليم التربوية أمام التعاليم السوقية، وتلاشت الأفكار المثالية أمام الأفكار الصحفية، واصطنع السخف ما لم يستطع العقل له صنعاً.
وراحت الكلمات تنبعث من فمي كالرعد والأطفال صامتون. وما أدري اصمتوا متأثرين ببلاغتي، أم سكتوا دهشين لرؤيتي أتكلم بكلام مستغلق لا معنى له. ومهما يكن في الأمر من شيء فقد أغراني هدوءهم فاسترسلت في الخطابة حتى نسيت أني في الصف وتملكني الحماس فرحت أقرع الطاولة بيدي. . . ويبدو أن صدى صوتي قد ملأ أرجاء المدرسة فبادر المعلمون لاستطلاع الخبر ولكنهم لم يجسروا على فتح الباب وإنما لبثوا خلفه يسترقون السمع.
ولقد أنصتوا وأنصتوا ولكن لم يفهموا شيئاً. وأني لهم أن يفهموا كلاماً مزج الأدب بالتربية، وخلط العلم بالفن، فأصبح لا تربط بين أجزائه رابطة، ولا تقوم بين عناصره علاقة. . . إني لم أترك كلمة احفظها (لوليم جيمس) إلا أتيت عليها. ولم أدع بيتاً أرويه للمتنبي إلا ذكرته. ولقد كان لقوانين الكيمياء والفيزياء النصيب الأوفى من محاضرتي فإني كنت لا أزال حديث العهد بها أحفظها عن ظهر قلب. . .
وبينا أنا عاكف على إغراق طلابي في بحار العلم والحكمة، رفع أحدهم إصبعه فما كان مني إلا أن صحت به (ما لك؟) فمال بإصبعه وبعينه نحو الباب. . . فالتفت. . . ويا لهول ما رأيت. ويا للخجل!. . إنهم المعلمون.
وماتت الكلمات على شفتي فجأة. . . لقد صحوت من النشوة التي كانت تعتادني. ونزلت من عالم الوهم إلى عالم الحقيقة المرة. . . يا إلهي أين كنت؟. . .
وبادرني أحد الزملاء قائلاً: (لقد انتهى الدرس) فأمرت الطلاب بالخروج من الصف ثم انضممت إلى المعلمين ولم أترك لهم مجال النقد وإنما رحت أوهمهم بأن ما قمت به إن هو(754/13)
إلا تطبيق لقاعدة تربوية مشهورة ابتدعها المربي الكبير (أوغست كونت) وما سمع زملائي الأكارم بهذا الاسم حتى شرعوا يثنون علي ويطرون طريقته هذه. . . وإني أعترف الآن أن الحظ ساعفني في تلك اللحظة فاستطعت أن أخرج من هذا المأزق الحرج ناصع الجبين، محاطاً بهالة من إعجاب الزملاء والطلاب. . . ولكنني خرجت من المدرسة ولم أعد إليها، وما زال معلموها - أحسن الله إليهم - يذكرون أسمي مقروناً بالثناء العطر، وما زال طلابها - وقد اصبحوا شباباً - يرون أني المثال الذي يقتدي به علماً وأدباً.
لقد خرجت من المدرسة ولم أعد إليها. ورمت بي الأيام مرامي شتى فغيرت من طبيعة عملي ولكنها لم تستطع أن تتطرق إلى فكرة بقيت كامنة في قرارة نفسي، تلك الفكرة هي: (أني خلقت خطيباً. . . فيجب أن أكون خطيباً. . .).
ومرت أيام وأيام أصبحت بعدها محامياً فوجدت أن الخطابة أصبحت من لوازم مهنتي ولقيت الفرصة مناسبة (لإظهار مواهبي ثم أدركني ما يدرك كل محام ناشئ في (حماه) ففكرت بأنني قد درست المحاماة لا لأكون محامياً فحسب، بل لأكون نائباً أدافع عن حقوق الشعب تحت قبة البرلمان.
وكيف لا أطمع في النيابة وقد رأيت جاري (أبا نادر) زعيماً يتصدر مجلس الحي ويبحث في قانون روسيا ويناقشه، ثم يحمل على أمريكا وينتقد دستورها وسياستها. (وأبو نادر) أمي يجهل حتى موقع روسيا على الخارطة، ولا عرف عن أمريكا إلا أنها البلد الذي كان يهاجر إليه السوريون لكسب الرزق. . . لقد قرنت نفسي (بأبي نادر) فوجدت أني أكثر منه أهلية وكفاية وأخذت أعد للزعامة عدتها فرحت أحترم الكبير وأعطف على الصغير وأحيي كل مار أصادفه في الطريق، وأغشي كل ندي وأزور كل سامر. . . إنها مهمة شاقة ولكنها الوسيلة الوحيدة للزعامة في هذا البلد.
وشعرت بحاجتي للخطابة، وعاودني الحنين إليها. وما إن خطبت مرة واحدة حتى أصبحت المجالس تشتاق لسماع صوتي. وأضحى القوم يشيرون إلي بالبنان ويعدونني مجاهداً. . . وما أعظم هذا اللقب!. . وما أرخصه في هذا البلد!. . إني - شهد الله - لم أحمل عصا ولم لأرم حجراً، ولكنه لقب ساقه إلى القدر كما ساقه لغيري، فلن لا أفيد منه، ولم لا أنتفع ببركاته. إن خطبة واحدة جعلتني مجاهداً، فكيف بي لو خطبت كثيراً. . . إني سأكون في(754/14)
عداد الزعماء الخالدين. . .
إن الكلام رأس مال الزعماء، فلم لا أكون من أهل الكلام؟ هذه حقيقة أيقنت بها فأحببت أن أروض نفسي على الخطابة ورحت أفتش عن مكان خال من الناس، ناء عن المدينة فلم أجد خيراً من قبة (البرناوي) القائمة على مسافة كيلو متر من شمالي حماه الغربي، على سفح منحدر ينتهي بطريق ضيقة تؤدي إلى البساتين النائمة في أحضان (العاصي).
وهناك كنت أقضي الآصال هانئاً بالوحدة، ناعماً بمنظر الخضرة والماء. . وكنت أخطب فأطيل ولا أمل؛ ويتملكني الحماس فأرغي وأزبد، ولا أجد من يسمع صوتي غير البقرات العائدات من البساتين، وقد رحن يمشين مشياً وئيداً في الطريق الضيقة في أسفل المنحدر وخلفهن بعض القرويين التعساء. . . وكن إذا ما مررن من أمامي بعيداً عني وسمعن صوتي يقفن قليلاً ويملن بعنقهن نحوي ثم يهززن رءوسهن وبعدن لسيرهن فيخيل إلي أنهن يقلن لي: (إذا أصبحت نائباً فأرخص لنا الشعير. . .) فأجيبهن: (نعم سأرخص لكن الشعير أيتها البقرات العزيزات!. . .)
وقد ملكت الخطابة نفسي فأصبحت وكلامي كله يكاد يكون خطابة. . واتفق أن رجعت ذات مساء إلى البيت ودخلت غرفتي وأغلقت الباب وشرعت أخطب. . وما هي إلا لحظات حتى انفتح الباب ودخلت أمي والدموع تملأ عينها: (سلم الله عقلك!. . ماذا أصابك يا بني!.) فلزمت الصمت ولم أحر جواباً. ولكنها أردفت قائلة: (أتريد أن تكون كجارنا أبي رشيد. . .) وخيم الصمت علينا ثم انسحبت من الغرفة وأغلقت وراءها الباب. ولم أكد أخلوا إلى نفسي حتى فكرت فيما قالته أمي. . وأصغيت قليلاً فإذا بصوت جارنا (أبي رشيد) يخترق الظلام ويطرق سمعي.
مسكين أبو رشيد!. . لقد مر عليه شهران والأغلال تلازم يديه والقيود تثقل رجليه. . إنهم يقولون أن به مصاً من الجنون. إنه لم يؤذ جاراً ولم يضر إنساناً ولكن أبناءه بصروا به يخطب في الشوارع والأسواق فاقتادوه إلى بيته وحبسوه في غرفته. . . لقد بح صوته وهو يقول أن ليس به مجنون. ولكن ما من سامع! واختنق وهو يدعو للأخلاق القويمة. . ولكن ما من يطيع!. وهذا صوته يصل إلى أذني ضئيلاً وهو ينادي:_أيها القوم! الدين لله والوطن للجميع!. أن بناء الوطن لا يقوم على الطين والأحجار ولكن على المهج والأكباد.(754/15)
المصلحة العامة رائدنا ونجاح الأمة غايتنا. .).
ما أعذب هذه الكلمات!. لقد طالما سمعتها تتردد في كل مكان وعلى كل شفة، يا للعجب:. . هذه الكلمات التي رفعت أناساً إلى مصاف الزعماء والقادة تنحدر بأبي رشيد إلى ظلام غرفته ووحشتها. . . ورحت أفكر طويلاً في أمر أبي رشيد!. . مسكين أبو رشيد!. . لقد حكمت عليه الهيئة الاجتماعية بالجنون ولا ذنب له غير الدعوة إلى الأخلاق القويمة. . ومن يعلم؟. لعل بين جنبي أبي رشيد نفساً أجدر بالزعامة من كثير من النفوس التي تتبوأ عرش الزعامة، ولكن الهيئة الاجتماعية حكمت عليه بالجنون فكان مجنوناً. لقد كانت مقاييس الجنون طبية بحتة، ولكن المجتمع جعلها اجتماعية بحتة فخلق من الحمقى قادة، وجعل من العقلاء مجانين.
وكان الليل قد انتصف فاضطجعت في فراشي وصورة (أبي رشيد) لا تبارح خيالي، وصوته لا ينفك بطرق مسمعي ضئيلاً ضعيفاً. ونمت وقد عولت على ترك الخطابة. . ونمت وقد شيعت كل آمالي وأحلامي. .
وما أشرقت شمس النهار حتى كنت أنهض من فراشي. . . وما مالت الشمس للغروب حتى كنت أدرج إلى (البناوي) لأنقع غليلي بالخطابة. . . لقد سلوت أبا رشيد، ونسيت العظة البالغة التي حملها إلى صوته في الليل البارحة. . . لقد مضت تلك العظة مع الليل وما كان الإنسان أن يتعظ بما فات. .
ووقفت على المنحدر كسابق عهدي أرسل الجمل المتتالية، والكلمات متداخلة حتى شعرت أن الأرض تهتز من وقع كلامي ورأيت أن الأشجار تتمايل في أقصى البستان من هول خطابي. ولقد تملكني الحماس فرحت أكثر من الإشارات. ونشأت أضرب الأرض برجلي. وفجأة شعرت بيد قوية تضغط على كتفي والتفت فإذا بمسدسين مصوبين إلى رأسي، وإذا أنا أنام أمام أثنين من رجال الشرطة الأشداء يتقدمان إلي ويحاولان إلقاء القبض علي ولقد سدت المفاجأة علي منافذ التفكير فلم أعد أدري ما أصنع، وهمت بالابتعاد عن الشرطيين ولكنهما صاحا بصوت واحد.
- حذار أن تتحرك وإلا قتلناك!. .
- وعلام ذلك. وما هذه المعاملة الشاذة!. احترموا الناس أنا محام. . أنا أستاذ. . أنا. .(754/16)
- محام. . أستاذ. . هذا ما يخيله لك الجنون!. .
- الجنون. . .
- أخرس وإلا قتلناك!. . .
ولما أبصرت الجد في كلامهما، ورأيت أن من العبث مناقشتهما لزمت الصمت وأنقدت إليهما فضربا على يدي بالوثاق ورحنا نحث الخطى إلى مخفر (الحسنين).
ودخلنا المخفر مع الليل، ولم نتخط القبة حتى كنا أمام المأمور (القومسير) ولقد كان هذا يعرفني معرفة تامة فلك يكد يراني حتى انتصب واقفاً ونظر إلى رجاله مشدوهاً، وقلب يديه مستفهماً عن السر في القبض علي. فأجابه أحد رجاله:
- إنه يدعي أنه محام. . . وأنه أستاذ. . .
- من يكون إذاً؟. . .
- إنه المجنون الذي أرسلتنا بطلب، المجنون الذي روع المارة في سفح البرناوي هذا الصباح بما كان يلقيه عليهم من حجارة.
تألم (القومسير) لهذه الكلمات وارتسم الألم على محياه. ثم أسرع إلى الوثاق فحله وراح يستعذر إلى عن فعل رجاله، والتفت إليهما يؤنبهما. . وما ينفع الاعتذار!. وما يجدي التأنيب!. لقد كان ما كان وشدت يداي بالوثاق، وأخذت كما يؤخذ المجرمون والمجانين. . . لقد خرجت من المخفر وأنا لا أعي ما أصنع. . . لقد كانت الصدمة أليمة أنستني الخطابة، وزهدتني في النيابة. ولم يدر أحد بما أصابني فقد كتم رجال الشرطة - على غير أمتهم - الأمر ولقد كانت الطريق التي جزناها من البرناوي إلى المخفر مقفرة من المارة. . وأني لا أزال أحمد الله كثيراً على أن الخبر لم ينتشر وإلا رغب الطامحون عن الخطابة كما رغبت، وزهد المغرمون بالنيابة كما زهدت، ولأمست حماه لا تسمع لخطيب صوتاً ولا ترى لنائب وجهاً.
حماه (سوريا)
زهدي الشواف(754/17)
طرائف من العصر المملوكي:
2 - ابن الوردي والخمول
للأستاذ محمود رزق سليم
لست أدري أيصبح (الخمول) مبدأ فلسفياً يعتنقه بعض الناس في هذه الحياة، ويستشعر من وراء اعتناقه سعادة وراحة ورضا. . وهل في مكنة امرئ أن يدفع نفسه دفعاً في زاوية من الخمول يقبع فيها قانع النفس راضي البال قرير العين بخموله. . . أم أن المرء بظروفه وبيئته، وبدرجة ذكائه وحظه من المعرفة، قد يؤتي نصيباً من الشهرة والصيت، وقد يحرم. يؤتي هذا النصيب قسراً عنه، ويحرمه قسراً عنه كذلك. وصحيح أن المرء بجده وكده واجتهاده وجلادة يكون عاملاً من أهم العوامل في شهرة نفسه، وفي إيتائها نصيباً من الصيت والحظ الحسن. ولكن مما لا شك فيه أن عوامل أخرى خارجة عن إرادته، ذات صلة وثيقة بإيجاد هذه الشهرة، وخلق ذلك الصيت والحظ. قد تكون هذه العوامل معينة للمرء تأتي إليه طائعة مختارة وفق ما يهوي ويشتهي، فيصل بها إلى ما يرجو من الشهرة، في سهولة ويسر. وقد تكون معوقة له واقفة في سبيله حجر عثرة، قاسية عاصية فلا يصل إلى ما يرجو إلا بعد لأي وشدة. وقد لا يصل. والدنيا ذات عجائب، فكثيراً ما تسوق الشهرة إلى من يستحقها، وتضفي عليه ذيول النعمة، ثم تنحيها عن رجل هو أهل لها، وتحرمه أسباب الرضا. وقديماً قال الشاعر.
متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
وبدهي أن المرء الذي من حقه أن تنبه الدنيا شأنه، ليس أمراً عادياً، بل قد أوتي من الذكاء وخصوبة الذهن، ورزق من المعرفة وسعة التفكير، والقدرة على الإنتاج، حظاً واسعاً جديراً بأن يجعل منه رجلاً مشهوراً من حقه أن تسعى إليه الدنيا، وأن تنبه شأنه. ودون شك، هو يرى نفسه جديراً بهذا السعي والنباهة. فإن أوتي منهما حظاً سعد به. وإن حرم، فإما أن يجدد جهاده وجلاده، حتى يصل ما تصبوا إليه نفسه. وإما أن ييئس ويستنيم إلى الخمول، ويتخذ منه مبدأ فلسفياً، ومعتنقاً بعيش به، ويتسلى باعتناقه، ويجد لذة في الائتناس به، تعوضه عما فقده من شهرة، وعما حرمه من نعمة الصيت، وعما فاته من مباهج الحياة. ولكنني - كما ذكرت - لست أدري تماماً هل يجد الخامل - أو المتخامل - لذة في(754/18)
خموله - أو تخامله - ويستشعر من ورائه سعادة وراحة ورضا.؟ أم هي سعادة اليائس وراحة القانط.؟ وكم من سعادة في اليأس، وكم من راحة في القنوط. .
ثم أيستطيع هذا الخامل - وقد وهب له الله عوامل النباهة مركبة في طوايا نفسه - أن يستنيم طويلاً إلى بأسه، ويسكن زماناً إلى خموله، والدنيا من حوله تتحرك ويسير ركبها. . . وأنداده فيها يصلون إلى منازل دونها منزلته، ويسمون إلى مكانات من تحتها مكانته، وتسعى إليهم الدنيا أكثر مما سعت إليه، مع أنه يشآهم علماً وفقهاً وأدباً، ويسبقهم ذكاء وحيلة.
وهل هذا خمول الذي يدفع نفسه بيت أحضانه دفعاً، يحلو له ويروقه على الدوام، أم أنه نوبة من نوبات يأسه، ومضاعفة من مضاعفات قنوطة، عما قليل يفيق منها ثم يعود إلى سيرته الأولى من الكفاح والجلاد والدأب في طلب الشهرة، والجد في سبيل نعيم الدنيا. .
على أنني أكاد أعتقد أن المرء الذي من حقه أن تنبه الدنيا شأنه، ولكنها حرمته النباهة، فدس نفسه بين أحضان الخمول دساً، إنما ابتغى من وراء ذلك الخمول ضرباً جديداً من نباهة الشأن. وما ذلك منه إلا الحيلة الأخيرة لليائس القانط. الحيلة الأخيرة يجربها، فيدعي الخمول، ويتخذه وسيلة إلى الشهرة. . ويمقت الدنيا لكي تسعى إليه، ويتجمع عن الناس لكي يتساءلوا عنه. .
هذه كلها ضروب من المعاني تنتاب ذهن الإنسان عندما يقرأ طوائف من شعر ابن الوردي.
زين الدين ابن الوردي - عمر بن مظفر - من أنبع شعراء النصف الأول من القرن الثامن الهجري. وقد توفي عام 947 هـ وقد نشا في مدينة حلب، وكانت إحدى نيابات المملكة المصرية حينذاك. وقد أوتي ابن الوردي نصيباً محموداً من الذكاء وحضور البديهة وسعة العلم. فقد كان أدبياً كاتباً شاعراً فقيهاً. درس فقه الشافعي فبرع فيه وبذ إخوانه وأصبح من علماء هذا المذهب الأعلام، حتى أنه اختير للنيابة في الحكم - أي قاضياً في الأقاليم - ينوب عن قاضي قضاة الشافعية، وكان كفئاً في منصبه.
ومال منذ حداثة سنه إلى الأدب، فكتب وأنشأ، ودبج الرسائل والإجازات العلمية والمقامات والمفاخرات. وقرض الشعر وافتن فيه، ونظم في أبواب منه شتى، منها: الغزل والفخر(754/19)
والحماسة والمدح والهجاء والنقد والوصف والشكوى والزهد والاعتذار والإخوانيات والفكاهة والنصيحة والحكمة ونظم في النصيحة والحكمة والنقد قصيدته اللامية المشهورة ذات الأبيات والأمثال السائرة. ونهج في أسلوبه نهج شعراء عصره من الإغراق في البديع وبخاصة التورية والتضمين والاقتباس، مع رصانة وانسجام وقلة تكلف.
ولم يقتصر اهتمامه بالأدب على النثر والشعر، بل نظم في العلوم وله في ذلك (نظم البهجة الوردية) في أكثر من خمسة آلاف بيت، وهي في الفقه. وضرب في الشعر العامي بسهم، ونظم المواليا والدوبيت.
وفوق ما تقدم برع في النحو حتى أصبح فيه حجة، وألف فيه مؤلفات نافعة. وله في التاريخ كتاب (تتمة المختصر) وهو تذبيل على مختصر أبي الفداء. وله في التقويم كتاب (خريدة العجائب).
وقد طوف ابن الوردي في آفاق عدة من الديار الشامية، وربما وفد على مصر. وذلك سعياً وراء الرزق، وطلباً للعلم. فاستفاد من العلم شيئاً كثيراً، وإن كان لم يستفد من الرزق ما يريد.
وقد انعقدت في خلال ذلك أواصر المحبة والمودة بينه وبين كثير من أفذاذ عصره - وقد كان جيله غاصاً بهم - ومنهم أبناء فضل الله العمري وزراء البلاد الشامية وكتاب سرها. وجمال الدين بن نباته الشاعر المصري. وشهاب الدين بن المرحل النحوي المصري. وعلا الدين بن أيبك الأديب الدمشقي. والقاضي بدر الدين بن الخشاب المصري، والقاضي شمس الدين محمد بن النقيب، والقاضي كمال الدين بن الزملكاني، والمجتهد الفقيه ابن تيمية الحرائي. وغيرهم.
وكان ابن الوردي يجادل كلاً من هؤلاء، أو يقارضه الشعر، مجادلة الند للند، ومقارضة الصديق للصديق. وهكذا راسل وساجل. وربما كان من بينهم من هو أرفع منه منزلة وأعز جاهاً وأوسع مالاً، ولكن وشيجة الأدب والعلم كانت أقرب الوشائج بينهم وأسماها.
نحن لا نحاول هنا أن نترجم ترجمة وافية لابن الوردي. بل ولا نحاول أن نتحدث عن شعره حديثاً كاملاً. وكل ما نرمي إله في هذه الموجزة أن نتحدث عن خمول ابن الوردي. فكان لا بد لنا من أن ننوه بمزاياه وبمنزلته بين العلماء والأدباء، ليحق لنا أن نتساءل بعد(754/20)
ذلك: (هل كان ابن الوردي خاملاً)؟. . والخامل في نظرنا رجل قليل الحيلة ضيق العطن قريب غور الذكاء. ولم يكن ابن الوردي كذلك. فقد قال:
أحسن مدارة الورى ... يعد عليك نفعها
كم من يد قبلتها ... كان بودي قطعها
لم يكن ابن الوردي قليل الحيلة، ولا كان خاملاً - كما رأينا - ولنه مع ذلك، اعتنق الخمول وأتخذه عقيدة له ومبدأ. فقمت الدنيا وذم أهلها، وأنجمع عن الناس وابتعد عن مجالسهم، وطلق المناصب وحمل على الساعين إليها. وكل هذا في مرارة لديه ولوعة. قال:
أتهزأ بي لما أجد وتلعب ... وتعجب من حالي وحالك أعجب
ألا طالما قد كنت مثلك ساعياً ... لجاه ومال جاهداً أتطلب
وطال اجتنابي للخمول فذقته ... فطاب فأحببت الذي أتجنب
وما العيش إلا في الخمول مع الغني ... فشكراً لمن في فضله أتقلب
رضيت كساوي واستخرت بطالتي ... وقلبي مسرور وعيشي طيب
وما ذاك من مال جزيل وإنما ... كفاني كفاف والقناعة تغلب
ولو ذقتم طيب القناعة متم ... عليها ولكن بدرها تهيب
تركت لكم عز القضاء وجاهه ... وأبعدت عنه خائفاً أترقب
فقوموا على ساقي حديد وشمروا ... لنيل علاء واهجروا النوم واطلبوا
وميلوا وجوروا واحكموا وتخولوا ... وصولوا وطولوا وانبذوا الزهد وانبهوا
ستعلم نفس أي حمل تحملت ... ليوم أسى من هوله الطفل أشيب
لقد نلت من كنز القناعة بغيتي ... وجانبت حرصي والحريص معذب
وعفت بني الدنيا وغادرت برهم ... لغيري فلا أشكو ولا أتعتب
(يتبع)
محمود رزق سليم
مدرس بكلية اللغة العربية(754/21)
مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)
للأستاذ مناور عويس
(تتمة)
ما قرأت نعيمه - شاعراً أو ناثراً - إلا أحسست بدبيب الروح يسري في عروقي، وما أصغيت إليه - خطيباً ومذيعاً - وأحسنت الإصغاء والاستجابة إلا خيل إلي أنني أسمع أنغاماً شجية علوية تنبعث من عالم سحري مجهول، ومن رآه يلقي خطابه سلام الله وسلام الناس، في قاعة جمعية الشبان المسيحية في القدس خاله نبياً من أنبياء العهد القديم واقفاً على أحد تلال أورشليم يعلم ويعظ ويتوعد!.
وما شعرت بأفضليتي على غيري إلا توارد على خاطري بيتاه اللذان يخاطب بهما الدودة:
ولولا ضباب الشك يا دودة الثري ... لكنت ألاقي في دبيبك إيماني
لعمرك (يا أختاه!) ما في حياتنا ... مراتب قدر أو تفاوت أثمان!
سوف يأتي ذلك الزمن الذي يدرك فيه الناس قيمة نعيمه الأديب الشاعر الإنسان، نعيمه الذي أدمى قدميه سري الليل وقطع المهامة المخوفة ليصل إلى محراب الحياة، ومن أقل الذين وصلوا إلى ما وصل إليه نعيمه!. . .
نعيمة الذي أذاب قلبه وسماه (همس الجفون) و (زاد المعاد) و (المراحل) و (البيادر) وما هي إلا روحه صاغها ألحاناً وسكبها كلمات ومقاطع ناشراً في تضاعيفها الحب والخير والسلام والجمال بين الناس وساعياً إلى إيجاد عالم فاضل يليق بصورة الله ومثاله!. . .
قال صديق الأديب عندما قرأت له ما تقدم من الكلام: (أنك تغدق على نعيمه من الثناء كما لو كان نبياً! فأجبته:) لو كان نعيمه شاعراً وكاتباً ومفكراً فحسب لما خلعت عليه هذا الوشاح من الإجلال ولما رأيت فيه الإنسان الشامل للأديب الكامل، فالشعراء والكتاب والمفكرون كثيرون بحمد الله ولكن نعيمة إلى فنه الرائع وتفكيره العميق رسول من رسل الروح وثورة على المادية التي أرهقت الإنسان حتى كادت تصرعه. هو صاحب رسالة إنسانية شاملة يؤديها عن طريق الأدب، إنه ثورة على جمود القلب وتحجر الروح في هذا الزمن الرقيع!. . .
هو ناشر تعاليم الشرق الدينية والفلسفية وملبسها ثوبها القشيب، هو باعث (غوتامابوذا،(754/23)
ولاوتسو) من مرقديهما ومعيد بردة الشباب إليهما في القرن العشرين، هو غضبة من غضبات (يتيم قريش) في زمن كثر فيه اليتامى والتعساء!
وأخيراً هو صرخة من صرخات (الناصري) في عصر كثر فيه الصراخ وارتفع العويل حتى كاد صوت الحديد يطغي على صوت الله!!. . .
إن من يقرأ (همس الجفون) يجد أن نعيمه قد مرت عليه مراحل كان فيها عرضة للتجارب التي لا بد منها (للعارفين) ففي قصيدته (أنشودة) يقول:
ألقيت دلوي بين الدلاء ... وقلت علي احظي بماء
فعاد دلوي مع الدلاء ... وليس فيه إلا رجائي
علقت عودي على الغصون ... وقلت علي أسلو شجوني
فلم تردد على الغصون ... أوتارُ عودي إلا جنوني!
علوت يوماً متن جوادي ... ورشتُ سهمي على الأعادي
فخر ميتاً تحتي جوادي ... وعاد سهمي إلى فؤادي!
أدرت وجهي نحو السحاب ... وصحتُ: رب: خفف عذابي
فجاء صوت من التراب ... يصيح: رب: خفف عذابي!
في هذه الأنشودة نسمع صراخ روح نعيمه التي قابلت الشر بالخير والبغض بالحب فعاد خيرها عليها شراً وحبها بغضاً، غير أنه اهتدى في المقطع الأخير من أنشودته إلى حقيقة استراح إليها وهي: أن الحياة حقل يستثمره الإنسان وبقدر البذار والعمل ونوعيهما تكون الغلة.
والعيش حقل تستثمرينه ... يعطيك مما تستودعينه!
وقد توسع نعيمه في هذا المعنى في فصله الرائع (موزع البريد) أو القدر في كتابه الفريد المشهور (البيادر).
وفي أنشودة نعيمه هذه صور ومشاهد من معترك الحياة اليومي، فهو يصور نفسه فارساً يوقع أنشودته على خبب جواده كما يعرض علينا فصولاً مألوفة من صراع الإنسان على هذا الكوكب، ففي كل مقطع من مقاطع الأنشودة صورة بارزة قد استوفت جميع خطوطها وألوانها؛ وتلك ظاهرة جلية في شعر نعيمة فلكل قصيدة من قصائده ألحانها التي تنسجم مع(754/24)
بحرها ورويها وتتجاوب مع روحها ومغزاها. فإذا اجتمع لنا الفكر الرجيح والخيال المجنح والموسيقى الشجية مع توفر الصدق والإحساس ودقة التعبير كان لنا أدب رائع يستحق أن نفاخر به الأمم والأجيال وكل ذلك متوفر في شعر نعيمه ونثره. . .
والآن انتقل بك أيها القارئ إلى لون آخر من مائدة نعيمه الروحية فأعرض عليك شيئاً من شعره المتشائم الحزين. فقصيدته (قبور تدور) على ما فيها من تشاؤم مر يبعث الألم والحزن في القلوب، حقيقة نعرفها ولكن لا نريد أن نصدقها، وهو في هذه القصيدة يمجد جمال الروح ويزدري جمال الجسد كما يؤمن بأن الفناء بقاء وأن البقاء امتثال لإرادة الله كما أن الرجاء شقاء البقاء والمساء شقيق الصباح.
بعينيك نور تراه العيون ... جميلاً فتضحك منها المنون
لأن المنايا تحدق فيك ... بعين الزمان التي لا تخون
فتبصر في مقلتيك تراباً ... وتبصر دوداً وراء الجفون!
فخلى جمالاً يراه الغرور ... وليست تراه عيون الدهور
وخلى الجهاد وخلى الطموح ... وخلى القصور وحي القبور
ودوري مع الكون جيلاً فجيلاً ... فهل نحن إلا قبور تدور؟!
إن نعيمه لا يريد أن ننخدع بقشور عن لبابها ولا يحب لنا أن تعمينا أعراضها عن جوهرها، لهذا لجأ إلى ذلك الأسلوب العنيف ليحد من شهواتنا ويهذب من غرائزنا التي تتهالك على الجمال الفاني تهالك الذباب على الحلوى، ذلك الجمال الذي لا تكاد نعب منه حتى يزداد عطشنا ونحس بالجوع يمزق أحشاءنا؛ وليس أسلوب نعيمه هذا بدعة في الأساليب، فقبلة الأنبياء والمصلحون الروحيون قد استعانوا بهذا الأسلوب للحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة، والأديان السماوية تقوم على الوعيد أكثر مما تقوم على الوعود، ونعيمه فضلاً عن تأثره العميق - روحاً وتفكيراً وأسلوباً - بالكتب المقدسة والديانات والفلسفات الهندية والصينية نرى للأدب الروسي عامة ولتستوي ودستويفسكي خاصة أثراً ملموساً في بساطة تعبيره ونزعته الروحية والصوفية المشبعة بالحكمة العالية. . وظاهرة أخرى تلفت النظر في شعر نعيمه وهي أن قصائده متقاربة التاريخ فآخر تأريخ لما نظمه بالعربية هو عام 1925، ففي شعره تجد الإيمان إلى جانب الشك والتسليم إلى(754/25)
جانب الثورة مما يدلنا على أنه في فترة شبابه كان عرضة لتقلبات الأجواء الفكرية والنزعات الوجدانية، فبينما نراه في قصيدته (الطمأنينة) مؤمناً بأ سقف بيته من حديد وركنه من حجر، لا يخشى عواصف الرياح ولا هطول المطر، يستخف بالهموم والنحوس والشقاء والضجر ويتحدى خطوب الدهر أن تنزل به الألوف لأن باب قلبه حصين من صنوف الكدر إذ حالف القضاء ورافق القدر، نجده في بعض قصائده الأخرى شاكاً مرتاباً أو حزيناً متشائماً، كما نراه في قصيدته (الهم) يخشى أن يبعث معه الهم يوم القيامة:
أخاف أن ما دفنا ... يقوم يوم القيامة!. . .
ثم أصغ إليه في قصيدة (النهر المتجمد) كيف ينتهي خطابه لذلك النهر.
يا نهر ذا قلبي أراه كما أراك مكبلاً ... والفرق أنك سوف تنشط من عقالك وهو لا!
والذي أريد أن أخلص إليه هو أن نعيمه سجل في شعره - على قلته - نبضات قلبه وخلجات روحه، فشعره صورة صادقة معبرة عن حياته الفكرية والروحية. وأعيد القول بأن نعيمه هو ثورة على (التحجرية الأدبية) و (الانكماشات الانعزالية الإقليمية) ورسالته الإنسانية الشاملة لا تعرف للوطنية حدوداً (كرتونية) ولا للقومية عصبية قبلية دموية، وهو حد قول الشاعر
وطني الدنيا وديني خالقي ... وأخي كل شقي في البشر!
(يافا)
مناور عويس(754/26)
حس مرهف
للأستاذ ثروت أباظة
قالوا إنه فلان بك! ألم تسمع به؟ فلم أكد أجيب بالنفي حتى ضج القوم بالعجب وقالوا: إنه فلان بك! فقلت: تشرفنا. فقالوا: كيف لا تعرفه؟ فاعتذرت من جهلي الفاضح وصوبت في الرجل طرفي وصعدته فإذا متراكب اللحم متراكم الشحم منبعج البطن صغير العينين أفطس الأنف، له فم يوائم ضخامته يعلوه شاربا ينتهي سبالاهما عند أنفه؛ وهكذا يرسم لك الشاربان والأنف بيضة كبيرة مكتملة؛ فإذا نفث من فمه دخان شيشته كان من زمجرتها وركام دخانها أشبه بقطار خرب.
وتكلم. . . فوالله ما وجدت أتفه من قوله، فمن حديث عن غناه، إلى نبذة عن هواه، فإن سما فأخلاط غثة في السياسة. . وهكذا. . وهكذا جرى الحديث أو وقف على شر ما يجري حديث أو يقف، والرجل ماض في الثرثرة وأنا على موعد في هذا المكان فلا معدي لي عن السماع. إنه يدخل بال مناسبة في حديث عن إحساسه وشعوره. . إنه مرهف يعيش على أعصابه. . لا حول ولا قوة إلا بالله! هو مريض. . لا بأعصابه، ولكن بحب المرض بأعصابه.
وبعض الناس ينتابهم هذا المرض، وهو داء خلقه الله ولم يخلق له دواء؛ فإنك أن قلت للمريض به إنه غير مريض غضب واعترته هزة مصطنعة، وراح يرعش يده، ويبرق بعينيه، ويهدر بألفاظه. . إن هذا المرض في نظر أصحابه نوع من الرفاهية.
عرفت شاعراً مجيداً قرأت له قبل أن أعرفه، وما كدت ألقاه حتى أنطلق يذكر مصائبه فعرفت أنه موسر، وأن زوجته حبيبته وملهمة وحيه، وعرفت أن الحياة تمد له من أسباب السعادة وتطالعها بأبهى حللها. . عرفت هذا كله من مصائبه. . فهو يحول كل جميل إلى قبيح بمنظار داكن. . إنه مريض. . ولما حاولت أن آخذ بيده إلى الطريق جذب يده بعنف، وآلمه أني لا أحس بآلامه. ولولا أنها المقابلة الأولى لرماني بجمود العاطفة وبلادة الحس. . فصرت كلما قابلته أرثي لحاله مهما كان مسروراً حتى أصبح يستطيع لقائي ويستروح عزائي!
انتبهت من هذه الخواطر على صوت موحيها الشهير ما يزال يروي لي - وهو يظن أني(754/27)
أسمعه - كيف بلغت أعصابه من الحدة مبلغاً لا يمكن للإنسان أن يصل إليه، ولكن لم يطل فقد وافته برقية قرأها فاستجمع في ذهنه مظاهر الحزن التي يقرأ عنها ثم ألصقها على وجهه فبدا وكأنه حزين. فم مطبق، وجبين مقطب، ورعشة يد غير منتظمة! ولكني أشهد الله لم يكن ثمة خلجة من حزن على وجهة. . ماذا؟. . قريب له قد مات. . البقاء لله. . هكذا قلنا. . ورجاه الجالسون - وأنا معهم - أن يتصبر فصبر، ثم أطلقت نكته فضحك. . لم يبك الرجل، ولم يقم ذو الشعور الرهيف إلى مصابه، بل أقام في مجلسه يكمل الحديث عن حس رقيق في خلاله وشعور رقيق اختصه به الله. . .
لم أطلق صبراً فقلت له: يا سيدي. . إنك تتكلم عن أعصابك تصفها بالرفاهية والرقة حتى كدنا نعتقد أنك نسيج من أعصاب غير مغلف؛ وها أنت ذا تقدم أعصابك في امتحان؛ وها هي ذي تنجح نجاحاً لا تجوزه أقوى الأعصاب نسجاً وأشدها متانة. ألم يمت لك قريب.؟ ألم تضحك؟. . لا. . لا تقل إنك تعزي نفسك، إن العزاء يكون بعد النعي بيوم؛ هذا لمتين الأعصاب، أما لمرهفها فعشرة على الأقل. . يا سيدي مل بنا عن هذا الحديث أظنني كنت ثائراً. . ولا شك أنني فضولي ولكنني على أي حال (صاحب أعصاب أيضاً)
قام الرجل من جلسته ونظر إلي في احتقار شديد وقال: أنت أهنتني، وليس من دأبي أن أرد الإهانة بمثلها، فإلى اللقاء.
- متانة أعصاب أيضاً!
سمعها الرجل بظهره فلم يشأ أن يطيل الحديث فانصرف
- من هو؟
- غني يشتري أذناً صاغية لكلامه، وحزناً لمزعوم آلامه، بأن يدفع ثمن القهوة
- قسمة ضيزى! لقد غبنكم الرجل
- نعم أحسسنا بهذا منذ أيام، فشكراً لك على إنقاذنا منه
- العفو!
ثروت أباظة(754/28)
الذكرى الأولى:
شكيب الشاعر
للشيخ محمد رجب البيومي
- 1 -
(لو لم يكن شكيب كاتباً فريداً لكان شاعراً مجيداً؛ فهما كفتان كلما رجحت الواحدة شالت الأخرى)
المنفلوطي
مات أمير البيان.
منذ عام كامل خرجت الصحف على قرائها بهذا النبأ الفاجع فأشعلت القلوب حسرة، وأرمضت الجوانح لوعة، ولقد سقطت من عيني عبرات محرقة، كأني أطالع نعي صديق حبيب، تصلني به وشائج القرابة والصحبة ولا عجب في ذلك، فقد تتلمذت سنوات عديدة على أمير البيان، أدرس كتبه فأستفيد، وأحفظ قصائده فأنتفع، كما أنظر إلى مواقفه الرائعة في نصرة القضايا العربية، فأتمنى أن يوجد بين زعماء الشرق من يقتفي أثره؛ وينسج على منواله في التضحية والفداء.
ولقد شعرت بحنين رائد ينازعني إلى الكتابة عنه، فكنت أسائل نفسي ما عسى أن أقول في هذا الرجل، وقد كان أمة وحده تسعى وراء العظائم، وتضطلع بما تنوء به شم الفيالق، وهو فوق ذلك بحاثة قدير تسير مؤلفاته مسير الشمس في الكون، وناثر موهوب تتزاحم عليه المعاني الفائقة فيختار منها كل جميل فائق، وشاعر مطبوع تتطامن له رقاب القوافي، ويسلسل لديه كل أبي جموح.
غير أن الذين تكلموا عنه طيلة العام الفائت لم يتعرضوا إلى شعره الرائع بما ينبغي أن يلم به كل متحدث عن الأمير، وكأني بجهاده السياسي، ونثره العلمي، قد طغيا على ما تغنى به رحمة الله من فاتن النظم، وبارع القصيد، لذلك رأيت أن أتحدث عن فنه الرفيع ليعلم من يتشدقون اليوم بالهراء الغث كيف يكون القريض العربي في ديباجته المشرقة، وعاطفته الجياشة، وليدرك القارئ هذا الفرق الواضح بين من يحافظ على عربيته الخالصة، ولهجته(754/29)
الأصيلة، وبين من يضله الله على علم، فينقل ما وعاه من دواوين الفرنجة، دون أن يشعر بإحساس صادق لما يقول، ويزيد فيجعل لغته قلقة مفككة تنادي على نفسها بالويل والثبور.
ولقد نشأ الشاعر في أسرة عربية عريقة يتصل نسبها بالنعمان ابن المنذر عظيم الحيرة في عهدها البسام، فلا غرابة إذن حين نجد الأرسلانيين مفطورين على الطبائع العربية التي تحدث عنها تاريخنا المجيد، من حب للمروءة، وذود عن الحياض، وتعلق بالشعر يسمعه العربي، فتهتز أعطافه مرحاً، ويرقص قلبه طرباً على موسيقاه، لأنه يفصح عن ذات نفسه أصدق إفصاح.
وسيصدق القارئ كلامي هذا حين يعلم أن الأمير شكيباً وأخويه الأميرين نسيباً وعادلاً قد تركوا للشعر العربي كنزاً ثميناً يعتز بفرائده ويباهي بلآلئه وما ظنك بأشقاء ثلاثة فيهم الصناجة الصناع، والذواقة المفن، والطائر والصداح.
وقد ولد شكيب بعد أخيه نسيب بسنة ونصف فنشأ كالتوأمين دخلا المدرسة معاً، وتخرجا معاً، وبدت مخايل شاعريتهما في سن مبكرة، وهل سمعت أن شاعراً نشر قصائده في الصحف وهو في الرابعة عشرة من عمره قبل شكيب؟ وهل سمعت أن شاعراً كان الأول في مسابقة شعرية عامة، وهو في السادسة عشرة قبل نسيب!؟ كل هذا كان بفضل الموهبة الشعرية التي انتقلت إليهما عن طريق الوراثة، والتي ترعرعت بما حفظاه في عهد الحداثة من شعر جيد، قد ارتقى بهما درجات في سلم الكمال.
على أن القدر قد ساق إليهما في ذلك العهد الشيخ محمد عبده إذ كان أستاذاً في المدرسة السلطانية ببيروت، فدلهما على شعر البارودي وهو كما نعلم إشراق لفظ وجودة معنى، حيث أكبا على قصائده حفظاً واستظهاراً، ولا تسل عما يفعله الشاعر المعاصر في أبناء جيله، فهو يقرب إليهم البعيد، ويدني منهم الشاسع، كما يخلق فيهم الرغبة الملحة في الارتقاء إلى منزلة، والصعود إلى ذروته، ومن هنا كان سامي نهراً صافياً فاض عليهما في بيروت بالنمير العذب كما فاض على شوقي وحافظ بوادي النيل.
ولقد كان أثر البارودي في شكيب أوضح منه في نسيب، فإنه جذب الأول إلى من يشابهونه من شعراء بني العباس، فكان قنطرة عبر منها الأمير إلى البحتري والمتنبي والشريف وأخيراً ممن قطف رب السيف والقلم أزاهيرهم الناضرة؛ أما نسيب فقد عكف - كما يقول(754/30)
أمير البيان - على قراءة شعراء المعلقات ومن لف وأنت حين تقرأ له تحتاج إلى غير قليل من التريث والاطمئنان، على أنه قد يتأثر بالبارودي فتراه وسطاً بين الجزالة والسلاسة كأن يقول في فقير بائس.
يخد أديم الأرض خداً كأنما ... له قبل الغبراء ثأر مخلف
جبين بمرفض الصبيب مضمخ ... وشعر بملتص الغبار مغلف
وجيد خفوق الأخد عين كأنما ... تبينت من أوداجه الدم ينطف
إذا زلزلته سرعة الخطو أوشكت ... أضالعه في زوره تتقصف
كأن أزير الجوف عند وجيبه ... حسيس هشيم والندى يتوكف
يساقط نثر الطين عنه إذا مشى ... كما فض ختم الدين سكران معنف
كأني به إذ فرق الترب والحصى ... يفتش هل في باطن الأرض منصف
إذا استنجد الآمال عند اكتئابه ... تبدي له ستر من القار مغرف
وعلى كل فقد كان أمير البيان أكثر توفيقاً في هيامه بالشعر العباسي وحده، فقد نضح عليه من العذوبة والرقة، ما جعل شعره حبيباً إلى نفوس قرائه. ومن نعم الله على شكيب أن هيأ له الأسماع التي تصيخ معجبة إلى إنتاجه من يوم أن عرفته العربية أديباً يافعاً يتنقل بين حجرات درسه فكان لا ينشر في الجرائد - مع حداثة عمره - قصيدة إلا تردد صداها في ربوع الشام، ولقد شجعه هذا على المضي في سبيله، فاستمر يظهر للعيون قلائده من حين إلى حين، وما بلغ السابعة عشرة من سنه، حتى جمع ما نشره متفرقاً في الصحف بديوان صغير أسماه الباكورة، وقد جعل إهداءه للأستاذ الإمام، متودداً إليه في تواضع، معترفاً بضآلة هديته في جانب ما يليق أن يهدي إلى حكيم الإسلام فهو يقول في إهدائه.
هي دون ما يهدي إليك وطالما ... قبل الكبير هدية من صاغر
أهديتها لا لكي تليق وإنما ... مثلى على ما فاق ليس بقادر
ومهما يكن من شئ فقد كان لظهور الباكورة رنين في مختلف الصحف الشامية، فهذا تقرظ، وتلك تنقد، مما أكسب الشاعر الناشئ منزلة في القلوب، والواقع أن في ديوان الباكورة شاعرية غضة، تدل على مستقبل زاهر، إلا أنها - والحق يقال - لا تستأهل هذه الضجة الكبيرة، إذا قيست بما يقال في عهدنا الحاضر بعد تنوع المذاهب الشعرية، ولكنها بالنسبة(754/31)
إلى زمنها السالف حميدة مقبولة، لأنها محاكاة للشعر القديم في دقة تدل على نظر ثاقب وفكر حصيف، على أن الدقة كانت تخون الأمير في بعض الأحايين، فيظهر شعره معلناً عن أصله الذي قيس عليه وإليك قوله في مطلع قصيدة.
بقلبي ما تهمي العيون وتأرق ... وللعين ما يبلى الفؤاد ويرهق
وما كنت ممن يرهق العشق قلبه ... ولكن من يدري فنونك يعشق
فهذان البيتان يشهدان أنهما مأخوذان من قول المتنبي.
لعينك ما يلقي الفؤاد وما لقي ... وللشوق ما لم يبق مني وما بقي
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق
ومثل هذا التقليد في (الباكورة) كثير.
وما كاد أمير البيان بتجاوز هذا الدور ويخطو في العقد الثالث من عمره حتى تمكن من فنه واستوى على قمة مجده، فصار جيد السبك، وثاب الخيال، بعيداً عما بيناه من المحاكاة والتقليد، ولقد كان مولعاً بأستاذه البارودي إلى درجة جعلته يكثر من التفكير فيه، فصار لا يكتب مقالاً في جريدة أو بحثاً في مجلة، إلا توجه بشعر سامي، مبالغاً في إطرائه، وتشاء الأقدار أن تقع بعض هذه الكلمات في يد رب السيف والقلم، وهو نازح عن عرينه في سر نديب، فيدفعه شوق عاصف إلى من يثني عليه ثم يغلو به الحنين فيكتب إلى الأمير على بعد الدار ونزوح المزار.
أشدت بذكرى بادئاً ومعقباً ... وأمسكت لم أنبس ولم أتكلم
وما ذاك ضنا بالوداد على امرئ ... حباني به لكن تهيبت مقدمي
ولك أن تتصور فرحة الأمير بكتاب أستاذه، فقد حقق له أمله الكبير في التعرف به، فطفق يحمد الظروف الطيبة التي هيأت له ما يريد، ثم كتب إليه قصيدة عصماء تشتعل وجداً وتندلع حناناً وفيها يقول.
إلى كل يوم فيك وجد كأنما ... طوى جانحاً منى على نار ميسم
حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالسدرة العليا ألية مقسم
لألفيت عندي دوس مشتجر ألقنا ... وخوضي في حوض من الدم مفعم
أقل لقلبي في المواقف هيبة ... وأهون من ذاك المقام المعظم(754/32)
وهذا تصوير جميل يدلك على ما وصل إليه الأمير في درجات الشعر وأظن الفرق بينه وبين الباكورة بعيد، فهذا شعر قوي محكم اعتمد فيه الأمير على نفسه وانتزعه من ذات صدره، فجاء ينطق ببراعة قائلة الفنان، وإني لأعجب كيف اندفع البارودي إلى تلميذه الناشئ هذا الاندفاع الغريب، فقد نظم فيه من الفرائد كما لو كان خدين شبابه ورفيق صباه، كأن يقول.
أنا أهواك فطرة ليس فيها ... من مساغ للنقض والإبرام
جمعتنا الآداب قبل التلاقي ... بنسيم الأرواح لا الأجسام
فبلغنا بالود ما لم ينله ... بحنان القربى ذوو الأرحام
وإذا الحب لم يكن ذاد واع ... كان أرسى قواعداً من شمام
هذا وقد اتصلت المراسلات بين الشاعرين فترة غير قصيرة كان لها أثرها البين في عظمة الأمير فقد تلفت الدهر بعينيه إلى من يخطي بمساجلة البارودي العظيم، وتطلع محبو الأدب في شتى بقاع العربية، إلى الشاعر الجديد يحفظون قصائده، ويقتنصون فرائده، ويوازنون بين نثره ونظمه فيجدونه أهلاً للحمد والإطراء وهذا بلا شك غنم كبير فاز به الأمير.
(له بقية)
محمد رجب البيومي(754/33)
فن المسرح
(تحية للأستاذ الفاضل زكي طليمات)
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
توافينا الأنباء الفنية الخارجية يوماً بعد يوم بدلالات كثيرة على اهتمام الأمم الراقية في الأعوام الأخيرة بالمسرح اهتماماً يوشك أن يعيد إليه اعتباراته الأدبية ومكانته الفنية الصحيحة مما حدا بكثير من النقاد إلى تسمية عصرنا الحاضر بعصر (بعث المسرح
فنحن نجد مثلاً أن بعض كبار الممثلين (وفي مقدمتهم شارلس لوتون) يقررون اعتزال السينما وقصر جهودهم على المسرح! ونجد أيضاً أن هيئة فنية لها قيمتها مثل (جمعية المسرحيات ذات الفصل الواحد) في لندن لا تكتفي بمضاعفة نشاط المسرح الخاص بها مضاعفة جبارة بل تقرر علاوة على ذلك طبع ونشر أضخم عدد ممكن من روائع المسرحيات ليتسنى لمن لا يحظى بمشاهدتها مثلاً أن يحظى بقراءتها متى أراد. وفعلاً صدرت - في فترة قصيرة - جملة مجموعات من بينها المجموعة المعروفة: (مسرحيات النساء) جمع واختيار الكاتبة (اليزابيث إفرارد ونجد كذلك أن مؤتمر الخبراء المسرحيين التابع لمنظمة التعاون الثقافي لهيئة الأمم المتحدة يقرر - فيما يقر - بجلسته المنعقدة بباريس في يوليو الماضي: (اعتبار المسرح أداة ثقافية رفيعة. . . وإنشاء معهد مسرحي عالمي. . وتأليف جمعية دولية من المسرحيين العمليين والنظريين للنهوض بالمسرح وكفل أسباب التعاون بين رجاله في العالم والمحافظة عليه من طغيان السينما. . . الخ).
هذا في الخارج، أما في مصر والشرق بصفة عامة فأغلب الظن أن المسرح لا يزال - بالرغم من جهود القائمين على شؤونه - من أقل الفنون شأناً بلا سبب واضح سوى جهلنا بحقيقته من جهة وعدم التفاتنا إلى مكافحة هذا الجهل من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى أننا - فيما يبدو - لم نؤمن بعد هذا الفن العريق من حيث كونه (فناً) له ذاته وله موضوعاته الخاصة به وله مقوماته وله فوائده الأدبية والمادية. . . بل لعلنا لم ندرك بعد - أو لم نكد ندرك - ما له من قيم
لهذا سأبدأ بشرح موجز لأهم هذه القيم تاركاً لمن يشاء حرية المناقشة في حدود الفن الذي نرجو له كل نماء وازدهار:(754/34)
المسرح وقيمته الفنية:
لعلنا لا نغلو إذا قلنا إن الفن المسرحي أرفع الفنون الجميلة وأفضلها. وربما كان من السهل أن ندلل على ذلك بدليل بسيط معقول وهو أنه إذا كان كل فن من الفنون يؤدي رسالة ما وبجانب ذلك قد يشبع حاسة ما (الموسيقى تشبع حاسة السمع مثلاً والتصوير يشبع حاسة البصر. . . وهكذا) فإن الفن المسرحي باعتباره شاملاً لكثير من الفنون يؤدي بالطبع رسالاتها جميعاً أو معظمها وبجانب ذلك يشبع أغلب ما تشبعه من حواس. ولكن لا نريد أن نقف عند هذا التدلي السطحي وأن كان منطقياً فإن للفن المسرحي في ذاته ومن ذاته قيمة كبرى مستمدة من أنه ينفرد دون سائر الفنون بإبراز ما في الحياة من صور إنسانية بطريقة حية وناطقة إبرازاً (واقعياً) خالصاً. هذه مسألة هامة ودقيقة جداً لأنه قد يظن أحياناً أن التصوير الخيالي أروع من التصوير الواقعي. . وهذه غلطة شائعة. فالخيال أن لم يكن متصلاً بالواقع اتصالاً قوياً أصبح تخيلاً أقرب إلى الوهم وأدعى إلى التضليل! والفن المسرحي هو أكبر الفنون استئثاراً بالواقع على نحو نموذجي. وهذه ميزته. فهو - لأصالته وقوته - أشد الفنون نفوراً من الشذوذ الخارق واصدقها تعبيراً عن الحياة الإنسانية وما يخالجها ويحركها من عواطف مختلفة بحيث لا تخرج الظواهر الممثلة على المسرح عن الحدود الطبيعية. سلوك إنساني في عالم إنساني مأهول يؤثر في الناس ويتأثر بهم.
ولهذا يشترط في المسرحية الناجحة أن تكون حوادثها محتملة الوقوع وخاتمتها طبيعية أي متمشية مع مجرى هذه الحوادث وبذلك تكون مرآة ناصعة يشاهد الجمهور فيها صورة من حياته ويلمس العوامل التي كونتها. . . أي يرى (حقيقته على المسرح رؤية مجسمة ومركزة كما يحس جمال الفن في أبدع مظاهره وأبهجها وفي هذا كله ما يثير رغبته في تصحيح أوضاعه وتجميلها والتطلع إلى مثل عليا.
المسرح وقيمته الفكرية:
كاد يصح في أذهان الناس أن المسرح مجرد متعة. وإنه لكذلك. ولكن ما نوع هذه المتعة؟ أليس للفكر فيها نصيب؟! وإلا فبماذا نفسر تطور المسرحيات من صراع بين قوتين إلى صراع بين عاطفتين إلى صراع بين الإنسان وبيئته وخواطره وملكاته؟ وبماذا نعلل وجود(754/35)
(مسرحيات المشكلات في أدب المدرسة الحديثة التي أنشأها إبسن النرويجي وتبعه برناردشو وغيرهما.
الواقع أن الفكر عامل هام من عوامل المسرح. وقد تصل أهميته أحياناً إلى حد اعتباره عاملاً أساسياً. لأن المسرح فضلاً عن كونه وسيلة للتسلية أو الترفيه فهو في نفس الوقت وسيلة لتحقيق الاتصال بين تفكير مؤلف المسرحية وبين الجمهور.
وكل ما في الأمر أن هذه التفكير يظل دائماً مستخفياً وراء العناصر الظاهرة الأخرى ولكنه رغم ذلك عنصر ضروري له ذاتيته الخاصة ويمتاز عن ضروب التفكير الأخرى بثلاث ميزات:
فميزته الأولى أنه لا يعني (الحقائق الكبرى) وعلاماتها أن يكون لها أثر مباشر في حياة الإنسان واحساساته كالموت والقضاء والقدر والحب ونحو ذلك. وصحيح أن بعض أدباء فرنسا خاصة وأوربا عامة اتجهوا - في العصر الحديث - إلى العناية بالحقائق التافهة ذات الأثر المؤقت استجابة لميول العوام وشغفهم بالجديد أياً كان إلا أن هذا يعتبر انحرافاً خطيراً على حساب الفن الصحيح.
وأخشى أن يفهم من ذلك المسرح فن محافظ أو رجعي التفكير وهذا خطأ. لأن الحقائق الكبرى الخالدة. فالصراع بين القديم والجديد مثلاً حقيقة خالدة نراها في مسرحية (الضفادع) لأرستوفان. في القرن الخامس قبل المسيح كما نراها في المسرحيات الحديثة دون ملل أو استغراب. وحيرة الإنسان وضعفه حيال القضاء حقيقة خالدة يصورها أندريه جيد الآن كما كان يصورها شاعر الإغريق سوفو كليس بلا خلاف في اللب والجوهر والصميم. وهكذا. . .
وميزته الثانية. أنه لا يعرض الحقائق الكبرى على العقول كقضايا جدلية فتستعصي على الفهم بل يثير الاحساسات والمشاعر فتصبح هذه الحقائق في متناول مختلف العقليات غالباً. وفضلاً عن ذلك فإنه يعرضها عرضاً اختيارياً بمعنى أن الناس لا يجبرون على مشاهدتها ومن هنا يسهل اتصال نفوسهم بها اتصالاً مباشراً فيفهمونها من حيث يخيل إليهم أنهم (يتسلون بها).
وميزته الثالثة: الحوار. ومعلوم أن أبرع وأفعل أداة في توضيح الاتجاهات المختلفة أو(754/36)
المتناقضة في الموضوع الواحد لأنه يعرض الفكرة ثم يقرنها بأضدادها وأشباهها كذلك وحينئذ يتسنى للمشاهدين بالمقارنة أن يتبينوا أوجه الضعف أو القوة فيها. وكم من أفكار كانت بحكم العرف وغيره عقائد راسخة في الأذهان ثم تناولها مسرحي ماهر مثل برناردشو فاستطاع أن يبين ما فيها من سخف بفضل الحوار الذي يواجه العقل باحتمالات تهز رواسبه وتستبقي ما يؤيده البرهان فقط.
وكل هذا لا ينقص من قيمة (المتعة) التي يجب أن يحس بها المشاهدون. فلا تزال هي الغرض الرئيسي للمسرح. غير انه لا تخلو من عنصر (الفكر) وأن لم يعمدوا ظاهرياً إلى التفكير البحت. . وإنما يحسون في نفوسهم بالسرور والائتناس لأنهم - دون شعور ملحوظ - يحللون ما يشاهدونه على قاعدة تفضيل الأسمى والأجمل والأروع. . . وهذا هو مناط التفكير السليم.
(للبحث بقية)
عبد الفتاح البارودي
-(754/37)
من وراء المنظار
فتوات ميري!
ما أحسبك أيها القارئ إلا قد اتجه ذهنك إلى ما أريد لأول وهلة، فاستحضرت صورة نفر من شرطتنا الأبطال والعياذ بالله تعالى، وإلا فمن غير هؤلاء يصدق عليهم هذا النعت وهم مصدر وحيه إلي كما يوحي الشيء الرائع بالمعنى الرائع؟
ولست أكتم عنك أيها القارئ أني بهؤلاء الأبطال ضائق أبداً، يغيظني مجرد مرآهم، وأكدر الإصباح عندي صباح يطالعني فيه بطل من هؤلاء قبل أن تقع عيناي على سواه من عباد الله. وإنه والله بعدها ليوم أسود، أظل أسأل الله فيه العافية.
ولست أتبين في نفسي على وجه اليقين ماذا دس فيها الحفيظة على هؤلاء حتى لأطيق كل صنف غيرهم من الأرذال، ولا أكاد أطيق حتى مجرد ذكرهم، ولو تمثلت لي عفاريت وتراقصت حولي بأشكالها وألوانها عن يمين وشمال لأنست إليها ولألفتها قبل أن أستطيع أن أصبر على مرأى واحد من هؤلاء (الفتوات الميري)
وارجع بالذاكرة القهقري ربع قرن فأراني على سور نادي (سيروس) أتدلى لأهبط في حديقته وأنا صبي في الرابعة عشرة وفي يدي كتبي جئت بها من المدرسة مضرباً لأستمع إلى سعد يخطب بعد أوبته من جبل طارق، وقد حال العساكر عند الباب بيني وبين آلاف غيري من الدخول، فما ادري إلا وعصا شديدة تهوي على وسطي فأقع على ظهري صارخاً وتتناثر كتبي ولا ينقذني من الرعب والهلاك إلا أحد الضباط، وأنسى الألم لفرحتي بالدخول إلى حيث أسمع سعداً. . أيكون مرد بغضي هذه الطائفة إلى ذلك الحادث. ولكن بيني وبينه ربع قرن.
وتثب ذاكرتي إلى الأمس القريب فأجدني أتهيأ للنزول من الترام ذات يوم، فإذا بعتل من هؤلاء يتحمس وهو على السلم في تحية أحد ضباطه ولكن يده الهابطة عن جبينه تقع في عنف على منظاري فإذا به يطير عن أنفي؛ ولولا أنه استقر على ذراع أحد الواقفين على السلم لما وقفت له على أثر. على أني وجدته قد تحطمت إحدى زجاجيته، ولا تسل عن مبلغ ما نال أنفي من ألم وما ركبه من ورم بضعة أيام. فهل كأن هذا اللعين يثأر لنفسه ولطائفته مقدماً من هذا المنظار؟ لست أدري. . . وهل يرجع شيء من حفيظتي على هذه(754/38)
الطائفة إلى ذلك الحادث أيضاً؟ ولكني ضائق بهم من قبل ذلك ضيقاً شديداً.
ولقد زادني غيضاً من هؤلاء وسخطاً عليهم مناظر تتابعت منذ أيام بعضها في أثر بعض كأنما تآمرت بها الظرف على كيدي. .
هذا رجل ملقى على الأرض ذات مساء على الطوار أمام الغرفة التجارية يقيئ من فوق ومن تحت، وقد أقيم على هذا الطوار ثلاثة من الشرطة غلاظ شداد ليمنعوا السابلة أن تطأ أقدامهم القيء حذر الموت وانتشار الوباء، وكان أحدهم في وسط الطوار، والثاني في طرفه الشرقي والثالث في طرفه الغربي، وكان ما كلفوا به من أمر جد خطير، ولكنهم اجتمعوا ثلاثتهم يتحدثون وظهورهم إلى المريض والسابلة يطئون القيء ويحملون منه ما يكفي لأبادة القاهرة كلها؛ ولست أدري أين ذهب وقتذاك الأطباء والمسعفون؛ وانزعج أحد المارة لتحذير الناس إياه وهو شاب كان يتأبه ويتنبل بمشيته وملابسه، ولكنه وطئ القيء ونظرت فإذا به جن جنونه وراح يشتم هؤلاء ما وسعه الشتم، ثم دخل صيدلية قريبة فطهر حذاؤه، وعاد يستأنف الشتم ويتم المعركة. . أتظن بعد ذلك يا قارئي العزيز أنهم - أعني هؤلاء العساكر الأماثل - عاد كل إلى موقفه فلبث فيه؟. كلا والله، فما لبثوا أن تجمعوا ثانية يتحدثون ويضحكون والسابلة يطأون القيء وهم لا يعلمون مبلغ ما يخوضون من هول، وكان يكتفي أحد الشرطة البواسل بأن يدير وجهه بين حين وحين فيقول لأحد المارة (ما قلنا يا سيدي ألف مرة بلاش مرور من هنا). .
ورأيت مرة أخرى عدداً من هؤلاء وعلى رؤوسهم خوذات الحديد، وقد جلسوا على مقاعد جلبوها من أحد المقاهي عند أول شارع قصر العيني في مدخل ميدان الإسماعيلية وراحوا يمصون وعلى رؤوسهم الخوذات، عيدان قصب السكر!. . يا لطيف. . يا دافع البلاء يا رب! هل يرى نزلاؤنا مسخرة في مصر أروع من هذه المسخرة؟.
ورأيت مرة ثالثة، فريقاً من هؤلاء - والعياذ بالله مما رأيت - كانوا بعض المتظاهرين بهراواتهم، فهل رأيت (الفتوات) ذات مرة في أحد أحيائنا البلدية يتهيئون لمعركة ثم يمنعون في الحي كله تحطيماً وضرباً لا يبالون ماذا يحطمون ولا من يصيبون؟ على هذا النحو انطلق (الفتوات الميري) يضربون كل مار فيصيبون طبيباً أو مهندساً أو شيخاً أو أستاذاً، وكان آلم ما شاهدت ضربة فظيعة تهوي على ظهر تلميذ في نحو الثانية عشر فما(754/39)
يكاد يصرخ المسكين حتى تنحبس صرخته في صدره فلا يستطيع من فرط ألمه، وذقت معه الألم مرتين فقد ذكرت العصا التي (أكلتها) على سور نادي سيروس.
ونشاء المصادفات الأليمة أن (أصطبح منذ يومين باثنين من هؤلاء الشجعان ينظران في أقفال الدكاكين، في الصباح الباكر وقد ألفيت نفسي حيالهما فجأة عند منعطف في أحد الشوارع. . . يا حفيظ! لقد كان يكفيني من الهم مجرد رؤيتهما، فما بالك أيها القارئ وقد سمعت أحدهما يغني. . . أي والله يغني وفي يده هرواته قائلاً (أنا من ضيع في الأوهام عمره). ولست أدري كيف لهذا الحيوان عمر؟ وكيف يضيع في الأوهام عمره وما ضيعه إلا في الجهل والإجرام. .
وبعد فلو أني مضيت أسرد ما يغيظني ويحفظني على هؤلاء لضاق عنه أضعاف هذا المجال فبحسي تفكه للقارئ ودرءاً لما قد يكون ناله من سيرة هؤلاء البواسل من ضيق، أن أقص عليهم تلك القصة. . أمر أحد شرطتنا في حفلة من الحفلات منعاً للتزاحم أن يدخل الناس أثنين أثنين، ووقف الشرطي الهمام النبيه، فجاء أحد الباشوات ومشى وحده في غير زحمة ولكن الشرطي منعه من الدخول فهو لا يدخل حسب الأمر إلا أثنين! وضحك الباشا وعاد فاستصحب سائق سيارته فما أسرع ما أفسح الجندي لهما الطريق ودخل الباشا يضحك ملء نفسه ويدق كفاً بكف ويقص النكتة على المحتفلين قائلاً (دخلت بنفس هذا السائق)
وهنيئاً لحكومتنا (فتواتها الميري) فأنا على يقين أنها تتنازل عن متاحفنا جميعاً في يسر ولا تتنازل عن هذا الطراز العجيب النادر من شرطتها الذين يحق أن تباهي بهم العالم وتبلغ في مباهتها حد الأعجاز.
الخفيف
فصل الخطاب
للأستاذ محمود رمزي نظيم
قم لنعكف على كؤوس الشراب ... وتزود من الشعاع المذاب
واسقني باسم (غلوش) من عصير ... قد براه الإله في الأعناب(754/40)
خمرة أطلقت من الدن فافتر ... ت سروراً عن لؤلؤ من حباب
نورها الباهر المشعشع يسري ... نشوة في القلوب والأعصاب
تتنحى العقول حين تراها ... أقبلت في مواكب الأكواب
كرمها الأخضر الظليل تراها ... ثورة أعلنت على الألباب
مل إلى الحان واحتسيها وجاور ... معشراً تائه الهدى والصواب
واجعل اللهو والشراب سفيناً ... في بحار الهموم والأوصاب
لا تكن زاهداً ففي العصر زهد ... هو زهد المحتال والنصاب
ما احتفى الدين بالمظاهر لكن ... بقلوب صفت صفاء الشراب
ودعاء اللسان من غير قلب ... طاهر ليس بالدعاء المجاب
كم قلوب في الحان أصفى وأنقى ... من قلوب طغت على المحراب
هات هذا الأكسير ينسى شقائي ... في ابتعادي عن موطني واغترابي
فجعتني الأيام في خلق النا ... س وفي المشتهى من الآداب
إيه دنياكم انهبوها فمالي ... متعة في الحياة يا أترابي
أنا في رحلة عن الملأ الأع ... لى وهذا التراب سوط عذابي
وقد بلغت الستين عاماً وما ز ... لت كما كنت نيراً في شبابي
صقلتني الأيام صقلاً عنيفاً ... فصفا جوهري ورق حجابي
أنا بالله في ثراء وجاه ... قد حماني مذلة الأذناب
أهل جاه الدنيا ظلال أراها ... تتلاشى فمالها من إياب
رب ضخم الحياة منتفخ ألا
و ... هاج أمست دياره في خراب
ثقتي بالحياة ضيعها المو ... ت فولت ولم تعد في حسابي
سبقت حكمة المشيئة في النا ... س بأن يرجعوا لهذا التراب
وبعيني رأيت مدرجة المو ... ت تواري الأخيار من أحبابي
أنا في إثرهم أجد ولي يو ... م احتضار يكون فيه ذهابي
خدعتنا حضارة الجيل باللين ... وأودت بنا بظفر وناب
الحياة التي نكابدها اليو ... م حياة الطغيان والإرهاب(754/41)
قبضت كفها فهانت على الفضل=وضاقت على ذوي الألباب
لا تقل في الحياة ناس فما حو ... لك إلا فصائل من ذئاب
صافح البعض بعضهم مستريب ... ين بأيدي خناجر وحراب
وغدت حالة الممالك فوضى ... ومشى حربها على الأبواب
ينشدون السلام في كل يوم ... كظماء مخدوعة بالسراب
كم تغنت بالسلم في القوم بوم ... جاوبتها أنشودة من غراب
ويل هذا السلام من كل جبا ... ر عنيد مخاتل كذاب
اتخذته الشعوب رباً وما زا ... ل يسوق القطيع لقصاب
ما لنا نجحد الحروب وفي الحر ... ب هلاك لا نحس الأرباب
أيها الرب أن خوفك رباً ... لم يزل وجده العزيز الجناب
لا تغرر بالناس وافرح بما نلـ ... ت وباهي بالمجد والألقاب
إن عبادك الذين يحابو ... نك ضلوا وخاسر من يحابي
أقرضوك الثغاء منهم لشيء ... مثلما يقرض النقود المرابي
فارتقها من السماء ففيما ... قدرته السماء فصل الخطاب
(أبو الوفا)
محمود رمزي نظيم(754/42)
الأدب والفن في أسبوع
مهرجان شوقي:
. . . وأخيراً أقيم مهرجان شوقي، وقدر لنا أن نعيش حتى نشهده. . . فمن نحو ستة أشهر تردد الصحف والمجلات أنباء، من تأجيل يتجدد، ومكان يحدد ثم يغير، وبرنامج يوضع ثم يبدل، وكان لنا بلاء في تفنيد ما رأيناه منحرفاً فيما كانوا يعتزمون.
عدلوا عن (الأوبرج) إلى الأوبرا، وأعلنوا أن من كان قد اشترى تذاكر (الأوبرج) يحتفظ بها للأوبرا مع استراد ثمن العشاء. وقد دفعت جنيهين ثمن تذكرة الدخول في الأوبرا، فليت شعري كما كان ثمن العشاء في (الأوبرج)؟!
وعلى كل حال نحمد الله على أن يسر إقامة المهرجان، لأنه وأن لم يكن فخماً حافلاً لائقاً بجلال الموضوع قد أراح الناس من تأجيلاته ودعاياته.
وما كان هذا الحفل ليكون شيئاً لولا ثلاث كلمات من الأدب القيم، هي كلمة نثري لمعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا، وقصيدة الأستاذ طاهر أبو فاشا وقصيدة إبراهيم ناجي.
وبقية برنامج الحفل كلمة قصيرة لمحمد صلاح الدين بك، وزج من الأستاذ حسين السيد، وإلقاء فتحب بك قصيدة (يا نانح الطلح) لشوقي، وغناء المطربة لوردكاش قطعة من شعر شوقي، وتمثيل الفرقة القومية فصلاً من رواية مجنون ليلى.
ولم يكن المهور كبيراً، من جراء هذا التسعير الفاحش. وقد علمت أن الحفل لم يكلف القائمين به مالاً، لأن المشتركين فيه حتى المطربة والفرقة التمثيلية كانوا متبرعين، ولهذا لا أدري ما سيصنعون بجنيهي. .
أبو محجن الثقفي:
كانت فرصة طيبة أن يسمع كثير من الناس الأستاذ الزيات من المذياع وطالما قرءوا له ولم يسمعوا صوته، فقد أذاع يوم الجمعة حديثاً عن أبي محجن الثقفي، وكانت مناسبة طيبة أيضاً أن يتحدث عن علم من أعلام الإسلام وبطل من أبطال موقعه القادسية في هذا الوقت الذي يرجى فيه أن يكون للعرب بفلسطين مواقع كموقعة القادسية، وما أحوج الشباب في هذه الآونة العصيبة إلى أن تجلى لهم تلك النماذج الرائعة من الفتوة العربية الإسلامية.
اتجه الأستاذ في حديثه إلى بيان مرحلة دقيقة في تأريخ الفتوة العربية وهي مرحلة انتقال(754/43)
من الجاهلية إلى الإسلام، واتخذ أبا محجن مثلاً لها، فهو فتى من فتيان العرب تقوم الفتوة عنده على الحب والخمر والحرب والتغني بنشوتها في رائع الشعر وتقوم إلى جانب ذلك عزة تأبى الخضوع وتأنف أن ترتدع بالعقوبة؛ وقد تمادى أبو محجن في لهوه وشربه رغم إسلامه، ومرة يؤتي به إلى الفاروق عمر وقد شرب مع ندمائه بوادي العقيق، فيجلده عمر، فيصر على الشرب، فيعاود جلده ثم يأمر بنفيه، فيتغلب على الشرطي المرافق له في الطريق، وذهب إلى سعد بن أبي وقاص بالعراق فيحبسه. ثم ينشب القتال بين العرب والفرس، فتهتاج نخوة أبي محجن ويتألم لقيده الذي يمسكه عن خوض المعركة، ويعبر عن ألمه بأبيات من الشعر تسمعها زوج سعد بن أبي وقاص التي يطلب منها أن تطلقه ويعاهدها أن يرجع إلى قيده بعد انتهاء المعركة، فتطلقه، فينطلق إلى الحرب على متن البلقاء فرس سعد، ويحمل على جيش الأعداء حملة تفضي إلى هزيمتهم، ثم يرجع إلى قيده وفاء بعهده. وما يعلم سعد خبره حتى يفك قيده ويطلق سراحه، ويعلن أنه لا ينبغي أن يحبس من كان ذلك بلاءه، وأنه لن يحده إذا شرب. وهنا تتخذ الفتوة العربية صبغة الإسلام، فيقسم أبو محجن لا يذوق الخمر قائلاً إنه كان يشربها حتى لا يقال أنه ترك الخمر مخافة العقوبة، أما الآن فإنه يتركها خشية الله.
شياطين الشعراء:
تذيع محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية في بعض الأوقات جلسات أدبية تتكون من بعض الأدباء يتناقشون في الموضوعات الأدبية المختلفة، ومن طرائف هذه الجلسات ما سمعته في الجلسة الأخيرة التي تألفت من الأساتذة محمد عبد الغني حسن وعادل الغضبان وإسماعيل مظهر، إذ تناقشوا في (شياطين الشعر) فبدأ الأستاذ مظهر بطلب الكلام عن هذه الشياطين، فأجاب الأستاذ عبد الغني بأنه من العجب أن يكون للشعر شيطان عند العرب وإلهة عند اليونان، كما أن من العجب أيضاً أن العرب يعتقدون أن الشيطان إذا مس إنساناً تخبط وخولط في عقله، ويعتقدون مع هذا أن الشيطان يوحي إلى الإنسان بالشعر، فالشيطان عند العرب يوحي ويجنن. . . ولم يكنف العرب بذلك بل جعلوا الشياطين أنفسهم شعراء، ونسبوا إليهم شعراً. وكما سمى اليونان الآلهة بأسماء سمى العرب شياطين الشعر كذلك، فمسحر شيطان الأعشى وشنقناق شيطان بشار، وكان شيطان حسان من بني(754/44)
الشيصبان وهي قبيلة من الجن. واستظرف الأستاذ قول أبي المنجم الرجاز:
إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
ثم قال الأستاذ عادل: ذكرت يا أخي عبد الغني أسماء بعض شياطين الشعراء وأن شيطان حسان من بني الشيصبان، فاسمح لي أن أذكر بعض قول حسان في شيطانه، قال:
ولي صاحب من بني الشيصبان ... فطوراً أقول وطوراً هوه
وقد كان لشياطين الشعراء مدن وخيل وكلاب، وكانوا في مراتب مختلفة فلا بد أن يكون عليهم أمير، والى هذا يشير القائل:
إني وأن كنت صغير السن ... وكان بالعين تبو عني
فإن شيطاني أمير الجن
وربما اختار العرب الشياطين للشعر، لأنهم كانوا أهل حرب وجلاد، ففتشوا على ما اعتقدوا أنه مصدر قوة في ذلك، وأما اليونان كانوا أهل حكمة وفلسفة وفنون، فاستوحوا مصدر الجمال ممثلاً في المرأة، واستعانوا على خلق الجمال بربات الجمال.
ومما أذكره أنا لهذه المناسبة أن أحد النقاد المتقدمين قال: من عجائب أمر حسان أنه كان يقول الشعر في الجاهلية فيجيد جداً ويدعي أن له شيطاناً يقول الشعر على لسانه كعادة الشعراء في ذلك فلما أدرك الإسلام واستبدل بالشيطان الملك تراجع شعره وكاد يرك قوله، ليعلم أن الشيان أصلح للشاعر وأليق به وأذهب في طريقه من الملك.
وقد رأيت لأبي أسحق من أصحاب الجاحظ كلاماً يتصل بهذا الموضوع، قال بعد أن وصف حياة العرب المنقطعة في الفلاة واستيحاشهم بالتفرد: (وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه وانتقضت أخلاطه فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً تناشدوه وأحاديث توارثوها، فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ، وربى عليه الطفل، فصار أحدهم عندما يتوسط الفيافي، وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، فعند أول وحشة أو فزعة، وعند صياح بوم أو مجاوبة صدى، تجده وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور، وبما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفاحاً كذاباً، وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول رأيت(754/45)
الغيلان وكلمت السعلاة، ثم يتجاوز ذلك فيقول قتلتها، ثم يزيد فيقول رافقتها ثم يتجاور ذلك إلى أن يقول تزوجتها. . .)
مهرجان الشباب
قلت قبل الآن أن المراقبة العامة للثقافة بوزارة المعارف اعتزمت إقامة مهرجان أدبي وفني للشباب الذين هم دون الخامسة والثلاثين من العمر لتشجيع الأدباء والفنانين منهم على حسن الإنتاج والتبرير فيه.
وقد تقرر أن يكون هذا المهرجان في شهر فبراير سنة 1948 في مناسبة عيد الميلاد الملكي، كما تقرر أن تكون مباريات المهرجان في الموضوعات الأدبية والفنية الآتية:
1 - الشعر بألوانه المختلفة على ألا تتجاوز القصيدة ثلاثين بيتاً
2 - أدب القصة القصيرة التي تستمد وحيها من صميم الحياة
3 - أدب التمثيلية القصيرة الصالحة للمسرح أو الإذاعة
4 - الأناشيد القومية والحماسية وأغاني الطبيعة المصرية والحصاد والأعياد والمناسبات الدينية والوطنية على اختلاف أنواعها.
5 - الموسيقى التصويرية والموسيقى الخفيفة والموسيقى الشعبية وغيرها فردية أو جماعية
6 - نحت التماثيل المتوسطة الحجم والصغيرة من الجير والبرنز والعاج والخشب وغيرها
7 - الغناء الانفرادي والإجماعي
8 - تمثيل المسرحيات القصيرة
9 - الصور الشمسية والمائية والزيتية للمناظر الطبيعية والأشخاص والمعاني بالأخص ما كان منها من واقع الحياة المصرية
10 - الأشغال اليدوية الدقيقة التي تتجلى فيها المقدرة على التصميم والتنفيذ.
ويشترط في قبول الإنتاج، غير سن صاحبه، أن يكون جيداً ومبتكراً لم يسبق عرضه أو نشره.
وباب الاشتراك في المهرجان مفتوح للجنسين من أفراد الجمهور لطلبة وطالبات الجامعة والمعاهد العليا ومعاهد الفنون والمدارس الثانوية والجامعة الشعبية.(754/46)
وقد جعل الأسبوع الثالث من شهر يناير سنة 1948 غاية المدى لتقديم الإنتاج، وهو يقدم إلى إدارة خدمة الشباب (7 شارع سليمان باشا بالقاهرة) وسوف تحرص لجان التحكيم على الفراغ من مهمتها في الوقت المناسب حتى يتاح للمغنين والملحنين والفرق التمثيلية الحصول على أحسن إنتاج من الأغاني والأناشيد والمسرحيات الفائزة والاستعداد لإخراجها في المهرجان.
وستخصص جوائز للفائزين في جميع هذه المباريات، ولم يستقر الرأي على تفصيلاتها بعد.
وسيلحق بالمهرجان معرض للكتب الصادرة سنة 1947 يتألف من الكتب التي يوافي المراقبة بها مؤلفوها ودور النشر والمكتبات.
ملاحظات على المهرجان
ولا شك أن المهرجان سيكون عظيم الشأن جليل الأثر، ولهذا أردت مناقشة بعض ما جاء في برنامجه مشاركة في العمل لبلوغ ما يرجى له من النجاح والتوفيق.
1 - جعلت لجنة المهرجان الغناء والتلحين والتمثيل مرتبطة بما سيفوز بالمباراة الأدبية من الأغاني والأناشيد والمسرحيات، فليس لأحد من المتبارين في هذه الفنون أن يستخدم فنه في تأليف خارجي، وفي هذا تضييق على الفنان وتقييد له، ولنفرض - مثلاً - أن موسيقياً لديه تلحين جيد لنشيد استراح إليه فنه، أيقدم النشيد أولاً للجنة الأدب ويجعل لحنه رهن فوز النشيد في المباراة، فإذا لم يفز ضاع اللحن؟ أم ماذا يصنع؟
2 - المفهوم من البرنامج أن التقدم في مباراة التمثيل للفرق لا للأفراد، فهل سيكون الحكم بالفوز أو عدمه للفرقة متضامنة أو ينظر إلى كل فرد منها ويحكم على كفايته؟ وأظن أن الطريقة الثانية أقرب إلى التقدير والإنصاف.
3 - لم تعين مقادير الجوائز بعد، ولكن أستطيع بما فهمت من الجو المالي للمهرجان أن أقول إنها قليلة غير مغرية، ولهذا يخشى ألا يقبل على المهرجان ذوو الإجادة والاعتزاز من الشباب، فقد صرنا إلى حال تحسن فيها التقدير المالي لمختلف الفنون، وبعض الشباب يتقاضون على إنتاجهم الفني من الهيئات الأهلية أجوراً عادية تكاد تساوي الجوائز التي ستخصص في المهرجان، وأنا أعلم غيرة القائمين بالمهرجان على الأدب والفن ورغبتهم(754/47)
في حسن التقدير والتشجيع، ولكن يقف في سبيلهم من بيدهم أمر الاعتماد المالي، وهؤلاء أقل من أصحابنا بكثير في الغيرة والرغبة السابقتين.
في منظار الخفيف:
رأيتني في حاجة إلى أن أستعير المنظار من الزميل الألمعي الأستاذ محمود الخفيف، لأستطلع به أمر صديق أديب موظف بوزارة المعارف، وهو ممن يطالعون القراء برحيق الآداب، ولكنه - ككثير من أمثاله - يضطر إلى الوظيفة الحكومية يؤدي فيها عمله ليأخذ في مقابله الكفاف، ويستجيب لدواعي فنه فيما فضل من وقته وجهده.
لقيت هذا الصديق أمس فقلت له:
- كيف أنت؟
- حتى لا يرزق!
- لا بأس عليك. . ماذا جرى؟
- أصدر السكرتير المالي بالوزارة أمراً بوقف صرف مرتبي لأن يوم عينت بالحكومة كان تعييني (على بند 11 إعانات) وتبين بعد ذلك أنه إجراء غير سليم. وعلى الرغم من أنني للم أكن قد طلبت تعييني على (بند 11 إعانات) ولم يكن لي يد في هذا الإجراء الذي لم أعرف عنه شيئاً إلا عندما وقف صرف مرتبي أخيراً - على الرغم من ذلك حاق بي ضرر ذلك التصرف؛ وحل بغير جارمه العقاب!
وقابلت المختصين في الوزارة، فقيل أن السكرتير المالي فعل ذلك ليضطر (إدارة المستخدمين) إلى تصحيح الوضع، وقالوا لي (الحق. . حتى لا تصرف بعد ذلك!) وتلفت حولي لأرى كيف (الحق) ثم قصدت (المستخدمين) فقالوا لي هناك أيضاً (الحق. . .) وحرت من (الحق)؟! ودرت دورة مررت فيها بعلي أفندي في (قلم الماهيات) وأحمد أفندي في (قلم الميزانية) ومحفوظ أفندي في (قلم العلاوات) وكان كل منهم يحيلني إلى الآخر وينصحني بأن (الحق. . الخ) ولم أخرج من هذا المطاف بطائل، ولكني عرفت منه أن وزارة المعارف كروية الشكل. . لأني كنت انتهي إلى حيث بدأت!
وسكت الصديق برهة ثم قال: أتدري ما الذي يهمني من كل ذلك؟ إنه كيف أفهم أطفالي الأربعة أحكام (البند 11 إعانات)(754/48)
وقلت في نفسي: منذ قليل شيعنا الشاعر الرواية أحمد الزين وعرضت مأساته على صفحات (الرسالة) فهل ننتظر حتى يتهاوى الأدباء واحداً إثر واحد ثم نتفجع عليهم! ولم لا نتفجع على الأحياء. . .؟
وهنا رأيت (المنظار) قد سود الدنيا في وجهي، فأبعدته عن عيني وقلت للصديق:
- كيف تضار ومعالي الوزير السنهوري باشا رجل عادل!
- إنه لكذلك، ولكن أين أنا منه؟
(العباس)(754/49)
البريد الأدبي
تعليق على كلمة:
نشر بهذا العنوان الأديب الفاضل إبراهيم الوائلي في الرسالة عدد (751) كلمة أخذ فيها على لفظاً استعملته في مقالي عن ضريح همايون في الهند وذلك أني قلت (وما رسخت قواعد الملك ولا اطأدت أساطين الدولة) فقال الأستاذ:
وهذه الكلمة لا تعترف بها القواعد المصرفية لأن ثلاثيها وطد. وصوغ افتعل منها يكون تطد كوعد وأتعد وهكذا) ونقل هذا ما أخذه صاحب المثل السائر على أبي تمام حين استعمل هذا اللفظ في قوله
بالقاتم الثامن المستخلف اطأدت ... قواعد الملك ممتداً لها الطول
وحجتي في استعمال هذا اللفظ مسلم بن الوليد في قوله يمدح نريد بن مزيد الشيباني:
أثبت سوق بني الإسلام فاطأدت ... يوم الخليج وقد قامت على زلل
وبيت أبي تمام المذكور. وأن لفظاً يستعمله مسلم وأبو تمام جدير أن يستعمل وأن لم تثبته المعاجم. وأن لم يكن بد من تخريج هذا اللفظ من مادة مثبتة في المعاجم فليس هو من وطد كما زعم ابن الأثير فغلط أبا تمام؛ بل أقرب من هذا أن يكون من ط ود. جاء في القاموس المحيط: وطاد ثبت والطاد الثقيل.
وفي اللسان: الطادي الثابت ونقل عن أبي عبيد أنها مقلوبة عن واطد. وأرى أن قلبها عن طاود جائز كذلك بل أقرب.
وفي اللسان أيضاً: طاد إذا أثبت.
فإن لم يكن بد من رد اطأد إلى مادة في المعاجم، وهذا ليس ضرورياً، فمردها طود مع قلب عين الكلمة همزة.
وبعد فللأستاذ الوائلي الشكر على عنايته باللغة وتدقيقه.
عبد الوهاب عزام
إقرار:
قرأت الكلمة القيمة التي كتبها الأستاذ الكبير العقاد في صدر الرسالة في الأسبوع الفارط،(754/50)
ولقد أنصف فيها صديقنا الأستاذ أدهم كما أنصفني، فله أصدق الشكر وأطيبه. على أنني إلى جانب هذا الشكر حريص على الاعتذار له من ظهور ثبت المراجع لكتابي (الحان الحان) عاطلاً من أسمه. فلقد اقتصرت في أثناء اشتغالي بكتابي على الرجوع إلى بحثه الممتع في عدد الهلال الخاص بأبي نواس، وغنى عن البيان أني - كشأني في سائر ما أقرأ - أفدت منه كما أفدت من البحوث الأخرى، وقد أتيت على ذكر هذا العدد من الهلال في ثبت المراجع ولم يخطر لي وجوب النص على أصحاب هذه البحوث وجلهم من الأعلام وفي مقدمتهم أستاذنا العقاد. وأنا أقر بأن البحث المذكور يشتمل على التمييز بين أبي نواس وعمر الخيام بأن النواسي كان سكره عكوفاً على لذة حسية، وأن الخيام كان سكره هرباً من مشكلة فلسفية.
بيد أني أحب أن أقرر في الوقت نفسه أن مثل هذا الرأي عن الخيام قرأته كذلك لغير العقاد. ومما يرجع أنه من الآراء الشائعة وروده في بعض التراجم الفرنسية لرباعيات الشاعر الفارسي في مقدمة لها غفل من توقيع صاحبها، وهذا نص العبارة:
' ' ' (1)
(1) - ' '
وهذه ترجمتها إلى العربية: (فهو (أي الخيام) يستمرئ الوهم الفاسد بأن في هذه اللغات الجسدية مرضاة لنفسه وتسكيناً لعذاب فكره أمام مشكلة الكون).
ومعاذ الله أن يكون مرادي التعريض بأن العقاد ينقل عن غيره، فهو - غير منازع - موفور الغنى بإدراكه وحسه، عظيم الاعتداد بنفسه. وإنما قصدت إلى أن يكون هذا المثال الذي قدمته شاهداً على أن الكاتب مهما أوتي من أصالة الابتكار، فلا يحق له الغلو في القول بأن معانيه كلها أبكار، وأنه وحده صاحب عذرتها. فإن الحقائق قد يهتدي إليها أكثر من باحث. وفي الأدب المقارن مجال وأي مجال لمساق الشواهد وضرب الأمثال. وأحسب أن في هذا ما يخفف بعض الشيء من شدة غيرة الأستاذ العقاد على إبكاره، وأن كان هذا لا يعفيني من استيفاء ثبت مراجعي لولا ما تقدم من العذر.
أما التعليل الذي ذكره الأستاذ فلعله يعدل به إلى غيره إذا علم أني لك أقدم أصول كتابي إلى دار المعارف إلا في هذا العام. ذلك إذا كان قد أنسى ما نشرته عنه من الدراسات(754/51)
المستفيضة في مختلف العهود، وإذا كان كذلك قد عدم الإيمان بأن الذي أحمله لمن هو في مثل فضله من الود والإكبار يغلب في نفسي على كل اعتبار. وأعود غي الختام فأكرر للأستاذ الرجاء في قبول عذري مع خالص شكري.
عبد الرحمن صدقي
(الرسالة) اتفق أن زارنا صديقنا الأستاذ العقاد ساعة جاءتنا هذه الرسالة فلما قرأها علق عليها بهذه الكلمة:
كل ما يقال في التعقيب على هذا الخطاب أنه رجوع إلى الحق من ناحية واحدة. فإن الذي أوجب إغفال ذكر (العقاد) بهذه الحجة ليوجب إغفال ذكر الآخرين ممن لهم رأي شاركهم فيه غيرهم. فلماذا هذا النسيان من ناحية دون غيرها! هنا محل السؤال وقد نستغني بذكره عن الجواب. وللأديب فضل الاعتراف بالخطأ على كل حال، وأن كان لم يخل من المؤاخذة لإشارته إلى كتاب فرنسي يعلم أنه لم يترجم إلى الإنجليزية ولم يطلع عليه العقاد. فلا شبهة إذن على استقلال العقاد بالرأي في هذا الموضوع.
معارض الجمال أيضاً:
منذ شهرين كتبنا في هذه المجلة كلمة عن معارض الجمال.
ويبدو أن الحديث عن هذه المعارض لن ينتهي ما دمنا نركب رؤوسنا ويجرفنا التيار الفرنسي الخليع.
فقد أقيمت بعد نشري الكلمة السابقة، مسابقة للجمال في الإسكندرية، كان منظموها فرنسيين أيضاً!.
وأخذت بعد ذلك مجلة الإيماج - المصرية في كل شيء إلا في لسانها وأسلوبها - وأعلنت عن مسابقة (فتاة الحائط)، كما قالت الجريدة مجازاً. . ولكن الإنجليز والأمريكان يسمون تلك الفتاة (فتاة الجاذبية)، أو فتاة التعليق - ومعنى هذا أنهم يعلقونها في المخادع. وتعليق تلك الصور في حجرات النوم - وخاصة بين اليافعين واليافعات - ذوو أثر حميد في إذكاء عواطف هؤلاء اليافعين.
استغفر الله بل في إذكاء شعورهم!(754/52)
ففي أي بلد نحن؟
ولكنا نحمد الله، جل شأنه، فقد لاحظنا معظم الصور المسلسلة التي نشرتها الإيماج - المصرية بكل شيء إلا بلسانها وأسلوبها - أقول أن معظم تلك الصور لا تدل على أن صواحبها مصريات. أو الغالبية الكبرى منهن. . . فليس في المصريات من ترضى أن تكون صاحبة وضع من هذه الأوضاع!
وهناك شيء آخر. . بل كلمة أخيرة أهمس بها في أذنك. . فهل سمعت عني مسابقة جمال بين الرجال؟.
أن لم تكن قد سمعت، فأقرأ الجرائد الصادرة في أواخر شهر أغسطس، فإن فيها إعلاناً عن مسابقة لاختيار أجمل رجل.
أتدري ممن أرادوا أن يكون هذا الرجل بين الرجال؟
أرادوه من بين المصارعين المصريين!
قد أكون مخطئاً في قراءة الإعلان، ولكن أقسم لك أن هذا هو عين ما قيل. .
وهل تدري - أخيراً - من هو منظم تلك الحفلة؟
إنه والله أحد الفرنسيين - أيضاً - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. . .
كتبنا هذا الكلام في شهر سبتمبر الماضي، وقد ظهر وباء الكوليرا وقتئذ فانصرفنا عن إرسال هذا الكلام للنشر، وقلنا مكافحة وباء طارئ أجدى وأنفع وأنجع من مكافحة وباء قديم. .
أما وقد اندثر الوباء الجديد، أو كاد، فقد عاد الوباء القديم للظهور.
هذه إعلانات جديدة تظهر في الصحف المسلمة السيارة تعلن عن مسابقات لأجمل الوجوه وأحلى السيقان. . . وتعقد ثانية في أحد (الفنادق المعروفة). وقال المشرفون عليها إن المتسابقات سيسرون وراء ستار حيث لا تظهر إلا سيقانهن فحسب. .
ما شاء الله! ستظهر السيقان والأفخاذ وربما ظهر شيء أبعد من هذا، ولكن الوجوه لا تظهر. . . وقد ظهرت فعلاً في الجرائد، فرأينا فيها الفتنة والإغراء.
إن الشهوات الدنيا لا تتحرك عن طريق الوجوه الجميلة، فالوجه الجميل لا يثير الشهوة، بل تدعو إلى التأمل والتسبيح.(754/53)
فأما السيقان، والنهود، وغيرها، فهي تجارة الحرب وما بعد الحرب. .
ولم أعلم من كان المشرف على هذه الحفلة أيضاً، وسألت فقيل لي أنها، والله أعلم، (جريدة فرنسية) تصدر بالإسكندرية. وكانت أسماء المتباريات فرنسية أو متفرنسة.
ولكن الذي أعلمه حقاً هو أن ذلك الفندق، بل أمثاله جميعاً، ليست بيوتاً حراماً، ولا تؤجر حجراتها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة!
لقد ظهر الوباء من قبل، ولكن حجته خفت بظهور وباء أخف منه هو وباء الكوليرا. .
وخفت حدة الكوليرا، وعاد الوباء القديم، الوباء الخطير، يطل برأسه من جديد.
أليس عندنا طبيب نطاسي بارع يستأصل هذه الأوبئة والأدواء؟
أليس عندنا جريء يقول لهؤلاء الناس كلمة رادعة؟ أم أن كلامنا لا يصل إلى أسماع هؤلاء الذين يعملون على انحلال الشعب المصري؟
وإذا كانت الأغلبية المتبارية من هؤلاء النسوة فرنسيات أأجنبيات، فهذا لا يغير أننا شعب مصري شرقي محافظ، وسنظل محافظين، أقباطاً ومسلمين.
فبلدنا ليس إباحياً، ولسنا نبقل الإباحية الفرنسية. . .
ومرة أخرى، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. . .
حسين الغنام
الفن القصصي في القرآن:
لما نشر تقرير الأستاذ أحمد أمين بك عن أطروحة الفن القصصي في القرآن حاول صاحبها أن يتنصل مما نقل فيه، كما أن الأستاذ الخولي المشرف على الرسالة والذي صرح بتأييده لصاحبها في كل ما قاله، طعن في تقريري الأستاذين أحمد أمين والشايب وقال أن ما نقلاه عن الأطروحة ليس فيها. وقد ألفت الجامعة لجنة للتحقيق في ذلك من الأساتذة الشيخ عبد الوهاب خلاف والدكتور زكي حسن والدكتور الشرقاوي، وقدمت تقريراً جاء فيه:
اتفق الأستاذان أحمد أمين بك وأحمد الشايب في القول بأن أساس هذه الرسالة أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق(754/54)
التاريخ والواقع.
واللجنة تقرر أن هذا صريح وواضح في جملة مواضع من الرسالة، وقد أيده الكاتب بما استشهد به من الأمثلة؛ ففي ص26 سطر 10 قرر أن القرآن (أنطق اليهود بما لم ينطقوا به) وذلك في قوله تعالى في سورة النساء (وقولهم إنا قتلنا المسيح الخ) وفي ص26 قرر كاتب الرسالة عن قوله تعالى في سورة المائدة (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم الخ). (إن هذا القول وهذا الحوار تصوير لموقف لم يحدث بعد، بل لعله لن يحدث) وفي ص89 قرر الكاتب (إن قصة موسى في الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة).
وتقرر اللجنة أن هذا مخالفة ظاهرة لقول الله تعالى (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) ولقوله سبحانه (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثاً بنتري.(754/55)
القصص
السائح والتمثال
بقلم ألدوبالاتسزكي
للأستاذ محمد لطفي جمعة
(يعد ألدو بالايسزكي من أكبر كتاب بولونيا فهو إيطالي
الأصل وكانت له جولة وصولة في أدب بلاده وقد رأس
تحرير جريدة (مارزوكو) وهي أشهر جريدة للنقد الأدبي في
إيطاليا وكانت تصدر في فيرنزه المعروفة عنها غير الطليان
باسم فلورنس وهي مهد الفنون والآداب وموطن دانتي البحري
وسافورنارولا وماكافيلي وبوكاشيو وبيكال انجلو وغيرهم.
وقد نحا الأستاذ ألدو بالاتسزكي القصصي نحواً جديداً وهو معالجة الحقيقة الإنسانية عن طريق الخفاء والغموض. وله كلمات مأثورة في مقدمة قصصه القصيرة وهي (أن الغموض يجلو كثيراً) وسيرى القارئ العربي صحة هذا الرأي).
- 1 -
. . . وكان عائداً من بلدة في الصين حيث يعبدون إلهاً بادناً، راقداً في المعبد ويده تحت ذقنه، ناظراً إلى بطنه وكأنها وعاء من اللحم الذي ملئ علماً! معبود شبعان ريان متزن وأن لم يتذوق ثمر الخشخاش ولم ينشق أزهاره لا يعبأ بجاره الذي حطمه ذووه وجرحوا جبينه بأشواك شجرة سقاها بعرقه ودمه وتعهدها، فلما كبرت وأفرعت وأيعنت صنعوا له من أخشابها ما صنعوا، علموها الجمود فكفرت بنعمة الذي زرعها وسقاها. ولكن الجريح كان مشغولاً عن دمه الهراق بالتفكير في العفو عنهم. ولا يسمع صوت سلفة الصالح الذي ساق جماعة بالعصى وشق بطون العصاة منهم بالمدى: العصاة والسكين وألواج الحجر الناطقة،(754/56)
كان يزمجر ويهرق ويرعد ويدعو على الذين آذوا حفيده الأقصى، ويدهش لمألته وليونته واستسلامه وينعى عليه تسامحه، أما الزمن فقد تغير وسار على عجل. والعصى التي كانت تسوق الجماعة، أمست في أيديهم يسوقون بها الفتى الغريب ولا يبالون!! أليس يلقاهم بالكلام في السهل والجبل ويحاورهم بالكلام في الحقل والدار، وعندما يحمي وطيس المعركة يجرد عليهم سيفه ويصوب نحوهم سهامه ويشرع في وجوههم رمحه، ويخفي وجهه الهادئ وراء درعه، ولكن السيف والسهام والرمح والمجن كلها. . . كلام. . . كلام. . . كلام عذب ومر وحار وحار. ولكنه كلام لا عهد لهم به. ولكنه كلام سيوف وخناجر ومدافع وقنابل ودبابات ونسافات (ماشين شلز) من نوع متمايز
كان السائح عائداً من بلدة في الصين، ولكنها لم تكن وطنه بل كان وطنه وراء بحار الغرب والشمال. فهو هارب من الحضارة باحث عن الوحدة والعزلة الدائمة عن أهل الغرب والشمال. وقد ظن أن ما يسعى إليه قد يكون في الشرق وراء الجبال الشاهقة والبحار العميقة والصحاري المترامية الأطراف.
طوحت به الأيام إلى هيكل نيبوس إله النور في مدينة طاس كند، وراء جبال هيدار، وهي الشامخة المعتمة بالجليد، طوال العام، وأن جليدها لا يذوب ولا يجري ماء على سفوحها.
ولكنه يبقى أبداً مكتلاً، ملتفاً، ناصع البياض كأنه شعر جسم على رأس شيخ هم، اشتعل شيباً، وزاد على ممر الأعوام وضوحاً وشمماً. ولم يعلم الكهنة كيف وصل هذا الغريب الأشعث إلى باب الهيكل فقد وجدوه مرتمياً على العتبات متشبثاً بالأحجار، لم يسمعوا له صوتاً وما شهدوا له حركة، فلما دنوا منه تبينوه، فوجدوه خائر القوى، منقطع الأنفاس، مغمض العينين، شاحب الوجه مكشوف البدن، وفي معظم أجزائه، ولمح أحد الكهنة أن قدميه تقطران دماً. وكانت له لحية سوداء بلون البقية من شعره فهو بلا ريب شاب لم يتخط الثلاثين من عمره، وأن كان النصيب والهم والأمل الخائب قد خطت على جبينه سطوراً عميقة كأنها محفورة بقلم من فولاذ في صفحة من المرمر الأصفر. وكانت عيناه حادتين، لم تتغلب الآلام على ما يشع منهما من دلائل الحيوية النابضة. وقد تمتد نظراته إلى ما وراء الأفق، كأنه يرى شيئا ًبعيداً انفرد هو وحده بشهوده فهو يراه يقيناً ولا يريد أن يشرك أحداً في رؤيته، ولعله يخشى أن لا يصدقه أحد أو يشك في صدقه هل هي رؤية أم(754/57)
رؤيا هل هي حلم أم حقيقة، سراب أم ماء؟.
فلم يملك الكهنة أن يغلقوا الباب ويتركوا هذا الميت الحي وراءهم نهباً للذئب والدب وليس في وسعهم أن يدخلوه بدون تطهير من أدران الدنيا فهو غريب منبوذ ولا يجوز لأحدهم أن يمسه ولا بجولة أن يمس أحداً. فهنا تفريق بين الطهر والدنس والنقاء والرجس. وهنا نظافة الجسم تحتمها طهارة النفس. لقد هلك كثيرة من القاصدين إليهم قبل أن يصلوا، وضل سالكون عدة دون أن تدنوا أقدامهم من العتبات. . . ولكن كل من يلمس العتبة لا يرد، ولا يطرد لأنه وصل. فإن كان على قيد الحياة فلا بد من الإذن بقبوله. فما ذنب هذا حتى يحرم؟ ألم يقرءوا في وصية نيبوس (بلوغ الباب قرين الدخول) ولكنهم أغلقوا الباب ليعودوا إليه بعد لحظة بإذن الدخول. فينقلوه فلما فتحوا الباب والتمسوه لم يجدوه في حدود الجدران فأخفقوا في العثور به حتى الصباح
- 2 -
وقال الأول: أن أثوابه به أطمار بالية فهو أكثر رضاً للافتراس
والثاني: لقد نحل خداه وتجعدت يداه فمن يكون هذا المسكين الذي قادته قدماه إلينا أهارب لاجئ أم طالب حكمة أم طالب قوت؟. . . وقال ثالث: ليس طالب قوت ولا لاجئ. ولكنه ينشد الهدوء واطمئنان النفس، أنه بالشك فار من دمامة الحياة التي قضى نضارة عمره في أحضانها. لقد تكشفت له عن حقيقتها ففر بالبقية الباقية من نفسه. ولكنهم كانوا يبحثون عنه قبل البحث عن سبب قدومه إليهم لأن نجاته من الهلاك أفضل من الكشف عن سر قدومه.
وقال أكبر سناً: صدقوني يا أخوتي أنكم تجيبون عن سؤالات يعجز صاحب الشأن نفسه عن الجواب عليها. فإن لمثل هذا الرجل ناحية غير موجهة إلى تحقيق أغراض بعينها.
وأن كانت له أغراض فقد نسيها أثناء الجهود التي بذلها حين كان يحاول بلوغها. ولا بد له من هذا النسيان وسر ذلك راجع إلى أن القوى التي ينفقها هي من فيض ما أعده له الإله لتحقيق أغراضه فيه - وهو الهدف الأعلى.
فهمهم أحد الكهنة وكان قصير القامة نحيل البدن أصفر الوجه وقال: الهدف الأعلى! ما فتئت أذكر الهدف الأعلى وأسمع عنه. .
فنظر إليه الذي كان يتكلم وقال:(754/58)
الهدف الأعلى الذي يرمي إليه الإله هو نفس الغرض الذي كانت ترمي إليه الآلهة في كل العصور - رفع النفس إلى مستواها الأعلى وتوسيع آفاق مسراتها - ولكننا نضيع وقتاً نفيساً في الجدل وربما يكون أحد الضواري قد أنشب أظفاره في ضيفكم ولعل وحشاً يقضاً كان يتبع خطواته، ويخشى أن يهاجمه وهو يوشك أن يلجأ إلى الهيكل، فلما أن فتح الباب توارى الوحش وقد ضاع أمله في الانقضاض على فريسته، ولكن لم يرض من الغنيمة بالإياب السريع. فلما أغلق الباب بعد فتحه ظن الوحش أنه قد خلا له الجو وآن أوان الافتراس. ولكن الكهنة لم يلبثوا في حيرتهم حتى سمعوا صوتاً داخل المحراب يستغيث بلسان غير لسانهم، ويبتهل ويتضرع بقلب مقروح وكبد حري. فإذا هو الغريب نفسه. وقد عرى من ثيابه فقد أشفق عليه الإله فأمر بحمله إلى حرمه بلا واسطة ثم غمره في حوض طهارته وألقى بثيابه الممزقة وراء جدار الهيكل ليغمرها الجليد فتخفى إلى الأبد عن الأعين. كان الغريب يصلي ويستغيث بعنف، بصوت متهدج وكلام متقطع، وكانت لحيته الكثة السوداء تضطرب، وأسنانه تصطك وقد تبدي ذاهلاً عمن حوله من الكهنة، الذين تجمعوا ليحدجوه بعيونهم بعد أن رأوا الإله يخرق له العادة ويقبله في المحراب.
ولما فرغ من صلاته جلس وتكلم لهم بلغي البلاد التي جاب آفاقها وقد ألتقفها جميعاً من أفواه المتكلمين وهو في سياحته، فقدموا إليه طعاماً من الشعير والزيت والفاكهة فبم يتذوق منها إلا قليلاً وكان يدير عينيه في قلبه فيبدو عليه السرور أو الألم كما يبدو على وجه من يشاهد أنه في الماضي القريب السحيق. ولم يكن في الجمع بين هاتين الصفتين تناقض فإن ماضيه كان حافلاً بالكفاح والجري وراء الحقيقة: فهو غني بالحوادث ولذا رآه قريباً وكذلك كان ماضيه محفوظاً بعذاب النفس وألمها فقد اكتوى بنار الحب بقدر ما تعلق بأهداب المثل الأعلى. وتلك التي عذبته لم تكن جديرة بحبه فهجرها وهو يعطف عليها وتخلى عنها وهو مشوق إليها. هذا طرف من الحوادث الواقعة التي كان يتكلم عنها فيصغون إليه، وهو يسح ويهضب بذكرياته، كان غنياً وكان شاعراً في بابلوس عاصمة الدنيا المتحضرة، وكان الناس متلهفين على آثاره والنساء متتبعات له متراميات على جسده يحاولن أن ينهشنه بأفواههن المحمرة، أو ينشبن فيه أظفارهن المحلاة بالخضاب المتعدد الألوان. وكان يرفه بشعره وحكمته عن الناس وينعش قلوبهم، ويغذي نفوسهم بإبداع فكره، ويفيض على حياتهم(754/59)
البشر والنور.
ولكنه لم يتزوج ولم يجن على أحد فقد وهبته العناية بصيرة بعيدة المرمى فأنف أن تتصل حياته بنسل، ولمح النفاق والجحود والنميمة ونكران الجميل والسخرية من خلال البسمات والضحكات والبشاشة الكاذبة والكلمات المعسولة والتبذل في ذكر الحب والإخلاص والوفاء، فتزعزعت عقيدته في دينه لأنه أمسى قوة تواطأت مع السلطان المطلق ومن حوله من السادات وامتنع عليها أن تسلخ الأيمان عن هذه المظالم.
فأنكرها وأنكر الأيمان ثم تزعزع اعتقاده في الإنسانية والمجتمع بعنف لم يعهده وأحس في نفسه بنصل قاطع لا شفاء لجرحه وهو الاحتقار لكل ما يحيط به. لقد أحس الهارب بالاحتقار نحو المال والحب والمرأة التي أحبها حيناً وأحبته طويلاً ونحو القاهرة التي خنقت العدل وأحيت الظلم والمنافقين والأوغاد والضعفاء. وقد حاولت تلك التي أحبته (أينوبيا) أن تستل منه شعور الاحتقار نحو الدنيا والحكم عليها بالصغار، فلم تستطع، لأن أقوالها وأفعالها كانت تزيد إيمانه في صحة حكمه عليها وعليهم. وبعد أن كان يؤمن بنفسه أمسى لا يؤمن بشيء فأخذ يبكي أحلامه وأمانيه العاثرة وهو يرى بعيني رأسه رجال المادة والقوة والملذات الجشعة متربصين على ركام الإنسانية ولا هم أذلها الحرص رجال على أفواهها الجوع ورعي قلوبها الاحتياج والشقاء وتكشفت له الحياة عن بعض حقيقتها فها هو الإنسان يستمتع بحواسه ولديه من الذهب والورق ما يستمد منه العظمة الكاذبة بقدر ما يملك منها، حتى صار ميزان أقدار الرجال بما يملكون من النضار، وبلغ بالفقراء يأس آخذ بالكليتين فآمنوا بالعذاب والأوهام قال الشريد للكهنة (فأقصرت يائساً وصرفت نفسي آسفاً وعولت على الفرار بالبقية الباقية من حشاشتي ووجداني واستكبرت أن أصبر على معاشرة الناس بعد الذي تحققته وبعد أن صرت أبغض المجالس والنوادي ولا أرتاح إلى أحاديثهم، ولا أغتبط بالأصدقاء وصرت أجزع من الذين ادعوا محبتي ولا أرى لنفسي قدرة على احتمالهم) فقطع أحد الكهنة حديثه في رفق وقال له (وتركت وراءك مالك ومكانتك في بابلوس عاصمة البلد المتحضر وقضيت عشر سنين في السياحة باحثاً عن الحقيقة. وخرجت من وطنك لتقلب الدنيا وتجعلها كما يجب أن تكون؟. . أليست هذه غايتك وأمنيتك وحكمك! فسكت السائح المجهول كأنه في سكرة طويلة ونشوة مستمرة وقال كاهن(754/60)
آخر: لقد كان وصولك إلينا في هيكل نيبوس إله النور إرهاصاً فإن الذين يضلون الطريق دون بلوغ كعبة الآلة كثيرون. ووصولك إلى المحراب بدون وسيط علامة إكرام. فحملق السائح في وجوههم الهادئة لأنه لم يعلم أنه جرد من الهلاهيل التي كانت حول بدنه ودخل في حمى الإله بدون وسيط، وأطال النظر في الوجوه المستنيرة المطمئنة وأخذ ذهنه يكر إلى الوراء فجأة بغير إنذار وتنبه إلى عرائه فأطرق وأخذ يبكي حتى بلل لحيته.
(البقية في العدد القادم)
محمد لطفي جمعة(754/61)
العدد 755 - بتاريخ: 22 - 12 - 1947(/)
عالم مشتبك
للأستاذ عباس محمود العقاد
تستعد الولايات المتحدة لمعركة الانتخابات التي تسفر عن انتخاب رئيس الجمهورية.
مسالة داخلية بين الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة، ولو جرت الأمور في حدود ظواهرها لما كان في هذه المسالة ما يهتم به العالم إلا من قبيل الاستطلاع أو التشاغل في أوقات الفراغ بأخبار البلاد الخارجية.
وهكذا كان شان هذه المسالة في أوائل القرن العشرين، أو قبيل الحرب العالمية الماضية.
ولكنها في هذه المرة تختلف كل الاختلاف من شتى الوجوه
فقد اتفق أن الولايات المتحدة جمعت فيها عشرات الألوف من الصهيونيين الذين يشتركون في إعطاء الأصوات للرئيس.
واتفق أن هؤلاء الصهيونيين يحتكرون هناك شركات الإعلان، وان الصحف هناك لا تعيش بغير أجور الإعلانات، لأنها تصدر في عشرات الصفحات، وقد تصدر أحياناً في مئات الصفحات التي تزدان بالصور والرسوم في أيام المواسم والأعياد. فعليها من التكاليف أضعاف ما تدره على أصحابها من الأرباح، ولكنها تنهض بتكاليفها وتضمن أرباحها كلما ازداد نصيبها من الإعلانات المأجورة، أو ازدادت حاجتها إلى شركات الصهيونيين.
اتفق هذا وذاك واتفق معها أن الإنجليز ضاقوا ذرعا بفتنة الإرهابيين في فلسطين في فلسطين، وانهم قصدوا وأذاعوا انهم يقصدون التنحي عن وصايتهم على الأرض المقدسة.
فسنحت الفرصة للصهيونيين في الولايات المتحدة، ونقلوا معركة فلسطين إلى ميدان الانتخاب في الولايات المتحدة، فظفروا بما أردوه هناك، وخيل إليهم انهم قد ظفروا بما أرادوه في ارض الميعاد، ولك أن تقول أن الولايات المتحدة هي التي ظفرت بتسخيرهم عن رضي منهم، على رجاء النجاح في السيطرة على منافذ الشرق القريب.
كذلك وصل إلى الشرق اثر النزاع بين الأحزاب السياسية في دولة دستورية.
وقبل بضع عشرة سنة سقطت جميع الأحزاب السياسية في دولة أوربية، وقامت الدكتاتورية في تلك الدولة، وهي ألمانيا النازية.
فصبت نقمها على اليهود لأنها اتهمتهم بالتواطؤ على هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية(755/1)
الماضية.
وراحت إيطاليا الفاشية تحذوا حذوها في بلادها، وتشبهت بها دول أخرى في أوروبا الوسطى، وتدفق اليهود من كل قطر من تلك الأقطار إلى ارض الميعاد، أو ارض الوعيد!
كانت قضية الهجرة إلى فلسطين قضية معلقة، أو مشكلة راكدة لا تفلح المساعي الصهيونية في تحريكها.
فلما انتشر الحكم الدكتاتوري في أوروبا تحركت المشكلة بعد ركود، وطغي على فلسطين مدة البحر بعد جزره، وتكسرت أمامه السدود أو فتحت له أبوابها وهي طائعة، لأن أبوابها كانت بأيدي الإنجليز، وكان الإنجليز في حاجة إلى جماعة صهيون، فقابلوهم على أبواب السدود بالإغضاء، وازدادوا على الإغضاء أحياناً فقابلوهم بالتشجيع والترحيب.
ثم دالت دولة النازيين والفاشيين.
وكان خليقا بالمد أن ينحسر بعد أمان اليهود من بطش الصليب المعقوف، وباس (الحزمة) المضمونة.
ولكن اليهود لا يعلمون في غير أسواق.
وليس في بلاد المهزومين أسواق تصلح للمساومة والاستغلال.
ولو راحت الأسواق في أوربة لكدست الصهيونية في فلسطين، وليرتد عنها كل صهيوني غيور ولو قيدوه في مكانه بالسلاسل والأغلال.
كساد أوربة لم يكن نكبة على أهلها وكفى.
ولكنه كان نكبة على ارض عربية لا ذنب لها في ذلك الكساد، وكان نكبة على الشرق القريب كله من وراء تلك الأرض العربية، ويوشك أن يكون في الغد - أبعده الله - نكبة على العالم بشرقه وغربه، ومن أدناه إلى أقصاه.
عالم متشابك الأطراف.
عالم له جهاز عصبي واحد، وقد كان منذ عهد قريب خمسين أو ستين بنية حية: كل بنية لها جهاز لا يضطرب في مكانه إلا لما يعتريه.
هذه هي العبرة الكبرى من قضية فلسطين، ومن كل قضية تشبهها في هذا الزمان.
فأيا كان نظام الحكم في قارة دانية أو قارة قاصية، وايا كان حال الرواج والكساد في هذا(755/2)
القطر وذاك، فالجهاز العصبي واحد، والطعنه هنا يدمى لها الجسم هناك، وقد يكون الطاعن في المغرب هو الطعين في المشرق إذا دارت الدورة في مجراها، وذهبت الأحداث مع جرائرها، وعمت الطامة الكبرى وهي لا تخص أحداً في هذا العالم المتشابك الأطراف.
ولقد كان عالم كهذا في اشد الحاجة إلى السياسة العالمية العادلة، لان الظلم فيه حيث كان بلاء مطبق على كل وطن، وكل إنسان.
لكنه وجد السياسة العالمية، ولم يجد العدل فيها.
وجدها ناقصة مختلة، وجدها منحرفة معتسفة، وجدها خيبة أمل وقد أرادها مناط رجاء ومعقد يقين.
وهنا الحيرة كل الحيرة في وزن هذا الرجاء.
فأما النكول عن (السياسة العالمية) فليس في مقدور أحد يعيش اليوم في هذا العالم، ويربط الحس والحركة بأعصاب ذلك الجهاز المتشعب الدقيق.
وأما الرضا بهذه السياسة العالمية فليس في مقدور المصاب بها ولا في طاقة الخاسرين فيها، ونحن الشرقيين من أولئك الخاسرين.
لكننا نضع السؤال الذي تنقطع به الحيرة حين نقول: هذه هيئات عالمية تتعسف الطريق، فما الحكم عليها جملة واحدة؟ هل عدمها خير من وجودها أو وجودها خير من عدمها.
وهنا تنقطع الحيرة عند كل موازنة بين النتيجتين المتقابلتين.
فوجود هذه الهيئات العالمية خير من عدمها على كل حال، لان أميركا، التي تعمل بالأساطيل والجيوش والأموال، شر من أميركا التي تعمل بالمناورات واصطياد الأصوات، والتزام الظاهر في جميع هذه المناورات.
أو قل أن المجتمع الذي تقضى محاكمه أحياناً على البريء، وتفرج عن المعتدي، خير من المجتمع الذي لا محكمة فيه.
وأجدر الأوقات أن نذكر فيه هذه الحقيقة هو الوقت الذي تملكنا فيه حمية الغضب فتسخط على الدنيا وما فيها، وننسى الشر البعيد بما اشتمل علينا من شر قريب.
إن القوى في المجتمع يستطيع أن يغلب الضعيف عنوة ويستطيع أن يغلبه بما يملكه من وسائل التأجير والتسخير.(755/3)
يستطيع أن يضع يده على حقه علانية، ويستطيع أن يضع حقه عليه ببذل المال للمحامي القدير، وبذل رشوة للقاضي المريب، ودفع الحارس عن درك الحراسة، وسوق الشهود إلى ساحة القضاء.
لكننا مع هذا كله لا نقول أن السطو علانية كالسطو بالحيلة والمحاولة، ونستطيع أن نقول أن عدم المحاكم ووجودها سواء، فضلا عن ذهابنا مع الغضب قائلين: أن عدمها خير من وجودها في كل حال.
وتلك هي العبرة التي ينبغي أن نذكرها غاضبين، لأننا لن ننساها ونحن راضون.
فلنكن عند غيرتنا القوية على حقوقنا، ولنكن كذلك عند فهمنا الصحيح لما حولنا، وكل ما حولنا يقول لنا إننا في عالم متشابك الأطراف، متعاقد الأعصاب، لا انفراد ولا انعزال.
ولنقل في الجماعات العالمية ما نشاء، إلا أن عدمها ووجودها سواء.
عباس محمود العقاد(755/4)
التلمود خدع اليهود
للأستاذ نقولا حداد
التلمود الذي فسر فيه اليهود التوراة على هواهم خدع اليهود لأنه زرع في عقولهم أن ألههم الذي سموه (يهوه رب الجنود) هو أقوى من سائر الآلهة وانه اختصهم دون سائر الأمم وأقنعهم بأنهم شعبة الخاص، وما لبث أن أفهمهم أن يهوه هو الله رب السماوات والأرض. ولكن الله تعالى لا يقيم وزنا لهذه الوظيفة التي وظفه اليهود فيها. بل هو جل جلاله يعتبر جميع بني آدم على الإطلاق عباده ويرعاهم يعين عنايته على السواء. ولكن ماذا تفعل بعقلية هؤلاء اليهود الذين يريدون أن يحتكروا الله - استغفر الله - كما يحتكرون كثيرا من خيرات الأرض ونتاج الأمم!
وكان في قديم الزمان لعهد موسى عليه السلام آلهة أخرى للأمم الأخرى التي كانت أمة إسرائيل الهاربة من مصر تغزوها وتغتصب أملاكها وبيوتها ومواشيها وسائر أشيائها.
وكان عندهم أن يهوه أقوى من جميع الإلهات التي يعبدها الكنعانيون والحثيون والجرزيون والفلسطينيون والصيدونيون إلى غير هذه القبائل التي كانت تقطن البلاد المسماة حديثا فلسطين معتمدين على قوة يهوه رب الجنود كما كانوا يلقبونه باعتبار انهم شعبة الخاص. فمنذ جاء الإسرائيليون إلى أرض كنعان كانت عقيدتهم أن جميع الأمم الأخرى ليست من عباد الله بل هي والسوائم سواء. ولهذا كان يهوه يتيح لهم أن يغزو تلك الأمم ويسلبوها أشياءها.
ولذلك كانوا طوال وجودهم في ارض كنعان التي كانوا يسمونها ارض الميعاد بدعوى أن الله وعدهم بها كانوا في حروب متوالية مع الأمم إلى أن غزاهم بختنصر ثلاث مرات وفي الثالثة سباهم إلى بابل مملكته. وبعد سبي سبعين سنة أطلق سراحهم كورش ملك فارس الذب فتح بابل، فعادوا إلى بلادهم. وما مكثوا طويلا حتى جعلت تنازعهم دول الشرق والغرب والشمال والجنوب. فما مكثوا في بعض البقعة المسماة الآن فلسطين اكثر من 320 سنة. ومع ذلك بقوا من ذلك العهد إلى اليوم يعتقدون انهم شعب الله الخاص وان ألههم يهوه احل لهم سلب الأمم الأخرى بأية وسائل حتى بالحرب من غير مبرر، وانه ينصره على أعدائهم. ولكن التاريخ اثبت لهم أن يهوههم لم يكن قويا كما كانوا يدعون انه ينصرهم(755/5)
لأنهم كانوا دائما يغلبون على أمرهم؛ وأخيرا تشتتوا في بلاد الله.
ولكنهم لا يزالون يتمسكون بعقيدة انهم شعب الله الخاص وانه احل لهم (معاذ الله) أن يسلبوا أموال الأمم بأية الوسائل الشريفة وغير الشريفة؛ حتى أن لم يستطيعوا أن يبتزوها بحرب ابتزوها بالحيل والأحابيل الاقتصادية والأحقية. وعلى هذه العقيدة بنوا دستورهم الاجتماعي وعلى حسب هذه العقيدة سلكوا.
واستفحلت العقيدة في قلوبهم حتى قام شيوخ مهم ووضعوا لهم دستورا غريبا عجيبا يسمى بروتوكولا وهو يتيح لهم أن يبذلوا كل جهد في إفساد الأمم الأخرى وقتل الفضيلة فيها تمهيدا لاستغلالها، وعليهم أن يبذلوا حتى الشرف لهذه الغاية. وحصل القول أن عليهم أن يبذلوا كل عزيز وغال من أخلاقهم في سبيل جمع المال، وان يتوسلوا بأية الوسائل للقبض على زمام السلطة تذرعا إلى الكال. والمال هو قوتهم الوحيدة. وفيما سواه هم نساج.
فإذا اقتضت الوسيلة أن يكون الواحد منهم مسلما فليكن إلى حين، كما فعل بعضهم في سلانيك. وإذا اقتضى الواحد منهم أن يكون اشتراكيا فليكن. مع أن الاشتراكية تناقض مبادئهم لأنهم رأسماليون. وإذا اقتضى الأمر أن يكون شيوعيا فلا باس أن يكون. كل الدواب تؤدي هيكل المال.
فكانت النتيجة هذا السلوك أمرين خطيرين:
أولا أنهم امتلكوا القسم العظيم من ثروات العالم لا بالطرق القانونية الشريفة، وإنما بالاحتيال على النظام والقانون واختراع وسائل الابتزاز المختلفة كالنصيب وتقسيط أثمان السندات ذات النصيب والمقامرة والمراهنة والتامين إلى غير ذلك من اختراعاتهم التي يحسبها لهم بعض المغفلين ذكاء.
وعلى الرغم من تكلفهم السلوك المستقيم في المعاملات التجارية وغيرها تنفضح فيهم روح الجشع والطمع والقسوة في المعاملات إلى أن صارت هذه الروح غريزة فيهم ولم يعودوا يشعرون في أنفسهم أن أخلاقهم غير إنسانية بل يستغربون أن ينسب إليهم فقد الإنسانية، وهم يظنون في أنفسهم انهم إنسانيون كسائر الناس، ولسوء حظهم لا يراهم الناس هكذا.
هذه التربية التي صبغهم بها التلمود والبرتوكول أفضت إلى الخطر الثاني، وهو أن حقد عليهم الناس من كل قبيلة وطائفة وجنسية. وهم يستغربون هذا الحقد من الناس أينما كانوا(755/6)
وأينما حلوا يتساءلون: لماذا يحقد عليهم الناس هكذا في كل مصر وعصر؟ لماذا اضطهدهم الروس في القرون الماضية؟ لماذا قسا عليهم هتلر فطردهم من ألمانيا وصادر أملاكهم؟ يستغربون هذا لأنهم يظنون انهم بشر وان أخلاقهم وقلوبهم بشر. ولسوء حظهم انهم ليسوا كذلك لان في عقولهم عقيدة انهم شعب الله الخاص وحيوات الأمم الأخرى حلال لهم. أليس التلمود قد خدعهم وضلهم فأضرهم؟
وأخيراً كانوا يضطهدون في أوروبا وكانوا يستغيثون بأهل الرحمة من نصارى أوروبا وأميركا، لأنهم يعلمون أن هؤلاء الأقوام قد تربوا تربية إنسانية بمقتضى تعاليم مسيحهم فيمكنهم أن يستغلوا فيهم هذه الإنسانية المسيحية فجعلوا يستنزفون أموالهم باسم أسعف المنكوبين اليهود في أوروبا فجمع لهم المسيحيون في أميركا 170 مليون دولار. وسئل مرجنتو العضو في جمعية جمع الإعانات أين تذهب هذه الدولارات؟ فقال 40 بالمائة منها تذهب إلى فلسطين. فغضب رئيس الجمعية وقال أنا مستعف من الرئاسة لأني كنت أظن أن هذه الأموال تذهب إلى المشردين من اليهود في أوروبا لا إلى فلسطين حيث يقيم الصهيونيون دولة على البارود.
ولولا وعد بلفور لعطف عليهم المسلمون أيضاً لان تعاليم دينهم لا تختلف عن تعاليم المسيح الإنسانية من حيث العطف والرفق والرحمة؛ ولطالما عطف المسلمون عليهم في التاريخ الماضي. ألم يعطف المسلمون عليهم بعد كارثة الأندلس فأووهم في كبريات عواصمهم.
ومن أعاجيب فلسفة اليهود انهم يعللون بغض الناس لهم بأنهم أذكياء فيحسدهم الناس على ذكائهم. وكانوا يذيعون هذه الفكرة حتى اليوم إلى أن تلوثت بها عقول بعض الناس من غير جنسهم وصاروا يقولون أن هؤلاء اليهود جمعوا الثروات بذكائهم وانهم يستحقون هذا التفوق وهذا الفوز في عالم المال جزاء للذكاء. وبعضهم يقول لك انهم يستحقون فلسطين لأنهم عمروها إلى غير ذلك من السفسطات السخيفة.
ليس اليهود أذكى من سائر الأمم، بل يمكنك أن تقول انهم دون الوسط في الذكاء. وإنما الفرق بينهم وبين الأمم الأخرى أن ذكاء هذه الأمم مقرون بالأخلاق الإنسانية من محبة وصدق وداد وإخلاص وعطف ورحمة. وأما ذكاء اليهود فمقرون بقلوب صم لا تفهم(755/7)
الإنسانية ولا الرحمة. فأولئك يستحرمون المحرم وهؤلاء يحللون المحرم؛ هؤلاء يثرون كثيرا وأولئك يثرون اقل.
فهم متى راموا التبجح بالذكاء ذكروا لك اينشطين وبرجسون وغيرهما، وأغمضوا الطرف عن جايمس جينز وادينغتون واناطول فرنس وغيرهم. وإذا ذكروا رتشلد ذكرنا لهم ركفلر وكارنجي وفورد. ولكن ماذا فعل آل رتشلد من المبررات التي عملها هؤلاء؟ ما سمعنا بمؤسسة خيرية للإنسانية أسسها اليهود. . .
ولما استفحل الجشع اليهودي في أوروبا وجعلت أوروبا تنبذها نبذة الهواة ولوا وجوههم شطر الشرق وادعوا أن لهم ميراثا في فلسطين فلماذا لا يطالبون به؟ والحقيقة انهم لا يأتون إلى الشرق لكي يرثوا ميراثا بل لكي يسهل عليهم الاستيطان في بلاد أهلها مهملون فيمكنهم أن يرثوا فيها بأسهل من أوروبا.
فقصدوا إلى الشرق العربي لأنهم استضعفوا اهله، ولكنهم منذ هذا الأسبوع انقلبت عقيدتهم في العرب ورأوا انهم قد ذلوا السبيل، وان هذا الصيد دونه أسد الثرى، وسيعودون من حيث اتوا، وسيعود ترومات حاميهم إلى الصومعة لان الشعب الأميركي شرع منذ الآن لا يصدق دعاية الجرائد اليهودية. واليوم قرانا أن الكونجرس الأميركي سيحقق في مسالة ضغط ترومان على أعضاء هيئة الأمم.
نقولا حداد(755/8)
الذكرى الأولى:
شكيب الشاعر
للشيخ محمد رجب البيومي
- 2 -
(لو لم يكن شكيب كاتباً فريدا لكان شاعراً مجيداً؛ فهما كفتان
كلما رجحت الواحدة أشالت الأخرى)
المنفلوطي
كان الجو الأدبي في مبدأ هذا القرن بمصر يبشر بمستقبل بسام تزدهر فيه فنون الأدب، فهناك مدرستان قويتان للنثر والمنظم يتزعم الأولى محمد عبده ويقود الثانية سامي البارودي، وفي تلامذة المدرستين أشبال فتية تقوى وتشتد بمرور الزمن، وقد اتخذت من الصحافة ميدانا فسيحا تتراكض في جهاته، فتركت وراءها دويا رنانا جعل الأنظار تتطلع إلى سماء الصحافة المصرية معجبة بأهلها الجديدة، تلك التي أخذت تتكامل وتزايد حتى أمست بدورها ساطعة تبعث في العقول ضوءها اللماح، وتنشر في النفوس إشراقها اللامع، وانظر إلى آثار شوقي المنلفوطي وحافظ والمويلحي وسائر من تخرج في المدرستين السالفتين، فانك واحد ما حدثتك عنه من تألق وسطوع.
ونحن لا نعجب - والحالة كما وصفنا - إذ رأينا الأمير رحمة الله يؤثر الصحافة المصرية بنثره ونظمه، ويزور وادي النيل بين الفينة والأخرى، متصلا بأدبائه الذين يغردون معه على دوحة واحدة، ومن هنا كان أمير البيان ذا صلة قوية بحملة الأقلام في مصر، يؤثرهم على نفسه، ويؤثرونه على أنفسهم، وطالما اشتبك في حوار أدبي عفيف مع عشاق الأدب والمعرفة، فكان ذا الحجة الدامغة، والرأي الفاصل.
ونبادر فنعلن أن شكيبا كان يهتم بالنثر اكثر من اهتمامه بالشعر، لأنه فوق مكانته الأدبية سياسي مجاهد، له رأي ينفتح عنه، وعقيدة يبثها في أمته، والسياسيون في حاجة إلى امتشاق القلم كل يوم، ليعلم الرأي العام ما يدعون إليه، فلوا انه اتكل على الشعر وحده،(755/9)
لاستعصى عليه في بعض الأحابين أن يبرز رأيه في وضوح، فكان لابد من الاعتصام بالنثر، حتى يفهم عنه الجمهور ما يريد.
وأنت حين تطالع أشعاره عامة ترى عليها مسحة التسرع والعجلة، لأنه يترجم عن عواطفه بدون تكلف، وله من جهاده ما يشغله عن التفكير في معنى غريب أو تشبيه نادر، كما يصنع عبيد الشعر في كل زمان ومكان، على انه مع ذلك مطبوع على التصوير الفني، والديباجة المشرقة، واللفظ الموسيقي.
وإذا أردت أن تنظر لشكيب كشاعر متأنق، فأقرا مساجلاته مع الشعراء ومعارضته لأقرانه الأفذاذ، فهو حينئذ يحرص على أن يكون معهم في درجة واحدة - على رغم فراغهم واشتغاله - فتراه يغوص على المعاني الفائقة، ويتفنن في التراكيب الممتازة، ويطير مع الخيال في آفاقه الشاسعة، واليك قصيدته:
هل لسان أقواله الإلهام ... وبيان آياته الأحكام؟
فانه عارض بها قصيدة شوقي:
رضى المسلمون والسلام ... فرع عثمان دم فذامك الدوام
فكان شكيب رائعا مبدعا، يسوق في تسلسل وانسجام، حتى استطاع أن يوازي أمير الشعراء في دقته وبراعته، ومن العجيب انه يتواضع اكثر من اللائق فيقول في قصيدته:
أو أُعارض فتى القريض فما عا ... رضَ ورد الحدائق القُلام
واحب أن الفت القراء إلى قصيدة أخرى من هذا النوع، انشدها الأمير في حفلة خيرية أقيمت لمعاونة مجاهدي طرابلس الغرب، وكان من شعرائها شوقي ومطران وشكيب، وقد قرأت قصيدة الأمير فوجدته اكثر إبداعا من غيره، فقد كان نسجه عباسيا، وخيالة عربيا يحلق بك في أجواء حوم فيها أبو تمام والمتنبي، ويريك كيف تكون براعة المطلع وقوة الأداء فهو يقول:
سلا هل لديهم من حديث لقادم ... من الغرب يروي فيه غلة هائم
وهل نظروا من نحو (برقة) موهنا ... فلاح لهم منها بريق الصّوارم
تالق في ليلىْ ظلام وقسطل ... فتنشئ سحب الدمع من طرف شائم
مواطن اخوان تملوا من الردى ... كؤوسا تساقوها بمل الحلاقم(755/10)
تهيهم فيها العدو مهاجاً ... فجاء دبيب اللص في ليل قاتم
ولّين في إقدامه من إهابه ... وهل يخدع الإنسان لين الأرقام
ثم يمضي بعد ذلك فيصف أرنب (رومة) مهكما، ويمدح ضراغم هاشم معجبا وهو نظمه يجلجل غريبة، وياتي بالحكمة فذة رائعة كان يقول:
وما طال نوم السيف إلا تنبهت ... عيون الدواهي منه عن جفن نائم
وللقارئ أن يحكم بهذه القصيدة على شاعرية الأمير الناضجة وقريحته المتوقدة، ولعله يتساءل معي أي مستقبل كان ينتظر الأمير في عالم الشعر لو صرف كل همه إليه كما فعل شوقي وحافظ وأي منزلة يحتلها بين الشعراء العربية الخالدين.
وتعجبني علاقة شكيب بزملائه الشعراء فقد كانت ترضى أصحاب المثل العليا في الأخلاق، فهو لا يعجب بقصيدة يطالعها في الصحف إلا ويسارع إلى تقريظها من ثناء، ونحن نتلمس الآن هذه الروح الطيبة، فلا نجدها في معشر من الناس بل نجد ما يناقضها من الغل والحسد، ولكن شكيباً أفلاطوني يقود الناس إلى مدينته الفاضلة فليهم اتبعوه!
ولقد كان يتحمل كثيراً من المصاعب في نصرة زملائه الأدباء من كتاب وشعراء فقد وقف أمام اليازجي وهو من هو في ومنه سعة شهوة، وصلابة راي، ليذب عن شوقي، ويدفع الحملة التي شنها صاحب الضياء عليه، وكلها هنات لغوية، ومآخذ صرفية سطعت عليها شمس شكيب فبددت ضبابها الكثيف وكان هذا الدفاع المجيد وشيجة قوية ربطت أمير الشعراء بأمير البيان فاصبح صفيه الأول، وخدينة المختار، وماذا تقول في مودة عريقة مكثت أربعين سنة وهي في كل يوم تنمو وتترعرع حتى خطف الموت شوقياً، فكتب عنه شكيب سفراُ قيما ورثاه بقصيدة جمعت إلى صدق اللوعة وحرارة العاطفة براعة الوصف ودقة التعبير، فهو يبرز تلك شعر شوقي في صورة لا تنطبق على غيره، ويرسمه أمامك رسما تتجلى فيه ملامحه وخصائصه فهو يقول:
رقت لنغمته القلوب فكيفما ... غنى بها رقصت على نبراته
فترى الطبيعة قبل نظرته لها ... غير الطبيعة وهي في أمرأته
والحسن يشرق في العيون بذاته ... وهنا يضئ بذاته وصفاته
لو بات يعبث بالشراب أضاف من ... كأساته حببا إلى كاساته(755/11)
أو خاض في ذكر العذيب تشابهت ... أعطاف مستمعيه مع بأناته
يلقي على غمرات كل ملمة ... قولا يزيل أجاجها بفراته
فإذا تحدث بالربيع ووشيه ... أنساك بالتحبير وشى نباته
فأي وصف هنا لا ينطبق على شعر شوقي، وأي تصور لا يوقفك على خصائص أبياته؟ الحق أن هذا الكلام ينبئ عن مكانه قائلة الممتازة في عالم الفن، ويدل على الحد الذي وصل إليه رحمة الله في الجودة والبراعة، مما يجعلك تصدق قول شاعر القطرين في رثائه
ولي أخو ألا فذاد من شعرائها ... في جاهليتها، وفي الإسلام
جاري الفحول فلم يقصر عنهمو ... في حلبة الإفصاح والإفهام
شتان بين الشاعر المطبوع في ... إحكامه واللاقط النظَّام
ولقد نظم الأمير في اكثر فنون الشعر من غزل ومديح وسياسة واجتماعيات، بيد انه كان سباقا في الرثاء والوصف، وإبداعه في الرثاء ليس بمستغرب منه فقد كان ذا وفاء نادر لأصحابه وإخوانه فإذا فجعه الدهر في واحد منهم لجا إلى القريض يبثه عاطفته، ويشكوا إليه تباريحه. والواقع أن دموعه الشعرية قد بينت لنا كيف يحافظ الصديق المثالي على مودة صديقه، إذ بقي له اصدق وفاء في القرب والنزوح ورثاء الأمير لصديقه أمين فكري يؤكد ما نقوله فهو يقول:
حملت له بين الضلوع أمانة ... لو احتملتها الشم ذابت تصدعا
وأصفيته منى إخاء لو انه ... أعار الليالي صفوها رقن مشرعا
ومازالت أرعاه على البعد صاحباً ... وقبلي لنجم الأفق من قد تطلعا
فان يك هذا الأفق غرب بدره ... فلا زهرت فيه الكواكب مطلعاً
فكم من يد أضحت تدق بأختها ... وكم شفة باتت تجاور إصبعاً
أخلقت ثغراً عد ثغرك باسماً ... وطرفا تمنى أن ينام فيجعها
أنا ديك لا ارجي الجواب فقد مضى ... ويا لهف نفسي أن أقول فتسمعا
فلو صادحات الأيك يدرين من ثوى ... لما بتن إلا في رثائك سجعا
وهو في مراثيه لا كتفي بسرد عواطفه بل يتعرض إلى مناقب الفقيد فيجلوها جذابة من مرآة شعره، لا كمن يحشد في مراثيه ما شاء من الأخيلة والتصاوير دون أن تتصل اتصالا(755/12)
وثيقاً بسمات الفقيد. واقرأ معي رثاءه في عبد العزيز شاويش فستجد المعنى المطابق والوصف الموافق إذ تراه يقول:
وإذا جرت على الطروس يراعة ... بات الصرير باحتيك صليلا
تلك اليراعة ود أكبر قائد ... أو أنها في كفه ليصولا
تتجاوب الآفاق عن أصدائها ... ويرتلون فصولها ترتيلا
لافرق بين السامعين وقد وعوا ... ما قلته والشاربين شمولا
تغدو أرق من النسيم فان عدا ... خطب غدوت الصارم المصقولا
ليث متى بزأر لامة أحمد ... (ورد الفرات زئير والنيلا)
أما شعره الوصفي فقد بلغ فيه ذروة الإبداع ولا سيما حين يتحدث عن المعارك الدامية بين المسلمين والغاصبين، وقد يكون من المناسب اليوم أن ينظر القارئ إلى قصيدة الأمير في آثار (حطين) فلن يجد فيها بيتا عاديا مع أنها قد تجاوزت المائة والخمسين، وقد استهلها الشاعر يوصف نهر الأردن، مصورا تعاريجه وتدفقه متفنناً فيما يسميه البديعيون بحسن التعليل، ثم خلص إلى بحيرة طبرية فقال فيها ما لم يخطر للمتبني - وقد وصفها قبل ذلك - على بالي.
وانتقل إلى المعركة الحامية في حطين بين المسلمين والصليبين، فتدفق حماسة وخاض حيوية، وقال في حرارة واندفاع:
كأنما قومنا وقد وثبوا ... شم حصون لها القنا جدر
كأنما قومنا وقد وثبوا ... زعازع للحصون تهتصر
ذاق العدا من سلاف طغهمو ... كأسا بغير العنقود تختمر
ضراغم أجفلوا وقد نظروا ... وإنما الليث دون النمر
لم يجبنوا ساعة وإن خذلوا ... وإنما الليث دونه النمر
يوم تلاقي الجمعان وانتصف الميزان ... رهن انحرافه الظفر
عوقب بالآسر موقن بردى ... وجل ملكا مع العمى العور
وفي هذه الطويلة وصف رائع لبطولة صلاح الدين، ولا عجب فقد كان الأمير كلفا بشجاعته ومروءته، وله فيه قصيدة أخرى لا يقولها غير متيم بما ثره، معجب ببطولته،(755/13)
ومن في الدنيا لا يخفض رأسه إجلالا لصلاح الدين!
هذا ويجدر بنا أن نشير إلى قصيدته في آثار الأندلس فقد كانت دمعة حارة سكبها شكيب على الفردوس المفقود، وليت شعري ما يقول العربي الأبي في ارثه الضائع؟ ومجده السليب! وهل تكون قوافيه غير جمرات مشتعلة تتقد في النفوس، وزفرت ملهبة تتصاعد في الصدور؟ على أن أمير البيان قد ملك زمام شاعريته فجاء بالمعنى الرائع والوصف المحكم حين قال في وصف جامع قرطبة وأعمدته القائمة.
تراها صفوفاً قائمات كأنها ... حدائق نصت من جماد مشجرة
من العمد الأسنى فكل يتيمه ... لها نسب من مقطع متخير
نبت دونها زرق الفؤوس وأصبحت ... لدى الفرى تهزا بالحديد المعصفر
ولكن لفضل الفن ألقت قيادها ... فصال بها الصناع صولة عنتر
فبينا هي الصم الصلاد إذا انثنت ... مقاطع جبن أو قوالب سكر
عرائس للتحريم فوق رؤوسها ... أكاليل در في قلائد جوهر
ثم يمضي الشاعر إلى نهاية قصيدته لا أفلاً في هذا الوشي البديع ولست محتاجاً - بعد ما قدمته من النماذج المختارة من شعر الأمير - إلى أن أنص على انه حريصا على مقاومة التيار الجديد الذي يبيح للشاعر ما يند عنه الذوق العربي من تهرب من الوزن، وتنصل من القافية، بل انه ظل طيلة حياته يذب عن القديم بما يملك من بيان، وله في ذلك أبحاث عديدة يمكنك أن تفهم خلاصتها من قوله التهكمي (ونحن نقول للذين يتكلمون في القديم والجديد، ويزعمون أن لكل عصر مدرسة على قولهم في الشعر، أن هذه المدرسة تكون في العلم وتكون في الصناعة وتكون في الزراعة، وتكون في كل شئ إلا في الشعر؛ فان مدرسته هي القلب وطريقته هي النفس، والنفس البشرية لن تتغير ولن تتغير، فهي هي أزواقها ومشاربهاً، وما سمعنا أن الإنجليز زهدوا في شكسبير لكونه عاش قبل هذه الأيام بثلاثمائة سنة، ولا أن الألمان عابوا جوته لمجيئه قبل اليوم بمائة وخمسين سنة، فكيف نعيب المتقدمين!؟) وفي اعتقادي أن كلام الأمير جدير بالتأمل والانتباه، حتى يظهر الصبح لذي عينين.
أي نجم هوى يفقدك يا أمير البيان! وأي أمل تحطم حين ودعتك العروبة باكية إلى مقرك(755/14)
الأخير! وأي ارج عاطر يفوح من ضريحك الحبيب.؟!
سلام على القبر الذي ضم أعظما ... تطوف المعالي حولهم فتسلم
محمد رجب البيومي
كلية اللغة العربية(755/15)
3 - طرائق من العصر المملوكي:
ابن الوردي والخمول
الأستاذ محمود رزق سليم
ما هي العوامل التي دفعت ابن الوردي دفعاً إلى أحضان الخمول فارتضاه لنفسه مذهبا ومعتنقا يجد فيه لذاذة وسعادة؟. . أن من كان في مثل فضله وعلمه، من حقه على الدنيا أن تنبيه شانه، وتسعى إليه، وترفه عنه، وتنوه به، وتيسر له. فهل أبلغت الدنيا ابن الوردي آماله، وأفسحت له سبيل المال والجاه؟ كلا. . لقد روى انه دخل الشام مرة، فقرة باد في رثائه هيئته ورداءة نظره، فحضر مجلسي القاضي نجم الدين بن صصري من جملة مشهودة. فاستخفوا به وأجلسوه منهم مجلسا بعيداً؛ ثم أرادوا كتابة مبايعة ملك. فقال بعض الحاضرين مشيراً إلى ابن الوردي (أعطوا المعري بكتب المبايعة)، على سبيل الاستهزاء به. فقال ابن الوردي: (اكتبه لكم نظاماً أم نثراً) فزاد استهزائهم وقالوا (بل نظاما) فأملي لساعته نظاما لطيفا ذكر فيه اسم البائع والمشتري وحدود المبيع والشهود والتاريخ وما إلى ذلك. فاقبل القوم عليه معتذرين؛ وقد عرفوا مكانه.
فنكران المنزلة وضيق الرزق وقلة الجاه في مقدمة أسباب خموله.
وقد كان ابن الوردي - فضلا عن علمه وأدبه - ذا نفس أبية تربا به مواطن الذل، وتنأى به عن مهاوي الخضوع ولو حرم في سبيل ذلك ما يشتاق إليه من المجد: يقول:
وما جهلت نفسي المعالي وطيها ... ولكن رأت أن السلامة أطيب
أصون الذي علمته عن مذلة ... فللعز في الدارين قد كنت أتعب
ورحت خفيف الظل عن حمل منة ... لمفتضح بالمكر وهو محجب
ويقول:
ولو شئت فقت الكل حرصاً وجرأة ... وأرضى بجمعي وارثي وأعصب
أأكثر أموالاً وأحمل ثقلها ... وأتركها للوارثين وأذهب
على الله رزق الوارثين وغيرهم ... فبعدا لشخص من سوى الله يطلب
وقد كان ابن الوردي - إلى جانب ذلك كله - ذا أسرة ضخمة، فقد ترك له أبوه جملة من الأشقاء، ورزقه الله عدة من البنات. وهذه حالة تتطلب السعي الدائم، والكد والمجادلة، وبذل(755/16)
الحيلة. ولكن إباء نفسه لم يدع له وسيلة إلى الخضوع في سبيل الحصول على الرزق. فهو لا يحني رأسا لرئيس، ولا يقارف عملا يتنافى مع كرامته، ولا يبذل ماء وجهه لقاء عرض الدنيا. يقول:
واكتساب الغنى ينظم ونثر ... فيه نقص للفاضل المشهور
أنا لفظي در النحور ومثلى ... لم يبع بالحطام در النحور
إن فقر النفوس ذل وشين ... وغنى النفس عز كل فقير
ولا يسعى إلى منصب القضاء برشوة - وقد كانت ذائعة في عصره - بل عف عن المناصب جملة لما رأى فيه رقا لنفس الحر. فيقول بعد أن طلق القضاء:
أأرجع بعد العتق في الرق ثانياً ... فلا أم لي أن كان ذاك ولا أب
ولقد كان ابن الوردي - كما ذكرنا - قاضيا على حلب نائبا في قضائها عن قاضي القضاة الكمال بن الزملكاني وكان ابن الوردي قد مدحه بقصيدة طلليه لأنه استنقذ كنيسة من اليهود بحلب وجعلها مدرسة للحديث. فقال له:
علا لك ذكر ليس يشبه ذكر ... وأحرزت فخراً ليس يدركه فخر
ثم أرسل إليه ابن الزملكاني رسولا يطالعه بنقله إلى منج. فلم يسترح إلى النقل، وألح في العودة إلى حلب، فلم يستمع له ابن الزملكاني. فانقلب ابن الوردي هاجياً شاكياً، وكانت هذه الحادثة السبب المباشر في انه كره المناصب وحياة الوظيفية، ولجأ إلى الخمول يستعيض بالاطمئنان إليه ما فقده من جاه ورزق. قال مخاطباً ابن الزملكاني:
فعندما قال الذي قاله ... رسولكم أوضح ما أعضلا
وبان لي ما يقصد الدهر لي ... لكن رأيت الصبر في أجملا
وانقطع البحث وزال المرا ... فقدموا الناقص والاجهلا
تالله لا باشرت من بعدها ... حكما ومن يرضي بهذا البلا
فضل ابن الوردي من ذلك الحين حياة الخمول على حياة الكفاح. وارتضى عيش العزلة على المخالطة. ونشد السلو بين كتبه ودفاتره، والعزاء بين أقلامه ومحابره، وراح يرفل في ثوب من الخمول، كأنه يرفل في ثوب من النسيم. وأمعن في خموله واستمرأه حتى اصبح حبيباً إليه أثيراً عنده. راضياً بيأسه. قال:(755/17)
قالوا تركت الحكم قلت تركته ... وأعتضت عن خضر القضاب اليأس
قتل الأنام على الحطام نفوسهم ... فصفعت دنياهم بألف مداس
وقد استقر في نفسه أن الخمول هو نصيبه الحق من الحياة. لأنه قل أن يجتمع الحظ الحسن مع الذكاء. ويندر أن ياتمُ الجاه الواسع مع البروز في العلم والآداب. فذكاء المرء محسوب عليه. وخير لطالب الجاه أن يدع سبيل العلم والأدب ويخليها لغيره. قال:
لا تحرصن على فضل ولا أدب ... فقد يضر الفتى علم وتحقيق
ولا تعد من العقال بينهم ... فإن كل قليل العقل مرزوق
والحظ أنفع من خط تزوقه ... فما يفيد قليل الحظ تزويق
والعلم يحسب من رزق الفتى وله ... بكل متسع في الفضل تضييق
أهل الفضائل والآداب قد كسدوا ... والجاهلون فقد قامت لهم سوق
والناس أعداء من سارت فضائله ... وإن تعمق قالوا عنه زنديق
وقد بدا لنا من هذه الأبيات عقيدته في الحظ، وقد رددها في أبيات متعددة فقال منها:
لي نفس تقية لم يعيها ... غير حظي وذا نهر اختياري
جامع الحظ والذكاء قليل ... يصعب الجمع بين ماء ونار
غير أن هذه العقيدة لا يصاحبها الرضا بل السخط، ولا يخالطها الاطمئنان بل المرارة والحسرة. إلا تراه يقول؛
إن لمت حظي فلا تلمني ... فإن لومي له بحق
للضد رزق بلا حساب ... ولي حساب بغير رزق
ويقول:
شتان يا ابن فلان ... تعاستي وسعودك
أنا يدوّد قزي ... وأنت قزز دودك
وما دام أمر الحظ كذلك فلا داعي للسعي وليس المرء ناعما في خموله، لا عمل ولا نصب، ولا كد ولا أدب. ولاسيما بعد أن كافح ونافح، ودرب وجرب، فلم يظفر من وراء ذلك بشيء: قال:
ما طلبنا الخمول جهلا ولكن ... ذاك عن خبرة وعن تجريب(755/18)
لو منا الزحام فيه لكنا ... نشتهيه لصاحب وحبيب. . .
ويبالغ ابن الوردي فيأسف على ما فات من الزمان في غير الخمول، كأنما فاته شيء من العز والمجادة فيقول:
أسفي! كيف كنت أطلب عزاً ... بالولايات وهي عبن الهوان
كنت لا أعرف الخمول لجهلي ... ليتني كنت خاملا من الزمان
وقد أطلق له الخمول حرية القول وفتح أمامه فجاج الحديث. ففخر بنفسه ليدل الناس على مفاخره، ونقد مجتمعه ليبين لأفراده ضروب الفساد فيهم، وجأر بالشكوى مما أصابه لعله يجد فيهم سميعاً. وما كان خموله إلا شكوى صامتة واحتجاجاً سلبياً على حرمانه. فقنع ولكنها القناعة المرة. وقال:
أهملني قوم وكم فاضل ... يود أن ينظرني في المنام
ثم يقول:
قنعت والقنع يعز الفتى ... لما رأيت الحرص ذل الكرام
على أننا نعود إلى تسائلنا ونقول: هل كان ابن الوردي خاملا؟ وهل نال من وراء خموله ما يشتهي من الخمول الحق؟ كلا. . . فإن بعد عن الناس ببدنه فقد قرب إليهم بفكره، وان اعتزلهم بجسده فقد عاشرهم بشعره. ونال من وراء الجماعة عنهم ما يكون كامناً في نفسه من أمل الشهرة والذيوع. وان حرم الرزق والجاه. وقد مات ابن الوردي ولا يزال شعره يردد، وذكره يجدد، وعاش ومات في النابهين الخالدين. وكان من الشعراء القلائل الذين تركوا للناس مبادئ ومذاهب عاشوا بها ودعوا إليها.
محمود رزق سليم
مدرس بكلية اللغة العربية(755/19)
الأديب والإصلاح الاجتماعي
للأستاذ أحمد محمد العظمة
لا مشاحة أن للأديب تأثيراً قوياً على النفوس والأفكار والعواطف والأخيلة، وان له أثراً جلياً في حياة الأفراد والجماعات، وان النهضة الأدبية كثيراً ما تمهده للنهضة السياسية والاجتماعية والدينية، وفي تاريخ الثورة الإسلامية والثورة الفرنسية مثلا مصداق ما نقول. ولا بدع فالأديب إذا بكا بقلبه مثلا بكا يراعه، وإذا ثارات نفسه ثار أسلوبه، فكأنما هو يكتب بمداد من الدماء يكفي أن يبصره الناس حتى يهيج دماءهم ويخف بها إلى ما يريد منها، وكأنما هو يخطب بأصوات من روحه لا من لسانه حسب الناس أن يسمعوها حتى تتصل بأرواحهم فتعمل فيها عمل العاصفة حيناً ثم تقذف بها حيث تريد (كجلمود صخر حطه السيل منى عل). وهذا من أسرار تلك الكهربائية الأدبية التي تعمل عملها في جوها الروحاني فلا يبلغ مبلغها إلا هي. فليس الأديب إذن أديب الألفاظ الأصلية ولا الأفكار الوزينة ولكن أديب الفن، والفن رعشة روحاني تصطفى ما تشاء ثم توحي به نغما أو رسما أو كلما تفكيراً أو عاطفة أو خيالا.
إذا كان للأديب هذا الأثر فتعالوا نتساءل عن مبلغ اهتمام معظم أدبائنا بنا وتأثيرهم الاجتماعي التقدمي فينا.
في ظني أن الجواب يحمل دون ما ينتظر من أكثرهم، فقد جروا مع الزمان كما أراد كأنهم ليس لهم في الإصلاح من مراد، انهم يهتمون بأنفسهم اكثر من اهتمامهم بأوطانهم فلم يكونوا فاعلين بالهام الواجب، بل كانوا ظاهريين انفعاليين بعامل البيئة، ينظرون إلى ألوان الأشياء والحوادث وأشكالها ولا يتأملون في حقائقها ومآلها، كأنهم يهدفون إلى الجمال الظاهري الأبي وحده ويجرون في ذلك وراء غيرهم جنوداً ولا يجرون في الطليعة قواداً، رأوا الناس استساغوا منهلا فنهلوا منه وعلوا، فبضاعتهم من الرأي تقليدية مخادعة لا ذاتية تأملية، وقد تكون هذه البضاعة من البهرج الدخيل في الأمة لا الجوهر الأصيل فيها، وقد يكمن فيها استعمار فكري أو انهيار خلقي أو إنذار سياسي، وقد تعقبها الواقعة فلا تجد الأمة لوقعتها دافعة.
غفال الناس عن ذلك كله فغفل الأدباء مثلهم أو تغافلوا فلم يكرثهم أمرهم ليروه حقيقياً(755/20)
بالاعتداد به والاحتفال له، وقد يكون من أسباب ذلك ظنهم أن الأدب الهيئة الحياة فلم يجعلوها جهيراً للخير وبوقا لليقظة وقد يتذمرون منه أن رواه كذلك في عيش يبتغونه رقيق الحواشي لا يعرف إلا هزلا.
وقد يلتمس بعضهم العذر لبعض وهو يراه على خطأ الرأي وصدق في العاطفة الجامحة بأنه أديب والأديب مرآة يتراءى فيها كل ما يتجلى لها فليس في تبديل ما يعرض له يدان، وما ذلك بعذر لو كانوا ينصفون: فالأديب مرآة ولكنها عاقلة، يصحب تشبيهها وتلهها إيمانها وتفكيرها وثقافتها وإرادتها وغايتها، فليست مكرهة على أن تسف وتسخف، بل ينبغي أن تصطفى مما يعرض لها، وان توجه الحوادث توجيهاً وتؤلف منها مظهراً جميلا لقصد رفيع ترينه، كما يؤلف الكيمائي من مختلف العناصر جسما لم يكن وهو يريده، وبذلك يثبت الأديب انفعاله بتأثير بيئته وعوامله الذاتية إثباتاً دفاعيا لا أتخذ آليا، كما ترى ذلك مثلا في العبرات للمنفلوطي ووحي القلم للرافعي:
أنا لست غافلا عما يؤلف في الإصلاح الاجتماعي، ولكني لست اعني الآن العلماء الباحثين والكتاب الصحفيين، إنما اعني الأدباء أولى الرعشات الروحانية الذين مهدت بالحديث عنهم، فما أقلهم وإن كثرت الكتب والصحف، وما أقل منهم حملة المصابيح في دياجير الحياة الذين يصدر أدبهم حيوياً تغذوه عقيدة راسخة وثقافة جامعة ناضجة فلا يستعبدهم هواهم ولا يستبد بهم ولا يسخرهم تقليدهم ولا يسخر بهم. فأين أين ذاك الماء الزلال الذي يفيض عن معينه الثر الذي لا يعتكر، ويصدر معينه عن السماء تمده بطلها وان كان هو في الأرض؟
أن الأدب العربي لا يتعذر الإصلاح عليه فهو يستطيع أن يحيط خبراً بما بين الناس وان يجتذب ما يحتاجون إليه مما يقوم حياتهم ويدرا عنهم ما يتهددهم من الآفات الاجتماعية التي انسلت إليهم من سواهم ثم تفشت فيهم وجعلتهم يتداعكون وهم بين أعداء لها يحذرونها وأنصار يفخرون بها ويحضون عليها، حتى لكان أبا العتاهية يصدق فينا قوله:
أنا في زمن ملآن من فتن ... فلا يساب به ملآن من فرق.
يستبين من هذا كله أن على الأديب العربي اليوم أن يجعل حظه عظيما من بحوث الأخلاق والاجتماع وما ايها، حتى لا يلتبس عليه الحق بالباطل والشراب الأجل بالسراب العاجل،(755/21)
فيأخذ نفسه بما صح عنده من أحكام، وما كرم من أخلاق وما سما من مقاصد، ويدعوا لذلك غير متريث ولا مهيب، وقد يدعو هذا إلى شيء من المطاولة والتروي والمواصلة، فلا ضير، بل يجب أن يكون كذلك حتى يكون الأدب أو بعض الأدب عميقا معه برهانه فلا يهلهل عند النظر ولا يضمحل إزاء الحجة، ولا يتمهل أمام الواجب.
إن المعركة الخلقية الاجتماعية اليوم من الخطورة بمكان، فهي عند مفترق الطرق، وهي معركة مبادئ تتضاءل ليذهب زبدها جفاء، ويمكث حقها في الأرض بعد ثبات أهله وصبرهم وجلدهم وحكمة قيادتهم.
أنها لمعركة مبادئ تبقى بعد الأمة العربية عربية تهتز بتاريخها المجيد، أو تغدو غريبة تعتز بتاريخ من ليس لهم للحق تاريخ إلا من صفحات العدوان على حق خنقوه ودم سفكوه ومجتمع أضلوه. وان وراء الحق صادقة، وخلقا كريماً، وعزة، وضياء، وان وراء الباطل تحللا، وسفهاً، وذله وعماء، وما يبدي الباطل وما يعيد.
فمن غير الأديب العربي الحمى الأنف يطارحنا بلحنه الأخاذ فيهز القلوب والمشاعر والأفكار، بل يهز الأرواح هزاً منهاً إلى السبيل السوي الذي يجد أهله بعده عزهم وهداهم ونعماهم فلا يضلون في مهامه المذاهب الاجتماعية الكثيرة التي لا يكاد يتبين فيها الساري وضح الطريق، وإنما خشي ما فيها من متفجرات تدك بنيان النهضة من القواعد دكا، ولا تلبث ذويه حتى يعودوا إلى أنفسهم نادمين فينشئوا حياة ويبنوا المجد كبناء الأبوة الأمجاد.
إن الأمر حقيقة وجد وما هو بخيال وهزل، فما أحرى الغير على يوم الأمة وغيرها أن يفكروا في هذا الضرب من الأدب والأدباء، ولعل من الخير أن يدعوا إلى مؤتمر أدبي على عربي يجتمع مؤتمروه في إحدى عواصمنا كل عام، فتعرض فيه مشكلاتنا الأخلاقية وآفاتنا الاجتماعية ويوجه نحوها الضياء، ويوصف لها الدواء، فيقوى الرجاء بان العرب يسيرون قدما إلى الأمام ودائما إلى الأمام بعد أن صدروا عن عكاظهم الجديد عكاظ الخير والأدب والوطن العربي الكبير.
دمشق
أحمد مظهر العظمة(755/22)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
933 - أمثال. . .
مجمع الأمثال للميداني:
لولا جلادي غنم تلادي.
لا بلاد لمن لا تلاد له.
الروم إذا لم تغز غزت.
لا يفل الحديد إلا الحديد.
الشجاع موقى.
934 - أصيب زوجها وأخوها وأبوها
تاريخ الطبري: مر رسول الله (صلى الله عليه) بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأبوها مع رسول الله باحد، فلما نعوها قالت: فما فعل رسول الله؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت أرونيه حتى انظر إليه، فأسير لها إليه حتى رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
935 - الجنة تحت البارقة
الفائق للزمخشري: عمار: (الجنة تحت البارقة) هي السيوف لريقها وهذا كقولهم: الجنة تحت ظلال السيوف.
وفيه: قال أبو هريرة يوم يرموك: تزينوا للحور العين وجوار ربكم في جنات النعيم، فما رأى موطن اكثر قحفا ساقطا وكفا طائحة من ذلك اليوم.
في الفتوحات المكية: قال بعضهم في حق المجاهدين:
أبواب عدن مفتحات ... والحور منهن مشرفات
فاستبِقوا أيما استباق ... وبادروا أيها الغزاة
فبين أيديكم جنان ... فيها احسن منعمات
يقلن والخيل سابقات ... مهورنا الصبر والثبات(755/24)
936 - نحن والله أهل الحرب
طبقات ابن سعد: قال عبد الله بن عمرو: نحن (والله) أهل الحرب غذينا بها، ومرنا عليها، وورثناها عن أبائنا كابرا فكابرا. نرمي بالنبل حتى تفنى، ثم نطاعن بالرمح حتى تكسر الرماح؛ ثم نمشي بالسيوف فنضارب بها حتى يموت الأعجال منا أو من عدونا.
937 - . . . إلا بحث ترى المنايا سودا
أبو تمام:
ما إن ترى الاحساب بيضا وضحا ... إلا بحث ترى المنايا سودا
938 - . . . فعليكم بالجهاد
كان خالد يقول: ما من ليلة يهدى إلى فيها عروس، أنها لها محب وابشر منها بغلام - احب إلى من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية اصبح فيها العدو، فعليكم بالجهاد.
وفي كتاب فتوح الشام اللازدي: ثم أن خالدا سار في الصفوف يقف على هل كل راية ويقول: يا أهل الإسلام، أن الصبر غز، وان الفشل عجز، وان مع الصبر تنصرون؛ فان الصابرين هم الأعلون، وأنه إلى الفشل ما يحور المبطل، وان الحق لا يفشل.
939 - . . . عن أحسابكم ذودوا
عمرو القنا:
القائلين إذا هم بالقنا، خرجوا ... من غمرت الموت في حموتها؛ عودوا
عادوا، فعادوا كراما لا تنابلة ... عند اللقاء ولا رعش رعاديد
لا قوم اكرم منهم يوم قال لهم ... محرض الموت عن حسابكم: ذودوا
940 - لكن الله يعرفهم
الخراج لأبي يوسف: حدثني إسماعيل عن قيس عن مدرك ابن عوف الأحمسي. قال: بينا أنا عند عمر إذ أتاه رسول النعمان ابن مقرن فجعل عمر يسأله عن الناس، فجعل الرجل يذكر من أصيب من لناس بنهاوند فيقول: فلان بن فلان وفلان بن فلان، ثم قال الرسول: وآخرون لا نعرفهم، فقال عمر: لكن الله يعرفهم.(755/25)
وفيه: حدثني مسعر عن سعد ابن إبراهيم: مروا على رجل يوم القادسية وقد قطعت يداه ورجلاه وهو يفحص ويقول: (مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا). فقال له رجل من أنت يا عبد الله؟ فقال: رجل من الأنصار.
941 - كذبتم وبين الله لا تأخذونها
عمرو بن براقة الهمداني
كذبتم (وبيت الله) لا تأخذونها ... مراغمة ما دام للسيف قائم
متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وآنفا حميا تجنبك المظالم
942 - لعل الله يرزقني الشهادة
طبقات ابن سعد: عن عامر بن سعد عن أبيه قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله يتورى، فقلت: مالك أخي؟ قال أخاف أن يراني رسول الله فيردني، وأنا احب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة. قال: فعرض على رسول الله، فاستصغره، فقال: ارجع، فبكى عمير، فاجازه رسول الله. قال سعد: فكنت اعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر.
943 - أحق من لم بكره المنية
ابن جؤجؤة الاعرجي:
أحق من لم يكره المنية ... حزور ليست له ذرية
944 - نساؤهم كرجالهم
طبقات ابن سعد: قال محمد بن عمر: شهدت أم عمارة ابن كعب أحداً مع زوجها غزية بن عمرو وابنيها، وخرجت معهم بشن لها في أول النهار تريد أن تسقى الجرحى، فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا. وجرحت أثنى عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف.
قتلت أم حكيم يومئذ (يوم مرج الصفر) سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد بن سعيد العاص معرسا بها، وكانت وقعة مرج الصفر في المحرم سنة أربع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب.(755/26)
945 - . . . فأنا أرابط حتى أموت
قال أبو فضالة الأنصاري. اصطحب أنا وسهيل بن عمر ابن عبد شمس ليلي أزرنا أبو بكر الصديق فسمعت سهيلا يقول: سمعت رسول الله يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة خير من عمله عمره في أهله، قال سهيل: فأنا أرابط حتى أموت ولا ارجع إلى مكة أبداً.(755/27)
تعقيبات
الروح العربية:
لقد نديت عيني بالدمع، وأحسست بقلبي كأنه يريد أن يثب من بين
جوانبي وثبا وأنا استمع لزعماء العرب وقادتهم وهم يتحدثون في
اجتماعهم الأول بوزارة الخارجية المصرية عن العمل لإنقاذ فلسطين
وصيانة ذلك الوطن المقدس من طغيان الصهيونيين والاستعماريين. ..
قال لي سماحة الحاج أمين الحسيني: لقد حان وقت العمل، ولابد أن يلعب السيف دوره، وإذا تكلم السيف فاسكت أيها القلم. . . وسننتصر. . . ولابد أن ننتصر. . . وان ينصركم الله فلا غالب لكم. . .
وقال لي سعادة الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا: حتى أنت تريد مني أن أتكلم! إننا في ميدان العمل، وإنها لكرامة العرب قاطبة، وانه لكيان العروبة في سائر أقطارها وانصارها، وانه لتراث الأباء والأجداد نحمله أمانة بين أيدينا، وان دماءنا لأقل ما يبذل في سبيل هذا كله. . .
لم اكن اسمع كلاما، ولكني كنت أرى نفوسا تتوثب بالإباء في قوة وعزيمة، وقلوبا تتدفق بالحياة في إصرار وحزم، وعواطف ثائرة متأججة كأنها زفير الجحيم على الظلم والطغيان، فأيقنت أن الروح العربية لا تزال بخير والحمد لله، وان العرب لن يضاموا ما دامت فيهم هذه الروح التي ورثوها عن آبائهم الصيد، وأجدادهم الصناديد، وان فلسطين لت تذل مادامت تحميها هذا الروح وتصونها من تناوش الذئاب.
لن يسرق العرب تحت عين الشمس مرة أخرى، ولن تذهب فلسطين فريسة في سوق السماسرة والتجار، ولن تنحني هاماتنا بعد اليوم أمام التهديد الغاشم والوعيد الظالم، فقد تيقظ العرب، وإذا تيقظ العرب، فالويل للاستعمار وصنائع الاستعمار! أنني وحدي انفرد من بين أبناء العربية فاحمد لهيئة الأمم قرارها، وأزجى الشكر أضعافا إلى الأمم التي أيدت قرار التقسيم، لأنها بهذا نادت على العرب أن يتيقظوا، وأثارت فيهم روحا كان يهدي من(755/28)
ثائرتها ما طبعوا عليه من كروم وإنسانية، وجعلتهم يواجهون الحقيقة حتى لا تعصف بهم الخديعة على غرة، والأمر كما قال شوقي شاعر العرب:
وكم في طريق الشر خير ونعمة ... وكم في طريق الطيبات شرور
النصر الأول:
إني أرى التاريخ يعيد نفسه اليوم!
فقد حدث من قبل أن طغى كسرى وبغي، صر النعمان ابن المنذر شر مصرع، ثم أرسل إلى هانئ بن قبيصة يطلب منه ما استودعه النعمان من الدروع والرماح، حتى ابنته أيضاً، فابى هانئ عليه ذلك وفاء بحق العرب، فآسرها كسرى في نفسه، وحشد على العرب زحفا من جيوشه يسد عين الشمس، وحسب انه ساحقهم لا محالة، وعلم بذلك الشاعر الأيادي لقيط بن معمر الذي كان يتولى الكتابة في ديوان كسرى، ففزع لقومه، وأرسل إليهم بهذه الصحيحة التاريخية يقول:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادة ومنتجعا
ابلغ أبادا وخلل من سراتهم ... إني أرى الرأي - إن لم اعص - قد نصعا
أني أراكم وأرضاً تعجبون بها ... مثل السفينة تغشي الوعث والطبعا
ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا
يا قوم أن لكم من ارث أولكم ... مجدا قد شفقت أن يفنى وينقطعا
يا قوم لا تأمنوا أن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا
قوما قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
ولقد استجاب العرب لهذه الصحيحة، واندفعوا على مضطلعا ولقد استجاب العرب لهذه الصحيحة، واندفعوا على صداها يدودون عن شرفهم وحرماتهم، ووقف هانئ بن مسعود على جموع العرب يخطب خطبته المأثورة: يا معشر بكرا! هالك معذور، خير من ناج فرور، أن الجازع لا يرد القدر، وان الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من أستدباره، فالجد لجد، فما من الموت بد!(755/29)
وهب العرب أنفسهم للموت في سبيل الشرف والكرامة، فكتب الله لهم النصر والحياة، ومكن لهم من الفرس وقهر الطغيان، وبلغ الأمر إلى النبي صلوات الله وسلامة عليه، وكان قد بعث، فقال: (اليوم أول يوم انتصف فيه العرب لأنفسهم من العجم، وبي نصروا)!
وابتدأ التاريخ من يومذاك يكتب للعرب صفحات مشرقة حافلة بالنصر بعد النصر على العجم، وما زالوا أورثهم الله لأرضهم وديارهم!
ذلك ما كان من تاريخ النصر الأول للعرب، حفز إليه طغيان كسرى، وان العرب اليوم ليمشون إلى النصر الخالد يحفزهم إليه قرار تلك الهيئة في جانب الظلم والبهتان، ويعلم الله أننا ما كنا نبغي العدوان، ولكن الأمر كمال قال أبو الطيب شاعر العربية:
غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا
نشيد العروبة:
والآن، وأبناء العروبة يمشون إلى ميدان الجهاد، ويتحفزون لتضحية والفداء، والشباب الفتى في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد وعمان وفلسطين وسائر الأقطار العربية يستفزهم الغضب لكرامتهم والذود عن كيانهم، إلا يجدر أن يكون لهم نشيد واحد يهتفون به لفلسطين، ويكون حداؤهم المؤتلف في مواكب الجهاد ضد الغاضبين!؟
اجل، انه لواجب أن تنحى أناشيدنا المحلية اليوم جانبا، وان يكون لنا اليوم (نشيد العروبة) يهتف به كل لسان، ويفيض به كل وجدان. . . فلعل شعراءنا ينسون أحاديث الغزل والهيام، وينحدرون من أبراجهم العاجية إلى مواكب المجاهدين بأشعارهم وأناشيدهم!
إن الشاعر الذي سيكتب (نشيد العروبة) في هذه الآونة الحاسمة، سيكتب لاشك لنفسه الخلود. . . فيما ترى من هو الشاعر الذي سيكون لذلك الموقف، ولذلك اليوم؟!
الدكتور. . . احمد أمين:
حدثني الثقة أن الأساتذة الذين يقومون بالتدريس في كلية الآداب قد اجتمعوا فيما بينهم وقر رأيهم على أن يتقدموا إلى مجلس الجامعة بمنح الأستاذ احمد أمين بك درجة الدكتوراه الفخرية تقديرا لعلمه ولجهوده في خدمة الحياة الثقافية والعلمية.(755/30)
والأستاذ احمد أمين بك رجل اخذ حظه ومكانته، فلن ترفع من قيمته دكتوراه فخرية، ولا يغض من مكانته عدم حمله لهذا اللقب الذي يحسبه بعض الناس كل شيء في العلم والمكانة، وكم بيننا من (دكاترة) ليس لهم من اثر ومن صلة بالعلم الأجمل هذا اللقب الضخم، ولكني اكبر هذا الوفاء من رجال كلية الآداب واحمد لهم هذا تقدير للعلم في ذاته، وإكبار له في شخص رجل بذل في سبيل العلم نور البصر، وضحى بحياة الرفاهية والتقلب في أعطاف الراحة.
اجل، لقد وقف الأستاذ احمد أمين حياته على خدمة العلم، وقدم للمكتبة العربية تراثا ضخما من البحث والدرس يستحق به كل تقدير، وسيمتد هذا التقدير في نفوس الأجيال المتعاقبة، ما دامت الثقافة العربية زاهرة مشوقة. أقول هذا ولعل القراء يذكرون أني هجمت على هذا الأستاذ الفاضل منذ قريب في الرسالة لرأي أبداه ولمست فيه شيئا من الإسراف، وحسب أستاذنا صاحب (الرسالة) أني اجحد فضل هذا الرجل. . . كلا! ولكني افضل دائما بين الرأي وصاحبه، وان خطا من الأخطاء لا يحملني على أن اجحد ما هناك من حسنات، خاصة وليس في نفسي شيء من أحد والحمد لله. وقد كنت في دروسي اخذ بتلايب أساتذتي ولكني كنت أجلهم واحبهم حبي لوالدي، وما زالت هذه صلتي بهم. فلا عجب أن اغتبطت بهذا الخبر، وأكبرت هذه التقدير لذلك الأستاذ الجليل. . .
(الجاحظ)(755/31)
الأدب والفن في أسبوع
حدث في الفكر الإسلامي:
نشرت مجلة الثقافة بحثا كبيرا في مسالة تعدد الزوجات لمعالي الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا، ذهب فيه إلى أن تعدد الزوجات إلى أربع غير قائم على سند من القران صالح لقيامه عليه، وانه بمقارنة بعض الآيات ببعض يظهر أن الأصل تحريم التعدد، وقد وصل معاليه إلى هذه النتيجة من طريق تفهم الآيات القرآنية وتذوق لاغها، فجاء بحثه تشريعا أدبيا قيما خطيرا، قيمته في البراعة في معالجة الموضوع، وخطره فيما انتهى إليه من الرأي، وهو لهذا يعتبر حدثا جديدا جللا في تاريخ الفكر الإسلامي من غير شك.
اعتمد الباحث الكبير في رأيه على ثلاث آيات من سورة النساء، هي:
1 - الآية الثانية من السورة وهي: (وأتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم انه كان جوبا كبيرا)
2 - الآية الثالثة ونصها: (وان خفتم إلا تقسطون في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى إلا تعولوا)
3 - الآية التاسعة والعشرون بعد المائة ونصها: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)
قال: (إن الكلام في الآيتين الثانية والثالثة من السورة مسوق لتحقيق فضيلة العدل في المعاملة، فأشار في أولاهما إلى ما كان حاصلا من أكل المخاطبين أموال اليتامى الذين في ولايتهم ومن العبث بها، وقد أمرهم باجتناب هذا العبث وعدم التوريط فيه لأنه آثم عظيم. ولما كان بعض اليتامى إناثاً في حجر المخاطبين وكان لهن أموال تحت يدهم، وكان من عاداتهم السيئة انهم يتخذون هؤلاء اليتامى زوجات لهم ويمسكونهن هن وأموالهن ضرار، وكان هذا أشنع مظهر من مظاهر أكل مال اليتامى، فتتميما لفكرة تحقيق العدل (التي في الآية الثانية من السورة) وتثبيتا لها أشار في الآية الثالثة إلى هذا المنكر، واتى، بأبلغ ما يكون من القول لصرفهم عنه. انه يقول لهم: إذا فهمتهم قولي في الآية السابقة وعلمتم أن أكل مال اليتامى مطلقا (من ذكور وإناث) أثم كبير، فلا تتذرعوا إلى هذا العبث بنكاح(755/32)
اليتيمات اللاتي في جحوركم، بل تعففوا عن نكاحهن المفضى بكم إلى أكل أموالهن، ولديكم ممن تستطيبون من غيرهن من النساء كثيرات، تستطيعون أن تنكحوا منهن ما تشاءون، لا واحدة ولا اثنتين واحدة بعد أخرى، ولا ثلاثا واحدة بعد الاثنتين الأولين، بل حتى مثنى وثلاث ورباع، أي جزافا بلا حساب ولا عدد)؛ وأشار إلى ما في التعبير بهذه الكيفية من الاستهزاء والسخرية بالمخاطبين، والى أن أساس القول في الآيتين فكرة العدل، ثم دلل على أن الآية ليست مسوقة لتحديد عدد الزوجات بأدلة منها أن (تحديد عدد الزوجات من الأمور الأساسية في التشريع للعرب، لأنه يصادم عادة متأصلة فيهم، والقران اجل من أن يأتي بهذا الشان الأساسي بصفة عريضة جواباً لعبارة شرطية بعيدة يظاهرها عن هذا الشان ولا مناسبة بينها وبينه؛ إذ لحق أن أحد لا يستطيع أن يفهم ما هو الارتباط بين خوف عدم الأقساط في اليتامى وبين نكاح النساء والى أربع فقط. أن القران لأجل بلاغة من أن يأتي بهذه المفارقة)؛ ومنها أن كلمة (ما) في قوله (ما طاب لكم) من أقوى ما يكون في إفادة العموم، وليست موصولة، ونبه إلى بلاغة القران في انه استعمل كلمة (طاب) ولم يستعمل (حل)، لان الطائب قد يكون حلالا وقد يكون حراما، وقال: (ان مثنى وثلاث ورباع) معناها المتفق عليه عند الجميع اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، لأنها أوصاف معدولة عن اصلها العددي، يقصد بها التوزيع الجذاف لا تحديد العدد.
وتسال الباحث كيف تطمئن قلوب المؤمنين إلى الأخذ بما يرون من أن فلانا وفلانا كان تحته ثماني نساء أو عشر، فلما نزلت الآية كلم النبي فأمره بإمساك أربع ومفارقة الباقيات، وهل يعقل أن أية شريعة تأتي بتشتيت الزوجات وما قد يكون لهن من أطفال؟ وقال: (ومن ناحية أخرى فان قوله: (وان حفتم إلا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم إلا تعدلوا فواحدة) أن فرض انه مسوق للتصريح بتعديد النساء إلى أربع فقط، فانه يقرر أيضاً حكما أساسيا هاما هو وجوب الاقتصار على واحد عند خوف عدم العدل بين الأربع المزعومات. وهذا الحكم الأساسي كان يقتضي بطبيعة الحال أن يأمر النبي الناس بمفارقة ما زاد على واحدة، لان الخوف يملا كل نفس).
ثم قال بان المقصود من عبارة (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) إنما هو تنظيم الحالة الوقتية وهي حالة الزوجات المتعددات الموجودات فعلا عند نزول هذا القول.(755/33)
وقال: أن الدين الإسلامي عالج أحوال العرب بكل تؤده، وتدرج في كثير من الأنظمة (وفي الموضوع الذي نحن بصدده الآن قد ترك القران الناس على حريتهم وعاداتهم يتزوجون أي عدد من النساء يريدون. وغير صحيح - في نظري - انه أحد من هذه الحرية نصا أي تحديد، بل كل الأمر انه نبههم إلى القاعدة الأساسية في تشريعه، وهي مراعاة العدل والابتعاد عن مزالق الجور، فأوجب على المسلم عندما يقوم في نفسه الخوف من عدم العدل أن يقتصر على زوجة واحدة، ثم أكد هذا المعنى تأكيداً لا هوادة فيه بقوله: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)؛ فاصبح الأصل الواجب أن يجتذبه كل مسلم يريد الاحتياط لنفسه هو الاقتصار على زوجة واحدة).
ثم قال بأنه يحل الخروج عن هذا الأصل إلى التعديد في حالتين: الأولى إذا إنعدم الشرط بان انتقى موطن خوف الجور بتاتا كحالة زوجة مريضة أصبحت نهائيا لا تصلح للمباشرة؛ والحالة الثانية إذا أقضت الضرورات الماسة إباحة التعديد كحالات الحروب التي يقتل فيها الرجال، فلا محيص من تعديد الزوجات تكثيرا للنسل من الذكور.
ثم تناول مسالة خصوصيات النبي فقال: أنها فيما يتعلق بالزواج ليست خصوصيات تمتع، بل خصوصيات حرمان أو تكاليف مست إليها الضرورة لتحقيق المصالح الدينية والاجتماعية، وقضت بها السياسة الشرعية القائم هو دون غيره بإجرائها. وفصل القول في الحالات التي تزوج فيها بعد نزول الآيات السابقة مبينا مبرراتها التي منها - في مسالة زينب بنت جحش - أن الغرض منها أبطال عادة التبني وما يترتب عليها من تحريم مطلقة المتبني أو المتوفى عنها، وذلك بشيء عملي يهر الناس، فاختار الله النبي ليكون هو مثال المتبني الذي يدور على شخصه تحقيق موجب التشريع، وعلى هذا يكون الذي أخفاه في نفسه هو تأذيه من أن يكون هو المبتلي بذلك.
ومن تلك المبررات لجوء المطلقات والأرامل والبائسات إليه، وعد كل ذلك محنا وتكاليف مشوبة بالمشقة والحرمان، ومن ذلك المؤمنة التي تهب نفسها للنبي، ومثل لها بقوله: (بحسبك أن تتخيل أن الحكومة المصرية مثلا أصدرت قانونا يلزم كل من تولى رياسة الوزارة أو مشيخة الأزهر أن يتزوج أية امرأة مصرية مؤمنة تعرض نفسها عليه - بحسبك هذا لتدرك أن يوما واحدا لا يكاد يمضي على صدور مثل هذا القانون حتى يضج(755/34)
الرئيس أو الشيخ ويفر من منصبه، هذا حتى لو كانت الوافدات أبكاراً مكنونات مكيفات المئوية، لا أرامل أو مطلقات من المسنات المستميتات).
ثم بين كيف مال المسلمون إلى عدم التدقيق في تأويل النص القرآني وانحدروا إلى القول بإباحة الأربع إطلاقاً - بين ذلك باستعراض حال الجنود في الحروب الإسلامية الأولى، واضطرارهم إلى الاختلاط الجنسي والزنا محرم عليهم فلم يجدوا إلا التزوج وتكريره مع تعدد الوقائع والتنقلات، وتساهل معهم في ذلك لان الجنود مدببون في كل أمة، ودام ذلك بدوام الحروب والثورات التي استمرت حتى جاء عصر التدوين، وكانت عادة الأربع قد صارت من التقاليد القديمة المستقرة التي سرت إلى غير الجنود فاضطر الفقهاء إلى مسايرتها، وتساهلوا في تأويل سندها القرآني كما تساهل فيه المحاربون الأولون.
تعقيب:
وقد سرت مع الباحث الكبير معجبا بقوة حجته ونصاعة بيانه، ولكن عن لي في بعض المواطن ما أدلى به فيما يلي:
1 - أباح التعدد في الحالتين، حالة انتفاء موضع الجور، وحالة الضرورات. فإذا سلمنا بالحالة الأولى لبطلان المشروط بانتقاء الشرط، فمن أي باب يدخل إلى الحالة الثانية؟ يقول من باب (الضرورات تبيح المحظورات) والضرورات يمثلون في الفقه بمثل من تحق هلاكه إذا لم يأكل الميتة، فهل ضرورات الحروب وما إليها تماثل ذلك؟ ثم إلا يرى أن جواز التعدد في الحالتين معناه إباحة التعدد إباحة مقيدة؟
2 - قال بان الآيات (التي بنى عليها رأيه) نزلت وعند كثير من المسلمين وفي جملتهم النبي عدد من الزوجات، فكان التشريع للمستقبل، ونظمت الحال الواقعة بـ (فلا تميلوا كل الميل. . .) ويفهم من هذا أن النبي وقع في بعض عادات العرب السيئة التي أبطلها الإسلام، والمأثور أن تلك لم يكن.
3 - الملاحظتان السابقتان من عمل الذهن، أما الملاحظة الثالثة هي الشعورية. . . فكم يصعب على أن أتصور المجتمع الإسلامي من الصدر إلى الآن - في هذه الغفلة العجيبة فيما يتعلق بهذا الموضوع.
كرسيان آخران في المجمع اللغوي:(755/35)
قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية في جلسة يوم الاثنين شغل الكرسيين الحالبين فيه بعضو عراقي وعضو فلسطيني، وحددت جلسة يوم الاثنين 29 ديسمبر الحالي للترشيح وتحديد جلسة بعد لانتخاب العضوين من بين من يرشحون
وهذان الكرسيان هما الباقيان من الأربعة التي كانت خالية بالمجمع وشغل اثنان منها بانتخاب الأستاذين علي عبد الرزاق والمازني منذ أسبوعين. ومما يذكر أن العضو العراقي سيحل محل الأب انستاس ماري الكرملي الذي توفي في هذا العام، أما فلسطين فلم تكن مثله في المجمع وسيأخذ مندوبها كرسيا كلن مشغولا بمصري من الثلاثة المتوفين. ومن الأسماء التي تردد للترشيح عن فلسطين الأديب اللغوي الكبير الأستاذ محمد إسعاف النشاشيي.
المسرح الأوربي بعد الحرب:
تحدت الأستاذ صلاح ذهني بنادي الخريجين المصري يوم الجمعة عن مشاهداته في مسرح أوروبا بعد الحرب، فتناول في حديثه المسرح في إيطاليا، وفي فرنسا، وفي إنجلترا، فقال أن فن الأوبرا الذي عرفت إيطاليا بالتبريز فيه لا يزال على أوضاعه القديمة يحكمه الفتاء والموسيقى ويخضع له التمثيل والاخراج، أما المسرح الاستعراضي فقد اصبح في إيطاليا ميدانا لتناحر المذاهب السياسية، وعلى الأخص الشيوعية والديمقراطية المسيحية، وهو وان كان يعالج المسائل الوطنية والمشاكل القومية إلا انه يلاحظ أن القوة اختفت منه، والمراد بالقوة الدعوة العريضة التي كانت تردد أيام الحرب في العهد الموسلني. وقال الأستاذ أن استخدام المسرح في الوطنيات بإيطاليا الآن يشبه ما كانت تصنعه الفرق الاستعراضية بمصر سنة 1919، وخاصة ما كان يلقى فيها من الأناشيد الحماسية
ثم وازن بين المسرح الإنجليزي والفرنسي من حيث التجديد فقال أن الأول يسير على طبيعة الإنجليزي في المحافظة في المحافظة وعدم الإسراع في استقبال التيارات الجديدة، فتجد المسارح الكبيرة جارية على تقاليدها ولا تكاد ترى الجديد إلا في المسارح الصغيرة، أما في فرنسا فالأمر على خلاف ذلك جريا على طبيعة الفرنسيين في سرعة الاستجابة لدواعي التقدم، ومن أمثلة التقدم في الإخراج الفرنسي، إحدى الروايات القديمة كان البطل(755/36)
فيها مصورا على انه كاره للإنسانية، فجعله المخرج عصبيا يفسد بإضراب أعصابه أعماله وعلاقاته بالناس، واستعان المخرج في ذلك بعلم النفس وبالضوء إذ يرسل على الشخصية أشعة خاصة تهيج الأعصاب وقال أن عادة الترفيه أيام الحرب قد غلبت على المسرح الفرنسي فمن المشاهد أن يخرج الممثل عن دوره ليأتي بحركات ونكات مضحكة. وقال أن المسارح هناك تتمتع بحرية عجيبة في عرض المبادئ السياسية، والشيوعية هي المتغلبة هناك. أما ما عرفت به فرنسا قبل الحرب من المسارح المجونية المتهتكة فلا يزال كما هو. . ولم تستفد فرنسا من محنتها القاسية التي أوقعها فيها انحلالها الخلقي وانغماسها في الترف واللذات، كما قال بيتان. .
وقال المحاضر أن إنجلترا تشكو الفقر التأليف المسرحي، وان المسارح الناجحة فيها هي المسارح الأمريكية التي غزتها وتغلغلت فيها، حتى انك تجد المسرح الرائج الذي يمثل فيه ممثلون إنجليز إنما تعرض عليه رواية أمريكية، فالسائد هناك هو الفن الأمريكي. وقال انه شاهد في بعض المسارح الصغيرة نوعا غريبا من التجديد، فالمؤلف لا يضع إلا الفصل الأول يصور فيه المشكلة، ثم تستدل الستارة ويؤخذ رأي الجمهور في حل المشكلة، وعلى حس هذا الرأي يعمل المخرج في إظهار المنظر التالي. . وهكذا حتى تنتهي الرواية، وهي لهذا تأخذ وقتا أطول من المعتاد
وختم المحاضر حديثه بأن المسرح يعيش في اوروبا لان هناك جمهورا ممثلا ورواية، أما مصر ففيها ممثل ولكن ليس فيها جمهور ولا رواية.
(العباس)(755/37)
الكتب
رسائل الصاحب بن عباد
(صححها وقدم لها عبد الوهاب عزام بك، وشوقي ضيف)
الصاحب بن عباد من أئمة أدباء القرن الرابع، وهو تلميذ ابن العميد، وكلاهما كان وزيرا في دولة بني بويه. وكانت آثار الصاحب بن عباد مطوية في بطون المخططات حتى نهض الأستاذ العميد وصاحبه، فأخرجاها إلى نور الطباعة، مع العناية بالتصحيح والتحقيق، وتجليه بالتعريف والتقديم. فإذا بالجوهرة الخفية في خزائن الدور، تكشف وتبرز إلى النور، وهذا عزم من الأستاذ عزام مشكور، يحمده له قراء العربية، لان إبراز كنوز الأدب القديم يعد الخطوة الأولى في بناء الحضارة الإسلامية. ولهذه الرسائل قيمة تاريخية، وقيمة أدبية، كما ذكرا في المقدمة، ونستطيع أن نضيف إليها قيمة اجتماعية كذلك. فالباب الأول في البشائر والفتوح؛ والثاني في العهود؛ والثالث في الأمان والأيمان والموافقات والمناشير؛ والرابع في الوصاة بالحجيج والمصالح وأمر الثغور؛ والخامس في الاستعطاف لقلوب أولياء الدعوة والتودد إليهم بمباسطتهم وما يقارب ذلك؛ والسادس في إصلاح ذات البين والدعاء وتهجين العقوق بين ذوي الأرحام؛ والسابع في المدح والتعظيم؛ والثاني في الذم والتهجين؛ والتاسع في التهاني والأجوبة؛ والعاشر في التعازي؛ والحادي عشر في الإخوانيات والملاطفات والمداعبات والثاني عشر في التشكر وما يشاكله؛ والثالث في الإستزارة والتقريع؛ والرابع عشر في التنصل والاسترضاء؛ والخامس عشر في الشفاعات؛ والسادس عشر في توصية العمال بجلب المال وإظهار العفاف وحسن السياسة؛ والسابع عشر في الآداب والمواعظ. الخ.
وقد عرضت فهرس هذه الرسائل لتعلم أنها تتشعب في كل فن وتضرب في كل باب، حتى لتعد صورة صحيحة للعصر الذي كان يعيش فيه صاحب، بل هي مرآة للحياة الاجتماعية وما ينبغي أن يكون عليه أدب السلوك، أو الأخلاق العلمية كما نعبر اليوم. ولهذا كنت احب ألا يقف المدخل الذي دبجته براعة العميد وصاحبه في التقديم عند حد القيمة التاريخية والأدبية للرسائل. وفي الحق أن هذه الدراسة مثال لما ينبغي أن تكون عليه دراسة الأدباء في تحقيق سيرتهم، ونقد أساليبهم، لولا الطمع إذ كنا نشتهي المزيد. ولا تظن أن هذه(755/38)
الدراسة قصيرة فهي تقع في عشرين صفحة من القطع الكبير.
أبرز صفة في هذه الرسائل، وهي مما يمتاز به صاحب بن عباد أو قل أن شئت أنها سمة العصر كله، التزم السجع وتكلف البديع أو كما انتهى المدخل إلى القول (ونرى من كل ما سبق أن صاحب عنى بطول الجمل وتحليها بالبديع، وخاصة الجناسات والاقتباسات والتشبيهات والاستعارات).
وعندي أن شيوع الزينة اللفظية، والتنميق الخارجي للاساليب، إنما يرجع إلى أن الحضارة الإسلامية وقفت عن الابتكار، وانصرف الناس مع استتاب الملك وغنى الدولة إلى شغل الفراغ بالتأنق والتجميل، ولهذا نجد الحلية والزركشة وزينة تدخل إلى صميم كل فن من الفنون. حلية في الخط والكتابة، وفي النقش والعمارة، وفي الملابس والنسيج، وفي الشعر والنثر كذلك.
وسأل المحققان في دراستهما أنفسهما سؤالا له قيمة عظيمة (أكان للفارسية اثر في كتابة الصاحب، وقد قلنا آنفا انه كان يتقن الفارسية؟)
ويبدو أن عبد الوهاب عزام بك - هو أستاذ الأدبين والعارف باللغة الفارسية - اثر التحوط فقال (وأما أن تركيب الجملة العربية طاوع تأثير الفارسية، أو أن أسلوبا من أساليب العربية يعد محاكاة لأسلوب فارسي، فأمر عويص ينبغي إلا يقدم عليه الباحث المثبت إلا بعد بحث طويل دقيق).
فأنت ترى أن علامة الاستفهام لا تزال موجودة أمام السؤال والطريق مفتوح أمام الباحثين.
وقد وقف طويلا عند قول المحققين (ونحن نجد في الرسائل نزعة واضحة إلى القول بالاعتزال والدعوة إليه). فهذا البحث، واعتنى به الاعتزال والكلام وما يتصل بهما مما تهفو إليه نفسي، وكنت احب أن أجد في الرسائل ما يشبع رغبتي، صحيح أن ياقوت يقول عنه انه كان (مثل أبيه يذهب مذهب الاعتزال). غير أن قول ياقوت يحتاج إلى تأييد من نصوص الصاحب نفسه. والذي اعتمد عليه المحققان في نسبة الاعتزال إليه جاء في الرسالة التاسعة من الباب العاشر (مولاي يتدين بتعديل ربه، ويعرف مواقع اللطف في صنعه، ولا يشك في اقتران الصلاح بفعله). وهما يعتمدان على رسالتين في الباب السابع عشر حيث يقول في الرسالة الثانية إلى أحد شيوخ بعد الكلام (وعلى هذا الذكر فقد كان(755/39)
هذا البلد من البلاد المستغلة على أهل عدل الله وتوحيد والتصديق بوعد ووعيد. هذا وفي فقهائه وفور وفي الفضل به ظهور. . .) وشهرة المعتزلة بأنهم أهل العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، اعظم من شهرتهم بالتعديل والصلاح.
وجاء في الرسالة الثالثة تحت هذا الباب نفسه، يكتب إلى أهل الصيمرة (. . . وصل كتابكم. . . إذ كنتم بحمد الله ومنه، وطوله وفضله، المشتهرين بالذب عن توحيد الله وعدله، وصدقه في وعيده ووعده، وكان بلدكم من بين البلاد كفرة ادهم وشهاب في ليل مظلم، وما في النعم اجل موقعا، واهنا مشرعا من النعمة في القول بالحق والدعاء إليه، والتدين به والبعث عليه، ومهانة من شبه الله بخلقه، فتتابع في جهده، أو وجوده في فعله فشاك في حسن نظره وطوله) وهذا نص آخر اكثر في الاعتزال بيانا، فيه العدل والتوحيد، والصدق في الوعد والوعيد، ونفى التشبيه، وامتناع التجوير.
وهنا نستطيع أن نطمئن إلى ما ذكره عنه ياقوت من انه كان يذهب مذهب الاعتزال. ولكن الدكتور عزام بك والدكتور ضيف لا يطمئنان إلى أن الاعتزال (أكان هذا من عمله هو، أم من عمل الدولة، فقد كان عضد الدولة يذهب - فيما يظهر - إلى الاعتزال).
وبعد فأنا نهنئ المكتبة العربية بهذا الظفر الأدبي، وبهذه الدراسة العميقة الممتعة، ونرجو أن ينهج الذين يخرجون المخطوطات هذا النهج السليم.
احمد فؤاد الاهواني
شجرة الدر
تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان
اتجه الأستاذ محمد سعيد العريان منذ زمن إلى القصص التاريخي الذي يجمع إلى عرض التاريخ وتحقيق حوادثه المتعة الفنية الأدبية، وقد عنى بتاريخ مصر في العصور الإسلامية، يجول في نواحيه بمصباح المؤرخ، ويسرح بين وقائمة بخيال القاص الأديب. وأول عمل له في هذا الحقل قصة (قطر الندى) ثم اخرج بعدها (على باب زويلة) وفي شهر نوفمبر الماضي أخرجت له دار المعارف قصة (شجرة الدر) في سلسلتها الشهرية (اقرأ).(755/40)
تقع حوادث هذه القصة في نحو ربع قرن من الزمان، يقع فيها أواخر العصر الأيوبي وأوائل عصر المماليك البحرية، تبدأ في حصن كيفا الذي اتخذه الأمير نجم الدين أيوب قاعدة لإمارته في المشرق حيث ظفر هناك بالجارية الغيرة الحسناء (شجرة الدر) التي ولدت له فيما بعد وأصبحت زوجته، وتنتقل حوادث القصة إلى الغرب مع ركب الأميرة نحو مصر، بعد أن بلغة نعي أبيه الملك الكامل، وقد عول على أن ينتزع العرش من أخيه للعادل الذي كان أبوهما قد ولاه العهد، فيم له ذلك بعد وقائع مخاطر في الطريق كانت شجرة الدر عنونا له على اجتيازها والتغلب عليها ويصبح الأمر في مصر للملك الصالح نجم الدين أيوب، وإلى جانبه زوجته شجرة الدر تعاونه بسديد رأيها ومحكم تدبيرها. حتى يغزو الصليبيون مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، فينزلون إلى دمياط ويهزمون الحامية، ويقصدون إلى المنصورة التي اتخذها الملك الصالح قاعدة له في ذلك الوقت، وتتجمع القوى المصرية فتفتك بالصليبين فتكا ذريعا، ويؤسر لويس التاسع، ثم يضطر المعتدون إلى إغلاء فدية ملكهم ويخرج من تبق منهم إلى بلادهم مدحورين. وفي أثناء ذلك يموت الملك الصالح وتخفى شجرة الدر أمر موته حتى يحضر ولده الأمير توران شاه من المشرق فيأخذ مكان أبيه، ثم يقتله أمراء الجيش من المماليك الذين كان يستعين بهم الملك الصالح في حروبه، وقد ابلوا في القتال الصليبين وهزيمتهم. فتتولى الملك شجرة الدر ثم تتزوج أحد أمراء المماليك (أيبك الجاشنكير) وتخلع نفسها وتوليه، ثم تقتله، وتمتع في برجها بالقلعة في حماية مماليكها حتى تموت.
ساق الأستاذ العريان تفاصيل هذه الحوادث في قالب من الخيال القصصي الممتع، وتسير معه وهو ينسفق أشتاتاً من الأحداث ويصور فنونا وألوانا من نوازع النفوس فتشعر بأنك تعيش في جوها وتعاشر أناسها، كان الكاتب سحرك فنقلك معه إلى حيث يضطرب ياله. . . وقد بلغ الغاية في ذلك عندما هجم الصليبيون على قصر الملك الصالح بالمنصورة، وتصدى لهم فرقة الحرس برياسة الأمير بيبرس، وكانت شجرة الدر ترقب المعركة من النافذة وقد أهابت بفتاة من وصيفاتها يحبها بيبرس لتهتف به وتسمعه صوتها، فتهتف الفتاة: (بيبرس! هذا يومك يا بيبرس!) فيرفع إليها عينه، ويجول بسيفه في الرقاب يقد الضلوع ويشق المرائر ويطيح الهام ويجندل الأبطال، ويقضي هو وجنوده على جيش العدو، فلا(755/41)
يبقى منه إلا الفارون.
وهدف القصة الأول تحليل شخصية شجرة الدر وما وصل المؤلفة إلى أواخر القصة حتى وجه كل همه إلى هذا الغرض، فصور نوازع هذه المرأة الطموح وهي تحرص على المجد والسلطان وصور طبيعتها الأنثوية في معاملة الزوج وفي غيرتها وانتقامها - أدق تصوير.
ومن المفهوم أن المؤلف في هذا اللون من القصص التاريخي يحافظ على الحقائق التاريخية التي يلبسها ما ينسج من أثواب الخيال ولهذا وقفت عندما أتى الأستاذ سعيد بخبر مجيء توران شاه إلى مصر والمناداة به سلطانا عليها بعد أن انتهى أمر الصليبين، كان توران شاه لم يشترك في قتالهم، وقفت عند هذا، لأني اعلم مما اطلعت عليه من كتب التاريخ أن توران شاه حضر وقت اشتباك الحرب وكان له في قتال الأعداء بلاء، وعرض الأستاذ أمر العلاقة بين الأمير نجم الدين وبين شجرة الدر على أنها في أول الأمر جارية مملوكة له، ولما ولدت له ابنه خليلا قال أنها أصبحت زوجته، ومن نظم الأحوال الشخصية في الإسلام أن الجارية أم الولد غير الزوجة، ولم يذكر الأستاذ أن الأمير عقد زواجه عليها، ثم سار في القصة على أنها زوجته.
وثمة شيء قد ارتضاه الأستاذ العريان في حبكة القصة، ولكني أخالفه فيه، وهو ذلك التنجيم، من حيث الحديث عنه وسياقه على أنه محقق الوقوع. ولست أنكر ما كان للتنجيم من شأن وذيوع في تلك العصور، ولكن أرى عند الإتيان به أن تسلط عليه أشعة تكشف أباطيله أو تشكك فيه على الأقل، فلم أكن مع المؤلف في الرأي لما سخر الأقدار في تحقيق كل ما تنبأ به أبو زهرة المنجم بجملته وتفاصيله!
العباس خضر
معاني الفلسفة
(تأليف الدكتور أحمد فؤاد الأهواني)
ما أقدر الله أن يجمع الفلسفة كلها - منذ نشأتها إلى اليوم - في كتاب محدود الصفحات. وذلك عمل يحتاج إلى التركيز والضغط أقل مما يحتاج إلى التفهيم والفهم. فإن ضغط الأسفار الضخام إلى سفر واحد صغير يبدو في ذاته عملاً سهلاً ومركباً هيناً، ولكنه في(755/42)
الحق يحتاج إلى أدوات من حسن الاستعداد وهضم المادة ومطاوعة التعبير حتى يكون طيعاً للمعاني الموجزة والأفكار المركزة.
وأظن هذه الأدوات قد اجتمعت للدكتور الأهواني فجاء كتابه في معاني الفلسفة على خير ما تجيء عليه كتب الخلاصات العلمية التي كونتها قراءات وأمدتها مطالعات بين القديم والحديث، وبين العربي والإنجليزي والفرنسي.
وقد فرح مؤلف الكتاب لأنه رأى الناس - يعني ناس العرب - يقبلون على الفلسفة، بعد أن ظلوا بعيدين عنها نافرين منها. وهي فرحة الزارع حين يحصد، لأن صديقنا المؤلف اشتغل بتعليم الفلسفة ولا يزال مشتغلاً بها. ولكنه - أثابه الله - ما باله يضيع وقته ويغني عمره في تعليم الفلسفة مع أنه يقرر في الصفحات الأولى من الكتاب أن كل إنسان ما دامت له نظرة في الحياة فهو فيلسوف. وقد يكون هذا الكلام مقبولاً من أديب أو شاعر، أما أن يصدر من مشتغل بالفلسفة ومعلم لها فذلك ما لم أستطع أن أفهمه. وأنا أجد أن أصحاب الصناعات دائماً يحاولون تعميتها على غيرهم ويلبسونها ثوباً من الرهبة المحوطة بالغموض. ولكن الدكتور الأهواني يكشف بضاعته من الفلسفة في غير خفاء. ويهون في أول الكتاب من أمر الفلسفة حتى ليجعل الناس كلهم فلاسفة؛ فإذا مضيت معه في ثنايا الكتاب وجدت الفلسفة على حقيقتها ليست شيئاً كما يحاولون أن تجعلنا نتصور. ووجدت في قوله بفلسفة كل إنسان في الحياة مغالطة في التعبير؛ وأكاد أجزم أنها مغالطة مقصودة في أول الكتاب ليستدرجنا بها إلى آخره. . . ودليل على ذلك أن المؤلف استدرجني أنا إلى قراءة الكتاب لأميز على الأقل بين فلسفتي التي يزعمها في، وبين فلسفة الذين كونوا تلك المذاهب العالية. فأدركت آخر الأمر أنني ككل إنسان عادي. . . لست فيلسوفاً ولا مشتغلاً بالفلسفة. وأدركت أن نظرة كل إنسان إلى الحياة لا تسمى فلسفة، ولا يسمى صاحبها فليسوفاً. وإلا لكان زهير بن أبي سلمى الشاعر الحكيم فيلسوفاً بسبب هذه الحفنة من النظرات التي وضعها في معلقته. أو كان أبو العلاء المعري فيلسوفاً بماله من وجهة نظر خاصة في الحياة.
وقد قسم المؤلف الكلام على الفلسفة متمشياً مع تاريخ العصور، فهو يبدأ من اليونان ثم الرومان ثم المسلمين حتى يصل إلى عصر النهضة الأوربية فالعصر الحديث. وهو تقسيم(755/43)
كل أكثر منطقاً لو أن المؤلف يؤرخ للفلسفة. ولكنه يشرح لنا معناها؛ فما كان أغناه عن هذا التقسيم الزمني الذي لا تراعى فيه معاني الفلسفة - قرباً وبعداً واختلافاً واتفاقاً - بقدر ما يراعى فيه تتابع العصور. وقد اضطره المنطق الصحيح للأشياء أن يتحدث عن التوفيق بين الفلسفة والدين عند المسلمين وهو يتحدث عن فلسفة الرومان - ص26؛ لأن المقام هنا ليس مقام زمان ولكنه مقام وحدة في الميزان.
ويقول المؤلف ص31 أن صاعدا الأندلسي يذهب إلى أن الفلسفة الإسلامية عربية. وقد حيرني هذا الكلام فإن المؤلف ينقل في الصفحة نفسها عن صاعد الأندلسي قوله: (وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله - أي العرب - منه شيئاً ولا هيأ طباعهم للعناية به. ولا أعلم أحداً من صميم العرب شهر به إلا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي). فكيف يتفق استنباط الدكتور مع قول صاعد نفسه؟ ودع عنك أن الرواية الصحيحة لقول صاعد هي. فلم يمنحهم الله عز وجل شيئاً منه - ألا أبا يوسف) ينصب أب بعد الاستثناء. (كتاب طبقات الأمم لصاعد ص70 طبعة السعادة).
ويبقى كتاب معاني الفلسفة بعد هذا معرضاً دقيقاً لماهية الفلسفة ومذاهبها المختلفة من أقدم عصورها إلى اليوم، وهو معرض قدمه الدكتور الأهواني على مائدة ليس فيها ذلك الدسم الذي تتهوع له النفس، ولكنه فيها تلك البلغة التي يتزود بها العجلان.
محمد عبد الغني حسن(755/44)
المسرح والسينما
رواية الناصر
(تأليف الأستاذ عزيز أباضة باشا)
(للأستاذ حبيب الزحلاوي)
ما أكثر النواحي الجذابة في هذه الرواية، بل ما أكثر ما اضطرتنا مشاهدها إلى الالتفات إلى الدقائق التي يخالها البعض من النوافل وما هي في الحقيقة إلى في الصميم.
تجمع رواية الناصر بين بدائع الأدب الرفيع، وروائع الفن الجميل، وجلال الملك ولكل من هذه الخصائص روعة وجلال يهزان المشاعر، ويطمئنان الروح، ويثيران النخوة، وقد فعلت فعلتها في نفس كل من حضر تمثيل هذه الرواية على مسرح الأوبرا.
مؤلف هذه الرواية شاعر مطبوع على الشعر، وفنان موهوب يساير سجيته بدون عنت، ويماشي فنه بفطنة وبساطة، لا يجنح جنوح المتفيهقين في التنقيب على الكلمات المهجورة يحشو بها شعره، ولا يحذو حذو المتعالين من أمثال الشعراء الرمزيين، بل جمع عناصر إحساسه، وحشد شوارد خياله في بوتقة شخصيته الخلاقة، وجعل مشاعره تتأثر لتتفاعل فتتحول إلى حياة عاطفية وذهنية. وقد حتم على نفسه، لأمر خاص، أن يستمد موضوعه من وقائع التاريخ العربي في الأندلس، الحافل بعظائم الأمور، فاستمده، في هذه المرة، من ناحية متواضعة من حياة الناصر في قرطبة.
طبع الأستاذ الفنان عزيز أباظة روايته هذه بطابع خاص، فخرجت تحمل سمات الوضوح، والملاحظة، والإنسانية، والعطف والحب أيضاً، كما خرجت أيضاً تحمل سمة تقرير الفكرة تقريراً مباشراً، بصورة صوراً بديعة للجمال الطبيعي، والوقائع المادية، وخلجات النفس، ولهثات الصدور، ورعشات الأفئدة، وبسمات الفرح مرسومة رسماً أميناً يستمد حسنه المنسجم من النور واللون، والجرس والإيقاع، ومن براعة اختيار الألفاظ المعبرة عن المعاني، وقد صب ذلك كله في قالب حلو كل الحلاوة، مسبوك في بحور عديدة من العروض متناسقة متناسبة شجية الإيقاع والنغمات.
لا يسأل المؤلف الروائي فيما كتب فأخطأ، ولا يناقش في أوضاع أرادها لأبطال روايته،(755/45)
لأن واجب الناقد هو التعرف على مبلغ الجودة فيما ألف وصنف - وليس للجودة في طبيعة الشعر سوى الذروة السامقة مقاماً - والشاعر أباظة باشا، رسم لنا في روايته هذه بعض مشاهد من أخريات حياة (الناصر) ولمحة من حياة وليده (الحكم) ولي العهد، وعبد الله، أما الحكم فقد كان مفتوناً بحب الجارية (شفق) وهي فتاة إسبانية أسيرة تبناها الناصر وصغى قلبها إلى ولي العهد، ولكنها متحيرة حيرة الوفاء، وحيرة الإنصات إلى الهاتف الداعي إلى واجب الوطن والأهل. وكذلك رسم لنا صورة (لعبد الله) المأتمر بعرش أبيه، وأخرى للسيدة (الزهراء) زوجة الناصر وقد عرفت بالجمال الفاتن والرأي السديد، وصورة ثالثة بالغة غاية الأمانة والصدق لشخص الجاسوسة (منى) وقد تركزت إرادتها في العمل على دك سلطان العرب في الأندلس، واجتثاث حكمهم فيها، وإعادة أهلها إلى الاستظلال بعرشهم المسلوب.
وهكذا دارت الرواية حول هؤلاء الأبطال الذين يضمهم القصر، ويجذبهم العرض، وتتعارض بينهم الأغراب والمآرب، تارة في حوار متصل أو متقطع بين شخصين أثنين أو أكثر من شخصين، وتارة أخرى بنفس طويل صاخب أو رقيق هماس، أو بروح رضية عقلية أو وجدانية.
لاشك عندي في أن المؤلف قد أجاد في جعل شخصيته الخاصة تعيش في المواقف التي تخيلها، وكذلك أجاد مرة أخرى في أنه سما في شعره فجعل الشخصيات البارزة في الرواية تقف الموقف المتخيل في ذهنه هو. وإني أقتبس بعض أبيات من مواقف (للحكم) من حبيبته (شفق) ومن موقف لهذه الجاسوسة (منى)، وشذرات مما جاء على لسان الناصر للتدليل على ما ذهبت إليه في وصف شعر الشاعر. الحكم:
يا منية النفس قد أدركته أملاً ... رفّعت له النفس أعواماً وأعواماً
أذكيت في القلب وقداً قد سموت به ... فكان حباً وتقديساً وإعظاما
لو لم تكون فدتك النفس غانمة ... لكنت عتباً أشواقاً وأحلاما
وكنت تسبيحة للروح هامسة ... زكت قصيداً وتوقيعاً وأنغاما
شفق:
وأنت أن لم تكن قوام مملكة ... لكنت فوق قلوب الغيد قوما(755/46)
ترنو فتلهبها وجداً، وتسعرها ... وقداً، فتهتز آمالاً وآلاما
فلا اللواهث من دقاتها هدأت ... ولا الذي ثج من أجراحها التاما
وكنت أرفع ما أزدان الوجود به ... وحياً من الخلق الأسمى وإلهاما
وقول في موقف آخر:
بعض الحنان ياشفق ... حكم قلبي يا شفق
أكان ذنباً يوم رف ... فاصطفاك فعشق؟
وإنه قبلك ما ... ذاق الهوى ولا خفق؟
وإنه ضمك في ... حياته ثم انصفق؟
لئن جنى فإنه ... عذب فوق ما استحق؟
لو استطاع لبكى ... ولو أطاق لنطق
ويحيى له إذا اشتكي ... لألفه فلم يرق
وإن هفا لنظرة ... أو بسمة فلم يذق
يصبح لم يغف فإن ... دجى له الليل أرق
حدثني أنك أش ... فقت عليه، هل صدق؟
أتسمعين يا شفق ... أترحمين يا شفق؟
شفق: أخي!
الحكم:
. . أخوك شفه ... وقد جفاك فاحترق
يا نفحة النسمة تش ... تف جنى الروض العبق
يا طلعة الفجر إذا ... الفجر من السحب انبثق
يا قبلة الطل إذا ... الطل على الزهر ائتلق
يا غنوة الليل شدا ... ها الليل وهو مغتبق
يا نظرة العتب إذا ... العتب استكان ورفق
يا رجفة الشوق إذا ... الثغر على الثغر انطبق
يا همسة الرضا الكريم ... واللقاء يسترق(755/47)
لم ينق اللفظ بها ... فالتمست عند الحدق
وددت لو يتسع المجال فأقتبس من شعر الشاعر ما ينهض الدليل الذي لا يدحض على أنه استطاع أن يجعل أبطال الرواية يعيشون في المواقف التي تخيلها هو، ولكن ذلك متعسر بسبب الحوار، والحوار جماله في سماعه، وسحره في تراشق المتجاورين بالكلام الممزوج بالانفعالات النفسية التي تتماوج مع الصوت، وترتسم على الوجه، وتبدو في الحركة والإشارة. وبرغم ذلك أجدني ملزماً بنقل قطعة من حوار غير متقطع قام بين الجاسوسة الأسبانية وبين الجارية الأسبانية التي تبناها الناصر وأحبها ولي عهده، وإني أدعو إلى الاستمتاع ببديع الحوار والفاء بين شفتي (شفق) أمينة رزق الممثلة البارعة، والاستهداف لشظايا الضغينة والحقد والانتقام تقذفها من جوارحها (منى) فردوس حسن، الممثلة الممتازة البارعة.
منى:
أمة أنت في الذؤابة منها ... ذاقت الذل بعد عز رفيع
في بلاد ديست وشعب تردى ... في قرار من الهوان وضيع
هتك الغاصبون من كل علج ... مسلم. . . ستر مجدها الممنوع
أو سعونا مذلة يا أبنة العم ... فعشنا نلتذ طعم الخضوع
كالأرقاء والعبيد يرون البغى ... حقاً للسيد المتبوع
يا ابنة العم.
شفق:
فاصمتي لاتهيجي ... حزة النفس بعد طول هجوعي
أنا بنت الخليفة السمح أفد ... يه بنفسي وعترتي وجموعي
الوفاء الكريم يعمر قلبي ... والوداد القيم ملء ضلوعي
منى:
أوفاء لمن رماك فاصم ... اك فاجلاك عن حماك المريع
لم يغفل المؤلف الشاعر عن تصوير الملك وجلالة الملوك، ولم يتورط في رسم سجايا غير سجاياهم وخلائق ليست خلائقهم، بل أطلق ريشة رسام (سياني) تستوي عنده الفوضى(755/48)
والنظام ولكنه ينحرف عن جادة الحق والصدق فقال مرة بلسان (شفق) العاشقة الحيري (غرام الملوك وشيك الزوال قصير المدى) فيردها عاشقها إلى الحق فيقول لها.
ظلمت الملوك ولم تنصفي ... فإن الملوك ملوك الهوى
عرفنا الهوى مهجاً تلتقي ... عطاشاً وأفئدة تكتوي
ويقول مرة بلسان الناصر:
قد خبرنا فلم نجد لصلاح ... الأمر إلا النهوض بالأمر فردا
ويقول أيضاً:
بنينا على هام الجزيرة دولة=تأشب في أعطافها العلم والمجد
فلما استقرت واستطالت ترادفت ... عليها من الأهل الخيانة والحقد
ويقول أيضاً:
أيرضى المعز الأمر يخرج من يدي ... ليخلفنا الأفرج في ملكنا قسرا
إذا ما تنازعنا شعوباً وقادة ... ومنا رسول الله ذقنا الردى طرا
وإن لم نجاهد جبهة عربية ... موحدة كنا لأعدائنا جزرا
ويقول:
ويحسبنا الناس أو في الدنى ... نعيماً وأسعد قطانها
لقد جهلوا أن أشفى الرؤو ... س رؤوس تنوء بتيحانها
وأخيراً يقول:
إلى ذروة المجد سر بالجيوش ... محوطاً بمأثور إيمانها
حياة الملوك ومجد الملوك ... لأوطانها وبأوطانها
هل استوفى المؤلف غايته من وضع هذه الرواية على النحو الذي وضعها فيه، أو إنه أراد شيئاً آخر فخانه للقلم ولم يسعفه التوفيق فجنحت سفينته عن غير قصد إلى الشاطئ الآخر؟
هذا سؤال لا أطلب جوابه، ولكني أبيح لنفسي القول، أن رواية الناصر في وضعها الحالي، إنما هي رواية أندلسية، وأن الجانب العربي فيها ليس بالجانب المفضل بدليل أن عناصر القوة تجمعت في الشخصيات الأندلسية، وإن عنصر الضعف تمثل في الخليفة العربي الشيخ الفاني، وفي ولي عهده الشاب المتيم المفتون، وفي ولده الثاني الخائن المؤتمر بعرش(755/49)
والده، وفي كبير الوزراء والخصى الضالعين معه، ولم يسلم من الضعف من الشخصيات العربية سوى (الزهراء) زوج الناصر، هذا ما شجعني على القول أن طابع الرواية أندلسي موشي بالذهب العربي، وهذا ما يجعلني أزعم أن الطابع الأندلسي هو الذي أزكى حدس النظارة فجعلهم يستشعرون بفطرتهم أن الزاوية ليست روايتهم، ولعل مرد ذلك إلى الشعور العربي السائد بيننا اليوم.
ليس يعني هذا أن الرواية لم تلق نجاحاً عظيماً، بل أعني أن عنصر النقد عند المؤلف البارع لم يكن حاد اليقظة، ولكني أقول بعقيدة وصدق أن الأستاذ الشاعر الكبير عزيز باشا أباضة يملك أكثر الخصائص الأدبية والفنية التي تؤهله لأن يكون أول مؤلف للمسرح بل المؤلف الموهوب الوحيد المعروف حتى الآن لمسرحنا العربي المرتجى.
الكلام في فن الأستاذ زكي طليمات مخرج الرواية، إنما هو تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل هذا معناه التعريف بما هو معروف عن هذا الفنان المتتبع الدؤوب الذي لم تنقطع صلته بالمسرح قط، والذي لم يغفل عن التطورات والمستحدثات وعن كل ما يمت إلى فن التمثيل بسبب. ولكن يطيب لي أن أضيف تعريفاً جديداً، وهو أن للمؤلف المسرحي يدا مغناطيسية تجذب الأستاذ طليمات تارة إلى فوق، وعندها تتبدى مواهبه، وتشرق معلوماته المدخرة، وتتفتق ابتكاراته الذاتية؛ وتارة أخرى تجذبه يد المؤلف المسف إلى تحت، وفي الحالتين يكون المسكين أسير الانجذاب.
لقد كانت يد الشاعر عزيز أباظة باشا قوية في جذبها إلى فوق، بل كانت روحه الشاعرية هي التي تغلغلت في مسارب مشاعر الأستاذ طليمات، وقد انتفض كالنسر، وتجرد للإخراج، وأخذ بهدوء يكمل عمل المؤلف، أولاً، بإعطائنا صورة مجسمة للرواية، ثانياً، باشراك خيالنا مع ما أشركه الشاعر في حسنا، ثالثاً، في إدغام الخيال بالحس ليصيرا حياة واقعية عملية تتجسد في أقوال الممثلين وفي حركاتهم وتنقلاتهم وإشاراتهم، لترتفع بعدها إلى عرش الذهن المفكر.
لقد ملأ المخرج بصرنا وسمعنا بالأنوار والمناظر، بالتوجيه والألفات، بالإشارة والإيماءة، بالسرعة والبطء، بالكثير الكثير من الدقائق الفنية التي يعيها ويدركها، وقد لا يعيها ويدركها سوى الإنسان المثقف.(755/50)
وليس أدل على ذلك من مواقف الممثلة أمينة رزق، وقد كانت ندابة نواحة، غاضت البسمات في صدرها، وشلت أوتار وجهها، وانساحت دموعها فياضة، فقد أعادها الأستاذ طليمات إلى قاعدتها، وخلقها خلقاً جديداً، فاسترد ثغرها ابتسامته الحلوة، وطغت على وجهها صور نفسها، وصارت دموعها تقطر لؤلؤاً على خدين فيهما إشراقة الفرح بالحياة.
أما فردوس حسن فقد انطلقت على سجيتها في تمثيل دورها، ونضت ثوب الصناعة، فبدت كما يراها باريها على اللدد والعنف والانتقام.
لقد تجلت عظمة هذه الممثلة في عنفها وقسوتها، في نظراتها الحادة المشتعلة، في نبرات صوتها الجافية، في بصمات قدميها تطأ المسرح فيئن المسرح تحت قدميها، في كظمها ما غاظها من مواطنتها وقد تنكرت لوطنها وقومها، في استثارة نخوتها، في التوسل إليها والاستنجاد بها، في طعنتها النجلاء وقد أغمدت نصل خنجرها حتى قبضته، في الأنة وقد شفت غليل صدرها بالدم والقتل! لقد سجلت فردوس حسن أعظم موقف في تاريخ حياتها الفنية لأنه دور يوائم ما انفطرت عليه نفسها.
وددت لو أقف حيال بقية الممثلين والممثلات، ولكني لأمر ما. . أتجاوز عن هذا الموقف لأتقدم بتهنئة صادقة للمخرج والممثلات والممثلين، الذين تساندوا وتكاتفوا فبلغوا المكانة التي دعاهم مؤلف الرواية إلى الاستواء عليها بجانب عرشه الفني.
حبيب الزحلاوي(755/51)
البريد الأدبي
الفضاء والعدم أيضاً:
لا يؤاخذني الأستاذ نقولا الحداد بعدم اقتناعي بما جاء في تعليقه الأول
والثاني، عن حتمية وجود الأثير في الفضاء، فإنه لا يخفى على
حضرته أن علم الطبيعة لم تقم قوانينه أو نظرياته على الحتم بل هو
كعلم الكيمياء وسائر الطبيعيات ابن التجارب، فإذا أجريت تجربة في
ناحية من النواحي وتثبتت لها نتيجة تتفق والواقع أقيم على أساسها
القانون ومنه تستخرج النظريات والمعادلات. والفرق بين القانون
والفرض واضح ظاهر.
فالقانون في العلوم الطبيعية تقرير يجمع عدداً من الحقائق تثبتت صحتها من التجارب، إلا أن العقل البشري لا يقنع بالحقائق بل يتساءل دائماً عن السبب، ولذا توضع فروض لتفسير هذه الحقائق، فإن أمكن استنباط كل الحقائق المعروفة من الفروض، ارتقت إلى مرتبة النظرية العلمية.
فإذا كان كل من قرأت لهم العلماء والطبيعيين أثناء دراستي لفم اللاسلكي يقولون أن هذا الأثير مجرد فرض علمي. فهل يجوز بعد هذا أن يقول الأستاذ بحتمية وجوده، وليس في الإمكان قياسه، أو الاستدلال عليه بأسباب علمية ملموسة؟؟ فالدكتور ألبرت اينشتين ينكر نظرية الأثير التي يقدمها الكتاب كمحاولة، لشرح عملية الإرسال في اللاسلكي. واينشتين يستهزئ بالوسط الأثيري المزعوم ويقول أنه كأقصوصة أو رواية أو حيلة مبتكرة لشرح شيء لم يصل العلماء الطبيعيون إلى شرح صحيح له أو الكشف عنه. ثم هو يظن أنها ظاهرة كهرطيسية، وشارل بروتوس ستينمتز يقول:
ليس هناك موجات أثيرية؛ أما موجات اللاسلكي أو الضوء فهي من صفات قوة المجال الكهرطيسي الذي يمتد خلال الفضاء. ثم قال أن الطبعيين ليسوا في حاجة إلى أية فكرة عن الأثير، بل من الواجب عليهم أن يفكروا جدياً في تعريف للموجات الكهرطيسية.(755/52)
وقال بمثل ذلك في كتابه الذي ترجم أخيراً إلى اللغة العربية وزاد على ذلك الأستاذ عاطف البرقوقي فقال في كتابه (الموج الساحر) من سلسلة اقرأ: لا يميل علماء الطبيعة إلى افتراض الفراغ التام من كل أثر أو وسط؛ لذلك اخترعوا وسطاً لمثل هذه الموجات وسموه أثيراً. فليرجع الأستاذ نقولا إلى هذا وإلى غيره من المراجع التي سأورد أسماءها فيما بعد.
وأكبر الظن أنه ليس لدينا في مصر معامل طبيعية للبحث أو علماء طبيعيون وقفوا أنفسهم على هذا اللون من البحوث العالية الغالية التكاليف - إذا استثنينا أستاذنا العالمي الدكتور مشرفه باشا.
وقبل أن أختم ردي هذا أقول إننا جميعاً نعلم كيف تتدرج النظريات العلمية وأخصها النظرية الذرية منذ أن قال بها الإغريق ودالتون. . حتى وقتنا هذا وما أدخل عليها من تعديلات طبقاً لنتائج التجارب والأبحاث، وتقدم العلم.
فإذا ثبت لدينا اليوم أو غداً بالبرهان والدليل القاطع والتجارب العلمية الصحيحة - لا مجرد الفروض - ما يقال بوجود هذا الأثير فأظن أنه لن يجرؤ كائن على إنكاره، أما البراهين الكلامية فلا يعترف بها علم الطبيعيات.
وإذا كان أستاذنا الفاضل نقولا الحداد قد وقف على تجارب أو أبحاث أو على ما ينشره العلماء الطبيعيون - لا الكلاميون - تثبت أو تقيس أو تبرهن بوجود هذا الأثير فيدلني عليها - مشكوراً - حتى أزداد بذلك علماً.
أحمد محمد حلمي
مؤلف تاريخ الأوزاعي:
نقل المرحوم الأمير شكيب أرسلان في صفحتي 624، 25 من كتابه ترجمة السيد رشيد رضا رحمه الله عن الأستاذ السيد محمد علال الفاسي أنه اطلع في فهرس دار الكتب المصرية على نسبة كتاب (محاسن المساعي في مناقب الأمام ابن عمرو الأوزاعي) بأنه من تأليف الجاحظ الكبير شهاب الدين أحمد ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852.
وقد شك الأستاذ علال في هذه النسبة وقال للأمير شكيب ما نصه كما في صحيفة 625 من(755/53)
الكتاب (وقد تعجبت كثيراً من هذه النسبة لأن الكتاب من الوجهة الحديثة ليس في مقام الجاحظ.
وراجعت بعض من ترجم لأبن حجر فلم أر من نسب له كتاباً بهذا الاسم) إلى قال (فلم اطمئن إلى هذه النسبة من حيث كونها تدل على أن الكتاب فرغ منه وفاته بسنتين وهو إذ ذاك قد بلغ غايته في العلم والتحرير وأيا ما مكان فيجب التثبت من هذه النسبة والتحفظ فيها). ولقد كان الأستاذ علال على حق في شكه في نسبة للكتاب للحافظ أحمد ابن حجر.
والصواب أن مؤلف تاريخ الأوزاعي هو أحمد بن زيد. فقد ذكر السخاوي في الضوء اللامع حـ 2 ص 72 في ترجمة أحمد ابن محمد الموصلي الدمشقي الحنبلي المعروف بابن زيد المولود سنة 789 والمتوفى بدمشق سنة 870 أن ابن زيد ألف كتاباً في مناقب الأوزاعي، وهذه عبارته (وأفرد مناقب كل من تميم الداري والأوزاعي في جزء سمي الأول تحفة إلى زيادة تميم الداري، والثاني محاسن المساعي في مناقب أبي عمرو الأوزاعي) ويبقى هنا البحث في سبب نسبة الكتاب لأبن حجر، ويظهر لي والله أعلم أن سبب حصول هذا الخطأ هو تحريف كلمة ابن زيد إلى ابن حجر بأيدي جهلة الناسخين ولا سيما أن ابن زيد اسمه أحمد ولقبه شهاب الدين، وابن حجر كذلك في الاسم واللقب على أن ابن زيد معاصر لابن حجر، وسمع منه في رحلته إلى دمشق.
قال السخاوي حـ 2ص 72 (وسمع على شيخنا ابن حجر) بدمشق).
محمد صبري عابدين
معرض كتب سنة 1947:
قررت الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف لمناسبة إقامة المهرجان الأدبي والفني في فبراير القادم، تنظيم معرض للكتب الصادرة عام 1947 وقد بدأت إدارة خدمة الشباب (7 شارع سليمان باشا) تتلقى المؤلفات الصادرة في ذلك العام من المؤلفين ودور النشر.
تصحيح:
وقع في مقالي الذي رددت به على الأستاذ أحمد محمد خلف في الرسالة العدد 753 صفحة 1361 بعض أغلاط مطبعية أخفت المعنى المقصود فأدله عليها كي يصححها إذ يقرأ(755/54)
المقال.
السطر 8 من العمود الأول - الغرض والصواب الفرض. ميكلفن وردت مراراً بتهجئة ميكلهن. ورد في السطر الثالث من أسفل العمود:
لا تتعجبوا من اتفاق - والصواب من إخفاق السطر الأخير من المقال (الأبراقية). وصوابه إلا بمراقبة.
نقولا حداد(755/55)
القصص
السائح والتمثال
بقلم ألدوبلاتسزكي
للأستاذ محمد لطفي جمعة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وعندما تنبه من غشيته رأى نفسه يرفل في ثياب جديدة كثياب الكهنة وقد حلق شعره وقلمت أظافره وأحس أنه قد تبدل وقد نسى ماضيه وكأنه يعيش في الهيكل منذ ولدته أمه. وإذ كان يسير في أحد أبهاء الهيكل ساهياً عن ماضيه، لاهياً عن حاضره لمح تمثالاً نصفياً من الحجر الأزرق. يمثل سماوة امرأة، ويقوم على قاعدة صغيرة من المرمر الأبيض، فشعر بهبوط في قوته وأن شيئاً خفياً يجذبه نحو التمثال الأزرق ولم يخطر بباله أنه تمثال إينوبيا، تلك المرأة التي أحبته ونسيها، ولكنها فجأة لاجت سماوتها أمام عينيه فشعر أولاً بأنه نسيها نسياناً مطلقاً. . ثم بدأت عوالم الشعور والأحلام والأفكار المطمورة في أعماق روحه - كما لو كانت في قرارة بحر عميق، تهب وتنهض وتستيقظ وتبعث وتطفر وتقفز وتدور وتشتعل وتحيا من جديد؛ وفي تلك اللحظة مر به الكاهن الذي ناقشه عند وصوله فحياه، ووقف له كمن ينتظر أنه سوف يخاطبه أو يلقي عليه سؤالاً.
وفي الواقع لم يخيب السائح رجاء الكاهن وقال له وهو لا يملك أن يحول نظره عن التمثال وقد استولت عليه رعشة ورجفة مصاحبتين للبعث الذي شعر به في روحه!
- 3 -
أتسمح يا سيدي أن أسأل عن صاحبة هذا التمثال من تكون؟
- فقال الكاهن وهو يبدي عدم الاكتراث: إنه تحفه ثمينة وتكاد تكون مقدسة، لان من صنع مثال لامرأة كان يحبها منذ خمسمائة سنة. . . فهمت السائح ثم استجمع قوته وقال - وما كان اسمها يا سيدي؟ أقصد إلى الفنان والمرأة. .
فسأله الكاهن (وهل يكرثك الأمر إلى حد أنك تود أن تقف على اسم فنان مطمور، وتمثال صغير، مضى عليهما خمسة قرون؟ أن كان اسمهما يهمك فأعلم أن المرأة كانت تدعى(755/56)
إينوبيا، والمثال فيدور. فدارت الدنيا بالسائح، لأن فيدور كان أسمه هو، وأحس بأن الأرض تميد تحت قدميه، ولكنه تجلد واستنجد بكل ما كان له من قوة إرادة وعزم ليبقى قائماً على عوده. وفي لحظة شعر بأنه لن يقوى على الوقوف فتحامل على قدميه حتى دنا من التمثال وارتكن إليه (فيدور - إينوبيا) وقد رأى الكاهن كل ما جرى له، ولكنه لم يمد له يد المعونة ولم ينطق بكلمة وبقي كمن لا يريد أن يضن على صاحبه بجواب على سؤال، ولن يتعدى هذه الحدود، فلما ظن السائح أنه قد استعاد شيئاً من قوة جسمه وروحه قال:
أيمكن يا سيدي أن يتكرر اسم شخصين بعينهما وجنسهما وهيأتهما وخلقهما في فترتين من الزمن أو فترات عدة؟
فقال الكاهن: لم أفهم سؤالك وإن كنت أوشك أن استشف معنى بعض ما ترمي إليه. تقول إنك إذا كنت أنت فيدور وقد أحببت امرأة أسمها إينوبيا في حياتك هذه وعصرنا هذا فهل يمكن أن يكون قد عاش قبلكما في ماض قريب أو سحيق شخصان مثلكما مخلوقان على شاكلتكما؟ وهل هذان الشخصان هما نفسهما اللذان عاشا في الماضي والحاضر، أم أنهما خلقا على غرار السابقين لهما؟ أن لم يكن إدراكي قد اقترف جناية الخيانة العظمى فلا بد أن يكون هذا محور سؤالك أو نحوه.
فخارت قوى فيدور لحداثة عهده بقوة الروح التي توحي مثل هذا الكلام وذلك العلم الكشاف. وقال: نعم نعم هذا سؤالي بعينيه. فابتسم الكاهن وقال: أن هذا الذي تخيلته من أبسط الأشياء. إنه الحقيقة بعينها، وإنها لا تدعو إلى الحيرة التي تبدو عليك. . ثم قال له: أدن من التمثال وألمسه.
فقال السائح: لن أجسر على لمسه. إنه في نظري أقدس من أن يمس. فقال الكاهن: لم يدر بخلدي أن شاعراً متحرراً مثلك يعيش في هذا القرن العشرين تستهويه تحفة مصنوعة منذ خمس مائة عام. على أن الجمال ليس مطلقاً ولا تاماً ولا قريباً من الكمال فإن الأذنين أدق من الآذان الأنثوية وفي الأنف شذوذ لا يجعل صاحبته ذات فتنة.
فقال السائح سامحني يا سيدي الكاهن إذا لم أوفق إلى رضائك بقبول نقدك فإنك لا تعلم ما أعلم ولا تشعر بما أشعر. فأدار الكاهن وجهه ليخفي ضحكة غامضة. واستمر فيدور في حديثه فقال: إنه ليس شبهاً، ولكنه صورة طبق الأصل، ولعله أكثر من هذا بعد الذي قلته(755/57)
لي فهو نوع من استعادة الحياة نفسها في هذا الحجر الأزرق وذاك المرمر المسنون. بالله عليك يا سيدي الكاهن خبرني كيف استطاع مثّال عاش في القرن الخامس عشر أن يتخيل ثم ينحت في الحجر الصلد الأزرق هاتين الأذنين الدقيقتين وأن يجعلهما جميلتين مرهفتين كما رأيتهما وشعرت بجمالهما؟ فقال الكاهن: تقول أنه تخيل ثم نحت؟ على رسلك يا سيدي، إنه لم يتخيل ولكنه رأى وأحب وتعذب. فقال فيدور: رأى الأذنين الجميلتين المرهفتين كما رأيتهما وعرفتهما وشعرت بجمالهما. . .
فقال الكاهن وهو يبتسم ابتسامة غامضة ماكرة: وهل تمكن ذلك المثال الحاذق أن يكسب العينين شيئاً من الشبه يقربهما إلى ذاكرتك كما صنع بالأذنين؟
قال السائح: العينان تكادان تشعان بنورهما الإنساني وهذه الجبهة العالية المشرقة التي خلعت على صاحبتها جمالاً ونبلاً، ثم هذا الأنف الشاذ الذي كانت إينوبيا تزعم أنها عثرت وهي طفلة تجري وتمرح فأصابها جرح جعل أنفها كما هو.
فقال الكاهن: عجباً عجبا! أراك تتذكر كل شيء عن تلك التي أحبتك وهجرتها، بل فررت منها، ومن العالم الذي يحتويها.
فقال السائح: الآن لا أفر منها وقد جمعتني بها المقادير.
الكاهن: ولو كانت صخرة صماء لا تنطق كهذه؟
السائح: لا تنطق؟ أن فمها بشفتيه الرقيقتين يكاد يناديني!! بربك قلي بأية معجزة تخلق أمرأتان بهذا الشبه المحير، وتعيشان في زمانين مختلفين، وهل تظن أن تلك المرأة التي نقل عنها ذلك المثال البائد، كانت تشبه إينوبيا كل المشابهة.
فتهجم وجه الكاهن وقال: لا تقل المثال البائد، فإننا في عالم لا تبيد فيه ذرة فكيف تبيد فيه الأرواح والإيرادات؟ وأظن أن المشابهة لم تكن مقصورة على الوجه بل كانت شاملة للخلق والروح. لا شك عندي في ذلك يا سيدي!
وعندما سمع السائح هذه الكلمات أسف على ما كان منه نحو تلك التي أحبته وشعر أن إينوبيا كانت ملكاً أرسل إليه لإنقاذه في صورة خفية، ونظر إلى الكاهن قائلاً.
وهل استعادة الماضي مستحيلة؟
ولماذا تريد أن تستعيد الماضي الذي خلصت منه؟(755/58)
- لقد كنت خادعاً مخدوعاً، فإنه لا يستطيع أحد أن يخلص من ماضيه، ولا أن يعيش بدونه مهما كان محفوفاً بمكاره الذكريات. إني جهدي أن استجمع صورتها الكاملة فلا أقدر على ذلك.
فقال الكاهن: ليس هناك ماض ولا حاضر ولا مستقبل. الزمان واحد والمكان واحد. وليس الماضي آنية ثمينة تحطمت فتنحني ثم تركع لتجمع شذراتها المتناثرة لتعيد إليها الحياة بالرتق والترقيع كالثوب القديم. أن الحياة وحدة منسجمة لا تتجزأ أو تتمزق أو تتغير ألوانها. وسار الكاهن في طريقه فما كان أشد فرح السائح عندما ظفر بهذا الروح الجديد ينبعث إلى قلبه وعقله! ورأى في أول الأمر أن يتشبث بالتمثال فاستمسك به حيناً، ثم استغنى عنه لأنه وجد التطهير في قلبه، وعلم أن تلك التي أهمل شأنها كانت هي التي أنقذته من الخبث والحقد والحسد ومحاولة التحديق في وجه خالقه، وهي التي قادت قدميه في غفلة من إرادته، ويقظة من روحه، إلى هيكل نيبوس إله النور. إذا كانت إينوبيا وفيدور قد عاشا وتألما وتمتعا في حياة سابقة على الحاضر بخمسمائة عام خلت، فهذا هو الخلود نفسه، وهذا هو الدوام الذي لا فناء بعده. لقد قصد إلى الهيكل هارباً من الدنيا لما راعه ما بها من فساد وهاله ما فيها من تهتك، وأدهشه ما رضيه أكثر أهلها من إباحة، فماذا يصنع وهو لا يملك أن يطهر الدنيا ولا سيما مدينته مما عراها، ولا يقدر على أن ينفي أهل الخلاعة والخيانة والغدر من أوطانهم؟ وعندما بلغ تلك النقطة من التفكير سمع صوتاً من نفسه يناديه:
فيدور! أيها الهارب! طهر نفسك أولاً، فإذا بلغت هذه الغاية فقد صرت قادراً على تطهير الآخرين.
محمد لطفي جمعه المحامي(755/59)
العدد 756 - بتاريخ: 29 - 12 - 1947(/)
حسن، مرقص، كوهين
خرج الثلاثة من مسرح رتز، ثم جلسوا في قهوة من قهوات عماد الدين يعقدون صفقة من صفقات الربا الفاحش، يطلبها حسن، ويطبخها مرقص، ويقدمها كوهين. فلما اتفقوا وذهب حسن يشتري كمبيالة مطبوعة من مكان قريب، اقبل مرقص السمسار على كوهين المرابي يسأله في خبث:
مرقص: أتدري لماذا يقترض حسن منك هذه الخمسمائة جنيه ليؤديها إليك بعد عام ستمائة وليس مأزوماً ولا محروماً ولا صاحب مشروع؟
كوهين: وما فائدتي في أن أدري؟ إن غاية ما يعنيني من شؤون زبوني أن أعرف مقدار الفائدة وميعاد الدفع. أما غير ذلك فهو لا يملأ كيساً ولا يعمر خزانة!
م - ربما يعنيك في هذه المرة أن تعرف سبب الاقتراض!
ك - هل يريد حسن أن ينتج بهذا المال بنكاً للصرافة؟ أم هل يريد أن يقرضه زبوناً آخر أقدر بفائدة أخرى أكبر؟
م - لا هذا ولا ذاك
ك - إذن أرحني من الحديث في شيء لا يمر ولا يحلى.
م - وإذا كان يريد أن يتبرع بهذا القرض لفلسطين العربية؟
ك - يا رحمة الرب! ويا لقسوة القدر! ويا لرجم إسرائيل! أنا؟ أنا أعين على قومي بمالي؟!. . . ونظر فرأى حسناً مقبلاً وفي يده الكمبيالة، فكظم على جرته، وبسط ما تغضن من جبهته، ثم قال لحسن وهو يمد يده إليه بالكمبيالة ليملأها:
لقد بدا لي يا حسن بك أن أؤجل عقد الصفقة إلى موعد آخر! ذلك أدنى أن تنظر في أمرك أو أنظر في أمري؛ فربما وجدت لك دائماً أسهل، ووجدت لي مديناً أفضل!
فقال له حسن ومخايل الدهش والعجب والامتعاض تختلط على وجهه:
ح - ولكنك درست المسألة منذ أيام وانتهيت إلى أنفي وفي ملئ. . . فما عدا مما بدا؟
فبادر مرقص إلى الجواب وفي عينيه نظرة توحي، وعلى شفتيه بسمة تغري:
م - بلغه على ما يظهر أنك تقترض لتساعد عرب فلسطين!
ح - وماذا في هذا؟ أليس كوهين مصرياً مثلي ومثلك، وطنه مصر، وقومه المصريون، وإخوانه العرب، وحاخامه ناحوم الذي قال: يهود مصر مصريون لا صهيونيون!(756/1)
ك - نعم يا سيدي! أنا كوهين بن بنيامين، وطني الأرض الموعودة، وقومي اليهود، وإخواني الصهيونيون، وحاخامي الحق هو الذي يتلو علي كل صباح قول الرب في سفر التكوين: (في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات)؛ وإذا كان لك فلسطين المسجد الأقصى، ولمرقص مهد المسيح، فإن لي فيها وعد إبراهيم ونسكه، وهيكل سليمان وملكه! ومن قال لك غير هذا من اليهود فقد اتقاك، والتقية من وصايا الدين والسياسة!
ح - لسنا ندافع عن فلسطين لأن فيها المسجد الأقصى والقريب الأدنى وحسب، إنما ندافع عنها الآن لأن فيها مع ذلك الخطر الذي تصرح به الآية التي تلوتها أنت من سفر التكوين. . . وكان الطن بك يا كوهين، ومن ثرى مصر هذا الشحم الذي يترجرج عليك، ومن نيل مصر ذلك الذهب الذي يجري في يديك، أن تنهض لمثل ما أنهض له عن سماحة نفس وطيب خاطر. .
لم يستطع ابن يهوذا أن يسمع بقية الحديث، فترك الكمبيالة على المائدة وقام حردان يده إلى مرقص يده إلى مرقص ليصافحه، وعينه إلى حسن ليقول له:
إن الدين والجنس والوطن هي الأقاليم اليهودية، ألفاظها ثلاثة ولكن معناها واحد!
أحمد حسن الزيات(756/2)
16 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض في المملكة السعودية
شاهجهان وزوجه
السلطان شهاب الدين شاه جهان بن جلال الدين أكبر وخامس الملوك التيموريين في الهند تولى الملك سنة 1037هـ (1628م) ودام له السلطان اثنتين وثلاثين سنة.
ولى والدولة في عنفوانها، قد ذلل له الصعاب، ووطد له السلطان أبوه جلال الدين، وكان كلفاً بتشييد الأبنية الضخمة وتجميلها، فترك أجمل آثار الهند، بل آثار العالم كله.
تزوج الأمير خزم (وهو اسم شاهجهان قبل أن يلي الملك) سيدة من قرابته اسمها أرجمند بانو (أي السيدة الفاضلة) وهي التي لقبت من بعد بلقب (ممتاز محل).
وهذه السيدة بنت الوزير آصف جهان الذي ذكرناه قبلاً، وهو أخو السيدة نورجهان امرأة السلطان جهانكير.
كان زواج الأمير خزم بالسيدة أرجمند بانو سنة 1022هـ قبل أن يرث الملك بخمسة عشر عاماً، وعاشا سعيدين متحابين، بأنس الأمير ثم السلطان بزوجه ويسكن إليها، ويفزع في الملمات إلى رأيها، ودامت صحبتهما ثمانية عشر عاماً.
وسنة 1040هـ لثلاث سنين مضت من ملك شاه جهان، بينما السيدة ممتاز محل مع زوجها في مدينة برهان بور، ولدت للمرة الرابعة عشرة وليدة سميت جواهرآرا، وماتت الأم أثر الوضع.
وقد أرخ أحد الشعراء موتها ببيتين بالفارسية ينتهيان بهذا المصرع (جاي ممتاز محل جنت باد)، (لتكن الجنة مثوى ممتاز محل). وحساب هذا المصرع بالجمل: 1040.
صدعت وفاتها قلب زوجها، فولهه الحزن، حتى صدف عن متع الدنيا، وهم بأن يعتزل الملك والناس، ثم صبر حزيناً لا تفارقه ذكرى صاحبته.
بقى جثمان السيدة في برهانيور ستة أشهر، ثم نقل إلى أكرا وأودع موضعاً في حديقة تاج محل المعروفة اليوم، وبعد ستة أشهر أودعت مستقرها الأخير الذي شيد عليه المزار(756/3)
الرائع المسمى (تاج محل)، وسنذكره بعد.
أراد السلطان أن يشيد لزوجه بناء يضارع مكانتها في قلبه، ويعرب عن حبه ووفائه وحزنه، فتحدى كل من شاد الملوك، وما أبدعت فيه أيدي الصناع، فشاد هذا البناء جميلاً كممتاز محل، عظيماً كحب شاه جهان ووفائه، بل أقام تمثالاً للجمال والحب والوفاء، كما أبدع فيها خيال الشعراء.
دعا المهندسين من أقطار الأرض، فخطوا ما شاءت خبرتهم وقدرتهم، فأختار واحدة من الخطط اتخذ لها نموذجاً من الخشب شيد على مثاله البناء الرائع، وحشر مهرة الصناع من الأقطار، وكان منهم النقاش محمد عيسى أفندي من الروم (تركيا)، ومحمد شريف من سمرقند، وكان لكل منهم ألف روبية في الشهر.
وأشرف على العمارة الأمير عبد الكريم ومكرمت خان، وعملت أيدي البناءين والنحاتين والنقاشين، وقدرة السلطان وثروته في هذا البناء ثمانية عشر عاماً كالحقبة التي أمضتها السيدة في صحبة زوجها، فتم سنة 1057هـ (1647م) هذا التمثال المعجز في بلاغة البناء.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(756/4)
إياكم والمهادنة
(ما هكذا تورد يا سعد الإبل!)
للأستاذ محمود محمد شاكر
إنما حملت أمانة هذا القلم لأصدع بالحق جهاراً في غير جمجمة ولا إدهان، ولو عرفت أن أعجز عن حمل هذه الأمانة بحقها لقذفت به إلى حيث يذل العزيز ويمتهن الكريم. وقد قصرت نفسي إلى هذا اليوم على مجلة (الرسالة) لأنها ملاذ الأقلام الحرة التي لا تثنيها عن الحق رهبة، ولا تصدها عن البيان مخافة. وقد جاء اليوم الذي لم يعد يحل فيه لامرئ حر أن يكتم قومه شيئاً يعلم أنه الهدى، فمن كتمه في قلبه فقد طوى جوانحه على جذوة من نار جهنم، تعذبه في الدنيا ويلقى بها في الآخرة أشد العذاب. وأنا جندي من جنود هذه العربية، ولو عرفت أني سوف أحمل سيفاً أو سلاحاً أمضى من هذا القلم لكان مكاني اليوم في ساحة الوغى في فلسطين، ولكني نذرت على هذا القلم أن لا يكف عن القتال في سبيل العرب ما استطعت أن أحمله بين أناملي، وما أتيح لي أن أجد مكاناً أقول فيه الحق وأدعو إليه، لا ينهاني عن الصراحة فيه شيء مما ينتهي الناس أو يخدعهم أو يغرر بهم أو يغريهم بباطل من باطل هذه الحياة.
والأمر بيننا وبين يهود سافر كإشراق الصباح لا يغطيه شيء، ولا تعمى عن جلائه عين، فهو الحرب الضارية التي لا ترحم. فمن شك في هذا فإنما يشك عن دخل وفساد لا عن يقين خطأ يتلمس فيه العذر. والحرب معنى معروف للبشر منذ كانوا على هذه الأرض، ولها أساليب لا يجهلها خبير بها ولا غير خبير، ومن جهل هذه الأساليب أو تجاهلها أو دعا قومه إلى اطراحها والإغماض عنها فإنما يدعوهم إلى الهلكة والفناء والخزي وذل العصور والآباد. فكل كلمة تقال منذ اليوم في أمر هذه الحرب فهي إما تحريض على القتال، أو تثبيط عنه. وكل امرئ منا محاسب بما يقول علا شأنه أو سفل، فالحرب لا تعرف شريفاً ليس لسانه بشريف، ولا تتنكر لمغمور يضيء عنه بيانه أو عمله.
وقد قرأت في هذه الأيام الأخيرة وسمعت كلمات لا يرفعها أو يشفع لها أن يكون قائلها فلان أو فلان. فإن قيادة هذه الحرب لن تكون لمن يهادن في الحق الأبلج، أو يجامل في المحنة المهلكة. فمن ذلك أني سمعت الأئمة على منابر المسلمين تذكر الناس بأمر فلسطين وما حل(756/5)
بها وما يراد فيها، ثم تعقب على ذلك بتذكير الناس بأن في بلادهم مواطنين من يهود - هم كما يقولون - أهل ذمة، لهم ما لأهل الذمة والمعاهدين من الأحكام في ديننا ودين نبينا. وقرأت أيضاً بياناً من (هيئة وادي النيل) أذاعه رئيسها سعادة محمد علي علوية باشا يقول لنا فيه: (إن لكم مواطنين من اليهود في مصر، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقد شاعت حولهم شائعات السوء فقيل إنهم يمدون الصهيونية بالمال، وأنهم يضنون بما لهم فلا يساهمون معكم في رد عدوان الباغين. ونحن على يقين من أن إخواننا اليهود في مصر - وهم أصحاب الملايين - سيبذلون من مالهم للعروبة في محنتها كما تبذلون، وسيسارعون إلى تكذيب هذه الشائعات ببذلهم وعطائهم لا بأقوالهم وتصريحاتهم). .
ولست أدري ما الذي يحمل هؤلاء القوم على ركوب هذا المركب في تغطية عيون الناس عن أفاعيل يهود منذ كان لهم على هذه الأرض مكان يسرحون فيه؟ فإذا كانوا يريدون أن لا تقع الفتنة بين يهود مصر وبيننا، فكفاهم أن يذكروا أن العرب والمسلمين منذ كانوا لم يضطهدوا هذا الجنس من خلق الله إلا عقاباً لشيء جنته أيديهم؛ ثم يتركونهم وادعين لا يمسهم شر ولا عنت تحت ظل هذه الدول العربية والإسلامية. وإذا كانوا يريدون أن يفتوا الناس بأن يهود هم أهل ذمة لهم ما لأهل الذمة في أحكام الإسلام، فقد أخطئوا. ولا يستطيع متأول أن يتأول على دين الله أن هؤلاء اليهود أهل ذمة أو معاهدون كما توجب أحكام الإسلام لمن يوصف بهذه الصفة. وكان حسب هؤلاء أن يأمروا الناس بالتطوع للقتال والتبرع بالمال، وأن يصفوا لهم هذه الحرب الملعونة التي تشنها علينا العصبية الصليبية من أوربة وأمريكا، وأن ينفضوا قلوب الناس حتى يبتدروا مراكزهم في صفوف المقاتلين، فإن الحرب كما يقولون جدها جد وهزلها جد. فإذا كان هذا العبث مقبولاً يوماً ما، فإنه اليوم فت في عضد الأمة المسكينة التي أحاطت بها الأمم لتأكلها (أكل الضروس حلت له أكلاؤه). فليقلع هؤلاء الواعظون عن عظة فيها الهلاك لأقوامهم، والذل لأبنائهم، والعبودية لبلادهم.
أما النداء الذي أذاعه علوية باشا فقد أفزع كل حريص على خير أمته وبلاده. وكيف لا يفزع امرؤ يقرأ نداء موجهاً إلى عامة الشعوب العربية ثم شعب مصر خاصة وفيه هذه الثقة المطلقة بأن اليهود براء من كل فادحة تفدح في إخلاصهم للقضية العربية!! وفيه هذا(756/6)
اليقين الذي لا يتزلزل بأنهم سوف يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل فلسطين العربية!! ويأتي هذا البيان من رجل معروف الاسم، مشتغل بالقضايا السياسية والوطنية والعربية، ينظر إليه الشباب نظرة التوقير والإجلال لما يقول.
ونحن لا ندري هل وقف على شيء غاب عن الناس جميعاً وعرفه هو، فاستيقن أن ظاهر أمر يهود مصر غير باطنهم، وأنهم إنما يرسلون الأموال إلى الصهيونية ذراً للرماد في عيون الناس، وأنهم يتولون تهريب الأسلحة إلى الصهيونية رحمة بالعرب ودفاعاً عن قضيتهم، وأنهم يجمعون الشبان اليهود ليبثوا فيهم الدعوة إلى الهجرة إلى أرض الميعاد، ليدخلوا فلسطين ويكونوا عوناً للعرب على إخوانهم من اليهود الصهيونيين!!
حسبكم أيها السادة القدماء! لئن ظننتم أنكم بأمثال هذه الكلام تستطيعون أن تلينوا الصخر من قلوب يهود مصر حتى ينحازوا إليكم، ويكونوا لكم أعواناً على أبناء جلدتهم، فقد خاب ظنكم وخاض بكم الأباطيل المركومة. إنه ما من يهودي على ظهر هذه البسيطة إلا وهو صهيوني متعصب يخفي تحت ذلته ومسكنته غوائل الغدر والفتك. إن يهود العالم على قلب رجل واحد: يريدون أن يلتهموا هذا الشرق العربي كله، ويكونوا سادته وكبراءه والحاكمين بأمرهم في كل ثنية من ثنايا أرضه. لا نقول لكم اقرءوا كتب الصهيونية لتعلموا، بل اقرءوا كتابهم الذي يدينون به، واسترقوا السمع فيما يجري على ألسنتهم وهم يتخافتون بينهم، وادخلوا بيعهم، وانظروا في وجوههم، وتفرسوا في سمتهم وشمائلهم وحركاتهم، فيومئذ تعلمون أن تحت هذه الصفحة البريئة المتلألئة أخطبوطاً سفاحاً قد قتله الظمأ إلى دمائكم ولوعه الشوق إلى فرائس أموالكم وبلادكم. وليس بسياسي من لم يعرف عدوه معرفته بنفسه التي بين جنبيه. وليس بسياسي من كتم هذه المعرفة عن قومه في ساعة القتال والحرب. ولا تظنوا أن يهود تنخدع لكم عن أنفسها حتى تنالوا منها شيئاً تعلم أنه خذلان لدينها وعقائدها وأهوائها ومطامعها منذ كان لهم في هذه الأرض مجال يتحركون فيه.
إن الذين نشروا هذا النداء إنما يخادعون أنفسهم وأهليهم عن حقائق ما يجري على أعينهم وبمنظر منهم ومسمع؛ وهذه صحف تنشر كل يوم من خبائث يهود في ارض مصر ما يفزع، ونضع أيديكم على الجريمة وهي تنشأ في قلب بلادكم، فكيف يتاح لكم أن توفقوا(756/7)
بين ثقتكم بغيب مكنون في قلب اليهود، وظاهر يأتيكم من أفعالهم علانية غير مستور أو محجوب؟ نحن لا نريدكم أن تحرضوا الناس على الفتك باليهود، فالعربي أنبل نفساً من أن يفتك ويغدر. بل نريدكم أن تدعوا هذه العظات والسياسات المتعفنة جانباً، وأن تلقوا إلى قومكم بالحقائق مجردة من كل مهادنة أو مراوغة، حتى يعلم شباب العرب أن في قلب بلادهم قوى يخشى أن تغلب عليهم وتنتزع منهم أمرهم، ونفت في محصدات عزائمهم، ولنستولي على الأمد قبل أن نطيق نحن صدقاً أو عدلاً فيما كتب علينا من هذا القتال المر.
أيريد أن يعلم من كتب هذا النداء أشياء قد غابت عنه؟ فليعلم أن يهود مصر يبذلون اليوم آلافاً مؤلفة من الأموال لشراء قطع متجاورات من الأرض في مشارف مصر، يدفعون فيها من المال ثلاثة أضعاف ثمنها أو أكثر. وليعلم هؤلاء أن يهود مصر قد فرغوا منذ عشر سنوات من الاستيلاء على تجارة الجملة كلها في أرض مصر. وليعلم هؤلاء أن هذه الفئة القليلة من يهود قد استطاعت في زمن الحرب أن تتغلغل في نواح من أعمال لم يكن ليهود مصر بها عهد. وما من شيء من هذا كله إلا وهم يأتونه على هدى وبصيرة وتدبير محكم، ناظرين إلى شيء واحد، هو أن الدولة اليهودية سوف تكون في فلسطين، وأنهم يومئذ مطالبون بأشياء يؤدونها لدولتهم، وهي أشياء مفهومة معروفة، الغرض منها أن تخفق راية يهود على هذه البقعة من الأرض ممتدة من شواطئ الفرات إلى ضفاف النيل.
أيها الناس لا تستهينوا بأمر يهود انظروا ماذا كان من أمرهم منذ عشرين سنة، ثم انظروا إلى خبرهم اليوم، من كان يظن أن لليهود شأناً أو خطراً في هذه الدنيا منذ عشرين سنة، إلا من هدى الله؟ ثم انظروا اليوم إلى هذه الفئة القليلة من سكان هذه الأرض كيف استطاعت أن تغلب على عقول الأمم والساسة، وأن تغطي على الحق وهو مشرق كمين للشمس، وأن تدفع أكبر دولة في الأرض وهي أمريكا إلى ارتكاب أبشع جريمة في تاريخ الإنسانية، وأن تشتري بأموالها القلوب والأمم والناس والأفراد. انظروا إلى هذا كله قبل أن تتكلموا، واتقوا غضب الله قبل أن تزل ألسنتكم بالوعظ المهلك لأنفسكم وأهليكم.
ألا تخافون أن تكون هذه القوة المدمرة التي ذكرتموها في ندائكم - قوة أصحاب الملايين - وسيلة لتسلط يهود يوماً ما على ساستكم ورجالكم وحكوماتكم، وأن تكون تهديداً لكم ولأممكم بالمجاعات والاضطرابات الاقتصادية والسياسية، وأن تكون أسلوباً من أساليب تأليب الأمم(756/8)
عليكم في هذه المحنة حتى تعطوا المقادة ليهود وأنتم صاغرون؟ أيها السادة لا تستهينوا، فمن استهان بعدوه فقد فرط، ومن استهان بعدوه فقد مكنه من مقاتله، ومن استهان بعدوه فقد منحه فرصة للفتك به.
واعلموا أنها الحرب بيننا وبين يهود. والحرب لا تلهو. وهذه الفئات التي تقيم في أوطان العرب من اليهود سوف تكون يوماً ما (طابوراً خامساً)، بل هي اليوم كذلك. واعلموا أن اليهود قد مرنوا على أساليب التجسس وتحسس الأخبار في هذه الحرب، وأنهم كانوا أعواناً للأمم المقاتلة في حرب الأعصاب، وأنهم قوم مردوا على النفاق منذ قديم الآزال، فكيف تأمنون جانبهم، وتطالبون قومكم أن يأمنوا جانبهم؟
ثم أراكم تدعون يهود للتبرع بأموالها في سبيل قضية العرب، بل أن يبذلوا أموالهم لتقاتلوا بها أهلهم وعشيرتهم، فبئس الشيء تطلبون. إن أول ما في هذا الجهل بالطبيعة البشرية، ثم غاية الجهل بطبيعة هذه الفئة من يهود التي ظلت أكثر من ألفي سنة تنطوي على نفسها، وتحافظ على روابطها، وتجعل دينها هو قوميتها ووطنها، لا وطن لها ولا قومية إلا اليهودية صرفاً خالصة لا تشوبها شائبة من محبة وطن له أرض وسماء، إلا أرض الميعاد - إلا فلسطين - إلا أرض إسرائيل من شاطئ الفرات إلى ضفاف النيل.
ثم ألا تخافون أن يتبرع لكم هؤلاء اليهود بآلاف من أموالهم أو أموالنا على الأصح، يخادعونكم بها ثم يهربون إلى قومهم الملايين، يعينون بها عليكم، ويكسبون بها غفلتكم عنهم وعن حركاتهم وأعمالهم ودسائسهم في قلب بلادكم؟
أيها الساسة اطلبوا سياسة أخرى غير هذه تكفيكم شر يهود. إننا لا نريد منهم مالاً، ولا نريد منهم حباً للأوطان التي أظلتهم وحمتهم، ولا نريد منهم رجالاً يقاتلون في صفوفنا، وغن ديننا لينهانا عن أن نقبل منهم شيئاً. اطلبوا أيها الناس سياسة أخرى تضمن لكم أن تعرفوا خبء يهود، وأن تصطنعوا من الأسباب ما يكفل لكم قطع أيديهم وألسنتهم عن التدسس والتجسس والمكيدة والغدر. لا تأمروا الناس بالفتك بهم، بل نحن العرب نحمي الذمار حتى عدونا نحمي ذماره، ولكن دبروا أمركم وسنوا من القوانين ما ينهى يهود الأوطان العربية عن الغدر بهذه الأوطان التي حمتهم وهم مشردون مضطهدون قد مزقهم الناس كل ممزق.
إن العالم العربي اليوم قد استيقظ من غفوة طالت، وهو اليوم لا يسمع للساسة إلا كما(756/9)
يستمع المقاتل البطل إلى صيحات الجبان المذعور، فليعلم هؤلاء أنه أولى بهم أن يمنحوا الشباب من حكمتهم وتجاربهم وعقلهم ما يهديهم ويقويهم، لا أن يعظوهم بالمواعظ التي تحفر تحت أقدامهم هوة مظلمة بعيدة القعر ليس يسمع في أرجائها إلا هماهم الموت وهو يدب والغاً في دم أو منشباً مخالبه في فريسة. ارحموا الناس وارحموا أنفسكم أيها الرجال.
محمود محمد شاكر(756/10)
حجج تاريخية
للدكتور جواد علي
يطالب الصهاينة بأرض الميعاد، أو (الأرض الموعودة) وبعنوان ذلك ما جاء في التوراة وعداً (لإبرام) (إبراهيم) (وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم).
وفي هذه الآية وفي آيات أخرى أن إبراهيم جد العبرانيين الأعلى لم يكن من أرض (كنعان) أو (أرض فلسطين) بل كان من أرض أخرى وأن فلسطين كانت أرض (الكنعانيين) وقال الرب لإبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت لأبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض). وجاء بعد ذلك (وظهر الرب لإبرام وقال لنسلك أعطي هذه الأرض).
وقد خصصت هذه الأرض (أرض كنعان) (بإبراهيم) وبنسله ومن نسله العرب واليهود وفي القرآن الكريم إن إبراهيم هو أبو العرب، والعرب يطالبون بحكم القرآن الكريم بحقهم كذلك في أرض إبراهيم، وقد حددت التوراة الأرض التي أعطاها الله لإبراهيم وذريته على النحو الآتي (في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات).
وجاء في موضع آخر من التوراة (وكان بعد موت موسى عبد الرب أن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً موسى عبدي قد مات، فالآن قم أعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل، كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى، من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات جميع أرض الحيثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم).
وجاء في التوراة كذلك (وشاخ يشوع تقدم في الأيام فقال له الرب أنت قد شخت تقدمت في الأيام، وقد بقيت أرض كثيرة جداً للامتلاك هذه الأرض الباقية: كل دائرة الفلسطينيين وكل الجشورين من الشجور الذي هو إمام مصر إلى تخم عقرون شمالاً تحسب للكنعانيين أقطاب الفلسطينيين الخمسة الغزى والأشدودي والأشقلوني والجني والمقروني والموبين،(756/11)
من التيمن كل أرض الكنعانيين ومغارة التي للصيدونيين إلى أفيق إلى تخم الأموريين وأرض الجبلين وكل لبنان نحو شروق الشمس من بعل جاد تحت جبل حرمون إلى مدخل حماة، جميع سكان الجبل من لبنان إلى مسرفوت مايم جميع الصيدونيين، أنا اطردهم من أمام بني إسرائيل).
فأرض الميعاد التي تتغنى بها الصهيونية أرض واسعة تشتمل على العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن وكل الأراضي التي لم يتمكن أنبياء وملوك بني إسرائيل من امتلاكها.
والصهيونية تدين بالقومية المتطرفة التي تعلو على قومية (الوطنية النازية) التي حاربها الحلفاء فإنهم ينظرون إلى أنفسهم بنظرية (الجنس المختار) و (الشعب الذي وضعه الله فوق الشعوب، ولذلك فهي تنفر من سائر شعوب الأرض وتنظر إلى نفسها نظرة إعجاب وكبرياء وقد استمدت نظريتها هذه منذ القديم حيث جاء في التوراة (لأنكشعب مقدس للرب إلهك وقد أختارك الرب لكي تكون له شعباً خالصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض). وتدين بالقوانين التي وضعها (عزرا) (فاعترفوا الآن للرب إله آبائكم واعملوا مرضاته وانفصلوا عن شعوب الأرض وعن النساء الغريبة). تلك القوانين التي غدت نموذجاً لقوانين (نورمبرك).
إن الصهيونية لا تقبل إلا بإحياء الدولة اليهودية المتطرفة، ولا ترضى بفلسطين وحدها، جاء في كتاب (الدولة اليهودية تتحقق) (لهوبرت بولاك) أعلن بوضوح في المؤتمر الصهيوني العشرين وفي مناسبات علنية أخرى أن مشروع تقسيم فلسطين هو أصغر من أن يحل المشكلة اليهودية، ولهذا السبب فإن مثل هذه الدولة لا يمكن أن تتفق مع الأماني اليهودية، ولا مع روحية الصهيونية، ثم إن فلسطين نفسها لا يمكن أن تحل المشكلة اليهودية لأنها أصغر من أن تحل هذه المعضلة، فلابد من ضم شرقي الأردن؛ لأنها في حالة ازدحام فلسطين ازدحاماً تاماً لا يمكن أن تتسع لأكثر من سبعة ملايين نسمة. وفي حالة تقدم الدولة تقدماً كبيراً فسيكون بها حوالي ثلاثة ملايين من العرب، ولذلك فإنه لا يمكن أن تتسع هذه الدولة في مثل هذه الظروف لأكثر من أربعة ملايين يهودي، وإذن لا يمكن أن تتكون دولة يهودية بدون شرقي الأردن).(756/12)
وبحث عن المشكلة اليهودية فقال (إن هذه المشكلة لا يمكن حلها إلا إذا نزل الشعب اليهودي بأجمعه في أرضه الأصلية كلها، وتحت حماية دولته الوطنية، وفي هذا المعنى فقط تحل المشكلة اليهودية ولهذا الهدف تسمى الحركة الصهيونية).
وقال (هرتزل) مؤسس الحركة الصهيونية في كتابه (الدولة اليهودية) (وفي حالة ما إذا أعطانا جلالة السلطان فلسطين فإننا سنتمكن عندئذ من الإشراف على مالية الإمبراطورية العثمانية، وتكون في متناول يدنا، وسنكون بالنسبة لأوربا سداً منيعاً أمام آسيا؛ وسنكون مركز حماية الثقافة أمام البربرية).
ولما فشل في إقناع الحكومة العثمانية بإعطاء فلسطين للصهاينة وضع مشروعاً سريعاً لغزو فلسطين، وقد نفذت المؤسسات الصهيونية هذا المشروع، ويتلخص في أن يقوم اليهود بإقناع الدول الكبرى بتأييد القضية الصهيونية وبالاعتراف بحق اليهود في تكوين دولة لهم بفلسطين وبتوجيه أنظار اليهود نحو فلسطين وحثهم على الهجرة إليها حتى تتكون فيها جاليات يهودية قوية تتمركز في الأرض المقدسة تشتري الأرض والأملاك إلى أن يكون لليهود عدد كبير في فلسطين فيثور هؤلاء ويطالبون عندئذ بحقهم في تكوين الدولة اليهودية. ومتى تكونت الدولة تطرد الأقليات العربية منها وتصبح الدولة اليهودية حقيقة واقعة).
وقد اتخذت الصهيونية لها شعاراً هو (تقوية المركز اليهودي في فلسطين)
وقد طبقت هذه السياسة فعلاً؛ ولا تزال تطبق هذه الخطة السرية لاحتلال كل الأراضي التي يطلقون عليها (أرض الميعاد).
جواد علي(756/13)
التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
- 1 -
للتاريخ حكم يجري في الحاضر والمستقبل كما يجري في الماضي فلا يحزن المسلمون إذا رأوا اليهود يجاوزونهم الآن على إحسانهم إساءة، وعلى إنصافهم ظلماً وعدواناً، فقديماً أحسن المسلمون إلى اليهود فأساءوا إليهم، وعرضوا عليهم أن يعيشوا في وطنهم العربي إخواناً لهم، فرفضوا هذا العرض الكريم، وأبوا إلا أن تكون جاهلية يمرحون فيها وينهبون، فكان جزاؤهم للطرد من هذا الوطن، وسيطردون إن شاء الله من وطننا بفلسطين، ويجازيهم الله على بغيهم الجديد، كما جازاهم على بغيهم القديم. ولو تدبر اليهود حكم التاريخ لخففوا من غلوائهم، وخافوا حكم الله والتاريخ فيهم، ولكنهم قوم أعماهم حب النفس، فلا ينظرون إلى المستقبل، ولا تنفع فيهم عظة ولا عبرة، وهذا هو الذي جلب عليهم بغض الشعوب، وأوقعهم في كل ما وقعوا فيه من النكبات.
استولى الروم على بيت المقدس قبيل الميلاد المسيحي، وطردوا اليهود منه، فلجأ فريق منهم إلى بلاد العرب، ونزلوا بجوارهم في يثرب وغيرها من بلادهم، فنزلوا بينهم في أكرم منزل، وعاشوا بينهم في خسير جوار، وكان العرب في جاهليتهم دون اليهود علماً بشئون الحياة، فأستغل اليهود جهلهم، وأخذوا يقرضونهم الأموال بالربا الفاحش، حتى صاروا أغنى أهل الحجاز وامتلكوا أخصب أرضه بيثرب وغيرها.
وقد كان العرب في جاهليتهم يعيشون في حروب دائمة لا تنقطع فشاركوهم اليهود في تلك الحروب، وانغمسوا معهم في تلك الجاهلية الآثمة، واقسموا على أنفسهم فيها، كما أنقسم العرب على أنفسهم فلم يحاولوا أن يقوموا بينهم بصلح، أو يقضوا على شرور تلك الجاهلية، لأنهم لا بهمهم في هذه الدنيا إلا جمع المال، ولا يهمهم شيء من هداية الشعوب إلى ما ينفعهم في دنياهم أو أخراهم.
وكان أهل المدينة من العرب واليهود منقسمين قبل الإسلام إلى قسمين: أولهما عرب الخزرج ومعهم بنو قينقاع وبنو النضير من اليهود، وثانيهما عرب الأوس ومعهم بنو قريظة من اليهود وكان بين الفريقين حروب دائمة لا تنقطع، وكان آخرها حرب بعاث،(756/14)
وقد وقع قبل الهجرة بخمس سنين.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أراد أن يجمع بين أهل هذا الوطن من مسلمين ويهود، وكان العرب من الأوس والخزرج قد اجتمعوا على الإسلام، وبقي اليهود على دينهم فلم يسلموا، فتركهم المسلمون أحراراً في دينهم، ولم يكرهوهم على أن يدينوا بالإسلام مثلهم.
فعقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة بين المسلمين واليهود، كانت أول معاهدة فرقت بين الدين والوطن منذ الخليقة، وجعلت الدين لله يحاسب عليه يوم الحساب، فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وجعلت الوطن لجميع الناس، يستوون في حقوقه على اختلاف أديانهم وأجناسهم، فلا عصبية ولا قومية ولا غيرهما مما يفرق بين الناس في الأرض، ويثير الحروب والعداوات بينهم.
وهذه سنة جديدة في السياسة لم يكن للناس عهد بها قبل الإسلام، جاءت بأصلين عظيمين جديدين في هذه الحياة: حرية الاعتقاد، والمساواة بين الناس في الوطن. فلم يكن قبل الإسلام أصل من هذين الأصلين، بل كان أهل الأديان في حروب دائمة على الدين، وكانت الشعوب في حروب دائمة على استعباد بعضهم لبعض، فأبطل الإسلام الحروب الأولى، ونادى بها صرخة مدوية في الأرض (لا إكراه في الدين) وأبطل الحروب الثانية أيضاً، وجعل هدفه هداية الناس لا استعبادهم.
فلم يسع اليهود إلا أن يوافقوا في الظاهر على هذه المعاهدة الكريمة، حتى لا تظهر نيتهم الخبيثة لأهل هذا الوطن الذي آواهم وأكرمهم، وحتى لا يظهروا بمظهر الكارهين لدينهم، وهو يدعو إلى التوحيد كما يدعون، ويرفض عبادة الأصنام كما يرفضون، ثم أخذوا يكيدون في الباطن لأهل هذا الدين الذين لا ذنب لهم عندهم إلا أنهم نهضوا من جاهليتهم، ورفضوا عبادة الأصنام إلى عبادة الله تعالى، لأن اليهود لا يهمهم شيء من هذا، وإنما يهمهم استغلال من يؤويهم في وطنه، ويرضيهم كل الرضا أن يبقى جاهلاً يعبد الأصنام، إذا كان هذا مما يمكنهم من استغلاله. . .
فأخذ اليهود يعملون على إثارة العداوة القديمة بين الأوس والخزرج، ليتفرق جمعهم، ويتركوا هذا الدين الذي جمع بينهم. ومما عملوه في ذلك أن شاس بن قيس اليهودي مر(756/15)
على نفر من الأوس والخزرج قد جمعهم مجلس واحد، ترفرف عليهم فيه أعلام المحبة والإخاء، وتظهر عليهم فيه آيات الإخلاص والولاء، فغاظه هذا المظهر الكريم، وقال: قد اجتمع ملأ قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار. ثم أمر فتى من اليهود أن يعمد إليهم فيجلس معهم، ويذكر يوم بعاث وما كان قبله من حروبهم، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيها من الأشعار، ففعل الفتى ما أمره به شاس، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه. إن شئتم رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة السلاح السلاح. ثم خرجوا إلى تلك الحرة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فلما وصل إليهم قال لهم: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وأستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم؟ فبكى القوم عند سماع هذه الكلمات، وعانق بعضهم بعضا، ورجعوا إلى ألفتهم واتحادهم.
فلما يئس اليهود من التفريق بين المسلمين انقلبوا إلى من بقي على الشرك من أهل المدينة، وكان أكثرهم من المنافقين الذين يخفون الشرك ويظهرون الإسلام، فحالفوهم على المسلمين. ثم أخذوا يؤلبون القبائل العربية على حربهم، وسعوا إلى قريش فحالفوها عليهم، ولم يتورعوا في عداوتهم للإسلام عن تزيين الشرك وعبادة الأصنام لهذه القبائل، وتفضيل هذا على الإسلام الذي يدعو إلى التوحيد كما يدعون، ولم يهمهم أن يخرجوا بهذا على دينهم لأن القومية عندهم أهم من الدين، وأنر الدنيا عندهم أهم من أمر الآخرة، فلا يهمهم أن يبيعوا دينهم في دنياهم، وسعادة الآخرة في سعادة الدنيا، لأنهم الشعب المختار بين الشعوب، ولا قيمة في هذه الدنيا لغيرهم.
وكانت سياسة جهل وغباء من أولئك اليهود، وكانت تدبيرات ظالمة باغية بازاء ما أراده الإسلام من العدل والإنصاف فجازاهم الله على هذا شر جزاء، ونصر حق الإسلام على باطلهم، ورفع ما يدعو إليه من العدل والإخاء والمساواة على ما يدعون إليه من الظلم والعداء والتفريق، فذهب كل ما سوله الجهل لهم في القضاء على الإسلام أدراج الرياح، وفشلت سياستهم الباغية الجاحدة المفرقة، ولم ينفعهم أولئك المنافقون الذين آثروا حلفهم(756/16)
على حلف المسلمين، ولو كانوا عقلاء لعلموا أن المنافق لا يبقى على حلف، ولا يفي بعهد، ولا يقدر على نصر، لأنه كاذب في دينه ضعيف في نفسه، فلا ينفع ولا يضر، وشر الرجال من يصل إلى هذا العجز، ويكون هذا حاله في الضعف.
لقد أراد يهود المدينة أن تبقى في جاهليتها ليستغلوا أهلها، ورفضوا أن تكون وطناً لهم وللمسلمين، فأبى الله إلا أن تكون وطناً للمسلمين وحدهم، وأن يحرم منها أولئك اليهود الغرباء، فنفوا منها إلى أذرعات وغيرها، وسيعيد التاريخ حكمه فيهم، وسنبين فيما يأتي كيف يكون هذا الحكم.
عبد المتعال الصعيدي(756/17)
معارضات القرآن
للأستاذ علي العماري
قرأت في بعض المجلات لعالم فاضل تحت هذا العنوان، وقد تحدثت عن ابتداء المعارضات، وإنها كانت من قوم لم يكن ينتظر صدورها منهم، وإن القرشيين - وهم أرباب الفصاحة والبلاغة - لم يحاولوا المعارضة؛ لأنهم خافوا أن يقولوا فيفتضحوا، ولكن بعض المتنبئين تجرأ فعارض القرآن، وذكر الكاتب من هذه المعارضات قول مسيلمة الكذاب: يا ضفدع ابنة ضفدع، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين. وقوله: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاء وغشا. ثم قال فهو في المعارضة الأولى يخاطب الضفدع كأنها مخلوق من تعالى فيريد أن يضع من أمرها، ويحط من شأنها، والضفدع مخلوق ضعيف لا يتعالى ولا يتكبر؛ فخطابه بهذا لا يطابق حاله، ومن شرط البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وهو في المعارضة الثانية لا يأتي من دقائق القدرة ما يتعالى إدراكه عن البشر كما قال تعالى في القرآن الكريم (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب).
وقد لفت ذهني في هذا الكلام آمران:
أولاً: إنه يسوق هذه المعارضات سوق القضايا المسلمة، والأمر فيه نظر - كما يقولون -.
ثانياً: إنه يزيف هذه المعارضات مستنداً إلى أمور معنوية دون النظر مطلقاً إلى الأسلوب وتهافته، فهو يرد المعارضة الأولى لأن الخطاب فيها غير مطابق لمقتضى الحال، ويرد الثانية لأن ما جاء فيها ليس من دقائق القدرة، ومع إن الأمر لا تقتصر على الناحية المعنوية بل لعل أظهر ما في هذه المعارضات من ضعف هو ركاكة الأسلوب وسخفه، مع ذلك فإن خطاب الضفدع مطابق لمقتضى الحال، لأن قوله (نقي ما تنقين) معناه ارفعي صوتك ما شئت. فإنك لا تستطيعين وراء هذا التصويت الذي يشعر بالجلبة والضوضاء والعظمة ليس وراءهم ما يمكن أن يكون لهم من أثر من تكدير الماء أو منع الشاربين. . .
هذا، وقد كنت أعتقد من زمن بعيد إن هذه المعارضات وأشباهها من افتعالات الرواة، وتفكهات أصحاب القصص، وأضاحيك السمار في المجالس والمجتمعات، وإن العرب(756/18)
انقطعوا عن المعارضات حقها وباطلها، ولم أكن أعتقد أن مسيلمة أو غيره من أعراب البادية ينزل إلى هذا المستوى، ويمخرق على قومه وهم فصحاء بلغاء بهذا الهراء، وكنت وما زلت أحفظ قول الجاحظ عن انقطاع العرب عن المعارضة: (ولم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، فلو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده، ويحامي عليه، ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقارب وناقض) وهذا - ولا شك - نص وثيق صريح في إن شيئاً من هذه المعارضات لم يكن وصل إلى علم الجاحظ، وهو ما هو، فإذا أضفنا إلى ذلك أن كل هذه المعارضات من التهافت وضعف التأليف بحيث يستحيل صدورها من عربي بله عربي يقول فيه المرحوم مصطفى صادق الرافعي إنه أفصح من المتنبي، وذلك حيث يقول في كتابه إعجاز القرآن (وما المتنبي بأفصح عربية من العنس ولا مسيلمة) على إن مما روي للمتنبي مما قالوا إنه عارض به القرآن أقول من هذا ما يشبه أن يكون كلاماً مثل قوله (والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي إخطار، امضي على سننك، وأقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله) فأين من هذا ما يلصقونه بمسيلمة؟
وفي محفوظي مما لست أستطيع أن أحققه الآن ببعدي عن كتبي، إن مسيلمة طلب منه قومه أن يأتيهم بقرآن فقال هذا ما لا ينطق به لسان من عضل.
على أن الذي أثار دهشتي - ومن أجله كتبت هذه الكلمة - إن الرافعي عليه الرحمات، قد ساق هذه المعارضات سوق المسلمات وأخذ يشقق القول فيها ويصرفه، وجعل يعلل ضعفها وتهافتها، وذكر منها قول مسيلمة: (والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، وااللاقمات لقماً، اهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه) وقوله (والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون) وقوله (الفيل ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل) ثم قال الرافعي وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام، وسوء البصر به بمواضعهن ولكن لذلك سبباً نحن ذاكروه وأقول أن هذا هو الحق، وأن لنا أن نتخذ هذا القول نفسه عماداً نتكئ عليه في(756/19)
أفكارنا أن يصدر مثل هذا عن مسيلمة، فالمعارضة الأولى يلاحظ فيها الاستقصاء الذي لا يعرفه إلا أهل الصناعة من محترفي الكتابة، أما العربي الأول فما أظن أنه يبلغ به التتبع والاستقصاء إلى حد أن يبتدأ ببذر الزرع وينتهي بلقم الثريد، وما بقي عليه بعد ذلك إلا أن يختم عبثه بالخاتمة الطبعية لهذا الترتيب! ولا شك عندي إن هذه المعارضة دليل واضح في ذاتها على إنها من وضع فكه متطرف سخف فأجاد السخف، وليس فيها تقليد للقرآن - كما يقول الرافعي في سبب ضعفها - فإن القرآن لم يكن يسترسل هكذا في معنى واحد حتى يصل به إلى غايته، والمعارضة الثانية فيها تكرار من غير مناسبة، والكلمة الأخيرة أشبه بأن تكون موضع الفكاهة في السورة!!، وأنا لا أدري لماذا يعمد مسيلمة إلى وصف الفيل هذا الوصف الساذج، وهو ليس من الحيوانات المألوفة عند العرب، ولماذا أختار الضفدع وهو حيوان حقير صغير، وهو بعد ليس مما يشغل ذهن العربي؟ ويبدو لي إن الرافعي انساق في تيار الجاحظ فقد جاء في كتابه الحيوان عند الكلام عن الضفدع قوله: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها، حتى جعل بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين. . . إلخ ولكني أظن إن الجاحظ لم يقصد غير السخرية، وإنه يعلم إن ذلك من موضوعات الظرفاء فجاراهم، فأنا إذا وضعنا هذا القول بجانب قوله الذي نقلناه آنفاً خلصنا بهذه النتيجة.
من يطالع كتب الدب يجد أن المتنبئين كانوا مادة دسمة للتظرف، وكم من طرفته ألصقت بهم، وما كان يصح أن يتركوا مسيلمة دون أن يتفكهوا به، وهو أشهر متنبئ، ولعل من ذلك ما حدثوا إنه أمهر سجاح النميمة حين تزوجها بإسقاط صلاتين من الصلوات التي جاء بها محمد، كأن مسيلمة كان يؤدي هو وأتباعه وأتباع زوجته النبية الصلوات الخمس، ويتعبد شريعة الإسلام!.
ولذلك نجد المتطرفين والمتهكمين ينسبون القصة الواحدة في بعض الأحايين إلى أكثر من واحد، فهم لا يعنيهم إلا الحكاية، أما عمن صدرت فذلك أمر ثانوي.
ذلك رأيي في هذه المعارضات، وما كنت أحب أن تساق سوق القضايا المقطوع بها، سواء كانت في كتاب أو في مجلة، ولا سيما إذا جاء في جو البحث العلمي لأن ذلك يوقع في الأذهان إن ذلك أمراً قد اتفق على ثبوته، وليس حوله شبهة ولا عليه اعتراض.(756/20)
علي العماري
مبعوث الأزهر بالمعهد العلمي بأم درمان(756/21)
الكأس والغواص
للشاعر الكبير (جيتة الألماني)
بقلم الأديب عبد الموجود عبد الحافظ
وقف الملك وحوله حاشيته وأفراد شعبه يطلون على البحر من هذا العلو السامق، ونظر الملك وأجال طرفه بين الحضور كأنه يبحث عن شيء ثم قال: (من منكم أيها الفتيان النبلاء والفرسان الشجعان يقدر على الاندفاع في هذا البحر اللجي والهوة السحيقة؟ لقد رميت قدحاً من ذهب فابتلعته المياه في جوفها، فمن آنس قدرة في نفسه وحصل عليه فليحفظه فهو منحة له).
فما أتى الملك على آخر كلمته حتى ألقى من عالي الصخور المنحدرة المشرفة على البحر الهائج واللجج الهائلة، قدحاً من عسجد في قاع البحر وكرر قوله (من منكم يأنس في نفسه الإقدام على غوص هذه الأعماق؟)
واستولى على الحضور سكون رهيب كأنه صمت القبور، وما هي إلا هنيهة قصيرة حتى هب شاب من بين الجمع الحاشد تظهر فيه آثار الترف والنعم وقد جمع بين اللطف والإقدام، والحسن والجرأة، فتقدم في ثبات وعزم وحل منطقته وخلع رداءه وتجرد من كل شيء؛ فدهش القوم وبغت الرجال والنساء وأزداد عجب الفتيات وأعجبوا جميعاً به أيما إعجاب. وقف الشاب على حافة الهاوية يتأمل هذا الهوى البعيد، فسمع اللجج في أغوارها تقصف كأنها الرعد.
زمجر الموج وأرغى البحر وأزبد وغلى غليان الماء في المرجل وأرتفع الرزاز حتى صافح الوجوه، وتبعت الموجة موجة واللجة لجة، وكأن قوة هذا الجبار المهلك تتجدد ولا تنفد.
ثم سكن هذا الطغيان الجارف وخفت وطأة الموج المنحدر ولمح الناس وسط الزبد الأبيض فوهة سوداء لا قرار لها فاغرة فاها كالجحيم لا تلبث أن تزدرد كل ما يهوى فيها من الموج الصاخب.
وأعتمد الشاب على ربه وطلب منه العناية. . . وألقى بنفسه في هذه الفوهة المفتوحة، وسمع وهو يهوي صياح الفزع والرعب وغاب هذا الغواص الجريء وانطلق عليه فم(756/22)
الوحش الكاسر.
صمت كل شيء وأصبح القوم كأن على رؤوسهم الطير، ولكن الأنواء ما فتئت تدوي في ظلمات الأغوار، وطفق القوم يقولون والأسى يقطر من نفوسهم والدمع يسيل من عيونهم: (الوداع الوداع أيها العزيز) وما برح هريم الهاوية يهبط رويداً رويدا حتى هلعت القلوب وحارت العقول وأمسك القوم أنفاسهم من شدة الهلع.
ثم قال أحد الحاضرين (والله لئن رميت تاجك في هذا الغور الهائل، وقلت: الملك لمن يرده ما سولت لي نفسي التطلع إليه).
(وكم من فلك اختطفته هذه الأغوار ولم ينتج منها إلا حطاماً وساريات ودفن باقيها في بطون الرموس. .) وعلت زمجرة اللجج بغتة فغطت على بقية القول وهاجت عاصفة الموج وعلا كالطود وهجم على الشاطئ كأنه وحش مفترس فخيل للحضور أنه يريد أن يتفهم كما أبتلع قبل ثوان ذلك الشاب الجميل فخافوا وفزعوا.
وعلى غرة من القوم ندت صرخة فرح من أحدهم فقد شاهد بين صخب الموج وتلاطمه القوي العنيف ذراعاً وعنفاً مسدلاً عليهما شعر أصفر صفرة الذهب. وما هي غلا لحظات حتى طفا الشاب يسبح بقوة وجبروت على سطح الماء يحمل في إحدى يديه الكأس الذهبية والبشر باد على محياه فزاده نوراً على نور.
وعلا صياح الناس فرحين مستبشرين بنجاته من الغرق وقد تغلب على قوة هذا الجبار واقتحم مناطق الخطر وخرج منها سالماً مظفراً.
وتقدم الفتى في زهو وخيلاء والتفت حوله الناس معجبين مهللين حتى بلغ مكان الملك فركع عند قدميه ومد يده بالكأس الذهبية يشع منها النور، فأشار الملك إلى ابنته المحبوبة أن تأخذ الكأس ونملأها من رحيق فاخر وتقدمها للشاب الباسل، وصاح الفتى يقول:
(أعمر الله سيدي ومولاي الملك؛ إن من نعم الله على البشر أن أسعدهم باستنشاق هذا الهواء النقي؟ وإن هذه الهاوية لترتجف منها القلوب وترتاع منها النفوس لما فيها من أهوال وظلمات)
(لقد هويت إلى البحر في سرعة خاطفة فقذفتني موجة جبارة فألقت بي إلى صخرة أشد منها بأساً وقوة فلم أقو على الثبات أمامها وأعاني ربي الذي توكلت عليه واستعنت به(756/23)
عندما عندما رأيت الهول محدقاً بي فرأيت نتوء في الصخرة فعلقت به فنجوت من الموت. . وعلى قرب مني شاهدت الكأس معلقة في شعبة من شعب المرجان فلم تهو إلى القاع السحيق).
وهالني ما أبصرته من أعماق لا قرار لها فخارت قواي وارتعدت فرائصي، وزادني هولاً ما شاهدته من وحوش البحر وحيتانه، وزادني هولاً أن أسمع صوتاً آدمياً، وكنت أنظر إلى ما أنا فيه وأفكر في مصيري، ولكني تشجعت وسبحت حتى تناولت الكأس وقذفتني موجة إلى سطح البحر فلم أصدق أني نجوت.
فأثار كلامه إعجاب الملك وقال له هذه الكأس هبة لك وإني أهبك خاتماً مرصعاً بأغلى الجواهر، فجرب حظك في النزول مرة أخرى لتحدثني بما تشاهد من عجائب.
فنظرت إليه ابنة الملك وظهر على وجهها عاطفة الحنان والشفقة وتوسلت إلى أبيها قائلة في لهجة تشع بالحنان والعطف.
أعدل أبت عن هذه المخاطرة القاسية فقد أقدم هذا الشاب الشجاع على ما لم يجد أحد في نفسه القدرة على الإقدام عليه وعاد من أهوال لم يكتب لأحد منها النجاة قبله. فرحمة بشبابه يا أبت.
ولم تتم كلامها حتى ألقى الملك بالكأس وقال: أيها الفتى الشجاع، إن أحضرت لي الكأس جعلتك من خاصة حاشيتي وزوجتك بمن توسلت ' لي من أجلك.
فوجد فتانا في نفسه قوة خارقة عندما نظر إلى ابنة الملك فرأى وجهها وقد تورد حمرة، وعيناها تنظران إليه يشع منهما النور والخوف معاً على هذا الشاب المقدام.
فعول على أن ينال هذه المنحة العظيمة وينال هذه الفتاة التي أحبته وأحبها لأول مرة فألقى بنفسه من شاهق إلى أفواه الموت مرة أخرى
وأنصت القوم لزمجرة الموج ورعده وقد ملك الهلع قلوبهم وارتعدت فرائصهم من الهول، والموج يرتفع ويهبط ويرغى ويزبد ويثور ويزمجر ولكن هيهات أن يعود بالغواص مرة أخرى إلى الحياة.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ(756/24)
من وراء المنظار
في حجرة صاحب ديوان. . .!
استأذنت فسرعان ما أذن لي بالدخول عليه، ولقيني بترحاب وبشاشة يعرفهما فيه كل من دخل حجرته، وقل في أصحاب الديوان من كان له مثل أريحيته ونبله على رفعة منصبه وسمعة نفوذه، فإن أكثرهم وا أسفاه لتسفل نفوسهم بارتفاع مناصبهم، وإنهم ليتأبهون على الناس ويتكرهون لهم حتى لكأنهم يحيون ويموتون. . وليس لهم في الواقع من الأمر شيء. . .
وإنه لينزلني منه منزلة الصديق وأنا تلميذه، ويرفع مكانتي عنده، ويحب منظاري ولا يفتأ يحدثنني عنه.
ومن أعظم ما حببه لي على كثرة ما أحببت من صفاته، أنه يستمع في أناة عجيبة إلى كل شاك لا يتبرم ولا يقاطع ولا ينفذ صبره، ثم يقول ما له ومل عليه، لا يلتوي ولا يغالط ولا يتحفظ. .
كان على مقعد قريب من مكتبه وكيله في العمل، وهو يكبر رئيسه فيما أعلم بنحو سبعة أعوام ويسبقه في التخرج بمثل هذه السنوات، ولم يخف على منظاري أن بنفسه من ذلك شيئاً بل أشياء. .
واستبقاني الرئيس بعد أن أفضيت إليه بما جئت من أجله؛ ودخل شاب بعد أن أذن له فسلم وظل واقفاً، وقرأت في وجهه أنه يكتم غضبه؛ وأذن لقادم آخر فدخل وهو كهل في أول الكهولة فيما قدرت، وأشار إليه الرئيس فجلس على مقعد ينتظر دوره في الكلام. . . . ولمحت كذلك في وجهه إنه يمتلئ حفيظة وغضباً. .
وقال الرئيس للشاب: أظن أنه ينبغي أن تسافر فإن فلاناً بك مصر على ألا يقبلك بعد اليوم عنده؛ ومشت في هيكل الشاب رعدةً وقال في عبارة مضطربة وفي لهجة تصور مرارة نفسه. معنى ذلك إن الموظف بهيم لا إرادة ولا رأي ولا كرامة له؟ لم لا يفهم فلان بك إنه أخطأ حتى لا يعود ثانية إلى الخطأ، وإلا فما وجه خطأي أنا كي لا أقع فيه من بعد؟. . ينبغي إذن أن أصانع كل رئيس على حساب الحق والكرامة والصالح العام. . لا. لا. . هذا كثير. .(756/26)
وظلت في وجه الرئيس بشاشته على الرغم مما كان يرتسم على محياه من علامات الألم لما يقول الشاب، وقبل أن يتكلم الرئيس، أنطلق ذلك الكهل الذي كان ينتظر دوره. وقد نهض كالخطيب فقال يخاطب الشاب: اسمح لي أن أنصح لك نصيحة مجرب: طلق الكرامة والذمة والحق والأمانة ما دمت قبلت الوظيفة كرامة؟ رأي؟ إرادة؟ إنك يا بني تحلم. أنت في مصر. إنك تكلف نفسك رهقاً شديداً إذ تمسكت منذ الآن برأيك وحكمت ضميرك وأرضيت خلقك. . أنت يا بني عبد. . لا تغضب فأنا عبد مثلك. . وكل موظف عبد من أكبر كبير إلى أصغر صغير وإنما يستعبد بعضنا بعضاً. . . كرامة؟ رأي! ضمير؟. . . أنت فين؟. . . المسألة أكل عيش بأي شكل، وكل واحد لا يهمه إلا نفسه. . الصالح العام؟ أين هو. . . أحنا فين؟. . . داحنا في مصر. . .
وظل صاحب الديوان على هدوءه وبشاشته، وجلس الخطيب الكهل بعد كلام طويل من هذا القبيل؛ وأخرج الشاب ورقة من جيبه فدفعها إلى الرئيس فإذا هي استقالته؛ وراجعه الرئيس متلطفاً ثم استمهله يومين لينظر في الأمر؛ وخرج الشاب، وألتفت إلى الكهل فإذا قضيته هي قضية ذلك الشاب ولكنه كما قال لا يستقيل لأن له بنين وبنات ينفق على تعليمهم وليس يملك غير مرتبه. . ووعد الرئيس كذلك أن ينظر في أمره من أجل أولاده فأنصرف وهو يقول حسبي الله. . .
ونظر إلى الرئيس وقال باسماً: كأني أراك تكتب منظارك؛ وما كاد يلتفت حتى طلب الأذن مستأذن فأدخل، فإذا بشاب في نحو الخامسة والثلاثين دمث مهذب فيما يبدو، في وجهه من الهم والكدرة أكثر مما فيه من غضب، وسلم وقال، أنا فلان، وسرد تاريخ حياته، ثم ذكر إن فلاناً من فرقته رقي وهو ثاني الفرقة، وإنه هو لم يرق وهو الأول، ويحب أن يعلم لم تخطاه الثاني، فإن كانت له عيوب فمما يشفي نفسه أن يعرفها، أما أن يقال لك إنك ممتاز وأما أن يثني عليه رؤساؤه جميعاً ثم يترك ويرقى من هو دونه فذلك ما لا يستطيع أن يستسيغه ولا أن يحمل على قبوله عقله، وهو ما لا تطيقه كرامته.
وعند ذلك أنطلق الوكيل الذي ظل صامتاً منذ أن دخلت، فأخذ دور ذلك الكهل الخطيب، وقال في اتزان ولكن في كثير من التحمس اسمع يا أستاذ ألا زلت من السذاجة. . . لا تؤاخذني. . . ألا زلت من الطيبة بحيث تفهم أن الأمر أمر كفاية واستحقاق. . . ابحث(756/27)
تجد صاحبك تزوج حديثاً فترقى أو جرى في ركاب عظيم فنال الأجر أو هو قريب فلان باشا أو علان بك، أو غير ذلك مما أستحي أن أذكره، فإن استطعت أن تفعل مثله أو يكون لك مثل ظروفه فستظفر بالرقي وإلا فستبقى حيث أنت إلى أن يشاء الله. أنت في مصر على رأي صاحبنا الذي خرج. . . أنت في مصر يا بني. . . أنظر فهاأنذا بيني وبين الستين أربعة أعوام وقد تخطاني من لا أحسبهم جاهدوا في الحياة جهادي وخدموا البلد خدمتي. . . ثم ضحك ضحكة مرة ونظرت فإذا في وجه الرئيس شيء من الحرج وفي عينيه ما لا يخفى معناه من اختلاج، وفطن الوكيل فتدارك الأمر قائلاً. . . لا مؤاخذة يا بك فأنت ذو فضل وما عنيتك بما أقول. . . معاذ الله، ثم ضحك ضحكة أخرى لم أدر أقصد بها التبسط أم قصد إظهار ما في نفسه من غضاضة.
وقال الرئيس لهذا الأستاذ: اترك لي مذكرة وسأنظر في أمرك، وقال الأستاذ وهو يهم بالانصراف إني سأقبل على عملي غير متأثراً بشيء وإن كان الألم ملء نفسي ولكني أخشى أن يأتي الوقت الذي أصبح فيه كالحصان تدفعه العربة إن لم يجرها. . . وضحك الوكيل قائلاً. . . لست أول عبيط ولن تكون الأخير. . . أتظن أن في الرؤساء واحداً يعنى بأن يفكر في هذا؟ حسبه التفكير في نفسه.
ونظر الرئيس إلي ضاحكاً وقال. وأنت ما شكواك؛ فقلت إني أستكبر أن أشكو. . . هل تكتب هذا الذي رأيت وسمعت؟ قلت لست أصبر إلا بجهد حتى أكتبه.
وقال الوكيل ما جدوى كتابتك؟ يظهر إنك عبيط آخر. . . لا تؤاخذني. . . أكتب ما شئت إنك لا تسمع من في القبور. . . أتحسب هذه أموراً مجهولة تكشف عنها بما تكتب فتنبه ذا غفلة؟ كلا إن ذلك كله معلوم، وقد شاع الفساد حتى شمل الدولاب كله فماذا تقول؟ وماذا تريد بكتابك. . . أأنت صاحب معجزة؟ والله لو جاءتك معجزة ما استطعت أن تغير ما نحن فيه. . . يا شيخ الله يفتح عليك. . أنت في مصر. . ها. . ها. . ها. . غير الجيل كله وابدأ من جديد.
وتنهد الرئيس وقال لا أخفي عنكما وأحدكما زميلي والآخر تلميذي أني كرهت العمل و ' ني أتمنى لو استطعت أن أفعل فعل ذلك الشاب الذي دفع إلى استقالته. . . أتدرون ماذا يقول؟ يقول إنه يريد أن يهاجر إلى الأرجنتين لينسى أنه مصري!. إني أريد أن أعمل شيئاً(756/28)
فلا أستطيع.
لقد فسد الدولاب من فوق فنزل الفساد إلى كل جزء. . . هاأنذا ما أسمع الشكايات طول يومي ثم أرفع الأمر إلي من هم فوقي فلا أظفر بشيء. وأحمل الأوراق المكدسة إلى منزلي فأسهر الليل في تصريفها وعملي لا يعدو أن يكون في الغالب تنفيذ ما أومر به.
الخفيف
من الشعر السياسي:
تبعات الجلاء
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أطلتم عليه في الظلام شجونه ... وفرحتمو في الكهف نوماً جفونه
فلا تحسبوها رقدة الفجر من بعض دينه ... أعد لهذا الفجر يوماً عيونه
أليس آذان الفجر من بعض دينه ... فكيف غفلتم أن يلبى دينه؟
هو الصبح نادى بالجلاء مبشراً ... وقد أسمع الدنيا أما تسمعونه؟
دفعتم به نحو الرقاد. . . وإنما ... إلى المجد كنتم والعلا تدفعونه
تريدونه أن لا يكون كأمسه ... ويأبى عليه المجد أن لا يكونه
مضى لا تصد الكارثات سبيله ... ولا تستريب الحادثات يقينه
هو الحر لا تلوى العوارض قصده ... ولو تقف الدنيا العريضة دونه
فككتم عن الليث الهصور وثاقه ... وكنتم على الليث اقتحمتم عرينه
وحجتكم فيما مضى صون عرشه ... فمن هو أولى منكما أن يصونه
إذا الليث لم يمنع ذمار عرينه ... فأن الذئاب الطٌّلس لا يمنعونه
إذا ما أعان المرء في الأمر نفسه ... فما يمنع الأقدار من أن تعينه؟
ومن مد للدنيا يمين مكافح ... يمد له الله القوي يمينه
ظننا الجلاء الحلو مراً مذاقه ... وما الأمر ألا حيثما تجعلونه
ومن أعظم الأمر الجليل تهيباً ... فأحزم شيء بعدها أن يهينه
إذا استصعب الأمر الفتى في ابتدائه ... فأحرى به من بعد أن يستهينه(756/29)
بني مصر حملتم أمانة أمة ... وما العبء إلا كل ما تحملونه
فما الفوز بالشيء الذي تأخذونه ... ولكنه الشيء الذي تبذلونه
حملتم من الماضي الصعاب كثيرة ... فهيا احملوا صعب الزمان ولينه
وما ذلك الثوب الذي تخلعونه ... بأيسر من هذا الذي تلبسونه
فما تبعات المجد أحلام حالم ... ولا هي بالتمر الذي تأكلونه
ومن يضمن استقلال مصر بأسرها ... إذا لم يجد في كل نفس ضمينه؟
فلا تحسبوا ثوب الجلاء تزيننا ... بشيء إذا لم نستطع أن نزينه
بني مصر!! غايات الحياة كثيرة ... فلا تهنوا في موقف تفقدونه
ولا تحمدوا عيد الجلاء. . وإنما ... أعدٌّوا غداة العيد ما تحمدونه
عليكم ديون للبلاد كثيرة ... رعى الله من وافى فوفَّى ديونه
فلا تجعلوا لحن الخلود قوافياً ... تنمِّق أبكار الكلام وعُونه
فليس نشيد الخلد ما تنظمونه ... ولكن نشيد الخلد ما تصنعونه
ليلة عيد الميلاد
للأستاذ زهير ميرزا
حدقي أيتها الأرض، فقد عم البلاء
وانظري الأشلاء تطاير يذروها الفضاء
وأنصتي! فالكون أضحى محشراً فيه الجزاء
كل نفس أيقنت أن طال في الدنيا الثواء
والشباب اليافع البكر يواريه الفناء
ناشئ روعه الخطب وأصماه الشقاء
لم يذق من كوبة الدنيا سوى ما فيه داء
قدَّمته راحةُ الشيطان يحدوه الرجاء
وأقام اليوم أعراساً له فيها احتفاء
بعثت من فوهة المدفع نار وضياء(756/30)
والأهازيج رعود وعويل. . . لا غناء
رقص الناس بها هولاً وذعراً كيف شاءوا
وتغنى عازف البارود والدمع سخاء
هكذا الأعراس في العالم يزجيها الفناء
ليلة الميلاد! أعيا منطقي الداء العياء
والتوى القولُ المبين اليوم إذ حم القضاء
لم يعد يُمشى بمجنوز. . . ففي ذاك الرخاء
حيث يقضى المرء يلقى قبره. فيه الثواء
كفن في السلم من خز، وفي الحرب دماء
يدفن الآباء أبناء لهم فيهم رجاء
ويوارون على - البعد - حشاشات أضاءوا
دمعة الشيخ جنون فاستعار فانطفاء
كم شرايين من العندم قدَّ الأبرياء
كي يروى منه أفراد من السلم ظماء
قذفوا بالفوج تلو الفوج هوجاً كيف شاءوا
فأحلوا الأرض أنهاراً بها العندم ماء
سخروا (المريخ) فانقاد. وتغريه الدماء
وهو الشرير في أعطافه دوماً ظماء
فإذا الأبحار والأرضون والجو سواء
كلها مذبح جزار له الإنسان شاء
كلما ضحى بفوج؛ سيق للموت الذماء
هكذا سكينه مخضوبة فيها اشتهاء
كلما قيل انتهينا. راعها ذا الانتهاء
ليلة الميلاد! إن الحرب شر وبلاء
لم نقل فيها ولكن طال في اللين الثواء(756/31)
حسب الظالم أن الشبل يغريه الرياء
لم يعد في القوس صبر. . . أرهقتنا الثوباء
زمجري أيتها الريح. . . فلي منك ارتواء
وابعثي العنف بأوصالي ليحييها الرجاء
واعصفي في رأسي البكر كما شئت وشاءوا
وانفضي عن كاهل العزة ما أبقى البلاء
وابعثيها وثبة الحر على من قد أساءوا
عذبتني رقدة الغافي يغذيها ارتخاء
والزمان الطفل يطوينا كما يطوى المساء
نؤت بالأمس أداريه وفي النفس شقاء
واحتملت الإثم في جنبي. أنا منه براء
عجز الطب. . . فلم يبق لنا إلا الفداء
الأبي الحر لا يشرى كما تشرى الإماء
نحن إما لغد نحيا. . . وإما فالفناء
مصر في أحزانها غرقى. أما منها نجباء
أرهق المستعمر الجبس جناحيها يشاء
وطني حتى تنزى من أذاه الطلقاء
ظامئ لم يروه بالأمس (نيل) ودماء
شرب العندم في الكأس. . . فغص الأبرياء
إن من في لثتيه الترب لا يرويه ماء
ليلة الميلاد! هل عدت ببرديك الرجاء
هل يثير العام أن قد عاد للوادي الصفاء
وينار القلب بعد العين. . . أم يقضى الغلاء
ويشير الخير أنت الآن أم سر خفاء
أم ترى نمضي كما كنا وكان القدماء(756/32)
وتوارى العام مثل العام. . . يؤذينا التجاء؟
أنت غيب! - مثلما كنت وتبقين. . . - وداء!
أسفي فالدمعة الحمراء يدعوها الوفاء
إنما يبكي بدمع المقلتين الشهداء
قد غفوا للحشر. . . والجزار يقظان يشاء
حسرتي حسرة من مثله يرجى العزاء
نحن صوت الحق والتاريخ. . . نحن الشعراء
ظمآن. . .
(القلب مصر. . وأنت. أنت سودان)
للشاعر محمد قوره
ظمآن. . والقلب في جنبي ظمآن ... وأنت نبع وجنات وشطآن
ظمآن. والري في عينيك مؤتلق ... ظمآن. . والسحر في جفنيك ربان
ظمآن. يا زهرتي. والكأس مترعة ... وأنت خمر الهوى. والحسن ندمان
ظمآن. لا لوعتي تهدأ على كبدي ... وكم يسعِّرها في الحب حرمان
ظمآن. هل قبلة عذراء من شفة ... ما مسها في الهوى من قبل إنسان
لا أحتسي كأسها - يوماً - مشعشعة ... ولا يعاقرها - في الحب - صديان
تذكري. موعداً - بالشط - جمعنا ... والروح خفاقة. والقلب جذلان
وصوتك العذب ألحان مولهة ... لها بروحي أهازيج وإرنان
كأن كل حصاة في الثرى صدحت ... والموج قيثارة. والرمل ألحان
وكل عين رنت - بالشط - حاسدة ... وكل صب - على الكثبان - غيران
الكون!!. ما الكون!؟ والدنيا وبهجتها ... إذا التقينا وفي القلبين تحنان(756/33)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
946 - فهذا عزم لا يفله إلا الله
لما بلغ قتيبة حد الصين قيل له: قد أوغلت في بلاد الترك والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر. فقال: بثقتي بنصر الله توغلت، وإذا انقضت المدة لم تدفع العدة، فقال الرجل: اسلك حيث شئت فهذا عزم لا يفله إلا الله.
لي مدة لابدَّ أبلغها ... معلومة فإذا انقضت مٌت
لو ساورَتني الأٌسد ضاربَةً ... لَغلبتها ما لمْ يَجِ الوَقتُ
947 - كثرت السواد وحفظت المتاع
خرج سعيد بن المسيب إلى (الجهاد) وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفدنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكنى الحرب كثرت السواد، وحفظت المتاع.
948 - وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم
الحسبة في الإسلام لأبن تيمية: العاجز عن الجهاد بماله، ومن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن.
949 - وأخرج عشرة بدلاً عن نفسه
تاريخ بغداد للخطيب: قال الحافظ النيسابوري: لما وقع الاستنفار لطرطوس دخلت على (أحمد حسنيك) وهو يبكي ويقول: قد دخل الطاغي ثغر المسلمين طرسوس، وليس في الخزانة ذهب ولا فضة، ثم باع ضيعتين نفيستين من أجل ضياعه بخمسين ألف درهم، وأخرج عشرة من الغزاة المتطوعة الأجلاد بدلاً عن نفسه.
950 - البدايات عنوان النهايات
نفح الطيب: قال الجاحظ القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن عند تفسير قولة تعالى (انفروا خفافاً وثقالا) ما صورته (ولقد نزل بنا العدو وقصمه الله تعالى) سنة سبع(756/34)
وعشرين وخمس مائة فجاس ديارنا، وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدد الناس عدده فكان كثيراً، وإن لم يبلغ ما حدده. فقلت للوالي والولي عليه، هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط بهم فإنه هالك لا محالة. وإن يسركم الله له فغلبت الذنوب، ورجفت بالمآسي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره - فأنا لله وأنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل!!!)
ولا خفاء أن هذا كان قبل أخذ العدو الجزيرة وشرق الأندلس وسرقسطة وسيورقة وغيرها، والبدايات عنوان النهايات.
951 - ليس المروءة أن تبيت منعماً
أبو دلف:
ليس المروءة أن تبيت منعماً ... وتظل مٌعتكفاً على الأقداح
ما للرجال وللتنعم إنما ... خلقوا ليوم كريهة وكفاح
952 - فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
الحصين المري:
ولست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
953 - أو عاش منتصفا
العبسي:
من عاد بالسيف لاقى فرصة عجباً ... موتاً على عجل أو عاش منتصفاً
954 - خير من الدنيا وما فيها
جامع محمد بن إسماعيل البخاري: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
جامع مسلم بن الحجاج:(756/35)
قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟
قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله.
955 - . . . فاقتلوه بالسيف كائناً من كان
جامع مسلم بن الحجاج:
ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاقتلوه بالسيف كائناً من كان. . .
956 - آيات
(يا أيها الذين آمنوا، هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
(انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم لو كنتم تعلمون).
(وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا؛ إن الله مع الصابرين).
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات).
الله أكبر!
أين العرب، أين العرب، أين المسلمون؟ أين كماة وفداة مؤمنون؟ أين المجاهدون؟ أين أباة الضيم، أين أبطال الجهاد. .؟(756/36)
الأدب والفن في أسبوع
الأدب المقارن:
ألقى الدكتور طه حسين بك محاضرة في نادي الخريجين المصري يوم الجمعة، عنوانها (الأدب المقارن وأثره في التقريب بين الأمم) بدأها بتصويب كلمة (مقارن) رداً على من يخطئونها فقال: إن القرن في اللغة الحبل الذي يقرن به بين بعيرين، فما الذي يمنع أن يقرن بين شاعرين أو فكرتين لنرى ما بينهما من أوجه الشبه والاختلاف؟ بل إن (المقارنة) أدق من (الموازنة) التي يدعون إلى استعمالها، لأن الموازنة تقتضي تفضيل شيء على شيء، وليس في المقارنة تفضيل.
ثم قال: إن الأدب المقارن ليس حديثاً كما يقولونه، لأن الناس منذ عصور قديمة قاسوا بعض الآداب إلى بعض، كما فعل هيروديت، إذ تحدث عن تأثر اليونانيين بعض الآداب المصرية القديمة، وكما فعل العرب في صدر العصر العباسي، إذ ترجموا الآداب، وتحدثوا عن التراث الفني للأمم التي نقلوا عنها. أما في العصر الحديث، فقد تعمق المحدثون النظريات القديمة في المقارنة بين الآداب، ووضعوا لها أصولاً وقواعد، حتى تكون فن الأدب المقارن الذي يرجع البعض نشأته إلى أوائل القرن الماضي، ويقول آخرون إنه نشأ في أواسط القرن الماضي، ويقول غيرهم إنه حديث جداً، فعهده أوائل هذا القرن.
وتحدث بعد ذلك عن تأثر أدب الرومان بأدب اليونان وأثره فيه، وعما نشأ من التفاعل بين الأدبين من ظهور ألوان في الأدب العربي بعد الإسلام يختلف عما كان قبله، فقد فتح العرب الأمم المجاورة لهم واتصلوا بها وهي ذات حضارة قديمة، فأثروا بها، وتغيرت حياتهم، وتمتعوا بالترف المادي والترف المعنوي، فلم يكتفوا بسكن الدور والقصور، بل استحدثوا ألواناً من الفن لم يكن لهم بها عهد. فشعراء الحجاز مثلاً رأوا أنفسهم أمام فنون وافدة عليهم من الفرس والروم وغيرهم، هي فنون الغناء والموسيقى والرقص، فكان لها في نفوسهم أبلغ الآثار، فيرعوا في الغزل واللهو على نحو لم يكن في الجاهلية، وحدث هذا في الحجاز وبه الأماكن المقدسة، فما بالك بالعراق وخاصة بغداد في عصر العباسيين الذي امتاز بالدراسات الثقافية والفلسفية، فلم يكتف الشعراء بملكاتهم، بل اخذوا بهذه الدراسات وانتفعوا بنتائجها وأفكارها واستعملوا مصطلحاتها في أشعارهم. وكذلك شأن العرب(756/37)
بالأندلس، بل هم أكثر إمعاناً في هذا السبيل لمتاخمتهم ومعاشرتهم للأوربيين الذين تأثروا هم أيضاً بالآداب العربية الأندلسية. وقال إن الأمة الفارسية بعدما استعادت لغتها القديمة ظلت تتابع الثقافات والآداب العربية وتتأثر بها.
ثم انتقل إلى أوربا في عهد النهضة، فبين كيف ازدهرت الآداب والفنون بإيطاليا في القرن السادس عشر، وأخذت أوربا الشمالية عنها هذه الآداب والفنون، قم ما كان بعد ذلك من تطلع الفرنسيين إلى الأدب الإنجليزي وانشغالهم به.
ساق الدكتور طه كل ذلك ليصل منه إلى ما يحدثه تبادل الآداب والفنون بين الأمم من التقريب والتأليف، وأن ذلك حري أن يصد تيار الجنون الذي يعتري الأمم في فترات مختلفة، ثم ليصل أخيراً إلى ما ينبغي أن نفعله الآن، فقال إننا أخذنا بالحضارة الحديثة في حياتنا المادية، فلم نعد نركب الحمر وننتقل بالإبل، ولكننا لم نتقدم في أدبنا عن ذلك، فلا زلنا نكتفي بما عندنا، ونزهد في آداب غيرنا، ونعتمد في مترجماتنا إلى ما يقصد به اللهو والتسلية، فيجب أن نقبل على الآداب الأجنبية، نتفهمها، ونأخذ عنها، ونحاكيها، ثم نبتكر بعد الاستفادة منها، ليكون لنا أدب يؤخذ عنا كما نأخذ عن غيرنا.
تعقيب:
الذي نعرفه أن الأدب المقارن هو الدراسة التي تقوم على المقارنة بين أدب وأدب للبحث عما يتشابهان وما يختلفان فيه من الخصائص والموضوعات وما إلى ذلك. وقد كان حديث الدكتور طه في هذا في أول المحاضرة عندما قال إن القدماء كان لهم نظرات في قياس بعض الآداب إلى بعض، وإن المحدثين تعمقوا تلك النظرات ووسعوا ونظموا الدراسات للمقارن بين الآداب. ولكن حديثه بعد ذلك - وهو معظم المحاضرة وموضوعها - كان في شيء آخر - على ما نفهم - هو انتقال الآداب من أمة إلى أخرى وتأثير أدب في آخر، وأثر هذا في التقريب بين الأمم؛ وقد دعا في ختام محاضرته إلى أن لا نكتفي بأدبنا وإلى أن نأخذ من آداب غيرنا، فهل الأخذ من الآداب الأجنبية يسمى أدباً مقارناً؟ هذا وقد فجعنا الدكتور طه في أدبنا العصري الذي تكون من إنتاجه وإنتاج غيره ممن سائر أساتذتنا أدباء الجيل، فهم منذ عشرات السنين يطلبون الآداب الأجنبية ويتفهمونها ويترجمونها ويحاكونها، ونزعم إنهم ابتكروا بعد الاستفادة منها، وإذا الدكتور طه حسين يقول إننا مكتفون بما عندنا(756/38)
وزاهدون في آداب غيرنا. . . بل يقول أنا واقفون في حياتنا الأدبية عند ما يقابل ركوب الإبل والحمر في حياتنا المادية! ففيم كان ما كان؟. . .
ومن ظريف المفارقات إنه يقول ذلك في نادي خريجي القسم الإنجليزي في كلية الآداب الذين يوجهون جهودهم الأدبية كلها إلى دراسة الأدب الإنجليزي وإذاعته بالإذاعة المصرية التي توليه من عنايتها ما لا يظفر به أدبنا!
الصفحات المزوقة
كانت صحفنا اليومية قبل الحرب تخصص كل منها صفحة من صفحاتها للآداب والثقافة العامة، وكانت تلك الصفحات تقدم للقراء زاداً فكرياً من ثمار الأقلام الناضجة، ثم كانت الحرب وكانت أزمة الورق واختفت تلك الصفحات. ولما فكت قيود تحديد الصفحات بعد الحرب عمد كثير من صحفنا إلى تخصيص بعض صفحاتها ل. . لأي شيء؟ لست أدري اسم الذي تنشره هذه الصفحات المزوقة المزركشة، فشيء أحمر، وشيء أخضر، وشيء أصفر. . . وكثير ما ترى في وسط هذا صورة فتاة في وضع مثير. . . وأختار لكل ذلك عناوين لا يتوخى في وضعها أن تدل على الموضوع، بل توضع على نحو يلفت الأنظار ولو لم يكن ذاع في الموضوع أهمية. . .
كنت وما زلت أنظر إلى هذه الصفحات وأقف عندها، أني مبتلي بأمرين. الأول تتبع ما يكتب شبيهاً بالآداب والفنون، الثاني الميل إلى تأمل معارض المحال التجارية (الفاترينات) رغم ما يفزعني من غلاء سلعها في هذه الأيام مما يحملني على الاكتفاء بالتأمل والمضي في طريقي. . . وكذلك حالي مع تلك الصفحات، إلا إن الذي يصدني هنا ويحملني على المضي هو رخص محتوياتها! ومن الغريب ما رايته مرة لأحد من يكتبون تلك الصفحات الملونة: أبيات، تحت صورة امرأة، يقول فيها فتاة أحلامه. . فهل هي صورة لفتاة يحبها وينشرها على الناس، أو هي صورة امرأة، أية امرأة!
ولم أكن مع كل ذلك مستريح الضمير، فكنت أتهم نفسي بغمط تلك (الآداب) التي قد تكون (رفيعة) ولكنها لا تلائم مزاجي، ولكن خفف عني هذا القلق النفسي الدكتور حسين مؤنس بما كتبه في (البلاغ) تحت العنوان الذي يتخذه لكتابته يوم الأربعاء وهو (ما سمعت وما رأيت وما قرأت) وخص الموضوع الذي نحن بصدده بالكتابة عنه فيما رأى لا فيما قرأ(756/39)
قائلاً إن هذه المقالات ترى ولا تقرأ، وقد ندد بما يصنعه كاتبوها، لأن الواحد منهم كما قال (يلخص لك الكتاب لا يذكر لك شيئاً من هذا الكتاب ولا شيئاً عن مؤلفه. . . وهو يحسن إلى نفسه بهذا الأسلوب الغريب في السطو على كتب الناس. يحسن إلى نفسه لأنه يحول بينك وبين تعرف الأصل وتعرف مقدار الأمانة التي يعرض عليك الكتاب بها، وقد حاولت كثيراًأن أتعرف الأصول فلم أستطع) إلى أن قال: (وأغرب ما عند هؤلاء الشباب إنهم جميعاً مرضى العقول بشيء تستطيع أن تسميه (جنون الجنس) فكل مقالاتهم وفلسفاتهم تدور حول موضوع واحد: المرأة؛ فهم يعرضون عليك قطعاً غرامية ومخاطرات نسائية لا أعرف أين يلتمسونها اللهم إلا إذا كانوا يأذنون لأنفسهم في الاستقاء من صحف خليعة مما لا يطرأ في البلاد الأوربية إلا خفية وفي كثير من الحياء).
ثم جعل الدكتور مؤنس يسائل هؤلاء: لمن يكتبون هذا؟ أللعقلاء وهم لا يرتاحون لمثل هذا الفحش؟ أم للمجانين وهم ليسوا بحاجة إلى من يزيدهم جنوناً؟ ولماذا يكتبونه؟ ألتثقيف الناس بالكلام الفارغ. . . أم للتسلية والارتزاق والشهرة التي خير منها الخمول. .؟
توفيق الحكيم أخيراً
تبلغ - ولاشك - أذني الأستاذ توفيق الحكيم، ما يردد على الأقلام والألسنة من أنه شغل عن الإنتاج الأدبي القيم منذ سنوات بما يكتبه في (أخبار اليوم) من أشياء أقل ما توصف به أنها ليست كسابق إنتاجه، ولا بد أنه يشعر بهذا وإن لم يكن يسمعه؛ ولذلك كتب أخيراً في اليوم مقالاً بعنوان (فتاة بين جبلين) ساق الحديث فيه على لسان شاب وفتاة أديبين كانا في مكتبه، سألت الفتاة وأجابها الشاب، ومن السؤال والجواب نرى أن الأستاذ الحكيم يحاول أن يبرر ما اَل إليه من الركود الأدبي والابتذال الصحفي، بأن الناس يشعر بشعورهم ويدرس أحوالهم ويعرف أنبائهم ويعرض شكاواهم ويدافع عن حقوقهم، فإذا فعل عادوا فقالوا أين العزلة التي يكتب فيها لطائفة من الخاصة.
والمغالطة في هذا الكلام ظاهرة، لأنه لم يكن في البرج العاجي يوم كتب (يوميات نائب في الأرياف) وغيرها مما شعر فيه بشعور الناس ودرس أحوالهم، فلم الحيرة أليس هناك إلا العزلة في البرج وملء الصفحات بكلام لا نبضة للفن فيه. .؟
وأراد أيضاً أن يقول إنه لم يهمل فنه، وما عليه أن يسكت عامين أو ثلاثة أو خمسة أو(756/40)
عشرة يدرس خلالها نفسه من جديد، ويزن تأملاته، ويختزن تجاريبه، ويراقب أحوال الناس وتطورات المجتمع، ويراجع أعماله القديمة، ويبحث عن طرائق للتعبير الفني جديدة، ليصل إلى نوع من الفن لا علاقة له بكل ما عالج من قبل.
ولكن هل هو ساكت. .؟ أو لديه فراغ يدرس فيه ويزن ويختزن ويقارب ويراجع ويبحث؟
لقد أراد توفيق الحكيم أن يطالع آلاف الناس، وقدمته إليهم (أخبار اليوم) الواسعة الانتشار، ولكنه كان (مقلباً) لتوفيق الحكيم. . . فلم يؤد هذا التقديم إلى تأخير. . . أغلى من ثمنه!
وليت شعري، هل الإشارة إلى البحث عن فن جديد، اعتذار أو إرهاص؟ وإذا كان الثاني فكل ما نرجو ألا يكون الجديد من نوع (الحمار) و (صينية البطاطس). . .
اللغة العربية في السوربون
جاء من باريس إن الشيخ أحمد الزموري قاضي الدار البيضاء ألقى محاضرة في قاعة الاحتفالات الكبرى بكلية الحقوق بباريس، عن مصادر للشريعة الإسلامية، وأن هذه أول مرة يتاح فيها لخطيب عربي أن يعتلي منبر (السوربون) ويخطب باللغة العربية والمعروف إن (السوربون) تلقى فيها محاضرات في مختلف الثقافات والآداب ولكنها لا تكون إلا باللغة الفرنسية، وعلى هذا قد خرق الذي جرت علية لأول مرة وباللغة العربية. والاستفهام التعجبي الذي يقوم بنفسي وبنفسك، هو: أبلغ حب أبناء السين للغة أبينا يعرب بن قحطان إلى هذا الحد؟ وهل يرون حقاً إنها اللغة الثانية في العالم الجديرة بأن تأخذ مكانها إلى جانب لغتهم في السوربون؟
ولعلك تذكر - كما أذكر - تلك الصيحة التي انبعثت في العام الماضي من المغرب - بلاد القاضي المحاضر بالشكوى من منع الفرنسيين المحتلين وسائل الثقافة الصادرة في البلاد العربية من كتب وصحف، من الوصول إلى تلك البلاد التي يريدون أن يفرنسوها - نذكر هذا فنعجب لمن يتظاهرون بالتمكين للعربية في باريس وهم الذين يعملون على كتم أنفاسها في مواطنها.
أليس حقيقة الأمر إنها مظاهر استعمارية؟ ستقول ومالو إنه كسب للغة العربية مهما تكن الدواعي إليه؟ ألا تستبشر لأن العربية تزحف؟ فأقول لك: الأمر كذلك، ولكن لابد أن نلقي ضوءاً على مثل هذه الحركات لاستبانة مراميها التي هي غير مظاهرها.(756/41)
مسابقة المجمع الأدبية
كان آخر نوفمير الماضي الماضي النهاية التي حددها مجمع فؤاد الأول للغة العربية، لقبول الموضوعات التي تقدم للحصول على المسابقة الأدبية لسنة 1947 - 1948، وهي في الشعر وفي القصة وفي البحوث الأدبية، كما بينت ذلك في حينه.
وقد رأت لجنة الأدب بالجمع معظم الموضوعات المقدمة، وتوشك أن تفرغ منها، على أن تعلن نتيجة المسابقة وتحتفل بتوزيع الجوائز في أوائل السنة المالية القادمة.
ومما يذكر أنه قدم في الشعر 31 ديواناً أصحابها من مصر والسودان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والحجاز ومن المهجر في الولايات المتحدة والبرازيل، ومنهم ثمانية معروفون. وقدم في القصة 35 فيها قصص تاريخية وأغلبها من الحياة الحاضرة، وأصحابها من مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، منهم سبعة معروفون. وقدم في البحوث الأدبية عدد أقل مما قدم في القصة، وأصحابها كلهم مصريون، فيهم شخصية لامعة.
والملاحظ أن المتقدمين على العموم قليلون، والمصريون على الأخص اقل من المعتاد في مثل هذه المسابقة. وقد حدثني بعض الأدباء الذين دخلوا مسابقة المجمع في السنة الماضية، فعبروا عن ندمهم على دخولها، وأبدوا من هؤلاء معروفة صلاتهم ببعض الأعضاء البارزين في لجنة الأدب بالمجمع.
(العباس)(756/42)
البريد الأدبي
حدث في الفكر الإسلامي:
أخي العباس الفاضل:
لم يسعدني الحظ بأن اقرأ في مجلة الثقافة بحث الأستاذ الجليل معالي
عبد العزيز فهمي باشا في مسألة تعدد الزوجات، ذلك البحث العظيم
الذي عددته أنت (حدثاً في الفكر الإسلامي)، ولكني سمعت بتلخيصك
له وتعليقك عليه في (الرسالة) الغراء.
وقد استرعى انتباهي في هذا الموضوع نقطة واحدة، هي من البحث كله بمنزلة الأساس من البناء؛ تلك هي تفسير الأستاذ الجليل لقول الله تبارك وتعالى (مثنى وثلاث ورباع)، إذ أنه ذهب في هذا التفسير مذهباً لم يسبقه إليه سابق فيما أعتقد، فقد ذكر (أن الكلام في الآيتين (وآتوا اليتامى أموالهم. . . وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) سوق لتحقيق فضيلة العدل في المعاملة) بتحذير الأوصياء من الوقوع في الإثم العظيم بأكل أموال اليتامى ظلماً. . (ولما كان بعض اليتامى إناثاً في حجر المخاطبين، وكان لهن أموال تحت يدهم، وكان من عاداتهم السيئة أنهم يتخذون هؤلاء اليتامى زوجات لهم ويمسكونهن هن وأموالهن ضراراً، وكان هذا أشنع مظهر من مظاهر أكل مال اليتامى - فتعميماً لفكرة تحقيق العدل (في الآية الأولى) وتثبيتاً لها أشار (في الآية الثانية) إلى هذا المنكر، وأنى بأبلغ ما يكون من القول لصرفهم عنه؛ إنه يقول لهم: إذا فهمتم قولي في الآية السابقة، وعلمتم أن أكل مال اليتامى مطلقاً (من ذكور وإناث) إثم كبير، فلا تتذرعوا إلى هذا العبث بنكاح اليتيمات اللاتي في حجوركم، بل تعففوا عن نكاحهن المفضي بكم إلى أكل أموالهن، ولديكم ممن تستطيبوهن من غيرهن من النساء كثيرات، تستطيعون أن تنكحوا منهن ما تشاءون، لا واحدة ولا اثنتين (واحدة بعد أخرى)، ولا ثلاثاً (واحدة بعد الاثنتين الأولين)، بل حتى مثنى وثلاث ورباع، أي جزافاً بلا حساب ولا عدد).
وقد غضضت النظر عن كل ما قاله المفسرون في تفسير هاتين الآيتين، وما استشهدوا به من كلام الرسول الكريم وعمله، وما نقلوه من أقوال الأئمة عن الصحابة والتابعين،(756/43)
ونظرت إلى المعنى مجرداً كما فسره الأستاذ الجليل، فإذا هو يتلخص في أن الله سبحانه وتعالى ينهى الأوصياء من المسلمين عن أكل أموال اليتامى ويحذرهم أن يحتالوا على أكل أموال اليتامى القاصرات بالزواج منهن، ويقول لهم: إن من الخير لكم أن ترعبوا عن هذا الزواج الذي يفضي بكم إلى الإثم العظيم، إلى زواج لا إثم فيه ولا حرج، فإن كنتم لابد راغبين بالزواج فأنكحوا ما طاب لكم من النساء من غير هؤلاء القاصرات، فإنكم واجدون بدل الواحدة اثنتين وثلاثاً وأربعاً وعدداً لا يحصى ولا يعد.
فليست الآية مسوقة في رأي الأستاذ الجليل لتحديد عدد الزوجات، ولا لإباحته بأكثر من واحدة، إنما هي مسوقة لتحذير الطامعين من الأوصياء في أموال اليتامى والمحتالين لأكلهم بحيلة الزواج منهن: ولفت أنظارهم إلى أن هذا التحايل لا يبعد بهم عن مزالق الإثم: فإذا كانوا راغبين في الزواج من أجل الزواج فالنساء من غير اليتامى كثيرات لا حصر لهن ولا عدد، فليختاروا منهن ما يشاءون، على أن لا يكون للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة.
فإذا كان الأستاذ الجليل يرى أن الآية لا تحمل معنى إباحة التعدد في الزوجات، وإنها لا تبيح للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة مهما طاب له من النساء، فما معنى قوله تعالى بعد ذلك: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة؟ وما وجه الصلة بين هذا الشطر من الآية وبين شطرها الأول وهو قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع؟ أليس في الشطر الثاني من الآية ما يشعر إن لم يدل دلالة صريحة بأن شطرها الأول يحمل معنى إباحة التعدد حتى يمكن أن يكون للرجل عدد من الزوجات يطلب إليه العدل بينهن؟ وإلا فكيف يكون العدل ممكناً بين زوجة واحدة؟ وهل العدل إلا توزيع الحقوق بالقسط بين أصحابها؟ وإذا كان الله سبحانه لم يبح للرجل غير زوجة واحدة، فكيف يطلب إليه أن يقتصر على واحدة إذا خاف ألا يعدل؟ أليس هو مقتصراً على واحدة بحكم القانون الذي شرعه الله له؟ وهل يستقيم نهج الكلام إذا كان المعنى كما يقول الأستاذ الجليل: فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مقتصرين على واحدة فحسب فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة؟
أحسب أن نهج الكلام حينئذ لا يستقيم، واحسب أن الشطر الثاني بهذا التفسير يكون لغواً، وكلام الله تبارك وتعالى منزه عن اللغو.(756/44)
هذا هو جوهر الموضوع ولبابهم، أما أن القرآن يأتي بهذا الشأن الأساسي بصفة عرضية أو غير عرضية وجواباً لعبارة شرطية أو غير شرطية، فليس أمراً ذا بال، فالقرآن قانون شامل كامل يكمل بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً، وقد يعلم الأستاذ الجليل إن القرآن قد استفرغ جهود المجتدهين من الأئمة والفقهاء، حتى استنبطوا الأحكام من كل كلمة من كلماته، بل من كل حرف من حروفه.
أمين دوبدار
كلمتي الأخيرة في الفضاء والعدم
أرجو من الأستاذ أحمد محمد حلمي أن يراجع مقالي الأول والثاني، وأن يدلني أين قلت إن الأثير موجود حتماً. لم أقل هذا القول. بل قلت إن الأثير مفروض فرضاً، ولم يسلك ببرهان علمي وعملي وأن أنيشطين قال إن نظريته النسبية لا تحتاج إلى الأثير، وسيان عنده وجد الأثير أم لم يوجد. وقد أوضحت هذا جلياً في المقال الثاني.
على إن بعض العلماء الكبار قالوا لا غنى عن فرض الأثير سواء ثبت علمياً أو انتفى، لأن فرضه يعلل بعض الظاهرات الطبيعية.
لم أحتم بوجود الأثير. وإنما حتمت بأن الفضاء ليس فراغاً عدما بل هو متدفق بالأمواج الكهرطيسية، لأن عيوننا ترى بعضها وهي أمواج النور ونحس بسائر الأمواج كأمواج اللاسيلكي والراديو والرادار الخ. وهذه الأمواج مادية لا روحية، هي شظايا الإلكترونات السلبية والبروتونات الإيجابية. وتسمى ضوئيات فوتونات. وطاقة المادة تأتينا فيها. ولا يهمنا إن كانت محمولة على أجنحة الأثير المفروض أو هي متدفقة أو من تلقاء نفسها بلا أجنحة. بعد هذا البيان الواضح في هذا المقال وفي مقالي السابقين لم يبق لشرح الأستاذ أحمد محمد حلمي لزوم عندي لأني أعرفه ولا أنكره.
نقولا الحداد
أبو نؤاس:
في مقال للأستاذ سلامة موسى بمجلة النداء تحت عنوان الأديب بين العزوبة والزواج جاء فيه إن أبا نؤاس الشاعر لم يكن متزوجاً ولذا كان ابتداعياً يهتف في شعره إلى الثورة على(756/45)
ما سماه الأستاذ، أوهام المجتمع الزائفة وهذا خطأ محض إذ أن كل دارس لشعر الحسن بن هانئ يعرف أنه قد ذكر زوجه في أكثر من بيت في قصائده وخمرياته حتى ذهب بعض من أرخوا لأبي نؤاس من قدامى ومحدثين إنه قد أنجب أولاداً من زوجه.
محمد الشاذلي حسن(756/46)
العدد 757 - بتاريخ: 05 - 01 - 1948(/)
المسلمون في معترك الخطوب
كأن الحلفاء يوم عقدوا ألوية الحرب قد عقدوا غيب ضمائرهم على الغدر بأنفسهم وبالناس، فلم يكادوا ينفضون أيديهم من تراب هتلر وحليفيه حتى أخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصارعون على أسلاب الحرب ويتكالبون على جثث الضحايا؛ فهذا يريد أن يغرز أنيابه هنا، وذاك يحاول أن ينشب أظفاره هناك؛ واللحوم طعوم، والذبائح أجناس؛ فوقف كل وحش بازاء منافسة تهدده بما يملك من أسباب الحياة وبما يعلم من أسرار الموت، حتى خشع المهيض، واستكان الضعيف، واستخذى الجبان، وأقرت الأمم بالضيم، واعترفت الدول بالرق، وانتهى النزاع على ملكوت الأرض إلى قوتين متعارضتين: قوة الرأسمالية في أمريكا، وقوة الشيوعية في روسيا، كلتاهما تريد أن تبسط سلطانها على المستضعفين في الأرض دون الأخرى، والدولة التي كانت تنافسها في استرقاق الشعوب نتفت ريشها الحرب فتأخرت عن صفها وهبطت عن مستواها، فتركت لها تصريف الأمر وغفت في ظلال السكينة ترجو لأجنحتها أن ترتاش ولجروحها أن تندمل؛ فلم يبق العالم اليوم من يقف أمام هاتين القوتين العارمتين موقف الأبي الذي يتكرم عن الذل ويتجافى عن المهانة إلا قوة واحدة تستمد بأسها من روح الله، وتقتبس هديها من نور الحق، هي قوة الإسلام. وبحسبك أن تسمع مذياعك في أي ليلة، أو تقرأ في أي يوم، لتعلم أن هذه القوى الثلاث هي التي تتصارع وتتقارع في الغرب والشرق وما بينهما، وسائر الأمم محتبون بهامش الميدان يشهدون هذا الصراع شهود المتفرج أو المهرج لينسخوا بمبادئهم دياناته وفلسفاته، والأمريكيون يقيمون من دونهم السدود ليظلوا مستأثرين وحدهم بخيراته، والمسلمون في تركية وإيران وباكستان وأفغانستان وإندونيسيا، وفي أقطار العروبة من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي، يجأرون بالشكوى، ويصرخون من الظلم، ويغضبون للكرامة، ويثورون للحق، وينادون بالجهاد؛ ولكن أصواتهم الإنسانية اللينة تذهب في عواء الذئاب ونباح الكلاب كما تذهب النسمة الرخية في الأدغال الشواجن!
كأنما الحرب لم تخلف من المشكلات غير مشكلة الشرق الأوسط! وكأنما لم يتركوا من التراث غير تراث الإسلام! وكأنما الأسرى في نظام هيئة الأمم المتحدة هم المسلمون! فمن لم يكن له من شذاذ الأمم جعلوا له موطناً من أرض العرب! ومن ضاقت عليه مذاهب العيش في بلده وسعوها عليه من أرزاق العرب! ومن نقت ضفادع بطنه من المستعمرين(757/1)
لازدراد بقعة حرام سكنوا جوفه المسعور بقطعة من أملاك العرب! ومن نازع المسلمين أو العرب! فالروس تتحلب أشداقهم على ابتلاع تركية وإيران. والهندوس يجدون العطف الأوربي على عدوانهم الوحشي على أهل باكستان. وهولندة تحاول أن تمزق بجديد الأمم المتحدة إندونيسيا، وهذه الدولة لا تزال تشعر بمسامير النعل الهتلري الثقيلة تغوص في ظهورها الوطيئة البضة. وإنجلترا العجوز أن تخلى لحاميتها أمريكا طريق الشرق فتقرر الجلاء عن فلسطين لتقتطع السودان من مصر، وهو إنسان عينها ومهجة قلبهان لتجعله نقطة ارتكازها في أفريقيا، وحقيقة مجازها إلى الشرق. وفرنسا المنحلة ما زالت تفرض الباقي من سلطانها على الشمال الأفريقي كله فتقيم بينه وبين أبويه الإسلام والعروبة حاجزاً من الظلام والحصر والرقابة والتجسس، وترغمه على الاندماج بها والفناء فيها، فيستظل بغير علمه، ويتكلم بغير لغته، ويؤمن بغير دينه. ولولا ممالأة الدول ومواطأة اللصوص ومناوأة الخطوب لما ثبتت هذه القدم الناعمة في رمال الريف وصخور أطلس! وأمريكا التاجرة الطموح تصمم على أن تحول بين الشيوعية وثروة الشرق فتجعل من الإنجليز واليهود سداً كسد ذي القرنين يأخذ السودان من مصر، وفلسطين من العرب، وبقية امتداده من الإسلام. ولولا هذه النية الخبيثة لما ساعدت انجلترة على مصر في مجلس الأمن، وعاونت اليهود على العرب في جمعية الأمم المتحدة.
هاهي ذي تقسم فلسطين وبها إحدى القبلتين وثاني الحرمين قسمة ضيزى بين العرب الأصلاء واليهود الدخلاء، وتحمل الصهيونية على ضمائرها وبواخرها من أركان الأرض إلى فلسطين لينصبوا للحق كما نصبوه من قبل لعيسى، ويبذروا في القدس الشقاق للناس كما بذروه في يثرب لمحمد!
ليت شعري ما جريرة العرب والمسلمين على الأمم الأوربيين والأمريكيين. هل جريرتهم عليهم أنهم فتحوا العالم وطهروه، وأعلنوا دين الله ونشروه؟ قد يكون مع الفتح ترة العنصرية، ومع نشر الدين تعصب الكنيسة، ولكن ترة المقهور وتعصب الكاهن لم يكونا وحدهما السبب في ذلك الاستخفاف الدولي بالإسلام والعروبة؛ إنما السبب الأقوى فيما أعتقده أن المسلمين اعتمدوا على الحق دون القوة، وعولوا على القول لا على الفعل، واعتقدوا في الشخص لا في المبدأ، ونسوا أن دينهم قرآن وسيف، وتاريخهم فتح وحضارة،(757/2)
وشرعهم دين ودنيا، وحربهم جهاد وشهادة، وزعامتهم خلافة وقيادة.
فهل آن لأبناء الأمة الوسطى ووراث الدعوة الكبرى أن يذكروا ما نسوا، ويحددوا ما طمسوا، ويعلموا أن الحق هو القوة، وأن القوة هي الوحدة، وأن وحدة العرب كانت معجزة دين التوحيد، قام عليها تاريخهم القديم ولن يقوم على غيرها تاريخهم الجديد؟!
أحمد حسن الزيات(757/3)
في عالم الروح
للأستاذ عباس محمود العقاد
تلقيت من الأستاذ صاحب التوقيع رسالة جاء فيها: (أن العالم الطبيعي أدوين ريد تحدث مستخفاً برؤيا رآها في منامه وهي صليب كتب عليه أسمه ويليه أنه توفى في 7 نوفمبر سنة 1910 ولم يحن ذلك اليوم حتى فارق الحياة وكتب على صليب فبره اسمه بذلك التاريخ.
ثم نقل من كتاب الأرواح للشيخ طنطاوي جوهري كلاماً فحواه أن الدكتور جيبية رأى في منامه مكتبة عامرة لجاره لم يرها ولم يسمع بها من قبل، وتصفح عناوين الكثير من كتبها، ثم ذهب إلى الدار ليرى مبلغ صحة رؤياه، فإذا تلك المكتبة بعينها والكتب بعناوينها حتى أثاثها كما شاهده في النوم بلا اختلاف.
ثم نقل عن الجزء الخامس من مجلد الهلال الخامس والخمسين حلماً فصله الكاتب الخطيب المبين الأستاذ محمد توفيق دياب بك وذكر أنه رآه بتفصيله في اليقظة بعد ذلك بيومين.
وأضاف الكاتب إلى ما تقدم خلاصة حلم رآه فقال: (ولي رؤيا عجيبة وهي أنني تحدثت مع صديق في أمور اجتماعية وإذا به يستشهد بمقطوعة من أرصن الشعر وأسلسه وأبلغه. حفظت بعضها مع العلم بأنني بطيء النظم لا أكثر من تعاطيه، وكنت متوجهاً بكليتي للاستماع مع الإعجاب الشديد. ويقال أن ليس للإنسان إلا عقله الباطن عند النوم، وكان عقلي الباطن كما علمت متوجهاً للإصغاء وتتبع ما يلقى عليه لا غير، ويقال أن الإنسان لا يفكر بشيئين في آن واحد. . . تصور أنك تسمع لخطيب وأنت متتبع لأقواله بكل إعجاب: هل يجوز الادعاء بأن ما تسمعه من بنات أفكارك؟ إذن من هو الناظم؟ وهل هو أنا؟ وقد برهنا على استحالة ذلك؟. . وكيف يتم صدق الرؤيا لحوادث المستقبل البعيدة عن المصادفات، والتي لم تكن أصداء لماض قريب أو بعيد ولكنه تنبؤ بمستقبل مجهول؟. .
عبد الجبار محمود الوائلي
(بغداد) خان الشبندر الجديد
شيء واحد يمكن أن يقال على سبيل التحقيق في الجواب عن هذه الأسئلة: وهو أن الجزم(757/4)
ينفي هذه الروايات على اعتبار أنها مستحيلة الوقوع إنما يكون نفياً باطلاً لا يعتمد على سند من العلم ولا من البراهين المنطقية.
فوقوع الأنباء على هذه الصورة ليس بالمستحيل.
ومن قال باستحالته وجب أن يثبت لنا أنه على علم تام بأسباب الاتصال بين كل نفس ونفس وكل مادة ومادة أو كل نفس ومادة في هذا العالم الذي نعيش فيه.
وليس في وسع أحد أن يزعم أنه على علم تام بأسباب الاتصال بين مادة ومادة في عالم المكان، ودع عنك صلات النفوس والعقول التي لا تقع تحت الحصر ولا يحيط بها العيان.
ففي هذا الفضاء الشاسع أشعة من النور لا تراها العين وهي مع ذلك تنفذ في المعادن الصلاب وتؤثر في الأحياء وغير الأحياء؛ وبعض هذه الأشعة يعرف بالآلات وبعضها لا يعرف بغير التقدير والترجيح، وكلها لا تغنينا شيئاً في بيان سبب التأثير الذي يقع من جرم على جرم آخر في أجواز الفضاء الرحيب. فما هي قوة الجذب؟ وما هي قوة الدفع؟ وما هي قوة الإشعاع؟ ولماذا يكون الإشعاع حركة سارية تنطلق من الذرة المشطورة فتعصف بالقوى؟ وما الذي يتحرك حين يحدث هذا الإشعاع؟ هل الحركة هي القوة أو الحركة نتيجة القوة؟ وكيف تحدث هذه أو تلك أو تنتقل بالمقدار الذي يرصده الراصدون؟
كل هذه أسئلة لا يقطع المجيب عنها بجواب مفروغ منه متفق عليه، وهي مع ذلك أسئلة عن النور أي عن المثل الأعلى للوضوح والظهور فيما تقع عليه العين ويتمثل به اللسان.
فالذي يزعم لنا أن أسباب الاتصال بين نفس ونفس، أو بين عقل وعقل، محصورة محدودة يمتنع كل ما عداها، فهو مدع بما ليس في علمه ولا في أحد من البشر، ويلزمه دليل ما يدعيه ولا دليل هناك.
لكن هل يجوز لنا أن نبني على هذا أن تلك الأنباء قطعاً من إيحاء عقل لعقل أو رسالة روح إلى روح؟
أن أسئلة كثيرة تلزمنا قبل أن نخلص إلى هذا القول على وجه التحقيق، ولنضرب المثل بما رواه صاحب الخطاب عن إدوين ريد.
فهل رأى إدوين ريد نبوءات أخرى غير النبوءة بيوم وفاته؟ وهل رأى غير نبوءات مثل نبوءته بيوم الوفاة؟(757/5)
إن كانت إدوين ريد هي النبوءة الوحيدة التي صدقت فهناك محل للسؤال: لم لم تتهيأ روحه لمعرفة الغيب إلا في هذه الحالة؟
وإن كانت هي واحدة من نبوءات كثيرات كذبت كلها ما عدا هذه النبوءة فاحتمال المصادفة هنا يخطر على البال إلى جانب الاحتمال الآخر: وهو تلقي الرسالة من عالم الروح. ويوم (7 نوفمبر سنة 1910) كأي يوم آخر في أيام السنين، لا موجب لاستثنائه ولا موجب للقطع بأن الإنباء به من توفيق المصادفات وقد يجوز أن ألف إنسان غير إدوين ريد هذه التواريخ كما سجل تأريخ (7 نوفمبر سنة 1910)؟
وإنما تخرج هذه الأنباء من عالم الغرائب والمصادفات إلى عالم الحقائق المتواترة إذا أمكن تطبيقها تجارب العلوم؛ وليس هذا التطبيق بالميسور في مسائل العقل والروح، لأنك تستطيع أن تحكم مادة ككل مادة، وأن التجربة فيها تتكرر على منوال واحد أو مع اختلاف جدة يسير. ولكنك لا تستطيع أن تحكم بأن كل عقل ككل عقل في الخصائص والآثار. فيجوز أن روحاً تتلقى وروحاً أخرى لا تتلقى. ويجوز أن حالة التلقي لا تطرد في جميع التجارب على نمط واحد.
وههنا موضع الإعضال في تعميم الحكم على مسائل العقول والأرواح.
فغاية ما ينتهي إليه اليقين في هذه المعضلة أن الاتصال بين العقول أو بين الأرواح غير مستحيل، ولكنه كذلك غير محتوم من الأمثلة التي تذكر في هذا السياق، وبخاصة إذا نحن أحضرنا أن الرواية عن المنام تتسع لكثير من التحريف والانحراف، لأن المنام بطبيعته غير مثبت للمراجعة والتأكد من الصور الغامضة التي تتلاحق فيه، وقد يتممها الخيال بعد وقوع الحوادث التي تشبهه في عالم اليقظة، وإن تقاربت المسافة بين رؤية اليقظة ورؤية المنام.
فيجوز أن الرؤى التي أشار إليها الكاتب رسائل من روح إلى روح، أو من العقل المحيط إلى عقول الآحاد. ولكن الجزم لا تكفي فيه هذه الرؤى ولا تلك الروايات.
أما نظم القصيدة في المنام وتخيل الإصغاء إليها من صديق فهو ظاهرة مختلفة تكفي التجارب النفسانية لتفسيرها ولا استحالة فيها على الإطلاق.
لأن نظم الشعر في النوم يحدث لغير قليل من الشعراء، وقد روى عن كولردج الشاعر(757/6)
الإنجليزي أنه نظم قصيدة مطولة من أجود شعره وهو نائم، ولست أستبعد ذلك. لأنني تتفق لي أبيات من الشعر أنظمها في المنام وأنا مشغول الذهن بالنظم أو غير مشغول، ولإن لم يتفق لي في هذه الحالة نظم المطولات.
أما استحالة النظم والإصغاء في وقت واحد فليس بواقع. لأن الإصغاء تخيل لا حقيقة له في الخارج، وكل ما فيه أنه هو الصورة الرمزية التي اتخذها الوعي الباطن لظهور تلك الأبيات فيه.
ومن طبيعة الأحلام أنها رمزية تتخيل المعاني والمؤثرات في صورة المحسوسات. فيبدو للمكروب في حلمه أن عدواً مطارداً يشدد عليه الخناق، وأن وحشاً مفترساً يبطش به في مكان لا مهرب منه وهكذا يتخيل الوعي الباطن أنه يصغي إلى متكلم وهو الذي ينظم ما يصغي إليه في الخيال.
وبعد فلا استحالة - حتى أثناء اليقظة - في تسجيل العقل الباطن شيئاً والتفاته مع الحس إلى شيء آخر.
فقد جربنا جميعاً أن نستغرق في التفكير ويمر بنا إنسان نعرفه فلا نلتفت إليه. ثم نذكر أنه قد مر بنا بعد انتهاء حالة الاستغراق، وقد نذكر أنه قد حيانا بكلمات نحفظها ونحسب أننا لم نسمعها حين فاه بها، ونحن قد سمعناها وسجلناها على غير انتباه.
ولا حاجة بنا في هذه الظاهرة إلى فرض المصادفات، لأن الواقع في أمثال هذه الظاهرة متكرر متواتر يمكن القياس عليه. أما الإنباء بالمجهول فشاطئ الأمان فيه أنه لا إثبات بغير دليل يقبل التكرار والتواتر، ولا إنكار بغير دليل كذلك الدليل. وقد نرجح الإثبات بغير دليل على الإنكار بغيره. لأن المنكر المتعسف يغلق الباب على ما سيعلم في المستقبل، ولا يزيد المثبت المعتسف على الخطأ في الواقع كما رآه أو تخيل أنه رآه. . .
عباس محمود العقاد(757/7)
النساء في القرآن الكريم
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت
كثر كلام الناس قديماً وحديثاً حول منزلة النساء في الإسلام، فمنهم من زعم جهلاً أو تجاهلاً أن الإسلام اهتضم حقوقهن، وانتقص مكانتهن، وأخذ يغري المرأة بالثورة على الإسلام بحسب ما صور لهم من تعاليم نسبها إليه وأقنعها بأنها السبيل الذي رسمه لها، والواقع أن الإسلام منح النساء كل خير وصانهن عن كل شر، ولم يأب عليهن سوى ما دفعتهن إليه هذه المدنية الكاذبة من (حرية) جعلت الغربية من النساء إذا ما خلت إلى ضميرها الإنساني تبكي دماً على الكرامة المفقودة، والعرض المبتذل، والسعادة الضائعة. وسيعلم النساء متى ثبن إلى رشدهن أن لا منفذ لهن، ولا حافظ لكرامتهن وحقوقهن سوى هذه التعاليم الإلهية التي يحاول المغرضون والمخادعون لهن أن يصوروها في أعينهن بصورة الأغلال التي تطوق الأعناق وتحول بينهن وبين ما لهن من حق في الحياة.
وأرجو أن أقدم للنساء عامة وللمسلمات خاصة تحت هذا العنوان، وعلى صفحات الرسالة الغراء، خطوط هذه الجولات الواسعة التي رسمها القرآن الكريم في سبيل الإرشاد إلى حقوقهن، وبيان أحكامهن ومنزلتهن في حياة الأسر التي تعتبر بحق اللبنات الأولى في بناء الأمم، والتي تخلع على الأمة مالها من كيان قوي أو ضعيف.
والقرآن هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، والحكم الأعلى الذي يحكم على غيره ولا يحكم الغير عليه.
قرأت القرآن وتتبعت أبرز مواقفه في جانب النساء، فوجدته خير ما يصور للناس عناية الإسلام بالنساء، وحظوتهن في تشريعه، وليس بعد كلام الله كلام، ولا بعد تشريعه تشريع.
عرض القرآن للنساء في أكثر من عشر سور، وكلها من المدني الذي كان شأنه وقت التنزيل فرض الحقوق، وبيان الواجبات، وتنظيم الشئون، والإرشاد إلى ما ينبغي من شئون الأسر، وشئون الأمم.
عرض لهن في سورة البقرة في ربعين عظيمين هما (يسألونك عن الخمر والميسر)، (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة).
بين فيها حكم تزوج المسلمة للمشرك الذي لا يؤمن بكتاب ولا رسول، وأبطل بعض(757/8)
المعاملات الضارة التي كان يعتاد أهل الجاهلية مع النساء، وبين الطلاق الذي يملك الرجل فيه رجعة الزوجة والذي لا يملك به الرجعة، كما بين أن لها الحق في افتداء نفسها من سوء العشرة بما تملك من مال، وبين مساواتها للرجل فيما لها وعليها من الحقوق الزوجية، كما أمر بإمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان، وحذر القوم من عضل النساء ومنعهن أن يتزوجن بمن يردن طمعاً في مالهن وضراراً لهن، ثم بين أن المرأة شريكة الرجل في شأن الولد وإرضاعه، وأنه لا يصح للرجل أن يبت في هذا الشأن برأي دون (تراض منهما وتشاور) ويبين في هذا السياق الخطبة وأدبها كما بين حق المطلقات في المتعة، وهي ما يبذله الرجل للمرأة بعد طلاقها مما تتعزى به ويخفف عنها وقع الفراق، (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين).
وبين عدة المتوفي عنها زوجها، وحث الأزواج على الإيصاء لهن بعد الوفاة بأكثر مما تستحق إحداهن بالعدة.
وعرض لهن في سورة المائدة، وبين حل تزوج المحصنات الكتابيات منهن، وسوى في ذلك بينهن وبين المحصنات المؤمنات.
وعرض لهن في سورة النور، وبين ما يردعهن عن ارتكاب ما يزري بالكرامة ويخل بالشرف والمكانة، كما بين حكم من تعدى عليهن بالقذف زوجاً كان أو غير زوج، وشرع الأدب الواجب حين الدخول عليهن في بيوتهن، وذلك حفظاً لهن من أن تقع عليهن الأنظار، وهن في حالة التبذل والقيام بالمصالح المنزلية. كما خص هؤلاء الذين نضبت وجوههم من ماء الحياة بشديد من التحذير مما اعتادوا في إكراه الفتيات على البغاء تكسباً بعرضهن (لا تكرهوا فتياتكم على البغاء أن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).
وعرض لهن في سورة الأحزاب وعالج كثيراً من المشاكل المنزلية وما يجب عليهن من آداب، وقد اتخذت السورة زوجات الرسول مثالاً حياً فيما ينبغي أن تتخذه الزوجة أساساً لحياتها المنزلية الفاضلة.
وعرض لهن في سورة المجادلة فاستمع إلى رأي المرأة واحترمه، وقرره مبدأ يسير عليه التشريع العام الخالد، وبذلك كانت آيات الظهار التي بدئت بها السورة المذكورة أثراً من آثار الفكر النسائي، وصفحة إلهية خالدة نلمح فيها على ممر الدهر صورة احترام الإسلام(757/9)
للمرأة وأن الإسلام ليس كما يظن أعداؤها يراها مخلوقاً يقاد بفكر الرجل ورأيه، وإنما له رأيها وللرأي قيمته ووزنه.
يقول أوس بن الصامت لزوجه خولة بنت ثعلبة (أنت على كظهر أمي) وكان المعروف في الجاهلية أن الرجل إذا قالها لزوجته حرمت عليه. ثم دعاها فأبت وقالت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله. ثم أتت رسول الله فقالت: يا رسول الله. أن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني ونثرت بطني جعلني كأمه وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله فحدثني بها. فقال عليه السلام: ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن، وما أراك إلا قد حرمت عليه، فأخذت تجادل رسول الله مراراً وتقول: أنه ما ذكر طلاقاً فكيف أحرم عليه؟ أن لي منه صبية صغاراً إن ضمهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. وجعلت ترفع رأسها إلى السماء تقول: اللهم أني أشكو إليك. وما برحت هكذا حتى نزلت الآيات (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما أن الله سميع بصير). نزلت الآيات تشنع على المظاهرين من نسائهم، وتضع طريقاً للخلاص من الظهار، وتبين أنه ليس طلاقاً ولا موجباً للفرقة، كما كانت ترى خولة بنت ثعلبة.
وهذا أسمى ما تصبو إليه النساء في احترام رأيهن متى صادف الحق والمصلحة. وليعتبر بهذا المرجفون المعتدون.
وعرض لهن في صورة الممتحنة وبين حكم النساء يهاجرن مؤمنات من بلاد الأعداء إلى بلاد الإسلام، وحكم حلهن لأزواجهن السابقين، وحكم زواجهن بالمؤمنين، وبينت حق النساء في المبايعة على السمع والطاعة، والقيام بحدود الشريعة وأحكامها، وأنهن في المبايعة كالرجال، وقد روى المفسرون قصة هذه المبايعة التي شغلت مركز الرياسة فيها عن النساء (هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان، وهي قصة طريفة تعلوها ظاهرة عظيمة من حرية الرأي في النقاش والحوار. حرية لا يظفر بها الرجال عند أعظم ملوك الأرض ديمقراطية.
وعرض لهن في سورة التحريم في شأن جرى بين زوجات الرسول، ويقع بين كل الزوجات في كل زمان ومكان، وفيها تقررت مسئولية المرأة عن نفسها مسئولية مستقلة(757/10)
عن مسئولية الرجل، وأنه لا يؤثر عليها، وهي صالحة، فساد الرجل وطغيانه، ولا ينفعها، وهي طالحة، صلاح الرجل وتقواه (وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانت تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين) (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين).
وعرض القرآن الكريم بعد هذا للنساء في سورتين: سورة النساء وسورة الطلاق؛ وكثيراً ما يطلق على الأولى أسم (سورة النساء الكبرى) ويطلق على الثانية (سورة النساء الصغرى).
وكم تنبض قلوب النساء فرحاً بتكريم الله لهن وعنايته بهن حينما يسمعن أو يعلمن أن في القرآن سورتين سميتا باسمهن، وعالجتا كثيراً من شئونهن في أطوار حياتهن كلها من عهد الطفولة إلى عهد الزوجية والأمومة، وأن إحدى السورتين وهي الكبرى تبدأ بخطاب الناس جميعاً، وأن الأخرى وهي الصغرى تبدأ بخطاب الرسول، وفي هذا وذاك حث شديد للحاكم والمحكوم، أو الرئيس والمرءوس على مراعاة ما يفرض بعد الخطاب في أمر النساء من أحكام وإرشادات. ولا ريب أن منزلة النساء من العاطفة ومركزهن الاجتماعي في الأمة جديران أن تستأثرن في أمرهن عاطفة الرحمة التي يحملها وصف النبوة (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ووشيجة الرحم التي تجمع بين الناس ذكوراً وإناثاً (واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام).
وهذا وضع يجدر بالذين يرمون الإسلام بأنه يحط من قدر النساء أن يلتفتوا إليه وأن يكفوا عن زعمهم أن الإسلام لم يمنح المرأة من العناية والاهتمام ما منحته لها المدنية.
هذا وقد عرضت سورة (الطلاق) لبيان الوقت الذي يجب على الرجل مراعاة إذا أراد أن يطلق زوجته اتقاء للإضرار بها، كما عرضت لبيان أنواع عدة المطلقة وما يجب فيها من النفقة والسكنى.
أما سورة النساء الكبرى فقد عرضت لمبادئ هي أساس سعادة المرأة وهناءتها، وبالتالي أساس السعادة الزوجية والحياة المنزلية ونستطيع أن نجملها فيما يلي:
1 - أعلنت سورة النساء أن المرأة أحد العنصرين اللذين تكاثر منهما الإنسان، وجعلت(757/11)
ذلك نعمة توجب على الناس تقوى الله ومراقبته (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أن الله كان عليكم رقيبا).
2 - وقررت مساواة النساء بالرجال فيما هو من خصائص الإنسانية فشرعت الكسب للنساء كالرجال، وأرشدت كلاً منهما إلى تحري الفضل والخير من الأموال بالعمل دون التمني والتشهي، وأنه ليس للرجل أن يسلب المرأة من العمل الذي خلقت له، كما أنه ليس للنساء أن يطمعن فيما وراء مؤهلاتهن الطبيعية وفي ذلك يقول الله: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن).
3 - وقررت أن للنساء ثواب أعمالهن الصالحة كالرجال وفي ذلك يقول الله تعالى (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا).
4 - ورفعت شأن المرأة عن أن تكون متاعاً يورث كما تورث الأموال، وفرضت لها حرية في ذاتها وأموالها (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن).
5 - وشرعت نظاماً للزواج فيه تكريم للمرأة والأسرة، فحظوت التزوج بأصناف حفظاً لروابط لا ينبغي أن تعرض بالزواج إلى الفساد: حظرت زواج الابن من زوجة الأب، وزواج الأب من حليلة الابن، وزواج الأمهات والبنات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب. وحظرت لجمع بين الأختين، وزواج المتزوجات والمعتدات. وذلك كله في قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) إلى قوله (والمحصنات من النساء).
6 - وأشارت إلى تخير الزوجات من وسط الحرائر المؤمنات وأنه لا يجوز العدول إلى غيرهن إلا عند العجز عنهن وخوف العنت، وذلك شأن له قيمته في إنجاب الولد، واختيار البيئة الصالحة لتربيته، وضمان التوافق والسعادة في الحياة الزوجية، وذلك في قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فيما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات).
ومن هنا أخذ الفقهاء أن الشريفة مقدمة في الزواج على غير الشريفة، وأن حسنة السمعة(757/12)
مقدمة على سيئة السمعة. وفي هذا إيحاء قوي إلى النساء بأن يعملن جهدهن على تحسين سمعتهن وتحليهن بالأخلاق الفاضلة التي ترغب فيهن الأزواج، ولعل ما اتخذته الفتاة لنفسها من حرية واسعة في هذه الأيام كان له نصيب كبير فيما نرى من أزمة الزواج، فعلى الفتاة أن تتدبر في أمرها، وعليها وحدها أن تحل تلك الأزمة إن أرادت لنفسها الخير والسعادة.
7 - وأفرغت السورة على عقد الزواج صبغة كريمة أخرجته عن أن يكون عقد تمليك كعقد البيع والإجارة، أو نوعاً من الاسترقاق والأسر كما كانت المرأة قبل الإسلام عند العرب وغيرهم وسمته (ميثاقاً غليظاً) ولهذا التعبير قيمته في الإيحاء بمعاني الحفظ والرحمة والمودة، فالزواج في نظر القرآن عهد شريف وميثاق غليظ ترتبط به القلوب وتختلط به المصالح، ويندمج به كل من الطرفين في صاحبه فيتحد شعورهما، وتلتقي رغباتهما، وآمالهما، هو علاقة دونها علاقة الصداقة والقرابة، وعلاقة الأبوة والبنوة (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).
8 - وأوجب على الرجل أن يبذل للزوجة مالاً سماه الله (صدقة) ووصفه بأنه نحلة - والنحلة ما يمنح عن طيب نفس بدون مقابلة عوض - ولا ريب أن الصلة بين الزوجين أعلى وأشرف من أن يجعل عوضها دراهم معدودة، فليس المهر ثمناً ولا في مقابلة شيء في المرأة كما يظن كثير من الناس، وإنما هو آية من آيات المحبة والتقدير وأنه لذلك كان واجباً على الرجل، وأن أتفق الزوجان على أن لا مهر للزوجة (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاًُ). وقد كان المهر بذلك حقاً للزوجة لا يحل أن يأخذ الزوج منه شيئاً إلا بطيب نفسها. بذلك تقرر لها حق الملكية الصحيحة الخالصة من رقابة الزوج وهيمنته. ومن درجة منحها الإسلام للمرأة منذ أربعة عشر قرناً في حين أن النساء في أوربا في القرن العشرين لا يتمتعن بهذا الحق الذي تتمتع به المرأة في ظل الإسلام.
9 - وبينت السورة الدرجة التي جعلها الله للرجال على النساء بعد تساويهما في الحقوق والواجبات، وأنها لا تعدو أن تكون درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التي يمتاز بها الرجل عن المرأة، وبحكم المال الذي ينفقه قياماً بما تحتاج إليه حتى تقوم بما(757/13)
عليها من حقوق الزوجية. وليست تلك الدرجة بدرجة الاستعباد والتسخير كما يصورها المخادعون المغرضون، وذلك في قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم).
10 - قد أرشدت السورة بعد هذا إلى أن النساء أمام هذه الرياسة منهن صالحات، ومنهن غير صالحات، وأن من شأن الصالحات القنوت وهو السكون، والطاعة لله فيما أمر به، ومنه القيام بحقوق الزوجية والرياسة المنزلية، والاحتفاظ بالأسرار التي لا ينبغي أن يطلع عليها أحد غير الزوجين، وأن هذا الصنف من الزوجات ليس للرجال عليهن شيء من سلطان التأديب.
أما غير الصالحات، وهن اللاتي يحاولن الخروج عن حقوق الزوجية ويحاولن الترفع والنشوز عن مركز الرياسة، بل على ما تقتضيه فطرهن، فيعرضن بذلك الحياة الزوجية للتدهور والانحلال - فقد وضعت السورة لردعهن وإصلاحهن وردهن إلى مكانتهن الطبيعية والمنزلية طريقين واضحين: وكلت إحداهما إلى الرجل بحكم الإشراف والرياسة، وهو أن يعالجها بأنواع من العلاج لكل صنف من النساء ما يليق به، ويكفي في ردعه، وهي الوعظ والهجر والضرب، فالتي يكفيها الوعظ بالقول لا يستعمل معها الهجر والضرب، والتي يصلحها الهجر لا يتهاون في جانبها بالوقوف عند حد القول والوعظ ولا يسرف فيصل به الأمر إلى حد الضرب. وهناك صنف من النساء في بعض البيئات لا تؤثر فيه الموعظة ولا يكترث بالهجران ولا يصلحه إلا نوع من التأديب المادي. وقد جعل الله الضرب آخر الوسائل التأديبية إشارة إلى أنه لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، وقد أساء المتحضرون من أبناء المسلمين أنفسهم فهم هذا النوع من التأديب وجعلوه نوعاً من الطغيان الذي لا يتفق وكرامة الزوجة، وهم في الواقع يتملقون عواطف المرأة، ويتظاهرون بالحرص على مصلحتها وكرامتها، ونحن نسائل المرأة العاقلة: أي الأمرين أحفظ لحياة الزوجة؟ أأن تنال بشيء من العقوبة عند نشوزها فيردها إلى صوابها؟ أم تترك لتسترسل في نشوزها فتهدم بيتها وسعادتها وتشرد أطفالها؟
أما الطريق الثاني فهو التحكيم وجاءت آيته بعد آية الطريق الأول للإشارة إلى أنه إنما يكون في حالة عجز الرجل عن لعلاج وعند تطور الحالة من النشوز إلى الشقاق، وفي(757/14)
حالة ما إذا كان النشوز واقعاً من الزوج نفسهن وقد خاطب الله بهذا العلاج الأخير جماعة المسلمين تركيزاً لما يجب أن يكون بينهم من التكافل على حفظ الأسر والبيوت. وعلى الحكام أن يقوموا بمثل هذا الواجب نيابة عن جماعة المسلمين.
وطلبت الآية أن يكون الحكمان في هذا الشأن من أهل الزوجين؛ وذلك نظراً إلى أن الشأن في الأهل أن يكونوا أدرى الناس بأحوال الزوجين وأحرصهم على سعادتهما، وأقدرهم على التأثير في نفوسهما، وأحفظهم لما قد يجدون بينهما من أسرار.
وإنك لتجد كل هذا في قوله تعالى من هذه السورة (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا أن الله كان علياً كبيراً، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما أن الله كان عليماً خبيراً).
وبعد: فهذه صفحات النساء في القرآن الكريم أقدمها للقراء إجمالاً وتفصيلاً، وهي صفحات كما نرى ويرى كل ناظر فيها، بيضاء نقية تبسط ظل السعادة والهناءة على الحياة الزوجية، وتكون أسرة قوية فاضلة، وتبني مجتمعاً صالحاً يخوض غمار الحياة بقواه الذاتية وشعوره النفسي الدقيق. ولقد كان بودي أن أبسط القول في شرح تلك الصفحات الإلهية ولن الإنسان في هذه الحياة مسخر لسلطان الظروف، وحسب من يريد الحق هذا الإرشاد، وكتاب الله قائم بين أيدينا ميسر للذكر والنظر فليرجع إليه من شاء والله ولي التوفيق والهداية.
محمود شلتوت(757/15)
من آثار الإسلام في الهند
تاج محل
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض في المملكة السعودية
ملنا عن الجادة الكبرى في أكرا صوب المشرق فرأينا حجرات وقباباً متفرقة ثم دخلنا ساحة واسعة في جانبها من الشرق والجنوب رواقان كبيران كأنهما أعدا لإيواء الزائرين والحراس. والى الشمال مدخل المزار وهو كالمداخل الأخرى، عقد رفيع تتصل به حجرات في طبقتين.
وهو أصغر من مدخل مزار جلال الدين أكبر الذي وصفناه قبلاً؛ ولكن فيه من الضخامة والعلاء والجمال ما يؤهله أن يكون مطلعاً للقصيدة الرائعة التي وراءه.
وعلى طاق المدخل الداخلي كتبت سور من القرآن: الضحى، وألم نشرح، والتين. وقد خطت الآيات بخط يختلف كبراً وصغراً على نسبة بعده عن الناظر فيرى القارئ ما بعد منه وما قرب بمقدار واحد.
فإذا التفت القارئ إلى الحديقة وأحواضها ونافوراتها وهذا الهيكل الجميل المائل في وسطها، ازدحمت على بصره وعقله وقلبه مناظر وأفكار وعواطف تقفه معجباً مرتاعاً.
حديقة فسيحة ناضرة يزدحم فيها الشجر، وتتشابك الأغصان والتاج في الوسط، وفي أقصى الحديقة إلى اليمين والشمال بناءان تطفو قبابهما من بعيد على هذه اللجة الخضراء، وسنذكرهما بعد. ويشق الحديقة من مدخلها إلى التاج حوض مستطيل اصطفت فيها نافورات يخر ماؤها في الحوض فتسمع وسوسة تخالها موسيقى هذا الجمال أو قصيدة تصف هذا المزار يهمس بها شاعرها.
ويمتد على جانبي الحوض خندقان فيهما نبت وزهر تناسب نضرتهما واهتزازهما صفاء الماء وترقرقه، ووراء هذين على الجانبين ممشيان عريضان.
فإذا سار السائر على أحدهما وقفه في نصف الطريق حوض عال من المرمر يصعد إليه خمس درجات في جوانبه الأربعة. وله حافة واسعة يقف عليها الزائر أو يجلس على أحد(757/16)
المقاعد الرخامية الأربعة في جوانبها فيتأمل في هذه المرآة الرائعة صورة التاج. فيحار طرفه بين المنظرين، وينقسم إعجابه بين الصورتين. فإذا راقه هذا المنظر جلالاً وجمالاً وملأه روعة وإعجاباً، هبط إلى التاج، إلى حرم الجمال المائل أمامه فينتهي المسير إلى دكة فسيحة من الحجر الوردي تحيط بالبناء تعلو عن الحديقة خمس درجات يتقسمها أحواض للماء ومجار. وفوقها الدكة العليا الرخامية التي هي قاعدة هذا التمثال المسمى بالتاج، فيخلع نعليه إكباراً لهذا الجمال وإجلالاً فيصعد إحدى وعشرين درجة إلى الساحة العليا فوق الدكة الرخامية الرائعة. وعلى زوايا هذه الدكة أربع منارات عالية ضخمة كلها من الرخام الأبيض وهي منفصلة عن البناء في منظر متناسب متناظر، ثم يتقدم إلى الحرم الرائع في جملته، المحير في تفصيله؛ إذا نظرت إليه كله راعتك القبة البيضاء وحولها قباب صغيرة في أركان البناء بينها منارات صغيرة في جوانبه الأربعة ومنظر الباب والشبابيك الرخامية، أبدعت فيها الهندسة وتم فيها التناسب والتناسق.
وإذا تأملت تفصيله، رأيت من دقائق الصنعة في النحت والتشكيل والتحلية والترصيع والكتابة إبداع الصنعة وإعجاز الفن.
وتصعد أربع درجات أخرى، وتقف أمام الباب فتقرأ أعلى الطاق العالي أول سورة يس كأنها تعويذة لهذا الجمال من العين، ولكن جمال الخط في حاجة إلى تعويذة كذلك. وترى حول الباب سورة تبارك. وتحتها: (كتبه الفقير الحقير أمانت خان الشيرازي سنة هزار وجهل وهشت هجري مطابق دوازدهم سنة جلوس مبارك وترجمة التاريخ:
(سنة ثمان وأربعين وألف هجرية المطابقة السنة الثانية عشرة من الجلوس المبارك) (يعني جلوس شاه جهان).
وتدخل وفي النفس ما فيهان فتخطو خطوات إلى درج يهبط إلى حجرة واسعة فيها قبران. في وسط الحجرة ضريح (ممتاز محل). ومن أجلها بنى زوجها شاه جهان هذا البناء كله، والى جانبه قبر أكبر منه هو قبر هذا الزوج الوفي. ويقال إنه أراد أن يبني لنفسه مزاراً آخر من الرخام الأسود على الشاطئ الآخر من نهر جمنه كأنه أراد أن يقوم مزاره أمام هذا التاج في ثياب الحداد أبد الدهر. ولكن ابنه وخليفته أورنك زيب (زينة العرش) وكان مقتصداً زاهداً آثر أن يدفن أباه بجانب زوجه.(757/17)
وترجع إلى الدرج صاعداً لتدخل حجرة فوق الحجرة التي فيها القبران، وفي الحجرة مقصورة من الرخام المخرم نفيسة المادة جميلة الصورة. كان لها باب من حجر اليشب نهب في ثورة الجات.
وفي وسط المقصورة مثالان للقبرين، وعلى هذين المثالين وجدر الحجرة من الأحجار الثمينة المنزلية في الرخام على صور زهار وأشجار، ومن الكتابة الجميلة ما يود الزائر أن يقف أمامه لا يبرحه، وأن يعود إليه عاجلاً إذا برحه. وأما الخبراء بالصنعة فلا ينقضي عجبهم وإعجابهم بهذا الإعجاز.
وعلى قبر ممتاز محل هذه العبارة:
(مرقد منور أرجمند بيكم مخاطب ممتاز محل توفيت سنة 1040) (المرقد المنور للأميرة الفاضلة الملقبة ممتاز محل الخ).
وعلى قبر شاه جهان:
(مرقد منور وروضة مطهر بادشاه رضوان استكاه. خلد آرامكاه أعليحضرت عليين مكاني، فردوس آشياني صاحب قران ثاني شاه جهان بادشاه غازي طاب ثراه وجعل الجنة مثواه.
درشب بيست وششم شهر رجب سنة هزار وشست وهفت هجري) وترجمتها:
(المرقد المنور والروضة المطهرة للسلطان ساكن الرضوان، نزيل الخلد من مكانه عليون، ومأواه الفردوس، صاحب القران الثاني، السلطان شاه جهان الغازي طاب ثراه وجعل الجنة مثواه.
في ليلة السادس والعشرين من شهر رجب سنة 1067).
وإذا ترك الزائر هذا المقام الجليل وهبط على درجات الدكة الهائلة فتوجه نحو الشمال رأى نهر جنة وراعه المسناة العظيمة التي بنيت على النهر لتدعم هذه الروضة وما فيها من أبنية، ورأى درجاً داخل السور يهبط إلى الماء. وكم أعجب التاج بجماله في هذا النهر وأولع المصورون بتصوير البناء وعكسه في الماء.
وعلى النهر، في منتهى الروضة إلى الغرب مسجد جميل أمامه ساحة فسيحة مرتفعة لها درج. وهو أسلوب آخر من أحكام الهندسة وإتقان الصنع والتصرف في هذا الحجر الوردي الذي بني به. ولا أشق على القارئ بوصفه.(757/18)
ويقابل هذا المسجد على النهر في الجهة الشرقية بناء آخر يشبه المسجد في جملته وتتصل به أبراج ومنظرات مشرفة على النهر.
وقد بنى مناظرة للمسجد ولهذا يسمونه (الجواب). وهندسة الأبنية التيمورية كلها قائمة على التناظر والتشاكل فلم يجيزوا أن يبنى المسجد في زاوية من الحديقة دون أن يناظره بناء على الزاوية الأخرى.
زرت التاج ثلاث مرات في يوم وليلة. وأود الآن أن أعود إليه فأقيم عنده أياماً. وقد وصفت بعض ما بقي في الذاكرة منه ووراء هذا ما لا يستطيعه الوصف، ولا يحيط به البيان. ولعل الصور التي مع هذا المقال تعين القارئ على تصوره.
في مقال (أكرا) من دائرة المعارف البريطانية:
(عظمة أكرا مستمدة من أجمل أبنية العالم: البناء الشعري تاج محل. . . صور ومثل أكثر من أي بناء آخر في العالم. وصوره لا عد لها. وغاية ما يوصف به أنه حلم من الرخام.
وهو في التلوين والرسم وصناعة التحلية والتزيين يفوق كل عمارات العالم. ومظهره المتناسب إذا رئى مرة لا ينسى أبداً ولا تنسى رشاقة قبابة التي تعلو في الهواء كفقاقيع من المرمر في زرقة السماء.
يقول فرجسون في كتابه تأريخ العمارة:
(هذا البناء مثال من الترصيع بالأحجار الكريمة الذي صار من أكبر خصائص الفن المغولي بعد موت أكبر.
كل زوايا التاج وكل الأركان والأجزاء المهمة مجملة بالحجار الكريمة.
إنه أجمل وأنفس أسلوب من التزيين عرف في فن العمارة وهذه الزينة مفاضة على القبرين وعلى المقصورة المحيطة بهما ولكن يقتصد فيها في المسجد الذي يمثل أحد جناحي التاج وعلى النافورات والأبنية المحيطة.
والمقدرة التي لاءمت بين هذه الزينات في الأجزاء المختلفة عظيمة كالزينة نفسها تدل على مستوى عال في الذوق والمهارة لصناعة ذلك العصر.
ويقول اللورد روبرت في كتابه (إحدى وعشرون سنة في الهند):
لا اللفظ ولا الريشة يستطيعان أن يوحيا لأوسع القراء خيالاً أصغر الفكر عن الجمال(757/19)
والصفاء في هذه الفكرة المجيدة.
وأني أقول لمن يروه: (أذهبوا إلى الهند فالتاج وحده أهل لهذه الرحلة).
وأما أنا فقد سطرت الكلمات التالية بعد أن زرت تاج محل وعدت إلى دهلي:
وقفة على تاج محل
كم تمنيت أن أقف هذا الموقف، وكم تخيلت أني أسرح الطرف في هذا المشهد وكم قرأت حديث التاج، وسمعت قصة التاج ورأيت صورة التاج فالآن فلتر العين جهرة ما شاقها إليه القراءة والسماع:
أشجار خضراء ناضرة، تحيط ببنية بيضاء ناصعة، وتشق هذه الخضرة إلى هذا البياض طرق وأحواض، وفي مطمح البصر إلى اليمين والشمال قباب عالية وردية مطلة على نهر جمنه.
أما هذا البناء الأبيض المشرف وسط هذه الخضرة، الذاهب في الهواء بقبته الكبيرة حولها قباب صغيرة، وقد لاحت نوافذه وشبابيكه وعقوده تتنازع العيون والقلوب وقامت حوله هذه المآذن الأربع العالية الجميلة - وهذا البناء العجيب لا أدري ما هو!!
أقصيدة من الجمال معانيها، ومن الرخام ألفاظها، ومن دقائق الصنعة قوافيها وتفعيلاتها؟ ما أجمل الشعر وما أبلغ الشاعر!
أألحان مجسمة، وأنغام ممثلة، وأغاني مصورة؟؟
ما أجمل الألحان وما أعذب الألحان، وما أحسن الغناء!!
أأماني أبدع فيها الخيال، وآمال انفسح فيها المجال، ثم استحالت حقائق، وانقلبت هياكل؟! ما أبعد الأماني وأعظم الآمال! وما أشد تحقق المحال!!
أم تلك أحلام، أم بدائع أوهام؛ ليست أفانين الرخام.
وما هذه الخطوط الجميلة، والنقوش المحكمة الدقيقة التي تحاول أن تشغل العين عن هذا البناء الضخم؟ أهي تعاويذ ورقي أم هي محسنات البديع في هذا الشعر البليغ!
وهذه الطرق التي يستبق فيها الماء والنبت إلى هذا البناء. وهذه المرايا التي تفرح بما تحوي من صور. وهذه المرآة العاجية العظيمة التي رفعت إلى هذا الوجه الجميل فيها جماله وسحره وفتنته.(757/20)
ما تلك كلها في فنون الشعر؟ ما هي في ضروب الموسيقى؟ بل ما هي في غرائب الأحلام، وعجائب الآمال والأماني؟
إنما هذا كله، هذا الذي تراه بناء، أو لحناً أو غناء، أو أحلاماً أو أماني أو أوهاماً - ظاهر باطنه أروع، ولفظ معناه أجمل، وعلانية سرها أجل، وصوت دلالته أدق، وصورة معناها أرق.
وإنما باطنه هذان القبران. قبر السيدة التي شيد لها كل هذا الفن، وقبر الزوج المحب الوفي الذي ترجم عن حبه ووفائه بهذه الأشعار، مصوغة من الأشجار والمياه والأحجار. ومثل الفكر البشري والحضارة الإنسانية، وعظمة الدول الإسلامية في بناء كعنوان الكتاب، تقرأ وراءه تأريخاً وتأريخاً، وقصصاً وعبراً، على هذا البناء الذي بقي على الدهر تمثال للجمال والحب والوفاء.
عبد الوهاب عزام(757/21)
بين القديم والجديد
للأستاذ محمد فريد وجدي
منذ أن أعلن العلم الحرب على الدين في القرن السادس عشر، لم ين عن مناوأته حيث ثقفه، اعتقاداً منه أن الدين لا يقوم على أصل ثابت له علاقة بإيصال الإنسان إلى كماله ولكنه قائم على الأهواء التي يبعثها حب الذات في النفوس، وعلى الأوهام التي لا يمكن أن يقام على وجودها دليل، والتي يكفي في دفع سحرها عن العقول نشر العلم الصحيح بين الناس، والعلم قد بنى على أساس دستوره المعروف، وهو أن لا يقام لمعقول وزن إلا إذا أيده دليل من الحسن، وأني للعقائد الدينية أن تجد دليلاً محسوساً لتقيم عليه وجودها؟
وقد وفق رجال العلم إلى جانب هذا لكشف الكثير من مساتير الوجود، ودرسوا نواميسها، وأقاموا عليها مخترعات ووسائل ذات أثر بالغ في كل فرع من فروع المحاولات الإنسانية؛ فكما ترى أثر العلم في المدن بادية في مصنوعاتها ومنتجاتها المحيرة للعقل، وفي علاجاتها وذرائعها المخففة للآلام، المزيلة للأمراض، ترى في القرى في آلات الحرث والري ةالبذر والتسميد والحصاد والنقل الخ الخ، فهذه المظاهر كلها أثرت في العقلية الإنسانية، وخاصة عقلية المتعلمين تأثراً عظيماً جعل للعلم فيها منزلة للقوامة عليها؛ فإذا بدا لهم مجهول، أو أعوزهم ترجيح، رجعوا فيه إلى العلم، ووقفوا منه عند حكمة، وقد علمت رأي العلم في الدين، فماذا تنتظر أن يكون عليه الناشئون بين حضنيه، المعولون في بناء أحكامهم عليه؟
هذا الأثر قد لحظناه في أنفسنا ونحن في دور الدراسة، وكابدنا للتوفيق بين عقيدتنا والعلم مشاق مضنية، وعملنا لنشر ثمرات ما حصلناه كتباً، ولا نزال جادين في هذا الطريق ثقة منا بأن مستقبل الإسلام بموافقته للعلم، أن الذين لا يتطلبون هذه الموافقة ولا يتكلفون لإيجادها مثل ما تكلفناه، تساورهم الشبهات والشكوك من كل مكان، وينتهي بهم الأمر إلى الإلحاد.
أن أشد ما يصادفه طالب الأيمان من طريق العلم هي ما في الأديان من شئون ما فوق الطبيعية، فالعلم الرسمي لا يزال قائماً على ما كان عليه من نفيها نفياً باتاً، وحسبان كل ما يتعلق بها من بقايا الخرافات الساذجة، فالتوفيق بين العلم والأيمان من المحالات البعيدة الوقوع، لذلك يشيع الإلحاد في طلبة العلوم الكونية في أساتذتهم؛ ومن كان منهم يعطف على(757/22)
الأيمان بها، يكون مقوداً إليه بعاطفة لا بدليل، ولا يعتبر هذا أيماناً في نظرنا.
فهل من مخرج من هذا المأزق؟
نعم، وقد وجد منذ مائة سنة وهو ما كشفه العلماء العالميون من خصائص الروح الإنسانية وعلاقتها بعالم ما فوق الطبيعة بعد دراسات عميقة وجهود مضنية صرفوها في تتبعها في جميع حالاتها ودونت في مئات من المؤلفات القيمة.
أن هذه الدراسات العلمية المحضة التي عاداها ولا يزال يعاديها ممثلو الأديان في جميع الملل، قد محصت تمحيصاً لم تنله العلوم الطبيعية ذاتها، وذلك لغرابتها وشدة ما كانوا يكذبون بها. فقد أثبتت هذه الدراسات والتجارب العلمية وجود عالم فوق الطبيعة متحكم في عالمنا الأرضي، ومصرف له على مقتضى النظام الخاص به. عالم تعلل بعوامله جميع ما عجز الفلاسفة والعلماء عن تعليله في العالم الأرضي، وتخيلوا له عللاً وهمية أو سكتوا عنه حيرة وعجزاً.
كانت الحاجة ماسة جداً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى هذا الفتح العظيم في العلم، فقد كانت المعلومات التي لم تقبل التعليل قد بلغت حداً مؤيساً، واكتشفت النقدة العلميون جهات ضعف في العلم نفسه لا يمكن الإغضاء عنها.
وقد بين هذا الأمر الأستاذ الكبير (جوستاف لوبون) بأوفى بيان في كتابه القيم (تحول المادة) الذي ظهر في سنة 1910 فقال:
(إذا اتفق أن فيلسوفاً من المنصرفين إلى دراسة الموضوعات ذات الحدودية المبهمة، قرأ منذ عدة سنين كتاباً في العلم الطبيعي كان يدهش من وضوح التحديدات فيه، وصحة البراهين، وضبط التجارب، فكان لا يسعه إلا الانحناء أمام هذه النتائج الفخمة.
(دامت هذه العقيدة في المقررات الكبرى حافظة لقوتها في العلم العصري إلى أن حدثت في الأيام الأخيرة مكتشفات غير منتظرة قضت على التفكير العلمي أن يكابد من الشكوك ما كان يعتقد أنه قد تخلص منه أبد الأبيد. فان الصرح العلمي الذي كان لا يرى صدوعه إلا عدد محصور من العقول العالية، تزعزع فجأة بشدة عظيمة، وصارت التناقضات والمحالات التي فيه ظاهرة للعيان بعد أن كانت من الخلفاء بحيث يكاد لا تبلغها الظنون.
(وقد صدرت مؤلفات على مثال الكتاب الثمين المسمى (العلم والافتراض) لهنري(757/23)
بوانكاريه، تؤتينا بالبرهان على ما نقول في كل صفحة من صفحاتها، فلقد أرانا هذا الرياضي المشهور أننا نعيش وسط الافتراضات والاتفاقات حتى في مجال العلوم الرياضية.
(وقد كتب الأستاذ (لوسيان بوانكاريه) من جهته يقول: أنه لا توجد لدينا نظريات كبرى الآن يمكن قبولها قبولاً تاماً، ويجمع عليها المجربون إجماعاً عاماً، ولكن يسود اليوم العلوم الطبيعية ضرب من الفوضى. . ولم يظهر أن ناموساً من النواميس الطبيعية يعتبر ضرورياً ضرورة مطلقة. والآراء التي كانت تظهر لمن سبقنا أنها تأسست تأسساً ثابتاً صارت اليوم لدينا موضوعات تحت المناقشة.
وجتم الأستاذ (جوستاف لوبون) الآراء التي أوردها لكبار العلماء بقوله:
(من حسن الحظ لا شيء أكثر ملاءمة للرقي العلمي من هذه الفوضى، فالوجود بمجهولات لا نراها، والحجاب الذي يحجبه عنا منسوج غالباً من الآراء الضالة أو الناقصة التي توجبها علينا تقاليد العلم الرسمي. . . الخ)
نقول وفي أثناء هذه اليقظة من الغرور العلمي ظهر علم ما فوق الطبيعة، ودرست ظواهره، ومحصت تمحيصاً دقيقاً، وتولاها رجال من ذوي الكفايات الممتازة أوصلوها إلى غايات بعيدة، وأقعدوها على أصول وطيدة، بحيث صارت أهلاً لأن تخصص لها دراسات في بعض الجامعات الكبرى كجامعات أكسفورد وكمبريدج ويورك، وجامعات أمريكية أخرى.
هذه البحوث الروحية التي أمضت قرناً كاملاً تحت فحص أعتى العقول البشرية، وأشدهم شكيمة في العقيدة المادية، قد أثبتت وجود عالم روحاني، وشاهدت حوادث من قبيل تحكم الروح في المادة تحليلاً وتركيباً، وخرقاً للنواميس الطبيعية خرقاً لا هوادة فيه، فاتسعت أمام أنظارهم منادح النظر العالي، وأدركوا بالحس فساد النظرية الآلية التي كانوا يعللون بها وجود الكون المادي ونظامه واتساقه، والحياة نفسها وما إليها، وأصبحت النواميس الطبيعية في نظرهم ليست بالقوى الأزلية الأبدية التي صاحبت الكائنات في وجودها، وكلنها مظهر لقوى مدبرة أرفع منها.
هذه المستكشفات الحديثة تفتح أمام العقل الإنساني حقائق كانت فلسفة العلم المادي قد جعلتها(757/24)
من المحالات العقلية، مثل وجود قدرة عالية تدبر الكون والكونيات، ووجود روح في جسم الإنسان مستقلة عنه تخلد بعد انحلاله، ومثل بعثة أرواح عالية للأمم في فترات من الدهر سموهم الناس بالرسل ليهدوهم إلى الخيور، ويزغوهم عن الشرور، ويمهدون لهم سبيل الارتقاء.
هذه البحوث لم تجتز عتبات الجامعات وتأخذ مكانها في مصاف العلوم، إلا لأنها قد جاوزت دور الفحص العلمي، وأصبحت حقائق لا يمكن التماري فيها.
فالسد الوحيد الذي أراه يقاوم تيار الإلحاد المندفع الذي يكتسح أمامه الأمم والشعوب ويلقي بها إلى مكان سحيق من الفوضى والفساد الخلقي والتناحر، هو أن يتضلع علماء الدين من هذا العلم الجديد، ويستخدموه لحل شبهات المشتبهين، وكبح جماح المستهترين. وما المانع له من ذلك وهو يزيد في دعوتهم تأثيراً ويلقي على حججهم نوراً، ويقدع من معاطس المتفلسفة الذين يتخيلون أنهم وحدهم الذين خلصوا من أوهام العقائد، وكل من عداهم يرسف في أغلالها ويتعثر في أذيالها، ويحمل عقله تصديق خيالات لا وجود لها.
هذا الموقف وحده يحفز المدافعين عن العقائد أن يحذقوه لكم أفواه المتحذلقين من الماديين. فما ظنك والضرورة أصبحت تقتضيه.
نعم تقتضيه لأن انتشار التعميم في الأمة الإسلامية تتسرب معه كثير من الشبهات القوية على وجود الروح والملأ الأعلى، وهذه الأمور كلها أحاطها الماديون بشبهات لا يقوى على محقها إلا هذا النور الجديد، الذي أشرق من صوب المباحث النفسية. فإذا أهملوا الاستفادة منهم اضطروا للاقتصار في دفاعهم عن الدين على استعمال الأسلحة القديمة وقد أصبحت لا تغنى حيالها شيئاً فيكونون قد رضوا لأنفسهم في هذا الصراع العنيف بين الإسلام والإلحاد بهزيمة ساحقة.
محمد فريد وجدي(757/25)
مرحباً بالتقسيم! مرحى للصهيونية
للأستاذ أحمد رمزي بك
جاء وعد بلفور ونحن في غفلة من الزمن، وجاء وعد التقسيم والعالم العربي يتحرك ويتذمر، مر الأول ولم يشعر به أحد منا، وجاء الثاني فإذا نحن في يوم مظلم للصهيونية وساعة قائمة عليها، فبراءة من العهود والمواثيق والمعاهدات، وأذان إلى الأمم العربية أن تقاتل في سبيل الأرض المقدسة، فمرحباً بالتقسيم ومرحى للصهيونية!
أن يوم التقسيم يوم أسود عليها، إنه يوم الفصل، إذ فيه يبدأ الكفاح الحقيقي للعرب في سبيل كيانهم ووحدتهم وتحقيق آمالهم في نظام هذا العالم الجديد.
ولا يغرنكم أيها العرب ما ترون من فتور فإني واثق من أن سعة أعشار الإنسانية معنا وفي صفنا، وأن الداء الذي نشكو منه ونئن، يشكو ويئن منه ملايين من الخلق مثلنا وهم ليسوا بعرب ولا مسلمين ولكنهم إما ذاقوا من اليهودية العالمية ما جعلهم أعداء ألداء لها، وإما أنهم في وضع سياسي واقتصادي واجتماعي لا يختلف عن الوضع الذي نشكو منه في كثير أو قليل.
فهم جميعاً لهذا السبب أو لغيره من الأسباب حلفاء لنا. ولقد جاء التقسيم فكان خير دعاية لنا، وجاء كفاح العرب ووقفتهم إزاءه لكي يشعر كل طرف من أطراف الإنسانية الواعية الراشدة أن هناك ظلماً يحيق بالعرب وأن هناك كفاحاً وقتالاً في سبيل الحق فمرحباً بالتقسيم مرة أخرى!
وهناك أكثر من ذلك، لقد أمضى أسلافنا وقتاً طويلاً وهم في حالة ركود وإغماء عقلي لا يشعرون بما كان يحالك حولهم، بل كانوا ينظرون إلى العالم الخارجي نظرة الرجل المطمئن إلى غده الواثق من جاره وصديقه، القانع بالتسليم والرضى، لقد جاء التقسيم فأعلمنا أن هناك قوات تهيم في الأرض، أكثر تلاعباً بالألفاظ منا، فأصبح حتماً علينا تطليق النظريات الأولى والفلسفات الشرقية والجمود والخضوع، والهدوء والرضا. أصبح حتماً علينا مواجهة العالم بنظرة جادة وقوة متوثبة، وعقل جديد، وهذا من فضل التقسيم علينا إذ أعلمنا أن أي تراخ أو نكوص أو تراجع، هو جناية منا في حق أنفسنا، لأن الأجيال القادمة ستحاسبنا على أي خطأ حساباً عسيراً، فالويل لنا إذا لم نقف أمام التقسيم(757/26)
ونحاربه.
لقد عاش الشرق في سنوات الفوضى والجمود والتخاذل، فإذا بطارق غريب عليه استخف العرب بأمره في بادئ ذي بدء، وإذا هو أشد وطأة من حملة نابليون وجنوده، وأخطر من بريطانيا وجبروتها، وأعمق من إيطاليا وجحافلها السوداء، وأقوى من فرنسا وقوادها. لقد تشجع هذا الطارق فإذا به يدق الأبواب بشدة لم تعهدها آذان أهل الشرق منذ الإسكندر وقيصر، ظناً منه أنه يرعب الشعوب التي وقفت تحارب أوربا، وقضت على ملك الإغريق وبيزنطة ورومية، وساقت الأسرى من الحروب الصليبية لتزين بهم قصور الهند وآسيا، فإذا بالنائم يستيقظ وإذا بنا نبعث بعثاً من جديد، وإذا بالطارق يدفعنا دفعاً ليحرك الجموع ويرتب الصفوف ويخلع علينا حلة جديدة من الكفاح، فمرحباً به! أن النفوس التي وقفت تقارع الاستعار الأوربي بأساليبه المختلفة تتقدم اليوم لتقارع الصهيونية بأساليب وأسلحة لم يكن يحلم بها واضعوا قرار التقسيم فأهلاً به.
لقد كنا نقنع بأن الأعمال التي في هذا الركن من العالم في غضون هذه السنوات كافية، وكنا نقارن أنفسنا بما كان عليه أسلافنا. فنقول ها قد أصبحنا أكثر انطلاقاً منهم في أشياء، وها قد حققنا لبلادنا ما يشبه بعض ما تتمتع به المجموعات الراقية من مظاهر السيادة والقوة والسلطان، فأصبح لنا دستور وجيش ونظام مالي. أما اليوم فلم نعد نقنع بالأقوال ولا بهذه المظاهر: إننا نصارح الدنيا والتاريخ ونقول:
إذا كانت حملة نابليون بداية سيطرة أوربا علينا بنفوذها المادي، فأن مجيء الصهيونية بداية الوثبة الكبرى، بداية التطور المادي والعقلي معاً استعداداً لكسب معركة الشرق في أرض فلسطين والتحرر النهائي من سيطرة أوربا علينا.
إننا ذقنا طعم الانتصارات الحربية ولمع فيها أسم صلاح الدين وبيبرس، وقدمنا الضحايا بالملايين في مدى قرنين من الزمن، وبرهنت المعارك أن الدماء التي تجري في عروق أبطالنا وشهدائنا أقوى وأشد من دماء فرسان أوربا، ونحن على استعداد لخوض معارك جديدة، وتقديم الضحايا بالسخاء الذي عرفته الحروب الماضية، ولكننا نرحب مرة أخرى بالصهيونية، ونقول لها مرحى! لماذا؟ لأن حكم الغرب وجبروته وسنوات الاستعمار لم تدفعنا إلى الأمام إلا في الطريق المادي. أما الحرب القائمة الآن مع الصهيونية والمنظمات(757/27)
اليهودية العالمية فستدفعنا إلى ما هو أبعد وأقوى إلى تحطيم الجمود العقلي الذي فرض نفسه علينا. نعم لأجل فلسطين ولكي نكسب حربها ومعاركها سيسترد الشرق استقلاله الفكري وحريته العقلية، وسيخرج من ربقة الاستعمار الذهني وهو بعقل أوربي أكثر قضاء وتعمقاً مما يتوهم الأعداء، نعم سينشئ ويبني وينظم ويقود لينتصر انتصاراً يهز العالمين: أوربا وأمريكا.
فقال للذين يشكون في هذا أن يخرجوا أقلامهم وأوراقهم ويقيدوا ما أقول: لم تعد تبهرنا السياسة التي تصب لنا الأشياء في القالب الذي يرضى الاستعمار وأهله وأذنا به وتقول لنا هذا من عند أنفسكم.
لم تعد تجدي معنا أساليب تحريك الأطماع والغرائز وتقديم أشباه الرجال ودعاة التفكك. لقد شببنا عن هذا الطوق!
ونهمس مرة أخرى في آذانهم فنقول:
إذا كان الاستعمار الأوربي لم يجعل منا بعد مائة وخمسين عاماً رجال عقل وفكر وإرادة، فقد تكلفت الصهيونية بهذا إذ نقلتنا نقلاً من عالم أشباه الإنسان إلى عالم الإنسان، كان ذلك بمحض إرادتنا للتغلب عليها وإقصائها عن أوطاننا.
فإذا ترك الاستعمار بلاد الشرق فوضى وأهلها يحطمون بأيديهم ما بنوه واتهمنا بأنا نسير على غير هدى ونعمل تحت وحي تيارات الساعة، ومصلحة الأحزاب وإيحاء صحافة هدامة، فليطمئن دعاة الاستعمار وأذناب الصهيونية علينا: من هذا أو أكثر بعد اليوم.
ألا فليؤمنوا أن دروس الحقائق الكبرى التي ألقتها علينا الصهيونية في فلسطين تعدل ألف درس مما ألقاه علينا الاستعمار الأوربي. فإذا كنا لم نحطم الأصفاد والأغلال التي وضعتها أوربا يوماً في أيدينا وأعناقنا فأن قضية فلسطين أصبحت جديرة بأن نكسبها، وفي سبيل كسبها حطمنا الأغلال والأصفاد ووثبنا الوثبة التي لا يمكن أن ترد.
أندري ماذا علمتنا فلسطين؟
علمنا الصهيونيون أن العلم قوة ثورية هائلة على الأرض ولهذا ملكتنا عقيدة الاقتدار والانتصار بالعلم.
نعم سيكون العلم في حياتنا سلاحاً قاطعاً فيصلاً لحل مشاكلنا معهم.(757/28)
لقد تعلمنا أن الظروف المحيطة بنا لا تخلق حسب أهوائنا حتى نحل متاعبنا طوع إرادتنا ووفق أهوائنا. وعلمتنا فلسطين كيف ندرس كل حالة ونتعرفها، وتعرف الشيء تكييفه بناء على طريقة منظمة وتبعاً لمنهج منطقي تحليلي. فالفضل لكم يا أهل صهيون ولأطماعكم إن أصبح الشرق قوة يحسب لها حساب. لقد أخذنا عنكم أن المنهج هو القوة الوحيدة النهائية الفاصلة التي لا تحد والتي لا يمكن أن يثبت أمامها شيء في الوجود أو تعترضها معضلة من غير أن تجد لها حلاً، لقد أخذتم عن الغرب روحه وعقله وأتيتم إلينا تطبقون هذا على أراضينا.
أما نحن فقد وقفنا نفكر علمياً ومنطقياً لندفع بالفكر العربي حتى يتعرف نفسه في كل شيء، وليبسط نفوذه ومضاءه وقوته حتى نعيدكم إلى الأقطار التي جئتم منها:
إنكم دفعتم العرب إلى الثورة مرات قبل اليوم وكنتم تنظرون إليهم نظرة المتفرج، أما اليوم: فستكون الثورة الكبرى في هدوء ونظام تسير على برامج وتضبط في المعامل وتقرن بالأرقام.
ستكون ثورتنا وليدة المصائب التي حلت بنا، وخاضعة للعقل الذي قيد كل ما فرطنا فيه فوضع الخطط لسنوات قادمة ولأجيال مقبلة.
ولذلك سنجعل لكل يوم عراكاً يناسبه، ولكل شهر كفاحاً يتفق مع مراميه، ولكل سنة حرباً تتطلبها تلك السنة.
لقد جربتم حظكم معنا في وقت لم نكن نفهم فيه أو ندرك شئون عالم يتطور. أما اليوم فاسمعوا واكتبوا ما أقول:
إننا سنتبع التفكير بالمنهج، وسنعرف كيف نسيطر على الظروف، لا بل كيف نستبق الزمن ونلين الطبيعة ونتعرف قوانينها وعلاقاتها بالأشياء، لأننا سنلاقيكم ليوم وغداً وبعد غد، وسترون أننا في كل مرحلة سيكون التلاقي على صعيد أنسب لنا وأقرب إلى جعل النصر تحت متناول يدنا. وتلك سنة جديدة لنا لم تعهدوها في الماضي عنا.
لقد طالما سمعنا كم ترددون: وماذا تصنع بلاد العرب التي تهدمها عوامل التفكك والانقسام ويؤخرها التشيع الذي يقتل جهودها ويقصي النافعين من أبنائها، ألم تروا كيف تحكمت فيهم الأغراض والمساوئ: فأصبحت بلادهم ضعيفة مستامنة خاضعة طائعة.(757/29)
ونحن الذين عانينا ما تقولون نؤكد لكم أن قتالكم فرض علينا، وأن هذا القتال سيجعل من كل قطر عربي مجتمعاً منسجماً أننا أخذنا أسلحتكم كما أخذتم عن الغرب أسلحته، فالويل لكم منا بعد اليوم. إننا نسلم بأن فيكم رجالاً كانوا قادة وبناة من الطراز الأول، وأن هذا الوطن الذي تحاولون إنشاءه على نهر من الدماء هو من صنع تفكيرهم.
ولكن حلمهم لن يتحقق، ولن تقسم البلاد العربية إلى شطرين الشطر الإفريقي والشطر الأسيوي، هذا لن يكون أبداً. لأن منا رجالاً قد اخذوا على أنفسهم العهود والمواثيق لكي يحولون دون ذلك، وهم من مدرسة جديدة لن تجدوا لها قبيلاً في منظماتكم. أتدرون كيف هم: إني آتيكم بنبأ عنهم: هم قوم فيهم التضحية إلى أقصى حدود التضحية، ولكن بغير نفسية الاستحداء والضعف، حماستهم ثبات وهدوء، ووقفتهم في القتال رائعة، سيقدمون البذل كفرض عليهم، كما فرض المسلمون الأول الجهاد والتضحية والبذل على أنفسهم ولذلك لم يعرف عنهم أنهم ولوا الأدبار؛ كذلك رجالنا.
نفوسهم عالية: يعلمون ويتعلمون، يدربون ويدربون، يحاضرون الغير وينصتون للغير، ويلقون الدرس ويتلقونه عن الغير. فيهم قوة الملاحظة وهدوء الأعصاب، تلمس اليقظة مع الوعي فيهم، وقوة الإرادة مع التواضع، ولذلك يسيرون إلى الموت بالتهليل والتكبير والفرح والغبطة: إنهم الطليعة الأولى.
أعرفتم أيام الإسلام فيفجره؟ أعرفتم أنه بدأ غريباً وقامت قيامة الدنيا عليه، فتغلب على الدنيا وقيامتها، كذلك طلائعنا اليوم سنعيد أمجاد الطلائع الماضية: سيكون فيها المتحمسون والرواد والمحاربون والشهداء، نعم نسير لننتصر، ونموت لنحيا.
قلوبهم عامرة تشبه قلوب الطلائع الأولى، ستأتي زرافات إليكم من الأرض والهواء والبر والبحر طلباً للشهادة في الأرض المقدسة التي وعدنا بها. أليست أرضنا وبلادنا ومنزل الوحي عندنا؟
فأين أنتم منا؟
أحمد رمزي(757/30)
دين الله واحد
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد محمد المدني
أن جميع الرسالات الإلهية التي أرسل الله بها الرسل لهداية الناس إنما يقصد بها أمران: أحدهما: تقرير الواقع في شأن الألوهية وما يصدر عنها من إرسال الرسل، وتنزيل الكتب، والبعث والجزاء. . .
والآخر: هو التدرج بالناس في مدارج الكمال، ومدهم بالحكام التشريعية لتي تصلح بها أحوالهم، وتستقر بها سعادتهم ومن الطبيعي أن تتفق الرسالات كلها في الأمر الأول لأنه رجوع بالبشر إلى شيء متقرر ثابت لا يختلف باختلاف العصور والأحوال، وان ينحصر الخلاف في دائرة المناهج والشرع التفصيلية التي تتغير بتغير الزمان، ويتدرج الإنسان في مراتبها بحسب أطواره وبيئاته ودرجة رقيه في العقل والتفكير. ولذلك كان (الدين) واحداً على لسان كل رسول بعث، وكانت (الشرائع) مختلفة في تفاصيل الأحكام والتعبدات (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً)
وقضية اتحاد الدين على اختلاف الرسل قضية يقررها القرآن الكريم في كثير من المواضع، ويكررها على أساليب مختلفة، لتستقر في النفوس، وتؤمن بها القلوب، ويعلم الناس أنهم جميعاً على كلمة سواء، وأنه لا مبرر للتفرق والتنازع والعصبيات.
يقول الله تعالى: (أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن الله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وهذه الآية تفيد أن أصول الدين ثلاثة:
1 - الأيمان بالله على وجهه الصحيح الذي بين في آيات أخرى، بأن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لوجهه. . .
2 - الأيمان باليوم الآخر، بأن يعتقد أن الله سيبعث الناس من الأحداث ليحاسبهم على ما قدموا من خير أو شر فيكافئ لمحسن على إحسانه، ويجزي المسيء بإساءته.
3 - العمل الصالح الذي من شأنه أن يسعد المجتمع البشري ويزيل الشرور والفساد، وينشر الطمأنينة والأمن، ويمكن كل إنسان من أداء واجبه وأخذ حقه على وجه سليم لا(757/31)
يفضي إلى نزاع، ولا يؤدي إلى ظلم.
هذه هي أصول الدين التي يتفرع منها كل ما سواها، وقد تضافر رسل الله أجمعون على تبليغها، وبذل كل واحد منهم في سبيل تقريرها والتمكين لها ما ملكه الله من جهد وآتاه من عمر، وتلقوها عهداً من الله يبشر فيه سابقهم بلا حقهم. ويؤيد لا حقهم سابقهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).
والقرآن الكريم يسوق لنا قصص الأنبياء الذين أرسلهم الله أقوامهم فنجد الرسالة التي جاءوا بها تكاد تتفق حتى في الألفاظ التي تحدث بها كل رسول:
ففي سورة (هود) يقص الله علينا أن نوحاً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون) ز
وأن صالحاً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).
وأن شعيباً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان).
ويقص القرآن علينا مثل ذلك أيضاً في سورة الشعراء: يذكر نوحاً وقومه فيقول: (كذبت قوم نوح المرسلين إذا قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين).
ويذكر هوداً وقومه فيقول: (كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من اجر إن اجري إلا على رب العالمين).
ويذكر بهذا النص نفسه صالحاً وقومه، ولوطاً وقومه، وشعيباً وقومه، فيبين لنا أنه لا اختلاف حتى في التعبير، ولذلك يقول الله عز وجل: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة).(757/32)
وكما نجد هذه الوحدة فيما دعا إليه الرسل قد تناسقت حتى ظهرت في الألفاظ والعبارات التي عبر بها عنها، نجد أقوام هؤلاء الرسل جميعاً يكادون يتفقون في الرد على هؤلاء الرسل ومعارضتهم في دعواهم، وفي مقدمتهم السادة والكبراء:
فالملأ من قوم نوح يقولون: (ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين).
ويصل الأمر بهم في التحدي إلى أن يقولون: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
وعاد يقولون لنبيهم (يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين).
وقوم صالح يقولون له متهكمين: (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد).
ويصل بهم الأمر إلى أن يقولوا له: يا شعيب ما نفقة كثيراً مما تقولون وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).
وهكذا تشابهت قلوبهم، وتوافقوا على رفض الدعوة بأسلوب واحد ومعنى واحد، ولذلك يقول الله عز وجل: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)
ويقول: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحراً أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون).
ومالنا نذهب هذا المذهب والقرآن الكريم يعلن في كثير من الآيات وحدة الدين على نحو قاطع إذ يقول: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
ويقول: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا، ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما).(757/33)
بل يذهب إلى أبعد من ذلك في التحديد والتوحيد فيعلن أن دين الله منذ كان هو (الإسلام)، ولن يقبل الله سواه، وأن الذين اختلفوا فيه من أهل الكتاب إنما كان اختلافهم بغياً وتجاوزاً وكفراً (أن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ومن يكفر بآيات الله فأن الله سريع الحساب، فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) (ومن يبغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
والإسلام في الأصل معناه الانقياد والخضوع، وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم، فكل من (أسلم وجهه لله وهو محسن) أي أستسلم لأمر الله ورضى به وعمل صالحاً، فهو في نظر القرآن مسلم، ولذلك جعله الله مقابلاً للشرك في مثل قوله: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاء في البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين) وجعله مقابلاً للكفر في مثل قوله (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) كما وازن بين المسلمين والمجرمين في قوله: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) والقول القويم بقوله (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) وتحدث عن عباده المؤمنين الذين سيدخلهم الجنة يوم القيامة من سائر الأمم بقوله (يا عباد لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون).
وقد جاء في القرآن الكريم وصف كثير من الأنبياء ومن أرسلوا إليهم (بالإسلام): فنوح يقول: (وأمرت أن أكون من المسلمين) وإبراهيم وإسماعيل يدعوان ربهما قائلين (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)، ويقول الله بأنه (كان حنيفاً مسلماً)، ويوسف يدعو ربه فيقول (أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)، وسليمان يكتب إلى أهل سبأ (أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين) ويقول لقومه (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) وملكة سبأ تقول: (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) وموسى يقول لقومه (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) وفرعون حين يدركه الغرق يقول (آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) وقد وصف الله(757/34)
قرية لوط بقوله (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) وقص علينا فيما حكاه عن الجن انهم يقولون: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً).
بهذا كله يتبين أن (الإسلام) على لسان هؤلاء جميعاً، وفي هذه الاستعمالات كلها، هو الانقياد لله والخضوع له في العقيدة والعبادة والعمل خضوعاً لا يعرف الشرك ولا الواسطة، ولهذا يعتبر الله جميع الأنبياء وجميع الذين أوتوا الكتاب مسلمين بهذا المعنى فيقول عن الأنبياء (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) ويقول عن أهل الكتاب (الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) ويقول عن الذين كفروا بعيسى وزعموا أن ما جاء به من البينات سحر (ومن اظلم ممن أفترى على الله الكذب وهو يدعي إلى الإسلام).
ولهذا أيضاً يقول القرآن الكريم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن أعبد رب البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين).
ويأمر المسلمين أن يقولوا (آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).
ويأمر بتوجيه الدعوة إلى أهل الكتاب على هذا النحو فيقول (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون).
هذا هو دين الله الذي جاءت به كل الرسل، ونزلت به كل الكتب، وقد كان دين محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتمة هذه الرسالات كلها، وهو الذي أثبتها، ولولاه ما عرف أمر الرسول عن طريق تطمئن إليه القلوب، وهو الذي نقاها مما أضيف إليها، ولولاه ما عرف صحيح من زائف، وهو الذي أتى بالشرعة الصالحة المناسبة لما وصل إليه الإنسان من وقى في العقل والتفكير والمعرفة، ولولاه لظلت البشرية تتخبط في ظلمات الأهواء والشهوات والعصبيات، ولهذا كله تمخض معنى الخضوع لله والانقياد لأمره على ما رسم لعباده في دين محمد صلى الله عليه وسلم فصار لفظ (الإسلام) علماً عليه، وأنبأنا الله أنه هو الذي أرتضاه بقوله في أواخر ما نزل على الرسول، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت(757/35)
عليه نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فلم يعد لأحد من البشر بعد ذلك أن يرفضه زاعماً أنه مؤمن بسواه، فإنه هو الدين وليس له (سوى)، ومن آمن به فقد آمن برسالات الله كلها، ومن رفضه فقد رفض رسالات الله كلها تلك هي الحقيقة ولن يستريح أهل الأرض حتى يؤمنوا بها، ويبنوا حياتهم وعلاقاتهم على أساسها (قل يا أيها الناس إنسي رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض ولا إليه إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته وأتبعوه لعلكم تهتدون).
محمد محمد المدني
المدرس في كلية الشريعة(757/36)
ويحكم هبوا!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أيتها العرب! أيها المسلمون! إنكم لا تغلبون اليوم عن قلة، ولأن كتب الله عليكم أن تغلبوا فإنما تغلبون بإثم ما اقترفت نفوسكم، وما اجترحت أيديكم، وما فرطت عقولكم، وما نسيت قلوبكم، وما أضعتم من حق تؤدونه لأنفسكم وأسلافكم وذريتكم، ووالله ما أراكم تغلبون عن جهالة فقد وهبكم الله عقولاً راجحة، ونفوساً حرة، وعزائم قد أذلت لكم أعناق الأمم منذ كان لكم في الأرض شأن يذكر.
وأن الله مبتليكم بمحنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة، بل هي محنة لعامتكم وخاصتكم في نواحي الأرض، فإن أحكمتم الرأي وصدقتم العزم، وعرفتم عدوكم من صديقكم - ولا أرى لكم في هذه الدنيا صديقاً - فقد آن لكم أن تنهجوا للبشرية منهجاً مستقيماً وصراطاً سوياً. فلا تقولوا إنما نحن ضعفاء، فالضعيف من ظن في نفسه الضعف وإن كان أقوى الأقوياء، ولا تقولوا إنما نحن جهلاء، فالجاهل من استهزأ بالعلم وتهاون في طلبه وأن كان أعلم العلماء، ولا تقولوا إنما نحن فقراء، فالفقير من جهل أن الله قد آتاه العزم والجلد والعقل، وإن كان أغنى الأغنياء. فاصدقوا أنفسكم وثقوا بالله الذي امتحنكم بهذه المحنة، فإنه ناصركم على عدوكم، ومخرج لكم من خبء أنفسكم خيراً كثيراً قد غاب عنكم وعن الناس دهراً طويلاً. وإياكم والخوف فأنه الآفة الملتهمة، وما استشعر الخوف عزيز إلا ذل، ولا قوي إلا خار، ولا أبي إلا تضرع لكل خسف يراد به.
انظروا! فهذه فلسطين قد اجتمعت الأمم على أن تمكن فيها لأنذال يهود مكاناً يتبوأه طغاة المال وطواغيت الفجور وأبالسة الشر، وقد اخذوا يمدونهم بالمال والسلاح ليقهروكم وتكون لهم الكبرياء في هذه الأرض.
وانظروا! فهذه دولة الباكستان قد اجتمعت فيها كلمة المسلمين على أن يكونوا أمة عدتها مئة مليون، فإذا عباد البد (بوذا) قد دمروا عليهم من كل مكان يذبحونهم ويقتلونهم ويفتكون بالنساء والأطفال، ويهتكون أعراض الحرائر، ويدخلون على المصلين في مساجدهم فيضعون السيوف على رقبهم والخناجر في ظهورهم، ويغتالون الآلاف من الآمنين، والدنيا كلها تسمع وتبصر، فلا تجد فيهم منكراً ولا مستبشعاً ولا معترضاً على ضراوة عباد البد.(757/37)
وانظروا! فهذه إندونيسيا تجمع هيئة الأمم متحدة على تركها فريسة للطغاة البغاة من شر ذمة الخلق الذين يسمون بالهولنديين. ويزعمون لكم أن مجلس الأمن قد أمر بوقف القتال، فإذا هولندا تضرب صفحاً عن حكم هذا المجلس، وتوغل في تقتيل هؤلاء المساكين بالنذالة المعهودة في المستعمرين الذين لا يفرقون شيئاً بين هؤلاء البشر وحيوان الغاب، بل لعلهم بحيوان الغاب أرحم، وعليه أحرص، إبقاء على جلده أو فروه مما يرتفقون به في صناعة أو تجارة.
وانظروا! هذه بلاد المغرب من حدود مصر إلى أطراف المغرب الأقصى قد ضربت عليها فرنسا بالأسداد، وحمت عنها كل بارقة من خير، وسامت أهلها عذاب التقتيل والاضطهاد، وسلبتهم كل قوة تتيح لهؤلاء الأبطال الصناديد أن يعيشوا في بلادهم عيشة الكفاف، وشردت كل من دعا قومه إلى المطالبة بالحق المغصوب، وأراغت أن تجعل هذه البلاد الشريفة ذيلاً ملحقاً بالجمهورية الفرنسية.
وانظروا! فهذه مصر والسودان قد فغر لها الوحش البريطاني يريد أن يقضم السودان قضمة واحدة ليجعله قطعة من أوغندة وجنوب إفريقية، ويدع مصر ترعه إن شاء منع عنها الماء حتى يقتل أهلها جوعاً وظمأ، وقد قضى في ديارنا أكثر من خمس وستين سنة حتى هدم كيانها. وسلط عليها لصوص الأجانب واليهود، حتى ما تكاد تجد مصر حيلة في سن القوانين التي تحمي بلادها من استبداد اللص الطارئ بصاحب البلد المقيم.
انظروا لكل بلد تنطق فيه العربية، أو يذكر فيها أسم الله مقروناً باسم محمد صلى الله عليه وسلم، تروا حرباً تشن على أهل العربية والإسلام بلا هوادة، وبأوقح الأساليب وأخفاها:
أيتها العرب! أيها المسلمون! أنها الحرب. أنها المذابح! أنها الحالقة التي أجمعت أمم أوربة وأمريكا أن تستأصل بها قوتكم وتجعلكم عبيداً أذلاء في أرض الله. أنها الفتن المظلمة التي أطبقت عليكم من كل مكان، فجعلت إخوانهم، جهلاً وعناداً وتقليداً وسوء رأي. . .
أنه لم يبتل قوم في تأريخ هذه الدنيا بمثل ما ابتليتم به، فقد مضت القرون وأنتم في غفلة عن عدو قد استفحل أمره واستوت قوته واستمر مريرة، فدخل عليكم بلادكم فاستعبدكم فيها وحاربكم بعلمه وجهلكم، وقوته وضعفكم، واجتماع كلمته وتخاذلكم، فلما أفقتم من الغفوات الطويلة لم تجدوا في أيديكم مالاً ولا سلاحاً ولا علماً، فليس لكم منذ اليوم إلا الشيء الذي(757/38)
هو أقوى من المال والسلاح والعلم: الإيمان بحقكم، والصبر على لأواء هذه الحرب الضروس. فآمنوا واصبروا، فأن قوة الإيمان وحدها تدمر حصون البغي، وتدفعكم إلى طلب المال والسلاح والعلم، وتطهر قلوبكم من كل ضعف، ولا تأسوا على قتيل في هذه الحرب، فأن كل دم يراق من دمائكم إنما هو غيث تغاثون به يغسل عنكم أدرانكم، ويسقي ثرى جف، فينبت لكم أبطال الوغى وصناديد القتال في كل ميدان من ميادين هذه الحرب.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
اطلبوا المال من وجوهه، ودبروا أمركم في حياتكم، فأن المال قوة غاشمة تضارع أقوى قوى الطبيعة التي لا يقف دونها شيء. اطلبوا السلاح من حيث استطعتم، فأن السلاح ناصر من لا ناصر له إلا قوته، فأنشئوا المصانع والمعامل وأخفوا أمركم حتى لا يطلع عليه العدو الذي يعيش بين ظهرانيكم من الأجانب واليهود. واطلبوا العلم حيث استطعتم، فالعلم حياة أبن آدم، لا حياة له بدونه، وهو عون المال والسلاح والحافظ عليهما والقائم بأمرهما. وكل طالب علم فهو مجاهد في سبيل الله وفي سبيل أهله وبلاده، فلا تفتروا عن طلبه. وليعلم كل طالب علم أو مال أو سلاح أنه إنما يفعل ذلك لأمرين: أولهما تحقيق معنى الكرامة الإنسانية، والآخر تحقيق الحرية لبلاده وأمته.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
لست أكتب لكم لتقرأوا، ولكني أنذر قومي في ساعة لا ينبغي للمرء فيها إلا أن يصدق أهله. أنذركم بعداوة الأمم لكم ولمجدكم وتاريخكم، فرببوا لهم أضغانكم وغذوها وحوطوها، ونشئوا صغاركم على بغض هذه الأمم التي حشدت لكم عصبية الجاهلية، وعصبية الصليبية، وعصبية الاستعمار، وعصبية الألوان. أرضعوا كل مولود لبان الأضغان والأحقاد على هؤلاء الطغاة، وأمروهم أن يعيشوا في هذه الأرض لشيء واحد هو أن يقاتلوا أهل البغي والعصبية حتى تستأصلوا هذه الشأفة الخبيثة من أرض الله التي أورثهم إياها قائمين بالقسط والعدل والرحمة وإيتاء كل ذي حق حقه. وإنه لا ينجيكم من هذه البلية إلا أن تتمرسوا بصدق العداوة، فهي التي توقظ فيكم كل عزيمة غافلة، وتهديكم إلى مواطن الضعف في نفسه كان خليقاً أن يصاب منها، ومن عمى عن مكامن الغدر في نفس عدوه كان قميناً أن يرتكس في مهاويها. لقد فضح الصبح أعداءكم وأضاء لكم عن خبايا قلوبهم،(757/39)
فلا يكن أمركم عليكم غمة، فأنتم بين اثنتين: إما المكاشفة بالعداوة السافرة في غير مداورة أو سياسة، وإما أن ترضوا لأنفسكم أن تصيروا طعمة لهذه الأمم الباغية على الشر ذمة اللئيمة من إسرائيل. وما أظنكم ترتضون الثانية، فليس لكم إلا الأولى.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
لقد انقضت دهور وأنتم تساقون إلى قدر لا يعلم غيبه إلا الله، فاستبد بكم قوة أولى ضرار وبأس شديد، فأفسدوا قلوب جمهرة من أبنائكم وذراريكم، فنشأت تحت ظلال هؤلاء الطغاة ناشئة من أنفسكم تعاظم أمرها، وصار لها فيكم مكانة تتبوأها، وكل ذي مكانة أو سلطان أو ثروة فهل ملئ بأن يخدع الجماهير، وهم أسرع إلى طاعته ومتابعته فيما يخدعهم به، فاحرصوا على ألا تتبعوا الرجال على أسمائها بل اتبعوا الهدى وإن جاءكم على يد المحتاج الراغب، وتبينوا المدلس عليكم من الناصح لكم. ولا تقولوا هؤلاء سادتنا وكبراؤنا، فما أضل البشر إلا سادتهم وكبراؤهم. ولا تترددوا إن رأيتم معوجاً تقوموه مهما بلغ من الشأن، فأن تقويمكم إياه أبقى له وأجدى عليه. ولا تخرجوا على آراء السادة والكبراء صماً وعمياناً، بل أسمعوا نبضات القلوب، قرب لسان ينطق بالخير وهو ينبض بما فيه فسادكم وفساد أمر بلادكم. وأبصروا وتبصروا، فإن لا يعطي المقادة إلا السائمة التي تقودها عصا الراعي لا العقل والإدراك. احملوا سادتكم وكبراءكم على وضح الصراط، فكل ضال منهم سوف يضل خلقاً منكم كثيراً ويورده موارد الهلاك.
أيتها العرب! أيها المسلمون!
إنها ساعة في تاريخكم ليس يعدها إلا النصر أو الهزيمة، وكل امرئ منكم يحمل تبعة لا يسقطها عنه عذر، ولا يعذره أداء حقها شيء. وانتم أربعمئة مليون نسمة لا عصابة قليلة في الأرض، فإن كنتم صفاً واحداً وبنياناً مرصوصاً، فاعلموا أنه لن يغلبكم شيء، ولن تهد هذا البنيان قوة مهما بلغت على ظهر هذه ا {ض، فتماسكوا وتقاربوا وتعاونوا، ولا تدعوا ثغرة يدخل منها عليكم عدوكم لينقض هذا البنيان الذي بناه آباؤكم وأسلافكم في آلاف السنين، وأنتم الأعلون إن شاء الله، وليهود الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أيتها العرب! أيها المسلمون!(757/40)
لا تهابوا أهل العصبية في أمريكا وأوربة، ولا تثقوا بأحد منهم، ولا تهادنوهم في حقكم، ولا تناصروهم كما ناصرتموهم من قبل فغدوا بكم وتألبوا عليكم وامتهنوكم وقابلوا حقكم بالازدراء والتحقير في هيئة الأمم المتحدة، وأنكروا كل يد أسديتموها إليهم، ومزقوا أوطانكم، وأن ينشئوا لجراثيم اليهود وكراً خبيثاً في الأرض المقدسة في سرارة بلادكم , فإن فعلتم فيومئذ يعلم هؤلاء الأخباث والأشرار أن العرب وأهل الإسلام وأهل دين المسيح في الشرق، كلهم على قلب رجل واحد يريدون أن يقيموا في هذه الأرض شريعة الإنسان العادل لا شريعة الوحش الضاري في ظلمات الأدغال والغابات.
ياساسة العرب!
إياكم وخداع الناس، ولا تخادعوا ربكم الرقيب عليكم، فيوشك أن يحل عليكم غضب من ربكم ثم غضب الناس عليكم، ولا تبيعوا تاريخكم وتأريخ آبائكم وذريتكم بعرض زائل ومجد مزيف، واعلموا أن قومكم قد ثاروا من مضاجعهم ليطلبوا حقهم بحد السيف، فلا تكونوا مخذلين ولا واعظين ولا متهاونين. واعلموا أنها الحرب! شذاذ الأمم وصعاليك اليهود بين ظهرانيكم، والبغاة الطغاة عن أيمانكم وعن شمائلكم يلتمسون الفرصة ليمحقوا العرب والمسلمين ويطحنوهم طحناً.
فهبوا جميعاً إلى الجهاد فمن نجا فقد فاز بالنصر وبرضوان الله عليه، ومن قتل فقد فاز بالشهادة وجنة المخلد والذكر الذي لا يفنى. (كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).
محمود محمد شاكر(757/41)
يا شرق!
للأستاذ محمود الخفيف
(مهداة إلى أديب العربية الكبير الصديق الكريم الأستاذ
النشاشيبي
ما شاء فليسخر بي الساخر ... بالغرب، ما عشت، أنا الكافر
يزيدني الحق جحوداً به ... ما زوّر الحقَّ به فاجرُ
إلا نجوماً فيه رجَّافةً ... يكاد يخفي لمحُها الحائر
ما غده؟ هيهات يرجى غد ... من أمسه مات الذي يُحمد
والحاضرُ الكاشرُ يا هوله ... يا سوء ما يطغى وما يجحد
للشر في الأرض على رحبها ... في كل ركن آمن مرصد
دنيا من المأكول والآكل ... لا شيء من حق ولا باطل
الغابة اللفاء ديناهمُ ... فالعيش للفاتك والخاتل
يا ويحهم هذا الذي بشروا العصر به من بشر كامل!
الدينُ حيران الخطى هائب ... مروَّعٌ في بُرْدِه شاحبُ
والرحمة السمحة مذعورة ... من كل صوْب حولها ناعب
يا عجباً وهو ألدْ الخصام ... يردد الإنسان لحن السلام
يهتف بالأمن وفي روحه ... أنشودة الذرةُ تلقى الهيام
والأرض أشلاءٌ تُرى ها هنا ... وتلك أطلالٌ وهذا حطام!
مهزلة يلهو به الأقوياء ... يخجل منها اليوم حتى الرياء
حبالة القانص كم أوقعت ... في الشرك الأغفال والأذكياء
كم بشر الأرض بآماله=مُبشرٌ حتى جرت بالدماء
يا شرق كم غرتك بيض الوعود ... ألفْتها حتى ألفت القيود
تخطر في القيد على ذلة ... تلوك في الأغلال مجد الجدود
إهنا بماضيك وفاخر به ... ولُكهُ يا مسكين حتى يعود!(757/42)
يا ظامئاً يطلبُ ماء السراب ... إشرب على الغلة مُرَّ العذاب
يا حالماً أغراه طيب الكرى ... أبشر مع الصبح بسوء المآب
يا لاهياً ويك أما تتقي ... النابُ والمخلبُ طبعُ الذئاب
قومُك بالموت أعزوا الحياة ... وأفزعوا بالبأس بغْي الطغاه
في السيف والمصحف برهانهم ... تعنو له في العالمين الجباه
لا السيف ظلاَّمٌ عتيٌ ولا ... يُروَّعُ المصحف عات عصاه
فاوت بين الناس خوضُ الردى ... يا شرق هل أصرخ أين الفدا؟
رِدوا فقد جدَّ بكمْ دهركم ... أو فارتضوا الخسف لكم مورداً
ما من قلوب ألفت قيدها ... إلا غدت تعبُدُ من قيَّدا
دين العلا إن كنت لا تعلم ... دينك يا ابن الشرق يا مُسلمُ
دينك بين الناس سوى فما ... بالك للطغيان تستسلم؟
دينك إن عدْت لأحكامه ... حكمت لا دنْتِ لمن يحكم
عقيدةٌ دينك لا تُغلب ... لا تعرفُ البطش ولا ترهبُ
شريعةٌ خالدةٌ فُصلت ... دستورها الخالدُ لا يُسلبُ
روحٌ من الله سماويةٌ ... شرقيةُ المطلع، لا تغربُ
يا شرق حتام تلوم القدر ... ولا تنى ترنو إلى من غبر؟
أنت الملوم اللائمُ المشتكي ... كم صرخت حولك شتى العبرْ
رضيت، لو أنكرت ما تشتكي ... منه، تهاوى عمره واحتضر
إلام يا شرق حياة الجسد ... في ذلها طال عليك الأمدْ
يا موطِنَ الروح أما هزةٌ ... تُشعلُ من أرواحنا ما خمدْ؟
ويحك يا عاني أما غضبَةٌ ... لشدَّ ما تذعنُ إذ تُضطهد!
يا أمةً تهضمُ أوطانها ... ولا يني يمرَحُ فتيانها
أترتضون الذُلَّ؟ ما خطبكم ... ذات نفوس مات إيمانها
تالله ما البعث سةى رجفةٍ ... يُمحصُ الأْنفسَ بركانها
واأسفاه كل حمى مستباح ... هيض الحمى منذ فقدنا السلاح(757/43)
يا فتية الشرق ألا خالدٌ ... وقد تداعى قومنا، أو صلاح؟
حِطَّينُ هذا وقتها فاحشدوا ... أبطالكم، هذا أوان الطماح
أما يهز الشرق بغيٌ عتا ... بعد خفاء سيفًهُ أصلتا؟
الطمع الغاضبُ بعداً له ... كلَّ فؤاد لؤمُه أعنتا
متى أرى الشرق لظى حوله ... ويلاه! كم تلهبُ صدري متى!
أيةُ نارٍ أوقد الطامعُ ... وأي بغي ذلك غِيلةٍ وازع
بيعت فلسطين فيا موطناً ... في علَن غاضبهُ البائع!
بيعت وما أعجب بيع الشعوب ... فيما وعى التاريخ أدهى الخطوب
سوق بها السواس كم زاولوا ... تحاسةً هانت إليها الحروب
كم أعتم الغربُ وفي أفقه ... كم بهر الأبصار برقٌ كذوب!
قائمةٌ من عهدها الأسبق ... حربُ الصليبيين في المشرق
لم يفتر الغربُ ولم يألنا ... من حربه أو كيده المرهق
لا تلم الغرب على بغيه ... اللوم للمستسلمك الموثق
اللوم للجاثم في كنَّه ... في ميعة القوة من سنَّه
يضنُّ بالمال أما حفنةٌ ... للغاصب الواغل من ضغنه؟
باع فلسطين حماة الأمم ... أهل المواثيق رعاة الذمم
الكاشفون الضر عن أرضنا ... حين تغشى الناس فيها الظلم
الكارهون البغي من أنقذوا ... بالنار حرياتهم والقلم!
بالذهب الباغي اشترتها يهود=وعصبةُ الأمن عليها شهود
الأمنُ؟ ما الأمنُ سوى غاية ... تُنمى لا تلقوا إليها الوقود!
عز يهوذا حول قبر المسيح ... غداً له في الشرق ملكٌ فسيح
آه من المال به الباطل اللجلج إذ يعوي مبينٌ فصيح
بالمال كم جادوا وكم آكل ... للسحت فيهم أشعبيّ شحيح
في الأرض ملعونون ما طوفوا ... كم بخسوا الكيل وكم طففوا
في كلَّ رُكن للربا آكلٌ ... باغٍ وفي كل حمى مصرف(757/44)
تالله لن يفلح كيدٌ لهم ... ما أشعلوا الفتنة أو أرجفوا
قل لبني المشرق من واجد ... يبكي ومن مستصرخ جاهد
قل لرعاة الشرق من علية ... تشاوروا في مجلس حاشد
خوضوا المنايا الحمر أو فاقعدوا ... ما من طريق غيرها قاصد
صبوا على النار هناك الدما ... لا تبتغوا غير الردى مغنما
جد العدو اليوم في بغيه ... فأطفئوا النار التي أضرما
من دمكم إن صال أعداؤكم ... وصمموا فالحر من صمما
يا ابن الكماة الغر جدَّ الزمن ... واستصرخ اليوم بنيه الوطن
يا ابن الأولى النجدة كانت لهم ... ديناً وكانوا عصبة في المحن
أفق على الصيحة طال الكرى ... شرٌ من الأجداث هذا لوسن
في الأفق الشرقي لون الدم ... منورٌ بعد الدجى المعتم
أفق على الإصباح وانشد له ... لحناً إلى مجد الردى ينتمي
وانهض إلى الموت وخض لجه ... مبتسماً في وجهه الأقتم(757/45)
عبد الله بن عباس
للدكتور جواد علي
لم يكن في طبع عبد الله بن عباس ميل إلى السياسة. فلم يشترك في إدارة شؤون الدولة الإسلامية الحديثة، ولم يترأس حزباً من الأحزاب السياسية، ولم يتول منصباً من المناصب الكبرى خلا مرة واحدة تولى فيها منصب إمارة البصرة في عهد خلافة ابن عمه علي بن أبي طالب في سنة 39 للهجرة - ولعله فعل ذلك إرضاءاً لإبن عمه - غير أنه لم يبق في منصبه هذا غير عام ثم اعتزل السياسة وقفل راجعاً إلى الحجاز حيث اعتكف في (الطائف) لسبب لا زال موضع بحث في كتب التاريخ.
وقد عاش في الحجاز قربة ثلاثين عاماً على غلة أملاكه الكثيرة حتى توفى بالطائف عام 68 أو 69 أو 70 للهجرة وقد زار في خلال هذه المدة بلاد الشام فوفد على معاوية وتحدث إليه ولكنه صرف أكثر هذه المدة في الحجاز في دراسة الموضوعات العلمية ولا سيما ما يختص بتفسير القرآن وأخبار الأوائل وأيام العرب. وقد بعثت هذه الدراسة نشاطاً عظيماً في عاصمة (الثقفيين) حولات إليه الأنظار. فجاءت إلى (الطائف) جماعات تلتمس العلم من (الحلقة) التي كونها ابن عم الرسول ومن المدرسة التي أنشأتها في الطائف فغدت بعد مدة قصيرة أكبر مدرسة (للتفسير).
ولم يشترك ابن عباس في العهد الأموي في الأحداث السياسية التي وقعت فيما بين الأمويين وخصومهم. ووقف من كل ما حدث موقف رجل محايد ناصح. فكان ينصح من تحدثه بالخروج على الأمويين بالتروي وعدم الاندفاع. ولما وقع الخلاف بين عبد الله ابن الزبير وعبد الله الملك بن مروان وجد الحكمة في العزلة والابتعاد عن الناس واتباع سياسة الصمت والسكوت فكان إذا سئل في موضوع سياسي يقول: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لم تفعل تندم. وقد أوقعته هذه السياسة عند البعض في مواطن الشبهات فقالوا إنه كان على اتصال خفي بمعاوية الذي أغدق عليه الأموال وبالأمويين؛ وأنه تفاهم معهم وأيد جانبهم بهذه السياسة. وقد صادفت هذه التهمة هوى في نفوس بعض المستشرقين فاتخذوها مغمزة للكيد للمسلمين.
والحقيقة أن هذه السياسة التي اتبعها عبد الله بن عباس تمثل وجهة نظر فريق أدرك أن من(757/46)
العبث مقاومة الأمويين وأن من الخطأ الانحراف في تيارات السياسة وفي الفتن التي ظهرت بعد وفاة الرسول؛ فاتبعوا سياسة (العزلة) ورأوا فيها خير وسيلة من وسائل النجاة. وقد قويت هذه النظرية بعد المعارك الإسلامية التي وقعت فيما بين المسلمين فأصبحت مبدأ من المبادئ القوية ذوا قواعد وأحاديث وأتباع ورجال يدعون إليه ويبشرون.
ومن الذين فضلوا العزلة واجتنبوا الأحزاب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، وكان ينهي ابن الزبير عن طلب الخلافة والتعرض لها كما نهى آخرين عن الخوض في السياسة والانهماك بها، إلا أنه لم يؤيد جانب الأمويين ولم يبدأ رأياً في سياسة فترك الأمور تجري في مجاريها إلا ما كان يخص مبدأ من مبادئ الأخلاق أو الدين.
وقد كان من مصلحة الأمويين بالطبع إعراض الناس السياسة والانصراف عن التفكير في الملك ولا سيما إذا كان ذلك من الأسر الرفيعة والبيوتات ومن أهل الحرمين؛ ولذلك حاول الأمويين مراراً بذل الأموال في المدينة ومكة وتعويد الناس على عيشة اليذخ والراحة والتلذذ بملاذ الحياة الناعمة وفي ذلك ضمان في صرف السادات عن التفكير في الحكم. ولو أن هذه السياسة لم تنجح ولم يتمكن الأمويين مع ذلك من تحويل أهل المدينة عن التفكير في مصير الحق والناس.
ولقد كان من مصلحة الأمويين أيضاً أن يذاع فيما بين الناس بأن كل ما حدث إنما حدث بحكم الله وقضائه، لأن في ذلك تثبيتاً لمركزهم وتأييداً لحجتهم؛ فإذا كان الله قد قضى ذلك فلا مرد لحكمه ولا قوة تمكن الناس من زحزحتهم عن الحكم. وإذا كان الله قد قضى أن يكونوا ملوكاً فله حكمه وعلى الناس الصبر والانتظار.
على كل حال فقد أوجد عبد الله بن عباس في مدينة الطائف جواً علمياً وكون مدرسة حقيقية بفضل هذه النزعة الفلسفية اغلتي كان يميل إليها منذ صغره فكان (يجلس يوماً لا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً لا يذكر فيه إلا التأويل، ويوماً لا يذكر فيه إلا المغازي، ويوماً الشعر ويوماً أيام العرب). وقد ألتفت حوله جماعة من طلاب العلم كانت تتلذذ بالاستماع إليه. فكان يجيبهم ويسألهم ومن هذه المناقشة العلمية يتولد منهج البحث.
ولم يجد عبد الله بن عباس شأن سائر علماء الصحابة غضاضة من الأخذ عن أهل الكتاب أو عمن أسلم منهم. مثل (كعب الأحبار) و (عبد الله بن سلام) وإن كان قد حذر منهم ونهى(757/47)
من لا علم له عن الأخذ عنهم لما أشهر عنهم من الوضع والدس (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) (ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألهم). ويظهر مما ورد في الكتب أن أبن عباس كان قد سأل (كعب الأحبار) عن مسائل كثيرة منها ما يخص المسائل الإسرائيلية، ومنها ما يخص القضايا الإنجليزية، ومنها ما يخص مسائل تفسير القرآن الكريم. وحتى في القراءات، كالذي ورد من أن ابن عباس أختلف مع عمرو ابن العاص في قراءة (لدنى - أو لدنى) فذهبا إلى كعب الأحبار لتسوية ذلك الخلاف.
وإذ دققنا هذه الأخبار والروايات التي ذكرها الرواد عن ملاقاة ابن عباس لكعب الأحبار تدقيقاً علمياً فأننا سنخرج من هذا البحث ونحن غير مطمئنين من وقوع هذه الملاقاة. ولا تستطيع أقوى رواية تأكيد رؤية عبد الله لكعب الأحبار وعلى الرغم من تأكيد الرواة من أن عبد الله وأمثاله من كبار المسلمين كانوا يلجئون إلى كعب وأمثاله في مسائل كثيرة إلا أني لا أستطيع أن أسلم بأكثر ما رووه وما ذكروه عن عبد الله بن عباس وصلاته بمن أسلم من أهل الكتاب.
وقد زعم جماعة من المستشرقين استناداً على بعض الأخبار أن عبد الله بن عباس كان يجالس يهود الحجاز يتحدث إليهم، وأنهم كانوا يزورونه في بيته، وأن ما رواه عن الخليقة والتكوين والأنبياء هو من وحي هذه الجلسات. وقد فاتهم أن الخليفة عمر ابن الخطاب كان قد أمر في خلافته بإجلاء جميع أهل الكتاب لأنه لا يجتمع دينان في جزيرة العرب؛ فكيف يمكن مجالسة اليهود لعبد الله بن عباس في بيته بالطائف أو اجتماعه معهم في الحجاز والظاهر أن هذه الأخبار إنما دخلت على ابن عباس، وأن الذين أسلموا من أهل الكتاب، والذين اجتمعوا به قد استغلوا فرصة اجتماعهم به فادخلوا ما أرادوا إدخاله باسم عبد الله بن عباس، وقد وجدت أرضاً صالحة في العهد العباسي لأسباب سياسة اقتضتها مصلحة الدعاية في ذلك العهد ظناً من ساسة ذلك العهد أن في رواج هذه الأخبار زيادة في منزلة جدهم الذي كان يجادل أهل الكتاب وينتصر عليهم ويفسر لهم أخبار كتبهم وأمور دينهم، ويروي لهم ما في التوراة والإنجيل. وقد اقتضت مصلحة السياسة في ذلك العهد وضع أحاديث كثيرة حتى على لسان الرسول في الثناء على هذه الدولة وعلى أرض بغداد وفي التبشير بملامح بعض الخلفاء.(757/48)
وقد تمكن من أسلم من أهل الكتاب من تكوين دعاية طويلة عريضة فصوروا في الكتب الإسلامية على أحسن صورة. صوروا على أنهم أعلم أهل زمانهم، وأنهم أفقه أبناء دينهم في التوراة، وأنهم (الأحبار) حقاً، وأنهم كانوا يعرفون أصل التوراة ومحتواه من أسرار. ولهذا السبب قالوا عن أحدهم وهو (كعب) أنه (كعب الأحبار) وأنه (ملجأ العلماء)، وأنه درس عامر ابن عبد الله بن عبد القيس الأنباري الزاهد المعروف التوراة في نصها الأول وأنهم كانوا على جانب كبير من الزهد والتقوى، وأنهم فوق التهمة والكذب. ولكن جمهرة من المحققين ارتابت من هذا القول وشكت في أكثره. والواقع أن أكثر ما روى عن هؤلاء من أخبار وأقوال يشير إلى أنهم لم يكونوا على نحو ما قيل عنهم من العلم، وأنهم لم يكونوا أصحاب علم بالتوراة وأنهم ما أوردوه بثوب إسلامي لم يكن سوى أشباح ضعيفة لما ورد في بعض الأماكن من أسفار التوراة.
وأنه كان في الواقع نوعاً من القصص الشعبي الإسرائيلي الذي كان شائعاً بين يهود اليمن والحجاز وأنهم بيهوديتهم هذه يختلفون كثيراً عن يهود فلسطين أو العراق. وأنهم حاولوا إدخال (اليهوديات) في الإسلام وهو ما عرف فيما بعد باسم (الإسرائيليات) أو (القصص الإسرائيلية)، والتي حذر منها المفسرون. وأن بعضهم تآمر على الخلفاء؛ بينما كان يتظاهر بخلاف ذلك.
جواد علي(757/49)
مصرع البغي
للأستاذ محمد سعيد العريان
قال الشيخ لفتاة وهما يسلكان طريقهما في بعض أرباض الكوفة: مل بنا يا بني عن هذا الطريق؛ فليس يطيب لي يومي إذا وقعت عيناي إلى أنقاض تلك القلعة المهدومة؛ كأنما يجثم وراء كل حجر من أحجارها المتناثرة نحسن يتربص لكل عابر سبيل. . .
قال الفتى منكراً: وي! كأنك تزعم يا أبتي أن في بعض الجماد ما ينفع وما يضر!. .
قال الشيخ وقد أخذ طريقاً آخر إلى الوجه الذي يقصده، وقد استند كفاً إلى كتف الفتى وكفاً إلى عصاه: نما هو يا بني ما قلت، وأنه لا نافع ولا ضار إلا الله؛ وأعوذ به من كفر بعد أيمان؛ ولكن ذكريات تتراءى لي من هذه الخربة كلما نالتها عيناي فتتجسد لي في النوم واليقظة صوراً حمراء دامية؛ لقد عمر أبوك طويلاً يا فتى ورأى ما لم ترى؛ ولعلك إن تعمر مثل عمري فتتحدث إلى بنيك بما رأيت وما سمعت من أنباء هذه القلعة المشئومة!. .
استشرفت نفس الفتى إلى جديد يقصه عليه أبوه من أنباء الماضي، وأن أباه لراوية أخبار ومحدث تهفو النفوس إلى حديثه ويرهف السمع؛ ولكن الشيخ مما أهوى الزمان منه لم تكن به قوة على حديث طويل وهو يمشي؛ فلما بلغ داره وتخفف من ثيابه جلس إلى وسادته ليستأنف حديثه عن تلك القلعة قال: لقد رأيتها يا بني منذ بضع وخمسون سنة، وكنت يومئذ فتى في مثل سنك، والمسلمون حديثو عهد بهذا المصر، وأميرهم فيه سعد بن أبي وقاص، فلما بصر البلد وشرع طرائقه ونظم ديوانه أمر أن تنشأ هذه القلعة وأتخذها داراً للحكم؛ وقد كان يعد مستجاب الدعاء يا بني؛ وكأني به حين حفر أساسها قد دعا الله أن يجعلها عصمة للمسلمين من عدوهم؛ ولو أنه أطلع على الغيب لكان دعوته إلى الله أن يجعلها عصمة للمسلمين من شر أنفسهم؛ إذن لارتدت عنها شهوات المبطلين وعصمة أهل هذا المصر من أن يسفك بعضهم دماء بعض كما عصمتهم من عدوهم؛ فما طرق الكوفة عدو مناهل الشرك منذ مصرها سعد وأنشأها بها هذا الحصن أو يسفك بها كافر دماً؛ ولكن اتخذوها مطمعة يسفك بها بعضهم دماء بعض. . . قال الشيخ:
في هذه القلعة يا بني، شهدت رأس الحسين بعد أن قتله أهل البغي دون الفرات شهيداً مظلوماً وحالوا بينه وبين الماء، لا يشرب من ظمأ، ولا يجوزه إلى مأمن، ولم يكفهم ما(757/50)
فعلوه به وبأهله وولده، ففصلوا رأسه عن جسده وحملوه إلى عبيد الله بن زياد الدعا، فكأنما أراه الساعة والرأس الشريف بين يديه المخصبتين بالدم لا يكاد يكتم فرحته بموته؛ كأن قد ضمن به الخلود في الحياة حيث ضمن به الخلود في أمارته!
ثم حمل الرأس إلى دمشق ليطيب يزيد بن معاوية بالنظر إليه ويطمئن مالاً باستقرار الأمر له.
هل رأى قط واحد من أهل الكوفة أو من أهل هذه القلعة رأس الحسين في الطست بين يدي عبيد الله ثم غابت هذه الصورة عن خياله؟. . . قال الشيخ:
ومضت يا بني من ذلك اليوم سنوات، ومضى يزيد إلى ربه بما حمل من أوزار الناس وأوزار نفسه، وتعاقب على عرش بني أمية في الشام أمير بعد أمير، وظن عبيد الله أبن مرجانة أن العيش قد طاب له، وأحسبه قد نسى يوماً له بقلعة الكوفة وبين يديه رأس الحسين الشهيد، ولكن الأقدار لا تغفل عن أهل البغي؛ ولم ينس المؤمنون من شيعة بني هاشم جناية بني أمية وبني سمية على عترة النبي المصطفى من خير خلقه؛ فمضت الدعوة إلى الثأر لهم تتنقل من فم إلى فم وتتقاذفها الفلوات والأبصار حتى نهض لها المختار من أبي عبيد يهتف في شيعة الحق: يالثارات الحسين!
واجتمعت له الجموع وتكتبت الكتائب ودانت لدعوته البلدان؛ وخرج ابن زياد ليلقاه، أو ليلقى حينه؛ فألتقي بجيش المختار في أرض الموصل على شاطئ نهر خازر؛ ونالته ضربة سيف باتر فقد نه نصفين، فيداه في المشرق ورأيه في المغرب، وكما حمل رأس الحسين من حيث قتل على الفرات إلى قلعة الكوفة - حمل رأس عبيد الله من حيث هلك على شاطئ نهر خازر إلى قلعة الكوفة كذلك. .
وفي هذه القلعة يا بني، شهدت للمرة الثانية في طست بين يدي أمير القلعة؛ وكأني يومئذ بالمختار بن أبي عبيد إلى رأس ابن مرجانة بين يدي وهو في مجلسه ذاك من تلك القلعة وعلى شفتيه مثل تلك الابتسامة!. .
ولعل كثيرون غيري قد رأوا ما رأيت يومئذ وفي ذلك اليوم الآخر، فانطبعت في أنفسهم صورة الحسين ومنظر الأميرين؛ فمنهم من نسى صورة بصورة ومنظراً بمنظر؛ ولكنني لم أنس! قال الشيخ:(757/51)
ومضت يا بني سنوات أخر، وتقلبت الأحوال بالناس ما تقلبت، وجدت أمور بعد أمور؛ ولكني رجلاً من أصحاب الأمر لم ينس أن له ثأراً عند المختار بن أبي عبيد؛ ذلك مصعب ابن الزبير يا بني، أمير تلك الجهات من قبل أخيه عبد الله المتأمر بمكة؛ فقد كان يرى المختار دعياً في شيعة علي، يتلصق بهم ليطلب لنفسه ملكاً وإمارة؛ وقد سبقت له بيعة لعبد الله ابن الزبير في مكة على أمل يأمله، فلما خاب أمله ذاك زعم أنه شيعة علي والثأر لولده، ليصل بذلك إلى مناوأة الأمويين والزبيريين جميعاً؛ فنهد مصعب لحربه بالجيش اللجب، تشايعه قبائل وبطون وجماعة من أهل الرأي وطائفة من أولي البأس في الحرب؛ والتقى الجيشان في معارك، ودارت الدائرة على المختار فلجأ إلى دار الإمارة بالكوفة معتصماً في طائفة قليلة من أصحاب لا قوة لهم على المقاومة؛ وحصرهم جيش الزبيريين حتى لم يجدوا أبداً من البروز لحربهم أو النجاة بأنفسهم؛ ونالت المختار ضربة كانت فيها نفسه، فاجتز رسه وحمل إلى الأمير مصعب بن الزبير في قلعة الكوفة.
وكما شهدت من قبل رأس الحسين ورأس ابن مرجانة بين يدي أمير القلعة، شهدت رأس المختار. . .
وكأنما هجس بنفسي وقتئذ هاجس وأنا أنظر إلى مصعب بن الزبير وبين يديه رأس المختار وتمثلت لي صورة غير التي تراها عيناي في تلك الساعة؛ فكأن الذي في الطست ليس هو رأس المختار بن عبيد، ولا رأس ابن مرجانة، ولا رأس الحسين؛ ولكنه رأس مصعب نفسه؛ وكأن الأمير الجالس على الكرسي رجل آخر غيره، ولكنه رجل لا أعرفه، لأن عيني لم تقع عليه قط.
هذا منظر تكرر على عيني ثلاث مرات، في صورة واحدة، ومكان واحد، ولأسباب تكاد تتشابه؛ فكأنما رأيت منظراً رابعاً لم يره أحد بعد، وكأن هاتفاً من وراء الغيب يهتف بصوت أكاد احكي نبره: لكل باغ يوم!. . .
واستقرت هذه الصور الأربع في واعيتي لا أكاد أغفل عنها طرفة عين؛ أما ثلاث منها فرأيتها رأي العين ووعيتها وعي اليقظة؛ وأما الرابعة فكانت وهماً تجسد حتى قارب أن يكون حقيقة مما يدرك بالحس! قال الشيخ:
لست أدري يا بني أكانت هذه الصور الأربع في واعيتي أنا وحدي أم كان غيري يعيها؛(757/52)
ولكن الذي أرويه يقيناً هو أن رجلاً واحداً من الذين شاركوا في هذه الحوادث الدامية لم تخطر على باله قط الصورة الرابعة؛ ذلك هو مصعب بن الزبير نفسه! وتوالت الأعوام يا بني وهذه الصور تتراءى لي في يقظتي وفي منامي، حتى حرمت على نفسي أن أجوز ذلك الطريق حتى لا تقع عيني على تلك لقلعة المشئومة فتجد لي ذكريات وتبعث تلك الصور البغيضة إلى نفسي. . .
وكان عبد الله بن مروان على عش بني أمية في الشام، وقد تفانى أعداؤه ومناوئوه طائفة بعد طائفة وأهلك بعضهم بعضاً فلم يبق ثمة من يخشى خطره غير ابن الزبير؛ فهيأ جيشاً سيره نحو العراق لحرب مصعب؛ وأنظم إليه فلول من أصحاب المختار ابن عبيد، لا يحملهم على الحرب معه إلا الرغبة في الثأر من قاتل صاحبهم. . .
والتقى جيش الزبير وجيش الزبيرين وجيش بني أمية في مسكن، على نهر الدجيل، عند دير الجاثليق؛ ونشبت المعركة، فشد على مصعب رجل من أصحاب المختار وهو يقول: يا لثارات المختار! وطعنه فأبلغه أجله. . .
واحتز رأس مصعب وحمل إلى عبد الملك بن مروان في قلعة الكوفة. . .
وشهدت الصورة الرابعة عياناً، وكنت أراها رأى المتوهم منذ بضعة سنين. ورأيت عبد الملك بن مروان جالساً على كرسيه وبين يديه الرأس في الطست. . .
وكان بين مصعب وعبد الملك مودة حين كانا في المدينة قبل أن ينزغ بينهما الشيطان. . . وأحسبني رأيت دمعة في عين عبد الملك وهو يقول محزوناً وينظر إلى رأس مصعب: (متى تغدو قريش مثلك!؟)
وغامت على عيني غائمة، فقلت ولا أكاد أعي ما تلفظه شفتاي: (أني رأيت بهذه القلعة رأس الحسين أمام عبد الله بن زياد، ورأس ابن زياد أمام المختار، ورأس المختار أمام مصعب، ورأس مصعب أمام أمير المؤمنين!. .)
وبلغت كلماتي أذن الأمير، فكأنما تطير مما سمع، فأمر بنقض بنيان القلعة؛ فهي من يومئذ أنقاض يا نبي!
قال الفتى:
فما يفزعك منها يا أبت وقد صار إلى ما ترى؟(757/53)
قال الشيخ:
- لست أدري يا بني؛ ولكني أتوقع كلما وقعت عيناي على أنقاضها أن أحداثاً ستحدث في هذا المكان، وتزدحم على ذكريات الماضي وصوره الحمراء الدامية. . .
ثم صمت الشيخ وأطرق، وسرحت خواطر الفتى إلى واد بعيد.
وتعاقبت السنون، ومات الشيخ، وأيفع الفتى ثم اكتهل وبرقت في فوديه شعرات بيض؛ ونسى كل ما كان من حديث أبيه؛ ونسى أهل الكوفة ما مر بهم من أحداث وما وقع في القلعة من حوادث؛ ولكن أنقاض القلعة ظلت مركومة حيث كانت. . .
(ومر الفتى ذات يوم بالمكان فتذكر، ووقع في وهمه أن شيئاً ما سيحدث. . .
(ومضت أيام، وحدث شيء. . .
من وراء أنقاض القلعة المهدمة بالكوفة بدأت طلائع الزحف العباسي إلى دمشق، لتحطيم عرش بني مروان!!
وتنفس الفتى نفساً عميقاً حين بلغه النبأ، وقال في ثقة واطمئنان: آمنت بأن لكل باغ مصرعاً. .!
محمد سعيد العريان(757/54)
من خطايا التائهين
محمود حسن إسماعيل
من هؤلاء؟ دوَّخوا الترابا
وأشبعوا وجهَ الثرى عذابا
في كلَّ يومٍ يطرُقون بابا
ويفجأون الزمن المنايا
فيمسخون الخُلد والشَّبابا
ويُثكلون سِحرهُ الوثابا
سيَّان إن هُمْ نادموا الأترابا
أو عاشرُوا الوُحوش والذَّئابا
سيَّان يلقوْن المنى قبابا
أو يرضعون حظها ببابا. . .
صار الوجودُ حولهم سرابا
وسحرهُ أضحى لهم عذابا
ونارُهُ صُبَّت لهم شرابا
فأينما حَلُّوا رأوْا خرابا
وصادفُوا الهمُوم والأوصابا
والغُمَّةَ الهوجاء والضَّبابا
ونِقمةً لا تعرفُ المتابا
ولا تذوقُ الندم الصَّخَّابا. . .
وأينما طافُوا رأوا حِجابا
وظُلمةً لا ترفعُ النَّقابا
سدَّت عليهم سدلها المُرْتابا
وضيعت في قلبها المآبا. .
سُبْحان من فرَّقهم شعابا(757/55)
وهشهم في مُلْكِه ذُبابا
وقدَّر التيهُ لهم عقابا
ويْلي عليهم عبدُوا الترابا
وأَلَّهُوا من الحصى أربابا
وقدَّسوا من زيْفه كتابا
وبعثروا صلاتهم أسرابا
في كلَّ أرِض تنشد المحرابا
وترصدُ الدينار أين غابا
ولو طوت لمعته الشهابا
ودفنت في برقها السَّحابا
العرضُ من أجسادهم تحابى
وقبَّل الأبواب والأعتابا
وشق عن مزارِه الأثوابا
ومسَّهُ تيهُ الهوى فذابا
مدَّت فلسطينُ لهم رحابا
وأَفسحت لضيْفهم جنابا
فأترعوا السمَّ لها والصَّابا
وحَيَّرُوا في أمرها الألبابا
أَمضت إليهم سيْفها الغلاَّبا
فساقهم في نارها أَحطابا
فليجعلوا التيه لهم ركابا
ويتركون الله والأعرابا(757/56)
نملتان في الفلفل
للدكتور زكي نجيب محمود
جلس الشيخ في دكانه محزوناً؛ اعتمد رأسه على راحتيه وجعل يفكر: ماذا أنا صانع يا رباه في جحافل النمل التي تهجم على سكري في ظلمة الليل؟ إنها لتأكلني أكلاً إذ هي تأكل قوت عيالي، وإني لعائل أسرة أكاد أنوء بحملها الثقيل؛ لو كانت النمال مما يرعى مبادئ الأخلاق، لناشدتها الضمائر ألا تسطو على ملك غيرها، فحرام عليها أن تستريح بياض النهار في أعشاشها، حتى إذا ما سترها الليل بعتمته، ملأت بطونها مما كد غيرها في جمعه وكدح، حتى تندى منه بالعرق الجبين. لكن - وا أسفاه - ليس للنمل أخلاق يراعيها.
وتحير الشيخ في أمر هذا النمل، كيف يعرف موضع السكر وإنه لخبئ في علبة محكمة الغطاء؛ وأن الشيخ ليغير مكان العلبة كل مساء، فيضعها على الرف مرة، وتحت النضد مرة، ويكسوها باللفائف تارة، ويعلقها في الهواء طوراً. . . لكن النمل يعرف!!
ولمعت فكرة في رأس الشيخ كاد يثب لها من مقعده: أما والله إني لأحمق مأفون، أضع إصبعي في الفخ حتى إذا ما ضغط الفخ على إصبعي، صرخت من ألم! ألم أكتب على الصناديق بيدي هذه البطاقات، تعلن عما في بطونها فلمن كتبت - يا أحمق - هذه البطاقات، إن لم تكن للنمل يقرؤها في الليل، وإنه لذو بصر حديد، فيعرف موضع السكر من الدكان في حندس الليل! لأنزعن من فوري هذه البطاقات عن أماكنها، وكفاني من بلاهتي ما لقيت كفاني. . . ونهض الرجل في حماسة لينزع. . .
لكن لا! لقد لمعت عيناه بفكرة أخرى، فكرة افترت لها شفتاه بابتسامة عريضة، ثم انفجرت بقهقهة عالية. . . أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره، وإن عد النمل بالألوف لا بآحاد وأفراد؟ أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره ثم لا ينتقم؟ فيم إذن كل مقامي في حلقات العلم أعواماً إن قصرت بي عن ختام العلم فقد دنت منه؟! ويحك الليلة مني يا نمال!.
ونزع الرجل في زهو الظافر السكر ووضعها على علبة الفلفل وكتب الفلفل على علبة السكر.
- سيأتي النمل الليلة أسراباً كهده، وسيقرأ العنوان فيظنه دالاً على مضمون الكتاب، وسيدخل علبة الفلفل وفي وهمه أنه سيجد حلاوة كل يوم، وما كل ما يتمنى المرء (يا نمل)(757/57)
يدركه، تأتي الرياح (يا نمل) بما لا تشتهي السفن. . .
وأوشكت الخطة أن يصيبها الفشل، إذ جاء النمل ولم يقرأ، بل وشم وأنصرف، إلا نملتين حفظتا القراءة في مدرسة من مدارس الإلزام، فقرأتا وضحكتا من جهل الأخوات، وتسللتا إلى السكر الموهوم، فإذا داخل العلبة ديجور لم تعهداه فيما سلف من الليالي. وبيناهما تسعيان راء الرزق، صدمت نملة منهما نملة في بعض الطريق:
- ما بالك ماذا دهاك؟
- عتمة لم أعهدها ها هنا يا أختاه.
- لست أرى في الأمر اختلافاً عن المألوف.
- بل ألفت أن يتسرب من سماء هذا المكان شعاع ضئيل من الضوء يعكس شيئاً من بياض، وإذا الأمر كله الليلة في عيني سواد في سواد؛ ثم ألفت أن أسير على منبسط فسيح، فإذا بي الليلة أدور مع موطئ القدم حيث يدور، ثم. . . لست أدري يا أختاه ماذا دهاني، لعله مرض في جوفي تغيرت معه طبيعة دنياي ثم ألفت على اللسان حلاوة فإذا بالشيء يلسع الليلة لساني لسعاً أليماً، حتى ليكاد اللسان من حدة اللسع يحترق.
- لك الله يا مسكينة، ألا إن الأرض هي الأرض والسماء هي السماء، والمأكل كعهدنا طيب به حلو المذاق، غيري من جوفك تتغير الدنيا في عينيك.
- أواثقة أنت أننا في علبة السكر.
- قرأت العنوان بعيني، وأذوق الطعم الآن بلساني، وليس إلى الشك عندي من سبيل. وفيم الريبة والسؤال؟ دونك المكتوب فاقرئيه، وليست الرحلة إليه بشاقة ولا عسيرة
- سأفعل، لا ارتياباً في صدق ما تقولين، ولكن ليطمئن قلبي.
وخرجت النملة إلى ظاهر العلبة ثم عادت والتقت بأختها بعد تعثر في الطريق وبحث في الثنايا هنا وهناك.
- صدقت، إنه السكر لا شك فيه.
- لا (يا أختاه) بل كل الشك فيه.
- وي! ماذا تقولين؟ ماذا تظنين؟
- كأنه (يا أختاه) حب فلفل، أني لأحس الآن ما تحسين؛ فسواد شديد حالك يسد علي مسالك(757/58)
الطريق، وانبعاج في الأرض لا يكاد يمكنني من السير، ثم طعم لاذع يذبب اللسان ويمزق الأحشاء.
- لكنه السكر، والبدال لا يخطئ الترقيم.
- نعم، لا بد أن يكون سكراً، لأن البدال لا يخطئ الترقيم؛ فصبراً جميلاً، حتى نملأ جوفينا مما رزقنا الله وإنه الحلو مستساغ، وإن كره البصر واللسان والأحشاء جميعاً!
وأصبح الصباح وعاد النمل إلى عشه، لا لتستريح النملتان هذه المرة من عناء الليل، بل لتتلويا من عذاب أليم كلما مغصت في جوفيهما الأمعاء، والتقت المسكينتان في منبطح من العش:
- ليتنا ما اكلنا السكر.
- السكر؟!
- وماذا عساه في ظنك أن يكون؟
- اسمعي يا أختاه، لقد ذهبت مع ظلمة الليل غفلتي، وعادت إلي مع ضوء النهار حكمتي، أن هؤلاء الناس لأصحاب خدعة فما فتئوا الدهر يخدعون ويخدعون، وإني لأعلم من أمرهم ما لا تعلمين، بل لعلي أعلم منه ما ليس يعلمون.
- ماذا تريدين؟
- سأوضح لك الليلة ما أريد.
وجاء المساء ورجت النملتان، نملة تهدي وأخرى تهتدي.
تعالي معي فادخلي خزانة الكتب، امسكي هذا الكتاب ما عنوانه؟
- في الفلسفة الإسلامية.
- ومن كاتبه؟
- شيخ جليل في طليعة الشيوخ.
- دونك فأقرئيه، ماذا ترين فيه؟
- لست والله أطالع فيه إلا فقهاً وما إلى الفقه.
- نعم، وسماه فلسفة ليدخل المريدون خلال العنوان إلى فلسفة، فإذا بهم في فقه يتقلبون، كما دخلنا ليلة أمس على بطاقة من سكر، فإذا الفلفل يملأ منا الأمعاء والبطون. . . وهذا(757/59)
الكتاب الآخر، ما عنوانه؟
- خواطر أديب.
- ومن كاتبه؟
- علم من أعلام القلم.
- دونك فأقرئيه، ماذا ترين فيه؟
- لست والله أرى فيه إلا خليطاً من معرفة لا هي إلى العلم في دقته ولا إلى الأدب في جمله وصورته.
- نعم، وجعله الكاتب أدباً ليتسرب إليه الراغبون في أدب، فإذا هم في مرج آخر يمرحون. . . اخرجي من بطون الكتب وهيا بنا إلى الحياة العريضة في المنازل والشوارع، انظري هناك، ماذا تبصرين؟
- كومة من قمامة. . . لا بل هو آدمي يتحرك.
- هذه القمامة البشرية يسمونها مدنية شرقية.
- كلا، لا تمزحي، بل. . .
- وانظري هناك، ماذا تبصرين؟
- شرطي يضرب إنساناً في عرض الطريق.
- وهذا الطغيان الساري يسمونه مدنية شرقية.
- كلا لا تمزحي، بل. . .
- وانظري هناك، ماذا تبصرين؟
- كأني به مريض محموم أحاط به ذووه.
- وهذه الجهالة يسمونها مدنية شرقية.
- كلا لا تمزحي، بل. . .
- وادخلي هذه الدار وانظري، ثم ادخلي جماجم الرءوس وانظري، وسترين شيئاً عجيباً يسمونه مدنية شرقية.
- كلا، لا تمزحي، بل المدنية الشرقية شيء غير هذا كله سمعتهم هكذا يقولون.
- وأنا سمعت آخرين يقلون أن المدنية لا تكون شرقية ولا غربية، إنما هي علم يعلمه(757/60)
الإنسان أنى كان، وفن يخلقه الإنسان أنى كان فحيثما وجدت الجهالة والمرض، وجدت ماذا؟
- لكنهم يقولون. . .
- ويحك من نملة حمقاء، أفتنصتين بعد لما يقولون؟
أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، ألا يكفيك ليلة واحدة تقضينها في علبة الفلفل؟
زكي نجيب محمود(757/61)
وامعتصماه!
للأستاذ عمر الدسوقي
عربية كريمة، تنمي إلى أمة تألف الذل مرة، ولكن رحب البيد أحكم أعزها فما شئت من قلب أبي، ومنطق سليم، وعقل أنضجته التجارب، ونفس ترى الدنيا لديها رخيصة، إذا كان في الدنيا هوان يشينها: إلى كل شهم أريحي تزينه، خلال كروض الزهر طاب عبيرها:
إذا سيم ضيماً كان للضيم منكراً ... وكان لدى الهيجاء يخشى ويرهب
وإن صوت الداعي إلى الخير مرة ... أجاب لما يدعو له حين يُكرب
أبى على هذه العربية جدها النكد إلا ترسف في ذل الأسر غب حرب من تلك الحروب الطويلة التي ظل أوارها مشتعلاً حقباً مديدة بين العرب، الذين حملهم الله رسالة الإسلام، لينقذوا بها البشرية الكليمة، وبين الروم الذين أدال الله منهم ووضع أنوفهم في الرغام، وإن لم ينسوا أعزهم الغابر، فظلوا يغيرون على أطراف الدولة العربية الشاسعة كلما هبت عليهم نسمة من قوة، أو غرتهم من المسلمين غفلة عارضة.
وفي ذات يوم لطمها سيدها الرومي على وجهها الحر الكريم فوخزها ألم الذل وخزة صاحت على أثرها تستنجد الخليفة العربي العظيم: وامعتصماه! وامعتصماه! فضحك اعلج ملء شدقيه ونظر إليها نظرة الشامت الجبان، وقال: وماذا عساه يفعل المعتصم؟ أيجيء على أبلق وينصرك؟! إنك ذليلة كسيرة، وقد كتبت عليك الشقوة، وهيهات أن يستجيب لندائك الوقح هذا الذي تنادين! ثم أشبعها ضرباً ولطماً، وهي تنادي وامعتصماه! وامعتصماه!
جاء رجل إلى المعتصم، وبلغه نبأ هذه العربية الكريمة، فانتفضت نفس الخليفة الجليل انتفاضة الألم، وسأل الرجل: وأين هذه المرأة؟ فأجاب: إنها في عمورية يا أمير المؤمنين، فقال المعتصم: وفي أي جهة عمورية؟ فأشار الرجل إلى جهتها، فنادى المعتصم بأعلى صوته: لبيك يا ابنة الكرام! لبيك! ثم لبيك! هذا المعتصم بالله أجابك!
وتجهز المعتصم من فوره إليها في أثنى عشر ألف أبلق تطوي سنابكها الأرض طياً لتغيث الملهوف وتستجيب للنداء الأبي.
وكانت عمورية مدينة عانية، قد أحكم تحصينها، وبها من جنود العدو تسعون ألفاً أو(757/62)
يزيدون، فحاصرهم المعتصم، وطال حصاره لها، وأخبره المنجمون أنها لن تفتح إلا في الصيف حين ينضج التين والعنب، وكان قدومه إليها في زمهرير الشتاء، والأرض مسجاة في كفن أبيض من لثلج، وقد صوح ما عليها من شجر، وقل الماء والثمر، وأجهد الجيش، كما أجده العدو العنيد. بيد أن المعتصم أبى أن يستمع لصوت المنجمين المثبطين الذين أنذروه شراً مستطيراً إن هو استجاب لرغبة فؤاده وأقتحم أسوارها:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وشد على المدينة شدة بطل مغوار فدك أسوارها، وأشعل النار فيها، فذلت له وما ذلت قبل
لأحد:
من عهد اسكندرٍ أو قبل ذلك قد ... ثابت نواصي الليالي وهي لم تشب
بِكرٌ فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النُّوَبِ
ودعا المعتصم بالرجل الذي بلغه حديث الجارية العربية المستغيثة فدله على الموضع الذي رآها فيه تذل وتهان، وبحث عنها حتى وجدها، وقال لها: هل أجابك المعتصم؟! وصار سيدها الرومي لها عبداً ذليلاً وأفعم قلبها عزة وأنفة. ورحم الله أبا تمام حين مدح المعتصم إثر هذا الفتح المبين بقوله مستهزئاً بآراء المنجمين:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم ... صفر الوجوه وجَلَّت أوجه العرب
تسعون ألفاً كأساد الشرى نضجت ... جلودهم قبل نضج التين والعنب
واليوم، وعلى مرأى منا ومسمع تنادي بلدة عربية كريمة، وهي فلسطين الجريحة: وامعتصماه! وامعتصماه!. وقد أبى لها الجد العاثر إلا أن ترزأ بشر ذمة من صعاليك الأمم، وأفاقي الأرض الذي لفظتهم ديارهم، ومجهم مواطنوهم. يريدون أن يسلبوها عروبتها ويهدروا كرامتها، وقد مالأهم من لا أخلاق لهم من تلك الدول التي باعت ضمائرها للشيطان، وخنعت لصوت الذهب الرنان، وصفعت الإنسانية المهيضة على وجهها دون حياء، أو شعور بعظم الجريمة، وتنكرت لكل تعاليم الحضارة الحقة، فلا شرف، ولا ذمة، ولا مروءة، ولا عدالة. بل اتخذت شرعة الغاب، وقانون الكهوف لها إماماً، فتباً لهم وخزياً.(757/63)
!
أحقاً إننا أمة هازلة لا تدرك الخطر الداهم، ولا تقدر الخطب الجاثم، ولم تخبر العدو الظالم؟ هل ستمثل مأساة الأندلس على مسرح التاريخ ثانية، فيلقي بعرب فلسطين في البحر، كما ألقى عرب غرناطة من قبل. ويومئذ نجهش بالعويل والبكاء، وننتحب كما تنتحب النساء: نقلب الأكف أسفاً وندماً، ونعض الشفاه حسرة وألماً، فيقال لنا كما قيل لأولئك: ملك لم تحافظوا عليه محافظة الرجال فابكوا عليه اليوم بكاء النساء. ألا تعساً لأمة هازلة وسحقاً!.
أن الأمر جد، فنصرة فلسطين لا تدعو إليها لحمة القرابة والنسب، ولا صلات التاريخ والأدب، ولا حرمة الجوار ونخوة العرب فحسب، ولكن تحثنا إليها فضلاً عن كل ذلك - وما ذلك بالقليل - زعامة مدعاة، ومصلحة مرجاة. فمصر اليوم تغص بالرجال والأموال، وتتبوأ في قلوب أبناء العروبة لمكانتها العلمية، ونضجها الفكري أسمى منزلة. ثم أن دولة يهودية في فلسطين مؤيدة بأموال اليهود في العالم، وبخبرتهم العلمية وثقافتهم الواسعة لهي الوباء الذي يقضي على كل ما تفكر فيه مصر من مشروعات وإصلاحات، وما ترجوه من تجارة عريضة دولية، وصناعة ضخمة تغنيها عن سواها، وأساطيل مدنية تجوب البحار وتجلب الخيرات، ومواني تحتل مركز الصدارة على سيف البحر، وغنى يكفل لبنيها الذين أرهقوا طوال حقب التاريخ نوعاً مقبولاً من معيشة الأناسي ذوي الحضارة. كل هذا مهدد بكارثة على يد الصهيونية ودولتهم المنتظرة لا قدر الله!
ثم أن هؤلاء الأفاقين - وهم قلة وسط البلاد العربية - سيطلبون العون حتماً من حلفائهم الذين ناصروهم وستظل فلسطين على أيديهم مباءة للمستعمرين الغاصبين، يهددون الحريات، ويمتصون دماء الأبرياء، ويوقعون يبن الأخوة العرب العداوة والبغضاء.
فدفاع مصر عن فلسطين ودفاع عن أخ شقيق، ودفاع عن مصلحة مشتركة، ودفاع عن كسرة الخبز، وموارد الحياة، وأسباب العزة والحياة، ودفاع عن الحرية والسلطان، وعن كريم بهان، وعزيز يذل، ومال يسلب، وعرض ينتهب، وتراث يغتصب.
لتجد مصر بالمال غنيها وفقيرها، صغيرها وكبيرها، وشبابها وكهولها، رجالها ونساؤها، فالمعركة فاصلة، وقد عجم الغرب الغشوم عيداننا فإما وجدها صلبة قوية فارتد خاسئاً وهو(757/64)
حسير، وإما وجدها لينة رخوة تحرص على المال ولا تحرص على الحرية، ولا الكرامة، ولا المستقبل، فتمادى في شرته وأفصح عن جبروته وسطوته، في ذلك ذل الأبد لا قدر الله!.
لتجد مصر برجالها وشبابها، وفي ميدان فلسطين فرصة ذهبية لتدريب ذلك الشباب الذي قلمت أظفاره سني البغي والعسف والجهل، فتخنث ونسي محتده الكريم وتاريخه العظيم، وتطرى وأمعن في الهزء والحياة العابثة. أن هذا الشباب لو أحكمت مرنه ميادين القتال، وحياة الخشونة، ومصارعة الأعداء، لعاد بعد هذا الجهاد إلى مصر وحسب له أعداؤها ألف حساب.
أن فلسطين اليوم تنادي:! وامعتصماه! وامعتصماه!
فليكن كل مصري، بل كل عربي - أين كان محله - معتصمها الذي تناديه، وفارسها الذي ترتجيه.
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنا بوجه وَقاح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طُرْق المزاح
عمر الدسوقي(757/65)
الجزار الشاعر
للأستاذ العباس خضر
نشأ بين الساطور والوضم، يصيب المحز ويطبق المفصل في اللحم وفي الشعر وكان ذلك في مدينة الفسطاط، وفي القرن السابع الهجري، في فترة من الزمان انتقل فيها حكم الديار المصرية من الأيوبيين إلى المماليك، وعاش شاعرنا الجزار (أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم) مخضرماً ما بين الدولتين، آناً يطوف بالمدائح على الملوك والأمراء وحيناً ينطوي على نفسه لما يلقاه من إخفاق فيما يؤمل من من هذا الطواف، ولما يبلوه من أخلاق الناس، ملتجئاً إلى حرفته راضياً عنها، فهو أبداً بين الكلاب: كلاب آدميين يقصدهم بمدحه لينال رفدهم، وكلاب حقيقية من آل قطمير تحوم حوله متطلعة إلى ما يلقى إليها من العظام، وهو يؤثر حاله مع الثانية كما ترى في قوله:
لاتعبني بصنعه القصاب ... فهي أذكى من عنبر الآداب
كان فضلى على الكلاب فمذ صر - ت أديباً رجوتُ فضل الكلاب
كان أبوه وقومه قصابين بالفسطاط، ونشأ بينهم محترفاً حرفتهم، وقد دفعه شغفه بالأدب إلى التعلق به، وأول ما عرف منه في ذلك، وهو صغير، أنه نظم أبياتاً قلائل، فأخذه أبوه وتوجه به إلى شاعر مشهور في ذلك العصر، هو ابن أبي الإصبع وقال له: يا سيدي، هذا الولد قد نظم شعراً واشتهى أن يعرضه عليك. فقال: قل. فلما أنشده قال له: أحسنت، والله إنك عوام مليح. فراح الوالد مسروراً بابنه الذي يوشك أن يغشى بشعره مجالس الملوك والكبراء. وأراد أن يعبر عن شكره لابن أبي الإصبع، فصنع طعاماً وحمله إليه. ولكن ابن أبي الإصبع كان قد طابت له (التورية) التي كانت جل هم أدباء ذلك الزمان، فقال له: لأي شيء فعلت؟ فقال: لثنائك على ولدي. فقال: أنا ما أثنيت عليه. فقال: ألم تقل إنك عوام مليح؟ فقال: ما أردت بذلك إلا أنه خرج من بحر إلى بحر!
ولكن الصبي الجزار دأب على قرض الشعر، يضرب في بحوره ويغوص على غرائب المعاني، ويكسوها أصداف الألفاظ، حتى استبان طريقه وتوضحت له الجادة.
كان يتطلع إلى حياة أخرى يتمتع فيها بلذات العيش غير حياة الجزارة التي يشقى فيها على غير طائل، كما يقول:(757/66)
أعمل في اللحم للعشاء ولا ... أنال منه العشا فما ذنبي
خلا فؤادي وفي فمي وسخ ... كأنني في جزارتي كلبي!
وكما يقول:
أصبحتُ لحاماً وفي البيت لا ... أعرفُ ما رائحة اللحم
واعتضت من فقري ومن فاقتي ... عن التذاذ الطعم بالشحم
جهلته فقراً فكنت الذي ... أضلهُ اللهُ على علم!
لم يكن أمامه إلا أن يرتاد سوق المدائح، فانتجع القصور، وأنشد ساكنيها، ولم يغفل - مع مدحهم - وصف حاله وما يعانيه من الحرمان، قال في آخر قصيدة مدح بها الملك الناصر، وأنشده إياها في يوم النحر:
كيف يبقى الجزار في يوم عيد الن - حر دهر الإفلاس والعيد عيده
يتمنى لحم الأضاحي وعند النا - س منه طريهُ وقديده
ولقد آن من لقائك أَن تبـ - يض أيامه ويخضر عوده
وأتصل أيضاً بالملك الكامل والملك العادل ومدحهما كما مدح غيرهما من الحكام والأعيان. وأكثر من التنقل بين أقاليم القطر من الإسكندرية إلى أقصى الصعيد، يقصد الممدوحين، ويصف النيل وأسفاره فيه وما يلاقي بها من العناء، ويقدم ذلك في مطالع القصائد بين أيدي المدائح، قال من قصيدة في مدح ناظر الإسكندرية يصف رحلته في النيل:
لا تسلني عما لقيت من البيـ - ن فحال الغريب حال ذميم
كنت في ككة تطير بقلع ... وهي طوراً على المنايا تحوم
أنظر الموج حولها فإخال الـ - جيم تاءً لخيفتي وهي جيم
لم أجد لي فيها صديقاً حميماً ... غير أني بالماء فيها حميم
شنقوا قلعها مراراً على الريـ - ح ولا شكَّ أنه مظلوم
وإذا ما دنت إلى البر أمسى ... عندنا منهُ مقعدٌ ومقيم
يسجدُ الجرف كلما ركع المو - ج فدأبي هنالك التسليم
وقبيحٌ علىَّ أن أشتكي براً ... وبحراً وأنت برٌّ رحيم
ويقول فيه صاحب كتاب (المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي) إنه كان (بديع النظم،(757/67)
عذب التراكيب، غواصاً على المعاني، فصيح الألفاظ، حلو النادرة، وكان صاحب مجون ولطافة)
وقد رأيت حقاً أنه يمتاز بالغوص على المعاني، من شعراء عصره المتهالكين على التصنيع في الألفاظ، ومكانه بينهم يشبه مكان ابن الرومي بين شعراء عصره، مع ملاحظة الفارق الكبير بين الشاعرين وبين العصريين.
ولكنا نريد أن نتصفح أبا حسين الجزار من وجه آخر وهو طبيعة شاعريته، ومدى صدقه الفني فيما قاله من الشعر. وأراني مضطراً هنا في هذا المقام المحدود الذي يجمل فيه القصد إلى الأهم، إلى أن أضرب صفحاً عن القصائد الطويلة الكثيرة التي أنشأها في المدح بدافع الرغبة الملحة في رفع مستوى عيشه وهي لا تختلف كثيراً عن أمثالها مما تحشد فيها صفات المدح حشداً للممدوحين؛ وهذه القصائد وإن كانت كذلك إلا أننا لا نعدم فيها أبياتاً هنا وهناك تظهر فيها ظلال الشاعر وأثر شخصيته، وهي التي يصف فيها حاله وسوء عيشه.
وإذا أردنا أن ننتقل إلى الميدان الذي كان يركض فيه مجلياً فإننا نضم تلك الأبيات إلى شعر كثير آخر قاله في التعبير عن مشاعره وتصوير ما يحيط به، ولست أدري أكان من حسن الحظ أم من سوئه أن السوق التي راجت فيها مدائحه لم تدم، إذ انتهى ما كان يظفر به من صلات الملوك الأيوبيين التي لم يبق تبذيره على شيء منها ولما عانى من كساد مدحه وجفاف أيدي الممدوحين ما عانى جعل يندب حظه الذي ضاع بين الشعراء والجزارة فيقول:
واللحم يقبح أن أعو - د لبيعه والشعر بائر
يا ليتني لا كنت جزَّا - راً ولا أصبحت شاعر
ولكنه حزم أمره ورجع إلى الجزارة، وجلس بدكانه للكلاب، كما كان يجلس الممدوحين له ولأمثاله من الشعراء وهو يقول في خطاب من يدعي (شرف الدين) وقد لامه على العودة إلى الجزارة:
لا تلمني يا سيدي شرف الد - ين إذا ما رأيتني قصابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ - ت حفاظاً وأرفض الآدابا(757/68)
وبها أضحت الكلاب ترجيـ - ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وراح يفاخر بحرفته، ويمزج المفاخرة بالظرف والفطاهة فيقول:
ألا قل للذي يسأ - ل عن قومي وعن أهلي
لقد تسألُ عن قوم ... كرام الفرع والأصل
ترجيهم بنو كلب ... وتخشاهم بنو عجل
ويقول:
إني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي
تضيء بالدم إشراقاً عراصهم ... فكل أيامهم أيامُ تشريق
واستخدم الشاعر الجزار صناعته في معانيه وتورياته، فرق وظرف، ومن ذلك غير ما تقدم ما قاله في الدم:
لا تلمني إذا سطوت عليه ... فهو تيس يهينهُ جزاره
وما قاله في التطاول على المتنبي:
تعاظم قدري على ابن الحسين ... فذهني كالعارض الصَّيَّب
وكممرة قد تحكمتُ فيه ... لأن الخروف أبو الطيب
وقد نهج هذا النهج في استخدام الحرفة في الشعر شاعران آخران كانا معاصرين للجزار وصديقين له، هما السراج الوراق والنصير الحمامي، وقد برع الثلاثة في التورية بحرفهم، وبلغ (فن التورية) على أيديهم غاية الإجادة التي انحسر عنها في الأزمان التالية، قال الحموي في (خزانة الأدب): (ولم يزل ابن سينا الملك يتلاعب في التورية باختراعاته ويسكنها في عامر أبياته، إلى أن ظهر بعده السراج فجلا غياهبها بنور مشكاته، وتعاصر هو وابو الحسين الجزار والنصير الحمامي وتطارحوا كثيراً وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية حتى انه قيل للسراج الوراق لولا لقبك وصناعتك لذهب نصف شعرك).
ولئن جازت الاستهانة بالتورية باعتبارها إيغالاً في التصنيع لقد كان لها شأن آخر في شعر هؤلاء، فقد أكسبتها حرفهم طلاوة وروتها بماء الظرف، قال الوراق:
يا خجلتي وصحائفي سود غدت ... وصحائف الأبرار في إشراق
وموبخ لي في القيامة قال لي ... أكذا تكون صحائف الوراق(757/69)
وكتب الحمامي إلى الجزار:
ومذ لزمتُ الحمام صرت به ... خلا يداري من لا يداريه
أعرف حر الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه
فأجابه الجزار بقوله:
حُسن التأني يعينُ على ... رزق الفتى والحظوظ تختلف
والعبد مذ صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف
وقد كان الجزار مطبوعاً على المرح، وشعره يزخر بالملح والفكاهات وخاصة في (قافية الجزارة) كما يعبر (أولاد البلد) في مصر، وهو في ذلك وفي طريقة دعابته بالسخرية من سوء أحواله في ملبسه ومطعمه ومسكنه وبعض أفراد أسرته وفي مجونه واستعمال التورية في كل ذلك يمثل الروح المصرية التي لا نزال نلقاها في القاهرة لدى (أولاد البلد) وأصحاب الحرف، قال يصف نصفية له:
لي نصفية تعد من العمـ - ر سنيناً غسلتها ألف عسلة
ظلمتها الأيام حكما فأضحت ... في العذاب الأليم من غير زلة
كل يوم يحوطها العصر والدق ... مراراً وما تقر بعملة
وفي البيت الأخير إشارة إلى ما كان في عصره من ضرب الناس وتعذيبهم (في جباية الضرائب) ليقروا بما عندهم من (العملة) فهو يقول أن نصفيته تعصر وتدق على الحجر عند غسلها وهي مع ذلك لا تقر بأن لديها نقوداً. . .!
وقال يصف داره:
ودار خراب بها قد نزلت ... ولكن نزلت إلى السابعة
طريق من الطرق مسلوكة ... محجتها للورى شاسعة
فلا فرق ما بين أنى أكون ... بها أو أكون على القارعة
تساورها هفوات النسيم ... فتصغي بلا أذن سامعة
وأخشى بها أن أقيم الصلاة ... فتسجد حيطانها الراكعة
إذا ما قرأت إذا زلزلت ... خشيت بأن تقرأ الواقعة
وفي الأبيات التالية صورة للفكاهة المصرية الأصيلة:(757/70)
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر ... وجاد عليها سكر دائم الدر
وتباً لأوقات المخلل إنها ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
ولي زوجة إن تشهي قاهرية ... أقول لها ما القاهرية في مصر
وقد بلغ غاية الظرف في قوله يهجو زوج أبيه:
تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن
لو بررت صورتها في الدجى ... ما جسرت تبصرها الجن
كأنها في فرشها رمة ... وشعرها من حولها قطن
وقائل قال فما سنها ... فقلت ما في فمها سن
ومن نوادره ذات الموضوع أنه كان مع جماعة من أصحابه، فرغبوا إليه أن يشتري لهم لحماً من أحد الجزارين رجاء أن يكرمه بحق الزمالة، فذهب وعاد إليهم بلحم رديء، فلما سألوه في ذلك قال لهم: أن الجزار حلف على أن أقطع اللحم بيدي كما أريد مبالغة في إكرامي، فلما أمسكت بالسكين ووقفت بإزاء اللحم (أدركني لؤم الجزار!).
وقد كان التصنيع طابع الشعر وهم الشعراء في ذلك العصر، ولم يكن للجزار فكاك منه، ولكنه كان مستظرفاً في صناعته لم يسف فيها ولم يبرد كما أسف وبرد غيره وخصوصاً من اتى بعده في العصور التالية. وكان مع ذلك ينطلق محلقاً مستجيباً لشاعريته عندما كان يصور حياته الخاصة ويتحدث عن حرفته وملايساتها ويلذع من يعرض به من أجلها، ويداعب إخوانه، ويرسل فكاهاته؛ فقد كان يبلغ في هذه الموضوعات ما يريد، وما يقتضيه فن الشعر، من تصوير ما يحيط به والتعبير عن ذات نفسه المطبوعة على المرح المحبة للهو، ولعله كان يبدد بفكاهته ما يتكاثف في سمائه من سحب الهموم والأكدار في بعض الأحيان.
العباس خضر(757/71)
مبادئ ومبادئ
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
بانت تباشيرُ الصباح المنجلي ... ألق الستار على الظلام وأسدِل
يا مطلع الشمس المضيئة بالهدى ... يكفي رقادُك بعد ليلٍ أليل
كنتَ الدليل على صباح مشرق ... للحائرين، ونور فجرٍ مقبل
حررتُ عبدان النفوس فأنزلوا ... من قمة الأيام أكرم منزل
ومشوْا على هام الليالي هامة ... تطأ السماء كبدرها المتهلل
ومضوْا بأرواح كرام لا تني ... عند اللقاء وأنفس لا تأتلي
إيمانهم بالله غيرُ مزعزع ... وضميرهم في الله غير مزلزل
الحق في يدهم وضئ الملتقى ... والسيف في يدهم حديد المنصل
قحموا على الرومان أحصن دارة ... وعلى ملوك الفرس أمنع معقل
قد أرخصوا في الله كل عزيزة ... ثم استقلوا فيه كل مدلل
حملوا القلوب على السيوف وأمعنوا ... في حملهنَّ على الرَّماح الذبَّل
كانوا على الأعداء أضأل قلة ... لكنها عزَّت فلم تتقلَّل
هم حرروا الإنسان من أصفاده ... واستنقذوه من المحل المهمل
أعلوا مكانته وكان محله ... في ذلك تادَّرْك الدنيء الأسفل
حكموا فكان العدل شرعة حكمهم ... ما الحكم؟ ما السلطان إن لم تعدل؟؟.
سارت مبادئهم وسارت خلفها ... أفعالهم في موكب متمثل
ليست مبادئهم حديث منمَّق ... زيف اللسان ولا كلام مجمَّل
لم يخْدعوا بالقول كل محيَّر ... أو يخلبوا باللفظ كل مؤمَّل
قل للسياسيين دينُ محمد ... فيه مبادئ حرة لم تنكل
تلك الوعود المسرفاتُ بعهدكم ... لا تمنع الإشكال إن لم تشكل. . .
غنيتمو بالسلم وهي خديعة ... فالحرب بالأبواب قيد الأنمل
ووضعتمو (الميثاق) فوق محيطكم ... ورميتموه بمائه المتحول. . .
غَسلَتْه أمواج المحيط وكفنت ... أوراقه في مهدهن الأول(757/72)
واحسرتاه لوعده الممطول. . . أو ... واضعيتاه المتبلل!!
المسلمون اليوم صح مُرادهم ... قل للمريد على مرادك أقبل
هذا صراع ليس فيه موضوعٌ ... لمؤمَّل أو منزل لعلل. . .
يكفي البكاء على تراث ضائع ... يكفي الفخار بذاهب متنقل
والمجد لا يشرى بقول كاذب ... إن كنت تبغي المجد يوماً فافعل!
ماذا ادخرتم من جهود في غد=ماذا صنعتم منه للمستقبل؟
النصر لم ينزل على متخاذل ... والرزق لم يبعث إلى متوكل
فانزع لواَءك من يد المستقتل ... وانزع طعامك من يد المتطفل
واطلب محلك بالسيوف فأنه ... بالسيف تنجاب الغماز وتنجلي
إنا سئمنا من كلام باطل ... إنا شبعنا من لسان مِقْول. .
الشرق علته القديمة أنه ... وسنان بين تصوف وتأمل. . .
غرقان في الأوهام نعسان المنى ... متقيد الأيدي عثور الأرجل
الجهل آفته، ورب جهالة ... شر من الداء العياء المعضل
لا تستعيروا السيف من يد غيركم ... بل فاصنعوه بكف أروع صيقل
والسيف تصنعه بكفك يتقي ... ويصيب في الأعداء أسوأ مقتل(757/73)
الاستيراد والتصدير في النظم الإسلامية
للأستاذ لبيب السعيد
الاستيراد والتصدير من أهم ما يشغل بلدان العالم في السنوات الحاضرة وأزماتها (لا ريب) من أشد الأزمات التي تواجهها الحكومات والشعوب، فما يطامن من شدتها إلا الكثير من حكمة السياسة وسلامة الوطنية.
وهؤلاء الأسلاف من رجال الأمة الإسلامية مدوا بأبصارهم في هذه الناحية أيضاً إلى آفاق بعيدة، فبلغوا في نور شريعتهم الهادية وفي ظل هممهم العالية مجداً تجارياً لو أدخلنا في الاعتبار ملابسات زمانه لحق لنا أن نضعه غير متهيبين بجانب ما بلغته أرقى الدول الحديثة من نجاح تجاري عظيم.
عني هؤلاء الأسلاف بالاستيراد والتصدير عناية أوفوا بها في زمانهم على الغاية. ولعل من أجمل غايات هذه العنايةان يتناولها التأليف الإسلامي تناولاً فيه تفصيل نافع ومعرفة مشرفة.
فالجاحظ يفرد في كتابه (التبصر بالتجارة) باباً لـ (ما يجلب من البلدان من طرائف السلع والأمتعة والجواري والأحجار وغير ذلك).
وأبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي الذي عاش في القرنين الخامس والسادس الهجريين يضع كتاباً اسمه (الإشارة إلى محاسن التجارة) يوضح فيه ما يجب على أنواع التجار مراعاته، فيذكر أن على المستورد الذي يبيع بالجملة - واسمه في مصطلح ذلك العهد: الخزان - تقديم المعرفة بأحوال البضائع في بلادها وانقطاع الطريق أو أمنها، وعليه تقسيم شراء الصفقات الكبيرة في أربع دفعات توقياً من الخسارة، وعليه تأمل أحوال السلطان الذي هو في كنفه. . . الخ، أما المصدر - واسمه وقتئذ المجهز - فعليه أن يعين وكلاء له في البلاد التي يصدر إليها ليبيعوا بضاعته ويشتروا الأعواض عنها، وذلك مقابل حصة في الربح. ويناقش أبو الفضل مسائل الاقتصاد النظرية كتحديد أسعار السوق ومتوسط السعر مما يدل على معرفة بالاقتصاد عريضة.
وابن خلدون يعقد لموضوعات التجارة عدة فصول في مقدمته يضمها توجيهات حصيفة، ومن هذه الفصول فصل في نقل السلع دعا فيه المستوردين إلى تحري جهدهم في استيراد(757/74)
المواد الوسط التي يحتاج إليها الغني والفقير، وأوضح كيف أن السلع التي ترد من البلد البعيد المسافة أو شديد خطر الطرقات أعظم ربحاً.
وظاهر أن لفتات الدمشقي وابن خلدون هي إلى اليوم بعض سنة المستوردين والمصدرين، بل أن روح ابن خلدون إذ يرغب في استيراد ما ينفع الطبقات جميعها هي نفس الروح التي ينزغ عنها الحذاق من موجهي سياسة الاستيراد في أيامنا هذه.
ومن مظاهر عناية المسلمين الصادقة بالتجارة الخارجية أنهم سهلوا طرقها، فهيأوا الآبار حيث تسير القوافل، وفي الثغور أقاموا المنائر. والأساطيل بنوها لحماية السواحل من إغارات لصوص البحار، فلا غرو إذا كانت تجارة المسلمين حقبة طويلة سيدة التجارات، ولا غرو إذا أضحى للإسكندرية وبغداد من الشأن ما جعلهما وقتئذ تحددان أسعار البضائع في الدنيا.
وكان أهل البصرة ممن اشتهروا قديماً بالأسفار التجارية. ومن الأمثال التي عرفت: (أبعد الناس نجعة في الكسب بصري وخوزي (نسبة إلى خوزاستان)، ومن دخل فرغانة (في أقصى الشرق) والسوس (في أقصى الغرب) فلا بد أن يرى بها بصرياً أو خوزياً أو حيرياً.
وكان في (سيراف) مستوردون ومصدرون واسعوا الثراء يجوز مال أحدهم ستين مليوناً من الدراهم اكتسبها من تجارة البحر من العود والكافور والعنبر والجواهر والخيزران والعاج والأبنوس والفلفل وغيرها.
ومن نماذج النشاط الكبير في التصدير أن تنيس (من بلاد مصر) كانت تصدر من الثياب الدبيقية إلى العراق وحدها ما تتراوح قيمته سنوياً بين عشرين ألفاً وثلاثين ألفاً من الدنانير.
وكانت مدينة كابل مشتهرة بنسج القطن الذي كانت تصدره إلى الصين.
ومن التجار من كانوا ينقلون من بلاد الروس الشمالية إلى بلاد المسلمين جلود الخز وجلود الثعالب والسيوف والشمع والعسل.
وكانت البذور تستورد من مختلف البلاد، فقد استورد عبد الله بن طاهر حاكم مصر في عهد المأمون بذور البطيخ (العبد اللاوي) من خراسان.(757/75)
وكان عضد الدولة ينقل إلى بلاده ما لا يوجد بها من الأصناف، ومما نقله إلى كرمان حي النيل.
وفي عهده استوردت إلى بغداد الغروس من فارس وقد حمل الاترج من الهند بعد سنة 300هـ، فزرع بعمان، ثم نقل إلى البصرة والعراق والشام حتى كثر في دور الناس بطرسوس وأنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر.
وكان التمر في العراق وشمال أفريقية ينتج بكميات كبيرة، فكان يجفف ثم يصدر إلى البلاد الأخرى.
ومن الحقائق المعروفة أن العرب أدخلوا إلى أوربة أنواعاً شتى من الحاصلات كالحنطة والقنب والتوت والأرز والزعفران والليمون والبرتقال والبن والقطن والأزهار. . . الخ.
واختصت مدينة جور باستخراج ماء الورد وتصديره إلى الصين والهند واليمن ومصر والمغرب والأندلس.
وكان الإنتاج الحيواني أيضاً موضع استيراد وتصدير، فمصر كانت تستورد من برقة الكثير من الماشية للذبح كما تفعل الآن، والعراق كانت تستورد الخيل من بلاد العرب، وخاصة إقليم الحسا، كما كانت تستورد الجاموس من الهند في القرن الرابع الهجري.
وكانت مصر سنوياً تبيع إلى بلاد الروم من الشب ما تتراوح قيمته بين ثمانية وأربعين ألفاً واثنين وسبعين ألفاً من الدنانير.
وقد أثبتت النظم الإسلامية في سياسة التصدير حذقاً اقتصادياً لا نحسبه مسبوقاًن ففي كرمان كثر التمر كثرة كانت أكبر من أن يواجهها التصدير العادي، فعمد السلطان إلى تشجيع التصدير بمنح المصدرين جوائز كانت تبلغ في العام نحو مائة ألف دينار.
والفقه الإسلامي في رشده ويقظته يوجب مراقبة المواضع التي تنفذ إلى بلاد الأعداء، فالفقهاء على أنه (ينبغي أن يكون للأمام مسالح على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك، فيفتشون من يمر بهم من التجار، فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد، ومن كان معه رقيق رد، ومن كان معه كتب قرئت كتبه، فإن كان فيها خبر من أخبار المسلمين قد كتب به أخذ الذي أصيب معه الكتاب، وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه)
وقد حكى (المقدسي) أن المراكب في فرض مصر كانت تفتش عنها إقلاعها.(757/76)
والصادرات خاضعة في النظم الإسلامية للضرائب. وفي جنوب جزيرة العرب كان لا يؤخذ بمدينة (عثر) إلا عما يخرج
وكافح النظام الإسلامي تهريب الواردات من التفتيش. وقد روي ابن جبير الأندلسي ما شاهده من دقة متناهية في تفتيش بعض القادمين إلى الإسكندرية، حيث (أدخلت الأيدي إلى أوساطه، بحثاً عما عسى أن يكون فيها، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا).
وقد عرفت النظم الإسلامية نظام تراخيص التصدير، ولكن في نطاق ضيق بالطبع، ففي (ما وراء النهر) لم يكن يكتفي بتقاضي ضريبة الصادر عن الرقيق الذين كانوا يعبرون نهر جيحون، بل كان لا بد لهم - باستثناء الجواري التركيات - من جواز من السلطان.
والشريعة الإسلامية يعنيها أن تتوفر في بلاد المسلمين حاجياتها من الحاصلات الخارجية، فمع أن العشور وهي - في مصطلح عصرنا - الضرائب الجمركية تبلغ العشر عادة، بل تجاوزه أحياناً بالنسبة لبعض الأصناف، فأن للأمام (عند الشافعية) أن ينقصها إلى نصف العشر، بل له أن يرفعها كلها إذا رأى المصلحة في شيء من ذلك. وقد كانت التعريفة الجمركية تتفاوت من بلد عن بلد، فهي في جدة مثلاً غيرها في الإسكندرية، غيرها في البصرة، غيرها في الموانئ الإسلامية الأخرى، كما كانت هذه التعريفة تتفاوت بحسب البلد الواردة منه البضاعة، فبضائع الهند مثلاً غير بضائع السند، وهكذا.
والشريعة لا تغفل عما يتبع كثرة العشور من نقص في واردات المسلمين يمسهم بالضر، ولذلك ترى أن لا يزيد أخذ العشور من كل قادم بالتجارة على مرة واحدة في كل سنة ولو تكرر قدومه، إلا أن يقع التراضي على غير هذا.
على أن الشريعة تأتي تشجيع استيراد مالا ينفع الناس، فهي بصدد الخمر مثلاً تتمسك بالعشر.
ومما يجدر ذكره أن نظام العلامات التجارية بالنسبة للصادرات وجد بصورة ما عند المسلمين، فالمقدسي يروي أن أصفاط الثياب الشطوية التي كانت تصنع بمصر كانت توضع عليها في الموانئ علامات المصدرين.
ويتردد الآن كثيراً أن أغلب المستوردين والمصدرين هم من اليهود، ومن يخط في أغوار(757/77)
الماضي ير أن اليهود كانوا في القديم أيضاً مبرزين في ذلك الميدان فقد كانوا لا ينفكون ينتقلون بالتجارات شرقاً ومغرباً، فكانوا يجلبون من الغرب تلجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور، وكانوا في عودتهم من الهند والصين يحملون سلع الشرق كالمسك والعود والكافور والدارصيني.
وقد كان لهم بمدينة أصبهان حي يسمى باليهودية، وكانوا هم أغلب تجار مدينة تستربخوزستان، وكانوا يشرفون على تجارة اللؤلؤ الذي يستخرج من خليج فارس.
وكان المسلمون يتعاملون بالدينار، وهو يساوي أربعة عشر درهماً، ولكن قيمته تختلف من حين إلى حين، ومن بلد إلى بلد، فهو تارة يعادل عشرة دراهم وتارة ثلاثة عشر درهماً وتارة أخرى خمسة عشر درهماً.
ومن وسائل التعامل وقتئذ الصكوك (الشيكات) والمقايضة.
ولقد واجه المسلمون في عهد عبد الملك بن مروان مشكلة نقدية تستحق الذكر فقد رأى عبد الملك أن تكتب على رؤوس الطوامير (الصحف) عبارات إسلامية ساءت الروم، وسدى ما حاولوا ثنيه عنها، فهددوا بأن يأتي المسلمين في الدنانير من ذكر نبيهم ما يكرهون وصدفوا عن شراء الورق من العرب، ومن ثم انقطعت العلاقات التجارية بين الدولتين. وكانت الدنانير البيزنطية والدراهم الفارسية مستعملة لدى العرب، فسحبها عبد الملك وسك بدلها عملة جديدة تحمل بعض آي القرآن، فلما أديت هذه العملة إلى الروم غضبوا، وفسد ما بينهم وبين العرب، مما أدى إلى وقوع الحرب.
وبعد، فقد أنعقد للمسلمين لواء الزعامة التجارية في العالم حيناً من الدهر غير قصير، كان فيه الغرب حميلة على الشرق. لم يسترح المسلمون وقتئذ إلى الهين من المقاصد، ولم يثقل عليهم الكدح الدائب، ولكن مضوا في سبيلهم إلى السيادة والمجد في عزم وجلد، وعلى بصيرة واستواء. . . يحكي ابن خلدون أن ما كان يقال في عهده عن أهل الشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين في باب الغنى غرائب تسير الركبان بحديثها، وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر! ويعي التاريخ أن أحد تجار البصرة في القرن السادس الهري، وأسمه حسن بن العباس كانت له مراكب تسافر إلى أقصى الهند والصين. وقد بلغ مقدار ما يؤخذ من ضرائبها مائة ألف دينار!.(757/78)
ألا أن لنا في ميدان الاقتصاد كما لنا في ميادين الحضارة الأخرى ماضياً يستحق أن نأسى عليه، فهل يكون لنا المستقبل الذي نتشوق إليه؟.
لبيب السعيد
رئيس قسم المنسوجات بالمراقبة العامة للاستيراد(757/79)
الطريقة العلمية في تحري الأحاديث النبوية
للأستاذ قدري حافظ طوقان
حين رأى العرب أن من الناس من يستبيح لنفسه وضع الأحاديث ونسبتها كذباً إلى رسول الله، ولما كان الحديث من أغزر المنابع للتشريع الإسلامي في العبادات والمسائل الدينية والجنائية، لهذا ودفعاً لكل فوضى في وضع الأحاديث فقد وضع جماعة من العلماء الصادقين طرقاً لتنقية الحديث مما ألم به وتمييز صحيحه من موضوعه. وقد سلكوا في ذلك طرقاً دقيقة علمية يصعب معها التلاعب أو الاختلاق كما وضعوا قواعد للتوصل إلى الحقيقة في الحديث (تتفق في جوهرها واتجاهها والأنظمة التي كشفها علماء أوربا فيما بعد في بناء علم الميثودولوجية. . .).
قال علماء الحديث بالأمانة في نقل الحديث وفرض وجود تحري نص لأجل الوقوف على اللفظ الأصلي. ولقد وضع القاضي عياض رسالة في علم المصطلح هي أنفس ما صنف في مجموعها (وقد سما بها القاضي إلى أعلى درجات العلم والتدقيق. . .) ويعترف الدكتور أسد رستم بفضلها فيقول (. . . وعلى الرغم من مرور سبعة قرون عليها فأنه ليس بإمكان رجال التاريخ في أوروبا وأمريكا أن يكتبوا أحسن منها في بعض نواحيها. وإن ما جاء فيها من مظاهر الدقة في التفكير والاستنتاج تحت عنوان تحري الرواية والمجيء باللفظ يضاهي أدق ما ورد في الموضوع نفسه في أهم كتب الإفرنج في ألمانيا وفرنسا وأمريكا وإنكلترا. . .).
وطالب علماء الحديث بتعيين رواة الحديث والتدقيق في معرفة قيمة المحدث ووضعوا قواعد لتجريحه وتعديله. فلقد جاء في بعض مصنفاتهم ما يلي: قال الإمام مالك بن أنس، وكان ذلك قبل أثني عشر قرناً: (. . . لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ من سفيه ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث الرسول، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به. . .).
وهناك أقوال لغير هؤلاء تبين القواعد التي على أساسها يؤخذ الحديث وتوضح الصفات التي يجب أن يتحلى بها الراوي لقبول روايته. وقسم العلماء الحديث بحسب قوته والأخذ(757/80)
به إلى أقسام وأطلقوا على كل قسم إسماً فقسموه إلى متواتر وآحاد. فالمتواتر ما رواه جماعة يؤمن من تواطئهم على الكذب عن جماعة كذلك إلى رسول الله. والآحاد هي الأحاديث غير المتواترة وقد قسموها أيضاً بحسب قوتها. وهكذا صار العرب والمسلمون في الحديث. ومنهم من كان يتركه إذا عارض القياس. ومنهم من كان يتركه إذا خالف المعقول.
وكان للحديث أثر كبير في أسلوب العرب وتفكيرهم، فهو من أكبر العوامل في نشر الثقافة في العالم الإسلامي. أقبل عليه الناس يتدارسونه ودارت عليه حركة الأمصار العلمية ولا سيما في صدر الإسلام، وعن طريقه انتشرت في العالم الإسلامي أنواع من الثقافة عدة. . . (فالتاريخ الإسلامي بدأ بشكل حديث كالذي تراه في كتب الحديث من مغاز وفضائل أشخاص وفضائل أمم. ثم تطور التاريخ إلى أن صار كتباً قائمة بنفسها. ودليلنا على ذلك أن كتب التاريخ الأولى كسيرة أبن هشام وما يروي أبن جرير عن أبن إسحق، والبلاذري في فتوح البلدان يكاد يكون نمطها وأسلوبها نمط حديث وأسلوب حديث. وقصص الأنبياء وما إليهم جاءت في القرآن وتوسع فيها الحديث ثم توسع القصاص. فكان القصص. . .).
وفوق ذلك فقد ثبت أن المسلك الذي أتبعه العرب في تنقية الحديث وتمييز صحيحه من موضوعه قد أثر إلى حد في أساليب العلماء إذ أبان لهم أهمية أتباع الطرق التي تؤدي إلى الحق كما أوضح لهم منهاجاً دقيقاً للسير بموجبه للوصول إلى الحقيقة والى الصحيح من الوقائع والأخبار والأقوال. وكذلك كان للأساليب التي أتبعها علماء الحديث فضل كبير على التاريخ (وأصبحت القواعد التي ساروا عليها في تحري الحقيقة هي المعول عليها لدى المؤرخين المعاصرين) ومحل تقديرهم وإعجابهم.
ولقد كان لعلماء الحديث فضل على التاريخ وأثر على الأسلوب الذي يسير عليه المؤرخون المعاصرون، وكذلك كان لعلماء التفسير فضلاً وأثر لا سيما وأن الأسس التي أتبعوها في أصول التفسير علمية وصحيحة، يتجلى ذلك في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول التفسير وفي تفسير الزمخشري. ولولا الخوف من الإطالة لأتينا على بعض نصوص تؤيد ما ذهبنا إليه.
ووضع العرب مصنفات في علوم الدين سار بعضهم فيها على منهج علمي. وكان الشافعي(757/81)
أول من وضع مصنفاً في أصول الفقه على أسس علمية. قال مصطفى عبد الرزاق: (إذا كان الشافعي هو أول من وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية فهة أيضاً أول من وضع مصنفاً في العلوم الدينية على منهج علمي بتصنيفه في أصول الفقه. . .) واعترف الرازي بفضل الشافعي فقال. . . (اتفق الناس على أن أول من صنف في هذا العلم رأي أصول الفقه - الشافعي. وهو الذي رتب أبوابه وميز بعض أقسامه من بعض وشرح مراتبها في القوة والضعف. . .) ويقول جولد زيهر: (وأظر مزايا الشافعي أنه وض نظام الاستنباط الشرعي في أصول الفقه، وحدد مجال كل أصل من هذه الأصول.
وقد ابتدع في رسالته نظاماً للقياس العقلي الذي ينبغي الرجوع إليه في التشريع من غير إخلال بما للكتاب والسنة من الشأن المقدم. رتب الاستنباط من هذه الأصول ووضع القواعد لاستعمالها بعد أن كان جزافاً. . .)
ويتجلى أسلوب الشافعي العلمي رسالته فهو يسلك في سرد المباحث وترتيب الأبواب نسقاً مقرراً في ذهن مؤلفها (وقد يختل اطراده أحياناً ويخفي وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض ولكنه على ذلك كله بداية قوبة للتأليف العلمي المنظم، في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى). . .
وتتجه الرسالة اتجاهاً منطقياً إلى وضع الحدود والتعاريف أولاً ثم الأخذ بالتقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم. (وقد يعرض الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها وينتهي به التمحيص إلى تخير ما يرتضيه منها. . .).
وكذلك تمتاز الرسالة بالأسلوب الذي اتبعه في (الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم وحسن التصرف في الاستدلال والنقض ومراعاة النظام المنطقي حواراً فلسفياً على رغم اعتماده على النقل أولاً بالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة).
(نابلس)
قدوري حافظ طوقان(757/82)
العدد 758 - بتاريخ: 12 - 01 - 1948(/)
لا َتَملُّوا
للأستاذ محمود محمد شاكر
شد ما فزعت حين قرأت في صدر الأهرام (الاثنين 5 يناير 1948) نبا تلك المحاولة الجديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب (أي مراكش). وقد أثر الموحي بهذا المقال أن يسمى هذا الأمر (محاولة جديدة) ولكني أعلم أنها ليست سوى (حيلة) أخشى أن تغرر بكثير من قراء العربية، لقلة إطلاعهم على أنباء هذا الشعب الأبي السجين الذي ضربت عليه فرنسا نطاقا من الكتمان والصمت، لم يضرب على شعب قط في هذه الدنيا، ولا في بلاد السوفيت. وأنا أحب أن أكشف الغطاء عن هذه (الحيلة) التي يراد بها تضليل الناس عن حقائق كالشمس ظاهرة لكل من متعه الله بنعمة البصر. واحب أن أصفي هذا الكلام لقراء (الرسالة) لأنهم هم الفئة الحية التي لتعلم وتعمل بما تعلم.
فهذا الشيء الذي سماه بعضهم (محاولة جديدة للتوفيق بين فرنسا والمغرب) ليس شيئا سوى محاولة من فرد واحد يعاونه قليل من الناس على أحداث خرق إجماع أمة كاملة، وصدع بنيان مرصوص لم أعلم فيه إلا خيرا وتماسكا وبقاء على كلمة الحق التي لا تزول، وهي (مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال) أن كان ثمة حاجة إلى مفاوضة أو معاهدة.
وبلاد المغرب ثلاثة: يونس، والجزائر، ومراكش، وفي كل قطر من هذه الأقطار الثلاثة حزب له الكثرة الساحقة، بل لا يكاد يوجد فيه أقلية حتى نقول أن لهذا الحزب كثرة ساحقة بل الحزب هو الأمة وهو التعبير الصادق عنها. وهذه الأحزاب لا يمكن أن تسمى أحزابا بالمعنى المعروف في مصر والذي كان وليد الاحتلال البريطاني الذي فرق الكلمة وباعد بين القلوب.
ففي تونس الحزب الدستوري، ورئيسه الحبيب بور قيبة، وفي الجزار حزب الشعب، ورئيسه أحمد مصالي الحاج، ومندوبه في مصر والسودان هو الشاذلي المكي، وفي مراكش حزب الاستقلال ورئيسه محمد علال الفاسي. وفي المنطقة الخلفية عن مراكش حزب الإصلاح ورئيسة عبد الخالق الطريس. وهذه الأحزاب هي المعبرة عن بلاد المغرب كلها، ورؤساؤها جميعا مقيمون ألان في مصر، وجميعهم على رأي واحد قد أذاعوه في كل وقت وفي كل بلد وهو (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال). وهم جميعا لا يزالون إلى هذه الساعة(758/1)
على هذا الرأي لم يتحول عنه أحد منهم، ولن يتحول بأذن الله. وإجماع هؤلاء الرجال هو إجماع أمم المغرب كلها، شعوبا وأفراداً وهؤلاء الرجال هم الذين شردتهم فرنسا أو أسبانيا وسجنتهم ونفتهم واضطهدتهم وباعدت بينهم وبين أهليهم وحلائلهم وأبنائهم وأرادت أن تعصم أعوادهم فلم تجد باساً ومضاءً ومصابرة وجهاد في سبيل الحق الأول لكل شعب وهو الحرية والاستقلال. وهؤلاء الرجال هم الذين بقوا إلى اليوم لا ينخدعون بما انخدعت به أمم من قبلهم من مفاوضات ومعاهدات ومحادثات، وسياسات خربة خراب ذمم اليهود. ومن هؤلاء الرجال وحدهم يؤخذ حديث ما بين فرنسا والمغرب، وعلى هؤلاء الرجال وحدهم يعتمد، والى هؤلاء الرجال وحدهم تلقى شعوب تونس والجزائر ومراكش بالمقادة، بعد أن جربتم وعرفتهم واطمأن قلبها إليهم والى ما يأتون وما يذرون. وهم رجال يعملون ولا يدعون ولا يتظاهرون ولا يخادعون الناس بشيء لم يكن، أو بسلطان لهم لم ترضه بلادهم وشعوبهم وهم قائمون على الدعوة إلى تحرير بلادهم ولهم مكاتب في مصر والشام وفي فرنسا وإنجلترا وأمريكا، لم تزل تتكلم بالكلمة الواحدة التي لا حول عنا وهي: (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال). فما هو أذن (حزب الشورى والاستقلال) الذي أتخذ لنفسه رئاسته محمد بن الحسن الوزاني هداه الله، خطاه أنه حزب كما تسمى الأحزاب، ولكني أعلم ويعلم كل من وقف على حقيقة النبأ في بلاد المغرب، أنه حزب لا يتبعه من شعب مراكش أحد إلا من شذ عن إجماع أمة قد جاهدت منذ سنة 1912. وظلت تقاتل فرنسا وإسبانيا إلى سنة 1933 لم تضع السلاح إلا بعد أن فنيت صفوة المجاهدين وقل الزاد وعز السلاح وحوصروا حصارا شديدا أكثر من إحدى وعشرين سنة كاملة.
وما أظن أحدا نسى جهاد البطل الذي أذل هامات الأسبان والفرنسيس حتى خدعوه وأمنوه ثم غدروا به وهو الأمير محمد أبن عبد الكريم الخطابي.
أن هذا الحزب الذي قدم إلى المقيم الفرنسي الباغي الجنرال جوان (مذكرة إضافية لتعمل حكومة باريس على تحقيق ما ورد فيها بما يحفظ حسن العلاقات مع فرنسا) لا يعبر البتة عن عزيمة شعب مراكش، بل يعبر عن رأي رئيس الحزب ونائبه وحدهما؛ فنحن نعلم علم اليقين أن حزب الاستقلال، وحزب الإصلاح في مراكش، هما صاحبا الرأي الأول والأخير في هذا الأمر الذي يتعلق بإجماع الشعب المراكشي، وأن الأمة المراكشية كلها من(758/2)
وراء كلمتها: (لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال) ونحن نعلم أن جلالة محمد الخامس ملك مراكش يعلم أن الشعب مجمع على أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال، وانه هو نفسه الذي يتولى قيادة الدعوة إلى أن لا مفاوضة إلا بعد الاستقلال.
وقد استطاع نائب حزب الشورى هذا، أعني الأستاذ العلمي، أن يوجه نظر الصحافة المصرية إلى هذه البدعة التي مضت عليها شهور منذ قام محمد بن الحسن الزواني داعيا إلى الاتفاق مع فرنسا، أو على الأصح مظهرا رغبته في الاتفاق مع فرنسا بعد ابتعاده عن حزبه الذي نشا فيه، وهو حزب الاستقلال الذي يرأسه محمد علال الفاسي. وقد نجح الأستاذ العلمي مرتين، ولكن هذه الأخيرة هي أشدهما خطرا ولو علمت الصحافة المصرية أن شان حزب الشورى الذي ذكرناه، لا يكاد يكون شيئا في بلاد مراكش لطوت هذه الصحيفة مرة واحدة، ولرجعت في حديثها عن شان مراكش إلى رؤساء حزب الاستقلال وحزب الإصلاح وسائر الأحزاب المغربية في تونس والجزائر، ولو فعلت لعلمت أن هذه (المحاولة الجديدة) ليست سوى محاولة رجل فرد زعيم حزب، نعم، ولكن يغير شعب.
وكان حقا على هذه الصحف المصرية أن ترجع إلى كتب المغرب العربي لتقف منه على حقيقة ما تقول. وكان حقا عليها أن تعتبر هذا الحزب بأشباهه عندنا من الأحزاب التي لا شعب لها إلا رئيسها، وكان حقا على هذه الصحف أن تعرف أن سائر رؤساء أحزاب المغرب مقيمون في مصر منفيون عن بلادهم فكان لزاما أن ترجع إليهم قبل أن تنشر أشياء رئيس حزب الشورى المفاوض الجديد، فهو مقيم تحت ظل السلطان الفرنسي هناك في مراكش وهؤلاء سائر رؤساء الأحزاب المغربية مشردون منفيون مهاجرون إلى مصر، لكي يخدموا بلادهم هذين أولى بأن يكون هو المطالب بحق بلاده؟ وأيهما أولى بان يؤذن له ويستمع؟ وأيهما أصدق تعبيرا عن رغبة الشعب الذي ظل إحدى وعشرين سنة يقاتل في كل بقعة من بقاع المغرب وحيدا مجهولا حتى تفانى شيوخه وهلك كهوله وذبح فتيانه، وورثوا أبناءهم أحقاداً لا تموت على فرنسا وعلى الطغاة من أشباهها.
وهؤلاء الزعماء الذين ذكرناهم أنفاً هم بقية السيف، وهم المشردون المعذبون وهم العاملون الصادقون الذين أثروا الجهاد على أموالهم وأنفسهم وأهليهم وذراريهم، وخرجوا يطوفون في الدنيا ليؤلبوا العالم كله على بغي فرنسا وطغيانها وعدوانها وظلمها، وقد تركوا وراءهم(758/3)
شعوبا تدين لهم بالطاعة، ولا ترضى أن تدين لأحد سواهم، لأنهم أنما يعبرون عن سر عزائمها ونياتها، أي عن الجهاد في سبيل بلادهم بلا هوادة، وإلى أن ينالوا حقهم كاملا ثم تخونه مكايد الاستعمار وخدعه، وقد أتعظ هؤلاء الأبطال الصناديد بما لقي بعض أخوانهم من أمم الشرق حين زلقت أقدامهم فزلوا في المهاوي المظلمة المتشعبة التي تسل القوى من نفس سالكها، إلا وهي هوة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات، التي ابتدعتها شياطين الاستعمار الذين يعرفون باسم ساسة بريطانيا، ففرقوا بين الأخوين وباعدوا بين العشيرتين ومدوا المطامع الخائنة الأعين، فهب فريق من هنا يقاتل من أهله هناك ووقف بريطانيا بينهما تنظر وتضحك وتسخر، وتحرك هذه الدمى إلى أن تنقطع الحبال فتهوى في الهوة السحيقة الملعونة هوة المفاوضات والمعاهدات والمحادثات. لقد عرفوا ذلك فأبوا أن يكونوا طعاما لمستعمر جبار يريد أن يتلعب بهم، فاختاروا ما هو أهدى لأممهم وأبقى على وحدتها، واشد لقوتها وأنأى بها عن العداوات بين بعض الشعب وبعض لقد عرفوا أن قيادة الثوار، تفضي عليهم أن ينظروا إلى خير هؤلاء الثوار قبل أن ينظروا إلى خير أنفسهم وعرفوا أن الذي هم مقدمون عليه هو الجهاد الذي لا ينتهي حتى ينتهي هذا الاستعمار البغيض، وأن الأمم المجاهدة في سبيل حقها ينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها وانه ينبغي أن ينشا الجيل من شباب الأمة بعد الجيل، وهو يرى أمامه مجاهدين لا يفترون ولا يضعون السلاح، فذلك أحرى أن يملأ قلب الجيل حمية وأنفة ورغبة في بلوغ الكمال في العلم والمال والسلاح، حتى يجاهدوا كما جاهد آباؤهم وإخوانهم من قبل. وعرفوا أن المهادنة في مثل هذا أنما هي مهادنة تورث الشعب ضعفا، وتمكن للدساسين الخبثاء أن يتخافتوا بينهم في الدعوة إلى ما يفت القوى ويضعضع العزائم، فلا يلبث أن ينفض عن المجاهدين من تخاذل واثر الراحة على لأواء الجهاد. وعرفوا أيضاً أن الشعب الثائر غير الشعب الذي يتبحبح في مسارح السلم، فأولهما ينبغي أن يظل ثائرا لا يعرف اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بالأخرى. وفيم يلين أو يسلم أو يأخذ بيد ويعطي بأخرى؟ أفي الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية؟ أنبئوني أي شئ من هذه الثلاثة يتجزأ حتى يقبل اللين أو التسليم أو الأخذ بيد والإعطاء بأخرى، وهو جوهر المفاوضات والمعاهدات والمحادثات.(758/4)
لقد عرف هؤلاء النفر الذين رضى الله عنهم ورضيت عنهم أممهم، أن الذي بينهم وبين فرنسا هو الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية، فعلى فرنسا أن تسلم وأن تلين وأن تعطى بيد ولا تأخذ شيئا، لأنها لن تأخذ إذا أخذت إلا ذلك الذي أعطت. وهذا بداهة العقل وبداهة النفس الطبية، وبداهة الفطرة والاستقلال، وأما الصراع في سبيل الحرية والاستقلال، ولا مفاوضة على شئ ينبغي أن يتم جميعا أو لا يتم البتة على نقصان وتخون وتمزيق، ولا معاهدة لحر على ترك شئ من حريته لغاصبه وسالبه والمهيمن عليه بالطغيان والجبروت، فهو أن شاء منع وان شاء أعطى.
كلا، أنه الحق فلا معاهدة ولا مفاوضة ولا محادثة إلا بعد الاستقلال وجلاء أخر جندي فرنسي وإسباني عن أرض المغرب كله: تونس والجزائر ومراكش. وإن في البلاء الذي ابتليت به مصر والسودان والعراق وشرق الأردن وسواها من البلاد. لعظة لكل امرئ أضاء في قلبه الإيمان بالحرية والكرامة الإنسانية.
وما الذي يريده حزب الشورى الجديد في مراكش؟ أيريد أن تلقى بلاد المغرب على يده ما لقينا من بلبلة وضياع وهلاك وضعف؟ أيريد أن يرى الشعب المراكشي أحزاباً يأكل بعضها بعضا، ويتشاحن ضعيفها وقويها على مناصب الحكم؟ أيريد أن يرى كل أسرة في بلاد المغرب قد مزقتها الأهواء وعصفت بها عواصف الشهوات الخفية إلى متاع قليل من متاع هذه الدنيا من مال أو سلطان؟ أيريد أن يرى الشعب يتلهف البائس المسكين على فتات ما تجود به عليه فرنسا في معاهدة يقال له اليوم أنها (معاهدة الشرف والاستقلال) ثم يقال له بعد غد أن هذه المعاهدة نفسها (حماية بالثلث)؟ أيريد أن يرى بعد قليل شباب بلاده وهم يتطاحنون على أسماء رجال لو أنكشف الغطاء عنهم لكانوا سوءة في كيان الشعب لو عقل لسترها كما يئد أهل الجاهلية بناتهم خشية الخزي والعار؟ أم يريد أن يرى هؤلاء الشباب وهم لا يثقون بأحد من رجالهم بعد كشف الغطاء عن فصائحهم، فيكونون حربا على بلادهم يطعنون أنفسهم كل طعنة نجلاء بقولهم: (إننا شعب لا يصلح للاستقلال)؟ أيريد هذا الذي لقيته أمم من قبلهم فاوضت وحادثت وعاهدت، فخرجت من ذلك كله منهوكة مجرحة معذبة تمتهن أشرف شرفها باخس قول وأرذله؟.
حاشا لله أن يريد حزب الشورى لبلاده مثل هذا. وأنا أعرف الوزاني منذ أكثر من عشرين(758/5)
سنة، فأنا أسأله بالعهد الوثيق أن يفئ إلى ما فيه مرضاة الله، وما فيه خير بلاده وخير أمته، وأن يدع فرنسا بشر النظرين، لا يقربها إلا مقاتلا مجاهدا رافعا باسم بلاده وحريتهم واستقلالها وكرامتها، وما خلق الإنسان إلا للجهاد في هذه الحياة حرا كريما، فإذا سلب الحرية وذيد الكرامة، فعليه أن يجاهد في سبيلهما جهادا متطاولا هو وأبناءه وذراريه لا تداخلهم سامة ولا ضجر ولا ملل مستعينا بالله الذي ينصر المستضعفين في الأرض وينصر الذين لم يملوا الجهاد فيلجئوا إلى المهادنة أو المفاوضة.
أيها الإخوان الصناديد جاهدوا وصابروا ورابطوا ولا تملوا حتى يأتيكم نصر الله، ولا تعجلوا على ربكم فان الله لا يمل حتى تملوا فإذا مللتم يحيق بكم ما حاق بكل من هادن في حقوق بلاده.
محمود محمد شاكر
ذكريات وخواطر(758/6)
على عتبة الأربعين
للأستاذ علي الطنطاوي
نزعت رجلي من الركاب، وطردت من ذهني هم السفر، ونفضت ما علق بذاكرتي من غبار الحاضر، ثم نفذت إلى ما احتوت من كنوز الماضي، من معجزات البطولة والنبل، من تاريخنا الواقع، الذي لا يصل إليه خيال غيرنا، ولا يتعلق به وهمهم وحاولت أن أكتب للعدد الممتاز من الرسالة فما سرت في الفصل غير بعيد، حتى تباطأ قلمي ثم تعثر، ثم وقف. . . وأحسست في نفسي بهذا الضيق الذي ما أنفك يلازمني منذ أكثر من عشر سنين فيطفئ وقد حماستي، ويعقل نشاطي ويغلق أبواب الإلهام دوني، فلا أكتب ما أكتب إلا لملء الفراغ، وتزجيه الوقت كالذي يمشي العشية يجر نفسه جرا لا يسوقه مقصد، ولا تجذبه غاية. . .
ونظرات فإذا أنا بعد شهرين، أتم الأربعين أربعين سنة قمرية درت فيها مع الفلك، وسايرت الشمس واستقبلت السنين ثم ودعنها كما استقبلتها وأستولدت الآمال، ثم دفنتها كما أستولدتها ورأيت أفراحاً ورأيت أتراحاً، وصادقت وعاديت، وأحسنت وأسأت، فما الذي خرجت به من ذلك كله؟
لقد قطعت في هذه السنين الأربعين أكثر الطريق ولكن لم أعرف بعد إلى أين المسير! ومشيت أكثر من أربعة عشر آلف يوم تباعا ولكن لم أدر إلى أين أمشي!
أنني أصحو كل يوم فاكلم أهلي، واكل طعامي واذهب إلى عملي، ثم أعود إلى داري فاكتب مقالتي أو أنظر في كتابي، أو أوزر أصحابي، أو ألهو بما يلهو به مثلي، ثم أنام لا صحو من الغد، فأعيد الفصل ذاته. . . ولأيام تكر، والسنون تطوى، والعمر ينصرم، وأنا (امثل الرواية) الأبدية صحو ومنام وشراب وطعام، وصمت وكلام، ووداد وخصام. أما أن أعرف نفسي وأخلوا بها ساعة كل يوم، واسأل من هي، ومن أين جاءت وفيم وجدت وإلى أين تمضي، فهذا ما لم أفعله إلى اليوم. بل أني لأفر منها فرارا وأخاف أن أخلو بها، فأتشاغل عنا بحديث تافه، أو كتاب سخيف أو لهو باطل وإذا أنا ألزمت صحبتها وعدمت الشواغل عنها، ضقت بنفسي وضجرت وأحسست كأني سأجن!
وأنا أصرف العمر في قطع العمر، واجعلي أكبر همي أضاعه يومي، كأني أعطيت الحياة(758/7)
لأعمل على تبديدها فإذا لم أجد ما أمزق به الوقت، واضطررت إلى مواجهة الزمان، في ساعة كساعات الانتظار، ضقت بعمري، وضجرت، وأحسست كأني سأجن! أني أركض أبداً وراء المستقبل ففي المستقبل أبلغ آمالي وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفي أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي، ولم يجربها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمة تأليفها وفيه أصنع كل شئ. ولكن المستقبل لن يأتي أبدا، وحين يأتي يصير (حاضرا) واذهب أفتش عن (مستقبل) أخر، فأنا كالفرس الذي يعدو ويشتد ويكد نفسه ليدرك حرمة الحشيش، والحزمة معلقة في عنقه يبصرها أبداً أمامه، ولا يصل إليها فلا يزال يسعى حتى يدركه الكلال، فيقع أو تعترضه حفرة فيسقط فيها. . ولكن الحفرة التي أسقط فيها أنا لا قيام منها، ولا مناص من ورودها ولا يستطيع أن يجتنبها كبير ولا صغير ولا غني ولا فقير ولا أمير ولا أجير. . .
وإذا أنا وصلت إلى الأمل الضخم، هان علي، وذهب بهاءه، وامحت روعته، كأن الآمال سراب لا يلمع إلا من بعيد.
لقد كان أكبر أملي يوم كنت في الابتدائية أن أكون معلما، وكنت أتوهم حياة المعلم فأوجدها جنة أنزلت الارض، فيها ما تشتهي الأنفس. . . أليس المعلم يأمر فيطاع أمره وينهي فيجتنب نهيه، ويوفى التبجيل وينال، الإكبار؟ فلما صرت معلما لم أجد من تلك الجنة إلا الذي تجده من الفوطة في الشتاء، أرضاً موحلة ما فيها إلا الشوك وأشجاراً يابسة ما فيها إلا الحطب، ورأيت مدرس الثانوية أعلى قدرا، واقل عملا واكبر مرتبا وأوسع جاها، فأملت أن أكون خطيبا، وأن أكون كاتبا وأن أكون قاضيا وأن أكون خطيبا وان أسيح في البلاد. . فلم أجد في الأمل إلا الألم لانتظاره ثم الملل من بقائه فتيقنت الآن أني لو صرت رئيس الجمهورية أو صاحب (الأهرام) أو كان لي مال (عبود)، لذهبت الأيام بلذة ذلك كله، وهونه الاعتياد، فلم أستفد منه، إلا حسد الحساد عليه، والحسرة، أن فقد، لفقده. . . وأن متع الدنيا أوهام، من لم ينلها تشوق إليها وحسد عليه، ومن نالها ملها وتمنى غيرها: المتزوج يتمنى العزوبة، والعزب يشتهي الزواج، والمقيم يرجو السفر والمسافر يطلب المعاد، والريفي يحن إلى المدينة والمدني يتشهى الريف، ونحن كلنا أطفال. . . تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها، ويهش لها، ثم يلقيها ويطلب غيرها، ولو كان دونها ثم أن الآمال لا(758/8)
تنتهي. . . فمن أعطى المليون أبتغي المليونين، ومن رفع في الوظيفة درجة طلب درجتين فلا يزال في سقاءين شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به وبالآتي الذي لا يصل أليه. . .
أفلهذا وجدت وسعيت أربعين سنة؟ أسعيت لأدرك السراب؟
وتتالت على الفكر، وعاودني الضيق الذي طالما كاد يدفعني (لولا خوف الله) إلى طلب الموت من سنين، وما أشكو المرض فصحتي جيدة ولا أشكو الفقر فأجد من المال يكفيني، وإنما أشكو فراغا في النفس لا أعرف مأتاه وقوى في لا أجد لها مصرفا وحنينا إلى شئ غامض لا أدري ما هو على التحقيق. . .
وتركت القلم والورق وقمت أدور في الغرفة فوجدت على نضد إبريقا من البلور الصافي، طويل العنق واسع البطن فيه نحلة قد دخلت ولم تستطع الخروج، فهي تتحفز وتتجمع وتثب مقدمة بقوة وباس، فيضرب الزجاج رأسها ويردها فتعاود الكرة، وهي لا تبصر الجدار، وإنما تبصر ما وراءه فحسب أنه ليس بينها وبين الفضاء حجاب فجعلت أنظر إليها وهي تعمل دائبة كلما ضربت مرة عادت تحاول أخرى، لا تقف ولا تستريح، حتى عددت عليها أكثر من أربعين مرة، تجد الصدمة كل مرة فلا تعتبر ولا تدرك الحقيقة، ولا ترفع رأسها لتبصر الطريق وتعلم أن سبيل الفضاء، وباب الحرية هو من (فوق) لا عن يمين ولا عن شمال. . .
فتعلمت من هذه النحلة ما كان خافيا عني: تعلمت أننا مثل هذه النحلة نحسب أن الانطلاق أنما يكون على الأرض فنقدم، فتضرب العوائق وجوهنا وتردنا، فنقعد يائسين، أو تعاود الكرة مستميتين، نحسب الانطلاق في الشهرة أو في المال، أو في متع الجمال، وهيهات. . وهاهم أولاء السياسيون والممثلون والمغنون، تطبق الأرض باحثيهم، ويشتغل الناس بأخبارهم، ويرون صورهم ويسمعون أصواتهم فما الذي يحصل من ذلك في أيديهم، وماذا ينفعك أن يكون الناس كلهم يمدحونك إذا كنت منفردا في غرفتك مبتئسا، تعس النفس محزون القلب؟ وها هم أولاء الشباب الأغنياء يؤمون كل ملهى ويستمتعون كل يوم بجمال جديد، فهل ذهب ظمأ قلوبهم إلى ارتياد منابع جدد لك ظمأ؟
وها هم أولاء المحبون المدفون، يعانقون من يحبون والنفس لا تزال بعد مشوقة ليس يرويها عناق ولا أقترب، ولا يشبعها شئ من متع الجسد.(758/9)
وها هم أولاء (الملايرة) المؤلفون، هل أشبعت ملايينهم نفوسهم ورزقتهم القناعة والاطمئنان؟
فما هذا طريق السعادة، أن الطريق على الأرض مسدود، والفضاء من حولك له حدود وما طريق الفضاء وسبيل الانطلاق إلا من (فوق)، هناك عالم النفس تنشط النفس كما برقت لها منه بارقة، أو لاح علم: كلما سمعت نغمة سحرية فيها رنة من ذلك العالم، أو قرأت قصة عبقرية فيها إشارة إلى ذلك المجهول، أو وعت موعظة علوية فيها قطرة من ذلك الينبوع.
الآن عرفت فيا ضيقة هذه السنين الأربعين!
لا تقولوا، أنك تكتب في الدين وفي الفضيلة، وإنك تدعو إلى الخير لأني عزمت على أن أقول الليلة الحق، ولو كان على نفسي. الحق يا سيادة، أن الدعاة اليوم إلى الله، لا أستثني واحدا ممن أعرف منهم، كلهم ممثلون، يلبسون في المجلة أو على المنبر ثياب المسرح، فيبدون بالجبة والعمامة فإذا انقضي (الفصل) خلعوها وعادوا إلى بيوتهم، فعكف عابد الدينار منهم على معبودة، ماله إلا جمع المال هم وعابد الشهوة عليها، وعابد الجاه، وعابد المنصب تعددت الأصنام والشرك واحد! أنهم ممثلون وأنا أول الممثلين.
ولو كنت صادقا لما الفت في سيرة أبي بكر وعمر، ثم عدلت عن سنتهما، وسرت غير سيرتهما، ولو كنت صادقا إذ أدعو إلى الإسلام، ونهيه، ولو كنت صادقا لما انغمست في حماة هذه الحياة التي سال علينا سيلها من الغرب، ولو كنت، كان عشرة مثلي صادقين، لما بقى في الأرض فساد. ولقد طهر الأرض من أوضارها منبر واحد من الخشب، ثلاث درجات ليس لها وازين، ولا عليها قبة، ولا لها باب، فلم تظهر الأرض مائة ألف منبر مزخرفة منقوشة محلاة لها أبواب جميلة وقباب؟
ألان الناس فسدت طبائعها؟ لأن الزمان قد دنا أخره؟ لا. بل لان القائمين عليها وعاظ من خشب يحملون سيوفا من خشب!
أما أن الحق، الذي لا بد الليلة من الصدع به. . . أنه. . . لا هذه المواعظ، ولا هذه المقالات، هي التي توصل إلى الله، ولكن يوصل أليه، أن يعود كل إلى نفسه، فيسأل من أين جاءت، وفيم خلقت، وإلى أين المصير؟(758/10)
وأن يعلم كل أن الطريق من (فوق)، فيرفع رأسه ليرى الطريق. ومن منا يرفع اليوم رأسه، ونحن كالنحلة لا تمشي إلا على الأرض؟ بل أن منا م هو كالفراشة، تسمى إلى النار، يحسبها هي باب الانطلاق!
أن المسيحيين يصلون لربهم قبل الطعام على المائدة، وقبل الدرس في المدرسة، ويوم الأحد في الكنيسة، فتعلم أنهم مسيحيون، فما يصنع كثير من المسلمين، وأي علامة تدل على أنهم مسلمون، من ساعة يصبحون إلى ساعة يمسون! لا صلاة، ولا ذكر، ولا تميز الحلال من حرام، أن عملوا فضيلة فباسم الأخلاق والفضيلة ولاصحة، لا باسم الإسلام. فما الفرق بينهم وبين غيرهم؟
يقولون أن الدين المعاملة والصدق والقصد والاعتدال، وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
صحيح، ولكن هذا من الدين، وليس هو الدين!
وهذا شان كل شريف، يستوي فيه الشرفاء جميعا، فما معنى تفريقهم إلى مؤمنين وملحدين وعباد وثن؟
وهذا كله للحياة الدنيا، فما الذين نعمله للحياة الأخرى؟ لا، بل الذين، أن تتصل بالعالم العلوي، وأن تراقب الله، وان تعلم أنه مطلع عليك أبدا، وانه يرعاك بعينه فترعاه بقلبك وتطيعه بجوارحك.
هذه غاية الخلق، وهذا سر الوجود، ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، لا عبادة عادة، وصلاة رياضة، وصوم استشفاء، وحج سياحة؛ بل العبادة التي يحس بها القلب حلاوة الأيمان، ويذوق فيها لذة العبودية، ويستشعر فيها القيام بين يدي الله. ولتغامر مع ذلك في ميدان الحياة، ولتقحم لجها، ولتأخذ أوفر قسط من طيباتها، ومن علومها ومن فنونها، ولتكن قويا ولتكن غنياً.
هذي حقيقة الدين، وهذي غاية الحياة، فهل يصل إلى الغاية من مشى أربعين سنة مائلا عنها، ضالا طريقها؟
إلا يا ضيعة هذه السنين الأربعين!
(دمشق ص. ب 19)(758/11)
علي الطنطاوي(758/12)
الكندي ورجال الدين
للدكتور أحمد فؤاد الاهواني
بين الفلسفة والدين، وبين الفلاسفة ورجال الدين، خصومة قديمة تذهب إلى أبعد العصور، ولا تزال سارية حتى اليوم. فقد كانت التهمة التي وجهت إلى سقراط أنه أنكر آلهة اليونان، ومن أجل ذلك حكموا عليه بالإعدام. وتاريخ الحضارة الإسلامية يسجل صراعا مستمرا حادا بين الفلاسفة ورجال الدين، أشتهر بعضه، وخفي عنا بعضه الأخر. وأظنك لا تجهل كيف نهض الغزالي يهاجم الفلاسفة هجوما عنيفا في كتابه تهافت الفلاسفة، وانبرى له أبن رشد يفند أقواله في (تهافت التهافت) كما ألف في التوفيق بين الفلاسفة والدين، ويدعو إلى رفع الخلاف عنهما كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). ولا نحب أن نستعرض كل ما وقع في تاريخ الفكر، فالخصومة أشهر من الاستعراض ولا تحتاج إلى استرسال. غير أنا نحب أن ننشر صفحة طواها التاريخ أجيالا، وسعى الباحثون عنها فلم يجدوا إلا ظلا وخيالا، تلك هي صفحة الكندي، فيلسوف العرب، الذي ضاعت كتبه، وطويت في بطون المخطوطات، حتى كشف حديثا عن جملة من رسائله، تفصح عن فلسفته، وتلقى الضوء على مذهبه.
وسوف نحدثك في هذه الكلمة عن جانب واحد من جوانب فكره: هو موقفه من الدين ورجاله، فنذكر طرفا من احتجاجه وجداله.
فقد شاع عن الكندي أنه ينتسب إلى يونان، وانه كفر بعد اصطناع آرائهم في الفلسفة، كما روى المسعودي في مروج الذهب فقال: (وقد كان يعقوب الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا: أنه أخ لقحطان، ويحتج لذلك بأخبار يذكرها في بدء الأشياء. . . وقد رد عليه أبو العباس عبد الله بن محمد الناشئ في قصيدة له طويلة، ووكد خلطه نسب يونان بقحطان على حسب ما ذكرنا أنفا في صدد هذا الباب، فقال:
أبا يوسف أني نظرت فلم أجد ... على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا
وصرت حكيما عند قوم إذا أمرؤ ... بلاهم جميعا لم يجد عندهم عندا
أتقرن إلحادا بدين محمد ... لقد جئت فينا يا أخا كنده أد
وتخلط يونان بقحطان ضلة ... لعمري لقد باعدت بينهما جدا(758/13)
ونحن نرى أن الكندي برئ من التهمتين جميعا: تهمة الانتساب إلى اليونان وتهمة الإلحاد. وإنما شاع ما شاع عنه بدافع أغراء الحساد والمنافسين. ذكر أبن النديم في الفهرست عند الكلام على أبي معشر المنجم (أنه كان أولا من أصحاب الحديث. وكان يتضاغن الكندي، ويغري به العامة، ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة).
وأنصفه المغفور له مصطفى عبد الرزاق في بحث له عن الكندي فقال: (هكذا يبلغ العبث بالتاريخ حدا يشوه من خلق الكندي ومن عقله، وقد كان الرجل في خلقه وفي عقله من أعظم ما عرف البشر).
وأكبر الظن أن المعاصرين للكندي أضافوا إليه القول بالانتساب إلى يونان، لما رأوه من انصرافه إلى البحث في الفلسفة اليونانية، ونقل أراء الفلاسفة وكتبهم إلى العربية، مع تحبيذ هذه الآراء والدفاع عنها. القفطي في أخبار الحكماء أن الكندي هو المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة طبقات الأطباء (حذاق الترجمة في الإسلام أربعة: حنين بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن الفرخان الطبري).
كان الكندي أذن حذاق المترجمين عن اليونانية، وله في الدفاع عن الفلسفة اليونانية حجة لطيفة خلاصتها أن الفرد الواحد لا يستطيع بلوغ الحق وحده فلا بد من التعاون في الفكر والأخذ عن المتقدمين إلى أن قال: (وغير ممكن أن يجتمع في زمن المرء الواحد وان اتسعت مدته، واشتدت بحثه، ولطف نظره، واثر الداب، ما أجتمع بمثل ذلك من شدة البحث، وألطاف النظر وإيثار الدأب في أضعاف ذلك الزمان الأضعاف الكثير. فأما أرسطو طاليس، مبرز اليونانيين في الفلسفة فقال: ينبغي لنا أن نشكر أباء الذين أتوا بشيء من الحق، إذ كانوا سبب كونهم، فضلا عن أنهم سبب لهم. وإذ هم سبب لنا إلى نيل الحق، فما أحسن ما قال في ذلك).
ثم أضاف بعد ذلك: وينبغي لنا إلا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، من الأجناس القاصة عنا والأمم المباينة. . .).
ولسنا ندري هل كان الكندي هو الذي بدا الهجوم على رجال الدين، أم كان يدفع عن نفسه هجماتهم. ذلك أن الفلسفة لم تكن قد أوغلت في الحضارة الإسلامية، ولم يكن العهد بينه(758/14)
وبين عصر المأمون بعيدا، والمأمون كما نعرف هو الذي شجع حركة النقل وأنشأ في بغداد دار الحكمة، وبعث في طلب كتب الطب والفلسفة وأجرى الأرزاق على المترجمين، وكان أغلبهم من السريان. والراجح أن الكندي هو أول فيلسوف عربي، وأول ناقل عربي، ولهذا قالوا عنه (فيلسوف العرب).
وكانت السنة رجال الدين حادة عنيفة ترمى المشتغلين بالفلسفة بالكفر، على الرغم من دفاع الخلفاء عنهم في صدر حركة النقل. وهذا هو السبب الذي دعا الكندي إلى الحذر في نقل جميع أراء أرسطو، وفي ذلك يقول: (توقيا سوء تأويل كثير من المتسمين بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق؛ لضيق فطنتهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة في الرأي والاجتهاد في لانتفاع العامة الشاملة، ولدرنة الحسد المتمكن من أنفسهم البهيمية، والحاجب بسدف سجونه أبصار فكرهم عن نور الحق ووضعهم ذوي الفضائل الإنسانية - التي قصروا عن نيلها، وكانوا منها في الأطراف الشاسعة - لوضع الأعداء، ذبا عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير أستحقاق، بل للترؤس والتجارة بالذين وهم عدماء الدين، لان من تجر بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، فمن تجر بالدين لم يكن له دين.
ويحق أن يتعرى من الدين من عاند تقنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفرا؛ لان في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة.
وجملة كل علم نافع والسبيل أليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل الصادقة، صلوات الله عليها، أنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحدة وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده، وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وإيثارها) فأنت ترى أن الخصومة كانت عنيفة بين الطرفين؛ فرجال الدين يرمون الكندي بالكفر والإلحاد، ويذهبون إلى أنه يجعل يونان أخا قحطان والكندي يرمي رجال الدين بأنهم يتجرون بالدين وهم عدماء الدين، ويطلب منهم الحجة أن كان عندهم برهان أو دليل.
يقول عنهم أنهم يتسمون بالنظر وهم أهل غربة عن الحق، وانهم يتتوجون الحق بغير استحقاق، يحجب الحسد أبصارهم عن نور الحق، بغير استحقاق، يحجب الحسد أبصارهم(758/15)
عن نور الحق، ويتربعون على كراسي الدين طلبا للرئاسة وذبا عنها ثم يبين الكندي الصلة بين الحكمة والشريعة بل يذهب إلى أن الدين من الفلسفة، فهي قنية علم الأشياء بحقائقها وفي ذلك علم الربوبية والوحدانية والفضيلة فالفلسفة توافق الدين لان الرسل الصادقة أتت بالإقرار بربوبية الله وحده.
ثم يحتج الكندي لرجال الدين بحجة عقلية تضيق عليهم الخناق فيقول: أن اقتناء الفلسفة (يجب أو لا يجب، فان قالوا يجب وجب عليهم طلبها؛ وان قالوا أنها لا تجب، وجب عليهم أن يحصروا علة ذلك، وأن يعطوا على ذلك برهانا وإعطاء العلة والبرهان من قنبة علم الأشياء بحقائقها. فواجب أذن طلب هذه القنية بألسنتهم والتمسك بها اضطرار عليهم).
غير أن النصر في هذه المعركة كان لرجال الدين إذ شوهوا أثار فيلسوف العرب، وصرفوا عن قراءتها أغلب الناس. ويبدو كذلك أنهم أوغروا عليه صدر زعيم من أئمة الأدب في ذلك العصر هو الجاحظ الذي تناوله بالنقد والتجريح والسخرية اللاذعة في أكثر من كتاب، في الحيوان والبيان والتبين والبخلاء
ومن التهم التي رمى بها الكندي فساد الذوق الأدبي، وضعف الأسلوب والبعد عن البلاغة وهي تهمة لصقت به، لا نستطيع أن تحقق فيها إلا إذا تناولنا أسلوبه بناء على ما ظهر له من نصوص.
أحمد فؤاد الاهواني(758/16)
موقف اليهود في مصر
للأستاذ نقولا الحداد
يدعى اليهود المقيمون في مصر أنهم مصريون وطنيون فمن الظلم أن يطلب منهم أن يحاربوا أخوانهم الصهيونيين. فإذا كانوا مصريين وطنيين بكل معنى الكلمة كما يزعمون فعليهم ما على المصريين كما أن لهم ما للمصريين. فهم يرتزقون في مصر ويثرون بل يستغلون جميع مرافق البلاد أكثر من غيرهم، فإذا يجب أن يكون عليهم ما على المصريين.
أن المصريين كسائر العرب في جميع البلاد العربية يعتبرون فلسطين قطعة من البلاد العربية بل هي مركز العروبة. ولذلك قرر العرب في مصر وغير مصر أن يدافعوا عن فلسطين بالمهج والأموال قرروا أن تبقى فلسطين عربية إلى الابد، وانهم يضحون كل غال ونفيس وبقائها لأجل استقلالها عربية لا قطره دم أجنبية فيها.
ولهذا السبب جعل المصريون كإخوانهم العرب في جميع البلاد العربية يتبرعون بالمال ويتطوعون بالرجال ويقتنون العتاد لتحرير فلسطين من الصهيونيين، فإذا كان يهود مصر مصريين وطنيين كما يزعمون فيجب أن يتبرعوا ويتطوعوا كإخوانهم المصريين. وإن كانوا صهيونيين فهم إذا أعداء العرب في قلب بلاد عربية، وبالتالي فهم أعداء مصر نفسها. وحكمهم في هذه الآونة الحاضرة حكم الأجانب الأعداء في مدة الحرب الأخيرة فيجب أن يعتقل الطابور الخامس منهم وكل من يشتبه بأنه معاون للصهيونيين وأن تصادر أموالهم كما فعلت مصر بأعداء الحلفاء. وأما أن يبقوا في البلاد يستغلونها ويترعرعون فيها ثم يبعثون بالأموال وبالمؤونة والعتاد إلى تل أبيب وكر الصهيونية فان هذا العمل خيانة لمصر ولجميع العرب.
وإما أن يقولوا أو يقول من يدافع عنهم أنه لظلم أن نطلب منهم أن يحاربوا أخوانهم في الدين، أي الصهيونيين فهذا أمر لا يحتمله الطبع البشري.
ولكن ليعلم اليهود في كل العالم وليعلم أنصار اليهود أن هذه الحب المبتدئة الآن في فلسطين ليست حربا دينية ولست حربا بين يهود ومسلمين ونصارى أنما هي حرب قومية بين صهيونيين وعرب؛ فإذا كان يهود مصر المقيمون في مصر من زمان طويل(758/17)
صهيونيين فليخرجوا من البلاد لأنهم يعدون أعداء وإن كانوا مصريين فعليهم أن يشاركوا المصريين في الدفاع عن فلسطين.
وأما أن يقولوا لا يصح أن نحارب إخواننا في الدين فهو عذر غير مقبول. لما كان أيزنهور يقود الجيوش الأمريكية في الحرب المنصرمة لمقاتلة الألمان لم يقل أني من أصل ألماني وديانتي كديانة الألمان فلا يصح أن أحارب الألمان، بل قال أن وديانتي كديانة الألمان فلا يصح أن أحارب الألمان، بل قال أن أمريكا تحارب ألمانيا وأنا أمريكي فيجب أن أسحق ألمانيا. وهكذا فعل.
وحين كان جورج واشنطون يقود الجنود الأمريكان ضد الجنود الإنكليز لكي يحرر أميركا من نير بريطانيا، لم يقل أن هؤلاء الجنود البريطانيين إنكليز مثلنا ودمنا من دمهم ولغتنا لغتهم وديننا دينهم فلا يجوز أن نحاربهم، بل كان يقول: بريطانيا محتلة أميركا وأميركا تريد أن تستقل، فيجب أن نحاربها حتى نطردها من البلاد، وهكذا كان.
فيا أيها الاخوة اليهود! أن كنتم إخواننا في الجنسية والوطنية فاشتركوا معنا في قتل الصهيونية وإن كنتم صهيونيين فاخرجوا من البلاد لأنكم أعداء البلاد فاختاروا أحد هذين الموقفين
نقولا الحداد(758/18)
من رسائل الشيخ شامل
(على هامش الثقافة العربية في الاتحاد السوفيتي)
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
في شهر يونيو من سنة 1943 أذاع الأستاذ أغانوطيوس كراتشكوفسكي محاضرة عن الثقافة العربية في الاتحاد السوفيتي جاء فيها ما يأتي: (ولا يزال بعض سكان داغستان يتكلمون بلغة عربية قديمة إلى جانب لغتهم الأصلية، ويستخدمونها في التخاطب والكتابة، وحتى في نظم الشعر وفق الأوزان العربية القديمة الخ).
ونشرت خلاصة تلك المحاضرة في بعض الصحف المصرية يومئذ فقام أحد كبار الكتاب المعنيين بالشئون القوقازية، وكتب مقال في إحدى الصحف اليومية الكبيرة حاول فيه التشكيك فيما قاله المحاضر عن ذيوع اللغة العربية في بعض جهات الداغستان، وكتبت في ذلك الحين مقالا طويلا شرحت فيه مكان اللغة العربية في القوقاز وبينت أنها عماد الثقافة العامة في الداغستان من أمد بعيد. وقد تفضلت الرسالة الغراء فنشرت ذلك المقال في العدد الأول من سنتها الثانية عشرة (يناير سنة 1944).
هذه كلمة وجيزة أردت بها التمهيد قبل نشر بعض الرسائل التي عثرت عليها مما كتبه الشيخ شامل نفسه في شؤون مختلفة بلغة عربية سليمة فيها سلاسة العبارة، ووضوح الفكرة.
وهي أربع وسائل عثرت عليها اتفاقا عند أحد شيوخ الداغستانيين في حمص - سورية - في الصيف الماضي وهذه الرسائل تفيدنا أن شاملا كان يدعو نفسه - كما كان يدعوه أصحابه واتباعه في القوقاز - أمير المؤمنين. كما نعرف منها أن أسمه المعروف به هناك هو (شمويل) وإن أشتهر في خارج بلاد القوقاز باسم الشيخ شامل.
وهذه هي الرسائل
- 1 -
من أمير المؤمنين شمويل إلى والده الأعز جمال الدين وإلى أخويه الكريمين الحاج على العسكري والقاضي حجيو والى أهل بيته، فإلى كافة جماعة القريتين.
سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(758/19)
أما بعد فلقد وقع بيننا وبين الكفار وقائع وحروب بحيث لم يقع مثلها إلى الآن في ديار (ججان)، بل في ديار داغستان يومي الأحد والاثنين بالمدافع الكبار والصغار والسيوف الصوارم، ونصرنا الله تعالى وأيدنا تأييد النبي المختار محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وخذل أولئك الملاعين أينما توجهوا ورجعوا من أمام باب شعيب إلى قلعة (أي سنقر) مقهورين منهزمين بحيث لا يرجعون إلى ديارنا بعد، فحمدنا الله تعالى وشكرناه على أياديه العظام، وإعانته لنا. وهذا بشرى لكم أيها الكرام، ولعل هذا التأييد بسبب بركات دعواتكم وخشوعكم وتضرعكم. ونحن نرجع إلى الأوطان بلا طول فصل، أن شاء الله تعالى. والباقي يخبركم الحامل بالتفصيل التام. هذا والسلام.
- 2 -
من الكتاب الفقير شمويل إلى إخوانه الكرام قاضي وعلماء وجميع جماعة (بن):
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وصانكم الله تعالى من كل آفة ما ظهر منها وما بطن أمين أما بعد.
فاعلموا - يا أخواني - أني تركت أخذ كافلكم للرهن ثقة بكم أن لا تخونوا دين الله تعالى ورجاء أن يكون ذلكم الترك سببا لزوال الكدورة من بينكم، وزيادة الألفة والمحبة فيكم فلا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، ولا يقصد بعضكم ضر بعض ولا تكونوا جواسيس (أنصال) لإيصال المضرة إلى بعضكم وكونوا عباد الله أخوانا.
هذه نصيحة من الفقير، فمن لم يقبلها ولم يعبا بها، وسعى بمخالفتها. فإن أصابه منا تعزيز بليغ - ولا شك أنه يصل أن شاء الله تعالى بعونه وقوته أما بالقتل أو ما هو أيسر منه - فلا يلومن إلا نفسه، والباقي يخبركم الحامل بأوضح بيان، بالمشافهة واللسان. والسلام
- 3 -
من أمير المؤمنين شمويل إلى خادم الكفار - ومحارب القهار. وخليل الشيطان الغرار (أغلار).
سلام على من أتبع الهدى ونهى النفس عن موادات العدى. أما بعد.
فأن هذا النصراني قد أختار دين الإسلام، من خدمة عبدة الأوثان والاصنام، وإن أخترتم(758/20)
العكس. هذا.
- 4 -
من أمير المؤمنين شمويل إلى أخيه النائب أبي بكر. سلام كثير. فالذي يقوله هؤلاء الحاملون من أخذ مزارع البنات المتزوجة إلى الأخرى، مما لا يقبله العقل والنقل، فأحذر منه، فالسلام.
يوم السبت 3 من جمادى الأولى سنة 1271 هـ
هذا هو نص الرسائل التي عثرت عليها وهي - كما أرى القارئ - رسائل عربية الإهاب واضحة الأسلوب مع مراعاة أنها كتبت قبل محو مائة سنة، وأن كاتبها رجل لم يغدر بلاده إلى بلاد عربية فضلا عن أنه كان مدى ثلاثين سنة متواصلة في حرب مستمرة مع عدو قوي جبار.
والرسائل الثلاث الأولى كتبت في أبان الثورة وفي شئون متصلة بها أشد اتصال. والرسالة الرابعة كتبت ردا على استفتاء في شان من شئون الحياة. وتمتاز عن بقية الرسائل بأنها مذيلة بتاريخ وهو السبت الثالث من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف من الهجرة. أي قبل استسلام شامل بنحو خمسة أعوام، فقد أضطر إلى التسليم في صفر سنة ست وسبعين ومائتين وألف.
والشيخ شامل كان لا يعرف اللغة الروسية مع أنه عاش في بلاد كان نفوذ الروس فيها عاما شاملا في كثير من الأوقات بل كان لا يعرف إلى جانب لغته الأصلية إلا اللغة العربية التي كان يحسنها إحسانا فقد ذكر الفيكونت فيليب دي طرازي في تاريخ الصحافة. (ج2 ص173) عند كلامه عن سليم دي نوفل واستدعائه سنة 1861 م لتدريس اللغة العربية في جامعة بترستبورغ ما يأتي. (واتفق أن شاملا المشهور الذي حارب روسيا مدة 32 سنة خضع وسلم لها في ذلك الزمن، وكان لا يحسن اللغة الروسية، بل العربية، فكان سليم ترجمانا بينه وبين القيصر أسكندر الثاني).
وعلى ذكر القيصر أسكندر الثاني أقول: (ذكر الفريق محمد فاضل باشا الداغستاني الذي كان أسيرا لدى الروسيين مع الشيخ شامل - هذه الحادثة:
كان الشيخ شامل مدعوا إلى إحدى الحفلات المقامة في قصر الإمبراطور أسكندر الثاني،(758/21)
وبينما كان جالسا بجانب القيصر أسكندر الثاني على المائدة التفت إليه القيصر واظهر له عظيم الاحترام والتقدير وقال له:
(إنني فخور جدا أن أرى في مثل هذا اليوم السعيد رجلا عظيما مثلكم في ضيافتي).
فلم يترك شامل هذه التحية تمر بسلام، فالتفت إلى القيصر وأجاب بهدوء:
(لو أن شخصكم الكريم كان في أسرى وضيافتي لكان سروري أعظم وافتخاري بذلك أجل!)
رحم الله شاملا ويرد أثره، فقد عاش كريما يناضل في سبيل دينه ووطنه أكثر من ثلاثين عاما حتى إذا أضطر إلى اللقاء السلاح والاستسلام إلى عدوه لم تفارقه روح الرجل المسلم المناضل الحر، ولو كان جليسه إمبراطور روسيا القيصر أسكندر الثاني.
برهان الدين الداغستاني(758/22)
الفتوة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
عرفوا الفتوة في اللغة بأنها: الكرم والسخاء، والشجاعة والمروءة، فإذا عرفنا أن هذه الفضائل الخلقية كانت جماع الشرف والحمد في البيئة العربية أدركنا أن (الفتوة) كانت دلالة النبل والسمو في تلك البيئة. ولقد قالوا (لا فتى إلا علي) يعنون أنه كرم الله وجهه كان غاية في أدراك هذه الفضائل والشمائل، على أننا نجد معنى (الفتوة) فيما بعد الصدر الأول للإسلام قد أتسع في دلالته فاصبح يضم إلى ما سلف من الفضائل الخلقية فضيلة الإيثار والتضحية وإنكار الذات، وبهذا انتقلت (الفتوة) من طور إلى طور، فالفتى في الطور الأول كان فردا غايته أن يفعل ما يكسبه الحمد في قومه، وان يحافظ على شرفه الذي هو شرف قبيلته، أما في الطور الثاني فانه أصبح فردا يعيش لغيره ويؤثره على نفسه أو كما نقول في اصطلاح العصر: فردا يعيش للجماعة، وقد حدد الشاعر العربي هذه المعنى إذ يقول:
فإن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضر عدو أو لنفع صديق
ويظهر أن (الفتوة) قد ابتدأت تتميز في البيئة الإسلامية كظاهرة من ظواهر المجاهدة وكمرحلة من مراحل التصوف، على عهد الحسن البصري ومما يؤثر عن الحسن قوله: (كان الفني إذا نسك لم نعرفه بمنطقة وإنما نعرفه بعمله) وبهذه المعنى تلكم في (الفتوة) جعفر الصادق، ثم الفضل، ثم الإمام أحمد، ثم سهل، فالجنيد، وإضرابهم من الصوفية. قال علي بن أبي بكر الاهوازي (إن أصل الفتوة إلا أن يكون العبد أبدا في أمر غيره) وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أن الفتوة هي كسر إبراهيم للصنم، وصنم كل أنسان نفسه، فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة وهكذا نجد (الفتوة قد اتخذت في البيئة الصوفية مظهرا يلائم تلك البيئة في اتجاهاتها وفي أهدافها. . .
والكلام على ما كان من نظام (الفتوة) في محيط الصوفية يحتاج إلى حيز كبير، وقد يقتضي ذلك كتابا برمته، فحسبنا تلك الإشارة العابرة، لأننا نقصد في هذه المقال إلى الكلام عن (الفتوة) إذ تمثلت في المجتمع الإسلامي نظاما له أهدافه السياسية والاجتماعية والخلقية، وقد كان ذلك على عهد الخليفة العباسي الناصر لدين الله، فهو الذي فرغ لهذا(758/23)
الأمر وتولى تدبيره بنفسه، فهدر ما كان من أوضاع الفتوة السابقة ووضع لها نظاما عاما ينتظم الأكابر والأصاغر والخاصة والعامة، وجعل نفسه القبلة في هذا والمرجع، وأرسل إلى الملوك والأمراء على أن يأخذوا بهذا النظام، قال (أبو الفداء) في حوادث سنة سبع وستمائة: (وفي تلك السنة وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كاس الفتوة، ويلبسوا له سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ويجعلوه قدوتهم. . .) ويقول أبو المحاسن أبن تغري بردى في النجوم الزاهرة: (وفي أيام الناصر لدين الله ظهرت الفتوة ببغداد ورمى البندق ولعب الحمام المناسب وافتن الناس في ذلك، ودخل فيه الإجلاء ثم الملوك، فالبسوا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة، ولبسها أيضا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة، ولبسها أيضا الملك شهاب الدين صاحب غزته والنهد من الخليفة الناصر لدين الله ولبسها جماعة أخر من الملوك. . .).
ولعل أبن الساعي هو المؤرخ الوحيد الذي فصل ما كان من عمل الناصر في ذلك، ولقد حفظ لنا هذا المؤرخ العظيم صورة من العهد الذي أذاعه هذا الخليفة على رؤساء الأحزاب بتعاليم الفتوة وما حدد لها من التقاليد والأوضاع حتى لا يتعدوها فيما بينهم وبين أنفسهم وفيما بينهم وبين الناس، وقد كان من خير ذلك العهد أن الفاخر العلوي كان رفيقا للوزير ناصر أبن مهدي وكان له رفقاء فاختصم أحد رفقائه مع رفيق لغز الدين نجاح الشرابي ووقعت بذلك فتنة عظيمة بين الفريقين، حتى تجالدوا بالسيوف فانتهى هذا إلى الخليفة الناصر فأنكره، وتقدم إلى الوزير يجمع رؤوس الأحزاب، وأن يكتب في ذلك كتاب يؤمرون فيه بالمعروف والألفة، وينهون عن التضاغن والتباغض، ويقرا بمحضر منهم ويشهد عليهم بما يتضمنه، فمن خالفه أخذت سراويله وأبطلت فتوته، وعوقب بما يستحق، ويعتبر هذا العهد وثيقة نادرة تكشف لنا عن الحدود التي رسمنها الخليفة الناصر لنظام (الفتوة) الذي أقامه، وتبين لنا ما وضع لهذا النظام من هدف وغاية ففي ديباجة هذا العهد يشير إلى شئ من تاريخ الفتوة ومرجعها واصلها فيقول: (من المعلوم الذي لا يتمارى في صحته، ولا يرتاب في وضوح براهينه وأدلته أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو أصل الفتوة ومنبعها ومعجما أصافها الشريفة وطلعها وعنه يروي محاسنها وآدابها، ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها، وإليه دون غيره ينسب الفتيان وعلى منوال مؤاخاته(758/24)
الشريفة النبوية نسج الرفقاء والأخوان، وإنه كان عليه السلام مع كمال فتوته ووفور رجاحته يقيم حدود الشرع على اختلاف مراتبها، ويستوفيها من أصناف الجناة على تباين جناياتها، ومللها ومذهبها غير مقصر عما أمر به الشرع المطهر وقدره، ولا مراقب فيما رتبة من الحدود وقرره، وامتثالا لأمر الله تعالى في إقامة حدوده وحفظاً لناظم الشرع وتقويم عموده فانه عليه السلام فعل ذلك بمرأى من السلف الصالح ومسمع ومشهد من أخبار الصحابة ومجمع فلم يسمع أن أحدا من الأمة لامه، ولا طعن عليه طاعن في حد أقامته، وحقيقة بمن أورثه الله مقامه وناط به شرائع الدين وأحكامه وانتمى إليه عليه السلام في فتوته، واقتضى شريف شيمته، وكريم سجيته أن يقتدي به عليه السلام في أفعاله، ويحتذي فيما استرعاه الله تعالى واضح مثاله غير ملوم فيما يأتيه من ذلك ولا معارض فتوة وشرعا فيما يورده ويصدره).
ثم يشير العهد إلى المراسم المفروض (على كل من تشرف بالفتوة برفاقه الخدمة الشريفة المقدسة المعظمة الممجدة الطاهرة الزكيه الأمامية الناصرة لدين الله تعالى) وكل هذه المراسم دعوة إلى الألفة والمحبة والى أن يكون الرفاق عون بعضهم بعضا فمن كان له رفيق قتل نفسا زكيه بغير أثم بادر بالخروج من رفقته لأنه بهذا الإثم خرج عن دائرة الفتوة ومن حمى قاتلا وأخفاه وساعده على أمره تنزل عنه كبيرة وتبرا منه، ومن حوى ذا عيب فقد عاب وغوى، ومن أوى طريد الشرع فقد ضل وهوى، وإذا قتل الفتى فتى من حزبه سقطت فتوته، ووجب أن يؤخذ منه القصاص عملا بقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيما أن النفس بالنفس) فإذا قتل غير فتى رفيقا من الرفاق أو عونا من الأعوان، أو منتسباً إلى ديوان في بلد الخليفة المفترض الطاعة على كافة الأنام، فقد عيب هذا القاتل وواجب القصاص منه على كل فتى راجح. .
وفي الختام يشير العهد إلى ما يجب على الرفقة من العمل بموجبه والجري على مقتضى المأمور به والوقوف عند المحدود فيه، قال أبن الساعي (وقد سلم إلى كل واحد من رؤساء الأحزاب منشور بهذا المثال فيه شهادة ثلاثين من العدول، ثم كبت تحت كل مرسوم ومنشور ما صورته: قابل العبد بما تضمنه هذا المرسوم المطاع وقابله بما يجب عليه من الانقياد والامتثال والاتباع، وهو الذي يجب العمل به فتوة وشرعا وهذا المعروف من سيرة(758/25)
الفتيان نقلا وسمعا وقد ألزمت نفسي أجراء الأمر على ما تضمنه هذا المرسوم الأشرف، فمتى جرى ما ينافي المأمور به المحدود فيه كان الدرك لازما لي والمؤاخذة مستحقة على ما يراه صاحب الحرب ثبت الله دولته وأعلى كلمته. .).
لم تكشف لنا النصوص الواردة عن حقيقة القصد الذي كان يهدف إليه الناصر من إنشاء هذا النظام للفتوة، أو على الأصح من إنشاء هذه الجمعية التي كانت في نظامها أشبه ما تكون بالجمعيات السياسية والحربية، ولهذا يرجح الباحثون أن الناصر كان يقصد بذلك إلى أحياء الروح الحربية في النفوس، وإقامة قوة يمكن أن يفق بها في وجه أولئك الأعاجم الذين أخذوا يتخطفون الإمبراطورية العربية من كل جانب، ويعملون على إزالة معالم الخلافة الإسلامية غير أنا نرى جميع المؤرخين القدماء الذين كتبوا في سيرة الناصر وأعماله قد عابوا بالانصراف إلى هذا الأمر، حتى يقول أبو الفداء أنه (كان قبيح السيرة منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور في المناسيب ولبس سراويلات الفتوة) وانهم ليذكرون عنه في ذلك حكايات تصوره مثلا أعلى في اللهو وسقوط الهمة والانصراف عن مهمات الأمور. والمؤرخون القدماء لا شك معذورون في هذا التقدير لأنهم تعودوا أن يروا الخليفة مثالا للأرستقراطية المتعالية، فهو شخص لا عمل له إلا أن يجلس في صدر الديوان يأمر وينهي، ويمنع ويمنح، فكان من الغريب في تقديرهم أن ينصرف الناصر إلى هذا التدبير، وأن يبذل له كل هذه العناية وان يعني بتعميم ذلك النظام الحربي الرياضي بين الطبقات!!
على أي حال نستطيع أن نقول أن الناصر قد ضع نظاما للفتوة الإسلامية كان في الإمكان أن يجد شباب الدولة العربية وأن ينهض بها من عوامل الانحلال التي تسربت إلى جسمها، ولكن يظهر أن أحداث الزمن في تلك الأيام كانت أعنف واغلب. على أن هذا النظام قد امتدت أصوله في البيئات الإسلامية، وعمت أثاره آماداً من السنين فأننا نجد الرحالة أبن بطوطة بعد عهد الناصر بقرنين أي في القرن الثامن الهجري يتحدث عن جمعيات الفتوة وانتشارها في بلاد الأناضول، ويثني عليها ثناء مستطابا، وكانوا يسمون بالأخية الفتيان قال ابن بطوطة (وهم بجميع البلاد التركمانية والرومية، في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء(758/26)
الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر، والأخ عندهم رجل يجتمع أهل صناعة وغيرهم من الشبان الأعراب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضا، ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية، فان ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافة لديهم ولا يزال عندهم حتى ينصرف وان لم يرد وارد اجتمعوا على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا أجتمع لهم، ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخ، ولم أر في الدنيا أجمل أفعالا منهم، ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر، وأعظمهم إكراما له وشفق عليه. . .) ومن ثم نرى أن الفتوة الإسلامية قد تطورت إلى نظام اجتماعي إنساني أشبه ما يكون بنظام الماسونية من جهة وبنظام التعاون الاجتماعي من جهة أخرى، كما نرى أن الفتوة الإسلامية قد تغلغلت في البلاد الإسلامية وانتشرت بين الطبقات ولو كان هناك القائد المنظم الذي يعمل لاستغلال تلك الجماعات على وضع محدد الهدف والغاية لأجدت كثيرا من الخير على العالم الإسلامي، ولكنها انتهت في أخر الأمر إلى ما يشبه نام الزوايا الذي وضعه الصوفية، ويظهر أنها تلاشت في هذا النظام على مر السنين.
على أننا نرى في العصور المتأخرة نظاما شاع بين الطبقات، وهو الذي عرف في البلاد العربية (بمشيخة فتوة) وهو نظام كان يقوم على قوة الساعد والعضل ومزاولة بعض الأعمال الرياضية والفروسية.
وبعد، فهذه صفحة من تاريخ الفتوة الإسلامية، عرضناها على القراء مجلة لان المقام لا يحتمل الشرح والتفصيل ولعلنا نعود في فرصة أخرى إلى تجلية بعض النواحي في هذا الموضوع الذي عنى به المستشرقون أكثر مما عنى به أبناء العروبة.
محمد فهمي عبد اللطيف(758/27)
اللغة العربية تصارع
للأستاذ وديع فلسطين
في مفتتح هذا القرن كان النشء يلحقون في معاهد مصرية خاضعة لوزارة المعارف المصرية (أو نظارة المعارف كما كانت تسمى) فلا يدرسون العلوم والرياضيات إلا بلغة أجنبية تلبية لرغبة المستعمرين ووكيلهم الداهية دنلوب.
بيد أن سعد زغلول باشا لم يكد يتقلد مهام وزارة المعارف في العام السادس من القرن العشرين حتى هب هبته المدوية، وأعلن ثورته وعصيانه على أساليب التربية ولا سيما تدريس العلوم باللغة الإنجليزية. وعلى حين غرة طالع سعد بنى وطنه بقراره الانقلابي، وعمم لغة الضاد بين جدران المعاهد، فأصبحت أداة والتلقين.
وليست هذه المهمة ميسرة كما قد يخال البعض، بل كانت تنطوي في تضاعيفها على تبعات شتى، لعل أبرزها تبعة توفير عدد صالح من الأساتذة يعهد إليهم في شق الطريق واستحداث طائفة من الكتب باللغة العربية تخلف زميلاتها الإنجليزية، وإعادة النظر في برامج التعليم على ضوء التجديد المستحدث. فكانت هذه أول معركة ربحتها اللغة العربية في ساحة صراعها، وعقد لواء الظفر فيها لزعيم سياسي مخلد الذكرى، أبت عليه مصريته أبت عليه قوة شكيمته أن لين للبغاة ويدعهم. يسممون الفكر ويسيئون التربية والإعداد.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أي في عام 1875 تقرر في اللائحة للمحاكم المختلطة استخدام اللغة العربية في المحاكم المختلطة بوصفها لغة رسمية مع قرينتين أخريين عما الفرنسية والإيطالية. ولكن عادة المحاكم جرت على اختيار اللغة الفرنسية لغة موحدة في مخاطبتها وإصدار أحكامها، وغضت الطرف عن سائر اللغات الأخرى.
ودرجت سفينة المحاكم المختلطة على السير في هذا المنوال حتى هل شهر فبراير من عام 1934 وفيه عين الأستاذ الدكتور عبد السلام ذهني بك مستشارا في محكمة الاستئناف المختلطة. وعز على القانوني المصري أن يرى لغة بلاده تهدر ويضرب عنها صفحا، فعمد عند كتابة أول حكم له إلى كتابته بالضاد وتقديمه بعد ذلك إلى رئيس الدائرة البلجيكي ليمضيه. فبهت القاضي واستعاذ بالله، وقال أن مجد المحاكم المختلطة يؤذن بالأقوال ونجمها في طريق الخبو، وكان لهذه الحادثة صدى مدو أفضى إلى أن يتعاضد الأجنبيين(758/28)
من رجال المحاكم معا ويحولوا دون مضي الفقيه المصري فيما أختطه لنفسه من سبيل.
بيد أنه لم يحل عام 1937 حتى شهد إمضاء اتفاق مونترو الذي قرر إلغاء الامتيازات وجعل العربية ألغه الرسمية القضائية المكفولة المقام، ونطق الأحكام في الجلسات مشافهة بلغة يعرب وبلغة الفرنسيس. فكانت هذه ثاني معركة صارعت فيها اللغة العربية على يد فقيه مقدام فكان التوفيق حليفها.
وقبل خمسة أعوام. أي في شهر أغسطس من عام 194 كان على راس وزارة الشئون الاجتماعية شاب كفء ذو جرأة فهالة ما رأى وما سمع عن امتهان لغة البلاد في الشركات ودور الصناعة الأجنبية في أديم مصر، وصمم على رد الاعتبار للغة العرب وصون حقوقها ومقامها.
فاستصدر معاليه - وكان الأستاذ عبد الحميد عبد الحق - مشروع قانون لتعميم اللغة العربية في دور الشركات الأجنبية وجعلها اللغة الأصلية وما عداها دخيل لا يعول عليه. فكانت هذه الخطوة مثار تعليق متباين من الدوائر الأعجمية، ولكنها أجمعت جميعها على استنكارها.
غير أن الوزير الشاب مضى متجلدا صوب هدفه حتى أقر مجلسا البرلمان القانون واصبح واجب الاحترام مكفول النفاذ وتحدث صاحب المشروع عنه قائلا (إنني أرى أن لا فضل لي في هذا القانون لا من حيث الفكرة ولا من حيث صدوره. . . أما فيما يتعلق بالفكرة فهي فكرة كل مصري. وأما فيما يختص بصدوره فالفضل في ذلك إلى التمسك بحقوق البلاد).
وبسن هذا القانون أضحت لغة العرب سيدة اللغات في مصر وأمكنها أن تصرع أترابها في الميادين الرسمية. . .
بيد أن العربية ما فتئت تتعثر في المجتمعات وفي الأندية ودور المرح وبيوت ذوي الاحتساب والأنساب. ولا يزال عليها أن تواصل كفاحها بغير هوادة لتثبت أقدامها وتعزز مرتبتها. فإذا جلست في فندق من فنادق الحاضرة المصرية، تناهت إلى أذنيك (بقايا) كلمات عربية مختلطة بلهجات أجنبية، أو سمعت لغة فرنسية تتريث بين أوان وآخر لتزج بين ثناياها بكلمة عربية أو تعبير من تعبيرات السائمة.(758/29)
وإذا زرت بعض البيوتات، رأيت الفتيات العذارى يؤثرن لغة أجنبية على لغة المهد، ويتراسلن بها في أحاديثهن في زهو وخيلاء وإذا قصدت بعض الشركات الأجنبية ذات النفوذ القوي أو التي يسندها نفوذ قوي، رأيت اللغة العربية منزوية في ركن من الأركان لتفسح للغتين أو لثلاث من اللغات الأعجمية مجال المحادثة والمكاتبة والمحاسبة.
أن اللغة العربية تصارع صراعا عنيفا، تتعرض حينا للبوار في بعض الدور، ولكنها سرعان ما تنهض من كبوتها، وتحاول الأيام أن تنال من جاهها فتفلح أنا ولكنها لا نفتا حتى تسترد عزها صراع مستمر كصراع الليل والنهار، ولكننا إذا استشففنا من تجارب الماضي مال اللغة العربية في المستقبل، بتنا مطمئنين إلى ظفرها في النهاية، وهي نهاية قريبة بأذن الله. . . .
وديع فلسطين(758/30)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
957 - إنما سرقت مال ربي
في (رفع الإصر عن قضاة مصر) لابن حجر العسقلاني: حكي على بن سعيد في تاريخه أن رجلا سرق قنديلا من الجامع العتيق، فرفع للقاضي، فرفعه للحاكم، فقال له: ويلك! سرقت فضة الجامع؟
فقال: إنما سرقت ما ربي، وأنا فقير، ولي بنات جياع، والإنفاق عليهن أفضل من تعليق هذا في الجامع.
فدمعت عيناه، ورققه القاضي عليه، فأمره بإحضار بناته، فحضرن فأمر القاضي أن يجهزن بثلاثة آلاف دينار، ويزوجن وأعاد القنديل إلى الجامع.
958. . . فأمهلته إلى شوال
في (تتمة اليتيمة) لأبي منصور الثعالبي:
أنشدني الشيخ أبو بكر لأبي نصر كاتب أبن قحطان صاحب اليمن في محمد بن حوشب، ولم أسمع في معناه أظرف منه:
قيل لي: ما أفدت ممن إليه ... صرت تحدو قلائص الآمال؟
قلت: جئناه في شهور شراف ... وهو فيها بنسكه ذو اشتغال
والفتى لا يجود إلا على السكر ... فأمهلته إلى شوال
959 - الطبيعة إذا وجدت طريقا استغنت به عن طريق ثان
شرح النهج لابن أبي الحديد: أعلم أن الناس اختلفوا في ابتدأ خلق البشر كيف كان، فذهب أهل أملل من المسلمين واليهود والنصارى إلى أن مبدأ البشر هو أدم الأب الأول، وذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك، أما الفلاسفة فزعموا أنه لا أول لنوع البشر ولا لغيرهم من الأنواع، وأما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة فقوله ما ذكرناه ومن لم يكن منهم على رأي الفلاسفة ويقول بحدوث الأجسام لا يثبت أدم، ويقول أن الله (تعالى) خلق الأفلاك وخلق فيها طباعا محركة لها بذاتها، فلما تحركت وحشوها أجسام لاستحالة الخلاء كانت(758/31)
تلك الأجسام على طبيعة واحدة، فاختلفت طبائعها بالحركة الفلكية، فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن والطف، والبعيد أبرد واكشف. ثم اختلطت العناصر، وتكونت منها المركبات. ومما تكون منها نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة واللحم، والبق في البطائح والمواضع العفنة، ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد، وصار ذلك قانونا مستمرا، ونسى التخليق الأول الذي كان بالتولد. ومن الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد، وإنما أنقطع بالتوالد لأن الطبيعة إذا وجدت طريقا استغنت به عن طريق ثان.
960 - أبو العتاهية. . .
الأغاني: محمد بي أبي العتاهية: قال: لما قال أبي في عتبة:
كأن عُتابة من حسنها ... دمية قس فتنت قسها
يا رب، لو أنسيتنها بما ... في جنة الفردوس لم أنسها
شنع عليه منصور بن عمار بالزندقية وقال: يتهاون بالجنة، ويبتذل ذكرها في شعره بمثل هذا التهاون. وشنع عليه أيضا بقوله:
إن المليك رآكِ أحسن خلفه ورأى جمالك
فحذا بقدرة نفسه ... حور الجنان على مثالك
وقال أيضا: أيصور الحور على مثال امرأة آدمية! والله لا يحتاج إلى مثال، وأوقع له هذا على ألسنة العامة، فلقي منهم بلاء
961 - . . . . وإلا فالطفل مسلم
في (طبقات الشافية الكبرى) للسبكي: أبو عبيد بن حربونة كان يرى أن الطفل إذ أسلمت أمه دون أبيه لا يتبعها في الإسلام، وإنما يتبع الأب، وهو رأي شيخه أبي ثور، فأسلمت امرأة ذمية، ولها ولد طفل، ولم يسلم الأب، ومات، فدس على أبي عبيد من يساله، فتفطن إلى أنه أن فعل ذلك (أي أن حكم ببقاء كفر الطفل تبعا لأبيه) قامت عليه الغوغاء. ونصحه أبو بكر (الإمام الجليل أبن الحداد المصري) وقال له: لا تعمل بهذا وإياك والخروج فيه عن مذهب الشافعي، فانك أن فعلت ذلك وأنالك الأذى من الخاصة والعامة. وعلم أنه أن لم(758/32)
يفعل خرج عن معتقده. فلما جلس أبو عبيد في الجامع أجتمع الخلق بهذا السبب المبيت عليه بليل، وقام رجل على سبيل الاحتساب، وقال: أيد الله القاضي! هذه المرأة أسلمت ولها هذا الطفل، فيكون مسلما أو على دين أبيه؟ فقال: أين أبوه؟ - وقد كان علم أنه مات - فقالوا: مات، فقال: شاهدين يشهدان أنه مات نصرانيا وإلا فالطفل مسلم فكثر الدعاء له والضجيج من العامة، وستر علمه بفهمه. . . .
962 - من أحاديث الزهر
في (الفصول والغايات) لأبي العلاء:
قالت البهارة لصاحبتها: ودعيني، فالبارحة طللت ولم أنتعش، ما أقرب مني قدم واطئ أو كف جان!
قالت الوردة لأختها: ما أشوقني إلى الماء!
قالت: ورقك يهف، والنسيم راكد، ستروين ولو من أدمع كئيب. . .
963 - إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
في (الموافقات) للشاطئ: حكى أبو عمر والداني في طبقات القراء له عن أبي الحسن بن المنتاب قال: كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن أسحاق، فقيل له: لم جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القران؟ فقال القاضي: قال الله (عز وجل) في أهل التوراة (بما أستحفظوا من كتاب الله) فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم. وقال في القران: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فلم يجز التبديل عليهم. قال علي (أبو الحسن أبن المنتاب) فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية، فقال: ما سمعت كلاما أحسن من هذا.
من أناشيد الحرية:(758/33)
إلى أبناء الجنوب. . .
للأستاذ محي الدين صابر
مشى على القيد أباء وأبناء ... في السجن ينفضهم برد وظلماء
والجوع يأكلهم والعرى يلبسهم ... يضج في روحهم جهد وإعياء
والذل يدفن في جبهاتهم أمماً ... راحوا إلى المجد غلابين أو جاءوا
ترتد أنفاسهم في القيد ضارعة ... تكاد تنكر أن القوم أحياء
مهدَّمون مساكين الخطى مِزَق ... كأنهم في يد الجلاد أشلاء!
خمسون عاماً مشت فينا دقائقها ... كالجيل فيه مصيبات وأرزاء!
تغلي الدماء على أحقادهن بها ... وتستجيش من الثارات أحشاء
فاليوم حين يهد السجن مقتتل ... ويحطم القيد ثوار. . . أشداء
واليوم حين يفيض الفجر من دمنا ... وحين تمتد أفاق وأجواء
وحين نحشد في التاريخ مقدرة ... لها إلى الخلد إسراء وإفضاء
وحين ينتقم الوادي لوحدته ... وحين يثأر في الساحات فداء
من يخطب المجد لا يبخل بتضحية ... وإن تكن دمه فالمجد حسناء!
يا نيل شعبك، أبطال وآلهة ... لهم على الدهر شارات وسيماء
كم راية لك مثل الشمس ظافرة ... سعى بها ظافر، للنار مشاء.!
وكم هياكل مثل الليل خاشعة ... أطال فيهن سجَّاد ودعَّاء!
حبا عليك الزمان الطفل تنشئة ... حتى نمت منه أحيان وإناء!
أما الحياة فكانت فكرة ومنىَّ ... وأنت سجد وأحداث وأنباء!
أسميتها! فجرت الشوق في دمها ... وقمت تحنو عليها وهي عذراء
يا نيل! يا ساحر الوادي وسامره ... كأنما أنت في الشطآن صهباء
على النخيل ابتهالات وأخيلة ... وفي الخمائل أنغام وأصداء!
وأنت حلم على الضفات مبتهج ... وخاطر ملهم الإبداع. . . . وشاء
وشيتهن: فحقل مترف خضل ... وجنة طلة الأفناء. . . لقاء
استبق ماءك تهتز الظلال به ... فاليوم ساعة لا ظل ولا ماء!(758/34)
فأنت تنبت للراضين ما بذروا ... يغله لهم خصب. . . وإنماء
والدم ينبت للفادين معجزة ... خير ما أستنبتوا، مجد وعلياء
ونحن نوشك أن نجني فقد رويت ... حرية ضخمة الأعلام حمراء
تسع وعشرون مليونا لو احتشدوا ... لأعجزوا الموت والأقدار لو شاءوا
لنا إلى مهبط الوادي ومطلعه ... من صحوة الشوق حنات وإصغاء
وللكفاح وراء البحر منسرب ... تهزنا منه اقباس. . . . وأضواء
وإن تغرب منافي الدماء دم ... فللقلوب مع الفادين. . . إسراء
بنى الجنوب! وللأيمان غضبته ... ولطواغيت. . . إزباد. وإرغاء
وللحوادث شدات ومعسرة ... فينا. . . وللظلم تنكيل وإلواء
ماذا فعلتم وقد ألقى القناع لكم ... وقد بدت منه أشياء وأشياء؟
خمسون عاما وفي السودان صفحته ... دم ودمع وأحزان وبأساء
ففي الجنوب عراة في كيانهم ... ذل وجوع وآفات وأدواء
لا أظلم القوم قد أهدوا لهم صُلبا ... يمشي بهن على الأهوال أنضاء
وفي الشمال. . . جنايات تنظمها ... يد تنكل بالأحرار، نكراء
فقيد الفكر: لا صوت ولا قلم ... حتى الصحافة فهي اليوم شلاء
ومد للدرس والإرهاب ظلهما ... كأنما عهده: ليل. . . وصحراء
فالسيف منصات والسوط منجرد ... والسجن متسع والحكام أهواء
أين الضرائب يجبيها مضاعفة ... ولا رقيب له عد وإحصاء!
ما فاته في القرى نبت ولا شجر ... وفي البداوة لا أبل ولا شاء
والشعب يصرخ يا جهدي ويا عرقي ... وأذنه عن صراخ الشعب صماء
يا شعب ما لك أجر الذل يأخذه ... والذل، يا شعب، تسليم وإعطاء
ففي المصارف أوراق وأرصدة ... وفي القصور. . لذاذات ونعماء
ولست تملك إلا أن تقول له ... (صدقت) أن قال تعمير وإنشاء
سيقرأ الدهر للأجيال قصته ... وأنها قصة سوداء. . شنعاء.
بني الجنوب فهذا حين محنتكم ... وليس تغفر بعد اليوم أخطاء(758/35)
يلوى بحقكم السجان معتديا ... كأنه منح منه. . وآلاء
يقلب القيد، كالحاوي على يده ... قالوا له: لعبة شمطاء خرقاء!
في كل يوم يسميه ويصقله ... وليس للقيد ألوان وأسماء
فهو (الرفاهة) أحيانا ... وآونة هو (المصير) وإن ينصف (فإفتاء)!
وبين ذلك (مشروع) (وسوْدنة) ... و (مجلسان) وتلميح وإغراء!
فتلك رقصة مذبوح يحاولها ... دعوه يسكن له حسن وأعضاء
وليبين ما شاء من أوهام باطلة ... فلم يعد للنوايا السود إخفاء
سيهدم الشعب أعلاه وأسفله ... والشعب والشعب هدام وبناء
بنى الجنوب؛ وقد أبلت طلائعنا ... ولم ترعنا. . أعاصير. . وأنواء
ما حاكم جاءنا والسيف في يده ... وفي جوانحه حقد وبغضاء
بأي منطق جبار يهددنا ... كأننا (لمعاليه). . أرقاء؟!
قولوا له: لن ترى ما بيننا رجلا ... له على صفعه الجلاد إغضاء
فليس يجمل في التاريخ منزلة ... إن قال: لي فيكم صحب وأعداء!
قولوا له: قال هذا الشعب قولته ... وأنها قولة كالفجر. . بلقاء
هي الجلاء عن الوادي بلا أجل ... ووحدة في ظلال التاج شماء
بنى الجنوب لقد أزرى العدو بنا ... وما تزال له في الظلم. . غلواء
انحن في كل حرب مرة شند ... للعاجزين بدا والحرب هوجاء!
في (طبرق) دمنا يشكو وفي (كرن) ... وفي الصحارى حشاشات وأحناء!
حتى إذا النصر واتى قام يجحدنا ... فيه حليف لنا بالأمس بكاء!
هل كان غاية هذا الجهد ما صنعوا ... من مجلس هو ثارت وشحناء!
للناب خلف القناع الزيف ... صرصرة وللمخالب. توجيه وإيحاء!
هي المطامع أن جاروا وإن عدلوا ... وليس من آفة الأطماع أبراء
وليس في شرعهم للعدل ناحية ... وللظلامة. والتطفيف إيخاء
كبيرهم فيه حناث ومغتصب ... أما الصغير فمعصوب ووفاء!
قد ثار بينهم (محمود) في يده ... وثيقة من كفاح الشعب غراء(758/36)
كأنما كل لفظ قام. . . يرسله ... كبيبة حرة الأبطال شهباء!
نادى بحرية الوادي فانصفها ... منه جرئ على العادين، أباء
ينازل الخصم أيمانا ومقدرة ... والخصم داهية في الأرض دهياء
وراح بزار (إسماعيل) مقتتلا ... كأنه طعنة في الظلم نجلاء
وحوله من صميم الشعب كوكبة ... حمس، على نوب الأيام أكفاء
إن مال بالرأي ذو ضلع ومختلق ... فما استلان لهم عزم وإمضاء
والشعب في شرف الأحرار يذكرهم ... إن عد من حسنوا فيه، ومن ساءوا!
بنى الجنوب، إذا الحرية اختلفت ... شاراتها فهي تضليل إغواء؟
عدوكم واحد، والقيد مشترك ... اذن، ففيم اتجاهات وأراء؟
هو الدخيل، فإن تحطم سلاسله ... فقد تناصر في الوادي الأشقاء
الأمر، ما بينهم شورى ومرحمة ... كما يشاءون، تخيير وإرضاء
حرية الشعب أيمانا وتضحية ... وقدرة والتزامات. . . وأعباء
بنى الجنوب، وفي الفاروق معتصم - كأنه قدر. . . بالخير مضاء
نذود عن عرش وادي النيل في شرف ... فعرشه قمة في شعب عصماء
فاروق كرمة بالعدل فأنفسحت ... منه ظلال رحيمات وأنداء
في عدوتيْ ملكه شعب يقدسه ... حباً ويهديه رأى منه وضاء
(باريس)
محي الدين صابر
عضو بعثة فاروق الأول للسودانيين بفرنسا(758/37)
الأدب والفن في أسبوع
استقبال عضوين بالمجمع اللغوي
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي لاستقبال العضوين الجديدين: معالي الأستاذ علي عبد الرزاق والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني؛ ففي الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم وفد على دار المجمع - عدا أعضائه - جمهور غفير م رجال العلم والأدب وبعض السيدات والآنسات، وبعد أن أفتتح معالي رئيس المجمع جلسة الاستقبال بالترحيب بالعضوين وقف الشيخ عبد الوهاب خلاف عضو المجمع ليقدم الأستاذ علي عبد الرزاق فقال أنه تثقف في الأزهر وتتلمذ على الشيخ محمد عبده الذي كان يبث في تلاميذه إلى الدروس العلمية، روح الحرية في التفكير والإصلاح، وانه كان يتردد على الجامعة المصرية وكان إلى جانب ذلك يجتمع بالأعلام في (ندوة آل عبد الرزاق) فاجتمع له من كل ذلك مزيج من الثقافة والإسلامية والثقافة الحديثة، ثم تحدث عن جهوده في الدراسات الإسلامية والأبحاث الأدبية واللغوية. وقد أفاض الأستاذ خلاف في الحديث عن الإصلاح الديني الذي دعا إليه الشيخ محمد عبده والذي صاحب إنشاء مدرسة القضاء الشرعي ومعهد الإسكندرية، كما أفاض في بعض المسائل الفقهية التي أهتم بها الأستاذ على عبد الرزاق.
ثم نهض الأستاذ على عبد الرزاق فقال أن أول ما يخطر على البال في هذا المقام هو ذكرى سلفه الذي حل في كرسيه وهو المرحوم الدكتور على إبراهيم باشا، ورثاه رثاء موجزا ثم توجه بالثناء إلى المجمع الذي حباه بعضويته، وقال أنه يشعر بالانشراح لرجوعه بذلك إلى مرحلة سعيدة من حياته عقب تخرجه في الأزهر حين أقبل على البحث في اللغة العربية وآدابها إذ تصدى لتدريس علم البيان وآداب العربية في الجامع الأزهر، وقد جذبته الظروف بعد ذلك إلى أنواع من الدراسات، وقال أنه كانت تشغله في تلك المرحلة مشكلات في النحو وفي البلاغة، إذ شعر بان في القواعد التي وضعها علماء النحو شيئا من التكلف جعلها معقدة ومتعسرة، وانه لا يبعد على من يواصل البحث أن يهتدي إلى استنباط قواعد جديدة للنحو الغربي، أما البلاغة فقال أنه وجد علماءها لا يختلفون في أن الغرض الأول من علوم البلاغة إنما هو اكتشاف الوسائل التي بها يستطيع المتكلم أن(758/38)
يختار الطريقة التي تجعل كلامه فصيحا بليغا أي مطابقا للغرض وحالا في موضعه اللائق به، وذلك هو معنى قولهم في تعريف البلاغة: أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال. ولكنا لاحظنا أن أولئك العلماء قد انصرفوا منذ العصور الأولى إلى البحث عن هذه الوسائل، وتتابعت العصور فإذا مباحثهم قد انتهت إلى أن سر البلاغة قد وقف عند أبواب علم المعاني والبيان والبديع على أما انتهى إليه الجرجاني وما أستحدث بعده من بعض أنواع البديع ومن بعض مباحث أخرى، وكأنهم قد ظنوا أن الكلمة الأخيرة قد قيلت في هذا الفن. وقال أنه لا يشك في أن بلاغة الكلام لا تنحصر أسرارها في تلك الأبواب، وساق شواهد دلل بها على أنهم كانوا كثيرا ما يقفون مبهوتين أمام بلاغتها وروعتها، فيحاولون أن يردوها إلى باب من أبواب البلاغة المعروفة عندهم فلا يستقيم لهم ذلك إلا على ضرب من التعسف والالتواء.
ثم تلاه الأستاذ عباس محمود العقاد، فألقى كلمته في استقبال الأستاذ المازني، قال إني لا أسميها كلمة تقديم فإن المازني مقدم متقدم بأدبه إلى كل مكان تصل إليه لغة الضاد، ولكني أستطيع أن أقول شيئا جديدا فيما يتصل بي وشيئا طريفا فيما يتصل بالمجمع، لان صلة المازني بالمجمع صلة سابقة من جهة أعماله وجهوده وان طرت عليها الطرافة من جهة انتظامه بين أعضائه. ثم تحدث الأستاذ العقاد عن صداقته للأستاذ المازني منذ نيف وثلاثين سنة، ومشاركتهما في الأدب والصحافة والتدريس، ثم عرض للجانب الذي يتصل بالمجمع من أعمال عضوه الجديد، وهو جانب التمكن من اللغة في الترجمة والتعبير، فقال: ولست أغلو - ولا أحجم عن التحدي - إذا قلت أنني لا أعرف فيما عرفت من ترجمات للنظم والنثر، أديبا واحدا يفوق المازني في الترجمة من لغة إلى لغة، ويملك هذه القدرة شعراً كما يملكها نثراً، ويجيد منها اللفظ كما يجيد المعنى والنسق والطلاوة، ومثل لذلك ببعض ما ترجمه المازني من رباعيات الخيام، وعرض العقاد لبعض المباحث التي كتب فيها المازني كالحقيقة والمجاز، والتجديد والتقليد، إلى أن قال: وقد طاب للمازني منذ سنوات أن يدأب على الاستخفاف بعمله وبجدواه، فأنكر على نفسه الشاعرية وأنكر غناء ما يكتب وينظم وقد غالطته أحيانا فقلت له أن هذه البدعة منه ضرب من المكر الحسن، كأنه أراد أن ينزل عن مكانه ليجلسه عليه الناس، ولكنه قال في حصاد الهشيم: (واعلم أنك إذا(758/39)
أنزلت نفسك دون المنزلة التي تستحقها لم يرفعك الناس إليها، بل أغلب الظن أنهم يدفعونك عما هو دونها أيضا) فالأرجح أنني غالطته وأن حقيقة الأمر أن المازني يستخف بعلمه وبغير عمله أحيانا لأنه يستصغر حياة الإنسان في جانب آماد الخلود ومصائر الأقدار ولأنه يقيس ما عمل بما أراد أن آخرون. وقد هون الخطب على نفسه بسليقة فيه، وهي أنه استطاع أن يقسم (أنانيته) قسمين متلازمين، يسخط أحدهما فيتناوله الأخر بالعبث والتعزية، ويشمخ الشامخ منهما فيغض منه المطمئن والوادع.
ثم وقف الأستاذ المازني فقال أنني أشعر بما يشعر به الواقف على عتبة قصر لا عهد له بمثله فهو يطرقه متهيبا محاذرا ويدخله مترددا متلفتا داعيا ربه في سره أن يستره ولا يفضحه وأن يعينه على أن يبدو لأهل القصر كأنه منهم واليهم في حاجة إلى وقت حتى آلف مجمعكم الموقر.
وقال: أصارحكم باني أشعر أني مظلوم لو كمنت قلتم اخترناك على عيوبك ولنا فيك أمل لقلت قوم أحسنوا الظن وان أسرفوا في الأمل فاستوجبوا مني أن أتحامل على نفسي حتى لا أخيب ظنهم، أما أن أقوم مقام الشيخ أحمد إبراهيم بك، عليه الف رحمة، فهذا هو المحال ثم أثنى على سلفه الشيخ أحمد إبراهيم وعلى جهوده العلمية والأدبية إلى أن قال: ليس يسعني إلا أن أهز رأسي أسفا لأني وضعت في موضع سيظل خاليا وأنا فيه. .
ومما قاله الأستاذ المازني: أن مرحلة التطور الطبيعي السريع للغتنا قد انتهت من زمان طويل بعد أن صارت لها حروف تكتب بها وقواعد مضبوطة وقوالب مقررة وآداب وعلوم، بل سعد أن نزل بها القران الكريم ودون وحفظ، ومتى استقرت قواعدها لغة من اللغات ودونت وصارت لها آداب. وكتبت بها العلوم، فإن من العسير تغيير شئ من قواعد واوضاعها، وقد تختلف طريقة الكتابة والهجاء والنطق وتتسع الألفاظ للتعبير أو تضيق، غير أن طريقة تأليف الكلام على معاني النحو لا تتغير، وكل ما يمكن أن يحدث هو أن يتسع نطاق اللغة أي أن يكثر محصولها اللفظي، ويتوسع الناس في المجاز والاستعارة والاشتقاق تبعا لدرجة الحضارة في الأمة، ومن هنا تنشا الحاجة إلى المجامع اللغوية لتتبع حركة الاتساع ومسايرتها وتزويدها بحاجاتها ومطالبها.
أيهما الحارس؟(758/40)
أراد الأستاذ المازني أن يصطنع أسلوب التواضع إذ قال أنه يشعر بما يشعر به الواقف على عتبة قصر. . . الخ، ولكني - بغض النظر عن هذا التواضع - أطمئنه وابشره بما سيلقاه في القصر من الدعة والراحة. . ولعله يعلم أن المجمع أستقبل في العام الماضي عشرة أعضاء جدد صار بهم أعضاؤه (العاملون) عشرين مخلدا. . . وقالوا يومذاك أن المجمع في حاجة إلى أولئك العشرة ليستعين بهم على إنجاز أعماله ومواجهة مسئولياته، ولكن هؤلاء العشرة (تجمعوا) واخذوا أماكنهم على تلك الكراسي الفخمة إلى جوار زملائهم القدماء. ثم ماذا فعل الأربعون في العام الأخير وعفا الله عما سلف؟ ولكن عفو الله أوسع من أن يضيق بالعام الأخير وقد وسع ما قبله!
وعلى ذكر (الأربعين) أسوق الحقيقة التالية:
لاحظ الناس أن نشاط المجمع قل بعد وفاة الشيخ أحمد السكندري والشيخ حسين والي، والمطلع على محاضر جلسات المجمع في حياة هذين العضوين يرى أن أكثر المقترحات من عملهما وبقية الأعضاء موافقون. . والمتتبع المحصي لما أنجزه من أعمال منذ نشأته إلى الآن أن أغلبها من عمل ذينك الرجلين، وهما اثنان!
ولا نغض من أقدار الأعضاء الحاليين، فهم أعلام مصر في هذا العصر، ولكن هل المجمع مقبرة لجهودهم في داخله. .! كثيرا ما نسمع من بعض الساخطين: لم هذا المجمع؟ فيقال: أنه حارس على اللغة. ولكن الساخط يعود فيقول: أن هذا (الحارس) ينام ملء جفنية! ولا يبرر وجوده إلا مجرد القول بأنه يحرس اللغة العربية، فليت شعري، أيهما يحرس الأخر. . اللغة أم المجمع؟!
عضوان آخران:
وقد عقد المجمع جلسة خاصة في مكتب الرئيس قبيل جلسة الاستقبال السابقة، للنظر في ترشيح أعضاء ينتخب من بينهم عضوان عن العراق وفلسطين. وقد أعتمد ترشيح أربعة، هم الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي والأستاذ خليل سكاكيني (من فلسطين) والشيخ محمد رضا الشبيبي والأستاذ محمد بهجت الأثري (من العراق) وقد تقرر أن يجري انتخاب عضوين منهم واحد عن العراق وواحد عن فلسطين في جلسة تعقد يوم الأحد 11 يناير(758/41)
الحالي.
ترخيص الأهرام:
نشرت الأهرام، وهي في مستهل عامها الرابع والسبعين، نص الصيغة التي كتبت للترخيص بإصدارها سنة 1875، وهو: (رخصت الخارجية لحضرة سليم تقلا باشا بإنشاء مطبعة تسما (بالألف) الأهرام، كائنة بجهة المنشية بإسكندرية، يطبع فيها جريدة تسمى الأهرام تشتمل على التلغرافات والمواد التجارية والعلمية والزراعية والمحلية وكذا بعض كتب كمقامات الحريري التاريخية والحكمة والنوادر وما يماثل ذلك وقد أمرت الخارجية محافظ الإسكندرية بعدم المعارضة للمذكور في إنشاء المطبعة المحكي عنها)
ولا شك أن مقارنة هذا النص الذي كتب منذ نحو ثلاث وسبعين سنة، بما يكتب الآن تقفنا على مدى التقدم الكبير في أسلوب الكتابة وقد أتفق أن قرأت هذا عقب ما كتبته عن محاضرة الدكتور طه حسين بك إلى قال فيها أننا لم نتقدم في حياتنا الأدبية عما يقابل ركوب الحمر في حياتنا المادية وما أطن أحدا يشك في أن المدى بين ما يكتبه الآن الدكتور طه مثلا وبين تلك الكتابة أبعد بكثير مما بين ركوب السيارات والطيارات وبين ركوب الحمر.
ولست أدري لم خص كاتب ذلك الترخيص (مقامات الحريري) كأني به أراد أن يذكر (الأدب) في جملة ما ستطبعه (الأهرام) والكاتب التحرير يسمع أن مقامات الحريري من كتب الأدب، فعبر به عنه. ولكن هل نشرت الأهرام كتاب مقامات الحريري. .؟ لعلها لم تنشر عنه شيئا فيما مضى من عمرها المبارك.
الزهراء:
كنت قد قرأت في العدد (755) من الرسالة ما كتبه الأستاذ حبيب الزحلاوي في مسرحية (الناصر) وقد استرعى انتباهي منه قوله في صدد نقده للمسرحية من حيث ضعف الجانب العربي فيها وغلبة الشخصيات العربية سوى الزهراء زوج الناصر).
ولم تكن الزهراء زوج الناصر، ولا في أصل التاريخ ولا في المسرحية بل كانت جاريته، وهي بحكم هذا ليست من الشخصيات العربية.(758/42)
وإذن يستطيع الأستاذ الزحلاوي أن يقول: لم يسلم من الضعف أحد من الشخصيات العربية في المسرحية. . .
(العباسي)(758/43)
الكتب
الفلسفة القرآنية
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
حين قرأت كتاب (الله) للأستاذ العقاد، وقفت طويلا عند بحثه براهين وجود الله وبخاصة عند الأدلة القرآنية؛ وذلك إذ أني رأيت العقاد في أصالته وضلاعته وسعة أفقه قد أجاد أيما إجادة إذ تناول هذا الجانب القرآني، وتمنيت يومئذ لو تناول العقاد حقيقة بهذا الكتاب الذي أقدمه للقارئ في غبطة عظيمة.
هو (كتاب عن مباحث الفلسفة الروحية والاجتماعية التي وردت موضوعاتها في آيات الكتاب الكريم) كما يطالعك بذلك عنوانه، وقد أراد الأستاذ المؤلف أن يبرهن فيه (على صلاح العقيدة الإسلامية أو الفلسفة القرآنية لحياة الجماعات البشرية) وأن الجماعات التي تدين بها تستمد منها حاجتها من الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة، ولا استعدادها لمجارات الزمن حيثما أتجه بها مجراه).
وفي رأي الأستاذ العقاد (أن القرآن الكريم يشتمل على مباحث فلسفية في جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن وأن هذه الفلسفة القرآنية تغنى الجماعة الإسلامية في باب الاعتقاد ولا تصدها عن سبيل المعرفة والتقدم هي لذلك تحقق ضرورة حرية الفكر وحرية الضمير وليس للعلماء ولا للفلاسفة أن يطلبوا من الدين غير هذا).
بهذا الرأي الروح كتب المؤلف كتابه، وقد أحكم تبويبه لأن موضوعه كله كان قائما في ذهنه جملة قبل أن يسرد تفصيله، لذلك لم يدع شيئا (من جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن) فبعد أن مهد للبحث بفصلين ممتعين بين في أولهما نظرة القرآن العلم وأورد الآيات التي تدل على أنه (يحث على التفكير ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع حيثما استطاع. كما لم يكفل كتاب من كتب الأديان) وبين في الثاني (إن الحوادث كبيرها وصغيرها لا يمكن أن تحدث إلا بأمر الخلق المباشر من إرادة الله) أقول بعد ذلك تناول المجتمع بما فيه من الأسرة وشئونها والمرأة ومركزها والطبقات والحكم والأخلاق، ثم تناول العلاقات الدولية، ثم تجاوز الأرض وما عليها إلى البحث في الإله الخالق وتعرض(758/44)
لمسالة الروح والقدر والعبادات ثم أختتم هذا البحث الجليل القدر بفصل في التصوف وآخر في الحياة الآخرة.
وبعد، فهذا كتاب يجب أن تقراه لتعرف مبلغه من الأهمية ومكانته بين ما آلف في الفلسفة الإسلامية، فما يغنى كلام مهما طال في التعريف به، ولا نقد مهما استفاض عن فصل واحد منه وقصارنا أن نتقدم بالتحية للأستاذ الجليل الذي أسدى إلى الفكر الشرقي بكتابه (الله) وإلى الدين الإسلامي بكتابه هذا (الفلسفة القرآنية) صنيعين لا يقدم مثلهما إلا الأفذاذ؛ وللمكتبة العربية أن تعتز بأمثال هذين البحثين الذين ينفيان عنا تهمة التقصير.
وحسب المسلم أن يخرج من هذا الكتاب الذي أحدثه عنه، وفي نفسه أنه (في هذا العصر الذي تتصارع فيه معاني الحياة بين الإيمان والتعطيل وبين الروح والمادة، وبين الأمل والقنوط، تلوذ الجماعات الإسلامية بعقيدتها المثلى ولا تخطئ الملاذ، لأنها عقيدة تعطيها كل ما يعطيه الدين من خير، ولا تحرمها شيئا من خيرات العلم والحضارة) وهذا ما بينه الأستاذ الجليل أحسن بيان في هذا الكتاب.
الخفيف
أنات غريب
تأليف الأستاذ حبيب الزحلاوي
شاءت صحيفة يومية أن تعرف كتاب (أنات غريب) فقالت أن مؤلفه الأستاذ حبيب الزحلاوي أودعه حنينه إلى وطنه وأشواقه إلى مغانيه ودياره، وهذا طبعا ما يوحيه عنوان الكتاب وقد تساءلت بعد أن طالعت الأقاصيص التي يتألف منها، ما معنى هذه التسمية، لأن العادة قد جرت أن تطلق على مجموعات الأقاصيص عنوان أولها، أو أبرزها، أو عدد القصص التي تتألف منها المجموعة. ولكني شئت أن أتلمس أسباب إطلاق عنوان (أنات غريب) على مجموعة قصص تجري حوادث أكثرها بمصر، والقليل منها ما ينتقل بالقارئ إلى غير مصر من بلاد الله، وخاصة سورية ولبنان، فهل يجب أن نرى في العنوان تلميحا مجازيا إلى أن المؤلف غريب بروحه عن هذا المجتمع الذي يعيش فيه، فهي أنات نفس معذبة كابدت إلا ما تتردد فيها (وجيعة مهذبة).(758/45)
ولعل القارئ أن يتبرم بهذا الإلحاح في البحث عن تفسير لعنوان شاء مؤلف أن يتوج به كتابه، وأن يجد في هذا البحث إرهاقاً له وللمؤلف. . .
ولكنني في بعض الأحيان أتعلق بأمور صغيرة أسمى للكشف عما يقصد بها، في حين تفوتني أموركثيرة، أهم منها خطرا فلا أحاول فهم أغراضها.
وبعد، فإن قراء العربية يعرفون الأستاذ حبيب الزحلاوي قاضيا له طريقته في تأليف الأقاصيص، وأسلوبه في سرد الحواث، ومذهبه في وصف الشخصيات وتحليلها، وأغراضه الاجتماعية التي يرمى إليها في أكثر القصص التي يكتبها. واذكر أني قلت كل الخير الذي أعتقده في أدب الأستاذ الزحلاوي القصصي عندما نشر المجموعة الأولى من أقاصيصه بعنوان (شعاب قلب).
تلك الطريقة نفسها في سرد وشرح البواعث التي دفعت بأبطال الأقصوصة إلى إتيانها، والتوسل بهذا الشرح لتحليل نفسية بطل القصة. كل هذا في حبكة قوية، وربطة محكمة واسترسال قد يتعدى في بعض الأحيان حد الأقصوصة. ولا تخلوا أقاصيص الأستاذ الزحلاوي من وصف لحياة المجتمع أو نقد لبعض عاداته، وتستطيع أن تقرا أية واحدة من هذه الأقاصيص التي تتألف منها هذه المجموعة فانك واجد فيها غرضا اجتماعيا بارزا فهذه أقصوصة (لقيط) يصور فيها سريا متزوجا خفية عن أهله بفتاة يونانية أنجبت له غلاما، ولكنها عندما كانت بالمستشفى تضع أبنها، عرفت أنه تزوج بفتاة مصرية، وانقطع من زوجته الأولى، فاضطرت إلى العودة إلى أهلها، بعد أن أودعت أبنها أحد ملاجئ أبناء السبيل.
وكذلك نجد مثل هذه الأغراض في أقاصيص (بكارة) و (غاية المرأة) و (الغريق) و (يتيم) وفي أكثر هذه الأغراض نجده.
والأستاذ الزحلاوي في أكثر هذه الأغراض التي يتوخاها، ينحي ناحية إنسانية في عاطفة سليمة وإحساس مستقيم. ويجب أن نخص بالإشارة أقصوصة (ذكريات) التي وصف فيها بعض أبطال الثورة السورية الأولى، وقد اجتمعوا بالقاهرة، واخذوا يستعيدون ذكريات بطولتهم الماضية، وما تعرضوا له من أخطار.
ولا يقف أدب الأستاذ حبيب الزحلاوي عند التأليف القصصي، فإنه نقادة أدبي، ولعل النقد(758/46)
الأدبي كان أول ما عالجه من فنون الأدب، إذ تقدم كتابه (أدباء معاصرون) غيره من الكتب. وقد ظهر ميله إلى النقد في أقصوصة (الدميم) لأنه عرض فيها للحبكة والعرض، والفكرة، والوحدة، وذكر أنه (ليست قيمة القصة في المادة التي تتألف منها، ولا في كيفية ترتيب تلك المادة، بل قيمتها في الكيفية التي تؤدي بها وفي عرضها عرضا خاصا بمهارة فنية، بالتشويق والترغيب وفي صدق الرواية عن الحياة. . .).
وقد أضطر لبيان ذلك، إلى حشر أقصوصتين في أقصوصة واحدة، وهما لا رابط بينهما غير فكرة العرض بمهارة وبغير مهارة! وهي حبكة واهية ضعيفة تخرج بالأقصوصة عن جوها الضيق المحدود، ناهيك عن أنها وسيلة مفتعلة لبيان فضل الأقصوصة الثانية عن الأولى.
تناول الأستاذ حبيب الزحلاوي النقد الأدبي في شئ من الجراة وكثير من العنف، مما جعل له خصومات أدبيه قديمة وحديثة كانت إحداها مع أديب له مقامه المرموق في عالم البحث والأدب والشعر، والتجديد الذي يحلوله هذا الأديب الفاضل لا يروق الأستاذ الزحلاوي، وهو حر في راية وكنت أعتقد أن هذه الخصومة تقف عند حد النقد الأدبي ولا تتعداه إلى التعريض في إحدى القصص بذلك الأديب والحق أني كنت أجل صديقي الأستاذ الزحلاوي عن أن يستعمل مثل هذه الوسيلة لينال من أديب نابه لا يرضى هو عن أدبه. . .
ولعلني لعدت بهذا الاستطراد عن جو الأقاصيص التي ضمها كتاب (انات غريب) وهو جو خليق بان يتدبره القارئ وإذا كان من الخطا الشائع أن القصص تطالع لتزجية الوقت فلأن أقاصيص (انات غريب) قديرة على أن تساهم في تبديد هذا الخطا لأنها تجمع بين المتعة والفائدة وتثير مسائل اجتماعية جديرة بان يتناولها الناس بالتفكير والتدبير. وقيمة الكتاب من الناحيتين الأدبية والاجتماعية. حرية بان تلفت اليها أنظار القراء، تمنيه بالثناء والإطراء
(الإسكندرية)
صديق شيبوب(758/47)
على الأثير
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
(كان يقال: كلام ذاهب في الهواء ليقال أنه كلام لا يبلغ الآذان وأنه من باب أولى لا يسلك سبيله إلى الهواء في زماننا هذا أكثر وايسر من كل كلام يتلقاه الناس على صفحة القرطاس). . .
عباس محمود العقاد
على الأثير
أحاديث مختلفة نضدها العقاد في كتاب واحد وهي تختلف في الألوان ولكنها تتحد في عمق الفكرة وصدق المنطق وفي أنها كلمات ألقيت عبر الأثير لتنساب إلى الآذان وتبلغ الناس رسالة فكرية تحل مشكلاتهم في أيسر سبيل.
تقلب صفحات الكتاب فتلمس علاجا لمشاكل الثقافة والاجتماع والتاريخ والوجود والنفس، وتلمح بعض المناسبات التي يتحدث فيها المسلمون بعضهم إلى بعض حديثا تدعو إليه صلات الرحم وهذا الود الكريم الذي يؤلف بين القلوب ويوجد بين النفوس ويجعل الحياة إخاء ومودة ورحمة.
ارأيت إلى حديثه عن قادة ثلاثة من قادة الشرق واعني بهم الحكيم جمال الدين الأفغاني والشيخ الإمام محمد عبده والزعيم الخالد سعد زغلول؟ ولو قدر لك الاستماع إلى هذا الحديث أو قراءته خلال صفحات الكتاب لوجد أن النقاد تسال عن مكانة الأستاذ الإمام بين زميليه العظيمين اللذين يذكران معه كلما ذكر. والرأي عند العقاد أن القيمة الحقيقية لكل منهم تختلف في التحديد فقد كان محمد عبده مصلحاً دينياً وجمال الدين داعيا عظيما، وسعد زغلول زعيماً خالداً، فهم أذن يتفقون في بعض خصال وبعض مشارب، ويختلفون في أساس الاستعداد.
وأنت ملاق في كتابه نوعا جديدا من فلسفة الوجود، صيغت قي مقال صائغ مشرق الديباجة رصين الأسلوب وهذا في مقال له دعاه (طفولة الإنسانية) يقول فيه: (ما دام الإنسان يريد الخير فهو ينشده ويبذل فيه ثمنه وإن غلا؛ وهو أذن رجل الروح والأخلاق. وما دام(758/48)
الإنسان يراد على الخير فهو لا ينشده إلا إذا عرف الجزاء عليه وهو أذن طفل الروح والأخلاق وإن جاوز السبعين والثمانين).
ولا شك أن هذه فكرة بنى عليها الوجود. وحل سائغ لهذا البناء.
ولننتقل الآن إلى النفس، وهل هناك أقدر من العقاد على الكتابة عن النفس.
أنه يقول عن الأزمات النفيسة التي تعصف بنفوس الأفراد، وتطيح بهناء المجموع، وتزلزل كيان الدول: (الأزمات النفسية سببها الحيرة وصعوبة الاتجاه في طريق دون طريق وعلاجها هو اليقين والإيمان). . .
وهو جد حريص يحتاط لما قد يقال، بل يسرف في الإحاطة فيزعم نفسه ناقدا ويتخيل ما قد يلقى من أسئلة وما قد يثار من نقد. فهو يقول أن هذا الحل ليس من اليسر بمكان بل أن فيه صعوبة شديدة، فلن تستطيع أمة أن تعتنق الإيمان وتثير في نفسها الطمأنينة وتمضي إلى حيث الأمن والدعة بل أن هذا يحتاج إلى أجيال متعاقبة توحي إلى نفسها الثقة والاستقرار. . ولكني أقترح على أستاذنا الجليل أن يقدم كتابا تدبجه براعته يبحث في هذه المشكلة، وإن كتابا كهذا، لا يحتاج إليه الشرقي وحده، بل العالم بأسره.
ولننتقل الآن إلى غصن رطيب أخر مما تحفل له الدوحة ذات الأرج العطر والعبير الفواح. .
أنه لحديث عن اجتماع، أو الإصلاح الاجتماعي بالتحديد؟ والإصلاح الاجتماعي في هذا البلد كلمات ذات جرس موسيقي ولكنها كلمات فقط، لا تذهب عن هذا في كثير أو قليل.
وما دمنا بصدد الكلمات، فلنلمس رأي العقاد فيما يقول، فنجد خلاصة حديثه ينتهي بنا إلى نتيجتين لا تضيع في تحصيلهما الدقائق المعدودات، أولى النتيجتين أن الناس يستسهلون الإصلاح بالمنع والتحريم ولا يفكرون كثيرا في الإصلاح بالعمل والإنشاء، أما النتيجة الثانية فهي أدعى إلى التسلية والراحة لأنها تخفف عنا شيئا من أعباء الحياة، وينتهي من هذا أن مذاهب الإصلاح كورقة اليانصيب الخيري، أن أصابت فهي ثروة وإن أخطأت فهي إحسان.
وكلامه هذا يعيد إلينا صورة من حياتنا النيابية، ومن تلك المشاريع الضخام التي تروح في سبات عميق بين الملفات والقرارات. ومن تلك الخطب المسماة خطاب العرش التي تقول(758/49)
وتقول وتقول. . . حتى إذا قذف السهم بالوزارة وأطاح بالكرسي المقدس ورحنا نلتمس مخلفات العهد فلا نجد إلا الأقوال والأقوال والأقوال. . .
وهذا غصن أخر، فيه فكرة وفيه منطق وفيه نفاثات من هذا العقل الكبير.
تراه يحدثك عن معنى الثقافة، فيبدو اللفظ رأسك ويتخذ له مئات من المدلولات وعشرات من الإشعاعات والظلال والأضواء.
وهل كانت للثقافة معان توضحها. . . وهل كانت للثقافة ثقافة أخرى تشرحها.
أن العقاد يبتسم. . وأظنه يعرف أن النقاد سيقولون هذا القول ويأخذون عليه هذا المأخذ. . وانه لقائل في معنى الثقافة أنها تنقسم إلى ثلاثة عناوين. مطالب الحس ومطالب الحركة ومطالب التفكير.
وينتهي من حدثه بخلاصة توضحها كما تعودنا أن نجد في هذه الأحاديث. فنجده يقول:
(وصفوة القول أن الثقافة هي استحياء عناصر الحياة جميعها ولكننا نستحييها بالمجهود الذي يلائمها فلا نزيد في بذله عن القصد النافع والقدر الصالح ولا تنسى الفوارق بين الملكات في تقدير هذا المجهود. .).
هذه صورة سريعة من هذا السفر الحافل، قد تعطيك فكرة عن الكتاب ولكنها لا تعطيك كل ما تريد أن تعرفه فما في مقال كهذا يمكنني أن أعطيك ما تشاء من فكرة وصورة وآراء.
صبحي شفيق(758/50)
البريد الأدبي
الأحمدون الثلاثة: المتنبي، المعري، شوقي:
- قال: يقول الدكتور زكي مبارك: شوقي أعظم من المتنبي
- قال: الدكتور زكي مبارك (يعطى ويمنع لا يخلا ولا كرم) قال: شوقي يقول:
ولي درر الأخلاق في المدح والهوى ... وللمتنبي درة وحصاة
وجاء في الشرح: يريد أن للمتنبي الجيد والردى من الشعر أما هو فله الجيد دائما.
قال: هل قال ذلك في شبابه، (إن الشباب جنون برؤه الكبر)
- قال لذي الرئاسيتين العلامة الدكتور محمد حسين هيكل باشا وقت المهرجان في أثناء الحديث عن الشعر والشعراء: شوقي بعد المتنبي.
قال: شوقي بعد أبي العلاء.
قال: إذا نزعت (غير مجد) من (سقط الزند) فشوقي بعد المتنبي
قال: لا أحذفها، كيف أحذفها؟ لم أحذفها؟
- قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! شوقي أذن بعد أبي العلاء
إن الأحامد في القريض ثلاثة:
أحمد الأول (أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي)
أحمد الثاني (أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري)
أحمد الثالث (أبو على أحمد شوقي المصري).
ذلكم (قول الحق الذي فيه يمترون) واذكر في الكتاب مع الأحمدين حبيبا، والوليد، وعلي بن العباس، ومحمد بن هاني، وتمثل بقول أحمد الأول:
كُتبت في صحائف المجد بِسمُ ... ثم قيس وبعد قيس السلام
الألفاظ الاصطلاحية في النجوم الزاهرة:
تفضل الصديق الكريم الأستاذ محمد عبد الغني حسن فأبدى دهشته لورود كلمة (كريمة) بمعنى الأخت في سياق عبارة لصاحب النجوم الزاهرة معتقدا أن الكريمة هي البنت كما هو متعارف اليوم. . .
والحقيقة أن الكريمة بمعنى الابنة والمخدوم للولد الذكر من اصطلاح الترك وأخذه العامة(758/51)
عنهم فقالوا: كريمة فلان أي أبنته، وقالوا للولد الذكر مخدوم الخ. .
والكريمة في اللغة كل شئ يكرم عليك فهو كريمك وكريمتك كما في اللسان مادة كرم ج 15 ص 416. والكريمة الأهل وقيل شقيقة الرجل كما في المستدرك على شرح القاموس ص44 من الجزء التاسع. . .
ولما كان صاحب النجوم الزاهرة تركي الأصل فقد جمع بين العامي والفصيح معا فسمى أخواته جميعا كريمات شقيقات وغير شقيقات في كتابه المنهل الصافي والمستوفي بعد والوافي. . . ذكر أخته عائشة في ترجمة زوجها الاتا بك أقبغا التمرازي الذي مات عنا بقوله: وقد سالت كريمتي زوجته الخ أنظر المنهل الصافي ج1 صر234. وذكر أخته فاطمة في ترجمة أبيه تغربي بردي فقال: وكان الناصر فرج قد عقد عقدة على أبنته أختي فاطمة الخ. أنظر المنهل الصافي ج1ص393. وذكر فاطمة في ترجمة أينال النوروزي أمير سلاح فقال: وتزوج بكريمتي بعد موت زوجها الملك ناصر الخ أنظر المنهل ج1 ص295. وذكر أخته هاجر وهي شقيقة الوحيدة من أمه وأبيه في ج1 ص 395. فقال عنها في ترجمة أبيه أيضا: ولدت سنة 807هـ وتزوجت قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني ومات عنها إلى أن قال: توفيت سنة 846 هـ وهي التي عبر عنها بكريمتي في الموضع الذي أثار استغراب الأستاذ عبد الغني في النجوم الزاهرة.
وبعد فهذا التعبير عبر به كثير من المؤرخين كصاحب الأعشى في ج6 ص 171 في كتاب لأخت الملك الناصر حسن كما عبر به السخاوي وابن العماد في المواضع التي أشار إليها الأستاذ في كلمته، وكذلك قطب الدين في تاريخ البلد الحرام وغيرهم من اللغويين والكتاب. .
ولعل الصديق الكريم يكون قد عرف موضع الصواب في استعمال هذا اللفظ الاصطلاحي والسلام.
أحمد لطفي السيد
مصحح النجوم الزاهرة
إلى طلاب التوجيهية(758/52)
سننشر ابتداء من العدد المقبل فصولاً شارحة لما قرر في مسابقة الفلسفة على طلاب السنة التوجيهية للأستاذ كمال دسوقي المدرس بمدرسة المنصورة الثانوية، فنلفت أنظارها إليه.(758/53)
القصص
فينوس برانيزا
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ مناور عويس
لم يكن أحد في (برانيزا) كلها يجهل ذلك التلمودي. ولم يكن مرد تلك الشهرة الواسعة إلى حكمته وخوفه الله فحسب. بل كان لجمال امرأته نصيب كبير في تلك الشهرة إذ كانوا يلقبونها (فينوس برانيزا) وقد نالت هذا اللقب عن جدارة واستحقاق، فهي فضلا عن جمالها الباهر زوجة بحاثة في التلمود.
وزوجات الفلاسفة اليهود غالبا ما يكن دميمات أو ذوات عاهات جسدية. وكتاب التلمود يشرح تلك الظاهرة ويفسرها بما يأتي: (إن عقود الزواج تعقد في السماء، وحين ولادة مولود جديد يعلن صوت سماوي أسم زوجة ذلك المولود - أي زوجة المستقبل؛ وكما أن الأب الطيب يدع أدوات منزله الثمينة ولا يستعمل إلا الأدوات القديمة مع أولاده، فهكذا ينعم الله على الرجال التلمود بنساء لم يأبه لهن الرجال الآخرون!
ولعل الله أراد أن يبدل من هذه القاعدة ويخفف من وطاتها، ليثبتها، فاختار لصاحبنا التلمودي (فينوسا) فيها من الجمال ما يزيد في فخر العروس ويرفع من قيمة تمثال قائم على قاعدة في متحف. . . . كانت طويلة القامة، ممشوقة القد، جذابة الملامح، يقوم على كتفيها راس بديع رائع، وتتدلى على ظهرها ضفيرتان نجلاوان. . . ويداها. . كأنهما قطعتان من العاج!. .
وكأنما خلقت لتكون ذات سلطان لها رعاياها وعبيدها يسجدون عند قديمها، أو لتشغل ريشة فنان أو لتحرك قلم شاعر!.
لكنها عاشت عيشة زهرة جميلة نادرة في بيت خانق حار.
زد على ذلك أنها كانت تجلس معظم نهارها ملتحفة فروها الثمين تراقب الشارع من نافذتها.
لم يكن هنالك أبناء. . . . وكان زوجها الفيلسوف يجلس مصليا أو مطالعا من الصباح(758/54)
المبكر حتى منتصف الليل ولم تكن معبودته سوى (الجمال المقنع) كما يسميها كتاب التلمود.
ولم تكن تعبا بشؤون المنزل هي غنية، وكان النظام سائدا مستتبا كنظام الساعة التي تديرها مرة كل أسبوع. لم يزرها أحد ولم تخرج لزيارة أحد. . . وكانت تجلس تفكر وكأنها تحلم. وكثيرا ما كانت تتثاءب!.
وهبة على المدينة ذات يوم عاصفة هوجاء وقصف الرعد وكأنه يلهب المدينة بسياط. أوى اليهود إلى منازلهم وفتحوا النوافذ ليستقبلوا مسيحهم الموعود!
وكانت فينوس اليهودية جالسة على كرسيها المريح لابسة فروها ترتجف، وفجأة صوبت عينيها المتوهجتين نحو زوجها الجالس أمام كتابه وهو يتأرجح!
سألته قائلة: أخبرني متى يأتي المسيح أبن داود؟
فأجابها: سيأتي عندما يصبح اليهود كلهم صالحين أو طالحين، هذا ما يقوله التلمود.
- وهل تصدق أن اليهود يمكنهم أن يكونوا صالحين؟
- وكيف يمكنني أن أصدق هذا؟
- إذن سيأتي المسيح عندما يصبح اليهود كلهم طالحين. وهز الفيلسوف كتفيه وتابع القراءة في كتاب التلمود، ذلك الكتاب الذي لم يخرج من قراءته رجل صحيح العقل خلا رجلا واحداً!
وظلت المرأة الجميلة تنظر إلى قطرات المطر المنهمر بعينين حالمتين وهي تعبث بثوبها الأسود بأسنانها البيضاء.
وفي أحد الأيام غادر الفيلسوف اليهودي بيته إلى مدينة مجاورة، إذ كان عليه أن يفصل في مسالة دينية. ونظرا لعلمه الواسع فقد حلت المشكلة بأسرع مما كان يتوقع. . وعاد مع صديق له أقل منه علما! عاد في نفس اليوم بدلا من أن يعود في اليوم التالي كما كان مقررا.
ترك العربة عند بيت صديقه وتوجه إلى بيته سيرا على الأقدام. لك يفاجأ حين شاهد نوافذ منزله مضاءة أو عندما رأى خادما لضابط يدخن غليونه ببساطة أمام منزله. تقدم إلى الخادم وسأله بادب، وبشئ من الفضول: ماذا تصنع هنا؟ أقوم بالحراسة لئلا يأتي زوج(758/55)
اليهودية الحسناء على غير انتظار.
- حقا!. حسنا! أنتبه وراقب جيدا.
قال هذا وتظاهر بالذهاب، لكنه ولج البيت من مدخل خلفي. دخل الغرفة الأولى ورأى مائدة معدة لشخصين، ولاحظ أن صاحبيها تركاها قبل لحظات، وكانت زوجته تجلس كعادتها متدثرة بفروها وكانت وجنتاها محمرتين مريبتين ولم تكن عيناها متعبتين ناعستين بل كانتا تحملقان بزوجها وفيهما ترتسم علائم السخرية والرضا وفجأة عثرت قدم الفيلسوف بشيء على الأرض أحدث صوتا غريبا فانتفض وكان الذي عثر به مهمازا.
- من كان معك؟
وهزت اليهودية كتفيها لم تجب
- أأخبرك؟ كان عندك قائد فرقة الخيالة
- لم لا يكون معي؟
- أخرجت يا امرأة عن صوابك؟
- ما زلت مالكة لكل صوابي، وارتسمت ابتسامة على شفتيها الساخرتين وقالت. ولكني أليس على أن أقوم بدوري كيما يأتي المسيح فيخلصنا نحن اليهود المساكين.
مناور عويس(758/56)
العدد 759 - بتاريخ: 19 - 01 - 1948(/)
عقدة منحلة!
للأستاذ عباس محمود العقاد
في رأي الأستاذ نقولا الحداد أن فيثاغورس لم يكن إلا مخرفا سخيفا حين قال أن الكون عدد ونغم!
وقد كان فيثاغورس يقول ذلك يوم كانت المادة عند الأقدمين جسما محسوسا أو كتلة كثيفة، لم يكن معروفا من تقسيم العناصر وقوانين الحركة شئ مما يعرفه العلماء الآن.
ثم عرفت العناصر، وعرف إنها كلها تركيبات من الكهارب وإنها تختلف بينها باختلاف أعداد الكهارب حول نواة كل عنصر، وأن الكهارب نفسها إذا ردت إلى الإشعاع فهي عدد من الذبذبات، كلما ميزتها بغير العدد جسما أو قوة أو طاقة عدت إلى العدد، والتناسب بينه، من جديد. . لأن أخر الأمر في القوة إنها حركة وأخر المر في الحركة إنها عدد من الذبذبات.
لا جرم نرى أناسا من اكبر أقطاب العلوم الطبيعية في هذا العصر، أن لم يكونوا أكبرهم جميعاً - أمثال مليكان وادنجتون وجينز أن الطبيعة حساب وياضة، ويتحدث جمينو خاصة عن (الله الرياضي) لأن قوانين الطبيعة مسائل ومعادلات.
فإذا كان الأستاذ نقولا الحداد لا يسخو على المسكين فيثاغورس بأكثر من صفحة التخريف والسخافة فليس معنى ذلك أن فيثاغورس المسكين مخرف سخيف فيما قال عن العدد والنغم، وإنما معناه إن الأستاذ نقولا الحداد لم يرزق بداهة فلسفية كبداهته، ولم يرزق نظرة علمية إلى ما وراء الظواهر كالنظرة التي نؤثرها أمثال جينز وادنجتون ومليكان.
ولو أن الأستاذ نقولا الحداد رزق تلك البداهة لا نحني إجلالا لتلك العبقرية التي نفذت من وراء الكثافة المادية، ومن وراء العصور المتطاولة، إلى حقيقة مجردة يسمعها الأستاذ ولا يفقهها وهو يعيش في عصر (العدد) الذي يصحب الوجود من أمواج الكهرباء والمغناطيس، إلى أجزاء العناصر ونسب الكهارب وجملة ما في الوجود بين الأرض والسماء.
والفرق بين تحية الإجلال الواجبة، وبين تهمة السخافة الجائرة، هو الفرق بين التقدير الصحيح والتقدير الخاطئ في أمثال هذه الأمور.
على أن هذا التقدير الخاطئ قد تجلى في هالة المع من هذه الهالة حين تصدى الأستاذ(759/1)
لموضوع كتابنا عن (الله) وتناول مشكلة العقل فقال عنها في فصل من عدد المقتطف الأخير:
(إذ صرفنا النظر عن ذاتية العقل وحسبنا العقل عملا من أعمال خلايا الدماغ - الصنوبرية أو غير الصنوبرية - أو هو أهموظيفة لهذه الخلايا بل هو وظيفتها الرئيسة في الأقنوم الإنساني، انحلت العقدة حالا).
وهذه هي العقدة التي حلها الأستاذ حالا. . . . وبمثل هذه السرعة يستطيع ولا شك أن يحل كل عقدة من العقد بغير كثير أو قليل من العناء.
فأما أن يكون في هذا الوجود شئ عجيب أو ليس فيه شئ عجيب على الإطلاق، لأن وجوده فيه ينفي عنه العجب ويغنيه عن التعليل.
فإن لم يكن فيه شئ عجيب فقد انتهينا وانحلت العقدة حالا، بل لم توجد العقدة حتى تحتاج إلى حلول.
وإن كان فيه شئ عجيب فأي شئ هو هذا الذي يمكن أن يوصف بالعجب من ظهور الحياة في المادة، فضلا عن ظهور العقل وهو اعجب من الحياة!
كيف كسبت الخلية الحية خصائص الحياة؟ كيف انقسمت لتحفظ نوعها! كيف تطور هذا الانقسام إلى ذكورة بسيطة وأنوثة بسيطة؟ كيف تجمعت هذه الخلايا في أجساد تختلف فيما بينها اختلاف الأنواع والأجناس؟ كيف نمت هذه الأجساد وارتقت فارتفعت طباقا فوق طباق؟ كيف أصبحت كل خلية توافق كل خلية غيرها في البنية على العمل المشترك بين جميع الاعضاء؟ كيف بلغت مبلغ الإنسان وظهر فيها عقل الإنسان كيف اتفق هذا التطور في اتجاه واحد إلى هذا الاستعداد لظهور الحياة واستمرار أجيال الأحياء ثم ظهور التفكير في أرقى الأحياء؟.
أهو تدبير أم مصادفة عمياء؟
أن كان تدبيرا فهذا هو العقل الذي ينكروا الأستاذ! وإن كان مصادفة عمياء فان هو العقل الذي يستريح عندما يقال له: لا تعجب ولا تستفسر فإن العقدة منحلة لا تحتاج إلى إيضاح، وهل بعد المصادفة العمياء من حل تتطلع إليه العقول؟.
وهذا العقل نفسه كيف يقال انه عنصر محدود في الكون بعقل الإنسان دون سواه؟.(759/2)
ما هو الكون ولا سيما الكون فينظر الماديين؟.
إنه ليس بإقليم من الأقاليم أو قطر من الأقطار فيقال أن العقل من حاصلات هذا الإقليم دون ذلك الإقليم، أو مزروعات هذا القطر دون ذلك القطر!
كلا. بل هو كل ما كان وما يكون من غير بداية وإلى نهاية. . فكيف يستريح العقل حين يقال له أن عنصر العقل في الكون كله أن هو إلا فتلة من فلتات المصادفة وجد على سبيل الاتفاق بعد وجود الإنسان؟.
كيف نحل مشكلة العقل المجرد الذي عرف الحقائق الرياضية تامة ولا يزال (العقل التجريبي) يتخبط في علوم الحس والمشاهدة؟.
كيف نحل مشكلة العقل الذي يعظم كما تعظم العبقرية بالاختلال في البنية لا بالاستواء المعهود في التكوين؟
كيف نحل مشكلة العقل الذي ينتقل بغير الوسائل المادية والصور المحسوسة من واعية إلى واعية ومن دماغ إلى دماغ؟.
إنك لا تستطيع أن تقول أن (المكنات) الكهربائية هي التي أوجدت الكهرباء في العالم. فكيف تقول أن الدماغ البشرى هو الذي أوجد الفكر في الكون كله بعد أن لم يكن له وجود؟.
وليس لك أن تزعم انك قد عرفت الكهرباء بعد أن عرفت المكنات، لأنك لا تعرف عن الكهرباء اكثر من فروض وتخمينات.
تزعم حينا إنها أمواج فلماذا تتموج ولا تستقيم؟.
تقول إنها في بحر من الأثير فما هو الأثير إلا انه فرض مزعوم؟.
تقيس سرعة النور فلماذا تجده بهذه السرعة وبماذا تعلل أنه لا ينقص أو يزيد؟.
تتكلم عن اتجاه النور فإلى أين ينتهي بعد هذا الاتجاه؟ أيقف فما الذي يقفه؟ ايسري إلى غير نهاية فأين هي مقاومة الأثير المزعوم؟
تعود إذن إلى الأثير لتطلق عليه أوصافاً لا دليل لها ولا يزال تصديق كل وصف للإله أهون من تصديقها.
هو جسم وليست له صفة واحدة من صفات الأجسام فان لم يكون كذلك فهو عدم تفسر به(759/3)
جميع الموجودات!!.
وهكذا ترى أن المشكلة لم تنحل في شان المكنة التي تقتبس منها الضوء، وتستمع منها إلى أصوات الإذاعة، وتسميها بما شئت من الأسماء، وتعللها بما شئت من أمواج أو غير أمواج، وكهرباء أو غير كهرباء.
فكيف تنحل مشكلة العقل بكلمة واحدة: هي انه موجود ولا وجود له في غير الدماغ؟
ولا في الدماغ إذن يا أستاذ سامحك الله!!.
إن السلوكيين أصحاب القول بالعقل الدماغي لا يحسبون مسالة التفكير بهذه البساطة التي تنحل حالا على هذا المنوال، لأنهم يسلمون إنها (مشكلة) ثم يحاولون أن يفسروها فيخيل إليهم انهم قد فسروها بقولهم أن التفكير مستمد من الكلام.
وفيثاغورس سخيف عندك يا أستاذ.
فأعطنا الحق الذي سمحت به لنفسك لتقول على حق أن هؤلاء السلوكيين سخفاء. . .
فالمعقول أن الإنسان تكلم لأنه فكر، وليس بمعقول انه يفكر لأنه يتكلم إذ كان الحيوان خليقا أن يتكلم ثم يفكر كما فعل الإنسان.
أما أن قيل أن الإنسان قد تكلم بعد أن اصبح جهاز المنطق فيه صالحا للنطق وجهاز التفكير فيه صالحا للتفكير فهذا - هو العجبوليس هذا هو الحل الذي يبطل التعجب.
المصادفة العمياء تتم جهاز النطق، والمصادفة العمياء تتم جهاز التفكير ويمضي هذا في الظلام ويمضي ذلك في الظلام ليتلافيا معا في الظلام!!
وقد انحلت المشكلة حلا بغير إبطاء.
يا أستاذ
إن المشكلة معك هي انك لا تضع السؤال، ولا عقدة حينئذ ولا أشكال.
فإن شئت فضع السؤال أولا ثم فكر في الجواب، وأنت تغرف (حالا) أن الذين لم يسرعوا إلى الجواب مثل إسراعك يعرفون على الأقل ما هو السؤال وإن لم يعرفوا على التحقيق كل ما يستدعيه من جواب.
عباس محمود العقاد(759/4)