المادة السادسة: تتعاون الحكومتان الإندونيسية والهولندية على إنشاء رابطة بينهما وتحل وصية المملكة الهولندية السابقة المكونة من هولندا، سورينام، كاراكاو، الهند الهولندية وتجزأ إلى قسمين:
1 - هولندا، سورينام، كاراكاو.
2 - إندونيسيا المتحدة.
المادة السابعة: القسم الأول. لتوثيق العلاقة بين المملكة الهولندية ودولة إندونيسيا المتحدة يكون كلاً منهما مجلساً خاصاً.
القسم الثاني: إن الوسائل لإنشاء دولة إندونيسيا المتحدة تشترك في القيام بها الحكومة الجمهورية والحكومة الهولندية.
القسم الثالث: إن العلاقات بين دولة إندونيسيا المتحدة والحكومة الهولندية ستكون في الدفاع والتمثيل الخارجي. وإذا احتاجت الظروف ستكون أيضاً في الاقتصاد والثقافة والمالية.
المادة الثامنة: لتمثيل العلاقات بين هولندا ودولة إندونيسيا المتحدة يشكل مجلس فيه مظاهر التعاون بين الحكومتين.
المادة التاسعة: تنشأ هيئة عالية من ممثلي دولة إندونيسيا المتحدة وممثلي الحكومة الهولندية للعمل لتقدم الدولتين.
المادة العاشرة: أن تعاون الدولتين - الهولندية وإندونيسيا المتحدة - يشمل:
(أ) ضمان كل دولة القيام بواجبها إزاء الأخرى.
(ب) تنفيذ إجراءات الدولتين - الهولندية وإندونيسيا.
(ج) ترتيب كيفية تبسيط الإجراءات إذا كانت هيئة التعاون لم تتوفق إلى الموافقة في قرارها.
(د) تنظيم كيفية مساعدة الحكومة الهولندية لدولة إندونيسيا المتحدة.
(هـ) إن أصول معاهدة التحالف تعرض على هيئة الأمم المتحدة للتصديق عليها.
المادة الحادية عشرة: إن نظام التعاون يضعه مجلس مكون من مندوبي الحكومة الهولندية ودولة إندونيسيا المتحدة.
القسم الثاني: إن هذا النظام ينفذ مفعوله حينما يصدق عليه مجلس نواب الدولتين.(736/28)
المادة الثانية عشرة: إن الحكومة الجمهورية الإندونيسية والحكومة الهولندية تبذلان جهودهما إنشاء دولة إندونيسيا المتحدة قبل أول يناير 1949.
المادة الثالثة عشرة: تسعى الحكومة الهولندية بضم دولة إندونيسيا المتحدة إلى منظمة الأمم المتحدة.
المادة الرابعة عشرة: تعترف الحكومة الجمهورية الإندونيسية بأملاك الأجانب الموجودة في نطاق دوائرها الجمهورية، ولإعادتها إليهم تشكل لجنة من الطرفين - الهولندي والجمهوري - للنظر فيها.
المادة الخامسة عشرة: لتغيير وضعية المملكة الهولندية تعدل الحكومة الهولندية تنظيماتها في الهند الهولندية مؤقتاً حتى يتم التصديق، وتقرر وضعية هولندا الجديدة.
المادة السادسة عشرة: بعد إبرام الاتفاق ينقص الطرفان قواتهما العسكرية، ويجتمعان لتعيين سبيل النقص ووقته. وكذا يبحثان مسألة التعاون العسكري بينهما.
المادة السابعة عشرة: القسم الأول: للتعاون المشترك بين الحكومة الهولندية والحكومة الجمهورية الإندونيسية، ينشأ مجلس مكون من ممثلي الحكومتين وهيئة سكرتارية.
القسم الثاني: إذا حدث خلاف بين الحكومة الهولندية والحكومة الجمهورية الإندونيسية تعرضانه على المحكمة العدلية العليا.
هذه خلاصة مشروع (اتفاقية لنجرجاتي) وقد حدثت مناقشات حادة في الدوائر السياسية الإندونيسية والهولندية حولها وحاول الهولنديون نقضها؛ لأنهم غلبوا في ميدان السياسة واستمروا في التشبث ببعض المواد والتفسيرات في هذه الاتفاقية التي ترتكز سيادتهم في إندونيسيا رغم أن الدولة المراد إنشاؤها (دولة إندونيسيا المتحدة) مؤقتة لنهاية 1948.
وفي مارس 1947، وقع مندوبو الحكومة الهولندية والإندونيسية على اتفاقية لنجرجاتي رسمياً. وقد وضحت موادها العلاقات السياسية والاقتصادية الجديدة بين إندونيسيا وهولندا؛ فالمادة الأولى منها تشير إلى أن الحكومة الهولندية تعترف بسلطة الحكومة الجمهورية الإندونيسية على جزيرة جاوا وسومطرا ومادورا. ومعنى هذه المادة أن الجمهورية الإندونيسية دولة حرة مستقلة استقلالاً تاماً. فبعثت مندوبيها السياسيين إلى ممالك الشرق والغرب لعقد العلاقات السياسية والاقتصادية، رغبة منها في تركيز أساس السلام العالمي،(736/29)
وإنعاش الحياة الاقتصادية المالية، واشتركت الحكومة الإندونيسية في المؤتمرات الدولية لبحث الوسائل المنتجة لتثبيت دعائم السلام في المعمورة.
وفي يونيو 1947عقدت الجمهورية الإندونيسية مع الحكومة المصرية معاهدة إخاء وتجارة مؤقتة. وتدل هذه المعاهدة على حرية الجمهورية الإندونيسية التامة. وسوف تظهر الأيام وقرارات مجلس الأمن مقدرة الجمهورية الإندونيسية في الاحتفاظ باستقلالها، ومركزها الدولي الجديد.
محمد جنيدي(736/30)
من وراء المنظار
شيخ وشيخ
هاأنذا في الريف أضع على أنفي منظار القرية، وقد تركت فوق مكتبي في (الرسالة) منظار القاهرة حتى أعود إليه بعد حين. وكان أول ما وقع عليه في القرية منظاري الجديد بعض ما صنع هذان الشيخان في ضحى يوم من أيام رمضان.
أما أولهما فشيخ من حيث الاصطلاح والملبس، فقد لبث في الأزهر من عمره سنين ولا يزال في القرية يضع على رأسه عمامة هي كل حجته على العلم والورع وإن كانت بعض وسائله إلى المال والشبع. وأما ثانيهما فشيخ من حيث العمر فقد تخطى السبعين منذ سنتين وبعض سنة كما ذكر لي حين حدثني عن سنه. . .
جلست أمام داري عند مخرج القرية إلى الحقول وأنا أعجب كيف يغدو الفلاحون إلى أعمالهم صابرين، وقد قضى الصوم والحر على كل ما كان من نشاط في بدني فما أتحرك لكي أبقى في الظل إلا في مشقة وجهد. وبينما كنت أتفكر في أمر هؤلاء المساكين إذ أقبل على أحدهم فسلم وجلس القرفصاء إلى جانب كرسي وأسند إلى الحائط ظهره، ونظرت إليه فإذا هو من فرط نحوله وشحوبه أشبه شيء بعود الذرة جف فاغتدى عوداً من الحطب.
وتكلم فقال: (لن ينقذني من الشيخ فلان إلا أنت؛ فقد اضطرتني الحاجة إلى أن أقترض منه منذ شهرين جنيهين ونصف جنيه على أن أعطيه وفاء لديني أردباً كاملاً من القمح الجديد. ولما كنت أستطيع أن أبيع الأردب اليوم بخمسة جنيهات فقد ألححت عليه أن يأخذ ثلاثة جنيهات؛ ولكنه تمسك بأردب القمح كاملاً. وها هي ذي ثلاثة جنيهات ونصف أرجو منك أن تتوسط لدى الشيخ ليقبلها) ومد الرجل إلى يده بالنقود وهي ترتعش، ولمحت في وجهه من السخط المكظوم ما زاده بؤساً على بؤس. . . ولكنني أخذت منه قيمة الدين ورددت إليه جنيهاً، فنظر إلي دهشاً وسكت.
ومضيت إلى الشيخ وفي خاطري خيال (شايلوك) يهودي شكسبير، وسلمت وقلت إن فلاناً ذو عسرة؛ وقد توسل إلي أن أؤدي عنه ما عليه لك من دين. ومددت إليه يدي بجنيهين ونصف جنيه فحسب. فما إن عدها حتى اصفر وجهه وتكره لي كأني أشتمه، ثم أخذته حيرة من أمره وتمتم وعبس وتأنف ودس المال في جيبه وهو يلعن هؤلاء الفلاحين الذين(736/31)
لا أمانة لهم ولا عهد ولا ذمة. وتعجبت أو تظاهرت بالتعجب وقلت متجاهلاً، وهاهو ذا دينه يؤدي إليك. فنظر إلي نظرة كلها لؤم وخبث يتبين ما إذا كنت أعلم شيئاً من قصة أردب القمح. ثم تركته في غيظه وألمه ينتفض انتفاضة من لدغته عقرب ويقسم أغلظ القسم أن لن يعين أحداً من هؤلاء الفلاحين ناكري الجميل بعد اليوم. . .
ومررت أثناء عودتي بدار عم محمد النجار فأبصرته في مدخل الدار وبين يديه أدوات عمله وبعض أشياء من الخشب كان يصلحها؛ فسلمت على الشيخ فنهض للقائي في خفة ودعاني إلى الجلوس، فجلست بجانبه على حصيرة وهو يكرر في بشاشة وترحاب قوله (رمضان كريم) وإنه ليعلم أني أحبه كما أعلم أنه يحبني ويأنس إليّ؛ وقلما رآه أحد من القرية يقبل على امرئ أو يهش له كما يقبل عليّ ويهش لي، وذلك أن هذا النجار الشيخ على فاقته الشديدة يظن الظنون بمن يراهم أكبر منه قدراً أو أكثر منه مالاً لأنه يكره أشد الكره أن يتكبر عليه أحد مهما بلغ من جاهه أو ثرائه، والويل كل الويل لمن يغلظ له في القول من أعيان القرية فإنه عند ذاك ينقلب من شيخ وديع هادئ إلى نمر شرس هائج لا يخيفه شيء، وقد أحس الشيخ أني أكبره وأحب حديثه فخفض لي جناحه وبسط لي مودته.
ونظرت إلى وجهه المسنون وإلى عينيه البراقتين وهو يصلح بعض أدوات الزراعة وكأنما يزداد هذا المحيا بشاشة ونضرة كلما علت بصاحبه السن، ولو أراد أن يعتذر إلي من عدم انصرافه عن العمل احتفاء بي كما كان ينبغي في رأيه فقال إنه يصلح هذه الأشياء الزراعية الصغيرة بغير أجر في رمضان من كل عام ليغنم الثواب مضاعفاً على الصوم، وهو لا يحب أن يخلف الوعد، فعما قليل سيأتي أصحاب هذه الأدوات لأخذها؛ وأثنيت عليه ما وسعني الثناء، فقال إنه يحمد الله على العافية وأنه يرى أعظم أنعم الله عليه أنه لم يقف مرة واحدة موقف الحاجة من أحد، وأنه لا يذكر لأي امرئ يداً عليه حتى أولاده الأربعة الذين يعيشون كل في داره عيشة هي أوسع من عيشته. ونظر إلي مبتسماً وقال: إن خير ما أدعو لك به وأنا أحبك أن يديم الله عليك العافية وألا تحتاج يوماً إلى إنسان. . .
وبينما كان يتحدث إلى النجار وهو يصلح تلك الأدوات الزراعية إذ دخل عليه رجل فسلم وقال: يا عم محمد. . . علمت أنك تبيع فجلك المزروع في جهة كيت فجئت لأشتريه. . . وتفكر النجار الشيخ قليلاً وقال: كم تدفع ثمناً له؟ فقال الرجل: ستة جنيهات. فنظر إليه(736/32)
النجار وقال انتظر قليلاً. وطلب النجار إلى أحد المارة أن يرسل فاطمة بائعة الفجل، فلما حضرت قال لها، هذا الرجل يشتري الفجل بستة جنيهات وقد بعته لك، فما رأيك هل تبيعينه إياه؟ لقد صرت صاحبته وليس لي فيه شيء وإن لم أقبض منك ثمنه بعد. فقالت المرأة بعته إياه. وتناول النجار الجنيهات الستة، فأخذ منها أربعة هي ما أتفق مع المرأة عليه ثمناً لفجله ودفع لها جنيهين. . .
وازداد في قلبي قدر هذا النجار الشيخ، وظللت لحظة أقلب نظري في محياه الأبلج السمح وهو منكب على أدوات الزراع يصلحها في نشاط وهمة؛ وانصرفت وأنا أدير في رأسي قصة القمح وقصة الفجل، أو قصة الشيخ الذي تعلم ويأكل الربا أضعافاً مضاعفة، وقصة النجار الذي لم يعرف غير أدوات نجارته ويتصدق بعمله على الزراع في رمضان ويأبى أن يكون وقد أربى على السبعين كلاً على إنسان.
الخفيف
(أدب العروبة في الميزان)
للأستاذ علي متولي صلاح
ما حق الأدب على الدولة؟ وما ينبغي أن تقوم الدولة به للأدب من نصر ومعونة وتأييد؟ ذلك هو السؤال الذي نبدأ به كلامنا عن (أدب العروبة) الذي أخرجته للناس جماعة (أدباء العروبة) التي تنعقد رياستها للوزير الأديب الشاعر الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا.
نحسب أنه قد مضى الزمن الذي كان الأدب فيه في نظر البعض نافلة لا ضرورة إليها، وترفاً لا تدعو إليه حاجة، وأبهة وبلهنية يزجي بهما الفراغ!
نعم، عرفت الدول وعرف الناس أن الأدب لسان الكون وتعبيره، وترجمانه وتفسيره، وأن الناس شعروا قبل أن يتكلموا، وتغنوا قبل أن ينطقوا!
وعرفت الدول وعرف الناس أن الحياة لن تكون - إن هي خلت من الأدب - إلا بيداء مجهل، وصحراء لافحة، وجحيماً لا ظل فيه ولا ماء!
عرفت الدول وعرف الناس ذلك وصار الكلام فيه معاداً مكرراً فهل أدت الدولة ما لهذا الأدب من حق؟ وهل قامت بما ينبغي له من واجب؟(736/33)
عندما نهض الوزير الأديب الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا بإنشاء هذه الجماعة العاملة ورعايتها - ولأول مرة فيما أعلم ينهض وزير قائم في الحكم برياسة جماعة أدبية - شاعت حولها الشائعات، وكثرت التخرصات والتقولات، وقالوا: وزير يستخدم مرافق الدولة ويستغل منشآتها لمنفعة جماعة هو رئيسها!
وقالوا: لقد انتفعت هذه الجماعة بسبل المواصلات يستعملها أفرادها بغير الجعل المقرر والأجر المرسوم!
وقالوا لقد أضفى الوزير على أفرادها الفراغ الشامل والتحلل الكامل من واجب (الوظيفة)، وآثرهم بالدرجات والعلاوات ينعمون بها ويرفلون في واسع رزقها! وقالوا انتفعت بالإذاعة تسير معها حيث تسير، وتمضي معها أنى تمضي!
وأنا أفترض أن كل ذلك قد وقع، بل قد وقع في صورة كريمة مسرفة، وأتساءل بعد ذلك: هل أدت الدولة ما للأدب عليها من حق؟ وهل قامت الدولة بما ينبغي أن تقوم به له من نصر ومعونة وتأييد! والجواب الذي لا جواب سواه عندي هو (لا). . . ذلك أن للأدب على الدولة حقاً أخطر من هذا كله، وأجل من ذلك كله. . . إن على الدولة أن تعين الأدباء بالمال تعفيهم به من تكاليف العيش وضرورات الحياة ليفرغوا للأدب وللفن. . . وإن على الدولة أن تريح الأدباء (الموظفين) من أعباء وظائفهم الثقيلة التي تقتطع أعمارهم وتقتل مواهبهم وتميت أرواحهم، أو على الأقل أن تجعلهم فيما ينبغي لهم من أعمال تتفق وميولهم وتمكنهم من الإنتاج الأدبي النافع، فلا يعيش الأستاذ مصطفى صادق الرافعي حياته في زاوية من زوايا محكمة طنطا! ولا يقضي الأستاذ محمود عماد عمره في ركن منزو من أركان وزارة الأوقاف!
وإن على الدولة أن تبتاع ما ينتج الأدباء من مؤلفات بأثمان طيبة كريمة وتنشرها على الناس غذاء لأرواحهم وعقولهم فترفع بذلك الذوق العام، وتربي ملكة تذوق الفن الرفيع بين أفراد الشعب، وتباعد بينهم وبين الأدب الرخيص المائع الذي يسري في نفوسهم سماً وميوعة وانحلالاً. .
وإن على الدولة أن تيسر للأدباء سبل الانتقال لا في أرجاء بلادهم فقط بل غي البلاد الأخرى وبخاصة البلاد العربية الشقيقة ليستزيدوا من أدبها ويتعرفوا إلى إخوانهم الأدباء(736/34)
فيها ليكونوا سفراء الفن والحق والجمال إلى أبنائها. . .
إن على الدولة للأدب أن تفعل له هذا وأكثر من هذا، وإن الأدباء لحرّيون منها بالعناية والرعاية والالتفات، فإذا نهض وزير أديب يعرف حقوق الأدب ببعض هذا الذي يجب على الدولة أن تنهض به، صاح به الصائحون من كل جانب، ورفعوا عقائرهم يضجون بالشكوى من المال المضيع، والاستغلال القبيح، والظلم الفادح!
إن هذا الوزير الأديب نهض كريماً مشكوراً يؤلف جماعة منهاجها (أن تعمل على نهضة الأدب بإيقاظ الذهن العربي وحسن توجيهه لأبعد آفاق المجد والسؤدد وتشجيع نوابغ المفكرين النابهين من رجال القلم، وتجد في توثيق الأواصر بين الأدباء في مصر ثم توثيقها بينهم وبين أدباء العالم العربي والجامعة لا تحتكر الأدب العربي بل هي تغتبط وتبتهج بكل من يدعون للنهوض به أفراداً كانوا أو جماعات وتمد يدها مخلصة لكل جمعية تنحو نحوها وتسير على نهجها بعيدة عن السياسة والحربية بعدها عن الأغراض الذاتية، وجمع حوله طائفة من كرام الأدباء والشعراء لهم نشاط ملحوظ وآثار عديدة ومشاركة خصبة في الأدب والفن؛ وأقاموا عدة مهرجانات أدبية لمناسبات قومية ووطنية وأدبية صرخ فيها شعراؤهم، وخطب فيها خطباؤهم. فاستوى ذلك كله كتاباً سموه (أدب العروبة) كان مجموع نتاجهم في عام!
هذا الكتاب هو ما نقدم للحديث عنه بهذا الكلام، ونحن - في كلمات متعاقبة - عارضون هذا الكتاب عرضاً عادلاً منزهاً عن الهوى، ناقدون ما احتواه نقداً مبرأً من الغرض ودخائل النفوس، لنجلو للناس بذلك آثار أول جماعة أدبية في مصر يرأسها وزير قائم، وأديب حاكم، لم تشغله حكومته الالتفات الكريم إلى الأدب والأدباء.
علي متولي صلاح
أشواق على السين:
في الربيع
للأستاذ محيي الدين صابر
(رف فجر، وتندت أرض، وتحركت حبة، وهبط عصفور. . . وعبرت نسمة. . .(736/35)
وأنصت شاعر!!)
رفَّ فجرٌ تعثر النور والعط ... ر عليهِ كأنه مخمور!
شرقت صفحتاه بالشمس والظل ... يغني نور ويرقص نور
والأماني في أفقه يتواث ... بنَ كما خفَّ في الربُّى عصفور
والأغاني في معبر النسم السا ... رب، همس مصبغ مسحور
إنه البعث راجفاً، ينفض القي ... د حياة، يمتد فيها الربيع!
وتندت أرض وأرعشها الِخص ... ب ابتعاثاً كأنه محموم!
زخرت بالحياة، وامتلأت دف ... ئاً كما تحمل السلاف الكروم
واستفاقت، تناغم الفجر فاندا ... ح حنين في صدرها مكتوم
وسرى من فؤادها العاشق البك ... ر، حديث معطر منغوم!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي ... د حياة، يمتد فيها الربيع!
وصحت حبة، ودغدَغ جفني ... ها ظلام من حولها مرطوب!
فاستجاشت تستلفت النور فارفض ... خيال في ذاتها، مشبوب!!
واستطالت في الأفق، فهي حياة ... وظلال مصبوغة وطبوب!
بين أفنانها أهازيج. . . منهن ... شفاه مخمورة وقلوب!!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي ... دَ حياة، يمتد فيها الربيع!
واستوى. بلبل على غصن رخ ... و. . فهزته خشعة وسجود
نشوة كله. . . وفي العش دنيا ... زحمت أفقها الرؤى ووجود!
منشد كله لهاة إذا غنى ... وحلم فوق الربى ممدود!!
وهو كالنور كله في جناح ... ين: انطلاق ومتبحة وشرود!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي ... دَ حياة، يمتد فيها الربيع!
شهد الغصن أنه راقص الحس ... فيصغي في نشوة أو يميل
ملأت نفسه على العش نجوى ... قصة بها غرام. . . جميل. . .
قصة العش كل حين، وفي كل ... مكان. . . على الحياة دليل!!
في جناح الفراش، أو وجنة الزهر، ومن حيث للرعاة سبيلُ!(736/36)
إنه البعث راجفاً، ينفض القي ... د حياة، يمتد فيها الربيع!
وسرت نسمة تسرب فيها ... جدول فضَّ ذاته. . . أو غدير!
جرجرت نفسها على الزهر في كل ... رباة. . . فوقفة أو عبور.!
لملمت كل خاطر وخيال هو في المرْ ... ج. دافق مفجور. .!
ومشت تنقل الحياة على كلّ ... طريق فكله معمورُ. . .!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي ... د حياة، يمتد فيها الربيع!
وتلاقت. . . مواكِب: فحبيب ... ينثر الشوق في يديه حبيب!!
وغريب مشى الحنين. . بعطفي ... هـ خشوعاً يأسو هواء غريب!
إنها صحوة الحياة. . . ففيها ... كل معنى من روحها مسكوب
هكذا عاد في الروابي حديثٌ ... كلما آبت الروابي يؤوب.!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي ... د حياة، يمتد فيها الربيع!
وعلى صخرة تجللها العش ... ب على الدرب شاعر مسكين!
عبرته الرعاة. . فهي تغني ... من بعيد كما استدارت ظنون
وهو، والناي في يديه، وفي عي ... نيه جوع وفي الضلوع حنين
ظامئ الحس للحياة وللنو ... ر وللغيب وهو فيه دفين.!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي - د حياة، يمتد فيها الربيع!
أيها الضاربون في وحشة اللي ... ل. . . أماناً، فللصباح رجوع!
أيها الراكبون في وَقدة البي ... د. . . احتمالاً. قد أمكم ينبوع!
أيها الراجفون في غضبة البح ... ر. . . سلاماً، فللرياح هجوع
أيها الصاعدون قد دنت للقم ... ة بشرى، غداً يجيء الجميع!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي ... د حياة، يمتد فيها الربيع!
هكذا يطلق الربيعُ المعاني ... وهي في قبضة الشتاء تنوح. . .
رُبَّ معنى يستنبت النور منه ... وهو معنى بين الظلامِ جريح!
كلُّ شيء يهتز من رعشة الحس ... وينساب بين جنبيه روح.!
ومشت يقظة تلفت فيها ... ملء روحيها الربى والسفوح!(736/37)
إنه البعث راجفاً، ينفضُ القي ... د حياة، يمتد فيها الربيع!
هكذا تجمع الحياة. . . معانيها. . . ... وينمو من القديم. . . جديد. .!
أبداً تصعد الحياة فما تنف ... عك صيرورة لها وصعود. . .
إنها رغبة تضج بجنبيها. . . وَش ... وق يلح فيه الخلود. . .،
وامتداد. . . وليس فيه حدود. . . ... وانطلاق وما عليه قيود. . .!
إنه البعث راجفاً، ينفض القي - دَ حياة، يمتدُّ فيها الربيع!
(باريس)
محيي الدين صابر
السوربون(736/38)
الأدب والفن في أسبوع
اتهام الأدباء:
كان الاتهام في هذا الشهر بمجلة الهلال من نصيب الأدباء، فقد كتب الأستاذ طه خطاب طه بعنوان (أتهم الأدباء) فوجه إليهم أربع تهم:
1 - تمرغهم في أحضان السياسة الحزبية وتقلبهم مع الوزارات مما انحدر بأدبهم إلى درك التنابذ والتراشق بألفاظ الشتم والسباب.
2 - الأنانية والاحتكار والقضاء على روح الطموح عند الأدباء الناشئين خشية المنافسة في الصيت والكسب.
3 - استغلال الشهرة في نشر المقالات الهزيلة وإذاعة الأدب الهش الذي خلا من العمق وإعمال الفكر.
4 - الانحدار بأخلاق الجمهور إلى المنحدر المائل، بنشر الصور المثيرة والقصص المغرية.
وأنا أخاف الأستاذ طه في بعض هذه التهم، وأوافقه في بعض، فاشتغال الأدباء بالسياسة الحزبية لا يعيب أدبهم، ولو نالهم رشاش من إسفاف الأحزاب عندنا، وهو لون من جهاد الأقلام على أي حال، على أن الأدباء ليسوا جميعاً مشتغلين بالسياسة بل أكثرهم منصرفون عنها، أما المتلونون مع الوزارات فما هم بالعدد ولا بالنوع الذي يؤبه له، فلا ينبغي أن يوصم بفعلهم مجموع الأدباء؛ وأما التراشق بالشتائم فقد كان في أوائل هذا الجيل مستشرياً في الأدب البحت أكثر مما هو في السياسة اليوم وقبل اليوم، بل هو يكاد ينعدم الآن بين خواص الأدباء.
وأؤخر التهمة الثانية لطول الكلام عليها، كما كان يفعل أسلافنا من الأزهريين في الشروح والحواشي، فأقول إن التهمة الثالثة صحيحة لاصقة. . . فإن كبار الكتاب قد استغلوا حقاً رواج أسمائهم فأجازوا بها الهدر وجعلوه مقالات تنشر ويؤجر عليها.
ولكن التهمة يا سيد طه، هشة. . . فالذين ينشرون الصور المثيرة والقصص المغرية قوم تميزهم من الأدباء ثرواتهم التي أصابوها من هذا الذي تعيبه!
ثم أعود إلى التهمة الثانية، وهي المسألة العويصة في هذه لقضية، إذ تختلط فيها الحقائق(736/39)
بالتهم الباطلة، يقول الشبان إن الأدباء الكبار يحتكرون سوق الأدب حتى إنهم لا يمكنونا من عرض بضاعتنا، ويقول الكبار أنا لا نحتكر وإنما يقبل علينا الناس، وقد تعبنا حتى وصلنا إلى هذه المنزلة. وتسأل الشبان إيضاحاً فيقولون إن الأدباء الكبار يشرفون على النشر ونقدم لهم فلا ينشرون لنا ويؤثرون علينا الأسماء المشهورة. وهذا حق يقارنه حق آخر: إن كثيراً من الناشئين يريدون أن يزاولوا الأدب بالإنتاج فحسب. . . أي من غير درس ولا تحصيل ولا تخرج!
أما إيثار الأسماء المشهورة فهو ضعف بشري عام مصدره الرغبة في الرواج، وهو في الأدب وفي غيره، وهو عند غيرنا كما هو عندنا، والسبيل إلى التغلب عليه هو جهاد الناشئين الشاق الدائب. على إنه مما ييسر عليهم هذا السبيل إن هؤلاء الذين اغتروا بشهرتهم قد بدأت عروشهم تهتز لعكوفهم على لذة الكتابة الهينة اللينة وثملهم بما يصيبون منها. ولكن المعضلة يا سيدي اللبيب الفطن هي: من يحل محلهم؟ أو بعبارة أخرى هل هناك ثوار يقدرون على البناء إن قدروا على التقوبض؟
إخواني الشبان، لقد غضب بعضكم مني لأقل من هذا، وستتم بهذا غضبتكم، ولكني أقول لكم مخلصاً صريحاً: إنكم عزل فتسلحوا بالجد لتكسبوا المعركة، كما تسلح وكسبها شيوخنا في شبابهم إذ أجلوا شيوخهم عن الميدان.
وقد ترى أن ندع لغة السلاح والقتال ونتكلم بروح المودة نحو الأساتذة والآباء فنقول: تزودوا أيها الشباب لتأخذوا أماكنكم بجوار آبائكم، لتحسنوا خلافتهم وقيادة جيلكم.
دفاع عن الكسل:
ظهر في هذا الأسبوع مقالان في الدفاع عن الكسل لكاتبين كبيرين هما الأستاذ عباس محمود العقاد والفيلسوف الصيني (لن يوتانج) الأول في مجلة (الهلال) والثاني في (المختار من ريدرز دايجست).
ولعل ذلك الدفاع من فعل هذا الحر الذي يغري بالكسل، وإن كان لم يمنع من النشاط في الدفاع عنه!
دافع الأستاذ العقاد عن الكسل، فكان من أحسن ما جاء في دفاعه قوله: (وإذا كان الأخيار في هذه الدنيا هم القلة النادرة وكان الأشرار فيها هم الكثرة الغالبة، فهل يكون ترك الأعمال(736/40)
في جملته إلا تركاً للخير القليل والشر الكثير؟ وهل يكون الكسل إلا (عملاً) يرجح فيه الكسب على الخسارة، ويربى فيه الاطمئنان والآمان على الخوف والبلاء؟
(قال الأستاذ يدعي النشاط: إن العصفور المبكر يلتقط الدودة قبل إخوانه. . . فأجابه التلميذ قليل الإدعاء: ولكن الدودة المبكرة هي التي تموت في منقار ذلك العصفور).
وقد ذكرني قول الأستاذ الكبير (فحسبي الآن أن أرضى بالدفاع عن الكسل كلما أفرطت الحركة من غير بركة، كما تفرط في هذا الزمان) بما كتبته في الأسبوع الماضي عن نشاط كثير من الناس في تأليف الكتب، وذكرت ما سمعته مرة من أحد (الناشطين) في التأليف، وقد قلت له: إني أراك تنفق أكثر وقتك في زيارة دور النشر للحث على إنجاز طبع كتاب أو لعرض كتاب آخر، فمتى تؤلف هذه الكتب؟ قال في استهانة يطل من ثناياها الزهو: إنني أفرغ من الكتاب في ليلة واحدة!
ألا ليت هؤلاء المؤلفين، وأمثالهم في غير التأليف، يسكنون فما من حركاتهم من بركة. . .
أما الكاتب الصيني فقد جاء في المقال الذي أقتطفه (المختار) من كتاب له، فصل عنوانه (فن الكسل) بدأه بقوله (الثقافة بنت الفراغ والراحة. وأهل الصين يرون إن أحسن الناس ممارسة للكسل هو أحسنهم ثقافة، ويبدو لهم إن هناك تناقضاً بين كثرة العمل والحكمة) وأحسبه يقصد بممارسة الكسل إراحة الذهن ليهضم على مهل وليسلمن الكد فيقوى على التفكير السليم وهو يرى إن من الفن الجميل أن تعرف كيف تدع الأعمال فلا تنجزها، وأن تعرف كيف تصرف وجهك عن كل شيء لا ضرورة له.
ويقول (لن يوتانج) إن رذائل أهل أمريكا هي عند أهل الصين: قدرتهم على العمل، ودقتهم في أدائهم، وشدة حرصهم على النجاح، ثم يوازن كسل الصينيين بنشاط الأمريكيين موازنة غريبة ظريفة، لأنه يخالف فيها المقررات الاجتماعية المتفق عليها، فالأمريكي يرى أن (مقاربة الإتقان ليست بكافية، أما الصيني فهي عنده كافية كل الكفاية. لأنه يعتقد إن القدرة على العمل لا تدع لأحد فراغاً يروح فيه عن نفسه؛ وإنها ترهقه بحرصه على إتقان الشيء الذي يعمله وضرب مثلاً محرر مجلة أمريكية يقتل نفسه حرصاً على أن لا تظهر فيه أخطاء مطبعية، أما الصيني الحكيم فيسره أن يتيح لقرأه أن يستمتعوا بالرضى عن أنفسهم حين يعثرون على بضعة أخطاء يهتدون إليها بأنفسهم، وأعظم من ذلك إن المجلة الصينية(736/41)
تستطيع أن تبدأ في نشر قصة مسلسلة، ثم لا تكاد تبلغ منتصف القصة حتى تسقطها من حسابها. ولو حدث مثل ذلك في أمريكا لكان بلاء ماحقاً على المحرر).
فهل لأستاذنا رئيس تحرير الرسالة أن يخفف من (أمريكيته) في الحرص على خلو الرسالة من الأخطاء المطبعية. . . ويأخذ بالحكمة الصينية في ذلك. على أن لا يكون هذا في باب (الأدب والفن في أسبوع)!!
فوسوس الشيطان في صدري، لأصطنع (فن الكسل) فلا أكتب هذا الأسبوع ولا أعني نفسي بجمع الرحيق من هنا وهناك، وأقضي الوقت فيما يوحيه إلي ذلك (الفن الجميل) ولكني لم أستطب ذلك لأسباب أهمها شعوري باللذة من انتظام العمل الذي تستريح إليه نفسي. ومن هنا أدركت إن المسألة ليست مسألة حكمة أو قانون يوضع للجميع، وإنما ذلك يتبع الأمزجة والطبائع، فالكسل الذي يتمتع به الصيني لا يحب الأمريكي الخلود إليه لأنه يتمتع بالحركة الدائبة. بل يختلف أفراد الأمة بل الأسرة الواحدة في الميول والنزعات، وكما تعمل عوامل البيئات في اختلاط الأجناس والأمم، تعمل مفرزات الغدد في اختلاف الأفراد.
النهوض بالمسرح:
أثيرت مسألة المسرح المصري في الأيام الأخيرة، إذ أبدى بعض رجاله والمهتمين به ألمهم وجزعهم مما وصل إليه، وعملت بعض الهيئات الفنية على الدعوة إلى النهوض به؛ فقد كتب الأستاذ يوسف وهبي بك نقيب الممثلين في مجلة (دنيا الفن) مقالاً بعنوان (المسرح المصري يحتضر) قال فيه إن حالة المسرح المصري اليوم هي بلا شك حالة النزع، وألقى تبعة تدهوره على الحكومة لأنها أهملت إعانة الفرق المسرحية، وقصرت عنايتها على الفرقة المصرية التي وصفها بأنها (أشبه بمؤامرة على الفن المسرحي المصري).
وأعلن اتحاد الفنيين المصريين دعوته إلى مؤتمر للمسرح المصري يعقد في القاهرة في منتصف سبتمبر القادم، تشترك فيه الهيئات الحكومية وكبار المشجعين للفنون الجميلة والمشتغلين بها في مصر والعالم العربي.
والواقع إن المسرح في مصر يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقد انفضت فرقه ولم يبق إلا الفرقة المصرية التي ترعاها وزارة الشؤون الاجتماعية، وهذه الفرقة تضم صفوة الممثلين(736/42)
والممثلات في مصر، والحكومة تسخو عليها، وهي مع ذلك تتعثر في خطواتها، ويظهر إنها قد استمرأت التواني والتثاقل في ظلال الحكومة فجعلت تعيش الزمن الطويل على بضعة روايات قد حفظ الممثلون أدوارهم فيها ومل الجمهور مشاهدتها، وهي هي في الشتاء وفي الصيف، فقد لاحقته بها في مصيف رأس البر ثم في الإسكندرية، فكان من الطبيعي ما منيت به من الإخفاق وفي يوم الأحد تضمن برنامج الإذاعة تمثيل الفرقة المصرية رواية لويس الحادي عشر بمسرح الهمبرا بالإسكندرية، فإذا بنا نسمع بالموعد المحدد لهذه السهرة تمثيلية (الموت يأخذ إجازة) وهي من (مسجلات) الفرقة أيضاً، وإذا بنا نسمع صوتاً في أثناء الفصل الثاني يرتفع قائلاً: (عاوزين نسحر!) وهذا يدل على ضيق النظارة بالتمثيل وقد يضاف إليه حر المكان الذي لا يطيقه الوافدون من شاطئ البحر. . . وقد انقطع التمثيل فترة، ثم استؤنف!
والذي نراه من أسباب هذه الأزمة المسرحية:
1 - ضعف حركة التأليف المسرحي، فأكثر الروايات التي تعرض إما مترجمة أو مقتبسة، والجمهور متعطش إلى المسرحيات القوية العديدة التي يرى فيها صورة نفسه.
2 - إهمال الفرق الأهلية الذي أدى إلى قعودها عن العمل فأنعدمت المنافسة بين المسارح.
3 - عدم وجود المسارح الملائمة وخاصة في الصيف، وهذه القاهرة العظيمة ليست فيها مسرح صيفي واحد وحبذا لو أنشئ هذا المسرح الصيفي وبجانبه آخر شتوي على أرض ثكنات قصر النيل التي اختلفت الآراء فيما يشغلها.
4 - ارتفاع أسعار دخول المسارح الذي صرف الناس عنها إلى (السينما).
وإقالة المسرح من عثرته إنما تكون بتلافي أسبابها، وترى من الأسباب المتقدمة إن أكبر جهد في إزالتها إنما يرجى من الحكومة، وما دامت الدولة تعترف بأن المسرح الراقي من وسائل التثقيف والتنوير فلا بد أن تبذل ما في وسعها لأحيائه وتمكينه من تأدية رسالته. وهي تنفق الكثير في استقدام الفرق الإيطالية والفرنسية والإنجليزية للتمثيل بالأوبرا لفائدة الطبقات العالية، فحق سائر الشعب عليها أن تيسر له موارد هذا الفن، فتحقق (تكافؤ الفرص) في التثقيف العام كما تعمل على تحقيقه في التعليم المدرسي.
(العباس)(736/43)
الكتب
في أعقاب الثورة المصرية
(تأليف الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك)
وقف بنا صاحب العزة الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك منذ عام عند الرحلة الثامنة من مراحل تاريخنا القومي الحديث، بعد أن وضع بين أيدينا المجلدين العاشر والحادي عشر من معلمته التاريخية، وهما اللذان صور فيهما ثورة سنة 1919 أصدق تصوير، وما كان له أن يدعنا عند هذه الرحلة الخطيرة من تاريخنا حتى يظهرنا على ما وقع في أعقاب هذه الثورة من أحداث، وما تقلبت فيه من أطوار.
انفجرت براكين الثورة المصرية في عام سنة 1919 فانبعث فيها غضب أربعين سنة ذاقت فيها البلاد من ظلم الإنجليز ألواناً وأنواعاً، وقد وقفت الأمة في هذه الثورة صفاً واحداً كأنها بنيان مرصوص إذ كان الغرض الذي تجاهد من أجله واحداً وهو إسعاد مصر وتحريرها. وبحسبك أن تعرف أن هذه الثورة قد هزت أركان الأرض، والتفت إليها الدهر، وعلى زمجرة وعودها استيقظ الشرق كله ليأخذ في الحياة حقه ويسترد منها ملكه.
ظلت هذه الثورة بروعتها وجلالها عامين كاملين ثم دب إليها داء الشرق المستعصي على الدواء - داء التفرق - فانتقل الجهاد من الميدان القومي إلى الميدان الشخصي، وبعد أن كانت البلاد في ثورتها تسير على نهج مستقيم لا عوج فيه فإنها قد انقلبت في أعقاب الثورة تعتسف في سيرها ولا تتهدى إلى طريق يجمعها وظلت أكثر من خمس سنين على اعوجاجها ثم فاءت إلى رشدها فجمعت شملها ولكنها لم تلبث غير عامين حتى عاودها داؤها فافترقت - ولا تزال وا أسفا!!
وهذا الذي أصاب البلاد بعد ثورتها من فرقة واختلاف قد تولى بيانه ودراسته مؤرخ هذا العصر الأستاذ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك في مؤلفه الجديد (في أعقاب الثورة المصرية).
ظهر الجزء الأول من هذا الكتاب وقد بدأه حضرة المؤلف بتفصيل القول في الانقسام الداخلي الذي أصاب البلاد في سنة 1921 وما جرى على أثره وانتهى إليه ومضى يتحدث عن الوفد الرسمي وما ثار حوله من خلاف كبير أدى إلى خذلان الأمة وضعفها، وتكلم بعد(736/45)
ذلك عن تصريح 28 فبراير الذي استخلصه ثروت باشا من الإنجليز وتأليف حزب الأحرار الدستوريين؛ ثم أشار إلى العقاب التي أقيمت في سبيل ثروت باشا فأودت بوزارته وذلك بعد أن قامت لجنة الثلاثين بوضع مشروع الدستور المصري، وواصل الحديث عن وزارة نسيم باشا وما كانت تحاوله من مسخ مشروع الدستور وإلى كفاح جميع الأحزاب في هذا السبيل حتى ظفرت البلاد بدستورها بعد أن حذف منه كل ما يتصل بالسودان، وأخذ يتقصى ما توالى من الحوادث بعد ذلك من تأليف حزب الاتحاد في سنة 1925 والانتخابات التي أجرتها حكومته، وما انتهى إليه الأمر من ائتلاف الأحزاب في سنة 1926 والانتخابات التي دعا إليها الاتحاد وتأليف الوزارات الائتلافية، وزارة عدلي باشا في يونية سنة 1926 ووزارة ثروت باشا في إبريل سنة 1927، وظل يساير الحوادث ويعللها إلى أن مات سعد في 23 أغسطس سنة 1927.
هذه لمحة دالة على بعض ما جاء في هذا الكتاب الذي تتحدث عنه اليوم. وليس الشأن في عرض الحوادث وإيراد الوقائع لأن ذلك أمر يسير على من يتتبعها أو يتطلبها وإنما الشأن كل الشأن في تعليل هذه الحوادث والحكم عليها بالحق والعدل من غير مجاملة ولا خوف رضى الناس عن هذا الحكم أو غضبوا.
لقد كانت الحقبة التي بين سنة 1921و1926 من أصعب الحقب التي مرت على البلاد، فيها اجتازت القضية المصرية أشق مراحلها وأوعرها وذلك بما تجلى فيها من الصراع الداخلي بين زعماء البلاد وقادتها، وكان منشأ الخلاف التنازع على رئاسة المفاوضات واستعر لهيب هذا الخلاف حتى شمل البلاد جميعاً فانقسمت الأمة شيعاً وتفرق جمعها بدداً، والتنازع ولا ريب يؤدي إلى فشل الأمة وذهاب ريحها، ثم امتد هذا الخلاف إلى الدستور وكيف تحكم البلاد، وقد كان كل حزب يعمل في هذه الحقبة لنفسه، ولا يريد إلا أن تكون البلاد تحت حكمه.
من أجل ذلك كله وغيره كان تاريخ هذه الحقبة ثقيلاً لا تنهض به إلا النفوس الكبيرة التي لا تؤثر على الحق شيئاً ولا تهاب في سبيل الجهر به أحداً، وهذه الصفات لا تتوافر إلا في مثل المؤرخ الجليل عبد الرحمن الرافعي بك الذي قضى ما قضى من عمره المبارك في سبيل خدمة بلاده بإخلاص وأمانة.(736/46)
ولا ريب في أن مؤرخنا الجليل قد أدى في هذا الجزء ما يؤدي المؤرخ الصادق الأمين فأخرجه في أصدق رواية وأوفى بيان وأحسن معرض وهي شنشنته التي عرفناها منه في سائر المجلدات التي تتألف منها موسوعته التاريخية العظيمة وقد بلغت اثنتا عشرة مجلدة.
وغن مثل هذا العمل العظيم ليوجب على كل مصري أن يسدي له من أجله أطيب الثناء وأجل الحمد.
ابن وضاح
عثمان بن عفان
(تأليف الأستاذ صادق إبراهيم عرجون)
هذا كتاب لم يزل موضعه خالياً في المكتبة العربية حتى جاء الكاتب النابغة الشيخ صادق إبراهيم عرجون الأستاذ بكلية اللغة العربية فملأ هذا الفراغ. ومنذ قرون طويلة والراغبون في المعرفة يتلفتون ذات اليمين وذات الشمال ليجدوا مخرجاً يطمئنون إليه فيما أحاط بالخليفة الراشد عثمان بن عفان من فتن وأحداث، وقد كانوا يجدون الكلمة والكلمتين في الفينة بعد الفينة ولكن ذلك لم يكن يروي غلة التعطش إلى وجه الحق في هذه الأحداث فيبقى حائراً مبلبل الفكر، مضطرب الرأي، يضرب على غير هدى، ويخبط في ظلمات مضلة، مما حدا بالعلماء من قديم إلى أن يغلقوا باب الخوض فيما كان بين الصحابة من خصومات ومقاتلات (رحمة بالناس أن تزل بهم قدم الشبهات، أو ينفلت من يدهم معيار التقدير للحوادث وبواعثها، والأشخاص ومفاسدها، فلقنوا تلاميذهم، وأخذوا عليهم أن يلقنوا تلاميذهم جيلاً بعد جيل هذا المبدأ. وأول التشاجر الذي ورد تمكينا لحسن الظن بأولئك الأسلاف الذين بنوا أضخم بناء فأحسنوا تشييده، ووطدوا تأسيسه، فعجز الخلائف عن حراسة هذا البناء العظيم بأعمالهم، ولم تبق لهم إلا ألسنة لو أطلقت من عقلها بغير رقابة لقالت في السابقين الأولين) بيد أن هذا الحجر على العقول والأفكار لم يمنع أن يقول الناس وأن يتقولوا وأن يخوضوا في هذه المعتركات بما شاء لهم العقل والهوى، والإيمان والكفر، فكان من الحتم أن يتناول الباحثون هذه المسائل بشيء كثير من البسط والإيضاح حتى تطمئن العقول إلى الرأي السديد، وتبصر الحق واضحاً جلياً، وكان الأستاذ عرجون أبلغ(736/47)
من تصدى لموضوع عثمان بن عفان فأخذ المسألة من جميع أطرافها، وتناولها من ألفها إلى يائها كما يقولون، فدرس درساً مستفيضاً ووازن بين الروايات وأحسن وزنها وأخرج للإسلام وللعربية هذا الكتاب. وقد حاول المؤلف القضاء على كثير مما وقر في أذهان الخاصة والعامة مما يقدح في سلامة تصرفات ذي النورين، وقد وفق في كثير وأنه ليحسن الحجاج، ويوفق في الجدل، ويرمي برأيه غير هياب ولا متردد، اقرأ إن شئت قوله ص 86 (لقد وقع في أوهام كثير من الناس، وتحدر إلى منازل التاريخ، ولقن شباب المسلمين في المدارس، ومعاهد التعليم، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ضعيفاً في موقفه إزاء هذه الأحداث العاصفة، أو كان مستضعفاً يساق إلى ما يراد. وهذه غلطة تاريخية خطيرة في حق ثالث عظماء الإسلام، يجب على كل مسلم سليم العقيدة صحيح الفهم لتاريخ الإسلام أن على تصحيحها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فما كان أيسر على عثمان - لو أراد - أن يصنع صنيع يزيد بن معاوية فيتخذ له ولاة من نظائر زياد (كذا) وابنه عبيد الله، أو مثل صنيع عبد الملك بن مروان وابنه الوليد فيحكم في رقاب المسلمين أشباه إخيفش ثقيف ممن استباحوا البلاد وأذلوا العباد حتى تدين له الدنيا ويصفو له الملك) ثم يردد هذا المعنى في موضع آخر فيقول (وهل كان عثمان رضي الله عته عاجزاً أن يتخذ لنفسه (حجاباً) يجعله جلدة ما بين عينيه ويسلطه على أبشار الأمة بسياط القهر والجبروت، ويطلق يده في دمائها يعب منها ما يشاء حتى تخضع وتذل، وحوله من ذؤبان العرب، وفتيان أمية، من يستطيع أن يصطنع منهم العدد الكثير ممن غلظت أكبادهم، وقست قلوبهم؟). وهكذا يمضي المؤلف قوياً متحمساً يدفع عن عثمان ما (وقع في أذهان كثير من الناس).
ولا يمكن من يكتب عن هذا الكتاب أب يتجاهل أسلوب المؤلف فيه، هذا الأسلوب الناصع الديباجة، القوي الأسر، العربي الرصين، وإن ذلك تجده في كل صفحة من صفحات الكتاب.
هذا وإننا لنقف قصيراً مع المؤلف في هذا النهج الذي انتهجه، فقد جعل اللبنة التي أقام عليها بناء كتابه دراسته لأخلاق عثمان الشخصية، وذلك حين يقول: (وقد تأكد عندي أن أعدل ميزان لوزن الرجال وتقدير أعمالهم، ومعرفة الصحيح من الزائف فيما ينسب إليهم، وكتابة سيرهم كتابة تقربها من الحق والإنصاف إنما هو دراسة أخلاقهم الشخصية، وتعرف(736/48)
أحوالهم في حياتهم حتى يمكن الباحث أن يصنع من هذه الدراسة (صنجة) يزن بها كل ما يصادفه في طريق البحث من رأي أو مذهب أو رواية ثم أن هذه (الصنجة) قد حررت الميزان في كثير إلا أنها لم تنفع في بعض الأحايين؛ فإن المؤلف درس أخلاق عثمان الشخصية، واتخذ منها أساساً يبني عليه حياته العامة، فكان متجهه دائماً تبرير أعمال عثمان، والتماس الصواب ولو كان بعيداً. وهذا وإن أرضانا كمسلمين فإنه لا يرضينا كباحثين متطلبين لوجه الحق في أحداث التاريخ. وإنه ليسر كل مسلم أن لا يجد مطعناً في أعمال صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف وليس أحد معصوماً إلا الأنبياء، على إن الباحث حين يصل به البحث إلى أن يأخذ على عثمان شيئاً لا يكون بذلك قد أغضب العقيدة الصحيحة، ولا يكون إسلامه مدخولاً) وإن له في ابن عمر رضي الله عنه لأسرة حين سئل عن فرار عثمان يوم أحد فأجاب (أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له) وهذا المذهب الذي ذهبه الأستاذ في التأليف جعله يبرر أعمالاً لا يطمئن النصف إلى تبريرها، فأي وجه للصواب في موقف عثمان من جهجاه الغفاري الذي يقول الأستاذ في تبريره) ولين عثمان وحلمه أطمعا جهجاها الغفاري في أن يأخذ من يد عثمان وهو على المنبر عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب بها فيكسرها)؟ وهل تساس الجماهير بمثل هذا الحلم؟ أن قائلاً لو قال: كان هذا منتهى الضعف فن عثمان رضي الله عنه، وكان بعيداً كل البعد عن سداد السياسة الرشيدة الحازمة، لو قال ذلك لم يبعد عن وجه الحق. كما أن المؤلف أطال الدفاع عن عثمان في إيثاره أقاربه، واختصاصهم بعطفه وبره دون أهل السابقة من الإسلام، ولكنه مع ذلك لم يقرطس الهدف، ولم يبلغ الغاية. ولا يزال هذا الأمر يحيك في النفس وقد أعجبني من المؤلف أنه قدم بين يدي القول فيما كان بين علي وعثمان اعتذاراً عن معالجة هذا الموضوع، والأخذ فيه (هذا الفصل لم يكن القلم فيه بليل الريق، طيع المقادة، ولكنه كان وقافاً، كثير التلفت، كثير الحذر، وأنا أشهد الحق أني عذرت قلبي، وعذرت نفسي، فإن عذرني الناس فنعما هي، وإن أبوا فما أحب أن أرضيهم بسخط الله تعالى وسخط البحث، وإن من حق البحث على الباحث أن يترفق به في المضايق، وأن ينشد معه في الخطو عند المزالق، وأن يتثبت عند اشتجار الآراء، واختلاف المذاهب، وتضارب الروايات)(736/49)
ومهما يكن من شيء فلا يسعنا إلا أن نشهد للمؤلف الفاضل بالبراعة، وقوة الحجة، وسداد المنطق، وهي فضائل شاعت في أكثر فصول الكتاب، وحسب مؤلف في هذه الفتن العمياء من تاريخ الإسلام أن يكون هذا نصيبه، وأنه لنصيب قل من الرجال من يظفر به.
علي العماري(736/50)
البريد الأدبي
خير الأمور الوسط:
حكمة تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل، وهي محتفظة بصدقها، سعيدة بذيوعها على كل لسان وفي كل مجال، ولكن الدكتور أمير بقطر جاء أخيراً وتنكر لها ونقضها من أساسها؛ فزعم أن (شر الأمور الوسط) وأن الناس جروا في حكمتهم على غير الرأي الرشيد، وأنها حكمة وليدة الضعف والاستخذاء وفتور الهمة، وراح يحكم حكمه القاسي على هذا (الوسط) الذي وصفه الحكيم بأنه (خير الأمور) في مقاله الذي نشر في عدد سابق من مجلة الهلال الشهرية فيقول:
(إن أسهل الأشياء وأقلها خطراً وأسلمها عاقبة، الوسط، ولكنه أقلها إنتاجاً وأبخسها ثمناً، وأسرعها زوالاً، وأخفها أثراً في النفوس. وما الزجل الوسط المسالم إلا ذلك الخامل الجبان الذي يخشى النقد ويتفادى الهجوم والدفاع ويسعى إلى السهل).
من ذلك الطرف الذي نقلناه من صلب كلام الأستاذ في تجريح (الوسط) يفهم القارئ أنه حمل الكلمة على غير معناها اللغوي المقصود، وسار بها في غير وجهها، وحملها وزر المعنى العامي الذي تداولته الألسن في معنى الوسط، فظنوه القناعة من السعي والعمل والجد والدأب بما دون الكمال. ولعمري! إن طالباً ينال في درجات علومه 6 من 10 وهي الدرجة المتوسطة ليس هو بخير التلاميذ. . بل إن خيرهم لهو صاحب العشر الكاملة.
وهل يجترئ مجترئ على تسمية الرضا بما دون الكمال (خير الأمور)؟!. . هذا ما لم يقل به أحد.
فللوسط إذن معنى لغوي حقيقي غير المعنى الذي تبادر إلى ذهن الدكتور.
الوسط محركة من كل شيء خيره وأعدله، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) والمقام هنا مقام التمدح بالكمال ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) فهذه الأمة التي حكم الله بأنها خير الأمم هي التي جعلها أمة وسطاً.
ومما يدل أيضاً على أن الوسط غير ما فهمه الأستاذ قوله تعالى في سورة القلم (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) وأوسطهم الذي وقف منهم موقف النصح والإرشاد هو خيرهم وأعدلهم من غير شك ,(736/51)
وهكذا ابن الرومي يقول في رثاء أحد أولاده:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي ... فلله كيف أختار واسطة العقد
ولم يرد ابن الرومي أن يخبرنا أن ولده المتوفى هو الثاني أو الثالث. . . وإلا كان مضحكاً!. ولكنه يريد أن يقول إن الموت أختار خير صبيته، ولذلك شبهه بواسطة العقد، والموت نقاد فلعل الأستاذ الدكتور بعد الذي أوضحناه يعيد للحكمة اعتبارها بعد أن جرحها وتنكر لها، والرجوع إلى الحق فضيلة والسلام.
مصطفى محمد إبراهيم
المدرس بالمدرسة السعيدية الثانوية
الأدب بين مصر ولبنان:
علق (العباس) بالعدد 734 من هذه المجلة على كلمة لي نشرت في الجزء الرابع من مجلة (العالم العربي) تحدثت فيها عن عدم احتفال الأدباء المصريين بالأدب اللبناني. ولست أود هنا أن أثير الموضوع إثارة جديدة على الرغم من إنه ينبغي أن يثار دائماً لمصلحة الأدبيين جميعاً - وإنما يهمني أن أتناول عبارة وردت في تعليق (العباس) هي قوله: (إن المؤلفين اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد أدباء مصر مؤلفاتهم نقداً حراً. . . ويرون فيه غضاً من شأنهم، والمصريون أهل حساسية و (ذوق) وهم حريصون على مودة إخوانهم في العروبة).
وهذا - في الحق - كلام عجيب في مخالفته للواقع وفي منطقه. فأين الدليل على أن المؤلفين اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد أدباء مصر مؤلفاتهم نقداً حراً؟ وأي أديب لبناني يحترم نفسه وأدبه غضب وثار حين نقد أحد المصريين كتابه؟ أيكفي (العباس) أن يلقي القول إلقاء دون ما حجة أو برهان حتى يصدقه الناس؟ وأية تهمة يلصقها (العباس) بالأدباء اللبنانيين، أهم سذج إلى هذا الحد حتى لا يقدروا النقد النزيه؟ وهل بلغ بهم ضيق الصدر والفكر أن ينكروا النقد الخالي من شوائب الإغراض؟ ثم إن (العباس) يطلق الكلام إطلاقاً دون ما تمييز ودون ما تفهم لنتائجه، فإن القارئ يدرك من عبارته إن المصريين حين يودون نقد كتاب لبناني، فينبغي أن يهاجموه ويجرحوه سواء أكان أهلاً للجرح(736/52)
والمهاجمة أم كان أهلاً للإطراء والثناء. . .
وانظر ما أعجب هذا المنطق في قول (العباس): إن المصريين أهل حساسية و (ذوق) وهم حريصون على مودة إخوانهم في العروبة) فأي شأن للعروبة هنا؟ أترى اللبنانيين يتنكرون للعروبة إذا نقد المصريون أدبهم، بل حتى إذا هاجموه مهاجمة؟ ومن ذا الذي يقول إن العروبة تقتضي المصريين أن يراعوا اللبنانيين في أدبهم أو أن يداجوهم أو أن يسكتوا عنهم إذا كان في الأدب ما يستحق النقد؟
القضية ليست قضية (حساسية) و (ذوق) و (مودة في العروبة)! بالأمس كان إخواننا المصريون يعللون عدم اكتراثهم للأدب اللبناني بضعف الدعاية لهذا الأدب، ثم بارتفاع أسعار مؤلفاتهم ثم بكثير من التعليلات الأخرى. . . وها أن (العباس) اليوم يطلع بتعليل جديد: هو إن اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد المصريون مؤلفاتهم نقداً حراً. . . وغداً يأتي من يقول غير ذاك وهذا. . .
الواقع إنه يجب أن نتكاشف ونتصارح: إن إخواننا الأدباء المصريين مقصرون في حق آداب البلاد العربية الأخرى، في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، خلافاً لموقف هذه البلاد من أدبهم. . . ويجب أن يعترفوا بهذا التقصير فهذا وحده يدعوهم إلى تلافيه وإلى سد نقصه. . .
(بيروت)
سهيل إدريس
الاستعمار الثلاثي:
لعل قراء الرسالة جميعاً قرءوا أو سمعوا بخبر تلك البدعة الفرنسية الجديدة التي ابتدعوها لنا في السنوات الأخيرة، وهي انتخاب ملكة للجمال في مصر، في حفل عام. . .
وكان آخرها ما أقيم بأحد (المراقص المشهورة) في آخر ليلة من الشهر الإفرنجي المنصرم، وفي منتصف شهر رمضان!
ولا نود أن نخوض هنا في حديث ديني، فلم يكن شهر رمضان لمثل هذه الحفلات، ولكنه كان لشيء أكرم من هذا. ولقد قام بتنظيم هذه الحفلة، كما لعلك قد علمت، معهد كليتيا(736/53)
للتجميل من باريس، ومعامل عطور لانسيل من باريس أيضاً!
ولماذا كان من باريس؟
ولماذا لم يكن من لندن أو نيويورك؟
لعل هذه القوى الثلاث - باريس ولندن ونيويورك - اتفقت فيما بينها على أن تضطلع كل واحدة منها بناحية من النواحي الاستعمارية التي تجيدها.
أما نصيب باريس فكان في هذه الحفلات.
وهذا هو نفس ما حذر المارشال بيتان - مارشال فرنسا الجريح - أبناء بلده منه، وهو ما أدعى إنه كان السبب في تدهور الفرنسيين وانحلالهم وهزيمتهم الشنيعة، ودعاهم إلى التمسك ببعض الأخلاق!
والذي يعنيني من كل هذا، ويؤلمني هو إننا نحن الشرقيين دائماً ميداناً هؤلاء الغربيين وحقلهم الذي يجرون فيه تجاربهم، بل مطاياهم وحميرهم!
فيا أيها الشرقيين عامة، أحذروا الاستعمار الأوربي الثلاثي:
السياسة الإنجليزية، والقرض الأمريكي، والجمال الفرنسي!
وبهذا وحده تفلحون. . .
حسين الغنام
تطبيع واضح:
ظهر المقال الثاني من عشاق الطعام بالعدد الأخير من مجلة الرسالة الغراء مبتدءاً بهذه الفقرات (النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرق، وقد هجم رمضان) وهذا كلام ليس في موضعه، وإنما هو تطبيع، أفسد التركيب، وربك السياق.
محمد رجب البيومي(736/54)
القصص
قصة إسلامية:
شيخ الأندلس
منقولة عن الإنجليزية
بلقم الأديب وهبي إسماعيل حقي
(مهداة إلى صديقي وأخي السيد محمود علي عمرو مع
تقديري وإعجابي. . . . . .)
كان الشيخ إدريس بن أحمد يقيم في إحدى المدن الإسبانية الجميلة التي يزدان بها شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ذلك البحر الذي كان يحق أن يطلق عليه في ذلك العهد (بحر المسلمين) فقد كانت مياهه تتدفق في أراضي إسلامية، وكانت أعلام المسلمين تخفق على شاطئيه بالعدل والحرية والإخاء والمساواة، وتملأ القلوب هيبة وتوفيراً للمؤمنين الذين عمرت أفئدتهم بالثقة بالله فملكوا الدنيا ودان لهم العالم.
وكان منزل الشيخ في الجانب الساحلي من تلك المدينة كعبة القاصد وملاذ المحتاج، وقد كان الشيخ واسع الغنى وافر الثروة، وقد اصطلح الناس على تسميته شيخ الأندلس لغناه الفاحش وثرائه العريض ولم يكن قد ورث الغنى عن آبائه ولا عن أجداده ولا كان من الذين ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب كما يقول المثل، ولكنه جمع هذه الثروة بجده وكده حتى أضحى الذهب يسيل من بين أصابعه.
ولد إدريس من أبوين فقيرين في جزيرة العرب، ونشأ في ظلال الحاجة وتربى في ربوع الفاقة، لكنه نشأ قوي الإيمان، صادق العزيمة، متين الخلق، وخاض معترك الحياة، لا يعرف الملل ولا يتطرق إليه اليأس حتى وصل إلى قمة المجد في الغنى والجاه ولكن في غير وطنه؛ فقد أبى الحظ أن يبتسم له في جزيرة العرب، وضن عليه حتى بلقمة الخبز يتبلع بها، فكان ينتقل بين المدن والقرى يبحث عن عمل يستدر منه قوت يومه، ولكن نحس الطالع كان يلازمه أينما حل، وسوء المصير كان يتعقبه حيثما سار، ومع ذلك لم يدع(736/55)
اليأس يتسرب إلى قلبه وكان دائماً يردد في ثقة المؤمن، وإيمان الواثق قول الله تعالى (ولا تيئسوا من روح الله فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) وكان يحس في ترديدها برد الراحة واطمئنان القلب، وهدوء البال، وينسى ما يلاحقه من فشل ثم يبدأ جهاداً جديداً، وهو أتم ما يكون يقيناً أن الله سيجعل بعد عسر يسراً.
ولما طرق كل المناطق في جزيرة العرب، وانسدت في وجهه كل أبواب الرزق، شخص إلى الشام ليجرب حظه هناك، ولينتظر قضاء الله فيه. . . ولكن الدنيا وانته في (سوريا) وتحول فيها مجرى حياته، فقد كان يؤدي صلاة الظهر في أحد مساجد دمشق فلما قضيت الصلاة، وانتشر الناس في الأرض، ولم يبق في المسجد إلا أفراد معدودون، انزوى في ركن من أركانه بجوار أحد الأعمدة، وغرق في بحر من التأمل والتفكير، فاسترعى نظره إلى رجل إلى جواره، مهيب الطلعة، طلق المحيا، جسيم وسيم، فانتقل إلى جواره، وبعد أن حياه قال له:
- من أي بلاد الله أنت أيها الشيخ؟ فليس على وجهك طابع هذه البلاد؟. فقال له إدريس:
- إني من بلاد الحجاز يا سيدي، وقد صدقت فراستك.
- ولماذا نزحت إلى هنا؟
- لأبحث لي عن عمل أرتزق به
- أتجيد القراءة والكتابة؟
- ما أنا بقارئ ولا كاتب.
- وماذا تمتهن إذن؟
- إني ماهر في تربية الخيول وركوبها، وحاذق في الرماية وإصابة الهدف.
- عجيب جداً! كيف تكون كما تقول ولا تجد لك عملاً؟
- هي إرادة الله يا سيدي، وليس هذا عملاً مربحاً عندنا، وعلى المسلم أن يرضى بما قسم الله له، وأن يكد ويسعى في طلب العيش من وجه حلال، وما وراء ذلك فالأمر موكول فيه لله عز وجل.
- اسمع يا أخي!. . إنني غريب عن هذه الأوطان، وقد جئت هنا للتجارة، وسأرجع إلى (الأندلس) وطني ومسقط رأسي بعد أيام قلائل، وسأكون سعيداً إذا رافقتني إلى بلادي(736/56)
وقبلتأن تعمل معي.
- إني أقبل شاكراً، ولكن أي عمل تكل إلي أداءه؟
- قد سمعتك تقول آنفاً إنك فارس مبدع، وراشق ماهر. سيكون هذا عملك، لأني سأنيط بك حراستي في حلي وترحالي.
- ستجدني أن شاء الله صابراً، ولا أعصي لك أمرا.
- ذلك ما كنا نبغي.
ولم تمض إلا أيام تعد على أصابع اليد حتى كان إدريس يرافق القافلة الصغيرة إلى بلاد الأندلس، ويقضي النهار في حث الإبل على مواصلة السير. . . فإذا ما جن الليل. . . وادلهمت جوانب الكون، حطوا رحالهم، ونصبوا خيامهم، وامتشق إدريس ورفاقه سيوفهم، وقضوا الوقت في حراسة المتاع، والحفاظ على التاجر.
وبعد رحلة شاقة، وسفر، بلغت القافلة مرفأ على الشاطئ الإفريقي المواجه لبلاد الأندلس، اعتاد التاجر أن ينتقل منه إلى الشاطئ الآخر، وكان إدريس - طوال هذه الرحلة - مثالاً للرفيق المخلص، والحارس الأمين، دائب السهر على خدمة سيده، مجسدا في تهيئة الراحة له، حتى انتزع إعجابه ومحبته، ونال رضاه وتقديره، ولقد كان للبيئة الإسلامية التي تربى إدريس فيها كبير الفضل في غرس الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة في نفسه، فنشأ مخلصاً أميناً، وفياً كريماً، فانطوت القلوب على محبته، وامتلأت النفوس له احتراماً.
ولقد تهيأت الفرصة التي تجلى فيها إدريس على حقيقته، وطبعت في قلب سيده حبه في أعنف مظاهره؛ فقد حطت القافلة الرحال على نصف ميل من المرفأ في ليلة اعتكر ظلامها، وخبا نجمها، وجعلت خيمة التاجر في الوسط، وأحاطتها بسائر الخيام وكان عليها أن تعسكر في هذا المكان أسبوعاً كاملاً إلى أن تعود السفينة التي تتنقل بالمسافرين من شاطئ إلى آخر، وكان التاجر قد طال غيابه عن أهله ووطنه، فحمل في عودته كثيراً من التحف النادرة، والهدايا الثمينة، والأواني الذهبية، ليتحف بها ذويه وعشيرته الذين برح به الشوق إليهم، وكانوا جميعاً يقضون النهار في الراحة ورعي الدواب، ويقضون الليل في السهر والحراسة.
وإنهم لفي أصيل يوم من الأيام يتأهبون لعملهم الليلي إذ لاح لهم عن بعد نقطة سوداء، فوق(736/57)
صفحة الماء، وكانت تزداد كبراً، كلما ازدادت منهم قرباًن ولقد تبين فيها حراس المرفأ سفينة صغيرة، (للقراصنة) فبذلوا جهدهم لأبعادها عن الشاطئ، ووزع الضباط رجالهم على الساحل، ليتبادلوا الحراسة طول الليل، وكذلك فعل رجال القوافل الذين كانوا في انتظار السفينة لتقلهم إلى الشاطئ الإسباني عندما علموا أن المركب (للقراصنة) وأنهم سينالون منهم لا محالة. . .
وقد أمر التاجر رجاله أن ينظموا خطط الدفاع والمقاومة، وان يتبادلوا مع إدريس المشورة والحراسة، وكان الظلام قد أسدل ستراً كثيفاً على الخيام، ولف الكون هدوء شامل، عندما فوجئ القوم بضجة وجلبة على الشاطئ، وعلموا أن القراصنة أقرب إليهم من حبل الوريد، فقد أرسوا سفينتهم، ونزلوا إلى الأرض في مكان لم يقدر الحراس أنهم يستطيعون النزول فيه فأهملوا حراسته.
كان إدريس قد غادر موضعه إلى ظاهر الخيام ليقضي حاجته، وترك رفاقه يحرسون المتاع، وقد أخذوا الأهبة وأتموا الاستعداد، ولكن القراصنة كانوا حريصين على أن يصلوا إلى أغراضهم عن طريق الحيلة من غير أن يستعملوا سلاحاً، أو يريقوا دماء؛ فهم يعلمون أن المسافرين يكثرون من الأتباع لحراستهم ومرافقتهم، وأن هؤلاء الأتباع يستهويهم المال، فنادى رئيس القراصنة وقائدهم قائلاً:
- أيها الحراس! يا من ترافقون القوافل من أجل المال! إني أعدكم أننا سنشاطركم متاع هؤلاء التجار إن أنتم ألقيتم السلاح وعاونتمونا في حزم وحمل الأمتعة إلى الشاطئ وسنتحملكم على سفينتنا إلى حيث تريدون.
(يتبع)
وهبي إسماعيل حقي
عضو البعثة الألبانية بالأزهر الشريف(736/58)
العدد 737 - بتاريخ: 18 - 08 - 1947(/)
بين الروحانية والمادية
للأستاذ عباس محمود العقاد
(. . . وعلى سبيل الاستفسار أوجه إليكم الأسئلة الآتية بعد قراءة ردكم على نقد الأستاذ إسماعيل مظهر لكتابكم عن الله راجياً أن تتفضلوا بالإجابة عنها في الرسالة الغراء:
1 - أليس هناك وجه من الصواب في وجوب التفرقة بين الوجود والموجود وبين العدم والمعدوم في الكتابات الفلسفية؟ فإن الكاتب الأديب قد يجوز له أن يستعمل إحدى الكلمتين بمعنى الأخرى من قبيل التجوز المقبول في الكتابة الأدبية. ولكن هل يقبل ذلك في لغة العلم والفلسفة؟.
2 - هل من الضروري أن يخلق العالم الطبيعي خليقة حية ليقول إن النواميس المادية تتسلط على الحياة؟ ألم يصنع العلماء مادة البروتوبلاسم التي هي مادة الحياة ولا يبقى إلا الزمن لتشبه هذه المادة المصنوعة مادة الحياة؟ ألا يحق لنا في العصر الحاضر بعد كشف الذرة أن نقول إن العلم قد وضع سر المادة في أيدي العلماء. . . الخ الخ).
الإسكندرية
صابر. م
أما في مسألة الوجود والموجود والعدم والمعدوم فالأديب المستفسر قد عكس الأمر فطلب في لغة العلم والفلسفة ما يطلب من الأديب، أو طلب من الأديب ما يطلب في لغة العلم والفلسفة
وقد جرت المناقشة في هذا الموضوع من قبل بين الرازي والصابوني فقال الإمام الرازي في مناظراته: (إن كان غرضك إظهار الفرق بين التكوين والمكون بحسب اللفظ والعبارة فإنه يقال كوَّن يكون تكويناً فهو مكون وذاك مكون، فالتكوين مصدر والمكون مفعول، والفرق بين المصدر والمفعول معلوم في اللغات. إلا أن الفرق الحاصل بحسب اللغات لا يوجب الفرق في الحقائق والمعاني. ألا ترى أنه يقال عدم يعدم عدماً فهو معدوم، فالعدم مصدر والمعدوم مفعول وذلك لا يوجب الفرق بينهما في الحقيقة).
فالفلاسفة هم الذين سوغوا استخدام كلمة الوجود بمعنى الموجودات، ولم يمتنع ذلك في(737/1)
اللغة لأن شواهد هذا الاستخدام متكررة في كل مقام.
وقد نجاري الأديب المستفسر عن رأيه في خلق الخليقة الحية فنقول إن العالم الطبيعي لا يطالب حتماً بخلقها في المعمل ليجوز له أن يقول إنها قوة مادية وليس فيها زيادة على القوة المادية.
ولكنه يطالب حتماً بمعرفة العلة التي تفرق بينها وبين الذرة المادية ليقول إن هذا الفرق من المادة وليس من شيء غيرها. أما أن يجزم بمصدر هذه العلة وهو لا يعرفها ولا يستطيع أن يصفها فهذا هو الإدعاء بعينه وليس هو العلم الطبيعي المزعوم.
وإذا كانت المصانع قد أخرجت مادة البروتوبلاسم التي هي مادة الحياة كما يقول الأديب المستفسر فهذه المصانع قد أثبتت أن للحياة سراً غير سر المادة ولم تثبت أن الحياة كلها من المادة وإليها؛ لأن البروتوبلاسم الذي أخرجته المصانع لا يتغذى ولا يتجدد ولا يتحرك كما تفعل الخليقة الحية. فهو إذاً (بروتوبلاسم ناقصاً للحياة). . . وبقي السؤال قائماً كما كان: ما هي الحياة؟.
أيقول الأديب المستفسر إنه من فعل الزمن الطويل؟ لقد قال ذلك فعلاً حين قال إنه لا يبقى إلا الزمن لتشبه المادة المصنوعة مادة الحياة).
فمن الواجب أن نذكر هنا أننا نسأل: ما هي الحياة؟ ولا نسأل في كم من الزمن نشأت الحياة؟.
وهي سواء نشأت في دقيقة واحدة أو في عشرين مليون سنة شيء له حقيقة، فما هي هذه الحقيقة؟
على أن الزمن الطويل عنصر داخل في تركيب المادة التي نعرف ما بينها من الفروق والمشابهات.
فلماذا نعرف الفرق بين الحديد والنحاس وقد مضى على تكوينهما ألوف السنين، ولا نعرف الفرق بين البروتوبلاسم الحي والبروتوبلاسم الذي تخرجه المعامل ويصنعه العلماء؟
أقل ما ينبغي للعالم الذي يصون كرامة علمه أن ينتظر ويؤجل حكمه، لا أن يجرم بحقيقة شيء لا يعرفه ولا يستطيع أن يعلل الفرق بينه وبين غيره من الأشياء.
ومن الإدعاء البعيد أن يقال إن كشف الذرة قد وضع سر المادة في أيدي العلماء، أو قد(737/2)
خولهم أن يفسروا كل ظاهرة من ظواهر الوجود بالقوانين المادية
فإن أسرار الذرة قد صنعت نقيض ذلك على خط مستقيم، وقد عمدت إلى الحتمية للأسباب المادية - أو القوانين المادية - فعصفت بها عصفاً لم يستقر لها من بعده قرار.
وليس هذا الكلام مستمداً من مذاهب الفلاسفة أو مذاهب رجال الدين أو فروض الأدباء والهواة في المسائل العلمية، ولكنه مستمد من مباحث أقطاب العلم الطبيعي الذين أسسوا قواعد البحث في الطاقة الذرية وفي تركيب المادة وقوانين الإشعاع.
فالعالم الكبير ماكس بلانك صاحب نظرية الكوانتم التي بنيت عليها المباحث الذرية، وصاحب جائزة نوبل للعلوم الطبيعية في سنة 1918 يقرر أن حركات الكهارب لا يسيطر عليها قانون معروف، وأنك لا تستطيع أن تتنبأ عن اتجاه الحركة التالية لكهرب من الكهارب حول النواة، وهذا هو عنصر المادة الأصيل يغلب فيه القول بالمشيئة على القول بالحتمية المادية. فكيف يمكن أن يقال مع هذا أن كشوف الذرة قد أبطلت القول بالإرادة الإلهية ووضعت سر الكون كله في أيدي العلماء؟
إنها لم تضع سر الذرة نفسها في أيديهم وهي أصغر ما في الكون من مادة؟ فكيف تضع في أيديهم سر الكون كله وتنفي منه فرض المشيئة الإلهية التي تسيطر على كل (حتمية مادية) كان يدين بها العلماء قبل الآن؟
والعالم الكبير هيزنبرج متمم بحوث بلانك وصاحب جائزة نوبل للعلوم الطبيعية عن سنة 1932 يعلن نقض (الحتمية المادية) ويقرر أن التجارب الطبيعية لا تتشابه في النتيجة وإن اتفقت الأدوات واتفقت المواد واتفق المجربون. فكيف يقال إن (دور) المشيئة قد بطل كل البطلان ولم يبق للكون من أسباب غير ما يزعمونه من النواميس؟
والعالم الكبير إدنجتون من أكبر الباحثين في الكهرباء والطبيعيات يعقب على هذا فيقول (إنني لا أحسب أن هناك انقساماً ذا بال في الرأي من حيث تداعي الأخذ بمذهب الحتمية المادية. فإن كان هناك انقسام فهو الانقسام بين الآسفين لتداعيه والمغتبطين بتداعيه. والآسفون بطبيعة الحال يرجون له عودة ولا يستحيل أن يعود. ولكنني لا أرى سبباً لتوقع عودته في أي شكل وفي أي صورة).
وهؤلاء جميعاً علماء طبيعيون، وهم جميعاً مختصون بالموضوع الذي يحكمون فيه وهو(737/3)
تركيب المادة. بل هم جميعاً من مؤسسي البحوث في هذا الموضوع.
فأيسر ما يؤمن به الرجل المحقق بعد هذا أن المسألة جليلة مهولة بعيدة الأغوار، وأنها ليست من المسائل التي يفض فيها الإشكال بكلمة وتصرف الاعتراضات فيها بجلسة مريحة بين المحابر والأوراق أو بين المصانع والأنابيب.
وإذا كان هناك فرض أرجح من فرض في مجال المباحث العلمية الحديثة فذلك هو الفرض الذي يعزز الإيمان بالمشيئة الإلهية لأن هذا المجال قد رجع بأصل المادة كلها إلى الاختيار، ورجع بالقوانين المادية كلها إلى سلطان غير سلطان القوانين المدعاة.
فإن لم يكن ترجيح فليكن تريث وانتظار.
أما الجزم بالمزاعم المادية بين هذه الكشوف المتجددة فهو (إيمان مقلوب). . . لأن إيمان العجائز يقوم على أسباب أقوى من الأسباب التي يقوم عليها هذا الإيمان المقلوب. . . أو هذا الإنكار الجازم بلا أسباب!!
عباس محمود العقاد(737/4)
القسم الثامن:
فرنسا ومستعمراتها
الأمير عبد القادر الجزائري زعيم وأمير وجندي وقائد ثورة
للأستاذ أحمد رمزي بك
(إذا صقلت بارق سيفي)
(وأخذت بالفضاء يدي)
(رددت الانتقام على أعدائي)
(وفرضت القصاص عليهم)
نشيد موسى النبي في سفر التثنية
رأيت كيف تلقى العالم الإسلامي بوجوم أنباء الاعتداء الفرنسي على الجزائر، وكسف احتلت فرنسا السواحل والناس في شغل عن هذا كأن الأمر لا يعنيهم، فألقي عبء الجهاد على أهل الجزائر يقاتلون ويقتلون ويشردون، والقطر الجزائري ساحل ممتد الأطراف على مسافات شاسعة، فأصبح لكل مدينة على البحر جبهة قتال قائمة بذاتها.
ففي جبهة مدينة الجزائر، زحف القائد الفرنسي إلى الداخل واحتل مدينة البليدة وقدم أهلها الطاعة بين يديه، ولكن دعوة الجهاد والدفاع عن الوطن انتشرت بين القبائل في الجبال المحيطة فتجمعت الجموع وزحفت إلى القتال، وفي اليوم الثالث من احتلال المدينة اقتحمت قوات المجاهدين أسوار البليدة، وهزمت جنود فرنسا، فاضطر القائد العام أن ينسحب مع من بقي من جنده عائداً إلى الجزائر، حيث دعي إلى بلاده فآثر أن يعيش بأسبانيا، وجاء قائد آخر، أخذ يدبر الأمور لإتمام الاحتلال، تارة بالسيف وأخرى بالخديعة وبذل الوعود.
في هذه الأثناء اتجهت الأنظار إلى سلطان مراكش واجتمع أهل العقد والحل من سكان الجزء الغربي وأرسلوا وفداً إليه يطلبون معونته فأجابهم إلى مطلبهم وبعث بأمير من أولاد عمه، فلقيه الناس بالطاعة، ووصلت طلائعه إلى ناحية مليانة شرقاً، ولكن فرنسا أسرعت مكلفت ممثلها لدى البلاط الشريفي أن يحتج على هذا التدخل، فاضطر سلطان مراكش أن يسحب جنوده، وأن يستدعي ابن عمه إليه، ويترك أمر الجهاد لأهل البلاد.(737/5)
كانت الدعوة إلى الجهاد عامة يشعر بها الناس كافة من عرب وبربر، ومن أهل الحضر وأهل الجبال والبادية، وكانت الحرب في كل ناحية قائمة، ولكن كانت تنقص الدعوة والقيادة المنظمة التي تجمع الشمل وتنظم الجهود، وتحرك المشاعر، وتدفع هذه القوى الروحية نحو الغاية الكبرى.
ولقد شاءت العناية الإلهية أن تختار هذا القائد من جبهة وهران على الحدود المراكشية، ففي سنة 1832 قامت سرية من المجاهدين عقد لواؤها للسيد عبد القادر بن زيان، بحركة كشفية حول أرباض المدينة، وفي موضع يقال له خنق النطاح، التقت السرية بفصائل العدو، واشتبكت معها في معركة تعرضية، وفي اليوم التالي أدركتها حشود المجاهدين، فدخلت القتال متراصة زاحفة فانتصرت انتصاراً باهراً، وفر العدو منهزماً متراجعاً إلى مدينة وهران.
وفي وسط المعركة ظهرت مخايل النجابة والبطولة والقوة والفتوة على الشاب عبد القادر بن السيد محي الدين الذي ما انفك مع والده يحرض المسلمين على الجهاد ويبوئ المقاتلين مقاعد للقتال. كان في الخامسة والعشرين من عمره، وقد عرف الناس فيه الحزم والعزم والعقل السليم والصبر في القتال، فجاءت المعركة فإذا بالشجاعة وقوة البأس تظهران عليه، وهو يخترق الصفوف ويباشر القتال بيديه لنصرة دين الله. وبينما هو يخوض وسط المعمعة تحامل عليه فارس من فرسان فرنسا برمحه فإذا بالطعنة تمر تحت إبطه الأيسر، فشد عليه عبد القادر بعزمه وقوته وهوى بسيفه على الفارس، فإذا بالسيف يقطع كتف الفارس نصفين، فكانت آية من آيات الله تناقلها الناس وسرى ذكرها بينهم. . وتلقى جواده ثماني طعنات ثم أصيب بالرصاص تحته فنزل وترجل واستمر يقاتل في مواجهة العدو وهو على قدميه ثابتاً في مواقعه حتى جاء النصر من عند الله، وتقهقر العدو منهزماً لا يلوى على شيء، وبات المسلمون ليلتهم بين التهليل والتكبير.
هذه بداية القائد الشاب بطل الاستقلال الجزائري وصاحب المواقف الخالدة بين سنتي 1832 و1847، الذي تمثل في عبقريته عراك أمة وكفاح شعب يقاتل في سبيل مثله العليا والذي أمضى ستة عشر عاماً في الحروب لم يدع فيها القتال والتصادم والكر والفر دفاعاً عن حومة الدين وعن حرية الوطن الشهيد.(737/6)
ظهرت فيها صفاته وميزاته للقيادة والزعامة وضرب للناس مثلاً بتمسكه بالمبادئ والأهداف التي قام من أجلها، فأسبغ عليها عملاً متواصلاً لا يحيد عنه ولا يرجع، وبرزت نفسه القوية التي لا ترهبها الأهوال والنكبات ولا تغيرها الانتصارات المتتابعة ولا تنقص من حماسها النكبات والهزائم.
ستة عشر عاماً من المعارك المتواصلة لا تتخللها فترات قصيرة من السلم والراحة أفردها للتنظيم والإنشاء والدعوة إلى الله والعمل لبناء دولة ناشئة ألقيت أعباؤها عليه بأكملها، إذ واجه مشاكل السياسة مع مصاعب الحروب، وعالج الهزائم والدسائس، بنفس عالية فيها قبس من أخلاق السلف الصالح وفيها تلك النواحي القوية التي أفرغها الإسلام على قواده وزعمائه من قوة أمام الأخطار وصلابة في الحق وتمسك بالعروة الوثقى، مع تواضع وصبر على المكاره وحوادث الزمن.
كان هذا في وقت عصيب واجهت فيه الجزائر أكبر محنة في تاريخها يوم دعيت وحدها للدفاع عن أراضيها، ويوم ضعفت النفوس وتفرقت القوى، وبين عناصر متشاحنة وقبائل متنافرة وهنا ظهرت شخصية عبد القادر كمنشئ دولة، وقائد جيش، وزعيم أمة.
إن عظمة عبد القادر لا تظهر في انتصاراته وحدها وإنما في تغلبه على متاعبه وفي شجاعته وسط الهزائم والدعوة إلى الانشقاق والخيانة وفي مواجهة دعاية الويل والهزيمة، وزمرة المنافقين والمطففين ومن لازمهم، هنا تعلو حيوية عبد القادر على الحوادث حينما نراه مجاهداً لا تهمد عزيمته وسط الأخطار وأمام مكائد العدو والبحر مغلق أمامه والعالم الإسلامي يغط في نومه، فلا يخفف عنه إلا ذكر الله والدعوة إليه وإيمانه بأن إرادة الشعب الجزائري قد تمثلت في إرادته وأن الله قد اختاره لعمل كبير هو إنقاذ هذه الأمة وقيادتها إلى الجهاد في سبيل الله.
تقلب صفحات تاريخه وتسمع أقوال الخصم عنه وتنصت لنظمه وشعره وتقرأ رسائله فتلمس رجلاً قد أوتي حظاً من الإيمان والثقة بالله مما جعله فوق المستوى العادي للرجال. كان ممن اختاره المولى جل وعلا لعمل خالد فقد كان يعلم بأن أمامه دولة قوية قد أفرغت في القتال كل قوتها وصممت على فتح بلاده واستعانت بما أخرجه الفن والعلم في الحروب وقد خرجت من تجارب حروب ومعارك، ومع ذلك وقف وقفته وكان يشعر بأن أعداءه في(737/7)
داخل بلاده لا يقلون خطراً عن أعداء الوطن، فتقبل بالرضا حكم الأقدار وقاد بلاده هذه السنين وهو واثق من نفسه لا معين ولا حليف له ولا أمل لديه إلا همة السيوف التي خرجت من أغمادها ووقفت معه.
نعم في وسط المكائد والهزائم والدعوة إلى الهزيمة تعلو قوة عبد القادر فتخلق من الهزيمة قوة وتدعو إلى الله وتعمل على جمع الشمل فيقود الأمة الجزائرية إلى كفاح طويل إلى المجد.
ذلكم هو بطل الاستقلال الجزائري وأول مسلم تلقى بصدره حلقات الهجوم المضاد الذي شنه الغرب علينا لانتزاع أراضينا.
حينما أكتب عنه أستعيد ذكرى حادثين أثرا في حياتي، أما الأول فصورة زيتية للأمير عبد القادر رأيتها في السوق الخيرية التي أقيمت بحديقة الأزبكية لنصرة المجاهدين من أهل طرابلس لما اعتدت إيطاليا على أراضيهم، رأيته على جواده وقذائف المدافع تنفجر من حوله فوقفت مأخوذاً وكنت في العاشرة فإذا بصاحب المؤيد المرحوم الشيخ علي يوسف يحدثنا عن بطل الجزائر؛ ومن ذلك اليوم انطبعت في نفسي صورة القائد الزعيم وحرصت أن أقرأ عنه وأتعرف إلى معاركه وأيامه.
أما الحادث الثاني فيوم وقفت على قبره تحت قبة سيدي محي الدين بن عربي بمدينة دمشق، لقد كان الشوق إلى زيارة الضريحين شديداً طوال سفري من أنقرة، ولما تم اللقاء وقفت أمام هذا القبر استمطر الرحمة على بطل الاستقلال. ومرت أمامي صفحات الجهاد وأسماء البلاد: الجزائر، وهران، قستنطينة، تلمسان، المعسكر، مستغانم، البليدة، مليانة، وذكريات المعارك الخالدة في رأس العين وخنق النطاح ووادي الزيتون وغيرها من مواقفه.
وفي باريس صورتان كبيرتان تمثلان عراك الأمير وجنود فرنسا تقتحم الصفوف أعرفهما: قيل أن الأمير وقف أمامهما عند زيارته للعاصمة الفرنسية وقال أراكم تمثلون جنودنا منهزمة، فهلا نظرتم ورسمتم المعارك الكبيرة التي ولى فيها جنودكم الأدبار؟
وفي قصر العجزة حيث متحف الجيش الفرنسي نجد الآثار والأعلام والأسلحة من بقايا حروب عبد القادر لقد كنت ألمسها ثم أقبل يدي التي لمستها وأنحني أمامها وأقول هل(737/8)
أعيش لأرى الجزائر وقد خلعت استعبادها وأسمع أناشيد الأمير من مقصورته اليائية ترتل في مدارس القطر الشهيد:
ونحن لنا دين ودنيا تجمعا ... ولا فخر إلا ما لنا يرفع اللوا
وإنا سقينا البيض في كل معرك ... دماء العدى والسمر أسعرت الجوى
أريد أن أشرح معاركه وأكتبها ليقرأها أبناء مصر العربية ويروا آيات المجد والبطولة ولكن الزمن يسير بخطوات سريعة، وأريد أن أحدثهم عن يوم تجمعت فيه أحكام القدر فألقى البطل سلاحه واستأمن للخصم على أن يذهب للإسكندرية فحنثت فرنسا بأيمانها ومواثيقها وعهودها وقادته أسيراً إلى فرنسا حيث أمضى مع والدته العجوز وأهله خمس سنوات في الأسر يحن فيها إلى البلاد التي أراد دفع الشر عنها، ثم أطلق سراحه فإذا طريقه إلى دار الخلافة حيث يلقى السلطان عبد المجيد العثماني، وبعد إقامة يسيرة في بروسة، يذهب إلى دمشق، وهناك يعيش حتى يرقد رقدته ليترحم عليه محبوه. أما أنا فقد قرأت حين وقفت على ضريحه قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا، وما استكانوا، والله يحب الصابرين). آل عمران
ذلك لإيماني أن أمة تنجب عبد القادر لن تموت بل ستبعث بعثاً يهز الأرجاء؛ لأن الدرس الذي ألقاه علينا كان درساً يحرك النفوس ويدفع للعمل لقرون قادمة: إنه قوة من قوى الذات الإلهية التي بعثها لخير الناس، ولما خطه تعالى في سجل القدر من أن تحيى الأمة الجزائرية لتعود إلى أيامها الأول، أيام المرابطين والموحدين.
أحمد رمزي(737/9)
على ثلوج (حِزْرين)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 4 -
انطلقت إلى (الصخرة) حين لم تجد في دنياها كلها، أحنى عليها منها، وأروح لقلبها. لقد كانت ملاذها والحبيب راض مواصل، والقصر عامر زاهر، أفلا تكون مثابتها وقد غضب الحبيب، وأقفر القصر، ولم يبق لها في الوجود غيرها؟
ولمن تلجأ وقد فقدت صدر الأب الذي كانت تهرع إليه كلما دهتها من الحياة دهياء لم تستطع احتمالها، فتخفي وجهها فيه، وتبثه شكاتها ألماً خفياً، ونشيجاً خافتاً، فيمسح دمع عينيها، ويرقأ جرح قلبها، ويرجع إليها سكينة النفس، وفرحة الحياة. وفقدته إلى الأبد، حين احتوته تلك الحفرة الضيقة على شفير الوادي؟
ولمن تلجأ وقد أغضبت الحبيب، الذي نما حبه في فؤادها، وخالط لحمها وعظمها، ونشأت عليه، وعاشت به، وكانت منبع ذكرياتها، ومجمع آمالها، وغذاء روحها؟
ولمن تلجأ وما في القصر ملجأ ولا ملاذ. . . لقد أقفر من بعد سيده، وضل طريقه إليه المجد، وانصرف عن أبوابه العافون والزائرون، حين انصرف عن مطالب النيل إلى مطارح الهوى ومشارب الخمر، سيده الجديد.
انطلقت إلى الصخرة، وقد علمت لما تيقظ في نفسها الحب أن كل ما في الدنيا من متع المال ونعم الغنى، هو للمحب كأحلام النائم، لا يجد في يده إذا صحا حبه شيئاً منه، وأنها كموائد الرؤى يفيق الرائي فلا يلقى لها في معدته أثراً، ولا في جوارحه خبراً وماذا يفيد العاشق فَقَد الحبيب أن يخطر بغالي الثياب، وأن يأكل أطايب الطعام؟ وهل تدفئ الثياب قلباً فيه رغبة إلى دفء القلب المحب؟ وهل تشبع الموائد نفساً فيها جوع إلى ثمار الثغور، وظمأ إلى رحيق اللمى؟.
ولقد علمت الآن أن صخرة منقطعة مع الحبيب أجمل من قصور الأرض، وساعة معه أطول من سني الدهر، ونومة على فخذه أحلى من نوم على وسائد الحرير بريش النعام على سرير الذهب وشمة منه واحدة أطيب من انتشاق العطور، وأن خفقات قلبه عند العناق أعذب من رنات العيدان، وعبقريات الأغاني. . .(737/10)
ولما دنت من الصخرة نعش نفسها نسيمها، وشفاها مرآها وأحست بعد حياة (الحضارة. . .) في عاليه، أنها كالغريق يخرج من الماء وينشق الهواء، ونظرت إلى قصر فارس أفندي فلم تره إلا نقطة ضائعة في هذه السفوح التي تمتد وكأنها لا آخر لها حتى تتصل بالبحر ثم يصلها البحر بالسماء. . . فأحست أن قد صغر مكانه في قلبها كما صغر منظره في عينها، ولم تعد تذكر إلا أماسي الحب وليالي الوصل، عند هذه الصخرة التي قدسها الحب
ووجدت هاني قائماً، فأسرع إليها وأسرعت إليه، وألقت بنفسها بين ذراعيه، ما أحست وسخ ثيابه، ولا شمت قبح ريحه إذ لم يدع لها الهوى أنفاً يشم، ولا عيناً ترى. . .
وسكرت من رحيق الغرام، وخيل إليها السكر أن لها هذه الدنيا كلها التي تبصرها تحت قدميها، وأنها أسعد فتاة فيها. وأنها قد أمسكت بكفها الأماني، وقبضت على الأحلام. . .
فانتصبت والهواء ينثر الحرير الذهبي من شعرها، ومدت يديها وصاحت نشوى:
- املأ يدي من (أزهار الجبل)
فراح يقطفها ويملأ منها يديها.
وهبط الليل رفيقاً حانياً، فأحاطهما بذراعي أم حنون وردَّ عليهما كل همسة حب كان قد سمعها منذ مر على الدنيا، وكل وسوسة قبلة وطلع الهلال رقيقاً زاهياً فعرض عليهما كل مشهد غرام رآه منذ ولد القمر، وكل منظر هوى؛ فل يجدا في حديث الليل، وصور القمر، إلا تاريخهما هما، وقصة حبهما، وأفقر قصة في الحياة قصة الحب، فهي تتكرر دائماً بمشاهدها وفصولها، لا يتبدل فيها إلا أشخاص الممثلين.
قصة ألفها هذا الطفل الجبار فضاق به الخيال، وقعد به العجز، فلم يستطع خلال ألف قرن من الزمان، أن يزيد عليها شيئاً أو ينقص منها شيئاً، فهي تمثل في غابة بولونيا وفي مسارب هايدبارك كما كانت تمثل في مغامرات سرنديب، وكهوف بابل.
وهو أبداً يعبث بالمحب ويسيّره على هواه، ويضيق عليه دنياه حتى يجد صدر الحبيب يسند إليه رأسه أوسع من رحب الفضاء وأفسح من جو الأماني، ويسوّد عليه عيشه فلا يبيض إلا أن بدت فيه طلعة الحبيب، ويزهده في المجد والجد، فلا يجدّ إلا لوصوله إليه، ولا يرى مجده إلا في رضاه عنه. . . حتى إذا ملّ العبث، عاد فنام. . .
وعادت ليلى إلى القصر وقد نام الحب في صدرها كرة أخرى واستيقظت فيه شياطين اللهو(737/11)
والترف. . . وجاء أسعد يزورها واشتهت أن تلبس الثياب التي أهداها إليها. ما آثرت جمال الثياب على متع الحب، ولكنها كانت كالغني يأكل الحلوى حتى يشتهي الزيتون، ويسكن القصر حتى يستحلي الخيمة، ويركب السيارة حتى يتمنى ركوب الحمار. . . هذه هي النفس البشرية، يطغيها الغنى وينسيها لذةَ النعمة وجودُها، ولا تعرفها إلا عند فقدها. .
لبست الثياب ونظرت في مرآتها، ومرآة الحسناء من أدوات شيطانها، فرأت في مكانها فتاة من فتيات بيروت، وأعجبها جمالها وهذا الصدر البادي إلى سفح النهدين، وملتقى الثديين، وذراعاها إلى الكتفين، ونظرت إلى ثيابها الجبلية التي نضتها عنها، والتي تستر كل شيء إلا الوجه، كما ينظر المرء إلى دودة كانت عالقة به وتخلص منها، وأحست في نفسها الشوق إلى الإطراء الذي ألفته في (عاليه) أذناها، وترقبت قدوم أسعد، واستطالت الوقت في انتظاره. .
ثم رأته يفتح الباب ويدخل، فتهيأت لاستقباله ونظرت فإذا القادم هاني. .
وعاد الخصام ولكنه كان شديداً عنيفاً هذه المرة. . قال لها:
- ثقي يا ليلى أنك لا تحبينه، وإنما تحبين مظاهر الترف
- قالت: وأنت ما شأنك بذلك؟ ولماذا تدخل نفسك فيما لا يعنيك؟. .
وامتد الجدال وأطلق لسانه في أسعد.
- فصاحت به: هو خير منك على كل حال. إنه خير ممن يسأل الصدقة بيد قذرة. .
خدعتها ظواهر الحب الناعمة فنسيت الرجولة الخشنة الكامنة وراءها، فلم تقدرها ولم تحسب حسابها، لعبت بالقنبلة لما غرها بريقها ولمعانها، فلمست زرها فتفجرت، ولقد انقلب لما سمع هذه الكلمة من سبع الملعب (السرك) الأليف، إلى أسد الغاب الضاري، لم يعذرها، ولم يضع نفسه في مكانها فينظر ماذا يصنع وهو في مثل حالها النفسية، وهاله أن تترفع عنه وكان يراها مثله، لم يجد نفسه دونها لأن الحبَّ سوّى بينهما، والحب (مذ كان الحب) مظهره البذل وحقيقته الأخذ، ورداؤه الإيثار، وجسمه الأثرة، وكان يحتمل منها كل شيء، إلا أن تمسّ رجولته، كالمرأة تحتمل من الرجل كل شيء إلا أن يحقر جمالها وأنوثتها، ولم يعد يرى أمامه الفتاة التي ألبسها حبه ثوب الملَك، وحوّطها بهالة التقديس ورآها مثال الجمال وغاية الآمال، ولكن امرأة من النساء تهينه، وهو الرجل المعتد برجولته، وهو الذي(737/12)
لم يحمل المهانة من أخيها إلا حباً بها، واشتعل دمه ناراً، وجنّ قلبه في صدره، وأراد أن يتكلم فشعر كأن لسانه قد وقف، وحلقه قد جف، ولم يع على نفسه إلا ويده ترتفع وتهوي على وجه ليلى بلطمة دوّت في أذنيه كأنها طلقة مدفع، فصحا فجأة، وهاله ما فعل، فانطلق هارباً إلى الإسطبل، وخلا بنفسه يفكر فيما صنع.
لقد أفرغ غضبه في هذه اللطمة فلم يبق في قلبه إلا الحب، وما يتبع الحب من تقديس؛ فكيف فعل هذه الفعلة؟ وهل فعلها حقاً؟ هل لطم محبوبته التي يشتري اللمسة منها بالحياة، ويدفع عنها بروحه مسّ النسيم، وشعاع الشمس؟ أيكسر الوثني صنمه، ويبصق المجوسي على ناره؟
وصارت يده أكره شيء إليه، هذه اليد التي هدمت مستقبله، وطوّحت بأمانيه. وملكته نوبة هياج، فضرب يده بالنافذة، فحطم زجاجها، وأطار شظاياها، وغسل كفه بالدم
قالت العجوز:
وسمعت الضربة فأسرعت إليه، وقلت له:
- ما هذا؟ ماذا صنعت بنفسك؟
وخرجت لآتيه بضماد، وإذا أنا بليلى، تدخل عليّ بثياب المدنية، متوثبة فرحى، تقول:
- اسمعي، اسمعي البشارة. . .
- قلت: أي بشارة؟
- قالت: لقد خطبني، إنه سيتزوجني.
- قلت: من؟
- قالت: أسعد، لقد أعلن عن خطبته لي الآن، وقال: إن أباه موافق وأخي. . .
- قلت: وهل تحبينه يا ليلى؟
وسكت، وحبست أنفاسي في انتظار جوابها، لأني أعلم أن هاني يستمع إليها، فأحببت أن أكرها بحبها. ولكن الحمقاء اندفعت بلا وعي، تصيح:
- إنني أحبه، أحب الأرض التي يمشي عليها، أحب الهواء الذي ينشقه، أحب. . .
وسمعت الباب يصفق. . .
- قالت: ما هذا؟(737/13)
فلم أشأ أن أخبرها، وتريثت وسألتها:
- أتحبينه أكثر من هاني؟
فتنبهت كأنها كانت في حلم وأفاقت منه على الحقيقة، وتصورت حياتها بغير هاني فلم تجد فيها شيئاً جميلاً ولا بهياً، وهل الحياة إلا الذكريات والآمال؟ وهل لها ذكرى حلوة إلا معه، وهل لها أمل إلا فيه؟ وإذا هي تركته وتزوجت أسعد فهل يترك حبه قلبها؟ هل يذهب من ذاكرتها، ألا تذكرها به صخرة الملتقى كلما نظرت إليها، والليل كلما اشتمل عليها، والقمر الذي كان يرعاهما، والسماء التي كانت تصغي كواكبها لنجواهما، والبحر الذي كانت تستمع أمواجه إلى أحاديثهما، والتلول والوهاد، والنسيم العليل؛ والثلج وأزهار الجبل.؟
والتفتت إليّ فجأة، وقالت:
- كلا، لست أحبه، أحب هاني. إن هاني هو حياتي، إن الفقر معه هو الغنى، والجوع معه هو الشبع، والسجن معه جنة الأرض.
- قلت: فلم إذن، زعمت أنك تحبين أسعد؟ لقد سمع هاني منك تلك الكلمة، وفتح الباب، وألقى بنفسه يائساً في خضم الليل. . .
- قالت: ماذا؟! أسمعني هاني؟!
وشخصت لحظة وجمد تفكيرها، فما يسيل، ووقف عند هذه النقطة فما يتحرك.
أهي تحب أسعد؟
فما هذه الكلمة التي نطق بها لسانها في غيبة قلبها، وزورها على نفسها تزويراً؟:
أهي تحب أسعد؟ وماذا بينه وبينها؟ ما يربطه بها؟ وهل تنسى هاني وعهود الطفولة؟ ألم ترضع هواه مع اللبن وليدة وتنشأ عليه؟ ألم تسلك معه طرق الحياة سهلها ووعرها؟ ألم تأكل معه على مائدة الحياة خيرها وشرها؟ أفتهدم سعادتها كلها بكلمة رعناء. . . أنفخة في الهواء تقتلع صرحاً ممرداً ثابت الأساس، رفيع الشرفات؟
ووثبت إلى الباب، ففتحته واقتحمت الظلام.
وكانت ليلة قارسة البرَد، عاصفة الريح، جنت فيها الطبيعة فهي تضرب بيديها، وتنثر البرد والثلج، وتلطم الوجوه والبنى. فخرجنا وراءها نناديها. . . وهي تعدو متحدرة، تثب على الصخور وتقفز إلى الأعماق، تنادي: هاني. هاني. فيضيع صوتها في عويل الرياح،(737/14)
وعزيف العواصف، ثم انقطع الصوت وخفي الشخص، وضاعت منها، فلم نجدها. . .
ورأينا أخاها مقبلاً سكران، فخبرناه، فقال:
- سأشرب كأساً أخرى على هذه البشرى، وقهقه كأن إبليس يضحك بفيه، وأمَّ القصر، ولبثنا نفتش حتى بدا الصباح فإذا هي ملقاة في حفرة، وقد علاها الثلج، فتعاونا حتى حملناها إلى دار أسعد في عاليه، لتلقى ناساً يعتنون بها، وطبيباً يداويها. . .
أما هاني فلم يعد ولم نسمع عنه خبراً. . .
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي(737/15)
العيد!
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
تمر أيام العام مسرعات والناس في شؤونهم الخاصة من زحمة العيش وتلمس الرخاء، والضيق والرغبة في الفرج، والسقام وأمل الشفاء، ويأتي العيد فيكون بين المعيد ووسادته ليلة العيد حديث ونجوى؛ فبين معيد ووسادته من ثورات النفس ودوار الرأس وجهد الخاطر الكليل ما بين معيد ووسادته من بسمة الأمل وهشة الرجاء وتطلق الوجه. ولقد تنحبس العبرة طول العام من نكبة نازلة فلا ترسل إلا في مقدم العيد مطلقة غير مقيدة، فتأخذ في العيد روعة وشكلاً ليسا من شأنها ولا من شأن الأيام الأخرى. وهكذا تصبح جهشة العيد جهشة مزلزلة، وتغدو دموع العيد جد حرار. ولقد تبقى البسمة خامدة كابية طوال العام أيضاً لا ترى ما يرسلها مجلوة مشرقة حتى يأتي العيد، فإذا البسمة تاج على الثغر - كالجديد من الأكسية - تتحدث للوسادة عن النصر الذي أُحرز، والعمل الذي أُنجز
هذه بسمة العيد ليست من ابتسامات العام، وهذه جهشة العيد ليست من دموع الحول، إنما هي في الحالتين محصّل ما في العام كله من شدة ورخاء، وعذاب وهناء، وعزة وشقاء، تجتمع في العيد كما تجتمع أضغاث المنى على الثغر الحالم، وأضغاث المال في ثوب جديد وكساء جديد، كذلك مشاعر النفس وأضغاث خويصاتها تتجمع لتبرز في العيد في فرح جديد وحزن جديد.
وضجعة الإنسان ليلة العيد وسهوم فكره، واتساع مخيلته وشرود ذهنه، تتسع وتقصر، وتكبر وتضيق، بمقدار ما توافر لديه من أسباب وعلل تجتمع كلها في حقيقتين أساسيتين فيهما جواب هذا التسآل الذي يدور على الخاطر ويلم بالنفس: وهو لماذا تتطرى نفس وتبتهج للعيد، وتأسى نفس وتضيق له، وتذرف فيه الدمع ويحلو لها الصمت والأشجان؟
تتسع مادة الحوار بين المرء ووسادته ليلة العيد بسعة الجواب على هذا السؤال. والواقع أنه سؤال في منتهى الوجاهة وخفة الظل: لماذا تأسى نفس وتفرح نفس وليس بين النفسين إلا قربى وأوجه شبه. . . هذه نفس تذرف الدموع، وهذه نفس توزع الابتسام؟
العيد يفرض على المعيدين مشاعر خاصة هي التي تعلل هذه الظاهرة. . . ظاهرة الحزن الجديد والفرح الجديد. . .(737/16)
العيد يقوم من جهة بدور العدسة المكبرة تتراءى ما بعدها من المرئيات كباراً غلاظاً باذخة الأطراف شامخة الهامات، ويقوم العيد من جهة أخرى بعقد مقارنات سريعة عاطفية بين المرء والمرء وبين المرء ونفسه، فمقارنة بين خائب ومصيب، وبالغ ومقصر، ومقل ومكثر، وغني وفقير، وجائع وشبعان، تنتهي بهذا الإحساس الذي نحن بصدده من الشعور
يصاب الإنسان بما يصاب به من لغوب هذه الحياة وعثائها، فإذا واتى العيد، وكانت النعمة التي لديه لا تزدهيه في سائر الأيام ازدهته في ذلك اليوم، لأنه ينظر إليها من خلال العيد فيراها كبيرة باذخة فيرتاح إليها ويبتهج، أما إذا كان بين العيد والمعيد حزن وألم، فإن هذا العيد لن يُرى صاحبه إلا ألماً كبيراً.
أما المفارقات، فأمرها أشد ووقعها أمض، مقارنات يعقدها العيد بين شخص وشخص، وبين شخص ونفسه، في زمنين مختلفين، هذان أليفان آض ما بينهما كلاماً في غير دقة، وسلاماً في غير رقة. وهذه قلوب كانت تحن، فأضحت تئن. وهذه مسكينة كانت في العيد السالف في كلاءة أبوين، فصارت في هذا العيد سطراً في كتاب اليتم. . . وهذه أم كان لها في العيد السابق فتى يملأ دنيا أحلامها بأشتات المنى فاحتسبته وأقامت تندب ذكراه. وهذا أب اغتالت المنية وحيده فتركته لا يقدر على شيء، وهذا فتى في ميعة الصبا كان وثيق التركيب جميل المظهر، ولكن العيد وجده في مخالب المرض ينفث نفسه وينتظر رمسه. وهذه أمة كانت بالأمس الدابر تملأ حيزاً وكاناً ينظر إليها الناس أُمة فأصبحت أَمَة. . . كل هذه مقارنات يأتي بها العيد بين شخص ونفسه في زمنين مختلفين تملؤها غصة وشكاة ودموعاً.
ولقد تكون المقارنة بين شخص وشخص، فينظر الطفل الفقير وقد عرف الفقر وعرفه طوال العام، ينظر إلى الثوب المتواضع الذي أنفقت فيه أمه جهد شهر في الخدمة. . . ويقارنه بالثوب المترف الفاخر الذي يرتديه غيره من الأطفال فيستشعر لأول مرة في العام خفقة الألم. وينظر الجائع وقد عرف الجوع وخبر بلواه إلى الشبعان الذي عرف التخمة وخبر بلواها، فيناله من مقارنة العيد ألم جوع وألم غضاضة، وينال الآخر لذة شبع ولذة مكاثرة!
وينظر اليتامى في الملجأ إلى هياكل أجسادهم ومعدهم، وقد كانت ثياب هذه الهياكل طول(737/17)
الحول قطعاً من فضل المحسنين، وهذه المعد طول العام وعاء للخيرات. . . ولكن العيد يرسل إلى هؤلاء مقارنة بينهم وبين سواهم ممن رداؤهم قطعة واحدة من يد محسنة واحدة، فتأسى الأنفس وتذكر في سبيل المقارنة ما فاتها.
هكذا تتقد اللوعة، وهكذا تزداد الشكاة في العيد، وأولئك الغلف قلوبهم لا يعلمون أن في الناس من يذوق طعم الموت وهو حي. وهكذا يجد الواحد منا كيف تتعاقب الأيام بالسراء والضراء فيفيد من هذه وهذه أن الأمور لا تقيم على حال، وأن وراء الشدة رخاء، وبعد العناء عزاءً، وأن العبد إن أساء فقد يحسن، وأن الصبر أجدر من حلم ضائع ورشاد سليب وفؤاد هواء، ثم يجد الواحد فوق ذلك - وقد خبر النعمة والنقمة - كيف يسلف اليد المحسنة والمساعدة المسعفة، وينتزع من أحاسيس نفسه وخلجاتها ما يشغف به القلب الذي أضاع الشغاف، والفؤاد الذي برحت به النوب وتخارمته الأوصاب، وكل إحسان في العيد عيد في الإحسان، فالمصافحة والابتسامة والقبلة والدرهم وبطاقة العيد والهدية والزيارة والتفقد والتسآل وعيادة المريض والإشراف على موطن الألم من المتألم، وكفكفة دمعة الباكي ومسح رأس اليتيم كل أولئك كجرعة الماء في المهمه الفقر. . . وإن كانت ماء فهي لذى غلة به إليها تحنان، وله إليها تشوف ونزوع؛ وهي في مفهوم الصحراء المهلكة ذهب وفضة وخيل مسومة وأنعام وحرث. والقلوب بالغة ما بلغت من الاختلاف والتمايز لا يؤلف بينها ولا يجمع شتاتها ولا يجعل منها وحدة رصينة مثل رباط المشقة وصلة المشكلة، فلقد يصرف في سبيل توثيق صلة من صلات الود ما يصرف من وقت ومادة. ثم لا تتوثق هذه الصلة كما تتوثق أخرى لم يصرف فيها إلا تفقد وتسآل واشتراك في محنة. . وهذا العيد يتيح هذه الفرصة ويمكن لمن يريد أن يشتري قلوب الناس. أن يشتريها بأثمان بخسة لا يستطيع أن يحصل عليها في الظروف الاعتيادية، لا تفي هذه الفرصة إلا مرتين في العام توضع فيهما هذه القلوب البشرية الخفاقة بالمزاد العلني يشتريها من كان لديه المال الكافي من العطف والرعاية والحنان، وإنه في الحق لنصيب عظيم أن تشتري قلباً بابتسامة وقلباً بتفقد وقلباً بمصافحة وقلباً بهدية وقلباً بدمعة وقلباً بزيارة. . . وهذه القلوب مهما ضعفت ومهما كانت ذاوية نحيلة، ومهما كانت منذرة بالفناء فهي تدوم على الأقل خفاقة للعيد القادم يوم تعرض قلوب جديدة بآمال جديدة وآلام جديدة تبتغي شارياً جديداً(737/18)
بعطف جديد وهكذا. . .
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
هذا نداء يجسمه العيد. . وفي الطوق والإمكان أن يلبيه كل ذي كبد فيعود بكبد صحيحة وكبد مصححة يبسم لها لأنه صححها وتبسم له لأنها تعترف بالفضل، وما بين الابتسامتين من معاني الجمال ما لا يقوم له شيء ويعود معنى. . .
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروح
معنى جديداً كالعيد الجديد بين كل اثنين من المعيدين مؤاداه:
كلي بكلك ممزوج ومتصل ... والحادثات التي تؤذيك تؤذيني
ليكن مقياس العيد مقياساً أكبر من مقياس المادية. . فلا تقل وقد أدبر العيد كم ثوباً جديداً لبست، بل قل كم قلباً اشتريت، وكم كبداً صححت، وكم ثغراً بالابتسام ملكت، وكم دمعة حارة من دموع العيد كفكفت. . فذلك أقمن بالإنسانية وأدعى للفخر وأجلب للبهجة وأكثر اتساقاً مع معنى العيد.
منيبة الكيلاني(737/19)
حول التنويم المغناطيسي
للأستاذ أحمد فؤاد الأهواني
1 - يذكر التنويم المغناطيسي محاطاً بالغموض والإبهام. فهل هو علم ثابت الأساس، أم شعوذة وإيهام؟ وما مدى اتصاله بعلم النفس.
2 - هل هناك من خطر في تعلمه. وإن كان هناك خطر فما هو؟ وهل يتعارض والدين؟
3 - ألا ترى أنه يعصف باليقين بنتائجه الخارقة المدهشة؟
(ج. ع. م)
كوستي السودان
التنويم المغناطيسي ظاهرة طبيعية لا تعد من الخوارق، فهي كالنوم الطبيعي، إلا أن النوم المألوف يحدث من الإنسان لنفسه والمغناطيسي يحدث بتأثير شخص آخر. ويسمى النائم في عرفهم (الوسيط) إذا كان متصلاً بالمنوم اتصال تجارب وعمل. ويتم النوم المغناطيسي بشروط، الشرط الأول قابلية الشخص أو الوسيط للنوم، إذ ليس كل شخص قابلاً للنوم المغناطيسي. ومما يذكر في هذا الصدد أن المشتغلين بالتحليل النفساني ونعني بهم فرويد ومدرسة شاركو في فرنسا بدءوا حياتهم الطبية في العلاج بطريقة التنويم المغناطيسي، ولكنهم عدلوا عنها لأسباب منها أنه ليس جميع المرضى يخضعون للنوم، ومنها عدم جدوى هذه الطريقة
وهناك بعض الناس يسهل تنويمهم وخضوعهم، وهؤلاء يكونون خير وسطاء.
وأول من اهتدى إلى التنويم المغناطيسي هو العالم (مسمر) وكانت تسمى طريقته بالمسمرزم نسبة إليه. واشتهر أمره في القرن الثامن عشر، واختلف الناس في أمره، وافتتنوا بأعماله، فكلفت الحكومة الفرنسية العالم الكيميائي لافوازييه أن يبحث هذه الظاهرة العجيبة في ضوء العلم. واستمر افتتان الناس والعلماء بهذا الفن حول قرن من الزمان حتى أصبح مألوفاً وعرفوا أنه لا يثمر نتيجة في العلاج من الأمراض العصبية، فانصرفوا عنه في أواخر القرن الماضي كما ذكرنا، وأخذوا بطريقة التحليل النفساني.
والشرط الثاني استعداد المنوم وقوة تأثيره، وهذا الاستعداد منه طبيعي موهوب، ومنه(737/20)
صناعي مكسوب: ويكسب المرء قوة التأثير بتدريب نفسه في إلقاء الصوت النافذ الذي يشبه الأمر الصارم، وفي حدة النظر، وحسن الهندام، وبالجملة اكتمال الشخصية في جميع نواحيها بحيث تصبح قوية، فما لا يتسع المجال لتفصيله. . .
والشرط الثالث المعرفة بالأساليب الصناعية في التنويم، كالجلسة الخاصة، والوقفة المناسبة، وتوجيه النظر بالعين أو بالكرة المغناطيسية، وإحداث السحابات المغناطيسية وهي المرور باليدين من أعلى إلى أسفل بالقرب من جسم الوسيط مبتدئاً برأسه.
واعلم أن التنويم المغناطيسي يحدث حولنا دون أن ننتبه إليه ودون أن يعرف المنومون والمنومون ماذا يجري منهم. فالأم تهدهد طفلها، وتربت على جسمه بيديها، وتغني له وتأمره بعد ذلك بالنوم فينام. وكثيراً ما تلاطف قطة في دارك، فتهدأ، وتغمض عينيها، وتخضع لك مادمت تمر بيدك على جسمها. ولهذا كان من الجائز وليس من الغريب تنويم الحيوان. وقد رأيت في السينما ذات مرة شخصاً ينوم دجاجة بأن يجمعها على الأرض ويخط أمام منقارها خطاً مستقيماً فإذا بها تذهب في النوم.
وللنوم درجات أعلاها التخشب
وهم يدربون الوسطاء على قراءة الفكر وهي ظاهرة مألوفة معروفة، فينقل المنوم ما يريد من أسئلة إلى الوسيط كما ينقل إليه الإجابة أيضاً. وهؤلاء هم طائفة المشعوذين الذين يوهمون المتفرجين أن في مقدرة الوسيط أن تسبح روحه في عالم الغيب فيطلع على المستقبل المخبوء ويعرف أسرار الناس وما تخفي الصدور. وهذا كله وهم وخداع، إذ ليس في قدرة الوسيط أن يعلم إلا ما يعلمه له المنوم وينقله إليه.
أما النظرية القائلة بأن التأثير الحادث في التنويم المغناطيسي يرجع إلى اتصال الروح بالروح، فهي نظرية لم يقم عليها دليل ثابت أو برهان قوي يرغم على الاعتقاد به، أما النظريات التي يأخذ بها العلماء المتثبتون إلى أن يظهر ما يبطلها أو يكون أقرب منها إلى التفسيرات العلمية، فهي أولاً صدور (سيال) مغناطيسي بين المنوم والمنوم، ولم يصلوا إلى كنه هذا السيال ولهذا عدل عن الأخذ بهذا التفسير جمهرة العلماء. ونظرية ثانية حديثة تشبه المخ البشري كأنه (بطارية) كهربائية، أو كجهاز الإرسال والاستقبال مثل المذياع، فكأن ما يحدث بين المنوم والوسيط هو تبادل الرسائل على أمواج الأثير. وأنا شخصياً(737/21)
أميل إلى الأخذ بهذا التفسير.
ولا نزاع في أن فن التنويم فيه عنصر مادي وآخر معنوي. فالعنصر المادي هو ذلك الذي بسطناه من قبل كالنظرات والسحابات. . .
وأستطيع أن أشم جسم الإنسان بزجاجة، وما فيه من لحم وعظم ودم ببرادة الحديد. فإذا مر قضيب المغناطيسي بهذه البرادة انتظمت في داخل الزجاجة وتأثير الجاذبية. كذلك جسم الإنسان يتأثر بالتيارات المغناطيسية التي يوجهها المنوم توجيهاً صناعياً فتنتظم ذرات جسمه. ويقال في هذا الباب إن المرء إذا أراد أن يكسب جسمه قوة مغناطيسية فعليه أن ينام ويجعل رأسه إلى الشمال ورجليه إلى الجنوب، والشمال كما نعلم هو القطب المغناطيسي للأرض. .
وليس في تعلم التنويم أي خطر، وإنما الأولى أن نسأل ما هي الثمرة التي نجنيها من تعلمه، وهل تستحق أن ينفق فيها المرء الجهد والزمن؟ ونقول إن للتنويم ثمرتين، الأولى في العلاج من الأمراض العصبية، والثانية في معرفة المستقبل. وقد ثبتت عدم جدوى التنويم في العلاج كما ذكرنا، ولم يثبت أن الوسطاء يعلمون الغيب. وقد نشط العلماء خلال الحرب الأخيرة يجربون تجارب حديثة تختص بفوائد التنويم، منها الاستغناء في العمليات الجراحية عن التخدير بالعقاقير، والاستفادة من التنويم المغناطيسي وما يحدثه من تأثير. ولا تزال هذه التجارب في البحث.
الخلاصة أن التنويم المغناطيسي علم وفن، له أعظم الصلة بعلم النفس بل هو فرع منه، وهو على التحقيق فصل من باب الإيحاء؛ فإذا العلم بالنفس يتعارض مع الدين، فالتنويم المغناطيسي يتعارض بطبيعة الحال. غير أنه لا وجه للتعارض بين علم النفس والدين، بل العلم بها مطلوب للوصول إلى اليقين، وفي ذلك قال تعالى (وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
ويمكن أن ننقل القضية إلى ميدان أوسع فنقول: هل يتعارض العلم إطلاقاً مع الدين؟ وهذا بحث شغل أذهان الباحثين خلال القرن التاسع عشر، ثم خفت حدة الخلاف وتم الوفاق أخيراً بين العلم والدين. وهذه النزعة التي نشاهدها الآن في أوربا وأمريكا حيث يسود العلم تبين لنا اتجاه الناس نحو الدين بعد موجة الإلحاد والزندقة.(737/22)
ومع ذلك يقول بعض العلماء إن التقدم في علم النفس، وبخاصة في أحد فروعه وهو التحليل النفساني، من الأسباب القوية التي تصرف الناس عن الإيمان، لأن هذا العلم يستند إلى المبدأ القائل بالحتمية النفسية أي اتصال سلوك الفرد بأسباب محتومة تستقر في نفسه منذ الصغر وبحكم البيئة. فإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن نحاسب السارق أو القاتل، لأن الأسباب الدافعة للمجرمين في اعتدائهم، لابد أن تمضي إلى نهايتها فتحدث نتائجها ولا يستطيع المجرم أن يتخلص منها. ولكن هذا بحث آخر لا يدخل فيما وجه إلينا من أسئلة فنكتفي بهذا القدر وفيه الكفاية.
(رأس البر)
أحمد فؤاد الأهواني(737/23)
(طاعة) الشام!
(مهداة إلى الأستاذ شفيق جبري)
للأستاذ علي حيدر الركابي
أستاذي الفاضل:
نشرت لكم مجلة (العالم العربي) كلمة بعنوان (طاعة الشام) في عددها الصادر في اليوم العاشر من شهر حزيران سنة 1947 فقرأتها ووقفت أمامها حائراً بين الرد عليها والسكوت عنها. كان يدفعني إلى الرد أنكم عالجتم موضوعاً خطيراً ومثيراً، ووجهتم إلى بلدكم الذي هو بلدي تهماً لا يقبلها ذو كرامة. وكان يدفعني إلى السكوت أني نشأت على الإعجاب بكم واحترام علمكم والثقة بآرائكم وقلت في نفسي إن أستاذنا الكبير لا ينطق عن الهوى وإن له من سعة الاطلاع وكثرة التجارب وعمق التفكير ما لا يبقى معه مجال لاعتراض معترض. وأخيراً ترجح عندي التريث حتى تظهر نتائج الانتخابات العامة في سوريا وهي أكبر محك للشعب: فإذا رافق الانتخاب ضغط وتدخل وسكت عن ذلك أهل الشام سلمت بنظرية أستاذي الكبير ولزمت الصمت وكلي خجل من طاعة الشام، وإذا حال أهل الشام دون الضغط والتدخل وتقدموا إلى الانتخاب بحرية وميزوا بين الصالح والطالح كتبت الرد.
وظهرت النتائج الباهرة فإذا بي أتناول القلم لأكتب هذا الرد. ولا أخفي عنكم يا سيدي أنني في سري كنت أتوقع شيئاً مما حدث وأدعو الله أن يحققه. فإذا تجرأت الآن على مخاطبتكم على صفحات (الرسالة) فإنما أفعل ذلك بدافع من حبي للشام واعتزازي بأهله وشعوري بواجب الدفاع عنهم بالحق كما أني من جهة ثانية واثق من رحابة صدركم:
زعمتم يا سيدي أن في خلق أهل الشام (طراوة وتميعاً) جعلتهم يشتهرون بالوداعة وبالطاعة والمتابعة. واستشهدتم على ذلك بعبارات قالها بعض رجال التاريخ العربي ثم فتشتم عن سبب هذه (الطاعة) فوجدتم السر في (طبيعة بلاد الشام. . . هوائها ومائها وسمائها وأرضها) ولجأتم إلى (أميل لودويغ) لدعم رأيكم وخرجتم من ذلك كله بأن طعنتم رجولة الشام وأهلها وأشرتم إلى اغتيالات مصر وثورات العراق بما يفهم منه ضمناً أنكم آسفون إذ لم تحذو الشام حذو شقيقتها. وكان بودكم أن تطيلوا البحث لولا أن (المجال لا يتسع للتبسط في الكلام على طبائع أهل الشام) ولولا أن لطف الله و (اقتصرت من هذه(737/24)
الطبائع على واحدة) لقرأنا لكم عن قومكم ما لا يبقي ولا يذر! وختمتم بحثكم بكلام عام عن (تشتت أخلاقنا) وضربتم مثلاً عليه تعدد النزعات السياسية بيننا.
أما استشهادكم بالأقوال التاريخية فلا أود أن أتعرض له بأكثر من كلمة: ذلك أن كلام القادة والولاة والمؤرخين الذين نقلتم عنهم إما أن يكون وصفاً واقعياً وفي هذه الحالة يكون منطبقاً على عصر القائل وليس شرطاً أن يكون الخلق الموصوف باقياً حتى العصر الحاضر، وإما أن يكون الوصف ذاتياً أي أنه وصف للصورة التي كونتها في نفس القائل تجاربه الشخصية والتي حملته على أن يستخلص حكماً عاماً من حوادث خاصة وفي هذه الحالة لا يصح الاستشهاد به.
أما نسبتكم طاعة أهل الشام إلى اعتدال مناخهم، ورقة طباعهم إلى جمال بلادهم فإنه يحوي في طياته جزءاً من الحقيقة لا كلها. ذلك أن الطبيعة يا سيدي - وسيد العارفين - ما هي إلا عامل واحد من العوامل التي تؤثر في طباع الناس. ومعاذ الله أن أتعدى على علمكم وفضلكم فأروح أعدد تلك العوامل أو أشير إلى علماء الاجتماع وكتبهم؛ ولا أسمح لنفسي إلا بأن أذكركم - بكل تواضع - بأن الأحداث الخطيرة التي تتعرض لها الأمة ذات أثر قوي في تكوين طباع أفرادها، وهو أثر لا يقل عن أثر الطبيعة نفسها لا بل قد يفوقه. ومن هذه الأحداث الحروب والكوارث الوطنية والحكم الأجنبي والأزمات الاقتصادية الخ. ولعلكم تعترفون كذلك بأن الثقافة وانتشار التعليم من العوامل الرئيسية. وعلى هذا فإن طبيعتنا الحلوة إن ولدت في أمزجتنا اعتدالاً وفي شمائلنا رقة فإن تلك الأحداث قد أوجدت فينا إلى جانبها قوة الشكيمة وصلابة العود وإن انتشار التعليم قد خلق فينا وعياً وقدرة على التمييز.
وليس مثلكم من يحتاج أن تضرب له الأمثال عن صلابة عود أهل الشام وأنتم في طليعة موكب الكفاح والوطنية. ولا أحب أن أحيلكم على كتّاب من أبناء فرنسة سجلوا لنا الفخار واعترفوا لنا بقوة العزيمة. بل أدعوكم إلى رحلة زمنية ومكانية نبدأ فيها بالخيال الفكري الذي ولد ثورة العرب على العثمانيين والذي كان من أقطابه أبناء الشام البررة الذين أدوا ضريبة الدم على مشانق (جمال باشا السفاح). ثم نسير في ركاب (فيصل) من الحجاز إلى الشام لتشاهدوا الشاميين في عداد أعوانه وجنوده. ونستقر بعد ذلك في ربوع الشام نفسها(737/25)
حيث قام مُلك عزيز قوي عند العرب عليه آمالهم. وما كان لينهار لو لم تتآمر الدول المعظمة عليه. ولعلكم لم تنسوا (ميسلون) وروابيها المخضبة بدماء الأبطال وأنتم تمرون بها في طريقكم إلى مصيفكم الهادئ في (بلودان) وننتقل بعد ذلك في (حلب) وجوارها أيام الزعيم (هنانو) وفي (دمشق) و (الغوطة) و (جبل الدروز) ونحيي معاً التربة التي قدستها أرواح شهدائنا. ثم نتجول في شوارع مدننا وأزقة قرانا، في سهولنا الخصبة وجبالنا الخضراء ونستمع إلى قصص البطولة والمجد المسطرة على كل حجر وفي كل شبر من الأرض - سطرناها في كل يوم من أيام استعبادنا البغيضة لنسمع الملأ بأننا لا ننام على الضيم. ألا يسعدكم أن تعيشوا ثانية - في الخيال - تلك الأيام الخمسين التي أضربت فيها البلاد من أقصاها إلى أقصاها حتى أذلت الشامخ وأنزلته من عليائه ليمد لها يد الصداقة. ألا يثلج قلبكم أن ترتقوا ثانية - في الذهن - منبر الجامعة السورية لتؤبنوا (هنانو) بمرثية دكت عرش الغاشم وأذنابه؟ وهل تسمون الإعراض عن مغريات المستعمر في ذلك الإضراب المخيف أو استجابة الشعب لصرختكم المدوية طاعة ووداعة؟ وتلك السجون التي ملأت فيما مضى بأحرارنا، وهذه القلاع الحصينة المشرفة على عاصمتنا وسائر مدننا، هل أقامتها فرنسة خوفاً من طاعتنا ووداعتنا؟ وهذه المخازي الجنونية التي تركت لنا فرنسة أثرها الوحشي في دار (البرلمان) وفي غيرها من دورنا العامة والخاصة هل تعدونها وثيقة اعتراف منها بأننا كنا طائعين ووادعين؟ وذلك الجلاء الذي تم وهذا الاستقلال الذي ننعم به وهذه المكانة الدولية المرموقة التي باتت فخراً للعرب كافة هل هذا كله من صنع الطاعة والوداعة؟
كلا يا سيدي! لقد خانتكم الذاكرة وما أسعفكم التعبير، ثم أخطأتم في الحساب فما كانت ثورة واحدة بل ثورات. . .
لا أخالكم تنكرون ذلك، وأغلب ظني أنكم تأخذون على أهل الشام طاعتهم لحكامهم بعد الاستقلال لا قبله وأنكم ترون هؤلاء الحكام (على مقدار من الجهل وكره العلم لا بأس به وحصروا مرافق الدولة في حزبهم وأصحابهم وحبسوا وظائفها على صنائعهم وعبثوا بالقانون وبددوا بيت المال). إن كان هذا قصدكم وإن صح أن هؤلاء الحكام كما ذكرتم أفما أقنعتكم الحوادث أن الشعب لم يقف منهم موقف الطاعة والوداعة؟ لقد رفض الشعب اتفاق(737/26)
(بفن بيدو) وغضب على المرسوم (50) وطالب بتعديل قانون الانتخاب وتأهب للوثوب فيما إذا وجهت الانتخابات توجيهاً خاصاً فانتصر على طول الخط إذا اضطرت الحكومة بعد تبني الاتفاق المذكور إلى نبذه واللجوء إلى مجلس الأمن، كما أرغمت على سحب المرسوم (50) وعدل مجلس النواب قانون الانتخاب فأصبح على درجة واحدة، وأخيراً جرت الانتخابات فإذا بها تخلو في الغالب من الضغط والتدخل، وإذا بنتائجها تدل على أن الشعب لم يكن طائعاً وادعاً. لم تكن هناك طاعة عمياء بل تمرد واع على كل باطل وقد بلغت البلاد بفضل ذلك درجة من التقدم في تطورها السياسي لم تبلغه كثير من الدول التي سبقتها إلى الاستقلال.
هذا ما قام به الشعب. أما رد الطعن على هذه الحكومة في مجالسنا الخاصة وفي مقاهينا فيتلاشى هذا الطعن كما يتلاشى دخان المقاهي في الفضاء) فهو من عمل الخاصة لا العامة - الخاصة التي لا تمثل حقيقة الشعب في خوفها على تعكير صفو حياتها، في تأنيها وبطئها، في أبراجها العاجية الرفيعة، في أهدافها المجهولة وغاياتها الحائرة، في تذمرها (النظري) وللها الأرستقراطي، في هروبها من الواقع وهجرها ميدان العمل، في أثرتها وشذوذها في تغرقها وتناقضها.
هل يرغب أستاذنا الفاضل في أن يثور أهل الشام وأن يغتالوا من أجل سواد عيون هذه الخاصة المترفعة؟ أفلا يرى الصلاح كل الصلاح - بعد الاستقلال - في ذلك التطور الطبيعي وذلك التدرج المحمود وتلك الحركات الشعبية السليمة التي أوجدت لنا مجلساً جديداً للنواب يمثل الأمة تمثيلاً هو أقرب ما يكون إلى الكمال؟ ألا يحوي هذا الوضع في طياته ضماناً كافياً للمستقبل الذي سنتخلص فيه من تلك الأخطاء في الحكم التي أشار إليها والتي لا ينكر وجودها - أو جلها - والتي لا تنفرد بلاد الشام فيها؟ وما الذي جنته مصر من اغتيالاتها غير فقد رجل مثل (أحمد ماهر) لا يعوض؟ وما الذي جناه العراق من ثوراته الداخلية غير الخسارة في الأموال والأرواح؟.
وتقولون أن في الشام نزعات (فهذا شيوعي وهذا نازي وهذا فاشستي وهذا فرنسي وهذا إنكليزي وهذا تركي وهذا سعودي وهذا هاشمي، كل واحد على قدر مصلحته وبحسب منفعته!) وهذا لا ينكر؛ ولكن الشكوى من هذه النزعات ليست منحصرة في حدود الشام بل(737/27)
تكاد تكون عامة في جميع البلاد العربية، لا بل في جميع بلاد العالم. ثم إن أهل الشام جديرون بكل تقدير وإعجاب لأنهم في الانتخابات الأخيرة أبعدوا عن الندوة النيابية بعض الأشخاص المعروفين بالنزعات المتطرفة فأصبحت دائرة نشاطهم محدودة. هذا فضلاً عن أن مكانتهم في مجتمعهم كانت وما تزال ثانوية وأثرهم في محيطهم كان وما يزال وسيبقى ضئيلاً
سيدي الكريم:
أرى أن الوقت قد حان لإنهاء هذا الكلام الذي آمل أن تكونوا قرأتموه بما عرف عنكم من بعد عن الغضب وتشجيع للشباب وحب لكل ما يتصل بالفكر. وإني أرجو في الختام ألا تحرموا وطنكم من ثمرة علمكم وأن تعملوا على قتل النزعات المتباينة بإرشاد أهل الشام إلى الطريق السوي الذي ترون لهم فيه الخير والفلاح.
واقبلوا أصدق عبارات الإعجاب والاحترام.
بغداد
علي حيدر الركابي(737/28)
خواطر مسجوعة:
الحب. . .
(إلى من آمن بالحب، ومن كفر به)
الحب كما عرفت، فإن لم تكن على حقيقته وقفت، فقد استرحت وأمنت، وخير لك أن تظل كما أنت. فإن قالوا لك إنه رتبة سامية، وحياة ثانية، فقل لهم إنه عنيف جبار، وشواظ من نار. وإن قالوا إنه أوحى وألهم، وعلم الإنسان ما لم يعلم، فقل إنه قرين القلق، وخدين الأرق، بل الشغل الشاغل، والداء القاتل!
فمن عرف الحب طاهراً قاهراً، بات حائراً ساهراً، يناجي من حبيبه روحاً دانياً، وشبحاً نائياً، قانعاً من الحب بروحه لا بذاته، ومن الحب بنيرانه لا بجناته، وربما زعم أن هذا لا يكفيه، فاستزاد به على ما هو فيه، فقال يا من خلقت قلبي رقيقاً، وأصليته حريقاً، أردتني صباً، فزدني حباً، وهبني جنوناً هو عندي الهدى، وفي غيره يضيع العمر سدى. . .
هكذا ترى الولهان متفلسفاً في خباطه، أو مسرفاً في اغتباطه، فإن خير بين سهاد الشجي، ورقاد الخلي، آثر الأول، كارهاً أن يتحول. ولو وهب أيامه للصبر، وصحب أوهامه إلى القبر، فإن ذهبت مذهبه، وأعجبك ما أعجبه، وآمنت بأن حياة الحب فناء في رضاه، فانشد إن شئت في ذلك الموت تلك الحياة. وإن شئت فاهزأ بالحب والمحبين، ودعهم في نارهم معذبين، وحسبك دنيا محدودة الأبعاد، تمرح فيها فارغ الفؤاد، ضاحكاً بملء شدقيك لا لك ولا عليك!
ولست بشارح لك حقيقة الحب، فالحب يعرفه من أحب. وإن قدر لك الحب ووقعت، عرفت ما من شرحه امتنعت!
حامد بدر(737/29)
واضع علوم البلاغة
رأي ابن خلدون فيه
للأستاذ علي محمد حسن العماري
تهيأ للبحث التاريخي أن يهتدي لمولد كثير من العلوم، وأن يتعرف على واضعيها؛ فهو يعين أول من تكلم في النحو، ويؤكد أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو واضع علم العروض، وأن أبا معاذ الهراء أول من أفرد الصرف بالتأليف. . . وهكذا. ولكن أصحاب تاريخ العلوم لا يتفقون على رأي في واضع علوم البلاغة، ولعل منشأ ذلك كثرة الكاتبين فيها في أزمة متطاولة، كما أن تأخر التقعيد فيها وظهورها أول الأمر في مظهر النقد الأدبي جعل الأنظار تتجه وجهات مختلفة، وسنقدم بين يدي بحثنا كلمة عن نشأتها: -
تكاد تتفق كلمة العلماء على أن القول في البيان كان مبكراً؛ فالخليل المتوفى سنة 170هـ تحدث عن الاستعمال المجازي والجناس والمطابقة، وتلميذه سيبويه المتوفى سنة 177هـ تكلم عن التقديم والتأخير ومجاز الحذف؛ ثم استفاضت هذه البحوث فيما كتبه الجاحظ (255) وأبو هلال (395) وابن رشيق (447) فكتبوا كتابات ذات بال ولكنها كانت مختلطة بالمباحث الأدبية. فلما جاء عبد القاهر الجرجاني (474) وضع كتابين (أسرار البلاغة) و (دائل الإعجاز) وتحدث في الأول بإفاضة عن مباحث علم البيان، ومال قليلاً إلى بعض مباحث البديع، وخص الثاني بمباحث علم المعاني. وهذان الكتابان من أحسن ما كتب في هذين العلمين إلى يوم الناس هذا؛ فشواهدهما كثيرة، وأسلوبهما من أقوى الأساليب وأنصعها، وفيهما ميل واضح إلى التقعيد والتقنين. ونستطيع أن نقول أن مباحث العلوم الثلاثة قد تميزت بعد عبد القاهر، فابن المعتز (296) ألف كتاباً في البديع ذكر فيه سبعة عشر نوعاً منها مباحث علم البيان، وأبو هلال ذكر خمسة وثلاثين نوعاً من البديع وبذلك أصبح لهذا العلم كيان مستقل، وأما البيان فقد أفاض فيه عبد القاهر فكان صاحبه، وكذلك علم المعاني إذا أضفنا ما كتبه العسكري، ولو أن علوم البلاغة وصلت إلينا على الحال التي كانت عليها في عهد عبد القاهر لكانت ذات غناء وجدوى، ولكنها منيت بالقيود والأغلال فظلت سجينة فيها حقباً طوالاً، وكان ذلك على يد العالم الجليل أبي يعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد السكاكي المتوفى سنة 626هـ فوضع كتابه (مفتاح العلوم)(737/30)
وكان صاحب فلسفة فأخضع علم البيان لذهنيته الفلسفية، وقد نظر فيما كتب السلف من بحوث فنظمها في قواعد جافة كمواد القانون، ومنذ ذلك الحين ودراسة البلاغة لا تعدو هذه الدائرة التي صب فيها السكاكي مباحث البيان والمعاني والبديع، وكذلك التأليف لم يعد أن يكون اختصاراً أو شرحاً أو تحشية على المفتاح أو ما تفرع منه. ونستطيع أن نستثني بعض كتب قليلة ككتاب الطراز فإن صاحبه لم يطلع على شيء مما كتبه السكاكي فيما يحدثنا عن نفسه.
نستطيع أن نتبين بعد هذا من غير كبير عناء أن صاحب علمي المعاني والبيان هو عبد القاهر وأن صاحب البديع هو عبد الله بن المعتز، وقد يعيننا على ذلك أمران:
(1) ما كتبه العلوي في مقدمة كتابه الطراز (وأول من أسس من هذا الفن وقواعده وأوضح براهينه، وأظهر فوائده، ورتب أفانينه الشيخ العالم التحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني)
(2) ما كتبه السكاكي في فصل أخير من كتابه بعد أن تحدث عن عمله في علمي المعاني والبيان قال (هذا ما أمكن تقريره من كلام السلف رحمهم الله في هذين الأصلين، ومن ترتيب الأنواع فيهما، وتذييلهما بما كان يليق بها، وتطبيق البعض منها بالبعض، وتوفية كل ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة) ثم قال (وعلماء هذا الفن - وقليل ما هم - كانوا في اختراعه، واستخراج أصوله، وتمهيد قواعدها، وإحكام أبوابها وفصولها، والنظر في تفاريعها، واستقراء الأمثلة اللائقة بها، وتلقطها من حيث يجب تلقطها، فعلوا ما وفت به القدرة البشرية إذ ذاك) وإذا أردنا أن نعرف من هم السلف الذين قصدهم السكاكي هدانا البحث في كتابه إلى أن عبد القاهر هو المقدم فيهم، وعليه اتكأ السكاكي فهو يصرح في موضع من فضل كتابه بفضل عبد القاهر فيقول عند اختلافهم على أن الاستعارة مجاز عقلي أو لغوي (ومدار ترديد الإمام عبد القاهر قدس الله روحه لهذا النوع بين اللغوي تارة وبين العقلي أخرى على هذين الوجهين جزاه الله أفضل الجزاء فهو الذي لا يزال ينور القلوب في مستودعات لطائف نظره لا يألو تعليماً وإرشاداً) وهو يترسم خطاه في مواضع كثيرة حتى لينقل سطوراً من كتبه بنصها، وأن تأثره بها لبعيد المدى وسنفرد هذا ببحث خاص إن شاء الله.(737/31)
كل ذلك لا يدع عندنا مجالاً للشك في أن عبد القاهر صاحب الفن وممهد قواعده ومهذب مسائله. لكن ابن خلدون هذا الألمعي النابغة برأي في مقدمته أضل بعض الكاتبين بعده، وهو رأي ذو خطر لأنه يسلب الإمام الجرجاني كل أثر في وضع هذه العلوم قال: (وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان، وهو اسم الصنف الثاني، لأن الأقدمين أول من تكلموا فيه، ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب جعفر ابن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها، ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئاً فشيئاً إلى أن فحص السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب، وألف كتابه المفتاح في النحو والصرف والتعريف والبيان).
ولننظر أولاً فيما فعله السكاكي حتى نكون على بينة. نظر فيما كتبه المتقدمون فوجد أبحاثاً في النظم في النظم والتشبيه والاستعارة وغيرها من مباحث الفن، ولكنها لا ترجع إلى ضوابط وقوانين، فكان كل همه أن يقعّد هذه المسائل ويخترع لها الاصطلاحات العلمية، وهذا المسلك واضح كل الوضوح في عمل السكاكي وفي قوله، فهو فيما نقلنا آنفاً يقول: (وتوفية كل ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة). ويقول في موضع آخر: (ثم ما لهذا العلم من الشرف الظاهر، والفضل الباهر، لا ترى علماً لقي من الضيم ما لقي، ولا مني من سوم الخسف بما مني، أين الذي مهد له قواعد ورتب له شواهد، وبين له حدوداً يرجع إليها، وعين له رسوماً يعرج عليها، ووضع له أصولاً وقوانين، وجمع له حججاً وبراهين وشمر لضبط متفرقاته ذيله، واستنهض في استخلاصها من الأيدي رجله وخيله).
ومع أن صدر هذا الكلام متابعة للإمام عبد القاهر في حديثه عن الضيم الذي لحق هذه العلوم - ولا يزال يلحقها إلى عصرنا هذا - إلا أن آخره يدلنا على النهج الذي سلكه السكاكي. وقد تدهش حين تسأل السكاكي ما هي هذه المتفرقات التي لم يشمر لها أحد ذيله؟ فيجيبك بأنها علم أصول الفقه، وعلم الحد، وعلم الاستدلال. وفي ذلك يقول: (علم تراه أيادي سبا، فجزء حوته الدهور، وجزء حوته الصبا، انظر باب التحديد - فإنه جزء منه - في أيدي من هو؟ بل تصفح معظم أبواب أصول الفقه من أي علم هي؟ ومن يتولاها؟).
ولا عجب، فهو يتحدث في كتابه عن تكملة علم المعاني، فيذكر باب الحد وباب الاستدلال، وفي ذلك يقول (الكلام إلى تكملة علم المعاني وهي تتبع خواص تراكيب الكلام في(737/32)
الاستدلال. ولولا كمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني، وعظم الانتفاع به لما اقتضاها الرأي أن نرخي عنان القلم فيه. اعلم أن الكلام في الاستدلال يستدعي تقديم الكلام في الحد) ولكنه يشعر أن صاحب علم المعاني لا حاجة به إلى هذا المنطق، وأنه لن يتقبل كلامه بالقبول فيقول (وكأني بكلامي هذا - وأين أنت من تحققه؟ - أعالج من تصديقك به، ويقينك لديه باباً مقفلاً، لا يهجس في ضميرك سوى هاجس دبيبه، فعل النفس اليقظى إذا أحست بنبأ من وراء حجاب). ونخلص من كل هذا إلى أن السكاكي رأى علوم البلاغة غير مضبوطة فضبطها ومتفرقة - في نظره - فجمعها، وإن كان لم يلحق بكتابه علم أصول الفقه، والنظرة الفاحصة تدلنا على أن ابن خلدون لم يرد برأيه أن يعطي السكاكي أكثر من هذا، فإنه أجمل القول في أول الفصل، وتحدث عن رءوس مسائل علوم البلاغة ثم قال: -
(وترتيب الأبواب على ما ذكرته آنفاً) وهو إنما تحدث عن تمييز هذه العلوم وضبطها، وحينئذ تسقط حجة الذين يستدلون برأي ابن خلدون، فلا وجه له، ولا حجة فيه غير ما ذكرنا، لكنهم يقولون إن إهماله لعبد القاهر يدل على أنه لا يراه واضعاً لعلوم البلاغة وإلا لذكره مع أصحابه. وهل يراه دون جعفر وقدامة والجاحظ في أمر هذا الفن؟ وللإجابة عن هذا افترض أن ابن خلدون لم يطلع على جهود عبد القاهر في علم البيان والمعاني ويؤكد هذا الافتراض عندي أمور: -
1 - أن كثيراً من أصحاب التراجم لم يترجموا له؛ فابن خلكان لم يذكره في كتابه (وفيات الأعيان) وياقوت لم يترجم له في معجم الأدباء مع أنه ترجم لنكرات كثيرة، بل لم يذكره في كتابه إلا عرضاً عندما ترجم لمحمد بن الحسين الفارسي فقال (ثم استوطن جرجان وقرأ عليه أهلها منهم عبد القاهر وليس له أستاذاً سواه). وكذلك لم يذكره في معجم البلدان مع أنه نزل جرجان وذكر جماعة من جلة علمائها.
2 - والذين ترجموا له كالحافظ الذهبي في تاريخه (دول الإسلام) وكالسبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) وكصاحب (شذرات الذهب) وصاحب (فوات الوفيات) والسيوطي في (بغية الوعاة) لم يذكروا أنه واضع هذه العلوم، بل لم يذكروا كتابيه في البلاغة، ولم يشيروا إلى شيء فيهما.(737/33)
3 - ويحيى بن حمزة بن علي العلوي أمير المؤمنين وصاحب كتاب الطراز (669 - 749هـ) - وهو الذي ذكر أن عبد القاهر صاحب هذا الفن - لم يطلع على كتابيه وفي ذلك يقول (وله من المصنفات فيه كتابان أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على شيء منهما مع شغفي بحبهما، وشدة إعجابي بهما إلى ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما) وهو بعد قريب عهد بعبد القاهر، وفي مكنته أن يبعث من يجوب الآفاق يبغيهما له.
ويبدو أن الكتابين كانت لهما شهرة في بلاد الشرق، ومن ذلك أمكن السكاكي والزمخشري وهما من جرجان، أن ينتفعا بهما، كما أمكن سعد الدين التفتازاني وغيره من علماء البلاغة المشارقة أن يتتلمذوا على عبد القاهر في البلاغة، أما ابن خلدون فقد انتهى به المطاف إلى مصر ولم يجاوزها إلى المشرق إلا في رحلته إلى تيمورلنك وهي رحلة قصيرة ولذلك لم يتهيأ أن يطلع عليهما، وقد يقال أنه رأى شيئاً منهما في كتب العلماء ولاسيما الإيضاح للخطيب القزويني فقد أشاد به ولكنا نقول أنه لم يكن يعرف حقيقتهما، ولو عرف لكان له مسلك آخر في تاريخ علم البيان.
ولعل السر في خمول الكتابين أن الإمام لم يخرج من بلده على عادة العلماء في الرحلة، كما كان لشهرته (بالنحوي) أثر في ذلك، فقد طغى نحوه الواسع العريض على بلاغته.
وإنا لنأخذ على ابن خلدون أن نسب تهذيب البديع إلى السكاكي، والحق الذي لا يمارى فيه أن المصطلحات البديعية عرفت في كتاب ابن المعتز كما عرف كثير منها في كتاب (الصناعتين) لأبي هلال العسكري.
علي محمد حسن العماري
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي(737/34)
سمو
للآنسة (دنانير)
أحبك للفن، يسمو هواك ... بنفسي نحو الرحاب العُلى
فيدني إليها معاني السماء ... وينأى بها عن معاني الثرى
سموت بقلبي وروحي فراحا ... يفيضان بالشعر، شعر الهوى
ونضرت عيشي فأمسى غضيراً ... ترف عليه زهور المنى
ورفرف في القلب حلم سعيد ... جميل الخيالات حلو الرؤى
وقد كنت في وحشة لا رى لي ... أليفاً يبدد عني الأسى
فلا النفس يسعدها فيض الحب ... ولا القلب يسطع فيه السنى
إلى أن تجليت روحاً مشعاً ... كنجم تلأتلأ لابن السرى
فتضوأت أيامي الحالكات ... وأفغمتها بذكي الشذى
وأحييت نفسي بأسمى هوى ... هو الخلد أو نفحات السما
وأويت روحي بصوب الحنا ... ن كالروض أرواه صوب الحيا
ومن عجبي أنني ما رأيتك ... لكن أحسك روحاً هفا
يحن إليّ ويحنو عليّ ... وينساب حولي هنا أو هنا
إذا ما صحوتُ، إذا ما غفوتُ ... إذا ضجّ يومي وليلي سجا
رقيقاً شفيقاً كنور الصباح ... زكياً نقياً كقطر الندى
فيا أيها الروح، ما أنت؟ قل لي ... أأنت من الله روح الرضى؟
وهل أنت ظل الأمان الظليل ... دنا ليَ من سدرة المنتهى؟
ترى شعَّ نور الإله بنفسي ... ليجلو الطريق ويهدي الخطى؟
وهل للملائك ألحان حب ... فأنت بقلبيَ رجع الصدى!
فإني أحسك روح الرضى ... وظل الأمان، ونور الهدى
وأصغي لدقات قلبي فأسم ... ع لحناً طهوراً بعيد المدى
يوقعه حبك المستفيض ... فيذهلني وقعه المشتهى
وتغمرني سكرات التجلي ... كأن الإله لعيني بدا(737/35)
أخالك صورة حب كبير ... جلاها لعيني وحي السما
تهيئ روحي لصوفية ... وتنفض عنها غبار الثرى(737/36)
رمضان
للأستاذ محي الدين صابر
رمضان. . . والأيام تدَّكر. . . ... كيف الرفاق عليك والسمر
صور من الماضي أجمِّعها. . . ... فتكاد تنطق في يدي. . . الصور
وأكاد ألمح فيي معارفها. . . ... كوناً من الأشواق. . . ينفجر!!
وأكاد أسمع جنة رجفت ... في روحها للغيب. . . تنحدر. . .
تلك المعاني كلما بليت. . . ... فنسيتهن. . . يثيرها. . . قدر
رمضان. . . ما أحلى وأعذبه ... عهداً. . . وقد تستروح الذكَر. .
فكأن يومك من. . . تألقه ... تسبيحة. . . أو خاطر عطر
المؤمنون عليك: مبتهج ... يلقاك بالتقوى. . . ومصطبر
يمشون إن هرم النهار بهم ... زمراً تزيف. . . وراءها زمر
وتجمع الصبيان واحتشدوا ... وترقبوا مسراك وانتظروا
فكأنهم صاموا. . . وما فعلوا ... لكنهم بجلاله. . . شعروا
حتى إذا قرع الأذان مضوا ... فتصايحوا في الحي وانتشروا
والخير أفسح في النفوس مدى ... يهواه من عجزوا ومن قدروا!
والليل كم طاف الجلال به ... فحلا على محرابه. . . السهر
من ضارع لله مبتهل ... للنور في أعطافه. . . أثر
أو سامر نثر الحياة به. . . ... فناً ليوم الفن يدخر
أما المآذن في جلالتها ... فكأنها الآيات والسور
يمشي الأذان بهن ممتلئاً ... عذباً. . . فما نايٌ. . . وما وتر؟
ومسحر طرب، يهب له ... من ضجعة الأحلام. . . مستحر
تتجاوب الطبلات بينهم ... في الليل، كالدعوات تنتثر
صحبى همُ. . . إن رغوا قدست ... نفسي ولف رحابها طهر
ألقاهم في الليل. . . منطلقاً. . . ... وعلى الطريق إذا هم عبروا
ونقص ما تأتي الحياة به ... ونقول. . . ما نبقي. . . وما نذر!!(737/37)
وترى الحديث يكاد أكثره ... بين الصدى والطبل، ينطمر
رمضان. . . ذلك في مفاتنه. . . ... فكأنه - مما حلا - ظفر
والعيش ذلك. . . في ملاعبه ... كالخمر تحت الكرم تعتصر
واليوم. . . ما رمضان؟ أبصره ... فكأنه في خاطري. . . خبر!!
أُذهلت فيه. . . فيومه سفر ... طولاً وما في ليله قصر
وأكاد أنكره - على ورعي - ... وتكاد عنه النفس تعتذر!!
رمضان كيف يصوم مغترب ... لولا التقى. . . ونوازل أُخر
مضت الحياة. . . وكلها فتن ... واليوم. . . إن حياتنا. . . عبر!(737/38)
تعقيبات
الدكتور عبد الوهاب عزام بك:
ذلك الرجل جمّله الله بالتواضع، وكمّله بالعلم، وزينه بكل فضيلة، وماذا ترى في رجل له في الناس ألف صديق وليس له فيهم عدو واحد؟!
شاعر عربي ينفح شعره بأنفاس الإنسانية، وأديب كاتب تتجلى في نثره نفحات العبقرية، وعالم باحث لا يزدهيه الفخر بغزير علمه، لا يدخله الغرور بجزيل فضله، ولكنه دائماً موطأ الجانب، يلقي إليك بما عنده وكأنه يأخذ منك ويتلقى عنك، ثم هو بعد ذلك يتوجه بالشكر إليك. . .
ذلك هو عبد الوهاب عزام الذي وقع اختيار أولي الأمر عليه أن يكون وزيراً مفوضاً لمصر في المملكة العربية السعودية، وإنه لاختيار موفق كسبت به تلك (الوزارة)، ولن يخسر به الأدب والعلم شيئاً إن شاء الله؛ ذلك لأن الرجل أديب بطبعه، وإنسان متفتح الإنسانية، فصلته بالأدب هي صلة النفس، فمحال أن تنفك أو تضعف بحال من الأحوال.
إنني لن أكتب عن عبد الوهاب عزام اليزم كما أعرفه، وكني أقتصد ذلك لفرصة قادمة، وأكتفي اليوم بهذه التحية القصيرة، وإنها لتحية الأدب والفضل والإنسانية في شخصيته النبيلة. . .
هذه المؤتمرات:
في 23 أغسطس الحالي يعقد في سورية (مؤتمر الآثار بالبلاد العربية) الذي قررت عقده جامعة الدول العربية. وقد رشحت وزارة المعارف ثلاثة من أساتذتها لتمثيلها في هذا المؤتمر. وفي 3 سبتمبر المقبل يعقد المؤتمر الثقافي الأول الذي قررت جامعة الدول العربية أيضاً عقده في لبنان، وقد اختارت الوزارة ستة من كبار أساتذتها لحضور هذا المؤتمر
ولعل القراء يذكرون أني عرضت لهذه المؤتمرات التي تدعو إليها الجامعة العربية من قبل، وأشدت بما تؤدي إليه من الفوائد والآثار الطيبة، ولكن الذي يهمني أن أشير إليه هنا هو أن الجامعة تجري في التدبير لعقد هذه المؤتمرات على نهج الحكومات والوزارات التي تأخذ نفسها بالأوضاع الرسمية، وكنا نحسب أن الجامعة ستجعل من عقد مؤتمراتها(737/39)
واجتماعاتها مجالاً يتلاقى فيه رجالات العرب ومفكروهم وأساتذتهم لا أن تكون مجالاً لموظفي الحكومات فحسب، وإلا فإنها ستكون عديمة الجدوى قليلة الفائدة. . .
لقد كان الواجب على الجامعة أن تترك الحكومات وموظفيها جانباً، وأن تعتمد في مؤتمراتها على رجال الفكر الأحرار فتتيح لهم الفرصة للبحث والمناقشة وتبادل الرأي، فإن هذا هو الأليق بمهمة الجامعة وغرضها في توثيق الروابط الثقافية، أما أن تجعل مؤتمراتها قاصرة على موظفي الحكومات الذين تعنيهم الرحلة للنزهة أكثر من الرحلة للعلم فإن ذلك مما يذهب بقيمة هذه المؤتمرات، وسيذهب أولئك الموظفون إلى تلك المؤتمرات، ثم يعودون ليضعوا تقريراً بما رأوا وشاهدوا، ثم تمضي الأيام وتمضي ولن يرى ذلك التقرير ضوء النهار. . .
وكم ذا بمصر من المضحكات!
في القرن الرابع للهجرة جاء المتنبي إلى مصر مادحاً لكافور الإخشيدي، مؤملاً أن يجسد مقاماً طيباً في رحاب المصريين، ولكنه سرعان ما ضاق بهذا المقام فهرب ناجياً بنفسه، وقد أصلى كافوراً والمصريين الهجاء المقذع المرير. . .
ويقول مؤرخو الأدب: إن المتنبي كان يطلب ولاية من كافور، فلما أباها عليه لجأ إلى هذا الصنيع الذي صنع، والواقع الذي يدل عليه شعر الرجل غير هذا، إنه ضاق بمصر وبالمصريين، لأنه رأى الأوضاع فيهم مقلوبة: رأى أعجمياً يدرس أنساب العرب فقال:
وكم ذا بمصر من المضحكات (م) ... ولكنه ضحك كالبكا
بها نبطي من أهل السواد ... يدرس أنساب أهل الفلا
ورأى عبداً خصياً ناقص الرجولة يحكم رجالاً من المصريين اكتملت لهم كل صفات الرجولة فقال:
لا شيء أقبح من فحل له. . . ... تقوده أمَة ليس لها رحم
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم ... يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!
وقد كان في إقليمنا واعظ يعظ الفلاحين فيقول: أيها الناس إياكم وتعاطي الحشيش الأخضر الذي تأكله البهائم، وإنما أقصد الحشيش الذي مثل هذا. . . ثم يخرج من لفائف عمامته قطعة من ذلك المخدر القاتل فيطلعهم عليها. . .(737/40)
ورد كل هذا على ذهني وأنا أقرأ كلمة للأستاذ أحمد الصاوي محمد في (أخبار اليوم) حمل فيها على معالي وزير المواصلات لأنه يشجع جماعة من الشبان الأدباء على إظهار مواهبهم، ويسهل لهم سبيل الظهور بآثارهم، والأستاذ الصاوي يعلم علم اليقين أن التشجيع في الأدب حافز الظهور والنهوض، بل حافز الخلق والإيجاد، وأن أرباب الأقلام يطالبون الدولة بأداء هذا الحق ويقدرونه واجباً من واجباتها، وأن الأمر في هذا كما يقول أبو حيان التوحيدي: (ولابد من فتى يعين على الدهر ويجمّ راحلة الأمل)! بل إن الناس جميعاً يعرفون أنه لولا تشجيع سيدة بارة كريمة لما كان هذا القلم الذي ينكر اليوم على وزير ما يبذله في تشجيع شبان أدباء. . .
أنا لا أريد أن أدافع عن معالي الوزير، فللوزير قلم مبين، ورأي مكين، ولا أريد أن أدافع عن (أدباء العروبة)، فكل منهم قادر على أن يدافع عن نفسه وعن جماعته، ولكن الذي يهمني أن يقحم الأستاذ الصاوي في هذه المجلة بموظف صغير - على حد تعبيره - هو الأستاذ محمود السيد شعبان الذي يشرف على تحرير مجلة سكة الحديد لأنه ينشر فيها مقطوعات شعرية في الغزل ووصف المرأة. . .
وليس في هذا موضع للمؤاخذة من الناحية الاجتماعية، فإن جميع الصحف والمجلات تنشر شعر الغزل والتشبيب، والإذاعة الحكومية تذيع على الناس صباح مساء فنوناً من المغازلات والمعابثات. . .
والفن الصحفي يقضي بأن تحلي المجلة العلمية بهذه الطرائف الفنية لتخفف ما فيها من نقل المسائل العلمية وتلطف ما بها من جفاف النظريات!
ولكن العجيب بعد هذا كله أن يكون الأستاذ الصاوي هو الذي ينكر هذا ويندد به وأكثر الموضوعات التي يطرقها هو الحديث عن المرأة في شتى صورها ومغامراتها
دع إنكار هذا لغيرك يا أخي، دعه لسماحة الشيخ الصاوي شيخ الطرق الصوفية، أما أن تتصدى أنت لذلك، فإنه يكون منطق الأعجمي الذي يدرس أنساب العرب، وواعظ قريتنا الذي ينهى عن الحشيش!
الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب:
كتب الدكتور زكي مبارك في جريدة البلاغ مقالاً أشار فيه إلى الموازنة الأدبية التي عقدها(737/41)
الحريري في إحدى مقاماته بين الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب، وقال الدكتور: إن الفكرة في هذه الموازنة جديدة عند الحريري فما سبقه إليها باحث من المسلمين.
قلت هذا حكم يحتاج إلى التحرير والتصحيح، فإن الفكرة في الموازنة بين الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب قديمة في الأدب العربي، وتسبق الحريري بأجيال وأزمان، فقد كان الكتاب الحاسبون يعرفون بكتاب الخراج، وقد أشار عبد الحميد الكاتب في رسالته التي توجه بها إلى الكتاب إلى هذا المعنى إذ يقول: (ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج). والواقع أن الحريري وجد مادة متوفرة لتلك المناظرة التي عقدها، حتى الأوصاف التي خلعها على الكاتب المنشئ والأخرى التي وصف بها الكاتب الحاسب قد أخذها كلها عن الكتاب السابقين وليس له فيها من فضل إلا المقابلة والمزاوجة وإيثار السجع في التعبير
ولقد كان رجال الأدب والعلم ينظرون إلى الكتاب الحاسبين نظرة إغضاء على العموم، وكانوا يعتبرون علم الحساب من العلوم التي لا تحتاج إلى موهبة خاصة أو فطرة سمحة، وكانوا يسمونه علم الصبية، ولا يحسون على الأخذ منه إلا بقدر ما يعين على معرفة التقسيم في علم الفرائض. وقد ظلت آثار هذا الرأي بادية بين علماء الأزهر إلى عهد قريب؛ وكل ما أريد أن أشير إليه هو أن الحريري لم يكن المبتدع لهذه الفكرة ولا أول من جال في مجالها كما ذكر الدكتور. . .
(الجاحظ)(737/42)
الأدب والفن في أسبُوع
الفن والبيئة المصرية:
جاء في مجلة المصور ما يلي: (كان من مظاهر عناية جلالة الملك بالفن والفنانين أن أمر جلالته بتخصيص قطعة أرض مجاورة لقصر القبة العامر، مساحتها نحو ثلاثة أفدنة، لينشأ عليها مبنى للصغار الذين يظهرون نبوغاً في فن الرسم والنحت وما إليهما. ويرى جلالته أنه ينبغي تنشئة جيل جديد من الفنانين الذين لم يتشبعوا بعد بالفن الأجنبي ليجيء فنهم مصرياً خالصاً من وحي طبيعة مصر وبيئتها).
وهذا الرأي السامي الذي أرتآه جلالة الملك يتضمن لفتة ألمعية بارعة إلى ناحية من أبرز نواحي النقص في الفنون عندنا، بل لعلها علة القصور في جمهرة الفنانين، وهي الانشغال بالتقليد والاقتباس عن الإحساس بالبيئة وتأمل الطبيعة والأحوال المحيطة، وليس هذا في الرسم والنحت فحسب، بل هو في سائر الفنون. فنرى الروح الغربية تغلب في الرسم والموسيقى والتمثيل وتمتد إلى الأدب، ولم يقف ذلك عند حد الاستفادة من الفنون الغربية بما يجدد فنوننا ويسير بها نحو التقدم، بل إننا نستنفد طاقتنا في أكثر النواحي الفنية، في كل ما هو بعيد عن مجتمعنا وعالمنا ونفوسنا
وما أظن أن لدينا من المرسومات والمنحوتات المصرية البحتة في هذا العصر ما يصح أن يكون إنتاجاً كافياً لأن يقال أن في مصر للرسم والنحت فناً مصرياً له مقوماته وشخصيته
وهذه الموسيقى التي يقال إنها موضوعية أو تعبيرية، تسمع القطعة منها فلا تحمل إلى إحساسك أي شيء من موضوعها، وهي وغيرها أصوات متشابهة، قليل منها ما تستريح إليه الأذن، وأكثرها ما تستريح منه بوقف المذياع! وذلك لأنها محاولات تقليدية لم تبلغ أن تكون فناً أصيلاً يعبر عن الذات ويصور الإحساس. ولقد كانت لأسلافنا موسيقى نسمع عن تأثيرها البالغ ما يؤسفنا لحاضرنا في هذا الفن، كموسيقى الفارابي التي أضحك بها وأبكى، ثم أنام بها الحاضرين وانصرف. . .
وأدبنا أيضاً لا يصدر أكثره عن بيئتنا وحياتنا ولا توحيه طبيعتنا، فالشعر (يستغرب)، والقصة لا تزال غريبة، وحتى الأفكار الاجتماعية تقتبس، وإلى جانب هذه الروح الغربية تغلب أيضاً الروح العربية السلفية، فأدبنا يقضي أكثر أوقاته إما في الماضي، أو في(737/43)
الغرب.
وأصل الداء في كل هذا أننا نسلخ عن بيئتنا ونقتلع أرواحنا من منابتها الأولى، ويتمثل هذا في الناشئ الذي يتعلم في (كتاب) القرية، ثم في مدرسة المركز الابتدائية، ثم في الثانوية بعاصمة المديرية، ثم في جامعة القاهرة أو الإسكندرية، وقد يذهب إلى ما وراء البحار؛ وهو في كل مرحلة من هذه المراحل يبتعد عن القرية بعقله وروحه بمقدار ما انقضى من الزمن وما بعد من المسافة، فإذا رجع إليها وشعر بالفارق بينه وبين أهله وأهلها لم يطب له المقام فيها. . . فيهجرها. . .
وليس لهذا النقص في فنوننا إلا علاج واحد، هو الذي أشار به الفاروق، وهو أن نعيش في مواطننا ونحس بما يضطرب في عالمنا ونستوحي طبيعتنا، ليكون فننا صورة لنا وعنواناً علينا، ويكسب بذلك الروح الذي يكون به فناً حياً.
السجل الثقافي:
رأت المراقبة العامة للثقافة بوزارة المعارف أن كثيراً من الهيئات الرسمية والحرة تقوم بنشاط ثقافي متصل لا يعرف عنه إلا القليل، ولو عرض هذا النشاط متجمعاً واضحاً لكان دعاية قوية لمصر، ولكان مادة نافعة تمكن الدارس من متابعة سير تلك الهيئات وإنتاجها وتوجيهها فيما يزيد الانتفاع بها؛ فتقرر إنشاء قسم بها للقيام بتجميع نشاط الهيئات الثقافية، وسمي (إدارة التسجيل الثقافي) وعمل هذه الإدارة تسجيل مظاهر النشاط الثقافي في البلاد من كافة جوانبه، عدا الجانب الذي تضطلع به معاهد التعليم وفق برامجها الرسمية، ليجتمع للباحثين في شئون الثقافة العامة أسباب العلم بما بلغته البلاد من التقدم العلمي، ومدى وعيها الثقافي، وما ينتظر أن تبلغه على الأيام في هذا السبيل، ليؤدي ذلك إلى غايتيه الطبيعيتين:
الأولى تعريف ضيوف مصر والمهتمين بشئونها من الأجانب، المكانة التي بلغتها مصر من الثقافة العامة.
الثانية إعداد البيانات والوثائق التي تحتاج إليها الحكومة، والهيئات العلمية، والمثقفون في البلاد، لتدعيم النهضة الثقافية، وتوجيهها الوجهة الكفيلة بتحقيق مصلحة البلاد، وتكميل النقص فيها، ومدها بأسباب القوة والاستمرار، حتى تكون مشروعات البلاد وبرامجها الثقافية العامة مستندة إلى أساس، قاصدة إلى هدف.(737/44)
ولتحقيق هذين الغرضين كان أول ما تهتم به إدارة التسجيل الثقافي إصدار (سجل ثقافي) سنوي يصف مظاهر النشاط الثقافي خلال عام ويبين اتجاهات هذا النشاط ومراميه، وسيشتمل هذا السجل على أبواب النشاط الثقافي في البلاد، وما أدته كل هيئة من الخدمات الثقافية خلال العام، سواء في ذلك الهيئات الرسمية والهيئات الشعبية، كمجمع فؤاد الأول للغة العربية وما يشبهه من المجامع، ودور الكتب في القاهرة والأقاليم، والمتاحف العامة والخاصة، والجمعيات الثقافية، والجامعة الشعبية، والأندية العلمية، والمعارض، والإذاعة، والمسرح، والسينما، وحركة النشر والطباعة، والصحافة، والمحاضرات، والتعاون الثقافي، وما يتصل بذلك من ألوان نشر الثقافة.
وقد استقر الرأي على اعتبار العام الثقافي من أول يناير إلى آخر ديسمبر، ويصدر (السجل الثقافي) السنوي بعد إتمام تجميع مواد العام الثقافي، ويقدر لذلك نحو ثلاثة أشهر، بعد انتهاء العام.
وقد تكونت الإدارة من محمد سعيد العريان رئيساً، والأستاذ عبد الحميد يونس وكيلاً، والأساتذة كامل حبيب وعباس خضر وأنور المعداوي أعضاء فنيين. وابتدأت العمل في مكانها الجديد الذي اختير لها بميدان الخديوي إسماعيل بعيداً عن الديوان العام للوزارة وضغط أصحاب الحاجات الذين تزدحم بهم مكاتب الموظفين وردهات الديوان.
المؤتمر الثقافي:
عرف القراء مما كتبناه فيما مضى أن اللجنة الثقافية بالجامعة العربية دعت إلى عقد مؤتمر ثقافي بلبنان بالأسبوع الأول من سبتمبر القادم تنفيذاً للمعاهدة الثقافية المعقودة بين دول الجامعة العربية.
وسينظر هذا المؤتمر في وضع حد أدنى لمواد الدراسة في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في البلاد العربية، وذلك في اللغة العربية والجغرافية والتاريخ والتربية الوطنية، كما سيعنى بمعالجة طرق تعليم اللغة العربية. ومنذ قليل فرغت اللجنة المؤلفة بوزارة المعارف المصرية لتيسير تعليم اللغة العربية، من مهمتها ووضعت تقريرها، ولكنها رأت عدم إذاعته انتظاراً لما يسفر عنه بحث المؤتمر الثقافي في هذا الموضوع.
وكانت لجنة المؤتمر التحضيرية قد وجهت إلى الحكومات العربية أسئلة في المواد التي(737/45)
هي موضوع نظر المؤتمر، بقصد إثارة النقط التي ستبحث، ليبدي المختصون آراءهم فيها. وقد تلقت اللجنة أبحاثاً كثيرة من الهيئات والأفراد واختارت ما رأته صالحاً منها، ووضعت تقارير عما تضمنته هذه الأبحاث.
ومن الأسس المبدئية التي وضعتها اللجنة التحضيرية لأبحاث المؤتمر بيان العيوب الحالية في طرق التدريس والمناهج، واقتراح ما يراه الباحث من وسائل النهوض بها وخاصة في تيسير القواعد وتيسير الكتابة ووضع خطة نافعة لتدريس تاريخ الأدب ونصوصه.
أما في الجغرافية فيعنى بجغرافية البلاد العربية خاصة ليقف أبناء كل من البلاد العربية على أحوالها المختلفة من طبيعية وعمرانية واقتصادية، ويستعان في ذلك بالمصورات والأفلام والرحلات.
وأما التاريخ فتتجه العناية فيه إلى التاريخ العربي والروابط التاريخية بين البلاد العربية في العصور المختلفة.
وفي التربية الوطنية سيكون أول أغراضها إعداد المواطن العربي المستنير ليكون مواطناً صالحاً في مجموعة البلاد العربية كما هو مواطن صالح في أمته، ويهتم بالوسائل التي تكفل تدريبه كالرحلات والجماعات المدرسية.
وقد تلقت الأمانة العامة للجامعة العربية من الفنادق اللبنانية بيانات للتخفيضات التي قررتها في أجورها لأعضاء المؤتمر، كما قررت إدارات السكك الحديدية المصرية واللبنانية والفلسطينية تخفيضات مختلفة في أجور السفر للأعضاء، وكذلك بعض شركات الطيران والسيارات.
وقد أذاعت وكالة الأنباء العربية من بيروت أنه سيشترك في المؤتمر الثقافي العربي أربعون سيدة عربية.
السينما والأهداف القومية:
من أنباء أمريكا أن دعاة صهيونيين قد اتفقوا مع جماعة من الممثلين والممثلات المشهورين للاشتراك في أفلام تدور حول الدعاية الصهيونية. وقرأت في إحدى المجلات الفنية أن صناعة السينما في إيطاليا تتجه في الوقت الحاضر إلى معالجة الموضوعات التي ترمي إلى النهوض بالأمة من كبوتها، وإلى خلق مجتمع جديد يتمتع فيه الفرد العادي بحقوقه(737/46)
كاملة.
فهل يمكن أن يعمل القائمون بصناعة السينما في مصر أفلاماً من هذا القبيل للدعاية لقضيتنا متخذين مما يدور حولها الآن في مجلس الأمن من عراك ونقاش، مادة لعملهم، وإن في مناظر وفدنا هناك في اجتماعاته ودعاياته ومواقف رئيسه الخطابية في المجلس لمجالاً واسعاً لذلك، وقد أنهت إلينا الأنباء أن مندوبي شركات السينما قد نشطوا في التقاط الصور في مختلف الأوضاع، فما نصيب فننا السينمائي من هذا كله؟ وما جهده في خدمة هذه القضية؟
ومن يدري فقد ينشط الإنجليز في الدعاية ضد قضيتنا بالأفلام أيضاً. فهل نقف أمام ذلك مكتفين بأضعف الأيمان. .؟
إننا نتخذ السينما اليوم ملهاة فارغ، أي أنها تسلي الشعب وتروح عنه ولكنها لا تحمل إليه شيئاً ذا بال، ولكن الشعب لن يصبر طويلاً على هذه الحلوى، فإن وعيه القومي يفتح شهيته لغذاء نافع، وغاية الرجاء أن يصاحب هذا الوعي نضج السينمائيين والتفاتهم إلى مقتضيات الأحوال.
إنني لست متشائماً، فالزمن مع الوعي يحقق ما نصبو إليه، وقد مضى ما يكفي من الزمن واكتملت يقظة الوعي، فالتحول المنتظر وشيك الوقوع.
الأدب بين مصر ولبنان:
قرأت الكلمة التي كتبها من بيروت الأستاذ سهيل إدريس ونشرت في العدد الماضي من الرسالة، والتي عقب فيها على ما كتبته في العدد (734) حول ما يعتب به علينا إخواننا اللبنانيون من إهمال مؤلفاتهم في مصر. وأجمل ردي على تلك الكلمة، أو ما أود أن أقوله فيما تضمنته، فيما يلي:
1 - كتبت في الموضوع واحداً وثلاثين سطراً، أكثرها في بيان تقصير لأدباء المصريين في حق المؤلفات اللبنانية، وذكرت في ثلاثة أسطر ما مجمله أن المؤلفين اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد أدباء مصر مؤلفاتهم نقداً حراً. ففصل الكاتب هذه الثلاثة أسطر وجال حولها جولة أثارت غباراً أوثر أن أكتفي بالقول أنه حجب عن العيون كيفية تناولي للموضوع. . .(737/47)
2 - قال إنني أطلقت القول دون أن آتي بمثال لمن غضب من النقد. والحمد لله، لقد كفاني الأستاذ نفسه هذا الأمر، إذ حمل عليّ هذه الحملة لمجرد تلك اللفتة الرفيقة التي جاءت بعد كلام شديد في الإنحاء على الأدباء المصريين، وقد كفاني الأستاذ بذلك أيضاً مؤونة الخروج عن منهجي في عدم التجريح بذكر الأسماء.
3 - كنت أراني أستحق نفحة طيبة من رُبَى لبنان، بدل هذا الذي ساقه إليّ الأستاذ سهيل، أو بجانبه على الأقل. .
وبعد فأستشعر (الحساسية والذوق والمودة) وأبعث إلى الأستاذ سهيل إدريس ببيروت - تحية:
(العباس)(737/48)
البريد الأدبي
في اللغة فعلاء:
نبّه الكاتب الباحث الأستاذ الفاضل محمد سليم الرشدان في الرسالة الغراء (735) على وصف الكاتبة الفاصلة الكاملة السيدة منيبة الكيلاني الأروقة - وهي جمع - بالسوداء - وهي مفردة - في مقالها (لسان الدين بن الخطيب).
في (إرشاد الأريب) لياقوت في سيرة أبي العلاء:
قال شيخ أبو العلاء (رضي الله عنه): لزمت مسكني منذ سنة (400) واجتهدت أن أتوفر على تسبيح الله وتحميده إلا أن أضطر إلى غير ذلك. فأمليت أشياء، وتولى نسخها الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي هاشم - أحسن الله معونته - فألزمني بذلك حقوقاً جمة وأيادي بيضاء، لأنه أفنى فيّ زمنه، ولم يأخذ عما صنع ثمنه، والله يحسن له الجزاء، ويكفيه حوادث الزمن والأرزاء.
وفي رسالة المنيح لأبي العلاء (رسائل أبي العلاء ص (16) ونهاية الأرب ج14 ص265):
وكم في أديم الخضراء، من أشباح مضيئة زهراء.
وفي (المخصص) ج11 ص172:
الرُّغْل: حَمضة تتفرش وعيدانها صلاب، ورقها نحو من ورق الحماحم إلا أنها بيضاء، وهو أجود الحمض. وقيل هو ذو قضبان، له ورق مثل الأظافير خضراء غبراء. وقيل: هو بقلة ليست بشجرة).
إذ قال هذان الإمامان ما قالاه فللسيدة منيبة، ولكل أديب وأديبة، الإئتمام بهما، ولن يضل - إن شاء الله - مهتد يهديهما
لقد شغل العرباني الجرماني العلامة (كرنكو) اللغويين والأدباء أكثر من عشرين سنة ينقده ما نقده، ولم يزل يشغلهم.
السهمي
خير الأمور الوسط. . . أيضاً:(737/49)
كتب الدكتور أمير بقطر مقالاً في مجلة الهلال عنوانه: (شر الأمور الوسط) وأخذ يندد بأوساط الأمور ويعتبرها (أقلها إنتاجاً، وأبخسها ثمناً، وأسرعها زوالاً، وأخفها أثراً في النفوس) فجاء الأستاذ مصطفى محمد إبراهيم وكتب كلمة في العدد (736) من الرسالة الغراء، يحتفظ لهذه الحكمة بكيانها واعتبارها؛ فحمل كلمة الوسط على أنها خير الأشياء وأعدلها.
ويؤسفنا أن نقول أن كلاً من الدكتور العلامة، والأستاذ الفاضل قد تنكب الجادة، فليس المراد من الوسط في هذه الحكمة وسط كل شيء وإلا كان العرب الذين أجروها على ألسنتهم بُلْهاً مغفلين، وليس المراد من الوسط (من كل شيء خيره وأعدله) وإلا كانت الكلمة متهافتة فتئول حينئذ إلى هذه الركاكة (خير الأمور خيرها) وهو ما نبرئ العرب من التورط فيه.
وإنما قصدت العرب من الوسط هنا معنى أدبياً هو الحد بين الإفراط والتفريط، ولذلك يقولون: الفضيلة حسنة بين سيئتين، والجود مثلاً وسط بين البخل والإسراف، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، وليس الطالب الذي ينال 6 من 10 حائزاً على الوسط الذي قصدوه. ولو أردنا أن نضرب المثل بالطالب لقلنا أن من الطلاب من يعتدل في استذكار دروسه فيعطي الدرس حقه ويعطي نفيه حقها، ومنهم المسرف الذي يعمل الليل والنهار، ومنهم المكسال وخير الثلاثة المتوسط.
ونحن إذا رجعنا إلى أقوال العرب وجدنا فيها ألف دليل على هذا الذي ذهبنا إليه.
فالشاعر يقول:
فرط التناهي غلط ... خير الأمور الوسط
ومن أمثالهم: (لا تكن حلواً فتسترط، ولا مراً فتعقى) أي تلفظ، وقول مطرف ابن الشخير: (الحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوساطها).
فلا حاجة بنا - إذن - إلى حمل الوسط على معناه في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) كما لا حاجة بنا إلى التنبيه على أن الدكتور بقطر ذهب عليه معنى الوسط، وفهمه فهماً حسابياً!!
علي العماري(737/50)
المدرس بالأزهر الشريف
نعم الضمير مطمئن:
قرأت كلمة الأستاذ الشاعر محمود عماد بعدد الرسالة الغراء 732 رداً على الأستاذ محمد غنيم وفيها يقرر أن الضمير الثاني في (هذه المسألة لها أهميتها) - وما شابهها - لا يزال قلقاً واستدل على قلقه بتفسير الأستاذ غنيم للآية الكريمة. وطلب الاستشهاد بمثال آخر من القرآن أو من معقول العرب.
فإليه أبعث بهذه الأمثلة مقرراً ما قاله الأستاذ غنيم، وهو أن الضمير مطمئن له أهميته، ومثل هذا التعبير إنما يرد في مقام التقرير لأن المسألة لها أهميتها في ذاتها وهذه الأهمية مقصورة عليها لا تتعداها إلى غيرها.
يقول الله تعالى (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) ويقول: (لهم أجرهم عند ربهم) ويقول: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم).
ويقول ابن الرومي:
لها أجرها إن أحسنت فلنفسها ... وميزانها يوم القيامة أرجح
ويقول مهيار الديلمي:
لي عفتي عنه وما نال له ... وخيرنا من عارك العيش الخشن
ويقول:
له خصبه دوني ولي نوطتي به ... وعون أيامه وهو مجدب (كذا)
ويقول:
تحل بها يا سعد فهي قلادة ... يزيّن فيها فاخر الدر ثقبه
لها حسنها لكن أريدك شافعاً ... وخير شفيع لي إلى الجسم قلبه
وعلى هذا فالتعبير بهذه الأمثلة صحيح وسليم. وما أظنه إلا مقراً بأن الضمير له اطمئنانه وأهميته.
(القاهرة)
كمال الخولي(737/51)
تصحيح بيت:
في العدد 733 من الرسالة الغراء كلمة للأديب عدنان أسعد من قصيدة للشاعر السوداني المرحوم (التيجاني يوسف بشير) نشرت في مجلة العالم العربي) بعنوان (في محراب النيل) وهو
واستفاقوا يا نيل منك لنَغَّا ... م شجى من آلهيّ ربابك
إذ قال إنه مكسور لأنه ظن إن لفظة (إلهي) التي وردت في البيت منسوبة إلى (الإله) والصواب أنها منسوبة إلى (الآلهة) لا إلى (الإله) كما جاء في الديوان وبذلك يكون البيت بصورته صحيحاً
وهناك الكثير من الأبيات وردت في ديوان الشاعر السوداني ضمنها هذه الكلمة مثل:
والأخ الحبر. . والفتى الآلهي النف ... س خلو من الحجا والضمير
(إسكندرية)
محمد مفتاح الفيتوري
إلى الأستاذ (الجاحظ):
ورد في تعقيباتكم في عدد الأسبوع (735) من الرسالة تحت عنوان (ولكنهم المعلمون) ما يلي:
(ولو أن هذا التعبير وقع من جماعة المهندسين مثلاً لأغضينا عنه وقلنا أمر ليس من صميم صناعتهم فلا لوم عليهم ولابتغينا له أوجه التأويل. . .).
ولم أجد يا سيدي سبباً يدعوك لتختار جماعة المهندسين وترميهم بعدم الدقة في التعبير والجهل بقواعد اللغة وتقول (أمر ليس من صميم صناعتهم). إن المهندس أكثر الناس دقة في اختيار ألفاظه ومعانيه - ويزداد عنهم إيضاحاً بالتجائه إلى المعادلات والأعداد. وبمصر مهندسون يغارون كل الغيرة على مهنتهم ولغة بلادهم.
أنا معك يا سيدي في أن نهضتنا الهندسية حديثة وأنه لم يتم للآن الاتفاق على بعض مصطلحات العلوم الحديثة ولكن أود إحاطتك علماً بالمجهودات التي تبذلها نقابة المهن(737/52)
الهندسية وجمعية المهندسين الملكية في هذا الباب.
ختاماً إن كنت قد أسأت فهم قصدك فلي منك بيان.
المهندس وحيد مصطفى(737/53)
القصص
قصة إسلامية:
شيخ الأندلس
منقولة عن الإنجليزية
بقلم الأديب وهبي إسماعيل حقي
- 2 -
وجدت هذه الدعوة طريقها إلى بعض الآذان، وتهمس كثير من الخدم وقبلوا أخيراً وأعلنوا الموافقة وعمد كل فريق منهم إلى سيده فشد وثاقه وأحكم قيده، ثم تفرغوا إلى الأمتعة يسلبون وينهبون ما تصل إليه أيديهم.
ولما عاد إدريس وسمع صيحات الخيانة تتردد في جنبات المعسكر، انتقى سيفه، واستعد للنزال، فاعترضه أحد الخدم وقال له:
- لا تضيع الوقت يا إدريس، فهذه فرصة قل أن تسنح. إن القراصنة عاهدونا عهداً وثيقاً أننا سنقتسم وإياهم كل ما نسلب ولم يدعه إدريس يتم حديثه فبادره بقوله:
- بماذا تنطق يا هذا؟ وماذا تريد أن تقول؟
- أقول إن الظروف قد هيأت لنا أن نسلب متاع هذا التاجر، ونختص بها دونه، وسننزل لك عن نصفها، ونشترك جميعاً في النصف الآخر. . . وها نحن أولاء قد أحكمنا قيد سيدنا؛ فلا تتردد وسارع إلى معونتنا. . .
لم يكن لدى إدريس سوى عمل واحد لإجابة ذلك الخادم، فإنه لم يكد يتم جملته حتى كان السيف قد فلق هامته، فسقط على الأرض تتفجر الدماء غزيرة منه، ثم دلف إدريس إلى إحدى الخيام فوجد سائر الخدم منهمكين في كسر الصناديق، وتفريغ الأواني الذهبية، وربطها استعداداً للرحيل، فلما وقع عليه نظرهم حسبوه قد خف لمساعدتهم، فقالوا في لفظ واحد:
مرحباً بك يا إدريس! ستكون الجمال هنا بعد قليل، فلم يمهلهم إدريس إلا ريثما لفظوا تلك(737/54)
اللفظة، فأمسك بسيفه وأجهز على ثلاثة منهم في طرفة عين، فلاذ الباقون بالفرار. . .
ولما لم ير إدريس سيده ولم يسمع له صوتاً، انتقل إلى خيمته الخاصة فوجده ملقى على وجهه في أحد الأركان. وبجواره واحد من المتمردين والسيف في يده، فقال له ذلك المتمرد حين رآه بعد أن ركل التاجر برجله:
- ماذا يجب أن نعمل يا إدريس لنتخلص من هذا التعس؟
تأثر إدريس من الحالة التي وصل إليها سيده، ومن الخيانة التي بدرت من أتباعه ومن هذه الوحشية والقسوة التي عاملوه بها؛ إنهم قد شدوا وثاقه، وأحكموا قيده، وطرحوه أرضاً، وشهروا عليه سيوفهم. . . إن إدريس مسلم، ودينه لا يبيح له أن يتخلى عن أداء واجبه وإن عرض عليه نصف المتاع ثمناً لتخليه.
حقاً إنه وحده في هذا المكان أمام زملائه الذين سولت لهم أنفسهم أن يتألبوا على ولي نعمتهم.
وحقاً إن سكوته سيجعل منه بعد ساعات معدودات غنياً كبيراً، وثرياً عظيماً، وليس بالهين عليه أن ينقذ سيده، كما أنه ليس بالهين عليه أن يقف مكتوف اليدين لا يعمل عملاً. . .
إن ضمير المسلم يهيب به أن يعمل على إنقاذ سيده وأن يرعى حقه عليه، وأن يكون وفياً له، أميناً مخلصاً، وأن يربأ بنفسه، وينأى بدينه عن أن يتسفل إلى هذا الدرك من الانحطاط الخلقي. وهذا ما كان من إدريس فقد وثب على الخادم الذي يحرس التاجر وثبة النمر، وجرده من سيفه ثم أطاح برأسه، وبسرعة البرق حل قيود سيده، وعاونه على النهوض.
أما بقية الأتباع فقد كانوا في شغل عن ذلك كله بحزم الأمتعة في الخيام الأخرى. ففاجأهم إدريس وصرخ فيهم صرخة قوية نبهتهم إلى الخطر الداهم، فلما هموا بالقضاء عليه رأوا بجانبه سيدهم وبيده سيفه البتار، فغشيهم من الهم ما الله به عليم. وقبل أن يثوب إليهم رشدهم، أعمل إدريس وسيده فيهم سيفيهما فسقط اثنان منهم يتخبطان في دمائهما. فلما رأى الباقون ذلك ولوا مدبرين. وتركوا كل شيء على ما كان عليه.
في الصباح الباكر لاح في وسط البحر على مد البصر، مركب القراصنة يمعن في الهرب، وهو مشحون بما سرقوه من أموال ومتاع. وكانت جثث القتلى والجرحى متناثرة حول الخيام في منظر رهيب ترتجف لهوله القلوب، ولم ينج من التجار سوى سيد إدريس، فقد(737/55)
كتب الله له السلامة على يد رفيقه الأمين وحارسه المخلص الذي أبى عليه دينه وأبت مروءته أن يترك سيده في محنته. كان إدريس مؤمناً حقاً، طبعه الإسلام بطابعه، فنشأ متواضعاً جم التواضع، كبير النفس، عال الهمة كثير الوفاء، شديد الإخلاص أحرص على تعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم من حرصه على حياته، فكان يرى أنه لا يليق بالمسلم أن يلوث سمعة الإسلام بالجبن أو الخيانة، أو القعود عن نصرة الضعيف. . . وكان يرد على ثناء سيده عليه بعد تلك الليلة بقوله:
- إنني يا سيدي لم أقم إلا بما يجب عليّ كإنسان مسلم يعلم أن الله يجزي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
كانت تلك الفرصة هي التي ولدت في التاجر الثقة بإدريس، وأعلت منزلته في قلبه، حتى أصبح لا يعمل إلا بمشورته، ولا يصدر إلا عن رأيه، وكان الرجل من كبار التجار في الأندلس، له القصور الشامخة، والمزارع الواسعة، والحدائق الغناء، والبساتين الزهراء، يحوطه جيش من الخدم والحشم، ويتمتع بتقدير الناس ومحبتهم
ولما استقر المقام بالتاجر في بلده بين أهله، أقام حفلاً كبيراً، شكراً لله على سلامته، ودعا إليه سراة القوم وعِلْيتهم، وقدم لهم إدريس منقذ حياته، وامتدح لهم شجاعته ونجدته، وقص عليهم قصته، وقال في تمام حديثه: (فلولا إدريس لكنت في عداد الأموات منذ أمد بعيد؛ فأنا مدين له بحياتي!).
جعل كلام الرجل لإدريس مكاناً ممتازاً في نفوس الناس وقلوبهم، فكانوا يجلونه ويحترمونه، ويقدرون فيه أخلاقه الإسلامية الكريمة، التي فتحت له أبواب السعادة في مستقبل حياته، فلقب بشيخ الأندلس، وصار أغنى أغنيائها.
وفي مكان منعزل عن المدينة وضوضائها، كانت الساحة الشعبية التي أعدتها حكومة الأندلس الإسلامية، لإقامة المهرجانات الرياضية والمباريات في الرماية والفروسية، وكانت الساحة واسعة، اكتست أرضها بحشيش أخضر جميل، وقامت في جوانبها أبنية فخمة في شكل دائري، واجهتها مكشوفة إلى الملعب ليجلس فيها المتفرجون أيام المباريات، وكانت الساحة مفتحة الأبواب لجميع المواطنين من غير تمييز بينهم في الجنس أو الدين؛ فقد كان للأندلسيين ولع شديد بالرياضة على اختلافها، فكان البرابرة والعرب واليهود منهم(737/56)
والمسيحيون والمسلمون يؤمون تلك الساحة من كل فج في نشوة الفرح وغمرة السرور.
وكان العلم الإسلامي الوطني يخفق في قمة البناء، ينشر العدل والإخاء، ويدعو إلى التسامح والمساواة، وكانت المباريات الرياضية والمهرجانات الشعبية في المناسبات الدينية، والأعياد الوطنية، وكان أعظم تلك المباريات المباراة التي تقام في أيام عيد الفطر من كل سنة، فقد كان يتقدمها عرض عسكري عام، تتبعه حركات رياضية ماهرة، وكان نبلاء المسلمين وأمراؤهم يدعون إليها كبار المسيحيين وعيونهم ليشتركوا في الرماية وسباق الخيل.
وكانت الوفود تتوالى على المدينة من أقاصي البلاد وأدانيها لشهود المهرجانات، فيقابلهم السكان بالحفاوة والترحيب ويفتحون لهم صدورهم وبيوتهم، ويقيمون لهم الولائم الفخمة والحفلات العظيمة، وكانت الحكومة تعد بيوتاً لمن لم يجدوا لهم مأوى. توفر لهم فيها أسباب الراحة، وتهيئ لهم فيها طيب الإقامة.
وفي إحدى السنوات كان شهر رمضان يقترب من النهاية، حين أخذت المدينة زخرفها وأزينت، وشرع السكان يتأهبون لاستقبال الوافدين عليهم من أعالي البلاد وأسافلها لحضور المباراة الكبرى، وكانت عادتهم قد جرت بأن الغرباء عن المدينة يكتبون إلى أصدقائهم فيها أنهم سينزلون ضيوفاً عليهم مدة المهرجان ليعدوا لهم أماكن لإقامتهم، وكانت برامج المهرجان تذاع بين السكان قبل إقامته بأيام معدودات، وبينها أسماء المشتركين في المباريات الرياضية، وركوب الخيل، واللعب بالسيف والرمح، وإصابة الأهداف بالسهام. لم يبق على العيد إلا يوم وبعض يوم، وليس لأهل المدينة حديث إلا حديث المباراة، ومن اشترك فيها من المسلمين والمسيحيين الذين استعدوا لنزال إسحاق بم إدريس، ذلك الشاب العربي المسلم الذي توالى انتصاره في عامين متتابعين.
إن القارئ ليذكر أن إدريس بن أحمد قد أصبح أقرب المقربين إلى ذلك التاجر الأندلسي الذي التحق بخدمته في سوريا ورافقه إلى بلاده، وخلصه في الطريق إليها من براثن موت محقق، ولقد نعم إدريس بجواره بضع سنوات كان فيها موطن سره، وموضع إعزازه وإكباره، فلما وافته منيته ولم يكن قد أعقب ذرية تؤول إليها ثروته الطائلة أوصى بها لمنقذ حياته إدريس وفاء لحقه واعترافاً بفضله، فأصبح إدريس منذ ذلك التاريخ صاحب غنى(737/57)
وجاه عريض. ولقد شكر لله هذه النعمة العريضة، فكان ينفق بسخاء على المعوزين وذوي الفاقة، وكان يحج كل عام إلى بيت الله الحرام، ويهدي لأهل الحرمين الشريفين، ويتنازل لهم عن كثير من الأموال. وقد رزقه الله في الخامسة والأربعين من عمره طفلاً جميل الصورة، لطيف التكوين، ورث عنه صفاء العقيدة، وحدة الذهن، ونقاوة الضمير، فاهتم بتربيته وتنشئته على الأخلاق الإسلامية الحميدة، وعلمه ركوب الخيل والرماية، فشب نبيل الطباع، نادر المروءة، كريماً سخياً. فلما استوى عوده، واشتد ساعده، أضحى مضرب المثل في الفروسية وركوب الخيل. وكان أبوه إدريس قد بلغ من الكبر عتياً، فعلق على ابنه كل أمل له في الحياة، واتخذ منه دعامة قوية، وعدة صالحة للمستقبل.
ولقد نال إسحاق في سنتين متعاقبتين جائزة البطولة الذهبية في المباراة الكبرى، وتردد اسمه في هذه السنة على كل لسان، وتساءل الناس متشككين: أيحوز قصب السبق مرة ثالثة وقد احتشد له كبار الرماة من المسيحيين الذين برعوا في ركوب الخيل وقد هرعوا لنزاله من مناطق شاسعة البعد؟
حل اليوم الذي تختم به المباراة الكبرى، وتخفق فيه قلوب المتنافسين رغبة في الفوز، ورهبة من الفشل، وبدأ الناس يفدون إلى الساحة مبكرين، وقد أخذوا زينتهم، ولبسوا أبهى حللهم؛ وكانت السيدات يتباهين بجمال زينتهن وحسن هندامهن وهن في الطريق إلى مقصوراتهن الخاصة بعيدات عن الرجال، وكان للنساء الأندلسيات ولع بشهود المباريات ولا يشتركن في اللعب. وكان للخليفة كبار الحاشية مقصورات خاصة بهم في أبنية الملعب.
ولما دقت الساعة العاشرة، وكانت الساحة غاصة بالرجال والنساء والأطفال يستمعون لأنغام الموسيقى، ركب المتبارون جيادهم وأخذوا يقطعون الساحة ذهوباً جيئة، وهم يتيهون في ملابسهم الوطنية الزاهية ويتأهبون لاستقبال الخليفة وبدء المباراة. وما هي إلا دقائق معدودة، حتى قرعت الطبول إيذاناً بقدوم الخليفة، فاشرأبت الأعناق، وشاهد الحاضرون كتيبة من الفرسان تتقدم الموكب، وكلهم من زهرة الشباب العربي المسلم، ترقص الخيل تحتهم، وتلمع السيوف في أيديهم، ثم وليها الرجالة وهم من خيرة رجال الحرب، يحملون الأعلام الوطنية الإسلامية، وعلى صدورهم الأنواط التي فازوا بها في المعارك التي خاضوا غمارها وخرجوا منها ظافرين. ثم لاح الخليفة يحيط به الأمراء وكبار رجال الحكم(737/58)
والأمن على خيل أشد بياضاً من الثلج، وملابسهم وسيوفهم ناصعة البياض؛ وكان الخليفة يلبس فوق رأسه عمامة كبيرة مرصعة بالجواهر، وتعلوها ريشة طويلة ذات ألوان عديدة أكسبتها رونقاً وبهاء. وقد استقبلت الجماهير الخليفة أروع استقبال وهتفت له في حماسة بلغت عنان السماء وهي تردد: (الله أكبر، الله أكبر) وقذفت السيدات بالمناديل المعطرة في أرض الملعب احتفاء بقدوم الخليفة. رد الخليفة تحية الجماهير بأحسن منها، ثم أخذ مجلسه وجعل المشتركون في المباراة يمرون أمامه في شبه عرض عسكري يتقدم الأسن منهم ليحيي الخليفة بانحناءة بسيطة، ثم الذي يليه في السن ورئيس الملعب يقدمهم له بأسمائهم، فلما كان دور إسحاق - والخليفة يعرفه لأنه فاز بالبطولة مرتين - قال له جلالته: كيف أنت يا إسحاق هذا العام؟ أخشى أن يعدوك النصر، فإنك أمام أشهر الرماة وأمهرهم! فانحنى إسحاق قليلاً ثم قال: إنني يا مولاي بحسن تأييد الله، وجميل رعايتكم بخير والحمد لله، وأملي في الفوز كبير، مادمتم عنا راضين!
(يتبع)
وهبي إسماعيل حقي(737/59)
العدد 738 - بتاريخ: 25 - 08 - 1947(/)
عبر لمن يعتبر
للأستاذ محمود محمد شاكر
في اليوم الخامس من أغسطس 1947 ارتفعت مصر والسودان بقضيتها إلى مجلس الأمن تطلب النصفة من بريطانيا التي اعتدت على استقلالها واحتلت أرضها من منبع النيل إلى مصبه، ووقف رئيس وفد مصر والسودان محمود فهمي النقراشي باشا يميط اللثام عن السياسة البريطانية منذ سنة 1882، وكان لابد له من كشف طرفاً من سوءات هذه الدولة التي قام كيانها على استعباد الشعوب وإذلالها وأهتضام حقوقها. وكان الذي كشفه شيئاً ضئيلاً إذا قيس بما كان يمكن أن يقال أو يكشف من الأساليب الخبيثة التي دأبت بريطانيا على التذرع بها إلى عدوانها الوحشي على الأمم في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر الميلادي. وكان رئيس وفد مصر والسودان يذكر الماضي ويروي عن التاريخ أصدق رواية في أعف لفظ، فأبى له أدبه أن يصف أفعال بريطانيا باللفظ الذي ينبغي أن توصف به، والذي سوف يصفها به التاريخ بعد أن تسقط هذه الدولة من عداد الدول التي يكون لها في هذه الأرض سلطان يقوم على القوة الغاشمة، والدعاية الكاذبة، وعلى التضليل والافتراء والعبث بعقول الناس.
ولم يكد النقراشي يفرغ من عرض قضية بلاده على أعضاء مجلس الأمن، حتى هب مندوب بريطانيا السير ألكسندر كادوجان يروي لمندوبي مجلس الأمن تاريخ هذا العدوان البريطاني رواية ملفقة مبتورة حشوها العبث بالتاريخ، والاستهانة بالجنس البشري، والاستخفاف بعقول الذين يسمعون روايته المدلسة عن تاريخ حقبة من الدهر يستطيع كل مندوب ممن يسمعونه أن يفتح بعدها أي كتاب من كتب التاريخ الصحيحة، فيعرف مقدار السخرية التي سخر بها هذا الرجل من سامعيه. وكان يسوق هذه الرواية المزيفة بأسلوب الواثق المطمئن بأسلوب الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولا ريب في أن السير ألكسندر كادوجان هو أول من يعلم أن الذي يقوله باطل كله، ولكنه رجل من ساسة بريطانيا - أي رجل من أعظم الممثلين الذين يجعلونك تحس أن المسرح قد انقلب تحت عينيك حقيقة واقعة.
ونحن لن نعلق على ما قاله النقراشي باشا ولا على ما قاله السير كادوجان، فالحق أبين من(738/1)
أن يحتاج إلى إيضاح لمن أراد الحق والتمسه وحرص على التثبت منه، ولست أظن أن أحداً من مندوبي أمم مجلس الأمن يخفي عليه وجه الحق الذي سمع من الرجلين. فإن كان بناء مجلس الأمن قائماً على العدل والإنصاف وإيتاء كل ذي حق حقه، فقد نالت مصر إذن حقها من غاصبها كاملاً غير منقوص ولا مشروط بشرط. وإن كان مجلس الأمن هو سوق الرقيق الحديثة التي أنشأتها الأمم الغالبة لكي تبيع خلق الله وتشتريهم على الهوى فإن مصر والسودان سوف تعلّم هذا المجلس علماً جديداً لم يكن يتوقعه من أمة ضعيفة أضعفها الاستبداد البريطاني على مدِّ خمس وستين سنة - لأنها أمة قوية قد علمها هذا الاستبداد أن الحقوق تنال بالجهاد المر، وبالدم المهراق، وبالإيمان الذي لا يتضعضع.
ولقد كان فيما قاله النقراشي وفيما قاله كادوجان عبر لمن أراد أن يعتبر، ونحن العرب أحوج الناس اليوم إلى الاستفادة من العبر المواضي، فإن جهاد مصر والسودان حلقة من حلقات الجهاد الذي كتب علينا منذ احتلت بلادنا بريطانيا وفرنسا وسواهما من الأمم التي استعانت على ضعفنا وغفلتنا بقوتها ويقظتها وجشعها الذي لا يشبع ولا ينطفئ.
فأول هذه العبر أنه ينبغي للمجاهدين في سبيل بلادهم أن يحذروا كل الحذر من الخوف، فإن الخوف آفة الجهاد، وما ساور الخوف قلباً إلا انتزع منه البصيرة التي هي رائد كل مجاهد. وما نفى الخوف امرؤ من قلبه إلا زلزل بجرأته قلب خصمه وجعله يضطرب بين يديه وإن كان أقوى منه بأساً وأشد صولة. وقد نفى النقراشي الخوف من قلبه، فوقف كادوجان بين يديه مضطرب الحجة حتى لم يجد لنفسه مناصاً من أن يلجأ إلى الأكاذيب القديمة التي ألفتها بريطانيا وبرعت في تزويقها وتزويرها تريد بذلك أن تسحر عقول الناس. ولو كان الساسة العرب قد حرصوا على أن يكون هذا موقفهم في كل أمر وفي كل عهد وفي كل ساعة، لما أتيح للاستعمار البريطاني والفرنسي أن يبقى ضارباً بجذوره في بلادنا إلى هذا اليوم من أيام الناس. فهذه جرأة اللسان، فعلى ساستنا منذ اليوم أن يتبعوا ذلك بجرأة أخرى هي جرأة العمل، ولو فعل الساسة أفعالهم بجرأة وشمم وإباء على الضيم، لما رأينا اليوم بلداً كمصر والسودان يعج بالمستهترين من الأجانب والمشردين وصعاليك الأمم، يستولون على أمواله وأراضيه وأخلاق بنيه باسم حرية المهاجرة وحرية التجارة وحرية العمل. لقد أظلهم الاستعمار البريطاني بظله وحماهم بحمايته حتى بات المصري والسوداني(738/2)
غريباً في بلاده، يأكله كل طارئ، ويدعه جوعان عريان منبوذاً في بلاده وتحت سمائه.
وعبرة أخرى هي أن التساهل مخالفة العواقب شر كله. فقد رأى بعض ساستنا أنهم إنما يفعلون خيراً كثيراً لبلادهم إذا تساهلوا لبريطانيا في بعض الحقوق، ظناً منهم أن ينالوا من وراء ذلك حقوقاً أخرى هي أولى بالتقديم والنظر والاهتمام، فكانت العاقبة أن دخلنا مع بريطانيا في الدائرة المغلقة التي يسمونها (المفاوضة). فإذا نحن نضيع حقوقنا كلها جملة واحدة، وإذا بريطانيا تريد أن تحتج علينا اليوم بما تساهل به أولئك الساسة في حقوق بلادهم، فتأكل علينا حقنا كله حين تريد أن تمنعنا من أعظم الحقوق البشرية وهي الحرية. وتريد أن يقطع قلب مصر بقطع السودان عنها، لأن قوماً من الساسة غفلوا زمناً طويلاً عن رفض كل اتفاق لا يشمل السودان كما شمل الجزء الشمالي من وادي النيل وهو مصر، فارتضوا أن يعلقوا مسألة السودان ويأخذوا من عبث بريطانيا ما زورته لهم وخدعتهم به ثم هي اليوم تمن علينا أنها أعطتنا تلك الفضلات التي لا يعبأ بها إلا الذليل الخانع المقيم على الضيم.
وعبرة ثالثة هي أن زعماء الثورة على العدو ينبغي أن يظلوا أبداً زعماء الثورة، لا رؤساء حكومات تحت ظل حماية مقنعة تسمى استقلالاً كذباً وتضليلاً في العرف الدولي. فكان ينبغي لهؤلاء الزعماء أن يظلوا بمنجاة من إثم الحكم تحت ظل الاستعباد البغيض وأن يكونوا دائماً أيقاظاً لا تنيمهم شهوة الحكم، وبذلك يضمنون لبلادهم أن تظل يداً واحدة على العدو، وأن تظل يقظة متنبهة لا يخدعها لفظ (الاستقلال) عن الخبث الذي انطوى عليه وأن يصارحوا الشعب دائماً بالحقيقة التي لا تستر، وهي أنه صار (مستقلاً) في العرف الدولي، وأن يكشفوا له ما استطاعوا عن خدع الاستعمار الذي يعبث بهم. وإلا فأي خديعة كانت أكبر على هذا الشعب من خديعة الناشئة في المدارس والبيوت، وهم يقرئون ويسمعون أن مصر دولة مستقلة وهي اليوم تقف لتقول للناس على رؤساء الأشهاد في مجلس الأمن أن الاستقلال الذي ضمنته بريطانيا!! كان استقلالاً مزيفاً، لأن الجنود البريطانية كانت لا تزال تحتل بلادنا ولأن السفير البريطاني كان ينصب الحكومات المصرية ويقيلها كما يشاء وتشاء دولته المستعمرة لبلادنا. لقد ظن أولئك الرجال أن هذه سياسة وكياسة وحسن تدبير، فإذا هي غفلة وحماقة وسوء تقدير. ولولا يقظة هذا الشعب(738/3)
الأبي الكريم، لما استيقظ هؤلاء الزعماء البتة، ولمضوا إلى الغاية في التنازع على الحكم وشهوات الحكم وفتن الحكم، فالشعب هو الذي انتهى بنا إلى مجلس الأمن لا الزعماء ولا أولئك الساسة.
وعبرة رابعة هي أنه ينبغي لزعماء الثورة أن لا يقبلوا البتة مفاوضة الغاصب على حق من حقوق البلاد، فإن حقوق الحرية مترابطة لا ينفك بعضها من بعض، ففيم يفاوض الإنسان إنساناً قد سلبه حقوقه؟ إنها كلمة واحدة: (هات حقي)، ولا تدع المطالبة بالحق كاملاً حتى يتركه لك أو تموت دونه. وما دام الغاصب لا يستطيع أن يفني شعباً بأسره، فالشعب هو الظافر المنصور في النهاية، مهما لقي من عذاب وتنكيل واضطهاد وبؤس. ولو كان هذا من فعل مصر والسودان منذ سنة 1882 لما انقضت سنوات بعد سنة 1919 سنة الثورة، حتى كان الغاصب قد أسلم إلينا حقوقنا كاملاً بلا معاهدة ولا مفاوضة. ولكن زعماء الثورة رموا بأنفسهم في المفاوضات، فكانت العاقبة أننا بقينا نفاوض بريطانيا سبعة عشر عاماً، فإذا هي تعطينا معاهدة سنة 1936 تحت الضغط والقهر والتهديد، وإذا هذه المعاهدة احتلال تام، ولكنه سمي بالعرف الدولي (استقلالاً).
وعبرة خامسة هي أن الذين يدخلون المفاوضات ويعقدون المعاهدات تحت ظلال السيوف، وبضرورة التهديد والقهر، كان ينبغي عليهم أن يكونوا ناساً غير زعماء الثورة، أما زعماء الثورة حين يفعلون ذلك، فهم بين رجلين: إما مدلس كذاب يخدع الناس ويقول للناس هذه معاهدة الشرف والاستقلال، وهي ليست سوى معاهدة للاحتلال الدائم، وإما رجل ضعيف الرأي منخوب الفؤاد يوقع على المعاهدة ثم لا يجرؤ أن يقول لشعبه إن هذا الذي وقعت عليه احتلال لبلادكم فأحذروه وارفضوه وثوروا في وجهي ووجه من رضيه معي. وهذا الثاني لن يستطيع أن يقول ذلك، فهو مضطر إذن إلى التلفف والتلفيق والسكوت وادعاء الشجاعة حين يقول. (هذه معاهدة لولا القهر والتهديد لما وقعتها)، ويقولها في غمرة تلك الأمواج الهائلة من الخداع والأكاذيب التي اصطلح على نشرها بين الشعب الغافل المنكوب زعماء من أنفسنا، وساسة من أخبث ساسة بريطانيا في هذا القرن. يا له من عبث أيها الساسة المخادعون! وتبتم أيديكم يوم وقعتم وثيقة أراد بها الغاصب إذلالكم وإذلال بلادكم فقبلتموها، وهو اليوم مصر على أخذ بلادكم بما جنت أيديكم من شرور تلك المعاهدة(738/4)
الخبيثة التي زعمتم أنها فرضت عليكم فرضاً. ولقد كانت لكم مندوحة عن قبولها لولا الضعف والخور والجبن وشهوة الحكم التي استولت على قلوبكم.
وعبرة سادسة هي أن بريطانيا وكل دولة مستعمرة من هذه الدول الأوربية لا تتورع عن اتخاذ وسيلة تبلغ بها غايتها، فمن أجل ذلك ينبغي للشعب أن يعرف منذ الساعة الأولى رجاله ورجال عدوه، وأن يسم الخونة بسمة لا تزول، وأن يتناقل هذا التاريخ عاماً بعد عام وجيلاً بعد جيل في البيت والمسجد والمدرسة والمجالس، فهذا وحده هو الكفيل بأن يعرف الشعب حقيقة كل زعيم تسول له نفسه أن يستغل غفلة الناس أو ذعرهم أو لهفتهم فيغرر بهم في مزالق السياسة الاستعمارية، فإن مصر والسودان ظلت أعواماً تأبى أن تعترف باتفاقية سنة 1899 التي فرضتها بريطانيا على مصر والسودان على يد رئيس وزراء كان خليقاً أن يخون بلاده، ثم جاء الموقعون على معاهدة سنة 1936 فقبلوا أن يكون لهذه الاتفاقية الباطلة التي لم تعترف بها مصر قط - ذكر في معاهدتهم الوبيلة الخبيثة. فلو كان الشعب يومئذ على ما ذكر لما كان من شئون الخونة السابقين وما فعلوه، لما جازت عليه الكلمة الملعونة في معاهدة سنة 1936، ولثار يومئذ على هؤلاء الزعماء لأنهم أهدوا كل جهاده الماضي، وكل ما أراق من دماء وأضاع من جهود، وأنفق من سنين بنص موبوء في ماعاهدة موبوءة.
ولن نفرغ من ذكر العبر الكثيرة التي توحي بها هذه الساعات في المعركة الفاصلة بيننا وبين بريطانيا في مجلس الأمن وفي كل عبرة من هذه العبر خير كثير يرجى أن لا يفوت العرب إذا حذروا وانتبهوا وآثروا السلامة مما وقعنا نحن فيه. ومن حسن الحظ أن أكثر زعماء العرب اليوم من مراكش وتونس والجزائر وليبية وفلسطين والعراق هم اليوم أشد إحساساً من أسلافهم بالتبعة الملقاة على كواهلهم، وأقوى إيماناً بالحقوق الإنسانية من بعض زعمائنا في الماضي، ولكن ينبغي لهم أن يجتنبوا كل الاجتناب أن يقبلوا مفاوضة الغاصبين أو معاهدتهم أو الدخول معهم في حديث السياسة والكياسة واللباقة، فإن هذا وإن أفاد قليلاً، فإنه شر مستطير على مستقبل الشعب في الشئون السياسية، وفي النواحي الأخلاقية وحسب هؤلاء الزعماء العرب ما جربته مصر من مطاولتها والمد لها أكثر من تسع وعشرين سنة باسم المفاوضات والمعاهدات، حتى فقد الشعب كثيراً من إيمانه بحقوقه،(738/5)
ولولا أن الله أتاح لنا هذه الحرب الأخيرة لتنفض عن عيوننا النوم والتخدير الذي أصابها باسم المفاوضة لظللنا إلى اليوم نياماً تجرنا بريطانيا وراءها طمعاً منا في أن ننال شيئاً من حقوقنا بمفاوضتها ومعاهدتها
أيها الزعماء العرب لا تخونوا بلادكم: أي لا تفاوضوا بريطانيا أو سواها من الدول المستعمرة ولا تعاهدوها ولها في بلادكم ظل من سلطان، ولا تخافوها ولا تخشوا لها بأساً ولا قوة واحرصوا على أن تبقى شعوبكم عالمة بحقيقة ما يحيط بها بكل أسلوب تستطيعونه، وإياكم والحكم فإنه الفتنة المبيدة والآلة الحالقة والبلاء المبين. لقد كان لكم فينا عبرة فاعتبروا، وقفوا منذ اليوم أيقاظاً لا تغفلون، فربّ ساعة سوف تأتي علينا وعليكم فنناديكم للجهاد، فهبوا معنا واحذروا أن يكون بينكم زعيم يسول لكم أن الخير في الرضى والتراضي والتساهل، فإن ذلك هو الوبال، وهو آخرة العرب إن فعلتم. إن مصر والسودان قد بدأت أول الجهاد؛ فاستعدوا أيها العرب!
محمود محمد شاكر(738/6)
القسم التاسع:
فرنسا ومستعمراتها
للأستاذ أحمد رمزي بك
قال ضابط البحرية الياباني:
(إنك لم تفهم بعد الدرس الذي تلقيناه من أجدادنا بهزيمتهم وموتهم: إنه درس صبر وعناد ويقظة واحتراس ومكر وخديعة. لكي ننتصر على أعدائنا ذهبنا لمدارسهم وكانت عقولنا لا تهضم تعاليم الغرب وأساليبه. فشعرنا بحاجتنا إلى عقلية أوروبية فأقدمنا بكل صعوبة وألم وحسرة على التحرر من أشياء عزيزة علينا للحصول عليها. ولكن هذا التغيير كان لازماً نعم لأجل الخلاص لأجل إنقاذ الوطن لكي ننتصر على الأعداء في الميدان).
(من كتاب المعركة)
كفاح الجزائر أمام جحافل فرنسا
إننا لا نحاول سرد حوادث هذا الكفاح، لأن من السهل تتبع معاركه وأدواره وحلقاته من كتب التاريخ في مختلف اللغات ولذلك سنكتفي بإعطاء فكرة إجمالية، أو رسم صورة عامة من التي يراها واقف على مرقب أو مركز للرصد من على رابية عالية تشرف على الحوادث والتطورات وعلى مواقع القتال. ونرجو أن نوفق في إخراج التاريخ صورة حية وذكرى لمن شاء أن يتذكر من دروسه وتجاربه وعبره حتى لا تتكرر الأخطاء مرة أخرى في تاريخنا وكفاحنا.
كانت حكومة الجزائر الإسلامية من الحكومات التي ليس لها سبيه أو مماثل في التاريخ إذ كانت تابعة للدولة العثمانية ولكنها تتمتع بسيادة وحرية، وكانت خارجة على القانون الدولي والعرف السائد بين الأمم الأوروبية ومع ذلك فهي تفرض الإتاوات على دول الغرب وتتقاضى رسوم المرور في عرض البحر، وإلا هاجمت أساطيلها المراكب البخارية، وأحياناً ثفور هذه الدول ومرافئها، ولهذا سالمتها الحكومات المختلفة وأذعنت لقبول ما تفرضه هذه الحكومة عليها، فكانت فرنسا ترسل إليها هدايا معلومة مالية أحياناً وأخرى معدات وآلات حربية، وكان هذا شأن بريطانيا معها والدانمارك ومملكة صقلية والبرتغال(738/7)
والسويد والنرويج حتى ولايات ألمانيا والولايات المتحدة خضعت لهذا النظام العجيب الذي فرضته حكومة قليلة العدد ولكنها كثيرة البطش. وكانت قواتها المسلحة تتراوح بين 15 و20 ألف مقاتل من الجنود الأتراك أو أبناء هؤلاء من أمهات وطنيات وكان ينضم إليها رجال من قبيلة زواوه وهي التي حرفها الفرنسيون فأصبحت فرق الزواف المشهورة التي قامت على متطوعي هذه القبيلة وبقايا جند حكومة الجزائر النظامية.
وعلى هؤلاء الجنود اعتمد الدفاع عن المدن السياحية عند مهاجمة الفرنسيين ولما تثبتت قواعد حكمهم جندوا من الأسرى أول فرقة وطنية للاستعانة بها.
أما في الداخل فقد قامت قوة الدفاع على جماعات المقاتلة من رجال القبائل وهم مشاة وفرسان على طريقة حروب البادية، ولما اشتدت المعارك فكر الأمير عبد القادر في إدخال النظام العسكري الحديث مقلداً المحاولات التي حاولها كل من محمد علي والسلطان محمود العثماني، ولاشك في أن هذه المحاولات قد بهرت أنظاره وتطلع إليها وحاول تقليدها.
وفي سيرة الأمير ذكر ابتداء هذه الحركة وانتشار الدعوة إلى تجنيد الأجناد وتنظيم العساكر تحت اللواء المحمدي وإيجاد دفاتر لقيد الجنود الذين بدءوا تدريبهم وأتموا تعليمهم ورسم الذين حملوا السلاح منهم، كما فيها وصف كامل لأصناف الفرق من مشاة وفرسان ومدفعية وطريقة التعبئة والسير والنزول في المعسكرات ويظهر أن هذه القوة مع اهتمام الأمير عبد القادر بها لم تكن هي التي يقع عليها القتال وحدها وإنما كان الكفاح موكولاً إلى رجال القبائل وكانت هي بمثابة قوات ثانوية مساعدة ومكملة.
أما الفرنسيون فكانوا على علم تام بطبيعة الأرض الجزائرية من ناحيتها الجغرافية والطبوغرافية ولديهم الخرائط المفصلة عنها، فقد أثبتت المراجع الرسمية أن نابليون الأول أرسل ضابطاً فرنسياً إلى الجزائر عام 1808 وكلفه أن يدرس بالتفصيل مشروع الحملة الفرنسية ووضع الخطط العسكرية الشاملة، وقد قام هذا الضابط بمهمته وصحح المواقع على الخرائط ورفع تقريراً وافياً عن الشاطئ الإفريقي والأماكن التي تصلح لإنزال الجنود وأشار إلى الطرق والآبار والوسائل التي تؤدي إلى حشد القوات وربطها والسير في حلقات الحملة، ولم يكن لدى الفرنسيين عند عدوانهم سوى إخراج هذا التقرير من ملفات وزارة الحربية وتقييد ما فيه وهذا ما حدث في عدوان سنة 1830. إذ أنزلت الفرق في الأماكن(738/8)
المختارة في هذا التقرير وتحت تجارب حملة مصر عند احتلالها مدينة الإسكندرية واختيارها منطقة العجمي التي تشبه سيدي فرج.
ولم يكن الفرنسيون على جهل بأساليب القتال لدى المسلمين، فهم قد حاربوا المماليك في معركة أمبابة ورأوا ما يمكن أن تقوم به أساليب القرون الوسطى أمام جنود معبأة على الطرق الحديثة، ثم هم لم يهملوا تتبع التطور الذي أدخل على أنظمة جيوش المسلمين، فقد كان من ضباطهم وقوادهم من رافق حملات مصر ضد الوهابيين وكانوا في الصفوف الأولى يقيدون حركات المصريين ودفاع الوهابيين ويكشفون عورات الجانبين ثم يستفيدون من كل ذلك في حروبهم بالجزائر.
واختير للقيادة البرية الماريشال بودمون وهو من رجال سنة 1815 أي من الضباط الذين قاتلوا في معركة واترلو وحضروا معارك نابليون فأسندت إليه آمرية حملة بنيت على تقرير ضابط من ضباط نابليون، وكان على الأسطول الأميرال دوبريه ولكل منهما طابعه الخاص ورغبته في الانفراد والتسلط فما لبث أن دبَّ الخلاف بينهما ولولا تعليمات الحكومة الصريحة أنه إذا اختلف الرأيان، فضل رأي المارشال وأسندت إليه القيادتان البرية والبحرية لاستفحل بينهما النزاع ولفشلت الحملة.
ولعل أعظم ما ساعد الفرنسيين على التغلب هو أعمال المدفعية التي تجرها الخيول فقد امتازت منذ الساعة الأولى كما ذكرنا بقوة نيرانها وتوفيقها في إصابة الأهداف وسرعة حركتها، فكانت أول عامل من عوامل النصر لديهم، كانت كمدرعات هتلر وفرقة البانزو الألمانية في الحرب الأخيرة، وهي الميزة التي كانت لدى الفرنسيين على جند حكومة الجزائر وعلى العرب المجاهدين ولولا هذا القطع من المدفعية لكانت الحرب بين الفريقين على مستوى واحد من تكافؤ فرص وتكافؤ معدات القتال.
فلننظر إلى ساحل ممتد مئات الأميال عليه مدن ومرافق متعددة ويتكون الداخل من سلاسل جبال ووديان ورمال تصلح للحروب ويسمح للقبائل والعشائر التي تسكنها أن تتولى عملياتها بكل سهولة ضد الجيش المهاجم سيما وهي من جماعات ألفت الحروب.
على هذا الميدان نزلت قوات فرنسا بمعداتها الثقيلة ومهماتها الأوربية لتواجه أهل البلاد ولديهم ثلاثة أصناف من المقاتلة. جند حكومة الجزائر وحكام المقاطعات الجند النظامي(738/9)
الذي أنشأه الأمير عبد القادر ثم العمود الفقري للقتال وهم رجال القبائل الذين لبوا دعوة الجهاد.
هذه هي حرب الجزائر التي اشتدت وطأتها على أربعين ألفاً من الجنود الأوروبيين اصطلوا بمعاركها ومشوا إليها تحت وهج الشمس، فتغيرت سحنتهم وتبدلت لديهم ملابس الميدان وأصبحوا مع الزمن كقطيع منفصل عن العالم لا يعرف سوى الحرب والدمار وإسالة الدماء على الأرض الإفريقية. هذا جيش أفريقيا الفرنسي الذي ولد ونشأ وترعرع في معارك الجزائر وحروبها القاسية.
ودارت رحى الحرب سنوات والهزائم تتوالى والمصاعب تتضاعف وليس لدى الفرنسيين الخبرة الواسعة بالإدارة والحكم فهم تارة يجنحون إلى الشدة ويقنعون أنفسهم أنها هي الحزم وأخرى يتقربون زلفى إلى الأهالي، وفي أوقات يقدم قواتهم على عمليات حربية فيها المجازفة والتسرع فترتد عواقبها وخيمة عليهم.
من وسط هذه النكبات ظهرت فكرتان: الأولى إنشاء فرق من الجنود الوطنيين لخدمة فرنسا والثانية إنشاء المكاتب العربية التي أطلق عليها في النهاية اسم المكاتب الوطنية.
وقد ظهرت بوادر النجاح في الناحيتين إذ بالاعتماد على الفرق الوطنية المقاتلة وبعد احتلال مدينتي بون ووهران واتباع خطة الدفاع أمكن إنقاص القوات الفرنسية من 37 إلى 11 ألفاً فعد هذا نجاحاً للقيادة.
أما المكاتب العربية فهي التي وضعت سياسة التخريب والتشريد وهي إحراق المناطق المزروعة ومصادرة قطعان الماشية التي تملكها القبائل العاصية والاستحواذ على الأطفال والنساء كرهائن والفتك بهم إذا استمرت الحرب وأخيراً تطور هذا النشاط إلى القمة واتجه إلى بذر الشقاق بين عناصر وطوائف الأمة الجزائرية، وخلق قضية العرب والبربر فكسبت هذه المكاتب في هذا النشاط من المعارك أضعاف ما كسبته فرنسا بقوة السلاح.
وكان الأمير عبد القادر أول ضحايا عمل هذه المكاتب، فإن قواد فرنسا حاولوا كثيراً أن يعقدوا اتفاقاً معه ولما توصلوا لذلك واعترفوا باستقلاله وإمارته، سلطوا مكاتبهم عليه ووجهوا المطاعن بواسطة وكلائهم وخدامهم فقالوا إنه حالف الكفار وأعداء الدين فأصبحت بيعته باطلة ووكالته على الناس غير قائمة، وعرفت هذه المكاتب السياسية أن تجعل بين(738/10)
أبطالها من هم من رجال الدين والطرق والزعامة، وجندت من يتظاهر بالجهاد والوطنية، وأصبحت مع الزمن من أخطر المنظمات الاستعمارية وأشدها وطأة بما تملك من الوسائل والقوى الخفية مما يعجز الناس عن تصديقه
ولقد عشنا في كثير من بلدان الشرق ورأينا أمثال هذه المنظمات تعمل في هدم الكيان الإسلامي والاستقلالي، ورأينا أناساً يقودون المظاهرات الوطنية ويخطبون في الجماعات ويجاهرون بمبادئ متطرفة، ويكتبون عن أنظمة للحكم يسارية أو نازية ثم يكتشف بعد ومن طويل وبعد فوات الفرص، أنهم مقيدون كخدم لهذه المنظمات الخطرة يتلقون وحيها ويعملون بأوامرها، وقد وصل بعضهم إلى المال والمركز والجاه تحت ستار الضحية والعمل والإخلاص فطوبى لهم.
ولهذا يجدر بالأحزاب والمتصدرين للجهاد في سبيل المثل العليا أن يرقبوا الأنصار والأتباع قبل الخصوم والأعداء وأن يقوموا من بين وقت لآخر بغربلة صفوفهم وإجراء حركة تطهير لأن الدول الاستعمارية وطدت سلطانها بهذه المنظمات وبمن يتبعها من الرجال المنبئين في كل جهة والذين يشايعون الاستعمار وتلعنه ألسنتهم ويتظاهرون بالتطرف لإخفاء حقيقة أمرهم.
ولقد تمكن الأمير عبد القادر من إيجاد دولة عربية مستقلة عاهدت الفرنسيين على السلام واحتفظت بقواها كاملة بعد أن حققت ما ترمي إليه بانتصارها في ميدان القتال ولكن الدولة التي عاهدها كانت تفكر قبل أن توقع على المعاهدة في نقضها فما أن وقعت عليها حتى بدأت ترسل النجدات تتري وأخذت تثير القبائل عليه
ويقول الفرنسيون في ذلك (إننا لم نعقد مع أمراء المسلمين معاهدة وإنما عقدنا هدنة لكسب الوقت حتى يتم تحطيم الجبهة الشرقية ثم نعود إليهم في وهران).
هذا ما حدث فإن ضعفهم تحول فجأة من جبهة الأمير عبد القادر إلى جبهة قستنطينة على حدود تونس حين عبأت فرنسا قواتها بكاملها وزحفت على المدينة في هجمتين فشلت في الأولى فبراير 1837 وكان ذلك قبل التوقيع على معاهدة تفنا مع الأمير ونجحت في الثانية بعد نقل حاميات الغرب فاقتحمت المدينة المحصنة في أكتوبر سنة 1837.
ومن ذلك يتضح أن قواد فرنسا بعد أن أدركوا فداحة حرب الجزائر أخذوا ينسقون بين(738/11)
خططهم الحربية فوضعوها على مراحل إذا أتموا مرحلة انتقلوا لغيرها، ووضعوا المبدأ الثابت وهو شراء النصر والغلبة بأي ثمن حتى لا تفقد فرنسا هيبتها العسكرية، ولذلك وصلت جيوشهم إلى 56 ألف مقاتل في سنة 1840، واستدعت فرنسا بعض الكتائب الممتازة من أصناف القناصة التي كانت تعد من قبيل فرق الكوماندو في العصر الحاضر مع اختلاف التدريب أي زهرة الجيوش الفرنسية.
أما الأمير فقد آمن بعد مفاجئة الفرنسيين لعاصمته، بالفرق الكبير (بين الجنود المنتظمة والجنود المتطوعة) ولذلك انتهز فرصة المعاهدة وعزم على إنشاء جيش نظامي حديث: (فعقد مجلساً عاماً من رجال الدولة وأعيان الرعية وخطب فيهم خطبة أوضح فيها فوائد العسكر النظامي ومنافعه وأخبرهم أن اعتزم على تنظيم عدد منه، فأجلبه الجميع. . . ونودي أنه (صدر أمر مولانا ناصر الدين بتجنيد الأجناد وتنظيم العساكر. . . فمن أراد الدخول تحت اللواء المحمدي ويشمله عز النظام فليسارع إلى إدارة الإمارة والمعسكر ليقيد اسمه في الدفاتر الأميرية).
ومع انتصارات فرنسا في جبهة قستنطينة أخذت تظهر بين جنودها آثار الحروب الإفريقية ومتاعبها، فقد برهنت سنوات السلم، ازدياد حوادث العصيان بين الجنود الأوروبيين ومخالفة الأوامر وعدم الإذعان للقواعد المعمول بها في الفرق الفرنسية بأوروبا نتيجة لاختلاف البيئة والجو، بل أن مضي السنوات أظهر اختلاف الأنظمة الصحية، وأساليب التغذية وتموين الفرق مما أدى كما قلنا إلى الاستهانة بتطبيق القواعد العسكرية وظهور حوادث العصيان، وأعقب ذلك نكبة مليانة التي ظهر للعيان ضعف قوة القتال لدى الفرق الفرنسية الصميمة وفقدان الروح العسكرية ودرجة الضبط والربط التي عرفت عن الجيش الفرنسي إزاء هذه النكبة اضطرت فرنسا إلى تغيير قيادتها العامة في الجزائر برمتها وأجبرت على إدخال أنظمة جديدة للجيش وإلى العمل على رفع مستوى الحياة في الثكنات والمعسكرات والتشديد في المحافظة على روح المقاتلة والكفاح في المستوى المعتاد بعد أن هبطت هبوطاً ملموساً في المعارك الأخيرة.
ولم يستفد الأمير عبد القادر من هذه الفوضى الضاربة أطنابها لما ينقصه من خبرة وإلمام بأساليب الأوروبيين وأنظمتهم وإلا لضربهم ضربة مميتة.(738/12)
ومن كل ذلك نخرج بنتائج مؤلمة:
إن جهاد أهل الجزائر كان مجيداً ومشرفاً لهم ولكنه لم يكن موحداً تتولاه هيئة قيادة عامة كان جهاداً مرتجلاً ولم يكن هناك ارتباط أو تفاهم أو تآزر بين مختلف الجهات.
إن الأمير عبد القادر بقي وحده يجاهد فلم تصله أية مساعدة من تركيا أو مصر.
إن عبقريته ظهرت في المعارك التي انتصر فيها ولكن لم يكن يدعمه أحد من القواد أو الفنيين أو الأوروبيين.
إن متاعب العدو ومشاكله بقيت مكتومة عن علم الأمير وقواده.
إن المكاتب العربية التي أنشأتها فرنسا كانت على علم تام بمشاكل الأمير ومتاعبه، وكانت تزيدها وتحركها وتشعل نيرانها إذا همدت.
إن السلم الذي حصلت عليه فرنسا كان هدنة لكي تتمكن من توجيه ضرباتها من جهات أخرى ثم تعود إلى الجهة التي سالمتها لتقضي عليها.
في وسط هذه الحروب تبدو حكمة الضابط الياباني أنه أخذ العقلية الأوروبية لأجل الخلاص لأجل إنقاذ الوطن لكي ينتصر على الأعداء.
أحمد رمزي(738/13)
على ثلوج (حِزْرين)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 5 -
أقامت ليلى في دار أسعد شهرين محمولة على الأكفّ، مفدّاة بالأرواح، قد هيئت لها كل أسباب الرفاهية، وأحيطت بكل مظاهر الترف، وسيق لإسعادها كل ما وصلت إليه الحضارة، وأبدعه العقل، فلا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً، ولا تأكل إلا لذيذاً، ولكنها لم تكن سعيدة. . . ولم تر حسن ما هي فيه، لأنها افتقدت النور الذي ترى به جمال الدنيا حين افتقدت الحبيب.
ولم يكن لها ما تشكو منه، فقد أعطاها أسعد كل شئ، ولم يطلب منها شيئاً. وكان يسرّها محضره، ويهزّها كرمه، ويعجبها أدبه، ولكنها لا تحسّ الفراغ في نفسها لغيبته، ولا تجد الخفقان في قلبها لحضوره، ولا يحملها حديثه على أجنحة الخيال، إلى العالم المسحور الذي كانت تحملها إليه أحاديث هاني، على جفوتها وفراغها. . .
ولقد أحب أن يتم عليها سعادتها بالبحث عن هاني، فبعث الرسل ينفضون الأرض، ويفلّون المدن، ويبحثون في الهضاب والشعاب، فلم يقعوا له على أثر، وطفقت ليلى تفكر فيه حتى خدر فكرها وكلّ، وانطوى على هذه (الفكرة) الواحدة، فلا يعنى بغيرها، ولا يفرغ لسواها، وأدركت أن هذا العالم الذي بدا لها أول مرة بهياً فاتناً: عالم الذهب والحرير والزهر والعطر، جميل، ولكنه كجمال الدمية الفنية، لها المقلة الساحرة، والقامة الفتانة، ولكنها باردة ليس فيها روح، وهل روح الحياة إلا الحب؟
جز يا جمل البقاع، واسمع أحلى الأغاني، وشمّ أطيب العطور، وافتقد الحبيب لا تحس لذلك لذة، ولا تجد طيباً. . .
. . . ولكن الأيام تبدل كل شيء، وقد بدل ليلى كرّ الأيام، فلم يجف الجرح في قلها، ولكن مسّ الحنان قد راضه على السكون، ولم يذهب الحب من نفسها، ولكن عرفان الجميل، قد ألقى عليه غطاء فأخفاه، ولم تنس حياة القصر وساعات الصخرة، ولكن غياب هاني قد حملها على الأنس بهذه الحياة الناعمة المرفهة التي نشأت عليها وتعودتها، هذه هي معيشتها لا معيشة هاني، الذي ألقته المقادير أمامها، وقد ولد في غير بيئتها، وجبل من غير طينتها.(738/14)
ويا ليتها لم تكن عرفت هاني، ويا ليت أسعد كان السابق إليها، إذن لوجدت السعادة كاملة، لا ينقصها شيء، ويا ليت الحب، هذا الطفل الأعمى، لم يكن رماها بهاني، بالغلام القذر الذي جيء به من أزقة بيروت، فتعلقت به، كما يتعلق المرء بكأس الخمر، تهري أمعاءه، وتشتاقها نفسه، بل هو القدر، القدر الذي جعل جسدها منعماً في هذه الجنة، وقلبها معذباً في ذلك (الإسطبل)، وكتب عليها أن تعيش مع أسعد، ويكون حبها لهاني.
ولم يكن أسعد وأخته، يدعانها لحظة كيلا ينبثق جرح قلبها، وكانا يطرفانها أبداً بأجمل الطرف، وأرق الأحاديث، ويجددان لها كل ساعة مسرة، ولكنها كانت كلما خلت بنفسها، أو لمحت الصخرة من بعيد، ذكرت ليالي الحب عند الصخرة، وعادت تفكر في هاني: أي أرض تحمله، وأي سماء تظلله، وهل هو حي لا يزال، أم قد طواه الثرى؟ ويا ليتها تستيقن موته، فتستريح إلى اليأس، وتتعزى بالعجز. . .
وكان أسعد يوماً من أيام النقاهة إلى جانبها، وقد أضجعها على أريكة في الحديقة، تضحى بشمس الصباح تظللها بواسق الصنوبر، وتحف بها فواتن الأزهار، وقعد على كرسي صغير، ينظر إليها كما ينظر الوثني إلى صنمه، يطل قلبه من عينيه حباً، ويقف لسانه هيبة، وتنقبض يده إكباراً فلا يمسّه إن مسّه إلا بأطراف الأنامل، وكان يتأمل شفتيها، حتى إذا تحركت طالبته شيئاً جاءها به قبل أن يتم اللفظ، ويلحظ عينيها حتى إذا مالت إلى شيء حملها إليه قبل أن يرتد الطرف، وطغت عليها عاطفة الشكر وعرفان الجميل، فأمّرت أصابعها على شعره فأحسّ رجفة الكهرباء العلوية، التي لا تمشي في سلك ولكن تسير في الأعصاب، ولا تضيء البيوت ولكن تنير القلوب، ولا تحرك الآلات ولكن تحرك الكون، الكهرباء التي اسمه الحبّ، وتجرأ فقال الكلمة التي كان يرددها في نفسه على عدد الدقائق والثواني ولا يجرؤ أن يقولها، قال لها:
- هل تقبلين بي يا ليلَ زوجاً؟
وسكت يرقب الكلمة التي تعرّفه مصيره في هذه الدنيا، إما إلى جنة الحب، أو إلى نار الهجران، وسكتت ليلى لحظة ولكنها لم تذكر ماضياً ولم تفكر في مقبل، وإنما نظرت إلى الحاضر وحده، واستجابت لندائه، كما تفعل كل امرأة في الدنيا وقالت:
- نعم.(738/15)
وتم الزواج!
ومرت سنوات طويلة، ناعمة هادئة، كأنها مياه البحر في خليج جونيه، واستقر الجرح في قلب ليلى، حتى ظنته قد التأم، ومنعته عناية أسعد ومحبته أن ينفجر أو يتسع، واتصلت المودة بينها وبين أسعد، والمودة إن اتصلت بين الرجل والمرأة لا تلبث أن تصير حباً، وكاد يجيء الحب، لولا أن عصف البحر في الخليج فجأة، وماج واضطرب، حين دخل الخادم يعلن قدوم هاني.
انفجر الجرح، وعاش الماضي، ونظرت ليلى إلى حاضرها الذي كانت تأنس به وتطمئن إليه، فوجدته يتهدم ويكاد يضمحل حين داهمه الماضي بسيله الدفاع، فتمسكت بأسعد الذي هو رمز هذا الحاضر، كما يتمسك الغريق ببقايا الزورق وهتفت به أن يمنعه من الدخول. فأبى أسعد، وحسب لغروره وجهله بطباع المرأة، إن الحب قد مات ودفن، لا يدري أنه دفن في القلب، ودفين القلب يحيا إذا ناداه الماضي، وأذن له بالدخول، وقام لاستقباله، وبقيت ليلى جالسة، ساكنة الجوارح وقلبها في زلزال، معرضة عنه وكل شعرة في جسمها تنظر إليه وتحس به، قد شحب لونها، واصفر وجهها حتى لم يبق فيه قطرة واحدة من الدم، ورفعت إليه عينيها أخيراً، فوجدته قد عاد بأبهى حلة، وأكمل زينة، تبدو عليه مظاهر الغنى، وعلائم الثروة، وتخاطبت العينان في لحظة، فألقتا ألف سؤال وسمعتا ألف جواب، وروتا قصصاً وساقتا أخباراً، ولم يدر حديثهما أحد، ثم أغضت، وأخذها مثل الدوار.
وسمعت وهي غيبتها أطرافاً من الحديث، فعلمت أن هاني قد عاد من أمريكا غنياً، وإنه اشترى قصر أبيها، وصار مالكه.
وكان لكل كلمة يقولها، وحرف ينطق به، معنى في نفسها، لا يدركه الزوج ولا ينتبه له، لقد كان يفهم معاني الكلمات في المعجم وهي تفهم معانيها في القلب المحب، وفي الماضي المبعوث، وتحس أن الحديث بينه وبينها؛ وإن كان الذي يرد عليه زوجها، ثم غشي عليها فلم تعد تشعر بشيء.
وذهب هاني إلى القصر، وقعد على كرسي سيدي الشيخ رحمه الله وراح ينظر حوله: لقد خرج من القصر أجيراً ذليلاً، وعاد إليه سيداً مالكاً، وصار علام تحت يده، يجرّعه إن شاء المرّ من كأس الانتقام ويجزيه بالسيئة قدمها له عشراً، وحافه الحظ، وسعى إليه المال،(738/16)
ولكن ما فائدة هذا كله، وفي نفسه هذا الفراغ الذي لا يملؤه مال ولا قصر، ولا تسدّه لذة الانتقام، لقد ذهبت نشوة الظفر وعلم الآن أنه لن يسعده شيء مما على ظهر الأرض إلا هذه المرأة التي اسمها ليلى. وقد صارت ليلى لغيره. . . فلن يسعده شيء!
وعرض ماضيه كله، فتمنى أن تعود أيام الفاقة والعوز، وأن يعود خادماً ذليلاً يحيا بقربها، لقد كان في الحنان الذي ينبثق من عينيها، والفتون الذي يبدو في صورتها وحديثها، والعطر الذي يشمه من جسدها الغالي، ما يغنيه عن المال والجاه فهل يغنيه الجاه والمال اليوم عن حنانها وفتونها؟ لقد كان يفرّ إلى الصخرة الجامدة، فينسى القصر وعذابه، فهل ينسيه القصر ونعيمه اليوم تلك العشايا الحبيبة عند الصخرة؟
لقد ضرب في الأرض، وخاض البحار، وذهب إلى أمريكا ليعود بالمال الذي يشتري به قلبها الذي صبا إلى المال، فماذا ينفعه الآن إن اشترى القصر وخسر القلب؟ ألهذا كدّ ونصب؛ وحمل الجوع والتعب، وسامر طيف الحب في ليالي الغربة، وتجرع مرارة الهجر في دار النوى؟
إن كانت هذه هي الغاية، فيا ضيعة المسعى، ويا ضلّة المطاف
(الخاتمة في العدد القادم)
علي الطنطاوي(738/17)
3 - حجة تاريخية
للدكتور جواد علي
وبعد سقوط القدس على أيدي البابليين عام 586 قبل الميلاد سبى (نبوخذ نصر) العبرانيين وأخذهم معه إلى العراق إلى أرض بابل وتعرف هذه الحادثة في التأريخ العبراني باسم (السبي) وقد استولى (نبوخذ نصر) أربع مرات على القدس، المرة الأولى في أيام الملك (يهوياقيم) سنة 602 قبل الميلاد وكان هذا الملك ملك (يهوذا) وهو ابن (بوشيا) وأخو (يهوآحاز) الذي خلفه في الملك وكان اسمه (الياقيم) فغيره فرعون (نخو) إلى يهوياقيم عندما أجلسه على الكرسي وكان تحت الجزية لفرعون أربع سنين.
ثم سارت عليه جيوش ملك بابل نبوخذ نصر فاستعبده ثلاث سنين (ثم عاد فتمرد عليه فأرسل الرب عليه غزاة الكلدانيين وغزاة الآراميين وغزاة الموآبيين وغزاة بني عمون وأرسلهم على يهوذا ليبيدها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد عبيده الأنبياء.
ثم ما لبث أن أخذه نبوخذ نصر وقيده بسلاسل من نحاس ليرسله إلى بابل ثم تولى ابنه (يهويا كين) مكانه وفي أيامه تقدمت جيوش (نبوخذ نصر) للمرة الثالثة ودخلت القدس وأخذ الملك وأمه وعبيده وخصيانه وأكثر اليهود أسرى إلى بابل ومعه ما كان عنده من خزائن وما كان في الهيكل من أموال وقد فسرت التوراة ذلك لأنه عمل الشر وعصى أوامر ربه وسار على خطة أبيه وعين نبوخذ نصر (منيا) عم (يهويا كين) بدلاً منه وسماه (صدقيا).
وفي أيام هذا الملك كذلك تقدم نبوخذ نصر هو وجيشه وحاصروا القدس ثم قبضوا على الملك وأخذوه أسيراً إلى بابل وقيدوه بسلسلتين ثم أحرقت القدس والهيكل في السنة التاسعة عشر من حكم (نبوخذ نصر) وأخذ ما كان قد تبقى أسرى إلى بابل.
وعين البابليون (جدليا بن أخيقام بن شافان) على من تبقى من اليهود وقد جاء هذا الملك نداءاً إلى البقية الباقية من اليهود وناشدهم فيه بوجوب الإخلاص لملك الكلدانيين وامتثال أمره، ولما قتل خافه كل من في المملكة فهرب كل اليهود إلى مصر حيث فضلوا البقاء هناك.
ولما قضى الفرس على مملكة البابليين دخل اليهود في حكمهم وأصبحوا لهم أتباعاً. وغدت(738/18)
فلسطين جزءاً من مملكتهم والواقع وكما تحدثنا التوراة أن العبرانيين كانوا ضد أي نوع من أنواع الحكم وأنهم لم يرتضوا أن يكونوا لهم مملكة لأن صفة البداوة كانت هي الصفة الغالبة عليهم، وأنهم حتى في أيام مملكة شاوؤل وداود وسليمان وهي المملكة التي يتغنى بها الصهيونيون لم يكونوا ينظرون إليها نظرة ارتياح وأن عهدهم لم يكن يخلو من اضطراب وثورات ولذلك كانوا عرضة للخضوع إلى الحكم الأجنبي.
ولذلك لم يكن ملوك إسرائيل أو يهوذا في الحقيقة سوى رؤساء قبائل أو أمراء مقاطعتين صغيرتين تابعتين لحكم الأجانب فحكمهم المصريون وأصبح ملوك المملكتين الصغيرتين (مملكة إسرائيل) و (مملكة يهوذا) يعينون تعييناً حتى أنهم كانوا يتركون أسمائهم ويتناولون أسماءاً جديدة يغدقها عليهم فراعنة مصر. ثم ملوك الكلدانيين فيما بعد وبعد انقراض دولتهم بسقوط (القدس) أصبحوا تحت حكم الدول الأجنبية تماماً. ولم يجد المفكرون من ذلك غضاضة كما نقرأ في الكتب العبرانية.
ومما يجدر ذكره هو أن العبرانيين لم يكونوا في يوم من الأيام راضين عن ملوكهم وإذا قرأنا التوراة نرى أن الملوك كانوا عرضة لنقمة رؤساء الشعب والكتاب البارزين وأن الأنبياء كانوا يتنبئون دائماً بحلول غضب الله على هؤلاء الملوك، ولم يظهروا كراهية للملوك الفاتحين وهذا ما يفند رأي الصهيونية في الدولة اليهودية القديمة.
ويلاحظ أيضاً أن العبرانيين القدامى قد استعانوا بالعرب وبغيرهم في الدفاع عن أرض فلسطين فلما حاصر الملك (سنحريب) مدينة القدس في أيام (حزقيا) لم يتمكن اليهود من حماية أنفسهم تجاه الآشوريين فاستعانوا بالعرب وطلبوا منهم المساعدة لخلاص القدس وقد سجل سنحريب في أخبار حملته لسنة 701 قبل الميلاد. وكان اسم الأمير العربي الذي لبى نداء الوطن فدافع عن اليهود وقاوم الآشوريين مقاومة عنيفة أزعجت الملك (سنحريب) هو الملك العربي (مصتري) وملك آخر عربي كذلك هو ملك مقاطعة (ملوخا) وبفضل هذه المساعدة الثمينة تمكن العبرانيين من الوقوف أمام الآشوريين.
وقد دافع العرب مراراً كثيرة عن أرض فلسطين في أيام الآشوريين والبابليين واليونان والرومان وقد تكبدوا من جراء ذلك خسائر فادحة ومما يذكر هو أن اليهود كانوا بالنظر إلى عدم استطاعتهم الوقوف أمام الأجانب قد اضطروا إلى الاتفاق مع الإمارات العربية(738/19)
لاستئجار جيوش عربية لتتولى الدفاع عما تبقى من الأراضي في أيدي العبرانيين. ولم يبق بالطبع بعد السبي في فلسطين جاليات كبيرة من اليهود، بل أصبح اليهود أقلية خاضعة لحكم الأكثرية تسكن في أماكن معينة تحت حماية الفرس فاليونان فالرومان ثم البيزنطيين.
ولما احتل البابليون في عهد ملكهم نبوخذ نصر القدس كان العرب في ذلك العهد يمتلكون أكثر أراضي فلسطين مثل أرض موآب وأدوم وفلسطين الجنوبية وكانت عزيمة العبرانيين خائرة والنبي (أرميا) يحذر الناس من المقاومة ويطلب منهم الاستسلام وكانت نتيجة ذلك تخريب بيت المقدس والهيكل وأخذ اليهود أسرى إلى بابل، ومنذ ذلك العهد فقد اليهود عملياً كل كيان لهم في فلسطين.
أما العرب فقد دافعوا دفاعاً مجيداً أزعج نبوخذ نصر وجعله يقرر الزحف على البادية والحجاز بإشارة من أرميا وكانت المعارك شديدة بين الطرفين.
وقد تولى العرب منذ هذا العهد حتى الآن أمر الدفاع عن أرض فلسطين فكافحوا الحكم الروماني وحاربوا البيزنطيين ولما قامت جموع العرب في الحجاز تحت راية الإسلام تحرر البلاد العربية اشتركت القبائل العربية وأكثرها من كلب ولخم وجذام ومن استعرب من سكان فلسطين مع المسلمين في مقاتلة البيزنطيين إخوانهم في الدين، لأنهم كانوا يشعرون بشعور قومي وبشعور الرابطة التي كانت تربطهم بشبه جزيرة العرب وتقدمت الجيوش الإسلامية في أراضي سورية وتمكنت من طرد الروم. وفي ذلك دليل كاف في دحض حجج الصهيونيين.
وقد كان المسلمون والنصارى سكنة فلسطين يحاربون سوية جيوش الصليبيين الذين حاولوا باسم الدين احتلال فلسطين ولم يشترك أي يهودي في مقاومة هؤلاء الغزاة وقد اشترك العرب مسلمون ونصارى في مكافحة العثمانيين وتحرير فلسطين من حكمهم وفي النهضة العربية فأي حجة تاريخية يتذرع بها الصهيونيون إذا في حقهم التاريخي القديم في فلسطين وهم لم يقاتلوا في سبيل الأرض المقدسة ولم يحاولوا الوقوف أمام الآشوريين والبابليين والرومان عندما كانوا يدخلون القدس ويخربون الهيكل وبيت داود.
وقد ادعى الصهيونيون بأن العبرانيين كانوا يحنون دائماً إلى العودة إلى (أرض إسرائيل) وأنهم ما فتئوا يتذكرون أرض الأجداد والآباء وأنهم يريدون إحياء ثقافتهم في تلك الأرض(738/20)
الموعودة ولكن التوراة والتواريخ تكذب أقوالهم هذه أيضاً، فإن العبرانيين الذين كانوا البابليون قد أخذوهم أسرى إلى بابل ثم سمح الفرس لهم بالعودة إلى أرض فلسطين بعد انقراض حكومة بابل، في أيام (كورش) فضلوا الإقامة في أرض العراق على الذهاب إلى (أرز إسرائيل) ولم يلبّ نداء زعماء اليهود وأنبيائهم غير القليل، لأنهم وجدوا أنفسهم في أرض طيبة وفي موطن ملائم وقد بقوا في العراق حتى الآن وقد تولى بعضهم مناصب عالية في الحكومة، كما أن اليهود الذين هاجروا إلى مصر فراراً من حكم نبوخذ نصر فضلوا البقاء في مصر على الذهاب إلى فلسطين وفي ذلك دليل على عدم صحة أقوال الصهاينة في وجود الحس السياسي والوطن القومي عند العبرانيين.
وأما النداء الذي وجهه الملك (كورش) إلى رؤساء إسرائيل والنداء الذي وجهه الأنبياء فإنه لم يكن ذا طابع سياسي بل كان يحمل الطابع الديني المعهود فاليهود الذين ذهبوا لبناء (الهيكل) والذين ساعدهم (كورش) بتقديم كل المساعدات اللازمة والذي أمر بإعادة ما كان قد أخذه (نبوخذ نصر) من ذهب وفضة من خزائن الهيكل لم يحاولوا تكوين مملكة سياسية بل ذهبوا لبناء (بيت الرب إله إسرائيل) ولذلك كانت الحكومة التي كونها العبرانيون في القدس حكومة دينية تحت حكم الفرس ومما يذكر أن (عزرا) الذي فوضه الملك (ارتحشتا) أمر قيادة رجال السبي وإعادة بناء الهيكل اتخذ كل وسائل القوة لإجبار اليهود على العمل بشرائع الرب وعلى العبادة والتوبة وقد كان من نتيجة ذلك اعتناق جماعة من الفلسطينيين ديانة العبرانيين.
ومع ذلك فإن الأرض التي نزل بها اليهود بعد السبي كانت صغيرة جداً أصغر من أرض (مملكة يهوذا) الصغيرة ذاتها مركزها القدس وتمتد في الشمال إلى حدود (الرملة) وإلى (حبرون) في الجنوب. وإلى حدود الأردن في الشرق والسهول في الغرب.
وكانت منطقة (السامرة) التي لا تبعد إلا قليلاً عن مدينة (نابلس) مأهولة بسكان من العراق كان الآشوريون قد نقلوهم إلى هذا المكان ومن السامريين الذين لم يعترفوا بزعامة رجال الكهنوت في القدس واختلفوا عنهم. ثم أصبحوا من أشد الناس خصومة لهم، فقاوموهم وحاربوهم مع أنهم من أصل عبراني وهذا ما يدل على أن اليهود لم يكونوا على رأي واحد حتى في إحياء الهيكل وإعادة الدولة اليهودية بشكل جديد سماه (المستر لويد جورج)(738/21)
والتقرير الذي وضعته اللجنة الملكية التي أرسلت في عام 1936 للتحقيق في حوادث فلسطين (بأول وطن قوص لليهود)
ومما يذكر أن اليهود الذين عادوا من السبي ما كادوا يشرعون ببناء السور والهيكل وتحصين القدس حتى ثار سكان فلسطين عليهم وهم الأكثرية فأعلنوا الحرب واشترك في ذلك (سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون) وجشم العربي وبقية شعوب فلسطين.
بني السور وتحصن العبرانيون في القدس وتكون مجتمع يهودي صغير في هذه البقعة بجهود (عزرا ونحميا) وقد أمر (هذان الزعيمان بأن تكون القدس مستعمرة يهودية بكل معنى الكلمة تتكلم اللغة العبرية وتحترم (الشباث) (السبت) وتحتفظ بقوانين العنصرية فأمر العبرانيين الذين تزوجوا بزوجات أجنبيات من الوطنيات بطلاقهن على الطريقة التي اتبعت فيما بعد وبعد ألفي سنة في قوانين (نورنبرك).
لم يستطع هذا (الوطن القومي) الذي خلقه (عزرا) و (نحميا) ولك تتمكن القوانين الصارمة التي فرضاها على العبرانيين من خلق ذلك الوطن فظل صوت اليهود خافتاً لم يرتفع في فلسطين على الرغم من المساعدات القيمة التي قدمها لهم (ملوك الفرس) الذين تجاهلوا رغبات الأكثرية من الوطنيين ولم يبذل العبرانيون أنفسهم لخلق ذلك الوطن لأنهم لم يفكروا تفكيراً سياسياً بل كانت كل جهودهم متوجهة نحو الاحتفاظ بديانة إله إسرائيل، ما خلا فترات قام بها بعض الزعماء بالدعاية إلى العنصرية لم تلاق غير رواج مؤقت.
جواد علي(738/22)
مكتبة الأطفال العربية
بعض الاختبارات الشخصية والملاحظات التوجيهية
للأستاذ كامل كيلاني
زعموا أن ثلاثة أمراء اخوة أشقاء، خرجوا يتنافسون في مهر بنت عمهم السلطان، بعد أن تواعدوا على الاجتماع آخر العام في مكان بعينه ليروا: أيهم ظفر بأنفس هدية للأميرة. فلما التقوا رأوا أحدهم قد ظفر بمنظار سحري يرى فيه الناظر كل ما يدور بخلده، ولو كان في أقاصي الدنيا. وظفر ثانيهم ببساط سحري يحمل راكبه محلقاً به في كل جو من الأجواء فيبلغه غايته في لحظات يسيرة وظفر ثالثهم بتفاحة شافية تبرئ من السم وتعيد الحياة إلى من أشرف على التلف. ونظروا في المنظار فإذا الأميرة على فراش الموت تحتضر. فأسرعوا إلى البساط، فإذا بهم عندها في الحال. وأدنوا التفاحة منها، فشفيت على الفور. وحاولوا أن يعرفوا: أيهم صاحب الفضل في شفائها فلم يهتدوا إليه. فلولا المنظار لما عرفوا مرضها الخطير، ولولا البساط لهلكت قبل أن يصلوا إليها، ولولا التفاحة الشافية لما كان لوصولهم فائدة. فإذا نقصت واحدة من هدايا الأسطورة ضاع كل أمل في شفاء الأميرة. ولعل في هذه القصة مثلاً دقيقاً يوضح ما يجب على من يتصدى للكتابة للأطفال أن يهدف إليه ويجعله نصب عينيه وحفل أذنيه.
إن تحبيب الكتاب إلى نفس الطفل هو أول الوسائل لتمكينه من القراءة. ومتى ظفر بهذه الغاية ظفر بالمنظار السحري الذي يرى صاحبه كل ما يريد أن يراه. أما الأسلوب القصصي الساحر فهو بساط الريح الذي يتناقل بالقارئ إلى أبعد الآفاق الفكرية في لحظات يسيرة، ويطير به على أجنحة الخيال البديع محلقاً به في سماء الحقائق، دون أن يلحق به كلالاً ولا جهداً. أما التفاحة الشافية فتتمثل فيما تتركه القراءة النافعة من آثار نفسية رائعة، تشفي سموم الجهالة وتبرئ من النزعات العارمة التي نعجل بصاحبها إلى الهلاك وتقذف به إلى الهاوية. ولنقف عند لأول هذه الأهداف الجليلة لحظة قصيرة، فما تتسع هذه الوجازة الخاطفة لغيرها لنقف عند الخطوة الأولى، وهي تحبيب القراءة إلى الطفل، وتمكين الفصحى من نفسه، وحمايته مما كان يغمرنا من البيان المشوه المضطرب، وتجنيبه ذلك الشر المستطير من سيل العامية الجارف الذي كان يفرقنا في مستهل نشأتها الثقافية، ولا(738/23)
يزال يغمر الكثيرين من ناشئة اليوم ورجال الغد، فيقضي على مواهبهم البيانية - أو يكاد - في زمن حداثتهم. ولنعد لهم بياناً عربياً خالصاً يطبع الطفل على الفصحى منذ طفولته الباكرة، حتى إذا كبرت سنه صارت له الفصحى - كما كانت لغيره من أسلافه العرب في عصور الفتوة الأولى - سليقة وطبعاً، وأصبح البيان العربي متأصلاً في نفسه عادة وملكة. وبرئ من العجمة المتفشية بين شباب العصر وفتيانه.
أما السبيل إلى هذا الحلم الجميل، فتحقيقها ميسور غير مستحيل.
إننا إذا رقابنا كلام الطفل وهو في مستهل طفولته، رأيناه يلجأ - كما قلت في بعض المناسبات منذ عشرين عاماً - إلى تكرار الجمل إذا قص علينا خبراً، كأنما يتثبت من معانيها في ألفاظها المكررة. فلماذا لا نكتب له وهو في هذه السن محاكين أسلوبه الطبيعي في تكرار الجمل والألفاظ لتثبت المعاني في ذهنه تثبيتاً؟ ولماذا لا نكرر له الجمل برشاقة ليسهل عليه قراءتها! ذلك أجدر بنا وأليق فإن لكل مقام مقالاً.
ومن الحقائق المعروفة أن الطفل - في هذه المرحلة - ملول يتهيب الكتاب، فلننزع من نفسه هذا الملل، ولنحبب إليه الكتاب بكل وسيلة، ولنبسط له الأسلوب تبسيطاً مكثرين من الصور الجذابة الشائقة التي تسترعي انتباهه، لنشعره أن الكتاب تحفة تهدي إليه إهداء، وليس واجباً يكلفه تكليفاً. فإن الطفل - إذا ساء ظنه بالكتاب - صعب اجتذابه إليه بعد هذا.
وقد وفق أكثر من تصدوا لتأليف كتب الأطفال توفيقاً عجيباً في تبغيض القراءة إلى نفوسهم وتنفيرهم من المطالعة، فأصبحوا يمقتون الكتاب أشد المقت، ويهربون من قراءته، لأن المؤلفين لم يراعوا سن الطفل وميوله ورغباته. ولم ينزلوا أو هم - على الحقيقة - عجزوا عن النزول إلى مستواه، ومخاطبته باللغة التي يفهمها وترتاح إليها نفسه. ومن الإنصاف أن نقرر - بصراحة - أنهم لم يضعوا كتبهم على نسق خاص أو منهج بعينه، وأنهم في تأليفهم لم يتشبعوا بفكرة فنية تنتظم الكتاب وتؤلف بين أجزائه. لأنهم يقنعون بتصيد موضوعات الكتاب - كيفما اتفق لهم أن يتصيدوها - فيخرج الكتاب خليطاً مضطرباً لا تؤلف بين أجزائه فكرة بعينها ولا يتناسب أسلوبه مع مدارك الأطفال.
إن الطفل ميال بطبعه - إلى الحكايات والقصص، وهو - بغريزته - مفتون برؤية الصور الجذابة فلنختر له منها ما يناسب سنه، ويتفق وميوله ورغباته وتفكيره. أما الفكرة التي(738/24)
انتظمت مكتبة الأطفال فهي (التكرار) يكثر في أولها ثم يقل شيئاً فشيئاً - كلما تقدم الطفل في القراءة حتى يصل إلى قراءة الأسلوب الموجز الذي لا تكرار فيه بلا مشقة ولا إعنات.
وقد تدرجت بالطفل في هذه المكتبة حتى يكون آخر جزء من كل مجموعة ممهداً لقراءة أول جزء من أجزاء المجموعة الأخرى. فإذا أتم هذه المكتبة أسلمته إلى مكتبة الشباب، وكانت له جسراً يسهل العبور إلى ما تحويه من كتب الأدب ودواوين العرب في سهولة ويسر.
وإنما عمدت في الأجزاء الأولى من مكتبة الأطفال إلى التكرار عمداً بعد أن أقنعتني التجارب العملية والاختبارات الشخصية أنه أصلح أسلوب يلائم الطفل الناشئ ويشجعه على القراءة. ولا غرو في ذلك فإن الطفل الناشئ لا يقرأ الكلمة إلا بجهد كبير. ولا يتم السطر إلا بشق النفس. فلنقتصد جهدنا في استعمال الألفاظ الجديدة. ولنؤلف من الألفاظ القليلة التي يقرؤها الكبير في بضعة أسطر - عدة صفحات كاملة لندخل في روعه أن القراءة ليست صعبة كما يتوهم، وليست شاقة مضنية، كما ألفها في الكتب الأخرى، بل هي سهلة ميسورة، وهي - إلى سهولتها ويسرها - ممتعة شائقة، تملأ نفسه بهجة وانشراحاً، وثمة يشعر الطفل بثقة في نفسه إذ يرى أنه يقرأ صفحة كاملة بجهد يسير، فهو لن يتم قراءة السطر الأول حتى يسهل عليه قراءة السطر الثاني والثالث والرابع وهكذا، لأن الألفاظ لا تكاد تتغير في الجمل إلا بمقدار يسير.
وقد جعلت نصب عيني قصة الرجل الذي كان يحمل الثور صاعداً به درج سلم وهابطاً به دركه، دون أن يبدو عليه شيء من آثار التعب والجهد. فلما سئل في هذا قال: لقد تعودت حمل الثور منذ ولادته كل صباح وما زلت أكبر ويكبر الثور معي ويزداد نمواً كل يوم زيادة قليلة مضطردة، حتى اكتمل نماؤنا. ولم أسعر أن وزن الثور قد زاد يوماً عما كان في سابقه ولم أحس له ثقلاً إلى اليوم.
كانت هذه القصة نواة صالحة لمكتبة الأطفال. فبدأتها بتسلية الطفل متدرجاً به تدرجاً بطيئاً لا يكاد يشعر به ولا يحس له أثراً، مستعيناً على هذا الغرض بالصور الملونة الجذابة والشكل الكامل والألفاظ السهلة. حتى إذا اطمأن الطفل إلى الأسلوب السهل، وامتلأت نفسه ثقة بقدرته على القراءة، انتقلت به إلى المرحلة التالية، فمزجت له التسلية بالفائدة ثم لا(738/25)
أزال أنتقل به خطوة بعد خطوة حتى يرى في فنون المعرفة وحدها ممتعة وتسلية، لا يعدلها شيء من فنون المتع وضروب التسلية. ولم أقصر في تحبيب الفصحى إليه وتعويده النطق بالصحيح من الألفاظ، وتدريبه على الأخذ بالصحيح من الآراء، فإن الخطأ اللفظي كالخطأ المعنوي إذا انطبع أحدهما أو كلاهما في ذهن الطفل منذ القراءة الأولى صعب اقتلاعه، في قابل أيامه. ولا معدي لنا عن ترغيبه - بكل ما نملك من الوسائل - في الأسلوب الرائع والمثل الصالح جميعاً. فلا نتسمح قط في عبارة واحدة تقلل من شأن لغته، أو تصغر من جلال القيم الأخلاقية.
إن تحبيب الكتاب وتخير الأسلوب الصالح والفضائل في نفس الطفل، هي الأهداف الثلاثة التي ترمي إليها مكتبة الأطفال ولابد من اجتماعها لبلوغ الغاية المرجوة، كما اجتمعت هدايا الأمراء الثلاثة لشفاء الأميرة. فإذا نقص واحد منها تهدم البنيان كله، وذهبت جهودنا على غير طائل. وهذه هي الحوافز التي دفعتني إلى تأليفها.
وقد سألتني بعض المجلات كيف أؤلف مكتبة الأطفال، وكيف أتدرج فيها من السهل إلى الصعب فقلت لسائلي: إن إحساس الطفولة عندي كامن مذخور، فأنا أستحضره في كل لحظة، ولدي من وسائل الاختبار والتطبيق لكل ما أكتبه في هذه الناحية أولادي وهم ذوو أسنان مختلفة وقد استطعت بفضلهم على توالي السنين أن أندرج في هذه القصص من السنة الأولى الابتدائية إلى السنة الرابعة الثانوية.
وقد كنت أروي القصة للصغير منهم - حين أؤلف لصغار الأطفال - فإذا انتهيت من روايتها سألته أن يقصها عليّ، ثم دونت ما علق بذهنه منها واسترعى انتباهه من حوادثها. فأثبته وأغفلت منها ما أغفله. ثم سألته أن يقرأها أمامي بعد كتابتها، لأتبين مدى ما ظفرت به من نجاح أو إخفاق. فإذا سألني عن معنى كلمة مما يدق عليه فهمه فسرتها له. فإذا صعب عليه التفسير، استبدلت به كلمة أخرى أسهل وأيسر، ثم أثبت التفسير الأخير الذي استقر فهمه عليه.
هذا هو المنهج الذي أخذت به نفسي في تأليف مكتبة الأطفال فإن وفقت في هذه الخطوة - وأرجو أن أكون - فقد أديت بعض ما يجب أداؤه لهذا الجيل الناشئ الذي نعلق عليه أكبر الآمال.(738/26)
ولا أكتم أنني طالما عجبت في مستهل نشأتي كيف تنكبت كتب المطالعة العربية سبيل الكتب الأجنبية التي وفق الكثيرون من مؤلفيها إلى تحبيب لغتهم إلى نفوس الأطفال بقدر ما وفق مؤلفونا إلى تبغيض القراءة العربية إلى نفوس الناشئة.
وطالما شكوت بعض أترابي من الطلبة ونحن بالسنة الأولى الابتدائية متبرماً بما في أيدينا من كتب المطالعة العربية مقابلاً بينها وبين الكتب الأجنبية الجذابة الفاتنة. وطالما أجابني صاحبي مستهزئا ساخراً: (وما بالك لا تؤلف خيراً من هذه الكتب؟) وطالما أجبته واثقاً: ذلك عهد عليّ أوفي به إن شاء الله متى كبرت سني، وبلغت مبلغ الرجال)
ولعلي بما ألفت من أجزاء مكتبة الأطفال - خلال هذه السنين العشرين، وقد وفيت بهذا النذر، وحققت منه بعض ما أريد.
كامل الكيلاني(738/27)
من وراء المنظار
شرف. . .!
مشى العمدة في جلبابه النظيف المهندم وعلى رأسه طربوشه الطويل الأقتم، وفي يده عصاه الغليظة المحلاة بالذهب، ومن خلفه بعض وجوه القرية وبعض خفرائها، وإنه يحرص أبداً أن يسير ومن ورائه عدد من الناس ليوقع الرهبة في نفوس من يمر بهم من أهل قريته، وما يلمح أحد من أهل القرية هذه (الزفة) إلا نهض محيياً يتكلف أكثر ما يستطيع من التأدب والخشوع، فإن كان من ذوي المكانة جرؤ على أن يضيف إلى عبارات تحيته: (تفضل يا حضرة العمدة. . . شرفنا يا سعادة البك) وقنع من حضرة العمدة رداً على تحيته وعلى دعوته بإشارة خفيفة من يده علامة على الرضاء لا تكاد ترى، أو بتمتمة خافتة على شفتيه لا تكاد تسمع؛ وإن كان من عامة الناس فما يستطيع إلا أن ينهض خاشعاً إذا أبصر العمدة من بعد، ثم يظل في خشوعه لا يلتفت يمنة ولا يسرة ولا يرفع رأسه حتى يمر به العمدة فيرفع يده إلى رأسه في ضراعة، ويرد في اهتمام تلحظه في نغمته تحية الإسلام التي قد يلقيها إليه أحد من ساقة هذا الركب، ثم يجلس بعد أن يمر به الركب كله، وفي خياله شارب العمدة وعبوس وجهه وطربوشه الأقتم الطويل وعصاه المذهبة الغليظة، وحسبه جرأة أنه استطاع أن ينظر إلى ذلك الشارب المهيب، وإن كان ذلك بعد أن يمر به العمدة أو يكاد فيلمح طرفي شاربيه وهو ينظر إليه من وراء ظهره. . .
لم يبق على أذان المغرب إلا ساعة أو بعضها، ويرى الناس وكأنهم
سكارى مما فعل بأبدانهم وأرواحهم الحر والصيام وامتداد النهار وشدة
الغلاء، وطول انقطاع ماء الري حتى هلكت الذرة الوليدة أو كادت،
وتفتحت بعض لوزات القطن المحترق قبل أوانها ووقفت سوقه فلا
تنمو.
ووقف العمدة وركبه عند أول السكة الزراعية في مفرق الطرق بين قريته وقريتنا وبعض القرى المجاورة، وهو مكان به عدد من الدكاكين وكثير من الناس، وما أن وقع بصره على رجل من أهل قريته حتى ناداه في عنف، فخف المسكين إليه وهو يتمتم في صوت سمعه(738/28)
بعض الناس: (يا نهار اسود. . . يا خرابي) ويحاول أن يبلع ما أبقى الصيام والقيظ في فمه من ريق فلا يجد شيئاً، ووقف المسكين بين يدي حضرة العمدة، فهل رأيت العصفور الهزيل بين يدي صقر جارح؟ وراح العمدة ينهره في صوت كالرعد أكبر ظني أن المسكين لم يسمعه من فرط رعبه. . يا كيت وكيت ويابن كيت وكيت. . من هاتيك الألفاظ التي تجري بها ألسنة العمد وأصحاب السلطان في القرى، وأمسك العمدة هذا المسكين بإحدى يديه وصفعه بالأخرى مرتين على وجهه المصفار في عنف وغلظة، فما تركه حتى سقط المسكين على الأرض يعفره التراب، فركله العمدة كما يفعل بكلب حقير!
ولم أدر سبباً لهذا الضرب، غير أني أحسست بالدم يصعد حاراً قوياً إلى وجهي، وطاف برأسي في مثل لمحة الطرف طائف مما نلوكه نحن المتعلمين من ألفاظ الحرية والديمقراطية والدستور ومجلس الأمن وأضرابها مما نخادع به أنفسنا، وهممت أن أنقض على هذا الصقر، وأبعثها حرباً بين الأسرتين والقريتين حتى ولو كان المضروب من أكبر المجرمين؛ وما كدت أسمع ممن حولي أنه من المساكين المسالمين، حتى انتفضت انتفاضة المحموم، وخطوت أوقد نار الحرب عليّ أطفئ بها نار غضبي!
ونهض المكين يبكي ويئن ويضع يديه على وجهه مكرراً قوله: (أمري إلى الله. . . أمري إلى الله) وكأنما عز هذا على أحد حاشية العمدة فنهره قائلاً: (اخرس يا حمار. . بوس يد العمدة وقل له ضربك شرف يا سعادة البك، وبذلك يصفح عنك)
وسبقني إلى حيث يقف العمدة وحاشيته شاب يلبس جلباباً أبيض، ويضع طربوشاً فوق رأسه، علمت أنه أخو المضروب، فالتفت إلى ذلك المتكلم الأخير قائلاً: (بل اخرس أنت يا سافل) ومرق مروق السهم إلى العمدة، فوقف يعترض طريقه في جرأة قائلاً: (لماذا تضرب أخي يا حضرة العمدة؟). . . وأخذت العمدة أول الأمر ربكة من هذه الجرأة التي لم ير مثلها قط في سنوات حكمه الثلاثين، ولكنه نظر إلى هذا المطربش في استهزاء كما ينظر المرء إلى مجنون لا يحاسب على قوله أو فعله؛ ولكن هذا المطربش أخذ يقول في عبارة فصيحة: (ما هذا الجبروت؟ إلام الظلم؟ الناس سواسية كأسنان المشط. . . نحن في عهد الدستور. . . قضية الحرية تعرض على مجلس الأمن. . . يا ناس كفى ظلماً واستعباداً لخلق الله. . . ففيم هذا الضرب وهذا الجبروت)!!(738/29)
وتقدم المضروب بدوره، فازداد الناس عجباً إذ سمعوه يتوثب أمام العمدة قائلاً: (إيه الجبرؤوت ده. . . دا ظلم. . . دا جبرؤوت!) ودفعهما أعوان العمدة من طريقه، ومضى العمدة وهو يلعن الدستور والحرية، ويسخر في صوت مسموع من هذه البدع التي أفسدت الناس، ويكظم غيظه من هذا المعلم الإلزامي الثائر الذي غضب لضرب أخيه، والذي يفسد هو ونظراؤه القرى!
واستمر المعلم الجريء النبيل يرفع صوته متحدياً معلناً أنه سيرفع إلى النيابة شكواه واستشهد بي وبغيري، فقبلت أن أشهد مغتبطاً، وأنا أقول لنفسي: هؤلاء هم الذين يصلحون القرى لا الذين يفسدونها، وما يفسدها إلا أمثال هذا المتجبر الطاغية الذي يعيش بجهله وجاهه في القرن الماضي. . ومضيت إلى داري قرير النفس - وقد ذهب عني الغضب - وأنا أقول: لن يكون لمصر دستور بالمعنى الصحيح، حتى يتعلم أبناؤها، ولن تقوم الديمقراطية الحق إلا على أساس من العلم!
أما الذين رفضوا أن يؤدوا الشهادة، فقد انقلبوا إلى دورهم وهم يفكرون فيما سوف يحل بهذا المعلم الإلزامي من نكال أقله تقليع زرعه أو حرقه، وإهلاك ماشيته بالسم، ومطاردة أهله وذوي قرباه، إلا أن تعصمهم من عذاب هذا الطاغية رحمة من الله!!
(الشهداء)
الحفيف
11 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
الرموز في الأحلام:
والقيام برحلة بعيدة يعبر في الأحلام عن الموت. وبالمثل جرت العادة أن تقول المربية(738/30)
للطفل عندما يسأل عن مقر شخص مات من زمن وأحس الطفل بفقده أن هذا الشخص قد (سافر). وهنا أقرر كذلك أنني أعني إن هذا الرمز يرجع مصدره إلى هذا الرد الملتوي على سؤال الطفل. فالشاعر يستخدم نفس الرمز عندما يتحدث عن الآخرة فيقول: (هذا العالم المجهول الذي لا يؤوب منه المسافر أبداً)؛ وكذلك من المألوف في حياتنا اليومية أن نتحدث عن (الرحلة الأخيرة) كما أن الشخص الذي له إلمام بالطقوس الدينية القديمة يعرف بلا شك كيف كان الناس يحملون على محمل الجد هذه الفكرة عن رحلة في أرض الأموات، كما هو الحال في المعتقدات المصرية القديمة. ولما كانت القبور تشيد الآن بعيداً عن منازل الأحياء، فقد صارت (الرحلة الأخيرة) للميت حقيقة واقعة.
والرموز الجنسية ليست قاصرة على الأحلام فقط؛ فكلكم يعرف أننا نطلق على المرأة كلمة (شنطة) عندما نريد أن نحتقرها، ولكن ربما لا يعلم الناس أنهم بذلك يستخدمون في حديثهم رمزاً جنسياً. ونحن نقرأ في كتاب (العهد الجديد) أن: (المرأة هي الوعاء الأضعف) وفي الكتب المقدسة لبني إسرائيل، وهي تمتاز بأسلوبها الذي يقرب جداً من الأسلوب الشعري، نعثر على كثير من التعبيرات التي تحتوي على رموز جنسية، والتي لم يفسرها الناس دائماً على الوجه الصحيح. أما في الآداب العبرانية التي جاءت بعد ذلك، فالمرأة تشبه غالباً بمنزل، بينما الباب يمثل الفتحة التناسلية؛ وعلى هذا نرى الرجل يتشكى عندما يكتشف أن المرأة لم تكن عذراء فيقول أنه (قد وجد الباب مفتوحاً) وفي هذه الآداب نرى أن (المائدة) يكثر استعمالها كرمز للدلالة على المرأة، فتقول المرأة عن زوجها: (لقد مددت له المائدة ولكنها قلبها.) ويقال عن الأطفال العرج أن عاهتهم ترجع إلى أن الرجل قد (قلب المائدة.)
وعلماء الكلام يعضدون الاعتقاد بأن السفن في الأحلام تمثل النساء. فهم يؤكدون أن كلمة (سفينة) كانت في الأصل اسماً لوعاء من الخزف، وتؤدي نفس المعنى الذي تؤديه كلمة (دن أو وعاء من الخشب). وأما كون (الفرن) ينثل المرأة أو رحم الأم، فتفسير تعززه الرواية الإغريقية (بيرياندر) وزوجته (ميليشيا)، وذلك أن الطاغية، كما يروي (هيرودتس)، بعد أن قتل امرأته بدافع الغيرة، وكان قد أحبها حباً جارفاً، ناشد خيالها أن يخبره بشيء عن نفسه، وعند ذلك أثبتت المرأة الميتة شخصيتها بأن ذكرته بأنه أي (برياندر) قد (وضع خبزه في فرن بارد) وقد عبرت بهذه الصيغة المستترة عن حادث لم(738/31)
يكن أحد على علم به. وفي كتاب للكاتب (رأفْ. رأسْ. كروسْ) يدعى وهو موسوعة لا غنى عنها لمن يريد أن يلم بكل ما يخص الحياة الجنسية عند الشعوب المختلفة، نقرأ أن الناس في حي خاص من ألمانيا يقولون عن المرأة عندما تضع طفلاً أن (فرنها قد تفتتت أجزاؤه). وإشعال النار وكل ما يتعلق بذلك تتخلله كثير من الرموز الجنسية، فاللهب دائماً يمثل القضيب، بينما الموقد أو المدفأة تمثل رحم المرأة.
وإذا كان قد اتفق أن أخذكم العجب لكثرة وقوع (الأصقاع) في الأحلام كرمز للدلالة على الأعضاء التناسلية للأنثى، فإن في استطاعتكم أن تعلموا من أساطير الأقدمين كيف كانت (أمنا الأرض) تلعب دوراً كبيراً في أفكار الناس ومعتقداتهم، وكيف كان فهمهم للزراعة كله محدداً بهذا الرمز. وإذا كانت الحجرة في الأحلام تمثل المرأة، فإنكم قد تميلون إلى إرجاع هذه الحقيقة إلى الكلمة الألمانية (ومعناها الحرق في حجرة المرأة) التي تستخدم في اللغة العامية للدلالة على المرأة أي أن المرأة تمثل بالمكان المخصص لها لتشغله: ونحن كذلك نتحدث عن (الباب العالي) ونقصد بذلك السلطان وحكومته، كما أن كلمة (فرعون) التي كان يطلقها قدماء المصريين على الحاكم معناها (الفناء الأعظم) (الفناء الذي يقع بين بوابتي المدينة كان يستعمل في الشرق قديماً كمكان للاجتماع مثل الأسواق في العصور الكلاسيكية) ولكني أحسب أن هذا الاشتقاق سطحي جداً، وإنما يتهيأ لي أن الأكثر احتمالاً هو أن الحجرة قد صار استعمالها كرمز للدلالة على المرأة لما لها من خاصية الاحتواء بداخلها على بني الإنسان. وقد سبق لنا أن رأينا المنزل يستخدم في نفس المعنى؛ وإذا رجعنا إلى الأساطير والشعر فإن في استطاعتنا أن نعتبر المدن، والقلاع، والقصور، والحصون رموزاً أخرى كذلك تمثل المرأة. وهذه النقطة من الممكن البت فيها إلى رجعنا إلى أحلام الأشخاص الذين لا يتكلمون الألمانية أو يفهمونها. وقد حدث في السنوات الأخيرة أن أغلب مرضاي كانوا من الأجانب، وإني لأحسبني أتذكر أن الحجرة كانت تبدو في أحلامهم أيضاً للدلالة على المرأة ولو أنه لا توجد في لغتهم العامية كلمة تقابل كلمة عندنا. وهناك دلائل أخرى على أن الرمزية تتجاوز حدود اللغات وهي حقيقة سبق إثباتها قبل الآن على يد الباحث القديم (شوبرت) عام 1882. ومع هذا فإنه لا يوجد بين مرضاي من يجهل اللغة الألمانية جهلاً تاماً، وعلى هذا فإنني أترك هذه النقطة ليبت فيها(738/32)
أولئك المحللون الذي في استطاعتهم أن يجمعوا شواهد من بلاد أخرى لا يتكلم أهلها إلا لغة واحدة فقط
والرموز المستعملة للدلالة على العضو الجنسي المذكر لا يوجد بينها رمز لم يجر استعماله في معرض المداعبة أو الحديث المبتذل، أو في الأسلوب الشعري خصوصاً عند القدامى من الشعراء الكلاسيكيين ونحن لا نعثر هنا على الرموز التي تقع في الأحلام فقط، بل على رموز أخرى كذلك مثل (الأدوات) المستعملة في أنواع العمل المختلفة وأهمها (المحراث). وفضلاً عن ذلك فميدان الرموز المذكرة ميدان متسع إذا نزلنا إليه تعرضنا لكثير من المناقشات والجدل، وعلى هذا فسنتجنب ذلك خوفاً من ضياع الوقت. ولكني أريد فقط أن أوجه بعض الملاحظات إلى الرمز الذي يظهر كثيراً قائماً بذاته؛ أعني العدد (ثلاثة). فهذا العدد تحيط به هالة من القداسة لا نستطيع أن نقرر بعد إن كانت ترجع إلى دلالته الرمزية، ولكن يبدو أنه مما لاشك فيه أن الأشياء الطبيعية المثلثة الشكل مثل عود البرسيم تستخدم كشعار لدلالتها الرمزية. وزهرة الزنبق الفرنسية بأجزائها الثلاثة يقال أنها ليست إلا صورة تنكرية للعضو الجنسي المذكر، وكان الناس في العصور القديمة يعتقدون أن (الأيقونة) منها هي أقوى الوسائل التي تدفع عنهم الشر والأذى، والدليل على ذلك أننا نجد في هذا العصر أن الطلاسم التي تجلب الحظ السعيد ما هي إلا رموز تناسلية أو جنسية. دعونا ننظر في بعض هذه الطلاسم التي تصنع على شكل (دلاّيات) من الفضة وهي: عود البرسيم ذو الأربع ورقات، والخنزير، وعش الغراب، وحدوة الحصان والرجل الذي يكنس المدفأة ومعه سلمه، أما عود البرسيم ذو الأربع ورقات فقد حل محل العود ذي الثلاث ورقات الذي كان في الواقع أنسب للغرض المطلوب وهو الرمزية، وأما الخنزير فرمز قديم للإخصاب، وعش الغراب يمثل القضيب من غير شك، بينما حدوة الحصان ترسم المنحني الذي تتخذه الفتحة التناسلية للأنثى. وأما (الرجل الذي يكنس المدفأة) بسلمه فينتمي إلى هذه المجموعة لأن وظيفته تقارن دائماً بعملية الجماع في الأحاديث المبتذلة. وقد تعلمنا من الأحلام كيف يظهر هذا السلم كرمز جنسي، وهناك تعبيرات في اللغة تدل على الكلمة (يصعد) من الدلالة الجنسية المطبقة مثل قولهم (يجري وراء المرأة). وهكذا الحال أيضاً في اللغة الفرنسية حيث نجد أن كلمة معناها (درجة) وأن الرجل(738/33)
العجوز المتهتك يطلق عليه: وربما كان هذا الترابط بين الأفكار يرجع إلى أن عملية الجماع عند الحيوانات الكبيرة تستلزم أن يمتطي الذكر أو يركب على الأنثى.
أما تمثيل العادة السرية رمزياً بوساطة جذب فرع من الشجرة فليس مما يتفق مع الأوصاف العامية المبتذلة لهذه العملية فحسب، بل إن له كذلك أشباهاً في الأساطير. ولكن الغريب الذي يلفت النظر حقاً هو تمثيل العادة السرية أو على الأصح الخصاء كعقاب للإدمان عليها، بسقوط أو اقتلاع الأسنان؛ لأننا نجد في القصص الشعبية مقابلاً لذلك لا يمكن أن يلم به إلا قليل من الحالمين. فإني أظن أنه ما من شك في أن (الختانة) وهي عادة عند كثير من الشعوب، تعتبر معادلة أو بديلة من الخصاء. وقد وصل إلينا منذ عهد قريب أن بعض القبائل الشاذة في أستراليا تمارس الختانة كطقس للدلالة على البلوغ بينما بعض القبائل الأخرى التي تجاورها قد استبدلت هذه العادة بعادة أخرى وهي اقتلاع إحدى الأسنان.
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن
حيفا تحت أضواء القمر
للأستاذ حسن البحيري
إذا نظرت عيناك من بسط الغمض ... مصابيح (حيفا) وهي باهرة الومض
رأيت السنى لف الدجى ورأيتها ... نجوم سماء قد نثرن على الأرض
وإن جلت بالطرف اللموح وأنت من ... ذرى (الكرمل) الشم الشعاف على نهض
وشارفت أرجاء (الخليج) بظلها ... وأمواجه بين التبسط والقبض
وقطر السنى ينهل من قمر الدجى ... فيغسل وجه الماء بالذهب المحض
تصورته صبحاً. . . (وحيفا) وسحرها ... بقية ليلى عند شاطئه الفضى
بقية ليل قد تجمع نجمها ... مضى الليل عنها. . وهي بالنجم لم تمض!
(حيفا) حسن البحيري
مناقشة هادئة:(738/34)
إلي أبي العلاء. . .
للشيخ محمد رجب البيومي
أألف دقيقة أم ألف عام ... كأنك لم تزل تبدو أمامي
أراك تسير بين الناس مثلي ... فأسأل هل فررت من الحمام
وأقسم قد لمحتك ذات يوم ... فسرت إلى لقائك في اهتمام
وجئتك والسرور يقيم نفسي ... ويقعدها على غير انتظام
فأوقعني جلالك في ذهول ... فلم أفطن لإلقاء السلام
ولو أني ملكت زمام نفسي ... لأديت التحية باحترام
لدي إليك أسئلة فأسرع ... بأجوبة تبل بها أوامي
علام لزمت بيتك وهو سجن ... حمدت بظله طيب المقام
سخطت على الورى فمكثت فيه ... ورحت تصب نقدك كالسهام
رأيت الذئب يقرب من أخيه ... فما لك قد بعدت عن الأنام
عذرتك حين ضقت بأم دفر ... وصرت تحن للموت الزؤام
فلو سلمت لك العينان حيناً ... لهمت بحبها كل الهيام
فمن ذا يكره الدنيا وفيها ... تطالعه الطبيعة بابتسام
لئن تك قد فقدت ضياء عين ... فضوء حجاك كالبدر التمام
أنار لك الطريق فسرت فيه ... وذو العينين يخبط في الظلام
أراك مخالفي في كل رأي ... فهل لك من سبيل للوئام
تعاف المال وهو أعز شيء ... حرمت لأجله طيب المنام
ويؤلمني خصامك للغواني ... فما الداعي إلى هذا الخصام
لعلك رمت منهن اتصالاً ... فمثلك ليس يخلو من غرام
فلما أن صددن وضقت ذرعاً ... بهن سلكت خطة الانتقام
رأيت الغيد منية كل فرد ... وإن أبدى السلو على الدوام
تبعت الوهم فاستحدث رأياً ... خلطت به الحلال مع الحرام(738/35)
فهالك أن ترى القصاب يجري ... دم الشاة الضعيفة في الرغام
فهبها لم تكن ذبحت عياناً ... أما سيغولها ليث الحمام
رويدك لست أرحم من إله ... تخيرها غذاء للأنام
نقمت على الزواج وأنت أدرى ... بحكمته فما هذا التعامي
وقلت لئن رزقت فتى سأجني ... عليه بتركه بين الطغام
حنانك، عله يغدو مليكاً ... يتيه على الجبابرة العظام
فتاك دعامة لك كيف تبني ... خلودك في الحياة بلا دعام
جنيت عليه حين سرى لهيفاً ... بظهرك يشتكي حجب الظلام
قضيت العمر في شك ممض ... تفتش عن مصيرك في الرجام
تعز عليك روحك حين تمضي ... فتسأل هل تؤول إلى انعدام
شكوك حيرتك فكنت تصلي ... بها ناراً مؤججة الضرام
فليتك قد أرحت النفس منها ... ولم تنظر إليها باهتمام
ذممت الخمر ثم غرست كرماً ... مددت ظلاله من ألف عام
فها هو شعرك الجذاب يتلى ... فيفعل بالنهى فعل المدام
علام قد ألزمت به قيوداً ... ألم تك في غنى عن الالتزام
تحاول أن تفوق الناس طراً ... وتلك طبيعة الرجل الهمام
بيان يرتقي بالروح حتى ... يطير جناحها فوق الغمام
تكاد إذا رقيت به مريضاً ... تسري عنه آلام السقام
رهين المحبسين وددت أنى ... بلغت بمدحتي حد التمام
ولكني ختمت القول عجزاً ... فما أدنى ابتدائي من ختامي
محمد رجب البيومي(738/36)
تعقيبات
لصوصية أدبية:
كان صاحب مكتبة. . . في بيروت قد انتهب ديوان (الجداول) للشاعر المعروف الأستاذ إيليا أبو ماضي فطبعه وباعه وربح منه دون أن يرجع إلى صاحبه أو يستأذنه أو يرد عليه شيئاً من الربح، فعمد الشاعر إلى مقاضاته وعهد إلى أحد المحامين في بيروت يرفع دعوى عليه أمام المحاكم ولكن المحكمة ردت الدعوى لأن القانون لا يتضمن نصاً بشأنها ولكن الأستاذ الشاعر كلف محاميه باستئناف النظر في مقاضاة هذا السارق الجريء.
وكان أن عمد ناشر عراقي إلى هذا الصنيع عينه، فأخذ ديوان (الجداول) نفسه وطبعه طبعة ثانية وباع وربح منه دون أن يرجع إلى صاحبه أو يستأذنه أو يرد عليه شيئاً من الربح فعهد الشاعر إلى أحد المحامين في بغداد لمقاضاة هذا السارق الجديد. . .
ثم كان أن غنى الموسيقار المصري الأستاذ محمد عبد الوهاب مقطوعة في إحدى رواياته من شعر إيليا أبو ماضي دون أن يستأذنه أو يرجع إليه فغضب الشاعر أبو ماضي لهذا الغبن وأعلنها حملة شعواء في جريدته (السمير) التي يصدرها بنيويورك على لصوص الأدب والمنتهبين للآثار الفنية في غير تورع ولا رعاية للعرف والقانون والذوق، وقال إنه سيحاسب الموسيقار المصري ويقاضيه قانونياً على استثماره لشعره كما يحاسب صاحب مكتبة العرفان، إذ قد حان الوقت لوضع حد للصوص الأدب في كل مكان كما يقول.
وقد تناولت مجلة (كل شيء) البيروتية هذه القصة وأوردت طرفاً من فصولها نقلاً عن (السمير) ثم علقت عليها قائلة: (إن صاحب الجداول واحد من كثيرين يُغزون في عقر كتبهم كل وقت في العالم العربي، وليس من المعقول أن يكون للأشياء المادية حرمة وحصانة لا تتمتع بهما القضايا المعنوية ومسائل الفكر وليس من المعقول في شيء أن يحكم القاضي على سارق سطل الحليب بستة أشهر يقضيها في السجن ولا يجد في القانون ما يحكم به على سارق نتاج الفكر ومستثمره دون إذن صاحبه ورضاه. بل ليس من المنطق في شيء أن يحكم على سارق الكتاب كقطعة مادية من الورق بالسجن ولا يحكم على سارق الكتاب كقطعة معنوية من الفكر والرأي والبحث). . .
والواقع أن هذه السرقات التي نحن بصددها ليست بسرقات أدبية، فالسرقة الأدبية على ما(738/37)
هو مألوف أن يأخذ الشخص أثر غيره وينسبه لنفسه، وهؤلاء الثلاثة قد نسبوا إلى الأستاذ أبو ماضي شعره وأثره ولكنهم انتفعوا بما أخذوا وربحوا منه مادياً ولم يشركوه في هذا الربح، بل إنهم ربما فوتوا عليه بهذا العمل ربحاً أكبر وأجزل حتى لو أشركوه معهم، وإذن فالسرقة سرقة مادية كسرقة المتاع.
وليس من قصدي أن أكيّف هذه السرقة من الناحية القانونية، ولكني أقول إنها على أي حال لصوصية جريئة يجب أن يعاقب مقترفوها كما يعاقب سارقو المال والمتاع، وإذا كانت قوانين الدول العربية كلها قد أغضت عن اعتبار هذه المسألة وتقديرها فإن من الواجب على الأدباء ورجال الفكر في العالم العربي أن يفزعوا لحماية أنفسهم وصيانة آثارهم بأن يتداعوا لوضع مشروع يدفع عنهم هذا الاستهتار، ويقرر عقاباً رادعاً لأولئك المستهترين أو فليتوجهوا إلى الجامعة العربية لإنجاز ما هي بسبيله من وضع قانون عام في الشرق العربي لحماية الملكية الأدبية.
لا تنتظروا حتى ينتصف لكم رجال القانون أيها الأدباء، بل بادروا أنتم بالانتصاف لأنفسكم، فنحن في زمن يدفع فيه كل إنسان عن نفسه.
أليس من العجيب أن ترجع الجامعة العربية إلى رجال القانون وإلى موظفي الحكومات العربية في وضع القانون الذي تريده لحماية الملكية الأدبية ولا ترجع إلى الأدباء وهو الذين يعرفون الأبواب المفتوحة للسطو على هذه الملكية؟!
يا قوم حسبكم:
في أواخر القرن الماضي كتب الشيخ أحمد فارس الشدياق وصفاً للبيئة المصرية وطبيعتها قال فيه: (وإن من خصائص البيئة المصرية البارزة أن الطربوش فيها يضيق، وأن البرنيطة فيها تتسع وتتسع ثم تتسع).
والمعنى في هذا التعبير الطريف أن المصريين مغفلون بلهاء، فهم يعيشون في بلادهم غرباء، على حين ينعم الأجانب الوافدون بكل ما فيها من خيرات ومبرات. . .
ولقد مضى أكثر من نصف قرن على هذا الكلام ولقد تطورت الدنيا وتنورت الأذهان وأصبحت كل أمة تبحث عن نفسها وكل فرد يعمل على تقويم شخصيته، ولكن يظهر أن المصريين لم يتحرروا من تلك الطبيعة القديمة، فهم لا يزالون يؤثرون أن يعيشوا في(738/38)
بلادهم غرباء، ولضيوفهم كرماء، أو قل أرقاء، ومصداق ذلك ما بدا من بلدية الإسكندرية الكريمة الموقرة إذ قررت إقامة تمثال في حديقة مكتبة الإسكندرية الجديدة للشاعر اليوناني قسطنطين كفافي. . .
وقد يعنيك أن تسأل: ومن يكون ذلك الشاعر اليوناني وماذا أسدى للثقافة وأجدى على مصر أو بذله في خدمتها حتى تؤثره بلدية الإسكندرية بذلك التخليد على أبناء مصر من العظماء والأفذاذ ولكنك لا تلمس أي مبرر من تلك المبررات، ولعل الأمر لا يخرج عن اقتراح تقدم به عضو يوناني في القومسيون إكراماً لواحد من بني جنسه فسارعت البلدية بالموافقة على ذلك نزولاً على قاعدة: كرماء لضيوفنا!
لقد أذيع أن رابطة أدباء الإسكندرية غضبت لهذا التصرف العجيب واحتجت لدى وزارة الداخلية على قرار البلدية (بإقامة تمثال لشاعر يوناني لا أثر له في خدمة القضية المصرية ولا الثقافة المصرية ولم يكتب كلمة واحدة لمصلحة مصر قديماً أو حديثاً) وقالت في احتجاجها (لقد كان الأولى بالبلدية أن تقيم في ساحة مكتبتها تمثالاً لشوقي أو حافظ أو البارودي أو المنفلوطي أو مصطفى صادق الرافعي أو غيرهم، فإن لديها الكثير الثمين من تراث عظماء المصريين قديماً وحديثاً الذين جملوا لواء الاستشهاد في سبيل مصر وإذاعة فضل بلادهم وهم أولى بالتخليد وأجدر بالتكريم. .)
ونحن على يقين من أن وزارة الداخلية ستتلافى هذا القرار، ولكنا نرجو أن لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل الواجب أن نؤدب تلك البلدية الغريبة عنا، والتي لا تحترم كرامتنا، ولا تعتز بقوميتنا، فكأنها بلدية أثينا لا بلدية الإسكندرية. .
فيا قوم حسبكم، اتقوا الله في وطنكم إن كنتم مواطنين، واتقوا الله في مصر التي آوتكم إن كنتم وافدين. .
(الجاحظ)(738/39)
الأدب والفن في أسبوع
اجتراء:
من نحو أسبوعين كنت قريباً من المذياع، فاسترعى انتباهي أحد المذيعين يقدم الأستاذ علي الجارم بك ليلقي قصيدة (السودان) فتوقعت أن يكون الأستاذ الجارم قد حفزت شاعريته قضية الوادي الماثلة في مجلس الأمن، فاستجابت بقصيدة جديدة لدواعي الظروف القومية الحاضرة. وأصغيت إليه وهو يقول بإلقائه المرنم الجميل:
يا نسمة رنحت أعطاف وادينا ... قفي نحييك أو عودي فحيينا
واستمر في إنشاد القصيدة، ينتقل من التغني بالنسمة التي هبت من جنوب الوادي فأثارت شوقه إلى السودان، إلى الحديث عن الرحيل في القطار إلى أسوان، ومنه إلى الباخرة النيلية، ثم إلى القطار في صحراء العتمور، حتى يصل إلى الخرطوم، فيشيد بأهلها الذين تجمعنا بهم شتى الروابط.
قصيدة جميلة ولاشك، ولكن هل توصف بالبلاغة التي قال البلاغيون أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟ والسؤال بعبارة أخرى: هل هذه القصيدة تطابق مقتضى الحال الحاضرة بمعنى أنها تعبر عن قضية السودان كما هي مثارة الآن من حيث وحدة الوادي، وإنكار الإنجليز لها، وحجتنا، وأباطيلهم، ومن حيث شعور الشاعر إزاء ذلك وتصويره له؟
إنها ليست كذلك، ولكن الجارم شاعر بليغ، فما السر إذن؟
السر أن القصيدة قديمة، قالها الجارم منذ سنين في أثناء زيارته للسودان، وألقاها في نادي الخريجين بالخرطوم، وذهب كاتب هذا إلى السودان على أثر ذلك، فسمع حديث هذه القصيدة هناك، وحسن وقعها من نفوس إخواننا السودانيين وترديدهم لأبياتها.
وقد يمكن أن يمر الإنسان بأمر إذاعتها في الوقت الحاضر مر الكرام، ملتمساً له أدنى الملابسات، وملتمساً للشاعر عذراً من الرغبة في التمتع بالكسل. . .
ولكن حدث في يوم الأحد الماضي أن سمعت بالمذياع نفس القصيدة مرة أخرى بنفس الصوت والإلقاء، صوت الجارم وإلقائه الجميل، وقد تكون أذيعت في وقت آخر ولم أسمعها، وقد تكون سجلت، وستتكرر إذاعة المسجل.
وقد نستسيغ تكرار المسجلات الغنائية، ولكن لم تكرر إذاعة هذه القصيدة، وهي على ما(738/40)
ذكرنا من القدم وعدم ملائمة الحال الحاضرة، ولم تغنّ، ولم (يغردها) فتحي بك. .؟
أراك تهم أن تقول غردها الجارم!
الشعر وقضية الوادي:
وقد كان لقضية الوادي في بعض شعراء الشباب بعض العزاء، فقد أذاع الأستاذ محمود حسن إسماعيل قصيدة ذات ببض وحياة، عنوانها (النيل، على ضوء قضية الوادي) ويشتغل الآن عبد الوهاب بتلحينها لغنائها وتسجيلها للإذاعة
وإذا كان العيد، كما قالت الكاتبة البليغة السيدة منيبة الكيلاني في مقالها بالرسالة، يأتي (فيكون بين المعيد ووسادته ليلة العيد حديث ونجوى؛ فبين معيد ووسادته من ثورات النفس ودوار الرأس وجهد الخاطر الكليل ما بين معيد ووسادته من بسمة الأمل رهشة الرجاء وتطلق الوجه) فيختلف الشعور به باختلاف الأفراد، وإذا كانت الأمم في ذلك كالأفراد، فإن شعور الأمة بالعيد الفائت كان مشوباً بالتطلع إلى ما عساه أن يتم في قضيتها الحاضرة، ولم يعدم هذا الشعور من يعبر عنه، فقد قال الأستاذ فريد عين شوكة في قصيدة له بالأهرام:
بلية من بلايا الاحتلال وما ... لديه إلا جنايات وإرهاق
وحسبه ما دهانا من معاهدة ... بها قيود ثقيلات وأطواق
رمت بنا في لظى حرب مروعة ... ما كان لنا فيها عبر ولا ناق
حتى إذا وضعت أوزارها جحدت ... جهودنا في سبيل النصر أرفاق
وأنكروا ما احتملنا في تحالفهم ... وكم بلينا وذقنا مثل ما ذاقوا
بل يدعي القوم أن كانوا لنا وزراً ... من الغزاة! فيا للحق يهراق
يا مصر، ما العيد إلا أن يطالعنا ... يوم الجلاء له حسن وإشراق
وأن يوحد وادي النيل مملكة ... يضمها علم النيل خفاق
زيتون في قرطاس من الشعر:
كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في أخبار اليوم مقالاً طريفاً بعنوان (زيتون في قرطاس من الشِّعر) قال فيه: إنه ضاقت به الحال في بعض سنوات الحرب العالمية الأولى، فاضطر إلى بيع بعض ما لديه من الكتب بالأقة، وكان في جملة ما باع النسخ(738/41)
الباقية عنده من مؤلفاته. واتفق يوماً أن اشترى من بقال زيتوناً، فلما أفرغه في البيت وجد قرطاس الزيتون منزوعاً من ديوانه الذي كان فيما بيع بالأقة!
ثم قال: (من ذلك اليوم بدأ رأيي يتغير في الأدب وقيمته وما قيمة أدب مصيره إلى دكاكين البقالين ومن إليهم؟ وما زلت أكتب وأنشر، وإن لي لنصيبي من الغرور الذي لا تطاق الحياة بغير قدر كاف منه، ولكني حلت شيئاً فشيئاً حتى صرت أشبه بنجار لا يأسف على حجرة جلوس أو مائدة باعها، وقد خلت نفسي من ذلك الشعور (بالأبوة) لما أكتب، فليس يعنيني مصيره) إلى أن قال بعدما أبان أنه غير راض عما كتبه: (وأتعجب كيف كتبت هذا التخريف؟ وأتساءل: لماذا عجلت؟ لم لم أنتظر حتى أنضج؟)
ورجل كالمازني له ماضيه فيالأدب، ومن حقنا أن نتعقبه، فلا ندعه يقول ما يقول عن نفسه دون أن نتبين وجه الحق فيه وإن ما كتبه وألفه أصبح جزءاً هاماً من أدب العصر، فإذا تخلى عن (أبوته) فإن له أقارب آخرين من حقهم أن يروا فيه وفي أبيه المتخلي ما يرون. . .
ولكن. . . أراني أنزلق إلى فخ. . وهاهو ذا (المكار) يبتسم، فقد أوشكت على الوقوع!
لقد ذكرت ما كان قد قاله له الأستاذ العقاد، بصدد براءته من شعره، وكنت قد تحدثت عن ذلك في عدد ماضي من الرسالة قال العقاد إن المازني مكر بإنكار الشاعرية على نفسه ليتسابق إليه الناس ويضعوه في مكانه من الطليعة، ولكنه انتظر عاقبة مكره دون جدوى حتى الآن. . .
فهل هي (مكرة) أخرى. .؟ على أن الأستاذ المازني ليس بحاجة إلى هذا المكر بالإضافة إلى ما سلف من أدبه، ولعله يشعر بالحاجة إليه الآن. . فقد نضج قبل اليوم بزمان، ولم يعجل كما يقول، وليته يعود إلى ما يدعيه من (العجلة وعدم النضج) وإن كنت أود ألا يعود إليه الزيتون الأسود في قرطاس من شعره.
تظرف بعض الأدباء:
اعتاد لفيف من الأدباء أن يتلهوا بالتفكير في أشياء يتوقعون أن تستملح وتستطاب وتعد من طرائف الأدب وفكاهاته. وتلقفها منهم بعض المجلات الفكاهية فتنشرها ليضحك منها من تضحكه أمثالها.(738/42)
رأينا مرة أنهم ألفوا (رابطة الفضوليين) ومرة أخرى كونوا (جماعة الثقلاء) واشترطوا للدخول في هذه وتلك كذا وكذا من الشروط التي تقطر، بل تنهمر، ظرفاً. . وهي تنطبق طبعاً على حضرات المؤسسين.
والناس يقرؤون هذا كله على أنه من نتاج أفكارالأدباء الظرفاء، وأنهم أبطاله، أي أنهم ظرفاء، وفضوليون وثقلاء. .
وآخر ما أسفر عنه ذلك الظرف (عيد ميلاد فقير الحرب) ومن يكون فقير الحرب عند فقراء الأدب غير (الأديب) المحلى بأل التي هي هنا لجنس الأدباء؟! ومن قول أحدهم في تكريمه (عيد ميلاد فقير الحرب هو عيد ميلاد الأدباء جميعاً) وعلى هذا المعنى دار المحتفلون حول أنفسهم. . . ثم نهض الفقير صاحب العيد - ممثلاً في أحد الأدباء الظرفاء - يعبر عن فقره ويتحسر على سوء حاله! وكان هذا سمر الأدباء في رمضان في (أحد مقاهي الحي اللاتيني القاهري) الذي استحق أن ينشر بإحدى المجلات في عدد خاص بالعيد. .
لا أنكر على أحد أن يمرح ويتفكه بما يريد، ولكن ما كل شيء ينشر، وهذا الذي رآه الناس منشوراً يلصق بالأدباء سمة التسكع ويومئ إليهم بشيء من الازدراء. ومن عجيب المفارقات أن أكثر هؤلاء الأدباء ليسوا من الفقراء، فمنهم الموظفون ذوو الدرجات العلى، ومنهم صاحب العمل الناجح، وفيهم ذو الفن المربح؛ وليس كل من فاته الثراء الطائل بفقير، وإذن فما (الأدب والفقر شقيقان) كما قال أحدهم. والفقراء المتسكعون حقيقة هم الأدعياء المتلصقون بالأدب.
على أن ذاك الذي يشغل به أولئك الأدباء أنفسهم ليس فيه قطرة من ماء الظرف، وإن كان به ماء آخر ينفع في هذا الصيف القائظ.
أول صندوق للبريد:
كتب الأستاذ حبيب جاماتي بمجلة المصور في (تاريخ ما أهمله التاريخ) يقول إن أول صندوق للبريد أنشأه المهدي الخليفة العباسي، وذلك أنه رغب في استماع شكايات رعاياه دون أن يكون بينه وبينهم وسيط، فكان يفتح أبواب قصره في أيام معينة من الأسبوع ليدخلها من يريد بلا استئذان، ليمثل بين يديه ويخاطبه في الأمر الذي يشكو منه. ولكنه(738/43)
رأى أنه قد يكون هناك من وقع عليهم ظلم أو من يعانون فقراً ولا يجرءون على الدخول عليه خشية أن تعقد ألسنتهم الرهبة فلا يستطيعون الإفضاء بشكواهم، فعول على تسهيل الأمر عليهم بتيسير أسباب الاتصال به بطريق الكتابة، فأمر أن يوضع على كل باب من أبواب القصر صندوق كبير مثقوب من أعلاه مثبت إلى الحائط بمسامير، لكل يضع فيه كل صاحب شكاية شكايته مدونة في رق أو قرطاس، واحتفظ هو بمفاتيح تلك الصناديق، فكان يفتحها كل يوم بنفسه ثلاث مرات، ويطلع على الشكايات، ويفحصها واحدة واحدة، وينصف أصحابها بقدر ما يستحقون الإنصاف
فكان هذا أول صندوق للبريد في التاريخ، وكان المهدي أول من أنشأه
والأستاذ حبيب جاماتي يكتب كثيراً من المعلومات التاريخية الطلية، ويجلوها ويشوق إليها بأسلوب سهل نير، تحت عنوان (تاريخ ما أهمله التاريخ) ولكن هل هذه المعلومات أهملها التاريخ؟ ومم استقاها إذن؟! ألا يوافقني على ضرورة تغيير هذا العنوان؟
السينما بمناسبة (المنتقم):
كان إنتاج السينما قد كثر بمصر في أثناء الحرب الماضية، وعلى كثرته قلت فيه القيم الفنية، وكان ذلك انحداراً بالفن المصري الذي نشأ من قبل، وكان في نشأته خيراً مما صار إليه أخيراً.
وأبرز عيوب الفلم المصري، من حيث التأليف والإخراج، خلوه من الفكرة، وقصوره في تصوير النواحي المختلفة للحياة المصرية، وعدم طواعية الأبطال للطبيعة البشرية، فالبطل مثلاً هو أبو زيد الهلالي الذي لا يهزم ولا يخطئ، وتكييف الحوادث بحسب ما يريد البطل الأول من المظاهر الاجتماعية، والاعتماد في التأثير على مؤثرات تهريجية لا على الإبداع الفني.
وقد كان الناس في خلال الحرب، وخاصة العمال الذين نالهم رخاء، يبتغون التسلية والترفيه، ولكن حال الجمهور تغيرت بعد الحرب، لتنبه الوعي القومي، وارتفاع نسبة المستنيرين حتى بين العامة، فهز كتفه إزاء البضاعة المعروضة وأعرض عنها إعراضاً أيقظ أولئك المنتجين من أحلام مكاسبهم، فقبضوا أيديهم، وكفوا عن الإنتاج.
وكان ذلك بشيراً بتطور جديد في هذا الفن، يلتمس فيما يجد من الأفلام. وعلى ذلك اهتممت(738/44)
بمشاهدة رواية (المنتقم) فوجدتها محاولة ليست بذات نصيب كبير من التوفيق، إذ لم تتغلب على أكثر ما ذكرت من العيوب العامة الحاضرة، ففكرتها تافهة وهي تقوم على شخص اعتدي عليه فتشبع بفكرة الانتقام ولكنه يقتنع أخيراً بأن المسامح كريم.
ومعمل الأدوية الذي بدأت به ودارت عليه حوادث الرواية ليس من الصور المصرية، والأشخاص بها ليسوا من البشر فالخيرون هم الخير كله والشريرون هم ذات الشر، وأراد البطل أن يكون أرستقراطياً حتى بعد أن عمى وخرج من العمل فكان له ما أراد. ولكن الرواية مع ذلك اعتمدت على الفن المعبر في هدوء وانسجام وخلت من المؤثرات التهريجية، وهذا هو ف رأيي ما يحسب لها في التطور الجديد المتوقع لفن السينما.
ولاشك أن هناك نواحي أخرى لرواية (المنتقم) ليس هنا مكان التعرض لها، وإنما قصدت إلى بيان عيوب في بناء قصة السينما على العموم بمناسبة عرض (المنتقم) وبيان موقف هذا الفلم من تلك العيوب، لتبين الطريق نحو ما يرجى من التطور الجديد.
(العباس)(738/45)
البريد الأدبي
في التصوف الإسلامي وتأريخه:
أطالع مؤلفاً اسمه (في التصوف الإسلامي وتأريخه) للعلامة (نيكولسون) عربه وعلق عليه العالم (أبو العلا عفيفي) استاذ الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول فأجد هذا القول:
(. . . ولكن صاحب الفهرست يخبرنا أن أستاذه (أي استاذ معروف الكرخي) كان يدعى فرقداً السَّنجي وأن فرقداً هذا قد أخذ عن الحسن البصري الذي أخذ عن مالك بن أنس).
ويعلق الأستاذ المعرب على (السنجي) كما ورد في المتن بهذه التعليقة:
(لا يعرف ضبط هذه الكلمة على وجه التحديد فقد تكون نسبة إلى سنج بالفتح أو سنج بالكسر).
وقد رأيت أن أتقرب إلى فضل هذين العالمين برواية هذه الأسطر عن (اللباب في تهذيب الأنساب) و (تاج العروس في شرح القاموس)، جاء في (اللباب):
(السبخي: بفتح السين والباء الموحدة وفي آخرها خاء معجمة، هذه النسبة إلى السبخة وهي معروفة، والمشهور بهذه النسبة أبو يعقوب فرقد بن يعقوب السبخي العابد من أهل إرمينية وانتقل إلى البصرة وكان يأوي إلى السبخة بها فنسب إليها، روي عن الحسن وغيره، روى عنه العراقيون، توفي قبل سنة (131) ولم يكن بالحافظ للحديث).
وقال صاحب التاج:
(السبخة محركة ومسكنة أرض ذات نز وملح ج سباخ، والسبحة ع (أي موضع) بالبصرة منه فرقد ابن يعقوب العابد توفي سنة (131) وفي الحديث أنه قال لأنس وذكره بالبصرة: إن مررت بها ودخلتها فإياك وسباخها، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر).
وكان اليبخي الصوفي هذا يحرم طيبات ما أحل الله لعباده فلا يأكل الفالوذج ولا يلبس الخز، قال ابن الجوزي في (صيد الخاطر):
(دخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد، ما تقول في هذا؟ فقال لا آكله، ولا أحب من أكله، فقال الحسن: لعاب النحل بلباب البسر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم).(738/46)
وقال ابن أبي الحديد في (شرح النهج): جاء فرقد السبخي إلى الحسن، وعلى الحسن مطرف خز، فجعل ينظر إليه، وعلى فرقد ثياب صوف، فقال الحسن: ما بالك تنظر إليَّ وعليَّ ثياب أهل الجنة، وعليك ثياب أهل النار، إن أحدكم ليجعل الزهد في ثيابه والكبر في صدره فلهو أشد عجباً بصوفه من صاحب المطرف بمطرفه).
(ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
السهمي
سؤال وجوابه:
كتب إليّ من بغداد أخي الأستاذ علي حيدر الركابي يقول: (ما هدفك من سلسلة (مرتفعات وذرنج) تقدمها للعربية باسم (ثلوج حِزْرين)؟ هل هي قصة وقعت بالفعل فأردت تدوينها؟ لقد أغنتك عن ذلك الكاتبة الإنجليزية برونتي التي أصبح لكتابها شهرة عالمية، ومركز ثابت في الأدب وترجم إلى العربية - أم أنت اطلعت على الأصل مترجماً فأجبت بأسلوبك الـ. . . أن تشوق قراء العربية إلى قراءته؟).
وأنا أقول إن شيئاً من ذلك لم يكن، وإنما رأيت القصة في السينما فهزتني وأثرت فيّ فجمعت ما بقي في ذهني من حوادثها وشرعت أكتبها على هذا الشكل الذي شعرت أنا (والحق يقال) أني لم أوفق فيه لأني أضعت جوهر القصة في هذا الاختصار الذي لابد منه، وأنه كان خيراً لي وللأدب لو أفضت هذه الصور والأفكار على قصة أخرى.
هذه هي الحكاية. أما القصة وترجمتها فأحسبك تصدقني إذا أكدت لك القول بأني لم أسمع بها إلا منك، وأنك جعلتني أخجل من تقديم صورة مشوهة لقصة تقول إنها عظيمة وإنها معروفة، وعلى كل حال فما أخذت من القصة إلا بعض حوادثها أما الصور والخواطر، فهي لي وحدي، لي جمالها وعليّ قبحها، ما أخذتها من أحد.
ولك من أخيك أوفى شكره وأجمل تحياته. . .
علي الطنطاوي
هل هي: فلا شيب الله قرنه؟!
نقل الأساتذة. أحمد أمين بك، وجاد المولى بك، وعلي الجارم بك، والسباعي بيومي، وأحمد(738/47)
زكي صفوت في كتاب (المطالعة التوجيهية) الذي قررته وزارة المعارف لطلبة السنة النهائية بالمدارس الثانوية كلمة الخوارزمي المشهورة على هذه الصورة.
(من روى حوليات زهير، واعتذارات النابغة، وأهاجي الحطيئة، وهاشميات الكميت، وقلائص جرير، وحمزيات أبي نواس، وتشبيهات ابن المعتز، وزهديات أبي العتاهية، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري، وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، ولم يخرج إلى الشعر، فلا شيب الله قرنه).
وفسروها بقولهم (أي فلا عاش حتى لا يشيب، يدعو عليه أن يموت شاباً!!) فقلت له إن هذه الجكلة قد وردت محرفة ثم خرج الشرح وقد وردت هذه الجملة في (ثمار القلوب للثعالبي) (فلا أشب الله قرنه) وجاء في لسان العرب بعد أن بين معنى الشياب (وأشبه الله وأشب الله قرنه بمعنى) وفي محيط المحيط للبستاني (وأشب الله الغلام جعله يشب، وأشب قرنه أطال عمره، وهو من باب الكناية لأنه إذا شب قرنه وهو مساو له في العمر شب هو أيضاً، ويقال للغلام في الدعاء عليه؛ لا أشب الله قرنك أي لا جعلك تشب، ومنه قول الحريري في مقاماته للغلام الذي استشاره - قبح الله ظنك ولا أشب قرنك. وفي الأساس لجار الله الزمخشري (وأشب الله تعالى قرنك وأشب فلان تبين إذا شب بنوه).
هذا وإني بعد - أن أوردت ما أوردت من بيان لأرجو إلى حجة العرب وإمام الأدب السيد النشاشيبي أن يتفضل فيدل الأدباء على الصورة الصحيحة لكلمة الخوارزمي هذه لأن في رواياتها اختلافاً كثيراً، ففي كتاب (المطالعة التوجيهية) (وقلائص جرير) وفي ثمار القلوب (ونقائض جرير والفرزدق) وفي هذا الكتاب كذلك زيادة (وقلائد المتنبي) وله منا ومن أهل الأدب جميعاً خالص الشكر وأطيب التحية.
(المنصورة)
محمود أبو رية
الزنزانة وأسماؤها:
كانت لهذه الكلمة المسكينة اسم واحد متواضع معروف فأطلق عليها النابغة الأستاذ الطنطاوي في مقاله الرائع عن (الرب) المرشد الحجيرة. ثم اقترح أديب فلسطيني أن(738/48)
تسمى الحاشرة فاستعملت هذا الاسم في مقالي خاتمة دجال، وقد بين الأستاذ الرشدان في العدد الأخير من الرسالة خطأ استعمال هذا الاسم وقال بلزوم الاستعاضة عنه بالحاصرة لصحة مدلوله على المعنى المقصود. وأنا أخشى غداً أن ينبري أديب آخر ويرى لزوم إطلاق الهاصرة، أو الصاهرة، على هذه الكلمة، ولهذا أرى تثبتاً من الأصح أن نحيلها على المجمع اللغوي في القاهرة، فيكون مصيرها مصير كلمة (السندوتش) التي كان الناس يشكون من ثقلها على المسامع، فلطفها المجمع وهذبها، فأصبح يطلق عليها (شاطر ومشطور وبينهما الكامخ) وبذلك نكون قد انتقمنا من هذه الكلمة شر انتقام جزاءاً وفاقاً على ما شغلت من بال الأدباء والنحاة وأكلت من أوقاتهم. . .
حسني كنعان
تصحيح:
وردت في المقال المنشور بالعدد الماضي من الرسالة عن الروحانية والمادية للأستاذ العقاد كلمة الخليقة الحية، وصوابها الخلية الحية وكلمة(738/49)
القصص
قصة إسلامية:
شيخ الأندلس
منقولة عن الإنجليزية
بقلم الأديب وهبي إسماعيل حقي
ولما تم تقديم الجميع للخليفة، وقف اللاعبون في صفوف منتظمة، ودقت الطبول تعلن بدء المباراة.
وكان عدد المتبارين قد بلغ نيفاً وسبعين فارساً، فكانت المباراة في الدفعتين الأوليين شاقة ومرهقة ولم يفز فيها سوى عشرة منهم لهم الحق في التسابق الأخير وهو أعنف أدوار المسابقة وأصعبها؛ فقد ركّز عمود في وسط الساحة بالغ في الارتفاع، وثبت في طرفه الأعلى بأسلاك قوية تمثال طائر كسي جميعه بالحرير الذي جعل النسيم يداعبه فيتحرك ذات اليمين وذات الشمال.
وعلى كل من الفائزين في الأشواط الأولى أن يسدد سهامه إلى ذلك الطائر من مسافة معينة، ويحوز قصب السبق من يوقعه على الأرض في إحدى ضربات ثلاث، وقد تقدموا جميعاً ما عدا إسحاق فإنه قد بقي للنهاية بحكم قانون اللعب لإحرازه البطولة في عامين سابقين. وكان كل من يتقدم منهم يتبادل التحية مع الجماهير الحاشدة في الملعب وهو عظيم الأمل في الفوز ولكن التوفيق خالفهم جميعهم، ورجعوا منكسي الرءوس يتصببون عرقاً.
ولما تقدم إسحاق وحيا الجماهير وحيته، شمل الساحة سكون مطبق، ورنت إليه الأبصار واشرأبت الأعناق في تلهف ورغبة فلما أخذ مكانه وأرسل أولى سهامه إلى الطائر تابعته الأنظار وشايعته القلوب حتى استقر في صدر الطائر وأماله إلى الخلف كثيراً فترنح الطائر للسقوط ثم أخذ مكانه الأول ولكن من غير جناحين فقط على الأرض، فارتفعت الأصوات في الفضاء بالتهليل والتكبير، وتعالت بالدعوات لإسحاق. فاهتزت جوانب الملعب، ثم عاد إليه الهدوء بعد قليل، ولما صوب إسحاق سهمه الثاني اهتز العمود في عنف وتقطعت أسلاك كثيرة وتمايل الطائر إلا أنه لم يسقط. فهتفت الجماهير في صوت واحد:(738/50)
- مرحى! مرحى! يا إسحاق، احرص هذه المرة فأنت البطل.
استعد إسحاق، وسدد سهمه الأخير إلى الهدف في عناية وإحكام فطار في الهواء ثم نفذ إلى رأس العمود فأتى على بقية الأسلاك وهوى الطائر إلى الأرض وافترش مساحة صغيرة في الساحة، فدوى الهتاف في جميع الجوانب: (الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) فرد إسحاق تحية الجماهير بكلتا يديه ثم تقدم إلى مقصورة الخليفة وانحنى أمامه، فهنأه الخليفة وقدم له القدح الذهبي جائزة الفوز في ذلك العام، فانحنى الشاب ثانية، ثم استأذن الخليفة وانصرف شاكراً، ثم التف حول جمع غفير من أصحابه والمعجبين به وخرجوا إلى المدينة وهم ينشدون الأناشيد الوطنية الجميلة ابتهاجاً بهذا النصر العظيم.
أصبح الشيخ إدريس طاعناً في السن، وقد وهت قوته ونالت منه السنون، فضعفت حركته، وتحللت أوصاله وصارت العزلة محببة إليه، فابتنى لنفسه منزلاً صغيراً أنيقاً في ظاهر المدينة حيث الهدوء التام وأحاطه بحديقة جميلة زاهرة، وعاش فيه عيشة وادعة هانئة.
ولقد كان حريصاً على أن يشهد المهرجان في هذا العام ليقوي روح ابنه المعنوية. ولكن قعد به عن ذلك ضعف الشيخوخة ولقد سرى إليه نبأ انتصار إسحاق بأسرع من البرق. ووفد عليه كثير من الناس يهنئونه قبل أن يعود ابنه. وقد تحامل على نفسه ومشى إلى باب الحديقة ليستقبل ويودع المهنئين ولينتظر ابنه فجاء في رهط من إخوانه تتقدمهم هتافات وجلبة. فلما بلغوا سور الحديقة ترجلوا عن جيادهم وتقدم إسحاق إلى أبيه فقبل يديه كلتيهما. ثم عانقه عناقاً حاراً وطبع الوالد على جبهة ابنه قبلة تفيض عطفاً وحناناً. وتقدم رفقاء إسحاق فقبلوا يد الشيخ وقدموا له التهنئة، ثم تبعوه إلى موائد الشاي والمرطبات فنالوا منها ما طاب لهم. وقبل أن ينصرفوا قام إدريس وشكر للحاضرين صادق تهنئتهم، ودعاهم لحفلة عشاء ساهرة، اعتاد أن يقيمها كلما فاز ابنه في مساء يوم المهرجان. فقبل الحضور الدعوة شاكرين وخرج إسحاق يودعهم إلى الباب، ثم رجع والمؤذن ينادي لصلاة الظهر فأسرع مع والده إلى المسجد، ولما رجعا إلى البيت انفرد الرجل بابنه وجلس إلى جانبه وقال له:
- إنك تعلم يا بني أني قد بلغت من الكبر عتياً، وأنني هامة اليوم أو الغد، فقد انطفأت شعلة القوة في نفسي، وسرى الضعف في أعضائي، وخطوت إلى النهاية خطوات فسيحة(738/51)
وأصبح لا أمل لي في الحياة إلا أن أراك رب أسرة ورأس عائلة وإن ابنة الشيخ عبد الكريم ذات نسب ودين، وليس لها من يدانيها جمالاً وأدباً؛ وقد حزمت الأمر أن نعقد لكما في نهاية هذا الأسبوع والله أسأل أن يكتب لكما التوفيق. . .
عقد الحياء لسان إسحاق فلم ينبس ببنت شفة. ولكن بسمة لطيفة ارتسمت على شفتيه تعبر عن سروره وفرحه. ثم دخلت أمه العجوز فضمته إلى صدرها ضمة قوية وطبعت على وجنتيه قبلة حنان وعطف ثم جعلت يده بين يديها وأخذت تمر بهما عليها مراً لطيفاً وقالت:
- بني العزيز! نهنئ أنفسنا بفوزك. ونسأل الله أن يحرسك. . . إن عمك الشيخ عبد الكريم كان هنا قبل أن تعود وقبلنا دعوته لك لتتناول الشاي عنده بعد عصر هذا اليوم وقد دعا كثيراً من أصدقائك لتأنس بهم. وكثيراً من أصدقائه وأصدقاء والدك لتتعرف عليهم. وإنه أقام هذا الحفل ابتهاجاً بنصرك فاستبدل ملابسك وتهيأ لتلبية الدعوة. ولا تنس أن ترجع قبل غروب الشمس لتستقبل المدعوين للعشاء عندنا.
- أشكرك يا أماه! وسألبي دعوة عمي. ولكني لا أملك العودة في الوقت الذي تحددينه. فذلك موكول للظروف، فقد لا ينتهي الحفل قبل أن تغرب الشمس!
قد يكون ذلك يا بني ولكن عمك الشيخ عبد الكريم سيكون في منزلنا في نفس الوقت أو بعده بقليل لأنه مدعو للعشاء هو الآخر. . .
استبدل إسحاق ملابسه. وأعد جواده، ثم أخذ طريقه إلى منزل الشيخ عبد الكريم في قلب المدينة. . وكان الشيخ عبد الكريم من سراة القوم والمقدمين فيهم، ومن ذوي المكانة في الدولة ولم يبق له من ذريته إلا فتاة جميلة الطلعة لطيفة التكوين ناهزت سن البلوغ، ولقد كانت الصلة بين الرجل وبين الشيخ إدريس من أوثق الصلات وأقواها وازدادت قوة وتوثيقاً بخطوبة الفتاة لإسحاق بن إدريس، فأصبحت الأسرتان شريكتين في السراء والضراء، وكان الشيخ عبد الكريم يولم كل عام فاز فيه إسحاق بالبطولة وليمة يدعو لها كبار القوم وأشرافهم.
وصل إسحاق منزل الشيخ عبد الكريم فوجدهم في انتظاره فتقدم إلى المدعوين وحياهم وتقبل تهانيهم شاكراً. ثم التفوا حول الموائد يأكلون ويشربون مما لذّ وطاب من الحلوى والشراب وبعد أن فرغوا قام بعض المدوين من شباب العرب بألعاب رياضية في الفروسية(738/52)
ولعب السيف وركوب الخيل. . . ثم تفرق الجمع شاكرين للداعي دعوته مكررين لإسحاق التهنئة، واستأذن إسحاق بدوره وأكد على الشيخ عبد الكريم ألا يتأخر عن اللحاق به. ثم ركب جواده ولوى عنانه إلى بيته.
كانت أشعة الشمس على قمم الجبال قد اصطبغت بلون الذهب وكانت الطيور تروح جماعات إلى أوكارها على رءوس الأشجار عندما كان إسحاق في طريقه إلى منزله عائداً من حفل الشيخ عبد الكريم، فما إن بلغ مقابر الخلفاء في سفح الجبل حتى ركض جواده في منعطف الطريق. ثم وثب وثبة عالية في خوف وفزع وكاد إسحاق يسقط لولا أنه فارس ماهر. . .
ولما هدأت ثائرة الجواد، وخفت حدة جموحه تلفت إسحاق حوله فرأى رجلاً منبطحاً على الأرض وبيده مقود حمار، فأيقن أن كلاً من الحمار والجواد قد ارتاع لرؤية الآخر فجأة، فشرد الحمار وجمح الفرس. ووقع الرجل على الأرض.
تقدم إسحاق إلى الرجل وهو يهم بالنهوض وقال له معتذراً:
- لا بأس عليك أيها السيد الفاضل. أرجو ألا يكون قد أصابك مكروه.
فرد عليه الرجل في كثير من العنف والجفوة فقال:
- هل كنت أعمى أيها الغبي الأحمق ولم تر أي شيء أمامك!؟. فقال له إسحاق في استعطاف ولين:
- يلوح لي أنك غريب عن هذه الديار، فهل أنت آت من بعيد؟
- وما شأنك بي أيها المغرور؟ إنه يهمني أن أقول لك: إن هذه السكرة التي غمرتكم سينمحي أثرها عما قريب، وسيعلم أولئك الحاكمون من المسلمين أن وراء الأكمة ما وراءها، وحينئذ ستفيقون من غفلتكم، ويثوب إليكم رشدكم. وتخف وطأة غروركم.
- هون عليك يا صاحبي، ولا تغضب إلى هذا الحد، وإني أكرر لك المعذرة، وأرجو أن تعتقد أن ذلك وقع رغم إرادتي فاغفر لي هذا الخطأ. . . ثم مد يده إلى جيبه وأخرج كيساً به شيء من النقود وقال له: هاك هذه النقود، لتجبر بها ما أصابك ولتتبلغ بها في سفرك.
- إنك مجنون يا هذا! فقد ظننتني من مواطنيك الأندلسيين تستهويهم فضلات المسلمين، ألا فاعلم أنني من بلاد يبصق أهلها على الذهب إذا مسته أيد مسلمة.(738/53)
فاستثار قول الرجل غضب إسحاق فقال له:
- أمسك عليك لسانك أيها الرجل واجعل لهذا الهذيان حداً
- أينا يهذي يا هذا؟ بحق (فجوف) - إله روماني - لم يصادفني من هو أكثر قحة منك.
سر في طريقك يا صاح ولا تستثرني بأكثر مما فعلت، فلولا أن ديني قد أوصى بابن السبيل خيراً لكان لي معك شأن آخر ولقطعت لسانك الذي تلفظ بهذا الهراء.
- يا لك من نذل جبان، أتتجاسر إلى هذا الحد أيها الصعلوك العربي؟ إن كان يجري في دمك نخوة الرجال فترجل عن فرسك لأريك أينا يقطع لسان الآخر!!
- لا تفه بأكثر من هذا، وانتظرني ليصفي كل منا حسابه مع صاحبه. . . ثم شرع في النزول عن ظهر الجواد، لكن الخائن لم يمهله حتى تستقر رجلاه على الأرض، فقد سدد إليه سهماً طائشاً نفذ إلى صدره، وأصاب منه مقتلاً فخر صريعاً تنزف منه الدماء غزيرة، وهكذا مات إسحاق في ميعة الصبا، وريعان الشباب.
بهت القاتل وتسمرت رجلاه في الأرض، فلم يكن في حسابه أن يموت غريمه هذه الميتة الوحيّة، ولم يعد للأمر عدته. فتملكته الحيرة واستبد به الارتباك ولم يدر ماذا يفعل لينجو بنفسه. وبينما هو في حاله تلك يتلفت ذات اليمين وذات اليسار إذ أقبل من بعيد خادم إسحاق، وكان قد تأخر عنه قليلاً، فلما رآه القاتل يجري نحوه، أيقن أنه إن أدركه فسيقضي عليه لا محالة فأطلق ساقيه للريح وأسرع إلى المدينة. . .
كانت الشمس قد توارت بالحجاب. وكان الظلام يتكاثف رويداً رويداً، حين كان الشيخ إدريس قد بدأ يساوره القلق لتأخر إسحاق في العودة بما لم يسبق له من قبل وهو يعلم أن هذه الليلة بالذات يجب أن يبكر فيها ليشترك مع أبيه في استقبال الضيوف. ولما استبد به الانتظار وقارب وقت المغرب أن ينتهي طلب إلى خادمه أن يعد له الماء في الحديقة ليتوضأ. ثم خرج إلى باب الحديقة ونظر هنا وهناك لعله قادم من بعيد ولكنه رجع كئيباً كاسف البال. ومع ذلك لم يدر بخلده أن ابنه في هذه اللحظة يسبح في بحر من الدماء عند مقابر الخلفاء في سفح الجبل فلما أخذ مكانه ليتوضأ قال له خادمه:
- ستؤدي الصلاة هنا أم في المسجد يا سيدي؟
فأجابه الشيخ الكبير:(738/54)
- سأصلي في المسجد يا بني إن شاء الله - مع الإمام. ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة) وقوله عليه صلوات الله وسلامه (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ولم يكد الرجل يتم حديثه حتى لاح لهم شبح يجري خلف سور الحديقة مسرعاً إليهم. فسأل الرجل خادمه قائلاً:
- يمكنك أن تتبين هذا الذي يسرع الخطأ إلينا؟
- لا يا سيدي. ولكن حركاته وملامحه ترشد إلى أنه ليس من أهل هذه البلاد.
- إنه يجري في ارتياع واضطراب كأن خطراً داهماً يتعقبه
(البقية في العدد القادم)
وهبي إسماعيل حقي(738/55)
العدد 739 - بتاريخ: 01 - 09 - 1947(/)
عود إلى الردود والنقود
للأستاذ عباس محمود العقاد
يرى الأستاذ إسماعيل مظهر مرة أخرى في المقتطف أن ترجمة (أنيميزم) بالاستحياء خطأ لأنها ترجمت في بعض المعجمات العامة بالفكرة الروحانية.
والأستاذ مظهر يعلم ولاشك أننا لم نكن نعجز عن مراجعة المعجمات كما راجعها. ولكننا فضلنا كلمة الاستحياء لأن المعجمات لا تفسر المعاني الفلسفية، ولأن كلمة الاستحياء أدل على المعنى المقصود من الفكرة الروحانية في هذا المقام.
فالفكرة الروحانية تلتمس بالمذهب المعارض للفكرة المادية في تفسير الطبيعة أو تفسير التاريخ، وكلتاهما لم تكن تخطر للهمجي على بال، وإنما كان يؤله الظواهر الطبيعية لأنه كان ينظر إليها كما ينظر إلى الأحياء.
وليست ترجمة (أنيميزم) بالحياة خطأ من الوجهة اللفظية فضلاً عن الوجهة المعنوية أو الفلسفية. لأن كلمة أنيما هي أصل كلمة أنيمال ونحن لا نترجم هذه الكلمة بذوات الأرواح بل الأحياء أو الحيوانات. ولو ترجمناها بذوات الأرواح لأخطأنا في رأي الدينيين ورأي الماديين على السواء، لأن الدينيين لا يقولون بالروح في الحيوان، والماديين لا يقولون بالروح على الإطلاق.
وليس بصحيح ما قاله الأستاذ مظهر من أن كلمة (أنيما) تعني الروح في أصل وضعها مستشهداً على ذلك باستخدامها بهذا المعنى في كتب أرسطو وغيره.
وإنما الصحيح أن أصل معنى (أنيما) هو الهواء. ثم استعيرت لمعنى الحياة أو الروح لأن الأقدمين كانوا يربطون بين التنفس والحياة، وهكذا نشأت كلمات الروح والنفس والنسمة في اللغة العربية.
ويرى الأستاذ مظهر مرة أخرى أن كلمة بوليثيزم لا تترجم إلا بكلمة الشرك ولا تصح ترجمتها بتعديد الآلهة.
والصحيح أن ترجمتها بالشرك هي الخطأ وأن ترجمتها بتعديد الآلهة هي الصواب.
لأن الشرك يقتضي الإيمان بإله واحد يعتبر الإيمان بإله غيره مشاركة له ملكه.
والذين عددوا الآلهة قبل التوحيد لم يجعلوا بعضها شريكاً لبعض في الملك، بل ربما اتخذوا(739/1)
إلهاً للبحر وإلهاً للشمس وإلهاً للغاب ولا مشاركة بينها في عمل من الأعمال!
ومن الخلط المعيب أن نقول أن الشرك يفيد معنى البوليثيزم لأن الذي يعتقد بإلهين اثنين مشرك ولا يقال فيه إنه وإنما يقال فيه أنه ديالست كما يعلم الأستاذ.
وخذلت المعجمات الأستاذ مظهر أكثر من مرة في هذه المناقشة لأنه راح يعتمد عليها في تفسير كلمة الديالكتيك التي ترجمناها بالثنائية ويأبى الأستاذ مظهر إلا أن تترجم بالجدلية. . . ولا جدل هناك حيث استخدمت الكلمة في مذهب هيجل أو مذهب كارل ماكس أو ما شاء الأستاذ مظهر من المذاهب الفلسفية.
فهيجل يقول بالفكرة ونقيضها في الثنائية المثالية وكارل ماركس يقول كذلك بالشيء ونقيضه في الثنائية المادية.
ومعنى (الاثنينية) ظاهر في المذهبين بل في كل اصطلاح يرجع إلى (الديالكت) حتى الديالوج الذي يجري الآن على كل لسان. . .
وكل أولئك يوحي إلى الذهن أن أصل كلمة اللهجة والحوار ملحوظ فيه الكلام بين اثنين.
ومهما يكن من هذا أو ذاك فالثابت قطعاً بغير جدال أن الأثنينية مقصودة في ديالكتيك هيجل وماركس، وأن الجدل غير مقصود فيهما إلا في المعجمات العزيزة عند الأستاذ إسماعيل مظهر. . . والتي يوجد عندنا منها بحمد الله عدد لا يقل عن الموجود منها في مكتبة الأستاذ العامرة أو مكتبة المقتطف الفيحاء.
وقال الأستاذ مظهر: (إن الذهاب إلى أن مذهب كارل ماركس هو الديالكتيك أمر لم يقل به غير الأستاذ العقاد على ما أذكر وبقدر ما يتسع له علمي. . . على أني أكاد أجزم به، ذلك بأن مذهب كارل ماركس هو المادية الجدلية. . . وشتان بين المذهبين. . .).
والذي قلناه نحن هو (أن مذهب كارل ماركس وهو الديالكتيك يقوم على أن المادة ثنائية الخصائص تشتمل على الخاصة ونقيضها).
فأين هو الخطأ في هذا الكلام؟
الخطأ على ما يظهر في طريقة الكشف عن الكلمات في المعجمات، وهي تقتضي الكشف عن الديالكتيك في حرف الدال، والكشف عن المادية في حرف الميم. . . وشتان بين الحرفين!!(739/2)
وقد عاد الأستاذ مظهر إلى مسألة الوجود والموجودات فأعاد ما قاله الأديب المستفسر (صابر. م) في عدد مضى من الرسالة فقال - أي الأستاذ مظهر - (إن ذلك قد يقبل في غير لغة العلم غير لغة الفلسفة. لأن هذه اللغة لا تتجوز في تحديد المعاني الدقيقة لكل لفظ. . .).
فلا نزيد على أن نعيد له ما بدأناه في الجواب على الأديب المستفسر من كلام الإمام الرازي حيث قال في المناظرات: (إن كان غرضك إظهار الفرق بين التكوين والمكون بحسب اللفظ والعبارة فإنه يقال يكوَّن يكوّن تكويناً فهو مكون وذاك مكون فالتكوين مصدر والمكون مفعول. والفرق بين المصدر والمفعول معلوم في اللغات. إلا أن الفرق الحاصل بحسب اللغات لا يوجب الفرق في الحقائق والمعاني. ألا ترى أنه يقال عدم يعدم عدماً فهو معدوم، فالعدم مصدر والمعدوم مفعول. ذلك لا يوجب الفرق بينهما في الحقيقة).
ونظن أن الإمام الرازي مفسر القرآن ومفسر مذاهب الفلاسفة يعرف في اللغة والفلسفة ما يجوز وما لا يجوز.
وقال الأستاذ مظهر يعنينا: (أما كلامه في مذهب التطور فظاهر من عباراته التي ساقها أنه لم يفرق بين البحث في التطور والبحث في نشوء الحياة، إن الأمرين مختلفين جد الاختلاف).
وهذا كلام لا يجاب عليه بالإيجاز. . . ولكن بلغة التحدي التي تبتدئ من الخط الثلث إلى (بنط 8) في المطابع العصرية.
فنقول للأستاذ مظهر: اذكر لنا عالماً واحداً من علماء التطور، أو كتاباً واحداً من كتب التطور، أو سطراً واحداً من سطورها - يفصل بين التطور وبين نشوء الحياة في مذهب الماديين.
ونحن في الانتظار ولا نزيد.
ثم قال: (أما قول الأستاذ أن أجهل همجي لهو أصدق شعوراً بالعالم من الفيلسوف العصري الذي يحصر الحياة هذا الحصر العجيب. . . فهل نصدق حقيقة أن أجهل همجي هو أصدق شعوراً بالعالم من بلاس وكونت وكانت وداروين وبرجسون).
وعندنا نحن أن الأستاذ مظهر بحاجة إلى مراجعة برجسون وداروين وكانت ولابلاس ليعلم(739/3)
أنهم لا يحصرون العالم، ولا يختمونه في علبة صغيرة، كالعلبة التي يملكها الأستاذ مظهر على ما يظهر، ونفضل له أن يملأها بالوهم - من أي صنف من الأصناف - ولا يملأها (بعلم) لم يستند إلى علم ولا إلى فلسفة ولا إلى عقيدة. . . اللهم إلا المعجمات وأشباه المعجمات!
عباس محمود العقاد(739/4)
رجل في ملابس النساء!
للأستاذ علي الطنطاوي
قرأت في (أخبار اليوم) أن الشرطة عثرت على (فلان) قتيلاً في داره. . . وقالت عن هذا القتيل أنه كان يلبس ملابس النساء، ويفضلها على ملابس الرجال، لأن أمه لما ولدته كانت ترجو أن يكون بنتاً لذلك دعته (فلانة) وألبسته ملابس البنات ونشأته على ذلك، وقالت الجريدة أنه كان غنياً واسع الثروة فأراد يوماً أن يؤلف لجنة في (حزب سياسي) للسيدات يكون هو رئيسها فأوفدت إليه الشرطة من يهدده بالاعتقال والنفي إلى الطور إن هو فعل.
قرأت هذا فوقفت عنده وفكرت فيه، فوجدت الجريدة قد ساقت هذا الخبر لتعجّب الناس من أمرين هما: لبس الرجل لباس المرأة، ودخوله في لجنة السيدات - وما في واحد منهما عجب، ولا أدري ماذا وجدت فيه الجريدة حتى عجّبت منه الناس ومادمنا لا ننكر على المرأة أن تلبس لباس الرجل، وتستعير سراويلاته (بنطلونه)، وتجزّ شعرها تشبهاً به، وتتخذ مثل قميصه وردائه؛ فلماذا ننكر على الرجل أن يلبس ثيابها مرة واحدة؟
ولماذا ننكر عليه دخوله مرة واحدة في لجنة السيدات، ولا ننكر على السيدات دخولهن في لجان الرجال ومشاركتهم في أعمالهم، من سوق السيارة إلى تدريس الجامعة وأيهما أعجب وأغرب، وأبعد عن سنن الله ومألوف الناس، أأن يرأس رجل لجنة السيدات في حزب من الأحزاب، أم أن تقعد آنسة جميلة على منبر التدريس مثلاً. . . تعلم شباباً كباراً. . . علماً لم تختص هي به، ولم تنفرد بحمله، ولم ينقرض الرجال حتى لم يبق لتدريسه إلا هي، وليست أصلح له ولا أقدر عليه من رجال هم مستعدون للقيام به، راغبون في أدائه؟
فلماذا نستضعف الرجل فنحمل عليه، ونظلمه هذا الظلم البيّن، ونهاب الجنس (المخيف) أن نقول لأهله كلمة، أو نشير إشارة؟
وأين المساواة بين الجنسين التي ندعو إليها دائماً، ونتجمل بترديدها، ونتباهى بها، ونحن لا نفهم معناها، ولا ندري علام تدل وإلام توصل؟
وهل انفرد هذا الرجل وحده بلبسه غير لباسه، وتزيّيه بغير زيّه؟ ألسنا نرى كل يوم أناساً يتزيّون بزيّ الصالحين، ويحملون سبحات المسبحين، ويقومون في المساجد مع المصلّين، ثم لا تعاملهم إلا غشوك، ولا تخبرهم إلا وجدتهم طلاب مراتب ورواتب، أو باغي منافع،(739/5)
ولا تراهم إلا متزلّفين لكل صاحب سلطان، خاضعين له، يؤثرون رضاه على رضا الله، ويخافون غضبه أكثر من غضب الله. إذا رأوا الحرام منه خرسوا عنه، وإن رأوا المكروه من غيره أقاموا الدنيا عليه. . .
ومشايخ طرق ظاهرهم مع مريديهم ظاهر الفقراء الزاهدين، وحقائقهم مع أهليهم وإخوانهم، حقائق الفساق الذين ينتهكون كل حرمة، ويبتغون كل لذة، ويعيشون حياة ليس فيها شئ لله ولا للشرف.
أولسنا نرى كل يوم عملاء للأجانب، كالذين ذكرهم الأستاذ رمزي بك، يدرسون على حساب الأجنبي في مدارسه، ويتربون على يديه، ويسبّحون بحمده، يتوجهون أنّى وجههم، ويعملون له فيما استعملهم، ويعرفهم الناس هم وآباؤهم من قبلهم صنائعه وعبيده، يلبسون فجأة ثياب الوطنيين المخلصين، أو دعاة الدين الصالحين، ثم يدخلون (بأمر الأجنبي) الحزب أو الجمعية، فلا يلبثون أن يكونوا هم أربابها، وأن يقصوا عنها أصحابها، ثم يصرِّفونها لمصلحة الأجنبي، يخدمونه وهم يسبّونه، قلوبهم وأيديهم معه وألسنتهم عليه، وعملهم لمصلحته وإن كانت ظواهرهم لمحاربته؟
أولسنا نرى أغبياء جهلاء يلبسون ثياب العلماء الأذكياء، وأدنياء يزهون بحلل الأعلياء، وأعداء يرتدون أردية الأصدقاء؟
فلماذا نفرد هذا القتيل المسكين بالملامة، ونخصه بالنقد؟
وهل كل من حمل شارب الرجل، ولبس لباسه، كان رجلاً؟ لو كان هؤلاء. . . كلهم رجالاً فهل كان يمكن أن تبقى بلاد العرب إلى اليوم مجزأة مقطعة، تفصل بينها حدود وأعلام، يطؤها الأجنبي ويتحكم فيها، ويستغلها ويستعبد أبناءها؟ إن الرجال حقاً هم الأربعون الذين كانوا مستخفين في دار الأرقم في أصل الصفا، فلم تمر عليهم ثلاثون سنة حتى فتحوا نصف الدنيا، لا هؤلاء الأربعمائة مليون الذين ناموا منذ ثلاثمائة سنة حتى تجرأت عليهم نصف شعوب الدنيا؟ لو كان هؤلاء رجالاً حقاً واجتمعوا على الأسطول الإنكليزي لحملوه حملاً على أكتافهم، ولو نفخوا كلهم نفخة واحدة لطيّروا الجيش الإنكليزي المرابط عند القناة ولو بصقوا كلهم بصقة واحدة لأغرقوا يهود العالم. . .
ولكنهم أشباه الرجال، ولبسهم لباس الرجال لا يقل عجباً وغرابة، عن لبس هذا القتيل لباس(739/6)
النساء. . .
ولماذا ننكر عليه أن يكون رئيس لجنة السيدات الـ (حزبيات) ولا ننكر على السيدات أن يؤلفن هذه اللجنة؟ وما للسيدات وأعمال الأحزاب؟ إنه إن دخل فيها فهذا عمله، وهذا مكانه، ليس هو الطارئ الواغل فيه، ولكن السيدات المحترمات. . . فهن أولى بالإنكار، وأحق بالمنع، لا احتقاراً لهن وزراية عليهن بل إكراماً لهن، وترفعاً بهن أن ينزلن إلى هذه المنزلة، وينحططن إلى هذه الدركة، وهل جنى الرجال من الحزبيات في بلادنا خيراً حتى يجنيه منها النساء؟ هل رأينا فيها إلا الفرقة والانقسام، واستغلال نفر منا إخلاص المخلصين، واندفاع المندفعين، وطمع الطامعين، للوصول إلى كراسي الحكم، التمتع بأموال الدولة؟ وماذا يرى المراقب البعيد، من تبدل الحكومات في هذا الشرق العربي، وتعاقب الأحزاب عليها، إلا تبدل الوجوه، وتغيّر الأشخاص، أما الأسلوب فهو واحد، والسياسة واحدة، يتبدل الوزّان ويبقى الميزان؟ والميزان مختل، والقب مائل، والصنجات ضائعات!
أولسنا جميعاً مثل هذا القتيل نلبس لباساً لم يفصّل لنا، ولم يقس علينا، ولكنه خيط لغيرنا، فأخذناه كما هو بلا إصلاح، ومشينا فيه كما يمشي الطفل بحلة أبيه يتعثر بها فيسقط، فيضحك أهله عليه، ويسلّيهم بفعله
لقد أخذنا هذه المدنية كما هي، لم نحكم فيها عقولنا وشرائعنا وطبائع بلادنا، ولوازم معيشتنا، كما تفعل كل أمة في الدنيا، فتستوي الأمم في أصول الحضارات، وأسس المدنيات، ولكنها تختلف في التفاصيل، فلا تبنى البيوت وتخاط الثياب في البلاد الباردة كما تبنى وتخاط في البلاد الحارة، ولا تخطط المدن في شعاف الجبال كما تخطط في السهول أو على سواحل البحار، ولا تكون الأطعمة في حدود القطب كما تكون في خط الاستواء، وما يسوغ ويقبل في بلد قد ينكر ويردّ في بلد، وما يحسن في لسان من أساليب البيان يقبح في لسان، وما يجمل في ألحان الغناء يبشع في أذن، ليس في الدنيا بلدان متحضران تستوي فيهما هذه الدقائق كلها، وإلا لما كان معنى لاختلاف الحضارات، وتعدد الثقافات، وتكلف مشاق الرحلات، ولكان السائح الذي يرى فرنسا كأنه رأى ألمانيا، والذي يبصر أمريكا كأنه أبصر روسيا، وليس في الدنيا حضارة أصيلة إلا ولها طابع خاص بها، فما هو طابعنا نحن في حضارتنا الجديدة؟ ما هو الثوب الذي نلبسه؟(739/7)
ادخل أي دار من الدور، وسر في أي شارع من الشوارع، في مصر أو الشام أو العراق، تجد الجواب، تجد في الدار الواحدة غرفة مفروشة بالبساط والوسادة فيها فراش على الأرض، وغرفة فيها أحدث ما صنع من الأرائك والكراسي والمناضد، ودقق في هذه الغرفة تجد فيها خليطاً من الذوق الفرنسي والإنكليزي، وفي صدرها مرآة من أسلوب عهد لويس الرابع عشر، وأمامها نضد على الطرقة الأمريكية، وتجد بين الأم وبنتها في اللباس والعادات والأفكار قرناً كاملاً، وتجد بين الدار وأختها فرقاً هائلاً، في العمارة والفرش والذوق والترتيب، مع إنك تدخل بيوت عمارة يسكنها إنكليز أو فرنسيون، فتحسّ على اختلاف الغنى والذوق، أن لها طابعاً عاماً يبدو على كل منها، وإن تفاوتت درجات ظهوره وخفائه؛ وتجد في الشارع ألواناً من الألبسة والأزياء، يحسبها الغريب أزياء عيد المساخر (الكرنفال)، وادخل المدارس تجد في المناهج، وفي المبادئ العلمية والسياسية والاجتماعية التي تعرض على التلميذ، وفي آراء المدرسين ومذاهبهم (كرنفالاً) آخر، ولكنه أغرب وأشد اختلافاً، وأكبر ضرراً، وفي المبادئ الحقوقية في التشريع، وفي المذاهب البيانية في الأدب، وفي الصحافة وفي السينما وفي كل شئ (كرنفال) ضخم، ليس له يوم واحد ينقضي بانقضائه، ولكنه دائم باق لا انقضاء له
وأنا لا أدعو لنبذ الحضارة الغربية، بل أدعو لأخذ ما ينفعنا منها، وأن لا نأخذها أخذ العامي للرادّ (الراديو)، لا يفهم منه إلا أنه يأتيه بالأصوات، فيفتحه على مصراعيه، ويزعج به الجيران، ويكرّه إليهم الحياة بجواره، بل أخذ العالم الذي يعرف وجوه استعماله، ويدرك تركيبه، فيصلحه إذا فسد، ويكمله إذا وجده ناقصاً، ويصنع مثله أو يخترع أحسن منه، أي أن نتعلم علومهم، ونتقن فنونهم، وندرس أخلاقهم، ثم نرى ما يزيدنا منها قوة، وسعادة للفرد منا والجماعة، وسهولة في العمل، ولذة في المعيشة، فنأخذه كما هو، أو نعدله حتى يصلح لنا، وأن ننقله إلينا، ونجعله ملكاً لنا، لا أن ننتقل به إلى أمة غير أمتنا، وطبيعة غير طبيعتنا، وأن ننظر ما فعله أجدادنا في أول العهد العباسي، مع الحضارة الفارسية أولاً فنصنع مثله، إنهم أخذوا كل نافع في الطعام والشراب وللباس والمسكن وفنون القول وطرائق الفكر، ولكنهم لم يصيروا به فرساً، بل جعلوا به الفرس عرباً، أما أن نأخذ النافع والضار، والجليل والحقير، بلا فهم ولا علم، فهذا تقليد كتقليد القردة. . .(739/8)
وبعد، فلماذا ننكر على هذا الرجل أنه فقد عزة الرجولة، واتخذ لباس المرأة، ولا ننكر على الكثرة الكاثرة من هذه الأمة أنها فقدت عزتها، واعتدادها بنفسها، وكبرياءها القومية، وشعورها أنها أمة هي أعظم الأمم في الجاهلية والإسلام، وأنها إن قدر عليها أن تذل حيناً، فما من أمة إلا وقد ذلت ذات مرة، ولكنها لن تذل مرة أخرى، ولن تعود إلى الغفلة والمنام. . .
إن رأس أدوائنا هو هذا اللطف، والحرص على أن نكون مؤدبين، لا نؤذي محدثنا أو جليسنا. هذا للطف وهذا الإكرام للضيف هو الذي جرأ علينا الأجانب، جنوداً وتجاراً، حتى ملكونا بجيوشهم ومعاملهم وشركاتهم ومتاجرهم، ولا خلاص لنا، أعنى لا خلاص لمصر من هذا كله ألا بأربع خلائق يجب على كتابها وصحفييها ومدرسيها وصانعي أفلامها أن يعلموها الناس وأن يخلقوهم بها، هي حب المال أولاً، وحب المال إن زاد كان مذمة للفرد ونقيصة، ولكنه لا يكون للشعب إلا خيراً، وما أفلح شعب لا يحب في مجموعه المال. وحب الأسفار ثانياً. . . كونوا كإخوانكم الشاميين، هل طلع كوكب إلا على نفر منهم؟ اقتحموا البحر والصحراء، إلى أمريكا شماليها وجنوبيها، وأفريقية أدناها وأقصاها، والهند واليابان وأوربة، وما نزلوا بلداً إلا كانوا من كبار تجاره، ومن وجوه سراته، عاشوا تحت كل نجم، وجابوا كل أرض، وخالطوا كل أمة. . .
وترك هذا اللطف ثالثاً، وتعود الشدة في الحق، والثقل على العدو، والمزاحمة على العيش، وأن يحس مصري بعد هذا كله، بل قبل هذا كله، أن البلد بلده وأنه أحق به من كل خواجة وكل دخيل، وأن له هو طيباته وخيراته، وأنه أكرم من هذا الدخيل (كائناً من كان هذا الدخيل) أصلاً، وأعز نسباً، وأبين لساناً، وأقوم ديناً، وأجل أثراً في الدنيا، فلا يطأطئ رأسه لأحد، ولا يحني هامته لإنسان، ولا يرضى بالدنية من مخلوق في الدنيا.
بهذه الأخلاق ننقلب مرة أخرى، ويرى هؤلاء الأجانب ماذا يصنع الأسد الجريح، إذا برئ، بالثعالب التي كانت تلعق دمه.
والويل يومئذ للثعالب!!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(739/9)
القسم العاشر:
الاستعمار الفرنسي في الجزائر العربية
يولية 1830 - يولية 1947
(نحن نقص عليك نبأهم بالحق) قرآن كريم
للأستاذ أحمد رمزي بك
إنه نبأ هذه الأمة الجزائرية العربية التي تسكن أرض الجزائر ولها على هذا الوطن الحق الطبيعي التاريخي الثابت الذي لا تضعفه أقاويل فرنسا وادعاآتها لأنه منبعث من ثنايا القرون العديدة التي أمضتها هذه الأمة على أرضها وهي تتمتع بكامل شخصيتها وميزاتها لا يشاركها فيها أي مشارك ولا ينازعها في أمجادها أي منازع.
إنها قضية تسعة ملايين نسمة من المسلمين تحاول فرنسا أن تجعل منهم قطيعاً في بلادهم وعلى الأرض التي حملت تاريخ آبائهم وأجدادهم: أتدري أنهم محرومون من كل حق سياسي أو اجتماعي أو ثقافي؟ وأنهم لا يستطيعون أن يجهروا بأقوالهم ومشاعرهم؟ لأن حرية القول وحرية الاجتماع وحرية الصحافة بل حرياتهم الدينية محرمة عليهم.
ولكي تحتفظ فرنسا بإدارتها الاستعمارية وجبروتها تلجأ إلى فرض نوع من الرقابة البوليسية لا يقل عن أشد أنواع الجستابو الذي فرضته ألمانيا النازية والجيبيو الذي فرضته روسيا السوفيتية على أراضيها: إنها تجعل من إدارة الأمن العام والمكاتب الوطنية أداة للإرهاب والتشريد والتجسس وكبت الحريات لدرجة أنها تصرف خمس الميزانية على هذه الأداة البوليسية الجبارة.
تصور حكومة تشتري كيانها وحكمها وإدارتها بأن توزع خمس أموالها على هيئة بوليسية للقمع والإرهاب. ماذا يبقى لها أن تفعله في ميادين الحياة العامة ونشر التعليم والصحة؟ وهي مضطرة أن تحتفظ بجانب هذا بمبالغ للصرف على الجيش والقوات المسلحة الأخرى؟
لقد عرفنا شاتينيو سكرتيراً عاماً لمفوضية فرنسا بسوريا ولبنان ولمحنا في أحاديثه وأقوله الرجل الفرنسي المتمسك بمبادئ الثورة الفرنسية وتقاليدها المنبعثة مما أعلنته عن حقوق(739/11)
الإنسان. كان يصرح بهذا وبلاده تحت الحكم النازي وسيطرة جيش الاحتلال ودارت الأيام فإذا به يشغل مركز الحاكم الفرنسي العام: إنه ممثل الجمهورية في بلاد الجزائر وهاهو ذا قد لبس لباس الاشتراكية وجاهر بحقوق الأمم المظلومة ولكنها في نظره وفي عقيدة أمثاله من اليساريين من اشتراكيين وشيوعيين قاصرة على الأمم الأوروبية وحدها. أما شعوب الشرق وأمم الإسلام فهي في الجزائر أو شمال أفريقية وفي بخارى وأواسط آسيا سواء في تحمل الضغط والخضوع لسيطرة الاستعمار الفرنسي أو السوفيتي.
ماذا يقول حاكم الجزائر الاشتراكي! إنه يقرر في خطابه الذي ألقاه يوم 19 ديسمبر سنة 1945 في المجلس المالي الجزائري (إن تضخم أرقام الميزانية راجع إلى زيادة عدد الموظفين في إدارة الأمن العام.)
أي أن حكومة الجزائر الاستعمارية الرجعية التعسفية والتي يوجد على رأسها حاكم اشتراكي، تشتري وجودها بثمن باهظ من حياة الشعب الجزائري، إذ تفرض عليه الجهل الدائم لتعيش مع جيش موظفيها، إنها تترك الأمراض تسري وسط جماعاته والمنون تأكل من أطفاله لكي تعيش هي مع جيش من الموظفين الفرنسيين يخدمون مآربها ويؤكدون سلطانها وجبروتها عليه.
وفي الوقت الذي تصرف فيه فرنسا على بوليسها وعيونها هذه الثروة الطائلة من أموال الشعب الجزائري، نجد أن ما خصصته من هذه الميزانية للصحة العامة لا يتجاوز أربعمائة وثلاثين مليوناً من الفرنكات وما أرصدته منها للتعليم أقل من ذلك بكثير.
لذلك انتشرت الأمراض بين طبقات الأمة وضج المستعمرون حينما تبين لهم أن نسبة القادرين على حمل السلاح من الجنود الوطنيين قد هبطت لأن الأحوال الصحية لم تعد تسعف الأتون الفرنسي بالآلاف المؤلفة من أبناء العرب الجزائريين لدفعها إلى جوفه في حملاته الاستعمارية وليحولها إلى أشلاء وهياكل عظمية إنه يطلب المزيد من ضحاياه.
فهذه القوة الجبارة التي تسمى الأمن العام، أداة استبدادية نجدها في تحفز دائم واستعداد قائم للانقضاض على الشعب الجزائري، إذا تحرك أو أظهر امتعاضاً إنها تمكن المستعمرين من إبعاد أمة بأسرها عن دفة الحكم وعن تولي المصالح العامة في بلادها، أي تجعل من شعب يزيد تعداده على تسعة ملايين نسمة غريباً في بلاده، طريداً في وطنه منبوذاً على الثرى(739/12)
الذي حمل سطوة آبائه وأجداده، بل تفعل أكثر من هذا إنها تقيم بينه وبين العالم سداً لا يجعله يبصر شيئاً مما وراءه لأنه تعزله عن الدنيا كما يعزل الموبوء والمجذوم كيلا يرى نور العالم. ألا فليعلم العالم أجمع أن أهل الجزائر محرومون في بلادهم من قراءة الجرائد العربية التي تأتي إليهم، وأن لدى المكاتب العامة قواعد لا تسمح لها أن تعير الوطنيين حتى الكتب الفرنسية التي تتحدث عن الحرية وآمال الشعوب.
فهل رأيتم سداً كهذا السد؟.
أما في الميدان الاقتصادي فما من شعب من شعوب الدنيا تحمل ما تحمله الشعب الجزائري منذ وضعت فرنسا قدمها في شمال أفريقيا. إنها أخذت تنهب الثروة الوطنية وتصادر أملاك الأهالي وتجعل أراضي الحكومة والدولة وخيرات الأمة وقفاً على المستعمرين الفرنسيين ومن لاذ بهم من طريدي الجنسيات الأخرى. . .
ولقد نقل صاحب كتاب تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر. أن قائد الجنود الفرنسية رتب مجلساً من رؤساء الجند لضبط الخزائن من الأموال والمهمات الحربية والذخائر فتحصل من ضبطها على ما قيل من الذهب والفضة وقيمة الجواهر 527 و680 و48 فرنكاً من الذهب، ومن الحنطة والشعير 3 ملايين ومن المدافع والبنادق والبارود والقنابل وغيرها مع ثمن الأملاك الأميرية 50 مليوناً.
فهذه الثروة الطائلة التي وقعت غنيمة بأيديهم عند الفتح، علمتهم طريق الاستحواذ على غيرها فإذا هم من يولية 1830 إلى 1947 يسيرون على هذا المنوال من المصادرة والاغتصاب حتى انتهوا بأن فرضوا الفقر والفاقة والإملاق على شعب بأسره.
وهذه الثروة الطائلة قد غطت ما تكلفته الحملة الفرنسية الأولى من أعباء مالية علاوة على ضياع الديون التي كانت فرنسا مدينة بها لحكومة الجزائر الإسلامية.
أما مصادرة أملاك الوطنيين فسياسة وضعتها فرنسا وقلدتها فيها إيطاليا وإسبانيا وهي تتلخص في تحديد منطقة خصبة من الأراضي ونزع ملكيتها اغتصاباً ونقل سكانها بالقوة منها.
وقد عمدت فرنسا لأول مرة إلى هذه السياسة في أقاليم القبائل وفي جهة قستنطينة كعقاب أنزلته بالسكان الجزائريين عقب ثورة عام 1871، إذ نزعت ملكية ما مقداره خمسة ملايين(739/13)
من الأفدنة المصرية، منها مليون فدان من أجود الأراضي الخصبة وشردت أصحابها وجعلت هذه الأراضي لإسكان المهاجرين الفرنسيين خصوصاً أهالي الألزاس واللورين، وهم الذين طلب باسمهم الكردينال لا فيجري تسليمهم هذه الأراضي وإخراج الأهالي الوطنيين منها بدون أن يعوض أصحابها بشيء.
وقد سارت حكومة الاستعمار على طريقة فرض الغرامات الباهظة وتحصيلها بالشدة المتناهية فأخذت ملايين الفرنكات من أهالي المقاطعات التي قامت بثورة القبائل وعرف الوطنيون الذلة والمسكنة وبيع الأراضي والدور في سبيل عتق رقابهم.
ولا يزال بعض الإخوان المغاربة الذين لقوا الويل على أيدي فرنسا يحدثون أهل الشام بهذه الكوارث ويقولون لهم أنتم بخير مادمتم بعيدين عن حكم فرنسا المباشر وهو الذي يمثله قاضي الصلح الفرنسي وحارس الأحراش فالثاني يكتب المخالفات والأول يصدق غيابياً عليها فما يشعر صاحب الملك الوطني إلا والتنبيه بنزع الملكية يلاحقه فلا يقدر أن يفلت من يدي القضاء إلا وهو مجرد من كل ما يملك.
وبهذه الأساليب والقواعد التعسفية خرجت أحسن وأخصب الأراضي الزراعية وأجودها من أيدي الوطنيين وأصبحت تحت يد المستعمرين الفرنسيين ونزلت نسبة أملاك الجزائريين إلى 36 % من الأراضي الزراعية التي كان يملكها الجزائريون إرثاً عن آبائهم وأجدادهم.
وأدخل الفرنسيون فلاحة الكروم التي شغلت أكثر من ستة ملايين فداناً وهي كروم مخصصة لأنواع الأنبذة فهبطت مساحات الأراضي المخصصة للحنطة والمحاصيل الحيوية لمعيشة السكان الوطنيين وتعرضت مناطق الجزائر لأخطر المجاعات التي انتابت أفريقيا في العصور الحديثة نتيجة لتلك السياسة الاستعمارية التي انتزعت من الأهالي أخصب أراضيهم وجعلت منهم عمالاً أجراء يعملون لدى الكولون الفرنسي لقاء دراهم معدودة في أراضي كانوا يملكونها في الأمس القريب.
فالبلاد الجزائرية التي كانت قبل 1830 تكفي سكانها من محاصيلها الزراعية وتصدر من خيراتها الشيء الكثير، قد أصبحت في موقف اقتصادي يجعلها عالة على غيرها في إطعام سكانها وإعاشتهم، لأن الاقتصاد الزراعي والإنتاجي الذي فرضته فرنسا عليها لا يتفق مع حياة السكان الوطنيين ومصالحهم وموارد رزقهم وتنظيم أمور معاشهم فهم في فقر مدقع(739/14)
واحتياج دائم ويموت من هؤلاء الآلاف كل سنة بسبب الإملاق والمرض وسوء التغذية.
وقد مات في سنة واحدة حسب التقارير الفرنسية ما يقرب من نصف مليون جزائري إبان المجاعات التي انتابت بلاد الجزائر في إحدى سنوات القرن الماضي ولم تحرك هذه النكبة أحداً من الأجانب الذين لم يشعروا بها وكانوا في رغد من العيش الدائم.
إن قيام سلطة حكومية فرنسية بالجزائر أمضت أكثر من مائة عام، لا يهمها شئ من أمور المواطنين أمر لا يقبله نظام العالم الجديد ولا يمكن أن يسلّم به دعاة الحرية ومن يتبجحون بمبادئ رفع الظلم عن الشعوب المغلوبة على أمرها. فهذه حكومة تفرض الامتيازات وحقوق الإنسان لفريق من السكان تمنحه كل الخيرات والباقي منهم أي تسعة أعشار السكان وهم أهل البلاد مجردون من كل حق لهم بل تطاردهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتسير بهم نحو التشريد والإفناء.
وفي سبيل إبقاء هذه الحالة تحرم الحكومة الجزائرية الفرنسية؛ أهل الجزائر من حق التعليم وما يتبعه من حق النفوذ الاجتماعي.
فهي منذ سنة 1830 أبطلت كافة المؤسسات الثقافية والتعليمية التي كانت قائمة بمدينة الجزائر وفرضت سياسة الجهل المطبق ومحاربة اللغة العربية، لغة البلاد الرسمية واعتبرتها لغة أجنبية، بل ذهبت لأكثر من ذلك إذ حرمت تعليم القرآن الكريم في الكتاتيب إلا إذا علمت معه الفرنسية فكم عدد هذه التي بوسعها أن تعلم لغة أجنبية فيها؟ كان هذا القانون بمثابة حرمان الأهالي من تعلم القرآن الكريم ولا يوجد ما يشبه هذا القانون سوى الإجراءات التعسفية التي فرضتها حكومة فرديناندو ايزابلا على أهالي غرناطة المسلمين عندما أوقعهم سوء الحظ تحت بطش قوم نزعت كل عواطف الإنسانية من قلوبهم.
ولعل أعظم ما تمتاز به الإدارة الفرنسية بالجزائر هو محاولة نشر الجهل وتعميم الأمية بين طبقات الشعب الجزائري حتى لا تقوم له قائمة أو يشعر بشخصيته ووجوده.
فقد صرح عميد الجامعة الجزائرية أمام لجنة الإصلاحات الإسلامية في يناير سنة 1942 بمدينة الجزائر (أن بين 000ر250ر1 طفل وطني في سن الدراسة 000ر100 فقط خصصت لهم 699 مدرسة، وأن عدد الأوربيين حسب الإحصاء 900000 وعدد أبنائهم الذين يتمتعون بالتثقيف والتعليم الابتدائي 000ر200 طفل خصصت لهم 1400 مدرسة)(739/15)
هذه أرقام تتحدث بنفسها عن سياسة فرنسا إزاء رعاياها المسلمين بالجزائر ولو شئنا أن نقيس حالتهم في درجات التعليم العالي والثانوي لرأينا العجب العجاب، فإن النسبة فيها لا تتعدى فيها العشرة في المائة بأي حال من الأحوال، ولم نكن نصدق شيئاً من ذلك حتى عاينا هذا بأنفسنا في بعض المعاهد الفرنسية التي تفرض لأبناء المسلمين نسبة معينة لا تتعداها مهما كانت ظروف أهليهم
وذلك لكي يقترن الإسلام بالجهل وتلصق المسلمون ظلماً وصمات التعصب والتأخر وعدم الرقي والخروج عن ركب الحضارة في القرن العشرين.
هذه سياسة أمة تقول أنها أعلنت حقوق الإنسان وبشرت العالم بدين جديد بمبادئه وبالحرية والعدالة والمساواة، وأنها هدمت بثورتها صروحاً للاستبداد ويزيد الفرنسيون على ذلك قولهم أنهم حملوا أعلام الحرية والرقي والسعادة إلى بلاد الجزائر، ولقد رأيت فيما تقدم البراهين القوية على سيطرتهم وجبروتهم وإفلاسهم في حكم الجزائر.
ليس لدينا للآن دليل قاطع على توجه العالم نحو المثل العليا بل إن موقف مجلس الأمن إزاء قضايا مصر وفلسطين وأندونيسيا ليس مشجعاً ولعل انقسام الكرة الأرضية إلى معسكرين من أسباب هذه الرجعية القائمة في أنحاء الدنيا.
ولكن الشعوب مهما كانت الظروف القائمة عليها أن تشق طريقها إلى حياة النور وأن تعمل لتتغلب على المصاعب القائمة حتى تفرض شخصيتها وآمالها وأهدافها على العصر الذي تعيش فيه.
سيكون الطريق وعراً أمامنا والعقبات صعبة في صعودنا نحو الحرية والعدالة ولكننا لن نرجع عن طلب معاملة الند للند وأن يعتبرنا العالم مجموعاً حياً راقياً؛ نملك من حق الرعاية والمعاملة ما يملكه أي مجموع أوربي راق يسير نحو التطور إننا نفضل أن نفنى جميعاً من أن يحاول العالم إرضاءنا بالعرض دون الجوهر أو يلهينا بالأقوال دون الحقائق. إننا نأخذ عقلية أوروبا لنتغلب على جبروت أوروبا.
أحمد رمزي(739/16)
الخمرة النصرانية ومجالسها في العصر العباسي
للأستاذ شكري محمود أحمد
اشتهرت الخمرة النصرانية بالجودة والقدم، كما عرفت برائحتها الذكية وطعمها اللاذع، فتغنى الشعراء بذكرها، وفتنوا بنعتها، فوصفوا الكأس والنديم والنقل والزهر والتحايا والصبوح والغبوق وكل ما يتعلق بمجلسها من عزف ونزف وغناء وقيان وسقاة وتهتك ومجون، وما يتبع ذلك من حوادث مشهورة، وأخبار مذكورة وقصائد طريفة ونعوت جميلة حفلت به كتب الأدب والسير والشعر.
وقد نعتت الخمرة بالقدم، فهي تذكر نوحاً حين شاد الفلك، بل هي ترب الدهر في قدمها، عاشت معه، ودرجت في حجره، حتى لو أنها احتبت بين الندامى لقصت عليهم قصة الأمم، وروت لهم حوادث التاريخ. . . وهي عجوز قد علت على الحقب حتى عكفت عليها بنات الدهر، وعجمت الغير حتى اختمرت بخمار الشيب وهي في رحم الكرم. . . ثم هي شقية النفس تنفي الهم وتذهب الحزن فتجعل السقيم صحيحاً، والقبيح جميلاً، والصغير كبيراً. . .
وربما عبدها بعضهم، فأثنى عليها بآلائها، وسماها أحسن أسمائها، ونزهها عن الغر الفدم الذي لا يعرف لها قدره، وخص بها السادة الكرام من كل مطير الكف يطرب للندى. . .
وكانت الخمرة عندهم لذة العمر وغاية الغايات، لا تطيب لهم الحياة إلا بها، ولا يصفو الكأس إلا بين كأس وعود وقينة. . . وقد رضي أبو نواس من الدنيا بكأس وشادن. . وكان الغنم عنده أن يتعتعه السكر، والغرم أن يلفي صاحياً. . بل تمنى بعضهم سكرة شيطانية قبل موته تترك الصبيان خلفه يتصايحون: يا سكران. ثم يغسل بالخمر، ويكفن بأوراق الكرم، ويدفن بعد ذلك إلى جنب كرمة لتروي عروقها عظامه، وتجعل أقداح الخمر حول قبره. .
عرف النصارى بتعتيق الخمر، كما عرفوا بنظافة الآلة وجودة الشراب، وجمال الحانات، وتزيين مجالسها بأصناف الزهر والنقل، ووصفوا بحسن الخلق ولين الجانب، ولطف المساومة وصباحة الوجوه وجمال القسمات، لذلك كان الشعراء والهجان وأهل التهتك والتطرح يقصدون الأديار في الليل والنهار، ويختلطون بالرهبان والراهبات وفتيان(739/17)
الأديار، ينادمونهم ويشربون على وجوههم، فيطربون ويلذون. . .
وكان الخلفاء أنفسهم يستقدمون من اشتهر من بينهم وعرف منهم لذلك لما أراد الواثق بالله الخليفة العباسي أن يعقد حانتين له ولأصحابه، إحداهما على شاطئ دجلة والأخرى في دار الحرم (أمر أن يختار له خمار نظيف، جميل المنظر، حاذق بأمر الشراب، ولا يكون إلا نصرانياً من أهل قطربل، فأتي له بنصرانيله ابنان مليحان، وبنتان بهذه الصفة، فجعلهم الواثق في الحانتين، وضم إليهما خدماً وغلماناً وجواري رومية. وأخدم النساء في حانة الحرم، والرجال في حانة الشط).
أما بيوت الشراب التي كانت تخزن فيها الخمور فلم أجد من وصفها لنا غير أحمد بن جعفر بن شاذان في كتابة (أدب الوزير) قال:
(وينبغي لبيت الشراب أن يكون له بابان واسعان وكوتان، فأما الباب الواسع ففي يسار القبلة من قبل ريح الجنوب، وأما الباب الضيق فمن قبل الشرق عن يمين القبلة من قبل ريح الشمال).
(وينزه بيت الشراب عن كل ريح كريه وكل قذر، وليكن بين كل وعاءين من أوعية الشراب ذراع ولتكن مواضع الأوعية جافة، فإن كانت ندية فلتفرش بالآجر أو الحجارة، وتقدير المعصرة أن يكون طولها ضعف عرضها).
وقد كان الرهبان أنفسهم يعصرون الخمرة، ويحفظونها في مخازنها التي كانت في الغالب تحت الأرض، وقد وصف الشعراء الهينمة حول الدنان وتلاوة المزامير والإنجيل، ومن ذلك قول أبي نواس:
وخمر كعين الديك أبحت سحرة ... وقد همّ نجم الليل بالخفقان
ندبت لها الخمار فانصاع مسرعاً ... إلى عدد من أكؤس ودنان
دراسته الإنجيل حول دنانه ... بصير ببزل الدن والكيلان
وفي مثل هذا المعنى قال عبد الصمد بن بابك:
هينم القس حولها وتغنى ... بمزامير دنها المزمار
ثم لما انتمت إلى دين عيسى ... شد في حقو دنها زنار
ومن طريف ما جاء في وصف الجودة بالقدم قول شهاب الدين التلعفري، فقد جعلها تروي(739/18)
حديث آدم وإبليس، وما كان بين سليمان وبلقيس، وأن الرهبان يتلون الأناجيل لها إذا حضرت، ويسبحون ويقدسون بأعظم ما يكون التسبيح والتقديس، قال:
عج حيث تسمع أصوات النواقيس ... من جانب الدير تحت الليل بالعيس
مستخبراً عن كميت اللون صافية ... قد عتقتها أناس في النواويس
مرّ الزمان عليها فهي تخبر عن ... ما كان من آدم قدماً وإبليس
ترى الرهابين صرعى من مهابتها ... إذا بدت بين شماس وقسيس
تتلى الأناجيل تعظيماً إذا حضرت ... لها بأشرف تسبيح وتقديس
لها أحاديث ترويها إذا مزجت ... في كأسها عن سليمان وبلقيس
يسعى بها من نصارى الدير بدر دجى ... يميس في فتية مثل الطواويس
وامتاز سقاة الخمر من النصارى بحسن صفتهم، ونظافة آلتهم، وطهارة دنانهم ومبازلهم، لأنهم انفردوا - في الغالب - بعصرها وتعتيقها، لذلك أقبل عليهم المجان والخلفاء، حتى صارت الأديرة مطارح أهل اللهو، ومواطن ذوي الخلاعة، كما أصبحت ملتقى العشاق ومأوى الفساق، لأن مجالس الشرب واللهو كانت تعقد في الرياض والبساتين في جوار الأديرة وخلف البيع والمعابد، لأن الحانات كانت ملاصقة لها.
حدثنا العمري في مسالكه قال: (كان بالكوفة رجل أديب ضعيف الحال، مهما وقع في يده شئ من المال أتى به دير حنة فيشرب حتى يسكر ثم ينصرف، وهو القائل:
ما لذة العيش عندي غير واحدة ... هي البكور إلى بعض المواخير
لخامل الذكر مأمول بوائقه،=سهل القياد، من العزه المدابير
حتى أحل على دير ابن كافرة ... من النصارى ببيع الخمر مشهور
كأنما عُقد الزنار فوق نقا، ... واعتم فوق دجى الظلماء بالنور
وربما أثرت هذه المجالس المرحة والحياة الناعمة برهبان الدير ومن فيه، فتركوا ما هم عليه من نسك وعبادة وزهد، وانغمسوا في ملاذهم، وتبعوا أهواءهم، فخلعوا العذار، ونهزوا مع الغواة بدلائهم، وأساموا سرح اللهو كيفما شاءوا.
وقد اشتهر من هؤلاء قس كان بالحيرة، ذمر خبره الخفاجي وياقوت ووصفه بعضهم قائلاً:
إن بالحيرة قساً قد مجن ... فتن المجان فيه وافتتن(739/19)
هجر الإنجيل من حب الصبا ... ورأى الدنيا متاعاً فركن
وكان لهذا القس غلاية في ظاهر الكوفة ذكرها محمد بن عبد الرحمن الثرواني، وطلب أن يكون ريحانه من قلاية هذا القس قال:
خليلي من قيس وتيم هديتما ... أضيفا بحث الكأس يومي إلى أمسي
وإن أنتما حييتماني تحية ... فلا تعدوا ريحان قلاية القس
وكانت هذه الأديار تقصد في الليل والنهار، ويقدم إليها أهل الطرب والمتعة من الأماكن البعيدة في السفن والسميريات أو على الخيول. وهناك يختلطون بالرهبان والراهبات، يشربون معهم ويتغزلون بهم، وربما صرعوا الراهبات بالخمر، فيبدلن الخفر التهتك، والحياء بكشف النحور والسيقان. ومثل هذا يقول جحظة البرمكي الذي لا يريد أن يبقى في حانة واحدة يقضي فيها لذته بل يريد أن ينتقل من البردان إلى أموانا ثم إلى دير العلث. وهو لا يكفيه دن من الخمور بل دنان. . ودنان. . قال:
أيها الحاذقان بالله جداً ... وأصلحا لي الشراع والسكانا
بلغاني - هديتما - البردانا ... وأنزلا لي من الدنان دنانا
وإذا ما أقمت شهراً تماماً ... فاقصدا بي إلى كروم أوانا
واحططا لي الشراع بالدير بالعلث ... لعلي أعاشر الرهبانا
وظباء يتلون سفراً من الإنـ ... جيل باكرن سحرة قربانا
لابسات من المسوح ثياباً ... جعل الله تحتها أغصانا
خفرات، حتى إذا دارت الكأ ... س كشفن والنحور والسيقانا
وقريب من هذا قول أبي نواس وقد خرج إلى دير نهرازان في بعض أعياده مع جماعة من عصابته، لكنه لم يصرع راهبة بل كان (يلهو) بظبي من ظباء الدير كان يدير عليهم الخمر - قال:
بدير نهرازان لي مجلس ... وملعب وسط بساتينه
رحت إليه ومعي فتية ... نزوره يوم شعانينه
بكل طلاب الهوى فاتك ... قد آثر الدنيا على دينه
وجيء بالدن على مرفع ... وخاتم العلج على طينه(739/20)
وطاف بالكأس لنا شادن ... يدميه مس الكف من لينه
فلم يزل يسقي ونلهو به ... ونأخذ القصف بآيينه
وربما هاجت بهؤلاء المجان طربات، وثارت بهم نزوات، وهم ينزفون الدنان، على غناء القيان، وعزف الأوتار، ونقر الدفوف، وحث الكؤوس. . . وربما ذكروا الصلاة وهم في حالهم هذه، وقد فاتهم أوانها، فيسرعون إليها متعثرين كأنهم يقلعون أرجلهم من طين. . وفي مثل هذه الصفة يقول ابن عمار الأسدي يذكر سكرة له بدير اللج مع صحب من عصابته ومعهم سعدة والزرقاء (سلامة) وربيحة، وهن جوار مغنيات كن لابن رامين مولى عبد الملك بن بشير بن مروان وهي أبيات ظريفة منها:
ما انس سعدة والزرقاء يومهما ... باللج، شرقيه فوق الدكاكين
تغنيانا، كنفث السحر تودعه ... منا قلوباً غدت طوع ابن رامين
نسقي شراباً كلون النار عتقه ... يمس الأصحاء منه كالمجانين
إذا ذكرنا صلاة بعدما فرطت ... قمنا إليها، بلا عقل ولا دين
نمشي إليها بطاء، لا حراك بنا ... كأن أرجلنا يقلعن من طين
أو مشي عميان دير لا دليل لهم ... سوى العصى إلى عيد الشعانين
أهوى ربيحة إن الله فضلها ... بحسنها، وغناء ذي أفانين
وربما سكن هؤلاء المجان مع قسيس الدير، وقد شمطت يداه وأرعشه الإدمان، فيبكي ويغني، ويشرب دمعه وخمره، تمده أريحية مخمورة، وعاطفة مسجورة، وفي مثل هذه الحال يقول جحظة في دير العذارى الذي في سامراء، وفيها أبيات وجيعة تنتفض ألماً ورقة، قال:
ألا هل إلى دير العذارى ونظرة ... إلى من قبل الممات سبيل
وهل لي بحانات المطيرة سكرة ... تعلل نفسي، والنسيم عليل
إلى فتية ما شتت العذل شملهم ... شعارهم عند الصباح شمول
وقد نطق الناقوس بعد سكوته ... وشمعل قسيس، ولاح فتيل
يريد انتصاباً للقيام برغمه، ... ويرعشه الإدمان فهو يميل
يغني وأسباب الصواب تمده ... وليس له فيما يقول مثيل:(739/21)
(الأهل شم الخزامى ونظرة ... إلى الخير من قبل الممات سبيل)
وثنى يغني، وهو يلمس كأسه، ... وأدمعه من وجنتيه تسيل:
(سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل)
سقى الله عمراً لم تكن فيه عُلقةٌ ... لهمّ، ولم ينكر عليّ عذول
وقد كان هؤلاء النصارى يتوسلون بكل ذريعة لاجتذاب المجان، وأهل اللهو وعشاق الخمور، وفي طليعة ما يتذرعون به تجويد الشراب واختيار السقاة والمغنين والمغنيات وتهيئة ما يلذ به الشارب والماجن من وسائل التلذذ والطرب، وربما كانت ابنة القس تدير الكأس على أحلاسها، أو راهبة الدير تبيع لهم الخمور، وما أطيب الكأس من كف خود رعبوب. . . قال شهاب الدين العمري في الدير الأبيض من أديرة مصر:
وكأس المدام علينا تطوف ... بحمراء صافية كاللهب
يطوف بها من بنات القسو ... س باخلة الكف ليست تهب
مبتلة بين رهبانها ... لألحاظها في حشانا لهب
مسيحية طلعت في المسو ... ح، كصبح أطل وليل ذهب
وربما جرت في مجالس الخمرة أمور مما (يحسن) الظن عندها كما يقول ابن المعتز (فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر) وقد يبلغ الفسق منتهاه في غالب الأحيان، فلا رادع للقوم من دين، ولا وازع لهم من أخلاق، يحتسون الخمور على أصوات العود والناي، وتبلغ الفوضى بهم غايتها، فلا تجد إلا قبلاً وعناقاً، وإنسان سوء (خلف) إنسان. . . قال جحظة في دير الزندورد
سقياً ورعياً لدير الزندورد وما ... يحوي ويجمع من راح وغزلان
دير تدور به الأقداح مترعة، ... بكف ساق مريض الجفن وسنان
والعود يتبعه ناي يوافقه، ... والشدو يحكمه غض من البان
والقوم فوضى ترى هذا يقبل ذا ... وذاك إنسان سوء خلف إنسان
وحدث أن مر الشاعر الكندي المنبجي بدير مار ماعوث فاستحسنه ورأى غلاماً في رهبانه جميلاً يلثغ بالسين يجعله ثاء قال: (فشددت سميريتي إلى جانب الدير، واشتريت شراباً من الرهبان، وبت هناك منادماً لذلك الغلام. فلما أردت الرحيل أنشدته:(739/22)
ومورد الوجنات من رهبانه ... هو بينهم كالظبي بين ليوث
ذي لثغة فتانة فيسمي الطا ... ووس حين يقول بالطاووث
حاولت منه قبلة فأجابني: ... لا والمثيح وحرمة الناقوث
حتى إذا ما الراح سهل حثها ... منه العسيرَ بكأسه المحثوث
نلت الرضى وبلغت قاصية المنى ... منه برغم رقيبه الديوث
وإذا أردنا استقصاء ما كان يدور في الديارات من تهتك وتطرح ومجون لعز الطلب واحتاج ذلك إلى كتاب في أجلاد
(بغداد)
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية(739/23)
الخلان والزمان
بين أبي فراس والبارودي
للأستاذ محمد محمد الحوفي
- 2 -
وبعد فلو أننا قدمنا ذلك الشعر باسم البارودي، لم نتجن على الحقائق، ولم نسيء إلى أحد الشاعرين: فإن هذه المعاني التي عرضناها لأبي فراس في موضوع الصداقة - هي بعينها المعاني التي قالها البارودي، والتي سنعرض شيئاً منها كذلك.
كيف اتفق البارودي مع أبي فراس في الحكم على الناس؟
وليس الجواب عن هذا السؤال عسيراً، إذا عرفنا أن البارودي كان كأبي فراس - عبقرياً في الحرب وفي السياسة وفي الشعر. حارب غير مرة فظفر، ولجئ إليه عند الأزمات السياسية فصفى الماء العكر، وتعهد الشعر العربي فأجدَّه بعد أن نخر.
والناس كما أسلفنا - في كل زمان يكيدون للنابغين كيداً، ويتربصون بهم الدوائر حقداً؛ والحق أن أبصر الناس بالناس هم العباقرة؛ لأنهم هم الذين يتلقون حقدهم، وتنكشف أمامهم خبايا نفوسهم.
فالبارودي إذ يتحدث عن الصحاب، إنما يصدر عن تجربة.
ثم كان عصر البارودي مشجعاً بمنحه وفتنه على تمييز المخلص في صداقته من المخادع؛ إذ كانت الفتن الداخلية السياسية على أشدها، وكان المقربون من الخديو غرضاً يرميه الوشاة بخزعبلاتهم، وكان بعض هؤلاء المقربين يشي ببعض، فيتهم أحدهم الآخر بممالأة الشعب، وتحريضه على الثورة، أو حثه على إحراج الخديو، وكان الإنجليز يتسقطون الأخبار ليعرفوا حركات الزعماء ونواياهم، فكثرت الدسائس والوشايات واستطاع شانئو البارودي أن يدسوا عليه، وأن يلقوا عليه مع سائر الزعماء تبعة الثورة العرابية.
ثم كان نفيه - كأسر أبي فراس - آخر محك للصداقة، وأصدق معيار لمن يدعون الوفاء، حيث تراجع عن صداقتهم المدعون، وكشفت المحن ضمائر المستورين.
وليس يفوتنا هنا كذلك من أسباب كثرة الحساد للبارودي، غلوه هو أيضاً في الفخر، وشدة(739/24)
غروره بنفسه وبنسبه، وقد كان في عصره كثيرون غيره، يرون أنهم أعرق منه أصلاً، وأشرف محتداً، فلابد أن يوغر صدورهم فخره.
وكما خبر أبو فراس الناس خبرهم البارودي حتى مله الاختبار، فرأى مودتهم كذاباً، وقلوبهم ليست مثل ألسنتهم، فيئس من العثور على صديق صدوق!
ولقد بلوت الناس في أطوارهم ... ومللت حتى ملّني الإبلاء
فإذا المودة خلة مكذوبة ... بين البرية والوفاء رياء
كيف الوثوق بذمة من صاحب ... وبكل قلب نقطة سوداء
لو كان في الدنيا وداد صادق ... ما حال بين الخلتين جفاء
فانفض يديك من الزمان وأهله ... فالسعي في طلب الصديق هباء
والناس أعداء في الغيب، ولكنهم عند الحضور صحب:
أنا في زمان غادر ومعاشر ... يتلونون تلون الحرباء
أعداء غيب ليس يسلم صاحب ... منهم وإخوة محضر ورخاء
أقبح منهم قوماً بلوت إخاءهم ... فبلوت أقبح ذمة وإخاء
وأشد ما يلقى الفتى في دهره ... فقد الكرام وصحبة اللؤماء
وهذه نصيحة يوجهها إليهم عن تجربة:
بلوت سرائر الإخوان حتى ... رأيت عدو نفسي من حبيبي
فلا تأمن على سر صحاباً ... فإنهم جواسيس العيوب
ويحرص البارودي على أن يعرفك أنه خبر الصحاب وجربهم، فقلما يذكرهم إلا يذكر أنه ابتلاهم:
بلوت إخاء الناس دهراً فلم أجد ... أخا ثقة يرعى مغيبي كمحضري
ويقول:
بلوت بني الدنيا فلم أر صاحباً ... يدوم على ود بغير تكلف
ويقول:
بلوت بني الدنيا فلم أر صادقاً=فأين لعمري الأكرمون الأصادق
ويعتبر البارودي كذلك شرفاً له أن يحسد.(739/25)
ليضن بي الحساد غيظاً فإنني ... لآنافهم رغم وفي أكبادهم وقد
أنا القائل المحمود من غير سبة ... ومن شيمة الفضل العداوة والضد
فقد يحسد المرء ابنه وهو نفسه ... ورب سوار ضاق عن حمله العضد
فلا زلت محسوداً على المجد والعلا ... فليس بمحسود فتى وله ند
ونفسه تواقة إلى خل وفي يشكو له فيسمع، ويحسن إليه فينمو إحساسه ويترعرع.
فمن لي وروعات المنى طيف حالم ... بذي خلة تزكو لديه الصنائع
أشاطره ودي وأفضي لسمعه ... بسري وأمليه المنى وهو رابع
وما أشد حاجة الإنسان إلى خلٍّ رضي، يعاشره على سجية:
متى يجد الإنسان خلاً موافقاً ... يخفف عنه كلفة المتحفظ
فإني رأيت الناس بين مخادع ... لإخوانه أو حاسد متغيظ
الدهر
قلنا إن والد أبي فراس خلفه في الثالثة، فشب يتيماً يرى كلاً يفخر بأبيه وينال حنانه إلا نفسه. أين أبي؟ ولماذا قتل وحده في الحرب دون آباء هؤلاء اللدات، ولم أعجلته المنية قبل أن أملي به عيني، وألمس عطفه علي؟ يا لك من دهر!!
وقلنا إن نفس أبي فراس كانت طموحاً عالية، وإنه شمخ على أسرته وسائر الناس، فكرهوا منه ذلك، ولاسيما أنه ليس لديه من الأموال ما لدى غيره من الأمراء، فانصرف عنه الناس إلى أقرانهمن أسرته فأحس أن أخلاق الصحابة نفعية، لا تصمد عند الشدائد، وقوي هذا الإحساس حينما أسر فتفرق من حواليه مدعو صداقته، وأمعن الحساد في شماتتهم به.
ومادام الدهر خلواً من الإخلاء والأوفياء، مليئاً بكيد الحساد والشامتين، فهو دهر ثقيل، يلعنه صاحبه في كل مقال
ونقول هنا كذلك: إن أبا فراس نشأ فوجد ابن عمه سيف الدولة أمير حلب وهو فيها صاحب العز والغلب، مهيب جانبه من الروم والعباسيين وسائر دويلات العرب. . . وأبناء العروبة في مرتبة واحدة يرى كل منهم نفسه نداً للآخرين، له محامدهم، وفيه أمجادهم.
ونظر أبو فراس إلى ابن عمه، فرأى نفسه وإياه في مرتبة واحدة، وقارن بين حاله وحال سيف الدولة فلمس فروقاً شاسعة: أمير مملك يحتفي به ويخشى منه، وأمير يتيم فقير، لا(739/26)
سلطان له على الناس حتى يرهبوه ولعل أبا فراس فكر في فضائل سيف الدولة، وأسباب سيادته على قبيلته، فوجد الفضائل عنده هو أتم، وأن سيف الدولة فيه من المعايب ما ليس في نفسه.
ولعله كذلك ذكر أن أباه - وقد كان عم سيف الدولة - كان هو الأحق بالإمارة من ابن أخيه، فتقاليد الحكم أن يلي الملك أكبر رجال الأسرة وأقربها إلى أصولها.
ومادام والد أبي فراس كان أحق من سيف الدولة، ومادام أبو فراس يرى في نفسه المثل العليا للشجاعة والكرامة والمجد - فلابد أن يكون قد حدث نفسه بأن تئول إليه المملكة، بعد وفاة سيف الدولة.
أقرر هذا معتمداً على شعر أبي فراس نفسه، ومستعيناً بسياق الحوادث التاريخية وإن لم تُصرحْ.
وما كان لإنسان عادي، لا يتقرب الملك أن يقول:
عليَّ طلاب العز من مستقره ... ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب
أيكون للعز مستقر - عند الأمراء - غير الملك، وإذا لم يكن الملك فلمَ يقول: (ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب)، إنه يريد بمحاربة المطالب، مقاومة الظروف وعجزه عن التربع على الإمارة في حلب، ووقوف الحساد في سبيل غايته.
وما كان لغير طامع في الإمارة أن يقول:
يصان مهري لأمر لا أبوح به ... والدرع والرمح والصمصامة الخدم
إني أبيت قليل النوم أرقني ... قلب تكاثف فيه الهم والهمم
وأن يقول:
ولو نيلت الدنيا بفضل منحتها ... فضائل تحويها وتبقى فضائل
ولكن دهراً دافعتني صروفه ... كما دافع الدين الغريم المماطل
وأن يقول:
تطالبني بيض الصوارم والقنا ... بما وعدت جدّي فيّ المخايل
على أن ما وقع من أبي فراس عقب موت سيف الدولة يؤيد ما ذهبنا إليه من أن أبا فراس كان يحدث نفسه بالإمارة: فقد خرج الشاعر بحمص على أبي المعالي بن سيف الدولة،(739/27)
وحاول أن يحل محله؛ ولكن أبا المعالي وقر عويه هزماه، ويقال إنه قتل في هذه المعركة وبعد:
فليس بدعاً من أبي فراس أن يردد الشكوى من الدهر، ويحقد عليه في كل قول، بعد أن حاربه في أبيه، وفي أصدقائه، وفي أمانيه
وليس الذي لفتنا في شعر أبي فراس مجرد الحديث عن الدهر، ولكنه تكرار هذا الحديث حتى ليصح أن نسمي شعره بالشعر الدهري ثم اتفاق كل هذه الأحاديث الدهرية على لعنة الدهر، والثورة على صروفه وظروفه.
فترى أبا فراس يصور الدهر المدافع لطموحه مماطلاً يدافع غريمه:
تطالبني بيض الصوارم والقنا ... بما وعدت جدّي فيّ المخايل
ولكن دهراً دافعتني صروفه ... كما دافع الدين الغريم المماطل
ويقول لسيف الدولة أول أسره:
وما أنا إلا بين أمر وضده ... يجدد لي في كل يوم مجدد
فمن حسن صبر بالسلامة واعد ... ومن ريب دهر بالردى متوعد
ويذكر أن أصحابه يوم أسره، كانوا قد أشاروا عليه بأن يحجم فرفض وأن الدهر هو المسئول عن إخفاقه في هذا اليوم:
يقولون جاهد عادة ما عرفتها ... شديد على الإنسان ما لم يعود
فقلت: أما والله ما قال قائل ... شهدت له في الخيل ألأم مشهد
ولكن سألقاها فإما منية ... هي الطعن أو بنيان عزّ مشيد
ولم أن الدهر من عدد العدا ... وأن المنايا السود يرمين عن يد
ثم يحاول أن يثبت أمام طعنات الزمان، وأن تصدق فراسته فيه، فيقول:
وقور وأهوال الزمان تنوشني ... وللموت حولي جيئة وذهاب
وألحظ أهوال الزمان بمقلة ... بها الصدق صدق والكذاب كذاب
ويقول:
ومن ورد المهالك لم ترعه ... رزايا الدهر في أهل ومال
وقد حالفته صروف الدهر حتى توهمت نفسه أنه لا يعتد لها، لأنه ألِفها:(739/28)
لا أقتني لصروف دهري عدة ... حتى كأن صروفه أحلافي
ويقول في هذا المعنى أيضاً:
وخبرت هذا الدهر خبرة ناقد ... حتى أنست بخيره وبشره
ثم يشرك معه بني حمدان في عدم المبالاة بالدهر:
نظرنا إلى هذا الزمان بعينه ... فهان علينا ما يشت وينظم
ولكنه بعد هذا التجلد للدهر والاستهانة به يكرر التظلم منه. فالشيب عنده أهون رزايا الدهر:
وقلت الشيب أيسر ما ألاقي ... من الدنيا وأيسر ما أداري
وهو في استعطاف سيف الدولة يعده جنة من ريب الدهر:
فقولا له يا صادق الود إنني ... جعلتك ما رابني الدهر مفزعا
ويعجب أن ينكر عليه سيف الدولة شكوى الزمان:
أتنكر أني شكوت الزمان ... وأني عتبتك فيمن عتب
ويستعطف سيف الدولة بأن حوادث الأيام جرحت قلبه:
زماني كله غضب وعتب ... وأنت عليّ والأيام إلب
فلا تحمل على قلب جريح ... به لحوادث الأيام ندب
ثم يشكو تعاون سيف الدولة مع الدهر على اضطهاده:
فيا حكمي المأمول جرت مع الهوى ... ويا ثقتي المأمول جرت مع الدهر
ثم يستضعف أبو فراس نفسه - على غير عادته - ما لم يعاونه أصدقاؤه على صد هجمات الدهر، ولذا يتغاضى عن ذنوبهم، لكيلا يذروه وحده أمام الدهر:
واعلم إن فارقت خلاً عرفته ... وحاولت خلاً أنني غير واجد
وهل نافعي إن عضني الدهر مفرداً ... إذا كان لي منهم قلوب الأباعد
(البقية في العدد القادم)
محمد محمد الحوفي(739/29)
أدب العروبة في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
- 3 -
ليست علاقة الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا بالأدب قريبة ولا واهية وإنما هي علاقة قديمة وثيقة انحدرت إليه من آبائه وأجداده الذين كانوا يحتفون بالأدب ويحتشدون لأهله ويبذلون لهم المكرمات والمروءات بذل السماح. ولعل من أطرف ما يروى في هذا الصدد خبر الغرفة التي أقامها الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا في بيته بقرية (غزالة) لحافظ إبراهيم يلم بها بين الحين والحين فيجد العيش اللين، والرزق الوفير، والحياة الرتيبة، والتي أطلق عليها اسم (غرفة حافظ) وجعلها حراماً على سواه، وما زالت مغلقة إلى الآن لا يغشاها إنسان؟
ولعل بعض القراء ما زال يذكر المقالات الطويلة والفصول الضافية التي كان يدبجها معال الأستاذ في جريدة (السياسة الأسبوعية) في صدر حياتها وفي (السياسة اليومية) في أول نشأتها بقلم يشهد له البلاغة والبيان، وأنا أعلم أن شوقي كان يسعى إليه جاهداً بكل رواية من رواياته الأخيرة ويأبى إلا أن يهدي إليه أول نسخة تخرجها المطبعة! ولعل الكثير من القراء لا يعرف أنه شاعر تلين له القوافي لأنه لم يجتمع له ديوان منشور، ولأن أغلب شعره إما أن يكون معارضة لطيفة، أو نكتة طريفة أو جواباً عن سؤال، أو تزجية بشرى، أو إرسال تهنئة، وما إلى ذلك من مختصر القول ومقتضب الكلام، وأنا أسوق إلى القراء نموذجاً واحداً منه يدلهم على مبلغ أصالته في الشعر وعراقته فيه قاله في تهنئة صديقنا الشاعر طاهر أبو فاشا على زواجه منذ أعوام قريبة في قصيدة طويلة منها:
بنيت بالأمس سراً ... شحاً وبخلاً وغدراً
هلا دعوت ضيوفاً ... لا يسألونك كثراً
غر ميامين جاءوا ... دمياط براً وبحراً
إن شئت قدمت فولاً ... جرى بدمياط ذكراً
(التابعيّ) طهاه ... فكان في الصحن تبراً!
إلى أن قال في خاتمها:(739/30)
دفعت بالله مهراً ... أم كان شعرك مهراً
أعطاك ربك ألفاً ... من البنين وعشراً
وصاغ منك ومنها ... صنوين: شمساً وبدراً
فكان أمراً طبيعياً أن ينعقد له لواء رياسة جماعة أدبية كل وكْدها خدمة الأدب والأدباء (وبعث مجد الضاد وآدابها) كما يقول، (وإحياء التراث الإسلامي والمفاخر العربية) كما يقول سكرتير الجماعة.
والمتأمل في منهاج هذه الجماعة وهو منهاج حافل حاشد كما صوره رئيسها وبعض رجالها يجدد أن الجامعة لم تحقق أو لم تكد تحقق منه شيئاً! فمن منهاجها (أن تحيي التراث الإسلامي) وهي لم تصنع في ذلك شيئاً.
ومن منهاجها (تزويد المكتبة العربية بزاد متصل من الآراء الحرة الكريمة) وهي لم تزود المكتبة العربية بعد إلا بكتابها هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه.
ومن منهاجها (النهوض بالفكر الإسلامي والبيان العربي) وهي لم تنهض بشيء من ذلك إلا طيفاً لا يكاد يرى!
ومن منهاجها (تقوية الصلات الفكرية والروحية والثقافية بين مصر والبلاد العربية) وهي لم تصنع في هذا الصدد شيئاً أصلاً. .
ومن منهاجها (أن تشعل في الشعب روح النضال والانتصار وأن توحد له الأهداف والأغراض وأن تفسح له آفاق الحياة وأحلام المجد) ونحن نعرف أن ذلك لا يكون إلا بالأناشيد التي تبعث في الشعب الحياة والطموح والعزة، وبالروايات التي تعيد إليه سابق مجده، وماضي تاريخه، وتستنفره للجهاد في سبيل استرجاعه وإعادته، وبقصص البطولة والتضحية - والتاريخ المصري مليء بحوادثهما - تذكي فيه العزائم الواهية، وتحيي منه موات الهمم. وما نرى جامعة أدباء العروبة فعلت من ذلك شيئاً
ولكن عذيرها في ذلك أنها لم يكد ينقضي على إنشائها إلا عام وهو - عندنا - عذر يشفع لها بذلك، ولكننا ننبهها إلى ما أخذت به نفسها، وما عاهدت الله والناس عليه وإنا لمنتظرون
على أننا نريد أن تضيف إلى منهاجها هذا أموراً هي عسية أن تحلها الصدر من منهاجها(739/31)
إن هي كانت جادّة في السعي لرفع شأن الأدب والأدباء، فعليها أن تعين رقيقي الحال من الأدباء وتمدهم بما يمكنهم من طبع نتاجهم ونشره بين الناس، وعليها أن تحيي الكنوز الدارسة من كتب الأدب العربي القديم وتعنى بتصحيحها وتنقيحها وإخراجها في ثوب قشيب فذلك أجدى عليها وعلى الأدب من ألف مهرجان ومهرجان. وعليها أن تعمد إلى أمهات الكتب الأجنبية - وبخاصة القصص الرفيعة - فتترجمها إلى اللغة العربية فتزيدها ثروة وذخيرة. وعليها أن تسعى جاهدة لدى الحكومة لتقرِّر ما ينتجه كرام الأدباء في مكتباتها وفي مدارسها فينتفع الأدباء وينفعون، أما أن يكون كل عملها الطواف هنا وهناك وإلقاء كلمات مبتسرة ينشئها بعض أصحابها وهم في القطار ثم تجمع ذلك في كتاب تذيعه على الناس دليلاً على وجودها وسجلاً لمجهودها فذلك عمل ضحْل قليل الغناء. . . وكتاب (أدب العروبة) الذي نحن بصدد الحديث عنه كله - إلا القليل - من عمل أعضاء جامعة (أدباء العروبة) والمتأمل فيهم لا يجد بينهم واحداً من شيوخ الأدب وسندته القدامى، وكلهم لم يجاوز بعد مرحلة الشباب إلا الصديق الدكتور إبراهيم ناجي والصديق الأستاذ محمد مصطفى حمام فقد أوشكا أن يجاوزاها!
ويتألف الكتاب من الكلمات والقصائد التي ألقيت في سبعة مهرجانات أقامتها الجماعة في القاهرة وبعض المدن لمناسبات متفرقة أو للتنويه بشأنها والتذكير بوجودها، ويفتتح الأستاذ الرئيس كل مهرجان بكلمة منه مختصرة تشرح أغراض الجامعة وتنبه إلى رسالتها وأهدافها، وتمهد القول لمن يلونه من الخطباء والشعراء. . . ويجد القارئ في الكتاب للأستاذ الدكتور محمد وصفي نائب الرئيس سبع كلمات لكل مهرجان كلمة، وفي كلام الرجل لازمة خاصة يتميز بها، فهو يجنح جنوحاً قوياً شديداً تدفعه إليه طبيعته الخاصة حتى لا يملك عنه منصرفاً إلى الاستشهاد الدائم بالقرآن الكريم وبالحديث الشريف، وهذا حسن في ذاته ولكنه هو كل ما يصنع! فهو يعمد إلى الآيات الكريمة التي تتصل بسبب قوي أو ضعيف إلى المناسبة القائمة، ويجدّ في البحث والتنقيب عنها، ثم يشرح معانيها التي احتوت عليها جميعاً ويسوقها معنىً معنىً حتى إذا استوفاها جميعاً ذكر نص الآية حتى ليخيل للقارئ أنه أتى بالآية استشهاداً لما قدمً من المعاني ومطابقة له والحقيقة أنه اهتدى إلى الآيات أولاً وأعدها للقول وأخذ في تفسيرها مقدماً حتى إذا أنمَّه جاء بالنص!(739/32)
ولو أننا أخرجنا من كلامه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما بقي بعد ذلك شئ؟ فليس له وراء ذلك إنشاء أو ابتداع أو كتابة فهو إلى المفسرين أقرب من إلى الأدباء. .
وعجيب أن يقول الأستاذ طه عبد الباق سرور سكرتير الجماعة في الكتاب ثماني كلمات ليست بالقصيرة ثم إنك لا تكاد تجد بينها فرقاً يحس أو اختلافاً يشعر به، فالكلمات متشابهة متماثلة حتى لو أنك وضعت أي واحدة منها تحت أي عنوان منها ما أحسست نبواً ولا قلقاً ولا انحرافاً! وكلامه - في عمومه - كلام عام لا خاصة له وأكاد أقول لا معنى له، فهو يسوق الكلام يجر بعضه بعضاً دون حساب ولا تمهل ولا أناة فيقول فيما أسماه (فلسفة الربيع) (والربيع عصر المودة والسلام والإخاء إذا انطبعت روح الإنسان بتلك المعاني. وعهد حروب ودمار وخصومة وبغضاء إذا ثار في الإنسان جانب من جوانب الالتواء) فأي كلام هذا؟ وأي شئ فيه يجده القارئ؟ وما علاقته بفلسفة الربيع هذه؟؟ وهو يقول كذلك إن الإنسان (إن شاء أحال الوجود نعيماً وهناء وسلاماً وإن أراد كان الوجود جحيماً ورعداً وحرباً) وذلك كلام معاد قريب أين هو من الربيع وفلسفته؟ وهو يقول مخاطباً القمر معدداً محاسنه (قد تمنى اسمك بنات حواء) وذلك إلى كلام العامة أقرب، ويقول عنه إنه (يمين أقسم به الديّان) ونسي أن الديان أقسم أيضاً بالتين والزيتون؟ ولكنه السجع الذي يريد التزامه فتنبهر أنفاسه وتخرج سجعاته قلقة نابية غير مستقرة.
وكلمات الأستاذ ملأى بالأخطاء اللغوية التي كنا نود لو تنزّه عنها سكرتير جماعة أدبية نريد لها النهوض والسير الحثيث والتقدم المطرد، فهو يقول مقدماً الكتاب (هذا بعض تراثنا في عام) والتراث ليس نتاج الأحياء إنما هو ما خلف الأموات. ويقول عن الإنسان أن فيه معجزة كبرى (أودعها الله في روحه) والصواب أن يقول (أودعها الله روحه). ويقول عن مهرجان القمر إنه (مهرجان النور والضياء) والله يقول (وجعلنا الشمس ضياء والقمر نوراً). ويقول مخاطباً الغنسان (فانعمْ ولا تشقى) والصواب أن يقول (فانعم ولا تشق) بحذف الياء وليس هذا تطبيعاً لأن السجعة التي يليها (وسبّح بحمد ربك الأعلى) فيوقعه السجع في هذا الخطأ غير المقبول. ويقول في وحي الهجرة (غننا في مطلع عهد جديد وسعيد يهاجر فيه العالم الإسلامي للمرة الثانية إلى حياة الحرية والعزة والقوة ومن نذره وبوادره هذا المهرجان) والنذر - وهي لغة الإنذار والإبلاغ - لا تكون إلا في التخويف(739/33)
ومنه قوله تعالى (فكي كان عذابي ونذر؟) ويقول (ولقد كانت القبائل العربية قديماً تتناظر وتتبارز بالبيان واللسان) والمبارزة لا تكون إلا في الحرب. ويقول متمماً هذا الكلام (فإذا غلب شاعر قبيلة شاعر القبيلة الثانية) والأولى أن يقول (فإذا غلب شاعر قبيلة شاعر قبيلة أخرى) حيث لا ثالثة لهما. ويقول في عيد الفاروق (في مثل هذا الشهر من العام الماضي احتفل أدباء العروبة بعيد الربيع) والصواب أن يقول في مثل هذا الشهر من السنة الماضية، فالفرق بين العام والسنة لا يخفى على أديب.
كثيراً جداً أن تحتوي كلمات سكرتير جماعة أدبية على أمثال هذا الخطأ، وأنا أرجو جاهداً من معالي الأستاذ الرئيس أن يراجع هذه الكلمات قبل نشرها وإذاعتها على الناس - وهو الأديب العالم المدقّق الذي لا يجوز عليه هذا الخطأ - حفائاً على قدر هذه الجماعة وسمعتها بين الناس؛ وصيانةً لعرضها أن يثلمه إنسان فشعر الفتى عرضه الثاني كما يقول إسماعيل صبري
(المنصورة)
علي متولي صلاح(739/34)
نشوة الخيام
للأستاذ حسن البحيري
أدنِ مني ثغرك العذب وقبلني ودعني
أشرب النشوة من كأسي: رجاء. . . وتمن
فعسى بعد جراحات صباباتي وحزني
أن يعيد الوصل أفراح ربيعي فأغني
ضمني وارو غليلي يا حبيبي من لماكا
اسني لم يبق لي في كرَب العيش سواكا
شفني وجدي. . . ودائي. . . ودوائي في هواكا
آه من نار بجنبيّ ورتها مقلتاها
هات من جام الصبا بين عمار ورفيف
خمرة تذهل روحينا عن العيش الزفيف
قبلما تعصف بالعمر أعاصير الخريف
فنروي زمن الأحلام بالدمع الذريف
عمرنا طيف تهادى من زوال لزوال
وليالينا ظلال تتراءى في ظلال
وأمانينا خيال حاكه وهم خيال
ومجالي عيشنا في الدهر حال بعد حال
فارتشف راح الهوى من كأس حبي واسعد
لا تقل: لذة يومي اجتليها في غدي
كم هفت في العمر لذات وضاعت من يدي
هي بانت وأساها ظل في قلبي الصدي
يا حبيبي أنا ضيعت ليالي الخوالي
في دجى شكي وأطياف ظنوني وخيالي
حلم في سانح الأوهام بالصفو بدا لي(739/35)
ذبلت زهرة أيامي وحالي فيه حالي
لمحات من سني ثغر أماني الكذاب
ضيعت عمري في الوهم وأودت بشبابي
فأنا في بحرها اللجي موصول العذاب
لم أنل إلا الصدى منها وبراق السراب
ما كفاني أنها ضاعت ليالي سدى
بين أسداف وأوهام ضلال وهدى
ما الذي نلت - على الأيام - من دهر عدا؟
غير برق في أضاليل أماني بدا؟
فأدر كأس شمول الصفو فالصفو يدال
والليالي لم يدم فيها لذي وصل وصال
كم أتاها قبلنا أنضاء أوهام وزالوا
لا همو داموا. . . ولا بعض رجاء العمر نالوا!
صب من خمر ثناياك سلافاً وحبابا
وأذب لذة روحينا بكأسينا شرابا
واسقني واشرب على شدو المنى تبراً مذابا
حسبنا ما ضاع من ماضي ليالينا تبابا
كم حبيبين أضاءا الروض في حضن التصابي
بشباب حرك الطير إلى نجوى الشباب
فانتشى الزهر. . . وهام النهر رقاص العباب
وهفا الغصن على مضجع أحلام عذاب
ثم غابا كنجوم الصبح من أفق الوجود
ما درينا أين قرا من دنى النأي البعيد
ذهبا في غمرة الأيام كاللحن الشرود
أو كما تذهب في الإعصار أنفاس الورود(739/36)
شعلة النبراس في حلكة آلام الحياة
تلتظي بين أعاصير الشجون العاصفات
يتلألأ نورها لمحاً بدنيا النائبات
ثم تلقيه يد العُدم بوادي الذكريات!
يا حزيناً عاش من دنياه في بحر الدموع
تائهاً بين أواذي هلوع وولوع
حائراً في غلس اليأس بخفاق وجيع
ضل عن شاطئه في زورق الوجد المروع
كفكف الدمع على ما فات من بيض الأماني
وادفن الأنة في النشوة واصدح بالأغاني
واغتنم ما غفلت عن صفوه عين الزمان
لا تصوح في بوادي الوجد أزهار التداني
حسبنا أن صبانا والهوى ملك يدينا
ما علينا لو نهبنا العمر سكراً؟ ما علينا؟
هاتها حتى يوافينا الردى في سكرتينا
قبلما تذوي أزاهير الصبا من جنتينا
من رأى ماذا وراء الغد في لوح الغيوب؟
أو درى ما خطت الأقدار في سفر الخطوب؟
كلنا نخبط في تيه من الشك المريب
خبط غشواء ضلول. . . في دجى قفر جديب!
لا يرد الشجو من أعمارنا ما ذهبا
لا! ولا يمحو الأسى من غيبنا ما كتبا
فانس ما ولى. . . ودع للغيب ما قد حجبا
وأحسها صرفاً. . . وأمغرق في طلاها النصبا!
(حيفا)(739/37)
حسن البحيري(739/38)
تعقيبات
فارس الخوري الشاعر:
استفاض الحديث في مصر وفي الشرق العربي، بل في العالم أجمع عن فارس الخوري ممثل سورية في مجلس الأمن ورئيس المجلس في دورته الحالية، واستفاض الثناء عاطراً في جميع الدوائر على ما أبدى في هذه الرياسة من أصالة وكياسة، وشهدت البرقيات التي أذيعت في العالم بأنه (خير من رأس المجلس إلى الآن، وأنه يدير دفة الاجتماعات بدقة فائقة تتلخص في التقليل من الكلام والإكثار من العمل وحسم الأمور حتى استطاع أن يعمل في ثلاثة أسابيع ما لم يستطعه أحد من رؤساء المجلس السابقين. .).
وفارس الخوري - بارك الله في حياته - في الثامنة والستين من عمره الآن، وهو من الرعيل الأول من رجال الوطنية في سورية. وكان محامياً في دمشق، وكان أستاذاً في كلية الحقوق، وكان وزيراً مراراً، ورئيس وزارة =، ورئيس المجلس النيابي، ولكن قلَّ من أبناء هذا الجيل من يدري أن هذا السياسي المحنك كان في مطلع حياته من الشعراء النابغين والكتاب المبرزين، وأنه في مطلع هذا القرن، أي منذ أربعين عاماً، كان يملأ صحف مصر وسورية بمنظوماته وكتاباته، وإني لأذكر له من ذلك تخميساً لنونية ابن زيدون المشهورة نظمه في سنة 1906 وفيه يقول:
الطيف في النوم يرضينا إذا عبرا ... إن عزت العين صرنا نطلب الأثرا
لا تعجبوا إن صبرنا نحمل القدرا ... إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
نرضي الهوان بديل العز أكمله ... والجسم ينحل سقماً من تحمله
ونرتضي وشلاً عن فيض جدوله ... أما هواك فلم نعدل بمنهله
شرباً وإن كان يروينا فيظمينا
أعرضت عنا وأعرضنا على وصب ... نكتم الناس ما في القلب من لهب
فما اتخذنا تجافينا بلا سبب ... ولا اختياراً تجنبناك عن كثب
لكن عدتنا على كره عوادينا
ضاقت على رحبها الدنيا فلا سعة ... تحوي فؤاداً وأحشاءاً مقطعة(739/39)
نأسى إذا الشمس جازتنا مودعة ... نأسى عليك إذا حثت مشعشعة
فينا الشمول وغنانا فغنينا
لا شئ يسكن شيئاً من بلابلنا ... ولا نرجى عزاء من وسائلنا
ظمائن الأنس شالت عن منازلنا ... لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياح ولا الأوتار تسلينا
وفي سنة 1905 قامت الحرب بين روسيا واليابان، وحدث فيها ما حدث من الوقائع والفظائع، ومنيت فيها روسيا بهزيمة منكرة لم تكن في الحسبان، فاتخذ فارس الخوري من مشاهد تلك الحرب الضروس موضوعاً لملحمة شعرية تتألف من أربع قصائد ألم فيها بالأسباب التي دعت إلى إشهار تلك الحرب وذكر المعارك والمواقع البحرية والبرية التي جرت بين الصفر والبيض، وفتح للانفعالات النفسانية والتخيلات الشعرية مجالاً رحباً في الوصف حتى جاءت تلك الملحمة مزيجاً من التقرير التاريخي والخيال الشعري، ولما كان ولي عهد روسيا يومذاك قد ولد أثناء تلك الحرب فقد ختم ملحمته متوجهاً إليه بهذه الأبيات:
ها أنت تنمو في رعاية والد ... حان يذود السوء عنك ويطرد
والبعض من أبناء جيلك لا أب ... يحنو عليهم إن بكوا وتنهدوا
آباؤهم سقطوا بساحات الوغى ... ليوسعوا لك دولة ويمهدوا
فإذا نموا وملكت فارفق ذاكراً ... حق الذين على ولاك استشهدوا
وعساك تنشأ عادلاً لا تدعي ... أن الجميع لأجل عرشك أوجدوا
فالملك جسم والعدالة درعه ... درع بمحبوك الحديد مسرد
والملك بستان أعز سياجه ... عدل به ريح المخاوف تركد
يتوقع الإصلاح منك وليتنا ... نحيا لنعرف ما يجيء به الغد
ولقد تمت الأمنية للشاعر، فعاش - بارك الله في حياته - حتى رأى ما جاء به الغد، وعلم ما كان من مصير وولي العهد، فغيرت الدنيا وتبدلت الأوضاع، فقامت دولة مكان دولة وظهرت شريعة على أنقاض شريعة، ولكن غريزة الوحش في الإنسان لم تتغير، فما زال يستعمل نابه وظفره في قتل أخيه الإنسان، وماذا كانت تلك الحرب (الروسية اليابانية) أيها الشاعر إلى جانب ما شاهدت ورأيت بعد ذلك من أهوال حربين عالميتين لا تزال آثارهما(739/40)
ماثلة للعيان، أنت اليوم أيها الشاعر رئيس لمجلس الأمن، فقل لأندادك في ذلك المجلس من ممثلي الدول: أحقاً أنتم أيها الإخوان حراس الأمن، أم مبررون للظلم وأن الحقيقة المرة هي كما يقول شوقي:
وعصر بنوه في السلاح وحرصه ... على السلم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهو وارف ... يصادف شعباً آمناً فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه ... ويودي جيشاً كالحصى ويمير
شيوخ وشبان. . .
قال لي الأستاذ العقاد: (إنني لا أفهم معنى لهذا الكلام الذي يقال عن الأدباء الشيوخ والأدباء الشبان، وإني لأعجب لفئة من الشبان يتهمون الأدباء الشيوخ بأنهم يظلمونهم ويسدون أمامهم باب الشهرة والظهور، ويصورون المسألة على أنها حزازة بين الفريقين، وعداوة بين الطائفتين، إلى آخر ذلك الكلام الذي يثار ويقال، والواقع أنه ليس هناك أدب شيوخ وأدب شبان، وإنما هناك أدب قوة وأدب ضعف، فالقوة هي عامل الظهور والشهرة، وضمان البقاء والخلود، ولن يتأتى هذا إلا بالدراسة والاطلاع وبذل الجهد في ذلك إلى آخر ما تحتمله الطاقة، لكن إخواننا الشبان يحسبون أن من الكفاية في إدراك هذا قراءة كتاب أو كتابة مقالة في صحيفة، هذا هراء في التفكير، وهراء في التقدير. .).
(لقد كنا شباناً، فما وجدنا من أخذ بأيدينا، أو أفسح لنا الطريق، ولكننا صعدنا وشققنا طريقنا بدافع القوة والجهد، ولا زلنا إلى اليوم على هذا، فأدباء الشيوخ أشد شغفاً بالقراءة والدراسة وبذل الجهد، وهم يسيطرون على الحياة الأدبية لأنهم يواجهون الحياة الأدبية بما تستحق من حشد القوة وطول الصبر وخير للأدباء الشبان أن يدركوا هذا، وأن ينصرفوا إلى تقويم شخصياتهم، وأن يدخروا لأنفسهم قوة من المحصول الثقافي يمكنهم أن ينالوا بها الشهرة التي يريدون. .).
وإني - وأنا من فريق الشبان - لأوافق الأستاذ الكبير على ما قال، فالقوة هي ضمان الشهرة والبقاء، فإذا ملكها الشبان فلن يكون الشيوخ عائقاً أمامهم، ولكن يظهر أن إخواننا الشبان لا يدركون المسألة على حقيقتها، ولا يحبون أن يدركوها على حقيقتها، ويحسبون أن في استطاعتهم الصعود إلى القمة بخطوة قدم، ويحسبون أن هؤلاء الشيوخ قد بلغوا ما(739/41)
بلغوا من المجد والشهرة بمثل هذه الخطوة!!
كلا أيها الإخوان. . .
لقد حدثني الأستاذ المازني قال: لقد قرأت كتاب الأغاني في مطلع حياتي، وقد عمدت إلى فك أجزائه إلى ملازم ليسهل عليّ حملها أينما سرت، وقد عنيت أثناء القراءة بتصحيحه وإكمال القصائد التي فيه، ونسبة الأبيات المجهولة إلى قائليها والاستدراك على تراجم الشعراء، وكنت أكتب هذا كله في ورق أبيض وألحقه بالمطبوع، ثم جلدت الكتاب فكان في ضعف حجمه، وكانت هذه النسخة عزيزة على نفسي، ولكني فقدتها في محنة من محن الدهر، فأورثتني حسرة لا تزال عالقة بقلبي إلى اليوم.
حدثني الأستاذ المازني بهذا الذي صنعه في مطلع شبابه، وكنت منذ أيام أتحدث إلى أحد الشبان الأدباء عن كتاب الأغاني هذا فشمخ عليّ قائلاً إن من العبث ضياع الوقت في كتاب الأغاني وغيره من تلك الكتب القديمة البالية التي أصبحت لا تجدي. . .
مرة أخرى أقول لكم: كلا أيها الإخوان، إن الأمر أشق مما تقدرون، فاصرفوا هذا التمرد إلى ما يجدي من الجهد النافع.
سؤال:
في العدد السابق من الرسالة قرأت في مطلع المقال الخامس من تلك السلسلة التي يدبج حلقاتها الأستاذ علي الطنطاوي بعنوان (على ثلوج حزرين) ما يلي:
(أقامت ليلى في دار أسعد شهرين محمولة على الأكف، مفداة بالأرواح، قد هيئت لها كل أسباب الرفاهية، وأحيطت بكل مظاهر الترف، وسيق لإسعادها كل ما وصلت إليه الحضارة وأبدعه العقل، فلا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً ولا تأكل إلا لذيذاً، ولكنها لم تكن سعيدة، ولم تر حسن ما هي فيه، لأنها افتقدت النور الذي ترى به جمال الدنيا حين افتقدت الحبيب).
وأنا أحب أن أسأل الصديق الفاضل: مادامت ليلى في هذه الحالة النفسية (لم تر حسن ما هي فيه) إذن كيف كانت (لا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً، ولا تأكل إلا لذيذاً؟).
هذا السؤال الذي بدا لي، وإني لفي انتظار الرد من الصديق الكريم.(739/42)
(الجاحظ)(739/43)
الأدب والفن في أسبوع
أدب الأعداء:
لقد بلغت قضيتنا الوطنية مرحلة دقيقة خطيرة، وأنا أكتب هذا يوم
الثلاثاء الذي حدد لاستئناف النظر والمناقشة فيها، وقد ظهر من
اتجاهات مندوبي بعض الدول في الجلسات الماضية أن الأمر لا يجري
على مقتضى الحق والعدل، وأن مدَّ الدعاية وأمواج الحجج تتناثر عند
صخور مجلس الأمن التي تمثل الأغراض الاستعمارية وما يتصل بها
من المصالح المشتبكة.
وقد أدركنا أن أكبر جهادنا هو العمل داخل بلادنا، فدعا بعض الزعماء وقادة الرأي إلى عدم التعاون مع أعدائنا ومن يعاونهم، وتوثيق العلاقات مع الذين يناصروننا، وقد شعر الجميع بالارتياح لما فعلته الحكومة إذ منحت بولندا مهلة ستة أشهر بعد الميعاد المحدد لدفع ثمن الأقطان المبيعة لها من مصر. وجاء في بيان لحافظ رمضان باشا بالأهرام إلى أبناء وادي النيل بـ (أريد أيها المواطنون الأعزاء أن نجابه الحقيقة وننظر إلى مصلحتنا دون أي اعتبار آخر وألا نمد أيدينا ولا نتعاون إلا مع الدول التي تناصرنا في قضيتنا أمام مجلس الأمن) وجاء في حديث له بأخبار اليوم: (ونحطم (قوقعة) الخوف التي وضعتنا فيها سياسة بريطانيا فننشئ علاقات وثيقة ثقافية وسياسية بكل الدول التي أعانتنا في مجلس الأمن، فنوفد إليها كتابنا، ونشجع شبابنا الذين يطلبون العلم فيها)
ومن التصرفات الموفقة في هذا الصدد ما صنعه الأستاذ علي الغاياتي إذ رد الوسام البلجيكي الذي كان يحمله إلى وزير بلجيكا المفوض في مصر، على أثر موقف التحيز الذي وقفه الممثل البلجيكي مع أمثاله في مجلس الأمن ضد القضية المصرية.
أريد أن أخلص من هذا كله إلى أمر يدخل في هذا الباب الأدبي، أريد في هذا الظرف الحرج أن نقطع علاقاتنا الأدبية والثقافية بالإنجليز ومن يساعدهم ضدنا في مجلس الأمن وفي غيره وننشئ هذه العلاقات أو ننميها مع الدول التي تناصرنا.
حذار أن نقول ما شأن الثقافة والأدب بالخصومات السياسية والمنازعات الوطنية، فنحن(739/44)
الآن في انفعال شديد وثورة عنيفة لحريتنا وكرامتنا ولا نستطيع أن نسمع هذا الكلام، وقد ورد في الأنباء الأخيرة أن صحفاً في لندن وباريس توجه حملة من السباب والشتائم إلى المستشرقين البريطانيين والفرنسيين لمقالات نشرتها لبعضهم بعض الصحف العلمية والأدبية يشيرون فيها بوجوب اتباع سياسة أميل إلى التسامح مع الأمم العربية، ونحن في موقف المدافع عن حريته وكرامته، فأحرى بنا أن نضحي حتى بالفائدة الفكرية التي تتوقع من استمرار اهتمامنا بآداب أعدائنا
أحدد ما أرمي إليه بالا تنشر الصحف والمجلات في هذه الآونة، آونة جهادنا الحاضر، مترجمات ولا دراسات ولا أي شئ آخر من آداب تلك الأمم. وأنا لا أنكر فائدتها وروعة كثير منها. ولكن يجب أن ننظر إلى الحقائق الآتية:
1 - الأدب الحر لا يتفق مع إهدار الحرية والكرامة ولا يجوز أن نرضع أدبنا من أثداء الذين يتعاونون على محاولة قتل حريتنا وكرامتنا، ويجب أن نشعرهم بتقلص قيمتهم الأدبية عندنا نتيجة سوء سياستهم معنا.
2 - البلاد في حاجة إلى أقلام الذين يبذلون أكبر جهودهم في تلك الآداب، ليكتبوا في مسائلها ومشاكلها بعد أن يعودوا إليها بأفكارهم وعواطفهم، وتكون هذه فرصة حسنة للشعور بذاتيتنا، والتأمل في أنفسنا، والعيش في محيطنا وتركيز أدبنا الذاتي وتنميته وتوفيره.
3 - يجب أن يكون العمل الوطني السلبي شاملاً لجميع النواحي، فلا يتخلف فيه الأدب. وفي ذلك تقوية للروح الوطنية وإشراع لشعور العزة والكرامة.
مناهج اللغة العربية:
كانت وزارة المعارف قد ألفت لجنة لدراسة وسائل النهوض باللغة العربية والعمل على توحيدها في مصر والأقطار الشقيقة. وقد انتهت هذه اللجنة من مهمتها ووضعت تقريراً سيكون موضع نظر المؤتمر الثقافي الذي سيعقد بلبنان في اليوم التالي لصدور هذا العدد من الرسالة
وقد بين ذلك التقرير أهداف تعليم اللغة العربية فيما يلي:
(1) أن نجعل الطلاب قادرين على القراءة الصحيحة في سهولة ويسر وأن يفهموا ما(739/45)
اشتملت عليه الكتب من أفكار ومعان
(2) تمكينهم من التعبير عما يجول في نفوسهم ويقع تحت حواسهم بعبارة عربية صحيحة
(3) أن تكون دراسة العربية وسيلة صحيحة للثقافة وتوسيع المدارك وتنمية الذوق السليم وتزويد الطالب من المعلومات القيمة لا أن تكون محض دراسة لألفاظ وتراكيب ومفردات عمادها الزينة والزخرف الشكلي
(4) أن يتصل الطلاب اتصالاً وثيقاً بالحياة الأدبية والعلمية المحيطة بهم وأن يسايروا النهوض الأدبي الحديث
(5) أن تكون الدراسة مثيرة لروح الشوق إلى القراءة والاستزادة من الثقافة والوقوف على ما جاء به الكتاب والمفكرون في العصور المختلفة
ويقول التقرير (إن مناهج قواعد النحو والصرف والبلاغة أكثر مما يحتاج إليه الطلبة ولا تلائم استعدادهم ولا تنهض بلغتهم وإنه لو اكتفى من القواعد بما هم في أشد الحاجة إليه مع كثرة المران عليه كان أولى)
والواقع أن أصل الداء في المناهج، فمنهج الأدب الحالي - مثلاً - غير صالح، فالطالب في السنة الأولى الثانوية يبدأ دراسة الأدب ببحث طويل في معنى الأدب والأسلوب الرديء وغير الرديء، وهو يحفظ من ذلك ما يلقنه المعلمون من العبارات التي لا يفهم معناها مهما بذل المعلم من الشرح والإيضاح، وفي السنة الثانية يدرس العصر العباسي الثاني، فيقال له إن النهضة العلمية التي كانت في صدر الدولة نضجت في العصر الثاني وأثرت في الأدب، وهو لا يعلم شيئاً عن هذه النهضة لأنه سيدرسها في السنة الثالثة! ويقال له إن الكتاب استعملوا الجناس والطباق وغيرهما من المحسنات البديعية التي سيدرسها في السنة الرابعة! ويشغلون الطالب بالمعلومات التاريخية الكثيرة عن الأدب نفسه، فيحفظ النصوص كما يحفظ شرحها دون فهم حتى للشرح، ليدون ما حفظ في ورقة الامتحان. . وترى أسئلة الامتحان فيهولك منها سؤال في النقد أو الموازنة تراه أعلى من مستوى الطالب العقلي. . مع أن الأمر أهون مما تظن، فالطالب يحفظ الإجابة عن ظهر قلب!
وهذه أمثلة يسيرة نسوقها إلى المؤتمر الثقافي وهو يتهيأ للانعقاد، لننبه إلى أن (القدر المشترك) في التعليم بجميع المدارس العربية، ليس وحده الجدير بالبحث، بل يجب(739/46)
الاهتمام أيضاً بنوع القدر ومقدار نفعه وصلاحيته. ويجب أن توضع المناهج المصرية خاصة موضع التفنيد، لأن أكثر الشقيقات تتجه إليها وتأخذ بها، ونخشى أن يتكون (القدر المشترك) من معظمها.
المساهر:
قرأت في كتاب (أبو الهول يطير) الذي أخرجه أخيراً الأستاذ محمود بك تيمور ما يلي:
(تضم مدينة نيويورك وحدها سبعمائة مبنى بين مسرح للتمثيل ودار للسينما إلى جانبها ثلاثمائة وألف من أندية الليل تلك التي يسمونها بالفرنسية (الكباريهات) ولعلنا لا نخطئ إذا سميناها المساهر)
وكلمة (المساهر) هذه عذبة خفيفة وتنطبق حقاً على هذه الأندية الليلية (الكباريهات) التي يسهر فيها الناس ليستمتعوا بمختلف ألوان اللهو والمرح من رقص وغناء وموسيقى وغيرها وسيجري المسهر على اللسان كما جرى المسرح والمرقص
وقد ذكرني ذلك بما كان قد كتبه الزميل (الجاحظ) في تعقيباته بصدد وضع الألفاظ للأشياء والمعاني المستحدثة، إذ قال على ما أذكر إن الأمر في وضع الألفاظ ليس مجرد العثور عليها بل هو الاهتداء إلى الكلمات التي تصلح للاستعمال وتشق طريقها في الحياة بأقلام الكتاب والشعراء. والحق ما قال.
حول السجل الثقافي:
كتب إلى أديب ظريف بتوقيع (البسام) يقول:
(قرأت ما كتبته عن السجل الثقافي فأكبرت هذا العمل الجليل الذي شرعت وزارة المعارف تقوم به، وهو إصدار سجل سنوي يصف مظاهر النشاط الثقافي خلال عام ويبين اتجاهات هذا النشاط ومراميه. ولاشك أن هذا السجل سيكون له من الأثر والشأن ما ذكرت، ولكني وقفت عند نقطتين في هذا الموضوع: الأولى في قولك (وعمل هذه الإدارة تسجيل مظاهر النشاط الثقافي في البلاد من كافة نواحيه عدا الجانب الذي تضطلع به معاهد التعليم وفق برامجها الرسمية) وبما أن السجل السنوي أول ما تهتم به الإدارة المنشأة كما ذكرت، فمعنى ذلك أنه سيهمل فيه الجانب الذي تضطلع به معاهد التعليم وفق برامجها الرسمية،(739/47)
فلم هذا؟ ولم لا يكون السجل شاملاً للنشاط الثقافي بمعاهد التعليم؟ وقد قلت إن الغرض الأول منه تعريف ضيوف مصر والمهتمين بشئونها من الأجانب المكانة التي بلغتها مصر من الثقافة العامة. أفليست المعاهد الرسمية مما يهمنا التعريف بما بلغته من المكانة الثقافية؟
(النقطة الثانية هي ما يفهم من سياق الكلام وعلى الأخص العبارة السابقة التي بينت فيها أول غرض من السجل: (تعريف ضيوف مصر. . . الخ) من أنه سيكون مقصوراً على وصف النشاط الثقافي وبيان اتجاهاته ومراميه في مصر فحسب، فلا يشمل سائر البلاد العربية، مع أن الوحدة الثقافية العربية هدف يرمي إليه الجميع، بل هي واقعة فعلاً من قديم العصور، وهي أقوى لبنة في بناء الجامعة العربية، وإني لأستبعد أن تفعل ذلك وزارة المعارف وهي التي تعمل على تنمية التعاون الثقافي بينها وبين الشقيقات العربيات، بل أقول بصراحة أكثر إني أشك في صحة ما ذكرت في هذا الصدد. . . فهل أنت واثق منه؟ وإذا كنت كذلك فما رأيك؟)
وأقول لك أيها (البسام) إنني لم أكن إلا مقرراً للواقع الذي وقفت عليه وموضحاً للفكرة التي قصدت إليها وزارة المعارف من السجل الثقافي الذي تعمل في إعداده، وأنا واثق من كل ما ذكرته. وقد ارتحت إلى وجاهة اعتراضك رغم ما تعمدته من المعاكسة بين (العباس) و (البسام)
ولا أخل وزارة المعارف غافلة عما أثار ذلك الاعتراض، ولعلها تنظر إلى الموضوع من وجهة غير الذي ننظر منه إليه، فلست أملك مع هذا إلا أن أدع الأمر لأهل الاختصاص في الوزارة ليجيبوا بما عندهم
تصويب:
في العدد الماضي جاء عنوان الموضوع الأول في هذا الباب (اجتراء) وصحته (اجترار).
(العباس)(739/48)
البريد الأدبي
المنشئ والحاسب، أبو حيان والحريري
قرأت في الرسالة الغراء (737) كلمة الأستاذ (الجاحظ): (الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب) وما رواه فيها من قول للدكتور زكي مبارك. ولقد أنصف الأستاذ الجاحظ، وجار الدكتور مبارك - وإن لم يكن الظلم من شيمته - بما أراد أن يعطي (ابن الحريري) أكثر من نصيبه، وحسبه نصيبه. وفي (الإمتاع والمؤانسة) حديث عن تينك الصناعتين ورد فيه كلام لرجل اسمه (ابن عبيد) نبح في البلاغة والمنشئين والمعلمين والنحويين، وعظم وكبر صنعة الحساب. وقد فرفر أديبنا العبقري أبو حيان قائله فرفرة، وفند باطله، وأعلن من فضائل البلاغة والإنشاء ما أعلن وأغلب الظن أن صاحب (المقامات) اطلع على ذلك الحديث فنتش أشياء من معانيه ومن ألفاظه قال ابن الخشاب البغدادي في رسالته في نقد (المقامات):
(وقد كان ابن الحريري (عفا الله عنه) مكباً عليها، صارفاً مدة مهله فيها، ينقح فيها اللفظة بعد اللفظة، ويستشفها في كل لحظة، فهي بنت عمره، وبكر دهره. ولقد خطف أكثرها من مواضع، يدل تهديه إليها على فضل بارع. ولم يكن (رحمه الله) مدفوعاً عن فطنة ثاقبة، وغريزة في التلفيق مطاوعة مجاوبة)
ولن يقلل ذلك النتش من فضل (أبي محمد) ولن يصغر هذا الخطف من مقداره. يقول أبو حيان في كتابه:
(ولما عدت إليه (إلى الوزير) في مجلس آخر، قال: سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد، ففيم كنتما؟ قلت كان يذكر أن كتابة الحساب أنفع وأفضل وأعلق بالملك، والسلطان إليه أحوج، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير، فإذا الكتابة الأولى جد، والأخرى هزل).
(قال:. . . فما كان الجواب؟ قلت: ما قام من مجلسه إلا الذل والقماءة، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلف، والشمس بالكسوف، وانتحل الباطل ونصر المبطل، وأبطل الحق وزري على المحق. . .).
ومما قاله أبو حيان لابن عبيد: وكفى بالبلاغة شرفاً أنك لم تستطع تهجينها إلا بالبلاغة،(739/49)
ولم تهتد إلى الكلام عليها إلا بقوتها، فالنظر كيف وجدت باستقلالها بنفسها ما يقلها ويقل غيرها، وهذا أمر بديع وشأن عجيب. . .).
والحديث التوحيدي العذب هو في الجزء الأول من (الإمتاع والمؤانسة) في الصفحة السادسة والتسعين وما بعدها.
السهمي
تصويب:
جاءت همزة هذا المصدر (الائتمام) في الكلمة (فعلاء) في (الرسالة الغراء) 737 - همزة قطع، وهي همزة وصل.
إلى الأستاذ (الجاحظ):
أنا أذكر أن في الكتاب الجليل (الفرج بعد الشدة) للقاضي التنوخي قصة وقعت لبعض وزراء العهد العباسي الأول مع كاتب متعطل ركب معه حراقته في دجلة. . . فيها تصنيف الكتاب وصفاتهم وما ينبغي لكل منهم، ولم يقتصر فيها على الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب، بل عدد أنواعاً كثيرة وساق أوصافاً جمة، وليس تحت يدي الكتاب حتى أدل على موضعها، فليرجع الأستاذ (الجاحظ) إن شاء إليه. يجد فيها ما يضيفه إلى (تعقيباته) ويضمّه إلى حسناته.
(علي)
الخلان والزمان:
في العدد (736) من الرسالة الغراء مقال بعنوان (الخلان والزمان) للأستاذ الحوفي لفت نظري فيه أخطاء وقع فيها الكاتب في روايته لأبيات الشاعر الأمير أبي فراس. . . فرأيت إتماماً للفائدة المرجوة من هذا الموضوع الجليل أن أنبه إلى مواضع تلك الأخطاء وأن أرجع الرواية إلى أصلها.
1 - روى الكاتب أن أبا فراس قال:
منعت حمى قومي وسدت عيشتي ... وقلدت أهلي من هدى القلائد(739/50)
وصحة رواية الشكر الثاني هي:
وقلدت أهلي غر هذي القلائد
وهو أوضح وأفصح فقد جاء مفسراً لبيت قبله هو:
فإن عدت يوماً عاد للحرب والندى ... وبذل العلى والمجد أكرم عائد
ثم عطف فقال:
منعت حمى قومي وسدت عشيرتي ... وقلدت أهلي غر هذي القلائد
2 - روى قوله:
(ومنها) نرى أن المتارك محسن ... وأن خليلاً لا يضر خليل
وصحة هذا البيت هكذا:
(وصرنا) نرى أن المتارك محسن ... وأن خليلاً لا يضر (وَصول)
يقول: أصبحنا فبي ومن نرى فيه أن الصديق الذي لا يضر ويؤذي محسن وفيّ وصول للعهد أمين في الصداقة. . ومما يؤيد هذه الرواية أن الشاعر قال بعد ذلك:
تصفحت أحوال الزمان فلم يكن ... إلى غير شاك في الزمان وصول
فجاء بالجناس بين القافيتين (وَصول ووُصول) وأبو فراس كثير التجنيس في شعره كمثل قوله:
ولا برقت لي في اللقاء قواطع ... ولا لمعت لي في الحراب حراب
3 - روي قوله:
وإذا وجدت مع الصديق شكوته ... سراً إليه وفي المحافل أشكر
وصحة هذا البيت:
وإذا وجدت على الصديق شكوته ... سراً إليه وفي المحافل أشكر
4 - روي:
أشد عدويك الذي لا تحارب ... وخير خليلك الذي لا تناسب
وصحة الشطر الثاني: وخير خليليك بالتثنية.
5 - روي قوله:
تردى رداء (الظل) لما لقيته ... كما يتردى بالغبار العناكب(739/51)
والصحيح كلمة (الذل) مكان الظل، وهو أوضح وأبلغ وأنفذ للمعنى. يقول: إن حاسده اللئيم الجبان يوغل في شتمه وانتقاصه ويغرق في ذمه واغتيابه، حتى إذا لاح له انخلع قلبه وامتقع لونه واعتقل لسانه فتردى رداء الذل، ولبس ثوب التملق، فتوسل وتمدح. فلا وجه لكلمة (الظل) إلا إذا أراد الكاتب الفاضل أن يتمحل أوجه البلاغة ويتعسف طرائق البيان. فالمعنى الواضح البين خير وأبلغ من المعنى الغامض المبهم.
6 - وقد افتتح الكاتب الفاضل مقاله ببيت رواه لأبي فراس جاء على هذه الصورة:
تركت أبي طفلاً وكان أبي ... من الرجال كريم العود فاخره
وقد نبهت (الرسالة) أن الشطر الأول غير مستقيم لا معنى ولا وزناً، ولم أعثر على صحته، ولكن لعل الشطر الأول أن يكون هكذا (وقد فقدت أبي طفلاً وكان أبي)، فيصح النظم ويتسق المعنى
(طرابلس الشام)
محمد علي عكاوي(739/52)
القصص
قصة إسلامية:
شيخ الأندلس
منقولة عن الإنجليزية
بقلم الأديب وهبي إسماعيل حقي
(تتمة)
ثم إن الرجل الغريب دلف إلى الحديقة بعد أن طرق الباب بيد مرتعشة طرقاً مضطرباً، ولم يتمهل حتى يؤذن له، وأسرع إلى حيث الشيخ يتوضأ لصلاة المغرب - وقد ارتسمت على صفحة وجهه دلائل الخوف وعلامات الفزع - فركع بين يديه، وظل الكلام يتعثر في حلقه لحظة، ثم استطاع أخيراً أن يتمتم بهذه الكلمات المتقطعة المضطربة:
- أيها الشيخ الرحيم. . . إني غـ. . . غريب عن هذه الأوطان. . . وأنا الآن. . . بعيد عن أهلي وعشيرتي. . . و. . و. . . فقال له الشيخ:
- اعتدل في جلستك يا بني! وتريث قليلاً حتى تهدأ أعصابك ويعود إليك اطمئنانك، فأنت الآن في بيتي، وسنحول بينك وبين كل مكروه، فلا تخف، وقل ما تريد. . .
- ارحمني بربك! أسبل عليّ ستراً من حمايتك بمكانة محمد عندك، إني برئ فمد يدك لمعونتي. . . لجأت إليك، فكن بي رحيماً. . .
هزت كلمات الرجل أوتار قلب الشيخ إدريس، وتأثر بالغ الأثر لهذا الغريب الذي يذوب قلبه فرقاً وقال له:
- إنك آمن الآن يا بني! فاطمئن ولا تخف، فإن المسلم، لا يغلق بابه في وجه من به استجار، وهذا ملجأ حصين، ستقر به عينك، وسيهدأ فيه بالك، ولكن هل لديك ما يمنع أن تطلعني على ما حدث لك، ولم ينتظر إجابته بل التفت إلى خادمه الذي لم يزل واقفاً وبيده إبريق الماء وقال له:
- هات له شراباً رطيباً، فهو في حاجة إلى ما يهدئ أعصابه، فذهب الخادم، وعاد وناول(739/53)
الغريب الشراب فروى ظمأه واستطاع بعدئذ أن يهمس هذه الكلمات:
- أعرني سمعك أيها الشيخ الكريم. . . وارحم غربتي وضعفي، فليس لي في هذا البلد مساعد ولا معين. . . فكن مساعدي ومعيني. . . منذ قليل كنت في طريق المدينة فقابلني جماعة من شباب المسلمين، وكنت وحيداً، فأخذوا يسخرون مني ويستهزئون بي، فلما لم أرد عليهم قذفوني بسيل من الشتائم مقذع، فقطع الشيخ حديثه بقوله:
- ترى من كان هؤلاء الأشقياء؟ فإن الإسلام يعلمنا كيف نحافظ على شعور الناس، ويحثنا أن نعاملهم بالحسنى، ولا نعرض لهم بأذى. فقال الرجل:
- هذا ما حدث يا سيدي، ولا أدري له تعليلاً. . . فلما استنكرت فعلهم، ورجوتهم أن يكفوا عن هذا السباب استشاطوا غضباً، وازدادوا في إيلامي، وبلغ ببعضهم أنه أخرج مدية وهم أن يطعنني بها، فدفعني حب البقاء أن أدفع الأذى عن نفسي، فقذفت بسهمي في ثورة غضبي وشدة هياجي فطاش وأصاب من أحدهم مقتلاً، وها أنتذا قد علمت أنني لم أبيت لأحد منهم سوءاً، ولم أقصد أحداً بضرر، ولم يكن في حسابي أن الشهم سيصيب منهم مقتلاً. . . وقد لذت بالفرار لأنجو بنفسي، ولأنقذ حياتي من خطأ لم أتعمده، فرمت بي المقادير إليك، ولعل من سعد طالعي أني وفقت لمن ينصر المظلوم ويأخذ بيد الضعيف
ظن الشيخ أن الذي سمعه من الرجل هو الواقع، فتحركت في نفسه عوامل الشفقة، وثارت في قلبه نوازع الرحمة، ولم يخطر له ببال أن الدم الذي سفكه ذلك الخائن إنما هو دم ابنه البرئ، فأخذ يلاطف الرجل ويتبسط معه في الحديث، ليذهب ما ألم بقلبه من فزع ورعب، وما تملكه من اضطراب وخوف، وكان مما قاله له:
- إنك وإن لم تكن مسلماً؛ فقد أوصانا نبينا بأن نعامل مخالفينا في الدين بالحسنى، وأن نرعى الأخوة في الإنسانية حق رعايتها، فكن على يقين أنك بلغت مأمناً، وأنه بعون الله لا تستطيع يد أن تمتد إليك بسوء واعلم أنك الآن في حماية قوية، فقد عاهدتك عهداً غير منكوث، أني لن أسلمك أبداً ولو حملت في سبيل ذلك السلاح. . . ولكنه رأى في وجه الرجل أمارات الشك، وأن به ميلاً إلى عدم التصديق فقال له في رنة التأكيد:
- كن واثقاً بي فالمسلم إذا عاهد وفّى، وإذا أؤتمن أدى، وإذا قال صدق، فانحنى العغريب حتى بلغ رِجْل الشيخ فقبل أطراف أصابعها، فجذبها الشيخ بقوة وقال له:(739/54)
- إنني يا بني لم أفعل شيئاً أستحق عليه هذا منك، ولم أزد على أني أجرت من استجار بي، وأي مسلم يقعد عن ذلك؟ ثم التفت إلى خادمه وقال له:
- اصحبه إلى حجرة النوم التي أعدت للأضياف، ووفر له وسائل الراحة، فإنه شديد الحاجة إليها، ثم ابتسم للرجل وقال له:
- في رعاية الله وحفظه، رافقتك السلامة، وصحبك الهدوء والاطمئنان.
أخذ المدعوون يفدون إلى بيت إدريس زرافات ووحداناً تعلو وجوههم نضرة السرور، وترتسم على شفاههم بسمة الفرح، وكانت الأنوار تتلآلآ ساطعة في أبهاء البيت وطرقات الحديقة وامتلأ البيت، واكتظت الحديقة بالحاضرين، وجلسوا جماعات جماعات، يتناول حديثهم شتى الأمور في الأدب والتطورات السياسية، والمعارك التي يخوض جيش المسلمين غمارها لإخضاع الثائرين المتمردين، والملح الضاحكة، والطرف المستملحة، والكل ينتظر عودة إسحاق بفارغ الصبر. وكان الشيخ إدريس أشد الحاضرين قلقاً، وأكثرهم لهفة؛ فقد بدأ يتوجس خيفة من تأخر ابنه الذي لم يسبق له مثيل؛ فإنه لم يتأخر في المدينة إلى مثل هذا الوقت من الليل، وخشي أن يكون قد أصابه مكروه فإنه يعلم أن عليه في هذه الليلة أن يستقبل المدعوين في منزله من علية الناس وأشرافهم. فلم يستطع الرجل الثبات في مجلسه، فكان يكثر من الخروج والقيام والقعود، والذهاب إلى الباب والعودة منه ينتظر عودة وحيده.
وحانت صلاة العشاء، فقام أحد المدعوين وأذن لها، وبعد أن فرغوا من صلاتها عادوا إلى أماكنهم، وقبل أن يتشعب بهم الحديث فاجأهم صراخ وصياح خارج المنزل لم يلبث أن صار بينهم مصدره، وكان خادم إسحاق الذي رافقه إلى منزل الشيخ عبد الكريم هو مبعث البكاء والصياح فدخل عليهم وقال لسيده إدريس في تأثر بالغ وهو يبكي، ولا يكاد يتبين السامع شيئاً من كلامه لاختناق صوته، وإلحافه في البكاء والنشيج:
- ألهمك الله الصبر ياي سيدي. . .؛ فقد مات وحيدك. . . وسندك إسحاق. . .
لم يكد الخادم يتم عبارته حتى ارتسم الهلع على وجوه الحاضرين، واستبد بهم الحزن، وفارقهم الوقار، وتخلت عنهم الشجاعة، فعلا نشيجهم وتصعدت زفراتهم واستسلموا لحزن عميق(739/55)
أما الشيخ إدريس فقد كاد يصعق في مكانه؛ لأن الخبر قد نال منه أشد منال، ووقع على قلبه وقوع الصاعقة، وأخيراً بعد جهد جهيد استطاع أن يستند على خادمين وخرج إلى الحديقة، يتبعه الأضياف ليروا جثة إسحاق التي وصلت منذ لحظات.
تقدم إدريس إلى ابنه المسجى، وبيد مرتعشة رفع الغطاء الأبيض، فرأى وجه ابنه، ذلك الوجه الذي كان منذ قليل يزخر بماء الشباب، رآه أصفر شاحباً، قد ذوى جماله، وغاضت ملامحه وغارت عيناه. وقد كانتا تشعان بالفرح والتحفز والسرور، فانطفأ بريقهما، وخبا ضياؤهما، وانطبقت جفونهما.
رد الوالد الغطاء على وجه ابنه، والحزن يفتت كبده، ويذيب فؤاده، ولكنه تحامل على نفسه وتمالك أعصابه وردد في ثقة واطمئنان قول الله عز وجل (إنا لله وإنا إليه راجعون). (كل نفس ذائقة الموت). (فصبر جميل والله المستهان). ثم التفت إلى القوم الذين جعلوا يتقدمون لتعزيته وقال لهم: ماذا يملك الإنسان غير أن يستسلم للقدر المحتوم، والقضاء النافذ. إن قلبي يعتلج بالأسى والحزن لفراق ولدي الوحيد، ولكنها إرادة الله، الذي لا راد لما قضاه.
تراءى العالم للشيخ إدريس شديد الظلام، وأخذ الألم يحز في نفسه، ولكنه صبر للبلاء، وصمد للقضاء. وانفرد بالخادم الذي كان يرافق إسحاق وقال له:
- قصّ عليّ يا بني ما جرى لكما كما وقع، ولا تستر عني شيئاً من الحقيقة، وقل من ذا الذي فعل هذا بسيدك إسحاق؟ فقال الخادم:
- أنني قد تأخرت عن سيدي إسحاق قليلاً، لأنه أسرع بجواده، ورأيته من بعيد يتحدث إلى رجل غريب، لكني لم أسمع ما دار بينهما، إلا أنني رأيت سيدي بعد قليل يحاول النزول عن جواده، وقبل أن يتمكن من ذلك، قذفه الغريب بسهم قاتل، فسقط على الأرض مضرجاً بدمائه، واختفى القاتل بعد أن أدركه، فانتفض الشيخ انتفاضة شديدة كأنما لدغه عقرب، وقال والدمع ينهمر من عينيه: هذا ابتلاء من الله وعلينا أن لا نسخط على قضاء قضاه.
وأخذ الحاضرون يعزون الشيخ إدريس، ويسألون له الصبر ثم ينصرفون إلى بيوتهم والهم يعتلج في قلوبهم والأسى يحز في نفوسهم. ثم اجتمع الأقارب والأصدقاء من الرجال والنساء حول القتيل يبكون شبابه الغض، وفتوته الناضجة، وخرج كثير من أصدقائه بفتشون في طرقات المدينة وأحراشها عن القاتل الأثيم!(739/56)
في الحجرة الأولى عن يمين الداخل إلى المنزل كان اللاجئ المسيحي يرتجف خوفاً وهلعاً، كلما تعالت أصوات البكاء والعويل، وتنثال عليه الأفكار السوداء والخواطر المثيرة، ويقول في نفسه: ماذا أعمل إذا كانت تلك مناحة القتيل وقد زجت بي المقادير إلى بيته؟ ثم يعاوده شئ من الهدوء ويقول: لو أن الأمر كذلك لدخل عليّ أهله ولمزقوني شر ممزق منذ أن وصل القتيل للبيت. ظلت الأفكار المضطربة تنتاب ذلك اللاجئ شطراً كبيراً من لليل ثم تأكدت مخاوفه وأسرع خفقات قلبه، عندما عالج الشيخ باب حجرته ثم فتح مصراعيه، ودخل عليه وبيده مصباح مضيء. ثم ابتدر الغريب وقال له:
قل لي بربك يا صاح! أكان الرجل الذي قتلته منفرداً أم كان في جماعة من أصحابه؟
- لا لا! إنه لم يكن وحيداً يا سيدي، بل كانوا أربعة، وقد استثاروني فاستعملت السلاح دفاعاً عن نفسي،. . . وإني أستحلفك بالله أن لا تسلمني إليهم فإني برئ، برئ.
- لا تخش شيئاً فلن أسلمك لأحد، ولكن هيا اتبعني قليلاً.
قام الرجل متثاقلاً. وتبعه متعثراً في مشيته وكأن رجليه تعجزان عن حمله وكان كلما تقدم وراء الشيخ خطوة، اعتقد أنه يقترب من الموت خطوات، وظل كذلك حتى وصل إلى الحجرة التي نقل القتيل إليها، فدخلها وراء السيخ فوجد بجانبه أربعة يرتلون آي الذكر الحكيم، فتقدم إليهم الشيخ وفتح لهم باباً داخلياً وطلب إليهم أن يلجوه، وأن ينتظروا ريثما يسترجعهم، ثم طلب إلى الغريب أن يتقدم إلى سرير القتيل ثم رفع الغطاء عن وجهه وقال له:
- هل هذا الرجل هو الذي أصابه سهمك؟
عرف الرجل في المسجى على السرير ضحيته، فاصفر وجهه، وتصبب عرقه، وجف ريقه، وتلاشت الكلمات في حلقه، والتاث عليه مسلك القول، فقال له الشيخ في هوادة ورفق:
- قل الحقيقة ولا تخف يا بني. فليس عليك من بأس، فقال الغريب بصوت متقطع كأنه خارج من جوف بئر:
- نـ. . . نـ. . . نعم هو يا سيدي، ولكن بحق نبيكم محمد ارحمني وأشفق علي؛ فإني لم أقتله متعمداً، أنا برئ، إن هذا الشاب قد ابتدأني بالشتائم وقد دافعت عن نفسي. . .(739/57)
- لا بأس. لا بأس فلنرجع إلى حجرتك ثانية؛ فقد بقي من الليل وقت ليس بالقصير؛ وأنت في حاجة إلى قسط من الراحة كبير وفي الصباح الباكر إن شاء الله ندبر وسيلة لإنقاذك.
ثم ودع القاتل عند باب حجرته وتمنى له ليلة هانئة. ثم انثنى إلى حجرة القتيل وجلس إلى جواره مع القراء يسترحمون له بتلاوة القرآن. بينما أغلق القاتل عليه بابه واستسلم للتفكير في مصيره وما سيأتي به الغد من أحداث.
نادى المؤذن لصلاة الفجر، فقام الشيخ إدريس وجدد وضوءه، واستقبل القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال:
(اللهم لا رادَّ لقضائك، ولا سخط على بلائك، ابتليت فرضينا، وأمرت فأطعنا، فألهمنا جميل صبرك، وثبت قلوبنا على طاعتك، فلا عون إلا بك، ولا ملجأ إلا إليك، وإنك أرحم الراحمين، وأعدل الحاكمين). ثم صلى لربه في خشوع واستسلام ولما انتهت صلاته، أمر أحد رجاله أن يعد أسرع جياده، وينتظر به على باب الحديقة؛ ومعه إبريق ملئ بالماء. ثم أخذ كيساً ووضع به مبلغاً من المال، وأحضر سلة وشيئاً من طعام وفاكهة ووضعهما في السلة، وذهب إلى حيث الخادم ينتظر بالجواد؛ وأمره أن يأتيه بالضيف من حجرته.
قضى القاتل ليلة ليلاء لم يغمض له جفن، ولم يهدأ له بال، ولم يسكن له خاطر، فما أن طرق الخادم بابه حتى أيقن أن ساعته قد دنت، وأن حَيْنه قد حان، وتلك آخر لحظاته، فجثا على ركبتيه، وصلى على طريقته المسيحية صلاة الوداع لحياته؛ ثم قام وتابع الخادم وهو يترنح كالسكران من هول ما يلاقيه. فلما وصل وجد مضيفه وحاميه ممسكاً بعنان الفرس، متكئاً على جدار الحديقة فما أن أبصرهما حتى صرف الخادم ثم وجه الكلام إلى القاتل فقال:
- أيها الشقي التعس! ألا فاعلم أن الذي استقر سهمك في صدره هو ابني ووحيدي وأنه لم يكن متجنياً عليك، ولم يبتدرك بإساءة!! إنك لا تستطيع أن تتخيل أي دور لعبت في تدميري، وتحطيم قلبي أنا ذلك الشيخ الفاني، لقد هدمت بنياني، وقوضت أركاني، وقتلت كبدي. إن الصراع الناشب في نفسي، لا يقدر قدره ولا يبلغ مداه. . . هذا وحيدي وسندي في الحياة جثة هامدة بين عينيّ، تناديني روحه من عليائها أن أنتقم له، وهذا قاتله بين يدي، وفي حوزتي، ولكن يمنعني من الثأر منه ذلك العهد الذي قطعته على نفسي أن(739/58)
أحميه. . . كان إسحاق رطيب الغصن، ناضج الشباب وكنا نبني عليه صروح الآمال ونعلق عليه كل رجاء لنا في الحياة، ولكنك هدمت صروحنا وقطعت رجاءنا. . . إن الدم يغلي في عروقي غضباً عليك، وإن نوازع الشر تصرخ بي أن أثأر منك، لكن صوت الضمير يملأ نفسي، ويغمر قلبي، إني عاهدتك باسم الله ومكانة محمد نبيه، أن أحميك من كل شر، وأن أدفع عنك كل سوء، وقد استجبت أخيراً لنداء ضميري، فإني لا أحب أن يقال: إن مسلماً استهان باسم الله وبكرامة محمد نبيه، فأخلف وعده، وغدر في عهده ولوث سمعة المسلمين. . . هاك خير جهادي، وهذه سلة فيها طعام وفاكهة، وذي نقود قد تحتاجها في سفرك. وإن إسحاق كان أحب إليَّ من حياتي، ولكني عفوت عنك (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وتعاليم الإسلام أحب إلى قلبي، حتى من نفسي. . .
وهبي إسماعيل حقي(739/59)
العدد 740 - بتاريخ: 08 - 09 - 1947(/)
القوة هي الحق!
القوة هي الحق وما سواها باطل. فإذا رابك هذا القول فعارضته بآية من القران في الرحمة، أو بحديث من السنة في العفة، أو بمأثور من الحكمة في البر، أو ببيت من الشعر ف العدل، قلت لك ويداي مشبوكتان على صدري: صدق الله العظيم، أو بر النبي الكريم، أو أحسن الواعظ الحكيم، أو أجاد الشاعر النابغ؛ ولكن للطبيعة طغياناً تكسر الأديان من غلوانه ولا تمحوه، وللحياة سلطانا تكف الآداب من عاديته ولا تزيله. وما دام الغربيون يحنون إلى حياة الغاب، ولا يعترفون إلا بالظفر والناب، فإن كلمتي الحق والعدل تظلان مرادفتين لكلمتي الضعف والعجز! يجأر بهما المظلوم ويتصام عنهما الظالم!
على أن العدل والبر والإحسان وأخواتها من مهجورات الفضائل، أما يفهم التعامل بها بين الفرد، أو بين الأسرة والأسرة، لأن الأمر بينهما يقوم أكثره على عواطف الصداقة أو القرابة، فمنظره الإيثار والتسامح والتعاون، أما التعامل بها بين الشعب والشعب أو بين الدولة والدولة، فأيما يقوم على جلب المنفعة أو دفع المضرة فمظهره التفارس بالغيلة والحيلة الماثلتين بأس الجيوش ومكر الساسة!
ماذا بيننا وبين إنكلترا أو فرنسا أو أمريكا من أسباب المودة؟ هل بيننا وبينها إلا ما يكون بين حيوان جائع تحت كفيه حمل، وأسد مسعور بين فكيه ناب؟ كيف ننشد الحق والعدل في دول الغرب وكل واحدة منها قد جعلت قصدها وأكدها أن تنفرد بخبرنا أو تشارك فيه؟ إنها عصبة من دول الشيطان تعاونت على الإثم القوة فيهم فلم تفدهم التجربة، وأصابهم الطغيان النازي في أنفسهم وأموالهم فلم تعظهم الإصابة ووقفوا أمام جبار المحور ضعافا ضارعين ست سنين طوالا ثقالا يطلبون من الله أن يسعفهم بالحق، ومن القانون أن يؤيدهم بالعدل، ومن العالم أن يرفدهم بالإحسان، حتى إذا رأوا القدر القاهر يسلب القوة العارمة، ويعطل الآلة المحطمة، استطالوا على الله، واستهانوا بالقانون واستكبروا على الناس، وقال كل منهم: أنا اليوم وريث هتلر وخليفته! هاهم أولاء، لا تزال وجوههم محمرة من لطمات هتلر، وأشلاؤهم مبعثرة يجلسون فيما سموه مجلس الأمن ويزايدون في حقوق الشعوب، وحجتهم العالية أن بلادهم تزخر بالحديد والنار، ونفوسهم تجيش بالطمع والاستعمار!
القوة هي الحق وما سواها باطل فمن عاش في البرية حملاً أكلته الذئاب، ومن سار في القافلة أعزل سلبته اللصوص.(740/1)
احمد حسن الزيات(740/2)
اتقوا غضبة الشعب!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أجلت قضية مصر والسودان في مجلس المن إلى يوم الثلاثاء التاسع من سبتمبر سنة 1947، بعد أن تمتعت بريطانيا بالخذلان الذي كان مثله ابعد شئ عن بالها منذ عشر سنوات، وحسب. فقد تعودت بريطانيا أن تأمر أو تدس فيطاع أمرها أو دسها، وتخرج ظافرة من كل معركة تدور بينها وبين أمة من الأمم التي ابتليت بشرها الذي لم تنطفئ له جمرة منذ نجمت قرون هذه الدولة في تاريخ العالم الحديث. ونحن نسأل الله أن يتم الخيبة على هذه الدولة الطاغية بانهيار نظامها الاقتصادي، ليخلص العالم من الأخطبوط الفاجر الذي ضم في أحشائه وبين جوارحه دولا برمتها من الهند إلى العراق إلى مصر والسودان إلى جنوب أفريقيا - إلى عالم كان يتمدح شعراؤها بأن الشمس لا تغيب عن ملكه، وإنها هي التي حملت أمانة الجنس الأبيض و (عبء الرجل الأبيض) في تحضير الأجناس الملونة، أي استعبادها وظلمها، وإغراء فرنسا وبلجيكا وهولندة وسواها من أقزام الدول باستعباد جزء من هذه الشعوب، تسومها الخسف بكل نذالة تدخل في طوق هذه الأمم.
أن مجلس الأمن هو اليوم بين الاثنين: أما أن يشهد العالم كله على انه أقيم على حق، وانه حافظ وازع ينهي الطغاة عن الإيغال في طغيانهم وأما أن يشهد العالم كله على انه سوق حديثة للرقيق والنخاسة أقيمت لتتاجر بعباد الله بلا حياء ولا ورع. فكان تأجيل فضية مصر في هذه المرة، بعد المناقشات التي دارت فيه دليلا على أن مصر والسودان قد استطاعت شيئا ما أن توقظ طرفا من ضمير هذا المجلس، ومن ضمير الأمم التي اشتركت فيه، والفظائع التي ارتكبتها في مصر والسودان، والتي تصر على المضي في ارتكابها بكل جرأة لا تستحي.
ونحن نحب أن نثني ثناء خالصا من قولبنا على الرجل المصري السوداني، الذي لم يزعزعه تهديد بريطانيا وترويعها، ولم ينل من قبله الخوف، ولم نثنه عن الهدف الأعظم حيل ولا إشراك ولا جدال ولا تغرير، فأنطلق يبين عن أهداف مصر والسودان وعن حقوقها وعن البلاء الذي نزل بها بيانا شفى صدور المصريين والسودانيين جميعا. أنني لم أعجب بهذا الرجل لأنه سياسي بارع، ولا لأنه قانوني ضليع، ولا لأنه خطيب مفوه، ولا(740/3)
لأنه رئيس حكومة - كلا بل لأنه أول رجل بعد أن ذهب مصطفى كامل - وقف وحده في عرين الأسد البريطاني ليسمع الدنيا كلها أن هذا الأسد البريطاني قد اعتدى عليه وبغى وطغى وظلم وتجبر، وفعل الأفاعيل الخسيسة التي أراد بها استعباد مصر والسودان. انه الرجل المسئول الوحيد الذي قام في مجلس دولي يطعن بريطانيا العظمى! طعنا متداركا غير راحم ولا مشفق ولا هياب، وهو يعلم انه يطعن بهذا الطعن دولا كثيرة من أعضاء هذا المجلس، لقد كان محمود فهمي النقراشي رجل مصر، لأنه كان وطنينا يتكلم بلسان الجروح التي مزقت جسد أمته، لا بلسان السياسي المحتال الذي يريد أن يرضى هذا ويتجنب غضب ذاك. وهذا وحده هو السر الأعظم الذي جعل قضية مصر والسودان اعظم قضية عرضت على مجلس الأمن وأخطرها وهذا وحده وهو التخاذل في الصفوف التي جمعتها بريطانيا، وظنت إنها سوف تنصرها في باطلها نصرا مبينا ترجع بعده مصر والسودان خاشعة خاضعة تحت ظلال الخذلان الذي أملت بريطانيا أننا سوف نمنى به.
لقد ضرب النقراشي مثلا خالدا في تاريخ مصر الحديث، فدل بذلك على أنه ركن يركن إليه في ملمات الأحداث. فقد مرت على مصر والسودان حقبة كان الذي يقول فيها بمثل الذي قاله النقراشي في مجلس الأمن يعد رجلا مخبولا خياليا تسحر منه الصحف والمجلات. وتزدريه جماهير من المخدوعين، ويتخذ هدفا لكل دعابة تجري بها السنة الهازلين من إخلاص النوادي والقهوات، أن هذا الرجل جديد بان يرفع اسمه منذ اليوم إلى حيث لا تنال مكانه أسماء الدجالين والمخادعين والمنافقين الذين ظهروا في تاريخ السياسة المصرية منذ سنة 1919 إلى يوم الناس هذا. فحسبة فخرا ومكانة أن يكون هو الذي استطاع أن يجمع إرادته وعزمه وحزمه، فلم يصرفه خوف أو إغراء عن تحقيق كلمة مصر والسودان الخالدة، وعن إعلان هذه الكلمة في أرجاء الدنيا، وهي: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء).
ويقابل هذا الرجل الصادق رجال آخرون من صنائع بريطانيا - كانوا من صنائعها القدماء منذ تحركت مصر والسودان في سنة 1919 تطالب الدولة الباغية باستقلالها وتريق دماءها وتبذل مهجها، ويأتي أحدهم فيكون سيفا مسلولا على أعناق إخوانه المصريين يتعسف بهم عسف الجبار المارد، وإن كان هو في نفسه ليس بجباراً ولا مارد إلا كما كان أبو حية(740/4)
يسمى قضيب الخشب الذي يحمله سيفا هندوانيا - وإنما كان جبروته وتمرده يومئذ من جبروت بريطانيا وتمردها - فهو دمية تلعب بها لا اكثر ولا أقل.
لقد قام النقراشي يعلن ملأ الأمم في نواحي الأرض، أن هذه ساعة فاصلة في تاريخ مصر والسودان، وانه قد عزم على طرد الإنجليز من بلاده، وانه لن يقبل مهانة، ولا مفاوضة ولا مراوغة بعد اليوم، وأن بلاده توشك أن تنفجر، وأن البلاء على الأبواب لن يمنعه ضغط الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وان مصر والسودان قد أبت إلا طرد بريطانيا من بلادها كلها بلا مهلة، ولا تريث ولا مواعيد. ووقف مندوب بريطانيا يصر إصرار البغاة الطغاة على أن المعاهدة تخول له احتلال أرضنا، ويستدل مرة بعد أخرى بالذي كان في مفاوضات صدقي - بيفن وكأنه يريد أن يقول أن صدقي قبل ما يأتي هذا الرجل - يعني النقراشي - فينكره ويرفضه، ويكذب على مصر والسودان فيدعي إنها تريد طرد بريطانيا وجلاءها تاما ناجزا عن ارض وادي النيل كله، على غير ما تدل عليه مفاوضات صدقي - بيفن.
وفي خلال ذلك يقف صدقي باشا الذي اتخذته اليوم بريطانيا حجة على مصر. ليقول أن خير الوسائل لنيل حقوق مصر والسودان من بريطانيا هي المفاوضة، وكان هذا الرجل لم يعلم بعد انه ظل يروح ويغدو ويتلاعب هو وتتلاعب بريطانيا، وكانت العاقبة أن أفضى الأمر به إلى الاستقالة، بعد التكذيب الخبيث الذي كذبت به بريطانيا كل شئ قاله في تفسير بروتوكول السودان. لقد كان العذر متسعا لامرئ سواه أن قال بمثل الذي يقول به. ومتى يقول هذا الرجل الكلام؟ يقوله في ساعة الحرب التي شنتها مصر والسودان على بريطانيا!
إننا لا نبالي كثيراً ولا قيلا بما يقوله هذا الرجل وأمثاله، وليس من همنا أن نقف عنده لنفنده، بل همنا أن نبين أن وراء كلامه معنى اخى، هو أن بريطانيا لما أحست بتباشير الخذلان الذي سوف تناله في مجلس الأمن، وعرفت إنها لن تستطيع أن تواجه العالم بالأباطيل التي كانت تواجه بها المفاوضين فيرهبونها ويخشون باسها، فلجأت عندئذ إلى قدماء صنائعها في وادي النيل ليخذلوا قلوب الناس ويخوفوهم، ويوقعوا بينهم يبغونهم الفتنة، ويكون ذلك فتاً في عضد النقراشي، وتمهيدا لانقلاب يحدثونه مرة أخرى بالقهر والتهديد، وبخيانة من يستحلي موارد الخيانة لبلاده - لمال أو جاه يحرزه، أو أبهة يختال(740/5)
فيها، أو أمل يمني بإدراكه على يد بريطانيا صاحبه النعم الجزيلة والآلاء التي لا تنفذ!
إن بريطانيا تبذل الآن كل جهدها في رد مصر والسودان عن الطريق الذي لا طريق غيره لمن أراد أن ينال حقه، وأن يجعل هذا الحق ذكرا مذكورا في قلوب الأبناء والأحفاد حتى لا تنطمس معالمه، وحتى لا ينخدع الناس عنه بقليل من عليهم كما حدث في تاريخ مصر والسودان منذ سنة 1924 إلى هذا اليوم، حتى بلغ البلاء أن صار الناشئة يقولون: (مصر والسودان دولة مستقلة) وكلهم يعلم ويرى ويشهد بعينيه الغزاة في ثيابهم يروحون ويغدون في الشوارع والطرقات، ويغشون دور الملاهي ويقيمون المدارس المعادية لروح مصر والسودان في قلب بلادنا، ويحمون لصوص الأجانب، وينصرونهم على أبناء البلاد بكل ما استطاعوا.
ومصر والسودان لن ترتد مرة أخرى إلى طريق (المفاوضة بين مصر وبريطانيا) ولن ترتد إلى تعليق مسالة السودان وجعلها مسالة قائمة على حيالها، ولن ترتد إلى الاعتراف بالورقة الباطلة التي كتبت في سنة 1899 لتشرك بريطانيا مصر في حكم السودان. فإذا كان صدقي باشا قد علم من الثقة الذي أوعز إليه أن هذه الخطة هي الباقية، وإنها هي التي ستصير إليها بعد انهزامنا في مجلس الأمن، وأنه لا محيص لمصر والسودان من المفاوضة قبل الجلاء. عن وادي النيل كله - فقد كذب الذي أوعز إليه بذلك. وليعلم صدقي باشا أن الرائد لا يكذب أهله، وإننا نحن اصدق حديثا من الذين يعتمد هو على حديثهم فمصر والسودان قد علمت اليوم علما ليس بالظن أن مفاوضات صدقي - بيفن، كانت زلة وقى الله شرها، وأن الله سخر النقراشي ليقيل مصر والسودان من تلك العثرة المردية، وأن مصر والسودان قد عزمت أمرها على أن تضع يدها في يد بريطانيا ما دام لها على ارض وادي النيل ظل تستظل به أفاعيها، وثعالبها ووحوشها - وصنائعها أيضاً.
وخير لصدقي باشا ومن كان على شاكلته أن يعلم أشياء كثيرة؛ فلا يغرر بنفسه في مهالك بريطانيا التي تطأ بأقدامها كل من يخدمها إذا رأت في ذلك خيرا ينفعها، خير له أن يعلم أن الزمن الذي كان هو فيه أحد أبطال السياسة، قد انقلب كله وذهب وعفى عليه الذي عفى على مآرب كثيرة. وخير له أن يعلم أن الجيل الذي يعيش فيه هذه الأيام غير الجيل الذي كان يرهب سوط الجلاد ويخاف وسم السياط على أبدانه، وخير له أن يعلم أن العلم القليل(740/6)
الذي كان يناله الرجل فيتبجح به ويخيل إليه انه صار عقلا وحده، قد حل محله عقل كثير لا قبل لأحد بدفعه بعد اليوم. وخير له أن يعلم أن الذرة التي تتوهج اليوم بالإخلاص لمصر والسودان، خير من كل الدر القديم الذي زيفته بريطانيا وملأت قلبه نعمة وجاها وسلطانا، وخير له أن يعلم أن دم أي صعلوك مصري - سوداني مخلص لبلاده، قد صار اكرم على مصر والسودان من دماء السادة الذين سادوا بالخيانة والنفاق والخداع، وخير له أن يعلم في أول ذلك كله وأخره أن احتقار مصر والسودان، وازدراء هذا الشعب النبيل ووصمه بأنه لم يبلغ بعد المرتبة التي تخوله أن يتوبوا مكانه في العزة والكرامة - لن ينفع بعد اليوم صاحبه والمتحدث به والعامل على تثبيته في أذهان من يحدثهم وخير له أن يعلم انه لا يزيد على أن يكون فردا من أفراد الشعب لا أكثر.
ليس من همي مرة أخرى أن أتناول قول صدقي بالنقد أو التفنيد، ولكن كل همي أن أدل ناسا من خلق الله الذي نبتت لحومهم، وجرت دماءهم وامتلأت بيوتهم خيرا من ماء النيل الذي يجمع مصر والسودان، على أن شعب مصر والسودان قد حزم أمره على أن يستأصل شافة الماضي كله ويقطع دابر المنافقين المختالين بغير سلطان اتاهم، وانه قد أجمع عزمه على أن يحطم سلاسل الاستعباد كلها، وأنه لن يقف دون غايته لرهبة أو رغبة، وانه عرف أن الساسة قد خدعوه زمنا طويلا، فأيما سياسي من القدماء ممن كان من صنائع بريطانيا أو من المخدوعين بشرف بريطانيا تسول له نفسه بعد اليوم أن يظن انه أهدى من النقراشي واعظم واقدر، وأنه بالغ ما لم يبلغه النقراشي بالمفاوضة والمساومة على حقوق مصر والسودان فمصيره أن ينال من باس هذه الأمة الناهضة المتدفقة العارمة شرا كثيرا كان أحوط له أن يلوذ منه بملاذ كريم، هو أن يستظل بظل الأمة التي ولدته وأنشأته وكرمته بالانتساب إليها فإذا أبى أحدهم إلا أن يطلب لنفسه مجدا بدعوة بلاده إلى المفاوضة أو خيانة بلاده بقبول عون بريطانيا له حتى يبلغ الوزارة كما بلغها بعضهم من قبل على أسنة الحراب البريطانيا، فانه سيعلم يومئذ أن الشعب المصري والسوداني اشد منه ومن بريطانيا باسا وقوة ومصابرة على الجلاد، وسيعلم انه قد قدر فخاب فامتحن امتحانا شديدا كانت له عنه مندوحة.
أيها الساسة القدماء! إحذروا غضبة الشعب، فلكل شعب غضبة كالنار المشعلة تأكل(740/7)
الأخضر واليابس، وهذا أوان غضبة مصر والسودان بعد أن يبس الثرى بيننا وبين بريطانيا. . .
محمود محمد شاكر(740/8)
6 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
- 1 -
أعود إلى الحديث عن مدينة دهلي، بعد أن ذكرت طرفا من أخبار المؤتمر الآسيوي. دخلت دهلي وملء نفسي ما قرأ وسمعت من تاريخها وأحداثها وآثارها. ولم يسعف الزمان ولا الحال بإطالة المقام فيها والتردد في نواحيها، واستقصاء مشاهدها وآثارها. وإنما كنت جولات سريعة في أرجائها. ووقفات قصيرة على بعض مشاهدها.
مدينة دهلي اليوم قسمان: دهلي الجديدة التي يخططها الإنكليز على نظام حديث، وجعلوا فيها دوراً للحكومة ومساكن لكبار الموظفين وهي مدينة واسعة الشوارع والحدائق يحيط بكل دار فيها حديقة كبيرة، ودورها في الأكثر ذات طبقة واحدة وفيها من الأبنية الفخمة الرائعة دار الحكومة ودار النيابة ومسكن نائب الملك هناك وما يتصل به من اعظم الأبنية وأوسعها وأجملها ظاهراً وباطناً. . .
وأما دهلي القديمة فهي على خط 77 من الطول الشرقي و28 من العرض الشمالي فهي تقارب عرض القاهرة ولكنها اشد منها حرا، وقد لقينا من حرها في شهري مارس وأبريل اشد مما نجد في القاهرة في الصيف المعتاد.
وتقع دهلي في الزاوية الجنوبية الشرقية من إقليم البنجاب على الضفة اليمنى لنهر جمنة، وكانت ألحقت بهذا الإقليم سنة 1858م. وهي في ولاية منفصلة ومن العجيب أن هذا الفصل بين دهلي والبنجاب يخرجها من دولة باكستان، وهي المدينة التي بقيت زهاء ثمانية قرون حاضرة دول إسلامية، وفيها من الآثار الإسلامية ما يصلها بتاريخ الإسلام دهورا. وكثير من المدن التي تحفظ الثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي ليست داخلة في الباكستان مثل أجرا ولكهنوا وأحمد آباد وعليكره.
ودهلي ذات تجارة واسعة، وهي ملتقى طرق حديدية كثيرة وقد أتخذ الإنكليز من دهلي الجديدة وهي متصلة بالقديمة عاصمة للهند في هذا القرن وكانت العاصمة كلكتا. ولكن دهلي ليست كبرى مدن الهند؛ أكبر منها كلكتا وهي كبرى المدن الهندية ثم بمباي ولاهور.
- 2 -(740/9)
والبقعة التي تشمل دهلي الحاضرة وما حولها قامت فيها مدن عدة باسم دهلي فحول دهلي الحديثة أطلال ست مدائن سميت بهذا الاسم، تنتشر في خمسة وأربعين مربعاً.
وتاريخ المدينة الحاضرة يبدأ من القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) أسسها الملك الكبير المعمر الذي ترك في الهند آثارا لا تضارعها آثار في الهند ولا غيرها. شاهدهان ابن جهانكير بن اكبر بن همايون بن بابر. خامس الملوك العظام من هذه الأسرة العجيبة التي نشأت ستة ملوك كبار على نسق واحد سيطروا على الهند مائتي سنة وأورثوا أعاقبهم دولة بقيت مائة وخمسين سنة أخرى.
بنى شاهجهان المدينة الحاضرة وسماها آباد وكان طولها على ضفة النهر ميلين ونصف.
ولا تزال قطع من أسوارها قائمة يجتاز السائر في المدينة أبواباً فيها منها باب اجمير في الجدار الغربي من السور وباب كشمير في الجدار الشمالي وقد اجتزت هذا الباب كثيرا بين الفندق الذي نزلت به في دهلي القديمة ومكان المؤتمر في دهلي الجديدة، ويرى خارج هذا الباب تمثال لأحد قواد الإنجليز ومدافع قديمة هي من بقايا الحروب التي شهدها هذا السور وأخرها ثورة سنة 1273هـ (1857م).
- 3 -
وأعظم ما يرى السائر في الجادة الكبير التي تخترق المدينة في جانبها الغربي من الشمال إلى الجنوب بناءان عظيمان رائعان: المسجد الكبير الذي يسمى مسجد الجمعة (جمعة مسجد) والقلعة الحمراء (لال قلعة) منظران يفصلهما الطريق فيحتار الطرف بينهما، القلعة ذات الأسوار العالية والأبراج العظيمة والهندسة المحكمة الجملية، والجامع الكبير الرائع ذو القباب الثلاث البيضاء والمنارتين، وكلا البناءين الخالدين مبنى بالحجر الورد وهو يغلب في أبنية السلاطين التيمور بين ويجلب من اجرا. وهما نضيران لم تغير منهما الأحداث. ولم تنل منهما الغير ثبات الحق على كر العصور والمجد المؤثل على مر الدهور.
دخلت الجامع مغرب يوم الخميس 26 ربيع الثاني (19 آذار) يوم بلغت دهلي، صحبنا إليه الصديق القديم السيد محمد الفاروقي فادينا به صلاة المغرب ثم صلينا الجمعة التالية.
وهذا الجامع بناه شاهجهان بين سنتي 1058، 1060هـ بعد أن بنى القلعة بسنتين وهو(740/10)
على ربوة تزيده جلالا ورفعة. له بابان كبيران أحدهما يقابل القبلة والثاني إلى يسار الداخل من الباب الأول. والمسجد كله شكل مستطيل طوله نحو ثمانين مترا وهو يزيد على عرضه قليلا. وصحنه فسيح جدا مستطيل فيه ثلاثة صفوف من عمد الرخام الأبيض وجدرانه مغشاة بالرخام كذلك وله محاريب أوسطها أكبرها. ومنبره درج من الرخام قليلة. وكذلك المنابر التي رايتها في أجرا ولاهور ليس لها ما يعهد في البلاد العربية والتركية من الضخامة والارتفاع والحواجز على جانبي الدرج والنقش والحلي.
وأما جمال النقش، والانسجام بين الرخام الأبيض والأسود في أرضه والحجر الأحمر والمرمر الأبيض في الجدران فلا أطيل الحديث في تفصيله.
ويصعد إلى المسجد عند بابيه الكبيرين بدرج هائل لم أر نظيرها في الطول فهو يشبه مدرجا عظيما يتسع لآلاف الناس.
وإجمال الكلام أن هذا المسجد من أكبر مساجد المسلمين وأجلها وأجملها، وكان شاهجهان يؤدي الصلاة في مسجد في القلعة ويخرج أحيانا ماشياً للصلاة في هذا المسجد الكبير ولا سيما صلاة الجمعة.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(740/11)
ما أعرفه عن فارس الخوري
للأستاذ علي الطنطاوي
أقيمت في ردهة المجمع العلمي العربي في دمشق، من نحو عشرين سنة، حفلة لتكريم حافظ إبراهيم حضرتها أنا وأخي سعيد الأفغاني، وكنا يومئذ في مطلع الشباب نقصد هذه الحفلات لننقد الخطباء، ونبتغي لهم المعايب، فمن لم نعب فكرته عبنا أسلوبه، ومن لم ننقص إنشاءه انتقصنا إلقاءه، وخطب كثيرون في الحفلة، وقال فيها حافظ بيتيه المعروفين:
شكرت جميل صنعكم بدمعي ... ودمع العين مقياس الشعور
لأول مرة قد ذاق جفني ... على ما ذاقه طعم السرور
ولم يسلم من ألسنتنا. . . . وكان فيمن خطب رجل قصير القامة، عظيم الهامة (جداً) ابيض الشعر، ألقى قصيدة لا أزال أذكر أن مطلعها، كان:
ليالي التصابي قد جفاني حبورها ... ولمّتي السوداء أسفر نورها
ومن لي بإنكار الحقيقة بعد ما ... تجّلى على وجهي وفودي نذيرها
تذكرت أيام السرور التي مضت ... فياليت شعري هل يعود سرورها
لدن لي مع الأصحاب سهم مسدّد ... وحظي من ريم الكناس غريرها
أسفت على عهد الشباب ولم تعد ... تثير فؤادي مقلة وفتورها
وأدتني الأيام من هوّة الونى ... فاصبح مني قاب قوس شفيرها
وكادت صروف الدهر تطوى صحائفي ... وهل بعد هذه الطي يرجى نشورها
إلى أن. . . . .
وتخلص إلى لقاء حافظ، وقال إنه جدد له عهد الشباب. . . وهو قصيدة طويلة لا أرويها وكان صوته قويا على انخفاض مدويا على وضوح، كأن له عشرة أصداء تتكرر معه، فتحس به يأخذك من أطرافك ويأتي عليك من الأقطار الأربعة، فتسمعه بأذنيك وقلبك وجوارحك، بل تكاد يدك تلمس فيه (شيئا) ضخما. . . على صحة في المخارج، وضبط في الأداء وقوة في النبرات وثبات في المحطات واعتداد بالنفس عجيب، تشعر به في هذا الصوت الذي يكون له هذا الدوي كله، وهو يخرج من فم صاحبه باسترسال واسترخاء لا يفتح له شدقه لا يحرك لسانه، ولا يمد نفسه ولا يجهد نفسه، وإنساناً بهذا الصوت وهذا(740/12)
الإلقاء أن ننقد القصيدة، أو نجد لها العيوب، ونلك به قلوبنا وقلوب الحاضرين فصفقنا له حتى احمرت منا الأكف.
وقلت لسعيد: من هذا؟
قال: هذا فارس الخوري.
وكنت قد سمعت باسم (فارس الخوري) قبل ذلك بزمان، سمعت به مذ كنت تلميذا في السنين الأواخر من المدرسة الابتدائية أيام الملك فيصل (1919) وكنا نعرفه علما من أعلام السياسة، وركنا في وزارة المالية، ولكني لم أره قبل هذه الحفلة.
ومرت الأيام، وخرجت من الثانوية، واشتغلت بالسياسة (كما كان يشتغل لداتي يومئذ) وصرت سنة 1931 رئيس اللجنة العليا لطلبة دمشق، ومحررا في الجريدة الوطنية الكبرى جريدة (اليوم) التي كان يقوم عليها الكاتب الوطني الخطيب الأديب، الذي علمنا تقديس الشرف وتقدير الرجولة، عارف النكدي وكانت اللجنة تأتمر بأمر الكتلة الوطنية، التي كان لها (في تلك الأيام) قيادة الأمة، وكانت هي وحدها تحمل لواء الجهاد والعمل على ألاستقلال، فكنت اتصل بكبار رجالها، وكنت أحضر بعض مجالسهم، وهناك عرفت فارس الخوري من قرب فرأيت فيه رجلا وديعا ظريفا، حليما واسع الصدر ولكنه كان (مع هذه كله) هائلا مخيفا تراه أبداً كالجبل الوقور على ظهر الفلاة لا يهزه شئ ولا يغضبه ولا يميل به إلى الحدة والهياج يدخل اعنف المناقشات بوجه طلق، وأعصاب هادئة فيسد على خصومه المسالك، ويقيم السدود من المنطق المحكم والنكتة الحاضرة والسخرية النادرة والعلم الفياض والأمثال الحكم والشواهد ويرقب اللحظة المناسبة حتى إذا وجدها ضرب الضربة الماحقة وهو ضاحك ثم مد يده يصافح الخصم الذي سقط لا يرفع صوته، لا يثور ولا يعبس ولا يغضب ولكنه كذلك لا يفر ولا يغلب.
وما رأيته يناقش أحداً شبهته بأستاذ يناقش تلميذاً مدلل غبياً، فأنت تلمس في لهجته ولحظته وبسمته وكلمته، صبره عليه، وتملكه منه، وإشفاقه عليه.
ثم كنت تلميذه في السنة الأخيرة من كلية الحقوق (1932) وكان يدرس علم المالية، وأصول المحاكمات المدنية، يلقى درسه إلقاء لا تدري أأنت تعجب وتطرب، لفصاحة لهجته، أم الغزارة مادته، إلقاء غير محتفل به ولا متجمع له، وكانت له عادة (لازمة) هي(740/13)
أن يأخذها قلماً رصاصياً طويلا، فيقيمه على قاعدته وهو يسقط وهو يداريه ويعاوده حتى يستقر، ولا يكاد، ولا يبصر ذلك ولا يلقى باله إليه، كأنه يكره أن تبقى يده بلا عمل فهو يشغلها به، أو كأنه يرى هذا الدرس لا يستحق انتباهه كله، ولا يملأ هذا الرأس النادر. . . فيأخذه على أنه وتسلية، وكنا نورد عليه في آخر الساعة أسئلة من كل فن ومشاكل في كل موضوع فيجيب عنها كلها، بتحقيق العالم، أو ببلاغة الأديب، أو بنكتة الشاعر، ومن أجوبته الحاضرة، ونكته السائرة، أن طالبا (ثقيلا. . .) سأله:
- ما فائدة هذه الحروف اللثوية، ولماذا نقول ثاء، وظاء، فنخرج ألسنتنا، ونضطر إلى هذه الغلاطة؟
فقال له على الفور، وقبل أن يتم سؤاله:
- لا فائدة لها أبداً، وسنتركها ونجدد فنقول (كسر الله من أمسالك).
فسكت الثقيل خزيان.
ومن عجائب حلمه، وسعة صدره، ووقاره الذي لا يحركه شئ، أني أقبلت عليه مرة، بعد الدرس، وكانت لي عليه جراءة فقلت له أمام الطلاب:
- يا أستاذ. ما هذا القرار السخيف الذي وضعته البلدية، لتقسيم أرض الدرويشية؟ أليس من العار أن يصدر من بلدية دمشق هذا الجهل وهذا الظلم وهذا. . . .
وفي عشر مترادفات من هذا النمط، ساق إليها نزق الشباب فلما انتهيت منها قال لي، والابتسامة لم تمح عن شفتيه:
- أنا الذي وضع صيغة هذا القرار!
وراح يشرح لي مزاياه، ولكني لم أفهم منها شيئاً، وشعرت من الخجل كأن دلو ماء حار صب علي، وقد مرت على ذلك الآن خمس عشرة سنة، ولا يزال (يدوي) في أذني، فأشعر بالخجل من هذا الموقف.
وخرجت من الكلية وكنت أراه في الترام، أو ألمحه في الطريق، فأجد من إيناسه وسؤاله عني، وحفاوته بي، ما يملأ نفسي شكراً، وهذه مزية من مزاياه؛ يشعر كل من يلقاه أنه صديقه الأوحد، وأنه أقرب الناس إليه، وأنه لا يشتغل إلا بذكره ومعرفة أمره، والعناية به، وكنت أزور المجمع العلمي العربي، وهو من كبار أعضائه، فأراه أحيانا في مناقشات أدبية(740/14)
أو لغوية، فإذا هو في مجال العلم والحفظ، كما كان في مجال الرأي والفكر، وإذا هو متسلط غلاب في مصاولات الأدب واللغة، كما كان الغلاب المتسلط في مصاولات السياسة.
ومرت الأيام وصار رئيس مجلس النواب، فكانت رياسته عجباً من العجب، وكان الوافدون على دمشق، لا يريدون إذا رأوا جامع بني أمية، والربوة وقاسيون، إلا أن يروه على منصة الرياسة، ليحدثوا قومهم إذا رجعوا إليهم بجليل ما رأوا وما حضروا كان النواب بين يديه (ولا مؤاخذة يا سادتي النواب) كالتلاميذ با أن أكثرهم كانوا تلاميذه فعلا، وكان يصرفهم تصريفاً لا يوصف ولا يثبت على الورق، وما هم بالذين يصرفون أو يسيرون وإن فيهم لكل باقعة داهية ذب اللسان حديد الجنان آفة من الآفات، يطيح بالحكومات، وينسف الوزارات، ولكن الحدأة تسطو على العصافير، فإن قابلت النسر المضر حتى عادت هي عصفوراً. . .
وكانت تشتبك الآراء، وتتداخل المقترحات، وتشتد المنازعات، وتثور الحزبيات، فما هي إلا أن يتكلم ويخلص الموقف، ويفسر الأقوال، ويبين المقاصد، حتى يترسب البعيدين ويجمع الشتيتين، ويصب على جمرة الغضب سطل ماء، ويستل الرأي الموافق من بين الآراء المشتبكة، سل الشعرة من العجين، ويعرضه للتصويت، وكان له في هذا العرض (فن)، ما تنبه له الناس إلا بعد حين، هو أن في النواب، من لا يشتغل حتى ولا يرفع اليد، ولا ينال الأمة منه إلا حضوره الجلسة، وقبضه الراتب، وكان يعرف هؤلاء، فتارة يقول (الموافق يرفع يده)، فيكون مع المخالفين، وتارة يقول (المخالف يرفع يده) فيكونون مع الموافقين يكف بذلك من جموح الأكثرية، ويقوم من اعوجاجها. . .
وغضب مني سعد الله الجابري مرة، وكان رئيس وزارة، وهو رجل حلبي لا يعرفني، فاضطررت أن استشهد بعض من يعرفني من رجال الكتلة، فما رأيت أقرب إلى من فارس بك، وكان رئيس المجلس، وقطب رحى السياسة العليا، وكان كثير المشاغل ضيق الوقت، ولم يكن بد من أن أسأله موعداً، ولكني كنت في عجلة من أمري، فذهبت إليه بعد العصر في ساعة ينام فيها أكثر الناس، فحاول الشرطي أن يردني، فنهرته ورفعت صوتي فسمعني فخرج إلى، مبتسما، وقال له:
- هذا الشيخ علي! إلا تعرفه؟ إنه دائما مشاغب!(740/15)
وأدخلني، فرأيت النصب لم يبدل منه شئيا؟ إنما يبدل المنصب من يكون أقل منه فيكثر به، لا من يكون أكبر من مناصب الأرض كلها، وقديماً قيل: السنبلة المملوءة تنحني، والفارغة ترفع رأسها.
ودخلت عليه في مكتبه وهو رئيس وزارة، فما وجدت إلا أستاذنا فارس الخوري، الأستاذ العالم الأديب الحاضر الجواب، الصائد النكتة، وكنت أظن أني سأجد دولة الرئيس فارس بك الخوري الذي لا يكلم إلا بعريضة، ولا يخاطب إلا بالبروتوكول!
وفارس الخوري واحد من المشيخة الأجلاء الذين تعتز بهم دمشق، والذين أن فاخرت إنكلترا بتشرشل، وعمله عمل الشباب وهو في سن الشيوخة، فإن كل واحد منهم تشرشل لنا، لا نفخر بأنه بقى شابا في عمر الشيوخ، بل بما جمع إلى ذلك من العلم والفضل، والثقافة والعرفان، كالشيخ عبد المحسن الأسطواني علامة الشام الذي لا يزال موظفاً له همة الشباب، وهو (حفظه الله) فوق التسعين، والشيخ كرد علي أبي النهضة الأدبية في الشام، الذي يعمل اليوم دائباً على المطالعة والبحث وألتاليف، كما كان يعمل منذ خمسين سنة، عندما كان محورا في (المؤيد)، وفي (المقتطف) من قبله، وكان يصدر مجلة (المقتبس) من بعده، فكانت دعامة ضخمة في صرح نهضتنا الأدبية والعلمية، والشيخ الذي لا يزال شاباً يمشي أميال، وهو يقر أنه في الثمانين، والذي لا يدري أذهنه أفتى أم روحه أم جسمه، الذي يكتب اليوم وقد كان يكتب من نصف قرن: المغربي، والشيخ القوي الأمين، الذي كان في أول سنة من هذه القرن الهجري قاضيا في دوما ولا يزال عالما نشيطا كيوم كان في دوما: سليمان الجواخدار وهذا الشيخ (الخوري) الذي شهدت بعبقريته الدنيا، وأكبرته الأجيال على اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها، ورأت فيه (شخصية) ضخمة، لا توزن بها (شخصيات) هؤلاء الذي ألقت إليهم قوة دولهم مقاليد الأرض، وحكمتهم رقاب البشر، واعترفوا بأنه مع عبء الثمانين حمل رياسة مجلس الأمن فكان خير رئيس له وأقواه. هذا، وليس وراءه أسطول منه جاءت هيبته، ولا قنبلة ذرية قامت عليها سطوته، ما وراءه إلا أمة صغيرة كبرتها عبقريته، ودولة ضعيفة قوتها (شخصيته)، حتى كان صوتها أعلى الأصوات، وكلامها أبلغ الكلام، وخطبته عنها هي نقطة التحول في مجرى الرأي في مجلس الأمن، كما قال الأستاذ الصاوي في (أخبار اليوم).(740/16)
ولقد عجب الذين لا يعرفون الخوري لما سمعوا أنه لي يقرأ خطبته من كتاب، ولا تلاها من ورقة، بل أرتجلها ارتجالا ولم يكن في يده إلا بطاقة فيها (خرابيش) بالقلم الرصاص، رآه النقراشي وهو يخطها فحسب إنها مذكرات له في مسائل عادية من مسائل الحياة، فلما رأى إنها هي الخطبة العظيمة التي هزت أضخم هيئة دولية في الأرض، بلغ عجبه من هذا الرجل، وإعجابه به، أبعد حدوده. . . . .
أما نحن فلم نعجب، لأن الشيء من معدنه لا يستغرب، وهذا الرجل الذي بدأ يتعلم الإنكليزية قبل أن يولد أكثر أعضاء الوفد المصري في مجلس الأمن، والذي أعطاه الله هذا الذهن العجيب، فجعله لغوياً أديباً شاعراً حقوقيا مشاركا في كل فروع الثقافة، وأمده بمنطلق سديد، وعقل نادر المثال، ورزقه ذكاء ما أعرف أحد منه ولا أمضي، وبديهة غريبة، وجعل له مع ذلك كله، هذا الرأس الكبير، وهذه الشيبة المهيبة، وهذا الصوت المدوي لملئ بالعظمة والثقة بالنفس والتعالي، وهذا الصدر الواسع، وهذا الحلم مع القوة، وهذا الحزم بلا عنف، هذا الرجل لا يستكثر عليه أن يرتجل خطبة باللغة الإنكليزية، وأن يحول بها أفكار وكلام الدول في مجلس الأمن.
وبعد فلا يحسب القارئ أني غلوت، أو بالغت، فما ذكرت إلا ما أراه حقا، وما في الأمر مجال لرغبة تدفع إلى المدح، ولا رهبة تمنع من القدح، فأنا لا أرهب الرجل، ولا أرغب في شئ منه، وربما مرت هذه المقالة فلم يقرأها، وإنما أريد المشاركة في تأريخ سيرة عظيم من عظماء العرب.
(القاهرة)
علي الطنطاوي(740/17)
القسم الحادي عشر:
فرنسا ومستعمراتها
الاستعمار يواجه الإسلام في الجزائر
للأستاذ أحمد رمزي بك
(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن
تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل
شئ قدير). (آل عمران)
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال
والأنفس وبشر الصابرين). (البقرة)
(وقل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).
(الأنعام)
تبرز للعالم قوة الإسلام وعظمة الرسالة المحمدية، في هذه الآيات البينات التي دعت المسلمين إلى الصبر والمصابرة للوقوف أمام حوادث الدهر بشجاعة وثبات فلا تلين قناتهم وتذهب ريحهم وإنا لنبعث بها تحية لإخواننا المسلمين بالجزائر الذين وقفوا أمام فرنسا وجبروتها. ولئن كانت صفحات كفاحهم السياسي والحربي في الجزائر أمرها معروف تداولتها الأيام، فإن كفاحهم الديني في وطنهم وثباتهم معجزة من معجزات الله، لأن فرنسا في معاهدة 1830 مع حاكم الجزائر تعهدت كما قلنا باحترام الدين الإسلامي وشعائره، وأخذت على نفسها المواثيق بأن تترك للمسلمين أوقافهم وعوائدهم ثم عقدت عدة معاهدات واتفاقات مع الأمير عبد القادر الجزائري وغيره من الزعماء وفي نصوصها جميعا: العهود والمواثيق على إقرار هذه المبادئ وهي حرية العقيدة وترك أمور الدين الإسلامي وشعائره بيد أهله.(740/18)
ولكن هذه المعاهدات وما تحمله من أيمان ووعود وما أعقبها من تصريحات رسمية صادرة من الحكومة الفرنسية وممثليها، ثم من الإمبراطور نابليون الثالث نفسه عند زيارته للأقطار الجزائرية كل هذا لم يمنع الاستعمار أن يبسط يده على كل شئ في هذه البقعة العزيزة علينا، وكان من جملة ذلك أن مدت فرنسا يدها إلى الدين الإسلامي وإلى الأوقاف الإسلامية، تراث القرون الماضية ومفخرة المسلمين: لأنها أوجدت ووقفت وبقيت الأزمان واحترمها ملوك المسلمين وأمراؤهم لما يعلمون من إنها أرصدت للصرف على المؤسسات الإسلامية، وهي هذه المدارس والمساجد الجامعة، التي تحرص على تثقيف أبناء الأمة وتثبيت قواعد الدين، وتلقين الناس تعاليم الشريعة الغراء.
فما الذي حدث في الجزائر؟
ذكر الدكتور أنريكو انسابانو الإيطالي في كتابه الإسلام وسياسة الحلفاء (ص 70) ما يأتي بالنص:
ارتبطت الحكومات الأوربية في بعض الجهات باحترام أملاك الأوقاف وما أرصد على الزوايا والطرق الصوفية وهذا شرط خطير يحسن بإيطاليا أن تفكر طويلا قبل أن تأخذ به لا ينتج عن احترامه من نتائج وخيمة، سبق لفرنسا أن تحملتها في الجزائر، لأنها حينما أعطت هذه المواثيق والعهود لم تكن لديها فكرة واضحة تماماً عن أهمية أوقاف المسلمين وأثرها في إبقاء قوتهم الدينية فكان من نتيجة هذه السياسة التي فرضتها على نفسها فاضطرت أن تناقض ما أخذت به نفسها وتعهدت للمسلمين باحترامه.
وقد هاجم المستعمرون نظام الأوقاف في شمال إفريقيا عامة، قالوا إنه نظام رجعي يمنع تداول الثروات، والقصد من ذلك حرمان المسلمين من أملاكهم، ونسبوا إليه أنه نوع من الاستغلال لعمل الإنسان لأنه يفرض الجبر وذلك حينما رأوا الطلبة والمريدين يتلقون العلم في الزوايا والمدارس الإسلامية، ويعلمون في زراعة الأراضي الملحقة بالمعاهد، وكانوا يطلقون على هذا العمل التعاوني الإنساني اسم المعونة، ولما ازدهرت أملاك الأوقاف وزاد خيرها، استكثروا هذا الخير عليها وحاربوها باسم الحرية والعدالة والمساواة، وهم يعلمون أنهم يقصدون أولا وآخراً هدم قواعد الدين وإفقار أهله، وهذا ما وصلوا إليه حينما شردوا الطلبة ونزعوا أملاك الأوقاف.(740/19)
ولم تكن هذه الأوقاف مرصدة للعلم وحده وإنما كانت لوجه الله، للسائل والمحروم وفي هذه الناحية بالذات يقول صاحب كتاب (التشريع الإسلامي الجزائري صفحة 180 ما يأتي: (إن خمسة أعشار الأراضي الزراعية في الجزائر كانت أوقافاً، وأن فرنسا حينما صادرت هذه الأملاك، بسطت يدها على الدين الإسلامي، وجعلت آلافاً من الأهالي الذين كانوا يعيشون في تلك الأراضي، جماعات تتجول لطلب العيش فأصبحت تسمى بفيالق الفقراء).
والحكومة الفرنسية تمثل فكرة لادينية، لا بكية، ومعنى هذه السياسة في العرف الذي نادت به فرنسا هو: الكنيسة الحرة تتعاون مع الدولة الحرة.
وتفسير ذلك أن تتمتع الحكومة عن فرض إرادتها على أنظمة الكنيسة قرارات رجال الدين، فيبقى الفاتيكان يقوم برسالته الدينية والسياسية، بحرية أوسع مما كان في السابق.
ولما انتقدت سياسة فصل الدين عن الدولة صرح المسيو في مجلس الشيوخ (أن هذا الفصل طلاق ولكنه يلزم الطرفين بالعيش تحت سقف واحد، مع تعاون وتفاهم أوثق مما عهداه وقبل صدور الحكم الطلاق).
وقال المسيو (إن الكاثوليك سيكونون أكثر كاثوليكية تحت هذا القانون، لأنه يؤكد سلطة البابا ويحترم ممثليه ويترك لهم الحرية أن يقفوا للدفاع عن أعمالهم أمام ممثلي الجمهورية).
وليس هناك أصرح من هذه الأقوال لترك شؤون الله لله وشؤون قيصر لقيصر، فما الذي هيأته حكومة الجمهورية التي فصلت الدين عن السياسة، لرعاياها المسلمين الذي اعترفت له بحقوقهم الدينية كاملة.
يقول صاحبا كتاب (بحث التشريع الجزائري) صفحة 632 لارشير در كتنفالد
(إن الأوقاف الإسلامية التي تتولاها الدولة يصرف دخلها على ناحيتين:
الدين الكاثوليكي: 790000 فرنكا.
(الإسلامي: 337000)
والاعتراض الأساسي هو كيف تتولى دولة ينص دستورها على فصل تام بين شئون الدين والدنيا، إملاك دين لم يكن له بها صلة في يوم من الأيام، فعلى أية قاعدة بنيت هذه السياسة؟
والاعتراض الثاني هو إذا فرض أن رأت الدولة أن تتبرع من أموالها بهذه المبالغ وهي(740/20)
دولة لا دينية، فالمعروف أن اتباع الديانة الكاثوليكية لا يصلون إلى عشر السكان المسلمين ولكنهم يتمتعون بما يزيد على ضعف المبالغ المخصصة للشئون الدينية لمن هم أكثر من عشرة أضعافهم. فأي قاعدة إنصاف أخذت بها؟
ويهون الأمر لو كان هذا تبرعاً ولكن يؤخذ من أملاك وأموال وأوقاف المسلمين وهي مرصدة ومحبوسة على هذه الناحية منذ قرون طويلة الأمد ولم يتعرض لها أحد من الدول التي تعاقبت على حكم الجزائر. وهذه ثالثة الاعتداءات التي لا يبررها منطق للآن.
ويفسر لنا كيف ضعفت الحياة الدينية في الجزائر وفي ذلك يروي لنا (البير ديفوكلي) في كتابه المؤسسات الدينية في العاصمة الجزائرية أن مدينة الجزائر كانت تحوي 176 مسجداً في سنة 1830، ولا يوجد في القطر الجزائري بأكمله غير 166 مسجداً جامعا كما ذكر ذلك صاحب (بحث التشريع الجزائري) ولا نشك في أن هذا العدد سيهبط إذا دام حكم فرنسا جيلا آخر.
ولبيان هذه السياسة التعسفية إزاء المسلمين وشريعتهم ودينهم يحسن أن نشرح هذه الفكرة من مراجع الاستعمار الفرنسي نفسه:
فقد جاء في كتاب جورج هاري (نظرياتنا الاستعمارية الكبرى) (أنه في المناطق التي لم يسدها الإسلام قط أي في أفريقيا السوداء يجب أن تحاط الأديان والمذاهب الإفريقية بما يكفل حمايتها وبقاءها وفي مناطق البربر يجب منع تعليم اللغة العربية منعاً باتاً؛ وعدم تشجيع نشر المكاتب القرآنية، ومنع نصب القضاة الإسلاميين والحيلولة دون تنفيذ شريعة الإسلام.
أما في الجهات التي ثبتت قواعده في ربوعها فلا مانع من تركه يعيش ولكن فلنحترس من الاهتمام بأمره أو إظهار الإعجاب به).
فهذه أصول السياسة الإسلامية الفرنسية وهي تحول دون انتشاره في أفريقيا وتعتبر القبائل من أهل الجزائر ومراكش غير مسلمين، وتحاول أن تحد من أثر الإسلام في المناطق الإسلامية الصميمة.
فلننظر إلى ابتداء هذه السياسة وما تركته في نفس الشيخ محمد بيرم التونسي صاحب كتاب صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار الذي طبعه سنة 1302 هجرية عن(740/21)
زيارته لمدينة الجزائر في رحلته عام 1295 هجرية وقد مضى على ذلك سبعون عاماً تقريبا إذ قال:
(إن الدول الفرنسية هي القائمة بمصاريف إقامة الجوامع وما فيها من قراءة الأحزاب أو كتب الحديث لأنها استولت على جميع الأوقاف واقتصرت في كل بلد على عدد مخصوص من المساجد تقوم به وغيره تصرفت فيه بما ناسبها وحرمت المستحقين من مالهم كأوقاف الحرمين).
وذكر كيف أقدمت الهيئات التبشيرية عند وقوع المجاعة الكبرى في الجزائر، على تنصير عدد من أولاد الأعراب وغيرهم من المسلمين بنات وأطفالا، وأن بعضهم منهم لما كبروا وعلموا بأن أهلهم مسلمون فروا إلى أهلهم.
وأشار إلى بقية من علوم السلف كانت تدرس في قستنطينة وتلمسان والجهات الجنوبية ولكن القلق كان شاملا أفاضل العلماء فقد تقابل مع الشيخ علي الخفاف المفتي المالكي بقاعدة الجزائر وهو من تلامذة علامة القطر الإفريقي الشيخ إبراهيم الرياصي، وله فضائل كاملة وتقوى وسكينة واطلاع في الفقه والحديث، ولما أنس بمؤلف الكتاب فاتحه في أمر الهجرة إلى بلاد الإسلام فأخبره أن مثله نادر الوجود وأن قافاااااهبقاءه فيه لتعليم الناس دينهم، أنفع له وأثوب عند الله من خروجه بنفسه، وترك تلك الأمة المسلمة خالية من مثله، بل ربما كانت هجرته سببا في خروج غيره؛ فتحرم عامة المسلمين ممن يلقنهم تعاليم الإسلام وعقائد الفقه، وقد ورد في كتب الشريعة، أنه إذا تعذر على ولي الأمر فداء الأسرى من يدي العدو فليؤخر بينهم العلم).
فهذه حالة الجزائر من ناحية من أهم النواحي التي فهمنا، ناحية العقيدة الإسلامية وفيها عبرة وتذكرة لمن يريد أن يفهم حقائق الإسلام في قطر من أعز الأقطار الإسلامية، وأقربها إلينا وأبعدها أثرا في تاريخ أفريقيا العربية التي لن تموت وفيها دعائم الإسلام قائمة.
وإننا لنعدها معجزة أن بقيت هذه الدعائم في أفئدة ملاين من الناس بعد سنوات الضغط السياسي والمحاربة التعسفيه التي أشرنا إليها، ولكن الذي تخشاه هو إثر سياسة الإفقار التي فرضتها فرنسا على رعاياها المسلمين فهذه أبعد غورا من أي أساليب الإرهاق التي رآها العالم وهي التي ورد وصفها في محكم الآيات الواردة بالقرآن بقوله تعالى: (ولنبلونكم(740/22)
بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس) فقد أصيب المسلمون في نكبتهم بالاستعمار الفرنسي بهذه النوائب: قلة الغذاء، وكثرة المرض، وسكنى المنازل التي لا تليق بالإنسان. ثم دهمتهم في السنوات الأخيرة نكبات القحط المتتالية، وتفشت فيهم الأمراض القاتلة.
فهناك تفعل قلة الغذاء أو عدم تنظيمه ما تفعله في كافة بلدان الدنيا التي أصيبت بحكم الأوربيين حتى أصبح الكلام هنا إعادة لما سبق ذكره وتأثير هذا كبير في تكاثر السكان وتناسلهم، وفي إخراج جيل من الأجناس البشرية ضعيف لا يقوى على البقاء أو الصمود أمام تفوق الأجناس الأوروبية من الناحيتين: العقلية والبدنية.
ويسكن لدينا عدد من السكان في أكواخ من صفائح الغاز الفارغة ولكن في الجزائر يعيش أكثر من نصف مليون مسلم في أحياء برمتها أو مدن قامت على هذا النوع من المساكن ولهذا لا تعجب أن نسمع أن أكثر من 40000 جزائري مصابون بالسل وهو يعادل عدد المصابين به في فرنسا وسكانها يقرب من أربعين مليونا، ولما كانت الوقاية الصحية غير متوفرة لدى الأهالي وليس لديهم أية خدمات لحمايتهم فقد انتشرت الأمراض الزهرية انتشاراً اجتاح قرى برمتها.
إن أعظم صورة تقدمها فرنسا بعد حكم دام أكثر من قرن من الزمن، هو مواكب النساء والرجال والأطفال الذي لا يجدون من الكساء إلا ما يسترهم يسيرون نحو بقايا الأطعمة ومزابلها يلتقطونها لسد رمقهم؛ بعد أن حرمتهم حكومة الاستعمار من زعمائهم وقادتهم ومدارسهم وأوقافهم، وفرضت عليهم الذلة والمسكنة وحرمتهم من كل مميزات الشخصية: الدين واللغة والتوجيه؛ لقد بقى لهم شئ واحد هو: الإسلام والإيمان بالله.
(قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).
ولقد يضحك الاستعمار من هذا الخضوع والاستسلام، ويرى فيه أن الأمة التي كانت ترج البحر الأبيض المتوسط قبل احتلال فرنسا قد رقدت رقدتها النهائية وأصبحت في ذمة التاريخ بعد أن أدت رسالتها، ولكنه مخطئ لأن الأمة الجزائرية ستحطم هذه الأغلال، وستخرج من هذه الظلمات بقوة تبهر فرنسا والكولون الفرنسي، لأن النيران المتأججة لا يزال بريقها وإشعاعها تخفيه تحت الرماد أمة إذا تحركت وثارت ستهز هذا الركن هزة(740/23)
عنيفة لا تقدر على الوقوف إزاءها قوات الظلم والتعسف.
أحمد رمزي(740/24)
12 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
(تتمة)
الرموز في الأحلام:
أظن هذه الأمثلة كافية لوضع حد لهذا الموضوع، وهي ليست إلا أمثلة فقط، فنحن نعرف أكثر من هذا كثيراً فيما يتعلق بالرموز. وإن في استطاعتكم أن تتصوروا كيف تكون مجموعة من هذا النوع أكثر دسامة، وأدعى إلى الاهتمام إذا قام بجمعها أشخاص خبراء في دراسة الأساطير، وحياة الإنسان، وفلسفة اللغات، والقصص الشعبية، لا أشخاص مثلنا قليلو العناية بما يدرسون. غير أننا نجد أنفسنا مدفعوين إلى الاعتراف ببعض النتائج التي لا يمكننا أن يستفيد كل ما فيها، ولكنها مع ذلك تمدنا بالكثير الذي يتطلب الروية والتفكير.
فنحن نواجه قبل كل شئ بالحقيقة الماثلة أمامنا وهي أن الحالم يجد تحت يده أسلوباً رمزياً للتعبير، لا يعلم عنه شيئا بل لا يستطيع أن يتعرف عليه وهو يقظان. وهذه الحقيقة لا يعادلها في الغرابة إلا أن تكتشف فجأة أن الخادم التي عندك تفهم السنسكريتية في الوقت الذي تعلم فيه إنها قد نشأت في قرية بوهيمية ولم تتعلم قط هذه اللغة. وليس من السهل أن نوفق بين هذه الحقيقة وبين نظريتنا في علم النفس، وكلما نستطيع قوله هو أن معرفة الحالم بالرمزية معرفة لا شعورية تتصل بحياته العقلية الباطنة. ولكني أحسب أنه حتى هذا الفرض لن يساعدنا كثيرا فنحن إلى الآن لم نفعل أكثر من أن فرضنا أن هناك نزعات لا شعورية تكون مجهولة لدينا لبعض الوقت أو على طول الخط؛ ولكن المسألة الآن أكثر اتساعاً، وعلينا في الواقع أن نعتقد في وجود معرفة لا شعورية، وارتباط لا شعوري بين الأفكار، ومقارنات لا شعورية بين الأشياء المختلفة يمكن بموجبها لكل فكرة أن تستبدل دائما بأخرى. وهذه المقارنات لا تنشا من جديد في كل مرة، بل هي رهن الإشارة، صالحة لكل وقت، وهي نتيجة استخلصناها من التشابه الذي نجده بين الأشخاص المختلفين، حتى(740/25)
على الرغم من تباين لغاتهم أيضا.
ما هو المصدر الذي نحصل منه إذاً على معرفتنا بالرمزية؟ أن استعمال اللغة في الحديث لا يشمل إلا جزءاً بسيطاً فقط، بينما الأمثلة المتعددة في المجالات الأخرى تكون في الغالب مجهولة لدى الحالم، وقد عاينا نحن أنفسنا في مبدأ مشقة في تنظيمها والمقارنة بينها.
ونقطة ثانية هي أن هذه العلاقات الرمزية ليست صفة خاصة بالحالم أو بعمل الحلم، وهو السبب في التعبير بها، لأننا اكتشفنا أن نفس هذه الرموز مستعملة كذلك في الأساطير (الحواديت) وفي الأقوال المأثورة والأناشيد، وفي الأحاديث الدارجة والخيالات الشعرية. فميدان الرمزية ميدان غريب الاتساع، وليست الرمزية في الأحلام إلا جزءاً صغيراً منه، وحتى إذا عالجنا الموضوع بأكمله من ناحية الأحلام فقط، فلن يكون في ذلك نفع ما. فكثير من الرموز التي تقع باستمرار في نواح أخرى، يندر ظهورها في الأحلام أو ينعدم بالمرة. ومن ناحية أخرى نجد أن الرموز المستعملة في الأحلام لا تمر بنا في كل مجال آخر، ولكنها كما رأيتم، موزعة هنا وهناك. ومن يتولد لدينا الإحساس بأننا نعالج أسلوباً قديماً في التعبير قد بطل استعماله، ولم تبق منه إلا نتف بسيطة متناثرة، واحدة هنا فقط، وأخرى هنالك فقط، وثالثة في مجالات متنوعة، ربما على أشكال مختلفة بعض الاختلاف.
وثمة نقطة ثالثة، فلا شك أنكم ستدهشون لأن الرموز التي تقع في المجالات الأخرى التي ذكرتها لكم، ليست قاصرة على المواضيع الجنسية فقط، بينما نجد في الأحلام أن الرموز يقصر استعمالها في الغالب على تمثيل الأشياء والعلاقات الجنسية. وهذه النقطة من الصعب تعليلها. أيحق لنا أن نفرض أن الرموز التي كانت في مبدأ الأمر ذات دلالة جنسية، قد صار استعمالها أخيراً بشكل آخر، وأن من الجائر أن يكون هناك ارتباط بين ذلك وبين الميل عن الأسلوب الرمزي في التعبير إلى أساليب أخرى؟ أظن من الواضح أننا لا يمكننا الإجابة عن هذه الأسئلة إذا اقتصرنا على معالجة الرمزية في الأحلام فقط، وكل ما نستطيع عمله الآن هو أن نتمسك بما افترضناه من أن هناك علاقة خاصة قريبة بين الجنسية والرموز الحقيقية.
وهناك دليل هام في هذا المعنى قدمه إلينا أخيراً الباحث في فلسفة اللغات (إتش سبيربر) (وهو يعلم مستقلا عن التحليل النفسي) وهو أن الحاجات الجنسية كان لها النصيب الأكبر(740/26)
في نشأة وتطورات اللغات. فهو يقول أن الأصوات الأولى التي نطق بها الإنسان كانت وسيلة للمناجاة والاتصال بينه وبين الجنس الآخر، ثم تطور الحال فيما بعد وصارت عناصر الحديث تصاحب أنواع العمل المختلفة التي يقوم بها الرجل البدائي. فكان الناس يبذلون الجهود المشتركة في القيام بهذا العمل وهم يدندنون بأصوات وترانيم منغمة تسبغ على العمل طابعاً من الاهتمام الجنسي. ومعنى هذا أن الرجل البدائي كان يجعل العمل مستساغاً بأن يزاوله كما لو كان مساويا أو بديلا من النشاط الجنسي. ولذا فالكلمة التي كان ينطق بها أثناء العمل المشترك كانت تحمل معنين، أحدهما يدل على العملية الجنسية والأخرى على العمل الذي صار مساويا لها؛ إلى أن جاء الوقت الذي انفصلت فيه الكلمة عن دلالتها الجنسية وصار استخدامها محصوراً في الدلالة على العمل. وعلى ممر الأجيال حدث نفس الشيء لكلمة جديدة لها دلالة جنسية، فصار استخدامها للدلالة على نوع جديد من العمل. وبهذه الطريقة برزت عدة كلمات أصلية كانت كلها ذات مصدر جنسي، ولكنها فقدت جميعاً معناها الجنسي. فإذا كان هذا القول الذي ألمنا بطرف منه هنا صحيحا، فإنه يفتح أمامنا على الأقل وسيلة لفهم الرموز في الأحلام، نستطيع أن ندرك السبب في أن الأحلام، وهي تحتفظ ببقية من هذه الصفات البدائية، تحتوى على عدد من الرموز الجنسية أكبر من المعقول، أن الأسلحة والأدوات على العموم تمثل الذكر، بينما المواد والأشياء التي يجري عليها العمل تمثل الأنثى. ومعنى ذلك أن العلاقات الرمزية عبارة عن مخلفات هذا التشابه القديم بين الكلمات، فالأشياء التي كان لها في يوم ما نفس الاسم الذي يطلق على الأعضاء التناسلية، تستطيع أن تظهر الآن في الأحلام كرموز لها.
والنقطة الرابعة التي أود ذكرها تكر بنا راجعين إلى المكان الذي بدأنا منه ثم تسلك نفس الطريق الذي سلكناه. فقد قلنا أنه حتى على فرض أن الرقابة رفعت عن الأحلام، فإننا سنلاقي مع ذلك صعوبة في التفسير، لأننا سنواجه في هذه الحالة بمشكلة اللغة الرمزية المستعملة في الأحلام والتي تتطلب منا ترجمتها إلى اللغة المستعملة في حياة اليقظة. وعلى هذا فالرمزية تعتبر عاملا ثانيا قائما بذاته في تحريف الأحلام، وهو يقف جنبا بجنب مع الرقابة ولكن النتيجة الواضحة هي أن الرقابة تجد أن من الملائم لها أن تنتفع بالرمزية، بما أنهما يخدمان نفس الغرض، أي خلع هالة من الغرابة والغموض على الأحلام.(740/27)
وأما إذا كانت ثمة دراسة أخرى للأحلام لن توصلنا إلى معرفة عامل آخر يشترك في التحريف، فهذا ما سوف نراه قريباً. ولكن يجب أن لا أدع موضوع الرمزية في الأحلام قبل أن أمس مرة أخرى الحقيقة المبلبلة وهو أن الرمزية قد نجحت في إثارة معارضات قوية بين أشخاص مثقفين على الرغم من أن تفشيها في الأديان والأساطير، والفنون واللغات، مما لا يقبل الشك. أليس من المحتمل إذاً أن السبب في ذلك يرجع هنا أيضاً إلى الصلة التي بينها وبين الجنسية؟
محمد جمال الدين حسن(740/28)
مع ميخائيل نعيمه في (زاد المعاد)
للأستاذ مناور عويس
(غداً ستغمرنا لجة العدم بأحزابنا وأوصابنا، بجائعنا ومتخومنا، بفقيرنا وموسرنا، بوجيهنا وحقيرنا، وستقوض الأيام أركان ما شدناه من البنايات السياسية والاقتصادية فلا يبقى إلا الخالد والجميل والحق فينا. . . ومن ذا الذي يبقى ليخبر عن الخالد والجميل والحق فينا أن لم يكن ابن الأدب والفن؟!)
(نعيمه)
لك الله يا ميخائيل كم لك على من يد بيضاء!
في الثالث والعشرين من حزيران سنة 1947 فجعني الموت بابن أخي (جمال نوري عويس) فرحت التمس العزاء في الشعر العربي القديم منه والحديث - فقد كان الأدب وما زال هو الملجأ والمعاذ الذي أهرب إليه في الأزمات والملمات - فماذا وجدت؟ وجدت شعراً مفجعاً مؤثراً غير أنه فردى لا يصلح لكل إنسان ولا يسمو به فوق المكان والزمان، اللهم إلا رائعة رهين المحبسين الخالدة وهل أعني سوى (غير مجد)؟.
وإذا بيدي تمتد إلى (زاد المعاد) فأفتحه وإذا بي أقع على هذه الآيات في الموت والحياة:
(وعندي أن من ينوح على ميت إنما ينوح على الله، ومتى كان الله في حاجة إلى نوحكم ونوحي؟ أو ليس الله حيا من الأزل وإلى الأبد؟ إذن كل ما ينبثق منه يحيا بحياته مهما تبدلت أحوله وكيفما تغيرت أشكاله، والذي يقول أن الأموات بادوا واندثروا إنما يقول أن الله الذي كان وما يزال حياً فيهم قد باد واندثر.
والذي يؤمن بأن الموت رب الحياة أحرى به أن يعبد الموت ويكفر بالحياة، والذي يبصر في الموت نهاية الحياة إنما هو ضرير لا يبصر الحياة ولا الموت!. . .
فما بالنا ونحن الذين حصرنا الزمان بين المهد واللحد نقبل على المهد ونهرب من اللحد، وما المهد إلا طريق اللحد وبابه؟!
ما بالنا نلثم اليد التي كتبت ونعض اليد التي خطت الخاتمة، واليد التي خطت الخاتمة هي عين اليد التي كتبت الفاتحة؟ أن تكن خاتمة العمر شراً فالفاتحة التي تؤدى إليها شر مثلها. وإذا ذاك أحرى بنا أن ننوح على من يولد قبل أن ننوح على من يموت.(740/29)
أتروني أكلمكم بالأحاجي؟ وبماذا عساني أكلمكم أن لم يكن بالأحاجي؟ وتقاليد الناس قد جعلت من وجودهم سلسلة كل حلقة فيها أحجية؟ أجل. إنها لأحجية أن تفصل بين الحياة والموت وهما متصلان اتصال النهار والليل، واليقظة بالمنام، والزهرة بالثمرة، وقطرة الطل بقطعة الجليد. إنها لأحجية أن تميت نبات الأرض وطيرها وحيوانها لتحولها لحماً في جسدك ودماً وعظاماً وأن تدعو موتها حياة وعندما تحول الأرض جسدك نباتا وطيراً وحيواناً أن تدعو تلك موتاً لا حياة! إنها لا حجية أن تأكل الموت في كل ما تأكل وتشربه في كل ما تشرب وتلبسه في كل ما تلبس. وأن تنام وتقوم وإياه. وأن تشتهيه في كل شهوة من شهواتك. وأن تباركه في كل ذلك باسم الحياة. ومن ثم أن تلعنه عندما يأكلك ويشربك ويلبسك ويشتهيك!. . . الخ.
قرأت هذه الآيات التي تزخر بالإنسانية والفلسفة والشعر والمنطق فإذا بي أحس بدبيب التعزية يسري في نفسي وإذا بالثورة التي كانت تعتلج في روحي قد استحالت هدوءاً وسكينة واستسلاماً فخرجت بالنتيجة الآتية:
إن الأدباء صنفان: صنف يرهقك بآرائه وآراء غيره الجافة التي تعتمد على البحث والاستقراء دون أن يعطيك شيئاً من روحه ووجدانه، وصنف يقدم لك روحه ووجدانه طعاماً شهياً بأسلوب سهل واضح لا غموض ولا أنانية فيه. ومن الصنف الثاني شاعر الإنسانية الشاملة، شاعر المحبة، شاعر الحياة وكاتبها الكبير الأستاذ ميخائيل نعيمه!. . .
فأنت تقرأ حين تقرأه فلسفة عميقة ومنطقاً سليما وأدبا رائعاً دون أن تحس بإرهاق في عقلك أو توتر في أعصابك، فأنت معه في بستان حافل بكل ما يعجب ويطرب ويلذ. . .
فبينما ترى الصنف الأول من الكتاب يمتدح من معين غيره ترى الصنف الثاني يستقي ويسقى من نفسه وروحه، ومن يستوح نفسه يستوح أرواح الناس جميعاً؛ الأول يكتب في كل شئ ولا يكتب في شئ؛ الأول بحاثة والثاني صاحب رسالة، الأول تقرأه مرة وقل أن تحس بحاجة للرجوع إليه، والثاني لا تستغني عنه لأنه منك وإليك!. . . الأول أناني محدود الآفاق، والثاني واسع شامل عميق كالحياة، الأول يشبه البركة الراكدة، والثاني يشبه الأوقيانوس!
فالأديب الذي لا يكفكف عبرة، ولا يكشف غمة، ولا يحل عقدة هو أدب حظه من البقاء(740/30)
قليل ونصيبه من الخلود هزيل. . . .
قدر لي أن أنشأ نشأة ريفية صميمة، فقد تفتحت عيناي على تلك الجبال التي تغزل بها سليمان في نشيده الخالد: (شعرك كقطيع الماعز الرابض على جبال جلعاد) هذه الجبال جبال جلعاد أو جبال عجلون - كما تدعى اليوم - هي مجلى هواي ومرتع صباي. . . . كنت أفارقها - مرغماً - العام والعامين - طالباً أو مسترزقاً - وأعود إليها مستروحاً مستجما - لاغتسل من أدران المدينة وأتطهر من أقذار المدينة، ولقد كنت أشعر شعور الحاج أقبل على الأماكن المقدسة، فمن مشاعر غريبة مبهمة وأحاسيس غامضة من الحنين والشوق والحب والشعر والدين، إلى عواطف متضاربة من الفرح والحزن، والعبوس والابتسام.
كنت أقف إزاء هاتيك الجبال الأزلية، التي شهدت فجر الخليفة وستشهد غروبها، خاشعاً مبهوتاً، وأهبط إلى تلك الأودية العميقة الرهيبة فأحس بحاجة ملحة إلى السجود والتعبد، كما كنت أشعر بإشراق في روحي وفرح وحشي في قلبي لا يعرفه إلا ابن الطبيعة، الذي ألف ولولة الرياح وهزيم الرعد وانفجار الصبح ولمع البروق!. . . ولطالما أحسست وأنا أسير بين تلك الجبال الحبيبة التي عرفت طفولتي وصباي وشهدت ملاعبي وهواي بالحاجة إلى نظم الشعر أو كتابة النثر فكانت تعجزني الأداة وغلبة الإحساس الطاغي على التفكير والتركيز، فتسيل عواطفي من عيني، وتستحيل الفكرة في رأسي إلى نوع من الشرور والذهول، ولست أدري أكانت دموعي دموع الفرح بعد طول الفراق، أم دموع الأسى على هاتيك الأيام والليالي التي بددتها فذهبت إلى غير رجعة؟
ظل ذلك شأني إلى أن قرأت هذه الآيات من خطاب (نعيمه) إلى أبناء بلدته (بسكنتا) إثر عودته من أمريكا:
(يا أبناء بسكنتا يا لحمي ويا دمي!
منذ عشرين عاماً أدرت وجهي إلى البحر وظهري إلى صنين واليوم صنين أمامي والبحر ورائي. وأنا بين الاثنين كأني في عالم جديد وكأني ولدت ولادة ثانية.
ما أنا بالنبي يضع العجائب، غير أني منذ عدت إليكم والعجائب تكتنفني، فكأنني في عالم مسحور. أنظر إلى الجبال التي كنت أتسلقها فإذا بها تتسلقني! وإلى الأودية التي كنت أهبط(740/31)
إليها وإذا بها بهبط إلى أعماقي! وإلى البساتين والكروم والحقول التي كنت أتمشى فيها وإذا بها تتمشى بين جنبات ضلوعي، وكأن كل غرسة فيها غرست في داخلي. وكأن كل يد تعمل في ترتيبها تعمل في تربة نفسي!. . .
أكاد لا ألمس حجراً إلا تفجرت منه سيول من الطهر والجمال! أكاد لا أسمع زقزقة عصفور إلا سمعت فيها أجواقاً من الملائكة ترنم بصوت واحد (قدوس. قدوس قدوس.!) أكاد لا أرفع بصري إلى نجم إلا تدلت منه سلالم سحرية. هي سلالم المحبة التي تربط كل ما في السماء بكل ما على الأرض!. . .
ومن ثم فكيفما انقلبت تجمهرت على ذكريات ما كان من حياتي قبل هجرتي. فهي تثب على من جوانب الطرق، وشقوق الصخور، وخطرات النسيم، وقطرات عيون بسكنتا الكثيرة) فأي امتزاج في الطبيعة هذه الأمتزاج؟ وأية صوفيه، وأية روحانية تطالعا بك من هذه الفقرات؟!
إن الشعور الطاغي الذي كان (سديماً) في صدري قد جعله نعيمه شموساً وأقماراً وأرضاً، والأفكار المشوشة، والحنين المبهم والشوق المحرق، قد حوله نعيمه بمقدرته الفنية إلى أدب رفيع وفن رائع!
إن ما كنت أحس بالرغبة للتعبير عنه لا أستطيع إليه سبيلا بغير الصمت والخشوع والدموع، قد عبر عنه نعيمه بأسلوب الملهمين وأصحاب الرسالات الروحية الخالدين!
فالكاتب الذي ينطق بلسانك ويشرح ما يكنه جنانك هو أديب وأي أديب!. . .
والأديب الذي يجد الناس في أدبه بلسما لجراحهم ومتنفساً لخواطرهم ومعبراً عن أحاسيسهم ومشاعرهم هو أديب فيه نبوة وفي أدبه قدسية!. . .
مناور عويس
مدرس الأدب العربي بكلية تراسانطة(740/32)
أدب العروبة في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
- 3 -
من كتاب هذا الكتاب الأستاذ كامل محمد عجلان، وأشهد أن لهذا الأستاذ قلماً، وأن له كتابة تنبئ عن مستقبل وتبشر بآمال، وأحسب أن مرد ذلك لا إلى أنه يتولى تدريس علوم البلاغة في الأزهر، ولكن لأنه أديب مطبوع له قلب وفيه خيال زادتهما الدراسة عمقاً وأصالة وصقلا، أنظر إلى قوله عن الربيع إنه (أنفاس الجنة وريش حمائمها، ونثار الملائك، وغراس القدرة، تطله العناية لنمسح بمراياه لغوب الحياة المكافحة، وهو خطوط رفعها الله معالم، وصوى تهتف بالقلوب وتنزع عنها لباس الجمود فتبسل إيماناً بالجمال الذي يرقص الإنسان على هدهدات الظلال كلام له قيمة وله وزن وتغاريد الطيور وخرير الماء.)
هذا كلام له قيمة وله وزن عندما توزن الأقوال، وهذا كلام أديب أصيل في الأدب يعرف كيف يصوغ الألفاظ وكيف يصطفيها. وفي الكتاب أربع كلمات أخرى عن الربيع لأدباء آخرين لا توزن جميعها بهذه الكلمة إذا وضعت معها في ميزان!
وانظر إليه وهو يخاطب القمر فيقول له (ما أنت يا قمر؟ أنت راهب الأحلام وسواق الأماني تلقيها في قلوب الحيارى وتشعشع بها عواطف العاشقين، وتداعب بها الساهدين فتكون برداً على أفئدتهم الهواء، وسميراً إذا طال أمد الحبيب، وشدت الأضالع بالأنفاس المبهورة والزفرات الأسيفة.
يا ابن السماء: إذا غابت عنا شموس الفتنة أرسلتك صفحة تنبشر سحرها وتفتن العابد وتسل عليه من سيوف الأحلام ما يبعث اليقظة الثائرة وتهز القلب وتراود الواهي بين الحنايا فينقاد ويعود إلى محاريب الجمال وملاعب الصبوات). أين من هذا الكلام الجميل كلام صاحب له في القمر أيضاً يقول فيه (هات الناي فصلاتنا اليوم ألحان، وشرابنا رحيق من كوثر الإيمان طوبى للقمر إنه آية في الفرقان، ويمين أقسم به الديان تسبح في الأكوان، وتنادي يها أيها الإنسان، أعبد الله لا تكن قرين الشيطان، فحياة القلوب في عبادة الرحمن.) هذا كلام مرصوص كالبنيان، ليس وراءه قلب ولا وجدان، ولكنه السجع الذي شغف به(740/33)
وعبده الكثير من أدباء هذا الزمان!!
والشعراء في كتاب (أدب العروبة) هم الكثرة الغالبة فيه حتى كان يمكن أن يسمى هذه الكتاب (شعر العروبة) ووكيل الجماعة الأستاذ محمد عبد المنعم إبراهيم له في الكتاب سبع قصائد لكل مهرجان قصيدة! ولقد قرأتها جميعاً في أناة ومهل، وقرأتها أكثر من مرة، وفتشت جاهداً على أجد فيها شعراً جميلا يستحق النشر والإعلان بله التنويه والإشادة فما وجدت والله من ذلك شيئا! فشعره - ولا حياء في القول - ليس فيه سمة واحدة من سمات الشعر إلا أنه موزون مقفى! أستغفر الله فقد انحرف عن استقامة الوزن في بعض شعره كقوله في قصيدة الهجرة:
هيا أترعى وامنحي الظمأى حلاوتها ... هاتي لنا الدنيا. . . هاتي لنا الدنيا
فالشطر الثاني غير مستقيم الوزن، وكقوله في قصيدة مهرجان الفيوم:
بشراً عبقريا بأني أغنى ... فأشيع النبوغ في الأكوان!
فالشطر الأول غير مستقيم الوزن، وكقوله في مهرجان المنصورة:
الشعر جند لا سبيل لصده ... لا يخشى ناراً أو يخاف أسوداً
فالشطر الثاني غير مستقيم الوزن كذلك.
وشعر الأستاذ فوق بعده عن الرنين والإيقاع والموسيقى، وفوق أنه لا يعنى مطلقاً باختيار ألفاظه بل يسوقها سوقاً من أي واد يتفق له ساعة ينظمها فهو لا يحفل بالمعاني ولا يقف عندها ويتأتى لها حتى تخرج للناس شيئا يمكن أن يقال عنه شعر، فهو يقول عن القمر مثلا إنه:
عطوف حدبه وسع البرايا ... ويشفى هديه الجفن القريحا!
ويسهر دائباً طول الليالي ... ويكبح سحره البحر الجموحا!
فهل يشفى القمر الجفن القريح؟ وهل يكبح القمر البحر الجموح؟ أم هل كلام موزون وكفى؟؟ ويقول أيضاً إنه: -
صموت لا تزعزعه العوادي ... وكان بصمته معنى فصيحا (كذا)
ويفضى عن عيوب الناس طراً ... ويفسح للمحاسن كي تفوحا
فما للصمت وللعوادي؟ أو ما للقمر وللعوادي؟ وما إغضاء القمر عن عيوب الناس طراً؟(740/34)
هذا خلط من القول يجب أن يوارى. ويقول في مهرجان الهجرة عن صاحبها السلام:
مواكب الخير دنيا وآخرة ... كانت لدعوته العليا ميادينا
حتام نشكو الضنا والسعد في يدنا ... يكفى جيمع الورى طراً ويكفينا؟
فإن كلمة (السعد في يدنا) هذه أقرب إلى كلام العامة من الناس، وهل كانت مواكب الخير في الدنيا والآخرة يوماً ميداناً لدعوة؟
ويقول في مهرجان الفيوم عن مصر:
قد بنينا الحياة علماً ومعنى ... لزكاة الأرواح والأبدان
إلى أن يقول عن مدينة الفيوم:
هاهنا السحر، هاهنا الشعر والآ ... داب والدين والمنى والأماني!
فأي حشد من الكلام هذا؟ وأي شعر فيه؟
ويقول في مهرجان (الفاروق): -
بالعدل والخلق والإيمان منزله ... قد جاوز النجم والأقمار والشهبا (كذا)
قد كنت أعلم أن الشمس عالية ... مهما الخيال ارتقى للشمس ما اقتربا
جمعت كل معاني المجد قاطبة ... العدل والملك والأخلاق والحسبا
فهذا كلام عام لا سمة فيه ولا معنى له إلى أنه ركيك العبارة فاسد التركيب.
ويقول مخاطباً الناس منبهاً لهم إلى ارتياد الجمال:
فخذوا الجمال إلى الكمال وسيلة ... وتفيئوه بأقدس النظرات
ومُذْ اطمأنت للجمال نفوسكم ... ووصلتم الحسنات بالحسنات
ترثون كنز الأنبياء فضائلا ... وتبادولن الطهر خير صلات!
أنا أرجو القراء الكرام أن يدلوني في على معاني هذه الأبيات ومدى ارتباط بعضها ببعض فقد عييت بفهمها وإدراك ما يقصد الشاعر إليه فيها. ولا أسرف أكثر من ذلك في سوق النماذج من شعر الأستاذ فكل شعره من هذا الطراز هلهلة وتفككا واضطراباً، وسيجد القارئ مصداق كلامي أن هو اعتمد على الله واحتسب عنده تعالى ساعة يقرأ فيها قصائد الأستاذ في الكتاب! ولست أحصى كذلك أخطاءه اللغوية والنحوية فيبدوا لي أن الأستاذ لا يأبه كثيراً لذلك ويجد الأخطاء اللغوية والنحوية من الهنات التي لا يقام لها وزن كبير!(740/35)
وهل يحفل بالأخطاء النحوية واللغوية من يقول مخاطباً القمر (وأرجع مجدنا الضخم الفسيحا) بهمزة القطع مع أنه قرأ قول الله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) وقوله تعالى (قال رب ارجعون) بهمزة الوصل؟ ثم هو يعكس الأمر حسب هواه أو حسب هوى الوزن الشعري فيقول (هيا أترعى وامنحني الظمأى حلاوتها) بهمزة الوصل والصواب أن يقول (أترعى) بهمزة القطع فيركب السيئتين معاً؟
وهل يعنى العناية الواجبة بلغته من يقول (لكنه وهب الحياة خلوداً) والله تعالى يقول (رب هب لي من لدنك ولياً) ويقول (ووهبنا له) أو من يقول مثل عبارته عن القمر (ولكن يضرب المثل النصوحا) أو عبارته عن القمر أيضاً إنه (يفسح للمحاسن كي تفوحا)؟ أو يقول عنه أيضاً: -
ولو شاء لستكان إلى قعود ... ولم يسمع لعاوية نبوحاً (كذا)
أنا اطلب إلى معالي الرئيس الشاعر الذواقة أن يواري هذا الكلام ولا يأذن بنشره على الناس، أو أن يلزم أصحابه التجويد ولأناة والمهل أن كان بهم طاقة على ذلك وإلا فليس الشعر هزلا وليس الشعر كلاماً يلقى على الناس دون حساب ودون ضابط فيكون شعراً بإذن الله!
ولو شاء الأستاذ لرأى في صديقنا الدكتور إبراهيم ناجي من أصالة الشاعرية وسمو الخيال وموسيقى اللفظ ما لو نهج فيه نهجه لكان مثله من الشعراء المجيدين ولكن الله يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور!
وللأستاذ الدكتور إبراهيم ناجي في الكتاب ثلاث قصائد فقط لا تعدل قصائد الأستاذ محمد عبد المنعم إبراهيم السبع واحدة منها والدكتور ناجي شاعر بالفطرة وشاء، باللفظ وبالمعنى وبالخيال الفسيح البعيد، وبالموسيقى التي تشيع في جو قصائده. والقصائد الثلاث التي احتواها كتاب (أدب العروبة) لا تعبر عنه تمام التعبير ولا تدل عليه تمام الدلالة فأنا أعرف له الكثير من الشعر العذب الرصين السائغ السامي ولكنني لست إلا بصدد الكلام عن كتاب (أدب العروبة) فأنا أعرف نماذج من شعره فيه ليرى القارئ معي ما أرى من جمال الشعر وسمو الخيال، فهو يقول عن نفسه في قصيدة (الربيع): -
إني فراش خميلة قد جنَّ في ... عرس الربيع الضاحك المختال(740/36)
خلق الربيع له حناجىْ نشوة ... وسقاه كأسىْ فرحة وخيال
حسن وقفلت على سناه مبالياً ... وأنا الذي ما كنت قبل أبالي
غنيته حتى إذا حجب النوى ... أنواره وجبينه المتلالى
غنيته في القلب محتفلاً به ... مترقباً عود الربيع التالي. . .
ألا ترى أن ذلك شعر يوشك أن يكون غناء؟ وأن له جرساً وموسيقى ورنيناً؟
ويقول في قصيدة الفيوم هذه الأبيات البديعة حقاً يخاطب مصر: -
تالله لو في الخلد كنت بوضع ... أو في المجرة مصبحي ومهادي
لرنت لشطيك النواظر من عل ... وهفا إليك من الجنان فؤادي
إلى أن يقول: -
خير الوثائق ما كتبت سطوره ... بدم الضحايا المحض لا بمداد
تمليه إملاء القوى محطماً ... بيديك أنت مذلة الأصفاد!
ويقول في مهرجان (الشرقية) من قصيدة عنوانها (المجد الحي) ما يأتي: -
أين الغزاة الألى مروا بنا زمراً ... وأين بالله تيجان ودولات؟
مروا ومصر على التاريخ باقية ... كصفحة حولها للنور هالات
يد تخط وأخرى غير وانية ... لها على الدهر توكيد وإثبات
هذا هو المنطق العالي وأعجبه ... محض من الزور وشته الضلالات
ومسرح في الليالي لا جديد به ... لكن يعاد عليه الذئب والشاة!
أو لرأى في صديقنا الشاعر المرح الطروب الأستاذ محمد مصطفى حمام مثلا عالياً في هذا اللون الطريف من الشعر في عبارة رنانة أخاذة وموسيقى تأخذ بمجامع القلوب، انظر إليه وهو يقول في (فلسفة الربيع) هذا الكلام الجميل السهل: -
لي وللناس في الربيع معاني ... ولنا في الربيع أحلى الأماني
فربيع الحياة عصر التصابي ... وشباب الأرواح والأبدان
وربيع (الجيوب) إحراز مال ... وامتلاء بالأصفر الرنان!
وربيع (الموظفين) علاوا ... ت ورزق يأتي بغير أوان!
وربيع الأديب لقيا عروس ... رفها الشعر من عذارى المعاني(740/37)
كم لهذا الربيع فلسفة تح ... لو وكم للربيع من ألوان!
فهو يصدر في شعره هذا عن طبيعته المرحة الطروب، وهو الذي لا تفارق الابتسامة ثغرة، ولا النكتة حديثه! وانظر إليه وهو يقول في قصيدته (مناجاة القمر) هذا الشعر الجميل: -
يا بدر. . . يا سلوة للقلب شافية ... إذا ألح عليه الهم والضجر
ويا رقيباً على العشاق مؤتمناً ... السر عندك مكنون ومدخر
ويا حسيباً جرت أسطار صفحته ... بالخير والشر مما قدم البشر
يا من تموت وتحيا. . ثم لا هرم ... يبدو عليك ولا ضغف ولا كبر
يا من تعيش بأعمار مجددة ... وكل يوم ترى الأعمار تهتصر
يا قيصراً عرشه الدنيا وما وسعت ... وجنده الأنجم الوضاءة الزهر
يا صورة من جمال الله مشرقة ... والشاعر الحق تسبى لبه الصور!
دعني أسامرك في جد وفي هذر ... ففي لياليك يحلو الجد والهذر
كم ليلة لحت فيها شاحباً أرقاً ... كأنما شفك التطويف والسهر
أو ضقت بالظالم يغشى الأرض قاطبة ... أأنت مثلي طريد الظلم يا قمر؟
وبعد: فإن كتاباً يضم بين دفتيه أمثال هذين الشاعرين يجوز أن يتخرص عليه المتخرصون ويأفك به الأفاكون، ويقولون طبعوه في مطبعة حكومية؟ إلا ليت المطابع الحكومية تخرج للناس - على نفقتها لا على نفقة المؤلفين - كل يوم كتاباً هكذا فذلك أجدى على الناس وعلى الدولة مما تخرج من إحصاءات وأرقام ومناشير لا غناء فيها ولا طائل وراءها. . . .
علي متولي صلاح(740/38)
2 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
في الباخرة!!
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
وتحدث بعض الناس عن عنيبة مادحاً، فهذا تاجر - أخنى عليه الدهر، فاضطر ليعمل ساعياً في بعض مصالح الحكومة - يحدثنا فوق ظهر الباخرة حديث الخبير العليم، عن أحوال عنيبة وظروفها، وما ينعم به موظف الحكومة، والمدس خاصة، بشتى ضروب النعم، ومختلف لذاذات الحياة. وأن عنيبة باريس بلاد النوبة عامة! وأنها جنة الصعيد على الإطلاق، جواً، ومنظراً وبعداً عن الحشرات والأمراض!!
ووقع هذا القول من نفوسنا موقعاً جميلا، فماذا يبغي الإنسان من دهره غير حياة هادئة وادعة، يجد فيها لذاذات العيش، وراحة البال؟!
وهذا رجل آخر يذكر لنا وفرة الطيور، وكثرة اللحوم، ورخص الخضر، وبعض أنواع الفاكهة، وأنه على استعداد ليوفر لنا كل ما نحتاج إليه، ويورد لنا كل ما نريد، دون أن تحرك ساكنا، أو ننقل قدماً، وأن الدجاجة الكبيرة التي تساوي في القاهرة ثلاثين قرشاً، بثمانية قروش، والزوج من الحمام بسبعة قروش، والرطل من اللحم الضأن بسبعة قروش أيضاً، وثمن أربع بيضات قرش واحد!!
وكانت هذه الأثمان تسترعي انتباهنا، وتستوجب دهشتنا، وكان معنا في الباخرة مهندس ميكانيكي، وقاض شرعي منقول هو الآخر إلى عنيبة، فأخذ كل منا يعلق على هذا الكلام القريب من كل نفس في هذه الأوقات، وفي عينه فرحة، وفي وجهه دلائل الدهش والاستغراب! فكلنا ذاق مرارة الجشع. وقسوة الطمع، وارتفاع الأثمان إلى أضعاف ما يجب أن تكون عليه، ولا يزال علمنا بأثمان الحاجيات، ليس ما تسعره الحكومة وتفرضه، وإنما ما نشتري به بالفعل، من أيدي التجار، الذين لا يخافون الله، ولا يخشون عين الحكومة، ولا سطوة القانون.!
مكثنا نضرب مع أولئك الذين يدعون أنهم على علم ببواطن الأمور في عنيبة، وكأنما فهموا منا هذا الإحساس، فسمعنا ما جعل الشك يدب إلى نفوسنا في هذه الأحاديث، وأن ما يقال ليس هو الحقيقة والواقع، وإنما أراد هؤلاء الانتفاع منا فأعرضنا عنهم، وبخاصة وأن(740/39)
واحداً من الزملاء كان ناقماً أشد النقمة على هذه الرحلة، ويرى فيها شؤماً أي شؤم، وعذاباً أليماً، وانتقاماً ليس بعده انتقام، وتوهيناً للقوة، وتشتيتاً للشمل الجميع. . .!
ولهذا كان يناهض كل مادح لعنيبة مناهضة قوية، ويعارضه في شدة وقسوة، فهو يريد أن يعيش في القاهرة بنصف مرتبة! ولا يحب أن يأكل زوجاً من الحمام في عنيبة، ويأكل في القاهرة أو في بلدته نصف حمامة فقط! ولا يحب أن يأكل في عنيبة رطلا من اللحم ويأكل في القاهرة أو في أي بلدة أخرى ربع رطل فحسب! ولا يريد أن يدخر في عنيبة ثلاثة أرباع راتبه الشهري، ويحب أن ينفق كل مليم من دخله في القاهرة أو أي بلدة أخرى!!
وهكذا مضى يناقش ويناضل في قوة كل من يثنى على هذه البلاد بقليل أو كثير، وكأنما كل مادح في عينة هو الذي قضى عليه أن ينقل إليها، ليلقى فيها عناء الوحدة القاتل، ومرارة التعذيب الأليم. . .!!
ولهذا فإن الزميل، كان يأنس بفريق آخر من الناس، زم شفتيه عندما علم أننا ذاهبون إلى عنيبة، ونظر إلينا نظرة رثاء وإشفاق، ورأى أننا مشردون منفيون لا محالة، ولا بد أننا قمنا بحركة سياسية لم ترض القائمين بالأمر، فحكموا علينا بذلك الحكم القاسي، الذي لا مرد له، وأننا سنلقى هناك صحراء جرداء ولن ننعم فيها بشئ، لأنه ليس فيها شئ ينعم به إنسان. سورى الجبال والرمال، والعقارب، و (الطريشة) وهي نوع من الثعابين يتحوى عندما يشعر بإنسان قادم نحوه، ثم يقفز إليه، فإذا عضه، فلا علاج أبداً غير قطع هذا الجزء الملدوغ في الجسم، وصب زيت مغلي على موضع الجزء الملدوغ في الجسم، وصب زيت مغلي على موضع الجزء المقطوع؟!!.
استمعنا إلى هذا، فأدركتنا الرهبة، وملأنا الخوف، واقشعرت منا الأبدان، واصطكت الأسنان، وجحظت العيون، ونظر بعضنا إلى بعض نظرات تنم عن الجزع والهلع، واللوعة والاضطراب. وكدنا جميعاً نوافق الزميل الناقم، وخيل إلينا أن خير طريق نفعله، وأفضل حل نرتضيه لهذا المأزق الذي نحن فيه، هو القناعة بوظيفتها في القاهرة، ومركزنا الذي ارتضيناه ثلاثة أعوام، وألفنا كل ما يحيط به من بيئة وأساتذة وتلاميذ، وأنه لا داعي لهذه الترقية التي ستلقى بنا في أحضان العقارب الشائلة، والثعابين الرقط، وسط تلك الصحراء الجرداء. . . علينا إذن أن نلوي وجوهنا ثانية نحو القاهرة، ولتأخذ وزارة(740/40)
المعارف معنا ما شاءت من الإجراءات، وليفعل الله بعد ذلك ما يريد. . .!!
ولكن صوت الواجب هز المشاعر، ودوى في الآذان. . . الواجب الإنساني، وواجبنا كوطنيين مثقفين، نعمل على رفعة الوطن، عن طريق تنوير الأذهان، وتثقيف العقول، وغرس الفضائل، ونشر المعارف بين مختلف الطبقات، وليس بين الطلبة والتلاميذ فحسب. . . هذا الواجب الذي أشربته قلوبنا، وجرى في أبداننا مجرى الدم في العروق. . . نحيا به، ونعمل له جادين غير هازلين، راضين غير كارهين، مخلصين غير متوانين ولا متكاسلين. . هذا الواجب ارتفع صوته قوياً، فبدد هذه الأوهام، وجعل منا قوة دافعة، وعزيمة وثابة، فانصرفنا عن هذا الفريق المثبط للهمم. . . حتى ذلك الزميل الثائر أفاق إلى نفسه واعتقد أن في الأمر مغالاة. . .!
يا لله! كيف تضاربت أقوال الناس إلى هذا الحد عن بلاد يدعى كل مهم أنه رآها وخبر أحوالها، وعاش فيها حقبة من الزمان؟! فمتى نرى بأعيننا خبر ما سمعنا لنحكم لها أو عليها، فأنا بطبيعتي لا أثق كثيراً بما أسمع، وخاصة وقد لدغت بضع مرات من هذا السبيل، على أنني بحمد الله مؤمن كل الإيمان، فأرجو إلا يتحقق في قول الرسول الكريم: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. . .
وخيل إلى الأمر كما يقول أخي جمال؛ حينما علم بنقلي إلى عنيبة.
- إن كل ما تسمع من مدح وافر، ثناء مستطاب، على جميع بلاد الوجه القبلي ومديرية أسوان خاصة، فهو من قبيل التعزية والتسلية. وتخفيف الألم، والبلاء. كما يقول الناس للرجل المرزأ، ما في رزئه من فضل وخير، وثواب وأجر، لأنه لا يرى في رزئه غير وجهه المظلم. . . وهذا كله لن يغير من أثر الرزء شيئاً، ما لم يكن هناك الاستعداد الكافي لتقبله والرضاء به. . .!!
ودخلت إلى مقصورتي، متزايل الأعضاء، وقلت في نفسي:
- صبراً يا رب، ففي سبيلك لا في سبيل المال فحسب، خرجنا إلى هذه البلاد النائية، حقاً إننا خرجنا للمنصب والجاه، والمال والثراء، ولكن هذا كله سعى وراء الرزق والقوت يا مولاي، وأنت سبحانك أدرى بخفايا النفوس، ومكنونات الأفئدة؛ وبواطن الأمور، ولقد اقتضت إرادتك تفضلا منك، أن تجزل الثواب والأجر لمن جاهد في سبيل العيش والرزق(740/41)
والقوت، فأجزل لنا من لدنك العطاء. إنك على كل شئ قدير.
ووقعت من نفسي هذه العبارات موقعاً جميلا، فأحسنت ببرد الراحة، ولذة النعيم، ومتعة الهدوء، كأنما أزلت بهذا ما بيني وبين الله من جفاء، سببه الاعتراض على مجاري القضاء، وتصاريف الأقدار!!
هاهي ذي الساعة تعلن العاشرة مساء، ولما تصل الباخرة إلى عنيبة. . . إنها الآن في طريقها إلى (إبريم)، وربما تصل عنيبة في منتصف الليل، أو بعد بقليل، فاللهم اكتب لنا السلامة والعافية، والنجاة من هذه الأخطار. . .
النيل جميل، قد انبسطت صفحته في رحابة رائعة، ولقد يتسع أحياناً حتى لا تكاد ترى له شاطئاً. . . قد أخذت أنوار الباخرة تنشر على صفحته الرجراجة ثوباً من النور يأخذ بمجامع القلوب. . . والهواء عليل، ينعش الأفئدة، ويشرح الصدور، على الرغم من أننا كنا في السابع والعشرين من نوفمبر 1946، وقد تركنا القاهرة خلفنا يفتك بردها بالأبدان والجسوم. . . والجبال مطبقة علينا أو يزيد. . . ذلك النخيل الذي كان في يوم من الأيام عماد ثروة طائلة، وغنى لهذه الربوع والنجوع ولكن مياه الفيضان أضرت به، فذوي منه الكثير، وجف الكثير، ول يبق منه إلا القليل، طغت عليه المياه، فحرمته متعة الحياة!!
لا يزال ضجيج الباخرة، وخرير المياه المنسابة من بين أجزائها الثلاثة، يدفع عن عيني لذيذ النوم.
وأخيراً ها هي ذي عنيبة بمبانيها الفاخرة. . . مبانيها الحكومية التي تضم عشرات الموظفين، وها هي ذي الباخرة تقف في المرفأ بعد الواحدة والنصف بقليل. أي بعد ست وثلاثين ساعة من حين قيامها من الشلال. . .
عبد الحفيظ أبو السعود(740/42)
من أناشيد الحرية والوحدة:
1 - نحن والإنجليز
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
هؤلاء الإنجليز ... غصة الشعب العزيزْ
شعب وادي النيل من فجر الزمان ... مصر والسودان فيه توءمان
يشهد التاريخ أنَّا أحوان ... ولدينا العزم في كل مكان
لتريق الدماء ... في سبيل الجلاء
ولملء الفضاء ... بدم الإنجليز
هؤلاء الإنجليز ... غصة الشعب العزيز!
إن الاستقلال حق أبلج ... تفتديه بالحياة المهج
ولكم في مصر ظل سمج ... فدعوها واخرجوا منها اخرجوا
قبل يوم النضال ... ليرى الاحتلال
في قبور الوبال ... جئت الإنجليز
هؤلاء الإنجليز ... غصة الشعب العزيز
قد سئمنا الغدر والمكر الوضيع ... يا ذئاباً ليست ثوب القطيع!
فنصرناها على (الليث الصريع) ... اذكري للشرق حقاً لن يضيع
يا لئام الأنام ... يا عداة السلام
يا دعاة الخصام ... أيها الإنجليز
هؤلاء الإنجليز ... غصة الشعب العزيز
يا خصوم الشرق والغرب معا ... يا عبيد المال أني لمعا
يا سراباً كاذباً مهما ادعى!! ... يا سموماً وسموماً زعزعا
الجلاء الجلاء ... إن صوت الدماء
ناطق بالفداء ... يسحق الإنجليز
هؤلاء الإنجليز ... غصة الشعب العزيز(740/43)
2 - وحدة وادي النيل
سحر الشرق صدا ألحانها! ... وكوى الغرب لظى نيرانها
وحدة النيل تعالى صوتها ... كالجبال الشم في رجحانها
وحد الله حماها مثلما ... وحد النيل ذرى شطآنها!
مصر والسودان شعب واحد ... وبد لاشك في سلطانها!
تقهر الجبار مهما غره ... قوة حمقاء في عدوانها
ليس للسودان إلا مصره ... ولمصر الحق في سودانها!!
يا دعاة لانفصال جائر ... كيف فصل العين عن إنسانها!!
نحن من بيض وسمر كالظبا ... وجياد السبق في ميدانها
جمعتنا روضة واحدة ... فاح طيب النصر من ريحانها
وحدتنا من قديم لغة ... كوضوح الشمس في تبيانها
ولنا دين يؤاخى أمة ... بالهدى والطهر في إيمانها
وصلات نشأ التاريخ في ... ظلها ينهل من شريانها
استوى الغابر والحاضر والـ - قابل المشهود من أعوانها
ولنا النيل حبنا جنة ... يغرق (التاميز) في خلجانها!
ولنا الفاروق، يعلو تاجه ... أمم العالم في تيجانها
هو كالنسر جناحه هما ... مصر والخفاق من سودانها
كيف لا نصرع أعداء الحمى ... وسنجني النصر من خذلانها؟
ولنا القوة والحق معاً ... وأماني مصر في ريعانها
صوتها في (مجلس الأمن) له ... قوة ترنو إلى أقرانها
وحدة تعبر لجاً حالكا ... سدد الله خطى ربانها!!
أحمد أحمد العجمي(740/44)
الأدب والفن في أسبوع
الأدب في الإذاعة:
نشرت مجلة الهلال مناقشة عنوانها (هل أدت محطة الإذاعة رسالتها؟) دارت في ناديها بين (محمد توفيق بك ومحمد فتحي بك والأستاذ مفيد عبد الرحمن والدكتور نور الدين طراف) وقد بدأ فتحي بك الحديث بأن الإذاعة تؤدى غرضين، غرض التثقيف وغرض التسلية والترفيه عن المستمعين، ثم اقتصر الحديث بعد هذا على الناحية الثقافية بمعناها الأعم الشامل للأدب والسياسة والصحة والنسائيات وغيرها. وإكتفى هنا بالكلام على الناحية الأدبية في هذه المناقشة، فأورد أهم ما قيل فيها وأناقش ما يستدعى النقاش.
قالت الأستاذة مفيدة: الواقع أننا لا نقدر مدى استماع الجمهور وفهمه لما يسمع، فليست إذاعة أقوال هؤلاء الأدباء معناها الثقافة) ثم قالت: (قد جرت عادة الله تعالى في بث الموعظة أن يسوقها في قالب قصصي محبب إلى نفوس العامة قبل الخاصة. والقرآن الكريم وما سبقه من الكتب المنزلة ملأى بأمثال ذلك، فقد ورد فيها من قصص المتقدمين ما فيه عبرة وعظة، مع أن هذه الكتب لم تنزل لسرد القصص والحكايات بل نزلت لإرشاد الناس لما فيه خيرهم ونفعهم، فحبذا لو اهتدى أباؤنا الأفاضل بهدى القرآن في وضع الموعظة في مثل هذا القالب) ومما قاله توفيق دياب بك: (فأنا أخاف الأستاذ مفيدة نوعاً ما فيما ذهبت إليه، لأنني عرفت من تجاربي ومما سمعته من كثيرين من طبقات مختلفة كالمترددين على المقاهي والأندية العامة أن كثيراً من الجمهور ينتظرون أحاديث الأدباء، وقد يعلو المتحدث بلغته بحيث ترتفع عن مستوى عامة الجمهور، ولكنهم يتابعون موضوعه ويفهمونه، وذلك لكثرة سماعهم القرآن وخطب المساجد وكلام الفصحاء، فارتفع مستوى فهم الجماهير حتى سبقت إفهامهم معرفتهم بالقراءة والكتابة. . .)
وكان فتحي بك قد قال موضحاً مسألة نجاح الإذاعة في تحقيق الغرض الثقافي. (لا شك في إنها خدمت الثقافة خدمة كبيرة، ومثال ذلك أن كثيراً من الأباء الكبار كطه حسين بك وتوفيق دياب بك والأستاذ العقاد وغيرهم كانوا معروفين في العالم العربي لدى طائفة خاصة من القراء. ولكن الإذاعة زادت أسماءهم لمعاناً وزادت الجمهور تعريفاً بهم!) وهذا كلام يقف أمامه صف طويل من علامات التعجب والاستفهام، فهل خدمة الإذاعة للثقافة هي(740/45)
التعريف بطه حسين والعقاد وتوفيق دياب؟ وهل زادت التعريف بهم حقاً! يا أخي. . . قل غيرهم!
وقد رد توفيق دياب بك على ذلك بقوله: (هل أعتبر هذا الكلام منا على الأدباء) وتساءل الدكتور طراف: (هل تذيع المحطة لهؤلاء الأباء بقصد إشهارهم أو لأنهم أصلا مشهورون. .؟)
ومما قاله فتحي بك: (أنا أقصد الثقافة بمعناها الأعم، ولكني ضربت مثلا بالناحية الأدبية فقد أصبح الجمهور يتذوق كثيراً من ضروب الأدب التي لم تكن معروفة لديه)
فما هي ضروب الأدب التي أحدثتها محطة الإذاعة ولم تكن معروفة لدى الجمهور؟ أن ما تذيعه من ألوان الأدب هو الأحاديث الأدبية القليلة، وبعض القصص القصيرة، وقراءة بعض الشعراء شيئاً من أشعارهم، وقراءة بعض المذيعين فصولا من الكتب، وإلقاؤهم بعض قصائد شوقي وحافظ في المناسبات؛ فأي هذا لم يكن معروفاً في جوهره لدى الجمهور؟ لقد كان يمكن أن تحدث الإذاعة ضرباً جديداً من الأدب لو إنها أذاعت تمثيليات قصيرة باللغة العربية بدل التمثيليات العامية التي تذيعها أو إلى جانبها، فكانت تحدث في الأدب (فن التمثيلية الإذاعية) ولكنها تخلفت فسبقتها في هذا الفن بعض محطات البلاد العربية الأخرى التي لا تستطيع من ضروب الأدب التي لم تكن معروفة لديه.
الأدب والمجتمع:
كثيراً ما أشعر بعد الكتابة في موضوع، أنني لم أوفه حقه وأني قصرت في بيان أمر، وأنه فتني أن أذكر شيئاً.
من ذلك ما كتبته غير للتنبيه على ضرورة اتجاه الأدب إلى المجتمع لتعرف أدوائه وتصوير أحوله، وعلى ما ينبغي من تأثير الأدباء والشعراء وانفعالهم وغضبهم على الأمور الواقعة والأحوال والراهنة، وتعبيرهم عن ذلك كله بطرقهم الفنية.
خلت بعد ذلك كأن أصداء تقول لي: أتريد أن يكون الأدباء وعاظاً يجاهرون بالأمر والنهي، ويسوقون النصائح المجردة والمواعظ السافرة؟ أو تريد أن يتحول الأدباء جميعاً إلى باحثين اجتماعيين يدرسون الظواهر ويضعون النظريات؟
كان ذلك قائماً بنفسي وأنا أقرأ في مجلة (الإصلاح الاجتماعي) فصلا عنوانه (تجنيد الأدب(740/46)
في ميدان الإصلاح) دعا كاتبه الأدباء إلى أن يتركوا الأبراج العاجية ويجندوا أنفسهم في الحرب الاجتماعية المعلنة على الفقر والمرض والجهل، وبين كيف يعمل الأديب في هذا الميدان بأنه (لا يكشف النقاب عن مهمته وغرضه، ولا يجهر بنصح أو إرشاد، ولكنه بأسلوبه الفني يعرض عليك من صور الحياة وحقائق المجتمع وحالات الناس مما تتأثر به في نفسك غير تصريح أو مجاهرة، فإذا أنت منفعل بما صوره لك وعرضه عليك، وإذا أنت قد أسلمت عنانك لهذه الصور الفنية وأوليتها عواطفك من حب أو كره، ومن رضا أو اشمئزاز) قرأت هذا فوجدته مطابقاً لما أريد من بيان. ويقول كاتب المقال بعد ذلك: (وربما قيل أن الحرية والانطلاق روح الأدب، فليس لنا أن نقسر الأديب على شئ بعينه ولا أن نوجهه إلى ميدان خاص، وإلا خرجت آثار الفنية ضربا من التكلف والتعامل لا قيمة له ونحن لا نريد أن نكره الأدباء على الانقياد لخدمة مبدأ من المبادئ خدمة متكلفة ليست منبعثة من صميم النفوس والوجدانات وإنما ندعو الأدباء إلى أن يوجهوا أنظارهم وجهة المجتمع المصري وأن يتدبروا أحوله الاجتماعية ويفكروا فيها ويشغلوا أنفسهم بها، فإن فعلوا ذلك فإنهم لا محالة يتأثرون ومن ثم يواتيهم الوحي الفني عن تأثير وانفعال، فنخرج آثارهم الفنية الاجتماعية طبيعية لا تكلف فيها ولا تزوير).
على أني أتسمع أخرى تشير إلى مسألة ثار فيها الجدل واعتركت حولها الأقلام، وهي: هل الأدب للأديب أو الأديب للحياة! وأضع بازاء ذلك ما أراه من أن الأدب الملحق فوق الحياة إنما هو كمال فكري، أما مطلب الحياة من الأدب فهو من الضرورات. ولا شك أننا الآن - من حيث الجهاد الخارجي والإصلاح الداخلي - أحوج إلى أن يكون أدبنا لحياتنا أكثر ما يكون، وله أن يقضى بعض الوقت فيما يطيب له من ذرى الفن ومواطن الفكر.
السجل الثقافي:
ورد إلى الكتاب الآني من الأستاذ محمد سعيد العريان مدير إدارة التسجيل الثقافي بوزارة المعارف، وفيه البيان الكافي لما توقفنا عنده من أمر السجل الثقافي في العدد الماضي:
عزيزي الأستاذ العباس
قرأت ما كتبته من قريب في الرسالة تنويهاً بالسجل الثقافي الذي اعتزمت وزارة المعارف أن تصدره في كل عام لتسجل به مظاهر النشاط الثقافي في مصر؛ فشكرت لك هذا.(740/47)
ثم قرأت ما اقتبست لقرائك من رسالة للأديب (البسام) يعترض فيها على هذا السجل من ناحيتين:
الأولى: أنه يقتصر على وصف مظاهر النشاط الثقافي خارج جدران المداس على حين كان الواجب أن يشمل هذا السجل كل مظاهر النشاط في المدرسة وخارج المدرسة.
الثانية: أنه يقتصر على وصف مظاهر النشاط الثقافي في مصر دون غيرها من البلاد العربية التي تجمعها وحدة الثقافة منذ مئات السنين.
وقد عقبت يا صديقي بما عقبت على رسالة الأديب (البسام) وأحسبك قد وافقته على اعتراضه من ناحيتين، ولكنك تركت (لأهل الاختصاص في الوزارة أن يجيبوا بما عندهم).
وأرى من حقي - أو من حقك وحق القراء علي - أن أرد اعتراض الأستاذ البسام واعتراضك؛ فنحن ل نقصد قط حين أخذنا الأهبة لإصدار السجل الثقافي أن نحصره في هذا الحيز المحدود، ولم يخف علينا قط ما يجمع بين البلاد العربية من وحدة الثقافة التي تأبى القيود والحدود ولا تعترف بهذه الفواصل الصناعية التي تجعل البلاد العربية المتحدة بلاداً ذات أسماء وعناوين - لم نقصد إلى شئ من هذا، ولم يخف علينا شئ من هذه الحقيقة، وقد قصدنا أن يكون السجل الثقافي الذي يصدر عن وزارة المعارف في مصر صورة صادقة التعبير عن كل مظاهر النشاط الثقافي في تلك الوحدة الثقافية التي نسميها البلاد العربية.
أما إغفال تسجيل النشاط الثقافي في نطاق المدارس فلأن ثمة هيئة أخرى في وزارة المعارف تقوم عليه وتعنى به وتعد العدة له؛ فليس من حسن التدبير أن يتكرر العمل، ولذلك تركنا للقائمين على شئون (تقويم التعليم) أن يمضوا فيما هم بسبيله لنفرغ نحن للجانب الآخر من جوانب النشاط الثقافي.
وأما أن يشمل السجل كل مظاهر النشاط الثقافي في البلاد العربية جميعاً فهدف نقصد إليه وغاية نتنورها على بعد، ولكنا لا نريد أن نبدأ العمل قبل أن تتجمع لنا أسبابه؛ ومن أجل ذلك قصرنا برنامجنا - الآن - على تسجيل مظاهر النشاط الثقافي في مصر حتى تتهيأ لنا الأسباب الكفيلة بتمام العمل على الوجه الذي يتمناه كل مثقف من أبناء العربية في أي(740/48)
بلادها.
فهذا ما أردت أن نعرفه قراء الرسالة عن هذا الأمر، ولعل فيه بلاغاً، وإني لأشكر لك ولصديقك ما أتحتما لي من فرصة لبعض الحديث عن هذا العمل الذي آمل أن يبلغ مبلغه من النفع العام أن شاء الله.
كبار الكتاب والسينما:
تضمنت الكلمة التي كتبتها في عدد مضى من الرسالة بعنوان (السينما بمناسبة (المنتقم)) بيان عيوب في بناء قصة السينما المصرية كخلوها من الفكرة وقصورها في تصوير النواحي المختلفة لحياتنا. ويظهر من هذه العيوب إنها ترجع إلى ضعف التأليف أو قل عدم التأليف لأن أكثر الروايات تحور عن أصول غربية، يفقدها (التصرف) قيمتها الأصلية، فتجئ لا شرقية ولا غربية.
وعندي أن الذين يستطيعون أن يجبروا هذا النقص هم الأدباء الذين يلتفتون إلى هذه الناحية ويدرسون دقائق التأليف للسينما، بمعاونة مخرجين لهم ذوق أدبي ومشاركة في الأدب إلى جانب حذقهم في الإخراج.
وقد أثارت هذا الموضوع مجلة (الاستديو) فكتبت بعنوان (أعلام الكتاب في مصر: لماذا لا يكتبون للسينما؟) قالت: (تحمل القصة للسينما في مصر طابع الضعف في التأليف والتفاهة في الفكرة والعجز في إحكام العقدة الروائية ووسائل حلها. ولما كان كبار الكتاب والأباء هم عماد القصة في كل عصر وجيل فمهما يثير الدهشة حقاً أن أعلام الكتاب في مصر قد أعرضوا إعراضاً ظاهراً عن إمداد السينما بوحي أقلامهم) ثم ذكرت المجلة بعد ذلك إنها استطلعت آراء بعض الكتاب والمخرجين في أسباب ذلك الإحجام، ونشرت هذه الآراء.
يرى الأستاذ محمود تيمور بك أن رجل الشارع الذي أوتى حظاً محدوداً من الثقافة لا يستسيغ ولا يقبل على ما يكتبه أعيان الكتاب له، ولكنه يقبل على روايات الكتاب العاديين المؤلفة أو المترجمة لأنه يجد فيها متعته الحلوة وغذاءه المستساغ.
وقال الأستاذ المازني (إن السينما المصرية تعتمد على عنف الحوادث وعلى المواعظ والخطب المنبرية وعلى الغناء والموسيقى إلى آخر هذا. وهذا كله لا يتفق مع فن القصة، وما دام رجال السينما يطلبون هذا فمن البعيد جداً أن يجدوا في كاتب يحترم فنه استعداداً(740/49)
لوضع قصة لهم على هذه القواعد).
وقال الأستاذ زكي طليمات: (سيعمل كبار الكتاب للسينما يوم يصبح المنتجون والمخرجون في عقلية تماثل عقلية كبار الكتاب).
ويستبين من هذه الأقوال أن المنتجين والمخرجين يرون أن الجمهور إنما يقبل على الأفلام العنيفة الحوادث المفعمة بالمواعظ والخطب المنبرية والأغاني، والتي تعتمد مع ذلك على إثارة الغرائز، والكتاب يترفعون عن هذه الصغائر.
ولا شك أن إقبال الجمهور هو أهم شئ في هذا الموضوع، ولكن هل الجمهور لا يريد حقاً إلا هذا الذي يقدمونه له؟ وهل يعرض حقاً عن إنتاج فني نطيف يحمل إلى عقله ووجدانه غذاء خفيفاً إلى جانب المتعة التي ينالها من أسباب الدعة والتسلية والطرب والتفكهة؟ وهل قدم له شئ من هذا فأعرض عنه؟
إن الإنسان، كما قلت في مناسبة سالفة، فنان بالفطرة، فهو أن لم تتح له وسائل الإنتاج في الفنون وأدواته، فنان (مستهلك). فمجاراة الجمهور في ميله إلى هذا البهرج أما أن تكون - مع حسن الظن - غفلة عن استغلال ميله الفطري إلى جمال الفن أو عجز عن تهيئة له، وهي - مع سوء الظن - تجارة من أرذل التجارات. . . .
جربوا أيها المنتجون. . . . وإذا أردتم إلا تغامروا قبل أن تستوثقوا، فقدموا للطفل الذي اعتاد أن يفرح (عرائس المولد) لعبة من اللعب ذات الفكرة، وانظروا هل يعرض عنها. . . .
(العباسي)(740/50)
البريد الأدبي
1 - إلى الأستاذ يوسف أسعد داغر:
إذا كنت قد تأخرت في الكتابة عن كتابك الذي أهديته إلى (فهارس المكتبة العربية في الخافقين) فما تأخرت إهمالا، ولكني أردت أن أكتب عنه كتابة علمية تليق بهذا السفر القيم الذي أقرر جازماً إنها لم تصدر المطابع العربية في هذه السنة كتاباً علمياً خيراً منه، وأنا حين أنشر هذا الاعتذار، أنشر معه إكباري لهذا الجهد (الهائل) الذي بذلته في تأليفه، وأتمنى أن يكون هذا الكتاب في مكتبة كل عالم وكل أديب.
2 - سبق قلم:
جاء في الخبر الأول من أخبار بريد (الرسالة) 738 كلمة:
(الحسن البصري الذي أخذ عن مالك بن أنس).
وذلك سبق قلم، لأن الحسن إنما أخذ عن أنس بن مالك الصحابي لا عن مالك بن أنس الإمام الذي جاء بعده بأزمان.
3 - جد أم هزل؟
أما (سؤال) الأستاذ الجاحظ، في العدد الماضي، فما أخذته إلا على أنه هزل، وما أعتقد أن المراد من جملتي يخفى على عامة القراء، فضلا عن مثل الجاحظ، أولم يسمع الجاحظ رجلا يقول: (إني لأرى كل جميل، وآكل كل طيب، ولكني لا أشعر بمسرة) أن لم يكن قد وجد رجلا هذا حاله، فليعلم أني ذلك الرجل.
علي الطنطاوي
إلى الأستاذ السهمي:
اليوم (25 أغسطس) وأنا في أقصى الشمال من لبنان، في بلدة الأرز (بشرى)، مثوى العبقري الملهم (جبران) - وصل إلى (السمير الحبيب) مجلة (الرسالة) الزاهرة (عدد 737) متأخرة عن ميقاتها، فطالعني بين طياتها ما كتبه إمام العربية الأكبر، أستاذنا الجليل (السهمي) - ومنذا الذي يجهل (السهم) صنو (النشاب)؟! - معلقاً به على ما نبهت إليه في(740/51)
بريد (الرسالة) الأدبي، مخطئاً قول كاتبة فاضلة: (مد الليل أروقته السوداء. . .) وقد حملني على أن أبتغيها: (أروقته السود. .) (حوالا عن (السوداء)) ما أجده في كتاب الله إذ يصف ما هو من مثل ذلك على نحو منه فيقول: (جدد بيض. . .) ويقول: (غرابيب سود. .) وما أجده كثيراً في شعر الجاهلين والمخضرمين، مما لا سبيل إلى الوصول إليه، وأنا (في هذا المنعزل) بعيد عن كتبي. . . . على أنني استظهر من ذلك أمثلة تتقدم فيها (الصفة) أو يستعاض بها عن الموصوف. ومنها قول الطرماح:
وتجرّد الأسروع واطّرد السَّفا ... وجرت بجاليْها الحداب الَقَرَد
وانساب حيات الكئيب وأقبلت ... وُرق الفراش لما يشبّ الموقد
وكنت أصادف كثيراً، من مثل ما أشار إليه أستاذنا الجليل - وهو أن تجئ (فعلاء) المفرد وصفاً للجمع فاخله انحرافاً عن الجادة، ومسايرة للعامية! ولكنني - وقد سمعت ما أورد - أشكر له حسن توجيهه، وكريم تعهده، وسهره على سلامة هذا اللسان الخالد. ليبقى مبرءاً من كل شائبة، منزهاً عن كل خطل. . .
وله مني تحيات أرق من نسائم (صنين) مفعمة بأريج الصنوبن لأرز. . .
محمد سليم الرشدان
إلى الأستاذ (الجاحظ):
في (تعقيبات) الرسالة الغراء عدد 739 نسب الأستاذ (الجاحظ) إلى الأستاذ العقاد أنه قال له في صدد الكلام على أدب الشيوخ وأدب الشبان (لقد كنا شباناً، فما وجدنا من أخذ بأدبنا، أو (أفسح) لنا الطريق. . .).
وأنا قد لا أخطئ الصواب إذا قلت أن نسبة هذا القول إنما كانت في المعنى المفهوم وليست في اللفظ المرقوم. . . إذ لا يخفى على الأستاذ العقاد خطأ استعمال (أفسح) من الفعل الرباعي دون الثلاثي وهو الأصل؛ فإنه يقال (فسح له في المجلس. . .) ولا يقال أفسح له فيه. . .
عدنان
حول الزنزانة وأسماؤها:(740/52)
في جزء الرسالة الـ 738 البارز نهار الاثنين 25 أغسطس سنة 1947 سنتها الخامسة عشرة كلمة للأستاذ حسني كنعان بخصوص الزنزانة وما أراد لها الأدباء من الأسماء، وقد خاف الأستاذ الجليل أن يصل بها المطاف إلى ما وصلت إليه كلمة (السندوتش) في المحفي العمي. وعلى كل ما تحمل كلمة الأستاذ في طياتها من التهكم فإنها تدل على إهمال الأدباء لمقررات المحفى الملكي. والذي أراه أن تبقى الكلمة بلفظها أو يستبدل بها (سجن عارم).
فقد جاء في القسم الثاني من كتاب أنساب الأشراف للبلاذري ما حرفه:
قال أبو الحسن المدائني: (أسر (زيد عارم) غلام مصعب ابن (عبد الرحمن) بن (عوف) وبنى له بناء ذراعين في ذراعين وأقيم فيه، وكان ذلك البناء في السجن، فقيل: (سجن عارم).
فمن هنا نرى أن الكلمة عرفت من صدر الإسلام وأنها تؤدى المعنى كاملا. فأما أن نصير إليها، وأما أن نبقى على الزنزانة إذ لا خوف منها على اللغة أن شاء الله.
روكس بن زائد العزيزي
معلم العربية وآدابها في كلية تراسانة في القدس
1 - استدراك:
جاء في كلمة (نعم الضمير مطمئن) بعدد الرسالة 737 البيت الآتي:
له خصبه دونى ولى نوطتي به ... وعون أيامه وهو نجدب
ولما كان الشطر الثاني خطأ أشارت الرسالة إليه بكلمة (كذا) والصواب:
له خصبه دونى ولي نوطتي به ... وعون على أيامه وهو مجدب
فلزم التنويه. وللرسالة مزيد الشكر ووافر التحية.
2 - (بله لا بلهاء):
كتب الأستاذ الجاحظ في تعقيبه (يا قوم حسبكم) بعدد الرسالة (838): (والمعنى المقصود في هذا التعبير الطريف أن المصريين مغفلون بلهاء) والصواب بله بزنة (فُعْل) وهو جمع مطرد في كل وصف يكون المذكر منه على أفعل. والمؤثرات منه على فعلاء فيقال: رجل(740/53)
أبله. وامرأة بلهاء. وفي الجمع بُلْهٌ وفي الحديث: (أكثر أهل الجنة البله).
كمال الخولي(740/54)
القصص
قبلة الملكة
للقصصي الفرنسي ج هـ روسني
بقلم الأديب كمال الحريري
هذه هي عشر سنوات، وأنا راسخ الجذر في هذا المكان البائس (ل) مقيم في هذا المنفى لا أريمه.
ومع ذاك، فكل الناس كانوا يحسبون حساباً لمواهبي وخصالي، وكلهم كان يقدر أني سأبلغ أرقى المناصب، وأنال أرفع الوظائف التي لا تطاولها إلا رتبة الملك حتى أشد أعدائي، وشر خصومي كانوا لا يغمطون مؤهلاتي. ولكن هذا كله وا لهفتاى، لم ينجني من الحكم على بالتعفن في هذا الجحر الضيق الذي يسمونه (ل) ولذلك قصة عجيبة عالمية، تتلخص في أن امرأة كانت سبب نكبتي، وهذه المرأة هي الملكة.
لقد كنت في التاسعة عشرة من عمري، في فتوة ساخرة. وكان من عادتي، أن أغازل عرائس أحلامي، ما بعد الظهر من كل يوم، في حديقة الملك الوسيعة الملتفة الأدغال، تحت الجبال الشامخة. مشيت في ذلك اليوم طويلا، تحت ظلال الزيزفون التي كانت تنمو في أرض تغذيها سواق عذبة صافية، وتحوطها مروج من الأعشاب السندسية الخضلة الندية، تعزلها عن أشجار الغابة وأدواحها. وانتهى بي السير، إلى بساط من الأرض مفروش بأشجار من الحور، كانت ذوائبها تتراقص وتنثني الواحدة نحو الأخرى. وهناك بين تلك النهيرات، كان نهير، يفترش ماؤه فيتحرك إلى بحيرة صغيرة، تحفها شجيرات من قصب الخيزران المزهرة.
كانت أشباح الغموض والسكون، تخيم على تلك البقعة الموحشة، إلا ما كان من خرير ماء النهر وهو يجري في الأعماق، أو التماع قصور من غيوم السماء كانت ترتسم على مخرفة من أشجار الأرز.
وفي هذا المكان جلست غارقاً في لجة من الأحلام والأخيلة بدأت مشاعري تطغى على وتنتشر في ذهني، فرحت أمتع النفس والحواس، بصفاء هذه النزهة. وأنا متخل بروعة(740/55)
الأصيل، غارق في سحره الجميل. ولكن قلقاً مباغتاً، انبثق في نفسي فجأة سمعت على أثره لصدري خفقاناً طغى على هدير النهر خفقة مجذاف كأنها تبرر لي هذا الاضطراب والارتعاد فلم ألبث أن تواريت فزعاً مضطرباً خلال دغلة من الدغلات. وانقطعت خفقة المجذاف على الماء. فعاد السكون والغموض، يجثمان على المكان وروعة أشعة الأصيل، تسترسل من خلل الغصون فتلمحت على ضوء شعاع متسلسل بين فجوات الأوراق، بطة لماعة تمخر الماء ثم تلتها أخرى ذات طوق نحاسي وتغريد حلو. ثم أخذت تتعالى مجدداً، خفقات المجذاف وبعدها ارتسم أمامي على عطفه الشاطئ مقدم زورق للصيد، نهضت فوقه، فتاة رائعة الجمال، تتوهج على يديها أشعة من دماء صيدها للطيور. كان في عينيها نفاذ وحدة وعلى فمها فتة سماوية وكانت يداها البضتان، تحركان المجذاف في مشقة وإعياء بينما رغاء الزبد يتفجر كقطع الثلج أو تثار اللؤلؤ. خلف الزورق السحري. أما أنا فقد اهتز كياني من الحنان والأسف، وانثالت على لساني الدعوات.
وبالغت في التستر والتواري. وقد كتمت أنفاسي وكاد الاضطراب يبلغ بي درجة الإغماء. ذلك إنها إنما كانت هي. . . هي الملكة التي كنت أهيم بها في الخفاء، والتي ما زالت منذ بعد هذه الظهيرة أحلم بها الأحلام السعيدة البهيجة أثناء نزهتي.
وكان في نهاية الزورق، صبي منتصب، هو الأمير الجميل د هـ ت أبن أخت الملكة.
كان ممسكا بسكان الزورق، بينما خالته الملكة سابحة في أجواء أحلامها وقد مال عنقها الذي يشبه عنق الإوزة إلى الجانب، وامتدت ذراعاها الناعمتان الحريريتان إلى الأمام. كانت تجذف على ضوء الأصيل الأصفر إيه يا إلهة الملاحة، يا لك من حلم عجيب وسمعت فجأااااأة صرخة داوية، ثم أبصرت بالزورق يتقلب على الماء والأمير الصغير يسقط في النهر في حين تعلقت فيه الملكة الملتاعة الجزعة بغصن غليظ من أغصان الحور.
ووثبت إلى الماء بقفزة، وقبضت على الغلام الذي كاد ينجرف مع التيار، فوضعته على الشاطئ الأمين، ثم جدفت بالزورق نحو الملكة. لقد لمست ذراعاي جسمها الذي خلق فقط لكي يضمه أبناء الملوك. أما هي فقد كانت شاحبة الوجه مرتجفة الأوصال. لم تنطق أولا بحرف، وإنما لبثت ترمقني بعينيها الساحرتين المفزعتين غير إنها حين أحست بنفسها(740/56)
منتصبة على قديمها فوق الشاطئ، قذفت بنفسها هلعة فزعة على الأمير الصغير المسكين، الذي كاد يغمى عليه من روعة الحادث. ثم عانقته بحنان حافل فزع، وقالت لي: إنه مدين لك بحياته فاطلب مني ما شئت تلقني أول الملبيات. فصحت: أتعطيني كل شئ؟ ثم عراني اضطراب وحشي ثائر، وماد بأعطافي جنون مضطرب جياش. أما هي فقد شدهت لصرختي وجعلت لحاظها تتلاقى مع لحاظي. ثم أسلبت أجفانها حياء وتضرج وجهها بحمرة الخجل
لقد كنت كما أسلفت، في ريعان الصبى، ولي محيا فنان الملامح، وكانت الملكة تعرفني جيداً، لأنها طالما أبصرت نظراتي تتعلق بمفاتنها. وعلى هذا فقد فهمتني. ولحظت أنا في نظراتها الثابتة في، شيئاً من ارتجاف جعلني أكثر جنوناً بها، وأشد نشوة وتلذذاً بفتنتها النبيلة ودمها الملوكي. ثم أخذني ميل لذيذ مشتعل لانتهاك حرمة هذا الجمال الملوكي، فظلت مرتجفاً هلوعاً. ثم استأنفت قولي: أتقولين إنك تمنحيني كل شئ، دون أن ترجعي عن كلمتك؟. . . فأشارت برأسها بالإيجاب ثم أصطبع محياها بدم الخفر. واستقلتها حمياً من النشوة. وقلت لها، أرغب منك قبلة. فأجابتني بلهجة العاتب. أي جنون هذا؟. لعمري أن صغر سنك وحده. هو الذي يبرر هذه الإباحة الفاجرة. ولكنها في الحق، كانت تشاطرني اضطرابي وتقاسمني شعوري: إذ راحت تتمعن في جسمي الذي التصق عليه ملابسي المبللة، وتنظر إلى نظرات مبهمة غريبة. وعندئذ، بلغت بي الجرأة حداً كنت بعده موطناً العزم على عدم النكوص ولو أمام خشبة المشنقة. . وهتفت بها مجدداً: اذكري أنك قطعت على نفسك عهداً. . وقبل أن تتمكن من الدفاع عن نفسها، تقدمت إليها في جرأة، وأمسكت برأسها الملائكي بني كفي ثم أهويت بفمي الحران اللهفان إلى فمها وحينئذ. . وبعد قبلتي المديدة العميقة شعرت بشفتيها الشهيتين الحلوتين، تجيبان قبلتي فجأة، وتنحنيان على شفتي بلثمات عنيفة حارة ضاغطة. لم يدوم ذلك إلا كلمحة البرق، ولكن هذه الحظة على قصرها، كانت من النفاذ والتأثير في مشاعري وحواسي، بحيث أن فمي لن ينسى أبداً لذاذة هذه القبلة. وحين دفعتني الملكة أخيراً عن نفسها، كان أحد نبلاء الحاشية يتقدم نحونا تحت ظلال الحور. . .
نمى الخبر إلى الملك، فعرف كل شئ، وتحتم على الملكة أن تفسر له جلية الخير. ومع إنها(740/57)
على التحقيق، قد أسقطت من فضيحتها (اشتراكها الآثم لحظة مبادلتي القبلة) إلا أن ذلك، لم يقلل من عزم الملك على نفي وتشريدي.
لم أكن أملك ثروة، وكانت رسائل مرتزقي متعلقة كلها بأسباب الملك، الذي قضى بنفيي، فأبحر بي إلى هذا المكان (ل) الذي شغلت فيه أول وظيفة (سكرتير) ثم وظيفة قنصل.
إن الملك رجل حقود، لا يعفو عن زلة فلست آمل أن نغفر لي جريمتي مطلقاً. وعلى هذا، فقد قضى على أن أدفن في هذا المكان أن لم ينقذني موت حاكمي وسيدي الملك.
إنه ليعروني الندم في بعض الأحيان، فآخذ نفسي باللوم الشديد على ما ورطني فيه جنوني. ولكن تأتيني هنيهات، أشعر فيها بشفتي الملكة كأنها حاضرة تنطبع على فمي وحينئذ لا آسف على شئ في الوجود.
لقد حدث لي مايلي خاصة في أمسية عيد الصعود وذلك إني في ذاك اليوم، تلقيت من العاصمة التي فيها الملكة، هدية غصناً رطباً مزهراً من أغصان الخيزران (ذلك النبات الذي كان يحف بالبحيرة التي أنقذت من مائها الملكة) فعرفت أن هناك شخصاً حبيباً لم ينسى بعد. . . واختلجت لهذه الذكرى شفتاي اختلاجة الوله والمرارة. . .
(حلب)
كمال الحريري(740/58)
العدد 741 - بتاريخ: 15 - 09 - 1947(/)
الأستاذ فارس الخوري أو عبقرية البيان
للأستاذ عباس محمود العقاد
نكتب عن عبقرية البيان عندما نكتب عن الأستاذ الجليل فارس الخوري مندوب شقيقتنا سورية في مجلس الأمن، لأن الرجل ولا شك من أصحاب هذه العبقرية في طرازها الرفيع، ومن فرسان ميدان الخطابة في عالم السياسة وفي عالم الثقافة على الإجمال.
وعبقرية البيان معادن وألوان يعلو بعضها فوق بعض درجات.
فهي على صورتها الشائعة لا تعدو أن تكون ذرابة في اللسان وانطلاقاً في القدرة على مجرد الكلام.
ولكنها إذا بلغت ذروتها العليا لم يغنها هذا الزاد وحده من ازوادها الكثيرة، ومنها ملكة التعبير الصحيح، ونصاعة الحجة، وحضور البديهة في مواقف الارتجال، والإتيان بجوامع الكلم في مواضعها، لقوة التوفيق بين المعاني الراجحة والألفاظ الواضحة، أو قوة التوفيق بين الفكر واللسان.
وكل ما قرأناه من كلام الأستاذ الجليل، أو قرأناه من الكلام عنه، يدل على هذه العبقرية في أرفع طراز عُرف به خطيب من خطباء هذا الزمان.
فاقتياد أعنة الكلام - ولو في لسان غير لسانه العربي - سليقة فيه منذ صباه إلى أيام كهولته - أو شيخوخته - التي نسأل الله أن يبارك فيها.
كتب عنه زميله الكبير الأستاذ خليل ثابت بك فقال إنه لم يكن يعرف التركية فتعلمها بعد إتمام دراسته وملك ناصيتها حتى استطاع أن يخطب بها في المحاكم وفي المجالس النيابية، ولم يكن يعرف الفرنسية فتعلمها بعد أن جاوز الخمسين وأصبح من خطبائها المعدودين. وهذا عدا الإنجليزية التي تعلمها في أيام دراسته بالجامعة الأمريكية في بيروت.
والبديهة الحاضرة في الأجوبة المسكتة ملكة لازمة من ملكات هذه العبقرية، وهي عنده على قسط واف في مقام الجد ومقام الفكاهة.
روى عنه تلميذه الأستاذ على الطنطاوي في مقال كتبه بالرسالة أن تلميذاً من تلاميذه في كلية الحقوق سأله يوماً: ما فائدة هذه الحروف اللثوية، ولماذا نقول ثاء، وظاء، فنخرج ألسنتنا ونضطر إلى هذه الغلاظة؟(741/1)
فما هو إلا أن سمع سؤال حتى أجاب متهكما: لا فائدة لها أبداً. . . وسنتركها فنقول: كسر الله من أمسالك!!
ومن أصغى إلى هذا الخطيب المطبوع وهو يتكلم علم أن أداة البيان قد تمت له حساً ولفظاً كما تمت له بداهة ومعنى.
فصوته من تلك الأصوات (الغنية) كما يقولون في اللغات الأوربية، لا تحس فيه جهداً ولا حاجة إلى الجهد، لأنه يملأ عليك جوانب السمع كأن له عشرة أصداء تتكرر معه كما قال الأستاذ الطنطاوي في وصفه وهو يلقى قصيدته الرائية التي استقبل بها حافظ إبراهيم رحمه الله.
ومن تمام ملكات التعبير فيه أنه يقتدر على المنظوم اقتداره على المنثور، ولا شك أن الشعر يدخل أحياناً في عداد ملكات الخطابة من حيث هو إبانة وتعبير، وقد أسلس له قيادة بهذا الزمام فجاءت له في تلك القصيدة أبيات من عيون الكلام كقوله:
أحافظ حييت الشام تحية ... يفوق عبير الروض منها عبيرها
وألبستها ثوباً من الحمد دونه ... حدائقها في زهوها وزهورها
وطوقتها بالحب والعطف ربقة ... قلادة أسر لا يفادى أسيرها
وهو نفس في الشعر يقصر عنه كثير من الخطباء، وكثير من الشعراء.
على أنه يرتفع بك إلى الذروة من ملكات هذه العبقرية حين يفرغ الحجة الدامغة في جوامع الكلم التي تملك السمع والعقل دفعة واحدة، بغير إعنات ولا مشقة على سامعيه.
فليس أسهل ولا أقوى من تفنيده لدعوى المندوب البريطاني حين زعم أن معاهدة سنة 1936 معاهدة صحيحة لأنها أبرمت باختيار الطرفين. فلا حاجة - كما قال - إلى دليل على بطلان هذه الدعوى. لأن أمة من الأمم لا تقبل احتلال الأجنبي لبلادها وهي مختارة راضية.
وليس أجمع ولا أمنع من قوله في هذا الصدد: أن تلك المعاهدة لا تنطوي على التزام تتقيد به بريطانيا العظمى. وإنما هي تفويض من ملك مصر إذا شاءت بريطانيا العظمى أن تنزل عنه فليس في عملها هذا مناقضة لحرمة المعاهدات.
نعم فهي إذا لم تشأ فإنما تفعل ذلك لأنها ذات غرض ترمي إليه، ولا تفعله لحرمة في تلك(741/2)
المعاهدة تحرص عليها.
ويندر أن تتم أداة العبقرية البيانية هذا التمام لغير الأفذاذ النابهين. ففي عصرنا هذا لا نعرف مثلا لهذا الأداة التامة بين فرسان المنابر السياسية غير رجلين اثنين: أحدهما باقعة الغال لويد جورج الوزير الإنجليزي المشهور، والآخر زعيمنا العظيم سعد زغلول رحمه الله
هما أيضاً كانا يملكان الحجة المسكتة في مقام الجد والفكاهة.
كان لويد جورج يخطب عن أعماله التي ينوي القيام بها إذا ظفر بكرسي النيابة، فتصدى له فحام سليط اقتحم الجمع بلوثة الفحم والشحم في ثيابه، فسأل الخطيب ليحرجه: دعنا من كل هذا وقل لنا ماذا تنوي أن (ترخص) لنا من ضرورات المعيشة؟
فما هو إلا أن سمعه حتى أجاب بكلمة واحدة: الصابون!
فكان الحرج والسخرية من نصيب السائل دون المسؤول
وكان بعض (المتطرفين) يتعمدون إحراج سعد في سياق الكلام عن خزان جبل أوليا، بالسودان: فسألوه: هل هو ضار أو مفيد؟
فما زاد على أن قال: هو مفيد مع اتحاد المالك. . .
فلم يجرؤ على الاعتراض أحد يطالب بوحدة مصر والسودان.
ويتشابه هؤلاء العباقرة الثلاثة في خاصة معهودة بين كثير من أصحاب العبقرية البيانية، وهي اتصال عقولهم بعقول سامعيهم في عالم العيان.
فهم لا يعنون بالتأليف عنايتهم بالخطاب والحديث. لأن عبقريتهم تتصل بالنفوس في عالم العيان كما قلنا، أو حين تتلاقى الحياة بالحياة، ولم تخلق للاتصال بها في عالم الفكر المجرد أو من وراء الحجاب.
فعبقرياتهم جميعاً أكبر من آثارهم المكتوبة أو المطبوعة.
ولولا مذكرات للويد جورج لكان بيانه كله مما أُثر عنه في المجالس والمحافل، وفي المساجلات والمحاورات.
وليس لسعد زغلول ولا لفارس الخوري - فيما نعلم - مؤلفات تضارع ما طبع عليه كلاهما من الألمعية والفطنة، وما حصله كلاهما من المعرفة الواسعة والخبرة الصادقة. لأن(741/3)
طبيعة البيان الناطق أن يمتلئ بالحياة حين يتصل بالأحياء.
أطال الله في حياة العبقري العربي الجليل، وكثر الله من أمثاله بالثاء اللثوية التي تخرج من جوانب اللثة جميعها لا كما أرادها تلميذه العجول!!. ونفع الضاد وأهلها بهذا البيان الساحر الذي يقل نظيره بين الخطباء المفوهين، من فرسان المنابر العالميين.
عباس محمود العقاد(741/4)
7 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
وأما القلعة، فمساحة واسعة جداً وأسوار عالية مشرفة من بعض جهاتها على نهر جمنة وتشتمل على مساكن ودواوين ومقصورات وقنوات. لا يحيط بها الوصف إلا في كتاب كبير مصوّر يكتبه خبير بالعمارة فحسبي أن أعرض على القارئ ما يدركه الزائر غير الخبير في زيارة قصيرة عاجلة
يلج الداخل الباب الكبير إلى دهليز فيه حوانيت للتجار ثم يدخل إلى ساحة يرى فيها ثكنات بناها الإنجليز وهي باعترافهم دمامة بين هذا الجمال، وعرّة وسط هذه الغرر.
ثم يجتاز إلى أبنية كثيرة لا أستطيع أن أذكرها على الترتيب. فأذكر الديوان العام، وهو مجلس السلطان لعامة الرعية للنظر في المظالم أو غيرها من الأمور العامة. وهو دكة من الرخام عليها سقيفة تحملها عمد من الحجر الأحمر قد أبدع الصناع في أشكالها ونقوشها وسعته مائة قدم في ستين. وكان فيه عرش الطاووس (تخت طاووس) وهو عرش يظلله ذنبا طاووسين ألوانهما من الجواهر المختلفة وفيه من دقائق الصنعة والأحجار الكريمة ما يشهد للصناعة والفن في ذلك العصر. وقد قوّمه من رآه من الخبراء بستة ملايين جنيه وقد حمل هذا العرش فيما نهب من ذخائر دهلي ونفائسها نادرشاه القائد العظيم الذي ملك على إيران بعد زوال الدولة الصفوية واستيلاء الأفغان عليها، فأخرج منها الأفغان ومد فتحه صوب المشرق إلى الهند.
وفي القلعة ديوان أصغر من هذا وأجمل منحوت كله من المرمر يسمى الديوان الخاص وفيه من النقش والتطعيم بالأحجار الكريمة ما يفتن الناظر، بجمال الشكل، ودقة الصنع. وقد بلغ فن العصر المغولي ذروته في هذا الديوان. ولا أنسى هذا البيت الفارسي الذي يزين هذا الجمال بجودة خطه وتذهيبه، ويعرب عن هذا الجلال بمعناه. وهو منقوش في أكثر من موضع من الديوان:
أجر فردوس برروى زمين است همين است وهمين است وهمين است
(إن يكن الفردوس على الأرض فهكذا وهكذا وهكذا).(741/5)
وهناك بناء فيه حجر جميلة يسمى رنك محل (المحل الملون) وهو مزين بالنقوش محلى بالأشكال. ولكن ذهب الزمان بأكثر طلاه ويمتد منه إلى بناء آخر مجرى للماء رخاميّ يمثل قاعه ترقرق الماء عليه.
وأبنية أخرى منها البرج المثمن وكان يجلس السلطان في شرفته كل صباح فيشرف على الجمهور وكانت هذه عادة سلاطين المغول
ومنها الحمام (غسل خانه) وهو حجرات ثلاث في إحداها حوض صغير يخرج منه بخار معطر وفي الأخريين أحواض للاغتسال من المرمر بينها مجار أنيقة للماء الحار والبارد وفي إحداهما قطعة من المرمر كبيرة كانت مصلى للسلطان بعد الفراغ من الاستحمام.
ورأينا حجرات هناك لجلوس السلطان ونومه وفي إحداهما وسائد وملابس كأن شاهجهان لا يزال بها. وليس بها إلا الأثر والذكر ويد الزمان الأعسر.
وهناك مسجد صغير يسمى موتى مسجد (مسجد اللؤلؤة) بناه أورنك زيب شاهجهان وهو كاسمه لؤلؤة كبيرة ولكنها من المرمر الأبيض. ويخيل لرائيه أنه قطعة واحدة كبيرة من المرمر فصلتها يد النحات الصنع قباباً وعمداً ومحراباً ومنبراً.
ويقال أن السلطان بناه حين شغلته شئونه عن الذهاب إلى المسجد الجامع لكل صلاة.
وفي ساحات القلعة أحواض فسيحة تقوم وسطها مقصورات للجلوس وقنوات من الحجر جميلة يجري فيها الماء رقراقاً. ومنها نهر بهشت (نهر الجنة) وهو مجرى على ضفافيه الأزهار والأشجار وفي قاعه صور من الأزهار جميلة تكاد تهتز وتنمو حين يجري الماء عليها. وهذا النهر يبتدئ عند منظرة جميلة مزينة مشرفة عليه وعلى هذا الجمال المفصل في أرجاء القلعة.
ولا أنسى رباعية فارسية رأيتها في إحدى الحجر وأعجبني موضعها بين هذا الجلال والجمال. فأردت إثباتها فلم أجد قلمي.
ولم يكن لي بدّ من نقلها فقلت لرفيقي الأستاذ اشتياق حسين عميد كلية الآداب بجامعة دلهي وقد تفضل باصطحابي في زيارة القلعة:
سأكلف نفسي، وأمتحن ذاكرتي بحفظ هذه الرباعية. . .
فوعيتها حتى رجعت إلى الفندق فكتبتها وهي:(741/6)
أي باي ببندوقفل بردل هشدار ... دوخته جشم وباي دركل هشدار
عزم سفر مغرب وروى درمشرق ... أي رآه رويشت بمنزل هشدار
وترجمتها: يا من في رجليه قيد وعلى قلبه قفل انتبه، يا من أغمض عينه وقد وحلت رجله انتبه، تريد السفر إلى المغرب ووجهك إلى المشرق أيها السائر وظهره إلى الغاية انتبه.
هذه بقايا مما وعيت من هذه الآثار الجليلة الجميلة في زيارتي القصيرة، وقد بقيت في النفس كما تبقى أبيات وأشطار وقواف من قصيدة بليغة حفظت ثم نسيت، أو كما تبقى الصور مبعثرة بعد حلم جميل طويل، أو كما تضطرب في النفس ذكريات السعادة بعد انقضائها.
ومن شاء أن يعرف تفصيل هذه الأبنية وصورها ففي كتب الآثار وصفها وتاريخها وصورها. ومن شاء أن يستمتع بها رأي العين فليس عجيباً أن يذهب إلى الهند ليراها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(741/7)
4 - حجة تاريخية
للدكتور جواد علي
وتتخذ الصهيونية من الصلات الثقافية التي كانت تربط اليهود على زعمها بفلسطين دليلا على وجوب إحياء تلك الثقافة. ونحن لا ننكر على الصهيونية قولها هذا ولكن الثقافة اليهودية لم تظهر بفلسطين وحدها ولم تقتصر على هذه البقعة فقط. والواقع أن أكثر فصول التوراة كانت قد كتبت في الأرض المقدسة.
غير أن قسماً من هذه الأسفار التي يتألف منها الكتاب المقدس كان قد كتب ووضع في العراق في إقليم بابل أثناء السبِّي مثل سفر حن قيال وربما (مراثي أرمياء) و (التثنية ويشوع كذلك وبعض أجزاء من المزامير).
ويقوم (التلمود) عند اليهود مقام (الحديث) عند المسلمين وبموجب هذا الكتاب يحكمون. (والتلمود البابلي) هو المعول عليه عند اليهود حتى اليوم. على حين أنهم لا يعملون (بالتلمود اليورشلجي) أي التلمود الذي وضع في فلسطين.
وضعه أحبار العبرانيين وعلماؤهم في منقطة (طبريا) على الأخص.
وقد وضع التلمود البابلي في العراق في وادي الفرات وقد اشترك في وضعه وإتمامه جماعة من أحبار بابل استمروا على ذلك حتى أوائل القرن السادس للميلاد. وعلى التلمود البابلي الطابع العراقي الخاص الذي يتجلى في نزعته العقلية الحرة وفي استعمال الرأي والقياس والاستنباط على عكس التلمود الفلسطيني الذي يمثل عقلية الفلسطينيين القدماء في محافظتهم وميلهم إلى الأخذ بالحديث والأخبار. وهذا مما يدل على أن الثقافة العبرانية القديمة التي تريد الصهيونية إحياءها لم تكن ثقافة (عبرانية) خالصة نقية من كل شائبة بل كانت متأثرة بالمحيط. فهي عراقية تمثل عقلية العراقيين في العراق وهي فلسطينية تمثل عقلية سكان فلسطين في فلسطين وهي مصرية تمثل طبع قدماء المصريين في مصر.
ثم إن الكتب الخمسة الأولى من التوراة وهي التي يقال لها (أسفار موسى) وهي التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية) كانت قد نزلت على موسى وموسى لم يكن قد دخل فلسطين فتكون هذه الكتب قد نزلت خارج الأرض المقدسة.
وقد جاءت في الكتاب المقدس بعض الاصطلاحات والكلمات الآرامية التي تدل على تأثر(741/8)
العبرانيين بهذه اللغة التي أصبحت اللغة اليومية لليهود منذ أيام السبي، والتي حلت محل (العبرانية) التي هجرها سواد الشعب وفضل الآرامية عليها، فاقتصر أمرها على رجال الدين وطبقة الكهنوت فقط وقد ترك الشعب اليهودي العبرانية مختاراً مفضلا (السريانية) لغة الثقافة التي شاعت في كل أنحاء الهلال الخصيب حتى أن أسفار العهد الجديد القديمة كانت قد دونت بهذه اللغة.
وقد استعمل علماء اليهود ومثقفوهم هذه اللغة في كتاباتهم كما استعملوا بعد ذلك اللغة اليونانية التي دخلت إلى فلسطين وسوريا مع اليونانيين فألف بهذه اللغة المؤرخ اليهودي (يوسفوس) (جوزيفوس) المعصب لقوميته وهو من مواليد القدس في القرن الأول للمسيح والذي خلد تاريخ قومه في كتبه المهمة التي ألفها في تاريخ (الآثار اليهودية) و (الحروب اليهودية) والذي يعود إليه الفضل في أكثر ما نعرفه عن تاريخ اليهود مما لم يرد في التوراة إلى القرن الأول للمسيح. لم يجد هذا المؤرخ اليهودي المتعصب لقوميته غضاضة من استعمال اللغة اليونانية في تدوين تاريخ قومه، مما يدل على أن العبرانيين لم يكونوا يستعملون تلك اللغة إلا بصورة محدودة ضيقة، وعلى أنهم لم يكونوا يعنون بها العناية اللازمة، وأنهم لم يكونوا يعتبرونها لغة ثقافة أو لغة أدب وكتابة وإنما هي لغة دين، على عكس ما يدعيه الصهيونيون في دعواهم الحديثة.
وقد استخدم اليهود بعد انتشارهم في الأقطار الخارجية اللغات المحلية، حتى في الشروح الدينية والتفاسير فكتبوا باليونانية واللاتينية والعربي في القرون الوسطى ولا سيما في الأندلس حيث كانوا يكتبون كتبهم باللغة العربية ولكن بأحرف عبرية كالذي فعله الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون، مما يدل على أن العبرانيين كانوا يفكرون في كل مكان نزلوا به بعقلية ذلك المكان ولو جمعنا ما أنتجه العقل اليهودي منذ أيام السبَّي لوجدنا أن اليهود كانوا قد ساهموا في الثقافة العالمية جمعاء فكونوا ثقافات مختلفة وكانت لهم ثقافة دينية هي الثقافة التي كونها الأنبياء وشرَّاح التوراة والتلمود ومعنى هذا أن الثقافة اليهودية كانت ثقافة عالمية ولم تكن ثقافة إقليمية اقتصرت على فلسطين، وأن من الممكن لليهود تكوين ثقافة يهودية في الأقطار التي يسكنون فيها على نحو ما هو جار في الوقت الحاضر.
وقد ذكر المؤرخ اليهودي (سيمون دبنوف) وهو أعظم المؤرخين المحدثين على الإطلاق(741/9)
أن اليهود كانوا قد تأثروا إلى حد كبير بثقافة البابليين وأن في الكتاب المقدس فصولا كثيرة أخذت من الثقافة البابلية كما يظهر ذلك من المقارنة بين الكتابات المسمارية وما ورد في التوراة.
ظل اليهود يغادرون فلسطين للسكنى في الخارج في أيام الفرس وفي أيام اليونانيين والرومان وعلى الرغم من الحركات اللاسامية التي كانت تظهر في الإمبراطورية البيزنطية الرومانية فإن اليهود فضلوا البقاء في الخارج. ولم يظهروا أي رغبة في العودة إلى هذه الأرض. ولم يبقى في فلسطين في العصور المسيحية غير بعض الجاليات التي سكنت في منطقة الجليل و (طبرية) على الأخص. ومما يلاحظ أنهم ساعدوا الجيش الفارسي الذي جاء سنة 614 للميلاد لفتح سوريا وفلسطين ولطرد اليونانيين. فساعدوهم في فتح القدس وفي مقاتلة إخوانهم المسيحيين الذين كانوا من اليهود قبل نشر الدعوة المسيحية.
ولم يترك كتاب اليهود من بعد (يوسفوس) أي أثر يشير إلى وجود جاليات يهودية كبيرة في فلسطين، ولما فتح الفرس فلسطين وعذبوا المسيحيين وأخذوا معهم الصليب المقدس وساعدوا الجاليات اليهودية الصغيرة التي كانت هناك لم نسمع من أخبار اليهود في الأراضي المقدسة ما يدل على أنهم كانوا أصحاب كلمة مسموعة وأن عددهم كان محسوساً بينما كان عددهم كبيراً في روما وفي فرنسا وفي المدن اليونانية والمصرية وكانت حالتهم المالية حسنة جداً كذلك.
ولما استعاد القيصر هرقل (فلسطين) من أيدي الفرس لم تبق في أيدي الروم أمداً طويلا إذ ضجر سكانها من حكم اليونان وفاوض العرب النصارى المسلمين لتخليصهم من أيدي المستعمرين وقد كانت غالبية السكان في هذا العهد من القبائل العربية المتنصرة مثل جذام وكلب وقضاعة ولخم وغسان وكانت مخيمة ومستقرة في كل أنحاء سورية كذلك.
وقد فصلت كتب (المغازي والفتوحات) كيفية دخول الجيوش الإسلامية أرض فلسطين وكيف سلم (بطريرك) القدس مفتاح المدينة إلى الخليفة عمر صلحاً. ولم تشر إلى اليهود مما يدل على أن الأراضي المقدسة كانت خلواً منهم، وهناك إشارة مهمة وردت في كتاب (ثيوفانس) وهو من خيرة الكتاب اليونانيين المطلعين على شؤون فلسطين في هذا العهد(741/10)
وهي ضد مزاعم الصهيونيين تماماً. إذ يقول هذا الكاتب الذي عاش في هذا العصر (لم تكن حكمة الخلفاء هي التي فتحت أبواب سوريا وفلسطين لجيوش المسلمين بل المسيحيين العرب الذين كونوا قوة عظيمة تقدمت في طليعة الجيوش الإسلامية تقاتل الجيوش اليونانية مع أنها كانت تدين مثلها بنفس الدين).
وليست لدينا معلومات حسنة عن علاقات الرسول بهذه القبائل، والظاهر أنها كانت سيئة فإن معركة (مؤتة) تشير إلى أنهم كانوا يحاربون إلى جانب البيزنطيين.
غير أن الأوضاع تبدلت فيما بعد منذ معركة (تبوك) فانحازوا إلى جانب إخوانهم في الجنس المسلمين وصاروا يقاتلون إخوانهم في الدين البيزنطيين.
وقد أظهر الآراميون وطنية عظيمة وحماسة كبيرة للجيوش الإسلامية، فإنهم ساعدوهم مساعدة كبيرة، وحاربوا في صفوفهم مع أنهم كانوا من المسيحيين.
وقد ذكر (البلاذري) أن المسلمين حينما حاصروا (قيصرية) وكان سكانها من السامريين وهم فرع من أصل يهودي ولكنهم يختلفون عن سائر اليهود ويكرهونهم خرج يهودي كان يقيم في المدينة واسمه (يوسف) إلى المسلمين وأرشدهم إلى موضع نفق سري يؤدي إلى المدينة فدخل منه المسلمون.
وقد أسلم من أسلم من أهل فلسطين وظل من أراد الاحتفاظ بدينة وقد عاملهم المسلمون معاملة حسنة وعاشوا مع المسلمين إخواناً وأعواناً حتى أنهم اشتركوا معهم في محاربة (الصليبيين) وقد لاحظ العالم المتخصص بفلسطين (جيمس فرازر) أن ملامح الفلسطينيين القدماء الذين كانوا يقطنون هذه البلاد قبل مجيء العبرانيين لازالت ظاهرة على الفلاحين المسلمين والمسيحيين على حد سواء وإن هؤلاء الفلاحين هم من أقدم السلالات البشرية التي كانت تقيم في الأرض المقدسة وهم أنفسهم الذين يحاربون الصهيونية في الوقت الحاضر دفاعاً عن أرضهم وأملاكهم.
وعندما استولى الأسبان على أرض الأندلس وأجبروا المسلمين واليهود على حد سواء على اعتناق النصرانية أو مغادرة البلاد فضل أكثرهم الهجرة إلى فرنسا وإيطاليا وشمال إفريقية ولم يذكر منهم أي أحد أرض فلسطين ولو كان اليهود يعطفون على الوطن القومي وعلى إعادة ملك سليمان لكانوا قد فضلوا الذهاب إلى أرض (الميعاد) حيث كانوا يعيشون عيشة(741/11)
راضية. نعم لقد كانوا يعلمون أن أرض فلسطين هي أرض مقدسة كما هي أرض المسيحيين المقدسة وأرض المسلمين. ولكنهم لم يكونوا يشعرون بهذه القومية الاعتدائية المتطرفة التي دعا إليها الصهيونيون.
جواد علي(741/12)
مستقبل الأدب
للأستاذ علي الطنطاوي
تزدحم المساجد قبيل الامتحان بجماعات الطلاب، يتحلقون فيها حلقاً، يطالعون ويقرءون، وقد مررت مرة بحلقة فيها نفر فهمت من كلامهم أنهم من طلبة العربية والأدب، في المدارس العالية، فقعدت قريباً منهم استمع إليهم، وكان واحد منهم يقرأ في كتاب، فما رأيته سلمت له خمسة أسطر متتابعات، وما مرّ على خمسة أسطر إلا رفع فيها منخفضاً، وخفض مرتفعاً، وحرف الكلم عن مواضعها، وأزالها عن منازلها، ولم يدع لغوياً ولا نحوياً ولا عالماً بالعربية من لَدُنْ أبي عمرو إلى الأشموني، إلا نبش قبره وبعثر عظمه، ولعن بجهله أباه وأمه، أما الطلاب الحاضرون فكان منهم من يتنبه للّحنة الظاهرة، ظهور البهتان في (القبس)، فيردّه عنها، ويغفل عن الخفية، وسائرهم في عمى عن ظاهرها وخفيها، ودقيقها وجليلها، فضاق صدري، حتى خفت أن يتفجر بغضبة للعربية، لا أدري ما عاقبتها فحملت نعلي وخرجت هارباً أسعى. . .
وذهبت فسألت المدرسين فعلمت أن هذا القارئ ليس بدعاً في الطلاب وليس المتفرد في هذه (العبقرية) في الجهل، وهذا (التبريز. . .) فيه، وإنما هو النموذج الصادق لأكثر طلاب المدارس في هذه الأيام، واجتمعت بعد ذلك بكثير من طلاب المدارس العالية، فما كدت أجد في أكثرهم من يشبه أو يداني أصحابنا يوم كنا في أوائل الدراسة الثانوية، لا أقول هذا فخراً بأصحابنا، ولكن تذكرة لهؤلاء، وحثاً على الجد في طلب العلم، وبياناً لما هبطوا إليه، وما رضوه لأنفسهم من ترك العلم اعتماداً على شهادات ينالونها، أو كراسيّ يركبونها، أو وظائف يقبضونها، حتى صارت الشكوى من الضعف في العربية عامة في مصر والشام والعراق، وحتى صار من أبواب التسلية للأدباء، أن يفكروا في (تيسير. . .) تعلم العربية، بقلب قواعدها، وتنكيس أوضاعها، وابتداع البدع في نحوها وصرفها، أو بهدم بنيانها، وصرم نظامها، بـ (تسكين أواخر كلماتها)، و (ترك إعرابها)، أو بنفسها في أساسها، وقلعها من جذورها، باستعمال الحروف اللاتينية أولا، والكلمات اللاتينية ثانياً، وما لا يعرفه إلا الله ثالثاً. . . وما إلى شيء من ذلك حاجة، ولا له فائدة، وما باللغة تعسير حتى نبتغي لها أوجه التيسير، ولكنْ في العزائم خور، وفي الهمم ضعف، وفي الشباب(741/13)
انصراف عن العلم!
هذه الحقيقة، وإلا فهل صلحت اللغة برسمها وعلومها هذه القرون الأربعة عشر، وصبرت على حكم الأتراك أولا ثم الفرس، ثم المغول، ثم المماليك العبيد، ثم الأتراك أخيراً، ورأت عصور الانحطاط، وعهود التخلف، وكانت في كل ذلك ظاهرة ظافرة، حتى لم يخل عصر من مؤلفين في النحو والصرف والبلاغة والأدب، وحتى وضع القاموس أشهر معاجمنا في عهد العثمانيين، وألف شرحه الجليل بعد الألف للهجرة، وحتى كان طلبة العلم في الدهور كلها عاكفين على النحو والصرف والبلاغة، إن لم ينالوا ثمرتها فقد حفظوا قواعدها، وإن لم يبلغوا مرتبة الأدب، فقد أحاطوا بعلوم الأدب. . . هل صلحت اللغة هذه القرون وبدا الآن فسادها؟ وهل استسهلها الفرس والروم والأتراك والهنود حتى ظهر منهم علماء أجلاء فيها، ولم تصعب إلى على أبناء العرب الأقحاح، بعد ما طلع فجر النهضة، وبدا النور؟ وما لشبابنا وحدهم دون شباب العرب في كل العصور، هم الذين عجزوا عن تعلمها والتمكن منها؟ أهم أقلّ ذكاء، وأضعف عقلا، منهم جميعاً، ومنا لما كنا في مثل أسنانهم قبل عشرين سنة؟ لا، بل هم أذكى منا، ووسائل التعلم في هذه الأيام أكثر، وطريقته أسهل، وربَّ بحث كنا نتصيد مسائله من متفرقات الكتب يرى الآن مجموعاً في كتاب واحد، ينادي: من يقرأ فيَّ؟ فما لهم يستصعبون العربية؟
وهل العربية أصعب عليهم من الكيمياء، والجبر والهندسة وهذه الألسن التي يزحم بعضها في رأس الطالب بعضهاً من تعددها وما لأكثرها من فائدة تلمس، أو عائدة تحس: اللاتينية التي أخذناها تقليداً بلا علم، والسريانية والعبرية والفارسية والتركية دعك من الفرنسية والإنكليزية وما لست أدري ماذا أيضاً؟ أهذه العلوم وهذه الألسن كلها سهلة جميلة، كأنها قصة من قصص الغرام، يشربها الطالب مع الماء، ويأكلها مع الحلوى، والصعوبة كلها في العربية؟
وإذا كانت هذه العلوم وهذه الألسن صعبة كلها فما هو السهل الذي يذهب الطالب إلى المدرسة ليتعلمه؟ ولماذا نفتح المدارس ونرهق الأمة بنفقاتها، ونحمل خريجيها على أعناق الناس حملا، بما حصلوا من العلم، وما نالوا من الشهادة؟
لا، ليس في العربية صعوبة، ولا في كتابتها وعلومها تعسير، هذه ضلالة يجب أن ينتهي(741/14)
حديثها، وأن لا نعود إلى إضاعة الوقت، وإفساد النشء، في الكلام فيها. . . ويجب أن نحببها إلى الطلاب، ونرغبهم في مطالعة كتبها، حتى يألفوها، ويسهل عليهم فهمها، ولقد كنا في المدارس الابتدائية نقرأ الكتب العلمية الكبيرة حتى إني قرأت (حياة الحيوان للدميري) - وقد وقع في يدي اتفاقاً - قبل أن آخذ شهادتها، وقرأت (الأغاني) كله - متخطياً إسناده، وما لا أفهم منه - في صيف السنة الثانوية الأولى، وكنا يومئذ نحسن المراجعة في الخضري وفي المغني، وكان فينا من ينظم ويكتب، وعندي مقالات كتبتها في تلك الأيام، قد لا ترضيني أفكارها ولكن أسلوبها يرضيني اليوم، ولرفيقي أنور العطار شعر (قاله في ذلك العهد) جيِّد، منه قصيدة (الشاعر) التي نشرتها كبرى المجلات الأدبية يومئذ (الزهراء)، وهي في نحو ستين بيتاً، أحفظ منها قوله، وما ذلك من خيارها فكلها خيار:
كتب البؤس فوق خديه سطراً ... تتراءى الآلام في كلماته:
للهوى قلبه، وللشجو عينا ... هـ وللعاملين كل هباته
وهو نهب لحادثات الليالي ... وحلال للدهر قرع صَفاته
يتلقى بصبره نزوة الدهر ... ويشكو لربِّه نزواته
وكنا نختلف إلى بعض العلماء، نسمع دروسهم العامة في المساجد، ودروسهم الخاصة في البيوت فما أكملنا الدراسة الثانوية حتى قرأنا مع علومها، النحو على المشايخ والبلاغة والفقه والأصول والحديث، وحضرنا كتباً في التفسير والكلام والتصوف، وعرفنا عشرات من أمّات كتب العلم، قرأنا فيها أو تصفحناها أو رجعنا إليها، وحفظنا أسماء مئات من أعلام الإسلام، من الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين والمفسرين والفلاسفة والقواد والأدباء والشعراء، حتى صارت إسناد الحديث والأدب مألوفة لنا، لكثرة من عرفنا من رجالها، ومن لا نعرفه نرجع إلى ترجمته، وكنا في الثانوي نرجع إلى الإصابة وأسد الغابة والاستيعاب، وتهذيب التهذيب، وتهذيب الأسماء واللغات، وابن خلكان والفوات ومعجم الأدباء، وطبقات السبكي وتاريخ الخطيب وابن عساكر، والديباج المذهب، وطبقات الحنفية والبغية، وتاريخ الخلفاء، والقفطي وابن أبي أصيبعة، وهذه الكتب كلها - وأخرى نسيتها - في مكتبتي وكانت تحت يدي من تلك الأيام. . . وإن زادت الآن (بحمد الله) كتباً كثيرة. . .(741/15)
وقد نبغ في صفنا (فصلنا) جماعة من الأعلام، هم في الشام اليوم واسطة عقد الثقافة، والحلقة التي كانت مفقودة فوجدت فيهم والطبقة التي ليس لها جمود الشيوخ وإن كان لها بحثهم وتحقيقهم وليس لها نزق الشباب وخفتهم، وإن كان لهم نشاطهم، كسعيد الأفغاني الأديب المحقق الضليع، وأنور العطار الشاعر العَلَم، ومحمد الجيرودي الأديب العالم الذي جعله أدبه وعلمه نابغة المحاماة في دمشق، وجمال الفرا ووجيه السمان، الأديبين الأصيلين اللذين غلبت عليهما الطبيعة وعلومها، وقد نبغ في الصف الذي أمامنا طائفة أخرى من الأعلام. كأسعد الكوارني نابغة المحاماة في حلب ووكيل وزارة العدل اليوم ووزيرها أمس، الذي ظهرت عبقريته طالباً ومحامياً وموظفاً، وزكي المحاسني الأديب الشاعر، الذي لم يمنعه سنه وقدمه أن يعود في الكبر طالباً، والذي نال بالأمس شهادة الدكتوراه وكان ثامن دكتور في الآداب خرج من الجامعة المصرية، وجميل سلطان الشاعر المصنّف، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الشاعر الأديب. . .
وما كانت تمر سنة لا ينبغ فهيا نابغون في الأدبْ والعلم، وممن نبغ في صفنا في كلية الحقوق ضيف مصر الآن العالم البحاثة مصطفى الزرقا، وهو اليوم من أساتذة الكلية المبرزين.
ثم شح الينبوع، ثم جفَّ أو يكاد، حتى ما نجد في السنين الطوال كاتباً ينبغ في الشام، أو شاعراً يظهر، أو محققاً يرى، ومازال الأمر إلى تخلّف. ولقد اشتغلت بالتعليم دهراً في الشام والعراق ولبنان فما فارقت فوجاً من الطلاب إلا استقبلت أضعف منه، حتى انتهى بي الأمر، أن دعيت في سنتين إلى تدريس الآداب لطلاب السنة الأخيرة من مدرسة ثانوية، فدخلت فوجدت رجالا كباراً، لهم طول وعرض، وأناقة في الثياب، ولباقة في الخطاب، وسمت ووقار، فهبتهم وأعددت العدة لتعليمهم، وحشدت كل ما أعطيت من قوة وعلم، على ضعف قوتي وقلة علمي، ومضيت على سنني حتى جاء موعد سؤالهم، فإذا هم من أئمة الجاهلين، وإذا هم لا يحسنون قراءة بيت ولا فهمه ولا إعرابه، ففررت منهم، حين وجدت أني إن كلمت ثيابهم وهيئاتهم منعتني جهالتهم، وإن خاطبت جهالتهم منعتني هيئاتهم.
فالحكاية ليست حكاية كتابة تسهل، ولا قواعد تيسر، ولا أغراض خبيثة تحقق من وراء هذه الستر اللماعة، ولا سموم تقدم في هذه الكأس البراقة، ولكنها مشكلة المعلم أولا،(741/16)
والتلميذ ثانياً.
وما دام المعلمون، أي أكثر من عرفت من معلمي العربية، أصحاب شهادات لا علم، خطفوا مسائل في المدارس خطفاً، وحفظوها حفظاً، ومنهم من تعلمها في ديار الغرب، وجاء منها بدكتورات حرب ومادامت دروس العربية تلقى بالعامية، وما دام مدرس الأدب يتكلم ساعة عن أبي تمام وأدبه وما قيل فيه، ولكنه لا يفهم بيتين من شعره، ولا يحسن شرحهما، ويعلم الأدب وهو ليس بأديب، وما دام يتصدر للإمامة في (فن القول) من لا يدري ما يقول - فمن أين يتلقى الطالب العربية؟
فهاتوا المعلم القوي في علوم اللغة، صاحب الاطلاع فيها، والذوق في فهمها، يصلح هو فساد المناهج، ويقوم اعوجاج الكتب، وييسر عسر اللغة، (إن كان فيها من عسر!) وهذا المعلم لا يوزن بميزان الشهادات وحدها، إلا إذا جاء وقت لا تعطى فيه الشهادات إلا لأربابها، وتكون شهادة حق لا شهادة زور، ففتشوا أنتم الآن عن ميزان آخر!.
أما التلميذ فيجب أن نحبب إليه المطالعة، ونعرفه قيمة العلم ونذيقه لذته، ولا يكون ذلك ما دامت المجلات والمطابع مفتحة أبوابها، لكل هذيان وعبث صبيان.
وبيان ذلك أن في نفس كل ناشئ في الأبد حباً للظهور، وهوى للنشر، فلا يجدّ إن جدّ إلا ليلقى اسمه على رأس مقالة في مجلة، أو على غلاف كتاب، ولقد كان الواحد من أصحابنا يتمنى أن ينشر ما يكتبه بعد طول الكد، ومتابعة السهر، في جريدة محلية، ثم يرتقى إلى المجلة الصغيرة، ثم يتدرج حتى يصل إلى مثل الرسالة أو الثقافة، هكذا كنا، وهكذا كانت لهذه المجلات هيبة في نفوسنا، فلا نقدم عليها إلا بعد الاستعداد، ولا نقدم لها إلا ما نعتقد أنه جيِّد، فتبدلت الحال، وعلا الشباب بالغرور، أو هبطت هذه المجلات، حتى صرنا نرى الغلام المبتديء، يكتب مقالته الأولى فلا يراها أقل من أن تنشر في الرسالة مثلا، مع مقالة العقاد والزيات، ولا يعدم بعد إدمان القرع للأبواب من يفتح له باب مجلة من هذه المجلات.
هذا الشاب الذي يرى أنه وصل إلى الغاية بلا تعب، ونال ما يطلب بلا مشقة، لا يجد بعد ذلك ما يدفعه إلى سهر الليالي، وتقريح الجفون، في مسامرة الكتب، والازدياد من العلم.
فليس الخطب خطب ضعف الطلاب في علم من العلوم، ولكنه خطب الأدب: إنها إن استمرت هذه الحال، ومات هؤلاء الكتاب البلغاء، وكل حي إلى ممات ولو طال به الأجل،(741/17)
فإنكم ستتلفتون وتفتشون عن كاتب بليغ، أو شاعر مفلق، فلا تجدون. . . فأعدُّوا من الآن شباباً تدخرونهم لذلك اليوم العصيب، وإلا فعلى اللغة والأدب والبيان السلام!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(741/18)
الشُّطار والعيارون
للأستاذ شكري محمود أحمد
في المجتمع العباسي طبقات غريبة ظهرت في فترات مختلفة من الزمن، نشأت وتجمعت بسبب عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية، ولكل طبقة منها اسم خاص بها، ولها تنظيمات وعادات تنفرد كل طبقة بها دون غيرها. وربما كان لبعضها لغة خاصة. فمن هذه الطبقات الشطار والعيارون والطرارون والظرفاء والفتيان واللعابون والمخنثون والحرافيش والساسانيون والزواقيل، وغيرهم وقد ذكر الجاحظ منهم طبقات كثيرة.
وكانت هذه الجماعات أخلاطاً من مولدي العرب والفرس والترك والروم والبربر والديلم والنبط والجركس والأكراد والكرج وغيرهم من الأقوام الذين زخر بهم المجتمع العباسي.
وقد تغلبت على هؤلاء اللغة العربية، وكان للساسانيين لغة خاصة بهم ذكرها الثعالبي في اليتيمة والخفاجي في شفاء الغليل.
والذي يعنينا من هذه الطبقات هم الشطار والعيارون، وقد سجل كثير من مؤرخي الإسلام أخبارهم وأعمالهم وما قاموا به من قطع الطرق ونهب الأموال وقتل الناس وغير ذلك، ومن هؤلاء المؤرخين ابن الأثير والمسعودي والطبري وأبو الفداء وابن الفوطي وابن الجوزي في المنتظم وتليبس إبليس والتنوخي في الفرج بعد الشدة والأربلي في خلاصة الذهب المسبوك والبيروني في الجواهر والبيهقي في حكماء الإسلام وغير هؤلاء من المؤرخين.
وقد ظهر الشطار والعيارون في مختلف الأمصار الإسلامية، فهم يعرفون في العراق باسم (الشطار) وفي خراسان يسمونهم (سرابدران) وفي المغرب يطلق عليهم اسم (العقورة)، وسماهم ابن بطوطة (الفتاك).
كانت هذه الجماعات ترتزق باللصوصية والنهب وقطع الطرق والتحيل على الناس، وفي الغالب باغتصاب الأموال وفرضها على المدن والمحلات أو الأغنياء. فقد ذكر ابن الأثير (أنهم قسطوا على الكرخ خاصة مائة ألف دينار)، أو أنهم كانوا يهاجمون بيوت الأغنياء ويأخذون ما فيها من المال والجواهر، جاء في المنتظم (. . وكبست دار تاجر فأخذ منها ما قيمته عشرة آلاف دينار)(741/19)
وفي كثير من الأحوال كان يستفحل أمرهم ويستشري بلاؤهم حتى تعجز الحكومة عنهم، وربما استعانت بهم في الحروب كما حدث في الفتنة بين الأمين والمأمون والمستعين والمعتز. قال ابن الجوزي (كان طلاب السلطة يستعينون في حروبهم ببعضهم على بعض ويعدون بالآلاف، فقد كان مع أبي دلف عشرون ألفاً منهم). يستخدمهم لأغراضه ويسخرهم في أعماله.
سبب ظهورهم:
إن الاضطرابات السياسية التي مرت على العراق تركت أثرها في الحياة الاقتصادية حيث كسدت الأعمال، وغلت الأسعار وقلت الأقوات، فاضطرب نظام الحياة، وانتشرت المجاعة بين الناس، وكان الحكام أنفسهم يخزنون الأٌقوات والحبوب، لذلك تعمد العامة والسوقة إلى الارتزاق بمختلف الطرق وشتى الوسائل حتى انتظموا جماعات كثيرة لمناوأة أصحاب المال من التجار وغيرهم، فهم طبقات ضاقت بهم سبل الحياة، وسدت عليهم أبواب العيش، فتوسلوا بطرق الفوضى والاغتصاب للانتقام من مجتمعهم.
وفي كتاب الفرج بعد الشدة قصص كثيرة تصف هؤلاء الشطار والعيارين وكيف انتظموا في هذه العصابات. ونقل لنا على لسان كردي من هؤلاء التقى به في الطريق بين واسط والبصرة (. . قلت له: يا هذا كيف بلغت هذه الحال؟ قال: نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب السلطان فما قبلني أحد، فانتظمت إلى هؤلاء وطلبت الطريق، فلو كان أنصفني السلطان وأنزلني بحيث استحق من الشجاعة لانتفع بخدمتي وما فعلت هذا. .)
وقد كان هؤلاء الشطار والعيارون ينتقمون على الدولة والسلطان أشد النقمة، لأنهم أحرجوهم فأخرجوهم، وتركوهم يقطعون الطرق ويسلبون الناس أموالهم، ويصبون الفزع في قلوبهم، ففي قصة ابن حمدون اللص تظهر شدة نقمة هؤلاء على السلطان وقد ذكرها التنوخي، قال هذا اللص: (. . . يا هذا! لعن الله السلطان الذي أحوجنا إلى هذا، فإنه قد أسقط أرزاقنا فاحتجنا إلى هذا الفعل، ولسنا فيما نفعل ارتكاب أمر أعظم منا يرتكبه السلطان. أنت تعلم أن ابن شيراز في بغداد يصادر أموال الناس ويفقرهم حتى يأخذ الموسر المكثر فلا يخرج من حبسه وهو يهتدي إلى شيء غير الصدقة، وكذلك يفعل(741/20)
البريدي في واسط والبصرة والديلم، ويتجاوز ذلك إلى الحرم والأولاد. . . فاحسبونا مثل هؤلاء).
وربما هاجم هؤلاء الشطار والعيارون المحلات والقرى فنهبوا النساء والصبيان علانية وجعلوهم رهائن عندهم، ففي أخبار سنة إحدى ومائتين يذكر أبو الفداء (. . . وفيها اشتد أذى فساق بغداد وشطارها حتى قطعوا الطريق وأخذوا النساء والصبيان علانية، ونهبوا القرى مكابرة، وبقى الناس معهم في بلاء عظيم، فتجمع أهل بعض المحال ببغداد مع رجل يقال له خالد بن الدريوس وشدوا على من يليهم من الفساق والشطار فمنعوهم وطردوهم)
ولقيت بغداد من هؤلاء الشطار والعيارين أشد أنواع العذاب والإرهاق، وقد كانت تدافعهم بمختلف الطرق فما أغنى ذلك عنها شيئاً، ففي سنة سبع عشرة وأربعمائة كان (العيارون يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره كما يفعل السلطان بمن يصادره، وعلم الناس الأبواب على الدروب فلم تغن شيئاً).
وكان الشاطر إذا شاخ وعجز عن العمل ربما تاب فتستخدمه الحكومة في مساعدتها على كشف السرقات، وكان في خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء يطلق عليهم اسم (التوابون) ولكن هؤلاء كانوا في الغالب يقاسمون اللصوص ما يسرقونه ويكتمون أمرهم.
وكثيراً ما كان الوزراء والحكام وأصحاب السلطة والنفوذ يقاسمون الشطار والعيارين الأموال، ففي حوادث سنة ست وثلاثين وخمسمائة يذكر ابن الأثير: (. . وفي هذه السنة وصل السلطان إلى بغداد فرأى تبسط أمر العيارين وفسادهم ما ساءه فأعاد بهروز إلى الشحنكية فتاب كثير منهم، ولم ينتفع الناس بذلك لأن ولد الوزير وأخا امرأة السلطان كانا يقاسمان العيارين فلم يقدر بهروز على منعهم).
وقد ذكر ابن بطوطة استفحال أمر الشطار والعيارين على عهده (القرن الثامن) وأشار إلى اجتماعهم على الفساد وقطع الطرق وهجومهم على مدينة بيهق فملكوها وملكوا غيرها، فجندوا الجنود وركبوا الخيول، وجعلوا أحدهم سلطاناً عليهم، وانحاز إلى هذا السلطان العبيد، فمن رأى فيه شجاعة أمره وأعطاه مالا وفرساً.
وكان لهؤلاء الشطار والعيارين عيون على الناس من النساء والرجال يتبعونهم في الحانات والقصور والصيارف والجوهريين، فإذا رأوا من قد باع شيئاً تبعوه وأخذوا ما معه.(741/21)
رأيهم في أعمالهم:
الذي يظهر لنا من دراسة حياة هذه الجماعات أن أعمالهم هذه كانت موجهة إلى أصحاب المال والأغنياء الذين يكدسون ثرواتهم ويخزنون أموالهم، ويتركون العامة في عوز وفاقة، لذلك لم يعترضوا لأصحاب البضائع القليلة ولم يعرضوا لامرأة ولا إلى من يستسلم إليهم، وكانت هذه صفة ابن حمدون الشاطر والبرجمي العيار.
ولم يكن هؤلاء الشطار والعيارون يعدون اللصوصية جريمة وإنما هي صناعة يحللونها لأن ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة تلك الأموال، فقد ادعوا أنهم فقراء فإن أخذوا تلك الأموال كانت لهم مباحاً، وهذا التعليل يسرده لنا ابن سيّار الكردي ويذكر خبره التنوخي قال: (كنت مسافراً ببعض الجبال فخرج علينا ابن سيار الكردي، فقطع علينا وكان بزي الأمراء. . فقربت منه أنظر إليه وأسمع كلامه فوجدته يروي الشعر ويفهم النحو، فطمعت فيه وعملت أبياتاً مدحته بها، فقال: لست أعلم أن هذا من شعرك، ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعراً الساعة وأنشدني بيتاً، فعملت في الحال أجازة له ثلاثة أبيات. فقال لي: أي شيء أخذ منك لأرده عليك؟ فذكرت له ما أخذ مني فرده إليَّ. ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها كيساً فيه ألف درهم فوهبه لي. فجزيته خيراً ورددته إليه، فقال لي لِمَ لا تأخذه؟ فوريت في كلامي، قال: أحب أن تصدقني، فقتل: وأنا آمن؟ فقال: نعم، قلت: لأنك لا تملكه وهو من أموال الناس أخذته منهم الساعة ظلماً فكيف يحل لي أخذه، فقال لي أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص عن بعضهم قال: (إن هؤلاء التجار لم تسقط عنهم زكاة الناس لأنهم منعوها فصارت أموالهم بذلك مستهلكة، واللصوص فقراء إليها، فإن أخذوا أموالهم كان ذلك لهم مباحاً لأن عين المال مستهلكة بالزكاة. ثم قال لي: خذ الآن الكيس فأخذته وساق القافلة)
بلاؤهم في الحروب:
كان للشطار والعيارين في الحروب والفتن المحل الأول والشأن الكبير، ففي الفتنة بين الأمين والمأمون لما عجزت جنود الأمين عن الدفاع استنجد بالعيارين والشطار في الدفاع عن بغداد، فنظمهم نظام الجند على كل عشرة منهم عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب،(741/22)
وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير.
وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم الميازر، وقد اتخذوا لرؤوسهم دواخل من الخوص سموها الخوذ، ودرقاً من الخوص والبواري قد قرنت وحشيت بالرمل والحصى، وساروا للحرب يضربون المأمونية بالمقلاع والحصى، وفي هؤلاء يقول الشاعر:
خرّجت هذه الحروب رجالا ... لا لقحطان ولا لنزار
معشر في جواشن الحصر يعدو ... ن إلى الحرب كالليوث الضواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأبطا ... ل عاروا في القنا للفرار
واحد منهم يشد على ألف ... ين عريان ما له من ازار
ويقول الفتى إذا طعن الطع ... نة: خذها من الفتى العيار
ومن ظريف بلائهم في هذه الفتنة ما ذكره ابن الأثير قال: إن قائداً من أصحاب طاهر من أهل النجدة والبأس خرج يوماً إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من نرى؟ استخفافاً بأمرهم واحتقاراً لهم، فقيل له: نعم، هؤلاء هم الآفة، فقال لهم: أف لكم حين تنهزمون من هؤلاء وأنتم في السلاح والعدة والقوة وفيكم الشجاعة، وما عسى يبلغ كيد هؤلاء ولا سلاح معهم ولا جنة تقيهم. . . وتقدم إلى بعضهم وكانت في يده بارية مقيرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة فكان الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار فيقع السهم في باريته أو قريباً منها فيأخذه العيار ويصيح دانق - أي ثمن السهم دانق قد أحرزه - فلم يزل كذلك حتى فنى سهام الخراساني. . . ثم حمل عليه العيار ورماه بحجر من مخلاته في مقلاع فما أخطأ عينه، ثم خر وكاد يصرعه، فانهزم وهو يقول: ما هؤلاء بناس.
وحدث مثل هذا من العيارين والشطار في حرب المستعين والمعتز سنة 251هـ إذ حوصر المستعين بالله ببغداد مثل حصار الأمين فاستعان بالعيارين وفرض لهم الأموال وجعل عليهم رئيساً اسمه بينونه.
ومن العيارين رجال خلدهم التاريخ وكتب حولهم القصص الشعبية مثل الزيبق وقصته مشهورة معروفة تقرأها العامة كما تقرأ قصة أبي زيد الهلالي وقصة عنترة وغيرهما من القصص الشعبية.(741/23)
أزياؤهم:
ذكرنا زيهم وسلاحهم في الحروب وأما في السلم فقد وصفه لنا ابن منظور قال (خرج أبو نواس إلى مصر في زي الشطار وتقطيعهم بطرّة قد صففها، وكمين واسعين، وذيل مجرور، ونعل مطبق). وكان للشطار مئزر يأتزرون به على صدورهم يعرف بأزرة الشطارة. وكان لهم سراويل يلبسونها تشبه سراويل الفتوة. وكانوا يخرجون إلى الأسواق ومحلات الجوهريين بثياب التجار فلا يعرفهم الإنسان حتى يأخذوه.
هذا مجمل ما استطعنا أن نقف عليه من أخبارهم وأعمالهم معتمدين على أهم المصادر التي ذكرت تاريخهم متفرقاً هنا وهناك فإن فاتنا شيء من أمرهم فمعذرة.
(بغداد)
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية(741/24)
الدولار
للأديب عمر حليق
الدولار ورقة خضراء اللون تطبع بطريقة سرية من مركب كيماوي غريب. ويبلغ طولها 6. 14 انشاً وعرضها 2. 61 انشا.
ويبلغ سعر الدولار (ذهب معدن) 35 بالمائة من سعر أوقية الذهب.
وتطبع الحكومة الأمريكية من الدولارات 2482000 دولار يومياً، وتجمع الحكومة كذلك من الأسواق دولارات بالية تعادل قيمتها مبلغ الدولارات المطبوعة يومياً.
وينفق الأمريكيون كل يوم 437 مليون دولار لتسيير أعمالهم وحياتهم اليومية. ويشكو الأمريكيون كل يوم أن الدولار أصبح لا يساوي قيمته الشرائية كما عهدوه في السنين الماضية. وتبلغ هذه القيمة 58 بالمائة من قيمة دولار سنة 1939.
ومع ذلك فإن الدولار هم اليوم أهم وثيقة مطبوعة عرفها تاريخ العلاقات السياسة. هو سلاح مارشال في محاربة التوسع الشيوعي وسلاح رجال الأعمال في (وال ستريت) للتسرب إلى معاقل الاشتراكية في أوروبا لحفظ النظام الاقتصادي المطلق الذي تؤمن به الرأسمالية الأمريكية.
والدولار الأمريكي هو أساس بلية بريطانيا وأزمتها الاقتصادية وهو الشبح المخيف الذي يقلع مضاجع القارة الأوروبية المحطمة.
وقد لعب الدولار في الأيام الأخيرة دوراً هاماً في سياسة العالم. فقد كانت قلته في بريطانيا داعياً لها لانتهاج سياسة مالية جديدة متباينة جوهريا مع سياستها التقليدية في الداخل والخارج.
فالدولار مثلا هو العقبة الكبرى في سبيل اتفاق أمريكا وبريطانيا وفرنسا حول مستقبل فحم الرور الألماني.
والدولار هو السوط الذي جمع أقطاب السابة والاقتصاد في أوروبا على طاولة واحدة لأول مرة في تاريخ أوروبا الحديث.
على هذه الطاولة التقى الجائع مع الاستعماري، والشيوعي مع المحافظ العتيد والاشتراكي مع أولئك الذين يميلون إلى أقصى اليمين.(741/25)
ولم يحتج الدولار لأكثر من إشارة متواضعة في اليونان لأن يسقط الوزارة الملكية بعد أن ثبت لرؤساء بعثة ترومان التي تشرف على اتفاق مساعدة أمريكا لليونان بأن الحالة السياسة والاقتصادية هناك تتطلب حكومة اميل إلى الوسط منها إلى اليمين المتطرف.
وليست قيمة الدولار مردها إلى قيمة الذهب الأصفر الذي في استطاعته ابتياعها، فليس هناك من يبادل الدولار بالذهب سوق تجار المجوهرات وأطباء الأسنان الذين يستبدلون الأسنان العفنة بأخرى ذهبية ولكن قيمة الدولار تعود إلى كمية البضائع والسلع التي يستطيع ابتياعها في أسرع وقت ممكن - والعالم بأسره في حاجة إلى السلع والبضائع. فالدولار إذن سيد الموقف في العالم.
وللدولار قوة سحرية في توفير الفحم والوقود السائل والآلات ووسائل النقل ولقد جمعت الولايات المتحدة الأمريكية في يدها الدولار وقوة الدولار السحرية وما يعادله من سلع ومنتجات ذلك لأن الحرب المنصرمة تركت أمريكا في حالة عكس ما تركت به أوروبا - بلد يضيق به إنتاجه الصناعي بسبب التضخم في الإنتاج الذي جاء وليد توسع المجهود الحربي وما استلزمه من صناعة موسعة على نطاق لم يعهده التاريخ.
ولكن المصيبة أن موارد العالم - خارج أمريكا - من الدولارات شحيحة خفيفة. ومع أن أمريكا منحت العالم الخارجي 20 بليوناً من الدولارات في شكل هبات ومساعدات وقروض إلا أن ما بقى لدى العالم الخارجي من هذا المبلغ الضخم لا يتعدى خمسة - أربعة بلايين دولار لا غير! ولا يزال استنفاد الدولارات جاريا بسرعة فائقة.
وتبتاع أمريكا من العالم الخارجي كل شهر ما مقداره 80 مليون دولار ولكنها تبيعه ما تبلغ قيمته بليون و 800 مليون دولار!
وإزاء هذا الموقف الخطير وجدت أمريكا نفسها أمام أمرين
(1) إما أن تستمر في هذه الحالة فتزداد غنى على حساب أوروبا المحطمة وهذا بالطبع يضعها في موقف الرأسمالي الجشع ويدفع أوروبا والعالم من دوراها إلى أحضان الاقتصاد المنظم والمساواة الاقتصادية - الشيوعية.
(2) وإما أن تستنبط الولايات المتحدة طريقة عملية لإعادة قوة أوروبا الاقتصادية والتجارية لتستطيع أن تزيد من تصديرها إلى الولايات المتحدة فتحصل على دولارات(741/26)
أكثر تستورد بها من الولايات المتحدة بضائع وسلع فيستفيد الإنتاج الأمريكي ويظل على مستواه الضخم ويساعد على استيعاب العمال وتقوية الصناعة وإبقاء الانتعاش التجاري على حالته السليمة.
واختارت الولايات المتحدة الطريقة الأخيرة ولوحت لأوروبا به بما دعته (مشروع مارشال).
وبقى سؤال واحد على ألسنة ساسة الدول: هل توافق السلطة التشريعية الأمريكية (الكونغرس) على مشروع مارشال هذا فتزداد قوة الدولار السحرية في السياسة الدولية أم ينتصر أنصار العزلة في أمريكا وتبقى للدولار سلطته الاقتصادية المجردة من بلاغة السياسيين وألاعيبهم الشيطانية وتظل الولايات المتحدة سيدة العالم في الحياة المادية البحتة أم أن يزداد العم سام خيلاء فيضم إلى الاقتصاد مزامير العظمة السياسية. .
وهل السياسة غير ضباب التمويه الذي ينشره الاقتصاد ليعمي الأبصار عن قساوة الاقتصاد المجرد.
وهل في (البرجماتزم) الأمريكي مجال أخصب لهذا الدور الذي يحلو للدولار الأخضر أن يلعبه وأوروبا والقسم الأكبر من العالم معها يعاني آلاماً حادة في المعدة ودواراً شديداً في التفكير السياسي.
عمر حليق(741/27)
أدب العروبة في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
(تتمة)
الشعراء الثلاثة الذين سنتكلم عنهم اليوم هم - دون شك - من شعراء الطليعة والصف الأول في جامعة أدباء العروبة، وهم الجوهر والنواة فيها، كانوا معها أول ما نشأت، واستمروا على عهدهم لها إلى يومنا هذا يصدحون في كل مهرجان، ويتبارون في كل ميدان. . .
هؤلاء هم الأساتذة: أحمد عبد المجيد الغزالي، والعوضي الوكيل، وطاهر محمد أبو فاشا.
وثلاثتهم نشأوا نشأة واحدة، ونهلوا وعلوا من معين واحد وتفيئوا ظل دوحة واحدة، فكان الصراع بينهم دائماً وكانت المنافسة بينهم أبداً.
والناظر المتأمل فيهم، الفاحص عن طبيعة قلب كل منهم وحركات نفسه وصور وجدانه يجد بينهم - إلى ذلك - اختلافاً كبيراً.
فأولهم (الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي) شاعر نشهد بأنه شاعر مجيد فيه طلاوة ولعبارته إشراق. والخصلة التي تبدو فيه واضحة وضوحاً قوياً حتى تكاد تلازمه في كل ما يكتب هي أنه لا ينسى نفسه أبداً! لا تنسيه إياها المناسبة أيا كانت، ولا ينسيه إياها مقتضى الحال كيفما كان، فهو يفتأ يتحدث عنها ويتكلم فيها حتى تحسبه يوشك أن يقول للناس: هأنذا. . .
وليس مما يؤخذ على الشاعر أن يصور للناس نفسه، وأن يطلع الناس على عواطفه إذا كان يصور نفسه مندمجة في الشيء الذي يتناوله بالكلام، ويطلع الناس على عواطفه متأثرة بالموضوع الذي يتحدث عنه فيكون بين نفسه وبين موضوع الحديث كمال الاتصال إن جاز أن نستعمل هذا التعبير هنا!
أما أن يترك الشاعر الموضوع الأصلي إلى الحديث عن نفسه وعن عاطفته في أمر لا علاقة للموضوع بهما فذلك ما نأخذه على الشاعر.
والأستاذ يقف في مهرجان الفيوم فلا يتحدث عنها بشيء ولا يسوق من تاريخها الحافل أو ماضيها المجيد شيئاً، إنما يقف فيسرد على الناس قصة غرامه الشخصي في غزل يخاطب فيه حبيبة بعينها اعتقادي أنها المقصودة بكل ما قال، ويترك الناس حيارى لا يدرون ما(741/28)
يقول أو فيم يقول، ويناديها وهي في ديارها إلى جانب النيل ويصيح لها قائلا: -
أنا أشدو لها جراحي شعراً ... فعساها تضمد الأشعارا
وعساها في جانب النيل تصغي ... لنشيد يشعّ نوراً ونارا
ثم يشكوها في صراحة إلى عذارى الفيوم فيقول:
يا عذارى الرياض من كل شاد ... أنا أشكو إلى العذارى العذارى
وهو في مهرجان المنصورة يخلص عجلا مسرعاً من الحديث عنها ولا يكاد يبدأ الحديث عن سيرتها حتى يعبرها غير وان ليتكلم عن قلبه وعن وجده بما لا علاقة له بالموضوع القائم فيقول:
يا لقلبي لما اطمأن به الركـ ... ب وألقى هنا عصا الترحال
شاركتني ضلالة الحب قلبي ... فتبارى ضلاله وضلالي
وانتبذنا هنا مكاناً قصياً ... وشكوت الهوى له وشكا لي
وأدع ما قاله في مهرجان الزقازيق فقد يكون حديثه عن نفسه هناك متلائماً مع طبيعة الموضوع لأن الزقازيق مهد أحلامه كما يقول ومعهد صباه الأول.
والأستاذ الغزالي يخاطب الطيور في قصيدة (الربيع) بقوله:
يا طيور الروض غنينا النشيدا ... وانثري فوق الربى زهر الربيع
وأنا لا أعلم كيف تنثر الطيور الأزهار فوق الروابي؟
ويخاطب الأزهار - في نفس القصيدة - بقوله: -
إيه يا زهر الربيع الباكر ... يا متاع القلب يا أنس الأماني
وكلمة (يا أنس الأماني) هذه عامية ولا معنى لها ومتى كان للأماني أنس؟
ويصف سهده وهو يتكلم في مهرجان القمر فيقول:
أقضي الليالي أنات مرددة ... والشاهدان عليّ النجم والسهر
والنجم وحده هو الشاهد. أما السهر فهو العلة والداء ولكنه الاضطرار!
ويفاضل الأستاذ بين بلدة (غزالة) وبين (بغداد) مفاضلة فيها تعسف شديد وإسراف بعيد ليته مدها بغير ذلك.
ومفاضلته كذلك بين (الدسوقي) وبين (الرشيد) مفاضلة على غير وجهها، فهذا وزير له(741/29)
صولة القلم وصلصلة البيان، وذاك خليفة له أبهة الخلافة وجلال السلطان! فإن كانت الجامعة بينهما عند الأستاذ هي الأدب فالدسوقي أدب من الرشيد وأوفر منه مشاركة فيه. ولم يعز إلى الرشيد إلا أبيات قليلة لا تبلغ عدد أصابع اليد على أنها لم تثبت له بل نحلها بعض الرواة شاعراً آخر من شعراء الأندلس.
والأستاذ الغزالي نفسه هو الذي ذكر الرشيد عند ذكر الفاروق في قصيدة عيد الجلوس فقال عن لواء الفاروق بعد كلام آخر: -
فيردّ الليالي الغر للشر ... ق ويحيى أيامه والرشيدا
وقال قبل ذلك عن هذا اللواء: -
يا لواء الفاروق عشت ملياً ... نحن نفدى لواءه المعقودا
والمليّ الزمان الطويل والله يقول: (واهجرني ملياً) وكان الأولى أن يقول (يا لواء الفاروق عشت دواماً). ويقول عن خمرة الربيع:
فاسقنيها في ربيع الزمن ... خمرة من ريها العذب أوامي
والأوام حر العطش وكيف يتأتى هذا من الري العذب؟
ويقول عن قلبه وهو يخاطب القمر:
قلبي الذي بات يصلي منك جمرته ... وقد حبته بلذع دونه سقر
والحباء العطاء وأحسبه لا يكون إلا في الخير لا في اللذع الذي هو شر من سقر!
وللأستاذ شعر كثير حسن وأبيات فيها جمال وصفاء، وليست الهنات التي قدمنا بما نعتنا أن نقول فيه ما قلناه أولا من أنه شاعر مجيد فيه طلاوة ولعبارته إشراق.
وثانيهم الأستاذ العوضي الوكيل وهو شاعر هادئ وديع حالم وإن كان قصير النفس غير مكثر في القول، والخصلة التي تغلب على جميع ما ينظم هي الأنين والبكاء بلا انقطاع! فهو يقف في مهرجان (الفيوم) فيقول بعد بيت واحد من القصيدة:
على شفتي من خمرة الحب نشوة ... تلهب ترنيمي بها وغنائيا
وإن كانت النشوة التي هي السكر في اللغة لا تكون على الشفة وهو يناجي القمر في قصيدته عنه فينحرف مسرعاً ليندب صباه ويبكيه فيقول:
له حسرات ملأن الضمير ... ووجد تلهب حتى استعر(741/30)
ويصف شعره في مهرجان الزقازيق في صراحة ووضوح فيقول عنه: -
ليس شعري من الكلام ولكن ... هو من لهفتي ومن إطراقي
ويبتدئ قصيدته بمهرجان المنصورة ببكاء ليس وراءه بكاء وإن كان المقام لا يقتضي بكاء بل إشادة وتغنياً بالمجد والنصر وأمجاد التاريخ، فيقول في مطلعها: -
هو الوجد ما تخفى بنفسك أو تبدي ... هو الوجد فاذكر ما لقيت من الوجد
ونهنه ترانيما بقلبك أوشكت ... تفيض كمنهل الدموع على الخد.
وهذه ظاهرة تستوجب التسجيل في شعر الأستاذ العوضي الوكيل فإن كان يود أن تكون بشعره هذه المسحة دائماً وإن كان يأبى إلا أن يكون شعره على هذا اللون غير مستمد ذلك من طبيعته الخاصة - وهو ما أكاد أقول به وألمحه بين ثنايا كلامه - فإني أشير عليه بأن يعالج الخلوص من ذلك والتحلل منه.
وللأستاذ في الكتاب ست قصائد الكثير منها جيد حسن الديباجة أضعه مع شعر الأستاذ الغزالي في ميزان، إلا أن قصيدته في (الربيع) ضعيفة مفككة مختلطة المعاني مهلهلة النسج كان الأولى به ألا ينشرها في الكتاب فيه دون شعره الآخر بمسافة بعيدة، يقول في مطلعها: -
أي صديقي الربيع. . . عدت وعدنا ... فامض في الكون كيف شئت وأنى
وأنا أفهم أن الربيع يعود كل عام مرة ولكن من أين يعود الشاعر ومتى يعود؟
ويقول فيها يخاطب الربيع معدداً محاسنه: -
قد عمرت الحياة ركناً فركنا ... وغمرت القصيد وزناً فوزنا
والوزن ليس هو الشعر وليس هو الكلام الذي يقول الأستاذ إن الربيع يغمره إنما هو الميزان الذي يوزن به الشعر ويقاس به. وفي قصيدة القمر يخاطبه فيقول له:
جلست معي أيهذا القمر ... وأحليت من عيشتي ما استمر
يقصد ما مذاقه مر، وذلك الفعل (استمر) لا يؤدي هذا المعنى وإنما يؤديه الفعلان مرّ وأمرّ، تقول مرَّ الشيء وأمرَّ الشيء صار ذا مذاق مر، هذا إلى أن كلمة (عيشتي) خشنة جافة لا تجوز في شعر.
وفي قصيدة الفيوم يقول عنها: -(741/31)
تخيلتها معنى فلما رأيتها ... حسبت كأبي جئتها اليوم ثانيا
والبيت في ذاته حسن المعنى إلا أن كلمة (معنىً) بعد (تخيلتها) حشو اضطر إليه الشاعر فالخيال لا يكون إلا معنى أبداً، ويقول عن الفيوم أيضاً: -
هدانا إليها في السباسب طيبها ... على أن برح الشوق قد كان هاديا
وألمح هنا شبح بيت شوقي: -
ألمّ على أبيات ليلى بي الهوى ... وما غير أشواقي دليل ولا ركب
أو شبح البيت القديم:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
ويخاطب معالي الأستاذ الرئيس في نهاية قصيدة المنصورة قائلاً:
جعلت لأيام العروبة رونقاً ... يجمله الفاروق ذو العزم والأيدي
والأيدي بالياء صوابها الأيد بحذفها والأيد القوة ولعله تطبيع وجملة ما يقال في الأستاذ العوضي الوكيل - رغم ما قدمنا - أن به إحساساً وأن له قلباً، ولو استطاع التغلب على نزعته الحادة وجنوحه الشديد إلى البكاء والأنين لخطا خطوة فسيحة نحو مكان كرام الشعراء.
وثالثهم الأستاذ طاهر محمد أبو فاشا وهو شاعر اكتملت له أدوات الشاعر جميعاً، فبيانه جزل ضخم ممتاز، وخياله قوي رائع، والموسيقى تضطرب في شعره اضطراباً، أسمع إليه وهو ينفح عن الفن ويجعل منه عصب الحياة وروحها فيقول: -
ربما استغنت الحياة عن العـ ... لم على رغم ما جنى العلماء
وعلى الفن وحده عاش أجدا ... دك دهراً وهم به سعداء
إن من أطلقوا العقول علينا ... لست تدري أأحسنوا أم أساءوا
والذي ظنها تراباً وماء ... هو في نفسه تراب وماء!
ويقول في نفس القصيدة عن (الشاعر) هذا البيت الرائع:
ذو بيان لو عاقرته الندامى ... لتناهت عن شربها الندماء
وأسمع إليه وقد وقف في الزقازيق يقص أخبار أيامه الأولى بها:
من ترى أيقظ الخواطر حولي ... وأثار المطوي من صفحاتي؟(741/32)
وأعاد الأيام والمعهد السا ... مق مروج بالنجوم الهداة
الفحول الأعلام أمثلة الزهـ ... د وشيخانه العدول الثقاة
ورفيق كأنه هامش الشر ... ح إذا صات يمضغ القافات
حنبلي كأنه الجمل الأو ... رق صخابة كثير اللتات
السراج العليل يشهق في محرا ... به والبلى يروح وياتي
ونضيج مغلغل لاذع الطعـ ... مة يشوي أصابعي ولهاتي
يتصبى المجاورين فتنصـ ... ب عليه كالفاتحين الغزاة
اترك المتن واطو حاشية السـ ... عد وأدرك شيخون قبل الفوات
أنا من مازن ومازن مني ... والليالي القمراء من صدحاتي
وللأستاذ طاهر في الكتاب ثلاث قصائد فقط خيرها قصيدته في الزقازيق تلك التي قدمنا بعضاً منها وقد بلغ فيها الذروة، وتليها قصيدة الفيوم وقد كان فيها الشاعر المنافح عن الشعر المبين عن فضله وأصالته في الحياة. وهو يقول فيها عن قافلة الشعراء وهي تسير:
لو تحسنّ البيداء من سار فيها ... لتغنت من شجوها البيداء
والشجو فيما تقول به اللغة الهم والحزن فكيف تتغنى البيداء من هذين، أو كيف يركبها الهم والحزن وقافلة الشعراء تسير بها؟ وثالثتها قصيدته في (هلال المحرم) وهي دون الأوليين ولم ترقني كثيراً.
والأستاذ طاهر أبو فاشا شاعرٌ يبشر بآمال كبار، ولو سألني سائل من تراه أشعر شعراء جامعة أدباء العروبة لقلت غير متردد إنه طاهر أبو فاشا، ولو لم يكن لجامعة أدباء العروبة إلا فضل إبراز مواهب هذا الشاعر وإظهاره لكفاها ذلك فضلا. .
فليعط الأستاذ طاهر باله إلى الشعر أكثر من هذا، وليخلع رداء الكسل والراحة، ولينفق للشعر جهداً أضخم مما ينفق اليوم، وليعتزل وليخل إلى نفسه يتأمل ويتصور ويقول، وأنا الزعيم له أن يتبوأ الصدر في شعراء هذا الزمان.
وبعد: فتلك كلمات جلونا فيها بعض الكتاب والشعراء من جامعة أدباء العروبة أملاها علينا الحق الذي لا يداخله هوى، والعدل الذي لا يخالطه غرض، وكشفنا فيها عن مجهود هذه الجماعة في عام وإنه لمجهود يسير ضئيل ترجو أن يتضاعف ويزيد.(741/33)
وإن جاز لنا أن نقترح على معالي الأستاذ الرئيس أمراً فهو أن ينظر في تعديل تشكيل هذه الجماعة حتى يتمكن كبار الكتاب والشعراء من الانخراط في سلكها، وأن يعدل منهاجها حتى يكون أوفى بالغرض الذي أنشئت الجماعة من أجله وهو في كلمتين خدمة الأدب، وخدمة الأدباء.
ونحن إذ تنتظر منه ذلك نزجي إليه - مرة أخرى - الثناء مضاعفاً والمدح مكرراً، ثناء الأدب لمناصره، ومدح الفن لمؤازره. والسلام.
رأس البر
علي متولي صلاح(741/34)
ليل وقلب. . .
هو الليل يا قلب، فانشر شراعـ ... ك، واعبر خضمَّ الظلام العميقْ
وجذِّفْ بأوهامك الراعشـ ... ات في زورقٍ ما به من رفيق
وإنك كالليل، شيء كبيرٌ. . . ... بعيد القرار، سحيقٌ سحيق
وفيك كألغازه المبهماتِ ... أفانين من كل لغزٍ دقيق
هواجس مختلفاتٌ رؤاها ... تهوم طوراً وطوراً تفيق
ولليلِ يا قبل أيُّ امتدادٍ ... يحيط بهذا الوجود العظيمْ
سرى واحتوى الكونَ في عمقه ... فلفَّ البحار ولفَّ الأديم
وكالليل أنت، حويت وجوداً ... من العاطفات كبيراً جسيم
ففيك السماء وفيك الخضم ... وفيك الجديد وفيك القديم!
وتنتظمُ الكونَ في خفقةٍ ... وأنت بجنبي هنا لا تريم!
ودونك يا قلب هذا الفضاَء ... تجوز به السحُبُ العابره
مراكب تمخر إثر مراكب تـ ... دفعها قوةٌ قاهره
كأني أرى في شُكول السحاب ... نواتيَّ أبصارهم حائره
أَضلوا المنارَ، فهم تائهون ... يغذّون في اللجج الكافره
كذلك أنت ببحر الحيـ ... اة توهان في ظلم سادره
ورجرجة النجم كم ساجلتك ... بصدر السماء خفوقَ الحنينْ
أبالنجم ما بك من لهفة ... أبالنجم مثلك شوق دفين؟
أتجهش في قلبه الذكرياتُ ... وتأخذ منه بحبل الوتين؟
فما باله قلق خافق ... يراعى الدُّجى في سهوم حزين
لعلَّ حبيباً له قد هَوى ... وبات كخدنك في الآفلين
وأصغ معي في سكون الرياض ... وقد لفَّها غسقُ الغيهبِ
طيور توشوش جنح الدجى ... وتكشف عن همها المختبى
فهذا الخريف تدب خطاه ... ليعصف بالزهر المعجب
ويخنق ألحانَ أشواقها ... ويلوي بترجيعها المطرب
وكيف تغنى لزهر ذوى ... بروض سليب الحلى مجدب(741/35)
وأنت. . . وأنت تخاف الخريفَ ... وتشفق من ريحه العاتيه
تخاف على زهرات الصبى ... تبددها كفه القاسيه
فلا نوْرَ يشتاقُ طلَّ الصبـ ... اح ويوحى بأنغامك الصاديه
تخاف تزايِلُكَ الملهباتُ ... وتخمدُ أشواقُك الطاغيه
ويفرغ نايُك من لحنه ... ويثوى حطاماً بأضلاعيه
وسعتَ عوالمَ يا قلب ماجت ... بجم الطيوف وشتى الصُّور
أحاسيس حيرى تهيج وتطغى ... هياج العباب إذا ما غمر
وأخرى تهب هبوبَ النسيم ... تنَّفس في جانحيه الزَّهَر
وتظلمُ يا قلب حتى كانك ليـ ... ل بصدري الكظيم اعتكر
وتشرقُ حتى إخال الضياَء ... بأقطار نفسي منك انتشر
وتخصب طوراً فكلك حبٌّ ... يعانق قلب الوجود الرحيب
تفيض سلاماً كأن يد الله ... مرت عليك بنفح رطيب
تحب العدو وتحنو عليه ... وخنجره منك دام خصيب!
وطوراً تغيض سوى من رواسـ ... ب كره عصى وبغض رهيب
كأن أكف الشياطين غلغلن ... فيك فأنت مجوف جديب. . .
فيا قلبُ، يا أحد الأصغرين، ... كيف اتسعت لهذا الوجودِ
وكيف احتمالك هذا الزحام ... من خلجات كثار العديد
تحب وتبغض حراً طليقاً ... فلا من سدود ولا من قيود
تصد نداَء المحب القريب ... وتهوى نداَء العدو البعيد!
فيا لك أعمى يقود زمامي ... كما شاء، فعل اللجوج العنيد!
هو الليل يا قلب، فانشر شراعـ ... ك، واعبر خضم الظلام العميق
وجذف بأوهامك الراعشـ ... ات في زورق ما به من رفيق
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(741/36)
الأدب والفنّ في أسبُوع
جدل في الجامعة:
كان الأستاذ محمد أحمد خلف الله المعيد بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول - قدم رسالة للحصول على (الدكتوراه) موضوعها (القصص في القرآن) وقد أعدها بإشراف الأستاذ أمين الخولي ومعاونته وألفت لجنة من الأستاذين الشايب وأحمد أمين بك للنظر في صلاحية الرسالة للمناقشة، وكتب كل من الأستاذين تقريره عنها، أما الأستاذ أحمد أمين فقال إنها لا تصلح لضعف منهجها العلمي، وأما الأستاذ الشايب فرأى أن بها ما يمس الناحية الدينية، لأن صاحبها يقول فيها إن القصص القرآني لم يراع الحقيقة التاريخية وإن المقصود منه غرض فني فلسنا ملزمين بتصديق حقائق هذا القصص، وإنما نقدر فيه الغاية الفنية.
ويقول إن القصص مستمد من مصادر أخرى غير عربية كالتوراة والأدب اليوناني والأدب الفارسي، وإن فيه أساطير لا أساس لها. لذلك رأى الأستاذ الشايب أنه لا يجوز أن تعرض رسالة تتضمن هذه الآراء للمناقشة في لجنة الدكتوراه.
وعلم الأستاذ الخولي بفحوى تقرير الأستاذ الشايب، فرد عليه بتقرير قال فيه إنه متضامن مع مقدم الرسالة في كل حرف منها وإنه لا ينبغي الوقوف أمام حرية الفكر. وهذه التقارير كلها لدى العميد تنتظر اجتماع مجلس الكلية.
وتتحدث البيئات الجامعية في هذه المسألة، وأقوم ما يقال فيها أن (الدكتوراه) إجازة من إجازات الدولة التي دينها الإسلام، فكيف تمنح لمن يرى هذه الآراء في القرآن؟
افتتاح المؤتمر الثقافي:
افتتح المؤتمر الثقافي العربي الأول في اليوم الثاني من سبتمبر الحالي بفندق بيت مري بلبنان، وقد افتتحه رئيس الجمهورية اللبنانية بخطاب ترحيبي أشاد فيه بفكرة المؤتمر وماضي العرب في خدمة الفكر والثقافة، وتلاه وزير المعارف اللبنانية ومندبو البلاد العربية بكلمات افتتاحية نوهوا فيها بجهود لبنان في ميدان الثقافة ونشر اللغة العربية وآدابها، كما نوهوا بأهمية هذا المؤتمر وما يرجى منه من إنهاض الآداب العربية ورفع مستوى الثقافة وتوحيد أهدافها ببلاد العروبة. وألقى بعده الأستاذ على الجارم بك قصيدة(741/38)
خصصتها بكلمة تراها بعد هذا.
وقد ألفت لجنتان عامتان، الأولى للمواد الاجتماعية يتفرع عنها لجنة للتاريخ برياسة الدكتور جواد علي (العراق) ولجنة الجغرافيا برياسة الأستاذ وصفي العنبتاوي (فلسطين)، ولجنة التربية الوطنية برياسة الدكتور قسطنطين زريق (سوريا).
واللجنة العامة الثانية للغة العربية، ويتفرع عنها لجنة الأدب برياسة الأستاذ أحمد أمين بك (مصر)، ولجنة اللغة والقواعد برياسة الأستاذ محمد بهجت الأثري (العراق).
وتواصل اللجان اجتماعاتها بفندق بيت مري الذي تقول الأنباء إنه تحول باجتماع المؤتمر فيه إلى قصر للعروبة تخفق على أبراجه رايات الدول العربية التي تبدو بالليل بين الزينات والأنوار
ولم يشترك في المؤتمر من النساء سوى ثلاث لبنانيات، وقد ظهر أن ما أذيع قبل من أن أربعين سيدة عربية سيشتركن في المؤتمر مصدره أن هؤلاء السيدات هن زوجات الأعضاء آلائي جعل لهن ما لأزواجهن من تخفيض في نفقات السفر والإقامة مع دفع رسوم المؤتمر.
قصيدة الجارم:
سمعنا هذه القصيدة، قبل أن تنشرها الأهرام، من الإذاعة المصرية في مساء اليوم الذي ألقيت فيه بالمؤتمر، وكان المذيع في حديقة الأندلس يذيع من هناك حفلة ساهرة، فما انتهى المطرب أعلن الانتقال إلى (الاستديو) فسمعنا المتحدث يقول: ألقى الأستاذ على الجارم بك اليوم قصيدة (العروبة) في المؤتمر الثقافي بلبنان وقد استطعنا الحصول عليها، ويقرؤها عليكم الآن عبد الوهاب يوسف. . . وابتدأ إنشاد القصيدة، وإذا الصوت صوت المذيع الذي سمعناه من حديقة الأندلس وهو عبد الوهاب يوسف! فهل انتقل المذيع على الأثير من الحديقة إلى (الاستديو) ليلقي قصيدة الجارم!
المسألة يا سيدي بسيطة. . . الجارم باك قال هذه القصيدة في مصر ودفع نسخة منها إلى محطة الإذاعة فسجلتها بإلقاء عبد الوهاب يوسف قبل ظهر ذلك اليوم، ثم أذيع (المسجَّل) في المساء على النحو الذي وصفت. . .
وبعد فأعدِّي عن هذه (الطريقة التمثيلية) لأقول إن سياق القصيدة يدل على أن الشاعر(741/39)
استوحاها في لبنان كما في قوله عن نفسه:
بدت له جارة الوادي الخصيب ضحا ... كل الأحبة في لبنان جيران
ويمكن أن يقال إنه، وهو في مصر، تمثل لبنان وقد تعاهدها أي أنه جرى على (الطريقة التمثلية).
أما القصيدة ذاتها فهي سبعة وثمانون بيتاً، نحو نصفها في الهوى والغيد وذكريات الشاعر في لبنان وتحسره على أيام في عهد الشباب، وقد أجاد في ذلك إجادة شيخ يتلفت قلبه إلى ما بلغه وما لم يبلغه من لذات الشباب وأمانيه. يقول:
أين الصبا؟ أين أوتاري وبهجتها ... طوت بساط لياليهن أزمان
أرنو لها اليوم والذكرى تؤرقني ... كما تنبه بعد الحلم وسنان
لا الكأس كأسي إذا طاف الحباب بها ... بعد الشباب، ولا الريحان ريحان
ثم انتقل الشاعر من هذا الغزل (السلفي) إلى العروبة فأشاد بمجد العرب وخص كلا من فلسطين ومصر وموضوع المؤتمر ببضعة أبيات ويظهر أنه كان قد استنفذ طاقته فجاء كلامه في الأغراض الأخيرة عابراً قليل الحرارة، وهذا كل ما قاله في قضية مصر:
ومصر والنيل ماذا اليوم خطبهما؟ ... فقد سرى بحديث النيل ركبان
كنانة الله حصن الشرق يحرسه ... شيب خفاف إلى الجلى وشبان
أبوا علي القسر أن يرضوا معاهدة ... بكل حرف بها قيد وسجان
وكم مشوا للقاء الموت في جزل ... والموت منكمش الأظفار خزيان
لكل جسم شرايين يعيش بها ... ومصر للشرق والإسلام شريان
والشاعر من (الشيب) ولكنه لم يخفف إلى الجلي، ولست أقصد أن يمشي للقاء الموت في الميدان، وإنما أعني جلى الشعر.
أفتكون هذه الأبيات هي كل بلائه في هذه الجلى؟ كان يجب عليه وقد تصدى لقضية مصر أن يشتم الإنجليز بسبعة أو ثمانية أبيات على الأقل، ولست أدري كيف يتهيأ لشاعر مصري أن يقول شعراً فيما نحن فيه الآن دون أن يمس هؤلاء الأعداء بحرف!
ذكرى شوقي في (الأوبرج):
منذ أسابيع أقرأ في بعض الصحف والمجلات أن حفلا سيقام في (الأوبرج) لتخليد ذكرى(741/40)
شوقي، وأن هذا الحفل أجل إلى 12 أكتوبر القادم بعد أن عين له 14 سبتمبر الحالي، وأنه سيشترك في الحفل الأدباء والشعراء والمطربون والمطربات والموسيقيون والراقصات والملهُّون والملهيات.
وأخيراً قرأت في مجلة (الاستديو) ما يلي:
(يتساءل الوسط الفني عن معنى إقامة حفلة تخليد ذكرى شوقي بك في الأوبرج وتحديد أسعار لها. . . ويقولون: هل أصبحت ذكرى شوقي وسيلة للاتجار والكسب؟).
ولي في هذا الموضوع نظرتان: الأولى في هذه الطريقة الجديدة في إحياء الذكرى التي ستصبغ الحفل بصبغة اللهو والطرب، وإذا كان لابد من الطرب فمن المقبول أن يكون إلى جانب الكلمات والقصائد غناء بعض قطع من شعر شوقي وتمثيل فصل من إحدى رواياته، ولكن ماذا في هز الأرداف وتحريك البطون وما إلى ذلكم من تخليد ذكر شوقي؟!
النظرة الثانية في تسعير حضور هذا الحفل بأسعار (الأوبرج).
إن الذين يرتادون (الأوبرج) ويدفعون أسعاره أكثرهم لا يهتمون بالأدب والشعر، وعلى خلافهم أكثر الذين يعنون بشهود الحفلات الأدبية.
وعلى ذلك نسأل: هل ستكون حفلة ذكرى شوقي لتمجيده وتقدير شعره، أو ستكون حفلة طرب ولهو ذات غلة وإيراد. . . يخرج منها الجمهور وليس بنفسه من شعر عُشر مقدار ما بها من (اللباريق) و (البسطجية اشتكوا). . . أما تصور حركات الخصور والقدود فإنه يُعفّى على كل أثر للأدب. . .
مالك الحزين:
من أبرز الصفات الشخصية في الأستاذ أحمد أمين بك - الحزن، ترى سماته بادية عليه، وتلمس آثاره في تفكيره وكتابته، وتمتزج تلك السمات بالوقار والاتزان؛ ولكن الذي يجالس الأستاذ ويخالطه، أو يتأمل فيما يكتب من خواطره، يدرك أنه يضيق بما يغلب عليه من الحزن، ويعلم للتحرر منه باستجلاب المرح.
وقد كتب الأستاذ كثيراً في أسباب حزنه، فبين أنها ترجع إلى نشأته وأحوال أسرته، وقال في إحدى المرات إنه رضع اللبن الحزين فامتزج الحزن بدمه. وأخيراً كتب بالهلاب مقالا عنوانه (كيف تتغلب على الأحزان؟) ذكر به عدة وصفات للتغلب على الحزن، منها الفلسفة(741/41)
القائلة بأن ما يحدث في العالم من كوارث أمور لابد منها، وظواهر طبيعية للعالم الذي نعيش فيه كشروق الشمس صباحاً وغروبها مساء، فيجب أن نوطن أنفسنا على استقبال الأحداث، وإذا مرنا على ذلك أنفسنا لم نحزن، ومنها نصيحة علماء النفس بألا يطيل الإنسان التفكير في أسباب الحزن كما نفعل في سياسة الطفل إذا بكى بتوجيه نظره إلى لعبة أو حلوى لينصرف عن بكائه ويلتفت إلى الشيء الجديد، ومنها حديث النفس بأن لا فائدة للحزن إلا أن يضعف الجسم ويفسد الصحة، وأن الزمن سيمسح الهموم أن يضعف شأنها، فلماذا لا نساعده ونخفف الأحزان عنا في الحاضر؟
وصف الأستاذ كل ذلك لمقاومة الحزن، وأبان (كيفية استعماله)، وكان ذلك من نتاج ما أسميه (مركب الحزن)، وإن كنت أود للأستاذ الجليل أن يكون هو قد انتفع بهذا العلاج، وألا يكون كمالك الحزين الذي رأى الرأي للحمامة ولم يره لنفسه. . . كما قال ليدبا الفيلسوف. . .
جوائز الآداب والاجتماع:
يذكر القراء أنه صدر مرسوم ملكي في العام الماضي بإنشاء جوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول، وخصصت الأولى للآداب والقانون، والعلوم الرياضية والطبيعية والفلكية، ونص المرسوم على أن تشمل الآداب التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآثار، إلى جانب الآداب البحتة.
وخصصت جوائز فاروق الأول لعلوم الحياة، والعلوم الكيميائية، والعلوم الجيولوجية.
وقد رأت وزارة المعارف أخيراً أنه لم يرد في المرسوم ذكر علم الاجتماع وعلم النفس والتربية ضمن المواد التي تمنح الجوائز عن الإنتاج فيها، مع خطر قدر هذه العلوم وتقدم البحث فيها في العصر الحاضر عامة وحاجة مصر إلى التزويد منها بصفة خاصة في عهد التطور الاجتماعي والنهضة التعليمية الذي تجتازه البلاد الآن. . .
لذلك رأت الوزارة أن تخصص إحدى جوائز فاروق الأول للعلوم الاجتماعية على أن يضم إليها التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآثار، لأن هذه المواد تجري طرائقها على أساليب البحث العلمي المنظم، فهي بذلك أقرب إلى العلوم.
وبذلك يصبح التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآثار معدودة من العلوم الاجتماعية، وتخلص(741/42)
جائزة الآداب للآداب البحتة مثل الأدب القصصي، والأدب التصويري، والأدب الاجتماعي، والشعر، والبحوث الأدبية (النقد، البحوث اللغوية، الدراسات الإسلامية الأدبية).
وقد رفع مشروع مرسوم بهذا التعديل إلى مجلس الوزراء فأقره
(العباس)(741/43)
البَريدُ الأدَبي
تحقيقات:
جاء في مجلة أسبوعية تصدر بالقاهرة كلمة عن حادث دبلوماسي وقع بين الحكومة المصرية وفرنسا وذكرت المجلة أن أسباب هذا الحادث تتلخص في أنه عندما كان للحكومة الفرنسية مفوضية لم يكن من حقها تعيين ملحق عسكري بها، لأن المفوضيات ليس لها قانوناً هذا الحق. . . وعندما رفعت فرنسا تمثيلها السياسي من مفوضية إلى سفارة أصبح من حقلها أن تعين ملحقاً عسكرياً، وأنها اتصلت بالسفارة البريطانية قبل الحكومة المصرية فكان هذا الاتصال من أسباب وقوع الحادث المشار إليه.
ولا نعرف من المراجع التي بين أيدينا وجود هذا التمييز بين السفارة والمفوضية وليس فيها أي نص أو عرف أو قاعدة تحول بين أية بعثة دبلوماسية مهما كانت درجتها من أن تعين بين أفرادها ملحقاً عسكرياً بشرط أن يكون معتمداً لدى الدولة الموجودة البعثة بأراضيها وباستشارة وإذن هذه الدولة، ولا يوجد ما يمنع هذا الملحق العسكري من أن يكون معتمداً لدى عدة دول أخرى، ولم ترد في هذه المراجع أية تفرقة في صفة البعثة السياسية ودرجتها إذا كانت مفوضية أو سفارة، أو كانت يرأسها سفير أو وزير مفوض أو قائم بالأعمال.
ولا نعرف تفاصيل هذا الحادث وإنما يهمنا ألا تقع الصحافة المصرية في خطأ واضح، يؤخذ علينا.
أما موضوع الملحق العسكري في مفوضية فرنسا بالقاهرة أو وكالتها السياسية كما كانت تسمى قبل سنة 1922، فقديم وكان يطلق عليه اسم ضابط الاتصال أو ضابط ارتباط إذا استعملنا الاصطلاح العسكري التركي بلغة عربية، وكان هذا الضابط يمثل جيش الاحتلال الفرنسي بسوريا ولبنان لدى جيش الاحتلال البريطاني بالقاهرة، وكان هناك ضابط ارتباط فرنسي بمدينة القدس معتمداً لدى قوات بريطانيا بفلسطين وهذه المعلومات أعرفها من خدمتي بهذه البلاد.
كما أعرف أن أول من شغل هذا المنصب بمصر ضابط أسمه الليوتنان دي جاناي ثم ماجور مشاة ثم الكابيتان بيشو، وهو ممن اشتركوا في حملات الفرنسيين بسوريا وله مؤلف(741/44)
لشرح هذه العمليات الحربية ثم الكابيتان دي كارد.
وفي عهده ألغى هذا المركز العسكري بناء على طلب السلطات العسكرية البريطانية في مصر وفلسطين، ولم تبد قيادة قوات الاحتلال الفرنسية اعتراضاً على هذه الإلغاء، ولما قامت الحرب الأخيرة كانت من أسباب إعادة هذا الاتصال العسكري على نمط أوسع بين الجانبين فجاء إلى بيروت كولونيل بريطاني على رأس بعثة، غادرت سوريا ولبنان عقب إعلان الهدنة مباشرة ويفهم من كل ما تقدم أن الدولتين كانتا تتبادلان هذا النوع من الضباط طبقاً لروابط التفاهم والتحالف وتغير الأحوال السياسية بينها.
وطبيعي أن هذا الوضع تغير تماماً بالنسبة لمصر بعد استقلالها وبعد إتمام الجلاء وعليه فليس من حق فرنسا أن تعين ملحقاً عسكرياً بالبعثة التي تمثلها بالقاهرة سواء كانت سفارة أو مفوضية قبل أن تستأذن الحكومة المصرية في إنشاء هذا المنصب ودون أن تستشيرها في التعيين، لأن الضابط الذي يشغل وظيفة الملحق العسكري سيكون معتمداً لدى وزارة الدفاع المصرية وأمام قيادة الجيش المصري صاحب الولاية على شئون الدفاع عن الأراضي المصرية بأكملها، ولا شأن للسفارة البريطانية أو السلطات العسكرية الأجنبية بهذا الشأن بعد اليوم.
أحمد رمزي
مخطوط غريب لابن خلدون:
أعلن الأديب المغربي عبد العزيز بن عبد الله بجريدة (العلم) الغراء الصادرة برباط الفتح أنه عثر في مكتبة النقيب مولاي عبد الرحمن بن زيدان بمكناس على مخطوط غريب في التصوف الإسلامي لأبي زيد عبد الرحمن بن خلدون ألفه على ما يظن بالديار المصرية، وحرر فيه فصولاً جامعة عن التصوف وتاريخه وتقسيماته وغايته ومذاهب المتصوفة ونظريات ابن عربي وابن سبعين وغيرهما في وحدة الوجود والنسبة وغير ذلك.
هذي طبيعة العرب:
قرأت في الرسالة الزاهرة قصة (شيخ الأندلس) التي نقلها عن الإنجليزية الأديب الفاضل وهبي اسمعيل حقي ولم أكد أنتهي من قراءتها حتى وثبت إلى ذهني قصة عربية واقعية(741/45)
قريبة الشبه من هذه القصة، وهي أن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك حينما كان مختفياً من العباسيين أول قيام دولتهم، وضيق عليه العباسيون الخناق، خرج هارباً إلى الكوفة، ولكنه لم يكن يعرف بها أحداً، فوجد داراً رحبة منيفة فلجأ إليها، وطلب من صاحبها حمايته، فأجابه إلى طلبه، وهيأ له من داره مكاناً جميلا، وأغدق عليه من نعمه، وأحاطه بكل ألوان العطف، وضروب الكرم، ولم يسأله من هو، ولا ممن يخاف، ولكن إبراهيم لاحظ عليه أنه يركب كل يوم ثم يعود غضبان أسفاً كأنه يطلب شيئاً فاته ولم يجده، فسأله في ذلك فقال له مضيفه: إن إبراهيم ابن سليمان بن عبد الملك قتل أبي وقد بلغني أنه مختف من السفاح وأنا أطلبه لعلي أجده، حينئذ صعق إبراهيم وأيقن من الهلاك، ولكنه تشجع وعرف الرجل بنفسه فلم يصدقه بادئ ذي بدء ولكنه أكد له الخبر فقال له الرجل: أما أبي فسيلقاك غداً فيحاكمك عندما لا تخفى عليه خافية وأما أنا فلست مخفراً ذمتي ولا مضيعاً نزيلي ولكن اخرج عني فإني لا آمن نفسي عليك، وأراد أن يصله فأبى.
عصام الدين عبد الحميد الهنامي
حول المسرح الشعبي:
1 - المسرح الشعبي بحالته الراهنة مستكمل من كل الوجوه فالممثلون مختارون من طبقة ممتازة. . . والمعدات والإضاءة لا بأس بهما بوجه عام. . . وقد حصرت عدد الممثلين والممثلات فإذا به يربو على العشرين وشاهدت ملابس منوعة الأشكال والهندام تناسب المقام الذي يمثل فيه الممثلون. . . وتكييف الأضواء وخشبات المسرح تعد بإتقان عظيم يلفت النظر، غير أني أظن أن الغرض الأهم من المسرح الشعبي قد ضاع بين كل ذلك. . . وإلا فأية فائدة تعود على المتفرجين من روايات مقتضبة وفواصل غنائية قصيرة تمر في وقت لا يساوي ربع الوقت الذي يمر في إعداد المسرح وتجريب الأضواء وارتداء الملابس وكثرة حركات الممثلين هنا وهناك. . . إننا كنا نتأفف من طول الانتظار في فترات الراحة. . . حتى ظننا أننا لن ننتهي من البرنامج الموضوع إلا في الصباح.
2 - ابتدأت الحفلة في الساعة السابعة مساء وعُرض على الشاشة دوران غنائيان من روايتين معروفتين. . . ثم عرضت ثلاث روايات تمثيلية قصيرة هي (بلال وخضرة أو(741/46)
مصر والسودان - عمدة ميت خلف - ملاك الخير وملاك الشر) وأخيراً وفي الساعة التاسعة والنصف أعلن المذيع أنه انتهى الليلة وأنه سيزورنا قريباً وكأنه أحسن بهول الخبر على آذان السامعين!
فخفف من وقعه بتأميلهم في زيارة قريبة. . . ولو جمعنا اللحظات التي تفرّج فيها أهل القرية على الممثلين وهم على خشبة المسرح لهالنا حساب الزمن. . . وأؤكد لكم أنه لم يستغرق في كل هذه الروايات الثلاث إلا خمسين دقيقة.
3 - هذا المجهود العظيم الذي حُشِد له بعض كبار رجال الإدارة مع عدد من الخفر ورجال الشرطة. . . وهذا الإعداد الهائل من سيارات وممثلين وموظفين وهذه الأجور المرتفعة التي تدفع لكل لوازم المسرح. . . أيضيع كل ذلك نظير هذه الفائدة القليلة في هذا الزمن والوجيز؟ لقد كان أهل القرية فرحين. . . وتمنوا أن يجدوا في هذه المناسبة ترفيهاً يخفف عنهم آلامهم في سهرة طويلة. . . ولكن سرعان ما خاب ظنهم بانتهاء الحفلة بهذه السرعة.
4 - لماذا لم تعد الوزارة أشرطة سينمية كما تحب. . . وتعرض منها ما تشاء في سيارات متنقلة كسيارات الدعايات الصحية وتوفر هذا المال الذي ينفق في إعداد المسرح وحمله وتنقلات الممثلين! والأشرطة تؤدي الغرض وتحقق غاية الوزارة؟
5 - لا أكتم إعجابي بالموضوعات التي اختيرت للتثقيف ولا أكتم إعجابي كذلك بالأسلوب السهل الذي يؤدي به الممثلون أدوارهم وحبذا لو اختارت الوزارة روايات أوسع من نظير ما مُثّل عندنا أو عند غيرنا. . . وحبذا لو اختيرت بعض الأغاني الشعبية والحماسية وزيد من فتراتها فالأغاني تفعل في النفوس فعل السحر وهي في نفوس الريفيين أجدى في الإصلاح.
أحمد حامد سويدان(741/47)
الكُتُب
أحمد عرابي
الزعيم المفتري عليه
(تأليف الأستاذ محمود الخفيف)
بقلم الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
هذا كتاب كان من الواجب أن يكتب من يوم أن تيقظ فينا الوعي القومي، ونهضنا ننشد حريتنا المسلوبة وكرامتنا المثلومة ونطلب لنا مكانة لائقة بين أمم العالم، وكان من الواجب أن يُكتب ذلك الكتاب بتلك الروح الحارة الدافقة التي تجلت في أسلوب مؤلفه الفاضل الأستاذ محمود الخفيف، وفي قوة عرضه للمواقف التاريخية التي اقترنت بسيرة ذلك الزعيم الوطني العظيم، وصارت من شواهد التاريخ المصري في أظهر وأحرج مرحلة من مراحله الحاسمة، ثم ما تخلف وراء ذلك من نتائج وآثار لا تزال مظاهرها ماثلة للعيان. . .
ذلك لأن التاريخ - حتى في عصور الإنسانية المظلمة - لم يعرف زعيما مثل أحمد عرابي اصطلحت قوى الشر وتعاونت المآرب المتهمة على تشويه سيرته وتسوئ سمعته وتسفيه آرائه، فقد حاول الإنجليز جاهدين، وحاول صنائعهم وأحلافهم من الكتاب والصحفيين المأجورين أن يحطموا كيان هذا الزعيم تحطيما، وأن يشوهوا مقاصده تشويهاً، وأن يقلبوا الحق في أغراضه الوطنية الشريفة إلى ما يروق لهم من باطل مزور، ثم اتخذوا من الحكم عليه في ذلك دليلا في الحكم على سائر المصريين حتى استطاعوا في جرأة ووقاحة أن يلفقوا على التاريخ المصري تلك الفرية الشنيعة، وهي أن عرابياً كان خائناً لوطنه، وأنه كان السبب المباشر في ذلك الاستعمار الذي ضرب على مصر طوال تلك السنين، وأن المصريين ليسوا بأهل لأن ينالوا الحرية وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وهي القالة التي لا يزال الاستعمار يرددها على سمع العالم إلى اليوم!!
وإن من المؤلم حقاً أن هذه الفرية صارت هي (الحقيقة) التي تلقن لأبناء المصريين في مدارس المصريين، وما تزال سيرة عرابي ومقاصده ومواقف الثورة العرابية عامة تدرس(741/48)
في مدارسنا مشوهة ملفقة ويلقنها أبناؤنا كما صنعها الإنجليز وأعوانهم.
فأحمد عرابي (زعيم مفترى عليه) من غير شك، كأخس وأشنع ما يكون الافتراء، ولقد استطاع الأستاذ محمود الخفيف أن يدفع هذا الافتراء بقوة الحجة وسلامة المنطق وسلاسة البيان ودلالة الروايات الثابتة والوثائق الصحيحة، فجاء كتابه هذا إنصافاً للحق والتاريخ، وجهداً للوطن ولمصر، وتصحيحاً لخطأ غرسته الدعاية المغرضة في الأذهان، ودرساً وطنياً قومياً لأبناء هذا الوادي وإنهم اليوم لأشد ما يكونون حاجة إليه، ولهفة عليه، ويقيني أن هذا الدرس سيظل (إنجيلا) يرتله المصريون جيلا بعد جيل مادام فيهم روح الاعتزاز بكرامتهم وبقوميتهم.
تناول المؤلف في كتابه سيرة عرابي، فدرج معه وهو طفل في القرية، وسايره حتى شب ودخل في غمار الحياة، ثم انتقل معه إلى ميدان الجندية، وأخذ يتتبع خطوات ذلك الجندي المتمرد على الظلم، الغاضب لكرامته وكرامة قومه ووطنه، حتى استطاع أن يحطم معقل الطغيان، وأن يأخذ الأمر بين يديه فأصبح (رجل الأمة) و (ملاذ البلاد)، ثم يوضح لك بعد ذلك ما اعترض (أماني المصلح) من (مراوغة وتربص) و (إعنات وإحراج) و (بغي وعدوان)، وبعد أن يمثل أمامك تلك المشاهد بجميع مجاليها وما اكتنفها من (دسائس ومخاوف) ينتقل بك إلى صميم المأساة، فيحدثك عن (مأساة الإسكندرية) وما وقع فيها من (العدوان الفاجر)، ثم يسير بك مع (عرابي بطل الجهاد) ومواقفه في (كفر الدوار) و (التل الكبير)، وأخيراً ينتهي بك إلى نهاية المأساة الأليمة، وما تم فيها من سجن العرابيين، ثم ما جرى من المهازل في محاكمتهم ونفيهم إلى سرنديب، وحياتهم في ذلك المنفى السحيق، وفي الخاتمة يقف مع الزعيم الوطني في أيامه الأخيرة بعد ان عاد من المنفى حتى قضى نحبه (وأصبح في ذمة الله ودخل في سجل التاريخ ولم يكن لدى أولاده من المال ما يكفي لتجهيزه ودفنه، فاضطروا إلى عدم إعلان نبأ وفاته إلى اليوم التالي حتى قبضوا معاشه)، ثم شيعوه إلى مقره الأخير، فلم يمش في جنازته رجل رسمي واحد أو يحضر مأتمه، وإنما شيعته أمة أبية، وشعب تنطوي جوانحه على الوفاء لرجاله العاملين.
وأنت تستطيع أن تسمي هذا الكتاب سيرة زعيم وتاريخ ثورة بما تضمنه من تحقيق تاريخي صحيح وعرض دقيق لجميع الوقائع والمشاهد ودراسة لجميع الوثائق والمقابلة بين(741/49)
مختلف الروايات والآراء والوصول من وراء ذلك إلى الحقيقة التي تبدو لك ماثلة واضحة، وتستطيع أيضاً أن تسميه قصة من قصص البطولة المجيدة والوطنية الصادقة بما تحلى فيه من سلاسة العرض وروعة الأسلوب وحبكة الفصول والمشاهد وتصوير الوقائع والمواقف بجميع ظروفها وملابساتها، حتى إنك لتضع يدك في صفحات الكتاب على أجسام حية من الأشخاص، وما أدى كل منهم من دور في تلك القصة للحق أو للباطل. . .
وكنت أود أن أنقل لك شيئاً من فصول هذا الكتاب على سبيل التمثيل، ولكني رأيت أني سأنقله كله، وأحسب أن القراء قد وقفوا على نمط منه نشر في (الرسالة) من قبل، وكله نمط واحد، وسلسلة متصلة الحلقات، وغاية القول في هذا الكتاب الجليل أنه ليس من الكتب التي تقرأ ثم تنسى وتهمل، ولكنه وثيقة تاريخية ناصعة الصفحات في الدفاع عن القضية المصرية وكرامة المصريين، وإن المؤلف الفاضل ليضعها بين يدي أبناء وادي النيل في وقت هم أشد ما يكونون حاجة إليها بما يكتنف قضية بلادهم من أخذ ورد في مجال الاحتكام الدولي والجهاد الوطني، وسيرى المصريون في هذا الكتاب كيف سرقت بلادهم تحت عين الشمس، وكيف زور تاريخهم بين سمع الدنيا وبصرها، وكيف تعاونت قوى الشر والاستعمار على تلويث كرامتهم وكرامة زعمائهم الأبطال، وإن الكتاب بما تضمن من هذه الحقائق الوطنية سيظل سفراً فريداً خالداً، وسيصبح - كما قلنا - (إنجيلا) يرتله أبناء مصر جيلا بعد جيل.
محمد فهمي عبد اللطيف(741/50)
القَصصُ
داخل أسوار الفقر
للأستاذ علي حيدر الركابي
كانت حياتها مثل نفسها، واضحة المعالم وخالية من العقد وكانت لهذه الحياة البسيطة حدود ضيقة عاشت في داخلها ولم تكد تحس بما وراءها.
ما عرفت لها أماً بل عرفت نفسها أماً لأخوتها الصغار ترعاهم وهي لا تكبرهم إلا قليلا وتقوم على خدمة أبيها. انصرفت إلى أداء واجبها نحوهم جميعاً بكل ما أوتيت من إخلاص وقوة ومعرفة. أما الإخلاص فلم يكن من النوع الذي تعرفه المعاجم أو يعرفه الناس في مجتمع أرقى بل كان شيئاً مبهماً موروثاً تحركت به غريزة هذه الفتاة الريفية وما كانت لتستطيع تفسيره بالألفاظ حتى لو أرادت ذلك، بل كان يدفعها دفعاً عفوياً نحو الحدب على أخوتها لأنهم أضعف منها ولأنها أكبرهم ونحو خدمة أبيها لأنه أبوها، وحسبها أنه أبوها تبذل له الطاعة من جهتها ويتولى من جهته حمايتها من أخطار مجهولة. أما القوة فبدأت ضئيلة ثم نمت بنموها وهي في الحالين قوة فتاة ريفية سليمة الجسم أما المعرفة فهي مزيج ابتدائي من عادات وتقاليد انتقلت إليها شيئاً فشيئاً من أبيها أو جاراتها أو عابري السبيل تلتقط من هذا كلمة ومن ذاك أخرى فتتشكل من مجموع ما التقطت فلسفة ابتدائية للحياة أساسها القناعة والتسليم. ولما عجزت تلك (المعرفة) العجيبة عن مقاومة المرض الذي نزل باخوتها ثم الموت الذي اختطفهم الواحد بعد الآخر عملت تلك الفلسفة في نفسها عملها فطأطأت رأسها للقدر المحتوم وإن دهشت إذ لم يصبها ما أصابهم وأرجعت ذلك إلى عوامل مختلفة، ولم يكن ليخطر في بالها أنها إن سلمت فلم يكن ذلك إلا بفضل من الله وحده.
كانت حياتها مع أبيها في عرف الناس حياة بؤس وشقاء ولكنها ما كانت لتفكر في ذلك لأنها لم تعرف غير البؤس والشقاء: في قلبهما ولدت وعليهما فتحت عينيها ثم في كنفهما نشأت وترعرعت. فكانت حالة البؤس والشقاء هي الحالة الطبيعية، وأما ما سواها فشاذ. ولم يكن بها تطلع لسواها أو قدرة على المفاضلة بينها وبين سواها. كان السواد هو اللون الطاغي على كل ما يتصل بها من مسكن وملبس ومأكل فإذا دخل على هذا السواد بياض(741/51)
فهو ضئيل ولا يبدل ألوان حياتها القائمة بما هو أزهى بل جل ما يتوصل إليه هو أن يحولها أحياناً إلى لون الرماد!
وكما يعيش الموسرون في عزلة غافلين عن كل شيء خلا مالهم الموروث أو المكنوز ورفاههم المستقر، كذلك عاشت هي في عزلة تامة غافلة عن كل شيء خلا فقرها الموروث وضنكها المستقر
ثم دخلت حياتها حالة جديدة رافقها من الأوجاع والظواهر الجسدية ما أفزعها ولكنها ما لبثت أن اطمأنت إليها إثر ما تولتها به إحدى جاراتها من شرح وإرشاد ثم نسيتها تماماً حين انتقلت من دار أبيها إلى دار بعلها فغابت تلك الآلام الجسدية في نوع جديد من النشوة ما عتم أن احتل مكانه التقليدي بين معالم حياتها الرتيبة.
لم تكن دار أبيها داراً بالمعنى المعروف عند الناس بل كانت بقية من بناء متهدم في طرف القرية ليس له مالك على ما يظهر، أو إن كان له مالك، فلم يكن له به حاجة أو اهتمام. ولم يكن انتقالها إلى دار زوجها عرساً بالمعنى المألوف لأن أباها كان غريباً عن تلك القرية فلم يكن له فيها أهل أو عشير ولم تسمح لها حياة الكدح بأن يكون لها صواحب وأتراب، وكان زوجها كذلك غريب الدار. فلولا بعض الجيران وبعض رفقاء الزوج ولولا عدد من الناس لا يكاد يتجاوز أصابع اليد لما ارتدى ذلك الانتقال طابعه الخاص، ولولا محاولات قامت بها بعض جاراتها بدفع من قوة أجيال من التقاليد الموروثة لما أزهرت حياتها قليلا للمرة الأولى والأخيرة ولما اطرحت ألوانها الباهتة إطراحاً قصير الأمد
ولم تكن دار زوجها كذلك داراً بالمعنى المعروف بل كانت واحدة من تلك الأكواخ الضيقة الحقيرة يبتنيها العمال الزراعيون في أطراف المزارع ليكونوا على مقربة من الحقول التي يعملون فيها مأجورين، يبنونها بأيديهم من التراب المجبول بعرقهم فلا يكلفهم البناء مالا. وكما يعيش النمل في حفر يستقطعها من أرض الله كذلك يعيش هؤلاء العمال في تلك (الحفر) الطينية المسماة بقرى العمال يستقطعونها من أرض المالك، وكما يروح النمل ويغدو بصمت وإصرار حاملا إلى تلك الحفر المؤن التي تقيه عاديات الزمان كذلك يروح هؤلاء العمال ويغدون بين الحقل والكوخ صامتين صابرين ساعين إلى الحصول على قليل من الزاد يتبلغون به ولا يكاد بقى أجسامهم المكدودة عاديات الزمان، وكما يعمل النمل(741/52)
بإخلاص منصرفاً بتمامه عن العالم الخارجي الذي لا يعرفه ولا يفهمه كذلك يغنى العمال في علمهم ولا يكادون يحسون بما هو خارج عن عالمهم، وكما ينظر العالم الخارجي إلى النمل فيراه مخلوقاً أسود ضعيفاً وحقيراً لا يستحق الاهتمام كذلك ينظر هذا العالم إلى سواد العمال وحقارتهم وضعفهم فيشيح عنهم بوجهه، وكما أن النمل لم يلق الاهتمام إلى عند طائفة العلماء وهو اهتمام نظري لا يجني منه النمل نفعاً بل يعود نفعه على العالم والتاريخ كذلك اهتم بعض العلماء بشئون العمال اهتماماً نظرياً لا ينفع العمال أنفسهم في قليل أو كثير بل يعود نفعه على العلم والتاريخ ودوائر الإحصاء. وأخيراً، كما يعبث طفل بحفرة للنمل فيهدمها بقدمه ويسلط عليها الماء أو يعمد رجل إلى هدم الحفرة ليتخلص من تلك الحشرات البغيضة كذلك تعبث قوى الطبيعة بالأكواخ فيجرفها سيل أو يغمرها فيضان وتهدمها ريح أو تدكها صاعقة، هذا إذا لم يتعمد هدمها السيد المالك نفسه فيجليهم عنها لسبب من الأسباب المتصلة بمصلحته هو التي ليس لها أدنى علاقة بمصلحتهم هم.
وما كانت هذه الأمور - كلها أو بعضها - لتشغل حيزاً من تفكيرها بل راحت تخدم زوجها بدفع من الغريزة ذاتها التي حملتها على خدمة أبيها قبله، فهو رجلها وهو المكلف بحراستها من الأقطار المجهولة وهي امرأته وعليها له واجبان: الخدمة والطاعة.
لم تكن حياتها عند زوجها إلا امتداداً لما اعتادته في حياتها عند أبيها من جهد متصل وحرمان متأصل وبؤس وشقاء مقيمين.
ومع ذلك فقد دخل على حياتها الثانية عنصران جديدان أولهما ذلك الحب الذي يولد في قلب كل فتاة ليلة زفافها ولاسيما حين تكون في سن مبكرة وحين يكون الزوج أول رجل عرفته، وثانيهما الأوجاع التي كانت تتحملها من جراء ضرب زوجها إياها ضرباً قاسياً في أكثر الأيام عقب عودته من الحقل في المساء.
ولكن بهجة ذلك الحب وأوجاع هذا الضرب ما لبثتا أن استقرتا في حياتها استقرار العادة المألوفة فتحول الحب بلذته وبما يخلفه من الآم في الحمل والوضع، إلى عمل رتيب آلي مثل طهي الطعام وغسيل الملابس وكذلك الضرب ولاسيما أنها باتت تتلقاه بشيء من القناعة لأنها أحست بأن الدافع إليه لم يكن رغبة من رجلها في الإساءة إليها بل كان ناشئاً عن عوامل مستقلة عنها فما كانت هي إلا أداة طارئة للتنفيذ، مما أكد لها ذلك أن الضرب(741/53)
لم يبدل شيئاً من العلاقة الاعتيادية القائمة بينهما وأنه كان في الغالب حين يفرغ من ضربها يتركها برهة تكفكف دموعها ثم يعود إليها ليجرها، ثم ليطرحها إلى جانبه في فراشهما الحقير المشترك. ولو أوتيت ثقافة ووعياً لعلمت أن ما أحست به بغريزتها هو الواقع، وأن ضرب زوجها لها ما كان إلا انتقاماً لا شعورياً من مجتمع ظالم لم يعترف بوجوده كانسان فثار في نفسه وأراد أن يؤكد وجوده بشكل من الأشكال، وهو إلى جانب ذلك انتقام لا شعوري من نظام مقلوب لم يعترف له بالقوة والرجولة فثار كذلك وأراد أن يدلل على أنه قوي وأنه رجل.
قضت مع زوجها أعواماً لا تعرف لها عداً أو حصراً لأن الزمان وأقسامه لا يدخل في حساب من كانت حياتهم تسير على وتيرة واحدة لا فرق بين يومها وأمسها ولا يخبئ غدها غاية تحرك شوقاً أو تحيي أملا. كان يمكن أن تعرف تلك السنين من عدد أطفالها وأعمارهم ولكن هذا كان متعذراً لأنها ولدت له عدداً كبيراً من الذكور والإناث اختطف الموت أكثرهم وأبقى بعضهم كما اختطف قبلهم أخوتها وبقيت هي. ولم يترك موتهم أثراً عميقاً في نفسها وإن حزنت عليهم الحزن الشكلي التقليدي.
كذلك فعلت حين أدركت أباها الوفاة. ولم يكن هذا وليد نقص في حبها له أو لهم بل كان منشؤه ازدحام حياتها بأسباب الحزن والشقاء وهي عوامل لا تؤدي إلى كبير تعلق بالحياة أو عزوف عن الموت، وفي دنيا رتيبة قاتمة يحتل الموت مكانه التافه بين سائر عناصر تلك الحياة التافهة.
وانتقلت مع زوجها وأطفالها من مكان إلى آخر في الأرياف تبعاً لأهواء السادة مالكي الأرض والأرواح وسعياً وراء الرزق وهي إذ لم تختلف حياتها بين مكان ومكان، لم تحزن لفراق كوخ ولا فرحت لاستقبال كوخ فالكل عندها طارئ وغابر والكل عندها موقت مادام صلتها بالأرض وأهلها صلة عابرة ولا تربطها بها أو بهم تلك الروابط الضرورية الثابتة التي تجعل من الأرض وطناً وتخلق من نفوس سكانها عاطفة حب الوطن.
وفي مساء يوم مشئوم غادر رجلها الكوخ ولم يعد وآوت هي إلى فراشها وضمت إليها أطفالها تتولى في غيابه حراستهم من أخطار مجهولة. وتملكها الشك حين تقدم الليل دون أن يعود ثم استولى عليها الخوف حين سمعت في جوف الليل طلقات نارية وفي الصباح(741/54)
جاءها وكيل مالك الأرض وأبلغها مقتل زوجها إثر شجار نشب بين بعض الفلاحين وأن القتلى دفنوا حيث وجدوا وأن لا حاجة لإبلاغ الشرطة مادام عدد القتلى من الطرفين متساوياً فلماذا تحشر الحكومة في الأمر فتزعج وتنزعج وإن عليها أن تخلي الكوخ فوراُ لمن سيحل فيه محلها. قال الوكيل كلمته هادئاً وانصرف مطمئناً وكأنه ما أتى ليخرب بيتاً بل ليوجه تعليماته اليومية حول سقاية أو زرع. لم يكن هناك قانون أو نظام أو عرف أو تقليد يرغم مالك الأرض والأرواح على أن يحول جزءاً يسيراً من ماله الوفير عن سبل صرفه - أو كنزه - الاعتيادية ليعوض به على أسرة بائسة فقد معيلها، ولم يكن هناك قانون أو نظام أو عرف تقليدي يرغم الفلاحين على أن يمدوا يد المساعدة إلى أسرة كهذه ولاسيما أن ما يملكونه لا يكاد يسد الحد الأدنى من حاجاتهم البسيطة. ولكن المسألة ليس مسألة عرف أو نظام بل هي مسألة شعور الإنسان نحو أخيه الإنسان وهو شعور تسمو به نفوس الفقراء غالباً ولا تستطيع أن تسمو به النفوس الفقيرة قط.
وهكذا غادرت الكوخ مع أطفالها مزودة بما جمعه لها الفلاحون زملاء زوجها الراحل من زاد حقير ومال قليل وتوجهت نحو المدينة البعيدة حيث قيل لها أنها قد تجد عملا تتعيش به وتنفق منه على أولادها. كانت الرحلة طويلة وشاقة أدمت على خشونتهما قدميها. ولكن عطف عليها مرة سائق يقود سيارة للشحن رق لحالها وأطفالها فأركبهم جميعاً وجنبهم تعب المرحلة الأخيرة. ودخلت المدينة على ظهر تلك السيارة فلم تحس بأنها دخلتها لأن الراحة النسبية خدرت أعصابها المرهقة فنامت ملء جفونها ولم تستيقظ إلى على صوت السائق يدعوها إلى النزول فنزلت وسحبت أطفالها لا تدري إلى أين.
مرت في رحلتها بمزارع غنية وحدائق غناء وقصور متكئة على تلك المزارع والحدائق ومرت بها على الطريق سيارات فخمة بحمولتها الثمينة من رجال أو نساء استدارت وجوههم وتكورت بطونهم، وهنا في المدينة سارت لأول مرة بين الأبنية الجميلة وفي الشوارع العريضة المستقيمة وعلى بعد خطوات من معالمها البارزة وعلى مسمع ومرأى من شبابها المتحمسين وقادتها المصلحين ولكنها لم تكد ترى شيئاً أو أحداً لأن انتقالها هذا إلى المدينة لم يكن ليختلف عن تنقلاتها السابقة مذ غادرت بيت أبيها فهي تسير منذ الأزل باحثة عن رزق ومأوى وهي عالمة بأن رزقها الكفاف أو أقل وأن مأواها خرابة أو كوخ -(741/55)
أو ما هو دونها.
أما تلك الدور والأبنية التي مرت بها فليست منها في شيء ولم تخلق لها ولا صلة لها بأهلها فدنياها غير دنياهم وقومها غير قومهم. كانت هذه الحقائق مستقرة في أعماقها دون أن تتكلف عناء التفكير فيها ولذلك لم تكن لتشعر نحو هذه المجموعة الأجنبية من الناس بكره أو حسد فلو دعاها داع إلى الثورة عليها لما لبث الدعوة ولاتهمت الداعي في عقله.
وكما عاشت في غفلة عن القصور وسكانها وعن المدينة وأهلها كذلك أغفلها هؤلاء جميعاً وتابعوا حياتهم اليومية وهم قانعون بأنهم إنما يستوفون حقهم المشروع لأنهم الفئة التي اختارها الله وخصها من دون غيرها بالنعم والميزات. أما تلك الجموع الفقيرة التي تتدافع بالمناكب لتطعم من فتات موائدهم الزاخرة فهي في نظرهم سوائم لا تستحق غير الفتات. إن هؤلاء السادة الأكارم أشبه بالدول المعظمة في هيئة الأمم المتحدة. في أيديهم الحل والعقد وفي جيوبهم مفاتيح الثروة المغلقة أبوابها في وجه غيرهم، وكل ما يجري بدفع منهم ولتأمين مصالحهم هم، وحدهم لا شريك لهم ثم إن هؤلاء السادة الأكارم يتمتعون بما تتمتع به تلك الدول المعظمة من حق (الفيتو) وحق الاحتفاظ بسر القنبلة الذرية والدولار!
ولكن، أنى لمثلها أن يعي شيئاً من ذلك؟. . .
لاقت في المدينة إعراضاً لأن الناس لا يستخدمون أماً مثقلة بعدد من الأطفال ولاسيما إذا كانت ريفية جاهلة قذرة. كانت تطوف في النهار على البيوت طوافاً مضطرباً فتعرض خدماتها وتتلقى الرفض مصبوباً في قوالب مختلفة بعضها جميل وجلها بشع مخيف. وكانت تجود عليها بعض البيوت بشيء من الطعام أو اللباس أو بدراهم معدودات أما الليل فكانت تختار له جانباً من طريق تأوي إليه مع أطفالها فإذا ما ناموا ظلت هي ساهرة تحرسهم من المارة والهوام حتى إذا تقدم الليل ونقص عدد العابرين وغلبها التعب والنعاس استلقت على الأرض إلى جانبهم وأحاطتهم بذراعيها ثم استسلمت مرغمة للنوم. ولحظت بعد حين أن بعض المارة يتصدقون عليها بدراهم يلقونها بين يديها دون أن تسألهم ذلك لقد أدهشها الأمر في البداية، ولكنها ما لبثت أن قنعت بأن الاستجداء هو العمل الوحيد المفتوح بابه لها فامتهنته وراحت تطلب الصدقة نهاراً من سكان البيوت وليلا من المارين. وفزعت من الشتاء حين دهمها بمطره وبرده فراحت توزع نهارها بين السؤال وبين البحث عن مكان(741/56)
تقضي فيه الليل بسلامة نسبية.
ولكن الرطوبة الشديدة والبرد القارس لا يرحمان الفقراء الذين لا يعرفون دفء المسكن والملبس والمأكل وليس في مقدورهم الاستعانة بطبيب أو اللجوء إلى مستشفى ففقدت بالبرد أحد أطفالها ووارته التراب في طرف المدينة دون أن تعلم بأن الدين فرض على الناس عند الوفاة طقوساً وصلوات.
الدين؟ وما الذي تعرفه هي عن الدين سوى أنه لفظ يفيدها في القسم أحياناً هو وعدد من الألفاظ الأخرى كاسم الله والنبي وبعض الأئمة والأولياء حفظتها بالسماع دون أن تعلم أن لهم في الكون وظيفة تنفع في غير الإيمان والدعوات. كان هذا كل ما تعرفه عن الدين، هذا وما سمعته من أبيها وزوجها عن زيارة يقوم بها الناس إلى بعض الأماكن المقدسة حيث يتعبدون ويدعون الله فيستجيب لدعواتهم. كانت تود أن تقوم بمثل هذه الزيارات لعل الله يمن عليها بما يساعدها على تربية أطفالها ولكن أنى لها ذلك وهي ما تزال تذكر رحلتها الأخيرة إلى المدينة بخوف ولا تحس بشجاعة كافية تدفعها إلى المخاطرة برحلة جديدة نحو المجهول.
وانقضى الشتاء فخفت آلامها بعد أن كاد البرد في شدته يقضي عليها وبعد أن كادت تعتقد أن الموت أدركها ذات ليلة فبكت وضمت إليها من تبقى من أولادها وأسلمت نفسها إلى غيبوبة طويلة أفاقت منها صحيحة قوية وأطفالها من حولها ينتظرون قيامها وقد أضناهم الجوع. ولم تدر مدى الزمن الذي انقضى وهي في حالة الإغماء ولكنها تعلم أنها بقيت لأولادها وتغلبت على الشتاء. وأتى الربيع فظنت أن قد زالت الأخطار ولكن يد الموت امتدت من جديد وتناولت من بين يديها ولداً آخر كان يهذي في ساعاته الأخيرة وكانت حرارة رأسه كحرارة الجمر. . .
وأقبل الصيف فانتعشت قليلا وراحت تغسل أولادها وملابسهم في النهر دون أن تخشى عواقب البرد واستمرت تعيش عيشتها البسيطة قانعة بالقليل من الذي تجود به أكف المحسنين فإذا ما هل شهر رمضان لم يكن له عندها سوى معنى واحد وهو أن عدد المتصدقين قد يزداد في الشهر المبارك ولعها تستطيع بهذه الزيادة أن تبتاع لأولادها مزيداً من طعام أو تحصل لهم على لباس يحل محل الأطمار أو الخرق التي لا تكاد تستر(741/57)
أجسامهم.
وأقبل العيد فقضت ليلته في طواف الشارع على عادتها وقد انتصبت في جلستها على الأرض تحرس أطفالها النائمين حولها، ولماذا لا تقضي ليلة العيد على حافة الطريق وهي واحدة من لياليها لا تفضلها في قليل أو كثير؟ لأي سبب من الأسباب يسهر أطفالها ولم يكن ليؤرق جفونهم شوق إلى مفاجأته؟ إن أملاً ضعيفاً ليداعب خيال هذه الأم فتتمنى أن يأتي لها العيد بما لم يحققه رمضان لكي تبتاع لأولادها بعض ما يحتاجون. ولم تكد عيناها تذوقان لهم النوم في تلك الليلة: لم يؤرقها ذلك الأمل ولا أقض مضجعها هم فالهموم لا تقض مضجع من لا يعرف غير الهموم، والأمل لا يؤرق من لا تحقق له الحياة أملاً واحداً، بل هي لم تنم لأن الشارع لم ينقطع ضجيجه في تلك الليلة وظل زاخراً بجمهور من الناس يهرعون إلى الأسواق في آخر لحظة ليكملوا نواقص العيد الذي لن يكون عيداً إذا لم تزدحم مائدة الأسرة بكل ما يفرضه العرف، وإذا لم ينل جميع أفراد الأسرة نصيبهم المقرر من الهدايا. إنهم يتضاحكون ويتدافعون في تلك الساعات الأخيرة ليحفظوا لصغارهم وكبارهم بهجة العيد. وما يكاد ينقطع عن الطريق سيلهم الصاخب حتى تقذف البيوت بأفواج جديدة من الناس وهم الأتقياء المتعبدون الذين يتسابقون إلى بيوت الله في الساعات الأخيرة من تلك الليلة الفضيلة ليكونوا في طليعة المؤمنين الذين يستقبلون فجر العيد بالصلاة والدعاء.
لو شاء إنسان أن يزور الدائرة الرسمية المختصة متسلحاً بعزم العلماء وبصبرهم، ولو شاء أن يبحث بين أكداس الأوراق والملفات عن سجل هذه الأم وأطفالها - إذن لوجدهم في عرف الحكومة، في عداد الأحياء من بني الإنسان الذين يحملون أسماء ولهم جنسية ودين.
بغداد
علي حيدر الركابي(741/58)
العدد 742 - بتاريخ: 22 - 09 - 1947(/)
قولوا استعدوا ولا تقولوا اتحدوا!
يسيء إلى كرامة مصر من يزعمون أن فيها اليوم جماعةً وفُرقة، ثم يحاولون أن يجمعوا المتفرق ويضموا الشتيت بدعاء داع أو سعى ساع أو إذاعة مذيع!
إن في هذا الزعم اتهاماً لبعض قومنا بالعقوق وقذفناً لهم بالخيانة.
ولا يجوز في الطبع ولا في الشرع أن نفترض الجريمة ثم نرتب على افتراضها ما نرتب على الأمر الواقع. قولوا استعدوا وانظروا يوم الاستعداد من يتلكأ. وقولوا انفروا وانظروا بعد النفير من يتخلف! أمَّا أَن تقولوا اتحدوا وائتلفوا وسووا الصفوف، ثم تنتظروا أن يقبّل زيد رأس عمرو، ويرد عمرو قُبلة زيد، فذلك هو الهزل في مقام الجد، والعبث في موقف الخطورة!
ليست الأحزاب السبعة أو الثمانية هم جميع الأمة؛ وليست الزعماء التسعة أو العشرة هم كل القادة؛ وليست الأمة بأضعف غريزة من النحل التي تدفع عن بيوتها الزنابيرَ؛ فكيف تنتظر أن يقول لها هذا الحزب أو ذاك الزعيم دافعي عن أرضك التي منها تأكلين، وعن مائك الذي منه تشربين؟!
هذا يوم الفصل بين الاحتلال والاستقلال أو بين العبودية والحرية؛ فمن تخلف فيه أو خَزَّل عنه قوتل مقاتلة العدو، أو عومل معاملة المريض!
هذا يوم جهاد البغي والجور والاستعمار؛ فمن لم يكن لنا فيه فهو علينا؛ ومن لم يقم للدفاع معنا فليس منا. والخارج علينا لغُلول في نفسه، والمتخلف عنا لنكول في طبعه، لا يردهما إلى الطريق قول معروف ولا عذل منكر
اقرعوا الطبول يا دعاة الجهاد تجدوا الأمة برجالها ونسائها أمامكم، تضمر في قلبوها الضغينة، وتظهر في أيديها القوة، لتجرد عدو الله وعدوكم من الباطل هنا، كما جرده النقراشي من الحق هناك!
إن الذين يظهرون الأمة في هذا المظهر الكاذب من الشقاق والافتراق والتخاذل فريق من الكتاب والساسة، يقولون فنسمع، ويكتبون فنقرأ، حتى إذا اقتربت الساعة وجدَّ الجد وحق الجهاد رأيت الأمة صحيحة الكيان قوية البنيان سليمة الوجدان، لا تطيع غير رجل واحد هو القائد، ولا تعرف غير عدو واحد هو الإنجليز!
قولوا استعدوا ولا تقولوا اتحدوا؛ فإن الأمر بالاتحاد يتضمن اعترافاً بالتفرق؛ وفي ذلك(742/1)
تزييف للحقيقة، وإيهان للعزيمة، وإغراء للعدو!
إن من يزعم أن في الأمة المصرية تفرقاً لأن صاحب العزة رئيس التحرير، أو صاحب السعادة رئيس الحزب، يريد أن يعارض ليضمن نقوده، أو يخالف ليثبت وجوده، كمن يزعم أن في الجامعة العربية تصدعاً لأن صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله يريد أن يشرك سورية في صداقته لبريطانيا ليرتفع عرشه شبرين، ويتسع تاجه إصبعين! كِلا الزاعمين ينكر الأمتين المصرية والأردنية، ولا يزال يقول كما قال الأقدمون: إن أهواء السادة هي مصالح الأمة، وإن إرادة الملوك هي شرائع الممالك!
لا يا سادة، قولوا استعدوا ولا تقولوا اتحدوا، فإن الاتحاد قائم بإرادة الأمة؛ وإن النصر مكفول بمشيئة الله!
احمد حسن الزيات(742/2)
مؤتمر المستضعفين
للأستاذ محمود محمد شاكر
كانت جلسة مجلس الأمن في يوم الأربعاء 10 سبتمبر 1947 هي الحكم الفاصل في قدر هذا المجلس وفي بيان قدرته على فض النزاع الذي ينشب بين الدول صغيرها وكبيرها. وكان ظن الذين دعوا إليه وأنشأوه - أو كانت دعواهم - أن هذا المجلس قد أنشئ ليكون فيصلا في الخصومات التي يخشى أن تفضي إلى حرب، وأنه هو المهيمن على السلام وحفظه في هذا العالم المائج المتدافع. فجاءته قضية مصر والسودان، وليس في قضايا الدنيا كلها ما هو أوضح منها وأبين، ووجه العدل فيها ظاهرة لكل ذي عينين عمشاوين فضلا عن عينين بصيرتين، ومع ذلك كانت كل جهود هذا المجلس العجيب أن يقول للمتخاصمين: اذهبا فاطلبا شيئاً تصطلحان عليه! وليس في الدنيا ما هو أعجب من هذا، متخاصمين أعجزهما أن يجدا للصلح مكاناً بينهما، فيقول لهما الحاكم الوازع: اذهبا فاطلبا صلحاً!!
ونحن لا نريد أن نطعن في هذا المجلس، ولا أن نقول أنه شيء لا قيمة له ولا غناء فيه، ولا أنه أوشك أن يصبح سبباً في فساد العالم ودافعاً جديداً لتقريب ساعة الحرب، ولا أنه كشف عن قدر من العجز يحل للناس معه أن يطلبوا حله ويسرِّحوا وفود الأمم المشتركة فيه إلى بلادهم، لا نريد شيئاً من هذا، بل نرى أنه مجلس لابد من بقائه على ما هو عليه، ولابد من ذهاب كل دولتين متخاصمتين إليه، فإنه يتيح للمظلوم أن يفضح ظالمه ويكشف عن آثامه التي يسترها عن العالم بالأكاذيب والتمويه.
ولكن كل ما نريده هو أن يتفضل هذا المجلس بأن ينفى عن نفسه نقيصة الغش والخداع، فإنه أنبل وأعظم من أن يرتضيهما لنفسه، فقد زوّر عليه الذين أنشأوه فوضعوا له اسماً لا يناسب جلالة قدره ولا حقيقة معناه، وألصقوا به شيئاً ليس من الإنصاف أن يلصق به، وهو المحافظة على الأمن العالمي الذي يقتضي أول ما يقتضي أن تتساوى الدول المشتركة فيه في السيادة على الأرض التي يشملها اسم الدولة، حتى لا يقع التنازع بين سيادة وسيادة، فيختل التوازن ويصير الأمن العالمي مهدداً بالزوال.
ونحن نقترح أن يسمى هذا المجلس (مجلس الأجاويد)، وقد اخترت هذه التسمية لقصة(742/3)
سمعتها: ففي الشطر الجنوبي من وادي النيل المعروف عندنا باسم (السودان)، والمعروف عند بريطانيا وأشياعها باسم السودان المصري الإنجليزي، ألف الناس إذا تخاصموا أن يلجئوا إلى جماعة من أصحاب الرأي يسمونهم (مجلس الأجاويد)، فيأتي المتخاصمون فيذكرون أسباب خصامهم، وتنظر الجماعة في أمر هذا الخصام، ثم ترى رأيها فتقول لأحد المتخاصمين: أكرمنا وانزل عن كذا، وتقول للآخر: وأنت فأكرمنا أيضاً وانزل عن كذا. ولا تزال تأخذ من هذا ومن ذاك، فإن قبل المتخاصمان أن ينزل كل منهما عن شيء وينزل خصمه عن مثله، فذاك، وإلا رفعت الجماعة يدها عن الأمر كله وقالت للمتخاصمين: لقد نفضت يدي، فاذهبا فاصنعا ما تشاءان!
فمجلس (الأجاويد) هذا أشبه شيء بمجلس (الأمن)، لولا أن الأول طابق اسمه مسماه، وأن الآخر كذب اسمه على مسماه، فمن الحسن كل الحسن أن يغير هذا المجلس اسمه ويبقى هو، لأنه مكان يتاح للدول فيه أن يعرف بعضها بعضاً على حقيقته بغير تدليس ولا تجمل ولا مواربة. وهذا في نفسه غاية مطلوبة ومنفعة لا مراء في أنها خير ينبغي الحرص على إدراكه وتحصيله، بل نقول أكبر من ذلك: إن تسريح وفود الدول المشتركة في هذا المجلس شر ينبغي اتقاؤه، لأنه يحول بين الدول وبين إدراك هذه الغاية المطلوبة والمنفعة العظيمة.
وندع مجلس (الأجاويد) وما وحل فيه من عجز وضعف واحتيال على تفادي الحزم، ومن فراره عن وجه الحق فيما يعرض عليه من الخصومة، فإنه لم يخلق لمثل ما نطالبه به حين نذكر حقوق مصر والسودان أو سواهما من أمم الأرض. ندعه لننظر في خاصة أمرنا نحن دون أن نعبأ شيئاً بما فعل هذا المجلس، أو بما سوف يفعله.
وملخص تاريخ القضية المصرية السودانية، كما يعرفه كل أحد، هو أن مصر والسودان كانت فيما قبل سبتمبر سنة 1882 دولة واحدة لها حدود معروفة معترف بها في المحافل الدولية كلها لا ينازعها فيه منازع. وفي سبتمبر سنة 1882 اتخذت بريطانيا ما كان من أمر الثورة العرابية التي قام رجالها للمطالبة بحقوق الشعب الدستورية، ذريعة للتدخل في شئون مصر الداخلية، وكانت نيتها مبيتة على العدوان على استقلال مصر والسودان، وإخضاع هذه الدولة للسيطرة البريطانية الاستعمارية التي كان يومئذ في عنفوان شدتها. فتم لبريطانيا ما أرادت، وانتهكت حرمة الشرائع الدولية، وادعت أنها أرادت تثبيت عرش(742/4)
خديوي مصر في ذلك الوقت محمد توفيق. ولما رأت أن الدول الأوربية المستعمرة قد بدأت تناوئها، زعمت أنها لن تلبث إلا قليلا حتى تجلو عن أرض مصر والسودان مرة في أقرب وقت مستطاع، حددته أحياناً وتجاهلت تحديده أحياناً أخرى. وظلت تماطل وتتعسف وتؤوّل، وتكذب وتفتري على مصر والسودان أخس افتراء، وهي في خلال ذلك تهدم كيان هذه الدولة المصرية هدماً تاماً بحجة الإصلاح حيناً، وبحجة المحافظة على (حقوق) الأجانب في مصر وعلى مصالحهم.
فلما جاءت الحرب العالمية الأولى، انتهزت بريطانيا هذه الفرصة وأعلنت الحماية على مصر والسودان دون أن تعبأ شيئاً بحقوق شعب مصر والسودان، وهي مطمئنة إلى سكوت الدول الحلفاء على فعلها في هذه الساعة الحاسمة من تاريخ العالم. ثم انتهت الحرب وهب الشعب المصري السوداني يطالب بريطانيا باستقلاله، ولكن بريطانيا لم تلبث أن وجدت منفذاً لتفريق كلمة هذا الشعب، فلوحت للزعماء بأنها تريد إنصاف مصر والسودان، وظلت تستدرجهم حتى قبلوا مبدأ مفاوضة بريطانيا في حقوق مصر الطبيعية، فأقبل هؤلاء الزعماء على مفاوضة بريطانيا منذ ذلك الوقت، فكانت زلة وخيمة العواقب في تاريخ مصر والسودان، ولو لم يكن لها من الشر إلا أنها أفضت إلى تعليق مسألة السودان في كل المفاوضات إلى سنة 1936، لكان ذلك حسبها من البلاء الذي ليس بعده بلاء.
ولما حدثت مفاوضات سنة 1936 الخبيثة، وانتهت بمعاهدة الاحتلال التي فرضت على مصر فرضاً تحت ظل الاستبداد والتهديد والتخويف، وقعت زلة أخرى أكبر من زلة المفاوضات نفسها، وهي ذكر الورقة الباطلة المعروفة باسم اتفاقية سنة 1899، فكان ذكرها كأنه اعتراف بشرعيتها، واجتماع كل هذه الأخطاء واحتشادها منذ سنة 1921 إلى هذا اليوم، هو الذي مكّن لبريطانيا أن تقف في مجلس الأمن لتتكلم بالكلام الذي لا معنى له إلا أنه تزوير للحقائق، ولكنه تزوير اعتمد على هذه الأخطاء نفسها. فلولاها لما كان لبريطانيا كلام يقبله عقل عاقل، ولشق عليها أن تدلس في الحقيقة البينة، وهي أنها دولة معتدية حكمها كحكم سائر الدول المعتدية في الدنيا. ومع ذلك، فإن شيئاً من هذا لم ينفع بريطانيا، فالدول قد علمت ولا ريب أن بريطانيا معتدية بعد أن كشف النقراشي القناع عن الفضائح التي كانت مكتومة عن الناس وعن الدول، وبعد أن أبان فارس الخوري عن(742/5)
أساليب بريطانيا في قهر الدول الضعيفة وابتزاز حقوقها.
فلما أحجم مجلس الأجاويد عن أن يقطع برأي في مسألة مصر والسودان، وخاف أن يمس كرامة بريطانيا الدولة الشريفة النبيلة إذا هو حكم لمصر والسودان بالحق، وتنزه عن وصف بريطانيا العفيفة الطاهرة بأنها دولة معتدية على حقوق الدول المسالمة - رجعنا من حيث بدأنا في سنة 1882، أي أننا وقفنا وحدنا لنقول للعالم مرة أخرى، هذه دولة معتدية، لابد من رد اعتدائها ودفع عدوانها وبغيها بأي وسيلة تتاح لنا. فينبغي إذن أن ننذر بريطانيا إنذاراً لا رجعة فيها، بأن تسحب جنودها من كل بقعة كان يرفرف عليها علم مصر والسودان في سنة 1882 دون نظر إلى معاهدات سابقة أو عرف جار، أو اتفاقات باطلة. فإذا فعلنا فقد نبذنا إليه على سواء، وأعذرنا أنفسنا أمام هذا العالم الجشع من الدول المستعمرة.
ونحن شعب لا طاقة له بحرب بريطانيا بالسلاح، لأنها ظلت خمساً وستين سنة تنزع من أيدينا كل سلاح، وتضعف جيشنا بكل أسلوب، وتحيط بنا من كل مكان، حتى لا نجد لأنفسنا منفذاً نستطيع أن نستجلب منه السلاح الحديث الذي يعيننا على حربها. هذا حق، ولكنه على وضوحه ليس بشيء، فإن الأمة التي تريد استقلالها وتحرص عليه لن تمنعها قلة السلاح من أن تفعل شيئاً كثيراً تستطيع به أن تنال ما تريد. وبريطانيا لن تستطيع أن تفني هذا الشعب المصري السوداني إذا هب لقتالها مجرداً من كل سلاح إلا سلاح العزيمة والتضحية وبذلك المهج وإرخاص النفوس والدماء في سبيل الوطن.
وبريطانيا ترى أن من مصلحتها أن يستقر السلام في هذا الشرق الأدنى، وهي تتخذ هذا حجة لبقائها في مصر والسودان وفلسطين والعراق، فينبغي أن نبحث عن الأسلوب الذي يفسد عليها هذا السلام الكاذب الذي تنتهك هي حرمته باحتلال أرض هذه الشعوب، والعالم العربي كله يعلم أن مصر والسودان هي قلب بلاده فإذا ظل هذا القلب ضعيفاً مأسوراً في قيود الاستعمار فالعالم العربي عاجز عن أن يفعل شيئاً في سبيل النهضة التي تجيش بها صدور أبنائه، وهو أيضاً عرضة للبقاء الطويل تحت نير الاستعباد الأوربي الفاجر المتعصب، وهو أيضاً لحم على وضم ينال منه كل طارئ وأفاق ما يشائ، ويصب عليه من ازدرائه واحتقاره ما تسول له نفسه الخبيثة، لأنه يعلم أنه قوى في حماية هذه الدول(742/6)
الطاغية المستعمرة جميعاً. فلزام إذن على هذا العالم العربي كله أن يهب هبة واحدة للجهاد - من أقصى مراكش إلى حدود العراق بغير استثناء - متخذاً كل وسيلة من المقاطعة إلى المحاربة الظاهرة والخفية جميعاً.
وهذا العرض السامي يتطلب منا أن نجمع شملنا، لا في مصر والسودان وحدهما، بل في كل مكان في هذا العالم العربي، وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي. وينبغي أن يتجرد منا جميعاً رجال يجوبون هذه الدنيا لتأليب الشعوب العربية والإسلامية على عدوان هؤلاء المعتدين، ولعقد المودة بيننا وبين الشعوب التي أظهرت مودتها لنا ودفاعها عنا. وينبغي ألا يفزعنا شيء فإننا مأكولون، والمأكول لا يبالي أن يأكله هذا أو ذاك، وجرأته هي وحدها الكفيلة بأن تضمن له ضرباً من الحرية في الاختيار.
ومع ذلك فعسى أن يحدث شيء لم يكن أحد يتوقعه، فننال حقنا كاملا دون أن نطوق أعناقنا بمنة يمتنها علينا شعب أو دولة.
وحسبنا أن بريطانيا تريد أن يستقر هذا الشرق وهذا العالم الإسلامي حتى توغل هي في عدوانها، فلنمنعها هي وأشياعها مما يريدون.
هذا العمل الجليل لا يغني غناءه إلا إذا تعاونت الحكومات العربية والإسلامية معاً وتعاونت شعوبها أيضاً مع هذه الحكومات تعاوناً شاملا كاملا لا ثغرة فيه. فأول ما ينبغي أن تقوم مصر والسودان فتدعو إلى عقد مؤتمر عام لكل الشعوب الصغيرة المجاهدة في سبيل الحرية والاستقلال، وأن يتولى هذا المؤتمر العام تحديد الخطط التي ينبغي أن نسير عليها حتى نبلغ هذه الغاية التي تقض مضجع بريطانيا ورأس أشياعها أمريكا لنسارع إلى دعوة هذا المؤتمر العام إلى عقد أول اجتماع في أقرب فرصة مستطاعة، فإن الإرجاء مفسدة للجهود وإضعاف للقوى وإضاعة للوقت، والإسراع لا يضر بل هو أنفع شيء مادام الهدف الأسمى هو أن نزعج بريطانيا وأمريكا أولا، وأن نتفق على الخطط العامة التي تكفل لنا نيل حقنا من هذه الشعوب المستعمرة العادية على استقلالنا وحريتنا.
وهذا المؤتمر لا يتعارض قط مع عمل الجامعة العربية، لأنه محدد الهدف، ولأنه يقوم على أساس واحد هو الاتفاق على أساليب الجهاد كلها، وعلى حشد القوى التي تعين عليه، وعلى اختيار الفئة الصالحة للتجول في أرجاء العالم لإثارة الشعوب العربية والإسلامية ودعوتها(742/7)
إلى أخذ حقها دون مساومة أو مفاوضة، وعلى تحديد أعمال القائمين بالدعوة في كل مكان، وعلى التمهيد لعقد الصلات بيننا وبين الشعوب التي تناصرنا على نزع ربقة الاستعمار عن أعناق الأمم المستضعفة في كل مكان، مهما اختلفت ألوانها أو أجناسها أو أديانها.
إن هذا المؤتمر ضرورة لازمة ألجأتنا إليها بريطانيا وأمريكا وأشياعهما من الدول الشريفة النبيلة التي قامت لنصرة الحق والعدل والمساواة! وبريطانيا وأمريكا وأشياعهما لا يريدون أن يدركوا أن هذه ساعة حاسمة في تاريخ العالم العربي الإسلامي ومن يعيش معهما من الأمم التي وقعت تحت سيطرة الاستعمار، وهم يماطلون ويراوغون ويتملصون من الفروض التي كتبوها على أنفسهم في ميثاق الأمم المتحدة، وهم يأبون أن يعترفوا بأننا شعوب تريد أن تعيش حرة لأن هذا هو حقها في الحياة، فينبغي إذن أن نجيّش كل قوانا وأن نعد العدة لإقناع هاتين الدولتين ومن يلوذ بهما بأننا قوم نأبى أن نعيش عبيداً في دنيا لم يخلقها خالقها إلا لتكون أرضاً للأحرار، وأننا أمم لها من الحقوق مثل ما لبريطانيا وأمريكا وأشياعهما، وأن الله لم يخلق هؤلاء الناس ليسودوا العالم ويستعبدوا أهله بالظلم والعدوان والكذب والتغرير
إننا لا نريد عدوانا على أحد، ولكننا قد أبينا أن نقبل العدوان من أحد كائناً من كان، وبالغاً من القوة والبطش والجبروت ما بلغ. وقد أعذر من أنذر.
محمود محمد شاكر(742/8)
مقالة الخوارزمي في الشعراء
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
إلى العالم الأديب الكبير الأستاذ الشيخ محمود أبو رية
يا سيدي، جواب سؤالكم هو في كتابكم، في الكتاب فصل الخطاب، فعم تسألون؟ وما المسئول بأعلم من شيء من السائل، وهو فضلكم أراد مراده، وفي القاهرة (أدام الله عمرانها بالمسلمين)! وفي مصر مصدر المدنية وموئل العربية في القاهرة وفي مصر ألف مالك.
هذا الضعيف لا يعرف للمقالة إلا تلك الرواية في (ثمار القلوب) وقد اطلعتم عليها، وأشرتم في الكتاب إليها. وهي خير رواية، والثعالبي أصدق رواتها، فهو يقيد هنا ما سمع ممن قال لا ما قرأ في الصحف ونقل إليه النقلة. وكل قد أخذ منه، ثم مشى إليها النقص والزيادة، وجاء تحريف الناسخ والطابع.
ولم تنج رواية (الثمار) من ذلك البلاء. وخدمة للعلم والأدب إذاعة المقالة في (الرسالة، رسالة العربية) وتحقيقها كيما يتلقاها صحيحة متلقيها.
قال الإمام أبو منصور الثعالبي في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب):
(. . . وعهدي بالخوارزمي يقول: من روى حوليات زهير، واعتذارات النابغة، وأهاجي الحطيئة، وهاشميات الكميت، ونقائض جرير والفرزدق، وخمريات أبي نؤاس، وزهريات أبي العتاهية، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري، وتشبيهات ابن المعتز، وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، وقلائد المتنبي ولم يتخرج في الشعر فلا أشب الله (تعالى) قرنه).
هذه هي (المقالة) وهذا قولي فيها.
الفرزدق:
هذا عندي مزيد، زاده النساخ، ولم يذكره أبو بكر، ولم ينقله أبو منصور، واجتزأ الخوارزمي بنقائض جرير كما اجتزأ بقصائد لمن سماهم، ولو ذكر الفرزدق لذكر الأخطل، ولم يدع هماماً استهانة به فقد قال (والفرزدق في الفخريات) في معرض التفخيم في إحدى(742/9)
رسائله. وقد تكون (نقائض جرير) كتاباً على حدة، فهناك نقائض الثلاثة وهي معروفة، وهناك (نقائض جرير والأخطل) (تأليف الإمام الشاعر الأديب الماهر أبي تمام) ذكرها البغدادي في خزانته ونسب المؤلَّف إلى حبيب، وطبعت سنة (1922).
زهريات أبي العتاهية:
هي زهديات أبي العتاهية، وهذا واضح.
لم يتخرج في الشعر:
هي لم يخرج في الشعر، وما قصد الخوارزمي إلا هذا المعنى، و (خرج فلان في العلم وفي الصناعة إذا نبغ) كما في الأساس وغيره، وخرّجه أدّبه وعلمه فتخرج أي تأدب وتعلم، وشتان ما متخرج وخارج، ويقال: خرج فلان في الشعر أو في غيره لا خرج إليه كما ورد في إحدى الروايات.
قلائد المتنبي:
لا ريب في أن با بكر سمي أبا الطيب في المقالة فقد كان من مكبريه، وكثرة تمثله في الرسائل بشعره وحله فيها أبياته واقتباسه من معانيه كل ذلك من أدلة الإكبار، فقد روى الثعالبي في كتابه (الإيجاز والإعجاز) هذا الخبر، وربما كان سمعه منه:
(كان أبو بكر الخوارزمي يقول: أمير الشعراء العصريين أبو الطيب، وأمير شعره قصيدته التي أولها (من الجآزر في زي الأعاريب) وأمير هذه القصيدة قوله:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي)
ومن ذكر شعراء درجت أشعارهم قبل أن يدرجوا (يموت رديء الشعر من قبل أهله) وترك المتنبي فقد ضل ضلالا مبيناً، بل قد كفر. والإشكال عندي هو في (القلائد) فهي في هذا المقام مبهمة، فقد ذكرها الخوارزمي وعنى بها قصائد المتنبي المشهورة (وما الدهر إلا من رواة قلائدي) أم ذكر السيفيات أو الكافوريات فبدل المبدل، وقد يفضل الكافوريات مفضلون وربما كان أبو بكر منهم، وهي وحي مصر، أوحتها إلى المتنبي وقد كبر (احمد) وتمرن واختبر، وشاهد ما لم يشاهده من قبل، وعلم ما لم يكن يعلم، وجاء إلى مملكة كبيرة يسوسها ملك عظيم شهم.(742/10)
يدبر الملك من مصر إلى عدن ... إلى العراق فارض الروم فالنوب
إذا أتتها الرياح النكب من بلد ... فما تهب بها إلا بترتيب!
ويظاهره وزير كبير عالم، ذو خلق عال، عنده أدب الدرس وأدب النفس، روى ابن خلكان: (ذكر الوزير أبو القاسم المغربي في كتاب (أدب الخواص) كنت أحادث الوزير أبا الفضل جعفرا، وأجاريه شعر المتنبي فيظهر من تفضيله زيادة تنبه على ما في نفسه خوفاً أن يرى بصورة من ثناه الغضب الخاص عن قول الصدق في الحكم العام، وذلك لأجل الهجاء الذي عرض له به المتنبي).
وقال صاحب الوفيات بعد أن سطر تلك الأبيات: (وبالجملة فهذا القدر ما غض منه، فما زالت الأشراف تهجي وتمدح).
وأغلب ظني أن شاعرنا نوى هو وفاتك الملقب بالمجنون أمراً حال القضاء دونه، ثم هلك فاتك وهرب المتنبي، وراح يقول: (وماذا بمصر) فاهالفيه! فاهالفيه!
فالكافوريات هن بنات العقل والعلم الكثير، والسيفيات بنات الشبيبة والنشاط والنفس القوية. ولما أراد أبن أبي الحديد أن يؤلف كتاباً في حل قصائد للمتنبي اختار السيفيات لخطرها البارع في اعتقاده.
وعندي لك الشرَّد السائرات (م) ... لا يختصصن من الأرض دارا
ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
وما تسع الأزمان علمي بأمرها ... ولا تحسن الأيام تكتب ما أملي
و (وعلى قدر أهل العزم) عند طائفة هي أعظم قصائد المتنبي، وهي سيفية.
أنا موقن أن الخوارزمي سمى المتنبي، وذكر عبقريات (سيفيات أو كافوريات) له ولا أستبعد (القلائد) وليس لديّ اليوم الحكم الجزم.
فلا أشب الله تعالى قرنه:
قد نجت في (الثمار) من كل تصحيف وتطبيع، روايتها في (الأساس) صحيحة، وفي (أساس البلاغة) أشياء، هذه فيه هي من السالمات، ومن أدب الزمخشري أن يؤيد ما يورده بأقوال مأثورة، أو أمثال مشهورة أو سجعات يتأنق فيها.
ولما كان الحريري قد أورد تلك الجملة في (البكرية) قال الشريشي شارحاً: (قوله أشب(742/11)
قرنك يدعى بذلك للصبي أن يكبر وتطول قامته كما تقول للصبي في ضج ذلك: لا كبرك الله، ويقال شب الصبي يشب بكسر الشين شباباً بفتح الشين وكسرها إذا طال ونمى جسمه، وأشبه الله وأشب قرونه أي جعله أسود الذؤابة والقرون الضفيرة وهي الذؤابة، وقيل القرن جانب الرأس).
وإذا صح تفسير الشريشي أو صح ما نقله الأستاذ (المحمود) وهو الأصح، ومثله في الشرح المختصر للمقامات فالكلمة (أشب) لا (شيب) وروى الجملة (التاج) كما أوردها الذين سماهم الأستاذ في كتابه، وهذا ما جاء فيه: (الشباب الفتاء والحداثة كالشببة، وقد شب الغلام يشب شباباً وشبوباً وشيباً، وأشبه الله، وأشب قرنه بمعنى، والأخير مجاز، والقرن زيادة في الكلام) ومراد (التاج) بقوله: (والقرن زيادة في الكلام)
- وقد جاء هذا في اللسان أيضاً - أن العرب تزيد في كلامها في أشياء منه تقوية وتفنناً، فأشبه الله كاف في الدعاء له، وأشب قرنه كما فسروا - توسع في القول، ولكل لغة سنن وأساليب، وفي (الصاحبي) لابن فارس و (فقه اللغة وأسرار العربية) للثعالبي و (المزهر) للسيوطي أمثلة لذلك.
نقائض جرير:
هي (نقائض جرير) لا قلائص جرير، وقد اطلع الشيخ إبراهيم اليازجي - كما أوقن - على رواية للمقالة في غير (ثمار القلوب) وأخذ منها لكتابه (نجعة الرائد) ما رأى أخذه، وهو يذكر في النجعة نقائض جرير، وهذا ما سطره:
(وتقول شعر فلان أحسن من حوليات زهير، وأحسن من حوليات مروان بن أبي حفصة، وأحسن من اعتذارات النابغة، وحماسيات عنترة، وهاشميات الكميت، ونقائض جرير وخمريات أبي نؤاس، وتشبيهات ابن المعتز، وزهديات أبي العتاهية وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، وهذا أحسن من ابتداءات أبي نواس، ومن تخلصات المتنبئ، ومقاطع أبي تمام)
كان العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي يجمع لمصنفه عدته (مادته) من كتب اللغة والأدب فرأى في كتاب ابتداءات أبي نؤاس، وفي كتاب تخلصات المتنبئ، (والظاهر أنه وجد الاسم مهموزاً أو همزه هو) وفي كتاب مقاطع أبي تمام فنقل أمثال ذلك وهو تعب مشغول(742/12)
البال ورتب منقولة كما رتب، ولو روّأ في أمره لربأ بنفسه عن تسطير هذه الخريشات والتخاليط، فما ابتداءات أبي نؤاس؟ ما هي؟ وهل فضيلة المتنبي في تخلصاته؟ وهل مزية حبيب في مقاطعه؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله! إنا لله وإنا إليه راجعون!
ومثل تخليط اليازجي فيما نقل تخليط الخوارزمي في قوله الذي رويته قبل: (إن أمير القصيدة البائية البيت: أزورهم).
آمنا بالقصيدة وعبقريتها، وبوصف لظباء الفلاة فيها، وبسائر معانيها ولكنا لا نرى (أزورهم) أفضل أبياتها بل لا نراه يضارع الأبيات البارعات في القصيدة ولو تضاعفت تلك المقابلة التي لم تسلم من كلام النقدة، وقد كان ابن نباتة السعدي أبرع من غيره وأحذق حين قرأ هذا البيت:
إذا ما سرت في آثار قوم ... تخاذلت الجماجم والرقاب
فوقف عنده وأطال تأمله ثم قال:
(نحسن أن نقول ولكن مثل هذا لا نقول).
إن (السعدي لا يحفل بالخزعبيلات، بالترهات، بالبديعيات وابن نباتة هو صاحب البيت المشهور (ومن لم يمت بالسيف).
طولت في الجواب، ولم أجب، ولم أقدم ثمراً من غير (الثمار) وإذا لم أعلم - يا أخا العرب - فماذا أعمل. وأنا عائذ بالله وبالتي سماها السلف الصالح نصف العلم والسلام.
محمد إسعاف النشاشيبي(742/13)
تعليق مختصر على خبر
للأستاذ علي الطنطاوي
هذا الخبر الذي جاء فيه أن معيداً في كلية الآداب، أعدّ أطروحة ينال بها لقب (دكتور) فلم يجد لها موضوعاً إلا (القصص في القرآن) ولم يجد ما يقوله عن القصص في القرآن، إلا أنه أساطير الأولين. . . وأنه كذب مفترى، وأنه مستمد من التوراة، ومن أدب فارس ويونان، وأن الأستاذين الأحمدين الفاضلين، حكما بردّ الأطروحة وإسقاطها، واختلفا في تعليل الحكم، فكانت العلة عند الأستاذ الأمين الجهل، وعند الأستاذ الشايب الكفر، وعندنا أنهما معاً، لأن هذا لا يجيء إلا من ذاك.
وفي الخبر أن الذي أشرف على إعداد الأطروحة، وأعان عليها، شيخ بعمامة بيضاء من أساتذة الكلية، وأن هذا الشيخ عزّ عليه إسقاط الأطروحة فغضب (والغضب لله وللحق من الفضائل) وقال: (إنه متضامن مع مقدم الرسالة في كل حرف منها، وأنه لا ينبغي الوقوف أمام حرية الفكر).
ولو انتهت القصة عند ردّ الأحمدين ولم يكن صاحب الأطروحة مدرساً، ولم يدخل نفسه فيها هذا الشيخ لينصر الكفر، ويدفع عن الإلحاد، ويؤيد الجهل، لقلنا شاب أراد أن يتعجل (الشهرة) قبل أوانها، ورأى طريق العلم والتحقيق طويلا، فسلك طريق جهنم وأراد اجتياز الصراط فسقط. . . وسكتنا، ومرّت الحادثة كما مرّت أحداث أمثالها وشرّ منها، ظنّ محدثوها أنهم هدموا الإسلام، ونسفوه نسفاً، وصرفوا الناس عنه صرفاً، والإسلام لم يشعر بها، ولم يحسّ بوقعها، ولم يزدد عليها إلا قوة وانتشاراً، ولكن دخول هذا الشيخ في المجادلة على صدق القرآن وكذبه وكون طالب الأطروحة موظفاً رسمياً، ومعيداً في الكلية، أمر لا يسكت عنه. . . وهذا الذي نقوله اليوم أول الغيث.
ومقالنا اليوم هو تذكير لهذا الشيخ بأنه ليس من أصحاب العقول الكبيرة، والبحث العلمي ليكفر إذا كفر عن بينة، وما به إلا أنه رأى أديباً زلّ من عشرين سنة، وأي أدي لا يزلّ؟ فقال كلاماً مثل هذا. . . فملأ اسمه الدنيا، وشغل الناس، فأحب أن يكون مثله، وشتان ما بين الرجلين. وإلا فهل ثبت له بعد البحث والتحقيق. . . أن قصص القرآن مأخوذ من التوراة ومن الأدب الفارسي واليوناني، وأن فيه أساطير لا أساس لها، وهل وقعت له(742/14)
النسخة المخطوطة بخط مؤلف القرآن الذي هو الله - إذا كان فضيلة الشيخ لا يزال يعتقد أن القرآن من عند الله - فعضّ عليها بالنواجذ، ليفضح المؤلف، ويكشف عن سرقاته، ويشفي غيظه منه. أستغفر الله، وتعالى عما يقول الكافرون علواً كبيراً.
ولندع الدين مادامت يا مولانا الشيخ تحسب أن الخروج عليه مدنية وتقدم. . . وأن الأخذ به رجعية، وأنك أعلنت الكفر، وجهرت به، واخترته والعياذ بالله لنفسك، ولنأخذ العلم والمنطق والتاريخ، فهل في العلم والتاريخ شيء يؤيد ما جاء في الخبر أن الأطروحة اشتملت عليه، وما أعلنت أنك مع المؤلف في كل حرف منه؟ وبأي دليل من أدلة العلم، وفي أي كتاب من كتب التاريخ، ثبت لك ولصاحب الأطروحة أن الله قد اقتبس قرآنه من أدب فارس ويونان، ومن كاذب الأساطير؟
وإذا لم يكن القرآن كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا من جهة فارس ولا من جهة يونان، وكان من تصنيف محمد، وكان قد اقتبسه من التوراة، ومن آداب الأمم ومن أساطيرها، فكيف خفي ذلك على أسلافك من أنصار حرية الفكر، من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة وكل عدوّ للإسلام خصيم القرآن - فلم يؤلف فيه أحد ولم يثبته حتى جاء تلميذك هذا فكتبه لتكافئه الدولة على كفره بدينها الرسمي، وطعنه بقرآنها، بإعطائه شهادة الدكتوراه، وتسليمه أبناء المسلمين ليلقنهم هذه الآراء، على أنها علم وفضل، وأن الذي لا يحفظها، ويعيدها يوم الامتحان، يرسب في صفه إن طفا الطلاب؟
وحرية الفكر؟ ما حرية الفكر يا هذا؟ كيف تفهمها؟ أكلما طاف برأسك طائف من هوى، أثبته على الورق، وخرجت به مزهوّاً على الناس، وقلت، هذي حرية الفكر؟
أما إنه ليجيء في فكري أنا الآن كلام عنك، لولا أني لم أعرض هذه المقالة على الأستاذ الزيات، وأني أخاف أن يغضب إن حططت عليك بثقلي - لقلته، فما تركتك تستطيع أن تمشي في الجامعة، أو تتراءى للطلاب. . . فارتقبه فكل شيء له أوان. . . وما أنت بمعجز الله في الجامعة وقد أهلك فرعون وهامان وأبا جهل. . .
وما لك تكره أن أسبّك بعلم، وتسب أنت الله عدواً بغير علم؟ ولا تحب أن أقول في كتابك الذي لفقته كلمة الحق، وتقول أنت في كتاب الله كلمة الباطل؟ وما لك لا تجرؤ أن تقول لواحد من هؤلاء الكتاب، أخرج كتاباً تلقاه الناس بالقبول: إنك تكذب، وتنسب الكذب إلى(742/15)
الله المنتقم الجبار؟
أغرك ويلك حلمه عنك، وأنه مدّ لك حتى صرت تعطي الدكتوراه وأنت لم تأخذها، وتمنح العلم وأنت لا تملكه، وتؤلف في البلاغة، وما أنت منها في شيء، ولا أثر عنك بيان غطى على بيان الجاحظ وأبي حيان والرافعي والزيات، ولا أنت صاحب شعر ولا نثر، وقصارى أمرك أنك أُدخلت على طلاب لا يفهمون من البلاغة إلا بمقدار ما يفهم من الصحافة صاحب (القبس)، فمخرقت عليهم، وزعمت لهم أنك إمامها وأنك مؤذنا وخطيبها، ورأيتهم صدقوا قولك فزدت فادعيت أنك باني مسجدها ورافع منارتها، ولو أنت ادعيت النبوة فيهم، ما وجدت منهم من يكذبك أو يكفر بك، ما داموا يأخذون منك الدرجات في الامتحان، ثم يخرجون كما دخلوا لا أنت علمتهم ولا هم تعلموا منك. . . وكيف يتعلمون وقد جعلت دروس البلاغة عياً، والفصاحة عامية وكانت دروسك ذلك الخزي. . . الذي نشره في الرسالة الأستاذ العماري فكان تسلية لقراء الرسالة وفكاهة ضحكوا عليك به شهراً؟
لقد كان كفراً مبتكراً منك حين زعمت في تلك الدروس. . . أن الله قال لمحمد يا أخي، فكيف قعدت بك القريحة اليوم، فلم تأت إلا بكفر عتيق قيل في مصر من عشرين سنة، وقيل في مكة قبل الهجرة، فكان سخرية الأولين والآخرين؟ ولقد بعثت يومئذ من يدافع عنك في الرسالة، فلم يبلغ به أدبه مع الله ودينه، ولا علمه وبلاغته ولا معرفته بتصريف الكلام، إلا أن يحتج على جواز زعمك أن الله قال لمحمد، يا اخي، يقول الحمّار لحماره، يا أخي. . . ولم أردّ عليه لأني لم أكن أعرف، قبل أن أسمع ردّه هذا، شيئاً من لغة الحمارين والحمير. . . ولا قواعد المناظرة في لسانهم.
وبعد، فما أريد اليوم الرد على هذين الرجلين ولا تأديبهما إنما أردت تنبيه رجال المعارف في المملكة التي دينها الرسمي الإسلام وعميد الكلية العربي المسلم الذي اسمه الدكتور عزام، إلى هذين المدرسين اللذين يعلنان الكفر بالله، والطعن في القرآن، والإهانة لكل مسلم يرى في مصر دار الأزهر، ومثابة العلم، ومنزل الملك الصالح الفاروق، وهما يأخذان أموال الأمة ليلقنا أبناء مصر وأبناء الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب، ولك بلد يبعث بأبنائه إلى هذه الجامعة مثل هذه الكفريات، التي يعتقدانها ويكتبانها ويصران عليها(742/16)
ولا يخافان فيها والله ولا الحكومة ولا العلماء ولا العامة. . .
وأنا أرقب ما تصنع وزارة المعارف، وما يصنع الأزهر وعلماؤه، لأستخير الله فيما أصنع أنا بعد، وما يصنعه هذا القلم الضعيف في نفسه القويّ بالله وبدينه وبقرآنه.
وما بسيفي أضرب، ولكن بسيف محمد!
(القاهرة)
على الطنطاوي(742/17)
8 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
قطب منارة (منارة قطب)
على عشرة أميال إلى الجنوب من دلهي بين أطلال دلهي الغابرة يقوم مسجد قوّة الإسلام. ومنارة قطب (قطب منارة).
بناهما قطب الدين أيبك. وكان قطب الدين هذا مملوكا للسلطان محمد الغوري الذي مدّ فتوح الغزنوبين في الهند حتى فتح شماليّ الهند كله. واتخذ مدينة دلهي داراً للولاية. وولّى قائده قطب الدين علي، فتح من الهند.
فلما توفى الغوري سنة 602هـ استقلّ هذا الوالي بما وليه من الهند، وتمّلك عليه. وهو أول ملك مسلم ينشأ ملكه داخل الهند ويقتصر على أرض هندية. فأول دولة فتحت الهند وهي الدولة الغزنوية نشأت في أفغانستان وكانت غزنة دار ملكها.
ثم غلبها عليها الغوريون فاتخذت لاهور داراً. والدولة الغورية نشأت في إقليم الغور من أفغانستان ثم غلبت الغزنويين على البلاد واقتفت آثارهم في فتح الهند.
فالدولة التي أقامها قطب الدين أيبك - دولة المماليك - أو دولة إسلامية نشأت في الهند.
وكانت دلهي دار سلاطينها وسلاطين أربع دول أخرى توالت بعدها حتى فتحها بابر مؤسس الدولة التيمورية سنة 932هـ وقد تسلطت دولة قطب الدين هذا زهاء ثمانين عاماً.
وكأن قطب الدين أراد أن يثبت سلطان الإسلام في الهند ويظهر عظمته بإقامة الأبنية الضخمة الرائعة. فأنشأ هذا المسجد وسماه (قوّة الإسلام). وأقام فيه هذا البرج العجيب المسمى منارة قطب. وهو في رأي الخبراء بالعمارة أعظم برج في العالم.
أدَع البرج إلى أن ألقى نظرة جامعة على هذا الجامع الفسيح.
لا تزال بقايا الأسوار والعَمَدِ والقباب تحدّد مساحة الجامع. وقد زاد فيه من بعد شمس الدين التتمش الذي تولى الملك بعد قطب الدين (607 - 633هـ) وعلاء الدين الخلجي (695(742/18)
- 716هـ) حتى صار فيما أظن أوسع جامع في العالم.
واليك صورته الحاضرة كما يراها من يدخل من الباب الشرقي المقابل للقبلة تدخل من باب في بقايا سور إلى ساحة واسعة تمشي فيها قليلا ثم تصعد دَرَجاً إلى مستوى آخر فترى ذات اليسار المنارة وقبة جميلة على باب من أبواب المسجد، ويقال أنها سميت (قبة الإسلام) وبها سمى هذا المسجد (قبة الإسلام) لا قوة الإسلام.
ولكن لا يلتفت الداخل إلى هذه القبة فيسير إليها يهبط على الدرج الذي تحتها إلى المدخل فيستغرق في تأمل علوها وجمال هندستها ونقوشها لا يستطيع أن يفعل هذا قبل أن يطمح بصره معجباً مرتاعاً إلى هذه المنارة الشاهقة العجيبة. وسأحدث القارئ عنها بعد طواف سريع في هذا المسجد العظيم؛ بل هذا المجد الأبيّ والمآثر الخالدة التي تأبى أن تُقِرّ للخطوب على كثرة ما نالت منها.
وإذا نظر الداخل إلى اليمين رأى كومة من الحجر هرميّة هي أساس خرِبٌ لمنارة حاول أن يناظر بها منارة قطب علاءُ الدين الخَلْجي حينما زار فسحة الجامع. ولم يتهيأ له إكمال المنارة. وفي الساحة قبور لم أعرف عنها شيئاً.
ويمشي الزائر إلى المصلى فإذا ساحة فيها ثلاثة أروقة ذات طبقتين على عَمد صغيرة. وإذا تأمل النقوش على هذه العَمَد رأى صُوَر حيوان وناس. وقد نقلت العمد من معابد هندية قديمة. وفي جهة القبلة من المصلى عمود من الحديد قطعةٌ واحدة طوله ثلاثة وعشرون قدماً. ومحيطه قدمان وهو من أقدم الآثار الهندية في دلهي أو أقدمها عليه كتابة تشيد بمآثر أحد أمراء الهند القدماء. وتاريخه يرجع إلى سنة 400 ق. م.
وتمضي بعد هذا العمود جهة القبلة إلى عقد رفيع جداً يُفضي إلى القسم القبليّ من الجامع وقد هُدِمت جُدُره.
وينزل السائر جهة الشمال إلى الساحة التي زادها على المسجد شمس الدين التتمش وهي مساحة لا بناء فيها اليوم. وينظر شطر القبلة إلى حجرة عالية سقطت قبتها وفي وسطها ضريح رهيب هو ضريح ايلتتمش. وفي الحجرة ثلاثة محاريب أكبرها أوسطها وعلى المحاريب آيات من القرآن منحوتة بخط واضح. في وسط المحراب الكبير (إنه لقرآن كريم - الآية) وعلى حافته: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - الآية).(742/19)
قد قرأتها ومن معي من وفود المؤتمر يتعجبون من مصري يقرأ خطاً أثرياً في دلهي، حتى عرفتهم أنه كتابي ولغتي.
وبعد ساحة التتمش ساحة زادها السلطان علاء الدين الخلجي. وليس بها إلا حطام البناء الشامخ أنحت عليه يد الزمان.
ثم منارة قطب إحدى عجائب الأبنية في الهند بل العالم كله منارة جليلة رفيعة تعلو في الجو 234 قدماً بعد أن سقطت ذروتها. وهي خمس طبقات تنتهي كل واحدة بشرفة دائرة حول المنارة. ولها درج واسع صعدت فيه إلى الشرفة الأولى مائة وخمسين درجة.
والمنارة في شكل مخروطي. والطبقة الأولى لها واحد وعشرون ضلعاً تختلف أشكالها بين مدور على هيئة نصف دائرة يليه محدد على شكل زاوية قائمة. وهكذا على التوالي. والطبقة الثانية كل أضلاعها مدورة. والثالثة أضلاعها على زاوية قائمة ثم طبقة ملساء والخامسة مضلعة تضليعاً خفيفاً يكاد لا يرى
شاد المنارة قطب الدين أيبك حوالي سنة 600 من الهجرة وكان لا يزال نائباً عن السلطان محمد الغوري وأتمها مملوكه وصهره وخليفته إلتتمش الذي ذكرناه آنفاً. وقد تصدعت طبقتها العليا بصاعقة في القرن الثامن في عهد فيروز شاه فرّمها ثم سقطت هذه الطبقة في زلزال سنة 1803م. وقد رأينا على مقربة من الجامع برجاً صغيراً مستطيلا له أربعة أركان بينها أبواب علوه نحو خمسة أمتار. وقيل لي أنها صنعت في عهد الإنكليز لتوضع على المنارة تكملة لها. فلما وضعت ألقيت غير ملائمة لها فأنزلت.
وحول المنارة كتابة عربية منها آيات من القرآن وقد جعلت نطاقات جميلة زادت في جمال المنارة وجلالها. وقيل لي إن الكتابة قد نحتت على أحجام مختلفة ونِسَب متعددة تجعل الرائي يراها في حجم واحد ما بعد منها وما قُرب. كلما بعدت الكتابة زاد حجمها على نسبة بعدِها.
وألوان المنارة تتوالى في طبقاتها من أحمر إلى ورد إلى أصفر قاتم يلائم زرقة السماء في فن الجمال.
والخلاصة أن في هذه المنارة من إبداع الهندسة، وإتقان الصنع، وجمال الشكل وفخامته، وحسن النقش والخط ما يسير رائيها طائفاً، أو يمكسه واقفاً، يصعد الطرف ويصوبه في(742/20)
إعجاب بل دهش من هذا الأثر الخال الذي جعله المسلمون فاتحة آثارهم العظيمة في الهند. فكان جديراً أن يكون عنواناً لكتاب الحضارة الزاهرة الذي خطه تاريخهم فيها.
عبد الوهاب عزام(742/21)
مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة
لا جدال في أن ديباجة ميثاق هيئة الأمم المتحدة لا تكون بذاتها جزءاً
منفصلا بل تندمج مع الميثاق نفسه في مقاصده ومبادئه.
وتقول الديباجة: (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسانية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال وللنساء وللأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي وأن نكلف بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة. . . الخ)
ولقد أخذت هذه الديباجة من صدر الدستور الأمريكي وكتبها المرشال سمطس رئيس حكومة جنوب أفريقيا وقصد بعبارة (نحن شعوب الأمم المتحدة) الإشارة إلى أساس الحكم الديمقراطي وهو رغبة الشعوب التي تنطق باسمها الحكومات المختلفة. . .
ومن أهم مقاصد هيئة الأمم المتحدة: حفظ السلم والأمن الدولي وإنماء العلاقات الودية بين الأمم وتحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية.
والقارئ لمبادئ الميثاق يحس بأنها في جملتها تطابق مبادئ عصبة الأمم القديمة، غير أن الميثاق كان صريحاً وقوياً في تقريره لمبدأ المساواة في السيادة بين الأمم كبيرها وصغيرها وهذا المبدأ من أهم الحجج التي استندت إليها مصر في دعواها لدى مجلس الأمن.
والمعروف أن الميثاق قد دخل في دور التنفيذ منذ يناير سنة 1946 ومعنى ذلك أن عمر الميثاق أقصر جداً من أن يحتمل حكما عليه بالنجاح أو بالفشل. . غير أننا لا نهتم في الحكم بالمقاييس الزمنية وسننظر من زاوية أخرى وهي كمية العمل: ولقد جاء في تقرير المسيو تريجف لي السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة في تقريره السنوي إلى الجمعية العامة للأم المتحدة ما يأتي:
(إنه على الرغم من أن 1611 اجتماعاً من التي عقدت حتى نهاية 30 يونيو من عام 1947 دلت على الاعتماد على الهيئة الدولية. فإن الحالة الدولية لم تتحسن في خلال العام)(742/22)
ويبدو أن هذه الاجتماعات الكثيرة قد طويت في زمن قصير جداً، وكان يمكن توزيعها على سنوات معدودة لو أننا قارناها بعدد الاجتماعات في عصبة الأمم الماضية. ولعله يكون من المناسب ألا يفوتنا تعليل هذه الكثرة بالسياسة الملتوية التي تجري عليها هيئة الأمم المتحدة والتي لا تتسم بميزة الصراحة وحسن النية. . . ولقد اكتوت مصر - ومازالت - بسياسة المساومات والمصالح التي يجري عليها مجلس الأمن والتي تتطلب عادة وقتاً طويلا في أخذ ورد كما في البيع المعتاد ومهما كان الأمر فسنسجل على هيئة الأمم ما لاحظناه في عملها، ومقدار التطابق بين ما هو على الورق وما خرج إلى حيز التنفيذ، وسنرى التيارات المختلفة التي تسري الآن في أروقة هذه الهيئة، وهل هذه التيارات في جانب الميثاق أم أنها هادمة له؟
ولا يخفى أن الإيمان بميثاق هيئة الأمم قد خفت حدته وأصبح الكتَّاب يشبهونه بميثاق الأطلنطي الذي غرق في المحيط ومازال الغواصون يبحثون عنه في القاع حتى إن برناردشو الكاتب الأيرلندي الساخر قد لاحظ أن الرئيس روزفلت وهو المقترح للميثاق نسى أن يضع إمضاءه عليه!
ومن الواضح أن إيمان الشعوب بالميثاق هو القوة الحقيقية التي يرتكز عليها فإذا ما قبل هذا الإيمان ولو بمقدار ذرة نزلت حتما قيمة الميثاق مهما كانت عظمة ما فيه من مبادئ. . .
وستكون المسألة في نظر الشعوب عوداً لقصة عصبة الأمم التي دمغها المؤرخون بالفشل ونعتوها بالتهريج الدولي.
إن ميثاق الهيئة جميل جداً. . تقرأه فيحملك إلى عالم تتمتع فيه حقاً بحلاوة المعاني الإنسانية. . إنه يكرر دائماً في فقراته ما يؤكد في الذهن بأننا على وشك تحقيق أسرة عالمية حقة يسودها حكم القانون الدولي. . وهذا الميثاق كان حجة في يد أغلب الفقهاء الذين يعترفون بوجود قانون دولي وكان في الوقت نفسه ضربة قاصمة لمن أنكر ذلك منهم وعاش في تشاؤمه وشكه من وجود عالم دولي يكون أسرة واحدة لها قانون محتوم.
هذا الميثاق يعيبه أمر جوهري. فهو مازال على الورق لم ينتقل بروحه بعد إلى ميدان التطبيق. ولقد دل العمل على أن هناك بوناً شاسعاً بين المكتوب والمعمول به. وكل(742/23)
الظواهر الدولية التي يلمسها القارئ حجة قوية في يده تؤيد ما نقول. . على أنه يهمنا كثيراً أن نبين علة وجود هذه الشقة أو الفارق الملموس الذي أشرنا إليه وقد تخلبنا بعض البوارق العارضة التي تبدو في المحيط الدولي. وهذه قصيرة العمر أشبه شيء بحبب الماء سرعان ما يتلاشى. . لذلك ستكون نظرتنا ممتدة إلى الماضي تصل به ما هو كائن في زماننا هذا. لأننا نعلم أن القصة الإنسانية بطيئة السرد تتشابه حوادثها. وقيلا ما تتغير. والتاريخ يعيد نفسه دائماً. . .
ولقد رأينا أن النقص ليس في الميثاق نفسه بل في تطبيقه والفشل في التطبيق نتيجة لوجود عاملين هامين يبرزان جلياً لكل من يتتبع أعمال هيئة الأمم المتحدة. وقد توجد عوامل ثانوية أخرى غير أنه لا شك أن تضارب المذاهب المختلفة في العالم وتفشي وباء عدم الاكتراث بين الدول هما أخطر الفواتك بالميثاق.
وإذا كان العامل الأول وهو تضارب المذاهب يبدو للقارئ جديداً في السياسة الدولية لم نألفه مثلا منذ ربع قرن! إلا أننا كما قلنا لا نقف أمام الأمور العارضة، ونرى بحق أن تضارب المذاهب من ديمقراطية وشيوعية وفاشية هو صورة جديدة لِما هو راسخ في التاريخ السياسي لسياسة توازن القوى منذ القرن السابع عشر. . . والمعروف أن سياسة توازن القوى برزت جلية في صورة شديدة الوضوح أثناء القرن التاسع عشر، وخاصة منذ هزيمة نابليون في واترلو. . إذ أن كل ما عقد بعد ذلك من مؤتمرات كان لتقسيم أوربا تقسيما روعي فيه إيجاد التوازن بين القوى المسيطرة على السياسة الأوربية حينذاك، ومما لا شك فيه أن إضعاف فرنسا كان نتيجة لهذه السياسة. . على أن هذا لا يهمنا تقريره بالقدر الكبير الذي نلاحظ به نتائج التمسك بهذه السياسة. والملاحظ أن سياسة التوازن أدت إلى حروب كثيرة في القرن التاسع عشر. كما أن هذه السياسة هي التي جرت إلى الحرب العالمية الأولى متخذة في أثناء ذلك كله صوراً مختلفة من سياسية إلى اقتصادية إلى اجتماعية. . وكانت صورتها الأخيرة في الحرب العالمية الثانية بارزة جلية في ناحيتها الاجتماعية من التضارب بين نظم الحكم المختلفة. . فترددت قوية كلمات الديمقراطية والنازية والشيوعية والفاشية والدكتاتورية.
ولقد قضى على أكثر هذه النظم كنتيجة محتومة لفوز غريماتها من النظم الأخرى ولم يبق(742/24)
ظاهراً في محيطنا الدولي الآن سوى نظامين قويين هما الديمقراطية والشيوعية. وانقسمت تبعاً لذلك دول العالم إلى معسكرين متقابلين يتقاسمان النظر في المسائل الدولية. وخلاصة القول أن مصير العالم الآن تتنازعه كتلتان: الكتلة الشرقية ومقاليدها بيد روسيا والكتلة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. . ويقف الميثاق بينهما. . فإذا ما أراد أحد الطرفين أن يأخذ بتطبيق نص في الميثاق لم ينس أن هناك في الجانب الآخر غريمه يتربص به الدوائر الأمر الذي جعل نظرات كل من الطرفين في تفسير الميثاق مغرضة لا تتواءم مع التفسير الصحيح بقدر ما هي مشبعة بالحذر والشك من الطرف الآخر.
ففي مسألة إيران قامت الكتلة الغربية بتطبيق مبادئ الميثاق خير تطبيق. فقالت: إن وجود جنود دولة أجنبية في أراضي دولة عضو في الهيئة مما يخل بمبدأ المساواة في السيادة المنصوص عليه بين الدول. وقال مستر بيفن في أثناء نظر المسألة أمام مجلس الأمن:
(إن الحكومة البريطانية لتأسف لأي اتفاق يبدو كأنه قد انتزع من الحكومة الإيرانية كرهاً في وقت كانت فيه الحكومة السوفيتية لا زالت تحتل جزءاً من الأراضي الإيرانية فإنه لم يكن مستساغاً أن تجري مفاوضات بين دولة عظمى ودولة صغيرة أو أن يشرع فيها أو أن تسعى فيها دولة عظمى في الحصول على مزايا من دولة صغيرة متوسلة في ذلك باحتلال أراضي هذه الدولة احتلالا عسكرياً).
(البقية في العدد القادم)
عبد الحميد عثمان عبد المجيد
كلية الحقوق(742/25)
ليلة الماشوش وليلة الكفشة
للأستاذ شكري محمود أحمد
اختلف المؤرخون في أصل لفظة الماشوش وضبطها كما اختلفوا في نسبتها إلى طائفة معينة ونحلة مخصوصة. وقد نسبت هذه الليلة إلى النصارى كما نسبت إلى بعض أصحاب البدع من المسلمين، فمن هذه الملل والنحل: النصارى والفرس والساسانية والقرامطة والبابكية والصفاة والمازرية والقلم حاجية والصابئة واليزيدية والشبك والنصيرية والكاكائية، وربما نسبت إلى غير هؤلاء. وسميت عند النصارى وبعض فرق المسلمين بليلة الماشوش، وعرفت عند غيرهم بليلة الكفشة. وربما كانت هذه الليلة في الأصل فارسية ثم انتقلت إلى غيرهم من الأقوام والمذاهب.
جاء ذكر هذه الليلة في شعر أبي نواس وشعر ابن مقرب وشعر الفقيه عمر الأندلسي صاحب الموشحات، وذكرها عدد كبير من المؤرخين كالبيروني في الآثار الباقية والشابشتي في الديارات وياقوت في معجم البلدان والعمري في مسالك الأبصار وصفي الدين بن عبد المؤمن في مراصد الإطلاع والمقري في نفح الطيب والكتبي في عيون التواريخ والبغدادي في مختصر الفرق بين الفرق وغير هؤلاء الأعلام.
وأقدم من استعمل هذه اللفظة فيما وصل إلينا من النصوص التاريخية والأدبية هو أبو نواس في القصيدة البهروزية، وهذه القصيدة مثقلة بالغريب والألفاظ الفارسية والسريانية. قال في بهروز المجوسي:
حماني وصل أبناء القسوس ... نجيب الفرس بهروز المجوسي
نقي في الولادة عن مشوش ... ترخصه النصارى للقسوس
قال أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني جامع شعر أبي نواس وشارحه في تفسير كلمة مشوش: الماشوس لفظة سريانية، ومعناها الاجتماع، ويزعمون أن للنصارى ليلة يجتمع فيها العزاب من القسان والرهبان لافتضاض الأبكار، والفرس يسمونها شب كلعذاران (أي ليلة العذارى) ثم قال (والنصارى لا تعترف بذلك). فقد نص الأصفهاني على أن هذه الليلة للنصارى والفرس دون غيرهم من الطوائف، وسماها أبو نواس والأصفهاني (مشوش) لكن الأب أنستاس الكرملي زعم أنها ليلة (الحاشوش) بالحاء المهملة، وهذا خطأ(742/26)
منه، وزعم أنها من وضع نصارى العرب، ومعناها المتألم والمفعول والمنفعل، ويشير بها إلى الجمعة التي تألم فيها المسيح أو جمعة الصلبوت، وهذا خطأ أيضاً.
وعندي أن هذه اللفظة مشتقة من الكلمة الأرمية (مشوشا) وهي اسم فاعل من الفعل (مَشْ) بمعنى مس ولمس وجس، وهذا قريب من المعنى الذي ذكره حمزة الأصفهاني من اجتماع الرجال والنساء على الفجور.
وقد أخطأ الكرملي أيضاً في قوله: أن البيروني أقدم من ذكر هذه الليلة وذلك لأن وفاة البيروني كانت في شهر رجب من سنة 440 للهجرة، بينما كانت وفاة أبي نواس على الترجيح في سنة 200 للهجرة، ووفاة حمزة بن الحسن الأصفهاني شارح الديوان كانت على الترجيح في سنة 360 للهجرة لأنه ذكر في آخر ما كتبه من تأليفه وهو كتاب (سنى ملوك الأرض والأنبياء) تاريخ جمادي الآخرة من سنة 350هـ وقال (وهو وقت الفراغ من إتمام هذا الكتاب بحمد اله وحسن توفيقه).
ولكن النصارى ينكرون وجود هذه الليلة ويدعون أن كتاب المسلمين افتروها عليهم، ونسبوها إليهم، وألصقوها بهم وهم براء منها. قال الأصفهاني (والنصارى لا تعترف بذلك) لكن حبيب زيات شاء أن ينقل هذا النص بتحريف مقصود (قال والنصارى لا تعرف بذلك).
لكن الحوادث التاريخية والروايات الكثيرة تثبت على أن للنصارى ليلة عيد يجتمع الرجال فيها بالنساء ثم يطفئون الأضوية ويستبيح الرجال النساء، وهذه هي المظان التي ورد فيها ذكر هذه الليلة.
1 - قال أبو نواس في القصيدة البهروزية:
نقي في الولادة عن مشوش ... ترخصه النصارى للقسوس
وقد مضى شرح كلمة مشوش في أول هذا الموضوع.
2 - قال الشابشتي في الكلام على دير الخوات (دير الخوات بعكبرا وهو دير كبير عامر تسكنه نساء مترهبات. . وعيده الأحد الأول يجتمع إليه كل من يقرب إليه من النصارى والمسلمين. وفي هذا العيد ليلة الماشوش، هي ليلة تختلط فيها النساء بالرجال فلا يرد أحد يده عن شيء، ولا يرد أحد أحداً عن شيء)(742/27)
3 - مثل هذا القول ما ذكره ياقوت في معجم البلدان
4 - جاء في مراصد الاطلاع في الكلام على دير الخوات (وفي هذا الدير ليلة الماسوس - وهو تصحيف - ثم يذكر هذه الليلة).
5 - جاء ذكر ليلة الماشوش في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار في الكلام على دير الخوات
6 - جاء في دستور المنجمين (أنها ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم لطلب عيسى عليه السلام، ثم يتهارجون كيف اتفق في الظلام).
7 - ذكر البيروني هذه الليلة في كتابه الآثار الباقية قال (وأما ليلة الماشوش وهي ليلة جمعة زعم الذاكرون لها أنهم يطلبون فيها المسيح، وقد اختلفوا فيها، فبعضهم قال إنها ليلة الجمعة التاسعة عشرة من صوم إيليلا، وبعضهم قال إنها الجمعة التي صلب فيها المسيح وهي جمعة الصلبوت، وبعضهم قال إنها جمعة الشهداء، وهي بعد الصلبوت بأسبوع، والترجيح للقول من بين الثلاثة الأقوال).
فلا مجال إذن لنكران هذه الليلة وقد مر ذكرها في هذه المصادر الكثيرة، وربما جاء خبرها في مصادر أخرى لم نقف عليها
ومن المؤسف أن هذه الليلة الأثيمة انتقلت إلى بعض أصحاب البدع من الفرق الإسلامية تحمل هذا الاسم نفسه فقد جاء في المقريزي (لما استقام الأمر لقرمط أمر الدعاة أن يجمعوا النساء ليلة معروفة، ويختلطن بالرجال ويتقاربن ولا يتنافرن فإن في ذلك صحة الود والألفة بينهم)
وجاء في ديوان ابن مقرب العيوني هذا البيت:
منا الذي أبطل الماشوش فانقطعت ... آثاره وانمحى في الناس وانطمسا
وقال في تفسير هذا البيت: الذي أبطل أبو شكر المبارك ابن الحسن بن أبي مقرب العيوني.
والماشوش بدعة ابتدعتها القرامطة في البحرين وجعلوها ديناً لهم، وهو أن يجتمع الرجال والنساء في ليلة عندهم معلومة في السنة، ويشعلون الشمع ويقومون ويرقصون ويختلطون وفيهم أخوات الرجل وأمه وبناته وعماته وخالاته، فإذا استكفوا من الرقص أطفئوا الشمع(742/28)
واختلطوا، وقبض كل رجل منهم يد امرأة وواقعها إن كانت من محارمه أو أجنبية، فحين ملك عبد الله بن علي العيوني البحرين وصارت تلك الليلة ركب أبو شكر المبارك وركب معه غلمانه وهجموا على النساء فضربوهم وسلبوهم ومضوا هاربين. فصار رجل فيهم ضرير يقول (يا مولانا! والله ما نحن في شيء مما يضر بدولتكم إنما هذا مذهب نراه في ديننا) فقال له الأمير: لئن اجتمع منكم اثنان على هذا الأمر لأعملن فيكم السيف لا العصا، فأمات هذه العادة في البحرين فما بقيت فيها تعرف.
وانتقلت هذه الليلة إلى المغرب وانتشرت بين جماعة الساسانية وذكرها الفقية عمر الأندلسي صاحب الأزجال في قصيدة مهد لها بنثر وجعل من الجميع مقامة ساسانية قال:
أتذكر في سفح العقاب مبيتكم ... ثمانين شخصاً من أناث وذكران
وأطفأت قنديل المكان تعمداً ... وأومأت، فانقضوا كأمثال عقبان
وناديت في القوم: الوثوب فأسرعوا ... فريق لذكران وقوم لنسوان
وفي أول هذه القصيدة يقول:
تعال نجددها طريقة ساسان ... نقص عليها ما توالي الجديدان
وأخذ بهذه الليلة الباكية وذكرهم الكتبي في الجزء الثاني من عيون التواريخ قال (بقى من البابكية جماعة يقال أنهم يجتمعون كل سنة هم ونساؤهم، ثم يطفئون المصابيح وينتهبون النساء، فمن وقعت في يده امرأة فهي له حلال، ويقولون هذا الاصطياد مباح لهم لعنهم الله).
وفي مختصر الفرق بين الفرق لعبد القادر البغدادي عن المازرية (لهم ليلة يجتمعون فيها على الخمر والزمر هم ونساؤهم، فإذا أطفئت السرج استباح الرجال النساء).
وظهرت هذه البدعة في بلاد الشام عند قوم من أهل جبل السمان سموا أنفسهم بالصفاة قال ابن العديم في أخبار سنة اثنين وسبعين وخمسمائة (أظهر أهل جبل السمان الفسق والفجور وتسموا بالصفاة واختلط النساء بالرجال في مجالس الشراب لا يمتنع أحدهم عن أخته أو ابنته، ولبس النساء ثياب الرجال).
وتسمى هذه الليلة بين عامة أهل العراق اليوم ليلة الكفشة، وهي ان يأخذ الرجل بناصية المرأة ليواقعها، وهذه الليلة معروفة بين الكاكائية واليزيدية والنصيرية والشبك والقلم(742/29)
حاجيه، ومن المؤرخين من ينسبها إلى الصائبة - صابئة البطائح - المعروفين في العراق بالصبة، ولا أعرف نصيب كل هذا من الصحة لأننا نسمع ذلك شفاها من أفواه المعاصرين.
وفي بعض قرى العراق الشمالية في هذا العصر مذاهب كثيرة لهم أسماء مختلفة، وتفتن في الفسق والفجور فتتخذ من الليالي التي تصادف مقتل الخلفاء والأئمة أو وفاتهم فيجتمعون خارج القرى رجالهم ونساؤهم على الشرب والزمر والرقص ثم يطفئون الأنوار ويكون بينهم ما يكون. . . وهؤلاء يتخذون القرى النائية على سفوح الجبال مقراً لهم، ولا تزال حياتهم الاجتماعية غامضة لا يعرف من أمرهم إلا النزر اليسير.
وقد أخبرني بعضهم أن النصارى في عيد رأس السنة في هذا العصر يطفئون الأضواء في منتصف تلك الليلة مدة من الزمن، فلا يرد أحد يده عن شيء من قبلة أو غمزة أو غير ذلك مما يسمح به الوقت، فإذا كان هذا صحيحاً فهل يعتبر بقية من آثار ليلة الماشوش أو صورة منها.
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية(742/30)
الخلان والزمان
بين أبي فراس والبارودي
للاستاذ محمد محمد الحوفي
(تتمة)
ويقرن أبو فراس الدهر بالخلان مكرراً ذلك في غير موضع: فهو يستنكر أن يعاتب أحداً، لأن العتاب إنما يكون للأوفياء والناس كدهرهم غادرون:
ما لي أعاتب ما لي أين يذهب بي ... قد صرح الدهر لي بالمنع والياس
أبغي الوفاء بدهر لا أنيس به ... كأنني جاهل بالدهر والناس
والدهر متحالف مع خلافنه على الخيانة:
يا دهر خنت مع الأصادق خلتي ... وغدرت بي في جملة الإخوان
والأيام حية لبست ثوب ناصح:
تصاحبنا الأيام في ثوب ناصح ... ويغتالنا منها على الأمن أرقم
ويكرر هذه الصورة فيقول:
تكاشرنا الأيام فيمن نحبه ... ويختلنا منها على الأمن أرقم
وفي أرجوزته الطردية، يعرج على الدهر فيرميه بالجور والغدر:
ما أجور الدهر على بنيه ... وأغدر الدهر بمن يصفيه
ولا يزال الدهر يتمثل لأبي فراس في كل شيء حتى في عيادة سيف الدولة فقد أخرَّه الدهر عنها:
لقد نافسني الدهر (م) ... بتأخيري عن الحضرة
ويزهو بكثرة حساده، وحقد دهره عليه:
ولم أر مثلي أكثر الناس حاسدا ... كأن قلوب الناس لي قلب واحد
ألم ير هذا الدهر قبلي فاضلا ... ولم يظفر الحساد قبلي بماجد!
ولما كان هذا الدهر هو (صهيونية) أبي فراس الذي يبغضها وتبغضه، وينازعها وتنازعه - رأى أن السلامة والسعادة هي النجاة من غوائل الدهر، ولذا تراه يدعو لأصدقائه أن(742/31)
يقيهم الله صروفه فهو يدعو لصديقه وقريبه أبي العشائر، ألا يمسه الدهر بسوء في أية حال:
لعاً يا أخي لامسك الدهر إنه ... هو الدهر في حاليه بؤس وأنعم
ويدعو كذلك لقريبه أبي زهير بأن يوقى بلايا الدهر:
يا ابن نصروقيت صرف الليالي ... وصروف الردى وكر الخطوب
دهر البارودي
وكما نعى أبو فراس على دهره، ينعى البارودي على دهره؛ لأن البواعث متشابهة، بل هي واحدة: فقد مات والد البارودي وهو في السابعة من عمره فلما شبَّ تلفت حواليه ليدفئ قلبه بحنان أبيه فلم يجده، فهاج على دهره الذي غال أباه وما كان قد تملاّه.
وكان البارودي سليل المماليك ومعتزاً بنسبه كأبي فراس، وتربى في المدرسة الحربية، وطابعها السيادة والعزة يومئذ، ولذا لم يكن يدخلها غير أبناء الطبقات الراقية، فقوت هذه التربية الحربية نزعة الكرامة والاعتزاز في نفس البارودي.
وشعر البارودي أنه فوق أقرانه بعبقريته الحربية: إذ هو أولى من أبلى في حرب إقريطش، وفي روسيا، وسطع نجمه في سماء القيادة الظافرة.
وأحس كذلك أنه عبقري في السياسة: فقد كان أثير الخديو وأمين سرِّه ورسوله في المفاوضات، وتقلب في مناصب عالية، فكان مدير الشرقية، ثم محافظ العاصمة.
وكذلك في عهد توفيق عين مدير الأوقاف، ثم ناظر الحربية مع الأوقاف عندما ثار الجند على ناظر الحربية عثمان رفقي.
ولأمر ما وشى رياض باشا رئيس الوزارة إلى الخديو توفيق بأن البارودي يحابي الشعب ويؤثر مصالحه على مصلحة الخديو، فاستقال.
ولما أسندت الوزارة إلى شريف - لم يقبل البارودي الاشتراك فيها حتى ألّحَّ عليه الخديو توفيق واستسمحه، ثم استقال شريف، فرأس البارودي الوزارة وفي هذا الحين قامت الثورة العرابية، فكان من أمرها أن نفى البارودي مع المنفيين.
وكذلك أحس البارودي أنه عبقري في الشعر: إذ كان شعراء عصره أمثال الساعاتي ومحمود صفوت يتكسبون بشعرهم، وكانوا يقلدون الشعراء المتأخرين في تكلف المحسنات(742/32)
البديعية التي تنسيهم جمال المعنى، ولم يبتكر هؤلاء الشعراء المعاصرون للبارودي جديداً، أو يُحْيُوا من التراث الأصيل تليداً ولكن البارودي جاء فأحيا القديم، وولد منه الجميل الكريم، ولم يتكسب مثلهم بشعره، فعزت منزلته في نظر الناس وفي نظر نفسه
وبعد: فليس عجيباً أن أدرك البارودي سمو مكانته النسبية والحربية والسياسية والشعرية - أن تحدثه نفسه بأن يستولي على العرش حينما فكر الضباط في خلع الخديو، ولاسيما أنه سليل المماليك، ملوك مصر السابقين.
وإليك هذه الأبيات التي اقتبستها من قصيدة له، لترى فيها طمع البارودي في أن يستعيد ملك أجداده:
لكننا غرض للشر في زمن ... أهل العقول به في طاعة الحمل
قامت به من رجال السوء طائفة ... أدهى على النفس من بؤس على ثكل
من كل وغد يكاد الدست يدفعه ... بغضاً، ويلفظه الديوان من ملل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل
وأصبحت دولت الفسطاط خاضعة ... بعد الإباء وكانت زهرة الدول
إلى أن يقول:
فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم ... ولا تزول غواشيكم من الكسل
وتلك مصر التي أفنى الجلاد بها ... لفيف أسلافكم في الأعصر الأول
قوم أقروا عماد الحق وامتلكوا ... أزمة الخلق من حاف ومنتعل
فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل
وقلدوا أمركم شهماً أخا ثقة ... يكون ردءاً لكم في الحادث الجلل
تلمس في هذه الأبيات إشارة إلى ضعف الخديو واضطراب أمره، ودعوة مستورة إلى أن يحل محله شهم أخو ثقة، يريد البارودي نفسه، ومن لها غيره؟ وهو الحربي المظفر والسياسي المحنك والشاعر الأبي، وهو بعد ذلك سليل المماليك ووارث ملكهم.
قلنا ما تقدم لنخرج منه إلى أن البارودي نشأ يتيما، ولابد لليتيم أن يحقد على دنياه، وكان سليل أسرة مالكة اندثرت، فلابد أن يذم الدنيا التي أدالتها، وكان يتطلع إلى إعادة مجدها فلم يفلح، فنقم على حظه ومعاكسة زمانه. . وكان يثق بعبقريته الحربية والسياسية والشعرية،(742/33)
ومع ذلك أهين كغيره في الثورة العرابية، ونفي نفياً قاسياً، فجرح هذا العقاب عزته وكبرياءه، فسب دهره الجائر.
وهل رأيت عند أبي فراس أسباباً للنقمة على دهره غير هذه الأسباب التي ذكرتها للبارودي أخيراً، وسيخيَّل إليك لقوة الشبه بين الأسباب أنني سأعيد عليك شعر أبي فراس تحت اسم البارودي:
فكما كان الدهر حية رقطاء في شعر أبي فراس، يكون في رأي البارودي ثعباناً لادغاً، أو ذئباً مراوغاً، وليس الدهر ملهاة أو ملعبة، ولكنه أزمات وفجائع، تبخل بالسعادة على المكدود، وتجود على الوادعين الرقود:
ألا إنما هذي الليالي عقارب ... تدب وهذا الدهر ذئب مراوغ
فلا تحسبن الدهر لعبة هازل ... فما هو إلا صرفه والفجائع
ألا إنما الأيام تجري بحكمها ... فيحرم ذو كد ويرزق وادع
ولا عهد للدهر، يفتك بالآمن، ويخرس القوالة اللسن:
إن الحياة وإن طالت إلى أمد ... والدهر قُرحانُ لا يبقى ولا يذر
لا يأمن الصامت المعصوم صولته ... ولا يدوم عليه الناطق البَذِر
ولما كان الدهر في رأي البارودي مقياس القوة والتأثير شبَّه الشعر به في رفع الوضعاء وإسقاط الشرفاء، وتراه يكرر الدهر أربع مرات في كل هذه الأبيات الأربعة:
للشعر في الدهر حكم لا يغيره ... ما بالحوادث من نقص وتغيير
يسمو بقوم ويهوي آخرون به ... كالدهر يجري بميسور ومعسور
صحائف لم تزل تتلى بألسنة ... للدهر في كل ناد منه مهجور
لولا أبو الطيب المأثور منطقه ... ما سار في الدهر يوماً ذكر كافور
وكأنما يريد البارودي بذلك أن يعلي الشعر على الدهر، وأن يغيط الدهر بغيض بما ينسبه للشعر وحده من فضل وفخر
وكما يدعى أبو فراس ثباته أمام صدمات الدهر، وأن عزيمته لا يمسها وهن أو كسر، وكذلك لا يفوت البارودي هذا المعنى فيقول:
وإني أمرؤ تأبى لي الضيم صولة ... مواقعها في كل معترك حمر(742/34)
أبى على الحدثان لا يستفزني ... عظيم ولا يأوى إلى ساحتي ذعر
إذا صلت صال الموت من وكراته ... وإن قلت أرخى من أعنته الشعر
ويقول وهو أضعف حماسة من سابقه:
فإن تكن الأيام رنقن مشربي ... وثلمن حدى بالخطوب الطوارق
فما غيرتني محنة عن خليقتي ... ولا حولتني خدعة عن طرائقي
ولكنني باق على ما يسرني ... ويغضب أعدائي ويرضى أصادقي
فحسرة بعدي عن حبيب مصادق ... كفرحة بعدي عن عدو مماذق
فتلك بهذي والنجاة غنيمة ... من الناس والدنيا مكيدة حاذق
وكما تجلد أبو فراس أمام ريب الدهر، ثم عاد فأبدى تخاذله وضعفه يعود البارودي كذلك بعد تشجعه وتأبيه، فيستسلم للدهر ويقرر أنه اضطر إلى الصبر، ولولا اللوم لهلج وجزع:
صبرت على ريب الدهر ... ولولا المعاذر لم أصبر
ويعزو إخفاقه إلى عجزه وتخاذل طاقته لا إلى جهالته:
فلا تحسبني جهلت الصواب (م) ... ولكن هممت فلم أقدر
ويعجب أن يرد الهرمان عوادي الدهر وفي هذا ما يشعر بتهيب البارودي له وحذره من نوازله:
سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر ... لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
بناءان ردَّا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
وكما لم ينس أبو فراس الدهر وأحداثه وهو حظٍ بلقاء حبيبته مشغول بمحادثتها فيقول:
فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا ... فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر
وقبلت أمري لا أرى لي راحة ... إذا البين أنساني ألح بي الهجر
فعدت إلى حكم الزمان وحكمها ... لها الذنب لا تجزى به ولي العذر
فكما ترى في هذه الأبيات أن أبا فراس أسلم نفسه لكم زمانه وحبيبته، واستكان لسطوتها وسطوته - ترى أن البارودي أيضاً خفض جناحيه لعيني حبيبته وخضع لجمالها كما خضع للدهر وقوته، حيث يقول:
لها لفتة الخشف الأغن ونظرة ... تقصر عن أمثالها الفتكة البكر(742/35)
ترد النفوس السالمات سقيمة ... وتفعل ما لا تفعل البيض والسمر
خفضت لها مني جناحي مودة ... ودنت لعينيها كما حكم الدهر
وكما اعتذر أبو فراس عن إخفاقه بأن الدهر حاربه وغالبه فقال:
تطالبني بيض الصوارم والقنا ... بما وعدت جدي في المخايل
ولكن دهراً دافعتني صروفه ... كما دافع الدين الغريم المماطل
بعتذر البارودي كذلك بجبروت الزمان، ودوائر الحدثان:
فإن كنت قد أصبحت فل رزية ... تقاسمها في الأهل باد وحاضر
فكم بطل فل الزمان شباته ... وكم سيد دارت عليه الدوائر
وبعد فهذا الذي ذكرناه من دهريات البارودي قليل من كثير اتخذناه شاهداً على اتحاد الفكرة عند البارودي وأبي فراس اتحاداً عجيباً. وكأنما بعث الله في البارودي روح أبي فراس،. . فرجَّعت ما قاله شاعر حمدان فيما قاله شارع المقياس، أو كأنما عاد التاريخ فصار الزمان أبي فراس هو نفسه زمان البارودي وصار كذلك ناسه هم الناس.
محمد محمد الحوفي
معهد التربية العالي للمعلمين(742/36)
رنين الذكرى
للأستاذ إبراهيم الوائلي
سلوها: اعند الليل سر لواجد ... ولم يك إلا بعض وجدي وأسراري؟
وهل في ائتلاف الفجر معنى بذيعه ... ولم يك إلا من خيالي وأفكاري؟
وهل عند هذي الطير ترجيع نغمة ... ولم يك إلا من ترانيم قيثاري؟
وهل صخب الأمواج في كل ساحل ... سوى رجع أنفاسي ورنة تهداري؟
وهل نسجت كف النسيم ملاءة ... على الزهر إلا من روائع أشعاري؟
وهل رجعت دنيا الغرام لشاعر ... صدى وتر إلا تواقيع أوتاري؟
أتراها لم تعد تذكر أيام اشتياقي؟
والأماسي على النهر، وأنغام السواقي
وانسياب الموج ما بين رنين واصطفاق
وهي، والشاعر، والحب، وأحلام التلاقي
سلوها: أفي الدنيا أديب مروع ... سوى شاعر ما خان عهداً لليلاه؟
جفته وفي جنبيه لوعة هائم ... أبى البعد إلا أن يضاعف بلواه
يئن وهل يجديه ترجيع أنة ... وقد نسيت بنت الفراتين ذكراه
فيا نسمة الفجر الندية هدهدي ... رؤاها بطيف المستهام ونجواه
ومرى عليها إن خطرت لعلها ... ترق لما يشكو المحب ويلقاه
وقولي لها: ما خان عهدك شاعر ... على النيل مشبوب الجوانح أواه
ذكريها حين كنا نبعث الأشواق لحنا
وبنجوانا على النهر إذا ما الليل جنا
نشرح الحب أقاصيص فيروي الموج عنا
وهزار الروض إن أطرق هجناه فغنى
سلوها عن الحب القديم وعهده ... ففي كل واد من غراميَ ترديد
وعن ذكريات الشوق أيام نلتقي ... وللنهر ترنيم وللنخل تأويد
وعن كأسنا الأولى وعن رشفاتها ... بحيث الربى تزهى وللطير تغريد(742/37)
وحيث الأماني كالنسيم طليقة ... لها في ثنايا القلب خفق وتجديد
أبنت الفرات الحر جفني عالق ... بطيفك لو يرتاح للنوم مكدود
وهل يستجيب الطيف إلا لنائم ... فكيف وملء الجفن بعدك تسهيد
كم سهرت الليل لا أرقب في دنياه فجرا
وعلى صفحته الظلماء لا ألمح سطرا
هائماً كالطير قد ريع فلا يبصر وكرا
وعلى ثغري أنات وفي قلبي ذكرى
أبنت الفراتين الحبيبين إنني ... موزع أفكار ومهدود أوصال
أبيت وليلى أربد اللون قاتم ... كليل سجين كبلوه بأغلال
ذكرتك حيث النيل غضبان ثائر ... يجيش بآداب ويطغى بآمال
وحيث الشباب الحر ينبض قوة ... لتحطيم أصفاد وتقطيع أنكال
وما مصر والتأريخ إلا مواكب ... من المجد وثاب الخطا منذ أجيال
يطوف عليها النيل عذباً فتلتقي ... جوانحها منه بأبيض سلسال
كم تحدثت إلى النيل وحومت عليه
ولكم رحت مع الطير أناجي ضفتيه
أقرأ الحب سطوراً لألأت في شاطئيه
وأرى السحر كؤوساً عربدت في شفتيه
أبنت الفراتين اذكري عهد شاعر ... تغنى ولولا سحر عينيك ما غنى
ولا تبخلي أن تستجيبي لطيفه ... فطيفك حتى الآن مازايل الجفنا
وهبتك قلباً لم يعد بين أضلعي ... سوى وتريشجي النفوس متى رنا
فما هذه الأنغام إلا بقية ... من القلب في نجواك ذوبتها لحنا
مقاطيع ما راقت لمثلي شاعراً ... بعيد المنى لو لم تكوني لها معنى
فيا ليت دنيا الشعر والسحر والهوى ... ونجْوى ليالينا تعود كما كنا
أترى يرجع ما فات من العيش وراح؟
ويعود البلبل الصداح خفاق الجناح(742/38)
حسب أنغامي شجو وأنين ونواح:
وكفى أن يذهب العمر صراعاً وكفاح
(نزيل القاهرة)
إبراهيم الوائلي(742/39)
تعقيبات
واجبنا في الجهاد الثقافي:
قام الخبير الاقتصادي المصري في السودان برحلة إلى بعض أرجاء الشطر الثاني من الوادي فكان مما لاحظه أن وجد المكاتب غاصنة بالمؤلفات الإنجليزية وأن هناك عناية مقصودة بتغذية السودانيين بتلك المؤلفات وبجميع الألوان الثقافية التي تصدر من لندن. . على حين وجد المؤلفات العربية التي تصدر في مصر قليلة، بل نادرة، وأنه ليست هناك أية عناية في تقديم ألوان الثقافة العربية المصرية إلى أبناء السودان، مع أنها الثقافة التي تتصل بطبيعتهم وتلائم وضعهم وروحهم.
لم ينشر هذا الكلام في الصحف، وإنما حدثني به (عليم ببواطن
الأمور) كما يقولون في لغة الصحافة، ولست أدري هل كتب الخبير
الاقتصادي المصري بهذا إلى الحكومة المصرية أم لا، وعلى أي حال
فإني أرجو أن نتدبر الأمر، وأن نبذل له حكومة وشعباً وكثيراً من
العناية، لأنها ناحية ترتبط أشد الارتباط بما نجاهد له سياسياً في دعم
وحدة الوادي وجعل أبناء النيل كما خلقهم الله لحمة واحدة، ونحن
نعرف أن الإنجليز يتخذون من الثقافة أداة استعمارية يفككون بها
روابط الشعوب، فهم يحاولون أن يغذوا أبناء الجنوب بثقافتهم حتى
يكونوا بعد جبل واحد غرباء عن قومهم غرباء في أوطانهم.
فمن الواجب على وزارة المعارف في مصر أن تتولى تنظيم هذا الأمر، فتصدر إلى هناك الكتب والمؤلفات وتنشئ المكاتب لتوزيعها وتقديمها، ولا بأس أن تتحمل الوزارة جانباً من ثمن المؤلفات حتى يستطيع أبناء السودان الحصول عليها في يسر وسهولة.
هذا واجب على وزارة المعارف، هو واجب أيضاً على جميع الهيئات الثقافية في مصر، وعلى رجال الفكر والثقافة، بل إني أدعو إلى تأليف لجنة من رجال العلم والفكر تتولى العناية بهذا الأمر وتجمع التبرعات الوطنية لتنظيمه والاتفاق عليه.(742/40)
وأقول الوطنية لأننا بازاء عمل وطني يجب علينا الجهاد له كما نجاهد في ناحية السياسة.
فهيا قبل فوات الأوان، وقبل أن يفرق الإنجليز بثقافتهم أبناء السودان. .
الاستشراق البريطاني:
قرأت في الأنباء الخارجية هذا الأسبوع نبأ وارداً من لندن يقول إن ثمة (تعديلات ستحدث في معاهد تدريس الآداب الشرقية بإنجلترا حيث تزداد الرغبة ويشتد الإقبال على هذا العلم الذي لم يكن فيما مضى سوى ميل خاص واتجاه شخص عند بعض الأفراد من العلماء المستشرقين فكانوا يتجهون إلى دراسة علوم الشرق وآدابه استجابة لميلهم الشخصي، أما اليوم فإن الحكومة البريطانية ترعى هذه الناحية وتشجعها وتبذل المال والمساعدات في تنظيمها وتوسيع نطاقها كما أن الجامعات والمجامع العلمية تقوم من جانبها بجهد وافر في هذا السبيل.).
(والفكرة في الاستشراق الآن عند الحكومة البريطانية هي الوقوف على روح الشرق وتفهم سياساته وعاداته واتجاهاته حتى يكون المستشرقون على صلة متينة مع الأقطار الشرقية التي يتخصصون في دراسة علومها وآدابها).
(ويتجه الرأي إلى ضم المجامع العلمية وتوحيد جهودها لخلق مركز عام ثابت في لندن للإشراف على دراسة الآداب والعلوم والفنون وسائر ألوان الثقافة في القارة الأسيوية، وقد وضعت فعلا التقادير بما سيكون عليه هذا النظام واعتمد لذلك المال المطلوب. .).
ويقول النبأ (إن هناك لجنة ستعمل على توسيع مدرسة الآثار في فلسطين وفي بغداد، وذلك لتهيئة المعلومات اللازمة لعلماء بريطانيا في العالم العربي، كما أن هناك اقتراحات لإنشاء مدرسة من هذا القبيل في القاهرة تكون على اتصال وثيق بالمجمع العلمي المصري، ومن المحتمل إنشاء مدرستين مماثلتين في إيران وتركيا. .).
تلك هي خلاصة ذلك النبأ الذي أذيع أخيراً من لندن فلم يلتفت أحد إليه، ولم يحرك جارحة عند أبناء الشرق مع أنه على جانب كبير من الخطورة، لأنه يتضمن السياسة الثقافية التي رسمها إنجلترا لنفسها نحو الشرق، ويعلم الله أن إنجلترا لا يعنيها في كثير ولا قليل الاهتمام بأرباب الشرق وعلومه إلا أن تجعل من ذلك وسيلة إلى غاية أخرى، وهي الغاية التي يشير إليها ذلك النبأ والمقصودة بتوجيه الاستشراق إلى (تفهم روح الشرق والوقوف(742/41)
على سياساته واتجاهاته. .)
إنها لاشك خطة مدبرة لمعاونة السياسة البريطانية في اتجاهاتها وإنها لاشك خطة مدبرة للسيطرة على الشرق من الناحية الثقافية وإنها لاشك خطة يعرف كل منا ما وراءها، ولكن ماذا صنعت حكومات الشرق بازاء ذلك، وماذا صنعت جامعات الشرق وجماعاته لوضع سياسة ثقافية تقوم على التعاون والدراسة الشاملة النافعة حتى تقطع على الخطة الإنجليزية (الثعلبية) الطريق فيما تقصد إليه؟!.
لقد تيقظ كل شعب وكل فرد، فتيقظوا أيها القوم واتعظوا بما مضى من عبر، واخرجوا من دائرة (الروتين) الذي كاد يخنقكم.
الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب:
. . وأعود إلى موضوع الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب فأشكر لأستاذي الجليل السيد (السهمي) ما أفادنيه من زاخر علمه، وللصديق الكريم الأستاذ (علي) ما أمدني به من وافر محصوله، فوقفني السيد الجليل على ما تضمنه (الامتناع والمؤانسة) من حديث عن تينك الصناعتين، وأرشدني الصديق إلى ما ورد في (الفرج بعد الشدة) من قصة هي من هذا القبيل.
وقد كنت وقفت على هذا كله وعلى كثير من أشباهه وكنت أعرف أن (للتوحيدي) رسالة اسمها (رسالة العلوم) عرض فيها لهذه المسألة، وفي (مقابساته) شذرات من هذا القبيل، ولكني اكتفيت بالإشارة إلى هذا فيما كتبت به إلى الدكتور زكي مبارك إذ قلت: (إن الفكرة في الموازنة بين الكاتب المنشئ والكاتب الحاسب قديمة في الأدب العربي. وتسبق الحريري بأجيال وأزمان. والواقع أن الحريري وجد مادة متوفرة لتلك المناظرة التي عقدها حتى الأوصاف التي خلعها على الكاتب المنشئ والأخرى التي وصف بها الكاتب الحاسب قد أخذها كلها عن الكتاب السابقين، وليس له فيها من فضل إلا المقابلة والمزاوجة وإيثار السجع في التعبير. .) ولم أكن أقصد إلا تصويب ما قضى به الدكتور مبارك للحريري من السبق في ذلك، حتى زعم أن (فكرته في هذه الموازنة لم يسبقه إليها باحث من المسلمين)، ولم أقصد إلى إيراد كل ما وقفت عليه من النصوص في ذلك، لأن المقام لا يتسع له، ولأن الفكرة في تلك الموازنة قد أصبحت في هذا العصر (غير ذات موضوع) كما يقولون في(742/42)
لغة السياسة، وليس لما قيل في هذا من قيمة إلا القيمة التاريخية، إذ لا يخفى أننا اليوم نقدر لكل علم مرتبته ومقامه وقد انتهينا في تقسيم العلوم وتقدير مراتبها إلى وضع جديد مغاير لما كان عليه السلفيون.
وبهذه المناسبة أذكر طريقة تاريخية ذكرها الشيخ الجبرتي في تاريخه، وهي أنه لما تولى على مصر أحمد باشا المعروف بكور قابله صدور العلماء في ذلك الوقت وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم وناقشهم ثم باحثهم في الرياضيات فأحجموا وقالوا لا نعرف هذه العلوم، فنعجب، ثم قال: المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها فلما جئتها وجدتها كما قيل: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، فقال له الشيخ الشبراوي: هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف؛ فقال: وأين هي وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم شيئاً رغابة تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، فقال الشيخ: إن غالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث وعلم الحساب.
وبعد مناقشة طويلة بين الوالي والشيخ دله على والد الشيخ الجبرتي وكان متحققاً بالعلوم الرياضية فوجد الوالي عنده ضالته فقربه إليه وصار يأخذ عنه مسائل تلك العلوم؛ وكان يقول لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بذلك الأستاذ؛ وكان الشيخ الشبراوي كلما تلاقى مع والد الجبرتي قال له (سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا فإنه لولا وجودك كنا جميعاً عنده حمير. فرحم الله الجميع)
إي والله هكذا ختم الجبرتي روايته بهذه العبارة. . .
(الجاحظ)(742/43)
الأدب والفنّ في أسبُوع
أحزبية في الأدب:
من بلائي أني أقرأ أكثر ما يكتب في هذه الأيام، وخاصة ما يتعلق بالآداب والفنون، وقد وقعت أخيراً في مجلة (العالم العربي) على كلمة في كتاب (أبو الهول يطير) الذي ظهر أخيراً للأستاذ محمود تيمور بك، بتوقيع (أنور المعداوي - من الأمناء)
قال ذلك الذي هو من (الأمناء) بعد أن وصف ما كتبه تيمور في أول الكتاب عن فجيعته في ولده: (ولست أدري ما الذي دفع بيدي - وأنا في دنيا تيمور الحزينة - إلى كتاب (وحي الرسالة) لتقلب صفحاته حتى تقف بي عند صفحة تحمل عنواناً حزيناً هو (ولدي)، لقد رحت أقارن بين الكلمات هنا وهناك فماذا رأيت؟ رأيت البون شاسعاً بين آثار الفجيعة في الأديب المصنوع وأثرها في الفنان المطبوع).
ومجلة العالم العربي كانت قد أعلنت، بعد أن تنحى عنها الأستاذ سيد قطب، أن سيشترك في تحريرها الأستاذ محمود تيمور بك، ثم كتبت على غلافها (يشترك في التحرير: محمود تيمور بك) والمعروف عن تيمور أن مشاركاته في الصحف والمجلات لا تتعدى قصة أو مقالا يكتبه للصحيفة أو المجلة، وليس الأمر إلا كذلك في علاقته بمجلة العالم العربي، وقد فهم الناس بطبيعة الحال أنها ترمي إلى الاستعانة باسم تيمور، فهل البون الشاسع بين أثر الفجيعة. . الخ، تيحة لتيمور على حساب النيل من الأقدار!
أو أن البون الشاسع. . الخ، بدوة من بدوات (الأمناء) وزفرة من زفراتهم الحرار التي تحتبس بين ضلوعهم من يوم أن ساق إليهم صاحب (دفاع عن البلاغة) قاصمة الظهر في كلمته البالغة الخالدة عندما تعرضوا لكتابة في مجلة (الكتاب)؟
ونعرف كثيراً من دوافع النقد في مصر، ولمكنا لم نعهد بينها أن جماعة تنتمي إلى البلاغة والأدب وتتسمى باسم أستاذها، تضطغن على من يخاصمه هذا الأستاذ، فتحاول النيل منه بالدعاوى المطلقة والقول الجذاف، فأصبحنا بذلك أمام حزب كأحزاب السياسة، يستعمل أدواتها في التشهير بالخصوم. .
ثم ما هذا الذي يقوله ذلك (الأمين) المعداوي؟ إنه يردد ما هرف به بعض العجزة المتخلفين، إذا قالوا إن الأستاذ الزيات يصنّع في أدبه، وهم يقصدون ما يتوخاه في كتابته(742/44)
من حسن الصياغة وجمال الديباجة وإجادة الرصف وإحكام النسج. ومن أعجب العجب أن يعاب الكاتب بهذه المزايا، كأن الركاكة وضعف الأسلوب من إمارات العبقرية والنبوغ! على أن الزيات يحلى أصالة الطبع ببراعة الصنعة، وهو في كتابته كالرجل الأنيق المعني بهندامه وزيه دون إسراف ولا تكلف؛ وقد أجمل العقاد نعته بقوله: (أنيق في غير بهرجة ولا فضول، بليغ في غير عسر ولا تكلف).
على أن تيمور أخذ هو أيضاً منذ سنوات يميل إلى التنميق اللفظي، وخاصة في هذا الكتاب (أبو الهول يطير) وهذا هو يقول في خطاب ولده في الفصل الذي وازنه الكاتب (الأمين) بمقال (ولدي):
(تهتاج بين جوانحي رغبة متقدة في الكتابة إليك، في مخاطبتك. . . في فك الإسار عن نفسي التي تتنزى في القيود والأصفاد! لقد أسكنت هذه النفس قمقما من قماقم (سليمان) وأحكمت سده بالرصاص، وقذفت به في قاع المحيط، هنالك تحت أعماق الماء، حيث يتكدس الظلام والصمت طبقات فوق طبقات) فترى الصنعة بادية في هذا الكلام، وهي جديرة ان تعد من عناصر الجمال الفني فيه، فهل معنى ذلك أن تيمور أديب مصنوع؟
إني لا أناقش هذا (الأمين) وهو لم يأت بدليل يناقش ولا حجة تدفع، ولكني كنت مدرساً، وأراني، في هذا الوطن قد غلبت عليَّ طبيعة المدرس، فجنحت إلى الشرح وإيراد المثال.
يا بني، إني آتيك بشيء من مقال (ولدي) فاسمع:
(كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان، أنشد الراحة ولا أجد الأنس، وأكسب المال ولا أجد السعادة، وأعالج العيش ولا أدرك الغاية! كنت كالصوت الأصم لا تُرجِّمه صدى وكالروح الحائر لا يقره هدى، وكالمعنى المبهم لا يحدده خاطر! كنت كالآلة نتجتها آلة واستهلكها عمل، فهي تخدم غيرها بالتسخير، وتميت نفسها بالدءوب، ولا تحفز نوعها بالولادة؛ فكان يصلني بالماضي أبي، ويمسكني بالحاضر أجلي، ثم لا يربطني بالمستقبل رابط من أمل أو ولدن فلما جاء (رجاء) وجدتني أولد فيه من جديد).
فهل رأيت يا بني أبلغ من هذا في التعبير عن حال رجل قلق حائر ينشد تجديد حياته بولد؟
وهاك أثر الفجيعة في الأديب (المصنوع):
(إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعضها معول! فهل لبيان الدمع(742/45)
ترجمان، ولعويل الثاكل ألحان؟ إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية؟ وإن الآلة عصب مكدود فهل تعزف الضرم الواري؟ إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده؟ أشهد لقد جزعت عليه جزعاً لم يغن فيه عزاء ولا عظة! كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه، وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يُكْبِره، وأستريح إلى النادبات يندبن القلب الذي مات والأمل الذي فات والمَلك الذي رفع!).
إن كلامك - يا بني - يدل على أنك قرأت هذا المقال من قبل، وأن له في نفسك صدى من قديم، ويلوح لي أنك ذو فهم، ولكن تعصبك لجماعتك وتأثرك بجوها يغطيان على بصرك. . .
ذكرى شوقي في (الأوبرج):
على أثر ما كتبناه في العدد الماضي عن حفلة ذكرى شوقي المزمع إقامتها في (الأوبرج) يوم 14 أكتوبر المقبل، نشرت اللجنة المؤتلفة لتنظيم هذه الحفلة بياناً في الصحف جاء فيه (أما الغرض من إقامة هذا المهرجان فهو تخليد ذكرى أمير الشعراء فعليا بإنشاء قاعة محاضرات باسم شوقي).
والجنة ترد بذلك على ما وجه إليها من النقد الخاص بتسعير شهود الحفلة بأسعار (الأوبرج) العالية وما في هذا من الاستغلال المادي لذكرى شوقي، فاللجنة تقول إنها ستنشئ بما تغله الحفلة قاعة محاضرات باسم شوقي. وبطبيعة الحال لن تغل الحفلة ما يكفي لإنشاء هذه القاعة إلا إذا كانت حفله (الأوبرج) بمعنى الكلمة يشترك في إحيائها فلان وفلانة كما نشرت بعض المجلات، أي أن شوقي شاعر مصر الخالد الذي أوفدت البلاد العربية كبار شعرائها للاشتراك في تكريمه بالأوبرا - سيحيي ذكرها في آخر الزمن شكوكو وتحية كاريوكا. . .!
ولم كل هذا الابتذال والإسفاف؟ لإنشاء قاعة محاضرات باسم شوقي!
عندنا قاعات للمحاضرات كثيرة، أعرضت عنها اللجنة وتأبى إلا إقامة الحفلة في (أوبرج) الأهرام. . . حيث تقام حفلات أجمل (مايوه) في ضوء القمر، وانتخاب ملكة الجمال. . . فما دامت الأفكار قد تطورت إلى هذا الحد، وأصبحت قاعات المحاضرات (مودة) قديمة. . فلم العناء بإنشائها وتجشم تكاليفها؟(742/46)
إن إحياء شوقي نفسه لا يبرر هذه المهازل، فضلا عن تخليد ذكراه بقاعة محاضرات!
نفهم أن تقام في (الأوبرج) حفلة لإحياء ذكرى (أسمهان) أما شوقي فمسرح الأوبرا يعرفه، وقاعة الاحتفال الكبرى بالجامعة وغيرها ترحب بالاحتفال لإحياء ذكراه احتفالا يتمثل فيه الأدب الرفيع والفن المستقيم. . .
البعثة الثقافية إلى السودان:
جرت وزارة المعارف في السنين الأخيرة على دعم العلاقات الثقافية والأدبية بين مصر والسودان، فأوفدت بعض الأساتذة لإلقاء المحاضرات، وأنشأت مدرسة الملك فاروق الثانوية بالخرطوم كما أنشأت مدارس أولية في جهات مختلفة.
وشرعت الوزارة في استئناف هذا النشاط في هذا العام، فأعدت بعثة تتكون من ثمانية أساتذة بعضهم من الجامعة والبعض الآخر من رجال الوزارة، ومعهم ثلاثون طالباً من طلبة معهد التربية العالي للمعلمين ومعاهد المعلمين الابتدائية؛ على أن تكون مهمة الأساتذة إلقاء المحاضرات ببعض العواصم السودانية، ويزور الطلبة مختلف الأماكن هناك. وكان المقرر أن تسافر هذه البعثة في خلال سبتمبر الحالي، وأرسلت الوزارة إلى وكالة حكومة السودان بالقاهرة تطلب حجر أماكن لسفرها من الشلال إلى الخرطوم. . . وما كان أشد دهشة الوزارة عندما تلقت من هذه الوكالة أن الحكومة السودانية لا تسمح بسفر هذه البعثة إلى السودان (نظراً لتوتر الحالة السياسية!) ولا تزال الجهات المسئولة تبحث هذه المسألة وإن كان قد غطى على أهميتها بيان حاكم السودان بالنيابة الذي تضمن الإصرار على تنفيذ الخطة التي ترمي إلى فصل السودان عن مصر وانفراد الإنجليز بحكمه.
والواقع أن الإنجليز ينظرون إلى دعم الصلات الثقافية والأدبية بين شقي الوادي بعين القلق والخوف، لأن الثقافة العربية الإسلامية المشتركة هي الروح التي تسري في (نخلة الوادي) من جذعها بالجنوب إلى جريدها وسعفها بالدلتا، وإخواننا في الجنوب يقرؤون المؤلفات والصحف والمجلات المصرية بشغف عظيم، وتعمل الحكومة السودانية جاهدة على نشر اللغة الإنجليزية هناك بمختلف الوسائل، فلغة الحكومة انجليزية، والتعليم في المدارس بالإنجليزية فيما عدا اللغة العربية؛ ورغم كل ذلك يهتم السودانيون بالدارسات العربية اهتماماً كبيراً، ولكثير من الأساتذة المصريين الذين زاروا السودان وحاضروا في(742/47)
نواديه أطيب الذكر وأجمل الأثر.
فلا عجب أن يخشى الإنجليز خطر البعثات المصرية إلى السودان وإن كانت ثقافية، بل إن الرابط الثقافي أفعل من الدعاية السياسية في هدم سياستهم الاستعمارية.
توصيات المؤتمر الثقافي:
اختتم المؤتمر الثقافي العربي بلبنان أعماله في اليوم العاشر من سبتمبر الحالي. وقد وزعت قرارات المؤتمر التي اتخذت بإجماع الآراء، ومن أهم ما جاء فيها خاصاً بالتربية الوطنية وجوب بث الروح الوطني في نفوس النشء، وأن يعد الوطن هو الوطن المحلي، ثم الوطن الكبير الذي يضم الدول العربية، وأن تكون الدراسات الاجتماعية أساساً لتدريس التربية الوطنية على أن يشمل هذا الأساس إبراز الاتصال الجغرافي التام بين البلاد العربية والتدليل على الدور الخطير الذي قامت به الدول العربية على ممر العصور في إنشاء الحضارات وتقدم الإنسانية، والتوسع في إبراز دور الإمبراطورية العربية، وأن العروبة لم تكن يوماً لدين ما، بل هي أمانة في عنق كل عربي، وأن التعصب لم يعرف في البلاد العربية إلا في العصور التي حكم فيها الأجانب.
ومن القرارات الخاصة بالجغرافيا، العناية بجغرافية الوطن المحلي، ثم جغرافية البلاد العربية واتخاذ قدر مشترك يختاره كل قطر عربي، وإقامة رحلات بين مختلف الطلبة العرب ليطلعوا عملياً على جغرافية البلاد العربية.
ومن القرارات الخاصة بالتاريخ العناية بالتاريخ الوطني المحلي وصلاته ببقية الأقطار العربية، ثم تتسع الدراسة على ضوء القدر المشترك من التاريخ العربي وإبراز أبطاله وأمجاده، والتبسط في الصلات التاريخية بين البلاد العربية وإظهار أثر الحضارة العربية في الحضارة العالمية، وتمجيد الأحداث العظيمة، وتخليد ذكرى عظماء الشرق العربي سواء بإقامة التماثيل لهم أو تسمية الشوارع بأسمائهم، وضرورة اتخاذ الطريقة العملية في دراسة التاريخ.
وقد قدمت هذه التوصيات بعد موافقة اللجان عليها من هيئة المؤتمر العامة للإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، لتعرضها على مجلس الجامعة، فإذا أقرها أصبحت توصيات لكل بلد عربي أن يأخذ بها بالقدر الذي يرتضيه.(742/48)
ويلاحظ القارئ أن هذه القرارات أو التوصيات لا تشمل اللغة العربية، وهي من موضوعات المؤتمر مع التربية الوطنية والجغرافيا والتاريخ، وقد ترامى إلينا أن القرارات التي أذيعت هي التي وافقت عليها اللجان بإجماع الآراء، ولم يتم ذلك فيما يختص باللغة العربية.
(العباسي)(742/49)
البَريدُ الأدَبيّ
ذلك نصيبي من التبعة
إني رويت ما وجدت، ففي ذلك المؤلف في التصوف: (مالك بن أنس) لا (أنس بن مالك) وقد فاتني تحقيق الاسم هناك وضبطه غير فاطن له، وربما حال دون الفطنة - الفكر وقتئذ في غيره، وقد يشغل شيء عن شيء، ولست أجهل إذ أقول هذا القول أن العلماء لا يقبلون مثل هذه المعاذير. ولما أصلح قاضينا الفاضل إصلاحه وأيقن أني أنا الذي تصرف في أسماء الناس وأزمانهم مقدماً ومؤخراً. . . حكم أن ذلك الخطأ (سبق قلم) تهويناً للخطب، وقوله هذا هو من عناية القاضي التي لا تذم. وقد فهم قراء (الرسالة) الفضلاء الألمعيون من نص الحكم ما فهموا. فنصيبي من التبعة - والقصة هي هذه - هو ما أعلنت، ولغيري قسمته. .
السهمي
يا سيدي: أستغفر الله، أنت إمامنا، وبفقه (الإمام) يقضي القاضي، فإن أهديت إليك فمن عطائك، وإن أطرفتك فببعض حبائك. . .
أطال الله بقاءك مرجعاً للأدب، وذخراً للعرب.
علي الطنطاوي
فعلاء الحائرة:
منذ خمس سنوات كتب الأب أنستاس ماري الكرملي في عدد الرسالة (475) وما بعده يخطئ وصف الجمع بفعلاء المفرد، ويؤكد أنه ليس في الفصيح من الكلام إلا الوصف بفعل المجموع ويسوق الآيات (كأنه جمالة صفر). (ويوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً). (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود). (ويلبسون ثياباً خضرا من سندس). (عاليهم ثياب سندس خضر) وينعى على من يقول: كريات حمراء، وكريات بيضاء (لأن القول بفعلاء في مثل هذا الموطن لا يجوز البتة، ولأنه غلط شنيع فظيع، تلعنه الإنس والجن، وملائكة السماء، وأهل النار جميعاً!!) ولأنه (كفر نحوي عربي لم تنطق به العوام، ولا الأعاجم ولا الأروام) وحجته (أن الآيات(742/50)
القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة الرواية، والمسموع من كلام فصحاء العرب وبلغائهم هي أحسن شاهد) وقد عارضة حينذاك جماعة من الكتاب ممن لم يأخذ أخذه، ولم يجر في غباره فكان له الفلج عليهم. . .
ومضى الزمن على هذه المعركة إلى أن جاء الأستاذ الفاضل محمد سليم الرشدان فكتب في العدد (735) من الرسالة الغراء ينبه على هذا الخطأ، في قول الكاتبة الفاضلة السيدة منيبة الكيلاني: الأروقة السوداء، فرد عليه أستاذ العربية في هذا الزمان الباحث العبقري (السهمي) في العدد (737)، وقد بدا لي بعد أن قرأت كلمته أن أوجه إليه استفهاماً يجلو هذا الأمر، غير أني آثرت حتى يكتب الأستاذ الرشدان فأنظر ماذا يكون جوابه؟ وقد كتب فكان جوابه بالموافقة على ما أورد العالم الجليل إمام العربية الأكبر، فرأيت أن الأمر لا يزال في حاجة إلى إيضاح، ذلك أن الأستاذ السهمي أورد نقولا لا تنهض في وجه ما ذكره الأب أنستاس، فهو:
(أولا) يحتج بكلام أبي العلاء المعري، وكلام ابن جني، وقول صاحب الكشاف، وكل هذا ليس بحجة، لأن الذي يعوزنا هو شاهد عربي فصيح من كتاب أو سنة، أو أثر عربي خالص (ولا يهمنا بعد ذلك ضوابط النحاة، وقواعد الصرفيين وآراء اللغويين، وتحكمات المتأولين وأرباب الأحكام العربية، لأنهم لم يستقروا جميع قواعد اللغة المضرية، وبيدنا شواهد لا تحصى تدل على نقصان ضوابطهم وتتبعاتهم واستقراءاتهم) كما يقول الأب الكرملي، على أن أستاذنا السهمي لم يعتمد على شيء من ذلك وإنما نقل عن قوم لم يقل أحد بأن ما ينطقون به يجري في العربية مجرى القواعد، أو يكون حجة لمن يحيد عن نهج العرب الفصحاء.
(ثانياً) قول أبي العلاء (فألزمني بذلك حقوقاً جمة، وأيادي بيضاء) لا يبعد أن يكون فيه تحريف من الناسخ، وأن الأصل كان (أيادي بيضا)، ومثل ذلك يمكن أن يقال فيما نقل عن صاحب المخصص، على أن الوصف بمثل سوغ أن يجيء ما بعده مفرداً. وأما قول أبي العلاء في رسالة المنيح (وكم في أديم الخضراء، من أشباح مضيئة زهراء) فذلك ما لا خلاف فيه، وقد ذكر هذه المسألة الأب أنستاس، فقال في العدد (485) (إذا أشير إلى الجمع المكسر بضمير مفرد مؤنث لكونه لغير العاقل أو جاور (فعلاء) وصف مفرد مؤنث يصح(742/51)
أن يكون للمفرد وللجمع على السواء، فأنت مخير في أن تنعته بفعل أو بفعلاء، تقول قنا خطية ملد، وقنا خطية ملداء لأنك تصف تلك القنا بأنها خيطة وبأن هذه الخطية ملد أو ملداء)، وقال في العدد (486) يرد على بعض من جادله وأورد له كلام الزوزني (وله فارسية خضراء) أي دروع فارسية خضراء يقول (فهذا كلام لا غبار عليه، لأن خضراء هنا مجاورة لفارسية، وفارسية كلمة مؤنثة وإن كان معناها يدل على جمع لأنها عائدة إلى (دروع) ومن الطريف أن نذكر أن الأستاذ الجليل السهمي أشار في هامش كلمته إلى أن شارح ديوان الحماسة أورد هذه الكلمة مفردة مع جمع، ولعله أراد هذه الكلمة السابقة عن الزوزني، وأن الأب أنستاس بعد أن قال ما نقلته آنفاً قال (ثم من هو الزوزني، وأبو الزوزني، وجد الزوزني، بجانب نص القرآن، والأحاديث النبوية الصحيحة، وفصيح كلام البلغاء من العرب؟).
(وبعد) فإنها لفرصة طيبة أن يقول إمام العربية في هذه الكلمة، ولقد تمنيت أن يكون الكرملي حياً حتى نشهد عراكا لغوياً بين عقلين كبيرين، وأنا ما أردت ببعث هذا البحث القيم إلا أن أقف ويقف قراء الرسالة على الحجة القاطعة التي نرجو أن يطالعنا بها (السهمي) فإن ما ذكره الأب أنستاس ماري الكرملي لا يزال صحيح الأديم، ناصع الحجة، موثق البنيان.
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي
أكان معاوية كاتب وحي؟
جاء بصفحة 75 من كتاب أبي الشهداء للأستاذ العقاد (كذلك ينبغي أن نذكر حقيقة أخرى في هذا المقام، وهي أن معاوية لم يكن من كتَّاب الوحي، ولم يسمع عن ثقة قط أنه كتب للنبي شيئاً من آيات القرآن الكريم) وفي صفحة 28 من عبقرية الصديق بصدد حديث الأستاذ عن بعض جوانب عظمة النبي الكريم (واتخذ معاوية كاتب للوحي) فأي القولين أصح؟ وما هي الحقيقة التي تؤيدها الأسانيد التاريخية ويعتمدها ثقاة العلماء وجهابذة الرواية؟(742/52)
علي إبراهيم القنديلي
المحامي
بوابة المتولي
نشرت مجلة مسامرات الجيب في العدد 113 مقالا تحت عنوان (عقائد يشترك فيها الجهلة والمثقفون) جاء فيه هذه العبارة (. . . وذلك كاعتقاد العامة في بوابة المتولي وهي لا تخرج عن كونها بوابة من بوابات سور القاهرة سميت باسم الوالي على مصر).
وللحقيقة والتاريخ أقول أن إطلاق هذا الاسم (بوابة المتولي) على أحد أبواب القاهرة لا يرجع إلى اسم وال تولي ولاية مصر بل إن هذا الاسم إنما هو نسبة إلى متولي الحسبة أو المحتسب.
وكانت مهمة المحتسب هي النظر في الأمور التي تتعلق بالنظام والأمن العام فكان أشبه ما يكون بوزير الداخلية في يومنا هذا.
هذا بجانب أنه كان للمحتسب الإشراف التام على الأسواق يراقب الأسعار ويقاوم الغلاء وجشع التجار ويصادر الأطعمة التي يتطرق إليها الفساد حرصاً منه على الصحة العامة.
ولقد أطلق اسم المتولي على هذا الباب من أبواب القاهرة في العصر العثماني وذلك يرجع إلى أن متولي الحسبة في مدينة القاهرة كان يجلس على مقربة من هذا الباب.
وقد كان متولي الحسبة أو المحتسب عادة شخصية محبوبة من سكان القاهرة لأنه كان يعمل على توفير الأقوات ومقاومة الغلاء ولا شك أن لهذا أثره في معيشة العامة والسواد الأعظم من أهل القاهرة. وهذا مما جعل الألسنة تلهج في الغالب بالشكر والدعاء له والصدور تكن له ضروب التقدير والاحترام، وكان هذا التقدير والتبجيل مما دعى السذج من عامة سكان القاهرة إلى الاعتقاد أن المتولي ملك يهبط من السماء ويقف على هذا الباب فيحل المشاكل والعقد. وهكذا انتقل متولي الحسبة من عالم التاريخ إلى عالم الأسطورة. . .
شفيق أحمد عبد القادر
طالب بكلية الآداب بجامعة فؤاد(742/53)
القَصصُ
القبلة. . .
للقصصي الإسباني (بلاسكو إيبانيز)
بقلم الأديب فؤاد الونداوي
كان في أحد السجون - ولنغفل ذكر اسمه - مجرم خطر شرس الطبع غليظ القلب فظ الخلق. ومع أن الإنسان لا يأمل ان يجد في مثل هذه الأماكن أناساً ورعين يشيع الصلاح في نفوسهم، فإن بين الأربعمائة سجين الذين ضمهم ذلك السجن، كان هذا السجين أكثرهم صلفاً وأشدهم شراسة.
نعته القوم باسم (الذئب) وكان قد قارب الستين من عمره، صرف اثنين وأربعين عاماً منه في غياهب السجون. فهو منذ شب افتتح حياته بالتنقل من سجن إلى آخر تارة بتهمة السرقة، وطوراً بتهمة القتل وما إلى ذلك من جرائم.
ولئن حاولنا أن نعدد الجرائم التي ارتكبها والآثام التي اقترفها، لشق علينا ذلك. وحسبنا أن نقول بأنه كان قد حكم عليه آخر مرة بالسجن مدة هي أضعاف ما تبقى له في جعبة الزمن من عمر، فقد كانت جريمته الأخيرة من أفظع الجرائم وأشدها قسوة ووحشية.
كان وحشاً كاسراً يميل إلى الأذى ويجنح إلى الشر لأتفه الأسباب. ولذلك تحاشاه نزلاء السجن ولم يجرئوا على الاقتراب منه، ولكم ركل غير مرة كل من دنا منه، أو وخزه - على الأقل - بإبرة الحياكة التي لا تفارق يده، فقد كانت حياكة القفافيز مهمته التي تشغله عن كل شيء حواليه.
كان وحشاً ضارباً، وهو في وحشيته أشد بطشاً من أولئك القتلة المتعطشين لشرب الدماء، الذين يحاكون أشرس الكواسر طبعاً وأفظع السباع فتكا.
ولقد اعتاد (الذئب) أن يمضي الأيام والأسابيع، جالساً في قاع السجن، منهمكا في العمل الذي بين يديه، وقد انكب عليه بكليته، فانحنت هامته بعض الشيء من جراء ذلك الأنكباب وكان يكسو رأسه شعر أسود فاحم لم يخطه المشيب، أما لحيته - التي تركها موظفو السجن وشأنها دون قص ولا تهذيب - فقد كانت كثة شعثاء وكانت عيناه مخيفتين يتطاير مهما(742/55)
الشرر، ونظراته مفزعة مرهبة تنذر أبداً بالويل والوعيد.
وكان قوي الجسم - رغماً عن بلوغه العام الستين من حياته - مفتول الساعد، ذا عقل قوي طالما كان مصدراً لرعب الناس وقلقهم.
كان دائماً صامتاً ساكناً، لا يتحدث إلى أحد، ولا يشارك السجناء في فكاهاتهم وهزلهم السافل. وكان صمته هذا يبعث بالمهابة والخوف في قلوب الجميع، فكان إذا ما رفع بصره وألقى نظره على بعض من حواليه، ازوّر هؤلاء بوجوههم عنه، ورفعوا أبصارهم إلى السقف، كيلا تلتقي عيونهم بنظراته النافذة المرعبة.
وحدث أن تقلد إدارة السجن حاكم جديد، تحدث القوم عن صرامته وشدة بأسه، وأوغل البعض في المبالغة في وصف حزمه وقساوته، فطفق السجناء يرمقون الذئب بنظرات شزرة ذات مغزة دفين، واسترسلوا في تمتمة خافتة دون ما داع أو سبب
وكان للحاكم الجديد بنت صغيرة جميلة تدعى (أدورا) لم تتجاوز الخامسة من عمرها. وفي أحد الأيام اصطحبها أبوها إلى السجن، للتفرج على المساجين، وبينا كان أبوها يقوم بتوزيع الأرزاق على المساجين، كانت هي تمرح بينهم غير هيابة ولا وجلة تتحدث إليهم بلباقة ورقة، وتوزع بينهم ابتساماتها العذبة وكلماتها الرقيقة. وكان المسجونون يضحكون لها ويبشون في وجهها، وكان بعضهم يرجوها في أن تشفع له عند أبيها، بينما لم يتورع البعض الآخر من تعنيفها بقارص الكلام وفاحش القول
وفي زاوية قصية في السجن، انتبذ الذئب مكاناً، وقد أسند ظهره إلى الحائط - بعد ان ترك نصف طعامه إلى جانبه مهملا - واستغرق في الحياكة بسرعة تدير الرأس.
كان رأسه متدلياً إلى أسفل، عندما اتجه إليه الحاكم وابنته ولم يرفعه حتى أصبحا على قيد خطوات منه، فاكتفى بأن حدجهما بنظرة من زاوية عينيه. وهمت الطفلة أن تقترب منه فمنعها أبوها فبادرته قائلة:
- أريد أن أدنو منه وأنظر إليه! فأجابها أبوها بصرامة:
- لا. إنه جد خطر. . إنه مجرم أثيم. . حذار يا بنيتي أن تقتربي منه فقد تصيبك ضربة من يده. . .
- أنظر يا أبتي! انظر إليه. . انظر كيف يحدجنا بنظراته أواه إنه يحوك قفازاً كذلك)(742/56)
- هو يفعل ذلك دائماً. . لقد حذرني الحاكم السابق منه وقال إنه شديد الخطر وقد أمضى معظم حياته في السجون، وله في هذا السجن ثلاثون عاماً) فشهقت الطفلة وقالت:
ثلاثون عاماً؟! أواه! إنه مسكين. . . يا له من مسكين!).
وما كاد الذئب يسمع كلمة (مسكين) حتى رفع بصره وعلق عينيه بوجه الطفلة دون أن يتوقف عن الحياكة. وأراد الحاكم أن يصرف ابنته عن هذا الموقف، ولكنها اندفعت فجأة مسرعة نحو الذئب وهي تهتف: إنني ذاهبة لأقبله) ثم أقدمت على ذلك في الحال، فاقتربت من الذئب وطبعت على وجهه قبلة بريئة دون اشمئزاز وخاطبته برقة: إليك هذه القبلة، ولا تكن مجرماً بعد اليوم!).
وارتاع الذئب من هول هذه المفاجأة الغريبة، وكاد يصعق، ولكنه استطاع أن يحبس صوته. فندت من حنجرته آهة تشبه الحشرجة أو هي شبيهة بجرس ذلك الصوت الذي يخرجه الأخرس عندما يحاول الكلام فلا يقدر عليه. وغادر الحاكم وابنته المكان وقبل أن يدركا الباب المؤدي إلى غرفة الحاكم، التفت المجرم إليهما وشيعهما بنظراته. ومرت الظهيرة وتلتها الأمسية فدلف الذئب إلى زاويته وكأنه وحش يعود إلى وجاره. وتقضت أيام وأعقبتها شهور، والسجن هادئ لا يوحي مظهره بشيء يسترعي النظر. وفي يوم
وفي يوم من أيام (يوليو) هاج البحر وماج، فاصطخبت أمواجه وكان يسمع لها دوي هائل وصفير مزعج يصم الآذان في داخل السجن، فهاج السجناء وشرعوا يحاكون العاصفة بصخبهم وضجيجهم، وتعالت أصواتهم تعلن التمرد والاستنكار، ثم حل وقت الغذاء فأضربوا عن تناول الطعام. . . وأخيراً انفجرت الثورة التي حيكت مؤامرتها في الخفاء، وارتفعت أصوات الثائرين في قاع السجن من كل جانب: فليسقط الرؤساء. . . فليسقط الحاكم. . .) وهب الحاكم مذعوراً ووثب من غرفته كالنمر الهصور، بعد أن أغلق الباب على ابنته لكيلا تلحق به فتتعرض لسوء، ثم اتجه إلى ساحة السجن ولكنه ما كاد يدخلها حتى اعترض طريقه وجهاً لوجه ثلاثمائة سجين، كانوا قد تسلحوا بملاعقهم الخشبية بعد أن سنوا أطرافها، فغدت حادة تبلغ من الأجسام ما تبلغه منها المدى والدبابيس.
فشهر الحاكم مسدسه في وجوههم وأطلق عياراته الستة على المتمردين، وبينما كانت الرصاصة السادسة والأخيرة تغادر فوهة المسدس، شاهد غولا حقيقياً مخيفاً، رجلا أشعث(742/57)
الشعر أغبره كبير الرأس أشبه شيء برأس الديبة، وهو يناديه بصوت مرتفع: لا تخف! أنا قادم لنجدتك).
وأقبل الذئب نحو الحاكم مسرعاً، فأمسكه من وسطه وقذف به إلى الحائط، ثم وقف أمامه يحميه بجسمه الضخم من ضربات الثائرين، وما عتم أن أشهر بيمناه سكيناً لم يعلم أحد من أين أتى به، وصار يواجه بها الأعداء ويرد ضرباتهم ويطعنهم طعنات نجلا يحسن تصويبها، فتعدد الصرعى وكثر المصابون وأخيراً خف الحرس لنجدة الحاكم، وبعد أن انتهى الشغب وساد الهدوء وعادت السكينة وخرج الحاكم سالماً، سقط الذئب مجندلا على الأرض مثخناً بجراحه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. فحمله الحرس إلى مخدع الحاكم وأرقدوه على فراس وثير كان أول فراش اضطجع عليه طيلة عمره البائس. . تمدد الذئب هناك وطفق يدير بصره حوله بلهفة ظاهرة كمن يفتقد شيئاً عزيزاً. وظل مستلقياً على الفراش وهو بين الحياة والموت، حتى مثل الحاكم أمامه، فقال بصوت خافت يتضوع أسى، وهو ينظر إلى ملامح الرجل الذي أنقذ حياته بيده: الطفلة! الطفلة. . . وفطن الحاكم إلى قصده، ثم فكر ملياً فأدرك السبب الذي حمل الذئب على أن يذود عنه بنفسه ويحميه بجسمه. أجل! إنها القبلة التي دفعته إلى هذا حتماً! وهرول الحاكم إلى الغرفة التي حبس فيها ابنته، وقد نسى أن يفتحها بعد انتهاء العاصفة، فألقى الطفلة تصرخ وتستغيث، فطوقها بذراعيه وضمها إلى صدره، وذهب بها إلى الغرفة التي تمدد فيها الذئب وهو يعاني آلام النزع الأخير وكان الذئب يحدق في الفضاء، ويرسل نظراته الشاردة ذات اليمين وذات الشمال؛ إنه لا يزال لديه متسع من الوقت لكي يرى فيه ذلك المخلوق الوحيد الذي حنا عليه ورق له، لم يزل له من الوقت ما يكفيه لان يقول لذلك المخلوق المحبوب: أخرى. أجل! قبلة أخرى!) رفع الأب ابنته بين ذراعيه ودنا بها من الذئب وسمع الحاضرون صوت قبلة تردد صداها المنغوم في أرجاء الغرفة. قبلة ملائكية من شفتي طفلة، طبعتها على ذلك الوجه المغضوض الذي جارت عليه عوادي الدهر وصروف الحدثان ووسمته لعنة المصائب والأهوال بميسمها الذي لا يمحى. وعندما قدم القس، وأخذ يرتل صلواته أدعيته، وقد حمل بيديه الزيوت المقدسة، كان الحاكم والحراس قد جثوا على ركبهم، أما الجثة في خشوع، وقد غشى المكان صمت رهيب. وكانت الطفلة ترتل - بإيعاز من أبيها - بصوتها(742/58)
العذب الطاهر الحنون: أي أبانا الذي في السماوات. . ليتقدس اسمك وليقدم ملكوتك. .)
فؤاد الهنداوي(742/59)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(742/60)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(742/61)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(742/62)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(742/63)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(742/64)
العدد 743 - بتاريخ: 29 - 09 - 1947(/)
(سياسة) أرسطو
للأستاذ عباس محمود العقاد
السياسة غِير كما يقولون
ولكن (سياسة) أرسطو شيء لا يتغير على الزمن لأنها تقوم على عمل عقل كبير، وقد تتغير النظم، وتتبدل الدساتير، وتختلف الحكومات، ويتفاوت الحاكمون، ويبقى العقل الإنساني في علمه دراسة صالحة لكل عقل، وميداناً فسيحاً لكل مشغول بثمرات العقول.
وكتاب أرسطو في السياسة هو الكتاب الثالث من كتب هذا الفيلسوف العظيم، التي زفها إلى المكتبة العربية رائد السياسة الديمقراطية في هذا الجيل، وأستاذ كتاب مصر في مطلع القرن العشرين، العلامة العامل في شبابه وشيخوخته، صاحب المعالي أحمد لطفي السيد باشا، مد الله في عمره، وهيأ له من الوقت والصحة ما يعينه على إتمام عمله والاحتفاظ بهمته وجهده.
ولا وجه للمقابلة بين مترجمات أرسطو إلى العربية من قبل ومترجماته إليها على يد العلامة الجليل.
لأن ما ترجم من أرسطو إلى العربية قبل اليوم إنما هو مقتبسات أو مرويّات في حكم المقتبسات، تصرّف في نقلها إلى هذه اللغة أناس مشكوك في علمهم باليونانية، مقطعة بجهلهم لأسرار العربية، منصرفون إلى غير الفلسفة أو قاصرون عن التوفر عليها، فلولا فطنة فلاسفة الإسلام، أو اطلاعهم على أرسطو في لغته الأصلية، لما وصل إلينا من فلسفة أرسطو هذا النصيب الذي سجلته الثقافة العالمية لثقافة العرب والإسلام.
أما هذه الكتب الثلاثة التي ترجمها الأستاذ الجليل - وهي كتاب الأخلاق، وكتاب الكون والفساد، وكتاب السياسة.
فهي أول شيء يسمى ترجمة للمعلم الأول بمعنى الترجمة الصحيح، وهي تعريف لقراء العربية بهذا الفيلسوف يضارع ما تهيأ للأمم الأوربية من العلم به في مجال هذه الدراسات. لأنه تعريف يجمع الشمول إلى التدقيق من جانب المترجم الكبير، ويؤلف ما تفرق من المقتبسات والمرويات فيقيمها بنية كاملة، تحيا بأعضائها، ولا تخفى بأشلائها، بين الصحائف والأضابير.(743/1)
وقد اعتمد لطفي باشا في نقل كتاب السياسة، كما اعتقد في نقل الكتابين الآخرين، على ترجمة (بارتلمي سانتهيلير) أستاذ الفلسفة في (كوليج دي فرانس) ووزير الخارجية الفرنسية في وقت من الأوقات، واعتمد كذلك على مقدمته فنقلها بجملتها ولم يشأ أن يضيف شيئاً إليها من عنده، وهي في اعتقادنا تستدعي الإضافة إليها لسببين: أحدهما أن (سانتهيلير) قد ذكر في مقدمته أن رجل الفكر لا يتجرد كل التجرد من أحوال زمانه وبيئة قومه، وكان هو نفسه مصداقاً ظاهراً لصحة هذا الرأي الذي لا شك فيه، فكان فرنسيا قبل كل شيء في تدليله وإدلاله بقسط الأمة الفرنسية من ترقية المعارف السياسية والنظم الحكومية. مع أنه قنع بالقليل من حْوادث عصر أرسطو التي لها مساس بشخصه وتوجيه ذهنه وشعوره، فلم يذكر منها الكثير الذي لا غنى للقارئ عن ذكره في هذا المقام.
والسبب الثاني الذي كان يطمعنا في مقدمة للكتاب بقلم علامتنا الجليل أن العربية لها كلمة تقال في فلسفة أرسطو على الإجمال، لأنها شغلت العرب زماناً طويلا وشغلوا بها أبناء الأمم الأخرى زماناً أطول. وليس أحق من لطفي باشا بأن يقول هذه الكلمة، وهي يحيي عهد أرسطو في الشرق العربي من جديد، ويتكلم باسم جامعة مصر التي تولاها في صباها، وباسم النهضة الفكرية التي سايرها منذ نشأتها الأولى.
ويبدو لنا أن الأستاذ الجليل قد حرص غاية الحرص على نصوص الترجمة الفرنسية، فأتى بها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة في تركيب أسلوبها وترتيب جملها، ولم يسوغ لنفسه أن ينقل الكلمات والمعاني إلى الأسلوب المعهود في كلام العرب، محافظة منه على الأصل الفرنسي في لفظه ومعناه.
مثال ذلك قوله: (وعنده أن كائناً لا يخصص إلا لغرض واحد. لأن الأدوات تكون أكمل كلما صلحت لا لاستعمالات متعددة، بل لاستعمال واحد. وعند المتوحشين المرأة والعبد هما كائنان من طبقة واحدة. والسبب في ذلك بسيط، وهو أن الطبع لم يجعل بينهم ألبتة من كائن للأمرة. فليس فيهم حقاً إلا من عبد ومن أمة. ولم ينخدع الشعراء إذ يقولون: أجل للإغريقي على المتوحش حق الأمرة. . .).
ومثال قوله في المقدمة: (فقد استطاع أن يجد بين تخالف الخلق الأدبي للناس وبين تخالف أنواع الحكومات المشابهات الأظهر ما يكون والأحق ما يكون. . .).(743/2)
وتقاس على ذلك أمثلة كثيرة في سائر فصول الكتاب.
والذي نلاحظه أنه لم تكن ثمة ضرورة لالتزام النص الحرفي في ترجمة سانتهيلير لأن الكتاب إغريقي في لغته الأولى، ولأنه هو نفسه لم يلتزم نص الكتاب الإغريقي إذا صح ما تأدينا إليه من معارضة الترجمة على الترجمات الإنجليزية المختلفة. فقد حذف بعض الكلمات من أوائل الفصول، ونقل بعضها على غير معناه الذي يدل عليه السياق. ومن ذلك مثلا أن الترجمة العربية تقول عن الرجل والمرأة: (. . . من الضروري اجتماع كائنين لا غنى لأحدهما على الآخر، أريد أن أقول اجتماع الجنسين للتناسل، ليس في هذا شيء من التحكم).
ولا أثر لكلمة التحكم في ترجمة من الترجمات الإنجليزية الثلاث، فباركر - عمدة المترجمين - يترجمها بالقصد ووليام أليس يترجمها بالاختيار وجويت يترجمها بالغرض وبين هذه المعاني جميعاً وبين معنى التحكم فرق في الدلالة له شأنه في كتاب عن الحكم والحكومات
وقد ترجمت السيادة التي تفرض للإغريقي على البربري بالأمرة.
وهي في تقديرنا لا تؤدي المعنى الذي ذهب إليه أرسطو حين أراد أن يكون الحاكم إماماً أو زعيماً للإغريق وسيداً للفرس والبرابرة.
فإن علاقة الأمرة هي علاقة آمر بأمور، وهي قد توجد بين الإمام والمأموم وبين الزعيم وتابعيه، وهي غير العلاقة بين السيد والمسود.
ومن خطأ الطبع فيما نظن ما ورد في الصفحة الثالثة والتسعين عن سكاكين ولف، وهي السكاكين الدلفية كما هو معلوم.
كذلك نظن - من مقابلة الترجمة العربية - أن سانتهيلير لم يلتزم الجرفية في التفرقة بين معاني العدل المختلفة في الكتاب، وهي معاني الأنصاف أو القسط والعدل والناموس فيما نؤثر لها من ترجمة قياساً على النسخ الإنجليزية، وتقابل في اليونانية وو على ما جاء في الترجمات الإنجليزية التي أسلفنا الإشارة إليها.
فإذا صح ما قدرناه من التزام النسخة العربية لنصوص سانتهيلير، فقد كان الأستاذ الجليل في حل من هذا الالتزام، وفي حل من التقيد بترجمة واحدة في اللغة الفرنسية، وهي على(743/3)
ما نعتقد قد اتسعت لغيرها من الترجمات
على أن هذا التصرف كله لا يحجب عنك معالم أرسطو الواضحة من عبارات الترجمة الفرنسية كما نقلت إلى اللغة العربية، فيخرج منها القارئ في غير شك وهو يشعر أنه قد تابع أرسطو في تفكيره ومنهجه وتفصيل معناه في جميع ما توخاه.
ونلاحظ غير ما تقدم أن اسماً واحداً قد يترجم بلفظين، كترجمة (برسيا) بإيران في الصفحة الخامسة والعشرين، وترجمتها بفارس أو الفرس في مواضع أخرى من الكتاب، وهي الترجمة الصحيحة لما كان متداولاً على ألسنة الإغريق من تسمية الفرس الأقدمين.
وقد يسأل سائل: ما لنا وسياسة أرسطو اليوم وقد طرأ علينا في العصور المتتالية من حوادث الأمم وضروب الحكم وعبر التاريخ ما لم يكن يخطر لفلاسفة اليونان، ولا لفيلسوف في الزمن القديم، على بال!
وقد يقال في جواب ذلك أن الزمن - في الواقع - لم يغير كثيراً من جوهر الآراء التي أثبتها أرسطو في كلامه على طبائع الشعوب وما يلائمها من الحكام والدساتير، ولم يغير كثيراً من جوهر القواعد التي بنى عليها تخريجاته في التفرقة بين أنواع الحكومات أو وظائف السلطات أو أسباب الثورات، وأن قيمة الكتاب التاريخية لا يتطرق إليها الشك إذا جاز الشك في قيمته السياسية عند تطبيقه على الوضع الحديث.
ولكننا ندع هذا الجواب ونستغني عنه لأننا نستطيع أن نقول مقالا لا تكثر اللجاجة فيهن وذاك أننا هاهنا أمام ظاهرة عقلية يقل نظيرها في تواريخ بني الإنسان، وأن علماء اليوم، وعلماء الغد إلى آخر الزمان، لا يستكثرون شد الرحال إلى أقصى المعمور ليدرسوا طبيعة حشرة من هوام الأرض، ويستكنهوا حقيقة كائن حي من أحقر الكائنات، فلو مضى القياس على هذا لما كان كثيراً على إنسان أن ينطلق إلى المريخ ليرى عقل أرسطو يتحرك في دخيلة عمله ويسلك سبيله إلى أسرار الحقائق فيبلغ منها غاية ما ترتقي إليه عقول البشر جميعاً، وهو في زمانه لما يتلق معونة ما من أدوات البحث الحديثة، ولا يعتمد على ركن ما من أركان العلم الحديث.
وأي عقل هو عقل أرسطو هذا الذي نراه في دخيلة عمله وحركة تفكيره وبحثه؟ هو عقل لا يفاق عليه إن لم يكن هو أكبر العقول.(743/4)
ليس بالكثير على كشف خبايا هذا العقل أن نرحل إلى المريخ لنظفر بسره، لو كلفنا الكشف عنه هذه الرحلة، واستطعنا قضاء هذا التكليف.
وعلامتنا الكبير لم يكلفنا بحمد الله الذهاب إلى المريخ، ولا الذهاب حتى إلى أرض يونان وهي في العدوة الأخرى من بحر الروم!. بل حمل إلينا هذه الذخيرة قريبة منا ناطقة بلساننا، مهيأة لإفهامنا، فأهون ما تستحقه من جهد أن نطلع عليها ونستزيده منها، ونرجو له دوام القدرة على إمداد هذه اللغة ببقية هذا الكنز الثمين، لأنه كنز لم تخل من ذخائره كلها - غير لغتنا العربية - لغة من لغات الحضارة في هذا الجيل.
عباس محمود العقاد(743/5)
إعلان حرب!
للأستاذ علي الطنطاوي
كانت برهة ما بين الحربين، امتحاناً لنا، معشر العرب، واختباراً لعزائمنا، وقد خرجنا من هذه المحنة ناجحين مظفرين وأثبتنا أننا لم نضع إرث الجدود، ولم نفقد عزة الإسلام، وانه لا يزال في عروقنا دم الأجداد، ولا تزال في قلوبنا عزائمهم وأرينا الدنيا كلها أن استماتة المحق تغلب قوة المبطل، حين حاربنا ونحن شعوب عزل جيوش الدول التي انتصرت في الحرب الأولى وسكرت بخمرة الظفر، وحسبت أنها شاركت الله في ملكه، وزاحمته على سلطانه، فقابلتها شراذم منا، ما لها سلاح إلا سلاح الحق وما تنتزعه أيدي عدوها، وثبتت لها وأرهقتها عسراً من أمرها، حتى لانت لها، أو نزلت على مطالبها: حاربنا الإنكليز في شوارع مصر، وفي سهول العراق، وفي ربوع فلسطين، وحاربنا الفرنسيين في جنان دمشق، ورحاب حماة، وشعاف الجبل وحاربنا فرنسا وأسبانيا معاً في سوح الريف الأقصى، وحاربنا الطليان في طرابلس، وثرنا على الغاصب في كل بقعة من أرض العرب، وما خليناه ليلة من إزعاج، ولا أرحناه ساعة واحدة، ولكن كنا نحارب شعوباً لا حكومات، أما حكوماتنا فكانت علينا مع عدوها وعدونا، حتى استقر في إفهام الشعب أن حكومته خصم له، وحتى صرنا في الشام إذا أثرنا ثورة أو سّيرنا مظاهرة، أعملنا سلاحنا في إخواننا من رجال الشرطة، كما نعمله في خصومنا من الفرنسيين ومن كان يناصرهم علينا وقت الثورة من المغاربة والشراكسة والأرمن والسنغاليين، وحتى كدنا نفقد على طول المدى، توقير الأنظمة، وتقديس القوانين، لأنها من عمل الأجنبي وعلم عبيده، لا يضعونها إلا لمصالحهم، وضمان منافعهم إلى أن كان حادث مايو سنة 1945 وجُنّ الفرنسيون الجنة الكبرى فأبوا إلا أن يظهروا ديمقراطيتهم. . . وعدالتهم. . . ومبادئ ثورتهم. . . دفعة واحدة، فضربوا المدينة الآمنة بقنابل الطيارات، وقذائف المدافع، من القلاع المنصوبات على الجبال ورموا بالنار، الأطفال في المدارس، والمرضى في المشافي، والمحبوسين في السجون، وأحرقوا البيوت وهدوها على أهلها، وقتلوا رجال مصلحة الإطفاء الذين جاءوا ليطفئوها، وفعلوا كل ما يليق بحضارتهم وتاريخهم وأمجادهم. . ولا ينتظر غيره منهم.
هنالك رأينا، أول مرة، رجال الشرطة والدرك يقاتلون معنا ويدافعون عنا، ورأينا الرؤساء(743/6)
والوزراء في صفنا، يحملون ما حملنا، وينالهم ما نلنا، فذكرنا، وقد طالما نسينا، أنهم إخواننا، وأنهم منا.
ولبثنا من ذلك اليوم، نرى الأدلة متتابعة متتالية، على أننا قد استقللنا، ونزح العدو عنا، وجلا عن أرضنا، وصار حكامنا منا، لا أقول إن الحكومات قد صلحت حتى ما نجد لها فساداً ولا نلقي منها ضرراً، كلا، ولا خلص رجالها من أوضار هذا الماضي، ولا أزالوا آثاره، ولا يمكن أن تزول في أربع سنين وقد لبث الغاصبون وأعوانهم، يثبتونها ويبنونها، دائبين على بنائها عاملين على تثبيتها، خمساً وعشرين سنة، ولكن أقول، أننا (أخذنا) ننزع من نفوسنا تلك الصورة السوداء للحكومة ونغسل عنها صبغة العداوة التي كنا نراها مصبوغة بها، ونعيد إلى إفهامنا توقير الأنظمة والقوانين، لأنها (بدأت) تصير من صنع أيدينا، و (شرع) واضعوها يفكرون في وضعها لمنفعتنا، وضمان مصلحتنا، لا لمنفعة الوزراء الحاكمين، ولا لمصلحة الغرباء الغاصبين
ثم تتالت الآيات والدلائل، وكانت جامعة دول العرب، وكانت المقاطعة القانونية للصهيونيين، وكان اجتماع ملوك العرب ورؤسائهم، وكان رحلة النقراشي إلى أمريكا، وقوله فيها ما أجمعت الكلمة على أنه لا يقول أكثر منه خطيب متحمس، ولا مؤرخ حكيم، ووجد فيه كل مصري ترجماناً عن أفكاره، ومعبراً عن مقاصده، وكان موقف فارس الخوري من قضية مصر، موقفاً سر كل عربي في الدنيا، وكان فتنة سورية الكبرى، وكان رأي الحاكمين في الشام والمحكومين جميعاً، ورأي الدول العربية كلها (إلا مملكة الأردن) واحداً فيها، ثم كان هذا الحادث العظيم الذي عقدت له هذا المقال، والذي سيعقد عليه في تاريخ العرب، فصل مترع بالفضائل والأمجاد، والذي سيكون مولد (الشرق الجديد) كما كانت هذه الحرب الماضية مصرع (العرب العتيق). . . والأيام دول والدهر ميزان، فما ترجح كفة إلا لتطيش، وما يرتفع طائر إلا ليهبط ولقد أشرقت من الشرق شمس الحضارة، من مصر وبابل والشام، ثم مالت إلى الغرب، إلى يونان وروما، ثم عادت تطلع من الشرق مرة ثانية، من المدينة ودمشق وبغداد والقاهرة، ثم مالت إلى باريس وبرلين ولندن، وهذا يوم ثالث، قد أوشكت أن تشرق شمسه على هذا الشرق، فينفض عنه غبار المنام، ويهب. . . لقد انقضى الليل، وأذن المؤذن من ذرى لبنان. . . من اللجنة السياسية للدول العربية،(743/7)
التي قرر فيها رجال مسؤولون، لا أدباء متحمسون، وأعلنوا بلسان حكوماتهم، إنهم سيحلون عقدة فلسطين ومصر، كما حل الإسكندر عقدته المشهورة: بالسيف!
هذا هو الحادث العظيم، وقد قرأ القراء تفصيله في الصحف فما أعيده عليهم. . . وهذا أول الجد، وهذا الذي كنا نتمنى بعضه فلا نصل إليه، ونطلبه فلا نجده، وهذا الدليل على أننا استقللنا، وعلى أن حكوماتنا منا وإلينا، وأنها تنطق بألسنتنا، وأن هواها هوانا، وأنه لم يبق في رجالها من يصانع عدواً، أو يخافه، أو يتزلف إليه. وأن جيوشنا لنا، تسالم من سالمنا، وتعادي من عادينا، وتذود عن بلادنا، وكل بلد عربي بلد العرب كلهم، وكل عدو له عدو لهم، وكل قضية له قضية لهم.
إننا نغفر لحكوماتنا، بهذا الموقف، كل ما لقينا منها في السنين الخوالي، ونعده إسلاماً منها بعد كفر، والإسلام يحب ما قبله، فليحسن إسلامها، ولا يكن كلمة تقال باللسان: إنها قد أعلنت الحرب في الخارج، فلتعلنها في الداخل، لتمنع المدد عن عدوها، فما في الدنيا عاقل يحارب عدواً ويدفع إليه ما له ليقويه به على نفسه، وولده ليربيه على كرهه، ولتبحث عن الثغور التي تذهب منها أموالنا إليهم، فتسدها. بالمقاطعة الاقتصادية، لا بإلقاء المواعظ للترغيب فيها، والخطب للحث عليها، لا، فهذا كلام فارغ، ولكن بالقوانين الصارمة، والعقوبات الشديدة، كما حرمت معاملة الصهيونيين بقانون، وحدت لها الحدود الرادعة، والعقوبات المانعة.
وبذلك ترتقي صناعتنا، وتجود أخلاقنا، لأننا سنضع ما نستطيع صنعه مما نفقده بالمقاطعة، ونصبر عن باقيه، وقد صبرنا مدة الحرب عن كثير من الضروري، وتصبر إنكلترا اليوم عن الخبر المشبع في سبيل وطنها، ولا تقول شيئاً، فهلا في مثل هذا قلدناها؟
على أن في بلادنا (أعني في بلاد العرب) كل ضروري، ولا نفقد بهذه المقاطعة إلا قليلا من وسائل الترف، مما يضر ولا ينفع.
ولتضع الحكومات العربية القوانين الصريحة بإغلاق كل مدرسة أجنبية، إنكليزية أو فرنسية أو أمريكية، وإلا ذهب عملنا هباء، وكان عبثا، وأخرجت هذه المدارس من أبنائنا أعداء لنا، وأعواناً لعدونا، كما وقع في الشام، حين تولى ضرب دمشق رجل عربي أبوه شيخ، اسمه علاء الدين الإمام، عليه لعنة الله.(743/8)
فإذا صنعت ذلك كان علينا، أن نعلن الهدنة بيننا وبينها، ونكف عن هذه الأيام عن معارضتها، لنتعاون جميعاً على حرب عدونا وعدوها، وكان على كل شاب في بلاد العرب كلها، وكل شيخ، وكل امرأة، أن يعلم أنه جندي في هذه الجبهة وأنه يجب عليه أن يعمل فيها شيئاً: يمشي إلى القتال، إذا جدّ الجدّ، وجاءت ساعة القتال، وكان قوياً قادراً، أو يبذل الفضل الزائد من ماله إذا كان من أصحاب المال، أو يحارب بقلمه وبلسانه، إذا كان من أصحاب الألسنة والأقلام، وعلى كل واحد منا، وعلى كل واحدة، أن يحرم على نفسه كل شيء أجنبي، فلا يأكله إن كان مأكولا، ولا يشربه إن كان مشروباً، ولا يمسّه إن كان طيباً، ولا يلبسه إن كان ثوباً، ولا يقرؤه إن كان كلاماً، ما لم يكن علماً خالصاً، أو أدباً إنسانياً صرفاً، ولا يتداوى به إن كان عَقّاراً، ما لم يكن مضطراً إليه ولا يجد ما يسد مسدّه، ولا يرسل ابنه إلى مدرسة أجنبية، ولا يدعه يذهب في السياسة والاقتصاد مذهباً أجنبياً، وأن نمحو أسماءهم من شوارعنا ومياديننا، ونطمس ذكرهم من مدارسنا وبرامجنا، إلا ببيان حقائقهم، وهتك الستُر الخادعة عنهم، وأن نداوي نفوسنا من هذا السل القاتل الذي هو احتقار نفوسنا، وتعظيم الغربيين، وأخذ كل ما يأتي منهم أخذ الضعيف، وأن نوقن أننا أقوياء حقاً، أقوياء بماضينا وأمجادنا، وبما تركنا في الدنيا من أثر خيّر نبيل، وأقوياء بعَددنا وبعزائمنا، وبأن الحق معنا، وأن البلاد بلادنا، وأن فلسطين لنا، لن يغلبنا عليها، (شحاد) صهيوني، ولا محتال انكليزي، ولا لص أميركي، لا والله ولا الجن ولا العفاريت، إننا والله سنمضي إليها على كل سيارة وكل قطار وكل دابة، ونمشي على أقدامنا إن عز الظهر، ونملأ إليها كل طريق، ونسلك إليها كل سبيل، حتى نترعها رجالا، إن أعوزهم السلاح، فما يعوزهم النبل ولا الإقدام، رجالا لا يحبون الحياة الذليلة، ولا يهابون الموت الشريف، ولا يتزحزحون ولا يريمون، مادام في صدورهم قلوب تخفق، وفي صدورهم نَفَس يطلع وينزل.
فيا أيها الحاكمون، يا من صرخوا من قمم لبنان هذه الصرخة المدوية، اثبتوا وأعلنوا الحرب، إذا لم تعطوا الحق إلا بالحرب: حرب الكلام وحرب المال وحرب الدم والسنان، وسيّروا جيوشكم، فنحن وراءكم، ونحن أمامكم، ونحن معكم، ما نحن للجزيرة، ولا نحن لهذا الماضي، ولا نحن لمحمد، إن وقفنا أو ارتددنا، حتى نطهر فلسطين من كل رجس(743/9)
صهيوني ونطهر من أنجاس الاستعمار كل بلاد العرب، ونعيد الحضارة والعزة إلى الشرق، على رغم أنف الظالمين!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(743/10)
ورثة فلسطين:
حجج تاريخية
للأستاذ نقولا الحداد
استأذن حضرة الدكتور جواد علي أن أعلق شيئاً على مقاله القيم في عدد 15 سبتمبر من الرسالة تعليقاً يضيف حججاً إلى الحجج التاريخية ضد ميراث اليهود من فلسطين.
ذكر حضرة الدكتور (أن أسفار التوراة الخمسة الأولى المنسوبة لموسى نزلت على موسى إذ لم يكن موسى قد دخل فلسطين أي أنها نزلت خارج الأرض المقدسة). طبعاً لان موسى لم يدخل الأرض المقدسة أرض الميعاد مع شعبه الإسرائيليين الخارجين من أرض مصر. بل مات وهو يشرف على تلك الأرض التي تدر لبناً وعسلا ولم يدخلها مع شعبه لأن الله أبى عليه دخولها لذنب أتاه.
والحقيقة أن موسى لم يكتب حرفاً واحداً من هذه الأسفار الخمسة وإن كانت تنسب إليه. بل كتبت بعد رجوع بني إسرائيل من سبي السبعين سنة في بابل. فقد سباهم نبوخذ ناصر سبياً جارفاً سنة 586 قبل المسيح. فبقوا في بابل سبعين سنة واطلع حكماؤهم الأسلاف والخلفاء منهم على أساطير أشور وبابل وشرائع البابليين والآشوريين ولا سيما شريعة حمورابي العربي الذي فتح ما بين النهرين وحكمه هو وخلفاؤه نحو قرن من الزمن.
ولما فتح كورش الفارسي ما بين النهرين أطلق سراح اليهود فعادوا إلى البلاد التي سُبوا منها وشرع حكماؤهم (حاخاماتهم) يكتبون تاريخ قومهم وأساطيرهم وشرائعهم ممتزجة بأساطير بابل وأشور بل ممسوخة منها. وإذا قارنت الشريعتين الحمورابية والإسرائيلية كما هي في سفر تثنية الاشتراع لا تجد إلا فرقاً قليلا بينهما.
وكان موسى قد خرج بشعبه من أرض مصر سنة 1250 قبل المسيح فبين الخروج من مصر والعودة من سبي بابل نحو 734 سنة. وفي هذه الأثناء لم يكتب حرف واحد من التوراة لأن الكتابة الهجائية لم يكن الفينيقيون قد استنبطوها بعد أو أنها لم تكن قد شاعت في اللغات السامية أو الآرامية بل كانت الكتابة السامية مقصورة على رسوم الأشياء المراد التعبير عنها كرسم رجل للرجل والعين للعين. وهذه الكتابة مقتصرة على النقش في الألواح الحجرية أو الآجر المشوى وهذه لا تحتمل كتابات التواريخ والشرائع المطولة.(743/11)
وإذا طالعنا أساطير البابليين وتاريخهم القدير وجدنا تشابهاً كلياً بين تلك الأساطير وقصة التكوين في التوراة وقصة الطوفان وغيرهما، الأمر الذي يؤكد لنا أن حكماء اليهود اقتبسوا كثيراً من البابليين وزجوه فيما كان أسلافهم يتناقلونه من تاريخهم وأساطيرهم. حتى أن قصة الخليفة في سفر التكوين واردة مرتين متواليتين في الأصحاحين الأولين بأسلوبين مختلفين الأمر الذي يدل على أنهما أُخذا من مصدرين مختلفين.
هذا من حيث نزول الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى. وما نسبت إليه إلا لأنه كان زعيم القوم الأكبر الذي قادهم من أرض مصر في برية سينا نحو 40 سنة إلى أرض كنعان حيث كان يمنيهم بأسلاب الكنعانيين وبطردهم من بلادهم وامتلاك أرضهم وماشيتهم وأثاثهم كما عَّلم الإسرائيليات قبل الخروج من مصر أن يستلفوا حِليَّ المصريات قبل الهرب. كذا كانت تعاليم موسى لشعبه - أنه يحل لهم مال كل أجنبي عنهم لأنهم شعب الله الخاص حسب تعليمه.
أما أن اليهود ورثة فلسطين فمسالة لا تحتاج إلى كثير تحقيق فإن مجموع ما أقامه اليهود في المنطقة التي كانت قديماً تسمى فلسطين (وهي القسم الغربي من جنوبي فلسطين الحديثة) لم يزد عن ثلاثة قرون. وفيما سوى ذلك كانوا مشردين في الشرق والغرب بسبب فتوحات الدول المحيطة بهم من كل ناحية. وقد هاجر بعضهم عن طريق آسيا الصغرى إلى أوروبا وبعضهم هاجروا عن طريق البحر الأبيض المتوسط إلى نواح مختلفة.
وتغلغلوا في أوروبا التي كانت في تلك الأزمان وثنية تعبد الأصنام المنحوتة. فلما اختلطوا بأولئك الأقوام وعرَّفوهم بديانتهم رأي عقلاء الوثنيين وحكماؤهم أن ديانة اليهود معقولة أكثر جداً من ديانتهم لأنهم فهموا أن إله اليهود شخصية حية غير منظورة وليس صنما منحوتاً من جمادهم ينحتونه. فتهوَّد كثير منهم في جميع أنحاء أوروبا وغربي آسيا. ولما جاءت النصرانية اكتسحت الوثنية ولم تكتسح اليهودية اكتساحاً مطلقاً لأنها مستندة إلى نبوآتها.
فجميع اليهود الذين في أوروبا وغربي آسيا هم من السلالات الآرية وليس فيهم قطرة من السلالات السامية. هم آريون أكثر من هتلر وكان بولس الرسول مؤسس النصرانية يهودياً إغريقياً من أثينا. يدل على آريتهم بياض بشرتهم الناصع وصفرة شعورهم وزرقة عيونهم(743/12)
خلافاً للساميين الممتازين بسمرتهم وسواد أحداقهم وسواد شعورهم. فما يهود أوروبا من ورثة فلسطين بتاتاً.
أما ورثة فلسطين القديمة والحديثة الحقيقيون فهم سكانها الحاليون الذين كان بعضهم يهوداً والكنعانيون والحيثيون والجزريون والفلسطينيون القدماء والصيدونيون وغيرهم من عبدة البعل، فلما جاءت النصرانية تنصر معظمهم من يهود ووثنيين. ثم جاء الإسلام فأسلم معظمهم واستعربوا كلهم. هؤلاء المقيمون الآن في فلسطين الحديثة هم أهلها وورثتها. وأما اليهود المهاجرون من أوربا وغيرها إلى فلسطين الكبرى التي نشأت من بعد الحرب الكبرى الماضية فليس لهم قلامة ظفر فيها. هم غرباء عنها ودخلاء فيها.
وقد استدل علماء اليهود من التوراة والتلمود أنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى أرض آبائهم ما لم يجدوا تابوت العهد المفقود.
ذلك أنه لما غزا نبوخذ ناصر أورشليم أسرع أشعيا وأخذ جميع محتويات الهيكل وخبأها في بعض مغاور جبل نبو جنوبي أورشليم وكل تابوت المهد أهم تلك الكنوز لأنه يحتوي على اللوحين الحجريين اللذين كتب الله أو بالأحرى يهوه رب الجنود (كما تسميه التوراة) وصاياه العشر بإصبعه.
ولذلك جاءت بعثة أثرية يهودية من أميركا بعد الحرب السابقة إلى فلسطين وجعلت تنقب في مغاور جبال بنو عسى أن تعثر على تابوت العهد الذي لو وجدوه لكان أعظم أثر تاريخي. ولكنهم بعد تنقيب طويل شاق لم يجدوه فيئسوا وعادوا بخفي حنين. لذلك لا يحق لهم أن يعودوا إلى أورشليم لأنهم لم يحققوا وعد التلمود أو التوراة. ولن يعودوا.
ليتهم وجدوا ذلك التابوت لكنا نتمتع برؤية خط الله على اللوحين الحجريين وآثار إصبعه الكريمة. . . وكنا نعرف بأي حرف كان الله يكتب. . وأية لغة كان يهوه رب الجنود يكلم موسى أبالعبرية كما يدعى اليهود أم بالسريانية كما يدعى بعض النصارى - حقاً إنه لأثر تاريخي عظيم. لو وجد!
نقولا الحداد(743/13)
في العراق الشقيق
للأستاذ محمد هاشم عطية
أستاذ الأدب العربي بدار المعلمين العالية ببغداد
لاشك أن معظم المصريين لا يعرفون شيئاً يذكر عن التقدم الاجتماعي في هذه البلاد الشقيقة التي استطاعت في مدى قصير من الزمن أن تصل إلى درجة من النهوض لا ينبغي الاقتصار في تقدير قيمتها على ما ينشره بعض الصحف المصرية من التعليقات التي لا تكاد تعبر عن الحقيقة الراهنة لما أصبح يتمتع به ذلك القطر الشقيق من نمو متواصل في أكثر مرافق الحياة ولقد كنت منذ عدة سنين أتوق إلى زيارة العراق رغبة في الوقوف على ما عسى أن يكون باقياً من آثارها التي طالما قرأنا عنها في كتب الأوائل خلال تلك العهود الزاهرة من خلافة العباسيين في بغداد ومن المحقق أن كثيراً من الكتاب والمؤلفين في مصر وغيرها من البلاد العربية مدين إلى حد غير قليل لما أخرجته المطابع في مستهل هذا القرن من ذخائر العربية ونفائسها في الأدب والشعر لمؤلفين وشعراء عاشوا في بغداد وغيرها من المدن العراقية في تلك الأزمان البعيدة وأن أساتذة هذه المدرسة القديمة كانوا أئمة العالم الحديث في البلاد العربية وحتى في غيرها من البلاد المتمدنة في أوقات مختلفة، ومن هنا كان ما تصنعه العراق اليوم من رغبتها في الاستعانة بمصر واستقدامها لكثير من كبار الأساتذة المصريين لتنظيم نهضتها الثقافية على نحو ملائم لما يتبع من المناهج والأساليب الدراسية في مصر هو بمثابة استقضائها لدين قديم للسلف من أبنائها في أعناق مصر الحديثة وغيرها من بلاد الشرق العربي ومن الظواهر البارزة التي تشاهد دائماً في الأوساط الراقية والمجتمعات المختلفة ما يبديه العراقيون من حبهم لمصر وشدة تعلقهم بمحاكاتها في كل ما بلغته من أسباب النظام والتقدم. ولا تكاد تختلف منهج الدراسة العالية والمتوسطة عن أمثالها في مصر إلا في بعض مسائل خاصة بما تقتضيه حالة الإقليم من ناحية القوانين الضرورية للبلاد وأكثر الكتب المقررة للدراسة الثانوية والمتوسطة هناك مقتبسة من الكتب المقررة في المدارس المصرية أو مشابهة لها ولا تختلف عنها إلا في العناية بتدريس تاريخ العراق القديم وأدبها الحديث الذي يمتد من الوقت الحاضر إلى نحو ثلثمائة سنة أما المدارس والمعاهد العالية من الحقوق والطب(743/14)
والهندسة والزراعة والتجارة ودور المعلمين العالية والمتوسطة فيشترك فيها الطلبة والطالبات غالباً وعليها إقبال شديد أدى في العام الماضي إلى استقالة عميد إحدى الكليات لعجزه عن مقاومة الضغط الشديد على كليته وتحققه من عدم كفاية بنايات الكلية على سعتها لمواجهة هذه الحالة بما يضمن انتظام سير العمل في الكلية وفي هذا العام سيضعون مشروع الجامعة العراقية موضع التنفيذ وإن كان العمل جارياً في المعاهد الفنية والكليات العالية على غرار الأنظمة الجامعية على السواء ويلاحظ أن الطلاب والطالبات يهتمون بالتحصيل والمذاكرة من أول أيام الدراسة ولا يشغلهم في الغالب عن ذلك شيء فليس لهم موسم للمذاكرة يبدأ في شهر أبريل على أحسن التقديرات، ولذا يظن أن نهضتهم الثقافية ستبكر كثيراً عن الموعد المنتظر لها ومما هو جدير بالذكر أن القوانين العراقية تحرم على الأجانب بلا استثناء أن يتمتعوا بالإقامة الدائمة في البلاد ولذلك لا تكاد تعثر في الأراضي العراقية بصقلي ولا رومي من أولئك الأشتات والأجناس المختلفة وهي بالضرورة تحرم على كل أجنبي أن يتملك شبراً من أرض عراقية ولا يسمحون لرءوس الأموال الأجنبية أن تغزو بلادهم ويرون أن تسير نهضتهم الاجتماعية معتمدة على كفايتهم الخاصة ومقدرتهم الحاضرة متريثة بطيئة تنضج مع الزمن خير من أن تتحكم فيها الأيدي الأجنبية برءوس أموالها التي يعتبرون دخولها إلى بلادهم تنازلا تدريجياً عن التحكم في مواردهم وثروتهم والقضاء على كل مشروع من شأنه ترقية مرافق الدولة وإعدادها لحياة طليقة من سيطرة الأجنبي كما هو الشأن في غير العراق من الأقطار الكبرى في البلاد الشرقية.
ولقد شاهدت أن العراقيين يشعرون شعوراً تاماً بشدة الحاجة إلى رفع مستوى الحياة العامة في بلادهم فهم مع إبائهم وما يتمتعون به من الشمائل البدوية كالكرم والشجاعة لا يرفضون الاستجابة لدعاء المصلحين من قادتهم وزعمائهم ولا يحاولون أن يغتروا بالماضي أو يزهون بالألقاب ولا يعتمدون في تدبير أمورهم على الإجراءات المطولة المعقدة من تأليف اللجان واستقدام الخبراء العالميين لكل ما دق أو جل من الأمور وإن كانوا لا يحجمون في الوقت نفسه عن الاستفادة من المدنيات المختلفة واقتباس الوسائل النافعة في تسوية مشاكلهم المهمة ومشروعاتهم الكبيرة مما يجري عليه العمل في مصر وغيرها من بلاد أوروبا وأمريكا ولقد نبههم معالي الأستاذ رضا الشبيبي من كبار رجالهم ومصلحيهم في مقال له(743/15)
إلى الطريقة المتبعة عندهم في إحصاء السكان وأنها غير دقيقة ولا كفيلة بحماية خراج الدولة في وقت اشتدت حاجتها فيه إلى المال ويستوجب العمل من جميع طبقات الشعب على تزويد خزانة الحكومة بالأموال مساعدة لها على النهوض بما تضطلع به من الأعباء وفي اليوم التالي مباشرة ظهر في الصحف بلاغ من الحكومة بأنها ستوفد قريباً بعثة إلى مصر للتخصص في عملية الإحصاء ودراسة أحدث الأساليب المتبعة في ذلك.
وسمعت من السيد هاشم الآلوسي المدير العام للتعليم الابتدائي أن وزارة المعارف تعد مساكن صغيرة مستوفية لجميع الشرائط الصحية للمدرسين الذين لا يجدون في القرى البعيدة مساكن منظمة وأنهم يعنون أشد العناية بصحة أولئك المعلمين والطلاب ووضع جميع التدابير لوقايتهم من آفتين تتفشيان غالباً في تلك الأماكن النائبة.
وهناك ظاهرة اجتماعية تستحق التنويه وهي ما يسمونه عندهم بالقبول وهو عبارة عما يتبادلونه بينهم من التزاور والسمر في المنازل في أيام الأسبوع في أكثر البيوت الكبيرة في الغداة أو في العشى على حسب المألوف من عادتهم في ذلك، وكثيراً ما شهدت غداة الجمعة في دار صاحب المعالي صبحي الدفتري أحد عظمائهم وهي تضم طائفة كبيرة من رجالات العراق وأدبائهم ومشايخهم يقضون وقتاً طويلا في الحديث والمطارحة مع أدب تناول ورقة حاشية وحفاوة مضيف ويمثلون في ذلك أرقى ما يتطلبه المجتمع المتمدن من مظاهر الاحترام والذوق وكذلك الحال في كثير من البيوتات الأخرى كدار الصدر والشبيبي وحمندي والشواف وغيرهم مما كان يوجد مثله في القاهرة منذ نحو ثلاثين سنة في دار آل سليمان وعبد الرازق وكانت هذه المجالس أشبه بالمدارس العالمية لتخريج المواهب وتلقيح العقول بثمرات التجاريب كما هي الآن في بغداد.
ولقد مكنني صديقي الأديب الكبير والشاعر الموهوب السيد حسين بستانه وهو أحد الأساتذة الذين تخرجوا من دار العلوم العالية في مصر وينهضون الآن بأعباء تدل على مبلغ ما لديهم من الكفاية والثقة مكنني ذلك الصديق الذي لا أنسى ما حييت فضله وأدبه ووفاءه من زيارة المشاهد المقدسة في النجف الأشرف وكربلاء في رحلة ممتعة سأفرد لها مقالا آخر إن شاء الله تعالى.
ولا يمنعني ذلك من القول بأنه ستمر فترة غير قصيرة إلى أن تتخلص بغداد الجديدة مما(743/16)
يتخلل بنيانها في كثير من الأحياء من الكهوف الغامضة والدروب الضيقة التي لا تخلو من أقذار متراكمة ومسارب عفنة لا يخفى ما لها من الآثار المضرة بالصحة العامة بين سكان العاصمة العراقية وخاصة في أيام الصيف حين يشتد القيظ وتتصاعد الروائح الكريهة من هذه الأزقة ودورات المياه التي لا تزال في حالة بدائية لا يمكن التخلص منها إلا بإنشاء مشروع المجاري على نحو ما هو متبع من ذلك في القاهرة وغيرها من المدن الكبرى في البلاد المتمدنة مع العناية باستخدام الأجهزة الحديثة الضرورية لصيانة المنازل والسكان من الأضرار المحققة من هذه الأوضاع الحالية لدورات المياه والمغاسل وهي من ألزم الأشياء للحياة.
ولا أستطيع أن أزعم أن الطبقات الفقيرة في مصر أحسن حالا منها في بغداد فهي متشابهة في رثاثة الثياب ووسخ الجلود وفيما يختلف على كل منهما من الجهل والفقر والمرض مما يحاربه الناس في القطرين بتنميق المقال اكثر مما يحاربونه بالفعال.
وفي الربيع الماضي زار الوفد السوداني مدينة بغداد وقد كانت هذه الزيارة فرصة جديدة أتاحت لنا أن نشعر من قريب بشدة حدب العراقيين على القضية المصرية وعطفهم على أماني إخوانهم المصريين ولقد لقي الوفد ورئيسه الوطني العظيم من الترحيب والحفاوة ما لا مزيد عليه من سمو الوصي المعظم ورجال الحكومة وطبقات الشعب على اختلافها وأقيمت لهم عدة مآدب وحفلات كان آخرها ما قام به الأساتذة المصريون الموظفون في الحكومة العراقية وقد ألقيت في هذه الحفلة القصيدة الآتية التي يكون من المناسب نشرها الآن في مصر على صفحات الرسالة الغراء وهذه هي القصيدة:
حيّ وفد السودان يا صاح بالشعر ... وجدد لهم حِسان الأماني
واسقنا شربة من النيل أحلى ... من رحيق معتق في الدنان
هي من كوثر يصفقها الساقي ... شفاء لمهجة الظمآن
فبأعلى الشطين ساجعة الأيك ... تناغي الأليف في أسوان
وهي نشوى تقول مفصحة الشدو ... هتوفاً بأعذب الألحان
نحن شعب فسائلوا النيل عنا ... كيف أفتوا بأننا شِعبان
واسألوا الدهر والقرون الخوالي ... فسيشهدون أننا أخوان(743/17)
وحدة في الحياة والدين والرأي ... وفضل الحجا وحسن البيان
قد بنتها طبيعة النيل صرحاً ... شامخ الفرع راسخ البنيان
لم يعبها أن قد أصاب مغير ... من شباها بحده والسنان
كان منها مكان ناطحة الصخر ... بقرن عضب ورأس هدان
فأقامت على الشناءة تنمي ... لا وناة ولا ذلول العنان
تعصف الحادثات من جانبيها ... في الصفا الصم من ذرى ثهلان
أيها الرائح المجد رويداً ... إن لقيت الأعلام من كردفان
فأحبس الدمع أن يفيض من الشوق ... وخل الفؤاد للخفقان
وتخطر فوق الأصيل ندِياً ... من نشر الربا وطيب المجاني
واقض حقاً لآل دنقلة الغراء ... واشك الهوى إلى الندمان
وابتغ الصحب في الندى حلالا ... وانثر اللفظ سائغاً والمعاني
قل لأشياخهم وقل لشباب ... كعوالي أسنة المران
أننا مثل ما عهدتم ولاء ... ووفاء ما أشرق الفرقدان
ليس منا من ليس يغضب أن يدعى ... لضيم أو يرتضى بالهوان
نرقب النجم أن يضيء سحيراً ... من أعالي النيلين حتى الأدانى
شارفاً بنشر البشائر بالوادي ... مهلا بنوره للعيان
في ظلال الفاروق والتاج يزهي ... باتحاد الإخوان بالإخوان
في ذرى ملكه ومن هو كالفاروق ... في عدله وفي السلطان
قد حبتكم بغداد حين نزلتم ... في حمى فيصل العظيم الشأن
والعراق الشقيق رحب بالوفد ... وحيا بقلبه واللسان
ولعمري لحبة القلب أنتم ... ولأنتم إنسان عين الزمان
فهنيئاً لكم بما قد حبيتم ... ثقة الشعب وحي هذا الأوان
وعليكم من كل قلب سلام ... مثل نور الربيع في نيسان
محمد هاشم عطية(743/18)
رسائل حائرة:
الرسالة الثانية. . .
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
(كتبت تقول: (لا أحب أن ألعب بالقلوب؛ حتى لا يلعب أحد
بقلبي.) فإليها حديث القلب في هذه القصيدة):
هل تظنين أنني أتمنَّى ... أن أرى قلبك الرقيق مُعَنَّى؟!
لا وحُبِّيك. ما تمنيت إلا ... فرحة تحتوي صباك وأَمْنا
وربيعاً يمس قلبك بالحبِّ (م) ... فيمضي مرفرفاً يتغنى
يرسل اللحن في أغانيه حبّاً ... ويذيع الهوى غناء ولحنا
أنا يا مُنْيتي بقلبك - لو تد ... رين حبي - أبر منك وأحنى
أنا أفديك يا حياتي بروحي ... وهي أسمى من الوجود وأسنى
أنا أهواك راضيَ النفس حتى ... لو يكون الهوى شقاء وحزنا!
كفراش يهفو إلى النار ظمآ ... ن، وإن كان في اللهيب سيفنى!
لا تخافي قلبي؛ فما هو إلا ... طائر هزه الجمال فغنَّى
عبر العمر تائهاً في الصحارى ... ورأى واحة الغريب فحنَّا
لا تخافي حبي؛ فحبيَ بذلٌ ... ووفاء، وليس غدراً وضَّناً
واقبليه مني؛ فحبك يسري ... فيَّ مسى الدماء، أو هو أدنى
وافهميني، فلو فهمت شعوري ... أَلَّف الحب بيننا حيث كنا
كلما بَرَّح السهاد بنفسي ... قلت: زدني أودع فتاتيَ وسنى
وإذا قرح البكاء جفوني ... قلت: لا بلَّلَ البكا لكِ جفنا
وألاقيك يا شقيقة نفسي ... هادئ النفس، وادعاً، مطمئنا
وبقلبي - لو تعلمين - من الوجـ ... د تباريح لَفْحُها ما تأنى
وأرد الكلام خشية أن يبـ ... در منه ما يكشف المستكنا
وأسميك في الرسائل أختي ... وأنا أقصد الحبيبة ضِمْنا(743/19)
يا حياتي إني وضعت حياتي ... بين عينيك ضارعاً أتمنى
فاجعليني كما تشائين إني ... أنا أرضى به، وأَنْعَمْتِ عينا
اجعليني في الحب - إن شئت - حراً ... واجعليني=- إن شئت - في الحب قِنَّا
وارحميني، أو عذبيني؛ فإني ... قد رأيت العذاب للفن خِدْنا
حَسبُ نفسي تجارب تملأ النفـ ... س حياة، وتملأ العمر فنا
وكفاني أن أرسل الشعر من قلـ ... بي، فيصغي الوجود قلباً وأُذْنا
وسواء لديَّ أصبحتُ قيساً ... قيسَ ليلى في الحب أو قيسَ لُبنى(743/20)
شيء من الصراحة
للأستاذ علي العماري
في عدد مضى من الرسالة كتب الأستاذ الفاضل الشيخ على الطنطاوي مقالا بعنوان (مستقبل الأدب) تناول فيه بشيء من الحسرة والألم ضعف الطلاب في هذه الأيام، ولاحظ أن بعض الذين على أبواب التخرج منهم لا يستطيعون أن يقرءوا أربعة سطور دون أن يخطئوا عشرة أخطاء، وأن الألسنة غير مستقيمة، وأن معين النبوغ جف أو كاد.
وأحب أن أقول للكاتب النابغة - في شيء من الحسرة والألم أيضاً - أن كل ذلك صحيح، وأن الذي يعاني مهنة التعليم اليوم يجد ما يفتت الكبد، ويبكي العيون، ولكن لا يكفي أن نبكي على ما يهدد الأدب من تدهور وانحطاط، بل لابد لنا أن نقدم - مخلصين - رأياً في علاج هذا الضعف، ولا قدرة للطبيب على العلاج الناجح المفيد إلا إذا استطاع أن يشخص الداء، ولكن كيف نقول فيما يعيث في مدارسنا ومعاهدنا، وقد نشأنا على حب المداراة، وستر العيون،؟ إننا - إذن - في حاجة إلى شيء من الصراحة، كما أنا في حاجة إلى من يأخذ عنا غير غاضب ولا متسخط، ولقد عالج الأستاذ الفاضل مشكلتين: مشكلة ضعف الطلاب في القراءة، ومشكلة الضعف العام في اللغة العربية، وتكاد الأسباب تكون متداخلة، غير أن للضعف في القراءة أسباباً خاصة.
والذي نشاهده في معاهدنا، ومدارسنا، العالية، والمتوسطة هو عدم العناية بدروس المطالعة، وهذا الإهمال في درس المطالعة ليس مقصوراً على التلميذ، بل هو إهمال عام، فالإدارة والمدرس، والتلميذ، كلهم ينظرون إلى هذه المادة على أنها مادة إضافية، ولا يزال قاراً في الأذهان أن درس المطالعة هو درس (اللعب، والراحة) فنجد أن واضع الجدول يعطي هذه المادة لمدرس مادة أساسية، كالنحو أو البلاغة، وذلك لكي يستعين بها في إتمام دراسة مادته، وأن المدرس لا يعنيه من هذا الدرس إلا أن يستعين به في مادته، ولعل من أوضح الدلالة على الاستهانة بمادة المطالعة، إنا لا نجد طالباً يرسب فيها في الامتحانات العامة كأن كل الطلاب يقرءون صحيحاً، وأن المدرس الذي يعمد إلى إسقاط طالب يعد بين إخوانه وبين تلامذته من الثقلاء المتعجرفين، ويصبح مادة للتندر والتفكه، والتلميذ نفسه لا يكاد يحسب حساباً للامتحان في هذه المادة، لما ألقاه الزمن في نفسه من أن النجاح فيها(743/21)
مضمون على كل حال. . . وإذا رجعنا إلى الدراسة نفسها وجدنا الإهمال فيها ظاهراً، فقليل من الطلاب بل أقل من القليل من يستحضر نسخة من الكتاب المقرر، بل إن بعضهم يكون الكتاب في يده ولكنه يكسل عن فتحه والمراجعة فيه، وكثير من المدرسين لا يزيدون في الدراسة عن القراءة العابرة - إذا قرءوا -، وإني لأذكر أنه كان مقرراً في الكليات التي تدرس اللغة العربية كتاب الأمالي لأبي على القالي، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب زهر الآداب للحصري، ومقدمة ابن خلدون، وأذكر مع ذلك أن ما قرئ من هذه الكتب لا يتجاوز مائة صفحة في أي سنة من السنوات، وفي أي فرقة من الفرق، وليس عجيباً بعد هذا أن نجد بعض المتخرجين لا يعرف شيئاً عن هذه الكتب إلا أنه حصل عليها من غير مقابل، بل لقد رأيت واحداً يبيع كتاباً منها فسألته لم يبيعه؟ فأجاب لأنه لا يفكر في أن يفتحه يوماً من الأيام! وهو الآن من المعدودين عند السادة الرؤساء!
وإذا تجاوزنا القول في المطالعة إلى القول في المحفوظات وجدنا الأمر أدهى وأمر، وذلك لأن في الطلاب انصرافاً غريباً عن الحفظ والاستظهار، على أن من يحفظ منهم لا يحفظ راغباً مستلذاً من منثور العرب ومنظومه، وإنما يحفظ ليدخل الامتحان وكفى!!.
حتى هؤلاء الذي يحفظون للامتحان قلة، وإنما الشأن في طلاب اليوم ترك الحفظ جملة وتفصيلا، وليس بعجيب أن تجد طالباً في المرحلة الأخيرة من الأقسام الثانوية وهو لا يكاد يقرأ ثلاثة أبيات تباعاً، وإني لأعرف صديقاً ينظم الشعر، وقد تخرَّج منذ سنوات وهو إلى الآن لا يستطيع أن ينشدك شيئاً من الشعر القديم!!
وكثيراً ما نصادف - في الامتحان - بعض طلاب لا يحفظون شيئاً أبداً، حتى إن بعض الممتحنين يتندر بهم قائلاً ألا تحفظ شيئاَ من المواليا أو الرجل؟! كما لاحظت أن بعضاً يحفظون قصيدة واحدة تظل معهم سنوات ينشد منها في الامتحان كل عام. . . ومع كل ذلك فلا تكاد تجد رسوباً في هذه المادة أيضاً، ومن الحق أن نذكر أن وزارة المعارف قررت كتباً لهذه المادة، ولكن الحق أيضاً أن نذكر أن عدداً قليلا جداً من يعني بالاستظهار والتفهم. .
وإن أكبر الضرر في هذا السوء الذي نشاهده في معاهد التعليم يرجع إلى اشتغال المتعلمين بالشئون العامة وإلى مصانعة الرؤساء لهم، واعتمادهم عليهم فيما يحاولون من أمور، فقد(743/22)
أصبح الطلاب يعتقدون أن في يدهم الحل والعقد، وأنهم يستطيعون أن يقيموا وأن يقعدوا، وتراهم يتدخلون فيما يعنيهم وما لا يعنيهم
أنا لا ادعوا بطبيعة الحال إلى إبعاد الطلاب عن القضايا الوطنية الكبرى ولكن أدعو إلى أن يعرفوا حدودهم، ومدى ما ينبغي أن يتدخلوا فيه، وأن يكون للرؤساء ضمائر، وأعين بصيرة فلا يساعدونهم على الفوضى؛ ولا يستغلونهم في أغراضهم الشخصية، ولا يجعلونهم كالجماهير التي يقول فيها شاعرنا شوقي.
والجماهير مطايا المرتقى ... للمعالي وجسور العابرين
فإذا انتظم الطلاب في دروسهم وجدوا دراسة ضحلة لا تفيد علماً، ولا تنتج أدباً، وقد ظهرت في السنوات الأخيرة (مودة) جديدة كانت أضر على العلم من كل ما منى به، فقد لجأ أكثر المدرسين إلى تلخيص الكتب، وما على المتعلم بعد ذلك إلا أن يحفظ هذه القواعد القليلة حتى يجوز الامتحان، وكفى الله المؤمنين القتال. . تلك حال نشاهدها في الأزهر ونشاهدها في وزارة المعارف، ونشاهدها في المدارس العالية، والكليات.
في المدارس الثانوية كتب لا بأس بها في البلاغة العربية ولكن أكثر المدرسين لا يدرسون هذه الكتب، بل يعطون تلاميذهم ملخصات في كراسات يحفظونها ولا يتذوقون شيئاً من دراسة البلاغة، وفي مدرسة عالية همها تخريج مدرسين للغة العربية يترك الطلاب كتاب الأشموني ليقرءوا ملخصاً له وضعه أحد الأساتذة كأنهم في مدرسة ابتدائية ثم هم يمتحنون في هذا المختصر، وليس الشأن في الأزهر بأحسن من هذا فقد هجر الطلاب الشروح والحواشي واعتمدوا على المختصرات، لينعموا بما فيها من ورق أبيض صقيل، ومن اختصار يساعد على الحفظ وعلى الامتحان.
نعم إن بعض الكتب في حاجة إلى التهذيب والتنقيح، ولكنه ليس هذا التهذيب الذي يخرجنا من شر ليوقعنا في شرور، وليس أجدى على اللسان من هذه الدراسة المتعمقة، وإن احتاجت إلى كثير من الجهد والوقت.
ولقد دلتني مشاهداتي على أن للدروس الخصوصية أثراً بالغاً في ضعف التلاميذ، فقد أصبح مفهوماً عند أولياء الأمور أن التعاقد على درس خصوصي معناه التعاقد على نجاح التلميذ، ولعل من الطريف أن أذكر أني كنت مع أحد المدرسين في المدارس الابتدائية يوماً(743/23)
فجاءه تلميذ يساومه على درس فقال الأستاذ للتلميذ: قل لأبيك أين لا أضمن نجاحك ثم عد، فخرج التلميذ وقال لأبيه، ولكنه لم يعد!!
ومع هذا الضعف الظاهر في اللغة العربية نجد أن النتائج فيها حسنة، حتى أصبح التلاميذ لا يرهبون الامتحان فيها، وبالتالي لا يعطونها العناية الكفاية، وإذا تطرقنا إلى الامتحانات فإننا نذكر - مع المرارة العميقة - أنها فقدت رهبتها في بعض دور التعليم، وكيف لا؛ والنتيجة في بعضها - مع هذه الفوضى - تبلغ ثمانين في المائة؟
أما دراسة اللغات الأجنبية في المدارس فتنال أكبر قسط من العناية، ولا شك أن هذا سبب ظاهر في ضعف التلاميذ في اللغة العربية.
فليس عجيباً بعد كل هذا أن نرى المتخرجين ضعافاً، لا يكادون يقيمون ألسنتهم وأن نفقد فيهم النبوغ والعبقرية، وأن ننادي أولياء الأمور بأن الإصلاح في أيديهم وهم عليه قادرون، وأن الدعوى بأن اللغة العربية عسيرة تحتاج إلى تسهيل، ومعقدة تحتاج إلى تيسير، إنما هو هروب من الحقائق الدامغة التي لا يجهلها أحد ممن يتصلون بشئون التعليم.
لتكن العناية بدروس المطالعة هم المدرس والتلميذ وليكن الإشراف عليها إشرافاً صحيحاً حازماً، ولتعط ما هي جديرة به بين العلوم من جهد ووقت ورعاية، وليفهم كل تلميذ أن أول واجب عليه أن يقرأ قراءة مستقيمة، وأن اللغة العربية هي مجده ومجد آبائه، وليلزم التلاميذ في كل معاهد التعليم بقسط كبير من مأثور العرب يحفظه في كل عام، ويمتحن فيه، ويسأل التلميذ في الفرق العالية عما في محفوظه من أسرار بلاغية، ومزايا أدبية. .
وعلى الرؤساء أن يواجهوا الأمور بصرامة وحزم فيأخذوا البري بالمجرم حتى تستقيم قناة الجميع، ولا نكون متعنتين إذا طالبنا وزارة المعارف بأن تحرم الدروس الخصوصية على كل مدرسيها مهما كانت الأسباب الداعية لذلك، كما تطالب المدرسي بأن يدرسوا الكتب المقررة، وأن يزيدوا عليها، وأن يدعوا هذا التهوين من شأن اللغة العربية وآدابها. . . حينئذ نقف في أول الطريق لنمضي إلى الغاية، وسنبلغ الهدف إن أخلصنا لواجبنا، وراعينا حق الله والوطن واللغة في هؤلاء الأبناء.
على العماري
المدرس بالأزهر(743/24)
حول جدل في الجامعة
قرأت اليوم وأنا بريف الشرقية حديثاً للأستاذ الفاضل (العباس) تحت عنوان (جدل في الجامعة)
ولما كان هذا الحديث يخصني لأنه يدور حول رسالة قدمتها كتبت هذا إليكم رجاء التفضل بنشر هذه الكلمة ليقف القراء على جلية الأمر وليعرفوا الخطأ من الصواب.
وقبل أن أبدأ الحديث ألفت الذهن إلى أنه ليس من الحق في شيء أن الأستاذ أحمد أمين قد عاب الرسالة لضعف في منهجها ولا لإنكار ما فيها من حقائق علمية، ولقد كان كل ما صنعه أن لفت ذهن الجامعة إلى أن مناقشة الرسالة قد تثير ضجيجاً لما فيها من أفكار وآراء.
يتلخص موقف الأستاذ أحمد أمين في هذه المسألة وهو في هذه يعتبر متضامناً مع الأستاذ الشايب ومن هنا يكون حديثي مع واحد منهما حديثاً مع الآخر.
وإذا كان الذي يهم الجمهور من هذه المسألة هي المسألة الدينية فقد قصرت حديثي عليها ليرى القراء أن ما قلته في الرسالة هو الذي يتفق مع الدين ويجري ومقاصده.
وأحب أن يعلم القراء أني قد التزمت في هذه الرسالة أمرين
الأول: - ألا أثبت حقيقة ينكرها الدين وسجلت ذلك في الرسالة حيث قلت في ص 21 ما نصه (وأعتقد أن من حقنا أن نقف وقفة قصيرة نشرح فيها هذه العلاقات لنقدر ما في القرآن من معان تاريخية تقديراً لا ينكره الدين) انتهى بنصه.
الثاني: - أني التزمت في استنباط ظواهر القصص القرآني طريقة الاستقراء ومن هنا كانت كل حقيقة أدبية أثبتها مستمدة من القرآن الكريم. ولقد سجلت ذلك أيضاً على نفسي حيث قلت في الرسالة ص 23 (والآن نستطيع أن ننتقل إلى الجو القرآني لنبحث ما في قصصه من أشياء تاريخية. وقبل البدء ننظر في اعتراض قد يستثار ذلك لأن ما قررناه من صلة بين التاريخ والقصة يعتمد على ظاهرات في القصص لوحظت حديثاً وقررت على أنها بعض التقاليد الأدبية التي تصور ما للقاص من حرية والقرآن أقدم من هذه الملاحظات للظواهر وهذه المقررات للتقاليد.
على أنها لو كانت قديمة لا تلزم القرآن في شيء إذ لكل قاص مذهبه وطريقته ولكل خالق حريته في الخلق والابتكار ولن يقرر ما في القرآن من قيم إلا واقع أدبي ألتزمه القرآن(743/26)
نفسه أو على أقل تقدير حرص عليه وهو قول له وجاهته فيما نعتقد ثم هو يلزمنا أن نبحث طريقة القرآن من واقعه العملي).
وعلى هذين لا يتصور متصور أن يكون القصد من الرسالة الخروج على الدين أو القول بما ينكره.
ولقد قلت في الرسالة إن قصد القرآن من قصصه لم يكن إلا العبرة والعظة وليس منه مطلقاً تعليم التاريخ أو شرح حقائقه ومن المعروف دينياً ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد إليه القرآن.
على أن هذا القول قد قال به الأستاذ الإمام، وقد نقله عنه صاحب المنار في مواطن كثيرة من كتابه فقد جاء في الجزء التاسع ص 374 طبع سنة 1342هـ ما يأتي (إن الله تعالى أنزل القرآن هدى وموعظة، وجع قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة لا تاريخ شعوب ومدائن ولا تحقيق وقائع ومواقع).
وجاء في الجزء الثاني ص 205 طبع سنة 1350هـ ما يأتي (فإن قيل إن التاريخ من العلوم التي يسهل على البشر تدوينها والاستغناء بها عن الوحي فلماذا كثر سرد الأخبار التاريخية في القرآن وكانت في التوراة أكثر؟
والجواب ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم لبيان سنن الله تعالى فيهم إنذاراً للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً لقلبه وقلوب المؤمنين به (وسترى ذلك في محله إن شاء الله تعالى) ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها وإنما يذكر موضع العبرة فيها) انتهى بنصه.
على أن هذه المسألة قديمة ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه. ولقد نتج عن ذلك طريقتان في التفسير طريقة السلف وطريقة الخلف.
أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع.
وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام وهذا هو نص المنار في وصف هذه الطريقة عند تفسيره لقصة آدم من سورة البقرة.
(وأما تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه إن القرآن كثيراً ما يصور(743/27)
المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب أو بأسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير فهو يدعو بها الأذهان إلى ما وراءَها من المعاني) ص 280 جـ1 طبع سنة 1346هـ.
ويمضي صاحب المنار في شرح هذه الحقيقة إلى أن يقول: قال الأستاذ الإمام ما مثاله. وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا. إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه. الخ القول إذا بأن بعض القصص القرآني قصص جيء بها لتمثيل المعاني قول معروف لدى رجال الدين وطريقة معروفة لدى المفسرين، وجرى عليها إمام من أئمة الدين هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
جريت أنا على هذه الطريقة يدفعني إليها غرض ديني هو تخليص القرآن من مطاعن الملاحدة والمستشرقين. وتفسير المسألة يرجع إلى أن هؤلاء يبحثون عن العلاقة بين القصص القرآني والتاريخ اتفاقاً واختلافاً وينتهون من ذلك إلى أن في القرآن أخطاء تاريخية.
أما موقفي فيتلخص في أنه الدراسة على هذا الأساس خاطئة لأن القصص القرآني لا يدرس على أساس أنه قد جاء لتعليم التاريخ أو شرح حقائقه وذلك حيث قلت في ص 5 (كما نجد المستشرقين يلجون من نفس الباب فيطعنون على النبي والقرآن حين يوردون بعض الاعتراضات وحين يذهبون في فهم القصص القرآني مذهب أصحاب التاريخ فيبتعدون بذلك عن المذهب الحق في فهمه وهو أنه قصص وقصص ديني يقصد منه غير ما يقصد من التاريخ.) مذهب الأستاذ إذا هو الذي يجنبنا كل هذه الأشياء ومن أجل هذا اعتمدته وجريت عليه.
ومن أجل هذا قد ينال القارئ العجب من أن يقف الأستاذان مني هذا الموقف. لكن للمسألة سراً قد يتضح لدى القارئ بعد قليل.
وتبقى بعد ذلك مسألة الأساطير.
وهي مسألة حلها القدماء من المفسرين وهو حل يجري مع ما يقول به الأستاذ الإمام في تفسير القصص القرآني.(743/28)
لقد فهم الرازي ما يقول به المحدثون من الأدباء من أن الأسطورة أداة من أدوات التعبير لا تقصد لذاتها وإنما تقصد لما تمثله من المعاني وتدعو إليه من الأغراض وذلك حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) من سورة يونس إذ قال (واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوها الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لهما).
وهنا نحب أن نلفت الذهن إلى أن القرآن يعني من الأسطورة القصة التي لم ترد في الكتب السماوية السابقة عليه وليست بحال من الأحوال القصة التي لا أصل لها ولا القصة المخترعة ومن أجل هذا كانوا يقولون أساطير الأولين اكتتبها. أن لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.
على أن المسألة كما وضحت في الرسالة تتفق وما قال به علماء أصول الفقه.
قال هؤلاء بأن في الأديان السماوية عناصر خالدة ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والمناسبات وهذه هي التي بقيت في الإسلام.
وفيها عناصر تتغير بتغير الظروف والبيئات هي التي خالف فيها القرآن غيره من الديانات.
وقلت بأن المسألة الأدبية تجري على هذا الأساس. عناصر خالدة ثابتة كالأشخاص والأحداث وهذه قد بقيت في القصص القرآني كما كانت في قصص غيره من الكتب السماوية.
وعناصر يجوز عليها التغيير والتبديل كالمسائل التي يدور حولها الحوار.
وهذا هو الأمر الواضح تماماً من صنيع القرآن.
وأعتقد أن الأمر الذي وقع في الدين ليس من الغريب أن يقع مثله في القرآن.
هذه هي نظريتي في القصص وهي نظرية تعتمد على طريقة الخلف ومذهب الأستاذ الإمام.
وهذه هي نظريتي في الأساطير وهي تتفق وما ذهب إليه الرازي وتجري مع مذهب الأستاذ الإمام والمذهب الأدبي في أن الأسطورة أداة من أدوات التعبير. ثم هي على(743/29)
التفسير الذي جرينا عليه تشبه إلى حد كبير التفسير الذي جرى عليه الفقهاء فيما يخص الأديان.
وليس من الحق في شيء أن نجيز في الدين ما لا نجيزه في الأدب مع أنه الأمر الذي قال به المفسرون وجروا عليه في تفسير القرآن.
المسألة لا تحتاج هذا الضجيج. لكنها العصبيات فأساتذة الجامعة يتعصبون ويحتزبون كما يتعصب ويتحزب رجال السياسة.
وإذا كان الأستاذ الخولي قد رفض رسالة الأستاذ المحاسني فيجب أن ترفض رسالة خلف الله.
هذه بعض مسائل الرسالة نشرتها لأنها تهم القراء أما ما بقى فستعلمونه في القريب العاجل إن شاء الله.
محمد أحمد خلف الله(743/30)
مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وقامت الكتلة الشرقية بدورها بتطبيق مبادئ الميثاق خير تطبيق حين عرضت مسألة مصر وذكرت الكتلة الغربية بقولها السابق في مسألة إيران والذي يبدو أنها نسيته. ولعل القارئ يتساءل: لم عارضت الكتلة الغربية مطالب مصر مع وضوحها واتفاقها مع نصوص الميثاق. والجواب عن ذلك هو الخشية من ترك فراغ في مصر قد يمتد إليه النفوذ الروسي الزاحف إلى البحر الأبيض المتوسط.
وفي سبيل ذلكيضحي بالميثاق وترفض مطالب مصر العادلة. . وهذا أمر مؤسف حقاً يذكرنا تماماً بما كان يسود القرن التاسع عشر من سياسة توازن القوى ومناطق النفوذ. . . تلك السياسة الخرقاء التي سببت الحروب المتتالية والتي يخيل إلينا أنها ستكون سبباً لحرب ذرية في المستقبل.
ويمكننا ملاحظة الظاهرة المتقدمة في مسألة إندونيسيا، فقد صرح أحد السياسيين من الكتلة الغربية بأن السب في معارضة أمريكا وإنجلترا لمطالب إندونيسيا هو الخوف من تفشي روح القومية إذا المعتقد أن سكان المستعمرات - إذا ما استقلوا - لا يستطيعون دفع تيار الشيوعية وحدهم.
وكذا الأمر في مسألة اليونان. فالمعروف أن الكتلتين تتصارعان هناك بشكل واضح سافر. والإضرار والمشاكل التي تنتج من هذا التنافس يقع عبؤها كله على كاهل الأمة اليونانية المسكينة التي راحت تتمزق وتأكل بعضها بينما غيرها يتميز ليبتلعها. والعلاج في نظرنا هو أن تترك هذه الأمة مرة لا تعبث بها واحدة من الكتلتين ويقيننا أنها ستلم ما تبعثر منها، وتنهض فتضمد جراحها وتزيل ما كان على بصرها من غشاوة مصطنعة ثم تمضي حرة لتقرر مصيرها بنفسها. ثم إن المرء ليتساءل عن مصير معاهدات الصلح، فالحرب قد وضعت أوزارها منذ زمن طويل والصلح لم يعقد بعد: أليس هذا مما يرثي له؟ إن العجب في هذه الأعجوبة يزول حتما إذا ما أرجعنا العلة إلى هذا التنازع البغيض بين الكتلتين فحكومات الدول المهزومة لابد أن تكون على شكل معين حتى ترضي كلا من الطرفين ومستحيل أن يكون أساس كل من النظامين جد مختلف عن الآخر ثم يتفقان على أمر(743/31)
معين.
وقد عرفنا الآن أن سياسة توازن القوى ما زالت باقية في ميدان السياسة الدولية وأنها ما زالت تنفث سمها القاتل في نواحي المعمورة مما يجعلنا نخش على هيئة الأمم من سريانه فيها فلا يتركها إلا جثة هامدة. . وبذلك تذهب كما ذهبت عصبة الأمم من قبل دليلا صارخاً على غباء البشرية وتأخرها في فهم المعاني الإنسانية إن سياسة توازن القوى هي سياسة الأقوياء من الدول وليس من الإنصاف أن تلقي وزر الكارثة كلها على عاتق هذه الدول بل إن للدول الصغيرة أيضاً نصيبها في ذلك وهو ما نسميه: سياسة التهاون أو عدم الاكتراث - وهو العامل الثاني الذي أشرنا إليه في بدء الحديث.
إن كل دولة عضو في هيئة الأمم لابد أن تحترم الميثاق وإن وجودها كعضو شاهد عليها بوجوب الرضوخ التام لأحكامها. ولكن الشواهد تدل كلها على عكس ذلك تماماً.
ففي الشكوى التي تقدمت بها حكومة الهند إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تتهم فيها حكومة جنوب أفريقيا بمعاملة الرعايا الهنود معاملة تقوم على التفريق بين الأجناس وحرمانهم من التمتع بالحقوق المدنية والعامة. . دافع المرشال سمطس هذه التهمة عن حكومته بأن المسألة المعروضة تدخل في الاختصاص الداخلي لكل دولة، ومن ثَم فلا اختصاص للجمعية العامة في هذا الشأن وفقاً للمادة الثانية في فقرتها السابعة وبذلك غلب الناحية القانونية على الناحية السياسة وطلب إحالة الأمر للفصل فيه إلى محكمة العدل الدولية. . غير أن وجهة نظره لم تقبل داخل الجمعية. ذلك أن مندوبي الدول قد غلبوا الناحية السياسية على الناحية القانونية وأصدروا توصية لرفع القيود ومعاملة الهنود معاملة لا تقوم على التفريق. ولكن هل فقدت هذه التوصية؟
إن من المؤسف حقاً أن يكون المارشال سمطس هو الذي كتب بيده ديباجة الميثاق التي تعتز بكرامة الأفراد وأقدارهم وبالحقوق المتساوية للرجال والنساء على السواء. . ثم يكون هو أول الهادمين لها!.
ولكن أسفنا يبلغ أوجه حين نعلم أن توصية الجمعية العامة لم تنفذ هي أيضاً! وليس لهذا الأمر الخطير من سبب سوى التهاون وعدم الاكتراث بالميثاق والهيئة معاً.
على أن مسألة الشقيقة إندونيسيا مثلا واضحاً لهذا الهوان الذي يلاحق الميثاق. وقد أصدر(743/32)
مجلس الأمن قراره بوقف القتال ولكن هولندا لم تذعن للمرة الأولى. فأصدر قراراً ثانياً. ولكن هيهات وما زال العالم ينتظر قراره الثالث. فما أبخسها من أوامر
ومهما كان الرأي فلن تكون سياسة التهاون وعدم الاكتراث هذه هي الأولى أو الأخيرة في نوعها. بل إن سوابقها جلية في عصبة الأمم السابقة. إذ أن إيطاليا قد ضربت عرض الحائط بميثاق العصبة واعتدت على أثيوبيا أشنع اعتداء وكان اعتداؤها بمثابة مسمار يدق في نعش العصبة التي تهاون أعضاؤها بدورهم في تطبيق الجزاءات الاقتصادية والسياسية المنصوص عليها.
ولقد انسحبت إيطاليا وألمانيا إثر ذلك وكونتا ما سمى في الحرب الأخيرة بدول المحور.
إننا نخشى أن يعاد تمثيل هذه المهزلة مرة أخرى فتنسحب بعض الدول من هيئة الأمم لسببين لا ثالث لهما: إما أن تكون دولا قوية تحس بأن الميثاق قيد يحد من أطماعها وهو لا يعدو أن يكون قيداً معنوياً ليس له القوة المادية التي تحسب لها ألف حساب.
فلم لا تفلت إذن من هذا القيد الأجوف الواهي؟. ولم لا تحطمه إن أبدى مقاومة؟
وإما أن تكون دولا ضعيفة خاب ظنها في عالم سعيد بجانب الميثاق فلم تجد بجانبه أمناً أو استقراراً بل أصابها ظلم وجور. . فأرادت أن تنطوي على نفسها وأن تعيش في عالمها وحدها كمن ينأى بنفسه عن جيرة السوء وصحبة الأشرار.
ولقد تردد في بعض الآونة أن مصر تريد أن تنسحب من الهيئة إن لم تقدر مطالبها حق قدرها. . وحق الانسحاب لم يمنع منعاً باتاً بل صار في ميثاق الهيئة (رخصة) لا تستعمل إلا في حدود معينة وعند قيام المسوغ لذلك، وقد كان هذا الحق مطلقاً كل الإطلاق في عصبة الأمم ومن مسوغات حق الانسحاب التي أوضحها مؤتمر سان فرنسيسكو ما يلي.
(إنه إذا أحست دولة من الدول في ظروف استثنائية ألا مناص لها من الانسحاب وإلقاء عبء حفظ السلم والأمن الدولي على عاتق الأعضاء الآخرين فليس مما يدخل في أغراض الهيئة أن ترغم مثل هذه الدولة على الاستمرار في هذا التعاون في داخل الهيئة ومن البديهي أنه لا مناص من انسحاب الدول بعضها إثر بعض أو من حل الهيئة بأية صورة أخرى إذا هي انتهى أمرها بأن خيبت آمال الإنسانية بأن تكون قد عجزت عن حفظ السلام أو بأن كان حفظها للسلام على حساب القانون والعدل).(743/33)
ولا يفوتني في ختام هذا المقال أن أشير إلى نواحي نقص أخرى في الميثاق ولها أهمية عظمى تتعلق بحق الاعتراض (الفيتو) وبوليس الأمن الدولي. وقد تساعدنا الظروف فنتناولها بالبحث في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
عبد الحميد عثمان عبد المجيد(743/34)
3 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
في جنح الليل!
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
ألقت بنا الباخرة إلى مرفأ عنيبة، وسط ضجيج الحمالين، وصيحات الركاب، وضوضاء البحارة، الذين شرعوا بمساعدة الحمالين ينزلون أمتعتنا، وأمتعة فضيلة قاضي عنيبة المنقول من إسنا إلى هذه البلدة النائية، والبضائع الكثيرة المرسلة إلى المدرسة من خضر، وفاكهة، وبعض العُلب والصفائح المليئة بالمسلى وغيره، مما لا يكاد يوجد منه شيء في عنيبة، ويجلبه المتعهدون من أسوان وغيرها من بلاد الصعيد الوفيرة الخيرات. .
ولم نجد في الحمالين شهامة ونجدة، ونشاطاً وإسراعاً إلينا، كما نجد هذا في حمالي القاهرة أو مديريات الوجه البحري، وبعض مديريات الصعيد مما يلي القاهرة، حتى ليهرع إليك عدد من الحمالين قد لا يكون إليك حاجة بهم، ومع هذا يكاد كل منهم أن ينتزع أمتعك منك، ويحملها عنك. . . وإنما وجدنا فيهم تباطؤاً وكسلا، وتوانياً، جعلنا نصرخ فيهم، ونشتد معهم في المعاملة، ونقسو عليهم في القول، وهم يتهربون، ويتسللون لواذاً، وكأنما نريد أن نستغلهم استغلالا، وأخيراً قالوا لنا: دعوا أمتعتكم، واذهبوا إلى المدرسة، وسنوافيكم بعد مدة، عندما ترحل الباخرة. .!!
ونظر بعضنا إلى بعض نظرات ملؤها الدهش والعجب، والحيرة والارتباك، إذ كيف ندع أمتعتنا على الشاطئ بين فئة لا ندري من أمرها شيئاً؟! وكأنما زاد مخاوفنا ظلام الليل، الذي لم تجد أضواء الباخرة شيئاً، بل كانت هذه الأضواء مع قوتها ضعيفة واهنة، وكأنها أشعة خافتة لنجم كليل!! وكانت أمواج النيل الصاخب، تضطرب في عنف، وترتفع إلى حيث نقف مع الجموع المستقبلة للباخرة وتقبل منا الأقدام، في ثورة خانقة، وغيظ صارخ فتبلل أحذيتنا، ولكنا من فرط ما نحن فيه من دهشة وعجب واستغراب، لا نكاد نشعر بهذه الأمواء، ولا نحس لها أثراً؟!
وضاقت صدورنا. لأننا وقد أثقلتنا هذه الأحمال والأمتعة، لا نجد من يسرع في حملها حيث نريد. . وتطلعنا حوالينا، فلم نجد إلا النيل شرقاً، رحباً مخيفاً، والجبال غرباً، بشبحها المظلم القاتم، وكأنها حراس علينا، تشرع في وجوهنا أسلحة لا نطيق لها صبراً، ولا عليها(743/35)
احتمالا، فيقينا هكذا مدة، ثم عارض بعضنا في هذا، وسكت البعض الآخر مقتنعاً بهذه المعارضة، ولكنا في النهاية لم نجد مناصاً من الرضوخ لهذه الرغبة، والنزول على هذه الإرادة مكرهين، فلقد اتجهت إلينا الأنظار متعجبة دهشة، وكأنها تقول: علامَ التشكك والارتباك، وعلام الخوف والاضطراب وهذه البلاد لا موضع فيها لخائن الأمانة، أو ناكث للعهد، أو خافر للذمة؟!! وكأنما كانت هذه النظرات ألسنة ناطقة، لا نظرات صامتة، فسرعان ما شعرنا جميعاً بالتخاذل والخجل، ومضينا إلى حيث نريد. .
سرنا على الميناء متجهين إلى المدرسة كما أشار لنا بعض الواقفين، وميناء عنيبة جسر ممدود إلى داخل النيل، نهايته على الشاطئ الأصلي للنيل، فإذا جاء الفيضان، وارتفعت مياه النيل خلف الخزان في نوفمبر تقريباً من كل عام، وجدت الميناء عبارة عن لسان طويل جداً، ممدود حوالي ثلاثمائة متر، وعرضه متران تقريباً، فإذا ما زاد الفيضان، غمر هذا اللسان، ورست البواخر على الشاطئ الجديد، الذي يظل الماء عنده إلى أوائل مايو، ثم يأخذ في الانحسار مرة أخرى حتى يصل إلى الشاطئ القديم، فيضيق النيل كثيراً. وحول الميناء شاهدنا بضع عوامات، وعلمنا أنها كلها تابعة لوزارة الأشغال (مصلحة الميكانيكا والكهربا)، وأن منها ما يستعمل كـ (عنبر) صغير به مضخات لرفع مياه الشرب من النيل إلى محطة الطلمبات الخاصة بهذه العملية في مستعمرة عنيبة. ومنها ما يستعمل كمنازل صغيرة لغير المتزوجين، ومنها ما يستعمل للصيانة، فيكون أشبه بمصنع صغير متنقل، وهذا لا يرسو في عنيبة دائماً، وإنما ينتقل بين محطات المركز كبلانة والدكة وغير ذلك.
كان الظلام حالكا، والسكون شاملا، ولم يكن هناك أثر لشعاع من النور، وخاصة وقد صفرت الباخرة، وأطفأت مصابيحها الأمامية (الكشافات) التي لا تضيئها إلا عندما تريد الإرساء في محاط المركز. . أما عندما تسير فلا تستطيع أن تنير هذه المصابيح، لأنها بانعكاسها على الماء، واضطراب صفحة الماء، تدع الربان لا يستطيع أن يتبين طريقه، ولا يعرف كيف يسير!
مضينا نضرب في الرمال على غير هدى، لا نكاد نرفع رجلا حتى تغوص أخرى، الأمر الذي أوهن قوانا، وأضف عزائمنا، فقطعنا المسافة من الميناء إلى المدرسة في ساعة ونصف تقريباً، بينا هي لا تتجاوز الألف متر.(743/36)
وشعر كل منا بتقصير المدرسة في حقنا، فكان الواجب. يقضي بأن ترسل في انتظارنا أحد فراشيها، وهم كثر على ما سمعنا، كدليل على الأقل يكفينا مؤنة السؤال عن الطريق وسط هذا الظلام الحالك، الذي لم يجدنا معه السؤال شيئاً، إذ أن كل شخص نسأله لا يحرك ساكناً بل يكلمنا في هدوء وسكون وهو جالس دون مبالاة، مما جعلنا نغلظ القول لبعضهم، وكدنا نعتقد أن كل الأهلين على هذا الوضع من الخمول المعيب، والكسل الأليم.
ودفع هذا الوضع الشاذ بعض الزملاء إلى الصراخ وسط هذه الفلاة القاتمة، بألوان من السباب والغيط، والنقمة والثورة، ولكن الصوت كان يتردد صداه في وحشة مرهقة، وكأنما نحن نسير في مقبرة مهجورة تعبث فيها الجن، ومردة الشياطين فساداً وتنكيلا بالناس. .!!
وأخيراً وصلنا إلى المدرسة بعدما أرشدنا خفير المستشفى الذي اضطر لذلك اضطراراً حينما كدنا نضل الطريق نهائياً. . وفتحت لنا المدرسة أبوابها، وكنت لا تسمع فيها حركة ولا صوتاً، على الرغم من نوم التلاميذ، وكثرة عددهم، الذي يربي على خمسمائة تلميذ. واستقبلنا مشرفان فاضلان، وجدنا في سماحتهما ولطف حديثهما ما هوّن علينا ما قاسينا من مصاعب، في هذه السفرة الشاقة، والرحلة المضنية، وخاصة وأن أكبر مسافة قطعتها قبل أن أنقل إلى هذه البلاد، هي المسافة ما بين القاهرة والإسكندرية، والتي لا تتجاوز الأربع الساعات. .
وجال معنا المشرفان قليلا في أنحاء المدرسة، بالقدر الذي يسمح لنا بتعرف ما حولنا، ورؤية المكان الذي سنبيت فيه، لنكون على خبر به، وبينة من أمره وبخاصة ومعنا صبي صغير هو نجل أحد الزملاء، وقد سمع هذا الصبي عن عقارب عنيبة في الباخرة ما جعله ينكمش في نفسه طوال المدة، ولا يكاد يضع رجليه على الأرض، خشية أن يناله مكروه، فبقى شارد الطرف، حائر الفكر، مضطرب الشعور، لا تكاد تكلمه حتى تدرك مبلغ ما يعانيه من حيرة وارتباك. . . وكان الظلام ناشراً لواءه على المدرسة كذلك، وكانت هذه المصابيح الهوائية الضئيلة، تبعث الضوء خافتاً باهتاً، وكأنما هو خائف مضطرب، يخشى صولة الظلام القاهر، ووحشة الليل المخيف. . .
والمدرسة كما علمنا لا تضاء بهذه المصابيح الهوائية المنتشرة في كل ناحية من نواحيها، والتي تشتعل بزيت النفط، بل تضاء بالكهرباء فلها مولد كهربي خاص، إلا أنه يدور قبيل(743/37)
الغروب من كل يوم، ويتوقف عن الإدارة في الحادية عشرة مساء، إلا إذا دعا الداعي، لأن يبقى مدة أطول، ساعة أو ساعتين حسب الحاجة إليه، بأن أقيمت في المدرسة حفلة للسمر، أو لتوديع بعض الزائرين، وانتظار الباخرة التي ستقلهم إلى الشلال، إذ أن ميعاد بعض البواخر وهي السريعة، الواحدة والنصف صباحاً، أو الثانية أحياناً، ولكن لابد للمسافر من أن ينتظرها ابتداء من الثانية عشرة أو قبل ذلك، فربما تدفعها الريح مسافة تتقدم بها ساعة أو ساعتين!! أقول وفي هذه الظروف تبقى الإنارة حتى تنتهي الحفلات، أو المناسبات، ثم تشعل المصابيح على الأثر. .
وما كاد يستقر بنا المقام، حتى جاء الحمالون، ومعهم أمتعتنا، يحملونها على الحمير النحيفة العجفاء، فكان هذا دليلا عملياً على ناطقاً بالأمانة الشاملة في هذه البلاد!
عبد الحفيظ أبو السعود(743/38)
الأدب والفنّ في أسبُوع
(التيسير) بدار الكتب:
انتهز حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف، فرصة وجوده بأمريكا في وفد مصر إلى مجلس الأمن، فزار بعض الجامعات الأمريكية، واتصل بأساتذتها، وفاتح بعضهم في دعوتهم إلى زيارة مصر، فأبدوا ارتياحهم إلى ذلك، ووعد بأنه سيهتم عند عودته إلى مصر بتوجيه الدعوة الرسمية إليهم. وزار معاليه أيضاً مكتبة (الكونجرس) التي تعد أعظم مكتبة في العالم، وقد تحدث إلى مراسل الأهرام عن هذه المكتبة فقال: (تحوي هذه المكتبة سبعة ملايين مجلد، وقد أصبحت كعبة المنقبين والعلماء، وتهيئ لرواد الكتب من أسباب التيسير ما لا تهيئه لهم أية مكتبة أخرى في القارتين).
وليت معاليه يدعو بعض موظفي مكتبة (الكونجرس) لزيارة دار الكتب المصرية، ليقفوا على ما تهيئه لروادها من أسباب التيسير التي منها: (في الخارج) و (لدى الموظفين) و (في المطبعة) و (مفكوك) و (في المغارة) ويأتي أحد هذه الأسباب على (سند الاستعارة) إلى طلب الكتاب بعد وقت يدهش الأمريكي، الذي يعيش في عالم السرعة، للبراعة في تضييعه! ويظهر أن دار الكتب قد وصلت إليها عدوى (الأداة الحكومية) لا في البطء وحده بل كذلك في الوساطة والتوصيات، إذ أصبح من اللازم لكي تحصل على الكتاب المطلوب أن تستعين بصديق من موظفي الدار. . .
وبعض تلك الأسباب: (أسباب التيسير) عجيب، فقد طلبت كتاباً في أيام متباعدة، وفي كل مرة كانت تزحف إلى كلمة (مفكوك) على سند الاستعارة. . . فلم يظل مفكوكا؟ أما مسألة (المغارة) فهي أعجب العجب! فقد أودع هذه المغارة كثيرٌ من الكتب خوفاً عليها من الغارات الجوية، وانتهت الحرب، وأضيئت القاهرة، وأزيلت المخابئ وألقيت وزارة الوقاية. . . كل ذلك والكتب نائمة في (الكهف) وما تزال في سباتها!
ولكني أخشى، من حضور الأمريكيين إلى دار الكتب المصرية، أن يتحدثوا عن مصر عندما يعودون إلى بلادهم فيضموا موضوع (التيسير بدار الكتب) إلى (كرم الضيافة) و (الآثار القديمة) و (الشوارع الكبيرة التي جدت بالقاهرة) التي جرت على الإشادة بها من زار مصر قبلهم من الغربيين المجاملين، كأنهم لم يروا في هذه البلاد شيئاً يعجبهم غيرها!(743/39)
كان وأخواتها:
هكذا سمي العدد الخاص الذي ظهر أخيراً من مجلة (الاثنين) وقال المحرر مقدماً هذا العدد: (إنه كان في النية أن يكون خاصاً (بكان) وأخواتها، فاحتجت (إن) وأخواتها، فلم يسع التحرير إلا إجابة طلباتهن).
وكانت إجابة تلك الطلبات أن جعل (لإن) وأخواتها ما (لكان) وأخواتها في هذا العدد من حق. . . هو أن يبدأ بكل منها أو يتضمنها عنوان موضوع من الموضوعات التي اعتادت المجلة أن تنشر أمثالها. . . ومن هذه العناوين (كنت أدخن السجاير اللف) و (إن مع العسر يسرا) و (لست ملاكا) و (بات على الرصيف).
وقد ذكر في هذا الصنيع بما كان يفعله كتاب العصور المتأخرة من استعمال الاصطلاحات النحوية في كتاباتهم وما كانوا يتجشمونه من الإتيان بكلام يتكون كله من الحروف المعجمة، أو يخلو من حروف معينة، وغير ذلك من ضروب الرياضيات الكلامية التي كانوا يتوفرون عليها لإظهار التمكن وإحراز السبق
ولا شك أن عدد (كان وأخواتها) بذل فيه جهد في اختيار العناوين المبتدئة والمتضمنة إحدى تلك الأدوات، ولكن ما محصل كل هذا؟!
على أن فيه غير العناوين جهداً آخر (ليته) لم يكن. . هو صفحة عنوانها (لكن في تاريخ البشرية) حوت وقائع من التاريخ تغير فيها مجرى الأمور وكانت (ولكن) نقطة التحول، مثال ذلك: (غزا الاسكندر أفريقيا وآسيا، وأصح سيد العالم وهو في شرخ الشباب وعنفوان الجمال، وأراد أن يجمع الشرق والغرب تحت تاج واحد، ويصهرهما في حضارة واحدة. . . ولكن. . . في يوم من أيام القيظ نزل الاسكندر للاستحمام في مياه نهر بارد، فأصابته حمى قضت على حياته).
وبقية الأمثلة على هذا النسق من حيث موقع (ولكن) فيها، وقد قدم لها كاتبها بأن (لكن) من أحرف العطف التي (تشرك ما بعدها في حكم ما قبلها). فلكن هنا - مع أنها قد تسللت إلى العدد الخاص (بكان) و (إن) وأخواتها - ليست من أحرف العطف، لأنها مسبوقة بالواو وداخلة على جملة، فهي حرف ابتداء، وهي لم تشرك ما بعدها في حكم ما قبلها.
وفي العدد مقال للأستاذ محمد توفيق دياب بك عنوانه (إن من البيان لسحراً) قال في(743/40)
مفتتحه: (وأخذت في التروية والتفكير: إن من البيان لسحراً. . من عسى أن يكون قائلها الأول؟ وأجابت الذاكرة: إنه الرسول الكريم قالها إعجاباً بقصيدة إسلامية ألقاها بين يديه حسان بن ثابت).
والذي نعرفه أن الرسول الكريم قال هذه الحكمة لعمرو ابن الأهتم عندما علل مدحه الزبرقان بن بدر وذمه له في مجلس واحد لاختلاف الباعث - بقوله وقد رأى كراهة ذلك في وجه الرسول: (يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما عملت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية).
وساق الأستاذ دياب مثلا للبيان الساحر بعض قصيدة ابن الرومي التي رثى بها ولده (محمداً) من قوله:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي ... فلله كيف اختار واسطة العقد.
وقال الأستاذ: (وكان محمد ولده الأوسط بين أخوين)؛ وهو يريد أخذ خير أولاده، ولو كان المراد المتوسط بين أخوين، لكان الكلام تافهاً لا يليق بابن الرومي.
وقد عنيت بكل ذلك، لأن (الاثنين) مجلة منتشرة، وأحب ألا يستقر في الأذهان إلا الصحيح من مسائل اللغة والأدب.
موسم الأوبرا والفرق الأجنبية:
تعمل الآن الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى في إعداد رواية (الناصر) لتمثيلها على مسرح الأوبرا في مفتتح الموسم القادم، وقد ألف هذه المسرحية الأستاذ عزيز أباظة باشا تحقيقاً لرغبة ملكية سامية في أن يظهر على المسرح عصر من أزهى عصور العروبة والإسلام.
والعصر الذي تعرض الرواية صوراً منهن هو عصر العرب الذهبي بالأندلس، عصر عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله، ويقع في القرن العاشر الميلادي، أي في العصور الوسطى، إذ كانت أوربا يسودها الجهل والفوضى وكل مساوئ الحكم الإقطاعي، على حين كان الأندلس، في طرفها الجنوبي الغربي، قد سعدت بالعرب فازدهرت فيها العلوم والآداب والفنون، وانتشر العدل وعم الرخاء.
وتعاون وزارة المعارف ووزارة الشئون الاجتماعية الفرقة المصرية على إعداد هذه(743/41)
المسرحية، لتهيئ لها أسباب النجاح، ولتظهر المجد العربي على المسرح في المظهر اللائق به.
وهذه الرواية فاتحة طيبة لموسم التمثيل بالأوبرا، نود أن تعقبها وتشغل الموسم كله في هذا العام مسرحيات عربية تمثلها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى وبعض الفرق المصرية الراقية التي تشكو التعطل. أعني ما يأتي:
1 - يطلب من الكتاب الذين عرفوا بالإجادة في التأليف المسرحي أن يغذوا المسرح بقصص تصور واقع حاضرنا وسالف مجدنا، وفي توجيه الطلب إليهم تقدير لهم يحفزهم على الإنتاج، ولا بأس بقبول الجيد مما يقدم من غيرهم، ويتكون من ذلك ومن بعض المسرحيات المصرية القديمة مواد (لتموين) الموسم.
2 - تشغل الموسم كله في مسرح الأوبرا، الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى، وتدعى للعمل به كذلك الفرق الكبيرة التي عانت الكساد في السنوات الأخيرة، وكان المكان، أي المسرح، من أسباب هذا الكساد، فنهيئ لفرقنا مجال العمل، ولفننا فرصة الازدهار.
3 - وعلى ذلك، ومراعاة للظروف السياسية التي نحن فيها، لا يكون ثمة أي داع لمجيء الفرق الأجنبية إلى هذه الديار في هذا العام على الأقل، وخصوصاً الفرق التي تأتي من بلاد الأعداء ومعاونيهم علينا، وحسبنا ما كان من (تمثيلهم) في مجلس الأمن. . . ولست أدري كيف لا تحول (قيود) الظروف الحاضرة (الصعبة) دون استيراد هؤلاء!
وما أحوجنا الآن في جهادنا الحالي إلى المبلغ الضخم الذي ينفق على الفرق الأجنبية لننتفع به في مساعدة الفرق المصرية بجزء منه وصرف الباقي لتقوية الجيش.
أما حضرات السادة ذوو الأذواق العالية التي لا يرضيها إلا الفن الغربي. . فيجب عليهم أن يعيشوا معنا، ويحسوا إحساسنا، ويصحبونا إلى مشاهدة تمثيلنا والاستماع بفننا.
وقد كنت أجعل المطلب الرابع تخفيض أسعار دخول الأوبرا، لتتاح الفرصة لأكبر عدد ممكن من طبقات الشعب - لولا أنني قرأت في إحدى المجلات أن ذلك قد تقرر فعلا.
توصيات المؤتمر في اللغة العربية:
أتيت في الأسبوع الماضي على أهم توصيات المؤتمر الثقافي، في التربية الوطنية، والجغرافية، والتاريخية. ولما كانت توصيات اللغة العربية لم تذع، فقد ظن أن المؤتمر لم(743/42)
يتخذ قرارات في شأنها وقد أشرنا إلى ما ترمي إلينا من هذه الظنون
والواقع أن لجنة اللغة العربية كانت تأخرت في إعداد تقريرها، فترتب على ذلك تأخر طبعة عن جلسة المؤتمر الختامية، فتليت توصيات اللغة العربية من نسخة مكتوبة باليد، ووافق عليها المؤتمر كما وافق على توصيات المواد الاجتماعية التي كانت قد طبعت، فأرسلت الأخيرة إلى إدارة الصحافة بالجامعة العربية، فوزعتها على الصحف، ولم ترسل توصيات اللغة العربية من لبنان إلى حين كتابة هذا، ولعلها في الطريق
وقد اطلعت على نسخة مخطوطة من هذه التوصيات، وهي مفصلة شاملة لمناهج السنوات المختلفة بالتعليمين الابتدائي والثانوي في مواد اللغة العربية. ونقطف منها بعض التوصيات العامة فيما يلي:
افتتح تقرير لجنة اللغة والقواعد، بأن المؤتمر يرى أن قواعد اللغة العربية، من نحو وصرف وإملاء، تحتاج إلى تيسير وتبسيط يقربانها من مدارك الطلاب، على ألا يمس ذلك بحال من الأحوال جوهر اللغة.
وجاء في تقدير لجنة الأدب أن الغاية من التثقيف الأدبي في المرحلة الابتدائية تنشئة الطلاب على الأخلاق السامية والروح الوطنية والشعور العربي، مع تربية ذوقه الفني، وتنمية ملكة التعبير فيه، وتزويده بطائفة من المعلومات تزيد في ثقافته العامة.
وفي التعليم الثانوي يجب أن ينظر إلى الأدب نظرة واسعة، بحيث لا يكون مقصوراً على الشعر والنثر الفنيين، بل يتناول أيضاً الموضوعات الفكرية والعقلية المصوغة صياغة أدبية مثل مقدمة ابن خلدون ورحلات ابن جبير وابن بطوطة ورسالة حي ابن يقظان وبعض كتابات الغزالي وبعض قطع تاريخية من الطبري والفخري ونحو ذلك. وفي المرحلة الأولى من دراسة الأدب يكون الاعتماد على نصوص أكثرها من الأبد الحديث، وأقلها مما يقرب من هذه النصوص في السهولة من الأدب القديم.
ويكتفي من تاريخ الأدب في هذه المرحلة بما كان تعريفاً موجزاً بقائل القطعة وما كان لازماً لفهمها. وفي المرحلة الثانية تختار نصوص أدبية مرتبة حسب العصور من الجاهلي إلى الحديث، يراعى في اختيارها دلالتها على روح عصرها وتصويرها لخصائصه الفنية، مع مناسبتها لاستعداد الطالب وفهمه، وتكون دراسة الأدب مستمدة من هذه النصوص(743/43)
ويرى المؤتمر أنه يجب ألا نتقيد في التعليم الثانوي بالبلاغة الشكلية النظرية، وأن نعود بالنقد إلى وظيفته الأساسية، وهي تذوق الأدب، وفهم نصوصه، وإدراك صوره ومعانيه، والقدرة على محاكاته. والطريق الطبيعي إلى ذلك هو العناية بالنصوص نفسها، وفهم المراد منها، ومناقشة أفكارها، وتبين ما فيها من جمال أو نقص، وتعرف ما بينها وبين شخصيات منشئيها من صلات ولاحظ المؤتمر أن تسمية الإنشاء باسم (التعبير) أفضل لما في هذا من توسيع لمدلوله، وخروج به عن دائرة الشكلية والتكلف، وتنبيه إلى نواح من النشاط تساعد على نمو الملكة المعبرة المبتكرة عند التلميذ.
ويوصى المؤتمر بأن يعطي للغة العربية - وهي عماد الثقافة القومية - أكبر مقدار ممكن من زمن الدراسة في مناهج التعليم.
ونكتفي الآن بهذا القدر، على أن نأتي في الأسبوع الآتي بما يراه المؤتمر من الطرق والوسائل لتوفير القدر المشترك من الثقافة العربية بين ناشئة العرب.
(العباس)(743/44)
الكُتُبَ
عرض ونقد:
أخي إبراهيم
(تأليف الآنسة فدوى طوقان)
بقلم الأستاذ إبراهيم محمد نجا
هذا كتيب لطيف الحجم، جم الفائدة، كتبته الشاعرة النابهة الآنسة فدوى طوقان، عن أخيها شاعر فلسطين، وفقيد الشعر العربي الأستاذ إبراهيم طوقان. والذين قرؤوا رثاء الآنسة فدوى لأخيها إبراهيم، قد لمسوا من غير شك في هذا الرثاء مبلغ ما تكنه الآنسة لأخيها الشاعر من الإعجاب والتقدير، وعرفوا مقدار ما بينهما من ألفة الروح، وقرابة العاطفة، فوق ما بينهما من ألفة الأخوة، وقرابة الدم.
والذين يقرؤون هذا الكتيب يلمسون فيه كذلك كل هذه المعاني والمشاعر في صورة قوية واضحة؛ فقد شاءت الآنسة أن تصدر كتابها بهذه الأبيات الحزينة المتفجعة التي تصور الحزن والإعجاب معاً تصويراً قوياً مؤثراً:
أي لحون رعن سمع الزمن ... بعثتها من نبضات الفؤاد؟!
أودعتها الروح تناجي الوطن ... فيها، فتهتز الربا والوهاد!
ثم تراميت صريع الوهن ... مخضب الروح، سليب الضماد!
وامتنع الشدو كأن لم يكن=وجذوة القلب استحالت رماد!
ثم أخذت تعرض صوراً من حياة أخيها في مراحلها المختلفة بأسلوب يستدر الدمع، ويستثير الشجون! وهي في أثناء ذلك تأتي بنماذج من شعره، لا تعرض لها بالنقد والملاحظة، وإنما تذكر دواعيها ومثيراتها، ثم تدع للقارئ أن يحكم عليها. أما هي فمعجبة بشعر أخيها كل الإعجاب، مؤثرة لشخصه كل الإيثار.
واشهد أني بعد أن قرأت هذا الكتاب - وفيه نماذج كثيرة من شعر إبراهيم - قد أصبحت أكن لهذا الشاعر من الإعجاب والتقدير مثل ما أكنه لكل شاعر موهوب. وما أندر أصحاب المواهب في هذا الزمان! وأصبحت كذلك أجد لفقده من الأسف والحسرة مثل ما أجد لفقد(743/45)
الشابي والهمشري والتيجاني والمعلوف وبليبل وأمثالهم من الشعراء الذين فقدناهم، وهم في ريعان الشباب، ومعقد الأمل، ومناط الرجاء. وإن كان بعض هؤلاء لم أعرف عنه، ولم أقرأ له إلا بعد موته بسنوات.
ورأيي الصريح في إبراهيم أنه يمتاز في شعره بدقة الوصف، والإحاطة بالتفاصيل، دون أن يضطره ذلك إلى الإسفاف والتبذل في الألفاظ أو المعاني. وقد أعانته على ذلك قوة روحه الشاعرة، ووفرة ثروته الأدبية. كما يمتاز برقة الألفاظ في مواضع الرقة، وجزالتها في مواضع الجزالة، وجمال التخيل، وطرافة المعاني في كثير من القصائد.
وقد مهدت له براعته في الوصف سبيل البراعة في الشعر القصصي كما يظهر ذلك جلياً في قصيدته الرمزية القصصية الرائعة (مصرع بلبل). وفي يقيني أن إبراهيم لو مد في عمره لآتى بالمعجب المطرب في هذا الفن من فنون الشعر الحديث.
ولكنه في شعره الغزلي في حاجة إلى شيء من قوة الانفعال، وفورة العاطفة، فقد سيطرت على هذا الشعر رقة الشعور، ووداعة العاطفة، وهدوء النفس. ويبدو ذلك واضحاً في قصيدتيه (ملائكة الرحمة) و (في المكتبة). ولولا ما في هذا الشعر من براعة الوصف، وطرافة المعاني، وجمال الأسلوب، لما استحق إبراهيم أن يعد من شعراء الغزل في هذا العصر.
أما شعره في الوطنيات والموضوعيات - على حد تعبير الآنسة فدوى - فهو شعر قوي الألفاظ والمعاني على السواء، وإن كان بعض هذا الشعر تفوته جزالة الألفاظ، وفخامة الأسلوب، مثل قصيدته (الشاعر والمعلم) التي يقول في مطلعها:
شوقي يقول وما درى بمصيبتي ... (قم للمعلم وفه التبجيلا)!
وقصيدته التي يقول في أولها:
أنتم المخلصون للوطنيهْ ... أنتم الحاملون عبء القضيهْ
وقصيدته التي يقول فيها:
إن قلبي لبلادي ... لا لحزب أو زعيم
ولست أدري لماذا تذكري هذه القصيدة بمقطوعة البارودي التي يقول فيها:
أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله(743/46)
كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله
وهناك فن من فنون الشعر لا أجد إبراهيم يفرده بالحديث، ويختصه بالقول، وإنما يلم به في قصائده إلماماً، ويعرض له عرضاً، ذلك هو تحليل النفس البشرية وسبر أغوارها، وتصوير حالتها المختلفة، وتجاربها المنوعة، مع أن هذا الفن من فنون الشعر أدل على عمق إحساس الشاعر، وكثرة تجاربه، وسعة أفقه، من غيره من فنون الشعر المختلفة. والشعراء بعد ذلك درجات في شعر الحالات النفسية، فمنهم من يقف عندما يخص نفساً دون نفس، أو طائفة من النفوس دون طائفة ومنهم من يوفق إلى ما يمس النفوس البشرية كلها في أحوالها المختلفة.
ولعل إبراهيم قد صرفه الحديث عن آلام وطنه عن تعمق النفس البشرية. وآلام الوطن لا تحتاج لإحساسها إلى التعمق والإستقصاء؛ لأنها تغلي في النفوس، وتجيش في الصدور، ولكنها في حاجة إلى من يحس تصويرها، والتعبير عنها، والتأثير بها. ومهما يكن من شيء، فإن إبراهيم طوقان موهبة من المواهب الفنية، يعظم فيها الرزء، ويجل عنها العزاء، ويعز فيها العوض.
وإذا كان لي بعد ذلك أن أدل الآنسة الفاضلة على شيء، فإنما أدلها على أنها قد عرضت حياة أخيها عرضاً موجزاً يوشك ألا يسمى ترجمة حياة. فإن كان ذلك ضرورة من ضرورات النشر، فهل لها أن تتناول هذه الحياة بمقالات تفصل فيها ما أجملت، وتوضح ما أبهمت، وتذكر ما لم تذكر؟!
وشيء آخر أحب أن أدل الآنسة عليه، هو أنها قد تركت بعض جوانب من حياة أخيها دون أن تعرضها، فعلت ذلك عن عمد وإصرار، كما يبدو من إهمالها الحديث عن (سيئات!) هذا الغرام الذي قام بين أخيها وبين فتاته أو فتاة الجامعة الأمريكية ببيروت، مع أنها لم تهمل الحديث عن حسنات هذا الغرام. . . حسناته الأدبية طبعاً!! ومع أنها ذكرت أن لهذا الغرام سيئات، ثم قالت: (أما السيئات، فليس هذا بموضع تدوينها)! لماذا؟ ألأن هذه (السيئات) سيئة إلى الحد الذي يجعل القلم الأنثوي يتصبب (مداداً!) حين يخوض في حديثها؟
على أن الذي أفهمه أن على الآنسة أن تكون مؤرخة في كتابتها قبل أن تكون شيئاً آخر، وأن التاريخ الأدبي يقتضيها إذا ذكرت ناحية من النواحي الظاهرة أو الخفية في حياة من(743/47)
تكتب عنه، أن تقول فيها ما يغني وما يفيد. ومن يدري، فقد تكون النواحي الخفية في حياة الشاعر أدل على معرفة نفسه، وأبعث على فهم شعره من غيرها من النواحي الظاهرة.
وبعد، فالرأي أن الآنسة الفاضلة قد دلت بكتابها على أنها تملك موهبتي الشعر والنثر معاً؛ فقد أجادت في حديثها عن أخيها حديثاً ممتعاً حزيناً مؤثراً! وأجادت كذلك فيما اختارت له من النماذج الشعرية التي نثرت بعضها في أثناء الكتاب، وجعلت بعضها الآخر في آخره. فهل لها أن تعني بطبع ديوان أخيها إبراهيم طبعاً يليق به، ويروج له؟ إنها حين تفعل ذلك تقدم خدمة كبيرة، لا أقول لأخيها فحسب، وإنما أقول للشعر العربي أيضاً. رحم الله شاعر فلسطين إبراهيم طوقان، ومد في حياة فدوى طوقان شاعرة فلسطين.
إبراهيم محمد نجا(743/48)
البَريدُ الأدبي
تفرعن، فرعون:
خمنت (الاثنان) الغراء في الجزء ذي الرقم (692) - 15 سبتمبر سنة 1947 - أن الفعل (تفرعن) هو من كلام العوام، فأنزلته في تضاعيف عباراتها في مقالة من مقالاتها وسط أقواس أربع أو أهلة معرفة قراءها بما فعلت أن المقام اقتضى استعمال هذا الفعل على عاميته مبالغة في التبيين واستقصاء، وإنها بحالة لعلمية. فإن كانت (الاثنان) خمنت ما خمنته أو استيقنته فلتعلم - غير مأمورة - أن (تفرعن) فعل صحيح فصيح وعربي بحت قد نجلته العربية من (الجزيرة) ولو وضعته في مصر أو في الشام أو في العراق أو في المغرب الأقصى ما أنكرناه ولتقبلناه بقبول حسن كما تقبلنا سواه، وهي العربية المتبحبحة المتصرفة في كلامها، ولها لأئمتها أن يتصرفوا ولا يقفوا. وإنه لما جاء (فرعون) اسمه إلى (الجزيرة) وتحدث الأقوام بما تحدثوا به اشتق منه (التفرعن) و (الفرعنة) ولم يسلم هو فراح (فرعون) عند العرب صفة صرفوه فيها ومنعوه علماً فـ (كل عادت متمرد فرعونٌ) كما في اللسان والتاج، وفي الأساس: (فيه فرعنة، قال: وقد يكون مرة ذا فرعنهْ.
وقد تفرعن علينا فلان، وما هو إلا فرعونٌ من الفراعنة، ومن المجاز: تفرعن البنات إذا طال وقوى).
وخير لغاته هي ما نطق بها (الكتاب) أي بكسر الفاء وفتح العين، وحكى ابن خالويه عن الفرّاء (فرعون) بضم العين وفتحها، وهي لغة نادرة كما في التاج.
والاشتقاق من أسماء الأعلام في الجاهلية والإسلام كثير.
وقد يغنى فعل أخذ من اسم عن كلام طويل، فمن ذلك ما أورده الإمام الزمخشري في (أساس البلاغة): (وتجاحظ فلان في كلامه) وما ذكره في شرح لإحدى مقاماته:
(ابن الفرات هو علي بن محمد بن الفرات وزير المقتدر، وكان كريماً سخياً سرياً يتبرمك في أيام وزارته).
وهذان الفعلان (تجاحظ وتبرمك) المأخوذان من ذبنك الاسمين فيهما من المعاني ما فيهما، والأمثلة من هذا القبيل جمة.
ذكرني (الاثنان وفرعون) بخبر في (روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار) وبأبيات(743/49)
لأمير الشعراء (أحمد شوقي) - رحمه الله - في قصيدة عظيمة عبقرية. جاء في الروض:
(حضر مجلس (الإمام) الأعمش قوم ليسمعوا الحديث، فقال: ما اليوم؟
فقال رجل منهم: الاثنين. فقال (الإمام) الأعمش: الإثنان، أرجعوا فأعربوا كلامكم ثم اطلبوا الحديث).
قال أمير الشعراء:
زمان الفرد يا (فرعون) ولى ... ودالت دولة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض ... على حكم الرعية نازلينا
(فؤاد) أجل بالدستور دنيا ... وأشرف منك بالإسلام دينا
السهمي
أدب العروبة في الميزان:
كانت الجولة الأخيرة للأستاذ على متولي صلاح بين دفتي الأثر القيم لجامعة أدباء العروبة تعقباً لآثار ثلاثة من شعرائها، كاتب هذه السطور، والأستاذين العوضي الوكيل وطاهر محمد أبى فاشا.
وأحب أن أناقش ما جاء في ثنايا مقاله من هنات أخذها عليَّ مشكوراً في رفق وهوادة.
يقول الأستاذ (أما أن يترك الشاعر الموضوع الأصلي إلى الحديث عن نفسه وعن عاطفته في أمر لا علاقة للموضوع به فذلك ما نأخذه على الشاعر). وقد استشهد على ذلك بقصيدتي في الفيوم، قائلا إنني لم أسق (من تاريخها الحافل أو ماضيها المجيد شيئاً) وإنني (سردت على الناس قصة غرام شخصي في غزل أخاطب به حبيبة بعينها). .
أما أنني جانبت الموضوع في مهرجان الفيوم فهذا ما يصعب أن أوافقه عليه. .
فإن موضوع الفيوم متعدد الجوانب، متشعب الاتجاهات. (والتاريخ الحافل والماضي المجيد) أحد هذه الجوانب. ورياض الفيوم وجناتها مضطرب واسع الخيال الشاعر. .
وما الذي يزعجك يا سيدي من أن يتكفل النثر (بالجانب التاريخي الحافل والماضي المجيد) تاركا للشعر أن يصور جمال الطبيعة في الفيوم، وأنا أحيل الأستاذ متولي على قصيدتي مرة أخرى ليقتنع بأنني لم أشذ قيد أنملة عند تناول الموضوع من هذه الناحية.(743/50)
أما عن قصيدتي في المنصورة، فالمنصورة كما يسميها أستاذنا الكبير الزيات صاحب الرسالة بلد السحر والفتنة والجمال فلا تثريب على الشاعر من أن يتأثر بهذه الأجواء الساحرة الفاتنة على أنني لم أفرط في قصيدة المنصورة في الاستطراد في ذكر (الناحية التاريخية والماضي المجيد).
ثم ليسمح لي الأستاذ أن أتحداه في غير هاتين القصيدتين وموضوعهما من الشعر كما قدمت - أن يذكر بيتاً واحداً خارجاً عن الموضوع في سائر القصائد الأخرى في الكتاب.
أما أنني أتغزل في حبيبة بعينها، فليتفضل الأستاذ بمراجعة ما تحت يده من دواوين الشعراء في عصور الأدب العربي وأنا الزعيم له بأنه سيجدهم جميعاً مفهومين جداً وهم يتغزلون في واحدة بعينها وأن الأدب العربي لم يسجل عليهم في هذا الصدد عيباً أو نقيصة. أما بقية المآخذ فسأجمل الرد عليها إجمالا.
فعدم علم الأستاذ بكيفية نثر الطيور للأزهار فوق الروابي فلست مسئولا عنه فقد رأيتها بعيني رأسي وعليه أن يغشى إحدى جنات المنصورة ليرى ما رأيت أما أن كلمة أنس الأماني عامية ولا معنى لها فحينما يحرمه الله تحقيق أمنية له - لا قدر - ثم يشاء له تحقيقها حينئذ سيستشعر أنس هذه الأمنية لقلبه وعواطفه - أما أن البيت:
أقضي الليالي أنات مرددة ... والشاهدان عليَّ النجم والسهد
لا يكون السهد شاهداً مع النجم وهي حالة يعانيها من كتبت عليه المحنة فلم لا تكون هذه الحالة نفسها شاهداً؟
أما المفاضلة بين (غزالة) و (بغداد) وبين (الدسوقي) و (الرشيد) فقد فهمها منهما غريباً لا يتسق مع ما ترمي إليه الأبيات من تشبيه يلتقي فيه البلدان والرجلان عند هدف التمجيد والتكريم والإشادة بمن يعمل على رفع شأن الأدب ورعاية الشعر.
أما أن كلمة (ملياً) في البيت:
يا لواء الفاروق عشت مليا ... نحن نفدي لواءه المقصودا
كان الأولى أن يكون موضعها (دواما) لأن معنى الأولى الزمن الطويل بدليل الآية (واهجرني مليا) فلعل الأستاذ يوافقني على أن كلمة (مليا) تنساق في الجرس أكثر من (دواما) والزمن الطويل لا تلتمس له النهاية التي حددها الأستاذ متولي،(743/51)
أما المأخذان الأخيران في عم تأتي حر العطش من الري العذب في البيت:
فاسقنيها في ربيع الزمن ... خمرة من ريها العذب أوامي
وعدم تصور حباء اللذع وأنه لا يكون إلا في الخير لا في اللذع البيت:
قلبي الذي بات يصلي منك جمرته ... وقد حبته بلذع دونه سقر
فحر العطش يتأتى من الري العذب من هذه الخمرة التي تغري دائماً بالعلل والنهل فكلما روى الشارب ظمئ.
أما أن العطاء لا يكون في اللذع فلذع القلوب واكتواؤها بنار الحب شيء يلذ العاشقين يتمنونه ويغرمون به.
بقى أن أعقب على مآخذ للأستاذ الناقد على نتاج الجامعة الذي يقول أنه ضئيل ويسير وهو مأخذ يدعو إلى الدهشة والعجب فما الذي كان يتوقعه الأستاذ من مجهود للجامعة أضخم من هذا في عامها الأول فقد افتتحت الجامعة فروعاً عدة في مختلف أنحاء القطر شهدتها جموع كثيرة وأذاعها الأثير على سائر أقطار الشرق والعروبة ثم أخرجت الجامعة للناس كتاباً قيما يضم الرائع من الشعر والنفيس من النثر للأساتذة العقاد، ناجي، غنيم، رامي الخ.
أما اقتراح الأساتذة على معالي رئيس الجامعة في تعديل تشكيل هذه الجامعة وإقصاء بعض القائمين بأمر الدعاية والعمل لها، فقد أعلن معالي الرئيس غير مرة أن هؤلاء القائمين بالنشاط الموفور لخدمة الجامعة ليسوا من كبار الكتاب أو الشعراء في البلد وإنما هم أناس قدموا أنفسهم وأوقاتهم لخدمة الجامعة ونشر أغراضها ومبادئها مستمدين العون من قادة الفكر والبيان في مصر وسائر أقطار العروبة.
أحمد عبد المجيد الغزالي(743/52)
القصصُ
قصة مصرية:
أحزان غالية
للأستاذ نصري عطا الله سوس
(. . كان لها قلب، وكان قلبها)
(المتمسك بالحياة سر ما تعانيه من عذاب)
كان الصمت الموحش الرهيب يخيم على قاعة المسرح المزدحمة بالجماهير التي توافدت لرؤية رواية (المنبوذ) في ليلتها الأولى، وكان الجميع يتتبعون التمثيل بشغف واهتمام وقد ارتسمت على وجوههم أروع العواطف وأعمق الانفعالات. . .
ولم يكد يهبط الستار على الفصل الأخير وتضاء الأنوار حتى بدد وحشة الصمت دوي الهتاف والتصفيق الذي تجاوبت به أنحاء القاعة الواسعة، وارتفع الستار مرة أخرى وقدم الممثلون للجمهور فروض الشكر والامتنان، ثم هبط الستار مرة ثانية، ولكن حماسة الجمهور لم تفتر بل ظل يهتف ويصفق في نشوة وذهول كأنه يأبى الرجوع إلى عالم الواقع الذي انتزعته منه تلك المسرحية الرائعة ساعات خالدات. . .
ولم تقل نشوة الممثلين، وموظفي المسرح، ومؤلف الرواية نفسه عن نشوة الجمهور، فلم يكن بين كل أولئك من يقدر لهذه المسرحية التي تردد مدير الفرقة كثيراً في قبولها مثل هذا النجاح النادر في تاريخ المسرح كله، نعم. إن شهرة المؤلف ومكانة الممثلين لا يتطرق إليهما شك ولكن المشكلة التي عالجها المؤلف في مسرحية أعلى من مدارك الغالبية من رواد المسرح؛ والحديث الذي أجراء على ألسنة أبطالها أقرب إلى حديث الفلاسفة والشعراء منه إلى حديث عامة الناس، كما أنه هاجم أفكارا وعقائد باطلة لها على نفوس العامة سلطان كبير وإن كان لا يشك أحد في تفاهتها وسخفها ولقد جازف مدير الفرقة بقبول الرواية للتمثيل معتمداً على ما تتمتع فرقته من ثقة وسمعة طيبة وتفنن في الإعلان المغري عنها رواح ينتظر النتيجة. . . ونجحت الرواية في ليلتها الأولى نجاحا فاق كل حسبان وتقدير.(743/53)
ولم تنجح الرواية لقوة موضوعها وكفاءة ممثليها بقدر ما نجحت لأن امرأة شقية كانت تقوم بدور بطلة الرواية.
ووفقت في أداء دورنها توفيقاً كاد يرقى إلى مستوى الإعجاز ولم تكن (سميرة) من الممثلات البارزات فقد قضت في دنيا المسرح أكثر من خمس سنوات وفي العام الأخير فقط بدأ المخرج يثق فيها بعض الشيء ويسند إليها بعض الأدوار الهامة.
ولكن سميرة في تلك الليلة التي قامت فيها بدور البطولة في رواية (المنبود) لم تكن نفس الممثلة التي عرفها رجال المسرح أو رواده خلال خمس سنوات! من كان يصدق أن المرأة التي مثلت دور (نبيلة) هي نفسها ذات المرأة المحتشمة الصموت التي ألف الكل رؤيتها في أوقات فراغها منتحية ركنا قصيا تدخن سيجارتها في وحدة وهدوء. أجل، لم يكن هناك من يصدق أن تنقلب سميرة التي يعرف الكل مستوى تمثيلها إلى شعلة من نار تعدى كل من اشترك معها في التمثيل بالحرارة واللهب. . لقد كانت بمثابة القلب الحار الجياش بالدم الذي يمد بقية الجسم بالوقود اللازم للحركة والحياة.
والسر في ذلك لم تكن تعرفه إلا سميرة وحدها، إنها لم تمثل في تلك الليلة دورا على خشبة المسرح، بل كانت تعيش، كانت تحترق. وانتهت الرواية وأسدل الستار، وانسلت سميرة إلى غرفتها لتستريح ولم تمض دقائق حتى أندفع المؤلف إلى غرفتها وأحتضنها في حرارة وقبلها مهنئاً فراعه برودة شفتيها وشدة اضطرابها، وبعد لحظات أقبل مدير الفرقة وهو يصيح في طرب:
- إني أهنئ كل منكما بالآخر. . إن روايتك يا أستاذ لن تعيش إلا مقترنة باسم سميرة، وسميرة لم ترتق إلى هذا المستوى العالي إلى على أجنحة روايتك. . ونظر إليها في غبطة فأذهله شحوب وجهها وما ينطق به من ألم. . .
أما سميرة نفسها فقد كانت في دنيا أخرى، كانت ذاهلة عن نجاحها وعن كلمات الإعجاب والتقدير التي تنهال عليها، وعن حفاوة الجمهور ومقدار تأثره. ولقد بذلت كل ما في طاقتها لإخفاء ما بها عمن حولها ففشلت، وحملوها إلى دارها وهي ترتعش كالمحموم.
وفي الصباح لم تقو على مبارحة فراشها. . وأرسلت تستدعي طبيباً
وفحصها الطبيب فحصاً دقيقاً ولكه لم يستطع أن يهتدي إلى علة يعزى إليها شحوبها(743/54)
وهزالها. . . ولكن وجه المريض يعترف دائماً للطبيب الماهر بكل الأسرار التي يجتهد صاحبه في إخفائها، واستطاع الطبيب الذي عاد سميرة أن يفهم أن سر علتها لا يكمن في جسرها: إن أعصابها المنهوكة المستنزفة، وحسرتها الذائبة في عينيها، وأحزانها الراقدة في أطواء صوتها تنطق بأنها تضم ضلوعها على صراع عنيف أو فاجعة دامية لا تريد أن تبوح بها فلم يسعه إلا أن ينصحها بالراحة التامة والتروح إلى مكان آخر لتبديل الهواء، ووصف لها دواء للأعصاب.
وما أسهل إسداء النصح!! الراحة التامة؟؟ لقد بكت عندما سمعت هذه الكلمة، إنها في حاجة إلى الراحة حقا، ولكن أنى لها أن تنالها؟ إن الزمن حكم عليها بالشقاء وأمعن في إذلالها كأن بينه وبينها ثأراً لا ينقضي - والآن يأتي رجل غريب ويخبرها أن جسدها سليم ويفهمها في لباقة أنه يدرك أن هناك سراً يهز أعصابها هذه الهزات العنيفة ثم ينصحها بالراحة!!
وعلى فراش الأوجاع انفسح أمامها المجال للتأمل والتفكير، وطافت برأسها العاني ذكرى (المنبوذ) وكلمات الإعجاب وعاصفة التصفيق. . . وعلت وجهها ابتسامة شاحبة وأغمضت عينيها وراحت تتذكر. . .
أحقاً كانت تمثل دورا على خشبة المسرح؟ تتكلف العواطف وتتصنع البكاء، وتفتعل الحزن والألم والتنهدات. .؟ لقد فعلت ذلك مئات المرات، أما في تلك الليلة التي لن تنساها فقد كانت تعرض على الجمهور مأساتها الدامية وذكرياتها الحزينة وكانت في شبه غيوبة وهي على خشبة المسرح فقد استولت أحزانها وذكرياتها التي ظلت سنين حبيسة لا ترى النور على مشاعرها ولسانها وتدفقت الكلمات من فمها في ثورة وعنف حاملة في تضاعيفها لهباً وشواظا من أنون آلامها. . . ولم تعد سميرة ممثلة تتحكم في دورها بل امرأة شقية تتحكم فيها ثورة آلامها وتنطقها دون وعي بما يعتلج في صدرها ورأت بعينيها ذهول المشاهدين وسمعت بأذنيها الأنات والآهات وبكاء الباكيات فزاد تأثرها وانفعالها وتمثلت لها حياتها قاتمة الألوان دامية الجراح وأحست نحو نفسها بالشفقة والرثاء. . . فكان ما كان آه لو كانت تعرف من يحس نحوها ببعض ما تحسه هي نحو نفسها من شفقة ورثاء لما تألمت كل هذه الآلام، أو لو يقع لها في مستقبل أيامها ما وقع لتلك الفتاة التي مثلت دورها على(743/55)
المسرح لشعرت ببعض العزاء وانتظرت في صبر وأمل
كانت حوادث الرواية تدور حول فتاة جنت عليها سذاجتها وطيبة قلبها، ظنت أن الشباب طريقا مفروشاً بالورد ولكنها لم تكن قد أدركت بعد أن الشوك يوجد دائماً حيث يكون الورد بألوانه الفاتنة المغرية. وأسلمها العبير فأغمضت عينيها واستسلمت للأحلام. . فجرفها التيار - وأفاقت فجأة لتجد أن ثمرة الغواية تنبض في أحشائها، وطاف بخيالها شبح الفتيات اللواتي يتخلص منهن ذويهن ذبحا واغتيالا فكانت صدمة هائلة لم تستطع بعدها ملاقاة أهلها فهامت على وجهها وذاقت صنوفاً من التشرد وعرفت ألواناً من الهوان. وفي دنيا المسرح ألقت عصا التسيار لتكسب قوتها بعرق جبينها. . . وأيقنت في قرارة نفسها أن تلك هي خاتمة المطاف: إنها ستظل تمثل وترقص وتعيش حياة الليل الآثمة حتى تنقضي أيامها
لقد أيقنت بعد التجارب المرة أن الرجال ذئاب وأنهم لا يرون فيها إلا متعة ساعة وسلعه يتداولها كل من يستطيع أن يدفع الثمن فعافتهم نفسها وكرهت جسدها الحار المغري الذي كان يجذبهم نحوها فتمنحه لهم كارهة وقبلها يفيض بالعبودية والهوان - وكانت نفسها تتلوى ألماً وحزناً ولا تجد من تستطيع أن تفضي إليه ببعض ما تحس. إن المجتمع لا يفرق، بل يدمغهن جميعاً بوصمة العار ويحكم عليهن بأن يعشن منبوذات شريدات طعمة للعار والنار. . . ولا يلاحقهن - في منفاهن - إلا طلاب المتعة العابرة، والأرقاء الذين يبيعون العمر وينفقون ثمنه في سوق الشهوات. . . وبرغم ذلك لم تيأس ولم تستنزف أوصابها كل ما في قلبها من طيبة وسذاجة بل كانت تتألم في صمت وتحلم في سكون بالحياة الهانئة الوادعة وعاشت على الأمل ومنه كانت تلتمس العزاء وتروي ينبوع الأحلام في قلبها.
ولم تكذب الأيام ظنها، فقد ساقت إليها يوماً شاباً من أولئك الذين لا يؤمنون بقوانين المجتمع ولا يعبئون كثيراً بعرفه وتقاليده واستطاع أن يستشف من وراء حياتها الصاخبة الصارخة الألوان صفاء قلبها الذي طهرته الآلام ووجد فيها المرأة التي يبحث عنا من زمن فاصطفاها لنفسه وحررها من بيئتها وماضيها وعاش معها كأسعد ما يكون إلفان، ضاربا عرض الحائط بسخط أهله ونقمة عشيرته وعارفيه. . . وأثبتت هي للجميع أن السماء لا توصد أبوابها في وجه تائب مهما اقترف من رذائل وشرور وأن كل آثام الأيام لا تستطيع(743/56)
أن تخمد تلك الشرارة الإلهية التي تودعها العناية قلب كل بشري. . .
واعجبا لذلك الفتى الذي كتب هذه الرواية! هل استوحاها خياله أم كتب سيرة حياتها هي بعد أن استوحى الغيب وعرف ما يضمره لها الزمن في مستقبل أيامها. . . لقد ضمنها كل ما وقع لها، وعبر فهيا عن كل أشجانها وآلامها. وأمالها: لقد زلت (سميرة) كما زلت (نبيلة) بطلة الرواية وتشردت مثلها. . . وأصبحت ممثلة. . . ولكن السماء لم ترسل لها بعد ذلك الشاب الذي سينشلها من العذاب الذي تعيش فيه ويخلصها من الشرور والآثام التي عليها أن تقترفها كل ليلة لتعيش.
لقد قامت سميرة بدور (نبيلة) ومثلتها وقت سقوطها ومحنتها فعبرت عن مشاعرها وآلامها، ومثلتها السعادة فعبرت عن أمالها وأحلامها فهل تتحقق الأحلام كما تحققت الآلام؟
ياله من حلم ذهبي لم يتحقق إلا خيالا، لقد عاشت مع رجل أحلامها على خشبة المسرح ساعات وسمعته يصرخ في أهله عندما كانوا يحاولون ثنيه عن عزمه (نعم. . . لقد عاشت في تلك البيئة سنوات، ولكن ما ذنبها؟ لقد وقعت في الشرك مرة وقبض عليها صياد قاسي القلب وأبقاها في الأسر سنين فهل يمكن للسنين أن تنسيها حريتها؟ والآن وقد تحطمت أسلاك القفص الذي احتواها طويلا. . . فهي تتطلع نحو السماء في لهفة وفرح. . . ثم تنشر جناحاها وتتجه مسرعة نحو الحرية والنور. . .) ويطول الجدل معه فيضيق بهم ويصرخ فيهم. . . (لقد قلت لكم إني أحبها وهي أيضاً تحبني ولن أتخلى عنها. . . إن الحب معجزة أيها الناس يجعل المستحيل ممكناً. لا، لا، لست مخدوعا بل أنا موقن أنها عذراء القلب نقية الروح).
يا إلهي. . . أيها الغفور الرحيم، هل سترحمها وترسل لها رجلا مثله تراه بعينيها على مسرح الحياة؟ أم تطوي العمر وهي تنتظر؟
وقضت سميرة في فراشها أياماً طويلة كانت نفسها خلالها مسرحا لمختلف العواطف والانفعالات والأزمات. كانت تسترسل في البكاء ساعات طويلة حتى تقترح جفونها وتنام وتستيقظ والدموع على صفحة خديها.
وتسرب إلى قلبها اليأس والسخط على الحياة.
وأغراها السخط بالتمرد على القدر!(743/57)
لم يقسو الزمن عليها كل هذه القسوة. . .؟ ألا تكفي سنوات طويلة من الآلام والعذاب كفارة عن خطيئة انساقت إليها دون وعي أو إرادة؟ آه. . . ماذا ينفع الندم الآن؟
وغاظها موقفها من نفسها: لقد ظلمها الزمن وغدر بها، فلم تضيف إلى ظلم الزمن لها ظلمها لنفسها؟ لم كل هذا البكاء والندم والألم؟ هل تستحق هذه كل هذا؟!
واختمرت في رأسها الفكرة وأرادت أن تثأر لنفسها. . .
وعندما غادرت فراشها لم تعد تحس أنها نفس المرأة التي مثلت دور (نبيلة) فبكت وأبكت. . .
الحياة البوهيمية الصاخبة، والكؤوس الترعة، والليالي الماجنة الحمراء تشفي الجراح التي استعصت على الزمن. .
وأدهش الناس تغيرها، ماذا جرى لهذه الفتاة المحتشمة الزرينة العازفة عن حياة الليل؟ لقد كانوا يضربون بعزة نفسها الأمثال فما بالها أصبحت يسيرة المنال على كل من يطمع فيها.!!
ونجحت سميرة وعلا نجمها
وسرعان ما اشتدت المنافسة عليها وكثرت العروض، وتشاحن عليها فرسان الليل، ولم تعد حياتها في الماضي إلا حلماً باهتا يطارده بريق الذهب الذي تلهو به الآن كما يلهو الأطفال برمال الشاطئ.
ها هي تنتقم من الرجال. إنهم يتملقون رغباتها ونزواتها وهي تلهو بعواطفهم وتدوس قلوبهم وتستنزف جيوبهم لتعيش عيشة البذخ والترف وظهر اسمها في الصحف وأخذت المجلات تتبع أخبارها وتنشر صورها وتتندر بأن ما تنفقه على كلبها المدلل السعيد يكفي عائلة متوسطة الحال. . .
هل تستطيع الحياة أن تمنح أكثر من كل هذا النعيم؟ ليتها عرفت منذ أن طرقت دنيا المسرح! لقد أضاعت خمس سنوات من عمرها في الندم والألم منزوية في ركن مظلم وموكب الحياة يمر بها وهي عازفة عنه كأنه لا يفتنها أو يشيرها.
ودارت عجلة الزمن دورات وسميرة مندفعة في تيار اللهو الصاخب اندفاعا لم يقو على وقفه ما كان يعتريها أحياناً من ثورة وتمرد وبغضاء للرجال، لقد كانت منذ مرضها ذاهلة(743/58)
عن نفسها وكانت أعصابها تحت تأثير مخدر قوي هو الرغبة في الثأر لنفسها.
ولكن روح القلق التي كانت تستبد أحياناً تغلبت في النهاية وعادت أيامها نهباً للأسى والوجوم من جديد. إن الحزن يعصر قلبها عصراً وتحن إلى الدموع فلا تسعفها الدموع وتحاول أن تغرق همومها كما اعتادت في اللهو والصخب ولكن همومها تعلمت العناد وهزمتها في النهاية! إنها تحس الآن ما يحسه الشريد الضال الذي يهيم على وجهه في الصحراء يبحث عن ذعر عن شيء يهتدي به فلا يجد، فتزداد روحها وحشة وكآبة وضيقاً بالحياة.
والأمر الذي زادها ضيقاً وألماً عجزها عن أداء أدوارها على المسرح أداء طيباً، فقد كانت تروح وتجيء على المسرح كأنها دمية خشبية تنطق بألفاظ لا تحسها ولا تفهم لها معنى وأصبحت حياتها على المسرح كحياتها الواقعية باهتة الألوان مضطربة الظلال وبدأ صاحب الفرقة يتنكر لها فازداد طبعها حدة فكانت تثور لأتفه الأسباب وتصب شتائمها على رؤوس الناس دون حساب.
وهالها ما صار إليه أمرها، ورأت بعينيها الهوة التي تكاد تنفغر تحت قدميها وسألت نفسها: إنها تحيا هذه الحياة المتشابهة في ظواهرها ووقائعها من سنوات فما الذي ضاعف بؤسها هذه الأيام؟؟ ولم تجهد نفسها كثيراً لتجد الإجابة على هذا السؤال! لقد حاولت أن تقيم من حياة المجون سداً بينها وبين آلامها ولكن المجون لم يزدها إلا شقاء وآلاماً.
وعافت حياة المجون مرة أخرى، وتلفتت إلى الوراء لتلقي نظرة على الماضي ولكن طريق الرجوع لم يكن سهلا. . . كان عليها أن تعيش عيشة التهتك والاستهتار كي تستطيع أن تلبس وتسكر وتقامر حتى لا يقتلها السأم والملل. ولتهرب من مواجهة ضميرها، نعم ضميرها الذي بدأ يستيقظ ويزلزل كيانها.
وسارت في تيار الأيام كما تسير ورقة ذابلة على متن الأمواج شاعرة أن قلبها قد مات وأنها لم تعد تحزن وتثور وتفرح وتضحك من كل قلبها كما اعتادت أن تقعل، لقد طردت قلبها من عالم ذكرياتها وأوصدت دونه الباب آملة أن تجد له مستقراً أهنأ من عالم الذكرى والآلام ولكنه ظل شريداً هائماً كسفينة تائهة في مجاهل المحيطات، إنها لم تعد تملك من أمر نفسها شيئاً بل أصبحت أسيرة الحياة وعليها أن تعتش.(743/59)
وعاشت. . . تكفن أيامها ولياليها في قبور مضيئة لامعة ضاحكة يتقاذفها عاملان: الحياة التي فرضت نفسها عليها، وروح السخط والاستنكار التي كانت تتسلط عليها أحياناً فتنتزعها من من حياتها وتستخلص منها ضريبة الألم والدموع.
وفي إحدى الليالي كانت كعادتها تلهو وتمرح وتعب الكأس بعد الكأس ولكن الذي يتفرس في وجهها كان يوقن أنها حزينة: كانت تحس بحنين غامض نحو شيء لا تدري كنهه وكانت عيناها الملبدتان بالأكدار تستنجدان بالدموع. . . وحاولت جهدها أن تقاوم فلم تستطع، وآثرت أن تنصرف إلى دارها مبكرة وحاولت تنام فلم تستطع.
وانسرقت روحها إلى الماضي وعاد إلى خاطرها ذكرى الليلة التي مثلت فيها دور (نبيلة) لأول مرة. . .
وأفاقت ذكرياتها لكن من غفوتها وبدت أمام عينيها أطياف الأمل التي كفت عن التفكير فيها منذ أمد طويل.
وحاولت أن تكتم شجونها فلم تستطع وانفجرت الدموع من مآقيها غزيرة طيعة، وأحسن تحو نفسها باحتقار هائل.
ولم تشعر كم مضى من الزمن وهي تبكي لأنها كانت تجد في البكاء لذة وسعادة ظلت محرومة منها طويلا. ودهشت عندما استيقظت في ظلام الليل كيف استولى عليها النعاس دون أن تشعر وهي جالسة على أريكتها تبكي. واستهواها الظلام والسكون فجلست تفكر وعادوها الشوق الجارف نحو شيء يهز حياتها هزاً عنيفاً ويستحوذ على قلبها وأيامها ولياليها ولا يترك لها وقتاً للتفكير في نفسها. . .
وساءلت نفسها: هل هي جديرة بأن تتمنى وتطمع في حياة الدعة والسلام بعد أن لطخت حياتها بالأوحال؟؟ كيف جاز لها أن تنسى قلبها؟ وكيف أباحت لنفسها ما أباحت وحجبت عن عينيها أنوار الأمل؟
لقد كانت آلامها منبع شجاها ونوحها، ولكنها طردتها من حياتها فطردت معها ثروة عمرها التي تسبع على حياتها أعمق الألوان وأصفاها. لقد كان الألم حقاً، ولكنه كان محراب روحها الذي فيه تتعبد وتوقد الشموع وتحرق البخور من دمها وأعصابها فتحس أن الأيام مازالت تحتفظ لها بنضارة قلبها ويقظة ضميرها، وما أغلاهما من ثروة.(743/60)
وتاقت روحها إلى حياة الماضي، إلى العزلة والانطواء على النفس. إنها تود أن تفرغ من جديد لآلامها وآمالها تحتضنها وتمنحها دفء قلبها كما يحتضن الطائر فراخه الصغار.
وظلت تفكر وتحلم حتى باغتها النوم مرة أخرى.
ولم تستيقظ إلا قبيل الضحى. . .
وتأملت وجهها في المرآة فراعها انتفاخ عينيها واحمرارهما والألم الممض الذي تنطق به قسمات وجهها. ذلك الألم الذي ظنت إنها قد قطعت بينه وبينها كل السبل.
وتنفست هواء الصباح في ارتياح كأن ثقلا قد انزاح عن صدرها. . وكانت تحس - للمرة الأولى منذ مرضها - بما يحس التائه في الصحراء عندما تلوح له معالم العمران من بعيد.
(شبرا، مصر)
نصري عطا الله سوسن(743/61)
العدد 744 - بتاريخ: 06 - 10 - 1947(/)
الهيضة بالهيضة تذكر:
من ذكريات الطفولة
كنت في الثالثة عشرة من عمري حين وفد على مصر وباء الهيضة في سنة 1902، وكانت قريتنا الصغيرة الفقيرة تنقل خُطاها الوئيدة في طريق الحياة وادعة بالأمن، ناعمة بالرضا، هانئة بالقناعة.
كان المرض قليلا ما يغشاها، فإذا غشيها غشِى الكهل الضعيف. وكان الموت كثيراً ما ينساها، فإذا ذكرها ذكر الشيخ الهرم. لذلك كان المرض لندرته مرهوب الاسم، وكان الموت لوحشته مهيب الصورة. فإذا مرض الصحيح تجمع القوم في منظرته أو على مصطبته، يؤانسونه ويمرضونه ويدعون له؛ وإذا مات المريض لبسوا الحداد عليه العام كله، فلا يلبسون الجديد، ولا يحلقون اللحى، ولا يأكلون الفسيح، ولا يصنعون الكعك، ولا يباشرون المضاجع.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف على ما أذكر، قيل إن لأسرة فلان قريباً غريباً علموا أنه مريض فذهبوا ليعودوه فعادوا به.
وهو يشكو مرضاً لم يشكه أحد من قبل: ظمأ لا ينقعه ماء، وقيء لا يمنعه دواء، وإسهال لا يقطعه شيء. وفي الصباح الباكر نعته الناعيات فأجمعت القرية على الحزن عليه، وأقبلت الجيرة على العزاء فيه، ورسموا المأتم أسبوعاً كالعادة. إلا أن ثلاثة من أسرة الفقيد مرضوا تلك المرضة، وماتوا تلك الموتة، فلم يقوضوا سرادق العزاء، حتى أتى على جميع الأسرة الفناء. وصحا الناس من دهشة الروع وذهول الفاجعة، فإذا كل غرفة فيها مريض، وإذا كان ساعة فيها جنازة! وهان الموت ورخصت الأموات، وإذا كل ساعة فيها جنازة! وهان الموت ورخصت الأموات، فلا يُعاد محتَضر، ولا يشيَّع ميت، ولا يُعزى حي. وقال فقهاء القرية إنه الهواء الأصفر الذي أهلك الله به عاداً الأولى فهيهات أن يعصم الناس منه بيوت مغْلقة، أو حصون معلّقة.
فاستكان القوم للقضاء، وصفت قلوبهم من الحقد، وعزفت نفوسهم عن الدنيا، وانصرف كل امرئ عن عمله في انتظار أجله.
كان الموت الوحِيُّ الذريع يخترم لِداتي في الحارة واحداً بعد واحد، فخلت الملاعب من(744/1)
الأطفال، وأقفرت المكاتب من الصِّبية. وكان شوقي إلى بعضهم يدفعني إلى أن أزورهم خلسة، فأجد فيهم من يكابد هول الداء وحده، فلا أبوه يخفف عن كبده سعار العطش، ولا أمه تسمح عن ثوبه رجْع القيء! لقد شغل كل إنسان بنفسه عن غيره، ولها كل بيت بكبيره عن صغيره.
ولكن (زهرة) اليتيمة زينة الصبايا وبهجة الحارة كانت في السواد من قلب أختها، وفي السواد من عين أخيها. مرَّضتها الأخت حتى أخذتها سكرة الداء، ومرَّضها الأخ حتى غشيته غمرة الموت. وبقيت (زهرة) الجميلة وحدها تنتظر النهاية المحتومة في حجرتها الموحشة على حصيرتها الخشنة. وكانت عمتها العجوز تزورها الحين بعد الحين لترمقها من بعيد ثم تنصرف. وكنت أكنُّ لهذه الفتاة نوعاً من الحب المبهم يختلط فيه الإعجاب والحنان والعطف. وكان بيتنا يشرب الماء مغلي فلم يصب أحد منا بسوء، فظننت أن الدواء في هذا الماء، فحملت منه قلة ثم دخلت بها عليها.
فلما رأتني افترت شفتاها الذابلتان عن ابتسامتها الحلوة. وأشارت بطرفها إلى الماء فجرَّعتها منه جرعة. ثم جلست بجانبها أرنو إلى العينين الغائرتين وقد كانتا كعيني الرشأ، وإلى الوجنتين الشاحبتين وقد كانتا في حمرة الورد، وإلى الجسد الضارع المشفوف وقد كان في غضاضة السوسن. ثم وضعتُ القلة مرة أخرى على فمها الجاف فرشفت منها رشفة، ولكن الماء وقف في حلقها فلم تستطع أن تسيغه. ثم شخص بصرها، وحشرج صدرها، وأخذها فواق ضعيف، ثم لفها سكون شامل!
لا أزال أذكر هذا المنظر المروع وأتمثله كأنه وقع أمس! ولا أزال أذكر أن تياراً من الرعب قد اعتراني، فعقل يدي وعقد لساني، فخرجت من الحجرة هارباً بنفسي لا ألوي على شيء، ولا أخبر أحداً بشيء!
وا حسرتا على قريتي الصغيرة الفقيرة! لقد جثم على صدرها الموت المائت حتى ختم على أكثر الدور، ونقل نصف أهليها من الدور إلى القبور!
كانت حالنا يومئذ غير حالنا اليوم؛ فلم يكن هناك مصل يفي، ولا علاج يشفي، ولا حكومة تطارد الوباء وتحصره، ولا أمة تتبع النظام الصحي وتنشره.
أحمد حسن الزيات(744/2)
لا هَوَادة بعد اليوم
للأستاذ محمود محمد شاكر
لا يحلل لعربي منذ اليوم أن يرفع يده عن سلاح يعده لقتال عدو قد أحاطت به جيوشه من كل ناحية ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يدع ثغرة من ثغور العدى إلا سدها بنفسه أو ولده أو صديقه. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يضع عن عاتقه عبء الكد والكدح التماساً للراحة أو الدعة. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يتواكل ويقول لنفسه: لقد تعبت، وما يضرني أن أترك هذا لفلان فهو كافيه. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقول: غداً أفعل ما حقه أن يفعل اليوم. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يخدع نفسه عن حرب دائرة الرحى بيننا وبين اليهود وأشياعهم من أمم الأرض. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يكتم الحق عن أهله أو عن عدوه، ويقول هذه سياسة وكياسة وترفق. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يمالئ قوماً يكاشفونه بالعداوة والبغضاء ونذالة الأخلاق. ولا يحل لعربي منذ اليوم أن يقبل من رجال السياسة تأجيل شيء من قضايا العرب، فهي كل مترابط لا ينفك منها شيء عن شيء.
لقد عرف كل عربي وكل مسلم على ظهر هذه الأرض ما آلت إليه القضية المصرية السودانية في مجلس الأمن، وعرف كل عربي وكل مسلم ما صارت إليه قضية فلسطين في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة فهل بقي بعد هذا مجال لناظر حتى يقول: سوف أحتال بالسياسة حتى أنال ما هو حق لي؟!
إن بريطانيا وأمريكا وسائر الدول التي تدير لهما الساقية، قد كشفت عن طواياها بما لا يدع لأحد علة يتعلل بها أو يتشبث، فقد قالوا الكلمة الصريحة الواضحة بأنهم عدوٌّ لنا وحرب علينا، وأنهم يبغون أن يحطموا هذا الجيل العربي، وأن يسلطوا على رقابه أنذال اليهود وأوباش الاستعمار، وأنهم يعتقدون أننا قوم لا نصلح لأن نحكم أنفسنا بأنفسنا، أو أننا أمم قصَّر لم نبلغ رشدنا ولا يظن بنا بلوغ الرشد. فهذا ترجمة موقف الدول المعادية حيال قضية مصر والسودان وحيال قضية فلسطين.
وسر هذه العداوة - ولا نكتم الحق - هو أن أوربة وأمريكا جميعاً لا يزالون يعيشون في أنفسهم إذا ذكر العرب، في أحقاد صليبية لم تستطع المدنية ولا استطاع العلم، ولا استطاعت سهولة المواصلات، ولا استطاعت كثرة الهجرة والرحلة، أن تنفيها عن قلوبهم،(744/4)
بل لعلها زادتهم أضغاناً على أضغان، ولا تزال أوربة وأمريكا تقول: خطر الإسلام وخطر العرب، كما كانوا يقولون الخطر الأصفر والخطر الأسيوي. وإذا كان بعض ساستنا الذين لقوا ساسة الأوربيين والأمريكيين قد انخدعوا بظاهر من القول حين سمعوا أحاديث أولئك المرائين المنافقين من ساسة أوربة وأمريكا، وظنوا أن لين القول دليل على صدق العقيدة، حتى أجروا في أحاديثهم ذكر (عطف أمريكا على العرب) و (عطف بريطانيا على العرب)، فقد ضلوا ضلالاً مبيناً. إن أوربة وأمريكا لا تعرف العطف على العرب، بل هي العدو، وهي البلاء المصبوب علينا، وإلا فكيف تعطف بريطانيا على العرب وهي التي لا تزال تفعل الأفاعيل في مصر والسودان؟ وكيف تعطف أمريكا على العرب وهي التي خذلت مصر والسودان في مجلس الأمن؟ وكيف تعطف بريطانيا وهي التي ورطَّت الدنيا كلها في مشكلة فلسطين، ثم تجيء فتطلب من هذه الدنيا أن تحل المشكلة لها المشكلة؟ وكيف تعطف أمريكا وهي التي تمد اليهود بالمال والقوة والسلاح والدعاية؟ وكيف وهي التي تبيح لشركات النشر والإذاعة والصحافة أن تدلس وتكذب وتخدع في شأن العرب، ولا تجد منكراً ينكر، ولا لساناً يدافع، ولا قلماً يشمئز من هذه الوسائل التي تطفح بالغدر والبغي والنذالة؟!
إنهم جميعاً يظاهرون علينا اليهود ويظاهرون علينا الاستعمار، ويفعلون ذلك علانية لا يستخفون، ففيم نحتال نحن بالمداورة أحياناً خشية أن نثير علينا هؤلاء المظاهرين، ومخافة أن نُرْمي بالتعصب؟ فيم نخاف ونحن في معمعة هذه الحرب التي تشنها علينا بريطانيا وأمريكا بالاستعمار وباليهود؟ ولم نخاف أن نتعصب لحريتنا واليهود يتعصبون لعدوانهم جهاراً؟ إن العرب قد عاشوا على ظهر هذه الأرض أكثر من ثلاثة عشر قرناً فكانوا أمة وسطاً لم تظلم ولم تضطهد، بل نصرت المظلوم وآوت المضطهد، ورفعت النَير عن رقاب الأمم مجوسها ونصاراها ويهودها، حتى جاء أمر اله وذهبت ريحهم وغلبت عليهم الأمم. فتاريخ العرب كله دليل على أن هذا الجيل من الخلق يأنف أن يظلم وأن يضطهد، ولكنه يأنف أيضاً أن يقبل الظلم والاضطهاد، فإذا رد الظلم عن نفسه ودفع الاضطهاد عن حماه، وحمى حوزته دون عدو باغ، أو توقي شراً يوشك أن يتوغل في قلب حياته، فما يفعل ذلك عن تعصب أو حقد أو جهالة، بل هو الحق ووسائل الحق!(744/5)
وإذا كان فيما نفعله، أو فيما يجب أن نفعله، شيء يؤخذ على أنه صرامة وشدة وحنبلية متزمتة، فيما اضطررنا إليه فعلناه. وإليك مثلا هذه الدول العربية التي بدأت تضج ضجيج البعير آذاه العبء الفادح، من غول الاستعمار الأدبي والسياسي والاقتصادي، والتي بدأت تعرف أن كل باب من أبواب الحياة قد وقف عليه دبدبان من اليهود أو من الأجانب الطارئين، ليذودوا العرب عن الانتفاع ببلاده التي هي له ملك متوارث منذ أقدم عصور التاريخ - يذودونه عن الانتفاع بتجارة بلاده، لأن شياطين التجارة ومردتها فئة من هذه اليهود وهذه الأجانب، ويذودونه عن الانتفاع بمعادن أرضه، لأن أبالسة الحديد والنار هم أصحاب المناجم في أرضه وبلاده، ويذودونه عن الانتفاع بقوى شعبه، لأن خزان المال من اليهود والأجانب يضربون العمال بالفقر والذل والبؤس، ولا يدعون لهم متنفساً، ولا طريقاً إلى بلوغ المستوى الذي يحق لهم بجهودهم التي يجودون بها، فتكون لليهودي والأجنبي غنى ومالا وثروة وعجرفة وتغطرساً على هذه الأمة العربية، ونكبة وبلاءً واستعماراً كأنه جوامع من غليظ الحديد مضروبة في أوتارها الراسخة في جوف الأرض العربية. هكذا هو، فماذا تفعل هذه الدول؟
أليس من الحق لكل بلد عربي أن يسن قانوناً لأهله أو قانوناً لحكومته إذا استطاع - أن يحرم على كل يهودي وأجنبي أن ينشئ شركة إلا إذا كان كل عامل فيها وكل موظف من أهل البلد، وأن تكون أرباح الشركة لا تزيد على قدر معلوم، وأن يكون الدخل وقفاً على البلاد التي يستثمر فيها جهوده، فلا يخرج مالا ولا يختزنه في مصارف بلاد أخرى غير البلاد التي استوطنها، ورغم أنه جاء ليسدي إليها خيراً بعلمه أو فنه أو صناعته أو تجارته؟
أليس من الحلق لكل بلد عربي إذا هو رأي هذه الأجانب وهذه اليهود تملأ عليه الجو، وتأتيه مهاجرة من كل مكان هجرة حرة غير مقيدة أن ينظر لنفسه ومصالحه، ويعرف أن هؤلاء خطر ينبغي درؤه واتقاؤه بكل وسيلة؟ فإذا منعنا الهجرة أو قيدناها فأي تعصب في هذا؟ وإذا كنا نعلم علم اليقين أن هؤلاء الطارئين هم من حثالة اليهود وحثالة الأجانب، وأنهم أرذل خلق الله أخلاقاً وأقلهم علماً وأخسهم نفوساً، فأي تعصب في أن نقول للعالم كله إننا نأبى أن نؤوي هذه الحثالة القذرة في بلادنا وبين أهليها، وأن نمنعهم أن يتدسسوا إلى(744/6)
حمى أعراضنا بنذالاتهم وفجورهم وعهرهم وبالخبث التي انطوت عليه دخائلهم؟ وإذا كنا نعلم علم اليقين أن هذه الحثالة الخبيثة، وهذه الرمم الإنسانية تفعل في شوارعنا وطرقاتنا ما لا تستطيع أن تفعل مثله في بلاد غير بلادنا التي وقعت تحت بطش الاستعمار قرناً أو بعض قرن، فأي تعصب في أن نسن قانوناً يوجب ترحيل هؤلاء الطارئين، أو يوجب نزع الجنسية المصرية أو العربية أو السورية عن هذه الفئة التي جاءت دخيلة على بيوتنا وديارنا وأخلاقنا؟
إن من حق البلاد العربية أن تفعل ذلك ولا تبالي بنقد منتقد ولا هجوم متهجم، ولا إقذاع مبطل ولا سفاهة مدخول السريرة خبيث الطوية. كلا إنه ليس حقاً لها وحسب، بل هو فرض لا مناص من أدائه والقيام عليه وحياطته كل الحياطة، إن هذه اليهود وهذه الأجانب هي ذرائع الاستعمار، وهي أداة البطش التي سلطها الاستعمار على رقابنا، وهي الخبيثة المردية التي تفشى داؤها حتى أوهى القوى وأوهن العزائم، وأكلنا لحماً طرياً وتركنا عظاماً نخرة.
وها نحن الآن مقبلون على حرب بيننا وبين اليهود، وحرب بيننا وبين الاستعمار، وكلاهما حرب لا هوادة فيها ولا مفر منها، فكيف يجوز في العقول أن ندع العدو بين ظهرانينا يعيث فساداً وخيانة وتجسساً، بل يأخذ من أموالنا ويرد على أموال عدونا، فيضعفنا ويقويه، وينهكنا وينميه، ويوهننا ويضربه؟ إن من القوانين الدولية في زمن الحرب أن تضع الدولة يدها على أموال أعدائها جملة واحدة، فتستثمرها في حقها وبحقها لتكون لها قوة وعتاداً، ومن القوانين الدولية أن تقبض الدولة على أبناء الدولة المعادية فتأسرهم في المعتقلات حتى تضع الحرب أوزارها، خشية أن يفجروا في الأرض ويكونوا عيوناً عليها، وبلاء في داخلها، و (طابوراً خامسا) في شعبها. فهل شك أحد في ذلك أو استنكره أو بغض إلى دولته فعل ذلك؟ كلا! وإذن فكيف يجوز للعرب منذ اليوم، وقد شرعوا في الجهاد وعزموا على أن يحطموا أغلال الاستعمار، وأن يقوضوا عرش اليهودية الباغية، أن يتهاونوا في الضرب على يد هذه التجارة اليهودية في قلب بلادهم، أو أن يبيحوا لأعوان الاستعمار من شذاذ الأمم والأفاقين أن يسرحوا حيث شاءوا من بلادهم، وأن يستولوا على ما يشاءون من أموالهم وأرزاقهم، وأن يدخلوا فينا ليكونوا عيوناً علينا في هذه الحرب التي تدور بيننا(744/7)
وبين يهود، وبيننا وبين الاستعمار والمستعمرين.
ومن الذي حمل اليهود على الهجرة إلى مصر مثلا؟ أليست هي الفكرة الصهيونية؟ ومن الذي حمل الأجانب على الهجرة أيضاً إلى بلادنا؟ أليس هو الاستعمار؟ فكيف ندع الصهيونية والاستعمار يجوسان خلال الديار ونحن في معمعان القتال؟ وأنا أضرب مثلا لم أزل أتتبعه منذ قامت اللجنة التي وكل إليها كتابة تقرير عن فلسطين، ومنذ رفعت قضية مصر والسودان إلى مجلس الأمن.
فمنذ ذلك الحين وأنا أنظر وأتسمع، وأتفرس الوجوه، وأتوسم الشمائل، فإذا هذه اليهود وهذه الأجانب قد خفتت أصواتها، ولانت أخلاقها، وهذبت غطرستها، وحلت لنا ألسنتها، وابتسمت لنا وجوهها. ولم أكن أجهل أن ذلك كله نفاق ورياء وخديعة يظنون أنها تخدعنا عن طوايا قلوبهم. فلما كان من أمر القضية المصرية السودانية ما كان، وظهر من مستور اللجنة المزورة ما ظهر، إذا هذه الأصوات الخافتة قد صارت نعيقاً، وإذا الوجوه المبتسمة قد شاهدت بالتجهم وإذا الشمائل المؤدبة قد صارت عجرفة وطغياناً، وإذا هذه الخلائق الفاجرة تمشي على أرضنا تيهاً وخيلاء كأنها جنس وحده ونحن عبيده وأذلاؤه، وإذا نظرت الازدراء وكلمات التحقير تقال على مسمع منا ومنظر بلا حياء ولا أدب ولا خلق، وإذا كلمة (عربي) تتردد مرة أخرى على ألسنة هؤلاء الأنذال الجبناء في كل مكان بعد سكوتهم عن النطق بها خوفاً وفزعاً، أن يكن قد دنا موعد نصر العرب في قضية فلسطين وقضية مصر والسودان هذه كله شيء تتبعته أنا ومن أعرف، بلا زيادة ولا دعوى كما تفعل هذه الخبائث من يهود وشذاذ الآفاق.
إنها الحرب المبيرة أيها العرب، فلا تكن يهود التي ضرب الله عليها الذل والمسكنة والتشرد في جنبات الأرض، أحمى منكم أنوفاً وأشد منكم حفاظاً، وأقوى منكم حمية، وأجرأ منكم قلوباً ولا تكن يهود أيها العرب أشد محافظة على باطلهم منكم على حقكم واعلموا أيها العرب أن الذين بيننا وبين يهود والذي بيننا وبين الاستعمار دم لا تطير رغوته ولا ينام ثائره، وقد جدت الحرب بكم فجدوا يا أبناء إسماعيل ويا بقية الحنيف إبراهيم، ولا يهولنكم مال اليهود، ولا بطش بريطانيا، ولا مخرفة أمريكا، فإن الحق لله، وكلمة الله هي العليا.
محمود محمد شاكر(744/8)
على هامش المعركة!
للأستاذ علي الطنطاوي
تحرك الجيش المصري بعد طول السكون، وسهر القادة يرسمون الخطط، ويعدون مناهج القتال، واستعد الجند وشحذوا السلاح، وسيقت الكتائب تتراً، فلا ترى إلا جنداً يزحفون إلى ساحة المعركة، يمشون خائفين وهم الكماة الشجعان الذين ما عرفوا الخوف، ويتقدمون حذرين وهم الشوس المقاديم الذين لا يرهبون الخطر، يتلفتون لا يدرون من أين يأتيهم هذا العدو المرعب، الذي يضرب الضربة، فيهدم الدور، ويفتح القبور وهو مختف لا يرى، فإذا وارى الناس موتاهم، ومسحوا دموعهم، وحسبوا أنهم نجوا منه، رأوه قد ضرب ضربته الثانية، في مكان قريب أو بعيد، لا يعلمون كيف تسلل إليه. لا يقف في وجهه حصن، ولا يرده بارود، ولا ينفع معه رصاص ولا قنابل؛ ولا يدرون من أين يطلع عليهم: أيهبط من السماء، أم يخرج من الماء، أم ينبعث من خلال الظلام؛ يخشون أن يكون قد امتلكهم وهم لا يحسون، وقبض على أعناقهم، يمتص دماءهم، ويزهق أرواحهم، ويجرعهم كؤوس الموت. . . وهم واقفون يحرسون البلاد منه، ويعدون العدة للقضاء عليه.
وفشا في الناس الخوف، وعمّ الذعر، وعلت الوجوه قترة الجزع، وشغلت الألسنة أحاديث الخطر، وملأت القلوب رهبة المصير ولو كانت معركة جنود وعتاد لهانت ولما خاف منها أحد، لأن هذا الشعب قد تمرس بالمعارك من يوم كان قابعاّ في صحرائه، يساير الشمس، ويصاحب الرمال، ويعانق السيوف، إلى أن أخرجه محمد ليضيء مصباح القرآن في المشارق والمغارب، فينير به الدنيا المظلمة، والقلوب القائمة، وهو إلف المعارك وحليفها، خاضها وهي تلتهب بنار الهواجر، عند خط الاستواء، وهي تتشح بجليد الشتاء على حدود القطب، ما ردّه عنها الزمهرير ولا ريح السموم، وواجه الأعداء من كل لون وجنس ولسان، فما يخاف اليوم إنكلترا ولا يخشى أمريكا، ولكن هذا العدو أنكى من إنكلترا نكاية، وأخفى مكراً، وأسرع ضرراً. صغير ولكنه يحط النسر من عليائه، ويلقى الأسد على مضائه، ويفتك بهذا الإنسان الذي حكم الجو والبحر، وسابق في الفضاء الصوت، وعاند القدر، فجاء القدر يحاربه بأصغر جندي من جنوده، بجندي تحمل الآلاف منه - من هوانه - رجل ذباب، وهي لا تشعر بما تحمل. . بـ (مكروب الكوليرا).(744/10)
وسمع الناس باسم (الكوليرا) فذكروا (الهواء الأصفر) وذكروا (الوباء) وما يروي التاريخ من أرزائه وبلاياه.
واغتنم الشيوخ الفرصة ليحظوا بالالتفات إليهم بعد طول الأعراض عنهم، فحدثوا بما رأوا من فظائع الوباء الذي مر على مصرفي مطلع هذا القرن، والذي جاء جاز بالشام، في الحرب الماضية، ورأيناه نحن، وبالغوا، ووصفوا الجثث التي تكاثرت حتى ما تسعها القبور، والصراخ الذي علا حتى ما تتحمله الآذان، والآلام التي ازدادت حتى ما يطيقها بشر. فروَّعوا الناس وخوفوهم، على خوفهم، فما يستقر بهم قرار. . .
وقامت الحكومة، وانبرى الأطباء، يهدئون الناس ويطمئنونهم، ويرجعون إليهم ثقتهم بالعلم، ويضعون لهم المناهج الصحية، ويدلونهم على وسائل الوقاية: لا تشربوا الماء إلا من الأنابيب، وإن شككتم فيه فاغلوه، ثم صبوا عليه ماء الليمون، ولا تأكلوا الثمار إلا مسلوقة أو مغموسة بالماء المغلي، ولا تعملوا كذا إلا بكذا، ولا تصغوا كيت إلا بكيت. ثم تعالوا نعطيكم الدواء الواقي، وما بقي من القضاء إلا من قضاه. . ولكن لكل شيء أسباباً، ولكل مرض علاجاً، والذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء.
ونشرت هذه النصائح في الجرائد، وعلقت على السيارات، وقيلت في (الإذاعات)، وخطب بها على المنابر، وأسرع القارئون والسامعون يعملون بها، وينفذون ما جاء فيها، وحسب أولو الأمر أنهم قد أسمعوا الناس، وعلموهم، ووقوهم أسباب الردى، ولم يدر أحد بجيراننا الذين يسكنون (عشة حقيرة) خلال قصور الروضة العامرة، مبنية من جذوع النخل، مغطاة بالقش وبأنواع اللقي، لها باب صغير كأنه فتحة مغارة، لا شباك لها ولا نافذة، ولا ترى الشمس داخلها، ولا يجاوز الضوء بابها ولا يلجها إلا بمقدار. لا ماء فيها إلا ما يستقونه من ماء النهر فيضعونه في الجرار المكشوفة يلغ فيها الكلب، وتغسل فيها الآنية، ويسقط فيها الذباب، فتزداد أذى على أذاها، ولا نور إلا نور مصباح زيتي يكاد دخانه المتكاثف يطمس نوره الخافت، ولا نار إلا نار هذا الحطب الذي يوقدونه فيها ليطبخوا عليه، فيخرج دخانه من شقوق السقف، يملأ الحيّ، ويروع الغريب، فيظن أن البيت، (أعنى الكوخ) قد احترق. . . تنام في هذه (العشة) الأم (الشحادة) وأولادها والكلب والحمار الهزيل، وما لا يعلمه إلا الله من الفيران والصراصير والخنافس وسائر الهوام والحشرات والدبابات، لا يكلمون أحداً(744/11)
في الحي ولا يكلمهم أحد، قد خرجوا من دنيا الناس ولم يدخل الناس دنياهم. وما دنياهم؟ إن خيراً منها دنيا كثير من كلاب الأغنياء وخيولهم وقردتهم. وليس فيهم من يقرأ جريدة أو يبصر إعلاناً، أو يسمع (رادّاً) أو يحضر وعظ واعظ، أو خطبة خطيب، فلم يعلموا بما روّع الناس، وصدع خوفه قلوبهم، ولا عرفوا من طرق الوقاية كثيراً ولا قيلا
ولم هم عرفوها، لما استطاعوا أن يصنعوا شيئاً.
وأمثال هؤلاء الذين لم يدر بهم أحد كثير كثير. . إن نحن توقينا المرض، حملوه هم إلينا، فما أغنى عنا توقينا شيئاً، وإن اعتصمنا بالعلم والمال، فما لهم من علم يعصمهم ولا مال.
ولو كنا صدقنا الحملة يوم حملنا على المرض والجهل والفقر لوجدنا فيهم اليوم صحة تعينهم على احتمال المرض، وعلماً يمكنهم من فهم مناهج الوقاية، وما لا يقدرهم على تهيئة أسبابها. ولكنا أهملناهم فجئنا نتلقى عواقب هذا الإهمال، فإن أصِبنا اليوم بهم فيا طالما أصيبوا هم بنا، وإن شكونا من أذاهم لنا، فيا طالما شكوا هم من أذانا.
وهل شكوا حقاً؟ وهل تركنا لهم ألسنة تنطق بشكوى؟ أو أقلاماً تعبر عن نقمة؟ أما أخرسنا بالجوع ألسنتهم، وشللنا بالجهل أصابعهم، وحرمناهم الإنسانية حين جعلناهم حيوانات لا تنطق وما كان الإنسان إلا بالنطق إنساناً!
فانشروا الآن ما شئتم من نصائح، وأذيعوا ما أردتم من مناهج، إن أكثر الناس لا يقرؤونها، وإذا قرؤوها لا يعملون بها لأنهم عاجزون عنها، فوقوهم أنتم أسباب المرض لتقوا أنفسكم واعتنوا بهم ليبقوا في خدمتكم، ولكن لا تنموا عليهم بفعلكم، ولا تزعموا أنكم أحسنتم إليهم بصنعكم، لأنكم تطيلون حياتهم فتطيلون معها عذابهم، ولو تركتموهم يموتون لكان خيراً لهم (هم) وأبعد للمتاعب عنهم.
أما إن الخطر على هؤلاء المساكين منا، والخطر على الأمة منهم من مرضهم وجهلهم وفقرهم، أشد من خطر (الكوليرا) فاعملوا على دفعه، واعلموا أنكم إن لم تحيوهم بما في طبيعة العروبة من مساواة، وما في أحكام الإسلام من عدالة؛ أوشكتم أن تخالفوا بفعلكم العروبة والإسلام، وأن تؤيسوهم منها، وأن تضطروهم اضطراراً إلى التفتيش عن مصدر آخر للأمل لعلهم يظنون (ظناً كاذباً) أنهم واجدوه في الشيوعية، فيكونوا شيوعيين، ويومئذ تكون الطامة الكبرى. . .(744/12)
وانظروا هذا الوباء المروع، الذي أفزعكم وصدع خوفه قلوبكم، من أين جاءكم؟ تقولون: من الهند. . . نعم، ولكن ما جاء به حاج هندي، ولا تاجر ولا سائح، ما جاء به إلا هؤلاء الإنكليز، إنه لا يأتي منهم إلا الكوليرا، والصهيونية، وسورية الكبرى، فاعتبرا، وصدقوا، وانفضوا أيديكم منهم ومن مدارسهم، ومن بضاعتهم، إن الوباء الذي تنشره المدرستان الإنكليزيتان بجوارنا في الروضة، لا يقل عن هذا الوباء الذي تنشره معسكراتهم بجوار القنال، بل ربما كان شراً منه، لأن ذاك يقتل الأجساد، وهذا يفتك بالأرواح، ويعصف بما فيها من خيرات، ويذهب بما تنطوي عليه من حب لمصر وللعروبة وللاستقلال، ويجعل من أبنائها أعداء لها، فقاطعوا كل شيء إنكليزي، وأقيموا دونه سداً منيعاً، كهذا السد الذي تقيمونه دون (الكوليرا الإنكليزية)، وقفوا عليه الحراس الشداد، معهم الأسلحة المواضي، فلا ينفذ منه شيء إنكليزي قط، لا رجل ولا كتاب ولا فكرة ولا بضاعة ولا كوليرا ولا صهيونية ولا سورية الكبرى. . .
وبعد، فلا يبلغ بكم الجزع، فالخطب إن شاء الله يسير، والسلامة قريبة، والمرض زائل، وما أخشى على مصر المرض ولكن أخشى أن تنقشع السحابة، ويعود الصفاء، فننسى أن في مصر ملايين لم تصل إليهم هذه الحضارة، ولم يستمتعوا بشيء من متعها، ولم يصبهم من خير مصر إلا الأقل، وخيرها يصيب كل أجنبي عن مصر، آكِل لخيراتها كاره لها، مزدر لأهلها، وإن لهؤلاء حقاً صريحاً، حقاً أقرته الأديان والشرائع كلها، والإنسانية، وقواعد العدالة: هو أن يكونوا أصحاء الأجسام، متعلمين ما يفهمون به الخير من الشر، واجدين من المال ما يشترون به ضروريات الحياة. وننسى أن الله خلق الناس إخواناً، فلم يخلق بعضهم عبيداً لبعض، وأن عمرو بن العاص، أبطل العبودية من مصر وألغى (نظام الطبقات)، وسوْى بين الناس، في العهد الذي نسميه جهلا وغفلة عهد (القرون الوسطى)، وأنه من العار على الإنسانية وعلى الحضارة، وعلى مصر، أن تعود إليه مصر في (قرن العشرين).
وأن ننسى أن الإنكليز هم جاءونا بالوباء، وأنه لا يأتي منهم إلا هذا. . وأخشى أن نعود إلى معاملتهم وتحسين الظن بهم وبحضارتهم وأن لا نقطع على أنفسنا عهداً جازماً، مقسمين بقبور إخواننا هؤلاء الذين قضوا شهداء (الكوليرا الإنكليزية)، وبدماء شهدائنا الذين سقطوا(744/13)
صرعى على ثرى مصر برصاص الإنكليز من يوم وطئوا مصر غاضبين إلى هذه الساعة، وبأمجاد ماضينا، وأرواح أجدادنا، أننا سنقاطع كل شيء إنكليزي ولو كان الخبز الذي نأكله، والماء الذي نشربه، والهواء الذي ننشقه، وأن نموت أحراراً، إن لم نجد إلا حياة الذل حياة!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(744/14)
كَلْواذى
للأستاذ شكري محمود أحمد
إحدى طساسيج بغداد المشهورة، ومواطن اللهو المذكورة، لها ذكر في الأخبار والآثار، بل ربما كانت من أقدم المواضع الأثرية في العراق.
قال المسعودي في الكلام على الأمم ولغاتها ومواضع مساكنها ما نصه (الأمة الثانية: الكلدانيون، وقد ذكروا في التوراة بقوله عز وجل لإبراهيم (أنا الرب الذي أنجيتك من نار الكلدانيين لأجعل هذه البلاد لك ميراثاً). . . وكانت دار مملكتهم العظمى مدينة كلواذى من أرض العراق، وإليها أضيفوا، وكانوا شعوباً وقبائل منهم الأثوريون والجرامقة والأرمان ونبط العراق وأهل السواد. . . ثم يحدد مملكتهم هذه فيقول: وكانت بلاد الكلدانيين العراق وديار ربيعة وديار مضر والشام وبلاد العرب واليمن وتهامة والحجاز واليمامة والعروض والبحرين والشحر وحضرموت وعمان. . . ثم يقول بعد ذلك: وهذه جزيرة العرب كانت كلها مملكة واحدة يملكها ملك واحد، ولسانها واحد سرياني وعاصمتها واحدة هي كلواذى.
وقد دلت الحفريات التي أجريت في هذا الموضع على أنها من أقدم الأراضي المعمورة في العراق كما سنبين هذا في موضعه.
اسمها ومعناه:
اختلف المحققون في شكل اسمها وعدد حروفه، واختلافهم يدور على الحرف الأول والأخير منها. قال ياقوت في معجمه: كلواذى بالفتح ثم السكون والذال معجمه آخره ألف تكتب ياء مقصورة، وعلى هذا أيضاً صفي الدين بن عبد المؤمن في كتابه مراصد الاطلاع.
وجاء في كتاب محمد بن الحسن الحاتمي الذي سماه (جبهة الأدب) وابتدأ فيه بالرد على المتنبي أن الصواب فيه كِلْواذ بكسر الكاف وإسكان اللام وإسقاط الياء.
أما معناه فقد ذكر ابن الإعرابي: الكلواذ تابوت التوراة وقال الحاتمي: قلت له - يعني المتنبي - أخبرني عن قولك:
طلب الأمارة في الثغور ونشوة ما بين كرخايا إلى كلواذ من أين لك هذه اللغة في كلواذ؟ أحسبك أخذتها عن الملاحين. قال: وما الكلواذ؟ قلت: تابوت التوراة، وبها سميت، قال وما(744/15)
الدليل على هذا؟ قلت قول الراجز:
كأن أصوات الغبيط الشادي ... زيرٌ مهاريقٌ على كلواذ
الكلواذ تابوت توراة موسى عليه السلام. وحكى في بعض الروايات أنه مدفون في هذا الموضع، فمن أجله سميت كلواذ.
موقعها:
قال ياقوت: كلواذي طسوج قرب مدينة السلام بغداد، وناحية الجانب الشرقي من بغداد من جانبها، وناحية الجانب الغربي من نهر بوق. ثم قال: وهي الآن خراب أثرها باق، بينها وبين بغداد فرسخ للمنحدر. وعلى هذا أيضاً صفي الدين في مراصد الاطلاع، ولكنه زاد عليه: وهي أسفل من بغداد أحد أبوابها إليه، وهي قرة كثيرة عامرة.
وكان تحتها في القديم قرية عامرة اسمها مصراتا جاء ذكرها في معجم البلدان ومراصد الاطلاع. وكان بين كلواذي وقرى بنَّا فرسخان وكان من أعمالها قرية صغيرة اسمها الفِرْك، جاء ذكرها في شعر أبي نواس في هجاء إسماعيل بن صبيح كاتب الرشيد في قوله:
أحين ودعنا يحيى لرحلته ... وخلف الفرك واستعلى لكواذا
أتته فقحة إسماعيل مقسمة ... عليه أن لا يريم الدهرَ بغداذا
فحرفه رده لأقول فقحته ... أقم على ولا هذا ولا هذا
وإلى جانب كلواذي قرب نهر تامُرّا قرية أخرى اسمها الزعفرانية، ولا تزال هذه القرية عامرة تحمل هذا الاسم.
ومن أعمال كلواذي قرية بارى ذكرها ياقوت وصفي الدين قد بدئ بإعادة بناء هذه القرية حديثاً باسم (بغداد الجديدة) لأن الشركة المشرفة على البناء لم تعرف اسمها القديم. وقد كانت هذه القرية كثيرة البساتين والمتنزهات يقصدا أهل البطالة واللهو والمولعون بشرب الخمر، وقد ذكرها الحسين بن الضحاك الخليع في قوله:
أحب الغي من نخلات باري ... وجوسقها المشيد بالصفيح
ويعجبني تناوح أيكتيها ... إليّ بريح حوذان وشيح
ولن انسى مصارع للسكارى، ... ونادية الحمام على الطلوح(744/16)
وكأساً في يمين عقيد ملك ... تزين صفاته غرر المديح
أما موقعها بالنسبة إلى خطط بغداد في هذا العصر ففي معسكر الرشيد الذي كان يسمى معسكر الهنيدي ومدينة العمال ومخيم الأرمن وحلبة السباق وتل محمد وتل حرملة، وناحية الكرادة. وربما كان هذا الاسم (كرادة) تطوراً لاسمها القديم كلوازي.
التنقيبات في كلوازي: أجريت تنقيبات كثيرة في بعض مناطق كلوازي، عثر فيها المنقبون على أمور مهمة جداً في تاريخ العراق، وأقدم من قام بالحفريات في أطلالها البحاثة الألماني فلكس جونس سنة 1850 وكتب كتاباً باللغة الألمانية عن الحفريات بين النهرين، ومما عثر عليه في تل محمد ألواح كثيرة من اللبن المشوي كما عثر على كتابة لحمورابي. (ج 2 ص 95)
وهناك تل آخر يبلغ نصف قطره 150 متراً اسمه تل حرْمله يفصله عن تل محمد نهر مندرس وأرض مرتفعة طولها 600 متراً وقد اعتبرها هرتزفلد بقايا مدينة مندرسة.
ولما أرادت الحكومة العراقية أن تبني مدينة للعمال وصغار الموظفين سنة 1945 قامت مديرية الآثار العراقية بإجراء التنقيبات في المنطقة التي بين تل محمد وتل حرملة لمعرفة طبيعة هذه الأرض المندرسة.
وقد أظهرت الحفريات أن تل حرملة يمثل سوراً حصيناً على شكل مربع غير منتظم له باب واحد في الجهة الجنوبية الغربية وعلى طرفيه أبراج عظيمة هائلة.
وعثر بنتيجة الحفر على معبد كبير طوله 28 متراً وعرضه 18 متراً، على بابه أسدان بحجمها الطبيعي، كما عثر على معبد أصغر منه طوله 15 متراً وعرضه 14 متراً وعلى بابه أسدان أيضاً من الطين المشوي. وعثر على عدة أبنية مماثلة، وعلى بناية واسعة طولها 25 متراً وعرضها 23 متراً ينم شكلها على أنها كانت موضع الإدارة، وعثر على بنايات صغيرة ينم شكلها على أنها كانت دوائر حكومية وخزائن للوثائق الرسمية.
أما الآثار التي عثر عليها في هذا التل فأهمها 1300 لوحة من مختلف الأنواع والحجوم، وكلها من اللبن المشوي، وفي بعضها مستندات يستعملها الكهنة وهي تحمل اسم الإله (خاني) واسم زوجه (نيسابا) كتبت داخل طغراء مربعة الشكل.
وفي إحدى هذه الألواح قائمة بأسماء مدن، كما عثر على ستة تماثيل من الطين المشوي(744/17)
وهي مهشمة لقدم العهد
ذكرها وأخبارها: كانت كلواذي ملتقى الفساق ومأوى العشاق، يجتمع فيها أرباب التهتك والدعارة يعقدون فيها مجالسهم بين رياضها وعلى حفافي أنهارها، يشربون ويفجرون، يقيمون فيها الشهور بين الدنان والقيان والمعازف، مقيمين على إطاعة إبليس في هتك ستر المعاصي واقتراف الآثام.
فهذا أبو نواس قيل له مرة: هل تريد الحج؟ فأجاب: نعم إذا فنيت لذات بغداد. . وأني له ذلك وهو في بغداد التي جمعت الظرف والجمال والمتعة والثراء. . . وهب أن بغداد ضاقت به فلم يطق الحياة فيها حتى دفعت به إلى الحج فكيف يتخلص من قطربل وكلواذي، وهؤلاء شذاذ بغداد ملء السمع والبصر. . . وفيهم يقول:
وقائل هل تريد الحج قلت له: ... نعم، إذا فنيت لذات بغداذ
أما وقطربل مني بحيث أرى، ... فقنّة الفرك من أكناف كلواذ
فالصالحية فالكرخ التي جمعت ... شذاذ بغداد ما هم لي بشذاذ
ومن ظريف ما هجيت به بغداد قول بعضهم:
اخلع ببغداد العذارا ... ودع التنسك والوقارا
ولقد بليت بعصبة ... ما أن يرون العار عارا
لا مسلمين ولا يهو ... د ولا مجوس ولا نصارى
فكيف يترك أبو نواس هذه الحياة المرحة ويذهب إلى الحج؟. . ولكن الرشيد لما خرج يريد الحج شاء أن يكون في ركابه شاعرنا الظريف أبو نواس، فاصطحبه معه، وفي مكة نظم أرجوزته المشهورة، وهي أروع ما قيل في الزهد أولها:
إلهنا ما أعد لك ... مليك كل من ملك
فلما عاد أبو نواس إلى بغداد أشيع أنه تنسك بعد حجه، وعكف يكفر عن ذنوبه، وهذا خبر ظريف، وكيف يكون ذلك وهو في بغداد بين عصابته من أحلاس الكأس وفرسان الخمر، ثم هذه كلواذي وطيزناباذ، وتلك قرى بنا قد توزع قلبه بين حاباتها وظبائها، فكيف يزهد ويرعوي؟ ويترك هذه الحياة الضاحكة المصفقة؟ لذلك راح يكذب هذا الخبر - خبر النسك بأبيات ظريفة منها:(744/18)
قالوا: تنسك بعد الحج قلت لهم: ... أرى وأرجو وأخشى ظيزناباذا
ما أبعد النسك من قلب تضمنه ... قطربل فقري بنا فكلواذا
فإن سلمت، وما قلبي على ثقة ... من السلامة، لم أسلم ببغداذا
ومن الغريب أن مطيع بن اياس وهو رأس العصبة الماجنة، يذم بغداد كما يذم كلواذي ويأسف على عمره الذي زال عنه وأسكنه بغداد، ثم يدعو على بغداد وكلواذي بالخراب قائلا:
حبذا عيشنا الذي زال عنا ... حبذا ذاك، حين لا حبذا ذا
زاد هذا الزمان شراً وعسراً ... عندنا، إذ أحلنا بغداذا
بلد تمطر التراب على النا ... س، كما تمطر السماء الرذاذا
خربت عاجلا واخرب ذو العر ... ش بأعمال أهلها كلواذا
كان كلواذي ميناء مدينة بغداد، ترسو فيها السفن التجارية القادمة من واسط والبصرة أو القادمة من شمال بغداد في نهر دجلة أو نهر تامرا، وقد كانت عامرة على عهد العباسيين تمد بغداد بمختلف المنتوجات الزراعية، بل كانت من الأسباب الهامة التي جعلت المنصور يختار موضع مدينة السلام بغداد في هذا المكان.
قال المقدسي إن المنصور انتصح بما أشير عليه في بناء عاصمة ملكه في هذا الموضع، ويذكر هذا الجغرافي أن أصحاب المنصور قالوا له (تنزل في بغداد فإنك تصير بين أربعة طساسيج، طسوجان في الجانب الغربي وطسوجان في الجانب الشرقي، فأما اللذان في الجانب الغربي فقطربل وبادوريا وأما اللذان في الجانب الشرقي فنهر بوق وكلواذي).
وبقيت عامرة بقراها مدة طويلة من الزمن، وقد خرجت على عهد ياقوت أي في القرن السابع الهجري لأن ياقوت كانت وفاته سنة 626هـ.
كانت أرض كلواذي منخفضة لذلك كانت مهددة بالغرق كلما زادت المياه في دجلة. ففي سنة إحدى وأربعين وستمائة مثلا زادت دجلة زيادة مفرطة وغرقت مواضع كثيرة في بغداد فعمل الناس سداً بين بغداد وكلواذي، وانتقلوا خلف السكر، وصليت الجمعة على طرف الخندق مما يلي دار المسناة - وهي القصر الموجود في القلعة حالياً -.
قال ابن الفوطي وفي هذه السنة 641هـ احكم السد الذي بين بغداد وكلواذي، وخرج تاج(744/19)
الدين بن الدوامي حاجب باب النوبي إلى باب كلواذي - هو الباب الشرقي حالياً - وأحكم السكر وبات عليه).
وقد شهدت كلواذي المعارك بين الأمين والمأمون، ودارت فيها المعارك بين الجيشين، قال المسعودي: لما تقدم هرثمة بن أعين إلى بغداد نزل زهير بن المسيب الضبي أحد قواده في مصراثا مما يلي كلواذي، وغشى ما في السفن من أموال التجار الواردة من واسط والبصرة، ثم تقدم فنزل كلواذي فتأذى الناس به، وحمد له خلق من العيارين وأهل السجون والشطار.
وكان الشطار والعيارون يحاربون المامونية وهم عراة في أوساطهم المآزر، وقد اتخذوا لرؤوسهم واوخل (؟) من الخوص سموها الخوذ، ودرقاً من الخوص والبواري محشوة بالرمل والحصى، وقد خرجت العراة ذات يوم في مائة ألف رجل إلى كلواذي بالرماح والسيوف والقصب والطرادات ونفخوا في القصب وقرون البقر وزحفوا على المأمونية في كلواذي حتى أخرجوهم منها
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية(744/20)
فلسفة طاغور في العلم والعمل
للأديب عبد العزيز محمد الزكي
يعرف عن طاغور أنه صرح في مناسبات عدة، أنه ليس بفيلسوف ولم يحاول قط أن يبتدع مذاهب جديدة في الفلسفة، وأنه كان يعمل دائماً على إحياء الحكمة الهندية القديمة والتعاليم الهندوسية حتى تساير روح العصور الحديثة واتجاهات المدنية الغربية، ولكن بدون أن تفقد في الوقت نفسه شيئاً من أصالة مقوماتها الروحية، أو تتعارض مع نزعات الهنود الأساسية.
أحسب أن أرى هذا عمل شاق! إذ كيف يمكن التوفيق بين تعاليم متعارضة ومبادئ متناقضة؛ فإن تعاليم الهند الروحية تزهد في متع الحياة، وتحتقر ميدان المادة والقوة، وتنفر من الحياة العملية النافعة، وتكره أن تخوض معترك التوسع الاستعماري وبسط النفوذ، ولا تتمسك إلا بالفضائل الخلقية والقيم المعنوية، وتدفع الهندي لأن يؤمن باتحاد الوجود الشامل، وتلزمه بان يسعى لكي يدرك الله ويلاشي فرديته فيه، فيشعر بالوحدة المطلقة التي تبعث في نفسه السعادة والحرية. بينما مبادئ الحياة الغريبة ترحب بمختلف متع الدنيا الحسية، وتحث على كل عمل يجلب أي نفع مادي، وتشجع على الاندماج في الحياة الاستغلالية والمغامرة في ساحة المادة والقوة، كما لا تتمسك إلا بالفضائل النفعية والقيم العملية، ولا تكترث للدين بقدر ما تكترث للدنيا؛ فأقبل الغربي على ملاذ الحياة الأرضية إقبالا جنونياً غافلا عن أصول تعاليم ديانته المسيحية التي تنشد الخلاص من الحياة التي تجذبه مفاتنها، فشمله الطمع والجشع والأنانية، ووقع فريسة للفوضى والاضطرابات والقلق، وحرم من الأمن والسلام والاطمئنان.
ويخيل إليّ أن طاغور لم يفكر في أن يوفق بين هذه النزعات المتضاربة، وإنما لاحظ على الغرب شغفاً عميقاً بالعلم وجداً مستمراً ونشاطاً متواصلا في العمل فاستحق كل ذلك منه الإعجاب والتقدير. بينما وجد تعلق الهند بالزهد والانصراف عن الحياة شغلها عن كل شيء إلا عن تحقيق الاتحاد بالله والاندماج في اللانهاية؛ فأصيبت بالجمود والموت، وكسيت بصبغة التقاليد العتيقة التي لا تلائم روح الحياة العصرية، وبدت الهند كأمة كسولة عاجزة في عالم كله حركة وتغير وتقدم فأراد طاغور أن يبعث حيويتها من جديد، ويخلع(744/21)
عنها رداء القدم والعجز؛ وأن يبين لها الوسائل التي تمكنها في الاندماج في الحياة العملية، والمساهمة بنصيب وافر في تقدم العلم وترقية العمل. وكان طاغور في ذلك كله حريصاً كل الحرص على المحافظة على الطابع الهندي، فإن بدت كتاباته كأنها تحث الهنود على كشف القوانين العلمية، والابتكار في ميدان العمل، ومحاكاة الغرب في مختلف نشاطه الحضاري، إلا أنه عمد أن لا تكون بواعث الهندي أو غاياته في بحثه في العلوم وتجديده في العمل هي عين بواعث الغربي وغاياته، كما حرص على أن تستمد هذه البواعث وتلك الغايات من صلب الحكمة الهندية عامة، ومن أصول الدين الهندوسي خاصة.
ولكي نفهم كيف استعان بالكتب المقدسة في تشكيل دوافع طلب العلم، وأهداف أداء العمل المستمر المتجدد حسب المزاج الهندي الخالص، يحسن بنا أن نعرج أولا إلى نظرات الدين الهندوسي - كما فهمه طاغور - إلى النفس الإنسانية التي تكشف المعرفة وتعي العلم، وإلى الإرادة البشرية التي تنجز الأعمال الدينوية ويتنكر فيها.
أولا: أما عن النفس فيقول طاغور إن الدين الهندوسي يؤكد لنا أن الكون وحدة شاملة، تضم كل ما يوجد فيه من جماد ونبات وحيوان وإنسان، ويتجلى الله فيها جميعاً. وأن النفس الإنسانية جزء من أجزاء الكون المتعددة المتنوعة التي يتجلى فيها الله، إلا أن لها استقلالها الخاص، ووجودها المنفرد، وكيانها القائم بذاته بالرغم من اتحاد أجزاء الكون الشامل، وتجاذبها الشديد. إذ أن استقلال النفس له قيمته، فعن طريقة يمكن للنفس أن تحقق وحدتها بالكون في صورة أروع وأقوى مما لو كانت راقدة فيه غير شاعرة باستقلالها، فضلا عن أن هذا الاستقلال لا يفصلها تماماً عما في الوجود، ولا يقطع صلتها بالحقيقة الكامنة في جميع نواحي الكون، وفي أعمق أغوار النفس. فهي مرتبطة بالله وكيانها قائم به، بل إن كمالها لا يتحقق ما لم تشعر بحضوره في دخيلتها، ولا تفز بحريتها الروحية إلا إذا خضعت لإرادته، ولا تحس بالغبطة إلا إذا اندمجت فيه وأمحت فرديتها في لا نهايته.
وأما إذا شعرت النفس بنوع من الانفصال المطلق عن الكون المتحد الذي يكمن الله في جميع أشيائه، فإن مرجع ذلك إلى حبس حياتها في حدود فرديتها، وإلى خداعها بالمظهر الكاذب وإلى استسلامها لإغراء الوهم الباطل الذي يوحي إليها بأنها غاية ذاتها، ويشغلها عن أي حقيقة أخرى تتعدى هذه الذات، ويوقفها تحت تأثير شهوات الإنسانية والكبرياء(744/22)
والغرور فتندفع في طريق الآثام والجرائم التي تحجب عن النفس حقيقتها المستعمرة فيها، فتجهل أن الكون تجمع أجزاءه وحدة تامة يتجلى فيها الله ولا تملك أن تحقق كمالها بالاتحاد باللانهاية، وتفشل في إحراز حريتها الروحية، تحرم من الشعور بالحب الذي يفيض بالغبطة والسرور. وإذا أرادت تلك النفس الآثمة أن تحقق كمالها، يجب أن تخرج ذاتها في حدود فرديتها العتيقة إلى نطاق اللانهاية الفسيح، وتسعى لأن تتحرر من أسر المظهر، وتكشف عن زيف الباطل؛ بأن تفد نفسها لمعرفة حقيقة وحدة الكون عن طريق معرفة قوانين الطبيعة العلمية، وعن طريق إنكار الذات وفعل الخير وتحذير النفس من الشهوات الدنيئة والرغبات المنحطة وعن طريق ملاشاة قرويتها في اللانهاية؛ فيجري فيها ذلك الحب الذي يجعلها تدرك حقيقة الجوهر الكامن فيها، وتعلم أنها في وحدة تامة مع الله والطبيعة، وتفوز آخر الأمر بكمالها.
يفهم مما تقدم أن معرفة حقيقة اتحاد الكائنات الشامل هو السبيل الوحيد لكمال النفس الإنسانية، التي لا يمكن أن تدرك هذه الحقيقة الكبرى إدراكا عميقاً صادقاً، إلا إذا تكشف لها أولا ما تحتوي عليه هذه الحقيقة الكبرى من حقائق صغرى متعددة، ينطوي كل منها على أحداث متشابهة لا نهاية لها، لأن معرفة هذه الحقائق الصغرى، فضلا عن أنها تغنينا عن جمع أحداث متشابهة تشغل الذاكرة، ولا تزيد من معرفة النفس شيئاً، ولا تؤدي إلى معرفة شيء سواها؛ فإنها تمهد لنا السبل إلى إدراك الحقيقة الكبرى التي تعتبر كل حقيقة صغرى وجهاً من وجوهها. فإن معرفة قانون الجاذبية مثلا، لا يحوجنا إلى جمع أحداث تماثل سقوط التفاحة من الشجرة ونزول المطر على الأرض؛ ونضع أيدينا على حقيقة عامة تفتح آفاقاً تقودنا إلى اللانهاية التي تبلغ كل الحقائق الصغرى العامة.
فإن معرفة قوانين الطبيعة على ذلك، والجد في الكشف عن ما جهل منها، أمر ضروري يمهد لنا إدراك حقيقة اتحاد الطبيعة بالله، ومعرفة وحدة القانون في وجوه الطبيعة المختلفة أي أن طلب العلم لا يقصد به مجرد التثقيف وتوسيع أفق المعرفة أو أن معرفة قوانين الطبيعة ليست هي في ذاتها غاية بحثنا في العلوم فإن قانون الجاذبية يعني أكثر من سقوط تفاحة على الأرض، وأن قانون تطور الأنواع يعني أكثر من تعاقب المخلوقات؛ إذ أن معرفة مثل هذه القوانين يفسح لنا الطريق للاندماج في مكونات الطبيعة والاتحاد بمحتوياتها(744/23)
المتنوعة، فنحس أن هناك جسما شاملا واحداً عالمياً، ونشعر أن هذه القوانين الطبيعية تشملنا وترتبط بنا برباط واحد، وندرك أن أجسادنا وأعضاءنا أشياء عالمية، وأن البخار والكهرباء من أعصابنا وعضلاتنا، فنعرف أن هذا العالم جميعه ما هو إلا جسم واحد ممتد لنا.
فالقوانين الطبيعية لا تنفصل عنا، وتدل على أن هناك صلة وثيقة بين الإنسان والطبيعة، فهي ملك لنا، ومعرفتها تمدنا بالقوة المعنوية إذا اتخذناها سبيلا للاتحاد بسائر الأشياء، وتضعفنا إذا استخدمناها في مقاومة أغراض الطبيعة في الحياة. إذ لو انصرف العلم إلى تسخير هذا العالم لخدمتنا، وبسط نفوذ الإنسان على كل ما يحيط به، ونصره على سائر العوائق التي تعرقل مكافحته للطبيعة، أو تحول دون استعباده لشعوب الأمم الأخرى، لفقد قيمته الحقيقية، وبعد عن غايته الصحيحة، وخضع لشهوات الإنسان الدنيئة التي تفسد الانتفاع بالعلم، وتدفع الإنسان إلى القوة والوحشية والجشع، فترتكب الجرائم، وتندلع الحروب، فيعم الخوف والهلع والقلق والاضطراب، أما إذا قصد بالعلم الاندماج في موجودات الكون، والاتحاد باللانهاية، والخضوع لإرادة الله، لتمردت روح الإنسان وأمحت حقيقتها في الحقيقة الكبرى، فتتمتع بالحب، وتنعم بالسرور والغبطة.
ثانياً: وما فهمه طاغور عن النفس من الكتب الهندوسية المقدسة، وكتب حكماء الهند، يشابه ما فهمه منها عن الإرادة فإن قال إن للنفس وجوداً مستقلاً عن الكون المتحد، فإنه يقول أيضاً إن للإرادة حرية السيادة على شئون عالمنا الصغير. وإذا ذكر أن استقلال النفس المطلق وهم باطل، وفي المظهر، وأنها جزء من أجزاء الوجود المتحد، وتسمو وجودها من الله، فإنه يذكر كذلك أن حرية الإرادة المطلقة وهم باطل، وفي المظهر، أنها لا تعمل إلا في حدود، وأنها جزء من إرادة اللامتناهي وملكا له.
البقية في العدد القادم
عبد العزيز محمد الزكي(744/24)
3 - مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:
حق الاعتراض (الفيتو)
من المبادئ المقررة أن للقانون الدولي أيضاً أشخاصه ورعاياه تسري عليهم أحكامه التي يخضعون لها ويحترمونها، وقد تعددت آراء الفقهاء حول طبيعة هؤلاء الأشخاص، فقالوا بأنهم الأفراد العاديون في رأي، وبأنهم الدولي في رأي ثان، وبأنهم الأفراد مجتمعين في دولهم في رأي ثالث، وهناك آراء أخرى نضرب عنها صفحاً لنذكر أن الاتجاه الغالب هو أن شخص القانون الدولي هو الدول، وما دام الأفراد متساوين أمام القانون العادي كذلك تتمتع دول العالم بالمساواة صغيرها وكبيرها، فنرى القانون الدولي يعلن ذلك صراحة، وتأتي المواثيق الدولية فتكرر حق المساواة، ومن بينها ميثاق الأمم المتحدة الذي أكد في ديباجته الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال وللنساء وللأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، والذي جاء ضمن مبادئه أن الهيئة تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها.
ولكن هذه المساواة التي تكلمنا عنها لا تعدو مساواة الدول أمام القانون، فإذا ما خرجنا بها إلى ميدان الحقائق العلمية وإلى حيز الواقع والتطبيق، نجدها تتلاشى أمام حقيقة لا مراء فيها: وهي أن هناك دولاً قوية تهيمن، وأخرى صغيرة تذعن، والقوة هنا هي قوة المصالح، ولم يفت الفقهاء وهم يعقبون على حق المساواة أن يشيروا إلى هذه الحقيقة الواضحة، ويجدوا لها تطبيقات عدة حتى في عصبة الأمم نفسها، حيث كانت الدول الصغيرة تفسح الطريق لسيطرة الدول القوية عليها في بعض اللجان، وذلك لشعورها بقوة مصالحها فيما يختص بالغرض الذي أنشئت من أجله هذه اللجان، وتبدو مظاهر هذه السيطرة مثلاً في مسألة التصويت على القرارات كي تكتسب قوة التنفيذ، فيكون للدولة القوية صوتان أو أكثر وللدولة الصغيرة صوت واحد، وقد يشترط لتنفيذ القرارات أن تؤيدها الدول القوية، ولو كان لكل منها صوت واحد. إن الحديث عن هذه المظاهر يمتد إلى نواح عديدة. . . وكلها شاهد على أن نزعة السيطرة والغلبة، وقد تكون الأثرة ما زالت هي الغالبة في مجالات السياسة الدولية، فالعقلية المضحية التي تفهم المساواة على وضعها الصحيح لم توجد بعد، ولا يخلو ميثاق هيئة الأمم المتحدة من مواضع كثيرة يمكن نقده فيها على ضوء(744/25)
ما تقدم والصورة القوية البارزة لذلك يمكن البحث عنها في مجلس الأمن وهو الأداة التنفيذية للهيئة.
وسيجد القارئ للميثاق طلبته في مشكلة التصويت حيث تطرح الدول القوية جانباً مسوح الرهبان لتكشف عن حديدها ونارها إذ أن هذه المشكلة من المواطن شديدة الحساسية التي تثير في أدق صورها علاقة الدول العظمى بعضها ببعض ثم علاقة الدول العظمى بالدول الصغرى وتكييف تلك العلاقات.
وقد اتفق في (مبارتن أوكسي) على مبدأ إجماع الدول العظمى عند اتخاذ قرار في أعمال العنف التي تتخذ ضد دولة تقوم بعمل من أعمال العدوان. . ولكن قام الخلاف على إجراءات التصويت في المسائل الأخرى. . فبقيت المسألة دون حل، حتى انعقد مؤتمر (يالتا) في فبراير سنة 1945 وقام الرئيس (روزفلت) بإزالت ما كان هنالك من تعارض في وجهات النظر فوضع اقتراحاً حاز قبولاً من كل من (الرفيق ستالين) و (تشرشل) كما عرض على فرنسا والصين فوافقتا عليه. . وتقضي قواعد التصويت التي اجتمع عليها الأقطاب في يالتا بأن يكتفي بأغلبية سبعة أصوات من أحد عشر صوتاً بالنسبة لجميع قرارات المجلس على أن يكون من بين هذه الأغلبية أصوات الدول الخمس العظمى مجتمعة. . . وهذه القاعدة لا يرد عليها سوى استثنائين: الأول يتعلق بالإجراءات ويكتفي فيها بأغلبية سبعة أصوات دون تمييز بين الأعضاء الدائمين وغيرهم.
والثاني يختص بأي نزاع يعرض على المجلس وتكون إحدى الدول الأعضاء طرفاً فيها فيجب عليها الامتناع عن التصويت.
غير أن الخلاف بين الدول قام في مؤتمر (سان فرنسيسكو) حول هذا القرار وحاولت الدول الصغرى وكانت تتزعمها أستراليا محاولة صادقة في سبيل تعديله لأنه يتفرع عن هذا القرار أنه يكفي أن تمتنع إحدى الدول العظمى عن التصويت أو تعارض القرار وهذا هو حق الاعتراض أو الفيتو لكي يستحيل على مجلس الأمن إصدار القرار المراد إصداره. .
ولقد نددت الدول الصغرى بحق الفيتو هذا ووضعته بأنه سيف مصلت فوق الرءوس وأن أحكام القانون والعدالة وحقوق الدول في الحرية والمساواة والسيادة ستصير كلها كلمات(744/26)
جوفاء يمكن لأية دولة عظمى أن لا تعيرها اهتماماً طالما كان في يدها هذا السلاح الذي تنهار أمامه جميع الادعاءات.
ورغم هذا الدفاع العادل فقد باءت محاولات الدول الصغرى بالفشل. . واكتفت بتأكيد أصدرته الدول العظمى أثناء المناقشة ومفاده أنها في استعمال حقوقها في التصويت سيحدوها دائماً الإحساس بتبعاتها نحو الدول الصغرى وأنها لن تستعمل حق الاعتراض إلا في أضيق الحدود.
نستطيع أن نفهم إذن مما تقدم أن حق الاعتراض هو - أولا - نص من نصوص ميثاق هيئة الأمم جاءت به المادة السابعة والعشرون، وأنه - ثانياً - ميزة تعتذ بها الدول الكبرى وتحرص عليها أشد الحرص.
ولما كان هذا الحق نصاً من نصوص الميثاق، فهو - كبقية النصوص معرض للتفسيرات المغرضة التي تتلاءم مع أهواء كل من الكتلتين، الشرقية والغربية، وكان من المحتوم أن يثور حوله الخلاف ويكثر الجدل لا سيما أنه يعد من أهم النصوص بل أقواها على الإطلاق.
استعملته الكتلة الشرقية في مسألة البلقان وحدها ثلاث مرات، ولاشك أنها بذلك قد فوتت على غريمتها أغراضها وخططها الأمر الذي أثار حفيظتها ودفعها هي الأخرى إلى استعماله أخذاً بالثأر والانتقام. . . ولعله من المؤسف حقاً أن تكون الشقيقة إندونيسيا ضحية للاستعمال السيئ لحق الاعتراض مما حرك سخط الضمائر الحرة على الكتلة الغربية التي كانت تلوح به أيضاً أثناء نظر القضية المصرية.
ومهما يكن الآراء فإن من المحقق أن الدول العظمى قد نقضت وعدها السابق، وأصبحت تستعمل حق الاعتراض طوع الأهواء والشهوات، ولعل أعظم دليل على ذلك ما حدث ومازال يحدث في طلبات الانضمام إلى هيئة الأمم، وكان من جراء ذلك كله أن تعود صيحات الدول - لاسيما الكتلة الغربية - منددة بسوء استعمال حق الاعتراض في اجتماع الدورة الحالية للجمعية العامة فارتفعت صيحة تقول: إن استعمال الدول الكبرى لحق الفيتو قد شل العمل في سبيل تحقيق السلام العالمي، وأن ثمة خطراً من إساءة استعماله مما قد يجعل استتباب السلام مستحيلا.(744/27)
وتجاوبت أخرى تقول إنه ليس من المغالاة في شيء أن بناء هيئة الأمم المتحدة لابد أن ينهار يوماً ما بفعل الضربات المستمرة التي تصيبه من معول الفيتو، وأنه ينبغي أن يختار العالم بين هيئة الأمم المتحدة والفيتو إذ لا قبل لنا بهما معاً ولا يبعد أن نفقد الاثنين عما قريب.
ورغم أن الأرجنتين هي التي أثارت هذه القضية في الجمعية العامة إلا أن الولايات المتحدة هي التي تزعمت الحركة المناهضة، واقترح (مارشال) وزير خارجيتها في خطابه الذي ألقاه أن تقوم (هيئة تنفيذية للسلم والأمن الدولي) تتكون من جميع أعضاء الجمعية العامة، وهذا الاقتراح خطير جداً نستطيع أن نفهم منه أشياء كثيرة.
وتبدو خطورته إذا ما عرفنا أن لمجلس الأمن اختصاصين: يتعلق الأول منهما بحل المنازعات حلا سلمياً أو بعبارة أدق حل المنازعات التي يكون من شأن استمرارها تعريض السلم والأمن الدولي للخطر، ويختص الثاني بالأحوال التي يقع فيها تهديد للسلم أو إخلال به أو حصول عدوان معين.
وعلى ذلك يكون هدف مارشال أن ينتزع الاختصاص الأول لمجلس الأمن لتقوم به الهيئة التنفيذية المقترحة، وإذا عرفنا أن حق الاعتراض هو السائد في جميع أعمال مجلس الأمن بنوعيها استطعنا أن نفهم أن الاقتراح يرمي إلى إبعاد حق الاعتراض عن المسائل التي من الاختصاص الأول لمجلس الأمن والتي يراد إلصاقها بالهيئة المقترحة وهي المسائل المتعلقة بالسلم والأمن الدولي ثم قصر هذا الحق على الاختصاص الثاني أو ما عبر عنه مارشال بالحالات التي تضطر فيها هيئة الأمم المتحدة إلى اتخاذ إجراءَات عسكرية أو اقتصادية. ولعل من المفيد أن نقدم للقارئ بعض فقرات من خطاب مارشال يشرح فيها وجهة نطره فيما يتعلق بهذا الاقتراح حين قال:
(إنه يتسنى بذلك أن نبعد تهديد استعمال الفيتو في المسائل التي تشير إليها المادة السادسة من الميثاق وهي التي تنص على حل الخلافات حلا سلمياً وإن حق الفيتو قد منع مجلس الأمن من القيم بوظيفته الحقيقة). .
ومن العجيب أن تكون الولايات المتحدة هي التي اقترحت نص الفيتو، وهي نفسها التي تحمل عليه الآن حملة شعواء. . والتعليل لذلك التناقض قد وضعناه من قبل في يد القارئ:(744/28)
وهو ذلك التنافس المرذول بين الكتلتين الشرقية والغربية على مصير العالم التعيس. إن نصوص الميثاق لا تفسر أو تطبق حسب مقتضى المنطق والعقل ولكن تجتهد كل كتلة في أن تفسرها بما يتفق مع مصالحها وينزل بالطرف الآخر أشد الإضرار، ويعلم الدارسون للقانون أن العلاقات الدولية مازالت في دور الطفولة وكان الواجب أن نبعد النصوص الخطرة من تنظيم هذه العلاقات كما نبعد الألعاب الخطرة عن متناول أطفالنا.
لقد قلنا إن حق الاعتراض ميزة تعتز بها الدول الكبرى وتحرص عليها أشد الحرص لأنه بمثابة سلاح في يدها تمزق به الدول الصغرى كلما احتاجت إلى طعام جديد، فالولايات المتحدة تريد إبقاءه مع تقييده وتحديده بالحدود التي ذكرناها، وروسيا السوفيتية تجاهد في إبقاء النص كما هو دون تغيير أو تعديل، وبريطانيا - كما جاء على لسان رئيس وفدها في الجمعية العامة - لن تقترح إلغاء حق الفيتو ولكنها تشعر فقط بأن هذا الحق قد أسيء استعماله، وليس علاج ذلك تغيير ميثاق هيئة الأمم المتحدة ولكن معرفة ما إذا كان العالم يؤيد بريطانيا في اعتقادها بأن حق الفيتو قد أسيء استعماله أم لا؟!
وبهذه المناسبة نقول إن اقتراح مارشال يقوم بذاته دليلا على أن بناء ميثاق هيئة الأمم لم يقم على دعائم ثابتة، وأن مجرد الحديث عن تغيير الميثاق أو تعديله مدعاة لأن توزن الثقة به من جديد.
إننا لا نريد بقاء هذا السلاح في يد خمس دول لترهب به بقية دول العالم بل إن مصير الإنسانية أجل من أن تتحكم فيه شرذمة تناسق وراء أهوائها وشهواتها. والرأي الصائب أن تتمسك الدول بمبدأ المساواة في السيادة، وحكم الأغلبية في تنفيذ القرارات، وألا تدع لأية قوة سبيلا عليها سوى سلطان القانون والعدالة.
وأكرر في الختام أن هناك بعض المآخذ الأخرى على هيئة الأمم ويمكن جمعها تحت عنوان (بوليس الأمن الدولي) فإلى اللقاء.
عبد الحميد عثمان عبد الحميد
كلية الحقوق(744/29)
ألحان ثائرة
(مهداة إلى الصديق القديم محمود فهمي النقراشي)
ألق عن وجهها الغضوب النقابا ... لا تخاصم إلى الذئاب الذئابا
أمِرَ الأمرُ فادّرعهم شيوخاً ... عاقروا الصبر، وادّرعهم شبابا
وأدرك لحنك الذي أيقظ الثو ... رة، واخُمر في صَهْده الأعصابا
نحن في عالم تحيفه الشك ... وضل الصواب فيه الصوابا
أمة تنشد السلام. . . فما با ... ل حمام السلام أمسى غرابا؟!
أي أمثولة أصم بها الدا ... عي وإن هاج ثائرين غضابى
معبد صور العدالة في الأر ... ض إلها، والأمن فيها نصابا.!
ما لرهبانه العجائز كانوا ... أول الملحدين لما أهابا. . .!
ما لألحانه الجميلة باتت ... فوق أطلاله بكا ونُعابا؟!
إنما نحن أمة تمضغ الحق ... د فما بالنا نعاف اللُّهابا
وإذا الحق لم يصادف سميعاً ... أوشك الحق أن يحول احترابا
ليس في شرعة الطواغيت غير النـ ... ار رباً، وغيرها محرابا.!
والذي يطلب الحياة سلاماً ... كالذي يطلب الحياة سرابا
ذل من يركب الرجاء وفي كف ... يه ظفر يذود. . ذل وخابا
طاهر محمد أبو فاشا(744/30)
من وراء المنظار
من خوف الكوليرا في كوليرا!
دخلت أزور ابن عم لي في داره فلقيتني زوجه في الدهليز وما وقع بصرها عليَّ حتى قالت وهي تضحك: هلم فهذا منظر خليق بأن تراه من وراء منظارك، ولقد خطرت ببالي الساعة وأنت على السلم؛ وقادتني إلى حجرة الطعام حيث كان زوجها يتهيأ لتناول عشائه.
ودخلت في سكون ولم أحيّ فلم ينتبه إليَّ، ونظرت فإذا بالمسكين يجلس إلى المائدة وقد وضع رجله اليمنى في (حلَّة) على الأرض عن يمين مقعده تبينت فيها سائلا ما ورجله اليسرى في (حلَّة) أخرى عن شماله وهو يغسل يديه في وعاء على خوان قريب منه وعلى صفحة وجهه سحابة مركومة من الهم، وضحكت وضحكت زوجته فرفع رأسه وابتسم ابتسامة ضئيلة لم تلبث أن غرقت في هذا السحاب المركوم، وأراد أن ينهض فلم يستطع لبعد ما بين الحلتين، ثم قال في إشارة حازمة وفي لهجة جازمة: لا تؤاخذني أرجو أن تغسل يديك في هذا الوعاء، ونظر إلى زوجته نظرة عتب وسألها لم لم تطلب إليَّ أن أغسل يدي في الوعاء لدى الباب، وكأنه لم يعجبه ضحكها في هذا الموطن، موطن الجد الرهيب فطلب إليها في شيء من العنف أن تغسل يدها، وفهِمَتْ أن ذلك لأنها سلمت عليّ، فمشت حمرة خفيفة في محياها الأبلج ولم تجد بداً من إطاعته إشفاقاً عليه كما قالت مداعبة إياه في رفق. . .
وراحت ربة البيت تشرح لي هذه السوائل التي يغمس فيها رجليه ويديه، وتضحك إذ تقص عليّ كيف يغسل يديه كلما لمس شيئاً، وكيف يدعو بائع اللبن وبائع الصحف وغيرهما إلى غسل أيديهم قبل أن يناولوه شيئاً وكيف لا يفوته كلما نقص وعاء الغسيل لدى الباب أن يملاه بالمحلول. . .
وينظر إليها زوجها إذ تضحك فيمتلئ غيظاً ويسألها كيف لا تدرك وهي المثقفة المهذبة أن الأمر جد لا هزل، وفيم هذا الضحك الذي ينطوي على عدم المبالاة والذي يفهم منه أنها لن تعمل في غيبته شيئاً مما يدعوها إليه من وقاية؟
ولم تغب عن منظاري بقية (الاستحكامات) في الحجرة فهذه مضخة قريبة بها من السائل كيت وكيت، وتلك أخرى بها من المساحيق كيت وكيت، وثالثة ينطلق منها إذا فتحت غبار(744/31)
كثيف لمطاردة الذباب، وكم ذكرتني بشبيهاتها من المدافع التي كانت تنصب لمطاردة الطائرات زمن الحرب. .
ونظر رَبُّ الدار فإذا أحد الأطباق يظهر جانب منه من تحت الغطاء القماشي فتأفف ونظر في وجه امرأته نظرة حنق وسحب القماش فغطى الطبق؛ وسألته فيم هذا الغطاء؟ فنظر إليّ وكأنه ينظر إلى معتوه ثم قال، ألا ترى أن ذبابة واحدة كفيلة بأن تقتل من في المنزل جميعاً بل من في الحي كله إذا وقعت على الطعام؟ فقلت: إذا كان هذا مبلغ خوفك من الذباب في الليل وهذه المدافع من حولك فليلطف بك الله في النهار؟
وضحكت زوجته ضحكة عالية ثم نظرت إليه معاتبة وما تريد إلا أن تسري عنه وقالت: أتذكر الحرب؟ صور لنفسك إحدى طوائر الألمان المنقضة وقد هبطت من السماء على دارك فهذا هو شأنه تلقاء ذبابة مسكينة من الذباب.
وما أتمت كلامها حتى نظر إليها وراح يقلد لهجتها ونطقها مستهزئا وهو يقول: ذبابة مسكينة من الذباب! المسكين أنت! لقد كان من المخابئ عاصم من الطائرات وما الذي يعصمنا من ذبابتك المسكينة؟
وقلت له ما الذبابة بمسكينة ولا زوجتك بمسكينة، وإنما أنت المسكين فهذا عذاب ليس مثله عذاب؛ وضحكنا جميعاً وكشف الغطاء عن الطعام ليأكل، وقمنا نداعبه فوقفت عن يمينه وفي يدي إحدى المضختين وقامت زوجته عن يساره وفي يديها المضخة الأخرى، وكلما ابتلع لقمة حمد الله ونحن ندعوه إلى الطمأنينة فلن نسمح لذبابة أن تقرب من المائدة حتى يفرغ من طعامه. . .
وانصرفت، وفي نفسي أني لن أرى من هو أشد من ابن عمي وهماً؛ ولكن منظاري وقف بي في صباح اليوم التالي على منظر أنقله للقارئ في غير نقص أو زيادة:
انحنت عجوز أمام باب إحدى جرائدنا الكبرى وراحت تقيئ وفزع الناس بالضرورة وابتعدوا عنها واقترح بعضهم طلب الإسعاف؛ ومر شاب وجيه المظهر بادي الفتوة كثير الأناقة، وقد فرغت العجوز من قيئها فخيل إليه انه مس بحذائه هذا القيء بعد أن فطن إلى أنها كانت تقيئ فكأنما نزلت به صاعقة من السماء، ونظرتُ فإذا صفرة كصفرة الموت تمشي في محياه وإذ العرق يلتمع في جبينه ونظر إلى الناس لهفان كأنما يستنجدهم، ولبث(744/32)
في مكانه لحظة لا يدري ماذا يفعل، ثم مر قريباً منه (تاكسي) فاستوقفه ومد يده فخلع حذاءه وجوربه في حذر بحيث لا يمس إلى وجهه، ثم مشى حافياً ودخل السيارة وانطلق وترك الحذاء الجميل والجورب الثمين حيث كان يقف ولم يلتفت إليه لفتة كأنما يخشى حتى مجرد منظره!
وكم كان يبعث على الضحك منظر السابلة بعد ذلك إذ يلقون نظراتهم على هذا الحذاء في تعجب وهم لا يعلمون لم ألقى به هناك وبماذا يفسر وجوده، وكان يمشي بعضهم في سكون ودهشة بينما كان يستفهم البعض أحد الواقفين، واجتمع عدد من الخلق فمنهم من ينظر إلى العجوز ومنهم من ينظر إلى الحذاء، واختلط الأمر على الناس حتى لقد سمعت من كانوا في مؤخرة الزحمة يقول إنها قنبلة! ووثق بعضهم من الأمر فراح يصف طولها وحجمها وشكلها! وهكذا ينقلب الحذاء الجميل الهادئ إلى نوع مفزع من من المفرقعات!. .
وذكرت ليلة الأمس ومبلغ خوف ابن عمي، وحرت بين البطلين أيهما أولى بالرثاء، أهو ابن عمي أم هو صاحب الحذاء؟
الخفيف
هذا الطوفان. .!
للأديب الطاهر أحمد مكي
كنا جماعة، وكان الحديث عن الأدب. . . نقلب الرأي في طغيان الأدب الرخيص على العالي، وعدوان العامية على العربية، واحتلال المجلات الهزلية لعقول الناشئة، والصحف اليومية لجمهور المثقفين. . . وبقاء أدوات الفن الرفيع من مجلات وكتب، محصورة في دائرة ضيقة من الذيوع والانتشار! لأنها لا تتمشى من الغرائز، ولا تخضع لرأي العامة، ولا تهبط لمستوى الدهماء، ولا تستجلب رضا القراء، بصورة عارية، أو مقال مثير!. .
والناس اليوم في انحلال خلقي، مصدره قسوة الحرمان في أيام الحرب وأعقاب الحرب، واستهتار جنسي مبعثه إطلاق العنان للغرائز، واستسلام الفتيان للشهوات وتسرب الإباحية إلى العقول واندفاع الصحف التي همها أن تربح عن أي طريق، وأن تعيش بأي أسلوب، في ممالأة هذا اللون من الحياة!(744/33)
طالع ما تشاء من صحف اليوم، واقرأ ما تهوى من كتبه، فلن تجد للعربية من بلاغتها وروعتها أثراً ولن تشعر بالمتعة الروحية السامية، التي تطرب لها حين تلتمس القراءة، في كتاب قديم، أو سفر حديث، من إنتاج أولئك النفر القليل، من كتاب العربية الأفاضل، ممن صمدوا أمام التيار، فلم يجذبهم بريق الذهب اللامع، ولم يجرفهم تيار المادة الخادع، فظلوا كما هم، وكما شاء لهم إيمانهم بالفن ورسالته، أوفياء بالعهد، حفظاء للرسالة، ولو كره الجاهلون وأنصاف المتعلمين!. .
إن المطابع قد أغرقت السوق بطوفان من الكتب، جلها غثيث تافه لأن صاحبه طالب شهرة، لا يعينه إلا أن يطبع اسمه في مكان بارز من غلاف الكتاب، وسيان لديه أن يرحب به الناس أو يغضبوا عليه مادام قد بلغ الغاية التي سعى إليها، فأقحم شخصه في زمرة المؤلفين!. .
وتجاريين تخصصوا في اقتناص المال من الجيوب، بالحلية الواسعة، والدهاء الماكر، وحذقوا فن التلصص وأساليبه، وكان أن لمسوا مركب النقص في الحياة المصرية، وما تعانيه الشبيبة من حرمان وكبت، فطفقوا يغرقون الأنظار بطوفان من الصور العارية، ويؤججون الشهوات بأبحاث عن الرذيلة الفاتنة، ومن ثم كتب لهم النجاح، وإن يكن ثمنه، فساد ضمائر الشباب، وإهدار عفاف الفتيات!. .
محال أن يوقف هذا الفيض من الانحلال، أفراد قلائل أو صحف محدودة الذيوع والانتشار، فعلى الذين يملكون التشريع والتنفيذ، وقد استعملوهما في كل ما يتصل بماديات الحياة، أن يعطوا الناحية الروحية بعض العناية، فنحفظ للغتنا سموها، ولأدبنا روعته، ولأخلاقنا جمالها، فنسدي بذلك للعربية، فضلا لا ينكر ولا يجحد!. .
الطاهر أحمد مكي(744/34)
تعقيبات
عقليتنا المستعمرة!!
في المؤتمر الثقافي العربي الذي عقد أخيراً في لبنان، اقترح أحد الأعضاء أن يرسل المؤتمر بكتاب إلى مجلس الأمن يؤيد به قضيتي مصر وفلسطين، فنهض له الأستاذ فؤاد أفرام البستاني ورد اقتراحه بأن المؤتمر ثقافي ولا سياسي، فليس من شأنه أن يرسل بهذا الكتاب ولا من مهمته أن يقتحم هذه الأمور التي هي من شأن رجال السياسة. . فقال الراوي وكاد الأمر أن يتطور أو يتهور. لولا أن الأستاذ إسمعيل القابني بك رئيس وفد مصر حسم الأمر بلباقته فطلب تحويل كافة الاقتراحات إلى اللجان الخاصة. .
وليس هذا بالأمر الغريب، ولا هو مما يثير الدهشة، فإننا أبناء الشرق العربي قد مُنينا بالاستعمار الفاجر دهراً فهدم كياننا، وحكم قوميتنا، وحلل شخصيتنا، وكانت خدعته الكبرى في ذلك أن أقنعنا بأن الدين شيء لا يتصل بالدنيا، وأن العلم شأن غير السياسة، وأن السياسة خطة غير الوطنية، وأن الوطنية هي أن يجد الإنسان ما يملأ به بطنه. . وهكذا أصبحنا نحيا الحياة، إذا أخذنا في ناحية منها فإننا نستدبر جميع النواحي الأخرى ولا يمكن أن نجمع في ذلك بين طرف وطرف، وليس رأي أخينا أفرام البستاني إلا أثرا من آثار تلك الخدعة الاستعمارية التي نكبنا بها الاستعمار اللئيم. . .
ألا ليت الأستاذ أفرام يقول لنا ما قيمة هذه الثقافة وما جدواهما وما حاجتنا إليها إذا لم تحقق لنا حياة حرة كريمة، وإذا لم تحقق تلك العقبات التي تعترض طريقنا وتذل أعناقنا، وإذا لم تفعم نفوسنا بالقوة والشجاعة والبطولة، وإذا لم تخلق لنا شخصية واضحة وقومية متميزة، وإذا لم تكن صلتنا بالحياة وطريقنا إلى المستقبل وسلاحنا الذي نكافح به الظلم، أجل! ماذا تكون الثقافة إذا لم يكن كل هذا أثراً من آثارها في حياتنا ونهوضنا وفي نفوسنا وقلوبنا؟!
لقد رأينا في الحرب الماضية كيف كان العلماء يبذلون علمهم ويرهفون قرائحهم في سبيل نصرة أممهم، وكيف كان رجال الفكر والفهم يتصدون للدفاع عن أوطانهم ويخاطرون في ذلك أكثر مما يخاطر الجنود. . . بل نحن أبناء الشرق ندرك ونعرف أن الاستعمار لم يكن يسير في أي بلد من بلادنا إلى وراء خطوات مستشرق يتخذ العلم وسيلة للتحكم أو وراء مستكشف يجعل الاستكشاف طليعة للتملك، أو وراء مدارس وجامعات ينشئون فيها أبناءنا(744/35)
على هواهم، ويبثون بها في نفوسنا من العقائد مثل ما يعتقد (السيد أفرام) من أن الثقافة لا شأن لها بالسياسة. .
إننا نجاهد للتحرر من الاستعمار السياسي والاقتصادي، وسنفوز بذلك لاشك، وإن التحرر منها علم الله لأسهل وأيسر من التحرر من استعمار آخر يكرب نفوسنا وينخر في عظامنا إلا وهو الاستعمار العقلي الذي يجب علينا أن نقاومه ونطارده وأن نعلن عليه حرباً لا هوادة فيها، فإنه السم القاتل والداء الدفين. .
الآباء والأبناء:
وقع في يدي تقرير اللجنة الأولى للمؤتمر الثقافي العربي فرأيت فيه اتجاهاً طيباً يدعو إلى الغبطة ويبشر بخير كثير، فقد أشار (بأن تكون الدراسات الاجتماعية أساساً لتدريس التربية الوطنية، على أن يشمل هذا الأساس إبراز الاتصال الجغرافي التام بين البلاد العربية وما كان لذلك من دور خطير في قيام الحضارات وتقدم الإنسانية)، كما تضمن الإشارة إلى الواجب في (إبراز دور الإمبراطورية العربية في التاريخ، وتوضيح الفكرة في أن العروبة لم تكن لدين ما، بل إنها كانت ولا تزال أمانة في عنق كل عربي، وأن التعصب لم يعرف في البلاد العربية إلا في العصور التي حكم فيها الأجانب) ثم ينوه التقدير (بالأخوة في العروبة والدعوة إلى التكتل والعمل على التذكير الدائم بمساوئ الاستعمار وضرورة اتخاذ النظام الديمقراطي أساساً في تنشئة الطالب).
وبعد أن أشارت اللجنة في تقريرها هذا إلى ضرورة تدريب الطلبة على أساليب الحياة المختلفة في ميادين التعاون الاجتماعي والرياضي والكشفي دعت إلى قيام اتحاد للطلبة العرب ومؤتمرات سلم ومخيمات كشفية ووضع أناشيد مشتركة وتبادل الطلبة العرب بين الأقطار العربية وإنشاء بيوت لعم في كل قطر عربي. .)
وما أريد أن أورد كل ما نضمنه ذلك التقرير، فقد تضمن تفاصيل مطولة، وهي تفاصيل تلتقي كلها في رغبة واحدة، هي تقوية الشعور بالقومية العربية في نفوس أبناء الجيل الجديد حتى لا تكون الوحدة العربية ميثاقاً مكتوباً في الورق، بل تكون دماً يتدفق في العروق.
إنه كلام طيب جداً، وإنما العبرة بالتنفيذ القريب، وحين نبدأ أول خطوة في هذا السبيل(744/36)
نكون في الواقع قد بدأنا السير لتحرير عقليتنا من إرضاء الاستعمار.
ولماذا ننسى أنفسنا:
اهتمت الصحف المصرية على اختلاف نزعاتها بتتبع (الكوليرا) كما يسمونها الآن أو (الهيضة) كما كانت تسمى من قبل، واهتمت إلى جانب ذلك بسرد تاريخ ذلك الوباء اللعين في مصر، وما كان له من هجمات عنيفة على المصريين، ثم ما كان لرجال الطب من جهود صادقة في مدافعته واكتشاف ميكروبه وتحدثت في هذا عما كان من حضور الدكتور كوخ الألماني إلى مصر عام 1883 على رأس بعثة طبية لاكتشاف هذا الميكروب وعما كان من وصول بعثة طبية أخرى من معهد باستور بفرنسا لمثل هذا الغرض، ولكن الصحف المصرية جميعها نسيت في هذا المقام جهداً مصرياً كان من الواجب أن يذكر، وكان من الواجب أن يرجع إليه رجال الطب عندنا فسيجدون فيه من التجارب المفيدة والخبرة النافعة ما لا يقل عن تجارب بعثة (كوخ) ولا بعثة (باستور).
ذلك أنه لما تفشى وباء الكوليرا في مصر عام 1883م وجاءت البعثات الطبية من الخارج لدراسة أحوال هذا الوباء وإثبات تجاربها عنه عكف المجلس الصحي في مصر هو الآخر على مثل هذا العمل وأخذ أعضاؤه يوالون البحث والتجربة بشأن هذا الوباء، وانقسموا في هذا إلى فريقين: فريق يرى أنه يتولد تولداً ذاتياً متى كانت هناك البيئة التي تساعد على وجوده ونموه، وفريق يرى انه لا يظهر في مكان إلا منقولا إليه من مكان آخر وكان على رأس هذا الفريق الدكتور سالم باشا سالم طبيب المعية الخديوية يومذاك، وقد جرت مناظرات بين الفريقين كانت أعنف وأشد من المناظرات التي قامت بين (كوخ) وأطباء ألمانيا في ذلك الوقت، ولكن الأطباء الألمان أخذوا يوالون البحث حتى وصلوا في هذا إلى ما نفعوا به الإنسانية وكانت حكومتهم تشجعهم على ذلك بألوف الجنيهات، أما الذي جرى عندنا فإنه بسبيل العبرة ويدعو إلى العبرة، ذلك أن الخديوي توفيق خشي يومذاك من امتداد المناظرة بين الفريقين فألغى مجلس الصحة وكفى الله الأطباء شر القتال. .
مضى ما مضى، فلن يجدي التحسر عليه، ولكن الذي يدعو إلى الأسف أن ما توصل إليه أطباؤنا يومذاك من نظريات وآراء، وحققوه في خبر كان، ولو كان رجال العلم عندنا يذكرون أنفسهم ويعتدون بشخصياتهم لكان في رجال الطب من عكف على موالاة ذلك(744/37)
البحث والبناء على ذلك الأساس الذي وضعه الأطباء المصريون فكان حقق لمصر في ذلك فخراً لا ينسى.
ولكن أين في أطبائنا اليوم من يذكر ذلك الجهد؟ أو يكون عنده شيء من خبره، أليس من العار أن يكون في مستشفى الإسكندرية غرفة اسمها (غرفة كوخ) تخلد بها ذكرى ذلك الطبيب الألماني وزيارته لمصر، ومع هذا فليس فينا من يذكر شيئاً عن أولئك الأطباء المصريين الذين بذلوا من الجهد، وأبدوا ما أبدوا من علم واسع وخبرة نافعة وتجارب انتفع بها (كوخ) وغير (كوخ) من الأطباء.
في ماضينا مواقف لابد أن نبني عليها حتى تترفع، إنها مواقف عظيمة مشرفة يمكن أن نعتز بها بين الأمم، ولكنا مع الأسف أمة تجهل ماضيها وتنسى نفسها!
(الجاحظ)(744/38)
الأدب والفنّ في أسبُوع
خلاف بين الأساتذة:
حينما كتبت الموضوع الذي عنونت له بـ (جدل في الجامعة) بالعدد (741) من الرسالة - كنت قد سمعت أحاديث عن حال واقعة بين بعض أساتذة كلية الآداب، قيل إنها أصل الجدل في مسألة الرسالة المقدمة من الأستاذ محمد أحمد خلف الله للحصول على (الدكتوراه) والتي موضوعها (القصص في القرآن).
وقد أمسكت عن الإشارة إلى ذلك الذي سمعته لأني لم أر فيه وقتذاك ما يخرج عن الأمور الشخصية، وقصدت إلى موضوع الرسالة وما أثير حوله إذ رأيت فيها ما ينبغي من أجله نقل المسألة من حيزها المحلي إلى ميدان الرأي الأدبي العام.
ولكن الأستاذ خلف الله أشار في آخر مقاله بالعدد الماضي الذي أوضح فيه بعض ما تضمنته رسالته بعد أن قرأ (جدل في الجامعة) - إلى ما كنت قد أمسكت عنه، وذلك بقوله: (المسألة لا تحتاج هذا الضجيج. لكنها العصبيات فأساتذة الجامعة يتعصبون ويتحزبون كما يتعصب ويتحزب رجال السياسة وإذا كان الأستاذ الخولي قد رفض رسالة الأستاذ المحاسني فيجب أن ترفض رسالة خلف الله).
وتفصيل ذلك - حسب ما سمعته - أن الأستاذ زكي المحاسني كان قد أعد رسالته بإشراف الأستاذ الشايب، ولما عرضت الرسالة على لجنة من الأساتذة أجازوها إلا الأستاذ أمين الخولي فقد رفضها، وحدث بعد ذلك أن رفضت رسالة (القصص في القرآن) التي أشرف عليها الأستاذ الخولي، وهذا هو صاحبها يعلل رفضها، وهو يرمي بهذا التعليل إلى نفي أن الباعث على هذا الرفض ما تضمنته من أراء متطرفة.
والذي نستخلصه من كل ذلك أن هناك خلافاً بين كبار الأساتذة في كلية الآداب، وقد كنا نقول إن الألسنة تمتد بالأقاويل والشائعات، لولا أن عضواً من هيئة التدريس بالكلية يقرر ذلك. .
والمسألة ذات بال وخطر، لأن ذلك الخلاف يتدخل في الحكم على رسائل الطلاب، وهذا هو ما يخرجها عن الحدود الشخصية، وقد تمتد أثر هذا الخلاف إلى غير الرسائل من تقدير كفايات الطلبة في الامتحانات!(744/39)
ولا أتقدم أكثر في هذا، بل أرجع فأقول: أيمكن أن يقع ذلك من أولئك الأساتذة الأعلام وهم يعلمون أنهم مثل عالية للطلبة الذين يضعون مصائرهم بين أيديهم. .؟
ولكن ما حيلتي. . وقد غضضت النظر عما سمعت، فإذا مدرس بالكلية يصرح به. .
القدر المشترك بين ناشئة العرب:
القدر المشترك من الثقافة العربية الذي يقدم لأبناء العروبة في جميع أقطارها، هو أحد الغرضين اللذين أعلنت الهيئة التحضيرية للمؤتمر الثقافي العربي أن أعماله تهدف إليهما، والغرض الثاني هو تحسين طرق تعليم اللغة العربية.
وقد وعدت في الأسبوع الماضي أن آتي بما يراه المؤتمر من الطرق والوسائل لتوفير القدر المشترك. وهاك ما وعدت به:
يرى المؤتمر أن الهدف الذي ترمي إليه دراسة القدر المشترك هو إثارة شعور المشاركة بين سكان الأقطار العربية في الحضارة والتاريخ، وفي منزلتهم من النشاط الدولي الحديث.
وهذا القدر ينبغي أن يكون في المرحلة الابتدائية يسيراً ملائماً لمدارك التلاميذ، وممهداً لقدر أرقى منه في المرحلة الثانوية ويمكن توفير هذا لقدر في المرحلة الابتدائية عن طريق:
1 - الأناشيد: فتختار منها مجموعة تكون موضوعاتها مناسبة لفكرة التعاون العربي والمشاركة في الشعور، توقع توقيعاً موسيقياً، ويحفظها بتوقيعها تلاميذ جميع الأقطار العربية.
2 - المحفوظات: تختار قطع سهلة، يلاحظ فيها أن تكون مما يشيد بالأخلاق العربية من نجده وبطولة وما إليهما، وأن يكون بعضها لأدباء من الأقطار العربية المختلفة، مع تعريف بسيط بهم، وهذه يحفظها جميع التلاميذ.
3 - القصص: فيختار منها عدد يحقق الفكرة السابقة، من تصوير الكرم والإباء وعزة النفس وغيرها، مما يبعث في نفوس التلاميذ الإعجاب بتاريخ العرب وأبطالهم قدامى ومحدثين.
4 - المطالعة: فتتناول بعض كتبها في كل قطر موضوعات تعين على تقوية الروابط العربية، كوصف بعض المشاهد والآثار القائمة في مختلف الأقطار العربية، وكالحديث عن(744/40)
فضائل العرب وفتوحهم ودولهم، وثقافاتهم وفنونهم.
ويلاحظ أن يدرس هذا في مرحلة التعليم الابتدائي مؤيداً بالصور والرسوم، أو مصاحباً للموسيقى، أو قائماً على التمثيل والحوار، مما هو مقرر في أساليب التربية.
ويوصى المؤتمر أن يسار في دراسة القدر المشترك في المرحلة الثانوية على النهج الذي قرر في مرحلة التعليم الابتدائي، مع التوسع في الثانوي بما يقتضيه في الدراسة واتساع مدارك التلاميذ وآفاقهم.
ويرى المؤتمر أن الاتفاق على منهج واحد لا يكفي لتقريب الثقافة والنهوض باللغة العربية إذا لم يعد لتعليم هذا المنهج معلمون على حد كبير من العلم وسعة الأفق والقدرة على التدريس، ولذا قرر أنه لابد من إنشاء معاهد علمية موحدة النظام في الأقطار العربية لتخريج ذلك النوع من المعلمين.
ويرى أن القدر المشترك إنما يصلح منهجاً لطلاب الثقافة العامة أما الطلاب الذين يرغبون في التخصص أو يعدون لتدريس اللغة العربية فيكون لهم منهاج أوسع وأعمق (وأنا لا أدري لم لا يصلح المنهاج الأوسع الأعمق ليكون قدراً مشتركا بين المتخصصين ومن يعدون للتدريس في جميع البلاد العربية وخاصة في المعاهد التي قرر المؤتمر انه لابد من إنشائها؟).
ويرى عقد مؤتمرات دورية لمعلمي اللغة العربية تشخص إليها وفودهم من مختلف البلاد للبحث وتبادل الرأي في أساليب التعليم كي يستفيد بعضهم من تجارب بعض، وكي يتحدوا في الوسائل والغايات وينهضوا باللغة العربية وآدابها.
مدى نجاح المؤتمر الثقافي:
وبعد فهذه التوصيات إلى ما عرضناه في العددين الماضيين من الرسالة، هي أهم مقررات لجان المؤتمر الثقافي التي وافقت عليها الهيئة العامة للمؤتمر وأوصت بأن تأخذ بها البلاد العربية المخلفة لتوحيد الثقافة بين بنيها، وكل تلك التوصيات تتجمع في (القدر المشترك) من حيث التوحيد، ومن حيث تكوينه من مواد نافعة، وكان ذلك في اللغة العربية وفي المواد الاجتماعية لأنها هي التي تتمثل فيها الروابط القومية والثقافية بين البلاد العربية.
ولا شك أن المؤتمر بذلك وضع الخطط الأساسية التي ينبغي أن تسير عليها الثقافة العربية(744/41)
في المدارس الابتدائية والثانوية، ولو صرفنا النظر عن المناهج والتفصيلات التي قد يجد فيها متفحص ما لا يروقه، فإن الذي لا شك فيه أن المؤتمر نجح في بناء الهيكل العام، وهذا كسب ليس بالقليل وخاصة إذا لاحظنا أنه الباكورة الثقافية للجامعة العربية، وقد تم نجاح آخر لا يقل قيمة عن هذا النجاح إن لم يزد عنه، وهو التقاء هذه الجمهرة العظيمة من رجال الفكر في الأقطار العربية، وما شعروا به، بعضهم نحو بعض، من المودة والأخوة، وما لمسوه من التجاوب الفكري بينهم، وقد وقفت، من أحاديث العائدين، على ما ساد اجتماعات اللجان من روح طيبة في حسن التفاهم والتوافق على الأغراض، وعلى ما استقبل به اللبنانيون إخوانهم العرب الوافدين عليهم من الحفاوة والترحيب.
ملاحظات على المؤتمر:
على أن كل ذلك لا يمنع من تسجيل الملاحظات الآتية:
1 - قام برنامج المؤتمر على أن له غرضين: تحقيق القدر المشترك، والنظر في الوسائل المؤدية إلى تحسين طرق تدريس اللغة العربية. أما الغرض الأول فقد عرفت جهد المؤتمر فيه، وأما الغرض الثاني فقد أهمل إهمالا، وكأني بالمؤتمر قد ضاق به فرأى في تثاقل أنه لابد من إنشاء معاهد علمية موحدة النظام في الأقطار العربية لتخريج معلمين للغة العربية، وأوصى بعقد مؤتمرات دورية لمعلمي اللغة العربية، وليس هذا ولا ذاك بجهد ناجز في (تحسين طرق تدريس اللغة العربية) الذي جعله المؤتمر أحد غرضيه.
2 - كانت الحفلات التي أقيمت للحفاوة بأعضاء المؤتمر عامرة بنشاط أدباء لبنان الذين أفاضوا وأمتعوا بالشعر والنثر والزجل، وكان من الطبيعي ان يجاوبهم أدباء مصر، ولكن الذي حدث أنه لم يعن بتقديم هؤلاء، واكتفى بنشاط بعض الكبار من وفد مصر، ولم يخرج عن هذا النطاق إلا الجارم بك.
3 - لم تهيأ لممثلي الصحف الأسباب التي تكفل لهم سرعة الاتصال بصحفهم، فلم يكن أمامهم إلا البريد الذي يبلغ القاهرة في بضعة أيام. ومن الطريف أن الأنباء التي نشرت عن المؤتمر في خلال انعقاده لم تكن عن طريق المراسلين، وإنما أخذت أنباء حفلة الافتتاح عن الإذاعة اللبنانية، أما ما نشر من أخبار المؤتمر بعد ذلك فكانت تتلقاه بالتليفون إدارة الصحافة بالجامعة العربية بالقاهرة، وتدفعه إلى الصحف فتنشره.(744/42)
موضوعات السينما والأفلام الخرافية:
قال الأستاذ محمود بيرم التونسي في بيان الموضوعات التي لم تعالجها السينما المصرية بمجلة (الاستديو): (هي الموضوعات المصرية البحتة، لأن المشتغلين بالسينما عندنا يأتون بروايات أجنبية ويخلعون عنها القبعات ويضعون بدلا منها طرابيش ولاسات وعمائم، حتى لقد أفهمونا بالقوة أن حياتنا هي هذه الصالونات والحفلات وأننا نفتح بيوتنا للشبان باسم الخطوبات حتى أصبحنا كذلك فعلا، والجرم الأول يقع على عاتق السينما المصرية لأنها هي التي فرضت علينا هذه الحياة).
ولفتة الأستاذ إلى تأثير السينما بالإيحاء في حياتنا لفتة بارعة والحق أن أصل الداء في هذا الأفلام هو اختطافها من الأفلام الأجنبية على الوجه الذي صوره بيرم.
وقد كثر النعي على ذلك، وأفاض النقاد في التوجيه إلى ما يجب أن تعالجه السينما من الموضوعات التي عُدّ منها مواقف البطولة في تاريخنا المجيد، ولكن من توجه؟ فيظهر أن بعض الناس قد فهم أن هذه المواقف هي تلك الأساطير والقصص الخرافية التي تقوم على الأعمال الخارقة والبطولة التي لا يغلبها غالب، فظهرت أخيراً عدة أفلام من هذا النوع، وليت هذه الحوادث يقصد منها فكرة ترمي إلى هدف يبرر هذا التهريج.
وأصل هذه الأفلام هو أصل تلك الروايات التي أفسدت المجتمع، فإنه يحلو للغربيين أن يعرضوا صوراً وأحداثاً خرافية على أنها تمثل حياة الشرق، وقد أخذوها حقاً عن أصول عربية وضعت في أزمان غابرة، ولكنهم حرفوها عن مواضعها، فجاءت بعيدة عن حياة الشرق حتى في تلك الأزمان.
ثم جاء أصحابنا الذين توجههم فلا يأتون بخير، فحوروا أو ألفوا على ذلك الغرار. . . وإنا لنخشى أن يفسدوا الأذواق بهذا العمل كما أفسدوا المجتمع بتلك الروايات.
وأصل الداء كله يرجع إلى العجز عن معالجة موضوعات حياتنا، واستسهال الأخذ والتحوير؛ والمنتجون يستريحون إلى ذلك ليسره ورخصه وإثارته عواطف السذج والبسطاء. فالسينما المصرية في حاجة إلى أقلام جديدة أكثر من حاجتها إلى وجوه جديدة.
(العباس)(744/43)
البريدُ الأدبي
حول جدل في الجامعة:
تعرض صاحب رسالة (الفن القصصي في القرآن الكريم) في كلمته المنشورة بعدد الرسالة الماضي لرأى الأستاذ أحمد أمين بك في هذه الرسالة، فرأينا أن ننشر رأي الأستاذ كاملا بنشر تقريره الذي قدمه إلى عميد كلية الآداب وهذا نصه:
حضرة صاحب العزة عميد كلية الآداب.
تحية واحتراماً.
قرأت الرسالة المقدمة من محمد أفندي خلف الله لنيل الدكتوراه وموضوعها (الفن القصصي في القرآن) والتي تفضلتم فأحلتموها على لقراءتها وإبداء الرأي فيها.
وقد وجدتها رسالة ليست عادية بل هي رسالة خطيرة أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ والواقع وأن محمداً فنان بهذا المعنى.
وعلى هذا الأساس كتبت كل الرسالة من أولها إلى آخرها وأرى أن من الواجب أن أسوق بعض أمثلة توضح مرامي كاتب الرسالة وكيفية بنائها.
يرى أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويراً فنياً بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد.
مثل أن البشري بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته. بل تكون القصة مخلوقة مثل: وإذا قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت. . . الخ ص 14 وما بعدها.
الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنبي ليست تاريخية ولا واقعة وإنما هي تصوير لواقع نفسي عن أحداث مضت أو أعرقت في القدم سواء كان ذلك الواقع النفسي متفقاً مع الحق والواقع أم مخالفاً له 28.
وربما كانت مسألة الجن التي تصور رأي الجاهليين في تسمع الجن لأخبار السماء ميداناً من الميدان القصصي.
(ابن الخياط)
والقرآن يقرر أن الجن تعلم بعض الشيء. ثم لما تقدم الزمن قرر القرآن أنهم لا يعلمون(744/45)
شيئاً 29 والمفسرون مخطئون حين يأخذون الأمر مأخذ الجد 30 الأنبياء أبطال (ولدوا في البيئة وتأدبوا بآدابها وخالطوا الأهل والعشيرة وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة ودانوا بما تدين به من رأي وعبدوا ما يعبد من إله ص 37.
تصوير أخلاق الأمم كبني إسرائيل ليس بضروري أن يكون واقعياً بل يصح أن يكون تصويراً فنياً يلاحظ الواقع النفسي أكثر من صدق القضايا. . . الخ ص 75.
القصة هي العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطل لا وجود له أو لبطل له وجود، ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلا أو وقعت ولكنها نظمت على أساس فني إذ تقدم بعضها وأخر بعضها أو حذف بعضها وأضيف إلى الباقي بعض آخر أو بولغ في تصويرها إلى حد يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون حقيقة إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخيالية وهذا قصدنا في هذا البحث من الدراسة القرآنية 81.
أخطأ الأقدمون في عد القصص تاريخاً 83.
منهجه هو معالجة القصة من حيث هي أدب ويعنى بذلك خلق الصور والابتكار والاختراع (84) ولذلك لا مانع من اختلاف تصوير الشخصية الواحدة في القرآن 85.
وجود القصة الأسطورية في القرآن 89.
ولعل قصة موسى في الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة 89 بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ.
والقرآن عمد إلى بعض التاريخ الشعبي للعرب وأهل الكتاب ونشره نشراً يدعم غرضه 93 كقصة ذي القرنين.
وقصة إبليس من نوع الخلق الفني الذي يتشبث فيه القرآن بالواقع 106 عناصر القصة هي العناصر الفنية والأدبية التي اتخذ منها الفنان مادته التركيبية والتي أعمل فيها خياله وسلط عليها عقله ونالها بالتغيير والتبديل حتى أصبحت وكأنها مادة جديدة بما بث فيها من روحه، وكذلك القصص في القرآن والبحث عن المصادر في القصص القرآني على هذا الأساس.
يجب ألا يزعجنا لأنه الواقع العملي في حياة كل الفنون والآداب ص 118 وطبق هذا المبدأ تطبيقاً واسعاً.(744/46)
فالقرآن كل يغير في العناصر ليجعلها ملائمة للبيئة ولطبيعة الدعوة ص 125. . . وما تمسك به الباحثون من المستشرقين ليس سببه جهل محمد بالتاريخ. . . بل قد يكون ذلك من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي ولا الحرص على الصدق العقلي، وإنما ينتج عمله ويبرز صوره بما ملك من الموهبة الفنية والقدرة على الابتكار والاختراع والتغيير والتبديل) ص 136.
ومن هذا القبيل خلق صور الجن والملائكة 137.
تدرج القصص في القرآن كما يتدرج أدب كل أديب، فالأدباء يلتمسون المتعة واللذة في كل أمر فني يعرض لهم ثم يتقدمون خطوة فيبغون الاستمتاع واللذة بالمحاولات الأولى التي تقوم على التقاليد والمحاكاة ثم يكون التخلف شيئاً فشيئاً والدخول في ميدان التجارب الخاصة ومظاهر ذلك النسخ والتدرج بالتشريع 169 الخ.
ومن ذلك كله نرى أن المسألة - كما قلت - خطيرة ومن المتوقع أن يكون لها صدى كبير سبق أن حدث لأقل من هذا.
فالمسألة في نظري يجب أن يفصل فيها رجال الجامعة المسؤولون قبل أن يفصل فيها الأساتذة قراء الرسالة من ناحيتها التفصيلية والشكلية. وتفضلوا بقبول فائق احترامي.
أحمد أمين
إلى خلف الله العامري
يا (أستاذ. .)!
لقد أغمدت سيفي، ولويت وجهي عن الميدان، لأنك أصبحت أعزّ عليّ، من أن أجرد في وجهك سيفاً، أو أثير عليك حرباً، وكيف وأنت رجل خيّر فاضل (لست من الشرّ في شيء، وإن هان) وأنت تنصف من نفسك، وتنال منها ما لا يناله الخصم العنيد، وتكتب عنها بقلمك ما لا يكتبه العدو اللدود، وكيف وقد صرت أستاذي. . . تعلمت منك أشياء كنت أجهلها. .
تعلمت منك كيف يكون العذر أقبح من الذنب، حين قرأت لك ما كتبت تعتذر به من ذنبك، وتعلمت كيف يفهم بعض (العلماء!) من الكلام ما لا تدل عليه ألفاظه ولا يفيده نظمه، ولا(744/47)
يمكن أن يخطر على بال كاتبه. وكيف تبلغ (الفطنة. . .) ببعض (الأذكياء. . .) أن يريد أحدهم الشيء فينطق بضدّه، ويعمد إلى تبرئه نفسه فيوبقها.
قلت لا فضّ الله فمك، وسلّمك:
(والآن نستطيع أن ننتقل إلى الجو القرآني، لنبحث ما في قصصه من أشياء تاريخية، وقبل البدء ننظر في اعتراض قد يستثار ذلك لأن ما قررناه من صلة بين التاريخ والقصة يعتمد على ظاهرات في القصص لوحظت حديثاً وقررت على أنها بعض التقاليد الأدبية التي تصور ما للقاص من حرية والقرآن أقدم من هذه الملاحظات للظواهر وهذه المقررات للتقاليد على أنها لو كانت قديمة لا تلزم القرآن في شيء إذ لكل قاص مذهبه وطريقته ولكل خالق حريته في الخلق والابتكار ولن يقرر ما في القرآن من قيم إلا واقع أدبي ألتزمه القرآن نفسه أو على أقل تقدير حرص عليه وهو قول له وجاهته فيما نعتقد ثم هو يلزمنا أن نبحث طريقة القرآن من واقعة العملي).
انتهى بنصه وفصه، وألفاظه وحروفه، واحلف لقد قرأنه خمس مرات متتاليات فلم أفهم المراد منه، لأنه أرفع من أن يصل إليه فهمي، أو يطوله علمي.
ولقد كنا في الكفر بالدين وحده، فصرنا الآن في الكفر بالدين، والكفر بالعربية! أفبمثل هذا الأسلوب تريد أن تكتب عن القرآن؟ أن هذه هي البلاغة الجديدة، التي هبط بها الروح (الأمين) على قلب أستاذك نبيّ البيان في آخر الزمان.
هذا كلامك، لا يفهمه الناس، فهل تفهم أنت كلامهم؟ لنَرهْ: نقلت من تفسير المنار قوله: (إن الله أنزل القرآن هدى وموعظة، وجعل قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة، لا تاريخ شعوب ومدائن، ولا تحقيق وقائع ومواقع).
فلم تفهم منه إلا أن القرآن ليس بكتاب تاريخ، وإذا كان يروي أخبار الماضين، ولم يكن تاريخاً فما هو إلا قصة، كقصص اسكندر دوماس وتوفيق الحكيم، ودوماس لا يؤخذ من قصصه التاريخ، لأنه لم يكتبها له، ولم يحرص فيها على حقائقه فقصص القرآن كذلك.
أرأيت؟ فلماذا تتعب نفسك فيما لم تخلق له؟ وهل تظن أنك تفهم كلام الله، وأنت لم تفهم كلام (عبدِه)؟
ثم قلت: على أن هذه المسألة (أي مسألة كون قصص القرآن صحيحاً أو أسطورة) قديمة -(744/48)
ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه - ولقد نتج عن ذلك طريقتان في التفسير طريقة الخلف، أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا (أي لا يقولون بأن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع) وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام).
مسكين أنت يا أيها الأستاذ الإمام، لقد صرت عند هذا (العامري) إماماً في تكذيب القرآن، وفي الكفر بالرحمن، ومساكين أنتم يا أيها الأصوليون. .
وكل شيء إلا الأصول من فضلك! مالك وللأصول؟ ولماذا تهرف بما لا تعرف حتى تطلق الألسنة بغيبتك؟ ومن قال لك إن الأصوليين يعدون القصص من المتشابه؟ وهبهم قالوه أفتدري أنت ما المتشابه؟ وفي أي كتاب رأيت هذا؟ ومن أي عالم سمعته؟ أو ما كان خيراً لك لو اشتغلت فيما تحسن؟ وتركت لغيرك التدليل على أن قصص القرآن أساطير كأساطير هوميروس، وروايات كروايات دوماس، ما دام غرضك كما تقول (غرضاً دينياً هو تخليص القرآن من مطاعن الملاحدة والمستشرقين)؟ ولا والله، ما غرضك إلا (الشهرة. . .)، ولن أكون عوناً لك عليها بعد اليوم!
علي الطنطاوي
هل كان معاوية كاتب وحي؟
ذكرت في كتابي (أبطال الفتح الإسلامي) في ترجمة الإمام علي كرم الله وجهه أن كتبة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاثة وأربعين منهم أبو سفيان وابناه معاوية ويزيد وقد سرد هذه الأسماء كثير من المؤرخين كابن كثير وغيره، ولكن ابن أبي الحديد، ذكر في شرحه لنهج البلاغة أن ما عليه المحققون أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن من كتبة الوحي، بل كان هو وربيعة التميمي لا يكتبان للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مكاتبات الملوك ورؤساء القبائل. أما كتبة الوحي فكانوا علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم)
المنصورة
محمود نصير(744/49)
القَصصُ
قصة من الأدب الروسي:
(الحُمَّى)
للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
للأستاذ مصطفى جميل مرسي
1860 - 1904
(هذه صورة وليست قصة!. . تمتاز بألوان من الوصف الدقيق
وتزخر بصنوف من التصوير البارع. . . يعرضها تشيكوف
- ذلك الكاتب العظيم - بريشته الفنانة وقلمه الصنع. . .
فيبدع الوصف ويجيد التصوير وتجيء آية بينة واضحة على
قدرته البيانية وقريحته الخصبة وعبقريته في رسم المشاعر
الإنسانية، والاحساسات النفسية. . .
فهو يجلو لنا صفحة رائقة شائقة من حياة مخلوق من البشر. . . أصابته حمى (التيفوس)، فخر صريعها. . . وراح يعاني آلامها وبلواءها. . . وأحسب أن هذا لا يتيسر إلا لمن كابد الآلام، وثقلت عليه وطأة المرض. . . فأشتد تأثره به.! وأخرج لنا هذه الصورة المجلوة الحقة التي لا يدخلها باطل. . ولا تخالجها مبالغة!. .)
(م جميل)
كان القطار ينساب بين الربوع في سرعة وفي صخب، بعد أن خلف وراءه (بتروغراد) وغايته (موسكو)!. . . وفي إحدى عرباته جلس الضابط (كليموف) وهو شاب تجلت على سيمائه آيات العناء والألم!.(744/51)
وكان رفيقه - الذي قعد مواجهاً له - رجلاً طاعناً في السن!. حليق الذقن. . . تلوح عليه دلائل الثراء والعيش الرغد. ويخيل إلى المرء أنه من أبناء (فينلندا) أو (السويد). . . لم يبرح طيلة السفرة. . . يدخن (غليونه)، وينفث هباءه في الهواء!. . . وكان ثرثاراً مهذاراً، نهماً إلى الحديث، شرهاً إلى الكلام. . . لا يفتأ يلفظ بهذره حول معنى واحد. . . دون تنويع ولا تبديل!. . .
- (ها!. إنك ضابط!. كذلك لي أخ ضابط؛ بيد أنه نوبي يجوب البحار!. . ألا خبرني ما الداعي لذهابك إلى (موسكو)؟!.)
- (إن لي مقاماً هنالك!!.)
- (ها!! أما تزوجت بعد؟!)
- (كلا. . . إني أعيش مع خالتي وأختي!.)
(إن أخي ضابط كذلك، غير أنه متزوج. . . وقد أنجبت له امرأته ثلاثة أطفال. . . ها!!.)
وكان الرجل الفنلندي ينظر - خلال ذلك - في بلاهة وغرابة. . . وتترسم على شفتيه ابتسامة تعبر عما يختلج في نفسه من جزل ومرح، حينما يهتف: (ها!!.)
أما كليموف - وكان يشعر بدوار وصداع في رأسه، ويحس بفتور ودعث في جسده - فقد برم بالجواب على أسئلته. . . وراح يحمل عليه في قلبه إصراً وبغضاً!. . . وتراود نفسه رغبة جامحة في أن يختطف غليونه. . . ويلقي به تحت المقعد، ويأمر (الفنلندي) نفسه بالبحث عن عربة أخرى.!
وقال يحدث نفسه - وقد ضاق به ذرعاً (ما أفظع أولئك (الفنلندين) وأبغضهم إلى النفس!. إنهم أوغاد مذقو الخلق، أولو خسة وذوو سفه. . . لا يأتون إلا كل تافه غير محمود من الأفعال. . . وما خلقوا إلا ليعوقوا العالم فحسب!. فما أدري مكرمة ذاعت لهم، ولا حسنة أثرت عنهم!.).
وزاد إحساس الضباط الشاب بما يكتنفه من وعك وكآبة وألم!. فعلا وجهه شحوب وامتقاع. . . وسرى الجفاف والظمأ إلى حلقه فلذغه لذعاً شديداً، وضاقت رأسه - وقد ثقلت تحت وطأة الصداع - بما يضطرب فيها من أفكار سوداء تجول بخاطر معربدة صاخبة على غير هدى. . . ثم لا تلبث أن تفيض على ما حوله من مقاعد وأناس يلوحون في حلكة(744/52)
الظلام!. . .
ويطرق سمعه - في عنف - خليط من الهرج والمهرج. . . يترامى إليه من بلبلة الأصوات وضوضاء العجلات، وصفق الأبواب وهدير الأجراس وصفير القطار وضجيج الناس وعجيجهم في كل محط يقف به!.
وكان الزمن يمضي متباطئاً على مهل حيناً، وسريعاً على عجل حيناً آخراً. . . ولاح لكليموف وكأن القطار يقف كل دقيقة في محطة!. وتمر به القطارات الأخرى سراعاً يلاحق بعضها بعضاً بينما قطاره يتهادى في سيره ويدوي ويجلجل!. . .
إن مسمع تلك الجلبة وذلك الصفير. . ومرأى هذا الفنلندي وهذه الحلقات من الدخان ينفثها من غليونه في الهواء. . . كل ذلك تمازج مع الكآبة السوداء التي تعتديه في إيهام. وتمخض عنه كابوس مخيف يجثم على صدره، ويكاد أن يزهق أنفاسه!.
وبينا هو في غمرة ذلك العذاب الأليم، ورفع رأسه المصدع ونظر من خلال عينيه الذابلتين. . . إلى المصباح!. وقد راح يرسل ضوءاً واهناً متراقصاً لا يثبت على شيء. . ويعقد الظلال، ويشيع جواً من الرهبة والغموض!!
وود (كليموف) لو يرفع صوته بطلب شربة ماء. . . ولكن لسانه جمد. . . فقد يبس ريقه وجف حلقه من حرقة الصدى!. كما أن قوته وهت عن أن تجيب (الفنلندي) إلى ما يسأله إياه، وتستمع إلى ما يهذي به.
فحاول أن يمدد جسده على المقعد حتى تداعب عينه سنة من النوم. . . ولكن النوم أبى عليه أن يأخذ بمعاقد أجفانه. وظلت تلك الكآبة القاتمة والخواطر السوداء والصور الغريبة تعبث به وتعيث من حوله. . . في حين أن ذلك (الفنلندي) نام ملأ جفونه ما حلا له النوم، وعلا شخيره؟. ثم أفاق من نومه وأشعل غليونه وطفق يحدثه ويردد (ها!!.) ثم لم يلبث أن غط في النوم من جديد! وتحامل (كليموف) على نفسه في (سبيروف)! ونهض يسعى في طلب الماء!. فامتد طرفه إلى فريق من الناس يجلسون إلى مائدة حافلة بالطعام، ويأكلون في شراهة وعجلة. . . فتمتم وهو يحاول أن ينأى بأنفه عن رائحة الشواء ويشيح بوجهه عن مرأى أولئك القوم وهم يلوكون الطعام في أفواههم المكتظة: (كيف يأكلون؟!)
ثم لمح بعد ذلك امرأة وضيئة تتحدث إلى رجل عسكري يضع على هامته قلنسوة حمراء.(744/53)
وتبتسم له، فيفتر ثغرها عن أسنان كالدر المنظوم. . . ولكن أثارت تلك الابتسامات وتلك الأسنان اللؤلؤية وتلك السيدة الوضيئة ذاتها عاصفة من السخط والحنق في نفسه!.
وإذا ما أدرك بغيته من الماء!. قفل راجعاً إلى مجلسه. . . فألفى (الفنلندي) قد استوى على كرسيه يدخن، فلما أبصره (الفنلندي) قال له في شيء من العجب: (ها!! أي محطة هذه؟!) فأجابه كليموف في صبر نافذ وقد استلقى على مقعده وضم شفتيه حتى لا يتسلل إلى حلقه دخان الغليون الحاد اللاذع: (لست أدري!.)
- (متى نصل إلى مدينة (تفر)؟!. . .)
- (لست أدري! ومعذرة إن كنت لا أستطيع الكلام إني مريض ضيق الصدر!!. . .)
فطرق (الفنلندي) حافة النافذة بغليونه!. وطفق يحدثه عن أخيه البحار فلم يعره (كليموف) أدنى التفات ولم يكترث له بل راح يفكر في فراشه الوثير اللين. . . وإبريقه البلوري ذي الماء العذب القراح. . . ويتصور في خياله أخته (كاتي) التي تعرف وكيف تروض نفسه وتخلع بزته وتحنو عليه وترنو إليه!. ثم ترسمت على شفتيه بسمة شاحبة، حينما تذكر خادمة الجندي (بافل) وهو ينزع حذاءه الضخم في رفق. . . ويضع الماء على المنضدة في هدوء!. . وخيل إليه إنه ما يكاد يستلقي على سريره ويجرع بعض الماء يطفئ به غلته. . . حتى يزول عنه ألمه، ويبرأ من سقمه! ويغط في نوم هادئ!. . .
عادت تلك الأصوات تختلط في سمع كليموف في هرج ومرج وراح يطرق أذنه في عنف هدير الأجراس وصفير القطار. . . وضوضاء العجلات، وهي تنساب صاخبة على القضبان!.
فدفن كليموف وجهه - وقد تملكه اليأس ولح عليه الألم - في وسادة المقعد. . . ثم أمسك برأسه بين يديه. . . وثانية راحت تطوف بفكره خواطر عن أخته (كاتي) وخادمه (بافل). . .
ولكن أخته وخادمه اختلطا - هذه المرة - في الصور التي تتهيأ له والأشباح التي تتمثل لوهمه. . . ولفحت وجهه حرارة زفراته التي تردها عليه الوسادة. . . وقد دفنه فيها!.
وتسرب الوهن إلى عظامه فشقت عليه الحركة. وتسلل من النافذة تيار هوائي بارد، فأصاب ظهره. . . بيد أنه لم يحرك ساكناً وأبى أن يغير الوضع الذي استقر عليه جسده. .(744/54)
ثم لم يلبث أن غاب في سبات قلق مضطرب، سعى إليه فغل أطرافه وأغمض أجفانه!!. . .
فلما ثاب إلى رشده - بعد أن تقضي زمن طويل - رأي النهار بازغاً، والشمس تبعث في أوصال الكون ضياءها!. . .
وكان السفر يهمون بارتداء معاطفهم، ويتهيأون لمغادرة القطار. . . حتى إذا وقف في الموضع الذي أعد له. . . أسرع الحمالون في مآزرهم البيضاء، وأرقامهم النحاسية الصفراء. . . إلى الركب يحملون عنهم متاعهم وحقائبهم. . .
فألقى (كليموف) معطفه على منكبيه في حركة آلية. . . وغادر القطار!. وأحس - وهو يسير انه ليس هو. بل مخلوق آخر!. غريب. . . وأحس أن حرارة القطار مازالت ناشبة فيه. . . وأنه ما برح مصحوباً بذلك الصدى في حلقه. . . والأشباح من حوله. . . والكآبة في نفسه. . . وهي التي جميعاً حرمت جسده لذة الرقاد وحبست عن عينيه نعمة النوم. . .
واستقل عربة - كانت واقفة خارج المحطة - بعد أن وضع أمتعته إلى جواره في تلك الحركات الآلية. . . وتقاضاه السائق (روبلا وخمس وعشرين كوب) حتى يبلغ به دارة في شارع (بوفارسكا). . . فأذعن لما أراده عليه، ولم يساومه وهو يعلم حقاً أن ثمت زيادة في الأجر. . . بيد أن النقود لم تكن ذا قيمة لديه في ذلك الحين!. . .
فلما بلغ بيته. . . تلقته خالته بالترحاب!. وقابلته أخته وهي غادة هيفاء شارفت ربيعها الأول من العمر. . فحيته بإيماءة رقيقة وهي ممسكة بقلم تخط به في كراسة معها. . . فتذكر أنها تتهيأ لامتحان تنال به إجازة التدريس. .
ولكنه لم يرد تحيتها ولا أجب على أسئلتها!. بل راح يلهث من الأتون الذي يضطرم في صدره. . . وانطلق على غير هدى ولا بصيرة. . يجتاز الحجرات إلى حجرته. . فارتمى على فراشه يئم ويتأوه.
وتراءت لخياله من جديد تلك الأشباح والصور التي لزمته في القطار!. الفنلندي وغليونه. . الجندي ذي القلنسوة الحمراء!. والسيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . ورائحة الشواء. وضياء المصباح الواهنة. . المتراقصة.!! فأفقدته صوابه وسلبته رشده وجعلته لا يبصر ما حوله ولا يسمع تلك الأصوات القلقة على مقربة منه.!(744/55)
فلما أفاق من غشيته. . . ألفى نفسه مضطجعاً في فراشه. . عاري الجسد أو شبه عار!. ولمح خادمه (بافل)، وذلك الإبريق البلوري ذا الماء العذب. . بيد أن هذا لم يخفف من حدة مرضه، ولم يجلب عليه راحة أو سكينة. .
فما برحت أطرافه واهنة متيبسة يشق عليه تحريكها. ولسانه قد تشقق من جفاف. . حتى عكدته وعلاه الطلا. . وراحت ترن في مسمعه قهقهة ذلك الفنلندي وقولته: (ها!!.).
وقام إلى جوار فراشه رجل بدين عظيم الهامة ذو لحية سوداء إنه الطبيب!. ينظر إليه في إمعان وتأمل، ولم يلبث أن نبس في صوت ذي فيهقة وتشدق: (حسن!. حسن. . يا صغيري رائع. . رائع. . لقد برأت تماماً!. .).
فأثارت طريقة الطبيب في النطق، وضغطه مخارج الحروف حنق كليموف. . وأغضبته دعوته له بـ (يا صغيري)، وأسخطه ذلك التلطف البغيض الذي يبديه نحوه. فلما تمتم قائلا: (ما الذي يدعوك إلى مناداتي بـ (يا صغيري)؟. وما علة تلك الألفة التي تحدثني بها؟. عليك اللعنة!.) راعة من صوته جرس أجش صعق!. كاد أن ينكره!!.
كان الوقت يكر في سرعة ينزعج لها القلب، كزمن القطار!. فقد كان ضوء النهار يغمر الغرفة ويسطع في أرجائها. . ثم ها هي ذي عتمة المساء تخيم وتشيع في أنحائها!. ولكن الطبيب لم يبرح الغرفة، بل ظل فمه يتشدق بتلك الألفاظ البغيضة الثقيلة في كل حين!.
وعاد يتراقص أمام ناظره في فضاء الحجرة العريض صف غير ذي نهاية من الوجوه والسجن. . (بافل). . الفنلندي. . القائد (تاروشفتش). . والضابط (مكسيمنكو).!. وذو القلنسوة الحمراء. . . السيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . . الطبيب المتفيهق! كلهم يتحدثون ويلوحون بأياديهم! ويأكلون في نهم.
ولم يلبث (كليموف) أن أيصر - في بياض النهار الآفل - كاهن الكنيسة الأب (ألكسندر) في مسوحة الديفية. . . يقبض بين أنامله على الصليب!. . ويتمتم بصلوات وأدعية!. . وقد تجلت عليه دلائل لم يرها (كليموف) من قبل. . فشردت عن وجهه تلك الابتسامات والضحكات التي طالما طالعته مترسمة عليه. . وتبدت عليه سيماء الرزانة والرصانة!. . وأخذ يرسم على كليموف علامة الصليب!. .
وفي الليل. . كانت تتسلل حوله أشباح وظلال تغدو وتروح في إبهام وغموض. . . وكانت(744/56)
أخته راكعة إلى جواره!. . تردد صلاة خفيفة في صمت وخشوع.!. وترفع طرفها - في هيبة ورغبة - إلى السماء حيناً تطلب الرحمة من الله. . وإلى صورة (القديسين) أحياناً تسائلهم العطف والشفاعة. .
ما أن تنسم (كليموف) البخور والأرج - وهو يتضوع في جو الغرفة - حتى صاح - وقد استفزه ما استقر في بطنه (احملوا هذا البخور اللعين بعيداً!.).
بيد أنه لم يكن ثمت من يجيبه. . وكان يترامى إلى سمعه من بعيد صوت الكهنة، وهم يرتلون أناشيد (الوداع). . وصدى خطوات تهول على درجات السلم بين صعود وهبوط!.
حينما خفت وطأة الحمى عن كليموف. وانثنى عنه هذيانه!. كانت غرفته عاطلة من البشر. . وراحت أشعة الشمس تفيض من خلال النوافذ، وتسيل من بين السدول والأستار!. وراح يتراقص على مياه الإبريق البلوري شعاع مرتعش من النور دقيق براق كلاسيف المسلول. . . وطرق سمع (كليموف) صليل العجلات وصرير العربات وهي تدرج في الطريق، فأدرك أنه خلو من الثلوج. .
فراح يمد طرفه إلى ذلك الشعاع. . ثم يقلبه بين أثاث الغرفة ومتاعها. . . ونوافذها وبابها. ولم يلبث أن راودت نفسه رغبة ملحة في الضحك.!!. فأخذ صدره يهتز وخصره يرتج من الضحك العذب البهيج الذي راح يحتاج جسده من هامة رأسه حتى أخمص قدمه. . وهو لا يدري لذلك سبباً سوى الشعور البالغ من السعادة والارتياح، والإحساس السابغ من البهجة والمراح. .
وتملك كليموف شوق فائق إلى الناس والحركة والحديث، غير أنه لم يقو على تحريك أي عضو من جسده لما يعتريه من وهن وضعف! كان منشرح الصدر طلق المحيا لتنفسه الهادئ طيب النفس طرب الفؤاد لضحكه وبشره!. ووجود ذلك الإبريق البلوري ذي الماء العذب الفرات. . وشعاع الشمس المرتعش، وأستار النافذة المزركشة المزينة بشتى الألوان. .
ولاح له فيما بين جدران غرفته كون فاتن رائع. . أبدع الخالق صنعه! وحينما ولف الطبيب إلى غرفته ملك الصبيحة تمثل في ذهنه ما هو عليه من علم وبراعة في التشخيص، ودمائه ورقة في المعاملة وحسن وظرف في المعاشرة. . ما أجمل الناس(744/57)
جميعاً!. ما ألطفهم!!
قال الطبيب (رائع!. رائع. . لقد تماثلت يا) صغيري (للشفاء. . وكدت أن تبرأ وتعاودك عافيتك!. .).
فأصغى الضابط الشاب إلى فيهقته في النطق. . وهو يضحك جزلا. . ثم هاجته ذكرى ذلك (الفنلندي). . والسيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . والقطار. . فانقلب ضحكه إلى قهقهة. .
ثم لم يلبث أن طلب بعض الطعام والسجائر. . وقال في إلحاف (أيها الطبيب!. دعهم يحضرون لي خبزاً وسرديناً وملحاً. .) فأبى الطبيب عليه ذلك!. وصدع (بافل) بأمره. . ولم يسع في طلب الخبز لسيده. . فطفق (كليموف) يصرخ ويصيح كالطفل حينما لا يجاب إلى بغيته. . فقال له الطبيب وهو يضحك مداعباً: (اسكت. . أيها الوليد الصغير. .) فلم يسع كليموف سوى أن يشاركه ضحكه! ولما غادره الطبيب أغرق في وسن هادئ عميق. . . أفاق منه بعد حين ومازال هذا الإحساس المفعم بالمرح، الفياض بالسعادة. يتملكه ويتسلط عليه نفسه. . وقد جلست خالته بجانب فراشه. . . فابتدرها قائلا في بهجة وبشر: (أه. . يا خالتي!. ما الذي كنت أعانيه؟!. .)
- (تيفوس!. . .)
- (أحسبه كذلك! بيد أني الآن في تمام الصحة أين كاتي؟)
- (ليس بالدار!. . . لعلها ذهبت لزيارة إحدى لداتها بعد فراغها من الامتحان!.)
ومالت المرأة العجوزة - وهي تقول ذلك - نحو جوربها كأنها تبغي إصلاحه بيد أن شفتيها أخذتا ترتعدان!. فأشاحت بوجهها بعيداً. . . وبغتة راحت تجهش بالبكاء وتنشج بالنحيب.
لقد نسيت في غمرة حزنها وحسرتها ما أمرها به الطبيب ففتأت تصيح: (آه. . . كاتي! كاتي!. . . لقد ذهب عنا ملاكنا. . . لقد رحلت!.) وأطرقت برأسها إلى الأرض، وهي تتأوه من البث والأسى. . . فحملق كليموف في شعرها الرمادي. . لا يحير فهما لما تقول، فسألها وقد تولاه الانزعاج. . . لكاتي. . . (ولكن أين ذهبت يا خالتي؟؟!!.).
فأجابته العجوز بين دموعها التي راحت تنهمر على وجنتيها، وتكاد أن تخنق صوتها: (لقد أصيبت منك بالتيفوس!. . وماتت! وواريناها التراب في اليوم السابق على البارحة!).
على الرغم من فجاءة وهول ذلك النبأ المفزع المروع. . . فما استطاع (كليموف) أن يقمع(744/58)
تلك الغريزة الحيوانية، التي جنحت بالضابط الناقه إلى الضحك والمرح! فراح يصيح ويقهقه ويشتكي الجوع. . . حتى إذا انقضت سبعة أيام. . . اعتمد كليموف على ساعد (بافل) وخطى وئيداً حتى دنى من النافذة. . . حيث قام ثمت يسرح الطرف في مساري الربيع الطلق الضاحك وهو ينفث في الأرض الحياة والخضرة! وقد علت شمس الضحى في السماء تكالمها الغيوم والسحب. وطرق سمعه صليل العربات فخيل إليه أنه فظيع حاد!
حينئذ صدع قلبه الأسى وأمضه الكمد. . . وأحس بوقع الفجيعة عليه أليما عنيفاً. . . فطفق ينتحب في وله ومرارة ويغمغم شارد اللب كاسف البال. . . وقد دفن رأسه بين راحتيه. . . (كم أنا شقي!. . . يا ربي. . . كم أنا شقي!. . .).
وودع بهجته ومرحه. . . وانثنى يضطرب فيما كان يكتنفه من سآمته للحياة وضجره بالعيش. وقد ضاعفتهما فداحة تلك الخسارة التي لا تعوض!. . .
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي(744/59)
العدد 745 - بتاريخ: 13 - 10 - 1947(/)
أساطير الآخرين
للأستاذ عباس محمود العقاد
(. . . . . الزهاوي يعتقد أن الله هو الأثير
ما لِكل الأكوان إلا إله ... واحد لا يزول وهو (الأثير)
أرجوا أن أقرأ رأيكم في ذلك على صفحات الرسالة أو الهلال وأشكرك سلفاً. . . .)
موصل. عراق
لؤي النوري
لا أدري ماذا قصد الزهاوي في هذا البيت بكلمة الإله وماذا قصد بكلمة الأثير.
فإذا كان يقصد بإله الأكوان خالق الأكوان فليس في جميع التعريفات التي عرّفوا بها الأثير ما يسوّغ نسبة الألوهية إليه، وإنما يجوز أن يسمى الأثير بالمادة الأولى - أو الهيولي - على رأى الأقدمين - في بعض تلك التعريفات.
ولم يثبت للأثير وجود فضلا عن أن يقال أنه موجد الوجود، وخالقه الوحيد!
فهو فرض عقلي عند الرياضيين والطبيعيين:
فرضوه ليعللوا به ما يستعصي عليهم تعليله، كانتقال الجاذبية بين الكواكب، وانتقال الضوء في الفضاء.
وقال به (نيوتن) قديماً لأنه لم يستطع أ، يفهم كيف يجذب الكوكب كوكباً آخر في هذا الفضاء مع امتناع الواسطة بين الكوكبين، وقد سمى هذه الواسطة في بعض كلامه بالروح ليسترح إلى تعليله للجذب والانجذاب.
وقال به المحدثون ليعللوا به مسير الضياء في أجواز الفضاء وقال ماكسويل العالم الطبيعي الكبير (إن أنواعاً من الأثير اخترعت لتسبح فيها الكواكب، ولتنشأ منها أجواء كهربائية ودفعات مغناطيسية، ولتنقل الإحساس من جانب الجسد إلى جانب آخر حتى ازدحم الفضاء مرات بهذا الأثير).
وعقّب جيمس جينس على ذلك في كتابه عن الكون الخفي فقال: وخلاصة ذلك أن لدينا أنواعاً من الأثير بمقدار ما لدينا من مسائل غير محلولة في علم الطبيعة!(745/1)
والذي يبدو لنا أن هذه الفروض قد بنيت على خطأ في فهم الفضاء أو المكان. لأنهم اعتقدوا أن الفضاء خلاء، وأن الخلاء عدم، فوجب أن يملئوه بالأثير.
وقد اتفق جلة الفلاسفة الأقدمين على أن الفضاء ليس بخلاء أو ليس بعدم، لأنه يقاس ويقدر، ولأنه يحتوي الموجودات.
يقال شبر من الفضاء، وذراع من الفضاء، ولا يمكن أن يقال أن عدماً أطول من عدم، وأن هذا العدم أقل من ذاك.
ونحن نعيش في الفضاء ويحتوينا الفضاء، والمعدوم لا يحتوي الموجود.
فالفضاء ليس بعدم وليس بخلاء.
وكان أسلم من فرض الأثير أن يقال أن مادة الفضاء لا تزال قيد البحث والاستفسار. فإن ذلك أسلم علماً وعقلا من الجزم بنفي الحركة في الفضاء، ما لم يكن مملوءاً بما يسمى الأثير.
وقد حاولوا أن يجدوا للأثير هذا خاصة تميزه من الفضاء بحركة أو كثافة أو تقدير فلم يجدوا تلك الخاصة في تجربة واحدة من تجاربهم الكثيرة.
فليس للأثير سرعة تزداد أو تنقص بمرور الأجسام فيه، وليس في الحالات التي تعرض للمادة كلها حالةٌ تتناوله بشيء من التغيير!
ومؤدّي هذا أن الأثير والقضاء مترادفان، فلا فرق بين قولك أن الضوء يسير في الفضاء وقولك أنه يسير في الأثير.
وقد نبه اينشتين إلى ذلك فقال في تعقيبه على نظرية لورنتز عن المغناطيسة الكهربائية والأثير إنما هم اسمان لمسمى واحد!
وقد انتهى الرأي باينشتين إلى تقرير فرضه الجديد الذي يلاقي به مذهب الأقدمين في حقيقة الفضاء، وهو فرضه المشهور عن الجوهر الفضائي أو جوهر الفضاء
فألقى في شهر يونية من سنة 1930 محاضرته التاريخية بجامعة توتنجهام، وأجمل فيها أطراف هذه النظرية التي يوشك أن يستخرج منها العلماء صلة علمية بين تركيب الفضاء وتركيب المادة، وهي ليست بالصلة البعيدة بعد ما عرف عن حركة الضوء في الفضاء، وعن رجوع المادة كلها إلى الإشعاع.(745/2)
ولا نعتقد أن الأستاذ الزهاوي كان يمحص ما يسمعه عن الأثير وأقوال العلماء فيه، وفي أمثاله من الفروض العلمية.
ومن أمثلة ذلك أنه يقول في رسالة نشرت له حديثاً في مجلة الكاتب المصري أن (اينشتاين يحسب أن الفضاء خاصة من خواص الجسم ثم يدعى أنه عدم محض، والمشاهد أن الفضاء يقاس بالمتر والأقدام ويطول ويقصر بين سديم وآخر وشمس أخرى، والشمس وسياراتها على التفاوت فكيف يقاس العدم؟).
ولا ندري أين قال اينشتين أن الفضاء عدم. وإنما المعروف أن مذهب النسبية يعلل انحناء الضوء بالقرب من الأجرام السماوية بانحناء الفضاء نفسه، فكيف يقول بعدم الفضاء من يقول بانحنائه، ثم يقول بأنه جوهر لعله أصل الجواهر جمعاء.
وقد أشار الزهاوي قبل ذلك إلى مذهب اينشتين في هذا فقال أنه: (فتح باباً جديداً في الفلسفة جعل العلماء يفكرون فيها تعليلا لغوامض الكون على أن أكثر قضاياها لا يرضى لمنطق وأن أرضى الرياضيات على زعمه. أما كون النور في قرب الأجرام يسير في خط منحن عليها فصحيح، ولكني لا أرى أن السبب هو انحناء طريقه في الفضاء. . .).
وقد كان خليقاً بما رواه عن اينشتين أن يصحح فهمه لمذهبه في الفضاء وفي الأبعاد على العموم، ولكنا نحسبه طالع بعض كلامه على نسبية الأبعاد ونسبية السرعة فيها فخطر له أن القياس النسبي ينفي الوجود الحقيقي، وجعله كله مسألة تقدير واختلاف. . . وإنما كان اينشتين يفرق بين تقدير الفضاء في الهندسة الاقليدسية وتقدير الفضاء في رأى ديكارت وتقدير الفضاء إذا أخذ فيه بمذهب البعد الرابع، وهو مذهب اينشتين نفسه في المكان والزمان.
وعلى هذا القياس ربما طالع الأستاذ الزهاوي بعض ما كتب عن الأثير وامتلاء الأكوان به فقال إنه هو الوجود الثابت في جميع هذه الأكوان، وأن ماعداه من الوجود فرض من فروض الأديان.
وقد تخلى عنه الأثير آخر الأمر فإذا هو الفرض الذي ابتدعه الخيال، وإذا به في رأى العلماء هو والفضاء سواء.
وغاية ما يقال إذن في هذا الإله الذي خلقته فروض الخيال أنه أسطورة من أساطير(745/3)
الآخرين. . . .
عباس محمود العقاد(745/4)
فعلاء
للأستاذ (السهمي)
أشكر لسيدي الكاتب الألمعي والأستاذ الباحث المتفنن السيد على العماري تشريفه إياي بما أمرني به وإحسانه إلى بإلباسي من عطفه على وقوله فيَّ ثوباً قد ضعت فيه ولم أبن ثم أقول:
لا حيرة بعد اليوم (إن شاء الله تعالى) ولا قلق، ولا بأس على (فعلاء) ولا على شقيقها (أفعل) ولا على جمعهما، فهما كما هما، وجمعهما كما أعربت العربية ونطق (الكتاب) وطريقة (الكتاب) هي المثلى، (وكلمة الله هي العليا) (ولله المثل الأعلى) وكما أملي (الخليل) على خريجه أو بصّر، فقيد (أبو بشر) ذلك بالكتاب في (الكتاب) وكما قال (أبو العباس) في (كامله).
قال (عمرو) في (البحر): (وأما أفعل إذا كان صفة فإنه يكسر على فعل. . . وذلك أحمر وحمر وأخضر وخضر وأبيض وبيض وأسود وسود. . . والمؤنث من هذا يجمع على فعل وذلك حمراء وحمر وصفراء وصفر. . .).
وقال (محمد بن يزيد) في (الكامل) الذي لم يتنقصه الدهر. وسأروي قوله بكماله على طوله حيث هو الحجة التي تشبث بها مانع (فعلاء) وليس له فيه أقل متشبث، قال:
(قال نبهان بن عَكيّ العبشمي:
يُقر بعيني أن أرى مَن مكانه ... ذُرا عقدات الأبرق المتقاود
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمي وقد مل السرى كل واجد
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطاً بسم الأساود
. . . بسم الأساود: يريد أسود سالخ، وجمعه على أساود لأنه يجري الأسماء، وما كان من باب أفعل اسماً فجمعه على أفاعل نحو أفكل وأفاكل، والأكبر والأكابر وكذلك كل ما سميت به رجلا تقول: أحمد وأحامد وأسلم وأسالم. فإن كان نعتاً فجمعه على فعل نحو أحمر وحمر وأصفر وصفر ولكن أسود إذا عنيت به الحية وأدهم إذا عنيت به القيد وأبطح إذا عنيت المكان المنبطح وأبرق إذا عنيت به المكان مضارعة للأسماء لأنها تدل على ذات الشيء وإن كانت في الأصل نعتاً، تقول في جمعها الأباطح والأبارق والأداهم والأساود، فإن(745/5)
أردت نعتاً محضاً يتبع المنعوت قلت مررت بثياب سود وبخيل دهم، وكل ما أسبه هذا فهذا مجراه).
قوله (إن أردت نعتاً محضاً) يقصد به مثل أسود وسوداء وأدهم ودهماء وأبيض وبيضاء وأحمر وحمراء لا مثل الأسود للحية والأدهم للقيد والأبطح والأبرق المضارعة للأسماء أو التي أصبحت تعد في الأسماء (تعينت لها الاسمية إذ فقدت الوصفية).
فهذه ليست بنعت محض حتى يسوغ لها أن تجمع على (فعل) إن هذا الجمع للنعت المحض الذي لا رائحة للاسم تشم فيه. . وأما التي نقلت من الوصفية إلى الاسمية فجمعها (أفاعل) لأنها ليست من النعت المحض ولا ينظر إلى أصلها وإن كان أصلها نعتاً وإنما يلتفت إلى ما قد حصل. . .
وقول المبرد هذا هو مثل قول سيبويه، وهو القاعدة في هذا الجمع ولا منع فيه لوصف مجموع بمفرد، ولا وجوب وصف مجموع بجمع ولا جوازه، وما أظن المبرد زاد شيئاً في (المقتضب) على ما قاله سيبويه وقاله هو في الكامل.
هذه هي قصة القضية في فعلاء وجمعها فهل للمولد - إذا ثبت عنده أن العرب لم يصفوا الجمع بذلك المفرد - أن يقيس وصف جمع على وصف جمع، وكم قاس في اللفظ والتركيب وكم ولد، وثلاثة أرباع اللغة مولد، ولاسيما إذا لم تجيء نصوص أئمة تمنع.
رأينا الجاحظ في (الحيوان) (ج2ص212) والمسعودي في (المروج) - ج1ص35 - والزمخشري في (الكاشف) - ج2ص383 - والتبريزي في (شرح الحماسة) في الطبعتين - ج4ص120 ج4ص244 - والصاحب في إحدى رسائله في (إرشاد الأديب) والمعري في جريدة كتبه في (الارشاد) وفي (رسائله) وفي (نهاية الأرب) وابن سيده في (المخصص) وابن طولون في (اللمعات البرقية في النكت التاريخية) - ص66 - رأينا هؤلاء القوم يصفون وصفهم، فاستدل المستدل على التجويز، وقيل: هؤلاء جلهم أئمة، والأئمة يُتبعون. وإذا حرف نسخ أو طبع أقوالهم فهل حرفت كلها جمع أو جمعاء؟
أنا استبعد كثيراً التحريف في كلام ابن سيده وفي (أيادي بيضاء) إن (المخصص) محقق، وضبط الشنقيطي إياه محكم، وعبارة المعري رواها القفطي في (إنباه الرواة على أنباه النجاة) وقد طير همزة بيضاء ناسخ عصري لكاتب (الإنصاف والتحري) فجاءت (أيادي(745/6)
بيضا) فهل كان هذا الناسخ ممن يتقززون من الهمز فقصر أو كان مستعجلا أو طوعت له نفسه أن يصحح كلام أبي العلاء؟. . و (الزهراء والجزاء والأرزاء) هن من مظاهرات (بيضاء) وما جلب تينك السجعتين في اعتقادي إلا هي.
وأوقن كل الإيقان أبا العلاء وصاحب المخصص لم يقولا (زهراء) و (وخضراء غبراء) إكراماً للجوار جوار (مثل) و (مضيئة) فما كان هذا الإمامان هذه (الفتوى اللغوية العصرية) هذا الكلام المفتلت، ولن يعثر على مثله عاثر عند أحد من المتقدمين ولا عند أحد من المتأخرين، أنه كلام لفته صاحبه لفتاً، والعلم ليس بشعوذة أو مخرقة.
من مشاهير العصريين الذين وصفوا الجمع بفعلاء المفردة الأب أنستاس ماري الكرملي في مجلته (لغة العرب) كما أشار إلى ذلك الدكتور مصطفى جواد في مقالة في (مجلة المجمع العلمي العربي) الغراء.
والشيخ إبراهيم اليازجي في مجلته الضياء (س1ج3) قال: (. . . وبوده أن يكون فداء عن أياديهم البيضاء وأن لا تعدم الآداب نفحات مكارمهم الفيحاء).
والأستاذ مصطفى صادق الرافعي في إحدى مقالاته في (الرسالة) الغراء قال: (. . . فصرخة واحدة من قلب الأزهر القديم تجعل هدير البحر كأنه تسبيح، وترد الأمواج نقية بيضاء كأنها عمائم العلماء).
وقد كتب الأستاذ الرافعي لم يتأمل قول المبرد في الكامل ملياً فجار على هذا المسكين البريء وغلطه وجهله. وكلام (أبي العباس) هو ما رويته آنفاً وما كان هذا الإمام فيه إلا موضحاً كيفية جمع مكسر ومقرراً قاعدته، ولم يغلط في توضيحه وتقريره، ولن يجسر ناح أن يخالفه فيما قال.
لقد كان (أبو السامي) يستعجل في بعض الأوقات في رده ويكربل ويكرمل في نقده. . .
إن أول من نبه على ما توهمه خطأ هو الأستاذ (كرنكو) العرباني الجرماني (رب ذلك الجمع) وهو الذي خطأ الأب أنستاس ونشر التغليط في مجلة (لغة العرب) ثم كانت تلك الفتنة في بلاد العرب. . .
السهمي(745/7)
من شوارد الشواهد
للأستاذ علي الطنطاوي
سألني سائل عن بيت:
فما كان قيس هلكهُ هلكَ واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
المروي في عدد الرسالة الأخير، لمن هو؟ فقلت: لعَبْدة بن الطبيب، واسم الطبيب يزيد بن عمرو، وهو شاعر مخضرم معروف من قصيدته التي يرثى بها قيس بن عاصم المنقري وقبله:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحيّةَ من غادرته غرض الردى ... إذا زار - عن شحط - بلادَك سلّما
ففرح بذلك فرح من كان عنده لقيط فعرف نسبه، وكنت قد واليت البحث عن أمثاله من الأبيات الشاردة - التي لا تكاد تجد أديباً ولا متأدباً لا يتمثل بها إذا كتب أو خطب، وقلّ في المتأدبين من علم أنسابها، وعرف أصحابها - حتى اجتمع لي طائفة منها صالحة، تملأ مجلدة لطيفة، فرأيت أن أنسب بعضها في الرسالة.
من ذلك:
1 - لا تَنْهَ عن خلق وتأتيَ مثله=عار عليك إذا فعلت عظيم
للمتوكل الليثي، وهو شاعر إسلامي، كان يمدح معاوية وابنه يزيد. من قصيدته التي يقول فيها:
للغنيات بذى المجاز رسوم ... فببطن مكة عهدهن قديم
فبمَنْحر البُدْن المقَّلد من مِنى ... حِلل تلوح كأنهن نجوم
2 - أخاك أخاك إن من لا أخا له=كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
لمسكين الدارمي وهو ربيعة بن عامر بن أنيف، قدم على معاوية وسأله أن يفرض له، فأبى، فخرج من عنده وهو يقول:
أخاك أخاك. . . (البيت).
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح
وما طالب الحاجات إلا مغرر ... وما نال شيئاً طالب كنجاح(745/8)
3 - العبد يقرع بالعصا=والحر تكفيه المقاله
لأبي الأسود الدؤلي. وقبله:
أعصيتَ أمر أولى النهى ... وأطعت أمر ذوي الجهاله
أخطأت حين حرمتني ... والمرء يعجز لا محاله
4 - فعين الرضا عن كل عين كليلة=ولكن عين السخط تبدى المساويا
لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان صديقاً للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عبد المطلب، وكانا يرميان بالزندقة، فجرى بينهما شيء فقال له:
وإن حسيناً كان شيئاً مُلَفَّفاً ... فكشّفه التمحيص حتى بداليا
أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلا تماديا
فلست برام عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا
فعين الرضا. . . (البيت).
كلانا غني عن أخيه حياتَه ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
5 - فإن كنت مأكولا فكن خير آكل=وإلا فأدركني ولما أمزّقِ
لشاس بن نهار من قصيدة قالها لعمرو بن المنذر بن امرئ القيس ين النعمان وهو عمرو بن هند، وهند أمُّه عمة امرئ القيس الشاعر؛ لما همّ بغزو قومه عبد القيس، فلما سمعها تركهم، وتمثل به عثمان يوم الدار. وبه سمى الممزق (بالفتح) وقيل بالكسر والتحقيق أن الممزق (بالكسر) شاعر آخر متأخر يعرف بالممزِّق الحضرمي.
6 - كناطح صخرة يوماً ليوهنها=فلم يَضْرها واعياً قزنَه الوعل
للأعشى من قصيدته التي مطلعها:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
وقبله:
ألست منّهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرَها ما أطّلت الإبل
تغرى بنا رهط مسعود اخوته ... يوم اللقاء فتردى ثم تعتزل
ومنها البيت المشهور:(745/9)
قالوا: الطراد! فقلنا: تلك عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نُزُل
7 - عقم النساء فلم يلدن شبيهه=إن النساء بمثله عقم
لأبي دهبل (وهب بن زمعة) الجمحي. مدح معاوية ومدح ابن الزبير وولاه عملا في اليمن، قاله في ابن الأزرق، عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله ين عمرو بن مخزوم وبعده:
نزْر الكلام من الحياء تخاله ... ضَمِناً وليس بجسمه سقم
8 - وكنا كندماني جَذيمة حقبة=من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
لمتمم بن نويرة من قصيدته المعروفة في رثاء أخيه مالك وبعده:
فلما تفرقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً
وتمثلت بهما عائشة لما وقفت على قبر أخيها عبد الرحمان.
9 - وما طلب المعيشة بالتمني=ولكن ألقِ دلوك في الدلاء
لأبى الأسود الدؤلي، قاله لابنه أبى حرب لما قعد عن الكسب وقال: رزقى يأتيني، وبعده:
تجئك بمائها يوماً ويوماً ... تجئك بحمأة وقليل ماء
10 - يا ربة البيت قومي غير صاغرة=ضمي إليك رحال القوم والقربا
لمرة بن مَحكان، شاعر إسلامي مقل، بعد في الأشراف الأجواد وبعده:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطٌنٌبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلفّ على خيشومه الذنبا
يقول لها، وكان الضيف يستبقى معه سلاحه مخافة البيات، فهو يقول لها، ضمي سلاحهم إليك فهم عندي في أمان.
11 - عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه=فكل قرين بالمقارن يقتدي
لعدى بن زيد العبادي، من قصيدته التي مطلعها:
أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم ورماك الشوق قبل التجلد
12 - أريد حياته ويريد قتلى.
وتتمته: عذيرك من خليلك من مراد.
من قصيدة قالها عمرو بن معد يكرب لقيس بن مكشوح المرادي، (قالوا) وتمثل به على بن(745/10)
أبى طالب لما رأى عدوّ الله عبد الرحمان بن ملجم المرادي.
13 - إذا لم تستطع أمراً فدعه=وجاوزه إلى ما تستطيع
لعمرو أيضاً من قصيدته التي مطلعها:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
14 - ألا ليت اللحى كانت حشيشاً=فنعلفها خيول المسلمينا
لابن مفرّغ الحميري، وأسمه يزيد بن ربيعة، شاعر إسلامي أولع بهجاء آل زياد بن أبى سفيان، وهو جد السيد الحميري، قاله في عبّاد ابن زياد وكان عظيم اللحية.
15 - وإني لعبد الضيف ما دام نازلا=وما في إلا تلك من شيمة العبد
كذلك هو غلى ألسنة الناس، وروايته:=وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
للمقنع الكندي وهو محمد بن ظفر بن عمير وسمى المقنع لأنه كان لجماله يخاف العين فيتخذ اللثام، شاعر إسلامي مقل، معدود في الأجواد والأشراف، والبيت من قطعة له هي:
يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أسدّ به ما قد أخلّوا وضيقوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
إلى أن قال:
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا عيي هويت لهم رشدا
وإن زجروا طيراً بنحس تمرّ بي ... زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن همُ ... دعوني إلى نصر أتيتهم شدَّا
لهم جُلُّ مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضيف. . (البيت)
16 - تمتع من شميم عرار نجد=فما بعد العشية عن عرار
للصمة بن عبد الله القشيري، شاعر إسلامي غزل مجيد، من أبياته المعروفة، وقبله:
أقول لصاحبي والعيس تهوى ... بنابين المنيفة فالضمار(745/11)
وبعده:
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريّا روضه بعد القطار
وأهلك إذا يحل الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زاري
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار
وروى: غبّ القطار. وروى: شهور قد مضين.
17 - كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا=أنيس ولم يسمر بمكة سامر
(منسوب) لمضاض بن عمرو الجرهمي، من قطعة (زعموا أنه) قالها يتشوق بها إلى مكة لما أجلت خزاعة قومه عنها، وبعده:
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدور العواثر
وأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجري المقادر
فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة ... كذلك عضتنا السنون الغوابر
وبدلنا ربي بها دار غربة ... بها الذيب يعوي العدو المكاشر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المعاشر
18 - وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر.
لأعرابي، نظر إلى امرأته فرآها تتجمل وهي عجوز، فقال لها:
عجوز تُرَجّى أن تكون فتية ... وقد لحب الجنبان وأحدودب الظهر
تدس إلى العطار سلعة أهلها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
فأجابته ببيتين، وجمعت عليه نسوتها فضربنه.
علي الطنطاوي(745/12)
هزيمة الكوليرا!
للدكتور مصطفى الديواني
أثبتت محنة الكوليرا الأخيرة شدة تعلق الإنسان بالسلامة وطول البقاء. فهذه الاستفهامات التليفونية التي توجه إلى طبيب العائلة - والتي لا تقف عند حد - تملأ الطبيب ثقة بنفسه وغروراً بمركزه كحصن الألمان يلجأ إليه عند الملمات ومنطقة النجاة تلقى للتائه في اليم الخضم ليصل بوساطتها إلى الأرض الطيبة عساه أن يدب عليها من جديد ويسعى فيها متمنعاً بشمسها وقمرها وليلها ونهارها ولذائذها وطيب ثمارها.
إن الكوليرا عنيفة في هجومها، لا تعرف سناً أو جاها أو مالا. تغزو الأكواخ والقصور سواء بسواء وسيان عندها مزهو في دمقس وغارق في بالي الأسمال. ولقد كانت فيما مضى فتاكة لا تبقي ولا تذر ولكن اشكروا طبيب المعمل فقد روضها كما تروض الأسود والفيلة الضخام ثم سلم رسالته إلى طبيب العلاج ليطبقها على الضحايا من عباد الله فنال الشكر والحمد والثناء لنفسه وبقي طبيب المعمل في ركنه يوالي أبحاثه في صمت وسكون. لقد حضر لكم الطعم الواقي مثلا وهو أكيد في مفعوله إذ يولد مناعة لا تزيد مدتها عن الخمسة شهور ويأخذ الشخص الكبير منه 0 , 5سم ثم 1سم من أسبوع أي 4000 مليون ثم 8000 مليون جرثومة. أما الأطفال الذين تتجاوز أعمارهم السنتين يأخذون 0. 25 ثم 0. 5 سم والذين تقل أعمارهم عن العامين يلزمهم 0. 2 ثم 0. 40 سم بعد أسبوع. ولا تتولد المناعة بعد حقن الطعم قبل عشرة أيام على الأقل ولذا يجب اتباع الاحتياطات اللازمة طوال هذه المدة ولا يغرينا الشعور بالسلامة الكاذبة على التراخي في هذا السبيل.
أما عن العلاج فقد دق لكم الطب في ميدانه أسافين عدة جعلت مقاومة المرض مائعة مراوغة بعد أن كانت كالصاعقة تضرب ضربتها بلا تردد وبلا إنذار.
إن قرص السلفاجوانيدين مثلا من وسائل العلاج الحديثة ولما أذيع أخيراً عن تأثيره في سير المرض تهافت الناس على إقتدائه بدرجة جعلته يكاد يختفي من الأسواق في ساعات وهذا خطأ فادح لا أقرهم عليه فلو تركوه بوفرته السابقة لكني وزيادة. فالمريض يلزمه للعلاج مائة وأربعون فرص تقريباً ولو (لا قدر الله) بلغت الإصابات الألف عداً لكان الموجود من الدواء يكفي وزيادة ويتعاطى منه المريض عادة ستة أقراص كل 4 ساعات(745/13)
لمدة ثلاثة أيام ثم مرتين في اليوم لمدة ثلاثة أيام أخرى. وقد وجد أن نسبة الوفيات في الحالات التي عولجت بالسافاجوانيدين حوالي الواحد في المائة على حين أنها بلغت في الحالات الأخرى التي حرمت منه حوالي 38 في المائة، أما الحالات التي عولجت بمركبات السلفا وبحقن البلازما أي في الوريد بقصد مقاومة الجفاف الذي يقاسي منه هؤلاء المرضى فنسبة الشفاء مائة في المائة. ولقد ثبت أن هذه الطريقة الأخيرة تؤدي إلى نتائج رائعة. ولكن إياكم أن تتهافتوا على شراء هذه المادة كما فعلتم بالسلفاجوانيدين فهي غالية الثمن إذ يبلغ سعر زجاجتها حوالي الاثني عشر جنيهاً ولن يلجأ إليها إلا إذا جد الجد لا سمح الله. وحرام أن تحرموا منها من هو أحق بها منكم أعني الذي أصابته لوثة الميكروب. والرأي العلمي السائد أنه متى توفرت هذه المادة فلن نسمح لجرثومة الكوليرا أن تعصف ببني البشر من الآن فصاعدا.
فنصيحتي أن نقابل الوباء بشجاعة وجنان ثابت فإن الكوليرا كمرض فتاك في طريقها إلى المؤخرة بعد أن عمل الطب جهده. ولكن يجب ألا ننسى في غمرة الفرح بنشوة الانتصار أن نشكر ذلك (النبي) المرسل الذي خلقه الله ثم سواه فصار طبيباً. انحنوا معي لطبيب المعمل الذي يسهر الآن ليأخذ بيدكم مجتازاً بكم ذلك الجسر الضيق الذي يصل السلامة بالفناء مخاطراً بحياته دون أن يبالي بالخطر المحدق به. وكل ما يطلبه منكم أن تتمسكوا بأصول الوقاية في المنزل والشارع وهو مطلب لو تعلمون سهل بسيط. وليكن رائدكم الثبات فإن الحكومة ساهرة بشكل يستدل الإعجاب. وهي تبذل جهداً كبيراً كان يمكنها توفير بعضه لولا أنها تعامل شعباً نصفه جاهل وربعه غافل. أعانها الله.
دكتور مصطفى الديواني(745/14)
من أدب السودان:
الشرارة الأولى. . .
للأستاذ عثمان طه شاهين
أخذت المدينة بأجمعها تستروح النسيم العليل ودلف إبراهيم - كعادته - إلى الشاطئ ليلقى بنفسه في أحضان الطبيعة من عناء يومه المنصرم وليستقبل الحياة الجديدة في غده السعيد، بيد أن إبراهيم لم يستطع أن يتخلص من تأملاته إلا قليلا إذ كانت روحة شاردة كأنها تريد أن تبحث عن سر الصمت العجيب الذي يلف الكون والناس والأشياء، فأخذ يتجه ببصره إلى الأنوار الجميلة التي تبعثها قصور المدينة وطرقاتها، مودعة النهار، مستقبلة الليل كما يستقبله الأحياء. . .
جلس إبراهيم على مقعد خشبي تجاه الشاطئ يرقب المياه المصطخبة ويتمثل الحسن الرائع الذي سكبته الشمس على الشاطئ وهي تكاد تودع يومها المكدود، والناس من حوله فرحون مستبشرون ضاحكون عابثون في أغلب الأحيان، ولكن صاحبنا شارد اللب، ساهم الطرف، والرؤى والأشباح تتراءى أمام ناظريه في هذه اللحظة السعيدة، وكل ما في الوجود ينبئ عن شيء جديد. . . أخذت الشمس تبتعد شيئاً فشيئاً وأخذ الأصيل يفقد بهجته ورواءه، وجيوش الظلام مسرعة، ملحفة في الإسراع، والناس فرحون مستبشرون يودعون الأصيل الحبيب كما ودعوا نهارهم الذي كانت فيه بقية من قيظ وسحابة من عبوس، وأخذ إبراهيم يبعد نفسه عن المقعد الخشبي الذي ألف الجلوس عليه عند الشاطئ ليستقبل الليل. . . .
آوى إلى غرفته يطلب الراحة والاطمئنان وترددت في نفسه هذه الأحاسيس المتباينة من أضواء الحياة ومساربها وأخذ يستعيد الصور الجمة المتباينة ليبتعد بها عن عالم المحسوس. . . أخذت الخليقة تسلم أنفاسها لسلطان الكرى، وأخذت جيوش الظلام تتسلل إلى المدينة رويداً رويدا حتى لفتها بالغطاء الموحش الكئيب، وأضواء المصابيح تبدو خافته باهتة أمام هذا السكون، وإبراهيم يتطلع من نافذته ليبصر الكون، والكون - من حوله - صامت لا يبين، والأغصان هادئة ساكنة والدجى مهود وسنان. يسرح الطرف ناظراً إلى بعيد، محاولا سبر المستقبل ومعرفة الغد القريب، بيد أن المستقبل عالم مجهول. وأحداث الماضي(745/15)
تتراءى ماثلة للعيان، وسر الحياة عنده لغز حار فيه الفلاسفة والمصلحون، والرؤى والأشباح ومعالم الحياة والفكر تتراءى أمام ناظريه في كل عين.
والناس فرحون مستبشرون إلا قليلا وتزدحم أمام صاحبنا الأفكار ويستعرض تاريخ العالم وقصة الإنسان، فهذا عبقري أعجبت به الإنسانية وأحبه طلابه المخلصون، وهذا شاعر غنى على قيثارته فأودع الحياة أناشيدها العلوية الرفيعة فتغنت بها الأجيال، وهذا فنان سكب روحه فجاءت صورة أو تمثالا ينبئ عن قصة الإيمان بالفن والجمال والجلال، وهكذا تزدحم الرؤى والأشباح وصاحبنا لا يكاد ينام. . . والظلام يمعن في قسوته وجبروته، والإنسانية قد أسلمت أنفسها لسلطان الكرى، وصاحبنا ينصت إلى نداء الظلام والناس من حوله غافون نيام. . .
يغمض الفتى عينيه لينام ويدثر نفسه علها تجد الراحة من فرط عالمها الخارجي الذي اضطربت فيه طول النهار ولكن الأشباح ما فتئت تتراءى أمام ناظريه فيحدق في الظلام من جديد ويفكر في حقائق الأدب وروعة الفكر وجلال الأداء؛ وساعات الليل تكاد تتعثر عرجاء، مثقلة الخطى غير ناظرة إلا إلى المحبين، والظلام من حوله يلف الكون في صمت عميق والإنسانية بين أحضان الكرى؛ والأشباح تتراءى أمام ناظريه من جديد، فينظر - في سر وإيمان - إلى أرباب العلم وأساطين الفن ويقدر الجهد المبذول، ويكبر معالم التضحية والصبر والإيمان، والناس من حوله هادئون نيام، والوجود يلقى نظرة صادقة على صعود الحياة وأحلامها الوادعة، وعمود الفجر يكاد أن ينشق ليسفر الصبح عن نبأ جديد!؟
أخذ الطفل الكبير ينظر إلى الأم التي جاءت لتستقبله كما يستقبل الفرد صباحه الجديد، وتلهف القلب لرؤيته حتى بدا جلال الكون متمثلا في روعته البهية، وأخذت تنشد موسيقى الحنان الأبدي التي تدخرها كل أم لطفلها الحبيب قائلة في صوت خفيض: الأمهات من حولي ينعمن بأطفالهن والقلوب عامرة برؤية الأطفال عند كل صباح، وأنا وحدي أتلفت إليهن، فرحة بك، ذاكرة لك، ولكنك لست بجانبي. . . والعصافير تغرد فوق الأغصان، والطيور تشقشق فرحة بربيع الحياة الندى، والطبيعة توحي بالروعة والجلال، وعند طرفي المدينة ألمح شآبيب النور الحي، ولكنك عني بعيد!؟(745/16)
أتذكر يا طفلي الوحيد يوم ودعتني متجهاً صوب الشمال، أتذكر يوم خلفت قلبي الثاكل الآمل؟ فالقطار الذي تحرك بك ليقلك إلى وطنك الروحي الأصيل كان بداية عهد جديد في حياتي نحوك؛ ففي الصباح الباكر أصحو على موسيقى ذكراك الحبيبة وأتلمس أخبارك في كل آن، وأنا اليوم أحب الحياة لأنك وهبتها لي، وهل الحياة إلا في طفلي وهل طفلي إلا عند الحياة؟. . كان بكاء الطفولة فيك يؤلمني ويقض مضجعي، وكان مرح الطفولة فيك يملأ قلبي حباً بالحياة وتعلقاً بها، وأنا الناظرة إليك من أقصى الجنوب يتلفت قلبي إليك ليدرك حياتك بين اللدات والأتراب، فإذا رسائلك تحمل إلى فرحة الروح والحس والشعور فأذداد إيمانا بالحياة وتعلقاً بالوجود.
إذا ما دعا داعي الحي بأن فيه أحداً قد ذاق المصاب ذكرتك يا بني واتخذت المصاب مصابي والعلة علتي وأحاطت بي الهموم والأحزان، وإذا ما أذن مؤذن الحي بأفراح الشباب تهللت أساريري مرتجية لك مثل ما للداتك الكرام، وإذا ما عاد أترابك حاملين لأمهاتهم أفراح الشمال تلقيتهم فرحة لأني أجد فيهم ريح طفلي الكبير، ولكن دعني أعرف جوانب الحياة وجوانب الروح فيك، ودعني أتحسس ما تريده في الغد السعيد. . .
جلس إبراهيم على مقعده الخشبي تجاه الشاطئ يرقب الناس في صمت وسكون وإطراق، وأحاديث الأم تعاوده وتلح عليه وتملأ القلب فيه والشعور والإحساس؛ والناس من حوله فرحون مستبشرون يستقبلون الحياة في لذة ونشوة وسرور، والأمواج تقذف الشاطئ ثم ترتد عنه في حياء وخجل، والبساط الأخضر مورق على ضفاف الوادي متحدث في صمت وسكون، والفتى تتعاوده أحاديث الأم والقلب والروح. . .
جد الفتى خطاه المتثاقلة إلى الدار، وأخذت الرؤى والأشباح تستعيد صورتها السابقة من جديد؛ ولجأ إلى كتاب مسطور يتحدث إليه عن الشعر والعلم والفن ولكن جوانب نفسه تزحمه ولا تترك له بقية لنظرة في كتاب، فيهرب إلى فراشه عله يدفن رأسه فيه لينام ساعة من ليل، ولكن الرؤى والأشباح ما فتئت تطارده فينهض ليقرأ في صفحة الكون من جديد. . .
والظلام المطبق يكاد أن ينجلي شيئاً فشيئاً، والأصوات الخافتة التي تزحم أنفاس البشر أخذت تتأهب للمسير، والأشجار المورقة ترسل موسيقاها الخافتة في هدأة الليل البهيم،(745/17)
وهمسات الدوح البعيد تستدعيه ليعمل مع العاملين ونقيق الضفادع يملأ أذنيه فلا يكاد يترك له بقية عابرة من ليلة المنقضي. . ألمت بفتانا إغفاءة الفجر، وأدرك عند ما استيقظ - أن المدينة أخذت كعادتها تزدحم في ميدان الحياة العابرة، وأن لهذه الفنون - التي جذبته بسحرها الرائع وجلالها المكنون - أرباباً عبدوها وقدسوها فكانت متعة للناظرين، ولكن دقات الزمان ما فتئت تضرب على أوتار الحياة فتوهنها وما برحت تبدد أمامها آثار القوة والعظمة والطموح وهكذا تتجدد الإنسانية وتفنى العصور ويولد الكون من جديد. . .
وأخذا الإنسانية تضطرب في حياتها التي اعتادت منها أن تعيش وانقضت سحابة النهار كما انقضت بقية الأخوات، والشاطئ الحبيب يستدعيه ليجلس على مقعده الخشبي ليرقب الأشياء والناس ولكن جوانب النور أخذت تتراءى لديه من بعيد، وفقد الشاطئ بهجته ورواءه، والفتى ساهم الطرف، شارد اللب ونظر حوله فلا يرى إلا الوجوه التي أخذت تضحك منذ أن استقبلت الحياة وعرفت الوجود، فإذا بنشيدها ينقلب أسى وحديثها يصير همساً وضحكاتها المرتفعة تغدو عبوساً مطرقاً، والشمس تنحدر للمغيب وجوانب الحي تتهيأ لاستقبال الليل كما استقبلت أحاديث النهار، بيد أن القمر يبسط أشعته الفضية الزاهية على الربى والبطاح فيملأها حياة وجمالا وجلالا، والنجوم الخفرات تتداعى من فرط استحيائها وجيوش الظلام تكاد تولي هاربة. وحديث الأم يطرق الآذان من جديد فيصيح إليه إذ يقول: ومن قدر السماء يا بني أن تبسم الأمهات لأطفالهن وقد بسمت للوليد الجديد يوم ميلاده وابتسم له اليوم عند الشباب وفي الأفق البعيد تتبدى أنوار العدالة والحق فتنعكس صفحاتها المشرقة على جبين الحياة فتزيدها نوراً على نور، وتبعث الحضارة بما فيها من قوى روحية سامية، ذلك لأن الحياة هي في حقيقتها تلك اللحظات الروحية الرفيعة؛ والفنون وأنماط المعرفة تملك التعبير الصحيح عن خير ما في الإنسان من رقة ونبل وإحساس، وهل حياة المعرفة والفن إلا نوعاً من التضحية والقلق يدفع بصاحبه للبحث وراء المجهول. . .
وفي ثنايا الليل يظل صاحبنا باحثاً عن الحكمة، ناظراً في دنيا العلم، مطرقاً مستغرقاً؛ وهل عادت الروح من جديد تجاه الشرق لتجد عالم الهدوء والاطمئنان أم تبدت حياة الآلة كالحة في نظرة الفتى الذي أجهده طول السهاد؟! وأنغام الموسيقى تتهادى في ضوء القمر،(745/18)
والزهور الندية ترسل العطر لأبناء الإنسان، وأذان الفجر يكاد أن ينادى بالصلاة والدعاء، والمدينة أخذت تتأهب للحياة من جديد، وجيوش الظلام أخذت تولي خاربة ولكنها لن تعود. . .
واليوم تنبعث من جوانب المدينة أنغام الخلود، وأضواء الشمس تتساقط من جلال الأشجار، وعبير الأزهار بداية الربيع الساحر، والأم فرحة بطفلها الذي يستقبل الحياة، وحفيف الأشجار وهمسات النور المنبعث وأسارير الطبيعة تنبئ عن بداية الفوز؛ والثغاء يملأ جنبات الوادي، والرعاة يهدهدون القطيع فرحين مستبشرين، والوليد الجديد فرحة القلب عند الأم الرؤوم.
عثمان طه شاهين
ليسانسيه في الفلسفة(745/19)
حول الفن القصصي في القرآن الكريم
أبدأ اليوم بعرض وجهة نظري في مسألة من أخطر مسائل بحثي وهي مسألة الأسطورة. وأرجو ألا يزعجنا هذا اللفظ ونقع في أخطاء وقع فيها غيرنا حين ظن أن معنى الأسطورة الكذب والمين أو الخرافات والأوهام، فذلك ما لم يقصد إليه القرآن الكريم.
ليست الأسطورة في حس القرآن الكريم إلا ما سطره الأقدمون من
أخبارهم وأقاصيصهم بذلك تنطق آياته وإلى ذلك فطن المفسرون.
قال الله تعالى (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا.) وقال تعالى (قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.).
وجاء في الطبري ج9ص142 (والأساطير جمع أسطر وهو جمع الجمع لأن واحد الأسطر سطر ثم يجمع السطر أسطر وسطور ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر وقد كان بعض أهل العربية يقول وأحد الأساطير أسطورة. وإنما عنى المشركون بقولهم أن هذا إلا أساطير الأولون أن هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد إلا ما سطره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم وأنه لم يوجهه الله إليه.).
ثم جاء في الكشاف ج2ص103 (أساطير الأولين. ما سطره المتقدمون من نحو الحديث عن رستم واسفنديار جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة).
وجاء في المنار ج9ص653 عند تفسيره لآية الأنفال (إن هذا إلا أساطير الأولين). أي قصصهم وأحاديثهم التي سطرت في الكتب على علاتها وما هي بوحي من عند الله. قال المبرد في أساطير هي جمع أسطورة كأرجوحة وأراجح وأثفية وأثافي وأحدوثة وأحاديث وفي القاموس الأساطير الأحاديث لا نظام لها. .
قال المفسرون كان النضر بن الحارث. . كأنهم يعنون أن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم اشتبهت عليه بقصص أولئك الأمم فقال أنه يستطيع أن يأتي بمثلها فما هي من خبر الغيب الدال على أنه وحي من الله. ولعله أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره ولم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلقة وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي افتراها فإنهم لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما نقل عن كبار طواغيتهم ومنهم النضر بن الحارث وقد قال تعالى في ذلك فإنهم لا يكذبونك ولكن الضالمين بآيات الله يجحدون. بل كانوا يوهمون(745/20)
العرب أنه اكتتبها وجمعها كما في آية الفرقان وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا. أي ليحفظها).
يجب إذاً ألا تزعجنا هذه اللفظة فنجرى فيها وراء الخيال ونعتقد أنها الأكذوبة أو الخرافة وإنما يجب أن نقف منها عند المدلول الذي فهمه المفسرون والمعنى الذي قصد إليه القرآن.
وأعود فأقول إني أعرض لهذه المسألة الخطيرة مسألة الأسطورة وآمل أن يتفضل علينا أصحاب العقول الراجحة والقلوب المستنيرة - من الذي يعرفون الدقائق الأدبية ويفقهون المسائل القرآنية - بالمشاركة في البحث حتى يفطن كل منا إلى حقيقة موقفه إن كان حقاً يحرص على الروح العلمية في بلدنا العزيز.
إنى لأقدر منذ اللحظة الأولى أنه من الجائز أن أكون قد أخطأت القصد أو ضللت الطريق وأن يكون الأستاذان الفاضلان أحمد بك أمين وأحمد الشايب قد أصابا ولكنى لم أتبين بعد جانب الخطأ أو وجه الإصابة ومن هنا كتبت ما كتبت وآمل أن نصل إلى الحق المبين.
ولعل نقطة الخلاف فيما بيني وبين أستاذي الفاضلين تضيق وتتضح حين نشرح الصنيع الأدبي أو البلاغي في الأسطورة شرحاً موجزاً ولذا نقول.
الأسطورة كما يعرفها الأدباء في صنيعهم البلاغي وسيلة فعالة من وسائل تجسيم المعاني وتمثيلها لتتضح وتبين. وهى من هذا الجانب تعتبر أداة من أدوات التعبير يعمدون إليها أحياناً للتعبير عن المعاني الفلسفية أو كل معنى دقيق عميق.
الأسطورة في هذا الوضع تشبه اللفظة المفردة إلى حد كبير. وإذا كان من حق الأديب أن يعمد إلى المفردات فيحملها من العواطف والمعاني ما يريد فكذلك من حقه في الأساطير.
وإذا كان الأديب يخرج أحياناً بالألفاظ المفردة عن معانيها الحقيقية إلى أخرى مجازية فكذلك يفعل بالأساطير.
وإذا كان التاريخ الأدبي يدلنا أحياناً على أن هذه المعاني المجازية قد أصبحت حقائق عرفية أو شاع استعمالها حتى لينسى الناس المدلولات الأصلية أو الأولى فكذلك يدلنا في الأساطير.
وإذا كان الأديب يخرج أحياناً بالألفاظ المفردة عن معانيها الحقيقية إلى أخرى مجازية فكذلك يفعل بالأساطير.(745/21)
وإذا كان التاريخ الأدبي يدلنا أحياناً على أن هذه المعاني المجازية قد أصبحت حقائق عرفية أو شاع استعمالها حتى لينسى الناس المدلولات الأصلية أو الأولى فكذلك يدلنا في الأساطير.
وإذا كان الأديب حين يخرج بالألفاظ المفردة عن معانيها الحقيقية يبقى على مادتها فكذلك يفعا بالأساطير إذ نراه يبقى منها على جسم القصة أو هيكل الحكاية. وكل ذلك واضح بين في الصنيع الأدبي بحيث لا يحتاج منا إلى دليل.
ولعلك تعجب معي حين تعلم أن شيخاً من شيوخنا الأقدمين قد فطن إلى هذا الصنيع الأدبي في القصص القرآني قبل أن يفطن إليه أساتذتنا من الجامعيين.
فلقد فطن الرازي إلى هذا الصنيع الأدبي من اعتماد القرآن على الأسطورة عند شرحه لمواقف المشركين.
قال رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) من سورة يونس ما يأتي (الأول. انهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين. ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها).
فنحن نلحظ أن الرازي هنا يفرق بين شيئين.
الأول. هيكل القصة أو جسم الحكاية.
الثاني. ما في القصة من توجيهات دينية نحو قواعد الدعوة الإسلامية ومبادئ الدين الحنيف.
والرازي يلحظ أن الأمر الأول وهو هيكل القصة أو جسم الحكاية هو الذي أدخل الشبهة على عقول المشركين ومن أجل هذا قالوا عن القرآن إنه أساطير الأولين.
والرازى يرى أن القوم قد جانبوا الحق وبعدوا عن الصواب حين نظروا من القصة إلى هذا الجانب. ذلك لأنه ليس الجانب المقصود من القصة وليس الأمر الذي يقصد إليه القرآن الكريم حين يحدث ويقص.
ويؤكد الرازي هذا الأمر في مناسبات أخرى حين يجعل أحياناً كلمة (بالحق) التي تردد كثيراً في القرآن بعد بعض القصص وصفاً لما في القصة من توجيهات دينية. فهو مثلا(745/22)
يقول عند تفسيره لقوله تعالى (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) ما يأتي (أما الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة).
ويقول عند تفسيره لقوله تعالى (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) ما يأتي (اعلم أن قوله تلك إشارة إلى القصص التي ذكرها. . . أما قوله بالحق ففيه وجوه. أحدها أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد صلى الله عليه وسلم وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة).
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة وعرفنا أن الصنيع الأدبي أو البلاغي في الأسطورة هو الأمر الذي فطن إليه الرازي وقال بوجوده كان علينا أن نرصد الفوائد التي نجنيها أو المضار التي نزيلها حين نتابع الرازي في رأيه ونفسر بعض القصص القرآنية هذا التفسير البلاغي أو الديني القديم.
أما الفوائد فهي رد عادية المستشرقين والملاحدة حين يوجهون الطعن إلى النبي والقرآن الكريم. ذلك لأنهم يقولون بما قال به المشركون من قبل من أن القرآن قد جاء بالأساطير. ولعل هؤلاء أقوى سنداً وأثبت حجة حين يوردون الدليل تلو الدليل على ما ورد في القرآن من أساطير.
لن نقول لهؤلاء إلا ما قاله الرازي لأسلافهم منذ قرون. ولن نطلب إليهم إلا أن يفرقوا بين أمرين جسم القصة أو هيكل الحكاية وما فيها من توجيهات دينية نحو الدعوة الإسلامية ومبادئ الدين الحنيف. ولن نقول لهم إلا أن الأمر الأول كان وسيلة لا غاية وأنها وسيلة غير مقصودة لذاتها من القرآن الكريم. ولن نقول لهم إلا أن الأمر الثاني هو المقصود بالذات وأنه الحق الذي ليس بعده حق فيما يخص دعوتنا الإسلامية وشرعنا الحنيف.
إن تمسكنا بالرأي الذي يقول أن جسم القصة أو هيكل الحكاية حق ثابت بعد أن ثبت لدى العلماء الدارسين أنها من الأساطير أمر يعرض القرآن لشر عظيم.
وإن قولنا بالتفرقة بين الأمرين جسم القصة وما فيها من توجيهات هو الذي يتفق والصنيع الأدبي وهو الذي يرد عن القرآن عادية الملاحدة والمستشرقين.
هذه أخطر نقطة فيما بيني وبين أستاذي من خلاف. أعرضها عليكم وعلى قراء مجلتكم(745/23)
وعلى الرأي العلمي. وإني ليدفعني إلى القول بهذا الرأي حرصي أولا على سلامة القرآن الكريم من عبث الملاحدة والمستشرقين. وحرصي ثانياً على ألا نتخلف في الدراسة الأدبية فنعجز عن فهم أبلغ نص نعتز به وهو قرآننا الكريم.
إن فهمي الأدبي لما في القرآن من قصص يعتمد أحياناً على أساس من الأساطير يقوم على أساسين كما رأيت.
الأول. تلك اللفتة الكريمة من الرازي وهي لفتة أدبية نحرص عليها ونعتز أن صدرت عن شيخ من شيوخنا الأقدمين.
الثاني. ذلك الصنيع الأدبي الذي يجري العمل في القصة الأسطورية منذ القديم.
وليس في هذا وذاك ما يضر الدين أو يؤذي قرآننا الكريم.
إن المسألة أخطر وأعمق من أن يتناولها غير الباحثين الذين يفطنون إلى الدقائق الأدبية ويفقهون المسائل القرآنية وإني لآمل أن يوفقكم الله إلى تسديد خطوات الباحثين فنحل تلك المشكلة الجامعية التي يتخوف فيها بعض رجال الجامعة من بعض رجال الدين.
محمد احمد خلف الله
كلية الآداب - جامعة فؤاد(745/24)
من وراء المنظار
ذات صباح
أوشكت أن تنشق على الأفق الشرقي كلمة الصباح الوردية عن جبين الشمس، وأنا جالس في مصلى على حافة ترعة كانت تفهق بذلك الفيض الحبشي الذي حمله النيل من هضبات وادينا الحبيب؛ وكانت تحجبني عن الطريق العريض على الضفة الأخرى للترعة أغصان الصفصاف المتهدلة التي تمس الماء فتبدو كأنما تحنو على هذا النضار الغالي؛ وجلست بحيث أتبين المارة في يسر من خلال الصفصاف الحاني ولا يكاد يتبينني أحد إلا في مشقة. . .
ورحت أرقب طلوع الشمس على الأفق، ولعلي إنما طلبت الفضاء في السماء حيث غطت الفضاء على الأرض عيدان الذرة وقد استطالت واستغلظت على سوقها وأخرجت سنابلها، وعيدان القطن وقد طالت فروعها وتدلت زهراتها، فلم يبق أمام ناظري على الأرض إلا ذلك الطريق القريب على الضفة الأخرى للترعة تتقاطر فيه أسراب الصبايا عائدات بجرارهن من الترعة الكبيرة في هذه البكرة الرخية، خفيفات تتماوج قدودهن الممشوقة الناهدة تحت الجرار الثقيلة الطافحة بالفرات العذب الذي يجري به النيل. . .
وجاءت فتاتان فآثرتا أن تملآ جرتيهما على مقربة من المصلى فكنت أراهما من حيث لاترياني، أما إحداهما فما لبثت أن عرفتها فهي بهيجة بعينها!. . . بهيجة تلك البنية الريفية التي ما كنت ألقاها وهي بين العاشرة والثانية عشرة إلا استوقفتها وضاحكتها والتي كنت احدث نفسي يومئذ بما سوف يكون لها من فتنة وسحر. . .
وها هي ذي في الثامنة عشرة أو فوقها قليلا شمس يضئ جبينها الأبلج كما تضئ شمس الأفق، قد أفرغت فيها الطبيعة الريفية سحرها إفراعاً كما يصنع الفنان بدميته حين يريد أن يبلغ بها منتهى قدرته؛ وملأت ناظري من خصرها الدقيق وردفها المليء وصدرها الناهد؛ وشمرت عن ساعديها وكشفت عن ساقيها لتنزل على حجر في الماء، فما حسبت ساقيها وذراعيها لولا تحركها وتثنيها إلا صنعة فنان بالغ في تسوية مرمره ليتحدى به الطبيعة أما وجهها فما تغنى اللغة عنه فلن يتصور جماله إلا أن يرى. . .
وأما صاحبتها فسمراء لعوب في وجهها وفي هيكلها وفي حديثها ما نسميه خفة الروح،(745/25)
وهى لا تفتأ تضحك وتداعب رفيقتها ولا تزيد بهيجة على أن تبتسم ابتسامة طفيفة لا تلبث أن تنطفئ. . .
وحيرني هذا الهم في وجه بهيجة، فعلى فمها الرقيق وفي عينيها الواسعتين الزرقاوين الطويلتي الهدب، خيال الألم والحزن الدفين، وفي خديها شئ من الشحوب لولا تلك الحمرة الشديدة التي تمتاز بها صفحة هذا الوجه. . .
وقالت فاطمة - وهذا اسم صاحبتها كما تبينت - تحدث بهيجة وهى فوق الحجر يغطى الماء ما فوق خلخالها قليلا: أأدفعك يا بهيجة في الماء فتغرقين وتلتهمك الجنية؟ وقالت بهيجة ليتني أغرق فلن ينجيني إلا الموت!
وعجبت مما أسمع وازددت تطلعاً إلى معرفة ما يحزنها فما أشد ما يؤلم النفس مرأى الجمال الحزين، وأنصت إلى فاطمة وقد ألقى في روعي أنها سوف تكشف هذا السر. . .
وقالت فاطمة، وقد خرجت صاحبتها من الماء بعد أن ملأت الجرتين وجلست مستندة إلى جذع شجرة: فيم هذا الهم يا أختاه وغداً ليلة الحناء؟ وحاولت بهيجة أن تبتسم، فما افتر ثغرها الجميل حتى انطبق، وامتلأت مقلتاها الساحرتان بالدمع، وتسايل الدمع فجرى فوق خديها، ثم دفنت وجهها في كفيها وأجهشت إجهاشة كادت تطلق الدمع من عيني. . . . وما أيسر ما ينطلق دمعي فلا أمسكه إلا بجهد. . .
وأمسكت فاطمة من الضحك وراحت تهدئ صاحبتها وتقولك لعل الخير فيما تكرهين، وما عيب حسن وهو ابن الجمل والناقة، في بيته الخير وزوجات اخوته من أحسن البيوت وإن لم يكن جميلات، وسوف تكونين أنت زينة الدار. . . وبأي شيء يمتاز إبراهيم عنه؟ وكيف تقوى الواحدة منا على مخالفة أبيها؟ رأي أبوك أن يزوجك من حسن فهل تعصينه؟ وما جدوى البكاء وقد صرت في عصمته؟
وأثار كلام فاطمة حزنها كله فاسترسلت في بكائها وصحب هذا البكاء أنين متقطع، كأنما كان ما ألقى في سمعها من كلام طعنات خنجر شاعت في جسمها ففي كل موضع منه طعنة. . . ونظرت في وجه فاطمة تحسب أنها من أعدائها، ورأيت في وجهها كأنها تريد أن تري فاطمة ما تعتزم عليه من عصيان. . .
ولمحتني فاطمة من خلال الصفصاف فغمزت صاحبتها وهمست في أذنها؛ ومسحت بهيجة(745/26)
عينيها بذيل ثوبها الأبيض الذي سحبته من تحت ردائها الخارجي الأسود، وأصلحت الفتاتان جرتيهما ووضعتاهما على رأسيهما، ومر رجل فأعانهما على حمل جرتيهما وانطلقتا صوب القرية. . . .
ولاحظت على بهيجة أنها لا تكاد تقوى على حمل جرتها، فكانت خطواتها أثقل من خطوات صاحبتها، وكان عودها اللدن يتثنى من إعياء لا من عجب تحت جرتها الثقيلة، وما زلت أتبعها بنظراتي حتى غيبتها عني في منعطف عيدان الذرة. . .
وبقيت ساعة يكرب نفسي ما يخزن بهيجة، كما تكدر خاطري طيوف منكرة سوداء من السم والحريق والقتل وإتلاف الزرع من جرائم الريف يمثلها لي هذا السبب الذي سمعته بأذني؛ وطاف برأسي الطلاق والنفقة والهجر والخصام وبيت الطاعة والمعارك بين الأسر، بل ما روعني من صور الخيانة والفجور وغيرها من أفعال الظلام، وما تجره في أعقابها من شر وانتقام. كل أولئك مثلته لي ثورة بهيجة. . .
الخفيف
فلسفة طاغور في العلم والعمل
للأديب عبد العزيز محمد الزكي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ويفسر طاغور انفصال إرادة الإنسان عن إرادة الله انفصالاً ظاهرياً غير مطلق، بأن الله قد منح الإنسان بدافع من حبه له حرية التصرف في شئون العالم، كما يمنح الأب لابنه مقداراً من المال، ويترك له حرية التدبر في حدوده؛ فهذا المال ما زال ملكا للأب وإن وهبه لإبنه، وأخرجه من نطاق إرادته. وكذلك المال بالنسبة للإنسان، فإن حرية إرادته دائماً ملكا لله، وأنه أغدق بها عليه، وأخرجها من نطاق إرادته، وترك له حرية العمل في حدودها، وفي مجال الشئون العالمية.
فالإرادة عند طاغور حرة من جهة، ومقيدة من جهة أخرى فهي أولا حرة من حيث أن الله وهبها السيادة على الأمور المتصلة بعالمنا الصغير؛ حتى يمكن أن تخضع لقانون إرادته الكبير طائعة مختارة، وبدون فيض أو إلزام؛ وحتى تتحد باللانهاية، وتتفق حريتها الكاملة(745/27)
إللامحدودة، التي لاتتم إلا بتوافق اتحاد إرداتين حرتين. وهي ثانياً مقيدة من حيث أن الله جعلها محدودة، وخاضعة لقانونه، إذ لو منح الإنسان إرادة غير مقيدة بقانونه، وتعمل بدون حدود، لفقدت قدرته كل معنى لها، ولتعذر عليها أن ترتقي وتكمل، لأن القوة لا تنمو وتتطور وترتقي وتكمل، إلا إذا كانت تعمل في حدود؛ أي أن الإرادة التي تعمل في حدود، يمكنها أن تتقدم في الرقي إلى أن تكمل، بأن تخضع لإرادة الله إللامتناهية، وتندمج فيها، وتصبح هي وإرادة الله إرادة واحدة تملك حرية مطلقة غير محدودة.
أما عن الإرادة التي تتخدع بحريتها المحدودة، وتتدفع في تيار الانفصال، وتتمرد على إرادة اللانهاية، بدافع من الأنانية والغرور والكبرياء وحب السيطرة والعناد والجشع وحب التدمير، وبدافع من جهل حقيقة وحدة الكون الكامنة في الطبيعة الإنسانية؛ فإنها ستعيش أبداً في حدودها الملوثة بالشهوات، وستظل أسيرة المظهر وسجينة الباطل، فتقع في الخطايا، وترتكب الآثام والذنوب، وتجلب على نفسها العار والمذلة، وتضطر في النهاية إلى أن تتراجع شيئاً فشيئاً عن مسلكها الخاطئ، وترجع إلى منبعها اللانهائي الذي فصلت منه بإرادة الله، وتخضع إرادتها الفردية للإرادة الكبرى، بأن تظهر طبيعتها الكامنة في النفس الإنسانية، وتشعر أن الوجود كله وحدة كاملة، وتدرك أن وجودها الفردي في اتحاد تام مع هذا الوجود الشامل، وبذلك تحقق حريتها الكاملة، مثلها في هذا مثل البرعم، فإن كانت حرية البرعم لا تخفق إلا بظهور الزهرة الكامنة فيها، فإن كمال حرية الإرادة لا ينال إلا بمعرفة الحقيقة الكائنة في أعمق أعماق النفس، وإدراك اتحادها بالجوهر الثابت الذي يشتمل سائر الأشياء. وذلك لا يكون إلا بخضوع إرادة الإنسان لسلطان إرادة الله اللامتناهية عن طريق العمل الدائم المتجدد في مختلف نواحي نشاط الإنسان، وعن طريق فعل الخير وأفكار الذات، وعن طريق ملاشاة فرديتنا الإنسانية في الله، والإيمان العميق بحقيقة وحدة الوجود الشاملة. . .
وقد يرى لي بعض الهنود أن اعتزال الحياة، وتجنب المجتمعات واحتقار الأعمال الدينوية، وهجرة الأهل، والتجول في الغابات وسكن الكهوف والمغارات من خير السبل لتحقيق حرية الإرادة الكاملة، وتخليص الروح من العوائق المادية التي تحول دون انطلاقها في اللانهاية غير مقيدة بأي قيد. غير أن طاغور ينكر على هؤلاء الهنود أنه يمكنهم بهذا(745/28)
السلوك، أن يفوزوا بحريتهم الكاملة في الحياة، لأن النفس مهما كانت طهارتها لا تستطيع أن تعيش حرة على احساسات ومشاعر وأفكار محبوسة في داخلها لا تشغل بموضوعات خارجية؟ وأن الإرادة مهما بلغ تحررها من الشهوات والرغبات، ونالت من حرية روحية؛ بأنها لا تحقق حريتها الكاملة في الحياة ما دامت هذه الإرادة تنفر من العمل، ولا تقبل أ، تؤدي أية مهمة في العالم الإنساني، غير أن تقطع علاقاتها بكل ما في الأرض، ناشدة بذلك تحقيق إدراك وحدة الوجود الشاملة الكامنة في قرار الطبيعة الإنسانية.
وقد يتمادى بعض القوم، ويظنون أن الخوض في الحياة يسبب للإنسان آلام متنوعة ومتاعب جمة، تقلق النفس، وتدب فيها الخوف، وتملؤها بالخزن كما يزعمون أن الموت نهاية الحياة فيكفي أن تقوم بأعمال تسد رمقنا، ونبعد عنا قساوة الجوع والعطش؛ إذ ما فائدة عمل متواصل يتحدد في حياة يهددنا فيها الموت في كل لحظة! وطاغور لا يغفل ما في الحياة من آلام قاسية، ومتاعب مضنية، قد تكشف عن خيبة الإنسان في عمله وتبين له نقصه في المعرفة، وتشعره بضعف في إرادته؛ إلا أنه يقرر إنه إذا نظر إلى أعمالنا الفردية من ناحية محدودة، يكون وقع الآلام قاسي على النفس، أما إذا نظرنا إليها من ناحية أعم وأوسع، فشمل ما يقصد بها من تحقيق المثل الأعلى لكمال الحياة تشعر بالسرور، وتذهب وطأة هذه الآلام عنا حين نعرف أن أعمالنا ترمى إلى غاية سامية يهون في سبيلها المتاعب. كما يمكن أن نتجنب الفشل في العمل بالمصابرة في التدريب عليه حتى تتقن أدائه؛ وأن نصلح ما نقع فيه من أخطاء بإكمال نقصنا في المعرفة، وبالتزود بنور العلم؛ وأن تقوى ما في إرادتنا من ضعف بمحاربة الباطل والشر في داخل نفوسنا وخارجها. وذلك كله يعمل على تقدم الحياة الإنسانية ورقيها. وقدرة الحياة على التقدم لدليل قاطع على كذب حس قوم يمعنون في التشاؤم، ويعتقدون أن الحياة شر في شر، وأن المؤمن فيها لا يجلب إلا الآلام والمتاعب. ولذلك يرى طاغور أن التشاؤم ليس إلا مجرد مظهر عاطفي أو عقلي ينبذ ما في الحياة من سرور وقدرة على التقدم، فيحدث قوى من الحزن المصطنع الذي يظمئ بدوره النفس إلى الاستزادة من التشاؤم، ويبعث فيها اليأس والقنوط، فتوقع الفشل في كل عمل وتتوهم الموت في المخيف المرعب في كل خطوة، فلا ترى في الحياة إلا آلام وموت بينما يمكن التغلب على أسباب الآلام كما سبق أن ذكرت. أما الموت فما هو(745/29)
إلا حقيقة سلبية، وليس حقيقة أخيرة في الوجود، وإنما الحقيقة اللانهائية فهي وحدة الكون الشاملة، وما هو كذلك إلا حدث من أحداث الحياة التي يعد الموت جزءاً منها، ولا يعبر عن حقيقتها إنما يعبر عن حقيقته فقط فلا يجب أن يفزعنا كل هذا الفزع ونقصر في العمل، ونهمل التجديد فيه ونقنع فيه بذلك العمل الذي تقرره لنا الطبيعة كما تعمل الحيوانات من أجل الطعام والشراب.
ليس هناك إذاً باعث جدي يمنع الإنسان عن العمل، فإن الفشل سبيل إلى النجاح، والألم وجه من أوجه السرور، والنقص هو الذي يدفعنا إلى الكمال، ويجعلنا عظماء في الحياة. فلا يجب أن يفزعنا الألم والحزن، ونتجنب العمل المتعب، فإن حرية الروح في تحمل المتاعب. وعلى الذين ينشدون تحرير أرواحهم، ويريدون الحياة في اللانهاية، أن يزاولوا أعمالا مستمرة جدية ومجدية، وأن يخلقوا ميادين متعددة للعمل، ويجتهدوا في ترقيتها وتوسيع نطاقها، وألا يقنعوا بالأعمال البدائية التي تقررها لهم الطبيعة. فإن الاستمرار في العمل يحرر قوى الإنسان، وعينها القدرة على التجديد فيه. فإن الرجل الذي يحول غابة موبوءة إلى حديقة جميلة، قد حرر قواه واستطاع أن يعطى هذه الحديقة جمالا يعبر عن جمال روحه؛ أما إذا تعذر عليه أن يعطيها هذا الجمال، فقد فشل في تحرير روحه من الداخل، وخاب في التعبير عنها بالعمل، وعليه أن يستمر في مزاولة عمله والتدرب عليه حتى يحرر قواه فيتمكن من أن يظهر طبيعته في مختلف نواحي النشاط الإنساني. إلا أن هذا الإظهار لا يتم ما لم يتحرر العمل نفسه من ضغط الحاجة من ناحية، وما لم يتميز كوسيلة يقصد بها وجه الله، وما لم يرفض النظر إليه كفاية في ذاته، وينتظر من ورائها نفع قروي نحسب من ناحية أخرى. لأن الحرية الصحيحة لا تكتسب فقط بالعمل بل يشرط في اكتسابها حرية الإنسان في عمله ولا يساق إليه بحكم ظرف عارض مثل الفرق أو الجوع، فإنه حين ذاك يعمل وفق المصادفة والاتفاق، ويصير عمله نوعاً من التدبير الوقتي المصطنع الذي لا بد أن يتركه بعد أن يزول أو يتغير هذا الظرف العارض. فوق أن ضغط الضرورة يعوق النفس عن إظهار حقيقة طبيعتها في العمل. ولذلك لا يجب أن يكون باعثنا على العمل الفرق أو الجوع، وليكن دائماً دافعنا إليه حب الخير وتأديتنا له لوجه الله. فإن الذي يهب حياته لتحقيق فكرة سامية يقصد بها خدمة الوطن أو خير الإنسانية، لا(745/30)
يبالي عادة بكل ما يقابله من عقبات ومتاعب وآلام، بل يرحب بأن يضحي بحياته، ويقدم على الموت في سبيله تحقيق ذلك الخير الذي سيعم الجميع لأن أداء مثل هذه الأعمال الخيرة تعطي للحياة قيمة عليا، يتلاشى فيها كل الحقائق المتناقضة، أو تحرر بها الروح تحريراً كاملا من كل ما يتصل بالحياة، ولا تدرك إلا حقيقة خالدة، هي حقيقة وحدة الكون الشامل الذي يتجلى الله في جميع أجزائه.
وأخيراً نلخص كل ما سبق في أن طاغور لم يجد صعوبة في التوفيق بين طلب العلم وأداء العمل وبين ما فهمه من تعاليم الهندوس. فرأى أن العلم من أروع الوسائل التي تقربنا من الطبيعة أو تساعدنا على الاندماج في الكون والاتحاد بالوجود، لأن القوانين التي يتوصل إليها العلم هي في الأصل صور صغرى للحقيقة الكبرى، وتبين أن هناك صلة عقلية وثيقة بين الإنسان والطبيعة، وأنها في اتحاد تام مع الأشياء. فالتزود بها، والبحث عنها، والاستمرار في المزيد من الكشف عنها أمر ضروري لكل فرد يريد أن يبرز الحقيقة الكبرى الكامنة في نفسه، ويدرك وحدة الوجود الشاملة. أما عن العمل فهو من أهم الوسائل التي تحرر قوى الروح، ويعبر عن طبيعتها، ويظهر أفكارها ومشاعرها وإحساساتها، فتتحقق حريتها الكاملة في الحياة، وتفوز بالعيش في اللانهاية.
عتد العزيز محمد الزكي
ليسانسيه في الفلسفة(745/31)
تعقيبات
حتى الأستاذ الطناحي:
أعرف الصديق العزيز الأستاذ (طاهر الطناحي) أديباً محققاً يجمع في ثقافته وفي كتابته بين طلاوة الحديث وعراقة القديم، ولكن يظهر أن الحياة الصحفية تتعجله في بعض الأحيان فيهفو، وقديماً قالوا لكل عالم هفوة، وهو حكم يجرى على سائر العلماء. . حتى الأستاذ الطناحي.
شوقي. . . وليالي سطيح:
فقد كتب الأستاذ في العدد الأخير من (الهلال) مقالا تحدث فيه عما كان (بين شوقي وحافظ) من منافسات ومدافعات في ميدان الشعر وفي ميدان الحياة، قال فيه:
(. . . وكانت لشوقي بدوات وغفلات أغضبت حافظاً وحركت في نفسه نزوة الشباب، حتى إنه لما أنعم الخديوي عباس على حافظ برتبة البكوية وأقيمت له حفلة تكريم ترأسها شوقي صامتاً ولم يهنئ صديقه ببيت واحد؛ ولم يفت ذلك حافظاً، فحملها له مع ما حمل من أشياء، ولما وضع كتابه (ليالي سطيح) تناول فيه ديوان (الشوقيات) الأول ونقده نقداً لاذعاً. . .)
ثم أورد الأستاذ بعد ذلك ما قاله حافظ في (ليالي سطيح) عن الشوقيات. .
قلت: هذه رواية تحتاج إلى تحرير وتصحيح، فإن حافظاً قد أخرج (ليالي سطيح) للناس، وقال فيها ما قال عن شوقي والشوقيات عام 1908م. أما حفلة التكريم التي أقيمت له لمناسبة الإنعام عليه برتبة البكوية، والتي ترأسها شوقي صامتاً، فقد كانت عام 1912م، أى بعد ظهور (ليالي سطيح) بأربع سنوات، وإذن فالحكم الذي انتهى إليه الأستاذ في هذه الرواية غير صحيح، لأنه بناه على مقدمات مغلوطة التاريخ.
مال واحتجب:
تلك واحدة، وهناك ثانية، فقد أورد الأستاذ في مقاله الرواية التالية فيما كان (بين شوقي وحافظ) فقال:
(وحدث أيضاً أن أقيم مرقص في قصر عابدين ذات ليلة، فحرك هذا المرقص من شاعرية(745/32)
شوقي، فقال في وصفه قصيدته التي مطلعها:
مال واحتجب ... وادعى الغضب
فاتخذها حافظ وقتئذ وسيلة للتهكم والاستخفاف، وسار يوماً في نزهة مع صديقه المرحوم عبد العزيز البشري بجزيرة الروضة وجعلا ينظمان قصيدة هزلية في معارضة هذه القصيدة، كان أحدهما يقول شطراً والآخر يقول شطراً، ومطلعها:
شال واتخبط ... وادعى العبط
ليت هاجري ... يبلغ الزلط
إلى آخر تلك القصيدة التي بلغت ستين بيتاً. . . .).
قلت: وهذه أيضاً رواية تحتاج إلى تحرير وتصحيح، فإن شوقي قد نظم قصيدته (مال واحتجب) في وصف (البال) الذي أقيم في قصر عابدين عام 1904م، وكان هذا (البال) يقام كل عام، وكان شوقي يصفه كل عام، أما معارضة حافظ لهذه القصيدة، فإنها ترجع إلى تاريخ قريب، وهو يوم أقام أدباء العربية مهرجان المبايعة بأمارة الشعر لشوقي عام 1927م.
ذلك أن صديقنا الشاعر المرحوم محمد الهراوي كان يرى أن لقب (أمارة الشعر) بدعة، وأن لكل شاعر مكانته ووضعه وامتيازه في عالم الشعر، فلما توجهت الدعوة لإقامة ذلك المهرجان لشوقي، أخذ الهراوي يحرض أصدقاءه من الشعراء على مقاطعة ذلك المهرجان، وعلى عدم مبايعتهم لشوقي بلقب الأمارة، وكان يعمل مع حافظ في دار الكتب فتحدث معه في هذا الشأن، كما تحدث مع الشيخ عبد المطلب، وفي ليلة اجتمعوا ومعهم لفيف من أصدقاء الهراوي وأصدقاء حافظ وأمضوا سهرة صاخبة في مقهى في نهاية العباسية شرب فيها من شرب، وطرب من طرب، واستخفهم التهكم على شوقي، فأخذ حافظ ينشد:
شال وانخبط ... وادعى العبط
وأخذ الحاضرون يجيزون على هذا النمط حتى بلغوا بالقصيدة ستين بيتاً، كما يقول الأستاذ الطناحي، وكان الهراوي رحمه الله يقيد ما يقال. . . .
وفي الصباح اجتمع حافظ والهراوي ومن معهما في دار الكتب وأنشد الهراوي هذه الأبيات:(745/33)
إن شوقي شاعر ... كلنا أجّله
غير أنّا معشر ... ليس يرضى ذله
وهى (جمهورية) ... لا ترى محله
أما حافظ، فإنه أخذ ينشد الحاضرين ما أعده لمبايعة شوقي بأمارة الشعر، فعجب الحاضرين، وصاح فيه الهراوى: أين ما اتفقنا عليه؟! فقال حافظ: أجل، إنني عند ما اتفقنا عليه بالنسبة لكم، أما بالنسبة لي، فإني لا أستطيع أن أتخلف عن مبايعة شوقي في ذلك المهرجان، لأنني رجل جبان. . .! رحم الّله حافظاً، وطيب ثراه، فوالّله لقد كان شجاع الرأي والقلب، جرئ الضمير والجنان. . .
بين شوقي وحافظ:
والواقع أن ما كان (بين شوقي وحافظ) قد صوره حافظ في شعره وفي نثره وأفصح عنه، على حين كان شوقي يطوى ذلك في نفسه، ويصوب إلى منافسه الضربات العلمية لا الكلامية.
كان حافظ في بداية الأمر يضع شوقي أمامه، ويشهد له بالسبق، فنراه حين يتقدم لمدح الخديوي في عيد الجلوس عام 1901م يقول:
ماذا ادخرت لهذا العيد من أدب؟ ... فقد عهدتك رب السبق والغلب
لم يبق (أحمد) من قول أحاوله ... في مدح ذاتك، فاعذرني ولا تَعِبِ
ثم يأتي العيد الثاني فيبقى حافظ على عهده ف يقول:
يا ليلة ألهمتني ما أتيه به ... على حماة القوافي، أينما تاهوا
إني أرى عجباً يدعو إلى عجب ... الدهر أضمره والعيد أنشاء
قل للألي جعلوا للشعر جائزة ... فيم الخلاف؟! ألم يرشدكم الّله؟
إني فتحت لها صدراً تليق به ... إن لم تُحّلوه فالرحمان حلاه
لم أخش من أحد في الشعر يغلبني ... إلا فتى ما له في السبق إلاه
ذاك الذي حكمت فينا يراعتُه ... وأكرم الّله والعباس مثواه
بل لقد رضى حافظ لنفسه أن يتشبه بشوقي، لا أن يقف معه في ميدان المنافسة، فنراه يمدح الخديوي في عيد الفطر فيقول:(745/34)
مطالع سعد أم مطالع أقمار ... تجلت بهذا العيد أم تلك أشعاري؟
إلى سدة العباس وجهت مدحتي ... بتهنئة شوقيّة النسج معطار
ولكنا بعد ذلك نرى حافظاً يتغير على شوقي، ويلقى به إلى الخلف، ويعلن عليه هذه الغارة الشعواء إذ يقول في مدح الخديوي:
طف بالأريكة ذات العز والشان ... واقض المناسك عن قاصٍ وعن دان
يا عيد. . . ليت الذي أولاك نعمته ... بقرب (صاحب مصر) كان أولاني
صغت القريض، فما غادرت لؤلؤة ... في تاج كسرى، ولا في عقد بوران
شكا عمان، وضج الغائضون به ... على اللآلى، وضج الحاسد الشاني
كم رام شأوى فلم يدرك سوى صدف ... سامحت فيه لنظام ووزان
عابوا سكوتي، ولولاه مانطقوا ... ولاجرتخيلهم شوطاً بميدان
اليوم أنشدهم شعراً يعيد لهم ... عهد النواسي أو أيام حسان
أزف فيه إلى العباس غانية ... عفيفة الخدر من آيات عدنان
من الأوانس جلاها يراع فتى ... صافي القريحة صاح غير نشوان
ما ضاق أصغره عن مدح سيده ... ولا استعان بمدح الراح والبان
ولا استهل بذكر الغيد مدحته ... في موطن بجلال الملك ريان
وهكذا أخذ حافظ يغمز شوقي ويقرصه في كل مناسبة، وكان من ذلك حملته عليه في كتابه (ليالي سطيح)، وله شعر في هجائه، يعف القلم عن إيراده. . . .
خلاف بين طبيعتين:
وهذا الذي كان (بين شوقي وحافظ) لا يمكن أن نسميه (خصومة)، وإنما هو مظهر لخلاف بين طبيعتين. . .
فقد كان شوقي في ميدان السباق كالجواد الحر، يغار من ظله، ولا يطيق أن يرى أحداً يلحق بغباره، ومن المعلوم أنه كان يعيش في رحاب الخديوي، وكانت له عنده حظوة بالغة، وكلمة نافذة، ومشورة مسموعة، ولكنه لم يحاول أن ينفع أحداً من الأدباء والشعراء بجاهه هذا، بل إنه كان يدس الدسائس ولا يتورع عن الأساليب النابية في قطع الطريق على كل متقدم، وبهذا الدافع وقف لحافظ - وهو الذي كان يخافه - بالمرصاد، فسد في وجهه باب(745/35)
الخديوي، وقطع عليه الصلة بالخلافة العثمانية، وساعدته الأقدار فحرمت حافظاً أكبر عطف بموت الأستاذ الإمام، فلم يجد حافظ أمامه إلا الشعب، فعاش للشعب وبالشعب.
تلك كانت طبيعة شوقي، أما حافظ فكان أوفي منه إنسانية وأسمح طبعاً، لقد كان يحمل بين جنبيه قلباً يود لو يسع فيه كل محروم ومظلوم، ويود لو يستطيع أن يوزعه على الجميع، ثم لا يبقى له منه شيئاً. . .
أذكر أني كنت معه في مرة أنا والمرحوم صديقنا الأستاذ إبراهيم الجزار الممثل، وكان إبراهيم يجيد إلقاء الشعر كأروع ما يكون، فطلب منه حافظ أن يلقى عليه بعض ما يحفظ، فأخذ إبراهيم يلقي عليه قصيدته التي قالها في مبايعة شوقي بالإمارة، وأخذ حافظ يهتز مجاوباً لنغمات الإلقاء ومقاطعه، وبعد الإنشاد أخذنا نسأله عن رأيه الحقيقي في شعر شوقي، فما تكلم عن شوقي الشاعر، ولكنه أخذ يتكلم عن شوقي الرجل فقال: (إن شوقي رجل نذل)، وقص علينا كيف جاء المرحوم الشيخ عبد المحسن الكاظمي إلى مصر غريباً طريداً، فطمع أن يكون له في رحاب الخديوي متسعاً، ولكن شوقي خشي منافسة الشاعر العراقي، فسد عليه الباب وقطع عليه كل رجاء، وفكر في هذا بأخوة الأدب، وأخوة العرب، وبالواجب نحو رجل شطت به الدار، ووجد السيد عبد المحسن في الأستاذ الإمام حمى، ولكن الحمام لم يمهل الأستاذ الإمام. . . وهنا تهدج صوت حافظ، ودمعت عيناه، ولم يستطع أن يتم الحديث. . .
لهذا كانت نزوات حافظ تثور على شوقي، ولهذا كان يناله بقارض الكلم أحياناً في شعره وكثيراً في مجلسه، ولكنه رحمه الّله كان يحب خليل مطران كل الحب، ويثنى عليه كل الثناء، ذلك لأنهما كانا متوافقان إنسانية وأريحية، كما كان يثنى على أحمد محرم وأحمد نسيم ويذكرهم بالخير، فهل كان يبلغ به التهافت بعد ذلك أن يجحد شاعرية شوقي بجانب هؤلاء. . .
كلا! إن حافظاً لم يجحد شوقي من ناحية شاعريته، ولكنه - كما قلنا - كان يجحده من ناحية إنسانيته. . .
نفي شوقي عن مصر، فشمت فيه أولئك الذين كان يقف في طريقهم. أما حافظ، فقد جزع عليه غاية الجزع، واشتد الحنين بشوقي إلى النيل. . . فأرسل بهذه الزفرة الحارة:(745/36)
يا ساكني مصر إنا لا نزال على ... عهد الوفاء - وإن غبنا - مقيمينا
هلا بعثتم لنا من ماء نهركم ... شيئاً نبل به أحشاء صادينا
كل المناهل بعد النيل آسنة ... ما أبعد النيل إلا عن أمانينا
فأجابه حافظ بتلك الزفرة الصادقة:
عجبت للنيل يدري أن بلبله ... صادٍ ويسقى ربي مصر ويسقينا
والله ما طاب للأصحاب مورده ... ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا
لم تنأ عنه وإن فارقت شاطئه ... وقد نأينا، وإن كنا مقيمينا!
ألا رحم الله الشاعرين الكبيرين، فقد نأيا عنا بجسمهما، ولكنهما بيننا ملء السمْع والبصر بروحهما وبفنهما، وكم بيننا من الحاضرين بأجسامهم، ولكنهم في الغائبين النائين. . .
(الجاحظ)
أنوار الجحيم
من عذيري من الهوى والتصابي ... بعد ما أبلت الغواني شبابي؟
إنني اليوم بين أهلي غريب ... لم أجد لي مواسياً في مصابي
كلما أترع الأسى لي كأساً ... قلت حسبي ما ذقته من عذاب
خطرات في شرة وعرام ... تتنزى. . . قد حطمت أعصابي
هي كالنار في الهشيم. . . وكالإء - عصار يجتاح ناضرات الروابي!
غادة تأسر النفوس بدل ... مستبد على النهى غلاب
عشت في ظلها الظليل وأفضت ... بي إليها يوماً مطايا الرغاب
وترشفت من لماها رحيقاً ... قدسياً ما صب في أكواب
أين منه م أحرزته بنات النـ ... حل أو ما عصرت من أعناب؟
ورأيت الجمال فيها يغنى ... وغناء الجمال أصداء غاب
توقظ المغفيات من ذكرياتي ... وتغشى وجوهها بالضباب
في الضحى والمساء أزجى إليها ... صلوات العبيد للأرباب
كطيور قد حلقت. . . تتناجى ... بأغاريدها الرقاق العذاب!(745/37)
كل سرب يمر يتلوه سرب ... والهوى طائر مع الأسراب
يا غناء قد ضاع في مجهل الليـ ... ل ضياع الوفاء في أصحابي
أنت عندي أشلاء حب عزيز ... دنست طهره معاني التراب
وحطام من ذكريات غوال ... أنا منها في موعد كذاب!
دفنتها الهموم في ظلمة الفك - ر فلاحت مركومة كالسحاب
ما بقائي وقد مضى أحبابي ... وصحا القلب من خمار الشباب
محمد علي مخلوف(745/38)
الأدب والفنّ في أسبوُع
شوقي وحافظ:
تقع ذكرى أحمد شوقي أمير الشعراء في هذا الشهر (أكتوبر) فقد توفي في اليوم الرابع عشر من سنة 1932 وقد بدا الاهتمام بهذه الذكرى في عدة مظاهر، منها تلك الحفلة التي قالوا إنهم سيقيمونها في (أوبرج) الأهرام، والتي عرف قراء الرسالة أمرها مما كتبناه عنها في عددين ماضيين، وقد علمت أن هذه الحفلة لن تتم على الوضع المزري الذي رسموه لها، فقد عارض بعض أعضاء اللجنة في ذلك الوضع، وأباه كذلك بعض الشخصيات الكبيرة التي طلب إليها أن تشترك أو تشرف على الحفلة، وقالوا جميعاً كما قلنا إنه لا يليق أن يحتفي بذكرى شوقي احتفاء لاهياً مسعراً (بالأوبرج).
ومن مظاهر الاهتمام بذكرى شوقي، العدد الخاص الذي أصدرته زميلتنا مجلة (الكتاب) وقد جمعت بين ذكرى شوقي وحافظ في هذا العدد، لأنهما توفيا في سنة واحدة إذ كانت وفاة حافظ في اليوم الحادي والعشرين من شهر يولية سنة 1932، فتكون قد مضت خمسة عشر عاماً على وفاة الشاعرين اللذين اقترن اسماهما في الحياة وفي الخلود.
وقد قصرت (الكتاب) أبوابها على البحث في شعر شوقي وحافظ، والتزمت في كل بحث الموازنة بين الشاعرين في مختلف نواحيهما؛ وقد صدر العدد بفصل للأستاذ عادل الغضبان رئيس التحرير عنوانه (متحف) ذهب فيه إلى أن الشعر، وهو أحد الفنون الجميلة، له كما لها متاحف، وإن كانت قطعه لا تضمها الغرف والأبهاء، وإنما تعرض في (الديوان) فديوان الشاعر هو المتحف الذي يعنيه.
وأخذ الأستاذ في الدلالة على الموسيقى والتصوير في ديواني شوقي وحافظ، فبين الارتباط بين الأصوات والمعاني في قطع من شعرهما، وقد افرط في ذلك كما صنع في بيت حافظ التالي الذي يصف به هيجان البحر:
عاصف يرتمي وبحر يغير ... أنا بالله منهما مستجير
فقد جعل يبين دلالة الحروف على صوت العاصفة ودوي البحر والفزع إلى الله، فقال: (فصوت العاصفة تتخيله الأذن في الصفير المنبعث من اجتماع الصاد والفاء بعد الألف في كلمة (عاصف) ولا فضل للشاعر فيها إلا أنه اختار فأحسن، ورنة الضربة تدوي في(745/39)
المقطع الأخير من (يرتمي) كأنه صدى ثقل من الأثقال ارتطم بألواح السفينة ثم إن هدير الأمواج وهي غائرة تحمله إلى السمع هذه الغين وهذه الياء الممدودة بعدها في كلمة (يغير) فهما صوت البحر الغائر الخائر مثلا بمثل ونغمة الأمل والدعاء تتصاعد من اللام الثانية في كلمة (بالله) ومن حرف المد في كلمة (مستجير).
وقد أمعن الأستاذ في ذلك حتى خلته يريد أن يجمع خصائص حروف الهجاء في متحف. . . وقد ذكرني هذا الصنيع بنادرة يحكونها عن حافظ، إذ قال مرة لأحد علماء الدين: بلغني أن هناك مؤلفاً في (الوضوء) يقع في عدد من المجلدات الضخمة وإنه ليسهل على المرء أن يغطس في الماء سبع مرات ثم يقوم إلى الصلاة، ولا يتعب نفسه بقراءة هذا الكتاب! وعلى هذا تستطيع أن تؤكد للأستاذ عادل أنك مقتنع بأن البيت يدل على كل شيء دون حاجة إلى ما أسهب فيه من بيان أصوات الحروف ونغمات المدود. . .
وقد أحسن الأستاذ بالاستعانة بريشة الرسام إلى جانب قلمه في تجلية بعض الصور التي اشتمل عليها ديوانا شوقي وحافظ، ولكن الصورة التي رسمت بازاء بيت حافظ:
واسقنا يا غلام حتى ترانا ... لا نطيق الكلام إلا بهمس
لم تكن موفقة، فهي تمثل الشُّرَّاب والساقي في أزياء من العصور القديمة، وبأيديهم آنية قديمة، كأن قائل البيت أبو نواس لا حافظ إبراهيم، على أن أشخاص الصورة يبدون في غاية الوقار كأنهم في حلقة درس لا في مجلس شراب. . . .
الآراء القديمة في شوقي وحافظ:
الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور طه حسين بك والأستاذ إسماعيل مظهر والأستاذ محمد توحيد السلحدار بك، كان لكل منهم رأي قديم في شعر شوقي وحافظ، فهل ظلوا على آرائهم أم جلا لهم الزمن آفاقاً جديدة ينفذ فكرهم منها إلى رأي جديد؟ سألتهم مجلة (الكتاب) هذا السؤال فأجابوا:
قال الدكتور طه إنه لم يغير رأيه فيهما، ومما قاله عنهما: (وإذا لم يبلغا من التفوق ما كنت أحب لهما وأتمنى للشعر العربي الحديث فقد لا ينبغي أن نلومهما في ذلك وأن نذكر قول عمرو ابن معدي كرب:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرَّتِ(745/40)
فلم يكن هذان الشاعران إلا مرآتين صادقتين للعصر الذي عاشا فيه، وقد أديا إلينا ما ألهمهما هذا العصر فأحسنا الأداء).
ويحضرني - لذلك - رأي للدكتور طه حسين في كتابه (حديث الأربعاء) مؤداه أننا لا نعد الشاعر شاعراً إلا لأنه يعبر عن بيئته ويصور عصره فيحسن التعبير والتصوير. ورأى الدكتور طه في شوقي وحافظ أنهما لم يبلغا من الشعر ما يحب. فأي الرأيين ما زال يرى. .؟
ورأي الأستاذ مظهر القديم أن خيال الشاعرين أرضي وأن نزعاتهما أرضية على خلاف طاغور شاعر الألوهية. وقال إنه لا يزال عند هذا الرأي، وهو يرى أن الشعر ليس اللفظ ولا الوزن ولا القافية ولا الموضوع ولا الأداء، لأن هذه أعراض، وإنما الجوهر أثره في نفسك، وقليلا ما يخاطب الروح أو النفس شعر شوقي وشعر حافظ. . .
ومجمل رأي السلحدار بك الذي نشره منذ تسعة وثلاثين عاما، أنه يرجح كفة حافظ على شوقي، لأن الأول شاعر الجلال، والثاني شاعر الجمال، والجلال فوق الجمال؛ ولأن ملكة اللغة العربية كانت راسخة في حافظ أكثر من رسوخها في شوقي؛ ولأن شعر حافظ بما فيه من نفحات القوة والقومية شاف لنفس، أما شعر شوقي فكان شعر الرفاهة والنعيم؛ ولأن حافظاً أكثر كناية عن وجدانه في شئون وطنه؛ وشوقي أبعد منه عن ذلك. وقال إن الشاعرين قرضا بعد ذلك شعراُ كثيراً في نحو ربع قرن، وإنه لا يصح الجواب عن السؤال بغير مراجعة هذا الشعر، ولا تسعد الحال على ذلك إلا في مدى طويل، ولكنه مع ذلك يجيب بقوله: (أغلب الظن أن حافظا ظل يقول أكثر شعره فيما يتعلق بالشئون القومية، ولم يستمر في محاولته التخلص من أغلال طريقته القديمة، أما شوقي فلولا تهكم بعض أئمة الأدب القديم على قصائده في صباه عقب عودته من أوربة لكان التجديد أظهر في شعره).
أما الأستاذ العقاد فقد قال إنه دون في مذكراته اليومية قبل نيف وثلاثين سنة أن اسم الشاعر بلغتنا يشير إلى تعريفه، فليس الشاعر من يزن التفاعيل، وليس بصاحب الكلام الفخم واللفظ الجزل، ولا من يأتي برائع المجازات وبعيد التصورات، إنما الشاعر من يشعر ويُشعِر. وكان بهذا المقياس يقيس شوقياً وحافظاً، فقال عن حافظ: (يعجبني منه ذاك الجلال، وإن كنت أعتقد أن الجلال الظاهر لا يتطلب من شعرائه سمواً في المشاعر أو(745/41)
أفضلية لها على شعراء الجمال) إلى أن قال (وأما فيما عدا ذلك فشعر حافظ، كما قال فيه الدكتور شميل - ولم يرد أن يطريه - كالبنيان المرصوص متين لا تجد فيه متهدماً، فهو يعتمد في تعبيره على متانة التركيب وجودة الأسلوب أكثر من اعتماده على الابتداع أو الخيال).
وقال الأستاذ الكبير إنه كان يعيب (رسميات) شوقي دائماً أو تقليدياته. ثم قال إن هذا الرأي في الشاعرين لم يتغير كثيراً، ولكنه يرجع فيهما إلى مقاييس أعم وأوُسع، وأجمل هذه المقاييس في ثلاثة، أولها أن الشعر قيمة إنسانية ليس بقيمة لسانية، وثانيها أن القصيدة بنية حية وليست قطعاً متناثرة يجمعها إطار واحد، وثالثها أن الشعر تعبير وأن الشاعر الذي لا يعبر عن نفسه صانع وليس بذي سليقة إنسانية. ثم قال: (وإذا عرضت الشاعرين - شوقياً وحافظاً - على هذه المقاييس الثلاثة صح أن تقول: إن حافظاً أشعر ولكن شوقياً أقدر، لأن ديوان حافظ هو سجل حياته الباطنية لا مراء. أما ديوان شوقي فهو (كسوة التشريفة) التي يمثل بها الرجل أمام الأنظار)
رأي المازني:
والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني هو الباقي من نقاد شوقي القدماء، وقد تفقدته بينهم في (الكتاب) ولكني وجدته في (الهلال) أعني وجدت مقالا له عن شوقي، أما هو نفسه فلا أتمثله إلا جالساً إلى مكتبه في (معمل مقالاته) يكتب. . . . ويكتب. هذه مقالة لأخبار اليوم، وثانية للمسامرات، وثالثة للاثنين، ورابعة للبلاغ، وخامسة للمصري، و. . . الخ ويخيل إلي أنه يكتب مقالات (جاهزة) لتدفع إلى من يطلبها دون انتظار.
والمقالة التي كتبها للهلال عن شوقي، هي وإن كانت من (الموصى عليه) إلا أنها على كل حال من نتاج (المعمل) فهي متأثرة بجوه الذي تسوده سرعة الإنجاز، فالأستاذ ليس متفرغاً لإنضاج رأي جديد في شعر شوقي، بل لتذكر رأيه القديم. . . فلا بأس بأن يملأ بعض الصفحات ببعض الحوادث والنوادر التي جرت بينه وبين شوقي، حتى إذا جد الجد فاقتضى الحال أن يقول شيئاً في شعر شوقي قال: (وما زال رأيي في شعره كما كان. . وهو أنه كان في صدر حياته أشعر منه في أخرياتها، ولكنه في العهد الأخير كان أبلغ عبارة وأعلى بياناً) وليس هذا هو رأيه الذي كان. . لأن المازني هو أحد أستاذي المذهب(745/42)
الجديد الذي عارض شوقي والذي تراه في كلام العقاد الأستاذ الآخر للمذهب الحديث. وقال إن شوقي (اقتنع بأن نظم القصائدْ على الطريقة القديمة التقليدية عبث وباطل ليس يجدي، فتحول إلى وضع الروايات الشعرية التمثيلية) فهل وضع الروايات الشعرية يقتضي أن نظم القصائد عبث وباطل؟ وهل تحول شوقي عن نظم القصائد؟ والأستاذ نفسه يقول بعد ذلك إنه (لم ينقطع عن نظن القصائد المألوفة) فكيف يتفق هذا وذاك؟ وقال الأستاذ المازني إن شوقي مدين لخليل مطران بك لأنه (أول من أدخل شيئاً من التجديد على الشعر في مصر وتبعه شوقي) وقد أسرف القوم في الإشادة بتجديد مطران، وما نراه يفترق كثيراً في التجديد عن شوقي وطبقته، بل تجديد شوقي أظهر في التمثيليات لا من حيث النوع فحسب بل كذلك في المنحى الشعري.
وبعد فالمازني رجل له ماضيه في الأدب، كما قلت في مناسبة سابقة ومن حقنا بل من واجبنا ألا نفلته. . .
إمارة الشعر:
رأت مجلة (الهلال) بمناسبة ذكرى شوقي أمير الشعراء أن تستفتى القراء فيما يلي:
(1) من هم الشعراء الخمسة الأول بين شعراء العرب الأحياء في مصر وسوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن والحجاز؟
(2) من هو أجدر الشعراء بلقب الإمارة الآن؟
فأولاً - هل إمارة الشعراء منصب شاغر نشعر بضرورة ملئه؟ وهل دولة الشعر في حاجة إلى أمير ينظم أمورها ويقوم على شئونها ويحفظ الأمن في أرجائها ويحمى ثغورها وأطرافها ويدفع عنها وباء الكوليرا. .؟
لقد كان إطلاق لقب (أمير الشعراء) على شوقي حادثاً فذاً، لم يسبق له نظير في تاريخ الشعر العربي رغم أحاديث المجالس التي كان يسأل فيها عن أشعر الشعراء، ولم يكن أشعر الشعراء إلا قائل بيت أو بيتين أو أبيات وقعت في نفس المجيب عن السؤال موقعاً حسناً، على أنه لم يصر لقباً لأحد، كما أنه ليس لهذا اللقب نظير فيما نعلم من الأمم الأخرى، وإطلاقه على شوقي كانت الدعاية أهم أسبابه. فلم نتشبث به الآن؟
وثانياً - لو سلمنا بلزوم أمير للشعراء ونظرنا في طريقة استفتاء الهلال فيمن هو أجدر(745/43)
بلقب الإمارة الآن - لوجدنا هذه الطريقة غير سليمة، لأن الذين سيجيبون الاستفتاء وينتخبون أمير الشعراء أقلهم من يقرأ الشعر ويتذوقه ويعطى (صوته) راشداً، والأكثرون ليسوا كذلك، بل منهم من لاحظ له إلا سماع أسماء المشهورين من الشعراء، فهل تؤدى حكومة هؤلاء، إلى حكم مقبول؟ والشعر الآن يتجه اتجاهات جديدة لا يستطيع فهمها وتقديرها إلا خواص الأدباء، فكيف يحكم فيها عامة القراء؟
ويأخذ الكثيرون على قانون الانتخاب العام أنه يجعل للأميين حق الانتخاب، والواقع أن هؤلاء الأميين يستطيعون تقدير كفايات أعضاء البرلمان أكثر مما يستطيع كثير من قراء الصحف والمجلات تقدير الجدارة بلقب أمير الشعراء.
(العباس)(745/44)
البريد الأدبي
فرعون:
للكلمة في الرسالة 747: فرعون بكسر الفاء وفتح العين وبضم الفاء
وضم العين، وبضم الفاء وفتح العين، وهاتان لغتان نادرتان. والاثنان
هو - كما يقول أبو زياد - أوهما - كما يقول أبو الجراح - من
حزب همزة الوصل.
(س)
إلى الأستاذ العماري
قرأت في العدد 743 من الرسالة الغراء كلمة قيمة للأستاذ على العماري بعنوان (شئ من الصراحة) بحث فيها مشكلة الضعف الذي عم الطلاب في اللغة العربية، وأسبابه التي أدت إلى التواء ألسنتهم، والعلاج الذي يراه لهذا الداء الذي يهدد كيان اللغة الوطنية التي نعتز بها.
وإني أوافقه فيما يراه. ولكن الأستاذ قد ذكر أن (في مدرسة عالية همها تخريج مدرسين للغة العربية يترك الطلاب كتاب الأشموني ليقرءوا ملخصاً له وضعه أحد الأساتذة كأنهم في مدرسة ابتدائية ثم هم يمتحنون في هذا المختصر).
ولا شك أنه يعنى بهذا (كلية دار العلوم) وأحب أن أبين للأستاذ أن أساتذة دار العلوم ما زالوا يشرحون (حاشية الصبان على الأشموني) ويكلفون الطلاب باستذكارها، ومعظم أسئلة الامتحان تطبيق على مسائل في الحاشية.
وإني إذ أقرر هذه الحقيقة لست ممن يدعو إلى دراسة الحواشي وضياع الوقت في مناقشات لفظية عقيمة، فإن قيل إنه لابد من ذلك لكلية اختصت بدراسة اللغة العربية. أجبنا إن أرادوا هذا فليرفعوا عن كاهل الطالب في دار العلوم ما لا صلة بينه وبين علوم اللغة من مثل (الطبيعة والكيمياء واللغة العبرية، واللغة الفارسية) لأن لهذه العلوم كليات اختصت بها، والطالب قد درس ما يكفيه من بعض هذه العلوم في المرحلة الثانوية.(745/45)
محمد هاشم عبد الدائم
حول قصيدة:
نشرت (الرسالة) في عدد مضى مقالة للأستاذ محمد هاشم عطية بعنوان (في العراق الشقيق). وفي آخر المقالة قصيدة للأستاذ ألقاها في الربيع الماضي ترحيباً بالوفد السوداني عند زيارته لبغداد؛ قال فيها:
واسألوا الدهر والقرون الخوالي ... فسيشهدون أننا أخوان
والبيت مكسور
وتخطر فوق الأصيل نديا ... من نشر الربا وطيب المجاني
والبيت مكسور (وفوق الأصيل) تعبير لا يسوَّغه الذوق والبيت لا تجمعه مناسبة بين ما قبله وما بعده من الأبيات.
فهنيئاً لكم بما قد حبيتم ... ثقة الشعب وحي هذا الأوان
فقوله (وحي هذا الأوان) تكملة للبيت لا غير دون نظر إلى المعنى أو الأسلوب أو المقام.
ويقول في تصوير عمل المستعمر بوحدة النيل وعجز ذلك عن التفرقة بين مصر والسودان:
كان منها مكان ناطحة الصخر ... بقرن عضب ورأس هدان
نعم فلم يصنع المستعمر شيئاً وكان كناطحة الصخرة الصماء بقرنيها؛ فالشطر الأول قوى وسليم؛ أما الشطر الثاني فلا أدرى ما فائدته، فالماشية مثلا تنطح بقرونها ورأسها، ووصف القرن بعضب والرأس بهدان لا يجدي شيئاً. وشتان بين البيت وقول الشاعر:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وقوله بعد البيت - ببيت واحد -:
تعصف الحادثات من جانبيها ... في الصفا الصم من ذرى ثهلان
يدل على ضعف قوة هذه الوحدة أمام الحوادث، وما كان أغناه عن ذلك.
وبعد فليس في القصيدة إلا الوزن والألفاظ، وما كان أغنى الأستاذ عن أن يعد نفسه في زمرة الشعراء.(745/46)
محمد عبد المنعم خفاجى
مكتبة دنفر
من محاسن المصادفات أنه في الوقت الذي كتب فيه الأستاذ (العباس) كلمته اللاذعة عن بعض عيوب دار الكتب المصرية (عدد743) وافانا البريد الأمريكي - ضمن رسائله - بتقرير هام بالنسبة لنا عن مكتبة بلدة أمريكية صغيرة تدعى (دنفر ووجه الأهمية في هذا التقرير أنه يوضح لنا بجلاء كيف أمكن لبلدة صغيرة كهذه أن تؤسس لها مكتبة ناجحة ومن ثم يساعدنا على استنتاج أن علة جمود دارنا ونشاط دور الكتب الأمريكية مثلا ليست - كما يعتقد الكثيرون - راجعة إلى الفرق الواضح بين مصر وأمريكا من حيث عدد السكان أو الثورة العامة أو ما شابه ذلك بقدر ما هي راجعة إلى الفرق بين نظام ونظام وبين اتجاه واتجاه.
ذلك لأن مهمة دور الكتب عندهم بصفة إجمالية ليست مجرد (إعارة الكتب) لمن يستطيع أن يستعيرها كما هو حادث لدينا بل تيسير الثقافة بصفة شاملة تيسيراً جدياً ومجدياً للمواطنين جميعاً كباراً وصغاراً على اختلاف ظروفهم وأمزجتهم وحالاتهم المادية والثقافية. بمعنى أن دارنا تعرض كتباً لا يستفيد منها غير الأدباء غالباً بينما دورهم تعرض مراجع من كل لون وفن بحيث يمكن أن يستفيد منها الزارع والموظف والتاجر والتلميذ والكاتب والشاعر والفيلسوف وذو الثقافة المحدودة والمليونير والفقير والرجل والمرأة إلخ. وبمعنى أن دارنا تترك كل فرد لنفسه يتخبط - إن استطاع - في طريقة البحث بينما دورهم تتعاون معهم تعاوناً وثيقاً فتهيئ لهم طرق التحصيل المثمر كما تنظم مناظرات في كل أنواع (المعرفة) ومحاضرات مشوقة للأطفال وأحاديث مناسبة للسيدات وتصدر نشرات سنوية وأحياناً نصف سنوية عن جهُودها ونظمها وتطوراتها وما يوجه إليها من نقد وما تتوخى إضلاحه. . الخ.
ولعل هذا كله راجع إلى سبب أصيل هو شغفهم - دوننا مع الأسف الشديد - بتثقيف أنفسهم في شتى مرافق الحياة بدليل لا يقبل الجدل وهو أن دورهم لا تعتمد على الحكومة كدارنا بل على المواطنين أنفسهم فهم الذين يتولون وحدهم شؤونها من إنفاق أو إدارة أو(745/47)
إشراف. والنتيجة المنطقية التي لا مناص منها أن نشاطنا الثقافي يخضع حتما للإجراءات الحكومية بقدر ما تسمح به (الميزانية) و (اللوائح) حتى لقد أصبح من الأمور العادية التي نسمعها بغير دهشة أن كتاباً (كالأغاني) مثلا لا تزال بقية من أجزائه (تحت الطبع) بالدار منذ سنوات طويلة. . وكتاباً مثل (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لا يزال دون طبع إطلاقاً فيما عدا جزءاً واحداً منه. . . وكم من كتب قيمة لم تطبع بعد أو لم تجلد بعد أو لم تصحح بعد وهكذا!.
يمكن أن يقال إذن أن معظم الفرق بيننا وبينهم بهذا الصدد لا يمت إلى اختلاف عدد السكان أو الثروة العامة أو نحو ذلك بصلة كبيرة. وإلا فإنه من غير المعقول أن تقارن - من هذه النواحي - بين عاصمة عظيمة كالقاهرة وبلدة صغيرة جداً مثل (دنفر) فهذه بلدة لا يكاد يدرى بها أحد إذ لا يزيد تعدادها الآن عن 158000 نسمة وليس لها ميزة معينة ولا شهرة خاصة ورغم هذا فقد استطاعت مكتبتها - حسب ما جاء بالتقرير الذي أسلفت الإشارة إليه - في فترة قدرها حوالي 40 سنة بعد إنشائها أن تمحو الأمية والجهالة من البلدة وضواحيها محواً تاماً ولا تزال عاملة إلى الآن على نشر المزيد من الثقافة والمعرفة بمنتهى الجد والنشاط. ويكفي شاهداً على مقدار تقدمها أن كل ثروتها عند افتتاحها عام 1842 كانت 35 مجلداً فبلغت اليوم 500 , 000 مجلد تقريباً أي ما يعادل ثلاثة أمثال عدد المواطنين جميعاً. وليست العبرة بكثرة ما في المكتبات من مجلدات وإنما بمقدار تداولها والاستفادة منها طبعاً. . ولهذا نجد أن أهم الأقسام في هذه المكتبة وأضخمها جهداً هو قسم التوزيع كما نجد أن أبرع أعماله هو توصيل الكتب بواسطة سيارات معدة لهذا الغرض إلى القاطنين في الضواحي أو القرى المجاورة وإلى الفلاحين في مزارعهم وإلى العمال في مصانعهم وإلى المرضى في المستشفيات. . . الخ. وعلى ذلك يندر - كما يؤيد التقرير - أن تدخل منزلا هناك دون أن تجد في أوقات الفراغ رب البيت يقرأ ما يزيده خبرة أو متعة. . وربة البيت تقلب بين يديها (كتالوجات) عن فنون الطهي وألوان الطعام. . والأطفال يستمتعون بكتب مزدانة بصور هزلية طريفة ترمز إلى معان مختلفة. . والخدم يطالعون قصصاً وإرشادات صحية. ونحو ذلك.
ومن طريف ما يذكر عن هذه المكتبة أن أغلب وظائفها - كمعظم المكتبات الأمريكية -(745/48)
مقصورة على النساء ولهن نصف كراسي المجالس العليا التي تتولى الإشراف عليها وكثيراً ما يظفرن بكرسي الرياسة!؟
عبد الفتاح البارودي(745/49)
الكتب
كتاب (الله)
(تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد)
بقلم الأستاذ محمود عماد
حاولت أكثر من مرة أن أكتب كلمة عن كتاب (الله) ولكنى ما كنت أهم حتى أحجم. لأن غرض الكتابة لا يعدو تقديم المؤلف، أو تقديم الكتاب. أما المؤلف فهو غنى عن التقديم لأنه (العقاد)، وأما الكتاب فأنى أرى كل تقديم له تأخيراً. إذ هو ليس من الكتب التي تلم بها الكلمة العابرة، وتضع منها أمام القارئ صورة مصغرة.
وإذا كانت كل أوراق مغلفة تسمى كتاباً، فأن هذه الأوراق شئ أجل من كتاب. إنها حادثة من حوادث القلم التي لا تقع في عالم التأليف إلا في آماد متباعدة.
ولو أن هذا الكتاب ظهر في بلاد غير مصر لكان له فيها دوى يزلزل آلاف الكتب عن رفوفها. ولكنه ظهر في مصر فكان حسبه أن يجد له بين كل ألف رف مكاناً واحداً، وأن يكون هذا المكان هو أهدأ أمكنة المكتبة حركة، حتى أذن الله فيقيض له مترجماً يترجمه إلى لغة أجنبية. عند ذلك يحدث الدوى، وتكون الزلزلة. إذ يرى فيه العالم أول كتاب تقصى تاريخ العقيدة البشرية، من عهد الطوطمية إلى عهد التوحيد، مستهديا بالعلم والفلسفة والإلهام، مذ طور الخلية حتى طور العقل.
وهى رحلة طويلة شاقة إلا على قلم رحال متقص كقلم العقاد الذي عقد في فناء كتابه مؤتمرً من فلاسفة الأمم، شرقيها وغربيها، قديمها وحديثها، تبوأ فيهم العقاد مكان الصدارة، وأخذ يناقش كل فيلسوف رأيه، نقاش الخبير بكل رأى، فيخذل هذا حتى لا يجد له من ناصر، وينصر ذاك حتى لا يتصدى له خاذل. ثم يخلص إلى رأيه الخاص، يطالعك به واضحاً مشرقاً كالشمس تخلصت من السحب، في عبارة غنية، وحجة حاسمة، ومنطق مستقيم. وهى صفات التفوق.
قلت إن كتاب (الله) لايلخص، ولكنه يقرأ. فليقرأه من يريد أن يعتز بالعبقرية الشرقية، والبيان العربي. وما كتبت هذه الكلمة تقديماً للكتاب، ولكن لأجد بها فرجة في جو (الرسالة)(745/50)
الفسيح من شعور مكبوت يغالبني منذ قرأته. بل هو يغالبني كلما قرأت محضر ساعة من ساعات العقاد التي يجلسها بين كتبه. تلك الساعات الحافلة التي أقول فيها بحق:
عباس طرت إلى السماء ... ولمست ذرات الضياء
ونفذت قبل إلى طبا - ق الأرض من يبس وماء
لم تحتجب عنك الكثا - فة، لا ولا دق الصفاء
أفأنت روح خلص ... أمأنت سر الكهرباء؟
كلا، فأنك مثل هذ - االناس محمود البناء
يعروك ما يعروهمو ... من راحة أو من عناء
فيم اهتديت إلى الذي ... ضلوا وأحصيت الخفاء؟
هذا بأنك شاعر ... والشعر يعرف ما يشاء
والشعر يبدو في النظ - يم أو النثير على السواء
ساعاتك الغر السوا - نح من نفاذ وامتلاء
جثم الزمان بها كما ... جاس الوليد القرفصاء
وتحدثت فيها الحيا - ة بغير لبس والتواء
أكبر بساعتك التي ... وسعت نواميس البقاء
في أي حجم صيغ (عقر ... بها) وفي أي استواء؟
أتراه فوق الأرض ركـ - ب أم على وجه السماء؟
يا ليته قيست به ... أعمارنا قبل الفناء
فإذا بها تضفو كأعما - ر النجوم على الفضاء
محمود عماد(745/51)
القَصَصُ
قصة تاريخية:
الجزاء!!
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
قال موسى بن نصير (إنها يا صاحبي محنة أحاطت بي من كل جانب، ولقد بلغ عنت الخليفة بها فوق طاقتي، وفوق ما يحتمل الرجل الحر الكريم. عزلني من كل أعالي فأذعنت، وجردني من كل مالي فخضعت، واتهمني بالغدر والخيانة في مال المسلمين فصبرت، وأهانني. . . أجل! أهانني فاحتملت الإهانة بالتوجه إلى الله تعالى أن يثيبني عليها ثواب الصابرين، وإن رجائي في الله العظيم، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد فرض علىِّ الخليفة غرماً باهظاً من المال لا أملك منه درهماً واحداً، ثم كانت الداهية الدهياء، فإنه يطلبني اليوم ليجز رأسي بالسيف وقد جئت إليك وأنا بين شقي الرحى. . .)
(واأسفاه أيها الصديق، أيكون هذا جزائي من خليفة المسلمين ومنزلتي في القوم بعد أن بذلت ما بذلت من دمي وجهدي، وخضت المعارك وروحي على يدي حتى فتحت تلك الفتوح العظيمة وضممت الأقطار الشاسعة إلى دولة الخلافة؟! لقد طلعت بدعوة الإسلام على الملوك من مغرب الشمس وكانوا لا يعرفون مكانها إلا في الشرق، ولق وقفت بلواء الخلافة في صميم أوربا وهجمت على ملوكها في عقد دارهم ولولا أن استرجعني الخليفة الوليد بن عبد الملك لبلغت في ذلك النهاية، وبسيفي جلبت إلى ساحة الخلافة كل ما جمع الملوك على طول السنين من النفائس والثروات، وما حشدوا من العديد والمعدات، ثم أرى هذا كله يطوى في مطاوي الجحود والنكران، وتذهب به دسيسة رخيصة من كاشح حقود، أو عدو كنود؟!).
(أصغ لي أيها الصديق، فإنه ليس شأني ولكنه خطر يتهدد سمعة الخلافة ويقف في طريق الفتح الإسلامي، فلن يقدم قائد بعد اليوم كما أقدمت في فتح الفتوح ما دام الجزاء كما ترى، ولو أني أعرف في جهادي وفي تصرفاتي شبهة أستحق عليها اللوم أو نقصاً يوجب المؤاخذة لأسلمت عنقي لسيف الجلاد راضياً مطمئناً قبل أن أسمع قضاء الخليفة علىَّ(745/52)
بذلك، فأنا كما تعرف لست بالرجل الجبان، ونحن رجال السيف، لا نقدر طول الحياة بطول أيامها ولا نحرص عليها لما فيها من المفاتن والزينة والراحة والرفاهية، وإنما هي حياتنا تقدر بالأعمال العظيمة، ونمضي فيها على الخروج من شدة لمواجهة شدة أقسى وأصعب، وإني على ثقة من طهارة صحيفتي وبراءة ذمتي، وسأقف بين يدي الله وكتابي بيميني في صفوف المجاهدين الأبرار، ولكنني أطمع أن لا أخرج حتى أرى صحيفتي بيضاء أمام الناس وأمام التاريخ. . . .).
(رحماك يا صاحبي، لقد شمت بي العدو، وفريح فيَّ العاذل، وطمع فيَّ من لا يدفع عن نفسه، وتوجع لي الصديق، وفجع بفاجعتي الأهل والولد، وإني لأعرف منزلتك من سليمان بن عبد الملك، وأقدر فيك الشهامة والمروءة، وأعتز بحرمتي عندك فبك أستجير من بطشه، وألجأ إليك في تخليص عنقي وتطهير سمعتي، ورفع ذلك الغرم الثقيل الذي سيضطرني إلى التكفف وسؤال العرب في تحمله عني، وهل تحسبني أحتمل الحياة وأنا أرى كرامتي تبتذل بالسؤال والتكفف؟).
قال يزيد بن المهلب: (هون عليك أيها الصديق، فإنها سحابة صيف عن قريب تقشع، وما أنت في محنتك بأول مثل بين الناس ولا بآخر مثل سيكون بين الناس، فهكذا الأمر في صحبة الملوك، وقديماً قيل: إن صاحب السلطان كراكب البحر إن نجا من الغرق لم ينج من الخوف، وإني لأعرف في سليمان بن عبد الملك العناد والإصرار على الرأى، ولكني باذل جهدي عنده وثق أنها ذمة العرب لانخرمها أبداً، وعهد الآباء لا نخونه ولو طاح العنق، ولقد نزلت بساحتي، فإني شريك لك فيما تعاني من محنة، وإني لأضع نفسي وولدي ومالي بين يدي الخليفة افتداء لك، وأنت آمن في جواري إن شاء الله).
قال موسى: (إنها يد أحفظها لك؛ ومروءة أقدرها فيك وإني على يقين من نجح مسعاك، لما أعرفه من منزلتك عند الخليفة وقربك من قلبه واحترام رأيك عنده، والخير في التعجيل).
قال يزيد: (ما كنت أنتظر حتى تتحدث إلىَّ في شأنك فقد كنت أتحدث اليوم إلى الخليفة في هذا الشأن، وإني لذاهب لساعتي لأعاود معه الحديث، وسأخبره أنك استجرت بي ونزلت بساحتي وأني قد أجرتك وتحملت عنك، ولكن ماذا أقول لك؟ لقد سقطت في تبصر الأمر سقطة هي التي جبلت عليك كل هذا فقد كنت تعرف أن سليمان بن عبد الملك كان ولي(745/53)
العهد لأخيه الوليد بن عبد الملك، وأن الوليد كان قد بلغ الغاية في حياته، يتوقع الناس له الخروج من الدنيا بين كل صباح ومساء، ولكنك وقفت على الولاء له، والارتفاع بمكانته، وأمهلك سليمان على أن تكون له يوم يجلس لشئون المسلمين وأن تدخر الفخر بفتوحاتك الكبيرة العهدة فأبيت، فاحفظته بهذا عليك، ولم تقصر في العناد معه مما مكن للحقد في قلبه، على أنك من ناحية أخرى قد أغضبت مملوكك طارقاً بن زياد يوم صفعته بالصوت، فكان بالوقيعة بك عند سليمان).
قال موسى: (مهلا يا صاحبى، فليس هذا وقت تعديد ولا تأنيب، لقد كنت أعلم الأمر فيما أوضحت، وكنت أعرف أن شمس الغد ستشرق على سليمان في أبهة الخلافة والأخذ بالسلطان على المسلمين، ولكنى أعرف أيضاً أن من الواجب علينا أن نقدر لكل إنسان يومه، وأن نحترم لكل سلطان عهده، وليس من الحق في الإسلام ولا من الخير للمسلمين وجامعتهم أن نضع المصالح العامة موضع الزلفى للأهواء والأغراض، وليس من اللياقة أن نجلس مع الوريث نرتب شأن التركة وصاحب المال حيُّ يتنفس!! كان ذلك رأيي حتى لا أنهم بالضعف في خلقي ورجولتي، وهبني أخطأت، فما أنا بمعصوم).
قال يزيد: (إنني ما قصدت بما قلت لك تعديداً ولا تأنيباً وإنما قصدت أن أكشف لك عن السر وأن أرى ما عندك).
فتململ موسى في مكانه، وحرض ريقه على غصص، ثم قال: ترى ما عندي؟ وماذا تحسب أن يكون عندي وأنا على هذه الحال؟ إن الإنسان ليرى الرأي القويم السديد في شأن غيره أما في شأنه هو فأنه يرتبك ويتبلد حتى لا يدري مصدر الأمر من مورده، فما ظنك بي وأنا رجل اعتدت طول حياتي أن أفكر في شئون الحرب والفتح، وفي شئون من هم تحت طاعتي من الجند وحولي من الأعوان، ولم أكن أجد الفرصة التي أفكر فيها لنفسي، فلا تسألني الرأي فأنى لا أملك الآن معياره، وقديماً قالوا: إن من الحزم في الرأي أن يكون ميزاناً لا يزن كاملا لناقص ولا ناقصاً لكامل. . .)
قال يزيد: (إنني لم أزل أسمع أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكايد الحروب، وأبصرهم بطبائع أهل السلطان، وأقدرهم على مداورة الدنيا والتصريف لأحداث الحياة ونوازل الدهر، وإني والله لأعجب منك كيف وقعت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس،(745/54)
ومددت بينك وبين هؤلاء القوم الأقطار الشاسعة والبحار الزاخرة، وتيقنت بعد المرام عليهم واستصعابه، واستخلصت بلاداً أنت اخترعتها وبسطت سلطانك عليها، وجعلت الإدارة فيها لولدك وهم طوع يمينك، ثم ملكت رجالا لا يعرفون غير خيرك وشرك وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع لكنت اليوم على رأس دولة يتعاظمون هيبتها وخطرها، وما انتهى بك الأمر إلى هذه الحال فتضع عنقك في يد من لا يرحمك! ألا ليتك والله فعلتها يا أخي!).
فصاح موسى من قرارة نفسه: (كلا، كلا، الويل لي لو فعلتها! والويل لي لو فعلتها!! وهل كنت تحسبني يا فتى المهلب أروم خطة لنفسي أو أبني دولة لولدي، ألا بعداً لي من رحمة الله إن هجس هذا الخاطر بقلبي مرة، ألا سحقاً لي لو نزعت إلى هذه الشنعاء وشققت عصا الطاعة على خلافة الإسلام، وشطرت الأمر في الحكم إلى شطرين، يقف كل من صاحبه بالمرصاد، فما هي إلا مراوغات ومصاولات حتى ينقض الأمر من أساسه، ويذهب سلطان الدين، وتدول دولة المسلمين، فالويل لمن يفعلها فيفتح باب الطريق إلى الهلاك والفناء. . . يا ابن المهلب: إنها كلمة الله كنت أسير بها في الآفاق، وأمهد بها لسلطان الإسلام، وأقوى بها رابطة المسلمين، وأمكن بها لنفوذ الخلافة وهيبتها، وما كنت أرجو من وراء ذلك مكانة زائفة ومنزلة زائلة، ولكن كنت أطمع فيما هو أغلى وأعظم، كنت أطمع في ثواب المجاهدين عند الله، وما أحسبه سيحرمني من الجزاء وإن حرمته عند صاحب السلطان).
قال يزيد: (طوبى لك يا ابن نصير، فاطمئن في مكانك وإني لقاصد إلى الخليفة في شأنك، ثم عائد إليك).
ورجع يزيد بعد أن تكلم مع الخليفة في شأن صاحبه، رجع وعلى شفتيه كلام، وبين جوانحه هم ممض، وكان صاحبه في انتظاره على أحر من الجمر، وجلس الصديقان متقابلين، يريد موسى من صاحبه أن يتكلم، ويريد صاحبه ألا يتكلم. . .
ومضت فترة كأنها الدهر، ثم انفرجت شفتا يزيد عن صوت خافت يقول: (لا عليك يا صاحبي فإن الله يتولاك فيما بقى، ويعلم الله أني بذلت ما في طاقتي وأكبر مما في طاقتي، وقدمت نفسي ومالي فداء لك عند سليمان، وإني في ذلك لصادق، وأعلمته أنك نزلت(745/55)
بجواري ولذت بكنفي واستجرت بحماي وهو يعرف ذمة العرب في ذلك، ولكن غضب الملوك أعمى، قد يحتدم عن غير سيب، ويمضي إلى النهاية لا يقف به سبب، ولقد أصر سليمان على موقفه منك، وأصررت على موقفي منه، وما زلت به حتى وهبني دمك وحياتك، ورضى بأن يرفع السيف عن عنقك، ولكنه أبى أن يخفف العذاب عنك وأن يكف الإهانة والتشهير بك حتى تدفع ما فرضه عليك من الغرم كاملا غير منقوص، وترد إليك ما أخذت من مال المسلمين كما يزعم).
فصاح موسى صيحة مغيظة: (أو هكذا صنع، أو هكذا أبى وأصر؟! إنا لله، أفٍ لها من دنيا تافهة وحياة رخيصة ذليلة، بل أفٍ لجبابرة الملوك، ما أغدر وما أخون، بل ما أصغر وما أحقر وهبني يا صاحبي أذنبت، وجئت بالشعناء التي لا تجوز، فأي رجل هذا الذي لا يسعني بحلمه وهو الذي يسع الخلائق بحكمه، ألا ليتني صرت إلى باطن الأرض قبل اليوم، ولعل الله منَّ على بطعنة فارس في حومة الوغى فصرعت مصرع الأبطال، ولكنه قدَّر على كل هذا العناء. . .).
(رحماك يا فتى المهلب، وإني لشاكر لك مسعاك، وحافظ يدك الغامرة، فقد أوفيت لي بحق المرؤة، ونهضت نحوي بعهد العرب وذمتهم، ولكنها لجاجة مني، والمكروب لجوج، والنفس في حومة الأسى لا يربطها تفكير ولا رأى، وماذا تحسبني بمستطيع أن أصنع، وليس في يدي شيء من المال، وليس لي في العرب القبيل الذي يحمل عني ذلك الغرم الفادح؟).
قال يزيد: (إني لأعرف ذلك، وإنه ليكرب نفسي، ولقد مررت في عودتي إليك من عند الخليفة بأحياء العرب وتحدثت إليهم في الأمر، فتحملت عنك (لخم) تسعين ألفاً ذهباً، ووهبتك من مالي ما زاد على النفقة، ودفعت بذلك إلى الخليفة حتى يرفع عنك العذاب والإهانة انتظاراً لوفاء ما بقى من الغرم المفروض، وما أحسب أن رؤساء العرب سيردونك إذا قصدتهم وهم الذين يعرفون لك ما أسديت في الفتح والجهاد، والله يتولاك في كشف هذه الغمرة. . .).
وسمع موسى من صاحبه ما تكلم به، فلم يرد بكلمة، ولم يزد على أن تمتم تمتمة غير مفهومة، ثم صعَّد من أعماق نفسه آهة محترقة.(745/56)
وأصبح الصباح على موسى بن نصير، وهو يطوف بالقبائل، ويتنقل بين أحياء العرب، ومعه جند الخليفة والموكلون بتعذيبه، وذلت نفس القائد العظيم الذي فتح الأمصار ودوخ الأقطار ووقف بكلمة الإسلام في قلب أوروبا حتى بلغت به الحال أن يسأل الناس ما ينجي به نفسه ويخفف من العذاب في جسمه. . قال غلامه الذي وفي له من دون الناس، ولازمه في حالي نعمته ونقمته: (لقد كنت أطوف مع الأمير موسى بن نصير في أيام محنته على العرب، فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا، ولربما دفع إلينا الدرهم والدرهمين رحمة بنا فكان الأمير يفرح بذلك. . . ولقد كنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ الأسلاب من قصور الإفرنج وخزائن الملوك فنفصل منها ما يكون فيها من الذهب وأشباهه ونرمي به، ولا نأخذ إلا الدر الفاخر. . . ولقد رأيت الناس جميعهم يتحرقون على أن يكونوا في خدمة الأمير أيام دولته، ثم رأيتهم ينفضون عنه جميعهم أيام محنته. . . ولقد نزلنا بوادي القرى نسأل العرب، فعزم رجل كان من قبل في خدمة الأمير على أن يسلمه لحتفه، ففطن لذلك الأمير، فذلَّ له، وقال. يا فلان: أتسلمني في هذه الحال؟ فقال له اللئيم: (لقد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين)، فدمعت عينا الأمير، وجعل يرفعهما إلى السماء ضارعاً خاضعاً وهو يزم شفتيه ويتمتم بكلمات غير مفهومة فما سفرت تلك الليلة القاسية الحالكة إلا عن قبض روحه).
محمد فهمي عبد اللطيف(745/57)
العدد 746 - بتاريخ: 20 - 10 - 1947(/)
الطابور الخامس في حرب الكولرا
عبأت الحكومة المصرية لجهاد الكولرا الإنجليزية قوى الدولة، وتجهزت للقائها بأحدث الأسلحة من عزل وحصار وعلاج وتلقيح وتطهير ودعاية. وكان المرجو من كل أولئك أن يموت الداء الوليد في مهده، وينكفئ الوباء العنيد عن قصده، وترفض مخاوف الموت عن البلاد في مدى أسبوعين كما وعد بذلك أولو الأمر في أول الأمر. ولكن شهراً يوشك أن ينصرم والعدوى السريعة لا تزال تستشري، والموت بمنجله الحاصد لا يزال يسبق الآجال في كل بقعة! فيما ذا نعلل هذه الهزيمة وأسباب النصر موصولة ونتائجه مكفولة وطرائقه مؤدية؟ نعللها بأن في صفوف العدو طابوراً خامساً يهيأ للمرض الوقود ليشتعل، ويشحذ للموت المناجل ليحصد! ذلك الطابور الخامس هو أطباء وزارة الصحة! ومن الإنصاف أن لا نعمم الحكم؛ فإن من هؤلاء فريقاً لا يزالون أوفياء للإنسانية خلصاء للمهنة، لم يفجروا في يمين أبقراط ولم يخرجوا عن قانون ابن سينا. ولكن هذا الفريق لم يعرف وا أسفاه الإقليم الذي نعيش اليوم فيه!
أكثر هؤلاء الأطباء منهومون بالمال، يتهالكون على جمعه، ويتنافسون في ادخاره. وهم في سبيل تحصيله يسفهون الحق، ويغفلون الواجب، ويجهلون الرحمة وينكرون الحسنى، ثم يخفون اللقاح عن الفقير ليظهروه بالثمن للغني، ويصعبون الدخول في المستشفى ليسهلوا الدخول في العيادة، ويكلون تطبيب المرضى لأجلاف الممرضين وجفاه الخدم، ليلعبوا النرد في القهوة، أو يلهوا بالورق في النادي! ومن جرّاء هذا الإهمال والاستغلال والعنت استحب الناس المرض على الصحة، وفضلوا الحلاق على الطبيب، وضنوا بمرضاهم على المعازل فلم يبلغوا (المركز) عنهم، حتى لا يموتوا وحداء في وحشة، ولا يدفنوا غرباء في مهانة.
هؤلاء الأطباء وأشباههم من غير الموظفين تعرفهم الحكومة بالسماع والخبرة. ولولا سوء رأيها فيهم، وترجيحها ما شاع في الناس عنهم، لما جعلت ألف جنيه مكافأة لكل من يبلغها أن طبيباً تاجر بلقاح أو لقح بأجر.
وإنك لتعجب أن يكون في الناس من لا يشغل باله في سورة الوباء إلا بالثراء، ومن طبيعة الإنسان إذا اكتنفته ظواهر المرض ومظاهر الموت إن يخشع قلبه وتزهد عينه؛ ولكن عجبك ينقضي إذا حشرك الله في زمرة هؤلاء الذين يعيشون على حساب المرض والموت،(746/1)
فجعلك طبيباً أو ممرضاُ أو حانوتياً أو نحو ذلك؛ فيومئذ تشعر بحكم الإلف والعادة أنك أشبه بخدمة الموائد في حفلة العرس، أو بحملة القماقم في موكب الجنازة، لا يعنيك من الأمر غير الأجر، ولا يغنيك عن شأنك شؤون الناس.
على أن في الطبابة جزءاً من النبوة وشطراً من الحكمة، وعلى هذا الشطر وذلك الجزء يعول الناس في إيقاظ الضمير الإنساني في هؤلاء الأطباء فيعودون كما كانوا رسل سلامة وملائكة رحمة.
(المنصورة)
احمد حسن الزيات(746/2)
حديث الدولتين
للأستاذ محمود محمد شاكر
الآن حصحص الحق، ولم تبق في نفس ريبة تحجبها عن رؤية الحقيقة سافرة بينة واضحة تكاد تنطق وتقول هاأنذا فاعرفوني؛ فهذه بريطانيا أم المكر والدسائس قد دخلت ارض فلسطين العربية ليقول قائد جيشها يومئذ حين وطئت قدماه المدنستان هذه الأرض المطهرة (هذه آخر حرب صليبية)، فكان ذلك إعلاناً عما اعتمل في نفوس أولئك الغزاة من سخائم الحقد والضغينة والعصبية الجاهلية الموروثة، ثم لم تلبث هذه الدولة ان نكثت عهودها للعرب، وكانت قد قطعت هذه العهود على نفسها لتستجر معونة العرب لها في الحرب العالمية الأولى.
ولم يكن ذلك فحسب، بل إنها كانت تكيد للعرب من وراء حجاب فقطعت عهداً آخر يناقض عهودها للعرب، وكان هذا العهد لرجل غير مسؤول من الأفاقين الصهيونيين المتعصبين. فلما دخلت فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى أظهرت أنها دولة لا تستطيع أن تنقض عهدها فإن العهد هو شرفها الشامخ الباذخ النقي الطاهر، فمن اجل ذلك أصرت على ان تحمي اليهود الذين جاءوا من أرجاء بلاد الله ليحتلوا ارض فلسطين. وظلت وكالات الأنباء تطمس حق العرب فيما تنشره الصحافة، وتجلوا باطل اليهود جلاء منيراً حتى انخدعت الدنيا كلها بالترهات التي تحوكها هذه الشركات الصهيونية.
وثار العرب يطلبون حقهم ويريدون طرد هؤلاء الدخلاء من ارض الآباء والأجداد، فوقفت بريطانيا تذود عن باطل اليهود فتفتك بالعرب فتكاً وحشياً، تعذب طلاب الحق وتهينهم وتشردهم لا ترعى حرمة لطفل ولا شيخ ولا امرأة، وضربت الغرامة على القرى والدساكر والبلاد لأهون سبب، وهي في أثناء ذلك ترخى للأفاقين من اليهود وتغريهم بالعرب وتمهد لهم في الحكومة حتى يستولوا على السلطان، وتحميهم من شر العرب وبأسهم وتسلط على رقاب المسلمين والنصارى أهل فلسطين.
وجعلت صحفها وشركات أنبائها تذيع على العالم الأكاذيب، وتصور العرب بصورة المعتدين الباغين، وتسمي الأحرار من أبناء إبراهيم وإسماعيل عصابات ولصوصاً وفتاكاً، وترميهم بالبهتان والكذب، وتستر عن العالم كله فظائع ما ترتكبه في حق الأحرار(746/3)
المجاهدين.
وظلت بريطانيا على ذلك الطغيان الفاجر تعمل بالدسيسة والوقيعة والكذب والتغرير، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، فقام الأبالسة من رجال السياسة البريطانية يفتلون في الذروة والغارب من هذه العرب حتى لانوا وانخدعوا بان بريطانيا سوف تنصفهم وتعطيهم حقهم يوم تضع الحرب اوزارها، وهي في خلال ذلك تجند اليهود في جيوشها وتزودهم بالسلاح وتدخلهم فلسطين وتظهر الكراهية لما تفعل، وتبطن الغدر فيما تريد، فاحتشدت من اليهود جيوش جرارة في فلسطين باسم الديمقراطية والدفاع عنها، وباسم الاضطهاد الذي أنزله النازيون بهم في اوربة، وبغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي تعلقت بها السياسة البريطانية.
ووضعت الحرب أوزارها، واشتد ساعد اليهود، وهم أهل المال وحراسه، فأعانوا بريطانيا، ثم لم يلبثوا أن كشفوا القناع في أمريكا وهم فيها القوة الظاهرة في انتخاب رئاسة الجمهورية، وأصحاب الشركات والأموال في نواحي الاقتصاد الأمريكي، وهم شياطين الصحافة والمستولون عن إعلاناتها وشركات أنبائها ورجال تحريرها، فإذا أمريكا تندفع في طريق الصهيونية غير عابئة بالحق الظاهر، ولا بمصالحها في بلاد العرب، ولا بكرامتها بين الأمم، ولا بسمعتها في دواوين التأريخ. وإذا هي أشد بغياً على العرب من بريطانيا، وإذا صحافتها أشد جلافة من الهمجي الذي لم يهذبه تأديب ولا تثقيف.
هكذا كان أمر بريطانيا وأمر أمريكا، وإذا هيئة الأمم المتحدة ترسل لجنة إلى فلسطين لتضع تقريراً، وإذا هذا التقرير فجور ليس بعد فجور، ولا عجب فإنها لجنة كانت من أول أمرها ضالعة مع اليهود، فقسمت أو أشارت بأن تقسيم فلسطين قسمة جائرة بين العرب واليهود. أما العجب العجاب فهو أن نرى بريطانيا العظمى ذات السلطان والبأس والبطش، تذل لعدوان اليهود على جنودها وعلى جلد ضباطها وشنقهم واختطافهم وتعذيبهم، ثم يأتي قرار التقسيم الذي اقترحته اللجنة، فإذا بريطانيا تزعم أنها سوف تجلو عن فلسطين وتدع العرب واليهود لكي يحلوا هذه المشكلة المستعصية على ساسة بريطانيا العظمى أيضاً!!. . .
فماذا تريد بريطانيا بهذا الانسحاب المفاجئ بعد أن كانت هي سر النكبة التي نزلت بساحة(746/4)
العرب مسلميهم ونصرانيهم في فلسطين وفي سائر بلاد العرب؟
لا جرم أنها تريد أن يقع القتال بين العرب واليهود، وتخرج هي سالمة من هذا الصراع، وهي في خلال ذلك سوف تعطي اليهود المعونة والسلاح، ويجهد أسطولها خفية في تهريب الأفاقين إلى فلسطين.
أما أمريكا فهي تضحك الثكالى بسياستها في هذه المشكلة، فهي تلجأ إلى هيئة الأمم المتحدة ويقوم مندوبها في اجتماع اللجنة الخاصة ببحث مشكلة فلسطين، ويكشف القناع عن سياسة هذه الدولة المحدثة في السياسة ويقول أن حكومته تؤيد مشروع تقسيم فلسطين، وتؤيد سياسة الهجرة التي اقترحتها لجنة التحقيق في تقريرها، ولي هذا فحسب، بل تتبرع هذه السياسة الأمريكية فتقترح تجنيد قوة دولية من المتطوعين بواسطة هيئة الأمم المتحدة، لكي تتولى الإشراف على تنفيذ قرارات الجمعية العمومية.
فماذا تريد أمريكا بهذا التدخل المفاجئ، بعد أن كانت بمعزل عن الغلو في السياسة الاستعمارية، ولها مصالح كثيرة في بلاد العرب تعمل جاهدة على تثبيتها وتوطيدها؟
لا ريب في أنها تريد أن تحل محل بريطانيا في حمل خبائث الاستعمار بعد أن شاخت أم الخبائث، ولا ريب في أن نفسها تسول لها أن اليهود أهل جد وعمل وإتقان وأصحاب مال وافر وانهم إذا تم لهم إقامة دولة يهودية في قلب البلاد العربية، فذلك إيذان باستيلائهم على الميادين الاقتصادية كلها، وإن يهود إذا فعلت ذلك ضمنت لأمريكا الحق الأول في السياسة الاقتصادية في الشرق الأوسط كله. وإذن فأمريكا تريد أن تلتمس أسباباً للتدخل في مسالة فلسطين، فهي تؤيد اليهود مهيمنة بمصالحها في بلاد العرب، لكي يقع القتال بين العرب واليهود، وتنتهز هي الفرصة فتعين اليهود بالمال والسلاح والرجال، ثم تلعب هي وبريطانيا لعباً خبيثاً في هيئة الأمم المتحدة لكي يجندوا جيشاً دولياً لتنفيذ مشروع التقسيم بالقوة، ويكون قوام هذا الجيش من أهل العصبية الصهيونية الذين استشرى أمرهم في بلاد أمريكا. ويومئذ تدخل أمريكا للشرق الأوسط كله بصك توقعه لها هيئة الأمم المتحدة - أي سوق الرقيق الدولية
وإذن فالأمر كما ترى بين كإسفار الصباح، وهو أن هاتين الدولتين الاستعماريتين تتخذان أسلوبين مختلفين في الظاهر متفقين في الباطن، يفضي إلى حمل العرب على قتال يهود.(746/5)
ونعم ما أراد ونحن العرب نقبل منهما هذا التحريض الخبيث، لأننا نريد أن نقاتل اليهود قتالاً لا هوادة فيه، فان دمائنا ليست أغلى من حريتنا وشرفنا وديننا. ولعل أمريكا قد سمعت لألئك الأفاقين اليهود الذين يزعمون لها أننا نهدد على غير طائل وإنما هي جعجعة ولا طحن لها، فآثرت أن تكشف سوءتها وقبيح نيتها للعرب وتصالح اليهود وتتملقهم وتحطب في حبالهم. فلتعلم أميركا ولتعلم بريطانيا أنا لسنا كاليهود ولسنا كسواهم من الذين يجرؤون لأنهم يحملون أسباب الغدر والخيانة والابادة، فلوا لقوا أعداءهم وجهاً لوجه لفروا واندحروا صاغرين. إن العرب ليريقون دماءهم في سبيل الحرية والشرف والنبل وان كانت كثرة السلاح مما يعوزهم، وفرق بين النذل الجبان والشريف الشجاع، فهذا يكون اقل السلاح حصناً له وحافزاً ومحرضاً، وذلك إذا رأى حملة صدق انتثرت نفسه وطار قلبه وألقى عدته وسلاحه واغمض في الأرض هارباً. فهذه يهود وهذا نحن أيها المخدوعون. . .
إن بريطانيا وأميركا وصحافتها قد أعلنت لنا بأحقادها فلنعلن نحن أحقادنا. وإن يهود قد استغرت بقوتها وبمعونة بريطانيا وأميركا ومظاهرتها لعدوانها علينا، فلا تأخذنا بعد اليوم رحمة يهود، فقد رحمناهم يوم اضطهدوا، وآويناهم أيام شردوا، وأفسحنا لهم بلادنا وقد طردتهم الأمم المسيحية القديمة طرد الكلاب الجربى، ولكنهم أنكروا ذلك ونسوه، وعضوا اليد التي مسحت آلامهم وجروحهم على مر العصور. ونعم ما فعلت يهود، فإنها قد أيقظتنا من غفلتنا، ويسرت لنا أن ننقذ العالم عاجلاً أو آجلاً من عربدة هذا الجيل الذي طهر الله أسلافهم، وصب لعنته على الإخلاف لعنة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها. . .
محمود محمد شاكر(746/6)
من شوارد الشواهد
للأستاذ علي الطنطاوي
19 - ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني=يمينك فانظر أي كف تبدل
لمعن ابن أوس المزني، شاعر مخضرم مجيد معمر، من قصيدته التي يقول فيها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تأتي المنية أول
وإني أخوك الدائم العهد لم أخن ... إن ابزاك خصم أو نبا بك منزل
أحارب من حاربت من ذوي عداوة ... واحبس مالي إن غرمت فأعقل
وإن سؤتني يوماً صبرت إلى غد ... ليعقب يوماً آخر مقبل
ستقطع. . . (البيت).
وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القِلى متحول
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
وهي طويلة جيدة، ومنها البيت السائر:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل
20 - فهبك يميني استأكلت فقطعتها=وجشمت قلبي صبره فتشجعا
لدعبل يعاتب مسلم ابن الوليد، من قصيدته التي يقول فيها:
أبا مخلد كنا عقدي مودة ... هوانا وقلبانا جميعاً معاً معا
فصيرتني بعد أن انتكاثك متهما ... لنفسي عليها أرهب الخلق اجمعا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله ... بنا وابتذلت الود حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشى ... ذخيرة ود طالما قد تمنعا
فلا تلحيني ليس لي فيك مطمع ... تخرقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك. . . (البيت).
20 - فإما أن تكون أخي بحق=فاعرف منك غثّي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني ... عدواً أتقيك وتتقيني
للمثقب العبدي، وبعده:(746/7)
فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا مبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
22 - إن القلوب إذا تنافر ودها=مثل الزجاجة كسرها إلى يشعب
لصالح بن عبد القدوس، من قصيدته الطويلة في الحكم، ومطلعها:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب ... والدهر فيه تصرم وتقلب
فدع الصبا فلقد عداك زمانه ... واجهد فعمرك مر منه إلا طيب
وبعدهما البيت السائر:
ذهب الشباب فما له من عودة ... وأتى المشيب فأين منه المهرب
ومنها:
لا خير في ود امرئ متملق ... حلو اللسان وقلبه يتلهب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ منك كما يروغ الثعلب
23 - تمسك إن ظفرت بذيل حر=فان الحر في الدنيا قليل
من شعر الفقهاء، وهو لأبي اسحق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروز آبادا العالم العلم المعدود من أعلام الملة وقبله:
سألت الناس عن خل وفى ... فقالوا: ما إلى هذا سبيل!
24 - إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا=من كان يألفهم في المنزل الخشن
لإبراهيم بن عباس الصولي، الكاتب الشاعر، وقبله:
أولى البرية طراً أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن
25 - حسن قول (نعم) من بعد (لا) =وقبيح قول (لا) بعد (نعم)
للمثقب العبدي وهو عائد من محصن بن ثعلبه، شاعر جاهلي قديم كان في زمن عمرو بن هند وعمر حتى أدرك النعمان ابن المنذر، سمي المثقب (بالكسر) لبيت قاله وهو:
ظهرن بكلة وسدلن رقماً ... وثقبن الوصاوص للعيون
من قطعة له يقول فيها:
لا تقولن إذا ما لم ترد ... إن تتم الوعد في شيء: (نعم)
حسن قول (نعم). . . (البيت)(746/8)
إن (لا) بعد (نعم) فاحشة ... فب (لا) فابدأ إذا خفت الندم
وإذا قلت (نعم) فاصبر لها ... بنجاز الوعد إن الخلف ندم
أكرم الجار وراعي حقه=إن عرفان الفتى الحق كرم
إن شر الناس من يمدحني ... حين يلقاني وان غبت شتم
26 - منذ الذي ما ساء قط=ومن له الحسنى فقط
للحريري، من المقامة الشعرية، وأول المقطوعة:
سامح أخاك إذا خلط ... منه الإصابة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه ... إن زاغ يوماً أو قسط
واعلم بأنك إن طلبـ ... ت مهذباً رمت الشطط
27 - وان امرءاً يمسي ويصبح سالماً=من الناس إلا ما جنى لسعيد
للمعلوط بن بدل القريعي وقبله:
متى ما يرى الناس الغنى وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبهاً كهلاً عليه شديد
وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
وإن امرءاً. . . (البيت)
28 - نوائب الدهر أدبتني=وإنما يوعظ الأديب
لسليمان بن وهب، وزير المهتدي قاله في نكبته، وبعده:
قد ذقت حلواً وذقت مراً ... كذاك عيش الفتى ضروب
ما مر بؤس ولا نعيم ... إلا ولي فيها نصيب
29 - اخلق بذي الصبر إن يحظى بحاجته=ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ
لمحمد بن بشير الرياشي، شاعر عباسي ماجن ظريف هجاء، لم يفارق البصرة ولم يتكسب بشعره، وقبله:
كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... ألفيته بسهام الرزق قد فلجا
لاتيأسن - وإن طالت مطالبة - ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا(746/9)
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
اخلق بذي الصبر. . . (البيت).
30 - من راقب الناس مات غماً=وفاز باللذة الجسور
لسلم الخاسر، ابن عمرو بن حماد، وسمي الخاسر لأنه باع (كما قالوا) مصحفاً كان له واشترى بثمنه طنبوراً، أخذه من قول (أستاذه) بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
31 - فلا وأبيك ما في العيش خير=ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
رواه أبو تمام في الحماسة، ولم ينسبه، وقبله:
وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فاتركها وفي بطني انطواء
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي الحياء
فلا وأبيك. . . (البيت).
32 - يريد المرء أن يعطى مناه=ويأبى الله إلا ما يشاء
لقيس بن الخطيم الأوسي، شاعر فارس قتل على جاهليته من قطعة له يقول فيها:
وما بعض الإقامة في ديار ... يهون بها الفتى إلا بلاء
وبعض خلائق الأقوام داء=كداء البطن ليس له دواء
يريد المرء. . . (البيت)
وكل شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدتها رخاء
ولا يعطى الحريص غني لحرص ... وقد ينمى على الجود الثراء
غنى النفس ما عمرت غنى ... وفقر النفس ما عمرت شقاء
33 - أضاعوني وأي فتى أضاعوا=ليم كريهة وسداد ثغر
للعرجي، وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، شاعر إسلامي حجازي كان ينحو منحى ابن أبي ربيعة في غزله، قاله لما حبس، وبعده:
وصبر عند معترك المنايا ... وقد شرعت أسنتها لنحري
أجرر في المجامع كل يوم ... فيا لله مظلمتي وقصري
كأني لم اكن فيهم وسيطاً ... ولم تك نسبتي في آل عمرو(746/10)
عسى الملك المجيب لمن دعاه ... سينجيني فيعلم كيف شكري
فأجزى بالكرامة أهل ودي ... وأجزي بالضغائن أهل وتري
34 - أشاب الصغير وأفنى الكبير=كر الغداة ومر العشى
للصلتان العبدي، وهو قثم بن خبيه من عبد القيس، شاعر إسلامي خبيث اللسان، وبعده:
إذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتى
نروح ونغدو لحاجتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي
ويسلبه الموت أثوابه ... ويمنعه الموت ما يشتهي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقى
35 - لئن سأني أن نلتني بمساءة=لقد سرني أنى خطرت ببالك
لابن الدمينة، عبيد الله بن عبد الله الخثمعي، والدمينة أمه، شاعر إسلامي غزل مجيد، من قصيدته التي أرويها كلها لنفاستها:
قفي يا أميم القلب نقض لبانة ... ونشك الهوى ثم افعلي ما بدا لك
سلى البانة الغيناء بالأجرع الذي ... به البان هل حييت أطلال دارك
وهل قمت بعد الرائحين عيشة ... مقام أخي البأساء واخترت ذلك
وهل هملت عيناي في الدار غدوة ... بدمع كنظم اللؤلؤ المتهالك
أرى الناس يرجون الربيع وإنما ... ربيعي الذي أرجو نوال وصالك
أرى الناس يخشون السنين وإنما ... سني التي أخشى صروف احتمالك
ومنها:
ليهنئك إمساكي بكفي على الحشى ... ورقراق عيني رهبة من زيالك
ولو قلت طأ في النار أعلم أنه ... هوى منك أو مدن لنا من وصالك
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها ... هدى منك لي أو ضلة من ضلالك
أبيني: أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك
لئن سأني. . . (البيت)
تعاللت كي أشجى وما بك علة ... تريدين قتلي؟ قد ظفرت بذلك
36 - ولي كبد مقروحة من يبيعني=بها كبد ليست بذات قروح(746/11)
له - من قصيدة له فيها إقواء. وبعده:
أبى الناس ويب الناس لا يشترونها ... ومنذا الذي يشري دوىً بصحيح
37 - كل امرئ صائر يوماً لشيمته=وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
لذي الإصبع العدواني، واسمه حرثان بن محرب، من قصيدة له طويلة أولها:
يا من لقلب طويل البث محزون ... أمسى تذكر ريا أم هارون
ومنها:
ولي ابن عم على ما كان من خلق ... مختلفتان فاقليه ويقليني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
ولا تقوت عيالي مسبغة ... ولا بنفسك في العزاء تكفيني
فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي ... فإن ذلك مما ليس يشجيني
38 - فإن تكن الأيام فينا تبدلت=ببؤسي ونعمي والحوادث تفعل
فما لينا منا قناة صليبة ... ولا ذللتنا للتي ليس تجمل
لإبراهيم بن كنيف النبهاني، من شعراء الحماسة، من قطعة له، منها:
تعز فإن الصبر بالحر جميل ... وليس على ريب الزمان معول
فلو كان يغني أن يرى المرء جازعاً ... لحادثه أو كان يغني التذلل
لكان التعزي عند كل مصيبة ... ونائبة بالحر أولى وأجمل
فكيف وليس كل يعدو حمامة ... وما لامرئ عما قضى الله مزحل
فإن تكن. . . (البيتين).
ولكن رحلناها نفوساً كريمة ... تحمل مالا يستطاع فتحمل
وقينا بحسن الصبر منا نفوسنا ... فصحت لنا الأعراص والناس هزل
39 - وإنما أولادنا بيننا=أكبادنا تمشي على الأرض
لحطان بن المعلي، شاعر إسلامي من شعراء الحماسة، من قطعة له يقول فيها:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عال إلى خفض
وغالني الدهر بوفر الغنى ... فليس لي مال سوى عرضي(746/12)
أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضى
لولا بنيات كزغب القطا ... رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا. . . (البيت).
لوهبت الريح على بعضهم ... لامتنعت عيني من الغمض
علي الطنطاوي(746/13)
رأي الأكثرية في السياسة الشرعية
للدكتور السيد محمد يوسف الهندي
أثار الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في مقال له نشر في العدد 732 من (الرسالة) مسألة الأخذ بـ (رأي الأكثرية في السياسة الشرعية) وهي مسألة تنطوي على مقارنة النظام الديمقراطي البرلماني الحديث مع النظام التشريعي والحكومي الإسلامي من ناحية الطبيعة والوضع والروح جميعاً، فأول ما يجب ان يلاحظ في هذا الصدد إن النظام الأوربي إنما هو وليد ظروف تختص بالمجتمع الغربي وغني عن القول ان المجتمع الغربي لا يبتنى على أساس غاية دينية تنسى المؤمنين بها والعاملين في سبيلها جميع الفوارق البشرية كالإقليمية والطائفية والوطنية والقومية وكذلك يعدم في أي مجتمع غير إسلامي مبادئ تضمن للناس العدالة في معاملاتهم بعضهم مع بعض وتكفيهم التناحر فيما بينهم لأغراض دنيوية، فإذا الاختلاف الناشئ بين أفراد المجتمع الغربي هو في الحقيقة اختلاف المصالح المادية بين مختلف طبقات الشعب التي لا تزال في حالة حرب مستمرة تبعث كل واحدة منها على حشد القوة (وهي ترتكز في العدد) ضد الأخرى، ومن المعروف إن النظام السياسي إنما يصطبغ بصبغة المجتمع الذي ينشأ منه، وعلى ذلك فالنظام الديمقراطي الحديث ليس إلا وسيلة لتسوية الاختلافات الناشئة عن الطموح إلى أغراض مادية لا تسوية حاسمة على أساس المبدأ والحق بل تسوية تمكن فريقاً من الشعب من إدارة الشؤون لصالح (زبائنه) فقط وكذلك يكون الحكم سجالاً بين مختلف أحزاب الشعب الذي لا يزال من حيث المجموع قلقاً غير مطمئن إلى التوازن والعدل الاجتماعي، أما المجتمع الإسلامي فبالعكس يبتنى على مبادئ يتلقاها الشعب من الله ويتعهد على نفسه كل فرد من الشعب على السواء بتطبيقها على أعماله وتنفيذها فيما بين الناس بما فيها من صالح الإنسانية وضمان الحق والنصفة في المعاش والمعيشة. فالمجتمع الإسلامي موحد الكلمة، موحد الإيمان بالمبادئ الحقة وفوق كل شيء موحد الشعور بالمسؤولية لدى العليم الحكيم في حق الأفراد ومجموع الأمة، فأي مجال في مجتمع مثل هذا أن ينقسم إلى أحزاب متعارضة الهوى في الدنيا وما فيها مغرضة متحيزة في نواياها وأعمالها؟ ولا يعدم المتتبع لأحكام القرآن والسنة ما يقنعه بان النظام الإسلامي السياسي إنما هو مؤسس على التعاون(746/14)
والتضامن والتآزر الفعلي بين المسلمين كافة في السلم وفي الحرب من غير فرق وانه لا يعترف بحال من الأحوال بوجود معارضة مستقرة التي هي من أهم مظاهر الديمقراطية البرلمانية
وإنما مرد هذه الميزة إلى للنظام الإسلامي إلى أن الاتفاق على الشريعة التي هي قانون الحياة بأوسع معانيه، سابق على تكون الهيئة الاجتماعية والسياسية بين المسلمين بل هي منشأهما وقوامهما بحيث ينزل المسلمون جميعاً بمنزلة لجنة تنفيذية لا غير، ومن المعروف أن المعارضة لا مكان لها في لجنة تنفيذية قط، أما الحال في الغرب فعلى العكس تماماً لان هناك تكونت الهيئة الاجتماعية أولاً على أساس بعض المصالح المشتركة بطريق الارتقاء غير الشعوري ثم هي أقبلت على التشريع لافتقارها إلى وضع حدود للأعمال الإنسانية التي لم تزل ولا تزال معرضة للإفراط والتفريط ولما لم يكن لها مستند إلى المصدر الأعلى اندفعت بطبيعة الحال إلى التعويل على العقل الذي قلما يتخلص تماماً من أسر الهوى فتعذر عليها (الاتفاق) في التشريع لكون أفرادها كثيري الهوى شتى المسالك نتيجة لعدم ارتباطهم بحدود من الله فإذا فشلت الهيئة الاجتماعية الغربية في تحقيق (الاتفاق) (استكانت) إذ ذاك (إلى الاختلاف) واهتدت إلى إيجاد نظام للتشريع يؤدي إلى حفظ السلام وسير الأعمال غير معرقلة مع عدم اقتناع عدد غير قليل بما ينتج منه وهذا النظام هو النظام الديمقراطي الحديث. . .
ولا يخيل إلى القارئ إن باب التشريع قد اقفل في الشريعة الإسلامية فان الشريعة الإسلامية بصفتها نظاماً دائم النمو والاتساع تتضمن في ذاتها الطرق المسنونة والأساليب الواضحة لكفاءة الأحوال المتجددة والظروف الطارئة على ممر الأيام والعصور ولكن مهمة التشريع عند المسلمين إنما تقتصر على تطبيق المبادئ المنصوصة عليها على الأحوال غير المحسوبة لها. وهذه المهمة لا تتأدى إلا على أيدي العلماء المعروفين بالفقه في الدين والصدق والتقوى في أعمالهم الحائزين على ثقة الناس في أمانتهم فيعتبر الإنسان هذه المهمة من اختصاصهم ولا يسمح بالتدخل فيها لكل من يفوز بكثرة الأصوات سواء وجدت فيه المؤهلات الخاصة والشروط اللازمة أم لا كما هو الحال في النظام الديمقراطي الأوربي. . .(746/15)
ويتضح مما قيل آنفاً إن الاختلاف الناشئ بين العلماء المسلمين الثابتين على التقوى إنما هو بمثابة مناقشة علمية أكاديمية ناشئة عن النيات الخالصة والتحريات الصادقة ولا يشوبه شيء من الهوى أو رعاية مصالح الناخبين في أي قطر مخصوص ومثل هذا الاختلاف لاشك انه رحمة من حيث انه يؤدي إلى تثبيت الحقائق الإسلامية وسير الأمور حسب مقتضى القانون الإلهي في جميع الأزمنة والعصور. . .
وما عدا القياس والاجتهاد هناك طريقة أخرى للتشريع في الإسلام ألا وهو الإجماع ومبناه أن الإيمان والعمل بالإسلام يخلقان في المسلم ملكة تدفعه إلى الاتجاهات التي تتفق هي والروح الإسلامي وإن لم ينص القرآن والسنة على شيء في صددها
فهذا فيما يتعلق بالأمور الدينية مع فهمنا الدين بأوسع معانيه وأشملها أي النظام الذي يسيطر على جميع الأعمال الفردية والاجتماعية مما لها شأن أدبي وأخلاقي. . .
أما المسائل من قبيل تأبير النخل فلا شأن للإسلام أو أي نظام تشريعي بها لأنها من اختصاص الفنانين ومدارها على التجربة والمشاهدة لا غير. . .
فلم يبق الآن إلا بعض أمور اسميها أموراً إدارية محضة مثل الحرب والسلم والخوف والأمن وهي التي يرجع فيها إلى أولي الأمر وأولوا الأمر يقضون فيها بمشورة الناس.
فلا شك أن الإسلام يقدر رأي الأكثرية حق قدره إذا صادف الحق ووافق المبدأ، ولكن طبيعة النظام الإسلامي تأبى أن تكون للأكثرية أهمية كبرى في التشريع لان مصدر السلطة عند الغربيين هو الجمهور وهذا القول يستلزم ان يكون التشريع دائماً حسب إرادة الناس وهم مختلفون في أهوائهم أما في الإسلام فمصدر السلطة ليس إلا الله والتشريع لا يكون إلا وفقاً لمشيئته والمسلمون كلهم سواء في ابتغاء مرضاته. . . ثم التشريع لا يحتل المكان الأول في النظام السياسي الإسلامي لان الإسلام في نفسه شريعة كاملة أما أمر التفريع والاستنباط بالنظر إلى الأحوال المتجددة فهو موكول إلى نزعته وليس لكل ذي حنجرة أن يصوت في كل ما يعنيه أو ما لا يعنيه وصفوة القول إن الجمهورية في الإسلام ليست كالديمقراطية في الغرب التي مدارها، بعبارة حكيم الشرق الدكتور محمد إقبال رحمه الله على (تعداد الناس لا على وزنهم). . .
السيد محمد يوسف الهندي(746/16)
حول مؤتمر الآثار بدمشق
للأستاذ مصطفى كامل إبراهيم
لعل من أهم الخطوات الثقافية الموفقة التي كانت باكورة نشاط اللجنة الثقافية بجامعة الأمم العربية هي عقد مؤتمري الثقافة والآثار.
ومؤتمرات الثقافة ليست جديدة على العالم العربي فقد كانت في الجاهلية تنتظم في أسواق الجزيرة العربية، ثم كان الخلفاء والأمراء والسلاطين يقيمون شيئاً مثلها في بلاطهم وتحت رعايتهم، يجتمع فيها مشهورو أصحاب الأقلام وأمراء الشعر والعلم والفن من بلدان العالم الإسلامي، وطالما اشترك الخلفاء أنفسهم في النقاش وتذوقوا لذته. . .
على أن دراسة الآثار القديمة لم تكن لتهم القوم كثيراً في الإسلام فقد كان يخشى المتحدث في مدنيات الفراعنة أو الأكاسرة أن يتهم بالمروق، أو أن يعمد منافسوه إلى أن يلصقوا به جريمة الإلحاد أو الردة أو الزندقة. وقد كانت الأخيرة في فترة ما من حكم العباسيين جريمة تدني رقبة صاحبها من سيف الجلاد، مما صرف علماء المسلمين على الدراسة التفصيلية في تراث الوثنيين في مصر، والمجوس بفارس، والمسيحيين في مصر والشام.
ثم كان لابد لهذا الإهمال من نتائج: فقد امتدت أيدي العبث والتدمير والسطو والتبديد إلى تراث القدماء، واستمرت هذه الحال المؤلمة إلى آخر الزمان، فلم يتردد بدر الجمالي - مثلاً - وزير المستنصر الفاطمي في سنة 480 هـ (1087) م من أن يستخدم بعض أحجار جبانة الجيزة من حول الأهرام لبناء استحكاماته ولا زالت أحجار السوريين بأبي النصر والفتوح تحمل رسوماً وكتابات هيروغليفية. وفي العصر التركي تمكن عثمان كتخدا (الكخيا) من الحصول على قطعة من الحجر (الديوريت) الأخضر مما خلفه قدماء المصريين فاستعملها عتبة لمسجده في ميدان (الأوبرا). وليس اعجب من أن تتواتر الشائعات في سنة 1947 - نرجو أن تكون كاذبة - عن فكرة صهر ذهب (توت عنخ آمون) لتغطية النقد المصري، وما هو بكاف ولا بعشرة أمثاله.
والشيء الذي لا شك فيه، هو أن العرب في وسط الجزيرة سكنوا واد غير ذي زرع أحاطت بهم بيئة خالية من الخير ورغد العيش والاستقرار، فنشأوا نشأة خشنة وعاشوا خلوا من شارات الفن ومخايل المدينة، لعدم حاجتهم إليها - والحاجة تفقد الحيلة - أو(746/18)
لانصرافهم إلى النضال في سبيل العيش والتقاتل القبلي. ولما جاء الإسلام بخيره وبركته واخرج العرب من الظلمات إلى النور، صرف القوم إلى الفتح وتوطيد دعائم الدين الحنيف، فلم يذق العرب حلاوة الاستقرار الحقيق والانصراف إلى التعمير الفني إلا ابن حكم دولة بني أمية، حيث رأوا لزاماً عليهم أن يأخذوا بأسباب المدنيات التي ألفوها أمامهم في الأمم المغزوة، فبدأ الفن يلتمع في جبين الإسلام.
وهاهي دمشق الحبيبة التي أشرق من جنباتها القبس الأول من نور الفن الإسلامي فأضاء المشرق والمغرب، وخلق أصولاً وقواعد ترسم الغربيون خطاها ونسجوا على منوالها لا يتركونها إلا ليعودوا إليها حتى يومنا هذا. وهاهي دمشق تحتضن مؤتمر الآثار العربي وتحله اجمل قصورها (قصر العظم)، تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية السورية الذي أضفى على المؤتمر عنايته مما كان سبباً قوياً في نجاحه.
ويجدر بنا أن ننوه بجهود المنظمين وهم نخبة من أساتذة الآثار المبرزين وعلى رأسهم الدكتور زكي محمد حسن، والدكتور احمد بدوي. أما حضرات المندوبين فقد حاضروا في موضوعات شيقة عن تراث العرب نرجو أن يتم طبعها قريباً ليفيد منها العالم العربي التواق إلى هذه العلوم التي ظلت ردحاً من الزمن وقفاً على المهتمين من علماء الأجانب، يكتبونها بلغتهم وما تمليه عليهم أهواؤهم أما فقهاء الآثار من العرب فقد كانوا - سامحهم الله - لا يكتبون إلا بلغة من اللغات (الحية). أما العربية فكانت لا تحظى منهم إلا بجهد ضئيل.
أما المعرض الفريد الذي أقامه الأستاذ حسن عبد الوهاب بصورة - وهي كلها من روائع فنه - فقد أخرج بها زوايا مفصلة هامة للآثار الإسلامية أبرزتها في غاية من الفخامة والجلال.
ومما يثلج صدورنا نحن العرب أن نرى اليمن الشقيق يطرح اليوم سياسة العزلة والانطواء على النفس وان نرى عاهله العظيم، جلالة الإمام يحيى حميد الدين، يدفع ببلاده العريقة في تيار النشاط الدولي، فيظم جهد اليمن إلى جهود شقيقاته فيشتد ساعد العرب وتقوى الأسرة العربية، وهاهو نجله سمو الأمير سيف الإسلام عبد الله وساعده الأيمن الأستاذ العالم السيد علي، نزيل القاهرة الآن، دائبي النشاط فيما يفيد العرب ومما يذكر لجلالته بالثناء انه(746/19)
سمح، لأول مرة، لعالم عربي هو الأستاذ فخري بزيارة (مأرب) (مدينة سبأ) وطن الملكة (بلقيس) وتصوير آثارها والكتابة عنها.
وللعرب اليوم أن يطمئنوا على تراثهم القومي في الوطن الكبير، وقد أصبحت أمانة الآثار، والحمد لله، معظمها في أيدي العارفين بها من أبناء العروبة، يرون فيها العزة القومية ويضنون على تراث الأجداد، وكنوزهم أن تذهب هباء، أو تتسرب التحف النادرة إلى متاحف الأمم الأخرى. . . يتلقفونها تلقف القناصة من زواحف الأجانب وتجار المسروقات، ممن حذقوا في التلصص وأجادوا صناعة التهريب، فتذهب في غفلة من العرب في عصور الاضمحلال السياسي - وهو اصل البلايا - والجهل بقيم الأشياء.
ولما كانت دراسة التاريخ تعتمد اعتماداً كبيراً على دراسة الآثار، فان الرواية تظل حائرة قلقة غير مستقرة، تنهال عليها المطاعن، وحتى يقرها ويؤيدها السند الأثري، فقد اقر المؤتمر نشر الثقافة الأثرية بين أبناء الوطن العربي، وإقامة المتاحف، وتبادل الأساتذة وإلقاء المحاضرات، وعرض الصور، مما يساعد العرب على استيعاب هذه العلوم القديمة الحديثة فلا يمرون بها مرور العابر الكريم. ولاشك بان نشر الثقافة الأثرية على هذا الوجه يتيح فرصاً عظيمة لتوثيق روابط الألفة بين أبناء العروبة في مختلف الأقطار، وسرعان ما يصبح الوطن العربي الكبير حقيقة ماثلة في قلب كل عربي.
والآثار فضلاً عن كونها كنوزاً مادية. وتراث قومي يعيد ذكرى أيام المجد وعظمة الماضي فهي خير حافز لهمة الجيل الجديد، تنفخ فيه من روح السمو والعزة الوطنية ما يجعله يعمل جاهداً لاسترداد مجد الأيام السالفة وعظمة الأجداد.
وقد أسهمت مصر بكثير من أبنائها في هذا المؤتمر فكان هناك مندوبون عن الجامعتين وبعض الهيئات. إلا أننا لم نر من يتكلم باسم إدارة حفظ الآثار العربية وهي التي تقوم بالحفظ والترميم والعناية بالآثار الإسلامية، ليس في مصر فحسب بل في بعض الأمم العربية الأخرى وهو عمل خطير الشأن يتركز على العلم والدراية، وكذلك معهد الآثار بالجيزة فلم يشترك أحد من طلبته في نشاط المؤتمر.
أما شمال أفريقيا فلها العذر وكفاها ما بها وأعانها الله على ما رزئت به من بلية الاستعمار، الذي جمع عليها القحط والبغي والاضطهاد.(746/20)
وبعد. . . فإننا نرجو مخلصين أن توضع قرارات المؤتمر موضع التنفيذ، حتى إذا جاء موعد انعقاد المؤتمر التالي، وقد اتفق عليه أن يكون بالقاهرة، وجد المؤتمرون أمامهم ثمرات ما عملوا فينصرفون إلى الاستزادة، والله يجزي العاملين.
القاهرة
مصطفى كامل إبراهيم
وكيل اتحاد الثقافة الأثرية(746/21)
صور وانطباعات:
الجيل الملهم
للأستاذ مناور عويس
(هلمي معي من لبنان يا عروس، معي من لبنان!. . .
انظري من رأس أمانة، من رأس شنير وحرمون،
من خدود الأسود، من جبال النمور!. . .
تحت لسانك عسل ولبن، ورائحة ثيابك كرائحة لبنان!. . .
ينبوع جنات، بئر مياه حية، وسيول من لبنان!. . .
طلعته كلبنان، فتى كالأرز!. . .
أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق!. . .)
(نشيد الإنشاد)
الملك الشاعر الحكيم يتغزل بحبيبته فلا يجد شبيهاً لها اجمل من لبنان. . . فما سر لبنان؟ وما هذا السحر الذي اتشح به لبنان منذ أقدم العصور حتى الآن؟
الشعراء والفنانون ينشدون جمال لبنان، والأنبياء يتغزلون بجمال لبنان، والرعاة والفلاحون ينظمون العتابا والموال في حب لبنان!. . .
(إذا ذكر لبنان تواردت على الذهن مواكب من الصور والأخيلة والأشباح والأحلام، وانتشرت في الأنف روائح الصنوبر والبخور والزعتر والفل والياسمين، وانتصبت أمام الأعين غابات الأرز والبلوط تعدو فيها الأسود والنمور والظباء!)
فينيقياء، عشتروت، جبيل، الارز، صور، بعلبك، حرمون، قاديشا!. . . يا لها من أسماء صغيرة في النفوس الشاعرة فعل الصهباء، ففي ذكر هذه الأسماء تلخيص لتاريخ الإنسان القديم وأديانه، (فعلى شواطئ لبنان ازدهر العقل البشري وترعرع، وعلى شواطئ لبنان استيقظت الروح في الإنسان فعبد الله في صورة عشتروت). وفي غابات لبنان مثلت أروع أدوار الحب بين الآلهة كما تخبرنا بذلك الأساطير المصرية والفينيقية، وفي جبيل تلك البلدة الصغيرة اليوم الواقعة بين طرابلس وبيروت مثلت افجع مأساة للحب بين (إيزيس) و(746/22)
(اوزابرس). ومن أمام الأرز الخالد، الرافع رأسه نحو السماء، الهازئ بالزمن، الضاحك من الإنسان وغروره، أجل من أمام الأرز مرت جيوش رعمسيس، وجحافل المقدوني، وأبطال بومبي، ومساعير معاوية، وقوات السلطان سليم، وعساكر إبراهيم باشا. . . مرت كلها من أمام الأرز مطأطئة الرؤوس خاشعة الأبصار، حكمت البلاد ودوخت الأمصار، عمرت ما عمرت وخربت ما خربت، ثم مضت لسبيلها:
كأن لك يكن بين الحجون إلى الصفا ... جليس ولم يسمر بمكة سامر!
وظل الأرز رافعاً رأسه نحو السماء يبتسم ابتسامته الأزلية!
وهذه صور التي كانت في ما مضى سيدة مدن فينيقيا، صور التي وقفت في وجه الاسكندر العظيم وأرغمته وجنوده على تحمل البرد والحر سبعة اشهر خارج أسوارها، نراها اليوم قرية صغيرة أقرب إلى الخراب منها إلى العمران (فسبحان من رد عامرها خراباً وجعل أنسها وحشة) وأدال منها إلى سواها!
وهذه مدينة البعل التي شهدت عظمة فينيقيا واليونان والرومان ومجد العرب والترك، ما تزال أعمدتها شاهدة على تفوق العقل البشري وجبروت الإنسان!
أي مدينة الشمس! لقد وقفت إزاء آثارك خاشعاً لدى روعة الفن، حالماً بأشياء غامضة لذيذة كالأماني، ناعمة كأنفاس الربيع!
ثم هذان الشيخان الأزليان اللذان كلل الثلج هامتيهما، واللذان كانا وما زالا رمزاً لعظمة لبنان وروعته وجلاله!
حرمون وصنين! من وقف أمامهما ولم يحس بقرارة نفسه بالهيبة والوقار؟ من شهدهما ولم يشعر بالخشوع والتأمل العميق؟!
وكل من أسعده الحظ بزيارة (بشرِّي) حيث الأرز الخالد، وحيث يرقد رقدته الأبدية فقيد الشعر والفن جبران خليل جبران، ومشى بضع خطوات إلى الجنوب أشرف على واد عميق رهيب، وهوى سحيقة تبعث الرعب والخشوع في أقسى القلوب وتذكر الإنسان بالموت والفناء.
هذا الوادي هو وادي (قاديشا) أو وادي القديسين، وقد دعي كذلك لأن النساك والمتعبدين في عصور المسيحية الأولى اتخذوا مغاوره معابد، وكهوفه صوامع يتعبدون فيها ويتهجدون(746/23)
حيث الوحدة الشاملة المغبوطة، والسكينة الخالدة، التي لا يكدرها غير هدهدة المياه المنحدرة من فوق الصخور على حصباء الوادي!
فينيقيا، عشتروت، جبيل، بعلبك، حرمون، صنين، الأرز، قاديشا. . . كلها أسماء تفيض شعراً وإلهاماً وتاريخاً، إنها مصدر وحي للأديب لا ينفد، ومورد عذب للفنان لا ينضب، فقل أن تجد شاعراً أو كاتباً شرقياً كان أو غربياً يخلو شعره أو نثره من وحي هذه الأسماء الملهمة، ذلك لأن لبنان في نظر الشعراء والكتاب - الشرقيين منهم والغربيين - (غابات مسحورة تفوح منها روائح معطرة بأنفاس عشتروت وبعل وغيرهما من آلهة الفينيقيين وأبراج وقصور من المرمر والنحاس، وأسود ونمور وظباء وأيائل وصوامع وهياكل وأنبياء وقديسين!)
فهذا (لامرتين) شاعر فرنسا العظيم يزور لبنان ويستلهم أرزه فيوحي إليه بآيته الباقية ما بقي الشعر الفرنسي، وأعني بها (سقوط ملاك). وهذا (رينان) الفيلسوف الشهير يأوي إلى أحد أديرة لبنان ليكتب كتابه الخالد (ابن الإنسان)، وكذلك (شاتوبريان) و (هنري بوردو) صاحب القصة الشهيرة (تحت ظلال الأرز)، وهي قصة واقعية معروفة، بطلها فتى مسلم من طرابلس، وبطلتها فتاة مسيحية من بشري ومسرحها الأرز. . . وللشاعر الإنجليزي (شلي) مأساة شعرية رائعة عن موت (أوزايرس) وبعثه في مدينة (جُبَيل) اللبنانية، وكذلك الشاعر الخالد وليم شكسبير وغيرهما كثيرون
فلبنان شاعر وملهم الشعراء، وأبناء لبنان شعراء بالفطرة، (وكيف لا يكونون شعراء إذا سكنوا لبنان وتكحلت عيونهم ببهاء صنين، وتنشقوا عطر الأزهار المنتشرة في أودية الجبل ووهاده، ونظروا إلى البحر الأزرق والسماء الصافية الأديم، وأشرفوا على تلك القمم المزينة بالمعابد والقباب والأجراس، وتظللوا بظل الأرز الخالد المرتفع في الفضاء كأنه صلاة تصعد إلى العليِّ؟!)
لقد طبع لبنان أهله بطابعه الخاص، ففي أخلاقهم رقة نسيمه وصلابة أرزه ورسوخه، وفي أدبهم ما في لبنان من عذوبة وجمال وسحر وروعة. . . لقد جرى حبه في قلوبهم مجرى الدم، فهذا شاعرهم داود عمون يوصي قبل موته بأن يجعلوا من ثلج لبنان كفنه، وفي ظل الأرز ضريحه:(746/24)
يا بني أمي إذا حضرت ... ساعتي والطب أسلمني
فاجعلوا في الأرز مقبرتي ... وخذوا من ثلجه كفني!
طالما تنافس الشعراء والكتاب قديماً وحديثاً في وصف لبنان وتصوير جماله، فلا ترى شاعراً زاره أو مر به إلا ألهمه من الشعر أطيبه ومن النثر أطربه. فالمتنبي شاعر العظمة الذاتية والطموح يمر بلبنان فلم يثنه طموحه ولم تنسه مطامعه أن يصف وعورة مسالك لبنان وصعوبة قطع عقابه:
وعقاب لبنان، وكيف بقطعها ... وهو الشتاء وصيفهن شتاء؟!
ويزوره شوقي لأول مرة فيروعه فيهتف:
لبنان والخلد اختراع الله لم ... يوسم بأزين منهما ملكوته!
ولحافظ ومطران والرصافي والزهاوي وغيرهم من كبار شعراء العربية في لبنان ما يسكر ويرقص. . . ومن أروع الشعر ما خاطب به الشاعر العبقري الياس أبو شبكة لبنان:
لبنان! يا ريف السماء وثغرها! ... في كل شبر من ترابك ملهم!
ما أنت بالبلد اليتيم وإنما ... في كل عين لا تراك تيتم!
أما شعراء المهجر وعلى رأسهم جبران ونعيمه والقروي والريحاني وأبو ماضي وفرحات والمعلوف وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، فقد جعلوا من لبنان وطناً روحياً يحجون إليه بأرواحهم ويلهجون به في يقظتهم ومنامهم، فأبدعوا لنا من تغنيهم بلبنان والحنين إلى لبنان أدباً جديداً وروحاً جديدة لم نعهدها في الأدب العربي من قبل، فرفعوا بذلك رأس الضاد عالياً، ولفتوا أنظار الغرب إلى هذا الشرق الحالم المتأمل الذي تتلمذوا عليه فيما سلف من الزمان وقبسوا من أنواره، والذي سوف يعودون إلى أحضانه حيثما ترهقهم هذه الحياة المادية التي يرزحون اليوم تحت أعبائها الثقيلة. . .!
فبلد تحج إليه قلوب الناس من جميع أقطار المسكونة، وتحلق فوقه أرواح الشعراء والملهمين من جميع الأمم والأجناس، بلد ينجب الأبطال والباباوات والقياصرة العظام، وينشئ الفلاسفة الأفذاذ والشعراء والكتاب والفنانين والقديسين. . .
بلد من أبنائه ميخائيل نعيمه وجبران والريحاني ومي لاشك في أنه بلد جدير بكل عربي القلب واللسان أن يحبه ويكبره ويتعلق به، لأنه من البلاد العربية كالقطب من الدائرة،(746/25)
كالقلب من الجسم. . . فحيا الله لبنان وأبناء لبنان!
(يافا)
مناور عويس
مدرس الأدب العربي بكلية تراسانطه بيافا(746/26)
4 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
جغرافية البلاد
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
وما كدنا نقيم بالمدرسة، ونزاول عملنا فيها، ونتصل بهذه الحياة الجديدة، ونتعرف إلى الأهليين في هذه البلاد، ونجوب أنحاءها، ونشاهد آفاقها - ما كدنا نفعل ذلك، حتى أدركنا قيمة المعرفة، ومنزلة الترحال، والانتقال من مكان إلى مكان. .
لقد شعر كل منا بالتقصير في حق بلاده، والتفريط في مصلحة وطنه، لأنه لا يكاد يعرف شيئاً عن هذا الوطن، الذي تقله أرضه، وتظله سماؤه، وينشق عبير روضاته، وينعم بثماره وخيراته. . .
أدركنا هذا، وشعرنا به وتمثل لنا حينئذ نشاط الأجانب، وقيمة الرحلات عندهم، وأثرها في حياتهم، وكيف أنهم ارتفعوا بها قدراً، وعظموا بها منزلة، وخلدوا بها ذكراً، وبعدوا شأواً ودفعتهم إلى العمل المنتج، والسعي الحثيث!.
وهالنا ألا يكون نصيبنا من جغرافية بلادنا سوى معلومات ضئيلة، لا تنبض بالحياة، ولا تكاد تنهض على قدمين، أو تقوم على ساق، لأنها تنبت في حجرات الدراسة فحسب، ولا تنال حظها من واقعية الحياة!!
ويقيني أنه واجب على المثقف إذا حل ببلد، أن يعطيه شيئاً من اهتمامه، وجانباً من عنايته، فيدرسه دراسة توقفه على جميع ما يعنيه، من مختلف نواحيه، بحيث يجيب إجابة حسنة إذا سئل عنه وخوطب بشأنه. .
وإذا فهم الإنسان البيئة الجديدة التي يحيا فيها، أمكنه أن ينتج على خير ما يحب، وأن يؤثر فيها كما يريد، دون أن تتكاءده عقبة، أو تقف في سبيله صعوبة، أية كانت. . . ومن الخطأ أن يترك بيئة دون أن يحدث فيها أثراً يذكره به أهلها، ويحيا به في ذكراهم على الدوام.
لهذا كله، عنيت بدراسة بلاد النوبة، ولن يكلفك معرفة جغرافيتها، أكثر من نظرة فاحصة إلى خريطة الوجه القبلي، وبخاصة مديرية أسوان، لتدرك أن الجزء المنزرع شؤيط ضيق على شاطئ النيل. . . بيد أن هذا الشريط يكاد ينعدم تماماً، ويتلاشى في المسافة ما بين الشلال وحلفا، وهذا الجزء نفسه هو بلاد النوبة، إحدى مناطق القطر المصري، وهي جزء(746/27)
من مديرية أسوان، غير مطروق. . ولذا فبلاد النوبة قليلة السكان، لا تحظى بإقبال المصريين، مثقفين أو غير مثقفين، ولا بإقبال أهلها أنفسهم على العمل فيها، والانتفاع منها!!
وحدود هذه الشلال شمالاً، وأدندان جنوباً، وهي آخر الحدود المصرية كما قضت بذلك السياسة الغاشمة، سياسة الاحتلال المقيت. ومن الشرق والغرب على السواء، سلاسل جبال تختلف ارتفاعاً وضخامة، وصحاري منبسطة واسعة، لا يكاد يقيم فيها الإنسان، اللهم إلا الجزء الواقع على النيل مباشرة فيضم نجوعاً كثيرة متناثرة على الشاطئين، وهي مثال الفقر والحاجة، ورمز البؤس القاتل، والشقاء الأليم. . وهي مع هذا عنوان التضحية، والتفاني في حب الوطن، حيث مسقط الرءوس مهما اشتد البلاد، وتمادى القدر في الغلواء!!
والمسافة من الشلال إلى وادي حلفا، حوالي ثلاثمائة وخمسين كيلو متر، مقسمة إلى أربع وأربعين محطة تقريباً، تقف الباخرة البطيئة (البوستة) في كل منها، تحمل البريد، والبضائع والركاب، منها وإليها، ولا تقف الباخرة السريعة إلا مرة واحدة في عنيبة. .
وإذا كان هذا الاسم (بلاد النوبة) يلقي في روع الإنسان حين يسمعه، أو يقرأ عنه أن سكان هذه البلاد نوبيون جميعاً، فإن الحقيقة غير هذا، والواقع يخالفه. . ذلك لأن هذه البلاد تنقسم إلى ثلاث مناطق تختلف كل منها عن الأخرى تمام الاختلاف، وتباينها إلى حد كبير.
فالمنطقة الأولى من الشلال إلى المضيق، وهي خمس عشرة محطة: الشلال، دهميت، الأمباركاب، خور رحمة، أبو هور، مرواو، مرية، قرشة، جرف حسين، كشتمنة، الدكة، العلاقي، قورته، السيالة، المضيق.
وللشلال شهرة بالملاحة، فأكثر الملاحين الذين يشتغلون في البواخر النيلية بوجه عام، تجارية وحكومية، وشراعية، من هذه البلاد الصغيرة المسماة بالشلال!!
وإنك لتعجب أشد العجب حينما ترى أبناء هذه البلدة يثبون في البواخر وثباً، ويقفزون هنا وهناك، وكأنما ولدوا على ظهور هذه البواخر، وعلى صفحات النيل، وبين موجاته العاتية، وتياره الجارف، ومع هذه فلا ينالهم أذى ولا يلحقهم مكروه!!
بيد أن الألم يحز في نفسك حزاً، حينما تراهم يرتدون الأسمال البالية، التي لا تكاد تستر(746/28)
شيئاً من أبدانهم وأجسامهم! تلك الأجسام الهزيلة الضعيفة، التي لا تكاد تقوى على الحركة والحياة، فلقد اجتمع عليها المهلكات الثلاث: الفقر والمرض والجهل. . . وما أكثر هؤلاء الصبية في محط الشلال، حيث القطر الحديدية، والبواخر النيلية. .
وفي الدكة مشروع للري، ولهذا فقد اشتغل كثير من أهلها بالزراعة، وقد شعرت وزارة المعارف بازدياد حركة التعليم في هذه البلاد فأنشأت في الدكة مدرسة ابتدائية، حتى تقاوم الجهل وتثقف العقول، وتنير الأذهان والفهوم. .
وكذلك في كل من العلاقي، والسيالة، مشروع للري، بعث النشاط نسبيا في أهل هذه البلاد وما جاورها، وجذبها إلى موطنها الأصلي، بدل التشرد في كثير من بلاد القطر، سعياً وراء الرزق والقوت، ومزاولة أعمال ومهن، اشتهرت بهم، واشتهروا بها، ولكنها لا تناسبهم الآن، أو بالأحرى لا يرضى الجيل المتعلم الجديد، الذي تعلم واكتملت ثقافته، واتسعت مداركه. . .
والمنطقة الثانية من السبوع، إلى كرسكو، وهي ست محطات: السبوع، وادي العرب، شاترمة، المالكي، السنغاري كرسكو، وليس في هذه المنطقة مشروعات للري، ومع هذا فأهلها يزرعون المساحات القليلة الضئيلة على جانبي النيل، ويجدون في هذا مشقة لا تكاد توصف، ويكفي أن تدرك، أنهم يجلبون (الطمى) من النيل عندما ينحسر الماء، ويضعونه فوق السفح الصخري إلى حد يكفي لنمو النبات، ثم يرفعون الماء بالدوالي والنواعير، ويبذلون في ذلك جهداً لا يقاس به جهد إنسان والغني القادر فيهم من يصلح بهذه الطريقة بضعة قراريط!!
بيد أن بلدة المضيق، خليط من العرب أهل المنطقة الثانية، ومن النوبيين الشماليين، أهل المنطقة الأولى، ولهذا تجد لغتهم خليط من العربية و (الرطانة) النوبية، وكذلك بلدة كرسكز على هذا الوضع لوقوعها بين المنطقة الثانية، والمنطقة النوبية. . . منطقة أهل الجنوب. .
وأما المنطقة الثالثة فهي أحسن حظاً من هاتين المنطقتين، وأرغد عيشاً، وأكثر ثراء وغنى، وهي أربع عشرة محطة: أبو حنضل، الديوان، الدر، توماس، قتة، إبريم، عنيبة، الجنينة، مصمص، توشكي، أرمنا، أبو سمبل، بلانه، أدندان.
وفي كل من توماس، وعنيبة، وبلانة، مشروع للري، إلا أن بلانة أخصب بلاد النوبة،(746/29)
وأنضرها زراعة، وأوفرها محصولاً، وأسبقها في ميدان التقدم الزراعي الذي ينتظر هذه البلاد، بجانب التقدم الصناعي الذي سيجرفها جرفاً إن شاء الله، ضمن ما يجرف من بلاد القطر، الغنية بالمعادن الدفينة، والثراء المقبور!!
ولكل منطقة من هذه المناطق الثلاث، اسم خاص بها، فالمنطقة الأولى منطقة (الكنوز) أو منطقة (نوبيّي الشمال). والمنطقة الثانية منطقة وادي العرب. والثالثة منطقة (نوبيّي الجنوب).
ولكل منطقة من هذه المناطق كذلك عادات وتقاليد خاصة تغاير تمام المغايرة المنطقة الأخرى، وهذا مما يجب أن يدخل إلى حد كبير في حساب الباحث، إذ أن واحداً من الكنوزيين، أو أهل الشمال، لو أراد أن يكلم آخر من نوبيي الجنوب، فإن أحدهما لن يفهم شيئاً مما يقول صاحبه، فلكل لهجة خاصة، أو ما يسمونه (رطانة). . .
ولن يحاول ساكن المنطقة الثانية - منطقة العرب - أن يفهم من أحدهما شيئاً، لأنه لا يعرف شيئاً من (الرطانة) وإنما هو يتكلم اللغة العربية التي دخلها قليل من اللحن والتحريف وإن كان يحتفظ باللهجة الجميلة، ذات الجرس الموسيقي البديع!
غير أن اللغة العربية تجمع بين هؤلاء الأخوة جميعاً، ولكنها عربية غير سليمة بطبيعة الحال، وكثير من الصبية والصغار لا يعرفون العربية، ولا يرضون بالرطانة بديلاً، وكذلك أكثر النسوة اللاتي لم يغادرن بلادهن، إلى مختلف بلاد القطر. فهؤلياء لا يتكلمن بالعربية على الإطلاق، لأنهن لا يكدن يعرفن عنها شيئاً أكثر مما يعرف عنها أهل القطبين!!
ومن العجيب أن التنافس شديد في العلم والمعرفة، والرقي إلى المناصب السامية، والتخلص من ربقة الماضي الأليم - بين أهل الشمال وأهل الجنوب من النوبيين فحسب، أو بالحري بين المنطقة الأولى والمنطقة الثالثة، ويظهر ذلك جلياً بين تلاميذ مدرسة عنيبة، في بدء العام الدراسي عند الدخول أو الالتحاق بالمدرسة، ثم يزداد وضوحاً في حجرات الدراسة مما يشحذ الهمم ويلهب القرائح، ويدعو إلى التفوق والنهوض. .
ويلاحظ أن تلاميذ المدرسة من أهل الشمال، أكبر سناً من تلاميذها من أهل الجنوب، وربما يكون مرجع هذا إلى أن قرب المدرسة من أهل الجنوب يساعدهم على الالتحاق بها في سن صغيرة.(746/30)
كما تبدو هذه المنافسة بين الكبار في شتى النواحي، ومختلف مظاهر الحياة، مما قد نعرض له في سياق الأحاديث.
عبد الحفيظ أبو السعود(746/31)
الغزل في شعر المرأة
للشيخ محمد رجب البيومي
من الأدب النسوي:
شعر المرأة في مجموعة قليل ضئيل فأنت تجد الموسوعات الأدبية تزخر بأشعار الرجال في شتى المواضيع، دون أن تطلع للمرأة غير البيتين أو الثلاثة في الفصل الطويل، ولا يرجع ذلك غبن أو تقصير في جنب المرأة كما قد يتوهم فريق من الناس، بل لأن المؤلف يحرص على أن يختار لقرائه أنفس ما وقعتعلية عينيه من رائع الشعر، وبديع القول، والمرأة وأن أجادت في كثير من الأغراض فالرجل بلا شك أكثر منها إجادة، وأكمل توفيقاً، فالمؤلف إذن معذور مشكور. . .
والغزل بنوع خاص لم يظفر بنصيبه الذي يستحقه من المرأة بل كان عنصراً عزيز المنال، قد قامت دونه العوائق، وتكاثفت أمامه السدود، وذلك طبيعي للغاية إذا نظرنا إلى البيئة الشرقية التي ترعرعت فيها الفتاة العربيه، وعلمنا أن من الواجب الأكيد على الشاعرة أن تقف إزاء عواطفها القلبية صامتة مفحمة مهما اعتلج صدرها بالشوق، واستعر فؤادها بالحنين، وألا فنحن نرى من الفتيات من نظمن القلائد البديعة في مختلف أغراض الشعر ما عدا الغزل، فقد أمسكت حواء عنه، ولم تحلق بجناحها الشاعر في أجوائه الفسيحة. فهل كان ذلك عن عيّ أو قصور؟! أو أن الرقابة القاسية من الأهل قد أخرست الألسنة الشادية، وألجمت الطيور الصادحة، رغم ما نعرفه في المرأة من شعور دافق وإحساس مشبوب. . .
ونحن نعلم جيدا أن بثينة صاحبة جميل، وأميمة فاتنة ابن الدمينة، وليلى معبودة قيس، قد كن شاعرات مجيدات، فليت شعري أين ما نظمنه من الغزل الرقيق؟ مع ما يعترف به التاريخ من تفانيهن في العشق، وجنونهن في الحب، اللهم إلا أن تجد لكل واحدة مقطوعة ضئيلة لا تتناسب مع ما يتأجج في صدرها من لهيب!
وإذا كان ابن الأيكيجنح إلى الترنم في خلسة مواتية مهما نصبت حوله الشباك الوثيقة، وقامت في وجهه الموانع المتزاحمة فأن الأسفار الأدبية قد حفظت لنا جمرات مشبوبة من غزل المرأة الرائق وهي - على قلتها - تعطيك فكرة تامة عن القيمة العقلية للمرأة،(746/32)
وتوقفك على كثير من الانفعالات النفسية التي تكابدهاالفتاة إذا احترقت في سعير الغرام
والواقع أن المرأة لم تلج باب الغزل صريحة سافرة بل تلثمت بكل ما ملكته من براقع وخمور، فكان غزلها في الغالب تلميحاً يهديك إلى الطريق ويجعلك تسير فيه وحدك دون أن يرافقك في خطواتك، وقد تجد من يسلبها الوجد رشادها الناصح، فتنطق بما يجيش في صدرها واضحاً سافراً دون أن تتلثم بلثام واحد ولها من شعورها الدافق، وغرامها المتقد ما يبرر لها الغزل والتشبيب
وصاحبة التلميح أريبة ذكيه ترف من أين تؤكل الكتف فقد استغلت عنصر الحنين إلى الوطن أثمر استغلال، فاعتمدت عليه في التنفيث عن صدرها، والتعبير عن خوالجها، لما تعلمه من الصلة الوثيقة بينه وبين الغزل، وهي بذلك قد أخمدت الفتنة الثائرة، وأغمضت العيون المتنمرة، ثم - هي في الوقت نفسه - قد أفهمت حبيبها كل شيء. فأدرك من حنينها الذائب ما يتقد في أحشائها من شوق، وهذا في الواقع مطلب عزيز، تبذل العاشقة جهدها في تحصيله، فلم لا تصل ليه من اقرب طريق؟؟ ونحن نعلم عاشقات مدنفات قد اشتهر في الملأ شوقهن العارم، فما احتمله قريب أو صديق. بل عمد كل والد إلى فتاة فحملها إلى وطن غريب، وعقد قرانها في بلد نازح، وهنا ترسل النائية حنينها إلى مسارح الصبا وملاعب الشباب، وأنت حين تقراه لا تجده غير غزل مقنع قد أهدى إلى الحبيب الأول ففهم منه كل شئ، ولك أن تعتبر من هذا النوع قول القائلة:
ألا أيها الركباليمانون عرجوا ... علينا فقد أضحى هوانا يمانياً
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا ... وحب إلينا بطن نعمان واديا
فأن به ضلا ظليلا ومورداً ... به نقع القلب الذي كان صاديا
فهل صحيح أن الشاعرة تقصد ماء نعمان، وظله الظليل ومورده الرائق؟! لو كان ذلك وحدة ما أحسست بهذه الحسرة المتأججة، واللهفة المشتعلة، وما اهتدت الشاعرة إلى قولها الرائع (به نقع (القلب) الذي كان صاديا!)
ونظائر هذه الأبيات لا تندرج تحت حصر، وهي تدلنا على فطنة المرأة، وذكائها اللماح، وتؤكد لنا أن الحب كالزهرة الناظرة، لابد أن يعبق أريجها في كل مكان تحل به وهل كان الحنين غير عبير فاتن ينعش الأفئدة ويهيج النفوس؟!(746/33)
وكثيراً ما تفر المرأة من الحنين إلى الكناية والرمز، وهي في ذلك تقتدي بالرجل فتسير وراءه خطوة خطوة، ولكن أي رجل تتبع؟؟ إنها تعمد إلى شاعر سدت أمامه المسالك، وصلصلت في كفة القيود، فتتجه معه اتجاهه، مادامت ظروفه القاسية كملابساتها العنيدة، وإذا كانت المرأة تعتقد في قرارة نفسها أن الجل أحزم منها وأعقل، فأنها تسلك طريقه مطمئنة إلى السلامة واثقة بالنجاة. . .
ولعل أصدق مثال نقدمه للقارئ، هو حميد بن ثور الهلالي فقد كان ممن برح بهم العشق فأرسل قصائده الغزلية سافرة عارية ولكن الحاكم يقف في وجهه منذراً مهدداً، فيمنعه من التغريد الساحر، وهنا يلجأ الشاعر إلى الكناية المقبولة فيتغزل في السرحة مطنباً في محاسنها الفاتنة، ولعمري لقد وفق في اختياره فالسرحة ذات منظر جذاب، وثمر شهي، ونسيم منعش مريح وكل ذلك مما يذكر العاشق المدنف بمعبودته فيتمثلها أمام عينه إذ يقول:
أيا طيب رياها ويا حسن طعمها ... إذا حان من شمس النهار شروق
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح مسدود على طريق
ومهما يكن من شيء فقد نفث الشاعر عن صبره. ولم يجعل لأحد سلطاناً عليه، ثم هو قد فتح الباب على مصراعيه لعلية بنت المهدي شقيقة الرشيد. فقد علقت غلاماً لها يسمى طلا ونظمت فيه من الرقائق الأنيقة ما هو جدير بأمثالها من المثقفات الناعمات، ولكن هرون يقف أمامها وقفة تحدى بها الفن تحديا ًصارخاً، فلجأت إلى التغزل في السرحة مقتدية بحميد إذ تقول:
أيا سرحة البستان طال تشوقي ... وما لي إلى ظل لديك سبيل
ثم تطلب في وصفها الساحر فتجلس على ناصية الإبداع والافتتان وذلك منها غير كثير. . .
وفي رأيي أن هذه الحيطة جميلة مقبولة تسير مع الأخلاق النبيلة مهيج واحد، وإن كان من الشاعرات السذج من تبالغ في الحذر والحيطة، فتعلن لك أنها تتقي الله عز وجل وتأتمر بأمر العفاف، ثم تعتقد أنها قد آمنت بذلك ما عسى ان يوجه إليها من ملامة أو نقد، فتصرح بما يثير حولها الشكوك، ويجعلها مضغة ملوكة في الأفواه، ودونك قول أم ضيغم البلوية
وبتنا خلاف الحي لا نحن منهمو ... ولا نحن بالأعداء مختلطان(746/34)
وبتنا يقينا ساقط البرد والندى ... من الليل بردا يمنة عطران
نذود بذكر الله عنا من الصبا ... إذا كان قلبانا بنا يجفان
ونصدر عن أمر العفاف وربما ... نقعنا غليل القلب بالرشفان
وأنا لا ادري ماذا يفيدها ذكر الله بعد أن نقعت غليل القلب بالرشفان؟ وماذا يغني العفاف بعد أن باتا في مكان قاس خلاف الحي؟، اللهم إن هذا احتراس أدى إلى افتضاح ولكن فيه رائحة الطمأنينة على كل حال. . .
ومن العاشقات من تصرح للملأ بتقوى الله عز وجل واستحياء بعض العواقب، ولكنها تعتصم بالعقل فلا تتورط فيما تورطت فيه أم ضيغم، بل تسير في سبيلها المملوء بالشوك يقظة محاذرة، تتجنب العوائق، وتتجافى عن المزالق حتى تنتهي من المسير بسلام، والتفت معي إلى عاتكة المرية إذ تقول:
وما طعم ماء أي ماء تقوله ... تحدر من غر طوال الذوائب
بمنعرج من بطن واد تقابلت ... عليه رياح الصيف من كل جانب
نفى جريه الماء القذى عن متونه ... فما إن به عيب يتاح لشارب
بأطيب ممن يقصر الطرف دونه ... تقى الله واستحياء بعض العواقب
ثم صار حنى رأيك هل لاحظت عليها تورطاً وانزلاقاً كأم ضيغم أو وجدت في قولها ما تشم منها رائحة الريب الآثم، الحق أنها كانت لبقة ماهرة فيما نظمت، وأنا لا أدري لماذا تذكرني أبياتها بأبيات أخرى تتفق معها في الطريقة، وتخالفها في التفكير. ونحن لا يهمنا أن يكون الإطار من نوع مألوف بل نحرص على أن تكون الصورة جديدة والريشة بارعة كما جاء في قول ضاحية الهلالية:
وما وجد مسجون بصنعاء عضه ... بساقيه من صنع القيون كبول
قليل الموالي مستهام مروع ... له من بعد نومات العشى عويل
يقول له السجان أنت معذب ... غداة غد أو مسلم فقتيل
بأكثر منى لوعة يوم راعني ... فراق حبيب ما إليه سبيل
فأنت أن الطريقة الأولى هي الطريقة الثانية ولكن معنى عاتكة مكرر معاد أما أبيات ضاحية فذات تصوير مبتكر وأنت لا تستطيع أن ترجع بها إلى قائل متقدم، مهما أتعبت(746/35)
نفسك في التنقيب، ثم هي تصور لك جزع المرأة من السجون ورهبتها من القيود، وليت شعري إذا لم نلمس إحساس المرأة من شعرها العاطفي فمن اى نبغ دافق نستقيه؟ أما قوة النسج فبارزة بوضوح في كلتا المقطوعتين.
محمد رجب البيومى(746/36)
صور
للأستاذ أنور العطار
أنت دائي ما أنكرتك الجروح ... لا ولا عقك الفؤاد الذبيح
طائف منك مر بالقلب هيما ... ن، فجن الهوى وضجت قروح
وتعلمت منك كيف أنوح
أنت وهم حلو يلذ ويغرى ... أنت كالخمر في الأضالع تسري
أنت سر الهوى تغنى بك القلـ ... ب، وشعر أربى على كل شعر
وصلاة تروق قلبي وفكري
أنت دوح يموج بالأطياب ... فتنة العين مطمح الآراب
يتغنى بك المشوق المعنى ... ويناجيك بالأماني العذاب
وأغاريد قلبي المطراب
أنت طيف الهوى وأنغام حبي ... ونصيري على اغتمامي وكربي
وسميري في وحدتي واعتزالي ... وأليفي إذا تبدد صحبي
أنت راحي وأنت ريحان قلبي
أنت لحن جم المناغم بكر ... ملؤه روعة وسحر وشعر
وسراب إذا تلفت أبغيـ ... هـ انثنى ضائعاً وولى يفر
واعتراني عليه حزن وذعر
صور يغمر العيون سناها ... وأماني لا يحد مداها
نغمات تظل تعزف في النفـ ... س، ويبقى على الليالي صداها
هي من وحيها وفيض هواها(746/37)
فلسطين رمز جهاد العرب
للأستاذ إبراهيم الوائلي
فلسطين لا زعزعتك الخطوب ... ولا أرهقتك ثقال النوب
ولا أوهنتك عوادي الزمان ... إذا ما دجا أفقها واضطرب
ولا فل عزمك طول الكفاح ... فانك رمز جهاد العرب
وقفت ومثلك لا يستكين ... مناضلة حين جد الطلب
وأزمعت ألا تري غاصباً ... يجوس لديك خلال الرحب
ولا طامعاً أشعبي الرجاء ... يظن بأن سينال الأرب
وكيف يكون - وفيك الأسود ... غضاباً وواديك واد أشب
وخلفك جيش يخوض الدماء ... ويسبح في موجها المصطخب
ودنيا سواء لديها النسيم ... ندى الذيول، وحر اللهب
فلسطين ما كنت مأوى الدخيل ... ولا طعمة الشره المغتصب!
ولست ملاذ الشريد الذليل ... ولا مسرح اللاجئ المغترب!
غزاك من النفر الصاغرين ... طريدون لم يجدوا مضطرب
عصائب قد أمنعوا بالنفاق ... ونفث السموم وبث الريب
أرادوك ملجأ شذاذهم ... على غير ما صلة أو سبب
فلسطين أين دماء الشباب ... تذوب على سفحك المختضب؟
وأين الرؤوس تقود الضال ... وتسحق من كبرياء الذنب؟
ومالك والدم يجرى بها ... سجل يفاخر حتى الشهب
وتاريخك الناصع المستفيض ... يطاول من قال أو من كتب
طويت السنين ثقال الخطى ... وما كان حضك غير الوصب
وقمت بما يقتضيه الفخار ... فإما الممات وإما الغلب
وما قدر حي يحب البقاء ... ودنياه حافلة بالسغب
فلسطين يا صرخة الثائرين ... على الظلم حين طغى واستتب
ويا غضبة رددتها العصور ... لتعلم صهيون كيف الغضب(746/38)
حملت اللواء على منكبيك ... خضيباً وقلت: حذار الهرب
وكنت الدؤوب وهل فائز ... بنيل الحقوق سوى من دأب
جهادك لحن بثغر الخلود ... يرن صداه وراء الحقب
ودنياك محمرة الجانبين ... من الدم كالشفق الملتهب
فلسطين جرحك ملء القلوب ... وذكراك ماثلة عن كثب
فزعن لصوتك إذ تصرخين ... وما هان أن تتعالى الندب
فنحن سواء بحمل الخطوب ... ويجمعنا حولهن النسب. . .
جراح ولكنها في الصميم ... وداء ولكنه في العصب
فساس على غير ما نبتغي ... وندعو ولكن بمن لم يجب
ونزجي العتاب وهل نافع ... مع المستبد سلاح العتب؟
وكم ذا تعللنا بالوفاء ... عهود مبطنة بالكذب؟
فشأن السياسة نهب الشعوب ... ونفي الجريمة عمن نهب
يقولون: في الكون حرية ... وفجر تألق خلف الحجب!
وحرب أثيرت لنشر السلام ... وذاك هو الأمل المرتقب
وما السلم إلا خيال يطوف ... وحلم تباعد ثم اقترب. . .
وقد سخروا الذر حتى استجاب ... وذل لهم كلما قد صعب
ولو صدقوا بالذي يدعون ... لما بقيت جذوة في الحطب!
أفيقوا دعاة الخصام البغيض ... ولا تبعثوا كامنات الريب
فللعرب موطن آبائهم ... وللسامريين عجل الذهب(746/39)
ديوان شعر
للأستاذ بدر شاكر السياب
ديوان شعر، ملؤه غزل ... بين العذارى بات ينتقل
أنفاسي الحرى تهيم على ... صفحاته؛ والحب والأمل
وستلتقي أنفاسهن بها ... وتحوم في جنباته القبل
ديوان شعر ملؤه غزل ... بين العذارى بات ينتقل. .
لما يعين النوح والشكوى ... كل تقولي: من التي يهوى؟
وسترتمي نظراتهن على الـ ... صفحات بين سطوره نشوى
ولسوف ترتج النهود أسى ... ويثيرها ما فيه من بلوى
ولربما قرأته فاتتني ... فمضت تقول: من التي يهوى؟
سيرين ما لاقيت في حبي ... فيصحن: يا للعاشق الصب.!
ولقد تسيل دموعهن على ... جنباته، موصولة السكب
يا ليت قلبي من قصائده ... لترى الحسان الغيد ما قلبي
سيرين ما لاقيت في حبي ... فيصحن: يا للعاشق الصب. .
ديوان شعري. رب عذراء ... أذكرتها بحبيبها النائي
فتحسست شفة مقبلة ... وشتيت أنفاس وأصداء
فطوتك فوق نهودها بيد ... واسترسلت في شبه إغفاء
ديوان شعري. . رب عذراء ... أذكرتها بحبيبها النائي
يا ليتني أصبحت ديواني، ... أختال من صدر إلى ثان. .
قد بت من حسد أقول له: ... يا ليت من تهواك تهواني!
آلك الكؤوس ولي ثمالتها ... ولك الخلود وإنني فان؟
يا ليتني أصبحت ديواني، ... أختال من صدر إلى ثان
كم غادة شاهدت مخدعها ... ومضيت تسهر ليلها معها
قد هزها شوق لمعتسف ... أمسى هواه يسيل أدمعها
فمضت تذيع إليك قصتها ... وتبث هماً فل أضلعها. .(746/40)
كم غادة شاهدت مخدعها ... ومضيت تسهر ليلها معها!
ستعيش بين النور والعطر ... وتفر من صدر إلى صدر
فترى الثغور تعيد، هامسة، ... ما فيك من فتن ومن سحر
والنهد يرمي الظل فيك على ... روض الخيال ومرقص الشعر
ستعيش بين النور والعطر ... وتفر من صدر إلى صدر
يسمعن فيك أغاني الريف ... مترنماً بحسانه الهيف. . .
الماء يشكو للجرار هوى ... والنخل في صمت وتعزيف
والليل والأنسام عاطرة ... والزورق الغافي المجاديف
تلقي مسامعها إلى الريف ... يشكو غرام حسانه الهيف
سأبيت في نوح وتسهيد ... وتبيت تحت وسائد الغيد
أو لست مني؟ إنني نكد ... ما بال حظك غير منكود؟
زاحمت قلبي في محبته ... وخرجت منها غير معمود
أأبيت في نوح وتسهيد ... وتبيت تحت وسائد الغيد؟
ديوان شعر ملؤه غزل ... بين العذارى بات ينتقل
أنفاسي الحرى تهيم على ... صفحاته، والحب والأمل
وستلتقي أنفاسهن بها ... وتحوم في جنباته القبل
ديوان شعر ملؤه غزل ... بين العذارى بات ينتقل(746/41)
من وراء المنظار
هكذا تكون الشرطة!. .
يا سيدي! بالباب عسكري يقول إنه يريد أن يسلمك محضراً!
بهذا النبأ المزعج دخل عليَّ الخادم في نحو الساعة الثامنة من مساء ليلة قريبة وأن جالس إلى مكتبي أفتش في المراجع دون أن أقع على طلبتي حتى ضاق صدري، فلم يسر عني ما بي إلا هذا النبأ البهيج! ووثبت من فوري أتلقى البشرى، فلقد والله زادني الخادم غيظاً على غيظي بابتسامته البلهاء التي شفع بها هذا الخبر الأسود كما لو أنه جاء ليبشرني بما تنبسط له نفسي!
ومشيت وأنا أسأل الخادم، أو على الأصح أصيح به محنقاً - فقد خيّلت إليّ أعصابي المكدودة أنه يشمت بي إذ يبتسم أو يظن بي خوفاً - أي محضر؟ ولم أخرج من داري نهاري كله ولا اذكر أني فعلت بالأمس ولا قبل الأمس شيئاً يستوجب المحضر، ولا أنا - ولله الحمد - ذو سيارة أدوس بها أحداً أو أخالف بها نظام مرور، ولست ممن يعودون إلى دورهم بعد منتصف الليل. . . ولا. . . ولا. . .
ومضيت إلى الباب الخارجي فما راعني إلا عُتلٌّ أبرز ما فيه شارباه وأنفه وطول قامته، حتى لقد ذكرني ذلك العملاق بتلك الصور الكاريكاتورية التي ترسمها بعض المجلات لبني جنسه، وأشهد والله بعد رؤيته ما فيها شئ مما كنت أظنه مبالغة!
- ماذا تريد يا شاويش؟ وليصدقني القارئ أني أتأدب حتى في خطاب من يسلمني محضراً
- معي محضر يا أفندي من فضلك وقع عليه بالاستلام!
- لمن هذا المحضر؟
- لا أعرف
- ما موضوعه؟
- لا أعرف
هذه والله - في غير تحريف - إجابة الشاويش الهمام لم أصنع بها شيئاً إلا أني عرّبتها! وحبست ضحكتي تأدباً علم الله وبنفسي أن أقهقه لولا أن لا أحب أن أسيء حتى إلى مثل هذا العتل وقلت: إذا كنت لا تعرف صاحب المحضر ولا موضوع المحضر. . . فلم(746/42)
اخترت هذا البيت بالذات؟
- قالوا عند المزلقان. . .
ومددت يدي أتناول الورق منه، فدفعه إلي بعد تردد وحذر؛ وألقيت نظرة فإذا هو لفلان في بيته المرقوم بكيت ويقع كذلك عند مزلقان وهو بشأن سيارة لم يعنني أن أعرف موضوعها؛ وتبسمت وقلت للشرطي ليس المحضر لنا، ورحت أصف له موضع البيت المقصود، وأذكر له اسم الشخص المطلوب، وحسبت أنه سوف يحمد لي هذا الإرشاد؛ ولكني نظرت فإذا به يداعب شاربه ويرميني بنظرة اشتركت فيها عيناه وأنفه وغلظه وجهله، وإنه ليبتسم ابتسامة أسمج من هيكله، وكأنما يريد أن يذكرني أنه من رجال البوليس، وهل يضحك أحد او يمكر رجال البوليس ثم قال: وقع على الورق يا أفندم. . . ما فيش لزوم للزوغان!
ورأيت أني أكون أجهل منه لو ناقشته بعد ذلك، فهممت أن أوقع لمجرد التخلص منه، وليفهمه رؤساؤه بعد ذلك خطأه، ولكني عدت أؤكد له أني لست الشخص المطلوب، وهو ينظر إليّ ويصب عليّ سماجته كلها، حتى ضقت به فقلت لن أوقع، وإذ ذاك تراجع وطلب إليّ أن أدله على البيت المكتوب في الورق. . . فتنفست الصعداء وقلت:
- أتعرف بيت محمد باشا محمود؟
- محمد باشا محمود؟ ومين محمد باشا محمود ده؟ ومين يا أفندم اللي يعرفني بالكلام ده؟!
وجذبته من ذراعه وسرت معه خطوات حتى وقفت به في الشارع المجاور، وهو شارع الفلكي، وقلت له: أنت الآن تتجه (بحري) فأين يدك اليسرى؟ ومد إليّ يده اليسرى في سذاجة، فقلت: تظل ماشياً في هذا الشارع إلى أن تجد بيتاً كبيراً يقف ببابه، ويقع عن شمالك، عسكري مثلك، فاسأله أين البيت المطلوب. . . وانطلق العملاق يتمتم بكلمات ولعله كان يستنزل لعنة الله على من كلفوه ما لا يطيق؛ وعدت إلى مكتبي ومراجعي وأنا أقول لنفسي: هذا وأمثاله هم حفظة الأمن والنظام، وهذا وأمثاله من يستلم المرء محضراً حقاً إذا انتهرهم أو ضاق بهم فدفعهم من طريقه أو من مدخل داره. . . هذا وأمثاله ليسوا بالقليلين هم شرطتنا. . . ألا متى يفه القائمون بالأمر، حفظة الأمن الكبار، حفظهم الله، أن تغيير هذا الصنف كله بات من أوجب الواجبات؟(746/43)
الخفيف(746/44)
تعقيبات
الأصدقاء والأعداء
نشرت الجريدة الرسمية للحكومة البلجيكية قانون جمعية تألفت أخيراً باسم (جمعية الصداقة المصرية البلجيكية)، وقالت إن غرض هذه الجمعية (توثيق الروابط الثقافية والاقتصادية بين مصر وبلجيكا)، وذكرت أن من أعضائها (أحمد صديق باشا، وعزيز أباظة باشا، والمسيو هنري أردن مدير شركة ترم القاهرة، وحضرة سكرتير المفوضية المصرية ببروكسل). . . إلى آخر من ذكرت من ذلك الخليط. .
ومنذ أيام قليلة كانت لنا قضية أمام مجلس الأمن، هي قضية الحياة والحرية والكرامة، ووقفنا في المجال الدولي نتبين العدو من الصديق ونفتش عن أولئك الذين عاشوا طول الزمن يغترفون من فيض الكرم المصري ويقتاتون بدم الشعب الطيب الوديع، فهالنا أن نرى (بلجيكا) في صف الأعداء، تأبى علينا الحياة والحرية والكرامة، وتعلن على مطالبنا حرباً شعواء في غير خجل ولا حياء، وهي التي تكسب من مال مصر كل عام ما يقدر بنصف دخلها أو يزيد.
في الشدة عرفنا العدو من الصديق، وأصبح من الواضح أين نتوجه بعواطفنا وإلى من نبذل صاقتنا، وبالأمس حمدنا لأديب المصري أن ألقى بوسام فرنسي من صدره إنكاراً لدولة أنكرت علينا حقوقنا، ولكن يظهر أن عندنا جماعة من محترفي (الصداقات) وهم في هذا السبيل لا يبالون مصريتهم ولا يراعون عواطف الشعب الذي ينحدرون منه وينتسبون إليه!
يقول الفلاحون عندنا في أمثالهم: (ليس بعد حرق الزرع جيرة)، فماذا يكون بينا وبين بلجيكا من الروابط بعد الذي كان من وقف تلك الدولة تجاه قضيتنا، وتجاه حريتنا، وبعد أن كفرت بافضال مصر واستخفت بكرم المصريين وكرامتهم؟؟
كلا أيها السادة، إن الكرامة المصرية أصبحت لا تحتمل هذا التهافت ولا تطيق تلك (الصداقات الرخيصة) التي تجلب لأصحابها ما تجلب من (الأسهم والسندات) ولكن على حساب الأمة المسكينة والشعب المنكوب!!
لا زاريت. . والأزهر:(746/45)
اذكرني الكلام الذي يجري الآن عن الحجر الصحي ووقاية البلاد من الأمراض الوافدة بكلمة لها صلة بهذا الموضوع.
ذلك أن جمهورية (فينسيا) كانت أول دولة أقامت محجراً صحياً ببلادها عام 1403م وأسمته (لازاريت)، ثم كان أن أخذت الدول الأوربية عنها هذا النظام.
ولما هجمت (الكوليرا) على مصر عام 1831م كان الوالي على مصر محمد علي باشا، فأمر ذلك المصلح الكبير بإدخال نظام (الكورنتينة) في مصر، فجمع قناصل الدول وألف من بينهم لجنة لوضع النظام الخاص بهذا الغرض، وفي عام 1832م بني أول محجر صحي في الشاطبي بالإسكندرية، وعرف هذا المكان باسم (مزريطة) أو (الأظاريطة) نسبة إلى كلمة (لازاريت) التي أطلقت على أول محجر صحي أنشأته جمهورية (فينسيا). .
ويقول (لاروس) في معجمه الكبير - مادة لازاريت - (إن بعض الإفرنج يرون أن كلمة لازاريت مأخوذة من كلمة الأزهرية لأن الأزهر في مصر ملجأ للعميان والشيوخ المتقاعدين)
ولست أدري هل هذا هو مبلغ العلم عند هؤلاء الإفرنج، أم هي روح التعصب والشنآن لا تفارقهم حتى في التحقيق العلمي، فإن كلمة (لازاريت) معروفة الأصل واضحة النسب، فهي كلمة لاتينية معناها (المجذوم)، وقد كانت الدولة الرومانية تبالغ كثيراً في الحجر على المجذومين، وكان عقاب المجذوم الذي يخرج من نطاق الحجر هو القتل السريع، وكان أن أطلقت هذه الكلمة على نظام الحجر الصحي الذي أخذت به الأمم فيما بعد. .
علي مبارك باشا:
أشار الدكتور زكي مبارك في مقال له بالبلاغ إشارة عابرة إلى علي مبارك باشا فقال: (والحقيقة أن علي مبارك باشا من مديرية الشرقية. . . وقد كان عظيماً، والذي يعرف تاريخه هو الدكتور إبراهيم سلامة، فقد نال بالحديث عن مذاهبه التعليمية إجازة الدكتوراه من باريس. . .).
وأنا رجل شرقاوي، وكان يهمني أن يكون ذلك الرجل العظيم من مفاخر إقليمي، ولكن الحقيقة أنه من الدقهلية، وقد قرر هو هذه الحقيقة في الترجمة التي كتبها لنفسه في الخطط(746/46)
التوفيقية فقال: (إن قرية برنبال الجديدة هي مسقط رأسي، وبها نشأت، وكانت ولادتي سنة 1239هـ كما أخبرني بذلك أبي وأخي الأكبر، وأصل جدنا الأعلى من ناحية الكوم والخليج وهي قرية على بحر طناح. .) ومن المعروف أن قرية برنبال الجديدة تقع على البحر الصغير تجاه كفر علام بمديرية الدقهلية. .
ومما يذكر بهذه المناسبة أن علي باشا مبارك فر من قريته وهو صغير فأصيب بالكوليرا وسقط في الطريق، وكانت فاشية في مصر يومذاك، فحمله أحد الفلاحين إلى منزله وتولى علاجه والعناية به، وقد كتب الله له السلامة من ذلك الوباء اللعين. . .
وهناك مسألة يجب أن يتدبرها الذين يكتبون عن علي مبارك باشا، ويدرسون آثاره ويحكمون عليها، وهي أنه رحمه الله كان يصنع في مؤلفاته صنيع السيوطي من قبل، فكان يعتمد إلى حد بعيد على تلاميذه ومريديه وأصدقائه في وزارة المعارف، ويقولون إن للمغفور له عبد الله فكري باشا جهداً في (الخطط التوفيقية)، وقد استطاع علي مبارك باشا بهذه الطريقة أن يؤلف كثيراً حتى في الموضوعات التي لم تكن لها صلة بثقافته، وإن الكشف عن هذه الحقيقة ليجعلنا نتدبر كثيراً في الحكم على مؤلفات ذلك الرجل العظيم وما خلف من آراء وآثار.
هذه كلمة عابرة في الرد على إشارة عابرة ولعل الوقت يسمح لي بالكتابة عن ذلك الرجل فقد جمعت عنه من المعلومات الشيء الكثير. . .
إمارة الشعر:
لمناسبة ذكرى المغفور له شوقي بك عاد إخواننا الصحفيون يتحدثون عن إمارة الشعر، وفتحت مجلة (الهلال) في عددها الأخير باب الاستفتاء لقرائها فيمن هو أجدر بلقب الأمارة الآن؟
وكأني بإخواننا هؤلاء يحسبون أن إمارة الشعر يمكن أن تفتعل افتعالاً وتقترح اقتراحاً وأنه لابد للشعراء من أمير كما للصحفيين نقيب وللمحامين عميد وللعمال (كومانده) وللتجار (سرتجار). . .
وكأني بإخواننا هؤلاء يحسبون أن شوقي صار أميراً للشعراء لأن فريقاً من أدباء العربية احتفلوا به لهذا الغرض، ولأن حافظاً بايعه بالأمارة في ذلك الحفل، ولأن الصحف أخذت(746/47)
تخلع عليه هذا اللقب في كل مناسبة. . .
كلا أيها الإخوان، إن شعر الشاعر وحده هو الذي ضمن له الأمارة، ويضمن له الخلود على الزمن وهو مرتبة أكبر من كل إمارة وما هو فرق الأمارة. . .
لقد كانت بدعة اقتضتها ظروف الحياة السياسية والاجتماعية في مصر منذ نصف قرن، فقد كان المصريون يرون الأتراك قد استأثروا دونهم بالألقاب الفخيمة والرتب العالية، فكان من مطالبهم أن يكون لهم نصيبهم من هذا، وكانت في نفوسهم لهفة على أن تكون أسماؤهم مقرونة بالألقاب والنعوت الكبيرة، وكان لهذه اللهفة صداها في دولة الأدب، ولما كان شوقي شاعر القصر في تلك الأيام فقد درجت الصحف يوم ذاك على تلقيبه بشاعر الأمير، ولما كان حافظ في الجهة المقابلة له فقد لقبوه بشاعر النيل، وهكذا شاعت الألقاب بين الشعراء والكتاب، فلقبوا الخليل بشاعر القطرين، وإسماعيل صبري بأستاذ الشعراء أو بشيخ الشعراء، وعبد المطلب بشاعر العروبة والبداوة، وولي الدين يكن بأمير الشعر والنثر، وجاء صديقنا الأستاذ أحمد رامي في عقاب ذلك ففاز من التركة (بشاعر الشباب) وهي الرتبة التي لا يزال يحملها إلى اليوم. . . وكان المرحوم الشاعر أحمد نسيم لا يجد من يخلع عليه اللقب المناسب فكان يرسل بقصائده إلى الصحف بعد أن يكتب لها مقدمة ثناء طويلة يخلع فيها على نفسه ما شاء من ألقاب، أقلها شاعر الوطن. . . ولما مات شوقي وحافظ وقف يقول:
ولو شئت كانت لي زعامة شعرهم ... وكنت لمن يأثم خير إمام
شوارد تزري بالحطيئة هاجياً ... وتعيي جريراً في مديح هشام
ولكن عهد حطيئة وجرير كان قد انقضى. . .
وكانت في نفس شوقي رحمه الله لهفة إلى نيل رتبة الباشوية، كما كان المتنبي يتلهف على الفوز بالولاية، ولكن الظروف لم تسعفه، فقد أبعد الخديوي عن مصر، وأبعد شوقي نفسه عن مصر، وتبدلت الأحوال والأوضاع، وخبأ أمله في تلك الرتبة، فأراد أن يعوض هذا على نفسه برتبة الأمارة في الشعر، فكانت الصحف التي تنطق باسمه تخلع عليه هذا اللقب دائماً، ثم كانت حفلة المبايعة المعروفة، وكان شوقي شاعراً كبيراً حقاً فضمن لنفسه هذه الأمارة، وضمن لنفسه الخلود وهو أكبر وأعظم من كل أمارة. . .(746/48)
أمارة الشعر بدعة انتهت بانتهاء ظروفها. . . وليست هذه البدعة بالشيء المعروف في الأمم الأخرى. . . ولم يكن هذا بالأمر المألوف بين شعراء العربية من قبل. . فلم يبايع أحد البحتري بأمارة الشعر، ولم تقم له حفلة لذلك، ولكنه كما يقولون أخمل بشعره سبعين شاعراً في عصره فلم يذكرهم ذاكراً. .
(الجاحظ)(746/49)
الأدب والفن في أسبوع
أدب القوة:
سأل مندوب (المسامرات) الدكتور عبد الوهاب عزام بك عما ينصح به الشباب في ميدان الأدب لمواجهة نهضة مصر الحديثة، فأجابه:
(أدعو الشباب إلى أدب القوة، والقوة النفسية التي تسمو بالإنسان عن الدنايا وتدعو إلى الإقدام فيمضي في هذه الحياة مجاهداً يشق طريقه إلى غايته، يذلل الصعاب ويقتحم العقبات. وأدعوهم إلى أدب النجدة والمواساة والإيثار الذي يحدوهم إلى العمل للجماعة وتأدية الواجب، والاغتباط بفعل الخير دون ابتغاء منفعة أو جاه أو سمعة.
وأحذرهم من الأدب الضعيف الداعر الذي يسف بالنفس إلى الدنايا، ويقعدها عن الجهاد، ويخيفها من كل مشقة ويجنح بها إلى الدعة والعكوف على اللذة والإخلاد إلى البطالة والتسكع)
وهذا الذي أجاب به الدكتور عبد الوهاب عزام، برنامج للأدب المنشود، موجز في كلماته، ولكنه واف في مراميه؛ فهو يدعو إلى أدب القوة في هذا الوقت الذي اقتنع الجميع فيه بضرورة القوة للحصول على الحياة الحرة الكريمة، وقد زأرت آساد العرب وتحركت نحو هذه الحياة في الطريق إلى فلسطين، ولاشك أن الخيول العربية الآن في جميع أقطار العروبة تعلك اللجم ويتحفز فرسانها للوثوب، وغايتهم القضاء على الدخلاء في جميع البلاد العربية بادئين بالصهيونيين. . .
وهنا أتخذ سمة الباحث في الأدب من حيث تفاعله مع الأحداث وروح العصر، فأقول أن الأدب لابد أن يستمد من هذه الروح ويدفع تلك الحركات، لأن وجان الأمة العربية يزخر بمشاعر القوة والنجدة، ووظيفة الأدب الأساسية أن يعبر عن الشعور ويستملي الوجدان.
ثم اتخذ سمة الباحث في الاجتماع فأقول إن الأمة تتكون من الأفراد، فلكي تكون قوية يلزم أن يكون أفرادها أقوياء؛ وقوة النفس هي أصل القوى، لأنها، كما قال الدكتور عزام، تسمو بالإنسان عن الدنايا وتدعو إلى الإقدام واقتحام العقبات، وتدعو إلى النجدة والإيثار والعمل للجماعة. والأدب يتفاعل مع كل هذا، فيتأثر به ويؤثر فيه، وبذلك يكون أدباً صادقاً.
والشباب مناط الآمال وذوو الأحاسيس المتوثبة والمشاعر الملتهبة، فلا يصح أن تستنفد(746/50)
قواهم العواطف الخائرة، فلا تبقى بها أثار للقدرة على الكفاح للجماعة أو حتى للذات، فيدفع هذا الضعف إلى الدعة والكسل أو محاولة الوصول عن طرق هينة وإن كانت غير لائقة.
النشيد القومي للعرب:
وبعد فهذه الجيوش العربية تزحف إلى فلسطين، والآمال تسايرها، والقلوب تخفق لها، وإنك لتلمح بين سطور أنبائها في الصحف أبياتاً من الشعر يهتز لها فؤادك، وإن كانت لا تزال شاردة لم يقيدها وزن ولا قافية.
فمن لهذا الشعر ينظمه نشيداً للوطن العربي العام؟ نشيداً واحداً يتغنى به أولئك الأبطال الزاحفون في سيناء وفي صحراء العرب وبادية الشام وربى لبنان، وينشده الناشئون في معاهدهم وملاعبهم، ليقوي (عضلات) نفوسهم، وينفي عنها (الترهل)
فهيا فحول الشعر، ضعوا لنا ذلك النشيد.
ذكرى شوقي في نادي الخريجين:
أكتب هذا يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر أكتوبر، وهو اليوم الذي نعى في مثله الشاعر الخالد أحمد شوقي بك، وكانت الليلة الماضية ليلة ذكرى، لا في (الأوبرج) فقد أعلن أن حفلته أجلت إلى أجل غير مسمى نظراً للظروف الصحية الحاضرة! بل كانت الذكرى في شقة بالعمارة رقم 28 بشارع شريف باشا، حيث نادى الخريجين المصري.
وكان حفلاً صغيراً أقامه النادي في خجل من عدم استطاعته التوسع في البرنامج، ولكن تفرد هذا الحفل بمصر في ليلة ذكرى شوقي أمير شعرائها، وشعور هؤلاء الشبان الذين أقاموه بضآلة مجهودهم في هذا المقام الجليل، كل هذا يجعل لهذا الحفل معنى جليلاً هو معنى الوفاء الذي لا يغض منه جهد المقل
بدأت الحفل بكلمة للأستاذ مصطفى حبيب تحدث فيها عن ذكرى شوقي من حيث أثرها في النفوس، ومن حيث مكانة صاحبها الأدبية والوطنية، وتيمن لافتتاح الموسم الثقافي في النادي بهذه الذكرى. وتلاه الأستاذ محمد فتحي بك فقرأ من شعر شوقي قصيدة (يا نائح الطلح أشباه عوادينا) التي قالها وهو بالأندلس في الحنين إلى مصر، وقد ذكرتني قراءة(746/51)
فتحي بك بما يقولون من ان أحد العمال بمطبعة الأهرام غيّر مرة في برنامج الإذاعة كلمة (يقرؤها فتحي بك) فجعلها (يغردها) ولم أكن أصدق هذا وكنت أرجح أن (يغردها) في أصل البرنامج، ولكني اقتنعت أمس بأنها فعلة ذلك العامل لأني وجدت فتحي بك لا يغرد وإنما يقرأ كما يقرأ الطالب في كتاب المطالعة بفارق واحد وهو أن فتحي بك قليل الخطأ في ضبط الكلمات. . ولكن لم اختار (نائح الطلح) وهو الطائر الذي ينوح في وادي الطلح؟ ألأن الطيور على أشكالها تقع؟
أعود من هذا الاستطراد إلى برنامج الحفل. غنى أحد الشبان أغنية (أنا أنطونيو) فأجاب وأطرب، ثم عرض مشهد من مسرحية (كليوباترا) لشوقي، مثله ثلاثة من الخريجين: آنسة وشابان أحدهما السيد حسن ابن المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي، وقد أحسنوا أداء أدوارهم، وبرعت الآنسة وهي تمثل مناجاة كليوباترا لنفسها في المعبد بعد هزيمة جيوشها، إذ كانت تؤدي الشعر بنبرات تمثل معانيه أحسن تمثيل. وقد ألقى أحد الشبان قصيدة تدل على أنه مبتدئ في معالجة القريض، ولكن كان لابد منها لتنويع هذا يقتضي كلمة دراسية في شوقي وشعره، ولكن النادي لخريجي قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب. وما يعرفونه عن شوقي قليل جداً بالنسبة لما يعرفونه عن شكسبير مثلاً!!!
ولا تذهب في هذا العجب. . . فقد قلت إنه جهد الوفاء ذو المعنى الكبير وإن كان قليلاً. وأكثر الله خيرهم على كل حال. . .
سجع الزعماء:
قرأت في مجلة (المصور) للكاتب الفكه الذي يطلق على نفسه (الملحوس) ما يلي: (من أضحك الأشياء ادعاها إلى السخرية في هذا البلد ذلك الأسلوب (المسخرة) الذي تحرر به الأحزاب والزعماء والقادة ببياناتهم الكبرى الخطيرة للشعب وللأمة. . . ذلك السجع الممقوت الكريه الثقيل الذي يملأ أعمدة وصفحات كاملة بأسرها في الجرائد!).
ومفهوم أن النثر العصري من كتابة وخطابة قد تحرر من السجع أو من التزامه، فقد يأتي بعض الكتاب بشيء منه لاقتضاء حال من تهكم أو دعابة وقد يجري به القلم لاتساق لفظ وانسجام جرس. وكل هذا بعيد كل البعد عن ما كان في العصور المتأخرة من التكلف الممقوت.(746/52)
ولكن في السنوات الأخيرة جنح بعض الزعماء السياسيين إلى السجع وطول النفس فيه في خطبهم وكتاباتهم؛ ويبدو لي أن ذلك يرجع إلى ما يريدون أن يظهروا به من القدرة البيانية وما يرمون إليه من التأثير في نفوس الجماهير. . والحق أن كثيراً من هذا السجع محكم مجوَّد، ولكنه على أي حال ترقيش وتزويق في الكلام، يساير التهريج في السياسة، بل هو من أدواته. . والعمل الصالح كالجمال الطبيعي لا يحتاج إلى الأصباغ والأدهان!
أو كما قال (الملحوس) إن هذا السجع (موضة) بطلت، كما بطلت تلك الزعامات، وصار روح العصر شيئاً آخر. .
التعليم الجامعي والأدب:
كان موضوع المناقشة في (ندوة الهلال) هذا الشهر: (هل أخفق التعليم الجامعي؟) وانتهت المناقشة إلى (أن جامعتنا استطاعت أن تخرج فنيين ممتازين في مختلف ميادين الحياة. كما نجحت في تزويد المجتمع بخريجات كان لهن أثر كبير في تطور النهضة النسائية، ولكنها أخفقت في خلق الروح الجامعية في نفوس الطلبة، وأهملت في تربية نزعة الاستقلال في التفكير وحب الكشف والابتكار في خريجيها. ولم تعن بالنواحي الرياضية وتحبيب الطلبة في الدراسة الجامعية).
وقد لمست المناقش الناحية الأدبية لمساً خفيفاً، وذلك أن الأستاذ شفيق غربال بك لما سئل: هل أضافت الجامعة جديداً إلى الإنتاج العلمي والأدبي؟ أجاب: (إن الجامعة لا زالت في المهد بالنسبة لغيرها من الجامعات الأجنبية، ولكني أعتقد أن هناك تجديداً وإضافات في النواحي الأدبية، وأظن أن الكرداني بك يوافقني على هذا أيضاً في الناحية العلمية) فرد الكرداني بك (هل تعني أن الجامعة خرجت علماء لهم في ميادين الاكتشافات والاختراعات جولات؟) فقال شفيق بك: (لا. . إنني أقصد أن الجامعة خرجت (فنيين) ممتازين في كل الميادين. ولكنني لم أتكلم عن (العلماء).
ولا أدري أيقصد شفيق بك بهذا التفسير الناحيتين العلمية والأدبية، أم يخص به الناحية العلمية؟ على أن الخلاصة التي انتهى إليها النقاش تعمم هذا الحكم كما رأيت.
والذي نراه أن الجامعة - بعد الطبقة التي خرجتها الجامعة القديمة والتي رأسها الدكتور طه حسين - لم تخرج مبتكرين في الأدب، ولم ينتظم سلك إعلام الأدباء أحد خريجيها بعد،(746/53)
وإن كان بين هؤلاء الخريجين أدباء يدخلون في (فنيين ممتازين).
القصة المصرية:
وجهت مجلة (المسامرات) إلى (لفيف من أعلام الفكر والرأي) السؤال التالي: هل نجحت القصة المصرية في تثقيف الشعب؟ فأجاب معظمهم بإثبات نجاحها، قال الأستاذ العقاد: والقصة المصرية على وجه العموم قد نجحت نجاحاً ملموساً وشقت طريقها إلى الجودة والكمال في كثير من الاتجاهات وإن كان هناك بعض الاتجاهات التي لم تقتحمها بعد، وكلي أمل في أن تصل قريباً إلى القمة مؤدية رسالتها على خير الوجوه) وقال الأستاذ المازني: (لقد نجحت نجاحاً كبيراً والدليل على ذلك كثرة الإقبال عليها وكثرة ما ينشر منها) وقال الأستاذ بيرم التونسي: (إن معظم القصص المصرية التي ظهرت حتى الآن في غاية الإتقان مما يبشر بمستقبل حسن للقصة المصرية) وقال الدكتور زكي مبارك: (لقد نجحت القصة المصرية بكل تأكيد لأنها فتحت آفاقاً من الخيال، وراضت الجمهور المصري على الذوق الفني، وأعطت المصريين فرصة للرحلات الفنية إلى الشرق، وخلقت أبواباً من الثروة الفكرية والعقلية عند فريق من الجماهير)
وخالفهم العشماوي باشا فقال: (لا توجد عندنا قصة مصرية بالمعنى المفهوم لتثقيف الشعب) وقال: (لقد لقيت الأمرين عندما كنت وزيراً للمعارف، إذ احتجنا إلى قصص مصرية قوية لتمثيلها في المدارس إو توزيعها على التلاميذ فكنت أكثر من عمل المسابقات لعلها تغري على الاهتمام بهذا النوع من التأليف. ولكن لم يكن يصلنا في كل مسابقة إلا القصص التافهة البعيدة كل البعد عن الواقع).
وأقول إن ما نراه من القصص الضعيفة أو المنتوشة من القصص الغربية، لا ينبغي أن تطغى النظرة إليه على النتاج القصصي القيم الذي يدل على تقدم فن القصة عندنا في العصر الحديث تقدماً تلمسه فيما نشر من القصص في الصحف والمجلات والكتب الخاصة، ولقد قامت (الرواية) التي أدغمت في (الرسالة) بمجهود كبير في هذا السبيل، والرجوع إلى مجموعاتها يقفك أو يذكرك بذلك المجهود، وإنك لترى فيها إلى جانب المترجمات قصصاً مصرية تعد من ثروتنا في هذا الفن الحديث، كيوميات نائب في الأرياف التي كان يكتبها بالرواية تباعاً الأستاذ توفيق الحكيم والتي جمعها بعد ذلك في(746/54)
كتاب.
أما ما ذكره سعادة العشماوي باشا من أنه لم تقدم إلى المسابقة وزارة المعارف إلا القصص التافهة البعيدة كل البعد عن الواقع، فمرجعه أن كتاب القصة الناضجين يتجنبون النزول إلى مثل هذا التسابق، إما استكباراً، أو لأنهم يتوسمون أن فنهم الطليق لا يرضي الهيئات التعليمية التي تتوخى الوقار والتزمت فيما يقدم إلى الطلاب، ومنهم من يسيء الظن بالمحكمين، على أن وزارة المعارف اتجهت أخيراً إلى الاختيار مما في السوق في مثل هذا بدلاً من تلك المسابقات.
(العباسي)(746/55)
البريد الأدبي
1 - بيان:
قد يكره الكاتب رجلاً، فيستغل المناسبات لهجوه والتسميع به، وقد ينكر الكاتب رأياً فيكتب في رده، وينال بالضرورة من صاحبه، أي إن من النقد ما يراد به هجاء شخص بعينه، ومنه ما يراد به رفع فرية في العلم ورد أذى عن الناس. وأنا ما كتبت الذي كتبته لأنال من الشيخ أمين الخولي (الأستاذ في كلية الآداب) وما بيني وبينه صلة ولا معرفة ولم أر وجهه إلا مرة واحدة منذ أسبوع، فلا يقل أن يكون قصدي تحقيره هو بالذات أو ذمه والقدح به، فإذا فهم أحد من الذي كتبته أنني أرمي إلى هذا فأرجو أن يصحح فهمه، وأن يعلم أني لا أبخس عالماً قدره ولا أجحد فاضلاً فضله.
ولكن قصدي مما كتبت الدفاع عن الدين والعلم وقد وقفت على هذا قلمي ولساني، وإن كان في الدنيا من يخطر على باله أنه يستطيع أن يكفني عنه، أو يمنعني منه بشكوى أو دعوى أو بترغيب أو ترهيب أو بافتراء أو ببذاء، فإنه يمني نفسه المحال.
2 - تعليق:
أصاب أستاذنا (السهمي) بقوله في مقالة (فعلاء)، (هؤلاء جلهم أئمة) ولم يقل، كلهم. وفيهم ابن طولون (محمد بن علي) الدمشقي الصالحاني، وهو مؤرخ دمشق في القرن العاشر الهجري وله المصنفات القيمة وله تاريخ الصالحية المخطوط في المكتبة الظاهرية في دمشق، ولكنه (كما يبدو من أسلوبه) عامي العبارة، ركيك الأسلوب، ليس من البلاغة في شئ، ولا استئناس في كلامه بله أن يحتج في اللغة به، أو يشار إليه
ولعل الأستاذ السهمي ظن القراء كلهم من (بني سهم)، وحسبهم يجارونه في العلم، ويماشونه في الفهم، فأشار إشارة العالم ولم يشرح شرح المعلم، حين قال:
(وكما أملي الخليل على خريجه أو بصر، فقيد (أبو بشر) ذلك بالكتاب في (الكتاب). . . قال (عمرو). . .) وهل في القراء من يعرف أن اسم سيبويه عمرو بن عثمان ابن قنبر، وأن كنيته أبو بشر أو أبو الحسن، وأن كتابه هو المقصود أن أطلق (الكتاب) وأنه معقود بلفظ الخليل وإملائه، أو بدلالته وإرشاده.
ودعوى الأستاذ (في فعلاء) صحيحة، وإن لم يجيء عليها (في مقالته) بالبنية الشرعية(746/56)
علي الطنطاوي
خبر:
جاءنا بيان طويل خلاصته: أن الاتحاد العام للهيئات الإسلامية
(وفيه جماعة الإخوان المسلمين، وجبهة علماء الأزهر،
وجمعية الشبان المسلمين، وشباب محمد، وأنصار السنة،
والجمعية الشرعية، وجمعية مكارم الأخلاق وغيرها). قرر
مجلسه الأعلى في اجتماعه في 11101947 في دار جمعية
الشبان المسلمين. ما نصه:
(رفع التماس إلى حضرة صاحب الجلالة الملك، ودولة رئيس الوزراء، وزير المعارف، ومدير الجامعة، وكلية الآداب، ومشيخة الأزهر رجاء إجراء تحقيق عاجل مع المدعو محمد خلف الله المعيد بكلية الآداب وأستاذه أمين الخولي عما نسب إليهما من الطعن في القرآن في الرسالة المقدمة من الأول وتأييد الثاني له فيها وتقديمهما إلى المحاكمة إن صحت التهمة)
ورفع الكتاب وفدهم ورفع الكتاب وفدهم إلى السدّة الملكية والمراجع المسؤولة، ورفع علماء الأزهر كتاباً مثله
خشية الالتباس:
إن محمد أفندي أحمد خلف الله المعيد بكلية آداب القاهرة وصاحب بحث (الفن القصصي في القرآن) الذي تناولته (الرسالة) بالنقد والتنفيذ شخص آخر غير محمد خلف الله أحمد أستاذ الأدب العربي بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية، وخريج دار العلوم وجامعة لندن، وصاحب الكتب والبحوث المعروفة في الدراسات النفسية والأدبية والنقدية!
إن هذا التشابه في الاسمين قد اضطرني أن أنبه إليه مراراً في الصحف اليومية في(746/57)
مناسبات سابقة، ولكنه في الموقف الحاضر يوشك أن يشوه بعض ما يعرف القراء عني من التزام لجادة الحق والعلم والدين في كتبي ومقالاتي
محمد خلف الله أحمد
رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية
تكذيب خبر:
جاء في كتاب (المستشرقون) لنجيب العقيقي في طبعته الثانية (ص89) أن المستشرق ا. ج. أبري (عاون في كتاب داود شلبي في الطبخ الذي كتب سنة 625 هجرية). إن هذا الخبر مغلوط من عدة جهات. فإن اسم الكتاب المذكور هو كتاب الطبيخ لا الطبخ، وليس من تأليفي، ولم يكتب سنة 625هـ، إنما هو تأليف محمد بن الحسن بن محمد بن الكريم الكاتب البغدادي ألفه قبل استيلاء هولاكو على بغداد بـ33 سنة أي سنة 623 بحث فيه عن الأطعمة التي كانت مستعملة ببغداد. وجدت نسخته الخطية في خزانة كتب أيا صوفيا باستنبول وكان فيها أغلاط فصححتها وعلقت عليها حواشي ونشرتها سنة 353هـ=سنة 1934م بالموصل. ولم يعنّي في تصحيحها أحد قط. واسم المستشرق المذكور هو أربري وليس أبري. ولم أكن أسمع به إلا بعد طبع كتابي بثلاث سنوات إذ تلقيت منه كتاباً يطلب فيه مني إذناً بترجمة الكتاب إلى الإنكليزية وكتابه محفوظ عندي (وهو مؤرخ بـ18 - 11 - 1937 وصادر من المكتب الهندي بلندن).
فعسى أن يصحح العقيقي كل هذه الأغلاط إذا تيسر له طبع كتابه طبعة ثالثة إن شاء الله.
(الموصل)
دكتور داود الجلبي
بوابة المتولي:
قرأت في ما نشر بالعدد 742 من الرسالة الزاهرة، تعليقاً على مقال بمجلة مسامرات الجيب عن بوابة المتولي، وتعقيباً عليه أقول إن هذه البوابة شيدها (بدر الجمالي) مكان بوابتين، شيدتهما إحدى قبائل البربر، وهي قبيلة زويلة، وهذا سر شهرة البوابة باسم (باب(746/58)
زويلة).
أما سبب تسميتها (بوابة المتولي) فلأن متولي حسبة القاهرة كان مقره عند مدخل هذه البوابة.
القاهرة
عيسى متولي
عدد سكان العالم ومذاهبهم:
يستفاد من إحصاء قام به (مكتب الأنباء الكاثوليكية) أن سكان العالم يقدرون الآن بمليارين ومائة واثنين وعشرين مليوناً، وهم موزعون على الوجه التالي: 399 مليوناً من الكاثوليك و393 مليوناً من الكونفوشيين و296 مليوناً من المسلمين و000ر460ر252 من الهندوكيين و000ر200ر211 من البروتستانت و000ر805ر161 من الأرثوذكس و000ر828ر115 من الروحانيين و000ر891ر16 من اليهود
تصحيح:
جاء في قصيدة (رنين الذكرى) المنشورة في العدد 424 في بيت:
ذكرتك حيث النيل غضبان ثائر ... يجيش بآداب ويطغى بآمال
والصواب. (آراء) بالراء.
جاء في افتتاحية العدد 744 من الرسالة:
(وأقبلت الجيرة على العزاء فيه) والصواب: للعزاء فيه
وجاء في الصفحة نفسها: (ولها كل بيت بصغيره عن كبيره) والصواب: ولهي كل بيت الخ فإن الفعل لهي بالياء معناه سلا وأضرب والفعل لها بالألف معناه لعب. وقد نبه إلى هذا التطبيع الأديب محمد أبو سريع حسين بمعهد القاهرة فله الشكر
نشر في هذا العدد في ص1149 مقال (الجيل الملهم)، وصوبه كما هو واضح: (الجبل الملهم)(746/59)
القصص
أسطورة من الصين:
ملك الموت!
للكاتب الإنكليزي فيليب بنيث
بقلم الأديب يوسف يعقوب حداد
كان يعيش في مدينة (جيستيان) من أعمال الصين، رجل يدعى (يوآن - كوانلو) وكان (يوآن) هذا رجلاً فقيراً معدماً، وكان فقره يحول بينه وبين الزواج من امرأة تقاسمه حلو الحياة ومرها. . .
وشاءت الظروف أن يعرف ابنة جار له، وأن يحبها وتحبه، وكان والدها من أثرياء البلدة ووجهائها فلم يكد يعرف ما بين ابنته وبين الفقير من حب وهيام، حتى ثار وغضب، ومنع ابنته عن الاتصال بحبيبها. فقالت الفتاة إنه لا يريدها على حرام، إنما يريد الزواج منها على سنة الله، فلم يزدد الأب إلا غضباً وثورة، إذ لم يكن يرغب في أن يزوج ابنته من رجل فقير ينغص حياتها ويشقيها، ومن كأس البؤس والحرمان يسقيها.
وصدمت الفتاة في حبها صدمة عنيفة، وطُعن قلبها الرقيق طعنة قاتلة، فأصابها السقام، ولم تلبث طويلاً حتى قضت نحبها.
ولم يكن حبيبها بأقل تأثراً منها بالصدمة، ولكنه كان أكثر احتمالاً لها، فظل هائماً على وجهه، مضطرب المشاعر، شارد اللب، شاخص البصر إلى الأفق كأنه ينتظر أن تعود حبيبته إليه!
وفي ساعة متأخرة من بعض الليالي، كان (يوآن) خارج منزله، ينظر بعينين حالمتين إلى بدر التم كأنما يسأله عن حبيبته، وطالت وقفته حتى كلت عيناه من النظر إلى القمر، وتعبت ساقاه من كثرة الوقوف، فدار على عقبيه ليعود إلى منزله. وبينما هو يدور في منعطف الطريق، رأى رجلاً غريب المنظر، عجيب المظهر يحمل في إحدى يديه منجلاً حاد الشفرة، وفي الأخرى قنينة محكمة السداد، ولأول وهلة عرف فيه يوآن ملك الموت الذي يقبض الأرواح ويحصدها بمنجله. فارتاع قلبه وارتعدت فرائصه، ولكنه تمالك وتقدم(746/60)
من ملك الموت، وقال له بلهجة الصديق والودود:
- أظنك يا صاحب السعادة قد تأخرت في العمل وتعبت، والليلة باردة جداً، وبيتي على خطوات من هنا، فهلا جئت معي إليه؛ لتشرب شراباً ساخناً يعيد الدفء إليك؟
فنظر ملك الموت إلى (يوآن) بعينيه الغائرتين نظرة فاحصة ثم سار معه إلى بيته دون أن ينبس ببنت شفة.
وسخن يوآن شيئاً من الخمر، وقدمها إليه، فجرعها ملك الموت في دفعة واحدة، وطلب المزيد، تقدم إليه يوآن كأساً أخرى فشربها دفعة واحدة أيضاً، وهكذا ظل يطلب المزيد، ويوآن لا يستطيع أن يخالف له أمراً، أويرفض له طلباً، حتى ثمل، وأثقل السكر جفنيه، فانطرح على الأرض وغرق في سبات عميق
فقام (يوآن) بعد أن تأكد من استغراق ملك الموت في النوم إلى القنينة، وعالج سدادها حتى تمكن من فتحه، وكم كانت دهشته عظيمة وفرحته أعظم، حين خرجت روح حبيبته منها!
قالت له روح حبيبته: كبله يا حبيبي بالقيود حتى لا يتمكن منا ويحصد روحينا مرة أخرى.
فأسرع يوآن إلى ملك الموت بالسلاسل حتى شله عن كل حركة، وأسرعا بالفرار.
وظل العاشقان زمناً يعيشان معاً ويتناجيان، إلا أن يوآن ما كان ليستطيع رؤية حبيبته إلا كما يرى الإنسان ظله على الأرض وما كان ليستطيع أن يضمها إلى صدره إلا كما يضم الإنسان قبضة يده على الهواء. لهذا لم يستطع أن يطفئ جذوة الحب المتقدة بين جوانحه، أو يروي غليله بالضم والعناق.
وفي ذات يوم - قالت له روح حبيبته:
- آه لو ملكت جسداً، فأية سعادة كنت أتمتع بها إلى جانبك وبين ذراعيك. . . آه لو كنت أملك جسداً، لكنا تزوجنا، فأكون لك نعم الزوجة المخلصة، والحبيبة الوفية.
ثم قالت بعد تفكير طويل، والسعادة تملأ نبرات صوتها:
- اسمع يا حبيبي. في المدينة المجاورة بنت جميلة من بنات الأمراء، مطروحة على فراش الموت. إنني أراها الآن وروحها تحشرج في صدرها وأهلها من حولها وقد ملأ الحزن قلوبهم، ستموت هذه الفتاة الجميلة بعد ساعات. فلو استطعت أن تأتيني بجسدها لاستطعنا أن نحقق أحلامنا وأمانينا ونقهر ملك الموت، سنتزوج وسنعيش في غنى وجاه(746/61)
وسعادة.
أسرع يوآن إلى بيت الفتاة، فوجدها قد ماتت منذ هنيهة. وأهلها لفرط حزنهم عليها يكادون أن يقتلوا أنفسهم، فانتهز يوآن هذه الفرصة، وتقدم من والد الفتاة، وقال له:
- في مقدوري يا سيدي أن أعيد الحياة إلى ابنتك.
فصاح الوالد بدهشة: وكيف تستطيع ذلك؟!
فقال يوآن:
- لا تسألني كيف. . . ولكنك إذا رضيت بالشرط الوحيد الذي أشرطه عليك، رددت الحياة إلى ابنتك.
فقال الأب متلهفاً: قل بالله عليك، ما هو هذا الشرط؟
فقال يوآن:
- هو أن تزوجني منها.
فقال الأب بفرح عظيم: هي لك فأحيها.
عندئذ نادى يوآن روح حبيبته، فجاءت وانسلت إليها من إحدى أذنيها، ففتحت الفتاة عينيها كأنها مستيقظة من النوم لا من الموت.
وزفت إليه في الحال، وانقلب المأتم إلى حفلة عرس بهيجة ويوآن يكاد يطير لشدة فرحه وسعادته بحبيبته وزوجته!
(البصرة - العراق)
يوسف يعقوب حداد(746/62)
العدد 747 - بتاريخ: 27 - 10 - 1947(/)
القرآن والنظريات العلمية
للأستاذ عباس محمود العقاد
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، إن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي يرحمه الله، يقول في الطبعة الثانية من كتابه إعجاز القرآن في هامش صفحة 132 تعليقاً على الآية القرآنية: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. . .
(فجاءت العبارة في الآية الكريمة كأنها سلالة من علم تتسع لمذهب القائلين بالنشوء، ولمذهب القائلين بالخلق، ولمذهب القائلين بانتقال الحياة إلى هذه الأرض في سلالة من عالم آخر. . .).
فإن كانت نظرية دارون صحيحة فإني أريد أن اعرف رأيكم في الكيفية التي يقبل بها القرآن الكريم أن يكون الإنسان من سلالة القردة، وأرجو أن أقرأ ردكم على صفحات الرسالة الغراء، ولكم جزيل شكري والسلام). (مخلص)
والذي نلاحظه (أولاً) أن رواية مذهب دارون على هذا الوجه غير صحيحة. فإن دارون لا يقول بتسلسل الإنسان من القرد، ولا يلزم من مذهبه أن يكون كل إنسان منحدراً من القردة في أصله القديم.
وكل ما يلزم من مذهبه أن الإنسان والقردة العليا تلتقي في جذر واحد، وأن بين الإنسان والقردة العليا حلقة مفقودة لم توجد إلى الآن.
أما الآية القرآنية فهي لا تثبت المذهب ولاتنفيه، ومن الخطأ البين في اعتقادنا أن نجعل تفسير القرآن تابعاً للنظريات العلمية التي تنقض اليوم ما تثبته بالأمس، والتي يجري عليها الجدل بين المدارس العلمية - أو الفلسفية - على أسس شتى لم يتفق عليها العلماء.
ومن أمثلة ذلك ما ذهب إليه بعض المجتهدين المحدثين في التوفيق بين القرآن الكريم ومبادئ مذهب النشوء والارتقاء.
فالنشوئيون يقولون بتنازع البقاء، وهو مطابق للآية القرآنية: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).
ويقولون ببقاء الأصلح، وهو مطابق للآية القرآنية: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).(747/1)
ومن المشاهدات التي سجلها النشوئيون ما هو صحيح لا ريب فيه، ولكن المذهب يشتمل على نتائج وتخريجات كما يشتمل على مبادئ ومشاهدات، وكل ما جاء فيه من قبيل النتائج والتخريجات فهو في حكم الفروض التي تحتمل النقض والإثبات، ولا يصح أن نفسر القرآن الكريم وفقاً لها وهي لا تزال في طور التدليل والترجيح.
والنظرية السديمية مثل آخر من هذه الأمثلة في محاولات التوفيق بين القرآن الكريم والفروض العلمية.
فمن علماء الطبيعة - والفلك خاصة - من يرى أن المنظومات الفلكية نشأت كلها من السديم الملتهب. وأن هذا السديم تختلف فيه الحرارة فيشقق، أو ينفصل بعضه عن بعض من أثر التمدد فيه، فتدور الأجرام الصغيرة منه حول الأجرام الكبيرة، وتنشأ المنظومات الشمسية وما شابهها من هذا التشقق وهذا الدوران.
فإذا ببعض المجتهدين المعاصرين يعتبر هذا القول فصل الخطاب في نشأة الأجرام السماوية، ويقول أنه هو المقصود بالآية القرآنية: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقتاهما وجعلنا من الماء كل شئٍ حي أفلا يؤمنون).
ولكن النظرية السديمية لم تنته بعد بين علماء الطبيعة إلى قرار متفق عليه.
فهل كان الفضاء كله خلواً من الحرارة، وكانت الحرارة الكونية كلها مركزة في السدم وما إليها؟
ومن أين جاءت الحرارة للسدم دون غيرها من موجودات هذا الفضاء؟ ألا يجوز أن يظهر في المستقبل مذهب يرجع بالحرارة إلى الفضاء في حالة من حالاته؟ أليس خلو الفضاء من الحرارة - إذا صح هذا الخلو - عجباً يحتاج إلى تفسير؟ أليس انحصار الحرارة في السدم دون غيرها أحوج من ذلك إلى التفسير؟
فالقول المأمون في تفسير الآية القرآنية أن السماوات والأرض كانت رتقاً فانفتقت في زمن من الأزمان. إما أن يكون المرجع في ذلك إلى النظرية السديمية فهو المجازفة بالرأي في غير علم وفي غير حيطة وبغير دليل.
واظهر من هذا وذاك جدالهم القديم حول دوران الأرض وثبوتها، أو حول استدارة الأرض وتسطيحها.(747/2)
فقد تعسف بعضهم في تفسير آي القران الكريم فجزم بكفر القائلين باستدارتها ودورانها، وجعل القول بثبوتها وتسطيحها حكماً قاطعاً من أحكام الدين.
فما قول هؤلاء الآن وقد أصبحت استدارة الأرض مشاهدة من مشاهدات العيان؟
وما قولهم وقد اصبح دورانها مسالة من مسائل الحساب الذي يحصي كل حركة لها كما تحصى حركات كل قطار؟
وهكذا يخطئون في النفي كما يخطئون في الإثبات كلما علقوا آيات القران بهذه النظرية العلمية، أو الفروض الفلسفية التي تختلف الأقوال فيها باختلاف الأزمنة أو اختلاف الأفكار.
وقد تكون محاولات التوفيق مأمونة معقولة كقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير الطير الأبابيل بجراثيم الأمراض التي تسمى بالميكروبات.
فالميكروبات موجودة لاشك فيها والإصابة بها محققة كذلك في مشاهدات مجربة لا تقبل الجدال. فإذا قال المفسر كما قال الأستاذ الإمام أن هزيمة أصحاب الفيل ربما كانت من فعل هذه الجراثيم
فذلك قول مأمون على الجواز والترجيح، ولكنه غير مأمون على الجزم والتوكيد، لان الحفريات التاريخية قد تكشف لنا غداً عن حجارة من سجيل أصيب بها أصحاب الفيل فجعلتهم كعصف مأكول. ومهما يكن من فروض العلماء في مختلف الأزمنة فان القران الكريم لا يطلب منه أن بتابع هذه الفروض كلما ظهر منها فرض جديد، وكلما يطلب منه أن يفتح باب البحث لمن يؤمنون به فلا يصدهم عن طلب الحقيقة حيثما سنحت لها بادرة مرجوة، وقد توافر ذلك في آيات القران الكريم كما لم يتوافر قط في كتاب ديني تؤمن به الأمم، فليس اكثر من الحث فيه على التفكير والاعتبار وطاب الحقائق من آيات خلق الله في الأرض والسماء: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار).
وحسب المسلم أن يعمل بما علمه كتابه في هذه الآية وما جرى مجراها ليعطي العلم حقه ويطلب الحقيقة من حيث يطلبها الفكر الإنساني في عجائب خلق الله بين الأرض والسماء.(747/3)
أما مدلول الآية كما أشار إليه الرافعي فهو يتسع - كما قال - لجميع المذاهب في خلق الإنسان. وسواء قطعنا الصلة بين الإنسان وسار الأحياء العليا أو ربطناها فذلك لا ينفي أنه في اصله من سلالة من طين. وقد جاء في القران الكريم (وجعلنا من الماء كل شئ حي) ولم يقل أحد أن خلق الأحياء جميعاً من الماء يمنع تسلسل الإنسان من مادة الطين، فان الأصل لا ينعدم إذا خرجت منه الفروع على التسلسل والتدريج، أو خرجت منه دفعة واحدة بغير تسلسل ولا تدريج. وحذار أن نقف في هذه المسألة كما وقف المجادلون من قبل في مسألة الأرض واستدارتها ودورانها فانهم يدعون لأنفسهم ما لا يجوز لأحد أن يدعيه باسم العلم أو باسم الدين، وفوق كل ذي علم عليم.
عباس محمود العقاد(747/4)
لو أقر المجمع!. .
للأستاذ علي الطنطاوي
أديت أمس حسابي في المطعم وتهيأت للخروج، فسمعت من ورائي لهجة غريبة. . . فتلفت فرأيت على مائدة قريبة مني عراقي بسدارة، ومعه شامي بعمامة مطرزة، ونادل المطعم قائم أمامهما، والعراقي يقول له:
- ماعون باجيلا على تمن، وصمونه.
- إيه؟! إيه؟!
فيقول الشامي: العمى! شو ما بتفهم عربي؟ بدّو ماعون ما بتعرف الماعون؟ يعني طبق غسيل، وصابونه
- النادل: ليه بأه؟
- الشامي: ليش؟! بركي بدو يتغسل!
(ويضحك من نكتته)
- النادل: يتغسل! بعيد الشر، عاوز تؤول يتشطف.
- الشامي (مغرقاً في الضحك): يشّطّف! يا عيب الشوم، شو ما بستحي انته؟
- العراقي: والله، ما دا أفتهم، حشي غريب هوايه، يابه، ما تحشي عربي؟!
- النادل: ما تحكي عربي، يا خويا؟!
- الشامي: لكان عم يحكي ارنأؤوطي؟! هذا عربي!
- النادل: أمّال بأوول ايه؟
- الشامي: بؤول بدو كوسة محشى ومهوايه، يعني مروحة.
ولم استطع أن أتقاعس أكثر من ذلك، وخفت أن يفضحني الضحك، فخرجت وأنا أسأل نفسي: ماذا يكون لو أقر مجمع اللغة (العربية. . .) اقتراح الأستاذ فريد أبو حديد بك، الذي يدرسه الآن أعضاءه؟ والذي يقول فيه (فلو كانت العامية لا تزيد على أنها استخدمت أداة للتعامل في الأسواق والحياة اليومية لكان أمرها هيناً، ولكنها منذ برهنت على إصلاحها للتعبير الأدبي صار من الممكن أن تنطلق في سبيلها متباعدة عن الفصحى حتى ينتهي بها الأمر إلى الاستغناء عنها، بل إن جمال أساليب التعبير العامي إذا بلغ مداه كان أجدر أن(747/5)
يسترق القلوب لان تلك الأساليب اقرب إلى النفوس والإفهام من الفصحى لشدة اتصالها بحياة الكافة ولقد كان من أكبر ما عمل على تقويض أركان اللاتينية ظهور كتاب مبدعين في اللغات القومية الأوربية، وقد كانت تلك اللغات في وقت من الأوقات بالنسبة للغة اللاتينية، فقد ظهر دانتي في إيطاليا وكتب روائع قومه بلغته (إلى أن قال) ولكنا لا نخشى إلى العربية الفصحى أن يكون مآلها هو مآل اللاتينية لعدة أسباب:
1 - إن العامية لم تستطع إلى الآن (تأمل) أن تتسامى إلى آفاق الفكر العليا، فإن لم تزد بعد (تأمل) على أن تكون وسيلة للتعبير الساذج والأحاسيس الابتدائية ولم يظهر فيها بعد (تأمل) أمثال النوابغ الذين أنتجوا روائعهم الخالدة بلغاتهم الأوربية الحديثة الدارجة.
2 - إن الفارق بين العامية والفصحى لم يبلغ شيئاً يقرب من الفارق بين اللغات الأوربية الدارجة وبين اللاتينية، فما زال التفاهم ممكناً في سهولة بين المثقف وغير المثقف بلغة سليمة بسيطة فصحى.
غير أننا لا ينبغي أن تجاهل الخطر الماثل لباقة اللغة العامية، وصلاحيتها كأداة للتعبير الأدبي فهو إن كان اليوم محدوداً فقد يكون غداً أقوى وقد تصبح أقدر على الأداء الأدبي السامي من الفصحى إذا فتن الشباب المثقف بالإنتاج الفكري باللغة العامية، وعملت الأجيال منهم على الارتفاع بها إلى المستوى الأدبي الذي يجعلها لغة فكر وتعبير صحيح.
وأفكر ماذا يكون لو فتن الشباب هذه الفتنه (نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)، وصار في الدنيا لغة شامية ولغة مصرية ولغة عراقية، ونشا في كل واحد منها أدباء وشعراء، كما هي الحال في الفرنسية والإيطالية والإسبانية وان بقيت اللغة الفصحى (كما يريد الأستاذ) لغة القران والعلماء والمساجد والمعاهد العالية، وماذا يصنع إذاً صاحب المطعم الذي كنت آكل فيه آنفاً؟ إنه لا بد له من ترجمان، عارف بهذه اللغات، واقف عليها، متخصص فيها! عالم بدقائقها وسنن أهلها في كلامهم، ليفهم النادل أن الماعون في بغداد هو الطبق في مصر، والصحن في الشام، وأن التشطيف في مصر غسل الوجه واليدين، ولكنه في الشام غسل الـ. . . أعني الاستنجاء، وأن الصمونة في بغداد هي رغيف الخبز الإفرنجي، ويسمى في دمشق الأفرنجوني، والباجيلا الفول والتمن الرز، وأن الـ (هوايه) في العراق، صفه للشيء الكثير، وهي في غوطة دمشق الصفعة على الوجه، وانك إذا(747/6)
(بسطت) رجلا في الشام ومصر فقد سررته، وإذا (بسطته) في العراق فقد ضربته، والمبسوط المضروب (علقة)، وهي في الشام (فلقة)، والتقليع في الشام الطرد من الدار ونحوها وفي مصر نزع الثياب وأن التقفيل في مصر إغلاق الباب وله في الشام معنى هو اخبث من أن يشار إليه، و (هون) في الشام هنا، وفي العراق (هنانا)، والهون في مصر هو الهاوون الذي يدق به واسمه في الشام الهاون، هذا عدا الكنايات السائرة المجازاة المشتهرة، وهي كثيرة في كل بلد لا يعرفها إلا أهله يلحنون بها في أحاديثهم، ويسخرون بها من الغريب، وعدا عن اختلاف النطق وما ينشأ عنه من اختلاف المعنى، فمن المصريين من يميل بالسين إلى مخرج الزاي، ومن هنا سارت النكتة في دمشق عن مدرس مصري جئ به إلى مدرسة بنات، فقال لإحداهن مؤنباً:
- إيه الأسباب التي منعتك من إعداد الدرس؟
وفي العراق يجعلون القاف جيماً معطشة، وقد سالت حوذياً يوم وصلت بغداد، أن يخذني إلى ضاحية نزهة، فقال:
تروح باب شرجي؟
فكدت أبطش به، وما يريد إلا (الباب الشرقي) وهو من متنزهات بغداد.
وليس يجئ هذا الترجمان إلا من مدرسة، فلا بد لنا إن أقر المجمع اللغوي هذا الاقتراح من أن ندرس هذه اللغات الشرقية الحية في مدارسنا الثانوية، وننشئ لها قسماً في كليه الآداب، أو أقساماً لأن اللسان الشامي سيكون فيه لغات متعددات، فلغة دمشق ليست لغة حلب، وهي تخالفها في معاني المفردات، وفي تركيب الجمل، وفي طريق النطق، ولغة حلب غير لغة حمص، ولغة حمص غير لغة حماة، وكلها تخالف لغة دير الزور، وهذه تخالف لغة البادية، فصار عندنا في الشام لغات في كل منها لهجات، ولهجة هؤلاء ليست لهجة جبل القلمون، وفي القلمون عشرون لهجة تختلف اختلافا بيناً، وفي كل منها شعر. . . وأدب. . . أي والله وموسيقى وقس على ذلك السنة لبنان وفلسطين والعراق ومصر والسودان والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، واجمع هذه الألسنة بما فيها من اللغات واللهجات، تجدها تحتاج إلى عشرة أساتذة لهم كراسي في الجامعة، وتحتمل عشرة دبلومات، يكتب صاحبها على بطاقته (فلان، دبلوم اللغات العراقية) أو (دبلوم اللهجات(747/7)
اللبنانية). . . ودبلوم في أصول هذه اللغات ومصادرها، ودبلوم في نحوها وصرفها المقارن.
وعند إذ يكون شكوكو من أمراء الشعر الذين تدرس آثارهم في الجامعة، وإسماعيل ياسين من أمراء النثر، ويكون من تعبيرات النقد الجديد، أن نقول للكاتب المعقد الذي لا يفهم (إنه يكتب بالعربي) كما يقال في أوربة عن الكاتب الفرنسي المحدث إذا أغرب وعقد، أنه يكتب باللاتيني.
وعندئذ ينشا في كل لسان، تراجمه يترجمون إليه الآثار العربية لتحفظ في المدارس، ويربي بها النشء على البلاغة كما ترجمت إلى الفرنسية آثار دانتي وفرجيل، فنحفظ الطلاب في دمشق قول المتنبي، مترجماً، هكذا:
على أدّ أهل العزم بتجي العزايم ... وبتجي على أد الكرام المكارم
وقول شوقي في الأزهر، يصير:
أوم بتمّ الدنيِه وسلم ع الأزهر ... ورش على ادن الزمان الجوهر
بدلاً من:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
و:
قم في فم الدنيا وحيي الأزهرا ... وانثر على سمع الزمان الجوهرا
ولا شك أن هذه الترجمة (أجدر أن تسترق القلوب) - كما قال الأستاذ أبو حديد بك في تقريره.
وعندئذ تطبع الرسالة أربعة آلاف فقط، وأخبار اليوم عشرة الاف، وينشا في كل بلدة جريدة صغيرة تنطق بلسان أهلها، ولا يبعد أن تشتد الحماسة لهذه اللغات كما اشتدت بتركيا الجديدة الحماسة للسانها، فيؤذن بها على المنائر، ويخطب بها على المنابر، ويترجم القرآن إلى كل واحدة منها. وعندئذ لا تستطيع الدولة العربية أن تجتمع في جامعة، ولا أن تتحد في شعور، ولا أن تسوق جيوشها إلى فلسطين موحدة القيادة، لان الصلة الوحيدة بينها هي هذه اللغة العربية، فان انقطعت لم يصل بينها شي، ولا الدين، لأنها إن ذهبت العربية ذهب معها القران فلم يبقى دين.(747/8)
وبعد فلن يكون شئ من هذا، ولو قال به المجمع (ولن يفعل) لما سمع منه احد، لمكان القران لهذه العربية ولان الله تكفل بحفظ القران، وكنا أردنا أن نسلي القراء في أيام العيد السعيد التي لا عمل فيها يشغلهم كما أراد الأستاذ أبو حديد أن يسلي أعضاء المجمع، الذين جعل الله أيامهم كلها. . . أعياد. . .
(القاهرة) علي الطنطاوي(747/9)
بين السياسة والأدب
إنجلترا في مرآة حافظ
للشيخ محمد رجب البيومي
كشر الشر عن أنيابه، وبدت بريطانيا للعالم أجمع في صورة مخزية منكرة، فهي تهدر على الملأ حقوق الإنسان، وتئد الحرية القومية بما تستطيع من قوة وجبروت، ولولا أن وجدت مصر من مجلس الأمن منبراً تذيع عليه فضائع الاستعمار، وشنائع الاحتلال، لالتبس الحق بالباطل الصراح ولوجد في الناس من يغتر بتمويه إنجلترا الكاذب، ويصدق ما تخلعه عن نفسها من حلل النزاهة والوفاء.
ولقد مددت يدي إلى ديوان حافظ إبراهيم لأطالع في هذه الآونة الحرجة ما سبق أن هتف به شاعر النيل في أذن هذه الدولة الصماء، ولأشهد في مرآة شعره صورتها الصادقة التي رسمها الشاعر الكبير، ومما حمدت الله عليه أن وجدت هذه العجوز الشوهاء قد بدت كالحة عابسة تبعث في النفس اشمئزازاً وفي الصدر انقباظاً حتى إنك لا تستطيع - مهما تجلدت - أن تديم النظر إليها بضع لحظات متتاليات!!
والحق أن شاعر النيل كان ذا سلاح باتر ضرب به رقبة إنجلترا ضربات متلاحقة، وشهرة في وجه الاستعمار مبارزاً مصاولاً، وما زال يواصل سلاحه الدائب، ونضاله المستميت، حتى تيقظ الشعور الهاجع، وتنبه الإحساس الغافل، فهبت مصر جميعها تثور للكرامة الذبيحة، وتثار للحرية الجريحة، وهاهي ذي تواصل ثوراتها الصاخبة في قوة وإيمان حتى تنقشع السحب وتتبدد الظلمات.
أما كيف استطاع الشاعر أن يؤدي رسالته على وجهها الصحيح، فهذا ما سأبسط أسبابه للقراء في جلاء ووضوح. . .
نشأ حافظ رحمه الله تواقاً للأدب، حريصا على التحليق في أجوائه الشاسعة. وكان البارودي قد نال من نباهة الذكر، وبعد الصيت ما جعل شاعر النيل يتخذه مثلاً أعلى في الحياة، ولئن كان سامي قد ركز بناء مجده على البلاغة والفروسية، فإن حافظ يستطيع أن يملك زمام البيان باطلاعه المتواصل كما يقدر على الالتحاق بالمدرسة الحربية ليكون فارس الحومة، وقائد الكتيبة، ومن هنا ترك الشاعر المحاماة، والتحق بالمدرسة الحربية،(747/10)
وإن أمله ليصور إليه أنه سيكون في يوم من الأيام خليفة لرب السيف والقلم محمود سامي البارودي!!
ظن حافظ أنه سيستفيد من المدرسة الجديدة استفادة يخدم بها وطنه المريض، ولكن صدره قد انقبض في حسرة وغيض إذ رأى بعينيه أن المستر براين الإنكليزي قد صفد المدرسة بأغلال وثيقة من الذل والعبودية، فلا يدرس فيها غير التمرينات الآلية التي لا تنشئ جيشاً، ولا ترفع أمة، أضف إلى ذلك ما كان يبديه القائم بأعمال المدرسة من ازدراء بالغ للعقلية المصرية واحتقار شديد للطلبة المنتسبين، مما جعل الشاعر يؤمن في قرارة نفسه - عن مشاهدة حقيقية - أن الإنكليز جميعاً من هذا الطراز الدخيل، فهم يضمرون السوء للشعب، ويهوون به إلى اسفل درجات الانحطاط.
خرج حافظ من المدرسة بعد انتهاء سنواتها التعليمية ثائراً ناقما، وما ظنك بشاعر مرهف الإحساس، يرى أعداءه الألداء يتحكمون في أمته أبشع تحكم، والشعب سادر في غفلته فلا يكاد يفكر في إزالة الكابوس الجاثم فوق صدره؛ وكان الظروف التي جمعت حافظا بفريق من المستعمرين في المدرسة الحربية قد هيأت له أن يعيش في جوهم المريض مرة ثانية، فقد سافر إلى السودان في الحملة العسكرية التي ذهبت من مصر بقيادة اللورد كتشنر لاسترجاعه من أيدي الثائرين، وكان في النهاية ما خاف حافظ أن يكون، فقد اهتبلت إنجلترا الفرصة، ورفعت علمها الإنكليزي مع العلم المصري على مدينة الخرطوم، ومن ثم بدا الشاعر يخط الصحيفة الأولى في كتاب نضاله السياسي فقد أرسل اللحن الأول من قيثارته الحزينة، يندد بخيانة الإنجليز وينبه الشعب المصري إلى ما يهدده من الخطر الداهم بعد استلاب السودان، وذلك إذ يقول:
رويدك حتى يخفق العلمان ... وننظر ما يجري به الفتيان
فما مصر كالسودان لقمة جائع ... ولكنها مرهونة لأوان
أرى مصر والسودان والهند واحداً ... بها اللورد والفيكنت يستبقان
واكبر ظني أن يوم جلائهم ... ويوم نشور الخلق مقتربان
وطبيعي أن يبث الشعور الوطني في زملائه الضباط، فيؤلف منهم زمرة تناوئ الغاصبين، وتتمرد على قيادتهم الغاشمة. ولم يلبث كتشنر أن وقف على حركته الوطنية، فتربص به(747/11)
الدوائر، ونصب له المكايد الخاتلة، وإذ ذاك لجا الشاعر إلى أستاذه الإمام، فكتب إليه من خطاب طويل (ولقد قعدت همة النجمين، وقصرت يد الجديدين، عن إزالة ما في نفس ذلك الجبار العنيد (يريد كتشنر) فقد نما ضب ضغنه عليّ، وبدرت بوادر السوء منه إلي فأصبحت كما سر العدو وساء الحميم. . .) وكأن الله عز وجل قد أراد الخلاص للشاعر من أقرب طريق فأحيل إلى الاستيداع، وغادر الخرطوم إلى القاهرة، بعد أن ثكل وضيفته الحكومية وضاقت سبل العيش في وجهه، ولم ير غير الشعر صديقا وفياً، يبثه نجواه، ويستطلعه خبيئة سره إذ يقول:
سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ... وعدت وما أعقبت إلا التندما
لحا الله عهد القاسطين الذي به ... تهدم من بنياننا ما تهدما
إذا شئت أن تلقي السعادة بينهم ... فلا تك مصرياً ولا تك مسلما
سلام على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما
وواضح أن اختلاط الشاعر بالمحتلين فترتين متعاقبتين قد حول صدره أتوناً ملتهباً يشتعل بالغيض، فهو وحدة بين شعرائنا السياسيين، قد لمس عن كثب شنائع الاحتلال، ولكنه اضطر مرغما أن يكبت عواطفه - وقتاماً - غب قدومه إلى القاهرة كيلا يقف المعتمد البريطاني في وجهه وهو يبحث عن عمل حكومي يرتزق منه؛ وأنى للشاعر أن يصبر على الضيم والذلة، والشعب في شر حاله، تنهب امواله، وتغتصب خيراته، فلا أقل إذن أن يواسيه بعزاء دامع يفصح عن إحساسه، وينطق عن شعوره، كأن يقول:
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ... ونحن نمشي على أرض من الذهب
والقوم في مصر كالإسفنج قد ظفرت ... بالماء لم يتركوا ضرعاً لمحتلب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت ... جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب
إذا نطقت فقاع السجن متكأ ... وإن سكت فإن النفس لم تطب
وقد رأى حافظ أن يتوجه في محنته إلى الخديوي، فيخلع عليه بروداً ضافية من مديحه الرائع عسى أن ينقذه من وهدة التعطل والبطالة، ولكن مدائحه الرنانة قد تلاشت في مهب الريح، ومضى الشاعر يطرق أبواب العمل باباً باباً، والأيام تمر ثقيلة بطيئة في غير طائل، والحاجة ماسة والحظ شحيح!! ويشاء الله أن ييأس من العمل الحكومي ياساً تاماً،(747/12)
فينقلب إلى ثائر هائج، يحارب الاستعمار بما في يراعه من قوة وبيان، وهنا تئن القيثارة الحزينة، فتهز الأوتار هزاً عنيفاً، وتخرج الصحف على الشعب ملتهبة بزفرات حافظ، فلا تكاد تمر بها الأعين القارئة، حتى تشعل جمر الغضب في الصدور، وينظر القراء فيجدون مشاعرهم الكظيمة مبسوطة في شعر حافظ السياسي، فيتغنون به في مجالسهم، وينشدونه في الغدو والرواح حتى أيقظ الهمم الغافية، وأضاء العقول الدامسة، فهب الشعب يؤدي واجبه الوطني - إزاء الغاصبين - بقدر ما يستطيع.
على أن حافظا كان يلمح بصيص الأمل يلوح له بالاعتصام بحبل الدولة العثمانية، فهي المملكة الإسلامية التي تتجه إليها أنظار المخلصين من أبناء العقيدة المحمدية، ومهما قيل عن بغي الخلفاء فهم أهون من أعداء اللغة والدين والوطن، لذلك كان الشاعر يمدح سلاطين تركيا بوازع من دينه وعقيدته، ويسيد بتاريخهم المديد كيلا ينخدع الشعب بدعاية بريطانيا الجوفاء ثم هو في مديحه لآل عثمان يقصد دائما إلى هدفه الاصيل، فينبه الخليفة إلى أفاعي الغرب الخاتلة، ويحذر الشرق من الاستكانة والخنوع، كأن يقول في عيد تأسيس الدولة العلية:
فيا شرق إن الغرب إن لان أو قسا ... ففيه من الصهباء طبع مذوب
فخف بأسها في الرأس والرأس تصطلي ... وخف ضعفها في الكأس والكأس تطرب
ويا غرب إن الدهر يطفو بأهله ... ويطويه تيار القضاء فيرسب
أراك مقر الطامعين كأنما ... على كل عرش من عروشك أشعب
وإذا كان مصطفى كامل قد اتخذ من حادثة دنشواي دليلاً قوياً يستند إليه في كفاحه خارج مصر، فإن شاعر النيل قد شهر هذا السلاح بعينه ليحارب به الأعداء في الداخل. فقد نظم قصائد عديدة مال فيها إلى السلاسة والوضوح. ليفهمها الشعب المصري عن بكرة ابيه، وقد مثل فيها المأساة الدامية تمثيلا يستدر الدموع ويشعل الأفئدة، ودونك بعض ما يقول:
حسبوا النفوس من الحمام بديلة=فتسابقوا في صيدهن وصوبوا
والمستشار مفاخراً برجاله=ومعاجز ومناجز ومخرب
يختال في أنحائها متبسماً=والدمع حول ركابه يتصبب
رفقاً عميد الدولتين بأمة=ضاق الرجاء بها وعز المطلب(747/13)
إن أرهقوا صيادكم فلعلهم=للقوت لا للمسلمين تعصبوا
جلدوا ولو منيتهم لتعلقوا=بحبال من جلدوا ولم يتهيبوا
شنقوا ولو منحوا الخيار لأهلوا=بلظى سياط الجالدين ورحبوا
أو كلما باح الحزين بأنة=أمست إلى معنى التعصب تنسب
طاحوا بأربعة فأردوا خامساً=هو خير ما يرجو العميد ويطلب
حب يحاول غرسه في أنفس=يجنى بمغرسها الثناء الطيب
ولقد كان لهذه القصيدة دوى هائل في المجتمع المصري، فقد عارضها كثير من الشعراء، وبرزت المقالات السياسية مشتعلة بزفرات من أبياتها الدامعة، مما شجع شاعر النيل على المضي في سبيله، فوقف لكرومر الطاغية بالمرصاد يحاسب الحساب العسير في قواف تصرخ من الألم والرعب، وما كاد اللورد يصدر تقريره الخادع عما قدمه للأمة المصرية من إصلاح ورفاهية، ليبدو في صورة المنظم البريء حتى هجم الشاعر على هرائه الكاذب، ففنده بأسلوبه الرائع وصاح في وجهه يقول:
تمن علينا اليوم أن أخصب الثرى ... وأن أصبح المصري حراً منعما
إذا أخصبت الأرض وأجدب أهلها ... فلا أطلعت نبتاً ولا جادها السما
عملتم على عز الجماد وذلنا ... فأغليتمو طيناً وأرخصتمو دما
تهش إلى الدينار حتى إذا مشى ... به ربه في السوق ألفاه درهما
لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت ... حواشيه حتى صار ظلماً منظما
وبعد لأي رأت الحكومة البريطانية أن تدهن الشعب المصري فاستدعت جبارها العنيد إلى غير رجعة، وهب حافظ يشيعه بقصيدة فاضحة، فصلت آثامه المخزية واحدة وراء واحدة حتى ليجوز للمؤرخ المصنف أن يذكرها وحدها كسجل حافل بآثام المعتمد البريطاني، فقد تعرض فيها الشاعر إلى مواقف كرومر العدائية في الدين الإسلامي، ومناصرته للحركة التبشيرية المسيحية، ثم دلف إلى الشركات الأجنبية التي بثها اللورد في مختلف الجهات الأجنبية، تمتص الدماء، وتستنزف القوى، وندد بمجلس الشورى الذي أراد كرومر تكوينه من الأجانب والمصريين معاً، ولم يفته أن يعرج على الأصنام المصرية التي اتخذها العميد وزراء للدولة فكانت رهن إشارته وقيد رغبته، كما بكى اللغة العربية التي طعنها اللورد في(747/14)
الصميم حين قرر دراسة العلوم المدرسية بلغته الدخيلة، وقد عرف كيف يتهكم بالفرعون الغاشم حيث قال في وداعه:
فلم لا نرى الأهرام يا نيل ميّداً ... وفرعون عن واديك مرتحل غدا
فودع لنا الطود الذي كان شامخاً ... وشيع لنا البحر الذي كان مزبدا
لقد حان توديع العميد وإنه ... حقيق بتشييع المحبين والعدا
سنطوي أياديك التي قد أفضتها ... علينا فلسنا أمة تجحد اليدا
وفي رأيي أن هذه القصيدة التاريخية قد فاقت قصيدة شوقي في وداع العميد، لأن شاعر القصر لم ينطق عن شعور وطني دفاق وإنما غضب لولي نعمته حين هاجمه اللورد في حفلة وداعه، فنحت أبياته نحتاً، وأنت تقرأ ما نسجه أمير الشعراء فلا تحس بهذه اللوعة المتأججة في شعر حافظ، بل تجد شاعر القصر قد نسى الغرض الأصيل من القصيدة، فلم يطنب فيه إطناب شاعر النيل وإنما حرص كل الحرص على أن يندد في مطلع كلامه بما اقترفه اللورد في حفلة الوداع فقال:
أوسعتنا يوم الوداع إهانة ... أدب لعمرك لا يصيب مثيلا
في ملعب للمضحكات مشيد ... مثلت فيه المبكيات فصولا
شهد الحسين عليه لعن أصوله ... وتصدر الأعمى به تطفيلا
هلا بدا لك أن تجامل بعدما ... صاغ الرئيس لك الثنا إكليلا
ومهما يكن من شئ فإن نشأة شوقي الأولى قد باعدت كثيراً بينه وبين واجبه الأقدس. بل قد ورطته أسوء توريط فيما ينبغي أن يبتعد عنه؛ فقد هجا زعيم الثورة العرابية المفترى عليه لحاجة في نفسه، وأحجم عن رثاء أستاذه البارودي، كما لاذ بالصمت المريب إزاء فجيعة دنشواي، مع أنها زلزلت العالم أجمع بدويها الرنان، والأبيات القليلة المذكورة في الجزء الأول من الشوقيات عن هذه المأساة، قد قيلت بعد رحيل اللورد كرومر، وانقضاء عام كامل، جفت فيه الدماء، وانقطع الدوي، وتحدث الناس جميعاً بأن أمير الشعراء مقصر كل التقصير!!
(البقية في العدد القادم) محمد رجب البيومي
مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:(747/15)
4 - مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:
بوليس الأمن الدولي
تثور مشكلة الجزاء بوجه عام في دراسة القانون بفروعه المختلفة، ولكنها تتخذ صورة خاصة دقيقة إذا ما نظرنا إليها من ناحية القانون الدولي العام حيث تنافرت الآراء حول وجود جزاء له أو عدم وجوده ويتبع ذلك إنكار الصفة القانونية على هذا القانون أو إثباتها له. . . غير أن أغلب الفقهاء يعتقدون بحق أن القانون الدولي له كل مقومات القوانين ومميزاتها وإن كان لا يزال ضعيف الجزاء.
وقبل أن يولد ميثاق سان فرنسيسكو. . كانت أقصى مرحلة من التهذيب وصلتها الجزاءات الدولية - وذلك غير الحرب طبعاً - ما نصت عليه المادة السادسة عشرة من عهد عصبة الأمم البائدة، وهي قائمة بمفردها تتناول في أغلبها الجزاءات الاقتصادية وتشير إلى الجزاءات العسكرية باقتضاب دون تفصيل أو إيضاح.
ويعزو بعض الكتاب انهيار العصبة إلى عدم الالتفات جيداً إلى اللون العسكري من الجزاءات وهذا النقص الأخير قد تداركه ميثاق هيئة الأمم المتحدة وفصله تفصيلاً في أكثر من مادة.
لقد قلنا إن لمجلس الأمن اختصاصين: الأول منهما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدولي ويختص الثاني بالأحوال التي يقع فيها تهديد للسلم أو إخلال به أو حصول عدوان معين وهذه الأحوال التي تدخل في الاختصاص الثاني ليس لها صفات معينة أو حدود تقف عندها، بل إن مجلس الأمن له مطلق الحرية في تقرير هذه الحالات الخطيرة (انظر المادة 39) وترتيب الجزاءات لها.
ويمكن القول بأن الجزاءات المنصوص عليها في الميثاق تتفاوت في الشدة والطبيعة فهناك ما يسمى بالتدابير المؤقتة (المادة 40) ويوضحها الميثاق بقوله: إنه منعاً لتفاقم الموقف، لمجلس الأمن قبل تقديم توصيات أو اتخاذ التدابير المنصوص عنها في المادة التاسعة والثلاثين. . . أن يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضرورياً أو مستحسناً من تدابير مؤقتة، ولا تخلو هذه التدابير المؤقتة بحقوق المتنازعين ومطالبهم أو بمركزهم، وعلى مجلس الأمن أن يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه.(747/17)
وهناك الجزاءات غير العسكرية (المادة 41) وعندها يقرر مجلس الأمن ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً كما تقطع العلاقات الدبلوماسية.
وأما الجزاءات العسكرية (م42) فقد نص عليها الميثاق بأنه إذا رأى مجلس الأمن أن الجزاءات غير العسكرية لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه، ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات البرية والجوية والبحرية التابعة لأعضاء هيئة الأمم المتحدة وهذا القوات هي (بوليس الأمن الدولي)
وأما تكوين بوليس الأمن وتنظيمه فقد فصل ذلك الميثاق (م43) بأنه في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدولي يتعهد جميع أعضاء هيئة الأمم المتحدة بأن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن بناء على طلبه وطبقاً لاتفاقات خاصة ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي وتحدد تلك الاتفاقات عدد هذه القوات وأنواعها ومدى استعدادها وأماكنها عموماً ونوع التسهيلات والمساعدات التي تقدم. كما قضى (م47) بتشكيل لجنة من أركان الحرب تكون مهمتها أن تسدي المشورة والمعونة إلى مجلس الأمن وتعاونه في جميع المسائل المتصلة بما يلزمه من حاجات حربية واستخدام القوات الموضوعة تحت تصرفه وقيادتها. . .
ولما كان هذا التنظيم يستغرق وقتاً طويلاً لكي يوجد. فقد نص الميثاق (م106) على أن الدول الخمس الكبرى تقوم بالنيابة عن الهيئة بالأعمال المشتركة التي قد تلزم لحفظ السلم والأمن الدولي في فترة الانتقال أي إلى أن يتولى مجلس الأمن تبعاته. . .
لقد قدمنا أن حق الاعتراض هو السائد في جميع أعمال مجلس الأمن بنوعيها، ورأينا كيف استعملته الكتلتان: الشرقية والغربية أسوأ استعمال متوخية مصالحها وشهواتها في كل ما يدخل في الاختصاص الأول المتعلق بحفظ السلم والأمن الدولي وناقشا اقتراح مارشال(747/18)
الذي كان بمثابة رد فعل لهذا الاستعمال السيئ. . والآن يستطيع القارئ أن يستنتج مصير الاختصاص الثاني للمجلس الذي لن يكون أحسن حالاً من سابقه مادام هناك (الفيتو) وسوء تطبيقه. . . ويمكننا أن نقول بملء الفم أن النصوص التي تقتطع جانباً خطيراً من الميثاق والتي تتعلق بمسألة الجزاءات. . قد حكم عليها بالعدم والموت. ففي فترة الانتقال هذه لم تتفق كلمة الدول الخمس الكبرى على فض أي نزاع أو عدوان يخل بالأمن الدولي. وليس ذلك راجعاً لندرة العدوان أو التهديدات الدولية بل يرجع قبل كل شئ إلى الخلاف الناشب بين المعسكرين المعروفين. والمثل البارز لذلك في مسألتي البلقان وإندونيسيا. .
ولندع فترة الانتقال وننظر فيما بعدها. . هل نظمت هيئة الأمم حقاً قواتها؟ وهل عقدت تلك الاتفاقات التي تحدد هذا التنظيم؟ ثم ما حال لجنة أركان الحرب الدولية. . أين هي؟.
والجواب عن كل ذلك حاضر يبعث على الأسف: لم يحدث شئ، ولن يكون شئ مادام هذا النزاع المصلحي قائماً بين الدول
يدعي كل فريق أن حق الاعتراض عقبة كبيرة في سبيل التنفيذ، ولكن الحقيقة أن الأهواء والشهوات هي أصل الداء، فهي التي جرت إلى إساءة استعمال هذا الحق بل هي التي خلقته ودفعته إلى الوجود وما كنا في حاجة لمثله. .
إن بوليس الأمن الدولي جيش فوق الجيوش، وقوة عظيمة تجب جميع القوى وكان أمل الشعوب الصغيرة فيه كبيراً، لأنه سندها ودرعها في نضالها ضد اضطهاد الدول المستعمرة الظالمة، وليس غريباً أن تنشر الصحف نبأ النصيحة التي قدمها مسيو تريجف لي سكرتير هيئة الأمم لرئيس وزراء مصر حين تقرر نهائياً عرض القضية على مجلس الأمن. . فقد ذكرت أنه أشار عليه بالتريث حتى تتكون قوة بوليس الأمن الدولي.
على أية حال ليس أمامنا سوى الأسف العميق نقابل به مثل هذه الأمور المحزنة ولعله من المفيد أن نذكر شيئاً عن مشروع أمريكي للدفاع المشترك قيل أنه يغني مؤقتاً عن البوليس الدولي. فقد روت الأنباء أن وفد أمريكا في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة قد أعد مشروعاً بمعاهدة للدفاع المتبادل تسندها قوات الدول الموقعة وسيعرض الوفد هذا المشروع على الجمعية العمومية. وهذه المعاهدة المقترحة يمكن أن تتمخض عن إنشاء قوة بوليس دولية لحماية اليونان في القريب العاجل من اعتداء يوغوسلافيا وألبانيا وبلغاريا عليها كما(747/19)
أنها تتمشى مع الميثاق وتخضع لمادة معينة منه (م51) تشير إلى أن للدول الحق في الدفاع الفردي أو الجماعي إذا وقع هجوم مسلح على دولة من أعضاء هيئة الأمم وذلك إلى أن يتسنى لمجلس الأمن اتخاذ التدابير الضرورية للمحافظة على السلام والأمن الدوليين، ومن شروط هذا الاقتراح الأمريكي أن هذه المعاهدة مفتوحة لكل دولة من أعضاء هيئة الأمم تريد توقيعها بما في ذلك روسيا ولكنها تصبح نافذة في القريب العاجل سواء وقعتها روسيا والدول المرتبطة بها أو لم توقعها، ولن يكون تنفيذ هذه المعاهدة بما في ذلك استخدام القوات المسلحة للدول الموقعة موضوعاً خاضعاً لحق الدول الكبرى في الاعتراض - الفيتو - وتقول المصادر الأمريكية أن هذه المعاهدة تهدف إلى التغلب على عقبتين في سبيل المحافظة على السلام في اليونان وغيرها:
أولاً: استخدام روسيا لحقها في الاعتراض على أية محاولة لحماية اليونان من عدوان جيرانها في الشمال.
وثانياً: العوائق التي يضعها الوفد السوفيتي في سبيل إتمام اتفاقات حربية بين هيئة الأمم المتحدة والدول الأعضاء بينما كان المأمول أن تنشأ قوة بوليس دولية لتنفيذ قرارات هيئة الأمم.
ويشبه مشروع هذه المعاهدة بروتوكول جنيف في سنة 924 الذي كان يهدف إلى تقوية عصبة الأمم ويبرز العمل الجماعي ضد العدوان تمشياً مع روح ميثاق العصبة.
هذا هو المشروع الأمريكي الذي لم يطرح بعد على بساط البحث، ورأينا فيه أنه - كما هو واضح - موجه ضد الكتلة الشرقية وقد أملته روح التحدي والعداء وكان الأجدر بأمريكا أن تتمسك بنصوص الميثاق بدلاً من أن تهدرها وتستبدل بها مشروعات أخرى لن تكون خيراً منها أو أكثر اتساقاً مع الغرض من قيامها ثم إن هذه المعاهدة الدفاعية تدعو للتساؤل: فهي دفاعية ضد من؟ لابد لوجود الدفاع من هجوم. . فضد من يوجه هذا الدفاع. . . إن كانت دول العالم أجمع ستنضم إلى المعاهدة؟
والظاهر أن الكتلة الغربية تعلم مقدماً أن مشروعها لن يجوز رضاً من الكتلة الشرقية، ولهذا جعلت المعاهدة مفتوحة للانضمام، والغالب أن الدول الموقعة ستكون سياستها موافقة لأهواء الكتلة الأولى ومناهضة للثانية الأمر الذي يؤكد في الذهن أن هذا المشروع ليس(747/20)
وليد الإيمان الخالص بخير الإنسانية وتقديس المعاني السامية لذاتها. . . وقد نفذت الولايات المتحدة مشروعها المقترح تنفيذاً جزئياً في نصف الكرة الغربي حين عقدت معاهدة الدفاع المشترك بين دول الأمريكيتين في الأسابيع القليلة الماضية. وبعد: فإن حق الاعتراض يجب أن يلغى، وأن تزيد الثقة المتبادلة بين الدول، وتعود للمثل العليا قيمتها واعتبارها، وأن نؤمن من جديد بالعدالة والحرية والمساواة. .
يجب أن تختفي من السطور كلمات الحرب والحياد، فالجراح التي خلفتها الحرب لم تلتئم، والمداد الذي كتب به الميثاق لم يجف بعد. . .
إننا نخشى على مولود سان فرنسيسكو أن يلحق بفقيد الأطلنطي. .!!
عبد الحميد عثمان عبد المجيد كلية الحقوق(747/21)
مبادئ مالية في الإسلام
للأستاذ لبيب السعيد
1 - الإسلام دين ودولة، فهو إذ يشرع لأهله ما يبلغهم السعادة الأخروية، يعنى كذلك بمصالحهم الدنيوية، ويقرر لها نظماً يهدف بها إلى إتاحة الرفاهية قدر المستطاع لكل منهم، وتحقيق القوة والسيادة لمجموعتهم.
2 - والمال عصب الحياة، والشريعة الإسلامية واقعية، ولذلك أقامت للمال موازين: عرفت كيف زين للناس حبه، فتكاثروا به، وتقاتلوا في سبيله، فالتفتت إلى المطامنة من هذا الحب، وأخذت من فضل هذا لتعالج عدم ذاك، محققة لكليهما الخير المعنوي والمادي وعرفت أن القوة والمنعة والأمن لا تقوم إلا على دعامة من المال، فجعلت لولي الأمر حقاً معلوماً في مال كل ذي مال لتقيم به هذه الدعامة.
فرضت الشريعة على الفرد عدة واجبات مالية ليس من همنا الآن تناولها بالبيان الوافي، ولكننا نعرض فحسب ما يتعلق بها من مبادئ رئيسية، غير مقتحمين ما للفقهاء فيها من تفاصيل.
3 - التزم الإسلام العدل الأوفى في فرض هذه الواجبات
فهو في وضع الخراج مثلاً يوجب مراعاة وجود الأرض واختلاف أنواع زرعها وما تسقى به.
وهو ينظر من أعسر بخراجه
والجزية التي يفرضها على أهل الذمة هي من الاعتدال بحيث لا تبلغ إلا سبع ما كان يفرضه الرومان مثلاً على الأمم التي أخضعوها. وفوق هذا، فهو يرعى حال من تفرض إليه الجزية إذا كان موسراً أو وسطاً أو فقير معتملاً. ويميز بين أرباب المهن المختلفة، فالصيرفي والبزاز وصاحب الصنعة والتاجر والطبيب وما إليهم غير الخياط والصباغ والجزار والإسكافي ومن أشبههم. . .
وهو لا يوجب الجزية على امرأة ولا صبي، كما يعفى منهما الأعمى والزمن والمفلوج والشيخ الكبير الفاني ولو كانوا موسرين ويضعها عن أصحاب الصوامع إلا إذا كانوا من الأغنياء.(747/22)
والمبدأ المقرر لدى فقهاء المسلمين أنه (لا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقامون في الشمس ولا غيرها ولا يجعل عليهم في أبدانهم شئ من المكاره، ولكن ريفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم.
والإسلام يشترط للزكاة نصاباً معيناً في كل نصف وجبت فيه، وهو ينظر إلى ناقص الملك نظرة خاصة رحيمة، ويسقط - على الأرجح - الزكاة عن المديان.
وهو ينكر على الفرد أن يأتي بما يملك فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يتكفف الناس؛ يمدح القرآن أناساً فيقول: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)
ونبي الإسلام يقدر ما يحيط بالمالك من ظروف لها اعتبارها عند تقدير الزكاة المطلوبة، فهو يقول للعمال الذين ولاهم على خرص الثمار - وهو الحرز والتخمين لتقدير زكاة قبل الإثمار ولأمن من الخيانة من رب المال - يقول لهم: (خففوا الخرص، فإن في المال الوصية (أي ما يوصي به أربابها بعد الوفاة) والعرية (أي ما يعرى للصلات في الحياة) والواطئة (أي ما تأكله السابلة منه، سموا واطئة لوطئهم الأرض) والنائبة (أي ما ينوب الثمار من الجوائح)).
وكذلك في شأن الخراج، تذهب الشريعة إلى أن لا يستقصي في وضعه غاية ما تحتمله الأرض لتجعل لأربابها بقية يجبرون بها النوائب والجوائح.
4 - ويقترن بذلك العدل حزم (في التنفيذ لا هوادة فيه، ودقة في القواعد لا تدع سبيلاً إلى العبث أو التحايل.
فمن مطل بالخراج، مع يساره، حبس، إلا أن يكون له مال فيباع عليه في خراجه كالديون.
والأرض التي يمكن زرعها يؤخذ عنها الخراج وإن لم تزرع، وإذا عجز رب الأرض عن عمارتها طلب إليه أن يؤجرها أو يرفع يده عنها ليتولاها من يقوم بعمارتها. ونذكر على سبيل الاستطراد أن الشريعة تأبى ترك الأرض على خرابها وإن دفع خراجها
ومن منع الزكاة فلوالي الصدقات أن يقاتله كما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، بل لقد ذهبت طائفة إلى تكفيره
والكتاب والسنة ينصان على فداحة إثم مانع الزكاة، وقد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في سياق حديث: (لا أملك لك من الله شيئاً)، وذلك - كما يقول ابن حجر -(747/23)
مؤذن بانقطاع رجائه ثم الشريعة تثني على مؤتي المال على حبه، وترغبه في ذلك ما وسعها الترغيب، وتعده في الدنيا والآخرة أحسن الوعود وأبعدها مدى في نفسه.
وإذا مات من عليه الزكاة بعد وجوبها عليه فإنها تخرج من رأس ماله
ومن باع ثمرة طابت فعليه زكاتها، ومن جز زرعه فراراً من الزكاة لم تسقط.
والتمليك ركن من الزكاة، فلا يجوز صرفها في بناء مسجد أو حج أو إصلاح طرق أو نحو ذلك.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب زكاة الفطر على كل مسلم ولو كان جنيناً في بطن أمه، وإلى وجوب تزكية السيد عن رقيقه مؤمناً كان أو كافراً لتجارة أو لغير تجارة.
والشريعة توجب الإنفاق من الطيبات وتنهى عن تيمم الخبيث قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد) ويقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)
5 - والأموال التي تدفع يقصد بها دائماً الصالح الأعلى للأمة، والإسلام يتحرى مصارف هذه الأموال أشد التحري:
فالصلة التي لا تعود بمصلحة على الأمة لا تكون من مالها، بل تكون من المال الخاص لمن يدفعها؛ قال الماوردي: وكان مما نقمه الناس على عثمان أن جعل الصلات من مال الفيء ولم ير الفرق بين الأمرين.
ولا يصح أن يدفع المرء زكاته إلى من تجب عليه نفقته، ولو أن دفعها ف غيرهم من الأرحام أفضل لأنها تكون صدقة وصلة.
ويستحب الفقهاء أن لا تنقل الصدقة من بلد المزكي إلى بلد آخر، لأن (أعين المساكين في كل بلدة تمتد إلى أموالها، هذا، مع عدم رؤية الفقهاء بأساً من الصرف على الغرباء في البلدة).
والعشور - وهي شبيهة بما نسميه الآن الضرائب الجمركية - مقصور بها صالح الأمة الإسلامية ذاتها، فللإمام - على مذهب الشافعي - أن يزيد في المأخوذ عن العشر أو أن ينقص عنه إلى نصف العشر أو أن يرفع العشور كلها عن البضاعة إذا رأى المصلحة في(747/24)
شئ غير ذلك. والإسلام يقدر أن فرض العشور قد ينقص من واردات بلاد المسلمين فيضارون ولذلك رأى أن لا يزيد أخذ العشور من كل قادم بالتجارة على مرة واحدة في كل سنة ولو تكرر قدومه إلا أن يقع التراضي على غير ذلك.
6 - والشريعة الإسلامية مع تدقيقها في استيداء حقوقها المالية على الأفراد، تحفل بضمائرهم، وتدعو ولي الأمر إلى الثقة بهم:
فليس لوالي الصدقات أن يسأل أو يبحث عن شئ ليس تحت نظره، وإنما عليه أن يأخذ مما يجد، مما تجب فيه الصدقة.
ويلزم رب المال فيما بينه وبين الله سبحانه بإخراج ما أسقطه من أصل الزكاة أو ما تركه الوالي من زيادة.
7 - والإسلام لا يجب أن يجد السلطان باسم الشرع ذريعة لإغرام أي فرد مالاً بغير حق، فيقول الرسول صراحة: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)، فعلم أنه لا يحل إغرام مسلم شيئاً بغير نقص صحيح.
8 - والإسلام يصون لمستحقي الزكاة كرامتهم وإنسانيتهم ويأبى أن تذل نفوسهم، فهو يرغب في صدقة السر، ويقرر بطلان الصدقات التي يعقبها المن والأذى، يقول تعالى في الصدقات (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم)، ويقول سبحانه: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)، ويقول نبي الإسلام: (لا يقبل الله صدقة منان).
وهو فضلاً عن هذا يعتبر من يأخذ الزكاة صاحب حق في مال الغني، وصاحب الحق إذا تقاضى حقه تقاضاه غير مغض نظره ولا حانياً عوده؛ قال تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).
9 - الشريعة تعين للزكاة مصرفاً يجمع سائر الأبواب التي يتعين الإنفاق فيها لصالح الفرد والجماعة والدولة والدين، والتي يستريح للإنفاق فيها ضمير المزكي. قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل).
وهذه الأبواب جميعاً ظاهرة الحكمة، وفيها تكافل وتعاطف ناصعان، وفيها تأييد عملي حازم لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وفيها رفق عال وتقدير للمجاهدين وحفظ لمجد الدولة.(747/25)
وربما كان جديراً بالذكر أن الغزالي يحبب أن يطلب المتصدق لصدقته من تزكو بهم الصدقة، وهم عنده المتجردون للآخرة، وأهل العلم، والصادقون في تقواهم، والمخفون حاجتهم، والمعيلون أو المحبوسون بمرض وذوو الأرحام.
10 - وتختط الشريعة في محاربة الفقر مذهباً وسطاً، لا يضار منه الغني ولا تفوت بسببه المصلحة على فقير، فهو يحدد مقادير الزكاة تحديداً معقولاً، ولا يفرض على الأغنياء أكثر منها إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء كأن يوجد جائع مضطر أو عار مضطر أو ميت ليس له من يكفنه ولا من يدفنه.
ولقد ذهب أبو ذر إلى عدم جواز ادخار الذهب والفضة، وروى أبو هريرة أن النبي (ص) لم يحب لنفسه أن يكون له ذهب، ولكن الرد على هذا أن النبي قدر الواجب من الزكاة في الذهب والفضة، فلو كان إخراج الكل واجباً لما كان للتقدير وجه، وقد في الصحابة ذوو يسار ظاهر مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وعلم النبي ذلك منهم فلم يأمرهم بإخراج الجميع.
11 - والإسلام يفرض الجهاد بالمال مثلما يفرضه بالنفس قال تعالى: (. . . إن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم. . .)، وجهاد المرء بماله يكون بإنفاقه في إعداد ما يلزمه للجهاد من العدة بمختلف أنواعها، ويكون أيضاً بإنفاقه على غيره من المجاهدين وإمداده بالزاد والعدة. والشريعة تعنف أشد التعنيف كل من نكل من الجهاد.
12 - وهي تفرض على الحجاج الهدايا يوزعون لحومها على الفقراء، وتوجب على الموسرين نحر الضحايا وإعطاء الفقراء أيضاً منها.
وكذلك كفارات الرُّخَص في العبادات وكفارات كثير من الأخطاء واجبات مالية ينتفع بها الفقراء الذين لا تبرح الشريعة تنظر في مصالحهم.
13 - ومن المبادئ الإسلامية البالغة الأهمية والتي تُغني عن التطلع إلى النظم الوضعية أن الشريعة تقتضي الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم وأن يجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بينهم:
فيقام للفقراء بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، وباللباس للشتاء، والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.(747/26)
بل لقد ذهب أبو محمد بن حزم إلى رأي لا نحسبه معروفاً جيداً لجمهرة المسلمين قال: (ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير، وهو يجد طعاماً فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمي، لأن فرضاً على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك، فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير).
ويمضي أبو محمد فيقول: (وله - يقصد المسلم المضطر - أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله لأنه منع حقاً، وهو طائفة باغية، قال تعالى: (فإن بغتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) ومانع الحق باغ على أخيه الذي له حق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانع الزكاة، بالله تعالى التوفيق).
وبعد، فهل يسع المنصف أن لا يقرر أن المذاهب والمشروعات الاجتماعية الحديثة مع ما في بعضها من آراء تستحق التقدير، وتحمل على بعض الأمل في أن تطب لأدواء الفقر، لا تتسامى إلى المبادئ الإسلامية في دقتها وشمولها وعملها المنظم على موازنة الثروات، والتقريب بين الطبقات، وإقامة التكامل الاجتماعي، واحترام الإنسانية، وتمكين الأمة من حفظ قوتها وشوكتها.
لبيب السعيد(747/27)
حول الجدل في الجامعة
للأستاذ عبد الفتاح بدوي
نشر الأستاذ (العباس) مقالاً في (الرسالة) عنوانه (جدل في الجامعة) وموضوعه رسالة قدمت في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول لنيل درجة الدكتوراه.
ونشر الأستاذ (محمد خاف الله) مقالاً بعده ينفي فيه أن يكون الأستاذ (أحمد أمين) قد عاب الرسالة لضعف في منهجها أو لإنكار ما فيها من حقائق وعلمية ويقول: إن كل ما صنعه الأستاذ أحمد أمين أنه لفت ذهن الجامعة إلى أن مناقشة الرسالة قد تثير ضجيجاً لما فيها من أفكار وآراء.
وليس يعنينا ضعف منهج الرسالة فليس الناس ولا أهل العلم خاصة قوامين بالقسط على الرسائل التي تقدم في الجامعة فذلك شأن الممتحنين من دون الناس جميعاً
ولكن الذي لنا وللعلماء خاصة هو القيامة على الحقائق العلمية وعلى الحقائق الدينية ننفي عنهما الخبث وندافع عنهما كل من يحاول عليها العدوان.
ولقد دلنا الأستاذ (خلف الله) بمقاله على أن في الرسالة التي تقدم بها إلى الجامعة أحداثاً خطيرة في العلم وفي الدين، ودعاني مقاله هذا إلى البحث عن غير ذلك التقرير، ومادمنا نملك هذا المقال فإننا نملك باباً وسيعاً من المناقشة والحساب في مسائل علمية ودينية لها أكبر الخطر ويترتب عليها أعظم النتائج العلمية والأدبية والاجتماعية والقانونية إلى أن نحصل على أشياء أخر غير المقال.
يقول الأستاذ (خلف الله): ومن المعروف دينياً ألا نستنتج من نص قرآني أمراً لم يقصد إليه القرآن. . . وهذه الدعوى هكذا تهجم عارم على العلم وعلى القرآن جميعاً، ودلالة صريحة على أن من يدعي هذه الدعوى يستبيح للناس أن يقولوا عنه أنه لا يعرف شيئاً من المنطق؛ والمنطق ميزان القول، وهو لا يعرف قواعد اللغة، ولا يتكلم بكلام الناس، ولا يصح أن تكون له رسالة يتقدم بها إلى الجامعة أو إلى سواها لأنه ليس من أهل العلم في شئ.
أليس القرآن الكريم كاملاً له الدلالات المنطقية الثلاث المطابقية والتضمينية والالتزامية التي لكل كلام سواء في ذلك كل أنواع الكلام؟ فإذا قال القرآن الكريم: (إن أول بيت وضع(747/28)
للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) ألا تفهم منه أن هناك بلداً اسمه (بكة) وأن في هذا البلد بيتاً، وأنه وضع للناس، ثم نفهم الأمر الديني فوق هذا وهو أن هذا البيت مبارك وهدى للعالمين؟ أليس لنا ذلك ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا الأمر الديني إلا مع فهم تلك الدلالات؟ بل أجمع العلماء على أن القرآن الكريم فوق هذه الدلالات الثلاث التي تجمع عليها عقول البشر لكل كلام دلالة أخرى سامية هي دلالة الفحوى التي يكون مثلها للنثر الفني أو الشعر البليغ، وأجمعوا على أن هذه الدلالة مرعية قطعاً وإن اختلفوا في أنه هل تقوم على هذه الدلالة أحكام شرعية أم لا؛ إننا إذا حرمنا القرآن الكريم دلالاته الالتزامية وهي التي تستنتج من الكلام فقد حرمناه أخص المزايا العقلية لكل كلام وليس يملك هذا الحرمان أحد، إنما يدعيه من حرم قواعد العقل وخرج من ميدان التفكير، وإذا كانت الحقائق العلمية التي بنى عليها الأستاذ (خلف الله) رسالته من مثل مقاله هذا فويل للعلم وويل للعلماء
ويدعي الأستاذ (خلف الله) أن الأستاذ (محمد عبده) قد قال بهذا القول فأي قول هو هذا الذي قال به الأستاذ الإمام؟ أن كلام الأستاذ محمد عبده مثل كلام كل العلماء أن القرآن الكريم ليس كتاباً أنزل للتأريخ وضبط الوقائع وترتيب الحوادث التاريخية بعضها على بعض ولكنه بالإجماع يستخدم التاريخ ويقص من هذا التاريخ حقائق واقعة ثابتة مرتباً بعضها على بعض ترتيباً لا استنساخ فيه كما يستنتج المؤرخ ولكن ترتيب الحق والواقع وينزل بذلك الواقع المرتب ترتيب الحقائق لهداية الناس وإرشادهم إلى الخير والفلاح
فالقرآن يخالف كتب التاريخ في أمور ويوافقها في أمور؛ فالمؤرخ قديري من واجبه أن يتتبع تفاصيل الواقعة: من الأسماء والزمان والمكان والأحداث وتفاصيلها لأن هذا كله قد يعينه على استنتاج الحكم التاريخي الذي يحكم به على الواقعة أو يشبع به نهم العواطف الكثيرة المختلفة من قراءة التاريخي؛ أما القرآن الكريم فقد لا يعنيه بعض هذا لأنه لا يستنتج الأحكام التاريخية ولكنه الحكم الفيصل فيها؛ فقد لا تعنيه الأسماء مثلاً فيقول: (قتل أصحاب الأخدود) لأن العبرة التي تترتب على القصة أي الحكم التاريخي لا يتوقف على أسماء هؤلاء الناس، وليس له بأسمائهم صلة، وقد لا يهتم القرآن الكريم بالزمان فيذكر قصة (يوسف) عليه السلام وفيها اسم يوسف والمكان الذي كانت فيه القصة ولا يذكر(747/29)
زمانها؛ وقد لا يظهر بالمكان فيذكر قصة لوط فيبين اسمه وأنه معاصر لإبراهيم ويذكر الحوادث ولا يذكر المكان؛ وقد لا يهتم القرآن الكريم بالتفاصيل فيذكر قصة يونس عليه السلام وأنه (ساهم فكان من المدحضين) دون أن يدل على تفاصيل المساهمة ولا على نوعها ولا على المساهمين، ذلك كله لأن القرآن يخالف المؤرخ فالمؤرخ قد يتتبع ليستنتج، أما القرآن فهو منزل بالواقع، والحكم التاريخي فيه حكم العالم بالحقيقة فهو لا يستنتج ولكن يقرر الواقع ويذكر من الأسماء والأزمان والأمكنة والأحداث ما يعيننا على فهم ذلك الحكم التاريخي وتلقيه بالقبول، ويتفق التاريخ والقرآن في أن كلاً منهما يرتب الحكم التاريخي على المقدمات التي يذكرها وإن كانا يختلفان في طريقة ذلك الترتيب، فالمؤرخ يرتب المقدمات ترتيباً ظنياً خاضعاً لآلاف الفروض وأنواع الحدس والتخمين، فإذا ذكر المؤرخ أسباب سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية كان كل سبب مما يذكر موضع نقاش طويل في جميع مراحله؛ أما القرآن الكريم فيرتب المقدمات ترتيباً يقينياً لاشك فيه؛ فإذا قرأنا قوله تعالى (ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) رأينا المقدمات يقينية الوقوع والحكم الذي ترتب عليها هو عين اليقين؛ فالقرآن مصدر من مصادر التاريخ وليس كتاباً من التاريخ والفرق بينهما واضح كل الوضوح، وليس في المسلمين من يقول بغير هذا.
ويقول الأستاذ (خلف الله): على أن هذه المسألة قديمة ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه ولقد نتج عن ذلك طريقتان. طريقة السلف وطريقة الخلف أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع. وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام. . .
وهذا الذي يقوله الأستاذ خلف الله جرأة أخرى على الأصوليين ولا أحداً من المسلمين يعتبر القصص القرآني متشابهاً ولا نعرف أحداً من الأصوليين ولا من المسلمين لا يقول بأن ما ورد في القرآن إنما هو أحداث وقعت وحوادث هي خلاصة الحقيقة التي وقعت في سوالف الأزمان يسوقها القرآن عبرة وهدى للعالمين؛ وليدلنا الأستاذ على أصولي لا يقول بهذا أو على مسلم لا يقول بهذا(747/30)
وكلام الأستاذ خلف الله افتراء على الأستاذ الإمام يكذبه قول الإمام ومنهجه الذي اختطه لنفسه في صراحة لا شية فيها ولا اختلاط؛ ونورد هنا نص عبارة المنار وهي على أتم وضوح ليتبين للناس مقدار تهجم الأستاذ خلف الله على العلم وعلى رجال العلم ولنبين له كيف أراد أن يلبس على الناس بأقواله في مقاله ويقول ما ليس بحق.
قال في المنار عند تفسير قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء): تمهيد للقصة ومذهب الخلف والسلف في المتشابهات: أن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشئون الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب من قبلنا ومثل لنا المعاني في صور محسوسة وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مناظرة الخلق وبيان الحق وقد ذهب الأستاذ إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضاً ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصف الملائكة بكونهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وقد أورد الأستاذ (يعني محمد عبده) مقدمة تمهيدية لفهم القصة فقال، ما مثاله: أجمعت الأمة الإسلامية على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره وهو التنزيه فإذا جاء في نصوص الكتاب أو السنة شئ ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان أحدهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العمل فيه النقل كقوله تعالى ليس كمثله شئ وقوله عز وجل سبحان ربك رب العزة عما يصفون وتقويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلتنا والثانية طريقة الخلف وهي التأويل يقولون: إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شئ منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولابد من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل:(747/31)
قال الأستاذ (محمد عبده) وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وعالم الغيب وأننا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين لأنه لابد للكلام من فائدة يحمل عليها لأن الله عز وجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد منه معنى
قال صاحب المنار: وأقول أنا مؤلف هذا التفسير. إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم، عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى.
فالأستاذ الإمام لم يقل إن القصص من المتشابه ولم يقل بذلك مسلم قبله أو بعده والأستاذ الإمام يقول: إن الآيات في قصة الخليقة في الأرض من المتشابه وفسر ذلك التشابه بأنها لا تحمل على ظاهرها وفسر ذلك الظاهر الذي لا تحمل عليه بأن فيها حواراً وجدلاً بين الله تعالى والملائكة والجدل والحوار على ظاهرهما لا يليقان بالله تعالى ولا بالملائكة فيجب تأويل ذلك الجدل والحوار وحملهما على (خلاف مقتضى الظاهر) وبين التأويل الذي يراه لهذا الحوار ولهذا الجدل في ص254 من تفسير المنار لنفس هذه الآيات فقال: وأم الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملائكة وكيفية الخطاب بينهم وبين الله تعالى فهي من وجوه أحدهما أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه الخ ثانيها إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمته ما يخفي على الملائكة فنحن أولى بأن تخفى علينا ثالثها أن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم رابعها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس الخ فأين ما ادعاه الأستاذ خلف الله على الأصوليين وعلى الإمام. إن هذا إلا اختلاق.
حسب الرسالة اليوم هذا فإن الحساب بيننا وبين الأستاذ خلف سيطول.
عبد الفتاح بدوي المدرس في كلية اللغة العربية(747/32)
إلى رجال التعليم:
التلميذ مرآة أستاذه
للأستاذ علي العماري
ذكرت في عدد سابق من الرسالة الغراء بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف المتعلمين في العلوم عامة، وفي اللغة العربية خاصة، وما سلكت غير سبيل الحق، ولا نهجت إلا منهج الصراحة فإني أعلم أن المداورة والمجاملة وغض الطرف عن العيوب كلها أدواء فتاكة، تغطي وجه الحق، وتمكن للداء أن يستشري، وإذا كان هذا سبيلي فإني قائل اليوم قولاً أراه مراً جارحاً، ولكني لا أجد منه بداً، وإني أعلم أنه سيغضب الكثيرين، وسيدع غير قليل من رجال التعليم يزمون شفاههم، ويقطبون أسارير وجوههم، ويهزون أكتافهم، ويقولون: كذب ورب الكعبة، ولكنه - أيها الإخوان - الحق الصراح، والحق مر، والقول الخالص، والناس لا يظمئون إلا إلى الآسن العكر، حين يعذبه النفاق، ويسيغه في الحلوق الثناء الكاذب، والمداهنة البغيضة.
ولست متجنياً، ولا بعيداً عن الصواب حين أقرر أن من أهم أسباب الضعف في مدارسنا ومعاهدنا إسناد مهنة التعليم إلى قوم لا يحبون العلم، ولا يسعون إليه، ومن خطأ الرأي أن يظن أني أقصد جميع الأساتذة والمدرسين، فأنا إنما أشير إلى عدد غير قليل منهم، ومادام المدرس ضحلاً في مادته، تافهاً في معلوماته، ناقصاً في عقله ورأيه، فكيف نطلب من التلميذ أن يكون نابغة في علم، أو عبقرياً في فن، بل كيف نطلب منه أن يقرأ قراءة صحيحة وأستاذه غير مستطيع، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون. .
كان المعلمون في الماضي يسهرون الليالي الطوال في إعداد دروسهم، ويرجعون إلى شتى المصادر في مادتهم، ويعملون آراءهم وعقولهم في تفهم ما يلقونه إلى الطلاب، فكان في معاهد التعليم المجد المحصل، والذكي النابغة، ولكننا اليوم نرى مدرسين (على أحدث طراز) لا يعنى أحدهم بدرس، ولا يتعب نفسه في المراجعة، وحسبه أن يدخل على تلاميذه فيلقي إليهم ما سطر في الكتاب المقرر، فإذا سئل أعاد (الأسطوانة)، ونرى آخرين لا يحسنون النطق بالعربية، وإنما أخذوها من أفواه العامة فهي تطغي على ألسنتهم، وتشيع في أساليبهم، ولأن تكلف أحدهم أن يزحزح رضوي عن موضعه أهون عليه من أن تكلفه أن(747/33)
يلقي درساً بالعربية، ولو كان يدرس البلاغة أو آداب اللغة العربية، وليست هذه الحال مقصورة على معهد من معاهد التعليم دون معهد، وإنما تجدها في الجامعة المصرية، كما تجدها في الأزهر الشريف، كما تجدها في المدارس على مختلف أنواعها، ونوادر المدرسين في هذا الضعف يخطئها العد وينوء بها الحصر.
دخل أحد المفتشين على أستاذ يدرس آداب اللغة العربية في فرقة عالية فوجده يدرس لهم الخط العربي، ويقول عن بعض أنواعه (وقطته أربع وعشرون شعرة من شعرات البرذون) فسأله المفتش ما معنى هذا، فأعاد الدرس من أوله، ومر سريعاً على هذه الكلمة، فسئل مرة أخرى فصنع صنيعه الأول، ولم يزد، فقال له المفتش في أي كتاب راجعت مادتك؟ فسكت ولم يحر جواباً، فقال له: فإذا أردت أنا أن أراجعها ففي أي كتاب؟ فسكت أيضاً.؟
وحدثني كبير في الأزهر قال أن بعض المفتشين في وزارة المعارف دخل على معلمة تدرس اللغة العربية فسمعها تقرأ قول الله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) فتضم الكاف، وتميت الواو.
وقد سئل أحد المدرسين في الأقسام الثانوية بالأزهر عن إعراب هذه الكلمة: لي مسألة لدى علي، فلما وصل إلى حرف لدى قال إنه فعل ماض، وأصر على ذلك.
ولعل أغرب ما سمعنا في هذا الباب أن مدرساً في كلية عالية قال إن قول الله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) نزل على أبي بكر رضي الله عنه، فراجعه الله فتريث قليلاً، وترك جدالهم، فلما جاء في اليوم التالي قال لهم اسمعوا. إن الرجوع إلى الحق فضيلة، وإني أطلت الليلة النظر، وراجعت كثيراً من الكتب، وبعد البحث والتنقيب ظهر لي أن هذه الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم!!!
صدقني - أيها القارئ - واعلم أني - والله الذي لا إله غيره - أجد ولا أتندر، وأن كثيرين ممن كانوا في هذه الفرقة لا يزالون في أول عهدهم بالحياة، وأن الأستاذ المدرس لا يزال منتفخ الأوداج، عالي الهامة، يغدو ويروح على كليته، ويأخذ الكثير من المال على جهله وغباوته!!
وقل لي بربك، كيف يخرج الأستاذ نابغة في البلاغة وهو لا يكاد يبين؟ وكيف يصنع تلميذاً(747/34)
يفخر به وهو يجهل البديهيات الأولية في العلم؟ ومتى استطاع مدرس أن يقرر أن قصص القرآن من الأساطير، أن يخرج تلميذاً له في العلم نصيب. .؟
هذا عن جهل المدرس، فإذا أخذنا ندون ما نعرف من إهمال بعض المدرسين وتهاونهم طال بنا القول، واستفاض الحديث، على أننا سنجتزئ بقليل من كثير مما نعرف، ومع ذلك فلسنا نسلم من الألسنة
هذا مدرس لا عمل له طوال العام الدراسي ألا أن يتحدث عن نفسه، فلا يلقى فرقة من الفرق ألا أسرف معها في التمدح بأخلاقه، والفخر بآثاره وأعماله، والحديث عن آبائه وأجداده حتى إذا بقي من الزمن خمس دقائق قال اسمعوا سنقول في العلم، ويمضي يتحدث عن العلم ولكنه لا يفتح باب العلم إلا ليدخل منه إلى الحديث نفسه. .
وهذا آخر تثقل عليه الدراسة، حتى أن كل يوم منها عنده مثل (سبت الكتاب) فهو يحاول جاهداً أن يميل بالطلاب عن طريق الجد، فلا يسمع نبأة إلا حدث بها، وتحدث عنها، وأطال الحديث، وهو يوحي بذلك إلى الطلاب أن دعوا العلم والعلماء فإن الوطن يناديكم، ومطالب الحياة تستصرخكم، وما فائدة الدرس إذا لم ينتفع منه الدارس؟ فإن لم يقل ذلك تصريحاً قاله تلميحاً، ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا بعض الأساتذة يفرحون ويطربون حين يرون الطلاب منصرفين عن دروسهم، ويغتنمون أشد الغنم إذا رأوهم مقبلين على هذه الدروس.
وهكذا نجد ضروباً وأصنافاً وكلها تتلاقى عند نقطة واحدة، تتلاقى عند الإهمال الذي لا يليق بمن يأخذ على نفسه تبعة تربية النشء، ولسنا هنا نتحدث عما تبذره مثل هذه الأعمال في نفوس الناشئين من الأخلاق الذميمة، وإن كان ذلك عظيماً، ولكنا بصدد الحديث عن ضعف المتعلمين الذي كان من أكبر أسبابه ضعف بعض المعلمين، وإهمالهم وتهاونهم.
ولكن العجب كل العجب من الرؤساء الذين يعرفون كل ذلك، وما هو أدهى وأمر من ذلك، ولكنهم حين يملكون الغنيمة لا يوزعونها بالقسطاس المستقيم، ولا يقصدون بها الجادين العاملين، وإنما يقصدون المقربين منهم والملتفين حولهم، وجمهرة هؤلاء من الصف الأخير الذين يريدون أن يكونوا في الصف الأول بتقربهم من الرؤساء، والسير في ركابهم، ولذلك يكسل المجد، ويتهاون العامل، ويسكن المتحرك، وتخور عزيمة السباق، ولقد قر في(747/35)
الأذهان - من طول ما لقي المجدون - أن الحظ لا يواتي النابه المخلص، وقديماً، قال المتنبي:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأيسر من أجمع الحظ والفهما
وقال بعض شعرائنا المحدثين، وقد أخطئه الحظ، في توزيع الدرجات الأخيرة،:
أين الكفاءة لا كفا ... ءة غير ما يملي الهوى
والعلم والإخلاص والتـ ... بريز دون المستوى
من رام ربّاً عندهم ... فالجهل أعذب مرتوى
وإذا المحكم في مها ... وي الرأي والظلم هوى
فشهادة الحرمان أعـ ... دل يوم تختبر القوى
ولا سبيل إلى النهوض باللغة العربية، وبالتعليم على وجه العموم إلا إذا أخلص ولاة الأمور، وتنبهوا لما قدمنا لهم في مقالنا السابق، وفي هذا المقال من علل وأدواء، وعملوا - جاهدين مخلصين - على علاجها والقضاء عليها.
علي العماري المدرس بالأزهر(747/36)
أُمي
للأستاذ فريد عين شوكة
لا تلمني على بكائي وغمي ... أيُّ صبرٍ يُعين في فقد أمي
أي كنز فقدته في نواها ... أي خُسر أصابني، أيُّ غُرم
أين مني حنانها يُسعد الرو ... ح، وينفي عن خاطري كل هم؟
أين مني داؤها بركاتٍ ... تتوالى من السماء، وتهْمي؟
أين مني سؤالها عن طعامي ... وشرابي، وعن قيامي ونومي؟
أين مني حنينها للقائها ... إن تغيبتُ ساعةً دون عِلمِ؟
أين مني وداعها في رحيلي ... بالأماني التي تجدد عزمي؟
أين مني لقاؤها في إيابي ... بالتهاليل، حين أهتف باسمي؟
وهي تسعى إليَّ دون اقتدار ... بمحيّا كأنه بدرُ تِمِّ!
وعيونٍ تألّقَ البشر فيها ... كائتلاق السَّنَى بأسطع نجم
وفَمٍ ينظم التهانيَ حمداً ... أنني عُدتُ في أمانٍ وسَلْم
وتمدُّ اليمين منها فأُطفي ... حرَّ قلبي المشوق في فيض لثمي
ذكرياتٌ في خاطري تتهادى ... كحبيب الرُّؤى بأروع حُلم!
أين مني صدق الفداء، إذا ما ... مسني في الحياة أيسرُ سُقم؟
تسهر الليلَ وهي حوليَ ولهى ... تذرِف الدمع في خفاء وكتم!
فإذا ما انتبهتُ فهي تُلاقيـ ... ني بوجهٍ مستبشرٍ غيرِ جهم
وتروي جوانحي بأمانيَّ ... عذابٍ، تنفي ظنوني ووهمي
وتصومُ النهار عن كل زادٍ ... غيرَ ما يمسك الذِّماء ويَحمي
ومُناها لو أنها تفتديني ... بالذي يبتغي الفداء وترمي!
أين مني نفسٌ أسرُّ إليها ... فرحتي، أو شكايتي من مُلِمِّ؟
فترى السعد في هنائي، وترجو ... ليَ في النُّعْمَيات أوفر قسم
أو تسرِّي عني الهمومَ، فأرضى ... بالذي كان من قضاء وحكم
ثم تمضي الأحداث، والسر خافٍ ... فكأني ألقيتُه في خِضَمِّ(747/37)
هيهِ يا أخوتي. . . ونحن جميعاً ... في أسىً لافح اللَّظى مُدلَهِمِّ
كلُّنا في فجيعة الأم يطوي ... جانبيه على سهامٍ وكلْم!
كلنا مُترعٌ بما غمرته ... من رضاء ومن هناء وغنم
لم يكن بيننا أثيرٌ، ولكن ... متساوون في الحنان الأعمِّ
وإذا آثرَتْ شقيقاً بعطفٍ ... فلسقم، أو غربةٍ، أو عُدمِ
نظمَتْنا عِقداً، وكانت له الخيـ ... ط، فلم يبدُ مرةً دون نَظم
لا يرانا الزمان إلا أحبَّا ... َء، تلاقوا على ولاء ورُحم
شركاءً في السعد والبؤس، أعوا ... ناً على العيش في نضال وحزم
كشديد البنيان كنا، وكانت ... أمُّنا للبناء أثبتَ دعم
نبتغي عندها الرضاء، ونحيا ... طوْع إرشادَها على غير رغم
يا إلهي! هوَتْ دعامتنا الكبـ ... رى، فهل نستقر من غير هدم؟
يا إلهي! ندَّ القِراب عن السيـ ... ف، فكيف احتماله دون ثَلْم؟
يا ذوي قربتي! عزاءً جميلاً ... في مصاب دهى الظهور بقصم
قد حُرمتم نفساً أبرَّ وأحنى ... من شقيق لكم وخالٍ وعم
كم أتيتم رحابها، فلقيتم ... كرماً لا يزال كالبحر يَطمي
وحناناً من عندها وزكاةً ... في خفاء وفي حياء وبسم
وتبثُّون ما بكم. . . فتلاقو ... نَ لديها عوْناً على كل ظلم
ويحَ للجارة الوفية! تبكي ... كلما أقبلت فلم تلقَ أمي!
فقدتْ بعدها الوداد المصفّى ... والغياث المرجوَّ في كل أزْم
والفؤاد العَطوف يحنو ويأسو ... إن رماها كفُّ الزمان بسهم
واللسانَ العفيف لا يلفظ السو ... َء، ولا يتطيل يوماً بِشتم!
والحديث اللطيف يقطر كالشهـ ... دِ، بريئاً من اغتياب وذمِّ!
يالها من فجيعة رزأتها ... في سجايا عظيمةٍ أيَّ عُظم!
أيها الحزن! لا عدمتُك حتى ... تسحق النار في أتونِك عظمي!
أيها الدمع! لا هجرتك حتى ... يستوي في جوار أمي جسمي!(747/38)
لا أُطيقُ الحياة بعد نواها ... آهِ، يا ليت يومها كان يومي
يا عوادي الرَّدى فقدتُ رجائي ... فهلمِّي خذي الحياة. . . هلمي!
(منوف) فريد عين شوكة(747/39)
من وراء المنظار
زهرة وزهرة. . .!
جلست أنتظر في حجرة مدير المكتب حتى يأتي دوري فيؤذن لي بالدخول على كبير من أصحاب الديوان في إحدى الوزارات؛ وكانت الحجرة ملأى بالمنتظرين مثلي؛ وكلما رن الجرس وأسرع المدير إلى الحجرة المهيبة وخرج منها، تأهب كل امرئ يحسب أن الإذن له، فيشير المدير إلى من يعرف، وينادي اسم من لا يعرف، فيصلح الداخل حلته ويزرها ويعدل رباط رقبته، وقد ينزع طربوشه ويمسحه بمنديله أو بطرف ردنه، ويضعه على رأسه في اهتمام، ويدق الباب في احتشام، ويدخل ثم يخرج بعد حين وعلى وجهه غبَرَةٌ أو ابتسامة. . . وكان يقطع منظاري على هؤلاء، وأنا أحمد الله أن لم تكن بي حاجة إلى هذا الكبير، فما جئت لأقدم إليه (كتابي). . .
ودخل أكثر من بالحجرة وخرجوا، وبقيت سيدة على أحد المقاعد، حيث وقع نظري عليها منذ دخلت هذه الحجرة. . . سيدة هي الحزن نفسه تمثل إنسية في ثياب الحداد!. . .
كنت أنظر إلى وجهها الضارع فتغمز على قلبي وعلى كبدي هذه اللوعة الناطقة فيه، وكانت تدور طرحة سوداء بهذا الوجه، وهو في لون العاج المصفار، فتزيد بياض صفحته وتبرز معنى الثكل فيه. . . وكانت هذه السيدة الحزينة تنظر دائماً إلى الأرض، فلا تكاد ترفع بصرها حتى ترده إلى حيث كان في ضراعة وتخشع، وكم كان يحزن نفسي ما أراه من حمرة في جفونها كلما التقى بصري بعينيها الواسعتين الهادئتين، اللتين أطفأ الحزن والسقم ما كان فيهما من بريق!
وكانت هذه الزهرة الذابلة رائعة الحسن على الرغم من لوعتها وضراعتها، تروعك ملامح وجهها بقدر ما يروعك حزنها. . . وهكذا جعل الحزن روعتها روعتين، وجعل ما يحسه القلب حيالها من لوعة كأنما يذوقها مرتين!
وكانت شابة لا تزيد على الثلاثين فيما أحسب، وفهمت أنها أرملة كبير من أصحاب هذا الديوان، فعجبت كيف يدعها موظفو المكتب حيث هي فلا يعينونها على ما جاءت له من أمر، ولو لم يكن زوجها من أصحاب هذا الديوان من قبل، لكان لها من هذا الحزن الضارع أكبر شفيع. . . بل لكان لها من مجيئها ولم تخلع ثوب الحداد بعد، ما هو خليق أن يلين لها(747/40)
القلوب ولو كانت من الصخر. . .
ولكن. . . فيم العجب، ولو أن زوجها نفسه أحيل على المعاش، كما يقول أصحاب الديوان، وجاء بعد يوم واحد إلى نفس الديوان، لتنكر له من كانوا من قبل يرجون مودته، ولحياه من يحييه، وكأنما يريد أن يفهمه أنه يتفضل عليه بهذه التحية، فكيف وقد طواه الموت؟!
بهذا حدثتني نفسي وأنا أنظر إلى هذه التي يغطي السواد جسدها كلها، فلا يُرى إلا وجهها ويداها، والتي كنت أتخيل أن ما يطرأ على خاطري من هذه المعاني هو عين ما كان يطرأ على خاطرها في تلك اللحظة. . .
ودخلت بعد حين غانية أخرى في زينتها ودلها وألوانها، تخطو خطوات رشيقة سريعة وتتثنى وتتخلج كأنما تمشي لا برجليها وحدهما، وإنما بهيكلها كله، وقد فاح في الحجرة عطورها، وارتفع بالتحية صوتها، وهي تقول إنها تريد أن تقابل سعادة البك. . .
. . . وجلست هذه الزهرة الناضرة، وقد هش لها مدير المكتب، وأقبل عليها يحدثها حتى ما كان يعي تحيات القادمين ولا نداء الموظفين، ولا يفطن إلى ما يلقونه إليه من أوراق!. . . حتى الجرس نفسه - جرس الرئيس المهيب - كان يتوانى في إجابته، ثم يهرول ليعود بعد لحظة يصور لمحدثه مبلغ ما لدى رئيسه من أوراق ينظر فيها، وذلك كي يجعل له عليها فضل الحصول لها على الإذن. . .
ودخل الحجرة بعض الخبثاء من الموظفين يتظاهرون أنهم قدموا لعمل. . . فكانت تناديهم بأسمائهم فيسرعون إليها فتسأل الواحد منهم عما تم في مسألتها. . . فيحدثها في تظرف واهتمام، ويصف لها مقدار ما يبذل من جهد وعناية في هذا الأمر، وهي تخرج الكلام من فمها تارة ومن أنفها تارة، ولا تكاد تستقر في موضعها وتهددهم ضاحكة أنها سوف تشكوهم إلى سعادة البك وأنهم ليؤكدون لها في ميوعة وخبث أنهم (في الخدمة)، وأن (الهانم) لن تعود بعد يومين إلا وقد انتهى كل شئ. . . وتنظر إلى هذا فتقول: يا لئيم! وإلى ذاك فتقول: يا نصاب! وإلى ثالثهم فتقول: يا مكير! وتغمز بعينيها وتضحك. . . ويتكلمون بالإحداق، أو يتغامزون بالأيدي، وينصرفون ليقولوا خارج الحجرة ما يشاءون!
وتنظر المحزونة إليها فيتضاعف حزنها، وإن صاحب القلب المحزون ليعرف أقصى حزنه حين يجد نفسه وحده بين قوم لاهين ضاحكين! وأنظر إلى هذه الثكلى لا يعنى بها أحد، ولا(747/41)
يفكر في أمرها أحد، فتشمئز نفسي من لؤم هذه الحياة!
ورن الجرس، فخف المدير إلى حجرة رئيسه، ثم عاد يشير إلى صاحبته لتدخل، ومشت إلى الباب في خفة كأنما تريد أن تجري، ورائحة عطرها تملأ الخياشيم. . . ونظرت إلى تلك الزهرة التي لا يفوح منها عطر، فإذا حمرة تورّد هذا العاج المصفار في وجهتها هي حمرة الغضب، وإذا بجفونها المقروحة تتندى، وإذا بها تمسك دموعها في جهد!
وتمشي إلى مكتب المدير في أناة وخشوع، وتقول له في صوت مختنق متهدج. . . إنها تعتذر إذ لا تستطيع البقاء، فما يزيد على أن يقول لها في سماجة: (على كيفك يا ستي. . . الناس لسه منتظرين كلهم أهم. . . وأنا أعمل إيه؟)
وانصرفت المسكينة فما بلغت الباب حتى انهمرت دموعها، فمسحت عينيها بمنديلها، وما في الحجرة ممن ينتظرون الإذن إلا من تحرك قلبه شفقة عليها ورثاء لها!
ولا أريد أن أذكر للقارئ متى جاء دوري أنا (المؤلف الفاضل)، أحد حملة القلم المتواضعين الذي ما جئت أرجو في شئ، والذي يعرفني منذ سنوات هذا الكبير الذي لا تخلو من أمثاله وأمثال مديره أكثر الدواوين!
الخفيف(747/42)
تعقيبات
بأية حال عدت يا عيد؟!
خرج شاعر العربية أبو الطيب المتنبي من مصر هارباً في سبيل آماله، فأتى عليه عيد الأضحى وهو شريد في الصحراء، تملأ نفسه الوحشة ويستبد به الحنين، فثارت شاعريته بتلك الصرخة الأليمة الخالدة:
عيد! بأية حال عدت يا عيد ... بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟!
واليوم، يأتي علينا عيد الضحية، ونحن في حال الشاعر الكبير، نشيدنا هو تلك الصرخة الأليمة التي هتف بها في أذن الزمن من قديم، فكلنا ضحية للمرض الغائل، والوهم القاتل، والهم الجاثم، وكلنا غريب تملأ نفسه الوحشة والفرقة ينشد قول أبي الطيب:
عيد بأية حال عدت يا عيد. .
إن الأمر لله من قبل ومن بعد، فيا بارئ الناس غوثك ورحمتك بالناس. . فاللهم اكشف الضر عن عبادك أجمعين، وارفع الشر عن جندك المسلمين، وأدرك بعنايتك الفياضة هذه الأمة الضارعة إليك فيعود عليها هذا العيد بالخير العام، والسرور والسلام. .
أدب. . الكوليرا:
في عام 1902 هجم وباء الكوليرا على مصر هجوماً عنيفاً فملأ نفوس الناس بالفزع، وملأ عواطف الشعراء بالتأثر، ففاضت قرائحهم بالقصائد في التنديد على ذلك الوافد الثقيل، وتطمين الخواطر للأقدار الجارية، مما لو جمع لكان ديواناً يمكن أن يسمى (ديوان الكوليرا).
أذكر من ذلك قصيدة للمرحوم الشاعر أحمد محرم تصور حال ذلك الوباء في تلك الأيام وشدة تأثيره على نفوس الناس، ويقول في مطلعها:
ضيف ولكن لا أقول سلام ... ولرب ضيف ذم منه مقام
ريعت لطلعتك القلوب وهالها ... هذا التوثب منك والإقدام
تسطو على سرب النفوس وإنما يسطو على سرب الحياة حمام
وتصول ما يثنيك عن آجالها ... عذل تؤجج نارة وملام
لو كنت ذا قلب يرق لنادب ... أمنت بلاءك هذه الأقوام(747/43)
الله في أرواحها ونفوسها ... إن كانت التقوى لديك تُرام
أوقدتها حرباً يشب ضرامها ... فمتى يغيث الناس منك سلام
شر الضيوف ولا أخالك غيره ... ضيف له نفس المضيف طعام
ثم يصف الشاعر موقفه في هذه الغمرة فيقول:
أتظن أن الخوف يملك منطقي؟ ... نظم القريض إذن علي حرام!
أم أنت تطمع أن يدين لحادث ... قلم تدين لربه الأقلام؟
أسطو عليك به وأعلم أنه ... قدر تطيش لهوله الأحلام
كف الوعيد فإن أنفاس الفتى ... معدودة وكذلك الأيام
ولكل نفس مدة محدودة ... ولكل شئ غاية وتمام
ثم يقول:
يا ضيفنا المكروه يومك بيننا ... شهر وشهرك إن تقاصر عام
أنى حللت من المدائن والقرى ... حل البلاء وزادت الآلام
يا ضيفنا لو لم تكن قذراً لما ... ضربت على الأقذار منك خيام
إن اغتيالك ذا الخصاصة بيننا ... عيب يجانبه الكريم وذام
أم الغني تخاف ويحك أم ترى ... أن الغني من حقه الإعظام
وأخيراً يختم قصيدته بهذا البيت:
سر أو أقم إن المنون روائح ... وبواكر ومن المحال دوام
والقصيدة طويلة، وقد اقتصرت منها على هذه النماذج ولو كان في المقام سعة لأوردت كثيراً من النماذج من قصائد الشعراء في التنديد بذلك الوباء ووصف نكبة الشعب في تلك الأيام
وفي هذه الآونة يهجم وباء الكوليرا على مصر، ويفعل أفاعيله بأرواحهم، وفي نفوسهم، وتتحرك الدنيا كلها لهول الخطب، ولكن أحداً من شعرائنا لم يتحرك أبداً، ولم يثر هذا في نفسه عاطفة الشعر كما تثيره حادثة غرام، أو ليلة وصل، أو هجر غانية تبيع قلبها وجسمها في كل سوق، أو صورة مبتذلة في مجلة ماجنة. . .
ألا رحمة الله، ثم رحمة الله، على شعرائنا الذين كان الشعب يجد نفسه في عواطفهم وفي(747/44)
قصائدهم، ورحمة الله لشعراء هذه الأيام، شعراء القبلة الأولى، والليلة الحمراء. . .
الرسائل في الأدب العربي:
نشر الأديب أحمد محمد عيش في العدد الأخير من مجلة (الكاتب المصري) بعض الرسائل الأدبية التي تبادلها مع الشاعر العراقي الكبير المرحوم الأستاذ جميل صدقي الزهاوي، وقدم الأديب لذلك بمقدمة قال فيها:
(. . . هذا لون من ألوان الأدب الجديد - أدب الرسائل - استحدثناه، أو بعبارة أخرى نبشنا دفائنه وأحيينا مواته، ذلك لأن اللغة العربية لم تحظ بهذا اللون الجميل، اللهم إلا في النادر القليل، بعكس اللغات الأجنبية، فأنها مشحونة بهذا الضرب الرفيع بنماذجه الرائعة وأنماطه العذاب. . .).
ومسكين والله هذا الأدب العربي، كأن الله كتب عليه في هذه الآونة أن يكون هدفاً للدعوى من كل فارغ الرأس، ومقصداً للاتهام من كل جاهل، وأنا لا أحسب أن في نفوس هؤلاء الشبان ضغينة على الأدب العربي، ولكنهم العلة أنهم يحسبون أن الأدب العربي هو ما يقرؤونه في الصحف والمجلات، وما يدرسونه من النماذج الجامدة البالية في مقررات المدارس، فإذا ضممت إلى ذلك دعوى عريضة تمتلئ بها الرءوس الفارغة، وتلتوي بها الألسن المعوجة، وقفت من وراء ذلك على أصل العلة وموطن الداء. . . وإنه لداء تفشى بين شبان العصر، فليس أسهل على الواحد منهم من أن يحمل القلم، ويتنفخ بالدعوى العريضة، ويمد أنامله فيخط كلمات رشيقة رقيقة يطمس بها تاريخ الأدب العربي من بدايته إلى نهايته، وينكر أن يكون هذا الأدب أدباً. . .
عشت يا سيد عيش. . . (تستحدث في الأدب العربي) ما ليس فيه من (النماذج الرائعة والأنماط العذاب)، ولكن صدقني أيها الأخ أن الأدب العربي حافل بالرسائل التي من هذا اللون، بل إن الأدب العربي يمكن أن يسمى أدب الرسائل والمحاضرات والمطارحات، بل إن المؤلفات الأدبية والعلمية لم تكن إلا رسائل يقدمها أصحابها إلى الأصدقاء، أو يرفعونها إلى الرؤساء، وأنا على استعداد أن أضع يدك - إذا أردت - على ألف رسالة ورسالة من ذلك اللون الذي تريده في حديث الكتاب عن أنفسهم وعن صلتهم بالناس والحياة، ولكني أعتقد أنك لا تريد هذا أبداً حتى تظل على الاعتقاد بأنك قد (استحدثت) هذا اللون من(747/45)
الأدب في الأدب العربي.
قد يكون للأديب (عيش) عذره فيما يقول، ولكن ما عذر أستاذنا الدكتور طه حسين الذي يشرف على تحرير (الكاتب المصري) في أن يحمل هذا الفضول على الأدب العربي. . . فإن كان الدكتور يرى هذا ويعتقده فإنني على استعداد لمناقشته في هذا الرأي. . .
(الجاحظ)(747/46)
الأدب والفن في أسبوع
احتفاء صامت:
هو الاحتفاء بذكرى شوقي، ولم نفرغ بعد من هذه الذكرى، وما ينبغي أن نفرغ منها إلا بعد كثير. . وأعني بصمت الاحتفاء بها أنه جرى على الأقلام وبدا على صفحات الصحف والمجلات على نطاق واسع وفي منظر لم يكن معهوداً من قبل، على حين لم يقم لهذه الذكرى ما يناسبها من المحافل
لم بخل أكثر الصحف والمجلات في هذا الأسبوع من ذكر شوقي، كل
على طريقتها وحسب مزاج قرائها، فهذه فصول في دراسة شعر شوقي
من نواحيه المختلفة، وهذه معلومات وطرائف عن شوقي (لم تنشر)
وهذه روائع من شعره، وهذه صور لمنزل شوقي (كرمة ابن هانئ)
وغرفه وأبهائه وحديقته وأثاثه، فهذا سرير شوقي، وهذا مكتبه، وعلى
ذلك الكرسي الطويل كان يتمدد بعد الغداء، وكثيراً ما كان يهبط عليه
وحي الشعر على هذه الحال، وفي هذا الكوب كان يشرب، وهنا كتبه
المختارة وعلى هامش صفحاتها أبيات كانت تواتيه فيسرع في تدوينها
على أقرب شئ منه. وقد استصحبت عدسة (المصور) إلى كرمة ابن
هانئ الأستاذ أحمد رامي الذي وصفته بأنه شاعر الشباب في دولة
أمير الشعراء. وهو الآن بعد تلك الدولة (شاعر شباب القرن التاسع
عشر) وذلك ليدلها على معالم هناك تعاهدها في صحبة أمير الشعراء،
فأتى لها بطائفة من الصور ذات الموضوع.
وصف شوقي للكوليرا:
وهكذا افتنت صحفنا في الاحتفاء بذكرى شوقي، حتى أن إحداها، وهي مجلة الصباح، أتت(747/47)
بأبيات في وصف وباء الكوليرا الذي كان بمصر سنة 1902 من قصيدة لشوقي يهنئ فيها الخديوي عباس بعودته من الخارج ويصف ذلك الوباء، قال شوقي:
الدهر جاءك باسط الأعذار ... فاقبل فأمر الدهر للأقدار
هل كنت تدفع حاضراً أو غائباً ... عن مصر حكم الواحد القهار
ذاقت نواك وروعت بثلاثة ... بالداء بعد المحل بعد النار
ودهى الرعية ما دهى فتساءلوا ... في كل ناد أين رب الدار
ذكروك والتفتوا لعلك مسعد ... ذكر الصغير أباه في الأخطار
فأسى جراحهو وبل صداهمو ... طيب الرسائل منك والأخبار
لهفى على مهج غوال غالها ... خافي الدبيب محجب الأظفار
خمسون ألفاً في المدائن صادهم ... شرك الردى في ليلة ونهار
ذهبوا فليت ذهابهم لعظيمة ... مرموقة في العصر أو لفخار
فالموت عند ظلال (موشا) رائع ... كالموت في ظل القنا الخطار
خلفاء شوقي:
وكتب الأستاذ سعيد العريان في جريدة النداء فصلاً بعنوان (خلفاء شوقي) بين فيه آثار حملات النقد التي وجهت إلى شعر شوقي فقال في هذه الحملات: (قد تركت أثراً في نفوس الشباب من القراء لذلك العهد، فنزل شوقي عند طائفة منهم دون منزلته، إذ زعم لهم من زعم أن للشعر مقاييس وأوزاناً فنية لا يقاس بها شعر شوقي ولا يوزن) إلى أن قال:
(وهكذا نشأ جيل من القراء لا يؤمن بشوقي ولا يعتده شاعراً من طبقة الأمراء، أو لعلي أستطيع أن أقول أن جيلاً من القراء قد نشأ غير مؤمن بالشعر في جملته، لأن الذين حطموا التمثال الجميل الذي كان هؤلاء القراء يتعبدون له - لم يستطيعوا أن يقيموا مكانه تمثالاً آخر قد جمع من عناصر الجمال والقوة على مقياسهم ما يحملهم على الإيمان به، إذ لم يبق في مكان التمثال المحطم إلا أشلاؤه المتناثرة)
والحق - الذي أراه - أن النقد الذي وجه إلى شوقي لو نفضنا عنه الغبار لوجدنا فيه كثيراً من العناصر الصالحة التي نبهت على كثير من الحقائق الأدبية التي انتفع بها الشعر العربي والأدب على العموم في هذا العصر(747/48)
ومن الحق أيضاً أنه (لم يبق في مكان التمثال المحطم إلا أشلاؤه المتناثرة) فلم يملأ أحد مكان شوقي. وما ذلك - كما أرى - إلا لأن الذين ساروا في مذهبه تنقصهم أدواته، كما ينقصهم عصره، فقد صرنا إلى عصر غيره يتطلب جديداً، والفلك دوار. . ولأن الذي سلكوا غير مسلكه ينقص المجيد منهم الماء الذي يجعل العود أخضر. . . وكثيراً منهم يخبطون ويعتسفون.
الفن القصصي في القرآن:
كان لما بيناه من أمر رسالة (الفن القصصي في القرآن) التي قدمها الأستاذ محمد أحمد خلف الله للحصول على الدكتوراه من كلية الآداب - صدى كبير وخاصة في البيئات الدينية الإسلامية، لاحتوائها على ما يعد نفياً للصدق التاريخي في القرآن الكريم. وقد تلقينا كثيراً من الرسائل في هذا الموضوع، منها رسالة من (جبهة علماء الأزهر) مصحوبة بمذكرة مرفوعة إلى (حضرة صاحب الجلالة الملك ورجال دولته الأكرمين) وقد وقع عليها رئيس الجبهة الشيخ محمد الشربيني والأمين العام لها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، وقد جاء في هذه المذكرة (ولقد مضى على نشر هذا النبأ وقت يسمح بتكذيبه لو كان كاذباً، لكن أحداً لم يكذبه، لا المؤلف ولا المشرف عليه، ولا عمادة كلية الآداب التي جاء في الخبر أنها تنتظر بالرسالة حتى ينعقد مجلس الكلية؛ وذلك يدلنا على أن الأمر خطير يجب الإسراع بعلاجه لأنه وباء جديد أشد فتكاً وأفظع أثراً من وباء الكوليرا في هذه الأيام فإنه يجني على الأرواح لا على الأشباح ويصيب الأمة في دينها وهو أعز عليها من حياتها)
وقد أرسل مقدم الرسالة إلى صحيفة (الإخوان المسلمون) يقول إنه مستعد لأن يشعل النار بيديه في رسالته على مشهد من الأساتذة والطلاب إن ثبت أن فيها ما يخالف الدين الذي استمدت أصوله من القرآن، ومستعد لمساجلة الأستاذ أحمد أمين بك على صفحات مجلة الرسالة التي نشرت تقريره. ولكن الإخوان عقبت على ذلك بقولها: (إذا ثبت أن ما نقل من فقرات عن رسالة (الفن القصصي في القرآن الكريم) قد ورد فيها كما نقل، فلا يكفي أن يحرقها مؤلفها بيديه أو بيدي غيره على مرأى ومشهد الأساتذة والطلاب، بل لابد أولاً أن يعلن رجوعه إلى الإسلام، وأن يحدد عقد نكاحه على زوجته إن كان متزوجاً) وقالت له إن حرق الرسالة لا ينفع (بل يجب قبل ذلك أن تحرق الشيطان الذي ملأ نفسك بهذا الهذيان(747/49)
وأملاه عليك فإذا أحرقت هذا الشيطان فاعتزل كلية الآداب ودكتوراها والزم غرفة تنزوي فيها وتبكي على ما انخدعت به للشيطان وحزبه إلى أن يتوب الله عليك)
وقال لي صديق من الجامعة قد جاء في الحديث ذكر هذا الموضوع: - لقد فاتتكم نقطة هي أن الجامعة أرسلت من قبل كتاباً إلى خلف الله تقول فيه أنها موافقة على أن يعد رسالة في (الفن القصصي في القرآن) وألق بالك إلى كلمة (الفن) أفلا ترى في ذلك كأنها تكلفه أن يقول إن قصص القرآن (فن)؟
قلت للصديق الجامعي: ما كان أغنى الجامعة عن هذا الموضوع!. .
كوليرا الإذاعة:
رأيت غير مرة في برنامج الإذاعة ما يلي:
(برنامج خاص (الكوليرا) وانتظرت في المواعيد المحددة فلم أسمع (الكوليرا) وكانت آخر مرة مساء يوم الخميس الساعة الثامنة إلا ثلثاً، وقد سمعت بدلاً من (الكوليرا) تمثيلية (عذراء الربيع) وليس من القليل أن تقرأ في البرنامج شيئاً وتسمع من المذياع غيره! ولكن استرعى انتباهي تكرر وضع (البرنامج الخاص بالكوليرا) في برنامج الإذاعة مع عدم إذاعته وشغل وقته بأي شئ ولو (تقاسيم نهاوند)
فماذا يا ترى يمنع من إذاعة برنامج الكوليرا؟
دفعت هذا السؤال الأمامي. . . حتى وصلت إلى أن برنامج الكوليرا المذكور في (الحجر الصحي) ولوقوعه في هذا الحجر قصة:
وضع ذلك البرنامج الأديب المفتَن الأستاذ طاهر أبو فاشا وقدمه إلى محطة الإذاعة فأحالته إلى وزارة الصحة للموافقة على إذاعته، فقالت وزارة الصحة لابد أن يعتمده طبيب. . . وأخذه الأستاذ طاهر إلى أحد الأطباء، فأقره، وأعيد البرنامج إلى وزارة الصحة، فوافقت عليه، ثم تصرف في تنظيم عرضه مخرج الإذاعة، وأُعلن عنه، فطلبته وزارة الصحة ثم قالت ليس هذا هو البرنامج الذي أقره الطبيب، ولا يذاع إلا الأول. مع أن المعلومات الطبية هي هي في البرنامج قبل الإخراج وبعده.
قصة طويلة مملة رغم اجتهادي في اختصارها، ولا أدري ماذا تم فيها، ولكن مما يدعو إلى الأسف أن يحال دون الانتفاع بالفن، أو يؤخر، في بلاء واقع يشغل بال الجميع هو وباء(747/50)
الكوليرا
والأكثر من ذلك استدعاء للأسف، هو تثبيط همم الأدباء الذين يرجى أن يقبلوا على الإنتاج للإذاعة، وحسبهم ما يلاقون من إدارة الإذاعة نفسها من سوء التقدير الأدبي والمادي، فالأديب الذي يضع عصارة نفسه وفكره فيما يقدم للإذاعة يعد لديها شخصاً ثانوياً بالنسبة للمخرج الذي قد لا يزيد عمله على الترتيب الشكلي، وإن زاد فلا يتعدى بعض التبديل والتغيير، فيهتف المذيع باسم المخرج في البلاء قائلاً: (فلان يقدم. . .) ثم يجبر خاطر المؤلف المسكين فيذكر بعد ذلك اسمه في صوت خافت
ولا أنكر أن كثيراً من المؤلفين للإذاعة جديرون بهذا الوضع. . وخاصة مؤلفي الأغاني التي يشكو الجميع من ضعفها وسخفها، ولكن يجب تهيئة الجو الصالح لكرام الأدباء، لأن الاستمرار على مثل هذه المعاملة يزيد في إعراضهم عن الإذاعة
أما التقدير المادي فحسبك أن تعلم من سوئه أن مؤلف التمثيلية أو البرنامج الخاص لا يزيد أجره على ثمانية جنيهات، وتصور كم قضى الأديب، وكم بذل من جهد، وكم استوحى مصادر فنه، في هذا النتاج؟ وقد يكون هذا مقبولاً وقد يطلب من الأدباء ألا ينظروا إلى الكسب المادي لولا أن محطة الإذاعة تغدق المال من جانب آخر على الموسيقيين والمطربين والمطربات فقد حسب ما يكسبه أحد الموسيقيين من الإذاعة فبلغ نحو أربعمائة جنيه في الشهر، وكيف يصح أن تقول أم كلثوم لمحطة الإذاعة: (أذنت لك في إذاعة ما لديك من مسجلاتي) فتنال على هذه الجملة آلافاً من الجنيهات. . ويبذل أديب نابغ كطاهر أبو فاشا ما يبذل في نتاج قيم، وتحقي قدماء بين محطة الإذاعة وبين وزارة الصحة، ليحصل على ثمانية جنيهات. .!
ليست آلاف الجنيهات كثيرة على أم كلثوم التي تهدي الطرب إلى القلوب. . . ولكنها جاءت في طريق المقابلة الذي دفعنا إليه سوء تقدير الأدباء بمحطة الإذاعة، الذي يحيق ضرره بها، من حيث قيمة ما تقدمه، أكثر مما يحيق بالأدباء، لأنهم يستطيعون أن يعتصموا بالرغبة عن الإذاعة للوقاية من تحيفها لهم.
مخطوطات أندلسية:
تلقت الإدارة الثقافية بالجامعة العربية من وزير أسبانيا المفوض في مصر ستة كتب من(747/51)