وكان كل ما أخذته مما يتصل بابنتي التي لا أحب شيئاً في الوجود حبي لها حذاء من أحذيتها الصغير وصورتها الفوتوغرافية. . . وترك صورتي الفوتوغرافية وقائمة مشوشة مما يلزمها من طعام، وحمام، ودواء إذا أصابها برد.
وكتبت في أخر القائمة بخط مضطرب: (وغطها في الليل)
وكان من عادة الطفلة أن تتقلب ليلا فيجئ رأسها مكان رجليها وتنفض الغطاء عن جسمها، وكان نوم (روني) عميقاً، فليساعده الله في أن يعمل لها كل ما كنت أعمله أنا.
ودق جرس التليفون دقاً شديداً وأخيراً سمعت صوت (تيد) المحبوب الذي كدت أنساه، فلما سمع بأنني قد أصبحت آخر الأمر له ابتهج وصاح.
- لا تشحني شيئاً في القطار، إنك ستركبين الطائرة يا حبيبتي؟ وسأرسل لك المال بالتلغراف. . . آه. . . يا بام. . . سأعد الدقائق عداً!.
فلأسرع. . . نعم فلأسرع. . لمغادرة البيت ولأنهب الطرقات في إحدى سيارات الأجرة. . . ولأمض لا أتلفت ورائي إلى لعب ابنتي المبعثرة في أرض الغرفة. . .
ولأنظر إلى الأمام. . إلى تيد!. . تيد: الذي يستطيع حبه أن يعيدني (الفتاة) التي كنت من قبل. . جميلة محبوبة! آه. . يا تيد. . تيد. . إنك ستنسيني كل هذه السنوات. . . ستنسينيها نسياناً تاماً فلا يصحبني شيئ منها!.
ولقد حاول (تيد) فعلا أن ينسيني أيام المتاعب. ومن حسن الحظ أننا أبحرنا في الحال، فالبحر، والبلاد الجديدة وليالي شهر العسل في المناطق الاستوائية كل ذلك كان حلماً ساحراً. وشفاهه العاطشة وساعداه القويتان الضاغطان، واجتمعنا معاً ناسين العالم كله، وهو يريني هذه الأراضي الجديدة التي يقيم فيها. . هذه هي السعادة، هذه هي الجنة. .
ولكن الطلاق من (روني) والزواج في اطمئنان من الرجل الذي أحببته. . . لم يكن كله ليمحو عن رأسي ذكرى هاتين السنتين التين عشتهما أما لطفلة صغيرة. . . لا أدري أين هي الآنومع من هي، وماذا هي فاعلة؟ وهل لا تزال تصلي الصلاة التي علمتها؟ وهل أوصيت في القائمة التي تركتها بأن تستحم مرتين في اليوم؟ ومن الذي يتولى أمر استحمامها بينما يكون (روني) في عمله بعيداً عن البيت؟ أهي خادمة؟ إن قلبي ليرتجف رعباً عندما أتصور إحدى الخادمات تزجر ابنتي في خشونة وعنف. . .(724/58)
والآن تكاد (سو) تبلغ السنة الثالثة من عمرها. . . أو هي تقرب من السنة الرابعة. . . ومن الذي يغطيها في الليل؟
وغالبا ما أستيقظ في الليل على حين فجأة وقد خيل إلي أنني سمعت تنفسها المرتجف الذي يدلني على أنها تشعر بقسوة البرد.
وما زلت أتوهم مثل هذه الأوهام، وإن كانت ابنتي أشرفت الآن على السنة السادسة من عمرها. . . فهي على أهبة الذهاب إلى المدرسة. . على أن (تيد) الذي كان يشعر باضطراب نفسي، لم يكن ليبتعد عني كثيراً فهو دائماً إلى جانبي يحاول أن يواسيني ويهدئ من روعي. . وعلى الرغم من أنني، من أجله أحاول أن أنسى، فإنني لا أستطيع النسيان ولا تزال سعادتنا يضللها شبح آلامي وعذاب نفسي.
ليس في الوجود شيء كامل. وليس فيها شيء كافي لإقناع النفس. فكما كنت من قبل أشتاق إلى (تيد) أنا الآن أشتاق إلى (سو)، وكما كان رأسي يداعبه الأمل في أن أجتمع (بتيد) ها هو ذا رأسي يداعبه الأمل في أن أجتمع يوما بابنتي. . . وحيثما ذهبنا، وبخاصة الآن بعد أن عدنا إلى إنجلترا، تصفحت وجوه الأطفال، أبحث عن طفلة براقة العينين، راقصة الساقين، يداعب الهواء حلقات شعرها الجميل. وقد تكون في مكان يبعد أميالا عديدة عن مقامي، وقد تكون على مقربة مني تمر بي في الطريق.
لقد كتبت علي أن لا أعرف شيئاً من أمرها، ولعلي لن أعرف منه شيئاً أبداً. . . وكل ما أستطع أن أفعله هو أن أصلي من أجلها وأن أدعو الله (أن يحفظها. . . وأن يغطيها في الليل)
عبد الحميد حمدي(724/59)
العدد 725 - بتاريخ: 26 - 05 - 1947(/)
عجائب الشحاذين وأصحاب الملايين!
للأستاذ عباس محمود العقاد
هذه العجائب وتلك - كلتاهما من عجائب أميركا.
وهي بلاد العجائب بغير حدود من المكان ولا من طبقات السكان؛ فإنها لتجود بالعجائب في الشمال وفي الوسط وفي الجنوب، وإنها لتجود بها على أيدي (المتسولين) كما تجود بها على أيدي أصحاب الملايين.
وأعجب العجائب حقاً ما جاء من الوسط على رواية بعض الأنباء البرقية. ولا عجب. . . فانك لتستطيع أن تقول (اعجب العجائب الوسط) كما تقول خير الأمور الوسط. فلا تعدوا الصواب.
وبلاد المكسيك هي البلاد الوسطى بين الشمال والجنوب في القارتين الأمريكيتين.
وعجيبتها المروية هي عجيبة الشحاذين، وهي أعجب ما سمعناه من بلاد العجائب في هذه الأيام.
روي عن صحيفة (اليونفرسال جرافيكو) المكسيكية أن الشحاذين في عاصمة المكسيك قد اتفقوا على الحد الأدنى الذي ينبغي أن يقبلوه ليكون لهم عمل مجد على قدر المستطاع. وقرروا أن يرفضوا على نصف المليم ولا يمدوا أيديهم إلى مادون خمسة مليمات، وعليهم أن يرفضوا الصدقة إذا نقصت عن القيمة المقررة على الوجه الذي يرونه بالغاً في التأنيب والملامة. حسبما يقتضيه الموقف أو يقتضيه الحال)
هذا هو الخبر العجيب!
وهو ولا شك من (علامات الزمن) كما يقولون. لأننا في زمنالادعاء والطلب بالحق والباطل: كل يزعم له حقاً وكل يطالب بحق، حتى من لا يعمل له ولا معمول له على نفسه. وما من أحد قط تذكر الواجب عليه أو ينظر حقوق الآخرين.
وقد كانت مصر تدعى من قديم الزمن ببلاد العجائب، أو تدعى على الأصح ببلاد المفارقات.
وكان أهل مصر يقولون على سبيل الإغراب في الدلالة على التبجح والصفاقة: (حسنة وأنا سيدك!) ويخيل إليهم أنها غاية الغايات في الإدعاء وقلة الحياء. ولكنه عصر غابر(725/1)
وعجائب تاريخية وأزمنة متأخرة. . . وما هي في حساب بلاد العجائب على الطراز الحديث إلا من وقائع الصحافة وأخبار كل يوم!
ترى ماذا يمون لو قوبلت هذه (الحقوق) بالرفض والإهمال من فريق (المغتصبين)؟
أيضرب أصحاب الحقوق؟
لو فعلوا لكان خطراً جسيماً على المحسنين. لأنهم يبحثون على أبواب السماء فلايجدونها، ويدورون على أبواب الوجاهة والمظاهر فيقال لهم (يحنن) أو يرزقكم الله. ودقة بدقة أو بدقات، وطرقة على الأبواب بطرقة على الأبواب أو بطرقات! ويكون الجزاء على هذا من جنس العمل، في شريعة من لا يعملون!
إذا صح إن الصدقة باب السماء فقد أصبحت مقاليد السماء أذن في أيدي (سدنة) العصر الحديث، وهم أبناء السبيل أو أبناء محراب الطريق.
وكل ما بقى من منافذ الرجاء للمحسنين المساكين أن يكون للسماء اكثر من باب واحد.
فعسى أن يبحث عنه المحسنون موفقين.
وعسى ألا يسبقهم كهان السبيل على الأبواب.
ومتى أصبحت (الشحاذة) على هذا المنوال فلسوف يصبح كل محسن في العصر الحديث على غرار ذلك المحسن الوحيد الذي قال فيه الشاعر العربي:
تراه إذا ما جئته متهللاً=كأنك تعطيه الذي أنت سائله!
تلك هي أعجوبة الشحاذين.
أما أعجوبة أصحاب الملايين فمن محاصيل الشمال في تلك البلاد التي فاضت بجميع أنواع المحاصيل.
وأما بطلها العجيب فهو رجل يدعى (البرت ايت) باع مصانعه وقصوره وسياراته وقبع هو وزوجتهفي خمس حجرات مزرية في إقليم فلادليفيا. . . وقال لمن سألوه: ولم اكتفيت بهذه الحجرات الخمس وهي من مساكن أصحاب الكفاف؟
فقال إنها جهد ما تستطيع الزوجة العاملة عمله أن تتولاهبالخدمة والرعاية، وهي مع ذلك كافيه لمأواه ومأوى ذويه الأقربين.
لو كان هذا الرجل في الشرق لحجروا عليه، واتهموه بالجنون المطبق ولم يكن قصاراه من(725/2)
التهمة أنه مخلوق عجيب.
على انه الحق عجيب بين الناس لأنه نادر المثال بينهم، لا لأنه غير مفهوم أو لأنه منحرف عن منهاج العقل السليم.
فالعقل كل العقل ما صنع وحده.
والعجب كل العجب ما يصنعه جميع الناس في كل مكان.
لأن الناس لا يعجبون لرجل يودع عشرين مليوناً من الذهب في مصرف من المصارف ولا يحتاج إلى درهم منها لنفقة يومه أو غد، أو لنفقة أحد ممن تلزمه النفقة عليه.
وما الفرق بين عشرين مليوناً من الذهب باسمك أنت وعشرين مليوناً من الذهب باسم رجل آخر تعرفه أو لا تعرفه بين مخلوقات الله الذين يحسبون بالملايين.
ما الفرق بين مال تملكه ومال لا تملكه على هذا الحساب؟
ما الفرق بين مليم تستغني عنه وألف مليون من الدنانير تستغني عنها؟
لا فرق بينهما في حساب العقل السليم.
بل ربما كان الفرق في هذه الحالة أن المليم أفضل وأوفر من ألف المليون.
لأن هم المليم في التفكير والحساب أهون من هم الألوف والمئات والعشرات.
وكل ما هناك انه تنافس على الهباء أو بطر ومزاح في تلفيق المخاوف والأخطار
تنافس على الهباء ليقال إن صاحب الألف أغنى من صاحب المائة أو العشرة.
وبطر أو مزاح في تلفيق المخاوف والأخطار، لأنك تضحك من تلك المخاوف والأخطار لو لم تكن قادراً على توهم الحاجة واختلاقها من العدم، وأنت لا تخلقها من العدم لو استغنيت عنها واستغنيت عن تلك الأموال.
غنى من الوهم تدفع به حاجة من الوهم. فأنت في عناك وفي حاجتك من الواهمين.
وإنما الغني الصحيح كل مال تحول في نفسك إلى إحساس صحيح. فلا قيمة لمال لا يمثله في خزانة النفس رصيد من الإحساس، وكل ما فيخزائن الأرض من الذهب والفضة هو مالك أنت إذا كان قصاراك من المال أن تجمعه في خزانه أو تكتبه في أوراق المصرف بحروف اسمك بدلا من سائر الحروف.
أكان (البرت لايت) عجيباً كما وصفته الصحفووصفه قراء الخبر من المغرب والمشرق؟(725/3)
نعم إذا كان العجيب هو النادر المخالف للمألوف.
وكلا وألف مرة كلا كما يقول خطباء الحماسة إذا كان العجيب هو الشائع المخالف للمعقول.
ولك أن تقول إن بلاد العجائب فيها مائة وعشرون مليوناً عجيبون ورجل واحد غير عجيب.
فيقول الناس كلهم: عجيب عجيب، ولا تسلم أنت يومئذ من تهمة العجب أو من تهمة الجنون.
على إن المرأة هنا أعجب من الرجل والله
ولو لم تكن أعجب منه لأخذت بتلابيبه وجرته إلى القضاء وملأت عليه الدنيا صخباً ولجباً كما فعلت إمرة الفيلسوف الروسي تولستوي، أو كما فعلها من قبلها نساء الأجاويد من العرب، وكلهن يلمن على ترك الغنى وكسب الدعة والثناء.
رجل عجيب وامرأة أعجب، وعالم أعجب من الرجل والمرأة معاً لأنه يعجب في غير عجب، وكان من حقه أن يصنع كما صنعا فلا يبتلي بشحاذين من ذلك الطراز، ولا بنزاع على الحقوق من قبيل النزاع الذي يقود الى مثل ذلك الإدعاء، فلا يسمع معه صوت للواجب ولا للأنصاف
عباس محمود العقاد(725/4)
من أحاديث الإذاعة
في الترام
للأستاذ علي الطنطاوي
يا سادتي ويا سيداتي. كنت راكباً أمس في الترام، أفكر في موضوع أتحدث به إليكم، فأسليكم وافديكم، فلا يكون الحديث لذيذ بلا نفع، ولا نافعاً بلا لذة، فكان يطير الموضوعات من رأسي، هواء بارد يلفح الوجوه، فيبلغ منها مثل ما تبلغ السياط، فقمت إلى الباب لأغلقه فاستعصى علي، فشددته فتأبى فجربت فيه الوسائل فما أجدت، فتركته وقعدت. وصعد شاب مفتول العضل، عريض المنكبين، بادي القوة، فجذبه فما استطاع فأمسكه بكلتا يديه، ووضع قوته كلها في ساعديه، حتى احمر وجهه وانتفخت أوداجه، والباب على حالة، فأغضى بصره حياء منا أن ينظر في وجوهنا وقعد. وركب بعده شيخ وكهل وامرأتان، لم يكن فيهم إلا من جرب مثلما جربنا، وخاب كما خبنا. . .
فلما رأيت ذلك، قلت مقالة أرخميدس في أول الدهر: (أوريكا)، وجدت الموضوع إني سأجعل موضوع حديثي (في الترام)، فالترام يا سادة معرض الناس، ومرآة الأمة، وهو مسلاة لمن نشد تسلية، ومدرسة لمن أراد استفادة، وهو سينما أبطالها أناس صادقون، لا (يمثلون) رواية وضعها كاتب، ولكن يعرضون فطرهم التي فطرهم الله عليها، وأخلاقهم وطباعهم وكل صغيرة (في الترام) تمثل كبيرة في الحياة: هذا الباب المغلق مثلاً عنوان فصل كبير من فصول حياتنا، ونقص في تربيتنا، إذ ربما كان دفاع الباب اقل من قوة اثنين منا، ولكنا أتيناه متفرقين، كما نفعل في كل أمر نرومه، وإصلاح نطلبه، نعمد له فرادى، ونقصده أشتاتاً، فلا نصل إلى المقصد، ولا نبلغ غاية، قد استقرت (الفردية) في سلائقنا، فترى الواحد منا يعمل ما لا تعمله الجماعة، فإذا اجتمعنا أضعف بعضنا بعضاً، أو استبد بعضنا ببعض، وإذا نحن أردنا التخلص من هذا، قفزنا من أول الخط إلى آخره، فجاوزنا حد الاعتدال، وتعدينا نطاق الممكن، وأردنا أن نبني الدار قبل أن نعد الحجارة، ونصلح الأمة قبل أن نصلح الأفراد، كأن الأمة مخلوق مستقل، له طول وعرض وعمق وارتفاع. لا يا سادة، ما الأمة إلا أنا وانتم وهم وهن، فإذا لم يصلح كل منا نفسه لم يكن للامة صلاح.(725/5)
هذا عيب كبير فينا دل عليه الحادث الصغير، وما أكثر ما تدل الصغائر!
ركبت الترام مرة، وكان مزدحماً يغص براكبيه، فلا تبصر لون أرضه، ولا تعرف من الازدحام طوله من عرضه، وكان على المقعد إلى جنبي شيخ مسن احسبه قد دخل في السبعين، وكان معه لبن سائل في صحن ضحل لا غطاء له ولا قعر، فكلما اهتز الترام، أو تحرك الناس، طار رشاشة على ثوبي الذي كنت أتجمل به أيام الحرب، ولا أجد وأنا موظف السبيل إلى غيره، فكنت أضم ثيابي إلي، وأحاول أن ابتعد عنه، ليدرك أذاه لي فيدفعه عني، فلا يدرك ولا يبالي، فقلت له: (يا عم، قد آذيتنا. . . ولوثتنا بالحليب. . .) فما كان منه إلا انه صرخ تصريخاً جمع على أهل الترام، وقال: (اتق الله، ما هذا الكفر؟ ما هذا الجحود؟ ألا تعرف قدر النعم؟ إنه حليب طاهر، هل هو نجاسة؟ حرام عليك).
فتركته ودخلت بين الناس، ووقفت مع الواقفين، وقد كادت تتلامس الوجوه، وتتلاقى الأنفاس، وكدت أختنق، وإذا بشاب على آخر طراز. . . في فمه سيكار أسود ضخم كأنه ذنب العضرفوط، يخرج منه دخان كان رائحته ضراط الخنافس، فوقف أمامي، حتى أوشك أن يحرق بناره انفي، فقلت له: (انتبه يا أخي)، فصاح: (وأين الحرية الشخصية؟ وبأي حق تكلمني؟) وأمثال هذا الهذيان. . .
فرأيت في ذلك مثالاً لعيب آخر من عيوبنا، إننا نأخذ المسائل مقلوبة، ونفهمها على أضدادها، فلا الشيخ فقه الدين وعرف الحلال من الحرام، قبل أن يعظ ويفتي، ولا الشاب عرف المد نية، وأدرك أحوال أهلها، قبل أن يهذي ويتفلسف، الدين يحرم إيذاء الناس، والمدنية تمنع التدخين في الترام، ولكننا نأخذ ما لا نعرف، ونخوض فيما لا نعلم، فكان في حياتنا الشيء وضده، اجتمعت فيها المتناقضات، وائتلفت المختلفات، كما يكون في عصور الانتقال كلها. . .
وصعدت الترام مرة عجوز متصابية متبرجة، كأن وجهها خريطة حربية، من كثرة الخطوط المرسومة عليه والألوان، ففوق عينها خطان أسودان مقوسان، وعلى خديها بقعتان حمراوان، وشفتاها كأنهما قد غمستا بالماء المغلي فاحترقتا ثم نزفتا، فاجتمع عليهما الدم متجمداً فظيعاً، فلم تعود شفتين ولكن صارتا والعياذ بالله، آفتين مشوهتين، وأظافر يديها كأظافر ذئبة افترست حملاً، فهي طويلة محمرة مخيفة، فوقفت في غرفة الرجال وهي(725/6)
مملوءة بالناس، والى جنبها النساء فارغة مفتوحاً بابها فنظر الناس إليها معجبين، ثم ردوا أبصارهم عنها منكرين، فقالت: (ما فيكم واحد مؤدب، يقوم للست يا عيب الشوم).
فقال لها أحد الحاضرين (تفضلي، هذه غرفة النساء خالية) فنفضت يدها في وجوهنا، وقالت:
- أنتم (متأخرين) كثير، (متوحشين) ما تعلمتم التمدن.
ورأيت مرة شابين دخلا علي غرفة الترام، يلبسان أردية بلا أردان، وسراويل تكشف السيقان، فألقى أحدهم بنفسه على المقعد فاضطجع اضطجاع العروس على سريرها، ورفع الثاني رجلاً فوق الرجل فعل الراقصة على مسرحها، ثم تحدثا حديثاً مخلوطاً فيه العامية والفرنسية والإنكليزية، بالضحكات الخليعة والإشارات المخنثة، تحدثا في الأدب، فكان من رأيهما أن الزيات والعقاد والمازني تحتاج كتاباتهم إلى ترجمان، لصعوبتها وأنها لا تفهم بلا قاموس، ثم ذكرا الامتحان والدروس، ومع الحب والغرام، وأماكن اللهو والتسلية. . . حتى إني لم اعد أطيق الصبر فنزلت وركبت تراماً أخر. . .
هذان مثالان لطبقة من نسائنا ورجالنا، يبديها الترام إن أخفتها البيوت، طبقة هي في الأمة كالديناميت في البناء، والسم في الجسم، والقذى في العين، وهي وان تكن نادرة فينا، ولم تكن تخلو أمة من مثلها - لا ينبغي للمصلحين منا أن يغفلوا عنها، ويهملوا إصلاحها، لأننا أمة تستعيد اليوم حريتها، وتبدأ جهادهاوتسعى لتصل ما انقطع من أمجادها، ولا ينال المجد إلا بشاب أولي خلق وعلم، ونساء أولات عقل وعفاف.
ولكن في الترام، في مقابل هذه الصور التي لم تؤلم وتسوء صوراً تسر وتفرح، لقيت فيه أمس فلاحاً من فلاحي مصر بجلبابه و (طاقيته) وزيه، وكان معي صديق يتكلم في الجلاء عن مصر، وفي جامعة الدول العربية، فاندفع والله هذا الفلاح في حديث عن السياسة والنزاع بين الدول الكبرى، وموقف هذا الشرق الأدنى، وما يتوقع له، وفصل القول في حالة مصر والشام والعراق والمغرب والحجاز واليمن، فكانت محاضرة مرتجلة استمرت اكثر من نصف ساعة، مشى فيها الترام من الفسطاط إلى شبرا، ولو أن سياسياً دعا الناس إلى أفخم ناد من النوادي، فألقى عليهم مثلها لخرجوا معجبين.
ولقيت في الترام فلاحاً آخر، مر به جابي الترام فناداه، (ياأفندي) فقال له: (ما فيش أفندية(725/7)
دي الوقت، الفلاحين هم أسياد البلد)! يقظة عجيبة، وكلام عظيم، وسيكون أعظم يوم يصير الفلاحون أسياد البلد حقاً، يوم لا يبقى في مصر شركة أجنبية، ولا مصرف أجنبي، يوم لا يبقى في مصر شحاذ مصري، يوم يكون المصريون أعلم من الأجانب وأنظف منهم وأحرص على الصحة وأفهم للحياة وأسبق إلى المغامرة، وسيجيء هذا اليوم قريباً بحول الله.
أيها السادة والسيدات.
إن الترام يكشف أخلاق الناس، وطبائع البلدان، وهو مدرسة يرى المرء فيها القبيح من جاره فيتركه، والحسن فيتعلمه ويستمع الملاحظ المدقق بعد هذا كله بفصول (الفلم) البشرى المعروض عليه
هذا فصل من الرواية: رفيقان يدعان الأمكنة الخالية، ويجلسان حولك هذا عن يمينك وهذا عن شمالك، ويتحدثان في أمورهما الخاصة بهما، من فوق رأسك، لا يحفلان بك ولا يباليانك، كأنما أنت كرسي أو متكأ أذنيك شباك يتكلمان منه. . .
وهذا فصل أخر: رجل طويل عريض، لا يطيب له أكل (بذر البطيخ) إلا في الترام، فلا يزال يقضمه بأسنانه، ويقذف قشره بلسانه، فإن لم يصب به الناس، آذاهم بقبح منظره، وسوء أدبه. . .
وهذا رجل يأتيك من خلفك وأنت واقف في زاوية الترام، يرجوك أن تفسح له ليمر، فإذا انزحت له اخذ مكانك وتركك حائراً لا تدري أين تقف!
وهذا عامل بثيابه الملوثة بالزيت المعدني، أو الملطخة بالطين يحك بك وأنت بثيابك البيض فلا يدعك حتى ينقل إليك زيته وطينه، فان تكلمت قال: ليه؟ هو إحنا مش بني آدم!
وهذه امرأة ضخمة عريضة القفا، تصعد ومعها ولد على ظهرها، وولد تسحبه بيدها، وسلة كبيرة فيها سمك وبصل وكراث، فتقعد على الارض، فتشغل مكاناً كان يقف فيه عشرة رجال، ثم لا تزال تسب هذا لأنه داس على ثوبها، وتشتم ذاك لأنه مس ولدها.
وهذا عجوز ثرثار لا يفتأ الطريق كله، يذم هذا الشعب لأنه لم يتعلم النزول من مقدم الترام، والركوب من آخره ويعجب من جهلة وقلة تربيته، ولا يزال كذلك حتى يصل إلى محطته، فينسى محاضرته الطويلة، وينزل من خلف لا من قدام(725/8)
وهذا رجل منتفخ كأنه الديك الرومي، مزهو كالطاووسيقعد أمامك فلا يرضيه إلا يمتد ويبرز بطنه ويؤخر رأسه ويرفع رجله في وجهك، حتى يقابلك نعلها، ويكاد يمسك طرفها. . .
وهذا شيخ له عمامة وعذبه، لا يحب أن يذكر الله إلا على سبحة طويلة يرفعها بيده حتى يراها الناس كلهم، ولا يتمسك بسنة السواك إلا في الترام، فيخرجه من جيبه طويلاً ثخيناً، فيستاك به على أبشع هيئة ثم يعصره بإصبعه ويبصق على الأرض وإذا انتقده أحد نادى: يا ضيعة الدين، ويا بوار الأخلاق. . .
وهذا فصل آخر (يمثله) السائق، يقف في المحطة يشتري طبق الفول ورغيف الخبز، ويتباطأ بعدها في سيره ليأكله، حتى إذا وجد أنه تأخر وفاته الموعد، أسرع إسراع الجنون، ولم يمهل المرأة حتى تركب ولدها وتركب بعده، فيبقى الولد في الترام خائفاً يصيح ويبكي يكاد يلقي بنفسه، وأمه تعدو وراء الترام، والناس يصرخن من كل جانب. . .
وفي الترام دليل على طباع كل قطر، ونموذج من حياته، ففي الشام عراك على النزول والصعود، وتسابق فضيع إلى المقاعد لأن فيه شعباً حديث عهد بالجهاد والنضال، ولأن الترام له أول وله آخر، فالناس يركبون معاً وينزلون، وفي مصر تدور اكثر الترامات، دوران الثواني، وتكر كر الأيام، لا أول لها ولا آخر، والناس ينزلون ويصعدون في كل مكان، وفي مصر شعب وادع أنيس فإذا فرغ مقعد في الدرجة الأولى رأيت كلا يدعو الآخر إليه. والفرق في الشام وبيروت بين ركاب الدرجة الأولى والثانية قليل لا يكاد يظهر في زي ولا حديث، وهو في مصر ظاهر بين، لأن شعار مصر التفاوت في كل شيء فليس في الشام ساحله وداخله، أغنياء من الوزن الثقيل ولكن ليس فيه أيضاً إلا القليل من الفقراء المدقعين، وليس فيه علماء كبار جداً، ولكن ليس فيه أيضاً أميه طاغية، وجهالة منتشرة، أما مصر ففيها اشهد الغنى واشد الفقر، وفيها العلم والجهل، والقصور والأكواخ، بل إن فيها شارعاً واحداً في أوله الملاهي والمسارح فكأنك منه في باريس وفي أوسطه البنوك والمصارف، فكأنه من نيويورك، وآخره شارع من شوارع الرقة أو الميادين والترام في الشام هدف كل مظاهرة، وغاية كل إضراب، فإن كان للشعب احتجاج على الحكومة، كسر الترام، وإن كان للطلاب مطلب من المعارف احرقوا الترام، وإن شكا الناس من سوء(725/9)
الخبز أو كثرة الضرائب حطموا الترام، لأنه رمز السيادة الاقتصادية الأجنبية، وأهل الشام لا يحتملون لأجنبي سيادة لا في الحكم ولا في المال.
إن حديث الترام طويل، ووقت الحديث القصير، وقد استنفذته كله وزدت عليه، وأنا ارجوا إن أمللتكم عفوكم وأشكر لكم على سماعه صبركم، والسلام عليكم.
(القاهرة)
علي الطنطاوي(725/10)
القسم الأول:
فرنسا ومستعمراتها
للأستاذ احمد رمزي بك
هذا بحث تحليلي للاستعمار الفرنسي ومتاعبه يعرض له
بطريقة إجمالية، ويستعرض بعض النواحي التاريخية
والاقتصادية وأحياناً العسكرية مع الإشارة إلى الوضع الشاذ
الذي كانت فيه المستعمرات الفرنسية بين ألمانيا والحلفاء مدة
الحرب الماضية. وقد شجعني على نشره المقال الشائق الذي
كتبه الأستاذ إسماعيل مظهر بجريدة الكتلة يوم السبت
1751947 تحت عنوان أعصر جديد؟ أم عودة إلى عصور
العبودية؟ وما جاء بالرسالة تحت عنوان من وراء السور
الحديدي (جامعة عربية أم اتحاد فرنسي).
إن ما لقيته قضية فلسطين في أمريكا وأمام مجلس الأمن تجربة قاسية للعرب، لأن الانتصار على الخصم يستلزم فهم الخصم والإلمام بأساليبه، وفي هذه الكلمة أفكار وآراء قد لا تعجب بها ولكنها في صميم الدفاع عن قضية المغرب وحق شعوبه لأنها مستقاة من أقوال الخصم وهي مدعاة لفهمه ولن تنتصر على خصمك إلا إذا فهمته.
فرنسا ومستعمراتها:
كانت فرنسا دولة استعمارية كبرى في القرن الثامن عشر، خضعت لسلطاتها مساحات واسعة في أميركا الشمالية واكثر من منطقة غنية من مقاطعات الهند، ولكنها فقدت هذه المنزلة في حروب القرن الثامن عشر والثورة الفرنسية، فأخذت تجاهد طول المائة سنة(725/11)
الماضية لكي تسترجع مقامها كدولة استعمارية. ولقد برهنت تجارب اكثر من قرن على تعذر تحقيق السيادة البحرية لفرنسا وكان ضياع المستعمرات البعيدة في أميركا والهند كافياً لإقناع الفرنسيين أنه بغير أسطول قوي لا يمكن ضمان الدفاع عنهاأمام القوة البحرية برغم جهود القواد والحكام وعبقريتهم. فكان مما فكر فيه نابليون أن يختصر الطريق البحري الذي يفصل فرنسا عن الأراضي التي تخضع لها، فقاد حملة مصر مؤملاً أن يجعل منها قاعدة للتوسع الاستعماري الفرنسي بالمشرق، وكانت بريطانيا تعرف إن هذه الضربة موجهة إليها في الهند فوقفت أمامه وقطعت الطريق البحري عليه وأجبرت جيشه على الجلاء، فالحملة الفرنسية هذه على مصر كانت مدرسة وتجربة برهنت على أن الفن الحربي الحديث قد جعل من السهل التغلب على جيوش المسلمين في أراضيهم، ثم فتحت الأذهان إلى استعمار الجزء الأفريقي المقابل لأوربا، فهي فاتحةالاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر.
ولا ننس إن فرنسا حينما ألجئت إلى إخلاء مصر كانت تفكر في العودة إليها وتأسيس الإمبراطورية الاستعماريةعن طريق البر إن أمكن، أو قل على الرمال التي أراد أن يسير عليها لويس التاسع لفتح مصر فلقي حتفه في تونس، ولذلك اتجهت أنظار رجالها إلى بقعة من الساحل الأفريقي تكون أقرب إليه وأبعد عن إثارة شكوك ومخاوف بريطانيا فلم تجد اقرب إليها من الساحل المغربي بالجزائر إذ هو اسهل طريق للعبور إلى أفريقيا وأسلم ما يصلح لاتخاذ مرافئه مثلالجزائر ووهران وغيرها كرؤوس جسر للزحف إلى الداخل، وقد خدمتها الظروف حينما اشتد العداء بين مصر وتركيا فانقسم الشرق على نفسه وخلا لها الجو في الجهة التي تطمعبامتلاكها. حينئذ قذفت بجيوشها بين 1830 و 1847 على القطر الجزائري في الوقت الذي كانت جيوش مصر وتركيا تتقاتل فيما بينها قتالاً كانت نتيجة أن انتهى بالفشل للجانبين، بينما اندفعت هي بقوة لترسيخ أقدام جنودها على الأرض الأفريقية التي حملت أعلام دول الموحدين والمرابطين وكانت في وقت ما موئلا للعروبة والإسلام. فأخذت تحارب أهلها وتشتتهم. ولما انتهت حروب الأتراك والمصريين لم يكن بوسع أحد الطرفين أن يمد يد المساعدة أو يجهر بالدعوة لنصرة المجاهدين من قبائل الجزائر المدافعين عن بلادهم، فكان أن سلم الأمير عبد القادر للفرنسيين، وإذا نحن أمام أول هزيمة(725/12)
للإسلام بشمال أفريقيا، وإذا نحن في بداية الأرزاء التي أعقبت توغل الفرنسيين في المغرب ونتج عنه تأسيس إمبراطورية ضخمة في بلاد عربية.
أوربا تشجع فرنسا في توسعها خارج القارة الأوربية:
وكانت فرنسا في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر أقوى أمم أوربا وأكثرها سكاناً إذ بلغت 25 مليون نسمة، وهوعدد عظيم لما كانت عليه أوربا في ذلك الوقت، وبذلك تفاءل الساسة الأوربيون بالاتجاه الجديد الذي سارت فيه ووجدوا أن من مصلحة السلام والأمن في القارة الأوربية تشجيع هذاالتوسع والتزام سياسة الصمت إزاء هذا العدوان لأنه سيؤدي إلى إشغال قوى فرنسا البرية والى توزيع جهود هذه الأمة الحربية في ناحية لا تضرهم، خصوصاً إذا وجد ضباط الجيش ورجال الجندية الذين أسكرتهم ذكريات الانتصارات الماضية مجالاً في نشاطهم بلاد بعيدة عن أوربا بعد أن دوخوا أمما كثيرة بحروب دامت جيلين، وقد تم لهم ما أرادوا وقنعت فرنسا ورجالها بهذا الدور وزاد تمسكهم به خصوصاً بعد هزيمتهم في حرب 1870 مع ألمانيا.
فرنسا تجعل من أراضي أفريقيا معسكراً لتموين جيوشها
وضباطها
فكان أن أصبحت فرنسا بعد عدة سنوات تملك الشاطئ الأفريقي وتسيطر على مناطق وأقاليم متسعة في الصحراء تتنقل فيها كتائبها ويتلقى قوادها وضباطها بأنحائها أساليب القتال المختلفة ويأخذون دروساً عملية باتخاذ الحروب ضد الأهالي صناعة دائمة فيدخلون الجديد كل سنة على كتب التدريب والقيادة وأنظمة تعليم عساكر المستعمرات من الجنود الملونة.
وجاءت الحرب العظمى سنة 1914 وفرنسا ثاني دولة استعمارية في العالم، فخاضت غمارها وأعلامها تخفق على الكتائب المؤلفة من جنوب المغرب ومدغشقر والهند الصينية والسنغال تسوق الآلاف منها إلى الموت وتدفع بهم إلى الصفوفالأمامية. ثم أمضيت معاهدة الصلح فإذا بمناطق شاسعة من أملاك ألمانيا الأفريقية تدخل ضمن نطاق الإمبراطورية الفرنسية إما عن طريق تعديل الحدود أو عن طريق الانتداب جزاء وفاقاً على المجهود(725/13)
الحربي الذي بذل جنود المستعمرات من السمر والسود في كفاحهم لتحرير العالم. فإذا نظرت إلى خريطة الأفريقية تجد الإمبراطورية الفرنسية كتلة ضخمة ملونة بلون واحد تقع جنوب فرنسا وكأنها جزء متمم لها أو امتداد لأراضيهم لا يفصلها عنها غير البحر الأبيض المتوسط، ولكنه طريق سهل قريب لأنه يجمع بين الشاطئين في ساعات معدودة، وهذه الإمبراطورية أو المجموعة من المستعمرات تبدو أمام الناظر والبحر يحيط بها من ثلاث جهات: المتوسط في الشمال، والمحيط الأطلسي في الغرب والجنوب، ويفصلها عن بعضها الصحراء الكبرى وهي في صمتها وتحديها للإنسان لا تزال كالربع الخالي في جزيرة العرب تسخر من الإنسان الذي لم يفك أسرارها بعد ولم يخضعها لأرادته، فقد فكر المستعمرون في استثمار أراضيها وفي اختراقها بعده طرق ممهدة للسيارات أو إنشاء خط حديدي يقطعها من الشمال إلى الجنوب، ولم يتحقق للآن شئ من ذلك لأن مجهودات فرنسا محدودة، وهي لن تسمح لغيرها من الدول أن يتولى هذا العمل عنها. ويخيل إلى الباحث أن هذا العمل الاستعماري الذي بدأ بعد حروب نابليون طفرة فأصبح حقيقة في عصرنا الحالي يبدو كعمل عظيم ساهمت فيه أمة برجالها ودمائها وتفكير أبنائها، وإنه إن دل على شئ فهو يدل على عبقرية الذين جاهدوا في إنشائه وجمعوا بصبر شتاته فحققوا لبلادهم حكم إمبراطورية موحدة كافية لإسعاد أي بلد أوروبي يمكنه أن يتحول باستغلال خيرات هذه الإمبراطورية وثرواتها وأراضيها إلى بلد عظيم في الصف الأول من العالم.
فهل وصلت فرنسا إلى أن تحكم بعقل وحكمة ودراية وهذه الإمبراطورية وأن تحسن سياستها مع الشعوب التي تسكنها فتسعدها وتزيد من عدد سكانها وتأخذ بيدهم في الطريق الحضارة والعلم والحكم الذاتيحتى تجني ما في هذه الأراضي من الخيرات والثمرات؟
الواقع إن فرنسا لم توفق كثيراً في مضمار الاستعمار كما يفهمه العالم الغربي، وان وفقت فلشيء لا يتناسب مع جهودها أو هو ضئيل بجانب ما كان يمكن أن تصل إليه، ذلك لأنها بقيت ولا تزال تعيش على أساليب الماضي في إدارة مستعمراتها وفي علاقتها مع البلاد الخاضعة لها، وإلا فماذا يواجه الباحث في أنحاء إمبراطوريتها ما يشعره انه داخل حصن كبير أو معسكر من المعسكرات وحوله نطاق من الأسلاك الشائكة يحرسه جنود من(725/14)
السنغال يسيطر عليهم رجال أشداء كل همهم قطع كل العلائق بين هذه البلاد والعالم الخارجي ولا يعرفون سوى قانون البطش في علاقاتهم مع السكان؟.
لماذا يلازم الناس هذا الشعور دائماً؟ لان عيوب الإدارة الفرنسية للمستعمرات ظاهرة واضحة ملموسة وموقف الحكومة المركزية وممثليها يشعرك باستمرار إن فرنسا لم تنجح كأمة حاكمة، ولذلك لم تستطيع أن تقدم دليلاً واحداً على رغبتها في تحرير الشعوب المظلومة ولا في الأخذ بيدها في طريق العلم والنور، ولا في إعطائها ما تطلب من حرية أو حكم ذاتي أو اشتراكها في إدارة الأمور العامة أو تسليمها إلى أهلها، كما أنها لم تقدم للعالم برنامجاً إنسانياً يمكن أن يحقق شيئاً من ذلك.
إننا لا نقر الاستعمار على أي وجه من الوجوه، ونراه نكبة على البلاد والأمم التي أصيبت به، ولكننا مع ذلك ننقل عن كتاب الغرب وعن الفرنسيين أنفسهم ما يعترضون به على هذه الإدارة ونتساءل مع الباحثين لماذا تطور العالم ووقفت فرنسا جامدة لا تتقدم؟ ولماذا غمرت الدنيا موجات التحرير في أفريقيا وآسيا وتسللت إلى الأراضي الفرنسية، وفرنسا واقفة لم تتغير ولم تستفد شيئاً من الدروس الماضي؟ ثم كيف تقدم على إقرار سياسة الإدماج والاتحاد في وقت تبدو فيه عوامل التفكك والانهيار ملموسة واضحة؟ أليس في فرض ساسة الاتحاد دليل على إفلاس السياسة التي اتبعتها الحكومة الفرنسية والتي كانت ترمي إلى إلغاء الجنسيات والقوميات في بعض الجهات وصهرها في بوتقة واحدة؟
نظريات استعمارية:
يقولون الباحثون في الاستعمار وشئونه إنه كمشروع تجاري يجب أن ينتهي بالكسب على أقصر سبيل وأهون طريق، فليس من مصلحة الدولة الحاكمة أن تتحمل تكاليف إدارة المستعمرة وحفظ الأمن فيها، بل هي تساعد على أن تقف المستعمرة معتمدة على مواردها الخاصة، ويكره المستعمرة استعمال العنف والقوة، ويعد التلويح بهما ضعفاً، والالتجاء إليهما مخاطرة يتحاشى الوقوع ما أمكن فيها، فهو كالتاجر الذي يحاسب على الدانق ويحسب للمستقبل ألف حساب، ولذلك يعتمد في حكم الشعوب على نفسيتها وفهمها ليستغل غرائزها لصالحه، ولا يلجا إلى السلاح إلا في الوقت المناسب وبالقدر اللازم، وهو أسرع الناس إلى إزالة اثر القوة من نفوس المحكومين. هذه هي تجارب الأمم التي سارت في هذا(725/15)
النشاط بعيداً، فهل اتبعت فرنسا أو أخذت بهذه السياسة؟ إن التقاليد التي وضعتها حكومات فرنسا المختلفة في سياستها الاستعمارية كانت جامدة، وصعب في كثير من الأحيان على المسؤولين تغييرها واستبدالها. نعم عملت أحياناً للخروج عنها شخصيات قوية فرضت إرادتها مثل ليوتي في مراكش، ولكن سرعان ما عاد الروتين الاستعماري إلى قواعده وفرض إرادته من جديد. ومن عيوب الاستعمار الفرنسي أن فرنسا بدأت حملاتها بتكاليف باهظة، أي أن كل قطر أو بقعة من الأرض دخلتها أو بسطت حمايتها عليها كلفت دافعي الضرائب الفرنسيين مبالغ لا يستهان بها، وقد جاءت تكاليف الفتح ثقيلة لأن الطبيعة الفرنسية تريد أولاً الغلبة والنصر، فهي قد حكمت السيف، حيث يلزم السيف، ووضعت السيف أيضاً حيث كان يلزم غير السيف؛ وفي ذلك مخالفة لقواعد الاستعمار الذي يسمن البقرة ليستدر أكبر كمية من ألبانها، أما هي فحيثما حلت تحمل الأهالي الكثير من الفقر والفاقة والعنت والتشريد.
ولقد عهدنا المستعمر يتخذ له بطالة من أهل البلاد المستعبدة يروضهم على أغراضه ويوسوس لهم بما يريد، فإذا هم طوع إشارته، يصل بواسطتهم إلى أهدافه وأغراضه من غير أن تظهر نياته أو تشعر بأنفاسه ومن دون ضجة ولا جلبة. وللاستعمار الفرنسي من يخدمه بإخلاص من زعماء البلاد الخاضعة له، ولكن فرنسا اعتادت أن تضع على أكتاف رجال فرنسيين من العسكريين والمدنيين العبء الأكبر على المسؤوليات، وان تسند إليهم مباشرة سلطات التشريع والإدارة والتنفيذ، فان أساءوا التصرف تحملت هي عبء الأخطاء وخسرت عطف الناس بالدفاع عن رجالها، بينما قواعد المستعمرين تحتم على الدولة الغاضبة أن ترسم الخطط الكبرى، وان تترك أمور التنفيذ لأهل البلاد يتولونها بأيديهم حتى إذا أخطئوا، وغالباً هم مخطئون، تبرأت السلطات منهم وألصقت الأخطاء بهم وأتت بفريق جديد يتولى تمثيل نفس الدور. وهذا النظام الأخير يجعل عيوب الإدارة الاستعمارية ملصقة بأهل البلاد دائماً، بينما النظام الفرنسي يضع العيوب على راس الدولة المستعمرة ويحملها الأخطاء والأعباء كما قلنا.
تأخر المستعمرات الفرنسية في ميدان الحضارة وأسبابه:
وهناك ظاهرة أخرى لها أهميتها، وتكاد تنفرد بها المستعمرات الفرنسية وما يشبهها من(725/16)
ممتلكات بعض الدول الأوربية التي احتفظت بمستعمراتها كتراث تاريخي لماضي قديم، وهذه الظاهرة هي أن التقدم المادي الذي صحب العالم في السنوات الماضية والذي فرض نفسه على أغلب المستعمرات في قارات العالم لم يشمل الإمبراطورية الفرنسية، ولذلك إذا تحدث الفرنسيون عن مجهودهم الاستعماري وملئوا العالم بكتبهم ونشراتهم، فهو مجهود عظيم من وجهة نظرهم وحدهم، ولكنه مجهود متواضع إذا قيس بما قامت به الأمم الاستعمارية الأخرى. فإذا نزلت بشمال أفريقيا، وهي من البقاع الخصبة الغنية بمواردها وثرواتها المعدنية وقارنت ما عملته فرنسا هناك بالمجهود الذي بذله الاستعمار في نواح مماثلة، لوجدت أن مجهودها لم يصل إلى الدرجة التي تسمح بها حضارة القرن العشرين، وبما تضعه بين يدي الإنسان من وسائل تمكنه من السيطرة على الطبيعة ومن إخضاعها لإرادته.
تعليل هذا الوضع:
ويعللون هذا النقص بان فرنسا بلد زراعي في حياته الاقتصادية، وهذا الوضع ينقص من طاقة فرنسا وإمكانياتها كدولة عظمى، ثم هي وطن الملكيات الصغيرة، ولذلك يبرز فبها عامل اقتصادي هام هو عامل الادخار أو التوفير النقدي الشعبي الذي يعتمد في تراكمه وازدياده عاما بعد عام على ملايين من الناس. وقيل إن هذه الأمور مجتمعة تؤثر في سياسة الدولة حينما تواجه عملها في المستعمرات لاستغلال مواردها، وذكر بعض الكتاب أن فرنسا كانت تحسن صنعهاً لو أنها من البداية فتحت أبواب إمبراطوريتها لنشاط الدول الصناعية الكبرى مثل أمريكا الشمالية، أو بعض الدول الأوربية، ولكن رجال الحكم وأساطين الاستعمار حرصوا منذ زمان طويل على وضع العراقيل الجمركية والتشريعية لمنع حدوث هذا النشاط، بل أقفلوا حدود إمبراطوريتهم وجعلوا منها مناطق محرمة وممنوعة لأي تنافس يأتي إليها من الخارج.
ولا نشك أن فرنسا كانت بلداً صناعياً من الدرجة الأولى وكان هذا في القرن الماضي، ولكن ظهور الصناعة الضخمة وتطورها السريع في بلدان أوربية أخرى جعل منها بلداً صناعياً في الدرجة الثانية. ولقد ذكرنا في بحث سابق إن التركيز الاقتصادي بين الدول الصناعية والمستعمرات أو بين المستعمرات وبعضها يعتمد على التفوق الصناعي والمقدرة(725/17)
الرأسمالية والإنتاج الواسع وهي مجتمعة تمهد للدولة صاحبة الشأن أن تسير بالمستعمرات ومناطق النفوذ نحو التكتل الذي يجعل من هذه الدولة قوة عالمية. أما الاستعمار الفرنسي فلا يزال في الدور البدائي الذي لم يتطور بهذه الوثبة، ولعل شعور الفرنسيين بذلك هو الذي أملى على رجال السياسة مشروع الاتحاد الفرنسي الذي يحاولون تنفيذه.
فرنسا بلد زراعي:
وإذا نظرنا لحالة فرنسا كبلد زراعي نجد إنها من أغنى البلاد الأوربية، بل إحدى الدول القليلة التي تعد في حالة استكفاء بالنسبة إلى غيرها، ومعنى ذلك أنها لا تعاني مشاكل ومتاعب لإطعام سكانها؛ فهي ليست بحاجة إلى مضاعفة المساحات المزروعة في مستعمراتها، فإذا كان هناك بعض الأثر للتطور الإنتاجي الزراعي وزيادته، ويبدو هذا ملموساً في بعض المناطق أو مكللا نسبياً بالنجاح في المزارع التي يملكها الفرنسيون بالمستعمرات، فانه محدود الغاية والوسائل.
رؤوس الأموال:
أما أثر رؤوس الأموال كونها مجمعة من التوفير الشعبي فيبدو في اتجاه أصحابها إلى تفضيل القروض الخارجية للدول الأجنبية الصديقة لتصورهم بان في ذلك ضمانات أكبر من المجازفة في صرفها على مشروعات فيها روح المغامرة بأراضي المستعمرات وهي قاعدة مستمدة من طبيعة الشعب وعقليته.
فرنسا كبلد صناعي:
ونعود إلى الناحية الصناعية إذ هي العامل الأساسي الفعال لكل سياسة استعمارية موفقة نظراً لما تحويه أراضي القارات البعيدة من مواد أولية ضرورية للصناعات، ولأن عظمة الدول الصناعية بنيت على ما تقدمه أراضي مستعمراتها من خامات رخيصة قد تذهب أحيانا إلى تمكين كل واحدة من احتكار بعض هذه المواد وحرمان بقية العالم منها. فإذا نظرنا إلى حالة فرنسا بعد أن انتهت الحرب العظمى الأولى نجد أنهطرأ عليها بعد سنة 1920 تغيير بعيد المدى، فقد بدأ يسطر على مقدراتها طائفة من أصحاب الصناعات الكبرى يدعمهم لرجال المال، واعتمدوا على ما يبثونه في الجماهير من آراء وأفكار عملوا(725/18)
على أن تصبح راسخة، وأهمها فكرة أمن فرنسا وضمان حدودها، أي إيهام الشعب بوجود خطر دائم يهدد كيانه ليبذل مجهوداً في ناحية معينة أو ليستعد لتلبية التضحيات التي يتطلبها العمل لدرء هذه الأخطار.
فرنسا قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها:
ولم تكن فرنسا قبل سنة 1914 في حالة تمكنها من منافسة الدول الصناعية الكبرى أو أتمت بناء هيكلها الآلي الضخم لا في السوق العالمية ولا في طريق استغلال واستثمار أملاكها، وكانت تلجا إلى وسائل شاذة لحماية تجارتها في الأراضي المملوكة لها، فما بالك وقد بدأت بعد الحرب تحمل أعباء إنشاء صناعة على نمط الصناعات الثقيلة - يقصد بها صناعة الحديد والفولاذ والصناعات الكيماوية الكبرى - ولو إن التعبئة المالية والفنية والإنشائية للوصول إلى هذه الغاية كافية لأن تستنفذ مجهودات جيل بأكمله.
وقد بدأ هذا المشروع يسير سيره الطبيعي من يوم استرجاع مقاطعتي الألزاس واللورين إذ جعل ضم هاتين المقاطعتين بين رجال الصناعة بعض ما كان ينقصها من مواد الصلب والحديد، ويا حبذا لو ضم إليها جزء آخر من أراضي ألمانيا وهو الروهر إذن لحصلت فرنسا على ما تحتاجه من الفحم الحجري.
يلتمس الكتاب الفرنسيون بعض العذر لبلادهم في تقصيرها الاستعماري الذي ينسبونه إلى أن هذا المشروع الصناعي الكبير الذي جعل رؤوس الأموال تتجه إلى تحقيقه اتجاها ترك النشاط في أراضي المستعمرات قاصرا على الضروري اللازم، وعليه تأخر تنفيذ المشروعات الكبرى التي وضعت لاستغلال أراضي جبال أطلس بمراكش ونظر إليها والى غيرها نظرة ثانوية أو تأجل تنفيذها باعتبار أنها تكميلية للبرنامج الصناعي في أراضي فرنسا الأوربية.
وعليه فهم لا يسلمون بالنقص الذيبدا من ناحية بلادهم ويقولون ولو أن الفترة بين الحربين نقلت الدول الكبرى الصناعية مرحلة نحو التكتل والتماسك مع المستعمرات بل ذهبت إلى إدخال الصناعات في أراضي المستعمرات نفسها كما حصل في الهند وأستراليا وأفريقيا الجنوبية وبقيت فرنسا تدير مستعمراتها بأساليب قديمة إلا أنها حسناً فعلت لأنها انتظرت الوقت المناسب لكي تستفيد من تجارب غيرها ولكي يحين الوقت الذي تندمج فيه هذه(725/19)
الأقطار في نظام اتحاد فرنسي يشبه من بعض الوجوه نظام الاتحاد السوفيتي: وحينئذ تظهر للعالم فرنسا الاستعمارية القوية التي لم تضع منها سنوات الانتقال بل كانت تحضر برنامجا صناعياً للمستعمرات سوف تدهش العالم المتمدين به.
احمد رمزي(725/20)
6 - تفسير الأحلام:
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فيينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
الرقابة في الأحلام:
وهناك طريقة ثالثة تستخدمها الرقابة في الأحلام لا يوجد لها مثيل في حالة الرقابة الصحفية. ولكني أستطيع أن أوضح لكم هذه الطريقة بالرجوع إلى الحلم الوحيد الذي استطعنا أن نحلله إلى الآن وهو الحلم الذي يدور حول (الثلاث تذاكر التي ثمنها فلورن ونصف). رأينا أن المحتوى الباطن لهذا الحلم تبرز فيه صفة (التسرع والتبكير). وقد كان معناه: (لقد كان من الحماقة إني تزوجت (مبكراً)، كما كان من الحماقة أن تحجز المقاعد (مقدما) وكما كان من الحماقة أيضا أن (تتسرع) أخت زوجي بإضاعة نقودها كلها على قطعة من الحلي). ولكن هذه الصفة الرئيسية لم يبد لها اثر مطلقاً في المحتوى الظاهر، وإنما كان الحلم كله مركزا في الذهاب إلى المسرح واخذ التذاكر. وقد كان لإزاحة هذا التركيز وإعادة ترتيب العناصر من جديد أثره في انعدام الشبه بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن للحلم بحيث لا يتسنى لأحد أن يشك مطلقاً في تستر أحدهما وراء الآخر. وهذه (الإزاحة) تعتبر من أهم الوسائل التي يستخدمها التحريف، وهي السبب الذي يضفي على الحلم هذه الهالة من الغرابة التي تجعل الحالم نفسه يتردد في الاعتراف به على أنه إحدى بنات أفكاره.
وعلى هذا فالحذف والتحوير وإعادة ترتيب العناصر، هذه كلها هي الأساليب التي تتخذها الرقابة في الأحلام وهي الوسائل التي تستخدم في التحريف. والرقابة نفسها هي المولد أو هي أحد المولدات التي ينشأ عنها التحريف. أما التحوير والتغيير في الأوضاع فتدخل عادة تحت عنوان (الإزاحة).
ولننظر الآن إلى الرقابة في الأحلام من الوجهة الديناميكية بعد أن ألممنا ببعض الملحوظات عن أوجه النشاط فيه. لعلكم لا يشط بكم الخيال فتصورون الرقيب لأنفسكم(725/21)
على هيئة قزم عبوس الوجه قابع في إحدى خلايا المخ حيث يقوم بتأدية أعباء وظيفته، أو تتخيلون أن هناك (مركزاً عصبياً) تنبعث منه تأثيرات رقابية معرضة للزوال إذا زال هذا المركز أو أصابه عطب. ولكن يكفينا في الوقت الحاضر إن ننظر إلى الرقابة على أنها اصطلاح نافع يعبر عن علاقة ديناميكية، على أن لا تعوقنا هذه النظرة عن البحث لمعرفة أي نوع من النزاعات له هذا التأثير وأيها يخضع له، كما انه يجب علينا أن لا نعجب إذا اكتشفنا أننا ربما نكون قد تعرضنا للرقابة من غير أن نتعرف عليها. وهذا ما حدث فعلا. فانتم تذكرون أننا أثناء قيامنا بتطبيق طريقة الترابط المطلق، اكتشفنا إن هناك (مقاومة) ما تعترض الجهود التي نبذلها للنفاذ إلى المحتوى الباطن للحلم من خلال الظاهر. وقلنا إن هذه المقاومة تختلف من ناحية الشدة فتكون في بعض الأحيان ضعيفة جداً فلا تحتاج إلى مجهود كبير لتفسير الحلم وتكون أحيانا أخرى كبيرة جداً فنحتاج إلى سلسلة طويلة من الأفكار المترابطة وإلى التغلب على كثير من الاعتراضات التي تواجه هذه الأفكار. وهذه الظاهرة التي لاقتنا على شكل (مقاومة) أثناء التفسير نعود فنقابلها مرة أخرى على شكل (رقابة) في تكوين الحلم؛ وما المقاومة في الواقع إلا الرقابة على شكل ملموس وهي تثبت لنا أن تأثير الرقابة لا ينعدم بعد القيام بعملية التحريف بل يظل قائما كمنشأة دائمة تعمل على إبقاء التحريف على حالته الراهنة. وكما أن المقاومة تختلف في الشدة باختلاف عناصر الحلم، فكذلك تختلف أيضاً درجة التحريف الذي ينشا عن الرقابة. فالمقارنة بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن تحرينا أن بعض العناصر الباطنية قد حذفت تماما من المحتوى الظاهر أو حورت تحويراً طفيفاً أو كبيراً، بينما ظل البعض الآخرعلى حالته لتي كان عليها من غير تبديل أو تغيير، بل ربما ازداد وضوحا عن الأول.
قلنا إننا نريد أن نبحث لمعرفة أي نوع من النزعات له هذا التأثير الرقابي وأيها يخضع له والجواب على هذا السؤال، الذي يعتبر جوهريا، الوقوف على معنى الأحلام أو ربما الحياة البشرية بأسرها، يكون من الأمور السهلة إذا فحصنا سلسلة الأحلام التي نجحنا في تفسيرها. فسنرى من ذلك أن هذه النزعات هي التي يحكم عليها الشخص الحالم في حالته اليقظة بأنها جزء من نفسه لا ينفصل عنها. فمن المؤكد أن الشخص الذي لا يريد أن يعترف بالتفسير الصحيح لحلم من الأحلام التي رآها هو، فإنما يفعل ذلك مدفوعا بنفس(725/22)
العوامل التي تولد الرقابة وتسبب في وقوع التحريف في الحلم حتى يصعب تفسيره. فالمرأة التي في الخمسين من عمرها مثلا قد أصابها الفزع والذهول لبشاعة الحلم الذي رأته رغما عن أنه لم يفسر لها، فما بالكم إذاً لو كانت الدكتورة فون هج - هلموت قد أفضت إليها بطرف من معناه الذي لا يخفي! هذه المرأة أنكرت الحلم ولم تعترف به مدفوعة بنفس الأسباب التي أدت في الحلم إلى استبدال العبارات الجارحة بدمدمة غير واضحة.
أما النزعات التي تخضع لتأثير الرقابة، فإننا إذا اختبرناها بنفس هذا المقياس من النقد التحليلي فإننا نجد أنها عبارة عن نزعات لا تقبلها النفس لأنها تجرح شعور الإنسان من الوجهة الأخلاقية أو الاجتماعية، وتدور في اغلب الأحيان حول أشياء لا يجر المرء على التفكير فيها أو على الأقل يشعر باشمئزاز كبير إذا مرت بخاطره. وهذه الرغبات التي تؤثر فيها الرقابة فتبدو في الحلم بشكل محرف هي فوق كل شيء إظهار للأنانية الفظيعة التي لا حد لها. (فالذات) يبدو أثرها دائما على كل حلم وهي تلعب فيه الدور الرئيسي وإن استطاعت في بعض الأحيان أن تتنكر تنكراً تاماً بالنسبة إلى المحتوى للحلم. وهذه (الأنانية المقدسة) للأحلام ليست في الواقع عديمة الصلة بالحالة العقلية التي تلزم للنوم أي قطع كل صلة بيننا وبين العالم الخارجي.
والذات التي تطرح عنها كل القيود الأخلاقية تحس أنها قد أصبحت على وفاق مع الرغبات التي يتطلبها الدافع الجنسي في الإنسان، وهي الرغبات التي لا تقرها التربية الثقافية والتي تتنافى مع القيود التي تفرضها علينا الأخلاق القويمة. فالطاقة الجنسية لا يحول حائل بينها وبين الأشياء التي يقع عليها اختيارها لجلب اللذة، بل هي في تفضل الأشياء المحرمة كزوجة رجل آخر مثلا، أو ما هو أشد حراما كتلك الأشياء التي اتفق البشر جميعاً على تقديسها كالأم والأخت في حالة الرجل، والأب والأخ في حالة المرأة. وهذه الرغبات التي نعتقد أنها غريبة عن الطبيعة البشرية التي تظهر قوتها على توليد الأحلام. والبغض والكراهية أيضا من الأشياء التي تنطلق في الحلم من غير قيد، فالرغبة في الأخذ بالثأر أو تمني الموت لمن هم أقرب الناس إلينا وأعزهم علينا في الحياة كالآباء والأبناء، والاخوة والأخوات، والأزواج والزوجات ليست قطعاً من الأشياء الغريبة وغير(725/23)
المألوفة. هذه الرغبات التي تخضع للرقابة يبدو أنها تنبع من جحيم حقيقي فنحن عندما نقف على معناها في أثناء اليقظة يبدو لنا أنه لا توجد رقابة كافية لردع الرغبات. على إن الأحلام ليست مسئولة عن هذا المحتوى الأثيم، فأنتم بالتأكيد لم تنسوا بعد أن وظيفة الحلم التي لا ضرر منها بل النافعة هي المحافظة على النوم من عوامل القلق والإزعاج. فالإثم والفجور ليسا من طبيعة الحلم، وأنتم في الواقع تعلمون أن هناك أحلاماً تعمل على تصريف رغبات مباحة، أو حاجات جسمية ملحة. وصحيح أنه لا يوجد تحريف في هذه الأحلام ولكن ذلك لأنها لا حاجة لها به فهي تستطيع أن تؤدي وظيفتها من غير أن تجرح الشعور الأخلاقي أو الثقافي للذات. تذكروا أيضا أن درجة التحريف تتناسب مع عاملين فهي من ناحية تزداد كلما كانت الرغبات التي تحت المراقبة اشد بشاعة ولكنها كذلك تزداد كلما كانت مطالبة الرقابة اشد صرامة. ولهذا فالرقابة الصارمة في الفتاة المحافظة التي تربت تربية قويمة قد تسبب تحريف أحلام نراها نحن رجال الطب، تصريفاً مباحاً لرغبات جنسية لا ضرر منها، وقد ترى الفتاة نفسها هذا الرأي عندما يتقدم بها العمر عشر سنوات أخرى.
وفضلا عن ذلك فنحن لم نتقدم بعد في طريق النجاح لدرجة تجعلنا نستشيط غضباً للنتيجة التي وصلنا إليها من عملية التفسير فاغلب الظن أننا لم نفهمها بعد كما يجب، ولكن يتحتم علينا قبل كل شيء أن نعمل على تحصين هذه النتيجة ضد الهجمات التي قد تتعرض لها، فإنه لا يصعب عليكم أن تدركوا النقط الضعيفة التي فيها. فنحن بنينا طريقتنا في التفسير على فروض فرضناها من مبدأ الأمر وهي: أن الأحلام ليست خالية من المعنى، وأن النظرية القائلة بأن العمليات قد تكون لا شعورية لبعض الوقت، كما هو الحال في التنويم المغناطيسي، يمكن تطبيقها أيضاً في حالة النوم الطبيعي، وأخيراً أن من الممكن تحديد كل الأفكار المترابطة. فلو أننا تمكنا بمساعدة هذه الفروض من الوصول إلى نتيجة معقولة لحق لنا أن نستنتج من ذلك أننا كنا على صوب في فرضها. ولكن ما هو العمل والنتيجة التي وصلنا إليها كما ترون؟ أظن أنه يبدو طبيعياً في هذه الحالة أن تقولوا: (هذه النتائج من التفاهة بمكان فهي مستحيلة الوقوع أو على أقل تقدير بعيدة الاحتمال، فلا بد إذاً من وجود خطأ ما في الفروض التي فرضناها؛ فإما أن الحلم ليس ظاهرة عقلية كما تخيلنا، أو(725/24)
أنه لا توجد أفكار لا شعورية لا ندركها في حالتنا الطبيعية، أو أن هناك عيباً ما في طريقة التفسير. أليس من الأفضل إذاً بل من الأسهل علينا أن نسلم بصحة هذا الافتراض بدلاً من الموافقة على هذه النتائج البشعة التي تمجها النفس والتي نعترف بأننا وصلنا إليها عن طريق الفروض التي فرضناها؟).
أجل يا سادة، إني أوافقكم على أنه أفضل وأسهل، ولكن ليس معنى ذلك أنه أصح. وعلى هذا فلننتظر قليلاً، فالمسألة لم تنضج بعد للحكم عليها، وتعالوا بنا كل شيء نقوي الاعتراضات التي تواجه طريقتنا في التفسير. فنحن لا نبالي كثيراً إذا كنتم لم تستسيغوا النتائج غير السارة التي وصلنا إليها، وإنما المشكلة التي تواجهنا حقاً هي أن كثيراً من الحالمين لا يقرون بالنزعات والرغبات التي ننسبها إليهم عندما نقوم بتفسير أحلامهم بل ينكرونها إنكاراً باتاً مبنياً على أساس متين. فقد يقول أحدهم: (ما هذا الذي تزعم! أتريد أن تبرهن لي على أن ما أنفقته على تعليم أخي وعلى بائنة أختي كان على غير رغبة مني؟ أيعقل هذا وأنا الذي قضيت عمري كله أجد وأعمل لأرعى اخوتي وأخواتي ولم يكن لي هم في الحياة إلا أن أقوم بواجبي نحوهم كأخيهم الأكبر حتى أفي بالعهد الذي أخذته على نفسي أمام والدتي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة؟) وقد تقول امرأة؟: (ما هذا؟ أتريد أن تفرض عليَّ أني أرغب في موت زوجي؟ حقاً إن هذا كلام فارغ لا يصدق. فنحن لسنا سعداء في حياتنا الزوجية فحسب، ولو أنك قد لا تصدق هذا، ولكن بموته سأفقد كل شيء أمتلكه في هذه الحياة الدنيا.) أو قد يجيب شخص آخر بما يأتي: (أتريد أن تزعم أنني أضمر لأختي شعوراً بالرغبة الجنسية؟ ولكن هذا مضحك حقاً فهي لا شيء بالمرة بالنسبة إليّ، فنحن لم نكن على وفاق في يوم من الأيام، بل إنه قد مضت علينا سنوات لم نتبادل فيها كلمة واحدة).
على أنه مازال في إمكاننا أن لا نهتم كثيراً إذا لم يستطع هؤلاء الحالمون أن ينكروا أو يعترفوا بما ننسبه إليهم من نزعات ورغبات، فقد تستطيع أن نقول. إن هذه هي بالذات الأشياء اللاشعورية التي لا يعلمون عنها شيئاً. ولكنهم عندما يحسون في أعماق قلوبهم بعكس الرغبة التي ننسبها إليهم بناء على التفسير، وعندما يبرهنون لنا بسيرتهم وسلوكهم الدائم في الحياة أن الرغبة العكسية هي الغالبة عليهم فمن المؤكد أننا لن نحير جواباً. أ(725/25)
يكون الوقت قد حان إذاً لكي نطرح كل الجهود التي بذلناها في تفسير الأحلام كشيء أدى بنا نتيجة تافهة
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(725/26)
من وراء المنظار
ثبات عجيب
أف لهذا المنظار! أزلت عنه التراب والصدأ ووضعته على أنفي بعد طول غيبة، فعاد يريني من دنيا الناس ما يسوؤني في الكثير مرآه، وإن كان لسرني أن أراه. . .
ولا يعجبن القارئ من هذا التناقض. فإن عجب فليعجب من هذا المنظار الذي يقع بي على ما يضحك في ذاته وإن كان لخليقاً بأن يستل من النفس كل ما أوصى به الله من صبر. وأكثر ما يريني منظاري ما يتصل بأقوى سبب بالتحمس والمتحمسين. والمصريون كما أعلم وتعلم أيها القارئ الكريم قوم شديدو التحمس سريعو الانفعال، وإن كانوا رقيقي الحاشية أسخياء الطبع مريحي النفوس. فما أسرع ما ينقلب الرجل الذي تمازحه ويمازحك في مثل ارتداء الطرف إلى نمر هائج لأقل بادرة منك في الحديث. وإننا لنتحمس في كل فصل. . . في الشتاء وفي الربيع وفي هذا الحر الذي يزهق النفوس وكثيراً ما يكون التحمس لغير سبب ظاهر، وهذا عندي أدعى صوره إلى إثارة الضحك كتحمس هذا الذي أريد أن أحدثك عنه. . .
هو شاب في نحو الخامسة والثلاثين، بادي الفتوة، مهندم الثياب؛ تطالعك في وجهه لأول وهلة إمارات الجد، وترى في جلسته ونظراته شيئاً من الصلف والصرامة؛ وتحس من عضلاته المفتولة وصدره العريض المرتفع أنك أمام مصارع محترف. . .
جلس في (المترو) على مقعد في الدرجة الأولى، ولم يبلغ الزحام في ذلك الصباح ما يبلغه اكثر الأيام من شدة: فالممر بين صفي المقاعد خال من الناس، والباب إلى الدرجة الثانية لا يقف فيه أحد. . . وفي مثل هذه الحال لا يتساهل محصلوا الأجرة في أن يركب الراكب حيثما اتفق له. . .
وكان صاحبنا يطالع إحدى صحف الصباح، وكنت على مقعدي تلقاءه، أنظر إليه من وراء منظاري، ولست أدري لم ألقي في روعي أنني أمام متحمس من طراز عجيب؟. . . أكان ذلك لما يبدو من صرامته وصلفه ودلائل قوته؟ أم كان مرد ذلك إلى ما كان يرتسم على وجهه من علامات الاشمئزاز والنفور كلما نقل بصره في الصحيفة من عنوان إلى عنوان؟ فلقد رأيته لا تتشكل أساريره قط بما ينبئ عن ارتياح عن ارتياح لشي مما يقرأ. . .(725/27)
ومهما يكن من شئ فإني شعرت بأني حيال متحمس من متحمسينا الأشداء. . .
وجاء محصل الأجرة وهو كهل مخيف يردد لفظيه المعتادين: ورق. . . تذاكر؛ ويزيد عليهما بين حين وحين قوله: فلوس، وينقر بقلمه على ظهور المقاعد أو على ظهر الخشبة التي تحمل تذاكره. . .
ومشى نحو صاحبنا، فلما بلغه كان قد بلغ في نداه قوله: فلوس. وناوله الفتى بطاقة يقرض منها بمقصه خانة فيساوي ذلك قرشاً ونصف قرش، ولم يكن في البطاقة إلا الخانة الأخيرة فقال محصل الأجرة لصاحبنا (ادفع الباقي) فلم يرد الفتى وعاد إلى صحيفته ينظر فيها كأن لم يحدث شئ.
ونفخ المحصل في زمارته فوقف (المترو)، واشتد الغيظ بالركاب جميعاً، وصارت القضية على تفاهتها من قضايا الرأي العام، ولكن في مجالها الضيق هذا. . . وأصر صاحبنا إصراراً شديداً وثبت ثباتاً عجيباً لا يكترث لشيء!. . .
وخطر لأحد الركاب حل سلمي فتقدم بالباقي إلى المحصل؛ وهنا وثب الفتى من مقعده ينتهر هذا المعتدي على كرامته ويطلب إليه أن يضع نقوده في جيبه. ونطق فإذا هو فخم اللفظ ينطق الزاي ظاء والتاء طاء والدال ضاداً، وكان كلما انطلق منه لفظ تراجع المسكين الذي تقدم بالنقود خطوة وقد رد نقوده لتوه إلى جيبه وأخرج يده يقلبها في الهواء بيضاء من فرط خوفه، أما المحصل فقد رضي من الغنيمة بالإياب؛ ونظرت ونظر الركاب فإذا ثلاثة أرباعه في الدرجة الثانية وما بقي منه في الدرجة الأولى، ولعله كان يتأهب ليغلق من دونه الباب. . .
وذكرتني ثورة هذا المتحمس بما كنت أقراه عن (الدوتشى) إذ كان يرعد في وجه موظفيه. . . وجلي هذا (الدوتشي) المصري لا يكترث لشيء ولا يجرؤ أحد أن يكلمه كلمة. . . وكم بيننا من أمثال هذا البطل ممن لا يحسبون لأحد حساباً مهما بلغت شناعة ما يصنعون. . .
وكنت اكتم ضحكي تلقاءه، وأخشى أن يغلبني، فأتأهب لألحق بالمحصل وأوصد من خلفي الباب؛ ثم اشغل نفسي بالتفكير في أمره، فأقول لو أن لهذا (الدوتشى) ولأمثاله من المتحمسين الأشداء مثل هذا الثبات في الجد من الأمور، أو مثل هذا الرفض والأباء إذا دعاهم رؤساؤهم إلى غير ما يحبون، لأخرجت أمتنا من الأبطال ما لم تخرج أمة مثله في(725/28)
غابر الزمن وفي حاضره، ولكن أكثر تحمسنا يأتي حين لا نخشى قوة، وكثيراً ما يكون في التافه من الأمور. .
وظل هذا (الدوتشى) على ثباته وإصراره، وظل القطار في موضعه والناس في العربات الأخرى ينظرون في ساعاتهم ويطلون من النوافذ ويظهرون أشد علامات التبرم والسخط، ويطل بعضهم من الباب ينظرون إلى هذا الذي لا يبالي بشيء.
وجاء قطار آخر وتشاور المحصلون فيما بينهم؛ ثم انطلق بعد حين ذلك القطار الذي يحملنا ويحمل الدوتشى حتى وقف على إحدى المحطات، فنزل مزهواً بالنصر ومشى مرفوع الهامة موفور الكرامة إلى حيث يتضاءل ويتصاغر بين يدي رئيسه.
الخفيف(725/29)
أعلام معاصرون
محمد عبد المطلب
للشيخ محمد رجب البيومي
يرى المتجول في مديرية جرجا قرية (باصونة) الصغيرة، حل بها لفيف من العرب الخلص الذين ينتمون إلى قبيلة جهينة وهي إحدى القبائل العريقة التي نزحت من الجزيرة العربية إلى مصر في حقب مختلفة وما زالت تنتقل في ربوع الوادي حتى استقر بها المقام في أعلى الصعيد
ومنذ ثمانين عاما كان بهذه البلدة الهادئة بيت مرموق المكانة يقصده الوافدون للتبرك بصاحبه الصوفي الزاهد (عبد المطلب واصل) فهو شيخ وقور تنتظم في بيته حلقات الذكر وتهب لديه النفحات الروحية الصافية، ثم هو عالم متفقه في دينه يعظ الناس كل مساء بما وعاه من الكتاب والسنة، فيهز أوتار القلوب. ويأخذ بمجامع العقول، هذا إلى عربيته الخالصة ونسبة الصريح.
ولد شاعرنا الكبير سنة 1870 في هذا البيت الطيب، فتربى تربية دينية قويمة. وطبع منذ نعومة أظفاره على الخلال العربية الحميدة، وطبيعي أن يسلمه والده إلى معلم القرية فيحفظ القرآن الكريم، ويلم بقواعد القراءة والكتابة، حتى إذا فرغ من ذلك أمكنه من الفقه الإسلامي والحديث النبوي فارتشف ما قدر عليه من معينهما الرائق، ثم أنس من نفسه المعرفة فجلس يعظ الناس مكان والده، وهو يعد في مبدأ العقد الثاني من حياته الزاهرة، فكان من يسمعه في هذه السن الباكرة يؤخذ بلباقته الفائقة، ويدعو له بالنجاح والتوفيق.
وكان العارف بالله الشيخ إسماعيل أبو ضيف شيخ الطريقة يزور مريده (عبد المطلب واصل) في (باصونة) من حين إلى آخر، فشاهد نجله الصغير يعظ الجمع الحافل كعادته، وهو لا يزال طري الأملود غض الإهاب، فتوسم فيه النجابة والذكاء، وزاد به إعجابه فعرض على والده أن يصحبه إلى القاهرةحيث يرتشف العلم الغزير من منهله الرائق بالأزهر الشريف، وكانت فكرة حميدة تلقاها الوالد بالترحاب والقبول، ولم يمض زمن وجيز حتى كان الواعظ الصغير طالباً بالأزهر يقضي فيه بياض نهاره، فإذا جنه الليل توجه إلى منزل حاضنه الشيخ إسماعيل فلازمه حتى الصباح.(725/30)
وإذا كان الفتى قد شهد مجالس التقوى في صورة مصغرة عند والده بالصعيد فانه في منزل حاضنه الأكبر الشيخ أبى ضيف يرى الصورة المكبرة لهذه المجامع العامرة، ويستمع إلى القصائد الصوفية التي تنشد في الحلقات كل ليلة، فيحس لها رنيناً مشجياً يدعوه إلى تفهمها واستظهارها حتى كونت لديه ملكة حساسة تطرب للتوقيع الجميل، وتتذوق المعنى الرائع، ومهما يكن من شيء فقد كانت هذه المقطوعات الصوفية أول حافز دفعه إلى الانكباب على الدواوين الشعرية في ميعة صباه يستوضح غامضها ويتفهم معانيها حتى خلقت منه فيما بعد شاعراً فحلاً جزل العبارة فخم الأسلوب!
ولقد كان الطالب الأزهري مبرزاً بين لداته، مشمولاً بعطف أساتذته ومشايخه. إذ أن المبادئ الفقهية التي حصلها عند والده قد مهدت له أسباب التفوق والنبوغ، ودفعته إلى التحصيل في لذة وشوق، فاخذ يستوعب كل ما يلقى عليه أتم استيعاب حتى نضج عقله في مدى سبع سنوات قضاها في الأزهر المعمور، ثم هو لا يكتفي بما يأخذه من دروس قيمة في اللغة والدين بل رتب لنفسه جزاءاً خاصاً من رائع الشعر العربي يحفظه يوماً بيوم، حتى خرج من الأزهر إلى مدرسة دار العلوم سنة 1892م وعنده من غرر القوافي ثروة ثمينة ساعدته على النظم في مختلف الأفانين الشعرية، وجعلته يثق بنفسه ويعتد بملكته اكمل اعتداد.
ولقد هيأت له الظروف في سنته الأولى بدار العلوم فرصة طيبة لمع فيها نجمه، فقد وقف يرثي فقيد المعارف علي باشا مبارك في حفل عام أقيم لتأبينه فأتى بالرائع المعجب من الأبيات الرصينة، وخرج أساتذته وزملائه الذين سمعه ينثرون عليه أكاليل الثناء، ويضربون به المثل في قوة الشاعرية وصفاء القريحة، مما حفزه بقوة إلى الإطلاع الدائب، والإنتاج الثمين.
وكان المرحوم الأستاذ الشيخ سليمان العبد إذ ذاك مدرساً في دار العلوم وله ميل شديد إلى النظم. فكان لا ينشئ قطعة إلا عرضها على تلميذه مستنيراً برأيه أمام زملائه، وكثيراً ما ينزل على إرادته فيحذف ويثبت كما يملي عليه تلميذه الناشئ، فإذا ما نشر قصيدته - وكان دائماً يكتب في الوقائع المصرية - قرأها على تلامذته معترفاً بما لعبد الطلب من أثر جميل.(725/31)
قضي الشاعر أربع سنوات في دار العلوم وتخرج منها في سنة 1896 متوجاً بالنجاح، فنجا من قيود الدراسة التعليمية، وهي كما نعلم - محصورة في علوم خاصة ومناهج محددة، قد لا يكون للشاعر في بعضها رغبة ملحة أو حاجة ماسة، أما الآن فهو حر فيما يقرأ ويدع، وهنا نجد عبد المطلب قد عكف على الكتب الأدبية القديمة يستخلص لبابها ويستظهر أشعارها، ويروى أخبارها، ومن حفظه أن عين مدرساً بمدرسة سوهاج الابتدائية وبها يومئذ صفوة مختارة من عشاق الأدب ورواد المعرفة، أذكر منهم المرحومين الأستاذ عبد الرحمن قراعه، وعبد الله بك الطوير وعلى بك الكيلاني، فنشأت بينهم وبين الشاعر صداقة وليدة تعهدها الأدب بمائه العذب حتى غدت دوحة مورقة وارفة فكانوا يعقدون مجالس السمر الأدبي حافلة بالنادرة الطريفة والملحة البارعة، فإذا جاء دور الشعر فمحمد روايته الفذ وصناجته الحكيم، وكثيرا ما يقترحونعليه أن ينظم في معنى معين فيتحفهم بما يريدون مستعينا ببديهته المواتية وقريحته المتوقدة، وكان الشيخ قراعة أحبهم إلى قلب شاعرنا المجيد، وانك لتجد في ديوانه قصائد عديدة ممتازة قالها في صديقه الوفي تنطق بالود الخالص، وتنبئ عن الحب الأكيد!. .
ولقد نظم الشاعر في هذا العهد طائفة محمودة من الشعر السهل الواضح تتناسب مع تلامذته في المدرسة الابتدائية، فجذبهم إلى الشعر يتذوقونه ويحفظونه بعد إن كانوا لا يجدون منه غير المغلق المستعصي على مداركهم الناشئة مما خلف الأولون، فكان عبد المطلب بهذا أول من خط الصحيفة الأولى في كتاب الشعر المدرسي في وقت صدف فيه التلاميذ عن كل ما يتصل إلى العربية بسبب. وانك لتقرأ أبياته في ذلك، فتراها جليلة الغرض، رائعة المغزى، سهلة التناول، سلسة النسج كأن يقول
إن كنت تبغي المعالي ... فالعلم أهدى سبيلا
فأحقر الناس من قد ... طوى الحياة جهولا
تراه بالجهل يمشى ... بين الأنام ذليلا
نحن الذين اتخذنا ... نور العلوم دليلا
لعلنا في المعالي ... بها نجر الذيولا
وهو لا يكتفي بحثهم على العلم في هذا النسق الجميل، بل بجذبهم إلى الأدب بنوع خاص(725/32)
فهو عنده كل شئ في الحياة، اسمعه حين يصف لتلامذته القلم فيقول
إذا اهتز في طرسه معجبا ... أذل شعوبا وأحيا شعوبا
فيسعد قوم به تارة ... وقوم به يصطلون الخطوبا
وطوراً تراه يفض الجموع ... وطوراً تراه يثير الحروبا
وطوراً ينادى الورى سائلا ... وطوراً يرد عليهم مجيبا
وفي ديوانه مقطوعات عامرة من هذا الطراز الرقيق، ويقيني أنه أول من حفز صديقه وتلميذه الأستاذ الهراوي إلى سد هذا الفراغ في الأدب، فنظم ما نظم من شعر الأطفال ترضية لأستاذه الحبيب.
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي(725/33)
الأدب والفنّ في الأسبوع
مدارس الشعر:
نلاحظ في الأنباء الأدبية الواردة إلينا من بعض الشقيقات العربية في هذه الأيام، وفيما يكتب من الحالة الأدبية فيها، كثرة ما يقال من مثل (أدباء الجيل الجديد) و (شعراء المدرسة الحديثة)، وقد يقابل هذا بنحو (الأدب القديم) و (الأدباء المحافظون).
وأكثر ما نجد ذلك في الحجاز، وقد وفدت علينا أخيراً طائفة من دواوين الشعر من إنتاج صفوة من الشباب الحجازيين الناهضين، حوت شعراً جديداً جذب الأنظار إلى منازل وحي الشعر العربي الأصيل. وليس عجيباً أن تترد بينهم كلمة الجديد وكلمة القديم، لأن جيل الكهولة هنالك لم يكد يتجاوز حدود عزلته للمشاركة في نهضة الأدب العصرية في سائر البلاد العربية.
وفي مصر لا نزال نرد الشعراء إلى مدارس تنسب إلى الجديد وإلى القديم، ولكن ذلك خفت حدته في السنوات الأخيرة وقل ترداده، وكان أمره مستشرياً في أوائل هذا العصر رد فعل لعنصر الجمود السابق له، ثم تهيأت الأذهان واستقرت بها الحقائق الأدبية العصرية، فتدانت المدارس واجتيزت الحدود ولم تعد بينها فروق كبيرة، واصبح الاختلاف بين الخصائص الشخصية اكثر من الاختلاف بين الخصائص المدرسية.
لذلك لم يكن الناس يتوقعون ما قاله الأستاذ العقاد عن لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية في الحفل الذي أقيم منذ أسابيع لإعلان نتيجة المسابقات الأدبية، فقد نسب الأستاذ الشعراء إلى مدرستين: ابتداعية حديثة، واتباعية سلفية، على أن الأستاذ نفسه أشار إلى متاخمة المدرستين واقتراب خصائصهما.
وقد قرأت أخيراً من الدواوين الحجازية الجديدة ما يسوغ لي أن أسجل هنا أن الشعر الحجازي الجديد لا يلتزم حدود مدرسة معينة، وهو يسير في ركب الأدب العربي الحديث مقاربا ًومؤاخياً، وأن الشعراء الشباب هناك ليس بينهم وبين أمثالهم في مصر وفي سائر البلدان العربية كبير اختلاف إلا فيما لابد منه بعض السمات المحلية.
الشعر والاستعمار:
ذكرنا ما قال الأستاذ احمد أمين بك الذي كتبه في عدد (الثقافة) الخير بعنوان (الأدب(725/34)
يناهض الاستعمار) الذي بين فيه أن سقوط أمم الشرق في يد الغرب جعل الناس يشعرون أن الحرب الحقيقية بين المستعمَرين والمستعمرين بدأت بدخول الأجانب بلادهم، لا أنها انتهت بدخولهم، فكان الأدب هو وحده المعبر عن شعورهم، ثم بين اتجاه البارودي في شعره إلى مسائل عامة يعرض فيها قضية الوطن واستثارة الهمم، وكذلك شوقي وحافظ اللذان أذكت زيادة الوعي القومي في عصرهما حرارة الوطنية في شعرهما، وكان يناهض الاحتلال إلى جانبهما شعراء آخرون أمثال أحمد الكاشف وأحمد محرم وأحمد نسيم ومحمد عبد المطلب ومحمد الهراوي.
ذكرنا ذلك بما يلاحظ على شعرائنا الأحياء من ضآلة نصيبهم في ذلك المضمار وقعودهم عن مكافحة الاستعمار، وخصوصاً في هذه الآونة التي استفحلت فيها المنازعات بيننا وبين المستعمرين، وبلغ فيها الوعي القومي مبلغاً كبيراً.
فهل ترجع قلة محصول شعرائنا في هذا الميدان إلى قصور شاعرياتهم، أو ترجع إلى أن الشعر يتجه، في آخر اتجاهاته، اتجاهاً غنائياً، فلا يحفل بحماس الوطنية ولا بمشاكل السياسة؟؟
سفير عربي:
حدثنا الأستاذ محمود تيمور بك عن زيارته لدار الكتب الأهلية في نيويورك في أثناء رحلته إلى أمريكا في العام الماضي، قال يصف تلك الدار: (إنها مبنى عظيم يحتوي على حجر رحبة وقاعات فسيحة، وقد حجبت أرجاءها فاستهوتني تلك الطرافة والتجديد في كل ركن، وذلك التيسير وسرعة الإفادة في كل موضوع، وزهاني أن تقع عيني هنالك على قسم عربي ملحوظ الجانب بين سواه من الأقسام، هذا سفير الشرق العربي يتربع هنا في مهابة وإجلال. . . ألا تراه اعز مكانة واحمد أثراً من مقاعد تعد للشرق في هيأت الأمم ومجلس الأمن أو غيرهما من هيئات السياسة والشئون العالمية ومجامع الشرف والتكريم؟).
والأستاذ تيمور يعمل في تأليف كتاب عن هذه الرحلة اسمه (أبو الهول يطير) يفرغ منه قريباً.
مسابقة المجمع اللغوي:(725/35)
اجتمعت لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي، ونظرت في موضوع المسابقات الأدبية لسنة1947 - 1948، وقد تناقشت اللجنة في موضوعات الشعر والقصة والبحوث من حيث التقييد والإطلاق، وكان بعض الأعضاء قد اقترح إن تعين موضوعات جائزة الشعر والقصة مثل البحوث، ولكن رأي عدم الأخذ بهذا لأن تحديد الموضوع وإن كان مقبولاً في البحوث الأدبية فإنه لا يستحسن في الشعر والقصة، إذ لا شيء أفسد لهما من صنعهما عن طريق التعمل والتكلف.
واقترح أحد الأعضاء النص على أن الإنتاج المقدم للجنة يجب ألا يكون قد سبق تقديمه للمجمع ولا لأية هيئة علمية أخرى، لأن مثل هذا الإنتاج لا ينبغي إن يجاز مرتين، فأدامت هيئة علمية محترمة قد سبق أن أجازته فمن الحرج مخالفتها، فنوقش هذا الاقتراح بأنه يجب قصر النص على أن لا يكون الإنتاج مما سبق أن أجازه المجمع، أما ما سبق لهيئة علمية أن أجازته فلا ينبغي أن يكون هناك مانع من قبوله، وقد جرت على ذلك المجامع الأوربية ثم استقر الرأي على أن ما يقدم للمجمع يجب ألا يكون مما سبق أن أجازه المجمع. أما النص على ألا يكون مما سبق أن أجازته هيئة علمية محترمة فلا يذكر وتترك المسائلة مطلقة.
وقد تقرر تخصيص مبلغ مائتي جنيه لأحسن إنتاج من الشعر العربي الفصيح، ومبلغ مائتي جنيه لأقوم قصة وضعت بالعربية الفصحى لا تقل عن مائتي صفحة من القطع المتوسط، على ألا يكون كل من الشعر والقصة قد سبق تقديمه للمجمع
وتخصيص مبلغ400 جنيه للبحوث الأدبية على أن توزع على النحو الآتي:
أ - 200 لأحسن بحث بالعربية الفصحى عن البيئة الأدبية في المدينة أيما بنى أمية
ب - 200 جنيه لأقوم بحث بالعربية الفصحى عن مهيار الدبلمى وشعره
على ألا يقل البحث المقدم عن مائتي صفحة من القطع المتوسط وترسل إلى المجمع نسختان من الإنتاج الأدبي المقدم، مطبوعتان أو مكتوبتان على الآلة الكاتبة في موعد لا يتجاوز نوفمبر سنة 1947.
التتويج الأدبي:(725/36)
كان مجمع فؤاد الأول للغة العربية قد قرر في سنة 1945 (أن يتخذ سنة جديدة فيتوج أعظم الآثار الأدبية كل عام بتقديره ومنح صاحبه جائزة كما سيصنع مع الأستاذ خليل بك مطران) وتم فعلاً بعد ذلك تتويجه للأستاذ خليل بك مطران ومنحه جائزة 800 جنيه. وكان ضمن قراراته في المسابقة الأدبية الماضية تتويج الأنتاج القصصي للأستاذ محمود بك تيمور ومنحه جائزة مائة جنيه.
وقد نظرت لجنة الأدب أخيراً في هذا الموضوع فرأت عدم تتويج أحد في هذا العام، وقررت مبدأً جديداً، أن يكون التتويج معنوياً لا مادياً أي تقديراً أدبياً فحسب فلا يمنح المتوج جائزة مادية، على أن يكون التتويج حسب مشيئة المجمع واختياره من تلقاء نفسه، لا بناء على طلب صاحب الآثار الأدبية
المخطوطات العربية:
من مشروعات اللجنة الثقافية بالجامعة العربية إنشاء معهد لإحياء المخطوطات العربية، ويجرى العمل في سبيل تصوير المخطوطات العربية القيمة وجمعها في هذا المعهد.
وهذا مشروع جليل يستحق أكبر العناية، فلا تزال في المكتبات العربية أسفار مخطوطة عظيمة الشأن، منها مراجع يلقى الدارسون عناء كبيراً في نبش قبورها، كالمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، وكالمغرب في حلى المغرب.
وتلك المراجع المخطوطة هي أهم ما يستعين به من يضع مؤلفاً في أحد الموضوعين اللذين قررت اللجنة الثقافية وضع جائزتين للتأليف فيهما، وهذا الموضوع هو (تاريخ الأمة العربية من سقوط بغداد إلى أول القرن الثالث عشر الهجري) فجل تاريخ هذه الفترة مما حوته المخطوطات.
وقد أنشأت الجامعة المصرية منذ سنوات كرسياً للأدب المصري، والمقصود أدب تلك العصور، ولا شئ أعون على دراسته من إحياء تلك المخطوطات، فغاية ما نرجو ان يكون حظ الجامعة العربية من التوفيق في ذلك أحسن من حظ الجامعة المصرية.
الإذاعة العامة:
وأخيراً وافق مجلس الوزراء على مذكرة وزارة الشئون الاجتماعية الخاصة بإعادة تنظيم(725/37)
محطة الإذاعة، بعد أن آلت إدارتها إلى الحكومة ومما تضمنته هذه المذكرة تأليف لجان ثقافية وفنية لاقتراح ما يذاع من الموضوعات واختيار المحدثين والفنانين وما إلى ذلك.
والمأمول من هذا التنظيم الجديد أن يحقق ما يرجى من محطة الإذاعة بحيث يقوى برامجها ويتلافى عيوبها التي استهدفت للنقد في الأيام الأخيرة. ومهما يكن من شئ فإنا لا نستطيع أن نستمر على غض الطرف عن هذه العامية المتفشية في الإذاعة المصرية، في التمثيليات وفي الأحاديث. . . وليس الأمر مقصوراً على العامية منها، بل نسمع كثيراً من المحدثين بالعربية يلحنون ويخطئون في النطق وفي التعبير، وكثيراً ما يقع ذلك ممن يدعون من الوزارات المختلفة للتحدث في موضوعات فنية. فلم لا تكون هناك رقابة لتصحيح لغة الأحاديث وتمرين المحدثين على النطق الصحيح ما داموا لا يهتمون بتقويم ألسنتهم في لغتهم كما يهتمون بتقويمها في اللغات الأجنبية!.
وقد انفردت محطة الإذاعة المصرية من بين سائر المحطات العربية بالإكثار من الإذاعة العامية، فلا تكاد تجد في محطة غيرها حديثاً ولا تمثيلا الا بالعربية الفصيحة.
فيجب أن يلتفت القائمون على أمر الإذاعة في عهدها الجديد إلى أنه، قبل تقوية صوتها ليسمع جلياً في العالم العربي كله، يجب أن يكون هذا الصوت بلسان عربي مبين.
(العباسي)(725/38)
من صور المجتمع المصري:
عرس في مأتم
للأستاذ علي الجندي
كانت الجنازة تسير في خطى وئيدة إلى مدينة الأموات! وفي أذيالها نوائح متشحات بالسواد، يتبارين في شق الجيوب ولطم الخدود! ومن بينهن فتاة في طراءة السن، بيضاء اللون، فاحمة الذوائب، ساجية العينين، مخطفة الخصر، تتأطر في مشيتها وتبالغ في الإرنان والنحيب! وتحيل على وجنتيها باللطم فيكاد يبض منهما الدم! حتى شق ذلك على صواحبها فقلن لها: ارحمي شبابك يا (جمل).
وقد كنت أظن بادئ النظر أنها تصدر في ذلك عن كبد حرى وفؤاد مقروح، ولكني رأيتها في سر من رفيقاتها تثني سالفتها، وتخزر عينيها، وتقتر عن بسمات الذل والإغراء! فأيقنت أن هذا الدمع زيف، وأن ذلك الحزن مصنوع لا مطبوع! يا للمافرقات العجيبة!!
قطعة زاخرة من الحياة تدلف في ركاب الموت! ونغم حلو شهي يرتفع بين النشيج والعويل! وبسمة وضيئة ترف على عبوس الأحزان!!
لقد استطاعت هذه الحسناء اللعوب أن تذهل الناس عن جلال الموت! ولكنها استطاعت كذلك ان تصلهم بالصانع الحكيم الذي أبدع هذه الدمى الفاتنة فادقها وأجلها!
وقد أوحى إلي هذا المشهد الفريد هذه الأبيات ولكن اشهد أن ما بقي في نفسي من ذلك أعظم وأجل!!
لا تنوحي كما ينوح النساءُ ... أنتِ نور، وهن طين وماء
أنتِ عرس تطغى على المأتم الصا ... خب منه الأنغام والأضواء
أنتِ تحت الخشوع في موكب المو ... ت دلال، وفِتنة شعواء
أنتِ بين النحيب، واللوعة الحرى م ... نعيم، وبهجة، وصفاء
أنت بين الأحزان، والألم المش ... بوب زهر، وخمرة، وغناء
اتقي الله في خدودِك، فالور ... د من اللطم جذوة حمراء
اتقي الله في عيونِك فالنر ... جس أَدمت أجفانه الأنداء
وبلاءٌ أن يذبل النرجس الغض م ... ويلهو بوردتيك الفناء(725/39)
كيف تأسى مَن وجهها في الأسى المب ... رح روْح، وسلوة، وعزاء
كيف تبكي من ثغرها لمعة الب ... شر إذا جدَّ بالحزين البكاء
لا تقولي: أبكي رياءً، فما يح ... سن من حسنك البريء الرياء
لا تقولي: هي المدارة، فالنا ... س جميعاً - إذا سلمت - هباء
ما عهدنا أن يخمش (البدر) خدي ... ة وأن تسكب الدموع (ذكاء)
جلّتِ الصنعة العلية أن يُلْ ... طم وجه يشع منه الضياء
فابسمي للحياة، فالحسن بسا ... م، وقبح أن تَعْبِس الحسناء
وامرحي في الشباب فالفطرة البي ... ضاء تأبى أن تستكين الظباء
أي نعشٍ سارت تشيعه الشم ... س وتسعى وراءه الجوزاء
شغل الحامليه ظبي رخيم ... لاعب بالعقول كيف يشاء
قد ضمنا أن ينزل (الخلد) ميت ... لمست عود نعشه (حوْراء)
كيف لم تعبق الجنازة مسكا ... من شذاها، وتورق (الحدباء)
حسبكِ الله! قد نسينا بك المو ... ت، وللموت حولنا ضوضاء
بين سود الثياب، والفاحم الفي ... نان وجه، له الوجوه فداء
عجب الناس أن يروا في الضحا الما_تع بدراً تحفه ظلماء
ومهاةً تحت الأسَى تتثنى ... خوط بانٍ تهزه النكباء
كلما ماس عطفها انسدل الشعر م ... فغطى على الصباح المساء
وتنزَّت رمانتان من العا ... ج، وماجت حقيبة بجراء
ترسل الصوت كالبغام، وترنو ... بعيون، تفتيرها صهباء
وتندى خدودها عبرات ... تصف الحزن، وهي منه براء
تصنع الدمع صنعها الدَّلَّ، والتم ... ثيل فن تجيده (حواء)
وهي حيناً تجلو جُمَانَ لِثات ... تتمنى سلافها الندماء
بسمات بين الدموع كما افترت م ... عن البرق مزنة وطفاء
كل شيء فيها يناديك أن تخ ... لع ثوب الوقار حتى البكاء
ومن الغانيات مَنْ كلها فن م ... أنيق، وكلها إغراء(725/40)
ما عليها لو حجَّبَت ناظريها ... فاستراحت من الجوى الأبرياء
دينها الفتك! لا السوابغ خرز ... - من ظباها - ولا التروس وقاء
سمت طرفي الإغضاء عنها، فعاصا ... ني، وصعب عن مثلها الإغضاء
ليت شعري ما رابني من جمال ... هو لله حجة بيضاء
رب حسن هدى إلى خالق الحس - ن حيارى لم يهدهم أنبياء
ودعاء باسم الملاحة يزجي ... قد تلقته بالقبول السماء
شقي الناس بالجمال، ويشقى ... - تحت ظل السعادة - الأغنياء
ليت من أشعلوا البسيطة ناراً ... عرفوه، فلم يصبنا البلاء
لو دَرَوْا سِرَّه أظلهمو السلم م ... ورفَّت عليهمو النعماء
علي الجندي(725/41)
إليها. . .
للشاعر إبراهيم محمد نجا
طائر الليل وراء الأفْق طارا ... زوبدا الفجر كأحلام العذارى
فتعالى خففي من لوعتي ... أو فزيديها - إذا شئت - أُوارا
إن تكن نارك تكوي مهجتي ... حبذا نارك في المهجة نارا
أنا يا هند خيال شارد ... سئم الناس، كما عاف الديارا
عشت في الدنيا غريباً حائراً ... هائماً في كل واد، مستطارا
يستوي عنديَ يومي وغدي ... وكذا أمسيَ ليلا ونهارا
ملك اليأس زمامي، فأنا ... لا أسير اليوم إلا حيث سارا
لا تلومني؛ فكم من أمل ... طاف حولي وتغنى، ثم طارا
معزفي باك، وقلبي خافق ... لج في الماضي حنيناً وادكارا
فتعالي يتغنى معزفي ... بالهوى طوعاً، وبالحسن اختيارا
أو فعودي بي إلى الماضي الذي ... غاب خلف الأفق عنا وتوارى
كلما نبَّه قلبي طيفُه ... لم يطق قلبي من الشوق اصطبارا
أين مني الآن أفق ضاحك ... كان للحب مراحاً أو مطارا؟
أين منى الآن وكر هادئ ... حوله الجدول ينساب نضارا؟
ملك الحب كساه مطرفاً ... وكسته ربة الطهر شعارا
طالما زرناه يا هند معا ... ورجعنا منه لم نخلع عذارا
وغرسنا بذرة الحب به ... ثم عدنا فجنيناها ثمارا
حبذا الحب ملاكا طاهرا ... لا يرى إثما، ولا بصر عارا
حبذا الحب منارا في الدجى ... يسكب النور على دنيا الحيارى
حبذا الحب نسيما عاطرا ... يرتقي بالروح حتى يتوارى
حبذا الحب عيونا تلتقي ... في ظلال الشوق سرا أو جهارا
تلك دنيا بعد العهد بها ... ونأت عنا مقاما ومزارا!
أفما زالت على عهد الهوى؟ ... أم أحال الدهر مغناها قفارا؟(725/42)
أين مني الآن روح طاهر ... كان في ظلماء أيامي منارا؟
أين مني الآن جسم باهر ... يأسر اللب انعطافاً ونفارا؟
أين مني الآن ثغر ساحر ... طاب كالزهرة عطراً وافترارا؟
يسكب الحسن عليه نوره ... والفراشات إليه تتبارى
رفرف الحب عليه طائراً ... والمنى رفت حواليه إطارا
أين منى الآن شعر ناعم ... ضلَّ قلبي في ثناياه وحارا؟
كلما مرت عليه نسمة ... داعبته، فتعالى واستدارا
أين منى الآن صوت حالم ... يترك الأطيار في الروض سكارى؟
لي منه نشوة ما تنتهي ... أتراني أحتسي منه عقارا؟
أين؟. . . لا شيء سوى دمع الأسى ... وطيوف اليأس في قلبي حيارى!
من لباك ليس يرقا دمعه ... ومحب ضيع العمر انتظارا؟
طالما حن إلى الماضي الذي ... غاب خلف الأفق عنه وتوارى
آه يا قلبي! كفانا حيرة! ... وكفانا أيها القلب عِثارا!
طُوى الماضي! فيا قلبي اتئد! ... عبثا تطلب للماضي انتشارا!
لم يعد ماضيك إلا ذكرا ... فاْحيَ في الماضي حنيناً وادكارا
إبراهيم محمد نجا(725/43)
البريد الأدبي
الجمهورية اللبنانية تكرم النشاشيبي:
سبقت الجمهورية اللبنانية إلى تكريم إمام العربية في هذا العصر العلامة المحقق الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي فأهدت إليه وسام الاستحقاق اللبناني المذهب تقديرا لجهاده الأدبي الدائب المثمر في سبيل وحدة العرب ونهضة العربية. وليس بدعا أن يسبق لبنان دول العروبة إلى أداء هذا الواجب لرجل قصر جهده وفكره ووقته وماله على خدمة الأدب العربي زهاء أربعين عاماً، فإن لبنان يجري في هذا السبق على أعراق آبائه. فقد كانوا حين تترك العرب وجعلوا يدرسون نحو العربية وصرفها باللغة التركية في مدارس العراق والشام، يتعصبون هم للغة القرآن فيجددون قديمها، وينشرون أدبها، ويصدرون الصحف بها، ويصنفون المعاجم لها، ورحم الله آل البستاني وآل اليازجي!
كلمة أخيرة في أبي هريرة:
قرأت ما كتبه الأستاذ عبد الحسين شرف الدين في العدد 724 من مجلة الرسالة، فوجدته يدعي أنا معشر أهل السنة نذهب إلى عصمة الصحابة من الجرح المسقط لعدالة المجروح، وهذا ليسبصحيح، لأن العصمة خاصة عندنا بالأنبياء، وعدالة الصحابة عندنا لا ترجع إلى عصمتهم، لأنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم، وإنما ترجع إلى ما كان من تحرزهم في دنيهم، وما يأخذه إخواننا من الشيعة عليهم يرجع إلى رأيهم في الخلافة ومثل هذا لا تسقط به عدالة.
ثم وجدته يعود إلى حديث دخول أبي هريرة على رقية، وإلى تصحيح الحاكم لسنده، مع أن البخارى أعله بالانقطاع، ومع أني أثبت له ضعف هذا السند في روايتي الحاكم، واعتمدت في هذا على كتاب ميزان الاعتدال للذهبي، وقد ذكر الأستاذ أني ضعفت هذا السند بما لا يتنزه عن مثله أسانيد كثير من الصحاح، وفاته أنه يكفر أبا هريرة بهذا الحديث ويتهمه بوضعه، ولا يصح تكفير مثل أبي هريرة إلا إذا لم يكن مطعن ما على غيره، فإذا كان هناك مطعن ما على غيره لم يصح تكفيره، لأن التكفير لا يثبت إلا بقاطع فيه.
على أن تصحيح الحاكم لسند ذلك الحديث لا يفيد الأستاذ فيما يريده من إثبات وضعه، ومن أن واضعه أبو هريرة، لأن الحديث الذي يصح سنده دون متنه لا يكون موضوعاً، وإنما(725/44)
يكون في متنه غلط أو نحوه، كما تقرر هذا في علم مصطلح الحديث، أما طلب الأستاذ أن ينظر في غير هذا الحديث من كتابه فيمنع منه أن مجلة الرسالة لا تتسع له.
عبد المتعال الصعيدي
إلى الأستاذ الطنطاوي:
أتقول - أيها الأستاذ الفاضل - إن (مؤلف الكتاب - السبيتي - لا يسوق ما ساقه على أنه رأى له، بل على أنه معتقد الشيعة وأن المعتمد عندهم، وأنت تصدقه في ذلك ما لم تر علماء الشيعة يكذبونه وينكرونه عليه).
فتعال معي - حفظك الله - لأدلك على الشباب المثقف في مدينتنا - التي تعد أهم مراكز الشيعة في العراق - لترى أنه لا يعير هذه التقاليد والعقائد اهتمامه بل هو راغب عنها، ثائر عليها، ولا يهتم بهذه النعرة - الطائفية الأثيمة - الجالبة الشر إلينا وعلينا، لأنه عرفها من عمل (المستعمر) الغاشم وأذنابه، ودرى أنها ليست نتيجة للتفكير.
وكن على يقين ثابت من قولي من أن هذا الكتاب - تحت راية الحق - الذي كان بين يديك قبل مدة وقرأته وعلقت عليه، لم يقراه شباب الشيعة المثقف عندنا، ولا يحاول أن يطلع على كتاب - كهذا - يحوي بين دفتيه سفساف الأمور، وأشياء لا تجلب للمسلمين سوى الضرر. وأنهم عجبوا منك حينا طرقت هذا الموضوع، في صحيفة تخدم الأدب والعلم والفن وحقيق بنا أن نعجب!
عفواً، (إن إخوانكم الشيعة لا يعتقدون إن المهاجرين والأنصار لم تصف نفوسهم لفهم الدين، ولم تصل إلى أعماق قلوبهم، وهم يرونهم - كما ترونهم - أئمة الهدى وورثة الرسول) والشباب الواعي لا يسب الصحابة لأنه يراهم (خلاصة الإنسانية ولباب البشر) ولأنه واثق إن الدين الحنيف قام على أكتافهم وشيدت دعائمه ببذل جهودهم المشكورة.
وبعد فإنني لم أرد - بهذا المقال - الدفاع عن الشيعة بل إنما أردت أن أقول الحقيقة، وأدعو المسلمين كافة إلى نبذ أمثال هذه الكتب المفرقة، فحسبنا هذا الاختلاف أربعة عشر قرنا.
فقد اتحد أقوام من أديان مختلفة وانضموا تحت لواء واحد، وبقينا نتنازع، وانقلبنا شيعا بعد(725/45)
أن كنا كالبنيان المرصوص وأصبنا بما أصبنا.
أليس من العيب علينا ألا نتحد وكلنا يدين بدين محمد!
(كربلاء - العراق)
جواد صالح الطعمة
1 - في العروض:
في (الرسالة) الغراء في عددها (723) قصيدة حرة سابغة للأستاذ الكبير الشاعر الثائر محمود الخفيف استوقفني فيها ما أردت إثباته للحقيقة.
يقول الأستاذ:
وهاجة شعلتها لا َتنى ... تضئ لا يحبسها حابسُ
من موطن سارت إلى موطنِ ... خانقها من موتها يائس
نار سناها ليس في الأعين ... ملء أبيّات النفوس السنا
. . . . . . الخ
والشاهد أن الأستاذ أسس في الشطر الأول من البيت الأول (بألف التأسيس) في كلمة (لا تنى) وأغلفه في البيتين التاليين وهو ما لا يجوز في شرعة العروضيين أهل السبق والرتق والأذن الواعية.
هذا، للأستاذ الموقر تحية المقدِّر، والسلام.
2 - منذئذ:
عرضت لي هذه الكلمة في مجلة (العالم العربي) ووقفت عندها موقف الشاك في غير إثم. . .
فأنا أعرف أن (حينئذ وعندئذ ويومئذ وليلئذ. . .) كلها تحدد الزمان حيال أمر مضى أو انقضى. . أما (منذئذ) هذه فأمرها غير أمر أخواتها وإن وقع الشبه. .
(فمنذ) كلمة تحدد الزمان لأمر حدث في الماضي واستمر حتى ساعة الخطاب. . تقول: ما عرفت كعم الكرى منذ رحل أو مذ رحل.
وأما (منذئذ) فأنا أسأل عنها العارفين شاكراً. . . والمرء جاهل ما عاش. . .(725/46)
(الزيتون)
عدنان
خطأ عروضي شائع:
نشر الأستاذ مختار الوكيل قصيدة في هلال مايو، بعنوان: (إلى أخي) وهي مهداة لكل أخ في جنوب الوادي، ومطلع هذه القصيدة:
أَخي قد شاَء رب الكو ... نِ أن يُجَمَع قلبانا
وهذا المطلع كما هو ظاهر من بحر الهزج (مفاعيلن مفاعيلن) (وكذا عجزه!) بينما البيت الذي يليه من مجزوء الوافر وهو:
فاسكننا بوادٍ فا ... ضَ بالخيرات ألوانا
لأن وجود التفعيلة (مفاعلتن) فيه تكفي لجعله من ذلك البحر.
وأكثر أبيات القصيدة خليط من بحرَي الهزج ومجزوء الوافر وهو خطأ يقع فيه كثير من الشعراء المحدثين.
(فلسطين)
خليل إبراهيم الخطيب
في مقال القفجاق:
وقع في مقال الأستاذ رمزي بك المنشور في العدد الماضي خطأ مطبعي في كتابة هذين الاسمين فنعيد نشرهما مصححين:
كابتشاك
وكيبتشاك(725/47)
الكتب
الحجاج في الميزان
(تأليف الأستاذ طه عبد المجيد الشيمي)
تاريخنا لم يكتب بعد، وما هذه الكتب التي بين أيدينا إلا مصادر له، على أنها مصادر يصدر عنها الخير والشر، والصحيح والباطل، وسبب ذلك أن علماءنا لم يعنوا بنقل التاريخ. عنايتهم بنقل السنة، ولم يتعبوا أنفسهم في تصحيح إسناده، وتمحيص رواياته كما أتبعوا أنفسهم فيها. وإن التاريخ دوَّن في عهد العباسيين فكان فيه من التحامل على بني أمية خاصة شئ كثير، لا سيما وأن أكثر الطعن فيهم ينقله مؤلفونا المعاصرون عن مثل المسعودي واليعقوبي وهما شيعيان متهمان ببغض بني أمية ولا بد من إعادة كتابة هذا التاريخ من جديد.
وهذا الكتاب محاولة صالحة لدرس حياة الحجاج دراسة أراد المؤلف أن ينصفه فيها ويدفع عنه تهم أعدائه، ففعل ولكنه بالغ في ذلك حتى كان نظره إليه نظره إلى صديق يمدح لا يؤرخ ينقد ويزن.
والكتاب للأستاذ طه عبد المجيد الشيمي من علماء الأزهر في مائة صفحة من القطع الصغير يطلب من دار مجلة الإسلام في شارع محمد علي بمصر.
علي الطنطاوي
معرض الأدب والتاريخ الإسلامي
(تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن)
قال لي صديقي الأستاذ محمد عبد الغني حسن وهو يقدم إليَ كتابه الأخير أكتب عن هذا الكتاب وانقده ما وسعك النقد.
فقلت له لقد قرأت هذا الكتاب يوم صدر، ولم يكن في عزمي أن أقرأه كله، ولكني ما كدت أقرأ الصفحات الأولى منه حتى مضيت في قراءته إلى آخره، لأني وجد فيه متعة ولذة وسهولة مع براعة الاستهلال وحسن الانتقال، ولا أذكر أني وجدت فيه مآخذ تستوقف(725/48)
النظر. فإن كتبت عنك فلا بد لي من الرجوع مرة ثانية إلى الكتاب لألتمس فيه المغامز التماساً، فلا تكلفني شطاطا.
فقلت كما قال أرسطو: أحب أفلاطون وأحب الحق، ولكن حبي للحق أعظم.
الكتاب يقع في 234 صفحة، وفيه هذه الموضوعات: قصة الأساطيل الإسلامية، ارتياد جزيرة العرب، التجارة الإسلامية على مر العصور، الوزارة والوزراء في الإسلام، مكتبات عربية في الشرق والغرب، دور التحف العربية، الرحلات العربية. . . ثم أربعة عشر موضوعاً خلاف ما ذكرنا، وهذا هو السبب الذي جعل المؤلف يصوغ عنوانه (معرض الأدب والتاريخ الإسلامي).
وأول ما يستوقف القارئ هو هذا العنوان.
هل الإسلامي صفة للتاريخ أم صفة للأدب والتاريخ. إن كانت الصفة للتاريخ فقط فالعنوان صحيح، وإن كانت لهما معاً، فالواجب أن يقال: معرض الأدب والتاريخ الإسلاميين.
ولست حجة في اللغة العربية وقواعدها، ولكن العقل السليم يقتضي ما ذكرت، على الرغم من أن اللغة تتسع لكثير من التخريج والتأويل.
ثم قال في قصة الأساطيل الإسلامية: (ومن العجب أن عمر بن الخطاب الفاتح العظيم، لم يحب ركوب البحر، بل على الضد من ذلك صرف المسلمين عنه. وكتابه إلى معاوية يؤيد هذا، فقد أقسم بالله الذي بعث محمداً بالحق لا يحمل فيعه مسلماً أبداً. وذلك حينما اقترح معاوية وألح في الاقتراح على عمر بركوب البحر وغزو الروم في حمص.
(وعجيب جداً أن يكون هذا موقف عمر من البحر وهو الذي دوخ البلاد فتحاً وغزواً، ولعله أراد أن يركز قوة المسلمين في البر حتى يتهيأ لهم مع الزمن ركوب البحر).
وإذا كان الأستاذ عبد الغني قد اعتمد على هذا النص الموجه إلى معاوية، فهناك نصوص أخرى تفيد هذا المعنى. من ذلك - وأنا أرجع الآن إلى الذاكرة - قول عمر (علموا أولادكم الرماية والسباحة). والسباحة لا تكون إلا بحراً لا براً، وقد قال عمر ذلك في معرض الفروسية وتربية العرب على الحرب والقتال. والذي ينصح بالسباحة لا يمتنع من النصح بركوب البحر.
ومن جهة أخرى لا ينبغي تفسير التاريخ بالنظر إلى وثيقة واحدة. والواقع في المسألة أن(725/49)
الحروب التي قام بها عمر في فارس والشام، ما كانت تقتضي ركوب البحر، ولو أن الله مد في حياته، لفعل كما فعل عثمان بن عفان.
وقال الأستاذ عبد الغني عند الكلام على (التجارة الإسلامية على مر العصور) ما يأتي (وكانت روح الإسلام المتحرجة من التجارة باقية عند الأمويين، ولم تترك لهم المنازعات السياسية والحزبية مجالا للبيع والشراء. فلما جاء العباسيون تغيرت نظرة الناس إلى الأشياء وأصبح التاجر الغني موضعاً للتبجيل والاحترام).
ويبدو كذلك أن هذا الحكم سريع لا يستند إلى الواقع من التاريخ. فالقول بأن المنازعات السياسية والحزبية لم تترك للأمويين مجالا للبيع والشراء، قول يصح بالنسبة إلى الدولة العباسية فقد كثرت فيها المنازعات السياسية والحزبية.
ومهما يكن من شئ فهذه وجهات من النظر في تفسير التاريخ، ولن تجد في التاريخ تفسيراً واحداً.
ولا أحب في ختام هذه الكلمة أن اذكر المواطن التي أعجبتني في هذا الكتاب، وأن أنبه عليها، حتى لا يقال هذه تحية صديق
أحمد فؤاد الأهواني
1 - نظرة العجلان في أغرض القرآن
(تأليف محمد كمال الخطيب المحامي)
إذا كان القرآن الكريم قد ظل على طول القرون مقصد العلماء يتناولونه من سائر نواحيه بالدراسة والبحث، فإن هذا الكتاب يلم بناحية فنية من تلك النواحي إذ قصره مؤلفه الفاضل على البحث في وحدة الموضوع في السور وتناسب الأغراض بين الآيات، وعلى هذا تحدث عن جميع سور القرآن مبتدئاً بفاتحة الكتاب حتى بلغ النهاية، وهذا الذي عناه المؤلف مما تناوله المفسرون ورجال البلاغة ولكن في مواضع متفرقة وفي مناسبات استطرادية. فكان من الفضل للمؤلف أن جعل من ذلك وحدة شاملة هي موضوع كتابه النافع وإن كان قد اضطر إلى إجمال الكلام إجمالا لا يشبع.
أما مؤلف هذا الكتاب فهو الأستاذ محمد بك كمال أحمد الخطيب المحامي ومدير مجلة(725/50)
التمدن الإسلامي التي تصدر بدمشق، وهو معروف بصدق الغيرة الإسلامية، وليس كتابه هذا إلا مظهراً من مظاهر هذه الغيرة الكريمة، ولا شك أن كتابه بما له من جلالة الموضوع سيقع عند القراء موقع الرضا والتقدير.
2 - ألغاز الحياة والموت
(ترجمة الأستاذ علي عبد الجليل راضي)
الخلق. الروح. البعث. الذرة. الأثير. الأحلام. الضمير، هذه الموضوعات التي تتصل بعالم الكون وعالم الإنسان قد حيرت الأفهام وأرهقت عقول العلماء على أنها لا تزال مورد التساؤل والاستفهام، ومبعث الحيرة والارتباك.
ولقد أحسن الأستاذ الفاضل علي عبد الجليل راضي إذ عني بنقل ما كتبه العلماء الأخصائيون في هذه الموضوعات وما وصلوا فيها من آراء هي نتيجة الدراسة العميقة والخبرة التي تقوم على مدلول التجربة ومنطق العقل، كما أحسن إذ عني بتبسيط المسائل المعقدة وشرح الاصطلاحات الغامضة، فجاء كتابه هذا ثمرة طيبة في الإفادة بالموضوعات العلمية والتعريف بهذه الناحية التي لا تزال مجهولة من الشبان وطلاب المعرفة.
محمد فهمي عبد اللطيف(725/51)
القصص
المترو
للقصصي النمساوي أيرفين ريجر
كان الحر لافحا خانقاً عندما توقف شاب وفتاة وسط الساحة الكبيرة في (محطة الشرق) بباريس يطلقان حولهما نظرات قلقة حائرة. كان من السهل إدراك أنهما أجنبيان قدما إلى باريس من بعيد، وأنهما فلاحان كما تدل عليه ملابسهما. كانا بولنديين مهاجرين قدما إلى باريس ليبحثا عن عمل في فرنسا
كان الإعياء يبدو عليهما من أثر الرحلة الطويلة. وكانت الفتاة شاحبة اللون تحيط عينيها الوضاءتين هالات سود. ولكن نظرتها كانت تنم عن الاستسلام المطلق والثقة العمياء بالشاب القوي العريض المنكبين
ووضع الشاب الأمتعة التي كان يحملها كلها وحده. ثم أخرج ببطيء من جيبه الداخلي محفظة كبيرة من الجلد وجذب منها ورقة قدمها لأحد المارين الذي ألقى عليها نظرة عاجلة وقال (متروبورت دو كلينيا نكور) ولم يفهم الشاب الأجنبي وسار وراء المار ورفيقته وراءه يستوضحه فأجاب بنفس العبارة
وعرض الشاب نفس الورقة على شيخ قصير القامة يحمل منظارا. ولاحظ العجوز أن الشاب والفتاة أجنبيان يبدو عليهما الوجل والاضطراب فأشار إليهما بمتابعته ففعلا ونزلا وراءه السلم الذي يوصل إلى ممر طويل تحت الأرض كتب على مدخله عبارة (مترو) وبعد خطوات رأيا لافتة كتبت عليها عبارة (متروبورت دو كلينيا نكور)
واشترى العجوز تذكرتين وناولهما للشاب مبتسما وسار في سبيله. وتقدم (بوجدان) يحمل الأمتعة نحو الممر تتبعه (تيريز). لم يكن السير سهلا فقد كان يخرج من تحت الأرض هواء ساخن يخنقها، وكانت الممرات تتقاطع تملؤها الجموع الإنسانية الحاشدة. لذا كان يحدث من لحظة إلى أخرى أن يفصل بين بوجدان وتيريز بالرغم منهما بعض المارين المسرعين في طريقهم. وكان بوجدان يخترق الجموع بجسمه المارد كباخرة عاتية لا تعبأ بما يعترضها من الأمواج. أما تيريز فكانت تجري وراءه بقدر ما تستطيع. وعندما وصلا إلى نهاية السلم وجدا أمامها أفريزا تمتد تحته قضبان حديدية وسط ظلام دامس. ما أغرب(725/52)
هذا العالم الذي يجري تحت الأرض! وعبر بوجدان بابا وتوقف قطار كهربائي يحمل معه صوتاً أشبه بصوت الرعد. ثم فتح أبوابه وألقى إلى خارجه جموعا إنسانية أخرى وفي نفس اللحظة أغلق باب الافريز صاداً عن المرور تيريز التي كانت تجاهد الزحام بكل قواها دون جدوى؛ فاضطرت أن تنتظر على السلم مع مئات غيرها. وأصابها الذعر حين رأت بوجدان مدفوعا بمجهود نافد الصبر يدخل عربة القطار دون أن ينظر حوله. فصرخت صرخة تمزق القلب (بوجدان! بوجدان!) وفي نفس الوقت أغلقت جميع أبواب القطار ثم دوى صوت صفارة تبعها في الحال تحرك القطار الذي انزلق كالسهم في النفق الأسود المظلم.
بقيت تيريز وحدها يحيط بها جمهور متباين الوجوه، يتكلم لغة لا تفهمها، وامتلأ الرصيف بالخلق يضحكون ويمزحون ولا يأبه أحد لها. ووصل قطار جديد يشبه تماما ذلك الذي ركبه بوجدان منذ دقيقتين وفغرت الأبواب أفواهها واندفعت الجموع. ما العمل؟ هل تنتظر؟ هل تتبع الجموع في يسرها؟ وبغير وعي انساقت تيريز مع الحشود الإنسانية في طريقها كما فعل بوجدان. وبدأت رحلتها في أنحاء باريس تحت الأرض دون أن تعرف إلى أين تذهب. كانت واقفة وسط عربة القطار الذي يخترق الظلام نحو المجهول. أين بوجدان؟ هل هناك أمل في العثور عليه؟ وتملكها الخوف. إلى أين يقودها ذلك القطار الذي يجري في الظلام كالصاعقة، ودار رأسها ولم تعد تستطيع احتمال هذا القلق وهذه الوحدة. ووقف القطار فنزلت منه كمجنونة وسارت يدفعها هذا ويرتطم بها ذاك صاعدة سلما لا ينتهي. ثم أنعشها هواء ناعم ووضحت أمامها الوجوه وعادت إليها الحرية. كانت لا تصدق عينيها. أهي في حلم؟ ما هذه الأضواء العديدة الصارخة؟ ما هذه الموسيقى؟ وجدت نفسها في شارع على جانبيه منازل عالية. تصطف تحتها المطاعم والمقاهي الزاهية بالأنوار. المكتظة بالناس المرحين في ثياب العيد.
ماذا يريد منها هذا الشاب؟ لقد مس ذراعها فرفعت رأسها ونظرت إليه بدهشة أضحكته. إنه يتكلم تلك اللغة الأجنبية. ولاحظت أن صوته ناعم رقيق برغم أنها لم تفهم كلمة واحدة مما تفوه به، وهزت رأسها وافتر ثغرها عن ابتسامة اعتذار أضاءت وجهها المبلل بالدموع. وأدرك (رونيه) أنها جميلة وهو ينظر إلى خصلة الشعر الذهبية التي تبرز من(725/53)
تحت المنديل الذي يمتص شعرها. وأدرك أنها أجنبية وربما كانت ألمانية. لقد تعلم بضع كلمات ألمانية أثناء اعتقاله مدة الحرب فجمع شتات ذاكرته ووجه إليها عبارة صغيرة آتت ثمرها فقد كانت في وطنها بولونيا تعيش قرب الحدود الألمانية. ما أسعد أن يجد المرء في هذه البلدة القريبة شخصاً يركن إليه ويضع فيه ثقته! لقد فتحت له قلبها وقصت عليه كيف أن والديها لم يقبلا الإنصات إلى حديثها عن بوجدان فهربت معه إلى خارج وطنها، وكيف أنها قدمت فرنسا تبحث عن عمل. وكيف فقدته في محطة المترو وهي قاب قوسين أو أدنى من هدفها. كان يجب أن تأكل الفتاة شيئاً لتسترد قواها فذهبا إلى أحد المطاعم المحيطة بهما وجلسا في الشرفة يحيط بهما جمهور كبير يأكل أشهى الطعام ويشرب أفخر الشراب، كانت تيريز قد جففت دموعها ولكنها كانت خجلة من ملابسها المتواضعة وسط هذا الجمع المتأنق الفاتن، لقد أخذ بوجدان معه جميع ملابسها ونقودها. كانت تنظر إلى رونيه مذهولة لفرط ظرفه ورقته اللذين لم تر لهما نظيراً. وأراد رونيه أن يهدئ من روعها ويرفه عنها فقال:
هذه هي مونمارتر، هي من أبهى أحياء باريس، واليوم يوم عيد. إنك سعيدة الحظ بوصولك إلى باريس في هذا اليوم. يوم 14 يوليو. انظري كيف يضحك الناس وكيف يرقصون. إنها ليلة الحرية.
واستحوذت على تيريز عاطفة جديدة. عاطفة حب الحياة. وتملكها رغبة في الاستقلال والتحرر ولم تشعر طول حياتها بمثلها، كانت كأنها تريد أن تقبل كل هذه الجماهير التي لا تعرفها.
ومرت الشهور والأعوام ولم يعد بوجدان جاورونسكي. لقد اشتغل عاملا في المناجم في بلدة مارل لي مين بإقليم بادوكاليه، وكان إذا ما حل المساء وذهب إلى الحانة وأمامه كأس النبيذ قص على رفاقه ذلك الحادث الغريب الذي فقد به تيريز في المترو يوم وصولهما إلى باريس وأن بحثه عنها ذهب كله أدراج الرياح فلم يرها منذ ذلك اليوم. كان يقول:
لقد تبعتني مغلقة العينين. كانت طوع بناني. مطلقة الثقة بي. وهذا ما يجعل الأمر مرعباً. لم يكن معها فلس واحد. كان معي كل أوراقها، وكل ملابسها.
وأجاب عامل كان النبيذ قد أدفأه قليلا:
نعم! وباريس مدينة خطرة! لا ترقب الخير لفتاتك!(725/54)
وتظاهر بوجدان بعدم السماع ثم قال:
لقد جبت كل مكان في باريس. لم أترك شارعاً ولا ميداناً لم ابحث فيه. وبعد بضعة أيام ابتدأت تنفذ نقودي وتتلف أحذيتي ولم يكن لدى أصدقائي عمل يعهدون إلي به. وكانت المشكلة الكبرى مشكلة اللغة وعندئذ جمعت ما تبقى معي من النقود وسافرت إلى مارل مع رفيقين، وما بقس بعد ذلك تعرفونه.
ومر الزمان وبوجدان يعيش في مارل لي مين، يحيا حياة العزلة والهدوء لا يشرب كثيراً ولا يمرح إلا قليلا. كان لا يعبأ بأي شئ منذ فقد تيريز. وإذا كانت ذكراها لا تفارقه وطيفها لا يبرح خياله، فإنه كان يذهب بين وقت وآخر إلى المنزل رقم 13 حيث تقيم بائعات اللذة؛ وإن مغامرته مع (ألين) لا دخل فيها للهوى والغرام لقد كانت سيئة الخلق ولكنها كانت تصلح له جواربه. كان لا يحب غير تيريز. كان يعرف ذلك ويعرف أنه لن يحب غيرها. ومن أجلها يتحمل هذه الحياة المريرة الخطرة في المنجم. من أجلها يدخر النقود. إذ سوف يراها يوماً من الأيام ولا يريد أن يبدو أمامها بمظهر المتسول. سوف يقدم إليها أوفر الاعتذار فقد وهبته كل شئ وأساء هو استخدام ما منحته إياه من ثقة. سيبحث دون ملل أو وهن.
في ذلك الوقت كانت تيريز تحيا حياة دعة في باريس. كانت منذ وقت طويل زوجة رونيه ولها منه طفلان: جورج وأخته الصغيرة اتينيت. ومع ذلك لم تنس الليلة الرهيبة، وهل يمكن أن تنساها؟ هل للسعادة أو الراحة أن تمحو هذه الذكرى الدفينة؟ كانت تيريز دائماً مع رونيه زوجة أو على الأصح صديقة مخلصة، ولو أن ذلك لم يكن بالأمر الهين. كان واجباً عليها قبل كل شئ أن تنسى عاداتها وأن تكتسب عادات جديدة وأن تتعلم لغة أجنبية. وسرعان ما أصبحت الفتاة القادمة من صميم الريف باريسية بغير صعوبة. كان ذلك واجباً بعد أن قطع عليها سبيل التقهقر. فقد ولى بوجدان وفصل بينهما وبين منزل والديها. فوالدها لن يغتفر لها هربها. وقريتها تضمر لها السخط والحنق.
وعاشت تيريز نموذجاً للزوجة المقتصدة المدبرة. كانت أكبر عون لزوجها، تساعده في كل أعماله حتى صارا يأملان بأن يكون لديهما بعد ست سنوات سيارة. وبعد عشرين سنة منزل صغير ذو حديقة تقوم هي بزرع الخضراوات فيها كما كانت تفعل في أوائل شبابها(725/55)
قبل تلك الساعة الرهيبة التي جعلت من حياتها حياتين مختلفتين تماماً.
ومرت عشر سنين منذ الفراق الاضطراري وتيريز تحتفظ دائماً بسر غريب. وفي بعض الأيام تدفعها قوة داخلية إلى الاقتراب - دون أن يعلم أحد - من المكان الذي اختفى فيه صديقها فجأة. كانت تقاوم هذه القوة المجنونة بكثير من الفوز أحياناً. بيد أنها كثيراً ما كانت تضعف وعندئذ تقفز إلى أول سيارة تصادفها مسرعة إلى محطة الشرق كمسافرة كاد يفوتها القطار. فتعبر الردهة الواسعة - باحثة في كل مكان على مقربة من السلم المشئوم. وتنتظر صابرة رغم أنها واثقة من أنه سوف لا يأتي أيضاً هذه المرة كما فعل في المرات السابقة. وفجأة تفيق من جنونها وتعود إلى الواقع. فتقفل راجعة إلى منزلها يغمرها الخجل.
وفي ذات ليلة من ليالي الصيف الحارة عاودتها (الأزمة) كما كانت تسميها بصورة قوية جارفة لم تعهد مثلها من قبل. أحست بأنها تكاد تختنق. بأنه ينتظرها. وأنها ليست مخدوعة هذه المرة فعليها أن تهرول إليه. نزلت إلى الشارع وكان الليل قد أسدل أستاره واتجهت إلى محطة المترو المجاورة للمنزل مخترقة الجموع كمجنونة. ووصلت إلى محطة الشرق. أين هو؟ هل تبحث عنه على الأفاريز الداخلية أم عند شباك التذاكر كما فعلت مراراً دون جدوى؟ وارتبكت عيناها وصعبت عليها الرؤية وظلت هكذا نصف ساعة يدفعها المارون من كل جانب وتخنقها أحاديثهم وأنفاسهم الساخنة. وبلغ ذعرها أوجه حين سمعت صوتاً يناديها وشيئاً يمسك بذراعها. كانت أصابع من حديد! من يكون هذا الوقح؟ واستدارت بسرعة فرأت بوجدان. هل هو حقاً؟ وغشى عينيها حجاب قاتم السواد. وصرخت
وعندما عادت إلى رشدها وجدت نفسها مستلقية على أريكة من القطيفة الحمراء. لقد حملها بوجدان إلى مقهى صغير أمام المحطة. كانت القاعة ذات المرايا العديدة خالية من الناس إذ جلسوا جميعاً في الشرفة يستنشقون الهواء الرطب. وبلل بوجدان جبهة تيريز بالماء البارد وطلب لها فنجاناً من القهوة. وأخيراً فتحت تيريز عينيها ونظر إليها متأملا. وانفرجت شفتاه بحركة عصبية فلمعت أسنانه الكبيرة تحت شاربه. لم تغيره السنون. أما هي فقد أصبحت شيئاً آخر، لقد أصبحت سيدة وقورة حسنة الهندام. كان ينظر إليها معجبا بقبعتها المصنوعة من الخوص الأزرق التي تطفر من تحتها خصلة من الشعر الأصفر الذهبي. وبسترتها الجميلة وقفازها الجلدي وجوربها الحريري الشفاف وحذائها اللامع. من الذي(725/56)
اشترى لها أو منحها كل هذه الأشياء الجميلة؟ وأفسد هذا الخاطر سعادته العظمى برهة من الزمن ولكن السرور غمره ثانية. فقد عادت وعاد كل منهما للآخر من جديد. وليس في الوجود قوة تستطيع أن تفصل بينهما
وكما تحطم الأمواج المكبوتة زمانا طويلا ما يعترضها من سدود، كذلك انفجر بوجدان شارحاً همومه وآلامه، واصفا أمله وثقته اللذين لازماه طول عشر سنين.
وبلغ التأثر أقصاه بتيريز وانسابت دمعة على خدها ونظرت إليه فأدركت أنه كبر في العمر. لقد فقد شعره بهجته، ووجه ما كان عليه من إشراق في الزمن السالف، ثم يداه المجعدتان! ما أبغضهما إليها الآن بعد أن كانت فيما مضى ترتعش لمجرد لمساتها. وبرغم كل هذا فهاهي تجد تدريجياً على ذلك الوجه الخشن الذي أفلت منه الشباب (بوجدان) الأيام الماضية. تجد القسمات التي أحبتها والتي ستحبها دائماً.
ومرت الساعات دون أن يشعرا. كانا يضحكان ويتمازحان. وفجأة ارتجفت تيريز وألقت نظرة على ساعتها. لقد بلغت الساعة التاسعة وعاد رونيه إلى المنزل منذ وقت طويل ولا بد أنه قلق لتأخرها. وأحست تيريز بوخز ضميرها حين تذكرت أن (اتينيت) لا تنام إلا إذا طبعت على شفتيها قبلة الليل. ووقفت دفعة واحدة وقالت:
- الوقت متأخر. هلم بنا!
فأجاب بوجدان بهدوء:
- هيا بنا يا تيريز. تعالي نأخذ أمتعتي من مخزن المحطة فهنالك أيضاً كل حاجاتك.
ثم نظر إليها وقال بلهجة الانتصار:
- سنقضي هذه الليلة في باريس القذرة. ولكن غداً صباحاً سنعود في أول قطار إلى وطننا. سأشتري حقلا صغيراً ونعيش في هدوء.
ووقفا على باب المقهى ونظرت إلى يديه المنهكتين وكأنها تريد تقبيلهما وقالت:
- بوجدان إنك لا تزال كما كنت عنيداً ونحن لم نعد صغاراً. ماذا كان يحدث لو لم تكن وجدتني؟.
- ما أعجب هذا السؤال؟ لو لم أكن وجدتك؟ هذا محال. كنت أنفق كل نقودي أثناء بضعة أيام في هذه المدينة اللعينة.(725/57)
ورفعت رأسها وقد علاها الرعب ناظرة إلى وجهه المتهجم وقالت:
ثم ماذا؟
ثم ماذا؟ لا أدري، فحتى لو أردت العودة إلى المنجم فسوف لا أجد عملا. لقد استغنوا عن جميع العمال البولونيين بسبب الكساد. وأخيراً هناك الفرقة الأجنبية.
وعربا معاً متشابكي اليدين ميدان المحطة الواسع المزدحم. كان بوجدان يسير متردداً ينقاد وراءها كطفل في هذه المدينة التي يكرهها والتي تحبها هي. باريس التي جعلت منها السنون وطناً لها. باريس التي تحتمل مرارتها وتفهم عظمتها. إن بوجدان هو الشباب والوطن والحب ولكن الأعوام علمتها شيئاً آخر وهو الواجب. فهي تستطيع أن تهجر رونيه ولكن ماذا تصنع بطفليها؟ إنهما فلذات كبدها.
ووصلا إلى الساحة الكبرى، إلى نفس المكان الذي قابلا فيه منذ عشر سنوات ذلك السيد العجوز اللطيف المعشر بالقرب من سلم المترو. كانت تيريز تندم في تلك اللحظة لأن كِلا الرجلين كان طيباً، فليتها كانت تكره أحدهما. ولم يكن أمامها لحظة واحدة لتضيعها. وخاطرت تيريز وكذبت على الرجل الذي تحبه وقالت:
بوجدان! اذهب وأحضر أمتعتنا. إني أنتظرك هنا، واستدار بوجدان بسرعة وابتعد بخطواته الواسعة الحاسمة التي كانت تحبها فيه وقت شبابها. كانت تتبعه بنظراتها وفي استطاعتها أن تناديه أو تلحق به. واختفى بوجدان. كان أمامها دقيقتان قبل أن يعود. واقتربت - وكأن قوة خفية تدفعها - من السلم الذي يقود إلى تحت الأرض حيث فقدت بوجدان منذ عشر سنوات ووضعت قدمها على أول درجات السلم واندفعت مع الجموع ممزقة القلب ولكن ثابتة الجنان، ممزقة الرابطة التي كانت لا تزال تربطها ببوجدان أثناء أحلامها.
ولم تره بعد ذلك أبداً. . .(725/58)
العدد 726 - بتاريخ: 02 - 06 - 1947(/)
من مذكراتي اليومية
حلوان في يوم الأحد 2 مارس سنة 1947:
ذهبت صباح اليوم إلى نبع حلوان الجديد فإذا عليه أمة من الناس يستقون ويشتفون، بعضهم من مخلفي الجيش، وبعضهم من مرفهي العيش، وكلهم من الممعودين أو المكبودين أو الممرورين فلا تعرف في وجوههم نضرة الشباب، ولا على جسومهم بضاضة العافية.
انبجس هذا النبع منذ سنوات في هذه البقعة التي انطمس فيها معنى الوجود فلا حياة ولا موت، ولا سكون ولا حركة، ولا أمس ولا غد، فأصبحت بعد نبوغ هذا النبع وما جر إليها من النفع، مهوى الشعراء ومراد الأصحاء وملاذ المرضى!
كذلك بنو آدم والدنياّ جناب في أجناب! فلولا الينبوع الذي ولد الواحة، والنهر الذي خلق المملكة، والنبي الذي منح الجنادب أجنحة الملائكة، والحاكم الذي وهب الأجداب خصب الفراديس، لما أخلد بعض إلى بعض، ولما امتازت أرض من أرض!
الأرض لولا الرياض واحدة ... والناس لولا الفعَال أمثال
تقطع الناس فرقا حول الينبوع يتساقون أقداحه الفاترات العذاب. وقد لاحظت إن الذي قسم هذا الجمع إلى هذه الفرق إنما هو الدين لا الجنس ولا الوطن ولا اللغة؛ فاليهودي مع اليهودي، والمسيحي مع المسيحي، والمسلم مع المسلم. ينظرون إلى الماء بعين واحدة، وينظرون إلى السماء بعيون متعددة! فأين هذا من اجتماع الحجيج حول زمزم؟ إنهم هناك يجتمعون على ينبوع من الإيمان القوي المتحد يجري في أفواههم دعاء وأملا، ويسرى في دمائهم شفاء وقوة.
ذلك ما أكد للمرة السبعين إن الدين أقوى العوامل الروحية والاجتماعية أثرا في توثيق العلائق بين معتقديه، وتوهينها بينهم وبين منكريه. فإذا شاء ربك أن يجعل الناس أمه واحدة أرسل إليهم ذلك الرجل المنتظر فيجمعهم بالرضا أو بالكره على الدين الذي يكفل التعاون بالمؤاخاة، ويضمن العدالة بالمساواة، ويحفظ الكرامة بالحرية، ويرفع الإنسانية بالإيثار. فإذا ما تم له ذلك عمد إلى سماسرة الدين وتجار السياسة وعباد الطمع فأقام لهم المشانق في الساحات العامة من المدن المقدسة. يومئذ تنكسر حد العصبية، وتنقمع شهوة المنافسة، وتنقطع أسباب الحرب، ويغنى الناس عن هذه المؤتمرات والمجتمعات التي(726/1)
يقيمها ذؤبان البشر للحرية والديمقراطية وهي في الواقع أسواق دولية للرقيق تباع فيها الأمم الصغيرة بالمساومة أو بالمزايدة!!
الينبوع وميدانه الرحب، وفندقه الفخم، وحديقته المنمنمة، ومشربه الريان، ومسبحة العريان، تعج بالناس ولكني وحيد. ولأسماء الصحو، والنسيم الفاتر، وسفح المقطم الحاد الضحيان، وشاطئ النيل الأشجر الفنيان، تغري كلها بالنشاط ولكني مريض. وليس للوحيد المريض إلا أن يعود إلى مثواه عسى أن يجد فيه لساناً حلواً في فم جميل يؤانسه، أو قلباً طيباً في صدر نبيل يواسيه!
أحمد حسن الزيات(726/2)
قضى الأمر. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
قضي الأمر، وانتهت الحكومة القائمة عن ترددها، وألفت الوفد الذي سيذهب إلى مجلس الأمن ليعرض موضوع الخلاف الذي بيننا وبين بريطانيا. وعن قليل سيسمع العالم كله لقضية مصر والسودان، ويصغي إلى حجتنا التي ستلقى إليه، وإلى حجج بريطانيا في دفاعها عن الذي تدعيه. ولو كان الأمر أمر عدل وأنصاف وبعد عن التحيز وأنفة من الظلم، لما بالينا أن ندعو حكومتنا أو شعبنا إلى خطة سوى عرض القضية كما هي، بلا حاجة إلى تتبع سوءات بريطانيا وعورات أفعالها. ولكن لا عدل ولا أنصاف، بل هو التحيز والظلم. هذا ما ينبغي أن نتوقعه بعد الذي كان من موقف الأمم الغربية والأمة الروسية من أعظم قضايا الشرق وأوضحها برهانا وأبينها حجة، أعني قضية فلسطين.
ولسنا نقول هذا تثبيطا لوفدنا أو لشعبنا؛ كلا فإن القضية المصرية السودانية قضية للجهاد لا للسياسة. فلنفرض أن المم ظلمتنا وتحيزت لبريطانيا فجارت علينا وضلعت معها فلن يضيرنا ذلك، بل هو الداعي الأعظم إلى الاستماتة في الجهاد إلى أن ننال حقنا غير منقوص ولا مهتضم. ولكن هذا المر المحفوف أو المتوقع يوجب علينا أشياء لا مناص لنا من المحافظة عليها والحرص على أدائها.
فقد كان من سياسة بريطانيا قديما أن تمزق وحدة هذا الشعب وتوقع بين أبنائه العداوة والبغضاء وقد فعلت، فصارت أحزابنا تسيرها شهوات رجال يتطلعون إلي مناصب الحكم كما يتطلع الظمآن إلى الماء أو سراب الماء وكان من سياستها أن تلاين وتساير حتى يصبح السودان شيئا قائما بذاته أو كالقائم بذاته، ففعلت. وكان من سياستها أن تغري شهوات قوم من أهل السودان بالحكم أو بالسلطان، ففعلت، وانقسمت فئة من أبنائه مضللين بوعود كاذبة لن تتحقق، وخرجت عن بقية الشعب مؤزرة بالمال ففجرت ومررت، بريطانيا من ورائهم تنفخ في نيرانهم حتى يأتي اليوم الذي يجعلونهم فيه حربا على بلادهم وهم يظنون إنهم يعملون لخيرها وفلاحها. تم ذلك كله لبريطانيا، ولكننا مع ذلك لا نبالي به قليلا ولا كثيرا، لأننا نعلم أن هذا الشعب المصري السوداني شعب كريم ذكي الفؤاد، تجتمع قلوبه عند المحنة يدا واحدة على عدوة الباغي إليه الغوائل.(726/3)
بيد إننا الآن في ساعة غير التي كانت بالأمس، فالقضية المصرية السودانية سترفع عن قليل إلى مجلس الأمن، أي مجموعة من الدول لبريطانيا عليها فضل، أو لها عليها تأثير. والزمن الذي ستعرض فيه لن يطول كما كانت تطول سياسة بريطانيا وأذن فقد أصبح واجبنا نحن أن نتآزر ونتداعى ولا ندع هذه الفرصة تقلت منا ونحن عنها غافلون.
ليكن الوفد الذاهب إلى مجلس الأمن وفدا لم تجتمع له الصفات التي تنبغي أن تجتمع لوفد مصر، وليكن رئيس الحكومة الذي سيرأس الوفد رجلا غير الذي كانت ترجوه بعض الأحزاب، وليكن أعضاء الوفد رجالا غير الذين كنا نتوقع أن يكونوا - ليكن كل ذلك، ولكن أليسوا مصريين سودانيين يجاهدون ما استطاعوا في سبيل حق مصر والسودان في الحياة الحرة التي تنبغي أن تكفل لكل حي ولكل أمة؟ أليسوا رجالا منا قد انبروا للمحاماة عنا في مجلس يخشى أن يكون أقرب إلى عداوتنا منه إلى صداقتنا؟ أليس مطلبهم هو مطلب مخالفيهم من سائر الأحزاب فيما يخص مصر والسودان؟ بلى، وما أظن أحدا من مخالفيهم يستطيع أن يقول خلاف هذا أو يدعي نقيضه.
وهذا المجلس الذي هو أقرب إلى العداوة منه إلى الصداقة، لن يفرق بين مصري نختلف عليه أو وصري نتفق عليه. وبريطانيا لن تكون أقل عنفا ولجاجة إذا كان الذي يرتفع بالقضية إلى مجلس الأمن إنسانا اتفق المصريون والسودانيون عليه، لأنها تريد بكل ما تبذله أن تأكل حق هذا الوادي وتحيف على مستقبله، لا تبالي بما يسمى أقلية أو يسمى أكثرية. وإذن فالعقل قاض علينا بأن نلقاها ونلقي مجلس الأمن يدا واحدة وعلى قلب رجل واحد أيا كان هذا الرجل. ونحن نعلم أن هذه دعوة قد كثر الداعون إليها فباءوا بالخيبة مرة بعد مرة، ولكن كان العذر عندئذ قائما، فإن الحكومة لم تكن قد ارتفعت إلى مجلس الأمن بعد، وكان هناك مجال لشهوات الأحزاب أن ينال أحدها فضل التقدم للدفاع عن حقوق مصر السودان أما الآن فقد قضى الأمر، فمصر والسودان تطالب أحزابها بحقها عليها، فإذا أحجم أحدها، أو أحد رجالها، عن الذي تقتضيه عليه حقوق الوطن، فذلك (خائن) خائن بمعنى الصريح التام الشامل الذي تنطوي عليه هذه الكلمة.
وكلمة الخيانة كلمة عظيمة نأنف أن يتصف بمعناها مصري سوداني لأنها تصم صاحبها بأنذل ما يكون في الطبيعة البشر، وهي جريمة لا تغتفر، وجزاؤها جزاء لا يحد. ولا نظن(726/4)
أحدا أحب أن يعرض نفسه لها راضيا عامدا قط، بل الظن إنه إنما يخطئ وجه الصواب فيقع في أقبح العيب ويخوض في أشنع العار. وقد جاءت الساعة التي توجب على كل مصري سوداني لن يقف ساكنا هادئا مفكرا متورعا خشية أن يقع في هذه الخطيئة أو يلم بهذا الإثم، وأن يحرر نفسه لحظة من شهواتها الجامحة، وينفض عن قلبه غبار أعوام من الأحقاد الحزبية والسخائم الوزارية، ليتطهر لوطنه وبلادة، وليستهدي بهدى الوطن في ساعة المحنة. إنها أعظم خطيئة يفارقها مصري سوداني منذ اليوم، لأنها خذلان لوطنه في ساعة يرى فيها الأعداء يتناهشونه من كل مكان، ويريدونه بالشر من كل ناحية، ويكيدون له أخبث الكيد في كل أرض.
ولن يضير أحد أن يكون له رأي يخالف هؤلاء الرجال الذاهبين إلى مجلس الأمن في شئون لا علاقة لها بمجلس الأمن، فيدع عناد الرأي إلى مناصرة الحق - بل إلى مناصرة وادي النيل في حقه الطبيعي الذي لا يعرف الرجال وأراءهم وسياساتهم، بل يعرف حقه على أبنائه من أي رأي كانوا، وفي أي زمن ولدوا، وعلى أي دين نشأوا. أقول هذا وأنا غير يائس من أن تجتمع كلمة هؤلاء المختلفين إلى هذا الحق البين الذي لا ينازع فيه عاقل.
وأنا أدعو (الكتاب) الذين أنتسب إليهم بهذا القلم، أن يجتمعوا على رأي واحد، ويقومون مرة واحدة لدعوة الشعب إلى الطريق الحق، وأن يبرئوا أقلامهم من الأحقاد الصغيرة التي أنشأتها بينها بريطانيا يوم مزقتنا أحزابا، ليملأوها بالحقد الأعظم على العدو الأعظم الذي لم يدع لنا عرضا إلا هتكه، ولا فضيلة إلا لوثها، ولا كرامة إلا تهجم عليها بالتحقير ولا تشنيع. وإنما أوجه دعوتي إلى الكتاب، لأنهم هم أصحاب الرأي الأول، وهم بناة الأمم، وهم حياة الشعب، وهم القوة التي تؤازر الضعيف حتى يدع الحق لأهله. أن التبعة الملقاة على كواهل الكتاب، فهي أعظم من تبعه الوفد الذاهب إلى مجلس الأمن، لأنه بدونها لا يستطيع أن يواجه هذه الأمم مواجهة الند للند، ومواجهة صاحب الحق لظالمة، ومواجهة المؤمن بقضيته للكافر بهذه القضية. ولو فعل الكتاب ما يوجبه عليهم حق مصر، فلن يستطيع مخالف أيا كان أن يفت في عضد الذاهبين بقضيتنا إلى مجلس الأمن، وليس اليوم لهو ولا لعب ولا شهوات، بل هو يوم الجد والصبر والزهد، وظني بالكتاب إنهم أسرع(726/5)
الناس إلى معرفة مفصل الصاب في كل أمر، فإن يخطئوا أن يغرفوا ذلك وثرى مصر والسودان يهمس لهم داعيا مؤلبا حافزا على العمل لحرير بلادهم من نير العبودية.
وأنا مؤمن بأننا سننال حقوقنا كلها كاملة، شاء مجلس الأمن أم أبى، وبأننا صائرون إلى ساعة تجتمع فيها القلوب المصرية السودانية على كلمة واحدة، شاء رؤساء أحزابنا أم أبوا، وبأن المستقبل قد بانت لنا معالمه، فإن عميت عنه عيون قد تقادم عليها الزمن فخبا ضوؤها، ففي الوادي عيون ناظرة مبصرة لم تطمس نورها حزازات الماضي ولا شهوات الحكم، وأنهم هم الذين سيحكمون على الرجال حكما لن يرد. إنهم مصر والسودان أيها الساسة، فاحذروا مصر والسودان وأحكامها عليكم، فمن وضعته فهو الموضوع إلى يوم الفصل، ومن رفعته فهو المرفوع إلى آخر الدهر!
محمود محمد شاكر(726/6)
من أحاديث الإذاعة
بين الزوجين
للأستاذ علي الطنطاوي
يا سادتي ويا سيداتي. قعدت لأكتب هذا الحديث، فما بدأت به حتى هبت العاصفة في بيت الجيران، وعلت الأصوات، وزمجر الرجل وصخب، وولولت المرأة وعيطت، وقام الشيطان يهيج للشر ويضحك، ثم هدأت العاصفة فجأة كما هبت فجأة، وأعقبها سكون ثقيل، سمعت له دويا في أذني شغلني عن الكتابة، فقمت أنظر ماذا جرى. فإذا الزوج قاعد في ركن المنزل ينظر في جريدته عابسا، ولا أظنه يفقه منها حرفا، والمرأة في الركن الأخر تطرز ولا أحسبها تلقي لتطريزها بالا، هو يندب حظه يحسب إنه وحدة الخائب في زواجه، وهي تبكي جدها تحسب أنها وحدها التي فقدت سعادتها ورأيت الولد قد مل هذا السكون. . . فمشى إلى أبيه خائفا يترقب، فقال له:
- بابا. أعطني شوكولاته
- فصرخ به زاجرا: قل لأمك. أتريد أن أخدمكم في السوق وفي البيت، وأن أعمل عمل الرجل والمرأة؟!
فابتعد عنه الولد، ونظر إلى أمه، فصاحت به من غير أن ترفع رأسها عن شغلها:
- ابتعد عني وإلا كسرت رأسك، أنت أصل السبب، يا ضيعت تعبي، أشقى من الصباح إلى المساء فلا أجد من يقول لي: الله يعطيك العافية!
فهم الرجل بالانفجار، ثم تماسك وتجلد، وسكت على غيظ ومضض، ومشى الولد إلى الأريكة فتكوم عليها، ودس وجهه في وسادتها، وراح يبكي بكاء خافتا متصلا موجعا!
وعاد البيت ساكنا كما كان، ومرت دقائق، لمحت فيها على وجه المرأة ظلال نزاع عنيف في نفسها، بين شفقتها على ولدها، وغيظها من زوجها، ثم رأيتها تثب فجأة، فتمضي إلى غرفتها فتنبطح على سريرها وتنشج. . . ويرفع الرجل رأسه، متعجبا منها، ويضيق صبره على هذه المسرحيات (تمثل) في بيته، وهو يريد بيتا فيه الهدوء والمحبة ولا يفهم سر بكائها وهي - عنده - الظالمة، فيمضي إليها بعد تردد، حتى يقوم أمام السرير منتصبا مربد الوجه، كأنه القائد العسكري في جنده، أو النائب العام في مقعده، ويقول لها بصوت(726/7)
بارد كالثلج متماسك كالجلمد:
- وما آخرة هذه المساخر؟
وكانت تظنه قد جاء يواسيها في كربتها، ويعطف عليها، ويحاول أن يفهم ألمها، ويزيح همها، فلما سمعت ذلك منه، فقدت عقلها، فصاحت:
- مساخر؟ أنتم الرجال ليس عندكم وفاء، ليس لكم قلوب، إنكم. . .
فنسى إنه أمام امرأة، وإنه أمام زوجته، وحسب أن الذي يقول له هذا الكلام قرن له أو خصم، فأجابها جواب الأقران وكلمها كلام الخصوم، ولم يبق بينها وبين الطلاق إلا شعرة واحدة.
فقلت لهما: بس، انتظروا، قولوا ما هي الحكاية؟
فنظرا إلي، وحسباني (وأنا قريبهما) عفريتا قد نبع من الأرض ففزعا منه، ثم اطمأنا لي وعرفاني، وانطلقا يتكلمان بصوت واحد كلاما متواصلا متداخلا، تتلاحق كلماته، كأنه السيل إنهدم فندفع، أو لسان النار غفلت عن فندلع وما فهمت الحكاية حتى كادت نفسي تزهق. . .
و (الحكاية) التي سببت هذه النكبة، وكادت تهد بيت الزوجية، وتطلق الزوجة وتشرد الولد، أنه لما جاء من عمله فوجد الصبي على الباب، والباب مفتوحا، وليس عنده أحد يمنعه أن يمشي فيضل في الحارة، أو تدعسة سيارة، أو تلفحة الشمس، أو يصيبه المرض، وتخيل ألف مصيبة قد حلت بالصبي ونزلت به فاستحال حبه له حنقا على أمه التي أهملته، وتركته على شفا الهلاك، وتدخل مغضبا محنقا، وبدأها بالوم قبل السلام، وكانت قد نظفت الدار وأعدت الطعام، و (لبست. . .) تنتظر وصوله، لتسعد بقربه، وتجد مكافأتها في شكره إياها ومسرتة منها، فلما رأته مخاصما تبدد أملها، وخاب ظنها، وسيطر عليها الغضب، حتى أعماها عن حادثة (الباب المفتوح) والخطر المترقب، فلم ترى فيها إلا حادثة تافهة، لم ينشا عنها شيء ولم يأت منها ضرر.
وبدأ من هنا الخلاف، وتطاير الشرر
يا سادتي ويا سيداتي: هذه صورة ترون كل يوم أمثالها، فاسمحوا لي أن أجعل حديثي هذه العشية تعليقا عليها، وبيانا لها، وليست صورة غريبة عنكم ولا نادرة، بل الغريب النادر أن(726/8)
تخلو دار منها؛ وأنا قاضي شرعي عملي أن أرى دائما دخائل البيوت، وأن أطلع على أسرار الأسر، فصدقوني إذا قلت لكم، إني لا أعرف زوجين لا يختلفان، ولكن خلاف الأزواج كحريق في كومة من العش ملقاة في رحبة الدار، إذا أطفأته أو تركته ينطفئ همد بعد لحظة، وحمل الريح رماده، فلم يرزأك رزءاً، ولم يعقبك أذى وأن هجته أو دنيت منه ثوبك، أو قربته من بيتك، أحرق الثوب وخرب البيت، ولقد كان بيني وبين زوجتي اليوم خلاف كهذا، فقلت لها:
- تعالىْ أعينيني على كتابة مقالة؟
وكانت هذه المقالات ضرتها، فحسبتني أسخر منها، واندفعت تريد أن (تقول). . . فما زلت بها أكملها بجد، حتى بدا عليها الاهتمام وقالت:
- وكيف أعينك؟
قلت: تقولين لي كيف يختلف الأزواج؟
ومضينا نستعرض حوادث الاختلاف بيننا ونحل أسبابها فانتهينا إلى الضحك منها
يا سادة ويا سيدات: إنه قد يكون بين الزوجين اختلاف مفهوم على مال أو عقار، ولكنه نادرا وأكثر الخلاف تافه مضحك، ليس له عندهما قيمه أو خطر، وأنا أفهم أن تهتم المرأة بهذا، ما دامت تريد أن تشغل عقلها كما تشغل يدها، وما دامت لا تجد مشكلة علمية أو أدبية تبحث فيها وليس لها إلا مشاكل البيت - ولكن ما بال الرجل يهتم بها ويبالغ في تقديرها؟
تقولون: كيف نصنع ليسود البيت السلام ويشمله الهدوء؟
أنا أقول لكم؛ مقالة مجرب حكيم، فاستفيدوا إن شئتم من حكمتي وتجربتي
هذه (أقراص) سهلة البلع، عظيمة النفع، فيها شفاؤكم من هذا الداء:
أولها: إن الزوج يبدأ بالحب والعاطفة، والحب أوله حلاوة وآخره مرارة، فهو يعمي البصر، ويصم الأذن، ويغطي العيوب، فإذا زال الغطاء، ولا بد يوما أن يزول الغطاء، وبدا المحجوب من العيوب، وظهر المستور من الأمور، وافتقد الزوجان لذة الحب فلم يجداها، انتهى شهر العسل، وبدأت سنوات العلقم، فتجرعا العمر كله مرها، وقاسيا ضرها. والدواء ألا يرقب الزوجان المحبة والعشق، فالحب عمره معمر الورد، لا يعيش إلا أمدا(726/9)
قصيرا، ومن طلبة بعد عشر سنين من الزواج كان كمن يطلب من وسط القبر من العظام والرمم الغادة الحسناء والفاتنة الهيفاء. لا، ولكن مودة وإخلاص وحب كحب الأصدقاء والإخوان.
وثانيها: إن الرجل يغتفر لصديقة ما لا يغتفره لزوجته، ويحمل منه ما لا يحمل منها، ويتسامح معه فيما لا يتسامح فيه معها، وما ذلك إلا لأنه يصدق هذه الخرافة التي تقول إن الرجل والمرأة كليهما مخلوق واحد، فهو يريد منها أن تفكر برأسه، وهي تريد منه أن يحس بقلبها، مع إن الناس كخطوط مستطيلة وفيها اعوجاج يسير، فإذا كانت متباعدة بدت للعين متوازية متوافقة، تضيع من البعد هذه الفوارق الصغيرة بينها، فإذا تدانت وتقاربت، بانت الفجوات، فأنت تصحب الصديق عشرين سنة، فلا ترى بينك وبينه اختلافا، ثم ترافقه أسبوعا في سفرة، تنام معه وتأكل معه وتشرب فترى في هذا الأسبوع ما لم تراه في السنين العشرين، فتشنؤه وتبغضه وقد كنت تحبه وتؤثره.
والله لم يخلق اثنين بطباع واحدة، لا الصديقين ولا الزوجين، فليكن الزوجان متباعدين قليلا، حتى لا يظهر الاختلاف بينهما، وليكن بينهما شئ من الكلفة والرسميات. . . كما يكون في عهدة الخطبة وأوائل الزواج، ولتكتم عنه بعض ما في نفسها، وليكتم عنها بعض ما في نفسه، فإنه ما تكاشف اثنان إلا اختلفا. وما زالت الكلفة إلا زالت معها الألفة، لأن المرء يتظرف ليظرف، ويتلطف ليلطف، ويساير الناس ليحبه الناس، فإن لم يفعل ثقل عليهم، وأنا أعرف رجالا من أهل النكته والظرف، يحرص الناس عليهم في مجالسهم لخفة أرواحهم، وحلاوة أحاديثهم، إذا دخلوا بيوتهم كانوا أجهم الناس وجها، وأيبسهم لسنا، وأثقلهم نفسا، وما ذاك إلا لإسقاط الكلفة، وإذهاب المجاملة.
وثالثها: إن الرجل يمشي في الطريق فلا يرى إلا نساءً في أحسن حالاتهن، قد طلين وجوههن، وجملن ثيابهن، ثم يدخل داره، فيرى زوجته على شر هيئة، وأقبح صورة: مصفرة الوجه، قذرة الثوب منغمسة في أوضار المطبخ، أو غارقة في غبار الكنس، فيظن أن نساء الطريق من طينه غير طينتها، وأن عندهن ما ليس عندها، فيميل إليهن وينصرف عنها، والدواء أن تكون المرأة عاقلة، فلا تجعله يراها إلا في الهيئة التي تخرج فيها من بيتها، وتستقبل عليها ضيفها، ولا تدعه يبصرها نائمة ولا يراها بغير زينة، ولا يطلع(726/10)
عليها في مباذلها وأعمالها.
ورابعها: إنه لا بد لكل شركة أو جماعة من رئيس، فإن كان في المركب رئيسان غرق المركب، ولو كان في السماء والأرض، فلا بد من ترئيس أحد الزوجين والرجوع عند الاختلاف إلى رأيه، واعتراف الثاني برياسته، وعلى الرئيس بعد أن يكون حاكما بعدل ورفقن وعلى المرؤوس أن يكون طيعا بفهم واحترام.
وخامسها: لابد لدوام المودة من اغتنام الفرصة لإظهار العاطفة المكنونة بحديث حلو، أو مفاجأة منه: هديه ولو صغرت، وطرفة ولو قلت، واهتمام منها بصحته وراحة نفسه ومطعمه وملبس وكتبه، وأن يصبر كل منهما على غضب الآخر وتعبه يا سادة: إن مشاكل البيت هينة سخيفة، ولكنها إن استفحلت نغصت العيش وسودت وجه الدنيا، ولم ينفع معها ملك ولا مال، فلقد كان الإمبراطور نابليون الثالث يجد من مكارهها ما لم ينجه منه ملكه. وكان الرئيس لنكولن يلقي من متاعبها ما لم يخلصه منه سلطانه، وإني لأستأذن السيدات المستمعات بأن أختم هذا الحديث بكلمة لأمراه مثلهن هي (آن شرر). قالت:
(إن بين كل عشر نساء تسعا يحرصن على مضايقة الرجل، وتنكيد عيشه، ولهن إلى ذلك وسائل لا تحصى، وهن يعتقدن إنه لا عمل للرجل إلا الثناء على جمالهن يومه كله، وامتثال أوامرهن، وإجابة رغباتهن، وإذا رأينه مقبلا على قراءة أو كتاب أو عمل له، اقتحمن عليه مكتبه، ونفضن في وجهه من المنغصات ما يحيل عزلته سجناً، وحياته جحيما)
فيا سيداتي المستمعات: أرجو أن لا تكون فيكم واحدة من هؤلاء
(القاهرة)
علي الطنطاوي(726/11)
القسم الثاني
فرنسا ومستعمراتها
بقلم أحمد رمزي
فرنسا والحرب العالمية الثانية: بين الديمقراطية والفاشية
كانت فرنسا في وسط برامجها لتنفيذ هذه الطفرة الصناعية لكي تعوض ما فات منها حينما قامت الحرب العالمية الثانية، جاءت هذه الحرب وهي منقسمة في الداخل، فالروح الرجعية التي تفشت في عدة بلاد بأوروبا وأفريقيا وآسيا وأخذت في فرنسا مظهر العنف في مظاهرات الكونكورد سنة 1933، وهذه الروح لم تكن ماتت في سنة 1939 بل كانت تمثل مصالح وأغراض تلك الفئة التي أشرنا إليها من أساطين الصناعة الذين أخذوا على عاتقهم تنفيذ هذه البرامج. وكانت هذه الفئة تؤمن بضرورة مسالمة برلين وروما، لا حبا فيهما أو رضوخا لأرادتهما بل لأن الوطنية تملي بأنه يجب تحمل كل شئ في سبيل السلم حتى تستكمل فرنسا بناءها الصناعي ولو كان في ذلك الخروج من ميثاق عصبة الأمم أو إهمال المحالفات والضمانات القائمة.
صداقة بريطانيا:
يقابل هذه الروح تيار الديموقراطية ممثلا في روح الجماعات والأحزاب السياسية والبرلمان، وكانت جميعا لا ترغب في الاندفاع على طريق غير مأمون العاقبة: يفقد فرنسا مركزها الأدبي كدولة عظمى إذا حنثت بالمواثيق والضمانات المأخوذة أو ضربت بالمخالفات والمعاهدات عرض الحائط ويفقدها صداقة حليفتها بريطانيا، تلك الصداقة التي بنيت عليها سياسة فرنسا منذ الاتفاق الودي عام 1904 واكتسابها المواقف الاستعمارية في مؤتمر الجزيرة 1907 وأيام حادث الغدير في مراكش سنة 1911، وكانت العامل الأساسي لكسب حرب 1914 - 1918.
أثر بريطانيا في سياسة فرنسا:
وكانت هناك دواع تملي باستبقاء تلك الصداقة من الجانب البريطاني نفسه، فقد ظهر جلياً بعد تقدم الطيران وموقف إيطاليا المعادي إن أراضي الإمبراطورية الفرنسية ستكون في(726/12)
السلم والحرب الممر الطبيعي للطائرات البريطانية إذا تحاشت البحر الأبيض المتوسط: لم يكن من السهل إهمال علاقات هذا الجوار وما تمليه عليه المصالح المشتركة للبلدين وما يفرضه تعاشق حقوق الاتفاق بين الإمبراطوريتين، ولهذا لم تترك السياسة البريطانية هذه الناحية تسير طبقا للأقدار بل مالت بقواتها وعبأت أساليبها المختلفة وعضدت الاتجاه المضاد للحركة الأولى، وكان إن حكمت فرنسا حكومات بقيت حريصة على محالفة بريطانيا، وترتب على هذا أن دخلت فرنسا الحرب العالمية الثانية بجانب الإمبراطورية البريطانية.
ومن هنا نفهم حقيقة العرض الذي تقدم به تشرشل قبل تسليم يونيه 1940 وأقترح فيه إدماج الإمبراطوريتين في اتحاد واحد وهو العرض الذي توهم فبه الكثيرون بأنه كان عرضا خياليا لا يسند إلى أساس.
الحرب العالمية الثانية 39 - 1945 والمستعمرات الفرنسية:
جاءت الحرب فمرت شهورها الأولى وتحملها الناس، ثم اشتدت وطأتها على فرنسا وظهرت عيوب الأنظمة الفرنسية وتفكك الأحزاب الحاكمة وخيانة رجال الصناعة وقوات الجيش، وتوالت الهزائم واضطرت فرنسا للتسليم عقب قتال لم يدم طويلا، وكان أن طرأ حادث غريب في التاريخ العالم جاء نتيجة لإبرام عقد الهدنة بين فرنسا وألمانيا عام 1940، وهو أن يحتل العدو بلد أوروبيا أو جزءاً منه بجيوشه وتبقى أراضى المستعمرات من غير احتلال، وليس في ذلك من عجب إذا كانت الهدنة لوقف القتال ثم تعقبها مفاوضات الصلح وينتهي الأمر بإبرامه عقب فترة قصيرة من الزمن كما حدث سنة 1870. أما أن تعقد الهدنة ويتضح من شروطها استثناء الإمبراطورية الفرنسية وبقاء جيوش الجمهورية معبأة للدفاع عنها ويستمر ذلك شهورا ثم سنوات ما دامت الحرب قائمة، فأمر جديد أثار الكثير من المشاكل كلما بعدت نهاية الحرب.
فهناك فريقان يتحاربان حربا مميتة، وهناك إمبراطورية لدولة قبلت التسليم، فما هو حكم الأراضي التي سلمت أهي دار حرب وقتال أم هي على الحياد؟ لاشك في أن القسم الفرنسي الذي يشغله العدو بجيوشه هو دار حرب.
فما هو موقف القسم غير المحتل وأهم جزء فيه تلك الإمبراطورية بأقاليمها المتسعة؟(726/13)
هدنة سنة 1940 ومستعمرات فرنسا:
كنت في بيروت في بداية الحرب وبعد عقد الهدنة، ولقد شعرنا وشعر الناس جميعا إن الحياد الذي أرادت فرنسا أن تظهر به غير موجود ولا يمكن التمسك به نظريا أو عمليا فقد كانت الطائرات الإيطالية والألمانية تضرب فلسطين وكان بعضها يصاب بنيران المدفعية فيضطر للهبوط في أراضى سوريا ولبنان فاتخذت السلطات الفرنسية معها في الحوادث الأولى الإجراءات التي ينص عليها باب الحياد في القانون الدولي، وكان الألمان لجنة عليا في فيسبادن تشرف على أمور الهدنة مع ألمانيا لا تجعل من فرنسا ومستعمراتها بلدا محايد، وما يسري على المستعمرات يسري على الأراضي المشمولة بالانتداب: وبناء على ذلك أفرجت السلطات العسكرية الفرنسية عن الطائرات والطيارين وسمحت بالمرور والنزول في المطارات، فكان من بريطانيا إن قذفتها بالقنابل ووجهت حملتها لاحتلال أراضي سوريا ولبنان.
حالة شاذة:
هذه الحالة الشاذة لأوضاع الإمبراطورية الفرنسية طول مدة الحرب أوجدت في أراضيها نوعا من الحكم استفاد منه الفرنسيون للوقوف بين الفريقين المتحاربين، ولو إنه أدى في النهاية إلى خسارة أسطولهم واحتلال الألمان والطليان لتونس إلا إن هذه الحالة لفتت أنظار الفرنسيين جميعاً للإمبراطورية وإثرها وأهميتها وما ينتظر منها وإنها قوة المستقبل ودرع الشعب الفرنسي وغير ذلك مما كانت تردده الصحف وتذيعه الأنباء المختلفة من محطات اللاسلكي.
انقسمت فرنسا إلى فريقين: حكومة فيشي وحركة الجنرال ديجول، واتفق كلاهما على أمر واحد هو الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية وعدم التفريط في أي جزء منها، وترجع الأخطاء وأعمال العنف التي ارتكبها ممثلو فرنسا في القطرين الشقيقين سوريا ولبنان إلى تمكن هذه الفكرة منهم تمكنا فأعماهم عن تلمس الحقائق ومواجهة تطور العالم الجديد.
وأغرب من ذلك إن الحلفاء حينما وجهوا حملتهم إلى شمال أفريقيا قام الكتاب الفرنسيون بحملة قلميه في أنحاء العالم تقول: إن الإمبراطورية وشعوبها قد قامت بأسرها لشد أزر(726/14)
الجنرال ديجول، وإنها سارت تحت لوائه لإنقاذ أراضي الوطن المحتلة؛ واتخذوا هذه الدعاية دليلا على نفوذ فرنسا وقدرتها الاستعمارية، بل من هنا أخذوا ينادون بما صمموا علية من إدخال سياسة الاتحاد الفرنسي وفرضها بقولهم إن المستعمرات قد حملت عبء القتال عن الوطن الأوربي المحتل فهي إذن ساهمت في تحريره ومن حقها أن تندمج فيه وتكون وحدة معه وننقل هنا ما كتبة بول أميل فيار، لأن مارة سلم الوطن الأم وبقيت فرنسا تحارب في مستعمراتها:
لماذا لم تحتل ألمانيا الإمبراطورية الفرنسية:
إن السياسة التي أملت على ألمانيا ترك الإمبراطورية الفرنسية تحت إشراف فرنسا بعد تسليمها لا تزال غامضة بل هي إحدى المعميات التي سيتساءل عنها مؤرخو الحرب طويلا. فقد تكون هناك عوامل عسكرية أو سياسية فرضت هذه السياسة، ومن المحقق أن هناك مفاوضات وأشياء لا يزال العالم يجهلها تماما.
فمن قائل إن التسليم قد تم على يد رجال يؤمنون بعظمة فرنسا إذا تخلصت من أنظمتها الدستورية واتجهت اتجاها فاشيا، فمن الطبيعي تشجيع هذه الحركة وإعطاء هؤلاء الناس بعض التساهل بترك المستعمرات لهم، ومن قائل إن الغرض الأساسي الذي رمى إليه هتلر هو أن يجعل الإمبراطورية الفرنسية يوما ما في صفه أمام الإمبراطورية البريطانية في أفريقية. وذلك لأن:
لفرنسا سياسة أوروبية وللمستعمرات سياسة إمبراطورية:
يقول أصحاب هذا الرأي إنه إذا كان لفرنسا سياسة في القارة الأوربية تعتمد على الأمن والضمان وهي تحتم التحالف مع بريطانيا وغيرها، فإن للإمبراطورية بحكم موقعها الجغرافي ونفوذها وحاجاتها الاقتصادية سياستها الخاصة بها.
ويظهر ذلك جليا في أن الفرنسي في القارة الأوربية يعالج المشاكل بروح تختلف عن روح الفرنسي المقيم بالمستعمرات الذي يفكر بالأسلوب الأفريقي الاستعماري وينظر إلى عظمة فرنسا في إمبراطوريتها نظرة بعيدة عن تطور السياسة الأوربية وما تفرضه من مخالفات(726/15)
وصداقات.
فإذا تركنا جانبا المستعمرات البعيدة مثل مدغشقر والهند الصينية، تبدو الإمبراطورية الفرنسية لعقول هؤلاء كوحدة جغرافية لها أهمية كبرى وهي في نظرهم كائن حي له ما لفرنسا من مشاكل متعلقة بالأمن والحماية والجيش والبحرية.
وقد تتفق السياستان وقد تختلفان في الشئون الداخلية فقد ظهر أثر الرجال الفرنسيين المقيمين بالمستعمرات في محاربة كل إصلاح يرمي إلى إشراك الوطنيين في الحكم، بل فرضوا أرادتهم وأجبروا الحكومة المركزية على تغيير سياستها مرارا وذلك توهم المختصون بشؤون الاستعمار إلا مخرج لهم من هذا التعارض سوى سياسة الاتحاد التي تجعل من فرنسا والإمبراطورية كتلة واحدة في الخارج والداخل.
وكان من رأى الذين لمسوا هذا النزاع القائم أن المشاكل الإقليمية والحربية في سيرها وتطورها تواجه في النهاية مصالح الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا وأكبر ضربة لهدم التحالف الفرنسي البريطاني تأتي من تشجيع فرنسا للأخذ بسياسة إمبراطوريتها في الأمور الخارجية وبنوا نظريتهم على:
المتناقضات القائمة بين إمبراطوريتين عالميتين:
فقالوا إن سياسة الوفاق والصداقة سهلة وتبدو ضرورية في أوروبا ولكنها صعبة وغير محتملة في أفريقية وإذا سار التحالف بانسجام هنا فإنه لا يسير أشواطا بعيدة في أفريقيا من غير أن تبرز المناقضات: وهي الأمور التي تتطور إلى مشاكل أو أزمات فيستعصي حلها لأن مرادها أما إلى السياسات العليا أو إلى القواعد الثابتة الملازمة لطبائع الأشياء: وعلى هذا الضوء تبدو حوادث سوريا ولبنان سنة 1943، ومشاكل بريطانيا في طرابلس الغرب وبرقة، في الوقت الحاضر وتعذر إيجاد حل لها.
أمل ألمانيا في استغلال التنافس بين الدولتين:
كان الألمان على إلمام تام بالحالة النفسية والعسكرية في الجيش الفرنسي وبما يمكن أن تؤديه الفرق المكونة من الجنود الأفريقية، وهم على علم بطاقة هذه الشعوب ومقدار صلاحيتها للحروب الحديثة، ولكنهم ابقوا مع ذلك على وحدة الإمبراطورية الفرنسية(726/16)
وتركوها بيد الفرنسيين لأنهم توهموا أن التنافس بين البريطانيين والفرنسيين قد ينقلب إلى عداء، وقد مرت حوادث كانت نتيجتها التصادم والقتال ولكن الإمبراطورية الفرنسية لم تتحرك بل إن القتال الذي نشب في سوريا ولبنان انحصر هناك.
أما من الناحية الفرنسية فقد تمكن الأمل من القواد والساسة لدرجة إنهم توهموا بأن لديهم القوة الكافية للدفاع عن الإمبراطورية إذا هوجمت وحشدوا وحداتهم البحرية في شمال أفريقيا أملا في الخروج إلى السلم بالسيادة على البحر وحدود المستعمرات كما كانت قبل الحرب: بل كانوا يجاهدون بأنه إذا لزم الأمر أن يقبلوا التضحية من الأراضي الأوربية إذا ضمنوا المحافظة على وحدة أملاكهم الأفريقية التي هي المدى الحيوي التاريخي للشعب الفرنسي.
ومن الغريب إن هذا الأمل الألماني وهذا المنطق الفرنسي ترك شمال أفريقيا في حالة سهلت للحلفاء احتلالها واتخاذها بمرافئها لجمع قواتهم التي زحفت إلى قلب أوروبا، فكان إن ساهمت الإمبراطورية الفرنسية في تحرير أوروبا بل في تحرير العالم ولكن كقبعة متسعة من الأرض استعملت كمسرح للحوادث والمعارك ليس إلا. . .
الحلفاء يسيطرون على أملاك فرنسا ثم يعيدونها إليها:
تمزق السور الفولاذي لأول مرة عند دخول الحلفاء وقواتهم أراضى شمال أفريقيا، فرأى أهل مراكش وتونس والجزائر جنودا من عناصر أخرى غير فرنسية، ولابد نهم لمسوا وعاينوا أشياء جديدة، ولكن البلاد التي خضعت لسنوات عديدة لأعمال العنف والتشريد كانت تتمخض بانبعاث جديد ووثبة شاملة، ولم تكن حملة الحلفاء لهذه الأرض بأساطين العالم وكانت مقر مؤتمرات: وعرف الناس جميعا أن أراضى تونس والجزائر ومراكش كانت وديعة في يد الحلفاء وقد أعيدت لفرنسا بعد أن تعهد رجالها لرزوفلت أن تسير هذه البقاع في ركب الحضارة نحو الحرية وتقرير المصير كغيرها من بقاع الدنيا التي يسكنها الإنسان لا الحيوان.
أعود إلى الوراء؟ أم عصر جديد؟ هذه كلمة الأستاذ إسماعيل مظهر حينما عرض إلى مشروع الاتحاد الفرنسي ونحن نتفق معه في صيحته ونقول:
إن الخطر الذي يبدو لنا هو أن توفق فرنسا في إقناع العالم إن الاتحاد الفرنسي هو مشروع(726/17)
إنساني يدعو إلى رفع مستوى شعوب الإمبراطورية، ويعد تنفيذه تحقيقا لما وعدوا به روزفلت في اجتماع الدار البيضاء، أو مرحلة في طريق الرقي الاجتماعي.
ولكن فكرة الاتحاد قديمة وسنعرض لها في الجزء الأخير من هذا البحث ونبرهن إنها أخطر بكثير مما نتصور، وإنها أخطر طعنة يوجهها الاستعمار الأوربي في أفريقيا موطن الشعوب المظلومة
أحمد رمزي(726/18)
من وراء المنظار
مذياع. . .!
سوف لا تضحك يا قارئي من هذا الذي أكتب، بل إنك ستتحمس مع القوم انقلبوا جميعا على الرغم مما كانوا فيه من ألم وعذاب وضعف من أكبر المتحمسين. وحسبك أن تعلم بادئ الأمر أني أنا الذي طالما تفكهت بكل من يتحمس وضحكت ملء نفسي قد بت في الحماسة أشد الناس أجمعين!
هذا شاب يضطجع على سرير، بيده مجلة ينظر فيها وقد لمح منظاري على غلافها بعض الصور المغرقة في المجون والفتنة، وبجانبه مذياع لا يبتعد عن إذنه إلا بقدر ما بين عينيه والمجلة، والمذياع يرسل صوته كما لو كان في مقهى من أشد المقاهي جلبة وصخبا، وصاحبنا يقرأ ويسمع ويمتع بالجمال العاري ناظريها حرمه الله منهما ولا حرمه من ظرفه وأناقته وحسن ذوقه - كما يمتع بالموسيقى واللحن الصاخب أذنيه.
ولعلك تقول وماذا في ذلك من غرابة؟ وماذا فيه من بواعث التحمس حتى تستعدي عليه القراء على هذا النحو؟ ألا فاعلم رعاك الله ورقاك السوء وجنبك وإيانا مواطن التحمس إن هذا الشاب الظريف كان يضطجع على سريرة في أحد المستشفيات، أي والله في مستشفى يحيط به في الحجرات المجاورة مرضى منهم من يتلوى على سريرة من فرط ما به، ومنهم من يطلب غفوة تنقذه من عذابه، ومنهم من اشتد به الصداع حتى أذهله عما بقى من صوابه، ومنهم من يتراءى له شبح الموت في كل شئ، ومنهم من يطلب الهدوء حتى ليتضجر من وقع أقدام ممرضته أو من مجرد فتحها باب غرفته وإنها لتنتقل كما ينتقل الخيال في الحلم!
والمذياع يجلجل صوته بكل ما هب وما دب، وقد أحضره هذا المريض الظريف، شفاه الله، من بيته، وكانت حجرته لسوء حظ هؤلاء المساكين من حوله في مفرق الطرق من ممرات المستشفى، وكان بابها مفتوحاً إلى آخر ما ينفتح، كما كان صوت مذياعه بالغا في الارتفاع آخر ما يمكن أن يرتفع.
وضج المرضى أو ضج من يستطيع منهم أن يحتج، أما الذين برحت بهم الأوصاب فكانوا يتململون من هذا الطرب المفاجئ الذي نزل بهم فإذا هو يضاف إلى ما يلاقون من ألوان(726/19)
العذاب!
وغمرت أيديهم الأجراس، وهي من نوع عالي الصوت، فأضيف نغماتها إلي نغمات المذياع، واختلط بهذا كله استنكار الزائرين واستغاثة بعض من استطاعوا المشي من المرضى، فهذا يصفق بيديه، وذاك يتسخط وبتكره ويستعيذ بالله، وذلك ينادي المسؤولين؛ وتألفت من أولئك جميعا ضجة لن يكون فيما يصور الخيال أشد منها نكرا ولا أبغض نشوزا.
كل ذلك وصاحبنا لا يكترث لشيء، كأنه وحدة في البحر أو في الصحراء. وطرقت الباب أستأذن عليه، ودخلت الحجرة فنظر إلي مستفهما بهزات من رأسه المضطجع على الوسادة، فوقع في نفسي إنه ثقيل السمع فهو لذلك يعلي صوت المذياع، ودنوت منه ورفعت بالكلام صوتي فحبس صوت المذياع واستمع إلي، فرجوت منه وأنا أدعو له بالشفاء أن يغض من صوت مذياعه رحمة بالمرضى وبخاصة مريض كنت أعوده وقد اشتد به الألم ولا يفصل بينه وبينه إلا جدار الحجرة الرقيق.
ونظر إلي مستنكرا - كما فهمت - تطفلي وتهجمي على حجرته واعتدائي على حريته، ولم يرد علي أن أدار مفتاح مذياعه فأعاده أشد مما كان إن كان فيه فضل لزيادة!
ونظر في صحيفته كأن لم يكن أمامه أحد! وللقارئ أن يتخيل نفسه في موضعي، ثم لينظر مبلغ ما في نفسه من تحمس حتى لمجرد هذا الخيال! لقد فكرت أن أنتزع المذياع من مكانه فالقي به في الحديقة، ولو إني فعلت ذلك ما فتأ ما كان في نفسي من غضب. على إن مدير المستشفى قد جاء بعد ساعة فأمر بانتزاع هذا المذياع وحرم دخوله إلى حيث كان. . . وكفى الله المؤمنين القتال. . . نحن لعمرك ولعمري أيها القارئ قوم كثيرو العيوب الاجتماعية، ولتتحمس ما شئت إن أنكرت مني هذا القول، وأكثر هذه العيوب ذيوعا وأرذلها فيما أرى وقعا عدم الاهتمام بالغير، مادمنا قد أرضينا أنفسنا، وما يظن أن في الأمم منهم مثلنا في عدم الاهتمام بالمحيط الاجتماعي، وقلما نعنى بما تقتضي به اللياقة. أقول هذا وليغضب القارئ العزيز ما شاء له غضبه، فأنا متحمس كما ذكرت على غير عادتي، وإن كنت ضناً بصحتي أدعو الله مخلصا ألا يريني بعد اليوم ما يعود بي إلى مثل هذه الحماسة!(726/20)
الخفيف
حقوق المرأة
للأستاذ علي عبد الله
يخيل إلي إن الذين يطالبون بحقوق المرأة. . . ويريدون لها أن تشترك في السياسة، وتعطي صوتها في الانتخابات النيابية، إنما يتآمرون عليها ويعملون على تضييع حقوقها، وإفسادها بإخراجها عن طبيعتها ووظيفتها التي خلقت لها
لأن الله خلق المرأة لتكون أنثى، وجعل وظيفة الأنوثة من أهم وظائف الحياة، وأتاح للمرأة أن تبدع فيها وتنتج ما شاء لها الإبداع والإنتاج؛ وهيأ لها كل فرصة للبلوغ بهذه الأنوثة إلى قمة المجد والعظمة
ولذا كان كل تصرف أو عمل يراد به إبعاد المرأة عن عملها، وإخراجها عن دائرة اختصاصها، وإشراكها مع الرجل فيما هو من عمل الرجولة محاولة طائشة ليست من مصلحة المرأة في شئ
إنهم يطلبون مساومة المرأة بالرجل!! فإذا فرضنا أن هذه المساواة قد تمت؛ بل لنفرض أن المرأة قد أصبحت رجلا بالفعل!! فهل تكون أسعد حظا وأكبر شأنا أو أعظم منزلة مما هي الآن؟
ما ظن ذلك أبدا، وما زالت المرأة في نظري تعتز بجمال الأنوثة، وتباهي بالطرف الكحيل، والخد الأسيل، والخصر النحيل، ولو إنك شبهت امرأة برجل مرة واحدة لاعتبرت ذلك إهانة لها وتجريحاً لجمالها!!
ولعل الذين يطالبون بمساواة النساء بالرجل لا يدرون إن من الخير للمرأة أن تبقى كما هي وألا تؤدي من الأعمال إلا ما يتفق مع رقة الأنوثة وسحر النساء، وإنها في أنوثتها افضل ألف مرة مما لو كانت قربيه من الرجولة
ولاشك إن طلب النساء المساواة بالرجال كطلب الرجال المساواة بالنساء، فإذا أمكن أن يستقيم هذا المنطق مع منهاج الحياة الاجتماعية أمكن للمطالبين بحقوق المرأة أن يحققوا مطالبهم!!(726/21)
إنني أعتقد إن المرأة ليست في حاجة إلى شئ من الحقوق حتى تطالب به! فهي فيما أرى متمتعة بكافة الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة والشريعة، وهي مساوية لحقوق الرجل تماما، وكل ما في الأمر إن هذه الحقوق تختلف باختلاف الجنسين، وقد فرض الله لكل منهما ما يتفق مع فطرته وقدرته وخلقته، وبذلك يمكن النظر إلى ما للرجل وما للمرأة عن طريق المساواة وتوحيد الأعمال، لأن هذا يفسد نظام المجتمع ويضع الأمر في يد غير أهله، وقد يسر الله كل جنس لما خلق له
وبشيء من الموازنة بين ما قررته الشريعة للنساء وللرجال نجد المرأة في الكفة الراجحة، ونرى أنها حين تطلب المساواة بالرجل تنزل عن شئ كثير من امتيازاتها
هذا عقد الزواج الذي يجمع بين المرأة والرجل، يلتزم فيه الرجل بالمهر والنفقة بجميع أنواعها: نفقه المسكن والغداء والكساء وما يتبعها من ملحقات، وهو مع ذلك كله لا يعطي الرجل أكثر من حق الاستمتاع بالمرأة استمتاعا عاطفيا بحتا مجردا عن الماديات والخدمة والتسخير
وقد حددت الشريعة هذا المعنى بنص الآبه الكريمة (ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسكم أزواجاً لِتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)
وإذاً فالعلاقة بين الزوجين يجب أن تقوم على أساس سكون النفس وارتياحها واطمئنانها ورضاها، ولن يأتي هذا السكون إلا بتجاوب الشعور، وتبادل العاطفة وتقارب الثقافة وتكافؤ التربية. وأضافت الشريعة إلى هذا كله وجوب توفر المودة والرحمة، وكلها صفات عاطفية مجردة عن المنفعة والانتفاع، وهذا نوع عجيب من السمو رفع المرأة إلى أرقى المراتب ووضع العلاقة الزوجية في أسمى الدرجات
لقد كانت المرأة في الجاهلية تباع وتشترى، وتكره على الزواج والبغاء، وتورث ولا ترث، وتمنع من التصرف في مالها، وكان قدماء الرومان يشكون في إنها إنسانة ويعتقدون إنها حيوان نجس لم يخلق إلا للخدمة، وكان بعضهم يغالي في اتقاء شرها ويرى تكميم فمها لمنعها عن الكلام كالكلب العقور أو الجمل العضوض!! وأغرب من هذا كان يباح للوالد ذبح ابنته أو دفنها في التراب وهي على قيد الحياة دون أن يؤخذ بجزاء أو قصاص (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم(726/22)
هنا نقص ص 619
الجهاد الوطني في مراكش
للأستاذ عبد الكريم غلاب
في جمع ضم نخبة ممتازة من أصحاب الدولة والمعالي من مصريين وشرقيين وعرب تحدث متحدث عن مراكش وما تلاقيه في سبيل الحصول على استقلالها، فرد عليه أحد أصحاب المعالي قائلا: إننا لا نسمع إلا قليلا عن الحركة الوطنية في مراكش، ولذلك لا نستطيع أن نقوم نحوها بشيء جدي. ذلك حديث صاحب المعالي ولست أدرى أأنكر عليه حديثه أم أسرد عليه بعض الحقائق التي تبرهن له على إن مراكش جاهدت في سبيل استقلالها جهاد المستميت، وضحت في سبيل قوميتها تضحية لا أحسب أن أمة شرقية ضحت أكبر منها.
والحقيقة إن مراكش وقعت تحت الحماية الفرنسية، ويكفي أن أقول (الحماية الفرنسية (ليدرك إخواننا العرب في الشرق ما تعانيه هذه الأمة من بطش وجور واضطهاد، وليدركوا أيضاً - إن كانوا قد سمعوا أو رأوا ما وقع في سوريا ولبنان طوال الربع قرن - ما يتجرعه المراكشيون في سبيل كيانه الوطني؛ مع ما يوجد هناك من فارق جوهري بين الحالة في الشرق والحالة في مراكش. وهذا الفارق وأن مراكش وقعت في الركن الغربي في شمال أفريقيا، وبذلك أصبح في إمكان الفرنسيين إن يقفلوا الأبواب في وجهها، ويكتموا أنفاسها حتى لا يسمع صوتها أحد في الشرق أو الغرب. وقد تم لها ذلك. فما إن تتحرك البلاد حتى تقفل جميع الحدود، وتمنع إدارة البرق من أن ترسل أي رسالة إلى الخارج وبذلك يتم للفرنسيين أن ينفردوا بمراكش فيقضوا على حركتها بالحديد والنار - ويخمدوا أنفاسها إلى حين، وبذلك لا يدري أحد ماذا جرى في مراكش.
الست ترى معي إن صاحب المعالي معذور في قوله إن حركة مراكش لا يسمع لها صوت؟ وسنحاول في هذا الحديث أن نلخص جهاد المراكشيين في سبيل استقلالهم وحريتهم.
يبدأ تاريخ الجهاد الوطني منذ فكر الأجانب في احتلال مراكش، وقد فطن لذلك المراكشيون فكانت ثورة المولى عبد الحفيظ وتوليته العرش سنة 1907 قائمين على أساس أبعدا خطر(726/23)
الأجانب عن البلاد والقيام بالإصلاحات الداخلية التي يتطلبها العهد الجديد كما ورد في الوثيقة التي بويع على أساسها. وقد قام المراكشيون في ذلك العهد ضد المولى عبد العزيز وعملوا على خلعه لأن النفوذ الأجنبي بدأ يتسرب إلى البلاد في عهده. ولما أخفق المولى عبد الحفيظ في إبعاد الفرنسيين عن البلاد وإخراجهم من مدينتي (وجره) و (الدار البيضاء) وأكره على إمضاء معاهدة الحماية سنة 1912، قامت ثورة في مراكش كلها وخاصة في العاصمة (فاس) التي حدثت فيها مصادمات عنيفة بين الشعب المراكشي والجيش الفرنسي. وهذه المصادمات - وإن انتهت بالإخفاق - ترغم الفرنسيين على الجلاء عن العاصمة، لولا الإمدادات القوية التي تلقاها المرشال (ليوطى) قائد الحملة الفرنسية. والمؤرخون الفرنسيون تحدثوا عن هذا العهد يقدرون هذه الحوادث التي يسمونها (أيام فاس السوداء).
ولئن استلم المراكشيون في المدن الكبرى لأنهم غلبوا على أمرهم تحت مدافع الفرنسيين وبنادقهم. فقد استمرت الحرب في القبائل الجبلية وخاصة في الجنوب. استمرت حرب العصابات بين الفرنسيين والمراكشيين اثنتين وعشرين سنة فلم تستلم حاميات الجنوب إلا في سنة 1934.
وفي هذه الفقرة قام الأمير عبد الكريم الريفي ليخلص البلاد من يد الإسبانيين والفرنسيين، ولا نريد أن ننوه بانتصاراته العديدة، وبما لاقته الجيوش الإسبانية، والفرنسية على يديه، فإن القراء في الشرق العربي يعرفون هذه الحروب ويقدمونها، وهم يعرفون إن عبد الكريم بطل مراكش لم يعمل على بناء مراكش الحديثة فحسب، ولكنه ساهم في بعث الروح العربي في الشرق أيضا. ويكفي أن نقول أن انتصاراته أقضت مضجع أوروبا كلها، وجعلت مجلس النواب في كل من فرنسا وإسبانيا يطالبان بسحب الجيوش من مراكش، والتسلم للأمير عبد الكريم، وقد كادت تقوم ثورة شعبية في إسبانيا لتنقذ البلاد من ويلات الحرب الريفية التي استمرت زهاء خمس سنوات كاملة.
ولم يكد الأمير عبد الكريم يلقي سلاحه حتى تلقفته منه الحركة الوطنية السلمية التي أعلنت ابتداء جهادها في مايو سنة 1930. قامت هذه الحركة لتعمل على تخليص البلاد من نير الاستعمار الفرنسي والإسباني، فأخذت تعمل جاهدة لتحقيق المطالب القومية للشعب المراكشي. وقد تمثلت هذه الحركة في حزب واحد هو (كتلة العمل الوطني) وكان لهذه(726/24)
الكتلة برنامج وطني يشمل الإصلاحات الضرورية التي يجب على كل من فرنسا وإسبانيا أن تعالج بها الحالة في مراكش. وما كادت الكتلة تعلن عن وجودها حتى التف حولها الشعب، وأصبح الفرنسيون يدركون خطرها على مشروعاتهم الاستعمارية، ومن أخذوا يقاومونها مقاومة أدت إلى اصطدامهم بالشعب مرات عديدة، وكان من نتيجة ذلك أن سقط في ميدان الجهاد عدد كبير من المجاهدين المراكشيين.
وكانت سبيل الفرنسيين في محاربة الحركة الوطنية تقوم على إقفال الأبواب في وجه الوطنيين ومنعهم من كل من شأنه أن يقوى نفوذهم من الشعب. فقد كانوا ممنوعين من إصدار صحيفة عربية واحدة تعبر عن آرائهم كما منعوا من فتح نواديهم، ومن إعلان صوتهم بأي طريقة من طرق الإعلان. جاهد الوطنيون ليزيحوا عنهم هذا النير، ولكن الفرنسيين كانوا يمنعون في طرقهم الاستعمارية، وهذا ما جعلهم يصطدمون بالشعب المراكشي فسلطوا جند السنغاليين المعروف بقسوته ووحشيته على الشعب الأعزل. . . وأخيرا أصدرت السلطة قرارا بحل كتلة العمل الوطني وأغلقت نواديها وصحفها، وقبضت على زعمائها، وبقي زعيم الكتلة محمد علال الفاسي في منفاه بالكابون في أفريقيا الاستوائية منذ سنة 1937 إلى الآن
وهكذا أصبحت مراكش مباءة للثورات الجامحة في سبيل الحرية. ولكن لم يكن جهاد الحركة الوطنية ثوريا يعمل على زحزحة النفوذ الأجنبي بالثورات فحسب، ولكنه كان جهاداً يقوم على أسس متينة لبناء صرح الأمة المراكشية. فرجال الحركة رأوا إن الإدارة الفرنسية لا تقوم بشيء يذكر في سبيل التعليم، ولذلك قاموا بحركة تعليمية واسعة النطاق، ففتحوا المدارس الحرة في جميع أرجاء البلاد برغم ما قاسوه من محاربة الإدارة الفرنسية لهم؛ وبذلك أنشأوا جيلا متعلما من الشباب، وكان مجهودهم في سبيل التعليم أضخم من مجهود الإدارة برغم الأموال التي خصصتها الإدارة في ميزانيتها للتعليم. وقاموا أيضاً بحركة تحريرية اجتماعية فجندوا الشباب لمحاربة الجهل والفقر ولتنوير أذهان الشعب، وحملوا حملة منكرة على بعض العادات والتقاليد التي يغذيها الاستعمار الفرنسي. ثم قاموا بحركة خطيرة وهي اقتحام مناطق جبال الأطلس التي منع الفرنسيون دخولها إلا بجواز سفر. وبذلك فضحوا (السياسة البربرية) التي اتبعتها فرنسا في هذه المناطق والتي تقوم(726/25)
على فصل جنوب مراكش عن شمالها. وقد ساعدت الحركة الوطنية في بعث النشاط الأدبي والفكري في مراكش فقاموا بإصدار مجلات وكتب أدبية تعرضت هي الأخرى للمصادرة والتعطيل. ومما يذكر للحركة الوطنية بالفخر إنها أنشأت صحفاً ونوادي وجمعيات في قلب باريس للدفاع عن مراكش. وكان لمجتلي (مغرب) و (أطلس) الفرنسيتين اللتين كان يحررها الشبان المراكشيون في باريس أثر كبير في الرأي الفرنسي فأوجدت نوايا ووزراء فرنسيين يعطفون على الحركة المراكشية.
وقامت الحرب الأخيرة فقام المراكشيون يساعدون دول الحلفاء ويبذلون أبناءهم الذين حاربوا في كل الميادين الهامة ببسالة شهد لهم بها مستر تشيرشيل في إحدى خطبه، وقدمت الحكومة المراكشية أموالا طائلة مشاركة في المجهود الحربي. ثم قدمت لفرنسا المحاربة وللجنة التحرير الفرنسية قروضا كبيرة استعانت بها في استرجاع بلادها المحتلة. وقد سخرت جيوش الحلفاء أرض مراكش وموانئها ومطاراتها واستفادت من منتجاتها الضخمة. كل ذلك ظننا من المراكشيين بأن الحرب ستخلق مبادئ جديدة وستتيح للشعوب الصغيرة أن تتمتع بمبادئ الميثاق الأطلنطي. ولذلك اتحدت كلمة الأمة تحت زعامة (حزب الاستقلال) الذي قدم وثيقة لدول الحلفاء ومن ضمنهم فرنسا، طالب فيها باستقلال مراكش، وتوحيد أراضيها، وإقامة نظام ديمقراطي دستوري؛ كل ذلك في يناير سنة 1940 ولم تكد تعلن هذه الوثيقة حتى جند الفرنسيون جنودهم، وقبضوا على زعماء الحزب وشردوهم ونفوهم، ثم أطلقوا يد السنغاليين في كل المدن والقرى، فمثلوا مأساة يندى لها جنين الإنسانية، ومنعت الإدارة الفرنسية عن المدن والقرى مواد التموين الضرورية والماء والنور. ولكن المراكشيين ثاروا في وجه الفرنسيين وحلفائهم السنغاليين، فوقعت معارك طاحنة سقط فيها مئات المراكشيين ضحية دفاعهم عن حريتهم واستقلالهم، وحكم بالإعدام على كثير من الوطنيين وبالنفي والسجن مع الأشغال الشاقة على كثير غيرهم ولا يزال زعيم الحزب أحمد بلا فريح منفياً بجزيرة كورسيكا برغم أصابته بأمراض خطيرة. ولكن الحركة لم تمت بل ازداد الشعب إيمانا بحقه في الحياة الحرة الكريمة ولا يزال بعمل برغم ما ينتابه من نكبات إلى أن يصل، وسيصل. . .
عبد الكريم غلاب(726/26)
الشباب والفراغ والجدة
للأستاذ مصطفى القوني
(هذه الكلمة هي خاتمة الفصل الأخير من الطبعة الثانية من
كتاب الائتمان: عرض جديد لأصول علم الاقتصاد) الذي طبع
في دار الرسالة وظهر في هذا الأسبوع عن مكتبة الأنجلو
المصرية).
يصل المجتمع إلى أقصى قدر من الرفاهية الاقتصادية إذا استغل موارده على النحو الذي يتيح له أقصى قدر من الشباب والفراغ والجدة. ونعني بالجدة الثروة. ونعني بالفراغ أن يقصر وقت العمل بالقدر الذي يهيئ للناس التمتع بثمرات عملهم. ونعني بالشباب علو مستوى الصحة العامة، لأنه لا خير في العيش إذا فسدت آلته، وآلة العيش صحة وشباب.
والمشكلة الاقتصادية هي مشكلة قلة الوقت والموارد، فإذا استطاع المجتمع أن يستغلها أفضل استغلال خفف من حدة قلتها وفاز من القليل بالكثير.
ولكن الثروة والفراغ والقدرة على الاستمتاع وإن كانت نعمة حين تتاح للناس في مجموعهم، فإنها تنقلب نقمة إذا اختص بها أفراد دون آخرين، نقمة تفسر قول من قال:
(إن الشباب والفراغ والجِدَه ... مفسدة للمرء أيّ مفسدة!)
ولنر الآن طرفا من مفاسد تباين ثروات الناس وتباين دخولهم.
إن ثروات بعض الناس تغنيهم عن السعي لكسب أرزاقهم، ويعيش مثل هؤلاء عيشة بطالة اختيارية. وليس للبطالين ما يشغلهم غير الجري وراء حوافز الاستمتاع ومثيرات الشهوات، فهم يخلقون لأنفسهم (حاجات) ثم يجرون وراء إشباعها. ويقبل البطالون على شرب الخمر، مثلا، تزجيه للفراغ وهرباً من السأم والملالة، ولكن غيرهم يحاول أن يجري مجراهم فتشيع المفاسد بين العامة الذين يحاولون أن يتشبهوا بالخاصة وإن لم يكونوا مثلهم.
ومن هنا كان توجيه جانب من نشاط المجتمع الاقتصادي إلى إشباع (حاجات) البطالين(726/27)
ومن يجرون مجراهم. والنشاط الاقتصادي، أو السعي للرزق، عبارة عن صنع أشياء أو أداء خدمات يطلبها أناس ويدفعون نظيرها (ثمنا). وإقبال الناس على شرب الخمر يدفع غيرهم إلى التوسل للعيش بالخدمة في المواخير وطالب القوت ما تعدى.
وبعض من ينظرون في كتب الاقتصاد نظرات عابرة، ينعون على الاقتصاديين اعتبارهم الرغبات المحرمة والسافلة (حاجات) وينمون عليهم وصف ما يسد هذه الرغبات بصفة (المنفعة). ولكن الاقتصاديين يحللون النظام الاقتصادي، بما فيه من خير وشر، ويحاولون تفسير دوافع السعي للرزق وغايات هذا السعي. ويسعى المرء للرزق بالقيام بعمل (يطلبه) غيره ويدفع فيه (ثمناً) ًوتدفع الناس ثمناً لما يطلبونه لأنهم يرون فيه منفعة، أي صلاحية لسد رغبة؛ وقد تكون هذه الرغبة عالية أو سافلة، حلالا أو حراماً، خيراً أو شراً، ضرورة أو ترفاً. وإهمالنا دراسة الحاجات التي يجري بعض الناس وراء إشباعها، بالرغم من أن في هذا الجرى خروجا على مبادئ الدين والخلق، نقول إن إهمال هذه الحاجات هروب من الواقع الذي نتناوله بالتحليل للكشف عن علله وأسبابه وهل يتورع من يقومون، في المعامل، بتحليل فضلات الإنسان أو الحيوان، عن مسها لقذارتها أو لنجاستها؟
ولنعد إلى مساوي تباين ثروات الناس. إن الإفراط في الغنى كالإفراط في الفقر، نقمة على صاحبه. وإن أحس الفقير ألم الجوع فإن الغني قد يصاب بالتخمة. وإن لم يجد المعدم ما يستر عريه فإن إفراط الثرى في التأنق يحمله هما كان حريا به أن ينأى عنه. وإن كانت مساكن العامة تزدحم بهم ازدحاما، فإن عناية الخاصة بمساكنهم الرحيبة تشغل بالهم بما لا طائل وراءه.
وانقسام الشعب شعبين، أغنياء وفقراء، جناية على الأخلاق، وبنات المعدمين فريسة سهلة لا غراء المثرين وسماسرتهم الذين يتوسطون بين من يبعن أجسادهن وأرواحهن وبين من يشترونها.
وتحاول الديموقراطية السياسية أن تسوي بين الناس، وإن اختلفت أقدارهم في المجتمع، وذلك بأن تجعل لكل فرد صوتا واحدا في انتخاب السلطات الحاكمة. ولكن الناخبين عرضة لا غراء مرشحي المجالس النيابية الذين يحاولون، وقد ينجحون، شراء أصواتهم بالمال. وليس من السهل سيادة الديموقراطية ما لم تدعم الديموقراطية السياسة ديموقراطية(726/28)
اقتصادية.
ثم هناك ما يجري من سباق بين المثرين: سباق غايته الخيلاء والزهو الذي لا ينتهي إلى نهاية. وتسابق أفراد الطبقات الموسورة في مظاهر الغنى مصدرهم لهم، لأن كلا يسابق ويخاف أن يسبقه غيره. ومن سلع الترف ما يكاد يكون كل الغرض منه الزهو، ومن السيدات من تقتني جواهر نادرة، تخاف عليها من السرقةفتصنع لها من الحلي المصطنعة نسخة تطابق الاصل، وتخزن الجواهر النادر في خزانتها وتتحلى بالحلى الزائفة. ومن جامعي روائع فن التصوير من يستأجر خبيرا يتعرف له أصلة الصور التي يقبل شرائها، لأنه يشتريها لا عن إحساس بجمالها وإما عن اعتزاز بمقدرته على شرائها.
وقد يرد على ما قدمناه من أمثله على مساوئ توزيع الثروة، بأن الإقبال على شراء شئ، أيا كان هذا الشيء، يدفع إلى عمالة بعض الناس ويسرع من دوران عجلة النشاط الاقتصادي ويشيع الرخاء. ولكن ليس سواء أن يعمل أناس في صنع الخمر أو أن يعملوا في صنع الخبز. وليس سواء أن يشتغل المرء بتجارة الماشية أو بتجارة الرقيق وإنه لإسراف، ومفسدة أي مفسدة، إن تحول بعض موارد المجتمع من إنتاج ما يسد الحاجات الضرورية لجمهرة الناس إلى إنتاج ما يشبع نزوات البطالين والمترفين.
وتقليل التفاوت بين الدخول يقلل من الظلم الاجتماعي ويهئ الفرصة لزيادة رفاهية المجتمع. والقضاء على تباين توزيع الثروة، وعلى تفاوت الفرص، قد يكون عن طريق الثورة كما قد يكون عن طريق التطور التدريجي، ولكل من السبيلين أنصار.
وتتدخل الحكومة محاولة إصلاح، ما فسد، وتفرض ضرائب على الموسورين والقادرين على تحمل عبء الضريبة، وتنفقها على ما يعود بالخير على الجميع. وكلما زاد تدخل الحكومة في هذا الشان قل المدى بين الثورات المختلفة والدخول المختلفة، وسار المجتمع خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية.
مصطفى القوتي(726/29)
أعلام معاصرون
محمد عبد المطلب
1870 - 1931م
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولقد انتقل رحمه الله إلى عدة مدارس ابتدائية وثانوية حتى اختير أستاذا بمدرسة القضاء الشرعي، وكانت قد طارت إليها بما نشرة من حين لآخر في الصحافة، فاستقبل بالتجلة والترحيب ووجد نفسه أمام عقول مستنيرة تفهم آراء وتسير معه في اتجاهه، فاخذ يغرس حب الأدب والفضيلة ويدفعهم إلى التعصب للعربية في وقت هوجمت فيه من أعدائها المغتصبين. ولقد غالى في ذلك مغالاة عدها الكثيرون رجعية وجمودا فكان لا يحفل بما تخرجه المطبعة العربية من الكتب الحديثة، ثم شفع القول بالعمل فأخذ ينهج في إنتاجه نهج القدامى من فطاحل العصر العباسي، فكان يبتدئ قصائده بالغزل الرائق، مكثرا من الغريب المجلجل، مستعينا بخياله البدوي في التوليد والتصوير، وتلك منه كبرى أسداه إلى الأدب العربي، فهو يذكر الناس بين الفنية والفنية بمن ينسج على منوالهم فيفيئون إلى الدواوين القديمة باحثين مستفيدين، ولا شك أن الأدب العربي كان في مبدأ هذه النهضة محتاجا إلى المحافظ اكثر من احتياجه إلى المجدد، وإلا فكيف نتشدق بالإبداع والتجديد، وتراثنا الرائع القويم لا يزال في ظلمات النسيان تشيح عنه الوجوه وتستجمعه الإفهام!!
وأحب أن أكشف عن حقيقة مطموسة، فالذائع المشهور أن أمير الشعراء هو أول من كتب الروايات المسرحية الشعرية، فقد أصدر أولى رواياته (كيلوباتره) سنه 1928 م ثم أعقبها بعدة روايات مشهورة، والواقع أن عبد المطلب قد سبقه إلى ذلك بعشرين عاما، فقد نظم في سنه 1909 وما بعدها بضع روايات شعرية ذات فصول ومناظر تمثيلية، وقد جعلها متينة الحوار، سريعة الحركة، حسنه المفاجأة. وكلها عربية بدوية تتخذ أسماء لامعة في تاريخنا الأدبي (كالمهلهل) و (امرئ القيس) و (ليلى العفيفة) ومن المؤسف حقا إنها لا تزال في غمرة الجحود مخطوطة بدار الكتب المصرية، ولعلنا نجد من يخرجها للناس في ثوبها(726/30)
اللائق، فهي وحدها الدليل على تجديد عبد المطلب وتنبيهه إلى عنصر هام من عناصر الشعر قد اثبتت الحياة مزيد احتياجنا إليه، فليت الذين يرجفون بجفاف الشاعر وجموده يلتفتون إلى هذه المآثر الخالدة ثم يحكمون!!.
وأنت إذا نظرت إلى المآخذ التي توجه إلى شعرة تجدها منصبة على تغلغله في الأخلية الصحراوية، وهيامه بالأماكن البدوية وإكثاره من الغريب الفحل، مما يعتبره محاكاة وترسما لا تجديدا وابتداعا، في رأيي إن عبد المطلب بالذات غير ملوم في ذلك، لأنه عربي صريح نشأ في بيت يفخر بانتمائه إلى الجزيرة العربية، فهو حين يهتف بنجد والعقيق وسلع إنما عن وجود مشبوب، ويحين حنينا محرقا إلى أماكن يعتز بها مدى الحياة، فلا عليه إذا جال في هذا الميدان وصال، وأحرى بنا أن نوجه هذا النقد إلى غيري كالبارودي مثلا ممن لا ينتمون إلى الجزيرة ولا يشعرون نحوها بعاطفة وانجذاب!!
وإذا كنا نعد من حسنات الفرزدق على اللغة العربية إنه أحيا ثلثها في شعره، فلماذا ننكر على عبد المطلب إكثاره من الغريب المستساغ في وقت جاهر فيه أعداء اللغة بعجزها عن مسايرة الحياة، الا يكون ذلك توجيها صالحا منه إلى تحصيل اللغة ودراسة معاجمها الواسعة حتى تسعفنا بما نفتقر إلية من كلمات!!
هذا وقد شاءت الظروف السياسية أن ينتقل من مدرسة القضاء الشرعي إلى مدارس وزارة الأوقاف!! فحيل بينه وبين العقول الممتازة التي كانت ننتفع بآرائه وتوجيهه، ووجد نفسه أمام طائفة أخرى لا تزال في الدور الأول من التعليم!!
وقد اعتبر الفقيد في مدارس الأوقاف محنة قاسية قابلها بالصبر الجميل، على إنها كانت في الواقع محمدة جميلة. فقد خلص من دروسه العميقة قي القضاء الشرعي، وعكف على الإنتاج الأدب الرفيع، وكانت الحرب العظمى الأولى في ذلك الوقت مندلعة اللهيب، ثم تلتها الثورة المصرية الصاخبة، فوجد الشاعر من أحداث زمانه ميادين شاسعة يحلق فيها بخياله الجموح، وحين نطالع ديوانه نجده حافلا بالقصائد السياسية التي تعتبر في الواقع وثائق تاريخية صحيحة يحتج بها الباحثون، فما من عاصفة سياسية هبت بمصر إلا خلدها عبد المطلب في شعره الرائع - إلى جانب ما كان يكتبه من مقالات طنانة الدوى عميقة التأثير - ولعلك تسال معي لماذا لم تذكر سياسته الشعرية كما ذكرت سياسات حافظ(726/31)
إبراهيم؟ والجواب على ذلك إن الشعر السياسي شعر شعبي لا يدور على الألسنة إلا إذا كان سهلا واضحا يفهمه العامي قبل المثقف. وقد كان حافظ رحمه الله يأتي في السياسات بنوع خاص بما يناسب عقل الجمهور، فطار شعره السياسي كل مطار. ورواه الريفيون في القرى قبل المثقفين في الاندية، اما عبد المطلب فقد كان محافظا على نسجه الرصين وجزالته القوية، فنجا شعره من العامة وظل منهلا رائقا يرده المثقفون، وإذا شئت الدليل على ذلك فقرأ قصيدة حافظ في سعد زغلول يوم اعتدى عليه ومطلعها
الشعب يدعوا الله يا زغلول ... أن يستقل على يديك النيل
ثم إقراء قصيدة عبد المطلب في هذا الموضوع
رمى وسهامُ الله في نحره رد ... فلا تأس حاطتك العناية يا سعد
فإنك بلا شك ستسايرني فيما أقول
وأود أن أنبه القارئ إلى قصيدة عبد المطلب في الحرب العظمى فهي وحدها كافية للتدليل على مذهبه في الشعر. ولقد عبر فيها عن إحساس الشعب المصري أصدق تعبير، فكانت سوطا ناريا يلهب ظهور الإنجليز، وقد مكثنا سبعين عاما نضج من المغتصبين ونرى بأعيننا كتائب الاستعمار رائحة إلى الحانات والمواخير، ينتهكون الحرم. ويصرعون العفة، ولكن لم نجد في شعرائنا من صور هذه المناظر المخجلة في جزالة لفظ وقوة أسر، غير عبد المطلب حين قال:
تبصر خليلي هل ترى من كتائب ... دلفن بها كالسيل من كل مودق
سراعاً إلى الحانات تحسبهم بها ... نعاماً تمشي رزدقاً خلف رزدق
يهولك مرآها إذا اصطخبت بهم ... مواخير تجلو فاسقات لفسَّق
إذا أجلبوا فيها حسبت ضفادعاً ... تجاذبْن إيقاعاً على صوت نقنق
زعانف شتى من طويل مشذب ... طرى القرى عاري الأشاجع أعنق
ترى منه بحبوحه الأمن باسلا ... وان يدعه الداعي إلى الكر يحبق
والقصيدة كلها وقد جاوزت المائتين تضرب على هذه الوتر الرنان، وطبيعي أنها لم تنشر في حينها بل ظلت في مدرجة النسيان حتى قرأناها بالديوان!! والعجيب أن عبد المطلب - بعد انتقاله من سوهاج - لم ينتشر خرائده تباعا في الجرائد اليومية كما فعل قرناؤه بل ظل(726/32)
محتفظا بها في مسوداتها غير اليسير مما انشده في المحافل العامة وسارعت الصحافة إلى تدوينه!! ولعلك تقف معي من هذا على تواضعه الجم وعزوفه عن الشهرة، ولا لدري اي ذخيرة غالية قدمها الأستاذ الهراوي إلى العربية يوم جمع قصائد الفقيد في سفر خاص فكانت كأس النديم وعبير المشتاق
على أن مدة الشاعر لم تطل بوزارة الأوقاف ففي سنه 1921 تقلد وزارة المعارف المرحوم جعفر والي باشا وكان ذا اتصال حميد بأرباب الفكر وحملة اليراع، فاغتنم عبد المطلب هذه السانحة وتقدم إليه أملا في الأخذ بيده، وكان الوزير الأريحي عند ظنه الحسن به فقد استصدر أمرا من مجلس الوزراء بنقله إلى التدريس في دار العلوم مع إعفائه من الكشف الطبي إذ كان الشاعر يشكو ضعفا في قوة إبصاره، ولا تسل عن فرحته بالعودة إلى وسط ممتاز يشجعه على الدرس الجيد والبحث المفيد، ولم ير غير الشعر مكافأه طيبة يهديها إلى معالي أو زير فشكره بقصيدة عامرة قال فيها
أنا الروض حياه وليٌّ بديمة ... علية بأسباب الحياة استهلت
عداه الردى أحيا لمصر وأهلها ... مآثر عهد ابن يحي تولت
(جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت)
ولم يلهه التدريس بدار العلوم عن الاتصال بالجمهور عن طريق الصحافة، فقد كان ينشر أبحاثه الأدبية دراكا، وحين ظهر كتاب الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين سارع إلى نقده في جريدتي الأهرام والمقطم، ثم تشعب به النقاش فخاض المعركة الحامية بين الجديد والقديم. وأخذت الردود الكثيرة تتوالى على نقده وهو يناقشها مأخذا مأخذا حتى عد عند الكثيرين عميدا للمدرسة القديمة الاتباعية، ولقد طبعته هذه العمادة بطابع خاص، فكان يتعمد في أكثر إنتاجه أن يكون كما عهده الأدباء في صدر شبابه جزلا فحلا. واذكر انه ما أقيمت حفلة أدبية إلا ودعي إليها عبد المطلب باعتباره ممثلا للمذهب القديم اصدق تمثيل. وكان السامعون ينتظرون الديباجة العربية منه في شوق وانجذاب، ففي الحفلة التي بويع فيها شوقي بأمارة الشعر وقف عبد المطلب يلقى قصيدته فهمس أديب كبير في إذن شوقي أمرؤ القيس! أمرؤ القيس! وتكلم عبد المطلب فضج الحفل بالتصفيق الشديد!!
ولقد كان مظهره في الجامعة المصرية يوم ألقى قصيدته العلوية سنه 1919 رائعا جميلا(726/33)
فقد ركب ناقته ومضى ينشد طويلته متشبها بأجداده البادين، وكان الحفل الحاشد مأخوذا بما يرى ويسمع، فمن تدفق في البيان وطرافة في الموضوع، إلى غرابة في المنظر وبعد في الاتجاه، ولقد طال نفسه فيها حتى جاوزت قصيدته أربعمائة بيت تقرؤها في متعه وارتياح فلا تجد غير القوى الرصين!!
أما أخلاقه الرفيعة فقد كانت دينيه مثاليه تبحث عنها فلا تجدها عند الذين يتظاهرون بالورع ويتشدقون بالعبادة وليسوا من ذلك في قليل أو كثير، فعبد المطلب قد درس التعاليم الإسلامية ثم طبقها على نفسه وأتخذها منهجا يسير عليه. فكان عق اللسان، صلب العقيدة، راسخ الإيمان طاهر الذيل، متمسكا بتقاليد قومه، راغبا في الزهد الصوفي الذي ورثه عن ابيه، وقد أشترك في جمعيات إسلامية كثيرة. كالمواساة الإسلامية والشبان والهداية، والمحافظة على القران الكريم بإذلالها ما يستطيع بذله من مال وعتاد
قال شيخنا الأستاذ الإسكندري (وكان شديد العصبية لسلف هذه الأمة وقوادها وعلمائها وشعرائها فلا يكاد يسمع بحديث مزر عليها أو غاض من كرامتها حتى يغضب لها غضبة الليث الهصور وينبري له تزيفا وتهيجينا نظما وكتابة وخطابة)
هذا وقد أنتدب في سنه 1928 للتدريس في تخصص اللغة العربية بالأزهر الشريف، وظل به حتى لقي ربه راضيا مريضا عنه بما قدم لدينه ولغته من العمل الصالح، وكان قد أحيل إلى المعاش من دار العلوم قبل وفاته بشهر واحد. وحين جاءه اليقين خرجت الدنيا تشيعه في حفل مهيب التقى فيه أصدقاؤه بتلامذته العديدين باكين منتحبين، ورأى الناس الوفاء للأدب والعلم متمثلا حول نعشه في جمع حاشد وصفه الهراوي فقال:
لقد مشت الدنيا وراءك خشعاً ... وما كنت في سلطان حل ولا عقد
إلا إنها كانت قاوباً تدامعتْ ... على الود تمشي حول نعشك في حشد
محمد رجب البيومي(726/34)
تعقيبات
بين العامية والعربية:
تقدم الأستاذ محمد فريد أبو حديد عضو المجمع اللغوي وعميد معهد التربية إلى المجمع ببحث مطول عن موقف اللغة العامية من العربية الفصحى عرض فيه لخصائص العامية ومالها من الآثار الجميلة في معارض الكلام كالزجل والموشحات والقوما والدوبيت، وتناول ما كان لها من تطور في الشرق وفي بلاد الأندلس ثم في باقي الجهات الأخرى، وانتهى منذ ذلك إلى القول بوجوب دراسة العامية ولاهتمام بها ووضع الوسائل للتقريب بينها وبين الفصحى حتى تلتقي لغة الكتابة ولغة الكلام.
وليست هذه الدعوة التي يرتفع بها صوت الأستاذ أبو حديد اليوم بالامر الجديد، ولعلها دعوة قديمة بالية ارتفع بها الصوت في مصر منذ أكثر من خمسين عاما، وثارت فيها عجاجه الكلام واشتجرت حولها أقلام الباحثين، وقد استطاع أساتذة ذلك الجيل أن يصفوا حسائها وأن يفرغوا من تنفيذها وأن يأتوا في ذلك بما لا مزيد علية.
كان رأس تلك الدعوة رجل إنجليزي موظف في مصر يدعى (ويلكوكس)، وكان هذا الرجل داهية، درس اللغة العربية، واللغة العامية أيضاً وكان عمله الأصيل في شئون الري والصرف، ولكنه أثار بين المصريين الدعوة إلى العامية بحجة أنها لغة الكلام، وإنها قريبة منن الإفهام، ومن العجيب إن ذلك الرجل أنشأ مجلة يوم ذاك سماها (الأزهر)، وكان يصطنع الغيرة على العربية كان يحاول أن يسدد الطعنه النجلاء إلى العربية والى الإسلام والى المصريين.
وبيننا كثيرون يذكرون أن الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا كان له مجال في معرض تلك الدعوة، فقد كتب مقالين في (الجريدة) أيام كان يقوم على تحريرها يدعو فيهما إلى تمصير اللغة، فانبرى كثير من الباحثين لمناقشة دعوته وتفنيد حجته، وكان الرجل قد اقتنع بما بدا له في معرض المناقشة إذ سكت عن تلك الدعوة إلى اليوم، بل لقد وقف بعد ذلك يدعو إلى الفصحى ويحبذها في عدة مناسبات. . .
وأنا في الواقع لا أدرى ماذا يريد الأستاذ أبو حديد بالتقريب بين العامية والعربية، وماذا يقصد بان (تلتقي لغة الكتابة ولغة الكلام)؟!(726/35)
إن موضوع القضية باطل، لأننا إذ نقول العربية فإنا نقصد إلى لغة موحدة الألفاظ والدلالات عند جميع أبناء العربية والذين ينطقون العربية، أما العامية فإنها تتوزع في الألسن إلى لهجات عديدة بل إلى لغات تختلف فيها الألفاظ ودلالاتها إلى حد كبير، ليس في الأقطار العربية فحسب، بل في القطر الواحد منها، وأظن الأستاذ يعلم الفرق الكبير بين شمال مصر والعامية في جنوبها، فأية عامية من هذه كلها يريد أن يتخذها أساسا تلتقي به لغة الكلام م لغة الكتابة.
في جميع أمم الدنيا لغة للكلام ولغة للكتابة، ويوم أن كانت اللغة العربية في أهلها فطرة وسجية كانت هناك لغة للكلام ولغة للكتابة. انه رأى غريب مريب، يعود فيرفع رأسه بعد أن قطعه أستاذه الجيل السابق. والعجيب أن يحفل المجمع بهذا الرأي الذي لا طائل تحته وأن يأمر بطبع هذا الكلام لبحثه وإبداء الرأي فيه، كان هذا المجتمع قد فرغ من أداء واجبه نحو العربية فما بقي علية إلا العناية بالعامية. ومن يدري لعل الشيوخ الإجلاء يقترحون ان يكون اسم مجمعهم (مجمع اللغة العربية والعامية)!!
بشار وروزفلت وزكي مبارك:
يبدو صديقنا الدكتور زكى مبارك في كتاباته التي يكتبها في هذه الأيام على نهج جديد، وطريق كثير الدروب والتعاريج، فهو يكتب كما يتحدث، وهو لا يرتبط مع القارئ بوحدة الموضوع ولكنه يستطرد ثم يستطرد، فيخرج من كلام إلى كلام، ويورد كل ما يبدو من الروايات والذكريات، وهو في هذا يعتمد على الذاكرة اكثر مما يعتمد على المراجعة، والذاكرة مهما كانت قوة وحفظا لا تصدق صاحبها في كل الأحيان.
وطريقة تشقيق الكلام والاستطراد هي الطريقة التي ابتدعها وآثرها كانت العربية الكبير شيخنا أبو عثمان الجاحظ، وليس من قصدي أن استطرد بالقارئ إلى الحديث عن هذه الطريقة، ولكنى أريد هنا أن أشير إلى مقال قرأته للدكتور يوم الثلاثاء الأسبوع الماضي في جريدة (البلاغ) فوقفت فيه على روايتين جديرتين بالتصحيح تقديرا للأدب وإكراما للتاريخ.
ما الأولى فقد قال الدكتور وهو يتحدث عن شهر كانون:
(وكان الشاعر بشار بن برد متهما بالزندقة، فأراد أحد الصوفية أن يحبب إليه الإيمان فقال:(726/36)
إن للمؤمن الصادق في الجنة غرفة عرضها ألف ميل وطولها ألف فرسخ، فقال بشار: هي إذن أبرد من كانون الثاني)، وليست الرواية هكذا، ولكنهم قالوا: (ومر بشار بقاص فسمعه يقول: من صام رجبا وشعبان ورمضان بني الله له قصرا في الجنة صحنه ألف فرسخ في مثلها، وكل باب من أبواب بيوته ومقاصيره عشرة فراسخ في أمثالها: فالتفت بشار إلى قائده وقال: بئست والله هذه الدرا في شهر كانون الثاني). . . وإذن فلم يكن هناك صوفي يعظ بشارا بهذا الكلام الملفق، وقد كان على الدكتور، وهو مؤلف في التصوف، أن يتحرى الرواية من هذه الناحية فضلا عن الناحية الأدبية. . .
هذه واحدة. . .
أما الثانية فقد قال الدكتور وهو يتحدث عن الشيخ على يوسف صاحب المؤيد: (وكانت للشيخ على وقفة جريئة في وجه الرئيس روزفلت جد الذي كان رئيس جمهوريات الولايات المتحدة قبل سنين، وخلاصة القصة إن روزفلت زار أسوان واظهر عجبه من أن يتمجد المصريون بقصر انس الوجود. فثار شوقي الشاعر فنظم الضادية وفيها يقول:
شاب من حولها الزمان وشابت ... وشباب الفنون ما زال غضا
وثار الشيخ علي يوسف فشواه بمقالة في جريدة المؤيد. . .)
وليست القصة هكذا ايضا، ولم يكن الأمر أمر أنس الوجود، وإنما القصة أن روزفلت زار السودان وخطب في أحد المعاهد المسيحية هناك فإنهم المصريين بالتعصب الديني، وأشاد بأيادي الإنجليز على تقدم مصر، ثم دعا المصريين إلى ترك التشدق بالقديم البالي والنظر إلى إصلاح حالهم الراهنة، فكان أن غضب المصريون لأنفسهم، وثاروا عليه ثورة عنيفة في دفع تلك الافتراءات التي كان روزفلت يردد فيها كلام المعتمد البريطاني، وكان الشيخ على يوسف ممن حركوا القلم في هذه الثورة، وكان شوقي يوم ذاك موظفا ولكنه خرج عن دائرة (الموظف) كما يقول ونظم قصيدته الضادية في تمجيد حضارة الشعب الذي كفر به روزفلت وقدم لتلك القصيدة بمقدمة قال فيها: (قمت أيها الضيف العظيم في السودان خطيبا، فأنصفت العصر، وانتقصت مصر، واقبل أهلها بعضهم على بعض يتساءلون: كيف خالف الرئيس سنة الأحرار من قادة الأمم وساسة المماليك أمثاله، فطارد الشعور وهو يهب، والوجدان وهو يشب، والحياة وهي تدب؛ في هذا الشعب، ومن حرمة العواطف السامية،(726/37)
ألا تطارد كأنها وحوش ضارية).
إلى آخر تلك المقدمة التي تعتبر آية من آيات شوقي الخالدة.
وثر حافظ إبراهيم أيضا، وتناول رزوفلت بقصيدة من قصائده الوطنية النارية، ولكن هذه القصيدة لا توجد في ديوانه الذي طبعته الوزارة، وقد سبق أن نشرتها في (الرسالة) مع بعض القصائد والمقطوعات المنسية لحافظ إبراهيم. . .
هذا أمر يهمنا:
تنشر جريدة (المصري) سلسلة من التحقيقات الصحفية عن الحالة في بلاد المغرب الأقصى قام بها الأستاذ إبراهيم موسى الصحفي المعروف، وقد عرض الأستاذ في كتاباته إلى الحديث عن الحياة الثقافية وما يفرض عليها من الحجر الاستعماري في تلك البلاد فقال: (ووجدت مع أحد الزعماء كتبا مصرية قديمة من النوع المستعمل وكانت عليها كتابة تدل على أنها لرجل آخر في طنجة من ثلاث سنوات، وكان الزعيم المغربي شديد الفرح بها وقد دهشت حين علمت أن سبب فرحه هو إنه هربها معه من طنجة لأن الفرنسيين لا يسمحون بدخول الكتب العربية إلى المغرب إلا إذا كانت توافق مزاجهم وقليلا ما يجدون ما يلائم هذا المزاج الرقيق. . .)
ثم قال الكاتب: (وقال لي هذا الزعيم انك لا تتصور مقدار العذاب الذي يعيش فيه رجال الصحافة والعلم في هذه البلاد إذ لا ينشر كتاب ولا صحيفة بدون رقابة وكثيراً ما تخرج الصحف ونصف صفحاتها بيضاء وقد كتب عليها - حذفته الرقابة - بل لا يمكن أن يقبل كتاب في مطبعة قبل تسليم النسخة الأصلية إلى الرقابة وحدث مرة أن الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله المحرر بجريدة العلم وضع كتاباً في الجغرافيا فبقيت النسخة الخطية في الرقابة سنتين - نعم سنتين - بقصد التعطيل ثم افرج عن الكتاب بعد تعديلات ومساع كثيرة ومن أمثلة هذه التعديلات انه كان في الكتاب فصل اسمه (المغرب في عهد الاستقلال) ويقصد الكاتب بذلك العهد السابق للعهد الفرنسي فأصرت الرقابة على تغيير العنوان إلى - المغرب قبل الحماية - ولما رضى المؤلف بذلك سمحوا بطبع الكتاب. .)
قلت: وهذه حال تهمنا فمن الواجب على رجال الأدب والعلم وحملة الأقلام في مصر وفي جميع العالم العربي أن يفزعوا لها وأن يقفوا منها موقفاً حازماً لأنها مصادرة للحياة(726/38)
الفكرية. ومصادرة للكتب العربية وجميع الآثار التي تخرجها حتى لا تجد طريقها إلى تلك البلاد الشقيقة. . . . .
نعم أن من الواجب على الجامعة العربية أن تفزع لهذه المسألة ضمن ما تعنى به من الحالة القائمة في المغرب الأقصى وضمن ما تعنى به من الشئون الثقافية العامة في البلاد العربية، ولكن علينا نحن أن نفزع لهذه المسألة بالذات لأنها مسألتنا ومسألة الثقافة العربية والأمر فيها يسير علينا إذا حزمنا لها الرأي والأمر، وذلك بأن نعمد إلى مقاطعة الكتب الفرنسية في جميع الأقطار العربية ما دامت فرنسا تقصد إلى منع الكتاب العربي من الدخول إلى أي قطر من الأقطار التي تقع تحت نفوذها فإذا عمدنا إلى هذا صادقين فستكون فرنسا هي الخاسرة وستضطر اضطراراً إلى النزوع عن تلك الخطة الشنعاء.
فهل أنتم يا أبناء الثقافة العربية ويا حملة الأقلام فاعلون غضباً لكرامتكم ورعاية لمصلحتكم؟؟
(الجاحظ)(726/39)
الأدب والفن في أسبوع
من الأدب السياسي:
دعت رابطة الطلبة السودانيين في مصر مكرم عبيد باشا لاختتام موسمها الثقافي بمحاضرة عن (الوحدة الطبيعية الوطنية بين مصر والسودان) فلبى الدعوة وكان يوم الخميس موعد إلقاء هذه المحاضرة بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة وقد قدمه رئيس الرابطة بكلمة وصفه فيها بقوله (أديبس ملك من البيان عنانه وخطيب فاق بفنه أقرانه وناثر حر أعجب بل ادهش خصومه وأعوانه)
وهذا الوصف من التقديم هو الذي يلائم المقام في هذا الباب الأدبي فالذي يعنينا هنا هو مكرم عبيد الأديب الذي يسترعى انتباه الأدباء ومحبي جمال الكلام بما يكتب ويخطب ولما كانت هذه المحاضرة من إنتاجه الأدبي السياسي فقد رأينا أن نلم هنا ببعض أجزائها ونقطف شيئاً من ثمراتها.
بين مكرم باشا العوامل الأساسية التي تقوم عليها وحدة وادي النيل فعد منها (النيل نهراً) و (النيل شعورا) ثم قال في بيان العامل الثاني: (ووحدة النيل شعوراً هي عنصر الوحدة المعنوية بين أبناء النيل ولست في هذا أتعمل أو أتخيل بل احلل التحليل العلمي الذي لا جدال فيه ولا دجل. فما من شك أن الطبع وليد الطبيعة، وإذا جمعت بيننا وحدة الطبيعة، فقد جمعت بيننا حتماً وحدة الطبع نعم إن هناك وحدة اللغة ووحدة الدين ولكن هذه قد توجد بين البلاد المستقلة بعضها عن بعض أما وحدة الطبع مستمدة من وحدة الطبيعة فهي الوحدة الأصلية التي تجعل من أبناء البلاد شعباً واحداً فإذا ما أضيفت إليها العناصر الإضافية كالدين واللغة والمصالح الاقتصادية كانت الوحدة مكتملة الأسباب أصولا وفروعاً.
(ولقد أجمع علماء التاريخ والآثار وفي مقدمتهم المسيو ماسبرو على ان المصري والسوداني متفرعان في مجموعها من جنس واحد واصل واحد رغم ان الشمس لم توزع سخاءها عليهما بقدر واحد. . .)
ودلل على التشابه في اللهجة الإقليمية فقال: (كنت منذ أيام قليلة أتحدث إلى بعض إخواننا السودانيين فراعني من هذا الحديث لا وحدة التفكير فحسب بل وحدة التعبير حتى أن لهجتهم في الحديث لا تختلف عن لهجة أبناء الصعيد مما أخجلني - وأنا رجل صعيدي(726/40)
(تبحرت) - فجعلني أعود معهم إلى القاف الصعيدية الجيمية بدلا من القاف الملطفة الألفية التي تعودناها في لغة عاصمتنا الرشيقة. . .
(ولما كان أهالي الوجه البحري والصعيد شعبا واحدا وإن اختلفت بينهما اللهجة الإقليمية، فلست أرى فارقا - حتى من هذه الناحية الفرعية التفصيلية - بين الصعيد الأدنى في مصر والصعيد الأعلى في السودان)
وقال معقباً على ما حدث أخيرا في الخرطوم من محاكمة الأستاذ أحمد كامل قطب رئيس حزب الفلاح الاشتراكي المصري متهما بالحض على كراهية الحكومة البريطانية والحكومة السودانية في محاضرة ألقاها بنادي الخريجين هناك وقد هتف أمام القاضي بعد أن حكم عليه بالسجن أربعة عشر يوما قائلا: (الله أكبر ويحيا ملك مصر والسودان ويسقط الاستعمار)
قال مكرم باشا معقبا على ذلك: (نعم أيها السادة الله أكبر والله أكبر والله أكبر فلست أعرف نداء جمع بين حكمة الدين وحكمة الدنيا كهذا النداء، الذي يتلاقى فيه الجزاء مع العزاء. فلو أن في الدنيا كبيرا فالله أكبر ولو أن بين الظالمين ظالما يرى نفسه كبيرا فالله منه أكبر ولو ان بين الشعوب شعباً كبيرا يرهق شعبا صغيرا فالله من الكبير أكبر.
(إذن فلا تهنوا ولا تحزنوا وإذا ما أصابكم عسف أو عنت فلا تفقدوا ميزانكم بل زنو ثم وازنوا. . . نعم وازنوا بين عادل سرمدي وبين ظالم وقتي أبى واستكبر وفاته أنه مهما كبر فالله أكبر)
المؤتمر الثقافي العربي:
تضمن ميثاق الجامعة العربية النص على التعاون الثقافي بين بلادها وتوحيد الاتجاه التعليمي فيها وألفت الإدارة الثقافية بها للعمل على تحقيق ذلك وأخيرا قررت دعوة الأمم العربية المشتركة في الجامعة العربية وغيرها إلى مؤتمر ثقافي عربي ينعقد بلبنان في سبتمبر القادم للنظر في توحيد اتجاهات الثقافة العربية والعناية بموادها وأساليب تعليمها في اللغة وفروعها والتربية الوطنية والتاريخ والجغرافيا في مراحل رياض الأطفال والتعليم الأولى والابتدائي والمتوسط والثانوي
ووجهت الدعوة إلى وزارات المعارف في كل من البلاد العربية لتتولى كل وزاره منها(726/41)
الاتصال بالهيئات الثقافية والتعليمية في بلادها لتعيين من يمثلها في المؤتمر على أن يكون الممثلون الذين يؤلفون هيئة المؤتمر من الهيئات الرسمية أما الهيئات الأخرى فلها كما للأفراد المهتمين بالشئون التعليمية والثقافية أن يكتبوا بآرائهم ومقترحاتهم إلى الإدارة الثقافية لتنسيقها وعرضها على المؤتمر ولهم أن يحضروا اجتماعات المؤتمر متتبعين مستمعين.
وقد ربطت بالدعوة بيانات بالموضوعات التي يرجى البحث فيها للمؤتمر في المواد الدراسية المتقدمة ومن هذه الموضوعات في (اللغة العربية وفروعها) ما يأتي:
(1) كيف يحقق بث الفكرة العربية بطريق كتب المطالعة؟
(2) كيف تعالج صعوبات وجود اللغة العامية بجانب اللغة الفصحى؟
(3) تيسير القراءة والكتابة للمبتدئين ووسائل تحقيقها
(4) هل يدرس تاريخ الأدب مستقلا أو في ثنايا دراسة النصوص الأدبية بالتعريف بأصحابها وعصرها. . . . . الخ
(5) في اختيار النصوص الأدبية هل ترتب على حسب العصور أو الموضوعات أو يتدرج فيها من حيث السهولة والصعوبة دون تقيد بعصر؟
(6) كيف تستغل دراسة الأدب إلى حد ما في بث الروح العربية؟
(7) القراءة خارج المدرسة
(8) استغلال الوسائل الحديثة في ترقية اللغة العربية كالإذاعة والتمثيل والمناظرات والمجلات والصحف ودور الكتب
ومن موضوعات التربية الوطنية:
أساليب إعداد المواطن العربي ليكون مواطنا صالحا في مجموعة البلاد العربية كما هو مواطن صالح في قطره الذي ينتمي إليه. ومن موضوعات التاريخ:
(1) هل يدرس في التعليم الابتدائي تاريخ قطر الطالب فقط، أم تاريخ الأمة العربية كلها أم يجعل تاريخ القطر محورا لدراسة التاريخ العربي أم تدرس سير أبطال العرب وعظمائهم فقط أو يدرس تاريخ المدن ونحو ذلك
(2) وسائل الاستفادة من التاريخ العربي لتقوية الروح العربية الحق(726/42)
ومن موضوعات الجغرافيا:
الأسس والمبادئ العامة التي يحدد على أساسها القدر الذي لابد من أن يحصله المواطن العربي من جغرافية البلاد العربية وموضع هذا بالنسبة إلى جغرافية العالم كله ومبلغ التعارض بين هذا وبين الفكرة الدولية التي يتجه إليها العالم الآن.
ويطلب في كل مادة بيان المنهج المثالي الذي يقترحه الباحث فيها ومبلغ اتفاقه مع المناهج المقررة الآن فعلا في بلاده.
وقد وصلت إلى الإدارة الثقافية كتب كثيرة تتضمن آراء ومقترحات مختلفة في تلك الموضوعات وهي تعمل في تنسيقها بطريقة تسهل عرضها على المؤتمر وكان موعد تلقي هذه الردود قد انتهى ولكن رئى مده إلى منتصف يونية الحالي نظرا لحالة بعض البلاد النائية
معرض الكتب والأدوات:
وفي خلال المدة التي يجتمع فيها المؤتمر الثقافي، وفي البلد الذي يكون الاجتماع به (وسيكون في لبنان ولم يعين بعد) يقام معرض للكتب المدرسية المؤلفة في مواد الدراسة المشتركة والتي هي موضوع نظر المؤتمر وللوسائل العملية لتعليم فروع اللغة العربية المختلفة ووسائل الإيضاح لمادتي التاريخ والجغرافيا كالمصورات والمجسمات والأجهزة التي من صنع الأفراد ودور النشر والشركات
وتقدم نسختان من الكتب واثنان من الأدوات للإدارة الثقافية قبل منتصف يولية القادم.
مؤتمر الآثار العربي:
وقد استقر الرأي على عقد مؤتمر للآثار في البلاد العربية بسوريا (أحد بلدانها ولم يعين بعد) في 23 أغسطس القادم
وقد وجهت الدعوة إلى الحكومات العربية لكي تعين ممثليها الرسميين الذين سيمثلونها في هذا المؤتمر والمفهوم بوجه عام أن هذا المؤتمر سيتناول بالبحث أسباب التعاون فيما يتعلق بالشئون الأثرية وتنظيم عمليات التنقيب عن الآثار وترتيب المتاحف.
رحلة إذاعية:(726/43)
كان مكتب الإذاعة البريطانية بالشرق الأوسط قد رأى أن يقوم بتسجيلات ثقافية وموسيقية في بعض البلاد العربية إلى جانب ما يقوم به من هذه التسجيلات في مركزه بالقاهرة لتذاع في برنامج محطة لندن للإذاعة العربية.
وفي الأسبوعين الماضيين قام بهذه الرحلة الثقافية الفنية الأستاذ يحيى شرارة مدير القسم العربي بالإذاعة البريطانية والأستاذ إيفان جست ممثل محطة لندن في الشرق الأوسط وهو ابن الأستاذ جست المستشرق المعروف وصاحب كتاب (ابن الرومي - حياته وشعره) ومما يذكر استطرادا ان هذا الكتاب موضوع باللغة الإنجليزية ولم يترجم إلى العربية وقد أثبتت به نصوص الشعر باللغة العربية. وكان مع الأستاذ يحيى والأستاذ إيفان موظفون آخرون وآلات للتسجيل وقد قصدوا أولا إلى عمان عاصمة شرق الأردن حيث سجلوا أحاديث لبعض الأدباء هناك منها (الأدب في شرق الأردن) و (نهضة الشعر الحديث في شرق الأردن) ومما وقفنا عليه أن دعائم هذه النهضة الشعرية هم الشباب الذين يتابعون قراءة ما يصدر في مصر من الصحف والمؤلفات بشغف ويتأثرون بها وهم يغشون مجلس جلالة الملك عبد الله الذي يطارحهم الأشعار ويناقلهم الأحاديث الأدبية ومما سجلته إذاعة لندن في شرق الأردن كلمة لجلالته بمناسبة عيد استقلال شرق الأردن
ثم قصدوا بعد ذلك إلى بغداد فقاموا بتسجيل أحاديث، منها (الصحافة في العراق) و (المرأة والمجتمع العراقي) و (البترول في العراق) و (مجموعة من الأشعار يختارها ويلقيها ناظموها) وبين هؤلاء الشعراء الذين القوا ما اختاروه من أشعارهم شاعرات عراقيات تألقن هناك في ميدان الشعر منهن الآنسة عاتكة الخزرجي والآنسة نازك الملائكة.
وسجلوا مجموعة كبيرة من الأغاني والموسيقى وقد روعي في هذه المجموعة أن تمثل الفن العراقي القديم الذي يقوم على الأغنيات القديمة كالتي يكثر فيها ترديد (جانم ياللي) كما تمثل الفن العراقي الحديث الذي تغنى فيه الأناشيد واِلأشعار الحديثة أما الموسيقى فلا تزال في العراق عربية شرقية لم تتغلغل فيها نزعة التفرنج الموسيقى على الرغم من شيوعها في موسيقى الأفلام المصرية الطاغية على السوق هناك والفلم العراقي لم يولد بعد وهناك شركة أجنبية تحاول إنتاج أفلام عراقية ولا يقدر لها النجاح لأن اللهجة العراقية غير مفهومة تماما في خارج العراق والاستهلاك المحلي لا يكفي ولست أدري لم يقال بعدم نجاح(726/44)
هذه الأفلام ان أنتجت باللغة العربية!
(العباس)(726/45)
البريد الأدبي
تحقيقات تاريخية:
بين يدي ديوان (صردر) طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة (1934) في الصفحة الرابعة وفي السطر الثاني هذا البيت من الشعر:
جيوش من الأقدار تفنى عُداته ... بلا ضرب إيثاخ ولا طعن أشناس
وفي الحاشية رقم (2) (إيثاخ وأشناس كذا بالأصل ولعل الأولى (إثباج) جمع (ثبج) وهو بين الكاهل إلى الظهر والثانية لم نوفق إلى مراد الشاعر منها. وصحة البيت:
جيوش من الأقدار تفنى عُداته ... بلا ضرب إيتاخ ولا طعن أشناس
وإيتاخ وأشناس كلاهما من مشاهير قواد المعتصم الذين ابلوا احسن البلاء في حروب الروم وفتح عمورية (222هجرية - 224) وضربت بقيادتهم وشجاعتهم الأمثال.
قال الطبري: كان على مقدمته أشناس ويتلوه محمد بن إبراهيم وعلى ميمنته إيتاخ وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط صفحة 264 الجزء السابع.
قال ابن الأثير: وفي هذه السنة 223 هجرية خرج توفيل ابن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام وأوقع بأهل زبطرة وغيرها وكان سبب ذلك ان بابك لما يضيق الأفشين عليه واشرف على الهلاك كتب إلى ملك الروم يعلمه إن المعتصم قد وجه عساكره ومقاتليه إليه حتى وجه خياطه يعنى جعفر بن دينار الخياط وطباخه يعنى إيتاخ ولم يبق على بابه أحد فإن أردت الخروج فليس في وجهك أحد يمنعك.
أحمد رمزي
على هامش كتاب (دفاع عن البلاغة):
سيدي الأستاذ العقاد:
لو لم تكن حبسة المرض قد حجبت الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات لجعلته الخصم والحكم في كلمتي هذه ولسرني منه أن يرميني بالدواة والقلم والرسالة ولكن لأمر ما لجأت إليك أيها الأستاذ الكبير وأنت عندي شيخ النقد النزيه وعصارة الأدب في هذا العصر.
قرأت كتاب (دفاع عن البلاغة) للأستاذ أحمد حسن الزيات فأكبرته ووجدت له شأنا أعظم(726/46)
من شأن غيره من مؤلفات البلاغة وعز على أن يأتيه النقص من أحد جوانبه ضنا بأدب الزيات أن يعتوره غبن في الأجيال المقبلة.
قال الأستاذ - نفعنا الله بعلمه - في كتاب دفاع عن البلاغة صفحة 72 المطبوع سنة 1945 ما يأتي:
(إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها ولكنك تقرأهما في العربية فلا تجد أثرا لهذه البلاغة ذلك لأن الذين ترجموهما إلى لغة القرآن لم يكن لهم بآدابها علم فوضعوا لفظا مكان لفظ ولم يضعوا أسلوبا مكان أسلوب فجاءت الترجمة موضوعية عجماء لا تشبه لغة من لغات الناس في لون ولا طعم ولا شكل.) انتهى
يشعر الأستاذ الجليل بقوله هذا أن الإنجيل قد كتب باللغة العبرية والإنجيل مكتوبات متى ومرقس ولوقا ويوحنا وربما تناول أيضاً باقي أسفار العهد الجديد باليونانية ومعناه بشارة أو خبر مفرح.
والنصرانية تعتبر الإناجيل الأربعة سندا تاريخيا تغترف منه براهين تاريخية لتأسيسها ونظامها الداخلي وما كانت الأناجيل كتاب بلاغة في العبرية عند اصل وضعها.
فإن متى صاحب السفر الأول من الإنجيل قد كتب سفره ما بين سنة 44 - 50م بلغة التخاطب الشائعة في عهد المسيح بين يهود فلسطين وتلك اللغة هي السورية الكلدانية أو الآرامية
والإنجيل الثاني ينسب إلى مرقس وعلماء آباء النصرانية مجمعون على إن مرقس كتب في رومية للرومانيين تعاليم بطرس الرسول وكتب باللغة اليونانية بعد سنة 62م.
والسفر الثالث من الإنجيل يعزى إلى لوقا وقد كتبه في رومية زهاء سنة 62م باللغة اليونانية أيضا.
أما السفر الرابع من الإنجيل فقد كتبه يوحنا في أواخر القرن الأول من الميلاد يوم كان في جزيرة باطمس ويروى في أفسيس وقد اتخذ اليونانية أداة لكتابته.
يظهر مما سبق أن الأناجيل قد كتبت في غير العبرية ولم تترجم من العبرية إلى العربية. أما بلاغتها في العبرية بعد أن ترجمت إليها فمسألة ليس من السهل الجزم بها ولا يتأتى لمن يجهل العبرية أن يتهجم على مثل هذا الشأن(726/47)
عندما يتناول القارئ قطعة للأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات يحسب أن أمه كبيرة تقمصت فردا واحدا؛ فكان ما ينفحنا به قلمه يمثل لنا أن جماعة عديدة من أمراء الكتاب وقادتهم، يعملون الفكر، ويسدون المنهج لإخراج الكلمة، فيقدرون لكل عبارة قدرا، ولا ينشرون حرفا قبل أن يعرضوه على مقاييس محكمة من فصاحة في اللفظ، وبلاغة في المعنى، وشمل للحقائق؛ أما القطعة التي سبقت الإشارة إليها من كتاب دفاع عن البلاغة صفحة 72 فقد خرجت عن طريقة الزيات إلى طريقة من لا أدري.
فهل تجيز أيها الأستاذ العقاد - شملنا الله بعدلك - قوله إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها. ولكنك تقراهما في العربية فلا تجد أثرا لهذه البلاغة؛ ذلك لأن الذين ترجموها إلى لغة القران لم يكن لهم بآدابها علم. . .؟
أفلم يكن للشيخ إبراهيم اليازجي علم بآداب اللغة العربية؟ أو ليست أسفار العهد القديم والعهد الجديد، المنسوبة إلى الآباء اليسوعيين في بيروت، من تعريب الشيخ إبراهيم اليازجي؟ فقد نشرت خبر ذلك مجلة الأجيال الجزء الثاني من السنة الثانية؛ ونشرته جريدة الأيام التي كانت تطبع في نيويورك في العدد الصادر بتاريخ 16 شباط سنة 1899؛ ونشريه جريدة البشير في العدد الصادر بتاريخ 16 حزيران سنه 1881؛ وأعادت نشرة مجلة الضياء في أربع صفحات بتاريخ 15 إبريل سنة 1899؛ وذكرته الكتب المدرسية المعنية بتاريخ الآداب العربية.
ومما يشهد به التاريخ أيضاً أن فارس الشدياق قد ترجم العهدين الجديد والعتيق بعناية الجمعية الإنجليزية ونفقتها؛ وطبع العهد الجديد عن هذه الترجمة سنة 1851 - ثم طبع العهدان أيضاً سنه 1857 وذلك في مدينة لندن.
أما النسخة التي قام بترجمتها مرسلو الأمير كان في بيروت فقد وقف عليها المعلم بطرس البستاني وكرنيليوس فإن ديك. (ومن الذين كان الاعتماد عليهم في ضبط الترجمة على قواعد اللغة العربية وفصاحتها الشيخ ناصيف اليازجي اللبناني والشيخ يوسف الأسير الأزهري.) راجع كتاب مرشد الطالبين صفحة 27 - المطبعة الأمريكية بيروت.
فهؤلاء جميعا كانوا ومازالوا يعدون من أولى العرفان الراسخين في علوم العربية وآدابها.
فنرجوا منك ليها الأستاذ العقاد ان تكشف لنا عن هذه الحقيقة وتعلل قول الأستاذ الزيات(726/48)
أمير البلاغة وصاحب الدفاع عنها بكلمة إنصاف ترد الفضل لذوي الفضل والسلام
(نابلس)
أبو بكر النمري
مولانا أبو الكلام وترجمة القران:
جاء في العدد 722 من الرسالة تحت توقيع الجاحظ ما نصه: (فسر الزعيم أبو الكلام قدرا من القرآن الكريم تفسيرا علميا عصريا، وترجم القرآن كله إلى اللغة الإنكليزية إلى آخره)
والحقيقة أن مولانا أبو الكلام أراد قد فسر القرآن الكريم بالغة الأردية تفسيرا علميا عصريا ولكنه لم يترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية كما ذكر الجاحظ لأنه لا يعرف هذه اللغة ولا يفهمها. أما ترجمة القرآن من العربية إلى الأوردية فهي أحسن التراجم وأصدقها في هذه اللغة.
والسلام عليكم أول وآخرا.
(الكويت)
عبد الحميد يوسف القناعي(726/49)
القصص
الوالدان
للكاتب الألماني رودولف كرودزر
بعد أن أحيل القاضي هجونوير إلى المعاش اشترى قطعة أرض في الريف واعتزل حياة المدينة التي كانت مسرحا لآلامه وهمومه حيث توفيت زوجتهه قبل الحرب، كما ان ولده الوحيد أنتظم في سلك الجندية وذهب إلى الميدان دون رجعه ولم يعد يؤنسه في وحدته الآن إلا خادمة العجوز.
مضت عشرون عاما وبدا الماضي يمحي بصورة المحزنه من مخيلة الرجل ونفض عنه أعوام مضت قاسي فيها الأهوال ولكن الماضي جاء يقرع بابه بقوة يلح في الدخول.
كان ذلك في يوم من أيام أغسطس وكان القاضي واقفا في حديقة داره بين الأوراد الجميلة التي يتعهدها بنفسه حين جاءته الخادم ومعها بطاقة باسم رجل إنجليزي يدعى جيمس مارلو من جلوسستر. أما حرفته فلم يكن لها ذكر في البطاقة.
لم يعرف الرجل من يكون ضيفة وذهب إليه في حجرة الاستقبال فتقدم الإنكليزي في أدب جم واحترام زائد وهو يقول في همس بأنه سعيد لتشرفه بمعرفة والد الكابتن فرانز هجنوير؛ فدهش القاضي. من أين عرف ذلك الرجل اسم والده؟ ولما أخبره هجنوير بأن ابنه قد توفى في الحرب وكست وجه الرجل الغريب السبعيني الطويل القامة موجه من الحزن والأسف لأنه شعر بآلام الذي ارتسم على وجه القاضي لتجديده تلك الذكرى الحزينه اعتذار من ذلك ثم أوضح شخصيته. فهو والد ضابط إنجليزي يدعى هارلو مارلو، وإن كان فرانز قد مات في الحرب بطلا شهيدا، إلا أن هاري مات بعد أن حوكم عسكريا لما أبداه من جبن أمام العدو وبعدما جردوه من رتبه الشريفة.
قام الرجل العجوز المتهدم وقطع الغرفة جيئة وذهابا وهو يشرح كيف استنكر ذلك من ولده وإلا لغدا أشرف عائلة مارلو في التراب. حاول أن يعرف السبب الذي حوكم ابنه من اجله، لانه عاد منفردا إلى فرقته بينما كان بقية جنوده يقاتلون في الميدان؟ لقد ظل أمر عودته سرا مكتوما بينه وبين نفسه ولم يكتشفه أحد.
هذه هي المشكلة. انه يعرف ولده جيدا فهو شجاع إلى أقصى حدود الشجاعة، ولا يظنه(726/50)
على ذلك الجبن والخور. جعل يبحث عشرين عاما ليقتنع بان ولده لم يفعل ذلك إلا لسبب جوهري عظيم، ولكنه كان يقابل دائما من الناس بالشفقة والرثاء لتقدم سنه وبإجابات كلها سلبيه؛ فلم يرتح إلى جواب منها يشفى به غليل نفسه. لقد ضحى ماله وكهولته ليعرف السر ولكن دون جدوى إلى ان طرق الباب علية أخيرا فرانز هجنوير. فقد سمع اسمه من جندي إنجليزي قال بان أسيرا ألمانيا مات قبل نهاية الحرب كان دائم التحدث عن الكابتن هجونير الذي كان يقاتل في سالي في اليوم الثامن عشر من أكتوبر عام 1916 في معركة السوم.
حينئذ تذكر القاضي بأن خطابا غربيا كان قد وصلة من ابنه ذلك الحين فقام واتى به كان مؤرخا في التاسع عشر من أكتوبر عام 1916 في بلدة سالي وقرا مارلو الخطاب وكان فيه:
والدي العزيز
اكتب إليك الآن لا لأذكر لك شيئا عن شجاعتي في الميدان أو كيف استولينا على حصن من حصون العدو بل لأطلعك اليوم على حادث غريب. فلقد هاجمنا الأعداء وتمكنا من التقدم في صفوفهم. وكان ضابطهم شابا شجاعا من فرقة جلوسستر جعل يقاتل حتى نفذ منه الرصاص، ولما وجدته اعزل هجمت علية وكدت اقتله إلا أن أحد جنوده دفعني على الأرض؛ وحينئذ تيقنت باني سأموت وأغمضت عيني وأنا أسلم أمري إلى الله. إلا أني حين فتحتهما وجدت ذلك الضابط وقد ألقى بسلاحه ولم يرغب في قتلي وأنا فاقد الحيلة. ولما حاول أحد جنودي قتله من خلفه أنقذته وتمكنت أن أدعه يفر من الأسر. وبذلك خنت زملائي وجنودي ووطني كما فعل هو من قبل. . .)
وضع الرجل الإنجليزي الخطاب بيد مرتعشة وحل الصمت بينهما طويلا ثم قفزت تلك الصورة أمام القاضي. ولده يكاد يشرف على الموت لولا شفقة ذلك الضابط الإنجليزي ورحمته له. كما تراءت له خيانة ولده ومساعدته لعدوه على الفرار. واختلط كل شئ في رأسه وسط ذلك الظلام الذي بدا يغمره الحجرة التي لا ينيرها سوى تلك الذؤابات الباقية من الشموع.
كان للجو الغريب الذي عاش فيه الرجلان في تلك اللحظة كل الرهبة. فها هو الخطاب(726/51)
ملقى على المكتب وقد اصفرت أوراقه، وها هي الذكريات تتعاقب على مخيلتهما؛ وهاهما ولداهما قد عادا إلى الحياة وارتسمت صورهما واضحة أمام عينهما. صورة البطولة والشجاعة والإقدام والشفقة والرحمة والخيانة العظمى.
شعر الرجلان بأنهما يجهلان كل شئ عن الحرب مع أنهما عاشا في لهبها أربعة أعوام. ولكن هل هذا الذي حدث يعد عملا شريفا أو تشتم منه رائحة الجبن والخيانة حقا؟ هل للحياة تلك المنزلة الغالية في الميدان حتى أن ضابطا يلقي بسلاحه حين يجد عدوه فاقد الحيلة أمامه. . . إنهما لا يعرفان شيئا عن قانون الإنسانية والشباب والحياة. أما القاضي فكل ما يذكره الآن هي تلك الكلمات الأخيرة من خطاب ولده.
(لقد ارتكبنا خطا واحدا بأن ألقينا سلاحينا).
انتشر الظلام في الحجرة ولم يقو أحدهما على إنارتها لأن تلك الذكريات البعيدة وذلك الصوت الذي يتكلم من وراء السنين يجب أن يهيأ له الجو الصامت المظلم حتى تسبح روحهما في ذلك العالم حيث فلذتا كبديهما.
امتدت خيوط القمر المكتمل قرصة وأنارت أجزاء من الحجرة كما نبح الكلب وتمايلت أغصان الشجر إلا إنهما لم يشعرا بكل ذلك، بل كان علمهما الذي يعيشان فيه بعيدا حيث الظلام النار والدخان والدماء.
وأخيرا قال مارلو. أذن لم تكن تلك الحياة التي وهبها الكابتن هجنوير إلى ولدي بل كانت الطريق إلى الموت بمحض إرادته، كما أن حياة هجنوير لم تكن إلا قرضا سرعان ما استعادته قوة غاشمة.
فقال القاضي: نعم هو ذلك الأمر
ولم يشعر إلا وهو يضع في يده الرجل الذي أمامه وكأنهما صديقان قديمان عزيزان. وعاد يقول لعل هناك شيئا من العدل يغشى في ذلك الحادث. العدل الذي لا نعرفه ونحن في دنيانا، والذي يشعرون به هم في ميدان القتال.
فقال مارلو: وتلك المحاكمة. أكانت عادلة؟
فقال القاضي: أما عن المحاكمة فإن ولدك هو الذي حكم على نفسه ولا يدري أحد ان كانت عادلة أو ظالمة(726/52)
وكان الرجل قد اقتنع بذلك الرأي. فنهض واقفا وهو يطيل النظر في وجه القاضي الهادئ.
كان السكون يعم الكون في الخارج، والنسيم يهب رقيقا، ورداء الليل الأسود يغطي الطبيعة فيزيد أسرارها رهبة؛ ولمح القاضي بعض التغير يطرأ على وجه ضيفة. وكأنه شعور الراحة بعد طول عناء.
وأخيرا قال القاضي: أنا لم أفهم لم لم يصرح مارلو بالأمر حين حوكم فهو محق بعض الحق فيما فعل.
لم يشعر الرجل الإنكليزي إلا وهو يتناول الخطاب ثانية، وأدرك القاضي للتو الكلمات التي يقرؤها الرجل فإذا به يهمس بها تلك الكلمات العذبة الصادرة من قلب يشعر بما للحرب من أهوال وفظائع، وكان نيرانها قد اشتعلت في أفق يومهما ذاك. كلمات ولده التي تقول (لم أر في حياتي من هو أكبر إقداما وأكثر شجاعة من ذلك العدو الشاب).
كفى مارلو تلك الكلمات وليحاكموه ما شاءوا. كفاه فخرا شهادة مثل هذه من عدوله لدود. عاد السكون بينهما إلا أن القاضي قال:
إنه لمن دواعي سروري حقا أن أضع بين يديك ما يزيل عنك وحشة وشكا مريبا عشت رحمتهما عشرين عاما كاملة، ولا أظن أحدا يمكنه أن يتهم ولدك بالجبن والخوف بعد الآن. فلمعت عينا الرجل برغبة حادة شعر بها القاضي فإذا به يقول:
لتأخذ ذلك الخطاب ولتفعل به ما تشاء.
فما كان من الرجل الإنجليزي إلا أن نهض واقفا وأمسك بالخطاب ثم أدناه من لهب الشمعة فاشتعل وسرعان ما تساقط الرماد. حدث ذلك وهما باقيان على صمتهما ونور القمر يرافقهما.
ولم يشعر إلا ويد كل منهما في يد الآخر. فقاما في صمت إلى الحجرة المجاورة وقد اشتبكت ذراعاهما. وأدار النظر فيها فقابلتهما صورة الكابتن هجنوير بقامته المديدة وابتسامته العذبة.
حسن فتحي خليل(726/53)
العدد 727 - بتاريخ: 09 - 06 - 1947(/)
كتابان قيمان
للأستاذ عباس محمود العقاد
سألتني مجلة (المصور) في أبان الحرب العالمية: ما هي الاتجاهات التي ستغلب على الحركة الفكرية في العالم بعد الحرب الحاضرة؟ فكان رأي أن الحركة الفكرية في العالم كله ستتجه بعد نهاية الحرب إلى وجهتين متناقضتين في الغاية متفقين في السبب، وهما النزعة الروحية الدينية، والنزعة الجنسية الحسية. وهما كما قدمت متناقضتان في الغاية ولكنهما متفقتان في السبب، لأنهما ترجعان إلى القلق الذي يعتور النفوس البشرية في أبان الزلازل العنيفة، ولم يزل من داب النفوس البشرية أن تعالج قلقها بطمأنينة الروح وثقة العقيدة، أو بإغراق الحس في المتعة الجسدية.
وندع العالم وحركاته الفكرية بعد الحرب لأنها مما يطول شرحه ولا يجزئ في بيانه مقال واحد.
ولكننا نلتفت حولنا في مصر فنرى مصداق ذلك في الوجهتين المتناقضتين معاً لهذا السبب بعينه. فأما النزعة الحسية فيكفى أن ينظر القارئ إلى الصور العارية التي تنشر في الصحف لغير مناسبة ليستدل منها على ما وراءها من النوازع النفسية، فإن شاء أن يتجاوز ذلك إلى قراءة الموضوعات التي تقترن بتلك الصور أو الروايات والأقاصيص التي تدور عليها علم أن المصدر واحد والتعبير بالحروف والكلمات يوافق العبير بالخطوط والأشكال وأما النزعة الروحية فهي واضحة في انتشار الجماعات الدينية والعناية بالبحوث التي تنصرف إلى حقائق الأديان والعقائد. وأمامنا منها الآن كتابان قيمان هما اللذان تخصهما بهذا المقال، وهما كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي، وكتاب (الوجود) للأستاذ محمود أبو الفيض المنوفي. وكلاهما بحث عميق في حقيقة العقيدة وسر الوجود على الإجمال.
1 - فصوص الحكم:
وقد قام على تصحيح كتاب الفصوص ومراجعته والتقديم له الدكتور أبو العلا عفيفي أستاذ الفلسفة بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية.
والدكتور أبو العلا عفيفي عالم ثبت متمكن من موضوعه. يعجب غاية الإعجاب بابن عربي صاحب الكتاب، ولكن إعجابه به لا ينسيه أمانة العرض وإقرار الحق في نصابه.(727/1)
فهويذ كرما للمؤلف وما عليه، ويقدره بميزاته الصحيح فيقول (إنه فليسوف آثر أن يهمل منهج العقل الذي هو منهج التحليل والتركيب ويأخذ بمنهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة والاعتماد على أساليب الخيال في التعبير. ولهذا لا أرى من الصواب إن نصف مذهبه بأنه مذهب فلسفي بحت إذا اعتبرنا التفكير والترابط المنطقي أخص صفات الفلسفة، ولا بأنه مذهب صوفي بحت إذا اعتبرنا الوجدان والكشف أخص ميزات التصوف، ولكنه مذهب فلسفي صوفي معاً، جمع فيه بين وحدة التفكير وقوة الوجدان) ولم ينس الأستاذ أن يشير إلى الكلام ناقديه بل مفكريه، ولا أن يشير إلى كلام المدافعين عنه والمتأولين لأحاجيه وألغازه، ولكنه كان اقرب إلى جانب الرضا منه إلى جانب السخط، ولو لم يكن كذلك لقال يه كما قال الذهبي انه (انعزل وجاع وفتح عليه بأشياء امتزجت بعالم الخيال والخطرات والفكرة وأستحكم ذلك حتى شاهد بقوة الخيال أشياء ظنها موجودة في الخارج، وسمع من طيش دماغه خطاباً اعتقده من الله. ولا وجود لذلك أبداً في الخارج).
وقد صدق الذهبي كما صدق الدكتور أبو العلا. ولكن الذهبي كان في صدقه اقرب إلى جانب السخط منه إلى جانب الرضا. ولا بد من الموازنة بين الجانبين.
ونحن مع اعتقادنا إن ابن عربي لم يكن بالفيلسوف المحض ولم يكن بالتصرف المحض، ومع إعجابنا ببعض سبحانه الروحية وشعورنا يصدق ما وصف به من طيش الدماغ - نعود فنقول إن الفلاسفة المتجردين للفلسفة في هذا الزمان لم يبلغوا فوق مبلغه من التفرقة بين اله العبادات وإله الحقيقة المجردة، وليس رأي (برادلي) الذي يعرفه الدكتور عفيفي جيد المعرفة من جملة أقواله في التفرقة بين الحقائق والمظاهر إلا صورة جديدة من رأي ابن عربي في هذا الكتاب بعينه وهو كتاب الفصوص.
ومهما يمكن شان ابن عربي بين الإعجاب والانتقاص فالحقيقة التي لا مراء فيها أن مذهبه مذهب يدرسه الباحثون ولكنه لا يصلح لجمهرة المتدينين. وحسبك أن رجلاً مثل ابن خلدون في سماحة عقله وسمة نظرة يقول بإحراق كتبه وكتب أمثاله ومحو أعيانها دفعاً للمفسدة. واحسبه لو عاد إلى مصر في هذه الأيام لما نجا من شدة المصريين في المحافظة، ولا جرم من عطف الفكاهة المصرية. فقد أوشك قديماً أن يقتل في مصر لو لم ينقذه الشيخ أبو الحسن الجائي الذي أبت عليه سليقة النكتة أن ينقذه من لذعاتها. فسأله: كيف يحبس من(727/2)
حل منه اللاهوت في الناسوت! فقال الرجل وهو لا يصدق بالنجاة: يا سيدي! قلت شطحات في محل السكر. ولا عتب على سكران!)
وليس العصر عصر إحراق الكتب أو تفنيدها بلغة النار والماء؛ ولكنه العصر الذي يحاسب الكاتب بحساب النقد والبرهان. ومتى حوسب ابن عربي بهذا الحساب ففيه ما يهمل إهمالا كالإحراق والإغراق، وفيه ما يفيد ويمتع العقول والقرائح. وخير ما يفيد من هذا الكتاب تفسيره لوحدة الوجود؛ لأنه اصلح من تفسيرات أخواته في هذه العقيدة ممن يقولون بتأليه الكون في جميع مظاهره المادية. فليس الوجود عنده إلا الوجود الحق الذي تحجبه هذه المظاهر المادية، وهو بهذا يقترب كل الاقتراب من عقيدة التوحيد.
2 - الوجود:
والكتاب الثاني الذي سماه السيد أبو الفيض المنوفي (بالوجود) هو الزم الكتب لمن يتوخى البحث العصري في وحدة الوجود وفي حقيقة الوجود على الإجمال.
وهو كتاب مدروس أو (مخدوم) كما يقال في اصطلاح المؤلفين. لم يصدر باللغة العربية كتاب يحوي ما حواه في هذا الموضوع، ولم يكن معول المؤلف فيه على المراجع العربية وحدها بل لعل اعتماده على مراجع الفلسفة الأوربية بين قديمها وحديثها أظهر من اعتماده على مراجعنا المعهودة. لأنه قصد فيه إلى إقناع المحدثين الذين يلهجون بفلسفة العصر وأساليبه ويعرضون عن القديم لقدمه من غير بحث فيه ولا اطلاع عليه.
وأجمل ما في الكتاب - وليس هو بالنسق النادر فيه - كلامه عن عالم العناصر الذي هو العالم البرزخي بين المادة والقوة، فمن هذا العالم البرزخي نتحقق (أن الشيء المنظور يتحول إلى غير المنظور ويصبح هو والفكر والروح في الخفاء سواسية. . . ولا نظن أنه يوجد فرق بين النور والقوة ألا في الألفاظ؛ لأن الطاقة يستوي فيها أن تكون إشعاعا أو حركة أو حرارة أو مغناطيس أو كهرباء أو غير ذلك، ولا فرق أيضا بين الحرارة والنور المنظور والنور غير المنظور ألا في طول الموجات وقصرها).
ومصدر الوجود كله على هذا النحو هو النور، ثم النور الإلهي وهو نشاط محض. ولا فرق بين الوجود والعدم ألا في خاصة (النشاط) الذي لا يقاس دائماً بمقياس المحسوسات. بل يتعداها إلى ما وراء الحس والعقل والخيال. . .(727/3)
هذان الكتابان - كتاب الفصوص وكتاب الوجود - هما من مظاهر النزعة الروحية التي توازن عندنا تلك النزعة الجسدية، كما تتمثل في الصور المثيرة والأقاصيص الماجنة والشواغل الحسية، وكفى بأمثال هذه المباحث عدلا كافياً للموازنة بين النزعتين. فإنها لدليل على يقظة الجانب الرفيع من ملكات الإنسانية بين المصريين وبين قراء العربية على التعميم. وما أحوجنا اليوم إلى اليقظة في هذا الجانب الرفيع!
عباس محمود العقاد(727/4)
بين أدب المرأة وأدب الرجل
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
(كاتبة هذا المقال الطريف سيدة عراقية حديثة قل في مصر نفسها من تضارعها في عمق الثقافة وسعة الاطلاع وأصالة الفكر. تلقت دروسها الثانوية في بغداد، والجامعة في بيروت، ثم سافرت إلى إنجلترا فتخصصت في التربية وعادت إلى بغداد فعينت بمدرسة الفنون البيتية. ثم رحلت مرة أخرى إلى إنجلترا في بعثة المعهد الثقافي البريطاني ورجعت بعد ذلك إلى التدريس وللأستاذة منيبة نشاط محمود في الخدمة الاجتماعية والنهضة النسوية والحركة الأدبية، نرجو أن تكون هذه المقالة فاتحة لتسجيل آثاره على صفحات الرسالة).
1 - أدب للرجل وأدب للمرأة:
يرى الناظر في كتب الأدب وتاريخه أن الكتاب اصطلحوا على تقسيمات وأنواع للأدب نحتوها من عصور الأدب أو من خصائصه بالقدر الذي يتعلق بعرضه لا بجوهره، فقال الأقدمون منهم مثلا وجود أدب جاهلي وأدب مخضرم وأدب إسلامي، وفصلوا الأخير منه بحسب ما حكم الأمة العربية أو بحسب ما تنقلت إليه الحكومات العربية من حواضر وبلدان، فوسموا بعضه بالأدب الأندلسي، وسموا بعضه بالأدب العباسي، وغير ذلك من التسميات التي استندت في الأكثر على هذه الاعتبارات التاريخية والجغرافية المحض. وأشاح المحدثون عن مثل هذه الاعتبارات لأن الفنون الأدبية تصاع إلى العوامل التاريخية بقدر ما تؤثر تلك الاعتبارات في مباني الألفاظ واتجاه التراكيب اللفظية وإيغالها في البداوة أو قربها من الحضارة مما يجعل فنونها في الأولى متعددة الألوان والأوصاف لا يخرجها عن الرثاء والمديح والعتاب والوصف والموشحات والغزل والتشبيب إلا بالقدر الذي عرف في تلك الفترة من مدلولات الألفاظ وتحكم العادات فيها. . . أعنى لا يخرجها عن القيود التاريخية كبير فرق، بينما تنعكس الحالة انعكاساً كبيراً في ضوء الأدب نفسه، فيتفرع عن هذا ألوان جديدة هي غير الرثاء والمديح والوصف والموشحات والغزل والتشبيب. . . فهي على هذا ليست موضوعات وإنما هي فصول وأبواب وأجزاء ومباحث تدخل فيها تلكم الموضوعات دخولا ثانوياً لا أقل ولا أكثر. فمن ذلك أن ينقسم الأدب غير انقسامه الأول إلى أدب واقعي ومثالي ورمزي أو إلى أدب صوفي ومكشوف أو إلى أدب مأساة وأدب(727/5)
ملهاة والى أدب تحليلي أو وجداني أو مسرحي، أو إلى أدب إبداع وأدب اتباع والى أدب فلسفي وقصصي، وأدب تبشير وأدب سياسة وكثير من غيرها مما يكبر عن التقسيم الأول ويطول عليه بسبب إن ذلك التقسيم صادر على سبيل الحصر وهذا صادر على سبيل الإطلاق.
وكما إن لذلك التقسيم أنصارا ومنتقدين فإن لهذا أنصارا ومنتقدين؛ وكما أن ذلك التقسيم على شدة وضوحه وتعين حدوده موضع لبعض الانتقاد ما دام يستمد فوارقه وضوابطه عن طريق التبعيض والتكتيل. . . فهو لا قبل له بما يضطلع به التقسيم الأساسي الذي يحتوي في بطونه وثناياه ألوان الأدب وأفاعيل الزمان وأشتات الموضوعات وأصناف الأبواب السالفة الذكر، ومن أجل ذلك أضحى لزاما أن يبدأ التقسيم هذا من مبدأ الأمر ليدخل في كل قسم سائر ما في هذه المقدمة وغيرها من التفاصيل، وعلى أن يكون التقسيم من الناحية الثانية معترفاً به دون جدال فما هو يا ترى؟ اهو الأدب الحزين والأدب المرح؟ أهو الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي؟ الجواب على هذه جمعياً (كلا) بل هو - أدب المرأة وأدب الرجل - وفي اللحظة التي نقرر فيها هذا التقسيم نرى انه استوعب تقسيم الأوائل والأواخر بدون استثناء، كما انه احتوى مادة لا تنضب من عصارة الأدب، فاحتوى خصائص ينفرد بها أحد النوعين، واحتوى بالإضافة إليها ما يسود النوعين على حد سواء، فينصرف تارة إلى ما يتعلق بتراث المراة، وينصرف أخرى لتراث الرجل.
وبعد فلئن صح الأدوار التاريخية من جاهلية وإسلامية، وأدوار الحكم الإسلامي من أموي وعباسي وأندلسي، قد فرقت أنواع الأدب بعضها عن بعض، فإن تلك الأدوار ذاتها قد أثرت تأثيرات متفاوتة في الرجل والمرأة، فجاء أدبهما جد مختلف ولو في دور واحد لفرط ما أثرت عوامل الدور الواحد في كل جنس دون صاحبه، فجاء أدب المرأة منذ اقدم عصوره اصدق أنباء واكثر انطباقاً على الواقع، وتكفل أدبها بإسباغ الألوان الحسان والدقة البالغة والجمال الرفيع على أدب الرجل، وأضحى بعد ذلك يحمل راية الآباء والأنفة والشمم. وجاء أدب المرأة يشد من أدب الرجل ليجعل منه اكثر موافقة ومسايرة للزمن، وليهب نشاطه الفكري والاجتماعي، ويأخذ من الصراحة بنصيب، ومن التلميح بنصيب، مما قد لا يدركه الرجل على وجهه بعد أن أثملته الفتوح وبهرت عينيه ثروات الزمان في(727/6)
قبضة يده يصرفها كيف أراد. وجاء أدب المرأة للعقل، وأدب الرجل للعاطفة، عندما تطيش الحلوم، وتراش السهام، ويدبر المنطق وتقبل بدوات الثأر، وتغرورق العيون من رثاء أو عتاب أو ثكل، فيعمل الرجل بعاطفته ويفكر بقلبه، وتسكت هي بفكرها وتتكلم بعقلها فتتم نقصه وتضفي على أدبه اللون القوى العتيد الذي يعوزه. وجاء أدب المرأة بعد هذا لحسن حظها فاقداً بعض الحلقات الموفورة في أدب الرجل، فليس فيه التعريض ولا رمى المحصنات الغافلات، ولم يحو التشكك ولا التجني ولا الوسواس، ولو حوى بعضها جدلا لما كانت من العمق والغور والإثم بالقدر الذي احتواه نتاجه. وجاء أدب المرأة كذلك منحدراً عن أساتيذ لم يعرفهم الرجل، فقد انحدار بعضه عن تعدد الزوجات وأحاسيسها، والطلاق وظله الثقيل، والحجاب غير الشرعي، والجهل والأمية المفروضة، وزحمة المسترخصات من الجواري والقيان المزاحمات للبيت الشريف والزوجية المقدسة، والعضل.
وجاء أدب المرأة متجهاً غير اتجاه أدب الرجل ومتأثراً بهذا العصر وفنونه وعلومه وخصائصه تأثراً غير تأثره، وهذه كلها أبحاث سنقوم على شرحها والتمثيل عليها وإثباتها في حلقات هذه السلسة حتى تستقيم منها دراسة لموضوعنا قائمة على أسس غير ما تعارفه بحاث الأدب حتى الآن.
هذه الفروق التي ذكرتها تتوفر في كل فن من فنون الشعر ولكنها أول ما تتوفر في الوصف؛ فانظروا كيف تكون.
قال الشاعر الفلاسفة أبو العلاء المعري في صباه:
عللاني فإن بيض الأماني ... فنيت والظلام ليس بفان
إن تناسيتما وداد أناس ... فاجعلاني من بعض من تذكران
رب ليل كأنه الصبح في الحس ... ن وإن كان أسود الطيلسان
ويقول فيها وهو من رائع القول:
ليلتي هذه عروس من الز ... نج عليها قلائد من جمان
وكأن الهلال يهوى الثريا ... فهما للوداع معتنقان
? ثم شاب الدجى وخاف من الهج_ر فغطى المشيب بالزعفران
هذا من وحي الصبا؛ وأروع منه عندي قول جحناء بنت نصيب وقد افتر الضحى عن(727/7)
نهار بسام وجاءت مع أبيها نصيب فأنشدت المهدى الخليفة العباسي هذا الوصف على قافية شاعر الفلاسفة ووزنه وقصيدته ومعناها:
? رب عيش ولذة ونعيم=وبهاء بمشرق الميدان
? بسط الله فيه أبهى بساط=من بهار وزاهر الجوزان
ثم فيه من ناضر العشب الأخضر وتزهو شقائق النعمان
? مده الله بالتحاسين حتى=قصرت دون طوله العينان
? حلفت حافتاه حيث تناهى=بخيام في العين كالظيلمان
? زينوا وسطها بطارمة مث_ل الثريا يحفها النسران
? ثم حشو الخيام بيض كأمثا_ل المها في صرائم الكثبان
? يتجاوين في غناء شجي= (أسعداني يا نخلتي حلوان)
? فبقصر السلام من سلم الله=وأبقى خليفة الرحمن
? ولديه الغزلان بل هي أبهى=عنده من شوارد الغزلان
? يا له منظراً ويوم سرور=شهدت لذتيه كل حصان
أحاط المعري ما وصف بتعقيد، وأشاح عما يصف إلى ما يصوغ به الوصف، وجاءت هذه الشاعرة بالقول سافراً، ووضعت فيه تفاصيل البناء، واقتبست غناء المغنيات، ودعت للخليفة، ولم يفتها في وسط هذه الفتنة أن تجعل اللذتين لذة المناظر ولذة السرور مقصورة على الحصان من النساء فأفردت بذلك غريماتهن من المسترخصات على أنهن لهو وعبث ومتاع، فلا لذة لهن من هذا القبيل. أليس هذا بعد الذي أوضحت اصدق أنباء واكثر بياناً وتبياناً؟
وليس هذا في مجال الوصف فقد يصف الشاعر المفلق الذي طبقت شهرته الآفاق مشهداً محزناً فتفوقه بذلك شاعرة ليست لها شهرته وليس لها طول باعة.
هذا الشاعر ابن الرومي، والمشهد المحزن هو موت ولده، والشاعرة امرأة لا اسم لها، ومنظرها المحزن موت ولدها في سفرها معه.
هذا ابن الرومي يقول وأروع ما يقول هو:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي ... فلله كيف اختار واسطة العقد(727/8)
ألح عليه النزف حتى أحاله ... إلى سفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط روحه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
ويناجيه فيها بقوله:
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الرند
إذا لعبا في ملعب لك لوّعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
وتقول هذه المرأة:
? ما كان إلاّ أن هجعت له=ورمى فأغفى مطلع الفجر
? إذ راعني صوت هببت به=وذعرت منه أيما ذعر
? وإذا منيته تساوره=قد كدَّحت في الوجه والنحر
? وإذا له علق وحشرجة=مما يجيش به من الصدر
? والموت يقبضه ويبسطه=كالثوب عند الطي والنشر
? فدعا لأنصره وكنت له=من قبل ذلك عُدة النصر
? فعجزت عنه وهي زاهقة=بين الوريد ومدفع السحر
? فمضى وأي فتى فجعت به=جلت مصيبته عن القدر
? لو شاء ربي كان متعني=بابني وشد بأزره أزري
? بُنيت عليك بُني - أحوج ما=كنا إليك - صفائح الصخر
أي إعجاز هذا؟ لقد وصفت الحشرجة والنزع والوفاة وعادت وهي أشد ما تكون لوعة إلى صوابها وعرفت أن ربها اختار لها هذا فكانت اصدق أنباء وكانت أكثر دقة وكانت قصيدتها للعقل والإيمان.
2 - صراحة أدب المرأة:
إن الصدق في الأنباء والدقة في التعبير إنما يجيئان من توفر الإنسان على ما هو في سبيله من الشان والنظر إليه من ناحية الواقع المجرد، وذلك حال المرأة في تلك العصور، فإن انكبابها على ما هي بسبيله، وقصورها عن مجاراة الرجل في مجال نشاطه خارج البيت، أتاح لها أن تتوفر على الموضوعات التي تضطلع بها غير توفره، وتصدر فيها عن حكمة وروية غير حكمته ورويته التي أبطرتها كثيرا التوسعات العسكرية، والفتوحات، وسلطان(727/9)
الحكم والظفر، وهكذا كان الرجل يفتقر إلى مقطوعات من أدب المرأة تعمر بها جهاته وتكفكف غلواءه؛ فلقد وجدت السيدة زبيدة زوج الرشيد لزاما عليها أن توصي علي بن عيسى وقد أمره الأمين بالشخوص لقتال المأمون بالوصية التالية التي تعتبر وثيقة خطيرة في السياسة فضلا عن كونها قطعة رائعة من الأدب فتقول له: (يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي، فإني على المأمون منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ولدي ملك نافس أخاه في سلطانه فاعرف لعبد الله - المأمون - حق ولادته واخوته ولا تجبهه بالكلام فإنك لست نظيراً له، ولا تقتسره إقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد أو غل، ولا تمنع عنه جارية أو خادماً، ولا تعنف عليه في السير، ولا تسايره في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه إذا ركب، وإذا شتمك فاحتمل منه).
بهذا القدر من الحدود وضعت السيدة زبيدة قائد جيش ولدها الأمين الذاهب لمقاتلة المأمون غريمة على العرش. . . وبهذا الخطاب الرائع كبحت سورة نفسه وأعلنت أدبها المتجاوب الأجزاء المتماسك الاطراف، واعربت عن سموه. بهذا الأمر السامي أثبتت إن أدب المرأة للعقل لا للعاطفة، وانه صادق في الأنباء، وبهذه الوصية الدقيقة المحددة وضعت سياسة العقيدة التي تدين بها بقولها (وان كان ولدى، واليه انتهت شفقتى، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه. . .
وليست السيدة زبيدة وحدها ذات المقام المرموق في السياسة والأدب، ولا عقيلات الخلائف أو بنات القصور، بل قد يتوفر هذا الضرب من الكلام الحكيم والرأي الثاقب في فتاة من عامة الناس لا صلة لها ببلاط الملك ولا سلطان الحكم مما يؤيد أن المسألة إنما هي أدب المرأة على أشد ما يكون الإطلاق شمولا.
قصة امرأة من الخوارج أرسلت أسيرة للحجاج بها وهي تعرف من ستقابل، وقيل لها وهي في طريقها إليه: (أي أم علقمة والله لو وافقته في المذهب لنجوت من أذاه) فقالت: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين).
وجاءت ديوان الحجاج وقد استحال كل ما فيه إلى وجوم، ووقفت وهو جالس فأنتهرها قائلاً: (لقد خبطت الناس بسيفك يا عدوة الله خبط العشواء). فقالت: (لقد خفت الله خوفاً صيرك في عيني أصغر من ذباب) وكانت منكسة. فقال: (ارفعي رأسك وانظري إلى)(727/10)
فأجابت: (أكره أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه). فقتلها.
(البقية في العدد القادم)
منيبة الكيلاني(727/11)
القسم الثالث
فرنسا ومستعمراتها
للأستاذ أحمد رمزي بك
إن العالم الإسلامي في يقظته وفي كفاحه مع الاستعمار البريطاني والأوربي والصهيوني يواجه ثلاث هيئات اتحادية: الاتحاد السوفيتي في الشمال والاتحاد الفرنسي في المغرب والاتحاد الهندوكي في الهند. وكل اتحاد منها يعطي لنفسه مظهر حركة تقدمية يصبغها بصبغة التحرر ويريد كل منها أن يقنع العالم أن هذا الاتحاد أو الضم جاء وليد إرادة شعبية، وإنه في مصلحة هذه الأمم وفي الهند يأخذ الاتحاد شكل حركة قومية كبرى. ولو كان الأمر قاصراً على المناطق التي يسود فيها الروس والفرنسيون والهندوس لما أثار ذلك اعتراض أحد من الناس.
ولكن الباحث المدقق لا تغريه الألفاظ والمظاهر، إذ يتبين له أن كلا منها ينتزع أقطارا شاسعة ويحاول أن يضم أمما إسلامية لا تمت بصلة إلى الاتحاد الذي يفرض نفسه فرضاً عليها ولذلك لا تلبث أن تنكشف حقيقة هذه الأنظمة الاتحادية حينما يتعلق الأمر بمستقبل الشعوب الإسلامية وحريتها، إذ تبدو لنا هذه الأنظمة في ثوب قوات رجعية تعسفية، لا تمنح للمسلمين حريتهم وحقهم في تقرير مصيرهم، بل تجعل للتحكم والسيطرة والاستغلال الاقتصادي شكلا جديداً براقا لا يغتر به إلا الواهمون.
فالاتحاد الفرنسي يحاول بقوة التشريع ضم أراضي شمال أفريقية وسكانها وهم اكثر من عشرين مليونا، لهم تاريخهم وثقافتهم وشخصيتهم، وبدون أن يسمح لهم بإبداء رأي في هذا الاتحاد، والاتحاد السوفيتي يضم اكثر من أربعين مليونا من المسلمين الآسيويين لا يسمع لهم صوت ولا يسمح لهم بالاتصال بالعالم الخارجي، والاتحاد الهندي يمنع إنشاء دولة الباكستان الإسلامية ولا يسلم بها.
ولا يمكن للعرب في أفريقيا والمسلمين في آسيا قبول وضع من الأوضاع يجعل منهم أقلية في بقعة من بقاع الأرض: لأن تجارب الماضي كانت شديدة الوقع عليهم، ولذلك فهم لا يسلمون للأقدار أن تتحكم فيهم مرة أخرى، ثم هم أصحاب مجد وتاريخ وصوله على هذا الكوكب الأرضي، وهو تاريخ حافل بأيام العراك والكفاح والنصر والهزيمة وهو في قوته(727/12)
وبروزه وأثره لا يمكن أن يقارن بتاريخ أي أمة من أمم الأرض مهما علا كعبها في الحضارة، وقد ألقى علينا هذا الماضي درساً قاساً لا يمكن أن ننساه، فنحن قد فقدنا ملايين من العرب في إسبانيا وجزائر صقلية وسردينيا وكريت ومالطة، كانوا عرباً دخلوا هذه البلاد واستوطنوها، ثم زالت أيامهم فادمجوا بالسيف في جنسيات واديان اخرى، ولا تزال دماء العروبة في عروقهم إلى اليوم، وهناك ملايين من المسلمين كانوا سادة في القرم ورومانيا والبلقان فأين هم اليوم؟ انهم يوم أن اصبحوا أقلية أفناهم الظلم والاستبداد.
ولهذا فكل اتحاد يفرض بالقوة على أقطار المغرب وشعوبه العربية، ويحول بينهم وبين جامعتهم هو حركة استعمارية رجعية تعسفية تستهدف إفناء العروبة والإسلام والوقوف أمام نهضة الشعوب العربية في مراكش وتونس والجزائر وإضعافها كقوة فعالة في تاريخ العالم. ولذا وجب على كل فرد منا أن يفهمه على حقيقتها وأن يشعر بالأخطار التي تهددنا من هذه الناحية، وأن نحشد كل ما لدينا من القوى الروحية والعقلية للوقوف أمامها حتى يشعر العالم اجمع انه ليس في عزمنا نحن معاشر الأمم الإسلامية والعربية أن نفنى بهذه السهولة من الأرض فتذهب ريحنا لدى الصدمة الأولى.
ولقد عرضنا في القسمين المتقدمين لمصاعب الاستعمار الفرنسي ولمسنا تأخره عن ملاحقة العالم، وكشفنا عن إفلاس - فرنسا كدولة حاكمة، وقلنا أن هذه الأمور جهر بها كتاب الغرب وسلم بها الفرنسيون أنفسهم أو فريق منهم، وكنا نقدم للقارئ ما يجول بنفسية الفرنسيون من آمال وسط هزائمهم وبعد أن ظهر للعيان تقصيرهم، وكنا نرمي بهذا أن نضع الحقائق مجردة أمام القارئ حتى يكون على علم بأقوال الخصم، وما يدخلها من غرور ووعيد وغايتنا من ذلك أن يفهم العالم العربي إن محاربة الاستعمار ستستلزم الوقوف على أساليبه والإلمام بطرقه وأن الدول الغاصبة مهما كانت سياستها غاشمة ومع ما بين أيديها من وسائل القمع، تحاول أن تفرغ هذه السياسة في قالب يقبله العقل ويسلم به، فعلى الذين نصبوا أنفسهم على الحقائق وأن كانت مرة ليتسنى لهم تحقيق ما رسموه لأنفسهم ومبادئهم من أهداف.
والدول الاستعمارية لا تفهم ما نقرره لأنفسنا بل لا تسلم به، وإنما لديها المنظمات التي توافيها بكل صغيرة وكبيرة عنا، وهي لا تنوي أن تتنازل عن أملاكها ومستعمراتها أو(727/13)
تفرط في حق من حقوقها، إلا بالقدر الذي تنزعه الشعوب منها، وهذه في تقدمها وسيرها نحو الوعي القومي واليقضة تؤمل في أن تتشبع بالحقائق، حتى لا تذهب جهودها وضحاياها هباءً، ثم هي تروم أن تحقق لها مجداً وأن تسير في طريق التحرر والخلاص وأن تعالج مشاكلها على ضوء العلم ووضع الأمور في نصابها، فعلى المتصدرين للحركات العامة أن يهيئوا أنفسهم للقيادة، ولا يكون ذلك بغير العلم والبحث والدرس، وتتبع الدول الاستعمارية والكشف عن أغراضها ومراميها والوقوف موقف الحريص على حقوق هذه الشعوب بل موقف المتيقظ للدفاع عنها أمام الضمير العالي.
وقف في القرن الماضي بعض كتاب الإنجليز يتحدثون عن أعباء الرجل الأبيض ومسئولياته إزاء الشعوب المحكومة فقالوا انه يحمل عبئاً ثقيلاً هو قيادة هذه الشعوب نحو الحضارة والتقدم، وفي نفس الوقت أطلق كتاب أوروبا على دولة آل عثمان اسم رجل أوروبا المريض. فمن كان ينتظر بعد مضي سنوات أن تتبدل أحوال الكون وأن تصبح الأوضاع مقلوبة؟ فإذا بالإمبراطورية الفرنسية هي الرجل المريض الذي تخشى الدول الغربية وفاته، وإذا من أعباء الرجل الأبيض ممثلا في الحكومات الانجلوسكسونية بريطانيا وأميركا؛ حماية إمبراطورية مريضة في حالة النزع، والمحافظة على وحدتها، وأحياناً مجاملتها على حساب حرية الأمم المغلوبة على أمرها.
إن الأسلحة والمعدات الحربية التي تسلمتها من هذه الدول لم تستعملها في قتال الألمان وتحرير البلاد منهم، وإنما وجهت إلى صدور الشعوب المظلومة في مدغشقر والهند الصينية، وهذ1 العتاد سيستعمل يوما ضد أمم العروبة في المغرب فما الثمن الذي قبضه الرجل الأبيض؟: هو تحطيم السور الفولاذي حول المستعمرات أمام نشاطه وفتح حدودها واعتبارها أسواقا تجارية له، وماذا كسبت فرنسا الأم الحنون؟ كسبت المجد الدائم وهو أن تمر العمليات بطريق باريس بدلاً من أن تتجه رأسا إلى أراضي المستعمرات وفي سبيل ذلك يسلم الرجل الأبيض ببقاء فرنسا مدة أخرى في شمال أفريقيا محتفظاً لنفسه بحق الرجوع مرة ثانية إليها أما لتحريرها أو للمساعدة في تهدئتها.
في الوقت الذي كان رجال فيشي يفضلون فيه التضحية بأرض من فرنسا محافظة على وحدة أملاكهم الأفريقية، كان الفرنسيون الأحرار يفكرون تفكيرا استعمارياً من نوع آخر،(727/14)
فقد عقدوا قبل نهاية الحرب مؤتمراً لهم في مدينة برازافيل بأفريقية جمع عدداً من حكام المستعمرات تبادلوا الرأي فيما بينهم واتخذوا قرارات بشأن سياسة المستقبل بعد أن استعرضوا مسائل هامة: منها العمل على رفاهية السكان الوطنيين ورفع مستواهم المادي مع تحسين حالتهم الاجتماعية والفكرية وعرضوا لمسائل التعليم واثر الدين وتوزيع العدالة، ثم بحثوا مسائل الحكم الذاتي والإدارة المباشرة وغير المباشرة، واتخذت قرارات سرية نحو وحدة الإمبراطورية والسير بها في طريق الاتحاد الفرنسي، وهذه القرارات هي التي نقلوها معهم إلى الجزائر وادمجوها في مشروع الدستور الجديد، فعلى الذين يدوسون هذا الاتحاد أن يرجعوا إلى البحث قرارات هذا المؤتمر الاستعماري وسنأتي على شيء من ذلك في القسم التالي.
أحمد رمزي(727/15)
في بلاد العرب:
من دمشق إلى (دير الزور)!
(تحية إلى إخواني هناك وتلاميذي)
للأستاذ على الطنطاوي
إلى دير الزور. . .
استعدوا يا سادة، فقد أزف الرحيل، وشدت الأهداج، فودعوا الأحبة والصحاب إن كنتم تطيقون الوداع، وخذوا طريقكم إلى (المرجة) ففيها الموعد الفجر، وأسرعوا لا يشغلكم جمال الغداة، ولا سحر السحر، وإن ملأ السماء والأرض والنفس خشعة وفرحة وبهاء، فحرام على ذي الأعمال، أن يفتنه عنها الجمال. . .
ها نحن أولاء في (المرجة)، وها هو ذا صوت المؤذن يمشي في الفضاء مشى البرء في الأجسام، والطرب في الأعصاب، فيكون لهذه الدنيا نوراً وطهراً وعطراً، وها نحن أولاء نصلي الصبح في (جامع يلبغا) الذي سرق نصفه العثمانيون فجعلوه مدرسة، كان الأرض قد ضاقت بالمدرسة حتى ما يتسع لها إلا الجامع، كان اللصوص لم يكونوا حداقاً، ولم يستطيعوا طمس الآثار، فنسوا (المئذنة) لم يسرقوها فلبثت قائمة تشهد عليهم، كشهادة (منار سوق الغزل) على أهل بغداد، انهم سرقوا (المسجد الجامع) الذي كان قطب الأرض، واكلوه، وادعوه انهم ما رأوه. .
وها نحن أولاء نخرج فنرى السيارة وعليها الأحمال، ولكن ما لها لا تمشي؟ ألم بأن الأوان؟ ألم يؤكدوا لنا إن الرحلة الفجر؟ لقد مضت نص ساعة، ومضت ساعة، وملأت الشمس الدينا، وامتع الضحى، وهي واقفة، ترقب أحد البكوات حتى يصحو وتفرك الجارية رجليه ويغتسل ويأكل ويبس ويجيء مبتخترا. .
فلماذا ذا منعونا نحن المنام، وألزمونا الحضور في الغلس، في برد كانون، وفر الليل؟ وما هذه الخصومات والمعارك، وهذه الألفاظ الوسخة التي يقذف بها السائق ومعاونوه في وجوه الركاب، لأنهم طالبوا بحقهم وأبوا الظلم؟ وما لشركة (نرن) الإنكليزية تسير سياراتها كما تسير عقارب الساعة، لا يسبق عقرب ولا يتأخر ولا يقفه شيء؟ اكتب علينا أن نظل أبدا(727/16)
أهل خلف في المواعيد، وكذب في الأحاديث، وفوضى في المعيشة، لا نحن اتبعنا ديننا، دين الصدق والنظام، ولا نحن قلدنا الأوربيين في فضائلهم؟ ما قلدناهم إلا في الرذائل والموبقات!
لقد دنا المسير، و (رغت) السيارات، فاستنجدوا بقرائحكم لتسعفكم بالقول المحلى واللفظ المعسول، واعتصروا العيون واستمطروها الدمع، فما يحلو بغير الدموع الوداع، وما وصفه شاعر إلا (زعم. . .) أنه بكى، فكأن الشعراء. . . إذا أزمعوا وداعاً وضعوا البصل في عيونهم. . . وإلا فكيف تجود بالدمع عند كل طلب كأنها (حنفيات) الحمام، أو كأنها مقل الحسان؟ وخذوا مقاعدكم قبل أن يشتد الزحام. ولكن من أين ندخل وهذه السلال والصرر والحقائب بين الأرجل ووسط الممرات؟ وما هذا الضيق في المقاعد؟ هل هي رحلة دقائق من دمشق إلى دمر، أو من مصر إلى المعادي؟ إنها رحلة يوم كامل بليله واكثر نهاره أفنمضيه محبوسين في هذا الصندوق، مقيدين بالأصفاد، لا نستطيع أن تحرك بداً، ولا نمد ساقاً، ولا نتلفت؟ أنقاوم الشركات الأجنبية ونحاربها بمثل هذه السيارات؟
يا قوم إنكم بمثل هذا تجعلون الناس يترضون عن الاجانب، ويلعنون لأجلكم كل شيء وطني!
لقد جرت السيارة وباسم الله مجراها ومرساها، ها هي ذي تخترق شارع فؤاد الأول، وتقطع شارع بغداد أفخم شوارع دمشق وأطولها، الذي فتح من ربع قرن ولم يبين فيه إلا خمس بنايات، لأن البلدية أرادت عمران دمشق، فوضعت للبناء فيه شروطاً لا يمكن معها البناء، إلا إذا قامت حرب عالمية ثالثة، وصار كل الشاميين لصوصاً أي (أغنياء حرب). . .
لقد بلغنا (جسر تورا) فودعوا دمشق بنظرة أودعوها حبة القلب، وقراره اللب، فما تلقون إذا فارقتم دمشق مثل دمشق، واين؟ اين مثل فتونها وسحرها؟ وأين مثل تقاها وطهرها؟ أين قبة تنطح النجم كقبتها؟ أين في الأرض غوطة كغوطتها؟ اين نهر يسيل شعراً وذهباً كبرداها؟ أين مثل ربوتها وشاذرانها ومزتها وميزانها؟ أين في الدنيا ربيع كربيعها، وزهر كزهرها، وثمر كثمرها، وكروم ككرومها؟
تزودوا منها بالنظرات تكن لكم في طريقكم زاداً وفي غربتكم آنسا. . .(727/17)
هذه (دوما) قصبة الغوطة فيها خمسة وعشرون ألف ساكن قل فيهم من يتفرغ للعناية بدار لذلك ترون دورهم زرية منخفضة السقوف، ضيقة الابواب، وقل فيهم من يعتني بثوب أو يحرص على علم، ما لهم هم إلا الزراعة فهم اقدر خلق الله عليها، أصبرهم على مكارمها، لأنهم يشتغلون لأنفسهم وذراريهم، لا لـ (بك) من البكوات، ولا لخواجة من الخواجات، وقل فيهم من لا يملك قطعة من الأرض ولو صغرت، يعيش بها ولها ويموت عنها، ليس فيهم أسرة يستعبدها الملاك هذا الاستبعاد (الحر). . .
ويظلمها هذا الظلم (القانوني). . . فينظر إليها كما ينظر إلى حميره وأبقاره، ويعاملها معاملتها، فيسكنها في مثل زرائبها، ويطعمها قريباً من طعامها، ولا يراها أعلى قدراً منها، يشغلها السنة كلها تكد وتشقى، لتقدم له ثمن سكرة من سكرانة، أو ليلة (حمراء!) من ليلاته، تريق عرق جباهها على أقدم عشيقاته، وتبذل حياتها ابتغاء مرضاته، ثم لا تنجو من غضباته ونزواته!
أنها أرضهم هم، وهم أصحابها، ولذلك ازدهرت أينعت حتى صارت اجمل أرض في الوجود. فانظروا إليها من حولكم، إلى هذا البحر يموج بالأشجار، تتمايل أغصانها، وتتعانق افنانها، تتوجها إذا جاء الربيع ألوان الزهر، فتكون ابتسامة الزمان على فم الثرى، وتثقلها إذا حل الصيف أنواع الثمار، من المشمش عشرين نوعاً، حبة كالتفاح استدارة وبهاء لا كمشمش مصر الذي يشبه في صغره حب الخردل، ومن التفاح أربعين نوعاً، والكمثري عشرين، والعنب خمسين نوعاً معدودة عداً، والدراق والخوخ والجانرك والسفرجل والجوز واللوز والتين والزيتون أنواع شتى وأشكال، وإلى السواقي تسعى فيها تحمل الحياة من بردي إلى هذه الأرض المباركة، يميد على حوا فيها الحور ويرقص الصفصاف، وتنساب عروق البطيخ والشمام والقثاء والخيار، وتضحك من حولها حقوق القمح، ومزارع (الخضار. . .).
هذه هي الغوطة: بستان واحد، مساحته اكثر من ثلاثمائة مليون متر مربع، متصل الظلال، متلافي الاغصان، كل شبر منه ثروة وجمال، وكنز لا ينفد على الإنفاق.
لقد جازت (السيارة) دوما، فانظروا إليها فقد كادت تختفي مناراتها، كما اختفت دمشق إلا جبليها الخالدين، قريعي الدهر حليفي الخلود: قبة النسر من الأموي، وهامة الصخر من(727/18)
قاسيون. وهذي كروم دوما، يضل البصر في رجاها ويقصر عن مداها، فيها (العنب الدوماني) الذي سارت بذكره الركبان، فمن لم يأكل منه لم يأكل عنباً إلا على المجاز. . .
ولكنكم مررتم بالغوطة وكرومها في الشتاء، فدهشتم وما رأيتم إلا حطبها، فكيف لو جزتم بها الربيع فشاهدتم البهي من زهرها، أو سلكتموها في الصيف فجنيتم الشهسي من ثمرها؟ إذن لقلتم: لا رب إلا الله، ولا بستان إلا الغوطة!
لم يبق الآن أمامكم إلا الصحراء، ولكن هذه الصحراء كانت يوماً من الأيام سهولا ممرعة، وكان أكثرها منازل عامرة وكانت تفيض بالخيرات وتزخر بالظلال، أيام الملوك الغر العبشمين سادة الدنيا، بني أمية، الذين حملوا راية الإسلام إلى أقصى المشرق وإلى أقصى المغرب، من أطراف الصين إلى أواسط فرنسا، فنصبوها على قبة الفلك، ودعموها بالعدل والنبل والفضل، فما كانوا فاتحين كالفاتحين، يغلبون بالقوة، ويملكون بالسطوة، فإن زالوا زالت آثارهم، ولكن كانوا مجاهدين، وكانوا بانين، وكانوا عبقريين، فجعلوا هذه البلاد كلها إسلامية عربية إلى يوم القيامة. وكان لهم الفضل على مسلم، في هاتيك الأقطار حتى تقوم الساعة، رحمهم الله وغفر لهؤلاء المؤرخين الذين حاولوا أن يتقربوا إلى أعدائهم بإطفاء هذه الشمس التي بهرت العيون، فجمعوا غبار الطرق وجعلوا ينفخونه عليها حتى تمزقت صدورهم، والشمس ساطعة لم تنطفئ، ومن ذا يطفئ نور الشمس في راد الضحى؟
رحمهم الله، فقد جعلوا هذه المدينة لما نزلوها سيدة المدائن، ورفعوا قدرها حتى ذات لها نهاوند ودانت قرطبة وخضعت سمرقند وطأطأت لها القسطنطينية، فأضعنا نحن من بعدهم عزها. أن الأرض تعمر أبدا وبلادنا تمشي إلى الهراب، إنكم ستمرون الليلة على المدينة التي قارعت روما يوم كانت روما عاصمة الأرض، ونازعتها مجدها وسلطانها، فلا ترون في مكانها إلا قرية اسمها (تدمر)، أفرأيتم كيف نمشي إلى الوراء؟ إن ديار الشام التي يسكنها اليوم بساحلها وداخلها، وشمالها وجنوبها، خمسة ملاين كان فيها يوماً من الأيام خمسة وعشرون مليونا. وكان في العراق مدينتان متجاورتان، في كل منها مليونان، وأهل العراق كله اليوم خمسة ملايين. وإن بين هاتين المدينتين اليوم على الطريق جسراً قائماً في الفلاة، كان تحته نهر اسمه دجيل ملأ الشعراء بذكره الأسماع، يسقى مدينة اسمها حربى زخرت بأخبارها صحف التاريخ، فمحيت المدينة وجف النهر ولم يبق إلا جسر قائم في(727/19)
الفلاة. وكان في البصرة عشرة آلاف قناة، فلم يبق فيها اليوم إلا مائة وثمانون قناة.
نعم لقد عدنا إلى الوراء ولكن عهد التأخر قد انقضى.
لقد وقفت القافلة تجمع شتاتها، وتعد عدتها، لتمشي في طريق المجد كما مشى الأجداد. . .
لقد عرفتنا المصائب في فلسطين والمغرب ومصر والشام، إن الطريق من هنا: إلى المشرق. . . من الشرق يطلع فجر الخلاص، أما الغرب فلا يجئ منه إلا ليل الظلم وسواد الاستعمار. . .
هذه حقيقة تدرس في المدارس الأولية، ولكن في الناس جهلاء لم يتعلموها بعد!
يا إخواننا. أن هذه السفرة ستعلمكم الصبر. إنكم ستتحدثون حتى تملوا الحديث، وتسكتون حتى تكرهوا السكوت، وتأكلون حتى تعافوا الاكل، وتجوعون حتى تشهوا الطعام، وتنامون حتى تشبعوا من المنام، وتستيقظون حتى تتمنوا الهجوع، وانتم محبوسون في هذا الصندوق، مصفدون بالاغلال، فأين هذا من رحلات الأجداد على الإبل، يستمتعون بالحرية والانطلاق والتأمل؟ تقولون إنكم اختصرتم الزمان. . . وماذا اختصار الزمان، إلا الإسراع إلى القبر؟
إنكم تشكون والسيارة تمشي لكم على الطريق الآهلة، وانتم قعود تأكلون وتشربون، ففكروا في بطل الدنيا سيف الله (خالد) وصحبه: كيف قطعوا هذه البادية على الإبل لا يمشون على طريق ولا يجدون ماء ولا زاداً كافياً، والعدو محيط بهم، فلما وصلوا إلى الشام لم يغتسلوا ويمدوا أرجلهم. . . ولكنهم نازلوا جنود سيد الكتائب قيصر، وانزعوا منه الظفر، واخذوا منه البلاد، فبقيت خالصة لامة محمد، لن تغدوا لغيرهم أبدا، لا للإنكليز ولو غلبوا عليها حيناً، ولا لليهود، ولا للأمريكان. . . أولئك هم الرجال حقاً!
وبعد فهذي هي الدير، تبدو مناراتها من وراء البادية، كما تبدو الميناء من وراء البحر، فحث المطى يا أيها السائق، واسقها (البنزين)، فقد مل السفر، ونفذ الصبر، واشتد الشوق. . .
وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام
هذى هي الدير قد وضحت، آفلا تحسون إنكم مقبلون على مدينة عراقية، أليس لمنارتها رشاقة مآذن بغداد، وإن لم يكن لها ثوبها المزركش الذي تخطر فيه، وتاجها الذهبي الذي(727/20)
تميس تحته أليس فراتها هو الفرات الذي يجري في العراق وإن لم تزن كتفيه الروابي المخضرة، ولم يستنقع فيه النخيل، ولم تمرح على صفحته الزوارق الشعرية، ولم يؤكل في القهوات المطلة عليه السمك المسقوف؟ هذي هي الدير، فدعوني يا رفاق أفارقكم لأحدث القراء (حديث الدير). . . فإن فيهم من لم يسمع من قبل باسمها!
علي الطنطاوي(727/21)
لبنان والعربية
للأستاذ السهمي
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي (رحمه الله) في لبنان وبيروت في عبقرية لبنان:
بلغ السها بشموسه وبدوره ... لبنان وانتظم المشارق صيته
لبنان والخلد اختراع الله لم ... يوسم بأزين منهما ملكوته
هو ذروة في الحسن غير مرومة ... وذرا البراعة والحجى بيروته
ويروي ياقوت في معجم البلدان لأحمد بن الحسين بن حيدرة مقطوعة فيها هذا البيت في مياه لبنان:
وكيف التذاذي ماء دجلة معرقا ... وامواه لبنان ألذ وأعذب
ويذكر شاعرنا أبو الطيب تفاح لبنان في عضديه:
حيث التقى خدها وتفاح لبنان (م) وثغري على حمياها
ويقول النشاشيبي في بيروت في خطبة:
بيروت مثقفة العرب.
بيروت موقظة العرب من بعد طول هجوعهم.
بيروت منعبث الأضواء والأنوار.
بيروت فلك الشموس والأقمار.
بيروت دار أحمد فارس والأحدب والأسير.
بيروت دار اليازجيين: ناصيف وخليل وإبراهيم.
بيروت دار البساتين: بطرس وسليمان وعبد الله.
بيروت دار أديب إسحاق وأحمد عباس.
بيروت دار الحوراني والشرتوني وصروف وضومط.
بيروت دار شكيب ارسلان وأمين الريحاني ومحي الدين الخياط ومصطفى الغلاييني.
بيروت هي التي نزل على أهلها، على كرام، الأستاذ الإمام محمد عبده (رضي الله عنه) وأملى فيها رسالته البليغة في التوحيد بل معجزته.
في بيروت تثقفت واهتديت واتبعت داعي الإسلام والعربية والوطنية، وجيت جنديا من(727/22)
جنود سيدي (محمد بن عبد الله) عليه صلوات الله.
المدرسة البطريريكية للروم الكاثوليك مدرستي.
ضوت لي بيروت عن طريقي فمشت، وهدتني بيروت هداها فهدبت، ورحت أقول في قصيدة:
حنانيك ياربعاً به نلت منيتي ... وأبعدت في الشرق الخطير لي الذكرا
إذا الناس ضلت في مجاهيل غيها ... وساءت مساعيها فلا تعرف البرا
فأني بأرض الشام أخدم أمتي ... وأرجو لها في كل واقعة نصرا
أخوض غمار الكون بالعلم والتقى ... ولا أسال القوم العظام لي الأجرا
بيروت مدينة تهذيبي.
والعربية هي التي يقول فيها النشاشيبي:
اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة، وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. وكل قبيل حريص - وقد كان في هذه الدنيا - جد حريص على أن يستمر كونه، وعلى أن لا يبيد، فهو مستمسك بلغته للاحتفاظ بكينونته. واللغة ميراث أورثته الأباء الأبناء، واحزم الوراث صائن ما ورث، واستفهم في الدنيا مضيع.
وأنا أمم اللسان الضادي - لعرب، وإن لغتنا هي العربية وهي الإرث الذي ورثناه، وأنا لحقيقيون والآباء هم الآباء واللغة هي تلك اللغة بان نقي عربية الجنس وعربية اللغة، نقي العربيتين مما يضيرهما أو يوهنهما.
ولو كان الموروثون صغارا ولو كان الميراث حقيرا لوجب علينا إكبارهم وإعظامه، فكيف والتاريخ يقول: أن الآباء كانوا اكرما، وإن الآباء كانوا عظاما. وكان لهم الخلق المتين الجيد، وكان لهم السلطان القوي والسؤدد، وكانوا الأئمة في العلم وكانوا الأئمة في الحكمة. فاقرأ كتب علمهم، واقرأ كتب حكمتهم.
والزمان يقول: إن العربية خير ما صنعت يداي (وان الدهر لصنع) وإنها لخير طرفة أطرفتها الناس، والزمان، والزمان بالخير - وإن جاد - شحيح. فالعربية الصنع العبقري للدهر، والعربية هي الدرة اليتيمة أو كنز الزمان ضن به كل الضن ثم سخا.
وإذا كان للنفوس العربية في الجزيرة وهي نفوس تجسمت من القوة أو تكونت منها القوة،(727/23)
وهي نفوس تعالت وتعززت فنشأت في الدنيا ألفاظ العلو والعزة وهي نفوس صفت وصرحت، وما صفاء سواها وصراحتها إلا كدر ولبس - إذا كان لهذه النفوس فضل على لغتها إذ كانت منجمها الذي نشأت منه بدت فلهذه اللغة البينة المحكمة فضل على تلك النفوس، فقد أعطى بيان اللغة وإحكامها أهل اللغة ما أخذته منهم، وقد احسن الألماس المشع إلى منجمه، فهذا كون ذاك، وذاك نور هذا.
وإن العربية لو لم تكن الإبداع كله ولو لم تكن الجمال الأجمل، ولو لم تكن اللغة المصطفاة، ولو لم تك لغة عجبا، ما اختارها الدهر لقرآنها و (الله اعلم حيث يجعل رسالته) ولم تستطع ألفاظها الاستقلال بمعانيه، وكل معنى فيه يأبى أن ينزل إلا في اكرم لفظ، وكل مقصد من مقاصده لا يقبل إلا اعجب أسلوب. ولن ينزل أهل السماء إلا في ذروة العلياء. و (الكتاب) - وان علا - حتى أظل (سدرة المنتهى) قد أدناه وقد جلاه نور بيانه حتى أرانا إياه، والشمس قد علت وقد ابتعدت، وهل يحي وهل يضئ هذي الأرض إلا الشمس.
ويقول النشاشيبي في رثاء كبير عراقي في خطبة:
قالوا: ابكه وإلا غضبت عليك عربيتك.
أعوذ بمحمد، أعوذ بالعربية من غضب العربية.
وهي لي في حياتي ومماتي إلا هي؟
وهل معتصمي وشرفي ومجدي في الوجود غير عربيتي؟
وهل سموت وكرمت عند العظماء وعند الفضلا وعند الملوك إلا بها؟
أنا لا اشتري برضاها هذي الدنيا بحذافيرها (استغفر الله) ولا الآخرة.
أعوذ بالعربية من غضب العربية.
أنا خادمها، أنا اعبدها، أنا عبد لغتها، أنا عبد قرآنها، أنا عبد محمدها.
أنا سيد لكل حر سيد بهذه العبودية.
أعوذ بالعربية من غضب العربية.
وقد شاء في هذا الشهر حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية (الشيخ بشارة الخوري) ووزيره الأكبر حضرة صاحب الدولة الأستاذ (رياض الصلح) وحكومته، وحضرة أمير النثر والناثرين وسيد البلغاء صاحب (الرسالة) الأستاذ (أحمد حسن الزيات)(727/24)
أن يعطوا خادما من خدام هذه العربية - وهو الذي تلوت قوله آنفا - (وسامين) فأعطوه. واليقين كل اليقين انهم نظروا إلى إخلاصه في حبها لا إلى مقدرته؛ فالرجل عند التحقيق ليس هناك، وهو صاحبي، وأنا من اعرف الناس به، والمنصف يقول الحق ويقضي بالعدل ولو على نفسه (يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم).(727/25)
7 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فيينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
كلا، أيها السادة، فالوقت مع هذا لم يحن بعد. فحتى هذا الاعتراض القوي قد ينهار من ساسه إذا صوبنا إليه سهام النقد الحادة. فنحن إذا فرضنا أن هناك نزعات لا شعورية تكمن في الحياة العقلية، ثم اتضح أن عكس هذه النزعات بالضبط هو الذي يغلب على الحياة الشعورية، فليس معنى هذا إننا أخطأنا التقدير، فربما كان هناك متسع في العقل البشري للنزعات المتضادة وللمتناقضات تكمن كل بجانب الأخرى. بل من المحتمل أن تغلب إحدى النزعات هو الذي يستلزم أن تكون النزعة العكسية لا شعورية. وعلى هذا فالاعتراضات التي تواجهنا كلها تتلخص في أن النتائج التي وصلنا إليها في تفسير الأحلام نتائج معقدة غير مستساغة. فأما كونها معقدة فإن في استطاعتنا أن نرد على ذلك بان نلفت نظركم إلى إنكم مهما كنتم مغرمين بالبساطة والسهولة فلن تستطيعوا بذلك أن تحلوا مشكلة واحدة من مشاكل الأحلام، وعلى هذا يجب عليكم أن تشرعوا في تهيئة عقولكم من الآن لتقبل نتائج صعبة معقدة. وأما كونها غير مستساغة فإنكم ترتكبون خطأ كبيرا عندما تجعلون من ميلكم للشيء أو عدمه مقياسا تحكمون به على الأشياء أحكاما علمية. فماذا يهمنا إذا كنتم ترون النتائج التي وصلنا إليها في تفسير الأحلام نتائج غير سارة أو حتى على أسوا الفروض نتائج بشعة تعافها النفس؟ أن الواجب يقتضي منا أن نطرح الميل والنفور جانبا إذا أردنا أن نقف على الحقيقة في هذه الحياة. فإذا جاء أحد علماء الطبيعة فاثبت لكم أن الحياة العضوية قيمة بان تختفي من وجه البسيطة عما قريب، أيجد أحدكم من نفسه الجرأة على مواجهته قائلا: (كلا يا سيدي هذا لن يكون لأني اكره هذا المنظر كرها شديدا)؟ أظنكم لن تقولوا شيئا من هذا القبيل حتى يأتي عالم آخر فيثبت للأول انه قد اخطأ في التقدير أو في الحساب. والواقع إنكم عندما تنكرون كل ما هو بغيض بالنسبة إليكم فإن ما تقومون به هو تكرار لعملية بناء الحلم وليس فهما لمرماه أو وصولا إلى معناه.(727/26)
وعلى هذا أظن إنكم ربما تأخذون على أنفسكم أن تغضوا النظر عن الطبيعة الجارحة للرغبات التي تخضع للرقابة في الحلم ثم تحولون دفة المناقشة إلى أنه من غير المعقول أن نسلم بوجود مثل هذا الجزء الكبير من الشر في الطبيعة البشرية. ولكن هذا تحقق تجاربكم في الحياة صدق هذه العبارة؟ أني لن أقول شيئا عن هيئة الواحد منكم في نظر نفسه. ولكن هل صادفتم من النية الحسنة بين رؤسائكم ومنافسيكم، ومن الشهامة والكرم بين أعدائكم، ومن الحسد القليل بين زملائكم ما يدفعكم إلى الشعور بأنه يتحتم عليكم أن تحتجوا إذا قلنا أن الأنانية الوضيعة تلعب دورا كبيرا في الطبيعة البشرية؟ أو ولا تعلمون كيف يعجز الرجل العادي أن يملك زمام نفسه في كل ما يمس حياته الجنسية؟ أو هل تجهلون إن كل ما نراه في الحلم من انغماس في الضلالات أو إفراط في الشهوات ما هو إلا جرائم تحدث فعلا كل يوم، يرتكبها الناس وهم في تمام اليقظة؟ أن التحليل النفساني لا يفعل في هذه الحالة اكثر من انه يعزز القول القديم لأفلاطون وهو أن الأخيار لهم أولئك الذين يكتفون بان يروا في أحلامهم ما يرتكبه الأشرار فعلا في حياتهم اليومية.
والآن دعوا الأفراد وانظروا إلى هذه الحرب الضروس التي ما تزال تدمر أوربا: فكروا في هذه القسوة والوحشية الطاغية كيف انتشرت في أرجاء العالم المتمدن. أتعتقدون حقا إن في استطاعة حفنة من الرجال الفاسقين الذين لا مبدأ لهم في الحياة أن يقودوا العالم إلى هذا الشر المستطير إذا لم يكن ملايين الناس الذين اتبعوهم شركاء لهم في الجرم أيضا؟ أتجدون من أنفسكم الجرأة بعد ذلك على أن تنكروا وجود عنصر الشر في الطبيعة الإنسانية؟
أظنكم بعد هذا توافقون على انه لا حاجة بنا إلى أن نطرح النتائج التي وصلنا إليها في تفسير الأحلام، حتى ولو إننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الشعور بأنها نتائج غريبة. وربما كان في إمكاننا فيما بعد أن نصل إلى تفهم معناه عن طريق آخر، ولكنا في الوقت الحاضر سنكتفي بأنه نتمسك بالنتيجة الآتية وهي أن التحريف في الأحلام ينشأ عن الرقابة التي تفرضها بعض النزعات المعروفة للذات على الرغبات التي تجرح الشعور والتي تعتلج في صدورنا أثناء النوم. ومن الواضح إننا إذا سألنا أنفسنا عن مصدر هذه الرغبات التي تستوجب الزجر ولم لا تظهر إلا أثناء الليل، فسنجد إننا مازلنا في حاجة إلى البحث الطويل والى الإجابة على أسئلة كثيرة. على انه من الخطأ إلا نوجه إلى إحدى النتائج التي(727/27)
تتضح من هذا البحث ما تستحقه من الالتفات. فهذه الرغبات التي تظهر في الأحلام والتي تقلق نومنا تكون مجهولة لدينا ولا نعلم عنها شيئا إلا بعد القيام بتفسير الحلم، وعلى هذا فهي تستحق أن يطلق عليها (لا شعورية في الوقت الحالي) بالمعنى الذي استخدمنا به هذا الاصطلاح من قبل ولكنا يجب أن نعلم أيضاً إنها اكثر من (لا شعورية في الوقت الحالي) لأن الحالم كما رأينا مرارا ينكرها إنكارا باتا حتى بعد أن يقف على معناها عن طريق تفسير الحلم. وهذه الحالة تكرار للحالة التي صادفتنا من قبل عندما كنا نقوم بتفسير زلة للسان (تفيقوا) حيث أكد لنا الخطيب في حنق انه لم يشعر نحو رئيسه بعدم الاحترام بتاتا لا في ذلك الوقت ولا في أي وقت آخر. وبالرغم من هذا فقد تجاسرنا على الشك في قيمة هذا التأكيد وفرضنا بدلا من ذلك أن الشاب كان جهل مستديم بوجود هذا الشعور في نفسه. ونحن نجد أنفسنا في مثل هذا الوضع في كل مرة نقوم فيها بتفسير حلم من الأحلام التي تعرضت لدرجة عالية من التحريف. وعلى ذلك فإن في إمكاننا الآن أن نفرض أن هناك نزعات وعمليات في الحياة العقلية لا نعرف عنها شيء. وهذا يعطي كلمة (لا شعوري) معنى جديد فقط أصبح لا داعي كما رأيتم لأننلصق بها الصفة (في الوقت الحالي) أو (مؤقتا) لأنها قد تعني أيضاً (لا شعوريا مستديما) وهذه النقطة قد نعود إلى مناقشتها مرة أخرى فيما بعد.
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(727/28)
من قادة الاصطلاح في القرن الثالث عشر
الشيخ شامل
زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين
1212 - 1287 هـ: 1797 - 1871 م
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
الداغستان:
تشغل بلاد الداغستان معظم القسم الشرقي من بلاد القوقاز، وتمتد على الساحل الغربي لبحر قزوين. ما بين مصب نهر (ترن) شمالا وشبه جزيرة (ابشرون) جنوبا، وتحدها قمم جبال القوقاز العالية مثل (البرز) و (قازيك) وممر (دريال) الشهير وبعض بلاد الكرجستان غربا، ومجرى نهر (ترن) شمالا وجمهورية أذربيجان جنوبا - هذه البلاد التي تسمى بالداغستان، ومعنى الداغستان: بلاد الجبال. وليست هذه المنطقة كلها جبالا كما يتبادر لأول وهلة، ولكن طبيعة الجبال هي الغالبة فيها.
كانت هذه المنطقة المجاز الذي يجتازه الفاتحون الآسيويون إذا أرادوا الإغارة على أوربا وبلاد الروسيين، ويعبره الروسيون والتتار من الشمال إلى الجنوب إذا أرادوا التوغل في آسيا. ولذلك كانت - دائما - محط أنظار كل الفاتحين، والغزاة من قديم العصور إلى يوم الناس هذا.
وما كاد المسلمون يبدءون عهد الفتوح أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى وصلت طلائعهم المظفرة إلى هذه البلاد سنة 22 من الهجرة يوم جاء سراقة بن عمرو، وبكر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن ربيعة مع إخوانهم من المجاهدين. ثم تتابعت الجيوش الإسلامية إلى هذه البلاد، وتلاحقت وكانت (دربند) - عاصمة الداغستان - ثغرا من ثغور المسلمين التي يرابط فيها في سبيل الله.
أطماع الدول الكبيرة فيها:
استقر الحكم العربي الإسلامي في هذه البلاد، وسارت في طريقها المهيأ لها في هذه الحياة،(727/29)
حتى إذا زال عنها سلطان العرب السياسي حافظت هي على تراث العرب الروحي: الإسلام وتعاليم الإسلام، فكانت تستقل بشئون نفسها حينا، ويحتلها فاتح جديد أحياناً. حتى كان أواخر القرن العاشر الهجري، فاحتلها العثمانيون في عهد (مراد الثالث) وهنا بدأت صفحة جديدة من تاريخ هذه البلاد، فقد نبه احتلال العثمانيون لها أطماع الروسيين من الشمال، وحفز الإيرانيين من الجنوب، فصارت مثار أطماع هذه الدول الثلاث، فكانت تحتلها هذه الفترة، وتلك فترة أخرى.
وهكذا إلى سنة 1232هـ - 1816 م حيث تنازل الإيرانيون عن كل حق لهم بهذه البلاد وحكمها للروسيين، واحتلها هؤلاء.
اثر هذا الاحتلال الجديد في أهل البلاد:
وكان طبيعيا أن يكون لهذا الفاتح الجديد أثره وتأثيره في البلاد وأهل البلاد، فأخذ يتودد إلى الأهالي ويستميلهم بكل ما بوسعته الحيلة من ترغيب وترهيب، ويظهر أن سياسة الترغيب هذه لقيت نجاحا إلى حد ما، وقد صور الشيخ محمد طاهر القراخي الداغستاني هذه الفترة تصويرا دقيقا إذ يقول:
(وفي هذه الآونة - حوالي سنة 1240 هـ (1824) - زاد اتصال الأهالي الداغستانيين بمستعمريهم طمعا فيما يملكونه من مال وسلطان، أو يمنحونه من قلادة أو وسام. وكان من أول نتائج هذا الاتصال أن ابتعد المسلمون شيئا فشيئا عن أحكام دينهم الذي اشربوا حبه، وتغلغل في أعماقهم، ونسوا أوامره ونواهيه واصبحوا مسلمين بأسمائهم فقط. وكانت البلاد في هذه الفترة خالية من العلماء العاملين، والمرشدين المخلصين الذين يحسنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فانتهز هذه الفرصة بعض الجهال المتزيين بزي العلماء، وعلى الخصوص قضاة وحكام منطقة (الزكستان) واخذوا يتصلون بالجماهير ليلقوا في نفوسهم إن سياسة الحكومة القيصرية، واستعمارهم لبلادهم - ولعلهم كانوا يعتقدون ذلك؛ - هو عين العدل والإنصاف!!.
وكان لعمل هذه الطائفة أثره الكبير في وسط الجماهير من المسلمين، فازدادت صلاتهم بالمستعمر، واخذوا يرسلون شبانهم ليقوموا ببعض الوظائف والأعمال والدواوين الروسية،(727/30)
ثم تطورت الأمور إلى ابعد من ذلك، وصاروا يحبذون السياسة الروسية التي تنتهجها نحو بعض الممالك الإسلامية، وجندوا أبناءهم في الجيوش الروسية الموجهة لغزو بلاد المسلمين).
مولد الشيخ شامل:
في مطلع هذه الحوادث وفي هذا الجو المضطرب المتقلب، ولد شامل سنة 1213هـ (1797م) في قرية (كمرا) ً من قرى منطقة (آوار) من بلاد الداغستان، ونشأ بها كما ينشأ لداته، وتعلم في مدارس المساجد المنتشرة في قرى الداغستان ودسا كرها واخذ بحظ لا بأس به من الدراسات الدينية والعربية، وكانت الطريقة النقشبندية قد بدأت بالانتشار في تلك الجهات على يد السيد جمال الدين القمومي والشيخ محمد اليراغي، فإنتظم في سلك مريدي تلك الطريقة الصوفية، فصار العالم الديني الصوفي في أن واحد. ولما بلغ شامل الثلاثين من حياته سنة 1242 هـ (1826م) واشتد ساعده. ظهر في قرية (كمرا) العالم المجدد المصلح الشيخ الغازي محمد الكمراوي الذي هاله ما وصلت إليه حال البلاد والعباد من التأخر الديني، والفساد الخلقي، وقام يدعو الناس إلى الرجوع إلى دينهم، والتمسك بآداب وأحكام الإسلام، فكان (شامل) من أول التابعين له والداعيين بدعوته، ولازمه ملازمة الظل، واصبح أحد مريديه، وأعوانه المقربين إليه.
واستمرت هذه الدعوة الاصطلاحية اللينة المسالمة تسير في طريقها المسلوكة تلقي القبول والسمع تارة، والرفض والإباء والسخرية والازدراء تارات.
وفي سنة 1245 هـ (1829م) قرر (الغازي محمد الكمراوي) على انه لا بد لكل دعوة إصلاحية جديدة من قوة تسندها، وإلا فلا آمل في نجاحها، ولذلك بدأ يجند بعض الذين استجابوا لدعوته ويخوف بهم المخالفين له والباغين عليه. وفي هذه المرحلة أيضاً نجد (شاملاً) أحد قواد الفرق التي كان يبثها الغازي محمد، ويبعثها إلى الجهات للإغارة والتأديب.
وكثرت مصادمات الغازي محمد الكمراوي مع العصاة والمخالفين الخارجيين على أحكام الدين. ومع رجال الدولة المستعمرة، فكان يحالفه الظفر والنصر في بعض الاوقات، ويخونه الحظ في احيان؛ ولكن (شاملاً) في كل الحالات كان الرفيق الملازم، والمريد(727/31)
المخلص لأستاذه وقائده. ولما حاصر الروسيون الغازي محمد الكمراوي وأصحابه في قرية (كمرا) في يوم الاثنين الثالث من جمادي الآخرة سنة 1248 هـ (28 أكتوبر سنة 1832 م) كان (شامل) مع الذين لازموه، ودخلوا معه أحد المنازل في القرية وتحصنوا في داخله، فلما اشتد الحصار، وضيق الروسيون الخناق قام الغازي محمد، وقذف بنفسه على الروسيين، وقاتل حتى قتل أمام باب ذلك المنزل وسيفه في يده. ورأى (شامل) استشهاد قائده، فقام في رفاقه خطيبا، وقال ما مؤداه: (إذا كان الغازي محمد وقع شهيدا، فلا ينبغي لنا أن نضيع وقتنا بالبكاء عليه؛ ولعلنا نسير في الطريق التي سار فيها ونلحق به. . . . . . إن حور الجنة ينتظرن ذهابنا إليهن شهداء أبرارا. فبدلا من أن نموت كما يموت الجبناء في مكان مغلق مسدد نخرج ونقاتل حتى تأتينا الشهادة، ونموت كراما). ثم شديدة على حسامه، ورفع صوته بكلمة التوحيد - لا اله إلا الله - وقذف بنفسه إلى حيث الموت الشريف، أو الحياة الكريمة، وقاتل (شامل) قتال المؤمن الموقن بما عند الله للمجاهدين من إحدى الجنسين. وأصيب في اكثر من موضع واحد من جسمه، ولكنه كان مؤمنا بالله وطالبا للشهادة في سبيله، فلم تخر عزيمته ولا ضعف ولا وهن، فظل يحارب ويقاوم، وانجلت المعركة، ونجا شامل بنفسه، ولكنه ما كاد يبعد عن هذا الجحيم، ويسير في شعب من تلك الشعاب بضع خطوات حتى خارت قواه، وضعف جسمه، فلم يستطع مواصلة السير، وقضى ليلته على قمة جبل هناك، تحت رحمة المقادير معرضا لتقلبات الطبيعة القاسية في تلك الأصقاع.
كان الهواء قاسيا قارسا، وكان (شامل) عاري الرأس، مجروح الصدر، ملطخا بالدم جميع أجزاء جسمه، ولكنه لم يك ليشتكي من هذه الحال التي صار إليها أو يتألم، بل انه كان يشكر الله سبحانه ويحمده على لطفه في القضاء!!.
وفي اليوم التالي أتته النجدة، فجاء بعض أعوانه، واركبوه فرسا وساروا به إلى حيث أهله وعياله وأسرته.
وبقى شامل طريح الفراش أسير الجراح ثلاثة اشهر كاملة، لا يبرح بيته، ولا يستطيع الوقوف على قدميه.
(يتبع)(727/32)
برهان الدين الداغستاني(727/33)
من وراء المنظار
حجرة التحمس
ما دخلها قط إنسان إلا انقلب بعد دقائق مهما بدا من هدوئه أول الأمر متحمسا من اشد المتحمسين؛ شهدت ذلك بنفسي وإن قابع في ركن منها أتفرج من وراء منظاري على ما لم استمع بمثله في أية دار من دور اللهو. . .
هي حجرة في ديوان إحدى الوزارات كتب على بابها: (المستخدمين) هكذا بالجر! دخلتها والحر شديد وبنفسي ضيق وضجر فسرعان ما روح عني الضحك المتصل حتى لقد إنساني ضجري كما إنساني ما جئت له. . .
الحجرة صغيرة مزدحمة بالقماطر أو ما يسميه الموظفون بالمكاتب، وعلى كل قمطر ما عدا واحدا أضابير من الورق يعلم الله مبلغ ما قضته كل ورقة حيث رأيتها من عمر. . .
وأمام كل قمطر - ما عدا واحدا غير ذلك الذي خلا من الورق - موظف، وهم جميعا فيما يخيل إلى من أعمارهم دون الأربعين وفيهم من هم دون الثلاثين. . .
وكان أحدهم يقضم قضمات من رغيف أمامه ويأتدم بقطعة من الجبن؛ وكان آخر يطالع في جريدة؛ وكان ثالث يشرب القهوة، واشتغل أربعة بأوراقهم، وبقى واحد لا يعمل شيئا قط فليست أمامه ورقة وليس في يده قلم أو صحيفة أو شئ مما يؤكل أو يشرب وكان ينظر في ساعته بين حين وحين ليرى متى ينصرف. . .
وفهمت انه من (المحاسيب) الذين يعينون لا ليعلموا ولكن ليرتزقوا. . .
ودخل كهل هادئ الحركة فقصد أحد القماطر ورفع صاحبه رأسه فتهجم وتركه إذ رآه، مع أن القادم كان يبسم له ويظهر الاحترام ويختار ارق الكلام؛ ولكن سرعان ما ارتفع صوته وهو يقسم بالله العظيم ثلاثا ويهز سبابته كما يفعل الخطيب انه جاء من اجل مسألته ما لا يقل عن ثلاثين مرة، ولا يدري ما يعمل بعد ذلك. وبلغ به التحمس أن أعلن انه ذاهب من فوره إلى المدير، وقالها بلهجة من ينذر بالموت كأن الذهاب إلى المدير عنده فيه القضاء على الموظف المسكين، وخرج من الحجرة، وما استدار ليخرج حتى اخرج له ذلك الموظف لسانه وضحك هو وزملاؤه ملء أشداقهم. . .
ولم يكد يبتعد خطوة حتى دخل شاب يمسح عرقه عن جبينه وصفحة وجهه بمنديله، ودنا(727/34)
من موظف آخر وسأله لعله يذكر موضوعه، فقال له في دماثة متكلفة وهو يكتم ضحكة (أيوه يا سعادة البيه، مر علينا بعد ثلاثة أيام تجد كل شئ على ما يرام)؛ وتحمس سعادة البك تحمسا صامتا تجلى في احمرار وجهه وإرساله الزفرات وانصرف ليمر بعد ثلاثة ايام؛ وتفكه الموظفون بالسخرية من سعادته والتهكم عليه.
ودخل ثالث فسأل أحدهم عن آمر فقال له (عند فتحي أفندي في الحسابات)، فخرج ثم عاد بعد قليل ليقول إن فتحي أفندي لا علم له بالأمر، فقال له (اترك لي المسألة ومر بعد يومين أو ثلاثا تجدها خالصة) ففكر صاحبنا في الأمر قليلا ثم بدا له فتحمس وصاح قائلا (ما هذا؟ أديوان حكومة هو أم كان دكان؟ ودق القمطر بيده قائلا انه ذاهب إلى المدير، وانطلق والتحمس ملء بدنه، وتحمس الموظفون في الضحك منه. . .
1 - ودخل رابع تبدو عليه الرزانة والتؤدة، فسأل عن عبد المنعم أفندي من يكون فدله أحدهم عليه، فمشى إليه في عسر بين القماطر واخرج علبة سكائره ومد بها إليه يده أتلح حتى تناول واحدة، ثم كلمه في صوت خافت، فتظاهر انه يفكر ثم قال: مر غدا فإن عمر أفندي غائب وهو الذي عنده مسألتك. فقال لقد جئت مرتين وعملي في حضن الجبل وأنا قادم هذه المره في (تكسي) وهو عند الباب يدور عداده فهلا صنعت معروفا فأعنتني، فأجابه لا يمكن حتى يحضر عمر افندي، وانصرف عنه إلى أوراقه، فهز صاحب (التاكسي) رأسه مرات وتنهد ثم قال وقد اقلب هدوءه ثورة، وانه ليدق القمطر بيده دقات عنيفة: ما هذا، مرة عمر أفندي في البنك ومرة عند المدير ومرة في إجازة. . . هذا لعب ومسخرة وقلة ذوق. . . وبدا التحمس في جميع حركاته وإشارته. . . وانطلق من الحجرة يتوعد وتهدد.
وجاء الخادم يطلب عبد المنعم أفندي لمقابلة المدير، فذهب إليه ثم عاد بعد دقيقة ففتش في قمطر عمر أفندي واخذ منه أوراقا، وخرج ثم رجع بعد قليل يقول لزملائه (خلصنا منه يا سيدي، وأمضى المدير أوراقه وبلاش غلبة ونفخة كدابة)
ودخل بعد لحظة شيخ معمم ذو لحية فحيا بتحية الإسلام ثم ضم أطراف جبته بيده ومضى إلى أحدهم ينفذ في عسر بين القماطر، فقال له هل وجدت الورق؟ فقال: لا زلت ابحث عنه. وما كاد ينطق بهذا حتى صرخ الشيخ قائلا ما هذا؟ حتى متى تسخر من ذقني هذه يا(727/35)
ولد؟ ونهض الأفندي مغضبا يدق القمطر بقبضته ويقول عيب يا سيدنا الشيخ لولا انك كوالدي. . . ودق الشيخ بقبضته قائلا العيب أن تكذب وأن تضيع الأوراق وتستخف بمصالح الناس وأوقاتهم، وعاد الموظف يدق بيده دقات ويقول عيب يا سيدنا الشيخ، والشيخ يعقب كل دقة منه بدقة من قبضته القوية حتى أيقنت أن القمطر لا شك متحطم؛ ولكني لم احفل بالقمطر وإنما خشيت أن تنقلب الدقات لكمات أو لطمات، فقد بلغ تحمس الشيخ أقصاه وجحظت عيناه واصفر وجهه ودنا من الفتى ولولا أن سحبه إخوانه سحبا من وجه الشيخ لأهوي عليه بكلتا يديه؛ وخرج الشيخ وهو يستنزل خيبة الله عليه.
وساد في الحجرة الصمت لحظة، ولم يفطن الموظفون إلى وجودي إلا وهم في هذه الحال من الخزي والغم، فسألني أحدهم ما طلبي، فأشرت إلى مكتب عمر أفندي، فقال انه لن يحضر اليوم؛ ومعنى ذلك أن انصرف فنهضت للخروج وإني لأقسم للقارئ بمحرجات الإيمان غير متحمس، أني ذهبت إلى تلك الحجرة من أجل مسألتي اكثر من خمسين مرة في مدة سنتين، وقضاؤها والله لا يستغرق ساعة؛ ولم أستدر عند الخروج، بل خرجت بظهري مخافة أن يسروا عن صاحبهم بحركة منهم يكون فيها الزراية علي.
الحفيف(727/36)
خواطر مسجوعة:
الشعر. . .
إذا جاد الفكر، بالمعنى البكر، وكان الترجمان أمينا عادلا، فالبس المعنى لفظا معادلا؛ واشترك القلب مع القلم فيما كتب، وسرت الحياة في كل وتد وسبب فحكى البيان، حديث الوجدان، وارتسم الإحساس، على القرطاس، وبرز السر المكتوم في در منظوم. . فذلك هو الشعر، وذلك هو السحر!
وما لا تنبض بالحس قوافيه، فهو نظم مزهود فيه، ومالا يصور حقيقة الحياة، فهو من البضاعة المزجاة!
وليس بحرا ما لم تسمع تصفيق لجته، وتسبيح موجته ولا بيتا ما كانت دعامته واهية، وأركانه متداعية!
والإحسان في غير ما اطاع، ليس بمستطاع. فالشعر يقرض قرضا، وليس يقرض فرضا، فإن اغتصب، أخطأ ولم يصب. وما يدعو ولا يدعي، فهو إلى الإجادة ادعى؛ فما دعاك فأطعمه، وما لم يدعك فدعه؛ وإلا فإنك تعاني ما تعاني، في اغتصاب الألفاظ والمعاني؛ مضللا في الفيافي، زاعما انك رب القوافي.
والشعر أنفاس طروب، أو نفثات مكروب؛ فأنا تشمه نفخا وأنا تحسه لفحا، وله في الحالين هزته المؤثرة، وقوته المعبرة فكم أيقظ غافيا واسكر صاحيا! وكم ثورة أقامها، وثورة أنامها، فجرد سيف الناصر، واغمد سيف الغادر. وكم هز بالبيت محفلا، واعز به جحفلا! وكم اعد به جيلا، وصد به قبيلا! وكم حمى وأجار، في غير تلك الديار!!.
حامد بدر(727/37)
تحية بغداد
للأستاذ أنور العطار
(ألقيت في الحفلة الكبرى التي أقامتها دار المعلمين العالية ببغداد احتفاء بالوفد الثقافي السوري في آذار (مارس) 1974)
بغداد بالعابق المخضوضر النادي ... ردى عليَّ رياحيني وأورادي
وألهميني حر القول، خالصه ... ونضري في ثنايا الحفل إنشادي
هبي لي الشعر أنغاماً مسلسلة ... تهدي إلى الصيد من صحبي وأندادي
الساهرين على عقد قد انتثرت ... حباته بين أغوار وأنجاد
تخطفته رباع الأرض وأطرحت ... نضيدة صولة المستأسد العادي
جارت على سلكة نأياً وتفرقة ... وروعته بتعذيب وإبعاد
بني العراق مثال الحب من عقدوا ... على هوى العرب أكباداً بأكباد
تمرسوا بالوفاء المحض واتشحوا ... من الوداد بألطاف وأبراد
يا نفحة الضاد هي في أباطحنا ... وزودينا العلى يا نفحة الضاد
عنا لها الدهر مزهواً بها فرحاً ... وظل مسترسلا في ركبها الحادي
لأنت زاد الأولى ازدان الزمان بهم ... يا طيبه في أجتناء الحمد من زاد
وأشرقي في سماء العرب وأئتلقي ... كالشمس في موكب بالنور وقاد
صوت العروبة دوى ملؤه أمل ... يجيش كالسيل في رغو وأزباد
يهيب بالقوم قد ألوى الزمان بهم ... فأصبحوا نهبة للرائح الغادي
إن لم تثوروا على الباغين قد نكثوا ... فلستم في قراع الخطب أحفادي
يا جيرة العرب صان الله عقدكم ... وأسعدته الأماني أي إسعاد
يا نسمة من جنان الخلد طيبة ... ونفحة من روابي الشام والوادي
يا دمعة الحب تهمي رقة وأسى ... كالعامريِّ بكى في سفح توباد
فكانت الشعر والأشواق دمعته ... تصور الوجد من خاف ومن باد
حيِّ الأخلاء والآُلاف قد رجعوا ... ولم يكن طيفهم يوماً بمرتاد
نذراً على - وقد عادت سوانحهم - ... لأصدحنَّ بناياِتي وأعوادي(727/38)
يا حسن (دجلة) مسكوباً بها (بردى) ... غنى لها الكون مياداً بميَّاد
ويا سنا (بردَى) بالشط منطلقاً ... ينساب في نغمَات البلبل الشادي
نهران إلفان ضمَ الحب شملهما ... جلا عن الشعر في وصف وتعداد
يا رشفة منهما بالروح نسألها ... تحيي السقيمَ وتشفي غلة الصادي
في ظل بغداد طاف العرب وائتلفوا ... وحققوا الوَحدة الكبرى بميعاد
تمازَجوا في إخاء رائِع عجبٍ ... كما تمازَجُ أرْواح بأجْساد
بغداد في الشام ألحان مرتلة ... تلذ، والشام من أنغام بغداد
آمنت بالوطن المنضور جانبه ... آمنتُ بالعرب أمجاداً بأمجاد
صاغوا من الخير دنيا لا كفاء لها ... يقصها الدهر آباداً لآباد
طافوا على الأرض بالآيات ساطعة ... وزينوها بتبيان وإرشاد
هم المنار يسير السالكون به ... ويهتدون بنور المرسل الهادي
العرب في ثورة للمجد شاملة ... علياء من صنع أبطال وآساد
حراس وحدتنا الكبرى ومن سفكوا ... أرواحهم بورك المفْدِىّ والفادي
يا فرحة الملتقى أذكيتني طرباً ... وهجت أحلى المنى في أرض أجدادي
تركت قلبي مغموراً بنشوته ... سكران تصيبه أفراحي وأعيادي
(دمشق)
أنور العطار(727/39)
الأدب والفن في الأسبوع
القراءة الأدبية في المدارس
وافق معالي وزير المعارف على اعتماد الكتب الآتية للقراءة الأدبية بالمدارس الثانوية في العام الدراسي القادم:
(الأيام - الجزء الأول) للدكتور طه حسين بك، و (الصديقة بنت الصديق) للأستاذ عباس محمود العقاد، و (نداء المجهول) للأستاذ محمود تيمور بك، و (الشاعر الطموح) للأستاذ على الجارم بك، و (عنترة) للأستاذ محمد فريد أبو حديد بك.
وذلك على أن يصرف إلى كل طالب كتاب من هذه الكتب على حسب ما يتقرر من طريقة التوزيع؛ وقد قصد بذلك أن تتصل أفكار الطلبة بالجو الأدبي العام، فيقرئوا كتبا مؤلفة للجميع لا خاصة بالمدارس، ولأول مرة تمنح المدرسة تلاميذها كتبا لم توضع عليها العبارة المشهورة المألوفة (قررت وزارة المعارف استعمال هذا الكتاب بمدارسها)، ولم يثبت على غلافها عديد من أسماء المؤلفين، ثم أعضاء اللجنة التي راجعت الكتاب، وقد بلغت هذه الأسماء في بعض الكتب ثلاثة عشر، وكم ناء بها كتيب صغير!
وسينفذ هذا القرار الأخير القاضي بتقرير تلك الكتب الأدبية العامة لجميع تلاميذ المدارس الثانوية، بشراء ما يلزم لهم منها، أي أن وزارة المعارف ستنزل إلى السوق الحرة كأي من الناس فتشتري لتلاميذها هذه الكتب بأثمانها، فتخرج بذلك على ما تتبعه من طبع الكتب المدرسية المقررة بالمطبعة الأميرية وتسعيرها على حسب نفقات الطبع المرتفعة، تلك الطريقة التي يستفيد منها المؤلفون، لا من حيث المكافأة القليلة التي ينالها كل منهم، بل من طبعها للمدارس الحرة بنفقات اقل من نفقات المطبعة الأميرية وبيعها بالسعر الرسمي المقرر، مما كان يؤدي إلى كثرة المؤلفين والمراجعين للكتاب الواحد.
ولا شك أن قرار وزارة المعارف الأخير ينطوي على كثير من المزايا الأدبية، في تثقيف الطلبة، والخروج بهم عن نطاق المواد الدراسية المحدودة، وتعويدهم القراءة الأدبية النافعة؛ وينطوي أيضاً على رغبة مشكورة في تشجيع المؤلفين، وإن كان الذين اختارت لهم الوزارة كتبا في غنى عن التشجيع، ولعله كان يصادف موقعه لو كان بينهم من هو أحوج إليه مع جدارته ولا يستطيع أحد أن يقول أن الإنتاج القيم محصور في طبقة معينة من(727/40)
المشهورين أو غيرهم.
قصص من السودان:
لست أدري أكان مقصودا، أم جاء عفوا، ولكنه على أيها كان جميلا، أن يحاضر الأستاذ إسماعيل الأزهري رئيس الوفد السوداني، بجمعية الشبان المسيحية، بعد محاضرة مكرم عبيد باشا في جمعية الشبان المسلمين.
وكان السودان موضوع كل من المحاضرتين، وكان حسنا ومفيدا أن يتحدث الأستاذ الأزهري عن السودان حديثا يتناول فيه مختلف الشؤون من ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ولا أدل على مبلغ الحاجة إلى مثل هذا الحديث مما بدأ به الأستاذ إذ قال انه اجتمع في مصر منذ قليل بشاعر مصري زار السودان أخيرا ودار بينهما حديث قال فيه الشاعر إنه عندما هم بالرحيل إلى السودان جعل يفكر حائرا: بأي لغة يخاطب القوم في السودان؟ وكيف يتفاهم معهم؟ ولكنه ما حل بالخرطوم وأم درمان حتى ألفاهم يتكلمون لغة عربية لا تقل إبانة عن لغة شمال الوادي، بل إنه لقي هناك من الشعراء من طارحوه الشعر وجاروه في ميدان القريض، ولما عاد إلى مصر كان من نتاجه قصيدة رائعة نشرت بصدر الأهرام. ولم يسم الشاعر، ولكن كان مفهوما إنه الأستاذ محمد الأسمر.
كان هذا الاستهلال ذا مغزى، فإن إخواننا بالجنوب يعتبون علينا لجهل أكثرنا بهم، وأظن أنا اعتبناهم، فقد اصبحنا في السنوات الأخيرة غير ما كنا.
وأخذ الأستاذ الأزهري في حديثه عن شؤون السودان. ومما يناسب المقام هنا ما ذكره من الجهود الثقافية التي بذلها المؤتمر السوداني إذ قال انه أنشأ في خمس السنوات الأخيرة من المدارس الابتدائية بمختلف البلدان السودانية ضعف ما أنشأته الحكومة السودانية منها في خمسين سنة!
ولما كان عنوان المحاضرة الذي نشر بالصحف (قصص من السودان) فقد كنا نتوقع أن نسمع قصصا حقيقية، ولكن كان المراد من كلمة (قصص) شئونا تتضمن وقائع تحكي في سياق الكلام.
أي الجيلين خير؟:(727/41)
دعت مجلة (الهلال) إلى ندوتها ثلاثة من أعلام الأدباء، هم الأستاذ عباس محمود العقاد وأحمد أمين بك والدكتور أحمد زكي بك، للمناقشة في هذا الموضوع (أي الجيلين خير. . القديم أم الجديد)، ونشرت هذه المناقشة في العدد الصادر أول الشهر الحالي.
رأى الأستاذ أحمد أمين إن الجيل الحاضر خير في جملته من الجيل السابق، وإن مجموعة الأخلاق أرقى الآن مما كانت في الجيل الماضي؛ ووافقه الأستاذ العقاد على تفضيل الجيل الحاضر في بعض نواحي الخلق، ولاسيما الأخلاق التي تتعلق بالحرية الشخصية، ولكن من المشكوك فيه أن تكافئ قوته ما زاد عليه من الواجبات والتكاليف، لأن مشكلات الحياة العالمية العامة، والوطنية الخاصة، ومعضلات الأخلاق والعقيدة، التي تواجه الجيل الحاضر، لم يكن لها نظائر واجهت لأجيال الماضية.
ويرى الدكتور زكي إن الجيل الحاضر من حيث النوع، ومن حيث الكم أيضا، لا يمكن أن يقل عن الجيل الماضي بل يزيد في العلم والثقافة والحضارة، ولكنه يرى - من الجهة الروحية - إن في أرواح القلائل من الجيل الماضي ما هو ارفع واثمن مما في أرواح الكثيرين من الجيل الحاضر، ومثل لذلك بالتضحية فقال (كنا قبلا نضحي لأجل التضحية وحبا فيها، وطلباً لهدف واحد، بغير من أو غرور، ولا نطلب على ذلك أجرا، بل ننتظر من وراء ذلك الغرم، ثم تطور معنى التضحية، فصارت تضحية نرجوا بها الثمن، أما معجلا أو مؤجلا، ثم تطور معناها مرة أخرى، فصارت في هذا العصر تضحية لها ثمن مضمون. . .)
وتستمر المناقشة متفرعة من هذه الأصول، إلى أن يقول الأستاذ العقاد (وأياً كان الأمر في الجيلين، القديم والحديث، فما شك فيه إن الإصلاح الإنساني، سواء كان في أمة واحدة أو في اكثر من أمة، متوقف دائما على التضامن بين الجيلين.
وتنتهي المناقشة برجائهم إلا تخلو الأمة المصرية والأمم الشرقية عموما، من صالحين بين الشيوخ، وصالحين بين الشباب، لتقوم دعائم الإصلاح على هؤلاء وهؤلاء.
وهكذا قال الجيل القديم - ممثلا في أولئك الثلاثة الإعلام كلمته في المفاضلة بين الجيلين، ويستطيع القارئ أن يستخلص من جملة آرائهم رجحان كفة الجيل الجديد، ولكن الجيل الجديد لم يعلن رأيه في هذا الموضوع في جلسة ذات محضر ينشر كما حدث في (الهلال)(727/42)
فليت ثلاثة أدباء من الجيل الجديد يفعلون، ليسمع الأباء كلمة الأبناء.
سر الزخرفة العربية:
ألقى الدكتور بشر فارس مساء الخميس الماضي محاضرة في (سر الزخرفة العربي) بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وكانت هذه أول محاضرة يلقيها بالمعهد بعد تعيينه عضواً مصرياً فيه من الحكومة الفرنسية.
بين المحاضر أولا إن الزخرفة العربية فم له ذاتيته الابتداعية ولم يخضع للفن الفارسي الجامد ولا للفن اليوناني المتناهي الوحدات، لأن الفن العربي زاخر بالحركة والحياة، وهو إلى ذلك لا تنتهي حدوده، بحيث لو وضعت بجانب الزخرفة مثيلاتها اتحدت معها.
ثم تساءل: لماذا كان للزخرفة العربية تلك الخصائص، ولماذا برع المسلمون - من عرب ومستعمرين - في الزخرفة وخصت بهم زخرفتهم؟
أورد الرأي المشهور القائل بان الفنانين المسلمين ركزوا جهدهم الفني في الزخرفة لما حرم عليهم تصوير كل ذي روح، ثم فند هذا القول بأنه ليس في أصول الإسلام رأي قاطع بهذا التحريم، وعلى فرض أي الأمرين، الإباحة أو التحريم، فقد وجدت صور كثيرة ذات أرواح، إنسانية وحيوانية، صورت في العصور الإسلامية.
وانتهى من ذلك بان أرجح سر الزخرفة العربية وبراعة المسلمين في أشكالها وألوانها إلى جملة العقيدة الإسلامية في تفتيشها عن الله وخضوعها لحكمه وتعظيمها له، فكان الفنانون يتجهون إليه فيما يرسمون، وكانوا يحملون برسومهم المساجد والمصاحف ابتغاء الغبطة في السماء التي هي خير وأبقى من متاع الدنيا.
ولم يكن فن الزخرفة قاصراً على الأشكال والألوان، بل كان أيضاً في الخطوط كالخط الكوفي مثلا الذي كان له حظ كبير من الفن الزخرفي تم له من الفكرة الإلهية، إذ كانت تكتب به آيات القرآن الكريم؛ وقد أنحدر عن هذه الفكرة أيضاً تحسين الخط العربي في العصور الإسلامية الأخيرة، فقد كان الخطاطون يبتغون الثواب من الله على كتابهم المصاحف بالخط الجميل.
العامية وبرنامج الإذاعة:(727/43)
أخذنا على محطة الإذاعة المصرية - في عدد مضى من الرسالة - الإكثار من الإذاعة العامية في التمثيليات والأحاديث، سواء العامي منها والعربي (المكسر)
وفي الأسبوع الماضي اطلعت على إجابة للأستاذ محمد فتحي بك المراقب العام للإذاعة المصرية، عن أسئلة وجهتها إليه مجلة (دنيا الكواكب) اللبنانية، منها هذا السؤال. (نطالع في الصحف المصرية شكوى مستعمرة من ضعف برنامج الإذاعة المصرية، فما هي الطرق الفعالة لملافاتها؟)
أجاب الأستاذ فتحي بان الجمهور متباين المزاج مختلف الطبقات، ومن الصعب إرضاءه كله ببرنامج واحد، وإن الإذاعة في بريطانيا واجهت هذه المشكلة وعمدت إلى حلها بان قسمت الشعب البريطاني إلى ثلاث فئات، عامة، ومتوسطة، وعالية، ثم خصت كل فئة من هذه الفئات ببرنامج على محطة مستقلة إلى أن قال: (ونحن لو اتبعنا هذه الطريقة لاستطعنا أن نقضي على تلك الشكوى المستمرة قضاء مبرما فاستطعنا إذا وجدنا ثلاث محطات أن نقدم لكل من طبقات الشعب الثلاث برنامجا خاصا يتوافق مع مستواه وتفكيره، حيث نقدم للأولى رقصا بلديا وزجلا وحديثا باللهجة العامية وأحاديث دينية، بينما نقدم للطبقة الثانية وهي طبقة المثقفين برنامجاً يشتمل على معالجة الحالة السياسية والأخبار الدولية والمواضيع الاجتماعية والأبحاث والروايات الأدبية، وفي الوقت نفسه نذيع للطبقة العالية برنامجا يحتوي على موسيقى كلاسيكية وأحاديث وقصصاً لبرناردشو وشكسبير وأعلام الفلسفة).
فترى هذا الحل المترتب على الإمكان يتضمن إرضاء طبقة الشعب بالتحدث إليه باللهجة العامية، فهل هذه الطبقة تشكو من العربية حتى نترضاها بالعامية؟ أو من الحق أن الشعب يستثقل العربية الفصيحة؟ إننا نعتقد إن إسماع الشعب لا تنفر إلا من الأساليب غير البينة والإلقاء الرديء، وانه من الممكن أن تجتذب الإسماع بالبيان السهل الواضح والإلقاء الحسن، وإذا كنا نكتب الحكايات والقصص للأطفال بلغة عربية فصيحة سهلة فيستسيغونها ويقبلون عليها، أفلا نستطيع أن نخاطب الكبار في الإذاعة بمثل لغة الأطفال على الأقل؟ وكيف إذن يكون تثقيف الجمهور ورفع مستواه؟
على أن للشكوى من برنامج الإذاعة وجها آخر غير تباين الأذواق الذي تمنى الأستاذ فتحي(727/44)
وجود ثلاث محطات لمواجهته بتنويع البرامج، ذلك الوجه هو قصور المحطة ذاتها وضنها على تحسين البرنامج وتجديده، ويتلخص ذلك في تكرار التسجيلات بل دوامها وخلودها. . وفي اختيار الأرخص والمرضي عنه، ولقد كان من المخجل - على سبيل المثال - أن تريد المحطة إحياء ذكرى شوقي فلا يكون ذلك إلا بإدارة (اسطوانات) قديمة لعبد الوهاب من شعر أمير الشعراء!
المحاضرات بالمصطاف:
حل الصيف، واشتد القيظ، واتجهت الأنظار إلى المصايف، وفي مقدمتها الإسكندرية، وقرأنا في الصحف إن بلدية الإسكندرية قد اهتمت بتيسير وسائل الاصطياف في هذه المدينة وضواحيها، وأنشأت مكتبا لذلك، وقد أذاع هذا المكتب بيانا بالحفلات الكبرى التي تقرر إقامتها في هذا الصيف، وهي حفلات رياضية وتمثيلية وموسيقية.
قرأت ذلك في الصحف ثم رجعت البصر إلى القاهرة، فأسفت لأنها تكاد تخلو في الصيف من النشاط الفكري الذي كان يجري قبل هجوم الحر في أنديتها ومجتمعاتها ومعاهدها محاضرات ومناظرات في مختلف الفنون والشؤون.
ثم استمعت إلى الدكتور إبراهيم جمعة مدير نشر الثقافة بوزارة المعارف يحدث بالمذياع يوم الاثنين في (الاصطياف في الإسكندرية) قديماً سمعته يقول انه كان بشاطئ الإسكندرية في العصر الروماني حمامات وأحواض للسباحة، يأخذ الجسم حقه من الرياضة فيها، ثم يستريح في بعض الحجرات التي زودت بالفرش والكتب، أو في الحدائق ذات الجواسق الجميلة، أو في استماع المحاضرات العامة ببعض القاعات التي أعدت لهذا الغرض في أبنية الحمامات.
فيما ليت بلدية الإسكندرية أو أية هيئة أخرى تلتفت إلى ناحية الثقافة في المصطاف، فتعيد إليه ما كان في العصر الروماني من تنظيم المحاضرات العامة، مستغلة في ذلك وجود بعض رجال الأدب والفكر هناك، ويا ليتني أكون معهم فأفوز فوزا عظيما.
(العباس)(727/45)
من هنا ومن هناك
الصداقة والعلاقة
قال أبو حيان التوحيدي: سألت أبا سليمان المنطقي عن الفرق بين الصداقة والعلاقة فقال: (الصداقة أذهب في مسلك العقل وادخل في باب المروءة، وابعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأهداب السداد، وابعد من عوارض الغرارة والحداثة. فأما العلاقة فهي من قبل العشق والمحبة والكلف والشغف والتتيم والتهيم والهوى والصبابة والتدانف والتشاجي، وهذه كلها أمراض أو كالأمراض بشركة النفس الضعيفة والطبيعة القوية، وليس للعقل فيها ظل ولا شخص، ولهذا تسرع هذه الأعراض إلى الشباب من الذكران والإناث وتنال منهم وتحول بينهم وبين أنوار العقول وآراء النفوس وفضائل الأخلاق وفوائد التجارب، ولهذا وأشباهه يحتاجون إلى الزواجر والمواعظ ليفيئوا إلى ما فقدوه من اعتدال المزاج والطريق لوسط، على أن العشق والمحبة وما يحويهما فيه كلام من نحو آخر. . .)
كيف يسوس الرجل زوجه:
وقفنا في هذا العصر على كلمة للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا كأنه كتبها لهذا العصر وليست هذه الكلمة إلا دلالة على إن ما بين المرء وزوجه إنما هو هو في كل زمان وفي كل عصر
قال الشيخ الرئيس:
(جماع سياسة الرجل أهله ثلاثة أمور لا تدعه، وهي الهيبة الشديدة، والكرامة التامة، وشغل خاطرها بالمهم. أما الهيبة فإن الزوجة إذا لم تهب زوجها هان عليها، وإذا هان عليها لم تسمع لأمره ولم تصغ لنهيه، ثم لم تقنع بذلك حتى تقهره على طاعتها فتعود آمرة ويعود مأمورا. . . وذلك هو الانتكاس والانقلاب، والويل حينئذ للرجل ماذا يجلب له غرورها وطغيانها ويسوقه إليه غيها وركوبها هواها من العار والشنار والهلاك والدمار. فالهيبة رأس سياسة الرجل أهله وعمادها، وهي الأمر الذي ينشد به كل خلة ويتم بتمامه كل نقص ولا يتم دونه أمر فيما بين الرجل أهله، وليست هيبة المرأة لبعلها شيئا غير إكرام الرجل نفسه وصيانة دينه ومروءته وتصديق وعده ووعيده.(727/46)
أما كرامة الرجل أهله فمن منافعها أن الحرة الكريمة إذا استحلت كرامة زوجها دعاها استدامتها لها ومحاماتها عليها وإشفاقها من زوالها إلى أمور كثيرة جميلة لم يكد الرجل يقدر على أصارتها إليها من غير هذا الباب بالتكلف الشديد والمؤونة الثقيلة، على أن المرأة كلما كانت اعظم شأنا وأفخم أمرا كان ذلك أدل على نبل زوجها وشرفه وعلى جلالته وعظم خطره. وكرامة الرجل أهله على ثلاثة أشياء في تحسين شارتها وشدة حجابها وترك إغارتها. . .
وأما شغل الخاطر بالمهم فهو أن يتصل شغل المرأة بسياسة أولادها وتدبير خدمها وتفقد ما يضمه خدرها من أعمالها. فإن المرأة إذا كانت ساقطة الشغل خالية البال لم يكن لها هم إلا التصدي للرجال بزينتها والتبرج بهيئتها. . .)
الكتابة والحديث:
يقول الكاتب الأمريكي المعروف أوليفار هولمز في كتابه حديث المائدة: (الكتابة كالرمي بالنشاب، قد تصيب من قارئك موضع الفهم وقد لا تصيبه، ولكن الحديث كالتمرين على الرمي، متى كان الغرض أمامك وفي الوقت متسع ضمنت لنفسك الإصابة).
ارمني وقبطي:
جاء في كتاب مختصر تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي: (وفي سنة 515 للهجرة مات بمصر الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه أحمد بن أمير الجيوش بدر الأرمني وكانت ولايته 28 سنة على الديار المصرية واستولى الآمر على حواصله كلها ولم يسمع في الدنيا بمثلها كثرة، فكانت دوابه تقدر باثني عشر ألف ألف دينار وكان لبن المواشي التي له يغل في العام ثلاثين ألف دينار) وذكر ابن خلكان إن الأفضل (خلف ألف ألف دينار ومائتين وخمسين إردب دراهم وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج).
وجاء في كتاب الذيل لتاريخ الدول (وفي سنة 703 قبض السلطان على الوزير علم الدين بن زنبور وصودر بعد الضرب والعذاب فكان المأخوذ منه من النقد ما يزيد على ألفي ألف دينار. ومن أواني الذهب والفضة نحو ستين قنطارا، ومن اللؤلؤ نحو إردبين، ومن الحياصات الذهب ستة آلاف، ومن القماش المفصل نحو ألفين وستمائة قطعة، وخمسة(727/47)
وعشرين معصرة سكر ومائتي بستان وألف وأربعمائة ساقية، ومن الخيل والبغال ألف، ومن الجواري سبعمائة، ومن العبيد مائة ومن الطواشية سبعون إلى غير ذلك، وكان علم الدين هذا قبطيا ثم ارتد عن دينه. . .)
الطبيب الكامل:
قال علي بن رضوان الطبيب المتوفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة في كتابه الأصول: (الطبيب على رأي بقراط هو الذي اجتمعت فيه سبع خصال
الأولى: أن يكون تام الخلق صحيح الأعضاء حسن الذكاء جيد الروية عاقلا ذكورا خير الطبع.
الثانية: أن يكون حسن الملبس طيب الرائحة نظيف البدن والثوب.
الثالثة: أن يكون كتوما لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم.
الرابعة: أن تكون رغبته في إبراء المرضى اكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة، ورغبته في علاج الفقراء اكثر من رغبته في علاج الأغنياء.
الخامسة: أن يكون حريصا على التعليم والمبالغة في منافع الناس.
السادسة: أن يكون سليم القلب عفيف النظر صادق اللهجة لا يخطر بباله شئ من أمور النساء والأحوال التي شاهدها في منازل الأغنياء فضلا عن أن يتعرض لشيء منها.
السابعة: أن يكون مأمونا ثقة على الأرواح والأموال لا يصف دواء قتالا ولا يعلمه، ولا دواء يعالج الأجنة وأن يعالج عدوه بصدق نية كما يعالج حبيبه. . .)
الصحف الأجنبية في أمريكا:
ظهر من إحصاء أخير أذيع بأمريكا إن عدد الصحف الأجنبية اليومية والأسبوعية والشهرية التي تصدر هناك يبلغ 1010 صحيفة تطبع في 39 لغة مختلفة، منها 130 صحيفة باللغة الأسبانية و115 باللغة الألمانية و102 باللغة الإيطالية و79 باليونانية و56 باللغة العبرية و54 بالمجرية و52 بالتشكوسلوفاكية و43 بالفرنسية و42 بالسويدية و14 باللغة الصينية و12 باللغة العربية و9 باليابانية.
وينشر العدد الأكبر من هذه الصحف في ولاية نيويورك إذ يبلغ مجموع الصحف الأجنبية التي تصدر فيها 290 صحيفة وتحتل شيكاغو المكان التالي إذ يصدر فيها 94 صحيفة(727/48)
ومجلة
يقول الأحباس في أمثالهم:
إذا قال لك السيد إن نصف الليل هو الظهر فاحلف له انك رأيت الشمس.
إذا رأيت الملك راكبا حمارا فقل له ما اجمل هذا الجواد.
متى رأيت الكلب غنيا فقل له يا سيدي الأسد.
الوطن قبل الروح لأنه مقر راحتك.
فرق الذين تريد أن تحكهم.
حين تكون البضاعة مرغوبة يكون المشتري أعمى.
صناعة الحلاقة تتعلم على رؤوس اليتامى.
الله قريب من رأس الضعيف.
هب ما تملك لمضيفك.(727/49)
البريد الأدبي
مناظرة لا داعي لها:
أنا ما كتبت كلمتي (إلى علماء الشيعة) لأجدد شقاقا، ولكن لأحدث وفاقا، وما أردت أن أثيرها داحسية بين السنة والشيعة، ولكن أردت أن ننسى إننا كنا سنة وشيعة ونعود أمة واحدة، تستقي من النبع الصافي، وترد المورد العذب، وتسلك الطريق المستقيم، وتدع السبل المنحرفة، وتأخذ الدين من الكتاب وما أثر من تفسيره، والسنة وما صح من أخبارها، وتعرف لسلف هذه الأمة فضلها علينا وعلى الإنسانية كلها، وما ظننت أني قلت شيئا يسوء مسلما، وكيف وأنا أدعو إلى الوحدة، وأرجو الوئام؟
لذلك قرأت بعجب بالغ هذا السيل من المقالات الذي اندفق على الرسالة
من العراق: مقالة من القرنة بإمضاء (عبد الحسين الراضي) يقول
فيها. (ليكف (أحمد أمين) عن النبز والمس يكف السبيتي وغيره).
ومقالة من بغداد بإمضاء (عبد الأمير السبيتى) ينكر عليَّ قولي أن
الشيعة حزب سياسي نشا لتأييد أحد المرشحين للخلافة، ويدلني على
كتب سبق أن قرأت أكثرها لأرى (إذا كان الشيعة جمعية سياسية أم
إنها أكثر الطوائف الإسلامية تمسكا بمبادئ محمد وأشدها التصاقا
بالدين الحنيف الخ) ويسألني لماذا لم أثر على أحمد أمين لما ألّف فجر
الإسلام وثرت على السبيتي لما رد عليه. أي لما سب الصحابة والأئمة
وطعن في الصحيحين. . . ويقول عني ما نصه (لو نظر إلى الكتاب
(أي كتاب السبيتى) بغير العين التي نظر إليه بها لرأى المؤلف معتمدا
في كل ما كتبه (في كل ما كتبه. .) وقاله على كتب معتبرة عندكم
معشر أهل السنة (؟!) وعززها بأدلة معقولة (؟!) ثم يسب في المقال
معاوية وأبا هريرة ومروان اكثر مما سبهم صاحب الكتاب. ومقالة من(727/50)
بغداد بإمضاء (رشيد عباس الصفار) ينكر على فيها قولي أن الشيعة
حزب سياسي ويفيض في ذلك، ويطعن في بيعة أبي بكر، ويعجب من
تسامح إخوانه أهل السنة (في إطلاق أسم الصحابي بصورة موسعة
على كثير ممن يبرأ منهم جل الشيعة ويمقتهم كثير من أهل السنة
أمثال. . . أبي هريرة الوضاع ومروان بن الحكم عدو الإسلام. . .
ومعاوية داعي البغي والشقاق والمغيرة. . . وعمرو بن العاص وكثير
ممن لا يوثق بهم). . ويقول بأن الشيعة (لا يمكنها الأخذ بمصنفات
أهل السنة مع وجود تفاسيرها المعتبرة وأحاديثها المأثورة عم أهل
البيت الطاهر الخ) وسبب ذلك (تسامح أهل السنة في تخريج كثير من
الأحاديث في صحاحهم وغيرها عن كثير من الخوارج والشذاذ
والمبتدعة والوضاعين الخ كمروان أبي هريرة والمغيرة الخ) ثم يتكلم
عن مسألة سب الصحابة فيقول (ثم على فرض جراءة بعض الشيعة
على انتقاص بعض الصحابة أيكون ذلك سبباً لتكفيرهم أو خادشا في
إسلامهم؟)
وسائر المقالات لم تخرج عن هذا، ولا يخلو شئ منها من التعريض بي أو التصريح بغمزي وأنا أسامح من سبني، ولن أقول في الموضوع اكثر مما قلت، ولا أظن إن هذه المناظرات مكانها الرسالة، التي أنشئت لغير هذا إنما مكانها (دار التقريب. . .) التي (قالوا) إنها فتحت له. وأنا أعلن أني لم أرد الخلاف ولا الانتقاص، وما أردت إلا الاتفاق بإخلاص. وشرعت طريقا إليه لا مناص لمن أراده من سلوكه. ولكن ماذا أعمل إذا كان إخواننا هؤلاء لا يريدون سلوك الطريق؟!
علي الطنطاوي(727/51)
نسيه خاطئة يكذبها التاريخ:
استوقفت نظري في صفحة 348 من كتاب القضايا الكبرى للأستاذ عبد المتعال الصعيدي. عند قوله - وكان ابن تيمية يخطب يوم الجمعة ونزل درجة من درج المنبر وقال أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا.
وهذه المسألة ذكرها ابن بطوطة في رحلته وعنه نقلها المتحاملون على شيخ الإسلام، وقد قال المحققون إن ابن بطوطة قدم الشام وشيخ الإسلام مسجون فكيف رآه يخطب بل هذا كذب يراد به الطعن على شيخ الإسلام ابن تيمية.
وهذا لا يقول به شيخ الإسلام لأنه من مذهب المجسمة وابن تيمية ينكره اشد الإنكار - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير - ورجائي إلى الأستاذ أن يراجع ذلك ثم يوافينا برأيه السديد الموفق إن شاء الله
عبد الله البكري
إلى الجارم بك
أوردتم في كتيبكم الأخير (الشاعر الطموح) الأبيات الآتية منسوبة إلى (سيف الدولة) وهي في وصف قوس قزح:
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجو دكناً والحواشي على الأرض
يطرزها قوس الغمام بأصفر ... على أحمر في أخضر تحت مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض
والحقيقة إنها للشاعر ابن الرومي وهي أروع ما أنتجته قريحته في وصف الطبيعة. وقد جاءت في ديوانه الذي عني به الأستاذ كامل الكيلاني.
هذا إلى أن حضرتكم قد ذكرتموها في كتاب المطالعة التوجيهية في باب المقارنات الشعرية مقرونة بنادرة بين ابن الرومي وابن المعتز في المفاضلة بينهما.(727/52)
(القاهرة)
جميل
ذكرى الرافعي:
لما كنت اعرف مكانة الرافعي في الأدب واعلم بلائه وجهاده في سبيل الإسلام فقد كنت أنتظر ذكرى وفاته العاشرة وأنا راج أن يكون أصدقائه وتلاميذه قد اعدوا لأحيائها عملا لا كلاما فيتداعوا لنشر كتبه التي طال على إهمالها الزمن فيطبع (أسرار الإعجاز) و (أغاني الشعب) و (مجموعة) شعره الكبرى وجزءاً رابعاً لوحي القلم فإن هناك ما يقوم به من مقالاته المبعثرة في كثير من الجرائد والمجلات وكتبه الخاصة إلى أصدقائه، كنت أرجو أن يكون هذا أو بعضه فإن لم يكن فأحاديث عن فنه وجهاده من مثل الأستاذ شاكر أو الأستاذ الطنطاوي وانهما ليكتبان الآن في كل شئ وليس فيما يكتبان فيه ما هو أجل من الرافعي ومعانيه: الدين والأدب الفني الرفيع والعزة الإسلامية
فلما جاءت الذكرى كتب الأستاذ أبو ريه كلمة يشكر عليها فقد كان صريحة منصفة إلا انه لم يشر بشيء عملي مع انه ذكر اسم الكتاب العبقري (أسرار الإعجاز)
ان الورق رخيص والكتب من كل لون تنشر ويدعى لها، فهل كل هذه الكتب اثمن من كتب الرافعي؟ وهل كتبه أهون من أن تصدر مع هذا السير من الكتب؟
الرمل
محمود الطاهر الصافي
إلى الجاحظ:
قرأت ما كتبته في الرسالة تعقيباً على إحدى مقالاتي في البلاغ. والحق معك. فأليك تحيتي وثنائي.
زكي مبارك
حول خطأ عروضي:(727/53)
أرجو أن تأذنوا لي بهذا التصويب حول ما نشرتم للأستاذ خليل إبراهيم الخطيب عن (الخطأ العروضي الشائع) في العدد رقم 725 من الرسالة الغراء، فقد قال الأستاذ أن قصيدة الأستاذ مختار الوكيل التي مطلعها:
أخي قد شاء رب الكو ... ن أن يجمع قلبانا
قال الأستاذ إن هذا المطلع من بحر الهزج وأن البيت الذي يليه من مجزوء الوافر. والحقيقة هي غير ما بين الأستاذ الخطيب والقصيدة كلها من مجزوء الوافر الذي يجوز فيه تسكين اللام في (مفاعَلتن) فتكون (مفاعَلتُن) كما ورد في قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم التي مطلعها:
(سكتُ فأصغْروا أدَبي) منها البيت الآتي:
فهبوا من مراقدكم ... فإن الوقت من ذهب
وعلى هذا لا يقال إن قصيدة حافظ خليط من الهزج والوافر بل هي كلها من مجزوء الوافر (مفاعلتُن مفاعلتَن) ويجوز فيه تسكين اللام - ولكم يا سيدي ألف شكر
نظام مدني(727/54)
القصص
إلياس
(إلى الذين يجدون سعياً في سبيل السعادة
للكاتب الفيلسوف ليو تولستوي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
يحكى أنه كان يعيش في بلدة واحد من البشاكرة يدعى (إلياس). . . قضى أبوه نحبه بعد أن متع ناظريه بزوجة ولده - دون أن يخلف له شيئاً من الأرض يأتي له بريع من الرزق يعيش هو وامرأته عليه. فلم يدع له سوى سبعة من الخيول والأفراس وبقرتين وعشرين رأساً من الغنم. . .
فشمر إلياس عن ساعد الجد. . . وكان ماهراً في رعاية الحيوان بارعاً في تربيته ذا جلد ومثابرة، فراح يتولى ماشيته بعنايته، ويهيئ لها من المرعى والمأوى كل ما يدخل في طوقه. . .
وكان - هو وزوجته - يعملان سحابة يومهما وجنحاً من ليلهما. . . ينهضان على تبكير من الغسق. . . وهما آخر من يأوي إلى مضجعه في العشي. وأقاما على تلك الحال حتى بارك الله في ماشيتهما، وضاعفها. فزادت وتكاثرت عاماً أثر عام، وأتيح لهما وفر فيما يملكان من ثروة ومال. . .
وحينما وافت السنة الخامسة بعد الثلاثين على تمها صار لإلياس من الخيول مائتان، ومن البقر مائة وخمسون ومن الغنم ألف ومائتان. . . فأستأجر رجال يحملون عنه عِبءَ الرعي ويقومون على معونته. . . واتى بأجيرات من النساء يحلبن له ماشيته ويخضون ألبانها ويستخلصون منها الزبد والسمن والجبن (والكميس)
فأيسر (إلياس). . . وأخصب جانبه وأرغد عيشه، وراح يعيش في بلهنية ودعة. . . فعظم مقامه بين جيرته، وذاع شأنه بين من يقنطون في واديه. وأخذ كل امرئ يغبطه ويتحدث عنه - وفي نفسه حسد - (إن إلياس رجل بخيت ذو جد جلب عليه كل ما يراود أمل الإنسان من رغبات. . . فهو - دون ريب - سعيد بهذه الدنيا هانئ بها(727/55)
تقاطرت على (إلياس) جموع الزوار من كل حدب. . . فكان يتلقى كل واحد منهم بالترحيب والتكريم، وينحر لهم الخراف ويهيئ لهم موائد حافلة باللذيذ الفخر من الطعام والشراب ويقدم له ما راق لهم من (الكميس) والشاي. . .
كان لإلياس ولدان وبنات زوجهم جميعاً. . . وحينما كان في أيام فقره وعسره كان هؤلاء الأبناء عوناً لأبيهم في رعاية قطعانه وحتى إذا ما زخرت خزائنه بالمال سرت إلى نفوسهم عوامل الفساد والتلف. فأقبل واحد منهم على الخمر يعب كؤوسها حتى يضل منه الوعي ويحمل مخمورا إلى داره. ولم يلبث أن قتل في عراك بين أبناء الحي من ذوي النفوس الشريرة.
أما الآخر فقد تزوج بامرأة رقيعة خرقاء، جعلت تسعى بالباطل بين الولد وأبيه حتى أوغرت نفسيهما وأضغنت قلبيهما. فافترقا بعد أن تخلى (إلياس) لأبنه عن جواد وقطيع من الغنم
لم ينقض حين على ذلك حتى تفشى المرض بين الماشية، فأورد كثيرا منها مورد الهلاك والفناء. . . وساء الحصاد في هذا العام ولم تأت الأرض إلا باليسير. . . فحصد الموت بعض ما تبقى من الجوع. ثم أغارت قبائل (القرغيز) على أملاك (إلياس) فاستحوذت على البقية الباقية من حيواناته. . .
وبين ليلة وضحاها أصبح إلياس، فإذا بأمواله قد عبثت بها يد الزمان، وأدبرت عنه الدنيا وهي ساخرة في حين ضعف فيه جسده ووهنت قواه. . . فباع أثاث داره ثم لم يلبث أن باعها هي الأخرى.
وبات هو وزوجته - وكانت تدعى (شام شماجي) - على الطوى وليس لهما من موئل يأويان إليه، فقد رحل ولدهما وزوجته عن البلدة، وماتت ابنتهما منذ زمن بعيد. فلم يجد الزوجان إلى جانبهما في خريف العمر من يسعى عليهما بالقوت. . .
وكان لهما جار يدعى (محمد شاه) ليس بالغني وليس بالفقير بل يحيا حياة ذات رخاء ويسر. . . فعطف عليهما ورحم كبرهما إذ كان ذا قلب يفيض بالحب وعروق تنبض بالرحمة. فطاف بعقله ما كان عيه (إلياس) من كرم وجود. فقال له: -
تعال وأقم معي يا إلياس أنت وزوجك العجوز. . . وما عليك سوى أن تفلح حديقة البطيخ(727/56)
في الصيف، وفي الشتاء تطعم الماشية وترعاها. . . إذا وسع مقدورك هذا!! أما زوجتك الفاضلة (شام شماجي) فسوف تجلب الأفراس وتستخرج لنا من ألبانها (كميساً) طيب المذاق بديع الصنع.
وسأهيئ لكما من الملبس والطعام ما تقر به عيونكما وترومانه فإن أعوزتك حاجة بعد ذلك فخبرني بأمرها، وإني لأعدك بأن أتيحها لك ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. . .
أقبل (إلياس) وامرأته على العمل في خدمة جارهما. ولعلهما صادفا في أول الأمر صعوبة، وشقت عليهما الخدمة. بيد أنهما لم يمكثا غير قليل حتى تعودا على ذلك، واستقر بهما المقام عنده يعملان له ما يسعهما. . .
وكان يتسرب الألم والرثاء إلى قلب (محمد شاه) حينما يبصر بهما بعد غناهما العريض وعلة منزلتهما، ينحدر إلى مثل هذه الحال. لقد حرز في نفسه هذا ولكنه أفاد منهما إذا أطلق لهما حرية الأمر، فلم يسعهما سوى أن يتفانيا في خدمته بإخلاص وجد
وذات يوم نزل في ضيافة (محمد شاه) نفر من ذوي قرابته وصديق له من رجال البحر فذبح (إلياس) لهم شاة وسلخها وبعد أن أنضجها على النار، بعث بها إلى الأضياف فأكلوا منها ما طاب لأنفسهم. . .
وبينما هم قعود على البسط الثمينة يتناقلون الحديث ويرشفون كؤس ا (لكميس) مر بهم إلياس - وقد فرغ من عمله - فلما أبصر (محمد شاه) قال لواحد من أضيافه: (هل لمح طرفك هذا الرجل الذي مر بنا منذ لحظات؟!)
فأجابه الضيف في عجب: (أجل.! فما الذي يدعو إلى سؤالك هذا؟!)
- (لقد كان أغنى إنسان في هذه الناحية من الأرض!. إنه يدعى الياس. أما سمعت بذلك الاسم من قبل؟!)
- (لقد طرقت سمعي أخبار عنه مؤكداً. . إني لم أره قبل الآن ولكن شهرته ذاعت كل البقاع!.)
- (هذا حق. . بيد أنه الآن صفر اليدين ذو متربة وعسر. فهو يقيم معي هنا يعمل في أرضي ويرعى أغنامي، أما زوجته فتحلب ماشيتي وأفراسي!. .)
فأدرك الدهش ذلك الضيف ومط شفيتيه وهز رأسه وهو يقول: (الأيام دول من سره زمن(727/57)
ساءته أزمان. فبين عشية وضحاها يصير المرء من أعلى عليين إلى أسفل سافلين!
هل ترى المصيبة تقض مضجع هذا المسكين وتجعله يندب حظه على ما ضاع من بين يديه؟!)
- (ومن يدريك؟! إنه يعيش في هدوء وسكينة يحسن القيام بعمله) فعاد الضيف يقول: (بودي أن أتحدث إليه حيناً هو وزوجته، أفيمكنني هذا؟)
- (ولم لا؟!) وراح السيد ينادي على إلياس: (يا أبت. هيا اشرب معنا قدحاً من الكميس. وادع زوجتك إلى هنا كذلك.)
فدلف إلياس مع زوجته إلى الحجرة. . . وبعد أن ألقى تحيته على الأضياف جلس على قرب من الباب، وراح يتمتم بصلات خفية في صوت خفيف. . . أما زوجته فتجاوزت المكان إلى ستر في ركن منه حيث جلست خلفه مع سيدتها. . .
وقدم (محمد شاه) إلى إلياس قدحاً من أقداح (الكميس) فتناوله ولسانه يلهج بعبارات الشكر والحمد، وبعد أن تمنى للحاضرين صحة وعافية راح يترشفه على مهل، ثم وضعه جانباً. فقال له الضيف الذي كان يروم رؤيته. (حسن يا أبتاه. أحسب إن حديثنا سوف يثير في نفسك لواعج الحزن والأسف ويبعث في نفسك ذكرى ما كنت تتملكه من دور وضياع ومواش ذهبت هباء مع الريح. . لعلك آسف وضيق النفس بما أنت فيه الآن!
فوضحت على ثغر إلياس ابتسامة هادئة وقال في صوت رزين (لو إني أخبرتك ما هي السعادة، وما هي عثرة الحظ. . . لأثار ذلك دوافع الشك لديك في نفسك!. فيحسن بك إذن أن تسأل زوجتي. فكل ما في قلوب النساء يجري طلقاً على ألسنتهن. . . ولسوف تنبئك عن بينة بجلية الأمر!. .)
فاستدار الضيف نحو الستار. . وهو يقول: (هلا تخبرينا يا جدتي العجوز. . . كيف أن سعادتكم السابقة تقرن بما يكتنفكم الآن من بؤس وشقاء؟؟)
فأرتفع صوت (شام شماجي) من خلف الستار: هذا ما يدور بخلدي! لقد عشت أنا وزوجي العجوز خمسين عاماً نسعى في سبيل السعادة وننقب عنها، فلم ندرك لها أثراً. . . ولكنها الآن في هاتين السنتين الأخيرتين - منذ أن ودعنا الغنى ورفعة الشأن، وأصبحنا نعمل كأجيرين بلغنا السعادة وعرفناها على حقيقتها وصرنا ننعم بها كل صباح ومساء. . . فلسنا(727/58)
نبغي أسعد من أيامنا هذه!.)
فرانت الدهشة والعجب على وجوه الأضياف وكذلك صاحب الدار الذي قام فحسر الستار عن مكان المرأة العجوز وهي جالسة، وقد عقدت يديها على صدرها وراحت تتبسم لزوجها فابتسم هو الآخر لها.
وبعد أن مضت برهة من الصمت تعلقت فيها الأنفاس عادت تقول في صوتا الهادئ: (غني لا أحدثكم بغير الحقيقة. . . وما في قولي من مبالغة بل هو الحق الخالص. . . لقد أبلينا ربع قرن من الزمن ونحن نسعى إلى السعادة. . . وعلى قدر ما كنا أغنياء كانت محرمة علينا. أما الآن وقد صرنا أجيرين لا نملك من متاع الدنيا شيئاً أحسسنا بالسعادة التي لا نود بديلاً منها. . .)
فقال لها ذلك الضيف متسائلاً: (بالله خبرينا ما هذه السعادة التي تشملك أنت وزوجك في إعسار كما بعد اليسر وادبار الدنيا عنكما بعد إقبالها عليكما؟!)
- (أصبت!. حينما كنا أغنياء كان لدينا من المشاغل ما يصرفنا عن إئتناس الزوج بزوجته وتآلف روحينا. وعبادة الله عز وجل. . . لقد كان الناس يفدون علينا فنسهر على خدمتهم وتوفير ما يثلج قلوبهم خشية أن تتناولنا ألسنتهم بالسوء ويتحدثون عنا بما نكره. . . فإذا ما رحلوا كان علينا أن نراقب عمالنا ومن يقومون على خدمتنا حتى لا تنزع بهم دوافع الشر إلى خيانتنا فيما نعهد به إليهم. . .
كما أننا كنا نحاول أن ننقص أجورهم ونفيد منهم أكثر مما نستحق. فارتكبنا الخطيئة الأولى.
ثم إننا كنا - إذا ما جن الليل - نبيت ونحن أيقاظ خشية أن تفترس الذئاب الوحوش بعض الأغنام أو يعمد فريق من اللصوص إلى سرقتها في غفلة من حراسها. وننهض بين حين وآخر لنطمئن عليها. . . وغير ذلك مما كان ينشأ من المشاكل، ثم أضف إلى ذلك ما كان ينشب بيني وبين زوجي من شجار ونزاع. . . فهو يريد شيئاً وأنا أود ما هو ضده فنخطئ ثانية. . .
وهكذا كنا لا نكاد نتجاوز صعوبة حتى نقابل أخرى. . . ونستدبر خطيئة حتى نواجه ثانية فعشنا لا نجد إلى السعادة سبيلا!)(727/59)
- (حسن. . والآن.)
- (الآن حينما. . أفيق أنا وزوجي (العزيز) في الصباح بعد نوم هادئ مطمئن لا ينغصه الخوف ولا الفزع. . نتبادل كلمات الحب وعبارات الود. . . وبدأنا نحيا في هدوء وسلام لا تعكر صفوة تلك الأسباب التي كانت تثير النزاع والشقاق بيننا.
ليس علينا من واجب سوى خدمة ذلك السيد الكريم الذي أحسن إلينا. . . فنحن نتفانى في العمل لصالحه. . . حتى لا يحس في وجودنا مضرة به أو ثقلاً عليه. . . ونتناول غداءنا هنيئاً مع أكواب (الكميس). . . وقد توفرت لدينا الأخشاب التي نطعمها النار ونستمتع بدفئها إذا ما اشتدت وطأة البرد ويأتينا سيدنا بالثياب ذات الفراء التي تعوزنا.
أما الوقت فقد بتنا نجد فيه ما يتسع لحديث كل منا إلى الأخر في ود. . و. . غزل. . فنفكر في أنفسنا ونتعبد متقربين إلى الله نسأله الصفح والغفران عما ارتكبناه من الخطيئات. . نعم لقد سعينا خمسين عاماً في سبيل السعادة فلم نجدها إلا الآن!.)
فضحك الأضياف. . ولكن إلياس ما لبث أن قال لهم في صوت ذي جرس هادئ وإن شاعت فيه رنة العتاب:
(ليس ثمة مجال للضحك!. أيها الرفاق. . فليس هذا الحديث مثاراً للضحك والهزل. . بل عبرة وعظة. . إنها حقيقة الحياة. . لم ندركها إلا حينما توج رأسانا المشيب. .
لقد كنا نحن كذلك سخفاء وحمقى حينما بكينا طويلاً على ما ضاع من ثروة وعلو شأن. . . ولكن الله - تعالت قدرته هدانا الآن إلى الحقيقة. . فما أجملها وما أجلها. .
إنا لا نذكر هذه الحقيقة لكم ابتغاء السلوى والعزاء لنا ولكن نجلوها على أسماعكم لهدايتكم وخيركم!.)
فقال (الملاح) وقد اغرورقت عيناه بالدموع: (إنك لعلى حق يا إلياس. . إنه حديث الحكمة والموعظة. . وقد جاء ذكره في الكتب المقدسة التي نزلها الله ليهدي بها عباده. .)
وأمسك الأضياف عن الضحك. واستغرقوا في فكر عميق.
(القاهرة)
مصطفى جميل مرسي(727/60)
العدد 728 - بتاريخ: 16 - 06 - 1947(/)
ِأسد أفريقية
للأستاذ محمود شاكر
إلى أسد أفريقية محمد بن عبد الكريم الخطابي.
السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبعد:
ملأت فضائلك البلاد، وبقيت ... في الأرض، يقذفها الخبير إلى العَمِى
فكأن مجدك بأرق في مزنه ... قِبَل العيون، وغرة في ادهم
واليوم مقذ للعيون بنقعِه ... لا يهتدي فيه البنان إلى الفم
لم يبق غير شفافة من شمسه ... كمضيق وجه الفارس المتلثم
فأنت، أبقاك الله ومتعك بالعافية، قد كنت في تاريخ العرب الحديث نفحة علوية من مجد آبائنا الغر الميامين، وكنت في ضمير كل عربي صدى للأماني البعيدة التي لا تزال ترددها دماؤنا في أبداننا العربية الحية، وكنت قبساً من فضائل أسلافنا يحدث عن نفسه بلسان عربي مبين، وكنت برهاناً جديداً لأهل البغي على أن العربي لا يذل أبداً ولا ينام على الضيم براد به. ثم كتب الله لك بعد عشرين سنة من الأسر أن تعود كما كنت عربياً حراً حمي الأنف ذكي الفؤاد، تأنف لأمتك وعشيرتك أن بروا ميسم ذلهم وأعوانهن على جبين أكرمه الله بالنصر مرة، وامتحنه بالأسر تارة أخرى. فعش في حمى مصر أيها الرجل أميرا على قلوب مليون نسمة من العرب وأربع مئة مليون من المسلمين، وجزاك الله عما قدمت للعرب أكرم جزاء وافاه.
كنت يومئذ في العقد الثاني من عمري شاباً ينبض بين جنبيه قلب يتلفت إلى مجد آبائه ويحن إلى تاريخهم حنيناً طويلاً كأنه لوعة ثكلى على وحيدها، وكانت مصر كلها لا تزال ترسل الصرخة أثر الصرخة طالبة أن تنال في الحياة حريتها التي استلبها البغاة الطغاة شياطين الأرض، وكانت الدماء في أبداننا تريد أن تطفي ظمأ الأرض المصرية بما يجري على ظهرها من دماء الشهداء حتى تمحو عار الاحتلال عن هذه الأرض المطهرة، ولكن زعماءنا أبوا إلا السلم وطمعوا أن تنال حقنا بالمفاوضة، أي بخديعة الغاصب حتى ينخدع لنا فيترك لنا ما سلب.
ثم أصبحنا يوماً فإذا بنا نسمع عن (أسد لريف) الذي هب من غابه ونفض نواحيه وزمجر(728/1)
واجتمع للوثبة، وإذا هو يضرب يميناً وشمالاً لا يدع للأسبان متنفساً حتى اضطرهم إلى أقبح مواطن الذل تحت قدميه، وأوردهم شرائع العار شلا وطرداً حتى سجدت له تلك الجباه المتغطرسة في حمأة من الضراعة والذل. كانوا يريدون أن يسوموا أهل مراكش أن يسجدوا لهم في مثلها، فأبيت إلا أن تعرفهم أقدارهم تحت هاتين القدمين الطاهرتين النبيلتين، فأتم لك الله النصر عليهم كما شاء.
ثم أراد الله أن يعرفنا ويعرفك من النذل ناصره على نذلته، فهبت إليك تلك الدولة الأخرى المعروفة باسم فرنسا وهي يومئذ ثانية أمم الأرض فألبت عليك جيوشها وجحافلها (وبيناتها)؛ وفزعوا إلى نصرة الأسبان المهزومين، وظلموا يستجيبون عليك، أنت الضعيف الفرد، كل ما آتاهم الله من بسطة في العلم وقوة في البأس، حتى غلبوك على أمرك، ثم خدعوك، ثم غدروا بك، ثم نفوك على عادتهم من فساد الطوية وحقارة الفعل. فأصبح كل عربي على ظهر الأرض يحس أنه الأسير المنفي المغدور قلوبنا على بغض لا ينام لهذه الأمم التي لا شرف لها ولا ذمة ولا عهد.
ثم تقضت الأعوام وشارفت الأربعين، وإذا أنت حر طليق في أرضي وبلادي، فما كدت أسمع ذلك حتى انطوت أيامي وعدت كما كنت في نحو العشرين، شاباً يحس دماءه تغلى لهذا النبأ كأنني انطلقت من الأسر وخرجت من المنفي لأعيش حراً طليقاً كما تعيش أنت اليوم في مصر. ومصر من أهم المروءات، فإن ساء ذلك فرنسا أم الغدر والخيانة، فأننا لن نفارق أخلاقنا وأخلاق آبائنا لكي نعينها على آثامها ومساوئها، بل سنرد عليها بغيها مهما لقينا في ذلك من سوء أخلاقها وقبح فعالها.
ونحن لا نعلم علماً يقيناً ماذا فعلت بك هذه الأمة الحريصة على ابتذال عرضها بين الأمم، أيام كنت في منفاها، ولكن كفانا طول الاستقصاء، أن نعلم أنها حرمت على تلك الألسنة العربية الصغيرة في أبنائك أن تعرف منطق آبائها وأسلافها، فقد اضطرتها بجبروتها وقسوتها أن تتجافى عن الكلمة العربي التي تمثل للعربي أمجاد أمته في ألفاظ من نور هذه اللغة الشريفة. وسيقولون إنك أنت الذي لأبنائك أن ينشئوا على ذل السان الفرنسي، ولكن كذبوا فما من عربي يطق أن يدع أبناءه الأحرار في اسر لفة أخرى غير اللغة الحرة التي عاش عليها آباؤهم وأجدادهم. ولست أشك في أنهم قد اتخذوا لذلك كل وسيلة حتى لم يدعوا(728/2)
لك حيلة تدفع بها قلبك حسرة الأب العربي وهو يرى أبناءه ينشأون غرباء عن لسان أمهاتهم اللائى أرضعنهم بدر عربي حر آب للضيم طالب للعزة والشرف والنبل.
وقد أراد الله غير ما أرادوا، فها أنت اليوم بين أهلك وعشيرتك من أهل مصر، وهؤلاء أبناؤك أهلنا واخوتنا. وهذه مصر بلادهم لهم فيها ما لنا، فمن قليل يهدم اللسان العربي ذلك اللسان الفرنسي، ويرتد العربي عربياً كما أراد الله له أن يكون، كما ردك الله حراً كما أراد لك أن تكون. وأما فرنسا فقد رد الله غيظها في صدرها حتى يأكل منها ما بقى مما تستطيل به على الناس.
ولا تأس أيها الرجل على ما فات، فأن في الذي لقيه الناس من بعدك لعزاء لك عما لقيت في منفاك، وإن الذي أنت فيه اليوم لهو نعمة من الله بها عليك لتحمل مرة أخرى سيف الجهاد في سبيله وفي سبيل أمته التي أنزلت بها فرنسا من بطشها ومظالمها ما لا قبل لأحد بالصبر على مثله. وقد ردك الله إليها لترى رأى العين ماذا فعل بعدك هؤلاء القوم بقومك، ولتشهد مصارع الأحرار من أنصارك، ولتملأ قلبك من القوة التي تفل الحديد وتنسف الجبال وتجتاح الجيوش - قوة الأيمان بالله الذي لا يخذل من نصره ونصر أولياءه بالحق يوم الجهاد.
أن فرنسا لم تدع في تونس والجزائر ومراكشي مكاناً إلا نفثت فيه من سمها، أو ضربت فيه بأترابها، أو تدسسن إليه بغدرها وجمالها. إنها أمة لم ترع ذمة للإنسانية ولا للمروءة ولا للشرف ولا لشيء مما يصير به الإنسان حياً متميزاً من سائر الوحوش والضواري - أمة تفتري على الناس افتراء مقيتاً ثم تتبجح على الناس باسم الحرية والإخاء والمساواة، أمة من الإدلاء لم يكد الغازي يغزو بلادها في الحرب الماضية حتى ألقت سلاحها وسجدت على مواطئ قدميه تمسح غبار الغزو ضارعة متذللة، أمة لن تأنف آلاف مؤلفة من أبنائها أن تطلب التجنس بالجنسية الألمانية يوم أصابتها هزيمة واحدة في أول حرب تهزم فيها، ولم تستنكف نساؤها أن تفتح الإغلاق للغزاة غير متورعات ولا كريمات.
إننا أيها الأمير نبغض هذه الأمة كأشد ما يبغضها دمك الذي يجري في عروقك، لأننا اخوة جمعتنا رحم واحدة هي العروبة؛ ونحن لا نخصها وحدها بهذا البغض، بل نبغض كل أمة على غرارها قد استحلت مرعى البطش واستطابت ثمار البغي والعدوان. فنحن العرب لن(728/3)
نولد لنعي، بل ولدنا لنعيش أحرارا في الدنيا، ولنعلم أهل الدنيا معنى الحرية، ولئن قعدنا اليوم عجز عن تعليم هذه الناس، فعن قريب سو فيأذن الله لنا بان نأخذ بالأسباب التي تتيح لنا أن نعلمهم ما خلقنا من اجله، وعن قريب تنقشع عن عيون كثيرة ضلالات كثيرة أوهمتها أن العرب أمة متخلفة قد نقض الزمن منها يديه فصارت كلا وعالة على أهل الأرض.
أن العربي من أمثالك هو الذي سيشهد تراب هذه الأرض في يوم يرونه بعيداً ونراه قريباً، أن فضائل البشرية كلها لم تزل حية على فطرتها الأولى في هذه القلوب الزكيبة المطهرة، قلوب العرب، وان العالم سيكون أسرع تقبلاً للمعاني العربية في الحرية والإخاء والمساواة من تقبله لتلك المعاني الفرنسية التي تلفعت بالجشع واللؤم والغدر والخداع. وأن العربي هو وحده الذي يستطيع أن يحق على هذه الأرض معنى الحرية والإخاء والمساواة لأنه حر بالفطرة لم يألف ذلاً قط، ولأنه أخ لمن لن أخاه لأنه لا يعرف الغدر، ولان الناس عنده سواء لأنه لا يفتات على أحد ولا يفتري على سواء من الناس.
وأنت أيها الأمير سيف من سيوف الله، ونحن جند من انو الله فعش بيننا سيفاً مصلتاً مسلولاً على أعناق البغاة والطغاة والظلمة، حتى يأتي اليوم الذي كتب الله لك أن تكون فيه ذبحاً لعدونا وعدوك ونصراً لأمتنا وأمتك، ومخرجاً لبلادنا وبلادك من ظلمات الأسر إلى نور الحرية.
والسلام عليك ورحمة الله.
محمود محمد شاكر(728/4)
تحقيقات تاريخية
للأستاذ أحمد رمز بك
أفرد الدكتور علي إبراهيم حسن في كتابه (دراسات في تاريخ المماليك البحرية) بابا عن السياسة الخارجية ضمنه حروب مصر وعلاقاتها مع الدول الأجنبية، وهو بحث شيق دل على سعة اطلاعه وتدقيقه حينما عرض لما يتعلق بدول المغول في فارس والقفجاق والهند، ولكني دهشت حينما أفرد قسماً لدولة سماها أرمينية وأدخل في حروب مصر معها فتح ملطية أتمد وغيرهما من البلاد الإسلامية إذ قال في صفحة 168 (إلا أن الأرمن قد عاودا العصيان فارس إليهم الناصر حملة وأمر تنكر بالانضمام إليها، فخرج في أول محرم سنة 715 وحاصر ملطية ودخلها في يوم الثلاثاء 23محرم من تلك السنة.) وفي صفحة 16 (توالت انتصارات جند الناصر ففتحوا مدينة عزقية من أعمال أمد في سنة 715 ثم فتحوا أمد بعد ذلك وقد ساعدت الأحوال السيئة في بلاد أرمينية الناصر محمداً على غزوها فقد تولى عرشها الملك ليو الخامس).
والمعروف أن أرمينية الجغرافية لم يكن لها وجود سياسي في ذلك الوقت، ولم تكن ملطية ولا أمد تحت سلطان الملك ليو الخامس، وإنما كانت هناك مملكة للأرمن على أطراف بحر الشام وكان صاحبها يطلق عليه (متملك سيس) وقد انحصر ملك الروم في منطق من السهول حول مدية سيس تحيط بها الحصون التي أنشأها المسلمون والصليبيون واحتلها الأرمن وتحصنوا فيها، وماتت هذه الأمة تخضع أحيانا خضوعاً اسمياً لمصر وتخالف المغول إذا جاءوا للفتح وتدارى ملوك الروم من سلاجقة وتركمان، أذن فلا علاقة بين هذه المقاطعة والحروب التي قامت في عهد الناصر في ديار بكر والجزيرة وأرض الروم وترتب عليها فتح ملطية وأمد وغيرهما فقد حضر أبو الفداء تجمع عسكر مصر والشام في حلب ولازم الملة في خروجها لفتح ملا طية وحدثنا عن المراحل التي قطعها الجيش المصري من عينتان إلى نه المرزيان وصحته مرزنان إلى عيان فالنهر الأزرق قال (وجلنا حصن منصور على يميننا) ثم إلى زبطرة حتى حصار ملطية ولم ذكر في ملطية حاكماً اسم جمال الدين الخضر وهو من بيت بعض أمراء الروم. وأماكن هذه المواقع التي مرتبها الحملة في سيرها وعودتها معروفة على لخرائط وهي بعيدة عن أراضي ملك الأرمن في(728/5)
سيس. وما قلناه عن ملطية ينصب على أمد الواقعة على نهر جلة وبينها وبين (ليو الخامس) متملك سيس مراحل وأراضي شاسعة منها ما هو تحت حكم مصر، ومنها ما وحدودها في الولايات التي كانت خاضعة أو متحالفة مع خانات أو إيلخات مغول فارس، هي بقاع إسلامية لم يكن للأرمن وملكهم شأن بها. ودلينا على صحة ما سقناه قول صاحب البداية والنهاية عند ذكره فتح ملطية (وقد كانت ملطية إقطاعا للجوبان أطلقها له ملك التتار فاستناب بها رجلاً كردياً فتعدى أساء وظلم فكتاب أهلها السلطان الناصر واحبوا أن يكونوا في رعيته). صفحة 73 جزء 14.
وفي أبي الفداء ما يشرح شكوى أهل ملطية إذ قال (أن المسلمين الذين كانوا بها اختلطوا بالنصارى حتى أنهم زوجوا الرحل النصراني بالمسلمة وكانوا يعدون الإقامة للتتر ويعرفونهم بأخبار المسلمين) صفحة 91 جزء 4.
ويظهر أن قاضي ملطية وكان أول من تلقة جند الناصر وطلب منهم آمان لبلده له يد في هذه الشكوى التي جعل من ضمن ما جاء فيها ما يبرر استفزاز حمية الناصر الدينية وان كان أبو الفداء يضيف إلى ذلك سبباً أخر هو تعرض أهل ملطية لجند مصر المقيمين في القلاع الشمالية مثل قلعة الروم هنس وكختا وكركر في غدوهم ورواحهم. ويذكر المقريزي في السلوك (صفحة 134 جزء 2 للدكتور زيادة) أن التعرض كان ضد الفداوية من أهل مصياب الذين أرسلهم لاغتيال قراسنقر المقيم بمدينة مراوغة وان الكردي الذي تغلب على ملطية وجنى أموالها قبض عليهم وترتب على ظهوره أن نائب ملطية من جهة جوبان ويقال له بدر الدين ميز أمير بن نور الذي خاف أن يأخذ الكردي نيابة ملطية منه فكاتب الناصر واتفق معه على تسليم البلد إليه، وقد خص فتح ملطية بصفحة فيها تفاصيل عن تسليم المدينة واحتفال نائبها والتشاريق والخلع التي وجهت إلى أعيانها، ولم نجد فيها ولا فيما لدينا من المراجع إشارة أو كلمة يفهم منها أن ملطية كانت تحت حكم (ليو الخامس).
ونحن نلتمس للدكتور علي إبراهيم حسن عذراً لان السير وليم موير في كتابه (تاريخ المماليك في مصر) ذكر في الصفحة 81 (طبعة مصر مترجمة) (أرسل السلطان الحملات على بلاد الأرمن التعسة وحصرت عساكره ملطية)، وجاء من بعده الأستاذ أنور زقلمة فوضع كتاباً عن (تاريخ المماليك) طبعة مصر كتب في صفحة 64 منه (وعاد أرمن مرة(728/6)
ثالثة للعصيان عام 1314 في عهد الناصر فأرسل لهم حملة قوية حصرت مدينة ملطية). وفي ذلك ما يشعر بأنهم ينقلون جميعاً عن مصدر واحد وصاحب هذا المصدر أما اختلط عليه الأمر ولم يفرق بين ولاية سيس وأرمينية الجغرافية أو فهم من وجود طائفة من الأرمن في ملطية انه أصحاب الأمر والنهى فيها، أو هو على علم تام بهذه الحقائق ولكنه كغيره من كتاب الغرب الذين لا يملكون التحرر من تقاليد الحروب الصليبية ولذلك ينظرون دائماً بمنظار مكبر إلى كل ما يذكر بأثرها، ولما كانت ولاية سيس من تلك البقايا فهم يحملونها برغم انف الزمن دوراً معها في التاريخ والحروب والعلاقات السياسية ويضيقون الأعراف بأنها ولاية صغيرة في كليليكية.
وواجب علمائنا في التاريخ وضع الأمور في نصابها وإعادة الحق لذويه، ودولة المماليك من الدول الإسلامية التي لم ينصفها التاريخ وتعرضت لشتى الهجمات من كمؤرخي الغرب، ولكن الدكتور علي إبراهيم حسن أنصفها في كتابه وأنصف مصر، وكان كتابه من دلائل النهضة القائمة والوعي التاريخي لإعادة القيم الحقيقة لذلك العصر فله عظيم الشكر والثناء.
وقد اطلعت بعد كتابه ما تقدم عل تحديد نيابة حلب في عهد الناصر كما جاء في مسالك الأبصار ونقل ذلك صاحب صبح الأعشى فإذا فيه (ولاية حلب متصلة ببلاد سيس والروم وديار بك وبرية العراق وتحدها من الشمال بلاد الروم مما وراء البهنسي وبلاد الأرمن على البحر الشامي). . .
ويفهم من ذلك أن بلاد الأرمن يقصد عند ذكرها الأراضي الواقعة على خليج الإسكندرية والبحر الأبيض المتوسط وهي التي يطلق عليها اسم كيليكية أو ولاية أدنه التركية حالياً والتي يخترقها نهراً سيحان وجيحان من الشمال إلى الجنوب: وعرفن بهذا الاسم في هذا العصر الذي نتحدث عنه وألا فهي قديماً بلاد الثغور والعواصم وفيها قبر المأمون بطر سوس وضمت إلى مصر من عهد احمد بن طولون ولها تاريخ طويل ومعارك وأيام.
ولما إستملكها الأرمن بعد الحروب الصليبية تعرضت لهجات المصريين فانتزع الملك الظاهر ييرسقلاع بغراس والبهنسي ودربساك سنة 668 ثم فتح الأشراف خليل بن قلاوون قلعة الروم 691 وهي نهاية م وصل إليه ملك الأرمن شرقاً، وافتتح الناصر الحصون(728/7)
الواقعة في الشرق من جيحان، ثم جاء الأشرف شعبان ففتح عاصمتهم سيس ويفية ما حولها من البلاد على يد قشتمر المنصوري نائب حلب وبذلك أصبحت ولاية بأكملها تحت حكم مصر حتى الفتح العثماني.
وجاء ذكر الحصون والقلاع التي تسلمها الناصر من ملك الأرمن في كتب التاريخ وليس بينها خبر عن ملطية أو آمد، ونظرة بسيطة إلى خريطة مفصلة لتلك المنطقة تجعلنا نتحقق من مواقع القلاع التي ضمها الناصر من بلاد الأرمن وهي تكون مع الأراضي تقريباً ما يشبه المثلث قاعدته خليج الإسكندرونة بين بيأس وإياس تقريباً ما يشبه المثلث قعدته خليج الإسكندرونة بين بيأس وإياس ودأمة الهارونية (نسبة لهارون الرشيد) وهي جميعاً شرقي نهر جيحان. ويقول أبو الفداء (وهو ملك كبير وبلاد كثيرة). ويقول صاحب السلوك (وأقطع السلطان أراضى سيس لنائب حلب ونائب الشام وغيرهما من الأمراء واقر فها جماعة من التركمان والأجناد، فاستعملوا الأرمن في الفلاحة وعمل في كل قلعة من قلاع الأرمن نائب ورتب فيها عسكر).
ولكن الكتب التي أخذت من المصدر نفسه نقول بجلاء عسكر مصر ومنها كتاب الدكتور علي إبراهيم حسن الذي يقرر في صفحة 169 (ثم جلت جيوش الناصر بعد أن جمعت كثيراً من الأسلاب والغنائم) والحقيقة أن الجلاء كان عن الأراضي الواقعة بين النهرين أي شمال المصيصة وأدنة.
أما ما كان شرقي جيحان فهو الذي تناوله الإقطاع، ودليلنا على ذلك أن ملك الأرمن بعث بمفاتيح القلاع إلى القاهرة: وهي أباس (3قلاع) والهارونية والنقير وكودا والحميصة ونجيمة) كما جاءت في كتاب تاريخ سلاطين مصر والشام. ويضيف أبو الفداء ميرفندكار والمصيصة وكوبرا، ويقول (ضرب المسلمون برج إياس الذي في البحر واستنابوا بالبلاد المذكورة نواباً. . .
ومع بقاء ملك الأرمن في عاصمته سيس حتى عهد الأشرف شعبان تحت حماية ملوك مصر بقيت بلاده معرضة لهمجات التركمان وعسكر ابن قرمان من أسيا الصغرى، ولذلك نجد أن كتب التاريخ تحدثنا باحتلال جند الناصر لبعض القلاع الواقعة على سفوح جبال طوروس أو التي تعترض الطرق الموصلة للجبال، نذكر على سبيل المثال قلعة كولاك في(728/8)
شمالي طر سوس على خط عرض واحد مع الهارونية وهي في نهاية الغرب من ولاية أدنة، وهناك (بارى كودك) افتتحها بأي دمير الخوارزمي في عهد الناصر وهي إلى الشمال من طر سوس، ومنها (قلعة لؤلؤة) وهي شمالي كولاك.
ولا أجد تفسيراً لاحتلال هذه المناطق غير أن ملك الأرمن سلم بما بين يديه من الحصون التي على الشرق بشرط حمايته من الغرب باحتلال الحصون والمضايق التي يتسرب منها التركمان وعسكر أن قرمان من الجهة الشمالية والغربية لمهاجمة بلاده.
أن التاريخ علم يتقدم مع الزمن شأنه شأن غيره من العلوم وقد يأتي لنا المستقبل بنصوص تفسر لنا كل ذلك فلا اجزم بشيء نهائي. . .
أحمد رمزي(728/9)
إنذار!
للأستاذ على الطنطاوي
ركبت مع زميلي في البعثة القضائية السورية الأستاذ محمد نهاد القاسم، زورقاً في النيل حملنا من (جسر إسماعيل) إلى (مصر العتيقة) باجرة فاحشة قبضها منا صاحب الزورق، وبعث معنا شاباً في نحو التاسعة عشرة، قوي الجسم، وديع النفس، فأعمل المجاديف ساعة كاملة، حتى هبط الليل، وغسله العرق، ونحن لم نصل، فأشفقنا عليه وجربنا أن نسعده فما أفلحنا، وكدنا نقلب الزورق به وبنا، فيسبح فيجور ونلقى نحن حقنا، فكعفنا، واكتفينا من الترفيه عنه بعمل بألسنتنا، والمواساة باللسان اقل الإحسان. . . حتى دنا الحديث من أجرته فسألناه:
- كم تأخذ؟
- قال: أربعون قرشاً.
- قلنا: في اليوم؟
- فصاح مستغرباً: في اليوم؟ كل ثمانية أيام!
- قلنا: أو ليس لك أسرة؟
- قال: أم أعولها.
- قلنا: أو تكفيك؟
- قال: تكفيني؟! أبدا.
- قلنا: فلماذا لا تطلب زيادة؟
قال: يضربني عمى أحمد ويطردني، ويخبر زملاءه فلا يشغلوني وأنا لا أعرف إلا هذه المهنة.
- قلنا: وكم يحصل هو؟
- قال: هو. . . كثير. . . كثير. . . عنده عشرة زوارق تمشى النهار كله، كل ساعة أجرتها من عشرة إلى عشرين قرشاً وتركناه وصعدنا إلى البر، ونحن لا نزال نفكر فيه: شاب طويل عريض، كيف يعيش مع أمه بخمسة قروش في اليوم؟ والفراش والآذن؟ كيف يعيشان بثلاثة جنيهات في الشهر؟ والمؤذن؟ والأمام؟ والشرطي؟ والعسكري؟ ماذا يصنع(728/10)
هؤلاء؟ هل فكر فيهم أحد ممن ولاهم الله أمر هذه الأمة، وأتمنهم على مالها، وجعل إليهم المنح والمنع، والرفع والوضع؟
هل ساءل واحدهم نفسه وهو يتخير أطايب الطعام من فوق مائدته ماذا يأكل هؤلاء المفلسون؟
هل فكر وهو ينتقى أبهى الحلل من خزانة ثيابه ماذا يلبسون هل خطر على باله وهو يفسد أخلاق أولاده بالترف، ويتلف صحتهم بالسرف، أن لهؤلاء بنين وبنات لا تكفى رواتبهم لسد جوعهم بالخبز القفار، وستر عوراتهم بالخام؟ رواتبهم لا تكفى للطعام والثياب فكيف إذا ولدت المرأة وجاءت نفقات الولادة؟ فكيف إذا مرض الصبي وأقبلت مصروفات العيادة؟ فكيف إذا خطبت البنت وكانت تكاليف الزواج؟ فكيف إذا دخل الأولاد المدرسة وطالبتهم بثمن العلم؟. فكيف إذا اشتهوا أن يتشبهوا بأبناء الناس يوماً. . . فأرادوا أن يأكلوا الحلوى الحلال أو يطلبوا اللملهى المباح؟؟ أم قد حرمت هذه المتع على الفقراء، وكتب عليهم أن تكون حظوظهم من دنياهم كحظوظ البهائم: ملء المعدة بأرخص الطعام، وستر الجسم بأيسر الثياب، والإستكنان بشر المساكن؟ وان تكون معيشتهم اقل من معيشة كلاب الأغنياء؟.
قرأت في جريدة (العلم الأخضر) نقلاً عن العدد 673 من (مجلة الاثنين) أن (روى) كلب الوجبة الأمثل. . . فلان بك. . يفطر كل يوم بكيلو من اللبن ورغيفين من خبز (الفينو) و (باكو) من الشوكولاته ثمنه بين ثمانية قروش وخمسة عشر قرشاً ويتغدى برطل ونصف رطل من اللحم المسلوق مع طبق مترع بالثريد، وأن طبيباً خاصا. . . وخادماً أجرته عشرة جنيهات في الشهر عمله أن يصحبه في سيارته الخاصة به. . . في نزهته اليوميتين وأشياء أخرى من هذه البابة، يمتع بها هذا الوجبة الأمثل، كلبه المدلل، لا يصل إلى مثلها عشرة في لمليون من بني آدم الذين يقطنون هذا الوادي. . . فلم أجد في العربية على سعتها، وعلى طول يقطنون هذا الوادي. . . فلم أجد في العربية على سعتها، وعلى طول اشتغالي بها، كلمة تليق بهذا السفينة المبذر الكافر بالنعمة والإنسانية وبالوطن، لا قولها له. . . ولم أدر كيف أخاطب هذا المجتمع الذي بلغ الفساد فيه، والانتكاس في أوضاعه أن صارت الكلاب تأكل (العيش الفينو) وكثير من الناس يتمنون الخبز الأسود. . . وتركب(728/11)
السيارات وهم يمشون حفاة. . . وتنام على الحرير وهم يهجمون على التراب. . . ويقوم عليها طبيب خاص وهم غرقى في الأمراض. . . لا يجدون الطبيب. .
هذه حال لا يرضى بها الله، ولا العقل، ولا الشرف، وأنا أخاف والله أن تفتح باباً من الشر لا يسد وتأتينا أن لم نتنبه لعلاجها بالداهية الدهياء، بالشيوعية المدمرة، التي تأكل اخضرتا ويا بسنا، وتمحق غنينا وفقيرتا، فتكون لنا الراحة الكبرى التي لا ألم بعدها: راحة الموت.
هذه حال لا يمكن أن يحتملها بشر، فان كان من بيدهم الأمر لا يمشون في الطرقات، ولا يخالطون الناس، ولا يعرفون من الدنيا إلا القصر والسيارة والملاهي والرحلات، فليسألوا: ما باب الفقراء. ماذا يصنعون. وما شأن صغار العمال والموظفين وكيف يعيشون؟ وليعلموا أن عمر كان يخاف أن تضيع شاة على شاطئ الفرات فيحاسبه الله عليها، أفلا يخافون أن يسألهم الله عن أمة بقضها وقضيضها ستضيع على شاطئ النيل: يقتلها الجوع في أخصب أرض، والمرض تحت سماء، والجهل في أول دار للعلم والحضارة؟
لقد كانت مصر طبقات يستعبد بعضها بعضاً، فسوى بينها الأمام العبقري الهادي عمرو بن العاص (تلميذ محمد) وقطع هذا النظام الذي وصلته يد الدهر في عهد الفراعنة الأولين، إلى عهد الاسكندر (تلميذ أر سطو)، إلى أيام البطالسة والرومانيين، وأفاض على الناس الهدى والعدل والنور، فأحبوا لفعله الإسلام، ودخلوا فيه وتركوا له دنيا كان لهم، واقبلوا عليه علماً وعملاً، حتى كانت مصر مثابة الإسلام، ومشرق أنواره، ومورد علومه أفقدر عليها أن تعود القهقري إلى عهد الجاهلية الأولى؟ أترجع نظام الطبقات الذي مات؟ أيكون فيها سادة وعبيد؟ ويعلو بعض أهلها على بعض كأنما بفتح مصر عمرو، ولم يركز فيها راية محمد، ولم تكن مصر أم دنيا الإسلام؟
أنا لا أدعو إلى المساواة المطلقة بين الناس فذلك ما لا يكون ولا يزال في الناس غنى وفقير ما دام عامل وخامل، وذكى وبليد، لن يكونوا أبدا سواء في أرزاقهم ومعايشهم إلا إذا استوى الجنسان وتحقق حلم المدافعين عن (حقوق. . .) المرأة فانقلبت رجلاً، ونبت لها شاربان و. . . لحية!
ولكن أدعو إلى تقرب المسافة بين طبقات الناس، عاليها ودانيها، وأن تضمن الحكومة لكل إنسان حقه الطبيعي في الطعام واللباس والمسكن، وإلا تقر في موازنتها راتباً لموظف مهما(728/12)
نزلت درجته، ولا يكفل هذا الحق له ولأسرته، ولو كان كناس الطريق، أو ناطور المراحيض، وان تسوي بين الناس (المساواة الممكنة) التي حققها الإسلام في أول الدهر في عهد الشيخين، والشيوعية في ذنب الزمان في أيام ستالين، وإن اختلف نوعهما، فكانت تلك مساواة في السعادة، وهذه هي المساواة في الشقاء!
لقد نشأت في الشام، وسحت في البلاد، فرأيت في كل بلد أغنياء وفقراء، وسعداء وأشقياء، ولكن لم أر أبدا مثل الذي رأيت في مصر!
فما هذا التفاوت بين البشر في مصر؟ ما هذا الوضع الذي يجعل من الناس واحدا يملك مليونا ومليونا لا يملكون واحد؟ وألفا يشتغلون لرجل، والرجل لا يعمل عملا؟ وإنسان يظن نفسه من الغنى والكبر إلها، وأناس تحسب أنها من الفقر والضعة بهائم؟
متى كان هذا في طبع العربي؟ متى كان في شرع المسلم؟
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
يا ناس. راقبوا الله، فان هذا ظلم، والله لا يرضى لعباده الظلم ولا يقرهم عليه، ولكنه يمد للظالم ثم يأخذه. . . فاتقوا أخذه الله.
يا ناس. اعقلوا، فان هذا باب الشيوعية فان لم تغلقوه دخلت عليكم فأهلكتكم.
يا ناس. ارحموا، فان هؤلاء ناس مثلكم، ولا تحسبوهم بهائم لئلا يصنعوا فيكم صنيع للبهائم، فيثوروا عليكن رفساً ونطحاً وعضاً ولدغاً، فلا تملكوا دفعهم، ولا النجاة منهم. . .
لا، لا تحقروهم، فإن الدجاجة إذا هبت تحمى فراخها استماتت فانقلبت صقراً، والقطة إذا ضويقت وغضبت صارت نمراً والماء إذا اندفع كان سيلاً مدمراً، والهواء إذا انفجر كان إعصارا مخرباً، ولولا الضغط ما ثقب المسمار الخشب، ولا أطلق المدفع القنبلة، ولا زلزلت الأرض، ولا انفتحت البراكين، ولا ثارت الشعوب.
فارحموهم ترحموا أنفسكم! واعدلوا فيهم تدفعوا عنكم يوماً اسود لا تعلمون إذا حل عم ينجلي سواده! وقوا مصر أن كنتم تحبون نصر، جائحة مهلكة، وداهية مكفهرة، أولها الشيوعية وآخرها ما لا يعلمه إلا الله! وهذا إنذار!!
على الطنطاوي(728/13)
بين أدب المرأة وأدب الرجل
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
يقابل هذا من أدب الرجل في أبدع صورة وأبهى معانيه قول المعتمد بن عباد وقد حال حاله وتحالفت عليه صعاب الأمور وأخذته الأعادي من كل حدب وصوب ونصح له الناصحون أن يسايرهم ويخضع لهم فانبرى يقول:
قالوا الخضوع سياسة ... فليبدُ منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضوع ... على فمي السم النقيع
إن يستلب مني العدا ... ملكي وتسلمني الضلوع
فالقلب بين ضلوعه ... لم يسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطباع ... أيسلب الشرف الرفيع
شيمَ الأولى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
هذا الكلام الجميل من لغة التفاخر والعزة والأنفة وكبر النفس ولكنه مع هذا ليس من لغة الخصوصية السياسية وليس من لغة الحرب الشعراء التي تنطوي عليها عبارة (أنت أصغر في عيني من ذباب). هذا كلام حرب ذهبت في ساحتها هذه المرأة وهي تخط بدمها أن أدبها للعقل وأنه أصدق أنباء وأدق تعبيراً وأكثر صراحة.
ومما يقيم الحجة البالغة أيضا على أن أدب المرأة واقع صريح دقيق الأداء وانه للعقل وليس للعاطفة، فن المدح. فهذه ليلة الأخيلية ازدهارها وشدة باسه فراحت تؤيده وتصوره ابرع صورة فتقول:
إذا نزل الحجاج أرضاً سقيمة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
أحجاج لا تمط العصاة مناهم ... ولا الله يعطى للعصاة مناها
وبذلك خرج أدبها هذا عن كونه مدحاً يسبح فيه بسجايا الممدوح مما توفر أو لم يتوفر، أو مبالغات بعضها اخذ بأعناق بعض، أو كلاماً معقداً؛ أقول خرج إلى كلام على قدر المعنى قررت فيه خصيصه الحجاج وامتدحته في شطر واحد من بين فقالت:(728/14)
(غلام إذا هز الفتاة ثناها). ولم تقل كما قال المتنبي:
لم يخلق الرحمن مثل محمد ... أبدا وظني إنه لا يخلق
واعتقد أن هذا كلام ينطوي على لغة العاطفة وما تحتويه من مبالغات واضحة.
وللقارئ مقارنة أخرى بين شاعر وشاعرة فيها تعزيز جديد لصحة ما ذهبت إليه - من أن لغة المرأة في استنهاض الهمة وتحريك الروح الخامد أقوى آثرا، وأكثر صراحة، فهذه عفيرة بنت عفان تستنهض بكلام من الجمر ووابل من لحم إذ نقول:
وإن أنتم ولم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكمو طيب العروس فإنما ... خلقتم لا ثواب العروس وللغسل
فبعداً وسقاً للذي ليس دافعاً ... ويختال يمشى بيننا مشية الفحل
وهذا لقيط بن يعمر الأيادي يحذر قومه أيضا ويستنهض هممهم بلغة متجاوبة المعاني فخمة الألفاظ إذ يقول:
قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا
ماذا يرد عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا
وليست السيدة زبيدة وحدها أو عفيرة بنت عفان أو ليلى الاخيلية آيات لإقامة الحجة على أدب المرأة صراح قراح، بل هناك غيرهن في أقوالهم الدفة في التعبير والصدق في الأنباء والشرف في المقصد؛ فقد كانت السيدة عتبة بنت عفيف الطائي أم حاتم كثيرة المال، مبسوطة اليد؛ فلما خشي اخوتها الفقر عليها حجروا مالها إلا قطعة من الإبل، فمنحتها سائلاً؛ وقالت:
لعمرك قدماً عضني الجوع عضة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعاً
فقولا لهذا اللائى اليوم أعفني ... وإن أنت لم تفعل فمض الأصابع
فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعاً
وماذا ترون اليوم إلا طبيعية ... فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا
ولما جئ بسفانة ابنة حاتم أسيرة للنبي صلى الله عليه وسلم انطلقت تقول له من أدب المرأة هذا المقال:
(يا محمد، هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب!(728/15)
فان أبى كان سيد قومه، يفك العاني ويقتل الجاني ويحمي الذمار ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشى السلام ويحمل الكل ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي).
ويكفى هذا الكلام إثباتا أنه من أدب العقل، وأنه الذروة في دقة التعبير وصدق الأنبياء. أن جواب النبي عليه كان:
(هذه صفات المؤمنين حقاً - خلوا عنها فأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق).
3 - الحلقات المفقودة في أدب المرأة
هنالك حلقات من الأدب توفرت في أدب الرجل وفقدت من أدب المرأة فقداً تاماً فجاء أدبها بهذا النقد أكثر نبلاً وأوفر فضلاً وأصدق فناً وليس بضمائرها أن يعري أدبها من هذه الحلقات وأن لا تعرفها عن أدب الرجل أشد الاختلاف، ذلك أن الرجل افرد في أدبه باباً للتحذير من المرأة والتنبيه على أنها شيطان رجيم. وتلمس أدب الرجل من هذا أفانين الكلام وضروبه فزور الأحاديث ونحت الأمثال ومنقصة لها من حيث بقى كلام المرأة صافياً لا تشوه أمثال هذه ألا كدار.
منها: (أوثق سلاح إبليس النساء). ومنها (النساء حبائل الشيطان) و (شاوروهن وخالفوهن). و (إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى افن وعزهن إلى وهن). لقد أراد أدب الرجل أن يصف المرأة بمثل هذه الأوصاف على لسان رسول الله وهذه الأوصاف وان كانت بعيدة عن الواقع ولا تصبر أبدا عل محك المنطق فأنها ابعد ما تكون عن بلاغة الرسول الكريم وما جاء في أحاديثه صلى الله عليه وسلم عن المرأة.
وعزز أدب الرجل هذه الجهة بان أورد على لسان أمير المؤمنين على كرم الله وجهه أن قال: لا تطيعوا النساء على حال، ولا تؤمنوهن على مال، ولا تذروهن يدبرن العيال. ولا دين لهن ولا عقل لهن. ينسين الخير ويحفظن الشر) الخ. . .
فإذا عرفنا أن الأمام عليه السلام أمير البيان - وأن نماذج كلامه البليغ مثبتة في تهج البلاغة، وهي ترتفع عن مثل هذا الشتم أمكن القول بأن هذا أدب من جملة الحلقات التي أراد الرجل أن يستكمل بها فنون القول مما انعدم في أدب المرأة وأنفت اللجوء إليه. وليس هذا فقط فقد جاء الرجل بما ينسبه إلى العقلاء والفلاسفة قد قالوا (لا تدع المرأة تضرب(728/16)
صبياً فانه اعقل منها). وأإن سقراط رأى امرأة تحمل ناراً فقال: نار تحمل ناراً، والحامل شر من المحمول).
هذه نماذج من أقوال الرجال تدون في كتب الأدب على أنها فن من فنوني، وعندي أنها فن من فنون المقراض والمثقب والمبرد لا لقل ولا أكثر مما لم يرد في أدب المرأة جميعه.
وليس هذا فقط بل جاء في هذا الضرب من الأدب كلام وجميع مؤلم؛ فقد قال أحدهم:
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن ... جزوعاً إذا بانت فسوف تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لغيرك من خلانها ستلين
وخنها وإن كانت تفي لك أنها ... على مدد الأيام سوف تخون
وإن خلقت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
يقابل هذا في أدب المرأة واحتشام وصمت واحترام، إذ هو حلقة مفقودة لديها لا تعرفه ولا تحسن صوغه ولا تتفن فنه، وذلك عندي يفوق كل تمام.
ولم يقتصر هذا اللون من الأدب على مهاجمة المرأة بالتهمة فقط، بل استهدف القضاء المبرم على خصائصها؛ فقد جاء على لسان شاعر الفلاسفة آبي العلاء المعري قوله:
علموهن الغزل والنسج ... وخلوا كتابه وقراءه
فإن صلاة الفتاة بالحمد ... والإخلاص تغنى عن يونس وبراءه
أن هذا فضلاً عن كونه وضعاً شاذاً فهو لون من الأدب بقيت المرأة تجهله وستجهله دائماً ما دامت قد خلقت لرسالة في الحياة سامية القصد رفيعة المجد، وكان عليها أن لا يتجسد عندها هذا الفرق لولا ما تفرغ عنه بالفعل، ومن هذا أن القرآن الكريم أباح النظر إلى وجه المرأة فصيروا وجهها عورة، وفرض عليه النقاب حتى أصبح عورة وحتى صوتها، وإن كان في قراءة القرآن، وتعدى الأمر إلى أكثر من هذا أيضا فاعتبروا اسمها عورة، وضرب عليها الذل والهوان إلى هذه الدرجة حتى أن المتنبي وهو من نعرف شعراً وأدباً عندما أراد أن يرثى خولة بنت سيف الدولة لم يستحسن أن يورد اسمها الذي كان عورة بل استبدله بوزنه فقال:
كأن مغلة لم تملأ مواكبها ... ديار بكر ولم تخلع ولم تهب
هذا هو الذي حز في نفس المرأة كثيراً، فقد أزيحت من المجتمع وضربت عليها الذلة(728/17)
والمسكنة وباءت بغضب على غضب، وحيل بينها وبين ما يقوم حياتها وبذلك هزل أدبها وذبل كيانها وغاض معينها وضوح زرعها، ومع ذلك لم تشحذ من البقية الباقية أدبا استفزازياً أو سلاحاً انتقامياً، بل تجملت بالصبر الجميل، وتذرعت بأن البلوى حيناً وأن لديجور ليها انبلاجاً.
وإذا صح أن الشر يستشري ويتكاثر ويتضاعف وتتفرع منه فروع فان هذا الأدب قد استشرى وتكاثر فأورث الأدب العربي والأدباء نوعاً من الثبور كانوا عنه جميعاً في مأمن وغنى، فلم يعد الرجل يكتفي بواحدة من النساء ولم يعد يفهم من المرأة إلا أنها سائمة. وهذه أمثلة توضح ما جاءت به الحلقات من الأدب المفقودة في أدب المرأة من وبال على المرأة:
وضع أبو الحسن بن عبدون البغدادي التطبب رسالة ضافية الذيل يضيف فيها النساء أصنافا، صنفاً يصلح للخدمة وصنفاً لاحتمال الأذى وصفاً يموت عند الولادة وصفاً يقرع بالعصا قرءاً، والى غير ذلك مما اعتبر به المرأة حديقة حيوان يجب أن تدرس أوصافها على هذا السبيل المستغرب، وانبرى ابن عبدون هذا في كتابه رشيق العبارة شجاعاً كأنه فصل الخطاب في هذا الشتم المقذع حتى إذا انتهى حمد الله وأثنى عليه إذ وفقه إلى ذكر بعض خصائص النساء.
ومثل آخر، فقد خرج دعيل ومعه إعرابي ونبطي إلى موضع يقال له بطباثاً من أمصار متنزهين فأكلوا وشربوا
فقال دعبل: نلنا لذيذ العيش في بطياثا
فقال الأعرابي: لما حثثنا قحاً ثلاثاً
فقال النبطي: ومرآتي طالقة ثلاثا
وهكذا بلغ من استهتاره أن أضاع امرأته لأجل قافية!
هذه نماذج من أحوال المجتمع لما تفشى فيه أدب ليس للمرأة فيه نصيب، وهذه صور من الأدب المخطر الذي لم تأخذ المرأة بأسبابه فأضحى حلقات مفقودة في أدبها، وهو في حد ذاته نقص يفوق كل تمام، وهو البرهان الأكبر على أن للمرأة أدبا غير أدب الرجل وعلى ان أدبها للعقل.
منيبة الكيلاني(728/18)
في المسألة الفلسطينية:
مشروع التقسيم
للأستاذ فؤاد طرزي
يقول الكولونيل (جولر) في كنابه الذي أصدره عن سوريا عام 1945 بصدد فلسطين ما يأتي:
(ولو تحربنا الدقة لوجدنا أن اهتمام بريطانية بفلسطين لم يكن في يوم من الأيام ناشئاً عن رغبة في مساعدة اليهود أو تحقيقاً لرسالة المسيح، بل كان نتيجة مباشرة للمناورات الاستعمارية التي ترمى على الدوام إلى خدمة المصالح البريطانية. ففلسطين تقع بين مصر والشام، وهي على طريق الهند، فمن المحال أن تغفل قدرها الحكومة البريطانية. وعلى هذا فخلق مشكلة تشيع الاضطراب فيها طريقة نموذجية لتبرير بقاء قوات مسلحة هناك تحافظ على مصالح الإمبراطورية).
وعلى ضوء هذا التفسير العملي الذي يعرضه خبير بريطاني مطلع، يمكننا كل ما تضعه بريطانية من حلول لمشكلة فلسطين. فهي ترعى مصالحها في هذه القضية وتنكر مصالح الطرفين المتنازعين بله المصلحة العالمية أيضا، وتحاول بكل وسيلة أن تمد من أجل المشكلة وتطيل في عمرها لتحتج بها في بقاء قواتها العسكرية المرابطة هناك تحافظ على مناطق نفوذها في الشرق الأوسط بأسره.
ومشروع التقسيم الأخير الذي اقترحته الدوائر الرسمية البريطانية، ولوحت به مجلة الأيكونمست اللندنية التي تعبر بصورة غير مباشرة عن أراء 10 دواننج ستريت، والذي أبده السير هر برت موريسن أحد الوزراء البريطانيين المسؤولين علنا في مجلس العموم، نقول إن هذا المشروع ليس إلا شكلاً جديداً من أشكال أنصاف الحلول التي اعتادت بريطانية أن تقترحها بين آونة وأخرى لتشغل القوم وتكسب الزمن.
وها المشروع هو نفس المشروع الذي اقترحه دولة نوري السيد في الكتاب الأزرق الذي رفعه عام 1943 إلى المستتر كيسي وزير الدولة البريطانية في الشرق الأوسط. ويتضمن إنشاء حوزة أو حوزات يهودية مع التمتع بحقوق خاصة - على نحو الحقوق التي كانت ممنوحة للموازنة في لبنان - داخل الدولة الفلسطينية، أو دولة عربية كبرى تشمل سوريا(728/20)
وشرق الأردن؛ ولكن السيد نوري السعيد، كما جاء في مقترحاته، لا يضمن نجاح فكرة التقسيم إلا إذا طبقت بعد ضم فلسطين إلى دولة عربية كبرى (بقصد سوريا الكبرى)، لذلك تراه يقول في كتابه المذكور ما يلي بالنص: (. . . فإنشاء دولتين أو أكثر مستقلة استقلالاً تاماً ومتكونة من أقاليم فلسطينية صغيرة يقتضي إنشاء حدود مصطنعة متعددة مع إحداث جيوب يهودية متمددة في الدولة العربية، ومعنى ذلك إنشاء مجاز دولي واحد على الأقل ويحتمل إنشاء أكثر من مجاز واحد. أما إذا أدمجت فلسطين كلها في دولة سورية واحدة تكون حدود الحوزات اليهودية حدوداً إدارية فقط، وقد تتألف حينئذ المناطق اليهودية من عدة اقضيه يتمتع فيها اليهود بحقوق خاصة، أو أنه يمكن باتفاق يتم بين جميع الفرق تعيين منطقة مجتمعة معينة لليهود تدار إدارة شبه مستقلة. وعلى العرب القاطنين فيها والحالة هذه أن يرضوا بالبقاء تحت هذا الحكم أو أن توجد لهم ارض في مكان آخر).
والحكومة البريطانية، في الواقع، تؤيد هذا المشروع وتضحي في سبيله إذا ما جد الأمر حتى بمصالح اليهود، لأنها في هذه الدولة الكبرى تستطيع أن تجد لها ثغرة تنفذ منها لتوطيد مركزها في سوريا ولبنان وهما الدولتان اللتان تخلصتا إلى غير رجعة من النفوذ الأجنبي. فبريطانية التي حاولت جاهدة طرد الفرنسيين من الشرق الأدنى تتلهف أن تحل محاهم وتسيطر على جميع سواحل البحر الأبيض المتوسط، هذا البحر الذي تريده (حراً إنجليزيا) كما أترده موسوليني (حيرة إيطالية).
وهذا المشروع أيضا، كثير من المشاريع البريطانية، يدركه الفساد من أوله إلى أخره وتعترضه سلسلة من العقبات التي لا يمكن التغلب عليها.
تخيل أيها القارئ أن أمامك الآن خريطة جغرافية للبلاد العربية، ثم ضع على بقعة صغيرة في القسم الجنوبي من الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط تحيط بها أراض شاسعة من الأراضي العربية المسلمة تبتدئ من مراكش مخترقة تونس وطرا بس ومنحدرة نحو البلاد العربية الأصلية ثم صاعدة إلى شرقي الأردن وسوريا ولبنان والعراق. وهذه البلاد التي طفت بها والتي تحيط البقعة الصغيرة التي تحت إصبعك تشكل مجموعة قوية من البلاد العربية التي يبلغ عدد سكانها حوالي الخمسين مليون نسمة. وعلى هذه البقعة الصغيرة التي تسمى (فلسطين)، والمحاطة بالعرب نمن كل جوانبها، يريدون إنشاء دويلة يهودية مستقلة(728/21)
استقلالاً تاماً أو استقلالاً ذاتياً خارجة عن نطاق الامتداد الجغرافي الذي يحتويها ومنفصلة عن مجموعة البلدان العربية. فهل من المتوقع أن ينجح مشروع كهذا؟
يقول البريطانيون نعن. ويقول الصهيونيون لا. فهم لا يرضون بهذا الحل المتواضع ولا يقبلون بشبه دولة ضيقة المساحة. وإن أهدافهم قد قرروها في عدة مؤتمرات من مؤتمراتهم: ففي مؤتمر بلتيمور الذي انعقد في الولايات المتحدة عام 1942 طالبوا بهجرة غير محدودة ويترك الحرية لهم في التوسع داخل فلسطين إلى ما لانهاية. وفي المؤتمر الصهيوني العالمي الذي انعقد في لندن في أيار عام 1945 وضعوا قرارين رئيسيين: إنشاء دولة يهودية خالصة في فلسطين، وتخويل الوكالة اليهودية كل الصلاحيات الضرورية لجلب اكبر عدد ممكن من لمهاجرين. وفي مؤتمر بازل الأخير طالبوا من جديد بكل هذا.
وإذا كان هناك من بين الصهيونيين من يوافق على مشروع التقسيم فان الجميع يرمون الامتداد والتوسع لا على حساب فلسطين بل على حساب البلدان المجاورة أيضا، ولا يمتع ذلك قرار تصدره الحكومة البريطانية تعين فيه حدود الدولة العربية وحدود الدولة اليهودية، فقد سبق أن أصدرت عدة قرارات توجتها بألفاظ الشرف البريطاني والضمير وختمتها بإقرار برلماناتها، ولكنها لم توف العهد في أي قرار من تلك القرارات، فكانت تصدر اليوم لتنتفض غداً. وآخر قراراها مشروع الكتاب الأبيض الذي اقره العموم عام 1939. كما أن الهدف الصهيوني أبعد من أن يرضى بشبه دولة صغيرة المساحة، لان الفلسفة الصهيونية ليست قائمة على أسس دينية أو إنسانية بل على دوافع استعمارية توسعية، وهذا ما قرره جون هبوب سيمس الذي ترأس وفداً إلى فلسطين لرفع تقرير عنها حيث قال: (إن الحجة الإنسانية والحجة الدينية تفسدهما الحقيقة المؤسفة وهي أن الهجرة اليهودية اليوم لا تتألف من اليهود الذين يرغبون لأسباب دينية في العودة إلى ارض صهيون ابتغاء إقامة حياة يهودية لا يشوبها الظلم والاضطهاد، بل هي مؤلفة من أغلبية من اليهود بعيدة عن التعصب الديني ومتحمسة بروح الوطنية السياسية ومصممة على تحقيق السيادة في فلسطين ارض العرب منذ 1300 سنة على الأقل).
والعرب يقولون إن إنشاء دولة يهودية في فلسطين، يترك فيها الحكم لليهود وحدهم،(728/22)
منفصلة عن الاتحاد العربي لا يقبله عرب فلسطين ولا عرب الأقطار العربية، كما انه يناقض الوضع الجغرافي القائم وهذا ما قرره نخبة من أفاضل العلماء والجغرافيين، فان فطن إلى ذلك وشرحه في مؤلفه المعروف (جغرافية الأراضي المقدسة التاريخية) فهو يقول في صفحة 58 من كتابه: (لا يمكن أن نقوم في فلسطين دولة مستقلة ومنفصلة عما يحيط بها، فالحيوانات والنباتات فيها تمثل عصوراً جيولوجية عديدة، وهي تتصل بسلالات النبات والحيوان في أراضي كثيرة، وأن الاتصال الجنسي والديني والثقافي بينها وبين أجزاء البلاد العربية الأخرى سيسحق كل دولة تقام بالقوة وبالطرق الصناعية).
وهذا ما يقوله السير جون كارستنك على الآثار القديمة في جامعة ليفر بول ومدير الآثار القديمة في فلسطين فيما بعد: (ما دام أن ليس لفلسطين حدود خاصة من جوانبها الثلاثة فليس من الممكن أن تصبح مهداً لدولة مستقلة لا تتصل بالأمم التي تحيط بها ومقراً لعنصر أجنبي غريب).
وإقامة دولة مستقلة في فلسطين غير داخلة في الجامعة العربية يجر إلى نتائج خطيرة يستطيع الباحث بقليل من التبصر أن يراها واضحة في الأفق. فالجامعة العربية حركة طبيعية تسير بالبلاد العربية نحو التجمع لا التوزع ونحو الانضمام لا التفرق، ومتى ما بلغت هذه الحركة غايتها ووجد في قلب الوطن العربي حاجز يقف دون إتمام مرحلة التطوح كان عليها أما أن تقف، وهذا لا يمكن أن يتصور ونحن أمام ظواهر طبيعية لا تعرف الأناة، وأما أن تعبر هذا البرزخ الاصطناعي في صميم تكوينها الجغرافي فتحدث مأساة عنصرية جديدة من المآسي التي زخر بها التاريخ، لان الصهيونيين سوف لا يسلمون بالأمر الواقع ويندمجون في الشعب العربي بل سيقاومون ما يرى العرب انه مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم
إن تقسيم فلسطين مشروع خائب، وقد سبق السير رونالد ستورس الزمن وصرح بذلك أمام لجنة التحقيق الانكلواميركية التي ألفت أخيرا، والسير المذكور من أشد أنصار الحركة الصهيونية وقد ظل حاكماً للقدس مدة أثنى عشر عاماً، فإذا تكلم لمصلحة العرب فان لكلامه قيمة.
قال: (إن كل حل يقسم فلسطين بين العرب واليهود لا يمكن أن ينشر لواء الآمن والسلام(728/23)
فوق ربوع الشرق الأوسط، بل على العكس سيحكم عليه باضطرابات لا تنقطع، وسيؤدي إلى اعظم مأساة عرفتها تلك البلاد. إن فلسطين قد ساهمت فعالة في حل مشكلة الحرب ضد السامية فقبلت ما يقارب الثلاثة أرباع المليون من المشردين في حين أن بريطانية وأمريكة اللتين تحملان على عاتقها تدبير الملجأ لليهود لم تساهم مثل هذه المساهمة. إن المشكلة الفلسطينية يجب أن تعتبر منتهية ويجب أن يشترك العالم بأسره فيساهم في قبول البقية الباقية من المهاجرين. لقد أيدت الحركة الصهيونية طيلة حياتي، وقد آن الأوان أن أقول أني لا أزال أؤيدها ولكن لا على حساب العرب. وإن الذي أقرره هنا هو ثمرة تجاربي الخاصة التي حصلت عليها في أثنى عشر عاماً قضيتها حاكماً للقدس).
إن فكرة التقسيم مشروع فاشل، وان الحل الوحيد للمشكلة هو أن توقف الهجرة في الحال وان تمنح فلسطين استقلالها وتنضم إلى الجامعة العربية ويعيش اليهود فيها كما يعيش إخوانهم في البلاد العربية الأخرى كأقلية لها ما للأكثرية من حقوق وواجبات، وبعد ذلك يشترك العرب جميعاً مع العالم في تحمل نصيبهم عند إيجاد حل لمشكلة الاضطهاد العنصري.
(بغداد)
فؤاد طرزي(728/24)
نشيد فلسطين
للأديب حنا فارس مخول
لقد كانت فلسطين مهبط للوحي والإلهام منذ اقدم العصور. فيها ولد أكثر قادة البشرية، ومنها نور الهداية إلى سائر أنحاء العالم. ولعل جمالها هما اللذان مهدا لهذا الوحي واستنزلا ذلك الإلهام. . .
وفلسطين دون غيرها هي قبلة أنظار الطامعين، والكعبة التي يقدمها أتباع الديانات السماوية الثلاث. وهي على كل حال بلاد غريبة فوق كل اعتبار، أنها عنق الجامعة العربية الذي ضيق عليه الخناق، ولكنها مع كل هذا بدون باعث للنشاط، وبدون محرك للهمم، وحفز للعمل. . . أنها بدون نشيد!
أجل ليس لنا - والله - نشيد تردده فيذكى الحمية في نفوسنا، وينفض عنها غبار الخوف، وصدأ الخمول، ويرسم لنا هدفا معينا تجاهها، يلخص واجبا تجاه الوطن والمواطنين. . . والإنسانية!
يقولون: إن نشيد (المارسيليز) هو الذي قهر أوربا لا نابليون، وأن النشيد الاسكتلندي هو الذي قضى على نابليون لا ولنجتون. . . ولكن أين منا النشيد الذي يشعرنا بأننا أمة تحيا وتستحق الحياة؟!
بانا أمة تحيا وتستحق الحياة؟!.
إن شعراءنا - وهم كثر بحمد الله - فقد قصروا همهم على الغزل والتشبيب والتغني (بيوم النصر). . . يوم نصر أعدائنا، وفشل قضيتنا!!
إن شعراءنا في واد، ونحن في واد. . . ليس فيهم من حاول شيئاً من هذا سوى المرحوم إبراهيم طوقان. . . ونشيد طوقان على علاته هو خير نشيد لنا في الوقت الحاضر، ولكن فيه مواقف ضعف تحول دون صلاحية لان يكون لنشيد القومي المنشود!
إنه كان يناجي موطنه ويتمنى أن يراه في علاه يبلغ السماك. . .
موطني الجلال، والجمال، والنساء، والبهاء في رباك
والحياة، والنجاة، والهناء، والرجاء في هواك هل أراك
سالماً منعماً وغانماً مكرماً(728/25)
هل أراك في علاك تبلغ السماك؟
موطني
ولكن في تمنيه شيئاً من التساؤل وضعف الأمل. . . لقد أظهر حبه له، ورسم خطوط هذا الحب بعبارات عاطفية وشعور فياض، ولكن ليس هذا دستوراً نعمل بمقتضاه. . أننا نريد الشاعر الذي يقول: سأراك. بل يجب أن أراك في علاك تبلغ السماك! لا: هل أراك؟! أننا نريد الشاعر يطمئن إلى عودة هذا الوطن الجريح إلى أبنائه، بكل شبر فيه. . . بصميمه. . .
وقد حاول طوقان ذلك، فوعده بتناسي الأشخاص والأحزاب
موطني
الشباب لن يكل همه ... أن تستقل أو يبيد
نستقي من الردى ... ولن يكون للعدى كالعبيد
لا نريد
ذلنا المؤبدا ... وعيشنا المنكدا
لا نريد بل نع ... يد مجدنا التليد
موطني
الحسام والبراع لا الكلام والنزاع رمزنا
مجدنا وعهدنا ... وواجب إلى الوفا يهزنا
عزنا
غاية تشرف ... وراية ترفرف
يا هناك. في علاك قاهراً عداك
موطني
أجل إن طوقان وعده يتناسى الأشخاص والأحزاب، والعمل في سبيله حتى يتقل، ولكن ليس يكفي أن نستقل داخلياً، فالنشيد القومي يجب أن يشعر المواطن بالطموح وواجب التقدم، ويبشر بالمستقبل اللامع والمكانة المحترمة ف قافلة الإنسانية
إذن لا نريد نشيداً يشعرنا بالعبودية - ولو في معرض الأباء - ويروي لأبنائنا بعدنا قصة(728/26)
ذلنا - غير المؤيد - وعيشنا المنكد. . . لا نريد نشيداً يصلح ليونا، ولا يصلح لغدنا!!.
ويجرح العزة. . . نريد نشيداً يتفجر قوة رحمية. . . نريد نشيداً كمعلقة عمرو بن كلثوم أو قصيدة بشر بن عوائه. . . نريد القوة لأننا في عصره القوة!! ويجب ان نشعر بأننا أمة فوق الأمم، أو في طليعة الشعوب، والماضي يهد، والحاضر يبشر، ونور الشيوخ، ونار الشباب يثبتان ويؤكدان!!
وقد كانت مصر شعوب بالحاجة إلى نشيد قومي، فكانت مسابقة، وكان نشيد!! وفلسطين هي النقطة الحساسة في جسم البلاد العربية. . . فهل نتوجه بادئنا إلى والد العرب الذي ولدوه، إلى الجامعة العربية، أم إلى الهيئة العربية العليا في فلسطين؟ لعلهما تشعران بالمسؤولية فتعملا على تحقيق هذه الأمنية!!
وفلسطين فوق هذا لا علم لها، وان شئت تفصيلاً فقل: ليس لسكانها الأصليين، ليس لعربها علم. . . لأن اليهود الطارئين - وهم قلة بحمد الله - لهم نشيدهم القومي (ألها تكفا)، واهم علم يرفعونه في جميع المناسبات. . . أما نحن فنزين دورنا ومحالنا التجارية وأبدتنا و. . . بالأعلام العربية في أعيادنا القومية. ولا أقول بالعلم العربي - لأننا لن نتخذ حتى ألان علماً واحداً في جميع أقطارنا. . . أنا نرفع العلم المصري أو العراقي أو اللبناني أو السوري أو أي علم من أعلام الدول العربية، ولنا الشرف في ذلك لأن العرب في القطر الواحد أخوان العرب في القطر الثاني، فأي علم عربي هو علمنا. . . ولكننا على كل حال وحدة تريد استقلالها. ووضعها الشاذ يستدعى حشد جميع بواعث الهمم لمجابهة الموقف الرهيب. فلماذا لا يكون لنا علم نرمز به إلى آمالنا وأهدافنا، يرف فوق رءوسنا، وبه - بعد الله - نعتصم والأقلية الطارئة علينا، لها علم؟!
أنكون كالقرعاء التي تباهى بشعر ابنة أختها - على خشونة المثل -؟ لا - والله - بل يجب أن تتساوى مع العرب المستقلين في جميع بلدانهم، وان ترضى ان تكون عالة عليهم فكفاهم من همومهم ما يثقل كواهلهم!.
وإذن فلنتقدم إلى المسؤولين بهذا الاقتراح، أو - إن شاءوا - بهذا النداء، راجين أن يحققوا آمال ما يزيد على المليون من عرب فلسطين، والملايين من عرب العالم ولهم الشكر المقدم!(728/27)
حنا فارس مخول(728/28)
قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:
الشيخ شامل
زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين
1212 - 1278هـ: 1797 - 1871م
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
شامل تحت قيادة حمزة بك:
وبعد أن استشهد الغازي الكراوي في معركة يوم 2 جمادي الآخرة 1248هـ اجتمع العلماء والأعيان، وأصحاب الشأن في ولاية (آوار) وانتخبوا حمزة بك خلفاً للغازي محمد الكمراوي وقائداً لحركة الإصلاح الدينية، وحاملاً لعلم الثورة الوطنية، وسلك حمزة بك سلفه من أخذ الناس باللبن والهوادة، ودعوتهم بالحسنى إلى اتبع أحكام الدين، ورعاية آدابه، فأخذ بطوف القرى والدساكر مرشداً ناصحاً، يدعو إلى دين الله والعمل به، ولكنه أيقن - كما أبقن سلفه من قبل - أن الدعوة التي لا تظاهرها القوة وتسندها، حقيقة بالفشل، فبدأ يجمع المتطوعين، وينظم صفوفهم، ويوجههم إلى المعاندين الذين كانوا يحولون بين الدعوة الإصلاحية وذيوعها، وهنا أيضا نجد شاملاً يشد أزر حمزة بك ويعضده، ويلازمه في جميع حملاته التأديبية، ومعاركه الحربية التي خاضها، فإنه كما كان القائد المحنك، والمريد المطيع لدى ألغازي محمد الكمراوي ظل كذلك مع حمزة بك أيضا حتى قنا هذا غيلة بينما كان ذاهباً لأداء فريضة الجمعة في قرية (خنزاع) في أواخر سنة 1250 هـ (1834م).
شامل في قيادة الحركة الدينية الوطنية:
بعد اغتيال حمزة في أواخر سنة 125هـ اتجهت الأنظار إلى شامل ليقوم بقيادة الحركة التي بدأت من نحو خمس سنوات بقيادة الغازي محمد الكمراوي، ولكن شاملاً لم يكن بالرجل الطامع في قيادة أو رياسة. فحسب أن يقوم بواجبه كيفمااتفق، بل كان بوده أن يظل بعيداً عن مشاغل القيادة ومشاكل الرياسة، وما يتصل بها م مطامع ومتاعب، ولذلك ثار(728/29)
وغضب لما فوتح في أمر إسناد الرياسة إليه، ولكن إصرار العلماء والأعيان وأصحاب الشأن في منطقة (آوار) مهد الحركة الثورية وإجماعها على ضرورة قيامه بقيادة هذه الحركة - جعل شاملاً يستجيب لصوت الواجب، ورضى أن يتولى الإمامة - كما كانوا يسمونها - بعد سلفيه الغازي محمد وحمزة بك.
إن تولى شامل قيادة الثورة الوطنية الدينية في الداغستان كان نقطة التحول في هذه الحركة، فقد تبدل فيها كل شيء وتغير، وانتشرت روح الحركة والنشاط في كل اتجاه، وظهرت نواحي العظمة والعبقرية في هذا القائد الجديد سريعا، فذبت الحركة وهر النشاط في الثورة والثوار، واشتعلت نار الحماسة في صدور أولئك الجبلين من أهل القرى والأكواخ، وتحولت الثورة التي سارت خمسة أعوام في بط، وهوادة إلى حرب منظمة، وقيادة محكمة وجنود مدرين، وأنظمة مالية وقضائية كأحسن ما تكون الأنظمة المالية والفضائية في البلاد، وإنشاء الإدارة المدنية في كل مدينة أو قرية وقعت تحت سلطانه.
كان كل شيء قبل تولى شامل الرياسة يسير على الفطرة والطبيعة الهادئة البدائية، لا أثر للنظام والأحكام فيه، كان واجباً على المتطوع أن يكفى نفسه ويمونها بما هي في حاجة إليه من غذاء وكساء وسلاح، فوق ما يصاب به في نفسه وماله، وما يلحقه من جراء اشتراكه في الثورة من متاعب وخسائر.
ولم يكن لهؤلاء المتطوعين نظام يسيرون عليه، وتدريب يعدهم للأعمال الحربية، فكان كل واحد منهم يقوم بما يستطيعه تحت مسؤليته وعلى حسابه، وعلى الوجه الذي يتراءى له.
وكما لم يكن هناك - قبل رياسة شامل - نظام للمتطوعين وتدريبهم فإنه لم يكن عندهم ما يسمى بالإدارة المالية المنظمة لحركة الثورة، فكل شيء كان يسير - كما قدمت - حسب الظروف، وعلى أساليب فطرية أولية، لا اثر فيها للدقة، ولا للنظام والأحكام.
فلما تولى شامل قيادة الثورة انشأ - أول ما أنشأ - بيت المال على حسب نصوص الشريعة الإسلامية، وعين لهذا البيت الجباة والأمناء والعاملين، وجعل للمتطوع حقاً معلوماً في الغنائم، فكان يخمس كل ما يصل إلى يده من أموال الأعداء، فيضم خمسة إلى بيت المال، ثم يقسم الأخماس الأربعة الباقية بين المجاهدين المحاربين، وأحيا بذلك سنة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وخلفائه في قسمة الغنائم ببيت المال والمجاهدين تطبيقاً لكتاب(728/30)
الله الكريم وعملاً بما جاء به (واعلموا أن ما غنيتم من شيء فإن لله خمسة ولرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا عل عبدنا يوم الفرقان يوم التقى والله على كل شيء قدير) (41 - 8).
فكون بذلك أساس النظام الاقتصادي، وأمن الناحية المادية في الثورة، كما أغنى المجاهدين المتطوعين، وسد حاجاتهم بما ينالونه من الغنائم، ولم يكتف بذلك بل وجه نظرة إلى نام الجيوش وتدريب المتطوعين على نظم القتال والحروب، كما عنى العناية البالغة بأمر أسلحة هؤلاء المتطوعين، وعمل على إبلاغها إلى الحال التي تصلح للقتال بها مع جيوش الروسيين ذات العدد والعدد.
ومع أن هم شامل كل أو جله كان منصرفاً إلى الناحية الحربية وإعداد المحاربين، وتهيئة كل الأسباب التي تمكنهم من القيام بواجبهم الوطني على الوجه الأكمل، فانه مع ذلك لم يكن ليهمل النواحي المدنية والعمرانية، فقد معنياً جداً بتوطيد نظام القضاء الشرعي في تلك البلاد، فكان بعين في كل قرية يستولي عليها قاضياً يفصل بين أهلها فيما يعرض لهم من أحكام دينهم، ويقيم حدود الإسلام، وينفذ أحكامه فيهم.
ولي هذا فقط، فقد كان يوجه إلى الأقاليم والمناطق التي تخضع له (نواباً) عنه يقومون بالإدارة المدنية في تلك الجهات ويشرفون على جميع شئونها. وكانت مهم هؤلاء النواب في أقاليمهم شبيهة بمهمة المحافظين والمديرين، فكانوا مسؤولين عن جباية أموال بين المال، وتنظيم حركة المتطوعين، والمحافظة على السلام والأمن العام، وحماية السلطة القضائية، وتنفيذ أحكام القضاة، وعلى العموم فقد كان هؤلاء (النواب) يقومون في أقاليمهم بمهمة الحكام لهم ما للحكام من أشراف على مصالح الإقليم ورعاية حقوق الناس وصون أموالهم ونفوسهم، وتنفيذ أحكام التي يصدرها القضاة الشرعيون.
وإذا نحن تركنا الناحية المدنية من إنشاء بيت المال وتنظيم إدارة وما إلى ذلك، ووجهنا نظرنا إلى الناحية الحربية وار شامل فيها. وجدنا الفرق كبيراً والبون شاسعاً بين العهد الذي سبق شاملاً والعهد الذي نشأ بعد تولى شامل القيادة، فالثورة في عهد الغازي محمد الكمراوي وحمزة بك كانت أشبه ما تكون بتلك الحركات السلبية التي تظهر في كل بلد على اثر احتلال جدد من فاتح أجنبي، تظهر هنا مرة، وهناك مرة أخرى، وتظهر في آن(728/31)
لتختفي في أحيان ولكن الحال في عهد شامل من سنة 1250 - 1276هـ (1834 - 1859م) تغيرت تغيراً كبيراً، فقد أصبحت الثورة حركة عامة شاملة، واصبح لها قيادة رسمية ومقر يصرف الأمور، ويوجه الحركات، ويتلقى الأنباء، ومعتقلات لإيواء الأسرى، وسجون لحبس الخارجين على أحكام الشريعة، أو من صدرت ضدهم أحكام قضائية.
وأنشأ الشيخ شامل حكومة وطنية في الدغستان. كانت في كثير من الأوقات - مدى ربع قرن - تبسط سلطانها على اغلب البلاد الداغستانية، وتنفذ فيها أحكام الشريعة الإسلامية.
وإن ما يبعث على العجب والإعجاب معاً أن يستطيع الشيخ شامل الصمود أمام قوات القيصرية لروسية خمسة وعشرين عاماً ونيفاً يناضل في سبيل دينه ووطنه من غير أن يكون له سند يسنده، أو معين يعينه غير إيمائه باله، وقوة عزيمته، وصبره ومصا برته على المكاره والشدائد في سبيل الله. وإذا كان في هذا الصبر وذلك الصمود أمام قوات تلك الإمبراطورية العظيمة مدى ربع قرن ما يثير الإعجاب ويبعث على العجب، فان ما سجله التاريخ لهذا المجاهد البطل من انتصارات باهرة على كبار القواد الروسيين في معارك مشهورة فاصلة - نعن ان تلك الانتصارات العجيبة تعيد إلى الذهن ذرى فتوحات الغزاة المسلمين في عصر ظهور الإسلام وانتشاره والصدر الأول من حياة المسلمين.
عل إنه - رحمه الله واحن إليه - لما اضطر إلى التسليم آخر الأمر لم يرضى ان يسلم نفسه إلا على شرط أن يسلم هو ومن معه من قواده ومرافقيه إلى خليفة الإسلام والمسلمين في القسطنطينية.
ولا يتسع هذا المقال الوجيز الذي أكتبه بمناسب ذكرى وفاته السادسة والسبعين لذكر ما ينبغي ذكره من أعمال هذا المجاهد العظيم، ولذلك سأقتصر على بعض الخطوط والظلال التي تصوره بصورة إجمالية، وتعطى القارئ فكرة عامة عنه، كما اذكر بعض الأعمال والحوادث الهامة التي وقعت ملتزماً في ذلك غاية الإيجاز:
1 - على أثر تولى شامل قيادة الثورية وقيامه ببعض الإصلاحات والتنظيمات أوعزت الحكومة الروسية إلى أحد صنائعها شمخال غمر أنش، وكلفته الاتصال بشامل بقصد استمالته إلى جانب الروسيين، وإغرائه وإطماعه في أمارة الجبل، فاتصل الشمخال بالشيخ شامل، وطلب منه أن يتوجه إلى مقر والى القوقاز في مدينة (تفليس) حتى يعينه هذا الوالي(728/32)
الروسي أميرا وإماما لبلاد الداغستان بمتابعة له وتواليتهم إياه بعد اغتيال المرحوم حمزة بك 1250 هـ ولذلك لم يمر هذا العرض التفاتاً وضرب به عرض الحائط. وفي سنة 1253هـ (1837م) تكررت هذه المحاولة لاستمالة الشيخ شامل، وإنهاء حال الثورة في بلاد الاغستان، فقد اتصل القائد الروسي الجنرال (كلك) بالشيخ شامل وعرض عليه الذهاب إلى (تفليس) لمقابلة والي القوقاز، وأكد له أن الوالي سيعينه أميرا على جميع المسلمين في الداغستان، ورفض الشيخ شامل هذا العرض أيضا لأنه كان بعد نفسه أميرا منتخباً من الأهلين بركام جرياهم، فلم يرضن لنفسه أن يتلقى الأمارة من يد عدوه ومستمر بلاده، وعقد العزم على مواصلة القتال حتى يقضى الله أمره، ثم تكررت هذه المحاولة سنة 1255هـ (1839م) من جانب الروسيين ولكها فشلت أيضا.
2 - في أوائل سنة 1258هـ انتصر الشيخ شامل على القائد الروسي الجنرال (كرف) أنصارا باهراً. في معركة فاصلة حاسمة واضطر هذا القائد الروسي إلى الانسحاب العام، ولجأ إلى قلعة (شورا) الشهيرة. وكان لهذا النصر وقعه الحسن بين أخوان شامل ومريديه، فاقترحا عليه أن يبعث وفداً من قبله لمقابل خليفة المسلمين السلطان عبد المجيد خان في القسطنطينية، وبعد إلحاح شديد نزل شامل على إرادة أعوانه، وألف وفداً من ثلاثة أشخاص اختارهم لهذه السفارة بينه وبين الخليفة، وحملهم عرية كتبها باسمه واسم إخوانه المجاهدين الداغستانيين إلى مقام الخلافة العظمى. ولسنا ندري مضمون هذه العريضة، والغاية المرجوة منها، ولكنها على كل حال لا بد أن تكون عرضا لأحوال المسلمين في الداغستان، وربما كانت مضمنة طلب العون والمساعدة المادية أو الأدبية على الأقل من خلفية المسلمين.
وسافر هذا الوفد إلى بلاد الجركس في طريقه إلى القسطنطينية ثم جاوزها إلى بلاد (أبازه) على ساحل البحر الأسود ليركبوا من هناك أحد المراكب البحرية إلى عاصمة الخلافة. إلا أن أخبار هذا الوفد كانت قد سبقته، فوجد العيون والأرصاد في كل مكان فلم يستطع أعضاؤه ركوب البحر لان عيون الروسيين كانت ساهرة، وأخيراً استطاع أحد الأعضاء (الشيخ الجركوي) أن يتسلل إلى أحد المراكب بدعوى انه من الحجاج القاصدين إلى الديار الحجازية وحمل بين طيات ثيابه عريضة الشيخ شامل، وأوصلها إلى رجال ديوان الخليفة(728/33)
غير أنه لقي مطلاً غريباً، ووعوداً كاذبة. وقضى نحبه بعد مرض يسير قبل أن ينال رد الخليفة على عريضة قائده وأمامه الشيخ شامل. وبذلك أسدل الستار على هذه الرواية.
(يتبع)
برهان الدين الداغستاني(728/34)
ليالي الحصاد
(إلى أستاذنا صاحب الرسالة وصف لحصاد فلم يدع فضلاً
لنثر ولا لشعر)
للأستاذ محمود الحفيف
طربت فأشرعت مزماريه ... أدير إلى الريف ألحانيه
أغنى بأيامه الضاحكات ... وليلاته الحلوة الساجيه
وأنى لأهفو إلى ذكره ... وأملأ قلبي من سحره
أعيش أويقاتيَ الماضيات ... وانهل لذاتها ثانيه
واني على البعد غِرِّيده ... يجدد لحني ترديده
أغنى بما قر في مسمى ... ارجع أصداءه الغاليه
أرقرق في اللحن ضو القمر ... وسحر العشايا نفح البُكر
وفيض المنى من ليالي الحصاد ... وروح الهناءة والعافيه
ليالي الرضا والصبا والوداد ... ورجع الهوى في أغاني الحصاد
على الراض منها غناء يروق ... وفي الجو أطيافها شاديه
هلم فما الليل ليل الرقاد ... ولا قامة قائم من سهاد
هلم نجدد عهود الهوى ... ونغنم صبابته الباقية
هلم فقد طاب ليل الحقول ... ولذا السرى بين تلك السهول
وأطلق فيها نسيم العشاء ... أوائل أنفاسه الصافية
دعاني فتى مستفيض الجذل ... تهلل في مقلتيه الأمل
تريك إلى وجه نظرةٌ ... دلائك عيشته الراضيه
تحدث عيناء عن حبه ... وما أودع الحب في قلبه
وتحلو أحاديث أحلامه ... كما رقت النسمة الوانيه
مشينا. . . يغنى وأصغى له ... فيطرح قلبي أثقاله
يغنى بحاضره المستهان ... وأذكر أيامي الماضيه(728/35)
تحلق للسمر الحاسدون ... وصفق للزامر السامرون
وطاقتهم نفحات الشباب ... فلم تحتل من صرح ناحيه
يردد يا ليل شادٍ هنا ... ويهتف ذو صبوة ها هما
وهذي الطبيعة يقظانةٌ ... كأن لن تبت ليلة غافيه
طربت لصوت سرى من بعيد ... رخي الهتاف شجي النشيد
تهلل في خاطري لحنه ... وندى بشكواه أجفانيه
جليلة، هاتي شكاة هواك ... صفى كيف كان تجنى فتاك
غناؤك في الليل حلو الصدى ... تطوف به النسمة السارية
على القرب لحن ولحن بعيد ... وشاد تحدى وشاد يجيب
وتهتف زمارة ها هنا ... وأخرى تجاوبها شاديه
وكل فتى باب يشكو الهوى ... وبرح الضنى والنوى والجوى
أغانيهمو من مراح الشباب ... وأحلام أيامه اللاهيه
وكم صاح من طرب سامر ... يغني له حاصد شاعر
وكم فصل اللحن إنشاده ... ورتل أرغوله لقافيه
أطل على الأفق ملك السماء ... نديَّ المحفة كابي الضياء
على ذهب الحقل من تحته ... جرى ذوب فضته الكابيه
وقاموا صفوفاً إلى السنبل ... تندي وأحصد للمنجل
ولذ التسابق للحاصدين ... سيوف مناجلهم ماضيه
تجز المناجل سُوق الحصيد ... وفي الليل يسري رنين الحديد
وخشخشة ها هنا وهنا ... تَموَّج نائية دانيه
ومن كل صوب وركن غناء ... ورجع بروق بأقصى الفضاء
وقد رقرق الفجر أنفاسه ... ولاحت خيوط له قانيه
توردَّ في الشرق لون الشفق ... وهل به النور ثم اندفق
وسالت على حُزِم الحاسدين ... حيوط مذهبة جاريه
هنا وهناك يرى الحاصدون ... أطلت ذكاء وهم قائمون(728/36)
وراقت أهازيجهم في الصباح ... وطابت متى الرزق والعافيه
ألا كم سهرت بتلك الرحاب ... وكم أسكرنني الليالي العذاب
وكم ذقت فيها كؤوس الهوى ... على عفة صنتها، غاليه!
ليالي المنى والصبا والوداد ... ورجع ألهو في أغاني الحصاد
على الأرض منها غناء يروق ... وفي الجو أطيافها شاديه
الخفيف(728/37)
تعقيبات
مسابقة في غير ميدان:
اختار المجمع اللغوي للمسابقة الأدبية التي يجريها للعام المقبل موضوعين: أحدهما (الحياة الأدبية في المدينة على عهد الأمويين) وثانيها (كتابة بحث عن مهيار الديلمي) الشاعر المشهور.
والحياة الأدبية في المدينة موضوع اخلقه كثرة الكلام فيه والحديث عنه، وفيه من البحوث القديمة والحديثة والدراسات المطولة والمدرسية شيء كثير جداً، وكله ميسر للقارئين جداً، ومهيار الديلمي شاعر كبير حقاً، ولكن حسبه حظوة أن قامت دار الكتب بطبع ديوانه الضخم طبعاً فاخراً، وقررت الوزارة دراسته في مدارسها وسار من أشعاره وأخباره كثيرة في السنة الناس وإنما الشأن في مسابقة كالتي يجربها المجمع أن تكون في موضوعات يرود فيها الباحث مجاهل جديدة ويكشف فيها عن آثار لا تزال مطمورة، وعندنا في الأدب العربي عصور مغلقة إمام الباحثين ولا تزال ثروتها الفكرية مدفونة وهي تنتظر الجهد لكشفها وإخراجها، فمثلاً الأدب المصري حتى في أزهى عصوره لا نعرف منه إلا شذرات طفيفة، والأدب الأندلسي لا تقف فيه إلا على جملة أخبار محفوظة، والأدب العربي في شمال أفريقية من عهد عقبة بن نافع إلى اليوم لا ندري فيه كثيراً ولا قليلاً، فكان الأجدر بالمجمع أن يجعل ميدان المسابقة في تلك الميادين التي يجدي فيها السباق على الأدب والبحث، أما المسابقة في البحث عن مهيار وعن الحياة الأدبية في المدينة فان من اللائق أن تكون مسابقة لتلاميذ المدارس إذ يراعي نحوهم تيسير البحث عليهم. . .
فهل لرجال المجمع أن يعيدوا النظر في اختيار الموضوع، وأن يراعوا في ذلك أيثار النواحي التي لا تزال مجهولة غامضة. . .
هذه الألفاظ الأثرية:
في العدد الذي وصل أخيرا من مجلة (الثرى) التي تصدر في النجف مقال بعنوان (أسماء منتخبة لمعان مستحدثة) بقلم الشيخ أحمد رضا، مهد له الشيخ بمقدمة قال فيها: (عهد إلى المجمع العلمي وأنا من أعضائه الأقدمين بتأليف معجم لغوي يلائم وروح العصر تنسيقاً وترتيباً ويكون جامعاً لمتن اللغة دون شروح أو تعاليل لأنها ليست من هم الطالب لعجل(728/38)
الذي يطلب معنى لكلمة العربية كما سمعت من العرب، وليس من همه أن يبحث عنها كيف استقرت على صيغتها المسموعة عنهم، وإنما ذلك يبحث عنها كيف استقرت على صيغتها المسموعة عنهم، وإنما ذلك شأن الباحثين المتخصصين في فلسفة اللغة وتطورها فأنجزته والحمد لله حاوياً للمواد الواردة في أشهر كتب الأئمة. . ثم رأى المجمع أن أو جزء بكتاب مختصر يكون نجدة للناشئين المتأدبين ولا سيما الطلاب في المدارس، فقصدت إلى ذلك وألحقت ما أثبت عليه بأسماء منتخبة لمسميات حديثة تراءت لي أثناء مراجعاتي اللغوية).
ثم أورد الشيخ بعضاً من هذه الأسماء التي انتخبها وهي (الدرمك) للدقيق المحور الأبيض المعروف بالفاخر، (الدغرى مصدر دغر) للحرب المفاجئة المعروفة بحرب الصاعقة، و (المدغرة) للحرب المعضوض التس شعارها دغرى، و (المربقة) للساند وتش، و (الدلق) و (الربيدة) للدوسيه، و (التلاء) للجواز المؤقت. . . إلى آخر الألفاظ التي أوردها الشيخ وكلها من هذا القبيل. . .
وكل هذا عناء لا طائل تحته، والواقع أن رجال اللغة عندنا يشقون على أنفسهم كثيراً ويتحملون كل هذا العناء استجابة لفكرة متسلطة على أذهانهم وهي التدليل على أن اللغة العربية غنية بمادتها تكفى ألفاظها معنى مستحدث وفي كل غرض جديد، فهم يرجعون إلى القواميس يلتقطون منها تلك الألفاظ المجفوة الميتة ويضعونها للمعاني الحديثة في حية ألنا، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل رجل ينزل إلى السوق إلى اليوم فيصر على أن يتعامل بالدراهم والدنانير التي ضربت على عهد الرشيد، ويزعم للناس أن الدراهم لا يزال درهماً، والدينار لا يزال ديناراً!
فلأمر في وضع الألفاظ اللغوية وانتخابها ليس مجرد إيجاد تلك الألفاظ فحسب، بل إيجاد الألفاظ التي تصلح للحياة، فيتفاهم بها الناس في أحاديثهم، ويتعامل بها الكتاب والشعراء في ألفاظهم وتعابيرهم، ومن من الكتاب والشعراء يطيق ذوقه أن يستعمل الدرمك، والدغرى والمدغرة والدلق والمربقة. . .
فلعل رجال اللغة يقدرون هذا ويصرفون إليه جهدهم، وإلا فليوفروا على أنفسهم وعلى الناس العناء والشطط. . .(728/39)
الشيوعية في هوليود:
في الأنباء الواردة من أمريكا أن اللجنة الفرعية التي تألفت من أعضاء مجلس النواب هناك للتحقيق في الأعمال التي يقوم بها غير الأمريكيين اكتشفت (أن الشيوعية قد تأصلت جذورها في هوليود وفي صناعة الأفلام. . .).
وقد أدلى المستر جيمس مكدويل عضو اللجنة بأن الشيوعيين موجودون في جميع فروع صناعة الأفلام، فمنهم مهندسو المناظر، ومنهم الفنانون، ومنهم المصورون والمخرجون، ومنهم الكتاب والمؤلفون، وقد كشف التحقيق عن وجود حلقة من الشيوعيين تتسرب إلى داخل البلاد عن طريق المكسيك. . .
هكذا أصبحت هوليود مدينة الحب والجمال، والفن والمال وهي أيضاً مباءة للنزعات السياسية والاتجاهات المذهبية، كأن السياسة الملعونة تأبى إلا أن تعكر مورد، وتستغل كل أسلوب للتأثير في أذهان الناس.
ما أشبه استغلال الدعاية لهوليود بالمؤامرة التي صنعها الألمان في الحرب العالمية الأولى في مصانع الذخيرة للحلفاء ومحاولة حشو القذائف بالرمل، إنه في الواقع اشتغال خطير، لأن هوليود كما معروف تتسلط على العالم بفنها، وبأفلامها، وإن مما يؤلم أن يصير الفن أداة للسياسة، وأن يصبح سلاحاً للدعايات المذهبية مهما كان لونها، ومهما كان هدفها، إنما الفن صوت الإنسانية الخالص من شوائب الأغراض، فمتى الفن إلى هذه الغاية مترفعاً عن أو ضار الدعاية ومآرب السياسة. . .
الشعر والغناء:
يشتغل المطرب المعروف محمد عبد الوهاب في هذه الأيام بتلحين قصيدة (مضنياك جفاه مرقده) للمغفور له أحمد شوقي بك، وهذه القصيدة التي عارض بها أمير الشعراء قصيدة الحصري المشهورة: (يا ليل الصب متى غده. .)
وإن مما يدعو إلى الاغتباط أن يتجه كبار المطربين والمطربات عندنا إلى الغناء في الشعر الرفيع، واختيار القصائد الممتعة والمقطوعات الرائعة لتشنيف الأسماء وإشباع العواطف، فقد كان الغناء عندنا ابتذل في الكلام التافه الرخيص والتعابير العامية المكثوفة، وكنا كلما(728/40)
شكونا من هذا وطالبنا أهل الطرب بالترفع عن هذا التخنث احتجوا بأن هذا هو الذي يطلبه الجمهور ويفعمه ويقبل عليه، فلما غنى عبد الوهاب في شعر شوقي، وغنت (أم كلثوم) سلو قلبي. لم يطرب الجمهور، بل لم يطرب العالم العربي أجمع مثل ما طرب لهما في هذا، حتى أصبح العامة يستظهرون هذه القصائد والمقطوعات ويرددون نغماتها في غدوهم ورواحهم، ولا شك أن لهذا أثره الطيب في تقويم الألسن وتهذيب العواطف
حدثني الشيخ محمد الخضري رحمه الله عليه قال: لقد سمعت عبده الحمولي يغني في حشد يبلغ الألوف، فرأيته بتلاعب بألبابهم ويهز عواطفهم، ولكنه من الأسف كان يغني في كلام مبتذل، فهجمت عليه في عنف وقلت أيها الرجل: إن قيادة هذه الجماهير في يدك، وأنت تستطيع أن تسير بهم في طريق الخير والتهذيب فلعلك تفعل. . .
وهكذا يجب أن نفهم أن الغناء أسلوب من أساليب التهذيب وأنه في هذا أداة ساحرة مؤثرة، ولهذا يعنينا أن نسجل هذا الاتجاه الحميد الذي يتجه إليه المطربون عندنا بالغناء في الشعر الجميل. . .
(الجاحظ)(728/41)
الأدب والفن في الأسبوع
التربية ورفع المستوى الاجتماعي:
أقامت الجامعة الأمريكية في مساء الخميس حفلتها السنوية النهائية لتوزيع الإجازات العليا على الطلبة المنتهين في قاعة يورت التذكارية. وكان من مواد هذه الحلقة بحث قيم للدكتور جون س. بادو رئيس الجامعة أمريكية بالقاهرة في (التربية ورفع المستوى الاجتماعي) أبان فيها ما يسود العالم من القلق الاجتماعي، وما يشاهد في مصر من سوء الحالة المعيشية، وذكر أن ما تبذله الحكومة من العناية لحل المشاكل الاجتماعية يجب أن تؤازره الطبقة المتعلمة التي تتخرج في المدرسة، فيجب أن تعنى المدرسة بتلك المشاكل أجل العناية، فتربى في تلاميذها الوعي الاجتماعي لحفزهم إلى تحمل نصيبهم في دفع البؤس عن مواطنيهم، وليكون هدفهم المساهمة في رفع مستوى المجتمع المصري إلى مستوى أعلى وافق أوسع من لان هذا هو مقياس نجاح المدرسة أن تجعل المسؤولية الاجتماعية من أهم ما تعنى به من التربية في منهاجها، فيوجه المدرسون إليها عنايتهم ضمن ما يعنون به من المواد الدراسية، وذكر كيف استطاع أحد أساتذة اللغة اليونانية أن يجعل من دراسة الآداب اليونانية القديمة حافزاً للاهتمام بمشاكل المجتمع وحاجياته، لأنه يربط قصص الماضي وأساطيره بالوقت الحاضر ومشاكله.
ونقول أن هذا المثل الطيب ينفع احتذاؤه نفعاً كبيراً في دراسة الأدب العربي الحديث في مدارسنا عند البحث في سير رجاله وأثارهم في النهضة الحديثة وخاصة ما واجهوه من المشاكل التي لا تزال نواجهها أو نواجه أمثالها، فنخرج بذلك عن النطاق المضروب حول (التاريخ الموجز لحياة الشخصية، ومعرفة أسماء أهم آثارها، ثم حفظ من نظمها أو نثرها).
ولا شك أن ذلك يبعث في الدراسة الأدبية الحركة والحياة إلى ما يؤتيه من الإلمام بالمسائل القومية، وما يحققه من الرسول إلى هدف التربية في الوعي الاجتماعي.
توفيق الحكيم برد الوسام الفرنسي:
ذكرت (أخبار اليوم) أن الأستاذ توفيق الحكيم أرسل إلى سفير فرنسا كتاباً يرد به إلى فرنسا وسامها (اوفيسيه داكاديمي) الذي منحته إياه الجمهورية الفرنسية في أول مارس سنة 1938 تقديراً للأدب، لمناسبة ترجمة بعض كتبه إلى الفرنسية؛ ونشرت نص هذا الكتاب،(728/42)
وهو يتضمن انه حمد لفرنسا ذلك التقدير، ثم شاءت الأيام أن تفجعه في عاطفة الإعجاب التي يكنها لها، فالأدب من أهم خصائصه (الحرية والإنسانية)، ولم يكن يتوقع أن فرنسا تعتدي على الإنسانية إلى حد حبس الطعام عن أفواه جياع لا حول لهم ولا طول. . . وكان حظ الحرية ماثلاً، فقد غضبت فرنسا لان مصر تركت للأمير عبد الكريم حرية اختيار نزوله ومقامه، وهو ليس بمذاب ولا بمجرم، إلى أن قال:
(فما معنى الأدب أذن في رأي فرنسا. . . إذا لم يكن للحرية والإنسانية عندها من معنى. . .)؟
وقد احسن الأستاذ الحكيم بذلك، وكان فيه لبقاً واعياً. . . فإنه لم يخسر إلا شيئاً تافهاً لا قيمة له، إلى جانب ما كسبه من إرضاء شعوره، فضلاً عما يجره هذا الصنيع من جميل الذكر، وما يحدثه من حسن الأثر!.
آلا ليت (المتفرنسين) كلهم توفيق الحكيم!
الأدب المصري القديم:
نشرت مجلة (مسامرات الجيب) مقالاً للعالم الأثرى المعروف الأستاذ سليم بك حسن بعنوان (أدبنا المصري اقدم أتدب في العالم) تضمن معلومات مهمة، منها تصحيح لبعض القضايا الأدبية المشهورة، مثل الدرامة التمثيلية التي تعزى نشأتها إلى بلاد اليونان، وكذلك القصص الخرافي؛ فيفنى سليم بك أولية اليونان في ذينك الفنين، ويقول بأن الأدب المصري القديم أول أدب ظهرت فيه الدرامة التمثيلية والقصص الخرافي، ويقول (كان المصري أول من قص القصص، ومنه تعلم العالم القصص وفنونه فلا تكاد تقرأ في كتاب من الكتب قصصاً إلا وتجد انه يرجع إلى اصل مصري قديم مع بعض التغيير والتبديل حسبما تقتضيه البيئة والأحوال، ولا أدل على ذلك من أن بعض قصص ألف ليلة وليلة مصرية في عنصرها الأصلي. وقصة يوسف عليه الإسلام نجد مثيلها في القصص المصري القديم وهي قصة الأخوين).
فإذا كانت لنا تلك الأوليات في فنون القصص، إلى أدبنا العربي وفنونه، فقد جمعنا المجد من أطرافه.
شيء جدير:(728/43)
لم أجد لهذا (الشيء) اسماً فينا نعرف من أنواع الأدب، فهو ليس بنظم لأنه لا يخضع لوزن، ولم يكتب كما يكتب النثر، بل وضع في هيئة الشعر، ويشغل السطر منه فراغ بيت موزون، ويتحد كل سطرين في قافية، ويأخذ كل أربعة اسطر حتى محدوداً، ليتكون من الجميع (رباعيات) فهو كلم مقاس مقفى. . . فماذا يكون؟ هو (رباعيات عمر الخيام بقلم توفيق مفرج) وقع في يدي هذا الأسبوع، وكنت قرأت عنه في بعض الصحف الكبيرة ثناء وحمداً، فجعلت اقرأ ما احتواه، فإذا هو على النسق الذي قدمت صفته، وهاك (الرباعية) الأولى:
(انهض! فالصباح قد قذف بالشمس إلى الفضاء
فهرب الليلْ، واختفت نجوم السماء
والشعاعْ، يتساقط كنصال السهام
فيصيب أعالي الحصون، والجبال، والآكام).
وقد استرعى نظري ضبط أخر كثير من الكلمات بالسكون كما في هذه السطور، فلم هذا التسكين؟ اهو لضرورة وزن يخضع لتفاعيل جديدة؟
لقد قرأنا ترجمات لرباعيات الخيام نظمها السباعي ورامي والزهاوي وغيرهم، نظماً عربياً معقولاً، فما الذي صنعه صاح (أحدث ترجمة!) لرباعيات الخيام؟
عدت إلى صدر الكتاب فلمحت أربعة أبيات. . . معذرة! أربعة أسطر، يهدى بها الكتاب، ونصها:
(إلى التي تملئ (كذا) البيت بالحب والهناء
إلى المرأة الفاضلة جنة الأرض والسماء
إلى زوجتي التي أوحت إلى الشعر والغناء
أقدم هذا الكتاب ميثاقاً للحب والوفاء)
إذن فالرجل يعد هذا شعراً. . ليس فحسب، بل شعراً وغناء! وعلى هذا النمط من (الشعر) ترجم رباعيات الخيام. ولا شك أن له أن يفعل، تمتعاً بحق (الحرية الشخصية) ولكن الذي لا يجوز السكوت عليه هو تورط كبريات الصحف في المجالات على حساب الأدب، إلا أن يكون الزملاء يكتبون عن الكتب من بعيد دون قراءتها ومعرفة أي شيء هي. . .(728/44)
قروي فنان:
هو عبد الغفار دراج من قرية (جماجمون) بمركز دسوق، قال محرر جريدة (النداء) إنه سمع به ورأى له صوراً بارعة فقام برحلة إلى قريته (جماجمون) والنقي به هناك في (الجرن) وأراد المحرر أن يتحقق صدق ما بلغه عن فن عبد الغفار فدفع إليه صورة جلالة الملك وطلب منه أن ينقلها أمامه، فجلس عبد الغفار إلى (طبلية) وبدأ العمل. . . ورسم صورة الملك كما رسم غيرها رسماً جيداً؛ وقد رأينا مجموعة من تصويره منشورة بالنداء، منها صورة رسماً جيداً؛ وقد رأينا مجموعة من تصويره منشورة بالنداء، منها صورة جميلة لقروي شيخ جلس القرفصاء يدخن في (الجوزة) وأمامه إبريق الشاي على موقد وبجواره جرة ودجاج وباقي أمتعة بيته، وقد بدا الهدوء والدعة على وجه الشيخ العائد من حقله ليستمتع بالراحة في بيته ويرسل متاعبه مع دخان النرجيلة إلى الفضاء وعبد الغفار لا يقرأ ولا يكتب، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وقد هوى الرسم من صغره، وبدأ بمحاكاة صور المجلات التي كانت تقع في يده، ثم اخذ يرسم القرويين من أبناء بلده ويبيع لهم الصورة بقرش.
وقد رأى صاحب (النداء) أن يضمه إلى قسم التصوير بالجريدة. . . وهكذا يبدأ (الأستاذ عبد الغفار دراج) مرحلة جديدة من حياته، فيصبح فناناً صحفياً. . . يقوم دليلاً حياً على ما في ريف مص من مواهب إلى ما فيه من خيرات.(728/45)
البريد الأدبي
في اللغة تذكير مؤنث:
عمل حضرة صاحبة الجلالة (فوزية) وصاحبات السمو والنبل وسائر ذلك القبيل الكريم في (مبرة محمد على الكبير) ونظائرها - هو عمل رجال بل عمل أبطال؛ فقول جرائد ومجلات (فلانة عضوة في المبرة، وهن عضوات فيها) - شيء نكر، وإزعاج عظيم لا زواج الراقدين في (الجزيرة) من العرب الخلص في الجاهلية والإسلام، فما أنت العضو في وقت من الأوقات أحد.
وأبشع من تأنيث هذا المفرد تأنيث مجموعة فاستعذ بالله من كلامهم وقل - أما شئت أن تقول -: فلانة عضو في المبرة وهن أعضاء فيها وقس على هذا العمل أشكاله، ويصف أهله بأوصاف الرجال، فقل: محامي فلان فلانة، ولا تقل: محامية، وفلان طبيب فلان أو طبيب دار الشفاء وفلانة أستاذ تلك المدرسة أو الكلية أو الجامعة، وإذا حكم القضاء أم يجئن إلى القضاء بعد حين طويل (طوله الله) أو قصير (لا سمح الله) فقل: فلانة هي القاضي في دار القضاء، وكانت فلانة هي القاضي في تلك الدعوى. وإياك وأن تقول: كانت القاضية. . . وفي دار الندوة أو مجلس النواب يوم يجيء ذاك الأجل - ونراه بعيداً وإنهن ليرينه قريباً - هي نائب بين النواب لا نائبة والنائبة في الكتاب والحديث - مصيبة. . .
فإذا لغوت (أي تكلمت) بمثل ذلك وسطرت أحسنت ولم تسئ، وسلكت سبيل أهل التحقيق. قال الأمام صاحب (المخصص):
(وما وصفوا به الأنثى ولم يدخلوا فيها علامة التأنيث وذلك لغلبته على الذكر - قولهم: أمير بن فلان امرأة؛ وفلانة وصي بني فلان، ووكيل فلان، وكذلك يقولون: مؤذن بني فلان امرأة، وفلانة شاهد بني فلان. ولو أفردت لجاز أن تقل: أميرة ووكيله ووصية، وأنشد قول الشاعر:
فليت أميرنا وعزلت عنا ... مخضبة أناملها، كعاب
وربما أدخلوا الهاء فأضافوا، فقالوا فلانة أميرة بني فلان، وكذلك وكيلة ووصية. وسمع من العرب وكيلات، وهذا يدل على وكيلة، قال عبد الله بن همام السلولي:(728/46)
فلو جاءوا ببرَّة أو بهند ... لبايعنا أميرة مؤمنينا
وقال: هي عديلي وعديلتي بدليل ما حكاه أبو زيد من قولهم عديلات).
فدع الجائز (ولو أفردت لجاز) ودع القليل (وربما أدخلوا الهاء) وذكر، ذكر في كل حال، ولا تؤنث، وأرض الجماعة بما لا يغضب اللغة.
أعط - يا أخا العرب - ما أعطت العربية، وأمنع ما منعت فإذا أنت حق عادل في أحكامك وكلامك. . .
السهمي
أمانة النقل:
كنت أقرأ في كتاب (عثمان بن عفان) الذي أصدره في هذه الأيام الأستاذ صادق إبراهيم عرجون المدرس في الأزهر الفصل الذي عقده لتحقيق مقتل عمر، فأجد كلاماً أحس أن فيه رائحة من كتابي، ولا أجد الدليل عليه، حتى إذا بلغت آخر الفصل ألفيته يقول: (وقال الأستاذ الفاضلان مولفاً كتاب سيرة عمر) ويسرد ما يملأ صفحة من كلامي. فتألمت لا لأنه أخذ من كتابي ولم يعز إلى فقد غصب كثيرون من هذا الكتاب، وجعلوه نهباً مقسماً وحمى مستباحاً، وفيهم من يعد من كبار المؤلفين، ولا لان اسم كتابي ليس (سيرة عمر) ولا يعرف أيحد من القراء من هما (الأستاذان الفاضلان) مؤلفاه. بل لأني رأيت أن أمانة النقل قد فقدت حتى من الأزهر. وقد كنا نعده دارها ومستقرها، ونرى أهله أهلها، يحرسون عليها، ويعرفون لها قدرها، هذا والكتاب مع ذلك جيد جداً في بحثه وأسلوبه. أشهدها شهادة لله وللعلم.
علي الطنطاوي
النحوي الموسيقية:
النجوى تعريب كلمة (سرناد) ومعناها موسيقية المساء، والأصل في هذه الموسيقية أن تكون تأليفاً غنائياً غزلياً يغنى أو يعزف ليلاً تحت نافذة المحبوب أو في الخلاء القريب من مكان المحبوب.
وقد تحدث عن هذا النوع من الموسيقى الأستاذ عبد الحميد توفيق زكي المشرف على(728/47)
البرامج الموسيقية في الإذاعة المدرسية، فذكر أن النجوى دخلت الموسيقى المصرية على ثلاثة أطوار: الطور الأول تلك الأغاني المصرية الحديثة التي منها الجزء الأول من أغنية (عند ما يأتي المساء) للأستاذ محمد عبد الوهاب، والطور الثاني يتمثل فيما قامت به الجمعية المصرية لهواة الموسيقية من ترجمة بعض المؤلفات الموسيقية العالمية لإدخال أنواع جديدة في التأليف الموسيقية المصرية، ومنها النجوى التي مطلعها:
(يا ليالي كم ينادى عاشق أسير). أما الطور الثالث فهو محاولة تلحين أغان خفيفة مصرية ذات طابع شرقي، ومع ذلك تؤلف على القواعد العالمية، وقد نجح في هذه المحاولة اتحاد الموسيقيين الجامعيين.
ثم قدم الأستاذ مغنياً قال إنه سيصاحب بالغناء قطعة من النوع الأخير عنوانها (ذكريات) إذا أصغي إليها المستمع، بغض النظر عن مصاحبة الغناء لها، أحس المعنى الذي تعبر عنه. ثم عزفت الموسيقى، وغنى المغني، ولكنا لم نستطع أن نغض السمع عن الغناء، لتعيش في جو الذكريات، لأن المغني كان صاخباً كالحاضر، فجعلنا تتطلع إلى المستقبل الذي يعقب انتهاءه.
أفلام ثقافية عربية:
كانت إحدى شركات السينما العربية قد اتصلت بادراه الثقافة بالجامعة العربية بغية الظفر بتأييد الجامعة الأدبي فيما يتعلق بالأفلام الثقافية العربية المؤلفة والمعرفة، مما سوف تخرجه تلك الشركات.
وقد عرض ذلك الطلب على الكتب الدائم للجنة الثقافية بجلسته الأخيرة، فوافق على توصية الدول العربية الأعضاء بتيسير عرض ما عسى أن تنتجه تلك الشركة من أفلام، على شريطة أن تعرض الشركة ما تريد تشجيعه من الأفلام عرضاً مفصلاً على الإدارة الثقافية، لتتولى عرض ما يصلها من الشركة على المكتب الدائم لاتخاذ ما يراه بشأنها.
مطبوعات الدول العربية:
كانت وزارة المعارف العراقية قد اتصلت بالأمانة العامة للجامعة العربية، بشأن طلب بعض الأشخاص والهيئات الحصول على المطبوعات الرسمية التي تصدرها حكومات(728/48)
الدول العربية الأعضاء كالإحصاءات والنشرات، وكثير من هؤلاء الطالبين قد يكونون غير معروفين لديها حتى تجيب طلبهم.
وقد عرض هذا الموضوع على المكتب الدائم للجنة الثقافية فاستقر الرأي على وجوب استفسار الوزارة التي يطلب منها مثل هذه المطبوعات، عن مكانة الطالب، من مفوضيه البلد الذي ينتمي إليه.
وقرر المكتب أيضاً أن توصي الأمانة العامة وزارات معارف الدول الأعضاء، يتبادل الكتب والمطبوعات الرسمية الخاصة بالإحصاء والتعداد وما إلى ذلك، فيما بينها.
(العباس)
الهزج والوافر:
اطلعت على ما علقت به (الرسالة) في هامش البريد الأدبي على كلمة الأستاذ نظام مدني في العدد (727) في صدد بيت الأستاذ الشاعر مختار الوكيل وهو قوله:
أخي قد شاء رب الكون أن يجمع قلبانا
ونقول (الرسالة) إن (مطلع القصيدة من بحر الهزج بدليل الكف وهو حذف السابع الساكن في التفعيلة الثالثة. ولم تر فيما قرأنا من الشعر الصحيح النقص في مفاعلتن وهو اجتماع العصب والكف: أي تسكين الخامس المتحرك وحذف السابع الساكن).
هذا ما عقبت به الرسالة ولتقرير الحقيقة نقول:
صحيح أن الوافر لا يدخله وهو حذف السابع (المتحرك) إلا أن الوافر نفسه يدخله من الزحاف المركب (النقص) وهو اجتماع العصب والكف أي إسكان اللام وحذف النون من مفاعلتن، ثم أن النقص لا يدخل إلا على الوافر فقط كما نص على ذلك العروضيون.
فبيت الأستاذ الشاعر صحيح، وتعقيب الأستاذ المعقب أيضاً صحيح، وغاية في الأمر أن استعمال الزحاف المركب - على صحته - قبيح للشعراء المحدثين. والسلام. . .
(الزيتون)
عدنان أسعد
(الرسالة) لا زلنا نقول أن الكف وهو حذف السابع (الساكن) إنما يدخل مفاعيلن في الهزج(728/49)
ولا يدخل مفاعل تنفي الوافر. وإذا العروضيون قياساً فقد منعه الشعراء سماعا. وأذن يكون الفارق بين مجزو الوافر وبحر الهزج هو حذف النون من مفاعيلين أو تحريك اللام في مفاعلتن؛ فحينما وجدت النون محذوفة فهو الهزج؛ وحيثما وجدت اللام متحركة فهو الوافر. . . وإذا اتفق في القصيدة كلها أن دخل مفاعلتن العصب فسكنت اللام ولم يدخل مفاعيلن الكف فبقيت النون حملت على الهزج، لأن هذا الوزن أصيل فيه. والشعراء المحدثون يخلطون بين البحرين فيجمعون بين مفاعيلن المحذوفة النون وبين مفاعلتن المفتوحة اللام.
حول خطأ عروضي شائع:
ذكر الأستاذ خليل إبراهيم الخطيب في العدد 725 أن قصيدة الأستاذ مختار الوكيل التي مطلعها:
أخي قد شاء رب الكون أن يجمع قلبانا مزيج من الهزج والوافر، وقد بين الأستاذ نظام مدني في العدد 727 أنها من مجزو الوافر ولكن الرسالة علقت على هذا القول بأنها لم تر في صحيح الشعر دخول النقص على الوافر، ولكي وجدت في قصيدة جزيرة العشاق من ديوان الشوق العائد للأستاذ علي محمود طه هذين البيتين:
ليالي الصيف في كَبْرى ... أم الفتنة في الحر
تنفّسَ جوه عطراً ... يفضضه سنا البدر
فإما أن يجوز دخول النقص على الوافر وأما أن تصبح قصيدة الأستاذ علي محمود طه هي الأخرى مزيجاً من الهزج والوافر وللرسالة جزيل الشكر.
محمد الانور الحلبي
(الرسالة) البيت الأول من الهزج قطعاً لحذف السابع الساكن من التفعيلة الثالثة، والبيت الثاني من مجزو الوافر قطعاً لتحرك الخامس في التفعيلة الأولى والثالثة.
حجرة التحمس:
سيدي صاحب - من وراء النظار -
. . . ما أن قرأت مقالتكم (حجرة التحمس) وأنا مضطجع فوق حشيتي المتواضعة بقاع الريف ساعة القيلولة حتى انتفضت واقعاً أمسكت بقلمي لا لأشكر على تصوير الواقع من(728/50)
حياتنا المقلوبة الأوضاع في شتى مظاهرها فأنت في غنى عن شكر أمثالي الذين تحصرهم القرية بحدودها الضيقة في كل مجال! وإنما لأقول لك يا سيدي المفضل أن هؤلاء هم الموظفون الذين تشفق عليهم الدولة وترثى لحالتهم فتغدق عليهم العلاوات والدرجات وتبتكر القوانين التي تقرب إليهم آمالهم ورغباتهم - أما المعلم الأولى الذي يسوس الأطفال الصغار (عفاريت الأنس) في نهاره، ويقود الكبار في مكافحة أميتهم في ليلة! هذا المعلم الذي يضع بيده الحجر الأول في تربية الآمة وتنشئة أجيالها القادمة تقف له الدولة بالمرصاد فتحرمه من كل ما تبذله لهؤلاء الموظفين ومثالهم صغاراً وكباراً!!.
ترى متى يعرف لصاحب الفضل فضله، ويعطى لكل ذي حق حقه، على أسس المساواة والعدالة بين الجميع؟!
(دميرة)
خورشيد عبد العزيز
الزعيم (شكوكو): (مهدأة إلى أستاذنا الخفيف)
أن المتجول في أحياء القاهرة يرى باعة يحملون تماثيل للمغنى الشعبي العزلي (شكوكو) فكان الشعب المصري يريد أن يقول بلسان الحال: أن زعماءنا خطبوا طويلاً فنسى الشعب ما قالوا، وغنيت أنت فحفظ الناس ما قلت وصنعوا لك التماثيل.
غن. وأسمعه أنغام الحرية ليصنع تماثيله للشهداء.
وردد على أسماعه ألحان الاتحاد ليؤلف بين الزعماء.
وابعث فيه سحر سلطانه ليفخر بأنه سيد الملوك والرؤساء وهوه بأنين أحزانه ليتحرر من هذا البؤس وهذا الشقاء.
وأنى أقسم لئن لتكونن أخطر على إنجلترا وعلى أوضاعنا
المقرونة من ألف زعيم. لقد أكرمك الشعب با صاحب
التماثيل، فهل أنت ممن يعرفون الجميل؟ فتحي السمان محمد
إلى مؤلفي الكتب المدرسية:(728/51)
لمناسبة انعقاد المؤتمر الثقافي العربي الأول بلبنان قي 2 سبتمبر القادم للبحث في توحيد اتجاهات الثقافة العربية والعناية بموادها وأساليب تعليمها في نواحي اللغة العربية والمواد الاجتماعية في مراحل رياض الأطفال ولتعليم الأولى والابتدائي والمتوسط والثانوي.
يسر الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية أن تدعو حضرات المؤلفين ودور النشر والمكتبات في جميع الأقطار العربية إلى الاشتراك في هذا المعرض، بأن يرسلوا إليها:
أولاً - نسختين من الكتب المؤلفة في اللغة العربية بفروعها المختلفة لمراحل التعليم المتقدمة الذكر بما في ذلك الكتب المختصة بتيسير الكتابة والنحو البلاغة وغيرها.
ثانياً - نسختين من الكتب الموضوعة في مواد التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية في هذه المراحل التعليمية.
ثالثاً - الوسائل العامية لتعليم فروع اللغة العربية المختلفة ووسائل الإيضاح لمادتي التاريخ والجغرافيا كالمصورات والخرائط والمجسمات والأجهزة التي من صنع لأفراد ودور النشر والشركات.
وترجو إدارة الثقافة أن يصل إليها ذلك قبل منتصف شهر يوليو (تموز) سنة 1947 وأن يرسل باسم مدير الإدارة الثقافية بالأمانة العامة جامعة الدول العربية بشارع البستان بالقاهرة.
وسترد المعروضات لأصحابها بعد انتهاء المؤتمر عن طريق لإدارة الثقافية، إلا إذا شاء المؤلف إهداء النسختين أو إحداهما لأداة الثقافة بالجامعة العربية لحفظهما لديها تسجيلاً لحركة التأليف المدرسي في هذه المواد، ورغبة في التعريف بها، وإشاعة الانتفاع منها في أوسع نطاق.(728/52)
القصص
ماء الحياة. .!
(مترجمة عن الإنجليزية من كتاب
لأستاذ ماجد فرحان سعيد
في قديم الزمان ملك أضناه المرض حتى يئس من الحياة، وكان له أولاد ثلاثة، خرجوا إلى حديقة القصر، وطفقوا يجهشون بالبكاء، حزناً عليه، وبينما هم كذلك، جاءهم شيخ وقور، بلغ من العمر عتياً، وسألهم عن سبب كآبتهم، فأعلموه أن والدهم مشرف على الموت، وما من حيلة نفع في شفائه. فقال الشيخ: (لكم في شفائه، طريقة واحدة فقط، وهي أن تسقوه من ماء الحياة).
فذهب الولد الأكبر إلى والده الملك، وطلب إليه أن يأذن له بالبحث عن ماء الحياة، إذ هو المنقذ الوحيد من دائه العضال. فقال الأب: (لا بد لك يا ني من تجشم الصعاب والأخطار في سبيل الحصول عليه؛ فأرح نفسك من هذا العناء) ولكن الابن ظل يلح عليه حتى أذن له. فذهب في طريقه، وهو يقول في ضميره (إن أحضرت الماء، فسأكون حتماً اعز اخوتي لدى والدي، وسيوصى لي بالمملكة من بعده). وظل يهيم على وجهه، حتى التقى به قزم وسأله: (إلى أين أنت ذاهب يا أخي؟). فأجابه الأمير بلهجة تنم عما في نفسه من الكبرياء: (هذا لا يعنيك!!) وتابع سيره. ولكن دبيب الانتقام دب في صدر القزم. وبينما كان الأمير يجوس خلال ممر ضيق، لاحظ انه كلما تقدم في الممر اخذ الممر يضيق به اكثر فأكثر، حتى انتهى إلى نقطة لم يستطع فيها الحراك. . . وانتظره والده طويلاً ولم يرجع. وطلب الأمير الثاني من والده أن يأذن لي في البحث عن الماء، إذا قال في نفسه: (أن يكن آخي قد مات، فسارت المملكة بدلاً منه). وظل يستعطف والده حتى أذن في الذهاب. فسار هذا في أثر أخيه، والتقى بالقزم نفسه. فابتدره القزم بالسؤال: (إلى أين أنت متوجه أيها الشاب؟) فأجابه الأكبر: (ليس من شأنك أن تعرف هذا أيها القزم الحقير!). ومضى في طريقه. فاستعمل السحر معه، وكانت عاقبته وخيمة كعاقبة أخيه من قبله، إذ وصل إلى أخدود، أراد أن يتقدم فيه فسلم تطاوعه قدماء. ولما لم يرجع الولد الثاني،(728/53)
أضطرب فكر والده عليه. فتوسل الأمير الصغير إلى والده أن يسمح له بالذهاب، فرأى الوالد نفسه مضطراً على اجابة طلبه. وعندما التقى القزم بالأمير الصغير، وسأله عن طريقه، أجاب: (أنني أبحث عن ماء الحياة، إذ به وحده يستطيع والدي أن ينفعه من علته). فقال له القزم: (وهل تعرف مكان وجوده؟) فأجاب الأمير: (كلا!). فقال القزم: (إذا سأدلك عليه لأنك سلكت معي سلوكاً لائقاً، مغايراً لسلوك أخويك المتعجرفين. أن ماء الحياة ينفجر من النبع الذي يجري في ساحة القلعة المسحورة، تلك القلعة التي لن تستطيع اختراقها، إن لم أعطك قضيباً من الحديد، ورغيفين من الخبز. أما القضيب، فاطرق به ثلاثاً على باب القلعة الحديدي فيفتح لك. وفي المدخل سترى أسدين فاغرين شدقيهما تستطيع أن تأمن شرهما، بأن ترى لكل منهما رغيفاً. ثم أسرع وأحض قليلاً من الماء قبل أن تعلن إشارة الوقت الثانية عشرة. إياك أن تتأخر! لأنك أن فعلت فسيوصد الباب ولا تستطيع الخروج!).
فشكره الأمير، واخذ منه القضيب والرغيفين، وجعل يطوي الأرض حتى حطت به النوى إلى القلعة المسحورة؛ فعمل بموجب إشارة القزم. ودخل من الباب إلى قاعة جميلة واسعة، حيث كان يجلس عدد من الأمراء المسحورين؛ فنزع الخواتم التي تحلى أصابعهم؛ واخذ سيفاً مرهف الحد، وقليلاً من الخبز المطروح هنالك. ثم دلف إلى الغرفة المجاورة؛ وإذا به أمام فتاة فاتنة تتموج كالطيف، نظرت إليه من وراء جفون ترتعش بالميل والانعطاف؛ ثم أخبرته أن مملكتها ستؤول إليه؛ وإذا ما رجع إليها بعد سنة كاملة، فسيزف إليها ويعيش معها سعيداً موفوراً. ثم دلته على موقع النبع الذي يجري منه ماء الحياة. ورأى في الغرفة المجاورة سريراً مريحاً استلقى عليه لأنه كان متعباً؛ واستسلم لنوم هادئ عميق. ولكنه استفاق على صوت الساعة، عند ما أعلنت الثانية عشرة إلا الربع؛ فأسرع إلى النبع، وملأ كوباً صغيراً كان موجوداً بالماء. ثم أسرع الخطو إلى الباب؛ وما كادت رجله تطأ العتبة، حتى دقت الساعة معلنة الثانية عشرة تماماً؛ فأوصد الباب بقوة عظيمة جداً، أطارت قطعة من كعب حذائه وهو خارج.
وبالرغم من كل هذا، فقد كان مروراً لنيله أمنيته. فعاد أدراجه إلى القصر، والتقى في الطريق بصاحبنا القزم. غير إنه لم يكن راضياً عن الرجوع إلى القصر دون أخويه؛ ولذا(728/54)
سأل القزم أن يدله عليهما. فأجابه قائلاً: (أن أخويك محصوران بين جبلين عقاباً لهما على كبريائهما؛ أو لم تسمع أن عاقبة الكبرياء وخيمة؟!) فألح الأمير على القزم بتلبية طلبه حتى فعل ذلك؛ إلا إنه حذر الأمير على القزم بتلبية طلبه حتى فعل ذلك؛ إلا إنه حذر الأمير من أخويه، إذ يضمر له السوء ولا يقيمان للاخوة وزناً
وعندما رجع إليه أخواه، اخذ السور يتموج على قسمات وجهه، فقص عليهما تفصيل ما حدث. وركب كل من الأمراء الثلاثة جواده، حتى وصلوا إلى مملكة كبيرة، أضنى الجوع والحرب السواد الأعظم من سكانها، وأيقن ملكها أن لا مهرب له من اغتيال. فذهب الأمير الصغير إلى هذا الملك ومد إليه يد المعونة فاستطاع الملك أن يسد جوع السكان، وان يرد الأعداء على أعقابهم خائبين. وبعد أن تم له ذلك اخذ الأمير السيف وما بقى من الخبز وركب مع أخويه حتى وصلوا إلى مملكتين أخريين، فعل فيهما الجوع والحرب فعلته الشنعاء كما في المملكة الأولى. وبالطريقة نفسها رد الأمير عادية الدمار عن هاتين الملكتين.
ثم ركبوا السفينة يؤمون مسقط رأسهم. وفي ذات ليلة، أنثا لت على أحد الأخوين الأكبرين الخواطر السود، إذ قال للآخر: (لقد حصل أخونا الصغير على ماء الحياة؛ وهذا يعني أن والدنا سيورثه المملكة وسيقضى على حظنا وأمانينا!!) فاضطرمت في صدريهما فكرة الانتقام، وتآمرا على اغتيال أخيهما. وبينما كان نماماً في ذات ليلة، أفرغا ماء الحياة من كونه، وملأه بدلاً من ذلك بماء شديد الملوحة ولدى أوبتهم لقصر أبيهم تناول الأمير الصغير الكوب، وقدمه لأبيه؛ وما كاد الوالد يرشف جرعة منه حتى اشتدت عليه وطأة المرض، وساءت حالته، وبينما الوالد كذلك جاء الوالدان الآخران وآخذا يقولان على أخيهما ويتهمانه بتسميم الماء. ثم قدما لأبيهما ما الحياة الحقيقي؛ وما كاد يرشف قليلاً منه حتى تعافى، وأخذ وجهه يتلألأ بالنضارة والنشاط كأنما عاد إلى صباه. وذهب الأخوان الأكبران إلى الصغير وخدعاه بقولهما: لقد حصلت في الحقيقة على ماء الحياة ولكن بما انك فرطت في الحيطة والحذر، فلقد أفرغنا الماء من كوبك دون أن تدري؛ وزيادة على ذلك فسيحاول أحدنا في غضون هذه السنة أن يستولي على قلب أميرتك. ولكن حذار من أن تخوننا؛ وإلا فلن نتردد في القضاء عليك! وانك تعلم أنا لا نوعد إلا تحقق الوعيد!!)(728/55)
وما كان من الأخوين إلا أن أوغرا صدر والهما عليه حتى أصدر الحكم بقتله، فأمر صياده الخاص بتنفيذه، وبعد أن توغل الأمير والصياد في الغابة، لاحت إمارات الحزن على محيا الصياد فسأله الأمير والصياد في الغابة، لاحت إمارات الخزن على محيا الصياد فسأله الأمير عما به؛ فأجابه الصياد: (من الفروض على أن لا أجا هرك بالسر؛ ولكني أراني مدفوعاً إلى الإفضاء به، من تلقاء عاطفتي وشفقتي عليك!). فقال له الأمير: (قل بشجاعة ما تشاء فليس عليك من بأس!). فأجابه الصياد، مصعداً زفرة عميقة: (لقد عهد إلى والدك الملك بقتلك!). فاعترى زفرة عميقة: (لقد عهد إلى والدك الملك بقتلك!). فاعترى الحزن الأمير آنئذ، وقال والخوف يكاد يعقل لسانه: (أناة أيها الصياد! أن روحي عزيزة على، فارحمني يرحمك الله!). وقرت في نفسه فكرة التنكر يرى الصياد، ففعل. وقفل الصياد راجعاً إلى القصر؛ أما الأمير فتوغل في الحرج. . .
وبعد مدة قصيرة، وردت ثلاث عربات مثقاة بالذهب والحجارة الكريمة إلى قصر لملك؛ وقد بعثها الملوك الثلاثة للأمير الأصغر، اعتراضاً بفضله عليهم عندما أعطاهم السيف ألذ هزموا به الأعداء، والخبز الذي ردوا به عادية الجوع الفاتك. وتجاوبت في نفس الملك آنئذ أصداء فكرة فقال: (لعل ابني يكون بريئاً؟!) وعض بنائه من الندم على إعدامه. ولكن الصياد كان في حضرته فصرخ بحدة قائلاً (أن ابنك لا يزال حياً يا مولاي، إذ لم يطاوعني قلبي على تنفيذ أمرك!) 00. وقص عليه ما جرى. فسرى عن الملك، وتقشعت آخر سحب الكآبة عن وجهه، وأمر بأن ينادي في طول البلاد وعرضها بأنه قد سمح لابنه بالعودة إلى كنفه.
وفي ذلك الحين كانت أميرة القلعة المسحورة، قد أمرت أن تفرش الطريق إلى قلعتها بالذهب الخالص الوهاج؛ وأمرت حشمها أن يسمحوا بالدخول فقط لمن يمشى على الذهب، وان يرجعوا كل من يطرق جان الطريق. وعندما حان الوقت الذي ذكرته الأميرة لعرسها المنتظر، طافت في نفس الأمير الأكبر الذهاب إلى القلعة، والإعلان بأنه عريس الأميرة. فامتطى جواده يؤم القلعة؛ وعندما وصل على مقربة منها، ورأى الطريق الذهبية أشفق أن يمشى عليها؛ ولذا جنح إلى الجهة اليسرى وعند ما وصل إلى الباب أشار الحراس عليه أن يعود أدراجه. وبعد ذلك، ركب الأمير الثاني في طريقه إلى القلعة. وعندما خطا جواده على(728/56)
الطريق بقائمتيه الأماميتين خشي أن يمشي فوقها، ولذا جنح إلى الجهة اليمنى ولدى وصوله إلى الباب، رفض الحراس أن يدخلوه، وأمروه أن يرجع من حيث أتى: وما الأمير الصغير الذي ظل طوال هذه المدة يجول في الإحراج مهدهداً آماله بالصبر، فتذكر أن الوقت قد أزف؛ ولذا ركب جواده ومشى على الطرق الذهبية وعندما بلغ لباب انفتح له على مصراعيه، واستقلته أميرة القلعة بكل ترحاب. وبعد مدة قصيرة احتفل بزوارها احتفالاً رائعاً؛ ثم أخبرت الأميرة زوجها أن والده قد عفا عنه، وانه جد مشتاق لرؤيته: فذهب في الحال إلى أبيه، وقص عليه كيف خانه أخواه وكيف هدداه بالقتل أن باح لأحد بشيء مما فعلاه. ولما اطلع الملك على جلبة الأمر عزم على معاقبة الأخوين. فلما علما بذلك لم يبق إمامها إلا أن يهجرا البلاد إلى غير رجعة.
القدس
كلية تراسانطا
ماجد فرحان سعيد(728/57)
الكتب
الإيمان والروح
(تأليف السيد أحمد عبد المنعم الحلواني)
لم أكد اقرأ كلمة إهداء هذا الكتاب، وهي بالطبع فاتحته، حتى لقيت
موجة من الروحانية تجتاح نفسي، وحتى تبين لي أن مؤلفنا بلغ
مستوى صوفياً لا يبلغه السالك هناً. قال لمؤلف:
الإهداء: إلى الذي احبه بروحي وعقلي ومخي وعظامي ودمي، وأهتف باسمه ما تردد ف نفس من ذات روحي ومن أعماق نفسي.
واهتف باسمه ما تردد في نفس من ذات روحي ومن أعماق نفسي.
وله محياي ومماتي، وفي جاهه وكنف أعيش، وبسابغ كرمه أحيا.
إلى ملك الملوك السبوح القدوس، ربنا ورب الملائكة والروح والى الذين يجبونه فيحبونني واحبهم بحبه، وفي ظلاله نحيا في الحياتين حياة السعداء، ونصل إلى روح الحقيقة فنجتلى من نورها بهجة الجمال ورحيق الوصال.
ويبسط المؤلف منهجه في التفكير فيقول إن من عادته أن يدون أفكاره ويبحث معتقده في شيء بنفسه أولا، ثم يبدأ في القراءة لغيره، ثم ما يقرؤه لئلا يفوته الانتفاع بما لم يصل إليه فكره، وحتى يمحص ما يقرؤه لئلا يفوته الانتفاع بما لم يصل إليه فكره، وحتى يوازن بين ما وصل إليه وما وصل إليه غيره، ويجتهد ان يصل إلى الصواب ما استطاع.
ويذكر انه لم يرد بكتابه كتاب علم جاف، بل أراد به كتاب أيمان وروح.
وهذا المنهج. وقد ألتزمه المؤلف بالفعل - منهج بالغ السلامة وحقيق بأن يفيد كل قارئ ويظفر برضاه.
وقد بدأ المؤلف بالحديث عن المعرفة الفطرية وكيف يستدل على وجود الله من صنعه سبحانه، ثم تحدث عن أن الإنسان بطبعه متعبد يطلب معبوده؛ وقد ضمن حديثه لفتة طيبة عن كيف أن الإنسان لا يملك جسده.
وفي فصل عنوانه (الحب نعمة وجمال) أذكرنا مؤلفنا بروائع الصوفية الأسلاف في المحبة(728/58)
والشوق. وتلا هذا فصل في التوحيد عنوانه (الأيمان بالغيب) ومن بعده فصل جمع فيه المؤلف أسباب انحراف الناس عن الحق وقد عرض بعده لحكمة إرسال الرسل، وتكلم عن عناية الله بخلقه ومنابع الهدى وموارد الفكر الإنساني، وتكلم عن عناية الله بخلقه ومنابع الهدى وموارد الفكر الإنساني. وأردف هذا يبحث عن الروح، خلص منه إلى نتيجة تنزل على اللباب من التصوف الصحيح. ثم كتب عن المواهب والاكتساب والفيض الإلهي كتابه طواها على توجيهات خلقية عميقة الواقع في النفس.
وأورد المؤلف بعد هذا مجموعة من الشعر المرتجل لصوفي صالح هو (الشيخ علي عقل) وهو شعر فيه قوة إيمان وحرارة قلب، وفيه حب لسيدنا رسول الله (ص) وفيه وعظ مؤثر. وأننا لنستثنى قيمة هذا الشعر إذا عرفنا أن الشيخ يرسله في مجالس الذكر إرسالا يتعب الراغبين في متابعته من الكاتبين.
ويمضى السيد الحلواني فيكتب عن النوم والأحلام وتعبيرها والعوالم غير المنظورة، وهو في كتابته يحمل على الشعب ذات والأباطيل حملاً، ويبدى نفوراً شديداً من كل ما قد يرده الإسلام الحق.
فأما الفضلان الأخيران من الكتاب فعن الساعة الرهيبة ساعة النزع الأخير، وعن حياة الروح بعد الموت، وهما فصلان يهزان الأنفس الزائغة ويفتحان الأعين الغافلة.
وكتابة المؤلف ليست من طراز ما يكتبه بعض محترفي التصوف مما لا يصلح إلا للعقول البسيطة والقلوب الغزيرة. هي كتابه متعالية حقاً في فكرها وإن تكن متواضعة أحيانا في مظهرها. وهي كسائر الإنتاج الصوفي الناجح، سرح ما أجدر الضاحي في معترك الحياة أن يتفيأ ظله، وحرم آمن ما أحوج الخائف من الشهوات المجنونة أن يقصد إليه.
هذا، وقد قدم الكتاب بكلمة بليغة الدكتور عبد الوهاب عزام وهو ما هو في خدمة قضايا الأيمان والروح.
لبيب السعيد
نائب المشيخة البيومية بالدقهلية(728/59)
العدد 729 - بتاريخ: 23 - 06 - 1947(/)
مناكفة المرأة
للأستاذ عباس محمود العقاد
(التك) عند العامة هو معاودة المرأة الكلام الذي تقصد به الإساءة وتغمغم به غالباً كأنها تزعم أنها تخاطب نفسها وهي تخاطب من تعنيه ويستمع إليها في تلك اللحظة. وأكثر ما يكون (النك) من قبيل الغمز أو التصريح الذي تجرح به غرور الرجل أو تتناول به موضع الضعف منه وهو يتحاشى أن يصاب فيه، ولا سيما أمام المرأة التي يهمه أن يظهر لها في مظهر القوة والرجاحة على الأقران.
والعامة يحكون بكلمة (النك) صوت المرأة وهي تلح في تلك الغمغمة كأنها تعاود الطرق أو الدق على نغمة واحدة لا تسأمها وهي موجبة للسآمة.
ولهذا تتفق الكلمة وما يقابل معناها في بعض اللغات الأوربية، لأن صوت الطرق أو الدق واحد في جميع الآذان. فيقول الإنجليز مثلا نج ليعبروا بها عن مناكفة النساء من هذا القبيل.
ويظهر أن المادة في اللغة العربية تتسع لكثير من الكلمات في هذا المعنى وما قاربه من معاني الدق والوخز والمناكفة. فإذا صح أن الكلمات كلها ثنائية في نشأتها الأولى ثم زيد عليها حرف أو حرفان للزيادة في معناها فعندنا من هذه المادة ومن هذا الباب كلمات (نكأ ونكت ونكث ونكز ونكش ونكف) متقاربة في معنى الوخز والتجريح كأنه يأتى من الضرب بأداة تحدث ذلك الصوت المكتوم.
والنك قديم في العالم كقدم لسان المرأة. ما نظن أن أذن آدم أخطأته من لسان حواء، ولا نظن أنه يضل سبيله بين الألسنة والأسماع حيث يوجد الرجال والنساء.
فمن (النك) كلام امرأة الأخطل وهي تذكر زوجها القديم وهو يجيبها بذينك البيتين:
كلانا على هم يبيت كأنما ... بجنبيه من مس الفراش قروح
على زوجها الماضي تنوح وإنني ... على زوجتي الأخرى كذاك أنوح
ومن النك كلام الأعرابية التي كانت تحدث صاحبها عن زوجها الأول ويسألها بماذا تذكره من أحواله التي لا تنساها. فلما قالت إنه خرج ذات يوم فرمى وطرد وقنص وعاد وعليه الغبار والدم (فضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني مت ثمة) ذهب الأبله يحكيه وعاد وعليه(729/1)
الغبار والدم، فضم وشم، فتمنت الموت ثم، ولكن من الأسف والغم، وتركته وهي تقول: ماء ولا كصدّاء!
ومن (النك) كل ما حكاه أجواد العرب وشعراؤهم عن تبكيت نسائهم لهم وملامتهن إياهم على تضييع المال وعجزهم عن محاكاة نسائهم لهم وملامتهن إياهم على تضييع المال وعجزهم عن محاكاة الأنداد والأمثال.
ويلتبس (النك) بأسلوب آخر من أساليب المغايظة النسائية وهو أسلوب التدلل والاستزادة في مقام الرضى والمحبة، وقد عناه الشاعر بقوله:
أحب اللواتي في صباهن غرة ... وفيهن عن أزواجهن طماح
مسرّات حب مظهرات عداوة ... تراهن كالمرضى وهن صحاح
ولكنهما - وإن اختلفا - يدلان على أن المرأة لا تحب أن تريح إذا استطاعت أن تتعب وتغيظ!. . فهي في (النك) أو في الدلال على هذه الحال.
وإذا كان (النك) قديماً في الزمان فهو كذلك شائع في كل مكان، وهو في البلاد التي بلغت فيها المرأة غايتها من حرية الزواج والطلاق لا يقل عنه حيث لا تملك المرأة حقاً من حقوق الزواج والطلاق.
فلا عجب أن يكون موضع بحث متجدد بين علماء الأوربيين بل بين علماء الأمريكيين في الشمال وفي الجنوب، حيث أصبحت المرأة غنية عن (النك) بسرعة النظر في أمر الطلاق، فلو شاءت لطلبت الطلاق واستغنت به عن المناكفة واللدغ باللسان. . . ولكنها تشاء حيناً ولا تشاء في أحيان. لأن مضغ الكلام لذة تطلب لذاتها كمضغ اللّبان!
وآخر ما قرأناه من البحوث في هذا (النك) الذي لا يفرغ ولا ينتهي بحث طريف نشرته (خلاصة المجلات) الأمريكية وأثبتت به أن لغة (النك) واحدة في جميع اللغات، وأن العلم بأسبابه يفيد في بلادنا كما يفيد في جميع البلاد.
فمن أسبابه (الجوع الجنسي) وقد يتعرض له الزوجان وهما صحيحان وكلاهما صالح للزواج والنسل ولكنهما لا يتلاءمان في خصائص البنية الجنسية أو في خصائص المزاج.
ومن أسبابه (زواج الحب) كما يسمونه إذا كان قصارى ما يعرفه الزوجان من الحب أن يحب أحدهما الآخر، ثم لا يصنعان شيئاً غير قضاء الوقت في هذا الحب المتبادل.(729/2)
ويقول الكاتب في شرح هذا السبب أن المهم في الحب بين الزوجين أن يشتركا في حب أشياء كثيرة، لا أن يحب أحدهما الآخر وكفى.
فالزوجان اللذان يشتركان معاً في حب الموسيقى أو حب الرياضة الخلوية أو حب الحدائق والأزهار أو حب المطالعة والتعليق على الشئون العامة أقدر على اجتناب (النك) من زوجين يجمعهما الحب ويسأمانه بعد عشرة قصيرة أو طويلة. فينفد ما بينهما من دواعي القرب والاتصال.
وقد يدوم حب المصلحة أو حب التفاهم بيت الزوجين الذكيين لأن المصلحة والذكاء شيئان يقبلان الدوام، أما الحب وكفى فقلما يدوم أو يطول به الأجل، وقلما يسلم البيت الذي يقوم عليه من آفة (النك) بعد شهور، أو بعد سنين.
ومن أسباب (النك) سوء الحالة المالية، وقد يكون الخلاف على التصرف بالمال عرضاً لداء آخر في نفس المرأة، وهو عرض الشعور بالنقص أو الشعور بالحرمان.
وإذا أصيبت المرأة بشعور النقص لسبب من أسبابه الكثيرة فقد تظهر هذه الآفة منها في مظاهر شتى بعيدة كل البعد من مظاهرها المألوفة.
قد تظهر منها مثلا في فرط النظافة أو فرط الحركة والاهتمام بالتنظيم والترتيب ونقل الأثاث والتنقل بين المساكن لغير سبب مفهوم.
وقد تظهر منها في التوجس والعبادة وتصديق الخرافات وخوف العقاب على المحرمات أو ما تتوهم أنه من المحرمات. فلا تزال (تنك) في موضوع من هذه الموضوعات، وهي تغالط نفسها في الحقيقة ولا تقبل التسليم بينها وبين ضميرها بالسبب الصحيح، ولو عرفت السبب الصحيح.
والفراغ طبعاً من أسباب (النك) التي لا تفرغ؛ لأنه يملأ الوقت ويثير الحس ويعوض الزوجين عن الشواغل والأعمال التي تقضى فيها أكثر الأوقات.
وسوء الصحة من أقوى هذه الأسباب. فإن الشكوى من عادات المرأة المتأصلة في طباعها، فإذا تحركت فيها بواعث الشكوى من المرض أو الاعتلال فوق هذا الباعث الأصيل غلبتها الطبيعة والعلة معاً فعجزت عن السكوت والتمست لها متنفساً في الإعادة والإبداء والمناكفة والإيذاء.(729/3)
وقياساً على هذا يحسب (للنك) سبب يتكرر كل شهر مرة، ويتساوى فيه جميع النساء. ولا بد فيه من نوبة غم أو لغط أو صياح تخلقها المرأة خلقاً إن لم تسعفها بها الحوادث والمناسبات وقلما تتوانى الحوادث والمناسبات عن الإسعاف بمثل هذه النوبات في وقت من الأوقات.
هذه جملة صالحة من أسباب (النك) عند جميع النساء في جميع البلدان، وبين جميع الأجناس.
ونحن نعرفها فنستفيد ولا شك من هذه المعرفة كما نستفيد من كل معرفة.
ولكن هل معنى ذلك أننا نقضي على الداء إذا عرفنا حقيقة الداء؟
كلا، فمهما يطل الكاتبون والقائلون من (النك) في هذا الموضوع فالنك نفسه باق إلى آخر الزمان، ما بقى للمرأة لسان وللرجل أذنان تسمعان أو لا تسمعان.
عباس محمود العقاد(729/4)
القسم الرابع
فرنسا ومستعمراتها
للأستاذ أحمد رمزي بك
(فكرة الاتحاد الفرنسي قديمة: عبر عنها جبرييل هانوتو بقوله: وحدة الإمبراطورية وحدة الإرادة والتشريع والعمل، وحدة الشعور والإرادة الحرة. ليست بالعنف والقوة والفتح ولكن باللين والترغيب تتم الوحدة الفرنسية).
وتتميز آراؤه بخطورتها على الأمم المغلوبة وأثرها في نفوس الفرنسيين وسرعة تغلغلها في أوساطهم
جبرييل هانوتو من كبار رجال فرنسا، ظهرت مزاياه وشخصيته في أعماله وكتاباته وأقواله، فإذا هو يؤثر في جيل بأكمله من الناس، كتب كثيراً عن تاريخ فرنسا وأمجادها، وعرف الناس ما لم يعرفوا عنها، وكتب عن تاريخ الأمة المصرية، واشرف على إخراج كتاب على الأسلوب الذي يروق له وللمستشرقين، وهو رجل دائم الإنتاج، لم يترك عملا من أعمال الخلق إلا كتب فيه، ولا نشاطاً إلا جال فيه وصال. كان من أولئك الذين يعملون بالمثل اللاتيني القائل:
(إني بشر مثلهم، ولن أترك (ليكون غريباً) عني عملا من أعمال البشر)!
فكان من الطبيعي والضروري أن يلفت الاستعمار الفرنسي أنظار الشيخ، ولذلك كتب فيه وأطال، وهو القائل في كتاب له عنوانه (من أجل الإمبراطورية الفرنسية):
هل ترغب فرنسا أن تحيا حياة الأمم الفتية الناهضة؟ أم ستلحق بغيرها من الأمم الفانية التي ذهبت ريحها؟
هل ستفنى كما فنيت بيزنطة؟ وهل تتبع قرطاجنة وتلقى مصيرها؟
إذا عاشت فرنسا بعظمتها وقوتها وأمجادها، وهذه ما لا أشك فيه (هذه قوله هو) فلتكن متجهة بنشاطها وفكرها وعبقريتها إلى مستعمراتها
هناك تبرز شخصيتها الخالقة وتنمو علائقها مع تلك العائلة التي جمعتها حولها: عائلة المستعمرات الفرنسية
كانت صيحة وبرنامجاً قذف بهما هذا الشيخ الفاني فتلقفهما رجال الاستعمار، قال هذه(729/5)
الكلمة بعد أن أمضى السنين يدرس ويبحث ويقيد ويسجل
وخطر هانوتو أنه رجل من رجال الفكر والدهاء، يجمع بين البحث والعلم والفلسفة، ينظر للاستعمار نظرة المحلل الطاغية الذي لا تتطرق الرحمة إلى قلبه
أتدري بمن أشبهه؟ بهذا الفريق أو الرعيل من دهاة العرب الذين نبغوا في العصر الأول من الهجرة، فقادوا الحركات الكبرى أو مهدوا لها بفكرهم وعقلهم: هذا الفريق الذي فيه معاوية وعمرو بن العاص، إننا لن نجد اليوم بين مجموعة الدول العربية من تسمو به كفايته إلى هذا الفريق من السلف الخالد.
أما هانوتو فكان داهية الفرنسيين، تلمس روحه الذين يضعون الخطط لبلادهم لسنوات بعيدة، ويرسمون لحكوماتهم برامج السير مع الأمم التي نكبت بالاستعمار، وهو مثل من كثير غيره، ولكن لكثرة ما قرأت عنه أراني في حل إذا وضعته في صف دوفرين السفير البريطاني في اسطانبول وملنر صاحب المشروع المشهور، وكلاهما من دهاة الاستعمار البريطاني الذين وضعوا الخطط الطويلة المدى لبلادهم، ولا نزال نحن بمصر نجاهد للخروج من نطاق تقرير دوفرين عن الشؤون الدستورية، ونكافح للخروج من دائرة ملنر في الناحية السياسية.
ولا تعجب من تقرير ذلك، فإنّ الاستعمار الأوربي في نكباته ومصائبه لا يعد شيئاً بجانب مقدرته على التطور والظهور بألوان مختلفة، وهو أكبر نشاط إنساني قام به البشر منذ الخليقة إلى اليوم، بل هو دعامة المدنية الحالية ومظهر قدرتها وتفوقها، بل لا نبالغ إذا قلنا إنّ مظاهر الترف ومستوى الحياة لدى جماعات من الأوربيين سوف تنهار أو تهبط بتفكك الروابط مع المستعمرات، ولذلك نجد الدول الأوربية أشد تمسكاً بهذه الروابط من أي عهد مضى. ونرى أنها تجتهد أن تسالم الحركات القائمة وتسايسها وتخضع لبعض مطالبها، حتى تحتفظ بما لها من سيطرة على هذه الشعوب وهذا الاتجاه هو أخطر ما يواجه الأمم الإسلامية الناشئة، لأننا لن نتغلب على الاستعمار إلا إذا فهمنا هذا النوع من العمل الإنساني، ولن نصل إلى الخروج عن نطاقه إلا إذا بعث الله لنا من أنفسنا رجالاً أقوياء أشداء يدافعون عنا ويلاته بعزيمتهم وقوتهم ولهم من الفكر والمضاء في الحق ما يمكنهم من نقلنا من حالتنا التي نحن فيها إلى حالة تقرب من المنطق والمعقول، أو تكون أقرب إليهما(729/6)
من الحالة التي نعيش فيها اليوم.
وأعود إلى هانوتو فأقول إنه قد لا يكون أول من نادى بفكرة الاتحاد الفرنسي، فقد يكون هناك غيره ممن تقدمه، ولكني أعجب به من ناحية أنه من فلاسفة ومفكري الاستعمار، الذي لمسوا تقدم الدنيا وتنبهوا لما قد تأتي به الأيام، فتقدموا بآراء ومشاريع وأفكار لم تكن بعيدة عن الحقيقة.
ثم هو مع دهائه وفكره وبصيرته لم تشغله مظاهر الدنيا والثراء وحب النفوذ، كما شغله حب بلاده ورغبته في بقائها، فتحكم على ربوع المستعمرات وفي رقاب أهلها، وهو حينما يكتب وينشر آراءه وسمومه لا يهمه شخصه، وإنما يؤمن بشيء واحد هو بقاء سيطرة فرنسا على مستعمراتها.
فهو يؤمن بأن بقاء الجماعات متوقف على الأنظمة التي تربطها، وهذه يجب أن توضع على أسس صالحة قوية، بل إن الأنظمة هي روح الجماعات، بقدر صلاحها تصلح الجماعة، وإذا فسدت انهار كيان الجماعة.
ولهذا فالإمبراطورية في نظر هؤلاء كائن حي يجب أن يعيش وينمو، وإن قوته مستمدة من الأنظمة التي تربط المستعمرات بالوطن الأم، وإن أنظمة الحكم يجب أن تطرد مع الزمن حتى لا يعتورها ويصيبها الجمود، وهو عله المجتمعات والداء العضال الذي يصيب الإمبراطوريات ويقضى عليها كما قضى على ملك روما وبيزنطة وغيرهما.
فهذه الفلسفة الاستعمارية لم تقف عند حد النظريات، بل أخذت تحلق في العلاقات بين الدولة الحاكمة والأمم المغلوبة، وتتخذ طريق التجربة والاستقراء في مختلف النواحي.
وحقيقة للعالم هي: أن السيطرة الأوربية سواء كانت فرنسية أو غيرها سادت العالم وشعوبه واحتلت المكان الأول وفرضت إرادتها أينما حلت، إلا في الجهات التي ساد فيها الإسلام فهناك واجهت المصاعب واضطرت أن تسير على حذر وعلى قدر، ولذلك تلقى الإسلام والعرب أكبر الطعنات في التاريخ، وفي سبيل هدمه أعطى ذلك اللون البراق للمدنيات القديمة التي انقرضت في مصر وبابل وآشور وفارس، وهذا يفسر لنا تهجم هانوتو وغيره على العرب وطعنه على تاريخهم ووصفه للإسلام بأنه عدو للعلم والمدنية.
لأن الضعف يوجد تسليماً وخضوعاً وهذا ما تم في ربوع أفريقيا السوداء، أما حيث ساد(729/7)
الإسلام فقد وقف المسلمون يقارعون الاستعمار وجهاً لوجه، وبقي خطر الدعوة المحمدية ماثلاً أمام المستعمرين، ولذلك كثر أعداؤنا لأننا أقوياء: والقوي يخلق أعداء لنفسه، ومن هؤلاء جبرييل هانوتو الذي تولى يوماً الإمام محمد عبدة دفعه عن الإسلام في كتاب له مشهور ومواقف مشهودة أمامه.
ويذكرني هذا بما قرأته في مقدمة كتاب الإسلام وسياسة الخلفاء الذي كتبه أنريكو انساباتو (يقف العالم الإسلامي في مواجهة أوربا موزعاً بين أملاك الدول المختلفة والقوميات الحديثة يقاوم بشدة وعنف وعناد معتمداً على وحدته الدينية وصبغته العالمية التي تعطى لحركاته مظهراً ينفرد به عن غيره)
فالسياسة الاستعمارية وقفت إزاء المسلمين حائرة، وهي التي انتهت إلى اعتبار الإسلام عدواً لدوداً للاستعمار الأوربي ووصفته بالرجعية والتأخر لأن قناته لم تلن لجبروت الدول الاستعمارية.
وعلى هذا رسمت الخطط لاستعباد الإسلام ما أمكن من المناطق التي قد يسود فيها: وفي هذه الناحية بالذات ظهرت قرارات لمؤتمر برازافيل تتفق مع قرارات حكومة السودان بشأن التضييق على حرية العبادة ومنع تغلغل الإسلام في أفريقيا الوسطى وهذا مما جعل للإسلام قضية سوف نعرض لها يوماً لعرضها على الضمير العالمي.
ولم تكن فرنسا بحاجة إلى إعلان الاتحاد الفرنسي والدعوة إليه لو كان الأمر متعلقاً بالمستعمرات الأفريقية وحدها، أما والأمر متعلق بشمال أفريقية حيث يسود الإسلام، ولذلك قامت أمامها العقبات وحشدت القوات.
وقد كان من أيسر الأمور عليها فرض الثقافة واللغة والدين والأسماء الفرنسية وإيهام الجنود السود أن آباءهم من بلاد الغال وأنهم فرنسيون دماً وروحاً وفيهم من يصدق وتحمس لذلك.
أما والإسلام والعروبة بالمرصاد، هنا يبدو الاتحاد متردداً يسير بخطوات وئيدة، ويستنير بآراء هانوتو وغيره، وفي ذلك يقول صاحب كتاب الإسلام وسياسة الخلفاء: (أن للإسلام سياستين: واحدة استعمارية تتعلق بالمستعمرة، وأخرى عالمية تتبعه وتلاحقه في مشارق الأرض ومغاربها). وهما يلتقيان في ناحية واحدة وهي إبعاد الأخطار ما أمكن؛ تلك(729/8)
الأخطار التي يسببها للدول الأوربية وجود ملايين من المسلمين على الأرض، يمثلون في أفريقيا خطراً لا يستهان به نظراً لازديادهم عاماً بعد عام.
وفي القرون الماضية فقدت فرنسا مستعمراتها لأن البحر كان فاصلاً والمسافات بعيدة، واليوم تحاول فرنسا فرض إرادتها على أقطار شاسعة، فإذا بالإسلام أبعد غوراً من البحار والمحيطات: وهي لن تقدر عليه لأنه من نور الله.
ولذلك ستسير شعوب الجزائر وتونس ومراكش نحو التحرر والخلاص برغم المصاعب التي تقيمها فرنسا وحكوماتها المختلفة واتحادها ووحدتها: لأنها شعوب عربية إسلامية قوية لا تلين.
لقد استعرضت فرنسا أنواع الاستعمار المختلفة فبدا لها الاستعمار السوفيتي الروسي بلون خلاب، وخيل إليها أنه قد قضى نهائياً على نفوذ الإسلام من ربوع آسيا الوسطى، وفي هذا خطأ كبير فأرادت أن تستعين بأساليبه في هذه الناحية وفي بعض النواحي الأخرى، ولذلك ترغب أن تؤسس اتحادها على شكل يشبه اتحاد روسيا وسنعرض بعد قليل للاتحادين في مقال لاحق بإذن الله.
احمد رمزي(729/9)
وقفة على الفسطاط!
للأستاذ علي الطنطاوي
قرأت في مذكرات حضرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي المطبوعة في مصر في 9 ربيع الأول سنة 1366هـ أنه كان يتولى رياسة لجنة حفظ الآثار العربية، فقررت اللجنة سنة 1329هـ (إصلاح جامع عمرو وتجديده اهتماماً به من جهة أنه أول مسجد أسس في الإسلام بمصر، وانه مشرق أنوار العلوم الإسلامية بمصر منذ القدم)، ولئلا (نعاب بقلة الاكتراث بمفاخرنا التاريخية).
واهتم بذلك الأجانب، وكتب إليه أساتذة كبار محبذين ومشجعين، وكاد يتم الأمر لولا أن أكثر الأعضاء المسلمين في اللجنة غابوا عن الجلسة التي عينت لإتمام المشروع فصارت (الأغلبية) للأجانب.
قال الأمير: فلما بدأت في تبادل الآراء مع الأعضاء في مسالة إصلاح الجامع قام هرتس باشا - مهندس الأوقاف إذ ذاك - وسألني: ماذا تعملون في حيطان سور الجامع؟ فقلت: حيث أن السور متهدم متخرب، وانه جدد مراراً، ولم يبق له منظر جذاب، نريد أن نعمل سوراً جيداً فخماً يتناسب واسم الجامع. فأظهر أسفه لهذا العمل، وقال، إننا إذن سنكسر ما فيه من طوب أحمر أثري، وأن هذا خسارة لا تعوض، لأنها آثار قديمة ستتلف بهذا العمل!
وبعد ذلك سأل مسيو ديمول الممثل الألماني لصندوق الدين قائلاً: ماذا تعملون في البواكي؟
ثم سأل المستشرق السويسري بورك هارت: ماذا تعملون في عمدان الجامع؟
وبعد ذلك قام المسيو فارنال الممثل الإنكليزي لصندوق الدين وسأل: ماذا تعملون في البوابة الكبيرة؟)
وذكر الأمير جوابه لكل منهم، وهو جواب مقنع، ولكن القوم لم يقتنعوا!
قال: (ثم زاد امتعاضي وقلت لجميع الجالسين: أما يندى جبينكم خجلاً من هذا الوضع أيها الجماعة؟ إن الدين الإسلامي لا يسمح لغير المسلم أن يتدخل في أمور مساجد الله، والحكومة المصرية سمحت وتساهلت إلى حد أن تتدخلوا في شؤون نحو مائتين وخمسين مسجداً في مصر دون حق شرعي، والمسلمون لما أرادوا تعظيم شأن جامع من أدخل الدين الإسلامي في بلادنا، تحجمون وتوقفون عملنا، وعلى هذا إني متنازل عن رياسة هذه(729/10)
اللجنة. .). وتنازل الأمير، ووقف العمل!
قرأت هذا، فأحببت أن أزور الجامع، ولم أكن زرته، وهو قريب من الروضة حيث أقيم، فسألت فوجدت أنه لا يصل إليه ترام ولا سيارة، مع أن كل مكان في مصر (إلا هو) تمشى إليه سيارة أو ترام، فذهبت أخوض في التراب، في طرق مهملة، ومسالك معطلة، حتى وصلت إلى الجامع، وهو قائم كالشيخ المريض المدنف، وسط العشش و (الفواخير) و (الجيّارات) والجبانات!
قلت: أهذا هو جامع عمرو؟ قالوا: نعم. قلت: وهذه هي (الفسطاط)؟ قالوا: نعم!
الفسطاط، أول بلدة للمسلمين في مصر، يهملها المسلمون، حتى تعود مقابر للنصارى؟
الفسطاط، منزل الفاتحين الذين نشروا في مصر حضارة الإسلام، يمحى منها كل مظهر للحضارة، فلا يكون فيها إلا (الفواخير والجيارات)، وتذهب منها معالم الحياة، فلا تكون إلا داراً للموتى؟
هل يدري هؤلاء الذين يروحون ويغدون على هذه البقعة المتروكة، وهل يدري أولئك الذين لم يزوروها ولم يروها أنه من هنا سطع النور الذي أضاء مصر بضوء الإسلام، ومن هنا انبجس المعين الذي روى العطاش من أبناء مصر وأفريقيا، ومن هنا مشت الراية الإسلامية حتى رفرفت على نصف دنيا الماضي من البحر الأحمر إلى ما وراء البيرنة، ومن هنا خرج الصوت الذي ألغى نظام الطبقات، وساوى بين الناس في مصر، وأعطاهم الحرية في دينهم ودنياهم، وأنها هنا ولدت مصر زعيمة العروبة ومثابة الإسلام؟ فمن الذي كاد لهذه البقعة الطاهرة حتى صارت أوحش بقعة في مصر وأحطها وأبعدها عن الحضارة والنظافة والبهاء؟ ما الذي صرف الناس عنها، فلا يؤمها مصري ليذكر مشرق شمس الهداية منها على بلاده، ولا يستطيع أن يصل إليها سائح ليرى فيها آثار أمجد ذكرى في تاريخ مصر؟ أيتخرب المسجد ويهمل الحصن ولا تشفع لهما روعة البطولة، ولا خشعة الإيمان، ولا عظمة العلم؟!
أما والله الذي لا أله إلا هو، لو كانت هذه المآثر لغيرنا، لأمة تحس وتشعر وتقدر أمجادها، لجعلت بقاعها كلها كعبات يحج إليها، ومنابر تتلو على الناس سور البطولة فيصغي إليها الناس كأنها القرآن، ولخلدت كل مكان مرّ منه عمرو، وكل طريق سلكه، وكل قلعة(729/11)
افتتحها، من العريش إلى الفرما إلى أم دُنين (قرب حديقة الأزبكية)، إلى ساحة المعركة في عين شمس، إلى ميدان الوقعة الكبرى، التي كان فيها النصر عند حصن بابليون (قصر الشمع) عند جامع عمرو، ولعبدت هذا الطريق، طريق الفتح، وظللته بأشجار الغار، وكنّفته بالورد والفل، ولجعلت في كل قرية وكل بلدة مدرسة باسم عمرو، تعرف الناس عمرو، والدين الذي جاء به عمرو.
إن فتوح المسلمين أعجوبة التاريخ، ومعجزة الدهر، ولكن ليس فيها ما هو أعجب من فتح مصر، فقد حيّر من الوجهة الحربية العسكريين، وأدهش بنتائجه المؤرخين.
لقد كان جيش عمرو يوم صدم مصر، أربعة آلاف، وما أربعة آلاف في جنب مصر وملك مصر، ولو أطبق عليهم أهلها بأجسادهم لطحنوهم، ولو ضاربوهم بالحجارة لقتلوهم، ولو حصروهم من بعيد لأهلكوهم، ولكن أربعة آلاف فتحت مصر، فتحتها بعبقرية قائدها، فتحتها بخلائقها وبإيمانها. ومن كان معه الإيمان لا يقف له شيء.
ولقد فتح مصر من قبله فاتحون، العرب (الهكسوس) أبناء الجزيرة، والفرس، واليونان، والروم، فكان في مصر غالبون ومغلوبون، غرباء حاكمون، ومصريون محكومون، ولبث الفتح ما لبثت القوة، فلما زالت زال، وعادت البلاد لأهلها فلما فتحها عمرو، صارت لقومه إلى آخر الدهر.
ولقد دأب الروم وهم آخر من حكمها عاملين بالترغيب والترهيب، يستخدمون العطايا والمنايا، لحمل المصريين على مذهب في النصرانية غير مذهبهم فما استطاعوا. وهم جميعاً أهل دين واحد، واستطاع عمرو أن يدخلهم بطوعهم ورضاهم في الإسلام، فيكونوا هم أهله، وتكون بلدهم بلده، وهذه هي طريقة الفاتحين المسلمين، لم ينقلوا الإسلام إلى البلاد التي فتحوها، ولكن نقلوا أهلها إلى الإسلام: أراهم فضله، وأذاقهم عدله، أعطاهم الحرية في عباداتهم، وأعاد لهم بطريركهم بنيامين الذي طرده الروم، ورفع المظالم عنهم، ومنع بعضهم أن يستعبد بعضا، وحفر لهم الخليج في سنة واحدة، من النيل إلى البحر الأحمر، استعملهم فيه بالأجرة لا بالسخرة، وجعله لهم لا لغيرهم، فكان للخير والبركات، لا كقناة السويس التي هي في أرضنا وليست لنا - فكانت هذه الأعمال خطباً ومحاضرات في الدعوة إلى الإسلام، ما سمعها المصريون حتى انقلبوا جميعاً مسلمين، وكذلك تكون الدعوة:(729/12)
بالأعمال لا بالأقوال.
لقد رأيت مرة رواية مسرحية في جمعية إسلامية مثّل فيها الممثل عمراً، رجلا قميئاً ثعلبياً محتالا يتدسس في القوم، ويسترق الأخبار، ويوقع الشر، ويتعمد الكذب، فعلمت أن هؤلاء الذين هداهم الله بعمرو، لا يعرفون من هو عمرو!
أولا فخبروني من قال لكم إن عمراً كان بهذه الخلائق؟ ما الذي غركم بتمثيله؟
أليس على الممثل أن (يندمج في دوره) ويفهمه ويستعير روح من يمثله؟ فهل تستطيعون أن تمثلوا أبا جهل في فضائل جاهليته، قبل أن تقدموا على تمثيل عمرو في عبقرية إسلامه؟
لقد كان عمرو شريفاً في الجاهلية والاسلام، وكان صادقاً صريحاً، وكان شاعراً فصيحاً وكان أبياً عزوفاً لا يرضى بالدنية من عمر، وهو من هو، ويرد عليه الكلمة بمثلها حين راسله في أمر خراج مصر، وكان فقيهاً في دينه، أسلم طائعاً مختاراً، فتوافقت على ورود شرعة الإسلام يومئذ عبقريتا عظيمين من عظماء الناس كلهم لا العرب وحدهم. وماردين من مردة القيادة والحروب، سيد القواد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، هداه إلى الإسلام نطق سديد، لم يدخله فيه طمع ولا طبع، ولم تدفعه إليه رغبة ولا رهبة، وكان صادقاً في إسلامه، قوياً في إيمانه، حتى ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم حَطْم رب من أرباب الباطل، فاختاره لهدم سواع، واقره على غمارة سرية فيها سادة الإسلام ومشايخه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، وجعله رسوله إلى ملك عمان، وأمينه على الصدقات فيه، وشهد له (أنه من صالحي قريش)، وقال فيه: (نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله) ونظر إليه عمر، فقال: (ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً) وقال قبيصة بن جابر: (صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أبين قرآناً، ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه) وكان عمر إذا رأى رجلا عيياً يتلجلج في كلامه يقول: (أشهد أن الخالق هذا وخالق عمرو ابن العاص واحد).
وكان مشهده يوم بلغه انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى، مشهداً يلين القلوب الجامدة، وما يفجع ولد بابيه، أو محب بحبيبه، فتكون لوعته عليه، وحسرته لفقده، أشد من حسرة عمرو ولوعته.(729/13)
وكان يوم الردة سيفاً من سيوف الله التي رجعت الإسلام إلى موطنه بعد ما كادت تشرده عنه الخطوب، وأعز الله به الدين، وقمع الثائرين. ثم رمى به الصديق الروم، وقدمه على (من هم أقدم منه سابقة وحرمة) وجعله أحد القواد الأربعة، فتجلت عبقريته حتى رجع الثلاثة إلى رأيه، وبلغ الرأي أبا بكر فأقر ما رأى، وكان في اليرموك ثاني الأبطال، بعد نابغة المعارك خالد، وكان بطل إجنادين، فضرب الله به أرطبون الروم بأرطبون العرب، فكان أرجح منه في الميزان، وكانت عبقريته أبقى علىوجه الزمان، حتى قال عمر: غلبه عمرو، لله عمرو!
أما النبل في سلائقه، والسمو في خلائقه، وقوة جنانه، وفصاحة لسانه، فاسألوا عنها كتب الرجال، فما يتسع لها المقال.
هذه هو عمرو وما عرفتموه، قرأتم ما كذبه عليه المؤرخون يوم التحكيم، ولم تقرءوا الحقيقة التي رواها المحدثون وهم أوثق نقلا، وأصدق قولا، وسمعتم أنه من دهاة العرب، فحسبتم الدهاء لا يكون إلا بالكذب والاحتيال والدس والوقيعة. لا يا سادة إن من تخرج في مدرسة محمد، وكان رسول رسول الله، لا يكون دساساً ولا كذاباً، (إن المؤمن لا يكذب)، هكذا قال الرجل الذي قال: (ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام) محمد رسول الله!
هذا هو عمرو. أي فاتح صنع مثلما صنع عمرو؟ أي قائد كان أعظم بركة في ظفره من عمرو؟ أي مصلح كان أبقى أثراً في إصلاحه من عمرو؟
إنه ما شهد في مصر مسلم أنه لا إله إلا الله، ولا قام متبتل في صلاة، ولا قعد واعظ في مصلاّه، ولا قاض إلى منصته، ولا مدرس إلى أسطوانته، ولا عمل مصري من خير إلا وعمرو شريكه في ثواب عبادته، لأنه السبب في هدايته، ومن سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة!
عمرو بنى جامع ابن طولون، وشاد الأزهر، وعمر هذه المدارس، وأقام هذه المساجد، وأنشأ كل مظهر للإسلام في مصر. ما كان لولا عمرو!
عمرو هو الذي رد برابرة الشرق في عين جالوت، وبرابرة الشمال في المنصورة، وكان له فضل كل نصر، كتبه الله للإسلام في مصر!
هذا هو عمرو، فهل تلبي مصر في إصلاح جامعه دعوة الأمير؟ وهل أعيش حتى أرى(729/14)
هذه البقعة أزهى بقعة في مصر وأبهاها، يعمر فيها الجامع حتى يصير أزهر ثانياً، وهو (كان) أول أزهر في مصر. تمتد من حوله الشوارع الفساح، والحدائق والجنات، وترجع هاتيك المآثر ظاهرة، ومن حولها القصور العامرة، ومنازل الكبراء، ومراكز الجمعيات الإسلامية، ومفوضيات العربية؟
هل ترجع للفسطاط عهودها الخاليات؟
علي الطنطاوي(729/15)
من البطل فوزي القاوقجي إلى الشعر علي محمود
طه
(كان الأستاذ الشاعر علي محمود طه قد حيا بطل العروبة القاوقجي بقصيدة من عيون الشعر نشرتها البلاغ، فلما قرأها القائد الشجاع تحركت فيه بلاغة البطولة فبعث إلى الشاعر الكبير بهذه الرسالة):
تحية عربية. وبعد فقد قرأت قصيدك، وأطربني شعرك، وسألت نفسي، هل أنا جدير بمثل هذا التكريم يزجي إلى شعراً حراً؟ وأوعدت تلاوة القصيدة فإذا بي أجد في كل بيت روح معركة، أو صدى حق ناقم، أو صورة نضال باسل، وأيقنت أن هذا المجد يضيفه على مثل هذا الشعر العبقري أجدر به أن يدخر ليوم الفصل، يوم المعركة الكبرى لإنقاذ فلسطين كلها. . يومئذ (لا يمرح الباغون فيها)، ويومئذ يقول شاعرنا الكبير ما يشاء
أخي؛ ما أشبه هذه الأمة بالكنز الدفين، تراكمت فوقه على ممر السنين طبقات من تراب تعلوها أشواك وأعشاب ذهبت بمعالمه وعفت آثاره، يوم توارى وجه الأمة الصحيح، وغر الأجنبي العدو، هذا الوجه السطحي المصطنع للأمة، فاستهان بها، واستحوذ على القادة يأس، فظلوا هم عن حقيقة أمتهم، ولم ينفذوا إلى غورها حتى ظن الظانون أنها مسكنة قد ضربت عليها. . . رأيت كيف يبسط الظلم على هذه الأمة جناحيه، ويطلق يديه في بلادي فيستنزف ثروتها، ويوهن أخلاقها، ويدوس كرامتها. ورأيت كيف يتزاحم وجوه وأعيان وسراة، بالمناكب على أبواب المستشارين، وكيف تمرغ على أقدامهم بعض الجباه تستجدي العطف من الطاغية والمرحمة من الضارى، فثارت نفسي أولا، وأوحت إلى الثورة. . . ولكن أين العدة؟ وأين التكافؤ بيننا نحن الضعاف القلة، وبين العدو الكثير؟
ورحت أفتش عن القوة، وأسأل أين تكون المعجزة. واستلهمت التاريخ وبطولة الأجداد، ثم اهتديت إلى أن الوجه الصحيح لهذه الأمة قد توارى تحت كثيف من غبار الدهر. فأخذت أنتزع الأعشاب وألتقط الأشواك وأزيح التراب حتى تجلى لي ذلك الكنز الثمين، ورأيت وجه الأمة الصحيح، إنه هو الشعب العربي، إنه هو المادة الأصيلة التي صنع منها بناة الإمبراطورية العربية أركان مجدها. مددت يدي نحو الكنز وتناولت حفنة واحدة من أبناء هذا الشعب ممن يصدق في كل واحد منهم قولك:(729/16)
حواري على كفيه قلب ... أبى غير الشهامة والكرامة
وأيقنت أن في هذه الحفنة من القوة المدخرة ما تسقط معه حجة التكافؤ مع الخصم. فثمة شيء يقال له إيمان وكرامة لا يستقيم معه حساب العدد والعدة. ولكنني تلفت يومذاك أنشد القدوة في هذه الدنيا. تطلعت نحو الترك. . . هذا عظيم. . ولكنه وجد بقايا جيش وأنقاض مملكة، أي وجد مادة الجهاد ميسورة؛ وأما نحن فلا شيء عندنا. وأخيراً لذت بالتاريخ العربي وإذا بي أجده حافلا غزيراً. فهنا خالد، وهناك أبو عبيدة، وهنالك أسامة، وكل شبر من بلادنا ينطق بآثارهم، وأين سرت تقاطع آثارنا آثارهم، فسمعت في ضميري أصواتهم تهيب بي إلى الواجب. وبهذه الحفنة التي احتفنتها من الكنز كنت أثب من قطر عربي إلى قطر عربي آخر، وأكون حيث تقضى النجدة العربية أن أكون. ولطالما قطعت المفازات، واجتزت السباسب، وخضت في لهيب من الصحراء يشوي الوجوه! وطالما وجدتني في متاهات البادية قد استبد بنا العطش، ننشد أثراً ينم على الحياة فلا ماء ولا ظل ولا أنيس إلا هذا القرص الشمسي، ويا له من أنيس، يبعث بالأشعة لتسلق الرؤوس، وما عرفت أن الأشعة ذات ثقل تنوء به المناكب إلا في تلك البوادي، وما عرفناها تأكل الظهور أكلا إلا في تلك الأيام، حتى لكأننا نعيش في أتون يتسعر لظى. . . أما خيولنا، فكانت تقاسمنا الضراء والبأساء. ولطالما مدت أعناقها تنشد ظلا أو ماء! لقد جفت مشافرها وضمرت أجسامها ضمور أجسامنا. وكان الفرسان وهم يسبحون في اللهيب خرساً لا ينبسون بشكوى، ولا يكادون يقتربون بعد ذاك الجهد من مواطن القتال ويزدلفون من ساحة الجلاد حتى تفتر شفاههم وتنبسط أساريرهم وتتردد أهازيجهم. وترى الفارس منهم كما وصفة المتنبي:
قح كأن صهيل الخيل يقذفه ... عن سرجه مرحاً بالفر أو طرباً
ويتبينون في الأفق سواداً عظيما، أنه جيش العدو العرم فما تهن عزائم الحفنة، وإنما تمتد أعينهم امتداد بنادقهم نحو العدو.
ويسود صمت، ليس صمت رهبة، ولكنه إيذان للبنادق بأن تتكلم. ثم تنفجر القنابل فالسماء تمطر ناراً. وتنشب المعركة ويستحر القتال، وأين تطلعت تجد ناراً ولهيباً، وسواداً وغباراً، والمعركة بمن فيها كأنها إعصار فيه نار، وعدتنا هي عدتنا. أما الخصم فقد امتلأت يداه(729/17)
بأدوات القتال، ومع ذلك لا يلبث أن ينفد صبره، ويرتقب دنو الظلام لينجو بنفسه. وما يكاد الظلام يرخى سدوله حتى يلوذ به، ويتستر وراءه. وتقف رحى المعركة، ونتعقبه، ثم نعود إلى الساحة نتفقد شهدائنا ونحصى قتلاهم. فإذا النسبة بين شهدائنا وقتلاهم، هي النسبة بين عددنا الضئيل، وعددهم الجسيم.
وهنا تنطلق الأنشودة الشعبية التي طالما هزت مشاعرنا:
يا دار لنا ... حقك علينا
وهنا نشعر بأننا قد دفعنا قسطاً من حق الوطن، وأن الجثث المتناثرة في ساحة المعركة هي الإيصال الشرعي. وكم من أقساط دفعناها في ميادين سورية وجبال وفلسطين وبطاح العراق.
وهل الدار إلا الوطن العربي؟ وهل الحق الذي لها علينا إلا الجهاد في سبيل إنقاذها؟
لقد مرت بي الطائرة في سماء فلسطين، ثم أنزلتني في مصر العربية، ورأيت فيها ما رأيت. فما استطعت أن أخاطبها بغير أنشودتنا في المعارك:
يا دار لنا ... حقك علينا
وشاء الزمن المعادي أن يحيينا، فمد الله في العمر، ويممت شطر الشام، البلد العربي السيد المستقل، فما كدت أكحل العين برؤية الراية العربية خفاقة، وما كدت أرى ابتسامة العز ترتسم على أول وجه لقيته حتى نسيت كل ألم أصابني في هذه الدنيا وما عانقت أخاً إلا أحسست أنني أضم إلى صدري هذه الأمة كلها. وماذا كنت أسمع في ساعات اللقاء من إخواني المجاهدين الذين رافقوني في ساحات النضال؟ هذا مجاهد يقول وهو يعانقني لا تنسني هذه المرة، وآخر يقسم إنه منتحر إذا لم يرافقني في معركة فلسطين المقبلة. وهذا شيخ آخر يقول وهو يعانقني: لقد غدوت شيخاً، ولكن لدى ثلاثة أولاد، وهؤلاء سيؤدون الواجب الملقى على، فينوبون عني. . . الأول فتح عينية على أصوات مدافع ميسلون، والثاني خرج إلى هذه البسيطة يوم كانت دمشق تلتهب بنار قنابل الفرنسيين في أوائل الثورة؛ أما الثالث وهو صغير، فقد ولد يوم الجلاء على أصوات الزغاريد وصيحات الابتهاج؛ لقد أحسست وأنا أستمع إلى هذا الشعور أن دينا جديداً وواجباً جديداً ملقيان على كاهلي. . .(729/18)
وهذا ما حبب إليّ الحياة، لا خشية الموت، وطالما اندفعت نحوه، وقد تخطاني كثيراً وبالغ في التخطي، وأنشبت أظفاره في جسمي في تسعة وأربعين مكانا. . . ولم يظفر بأمنيته. ولكنني أحببت هذه الحياة لأتمكن من أداء الأقساط الباقية والمستحقة.
إن سعادتي وافتخاري بانتسابي إلى هذا الشعب العريق لا حد لهما. ولهذا الشعب نذرت دمي متطوعاً مبتهجاً
هذا ما أوحت به إلى قصيدتك وإني أودعك مردداً قولك الحق:
هو السيف الأصم إذا تغنى ... صغى متجبر ووعى كلامه. . .
المحب
فوزي القاوقجي(729/19)
8 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فيينا الأستاذ محمد جمال الدين
حسن
الرموز في الأحلام:
رأينا أن التحريف الذي يعوقنا عن الفهم الصحيح للأحلام ينشأ عن النشاط الذي تبذله الرقابة للتغلب على الدفعات اللاشعورية لرغبات لا تقرها الذات، بيد أننا لم نجزم بأن الرقابة هي العامل الوحيد المسئول عن التحريف؛ والواقع أن دراسة أخرى للأحلام ترينا أن هناك عوامل غيره تشترك في هذا التأثير، بمعنى أنه حتى على فرض أن الرقابة رفعت عن الأحلام فإننا مع ذلك لن نتمكن من الوقوف على معناها ولن يأتي المحتوى الظاهر مطابقا للمحتوى الباطن.
وهذا العامل الآخر الذي يتسبب في غموض الأحلام والذي يساعد على زيادة التحريف، يتجلى لنا عندما نلاحظ أن هناك ثغرة في طريقتنا التي استخدمناها في التفسير. فقد سبق أن سلمت لكم بأن هناك حالات قد لا يجد فيها الأشخاص الذين نحللهم أفكارا مترابطة لديهم لبعض عناصر الحلم. ومن المحقق أن هذه الحالات لا تقع بالكثرة التي يزعمونها ففي معظم الأحيان قد نتمكن من الوصول إلى تبيان الأفكار المترابطة بالكد والمثابرة، ولكن هناك مع ذلك بعض حالات معينة يخفق فيها الترابط إخفاقا كليا، أو نجد أن الشيء الذي نستخرجه أخيرا بالعنوة ليس هو ما نحن في حاجة إليه. وهذه الحالة عندما تقع أثناء العلاج بالتحليل النفسي فأنها تدل على مغزى معين لا يهمنا فيما نحن بصدده هنا؛ ولكنها تقع كذلك في أثناء القيام بتفسير أحلام الأشخاص العاديين أو عندما نقوم بتفسير أحلامنا الخاصة. فإذا اقتنعنا في مثل هذه الحالات بأنه لا فائدة ترجى من الحث والإلحاح، فإننا قد نكتشف أخيرا أن هذه الحالات المتشابهة تظهر على غير ترحيب منا كلما كانت بعض العناصر الخاصة تحت الاختبار؛ ومن ثم نبدأ في إدراك أن هناك قاعدة جديدة تعمل عملها بينما كنا نظن في مبدأ الأمر أننا صادفنا فقط حالة شاذة أخفقت فيها طريقتنا في التفسير.(729/20)
وهذا يؤدي بنا إلى محاولة تفسير هذه العناصر (الخرساء) والاستعانة على ترجمتها بالرجوع إلى مصادرنا الخاصة. ولا شك في أننا سندهش كثيرا عندما نجد أننا سنتمكن، في كل مرة نقدم فيها على هذه الطريقة، من الوصول إلى معنى مقنع بينما يظل الحلم مفككا لا معنى له ما دمنا لم نعقد العزم على استخدامها وتجمع كثير من أمثال هذه الحالات المتشابهة يشد من أزرنا إذ أننا قد أقدمنا على التجربة في مبدأ الأمر في تهيب ووجل.
وبهذه الطريقة سنصل إلى ترجمة ثابتة لسلسلة من عناصر الحلم، كما هو الحال في الكتب العامية عن الأحلام حيث نعثر على مثل هذه التراجم لكل شيء يحدث في الحلم تقريبا. ولعلكم لم تنسوا بعد أننا عندما كنا نطبق طريقة الترابط المطلق لم نكن نقابل مثل هذه التراجم الثابتة لعناصر الحلم.
أظنكم ستقولون الآن إن هذا النوع من التفسير يبدو لكم أنه أقرب إلى الشك وأكثر تعرضا للنقد من طريقة الترابط المطلق السابقة، ولكن مهلا! فنحن لم نفرغ بعد كل ما في جعبتنا؛ فنحن عندما يتجمع لدينا من التجارب الواقعة عدد لا بأس به من أمثال هذه التراجم الثابتة، فإنه يتحقق لدينا بصفة قاطعة أنه كان في إمكاننا فعلا أن نملأ هذه الثغرات في التفسير إذا رجعنا إلى مصادرنا الخاصة، وإننا كنا في الحقيقة سنصل إلى معناها في غير ما حاجة إلى الأفكار المترابطة للشخص الحالم.
وهذا النوع من العلاقة الثابتة بين عنصر الحلم وترجمته يطلق عليه علاقة (رمزية) أما العنصر نفسه (فرمز) للفكرة اللاشعورية التي يعبر عنها الحلم. تذكرون أنني سبق أن قلت لكم عندما كنا نبحث في العلاقات المختلفة بين عناصر الحلم والأفكار الباطنة التي تستتر وراءها أن هناك ثلاثة أنواع من هذه العلاقات وهي: الاستعاضة بالجزء عن الكل، والإشارة أو التلميح، والتمثيل البصري. وقد قلت لكم عندئذ إن هناك علاقة رابعة ولكني لم أبين لكم نوع هذه العلاقة، أما الآن فإنني أقدمها إليكم وهي (الرمزية). وهذه العلاقة يرتبط بها كثير من النقط الهامة التي تصلح للدراسة، وعلى هذا فسنوجه إليها التفاتنا قبل أن نضع أمامكم ملاحظاتنا الخاصة عن الموضوع. فالرمزية قد تكون أهم جزء في نظريتنا عن الأحلام.
نرى قبل كل شيء أن الرمزية بما أنها علاقة ثابتة لا تتغير بين الرمز والفكرة التي يرمز(729/21)
إليها، فهي بذلك تحقق على نحو ما الفكرة القديمة والفكرة العامية عن تفسير الأحلام، وهي الفكرة التي بعدنا عنها كثيرا في طريقتنا في التفسير. فالرموز قد تجعل من السهل علينا في بعض الأحيان أن نفسر الحلم دون استجواب صاحبه الذي لا يستطيع في الحقيقة أن يدلنا بأية حال من الأحوال على ماهية هذه الرموز. فإذا قدر لنا أن نقف على معنى الرموز التي تظهر كثيراً في الأحلام، وأن نلم بشيء عن شخصية الحالم والظروف التي تحيط بحياته، والتأثيرات العقلية التي أعقبها حدوث الحلم، فإننا غالبا ما نجد أنفسنا في مركز يسمح لنا بتفسير الحلم فوراً، أو قل ترجمته من أول نظرة. ومثل هذه المهارة بلا شك ترضى غرور الشخص الذي يقوم بالتفسير كما أنها تستأثر بإعجاب الحالم، فثم فرق شاسع بين هذه الطريقة السهلة وبين الطريقة الشاقة التي تعتمد على استجواب الشخص الذي رأى الحلم. ولكن حذار من الاندفاع وراء هذا الرأي، فالشعوذة ليست جزءا من العمل الذي نقوم به، كما أن هذه الطريقة التي تعتمد في التفسير على معرفة بالرمزية، لا تستطيع بأية حال من الأحوال أن تحل محل طريقة الترابط المطلق أو حتى تقارن بها، فهي متممة لها والنتائج التي تستخلص منها لا تصبح ذات فائدة إلا إذا طبقت بالاشتراك مع الترابط المطلق. وفضلا عن ذلك فيجب أن لا يغيب عن بالكم أنكم لا تقومون فقط بتفسير أحلام الأشخاص الذين تعرفونهم حق المعرفة، بل المفروض أنكم كقاعدة عامة لا تعلمون شيئاً عن آثار اليوم السابق التي حركت الحلم وأن الأفكار المترابطة للشخص الحالم هي المصدر الوحيد الذي نستطيع أن نحصل منه على معرفة ما نسميه بالحالة العقلية.
ومما يستحق النظر بوجه خاص أن هناك معارضة قوية ضد هذه الفكرة القائلة بوجود علاقة رمزية بين الحلم واللاشعور؛ فكثير من الأشخاص الذين اتصفوا بحصافة الرأي وممن سايروا التحليل النفسي في كثير من النقط الأخرى قد عادوا فتنصلوا من آرائهم عند هذه النقطة. وهذا السلوك قد يستغرب كثيراً عندما نتذكر شيئين اثنين، أولا أن هذه الرمزية ليست ملكا للأحلام ولا هي وقف خاص عليها، وثانيا إن استخدام الرموز في الأحلام ليس من اكتشافات التحليل النفسي ولو إن هذا العلم لا تعوزه الاكتشافات الغريبة. وإذا كان لأحد في العصر الحديث أن يدعي الأسبقية في هذا المضمار، فهو بلا شك الفيلسوف (شرنر) وقد جاء التحليل النفسي فعزز اكتشافه، وإن كان قد عدل في بعض النقط الهامة.(729/22)
أظنكم ترغبون الآن في معرفة شيء عن طبيعة الرمزية في الأحلام وتودون الاطلاع على بعض الأمثلة. وإني ليسرني أن أقدم لكم كل ما أعلم عن هذا الموضوع، ولكني أعترف أمامكم أن معلوماتنا في هذا الشأن اقل مما كنا نرغب فيه.
العلاقة الرمزية في أساسها علاقة مقارنة ولكنها ليست مقارنة من أي نوع كان، فنحن نشتبه في أنها تخضع لشروط معينة ولو أننا قد لا نستطيع أن نحدد بالضبط نوع هذه الشروط.
فليس كل ما يمكن مقارنته بشيء أو حادث ما يظهر في الأحلام على شكل رمز له، كما أننا نجد من ناحية أخرى أن الأحلام لا تستخدم الرمزية لأي شيء كان بل تستخدمها فقط لعناصر خاصة من الأفكار الباطنة؛ أي أن هناك تحديدا من الناحيتين. ويجب علينا أن نسلم كذلك بأننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نحدد بالضبط معنى الرمز كما نتصوره، فهو يبدو أحيانا كاستعاضة عن شيء أو تمثيل له، بل كثيرا ما يقترب جدا من الإشارة والتلميح. وقد يكون من السهل علينا في بعض الأحيان أن نتبين على الفور المقارنة التي بنيت عليها الرموز ولكن هناك حالات أخرى نحتاج فيها إلى البحث والتدقيق لمعرفة العامل المشترك الذي يدخل في هذه المقارنة المفروضة. وهذا العامل قد يظهر لنا إذا أعدنا النظر مرة أخرى، كما أنه قد يظل محجوبا عنا إلى الأبد وإذا كانت الرموز عبارة عن مقارنة فعلا، فإن مما يستلفت النظر حقا أن هذه المقارنة لا تتضح لنا من عملية الترابط المطلق، وأيضا إن الحالم لا يعرف عنها شيئا وإنما يستخدمها في غير وعي منه، بل إنه ليذهب إلى أكثر من هذا فيأبى أن يعترف بها عندما نوجه نظره إليها. ومن هذا ترون أن العلاقة الرمزية عبارة عن مقارنة من نوع خاص طبيعته غير واضحة لنا تماما، وربما كان في استطاعتنا فيما بعد أن نعثر على بعض الأدلة التي تلقى قليلا من الضوء على هذه الصفة المجهولة.
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(729/23)
من وراء المنظار
بين معمم ومقبع ومطربش!!
الحر شديد تلفح زفراته الوجوه، والترام مزدحم بالناس قعوداً ووقوفاً، وما منهم إلا من ملأ الفتور بدنه كأنما أخذتهم جميعاً سنة فهم صامتون مطرقون. وليس ما يدب فيه النشاط والقوة إلا هذا الترام السريع الذي ينحدر إلى القاهرة من مصر الجديدة منطلقاً كالسهم، يهز ركابه الوسنانين هزات قوية تنفض عنهم بعض فتورهم وتكاد تلقى بالجالسين منهم على أطراف المقاعد إلى أرض العربة في منعرجات الطريق. . .
وفي زاوية من العربة جلس ثلاثة: معمم على أحد المقاعد يواجهه على المقعد مقبع ومطربش.
أماالمعمم فهو في حدود الأربعين أنيق الثياب جداً، نظيفها كأنما وقادم بها من فوره من دكان الخياط ولست أدري ماذا يصنع يوم العيد ليشعر الناس أنه (غَيَّر) ملابسه؛ ممتلئ البدن، أبيض الوجه في حمرة، متورد الوجنتين، تنبئك ملامح وجهه بأنه فكه خفيف الروح، وتحدثك عيناه ولفتاته ونظراه فيمن حوله - على الرغم من الفتور الذي لحقه كما لحق غيره - أنه (ابن بلد) بأوسع معنى لهذه الكلمة.
أما المقبع فهو عُتُلٌّ في نحو الستين، ثقيل الظل جامد الطبع فيما يبدو من ملامحه وهيكله جميعاً، وبخاصة حاجباه الكثيفان ومنخاراه الواسعان وعيناه الضيقتان وفمه الذي ما إن رأيته حتى جزمت بأنه لم يبتسم مرة في سنواته الستين، ولو طلب إلى أن أؤدي يميناً عن هذا لأديتها في غير حرج.
أما المطربش فأرجو أن تعفيني من وصفه فذلك هو أنا صاحب المنظار. . .!
وحدث بين هؤلاء الثلاثة ما بعث الركاب جميعاً من سِنتهم وما أضحكهم على الرغم من الحر والغبار وجهد اليوم. . .
مد المقبع إحدى رجليه فوضعها على المقعد حتى مس حذاؤه ملابس المعمم أو كادت، فنظر إليه هذا نظرة استنكار عله يسترد رجله ويبعد ذلك الحذاء الذي خيل إليّ لكبره أنه مركب من مراكب الأطفال؛ ولكنه لم يتحرك؛ فقال له المعمم: (من فضلك يا خواجه) وأشار إلى حذائه؛ فنظر إليه المقبع متثاقلا وقال: (لا. . . أنا حر) ونطق الحاء خاء فازداد ثقلا على(729/24)
ثقل.
وازداد وجه المعمم حمرة ورأيته أخذ يتحمس، ولكنها حماسة من يعرف كيف يسلك في مثل هذا الموقف ما يشاكله من من مسلك:
- أنت حر في بيتك ولكن هنا لا. . . ونطق المعمم كذلك الحاء خاء كأنما هو حيال نص لا يملك له تبديلا. . .
ولم يلتفت المقبع إليه فازداد جموداً على جمود!
ولم يرع هذا العتل إلا رجلا الشيخ جميعاً تمتدان فتستقران لا على المقعد ولكن في حجره وقد ضغط الشيخ بنعليه على بطنه وهو يقول (أنا كمان حر) وأصر على جعل الحاء خاء.
وضحكت حتى تندت عيناي وضحك من شهدوا المنظر جميعاً وطار عنهم فتورهم؛ ونهض المقبع كأنما لدغته عقرب، وهو يرطن بلغته، وكأنما فمه بالوعة غصت بالماء وقد انتفخ شدقاه فازداد غلظاً على غلظ.
ونظر إلى المعمم وهو بين الضحك من فعلته وما أثارته من ضحك عام وما كللت به من نجاح أعجبه، وبين الغيظ مما يرطن به المقبع، وقال لي (ترجم حرفياً ما يقول لألقى به تحت الترام) فأحجمت وما زادت على أن ضحكت. فقال الشيخ وقد حبس ابتسامته وبدا الجد في وجهه: (أتمتنع عن ترجمة ما يقول هذا الخنزير؟. أهذه غيرتك على كرامة بني وطنك؟).
ورأيتني على رغمي قد دخلت خصما ثالثاً في القضية!
ونظرت إلى الشيخ وقلت: أفتراني يرحمك الله أتبين شيئاً مما يقول؟ ومع ذلك فهل تظنه يمتدحك ويثني عليك؟
واعجب الشيخ ردي فابتسم أو كاد ثم عاد إلى عبوسه وتقطيبه، على أنه ما لبث أن ضحك مع من ضحكوا لهذا الرد
ورأيت أني أحرجت الشيخ إذ حرمته مما أراد أن يتعلل به من جهله بما يقول خصمه وكفى الله المؤمنين القتال. . . وصار لزاماً أن يلقى بذلك المقبع تحت الترام وإلا فقد قبل شتائمه
وأنقذ المقبع من الموت المحتم تحت عجلات الترام أو قل أنقذ الشيخ من حرجه وقوف(729/25)
التارم على آخر محطة بحيث لم تعد عجلاته تفعل شيئاً!
وانطلقت وأنا أدير في رأسي هذه القضية الصغيرة التي فسرت لي تفسيراً عملياً معنى الحرية، وظللت ساعة لا تبرح خيالي رجلا الشيخ يضغط بنعليهما على بطن ذلك المقبع الذي ظن أنه لا يزال لقبعته ما كان لها قبل من هيبة!
الخفيف(729/26)
قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر:
الشيخ شامل زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
3 - كان الحاج جبرائيل من أهل قرية (جرقط) صانعاً ماهراً يجيد صنع كل ما تقع عينه عليه، وفي ذات يوم من الأيام قصد إلى ساحل البحر الأسود، وركب إحدى البواخر وتوجه إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج، ثم رجع إلى مصر وأقام بها فترة رجع بعدها إلى القسطنطينية ومنها إلى بلاده الأصلية في الداغستان حيث كان الشيخ شامل فاتصل به وعرض عليه خبرته ومهارته الصناعية، واقترح أن يقوم بصب المدافع وصنعها محلياً، ومقاتلة الروسيين بنوع أسلحتهم، وأظهر شامل - رحمه الله - خوفه من الفشل في هذا المشروع، وعارض فيه بادئ ذي بدء؛ ولكنه - تحت تأثير الإلحاح والإغراء - قبل المعاونة والمساعدة ورضى بالمساهمة في هذا المشروع، وقدم كل عون ممكن لهذا الصانع الماهر الوطني المخلص، وقام الحاج جبرائيل بأول محاولة لصنع المدافع، فجمع بقايا المدافع المحطمة التي تركها الروسيون في بعض المعارك السابقة، وأذابها، ثم صب منها مدفعاً جديداً، ولكن هذا المدفع لم يقو على تحمل أول تجربة أجريت له، فتحطم بعد قذف القنبلة الأولى منه، وكان في هذا الفشل الحافز الذي حفز شاملا وإخوانه والحاج جبرائيل ومهارته، وأعيدت المحاولة، ونجحت، ومن يومئذ أصبح في إمكان الشيخ شامل وجنوده الاعتماد على قوة المدفعية ومقابلة الروسيين بنفس سلاحهم الذي يقاتلونهم به.
وكان لصنع المدافع في بلاد الداغستان ونجاحها، واستعمالها في المعارك التي وقعت بعد ذلك أثر كبير سواء في تقوية الروح المعنوية بين المجاهدين المسلمين أو في إيقاع الخوف والرعب في قلوب أعدائهم من الروسيين، وأهل البلاد الضالعين مع الروسيين، وكان ذلك حوالي سنة 1259هـ وسنة 1843م.
4 - كان الشيخ شامل - من يوم صنع المدافع في داغستان واستعمالها في الحروب - يسير من نصر إلى نصر، وذاعت شهرته، وقويت شوكته، وهابه خصومه بعد أن أوقع بهم في عدة معارك فاصلة، كان لها وقع عظيم في نفوس الفريقين المتحاربين، ولجأت القوات الروسية إلى قلاعها وحصونها.(729/27)
في هذه الثناء كان زعماء الجراكسة وأعيانهم يرسلون الرسل والكتب متتابعة بدعوة الشيخ شامل إلى بلادهم. لمساعدتهم على رفع نير الاحتلال الروسي عن رقابهم، مظهرين الطاعة والإخلاص له ولدعوته الدينية الوطنية التي رفع رايتها في ربوع بلاد الداغستان.
وفي أوائل سنة 1262هـ (1846م) عزم الشيخ شامل على اجتياز الحدود والذهاب إلى بلاد الجركس، فجمع جمعاً عظيماً من الجمد الخيالة والرجالة واخذ معه سبعة مدافع ثقيلة، ومقداراً وافراً من المهمات والأسلحة الحربية، واجتاز نهر (ترن) ونزل في بلاد (قبرطاي) الواقعة في الشمال الغربي للداغستان، وأخذ ينشر تعاليمه ومبادئه عن طريق الوعظ والإرشاد، وأقبل عليه الأهلون مرحبين واظهروا استجابتهم لدعوته وموافقتهم لها، وبينما كان الشيخ شامل يقوم بهذه المهمة وينظم الحياة الدينية والمدنية في تلك البلاد. جاءه النذير بأنه وقع في كمين دبره له الروسيون. إذ قطعوا عليه خط الرجعة، وسدوا المسالك واقفلوا الجسور التي تصل ما بين بلاد الداغستان وأقاليم الجراكسة، فأسرع شامل بالعودة من حيث أتى، وبعد تصادم قوى بينه وبين الروسيين وتراشق بالمدافع استطاع الشيخ شامل أن ينقذ قواته ويجتاز بها نهر (ترن)، ورجع إلى بلاده منهوك القوى، بعد أن خسر في هذه الرحلة كثيراً من قواته ومهماته، وكاد يصاب بهزيمة منكرة لولا حزمه وقوة احتماله، ولولا مهارة الحاج يحيى قائد المدفعية في جيش شامل الذي استطاع أن يستخدم ما معه من المدافع الثقيلة أحسن استخدام في الوقت المناسب.
5 - كان لهذه الحادثة أثر بعيد في المعارك التي تلتها، فقد قويت الروح المعنوية في الجيوش الروسية المحاصرة في القلاع المتناثرة هنا وهناك، فقاموا بعدة كرات على قوات شامل، ووقعت بين الفريقين مصادمات عنيفة، وأخذت الحرب في بلاد الداغستان صبغة رسمية، واسترعت إهتمام العالم أجمع، وحشدت القيصرية الروسية أعظم قوادها، وأرسلت إلى الميدان جموعاً كبيرة من خيرة جنودها ونظم كبار شعرائها القصائد الطوال في دعوة الناس إلى الجهاد في الداغستان ولكن شاملاً كان مع كل ذلك - كالعهد به - يعمل في صمت وهدوء وبنفس الإيمان والثقة بالله، وبنصره لعباده المخلصين.
ولما رأى مبلغ ما كان لصنع المدافع من نفع وتأثير حربي أخذ يشجع كل تفكير في صنع شيء جديد يمكن الاستعانة به في مقاومة العدو، وفي سنة 1266هـ (1849 - 1850م)(729/28)
تمكن الصناع الداغستانيون من صنع البارود في بلادهم، وأعدوا كل ما يلزم لهذه العملية من آلات ومعدات، وأصبح في إمكان المجاهدين المسلمين استخدام البارود في حروبهم ضد الروسيين من ذلك التاريخ، كما يستعملون المدافع المصنوعة في بلادهم وبالأيدي الداغستانية من نحو ثمانية أعوام.
6 - أتسع نفوذ الشيخ شامل في جميع بلاد الداغستان، وسارت بأخباره الركبان، وكثرت مصادماته الناجحة ضد الروسيين، وفي أوائل فصل الخريف. في اليوم العاشر من المحرم سنة 1270هـ (13 أكتوبر سنة 1853م) قام الشيخ شامل بحركة جريئة أوقعت الرعب في قلوب حاميات الروس في بلاد القوقاز كلها، ففي ذلك اليوم ساق سيلاً عظيماً من قواته ومدفعيته، واجتاز بها حدود بلاد (الكرج) وحاصر قلعة (زنطة) حصاراً محكماً قوياً، واضطر حاميتها إلى التسليم في النهاية، ثم بعث البعوث والسرايا إلى القرى المتناثرة في تلك الجهاد، فأغارت عليها، وأخذت الأسرى وغنمت الأموال الكثيرة. ثم رجع إلى مقر قيادته في داخل حدود الداغستان بعد أن قتل من الأعداء نحو (2. 000) قتيل وأسر نحو 894 أسيراً، وغنم من الأموال والأسلحة مقداراً عظيماً. وكان بين الأسرى الجنرال (جوجوزه) قائد حامية (زنطة) وبين السبايا زوجته وبنته وكثيرات غيرهن من كرائم العقيلات، وبنات الأشراف.
بقى هؤلاء الأسرى عند الشيخ شامل نحو تسعة أشهر، وجرت المخابرات والمفاوضات بين الشيخ شامل والقيادة الروسية العليا لمبادلتهم بالأسرى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروسيين.
وفي النهاية تم الاتفاق بين الطرفين على طريقة هذا التبادل ومكانه، فقد أتفق الفريقان على اختيار موقع (أنصنفر) على ضفة نهر (مجك). كما حصل الاتفاق على مبادلة الجنرال (جوجوزه) بأبي الشيخ شامل جمال الدين الذي كان رهينة في أيدي الروسيين من نحو ستة عشر عاماً، ثم مبادلة كل مسلم بروسي، وجعل لكل أسير زائد وللسيدات والأولاد من السبايا فداء محدود، وفي أواخر سنة 1270هـ (1854م) تم هذا التبادل في (انصنفر) على ضفاف نهر (مجك)، واخذ المسلمون أموالاً كثيرة فداء الأسرى الزائدين والسبايا من النساء والأولاد. وكان يوماً مشهوداً عم فيه البشر بين الجميع.(729/29)
7 - بعد تبادل الأسرى في أواخر سنة 1270هـ تحاجز الفريقان بعض الشيء، وخمدت نار الثورة الوطنية، والحركة الدينية الإصلاحية التي أشعلها الغازي محمد الكمراوي منذ نيف وخمس وعشرين سنة، وكانت هذه الحادثة أشبه بهدنة غير رسمية بين الفريقين. كان قد مضى على نشوب هذه الثورة في تلك البلاد أكثر من ربعقرن من يوم أن رفع الغازي محمد الكمراوي علم الثورة، وكان مضى عليها أكثر من عشرين عاماً من يوم تولى الشيخ شامل قياديها.
فلما رجع أولئك المجاهدون إلى قراهم وضياعهم بعد طول الغياب عنها، والتنقل بين مختلف البقاع وتلك البلاد الجبلية الوعرة رأوا ما عم قراهم من الخراب والدمار، وما حل بأهليهم من الفاقة والفقر وسوء الحال الاقتصادية، لأن أكثر القرى كانت قد خلت من الرجال الأشداء القادرين على الأعمال الزراعية، وتولى هذه الأعمال الشاقة النساء ومن هم في حكم النساء من الشيوخ الفانين والأولاد الضعاف، فساءت حال الزراعات، ونقصت الحاصلات وأنتشر الفقر والضيق.
ثم إنهم نظروا فوجدوا أنهم في ثورة متصلة الحلقات من نحو ربع قرن من غير أن تمتد اليهم يد بالعون والمساعدة من خارج حدودهم، ومن غير أن يستطيعوا حتى الاتصال بخليفة المسلمين ليعرضوا عليه حالهم، وما يعانونه من الشدة وسوء الحال.
لا بد أن هؤلاء المجاهدين - أو أغلبهم - فكروا في هذا كله، فرأوا سوء الحال المنذر بأسوأ مصير، فوهنت عزائمهم وتراخت وبدأ الناس يتسللون من حول شامل شيئاً فشيئاً، ثم بدأت الحرب المعروفة بحرب القرم بين الروس والحلفاء: (الأتراك والإنكليز والفرنسيين). في النصف الثاني من سنة 1270هـ، واستمرت إلى النصف الثاني من سنة 1272هـ، ولكن الشيخ شاملا لا يستطيع انتهاز هذه الفرصة المواتية. لما قدمنا من الاسباب، ولم يستطع الحلفاء، مد يد المساعدة للشيخ شامل لأن الطريق بينه وبينهم كانت مقفلة تماماً.
أقول هذا على الرغم مما جاء في (لاروس) في أثناء ترجمة الشيخ شامل من (أن الحلفاء لم يقصروا في تقديم المعونة إلى شامل، إذ كانوا يقدمون إليه ما يحتاجه من لوازم حربية).
اقرر هذا لسببين اثنين: الأول أن الطريق بين الحلفاء والشيخ شامل كانت مغلقة تماما من جميع الجهات، فلم يكن من الممكن الاتصال به من الخارج.(729/30)
والسبب الثاني هو أن الذين أرخوا لثورة الشيخ شامل وذكروا دقائقها، وتتبعوا تفصيلاتها لم يذكروا شيئا عن هذا العون المزعوم. على أنه لو كان حديث هذا العون صحيحا لرأينا شيئا من الحياة والانتعاش في الثورة إبان حرب القرم، ولكن على العكس من ذلك تماما نجد شيئا من الهمود والخمود يعم أرجاء البلاد طول تلك المدة. إذا صرفنا النظر عن بعض الحوادث المتفرقة التي وقعت هنا وهناك في فترات متقطعة. مما لابد من مثله بين فريقين طال أمد القتال بينهما اكثر من خمسة وعشرين عاما.
8 - لما انتهت حرب القرم، ووقع الروسيين شروط الصلح مع الحلفاء في باريس في 30 مارس سنة 1856م و22 رجب سنة 1272هـ تفرغوا لقتال شامل، ووجهوا كل همهم للقضاء عليه، وإنهاء حال الثورة في جبال القوقاز التي طال عليها الامد، ولهذا نجد الروسيين يجهزون قوة عسكرية كبيرة مكونة من نحو (60. 000) رجل ويرسلونها إلى القوقاز، ثم تتابعت حملاتهم العسكرية بعد ذلك كما نشط جواسيسهم ودعاتهم لاستمالة بعض القبائل والأعيان إلى جانب الروسيين بما كانوا ينثرونه من الأموال الطائلة. فلما كان أواخر سنة 1274هـ. (1858م) كان كثير من أهل الجهات النائية قد خرج على الشيخ شامل، واخذ يقوم ببعض الخدمات للقوات الروسية، كشق الطرق وحراستها وما إلى ذلك، وفي شهر رجب سنة 1275هـ (فبراير سنة 1859م) جاء الروسيون بقوة كبيرة، وحاصروا شاملا وأنصاره في مقر قيادته في قلعة (بكى درغية).
ضيق الروسيون الحصار على شامل واصحابه، وقاتلوه قتالا شديدا إلا انهم لم ينالوا منه نيلا لحصانة القلعة وشدة دفاع المجاهدين وبعد نحو أربعة اشهر من هذا الحصار تراجع الروسيون وفكوا الحصار عن القلعة ومن فيها، فانتهز الشيخ شامل هذه الفرصة، وخرج مع جميع أصحابه، ونقل كل ما أمكن نقله من المدافع والمهمات والأرزاق، وذهب إلى قرية (ايشجيلي) ورابط فيها إلا أن الروسيين لاحقوه هنا أيضاً، وهاجموه وأحاطوا به، وبعد أن استمر القتال بين الطرفين نحو شهرين اضطر الشيخ شامل - تحت تأثير قلة رجاله وسلاحه الذي بقى لديه - إلى الانسحاب من هنا أيضاً، واتجه بأهله وعياله ومن رافقه من مخلصي أصحابه إلى قلعة (غونيب) الحصينة، وتحصن فيها، كان ذلك في أول المحرم سنة 1276هـ (31يولية سنة 1859م).(729/31)
9 - تحصن الشيخ شامل بقلعة (غونيب) الحصينة، ثم لحق به بعض المجاهدين المخلصين حتى بلغ عددهم نحو ثلاثمائة رجل من المحاربين غير النساء والأطفال من آل شامل.
ولكن ماذا عسى أن يصنع هؤلاء الثلثمائة رجل أمام هذه الجيوش الجرارة التي أحاطت بالقلعة إحاطة السوار بالمعصم؟ في هذه الأثناء صدرت إرادة قيصر الروس إلى قائد قواته في القوقاز بضرورة القبض على الشيخ شامل حيا مهما كلف ذلك من ثمن.
ولهذا أخذت القوات الروسية تضيق الخناق على قلعة (غونيب) وفي الوقت نفسه طلب قائد الحملة الروسية من الشيخ شامل التسليم، ووعده بالإبقاء على حياته هو ومن معه من المجاهدين، والنساء والأطفال.
(البقية في العدد القادم)
برهان الدين الداغستاني
-(729/32)
وإذا أتى يوما. .
مترجمة عن فون بروك
للأستاذ محمد علي مخلوف
في الربوة الغناء قد ... أبصرتها يوما تسير
يهفو النسيم بثوبها ... فتثور كالطفل الغرير
هي في الخمائل زهرة ... رفت، فحياها الربيع
تصبو القلوب إلى الجما ... ل وتفتدى الحسن البديع
وقفت ترجى أن يعو ... د مع المساء حبيبها!
ترنو إلى الشمس الكئي ... بة والحنين يذيبها
وتقول: مالك لا تعو ... د فتطرد الحزن العميق؟
هل عاقك الداء الممض ... أو انحرفت عن الطريق؟
أو قد مللت وحطمت ... يمناك مصباح الغرام؟
أنسيت أني في انتظا ... رك - يا حبيبي - منذ عام؟
عد يا حبيبي. . . إنني ... دون العذارى لا أخون
قلبي يعيذك أن تكو ... ن مصدقا فيه الظنون
هذا جمالي. . . منحة ... عظمى حبتك بها السماء
فذق النعيم. . . فطالما ... قد ذقت في الحب الشقاء
عيني يلوح الصفو في ... ها مثل مرآة الأمل
ثغري ترف على لما ... هـ العذب أزهار القبل
عد يا حبيبي. . . فالحيا ... ة قصيرة أسبابها
سلب السعادة من يدي ... نا خلسة سلابها
لكن من تهواه آ ... لى مغضبا إلا يعود
كم بات يبكي من نوا ... ها. والنجوم له شهود
قد سار لا يدري أين ... عم أم يعذب في الحياة!
لفت أعاصير الزما ... ن شبابه ولوت خطاه(729/33)
في مجهل العيش الجدي ... ب رمت به كف القدر
والبؤس ليل مظلم ... لا نجم فيه ولا قمر
بين الضباب، أقام ين ... شد حلمه. . . بين الضباب
ظمآن يشرب في صحا ... رى الوهم من نهر السراب
هيهات أن يتفاهم ال ... عشاق أن صدق الوداد
فالحب إما صح بي ... ن اثنين لجا في العناد
(والعقم في دنيا الهوى ال ... عذرى غاية كل جود)
فإذا قضيت وما قضي ... ت لبانة نلت الخلود
خفت لمخدعها واد ... معها من البلوى تسيل
لم تلق في الروض البه ... يج حبيبها النائي الجميل
نضت الثياب الحمر. . . آ ... هـ من الثياب وما تبيح
وتخاذلت فوق الفرا ... ش كأنها ظبي جريح
حنت إلى الماضي البعي ... د. . . واين ماضيها البعيد؟
وادته أحداث الليا ... لي، وهو في الدنيا وليد
دب السقام إلى الجمي ... لة فامحى طرس الشباب
يا رحمتا للحسن يه ... وى مثلما يهوى الشهاب
راحت تقول لأختها ... والليل قد أرخى السدول
إني سأقضي. . . فاحفظي ... أختاه عني ما أقول:
إن عاد يوماً ذلك ال ... قاسي وساءل: أين (مارى)؟
قولي له ماتت. . . وكن ... ت لشمسها الغيم الموارى
وإذا شدا يوماً بأل ... حان الصبابة أو ترنم
قولى له: إني بصر ... ت بطيفها حياً وسلم
لا تسأليه كيف يش ... دو في حبور وابتهاج
عما قليل سوف يصم ... ت حين ينطفئ السراج
قالت لها. . . وإذا أتى ... يوماً إلى الروض النضير(729/34)
وجثا هناك على بسا ... ط العشب يستاف العبير
ماذا أقول؟ أأسكب ال ... عبرات للذكرى الحزينة؟
أم أجعل الزهرات إك ... ليلاً يزين به جبينه؟
قالت لها. . . غنى له ... أنشودة القلب الكسير
فإذا بكى. . . قولى: لقد ... ذكرتك في النزع الأخير
قالت: فإن نسى الغرا ... م وعهده ماذا أقول؟
قالت لها: قولي له ... كل النجوم إلى أفول
وإذا أراد زيارتي ... لا تصحبيه إلى المقابر
فلعله يفضى إل ... يّ بما يكن من الخواطر
وإذ رأيت بنانه ... مرت على خصل جميلة
قولي له. . . يا طالما ... داعبت (مارى) في الخميلة
وقضت. . . وعاد. . . فجن من ... هول الفجيعة في فتاته
ما زال يلثم قبرها ... حتى تخلص من حياته
(القاهرة) محمد علي مخلوف
-(729/35)
خواطر مسجوعة
العبقري المجهول. . .!
كأنك سائلي ايها الفطن، عن كائن لم يكن. . . أو كأنك تقول: من العبقري المجهول؟ وما هو يا صاحبي سوى إنسان، محتجب في عالم النسيان، غفل عنه التعداد، ولم تشعر له الدنيا بميلاد، فضاع في أمته، وحار في منبته، كشباب أذبله اليأس، أو عقل سلبته الكأس، أو روض في مجهل، أو علم في سفر مقفَل، أو بدر حجبه السحاب، أو نضار غطّاه التراب، أو در في صدف، لم يُكتشف، أو سر خطير، في ضمير، أو غناء، في أذن صماء، أو بذر طيب، في واد مجدب، أو عقد مضيء في جيد أمَة سوداء، فهي برغم ضوئه كالليلة الليلاء. .!
يعيش في هذه الدنيا حراً مقيداً، أبياً مهدداً، بريئاً مظلوماً، حياً معدوماً، لا يلقى إليه العالم بالا، وإن أضفى عليه من أدبه جمالا، صنيعه مجحود، وفضله محسود، كالوردة ذات الشذى، لم تسلم من الأذى. . .!!
ولن يؤثر قوم المادية الفانية، على الروحية الباقية، إلا إذا رضوا أن يعيشوا مع الماشية، سواسية! ولن يسود الناس، من يقتل الإحساس، ويطفئ النبراس، ويبنى على غير أساس!
وليست الحياة أن نتنفس كما تتنفس الآلة بضغط البخار، وإنما الحياة أن نشعر بأننا نحيا حياة الأحرار. . . وكلما سما الشعور، امتد أفق النور، والقضية بالعكس، إذا انحدر الحس. فإن نصيب الأصم من الغناء، كنصيب الأعمى من الروضة الغنّاء، ونصيب الزكوم من العطور، كنصيب الأميّ من هذه السطور!
والشعب الذي له من الحياة نصيب، لا يهون فيه أديب، وإنما يهون في شعب محتضر، كما تهون الدنيا على المنتحر!
(الزنكلون) حامد بدر(729/36)
الأدب والفن في أسبوع
رسالة الأدب وجائزة فؤاد الأول:
كتب (ا. ح) مقالاً بمجلة (الصباح) عنوانه (الأدباء المعاصرون في مصر - وهل فهموا رسالتهم الفكرية؟) قال فيه إن بعض كبار كتابنا من المشتغلين بالأدب والتأليف، ثار في الأيام الأخيرة، لحرمان الأدباء من جائزة فؤاد الأول الأدبية ومن حق كل متفوق أن يحنق لذلك، بعد أن منح الجائزة رجال القانون والعلوم.
ولكنه يرى أن تلك الثورة لا تمنع من تقرير حقيقةٍ اجتمع الرأي عليها (وهي أن أدباءنا على كثرة ما ألفوا من كتب، وما أصدروا من مؤلفات، لا يزالون بعيدين عن فهم رسالتهم الحقيقية في المجتمع)
ويحدد الكاتب رسالة الأدب التي يرى أن الأدباء لا يزالون بعيدين عنها، فيقول: إن الأدب هو الحياة، وكل أدب لا يصور حياتنا، ولا يتصل بها اتصالا يهدف إلى تجديدها، من حيث التنبيه إلى ما فيها من أخطاء ونقص، والدعوة إلى إصلاح عيوبها أو التحذير من أخطاء هذه العيوب - هو أدب زائف لا يمس حياتنا، ولا يؤدي الخدمة المنشودة منه، إنه يكون أدباً غير متفاعل مع عواطفنا، قليل الاهتمام بهمومنا ومشكلاتنا الروحية) ثم يتساءل: هل في كتب الأدب الكثيرة التي أنتجها رجال الفكر في مصر ما حقق رسالة الأدب على هذا الأساس؟ وهو يرمي إلى أن أكثر تلك الكتب ألف في البحوث الأدبية عن آداب العصور الماضية، وأن توجيه أكبر الجهد إلى ذلك دون ابتكار أدب تجد فيه الأمة ما يحفز همتها للنضال من أجل الحرية أو إرشادها إلى الطريق القويم الذي تسلكه في الحياة - إنما هو قصور في تأدية رسالة الأدب على حقيقتها، وعندما نستطيع إنتاج أدب يتسم بالخلق والابتكار، ويعالج مشاكلنا الكثيرة، ويصحح أوضاع حياتنا المقلوبة، ويتجه بمجتمعنا نحو الرقي عندئذ نستطيع أن نغضب إذا حرم أدباؤنا من أي جائزة رصدت للمتفوقين منهم في أي فرع من فروع رسالتهم السامية. . .
وهذا الذي كتبه كاتب الصباح (كلام جد) عبر فيه عما يشعر به الكثيرون، فإننا إذا أحصينا إنتاجنا الأدبي المعاصر نجد أكثره إما دراسات لأدب العصور العربية الماضية، وإما دراسات ومترجمات من الآداب الأجنبية، فأما الأدب الذي يصور حياتنا ويعبر عن ذات(729/37)
أنفسنا فهو قلة، مع أنه هو الأدب الأصيل، وما البحوث والدراسات إلا خدمة له، وليست الترجمة إلا (استيراد) له من الخارج.
وقد كان لنا العذر في قلة إنتاج الأدب الأصيل في الصدر الأول من هذا العصر، لأنه كان عصر نهضة، والنهضة تحتاج إلى كثرة النقول ودراسة الآثار، لنتزود منها ونبني على نافعها، أما الآن فلا عذر لنا في كثرة الدوران حولها، وإهمال أنفسنا، فلا نبني لزماننا كالذي بنى أسلافنا لزمانهم. . .
هذا من ناحية الموضوع العامة، أما ناحيته من حيث استحقاق جائزة فؤاد الأول الأدبية فثمة أمران يرجحان كفة الأدب الأصيل: الأول هو ما قدمناه من بيان أهميته، الأمر الثاني يمكن استخلاصه من المرسوم الملكي الصادر بإنشاء جوائز فؤاد الأول وفاروق الأول، فقد جاء فيه: (يشترط فيالإنتاج الذي يقدم في المسابقة في كل عام أن يكون ذا قيمة علمية أو فنية ممتازة تظهر فيه دقة البحث والابتكار (ويهدف خاصة إلى ما يفيد مصر) والإنتاج القومي) والشرط ينصب على الآداب والعلوم والقانون، وجميعها لا بد أن تهدف إلى ما يفيد مصر. ولا شك االأدب الذي يعالج مسائل مصر ويصور حياة مصر وينبعث من البيئة المصرين، هو أقرب الآداب إلى فائدة مصر. وصحيح أن المرسوم نص على أن جائزة الآداب تشمل (الآداب البحتة مثل الأدب القصصي، الأدب التصويري، الأدب الاجتماعي، الشعر، البحوث الأدبية (النقد، البحوث اللغوية، الدراسات الإسلامية الأدبية) والتأريخ والجغرافيا والفلسفة والآثار)
ولكنه إلى تقديمه الآداب البحتة، قيد الجميع بأن تهدف خاصة إلى ما يفيد مصر. وستجتمع لجنة جائزة الآداب وتنظر في كل ذلك لتقرر منح الجائزة لمن يستحقها في العام القادم بعد أن أجلتها هذا العام، ولا أخالها إلا مرحبة بمعرفة اتجاه الرأي الأدبي العام، وتقدر ما يبدى من الآراء التي يراد بها وجهة الأدب الخالصة
قضاة الغرام:
أرادت مجلة (الاثنين) أن تستفتي الأدباء في مشكلة من أهم المشاكل التي تشغل بال الرأي العام في هذه الأيام. . . هي مشكلة غرام! فقد ساءت العلاقة بين شاب وفتاة، وتكرر وقوع الاعتداء من أحد الطرفين على الآخر، فأصبح الأمن بذلك مهدداً في عالم الغرام. . . ولم(729/38)
يستعن الفتى بخبراء، ولم ينتظر قرار هيئة مستشارين، بل أسرع في كتابة العريضة ورفعها إلى (الاثنين) يقول إنه أحبها، وأحبته، وهو رقيق الحال معتز بكرامته، وهي ربيبة نعمة وجاه (وأعتدي المال على الفقر مرة واثنتين وثلاثاً، وثارت الكرامة وتطلبت الاعتذار. . . ولكن الفتاة لم تعتذر، لأنها لم تتعود الاعتذار. وإنه لفي حيرة لا يدري أيكون أكثر شقاء بالصفح والغفران، أم بالقطيعة والهجران. . .)
وتلفتت (الاثنين) _أو الاثنان_حولها، تبحث عمن ينظر القضية. ومن لها غير الأدباء؟ أليسوا أساة القلوب وقضاة الغرام؟ ومتى تلجأ إليهم إن لم يكن هذا وقتهم! وفيم تحكمهم أن لم يحكموا في هذا الأمر الجلل؟ أفي كهربة خزان أسوان ولا يتصل لمثل هذا بهم شغل؟ أم في مسائل تتصل بأدبهم ولكنها تشق على الأذهان الناعمة. . .؟
واصدر الأدباء، فلان وفلان وفلان، حكمهم، فمنهم من رأى أن كل شيء يهون إلا الشرف، ومنهم من قال: لغة الحب الضنى! ومنهم من أنشد: (ليس لمخضوب البنان يمين)
وهكذا عولجت المشكلة وانتهت القضية واستتب الأمن في عالم الغرام!
ولكن هل ينبغي أن تقصر العناية على هذه المشكلة (الحيوية)؟ وهل يصح إلا يدعي الأدباء إلى غير ذلك مما يهم الناس. . .؟
باسم أدباء العرب:
من الأنباء الأخيرة أن أحد أعضاء المؤتمر الدولي لنادي القلم المجتمع في زيورخ، اقترح اتخاذ قرار بالثناء على الشعب اليهودي والأنحاء باللائمة على خصوم الصهيونية والرغبة في معاملة الوطن القومي لليهود على قدم المساواة مع سائر دول العالم، فقابلت كثرة المؤتمر هذا الاقتراح بالتصفيق.
غير أن الأستاذ كميل أبو صوان مندوب لبنان (وهي الدولة العربية الوحيدة الممثلة في المؤتمر) قد احتج على هذا الاقتراح باسم الأدباء العرب، مما أدى إلى نقاش عنيف بين أعضاء المؤتمر انتهى برفض الاقتراح لأن قانون المؤتمر يحرم التعرض لأية مسألة سياسية
وهذا - ودون شك - عمل رائع من الأستاذ كميل أبو صوان، ومما يزيد روعته أنه أدى إلى رفض الاقتراح الذي أريد به تأييد الصهيونية.(729/39)
الفنيون وتيسير الكتابة العربية:
لما كان تيسير الكتابة العربية موضوع مسابقة جائزتها ألف جنيه، وقد دخل فيه نحو مائتي متسابق بينهم فنيون وفنانون لهم قيمتهم، وهم مختلفون في منازعهم، حتى أن مجمع فؤاد الأول للغة العربية القائم ببحث هذا الموضوع، تلقى رسائل فيه من أمريكا ومن روسيا ومن الهند وغيرها من سائر الأقطار والأصقاع، ولأهمية هذا الموضوع وخطورة أثره، رأى المجمع ألا تنفرد لجنة تيسير الكتابة العربية بالحكم على هذه المشروعات، وأن ترجئ نظرتها حتى تسمع رأي حكام فنيين في الخط وفي الطباعة، فقد يعجب اللجنة مشروع يصعب تنفيذه في العمل، فتبطل قيمته، وتنعدم جدواه، وقد يروق اللجنة مشروع من وجهته العامة ولكنه في أداء مقتضيات الكتابة العربية ناقص أو عسير التحقيق، ورأت اللجنة أن أعضائها وأن كان لهم بصر بالكتابة العربية، وسابق نظر في المشروعات والمقترحات التي بسطت للتيسير، فانهم ليسو بالفنيين المتجردين لشؤون الخط والطباعة.
لذلك كله قرر مجلس المجمع، في جلسته التي ختم بها دورته الماضية، تأليف لجنة من فنيين في الخط وفي الطباعة اختار لها المدير العام لمصلحة المساحة رئيساً، ويتكون أعضاؤها من كبير الخطاطين بمصلحة المساحة والأستاذ السيد إبراهيم الخطاط، والشيخ محمد فخر الدين بك، ومدير المطابع والتوريدات بمصلحة السكة الحديد، ورئيس مطبعة دار الكتب، والأستاذ شفيق مترى صاحب دار المعارف. وضم إليهم الأستاذ شارل كونتز مدير المعهد الفرنسي بالقاهرة باعتباره فنياً في الخطوط السامية وأحد الذين تتبعوا تطور الكتابة العربية، ليقارن بين الخطوط المقترحة وبين الخطوط السامية.
وتعقد هذه اللجنة بدار المجمع اجتماعات أسبوعية توالي فيها النظر في المقترحات المقدمة. وينتظر أن تقدم تقريرها في هذه المهمة إلى المجمع قبل انتهاء عطلة الصيف حتى يستطيع المجمع أن ينظر فيها في مقتبل دورته القادمة. . .
المؤتمر الثقافي العربي:
عرف القراء مما كتبناه في عدد مضى من الرسالة أن اللجنة الثقافية بالأمانة العامة للجامعة العربية دعت إلى عقد مؤتمر ثقافي بلبنان في سبتمبر القادم تنفيذا لسياسة التعاون الثقافي(729/40)
بين الدول العربية. ونذكر اليوم، إلى ما بيناه فيما مضى، أن المؤتمر سينعقد في فندق بيت مرى الكبير ويبدأ في اليوم الثاني من سبتمبر ويستمر إلى التاسع منه، وسيكون تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، أما رئيس المؤتمر فهو وزير التربية الوطنية (المعارف) اللبنانية، ويرأس معاليه أو من ينوب عنه حفلات الافتتاح والختام والمحاظرات العامة. أما الاجتماعات التي تخصص لمناقشة مقترحات اللجان الفرعية الفنية وأخذ الآراء فيها، فينيب معاليه عنه في رياستها رئيس اللجنة الفرعية المختصة لعرض وجهة نظر اللجنة وتوجيه المناقشات واتخاذ القرارات. . .
وقد نشرت بعض الصحف أن المؤتمر ستشترك فيه بعض السيدات المثقفات. وقد عرفنا أن الأمانة العامة لم تتلقى بعد أسماء سيدات لهذا الغرض، ولكن إذا رأت إحدى الهيئات الرسمية أن يكون من ممثليها سيدات فإنها لا تمانع في ذلك، كما انها لا تمانع في حضور سيدات مثقفات من غير الهيئات الرسمية جلسات المؤتمر مستمعات كغيرهن من الرجال. . .
وقد تلقت الإدارة الثقافية بالجامعة العربية من جامعة فؤاد الأول أن مجلس إدارتها وافق على إيفاد حضرتي الدكتور محمد عبد المنعم الشرقاوي والأستاذ أحمد محمد الشايب لحضور المؤتمر الثقافي، وتلقت من وزارة المعارف العراقية أن ممثلي العراق في المؤتمر هم الدكتور جواد علي والدكتور مصطفى جواد والأستاذ إبراهيم شوكت، ويمثل فلسطين السادة وصفي العنبتاوي والأستاذ إسحاق الحسيني والأستاذ أحمد خليفة من كبار رجال التعليم بحكومة فلسطين. . .
والمفهوم أن قرارات المؤتمر سترسل إلى الدول العربية للعمل على تنفيذها، وانه وأن لم يكن هناك إلزام رسمي بذلك إلا أن الفكرة العامة من حيث الرغبة في الاتحاد والتقارب الثقافي بين الأمم العربية، تكسب تلك القرارات نوعاً من الإلزام الأدبي. . .
مؤتمر الآثار العربي:
وقد عرف القراء أيضاً نبأ انعقاد مؤتمر للآثار العربية بسورية قبل انعقاد المؤتمر الثقافي بلبنان. . .
ونضيف إلى ما سبق أن مؤتمر الآثار سيعقد بدمشق ويبدأ في الثالث والعشرين من(729/41)
أغسطس القادم وينتهي في آخره، بحيث يبدأ على أثره المؤتمر الثقافي بلبنان في أوائل سبتمبر كما تقدم
وسيكون مؤتمر الآثار العربي تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية السورية، ويرأسه معالي وزير المعارف بسورية. . .
ويمثل جامعة فؤاد الأول في المؤتمر الدكتور زكي محمد حسن والدكتور أحمد بدوي، ويمثل دار الآثار العربية بالقاهرة الدكتور محمد مصطفى أمين الدار، ويمثل العراق السادة فؤاد سفر وطه باقر وبشير فرنسيس. . . وقد أبرقت وزارة المعارف السورية إلى الإدارة الثقافية بأن مندوبها الرسمي الأول هو الأمير جعفر الحسني، وأن المندوب الثاني هو السيد سليم عادل. . .
(العباس)(729/42)
البريد الأدبي
رحلة الدكتور عزام إلى الهند:
ابتداء من العدد المقبل سننشر المقال الأول من رحلة الهند للدكتور عبد الوهاب عزام بك، وهي مقالات تتسم بالبلاغة والجمال والسمو والصدق ككل ما يكتبه الأستاذ، فظلا عن ظهورها في الوقت الذي تنشأ فيه بالهند دولة الباكستان.
وأكثر الناس لا يعرفون من روح الهند وأسرارها ما يساعدهم على إدراك هذا النظام الجديد وتأثيره في مستقبل الإسلام وأهله.
أدباء العروبة في مجلس الشيوخ:
نشرت الصحف اليومية أن الشيخ المحترم (فريد أبو شادي) طلب إلى مجلس الشيوخ استجواب رئيس الوزراء عن التصرف الذي وقع لحساب جامعة أدباء العروبة.
وقد اشار الشيخ إلى هذه التصرفات في كتابه إلى رئيس مجلس الشيوخ (. . . من استغلال النفوذ وتسخير مواصلات الدولة، وإذاعتها لهذه الهيئة المسماة أدباء العروبة).
ولقد مر الناس على ذلك فكان مجال تعليق، وموضوع أحاديث. . . وإذا كان من حق الشيوخ والنواب مراقبة الحكومة فإن من حق الأمة مراقبة هؤلاء، ومناقدتهم أحياناً ومناقشتهم فيما يند عن المعقول من رقابة أداة الحكم في هذا البلد. وليس مما يدخل في نطاق المعقول، ولا مما يستساغ أن يؤخذ على الحكام استغلال نفوذهم في الصوالح العامة، وإنما يكون ذلك حيث يستغل الحاكم سلطانه في أموره الشخصية ومصلحته الفردية
وليس كثيراً على الأدب أن يتوكأ على نفوذ الدولة، وأن تسخر له مواصلاتها، وإذاعتها، ولعل الأقرب إلى الواقع أن نقول: أن الموصلات والإذاعة هما اللتان سخرتا الأدباء في هذه الحفول الأدبية.
ثم أن أدباء العروبة لم يمسوا ميزانية الإذاعة المحدودة، ولم ينالوا كثيراً من وقتها الثمين الذي تدبره الأقدار في مصر لإذاعة (من فوق لتحت) وأمثال هذه الأشياء الرخيصة المريضة التي تبهض ميزانية الإذاعة، وتستنفد وقتها.
أن نهوض الفن في الأمم يقترن عادة ببذل عظيم تقدمه الأمة راضية للفن، وفي التاريخ الأدبي قديمه وحديثه شواهد كثيرة تطالعك في عصور النهضات الأدبية بما كانت تصنعه(729/43)
الأمم للفنون حتى تأخذ سبيلها إلى الرقي، والحياة. هذا ما يقع في كل بلاد الله. . . أما في مصر فيستجوب شيوخها الحكومة عن التصرفات التي تقع لحساب الجوامع الأدبية
ولقد كنت أفهم أن يتكلم الناس في المادة الأدبية التي قدمتها هذه الجماعة من حيث هي فن. . . فأما الفكرة الجليلة التي يضطلع بها الرجل الجليل إبراهيم دسوقي أباظة فإن مكابرتها تعتبر غميزة لثقافة هذا البلد ووعيه وشعوره.
ولقد كنت أفهم أن يستجوب الشيوخ الحكومة على مدى مساعدتها لهذه الجماعات الأدبية، وعن الوسائل التي أعدتها الحكومة لضمان حياتها، فأما هذا الاستجواب فانه إن دل على شيء فإنما يدل على أننا لا نزال في حاجة إلى جهود كبيرة قبل أن نصل بالأدب في مصر إلى المكان اللائق به.
(طاهر محمد أبو فاشا)
أمانة النقل:
تحت هذا العنوان قرأت في مجلة الرسالة كلمة للأستاذ علي الطنطاوي عرض فيها لكتاب (عثمان بن عفان) وإني أستميح الأستاذ أن أقول له: إن أمانة النقل لم تفقد من الأزهر، وإن الأزهر لا يزال دارها ومستقرها، وإن أهله أهلها، يحرصون عليها، ويعرفون لها قدرها، لأن مؤلف كتاب (عثمان بن عفان) وهو من أبناء الأزهر، قرأ فيما قرأ كتاباً مطبوعاً ذائعاً بين الناس، وعلى طرته عنوانه (سيرة عمر بن الخطاب). . . تأليف الشيخ علي الطنطاوي، وأخيه ناجي الطنطاوي، ونقل منه إلى كتابه (عثمان بن عفان) في فصل تحقيق مقتل عمر ما رآه عاضداً لرأيه، مؤيداً لمذهبه، مصدراً نقله بقوله: (وقال الأستاذان الفاضلان صاحبا كتاب سيرة عمر في تعليقة فاحصة) وذلك بعيد قوله: (وإلى هذا ذهب كثير من المؤرخين القدامى والمحدثين) فأين وجد الأستاذ فقدان أمانة النقل من الأزهر؟ فهل يفهم قارئ كتاب (عثمان بن عفان) بعد هذا التصريح الصريح باسم الكتاب المنقول منه، ووصف صاحبيه بالفضل - وهما له أهل - ووصف الكلمة المنقولة بما ينبه على قدرها في موضوعها، هل يفهم ذلك القارئ من هذا الصنيع فقدان أمانة النقل من الأزهر؟
ولعل الأستاذ يقصد:(729/44)
أولاً - إلى اختصار أسم الكتاب من (سيرة عمر بن الخطاب) إلى (سيرة عمر) وهذا اختصار لا يرتفع إلى هذه الجفوة التي اختار لها الأستاذ عنوان كلمته، لأنه ليس في الإسلام إطلاقا (عمر) بالإطلاق، يولف كتاب في سيرته غير عمر بن الخطاب فاروق الإسلام.
ثانياً - إلى عدم ذكر اسم المؤلف، وأنا قد اكتفيت بالوصف المقرون باسم الكتاب، وهو معين عند القراء لصاحبه، ومبدد - في الأقل - لشبهة فقدان أمانة النقل.
أما أن الأستاذ وجد في فصل تحقيق مقتل عمر من كتاب (عثمان بن عفان) كلاماً أحس أن فيه رائحة كتابه ولا يجد الدليل عليه، فهذا هذا منذ عرف الناس العلم والبحث، ولا ينسى الأستاذ أن كتابه معقود في أصله على الأنقال التاريخية من مصادرها التي تتداولها الناس أو تحضنها المكتبات العامة والخاصة
وأما أن الأستاذ تألم لأن كثيرين، وفيهم من يعد من كبار المؤلفين، غصبوا من كتابه، وجعلوه نهباً مقسماً، وهذه جناية لم يشهدها الأزهر، بيد أن الأستاذ جعله سبابة المتندم.
هذا وإني لأشكر للأستاذ شهادته العظيمة لكتاب (عثمان بن عفان) حسبة لله والعلم.
صادق إبراهيم عرجون
مسابقة المجمع اللغوي:
قال الكاتب الجليل الأستاذ (الجاحظ) في تعقيباته البليغة على أحداث الأدب أن المجمع اللغوي لم يصب في اختيار موضوعي المسابقة الأدبية للعام المقبل. وهما (الحياة الأدبية في المدينة في عهد الأمويين، وكتابة بحث عن مهيار الديلمي) لأن هناك من الموضوعات القيمة ما هو أولى أن يكون ميداناً للمسابقة.
والأستاذ الجاحظ على حق في هذا القول. غير أني أؤثر أن لا يجيز مع المجمعاختيار موضوع بعينه للمسابقة، اياً كان شأنه. فإن في تحديد الموضوع حجراً على حرية الكتاب في تخير الموضوعات التي يحسنون الكتابة فيها.
وهذا الحجر يجعل المسابقة امتحاناً مدرسياً تختبر به معلومات التلامذة من طريق المقاطرة (الجاشني) لا كشفاً أدبياً عن مدى ما وصل إليه الكتاب في نواحي النبوغ المختلفة، حيث(729/45)
تتعدد وجوه الفائدة بتعدد وجوه البحث.
وإلا فأيهما أنفع للمجتمع، مائة كتاب تكتب في غرض واحد، أو مائة كتاب في مائة غرض من أغراض الأدب؟
لا شك في أن تحرر الكاتب في اختيار موضوعاته أضمن لأجادة الكتابة فيها. فلو أن كتاباً ككتاب (الله) مثلاً - وهو ما هو بين الكتب - اقترح موضوعه على مؤلفه الأستاذ (العقاد) - وهو من هو بين الكتاب - لما وصل به العقاد إلى هذه الغاية التي ليس بعدها غاية. وقس على ذلك سائر الكتب التي كتبها كاتبوها مختارين فوصلوا بها إلى حد التفوق
بل إني لا أجد المثل في نفسي وفي نفس المجمع اللغوي. فقد تفضل المجمع فمنح ديواني جائزة الشعر الأولى في هذا العام، وتفضل الأستاذ الجاحظ فعقب على هذه الجائزة بما أنا مدين له بالشكر عليه ولكني أشك كل الشك في إني كنت أظفر بهذه الجائزة لو أن المسابقة كانت قصيدة واحدة اقترح المجمع موضوعها على المتسابقين.
فقد يكون الموضوع غير حبيب إلى نفسه، فلا يسلس فيه شعري ولا يتفوق. فليت المجمع الموقر يطلق الكتابة في المسابقة من قيد الموضوع كما أطلق الشعر. ثم يستعرض كتب العام، والخمسة الأعوام فما رآه منها بالغاً حد التفوق أجاز كاتبه أو توجه مشكوراً
محمود عماد
مصر ملجأ الأحرار:
كان لهبوط البطل الأمير عبد الكريم الخطابي وادي النيل رنة فرح وسرور شملت البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها - وقد وجد في رحاب جلالة الفاروق كل عطف وتقدير، كل ذلك جعله يلهج بالثناء على مصر وأهلها.
ومصر الكريمة وعلى رأسها مليكها الشاب - وقد أعز الله الإسلام بها - ترحب بكل لاجئ عربي كريم ولو كره المشركون، حيا الله مصر ومليكها.
ذكرتني هذه المناسبة الكريمة بقصيدة مخمسة طويلة نشرتها مجلة المقتطف سنة 1906 لشاعر بغدادي لم يذكر بل رمز بأسمه إلى حرف ج. . . ويغلب على ظني - من أسلوبه السهل الممتع، إنها للشاعر العراقي المبدع جميل صدقي الزهاوي، تحت عنوان (أنت يا(729/46)
مصر ملجأ الأحرار) مطلعها:
إن سجع الحمام في الأسحار ... وهبوب النسيم بعد القطار
وبريق الندى على الأزهار ... وخرير الماء الزلال الجاري
موحيات إليّ بالأشعار
شاعر بالعراق ينظم شعرا ... فيرى دون نشر ما قال عسرا
فيهادى به على البعد مصرا ... حيث يلقى الشعر المهذب نشرا
إن مصراً ريحانة الأمصار
تبلغ النفس عند مصر مناها ... طيب الله بالسلام ثراها
بلدة صيب النجاح سقاها ... يجد الحر مأمناً في ذراها
أنت يا مصر ملجأ الأحرار
يا ربوع الهوى عليك السلام ... أنت للنفس مقصد ومرام
في حماك النزيل ليس يضام ... لأولي العلم في ذراك احترام
واعتبار في الجاه أي اعتبار
محمد منصور خضر
اسأل الرسالة:
نعم أسأل (الرسالة) السؤال الأخير حول (الهزج والوافر) فأقول: هل الوافر يلحق به من الزحاف المركب - صلح أم قبح - (النقص) وهو اجتماع العصب والكف أي إسكان اللام وحذف النون من مفاعلتن، أم لا؟
. . . لأن الجواب على هذا السؤال هو مدار البحث والجدل في أمر منصوص ومتوارد في كتب الأقدمين من العروضيين.
أنا لا انكر أن الوافر لا يلحق به الكف - في حالة الزحاف المفرد - كما تقول (الرسالة) وإنما أقول إن الوافر يلحق به من (الزحاف المركب) النقص وهو اجتماع العصب والكف وهو شرط أساسي فيه على المعاقبة. أما (الهزج) فأمره بسيط، إذ أن أهم ما يميزه عن الوافر هو (القبض) وهو حذف الياء من مفاعيلن أي الخامس الساكن، هذا إذا صرفنا النظر(729/47)
عن الكف
فأيما بيت رأيت فيه القبض فاحكم للتو بأنه من الهزج لا الوافر لأن القبض خاص به - ثم يبقى جواب الرسالة على السؤال لفض الإشكال وحسم الجدال. والسلام
عدنان أسعد (الزيتون)
(الرسالة) الكف لا يدخل مفاعلتن في الوافر لا مع العصب ولا بدونه. وإذا أجازه العروضيون قياساً فقد منعه الشعراء عملاً والشعر العربي كله جاهليه وإسلاميه بين يدي الأستاذ، فإن وجد شاهداً واحداً صحيحاً على وقوع (النقص) في الوافر تامة أو مجزوئة انحسم الجدل في الجواز والمنع؛ وبقي الكلام في الحسن والقبح.(729/48)
القصص
السيدة أيدس
عن الإنكليزية
بقلم السيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
تستدير من حول مقاطعة كنت في إنكلترا قطعة من الأرض وتستنيم إلى ساحل البحر فيما يشبه في علم الجغرافيا الرأس وتقوم عليها قلعة من قلاع القرون الوسطى وتحدق بهذه القلعة آجام تمد الصناعة بالكثير من الأخشاب وتمد الصيد بالوفير من الطيور والحيوان.
وتستدير هنا وهناك برك من الماء اللجيني تضاحك الشمس عامة النهار وتغازلها ساعتي المغيب والشروق بما يصبى بنات الهديل في أيام الربيع فتتسارع من غصن إلى غصن ترتل النشيد الذي يملأ النفس خشوعاً.
ولفرط ما تشابكت أشجار الكستناء وتعانقت أغصان السنديان فقد أضحى الدرب الذي يسلكه السالك إلى بيت السيدة أيدس تسوده الظلمة حتى قبل أن يحلو لك الأفق بوقت طويل وقبل أن يمحو الليل خطوط الشفق. أما القمراء وما فيها من سحر وفتون فما كانت لتعرف هذا الدرب ولا تستطيع أن تنفذ إلى ثناياه مهما كانت أشعتها خارقة، غير أن الصمت والهدوء الذي يستفز الخاطر استفزازاكانا يعرفان درب منزل السيدة أيدس ويخيمان فيه طويلاً. . .
ولقد كانت الليلة التي نسجل أحداثها إحدى ليالي نوفمبر وقد أنتشر الثلج من ذلك العام، والدرب ساكن هادئ كأنه قد تردى بأكثر من ثوبه المعتاد صمتاً، فما كان ليسمع فيه أبداً غير وقع أقدام الرجل الذي يسلكه في تلك الساعة وغير نباح كلب ليس بالبعيد، ولقد كان وقع الأقدام لفرط السكون من جهة ولطبيعة الدرب من جهة اخرى يأتي بصدى غريب كأنه وقع لأقدام متأثرة ملحاحة تريد القبض على السالك، وتغذ السير للحاق به، وكلما أراد الرجل أن يخفف الوطء ويقلل من وضع القدم ألفى أن الصوت لا يخف فإن هناك من الأغصان اليابسة والأوراق المبعثرة وغيرهما مما يقبل الإنقصام تحت قدميه المنذعرتين ما يكفي لمضاعفة الصوت. وليس هذا وحده بل إن هذه العقبات قد أكدت على السالك(729/49)
وإعترضت سرعته فحدت منها، ولم يكن شأنه ليحتمل شيئاً من ذلك. . .
ولقد بلغ أخيراً دار السيدة أيدس وهو كوخ قد انتبذ مكانا قصياً في آخر الدرب، فلما بلغه استأنى لحظة ثم عبر البقعة المعشوشبة مما يلي شباك الكوخ الذي لم يكن عليه ستائر فكان النور ينبعث من زجاجة إلى الخارج.
واستطاع أن يبصر بالسيدة أيدس تنحني فوق الموقد وتخرج منه إبريق الشاي أو شبهه وتؤجج النار، فساورته بعض الفكر وتردد بين أن ينفذ إليها من الشباك أو أن يعوج إلى الباب فينسل إلى داخل الكوخ من هناك، وتلبث حيث يقف، فبان شعره الأحمر وقامته الممشوقة وأثوابه المتواضعة ووجهه المكدود الذي يعرب عن أنه من صنف العمال أو الأجراء الذين لا يصيبون من أعمالهم فوق ما يمسك الرمق كثيراً. ولم يفتح عليه تدبره الموضوع من حيث ولوج الباب أو الشباك برأي فقد كان مضطرباً، ولكنه وطد العزم هذه المرة فجأة على أن ينفذ من الباب في حكمة وأن يفعل ذلك من دون أن يقرعه وبدون أن يستأذن وهكذا فعل. ولما سمعت السيدة أيدس تلك الحركة استدارت مسرعة وقالت:
ماذا: أهذا أنت يا بيتر كروج؟ لم أسمعك تقرع الباب
قال: إنني لم أقرع الباب يا سيدتي إذ أني لم أرد أن يسمع ذاك أحد قط
قالت: ولماذا؟
قال: لقد نزلت بي نازلة، وكانت يداه ترتجفان ولونه ممتقعاً
قالت: فماذا صنعت؟
قال: لقد قتلت يا سيدتي أيدس
قالت: أأنت فعلت هذا؟
قال: نعم أنا الذي أطلقت الرصاص!
قالت: أو قد مات؟
قال: لست أدري.
وسادت لحظات من السكون حيث يقفان من مطبخ الكوخ حتى أنذرهما إبريق الشاي بصوت غليان الماء، فدلفت إليه السيدة أيدس على غير وعي وأزاحته عن النار قليلاً. . .
وكانت السيدة أيدس هذه نحيفة يبدو عليها أنها تنازعتها الأسقام زمناً، وهي صغيرة الحجم(729/50)
سمراء البشرة يكسو وجهها الناشف عدد لا يحصى من التجاعيد الصغيرة، على أنها وإن لم تكن تتجاوز الثانية والأربعين من العمر فإن الأيام قد قست عليها قسوة أخرجتها من معاني ذلك العمر إلى معان أخرى، إذ أن العمل الذي كانت قد وكلت به في تلك المقاطعة لم يكن راحماً ولا مجاملاً.
التفتت السيدة أيدس إلى بيتر كراوج وقالت له: وماذا عساك تريد مني أيها الفتى؟
قال: ها هم أولاء على أثري وعجلت إليك لأستخفي عندك؛ فلعلك مخبئة إياي في ركن من الكوخ لا تمتد إليه أبصارهم، حتى إذا ما ولوا الأدبار خرجت من هنا آمناً وانصرفت بعيداً عنهم.
قالت: ومن هم؟
قال: حراس الغابة.
قالت: ويك! أو تكون قد قاتلت الحراس وأصبت منهم واحداً؟
قال: أجل فقد دانيت حروف الغابة أريد أن أنتزع منها ما يمسكني، فشعر بي هؤلاء العسس وكانوا أربعة وكنت وحيداً، فلجأت إلى بندقيتي فصوبتها إليهم وأطلقت منها رصاصة ثم هربت، وها هم أولاء على أثري كما قلت، ويغلب على ظني أنهم مني جد قريبين
ولقد سكتت السيدة أيدس لحظات كأنها تفكر، وسكت هو كأنه يستعطف؛ ثم بادهها بالكلام قائلاً: إن كنت يا سيدتي لا تريدين قبول رجائي من أجلي فليكن ذلك من أجل صديقي (توم)
قالت: ولكنك لم تكن من أصفياء (توم) أو المقربين إلى نفسه
قال: بلى لقد كنت، وهو أوفى أصدقائي، ولو كان حاضراً لما وسعه إلا أن يذود عني ويمهد لي من داره ما أشتهي مخبأ ومكاناً
قالت: إنني لا أستطيع أن أنفي هذا، فقد كان (توم) يمنحك من ظنه فوق ما تستحق فلا تثريب عليك في البقاء حتى يعود توم على الأقل فيسمع منك ما تقول، ويقول لك ما يجب أن تسمع، وسيعود بعد ساعة أو نحوها فماذا أنت فاعل بعد ذلك؟
قال: لا أدري ولكني لا يزال أمامي متسع من الوقت للتفكير في الموضوع.(729/51)
قالت: هنا يصفو لك التفكير (وفتحت له مكاناً في ركن المطبخ صغيراً) ولن يخطر ببال غرمائك إذا جاءوا أنك ثاو في هذا المكان ولا سيما إذا قلت لهم بأنني لم أبصر بك هذا المساء.
قال لها: أنت عظيمة يا سيدتي، وإنني أعم أنني لا أستحق منك تلك الرعاية ولا ذلك العطف، وما كان أسعدني لو كانت لي أم من نوعك، إذن لكنت غير ما أنا عليه الآن. . .
لم تقل السيدة أيدس شيئاً بل أغلقت الباب عليه فأضحى في ظلام دامس لا ينفذ إليه من نور المطبخ إلا شعاع واهن منحدر من أحد شقوق الباب، ومن هذا الشق ذاته كان بيتر يرى الوالدة تهيئ عشاء وحيدها (توم) الذي يأتي بعد ساعة من المزرعة التي يعمل فيها. وقد بكر (بيتر) يصور لنفسه جيئة صاحبة من عمله وما سيكون له من رأي في الذي إقترفه؛ ولكنه أيقن بأنه لن يلغى عطفاً حبته به أمه أبداً؛ وعلى الأخص فإن الصداقة التي تربطهما ليست من النوع الذي يسوغ مثل هذه الأفاعيل وإن كان كل منهما قد شق لنفسه في الحياة طريقاً يختلف عن الآخر. . .
أقام بيتر في زاويته بين الأكياس المكدسة ثم استلقى بينها، ثم أخذته الأفكار، ثم سطعت رائحة الطعام من المطبخ تسيل لعابه وتوقظ فيه الجوع، على أنه انبعث فيه أمل في أن يطعم بعض هذا الذي يشم عندما يؤوب (توم). ولن تنكر السيدة أيدس عليه هذا على وجه التأكيد بعد أن علمت مبلغ جوعه وعرفت بعد الشقة التي وطد العزم على قطعها. . .
وهنا أخذت الوقائع تتجلى له بصورة مؤلمة، وهنا أيضاً سمع وقع أقدام أذهلته وأعادته إلى نفسه الخائفة، فاحتقن وطغت ضربات قلبه إذ لابد أن يكون هؤلاء القادمون هم الحراس الموتورين وقد عرفوا مكمن الجاني فجاءوا يأخذونه من بيت صديقه وهم يعلمون أن هذه الصداقة تبرر العطف عليه. وقد أضاع اتزانه فانكمش في ركن ضيق من الزاوية انكماشاً، وأخذ يلوم نفسه على اللجوء إلى هذا الكوخ الذي يرد على بال المتعقبين قبل أي مكان غيره. ثم ارتجف وتحشرجت أنفاسه وازدحمت الزفرات فيصدره ولكن وقع الأقدام تعدى الكوخ ولم يقرع بابه، وجاء من بعدهم السكون الذي هو في أكثر الأحوال أبلغ عبارة من الضوضاء
أطلت السيدة أيدس من جانب الزاوية عليه وقالت إنهم جماعة القلعة وقد رأيتهم في طريقهم(729/52)
يحملون مشاعلهم، فلعل الصواب أن تنسل الآن من الطريق المعاكسة إلى (كنت) حيث تأخذ القطار الذاهب إلى لندن فهذا خير لك وأبقى. وإن القطار ليبرح موضعه في الساعة العاشرة من هذا المساء. . .
قال: إن هذا الذي ترينه مصيب ولكني لا أملك من أجر السفر قرشاً
فلم تقل له شيئاً بل دلفت إلى أحد أدراج خزانة المطبخ وأخرجت له منه شيئاً من المال وقالت هذه سبعة دراهم تعينك على بلوغ لندن وتمنع عنك الطوى قليلاً، فاحتار الفتى كيف يشكرها ولكنها قالت لا تشكرني فإنني إنما أفعل ذلك من أجل (توم) وهذا يكفي إذ أنه كان يحبوك بعطفه دائماً، وإنني لأرجو الله مخلصة أن لا تذوق من بعدها محناً أخرى. بل إنني شاعرة ببرد الطمأنينة لأنني أدري أنه لم يكن أحد ليعلم بأنك قد مررت بهذا الكوخ وهو بعينه السبب الذي يحدوني أن أستحثك على الخروج من هنا قبل أن يعود (توم)، وإنني لأخشى أن يصحبه أحد أصحابه فينشأ لك طارئ من المحنةأنت عنه في غنى. . . ثم إني أريد أن أتعلم أنني لم اكن لأشجع نفسي على مخالفة ضميري في عصيان القانون في إيوائك لأنني أعلم بأن مقاتلة الحرس والدفاع عن النفس دونهم لا تشبه قتل إنسان بريء لا شأن له، وعلى كل حال فإني اريد أن أنصرف عن هذا الموضوع وأضرب عنه صفحاً.
وقامت تفتح له باب الكوخ ليخرج، ولكنها ما كادت تفعل حتى بدأت أصوات الأقدام تسمع بوضوح في نقطة قريبة.
قالت السيدة أيدس: لعل هذا توم؛ ولكن لا فإن أصوات الأقدام تؤكد بإن العدد أكثر من واحد فخير لك أن تعود إلى زاويتك فإني أسمع كلاماً. اربض هناك حتى يمروا هذه المرة أيضاً
ذهب (بيتر) إلى حيث كان قابعاً بين الاكياس، وتدانت الأصوات رويداً رويداً فتصور لحظة أنها ستمر كما حصل في المرة الماضية ولكنها تلبثت قليلاً لتتجاوز القطعة المعشوشبة من خارج الباب، وبعد لحظة سمع الباب يقرع. . إذن هذا توم بعينه.
أرتعد بيتر من الخجل والقلق، وألصق عينه بخصاص الباب وحدج المطبخ فألفى السيدة أيدس تدلف نحو باب الكوخ وما كادت تفتحها حتى دخل رجل إلى الداخل وسد الباب من ورائه فعرفه بيتر، أنه (فدلر) أحد الحراس الأربعة، فجمد بيتر وتصلبت ساقاه فقد عرفوا مأواه وتأثروه وافتضح أمره فليس هناك من جدوى في استخفائه أبداً. على أنه لم يعد(729/53)
مستخفياً بعد الذي كان فما باله لم يختر مكاناً أحسن من هذا وأضمن لإفلاته؟ وما باله لم يدفع عن نفسه خيراً من هذا لدفع، وهنا وهنت ساقاه عن حمله فجلس على الأكياس إعياء وغماً. . .
وكانت سحنة الرجل في المطبخ تدل على أنه يعالج أمراً صعباً ويلوك كلمة جليلة على النفس المسكينة التي تواجهه فوقف صامتاً يطوي بيدين عصبيتين قبعته.
قالت له: ماذا جرى؟
قال: أريد أن أحادثك ياسيدتي
فأرهف بيتر أذنيه وتمنى أن لو استطاع أن يسكت قلبه ليتم له السماع، ولكن مخاوفه وهنت عندما تصور أن السيدة لن تفضح أمره ما دام قد استشفع لها بابنها (توم) قال: لقد حملت إليك أنباء سيئة، فانحرفت، وقالت ماذا تعني وأخذت سمتها نحو الباب فتشبث بها الرجل وقال لا تفعلي يا سيدتي حتى أبسط لك الأمر. . .
قالت له أيدس أسرع أيها الرجل فيما تقول ودفعته جانباً، ولكنه أخذ يتكلم متلعثماً مسرعاً ويقول: حدث في أطراف الغابة نزاع، وذلك أن رجلاً من السراق كان يريد أن يصطاد بعض الأرانب، وكان (توم) مع الحراس، وهنا كان الظلام حالكاً فأطلق السارق بندقيته ولاذ بالفرار.
وأودى التعب بالمتكلم فاستأنى قليلاً. . أما بيتر فإنه استحال إلى إنسان من الخشب في الزاوية التي وقف فيها، وقبل أن تقول السيدة كلمة خرج الرجل وأشار لجماعته فدخلوا يحملون جثة ووضعوها في وسط المطبخ.
قالت أيدس: أهو ميت، وعلمت وقد تبعثر الدمع من عينيها أن نعم. أما بيتر فقد عز عليه الدمع بل إستيأس وقنط ورأى أن قد حصحص الحق ولا سبيل إلى الهرب. . .
ورأى بيتر أن الحياة جميلة في تلك اللحظة ولا سيما إذ تكون من مقوماتها فتاته التي يحبها، ولكن حياته لم تعد بعد اليوم ملكاً له بل هي ملك للسيدة أيدس تفعل بها ما تريد. . .
كانت السيدة أيدس تجلس على الكرسي المجدول من السعف قرب الموقد وقد أعانها أحد الرجال على الجلوس وتقدم الثاني يصب لها من قارورة صغيرة نوعاً من الشراب لعله ينعشها قليلاً.(729/54)
وقالوا لها بعد هذا إنهم لم يروا القاتل ولكنهم استطاعوا أن يظفروا ببندقيته التي أذهله عن أخذها هول الأمر وهي بعينها بندقية بيتر ولعله فعل فعلته غير عامد إذ أنه كان صديقاً لتوم.
كان بيتر حينئذ منتصب القامة ينظر من شق الباب فرأى السيدة أيدس تتحامل على نفسها وتقوم على قدميها وتقف على رأس المائدة وتنظر في وجه الرجل الميت الذي انعكست عليه كل معاني الخلود، ثم رآها تنظر إلى الرجال الذين تراجعوا للذهاب إلى صميم الغابة للتفتيش عن بيتر الجاني الأثيم. ثم رآها بعد هذا كله تمد يدها إلى جيب صدارها فتخرج مفتاح الباب الذي يتوارى بيتر وراءه. .
لقد سأل الرجل مدام أيدس هل رأت بيتر ذلك المساء فأجابت لا لم أره منذ يوم الثلاثاء، فقال لها محدثها إذن سنفتش عنه وسنأتيك بمسز جين أيضاً فأشارت برأسها بالإيجاب.
قالت السيدة أيدس لفدلر وكان آخر من بقى لديها: ساعدني على حمله إلى الداخل، إلى الفراش، إلى غرفة نومه. وتعاونت هي وهو على وضعه في سريره وخرج فدلر.
انتظرت السيدة أيدس حتى إنعدمت حركة الأقدام في الدرب خارج كوخها، وحينئذ جاءت إلى الزاوية التي يستكن فيها بيتر وهنا أخذته الرعدة من جديد، لقد كان الأمر فوق أن يحتمل وكان الأشهى له أن يموت قبل أن تقع عينه على هذه السيدة. . . سمع المفتاح يدور في القفل ولكنها لم تدخل هذه المرة، بل فتحت عليه بابه فقطثم تراجعت وأغلقت عليها الباب الذي يضم توم.
عرف (بيتر) ماذا يجب أن يفعل فإن الشيء الوحيد الذي أرادته السيدة أيدس هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يفعله. . فتح الباب بصمت وسكون وخرج. . .
منيبة الكيلاني(729/55)
من هنا ومن هناك
اللهم عفوك:
في مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري: (حكى الصابي عن بعض الرسل قال: دعينا إلى باب مسعود، يعني إبن محمود إبن سبكتكين بغزنة، فشاهدنا بالباب أصناف العسكر وملوك جرجان وطبرستان وخراسان والهند والسند والترك، وقد اقيمت الفيلة عليها الأسرة والعماريات الملبسة بالذهب مرصعة بأنواع الجواهر، وإذا بأربعة آلاف غلام مرد وقوف سماطين وفي أوساطهم مناطق الذهب، وبأيديهم أعمدة الذهب، ومسعود جالس في سرير من الذهب لم يوضع على الأرض مثله، وعليه الفرش الفاخرة، وعلى رأسه تاج مرصع بالجواهر واليواقيت، وقد أحاط به الغلمان الخواص بأكمل زينة، ثم قام مسعود إلى سماط من فضة عليه خمسون خواناً من الذهب، على كل خوان خمسة أطباق من ذهب فيها أنواع من الاشربة، فسقاهم الغلمان، ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار، فيه ألف دست من الذهب، وأطباق كبار خسروانية، فيها الكيزان، وعلى كل طبق زرافة من الذهب، وأطباق ذهب فيها المسك والعنبر والكافور، وأشجار الذهب مرصعة بالجواهر واليواقيت، وشموع من ذهب في رأس كل شمعة قطعة من الياقوت الأحمر تلمع لمعان النار، وأشجار العود قائمة بين ذلك، وفي آخر المجلس رحى من ذهب تطحن المسك والكافور والعنبر، وفي ناحية من المجلس بحيرة في جوانبها من الجواهر والعنبر والفصوص شيء يقصر الوصف عنه. وذكر أشياء أخر تحير الأسماع). . .
يد. . وشكرها:
كان عبيد الله بن عباس ابن عم النبي صلوات الله عليه من أكثر الناس جوداً وأعظمهم سخاء وبذلا، وهو أول من مد الموائد على الطرق، ومن جوده أنه أتاه رجل وهو بفناء داره فقال يا ابن عباس إن لي عندك يداً سابقة وقد احتجت إليها، فصعد فيه بصره فلم يعرفه ثم قال: وما يدك عندنا؟ قال الرجل: رأيتك في مرة واقفاً بزمزم، وغلامك يمتح لك الماء منها، والشمس قد صهرتك، فظللتك بطرف ردائي حتى شربت
قال ابن عباس إني لأذكر ذلك، وإنه ليتردد بين خاطري وفكري، ثم قال لقيمه: ما عندك؟ قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم، قال أدفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده عندنا. . .(729/56)
واحدة بواحدة:
التقى برنارد شو الكاتب الساخر المعروف مرة بالممثل الهزلي المشهور شارلي شابلن، فقال شو: إنني شديد الإعجاب بك يا مسيو شابلن ولكنني لم أشهد قط فلماً من أفلامك، فرد عليه شابلن في سرعة قائلاً: وأنا كذلك شديد الإعجاب بكتاباتك ولكني لم أقرأ منها شيئاً أبداً.
وكان المرحوم الشيخ عبد العزيز البشري جالساً مع بعض أصحابه فأقبل عليهم صديق فصافحهم جميعاً إلا الشيخ عبد العزيز، فقال له أحد الحاضرين لماذا لم تسلم على الشيخ فقال: لا مؤاخذة لقد كنت أحسبه امرأة! فرد الشيخ عبد العزيز: ولكني يا أخيكنت أحسبك رجلاً. . .
نصيحة للمؤلفين:
قال أبو عثمان الجاحظ: (ينبغي لمن كتب كتاباً أن لا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلا، ولا يرضى بالرأي الفطير، فأن لابتداء الكتاب فتنة وعجباً، فإذا سكنت الطبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة أعاد النظر فيه، فتوقف عند فصوله توقف من يكون وزن طبعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب، ويفتهم معنى قول الشاعر:
إن الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلج بهم عي وإكثار
ويقف عند قولهم في المثل: كل مجر في الخلاء يسر، فيخاف أن يعتريه ما اعترى منأجرى قوسه وحده أو خلا بعلمه عند نقد خصومه وأهل المنزلة من أهل صناعته، ليعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يعزم على خمسة أسواط فيضرب مائة، لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال، فلما ضرب تحرك دمه، فأشاع فيه الحرارة، فزاد في غضبه، فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم، فما أكثر من يبتدئ الكتاب وهو يريد مقدار سطرين ويكتب عشرة، والحفظ مع الإقلال أمكن، وهو مع الإكثار أبعد). . .(729/57)
أي الحكمين أقسى:
لما حكم القضاة على سقراط الحكيم بالموت قال لهم: (لقد حكمتم علي بالموت لأنني لم أتملقكم ولم أخاطبكم بالكلام الذي تودون سماعه، ولكنني غير نادم على ما فعلت. حكمتم علي بالموت والحق قد حكم عليكم بأنكم أشرار ظلمة). . .
المبدأ الأول للحكمة:
قيل لأحد الحكماء: من أي إنسان ينبغي أن تؤخذ مبادئ الحكمة فقال: من الأعمى لأنه لا يضع قدمه على الأرض إلا بعد أن يتحقق موضعه بعصاه. . .
الأموات يحكمون الأحياء:
يقول جوستاف لوبون في كتابه روح الاشتراكية: (إذا أجتمع عدد من الناس ليعالجوا مسألة سياسية أو دينية أو خلقية، فالأموات هم الذين يتباحثون لا الأحياء، وذلك لأن الأحياء إنما يتكلمون بروح أجدادهم وما سمعوه عنهم، فليس كلامهم في الحقيقة إلا صدى لنداء الأموات الذي لا مفر للأحياء من الإصاخة إليه). . .
العمل للعمل:
يقول الكاتب الأمريكي أمرسون: (الطبيعة تقول للإنسان اعمل يا بني. اعمل في كل حين. اعمل سواء أكنت مأجوراً أو غير مأجور. كل ما عليك أن تعمل وجزاؤك لن يضيع. . . اعمل مهما كان نوع العمل ومهما فشلت فلا تجبن ولا تيأس. إنك للعمل خلقت وبالعمل ستفوز، وأقل جزائك على عمل تنجزه أنك أنجزته). . .
وظيفة للضحك:
قال المسيو دي فاريني: (إن الضحك احتجاج على عمل مناقض لأصول الاجتماع وتنبيه إلى سلوك النظام المتبع، فهو إذن ذو وظيفة اجتماعية إصلاحية، ولذلك انفرد الإنسان به دون الحيوان).
أيد ثلاثة:
قال يونس النحوي: (الأيدي ثلاثة. يد بيضاء ويد خضراء ويد سوداء، فاليد البيضاء هي(729/58)
الابتداء بالمعروف، واليد الخضراء هي المكافأة على المعروف، واليد السوداء هي المن بالمعروف)
يقول زنوج أفريقيا في أمثالهم:
إن ما يقال أمام أسد ميت لا يمكن أن يقال أمام أسد حي.
الملك محق في كل ما يقول سواء أكان باطلاً أم حقاً.
قد يكون من الحقيقة قولك إنك قتلت فيلاً، أما أن تقول إنك حملته فكذب.
العالم يقوم على ثلاثة أشياء: زرع الذرة، وحصدها، وأكلها.
لا يتحول الرغيف إلى تمساح وإن أبقيته في الماء عشر سنوات.
إن ما يرضعه العجل هو ما أكلته البقرة.
من لا يملك شيئاً لا يعاديه أحد.
لسانك أسد فإن أطلقته قتلك.
لا تعاشر من لا تعرف طباعه.
الذكاء أفضل من القوة.
سحب امرأتك ولكن لا تأمن جانبها.
الرجل الصالح لا يهجر أصدقاءه في محنهم.
(الجاحظ)(729/59)
العدد 730 - بتاريخ: 30 - 06 - 1947(/)
الجامعة الإسلامية هي الغاية
نشأت جامعة الدول العربية، وكان نشوءها ضرورياً وإن أشار به (إيدن). وقامت دولة الباكستان الإسلامية، وكان قيامها طبيعياً وإن سعى له (مونتباتن). تلك لأن العروبة في يقظة، وهذه لأن الإسلام في انبعاث. ويقظة العروبة هبة من الروح العالمي الذي دفع الأقوياء إلى الحرب، والضعفاء إلى التعاون، والأشتات إلى الوحدة؛ وانبعاث الإسلام أثر لتناقض المذاهب وتعارض الشرائع وافتقاد الإنسانية لذلك النظام الإلهي الذي يسدد خطاها ويحفظ عليها قواها. وما كان فضل إنجلترا في هذين الحدثين العظيمين إلا فضل القابلة: سهلت الولادة ولكنها لم تخلق الوليد. وسيحذو المسلمون في الصين حذو المسلمين في الهند وإندونيسيا، فتنشأ الدولة الإسلامية الثانية في القوة والعدد؛ ثم تنكفئ تركيا إلى الشرق، ويرجع ساستها إلى الإسلام، فيكون منها لكتلة الدولة المحمدية روح ومدد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، إذ يرون كلمته هي العليا، وعقدته هي الوثقى، وحزبه هو الغالب.
فالجامعة الإسلامية، أو البانسلامزم كما يسميها الغربيون، هي الغاية المحتومة التي ستتوافى عندها أمم الإسلام في يوم قريب أو بعيد. ذلك لأنها النظام السياسي الذي وضعه الله بقوله: (إنما المؤمنون أخوة)، ثم شرع له الحج مؤتمراً سنوياً ليقوي؛ وجعل له الخلافة رباطاً أبدياً ليبقى. وهذا النظام الإلهي أجدر النظم بكرامة الإنسان، لأنه يقوم على الإخاء في الروح، والمساواة في الحق، والتعاون على الخير، فلا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين طبقة وطبقة.
وظلت الجامعة الإسلامية، في ظلال إمارة المؤمنين وإمارة الحجيج، قوية شاملة حتى خلافة المتوكل؛ ثم وهي السمط فانفرط العقد، واضطرب اللسان فتفرقت الكلمة. فلما تبوأ الترك عرش الخلافة استطاعوا أن يبرموا الخيط ولكنهم لم يستطيعوا أن ينظموا فيه الحب. فبقى المسلمون عباديد لا ينظمهم سلك ولا تؤلف بينهم وحدة. ثم أدركت الشيخوخة دولة العثمانيين في أواخر القرن التاسع عشر، فتعاوت على جسدها الواهن المنحل ذئاب الغرب، فلوح لهم عبد الحميد بالجامعة الإسلامية ذياداً عن ملكه، فهروا هرير الكلاب المذعورة، وصور لهم هذا الذعر أن الجامعة هي التعصب وسفك الدماء، فصدقوا وهمهم وكذبوا الواقع. وكان الاستعمار يومئذ قد توقح وفجر، فنشأت العصبية الوطنية في الأقطار الإسلامية لدرء خطره، أو تخفيف ضرره؛ والوطنية لا تعارض الجامعة، ولكنها تفارقها في(730/1)
الطريق لتلاقيها عند الغاية.
إن أوربا التي مزقتها الأطماع وطحنتها الحروب، سترحب اليوم بالجامعة الإسلامية؛ لأنها وحدها تملك غرس الوئام في النفوس، وإقرار السلام في العالم. إنها تقوم على الإيمان المحض، وتنزل في خير مكان من الأرض، وتشمل مئات الملايين من الناس، وتهيمن على الموارد الأولى للاقتصاد، وتدين بالآداب السماوية المثلى للاجتماع، وتشرق أعمالها في الصفحات العظمى من التاريخ، فمن المحال أن تظل نهباً مقسماً بين فرنسا الحمقاء، وإنجلترة المتطفلة، وهولندة الأنثى!
أحمد حسن الزيات(730/2)
رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
- 1 -
كان السفر إلى الهند أمنية تطاول عليها الزمان، وما طلت بها الأيام. وكدت أظفر بها سنة 1939م، إذ ندبتني جامعة فؤاد لتمثيلها في مؤتمر للمستشرقين كان يقدر أن يجتمع في حيدر آباد صيف ذلك العام، ولكن الحرب العاتية التي ثارت حالت دون الأمنية.
وكان شوقي إلى الهند يزداد كلما زادت معرفتي بها، والتقائي بأهلها، واطلاعي على لغاتها وآدابها.
فلما دعت الجامعة الملية الإسلامية إلى احتفال لها في دلهي وجاءت الدعوة إلى جامعة فؤاد، كما بلغتني دعوة خاصة، وجدتها فرصة تغتنم، لولا أن الوقت كان قد ضاق عن التأهب لمثل هذه الرحلة. فاعتذرت جامعة فؤاد.
ثم جاءت الدعوة إلى مؤتمر العلاقات الآسيوية، وانتهى الأمر إلى أن ندبتني الحكومة لشهود المؤتمر رقيباً. وكان هذا الندب قبيل الموعد الذي ضرب للسفر على غير اختيار، وإنما حددته مواعيد الطائرات. فلبيت على بعد الشقة، وهيبة الطريق، وضيق الوقت، استجابة لما في النفس من تطلع إلى الهند وحرص على زيارتها.
- 2 -
ذهبنا إلى مطار ألماظة والساعة واحدة بعد ظهر يوم الثلاثاء الثامن عشر من آذار (مارس) سنة 1947 آخذين أهبتنا للسفر على إحدى طائرات الشركة الإنجليزية. فأخبرنا، بعد أن حان الموعد، أن الرياح غير ملائمة، وأن السفر أرجئ إلى صباح الغد، وجعلت الساعة الخامسة موعداً لرجوعنا إلى المطار.
وأخذنا مكاننا في الطائرة والساعة خمس ونصف، وأغلق الباب ومر بنا أحد ضباط الطائرة يقول: احزموا أوساطكم، وأشار إلى أحزمة مثبتة على المقاعد.
قلت: إن هذا أوان الحزم. وتوقعت أن تميد الطائرة في سيرها ميداناً لا يثبت فيه على(730/3)
مكانه إلا من احتزم، فجاشت نفسي وجرت الطائرة على الأرض فوقفت فسارت فاستقلت صاعدة، وفي النفس ملؤها هيبة وإعجاباً. ومر علينا الضابط مشيراً أن نحل الأحزمة، فعرفت أن هذا الحزم احتياط حين صعود الطائرة فحسب، فسرى عن نفسي.
وتأملت الطريق بعد حين، فإذا ببيداء متشابهة لا ترى العين من معالمها إلا قليلاً، وتوالت مناظر متقاربة، وأشباح متشاكلة. وكرت ساعات بين التفكر والنظر إلى الأرض وكتابة بعض الخاطرات، حتى اختلف المنظر قليلاً، ولاحت حفرة ضيقة ثم اتسعت، وبدأ عمران وأبنية، فظننت أنها قرية في الصحراء، وشرعت أفكر ما عسى أن تكون هذه القرية الصحراوية! فقطع علي الفكر قناة ماء طويلة متعرجة عرضها في رأى العين خطوة واحدة، فعجبت من هذه القناة أيضاً! ولم أملك أن سألت رفيقاً أمامي: ما تظن هذه؟ قال: أظنها الفرات، وما فكرت أنا في الفرات لتوهمي أنا منه جد بعيدين، وما قدرت أن الطائرة طوت ما بين النيل والفرات في أقل من أربع ساعات. فرحت بالفرات وأخذت أتأمل قراه وزروعه، وهجمت الطائر على ماء وسيع تختلف على المسير أشكاله ومناظره، فعرفت أنه البطائح التي تسمى في العراق اليوم (الأهوار)، وما قدرت من قبل أن هذه (الأهوار) تمتد هذه المسافات الشاسعة وتساير الطائرة قريباً من نصف ساعة.
شغلتني الأهوار بألوانها وأعشابها وقصبها، وما يبدو للعين خافتاً من جزرها ودورها، حتى حومت الطائرة هابطة، حتى استقرت على أرض البصرة، وكانت الساعة عشراً بحساب مصر وإحدى عشرة بتوقيت العراق. ليس بين القاهرة والبصرة في سرعة الطائرات إلا أربع ساعات! إنها لإحدى الكبر!
اطمأنت نفوسنا بالقرار على الأرض ساعة تغدينا فيها، ثم استأنفنا الطيران صوب كرتشى، والمسافة بينهما نحو ألف وأربعمائة ميل. وقد توجهت الطائرة إلى الجنوب الشرقي على طريقها المعتاد، وبعد برهة أطلعنا ضابط على الخريطة كدأب ضباط الطائرات مع مسافريها، وأخبرنا أنا نجتاز الآن الرأس البارز في الخليج الفارسي شرقي جزيرة العرب.
قلت: كيف وليس هذا طريقنا المخطوط على الخريطة؟ قال: الرياح غير ملائمة هناك، فعدلنا إلى هذا الطريق.
ورأيت صخوراً عاتية موحشة اجتزناها، فسايرنا الساحل حيناً، ثم عبرنا الخليج، فسايرنا(730/4)
أكثر الوقت ساحل إيران المشرف على المحيط الهندي، وهو ساحل ضيق تشرف عليه جبال عالية تفصل بينه وبين سائر الأرض. ولهذا لم يألف الإيرانيون البحر، ولا مرنوا على ركوبه، فلم يكونوا في تاريخهم من أمم البحار، المولعين بالأسفار فيها.
والساحل متشابه، لم أتبين من معالمه إلا آثار سيول أو أنهار متمعجة تسيل من الجبال إلى البحر.
وما زلنا بين تأمل في الأرض التي نطير فوقها، والجبال التي نحاذيها ونساميها ونعلوها، والبحر الذي نسايره حتى ستر الليل المشاهد إلا أشباحاً خفية. فكان مسرح الطرف بين الظلام الذي نعلوه، وبصيص الكواكب التي تعلونا.
ولاحت كرتشى في ظلام الليل في أضوائها منتشرة على البر والبحر، فكانت منظراً عجيباً مؤنساً في هذا السفر الموحش، وبشرى بالوصول منيرة في العين والقلب، ورأيت على مقربة من الساحل جبلاً في البحر عالياً عليه منارات ومصابيح زاد في جلال المرأى وجماله.
ودومت الطائرة كثيراً حتى توهمت أنها لا تهتدي إلى مهبطها، ثم أسفت حتى لمست الأرض وزافت حتى استقرت عليها.
ولله ما أجمل أن يحس الراكب وقع عجلاتها على الأرض بعد أن انقطعت بينه وبين الأرض الأسباب، وتداولته الرياح ساعات طويلة. وكانت الساعة ستاً بتوقيت البصرة، وثمانياً ونصفاً بتوقيت الهند.
- 3 -
استرحنا ليلتنا في فندق قريب من المطار، وغدونا إلى الطائرة فاستقلت والساعة ثمان وربع تؤم بنا دلهي، فطرنا فوق صحراء السند، وأرض أخرى معمورة لم نر فيها إلا قرى صغيرة يكاد البصر لا يدركها.
وقد وجدت في مذكرتي هذه الجملة:
(نحن الآن على بعد مائة وسبعين ميلاً إلى الجنوب الغربي من دلهي، والارتفاع عن البحر تسعة آلاف قدم، وعن الأرض ثمانية آلاف وخمسمائة، والساعة عشر ونصف، (يا لطيف يا سلام).(730/5)
ولما قاربنا دلهي، وظننا أن السفرة إنتهت، والمشقة زالت، وشرعنا نعد الأميال والدقائق، أخذت طائرتنا ترجف؛ تهبط فتعلو فلا تستقر في مستوى. وكان هو أول ما عهدت من تدثين الطائرات، فأخذ مني الخوف، وبلغ مني الدوار، وكان أمامي رفيق ركب معنا في كرتشي، فرأيته أغمض عينيه، وأعربت صفرة وجهه عما به. وما زالت طائرتنا تهبط كثيراً، ثم تجهد صاعدة لتبلغ مستواها، فيهبط بها الهواء كرة أخرى، حتى مر بي شاب من خدام الطائرة، فلم أملك أن قلت له: ما هذا؟ قال: يا سيدي نحن هابطون بعد دقائق قليلة. وأشرت إلى أحد الرفقاء سائلاً متململاً فقال: نحن في إقليم جبلي، والهواء حار، ومن هذا كان هذا الاضطراب.
هبطت الطائرة في دلهي بعد أن فعلت بنا ما فعلت، وختمت رحلتنا بما أرهبنا. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(730/6)
شعب واحد، وقضية واحدة!
للأستاذ محمود محمد شاكر
يقول العربي الأول:
وحولي من هذا الأنام عصابة ... توددها يخفي، وأضغانها تبدو
فما العيش إلا أن تصاحب فتية ... طواعن، لا يعنيهم النحس والسعد
إذا عربي لم يكن مثل سيفه ... مضاء على الأعداء أنكره الجد
يضارب حتى ما لصارمه قوى ... ويطعن حتى ما لذابله جهد
فهذا العربي الذي اكتنفته عصابة شر أخرجت له أضغانها، قد كاد يمثل لنا أمر العرب كلهم في أيام الناس هذه. فما من أمة من الأمم الغربية وأشباهها إلا أحاطت بنا عداوتها من كل جانب، تسر ذلك حيناً وتستعلن به أحياناً كثيرة. وليتها رأت ذلك حسبها من وغر الصدور، بل جاوزت ذلك إلى الاستخفاف بمائة مليون من الناس خلق الله، تنظر إليهم كما ينظر السيد إلى عبده ورقيقه، وتعاملهم كما تعامل المرأة الطاغية أمة جعلها الله تحت يدها، فهي تسومها الخسف كأشد ما يبغي الضعيف حين يستمكن له سلطان وبطش. وقد مضت العبر بأن هؤلاء القوم لا يكادون يفهمون إلا اضطراراً، وبالقهر والغلبة، كما لم يفهم السادة يوم استبدوا أن الرقيق لن يصبروا طويلاً على الذل، حتى جاء اليوم الذي حمل الرقيق على المركب الوعر فثاروا واستنقذوا حريتهم قوة واقتداراً. وكذلك نحن لن نبلغ شيئاً في إفهام أولئك القوم أن عملهم سيئ العاقبة، مهما توسلنا إلى إفهامهم بالدعاية والمناشدة، بل لن نبلغ شيئاً إلا يوم يستوي لدينا بحق معنى الموت ومعنى الحياة الحرة، فضلاً عن معنى الموت ومعنى الحياة الذليلة.
فمن العبث إذن أن ندعو هؤلاء القوم إلى سواء بيننا وبينهم، لأن القوة قد أسكرتهم فأطاشت حلومهم، وتركتهم لا يدركون إلا ذلك المعنى الخسيس للحياة، معنى الفائدة العاجلة بغير نظر إلى عدل ولا نصفة. وهم قوم تقوم حضارتهم على تزييف الشرور حتى تبدو في صورة الخير، وتدليس شريعة الوحش حتى ترى شريعة إنسان أنعم الله عليه بالعقل والعاطفة بينهما موازنة تجلب عليه السعادة في الدارين ومن العبث أن تحتال عليهم بما يسمونه (السياسة)، فالقوي وحده هو الذي يعرف كيف يستفيد من (السياسة) أما الضعيف(730/7)
فاعتماده على السياسة وبال مستطير الشر، يهدمه ويصرعه، ويمكن لعدوه أن يفترس منه حيث شاء وكيف شاء.
فلا مجاز لنا نحن العرب إلا أن نعرف أنفسنا، وأن ندرك حقيقة حياتنا؛ وأن نؤمن بأن القوي لا ينال منا بقوته بل باستسلامنا، وأنه لا يحيف علينا ببطشه بل بتهاوننا واستصغارنا لشأن أنفسنا؛ وأن أجهل الجهل أن يظن ظان أن مائة مليون من خلق الله يمكن أن يفنوا على بكرة أبيهم بسطوة ساط أو بغي باغ، وأنهم هباء لا يزن في ميزان القوة جناح بعوضة، وأنهم غنم مسيرون يهاهي بهم راع عنيف تسوقهم عصاه إلى حيث أراد. نعم لا معدي اليوم لكل عربي من أن يحس في قلبه مؤمناً بما يحس، أنه خلق لعصيان أمر الرعاة الطغاة، وأنه مأمور من عند من خلقه أن يثبت في مكانه لا يطيع عصا الراعي ولا زمجرته ولا زئيره ولا إرهابه، وأنه مكلف يحمل أمانة من لدن دبت على الأرض قدم عربية، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من عجم ومن عرب.
فالعربي اليوم هو أعظم الناس حملاً للتكليف، لأنه يحمل وزر ما هو فيه من ضعف ينبغي أن ينفض عن نفسه آصاره، ويحمل حق أجيال مقبلة توجب عليه أن يعمل ويمهد لها في هذه الأرض، ويحمل أيضاً أمانة آباء وأجاد وأسلاف مهدوا له هذه الدنيا التي يسكنها من أطراف الهند إلى أقصى مراكش، ومن حدود تركيا إلى أقصى السودان. هذا، وهو يعيش في عالم عدو له قد قبض على زمام الكون، واستولى على عناصر القوة، ونال أسباب السماء وأطاعته نواحي الأرض. فأي تكليف أشق من التكليف الذي يحمله هذا النبيل المسكين الذي يعيش في الدنيا مشرداً مضطهداً مجهولاً مهضوم الحق مرمياً بملفقات العيوب؟
وأول ما يجب على هذا العربي منذ اليوم أن يضع بين يديه صورة أرضه التي توارثها عن آبائه بالحق الذي لا ينازعه فيه منازع إلا مستطيلاً أو مهتجماً: أرض تبلغ مساحتها مساحة قارتين من قارات الدنيا، ثم يقول لنفسه: هل يستطيع أحد أن يبيدني ويبيد أهلي وعشيرتي ويستأثر بهذه الأرض يفلحها أو يعمرها أو يقيم فيها للإنسانية حضارة أو دولة؟ وهل يستطيع أحد أن يقسرني قسراً على ما لا أريد أن أفعله مما يجب هو أن يتم له؟ وهل يستطيع أحد أن يأخذ قلبي من بين جنبي ليصرفه في هواه كما يشتهي أو يريد؟ وجواب(730/8)
ذلك كله (كلا!) ولا ريب. ففيم إذن أخدم نفسي لمن لا يريد إلا إذلالي، والفت في عضدي، وأكل أرضي وما أنبتت من نبات وحيوان وإنسان؟
فهذا شأن الفرد الواحد، فما ظنك إذن بمائة مليون يكونون على قلب هذا الفرد الواحد، يداً واحدة، ورأياً واحداً، وعملاً واحداً، وإصراراً على أن لا ينازعنا أحد في حق نحن أصحابه وحماته والمكلفون بحياطته ورد العادية عنه؟ فإذا آمن العربي بهذه العقيدة التي لا مناص له عن الإيمان بها، فهل يدور في وهمك أن أحداً يجرؤ على غصب العرب على ما لا يريدون، أو حملهم على شيء يصرون إصراراً على أن لا يقبلوه؟
إن قضية العرب قضية واضحة بينة المعالم: هي إننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعاً مستقلة حرة، لا يحتل عراقها جندي واحد، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطاني أو غير بريطاني، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب، ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي خبيث القول والفعل مجنون الإرادة. وهذا كله شيء لا يملك كائن من كان أن يجبرنا على خلافه أو على الرضى به.
ونحن العرب قد أصبحنا دولاً لكل دولة منا سياسة يخشى أن تكون ناظر إلى استجلاب منفعة خاصة ببلد دون بلد، ويخشى أن تكون كلمتنا في قضية العرب لا تزال محصورة في دائرة أصحاب الأقلام دون أصحاب الحكم والسلطان، ويخشى أن تكون أعمالنا مفرقة لا تجتمع إلى نهاية واحدة في وقت واحد. وإذن فلابد منذ اليوم أن نسن لأنفسنا سياسة جديدة في كل شأن من شئون العرب، تجتمع بها كلمتنا وأهدافنا وأعمالنا حتى تبلغ الغاية جملة واحدة، ويداً واحدة وفي وقت واحد. وينبغي أن لا نرضى منذ اليوم أن تفرق قضية العرب وتجعلها قضايا ممزقة: هذه قضية مصر والسودان، وتلك قضية فلسطين، والأخرى قضية طرابلس وبرقة، والرابعة قضية تونس، والخامسة قضية الجزائر، والسادسة قضية مراكش، والسابعة قضية العراق. . . بل إن هذه القضايا كلها قضية واحدة لا تنفك منها واحدة عن أختها أبداً.
والعمل لهذه القضية الواحدة ينتظم أفراد العرب، من ملوك إلى وزراء إلى ساسة إلى أصحاب الأعمال إلى جماعات المثقفين إلى عامة الناس، ويحمل عبئها كتاب العربية لأنهم(730/9)
هم اللسان الناطق بما يعتلج في صدور هذه الفئات كلها، وهم المسددون لخطوات الشعب، وهم بناة المبادئ والمدافعون عنها والداعون إليها، وهم الذي يحملون الحكومات العربية على انتهاج خطة واحدة، وعلى الإيمان بمبدأ واحد، وعلى الوقوف في ساعة العسرة موقفاً لا ترتد عنه قيد أنملة لإيمانها بأن العرب قوة لا تلين لغامز، وبأنهم أهل أرض تقع في قلب العالم لا يطيق معتد أن ينال منها نيلاً، إذا ثبتت له كعادة آبائهم وأجدادهم في الدفاع عن الحوزة والحمى.
ونحن العرب نجهل اليوم أننا قوة كأقوى ما في هذه الأرض، يجهل ذلك أفرادنا متفرقين. وتجهله حكومتنا موزعة الأهواء والأهداف، ويجهله ساستنا بما كتب الله عليهم من محنة هذه السياسة. فنحن اليوم أحوج ما كنا وما نكون إلى معرفة حقيقة هذه القوة، وإلى إدراك ما تقتضيه هذه القوة أيضاً. فالرجل الذي يعرف أنه قوي ينبغي أن يجعل قوته عملاً ظاهراً لا يرتد مخافة إرهاب أو نكبة أو شر يلاقيه. فإذا شاء رجال العرب وأماثلهم أن يصبحوا في تاريخ العرب مجداً لا يتكسف ضوؤه أبد الآبدين، فليستلهموا تاريخ أسلافهم الذين خرجوا من أرضهم وديارهم شعثاً غبراً جياعاً، ولكنهم خرجوا أيضاً مؤمنين بأن كلمة الله هي العليا، وأن حقهم وإن قل ناصره، أقوى من باطل سواهم وإن كثر أعوانه والعاملون له وعليهم أن يزأروا زئير الأسد في غابه، حتى يستيقظ النائم، ويتأهب الأعزل، ويجتمع المتفرق، وعليهم أن يحاصروا عدوهم بالمدافعة عن حقهم، قبل أن يحاصرهم بالتهجم على حقوقهم. وعليهم أن يعلموا علم اليقين أن العربي حين يمد يده إلى سيفه، فهو يمدها إلى قوة زاخرة لا تزال تنحدر إليه منذ آلاف السنين بمدد لا ينضب من العزة والشرف والمجد الذي تناله يد المتطاول.
إننا قوة لن يتجاهلها أحد مهما بلغت قوته إلا كنا شجي في حلقه، لا مجازاً وبلاغة، بل هي الحقيقة المجردة عن كل مبالغة إننا قوة سوف تجبر بريطانيا وروسيا وأمريكا وسائر أمم الغرب على أن تعرف أن العرب، قد أفاقوا في العصر، وأنهم قد عزموا على أن ينالوا حقهم أو أن ينتزعوه انتزاعاً من كل من تسول له نفسه أن يهتضم حقوق الناس ويأكل أموالهم ويعيث في بلادهم فساداً وطغياناً وشراً. إننا نحن العرب أمة واحدة في دولة متعددة، وسنكون أمة واحدة تحمي حقوق الضعفاء من أي الناس كانوا. إننا نحن العرب أمة(730/10)
قوية وإن ظن الناس بنا الضعف، ونحن أصحاب هذه الرقعة من الأرض، سوف تكون خالصة لنا دون الناس لا تشاركنا فيها دولة بريطانية؛ أو دولة صهيونية أو دولة فرنسية.
وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضى بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلعب بها هذا ويلهو بها ذلك، إنها قضية واحدة، يرفعها شعب واحد، مطالباً بحق واحد، هو إننا أحرار في بلادنا.
محمود محمد شاكر(730/11)
تحية البطلين
للأستاذ على الطنطاوي
إلى البطلين العربيين اللذين أعلما أهل الأرض أن في الوجود شيئاً أقوى من الحديد، وأمضى من السيف، وأحمى من النار وأنكى من القنبلة الذرية، هو الإيمان.
اللذين تخلفا عن بدر والقادسية واليرموك ليطلعا في الغوطة ونابلس والريف، فيكتبا بالدم على جبهة الثرى، أن العزيز لا يذل وسليل من حكموا الدنيا لا يحكمه في بلاده أجنبي ولا غاصب.
اللذين أثبتا للعالمين أن العرب الذين سادوا في أول الدهر سيسودون في آخره.
إلى القائدين العبقريين: عبد الكريم الخطابي وفوزي القاوقجي
تقدي الأدب للبطول، وتحية القلم للحسام
أما عبد الكريم فلم أره ولا أحب أن أراه لتبقى له في نفسي هذه الصورة العلوية الخالدة، لا تفسدها معالم اللحم والدم في الإنسان الذي يأكل كما يأكل الناس ويشرب، ويرضى ويغضب ويجد ويلعب، وليكون اسمه أبداً في ذاكرتي مع أسماء العباقرة الخالدين، القادة السادة الهداة، خالد وعمرو وقتيبة وابن القاسم وابن نافع وطارق، الذين أفاضوا على الحرب الحق والرفق فجعلوها مقدسة مشروعة، وأثاروها لله لا للكسب، وللخير لا للشر، فاستولدوها الحياة والحضارة والسلام، وما كانت تلد إلا الموت والخراب والانتقام.
وأما فوزي فقد عرفته في بغداد، قبل أن تعرف بغداد بطولته ويشهد العراق عبقريته. فكنت أزوره في داره في الكرادة أنا وأنور العطار ويزورنا في مثوانا في الفندق، وأضرب معه في آفاق الأحاديث، وأراه مسترسلا على سجيته، منطلقاً مع طبيعته، وأتحرى خلائقه، وأتقرى سلائقه، فأراه يعلو في نظري إن طالما نزلت الخلطة بالرجال، ويكبر إن صغرتهم، وأنا أشهد أني لم ألق في عمري من (الرجال)، وقد قاربت الأربعين، وقد سكنت الشام والعراق ومصر والحجاز إلا (رجالاً) لا يشغل عدهم أصابع اليدين وأشهد أن من أكملهم رجولة، وأفتاهم فتوة، وأظهرهم قوة، في جسمه وعقله وقلبه وضميره: فوزي القاوقجي.
عظيمان جهلاً نفسيهما، فحسبا أنهما اثنان من الناس خلقاً ليعيشا كما يعيش الناس ويموتا(730/12)
كما يموتون، لا تحتفل بمولدهما الدنيا ولا تضطرب لموتهما الأرض، ولا يحس بهما التاريخ، وتلفتا يفتشان عن مهنة يعيشان منها فوجدا في قلبهما الميل إلى الجندية لأنها مهنة البذل والبطولة والنبل وخوارق العادات، ولكنهما لم يجدا في أمتهما الجيش العربي، فتطوعا لخدمة الجيش الأجنبي. . . وتحركت العظمة الفطرية فيهما فكانا ضابطين نابغين، ولكنها ظلت حبيسة في سجن الوظيفة، مقيدة بقيد القانون، حتى جاء اليوم المقدور، فنقبت السجن، وحطمت القيد، وانطلقت تملأ الأرض، وتترع الزمان.
أخوان ائتلفا ولم يتعارفا، وتكلما وما كان بينهما كلام، وتواعدا وبينهما بحر العرب بعرضه، على أن يلتقيا في مصر، فجاءاها بعد ما زرعا طريقيهما إليها مفاخر للعرب وأمجاداً، وبعدما حارب هذا بشعب أعزل، وقبائل بدوية، دولتين عظيمتين: فرنسا وأسبانيا حشدتا له مائتين وخمسين ألفاً، ونازلهما فأنزل بهما الهزائم وجرعهما شراب الموت، وقارع ذلك دولتين عظيمتين: إنكلترا وفرنسا وفل جيوشهما في الشام وفلسطين والعراق. وبعدما أثبتا للدنيا أن العربي لا يستعبد ولا يهون.
لقد عاد فوزي إلى وطنه سورية على رغم فرنسا، فلما لم ير فيها مستشاراً في دائرة وكانت الدائرة هي المستشار، ولا شاهد قلعة فرنسية على رابية، ولا داراً فرنسية في شارع، ولا لوحة فرنسية على متجر، بكى فرحاً، بكى (الرجل) الذي لم يبك وهو بين شقي الرحى التي تديرها يد الموت. واستقر عبد الكريم في مصر على رغم فرنسا، فلما رأى الملك العربي، والجامعة العربية، والشعب العربي، بكى فرحاً، بكى (الرجل) الذي لم تبكه خمس وعشرون سنة في منفى سحيق وضعته فيه فرنسا التي أقسمت له بشرفها أنها لن تأسره. . . فلما تمكنت منه كان وفاؤها له، على مقدار شرفها. . .
لقد شهد الرجلان مئات المعارك، وحملا مئات الجروح، ولقيا مئات الشدائد، وهاهو ذا فوزي يفتش عن ميدان جديد للجهاد، وعبد الكريم يستجم ليعود إلى النضال. . . وكذلك نكون الرجال.
لم يرض فوزي أن يكون كهؤلاء الذين جنوا على الجهاد لما تسموا كذباً بـ (المجاهدين). . . وما جاهدوا ولكن قتلوا الثورة، وفرقوا أهلها، وسرقوا أموالها، وعادوا اليوم يأكلون ويشربون، وينعمون ويتمتعون باسم الجهاد الذي لم يكونوا من أهله - فعاف المناصب(730/13)
والمراتب، وعزف عن الأموال، وآثر أن يبقى كما كان مجاهداً حقاً، لا يلقي سلاحه، ولا يغمد سيفه، حتى لا يبقى في الوطن الأكبر شبر واحد يحتله مستعمر - وكذلك تكون الرجال.
هذان هما القائدان البطلان، فتقدما يا أيها البطلان القائدان فهذا هو الجند معداً، وهذا هو الجيش لا ينقصه إلا القائد. . .
هذا الشعب كله جيش معد، ولا يمل الجهاد، ولا يضن بالضحايا، ولا يعرف الونى، ولا يدركه الكلال، فادعواه باسم الوطن، باسم الأرض، باسم العرض، باسم الدين، وانظرا كيف يلبي هذا الشعب الدعاء. . .
هذا الشعب لا أعني (كباره. . .) الذين فتنتهم المناصب، ولا تجاره الذين تعبدتهم المكاسب، ولا فساقه الذين عاشوا لتقليد الأجانب في البلايا والمصائب، وكانوا في جسم أمتهم حيات وعقارب، ولكن أعني الشباب. . .
إن الشباب هم أرباب المثل العليا، هم الأطهار، هم بناة الوطن هم الذين إذا جد الجد سدوا آذانهم عن أصوات المفرقين الهدامين فلم يكن فيهم من حزبيين، يتقاتلون ليخسر الوطن ويربح الزعماء ولكن عرباً مجاهدين، كارهين للاستعمار والمستعمرين، ثائرين على الظلم والظالمين. . .
أولئك الشباب الذين تعلموا منكما أيها البطلان كيف يتخذون قضية فلسطين والمغرب عقيدة ويجعلونها لهم ديناً، لا يرون لمن يقر الاستعمار في بلاده وهو يقدر على دفعه إيماناً، ولو صلى وصام وحج وزكى، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
لقد أقسم هؤلاء الشباب ليبذلن الدماء والمهج، وقاموا للنضال، ولكنهم افتقدا القائد فقعدوا. فتقدما للقيادة يا أيها البدلان يا بطل المشرق ويا بطل المغرب.
وأعلما أنكما حاربتما عدواً قوياً، بأمة كانت غافلة، وقد ضعف اليوم العدو، وتيقظ الغافلون، فحاربا مرةً ثانية وثالثة وتاسعة وعاشرة، حاربا إذا لم تعطيا الحق كاملاً فما في الدنيا شريف يزدري الحرب في سبيل الحق والحرية والشرف، وقد حارب الفرنسيون لما وطئت بلادهم، وإن كانوا في الحرب نعاما تحسن الفر لا أسوداً تجيد السكر، وحارب الإنكليز، وحارب الأمريكيون، وحاربت قبائل البوير، وحارب أهل الحبشة، وحارب هنود أميركا(730/14)
يوم دخلوها عليهم. . . وحاربت كل أمة على ظهر الأرض. وكانت هذه الحرب المقدسة خلقاً في طبع كل أبي شريف لا يكون من يفقده أبياً ولا شريفاً، لا يكون إلا كلباً، بل إن الكلب يحارب دون وجاره، وكل حيوان حي يدافع عن ذماره، حتى الخنزير البري. . . فهل يريد أنصار المفاوضات والمحادثات أن نكون أقل من الخنازير؟
كلا، وأنف الكاره في الرغام. كلا، ولكن أكرم من كل كريم، وأعز من كل عزيز، وأسمى من كل بشر أظلته السماء وحملته الغبراء. وإلا فما نحن لأولئك الأجداد، ولا نحن لرمال الجزيرة، ولا نحن لمن حملوا نشيد (الله أكبر) ومشوا حتى صكوا به سمع الزمان، وراعوا به جن الفلا، وملأ وأبه كل سهل وجبل حتى دانت لهم الأرض ومن عليها، ولا نحن لمحمد.
كلا، نحن سلائل الفاتحين، في عروقنا دماؤهم، وفي صدورنا قلوبهم، ولنا عزتهم، ولئن فقدنا السلاح فما فقدنا العقل الذي يصنعه، ولا اليد التي تشحذه، على إنه إذا أعوزنا السلاح أخذناه من يد عدونا وجالدناهم به. وكذلك فعلنا.
لن نهاب بعد اليوم غريباً، ولن نثق به أبداً.
لقد مات العهد الذي كنا نخاف فيه أن يغضب صعلوك من المنتسبين إلى فرنسا فتغضب الامتيازات.
لقد قضى العهد الذي كنا نرى فيه فرنسا وأخواتها أمم الحرية والديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان.
لقد أبدت الحقائق وجوهها التي كانت مبرقعة ورآها الناس كلهم إلا هؤلاء العميان الذي طمست أبصارهم وبصائرهم المدارس الفرنسية في الصغر، والمواخير الفرنسية في الكبر، وهم بحمد الله أقل من القليل.
لقد رأى الناس فرنسا على حقيقتها أمة همجية تمنع الخبز عن الجائعين ليموتوا جوعاً، وإنكلترا تنصر الصهيونيين على الفلسطينيين والهولنديين على الجاويين، وأمريكا تقول لصاحب البيت، أخرج ليدخل اللص ويأخذ دارك. ولكن خسأ اللص وخسأ من ينصره
إن دون الحمى آساداً.
أنتهم أيها الأميركيون لا تدركون ما هي قوانا لأنكم لا تعرفون إلا المادة. إنكم لم تسمعوا(730/15)
بأخبار الفتوح الأولى في الشام والعراق ومصر والأندلس، ولا بأخبار الفتوح الآخرة في الغوطة والرميثة وجبل النار وريف المغرب، فاسألوا عنها فارس والروم وإسبانيا وفرنسا وإنكلترا. . .
إنكم تحسبون قضية فلسطين كقضية سرقة في شيكاغو تدخلون بالرشاشات فتنبهون المخزن. . .
كلا، والحي القيوم، لن تكون لليهود دولة في فلسطين ولن يكون للفرنسيين اتحاد مع المغرب، حتى لا يبقى في هذه البلاد كلها حي يمشى. لن يأخذوها حتى يروا ويرى من يعينهم يوماً يذهل له كتاب التاريخ، ويصيبهم من هوله الجنون. يوماً لا ترون فيه تاجراً في دكانه، ولا موظفاً في ديوانه، ولا تلميذاً أو مدرساً في مدرسته، ولا قاضياً في محكمته، ولا امرأة في دارها. وإنما ترونهم يسيرون إليكم جميعاً يقاتلونكم إن عجزوا عن السلاح بأيديهم، وصدورهم، ويستنزلون غضب الله عليكم، فأبيدوهم يومئذ بقنابلكم الذرية، إذا محيت الإنسانية من الأرض، واستبيح قتل الشعوب، وإذن فستنبت الأرض التي تسقيها دماؤهم أمة جديدة تقاتلكم دون أرضها وحماها.
ويلكم إن الله في الوجود، ما استقال ولا أحيل على المعاش؛ وإننا مع الله نستعينه عليكم، والله أكبر منكم، هذا نشيدنا الذي يهون علينا كل خطر، ويصغر كل عدو مهما تكبر: الله أكبر.
لقد علمنا ديننا أن نستوهب الحياة بطلب الموت، وحبب إلينا نبينا الشهادة. نلحقها إذا هربت منا، ونفتش عنها إذا ضلت عنا. فيما ذا تخيفون أمة تريد الموت؟
نحن نريد الموت ونسعى إليه، قد أعددنا الجيش للجهاد. وهيأنا القوى للجلاد، فتقدما يا أيها البطلان القائدان، تقدما فاقتحما النار، وخوضا البحار، فإننا معكما لن نرجع ولن نلقي السلاح ولن ندع الجهاد، حتى لا يبقى في دنيا الإسلام، وأرض العرب، علم لأجنبي، أو حكم لمستعمر، والله معنا. والله أكبر!
علي الطنطاوي
القسم الخامس:(730/16)
فرنسا ومستعمراتها
ما بين الاتحادين الفرنسي والسوفيتي
للأستاذ أحمد رمزي بك
ما كنت أعتقد حينما كتبت الكلمة الثالثة عن الاستعمار الفرنسي والتي أشرت فيها إلى ثلاث هيئات اتحادية تقف أمام الأمم الإسلامية وحريتها أن تبرز المتناقضات بهذه السرعة، فقد وضعت الاتحاد الهندوكي بجوار الاتحاد الفرنسي والاتحاد السوفيتي وقلت عنها إن كلاً منها يعطي لنفسه مظهر حركة تقدمية يصبغها بصبغة التحرر ويريد أن يقنع الضمير العالي أن الاتحاد هو وليد إرادة شعبية، وأنه في مصلحة الأمم والشعوب الداخلة فيه، ويعلم القائمون بأمر كل منها أن هذا بعيد عن الحقيقة بعداً تاماً، ولذلك سيكون كفاح الأمم الإسلامية في طريق الاستقلال التخلص من هذه السيطرة الاتحادية المفروضة عليهم شديداً في الهند والمغرب، قاسياً جداً في أواسط آسيا: ولكني مؤمن وواثق بأنهم سيتغلبون لا لأن الحق معهم وكفى، بل لأن قوانين الكون الملازمة لطبيعة الأشياء وتجارب التاريخ معهم، وستذهب قوات الطغيان التي تستعبد المسلمين أو تحاول ذلك هباء منثوراً وتندك صروح بنيت على تضليل الناس.
ومن قبيل هذه الثورة القائمة علينا، البرقية التي جاءت بأن البنديت نهر ويحذر الأمم العربية ويقول (إننا لن نعترف باستقلال أية دولة تقام في الهند، وسنعتبر الاعتراف من أية دولة أجنبية بهذا الاستقلال عملاً لا ينطوي على الصداقة).
وفي بعض ما ورد بالجرائد المصرية مقال عنوانه (الباكستان خير أم شر) ويقول بأن استقلال المسلمين في الهند يتعارض مع العالمية التي هي من مظاهر الكون. ونحن لا نعارض هذه العالمية ولكننا نفرض استقلال البلاد الإسلامية كشرط أساسي للتعاون والإقليمي ثم التعاون العالمي وإلا تعرض الجماعات الإسلامية للزوال وضاعت شخصيتها وأنهد كيانها.
وأعود إلى فرنسا وإمبراطوريتها، وما تنويه من فرض الاتحاد والإدماج على شعوب العروبة والإسلام، بعد أن رأينا رجال فكر يسبقون التاريخ في هذه الناحية، ويرسمون خطط السيطرة والغلبة، فقد ذكرنا فيما تقدم إشارة عن مؤتمر برازافيل الاستعماري الذي(730/18)
عقد بإفريقيا عام 1944. وجمع أساطين الاستعمار ودهاته واستعرض برامج المستقبل، وأشار بتأكيد سياسة الاتحاد بين فرنسا وما تملكه من الأراضي الواسعة في إفريقيا وآسيا وصهرها في كتلة واحدة.
ويهمنا أن نتتبع المسائل العامة التي دارت المناقشات حولها فقد برزت هناك فكرتان: فكرة التعاون، وفكرة الإدماج، ولكل من الفكرتين أنصار وخصوم.
ومعنى التعاون إعطاء الأمم أو الأقاليم شيئاً من الحرية والحكم الذاتي بالتدريج، ثم دعوتها إلى التعاون مع الدولة صاحبة السيادة في نطاق اقتصادي كما هو الحال في بعض المستعمرات البريطانية. ومعنى الإدماج أن تفرض على الشعوب المحكومة أنواع من الإرهاب والترغيب تنتهي إلى إيجاد شعور يقول بأن مصلحة المجموع أن يندمج مع الأمة الحاكمة في جنسية واحدة.
ويقول خصوم التعاون إنه في النهاية يؤدي مع الزمن إلى حياة الدومنيون الاستقلالية، وهذا لا يتفق مع المنطق الفرنسي الذي يميل إلى المركزية ولا يسلم بتوزيع السلطات، وفي النهاية يعرض الكيان الإمبراطوري إلى الانهيار.
ويقول منتقدو الإدماج، إذا سرنا خطوات كبيرة في سبيل ذلك وتلكم خمسون مليوناً لغتنا وأخذوا بثقافتنا ودخلوا مجالسنا النيابية وحصلوا على حقوق المواطنين وضعنا مستقبلنا بين أيدي ناخبين أجانب من شعوب ملونة منحطة، وقد تغمرنا موجات فكرية وثورية لا نقدر على كبحها، أو قد تتحالف هذه العناصر مع عوامل الهدم الفرنسية وتعمل مع أحزاب اليسار لتفرض إرادتها؛ حينئذ يفلت الزمام من الأيدي الفرنسية الرشيدة العاقلة وتعرض حياة الأمة إلى أخطار جسيمة.
خرج مؤتمر برازافيل إلى الأخذ بحل وسط يجمع بين التعاون والإدماج: فسياسة التعليم بنيت على إدماج الشعوب في الثقافة الفرنسية، إذن يجب أن تشتد هذه السياسة التعليمية أن يكون هدفها إضعاف اللغات القومية وخصوصاً اللغة العربية. وفي المستعمرات الإفريقية تقرر منع التبشير باللغات القومية وجعل تدريس قواعد الدين الكاثوليكي باللغة الفرنسية.
ولن أطيل على القارئ سرد بقية القرارات فهي مطبوعة إذ ماذا يهمنا من أمر البلديات وطريقة انتخاب المجالس العامة بالمستعمرات وزيادة سلطة الحكام والتصديق على(730/19)
الميزانيات والقروض، ما دامت السيطرة المركزية لوزير المستعمرات قائمة ومادامت سياسة المؤتمر ترمي إلى تأكيد السيادة الفرنسية وتثبيت الرأي النهائي للجاليات الأوروبية في مستقبل المستعمرة، وجعل الكلمة العليا للكولون الفرنسي باعتباره ممثلاً للأمة الحاكمة صاحبة الأمر والنهي والسيادة.
فالسياسة التعليمية اتجهت إدماجياً مسترشدة بالنظم الروسية التي تستعين بالمدرسة على إخراج جيل من الناس يؤمن بالثورة وتعاليمها، كذلك المعلم الفرنسي من واجبه أن يفرض لغته ليخرج طائفة تفكر فرنسياً وتنطق بلسان فرنسي وتؤمن بعظمة وأهمية الحصول على الجنسية الفرنسية والافتخار بأن الفرد الأسود هو فرنسي أسود، وأن اللون لا يمنع أنه من سلالة الغاليين سكان فرنسا الأصليين وهذا نهاية ما يصل إليه الغرور الاستعماري.
ولكن سياسة الإدماج تواجه الشعوب الإسلامية، والإسلام والعروبة في عالم الاستعمار وباء يصعب مواجهته، ويستعصي التخلص منه، فهو راسخ في عقول ملايين من الناس وهو كالنار تحت الرماد، وقد أمضى الاستعمار مع الإسلام عشرات السنين وكلما خيل إلى المستعمرين أنهم فضوا مشاكله وقضوا عليه، برزت لهم الأدلة على أنهم ما زالوا بعيدين عن زمن القضاء على حيويته، وأنهم على ما أوتوا من قوة البطش وسعة السلطان، أعجز من أن يكسبوا أمامه المعركة النهائية والقول الفصل.
من هنا فكرت فرنسا في إيجاد مركز دائم للشؤون الإسلامية بمدينة الجزائر وأطلقت على هذه الإدارة: وزاة تنسيق الشئون الإسلامية. ولنلاحظ إن الاصطلاح الفرنسي يعتبر المسلمين كطائفة مهما كان عددهم كبيراً أي أن هؤلاء الناس لا يكونون أمة من الأمم وليس لهم وطن ولا رابطة مع الأرض التي يعيشون عليها: فهم رعايانا المسلمون، وهم مسلمون وكفى، وهذا رأيهم وهو خطير في نظري.
وتولى هذا المنصب في الجزائر صديقنا الجنرال كاترو وهو الذي عرفناه في سوريا ولبنان مندوباً سامياً، ولمسنا في شخصه اجتماع القائد والسياسي معاً، وبرهن على أنه صاحب عزيمة ودهاء وفكر ومقدرة، وهو يتظاهر بأن صديق للإسلام والمسلمين وأنه يعطف على أمانيهم المشروعة ويدفع الظلم عنهم، ويمثل في الوقت الحاضر فرنسا بموسكو عاصمة السوفيت، قلت دائماً إن رجلاً له مزايا كاترو وإلمامه وفهمه لشؤون الدنيا ودرايته(730/20)
بمشاكل الاستعمار لا يترك الوقت يمر أمامه من غير أن يشغله ببحث شؤون الإسلام في روسيا. نعم قد يكون اختياره كسفير لبلاده من قبيل الإبعاد السياسي في وقت ترفض العقلية الفرنسية وضع العسكريين في الصف الأول، ولكن لكاترو منزلته ورأيه وشخصيته. وللاتحاد السوفيتي سياسة مرسومة تجاه المسلمين، حقيقة إن الناس قلما يتعرضون لها، ولكن أعين الاستعمار لا تغفل عنها، لأن روسيا في توسعها وانتشار نفوذها واجهت المسلمين كما واجهت فرنسا الإسلام من قبل ومن بعد.
ولكن تجارب روسيا مع المسلمين غير تجارب فرنسا، فالأخيرة تحيا تحت سلطان الحروب الصليبية وتقاليدها إلى اليوم وهي حروب اشترك فيها غيرها من الشعوب وكانت نهايتها محزنة لأن السيوف التي انتصرت هي سيوف المسلمين، ومع هذا تقلب الكتب الفرنسية الحقائق وتجعل من الهزائم الفرنسية مفخرة للشعب ودوافع للعمل والجهاد ضد المسلمين.
أما روسيا فقد عاشت قروناً محكومة بالمسلمين ولاقت منهم شدة وعنتاً، وبين الكنيسة البيزنطية والمسلمين عراك طويل، ولم تبدأ حملات روسيا بجد ضد الأراضي التي يسكنها المسلمون إلا في عهد كاترين الثانية، إذ دخلت أقاليم إسلامية كبيرة تحت حكمها، وكانت أساليب الحكم الروسية سهلة واضحة؛ ذبح المسلمين وتشتيتهم أو تركهم إذا قبلوا الدخول في المسيحية، ولقد دخل ملايين منهم في الجنسية والديانة، ومن بقى محتفظاً بديانته سراً أعلن إسلامه بعد ثورة 1905 و1917.
ولما اتسع ملك الروس في آسيا الوسطى وقفقاسيا أخذوا يفكرون في إيجاد سياسة إسلامية، وأخذوا يقلدون الدول الاستعمارية الغربية، ولكن ثورة البلاشفة قضت على القيصرية وأعلنت حقوق الشعوب وحريتها وسمحت للمسلمين بإقامة شعائرهم الدينية بعد أن كانوا محرومين منها، ثم عادت فأعلنت الحرب على الأديان كلها، وكان من الطبيعي أن يحارب الإسلام كغيره وهو قوة عالمية ثورية شأنه شأن الحركة الشيوعية إذ يحمل كل منهما لواه العالمية، وتنفي فيه القوميات والعنصريات والطائفية. فالشيوعية تحاول التغلب على الإسلام في الجهات التي ساد فيها، ولها أساليبها الخاصة في هذا المضمار، التي جاءت نتيجة للتجارب التي بدأها لينين في سياسة التقارب مع الأمم المغلوبة في 1920 و1922 ثم انتهت إلى تحطيم الجمهوريات الوطنية وفرض الأنظمة الشيوعية والدخول في سياسة(730/21)
اتحادية تخضع أراضي السوفييت كلها لسلطة موسكو المباشرة.
وكان أن واجه الشيوعيون مشكلة حكم إمبراطورية استعمارية تحت نظام جمهوري اشتراكي وخطوا في السنوات الماضية خطوات جبارة في طريق استغلال واستثمار أراضي البلاد الإسلامية باسم جديد وأنظمة جديدة، وفرنسا من ناحيتها تحكم ملايين من الشعوب الملونة والأمم الإسلامية وتحاول أن تحتفظ بسيادة الجمهورية المركزية على أقاليم شاسعة: فهما تلتقيان في معالجة مشاكل متشابهة تلتقي عند هدف واحد هو المحافظة على وحدة إمبراطورية استعمارية بأي ثمن.
وإذا سرنا في المقارنة من الناحية الداخلية نجد أن فرنسا تحكم بلاداً لها شخصية أو شبه سيادة مثل مراكش وتونس وبعض أقاليم الهند الصينية، ولديها بقاع يحكمها أمراء وسلاطين بإفريقيا، أما الاتحاد السوفيتي فبعد أن حطم ممالك بخارى وخوارزم وحكم الإقطاعيين الذي عاشوا تحت ظلال القيصرية، عاد فأنشأ جمهوريات ذات سيادة إسمية في أذربيجان وتركستان وأزبكستان وتاجيكستان والقرغيز، وأعطى لأقاليم أخرى نظام الحكم الذاتي مثل الداغستان وبشكيريا وغيرها.
وهذه الأقاليم التي عددناها إسلامية وأهلها مسلمون ومعظم أقاليم الإمبراطورية الفرنسية أو أهمها من بلاد الإسلام ويسكنها المسلمون، ولذلك يحلو لرجال فرنسا أو يقولوا عن بلادهم إنها دولة إسلامية كبرى، والسوفييت وإن كانوا لا يفرون بالأديان، فأنهم مع ذلك على اتفاق مع الاستعمار الفرنسي في مواجهة المسألة الإسلامية باعتبارها معضلة تتطلب الحل ولها مشاكلها ومتاعبها ومضاعفاتها ولذلك تحتاج إلى دراسة وبحث، ولهذه سياسة خاصة بها: أي أن للإسلام سياسة مرسومة في كل من روسيا وفرنسا ترمي كل منهما إلى أهداف مختلفة ولكنهما تلتقيان في نهاية واحدة.
وكلاهما يسر على منهج الإدماج ونقصد به صهر القوميات في كتلة واحدة، ولكن الاتحاد يسير على نمط خاص به، فهو يفرض اللغة الروسية مع الفكرة الاشتراكية والفلسفة الماركسية ويقدهما في قالب واحد، وسار في هذا أشواطاً حتى في الجمهوريات المسيحية، لأن حكومة الاتحاد قررت تشتيت مجلس السوفييت المحلي في بلاد الكرج (جورجيا) لأنه عارض سياسة الاتحاد وقرر التمسك باللغة القومية وجعل لها المقام الأول في التعليم(730/22)
وللروسية المقام الثاني، ثم يتفق مع السياسة الفرنسية في إحياء لغات اندثرت وثقافات اندرست حين يهاجم الوحدة الإسلامية في آسيا الوسطى باسم الفن والتاريخ والثقافة.
ويشبه هذا النشاط سياسة فرنسا في التفرقة بين العرب والبربر حتى تظهر ثقافات متباينة في كل رقعة ويفقد الإسلام تلك الوحدة التي اشتهر بها وعرفت عنه.
فلهذا وغيره يبدو الاتحاد السوفيتي في أنظمته وكيانه كوحدة استعمارية تسيطر على أقطار المسلمين وتفرض عليهم حكماً خاصاً كأنموذج صالح لفرنسا يصح أن يحتذي في أشياء. والفرنسيون أذكياء وأهل منطق، يعرفون تماماً أن الأنظمة والدساتير لا تبني الممالك وإنما القوة الدافعة هي التي تحميها: والقوة الدافعة في أراضي السوفييت هي الحزب الشيوعي الذي يستند على قوته الثورية وأنه حزب عمالي ترتكز عليه الدولة وتخضع لمشيئته ويسيرها كما يشاء.
ولا تملك فرنسا هذه القوة المتصفة بالبطش والفتك، إذ هي لا تزال تأخذ بأنظمة الدساتير الديمقراطية وتعدد الأحزاب، وهناك مسائل أخرى تفترق عن السوفيت فيها، أهمها أنها تحترم الملكية الفردية وتشجع الشركات والأفراد في تولي الإنتاج الزراعي والصناعي، بينما الاتحاد السوفيتي لا يعترف بالملكية للفرد وإنما يأخذ بالاشتراكية ويجعل حق الملكية للدولة أو يعترف بالملكية التعاونية، وقد يلتقي النظامان فيما يخص الملكية بأراضي بعض المستعمرات؛ إذ يحرم التشريع الفرنسي على الأهالي ملكية الأرض ويسمح بها لشركات الاستثمار وللمستعمرين البيض، ولا نعرف مقدار حظ المسلمين في المزارع التعاونية بالروسيا فقد تكون بأكملها في أيدي الروس فهي لا تختلف إذن عن شركات الاستثمار الكبرى في المستعمرات الفرنسية، ولكن الثابت لدينا هو أن الأهالي المسلمين محرومون من حق الملكية في جمهورياتهم فهم إذن كأهل المستعمرات الفرنسية السود في هذه الناحية. ولم يكن تطبيق النظام الاشتراكي أو التعاوني لصالحهم بل لتقوية الجاليات الروسية وزيادة إفقارهم وضرب الذلة والإملاق عليهم.
هذه نظرات أولية تمكننا من تلمس بعض ما يقال له فوارق وبعض ما يلتقي النظامان الاستعماريان فيه من نواح. ولا نقدم جديداً حينما يتعلق الأمر بالأنظمة إذ هي الأسس التي قوم عليها الاتحاد، وفرنسا تقدر الفوارق والاتجاهات في الاتحاد السوفيتي ولكنها تعجب من(730/23)
الأنظمة كدعامة للوحدة، فدستور السوفييت يقول: -
(بأن الدولة اتحادية تقوم على أساس الاتحاد الاختياري بين الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية المتساوية في الحقوق).
وهذا نص مشجع لأن تأخذ به فرنسا في نظامها الجديد خصوصاً وأن معنى الاختيار غير معلوم لدى الروس.
إذ لا يذكر العالم إن إحدى الجمهوريات الإسلامية بآسيا الوسطى جاءت إلى الاتحاد وانضمت إليه باختيارها، وإنما دخلت الاتحاد بعد معارك دموية وقتال استمر طويلاً، ولذلك لن يكون هناك اختيار في الاتحاد الفرنسي كما قلنا.
وينص الدستور السوفييتي على حق تقرير المصير ويعترف لكل جمهورية بأنها ذات سيادة، ولكنه يقيدها في المادة 14 من الدستور نفسه وفيها كل ما يهدم شخصية واستقلال وسيادة الجمهوريات المقول بأنها مستقلة وذات سيادة. وهذا النص يجعل حق تقرير المصير غير موجود، ولذلك سنراه في دستور الاتحاد الفرنسي وستأخذ به حكومة الهند عند مواجهة دولة باكستان الإسلامية، وستتمسك به كل دولة اتحادية حينما ترمي إلى السيطرة والتحكم في مصير الأمم الإسلامية.
فمن المفيد أن نعرض هذه المادة مع بعض التفصيل ليستيقظ الفاغلون بمصر: فهذه المادة تجمع طائفة من الأمور الهامة الحيوية لكل شعب منها ما هو سياسي وعسكري واقتصادي ومنها ما هو ثقافي وتشريعي. فإذا بحثت عن الباقي من سيادة جمهوريات الاتحاد المستقلة وجدته ضئيلاً بحيث لا يصح أن يقارن بالسيادة التي تتمتع بها أية ولاية داخل نظام الولايات المتحدة الأمريكية.
فإذا سلمنا بأن حكومة الاتحاد ترى أن من حقها عقد المعاهدات وحصر التمثيل السياسي فيها وتسلم قضايا السلم والحرب. وتنظيم الدفاع وقيادة القوات المسلحة وحماية سلامة الدولة المستقلة، فإن هذه المادة تضيف أشياء أخرى تجعل النشاط الاقتصادي بأكمله خارج نطاق الجمهورية المستقلة، وبهذا يصبح الاستقلال وهمياً ولا فائدة منه؛ إذا تخضع المشاريع الصناعية والزراعية وإدارة المصارف ووسائل النقل والمخابرات ونظام النقد والتأمين وعقد القروض وكل ما يتعلق باستثمار الأراضي واستثمار الغابات ومساقط المياه(730/24)
في يد حكومة الاتحاد.
وعلاوةً على ذلك يسلب من الجمهوريات سلطتها على كل شؤون التعليم والثقافة، ويسلبها حقها في التشريع الداخلي الصرف، إذ تبقى سلطة حكومة الاتحاد هي العليا في كل ميادين المعارف والصحة، ويخضع المحاكم والقوانين من مدنية وغيرها حتى قانون الجنسية وإقامة الأجانب وتنقلاتهم لحكومة الاتحاد؛ هذا مع قرار الاتحاد بأن لكل جمهورية دستورها الخاص بها، وهنا تهزأ حكومة السوفييت بالعالم حينما تقول:
إن لكل دولة من الجمهوريات المستقلة مطلق الحرية في أن تنفصل عن الاتحاد السوفيتي.
ومن قبيل تحصيل الحاصل أن يقرر الدستور السوفييتي أنه في حالة التعارض بين القانون الخاص بأية جمهورية مستقلة والقانون الاتحادي وجب على الحكومة المستقلة تنفيذ قانون الاتحاد، فلا توجد هيئة عليا كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية للفصل في تنازع الاختصاص أو تفسير الدستور.
من هذا نفهم ولع الفرنسيين بالاتحادية وأنهم بعد أن قلبوا أنظمة الاستعمار وأساليب من أمريكية وبريطانية وبرتغالية وهولندية وجدوها لا تشقى غليلهم ووجدوا مع اختلاف الأهداف في نظام الاتحاد السوفييتي ما يصح الأخذ والسير عليه، إذ فيه تأكيد لسيطرتهم وإبقاء لحكمهم.
ولذلك لم نخطئ النظر حينما جاهرنا بأن الأنظمة الاتحادية الفرنسية وفي بلاد السوفيت وما يجول بخاطر الهندوس من إنشاء دولة اتحادية بالهند، أنظمة وأسس رجعية تعسفية، حينما يتعلق الأمر بمستقبل الشعوب الإسلامية وحريتها، لأنها تعطي للاستغلال الاقتصادي والسيطرة والتحكم ثوباً جديداً.
أحمد رمزي(730/25)
اللغة العامية والحروف اللاتينية
للأستاذ السهمي
ذكرنا حديث الأستاذ البارع (الجاحظ) في الرسالة (726) ص (626) عن قصة هذا الغامية ذات العمى والبكم والصمم بمقال فائق للعلامة اللغوي الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي ترجمته أو عنوانه (اللغة العامية واللغة الفصحى) كتبه سنة (1902) مظهراً فيه نيات أبناء (جنبل) الخبيثات المخيفات ومذكراً ومنذراً. وقد رأيت أن أروي في (رسالة العربية) الهادية الكريمة جملاً من ذلك المقال المحقق المحكم وهو أكثر من ثلاثين صفحة. وليعلم من يتجاهل أو يجهل أن الذي نزل وحفظ قرآنه، حافظ أبد الأبيد لسانه.
قال الشيخ إبراهيم اليازجي:
(نشر بعضهم من سنوات رسائل متتابعة يدعو فيها علماء العربية وكتابها إلى استبدال اللغة العامية من اللغة الفصحى واعتمادها في الكتب والجرائد وغيرها ورسم لها حروفاً جديدة تكتب بها هي الحروف اللاتينية. . . وقد انتهي إلينا بعض ما نشره من تلك الوسائل وفيه أمثلة من حكايات وغيرها باللغة العامية المصرية كتبها بالحروف المذكورة فكانت نوعاً من الكرشوني.
وإذا قرئت جاء لفظها أشبه بلفظ رجل إفرنجي يتعلم العربية ولا سيما في أمر الحركات التي عبر عنها بأحرف المد فإذا نطق بها العربي توهم سامعه أن يقلد كلام أحد الإفرنج المقيمين في هذه الديار. وأغرب من ذلك أنه زعم أن تعلم هذه الحروف أسهل تناولا على الأمي من أبناء مصر وأنها أفضل ذريعة لتعميم القراءة في القطر. . .).
(. . . على أن الأمر طوى من ذلك الحين ولم يصادف من أحد اهتماماً إلى أن ظهر في هذه الأيام كتاب ألفه المستر (ولمور) أحد قضاة محكمة الاستئناف الأهلية عن الطريقة المذكور جمع فيه ما تسنى له من قواعد اللغة العامية المصرية على وجه يقرب من الأجنبي تناولها والتكلم بها. . .
(. . ولكن المؤلف وبعض إخوانه من علقوا التعاليق وممن قرظوه في جرائدهم لم يقفوا عند هذا الغرض من صنيع المؤلف ولكنهم ذهبوا إلى ما وراء ذلك من وجوب نسخ اللغة الفصحى في البلاد وإحلال اللغة العامية مكانها مع كتابتها بالحرف اللاتيني على مثل ما(730/26)
ذهب إليه صاحب الرسائل المقدم ذكرها).
(. . . ويؤخذ من كلام المؤلف وبعض الجرائد الإنكليزية في القطر الإيماء إلى لزوم إدخال هذه الطريقة في المدارس أي مدارس الحكومة مع جعل التعليم إجبارياً بحيث أنه لا يمضي زمن قصير حتى يعم استعمالها في البلاد وتكون الضربة القاضية على اللغة الفصحى وأسفارها. . .
(. . . ولكن ذلك (الفرق بين العامية والفصحى) وهم دسه على أولئك القوم الجهل بلغة البلاد؛ لأنهم لو كانوا يعرفون العربية كما يعرفها أهلها لعلموا أن معظم الفرق بين اللغتين مقصور في الغالب على إهمال علامات الإعراب من اللسان العامي بحيث أصبح مسموع اللفظين متبايناً على الجملة. إلا إن هذا إنما تتنكر به اللغة في سماع الأجنبي لا في سماع أهلها. . . ومن أعظم الشواهد على ذلك أن في العامة من يقرأون ويسمعون الجرائد وكتب الروايات والأقاصيص الحديثة والقديمة من مثل سيرة بني هلال وعنترة وألف ليلة وليلة وغيرها ويفهمونها ويروونها مع أن جميعها مكتوبة باللغة الفصيحة. . .).
قلت: يدل كلام الشيخ إبراهيم على أن العامة في مصر كانوا يفهمون اللغة الفصيحة سنة (1902) فهل تقهقروا، هل تأخروا هذا التأخر الفظيع في الفهم والرواية سنة (1947) - بعد هذا الدهر الطويل وبعد هاتين الحربين المدهشتين، وبعد أن تبدلت الأرض غير الأرض والسماوات - حتى تقول رجال الإذاعة في العامة والمساكين مقولتهم التي أشار إليها الأستاذ الالمعي (العباس) في الرسالة 727 ونقدها محسناً ومصيباً.
أيتها الحكومة المصرية، حرمي حرمي في داريك: دار الإذاعة ودار التمثيل وغيرهما من الدور اللغة العامية؛ إنك إلا تفعلي تحرجي. . .
(. . . وأما مسئلة الكتابة وعدم وجود صور لأصوات الحركات في رسم الهجاء العربي فما لا يبالي به بالقياس إلى الأمة نفسها إن كان النظر إليها مجرداً. . . إن للحركات عندنا مقادير لا تتعدها فإذا رسمت بالحروف كما هو الشأن في اللغات الأوربية جاء لفظ الكلمات منكراً، وربما التبس بعضها ببعض فلم يبق فرق بين سلم مثلاً وسالم وسليم إذ يكون بعد السين ألف وبعد اللام ياء في الكل، وقد يجيء ما هو أنكر من ذلك كما مثل قتل وقاتل لما هناك من الاختلاف الفاحش في المعنى، وحينئذ لا يبقى غنى عن وضع علامات تميز(730/27)
الحركة من الحرف فعاد الأمر إلى الشكل وهو يغني وحده بدون الحروف. وذلك فضلاً عما في التزام التحريك في الرسم سواء كان بالحرف العربي أم اللاتيني من إطالة هجاء الكلمات واقتضاء الكتابة زمناً أطول إلى ضعف آخر في الأقل. فجملة ما يقال إن الحركات في العربية لا تكتب إلا بصورة حركات لأن لفظها ليس لفظ الحروف الكاملة ولا هي داخلة في بنية الكلمات وإنما الغرض الأصلي منها الانتقال من مقطع إلى مقطع، لكن غاية ما هناك أنه يمكن استنباط طريقة تمكن المطالع من وضع الحركات على وجه أسهل؛ وحينئذ لا يشكل إلا الحرف الذي يمكن التباسه ولو على الأجنبي).
(بقى أنه على تقدير خروج هذا الرأي إلى الفعل فإن ما يتخلص منه الأجنبي يقع فيه الوطني بل يقع في أشد مضضاً منه على ما سنذكره. ونعني بالوطني هنا المسلم الذي هو العنصر الغالب في البلاد، فإنه مع تعليمه قواعد اللغة العامية لا يستغني عن تعلم اللغة الفصحى لإحكام قراءة القرآن وتلقي الحديث وفهم نصوص الشرع المبنية عليهما. ولابد لبلوغ هذه المنزلة من قراءة كتب النحو والبيان واللغة وسائر علوم الأدب. وهذه كلها إن لم يتعلمها في مدارس البلاد لزمه أن يتعلمها في مدارس أخرى خاصة أو يدرسها في منزله وكلاهما لا يستطيعه إلا الأغنياء فضلاً عما فيه من المشقة وإضاعة الزمن. وكذلك يلزمه أن يتعلم قراءتين أحدهما بالحرف العربي لتلاوة القرآن لأنه لا يجوز له أن يكتبه بحرف أجنبي. . . والأخرى بالحرف اللاتيني المصطلح عليه في البلاد لمطالعة ما ينشر فيها من الكتب والجرائد ولدراسة العلوم العصرية التي يرام كتابتها باللغة والحرف المذكورين على ما أشير إليه في التأليف ولا نخال التسليم بذلك كله من الأمور المستسهلة. ومن هنا يعلم المؤلف وغيره أن العربية لا تقاس في ذلك بالطليانية واليونانية إذ ليس في هاتين اللغتين شيء من الأمر الديني الذي أشرنا إليه، بل فيما حدث أخيراً في أمر ترجمة الإنجيل إلى اليونانية الحديثة عبرة كافية مع انتفاء المحذور الذي ذكرناه. وبقى وراء ذلك كله ما يترتب على هذا الانقلاب من الخسران الجسيم بضياع ما لا يحصى من كتب العلم والتاريخ وغيرها بحيث يتعذر نقل الكتب بأسرها إلى الحرف الجديد ولا يبقى سبيل للأعقاب إلى تناول ما فيها إذا تغير الحرف الذي يقرأون به).
(ولذلك فالذي نراه لواضعي هذه الطريقة أن يقتصروا فيها على تعليم الأجنبي لغة البلاد(730/28)
ولا يتجاوزوا إلى ما وراء ذلك من شؤون الأمة فإن محاولة هذا الإحداث فيها ليس في شيء من الحكمة ولا هو من الأمور التي يساعدها الإمكان).
قلت: قد كان لقوم دنلوب في أيام الشيخ سلطان فعبر في الجمل الأخيرة من مراده بهذا التعبير، والمقصود متضح، وفحواه أن الإقدام على هذا الإجرام سيدفع الأمة إلى الثورة. وإنا لنعلن أن من يثورون على أجنبين أو أجنبيين وكافرين يريدون سوءاً بلغتهم، ولغة بلادهم، ولغة آبائهم وأجدادهم، ولغة آدابهم، ولغة علومهم، ولغة دينهم ولغة قرآنهم، ولغة نبيهم - إن من يثورون على ذلك العدو اللعين سيثورون على عربيين مصريين، وعلى مسلمين مؤمنين، وعلى أولياء وقديسين، وعلى من هم فوق الأولياء والقديسين إن أرادوا أن يكيدوا لهذا اللسان المبين كيد الدنلوبيين.
(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون)
صدق (الكتاب) ومنزله
روى كلام اليازجي عن (ضيائه):
السهمي(730/29)
الفلاسفة الإسلاميون
بين المعتزلة والآشاعرة
للأستاذ علي مصطفى الغرابي
هذه هي المدارس الثلاث (مدرسة المعتزلة والفلاسفة الإسلاميون والأشاعرة) التي حملت لواء التفكير العقلي للثقافة الإسلامية تحت ظل الإسلام وفي كنفه، ثلاث مدارس كبرى لها مجهود جبار أخرج لنا هذا الكنز الثمين للثقافة العقلية الإسلامية. وكانت غاية هذه المدارس الثلاث واحدة، وهي الوصول إلى معرفة موجد هذا الكون، وعلاقة موجده به، وإلى تعليل وقوع الخير والشر فيه، وكذا علاقة الإنسان بهذا الموجد، وإلى أي مدى تمتد قدرة الإنسان، وهل للإنسان استقلال بأفعاله أو هو مظهر من مظاهر قدرة الله لا غير، ولا شأن له في نفسه.
هذه هي المشاكل التي تعرضت لها هذه المدارس، واختلفت حلولها لها تبعاً لاختلاف مناهجها في الوصول إلى هذه الغاية. وبمقدار قرب المنهج الذي سلكته كل واحدة للوصول إلى غايتها أو بعده من منهج الأخرى كانت أوجه الشبه بينهم قرباً وبعداً.
ولأجل أن يكون حكمنا صحيحاً يجب أن نتعرف نشأة كل واحدة باختصار لنكشف عن بيئاتها التي كان لها التأثير على ثقافتها، لهذا سنضطر إلى الكلام على نشأة كل واحدة باختصار ولنبدأ أولاً بمدرستي المتكلمين لاتصال حياتهما الثقافية اتصالاً وثيقاً.
نشأة المعتزلة:
في درس الحسن البصري الذي جلس يلقي دروسه الشفوية الجامعة بين أصول الدين وفروعه، وبين الدين من جانب، والسياسة من جانب آخر وفي مسجد البصرة، ومن بين تلامذته، وفي أواخر القرن الأول الهجري وأوائل الثاني منه، نشأت فكرة الاعتزال، أو بذرت أول بذرة لهذه الدوحة العظيمة التي صارت فيما بعد مدرسة كبرى من مدارس الثقافة الإسلامية.
كانت هذه الفكرة في أول أمرها بسيطة، خلاف قام بين الأستاذ وتلميذه (واصل بين عطاء) على مرتكب الكبيرة من المسلمين حين جاءه رجل يسأله عن شأن مرتكبها - حيث كانت(730/30)
هناك طائفة تقول (بكفره) وهم الخوارج وأخرى تقول بإيمانه - وهم جمهور المسلمين - وثالثة تركت أمره إلى الله سبحانه ولم تحكم عليه بإيمان ولا كفر، وقبل أن يجيب الحسن البصري أستاذ واصل والذي كان يسمى صاحب الكبيرة (منافقاً) أجاب واصل بأنه (في منزلة بين المنزلتين، فليس بمؤمن ولا كافر، لأنه لم يجمع كل أجزاء الإيمان حتى يكون مؤمناً، ولم يفقد كل أجزائه حتى يكون كافراً، فالأولى أن يسمى (فاسقاً) لا مؤمناً، ولا كافراً، ولا منافقاً، - وسيبقى هذا الرأي أصلاً من أصولهم المجمع عليها. وعندئذ قام واصل إلى اسطوانة من مسجد البصرة وأخذ يقرر على بعض زملائه من تلامذة الحسن بعض أفكاره، ويقال إن لحسن لما رأى منه ذلك قال. (اعتزلنا واصل) فسموا (معتزلة) لهذا، وهناك آراء أخرى في تعليل إطلاق هذا الاسم عليهم، في هذا الوقت لم يكن واصل يفكر أن خلافه هذا مع أستاذه سيكون مدرسة من مدارس الإسلام الكبرى وأنه سيتفرع منها مدارس أخرى - على حسب التأثير الذي تأثرت به كل مدرسة من الثقافات الأجنبية المختلفة، حتى أصبحت طبقات هذه الطائفة (المعتزلة) عشرين طبقة بينها خلاف في بعض الفروع هو أساس تفرقها، وإن كانوا جميعاً على أصول سنذكرها فيما بعد.
وإذا بحثنا عن منشأ هذه الفكرة - فكرة مرتكب الكبيرة - نجد أن الخلاف السياسي الذي قام بين المسلمين بعد قتل (عثمان رضي الله عنه) هو السبب في وجودها حيث أخذت كل طائفة تخطئ الأخرى معتقدة أن الحق في جانبها. . .
إذن كانت مهمة هذه المدرسة في أول نشأتها الدفاع عن رأي سياسي سببه الخلاف بين المسلمين، ولما مرنت هذه المدرسة - وبعبارة أخرى مرن أصحابها - وآنست من نفسها القدرة عليه، وعلى الجدل ضد الخصوم - وإن كانوا من طوائف أخرى لا تدين بدين المسلمين - لما مرنت على هذه قامت بواجبها بجانب الجيش الذي يدافع عن هذه الدعوة الإسلامية بالسيف، ولكن كان دفاع هذه الطائفة بالحجة والدليل، دخلت أمم كثيرة تحت لواء الإسلام، وكانت هذه الأمم أصحاب عقائد دينية وثقافات فكرية ولهم شبه: إما نشأت في دينهم الجديد وبقيت معهم بعد إسلامهم، وإما نشأت من مقارنة دينهم الجديد بدياناتهم التي وروثها عن أسلافهم. ومن يقوم بالدفاع والإجابة على هذه الشبه؟
قام بهذا المعتزلة، وأبلوا في هذا بلاء حسناً، ولهذا سنجد من أصولهم التي لابد منها لمن(730/31)
يستحق أن يلقب بلقب بـ (معتزلي) (مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وأظن إن هذا المبدأ لم تكن له هذه القيمة وهذا الشأن عندهم إلا من وظيفتهم هذه! ولكن متى يكون الجيش المدافع قوياً أمام من يهاجمه؟
حينما يكون مسلحاً - طبعاً - بسلاح خصمه، ولقد كان هذا الخصم مزوداً بالفلسفة الإغريقية التي كانت قائمة على الجدل المنطقي المنظم والعقل الحر، والتي انتفعت بها جميع الأمم على اختلاف أجناسها وعقائدها، فبينما نجد اليهود (من عهد فيلون - الذي عاش ما بين سنة أربعين قبل الميلاد وأربعين بعده، قد مزجوا الدين بالفلسفة حتى ادعوا أن الفلسفة الإغريقية والديانة الموسوية من أصل واحد، إذ بنا نرى الأفلاطونية الحديثة التي بدأت بتاريخ أفلوطين المتوفى سنة 270م، تمزجها بالدين المسيحي مزجاً، وإذا بالنساطرة واليعاقبة الذين ورثوا نظريات هذه المدرسة (الأفلاطونية الحديثة) والذين كانوا يقيمون في بلاد فارس والعراق وسوريا حين الفتح الإسلامي ينكبون على دراسة الفلسفة حتى كانوا واسطة في نقلها للمسلمين. وسنتكلم في مقال آخر عن موقف المعتزلة من هذه الفلسفة.
علي مصطفى الغزالي
أستاذ في الفلسفة وعلم الكلام ومدرس بكلية أصول الدين(730/32)
منطق الحاجة. . .
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
(عندما تروج الصناعة، تدفع السوق رجال الأعمال إلى
محاسب العامل (بالقطعة)، فبتجاوز هذا طاقته في سبيل كسب
مضاعف يدفع ثمنه من صحته وشبابه:
مؤامرة يدبرها الفقر، والجهل. . . على حساب الصحة
العامة. . . فليسمع المسئولون).
ذلك الجهاز الآدمي الذي يدور بقوة الحاجة مجهوداً مكدوداً يوشك أن يعطب حتى يزيته الفقر وتسوطه الحاجة. . . فينكفئ على رماد الشباب، وينطوي على أجر الصحة، وينبسط على ثمن الرغيف.
في هذا البلد نماذج كثيرة لهذه الأجهزة الآدمية. . . نماذج حية لا تؤجر على العمل، ولكن تحاسب على (الإنتاج). سخرها الفقر، وتافه الأجر، وفساد التدبير، وعقم التفكير. . . حتى أصبح العامل آلة مسحورة مسخرة في هدم شبابه من وجه الأصبوحة إلى فحمة الليل. . . فإذا أحسن الوهن دافعه بالمنهبات، وأسكته بالدوافع التي تصرخ في جوفه وبيته وولده، ويستجيب سبابه لإرادته، حتى يأتي اليوم الذي يسقط فيه البطل الفريس، فيستنجد إرادته، ويستعدي صحته. . . فتخذله الصحة، ويسلمه الشباب، ويذوي المسكين، وينكر من أمره ذلك الفتور، ولكنه يخدع نفسه، ويتحامل عليها، ويتعلل، ويتعايا. . . وهو ماض في عمله، يسرف في صبابة من الحرارة بقيت في جسمه المنهوك، ويعاني لدغات الشك، وتطارده أشباح الرعب والحرمان!
ويذهب ما بقي من هذا العامل إلى الطبيب، فيطلب إليه هذا ألا يجهد نفسه!
لا يجهد نفسه؟!
يا إلهي: كذا يقال للعامل المصدور، كأنما بيده أن يستريح وأن يجهد، وكأنه يستطيع أن يكبت صراخ الجوع الذي تصطك به أمعاه عياله!(730/33)
وهنا يهاجم الخوف الراعب قلب العامل العليل في عنف وشدة، فيخاف يومه، ويرهب غده، ويعيش في جو من الشك، وترتفع ثقته بالناس، ويلح عليه الإلحاد بالأوضاع، والكفر بالحياة. . . ثم لا يجد العيان يده التي تنتج الذهب، وتنال التراب. . . وقد تكون يده مبلولة بشيء من المال، فتجف بعد قليل، فينظر إلى ما زاد على الحاجة من ملبسه فيستغني عنه، ثم يتعلل بالغنى عن الضرورية فيبيعه، فإذا لم يجد من أخلاقه ما يباع التفت إلى أثاث بيته فتخفف، ثم باع ما زاد. . . ثم ما لم يزد!
صورة أليمة لا نجمع عناصرها من مادة الخيال، ولكن ننقلها من (خريطة) الواقع: أعرف بعض حالات من هذا النوع في هذا البلد، وما أعرفه ليس كل ما هو كائن. . . فماذا فعل الناس من أجل الناس، بل ماذا فعلوا من أجل أنفسهم في وقت يثير فيه الببغاوات حروب الأوضاع والأشكال؟!
أجيبوا أيها المسلمون الذين يؤدون زكاة الصحة والمال!!
طاهر محمد أبو فاشا(730/34)
من وراء المنظار
أنا وكيل نيابة. . .!
أعيذ فطنتك أيها القارئ أن تحسبني ظفرت فجأة بهذا المنصب الخطير الذي يجعل لي من السلطان أن أقبض على من أشاء في أي وقت أشاء، فما كنت وربك إلا صاحب هذا القلم المتواضع وصاحب هذا المنظار اللعين الذي يأبى إلا أن يقع بي على ما لست أحب. . . ولكنه عنوان اقتضاه المقام.
هذه مواقف ثلاثة من مواقف التحمس، ولكنه تحمس رسمي والعياذ بالله، فيه قبض وتحقيق وحبس، أو هكذا ظهر لي ولمن شهده من الناس. ولقد سمعت هذه العبارة التي جعلتها عنواناً لكلمتي هذه بنصها وحروفهاً في كل من هاتيك المواقف الثلاثة.
شهدت الموقف الأول وسمعت هذه العبارة وهممت أن أكتب ولكني آثرت العافية وأنف المنظار في الرغام؛ ثم لم يكد يمضي يومان حتى وقع منظاري على الموقف الثاني وسمعت نفس الكلمة، فجمعت أطراف شجاعتي، ولكني ما كدت أشرع القلم حتى عدت فآثرت العافية واستعذت بالله من الشيطان الرجيم. . . ويأبى منظاري اللعين إلا أن يريني الموقف الثالث حيث سمعت العبارة بنصها، وعندئذ لم يبق لي إلا أن أشهد على نفسي بالجبن أو أكتب، فآثرت الثانية، فوالله للضر مع الشجاعة خير من العافية مع الجبن. وما كانت العافية لتدوم يوماً لجبان. . .
أما الموقف الأول فكان في عاصمة إحدى المديريات، وهناك سيارة عامة كبيرة، لا يريد سائقها أن يبرح بها مكانها إلا أن تمتلئ بالركاب حسب العدد المقرر، ولم يكن ينقصه لمتلئ إلا ثلاثة أو أربعة؛ وجاء شاب حدث في نحو الخامسة والعشرين يخطر في مشيته خطرة من يريد أن يشعر الناس بعظم مكانته، وكان الوقت موعد الانصراف من الدواوين، فما أن وضع رجله على سلم السيارة ليركب حتى أهاب بالسائق أن ينطلق بالسيارة فم أثبت في وجهة نظرة حادة إذ رأى منه شيئاً من عدم المبالاة؛ ورد السائق بقوله (حاضر لما يتم العدد)؛ وثار الشاب وصاح بالسائق: (هيا. اسمع الكلام)؛ ولم يزد السائق على أن ينظر إليه متعجباً؛ ودق الشاب بيده على زجاج السيارة وهو يقول في تحمس شديد (أتدري من يكلمك؟ أنا وكيل النيابة الـ. .) وقال السائق وقد داخله شيء من الرهبة (يا سيدي حاضر(730/35)
كلها نفرين أو ثلاثة).
ووثب الشاب من مكانه ونادى أحد (الكنستبلات) وأمره بالقبض على السائق معلناً لها وظيفته. وما كان أشد عجب هذا الشاب وعجب الركاب والسائق قبلهم جميعاً بالضرورة حين سمعوا هذا الشرطي يقول (وإنه يعني وكيل نيابة!). . . وكأنما سرت هذه الكلمة عن الناس فانبعثت ضحكاتهم على الفور عالية مجلجلة. . .
ونادى الشاب وقد بلغ حنقه غايته أحد العساكر، وكان هذا يعرفه فأسرع نحوه وحياه التحية العسكرية فأصدر إليه أمره بالقبض على (الكونستابل) بتهمة إهانة النيابة وسبقهما إلى مقر التحقيق ونجا السائق المسكين. وهكذا مصائب قوم عند قوم فوائد.
وأما الموقف الثاني فقد شهدت شاباً كذلك يثب في أول ميدان باب الخلق فيدرك الترام ويتعلق به، ثم يقف بباب الحريم لا يتزحزح ولا ينحرف، يميل طربوشه ويبرز طرف منديله فيتدلى على صدره، ويضبط ربطة عنقه ويصف شعر فوديه، ويرسل النظرات الحادة إلى داخل المكان، حتى جاء المحصل فنهبه في هدوء إلى ما لا يحمد من وقفته هذه. فقال في غضب وعنف وتحمس شديد (موش شغلك. . . أسكت)؛ ونفخ المحصل في زمارته متحمساً كذلك فوقف الترام؛ واشتدت حماسة المحصل واستغنى عن التلميح بالتصريح. وجن جنون ذلك الشاب ونزل وأمسك بذراعه وهو يقول (أتدري من تكلم. . . أنا ويكل نيابة). . . وأخذ المحصل شيء من الخوف إذ أشار هذا الشاب إلى أحد العساكر ليقبض عليه. وتدخل بعض الناس، وقبل الشاب بعد لأي شفاعتهم وترك المحصل قائلاً له في كبرياء الظافر الذي يعفو عن قدرة (أما بارد قليل الأدب، صحيح). . . وتعلق المحصل بالترام وهو يقول إذ يدق كفاً بكف (أأنا البارد القليل الأدب؟)
ولست أدري أكان (صاحبنا) كما أدعى وكيل نيابة حقاً أم أنه يهوش بذلك على النسا؟
ويأتي بعد ذلك ثالث المواقف أو ثالث الأثافي؛ فنحن في سيارة عامة في أحد شوارع القاهرة، ليس فيها إلا من هو ذاهب إلى عمل أو حريص على ميعاد. وكان في المقعد الأمام شاب كذلك تبدو عليه سيماء الهدوء والرزانة فطلب إلى السائق الوقوف بالسيارة لينزل، فقال السائق (ما فيش محطة هنا) فقال الشاب (محطة إيه؟ إسمع. نزلني)؛ ولم يسمع السائق ولم يقف؛ فصكه الشاب على صدره صكة جمع فيها كل تحمسه وأفرغ كل(730/36)
غيظه وهو يقول (استني يا حمار).
ووقف السائق سيارته والتفت نحو الشاب وفي وجهه مثل نظرات المجنون، فقال له الشاب (إوع تتكلم. . . أتدري من أنا؟ أنا وكيل نيابة. . . تعرف شغلك بعدين).
ووقف المحصل بينهما يخشى أن يفضي الأمر إلى شر خطير والسائق يقول افرض إنك حتى رئيس نيابة. . . تضرب الناس بدون سبب؟) والركاب يتفرجون وما فيهم إلا من ضاق ذرعاً بهذا الصلف وبهذه الوقفة التي لا يدري أحد متى تنتهي؛ وأحسست أنا ثلاث أمثال ضيقهم وقد شهدت المنظر ثلاث مرات.
وكان السائق هو القابض هذه المرة، إذا لم يجد متنفساً لغيظه إلا أن يقسم يميناً بالطلاق ألا يدع هذا الأفندي إلا في القسم ولو قطعت رقبته. . . ولم يبق لشفاعة الشافعين، بعد أن نطق السائق بهذا اليمين. ومضيا معاً إلى القسم، ومضينا نحن الركاب يبحث كل منا عن وسيلة أخرى يصل بها إلى حيث يريد.
وبعد فأنا أؤكد لك أيها القارئ أني لم أزد شيئاً على ما شاهدت، وإلا فإني مستعد أنا الواضع اسمي أدناه لأن أتلقى قرار القبض علي بتهمة أنا والله منها برئ وهي (إساءة استعمال) قلمي أو على الأصح منظاري. . .
الخفيف
قادة الإصلاح في القرن الثالث عشر
الشيخ شامل
زعيم القوقاز وشيخ المجاهدين
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
(تتمة)
ولما أبى الشيخ شامل التسليم اقتحم الروسيون الحصن من الخلف، واستطاعوا التسلل إلى داخله، فانسحب الشيخ شامل إلى مسجد الحصن وواصل القتال. وهنا طلب الروسيون منه التسليم للمرة الثانية، ووعدوه - إن هو سلم نفسه - أن يسلموه هو ومن معه إلى خليفة(730/37)
المسلمين في القسطنطينية من غير أن يصيبهم أذى.
كان لهذا العرض الأخير فعل السحر في نفوس المجاهدين من إخوان الشيخ شامل، فألان من جانبهم، فأخذوا يحبذون التسليم، ويلحون على الشيخ شامل أن لا يفوت هذه الفرصة النادرة، فنزل الشيخ شامل على إرادتهم، ولم نفسه مع نحو عشرين شخصاً من صادقي أعوانه إلى القائد الروسي الجنرال (باربيا تنسكي) كان ذلك في اليوم الثامن من شهر صفر سنة 1276 هـ (6 سبتمبر سنة 1859 م).
وبذلك انتهت هذه الثورة الإصلاحية الوطنية التي استمرت أكثر من ثلاثين سنة، ونقل الشيخ شامل ومن معه من أعوانه وأهله وعياله إلى (بترسبورغ) - ليننغراد - عاصمة القياصرة المقدسة، وقابل قيصر الروس إسكندر الثاني، فرحب به القيصر وأكرم وفادته، وأمنه وجميع من كانوا معه على نفوسهم. إلا إنه - على الرغم من الوعد الذي أعطى الشيخ شامل قبل أن يسلم نفسه - لم يسمح له بالسفر إلى خارج الحدود الروسية وألزمه بالإقامة بمدينة (كالوغا) مدة، ثم نقله إلى مدينة (كييف) وظل على هذه الحال نحو عشر سنين.
10 - كان الشيخ شامل لا يفتأ يطالب قيصر الروس اسكندر الثاني بإنجاز الوعد الذي وعد به قبل أن يسلم نفسه بتسليمه إلى خليفة الإسلام والمسلمين، ولكنه لما طال به الأمد، ولم يجد أذناً صاغية. بعث إلى القيصر يطلب منه أن يسمح له بالسفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وبعد أخذ ورد. قبل القيصر أن يأذن لشامل وأصحابه بالسفر الحجاز عن طريق القسطنطينية.
وفي سنة 1286 هـ 1869م أي بعد عشرة أعوام من التاريخ التسليم خرج الشيخ شامل من الحدود الروسية، وجاء القسطنطينية ولقي من السلطان عبد العزيز خان خليفة المسلمين ما هو جدير به من الإعزاز والتكريم، ثم واصل سفره إلى الحجاز لأداء فريضة الحج.
وهناك ما يبعث على الظن بأن الشيخ شاملاً عرج - في طريقه إلى الحجاز - على مصر، وأنه شهد حفلات الخديوي إسماعيل التي أقامها بمناسبة افتتاح قناة السويس، أو شهد بعضها على الأقل، ولقي من الخديوي إسماعيل ترحيباً عظيماً، وتقديراً كبيراً.
وبعد أن وصل إلى الحجاز وأدى فريضة الحج في أواخر سنة 1286هـ اختار المدينة(730/38)
المنورة للإقامة، واتخذها موطناً لسكناه.
ولم تطل إقامته في مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد فارق هذه الدار الفانية، وانتقل إلى جوار ربه. قبيل غروب شمس يوم الأربعاء 25 من ذي القعدة سنة 1287 هـ (28 مايو سنة 1870) ودفن في البقيع بجوار قبة العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
11 - مات الشيخ شامل بع أن عاش نحو خمسة وسبعين عاماً، وبعد أن ملأ الدنيا دوياً، ونشر قضية بلاده أمام الرأي العالم العالمي، وجعل العالم كله يتحدث عن القوقاز وقضية القوقازيين، وإذا كان لم يستطع أن يصل ببلاده إلى ما كان يرجوه لها من الاستقلال والتقدم ورغد الحياة، فإنه بذل كل ما ملك، ولم يأل جهداً، ولم يدخر وسعاً حتى انتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً، ولكن أثر جهاده وتضحياته ظل خالداً، وأثمر ثمره، فقد تنبه الروسيون لما يعانيه أهل القوقاز من المصاعب والمتاعب وما هم فيه من سوء الحال، وعلموا أن للقوقازيين وللقوقاز قضية لابد من النظر إليها بعين الاعتبار.
وقدر الروسيون جهاد شامل وبسالته، فأنشأوا في (تفليس) عاصمة القوقاز العامة متحفاً عاماً لآثار القوقاز والقوقازيين وأودعوه كل ما عثروا عليه من آثار الشيخ شامل، كالأسلحة التي كان يحارب بها والأعلام التي كان يحملها جنوده وقواده، وبعض الوثائق والمستندات التي تبودلت بينه وبين القيادة الروسية في القوقاز. وكان هذا المتحف، في الجملة، مشتملاً على كل ما وجد من آثار شامل.
وقد زار هذا المتحف ووصفه أحسن وصف سعادة رشاد بك المستشار بالمحاكم الأهلية المصرية قبل الحرب العالمية الماضية في كتابه (سياحة في روسيا) الذي نشره مقالات متفرقة في (المؤيد)، ثم جمعها في كتاب.
وبعد الانقلاب الشيوعي سنة 1917م واستتباب الأمر للشيوعيين، وجهوا نظرهم إلى القوقاز، وأنشأوا فيه أربه جمهوريات كان أحد هذه الجمهوريات الأربع جمهورية داغستان. وهي جمهورية ذات استقلال. . . ذاتي في شئونها الداخلية ضمن نطاق اتحاد الجمهوريات السوفياتية العام، وكان من أهم ما عنيت به هذه الجمهوري الناشئة أن أسست متحفاً خاصاً بالشيخ شامل في مدينة (محاج قلعة) جمعت فيه كل آثار هذا المجاهد العظيم، والبطل(730/39)
الوطني المخلص.
ويرى زائر هذا المتحف الآن أعلاماً بالية عليها كتابات عربية واضحة مثل: (لا إله إلا الله. محمد رسول الله) و (نصر من الله وفتح قريب) وما أشبه هذا مما كان يكتب على أعلام الشيخ شامل. كما يرى الكتب والرسائل التي تبادلها مع الروسيين وهي مكتوبة بالخط العربي واللغة العربية الفصحى.
ويرى إلى جانب ذلك كله قطع الأسلحة ونماذجها المختلفة مما كان يستعمل إبان الثورة الداغستانية التي حمل رايتها الشيخ شامل أكثر من ربع قرن. رحمه الله رحمة واسعة. وأحسن إليه، وبل ثراه بفيض من رضوانه.
برهان الدين الداغستاني
ذكريني
للشاعر إبراهيم محمد نجا
إلى (الواحة) التي فارقتها نزوعاً إلى الجنات الوارفات،
والروضات الظليلات، فلما أخفق مسعاي، عدت أبحث عنها
في صحراء الحياة، فما وجدت لها أثراً!.
ذكريني فقد نسيت حياتي ... حين ماتت في مهدي أمنياتي
وأعيدي لي الغناء؛ فقد صر ... ت حزيناً مستغرقاً في شكاتي
إن أتى الليل، فالسهاد مواف ... أو بدا الصبح، فالملال موات
سئمت نفسي الشكاة، وضجت ... من لهيب الحرمان والحسرات
ومشى في دمي الفناء ودبت ... في حياتي أشباح وادي الممات
أدركيني قبل الممات؛ فإني ... رغم ما ذقته أحب حياتي!
كان قلبي يعيش عيش الحيارى ... يقطع العمر هائماً في الصحارى
ظامئاً يتبع السراب، فطوراً ... يتراءى، تارة يتوارى
ظل حيران مقفر العمر حتى ... نضر الله ليله والنهارا(730/40)
فتجليت واحد تنضج الظ ... ل ونبعاً يشفي الصدى والأوارا
فهفا نحوك الفؤاد مشوقاً ... كالمحب الغرب وافي الديارا
فإذا فيك كل ما كان يفني ... فيه أيامه مني وانتظاراً
عاش قلبي لديك عيشاً رغيداً ... يتغنى مع الحياة سعيدا
غير أن الملال غشاه يوماً ... فاشتهى أن يعيش عيشاً جديدا
وتمنى نهراً كبيراً عميقاً ... وسهولاً فسيحة ونجودا
وبساتين يذهب الطرف فيها ... أينما شاء لا يلاقى حدودا
فهو ما عاش لا يحس ملالا ... أو يرى نفسه تريد المزيدا
هكذا كلف الحنين إلى المجهـ ... ول قلبي ألا يطيق القعودا
فمضى يقطع الفضاء الرحيبا ... حينما الشمس أوشكت أن تغيبا
فإذا الواحة الحزينة تبكي ... ذلك الطائر العزيز الحبيبا
وتناديه في ابتهال حزين ... يجعل القلب موشكاً أن يذوبا:
(عد إلي وكرك الحزين المعنى ... إنه لم يزل أنيقاً رطيبا
كيف ترضى بأن تظل بعيداً ... كيف ترضى بأن تعيش غريبا؟
آه قد ضاع في الفضاء ندائي ... أيها الغائب الذي لن يؤوبا)
أين تمضي بموكب الآمال ... يا شقيق الأوهام، يابن الخيال؟
ذهبت حقبة، ومر زمان ... بينما لا تزال رهن الرمال
تارة تهبط الوهاد وطوراً ... تتسامى إلى متون الجبال
أين تمضي، وما ظفرت بشيء ... بعد طول المسير والترحال؟!
هذه هوة يروح بها المو ... ت ويغدو في موكب الأهوال!
فانظر الآن كيف ضيعك الشو ... ق إلى عالم بعيد المنال!
أيها القلب قد خدعت خداعاً ... حينما همت في الفيافي انتجاعا
وأضعت الشباب منى هباء ... أترى ترجع الشباب المضاعا؟
وجعلت الأوهام ينهبن عمري ... فغدا بينهن نهباً مشاعا!
عجباً! كيف تترك الماء صفواً ... ثم تطوي إلى السراب البقاعا؟؟(730/41)
كيف تمضي وما ترد نداء؟! ... كيف تمضي وما تقول وداعا؟!
عد إلى مكرك القديم مشوقاً ... قبل أن تمضي الليالي سراعاً
عاد قلبي إلى الوراء حزيناً ... يقطع البيد باكياً مستكيناً
ويرد الأوهام عنه فتمضي ... ليت قلبي يرد عنه السنينا!
آه! طال المسير من غير جدوى ... فاشتهي القلب أن يعود دفينا
وبدا اليأس في الرمال يغني ... لحنه الموحش الكئيب الحزينا!
وأظل المساء قلبي، فما تسـ ... مع إلا نواحيه والأنينا!
أيها القلب قد تحيرت حتى ... صرت يا قلب في الرمال سجينا!
أنا ما زلت في ربيع الحياة ... كيف أرضى بهذه التضحيات؟!
كيف أحياهنا مع اليأس وحدي ... مبعداً عن مطارح الصبوات؟!
كيف أحيا مقيداً بنواحا ... تي، وكيف العزاء عن أغنياتي؟!
كيف أسلو التي أظلت حياتي ... بظلال من الهوى ساحرات؟!
بين أحضانها وجدت لروحي ... مأمنا من مصارع اللهفات
وعلى مهدها استراح شبابي ... بعد ما هام في لهيب الفلاة
أين يا ليل واحتي الخضراء؟ ... أين يا ليل ظلها والماء؟
قد تولى الضياء، وهو أنيسي ... كيف أمضي، وقد تولى الضياء؟
أتمنى، فما تفيد الأماني! ... وأنادي، فيما يفيد النداء!
أسفاً للشباب ماتت لياليـ ... هـ، فمات الهوى، ومات الرجاء!
أسفاً للحياة أمست فناء ... قبل أن يدرك الحياة الفناء!
إنني ها هنا سأدفن نفسي ... فاسكبي الدمع، واندبي يا سماء
إبراهيم محمد نجا(730/42)
تعقيبات
المسرحية الشعرية بين شوقي وعبد المطلب:
قال الشيخ محمد رجب البيومي في الترجمة التي نشرها في عدد سابق من الرسالة لفقيد الشعر والأدب المغفور له الشيخ محمد عبد المطلب: (وأحب أن أكشف عن حقيقة مطموسة، فالذائع، المشهور أن أمير الشعراء هو أول من كتب الروايات المسرحية الشعرية، فقد أصدر أولى رواياته (كليوباترة) سنة 1928، ثم أعقبها بعدة روايات مشهورة، والواقع أن عبد المطلب قد سبقه إلى ذلك بعشرين عاماً، فقد نظم في سنة 1909 وما بعدها بضع روايات شعرية ذات فصول ومناظر تمثيلية، وقد جعلها متينة الحوار، سريعة الحركة، حسنة المفاجأة، وكلها عربية بدوية، تتخذ أسماء لامعة في تاريخنا الأدبي كالمهلهل وامرئ القيس وليلي العفيفة. . . فليت الذين يرجفون بجفاف الشاعر وجموده يلتفتون إلى هذه الناحية ثم يحكمون). .
وأنا أحب أن أقول للشيخ رجب، إنه قد تجافى عن الحقيقة فيما كتب، فإن الشيخ عبد المطلب لم يسبق أمير الشعراء في هذا بعشرين عاماً ولا بعشرين يوماً، وإن رواية (كليوباترة) التي أخرجها شوقي للناس عام 1928م ليست بأولى رواياته، بل أن أول رواية مسرحية شعرية أخرجها هي رواية علي بك الكبير، فقد ألفها وهو طالب في باريس عام 1893م، ثم طبعها الطبعة الأولى بعد ذلك بسنوات وهو موظف بالديوان الخديوي، وسماها يومذاك (رواية على بك أو فيما هي دولة المماليك)، ثم أخرج بعد ذلك الرواية التي عرفت فيما بعد برواية قمبيز، كما ألف عدة روايات شعرية ونثرية لا أذكر اسمها الآن، وقد كان لشوقي رحمه الله عناية بهذه الناحية القصصية في صدر حياته، ثم انصرف عنها إلى القصيد في فنون الشعر المختلفة، ثم كان أن رد عليها شيخوخته واستغل فيها المرحلة الأخيرة من حياته مما عرفه الناس عنه، وكلنهم لم يذكروا في ذلك جهده الأول.
فشوقي (لاشك) هو أول شاعر عربي مصري قد راد هذه الناحية أمام الشيخ عبد المطلب وغيره من الشعراء، وهو لاشك قد تأثر في هذا بما وقف عليه في الأدب الفرنسي، على أنه ليس بأول شاعر عربي قد نحا هذا النحو في العربية على الإطلاق، وغاية ما حققته في ذلك رواية باسم (المروءة والوفاء أو الفرج بعد الضيق لناسج بردها وناظم عقدها الشيخ(730/43)
خليل اليازجي اللبناني) وهي رواية أتم نظمها سنة 1876م ومثلها سنة 1878م وطبعت الطبعة الأولى سنة 1884م، قال مقدم الراوية: (. . . وهي رواية تاريخية تمثيلية شعرية غنائية دل بها على مقدرته في النظم وسعة معرفته بالأنغام، وقد اختار موضوعها من أشهر وقائع ملوك العرب في الجاهلية وأجدرها بالتمثيل. إذ جمعت يوم البؤس والنعيم وظهر فيها الفرج بعد الضيق، وقد شخص فيها غوائل السكر وقباحة الظلم وإكرام الضيف وكرم الأخلاق عند العرب ومثل فيها المروءة في قراد الكلبي والوفاء في حنظلة الطائي والظلم في النعمان بن ماء السماء وأظهر بعد ذلك فضائل الدين المسيحي في فرضه الوفاء وحب الأعداء ولو تحت السيف. .).
والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هي أن الشيخ خليلاً قد راد أمام شوقي الأخذ بتغيير البحور وتنويع القوافي حسب تنويع الفصول والمناظر، وهي حسنة يذكرها الباحثون لشوقي، وإنما صاحب الفضل الأول فيها هو الشيخ خليل اليازجي.
وتفكهة للشيخ رجب نقول إن الشيخ اليازجي قد ابتدأ راويته بمقدمة شعرية طويلة عنونها بعنوان (خطبة الرواية)، وضمنها ذكر الفوائد التي تنطوي عليها الروايات التمثيلية، وما يجب من الشروط في تأليفها، وما ذكره الباحثون في تقسيمها، وهي (خطبة) طويلة ابتدأها بقوله:
بحمد لله أخلصت ابتدائي ... ومدح أولى الهدى والأولياء
وبعد فإنما المرآة تبغي ... لوجه المرء إذ هو في خفاء
وأخلاق الفتى أخفى وجوهاً ... عليه فتلك أحوج للمرائي
فأنشئت الروايات ابتغاء ... لهذا الأمر يا خير ابتغاء
وتلك بطبعها نوعان: إما ... على التاريخ أو ذات ابتداء
فتاريخية تدعى لهذا ... وإنشائية حسب البناء
وإنشائية الثنتين أولى ... بهذا القصد من ذات انتماء
لأن بها المؤلف لم يقيد ... بتاريخ يراعى باقتفاء
وتاريخية الثنتين يبغى ... بها تمثيل حادثه لداء
وبشرط أن يكون بها ندور ... لموضوع جدير باعتناء(730/44)
وأن تأتي بقبض أو ببسط ... لنفس الشاهدين على السواء
إلى آخر ذلك الشعر الذي هو أشبه بشعر المتون.
الثقافة المصرية والعنصر المصري:
وجاء من لندن أن الأستاذ أحمد خاكي وكيل مكتب البعثات أيضاً ألقى محاضرة في فرع لندن للجمعية الإمبراطورية الملكية تحدث فيها عن المظهر المزدوج للثقافة المصرية: فقال (إن الثقافة المصرية مزيج من ثقافات متعددة مشتقة من مدنيات كثيرة نهضت في مصر، ثم اندثرت بعد أن تركت آثارها في العادات والتقاليد والفكر والفن، وقد تمخضت هذه الثقافة عن نوع من الثقافة اكتسب الروح المصرية برمتها. .!!).
ثم تحدث الأستاذ المحاضر عن المصري المعاصر فقال: (إنه سليل عنصر متغلغل في عصور ما قبل التاريخ، ولم تستطع العناصر المتعددة التي احتلت مصر أن تنقضي على شيء من مظاهره ولا أن تستأصل حبه لوطنه وكراهيته للغزاة والفاتحين لبلاده!).
قالت الوكالة البرقية التي عينت بإذاعة هذا الكلام، (وقد قوبلت بالضحك ملاحظة أبداها المحاضر وهي أن المصريين استطاعوا أن يمتصوا جميع الأجناس التي جاءت إلى بلادهم ما عدا البريطانيين. . .!).
وليس من شك في أن الثقافة المصرية مزيج من ثقافات متعددة كما قال الأستاذ خاكي، وهذه حقيقة أصبحت تصدق على جميع الثقافات في جميع الأمم، فالثقافة الإنجليزية، والثقافة الفرنسية، والثقافة الإيطالية، وجميع الثقافات في مختلف الأمم كلها أمشاج مختلطة. وعندي أن امتزاج الثقافات لا يتحقق بالغزو والفتح فحسب، بل هو يتحقق أكثر بالرغبة في المعرفة واللهفة على تحصيل العلم، وبالاختلاط لتبادل المنفعة، ولولا خوف الإطالة لذكرت عشرات الأمثلة التي تؤيد هذا، على أن هذا ليس موضوع النظر، بل إني أقصد إلى الكشف عن الحقيقة فيما يعنيه الأستاذ خاكي بقوله: (وقد تمخضت هذه الثقافات عن نوع من الثقافة اكتسبت الروح المصرية برمتها) فماذا يريد بالروح المصرية؟ إذا كان يريد الروح الفرعونية وهو ما يدل عليه كلامه فإن الأمر ليس كذلك، وليس يستطيع باحث أن يدلل على مظهر هذه الروح في ثقافتنا الحاضرة، والحقيقية أن الشعب المصري القوي بروحه قد امتص الشعب العربي الفاتح، ولقد زادت مادة هذا الامتصاص عن طاقته حتى(730/45)
انقلبت شخصيته فإذا هي شخصية إسلامية وأذابه يبدو بهذه الروح في طليعة الشعوب العربية.
لقد وقف الشعب المصري موقف العداوة والمناجزة والنفور من جميع الشعوب التي غزت أرضه واستولت على بلاده. وكانت هذه حاله مع الرومان والفرس والترك والفرنسيين والإنجليز إلا مع العرب فإنه لم يلبث أن نظر إليهم نظرة المواطن الأصيل. وسرعان ما اختفت شخصية الشعب المصري وثقافته تحت شدة هذا الاختلاط، وكان هم مصر أن تجد نفسها في مقدمة الأمة الإسلامية، ولقد توالت الفتوح الأجنبية لمصر ولكنه ظل يغالبها بهذه الروح المكتسبة، وهي الروح التي يجب أن يعتبرها الباحث الروح المصرية وأن تكون مناط الحكم في هذا المقام. . .
(الجاحظ)(730/46)
الأدب والفن في أسبوع
الموشحات:
نشرت (الراديو المصري) حديثاً في الموشحات الأندلسية للدكتورة سهير القلماوي، فيه نشأة فن الموشح في الأندلس، وتتبعت مراحل تطوره المختلفة، إلى آخر عهد العرب بأسبانيا، ومما يعد جديداً في هذا الموضوع ما ذكرته من أثر الموسيقى في فن التوشيح إذ قالت: (وفي عصر ملوك الطوائف برزت مدينة أندلسية بعنيف أثرها في الحياة الاجتماعية كلها وفي الناحية الفنية منها خاصة، تلك هي مدينة أشبيلية بما قد عرف من أهلها من ميل للفن وما قد اشتهروا به من إتقان لفن الموسيقى وشغف الشعبكله بها، وأثرت تلك البيئة المفعمة بالموسيقى في هذا الفن أبلغ الآثار، فقد قدمت له فنوناً من التجديد والحياة لم يكن ليعرفها شعر حديث ولا قديم).
وانتقلت بعد ذلك إلى ما نشأ عن هذا التأثر من استئثار الموسيقى بالشعر كما استأثر به فن البديع في المشرق، وكلف الوشاحون بالموسيقى حتى أغفلوا المعنى في سبيلها، ويبلغ هذا الكلف حد التكلف الذي يميل بالوشاح إلى الافتعال والتعسف ليخرج أنغاماً وألحاناً، ولكن سرعان ما تقوم حركة بين الشعراء لمقاومة هذا التكلف، فيأخذون من هذا التيار ما قد أتاح لهم من مميزات موسيقية تجد فيها المعاني الشعرية حياة جديدة، وخاصة فن الغزل لملاءمة طبيعته للموسيقى، ويزدهر الموشح في الغزل حنيناً، ولكن قوماً يخرجون به إلى المدح والوصف والهجاء والرثاء وسائر أغراض الشعر، فيحملونه ما لا يطيق، ويصل التوشيح بذلك إلى طور آخر من أطوار التكلف، لأن موسيقاه السهلة اللينة المتجددة تلائم أنواعاً من المعاني دون سواها؛ ولكن هذه المحاولة تتكشف عن كسب جديد لفن الموشح، فقد فتحت له آفاق الوصف ووصف الطبيعة بالذات على نحو لم يكن يعرفه الشعر العربي، وإذا هذه الطبيعة المتقبلة الفائرة بالحياة لا يلائمها إلا مثل هذا الشعر الفائر القوي بموسيقاه، وتبدأ حركة شعراء الطبيعة منذ ابن سهل قوية ولكنها تشتد وتزداد على الأيام قوة حتى تصل عند آخر شعراء غرناطة، عند ابن زمرك، إلى أقصى درجات قوتها وجودتها).
وتتوالى الأحداث على الدولة العربية بالأندلس فتنتزع منها بقاع يشعر الشعراء بالحنين إليها وإلى عهودهم فيها، ويمتزج هذا الحنين بالشعور بجمال الطبيعة، فينفتح باب من(730/47)
الشعر لا يليق به شيء مثل الموشح. وكأن الدكتورة سهير تضيف بذلك موضوعاً للشعر غير الموضوعات المعروفة عند شعراء العرب والتي يقال أن الأندلسيين لم يخرجوا عنها، وإنما كان تجديدهم في الوزن والقافية، ذلك الموضوع هو الحنين إلى الوطن الممتزج بوصف جمال الطبيعة.
وأعود إلى ما بدأت به الدكتورة بحثها من الكلام على أولية فن الموشحات، فقد ناقضت ابن خلدون في نصه على أن المخترع له هو مقدم بن عافر، وقالت إن الأندلسيين عرفوا قبله تخميس الأبيات في آخر العصر الأموي وأول عصر ملوك الطوائف الذي عاش فيه المخترع، ولكنها لم تأت بمثل لذلك تستند إليه مناقضتها، ولعلها استخلصت ذلك من أقوال بعض المؤلفين، وذكر ابن بسام في (الذخيرة) اسما آخراً لمخترع الموشحات هو محمد بن حمود العمري الضرير. على أن التخميس لا يلزم أن يكون توشيحاً.
لون من الشعر المصري:
نشرت (الأهرام) الأبيات التالية للأستاذ محمد الأسمر تحت عنوان (عذراء قنا):
عذراء من أرض قنا ... شريفة المحلة
ألفيتها عريانة ... لم تستر بحلة
قبلتها فقهقهت ... ضاحكة من قبلتي
ولم أزل ألثمها ... حتى شفيت علتي
حبيبتي تلك وما ... عنيت غير (قلتي)
وهذه الأبيات الظريفة تمثل الروح المصرية الفكهة، كما يمثلها الشعبيين في (القلة) أيضاً:
(جايه من الترعة في الضحك والكركرة)
(والبوسة منها حلوة زي السكرة)
وكما مثلها منذ قرون الشعراء المصريون من أمثال البهاء زهير وأبي الحسين الجزار والسراج الوراق؛ ومما يلاحظ شبه أبيات الأستاذ الأسمر بما كان يقوله الشعراء في تلك العصور في وصف الأشياء التافهة كقول أحدهم في مسبحة:
ومسبحة مسودة لونها ... يحكى سواد القلب والناظر
كأنني عند اشتغالي بها ... أعد أيامك يا هاجري(730/48)
ولقد كان بعض المتصدين لتاريخ الأدب يعيبون هذا اللون من الشعر، لأنه يقال في الأشياء التافهة، وفاتهم أن كل شيء بصلح موضوعاً للأدب ما دام موضع حس الأديب ومناط شعوره.
التغزل في القدم:
قرأت في مجلة (آخر ساعة) تحت عنوان (قدم تبتسم) ما يلي:
(تقول فلورا تريستان: لم أر بين الشعراء على كثرتهم من عني بالتغزل في قدم محوبته. . . هذا العضو الذي لولاه ما اندفعت صاحبته إليه. ولكن هناك بيتاً واحداً من الشعر قاله فكتور هوجو في هذا الصدد:
(كانت قدمها تبدو باسمة بالقرب من قدمي).
لقد وجد إذن من تغنى بقدم محبوبته، ولكن ما أقبح الصورة! من يتصور قدماً تبتسم؟ إن نعلاً فاغراً فاه قد يستطيع أن يتثاءب. . . ولكن القدم لا تبتسم).
وليست الصورة قبيحة، لأن الشاعر يريد بابتسام القدم أنها مشرقة ناضرة، والنعل الفاغرة فاها قد يصح تثاؤبها إذا لوحظ في صورتها التثاقل والتراخي، لأن مدار الاستعارة على ملابساتها، ولكن الصورة، وإن نفيت عنها القبح، ليست شيء.
ثم أقول: وكذلك أهمل شعراء العرب التغزل في القدم، ولم يخطر ذلك، فيما وقفنا عليه، إلا لنصيب بن رباح إذ قال:
تخطو على الأرض، ليت القلب منبسط ... تخطو على جانبيه هذه القدم
إذا مشت تركت أقدامها أثراً ... فوق الثرى كاد مثل الركن يستلم
وهناك شيء مثل هذا، في الشغف بالقدم، ولكنه غزل عملي، إن صح أن يكون الغزل عملاً؟ ذلك أن المأمون قبل قدم جاريته (عريب) فقالت له: والله يا أمير المؤمنين لولا ما شرفها الله من وضع فمك الكريم عليها لقطعتها. حلفت ألا تغسل هذه القدم إلا بماء الورد. وقالوا إنه برت فظلت حياتها لا تغسلها إلا بماء الورد.
مصطلحات المجمع اللغوي:
يتساءل كثير من الناس عن الكلمات العربية التي يضعها مجمع فؤاد الأول للغة العربية في العلو والفنون والشئون المختلفة، وبين هؤلاء المتسائلين من يتهم المجمع بالكسل والتقصير(730/49)
في مهمته، وقد يكون لهم العذر في ذلك، لأنهم لا يكادون يرون شيئاً من أعماله وآثاره، ولكن ليس معنى ذلك أنهم على حق في كل ما يرمون به المجمع، فهو يعمل وإن كان بطيئاً متوانياً، فلم تذهب دوراته الماضية عبثاً، بل أنتج وإن كان نتاجه يجب إلى القلة العزلة والانزواء. . . بدليل أنه لم يصل إلى أولئك المتسائلين لأنه لم ينشر كما يجب أن ينشر، وخاصة بعد أن توقفت مجلة المجمع عن الظهور من جراء الحرب الماضية، ولعلها تستأنف الظهور قريباً، فقد أعدت مواد العدد الخامس، ويقال إنه قد بدئ بطبعه.
وضع المجمع مصطلحات العربية تزيد على عشرة آلاف مصطلح في الكهرباء واللاسلكي، والاقتصاد السياسي، والطب والرسم والموسيقى والطبيعة والكيمياء والهندسة والقوانين وعلوم الأحياء وفن العمارة والشئون العامة. وقد استخدم بعض هذه المصطلحات في الكتب المدرسية، وشاع كثير منها في البلاد العربية حتى أن وزارة العدل العراقية أدخلت مصطلحات القانون المدني التي وضعها المجمع في قانونها الجديد، ولذلك طبعت هذه المصطلحات مستقلة في كتيب نشرته في العراق. . .
أما مدى انتشار هذه المصطلحات في مصر فليس يعدو مجموعة منها (هي ما تم من سنة 1934 إلى 1939) طبعتها وزارة المعارف وتبيعها لمن يطلبها وأكثر الناس لا يعلمون بها، وليس هناك من الكسب ما يغري المكاتب ودور النشر بنشرها.
وهناك مصطلحات وضعتها اللجان الفرعية ولم يقرها المجمع بعد، وقد رأى تعرض هذه المصطلحات على الهيئات العلمية المختلفة، وأن تتلقى اللجان ما يرد من الملاحظات عليها، وخصوصاً المصطلحات التي وضعتها لجنة المصطلحات الطبيعة بالمجمع في علوم التشريح ووظائف الأعضاء والأنسجة وأمراض الجلد وغيرها لأن هذه المصطلحات الطبية التي تبلغ نحو أربعة آلاف مصطلح قد لا يتسع وقت المجمع للنظر فيها فيكتفي ببحث اللجنة إياها على ضوء ما تتلقاه من ملاحظات الهيئات العلمية، للوصول إلى اللفظ العلمي الصحيح؛ وذلك أن المجمع رأى أن تعرض اللجنة عليه المصطلحات الطبية الشائعة التي تتناولها أقلام الكتاب والأدباء، أما المصطلحات التي تتعلق بالتفصيلات الفنية فإن لم يتسع لها وقت المجمع يكتفي فيها بعمل اللجنة. ولذلك كتبت اللجنة إلى الهيئات العلمية أنها لا ترى مانعاً من أن يستعمل المؤلفون في كتبهم هذه المصطلحات بشرط أن ينصوا على(730/50)
نسبتها للجنة حتى لا يظن أنها من قرارات المجمع النهائية. .
التربية الفنية:
نشرت (الأهرام) إن وزارة المعارف تعد مرسوماً بإنشاء لجنة استشارية للفنون الجميلة، تختص بإنشاء متاحف الفنون الجميلة والإشراف الفني على تنظيمها وتنسيق معروضاتها واقتناء الطرف وحفظها وترميمها، وتنظر في سياسة تعليم الفنون الجميلة في مصر وفي الخارج وتعمل على الاشتراك فيها، وتقدم الإعانات للجمعيات الفنية لتشجيعها، وتنشئ الجوائز والمكافآت للفنانين، وتعمل على حماية الآثار والمواقع التاريخية والمناظر الطبيعية والميادين العامة وما يقام فيها من نصب وتماثيل ومنشئات تذكارية، وتضع الاقتراحات والرغبات المتصلة بوسائل تشجيع رجال الفنون من أبناء البلاد، وتربية الملكات الفنية وتهذيب الذوق عند الجمهور.
وهذا البرنامج الضخم يتلخص في كلمتين هما (التربية الفنية) وليس هذا التلخيص للتقليل، إنما المقصود حصر الفكرة للدلالة على عظم شأنها، فتربية الشعب، جمهوراً وتلاميذ مدراس، تربية فنية قوامها إبراز المواهب وتعهد الملكات وترقية الذوق العام، ليست بالأمر الهين اليسير الذي تستطيع أن تستقل به اللجنة المزمع إنشاؤها بوزارة المعارف، بل هو يحتاج إلى جهود أكبر من ذلك، والمأمول أن تكون هذه اللجنة أولى الخطوات في هذا الطريق. . .
إن هذا الشعب تكمن فيه بذور الفن، وإنني أعتقد أن الإنسان على العموم فنان بالطبع، فهو إن لم يكن منتجاً، متذوق لجمال أي ناحية من نواحي الفنون، وليس أصلح للناس ولا أنفع لهم من استغلال طبائعهم الفنية في ترقيتهم وتهذيب نفوسهم.
ومما يؤسف له أن الحياة الفنية أصبحت عندنا في غاية الاضطراب والفوضى، تكثر فيها العناصر الدخيلة التي يعوزها الاستعداد أو تنقصها الدربة، ومن وراء ذلك ملكات مقبورة ومواهب مهملة.
وإذا كانت الدولة تنفق مبلغاً كبيراً من المال في استقدام الفرق الأجنبية لترقية فن التمثيل وإرضاء أذواق الطبقة العالية، فإن الطبقات الأخرى من الشعب لأحوج إلى هذه العناية بدلاً من أن تتركها فريسة للمتجرين بالفنون، الهابطين بها في سبيل الإثراء وجمع الأموال. . .(730/51)
وأظن إنه قد مضى ذلك العهد الذي كنا فيه نجمل الأحياء التي ينزل بها (الخواجات) ونزين الطرق التي يسلكونها، وندع المواطنين تقذي الأتربة عيونهم، وتملأ روائح العفونة أنوفهم، ويهاجمهم الذباب من كل حدب وصوب. مضى ذلك العد ولكنا صرنا إلى حال لا يتهم فيها بالأجانب ولا بالمواطنين!
ولا سبيل إلى تهذيب ذوق الجمهور إلا بالنظافة وتعويده على الإحساس بالجمال، والشعور بجمال المحسات طريق إلى إدراك الجمال المعنوي، وهذه هي غاية التربية الفنية المنشودة، ومن وسائلها تحقيق برنامج اللجنة الفنية التي تنشئها الآن وزارة المعارف والتي نرجو لها التسديد والتوفيق.
العباسي(730/52)
البريد الأدبي
ضمير قلق:
ذلك هو الضمير الثاني الذي نراه اليوم كثيراً في هذه الجمل (هذه مسألة لها خطورتها، وهذا كلام له وزنه، وهذا فعل له وزره) وما إليها. . .
فإن الملكية التي تثبتها إضافة الهاء إلى كلمة خطورة، وكلمة وزر سبق أن أثبتتها الهاء المجرورة باللام قبل هذه الكلمات، فاستغنت الجملة بالجار والمجرور عن هذه الإضافة، التي هي - لا شك - سقطة سقطها أحد الكتاب المتأخرين فتبعه فيها كثيرون بدون تحرز.
وإلا فماذا ينقص المعنى إذا كتبت الجمل هكذا (هذه مسألة لها خطورة، وهذا كلام له وزن، وهذا فعل له وزر)؟؟
ولم ينقص المعنى شيء. وما الضمير الثاني المضاف إلا ضميراً قلقاً نابياً، لا أحسبه عرض لي في كلام عربي قديم. إلا أن يكون قد عرض لغيري من القراء الأجلاء فيتفضل بالإرشاد.
محمود عماد
السيد عدنان يجيب:
ما نظن السيد عدنان أسعد يقصد الجد بهذه المجاملة العروضية، فقد طلبنا منه في العدد الماضي من الرسالة يأتينا بشاهد واحد من الشعر الجاهلي أو الإسلامي على أن الكف يدخل الوافر وحده أو مع العصب، فماذا صنع؟ أعياه أن يقع على هذا الشاهد الواحد في دواوين الشعر الجاهلي والإسلامي فعمد إلى كتب العروض فالتقط منها الشاهد الواحد الذي اقتلعوه حين أعجزهم أن يجدوه، وافتعال الشعر في شواهد النحو واللغة والعروض معروف، وجاء به فرحاً يقول: (أكتفى بإيراد شاهدين اثنين لا شاهد واحد - وإن توفرت لدينا الشواهد (!) - أما الشاهد الأول فقد قال الشاعر العربي (؟):
لسّلامة دارٌ يحفير ... كباقي الخلَق السُّحق قفار
فمن هذا الشاعر العربي يا سيد عدنان؟ وفي أي عصر كان؟ وما بقية قصيدته التي منها هذا البيت؟ وما ميزة هذا البيت على ما (توفر لديك من الشواهد) حتى تشرفه بهذا(730/53)
الاختيار؟
وأما الشاهد الثاني فلم يأت به لا من الشعر الجاهلي، ولا من الشعر الإسلامي، ولا من الشعر العباسي، وإنما أتى به من الشعر العصري، وهو الذي يخلط فيه أهله بين الهزج وجزوه الوافر، وكان التنبيه عليه مثار هذه المناقشة!!
يمثل هذا الجدل يا سيد عدنان، لا يظهر حق ولا ينحسم خلاف. . .
أمس بين الأعراب والبناء:
جاءتنا كلمة من بغداد بإمضاء (محمد شبلي أحمد مدرس اللغة العربية) يقول فيها:
(نشرتم في الرسالة الغراء عدد 726 في مقالتكم الافتتاحية في السطر الثامن العبارة الآتية: (ولا أمس ولا غد) ولكن ليعلم أستاذنا الجليل، أن أمس هذا ظرف زمان مبنى على الكسر، هذا ما ذهب إليه أكثر النجاة. . . وأن معنى كلمة أمس هذه تدل على البارحة، أما إذا دخلت عليها أل التعريف، فإنها تدل على ما قبل البارحة، أي على الماضي سواء البعيد أم القريب، على شرط ألا ينسحب معناها إلى البارحة. وما يؤلمني أن ذلك كيف كان عليكم خافياً وحضرتكم أحد أعلام اللغة العربية في القرن العاشرين. . .).
نقلنا كلام الأستاذ المدرس بنصه ورسمه لنطمئن حماة العربية على أنها لا تزال والحمد لله بخير! وبحسبنا أن ننقل للأستاذ المدرس ما يعرفه المدرسون جميعاً من حكم أمس: أمس ظرف زمان؛ فإذا أريد به اليوم الذي قبل يومك بليلة بني على الكسر؛ وإذا أريد يوم من الأيام الماضية، أو كسر، أو صغر، أو دخلته ال، أو أضيف، أعرب بإجماع. تقول آماس، وأميس، وليس للمجنون أمس لا غد، وأمس العرب خير من يومهم.
إلى الأستاذ علي الطنطاوي:
هالتك يا سيدي الفاضل حالة مصر الاجتماعية فأرسلت إنذارك مدوياً كالصاعقة مزجراً كالإعصار؛ هالك يا سيدي هذا التفاوت الكبير بين البشر في مصر في نظرة عامة فكيف بك لو عرفت تفاصيل الجزيئات في قوى الدوائر الزراعية الكبرى في بلادنا؟ إن كل قرية من هذه القرى تكافح الآن دودة القطن بأبنائها وبناتها بين لفح الهجير وإلهاب (الخولي) بعصاه الغليظة لأجسامهم المهزولة المعروقة. . .(730/54)
أتدري لحساب من كل هذا العذاب؟ إنه لحساب رجل واحد يملك القرية بقضها وقضيضها ويصيف خارج البلاد دون أن يترك في قريته أثراً اجتماعياً يعود بالنفع على من يجوعون ليشبع ويعذبون لينعم! فتابع نذرك يا سيد لعلهم يتعظون ويعتبرون. . .
خورشيد عبد العزيز
(الرسالة): جاءتنا كلمات كثيرة بهذا المعنى فاكتفينا بهذه
الكلمة.
إصلاح بيتين لأبي العلاء:
في العدد 728 نشرت الرسالة مقالاً للأديبة الفاضلة السيد منيبة الكيلاني عنوان: بين أدب المرأة والرجل؛ ولقد راقني هذا المقال فتتبعته، فعثرت فيه على بيتين من الشعر لأبي العلاء المعري يحتاجان إلى إصلاح: أولهما يحتاج إلى كلمة تتمم نقصه. والثاني به زيادة يجب حذفها؛ لأن النظم من الخفيف، ولإصلاحها يكونان هكذا:
علموهن الغزل، والنسج، والزد ... ن، وخلوا كتابة، وقراءه!
فصلا الفتاة بالحمد، والإخـ ... لاص تجزى عن يونس وبراءه
وبالرجوع إلى هذا العدد يتبين للسيدة الفاضلة صحة ما قلنا، وللرسالة الغراء وافر شكري.
محمد غنيم
إلي الأستاذ جميل
قرأنا ملاحظتكم المنشورة بأحد أعداد (الرسالة) الغراء عن الأبيات المنسوبة إلى سيف الدولة إذ حققتم إنها لأبن الرومي كما هو مثبت بديوانه. . .
ولكن في قول أبن خلكان في الجزء الأول من الوفيات ما يلفت النظر، إذ نسب الأبيات إلى سيف الدولة الحمداني في ترجمته له، وقال أيضاً ما صورته:
(وقيل إن هذه الأبيات لأبي الصقر القبيصي، والأول ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر. . . وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقة).
فما رأي الأستاذ في هذه الرواية؟؟(730/55)
(مكة)
عبد الغني فسق
تاريخ النوبة:
يسأل أحد القراء عن كتاب في تاريخ النوبة، ونحن نعرف أن للأستاذ محمد كامل حته كتاباً عنوانه (صفحات مطوبة من تاريخ النوبة) وهو بالطبع أدرى بمراجع كتابه، فليتفضل بإجابة السائل مشكرواً.(730/56)
القصص
هل كان حلماً؟
للشاعر الفرنسي جو دو موبوسان
بقلم الأديب جمال الدين الحجازي
لقد أحببتها بجنون، وما أدري لماذا يحب الإنسان؟ وما أغرب أن ترى شخصاً واحداً في الحياة يملك عليك مشاعرك، واسماً واحداً في الحياة تردده شفتاك، اسماً يتردد باستمرار ويصعد من أعماق النفس إلى الشفاه، اسماً يردده المرء كثيراً ويتمتم به في كل مكان كالصلاة!
وسأقص عليك قصتنا:
لقد قابلتها وأحببتها، وهذا كل ما حصل وكنت طوال العام أحيا بين أعطافها وأتمتع بدلالها ورقتها، ولم أعبأ آنذاك أكنت في نهار أم ليل، أكنت حياً أم ميتاً في هذه الحياة. . .
ثم ماتت. كيف؟ ذلك ما لم أدرك كنهه ولم أعرف عنه شيئاً ولكني أذكر أنها أتت إلى البيت ذات مساء في ليلة أشتد مطرها وهي تقطر ماء، فأصابها البرد في اليوم التالي ولزمت الفراش أسبوعاً. . .
أما ماذا حصل فلا أذكره الآن! وكل ما أذكره أن الأطباء كانوا يجيئون ويصفون لها العلاج الذي لم تقو على تجرعه إلا بمعونة صويحباتها. كانت يداها ساخنتين وجبهتها تكاد تتقد من الحرارة ونظراتها حزينة ساهمة، ولما تكلمت معها أجابتني، غير أني لا أذكر ما تحدثنا به، لقد نسيت كل شيء، أجل كل شيء. ثم ماتت، وأني لأذكر تماماً نظراتها الساجية وأتذكر قول الممرضة (آه) وعندها فهمت كل شيء. . . ولا أعرف شيئاً آخر سوى قول القس لي: أسيدتك! فظهر كأنه أهانها، وجاءني آخر وكان لطيفاً رقيق القلب وحدثني عنها فذرفت الدمع حزناً. . .
وعندما رأيت صويحباتها يسرن مع الجنازة، وليت الأدبار، وسرت في الشوارع شارد الذهن، وفي اليوم التالي ذهبت إلى باريس. ولما رأيت غرفتي هناك، ورأيت فراشنا وأثاثنا وكل ما تبقى من الأشياء بعد موتها، وجدتني غارقاً في بحر من الأحزان، فهممت أن أفتح(730/57)
النافذة وألقي بنفسي منها إلى الشارع إذ لم أستطع البقاء طويلاً بين هذه الأشياء التي تذكرني بها، وبين هذه الجدران الأربعة التي ضمتها في يوم من الأيام. . . ولما توالت على هذه الذكريات تناولت قبعتي وسرت. وعندما وصلت إلى الباب ومررت بالمرآة الكبيرة المعلقة في القاعة تذكرتها عندما كانت تقف أمامها للتزيين. . .
وقفت قليلاً أمام المرآة مرتجفاً وقد تسمرت عيناي في زجاجها، ولما لمستها وجدتها باردة، وقد أظلم زجاجها فعاد لا يعكس. . أتراه أظلم لفقد صاحبته! وما أسعد الرجل الذي يستطيع أن ينسى كل شيء يمر حوله. . آه كم أقاسي. . .
خرجت من منزلي ولم أدر إلى أين؟ ولم أشعر إلا بقدمي تقودانني إلى المقبرة! وهناك وجدت قبراً عادياً عليه صليب رخامي أبيض ووجدت هذه الكلمات محفورة عليه:
(لقد أحببت وكانت محبوبة وماتت) إنها في القبر! وألقيت بصري على الأرض وبقيت على هذه الحالة مدة طويلة إلى أن خيم الظلام على المكان. ورغبت في أن أقضي الليل باكياً بجوار قبرها ولكنني خشيت أن أرى فأطرد من المقبرة، فما العمل؟ آه إنني لداهية! لقد أخذت بالتجوال حول مدينة الموتى. سرت هنا وهناك. يا إلهي ما أصغر هذه المدينة إذا قورنت بمدينتنا الأخرى التي نحيا بها! ومع ذلك فكم يزيد الموتى عن الأحياء! إننا نقتني القصور الفخمة في دنيانا، ونشرب الماء الصافي من الينابيع، ونمتع أنفسنا بشرب الخمور المعتقة ولكن الموت يزيل هذا كله! وتضمنا الأرض في جوفها ويصيبنا العدم!!
وفي آخر المقبرة وجدت قبوراً قديمة يدل شكلها على أن الموتى بها قد ماتوا منذ عهد طويل لالتصاق قبورهم بالأرض، وقد تداعت الصلبان. . .
وكنت وحيداً فاستلقيت تحت شجرة خضراء، وأخفيت نفسي بين فروعها الغليظة، وهناك انتظرت طويلاً كربان تحطمت سفينته. . .
لما اشتدت حلكة الظلام، قمت وسرت بهدوء تام في أرض الموتى وتجولت مدة طويلة ولكنني لم أهتد إلى قبرها. . . فسرت ماداً ذراعي ناظراً إلى القبور، متحسساً بيدي ولكن دون جدوى لقد تحسست الحجارة والصلبات، وقرأت الأسماء بأصابعي بتمريرها على الأحرف فلم أعثر على قبرها. . .
ولم تكن الليلة مقمرة، وكنت خائفاً جداً، إذ وجدتني بين صفين من القبور. . . قبور في كل(730/58)
مكان، ولا شيء غير القبور! جلست على أحدها متهالكاً إذ لم أستطع السير أكثر من ذلك ولأن ساقي لم تقويا على حملي فكنت أسمع دقات قلبي وسمعت صوتاً آخر، ماذا؟! إن الصوت غامض وغير واضح، أتراه صوت نفسي في هذا الليل البهيم! تلفت حولي ولم أدر كم بقيت على هذه الحالة فتملكني رعب شديد وأحسست كأنني متأهب للموت.
وفجأة أحسست بأن حجر الرخام الذي كنت جالساً عليه يتحرك!! أجل كان يتحرك ويرتفع، وقد هالني ما رأيت، فقفزت إلى قبر آخر. . . وعندها رأيت الحجر الذي كنت جالساً عليه في القبر يرتفع ويظهر منه الميت عارياً وقد رفع الحجارة بظهره! لقد رأيته بوضوح وتمكنت من قراءة هذه الكلمات:
هنا يرقد جاكوس أوليفانت الذي توفى عن خمسة وخمسين عاماً. لقد أحب عائلته وكان محسناً شريفاً ومات. . . رحمه الله. . .
قرأ الميت ما كتب على قبره، فأخذ مدبباً من الأرض وأخذ يحك به الأحرف المكتوبة على قبره وبعناية وكتب بدلاً منها بعظمة كان يحملها بين أصابعه بأحرف مضيئة لامعة، كتلك التي يكتبها الأولاد على الجدران برؤوس عيدان الثقاب:
(هنا يرقد جاكوس أوليفانت الذي توفي عن خمسة وخمسين عاماً، لقد تعجل موت أبيه لأنه طمع في ثروته، وعذب زوجته وأولاده، وغش جيرانه، وسرق كل شيء استطاع سرقته، ومات بائساً).
ولما أتم كتابته وقف ثابتاً لا يتحرك وهو ينظر إلى عمله وتلفت حولي فوجدت جميع القبور مفتوحة وقد خرج منها جميع الموتى وأزال كل منهم تلك الأكاذيب التي خطها أقاربه على قبره واستبدلها بالصدق والحقيقة!
كان هؤلاء الموتى يعذبون الناس في حياتهم، ويأكل الحقد قلوبهم، ويسرقون ويغشون ويرتكبون كل خطيئة. . . هؤلاء الآباء الطيبون، هؤلاء الزوجات المخلصات، هؤلاء الفتيات العفيفات، كل أولئك كان يكتب على قبره في وقت واحد الحقيقة. . . الحقيقة المفزعة التي كان يجهلها أو يتجاهلها كل إنسان حينما كانوا في حياتهم الدنيا. . .
وقد اعتقدت بأنها هي الأخرى لا بد أن تكون قد كتبت شيئاً على واجهة قبرها. فسرت بين صفين من القبور المفتوحة إلى قبرها غير خائف، تأكدت من وجدها وعرفتها حالا. وعلى(730/59)
الصليب الرخامي الذي كان مكتوباً عليه قبل قليل:
(لقد أحببت وكانت محبوبة وماتت).
رأيت مكتوباً بدلها:
(بينما كانت ذاهبة في يوم ماطر لتخون حبيبها، أصابها البرد فماتت).
. . . وعند مطلع الفجر وجدت ملقى على القبر لا حراك بي.
(القدس)
جمال الدين الحجازي
الندوة الأدبية(730/60)
العدد 731 - بتاريخ: 07 - 07 - 1947(/)
من تجارب المؤلفين
للأستاذ عباس محمود العقاد
يكتب المؤلفون عن تجارب الناس في مناحي الحياة والتفكير. فمن حقهم بل من واجبهم أن يكتبوا عن تجاربهم التي تعنيهم وتعنى القراء، سواء في حياتهم الخاصة أو في علاقتهم بأولئك القراء. لأن هذه التجارب أقرب إليهم وأمس بعملهم، وهي - بعد - موضوع كسائر الموضوعات.
ومن هذه التجارب التي تتكرر عندي في السنوات الأخيرة تجربة استهداء الكتب التي يطلبها من لا يستطيعون شراءها.
وإنما أكتب في هذا الموضوع عسى أن أصل منه إلى نتيجة ترضي المؤلفين والقراء وتعينني على تحقيق الغرض من كل تأليف، وهو الاطلاع الصحيح.
فمن الحقائق التي أعبر بها عن شعور جميع المؤلفين أنهم يحبون أن تصل كتبهم إلى من يفهمها ويتبصر معانيها. ويؤثرون القارئالواحد من هؤلاء على ألف قارئ يشترون الكتب لأنهم قادرون على شرائها، ثم يتصفحونها تصفح العابر الذي لا ينفذ إلى طواياها، أو يتخذونها زينة على الرفوف. وكأنهم نقلوها من تلك الرفوف إلى عالم القبور.
وأقرب الأمثلة إلى تصوير هذه الحقيقة مثل المغني الذي يصغي إليه سميع واحد من وراء الجدران، ولكنه يرى أمامه في قاعة الغناء ألف أصم يحملون التذاكر التي اشتروها بأغلى الأثمان. فإن ذلك المغني ليعنى بذلك السميع الواحد ولا يعنى بجموع هؤلاء الصم الكثيرين، وإن بلغ منه حب المال أشد ما يبلغه في نفس بخيل.
ولو كان كاتب هذه السطور من الأغنياء لما طبع كتاباً إلا خصص منه نصف النسخ على الأقل للقراء الذين ينقدون ولا ينقدون. . . ينقدون المعنى ولا ينقدون الثمن الكثير أو القليل، ولكني لست من الأغنياء.
ولست مع هذا أتولى طبع كتبي بنفسي، بل أكل طبعها إلى الناشرين الموكلين بهذا العمل، كما يفعل معظم الأدباء في مصر وفي الأقطار التي تأسست فيها صناعة النشر والتأليف.
وهنا العثرة كما يقول صاحبنا القديم شكسبير.
فإذا جاءني طلب من قارئ يحب الاطلاع على بعض كتبي ولا يملك ثمنها فليس في وسعي(731/1)
أن ألبي طلبه على رغبتي فيالتلبية إذا تبين لي من لهجة الخطاب أن صاحبه يحسن الكتابة ويحسن الاطلاع. لأن حصتي من النسخ لا تتجاوز بضع عشرات، منها ما أحفظه للمراجعة وإعادة الطبع، ومنها ما أهديه إلى الصحف أو إلى الزملاء الذين يبادلونني مؤلفاتهم ويحق لهم عندي ما يحق لي عندهم في عرف الزمالة والمجاملة، وما بقى هو قليل أرسله إلى من يصادفه حظ القبول من طلابه الأدباء.
والناشرون من جانبهم معذورون إذا نشروا مطبوعاتهم للبيع في الأسواق. لأن صناعة النشر لا تقوم على توزيع الكتب بغير ثمن، وليس في طاقة الناشر أن يفتح مكتبته لتوزيع نسخة بالثمن ونسخة بالمجان، وتدبير الوسيلة للتفرقة بين من يطلب فيجاب ومن يطلب فلا يجاب.
وتبقى بعد ذلك تلك الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن فريقاً من القراء يحبون الاطلاع ويحسنونه ولا يملكون ثمن الكتب التي يتشوقون إلى مطالعتها في كثير من الأحيان.
فما الحيلة في أمر هؤلاء؟
أعرف حيلة قد تدل على مثيلاتها وإن لم تكن هي بذاتها صالحة للتطبيق والتعميم في جميع الأحوال.
فمنذ نيف وثلاثين سنة طبع العالم المشهور الدكتور شبلي شميل مجموعة رسائله وفصوله وهي شرح بخنر على مذهب داروين وبعض المباحث في عالم النفس والاجتماع. وقدر لها ثمنا مائة قرش لجزأي المجموعة، وهما مجلدان حافلان.
وكنت يومئذ في أسوان، شابا ناشئاً أفتتح طريقي إلى الأدب والسياسة بجهد جهيد.
فكتبت إليه أقول ما فحواه: انك من دعاة الاشتراكية كما فهمت من مقالاتك وأحاديثك في الصحف والمجلات. ومعنى الاشتراكية أنك تستكثر المال على الأغنياء، وتود لو يتساوى فيه نصيب المجدودين ونصيب المحرومين. فما بالك أيها العالم الفاضل تضيف نصيب العلم إلى نصيب المال فتجعلهما معاً من حق الأغنياء دون الفقراء؟ أتظن أن الفقير لا يحق له أن يطلع على كتبك؟ أم تظن أن بذلك الجنيه المصري في كتابين أمر ميسور لكل فقير؟
وأصاب الخطاب مقنعاً من الدكتور الأريحي، فجاءتني منه نسخة مهداة، وقرأت في الصحف أنه خصص مائة نسخة للفقراء من القراء، ولا أذكر كيف تصرف في(731/2)
تفضيلطالب على طالب من طلابها الكثيرين.
إلا أن الدكتور شبلي شميل قد استطاع أن يفعل ذلك لأن الغيورين على العلم والثقافة أعانوه على طبع المجموعة، واكتتبوا بمبالغ من المال لتيسير الطبع الذي يليق بالكتاب. فنشر أسماءهم وما تبرعوا به في ذيل الجزء الأول وشكر لهم ذلك الصنيع.
ولست أقول إن طبع الكتب على هذه الطريقة نظام يتيسر العمل به لجميع المؤلفين، أو يغني عن طريقة النشر التي جرت عليها أمم الحضارة وفضلتها على كل طريقة أخرى، مع ما بها من عيوب.
ولكني أقول إن الأغنياء الغيورين على الثقافة يستطيعون أن يقيموا المكتبات العامة وأن يشتروا من كل كتاب نسخاً يوزعونها على معارفهم من الأدباء والناشئين النجباء، وإنهم مطالبون بهذا (الحل) الذي لا حل غيره لمسألة الاطلاع بين القادرين عليه بالفهم والعاجزين عنه بالفاقة. فإن رعاية السادة الأعلياء للأدب والأدباء معهودة في جميع العصور وبين جميع الأقوام، وهذه هي الرعاية التي تلائم أساليب الزمن ولا تشق على أحد من ذوي الأريحية واليسار.
على أننا في صدد الاستهداء نشير إلى ضرب من استهداء الكتب لانقره ولا نرضاه، ولو قدرنا على تلبية الطلب فيه.
ذلك هو استهداء الأندية والجماعات، وهي في هذا الزمن تنتشر بين كثير من البيئات، وتتعدد في كل حاضرة، وتضم إليها ألوفا من المشتركين.
فطلب الكتاب بغير ثمن مفهوم من الأديب الفرد الفقير، ولكنه غير مفهوم من مائة أو مائتين أو بضع مئات يتبرعون بالكثير أو بالقليل لإدارة الأندية وتأثيثها وتزويدها بوسائل الراحة وتزجية الفراغ.
فلو أنصف أصحأبيسبعيسبهعسيخهبعيسخهبعأصحاب هذه الأندية لبذلوا في النسخة الواحدة ثمن عشرين أو ثلاثين نسخة أو أكثر من عشرين وثلاثين!
لأن النسخة الواحدة يقرؤها عشرات بعد عشرات، وثمن النسخة الواحدة يتعاون عليه عشرات بعد عشرات. فليس الإنصاف أن يطلبوها بغير ثمن كما يطلبها الفرد الفقير، وإنما الإنصاف أن يبذلوا ثمنها على الأقل، إن لم يتجاوزوا ذلك إلى شراء نسخ كثيرة يتداولها(731/3)
القراء، ويتخذوا من التعاون بينهم سبيلا إلى الاطلاع الذي لا سبيل إليه للآحاد المتفرقين.
ويتخيل القارئ ما يكون لو أجيبت الأندية إلى طلبها العجيب من المؤلفين.
فقد تتسع المدينة لعشرات من الأندية يؤمها أعضاؤها الذين يعرفون تأسيس الأندية والاجتماع فيها، وهم على الأغلب من طبقات المثقفين والمكفيين، إن لم يكونوا من طبقة الموسرين والأعلياء.
وقد يبلغ هؤلاء الأعضاء عدة مئات أو عدة ألوف، وقد يعم الطلب من المدن كلها لا من مدينة واحدة أو مدينتين. فإذا استوفى هؤلاء أو بعض هؤلاء قراءة الكتب بغير ثمن فمن الذي يشتري الكتاب، وعلى من يعول المؤلفون والناشرون! ولماذا يأبى النادي على مشتركيه أن يطلبوا المرطبات بغير ثمن وأن يلعبوا البليارد بغير ثمن وأن يولموا الولائم بغير ثمن ويستثنى الكتب وحدها من هذه القاعدة فيجعلها تبرعاً مباحاً لا يدخل في الحساب!
إن الاستثناء الوحيد الذي يجوز في هذه الحالة هو استثناء الأندية الخيرية التي يختلف إليها فقراء الشعب للقراءة وسماع المحاضرات، ولكن العبء الأكبر في هذا الاستثناء ينبغي أن يحال على ذوي الأموال قبل أن يحال على ذوي الأقلام، لأن ذوي الأقلام ينهضون بعب الفكر ويحتاجون إلى من ينهض بأعباء معيشتهم في كثير من الأحوال.
هذه تجربة التأليف، وليست هي بأعجب التجارب ولا بأحوجها إلى التدبر والملاحظة، ولكنها شيء من أشياء، قد نعرضها (شيئاً فشيئاً) على شركاء المؤلفين في مهمة الثقافة والاطلاع، وهم جمهرة القراء.
عباس محمود العقاد(731/4)
على ثلوج (حَزْرين)
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي صديق:
خطر لي من سنوات أن أرى لبنان في الشتاء، ولبنان في الشتاء له فتنة الراهبة الصبوح بجلبابها الأبيض الذي لا يبدي من جمالها إلا قليلا يثير الرغبة في الكثير، كالجرعة من الكأس لا تبل الصدى ولكن تزيد العطش، والفصل من الرواية لا يغنيك عنها، ولكن يشّوقك إليها، فرحلت بالسيارة مع جماعة من الإخوان من بيروت إلى عاليه، حتى إذا بلغناها، تركنا الطريق المعبد الذي يمرّ على بحمدون وصوفر، وصعّدنا في الجبل، نمشي على غير طريق، وكان الصعود أول النهار سهلا: وكنا أقوياء أولى نشاط، فما قارب المساء وجاوزنا قرية (حزرين) حتى توعرت السبل، فلم نعد نرى من حولنا على مدٍّ البصر إلا ذرى متعمّمة بالسحاب، وتلالا مكسوَّة بالثلج، تبدو القرى في سفوحها البعيدة، وكأن بيوتها المتفرقة بمداخنها، بواخر تمخر العباب، فجعلنا نفتش عن طريق نعود منه، فلم نجد إلا ثلجاً منبسطاً، يخفى السبل ويغطي الأرض، فلا نتبين مواضع الهوى لنتجنبها، ولا نرى الحفر لنحيد عنها، فلم تكن تمر لحظة حتى نقع في حفرة، أو نقدم على السقوط في هوَّة، فآثرنا التفرق علَّ واحداً منا يرى منزلا فيدل عليه إخوانه، وأظلم الليل، وانفردت في مهامه الجبل، واختلطت عليَّ الأرض بالسماء، والتقى الثلج بالسحاب، وهبت الرياح متجمدة من القرّ، كأنها المبارد الخشنة، تحمل برّداً ثقيلا جعل يسَّاقط على وجهي، كالرصاص المندفع من الرشاشات.
وألهب الخوف أعصابي وإن كاد البرد يجمد أطرافي، وصوَّر لي الوهم أشباحاً مرعبة تحيط بي، فكنت أعدو هارباً منها حتى تكلّ قواي، فأقف لأستريح قليلا، فأحسُّ كأن جنياً جباراً يسوقني فأعود إلى العدو. . . وطالالمسير وطال الليل وتهت فما اهتدى إلى منزل، وتاه الفجر فما يهتدي إلى مطلع، ونفذت قواي وحطمني الجهد، فتمنيت الموت وعزمت عليه، وجعلت أفتش عن واد أتردَّى فيه، فرأيت من بعيد نوراً خافتاً، يحاول أن يخترق يحجب الظلام، فيعجز ويرتجف كأنه مقرور مثلي يقضقض عظامه القرّ، وأعصابه من التوتر والفزع كالأسلاك المحماة بالنار، أو كأنه خائف مثلي من الوحدة في هذه الأعالي(731/5)
الموحشة فهو يرتجفمن الخوف، فأسرعت إليه إسراع المشرف على الغر في اللجة الهائجة إلى السفينة المنجية يرى ضوءها، أو الشاطئ الآمن يبصر مناره، وهبطت وادياً كأنما تعزف فيه الشياطين من أصوات رياحه، ثم صعدت جبلا كأنه من استوائه صرح قائم، حتى وصلت إلى النور، فإذا بيني وبينه سور كأنه كان يوماً. . . سور حديقة، فعالجت بابه لأفتحه فإذا هو صدئ المفاصل كأنه لم يفتح من دهور، فحططت عليه بمنكبي، ودفعته دفعة الآيس، فصرَّ صريراً مخيفاً، رددته هاتيك البطاح، فكان له مائة صدى انبعثت كلها معاً ثم حملتها الرياح إلى بطون الأودية، وعاد السكون، فولجت أحسب أن الرحمة في باطن الباب، الذي كان في ظاهره العذاب، وإذا أنا بشبح أسود يثب إلى وجهي، ويتعلق بي، وله صوت لم يقع في أذني أفظع منه، فنظرت إليه وقد شل الفزع أعضائي وسمَّرت قدماي بالأرض، فإذا هو كلب ضار، يهم بأن ينشب فيَّ مثل أنياب الذئب الكاسر، فتبلد حسي واستسلمت للقضاء، وتوقعت الشر. . . ولكني رأيت الكلب يعدني ويبتعد عني، قد دعاه صوت من داخل البيت فانصرف إليه مزمجزاً ثم أقعى غير بعيد. ومشيت إلى البيت فدخلت إلى ردهة دافئة، فيها كهل وامرأة وشيخان عجوزان، فسلمت فلم يردَّ أحد منهم، ولبثوا يحدقون فيَّ جميعاً بعيون فيها الدهشة والبغضاء، شاخصة لا تطرف، كأنهم يرون فيَّ مخلوقاً عجيباً انشقت عنه الأرض، فلما طال ذلك منهم، ملكتني الحيرة وأخذني من الخوف ما لم يأخذني وأنا معلق بين السماء والأرض، تائه لا أعرف لي متجهاً، وهممت بالفرار ثم خفت أن يلاحقني الكلب، وذكرت الكلب فنظرت إليه فإذا هو رابض يزمجر يريد أن يثب عليَّ فيكفّه الكهل بقدمه، وتجلدت فقلت لهم:
- أنا غريب ضل في هذه الجبال حتى وقع عليكم، وأنا أعتذر أن أزعجكم، وأرجو أن تمنوا عليّ بقدح شاي أطفئ به حر جوفي الذي ألهبه الخوف، وأدفئ به أطرافي التي جمّدها البرد.
فنظرت المرأة إلى الكهل نظرة لمحت فيها خليطاً من الحب والبغض، والشفقة والرهبة، ولبثت لحظة متسائلة، فهز رأسه كالموافق، فقامت تعدّ الشاي، وألقيت بنفسي على مقعد قريب من النار، وجعلت أسارق القوم النظر، فأرى الكهل قوياً متين البناء، لم يجاوز الخمسين، ولكن الهم الذي تبدو عليه ظواهره قد شيَّخه قبل أوان الشيوخة، وأرى المرأة في(731/6)
نحو الأربعين، ذات جمال وادع قد حجبه ستار من الكآبة والغم، فهو يضئ من ورائه كما تضئ الحلية النفسية من تحت الغبار المتراكم، وجاءت بالشاي فشعرت وأنا أشربه أنه يمشي في عروق كما يمشي الريُّ في النبتة الذاوية تسقيها الماء. ثم قلت لهم: هل تأذنون لي أن أرقد ما بقى من الليلة على هذا الكرسي؟
فقال الكهل بيده وأن لا، وأشار إلى الخادم الشيخ، فسلك بي ممرات وجاز أبواباً كأنها ممرات قصر كبير، لا كوخ منقطع في رأس جبل لا يبلغه جنٌّ ولا بشر، حتى دخل بي بهواً فسيح الجوانب، تفوح منه رائحة القدم والهجران، أحسست لما ولجته أني ولجت جوف مقبرة من المقابر، فوضع الشمعة التي كان يحملها على الموقد، وأحنى رأسه وخرج، وتلفت فرأيت الشمعة قد رسمت ظلالا على الجدران صورها لي الرعب شياطين ذات قرون وأنياب فذهبت إلى الباب أريد الخروج فوجدته مقفلا عليَّ، فلعبت بي ظنون السوء، وزاد بي الفزع حتى رأيت الجدران تنأى عني، والمكان يكبر، ووجدت أن الأرض تدور بي، فصرخت، فعاد الخادم الشيخ فقال: مالك؟
فاستحييت أن أقول له إني خائف. فقلت: ألا تتكرم بإيقاد النار؟
قال: إن الموقد لم يستعمل من عشرين سنة.
قلت: كيف تهملونه عشرين سنة؟
قال: لقد أهملنا البهو كله، منعنا هاني أن ندخله بعدها؟
قلت: بعد من؟
فانتبه وقد كان غافلا، ونظر حوله جزعاً يخاف أن يكون قد سمعه أحد، ثم قال لي:
- تصبح على خير.
وانحنى وخرج مسرعاً.
وغطى التعب أخيراً على مخاوفي، وخفق رأسي، فجئت الفراش لأنام فإذا عليه أرطال من الغبار، فنفضته فهبت زوبعة محملة تراباً فأغمضت عينيَّوغصت في الفراش، لم أعد أبالي من الونى أن يكون مثواي قبر أو مزبلة أو جحر ثعبان. فلم أكد أغفى حتى سمعت مثل أصوات المدافع، تدوّي في أذني فتبدد النوم من عينيَّ ثم ضعف الصوت حتى سمعت منه وأنا بين النائم واليقظان: هاني. هاني. ففتحت عينيَّ، فرأيت الفجر قد بدا، ورأيت الرياح(731/7)
تحرك باب النافذة فيكون منه هذا الصوت، فأغلقته، ولكن الصوت لم يبرح يطنُّ في أذني ينادي: هاني. هاني. فذهبت إلى آخر البهو، وهو يلاحقني، فعاودني الفزع فصرخت، حتى سمعني أهل الدار كلهم، وأقبلالكهل مغضباً يقول: ما هذا؟ قلت: هل في هذه الدار من اسمه هاني؟ ففتح عينه وقال: ولمه؟
- قلت: صوت لا يفتأ ينادي: هاني. هاني.
- قال: سمعته؟ أنت سمعته؟ أهو صوت امرأة؟
وجعل يهزني كالمجنون.
- قلت: نعم.
فأرسلني وفتح الباب، وعدا يخب في الثلج. . .
ولحقته المرأة كأنها تحاول ردَّه، ولكنها وقفت في الباب، وألجم الخوف لسانها فلم تنطق ولكن نطقت عيناها، فأبانتا، وأطل منهما الحب لحظة ثم ارتد، كما يرتد عن النور سجين طال عهدهبالظلام. . . وقرأت في وجهها صحائف تاريخ لم أفهم منها شيئاً، فتركتها وأقبلت على العجوز، وقد انتحت ناحية تبتسم ابتسامة غريبة، كأنها تقول: أنا أفهم ما لا تفهمون، وأنتظر من زمان هذا الذي ترونه الآن وتعجبون منه!
فأشرت إليها أسألها.
قالت: سأحدثك. سأشرح لك. إنه تاريخ طويل ختم في هذه اللحظة. إنها قصة هائلة مشت بأحاديثها الركبان، وكتبتها الأقلام، وصورتها (الأفلام) وصارت من روائع الأدب، لقد مثلت على هذا المسرح قبل أن تمثل في (السينما) ولكن انتهت الرواية ولم يزح الستار، فلبث الممثلون حائرين لا يدرون ماذا يصنعون؟ وعيون النظار تكاد تأكلهم. تصور ثقل هذه اللحظات وشدتها، إنها لا تحتمل وإن كانت لحظات قصاراً، فكيف إن دامت عشرين سنة. . .
عشرين سنة ونحن نعيش بلا عمل، ننتظر أن يرخى الستار على هذه المسألة التي مثلناها، فلم يزح إلا الآن. . .
- قلت: وأين ذهب الرجل؟
- قالت: ذهب يلبي نداءها.(731/8)
- قلت: وأين هي التي كانت تناديه؟
- قالت: لقد ماتت!
- قلت: ماتت؟ وهل يرجع من مات؟!
- قالت: نعم إن في الوجود قوة ترجع الموتى: إنها قوة الحب. فإن كنت في شك فاستمع قصتها:
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي(731/9)
2 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
هذه دهلي الجليلة القديمة، دهلي ذات الخطوب والغير، وأم الوقائع والعبر، وسجلّ الملوك والدول.
دهلي المماليك والتغلقية والخلجية واللودية والتيمورية، دار قطب الدين، وظهير الدين، ونصر الدين، وجلال الدين، ومحي الدين.
دهلي التي ضمت تراث الإعصار، من جلائل الآثار، يكاد القلم يجمح عليَّ منطلقاً في الكتابة عنها، كما يستنّ الجواد حين يرى حلبة السباق، أو تمرحه فسحة المروج؛ ولكني أؤخر الكتابة عن هذه المدينة العتيقة حتى أفرغ من حديث المؤتمر الذي سافرت إلى الهند من أجله:
دعا (المعهد الهندي للشئون العالمية) إلى مؤتمر للعلاقات الأسيوية، فأجابت الدعوة أمم آسيا. ودعيت مصر لأنها إحدى الأمم العربية فهي آسيوية وإن كانت أفريقية في جغرافيتها.
وقد دعيت الأمم كلها المستقلة وغير المستقلة. وكانت الأمم التي تجاهد لاستقلالها أحرص على شهود المؤتمر لتعلن عن نفسها، وتنشر بين المؤتمرين دعوتها. وكان عدد المندوبين مشتركين ومراقبين زهاء مائتين. وقد اختلف الأمم في عدد مندوبيها، وكانت مصر خاصة ودول الجامعة العربية عامة ممثلة باثنين مراقبين، وكنت ممثل مصر، وشاركني نائب القنصل المصري في الهند.
وكان موعد المؤتمر الثالث والعشرين من شهر آذار (مارس) الماضي، ودام اجتماعه عشرة أيام. فاجتمعت هنالك وفود الأمم، بل حشرت آسيا ألوانها وأزياءها ولغاتها وعقائدها وحضاراتها في صعيد واحد.
وشهد المؤتمر من الأوروبيين والأمريكيين أحد عشر مراقباً.
وكانت لغة المؤتمر الإنكليزية، وهي لغة العلم في الهند اليوم ولغة الخطاب، يتحادث ويتراسل بها الهنود الذين تختلف لغاتهم. ولم أسمع في المؤتمر هندياً يخطب بغير(731/10)
الإنكليزية حاشا جوا هرلال نهرو؛ خطب في حفلات الافتتاح والاختتام بالأردية والإنكليزية. وكانت رياسة المؤتمر للسيدة ساروجيني نايدو خطيبة الهند وشاعرتها وبحث المؤتمر في أمور كثيرة قسمت إلى هذه الطوائف:
1 - مساعي الأمم إلى الحرية
2 - والهجرة ومسائل الأجناس البشرية
3 - والتطور الاقتصادي والمساعي الاجتماعية
4 - والمسائل الثقافية
5 - والمسائل النسائية
وقد بحثت كل طائفة من المسائل لجنة خاصة من أعضاء المؤتمر، وسجلت ما انتهى إليه بحثها. وتلى تقرير كل لجنة في لجنة عامة من الأعضاء، ووضع بعد المجادلة في صيغته الأخيرة.
وكان للمؤتمر ثلاث حفلات للافتتاح والاختتام؛ شهد حفلتي الافتتاح زهاءعشرة آلاف، وشهد الحفلة الخاتمة نحو خمسة عشر ألفاً وحضرها غاندي.
وكان النظام محكما في هذه الاجتماعات الحاشدة، وكانت الصبايا الهنديات يرشده الوفود إلى مقاعدهم من المؤتمر، وكنّ في اجتماعات اللجان العامة كذلك يتولين التنظيم والخدمة.
وكانت حفلات الافتتاح والاختتام في قلعة كبيرة قديمة من آثار الدولة الإسلامية تسمى (برانا قلعة) أي القلعة العتيقة. وهي بقايا قلعة فسيحة عالية الأسوار رفيعة الأبواب.
وقد طبع المؤتمر كثيراً من أبحاثه وفرقها على الأعضاء، وفيها أبحاث قيمة جديرة بالعناية، وهي مفيدة في تعرف مستوى الثقافة في الأمم الآسيوية وتبين الوجهات الفكرية والنزعات الاجتماعية في هذه الأمم.
وقد حرص القائمون على المؤتمر، ولاسيما نهرو، على أن يشكل معهد آسيوي دائم له فروع في الأقطار الآسيوية كلها، ليقوم على الصلات الثقافية والاجتماعية التي عنى المؤتمر بالنظر فيها.
وقد نص في القانون المقترح للمعهد على أن يكون له رئيس وأمينان أحدهما من البلد الذين اجتمع فيه المؤتمر أول مرة والثاني من البلد الذي يجتمع فيه المؤتمر اجتماعه الثاني، فكان(731/11)
رئيس المعهد، وأحد أمينيه من الهند، وأمينه الثاني من الصين، وهي القطر الذي يجتمع فيه المؤتمر للمرة الثانية سنة 1949م.
والحق أن خطط المؤتمر في استقبال الوفود وإنزالهم ونقلهم إلى مجامع المؤتمر، وفي ترتيب اللجان وتوزيع المنشورات، وفي تنظيم المعارض وزيارة الآثار والمتاحف - كانت خططاً محكمة.
وأحسب القائمين على المؤتمر أرادوا فيما أرادوا من الدعوة إليه، أن يعظموا شأن الهند، ويبينوا مكانتها في آسيا في طور الانتقال الحاضر، وفي هذا ما فيه من إعظام شأنهم في مفاوضة الإنكليز. ولست أدري أقصدوا كذلك أن يظهروا الهند مظهر الأمة المجتمعة الكلمة، الموحدة المقصد، ويخفوا جهد الطاقة ما كان يضطرب به الهند من صدام بين دعوة الهنادك، وهم الدعاة إلى المؤتمر ومعهم قليل من المسلمين، وبين دعوة الرابطة الإسلامية إلى إقامة دولة إسلامية مستقلة في مواطن الكثرة الإسلامية.
وقد اهتم الداعون إلى المؤتمر باشتراك الأمم الإسلامية فيه، وبعثوا رسلا إلى بعضها ليطمئنوا إلى إجابة دعوتهم. وأرسلت طائرة خاصة إلى أندنوسيا لتحمل سلطان شهريار رئيس وزرائها. وأحسب لهذا الاهتمام صلة بهذا الاختلاف بين حزب المؤتمر الهندي والرابطة الإسلامية كما أبين من بعد. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(731/12)
في أساس البلاغة
للأستاذ السهمي
جاء في (أساس البلاغة) للإمام الزمخشري في الطبعتين وفي مخطوطة:
(. . . وتقول: بات فلان في الشفق، والفلق من الشفق إلى القلق أي في الخوف والمقطرة، وهي خشبة تفلق لأرجل اللصوص والدّعار يقطّرون فيها، ومن المجاز قول النابغة:
فإن تبلج فلق المجد عن غره ... مواهبه فأنت قسيم ما أفدت)
لم تعلق الطبعة الأولى على القول، وروايته فيها هي:
(فإن تبلج فلق المجد عن غره=مواهبه فأنت له قسيم)
وقالت الطبعة الثانية: (هكذا ورد بكل النسخ فليحرر).
فيبدو قول النابغة بهذا الرسم كأنه بيت شعر، وهو ليس كذلك، إلا أن يعد كل ما يكتب من الأقوال كما يكتب الشعر شعراً). . .
كلام الذبياني هو قسم من خبر هداني الله إلى مظنته، ولولا (أبو القاسم) ما اهتدينا. قال الزمخشري في إحدى مقاماته:
(ثم خوَّلك من جزالة الفضل ما حلّق على هام أمانيك ولم تطمح إليه ظنون عشيرتك وأدانيك).
وقال الإمام في الشرح:
(حلق على هام أمانيك نوع من المجاز لا تراه إلا في كلام من هو من البلاغة بالمنظر الأعلى كما حكى عن النابغة أنه استأذن على النعمان، فقال له الحاجب: إن الملك على شرابه. فقال النابغة: فهو وقت الملق تقبله الأفئدة وهي جذلى للرحيق والسماع، فإن تبلج فلق المجد عن غرة مواهبه فأنت قسيم ما أفدت).
في هذا الخبر قول النابغة الذي بلبل ناسخي (الأساس) وطابعيه. . .
ولما أطلعت الأستاذ (أحمد زكي العدوي) والأستاذ (عبد الرحيم محمود) - وهما من البقية المحققة - على الهدية الزمخشرية طربنا كلنا طرباً يعجز القلم عن وصفه. وأبو الطيب المتنبي يقول في مثل هذه الحال: (رب مالا يعبر اللفظ عنه).
وجاء في (الأساس) في الطبعتين وفي المخطوطة، والخطب هنا هين، لا بلبلة فيه. . .(731/13)
(ومن المجاز درع درمة: ملساء قد ذهبت خشونتها وقضض جدتها وانسحقت قال:
يا خير من أوقد للأضياف ناراً زهمه ... يا فارس الخيل ومجتاب الدلاص الدرمه
زهمة كثيرة ودك ما يطبخ بها، ومكان أدرم مستو أملس)
القول شعر حقاً، ولكنه بيتان لا بيت واحد، وقد سطرا في الكتاب كما ترى، وهما في مقطوعة رواها أبو علي في أماليه، وهذا تصوير المقطوعة بكمالها:
يا مُرَّ، يا خير أخ ... نازعت در الحَلَمهْ
يا خير من أوقد لل ... أضياف ناراً جحمه
يا جالب الخيل إلى ال ... خيل تَعادى أضِمَه
يا قائد الخيل ومج ... تاب الدلاص الدرمه
سيفك لا يشقى به ... إلا العسير السنمه
جاد على قبرك غ ... يث من سماء رزمه
يُنبت نَوراً أرِجا ... جَرجارُه واليَنَمه
قال أبو علي: الحلمة: طرف الثدي. والدرمة: اللينة التي لا حجم لها. وأضمة غضابي يقال: أضم عليه أضما أي غضب عليه ورزمة: مصوتة).
في طبعتي (الأساس) ومخطوطته مشكلات ستُحل بحول الله ومعونته.
السمهي(731/14)
سعد الله الجابري
في ذمة الله
للأستاذ أحمد رمزي بك
رغت الرعود وتلك هدة واجب ... جبل هوى من آل عبد مناف
غمرتني موجة حزن وتشاؤم قلما أشعر بمثلها، حينما حملت إلى الصحف في عزلتي الريفية نبأ وفاة الجابري، وأنا الذي لم أره منذ غادرت أراضي سورية إلا لماماً، فإذا كتبت عنه بعد وفاته، فإنما أستعيد ذكرى الأيام التي عرفته فيها فأثرت صداقته فيَّ لا كسياسي أو زعيم أو رئيس حكومة بل كرجل مجاهد شاء وده أن يعدني في يوم مضى من بين من يثق بهم، ممن اتصلوا به وأنسوا بوده ولمسوا شمائله وغمرهم بعطفه وأخوته ومحبته، فمن أول يوم تلاقينا فيه، وكان ذلك في بلدة صوفر من أعمال لبنان عام 1940، كنت أشعر دائماً في حضرته بشيء يجذبني نحوه ويجعلني أطمئن إليه وأنصت لما ينطق به، ومرت الأيام والسنوات وهي تحمل بين طياتها الحوادث الجسام وأعمال الجهاد المتتابعة المتلاحقة لإقرار الدستور وعودة الحياة النيابية ثم مفاوضات الوحدة العربية التي انتهت إلى ميثاق الإسكندرية، فإذا هذه المنزلة في نفسي تلعو كل يوم وتثبت، فلا تؤثر فيها روعة المركز ولا تباعد الأيام لأنها كانت هبة من هبات الله. . .
وأذكر أنني حضرت معه في الطائرة من دمشق وأمضينا أياماً بالقاهرة وأخرى بالإسكندرية، فإذا بنا نكتشف أشياء في مصر، بقيت غامضة عني بعد أن قضيت عشرين عاماً متغرباً فجاء الاتصال بالحقائق مراً على النفس في أيام كانت تمر سراعاً وتجعلنا كل يوم أمام جديد، وسرعان ما أقنعت نفسي بالبقاء في مصر والتخلف عن العودة إلى دمشق، وذهبت إلى قصر الزعفران فوجدت الجابري هناك، ولمحت في نظراته أشياء قرأتها على وجهه ولمستها من إشعاع عينيه ودار الحديث عاماً، ولما استأذنته قلت إنكم تسافرون غداً، أما نحن فوالله قاعدون، فتجهم وجهه وقال لي كلاماً لن أنساه ولم يأت الوقت للإفصاح عنه.
فأمسكت بيديه وضغطت عليهما وقلت: كتب على الذين أمنوا أن يصبروا ويصابروا، فبالله عليك لا تجعل لهذا الكلام تتمة لا بالقول ولا بالعمل، فوعدني واتجه سعد الله الجابري(731/15)
اتجاهاً أملاه عليه اجتهاده واتجهت وجهة أملاها الله عليّ، وجاء موعد سفر الوفد السوري في اليوم التالي فرافقته إلى المطار وبقيت بمصر أنتظر الخروج من وقائع الدهر، فإذا بالأقدار تدفعني دفعاً إلى غاية لا أعلمها لأن صروح الحياة الاستقلالية اندكت في لبنان، وإذا أنا بين قرارين: الإقدام والسفر، أو النكوص والبقاء، وفي الثاني الخير كل الخير وفي الأول مواجهة الأخطار والمستقبل المظلم؛ فاخترت ركوب الأخطار وسافرت على بركة الله. وفي ليلة من الليالي الكالحة السواد، دخلت قبل انتصاف الليل مدينة دمشق فما علم بمقدمي حتى أذن لي بالدخول عليه. فقال أن مجيئك في هذه الساعة من الليل لابد أن يكون لأمر خطير. قلت نعم هو لخدمة أؤديها. قال وكيف تركت بيروت والفرنسيون يمنعون التجول بعد السابعةوأراك تركتها بعد ذلك بزمن طويل، قلت حرستني سيارتان مدرعتان على كل واحدة منهما مدفع رشاش استلمتني واحدة من وسط البلد وأخرى من فرن الشباك، وتركتني الثانية عند عاليه، ولازمتني الأولى حتى ظهر البيدر كأنهما تتوهمان أن طريقي سيكون إلى بيشامون. ولما عرضت عليه ما جئت من أجله قام فوراً إلى قصر رئاسة الجمهوريةوأطال المكث هناك، ونمت مستريحاً لأني وضعت الأمر بيد رجل إذا اقتنع فعل. وفي الصباح المبكر أعلمني دولة جميل بك بما طمأن قلبي، وفي المساء لقيت الجابري فإذا هو يمزح كعادته ويقول: تصور لو تأخرت مجازفتك دقائق معدودة إذن لضاع الوقت معنا.
ثم تغيرت الأيام وتبدلت، أما سعد الله الجابري وطائفة من أهل سورية فلم يتبدل لهم موقف معي. لقيته بعد ذلك بمصر فما إن وقع نظره علي حتى خف إلى لقياي وأخذني بالعناق على مشهد من رجال مصر الذين دهشوا من هذا اللقاء. إنهم لن يعرفوا ما كان بيننا في طريق الجهاد الوعر لتحقيق المثل والأهداف. ومات سعد الله وكتب عنه الكتاب وإذا بكثيرين يقولون إنه كان عظيمافي مواقفه الحاسمة وتصريحاته الجريئة، أما أنا الذي عرفته قبل أن يعتلي المراكز ويحكم، فأقول إن مواقفه وتصريحاته كانت أمراً عادياً يأتيه كل يوم، كانت جزءاً من شخصيته وفكره وروحه لا يشعر بخطورتها ولا تشغله لحظة واحدة بعد إتمامها وهذا سر عظمته وتفوقه. . .
والآن وقد أغمض عينيه واستراح بعد أن كان ملء عين الزمن، لا يهمني أن أسوق المدح(731/16)
إليه وأن أشيد به وأقول إنه من أولئك الذين جاءت إليهم العظمة تسوقها الأقدار دون أن يكلفوا أنفسهم أن يلفتوا الأنظار إلى أفعالهم وأقوالهم وإشاراتهم ليقر لهم الناس بالعظمة والعلياء، وإنما هو رجل جاء إلى الدنيا والعظمة والبروز والعلياء عنصر كامن فيه، تراه في خلقته ومظهره وحديثه، فيدفعه إلى الخطير من الأمور في كل يوم ليعالجه بفكره وعقله وأعصابه وإيمانه، ويعرف عنه الناس هذا من أهله وعشيرته وقومه وأصدقائه قبل أن تعرفه عنه المناصب العليا وترفعه الزعامة والسياسة إلى مراكز الحكم والاقتدار.
ولقد رأيته سهلا حتى إذا اقتنع بأمر وملك عليه فؤاده وفكره اندفع إليه دفعته التي لا تبالي، واقتحم العقبة وراء العقبة والناس حيارى من أمره يتساءلون أهي دفعة عن حق وعقيدة وإخلاص أم هي لغاية في نفسه؟ أما أولئك الذين عرفوا وفهموا وأحبوا هذا الرجل فلم يكن لهم أن يتساءلوا لأنهم عرفوا البطولة والإخلاص يجتمعان في قلبه، ولمسوا المحبة والإيمان يلتقيان فيه، فهم لن يتساءلوا، إذ هو في مخيلتهم كما هو في نفسه: سيف من سيوف الحق جاء والناس في حاجة إليه، فأدى ما عليه ولمع لمعاناً في حياة أمة لا شك أنها تحن لذكراه وتحمل له أطيبها في القلوب.
في مدينة حلب ولد ونشأ سعد الله الجابري في بيت قديم لمع أفراد منه في القرن الماضي الهجري والقرن الحالي وأدوا للدولة العثمانية والخلافة جليل الخدم، نجد تراجمهم في أعلام النبلاء وفي تاريخ حلب للبالي.
وحلب قلعة في الخطوط الأمامية للعروبة، ولأهلها المكانة البارزة والمنزلة الراسخة في تاريخ العرب والإسلام، أما نحن أهل مصر فقد ارتبطنا بهم منذ جمعنا وإياهم رجل مصر الكبير أحمد بن طولون، وعدا فترات قصيرة، اشتركنا مع أهل حلب في كتابة تاريخ الإسلام لعصور مضت، وحاربنا الأمم من مختلف شعوب الأرض وهم معنا في المصاف كتفاً لكتف، فامتزجت دماء شهدائنا بدماء شهدائهم، وما من شدة لقيتها قلعة حلب إلا شاركتها فيها قلعة مصر، وكانت نيابة حلب ثالثة المراكز الكبرى في الدولة المصرية القاهرة، وفي تاريخ مصر عدد من ملوكنا بدءوا حياتهم كنواب للسلطنة في حلب.
فهذه حلب درة في جبين العرب، ولأهلها المكانة السامية جزاء ما قدموا في سبيل العروبة والإسلام، ولذا لا تعجب أن يكون ابنها البار سعد الله الجابري في مقدمة هذا الرعيل من(731/17)
العرب الذين آمنوا بأن الوحدة العربية وجامعةالدول العربية هي حلم من الأحلام بغير مصر العربية، لأن بلادنا هي قلب العروبة، بل العروبة ومصر صنوان. وذلك موقف للجابري وجميل مردم وغيرهما من رجال سورية يجب أن يعرفه كل مصري ولا ينساه. بل أمانة في أعناقنا أن نحفظ لهؤلاء القادة الجميل الذي أسدوه ألينا في وقت كان عدد المؤمنين بمصر يعد عندنا على الأصابع وفي زمن كان من يجاهر بعروبة مصر يعد عندنا مارقاً من الوطنية خائناً للقوميةالمصرية. فلنذكر هذا جيداً ولا ننسه.
لم يكن سعد الله الجابري ممن تستهويهم القيادة والسيطرة على الجماهير والتحرك من مكان إلى مكان وفي ركابهم (القبضايات) بل كان رجلا وضع ما يملك من مال وعمل في خدمة أمته، معتمداً على ماض ناصع أبيض، وعلى نفسه الكبيرة وما تحمل من آمال كبار، وكان في أدوار حياته مجموعة أعصاب وإرادة تدفعها صراحة متناهية وإخلاص وتفان في سبيل المصلحة العامة.
وأول ما يبدو في شخصيته هو توفر عدد من الصفات الممتازة التي يربط بينها نوع من التوازن والانسجام تلمسها من حديثه معك ومظهره وتأنقه وابتسامته، فهو قد نشأ في العز والسعة فظهرت أقواله وإشاراته وحركاته طبيعية لا أثر للتكلف فيها، ولذلك اندثرت من قرارة نفسه، وتوارث كل آثار مركب النقص الذي يشكو الكثيرون منه، وتحرر بهذا من طائفة من مواطن الضعف التي لا يقدر على التحرر منها من لم ينشأ نشأته ويذهب مذهبه في فهم الدنيا.
وكان مؤمناً بحق بلاده وعظمتها، وهذا الإيمان يجعله يستبق الحوادث ويطلب من قومه الإسراع في السير أو يستحثهم على الوصول إلى درجة من النظام والرقي والضبط والربط لا يمكن أن تحتملها طاقة الناس في المشرق الذي بدأ يستيقظ من سنة الكرى عن قرب ويفتح حديثاً عينيه إلى النور. هنا تتلاقى الدوافع النفسية للوصول إلى المثل العليا مع قوة الإرادة والشكيمة التي يحملها سعد الله الجابري، وتواجه كلها الواقع المؤلم فيبدو أحياناً مندفعاً لا تلاحقه أفكار الناس ولن تقدر أن تلاحقه فهو يحمل قبساً من نور الحقيقة ومن نور الإلهام ويشعر بالأخطار القادمة ويريد أن يدعم الأساس ويقوي البنيان وهم تشغلهم حوادث اليوم وتلهيهم مشاكل الساعة فلا يرون ما يراه ولا يتبعونه في خطواته، لذلك(731/18)
أصبح الرجل الذي يجاهد ويكافح ولكن في الطريق الذي اختاره هو لنفسه وأفرغ عليه المبادئ والمقاييس التي فرضها هو على نفسه، وجعل منها قواعد وحدودا لم يكن يحيد عنها ولا يخرج منها. لما أراد أن يأخذها الناس ويقيدو أنفسهم بها، رأوا أنه يحملهم فوق طبيعة البشر وفوق طاقتهم.
إن الذين انتقدوا سعد الله الجابري في حياته لم يفهموا هذه الناحية من نفسه الكبيرة ولو فهموها لأدركوا أي خسارة تحتملها الآن سورية والبلاد العربية باختفاء شخصية نافذة مخلصة، تمتاز بحماستها الهائلة للفكرة العامة واندفاعها لأجل المصلحة العامة.
لقد كان سعد الله من بناة الاستقلال السوري ومن الذين جاهدوا فوصلوا إلى مراكز القيادة، وكانت الدنيا بين أيديهم فإذا هم يخرجون منها وهم أقل ثروة ما كانوا قبل دخولهم الحياة العامة.
كثيراً ما كانت تخونه أعصابه، ولكني لم أعرف لحظة واحدة خانه فيها إيمانه. كثيراً ما تحمس وانفعل ولكن كثيراً ما تحمل لأن قلبه كان كبيراً وعامراً بالدوافع الكبرى: فهو قد حقق مع زملائه لوطنه ما رسمه في مخيلته من حرية واستقلال، وكان يؤمل أن ينقل أمته إلى المكانة التي كان يحلم بها. حقق الله آماله من بعده
إني أعزي الشعب السوري الشقيق وفخامة رئيس الجمهورية ودولة جميل بك مردم وزملاء الفقيد وآل الجابري وأعد فقده خسارة للعرب ولمصر التي أحبتهوأنزلته في قلبها لما ظهر من حبه لها ولأهلها، أسمى منزلة وإكرامها.
أحمد رمزي(731/19)
ابني!
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
لا أدري لماذا ترجع بي الذاكرة إلى الوراء، إلى يوم في شارع ضريح الملك في الأعظمية حيث تقوم (دار لنا بمدرجة الريح). في أمسية هادئة ساجية وقد جلست أنظر في شمعتين اثنتين هما رمز العامين الأولين من عمر (ابني) ولا أدري لماذا تستقيم لي نظرة الوراء. وكيف لا أذكر إلا ذلك العيد الذي احتفلت به بين وفاة الوالد وميلاد الولد: شمعتان اثنتان في ضوئهما الخافت المتراقص. . . وقرص من الكعك صغير، وطفل غرير يزدهيه منظر الشمعتين يريد إطفاءهما. . . وأم تنظر كيف تسير في وادي الزمن مع وحيدها متوجسة متسائلة: ترى كم عيداً تستقبل هي وهو؟ وعند أية شمعة من شموع حياته تخبو شمعة حياتها؟. . . هكذا كانت ترتسم الصورة في ذاكرتي: لون من الليل فاحم ولون مغمور بضوء الشمعتين البرتقالي تخالطه الدكنة في أكثر حواشيه. . . والصمت يحيط بالمكان والمناسبة والنفوس، فلا موسيقى ولا مهنئون، وقد انتهى العيد بأن نام (ابني) في أول يوم من عامه الثالث من عمره المديد السعيد.
وما أدري لماذا أستشعر الكآبة العميقة من هذه الصورة فأجاوزها إلى سابقتها وإلى لاحقتها فأنظر إلى اللاحقة. . . لا شمع ولا فرح وإنما هي صورة في القطار يطوي الشقة الشاسعة. . . إلى مصر. . . يطويها قليلا حتى تنتهي. . وينام (ابني) في أول يوم من عامه الرابع من عمره المديد السعيد! فأحس لذعة في نفسي، ولذعة في هيكلي، فأشكو الأخرى شكاة مؤزرة بالأولى مؤكدة بها. ثم أشكو الصداع ثم أتخاذل فينظر إلي (ابني) وأنظر إليه. . . ثم يأتي الطبيب يفصل في شكاتي الأولى بأن أسكن دار الحميات زمناً. . . وأن يحاط بي فلا أرى (ابني) ولا ألمسه ولا أقوم على خدمته أبداً.
وقال قلبي: ودعي أيتها الأم طفلا، وقال الشيطان. . . إلى غير لقاء، وقال آخرون عرفوا بالرأفة والحنان: سنكفل الطفل ونرعاه، فذريه معنا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون.
وتجاوبت لغة التشاؤم في نفسي المثقلة بذكرياتها، واشتجرت في قلبي شجرة طلعها كأنه رؤوس الشياطين، ولم يبق في حسي إلا بقية الآية: إني ليحزنني أن تذهبوا به. . .!
أجل!. إني ليحزنني أن يذهبوا به. . . وإن كان القوم ذوي أطفال، وإن كانوا ذوي نفوس(731/20)
كريمة وطبع سمح جميل. . .! وأعود من هذا إلى ما سيحس هو به فأقول:
ألا من رأى الطفل المفارق أمه ... قبيل الكرى عيناه تنهملان
ولقد ذهبوا به في رأد الضحى بجدائله التي عقصتها له بيدي المتخاذلتين وقلبي المستخذي الخفاق يمد عيني المحمومتين بالدمعة المهراقة التي لا ترقأ. وأضحى كل ألم في كل مفصل له بولدي صلة؛ فأنا آلم برأسي ألم رأس وألم حس بفراق (ابني)؛ وأنا آلم بحسي ألماً يكبر عن الألم المألوف لأنه مزيج من ألم الحس المثخن وألم الأم تريد ابنها ترى فيه آلامها الكبار السابقة لينحط هذا الألم بفعل المقارنة إلى ما يجوز استمراؤه وقبوله. فهل أكون عقصت شعره لأخر مرة؟
وتعظم هذه الآلام وتبسق وتمد ظلالها فتساقط على نفسي الحالمة بذكرياتها كسفاً من الليل المفعم بأعاصير الكدر، وتتزلزل قواعد الصبر في نفسي وتلقى بها الريح في مكان سحيق فأرتد خاسئة الطرف ذاوية، وأضؤل وأضوي.
وهنا تنفتح عينيعلى غير إرادة، وأرفع كفي إلى رأسي المسجور، لأني أرى في ضعفي هذا وبؤسي هذا. . . ويأسي هذا (ابني) الذي حملوه مع الحقائق إلى دار الكرام الذين قالوا ذريه معنا يرتع ويلعب وآنا له لحافظون. . . وأدير رأسي رويداً رويداً لأسكب على الوسادة دموعاً ثقالا بعد اليوم، لا حراراً كما اصطلح عليها، دموعاً ثقالا من ذوب القلب الحنون تنقض البؤبؤ السقيم فأطرحها على الوسادة طرحاً، وأراها تتدحرج قطرة قطرة. . . وتفرغ عيني منها فأستجلي صورة ابني على مقربة من رأسي. ثم يعتلج في نفسي تسأل هين رقيق.
رققه المرض كثيراً وأمسك عليه الاجابة، ترى علام خلق الدمع؟ الأجل أن يضفي على ألماً جديداً فأرى من خلال ودقه صورة ابني متراقصة وأراها متحركة وأراها ناطقة بدون كلام، وأراها ضاحكة تهون على الصعب، وأراها باكية تشاركني الخطب وتقاسمني الكرب. ولقد أراني الدمع صورة ابني من مشتقات معانيه يزم جبينه وشفتيه شروعاً في جهشة. . . وأراني صورة أمي بجانبه صابرة متجلدة كشأنها، وأراني أمسي داكناً إلا شمعتين، وأراني غدي في لون الضباب. . . ولون الضباب كلون الكفن!!
ولقد يطلب للمريض في فرض الضنى أن يرقب مواكب المنى تمر مستأنية في وخدها(731/21)
وإرقالها، مثقلة بأوقارها وأحمالها. . . تقبل من الأفق الأيسر وتذوب في الأفق الأيمن مارة عبر جسمه المسجى الضعيف تحدو حداتها فيهيم طرفه الفاتر ونظره الغائر في الحدوج ويستلهم الأحمال ويتنخل ما فيها لأيامه الحسان المقبلة، وأنا. . . أرقب هذه المواكب زاخرة بأمانيها، ملأى بما فيها، يقودها الدمرداش من أفق العباسية إلى أفق الزمالك - حيث أبني - فلا أرى ما يستفزني في الأفانين إلا ركوب يستوي على متنه شيء يشع فيمسك الرمق، يدنو في أخريات الموكب فإذا هو طفل بسام الثغر مصفف الشعر هو (ابني) فأصيح وأريد اللحاق فيقال: لا: أنت رهينة التيفوئيد. أجل لقد ذهب الموكب صداحاً لين اللحن عبق الخطو والحداء. وقد رأيت ابني فيه بسام الثغر مصفف الشعر. . . فأبسم لنفسي وأهزأ من دموعي وأجد القدرة على الشفاء. أين الدكتور الدمرداش أشكره على ما أتاح، وأين زوجي أسأله عن ابن فيص على الأمر فأرتاح.
لقد قيل لي منذ أيام إن - ابني - عني سأل، ولابد أنه ألقى سؤاله ذلك خجلا أحمر الوجنتين، خائب الشفتين، فأجابوه بأن أمه في المدرسة. فما أحسن الإجابة! إنني في مدرسة الصبر، أتعلم الموت كيف يهون، وفراق الابن كيف يكون. أما أن ابني احمر الوجنتين خجلا، خائب الشفتين أملا، فلك الله يا مناي، ولي. ما ودعتك أمك وقلت، ولا نسيتك أمك ولا سلت.
منيبة الكيلاني(731/22)
عبرة من كتاب:
حذار يا سيدتي
للأستاذ سعيد الأفغاني
الآن، وقد بلغت بك نهاية الحديث عن السيدة عائشة ومغامراتها السياسية، وآثارها القريبة والبعيدة في حياة المسلمين أودعك موصياً أن تجعل بالك أبداً - كلما قرأت التاريخ - إلى عبره وتجاربه، فتأخذ من كل شيء أحسنه، وتربأ بنفسك وبأمتك أن تغامر في تجربة ثبت ضررها وفسادها، وخاصة إذا كان الثمن الذي قدمناه فيها دماء عشرات الألوف. وأنا أريد أن أختم كلامي بالنص على عبرتين اثنتين من هذه العبر الكثيرة التي تعرض لقارئ هذا الكتاب، تنقذاننا مما نحن فيه اليوم من تخبط، وتنيران لنا طريقاً طال تعسفنا في المتاهات دون أن نهتدي إليه.
أما الأولى: فهي أن المرأة لم تخلق قط لتدس أنفها في المنازعات السياسية. إن لها أن تنصح وتبصر القريبين منها بعواقب الأمور، وليس لها أن تشارك في القلاقل والاضطرابات والفتن. إن بيدها مفاتيح خطرة في التأثير في نفوس الجماهير وفي استغلال حميتهم ونخوتهم ومشاعرهم، وهذا السلاح غير حميد في العواقبولا يصح استعماله بحال. وقد أبنت لك أنه لولا موقف السيدة عائشة في أمر عثمان ثم المطالبة بدمه من بعد لتغير مجرى الحوادث في تاريخنا التغير كله، ولسارت سيراً مأموناً مطرد الرقي مباركا، فيه الخير كل الخير للأقطار الإسلامية. . .
وكان الله الذي جعل النساء لتنشئة الرجال وتربية الأجيال وإدارة البيوت، أراد أن يعظ المسلمين عظة علمية لا تنسى، كلفتهم كل تلك الدماء المهراقة، وفجعتهم بالألوف من الصحابة الأجلاء المهاجرين والأنصار ومن الفحول المذاويد من أبطال الفتح وأعاظم الفقهاء وأساطين القراء ورؤوس الناس. . . ليعلموا: إن لو كان أمر من أمور الرجال الخاصة بهم يقوم بامرأة، لقام بعائشة أم المؤمنين، تلك السيدة الحصيفة التي أوتيت من المواهب والذكاء والعلم والبلاغة والصلاح. . . ما لم يؤته رجال كثيرون مجتمعين، والتي جمع الله فيها من المآثر العظام ما تفرق في العدد العديد من الفحول.
لقد خلدت حرب الجمل مناراً في تاريخ المسلمين: كلما نزغ بهم نزغ من تقليد أعمى(731/23)
لغيرهم من الأمم؛ أو مس من رجعية ذميمة، فهبطوا بالمرأة من الصيانة إلى الابتذال، أو هموا أن يخرجوا بها عما خلق لها وخلقت له. . . قالوا لأنفسهم: أخفقت هذه التجربة في صدر تاريخنا؛ فما بنا من حاجة إلى أن نعيدها عبثاً، أو أن نهرق في سبيلها ثانية دماء جديدة ونخرب بيوتاً عامرة. . . ومن لنا مع هذا بمثل عائشة.
وليذكروا أبداً أقوال عائشة بعدما عاينت هول ما جرته مغامرتها السياسية على الأمة من ولايت، إنها قضت عمرها حسرة وندامة، حتى أذابت الحسرة قلبها وكبدها وحتى قتلها الحزن قتلا. وفي هذه الكلمات البليغات منها عبرة لنا أي عبرة:
(ليتني لم أخلق)، (ليتني كنت شجرة)، (ليتني مت قبل يوم الجمل بعشرين سنة) وقد كانت آخر كلماتها التي ودعت بها الحياة قولها: (إن يوم الجمل معترض في حلقي، ليتني لم أخلق).
إن هناك مجالاً واسعاً لنشاط المرأة حين تجد وقتاً فاضلاً عن شؤون التربية وإدارة المنزل، تستطيع به أن تملأ الأجواء خيراً ورحمة وإحساناً. هذه وجوه الخير مفتحة الأبواب في وسع المرأة أن تلجها فتمارس أموراً عظاماً وتبذل مجهوداً مشكوراً يعود على أمتها بما لا يقل عما يأتيه الرجال المحسنون ثمرة وغناء وطيب أثر.
أمامها من ميادين الخير: التمريض وإسعاف الفقيرات من بنات جنسها بالعلاج والدواء والطعام والكساء. وفي مجتمعنا من المحتاجات ما يشغل عشرات الجمعيات الخيرية من النساء ولا يفي بحاجتهن عشرات المستشفيات.
وأمامها أيضاً كفاح الجهل في بنات جنسها، فلتنشئ لهن المعاهد ذوات المناهج الصالحة لتنشئة الأمهات على ألا تستعير لها برامج الذكور (ببعض التعديل) فقد ثبت مع الزمن أنا حتى الآن لم نقم التعليم الصالح للبنات.
وهناك أمام المرأة العناية بتربية اليتيمات وإنشاء (المياتم) وتعهد أمهاتهن بالرعاية والتوجيه ثم إشاعة الثقافة الصحية بين النساء عامة. . .
ويجب أن ينشأ فيهن المتخصصات في جميع الفروع التي يحتاج إليها النساء والأطفال، وأن يكون منهن العدد الوافي بالحاجة بحيث يسددن عوز النساء في علاج أمراض العين والأسنان والأمراض الداخلية والجلدية وفي حاجات التوليد.(731/24)
فإن كان ولابد من زيادة فإلى المساهمة في كفاح ما يتفشى في المجتمع من امتهان المرأة وإشقائها عن طريق البغاء والقمار والخمور وغيرها من المفاسد التي ضاق بشرورها المفكرون في الغرب والشرق. . .
لدى المرأة إذن كثير من أعمال الإحسان تنتظر من يقوم بها، وفي ذلك الخدمة المخلصة للأمة وأعمار البيوت وإفاضة الخير والسعادةفي المجتمع. . .
ونحمد الله على أن في فضليات نسائنا من تحاول سد هذه الثلمة، إلا أن نسبتهن قليلة جداً بالقياس إلى اللائي تنكبن الجادة متخبطات على غير بصيرة، فهجرن بيوتهن واكلات أمورهن إلى الخوادم، وطفقن يمارسن مالا يعود عليهن وعلى أسرهن وأمتهن إلا بالضرر الخالص والإفساد الكبير: من إقامة حفلات ساهرة مخجلة، وغشيان مجتمعات وأندية، واقتحام أسفار، وعقد مؤتمرات لا يبلغن فيها أمراً نافعاً، بل كثيراً ما يرجعن وقد سبقتهن أشأم الحوادث وأسوأ الأخبار. . . مما يدع السامع ينشد قول جرير يخاطب الفرزدق:
وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عاراً
يقلدن بذلك نساء ضج عقلاءأممهن من أحوالهن وسقط مقامهن فيها من كثرة هذا التبذل، والعبث، وعدن على بنات جنسهن من البريئات بأبلغ الضرر لما لوّثن من سمعة المرأة عامة. ليتنا إذا جئنا بالتقليد اخترنا من نقلد، ففي كل أمة من فضليات النساء النافعات من يحسن الاقتداء به، ولكننا ننتقي أحط المبتذلات ثم نسبقهن في الابتذال أشواطاً يخجلن هن أنفسهن من السعي إليها.
وأبعد من هذا، أننا إذا أمعنا في البيت وما يحتاج إليه تدبيره على خير نسق من علم واسع غزير في الصحة والأخلاق والتربية وعلم النفس، وسياسة الزوج والأطفال، وسياسة المورد والمصرف ورعاية ذلك كله. . . وجدنا أن علم ذلك وإتقانه وحسن إمضائه لا يكاد يبقى للمرأة القديرة ذات المواهب الجمة من فراغ أو جهد فكيف المتوسطات يله الضعيفات. إن ما يلزم لتصبح الأنثى امرأة (مثقفة) ليتضاءل أمامه - في اعتقادي - كل ثقافة ثانية مهما كانت رفيعة مفيدة.
وعلى المرأة الجادّة بعد ذلك واجبات عديدة تستطيع أن تشارك في شرف الخدمة فيها، على شرط واحد: هو أنتتم كل ما عليها من واجب نحو بيتها وأسرتها أولا، وإنما يكون التطوع(731/25)
والصداقة والإحسان فيما فضل عنك من مال أو وقت أو جهد.
هذا، ولست أقول إن المرأة لا نفع منها في باب السياسية، أستغفر الله، إن منها النفع كل النفع من طريق واحد فقط: هو أن تتحلى بكل فضيلة رسمها لها دينها ثم تنشئ عليها أولادها، فما في امرأة فرطت بفضائل دينها من خير قط. والناس على حق حين يهملون كل أدب واحترام إذا رأوا امرأة جامحة على الآداب النسوية التي شرعها الله. والدين للمرأة هو كل شيء في نظر زوجها وولدها وأسرتها والناس أجمعين، فإذا جاهرت بشيء من الخروج عليه فقدت كل احترام في النفوس، وانتقلت نظرة الناس لها دفعة واحدة من التقديس إلى الزراية.
إن من لم تكن أمينة على دينها لن ينتظر منها إلا الشر والخيانة لأسرتها ووطنها، مثلها في ذلك مثل الرجال: رق دينهم فلما مارسوا الشؤون العامة مالئين الدنيا صخباً بدعوى إخلاصهم ووطنيتهم، كان بلاء الأوطان منهم وحدهم إذ كانوا لا يخافون الله ولا يرعون لدين عهداً ولا لضمير حرمة، فانطلقوا يشحنون الأرض خسفاً وكسفاً ونهباً وسلباً واحتكاراً وغلاء وإهداراً للكرامات والقيم وتضييعاً للأمانات والحقوق. وبذلك ضربوا أسوأ الأمثال وأظهروا وطنهم بشر الظاهر. . . ومن مات وازعه الديني ونسى يوم الحساب فلن يرده عن طغيانه رادع من الناس ولا رقيب. . .
وأنا على يقين من أن أمهاتهم مسؤولات - إلى حد بعيد - عن هذا الخزي الذي ارتطموا فيه، إذ أهملن فيهم تربية الوازع وإحياء الضمير وإشعارهم خوف الله والحساب. لقد حرمنهم النشأة الدينية الفاضلة فلم يعرفوا لذتها، ولم يتعهدن ذمتهم وأخلاقهم ففقدوا في أنفسهم الكرامة الإنسانية، فلما تغلبوا وسيطروا كانوا فوق الوحوش ضراوة وشراسة وقسوة قلب، فعم البلاء البلاد والعباد. . .
إلى هذا الحد تبلغ جريمة المرأة الناشئة على غير دين، وتعظم المصيبة بها، وتستفحل آثار شرورها في مستقبل الأمة وسلامة المجتمع.
فلها إذن آثار بعيدة في السياسة، وهي تسدى لوطنها أعظم الفضل أو تبلغ منه أعظم النكاية، لا بنفسها مباشرة فقط، ولكن بنفسها وبما تنشئ عليه أبناءها سياسي الغد من فضائل أو رذائل، وبما تنال ضمير الناشئ ووازعه الديني من عناية أو إهمال.(731/26)
ذلك وقد أعان على تردي المرأة في الخروج على أنوثتها وفطرتها فريق من أشباه الكتاب حملوا أقلاماً ولم يحملوا إخلاصاً ولا أمانة ولا نصحاً. دفعهم الرياء المغشوش على أن يغرقوا في مجاملة المرأة المشتطة الطائشة ابتغاء العبث بها وبكرامتها، فحمَّلوها فوق ما تستطيع من السخط على الطبيعة التي فيها لكل كائن عمل خاص. وكان حق المرأة على هؤلاء أن يأخذوا سيدة بيت ومربية أجيال. وكان من حقها أيضاً على من يزعم نصرتها أن يمسكها عن أن يهوى بها الطيش في مكان سحيق فتفقد ما لها من حرمة هي ملاك أمرها كله في المجتمع. ليتنا في غمراتنا اليوم نسترشد بتجارب الماضي ونسير غير متخبطين: نبصر مواطئ أقدامنا ونتقي المزالق، ونجند كلا في ميدانه الذي يصلح له. لقد تداعت علينا الأمم، وطمع فينا حتى (الصهاينة) من شذاذ الآفاق، وغزينا في أخلاقنا وبلادنا وأموالنا. . . وليس في جهودنا فضل ننفقه في رد العابثين عن عبثهم؛ فليتق الله حملة الأقلام وليصونوا الشاردات عن القطيع، وليرجعوا بهن عن طريق وضعن أقدامهن في أوله وما آخره إلا مستقبل أسود حالك للأنثى أولا، ثم خراب البيوت وهدم الأسر وارتكاس المجتمع وموت كل كرامة امتاز بها الإنسان من دون الحيوانات الدنيا.
وما الانهيار السريع الذي قضى على بعض دول الغرب العظمى في مثل لمح البصر بسبب فساد المرأة، ببعيد فينسى. ولنا فيه درس وموعظة وبلاغ.
سعيد الأفغاني(731/27)
لماذا ينتحر الناس؟
بحث نفسي اجتماعي
للدكتور أحمد موسى
لم يكن الانتحار معروفاً في مصر قبل ربع قرن! وكان الناس على الأرجح أكثر قناعة واحتمالا وأرحب صدراً لمقابلة آلام الحياة وأقل تبرماً بها! أما اليوم ولاسيما خلال العشر السنوات الأخيرة فقد بدت ظاهرة مخيفة، هي إقدام الكثيرين على الانتحار سواء في ذلك الشبان والشابات والنساء والرجال دون فرق ظاهر بين متعلم وجاهل وبين فقير وغني وبين صحيح ومريض وبين متزوج وأعزب.
ولبيان خطورة هذا المسلك ودراسة الدوافع إليه والنتائج المترتبة عليه يجدر بنا أن نلقي نظرة بسيطة على الإحصاء الدقيق المعمول في أمريكا وأوربا.
وخير ما يمكن أن يدرس هو الإحصاء الذي سجله الدكتور فردريك هوفمان أحد مديري شركات التأمين الكبرى في نيويورك، وهو بحكم دراسته ووظيفته ومدة اشتغاله بالإحصاء أكثر من ثلاثين عاماً يعد من الثقاة في هذا الموضوع. يقول هوفمان إن عدد المنتحرين بلغ في سنة 1935 سبعة آلاف، ويقرر بعد عمل المقارنة أن هذا العدد الهائل يعادل ما حصل في بحر عشر سنوات من سنة 1889 إلى سنة 1898، وهذا دليل على أن ترمومتر الانتحار آخذ في الارتفاع.
ومع الاعتراف بفضل تقدم الوسائل الاقتصادية وتأمين العمال ومساعدة العاطلين مالياً وإيجاد سبل العمل لأكبر عدد منهموالتقدم العمراني العام وانتشار التعليم إلى جانب انتشار وسائل التلهية والتسلية؛ فإن هذا كله لم يكن ليمنع ازدياد الانتحار بين الناس على غير ما كان منتظراً ومأمولا.
هذا ما وقع في أمريكا ولكنه قد لا ينطبق تمام الانطباق على ما يحدث في أوربا، وقد يخالف ما يحصل في الشرق على وجه الخصوص.
والشيء الذي تجب ملاحظته هو أن الانتحار يكثر عادة في البلاد المتمدينة عنه في البلاد المتأخرة، وفي العواصم والمدن الكبرى عنه في البلدان الصغيرة والقرى، أي أن حوادث الانتحار ترتبط ارتباطاً وثيقاً بانتشار المدينة؛ ولذلك فلا غرابة إذا وجدنا أن الانتحار غير(731/28)
معروف عند السود في جنوب الولايات المتحدة وفي أواسط أفريقيا. والسبب في ذلك أن مطالب الحياة في البلاد المتمدنة أكثر تنوعاً وأشد إلحاحاً منها في البلاد البعيدة النائية حيث الحياة بسيطة أقرب إلى الفطرة.
وسكان جنوب الولايات المتحدة وإن كان معظمهم من الزراع وعمال مصانع النسيج الفقراء فإنهم يعيشون في أمان من الانتحار إذ لم تزد نسبة المنتحرين عندهم عن اثنين في كل مائة ألف من السكان، على حين قد ثبت أن هذا العدد بلغ ثمانية في كل مائة ألف في الأماكن المجاورة حيث توجد المدنية!
والإحصاء العام يدل في غير شك على أن معظم المنتحرين كانوا من بقاع النصف الشمالي للكرة الأرضية بنصفيها الغربي والشرقي حيث سارت المدينة بخطى أوسع وبسرعة أكبر، وحيث العوامل الجوية دائمة الانقلاب والتغير والتباين، وهو نفس الجو الباعث على النشاط والعمل والإنتاج، فكأن الشعوب التي نالت القسط الأوفى من التعليم والثقافة والتي لديها الأسس الاقتصادية، امتازت أيضاً بزيادة عدد المنتحرين فيها.
وثبت من الإحصاء أن انتحار النساء يكون على أشده بين سن 15 و14 والرجال بين سن 25 و60. إلا أن عدد المنتحرات كان دائماً أقل من عدد المنتحرين، لأن المرأة بطبيعتها المولودة معها أكثر جلداً وصبراً واحتمالا لآلام الحياة، وهي كأم أقل تبرماً بالقدر وأكثر تضحية بنفسها لأولادها، فضلا عن أن مسئوليتها في الحياة أقل نسبياً من مسئولية الرجل المولودة للكفاح والقوامة على المرأة، وليس في مكنته التحرر من واجبات الزوجية أو إهمالها، كما أن واجباته الأولى مساعدتها على البقاء وتأدية رسالتها التي خلقت من أجلها وهي الأمومة، ولذلك فعندما تصادف المرأة من مرارة العيش قدراً مساوياً لما يصادفه الرجل كالآلام النفسانية أو الجسمانية أو الصدمات الحيوية العنيفة؛ فإنها لا تفكر في الانتحار أو على الأقل لا تمثل إليه بمقدار قوة ميل الرجل، لأنها أمهر منه في إيجاد نوع من السلوى وأكثر رضوخاً للتعاليم الدينية وأميل للانحياز نحو الآمال التي قد تتحقق حيناً وتخيب أحياناً.
نعم إن هناك مشكلة التقدير لهذه المتاعب، فقد يصيب المرأة ما يصيب الرجل، وكلاهما يختلف عن الآخر في التقدير.(731/29)
ويمكن التأكد من صحة هذه المعالجة بالنظر إلى عدد المنتحرين في مصر عام 1927 مثلا، فقد بلغ مائة وستة أشخاص بيانها:
السن
من - إلى
ذكور
إناث
1019
10
14
2039
40
11
4059
14
6
60فما فوق
4
5
يضاف إلى ذلك اثنان انتحرا في سن أقل من العاشرة.
ومن هذا البيان يتضح أن المرأة أقدمت على الانتحار بنسبة أكثر في وقت كانت فيه أبعد عن الرزانة وأقرب إلى الآمال، على حيث أقدم الرجل بكثرة عندما شعر بالمسئولية. وكذلك يلاحظ أن عدد المنتحرين قل إجمالا بعد سن الأربعين وتساوى مع الرجل بعد سن الستين. وهذا يؤيد أيضاً أن المرأة أقل اندفاعاً نحو الانتحار من الرجل، وذلك بالنظر إلى مجموع الرجال ومجموع النساء ولا يختلف هذا عن نتائج الإحصاء في أمريكا وأوربا.
وقد كثرت حوادث الانتحار في العهد الأخير بين المتعلمين في القارتين الأمريكية(731/30)
والأوربية، ولاسيما بين الأفراد الذين نالوا قسطاً وافراً من المعارف ولم يكن ميسوراً لهم الانتفاع بمعارفهم سواء في خدمة المجموع أو خدمة أنفسهم، وكان الباب في غالب الأحيان موصداً في وجوههم لتفشي داء المحسوبية الوبيل الذي كان من أكبر أسباب انهيار فرنسا بجيشها الباسل ورجال العمل فيها. وإن كلمة بيتان في سبب الانحلال الأخلاقي الأكفأ والأحسن والأسمى، ولو اتعظ الناس في بلادنا لأعرضوا جميعاً عن تشجيع المحسوبية بل لعملوا على محاربتها، لأنها تقتل الكفاءات وتثبط العزائم وتحارب العاملين وتدفع ببعضهم إلى الانتحار مللا وضجراً ورغبة في نهاية فيها الراحة مهما كانت مرارتها.
ولوحظ أن حوادث الانتحار تكثر في أوقات الأعياد ولاسيما الدينية منها كعيد الميلاد ورأس السنة المسيحية، وكذلك عقب الامتحانات العامة وخصوصاً في مصر، والانتحار سواء بالغرق وهو أكثر ما يلجأ إليه أو بتناول السموم أو بقطع الشريان أو بالرصاص قد كثر في عهدنا الحاضر كثرة تبعث على القلق وتحفز ذوي الهمم إلى وجوب الدرس والفحص والعناية.
ودلت التجارب على أن حوادث الانتحار منتشرة في البلدان التي يكثر فيها العاطلون من ذوي النفوس الحساسة والعقول التي تقدر المسئولية؛ لذلك قامت الحكومات المتمدينة بمحاربة البطالة بمختلف الوسائل ووفق بعضها توفيقاً هائلاً إلى ما قبل الحرب الأخيرة.
ومن الغريب أن معظم حوادث الانتحار أقدم عليها أفراد من الريف انتقلوا إلى المدن الكبرى والعواصم مأخوذين بسحرها وأضوائها واتساع شوارعها وسهولة العيش فيها، فإذا ما استقر بهم الحال هبوا سعياً وراء الرزق والعمل، ولكن سرعان ما يصطدمون بصخرتها القاسية فيفروا من ذلك السحر وهذا الجمال إلى حيث النهاية التي لا عودة بعدها.
والانتحار عمل ناشئ عن اختلال التوازن العقلي واضطراب المجموع العصبي، فيختل تقدير الإنسان للمسئولية الأدبية والاجتماعية فيندفع إلى تلك الخاتمة الأليمة التي لو ساعدت الظروف الخارجة عن إرادته على منعه لعاد إليه صوابه وندم على ما كان شارعاً فيه
وتكاد كل حالات الانتحار تتشابه من حيث الدافع إليها، أي أنها تسلط فكرة (التخلص) من متاعب لا نهاية لها، سواء في ذلك المتاعب الجسمية أو النفسية، والجسمية مرضية معظمها ميئوس من شفائه كالسرطان والتدرن الرئوي والأمراض التناسلية، أما النفسية فهي مع(731/31)
تنوعها لا تحتاج إلى إيضاح كثير ولكنها مع كل حال لا تخرج عن يأس وقنوط لإيجاد حل (معقول) لمشاكل لا حدود لها.
وكم من مرة سمعنا بعض الناس يقول (إن الحياة عندي لا تساوي مليما) أو (إني أفضل الموت على الحياة) أو (لماذا ولدنا وكل ما في الحياة عذاب) وهذه الكلمات لا تصدر عفواً ولا يقولها القائل تلهياً وعبثاً؛ فواجبنا جميعاً يقضي بدرس هؤلاء الناس والعمل على تخفيف آلامهم، ولا ننسى أن بعض هؤلاء انتحر فعلا بعد أن التمس من الحكومة الأخذ بيده ليتمكن من القيام بواجبات الأبوة والأطفال صغار.
إن مما يؤسف له حقاً أن تكون المدنية السبب الأول لهذا البلاء لأنها هي التي جرت على الناس مصيبة الترف ودقة الإحساس والمبالغة فيتقدير المتاعب، وقربتهم إلى (النعومة) فأصبحوا خائري القوى لا يرغبون في المقاومة بل ويستسلمون لأقل قوة، فترى البعض يثور إذا ما أصاب مصعد العمارة التي يسكنها أي خلل مؤقت يترتب عليه بذل جهد بسيط في الصعود إلى الطبقة الرابعة أو الخامسة، وزاد بالناس التبرم بالحياة إلى حد الرغبة في إحداث (ثورة) منزلية إذا ما وجدوا ماء الحلاقة بارداً أو فاتراً أو شربوا الماء وهو في درجة ترتفع عن الصفر!
لقد فقد الناس الجلد وقوة الاحتمال بفضل المدنية الحديثة واختراع الآلات الميكانيكية التي تؤدي كل عمل؛ ولذلك فلا غرابة إذا زادت نسبة المنتحرين بين الطبقة المتمتعة بمثل هذه (النعم) أو الراغبة فيها أو الساعية إليها!
ويظهر أن هناك علاقة وثيقة بين الموقع الجغرافي والجو في بلد ما وبين عدد المنتحرين فيه. فمثلا نجد أن منطقة سان ديجو في كاليفورنيا أكثر من غيرها بالنسبة إلى عدد المنتحرين، فقد بلغ هذا العدد 46 في كل مائة ألف، وبعدها سان فرانسسكو 38 ولوس أنجلوس 33 وأوكلاند 30 فقط، والتباين بين هذه المناطق ظاهر وراجع إلى اختلاف الموقع واختلاف الجو.
ولم يلاحظ أن جمال البقعة أو الوسط مما يخفف من اندفاع الناس نحو الانتحار، فمدينة واشنطون معروفة بجمالها وبكثرة بساتينها وأنها بلد محوط بالحدائق، ومع ذلك ازداد عدد المنتحرين فيها عن بايون في نيوجرسي التي لا تدانيها في جمال الطبيعة فيها؛ فنرى في(731/32)
الأخيرة أن عدد المنتحرين كان خمسة في كل مائة ألف على حين وصل في واشنطون 18.
ويظن بعض الناس أن سكان البلدان الحارة وهم أقرب إلى الاندفاع العصبي وسرعة الغيظ والغضب لأقل الأسباب أسرع من غيرهم شروعاً في الانتحار، وهذا مخالف للواقع؛ إذ أن نسبة عدد المنتحرين في إيطاليا والبرتغال وأسبانيا ومصر أقل بكثير عن نظيرتها في البلدان الشمالية.
وإذا عد الانتحار دليلا علىالفشل في الحياة وعلى اليأس والقنوط فإن البعض يعده أنانية، وسواء أكان هذا أو ذلك فإن ذلك لا يمنع من درسه والعناية به؛ لأن الدافع إليه تسلط فكرة واحدة وانحلال قوة التفكير أمامها، وهذه الفكرة هي (التخلص) من الحياة.
ولا أصدق من موليير عندما قال في مقطوعته أن الموت أشبه شيء بزجاجة الدواء، يمكن لكل فرد أن يتناول منها في وقت معين، فمن اندفع نحوها قبل الأوان فقد اندفع بعدما فقد عقله!
أحمد موسى(731/33)
البحر والقمر
للأستاذ علي محمود طه
(من ذكريات مدينة (كان) بالريفييرا الفرنسية صيف عام
1946 وقد أقيمت في خليجها الفاتن حفلة شائقة للسياحين
والسياحات ذات ليلة مقمرة استمرت حتى مطلع الفجر)
تساءل الماء فيكِ والشجرُ ... من أين (كانُ) هذه الصورُ؟
البحر والحور فيه سابحة ... رؤًى بها بات يحلُمُ القمرُ!
أطلّ والضوء راقصٌ غزِلٌ ... دعاه قلب، وشاقه بصرُ
يهمسُ فيما يراه من فِتَنٍ ... آلهةٌ هؤلاءِ أم بشرُ؟
يقفز من لجةٍ إلى حجرٍ ... كأنما مسَّ رُوحَه الضَّجرُ
معربداً لا يريم سابحةٌ ... إّلا ومنهُ بثغرها أثرٌ
من كل حواء مثلما خلقت ... يعجب منها الحرير والوبر
ألقته عنها غلالة ونضَتْ ... جسما تحامى نداءه القدر
في حانة ما علت بها عمد ... ولا استوى في بنائها حجر
جدرانها الماء، والسماء لها ... سقيفة، والنسائم السُّترُ
خَّمارُها منشد، وسامرُها ... حور تلوَّى، وفتية سكروا
لم تبق في الشط منهم قدم ... قد خوَّضوا في العباب وانتثروا
وشيَّعوا العقل حينما شربوا ... وودَّعوا القلب حيثما نظروا
والسابحاتُ الحسانُ حولهمو ... كأنهنَّ النجوم والزهرُ
يزيد سيقانهنَّ من بهج ... لون عجيب الرواء مبتكر
يضئ ورداً وخمرة وسني ... ذوب من المغريات معتصر
تغاير الموج إذ طلعن به ... وثار من حولهن يتشجر
بهنَّ يلتفُّ مرتًقى ويُرى ... ينشقُّ عنهن فيه مُنحدَرُ
منفتلات قدودُهنّ كما ... ينفتل الغصن آده الثمرُ(731/34)
ملوحات بأذرُعٍ عجب ... تحذرهن النهودُ والشعرُ
والضوءُ فوق الخصُور منهمرٌ ... والماءُ تحت الصدور مستعرُ
ما زِلْنَ والبحر في تَوَثُّبهِ ... يُرْغِي كما راع قَلْبَهُ خطرُ
قد جاوز الليلُ نِصْفَهُ فمتى ... تؤمُّ فيه أصدافَها الدُّرَرُ
فيصخبِ البحرُ ولتئن به ... رماُله، وليثرثرِ الشجَرُ
ولتعصف الريحُ فوق مائجه ... ولينبجسْ من غمامه المطَرُ
أقسمنَ لا ينتحين شاطَئهُ ... وإن تَرامَى بمائه الشررُ
حتىُ يَرى وهوٍ فضّةٌ ذَهبٌ ... تمازجَ الليل فيه والسَّحرُ!(731/35)
من وراء المنظار
يا خسارة!
المجلس حافل كعهده كل ليلة بالشخصيات من كل نمط، ففيه القاضي والمحامي والأستاذ والنائب والكاتب والشاعر والصحفي وغير هؤلاء ممن أداروا ظهورهم للعمل وركنوا إلى المعاش أو إلى الراحة. . .
يتشقق الحديث حتى لينسى المجلس كيف بدأ ولا أين اتجه، ثم لا يلبث أن ينتهي بنكتة أو ينقطع بسلام قادم يأبى على عادتنا إلا أن يصافح الجالسين من يعرف منهم ومن لا يعرف في حماسة وشوق. . .
وظل هذا حال المجلس ساعة ثم انتظم الحديث وأخذ سمته إلى غايته، واتجهت الأنظار إلى شاب من صحابتي لم أقدمه إلى أحد وإن كان هو يعرفالكثيرين بأسمائهم وأشخاصهم.
أخذ هذا الفتى يتكلم بعد صمت، وأنصت السمار إليه أول الأمر يتبينون من هذا القادم الجديد، وإني لأعلم من قبل أنه سوف يأسرهم بحديثه، ففي صوته ما ترتاح إليه الآذان من إشباع في غير غلظ، ومن رنين غير حدة، وفي منطقه ولهجته من الظرف والهدوء وحسن السياق ما يجذب إليه النفوس من حيث لا تشعر؛ وفي محياه من الفتوة والقسامة، وفي عينيه من البريق والدعة، وفي فمه من الابتسام والسلام، في كل أولئك وفي حسن إشارته وإيماءته ما يجعله حديث مجالس من طراز نادر. . .
هو في الخامسة والثلاثين أو زاد عليها قليلا، مهندم الثياب في تواضع يدل على رقة الحال أكثر مما يدل على السعة، ولكن خفة روحه وبراعة تحدثه يصرفان الأعين عن ثيابه إلى شخصه ثم عن شخصه إلى حديثه. . .
واتجه الحديث بعد أن انتهى شوط منه إلى السياسة بعد الأدب، فأعجب هذا الشاب الواسع الاطلاع سامعيه على اختلاف مذاهبهم إذ أشار إلى أن بعض النقص في كمال هذا الزعيم يعوضه بعض الكمال في نقص ذاك.
وانتقل الكلام إلى الاقتصاد فأنصت ملياً ثم أدلى برأيه فلخص ما سمع من آراء تلخيصاً جميلا فكأنما أتى برأي جديد وهو لم يأت بشيء إلا ما نسقت فطنته وأدت بلاغته. . .
ومال الحديث بالسامر إلى قضية المرأة والرجل، فقال إنه لا الرجل صالحون للحكم على(731/36)
النساء، ولا النساء صالحات للحكم على الرجال، وهذه هي القضية التي لا يوجد فيها حكم من غير الطرفين. ولسوف تنعقد جلساتها ثم تؤجل إلى أجل غير مسمى، وذلك لأن الرجال والنساء لا يرتضون الحكم الأول الذي صدر من الغيب على آدم وحواء. . .
وضحك السامرون وخرجوا من الجد إلى المزاح، وراح كل يدلي بما يحفظ من نكتة أو يذكر من نادرة، ثم أنصتوا إلى صاحبي الشاب فأضحكهم جميعاً بنكاته وأقاصيصه، وراعهم بحافظته وسرعة انتقاله من نكتة إلى نكتة وهو ينسبها جميعاً لأصحابها بل ويذكر الصحف التي نشرتها والمناسبة التي أخرجتها.
وبدا لأحد الجالسين فسأل هذا الشاب ما عمله؟ وابتسم الشاب ابتسامة عريضة تجلت فيها خفة روحه ولكن مازجها شيء من الدعابة الناقمة وقال أنا ناظر مدرسة. . .
وعاد سائله يستفهم أثانوية أم ابتدائية هذه المدرسة؟
ورد الشاب بقوله (لا يا فندم إلزامية بس)
وصاح أحد الجالسين من غير وعي قائلا (يا خسارة!)
وضج بعض الجالسين بالضحك؛ ونظر آخرون في ساعاتهم يريدون أن ينصرفوا؛ وصمت في غيظ وعبوس شخص كان يناديه تارة يا أستاذ وتارة يا بك، وانتحى البعض جانباً مزورين وهم ينظرون نظرات كريهة إلى هذا الذي أعجبوا به منذ دقائق.
وارتفع صوت أحد الفضلاء يول للذي أعلن الخسارة: حسبتك والله تقول (ونعم). . . حتام يا قوم تغرنا الألقاب والرتب؟ وكم عندنا من نظار المدارس الابتدائية أو الثانوية من نضعهم إلى جانب هذا الأستاذ في سعة اطلاعه ورجاحة عقله. . . ألا إن المرء بأصغريه. . . ألا إن المرء بأصغريه.
أما صاحبي فلم يأبه حدث لأنها كما حدثني ليست أول مرة يلقى فيها مثل ما لقي، وما زاد على أن ضحك ملء نفسه من المزورين جميعاً وإن كنت أحسست في ضحكه المرارة والألم. . .
الخفيف(731/37)
تعقيبات
العربية الفصحى والنحو العربي:
الأستاذ أحمد خاكي باحث أديب عرفه قراء الرسالة منذ سنوات بما كان ينشر من بحوث ثقافية تمتاز بالعمق وبالإحاطة، وهو الآن وكيل مكتب البعثات المصرية في لندن، وله هناك نشاط ثقافي جدير بالحمد والثناء. وقد كتب الأستاذ خاكي مقالا في العدد الخاص الذي أصدره مكتب البعثات عن التطورات والإصلاحات التي نالتها مصر من يدي الملك فاروق، وقد عنيت جريدة (المانشستر جارديان) بالتعليق علىهذا المقال تعليقاً شاملا عرضت فيه لمسألة العربية الفصحى وإصلاح النحو العربي فقالت: (إن أكبر عائق في سبيل نشر التعليم بمصر، وبالتالي في تحقيق التقدم الاجتماعي في شتى النواحي، هو الاختلاف الكبير بين العربية الفصحى واللغة العامية الدراجة، مما جعل ملايين من الناطقين بالعربية أصلا لا يستطيعون فهم الفصحى إذا سمعوها من أفواه المتحدثين بها فضلا عن قراءتها وكتابتها. . . وستكون لجهود العلماء المصريين في سبيل إصلاح النحو في العربية آثار بعيدة المدى، ولكن من سبق الحوادث أن يتكهن المرء بالفائدة التي ستعود على النشء من إصلاح النحو العربي، وفي وسعنا أن نقول مع ذلك إنه لن تتحقق الآمال المعقودة على هذا الإصلاح إلا بعد أن تقيم مصر نظاماً للتعليم الابتدائي أوسع مدى وأحسن توزيعاً من النظام الحالي، ولا نزاع في أن النحو الجديد سيجعل التعليم بين مختلف طبقات الشعب عاماً ميسوراً. . .)
هذا ما قالته الجريدة الإنجليزية، وهو كلام لا جديد فيه، ولكنه ترديد لرأي طائفة من المستشرقين، وطائفة من أبناء العربية يتقلون في كل كلام وافد من الخارج بالتقديس والتسبيح
والواقع أن مسألة إصلاح النحو العربي، أو على التحديد تيسيره وتسهيله، حقيقة تملأ أذهان العلماء من أبناء العربية، وقد أثيرت هذه المسألة منذ سنوات وتناولتها الأقلام والأحاديث بالمناقشة، وكانت صفحات (الرسالة) مجالا لهذا، وإذا كان القوم لم يصلوا حتى اليوم إلى طريقة مثلى، فإن الأفكار متعلقة بالوصول إلى هذه الغاية، وتعميم النفع بها على أوسع نطاق.(731/38)
أما مسألة العربية الفصحى فلا زلنا نقول إنها ليست بمشكلة كما يتصورها المستشرقون وأتباعهم، (وليست بعائق في سبيل نشر التعليم) كما تقول الجريدة الإنجليزية، لأن للعربية الفصحى مراتب في التعبير، فكما أن فيها المرتبة العالية الصاعدة، فإن فيها أيضاً المرتبة السهلة القريبة، فمثلا الصحف العربية تكتب بأسلوب عربي فصيح، وهو أسلوب لا يتعذر فهمه على العامة وجمهور الشعب، بل إننا كثيراً ما نجد رجلا أمياً يستحضر قارئاً يتلو عليه الجريدة وهو منصت لما يتلو عليه، فلا يجد أدنى مشقة في فهم ما يسمع وإدراك ما ينطوي عليه من التلميحات والإشارات.
ومنذ سنوات مثلت في مصر روايات شوقي، وهي بالعربية الفصحى العالية، فأقبلت عليها جماهير الشعب إقبالا كبيراً، وكانوا يفهمون قصائدها ومقطوعاتها فهماً طيباً، وكثير من العامة يحفظون مقطوعات كاملة وأبيات سائرة من هذه الروايات ويفهمون ذلك فهماً لم يعنهم عليه من مدرس أو شارح.
إن الصلة بين العامية الدراجة والعربية الفصحى ليست بالبعد الذي يتصوره أولئك الثائرون على العربية الفصحى، وإن الشعب ليس بمنقطع عن هذه العربية كما يخيل لأولئك الناس، فإن بين العامية والفصحى صلة وثيقة في النطق وفي استعمال كثير من الألفاظ والتعابير، ويمكن أن يكون الاختلاف التام بينهما في الإعراب، وهو اختلاف لا تأثير له في هذه الناحية، ولا يصح لباحث أن ينسى في هذا المقام أن القرآن الكريم وهو أفصح ما نزل في العربية يتلى على جموع الشعب ليل نهار، وأن خطب الجمعة تلقى في كل أسبوع بالعربية الفصحى، وأن عامة الشعب يؤدون صلواتهم ويرددون أورادهم وكلها بالأسلوب العالي الرفيع، وأن خطباء المحافل في الوعظ والإرشاد وفي التأبين والرثاء، وفي الدعايات الانتخابية والسياسية إنما يتحدثون إلى الشعب بهذا النمط من الأسلوب، وكل هذا مما طبع ذوق العامة بطابع عربي، وقرب المسافة في إدراكهم إلى حد كبير بين العامية الدارجة والعربية الفصحى. . . فكل الكلام الذي يثار في هذا الشأن، ويصور مسألة العربية الفصحى على أنها معضلة يجب التغلب عليها بالتدلي إلى العامية إنما هو كلام متهم وتصوير مبالغ فيه لا يقوم على إدارك الحقيقة ومعالجة الأمر بنزاهة. . .
هل هي أزمة ثقافية:(731/39)
تقول الأنباء الواردة من أمريكا إن (الفلم) السينمائي هناك يعاني أزمة كالتي في مصر، وإن رجال هذا الفن يجتهدون في التدبير لعلاج هذه الأزمة والتغلب على أسبابها حماية لهذا الفن من نكسة تضر بنموه وتقدمه. . .
والمسألة ليست مسألة الفن السينمائي فحسب، بل إنها كذلك مسألة المسرح، وهي أيضاً مسألة الكتاب، وكل الوسائل التي تحمل إلى الناس ألوان الثقافة المختلفة. فهناك شكوى عامة من قلة الإقبال على هذه الوسائل والرغبة في القراءة والاطلاع عما كانت عليه الحال في الأيام الأخيرة، أعني سنوات الحرب الماضية.
وعندي أن هذه الحال الطارئة ليست مظهر أزمة ثقافية تدل على انصراف الناس وقلة رغبتهم في الاطلاع كما يقدر بعض الباحثين، ولكنها فترة يقف فيها الجمهور موقف التروي والتمهل للاختيار وإيثار النافع وما يجد فيه من الفائدة ما يوازي، بل ما يزيد، على ما يدفع فيه من الثمن. . .
وهذه لا شك نتيجة طبيعية للحال التي شاهدناها أيام الحرب ولمسنا فيها الرواج العظيم في جميع وسائل الحياة، ومن بينها وسائل الثقافة المختلفة. . .
فالجمهور أيام الحرب كان يتلهف على كل شيء، ويرضي بأي شيء، سواء في غذائه أو في ملبسه أو في ثقافته، فكان حسبه أن يجد ما يطلب، لا أن يختار فيما يطلب، وعلى هذا طعم الخبز المخلوط بالرمل والحصى والتراب، ورضى الملبس الخشن الغليظ الذي لا يجزئ في تفصيل الثياب، وتقبل كل ما يقدم إليه من ألوان الثقافة ما دام يجد فيه تزجية للوقت وتسلية عما يحيط به، أما وقد زالت دواعي تلك الحال وضروراتها فإن الجمهور اليوم يتخير، وإنه ليتروى في هذا التخير، فهو لا يرضى إلا بالرغيف الأبيض الصالح للغذاء، ولا يطلب إلا الثوب الجيد الملائم للمقام، ولا ينشد إلا الكتاب الذي يتحرى فيه النفع والفائدة، ولا يقبل على أي لون من ألوان الثقافة إلا إذا وجد فيه ما يجزي وما يغني. . .
هذه حقيقة يجب أن يقدرها القائمون على نشر الثقافة، والذي ينتجون فيها، ويظهر أن أصحاب المتاجر كانوا أسرع فهماً وأحسن تقديراً لهذه الحال، فقد أصبحوا يعلنون عن بضائعهم بأنها من (أجود الأنواع وأرقى الأصناف) لأنهم أدركوا أن الجمهور الآن إنما يطلب الجودة والرقي. . . فخير للقائمين بأمر الثقافة أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن يجعلوها(731/40)
مدار المعاملة بينهم وبين الجمهور حتى لا يصدمهم الكساد الذي يحسبونه انصرافاً من الجمهور، وما هو إلا البوار الذي يصيب كل بضاعة مزجاة.
هنري فورد والشعر:
مات منذ قريب هنري فورد ملك السيارات ورجل الصناعة كما يصفه الصحفيون، وقد كتبت عنه جريدة (نهضة العرب) التي تصدر في المهجركلمة بهذه المناسبة قالت فيها: (وكان هنري فورد محباً للشعر، وخاصة للشعراء الذين جعلوا مثلهم الأعلى وحدة الإنسانية ونشدوا حكومة عالية تسهم الأمم كلها في إنشائها، وكان من مبادئه أن الثقافة والدين يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب)
يا الله. . . هنري فورد العظيم كان يحب الشعر!؟
ولكن ماذا وهب مالك خزائن قارون في سبيل هذا الحب، وماذا أجدى من ملايينه في تشجيع أولئك الشعراء الذين يدعون إلى وحدة الإنسانية!؟
ألا ما أكثر المحبين الذين ليس عندهم إلا كلمات الإعجاب والإطراء. . .
(الجاحظ)(731/41)
الأدب والفن في أسبوع
بين أدبائنا الكبار:
كتب الأستاذ محمود تيمور بك مقالا في (الهلال) عن (طه حسين) في باب (صور وصفية لشخصيات لامعة) قصد فيه إلى تصوير حياة الدكتور طه حسين بك منذ طفولته. والواقع أن الدكتور طه لم يغادر في حياته الأولى (من متردم) بصنيعه في كتاب (الأيام) وقد جنى هذا الصنيع على الشطر الأول من مقال الأستاذ تيمور، فهو يبدو لقارئ الأيام وصفاً موجزاً مجملا لتلك الحياة التي فصلها صاحبها وحللها صادقاً مجيداً.
ولكن الأستاذ تيمور أجاد حقاً في تصوير شخصية (طه حسين) من حيث أنه (مزاج قوي بين حضارتين متغايرتين: حضارة الشرق وحضارة الغرب، وعصارة طيبة من معهدين مختلفين: الأزهر، وجامعة باريس) كما قال الأستاذ في مقاله، وكما قال أيضاً: (وإذا كان طه حسين قد جمع في شخصه بين الشيخ والدكتور، فقصارى ما فعل أنه لاءم بين نشاطين من ضروب النشاط الذهني للإنسان، وكان بهذه الملاءمة نموذجاً مثالياً للأديب الشرقي المعاصر.
(وحسبنا، لكي تتجلى مزية هذه الملاءمة، أن نتمثل طه أزهرياً استأثرت به أزهريته، أو جامعياً لم يفز من الثقافة العربية في غمارها الملتطم بنصيب.
(فإن الأزهري أو الجامعي قد يكون له أثره وخطره، ولكنه لن يكون تلك الشخصية المثالية المكتملة التي نسميها طه حسين).
وختم الأستاذ تيمور مقاله بالإشادة بأسلوب الدكتور طه حسين الذي عده مظهراً رائعاً من مظاهر ازدهار البيان العربي في الوقت الحاضر.
وأخلص من هذا كله إلى كلمة صريحة: هي أن الأستاذ محمود تيمور، وهو بصدد التصوير الوصفي لشخصية طه حسين وأدبه، قد أعطى له كتابه بيمينه. . . وأهمل شماله إهمالا تاماً، فهل يعتقد فيه وفي أدبه الكمال المطلق الخالص، أو هو يجامله، وهل تتفق هذه المجاملة مع رسالة الفن والأدب التي نعتقد أن الأستاذ تيمور من أخلص الناس لها؟
ولعله ذهب في ذلك مذهب الدكتور طه الذي جرى عليه أخيراً في الكتابة عن بعض المعاصرين، ذلك المذهب الذي يكاد يخرج عن نطاق النقد ذي الكفين. . .(731/42)
وإذا كان كبار أدبائنا من طبقة الكهول قد رضوا لأنفسهم (ولا أقول للأدب) هذه المجاملات، فما أظن أن هذا مما ينبغي أن يتأثرهم فيه الجيل الجديد.
أقدم مسرحية:
أثبتنا في عدد مضى من الرسالة ما قال به الأستاذ سليم حسن بك من أن المصريين الأولين هم أول من كتب الدرامية التمثيلية والقصة الخرافية، لا اليونان كما هو شائع.
ولابد أن يكون للدرامة التمثيلية مسرح تمثل عليه. ويدلنا على هذا المسرح مقال بجريدة (المصري) عنوانه (مصر أول من أقام المسرح في العالم) قال كاتبه: (كان الشائع أن الإغريق هم الذين أوجدوه (يعني المسرح) ولكن الحقيقة المكتوبة على ورق البردي وعلى جدران المعابد المصرية القديمة أنارت السبيل للمؤرخين وأثبتت أن المصريين لا الإغريق هم أول من أقام المسرح في العالم).
وذلك أنه كان في التاريخ المصري القديم أشياء لم يفهم لها المؤرخون تعليلا مقبولا، مثل الساحات الواسعة أمام المقابر والأهرام وبعض المعابد. فلما أصبح من المستطاع قراءة اللغة الهيروغليفية أسفر البحث عن أن تلك الساحات كانت مسارح.
وقد وقف الباحثون على بعض المسرحيات التي كانت تمثل بتلك المسارح، منها (مسرحية الأهرام) وتعد أقدم مسرحية في العالم، لأن بعض نصوصها يرجع إلى سنة 4000 قبل الميلاد، وموضوعها جزء من العقائد المصرية القديمة يدور حول صعود روح المتوفي وبعث الجسد الميت. والأدوار الرئيسية فيها هي (أوزوريس) وهو رمز للجسد الميت ويؤديه أحد الكهنة و (حورس) ويمثله رئيس الكهنة أو فرعون نفسه؛ وتظهر فكرة المسرحية عندما يقف الكاهن أمام جسد الميت مخاطباً روحه قائلاً: (أيها الملك أونيس، إنك لن ترحل ميتاً بل حياً) وذلك عندما يكون التمثيل في الجزء الخاص بصعود الروح. أما في الجزء الخاص بالبعث فيقول الكاهن للجسد الميت (انزع لفائفك وانفض عنك الرمال، ثم ألق عنك الحجارة، هيا. . . قياماً أيها الجسد المسجى).
وقد أثبت البحث أن المصريين القدماء استخدموا الأقنعة و (الماكياج) في تمثيل الشخصيات المختلفة أو في أدوار الحيوان.
تمثيلية عربية:(731/43)
ومن المعروف أن العرب لم يكن لهم شغل بالتمثيل، ولم يلقوا إليه بالا، ولكني وقفت على خبر غريب أتي به صاحب (العقد الفريد) في (أخبار الممرورين والمجانين) بالجزء الرابع.
ذلك الخبر هو ما أعني بالتمثيلية العربية، وذلك أنه كان في زمن المهدي رجل صوفي، وكان عاقلا عاملا، وكان يتلمس السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان يركب قصبة في كل جمعة يومين: الاثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان، فيصعد تلا يتخذه مسرحاً. ثم يبدأ فينادي بأعلى صوته: هاتوا أبا بكر الصديق. فيتقدم إليه غلام ويجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيراً أبا بكر عن الرعية، فقد عدلت وقمت بالقسط، وخلفت محمداً عليه الصلاة والسلام أحسن الخلافة، اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فيجلس بين يديه غلام فيقول: جزاك الله خيراً أبا حفص عن الإسلام، قد فتحت الفتوح، ووسعت الفئ، وسلكت سبيل الصالحين، وعدلت في الرعية، اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يأتي عثمان، فيقول له: خلطت في تلك السنين، ولكن الله تعالى فيقول: (خلطوا في تلك السنين، ولكن الله تعالى يقول: (خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم) اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين. ثم يتقدم علي بن أبي طالب، فيقول له: جزاك الله عن الأمة خيراً أبا الحسن، فأنت ولي النبي، بسطت العدل، وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفئ، فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر، وأنت أبو الذرية المباركة وزوج الزكية الطاهرة، اذهبوا به إلى أعلى عليين الفردوس.
ومما يقول لمعاوية: أنت الذي جعل الخلافة ملكا، واستأثر بالفئ، وحكم بالهوى، واستبطر بالنعمة، وقام بالبغي، اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة ويقول ليزيد: أنت الذي قتلت أهل الحرة وأبحت المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله، وآويت الملحدين، وتمثلت بشعر الجاهلية:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخرزج من وقع الأسل
وقتلت حسيناً، وحملت بنات رسول الله سبايا على حقائب الإبل، اذهبوا إلى الدرك الأسفل من النار. وهكذا يتتابع أمامه الخلفاء حتى يأتي دور عمر بن عبد العزيز، فيقول له: جزاك(731/44)
الله خيراً عن الإسلام، فقد أحييت العدل بعد موته، وألفت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق اذهبوا به فألحقوه بالصديقين.
ولما بلغ دولة بني العباس سكت، فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: فبلغ أمرنا إلى بني هاشم، ارفعوا حساب هؤلاء جملة، واقذفوا بهم في النار جميعاً.
وإذا كان لابد لهذه التمثيلية من اسم كسائر التمثيليات، فليكن اسمها (مسرحية الخلفاء) أما مؤلفها ومخرجها وممثلها فلم يسمه الرواة، واكتفوا بأنه رجل صوفي عامل عاقل وإن كان ذكره ورد في أخبار المجانين!
التعاون الإذاعي العربي:
كانت بعض الصحف اللبنانية قد رددت فكرة التعاون الإذاعي العربية بإيجاد برامج عربية مشتركة، كأن تخصص جميع محطات الإذاعة العربية يوماً في الأسبوع مثلا لتنقل إلى مستمعيها برنامج محطة عربية واحدة.
وقد قيل إن مديري الإذاعات العربية ينتظرون سنوح الفرصة لهم لعقد مؤتمر إذاعي كبير يدرسون فيه المسائل الإذاعية، من حيث البرامج المشتركة وتقريب الفنون والثقافات العربية بعضها إلى بعض بوساطة المذياع.
ولما كان من أهداف الجامعة العربية الثقافية تنوير الجمهور العربي ورفع مستواه الثقافي بالوسائل العامة كالصحف والسينما والإذاعة. فقد فكرت الإدارة الثقافية بالجامعة في الإذاعة العربية العامة، فوجدت أنه وإن لم يكن ميسراً لها في وقت الحاضر إنشاء محطة عربية كبرى تضم هيئات أدبية وفنية من كافة الدول الأعضاء بالجامعة، إلا أنه يمكن تنظيم إذاعتين شهريتين: إحداهما للثقافة والأخرى للتسلية؟ تذيعهما كل من المحطات العربية مرة كل شهر.
وعرضت الفكرة على ممثلي الدول العربية فصادفت ارتياحاً وموافقة منهم جميعاً، وفوتحت فيها محطة الإذاعة المصرية فرحبت بها، ولكنها اشترطت أن تقوم الأمانة العامة للجامعة بالنفقات اللازمة للتسجيل وغيره. ولم تجتز الفكرة هذه المرحلة، ونرجو أن تسرع إلى الظهور، فلا أقل منها في تحقيق التعاون الإذاعي العربي.
معهد عربي بأمريكا:(731/45)
من أنباء نيويورك أن إدارة (معهد آسيا) بها قررت إنشاء فرع يسمى (معهد الدراسات العربية) إلى جانب فروع المعهد الحالية وهي (المعهد الإيراني) و (المعهد الصيني) و (المعهد الهندي).
وقد اختير الأستاذ إسماعيل راغب الخالدي مساعداً لمدير المعهد الجديد، وسيقوم في هذه الأيام برحلة إلى الأقطار العربية، لعرض هذا المشروع على حكوماتها، وليجتمع بالأدباء العرب البارزين ممن يهمهم تحقيق هذه الأمنية. وسيعني (معهد الدراسات العربية) بدرس حاضر العالم العربي من جميع نواحيه العلمية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وسيعمل فيه نخبة من الأدباء والمختصين العرب والأمريكيين.
وهذا المعهد الجديد، المأمول له التمام والنجاح، سيكون صفحة جديدة تضاف إلى صفحات الجهود المجيدة التي يقوم بها مهاجرو العرب لإعلاء شأن الأدب والثقافة العربية ونشرهما في العالم الغربي، تلك الجهود التي توازن ما يقوم به الغربيون من نشر ثقافاتهم ببلاد الشرق، وهي جهود توسع آفاق الدراسات العربية وتكسبها صفة العالمية أو تزيد فيها.
بالعربي:
يعجبني من القائمين بأمر الإذاعة إفساح صدورهم للنقد، وإعلانهم الترحيب به والانتفاع بالمحق الممكن منه. وقد عددت من هذا القبيل ما أفضى به مدير الإذاعة الجديد إلى بعض الصحف من أن اللغة العربية في مقدمة ما تعني به إدارة الإذاعة من وجه الإصلاح؛ وهذا على أثر ما كتبناه عن الإذاعات العامية وعن عدم الاهتمامبلغة الأحاديث وصحة النطق.
سرني ذلك الذي أفضى به الأستاذ محمد قاسم بك وبعث في نفسي الأمل، ولكن في ليلة من الليالي الفائتة سمعت محدثاً في المذياع عن (الكتلة الإسترلينية) فأصغيت لعلي أفهم شيئاً في هذا الموضوع الذي لا أراني أجهل شيئاً أكثر منه. . . سمعت المتحدث يقول: إذا أريد أحد أن يرسل نقوداً إلى قريب له في بلد من غير بلاد الكتلة الإسترلينية، فإنه يسأل، فيما يسأل عن قرابته ويطلب منه أن يحدد مداها. ثم يقول: (يعني بالعربي أريبه أوى ولا أرابه كده من بعيد. . .).
يا سبحان الله! كأن أخانا كان يتكلم بلغة أعجمية، فلما أحس أنها غير مبنية أراد أن يعبر(731/46)
بكلام عربي مبين، فأتي بما بين القوسين!!!!
مأدبة وأدب
دعا الدكتور زكي المحاسني وقرينته الأديبة السورية المعروفة السيدة وداد سكاكيني، طائفة من رجال الأدب والصحافة، إلى مأدبة شاي، في دار الاتحاد العربي.
وقد قصد الداعيان أن يهيئا فرصة اجتماع أدبي ودي بين أصدقائهما من أدباء سوريا وأدباء مصر، قبيل انتهاء إقامتهما في مصر التي ختمت بنيل الأستاذ المحاسني دكتوراه الآداب من جامعة فؤاد الأول.
وما فرغ الجميع من المأدبة حتى ائتلف منهم مجلس أدبي تناقلوا فيه الطرف وتناشدوا الشعر، ومما كان أن السيد نزار القباني أنشد قصيدة من شعره كان يقف في بعض أبياتها على كلمات بالسكون، فلم تعجب هذه الطريقة الأستاذ خليل بك ثابت، وسأل الشاعر: لم لا تضبط الكلمات بحركاتها وتقف عند آخر الشطرات والأبيات؟ وقال إنه يلاحظ شيوع هذه الطريقة في الإنشاد بين كثير من شعراء الشباب، وقد دارت المناقشة في هذه المسألة بين محبذ للتسكين ومنكر له، وأهم ما استند إليه مؤيدو التسكين أنه وقوف عند الكلمات التي يعمق إحساس الشاعر بمدلولها، وكان من رأى المنكرين أن التسكين إخلال بالوزن العروضي وبموسيقى البيت. وأخيرا وفق الأستاذ عادل الغضبان بين الرأيين بأنه يمكن الوقوف الخفيف مع التحريك، فيؤدي الشاعر غرضه مع الاحتفاظ بسلامة الوزن وموسيقاه.
(العباس)(731/47)
البريد الأدبي
هذا ضمير مطمئن أهميته:
كتب الأستاذ الشاعر محمود عماد كلمة بالعدد (730) ينحي فيها باللائمة على من يستعمل هذه الجمل: (هذا كلام له وزنه، وهذه مسألة لها خطورتها، وهذا رجل له رأيه) وما ماثلها. وحجته في ذلك: أنه لم يعثر على أمثال هذه التراكيب في كلام عربي قديم؛ على أنه قبل إيراده هذه الحجة علل بطلان هذه الجمل: بأن الضمير المجرور باللام فيها يفيد الملكية، فإعادته مرة أخرى في الكلمة التي تليه تكرير لا فائدة فيه. وعزا استعمال هذه الجمل في أساليب الكتاب والأدباء، إلى سقطة سقطها أحد الكتاب المتأخرين فتبعه فيها كثيرون بغير تحرز.
والذي أراه: أن أمثال هذه التعبيرات إنما ترد في مقام القصر، أو التقرير، ويستدل لهذا بقوله تعالى في سورة (الكافرون) (لكم دينكم ولي دين) أي أن دينكم مختص بكم لا يتعداكم إلى غيركم، ولي دين مختص بي لا يتخطاني إلى غيري، وعلى هذا يصح لنا أن نستعمل هذه الجمل في مقاماتها وكفى بالقرآن حجة في مثل هذا المقام، ولا أحسب الأستاذ بعد هذا إلا مصدقاً، ومذعناً، وراجعاً عن تخطئته، ولنا عذرنا إن أسعدتنا الرسالة الغراء، ونشرت لنا هذه الكلمة الموجزة.
محمد غنيم
كلمة أخيرة حول خطأ عروضي شائع:
. . . لقد أثار نقدي لقصيدة (الأستاذ مختار الوكيل)؛ التي بعنوان (إلى أخي)؛ جدلاً بين نفر من الكتاب.
إذ قلت - ولا أزل أقول - بأن القصيدة خليط من بحرين مختلفين، وهما: بحر الهزج، ومجزوء الوافر.
ولقد قال بعض المعقبين بخطأ ما ذهبت إليه، ولكن (الرسالة) تولت الإيضاح، وأعتقد، كما يعتقد غيري، بأنها أماطت اللثام عن الحقيقة الساطعة، ودعمت وجهة نظري، بالقواعد العروضية المنصوص عليها.(731/48)
وأما استشهاد أولئك المعقبين بأبيات لشعراء معاصرين فأمر لا يعتد به. . .!
ولتسمح لي الرسالة ببعض البيان. . . فأقول:
إن النقص (- الذي هو مركب من العصب والكف - كتسكين الخامس المتحرك وحذف السابع الساكن من مفاعلتن فتنقل إلى مفاعلت)؛ زحاف مركب، يلحق ثواني أسباب الأجزاء للبيت الشعري - كما هو معلوم - ويدخل عروضياً على سبيل القياس فقط، مفاعلتن، في البحر الوافر؛ فتصبح تلك التفعيلة: (مفاعلت) كما قدمت سابقاً، وهذه يقابلها مفاعيل، من التفاعيل المستعملة، وهي صورة ثابتة ل (مفاعلين) التي هي إحدى التفعيلات الأصلية في بحر الهزج؛ ولكنها (أي مفاعيلُ) مصابة بالكف، والوافر لا يدخله الكف مطلقاً، فعندها يحمل البيت على الهزج، لا على مجزوء الوافر، لأن هذه التفعيلة أصيلة فيه. ولهذا قالت (الرسالة): إن النقص لا يلحق مفاعَلَتُنْ، في الوافر، في حالة الشعر الصحيح، وإن لحقها قياساً وظاهرياً. وهو أمر واضح لا غبار عليه.
وإني لأشكر للرسالة، حسن إيضاحها.
(المجدل)
خليل إبراهيم الخطيب
شخصية عمرو بن العاص:
قرأت للأستاذ الجليل علي الطنطاوي مقالا تحت عنوان: (وقفة على الفسطاط) وقد لاحظت أنه انتقد تمثيل شخصية عمرو كرجل قميء ثعلبي. . . الخ وقال إنا ما عرفنا عمراً وأنا قرأنا ما كذبه عليه المؤرخون يوم التحكيم ولم نقرأ الحقيقة التي رواها المحدثون في مثل (كتاب القواصم والعواصم للقاضي أبي بكر ابن العربي).
فهلا كان من الواجب على حضرته أن يوضح شيئاً مما في هذا الكتاب؟ أم رأى أنه يجب أن يكون لدى كل إنسان نسخة من القواصم والعواصم؟!
أفيدونا أفادكم الله. وللأستاذ الطنطاوي تحياتي وإجلالي.
(قوص)
محمد محمد حسن الديب(731/49)
نشيد فلسطين:
اطلعت على مقال للأستاذ حنا فارس مخول حول نشيد فلسطين القومي في عدد الرسالة 728 - وقد رأيت ولا عجب كلمة تثار حول النشيد القومي. . .
ولا أدري كيف نسى الكاتب أن هناك أناشيد فلسطينية ونشيداً قومياً واحداً نشرته صحيفة (الوحدة) في أحد أعدادها (الممتازة)، والنشيد قوي السبك، متين الأسلوب لا ينقصه سوى التلحين. . . وواضعه شاعر فلسطيني هو الأستاذ محمد حسن علاء الدين. . .
وفي كتابي (شعراء فلسطين العربية في ثورتها القويمة) يرى الأستاذ الفاضل أكثر من نشيد واحد يتغنى به أبناء هذا القطر. فأرجو ألا يتسرع في الكتابة عن موضوع يجهل عنه الكثير. إذ بتصريح كهذا يرسم للأقطار الشقيقة صورة أدبية نائية عن الصواب.
إبراهيم عبد الستار
رئيس نادي الإخاء العربي بحيفا
حول تاريخ النوبة:
إذا كان القارئ الفاضل يسأل عن كتاب في تاريخ النوبة فقد أجابته (الرسالة) الغراء حين أشارت إلى كتابي (صحائف مطوية من تاريخ النوبة) ولست أعرف كتاباً صدر في هذا الموضوع غير هذا الكتاب.
أما إذا كان يريد المراجع، فهذه هي الكتب التي رجعت إليها:
1 - مصر والسودان في نظر العلموالتاريخ للدكتور أحمد فؤاد.
2 - العقد الثمين لأحمد باشا كمال.
3 - تاريخ السودان لنعوم بك شقير.
4 - الأثر الجليل لأحمد بك نجيب.
5 - تقارير مصلحة الآثار عن حفائر النوبة.
6 - دلي المتحف المصري.
7 - الخطط المقريزية.(731/50)
8 - البيان والإعراب للمقريزي.
9 - الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك.
10 - مذكرات لم تنشر للمؤرخ البحاثة الأستاذ سليمان.
عبد الرحمن كبير محضري محكمة الإسكندرية الوطنية عن القبائل العربية في وادي النيل.
هذه هي المصادر التي رجعت إليها عندما وضعت كتابي منذ أربعة عشر عاماً، مضافاً إليها دراساتي الشخصية لآثار بلاد النوبة وحفائرها التي تمت قبل تعلية خزان أسوان الأخيرة.
وثمة مراجع أخرى ظهرت بعد ذلك يجدر بالباحث أن يطلع عليها، وأهمها مؤلفات المرحوم عبد القادر حمزة باشا والأستاذ الكبير سليم بك حسن عن تاريخ مصر القديم.
وقد يعتبر كتابي (صحائف مطوية من تاريخ النوبة) أحد المراجع التاريخية في هذا البحث رجع إليه الأستاذ عبد الله حسين المحامي عند وضع كتابه عن السودان، ومعالي الأستاذ مكرم عبيد باشا في بحثه القيم الذي يعد الآن للطبع عن (الوحدة الطبيعية الوطنية لوادي النيل).
وللرسالة الغراء، أصدق الشكر وخالص التقدير.
محمد كامل حنة
إلى الجاحظ:
حينما نشرت مقالي عن عبد المطلب توقعت أن الأستاذ الجاحظ سيعقب عليه، لما أعرفه من إلمامه الواسع بتاريخ أدبنا المعاصر، ويسرني أن أعلن في اغتباط زائد - كالدكتور زكي مبارك - أن الحق كل الحق فيما كتب، راجياً أن يسعدني دائماً بتعقيبه المفيد، وسلام عليه.
محمد رجب البيومي(731/51)
القصص
القطة الصغيرة
للأديب مصطفى محمود
أرسلت القطة الصغيرة مواء ضعيفاً وهي تتنقل بين الكراسي وتتمسح بالأرجل وتتلقف الفتات المتناثر تحت الموائد، فقد كان اليوم يمثل وليمتها الأسبوعية الفاخرة، فالكازينو النيلي الجميل كان عامرا زاخرا برواده شأنه دائماً في ليالي الأحد. . . والفضلات كانت ترى هنا وهناك في كثرة ووفرة. فأقبلت عليها تلتهمها في شهية ونهم حتى أتخمها الشبع فتكاسلت في مشيتها تداعب الأرجل وتتسمع إلى أحاديث الناس وترقب جموعهم العديدة فيفضول. وطال مكثها تحت إحدى الموائد دون أن تظفر بعناية أو اهتمام أو حتى بلقمة صغيرة تلقى عفوا فرفعت عينها الخضراوين لترقب ما يجري على هذه المائدة الغريبة:
كان سطح المائدة نظيفا خاليا إلا من فناجين للقهوة وحقيبة من الجلد وقد جلس إليها رجلان ق خيم على وجهيهما العبوس وبدت عليهما سيما، رجال المال والأعمال. . . وأنشآ يتبادلان حديثا جديا. . . قال الأول وهو بعض شفتيه.
- إن كرم اسحق قد قدم للمناقصة بسعر خمسة قروش ومليمللقطعة.
- ومليم.
- سيفوز بها ما في ذلك شك.
- وحليم سمعان.
- خمسة قروش وأربعة مليمات.
- عجيب. . . لست أدري كيف يفيد كرم اسحق من هذا المشروع بهذا السعر الضئيل.
- خامات الجيش.
- فعلا. . . خامات الجيش.
- لن يقل مكسبه الصافي عن خمسة آلاف جنيه.
- ونحن نبيت ونصحو على خمسمائة جنيه في الشهر.
- لقد فعلت كل ما بوسعي.
- والنتيجة أننا لا زلنا نحيا كمتسولي التجار.(731/52)
- إن مفاجأة كرم اسحق لم تكن في حسابي.
- عليه اللعنة.
وهنا رشف الرجل الأول رشفة من القهوة ثم أبعد الفنجان قائلا.
- قهوة رديئة.
- ومع ذلك فالمكان مزدحم. . . والإيراد حسن.
- مشروع ناجح. . . لقد فكرت فيه من قبل، وكان في نيتي أن أهيئ فيه حماما للسباحة فإن هذا يدر أرباحا حسنة في الصيف حيث يقل مرتاده في حر النهار.
- وهو يصلح (كباتيناج) في أمسيات الشتاء الباردة.
- أو (كباريه).
- إن المكان صالح للاستغلال في كل أوقات السنة.
وسكت الرجل الأول ثم عاد يداعب مقبض الحقيبة الجلدية وقال متململا.
- إن الجو راكد.
- والمكان مزدحم.
- وهذه الحيوانات القذرة لا تنقطععن التسمح بالأرجل. يا للقذارة.
وركل القطعة الصغيرة في قسوة فولت هاربة ثم هب في ملل ودفع الحساب واختفى مع زميله.
وراحت القطعة تمسح رأسها المرضوض في الأرض وتموء في ألم ثم لجأت إلى مكان متطرف منعزل من الكازينو حيث يجلس على مائدة صغيرة فتى وفتاة ورفعت إليها رأسا مريضا فألقى إليها الشاب بقطعة من الخبز وراح يدللها ويداعبها بقدمه. . . فارتاحت القطة إلى هذا الحنان ولذ لها أن تستمع إلى الحديث الخافت وترقب العيون المتناجية. قال الشاب.
- إن الجو قطعة من السحر.
- حقا. . .؟ إذن لن نجلس هنا مرة أخرى.
- لماذا.
- لأنك تذوب في سحر الجو وتنساني.(731/53)
- أيتها الحبيبة أنسيت أنك جزء من هذا السحر.
- جزء.
- بل كل هذا السحر.
- إن حبك على شفتيك دائماً.
- إن قلبي لا يسعه ولذلك يفيض على شفتي.
- ألا تخونك شاعريتك أبدا.
- إنها ليست شاعرية بل شعور والشعور الصادق لا يخون، ولمعت عينا الشاب وهو يتكلم ثم رفع كأس البيرة ورشف منها رشفة طويلة ثم عاد يقول.
- إن هذهالبيرة جميلة. . . جميلة كشفتيك.
- بودي لو أعرف كم من ألوان البيرة تتذوق شفتاك.
- مهما تذوقت فأنت اللون الوحيد الذي يسكرني.
- إنك دائما تجيد الكلام. . . إني أحبك. . . ولكني أخشى على ثروتك التي تتبدد في سبيلي.
- أيتها الحبيبة. . . دعي شئون المال. . . وهل يذكر المال والجمال معا. . . إن المال هو العبد الذي يجود بكل شيء. . . والجمال هو السيد الذي يرخص في سبيله كل شيء. . . والحب. . . الحب. . . هو النافذة الوحيدة التي يطل مها الإنسان على الجمال. . . إني أدفع مالي وروحي ونفسي لتظل هذه النافذة مفتوحة أمامي إلى الأبد.
- أمين!
- بثينة!
وتلامست الأيدي واقترب الوجهان وامتزجت العطور الغالية في لحظة من الحنان الغامر فانسحبت القطة الصغيرة في سكون بعد أن أدركت أن هذين المخلوقين في حالة لا تسمح لهما بالالتفات إلى أي شيء. . . وسارت تتثاءب وتتمطى بين الموائد، ثم اجتذب انتباهها مائدة يجلس عليها شيخان قد ملأت وجهيهما التجاعيد وألقت عليهما الشيخوخة ظل من الهدوء والوقار. . . فجلست غير بعيدة ترقب ما يدور بينهما وتتبع الحديث دون أن تفهم شيئا.(731/54)
قال الشيخ الأول
- لقد رسب محمد في الحساب. . . لا أدري متى يلتفت هذا الولد إلى دروسه. . . لقد يئست من إصلاحه.
- إن أولاد هذا الزمن جميعهم على شاكلته. . . ولهم العذر، إن مباهج هذا العصر وشواغله أكثر مما كان في أيامنا.
- أيامنا. . . ما أجملها. . . لم يكن هناك من المباهج إلا الخيال الظل. . . واللونابارك.
- والموالد. . . هل نسيت أنككنت من هواة الموالد.
- حقا. . . وأذكر أنك وشيت بييوما أيها اللعين. . . وكانت (علقة) لازلت أذكر أوجاعها.
- أرأيت أن ابنك له عذره.
- ولكن هذا الكلب لا يصلي!
- ومنيصلي الآن غيرنا؟
- وهو لا يفتأ يجادلني في الجنة والنار.
- إن الحرية تؤدي إلى الحرية.
- ماذا تعني؟
- فلسفة العجائز.
- يعلم الله إلام نسير.
- إنالعالم بخير. . . وكفى. . . أما نحن فنسير إلى القبر.
- إلى القبر؟
- نعم. . . أكنت تظن أنك تسير إلى (لونابارك) آخر.
- لا. . . إنه القبر أيضا. . . من يدري فقد يكون مكانا طيبا.
- إنه راحة على أي حال.
- راحة.
واستبدت بالشيخ سبحة فلسفية. . . فأرسل نظره إلى الأفق البعيد. . . ثم أوغل في التفكير. . . وثقلت أجفانه. . . فمال برأسه ونام. . . شأن العجائز ينامون في كل مكان. . . ونظرت القطة إلى سكونه وأنفاسه البطيئة. . . ثم انسحبت في اشمئزاز وهي لا تدري(731/55)
ما شأن هؤلاء الأموات بهذا المكان. . . وأدارت رأسها فوجدت أن الكازينو قد خلا تقريبا إلا من أشباح قليلة متناثرة. ومن هذه الأشباح. . . رجل جلس منفردا في نهاية المكان وهو يكب ثم يمزق ما يكتب. . . بأصابع عصبية ثائرة. . . فاقتربت منه في حذر ثم لمست قدمه. . . فانتفض غاضبا ودفعا بعيداً في قسوة. . . وعاد يكتب ويمزق. . . وتناثرت بعض القصاصات تحت مصباح منعزل. . . فاقتربت القطة تتذوقها وتقلبها. . . وتتأمل الخطوط السوداء العجيبة التي تملؤها. . . وقرأت بلا وعي أو فهم
(أن الحياة التي أحياها. . . خاوية. . . باردة. . . مظلمة. . . إني لا أجد نورا ضعيفا أسير فيه. . . ولا أشعر بلذة أعيش من أجلها. . . ولا بمخلوق واحد يهمني أمره. . . فالناس تتجنبني وأنا أتجنبهم. . . وقد أسمعهم يهتفون (ما أجمل هذا) فأدير عيني فلا ألمس فيما يشاهدون جمالا. . . فأدرك أنني ميت في عالم حي، وأشعر بالعذاب والنقص والحرمان وألوى وجهي لأنتحر. . . ثم أعود فأجبن وأتردد وأرجع أملا أن أعيش كما يعيش الناس. ولكني الآن سأختار المكان الذي يناسبني. . . نعم سأنتحر. . . لن أتردد هذه المرة. . . بل إني لأشعر أنني قد مت من زمن طويل وأننيأسير كالآلة الصماء. . . فماذا يضيرني إذا أوقفت هذه الآلة البغيضة. . . لن أشعر بأي شيء أكثر مما أشعر به. . . نعم سأنتحر. . . سأنتحر هنا في هذا البحر الساكن الداكن. .).
وانتهت القصاصة عند هذه الكلمات ولم تجد القطة العابثة أي شيء يثير اهتمامها في هذه الأوراق الممزقة فغادرتها وهي ترمق الرجل التعس الأحمر العينين وهو يغادر المائدة ويسير إلى الخارج في عزم وتصميم. . . ولم تعرف أين ذهب فأمره لم يكن يهمه في قليل أو كثير.
وأدارت القطة عينها مرة أخرى في المكان فوجدت أنه قد خلا إلا من جماعة الندل والخدم. . . وهؤلاء لم يكونوا يوما على علاقة طيبة معها. . . فآثرت الاكتفاء بهذه السهرة الممتعة وولت وجهها شطر بيتها الدافئ اللين.
وفي الطريق شاهدت رجلا نحيلا ضئيلا يجلس في ركن مظلم، ودهشت عندما وجدته يلقى إليها بقطع كبيرة من الخبز واللحم. ولكنها لم تجد غضاضة في أن تنتقي اللحم وتترك الخبز وراحت تدور حول قدميه وقد رفعت ذيلها في سرور. . . ثم انطلقت تموء حينما(731/56)
وجدته يقوم ويتركها. . . ولكنه كان في نفسه يحفظ لها جميلا كبيرا فقد أوحت له في هذه الجلسة الهادئة بقصة لم يكن يحلم بها. . . ورأى الحياة من عينيها كالكرة المضاءة تدور حول محورها. . . وقد راح كل إنسان يرى منها وجها لا يراه الآخر. . . شاهد في هذه الساعات القليلة ما كان يحتاج لسنين ليفهمه. . . شاهد نظرات الناس إلى الحياة. . . وقد تباينت واختلفت، وكأن كلا منهم يحيا في عالم من صنعه ومن خلقه.
مصطفى محمود(731/57)
العدد 732 - بتاريخ: 14 - 07 - 1947(/)
- 3 - رحلة إلى الهند
اليهود في المؤتمر الآسيوي
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
كان بين وفود المؤتمر وفد من اليهود فيه ثمانية رجال وامرأتان. ليس بينهم من ولد في فلسطين أو نشأ به إلا رجل وامرأة. . .
وقد رأى ممثلو مصر والجامعة العربية أن يكونوا لهم بالمرصاد حتى لا يتخذوا من المؤتمر فرصة لنشر دعوتهم، وتزيين أباطيلهم.
فعملنا على أن يعرف المؤتمرون أنهم لا يمثلون فلسطين. فقال مندوب الجامعة العربية في كلمته إنه يمثل دول الجامعة، وإن لم يكن في فلسطين دولة فممثل الجامعة العربية يمثلها. ثم ذهبنا إلى رئيسة المؤتمر فقالت إنها تعرف بأن هؤلاء اليهود إنما يمثلون الجامعة العبرية، وأن فلسطين إنما يمثلها مندوب الجامعة العربية. وقالت إنها أمرت أن يسجل هذا في سجلات المؤتمر. وأعربت عن حبها العرب وإعجابها بهم. . .
وكذلك حرصنا على أن ترد على اليهود كل كلمة يتحدثون فيها عن حقوق لهم في فلسطين أو أعمال لهم فيها. . .
وقد نشروا في بعض جرائد الهند مقالات عن صلتهم بآسيا ومكانتهم في فلسطين بالإنكليزية كلمة وقعتها أنا ومندوب الجامعة العربية هذه خلاصتها بالعربية.
اطلعنا على بيان في الجرائد نشره بعض اليهود المشتركين في مؤتمر العلاقات الآسيوية. وقد حاول ناشرو البيان أن يحرفوا الحقائق، ويصوروا فلسطين بغير صورتها.
قالوا: (إن الأوربيين يكرهون اليهود لأنهم يمثلون روح آسيا، وأن الأوروبيين في بغضهم اليهود إنما يعربون عما يكنونه من الكراهة والاحتقار للأمم الآسيوية التي يمثلها اليهود).
والحق أن هؤلاء المدعين أنهم من آسيا وأنهم يمثلون روحها إنما جاءوا إلى فلسطين أو شاباً من أمم أوربية مختلة لا يحملون وعدوان وظلم، فما هم إلا جماعة أوربية تحاول اغتصاب قطر آسيوي(732/1)
ويزعمون (أن العرب استفادوا كثيراً من أعمال اليهود في فلسطين).
ونحن لا نريد أن نفصل اليوم ما أصاب العرب على أيدي اليهود الوافدين على بلادهم، وحسبنا أن نقول إن أعمال اليهود هناك تقصد إلى أن يحولوا العرب من سادة في بلادهم إلى عبيد، ومن ملاك إلى عمال لا يملكون شيئاً. وكل أمم الأرض تعرف حرص اليهود على أن ينفعوا أنفسهم وقلة مبالاتهم بمنافع غيرهم، فإن ظن اليهود أن لهم على العرب فضلاً فالعرب في غنى عن هذا الفضل، وأعظم فضل لديهم أن يتركهم اليهود أحراراً في وطنهم وأن يحرموهم من هذه النعم التي يمنون بها.
ويقول أصحاب البيان:
(أنه ليس بين اليهود في فلسطين حتى جماعات الإرهاب، من يريد أن يسلب العرب بلادهم).
فإن لم تكن هجرة اليهود إلى فلسطين الصغيرة أفواجاً تضيق بها البلاد، وإصرارهم على أن تستمر الهجرة حتى تكون لهم الكثرة فيها، ومحاولتهم أخذ الأرض من العرب بكل وسيلة ظاهرة وخفية - إن لم يكن هذا سلباً لبلاد العرب فكيف يكون سلب البلاد من أيد أهلها. إن دعوى اليهود إنهم لا يريدون أن يحلوا محل العرب في أرضهم لا قيمة لها ما دامت أفعالهم تكذيب هذه الدعوى تكذيباً صريحاً بيناً لا خفاء فيه، ماذا يقصد إذن بهذه الهجرة التي يصرون عليها بكل الوسائل وهم يعلمون أن فلسطين مزدحمة بأهلها وقد رمى إليها اليهود نصف مليون زادها ازدحاماً ثم هم لا يكفون عن الهجرة؟ ألهذه الهجرة غرض سوى غلبة العرب على أرضهم، وإخراجهم من ديارهم؟
إنهم بتجارتهم وصناعتهم، وهي لخير اليهود وحدهم، يبغون أن تكون لهم الكثرة فيتسنى لهم بهذا وذاك أن يسيطروا على البلاد. ثم هم مع هذا يزعمون أنهم محسنون إلى العرب.
ينبغي أن نذكر اليهود بتاريخ العرب - وهم بسجاياهم أحرار كرام لا يستعبدون ولا يستعبدون، ولا يبخلون أن يشركوا الناس في خيراتهم - هؤلاء العرب كانوا على مر العصور حماة اليهود. لجأ اليهود إلى ظل العلم العربي حيثما كان. وقد دخلوا إسبانيا في كنف العرب، فلما أخرج العرب منها خرجوا، ويوم قامت للعرب دولة في فلسطين كان اليهود مشردين في الأرض وكانت معابدهم مزابل، فطهر العرب معابدهم، ومكنوهم أن(732/2)
يرجعوا إلى فلسطين، وأن يعيشوا أحراراً في رعاية العرب وسماحة الإسلام. وهكذا أحسن العرب إلى اليهود على مر العصور واختلاف الأقطار. فلما رأى اليهود المحن تتوالى على العرب، والمصائب تحيط بهم بأيدي الأوربيين جاءوا في ظلال الأعلام
الأوربية باغين على بني عمومتهم، ناسين كل فضل لهم، يجزونهم شر الجزاء بما أحسنوا إليهم كل الإحسان. لقد جاءوا معتزين بوعد بلفور ليكونوا أعواناً لأعدائهم على أصدقائهم. فخسروا آخر صديق لهم على وجه الأرض، إنهم لم يأتوا إلى فلسطين بروح الآسيوي المعترف بالفضل، المقر بالحق، المؤثر للعدل، بل جاءوا في ظلال الأعلام الأوروبية أعواناً لبغي أوربا يجدون في ضعف العرب فرصة ليسلبوهم أرضهم وديارهم، ثم يدعون أن الأوربيين يكرهونهم لأنهم آسيويون حملوا إلى أوربا روح آسيا.
وقال أصحاب البيان آخراً: (إن يسيراً أن نجد الحل السلمي الملائم). . .
نعم نحن نعرف الحل العادل الملائم. وقد دعونا إليه ونادينا به واقترحته جامعة الدول العربية في مؤتمر لندن. هذا الحل هو أن يعيش الناس في فلسطين لمن فيها اليوم، ويكف سيل الهجرة المتدفق ويعيش العرب واليهود على النظم الديمقراطية التي تسيطر على العالم كله. يقبل العرب هذا ويتجاوزون عن كل ما وقع، ويعدون اليهود الذي هم في فلسطين اليوم وقد جاءوا إلى البلاد في السنوات الأخيرة من أقطار أوربية مختلفة - يعدون هؤلاء الأوربيين المعتدين المغيرين شركاء لهم في فلسطين، ويقبلون أن يقيموا معاً دولة على أسس ديمقراطية.
فهل يقبل اليهود هذا؟ كلا إن الحل السلمي الملائم عندهم أن يوالوا الهجرة إلى فلسطين بغياً وعدواناً حتى يكثروا العرب، ثم يقيموا بكثرتهم دولة يهودية، كما يشاؤون، هل هذا حل سلمي؟ كلا إنه الوسيلة لزلزلة السلم في الشرق الأدنى، وإشعال الفتن والحروب في هذا القسم من العالم بل في آسيا والعالم كله. . .
إن خيراً لليهود أن يعدلوا عن هذه المطامع الظالمة، ويعترفوا للعرب بحقهم الحاضر وفضلهم الماضي، ويعشوا في سلام وأمان في رعاية العرب في فلسطين وغيرها).
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(732/3)
هذه بلادنا
للأستاذ محمود محمد شاكر
هذه بلادنا: العراق، وسورية، ولبنان، وفلسطين وشرق الأردن، وجزيرة العرب، واليمن، ومصر والسودان، وبرقة، وطرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش - هذه بلاد العرب التي ينطق أهلها اللسان العربي ويدين أكثرهم بالإسلام، فهما من أجل ذلك جبهة واحدة ممتدة من الشرق إلى الغرب، وتملأ رحابها أكبر قادرة على وجه هذه الأرض. وهي جميعاً أرض بكر لم ينبش العلم ذخائرها المدفونة تحت ثراها الغني، ولم تنل يده إلا قليلا مما تقله أرضها من حيوان ونبات، ولم تنفطر روحها بعد عن الإنسان الجديد الذي انساح فيها من قبل يوما ما، فملأها عدلا وكانت ملء جنباتها ظلماً وعدواناً وبغياً وكفراً بالله ثم بالطبيعة البشرية المطهرة من أدران الحقد والأثرة والجشع وقلة الإنصاف.
فلنلق نظرة عليها جميعاً بلداً بلداً، لنر ماذا فعل الله بأهلها، وماذا كتب عليهم، وماذا قدر لهم.
فالعراق أغنى مشارف الجزيرة العربية وأكرمها تربة، وقد نزلت عليه بريطانيا محتلة وسامته الخسف سنين حتى عقدوا معه معاهدة لم تمنع بريطانيا من التدسس بسلطانها إلى جميع مرافقه، فهو لا يستطيع أن يؤدي حق أرضه عليه كما يجب، وسلطان بريطانيا هناك سلطان جائز عنيف لا يزال كما كان على أول عهد الاحتلال، ويخشى أن يزداد فيه سلطانها وسلطان شريكتها ووارثتها أمريكا، بما جد من شئون النفط والبترول وما إليهما.
وأما سورية ولبنان، فقد جلت عنهما فرنسا جلاء تاماً على أثر الأحداث العالمية التي جاءت مع الحرب الماضية، فاستردتا استقلالهما بغير قيد ولا شرط. ولكن يخاف عليهما ما يخاف على سائر البلاد العربية من تسرب السلطان البريطاني والسلطان الأمريكي، وطغيان هذا السلطان بالضرورة الملحة الملزمة، إذا قدر لهما أن تظلا محاطتين من جميع النواحي بالمواقع التي فيها لهذا السلطان أثر قوي.
وأما فلسطين، فهي الأرض المظلومة المضطهدة التي أراد بغي بريطانيا وأمريكا أن يجعلاها وطناً لأعوانهم من نس إسرائيل، ومعنى ذلك أن تصبح فلسطين كهف الجشع البريطاني الأمريكي، يعمل له وفيه جيل من خلق الله الذي عرفوا بالخسة وقلة المبالاة(732/5)
وعدم الورع فيما يأتون وما يذرون، وهم ولا ريب يؤيدون، سياسة بريطانيا وأمريكا في فرض سلطان القوة وسلطان المال على هذه البقعة من الأرض المقدسة، وعلى كل مكان آخر يحيط بها من قريب أو بعيد.
وأما شرق الأردن، فقد كفتنا المعاهدة التي عقدت بينه وبين بريطانيا أن نقول فيه قولا يصفه بأفضل مما وصفته هذه المعاهدة، وهو أنه أرض بريطانية في قلب البلاد العربية.
وأما جزيرة العرب، فقد تدفق عليها سلطان بريطانيا وأمريكا من كل مكان، لأنه فرض أن آبار البترول تكاد تكون حقاً خالصاً لهما، يدفعان في سبيل أخذه مالا قليلا زهيداً، ثم ينقلانه إلى بلادهما ليكون ذخيرة من ذخائر القوة التي تحرك الآلات، وتنتج المصنوعات وتمد أمريكا وبريطانيا بكل أسباب القوة والغلبة في هذه الدنيا الجديدة التي لاحظ فيها إلا للقوي الغاضب. واستقلال جزيرة العرب أصبح اليوم مهدداً بتغلغل نفوذ ملوك البترول الذين يخدمون ولاشك سياسة بلادهم على أي وجه كانت هذه السياسة.
وأما اليمن فلبريطانيا هناك بعض السلطان، ويخشى بعد قليل أن يتدسس إليه سلطان أمريكا أيضاً وتصبح اليمن مضطرة إلى الخضوع لما خضعت له جاراتها العربية من سلطان هؤلاء الأقوياء.
وأما مصر والسودان، فمن الذي يجهل سلطان بريطانيا في أحد شقيه، وهو مصر، إنه سلطان قد ظلت السياسة البريطانية تمهد له منذ ستين عاماً بكل أسلوب من أساليبها في اتخاذ الصنائع، وإضعاف الأخلاق، وابتزاز الأموال، وفتح أبواب الهجرة لصعاليك الأمم، وقذف الأرض بكل سخافة من سخافات المدنية، وحجبها عن كل جد وكل عمل يراد به خير هذه البلاد. وأما السودان، فلم يزالوا به حتى كادوا ينتزعونه جملة واحدة، وحتى قسموه إلى جنوب وشمال، وحتى حرموا على أهل الشمال أن يخالطوا أهل الجنوب، وحتى حرموا على أبنائه أن ينالوا قسطهم من العلم والحرية والتجربة في هذه الدنيا المملوءة بالعلم والحرية والتجربة.
وأما برقة وطرابلس فقد انتهت بها الحرب إلى أن صارتا تحت سلطان بريطانيا المباشر، ولا يدري أحد ماذا يجري فيهما هناك الآن على وجه التحقيق، ولكنهما على كل حال تحت سلطان بريطانيا وشريكتها أمريكا.(732/6)
وأما تونس والجزائر ومراكش فهي أسوا بلاد العربية كلها حالا بوقوعها تحت سلطان فرنسا. وفرنسا هذه أمة أهل جبروت وحماقة وجهل، فهي تتخذ العسف وتصطنع القسوة في كل عمل تعمله في تلك البلاد. ولكن ليس يدري على وجه التحقيق ما الذي تضمره بريطانيا وأمريكا لفرنسا وحكمها في تلك البلاد. أنريد حقاً أن تؤازر فرنسا مرة أخرى على استعادة بعض مجدها وسلطانها في هذه الدنيا، وبذلك يزداد طغيانها وبغيها على أهل تونس ومراكش والجزائر؟ أم تراهما يريدان أن يحتالا حتى يزيلا فرنسا عن تلك البلاد ليفرضا معاً عليها سلطاناً بريطانياً أمريكياً - إما متعاونتين وإما منفصلتين؟ ومهما يمكن من شيء فالذي فيه هذه البلاد اليوم، أو الذي يخشى أن يقع عليها غداً هو أن السلطان الأجنبي هو السائد فيها قوة واقتداراً.
فأنت ترى غير مرتاب أن هذه الأمة العربية التي تعيش في كل هذه البلاد العربية، قد أصبحت هدفاً لأطماع دولتين متحدتين في أغراضهما وأهدافهما: هما بريطانيا وأمريكا. فهل يشك في هذه الحقيقة أحد؟ كلا ولا ريب، وإذن فنحن أمة واحدة مقسمة اليوم إلى أمم متعددة تواجه في الميدان جبهة واحدة لها أغراض لا تختلف ولا تفترق. وهذه الجبهة الوحدة لم تزل تتعاون بأسلوب بعد أسلوب في تنفيذ أغراضهما في كل بلد من بلادنا، وتتآزران على فرض سلطانهما مجتمعاً أو مفترقاً، وتتوسلان لي ذلك بالوسائل التي تتاح لكل منهما في كل بلد من هذه البلاد.
فالآن وقد تبين أننا أمة واحدة مقسمة إلى أمم، وأننا نلقى عدواً واحداً هو بريطانيا وأمريكا مجتمعتين يضربان بسلاحهما غدراً هنا وهناك وثمة بلا رحمة ولا شفقة ولا إنسانية، فقد أصبح لزاماً علينا وفرضاً لا مخلص لنا منه أن ننظر إلى الحقيقة الواحدة التي لا يختلف عليها إلا من نزع الله من قلبه البصيرة الهادية إلى سبل الرشاد، ألا وهي الاتحاد التام في لقاء هذا العدو.
ومنذ سنوات أجمعت طائفة من أمم العرب على تكوين الجامعة العربية، واشترطوا في الأمة التي تصير عضواً في هذه الجامعة أن تكون مستقلة. ومعنى ذلك هو الاستقلال المعترف به دولياً، لا الاستقلال الحقيقي، فإنهم لو طلبوا ذلك لما كان في الجامعة العربية عضو واحدة من هذه الأمم التي ذكرنا. فالجامعة العربية كما هي الآن لا تفي البتة بحاجة(732/7)
العرب، ولا تقوم على الأساس الصحيح الذي ينبغي أن تقوم عليه. نعم إن الجامعة العربية لم تقصر في الدفاع عن حق العرب تقصيراً
تلام عليه، وهي تبذل غاية جهدها في صد عدوان المعتدين عليها، وتبذل أقصى جهدها في أم المشاكل العربية، وهي مشكلة فلسطين التي سوف تكون يوماً ما، أول شرارة تنطلق في تاريخ العرب الحديث لتنير لنا الطريق السوي الذي ينبغي أن يسلكوه.
ولكن لابد منذ الآن أن تعمل الجامعة العربية على ضم سائر البلاد العربية الأرض واللسان، لتكون شعوب هذه البلاد كلها جبهة واحدة، ذات سياسة واحدة، وأهداف واحدة، وقيادة واحدة، حتى نلقى في الميدان ذلك العدو الواحد المتآزر على هلكة العرب، وهو بريطانيا وأمريكا. وإنه لا معنى لأن تبقى فلسطين وتونس ومراكش والجزائر وبرقة وطرابلس غير ممثلة في جامعة الدول العربية تمثيلا صحيحاً كسائر الدول العربية، فإن مهمة الجامعة هي أن تعمل على أن تجعل هدفها الأول أن تتخذ كل وسيلة لتضم شتات العرب في هذه الدنيا، كما فعل اليهود من أهل الأجناس المختلفة في توحيد قيادتهم وجعل قضيتهم قضية واحدة، وهم معتدون على أرض ليست لهم، ونحن أهل أرض واحدة، وهم معتدون على أرض واحدة نملكها نحن العرب ملكا لن ينازعنا فيه أحد. وليس من الرأي ولا من الحكمة أن نترك هذا العدو الواحد يلقانا في أكثر من جهة واحدة وهو صاحب القوى الطاغية الباغية، وأن نظل نحن متفرقين ليس يجمعنا نظام واحد تحت قيادة واحدة تعمل لهدف واحد هو تحرير البلاد العربية كلها جملة واحدة من هذا النير المضروب عليها. وكما قلت من قبل إننا شعب واحد، وقضيتنا قضية واحدة، فلا معنى لأن نجعل هؤلاء يتلاعبون بنا، ويقسموننا ويفرقون بين قلوبنا، ويشغلوننا حيناً بهذه القضية، ثم يعملون فينا حتى نيأس، فإذا بقضية أخرى تستنفد جهودنا، ثم أخرى ثم رابعة. كلا! هذا فساد في الرأي وضلال قديم قد جربناه فألفيناه وبالا علينا ونقضاً لقوانا وتمكيناً للعدو من أنفسنا.
إنه لابد من تجديد النظر في شأن الجامعة العربية، فإن العرب قد هبوا بعد هذه الحرب من رقدة طالت عليهم، وهم مقبلون على العالم شعثاً غيراً كما أقبل آباؤهم من قبل، وهم ينظرون إلى مدينة عظيمة قد بلغت غايتها وهي اليوم في سبيل الانحدار إلى الهوة العميقة(732/8)
التي طمرت فيها مدنيات سالفة لم تكن أقل منها شأناً ولا أضعف خطراً. وينبغي أن تعلم جامعة الدول العربية، أو الجامعة العربية، أن عملها ليس سياسة محضاً بل هو أيضاً حض وتحريض وبعث لهذا الجيل من الناس المعروف باسم العرب، حتى تتم يقظته وحتى يعرف أي شيء يستقبل وأي شيء يستدبر، ليرث هذه المدنية التي أوشكت أن تزول عن وجه هذه الأرض.
إنه قول جرئ، ولكنه حق ملء السمع والبصر، حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلنأخذ أهبتنا قبل أن تأتي الساعة التي نضطر فيها إلى العجلة التي كان لنا عنها مندوحة، إن كل عربي قد فرض عليه واجب هو أقدس الواجبات في هذه الدنيا - ألا وهو الأمانة التي يرث بها الأرض ويكون فيها خليفة يصلح فيها ولا يفسد ولا يسفك الدماء ولا يأكل حقوق الناس بالبغي والعدوان. والجامعة العربية إذا بنيت على هذا الأصل وقامت على هذه الفكرة، فقد أدت للبشرية أكبر خير أدى إليها على وجه الدهر، وقد استنقذت حضارة الإنسان من الهلاك المحقق على يد الجنس الأوربي، بل لعلها لم توجد في هذا الوقت من هذا العصر إلا لتؤدي هذه المهمة وحدها بعد أن تجمع شمل العرب وتقف بهم وصفاً واحداً يقاتل طغيان عدوها المستبد الذي يلقاها بسلطانه الجائر، ويقاتل أيضاً ذلك السلطان الذي انفجر من ملتقى القارتين، أوربة وآسية، لكي يكون دماراً لنفسه وللحضارة الأوربية الفاسدة الضحلة.
ونحن العرب - فيما أرجو - لن نباع منذ اليوم في سوق الرقيق التي يسمونها (هيئة الأمم المتحدة)، فقد عرفنا بالتجربة كيف فعلت هذه الهيئة في مسألة فلسطين وسواها من عربدة القوى الذي أطارت صوابه نشوة السلطان المسكر.
محمود محمد شاكر(732/9)
على ثلوج (حِزْرين)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 2 -
قالت:
بدأت هذه القصة منذ أربعين سنة، ولم تكن هذه الظهور موحشة مقفرة كما تراها اليوم، ولم يكن القصر مهجوراً خرباً، بل كان حافلا بالأنس، فياضاً بالنعيم، يمرح فيه الصبا، ويضحك الطهر، وإن كان قد خلا من هيبة السلطان، وهجره الجند والأعوان، بعد ما قضى بـ (مذبحة عين داره) الأمراء التنوخيون سادة الجبل، ودالت دولتهم وذهبت أيامهم، فلم يبق لسيدي الشيخ ناصر رحمه الله (مشيخة) بعدهم على هذه البقاع، وكان هو (شيخها) وحاكمها - فما خلال من النبل والفضل، ولا هجره العافون ولا الوافدون، بل كانوا يؤمونه أبداً فينصرفون وقد حفل وطاب كل واحد منهم بما يشتهى وما يريد من مال الشيخ ومن طيب قلبه، ونبل نفسه، وإشراق وجهه، فكان مجده في عزلته أكبر من مجده في إمرته.
وكانت ربة القصر قد مضت جميلة طاهرة كزنبقة الجبل، شابة ناضرة كطلائع الربيع، وكانت تنشر عطر الحب أينما سارت فتترك حبها في كل قلب، فلما تولت أبقت في كل قلب أعطر الذكريات، وأحر اللوعات، ورعى سيدي الشيخ عهدها، وحفظ ودها، فلم يحل محلها من قصره أو فؤاده امرأة غيرها، ووقف نفسه على ولديها: علام وليلى، فكان لهما من بعدها أباً وكان لهما أماً، ولم يكن في القصر امرأة إلا أنا، وكنت غضة الإهاب، ريانة الشباب، فكنت أقوم على خدمتها وتربيتهما.
وكنا نعيش سعداء لا ندري ما الهموم، ولا نسأل عن الغد، كنا كالمسافر يقف على العين الباردة، يتمتع بالماء العذب، والظل الظليل، ثم يسير لا يحمل معه قربة من ماء، ولا يتزود زاداً، لأنه لا يعلم أن الطريق أمامه شمس كله وعطش وجوع وضلال، ولا بد له من سلوك هذا الطريق. . .
كانت حياتنا كالبركة الساكنة، ولكن الأيام ألقت في بركتنا حجراً كبيراً، أزعج سكونها، وكر ماءها، فلم تصف من بعد أبداً، وكان الحجر الذي رمتنا به الأيام غلاماً قذراً حمله سيدي من أزقة بيروت. . .(732/10)
وهنا تبدأ القصة التي أروي لك مقاطع منها، لأنها لا تروى. كلها: ومن يستطيع أن يروى قصة حب، بكل ما فيها من عواطف وأفكار، وآلام وآمال؟
إن النفس البشرية أعمق من البحر، فمن دخل البحر غرق فيه فلم يخرج منه ليخبر عما رأى، ومن وقف على الشاطئ لم يلمس منه إلا الزبد الذي يحمله إليه الموج، وإن أعظم القصص التي كتبها الأدباء، لم تكن إلا زبداً يلقيه الموج إلى الشاطئ، أما اللجة الكبرى فلم يصل إليها قلم أديب، ولا غاص على جواهرها، ولا وصل إلى عجائبها.
هل رأيت الأفق عند الغروب، والشمس تلونه كل لحظة بلون، تخلق فيه عجائب لم تعرفها الأرض ثم تبيدها وتأتي بغيرها، وتخط فيه خطوطاً سحرية بألوان ما عرفها الفن ثم تمحوها وترسم سواها، كذلك النفس البشرية، إنها تبني وتهدم في (الثانية) من الأفكار والعواطف، والخواطر والتأملات، ما يعجز أدباء الأرض جميعا عن حبسه في القرطاس. فكيف يصف حياة امتدت أربعين سنة، من عجز عن وصف حياة ثانية واحدة؟ وكيف يصور ألوان النفس الخفية من لم يستطع أن يصور ألوان الأفق الظاهرة؟
إن الأدباء لم يأخذوا من قصص الحياة إلا حوادثها، وما الحوادث؟ ما خطرها؟ إنها جسم القصة، فهل رأيت محباً يقتل حبيبته ثم يعانق جسدها يحسب أن الجسد هو الحبيبة؟
هذا ما يصنعه الأدباء!!
أروي لك حوادث هذه القصة وأدع لك أن تفهم ما وراءها، وأن تلمس بيد بصيرتك روحها حتى لا تكون جسما بلا روح، وأن تسمعها بأذن نفسك لا بأذن رأسك، فإن النفوس متشابهات ورب إشارة أو كلمة أدلُّ عند النفس من كتاب ضخم عند العقل.
بدأت حوادث هذه القصة يوم عاد سيدي الشيخ من بيروت راكباً فرسه، إذ لم تكن قد وطئت حرم الجبل الأشم هذه السيارات. . . وقد لفَّ عباءته على غلام وضعه بين يديه لا يبدو منه إلا رأسه، فلما وصل كشفها عنه فإذا غلام (شحاذ) عمره نحو عشر سنين، وسخ الجسم، قذر الأسمال، فقال لنا:
- إني وجدته في رأس بيروت يهم بأن يلقى نفسه في البحر فحملته معي.
وجعل الولد يتفلت منه كأنه قط وحشي يريد أن يفرَّ من الصياد، فشد يده عليه، , ودفعه إليَّ وقال لي:(732/11)
- خذيه فأطعميه.
ويا ليته تركه يرمي بنفسه في البحر، أو يا ليته خّلاه ليهرب ولا يعود، إذن لما شقينا به ولما شقى بنا أربعين سنة كوامل، لم نستمتع فيها بشباب، ولم نعرف فيها السعادة ولا الاطمئنان.
وسحبته من ذراعه، وهو يحاول التملص مني، ويعضُّ يدي، وينطحني ويثبت قدميه مستعصما بالأرض كالتيس العنيد، حتى بلغت به المطبخ ووضعت له الطعام فأكل أكل من لا يخشى الفزر، فلما شبع عدت به إليه - وكان يحدث الولدين ويدفع أليهما هداياه التي طلباها منه: القيثارة للصبي والسوط المرصع اليد للبنت - فلما رأته ليلة، قالت:
- بابا. إنه قذر.
ورحمته. أما علام فقد أبغضه منذ اللحظة الأولى.
فقال لي سيدي الشيخ:
- خذيه فاغسلي جلده، وألبسيه.
ففعلت فرأيته قد استحال إنساناً آخر، وخيل إليَّ أني لمحت على وجهه وميض نبل قديم، فلما أنعمت النظر فيه وجدته قد انطفأ وعاد وجها عادياً لغلام وضئ رائع المحيا.
وعدت به إلى الشيخ، فسرَّ به وقال:
- لقد أسميته (هاني) وجعلته مني كولدي.
ونظرت إلى الولد فأبصرت عينيه تلمعان، ثم رأيته يسرع إلى الشيخ فيخبئ وجهه في طيات جبته ويبكي، يعبر بالدمع عن الشكر الذي يقصر عن التعبير عنه اللسان.
وكانت ليلى ترمقه باسمة، أما علام فكان يأكل قلبه البغض ويجلّل وجهه الغضب.
ومرت الأيام، وألفته ليلى إذ كان في مثل سنها وألفها، أما علام فلم تزده له الأيام إلا كرهاً، وكان الشيخ قد اشترى لكل من الثلاثة فرساً، فأقبل علام يوماً على هاني وكان يساير بفرسه ليلى، فقال له آمراً:
- انزل عن الفرس وهاته، فإن فرسي قد أصابه العرج.
فأبى، فسبَّه وأخذ الفرس منه قسراً، وآلمه عدوانه عليه، وأنساه كرم الوالد أصله، وأنه لقيط من الطريق، وأن (علام) هو الولد والوارث والفرس فرس أبيه، وأنه أكبر منه سناً، وأقوى(732/12)
ساعداً، فهجم عليه يريد أن يسترجع الفرس منه فضربه علام على وجهه وصدره، ثم أخذ حجراً ضخما فرماه به، فشجه وكاد يقضي عليه، لولا أن أقبلت ليلى تدافع عنه بسوطها، تنزل به على وجه أخيها حجزته عنه. . .
في هذه اللحظة ولد المخلوق الجبار الذي اسمه الحبّ.
أشفقت عليه، وشفقة الفتاة على الفتى الجميل بذرة الحب تختفي في قلبها، فلا تحسّ هي بها، كما تختفي حبة الصنوبر الصغيرة في حدور الجبل تطؤها الأقدام، وتتجاوزها الأبصار، ولا يدري بها أحد، ثم لا تلبث أن تكون شجرة باسقة الفرع، ممتدة الأصل، شامخة الهام.
وجعلت تواسيه فيعرض عنها، يستحي برجولته (الصغيرة) أن تراها كليمة مهزومة، وهي تلح عليه، حتى قالت له:
- هلم نقطف (أزهار الجبل).
فأبى. فرفعت ذيلها وانحنت له متشبهة بالعقائل على عادتهن في تلك الأيام، فاستلّت بدلالها غضبه، وابتسمت فأنارت بابتسامتها قلبه، فأطاعها وغلبت أنوثتها رجول الرجل. . . ولا تزال المرأة غالبة ما حاربت بالأنوثة، فإن زهدت فيها وحاولت أن تجاري الرجل في ميدانه، وتسابقه في حلبته، وتقاتله بسلاحه، اصطكت ركباتها، وكلت قدماها، وعجزت يداها، وسقطتومسحت دمه، وعصبت جرحه، وأركبته فرسها، ومشت به الهويني، تلقي في أذنه كلاماً من كلام الطفولة العاشقة، يرفعه في عين نفسه ويحقق فيه عندها ما تتمناه هي في رجل أحلامها، ولكل بنت حلم ولو كانت بنت عشر، ولا يخلو حلم بنت من رجل، ولو كان (رجلا) ابن عشر! حتى إذا اقتربا من هذه الصخرة التي تراها قائمة على شفير الوادي، كأنها قلعة من قلاع الجن، أمامها خندق لا تبلغ قراراته الشياطين، ولا تصل إلى ذروته المردة، قالت له:
- اسمع ما أنت بالوضيع ولا اللقيط، أنت سليل الأمراء التنوخيين، أنت الذي نجا يوم (عين دارة) وهذا قصر أجدادك.
فنظر مشدوهاً، وقال: هذه صخرة!
- قالت: كلا، أنعم النظر إنها قصر أجدادك، وهذا الفارس الأسود بالباب يمنعك من دخوله(732/13)
فخذ هذا السيف واعد إليه فاقتله، اعُدُ. . . اعُدُهْ. . .
- قال: هذا سوط!.
فصاحت متحمسة، وضربت الأرض دلالا بقدمها، وانتثر شعرها الذهبي، وزادها الغضب جمالا على جمالها، فأراه غضبها الصخرة قصراً، والسوط سيفاً، وأي رجل لا تخذعه الجملية عن الأوهام حتى يراها حقائق، ولا يندفع من أجلها إذا دفعته إلى المهالك؟
وعثر به الفرس، وكاد يهوى إلى الأعماق المظلمة، ولكنه قفز إلى الأرض، وانطلق يقارع بسوطه الهواء، وهو يرى أنه يجالد الفارس الأسود، حتى إذا قتله. . . مسح سيفه من دمه. . . ووضع قدمه على عنقه. . . وصرخ بها صرخة الظافر، فأقبلت إليه وقالت:
- أنت الملك، وأنا أمتك.
- قال: بل أنت مليكتي.
وانحنى أمامها فقبل يدها، وذهب يقطف زهور الجبل ليصنعها لها تاجاً. . .
ونما الحب الوليد فجأة، فكانت له قوة هذه الصخرة وسموها، وله طهارة هذه الثلوج ونقاؤها، وله خلود هذه الجبال وبقاؤها.
قال صديقي:
وسكتت العجوز حيناً، ثم قالت لي:
- انظر إلى ما تحت قدميك.
فنظرت وإذا أفتن منظر وقعت عليه عينا سائح وأبدعه.
قالت:
- هذا هو المشهد الذي كنت تراه في ظلام الليل أسود مخيفاً، يبعث الرعب، ما تبدل، ولكن غابت عنه الشمس فاستحال جماله قبحاً، وكذلك الدنيا: تكون في عينٍ سوداء وفي عين بيضاء، وتكون يوماً حلوة حبيبة، ويوماً مرة كريهة، ولقد اسودت دنيانا منذ مات سيدي الشيخ، وغربت عنها شمسه المضيئة فشملها الظلام، وذهبت منها حلاوة نفسه، فصارت مرة لا تطاق.
تبدلت هذه (الدنيا) منذ مات، وشب الصغار، فلم يعد في القصر ثلاثة أطفال يلعبون قد ساوى بينهم كرم الوالد، بل سادة وخدم، وظالم ومظلومون، صار عّلام سيد القصر، فكشفت(732/14)
منه السيادة عن نفس عبد، وأظهر السلطان منه طبع سوقة، فاستبد بأخته واستأثر بالخير من دونها، وجعل هاني خادم الإسطبل، وسائس الخيل، يمسك له فرسه، وينحني له ليضع نعله الدنسة على كتفه ليركب، ويعدو معه في ركابه، ويذيقه ألوان الذل، ويتعمد أن يحمله صنوف الأذى، وهو صابر من أجل حبّه، وهي ترى هذا فيقطع نفسها حسرات، ويمزق فؤادها أن ترى حبيبها و (ملكها) ذليلا ممتهناً، ولا تدري ما اللذة ولا تعرف طعم الحياة إلا إذا غاب الأخ، فهرعت إلى الصخرة تسبقه أو يسبقها إليها، فألقت بنفسها بين ذراعين، ما تبالي حطة منزلته ولا وساخة بزّته، لقد كانت هذه الصخرة ملاذهما، وعش هواهما، يستندان إليها، فإذا الصخرة التي كانت صمّاء خرساء، قد عاشت بالحب، وعدتها حياته الخالدة، فصارت قلباً كبيراً أحنى من قلوب الأمهات، ولساناً أحلى من ألسنة العشاق، وعز كل شيء حواليها وغلا، فالشمس عندها أضوء في عينهما من شمس القصر، والليل أعذب، والورد أعطر، والثلج أطهر، وكان يحسّ وهو معانقها أن هذه السفوح، وهذه الإحراج المطيفة بالقرى، وهذه السواقي المنبثقة من الإحراج، وهذه الذرى العالية، وهذه الحدود المتتالية وهذا البحر العظيم الذي يمتد حتى يصعد إلى السماء أو تنزل هي إليه، فيكون البحر سماء والسماء ماء - كل ذلك ملك له وحدهّ!
ويشعر بالقوة قد ملأت نفسه حتى كادت تنفجّر نشاطاً واندفاعاً، وبالعاطفة يكاد يتمزق من طغيانها قلبه، وأنه لم يعد السكون والانطواء على نفسه بعدما حركة الحب؛ فهو يريد أن يصنع المعجزات، أن يزيح الجبال، أن يكون قائداً فيفتح بحبها الأرض، أن يكون شاعراً فيملأ بتقديسها الأسماع، أن يكون كاتباً فيخلدها بروائع الآداب: بكل مقالة هي أعظم من قلعة يشيدها الملك، وأمتن منها بناء، وأعلى، وأبقى على وجه الدهر، تتخرب القلاع وهي باقية، وتنسى أسماء الملوك، وأسماء قائليها درر في صحائف التاريخ، وجمال للماضي. . .
وتنالها من خمرة الحب مثل نشوته، وتغيب معه في سكرة الغرام، فتهمس وشفتاها على خده:
- هل في الدنيا أسعد منا يا هاني؟ هل في الوجود متعة أعظم مما نحن فيه؟
- فيقول: نحن الوجود يا ليلى، نحن المحبة والمحبة سرّ الوجود. هذه الصخرة مارست هنا(732/15)
منذ الأزل إلا لنأوي إليها، هذه السفوح ما بسطت إلا لنطل عليها، والقمر ما طلع من وراء الأفق إلا لينظر إلينا، والنجوم ما أطلت من فرج السماء إلا لتناجينا، والفلك كله يدور من حولنا. نحن قطب الوجود، أناوأنت يا ليلى. لقد كنا متحابين من قبل أن نلتقي، وقبل أن نولد، وسنبقى متحابين بعد أن نموت، وهذا هو الحب.
الحب أن يعرف الحبيبة قبل أن تقع عليها عينه، ويسمع باسمها أذنه: يعرفها في سبحات التأمل في ليالي الوحدة، في ثوران الميل في أعصاب الشباب، في خفقات القلب للجمال، في تطلع الفكر للمجهول، في فراغ النفس، في صراخ الأعصاب، في كل فرحة، وفي كل ألم، وكل ذهول هذا هو الحبُّ الضالَّ الذي لا يعرف طريق الحبيب.
ليس الحب ضمَّة ولا شمَّة ولا قبلة، الحب أن يرى المحبوبة فيحس في نفسه جوعاً سماوياً إليها، رغبة جامحة في أن يفتح قلبه ويضعها فيه ويضمه عليها، الحب أن تفنى هي فيه، وأن يفنى هو فيها، أن لا يفرق بين الحبيبين الزمان ولا المكان ولا الميول ولا الأهواء، فيكون أبداً معها، هواه هواها، وميوله ميولها، ويكون في رأسه صداعها، وفي معدته جوعها، وفي قلبه مسراتها وأحزانها، وأن تكون له ويكون لها، وأن يدخلا معاً مصنع القدرة الإلهية مرة ثانية ويخرجا وقد صارا إنساناً واحداً، في جسمين اثنين. فأين تروى جرعات اللذائذ الحسية هذا الظمأ الروحي؟! إنها كالخل للعطشان، يشربه فيحرق أمعاءه، ويزيد ظمأه.
- فتقول له: يا ليتنا نموت الآن يا هاني، حسبنا هذا من العمر. أو يا ليت الزمان يقف فلا يدور أبداً، ولا نعود إلى القصر ولا نرى الناس.
- فيقول: ما الناس؟ وما القصر؟ كله باطل! كل ما عند الناس أوهام! الحق هنا، هذا وحده الحق، هذا هو الواقع، هنا الدنيا!
ويعجز النطق، وتضيق اللغة، فيتكلمان باللغة التي يفهمهما البشر كلهم، لأن لغة البشرية ليست لغة أمم ولا أقوام، اللغة التي ليس فيها إلا كلمة واحدة ولكن معانيها أوسع من كل ما حوت المعاجم، اللغة التي لا يفهم الرجل عن المرأة، ولا تفهم المرأة عن الرجل، إلا بها: لغة القبل!
وتكون وسوتها الخافتة أبلغ من كل ما قال الشعراء.(732/16)
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي(732/17)
9 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
الرموز في الأحلام:
والأشياء التي تمثل في الحلم بالرموز ليست كبيرة العدد، وهي تنحصر في: جسم الإنسان كمجموعة، والأباء، والأبناء، والإخوة، والأخوات، والولادة، والعرى - وثمة شيء آخر. والتمثيل النموذجي الوحيد، أي الذي يتكرر ظهوره باستمرار، لجسم الإنسان كمجموعة هو (المنزل)، كما يقرر ذلك الفيلسوف (شرنر) الذي أراد أن ينسب إلى هذا الرمز دلالة شاملة فوق ما يستحقها. والناس يرون في أحلامهم أنهم يهبطون الدرج الخارجي للمنزل وقد انتابهم شعور من الفرح أحيانا ومن الفزع أحيانا أخرى. والمنزل إذا كان أملس الحائط فهو يرمز إلى رجل، أما إذا كان يحتوي على بروزات وشرفات تصلح للتعليق بها فهو يرمز إلى امرأة. والأب والأم يظهران في الحلم على شكل (إمبراطور) و (إمبراطورة) أو (ملك) و (ملكة) أو أية شخصية عظيمة أخرى. أما الأبناء والأخوة والأخوات فإنهم يعاملون في الحلم برقة أقل، فيرمز إليهم (بحيوانات صغيرة) أو (حشرات). والولادة تمثل غالباً بإشارة إلى (الماء)؛ فنرى أننا إما نقع في الماء أو نخرج منه، أو ننقذ أحداً من الغرق أو ينقذنا منه، أي أن العلاقة بين الأم والطفل تبدو في صورة رمزية. أما الموت فيمثل بالاستعداد للقيام (برحلة) أو (سفر) بالقطار، بينما ترمز (الملابس) و (البزة الرسمية) إلى العرى. وهنا ترون أن الخط الذي يفصل بين التمثيل الرمزي والتمثيل التلميحي يمثل إلى التلاشي.
ونحن لا يسعنا بجانب هذا الفقر في الإحصاء إلا أن نعجب أيما عجب عندما نرى أن أشياء كثيرة من التي تنتمي إلى أفق آخر من الأفكار تمثل بعدد وافر من الرموز، وهذه الأشياء التي أعنيها هي كل ما يختص بالحياة الجنسية من أعضاء التناسل والعمليات الجنسية والجماع. فكمية فائقة منالرموز في الأحلام عبارة عن رموز جنسية، ومن هنا(732/18)
يختل التوازن إذ أن الأشياء التي تعالجها الرموز قليلة العدد بينما الرموز نفسها عديدة بشكل غريب، بحيث يمكن لكل من هذه الأشياء القليلة أن يعبر عنه برموز كثيرة متماثلة تقريباً من الوجهة العلمية. ولذا فإننا عندما نقوم بتفسير هذه الرموز فإن هذه الخاصية تتسبب في جرح الشعور العام لأن هذه التفسيرات كلها تعتبر واحدة إذا قسناها بالأشكال المختلفة التي تمثل بها في الأحلام. وهذا من غير شك لا يسر كل من يقدر له أن يعرفه، ولكن ماذا في وسعنا أن نعمل؟.
ولما كانت هذه هي المرة الأولى التي أتكلم فيها عن الحياة الجنسية، فإنني أجدني مديناً لكم ببعض الشرح عن الخطة التي سأتبعها في معالجة هذا الموضوع. فالمحلل النفساني لا يرى أي داع لأن يخفى شيئاً أو يلمح إليه بطريقة غير مباشرة، وهو لا يجد غضاضة في ال بمادة غزيرة كهذه المادة، وإنما هو من الرأي القائل بأن من الأصوب والأفضل لنا أن نأمن جانب التأويلات المختلفة. ولئن كنت أتحدث إلى خليط من الرجال والنساء، فلن يغير هذا من الموقف شيئاً. فليس هناك من العلوم ما يمكن معالجته بطريقة تصلح لفتيات المدارس، كما أن النساء الموجودات قد عبرن بحضورهن إلى هذه القاعة تعبيراً ضمنياً عن رغبتهن في المعاملة كالرجال سواء بسواء.
والجهاز التناسلي للذكر يمثل في الحلم برموز كثيرة قد نستطيع أن نتبين في معظمها وجه المقارنة بوضوح. فمثلا العدد المقدس (ثلاثة) عبارة عن رمز للجهاز بأكمله. أما الجزء المعروف منه وهو ما يهم الجنسين على السواء، أعني القضيب، فيرمز إليه أولا بأشياء تشبهه في الشكل أي طويلة منتصبة مثل (العصا) و (المظلة) و (الأعمدة) و (الأشجار) وما شابه ذلك. كما أنه يرمز إليه كذلك بأشياء لها مثله خاصية الاختراق، ومن ثم إيذاء الجسم أي الأسلحة المدببة من أي نوع كانت مثل (المدية) و (الخنجر) و (الرمح) و (السيف). والأسلحة النارية أيضاً (كالبندقية) و (الطبنجة) و (المسدس) يستخدم كثيراً لما لها من شكل يجعلها رموزاً صالحة للاستعمال. فنجد أن المطاردة بواسطة رجل مسلح بمدية أو بندقية في آخرها حربة تلعب دوراً كبيراً في أحلام القلق للفتيات الصغيرات. وربما كان هذا الرمز أكثر الرموز ظهوراً في الأحلام، وها أنتم الآن تستطيعون ترجمته من تلقاء أنفسكم. والاستعاضة عن القضيب بأشياء يفيض منها الماء مثل (الصنبور) و (الينبوع) وكذلك(732/19)
الاستعاضة عنه بأشياء لها القدرة على الاستطالة مثل (المصابيح التي تعلق على بكرة) و (الأقلام التي ينزلق فيها الرصاص داخل وخارج الغلاف) تعتبر من الرموز السهلة الفهم. ومما لاشك فيها أيضاً أن (المطرقة) و (قلم الرصاص) و (مبرد الأظافر) و (البنة) وغير ذلك من (الأدوات) عبارة عن رموز جنسية مذكرة من السهل جداً معرفة وجه المقارنة بينها وبين القضيب.
ولهذا العضو صفة خاصة (وهي جزء من ظاهرة الانتصاب) تمكنه من القيام من تلقاء ذاته غير مكترث بقانون الجاذبية، وهذه الصفة تؤدي إلى أن يرمز إليه في الحلم (بمنطاد) أو (طائرة) وأخيراً فقط (زبلن). بيد أن الأحلام لها طريقة أخرى أشد غرابة في الرمز إلى الانتصاب وذلك بأن تدمج العضو الجنسي في الجزء الرئيسي من الشخص بحيث يرى الحالم (أنه نفسه يطير). أرجو أن لا تقلقوا لسماعكم لأول مرة أن الأحلام الجميلة التي نعرفها كلنا والتي نرى أنفسنا نطير فيها، يجب أن تفسر على أنها تهيج جنسي أو أحلام انتصاب، فهذا التفسير قد أثبته أحد علماء التحليل النفسي وهو (ب. فيدرن) بشكل لا يدع مجالا للشك. هذا علاوة على أن (مورلي فولد) وهو رجل يثنى عليه كثيراً لأحكامه الرزينة، قد أجرى تجارب كثيرة على أوضاع اصطناعية للأيدي والأقدام فوصل إلى نفس النتيجة مع العلم بأن نظرياته كانت تبعد في الواقع كثيراً عن نظريات التحليل النفسي (بل لعله في الحقيقة لم يكن يعلم شيئا بالمرة عن هذا العلم) كما يجب عليكم أن لا تفكروا في المعارضة باعتبار أن المرأة ترى أيضاً أنها تطير في الحلم، فالأفضل لكم أن تتذكروا أن الغرض من الأحلام هو إشباع الرغبات، وأن الرغبة في أن تصير رجلا كثيراً ما تقابل في المرأة سواء شعرت بها أم لا. وفضلا عن ذلك فإن الشخص الذي له إلمام بعلم التشريح أن تستطيعوا التمويه عليه إذا قلتم له إنه من المستحيل على المرأة أن تحقق هذه الرغبة عن طريق احساسات تشبه احساسات الرجل، لأنه يعلم أن الجهاز التناسلي للمرأة يحتوي على عضو صغير يشبه القضيب، وهذا العضو الصغير، المسمى بالبظر، يلعب في الطفولة وفي السنوات التي تسبق المعاشرة الجنسية نفس الدور الذي يلعبه القضيب.
وهناك رموز جنسية مذكرة يصعب فهمها قليلا مثل (الأفاعي) و (الأسماك) ومثل الرموز المشهور (الثعبان). كما أن الصعب علينا فعلا أن نتكهن بالسبب الذي من أجله تستخدم(732/20)
(القبعات) اهتمامو (المعاطف) بنفس الطريقة، غير أن معناها الرمزي لا ريب فيه من غير شك. وأخيراً فإن لنا أن نتساءل إذا كان من الممكن أن نعتبر تمثيل القضيب بأحد الأعضاء الأخرى مثل اليد أو القدم تمثيلا رمزيا؟ أظن أن سياق الحوادث وما نصادفه من الرموز المؤنثة المقابلة لذلك سيضطرنا إلى الاعتراف بهذه النتيجة.
أما الجهاز التناسلي للأنثى فيرمز إليه بكل الأشياء التي تشترك معه في صفة الإحاطة بفراغ أو التي تصلح للاستعمال كأوعية مثل (الحفرة) و (الحب) و (المغارة) وكذلك (الجرة) و (الزجاجة) و (الصناديق) من مختلف الأحجام والأشكال، و (الخزانة) و (الأدراج) و (الجيوب) وما شابه ذلك و (السفن) أيضاً تدخل ضمن هذا الاعتبار. وكثير من الرموز حرية بأن تشير إلى الرحم أكثر من أي عضو تناسلي آخر، مثل (الدولاب) و (الموقد) وأهم من ذلك كله (الحجرة). والتمثيل الرمزي بالحجرة هنا يرتبط مع التمثيل بالمنازل، بينما (الأبواب) و (البوابات) تمثل الفتحات التناسلية. وهناك أيضاً مواد من أنواع مختلفة ترمز إلى المرأة (كالخشب) و (الورق) والأشياء المصنوعة منها مثل (الكتب) و (الموائد). أما من عالم الحيوان (فالقواقع) و (أم الخلول) يجب أن تدخل على أي حال ضمن الرموز المؤنثة التي لا يخطئها الظن. وأما من أجزاء الجسم نفسه (فالفم) يمثل الفتحة التناسلية، بينما نجد أن (الكنائس) و (المعابد) بين الأبنية عبارة عن رموز للمرأة. ومن هذا ترون أن هذه الرموز كلها ليست على درجة واحدة من سهولة الفهم.
والنهود كذلك يجب أن تدرج ضمن الأعضاء الجنسية وهي تمثل (بالتفاح) و (الخوخ) و (الفواكه) على العموم. أما شعر العانة في الجنسين فيرمز إليه في الحلم (بغابة) أو (أيكة). وترجع العلة في تمثيل الجهاز التناسلي للأنثى غالباً (بأصقاع) تحتوي على غابات وصخور ومياه إلى طبيعته التبوغرافية المعقدة، بينما التركيب الميكانيكي الدقيق للجهاز التناسلي للذكر يؤدي إلى الرمز إليه بكل الأنواع المعقدة التي لا يمكن وصفها من (الآلات).
غير أن هناك رمزاً آخر للجهاز التناسلي للأنثى يستحق الذكر هنا وهو (صندوق الجواهر) بينما (الجواهر) و (الكنوز) تستخدم في الحلم كرموز تمثل الشخص المحبوب، و (الحلوى) تقوم غالباً مقام اللذة الجنسية. أما التلذذ الجنسي الناتج عن اللعب في الأعضاء التناسلية(732/21)
للشخص نفسه فيرمز إليه بأي نوع من أنواع (اللعب) ومن بينها (اللعب) على البيان. والتمثيل الرمزي (للعادة السرية) (بالانزلاق) و (التزحلق) وأيضاً (يجذب فرع من الشجرة) يعتبر تمثيلا نموذجياً. ومن الرموز التي تستحق النظر أيضاً (سقوط أو اقتلاع الأسنان) ومعناها المبدئي من غير شك هو الخصي كعقاب للإدمان على العادة السرية. ومن الغريب أن عملية الجماع نفسها تمثل في العلم بدرجة أقل مما كنا نتوقع بعد كل هذا، ولكنا نستطيع أن نذكر هنا أنواع الرياضة ذات النغم المطرد مثل (الرقص) و (ركوب الخيل) و (التسلق)، وكذلك (تعرض الإنسان للشدائد) كأن تدهمه مركبة كما أن في إمكاننا أيضاً أن نضيف إلى ذلك بعض الأشغال اليدوية وكذلك التهديد بالأسلحة من غير شك.
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(732/22)
رأي الأكثرية في السياسة الشرعية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
ذكر صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ رزق الزلباني في مقال له (السياسة الدستورية الشرعية) نشر في عدد صفر سنة 1366هـ من مجلة الأزهر حكما في رأي الأكثرية لا يصح أن يترك من غير أن تبين حقيقته الدينية، لأنه يتعلق بأمر له خطرة في نظام الحكومات الدستورية الحاضرة، وقد أخذت به الحكومات الإسلامية في هذا العصر، فتألف في كل حكومة منها مجلس نيابي يقوم نظامه على الأخذ برأي الأكثرية، وقد رأى فضيلة الأستاذ أن هذا يخالف السياسة الدستورية الشرعية، لأنها توجب رد المتنازع فيه بين أولي الأمر إلى الكتاب والسنة، ولا توجب الأخذ برأي الأكثر كما توجبه الحكومات الدستورية في عصرنا، ثم ذكر أن ما درجت عليه الشريعة من ذلك أدنى إلى الصواب، وأجدر بتحقيق المصلحة واتفاق الكلمة، لأن الأكثرية قد تكون من حزب واحد ينصر بعض أفراده بعضاً في الحق وفي الباطل، فمتى شاء زعماء الحزب تقرير أمر ولوبباعث المصلحة الشخصية تبعهم الباقون من أعضائه، فيصبح ما قرروا واجب الاتباع لأنه رأي الأكثر، وإن كان ظاهر الضرر قبيح الأثر، فتضيع المصلحة العامة، وتتزعزع ثقة الأمة بأمثالهم، وتجد الفتنة والتفرق طريقهما إلى النفوس، وفي ذلك الخطر كل الخطر، وفي الرد إلى الله والرسول اطمئنان كل نفس وراحة كل ضمير، وضمان وحدة الأمة وسيرها على صراط مستقيم.
ولا شك أن ما ذهب إليه فضيلة الأستاذ من رد المتنازع فيه بين أولى الأمر إلى الكتاب والسنة هو ما جاء في قوله تعالى في الآية - 59 - من سورة النساء (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وقد ذكر المفسرون أن ذلك خاص بأمور الدين، فهي التي يرجع فيها عند التنازع إلى كتاب الله عز وجل، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما دام حياً، فإن مات ردت إلى سنته، فإن لم توجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله فسبيلها الاجتهاد، وقيل الرد إلى الله ورسوله أن يقولوا لما لا يعلمون: الله ورسوله أعلم.
فأما أمور الدنيا فقد فوض الأمر فيها إلينا، نحكم فيها بما فيه مصلحتنا، ونرجع فيها إلى ما يراه أولو الأمر فينا، كما قال تعالى في الآية - 83 - من سورة النساء، (وإذا جاءهم أمر(732/23)
من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منعم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فأدخل هنا أولي الأمر فيما يجيئهم من أمور الأمن والخوف، لأنه من أمور الدنيا، قال المفسرون: أولو الأمر هم ذوو العقول والرأي والبصيرة، أو أمراء السرايا والبعوث.
وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه في الآية - 59 - من سورة آل عمران، فقال (وشاورهم في الأمر) وقد اختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة لهم، مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته على الخلق كافة فيما أحبوا أو كرهوا، فقيل هو عام مخصوص، والمعنى وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد، وذلك في أمر الحرب ونحوه من أمور الدنيا، لتستظهر برأيهم فيما تشاورهم فيه، وقيل إنه أمر أن يشاورهم في أمر الدين والدنيا فيما لم ينزل عليه فيه شيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم في أسرى بدر وهو من أمر الدين، وقد اتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلى عليه وسلم أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلى عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة، وإنما أمر أن يشاور فيما سوى ذلك من أمر الدنيا ومصالح الحرب ونحو ذلك.
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يؤبرون نخلهم، فقال لهم: لو تركتموه لصلح فتركوه ففسد، فأتوا إليه فأعلموه بفساده، فقال لهم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
فهناك إذن أمور كثيرة لا يجب على المسلمين أن يرجعوا عند التنازع فيها إلى الكتاب والسنة، وهي أمور الحكم التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيها، لأنها هي محل الشورى، وهي التي تؤلف المجالس النيابية في الحكومات الدستورية للرجوع إليها فيها، أما أمور الدين فشأنها في ذلك شأن القوانين الوضعية، ولا شك أن وجود القوانين الوضعية لا يمنع من تأليف المجالس النيابية في الحكومات التي تأخذ بها، فكذلك لا يمنع وجود القوانين السماوية من تأليف المجالس النيابية في الحكومات التي تأخذ بها، لأن المجالس النيابية ليست محاكم تنظر في مسائل القوانين السماوية أو الوضعية، وإنما هي رقيبة على حكوماتها، تعطيها ثقتها إن عدلت في الحكم، وتعزلها من الحكم إن جارت(732/24)
فيه.
وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم على الشورى في حكمه، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك أنه في غزوة الأحزاب أراد أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف على ثلث ثمار المدينة، فعرض ذلك على سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة سيدي الأوس والخزرج، فقالا له: يا رسول الله، إن كان أمراً من السماء فامض له، وإن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف. فقال لهما: لو أمرني الله ما شاورتكما. ثم اختار ما أشارا به، ورجع عما أراده من ذلك الصلح.
وإذا كان الإسلام قد جاء بالشورى التي تقوم عليها الحكومات الدستورية في عصرنا، فقد جاء أيضاً بالرجوع إلى رأي الأكثرية عند اختلاف أهل الشورى، وبهذا لا يكون هناك خلاف في هذا الأمر بين السياسة الدستورية الشرعية وغيرها من السياسة الوضعية، بل تتفق السياستان في الأخذ برأي الأكثرية فيما ثبتت فيه الشورى من أمور الدنيا كلها، ومن بعض أمور الدين على ما ذهب إليه بعض العلماء فيما سبق.
وقد أتى الإسلام بالأخذ برأي الأكثر في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، وذلك حين اقترب المشركون من المدينة فنزلوا بذي الحليفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن هم أقاموا أقامو بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
فقال رجال من المسلمين ممن كان فاته يوم بدر: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا. وقال آخرون: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلتهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا!
فانقسم المسلمون بذلك إلى فريقين: فريق على رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم شيوخ المهاجرين والأنصار، يرون البقاء في المدينة، وفريق أكثرهم من الشبان الذين لم يحضروا غزوة بدر، وأرادوا أن يعوضوا ما فاتهم منها بغزوة أحد، يرون الخروج من(732/25)
المدينة إلى العدو.
وقد نظر النبي صلى الله عليه وسلم فرأى الأكثرية في جانب الذين يرون الخروج من المدينة، فلم ير إلا أن يترك رأيه إلى رأيهم، وإن كان يرى أن رأيه هو الأرجح، لأنه قد أمر بالشورى، والشورى تقتضي أن يأخذ برأي من يستشيرهم إن اتفقوا عليه، فإن اختلفوا فيه أخذ برأي أكثرهم، حتى تمشي الشورى على قاعدة مطردة، وتجري على منهاج معروف، تجتمع عليه كلمة الأمة، ولا تكون الشورى معه سبباً لانقسامها واختلافها، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، لأن ضلالا مخالفة رأي الأكثرية في الخروج من المدينة أشد من مخالفة رأيه في البقاء فيها. وقد بعث صلى الله عليه وسلم معلماً ومرشداً، فضرب بهذا مثلا في حكم الشورى، ليأخذ المسلمون به بعده، وتكون القاعدة فيه الأخذ برأي الأكثر عند الاختلاف في الرأي.
فكيف مع هذا يرى فضيلة الأستاذ أن الأخذ برأي الأكثر ليس من السياسة الدستورية الشرعية، وفي الإسلام مجال واسع للأخذ برأي الأكثر، وذلك في كل ما يؤخذ فيه بالشورى من أمور الدنيا، ومن بعض أمور الدين التي لا يوجد فيها نص قاطع من الكتاب أو السنة، ولا شك أن تقييد الأخذ برأي الأكثر بذلك لا شيء فيه، لأن المجالس النيابية في الحكومات الحديثة لا يصح لها أن تتدخل في كل شيء من أمور الدولة، بل تقف سلطتها عند حدود لا تتعداها، ولا تطغى بمجاوزتها على غيرها من السلطات التي تتألف منها الحكومة.
وأما ما ذكره فضيلة الأستاذ من ضرر الأخذ برأي الأكثرية عندما تكون من حزب واحد فهم أمر قد يعرض لهذا النظام، ولا يصح أن يؤخذ به، كما لا يصح أن يؤخذ كل أمر نافع بسوء استعماله. بل يجب أن يعالج هذا فيه بما يصلحه.
عبد المتعال الصعيدي(732/26)
الفلسفة العربية وكيف تدرس
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
تعم الشرق العربي نهضة تشمل مختلف نواحي الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ولكي نسير بهذه النهضة إلى الأمام يجب أن نقيمها - ونحن في بدايتها - على أسس وطيدة تلائم استعداداتنا العقلية وتقاليدنا الاجتماعية. وذلك يلزمنا بأن نتوجه إلى حضاراتنا العربية نبعث تراثها من جديد؛ ونستكشف من بين ثنايا مخلفاتها مقوماتنا النفسية، واتجاهات ميولنا الفكرية، ومعاييرنا الخلقية، وعاداتنا الاجتماعية. فيجب علينا أن نجد في بحث تراثنا العربي لا نترك فيه علماً أو فناً من غير أن نستوفي دراسته، ونسرع في نشر أبحاثه في جميع أنحاء العالم العربي، حتى يدرك كل عربي ما هي المبادئ المقومة لفكره، وما هي الاتجاهات الثابتة التي ينزع إليها دائماً عقله؛ فيأخذ في تنمية مواهبه، ويشغلها بالموضوعات التي تتفق مع نزعاته الفكرية الصحيحة؛ وكل ذك يؤهل الشعوب العربية لأن تقوم وتؤسس حضارة عالية تنشأ في أحضان الأصول الروحية الشرقية وترتقي بنضوج الخصائص الرئيسية لعقليتنا العربية. . .
علينا إذن نحن العرب واجب مقدس نحو مستقبلنا الحضاري، وهو أن نتعاون جميعاً على تحليل علوم العرب وآدابهم وفنونهم إلى عناصرها الأولية، قاصدين معرفة محتوياتها وأصولها وبواعثها ومناحي مذاهبها. وأحسب أن تحقيق ذلك يتطلب دراية واسعة وفهما عميقاً لكل التيارات الثقافية التي أثرت في العقلية العربية، حتى يمكننا أن نميز بين ما هو أصيل في الحضارة العربية وما هو دخيل عليها، ولذلك قبل أن نقدم على مثل هذه الدراسات، يجب أن نتزود بالزاد الثقافي الذي يعدنا للاشتغال بتراث العرب، وأن نحدد لمختلق العلوم والآداب والفنون البرامج الثقافية التي تعين كل باحث في تفهم مادة بحثه وفي هذا المقال سأحول أن أضع البرنامج الثقافي الذي أرى أنه يفيد كل من يرغب في الاشتغال بالفلسفة العربية. . .
نشأت هذه الفلسفة في بيئة ثقافية معقدة أشد التعقيد، وتطورت في ربوع شعوب متباينة الاتجاهات، وتأثرت بحضارات متعارضة النزعات. فلقد كان العالم العربي يمتد من غرب الهند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وضم بلاد الأندلس والمغرب ومصر والشام وشبه(732/27)
جزيرة العرب والعراق وفارس وما وراء النهر، فتلاقت ثقافات هذه البلاد وتمازجت، كما تسربت إليها الأفكار الهندية، وتأثرت بما ترجم من التراث اليوناني إلى اللغة العربية، وأخذت عن الدين الإسلامي، وعرفت تعاليم الدين المسيحي وتعاليم الدين اليهودي. فنبت التفكير الفلسفي العربي من فلسفة وتصوف وعلم كلام وترعرع في كنف ذلك المجمع الثقافي والمتحف الحضاري، ونحن لا ندري إلى الآن أي هذه الثقافات كان أقوى تأثيراً من غيره في الفكر العربي، وإلى أي حد كان أخذ العربي ومحاكاته لثقافات غيره من الشعوب، ولا نعرف ما هو نصيبه الحق في تراثه الحضاري. . .
لكي نكشف عن حقيقة هذه المسائل العويصة، يجب أن نسترشد بكل ما يقال إنه من العوامل التي أثرت في كل من الفلسفة والتصوف وعلم الكلام إذ قد تدلنا على قسط كل ثقافة في الحضارة العربية، وتحدد لنا نصيب الفكر العربي فيها.
أولاً: يلاحظ على الفلسفة العربية أن هناك من لم يقتنع بوجودها، ويشك في قدرة العقلية العربية على التفلسف، ويرى أن الفلسفة العربية ما هي إلا خليط مشوه من الأفكار اليونانية لا نصيب فيها للفكر العربي؟ وأن هناك من يدعي بأن للعرب إضافات مبتكرة تشهد بأن الفكر السامي في قدرته أن يضع نظريات ويقيم كليات، وأن هناك من يقول بأن هذه الإضافات ليست مبتكرة وإنما هي مأخوذة من الأفكار الهندية والفارسية ولكي نتوصل إلى الرأي الصواب؛ يجب قبل أن نشتغل بهذه الفلسفة، أن نجيد فهم الفلسفة اليونانية، ونتتبع تاريخ تطورها من يوم ظهورها إلى أن ترجمت إلى اللغة العربية، وأن نعرف مراحل تطور الفكر الفارسي من قبل نهضة زرادشت إلى أن استولى العرب على بلاد فارس، وأن نلم بكل الديانات الهندية من هندوسية وبوذية سواء في أصولها أو في صورها التي وصلت إلى العرب. وبعد أن نحيط علماً بكل ذلك يمكننا أن نبحث في الفلسفة العربية، وأن نحدد موقف العقلية العربية منها.
ثانياً: أما عن التصوف فتضاربت الأقوال شتى المذاهب في نشأته وتطوره، فمن يرى أنه هروب من ارتباك الحياة السياسية وانحطاط الحياة الاجتماعية، ورجوع الحياة الصوفي القديمة التي كانت في الهند وفارس، ومن يرى أنه محاكاة للرهبة المسيحية، وأنه استمد تفسيراته للأحوال الصوفية من أفكار الأفلاطونية المحدثة، ومن يرى أن دين الإسلام برئ(732/28)
منه، لأنه دين جاف لا يلين للعواطف الصوفية، بينما يستند الصوفية دائما في أقوالهم إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فكل هذه الآراء تجبرنا وتلزمنا بأن نلم بالأصول الثقافية التي دعت إلى ظهور التصوف وساعدت على نموه؛ وأن نعرف قبل أن نقبل على دراسته تاريخ الإسلام السياسي وأثره في الحياة الصوفية، وتعاليم الدين المسيحي ونظم رهبنته ومدى نفوذه في العالم العربي، ونظريات الأفلاطونية المحدثة، ودين الإسلام وروح تعاليمه في القرآن الكريم والحديث الشريف، وتاريخ التصوف الهندي والفارسي.
ثالثاً: إن كان هناك من يؤكد بأن نشأة علم الكلام دعت إليها الحياة العربية، وحاجتها للدفاع عن تعاليم الإسلام، ومقاومة كل الحركات التي ناهضت الإسلام، وعملت على تقويض نفوذه وهدم تعاليمه؛ إلا أن هناك أيضاً يمن يعتقد أن علم الكلام كان مجرد محاكاة للجدل اللاهوتي المسيحي، وأن حججه وبراهينه كلها مأخوذة من الفلسفة اليونانية. ولكي نمتحن هذه المزاعم يتطلب منا أن نحيط علماً بمختلف التيارات الثقافية التي ناهضت الإسلام وتعاليمه، وبنوع الجدل اللاهوتي الذي كان يدور بين المسيحيين ومدى شيوعه في المملكة العربية، وبالفلسفة اليونانية وطرق إقامتها للحجج وأسلوب جدلها المنطقي وروح براهينها.
نستنتج مما تقدم أن الباحث في الفكر العربي لن يصل إلى شيء ذا خطر علمي، ما لم يمون نفسه بالزاد الثقافي الذي يحتاج إليه، حتى يكون دقيقاً عميقاً في أبحاثه، صادقاً مصيبا في أحكامه ولكي نسهل عمل كل من يرغب في أن يشتغل بهذا الفكر، نخطط له برنامجاً ثقافياً، عليه أن يستوعبه قبل أن يبدأ في تناول أي بحث فلسفي عربي أياً كان نوعه، ويتخلص هذا البرنامج الثقافي في الخطوات الآتية:
1 - أن يبدأ الباحث بدراسة تاريخ الفكر الفارسي، وتاريخ الفكر الهندي في أصوله، ثم على حالتيهما اللتين وصلتا العرب.
2 - ثم يدرس الفلسفة اليونانية دراسة تفصيلية في مختلف أطوارها، منذ نشأتها إلى يوم أن نقلت إلى اللغة العربية.
3 - ثم يدرس تعاليم الديانات السماوية الثلاث، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية، ويدرسها أولا في أصولها، ثم علي حالتها التي كانت عليها في العصور العربية.
4 - أن يتتبع تاريخ الإسلام السياسي، ومدى أثره في الحياة الثقافية.(732/29)
وبعد أن يعطي الباحث هذه العلوم حقها من الدراية والفهم، يسمح لنفسه بأن يتناول الفكر العربي بالبحث، لأنه في ضوء ثقافته هذه، يمكنه أن يتتبع نشأة كل أنواع هذه الفكر، ويتلمس أماكن ظهورها في مختلف البلاد العربية، ويدرك أدوار تطورها، بل يمكنه أن يعين العوامل التي أدت إلى رقيها أو التي عاقت تقدمها، وأن يوضح مكانة العقلية العربية ومدى تفاعلها مع الثقافات الأخرى. وكل ذلك يساعده مساعدة فعالة في شرح تفاصيل الفلسفات العربية شرحا وافياً دقيقاً غير متأثر في أحكامه بأي عاطفة سوى حب الحقيقة، كما يساعده في تحديد عناصر الحضارة العربية ومقومات روحها الحق.
عبد العزيز محمد الزكي
ليسانسيه في الفلسفة(732/30)
هذه الألفاظ الأثرية
للأستاذ أحمد رضا
تحت هذا العنوان كتب (الجاحظ) في مجلة الرسالة الغراء كلمة وصف بها ما اخترته من الأسماء للمعاني المستحدثة الطارئة. فقال إنها ألفاظ أثرية مجفوة ميتة، ولم أهتد إلى وجهة نظره في توجيه هذا النعت.
الآن هذا المختار غير مألوف في الذوق عنده أو عند أدباء هذا الدور من هذا العصر؟؟ ولماذا؟ والألفة الذوقية وحدها لا تكون ميزاناً للوضع والاختيار، وإلا لما كان من حاجة إلى الوضع، ولا سيما إذ كانت الكلمات المختارة فصيحة في أصلها جارية على ألسنة الفصحاء زمن ازدهار اللغة ونموها.
وربما كان المألوف لك عامياً صرفاً أو أعجمياً، فهل تفضله لمجرد الألفة وأنس الذوق به على الصحيح الفصيح لأنه غير مألوف؟ والألفة وأنس النفس إنما يكونان بطول الصحبة وكثرة المزاولة فحيث تكون كانتا.
أو لأن هذا المختار ألفاظا نابية في السمع لتعقد تراكيبها، وسماجة لفظها، وتنافر حروفها؟ ولست أشعر بشيء من ذلك فيما اخترته ولا نبه الناقد إليه.
انتقد (الدرمك) للدقيق المحور وهو لفظ فصيح استعمله فصحاء العرب بل جاء في كلام أفصح من نطق الضاد، فقد قال صلوات الله عليه في وصف الجنة (وتربتها الدَرْمَك) وفسره ابن الأثير في النهاية بالدقيق الحوَّاري.
وأنكر (الدّغْري) للحرب المفاجئة. وقد وردت في كلام فصحاء العرب من غير استغراب ولا استهجان ولا نكير (قالت امرأة من العرب لولدها: إذا رأت العين العين فدغرى ولا صفّي) تقول إذا رأيتم عدوكم فادغروا عليهم أي اقتحموا بغتة واحملوا ولا تصافُّوهم (كما في اللسان والأساس والتاج).
ثم هل ترى في مادة (د غ ر) أو تركيب دغر شيئاً من تنافر الحروف ونبوّ المخارج أو ما ينفر منه السمع، وهل فرق بينها وبين مثيلاتها كالدغم والرغم والوغم الوغر والرغد، فهل رأيت أحداً يشكو منها، أو يتأفف من مكانها في اللغة؟ أنكر إطلاق (الدَلَق) على ثوب القضاة والمحامين، والدلق دويبة كالسمّور تتخذ جلودها للفراء، واستعير لثوب القضاة لأنه(732/31)
يعلّم به، قال في صبح الأعشى: الدلق ثوب متسع الأكمام طويلها، مفتوح فوق كتفيه بغير تفريج، سائل على القدمين، يلبسها القضاة في الدولة الأيوبية، وهذا الذي أطلقناه على الروب.
فما ينكر من هذه الكلمة؟ وهل مثلها إلا مثل الفلق والأرق والعلق والدمث في هذا الشأن، أو ليست هي أولى بالاستعمال (وإن كانت معربة في الأصل عن الفارسية) من الروب من حيث أن قدماءنا استعملوها ونحن نجري مجراهم؟
وتنكر للربِيذة وهي في كتب الأئمة قمطر السجلات (أي المحاضر) وقد كان مجمع نادي العلوم في مصر وضع لها (الملف) ولكنني اخترت الربيذة لأنها أخص بالدلالة على المراد، فهل الدوسيه الأعجمية خير منهما، وهل التجافي عنهما وعن أمثالهما واللجوء إلى الكلمات الأعجمية الغريبة عن لغتنا، يبلغ بنا الآمال في تهذيب لغتنا، وتطهيرها من الأدران.
وجئت بالكِنْف لجزدان الطبيب، وقد استعمله الراعي العربي في أداته التي يضع فيها مبراته ومقصه، والصائغ لأدواته، والتاجر للخفيف من متاعه، وها أنا أريده هنا لمقص الطبيب وسكينه وملقطه وقطنه، فأي محذور في ذلك سوى أن ذهن منتقدي الفاضل ولسانه لم يألفه مع أنه كلمة مفردة ثلاثية ساكنة الوسط وحروفها معدودة من الدرجة الأولى في استعمال حروف الهجاء العربية.
وانتقد إطلاق الشوذر والعلق على القميص بلا كمين، وقد نص الأئمة على أن الشوذر برد يشق ثم تلقيه المرأة في عنقها من غير كمين ولا جيب، وأن العلقة قميص بلا كمين، أفلا تكون إحدى اللفظتين خيراً من الشورت التي هي غريبة عنا وعن لغتنا؟
وكذلك القنع للطبق الذي توضع فيه الفاكهة على الموائد، (وقد أقره المجمع العلمي العربي الدمشقي واختاره على القناع لتقليل الاشتراك) وجاء في الحديث أتيته بقناع من رطب، قال في النهاية ويقال القنع بالكسر والضم، وقال الأئمة القنع الطبق من عُسُب النخل تجعل عليه الفاكهة.
وقد كنت عارضت بعض ما وضعه مجمع اللغة العربية بمصر في الأوضاع العامة بعد أن فسح المجال مدة سنة لمن يريد ذلك من الباحثين في اللغة، فاخترت مثلا الطِرْز وزان علم على الطَزَر وزان قلم للبيت الصيفي (الفيلا) والجناح مكان الشقة، والحيفة موضع البراءة(732/32)
وكلمات أخر، فرد على فيها اللغوي النحرير الأب أنستاس الكرملي، وناقشني غيره فيها وفي غيرها نقاشاً لم يكن اعتباطاً بل كان مستنداً إلى الحجة والرهان وحبذا مثل هذا الجدال الذي يمحص الحقائق ويرشد إلى الصواب. وأرى في مزيد إيضاح لهذا البحث:
إن كل عربي غيور على أمته ولغته ينظر ما آل إليه أمر اللغة الفصحى في العصور المتأخرة حتى أواخر القرن الثالث عشر يجدها قد انهزمت انهزاماً مؤلماً أمام طغيان اللغة العامية المستعجمة منذ استولى سلطان الأعاجم على الدولة وملكوا قيادها. وإنما الرعية على دين ملوكها. حتى تعدى ذلك إلى المؤلفين من هاتيك العصور فتجد في النجوم الزاهرة مثل قوله (وعندما يعزلونه من الوزارة يصبح يأخذ غلامه الحرمدان ويرح يعقد في ديوان الإنشاء) ونجد في نشوار المحاضرة، من الكلمات الطارئة الأعجمية التي حلت محل مرادفاتها من الفصيح ما تنوسى معه الفصيح ولم يبق مألوفاً، كالدقدان والكردناج والشامرغ والسكردان وغير ذلك ثم ما نرجو من زمن أو دولة زمامها بيد طرنطاي ومنكوتمر أن تنهض باللغة وتطهرها من مثل هذا الفساد وترجعها إلى ما كان عليه أو لها من بلاغة في الأسلوب، وفصاحة في الكلمات وعذوبة في اللفظ، ورشاقة في المعنى.
آلم ذلك الكرام البررة أهل الغيرة على لغة الكتاب والسنة، لغة البيان والبلاغة التي خص الله بها هذه الأمة النجيبة فكانت مفخرة من مفاخرها، وآية في إعجازها وإيجازها وبراعة أسلوبها، آلمهم ذلك وهم يرونها في هزيمة شنعاء أمام هذه اللغة الفاسدة الفائلة فحاولوا تطيرها من هذه الأدران، وكانت محاولتهم تعلو وتنحط وتذكر وتخبو ثم تتراجع بتأثير الزمان والمكان والأحوال الطارئة، إلى أن قيض لها ثلة من الأبرار الأطهار من رجال مصر في أخريات القرن الهجري الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر للهجرة، ودعا المرحوم عبد الله فكري في سنة 1881إلى إنشاء مجمع لغوي فحالت دونه الثورة العرابية، ثم دعا إليه ثانية في سنة 1893 فلبى دعوته العلماء البررة كالشيخ محمد عبدة والشنقيطي والمويلحي وفتح الله وحفني ناصف فلم يوفقوا كل التوفيق، وقام نادي دار العلوم بالعبء، حتى التأم السعي بنشاط الدولة المصرية لهذا الأمر، فتألف مجمع اللغة العربية بمصر، ونشطت قبل ذلك الحكومة الفيصلية بالشام، فكان المجمع العلمي العربي، وشعرت اللغة العربية منذ سرت هذه الروح الطيبة في علماء سائر الأقطار العربية وعلى الأخص مصر(732/33)
والشام بانتعاش سيرجع بها إلى سيرتها الأولى إن شاء الله لولا ما يعترض ذلك من تفنن بعض أدبائنا وتعلقهم بالأساليب الأجنبية التي لا تتمشى مع استقلال اللغة ومميزاتها القومية الخاصة، ولست أعني بذلك أننا نجمد على القديم، بل علينا أن نماشي التطور الذي لا يدفع بنا إلى نكران ميراثنا، بل يعيننا على تحسينه وتهذيبه بما لا يذهب بمقوماته وخصائصه، وهل يتم لنا ذلك ما لم نتقن لغتنا وخصائصها، بياناً وأسلوباً، ونعرف ما كان عليه قومنا الأولون في نهضتهم الأولى ونجري على سننهم.
نعم إن اللغة العربية غنية بمادتها بحيث تكفي ألفاظها لكل معنى مستحدث وفي كل غرض جديد، كما يقول المنتقد الفاضل، فهل اختيار الأسماء لهذه الطوارئ المستحدثة يؤثر في أصل معناها المراد، وإلام يرجع الناشد لهذا في اختياره؟ أإلى الكلمات القديمة التي استعملت زمن العرب، وفي العصور الأولى، عصور النهضة وقد نعى ذلك المنتقد الفاضل علينا وضرب لها مثلا بالدرهم والدنانير المضروبة زمن هارون الرشيد؟ أو نصوغ لها ألفاظاً جديدة تكون من ضرب هذا العصر وليست من لغة القواميس العتيقة؟
وهل ضرب الدينار العراقي اليوم كون اسمه ديناراً لأن الموضوع له حديث والاسم قديم من ضرب زمن الرشيد؟
نعم، إن على من يعنى بهذا الأمر، وهو من أهله، إذا سنح له الاختيار، أن يختار الأخف الأعذب من الكلمات العربية التي هي أقرب في معناها الأول الذي وردت به عن العرب إلى معناها المستحدث، الذي يراد وضعها له. فإذا أغلق عليه ذلك، ولم يوفق له، انتحى ناحية النحت والاشتقاق والتعريف في الوضع، ولا يتعدى في ذلك كله طريقة الاقتراح، فلا يبت في شيء ما لم يقره أحد المجامع اللغوية، التي لها القول الفصل، فأن خرج عن هذا وعمل كل أديب أو من يشدو شيئاً من الأدب على ذوقه كانت هي الفوضى وأشكل الأمر، والله الموفق للصواب.
النبطية: جبل عامل (لبنان)
أحمد رضا
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق(732/34)
من وراء المنظار
طلاب لهو وطلاب قوت وطلاب موت
كل أولئك رأيتهم في ليلة واحدة وفي شارع واحدة لعله أكبر وأحفل شوارع عاصمتنا، وكل أولئك قل أن يخلو منهم شارع من الشوارع الكبيرة في عاصمتنا العظيمة. . .
أما طلاب اللهو فهم أنماط حسب ما يبتغي كل لنفسه مما يلهو به أو يزجي به فراغه، وأكثرهم بادون للأعين في غير حاجة إلى منظار فالشوارع بهم مكتظة، ومنهم فريق هم طلاب اللهو الخفي والعياذ بالله لا يكاد يتبينهم المنظار حتى يرتد عنهم فراراً أو يختفوا هم عنه. . .
وأما طلاب القوت فهم كذلك طوائف وأنماط من الخلق، ولكن دع عنك أصحاب الملاهي والمتاجر، فهؤلاء في الحق طلاب ذهب لا طلاب قوت. . .
وإنما أعني بطلاب القوت أولئك الذين (يسرعون) من بنين وبنات وفتيان وكهول بأوراق (اليانصيب) أو بالصحف أو بصناديق مسح الأحذية أو بصناديق الحلوى أو أدوات الحلاقة أو السجائر أو غيرها؛ ثم أولئك الذين لا تجد في أيديهم شيئاً من هذا وتراهم يتساقطون على الموائد تساقط الذباب، أو يقعون على مقربة منها إقعاء القطط وغير القطط من الدواب ينتظرون لقمة أو يفتشون في قمامة أو يلتقطون ما يلقى من أعقاب السجائر. . .
وطلاب القوت هؤلاء وبخاصة من يطلبونه بغير عمل قذى في العيون بأسمالهم وأذى للنفوس بألفاظهم ومعاركهم وصخبهم. . .
ولكن أكبر ظني أن ولاة الأمر قد اقتنعوا أنهم زينة ينقص بغيرهم جمال العاصمة نقصاناً كبيراً، أو لعلهم أيقنوا أنهم باتوا بحق من ميراثنا القومي ومن تقاليدنا الأهلية، فلو خلت الشوارع منهم بمعجزة من المعجزات لبثت الحكومة عيونها وأرصدت أعوانها حتى يأتوا بهم طائعين فيعود للعاصمة جمالها الذي غاضت بشاشته ورونقها الذي انطفأت بهجته. . . وأما طلاب الموت فأحسب ذهنك أيها القارئ قد وثب إلى أولئك الجنود الذين كانوا يدبون بالعاصمة كالجراد المنتشر، ولكني لست أقصد هؤلاء فقد أراحنا الله سبحانه من عفاريتهم الحمر والسمر والسود إلى غير رجعة إن شاء الله. . .
وإنما طلاب الموت هم أولئك العظام الملقاة على طواري الشارع، والذين يعدون في(732/36)
الأحياء وهم من الموتى لولا أنفاس ضئيلة في صدورهم تتردد. . .
رأيت خمسة من هؤلاء على مسافات متقاربة، أما أولهم فقد تكور في ثيابه كالقنفذ وبجانبه زجاجة لعله كان يدور بها في نهاره على المستشفيات وتحسبه في الثمانين وقد لا يزيد عن الأربعين.
وأما ثانيهم فغلام في نحو الخامسة عشرة بسط إحدى ذراعيه على الأرض ووضع الثانية على بطنه، حيث موضع الألم أو موضع الجوع وفي وجهه الذابل المتجه إلى السماء صفرة الموت وفي ساقيه أو في عظمتيه الممدودتين فقاقيع حمراء مخيفة تشيع في صفرتها، ولقد حسبت أنه لن يرى وجه النهار. . .
وأما ثالثهم فكهل ضرير ناحل البدن، خائر القوة تدور حول صدغيه من أسفل ذقنه إلى قمة رأسه لفائف بيضاء تحتها قطع من القطن، ولعله قدم بها من إحدى (العيادات الخارجية) واستلقى هنا يطلب الراحة لبدنه بالموت. . .
وأما رابعهم فشيخ تدل لحيته البيضاء ويداه المعروقتان وجبينه المغضن على أنه جاوز السبعين، وقد ألقى عصاه بجانبه ووضع تحت رأسه بعض العلب من الصفيح لعله كان يلعق ما ترك فيها من طعام.
وأما خامسهم فقد آلمني مرآه أكثر مما فعل مرآي سابقيه جميعاً فهو مقطوع اليدين والرجلين كأنه بقية تمثال قديم، ولست أدري كيف يتحرك المسكين وكيف يأكل إن وجد ثمة من أكل!.
وقلت لصاحبي، وقد زفرت زفرة طويلة أيرى الناس هؤلاء كما أرى؟ فضحك وليس المجال مجال ضحك وقال أف لمنظارك، فأجبته بل أف لهؤلاء الذين يملئون الصحف بأسماء المؤسسات والمبرات، والذين يتكلمون كثيراً عن أوجه الإصلاح وأنماط المشروعات. . .
ومضيت وأنا أسال نفسي في أي بلد من بلاد العالم يجتمع فيه شارع واحد بين اللاعبين بالذهب وبين الذين يعيشون كما تعيش الكلاب والقطط، والذين يطلبون الموت فلا يظفرون حتى بالموت؟. . .
الخفيف(732/37)
في سيدي بشر
للأستاذ خليل شيبوب
سلوتُ أحلامي وآمالي ... فأكسبتني راحةَ السالي
وحينما عدتُ إلى العقل لم ... أجد بديَل الحال من حالي
ما قيمةُ العقل أراني به ... أهتاجُ بالتفكير بلبالي
إن الورى حربٌ على جانح ... كما يريدون إلى السَّلْم
كلاُمهم أسخفُ من صمتهم ... يجري على أَلسنةٍ عجْم
هذا وذا ويلٌ أَلا إنهم ... كالبَبَّغَاوات بلا فهْمِ
يا خلجات الصدر طال الأسى ... وطال هذا الدقُّ في صدري
إن كنتِ آليتِ لتحصينَ لي ... عمري لقد أَفسدتِ لي عمري
فعلتِ في صِدريَ بِالدقّ ما ... تفعله القطرةُ في الصخر
نزلتُ سيدي بشر مستشفياً ... مما بصدري من أَسىً نازِل
في جنة صَّيرتُها عُزْلةً ... ليس بها غيريَ من آهلِ
طريدةُ الجناتِ يثوى بها ... طريدُ هَمّ لازبٍ قاتِل
ينعشها البحرُ بأنسامِه ... تهبُّ والشاطئ منها بعيدْ
هنالك الأقوامُ قد آثروا ... عيشَ اصطهاب وزحامٍ عهيدْ
وهاهنا الأمنُ لمستنجدٍ ... بالأمن من ذاك الصراع العتيدْ
صحراءُ إلا أن واحلتها ... معروشة الأشجار بين الرمال
مِثْلَ بقايا الحبِّ في مهجة ... أحرَقها اليأسُ وكرُّ الليال
قد حَفلتْ بالحسن داراتُها ... واتسقتْ في صدرها كاللآل
تطيفُ بي منعرجاتُ اللوى ... كل كئيبٍ معقلٌ ناهضُ
والرمل معقودُ الثَّنَايا بِه ... يستمسك الرافعُ والخافضُ
أُلقى بجسمي فوقه متعباً ... يثورُ فيه قلبي النابضُ
قلبي أُداريه هنا عاكفاً ... عليه وهو الهادئ الوادع
أخشى عليه رجَعات الهوى ... إنَّ الهوى أَقْتَلُهُ الرايلّتزم الصَّمْتَ ولكنني=رَوَّعَ لبى صمتُهُ(732/39)
الرائع
أَلم تزَلْ تذكُرها بعدما ... عرفتَها في الحب خوَّانهْ
حبيبةٌ كانت وزالت وهل ... تدومُ للإنسان إنسانَهْ
والحب لو صفَّيْتَهُ وازناً ... لَرجَّح الزَّائف ميزَانَهْ
يا هذهِ لو ينفعُ العَقْل في (م) ... الهوى لحكمتُ لك العقلا
وهبتك العمرَ فلم تُحسني ... أخذاً له بل زدتِه خَبْلا
وإنَّ حسنَ الأخذِ فضلٌ وما ... عرفتِ يوماً ذلك الفضلا
لاَحقني طيفُك في عزلتي ... ماذا يريدُ الطيفُ من ناسي
ألا أرى لي راحةً بعد ما (م) ... اعتصَمْتُ بالبعِد عن الناس
إن ضلالي ليَ عينُ الهدى ... ووحشتي مبْعَثُ إيناسي
يا ليلَ سيدي بشر رفْرفْ على ... وجهي بشف من نسيم البحار
ينتعش القلبُ به بعدما ... أوْقدَ فيه اليأسُ أتوُّن نارْ
روائحُ الأمواج والرمل في ... بردَيه تشفى من لهي الأوُارْ
ترمقني هِذي النجومُ التي ... فوقي بعين الشاهِد المشْفِق
والأفق مبهوتُ الحواشي به ... يختلطُ الأسوَدُ بالأزرق
والغيمُ قد راحت جماعاتهُ ... طرائدَ المغرِب والمشرق
وخيَّم الصمتُ فلا نبأةٌ ... إلا قطارٌ صافرٌ يعبرُ
له صدًى في الرمل ترجيعُه ... هريرُ كلبٍ جاٍثم يخفر
وغارت الأعلام في حلكةٍ ... تحدجها العينُ ولا تبصر
ثم تراَءى قمرٌ طالعٌ ... في الشرق خلفَ الغيم مستهلاَ
أكدرُ إلا أنهُ كلما ... علا صفت صفحتُه وانجلى
وفضَّض الرمل بأضوائه ... فوقَّ ثوبُ الليل مسترسلا
ياربِّ هذي ساعةٌ سرها ... يملأ نفسي فيضُه الغامر
يكاد ينشقُّ بها الغيبُ لي ... عما حواه العالم الآخرُ
إن كان نام الكون حولي فهل ... يكفيكَ منه قلبي الساهرُ(732/40)
خليل شيبوب(732/41)
تعقيبات
واحد من ثلاثة:
كتب إلى أديب فاضل يقول: (رأيتك أيها الجاحظ في عدد الرسالة السابق تحمل على جريدة المانشستر جارديان فيما زعمته من أن أكبر عائق في سبيل نشر التعليم بمصر، وبالتالي في تحقيق التقدم الاجتماعي في شتى النواحي، هو الاختلاف الكبير بين العربية الفصحى واللغة العامية الدراجة، ثم دعوتها إلى الانحدار بالفصحى إلى مدارج العامية، ولكنك تغاضيت عن رأي مماثل أبداه الأستاذ أحمد أمين في مقال كتبه منذ شهور بمجلة المستمع العربي التي تصدر في لندن، وزعم فيه أن جمهور الشعب في مصر لا يصل إليه الأدب. . . الذي يثقفه ويعلى مستواه ويرقي ذوقه ويهذب عواطفه، وذلك لأنه ليس عندنا أديب للعامة وإنما كل أدبائنا للخاصة، والسبب في ذلك - كما يقول - هو وجود لغتين: لغة عامية ولغة فصحى. وأننا إلى الآن لم ننجح في التوفيق جع
بينهما. فماذا تقول أيها الجاحظ في هذا الرأي الذي يراه شيخ من شيوخ الأدب في مصر؟! وكيف تسكت عن هذا الرأي يخرج من مصر ولا تسكت عنه إذ يأتي من أوروبا؟!).
وأنا أحب أن أقول (للأديب الفاضل) قبل كل شيء إن الأستاذ أحمد أمين ليس من شيوخ الأدب، وإن من الظلم أن نحشره بين الأدباء، وإنما هو رجل باحث يتحلى بصبر العلماء، فغاية ما تؤهله إليه مواهبه أن يعكف على مراجعة آراء السابقين، فيقابل بينها، ويرتبها، ويعلق عليها بما يبدو له في ثناياها، وإنه ليظلم مواهبه ويتكلف الشطط إذ يزج بنفسه في مضمار الأدب، وإنه ليخرج على طبيعته خروجاً متكلفاً إذ يمضي على طريقة الأدباء فيمد بصره إلى (النظر في النجوم)، أو يجلس لمداعبة (صندوق الكتاكيت). . .
وإذا كان الأستاذ أحمد أمين يقول إن وجود لغة عامية ولغة فصحى هو العائق في سبيل توصيل الأدب إلى العامة، وأن الواجب، كما يفهم من قوله، أن نوفق بينهما، فإني لا أناقشه في هذا الكلام، ولكني أسأله أن يتقدم فيأتي لنا بأسلوب خليط من العامية والفصحى لنرى أي شيء يكون هذا الأسلوب الخليط، ولعله يوفق في هذا فيكون صاحب طريقة في الأسلوب تؤثر عنه، وتعرف فيما بعد بالطريقة الأحمدية الأمينية، كالطرق الجاحظية والعميدية والفاضلية التي عرفت في أساليب الجاحظ وابن العميد والقاضي والفاضل. . .(732/42)
ألا رحم الله الرافعي ونضر قبره، فقد كشف عن العلة في هذا الرأي المريب إذ قال في إحدى مقالاته: (إني لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها. إلا واحداً من ثلاثة، فإما مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي به أمة ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة في الأدب على مثل نهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعوج اللسان بها؛ وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث هو الضعف، فإنه ليس كل كاتب ببليغ، ولا كل من ارتهن نفسه بصناعة نبغ فيها وإن هو نسب إليها وإن عد في طبقة من أهلها، والكتابة صناعة لها أدواتها، وفيها النمط الأعلى والأوسط وما دون ذلك. . . أفمن الرأي أن نعين المستعمرين على خصائصنا ومقوماتنا أو نتخذ في اللغة أديانا شتى، أو نجعل قياس العلم من الجهل في بعضه والضعف عن بعضه، وإلا فماذا بقى بعد هذه الثلاثة مما ينفسح له جانب العذر إذا نحن قلنا بمذهب جديد في اللغة. . .!!
(أحسب إخواننا في مصر أنهم كانوا يحسنون اليوم شيئاً من الكتابة الفصيحة لو لم يكن في العصر الذي خلا من قبلهم أمثال السيد جمال الدين ومحمد عبدة وعلي يوسف والبارودي والمويلحي وغيرهم ممن دفعوا الاستعمار عن اللغة ببلاغتهم وردوا أساليب السياسة اللغوية بأساليب الفصاحة، وأشرعوا دون الميراث العربي أقلامهم، وحاطوه بألسنتهم، وحفظوه بعقائدهم حتى أمنوا عليه أن ينقص أو يمحق). . .
وبعد، فتلك هي العلة، وذلك هو الأصل في هذه الدعوى المربية، وإن من دلائل الريبة أن تظهر هذه الدعوة وتتطاول بها رءوس دعاتها في وقت يجاهد فيه أبناء العروبة لدعم الروح العربية وتآلفها وإقامتها رباطاً وثيقاً بين أبنائها وأقطارها فيأبى هؤلاء إلا أن ينقضوا ذلك الرباط بالدعوة إلى العامية. . . والأمية. . .
على أني لا أتهم الأستاذ أحمد أمين، ولكني رأيته ينادي بدعوة مريبة فكان لابد أن أكشف عن الأصل فيها، وإني لمنتظر من الأستاذ الفاضل أن يقدم لنا نمطاً من ذلك الأسلوب الذي يراه في التقريب بين العربية والعلمية.
الفن للاشتراكية!!
تقول برقية من موسكو: إن الحزب الشيوعي قد قام بحملة في الأشهر الأخيرة لتخليص(732/43)
الفن السوفيتي من آثار البرجوازية الغربية، وتقول البرقية: إن هذه الحملة قد كللت بالنجاح، فأصبحت الكتب والروايات والمراقص ودور الأوبرا والسينما وغيرها من معارض الفن مصبوغة بصبغة الجهاد الاشتراكي، فهي لا تعرض إلا إلى إظهار سمو المواطن الروسي والدعاية للسياسة الشيوعية في تذليل مصاعب الإنتاج والحياة المنزلية والشئون الدولية، فإن جاوزت هذا الهدف فإلى إظهار الأخطاء التي ارتكبت في معالجة هذه المسائل في دول الرأسمالية.
وقد ذكرني هذا الصنيع بما عمدت إليه النازية الهتلرية في ألمانيا من قبل، إذ أصدر (جوبلز) أمراً يحرم به على النقاد عرض الموضوعات وبسطها دون التعليق عليها أو إبداء الرأي فيها، وقال في تعليل هذا الصنيع: (إن الفن لا يفقد شيئاً إذا ما بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، إذ العظمة الزائفة تسقط من غير أن يسقطها النقد، أما أصحاب العظمة الحقيقة فيجب أن يسمح لهم بحريةالابتكار والاحتفاظ بكرامتهم الفنية)، والواقع أن ذلك الداعية النازي لم يكن يقصد بهذا العمل إلى حماية (أصحاب العظمة الحقيقية) وإنما كان يقصد إلى وضع الإنتاج الأدبي تحت سيطرة السياسة، وتسخيره للدعاية النازية. . .
وهذه محاولات باطلة، لأنها مصادمة للأدب في طبيعته ومصادرة له في مهمته، فإن الأدب - كما يقول مكسيم جوركي أديب روسيا الشيوعية - يجب أن يتلمس الإنسانية من جميع أطرافها، وأن يخاطبها بالإخلاص المنبثق من أعماق الروح الطاهرة، وأنت إذا ما نظرت ملياً إلى هذا الاتجاه ظهر لك الغرض الخطير الذي يقصد إليه الأدب، وهو الذهاب بسائر الفروق ووجه الخلاف والنزاع القائم بين الناس وإنقاذ الإنسانية من شر هذا التنازع، والتغلب على قوى الطبيعة الغامضة المرهوبة، ويوم يحقق الأدب ذلك يصبح دين الإنسانية جمعاء.
ديناً يشمل كل ما حوت الكتب المقدسة في عبادات الهند القديمة، وفي كل ما جاءت به التوراة والإنجيل والقرآن. . .
وماذا يصير إليه الأدب أو يكون إذا ما عمدت كل حكومة في كل دولة إلى جعله أداة مسخرة لأغراضها، وحتمت على الأدباء أن لا يتكلموا ولا ينتجوا إلا في حدود مرسومة وأغراض معلومة مثل رجال السياسة، إنه لا شك سيفقد صفته الإنسانية، ويصبح مثار(732/44)
الحزازات والخلافات، ومبعث الأحقاد والعدوات، ويصبح مثار الحزازات والخلافات، ومبعث الأحقاد والعدوات، ولن يكون الأدب أدباً يومذاك، ولكنه سيكون الجحيم الذي لا يطاق. . .
إن روسيا لا تخدم حياتها الفنية بهذا العمل، ولن تستطيع إذا ما أصرت على هذا الصنيع أن تجعل أدبها صلة تربطها بالعالم الإنساني، وعن قريب سيفقد الأدب الروسي الروح الإنسانية التي تجعله قريباً إلى كل نفس، حبيباً من كل قلب، وإنها لخسارة على روسيا لا أي نظام اشتراكي أو شيوعي في الأرض. . .
الفن الفن، تلك هي الحقيقة الأزلية التي كان بها الأدب صورة للطبيعة الإنسانية، أما الفن للاشتراكية أو لأي نزعة سياسية. فذلك لا يكون إلا في تقدير الجشع السياسي، على أنه تقدير لن يثبت أبداً.
(الجاحظ)(732/45)
الأدب والفن في أسبوع
بشار في الإذاعة:
أذاعت محطة الإذاعة موضوعاً عن (بشارة بن برد) أعد على النسق الذي تسميه (برامج خاصة) والذي يقوم على الرواية والتمثيل. . .
وكانت المحطة قد أعلنت عن هذا الموضوع على أنه فاتحة برامج من نوعه تصور رجال الأدب والشعر الماضين، ولابد أنها أرادت بذلك أن تجدَّ في عهدها الجديد، وتقدم للمستمعين من محبي الأدب مادة نافعة تستعين على جذبهم إليها بحسب العرض في هذا النسق التمثيلي الإذاعي؛ وهي رغبة محمودة، ولكن هل تحقق المرجو منها؟
بدأ (الرواية) يحدث عن نسب بشار، واستمر يسرد بعض أخباره وقام الممثلون والممثلات في أثناء ذلك بتمثيل كل حال تنبئ عنها تلك الأخبار التي اختارها واضع البرنامج من أخبار بشار المنتثرة في كتب الأدب. . .
وهذا الذي اختير وتألف منه الموضوع لم يكوَّن لبشار الشاعر هيكلا حياً، ولم يعط صورة صادقة لحياته وشعره، بل كان أهم ما قام عليه البرنامج أن بشاراً نشأ صبياً يقول الشعر في شتم الناس فيضربه أبوه بالعصا، وكبر وهو يهاجي الشعراء، ثم يهجو الخليفة ووزيره، مما أدى إلى اتهامه بالزندقة وضربه بالسوط حتى يموت. ويلخص (الرواية) حياة بشارة بقوله في آخر البرنامج: وهكذا قضى حياته بين العصا والسوط!
وقد تعودنا أن نسمع اللحن أي الخطأ في نطق الكلمات العربية من إذاعتنا. . . ولكن كنت أتوقع أن يتجنبوا هذا ويتحروا الضبط ويلتزموا صحة النطق في مثل هذا الموضوع الأدبي العربية البحت، ولكنهم لم يفعلوا. . ولو تجاوزنا عن لحن الرواية وغيره فلا يصح التجاوز في ذلك يعوضها لبشار نقصه، فلا يليق به أن يلحن وألا يحسن ضبط شعره، فقد آذى أسماعنا الذي مثله أو مثل به - بقوله في صوت مجلجل:
(ويحك) بضم الحاء. . . وكررها في مواقف مختلفة متعددة ولما أنشد هذه الأبيات:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم(732/46)
نطق كلمة (نصيحة) في البيت الأول بالنصب، ولفظ كلمة (الغل) في الثالث بفتح الغين.
واكتفى بتلك الأمثلة، وهي قليل من كثير، لأذكر بعض الملاحظات في التأليف والتمثيل، فقد ذكر أن (عبدة) صاحبة بشارة أتت إليه في خمس نسوة يطلبن منه شعراً يندبن به قريباً لهن قد مات. والذي نعلمه أن عبدة كانت إحدى القيان المتأدبات اللائي كن يقصدن بشاراً ليسمعن شعره، وكن يعابثنه ويغنينه؛ ولعل هذا كان فرصة يحسن انتهازها في موضوع الإذاعة لتقديم إحدى المغنيات لتغني قطعة رقيقة من شعر بشار.
ولم يكن من السائغ أن يرفع النسوة الخمس أصواتهن بضحكة مفردة وقد جئن حزينات على فقيدهن يطلبن شعراً لندبه. . . لم يكن من المفهوم أن يقول أحد الذين جاءوا يشكون بشاراً إلى أبيه لهجائه إياهم: (فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار) قبل أن يقول لهم برد: إنه أعمى وقد قال الله تعالى (ليس على الأعمى حرج) وما أظن هذا الممثل كان يعي ما يقول!
وبعد فإذا كانت (البرامج الخاصة) التي تريد محطة الإذاعة أن تذيعها عن أعلام العرب، ستكون على هذا المنوال، فخير لها وللأدب ألا تستمر فيها، بل يجب إعداد (تسجيل) بشار وعدم تكرار الإساءة بإذاعته.
هنا كما هناك:
كتب الأستاذ فرج جبران إلى (الأهرام) من أمستردام يصف زيارته للمعهد الشرقي في ليدن الذي يشرف عليه بعض المستشرقين، فقال (وفي هذا المعهد يجد الزائر نفسه محاطاً بالكتب العربية، ويسمع هؤلاء الأساتذة يتكلمون العربية، ويسألونه عن أحدث المؤلفات التي ظهرت وعن أخبار المؤلفين المصريين وغيرهم من أبناء العربة) ثم قال إنه يقصد إلى أن يوجه انتباه ولاة الأمور في مصر إلى مجهود ضخم هو وضع (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي شرع فيه المستشرقان ونسنك ومنسج، ولكنه لم يتم إلى اليوم لأن إتمامه يحتاج إلى معاونات مالية وأدبية منتظمة، وقال الكاتب: (وإن هذه المستعمرة العربية التي تعمل هنا في صمت دون أن يسمع بها عنها أحد لتتطلع إلى مصر، رافعة لواء الأدب العربية في الشرق، لكي تقدم لها يد المعونة).
وعلقت (الأهرام) على ذلك بدعوة وزارة المعارف إلى الاهتمام بهذا المشروع عن طريق مجمع فؤاد الأول للغة العربية (لأن وضع مثل هذا المعجم المفهرس داخل في اختصاصه(732/47)
وفقاً لأحكام المرسوم الملكي بإنشائه).
ولا أظن أن لدى المجمع من الجهد ومال ما ينفع في ذلك المشروع، على أن الأعمال الداخلة في اختصاصه إنما يقوم هو (لا غيره) بها، وفي المجمع نفسه مشروعات وأعمال لم تتم بعد، رغم مضي الزمن الطويل عليها، كالمعجم الوسيط، ومعجم فيشر، ولا يتوقع تمامها للتقتير عليها في الجهد والمال.
وفي غير المجمع أعمال أدبية معطلة شملها بطئ الأداة الحكومية، كالكتب العربية التي كان يقوم بإحيائها القسم الأدبي بدار الكتب المصرية.
فهنا كما هناك، بل أكثر، وإن كان لما هنا لون خاص، يكسبه من التراخي مع وفرة الوسائل.
هل في مصر أديبات؟
وجهت بعض المجلات اللبنانية هذا السؤال إلى قرائها، فعلق عليه كاتب في مجلة (صوت المرأة) بأن هذا السؤال يحمل في طياته الشك في وجود أدبيات بلبنان، وقابل السؤال بسؤال مثله: هل في لبنان أدباء؟ وهو يقصد بالأدباء الذين يشك هو أيضاً في وجودهم بلبنان - المثاليين الذين ذكر وصفهم - وقد نقلته (الكاتب المصري) في عددها الأخير، كما نقلت عن مجلة (المرأة) الدمشقية ما كتبته بها (نديمة المنقبادي) في مثل ذلك قالت: (فالمجهود الأدبي يقوم الآن في كافة نواحيه على الرجل وحده. . . أما المرأة في بلادنا فما أعتقد أنها سارت في ذلك شوطاً بعيداً أو قريباً، وإذا حدث أن ظهرت مؤلفات أدبية لبعض الكاتبات فهي من الندرة بحيث تعد في يسر وسهولة)
وأنا أيضاً أسأل: هل في مصر أدبيات؟ أستطيع أن أعد نحو ثلاثين أدبياً في مصر لهم شأن وأثر في العالم العربي، فهل لدينا أدبيات من هذا الطراز؟ كدت أرجع عن هذا السؤال لأني ذكرت واحدة. . . ثم ذكرت أخرى (على سبيل جبر الخاطر) ولكني أصررت عليه لأن هاتين اثنتان وأنا أسأل عن (أدبيات) وأقل هذا الجمع ثلاث. . . فهل من مجيب؟
الاتحاد الثقافي المصري:
وأخيراً حل (الاتحاد المصري الإنجليزي) وتقرر أن يقوم على أنقاضه (الاتحاد الثقافي(732/48)
المصري) وهي فكرة موفقة من غير شك، ولكنا لا نجب أن يعقب إشادتنا بفكرة الاتحاد الثقافي الجديد ما أعقب الإشادة بفكرة ذلك الاتحاد المنحل. . .
والذي أعقب ذلك أن ارتمي بعض كبار المصريين من المستوزرين و (المتعهدين) في أحضان الانجليز، فكان ما كان.
أما الذي نريده الآن فأن لا تعلو القبعة ثقافتنا. . . عندنا قوم يروجون للثقافة الفرنسية، وآخرون للانجليزية، وغيرهم لغيرها؛ وهم يستهلكون أنفسهم في ذلك غير مرتكزين على قاعدة من الثقافة العربية.
نريد أن تكون ثقافتنا هي ذات الحجم الأكبر الذي تنجذب إليه الأجرام الصغيرة.
الطالب يساهم في بناء عالم جديد:
نظمت جمعية الشبان المسيحية بالقاهرة مؤتمراً للطلبة اشتركت فيه وفود الطلاب التي تمثل فروع الجمعية في الإقليم. وكان موضوع هذا المؤتمر (الطالب يساهم في بناء عالم جديد) وقد ألقى الأستاذ محمد شفيق غربال بك وكيل وزارة المعارف كلمة في حفلة افتتاح المؤتمر، أشاد فيها بفكرته ورجا أن تتسع في المستقبل حتى تشمل طلبة سائر الأقطار العربية ليتحقق بينهم التعاون الثقافي المنشود:
وفي اليوم التالي ألقى الدكتور إبراهيم سلامة محاضرة في موضوع (الطالب يساهم في بناء عالم جديد - في محيط الأسرة والنادي والجماعة) بين فيها واجبات الطالب في الأسرة من النواحي الاقتصادية والثقافية، بأن يكون منتجاً، فطالب الآداب - مثلا - يمكن أن يشتغل بالصحافة، ويمكن الصحف أن تستعين به في تكوين معلومات تحفظ لديها (أرشيف) عن العلماء والسياسيين وغيرهم من كبار الرجال.
ومن واجب الطالب بأن يذيع في الأسرة ما يتلقاه في المدرسة والجامعة من ألوان الثقافة والمعرفة، وعلى الطالب والطالبة أن يسهما في تربية الذوق الفني في الأسرة بإشاعة الهوايات الطيبة فيها كالرسوم والموسيقى، حتى لا تشتري الأسرة السرور الرخيص من السوق في أفراحها ومجتمعاتها، وحتى لا يندفع الشاب إلى دور الملاهي اندفاعه الخطر على الأسرة من الناحتين الخليقة والاقتصادية.
ثم قال الدكتور إن الطالب يمكنه أن يحدث في النادي تفكيراً جديداً في عالم جديد، من حيث(732/49)
إزالة الفوارق لأن النادي تسوده الديمقراطية، والديمقراطية الحقيقية أساسها نبل العمل لا نبل الوراثة؛ ومن حيث الاحترام المتبادل بين الأعضاء المشتركين في الفكرة والغاية؛ ومن حيث المساهمة العقلية التي تتاح لها الفرصة في النادي أكثر من المدرسة، لأن عضو النادي يجد لذة في إظهار المعرفة، بخلاف ما يكون في الجامعة حيث تدفعه المنافسة إلى الأنانية.
وقد عرض الدكتور سلامة لمسألة تعدد النوادي، فتساءل: هل الأوفق أن يكون النادي لأبناء الثقافة الواحدة أو لأبناء الثقافات المختلفة؟ ثم قال: تلك مسألة خطيرة لأنها أسفرت في بلادنا عن تمزيق لا ينفع عالم اليوم، ولا يمكن أن ينفع عالم الغد. وظهر هذا التمزق في الأحزاب السياسية، وجبر السياسيون هذا النقص بالبرلمانات، فلا بد لنا إذن أمام تمزق النوادي من عمل اتحادات جامعة لكل مجموعة منها ابتغاء الانسجام وتكوين الوحدة التي تعتبر أساساً للقومية والعالمية. . .
وانتقل بعد ذلك إلى واجب الطالب في محيط الجماعة فقال: يخرج الطالب من الأسرة إلى النادي ومنه إلى الجماعة وهي هنا الوطن والقومية، انتظاراً لإعداد النفوس للعالمية، والطالب في غمار الجماعة لابد من أن يلتزم مبادئ ثلاثة:
1) أن يلحم الاتصال بقومه وأن يعتز بمصريته ويعتقد أنها مدنية ككل المدنيات وأنه ليست هناك مدنية واحدة نموذجية تفرض فرضاً على مدنيته، ومن هنا يتكون رأي عام للقومية السياسية والقومية الخلقية. 2) روح النظام، والنظام أحياناً معناه الحرمان، فتمثل غيرك في كل تصرفاتك، واعلم أنك ستؤذي غيرك بعملك الضار كما أنه سيقع إثمه عليك حتما.
3) الحرية المطلقة، فلست حراً في الأسرة ولا في النادي ولكنك حر في الحياة، والعلوم تحرر الفكر من الأوهام، ومتى تحرر الفكر تحرر الخلق، ومتى شاعت الحرية أتى اليوم الذي يؤمر فيه الجندي بقتل أخيه الجندي فلا يفعل، لأن الحرية التي فهمها ستضع عقله في رأسه لا في رأس السياسيين الذين يجرونه إلى الحرب كما تجر السائمة إلى المجزرة.
(العباس)(732/50)
البريد الأدبي
الفروسية:
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله المعروف بابن القيم (إمام الجوزية) في كتابه (الفروسية):
الفروسية أربعة أنواع:
أحدها ركوب الخيل والكر والفر بها. الثاني الرمي بالقوس. الثالث المطاعنة بالرمح. الرابع المداورة بالسيوف.
فمن استكملها استكمل الفروسية. ولم تجتمع هذه الأربعة على الكمال إلا لغزاة الإسلام وفوارس الدين وهم الصحابة (رض) وانضاف إلى فروسيتهم الخليلية فروسية الإيمان واليقين والتنافس في الشهادة وبذل نفوسهم في محبة الله ومرضاته، فلم تقم لهم أمة من الأمم البتة، ولا حاربوا أمة إلا قهروها وأذلوها وأخذوا بنواصيها، فلما ضعفت هذه الأسباب في من بعدهم لتفرقها فيهم وعدم اجتماعها دخل عليهم من الوهن والضعف بحسب ما عدموه من هذه الأسباب، والله المستعان!
قلت: لكل وقت سلاح و (السلاح ثم الكفاح) ولكل وقت فروسية حاشى فروسية اليقين والإيمان فإنها لكل زمان، والمدرسة العظمى (الجامعة الكبرى) لهذه الفروسية وتحصيلها وحذقها إنما هي مدرسة (القرآن). وقد كان أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم (رحمه الله) يقول لقائده قتيبه بن مسلم:
(خذ أهل عسكرك بتلاوة القرآن، فأنه أمنع لهم من حصونك).
وكان التالون يفقهون ما يتلون، فيجسرون ويقدمون ذلك الإقدام، ونفر الجن وتهرب الغيلان من قدامهم.
ثم صرنا - نحن معشر الخلف الصالح - نتلو (الكتاب) كتلاوة صاحب النخعي.
(قال رجلا لإبراهيم النخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث ليالي.
قال: ليتك تختمه كل ثلاثين وتدري أي شيء تقرأ. . .
يا أيها العرب، يا أيها المسلمون، اقرءوا القرآن، افهموا القرآن فهما صحيحاً عربياً لكي تبلغوا السماء قوة وفروسية وسطوة وعزة وسلطاناً وهناءة وسعادة ومجداً (أفلا يتدبرون(732/51)
القرآن أم على قلوب أقفالها)!!!
السهمي
إلى الأديب محمد الديب:
يا أخي. أنا لا أوجب على كل قارئ أن يكون عنده نسخة من كتاب (العواصم من القواصم) ولكن أوجب على كل قارئ للرسالة في مصر أن يكون عنده الداعي إلى البحث عن الرجل الذي جعله ينطق العربية، ويديه بالإسلام، وجعل بلده (بلد الأزهر) و (مقر جامعة الدول العربية)، وصاحبة اليومين الخالدين في إنقاذ الحضارة الإنسانية: (يوم عين جالوت) و (يوم المنصورة)، والذي لولاه لكانت مصر اليوم مثل إيطاليا أو اليونان، وأن يعرف هذا الرجل على حقيقته لا من كتاب العواصم والقواصم وحده، بل كل كتاب ذكر فيه ثم يوازن ويحقق ويميز الصحيح من الموضوع، وأن يؤلَّف عنه في مصر من الكتب بمقدار ما ألف عن شكسبير في إنكلترا، ونابليون في فرنسا، وإن لم يكن لهما في الدنيا درهم من كل قنطر من أثره الخيِّر فيها، وأن يكون (يوم الفتح)، أعظم عيد وطني في مصر بلا استثناء. . .
أما كتاب العواصم (وما فهي إلا صفحة عن عمرو، فيها
تحقيق خبر التحكيم)، فإنك حين تريد الاطلاع عليه حقيقة لا
تجد أسهل من الوصول إليه، لأنه مطبوع مملوءة بنسخه
المكتبات. والسلام عليك أيها الأخ ورحمه الله وبركاته. علي
الطنطاوي
إلى الأستاذ محمود عماد:
جاء في كلمة الأستاذ محمود عما في بريد الرسالة (730) قوله (وما الضمير الثاني إلا ضميراً قلقاً نابياً) على نصب (ضمير) وتأكيد النصب بالصفتين، مع أن الصواب الرفع لأن الاستثناء. يمنع عمل (ما). ولولا أن الأستاذ حريص على تصحيح كلام الناس ما(732/52)
صححت له هذه الكلمة. وعلها من سبق القلم. وله تحياتي.
(ع)
ما زال الضمير قلقا:
قلت في كلمتي (ضمير قلق) المنشور في العدد (730) من الرسالة الغراء، إن الضمير الثاني المضاف الذي نراه هذه الأيام في مثل قول القائل (هذه مسألة لها أهميتها) إنما هو ضمير قلق يفيد ملكية سبقه إليها الضمير المجرور باللام قبله. وقلت إني لم أر مثله في كلام عربي قديم، إلا أن يكون غيري قد رآه فيتفضل بالإرشاد.
وقد انبرى للإرشاد الأستاذ محمد غنيم فقال إن هذا الضمير مطمئن (له أهميته) واستشهد على اطمئنانه بالآية الكريمة (لكم دينكم ولي دين).
والذي رأيته بعد هذا الإرشاد أن الضمير ما زال قلقاً، ودليلي على قلقه قول الأستاذ نفسه، تفسيراً للآية (أي أن دينكم مختص بكم، لا يتعداكم إلى غيركم، ولي دين مختص بي لا يتخطاني إلى غيري).
فإن الاختصاص الذي أشار إليه الأستاذ في الآية غير ملحوظ في قول القائل (هذه مسألة لها أهميتها)، وإلا فهل هو يعني أن هذه المسألة مختصة وحدها بأهميتها، وأن أهميتها لا تتعداها إلى غيرها من المسائل، كما أن الكافرين مختصون وحدهم بدينهم، لا يتعداهم دينهم إلى الرسول الكريم؟ إن كان هذا ما عناه فما جدواه وقصاراه؟ إن عمل الضمير في الجملة غير عمله في الآية. فلم يقصد من الجملة إلا أن المسألة لها أهمية مطلقة، أي أنها مسألة مهمة فحسب، لا قصر أهميتها هي عليها، وعدم إشراك غيرها معها فيها، كما قصرت الآية دين الكافرين على الكافرين.
فالضمير العصري يفيد الملكية المكررة، وضمير الآية يفيد القصر بعد الملكية. ولهذا ما زال الضمير العصري قلقاً في رأيي، وما زالت أرجو التدليل على اطمئنانه وصحته بمثال آخر من القرآن الكريم، أو الكلام العربي القديم، على أن يكون المراد بالمثال (الوصف) الذي أريد وحده في الجمل العصرية، لا (القصر) الذي لا موضع له فيها على الإطلاق.
محمود عماد(732/53)
سؤال:
طالعت في عدد الرسالة الأخير ذلك البحث القيم للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد تحت عنوان (من تجارب المؤلفين) فرأيته قد جاء فيه بكلمة (الغيبورين) مرتين. فقال أولا: (إن الدكتور شبلي شميل قد استطاع أن يفعل ذلك لأن الغيورين على العلم والثقافة أعانوه على طبع المجموعة) وقال ثانياً: (ولكني أقول إن الأغنياء الغيورين على الثقافة يستطيعون أن يقيموا المكتبات العامة).
والذي تعلمناه أنه يشترط في الصفة التي تجمع هذا الجمع أن تكون مما لا يستوي فيه المذكر والمؤنث مثل جريح وصبور وغيور. فإنه يقال رجل جريح وامرأة جريح، ورجل صبور وامرأة صبور ورجل غيور وامرأة غيور. فهل عند الأستاذ الكبير وهو الحجة في الأدب غير هذا فنستفيده منه ونشكره عليه؟
(الزقازيق)
محمد عبد المقصود هيكل(732/54)
القصص
قصة الهواجس
للأديب مصطفى محمود انفض الأصدقاء والصديقات وخلا (الصالون)
إلا من سيدة البيت التي جلست منزوية في أحد الأركان وكأنها ما
زالت تتحدث إلى صديقة وفية لم تشأ أن تتركها كما تركها الآخرون
فجلست إليها تبادلها الهمس وتسر إلى كوامن الأشجان. . . ولم يكن
الحديث إلا حديث النفس تهمس به في ساعات الوحدة فتكشف به ما
انطوى في أعماقها البعيدة.
هتف بها إبليس وقد وجد طريقه إلى عقلها الواعي.
- ألست جميلة؟
فرفعت رأسها إلى المرآة لتتأمل السحر الأسود الذي يكمن في عينيها الواسعتين والعقيق الذي يحتل شفتيها الرقيقتين وهتفت في ألم.
- نعم جميلة. . . رائعة!
فأردف إبليس وقد وجد طريقه ممهداً
- وهذا الجمال ألا يذبل؟
فقطعت حاجبيها وامتلأ جبينها بالتجاعيد وغاضت الدماء من خديها وطالعتها مئات من الصور البشعة ولم تجب، فاسترسل إبليس وقد شاع الحزن في نبراته.
- نعم إنه يذبل. . . ويترك وراءه الأسى والأحزان.
ثم صمت فترة وتركها بين أشتات الهواجس. ثم عاد يقول:
ولكنك جميلة الآن. . . ألا ما أجمل هذه الكلمة (الآن) إنها الكلمة الوحيدة التي تحوي كل شيء. . . فما أشد غفلة الإنسان حينما ينسى بهجة الحاضرة ويتعزى بلذائذ الأوهام.
- جميلة. . . وما الجمال، ولماذا خلق؟
- الجمال. ولماذا خلق؟. وهل خلق الجمال إلا لاجتذاب الفراش.
- الفراش. . . يا للشرير. . حقاً لقد ذكرتني أنه لا يفتأ يتهافت على كما يتهافت على النور(732/55)
الساطع. . . ولكن هناك زوجي. . . زوجي دائماً.
- آه، هذا الفراش العجوز الذي فقد جناحيه، يا للمأساة كم أضحك حينما أراه يتودد إليك وأسمعه يفتح فمه الواسع الخالي من الأسنان ويقول (أحبك). . . كم يبدو بشعاً قبيحاً ثقيل الظل. . . أليست هذه سخرية مريرة من سخريات الحياة، أين هو من فهمي وصبحي وصفوت من هؤلاء الشباب ذوي الخدود الوردية والدماء الحارة.
والضمير. . . أنسيته؟
- هذا المخلوق الهزيل الذي لا يني يحدثنا بالأباطيل ويهرب بنا من الواقع ليجد كنفاً أميناً في أحضان الخيال والوهم. . . إنه ألذع السخريات التي ابتكرها العقل ليحارب بها فطرة الجسم وطبيعته. . . إني أربأ عن الخضوع لهذا المرض الذي يسمونه الضمير.
- مرض؟!. . . يا للبشاعة؟!
- نعم إنه مرض عقلي. . . يقضي على كل راحة ولذة وصفاء وهناء في الحياة.
وسكت الشيطان بعد أن أوقعها في أحابيله وتركها تعاني الوساوس وتتقلب بين نوازع الشر وتبحث في أعماق نفسها المضطرمة عن الملاذ الأمين الذي تسكن إليه وترتاح إلى نجواه. . . وأخيراً جاءها صوت الخير رقيقاً ملائكياً.
- أنت أيتها الباحثة عن اللذة. . . هل وجدت لذة فيما سلف من أيامك.
- لا. . . ما وجدت إلا الألم.
- وحينما كنت تبلغين أمانيك.
- كانت تبدو هزيلة أمامي وتفقد سحرها الماضي فلا يسعني إبقاء على اللذة وخيالها الحبيب إلا الاستسلام إلى أماني ورغبات جديدة.
- وهكذا ظلت حياتك رغبات وآمال كاذبة، ولذة مفقودة لا تورث إلا الألم والحسرة.
- نعم هكذا ظلت دائماً. . . رغبة جائعة نهمة لا تشبع.
- ولن تشبع.
- نعم لقد بدأت أرى أنها لن تشبع.
- وهكذا الحياة. . . آلام تتفاوت مقاديرها. . . فحسب العاقل أن يخرج منها بالقليل من الألم. . . أما اللذة فهي غاية الأحمق ولن يحصل منها إلا على غاية الألم.(732/56)
- لقد فهمت الآن. . . فهمت الآن. . . ما أجمل كلام. . . انك حكيم
وسكت الخير قانعاً وانطوى في أعماق النفس بينما أخرج إبليس لسانه السليط وعاد يقول:
ولكن بالرغم من كل هذا الكلام فهناك لذة. . . أولى بالضعيف أن يقول:
(إنني بائس) من أن يقول: (إن الحياة مليئة بالبؤس) نعم صدقيني يا سيدتي إن الحياة مليئة باللذة وهي تنتظر إيماءة من رأسك الجميل لتقدم إليك الحب، تحية الجمال، واللذة ثمرته اليانعة الغضة. فلا تترددي وتذكري أن الزمن يرسم خطوطه الكريهة على الوجه الجميل، وينزع السواد عن الشعور الفاحمة ويطفئ بريق الحياة من العيون المليئة بالحياة. - كفى أيها الشرير. . . كفى.
- ويقوس الظهور التي لم تتعود ذل الانحناء ويتقل الأصدقاء ويشتت الأحباء، ويقدم الصاب والعلقم في كؤوس الوحدة والسأم والمرض وأخيراً يفتح لنا باب القبر على مصراعيه ويهيل علينا التراب. . . ذلك التراب الذي كنا نطؤه بأقدامنا.
- رفقاً بالنفس الضعيفة يا رسول السوء.
- وهو لا يرحم. . . فأولى بنا ألا نرحمه. . . وأن نقتله كسباً ولذة وحياة فعقارب الساعة لن تقف دقيقة واحدة من أجلنا والشمس لنا تقف عن دورتها يوما لتعطينا فسحة للتفكير.
- أنت. . . أنت هو العذاب والجحيم نفسه فكفاني من لهيب ألسنتك يا هاتف الشر. . . فلو لم تتكلم لكنت الآن سعيدة قانعة راضية. . . أما الآن. . . فالويل لي من جحيم النفس. . . الويل.
- عجباً من هذا الإنسان ومن منطقه الأعرج. . . أدفعه إلى اللذة فيقول إنني إبليس اللعين. . . ويسمع هاتفاً آخر يدفعه إلى الألم والعذاب والحرمان فيقول هذا ملاك الخير. . . أليست هذه كبرى مهازل العقل.
وسكت إبليس وهو يبتسم ويرقب الصراع الأليم والعذاب يتجسمان في ملامح المرأة التعسة والدموع تطفر من عينيها والعناء النفسي يبدو في أصابعها الشاحبة الباردة وهي تتصلب وترتعد في عصبية وسمعها تهمس وهي تبكي.
- حقاً ما أضعف الإنسان يشقى في الحياة ويعاني حتى إذا ما سكن وهدأ واستقر. . . شقي في نفسه.(732/57)
وتيقظ الخير من نومه العميق فقال في نبراته الحزينة.
- نعم. . . لقد أدركت الآن لم أجر ورائي مواكب الألم والحرمان لأني أفضلها على مواكب الوهم.
وسكت هاتف الخير وهاتف الشر وغرقت أصوات النفس في أصوات الحياة حينما امتلأت الحجرة بأشباح صغيرة. . . وقامت المرأة المعذبة تمسح دموعها وتستقبل لوناً جديداً من ألوان الكفاح والعناء.
ومرت الأيام والشهور وتزوجت الشابة الجميلة من شاب جميل. . . فهل ماتت الهواجس. . . وهل حصلت النفس على راحتها؟ لا يا سيدي. . . إن قصة الهواجس قصة حية خالدة ما خلدت النفس فيها هي صاحبتنا التعسة في (صالون) آخر ربما كان أبهى وأجمل من زميله القديم ولكنها لا ترى هذا الجمال ولا تشعر به بل ترى بعين النفس وفي مرآتها عشرات من أشباح النساء الجميلات تلتف كالأفاعي حول الزوج الجميل. . . وتسمع صوت إبليس يصرخ.
- إنه لم ينم هنا البارحة وتعلل بالأسباب والمعاذير. . . ولكن من يدري في أي أحضان قضى تلك الليلة. . . يا لك من ساذجة. . . لماذا لا تقابلين الخيانة بالخيانة. . . إن أمين يتمنى لو.
وتكاد تضعف وتخضع حينما تسمع صوت الخير يهتف.
- يا للمسكين. لقد بات ليلته مسهداً يفكر فيك ويستعجل أنوار الصباح ليلقاك. . . يا له من زوج وفي.
وتحار الزوجة التعسة وتتعذب، وليست هذه هي المرة الأولى التي تحار فيها وتتعذب. . . فقصة الهواجس تكون حياتها كما تكون حياة كل إنسان وحياة كل نفس فما أشقى نفوسنا نحن البشر وهي تتمزق تحت ضغط القوة الهائلة التي ركبت فيها.
مصطفى محمود(732/58)
العدد 733 - بتاريخ: 21 - 07 - 1947(/)
الأدب بين الوجدان والتفكير
للأستاذ عباس محمود العقاد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد. إن القارئ يفهم من بعض الكتب الحديث أن الأدب فن، والفن يختص بالوجدان، فعلى ذلك ماذا يكون حكمنا على الإنتاج الذي يغلب عليه الطابع الفكري؟ أرجو أن اقرأ ردكم على صفحات الرسالة، ولكم وافر الشكر والسلام.
فتحي السمن محمد
إذا قلنا الأدب (يختص) بالوجدان ففي هذا القول جانب كبير من الصواب.
ولكننا إذا قلنا هذا وسكتنا عليه فقد يفوتنا أكثر الصواب، يجمع الفائدة من المعني المقصود في هذا الباب.
فأي وجدان هو هذا الوجدان للذي يعتمد عليه الأدب أو يعتمد عليه الفن أو الفنون على التعميم؟
أن الإنسان الهمجي له وجدان وشعور، ولكن وجدانه يكتفي بما يكفي غريزة الحيوان أو يزيد قليلا على غريزة الحيوان.
والإنسان (الصوفي) له وجدان وشعور، ولكنه إذا عبر عن وجدانه وشعوره دق تعبيره على عقول الكثيرين أو الأكثرين
فليس شرط الوجدان أن يكون مقصورا على أجهل الناس وأعجزهم عن التفكير.
لأننا لا نرادف بين معني الجهل ومعني الوجدان في اللغة ولا في مصطلحات الفنون والعلوم.
هذه حقيقة من الحقائق التي يحسن بنا أن نحضرها في إخلادنا حين نعرض لحديث الفن والجدان.
وحقيقة أخرى ينبغي أن نحضرها في إخلادنا أبداً لأن إغفالها يفسد كل تعريف مفيد في هذا الباب، وهي أن الأدب الرفيع لم يخلو قط من عنصر التفكير، وشاهدنا على ذلك أدب الفحول من شعراء الأمم العالمين، ومنهم أمثال شكسبير وجيتي والخيام وأبو الطيب.
ونخص الشعراء بالذكر لأن صدق هذه الملاحظة فيهم يجعلها أقمن بالصدق على الأدباء الناثرين.(733/1)
فأغاني شكسبير مثلا سلسلة من الأفكار التي يمزج فيها الفهم بالشعور، ودع عنك قصائده التي نظمها في الروايات أو أجراها على السنة الرجال والنساء. فأن شعر الأغاني أحق شعر أن يقصر عليه (الوجدان) إذا صح ما يفهمه بعضهم من الأغراض الوجدانية وخلوها من التفكير.
وقصة (فاوست) الكبرى - وهي أعظم أعمال جيتي - هي فلسفة الحياة والبقاء، وفلسفة الخير والشر، وفلسفة المعرفة والضمير.
وليس فهمها بأيسر من فهم قضايا المنطق أو معادلات الرياضة والكيمياء.
ورباعيات الخيام يصح أن تسمى (فكر الخيام) لأن الرباعية منها تدور على فكرة أو خلاصة أفكار ولا يمنعها الشعور أن تكون شعور إنسان من المفكرين.
والحكم على المتنبي ميسر لمن يقرأ العربية وحدها ولا يقرأ غيرها من اللغات.
وليس في قصائد المتنبي قصيدة واحدة يقول القائل إنه أهمل الفكر فيها، أو إنها وجدان بغير تفكير.
ومن أمثلة ذلك هذه (القضية) التي صاغها في بيت من الشعر حيث يقول:
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموت جبانا
أو هذه القضية التي صاغها في هذا البيت:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
أو هذه التقسيمات الوافية التي يقول فيها.
تصفو الحياة للجاهل أو الغافل ... عما مضي منها أو ما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
فأن التفكير إذا ذهب في هذا المعني إلى غايته لم يأتي فيه بمزيد بعد الجهل والغفلة والمغالطة في الحقائق. وهي شروط صفاء العيش في حكمة هذا الحكيم، أو في شعور هذا الإنسان.
وندع الشعر إلى الغناء والموسيقي، وقد يخلوان من اللفظ ولا يخلوان من التفكير.
فنشيد الرعاة وجدان.
والحان فاجنر وجدان.(733/2)
ولكن الفرق بين الوجدانيين كأبعد فرق بين شيئين يوجدان في طبيعة إنسان.
ومن الحقائق التي تحضر في هذا السياق أن نقص الفكر ليس بزيادة في الحس والوجدان، وان زيادة الفكر لا تمنع الإنسان أن يحس وان يتسع وجدانه لأوسع آفاق الحياة.
فقد ينقص فكر الإنسان وينقص حسه على السواء، وميزة الإنسان دائما أن يحس إنه يفكر وان يفكر إنه يحس، وان يكون نصيبه من الإنسانية على قدر نصيبه من الفكر والإحساس، فليس هو بإنسان كامل إذا خلا من التفكير، ولا يكون الأدب كاملا وهو يعبر عن إنسان ناقص في الزم مزاياه.
وللأدب بحوث غير بحوث العلم والدراسات الاجتماعية أو الاقتصادية.
فهل تحسب هذه من الأدب أو لا تحسب منه لأنها تحتاج إلى تفكير؟ وهل يمكن أن يتم بحث بغير تفكير ولو كان من البحوث في الشعر والإحساس؟
فالبحوث الأدبية أدب وليست علما بالمعني المعروف للعلوم التجريبية، لأن البحوث العلمية تتفق في النتيجة ولو جرت على أيدي مئات من العلماء. وقد يبحث ألف ناقد في ديوان واحد ثم يخرجون منه وكل منه ينقض أقوال الآخرين أو لا يلتقي بهم في موقع لقاء. وإنما يفعلون ذلك لأن الباحث منهم يعتمد في فهم المعني على مرجعه من الإحساس، فيفهم الإحساس على وجه ويفهمه غيره وجوه. ولا يقال من اجل ذلك أنهم ينبغي أن لا يفهموا أو لا يفكروا لأنهم يحسون!
وبعد، فأن الإحساس طبقات وليس بطبقة واحدة بين جميع الناس.
وكل طبقة من هذه الطبقات فهي لغز مغلق بالنسبة إلى من يقفون دونها ولا يرتفعون إليها، فإذا عبر أحد منها عن شعوره ولم يفهمه الذين يقصرون عنها ويهبطون دونها فليس ذلك بمخرجه من أفق الشعور الذي هو فيه، ولكنه يخرجهم من ذلك الأفق الرفيع.
ولعلنا بحاجة إلى التنبيه إلى سخافة شائعة في مصر والشرق بين أدعياء الإحساس ممن لا يحسون ولا يفكرون، وهي اعتقادهم أن الإحساس والتخنث مترادفان. ويوشك أن يموت الإنسان عندهم من فرط الإحساس، لأنه يحس في زعمه بمقدار ما يتراخى ويتخاذل ويئن وينوح!.
وأحوج ما يحتاج إليه هؤلاء المتأنثون (مزعج) قوي ينقذهم من (فرط الإحساس) على(733/3)
مذهبهم الذي لا فرق فيه بين فرط إحساسهم وبين الموت. . . أو الإغماء على أهون تقدير: صفعة على القفا هي (جرعة) نافعة ناجعة في علاج هذا الداء. صفعة على القفا بقلم الكاتب، أن لم تكن بالقلم المعهود في لغة الأكف والأقفاء!
ونخلص من هذا جميعه إلى قول واحد يجمل جميع الأقوال في الفن والأدب، وهو أن الفن والأدب وجدان ولكنه وجدان إنسان، ولا يكمل الإنسان بغير الارتفاع بطبقة الحس والارتفاع بطبقة التفكير فلا يخلو الأدب المعبر عنه من هذا وذاك، ولا يقاس نصيبه من الحس بمقدار نقصه في التفكير، ولا يقال أن أحس تماماً لأنه لم يفكر تماماُ؛ بل يقال أن التمام في مزاياه الإنسانية أن يتم له الحس ويتم له التفكير.
عباس محمود العقاد(733/4)
4 - رحلة إلى الهند
المسلمون والمؤتمر الأسيوي
للدكتور عبد الوهاب عزام عميد بكلية الآداب
في الهند اليوم حزبان يسيطران على شؤونها: حزب الرابطة الإسلامية وحزب المؤتمر والأول يمثل مسلي الهند إلا قليلا. والثاني يمثل الهنداك وقليلا من المسلمين وكان الحزبان على وفاق، كل يسير في طريقه غير محاذ للآخر. وكان زعماء الرابطة، ومنهم السيد جناح، عاملين في حزب المؤتمر.
وقد حدثت شؤون انتهت إلى القطيعة بين الحزبين سنة 1937 وأبانت على اختلافهما كل الاختلاف على الهند بعد استقلالها. أتقوم فيها دولة واحدة أم دولتان إحداهما إسلامية في أقاليم تسمي، باكستان، والأخرى هندوكية في أقاليم أخرى تسمي هندوستان.
ولست في مجال الإبانة عن هذا الخلاف، فقد تكلمت فيه من قبل، ونشرت في الصحف ما يغني من إعادة القول، وحسبي أن أقول هنا: أن المؤتمر الأسيوي دعي إليه معهد يسمي (المعهد الهندي لشؤون العالم) وهو ذو صلة وثيقة بحزب المؤتمر. وكان لهذا الحزب الإشراف على المؤتمر الأسيوي والسيطرة عليه، فرأت الرابطة الإسلامية أن تقاطعه.
وكانت وفود الدول الإسلامية في حرج من هذه المقاطعة، وكثيرا ما سألوا: ألم تعلموا أن المسلين قاطعوا هذا المؤتمر؟ إلا تعطفون على مسلمي الهند الخ.
وقد اختلفت الإجابة عن هذه الأسئلة، واتفق المسؤولون على أن يهتمون كل الاهتمام، ويعطفون كل العطف على مسلمي الهند.
وقد انتهي الجدال إلى الإجماع على أن قدوم الوفود الإسلامية إلى الهند في ذلك الحين، وشهودها هذا المؤتمر ينفع مسلمي الهند ولا يضرهم، إذا يبصر البلاد الإسلامية بأحوال الهند، ويعرفهم بحقيقة الأمر فيما شجر من خلاف بين المسلمين والهنادك.
ونشر بعض الوفود الإسلامية كلمة أعربوا فيها عن رأي الوفود الإسلامية كلها، هي أن اشتراكهم في المؤتمر لا يدل عل ي تأييدهم حزبًا من أحزاب الهند، وان هذا المؤتمر كما دعوا إليه وشهدوه ليس سياسيا.
وكان من الداعين إلى المؤتمر والمناصرين له جمعية علماء الهند، وقد حرصت طائفة منها(733/5)
على الاتصال بالوفود الإسلامية والتحدث إليهم في الخلاف بين الرابطة والمؤتمر، ثم دعوا وفود البلاد الإسلامية إلى حفلة في فندق كبير حضرها مولانا أبو الكلام أزاد وزير المعارف في الحكومة الموقوتة، وشهدها كذلك جواهر لال نهرو رئيس هذه الحكومة، ووزعت على الحاضرين صحيفة كبيرة بالأردية فيها ترحيب بالوفود وبيان لمكانة جمعية العلماء في الهند وتاريخها في الجهاد للاستقلال، والرسالة صغيرة بالعربية في هذا المعنى.
وبعض المعاهد الإسلامية كالجامعة الملية الإسلامية في دهلي ضالعة مع المؤتمر أيضاً؛ ولكن الجمهرة العظمي من المسلمين يؤازرون الرابطة الإسلامية.
وقد حرص القائمون على المؤتمر الأسيوي، لهذا الخلاف بينهم وبين الرابطة، على أن تشترك الحكومات الإسلامية فيه، وأرسلوا دعاتهم على بعض الأقطار ليعملوا على استجابة المسلمين دعوتهم، ولاسيما البلاد العربية.
وقد حرصنا على لقاء زعماء الرابطة لنزيل استيائهم من حضورنا المؤتمر، ولنعرف حقيقة الخلاف بينهم وبين حزب المؤتمر.
وقد زرت رئيس الرابطة في داره أنا والسيد تقي الدين الصلح مندوب الجامعة العربية والساعة إحدى عشرة ونصف من صباح يوم. فتكلمنا عن اشتراكنا في المؤتمر فسئلنا هل قرأت جريدة الفجر - وهي لسان الرابطة باللغة الإنكليزية - ثم تناول عدد منها قرأ فيه شيئاً عن اشتراك الوفود الإسلامية في المؤتمر وتقدير مسلمي الهند نواياهم، واعترافهم بأن شهود المؤتمر عسى أن يكون خيرا: وقال أن هذا ينهي الكلام في هذا الموضوع.
وقد تحدثت عن مؤتمر إسلامي يجتمع في الهند أو حيث يشاء المسلمون ويتناول البحث فيها شؤون إسلامية كثيرة فيها ولاسيما شؤون مسلمي الهند، وانتهى حديثنا والساعة واحدة وربع على أن نلتقي يوم السبت الآتي.
ولما التقينا في الموعد حدثناه عن عبد الغفار خان زعيم ولاية الحدود، والذي يتقيل غاندي ويصاحبه كثيراً حتى سمي غاندي الحدود. وكان عبد الغفار قد حدثني مرة والمؤتمر على مائدة حضرها نهرو وبعض أعضاء المؤتمر ومرة أخرى حيث يقيم مع غاندي فشكا من الرابطة وقال إنه كتب إليهم طالبا أشياء يسيرة تكفل له إذا قامت دولة باكستان فلم يظفر منهم بجواب. وقال أن الإنكليز اضطهدونا فاستنجدنا الرابطة فلم تبال بنا، وتطوع حزب(733/6)
المؤتمر لنصرتنا والدفاع عنا فكان ميل الناس من ولايته إلى حزب المؤتمر طبعياً. فنقلت هذه الشكوى إلى السيد جناح أملا أن اقرب بينهما. فقالت السيد جناح إنه لم يتلقى رسالة ما من عبد الغفار خان وان الحوادث التي يشير إليها الخان كانت سنة 1929 ولم يكن للرابطة إذ ذاك قدرة على النجدة ولم تكن بلغت من الشان والنظام ما بلغت. ثم قال ومع هذا كافحت كثيراً من أجلهم حتى نالوا ما نالوه من النظام الذي يتمتع به الإقليم اليوم. وقال فليدخل عبد الغفار خان في الرابطة ثم يطلب ما يشاء. ولست مسيطرا على الرابطة ولكني واحد منها فلا أستطيع أن امنح أو أعد بما لم تأذن به.
وحدثته في تقسيم الهند وفي انحياز إقليم في باكستان إلى دولة هندوستان أو العكس، وفي دعوة المؤتمر والربطة في ولاية الحدود الشمالية الغربية. فقال إنه لا يملك أن يمنع الناس من الانحياز إلى جانب الذين يرغبون في الانحياز إليه، وإنه يعترف لأهل هذه الولاية بحقهم في الانحياز إلى هندوستان أن أرادوا. ولكن الرأي في هذا الأمر ليس لعبد الغفار خان وأمثاله ولكن لجمهور الناس. هم الذين يفصلون في انضمامهم إلى أحد الجانبين.
وتكلمنا عن مصر والسودان، فقال لا ترجعوا عن مطالبكم في السودان قيد شعرة. وانتقل الحديث إلى فلسطين فوكد حق العرب فيها وأوصى بأن لا تكون موضع مساومة.
وعدنا إلى الحديث عن مؤتمر إسلامي فاستحسن الرأي وقال سننظر أيكون في كراتشي أو دهلي أو مكان آخر.
ورجع إلى حديث عبد الغفار خان فوكد ما قاله من قبل غاضباً متحدياً. وفي ختام الحديث قال أيبلغ رئيس الوزراء النقراشي باشا أني لا أزال اذكر حديثه الودي وحفاوته بي ومبالغته في إكرامي حينما مررت بالقاهرة؟
ثم سأل كاتبه هل أعد رسالة عزام باشا، فعرض عليه الصحيفة مرقومة فأخذ عليه بعض الغلط وردها إليه فأصلحها. وقد حمل هذه الرسالة السيد تقي الدين الصلح مندوب الجامعة العربية في المؤتمر.
وقد تحدث عن باكستان في المرتين حديث المجاهد الموفي على غايته، الواثق بظفره. وكان في حجرته لوح صغير عليه خريطة باكستان الغربية والشرقية من الذهب أو مذهبة.
وهو رجل طويل نحيف معروق يجلل رأسه شعر اشمط يوحي إلى محدثه العزم والمضاء(733/7)
بكلماته وإشاراته.
وقد جزى الله جهاده وإخلاصه هو وأنصاره أن ظفروا بما أرادوا وبلغوا ما رجوا والله ولي توفيقهم.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(733/8)
القسم السادس:
فرنسا ومستعمراتها
للأستاذ أحمد رمزي بك
بدا الفرنسيون تنفيذ برنامجهم الإصلاحي على مراحل في مراكش، فقد نقلت إلينا الأنباء البرقية طرفا من أخبارهم وهي تتلخص في بعض تغييرات إدارية أدخلوها ذراً للرماد في العيون فقالوا أن الوزارة ستتألف من عشرة وزراء مراكشيين وعشرة من فالفرنسيين واختير مستشار فرنسي يبحث القوانين واللوائح قبل عرضها على السلطان، وصرح فرنسي مسؤول بأن فرنسا تريد تحويل مراكش إلى دولة ديمقراطية حديثة كما ترغب بإخلاص في زيادة مسؤولية المراكشيين في حكم أنفسهم. وهذه نواح جديرة بالبحث والتأمل.
ولقد كنا أول من أذاع شيئاً عن اجتماع الدار البيضاء الذي حضره روزفلت وجيرو وديجول الفرنسيين وقلنا أن أراضي تونس والجزائر ومراكش كانت وديعة بيد الحلفاء، وقد أعيدت للسلطات الفرنسية بعد أن تعهد رجالها لروزفلت أن تسير هذه البقاع في ركب الحضارة نحو الحرية وتقرير المصير؛ ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، وإنما تحت ستار الإصلاحات الجديدة وتحويل مراكش إلى دولة حديثة وزيادة مسئولية المراكشيين في حكم أنفسهم، تقدم فرنسا للعالم المتمدين مشروعا استعماريا له خطورته لأنه ضربة جديدة موجهة إلى استقلال مراكش وحريتها ومستقبلها، ولذلك لم نستغرب أن رفض الأحرار المراكشيون هذه السياسة ونددوا بها وقالوا عنها (إنها تريد أن تغتصب البقية الباقية من مظاهر وجودهم. ونحن الذين تابعوا قضية المغرب من يوم أنزل الحلفاء جنودهم، وأنصتوا طويلا إلى أقوال قواد الحلفاء وبعض رجال السياسة الذين تحدثوا عن مستقبل هاتيك البلاد وعرفوا الكثير من تحمس رجال فرنسا وتمسكهم بوحدة إمبراطوريتهم ورفضهم الدخول في أي حديث يشتم منه طلائع الحرية والاستقلال لشعوب المغرب، ولم نتردد في أن نجهر بالقول لإخواننا أهل المغرب أن الخطر الذي يبدو لنا هو أن نوفق فرنسا لإقناع العالم أن سياسة الاتحاد الفرنسي مشروع إنساني يدعو إلى رفع مستوي الشعوب ويعد تنفيذه تحقيقا لما وعدوا به روزفلت في اجتماع الدار البيضاء أو إنه مرحلة(733/9)
في طريق الرقي الاجتماعي.
ومراكش ليست دولة في مجاهل الدنيا حتى تدرب على حكم نفسها. وقد عاصرت القرون وكانت أمجادها وبطولتها مضرب المثال، فهي دولة مستقلة ذات سيادة وصولة وتاريخ وشخصية قبل أن تعرف فرنسا شيئاً من ذلك، وهي أمة موحدة قبل أن تحقق فرنسا وحدتها الإقليمية في قارة أوربا، ولإخواننا المراكشيين جولات في أفريقيا وفي القارة الأوربية، وبين ملوك مراكش وملوك فرنسا مكتبات ومعاهدات قديمة عامل فيها كل واحد الآخر معاملة الند للند.
لهذا كله دهشنا من موقف فرنسا ورجالها بعد سنة 1912 وموقفها اليوم في سياسة المقيم العام التي يريد أن يفرضها على دولة قائمة ذات سيادة وسلطان وشخصية دولية. وكنا نؤمل أن تغير دروس الماضي بعد الحرب العالمية الأولي، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، شيئاً من أساليبهم وعقليتهم، ومراكش بلاد لم تفتح وإنما تعاهد سلطانها معهم وحالفهم على شروط معلومة، فإذا هم ينزعون البلاد انتزاعا، ويصبح المقيم العام سلطاناً وحكومة، بجمع السلطات كلها بين يديه من تنفيذ وتشريع وقضاء، ويسيطر رجاله على الشئون المالية والاقتصادية والإنشائية، ويضع يده على الحبوس والأوقاف، وينتزع أملاك الدولة فيوزعها على المستعمرين من الفرنسيين.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ضربت بالمواثيق والعهود التي أخذتها الدول عليها عرض الحائط، فهي لم تحترم ما جاء باتفاق الجزيرة سنة 1907، ولا ما جاء بالاتفاقات التي أعقبت حادث أغادير المشهور، وكلها تنص على احترام سيادة سلطان مراكش ووحدة بلاده وبقائها بلاداً مفتوحة لتجارة الدول.، وميداناً للنشاط الأمم.
ولقد رأينا الأسلوب الفرنسي في حكم البلاد التي نكبت به ينتزع السلطات جميعاً من أيدي الحكام الوطنيين فتصبح الحكومة المراكشية التي يطلق عليها اسم (المخزن) صورة لا تملك من الأمر شيئاً. وإذا بدار المقيم العام بيدها السلطات الفعلية: يتولاها بواسطة مستشاريه على الطريقة الفرنسية المباشرة التي رأيناها في سوريا ولبنان أيام الانتداب. فتصور هذه الدار تتولى الأمن العام والجمارك والضرائب وتدير الأوقاف وتفتح المدارس وتغلق الكتاتيب، وبيدها التشريع والبرق والبريد، وتسيطر على النقد ووسائل المواصلات، وتمنح(733/10)
الأراضي لمن تشاء وتوزع الثروة على شركات الاحتكار والاستثمار.
هذه هي مناطق القانون التي يسود فيها الحكم المدني. أما المناطق العسكرية فهي تخضع لجبروت الجيش وضباطه السياسيين، فهناك يجمع القائد الفرنسي كل السلطات في يده ولا مرد لحكمه: إذا تكفي إرادته لنزع الأملاك وتنفيذ حكم الإعدام والسجن ونقل قرى بأكملها وإخلائها من السكان، ولا يمكن مراجعة حكمه أو الاعتراض عليه أمام سلطة مدنية، وأهالي البلاد من المسلمين حيارى بين براثن الاستعمار الفرنسي في مراكش، هم في حالة حرب منذ عام 1912 لا يرتفع عن كاهلهم سوط الأحكام العرفية ولا يشعرون بالراحة يوماً، تؤخذ أولادهم للحروب، ويرسل بشبابهم إلى المعتقلات والسجون.
لقد آن للعالم أن يفهم حقيقة الحال في أفريقيا الشمالية، وحسنا فعل المجاهدون المراكشيون من المبادرة إلى أمريكا وتعريف العالم بقضيتهم لأنها قضية عادلة: وقد شرحنا أساليبه ومراميه وأهدافه ويؤكد سيطرة فرنسا وتدخلها في شؤون بلادهم أجيالاً من الزمن لا تزال في علام الغيب أو المستقبل.
أن كفاح أهل مراكش سيكون طويلا وصعبا لا هوادة فيه، لأن بلادهم موطن الثروة المعدنية، واليها تتجه أنظار الاستعمار الفرنسي للحصول على المواد الخام من البترول والفحم والحديد، وهذا الاستعمار يفرط - كما قلنا - في ولايات من أوربا ولا يتنازل عن شمال أفريقيا، وهو يعلم تماماً أن أي تساهل أو اعتراف من جانبه باستقلال أو حكم ذاتي يمنح لأهل البلاد المراكشية معناه انهيار الإمبراطورية الفرنسية بأكملها في أفريقيا الشمالية.
فعلى الذين يتصدرون الحركة الاستقلالية في مراكش أن يفهموا أن العراك سيكون شديداً وقاسياً، وعليهم أن يكتسبوا المعركة الخارجية، وهي معركة الدعاية لقضيتهم في أمريكا وفي بقية أنحاء العالم، عليهم أن يظهروا مساوئ الاستعمار وأضاليله، وان يجعلوا الدعاية قائمة في كل مكان، وان تمتاز بالثبات والرسوخ والهدوء والمداومة.
ففي مصر لا يكفي شعور الناس بالعطف على قضيتهم، بل يجب إبرازها كل يوم في ثوب جديد على صفحات الجرائد والمجلات، بل نريد أن نسمع رأيهم وصوتهم، ونرى مناظر بلادهم ومساجدها وأسواقها، ونقرا لأدبائهم وزعمائهم كل يوم، ونود أن نشاركهم أفراحهم(733/11)
وأيامهم، ونسمع أغانيهم، ونرتل شعرهم، ونظهر على مطبوعاتنا صور معاهدهم ورجالهم ومظاهر الحياة عندهم.
إننا في حاجة إلى أن نتعرف على أهل المغرب، لأننا في مصر نحن أهلها اقرب أهل المشرق إليهم.
لقد تلاقت النفوس قبل اليوم، وارتبطنا بهم بروابط لا تنفصم عراها، لأن مصر أسراً بأكملها تنحدر من تلك الأصول العربية التي جاءت من ارض المغرب.
إننا لا تطمئن نفوسنا قبل أن ينال المغرب استقلاله ويحصل على حريته.
أحمد رمزي(733/12)
لسان الدين بن الخطيب
الصفحة الخيرة من حياته
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
مد الليل أروقته السوداء في غرناطة الأندلسية العظيمة، واتشحت سماؤها المرصعة بالنجوم الزاهرة تلك الليلة بالغمام، وتضاحك البرق من عربدة الرعد المدوي، وتهادى الثلج نازلاً بأناة وكرم يكسو بالبياض كل ملون. . . ويتراكم طبقات بعضها فوق بعض، وخلت الدروب من كل صوت ونأمة. . .
وسرت عدوى السكون العميق إلى قصر أبن الخطيب الباذخ فما كان يسمع فيه شيء مما اعتاد أن يزخر به إلى القصر العتيد من صوت القيان أو نداء المزاهر، وما كان يري في أكنافه الرحيبة من وراء الكوى، إلا ضوء واحد يمرق من نافذة في غرفة رب القصر، وان كان قد انتصف الليل من وقت طويل.
وهدر الرعد من جديد، ففتحت على أبن الخطيب بابه فتاة في مقتبل العمر وانزاحت من الباب رفيقه إلى حيث يجلس الكهل، وتقدمت إليه تحييه وتقول له في دل:
- أو لا تزال يا عماه مسهد الجفن تكتب والناس رقود؟
فيرفع أبن الخطيب رأسه ويمد بصره إلى ابنة اخية، وقد أضنى عينيه ضوء الشموع وصفحة الكتاب ويقول لها:
- إن الذي ميزني يا ابنتاه عن الناس الذين تسمين، إنما هو هذا السهاد وهذا الاعتكاف، وما بلغ امرؤ يا بنتاه في غطيطه ما يبلغ الساهر في سبيل العلم، ولو درى أولئك السادرون في غوايتهم أية لذة أطعم، وأية العادة أذوق، لاستبدلوا بالفراش المحابر، ولأوغلوا فيما أنا في سبيله. . . ألا يستوي جاهل وعالم، وساع إلى الراحة ومتشبث بأذيال العلم. . . وهذه غرناطه تعلم أن شيخها يسهر والناس حوله نيام، فيصيب من سهرة ما يميزه عن النائمين والغافلين. . .
ثم يعود الشيخ إلى نفسه ويستدرك ويقول:
- وأنت يا ابنتي ما بالك بارحت الخدر وأنت إلى الرقاد أحوج من شيخ غرناطه؟. . . اهو حلم لذيذ أرسلك إلى عمك تقسمينه خبره؟ فتجيبه: لقد أيقظتني جلجلة الرعد، فما(733/13)
استطعت من اليقظة إغفاءة!
وتجلس الفتاة، فيسألها عمها أن تكتب له الصحائف الباقية من كتابه (الأصول لحفظ الصحة من الفضول). فتكتبها وهو يميلها عليها. . . وتنتهي فتعلق الفتاة عليه بأنه عمل متعب قد يؤذي صحته الغالية. فيقول لها: (يا بنتاه، العجب حتى مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب، فإني لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي). فتقول مجيبة: (ولكنه يا عماه أرق مفيد على كل حال، وهل تنكر فضل الأرق الذي أخرجك في الفلسفة والطب والتفسير والحديث والفقه والتاريخ وعلوم العربية من شعر بارع ونثر بديع؟
فيبتسم الشيخ ابتسامة استكبار وتيه. . . ولم تكن الفتاة مجاملة ولا مراوغة في هذا الذي قالت، فقد عرفته الليالي طالب علم ورجل جد، وعرفه أساتيذ غرناطة ذكي الفؤاد، واعي البصيرة، سديد التفكير.
ويغرق لسان الدين في فكره طائرة، وتسهم مقلتاه الزرقاوان في غير وعي. . . فتقول له ابنة أخيه: (لقد فرغت يا عم من مطالعة ما زودتني به من كتاباتك، فراقني منك شعر الغزل الجميل في هذه الموشحات التي رصعتها بما يعيا به الصاغة الماهرون، وأعجبني كلام الأتقياء، ولكني وجدت في رسائلك التي تتندر بها على الحال الاجتماعية سجعا غريبا، وإطالة لا عهد لك بمثلها، فقد أطلت فيما كتبت وأطنبت في التصوير إطنابا خيل إلى معه انك قد ملئت من الفكرة الصغيرة صفحات، فهل ستنسيك السياسة ذياك الأسلوب والنغمة التي فتنت بها غرناطة ورقصت عذاراها زمنا؟
وهنا يتبسم لسان الدين مرة أخرى، ويهيب بفتاته أن تعود إلى مخدعها، فقد انقطع الرعد، ولم يبقي من الليل إلا رمق، وانه ليرى أن السهاد قد يضر جمالها الضحيان. . . وإذا تذهب يقيم لسان الدين يفكر، ويعمل الرأي في هذه الأحداث التي توالت ادراكا، ويبحث هذا القلاقل السياسية التي أوشكت أن تؤدي بأدبه الغض وخياله الرائع. . . لقد صدقت بنت أخيه، فأن السياسة التي فتنته قد انبرت تخرس تلك النغمة السائغة المنسابة التي أرقصت عذارى غرناطة زمنا، وهذه الفتنة لا يدري هو أيضاً كيف استحوذت عليه، فتبدل بالعلم والأدب السياسة ومشتقاتها، وأقام برهة يتفكر في عواقب الأمور وما قد تجره عليه من وبال، ووقر في نفسه أن ينتقل إلى هامش أن هو استطاع إلى ذلك سبيلا.(733/14)
ثم يعود فيمد بصره في الماضي، حيث كان السلطان أبو حجاج يوسف يعطف عليه، ويقرب مجلسه، ويستأنس برأيه، وقد اختصه بكتابته، واجرى عليه صنوف الرفد والعطاء، فانتج ما شاء له الإنتاج، وأبدع ما وسعه الإبداع.
ثم يموت أبو الحجاج يوسف، فيخلفه ابنه محمد بن أبي الحجاج وهو الفتي الذي خدمه أبن الخطيب اصدق خدمة ووفاه أقصى حقوق الولاء، فجزاه معروفا بمعروف وخيرا بخير، وأبقاه في مكانه وضاعف له الرعاية، ولكن الفتنة الراقدة تململت، وحجب الناس لأخي الملك الجديد أن يناوئ أخاه ويزعج نفسه، فهو لا يدري كيف يأخذ ولا ماذا يصنع. وقد قال له هذا الأمير المحق أن يتبين له وجها من الرأي ودربا من الرشاد ينفذ منهما إلى صرع الباطل والحسد الاثيم، ولابد لابن الخطيب من نصيحة يسديها لمولاه ضحى الغد، وهو الذي عرف عنده أصالة الرأي وسداد الفكر، فماذا تجدي عليه هواجسه من السياسة ومشتقاتها ومغبتها، وهي مفروضة عليه يحتمها الولاء والوفاء لمن والاه ووفاه حقوقه.
هنا ينبلج الصبح ويقطع على لسان الدين التأمل رسول الملك فقد جاءه يخبره بأن الملك يريد البراح بعد أن أخفقت كل محاولة في تحسين الحال، فيخف إليه أبن الخطيب تاركا المهاة في خدرها والكتب في أدراجها ويبارحان المملكة. . . وقد تقطع قلب لسان الدين لكلمة وداع لابنة أخيه المساعفة وكلمة وصية بكتبه فما افلح.
ولم يكن الهروب لينجي أبن الخطيب، فقد وقع في قبضة السلطان الجديد، وأراد التنكيل به لولا أن سلطان المغرب الذي شغف بأدبه وعلمه يحميه من البطش، ويمهد له من مدينة فاس أرضاً صالحة خصيبة تواتي قريحته، فيرسل زفرته الخالدة:
جادك الغيث إذا الغيث ... همي يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن ووصلك إلا حلماً ... في الكرى أو خلسة المختلس
وتلفقها أبنة أخيه، وتقرؤها على أترابها، وتتيه بها إعجاباً وفرحا. . فلقد ارقص لسان الدين عذارى غرناطة من جديد.
هنا يتأزم الوضع في غرناطة تأزماً جديدا ضد لسان الدين، ويعمل العلماء والفقهاء من أعدائه ضده ويرسلون فيه هجر القول ويرمونه بكل نقيصة، ويرجون فيه إنه كافر، وهم إذ يفعلون ذلك ينتقمون لمنازلهم التي احتلها هو في قلب السلطان الماضي، وينافقون للسلطان(733/15)
الحاضر، وكلا الآمرين يؤتي بالثمرة المحرمة، التي يريدونها.
وأمر ما لقي لسان الدين من هذه البلوى أن يقود هذه الفئة المعادية والفتنة العمياء تلميذه أبن زمرك وهو الذي نشا وترعرع على يديه. . فقد وكل هذا المخلوق المنحوس قلمه في شرح وتبسيط كفر لسان الدين الذي علم الله إنه منه براء.
ويعود لسان الدين - وهو لا يدري بما حدث، ويجتمع الفقهاء والعلماء يقررون مصير لسان الدين. ولا بد من الفتيا وقد أقام لسان الدين ينتظرها في السجن الذي زجوه به حتى إذا جاءته كانت تحتم قتله.
عرف لسان الدين أن الأمر قد تم، وان السهم وقد نفذ، وان لا مرد لأمر الله، فحن من بين مصائبه واحنه وسلاسله وأغلاله إلى نظرة في كتبه، والى كلمات يريد أن يضيفها على آخر كتاب لما يكلمه. وتلهف إلى جامع غرناطة وجامعتها، حيث كان يلقى دروسه قبل أن يقرر كفره.
وقطع هذه التأملات جلجلة السلاسل، وجاءه قوم غلاظ يحملون المشاعل يتقدمهم رجل فيه بسطة في الجسم لا قبل للسان الدين وهو في الثالثة والستين من العمر بمثلها. تقدم هذا العملاق من السياسي الشيخ الفيلسوف الطبيب العالم الفقيه الشاعر الأديب يزيح لحيته التي خطها الشيب، فلم يبق من سوادها إلا ما بقي من سواد تلك الليلة. . يزيح لحيته ليمهد لقبضته الخشنة القوية من عنقه مكانا يخنقه منه، ووضع ركبته على صدر الرجل وأخذ عنقه وتحسس فيه البلعوم فقبض عليه قبضة شديدة منكرة تزايلت لها وتلاينت وتقلص وجه الرجل واختلفت سحنته ورفس من احتباس النفس رفساً شديداً فما رحمه. واحتقن الدم احتقانا مروعا وجحظت عيناه جحوظا غريبا كأنها تفتش عن الكفر الذي رما به. . . ثم تخافتت نفسه. . . وفاضت روحه التي ملأت الأندلس أدباً وعلماً وفناً.
وزفت بشرى خنقه إلى من حكم بقتله فأمر بإخراج جثته وإحراقها علناً. . . وهكذا كان. . . فما بقي للسان الدين غير اسم عظيم وتراث خالد.
وعرفت ابنة أخي لسان الدين هذا. . . . فاتشحت بالبياض حداداً. . . وخرجت هي وأترابها حيث أحرق. . . وهناك قرأت عليهن قوله:
لم يكن وصلك إلا حلماً ... في الكرى أو خلسة المختلس(733/16)
وأسكبت على الأرض التي قد يكون فيها شئ من رماده دمعات من مقلة زرقاء.
منيبة الكيلاني(733/17)
10 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات القاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
الموز في الأحلام:
ولكن يجب أن لا تظنوا أن هذه الرموز سهلة الاستعمال أو سهلة الترجمة فنحن أينما تلفتنا عثرنا على ما لم نكن نتوقعه. فقد لا تصدقوا مثلا إنه لا يوجد في الغالب حد فاصل بين الجنسين في هذا التمثيل المزي، فكثير من الرموز تقوم مقام الأعضاء الجنسية على العموم، سواء أكانت للذكر أم للأنثى مثلا طفل (صغير) أو ابن أو ابنة (صغيرة) كما إننا قد نجد في حالات أخرى أن أحد الرموز التي تشير في الغالب إلى عضو جنسي مذكر قد استخدم في هذه الحالة للدلالة على عضو مؤنث أو بالعكس. وهذا القول قد يظل غير مفهوم حتى نستطيع أن نحصل على بعض المعلومات عن نضوج التفكير الإنساني فيما يختص بالعلاقات الجنسية، فهذا الغموض قد يكون في كثير من الأحيان غموضاً ظاهرياً فقط وليس حقيقياً، وعلاوة على ذلك فإننا نجد أن أشد هذه الرموز لفتا للنظر مثل الأسلحة والجيوب والصناديق لا تستخدم أبداً للدلالة على الجنسين.
والآن دعوني اقدم لكم بيانا موجزا مبتدأ بالرموز نفسها بدلا من الأشياء التي ترمز إليها، لأطلعكم على المصادر التي اشتقت منها هذه الرموز الجنسية في الغالب، وسأضيف إلى ذلك بعض الملاحظات خصوصا عن تلك الرموز التي يصعب فيها تحديد وجه المقارنة بينها وبين الأشياء التي ترمز إليها (فالقبعة) مثلا أو أغطية الرأس على العموم تعتبر من الرموز الغامضة، وهي في العادة رمز مذكر وان كانت تجئ من الحين لحين كرمز مؤنث. و (المعطف) بالمثل يدل على رجل ولو إنه قد يدل في بعض الأحيان على الأعضاء الجنسية عموما من غير تميز، ولكم أن تتساءلوا عن السر في هذا. أما (ربطة الرقبة) فباعتبارها شيئاً يتدلى إلى اسفل ولا ترتديه النساء فهي بلا شك رمز مذكر بينما (الملابس الداخلية) أو (الكتان) على العموم يمثل الأنثى. و (الملابس) و (البزة الرسمية) كما قلنا(733/18)
تمثل العرى أو جسم الإنسان. و (الموائد) و (الخشب) قلنا عنها إنها رموز محيرة ولكنها مع ذلك رموز مؤنثة؛ ومن المحقق أن (عملية تسلق) السلالم أو الأماكن الوعرة عبارة عن رمز للعملية الجنسية. وقد نلاحظ إذا دققنا النظر أن اطراد النغم أثناء التسلق هو النقطة المشتركة بين العمليتين، وربما أيضاً ازدياد اللهفة الذي يصحبهما، واحتباس النفس كلما أوغل المتسلق في الصعود.
رأينا أن (الأصقاع) تمثل الأعضاء التناسلية للأنثى، والجبال والصخور عبارة عن رموز للقضيب. و (الحديقة) وهي رمز يتكرر ظهوره باستمرار يشير إلى الجهاز التناسلي للأنثى بينما (الفاكهة) تقوم مقام النهود لا الطفل. (والحيوانات المتوحشة) تدل على الأشخاص المنفعلي الحواس ومن ثم على الدوافع الشديدة والعواطف الآثمة. و (النور) و (الأزهار) تمثل الأعضاء التناسلية للأنثى، وعلى الأخص وهي عذراء. وبهذه المناسبة أذكركم بأن النور في الحقيقة عبارة عن أعضاء التناسل في النبات.
ونحن نعلم من قبل كيف تستعمل الحجرات كرموز، وقد نستطيع أن نتوسع قليلا من هذا التمثيل فنقول أن: (النوافذ) و (الأبواب) (وهي المداخل إلى الحجرات والمخارج منها) قد تعني فتحات الجسم، ومما يتفق. مع هذا المثيل الرمزي أن الحجرة تكون (مفتوحة) و (مغلقة). و (المفتاح) الذي يفتحها هو من غير شك رمز للقضيب.
هذه المادة لا بأس بها تصلح للدراسة الرمزية في الأحلام، وهي ليست مادة كاملة، فقد نستطيع أن نتوسع ونتعمق فيها معا. ولكني مع ذلك أظن إنها قد تبدو لكم إنها اكثر من اللازم وربما لا تجوز لديكم القبول فيتساءل الواحد منكم قائلا: (أتراني حقا أعيش وسط رموز جنسية!؟ أكل هذه الأشياء التي تحيط بي، والملابس التي ارتديها، والأدوات التي استعملها عبارة عن رموز جنسية دائما ولا شئ غير ذلك؟). وهناك في الواقع أسباب وجيهة تدعو إلى هذه الدهشة والتسائل، وقد يكون أول هذه الأسباب هو: كيف ندعي إننا نستطيع الوصول إلى معني هذه الرموز التي تظهر في الأحلام في الوقت الذي نقول فيه أن الحال نفسه لا يستطيع أن يمدنا عنها بمعلومات تذكر؟
وجوابي على ذلك إننا نستقي معلوماتنا من مصادر كثيرة مختلفة: نستقها من الأساطير والخرافات، والملح والنوادر، وقصص الأولين، أي نستقيها مما نعرف عن أقوال وأغاني(733/19)
الشعوب المختلفة والعادات والأخلاق التي كانوا عليها، ومن طريقة استخدامهم اللغة في الشعر وفي الكلام الدارج. ففي كل من هذه المجالات المختلفة نعثر على نفس الرموز، وقد نستطيع في كثير منها أن نقف على المعنى المراد بغير حاجة إلى دراسة سابقة لها. فإذا نظرنا إلى هذه المصادر المختلفة كل على حدة فسنعثر على كثير من الرموز التي تطابق ما يظهر في الأحلام يضطرنا على الاقتناع بصحة طريقتنا في التفسير.
قلنا أن الجسم الإنسان كما يقرر (شرنر) كثيراً ما يرمز إليه في الأحلام بمنزل، فإذا توسعنا في هذا التمثيل الرمزي قليلا، فأن النوافذ والأبواب والبوابات تقوم مقام فتحات الجسم، والجدر كما قلنا أما أن تكون ناعمة ملساء، أو تحتوي على بروز أو شرفات تصلح للتعلق بها. وهذا التمثيل الرمزي نفسه نراه في اللغة الدارجة، فنحن مثلا نتكلم عن (سقف من الشعر)، كما إننا نقول عن شخص ما أن (طابقه الأعلى) ليس على ما يرام. وفي علم التشريح كذلك تسمي فتحات الجسم (بالبوابات).
وقد ندهش لأول وهلة عندما نجد أن الأباء والأمهات يظهرون في أحلامنا كملوك وملكات، ولكنا نجد شبيها لهذا في (الحواديت). إلا نشعر عندما نسمع كثيراً من (الحواديت) التي تبدأ بالكلمات: (يحكي يوم أن ملكا وملكة) إنها تعني بكل بساطة (يحكي ذات يوم أن أبا وأما.)؟ كما إننا نجد الأطفال في الحياة العائلية يلقبون بالأمراء على سبيل المزاح، والأكبر فيهم يلقب بصاحب السمو. والملك نفسه يدعي أبا الشعبة، وكذلك نجد الأطفال في كثير من الممالك يتحدث الناس عنهم كحيوانات صغيرة، فيقولون مثلا: (ضفدع صغير) أو (حشرة صغيرة) كما في ألمانيا.
والآن دعونا نعد مرة ثانية إلى التمثيل الرمزي بالمنزل. إذا كنا في أحلامنا نتخذ من البروز التي في المنازل حوامل نتعلق بها إلا يذكرنا هذا بقول عامي معروف جدا في اللغة الألمانية للدلالة على المرأة ذات الصدر الناضج وهو: (لأن لها شيئاً يستطيع المرء أن يتعلق به) بينما هناك قول عامي آخر للدلالة على نفس المعني وهو: (أن هناك كثيراً من الخشب أمام المنزل). كأنما كان هذا القول على بالنا عندما قلنا في تفسيراتنا أن الخشب يرمز إلى المرأة أو الأم.
وهناك شئ آخر يجب أن يقال بخصوص الخشب، فليس من السهل أن نري على الفور(733/20)
كيف صار استخدامه للدلالة على المرأة أو الازم، ولكن المقارنة بين عدة لغات قد تفيدنا في هذه الحال. يقال أن الكلمة الألمانية (خشب) مشتقة من نفس المصدر الذي اشتقت منه الكلمة الإغريقية التي معناها المادة الخام. وهذا مثل لعملية ليست نادرة الحدوث، وهو أن اسما يدل على المادة على العموم قد صار استخدامه أخيرا للدلالة على مادة معينة فقط. والآن لعلكم تعرفون جزيرة (مادييرا) التي تقع في المحيط الأطلنطي والتي أطلق عليها البرتغاليون هذا الاسم عندما اكتشفوها لأنها كانت في ذلك الوقت مغطاة بغابات كثيفة، إذا أن كلمة في اللغة البرتغالية معناها الخشب. ولكني أحسبكم لن تغفلوا عن أن تلاحظوا أن كلمة ما نهي إلا صورة منقحة من الكلمة اللاتينية التي تدل أيضاً على المادة عموما. ولكن مشتقة من ومعناها الأم. والمادة التي يصنع منها أي شئ يمكن أن ينظر إليها على إنها قد تسببت في ولادة هذا الشيء. وعلى هذا فنحن في استخدامنا الخشب كرمز للدلالة على المرأة أو الأم إنما نحيي هذه الفكرة القديمة.
والولادة يعبر عنها غالبا بإشارة إلى الماء، فأما إننا نغوص فيه أو نخرج منه، أي إننا نلد أو نولد. وهذا الرمز يجب أن لا ننسي إنه يشير إشارة مزدوجة إلى الحقائق الثابتة في نظرية التطور. فالثدييات البرية، التي نشا عنها الجنس البشري، لم تهبط من كائنات تسكن الماء فحسب، بل أن كل ثديي، أو كل كائن حي، قد امضي الفترة الأولي من حياته في الماء - أي كجنين في السائل الأمنيوتي الذي يملأ رحم الأم وبذا يكون عند الولادة قد خرج من الماء. وأنا لا اقرر أن الحالم على علم بشيء من ذلك، بل أنني على العكس أصرح لكم إنه لا حاجة به إلى العلم، فهو في الغالب يعلم شيئاً آخر مما كان يحكي له وهو كفل، ولكني اقرر كذلك إنه حتى هذا لا دخل له في تكوين الرموز. فالطفل تقول له مربيته أن طائرا كبيرا (أبو حديج) هو الذي يقوم بإحضار الأطفال، فإذا سأل: ومن يأتي بهم؟ قيل له من البئر أو من (الفسقية) أي من الماء مرة أخرى. وقد حدث لأحد مرضاي الذين قيلت لهم هذه الحكاية وهم أطفال (وقد كان في هذا الوقت (كونتا) صغيرا أن اختفي طيلة بعد الظهر وأخيراً وجد راقدا على حافة البحيرة التي في القصر وقد انحني وجهه الصغير على صفحة الماء الرائعة وأخذ يحدق في لهفة عله يستطيع أن يلمح الأطفال الذين في قاع الماء.(733/21)
وفي الأساطير التي تروي عن ولادة الأبطال، وقد قام (أو. رانك) , بدراسة وافية لها، نجد أن التعرض للماء والنجاة منه يلعبان دورا كبيرا. وقد أدرك (رانك) أن هذا يرمز إلى ولادة بطريقة شبيهة بالطريقة المستخدمة في الأحلام. فالشخص الذي يري في الحلم إنه ينقذ أحداً من الماء، يجعل هذا الأحد أما له، أو أما على أية حال. وفي الأساطير نجد أن من تنقذ طفلا من الماء تعتبر نفسها أمه الحقيقة. وهناك نادرة تروي عن طفل ذكي من بني إسرائيل، وهي إنه عندما سئل من تكون أم موسى، أجاب على الفور: (الأميرة) فقيل له: (كلا إنها التقطته من الماء فقط) فأجاب: (هذا ما تقوله هي). وقد دل بذلك على إنه قد وقع على التفسير الصحيح للأسطورة.
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(733/22)
من ذكرياتي في بلاد النوبة:
إلى عُنيبة!!
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
ما كاد القطار يتحرك من أسوان متجها إلى الشلال. حتى أحسست وزملائي براحة لا تدانيها راحة، وهدوء لا يماثله هدوء فقد مكثنا بأسوان خمسة أيام بلياليها على الرغم منا، إذا إننا لم نجد أمكنة في الباخرة التي ستنقلنا إلى هذا المكان النائي البعيد في بلادنا المصرية.
وعجيب أن نشعر بالراحة والطمأنينة، ونحن في طريقنا إلى بلدة لا نعرف عنها شيئاً، ولا ندري من أمرها لا ما يرغب عنها مما استمعنا إليه من أفواه المتحدثين - ولكن هذا دائما شعور كل مسافر فانه يود أن يصل إلى غايته بأي ثمن.
ولا يمكنني بوجه من الوجوه أن اعبر عن مقدار الرهبة التي سيطرت علينا، والخوف الذي ملا قلوبنا عندما وصل القطار إلى الشلال. وعندما شارفنا النيل، باتساعه وروعته. . . ووقف القطار وزكمت أنوفنا رائحة الشواء العجيب. . شواء السمك، والطعمية وألوان مختلطة الملوثة بالتراب، والرمال التي تهب مع الريح من فوق السفح والجبل من هنا وهناك. .
وركبنا الباخرة البطيئة (توشكي) وهي إحدى البواخر المصرية التي استولت عليها الحكومة السودانية ظلما سنة 1925، وأخذنا أماكننا في ثلاث مقصورات متجاورة، وسارت الباخرة في الثانية مساءاً رويداً رويدا، تشق صفحة الماء في بطئ، وكأنما هي شيخ محطم أثقلته الخطوب، وآدته فوادح الزمن، فمضى يعدو، ويجمع قواه المتهدمة ويلهث ويحشرج، ومع هذه تخونه دائماً قواه، ولا يحصل من هذا كله إلا على ما يكفيه ليسير بطيئاً متئد الخطا، كأنما يجر وراءه جبال الدنيا بأرسان من حديد. .!
يا لله: إننا لا نري من هنا أو هناك، سوي جبال شامخة، ينهي تلول من الرمال. . ما أروع هذا المنظر العجيب. . جبال مسراء، وأخري حمراء قانية، وبينها رمال مناسبة منحدرة، تخالها أنهار من الذهب الوهاج.!!
وهنا وهناك على الشاطئ من الجانبين نجوع تختلف باختلاف طبيعة الأرض، فهذا نجع(733/23)
يرتفع عن شاطئ النيل بمتر أو مترين على الاكثر، ويحتضنه الجبل في حنان ودعة، كما يحتضن الأب الرحيم ولده في حرارة الشمس اللاذعة خشية أن تفتك به، وتضربه ضربة لا يفيق منها مدى الحياة.
وهذا نجع آخر يسير مع الشاطئ في تتابع وتناثر. . بيوت متواضعة متفرقة أن صح أن تسمي هذه الأكواخ المتواضعة بيوتا وتسير مع الشاطئ ألفي متر أو تزيد، بيد إنها ليست عريضة عامرة بالسكان، آهلة بالناس، ولكنها ضيقة لا تكاد ترى فيها أثراً من الحياة، اللهم إلا أشباحاً هزيلة ضعيفة، تبدو عليها آثار الفاقة، وسيما الضنى واللوعة، والأسى والهمود.
وهذا نجع ثالث تخاله ميتا لا يتنفس فيه حي، ولا يعيش فيه مخلوق، ولكن الباخرة إذا توقفت وارتفع صفيرها في الجو، انبعث الرجال والنساء من كل حدب وصوب يتلقون (القافلة). التي تسير في عرض النيل على بركة الله، تحمل لهم الزاد والمؤن، والكسى والمتاع. . أنهم ينتظرونها مرة في كل أسبوع قادمة من الشلال، ومرة أخرى قادمة من حيفا، وفيها البريد. . حتى إذا أرتفع لها في الهواء دخان، وعلى لها صوت، انطلقت الحناجر مدوية من هنا وهناك، في فرح ومرح وبشر وسرور، فهذا موعد الرسائل من الأحباب والأزواج. . . والأباء والأعمام.
أجل فأهل هذه النجوع يحيون وأكثرهم نساء مترملات أو في حكم المترملات، فهن لم يفقدن العائل بالموت، ولكنهن فقدنه بالبعد والفراق، وطول المسافة التي يضل فيها الرسول، والنوى الذي يكاد تتقطع معه في سبيل الوصول واللقاء. .
وهذا نجع رابع - ومثل كثير - مرتفع جدا، فهو على ارتفاع خمسين مترا تقريبا من سطح النيل، على ربوة مرتفعة صخرية، عليها المساكن شامخة على الرغم من حقارتها، عزيزة مع ما هي فيه من ضآلة الشان، وقلة القيمة. أن الباخرة لتقف أمام هذا النجوع كأنما هي ليست حقيرة تستجدي الاكف، وتطلب من الناس المعونة والإحسان.!
يا لله! ما اعجب هؤلاء الذين يقبلون من فوق الجبل من الرحال والنساء، والبنات والأولاد الصغار في سرعة عجيبة، يقفزون من فوق الصخور، على مسافات شاسعة، بسرعة توقعك في الحيرة والخوف، تضن بأن أحدهم سينحدر إلى الهوة العميقة لا قيامة له منها، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل. كأنما بينهم وبين هذه الصخور المحدبة الدقيقة عهد وميثاق،(733/24)
لا تؤذي أحد منهم أو تناله بمكروه. وما اعجب مظهرهم وهم يفدون زرافات ووحدانا في ثياب بيض، وعمائم مثل الثياب. تتماثل كلها في طرازها وهيئتها وحياكتها. . وما الثوب إلا قميص له جيب واسع، وأكمام فضفاضة والعمامة مكورة في ضخامة تأبى القلة، وتأنف من البخل والتقتير، ومن تحت العمامة ترى هذه الوجوه السود، وتلمع تلك الأسنان الناصعة البياض، وتلك العيون الحوراء. وتلوح من جيب القميص تلك الصدور السود. ومن اسفل القميص تلك الأرجل المفلطحة. . إنه لمنظر يستهوي الأفئدة. ويسبي العقول، وخاصة تلك السذاجة التي تدفعك دفعا لاحترام هؤلاء، أو بالحرى الرثاء لحالهم، والإشفاق بهم، والعطف عليهم اجل. فانك إذا تفقدت احوالهم، واطلعت على مواردهم، أخذ العجب منك كل مأخذ وملكت الدهشة عليك عواطف. ووجدت تنفسك متسائلا في إلحاح: من أين يعيش هؤلاء؟
لن تجد جواباً شافياً على تسائلك، سوي الإيمان المطلق والتسليم المطلق. الإيمان بالله الخالق الاكبر، والتسليم المطلق الذي لا ينسي، ومحال أن ينسي عبدا خلقه وسواه، وشق سمعه وبصره، فخالق الكون كفل الرزق والحياة لكل فرد، مادام له عمر ممدود، أجل محدود، كان من كان، صدق الله العظيم. (وفي السماء رزقكم وما توعدون).
وكأني بهذا الشيخ المقبل من نجع (السبوع) لغاية في نفسه، فما هي يا ترى هذه الغاية؟ أن منظره ليثير في النفس عوامل الأسى واللوعة، والشفقة والحزن. . إنه قد جاوز الثمانين دون ريب. . أحناه الدهر فكأنما هو قوس متحرك. يتوكأ في بطئ شديد على عصاه. وكأنما هذه العصا رجل ثالثة يدب بها على الأرض، لارتيابه في رجليه واعتقاده أنهما لم يحملاه إلى ما يريد، ومع ذلك فهو يهرول بشدة، ولكنه لا يبلغ السرعة التي يريدها ويتمناها، فأن أنفاسه منقطعة، وعبثه شديد الوطأة، اليم الخطر. .
ويلاه. . لقد وصلت الباخرة ورست على الشاطئ أمام نجع (السبوع) ووصل الشيخ المتهدم إلى المرفأ، وجلس متكئاً على عصاه أيضاً، واعتمد برأسه عليها في اطمئنان عجيب. . ولكنه لم يسافر؟ ولم ينزل إليه من الباخرة أحد؟ حتى من نزل لم يعرج عليه. . ترى أكان ينتظر بريداً؟ أم تموينًا؟ أم عزيزاً لديه من ولد أو حفيد؟ لم يبدو عليه شيئاً من ذلك، يبدو أن ملامحه كانت تنطق بشيء خفي غريب ذلك إنه يأنس بالباخرة وأصوات من فيها، ويطرب بذلك الهرج الذي يحدثه الركاب حينما تقف بين حين وحين. إنها تذكره بعهد(733/25)
الشباب والصبا، يوم كان يقفز هنا وهناك دون حاجة إلى سند أو معين، ولا افتقار إلى تلك العصا اللعينة التي تضيق عليه الخناق فهي تلازمه في كل مكان وزمان. . ومن يدري فربما تذكره هذه الباخرة بابن قد افتقده في ميعة صباه فهو يحن إليه كلما ترسو، فيقبل وكأنما ليلقي فيها أبنه الراحل، وفلذة كبده العزيز. . وأرتفع صفير الباخرة وأخذت تبتعد عن المرفأ فجمع الشيخ أطراف نفسه، وقام متحاملاً عليها، وعاد كما جاء، ولا يزال بصره عالقاً بالباخرة ومن فيها وكأنما يودعهم الوداع الأخير.
عبد الحفيظ أبو السعود(733/26)
المعبرة والتاريخ
نهاية دجال
للأستاذ حسني كنعان
ظهر منذ سبعة عشر عاماً في غوطة دمشق، إحدى جنان الدنيا، رجل أمي يدعي (طه أبو الورد) يخرج في (الطريق) على بعض مشايخ الصوفية، ثم جمع حوله من القرويين الجهالة وقطاع الطرق. فتزيا بزي العلماء وأخذ يمخرق عليهم وينشر عن نفسه الدعاوى المظللة في قرى الغوطة على يد طائفة من الاتباع الذين أذاعوا عنه الأخبار الملفقة كادعاء إنه هو النبي المنتظر في آخر الزمان الذي يطهر البشرية من أدرانها وأوشابها، وانه من الملهمين الذين يوحي إليهم، وأنه يبرئ المرضى ويحي الموتى ويطعم الجائعين، فاصبح في قريته (عربين) مليكا غير متوج، وشاد مسجدا في ضاحية القرية وجعل فيه (زاوية) له بين الخمائل الوارفة ومنحدرات السواقي والأنهار وبن الورود والرياحين، ونصب فيها كعبة مزوقة يتوسطها صندوق من زجاج فيه حجر اسود. وجعل الطواف حولها يغني عن شد الرحال إلى الكعبة في مكة، فجازت هذه الشعوذات على بعض القرويين السذج ولقيت عندهم سوقا رائجة، ونال صاحبنا بمر الأيام شهرة فائقة وصيتا بعيدا تجاوز الغوطتين الشرقية والغربية إلى جبال القلمون، وأقبل عليه الناس زرافات ووحدانا وقدموا إليه الهدايا والأموال فغني بعد فقر، واثرى بعد إملاق.
وعلم بأمره علماء دمشق فثارت ثائرتهم، وذهبوا إليه في قريته يستطلعون طلعه ليقفوا على خبره، ولكنه كان يتظاهر أمامهم بالورع والتقوى، ويدعي إنه استطاع أن يجعل من اللصوص وقطاع الطرق قوما متعبدين متنسكين بعد أن استتابهم وأصلحهم ولم يستطع أحد من الوافدين على هذا (المخلوق) أن يقف على جلية أمره.
وبدا لي أزوره في يوم الجمعة. وكان رسولي إليه من اشد اتباعه تعصبا له، وكان لا يألو جهدا في أن يحدثني - ونحن في طريقنا إليه - عن معجزاته وخوارقه، ويحذرني من الظهور أمامه بمظهر غير لائق بمقامه الرفيع أو اشك في أعماق نفسي بصدق دعوته ونبوءته، لأن الرجل يعرف خفايا القلوب وأسرار النفوس، فإذا لقي أمامه إنساناً جاحداً أو كافراً مسخه قرداً أو أبن آوى، ثم قال لي: أنت رجل (ابن حلال) حسب ما يبدو لي فأفهم(733/27)
ما قلت لك. فأجبته ضاحكاً: لا تخف، فأنا لم اقصد صاحبك إلا من احل أن اهتدي بهديه واطهر نفسي مما علق بها من الرجس، فبرقت أسارير صاحبي واطمأن إلى وطمع في رضا سيده عنه وتقريبه إليه. ولما بلغنا المكان الأقدس سمعنا أصوات المؤذنين تتجاوب بها المآذن، وشهدنا زحاماً عظيماً على بابه، فشق لي صاحبي طريقاً للوصول إلى المصلى فدخلته ورأيت الناس ما بين قائم وقاعد ومتوضئ، ودنا وقت الخطبة، فخرج على القوم شيخ هائم غائر العينين، وتراكض القرويون إليه يقبلون يده فحسبته صاحبهم وهممت أن افعل فعلهم لولا أنني سمعته يقول: استعدوا فنبيكم قادم، فأدركت إنه أحد صحابته المقربين، وما لبث الشيخ أن اقبل على مهل، وروائح الند والكافور والطيب تضوع من أردانه، فخر القوم سجدا وبكيا، فرأيت عملا بوصية ديدباني أن افعل فعلهم، ولم ادر ماذا كانوا يقولون في سجودهم غير أنني سمعت رجلا إلى جانبي يقول: (يا أبا الورد، يا منبر الظلمة في اللحود، ويا منقذ الصحب في اليوم الموعود، كن لنا شفيعا للغفور الودود)! وقد كال سجودهم ولم يرفعوا منه رؤوسهم إلا بعد دقائق عشر، ولما نهضوا تقدم فوج من النسوة يلثم الأيدي الشريفة، وتبعهن الرجال وأنا في مؤخرتهم، ومذ وقع بصره علي وصافحت عيناه عيني حد جنبي بطرف موقر وأدرك بثاقب بصره أنني ما أتيت متجشماً المصاعب إلا من اجل الوقوف على رجليه أمره، فتظاهر أمامي بالورع والسذاجة وابدى لي الاحترام ورحب بي، وصعد المنبر وأخذ يتدفق في خطابه تدفق السيل وأورد من الأحاديث العجيبة ما لم يسمع به إنسان، ولو أن (سيبويه) سمعه لفضل الموت انتحاراً. .
وبكى المستمعون ما وسعهم البكاء، وبدا لهم بثوبه الأبيض الناصع الحريري، وعمامته الضخمة المكورة على رأسه والمنتهية بعذبة طويلة كأنه ملك من الملائكة. . واختتم خطبته ونزل إلى الصلاة وهم يتسابقون إلى التمسح به والسعيد منهم من حظي بلمس طرف ردائه، ووقف للصلاة وسبحته الطويلة تهتز على صدره، ويبدو الكحل في عينيه خطوطا سوداء براقة، وما كاد يقرأ الفاتحة حتى اهتز القوم طربا لبراعته بالتلحين والتطريب حتى كدت احسب إنه يغنى (العتابا) أو (الميجانا) وانبعثت من حناجرهم الفولاذية الصرخات المدوية، وأخذوا يبكون في الصلاة ويجهشون في البكاء ويقفزون في الهواء قفزات بهلوانية ويقلدون أصوات الحيوانات فكنت لا اسمع إلا الثغاء والمواء والعواء والجئير والزئير(733/28)
والهدير. ففت في ساعدي واسقط في يدي وهممت أن انفلت من بين الصفوف هاربا ولكني خشيت سوء العاقبة، وقضيت الصلاة بعد ساعة شعرت فيها أن الأرض قد دارت بي مما اعتراني من الإعياء والتعب، فلقد كان يطيل ركوعه وسجوده ويتنطع ويتقعر في القراءة، وتلمست طريقا للخلاص متسللا من بين الصفوف دون أن يشعر بي أحد ناجيا بنفسي، وفور وصولي إلى دمشق أذاعت في الصحف نبأ ما سمعت وما رأيت محذرا أولي الأمر والرأي العام من خطر هذا الأفاك الأثيم، فلم تلق صرخاتي آذاناً صاغية ولا قلوبا واعية لأن الحكومة الفرنسية كانت تشجعه وتشجع أمثاله وتلقي لهم الحبل على الغارب وبقي هذا الطاغية يعبث بعقول السذج البسطاء من اتباعه فيسلبهم العقل والمال والعرض منذ بدء العهد به حتى يومنا هذا. وقد مد الله ليتيح له فرصة التوبة ولكنه لم يتب برغم بلوغه الستين من العمر، فأخذه أخذ عزيز مقتدر، وألقي الرجل منذ أيام في غياهب السجن بين جدران حاشرة لا يري فيها النور الشمس، وها هو ذا اليوم يدان بفضيحة جديدة تثبت سطوه على أعراض النساء اللواتي كن يستسلمن له، فضيحة جرت فضائح، كان لها ريح خبيث، ودوي مزعج، وصور لا يستطيع أن يرسم أفحش منها إبليس نفسه.
ولقد ثار العلماء وأعلنوا البراءة منه ومن امثاله، ونرجو أن يكون مصيره عبرة لكل ممخرق يريد أن يخدع الناس باسم الصوفية والدين، فحسب الشريعة البيضاء النقية، ما أصابها من سواد، وما مسها من عكر!
دمشق
حسني كنعان(733/29)
كتاب مقاييس اللغة لابن فارس
للأستاذ حامد مصطفي
تكثر المخطوطات العربية في مكتبات أوربا كثرة تدعو إلى الالتفات إلى هذه الثروة العظيمة من أدب العرب وتاريخ العرب وعلوم العرب. ومهما كانت الوسائل التي اجتمعت بها هذه الثروة في خزائن الكتب الغربية فأن هناك ما يبرر الارتياح إلى انتقالها إلى تلك البلاد. ذلك أن النهضة العلمية التي قامت في أوربا على أثر اختفاء نور الحضارة العربية كانت مأخوذة بالحرص على أسباب النهضة ومقومات الثقافة فوجدت في هذه الكنوز العربية ما يغذي الحركة العلمية ويؤلف عنصراً مهماً من عناصر البحث فأقبلت عليها درساً واهتماماً وحاطتها بكل أسباب العناية والحفظ.
هذا على حين كانت العقلية العلمية في الشرق على الضد من ذلك: فتن وقلاقل وغزوات وانشغال بهذه الحوادث عن العلم والأدب والفنون، فهجر العلماء والأدباء موطنهم وفقدوا خزائن كتبهم بسبب هذه الهجرة واغتصبت منهم أحياناً فأحرقت أو رميت في الأنهار. وما أصاب خزائن الكتب الغربية لم يكن إلا بقايا هذه الكتب التي بعثرت في الأرض فأخذت أيدي الصبيان والجهلة أو استخلصت من لهيب النيران.
وربما كان أول البلاد التي فقدت ثروتها من الكتب العراق وسورية وأحسنها حظا في هذا مصر، والحوادث السياسية والاجتماعية هي التي تؤول أسباب فقر ذنيك البلدين من الثروة العلمية وحسن حظ هذه منها. على أن الأيام قد عادت بنا إلى الأمل بإمكان العثور على بعض من الكتب القيمة التي لم يكتب لها حظ الطبع والانتشار. ففي بعض المكتبات الشخصية في العراق يمكننا أن نجد مخطوطات تعد في طليعة الكتب العربية أثراً وفائدة، منها كتاب العين للخليل بن أحمد وكتاب المحيط للصاحب بن عباد، والمجمل لابن فارس وغيرها ومن بين هذه كتاب المقاييس في اللغة لابن فارس. ولابد من الكلام على شئ من سيرة أبن فارس مع الكلام على مؤلفه الذي نحن في عرض ذكره. فهو أحمد بن فارس الرازي. ينسب إلى الري. عاش في أواسط القرن الرابع الهجري ومات سنة 395 عاصر الصاحب بن عباد وابن جني وأخذ عنه بديع الزمان الهمذاني الأسلوب المعروف بأسلوب المقامات. وفي عصره ظهر مؤلفو المعاجم الأولى مثل الصاحب بن عباد صاحب المحيط(733/30)
والجوهري صاحب الصحاح والأزهري صاحب التهذيب. . وكان أديبا حسن الأدب والشعر ومن شعره قوله:
وقالوا كيف أنت فقلت خير ... تقضي حاجة ويفوت حاج
إذا ازدحمت هموم القلب قلنا ... عسي يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وسرور قلبي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج
وقوله:
إذا كان يؤذيك حر الصيـ ... ف وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيـ_ع فأخذك للعلم قل لي متى
ومن لطيف نظمه قوله:
يا دار سعدي بذات الضال من أضم ... سقاك صوب حيا من واكف العين
إني لأذكر أياماً بها ولسنا ... في كل إصباح يوم قرة العين
تدني مشعشعةً منا معتَّقة ... تسحها عذبة من نابع العين
إذا تمزّزها شيخ به طرَق ... سرت بقوتها في الساق والعين
والإبريق ملآنُ من ماء السرور فلا ... تخشى توله ما فيه من العين
وَغاب عُزّالنا عنا فلا كدر ... في عيشنا من رقيب السوء والعين
يقسم الودّ فيما بيننا قسماً ... ميزان صدق بلا بخس ولا عين
وفائض المال يغنينا بحاضره ... فنكتفي من ثقيل الدين بالعين
والمجمل المجتبي تغني فوائدُه حفاظه ... عن كتاب الجم والعين
ولست تجد شيئاً عن أبن فارس اكثر من مثل هذه الأخبار المتناثرة شانه من هذا شان كثير ممن يترجم من رجال اللغة خاصة، ومن مؤلفاته عدا كتاب المقاييس كتاب المجمل وهو اشهر كتبه، أخذه سماعا عمن تقدمه من علماء اللغة الذين يثق بهم. وكتاب متخير الألفاظ، وكتاب فقه اللغة، وكتاب الصاحبي في اللغة صنفه للصاحب بن عباد وهو مطبوع بمصر، وكتاب نقد الشعر وغيرها من الكتب المفقودة أو الموجودة في بعض المكتبات المصرية أو الأوربية. وكتاب المقاييس من أهم مؤلفات أبن فارس في اللغة. وقد ذكره له السيوطي في كتابه المزهر وياقوت في معجم الأدباء. ولم يذكره له صاحب وفيات الأعيان من المتقدمين(733/31)
ولا الأستاذ جرجي زيدان من المتأخرين في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية، وإنما عرض له في الجزء السابع من مؤلفه هذا في مناسبة الكلام على بعض المكتبات العربية في العراق. وكتب الأستاذ عبد القادر المغربي في مجلة المجمع العلمي العربي إنه عثر على نسخة من كتاب مقاييس وذكر أوصاف هذا الكتاب ورسمه وحجمه ولكن هذا الوصف لا يصدق على النسخة التي نكتب هذه الكلمة عنها ربما كانت النسخ التي رآها ليست كتاب المقاييس أو إنها إيجاز له. فقد قال إنها تبلغ 779 صفحة وهي بقطع دون المتوسط وخطها من النسخي الحسن الصغير الحروف وفي الصفحة الواحدة 27 سطرا. على حين أن النسخة التي نتكلم عليها تقع في 1200 صفحة من القطع الكبير في كل صفحة 27 سطرا يبلغ السطر بين 16 - 21 كلمة بخط نسخي جميل.
وفيما يلي فاتحة الكتاب وخاتمته لتمتاز بهما النسخة الحقيقة كم هذا الكتاب الجليل:
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله وبه نستعين. وصلى الله على محمد وآله أجمعين. أقول وبالله التوفيق. للغة العرب مقاييس صحيحة وأصول تتفرع منها فروع. وقد ألف الناس في جوامع اللفظ ما ألفوا ولم يعربوا في شئ من ذلك عن مقاييس ولا اصل من تلك الأصول والذي أومأنا إليه باب من العلم جليل وله خطر عظيم. وقد صدرنا كل اصل بأصله الذي يتفرع منه مسائل حتى تكون الجملة الموجزة شاملة للتفصيل ويكون المجيب عما يسال عنه مجيبا عن الباب المبسوط بأوجز لفظ وأقربه. وبناء الأمر في سائر ما ذكرناه على كتب مشتهرة عالية تحوي اكثر اللغة. فاعلاها وأشرفها كتاب أبي عبد الرحمن بن احمد المسمى كتاب العين.
اخبرنا به علي بن إبراهيم القطان بعد أن قرأ عليه قراءة. وقال حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم المدني عن أبيه إبراهيم بن إسحاق عن ميدان بن كبرة الأصبهاني ومعروف بن حسان عن الليث. ومنها كتابا أبن عبيد في غريب الحديث ومصنف الغريب حدثنا علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد. ومنها كتاب المنطق. اخبرني به أبي ووالدي فارس بن زكريا عن أبي نصر أبن أخت الليث بن إدريس عن الليث عن أبن السكيت. ومنها كتاب أبي بن دريد صاحب الجمهرة. أخبرنا به أبو بكر محمد بن أحمد الأصفهاني علي بن أحمد المساوى عن أبي بكر. فهذه الكتب الخمسة معتمدنا فيها. ومنها استنبطنا كتابنا هذا المقاييس(733/32)
اللغة وما بعد هذه الكتب فمحمول عليها وراجع إليها حتى إذا وقفنا على شيء فيها نسبناه إلى قائله أن شاء الله فول ذلك كتاب الهمزة 220 وخاتمة الكتاب تنتهي هكذا:
(قال الشيخ الإمام الأجل السعيد أبو الحسين أحمد بن فارس واجزل له الثواب. قد ذكرنا ما شرطنا في صدر الكتاب أن نذكره وهو صدر من اللغة صالح فأما الإحاطة بجميع كلام العرب مما لا يقدر عليه إلا الله تعالي أو نبي من أنبيائه عليهم السلام بوحي الله تعالي وعز إليه. . . والحمد لله أولاً وأخراً وباطناً وظاهراً والصلاة والسلام على رسوله محمد واله الطيبين الطاهرين أجمعين والحمد لله رب العالمين. تم على يد أفقر العباد وأحوجهم إلى رحمة ربه الغني خليفة بن يوسف النجفي في يوم الجمعة 18 رجب المرجب من شهور سنة 1117 (كذا) وألف 22.
والطريقة التي اتبعها أبن فارس في تأليف هذا الكتاب الطريقة الأبجدية وذلك أن المؤلف أراد أن يتجنب العيوب التي تتعرض لها الخليل في ترتيب كتاب العين ووقع معه فيها اكثر مؤلفي المعاجم اللغوية حتى ظهور الصحاح للجوهري. مثل الهروى وأبي عمرو الشيباني في كتابي الجيم والجمهرة لابن دريد والأزهري في التهذيب وأبن سيده في كتابه المحكم.
والترتيب الذي اتبعه أبن فارس في المقاييس هو الترتيب الأبجدي الذي يلتزم أحداث كتب بعدد الحروف الأبجدية ثم إنشاء أبواب تحتها بعدد هذه الحروف ناقصا ما سبق منها ترتيبه، ترتب الكلمات فيها على الأصل الثلاثي بحسب ترتيبها الهجائي، ينقص من هذه الأبواب بطبيعة الحال مالا وجود له من الأصول في اللغة ومما لا يراه المؤلف صحيحا (وقد شرطنا في أول كتابنا هذا أن لا نقيس إلا الكلام الصحيح). مثال ذلك كتاب الهمزة. فانه يبدؤه بالهمزة ومضاعف ما بعدها وهو الباء مثل الأب وأت وأث وأج وأح حتى يستوفي جميع الحروف، ثم يحدث بابا للثلاثي الذي أوله همزة مثل أبت وأبث وأبد وأبر. . الخ وبابا للثلاثي الذي أوله الهمزة والتاء وما يثلثهما مثل أتل وأتم. الخ وبابا ثالثا الذي أوله الهمزة والثاء والراء وما يثلثهما مثل أثر وأثل وأثم وأثن وأثوي. وبابا للثلاثي الذي أوله الهمزة والجيم وما يثلثهما مثل أجح وأجد وأجر وأجص وأجل. . . الخ وهكذا يجري المؤلف حتى يستوفي حرف الهمزة وما يكمل معه الأصل الثلاثي متبوعا بغيره. وبعد أن(733/33)
يفرغ من باب الهمزة ينشئ كتاب الباء ويستوفيه على النحو الذي استوفي فيه كتاب الهمزة. وكذلك يفعل حتى يأتي على عدد من الكتب بعدد حروف الأبجدية متروكا منها ما لا اصل له في اللغة. والطريقة التي يسلكها في شرح الألفاظ هي الطريقة القاموسية التي تعطي لكل لفظ ما له من معني مع شئ من الشواهد وتصنيف المعاني ما وجد إلى التصنيف سبيلا. وبذلك فهو يجمع بين طريقة المعجم الخالصة وطريقة فقه اللغة. مثال على ذل قوله في أول كتاب الباء بت. الباء والتاء له وجهان واصلان أحدهما القطع والآخر الضرب من اللباس. فأما الأول فقالوا البت القطع المستأصل، يقال بتت الحبل وابتت. ويقال أعطيته هذه القطعة بتاً بتا وألبتة اشتقاقه من القطع غير إنه مستعمل في كل أمر يمضي ولا يرجع فيه. يقال انقطع فلان عن فلان فابتت وانقبض، قال شعر
فحل في جشم وابتت منقبضاً ... بحبله من ذري الغر القطاريف
قال الخليل أبت فلان طلاق فلانة أي طلاقاً باتاً. . الخ
وكذلك كلما جاء على اصل من الحروف تتبع له أصوله وان لم يجد له أصلا أو لم يره نبه على ذلك بمثل قوله: بخ الباء والخاء قد روي فيه كلام ليس أصلاً يقاس عليه وما أراه عربيا وهو قولهم عند مدح الشيء بخ وبخبخ فلان إذا قال ذلك مكررا له. وإذا شذ عن الأصل لفظ عرف بهذا الشذوذ بمثل قوله: وقد شذ عن هذا الأصل كلمتان: قولهم للرجل العظيم الخلق ابد. قال شعر: ألد يمشي مشية الأبد.
حامد مصطفي
عضو في مجلس التمييز الشرعي(733/34)
من وراء المنظار
ولكنني كسبت القضية!
هي قضية اعرضها عليك يا قارئي العزيز بعد أن كسبتها على حد تعبير حضرات المحامين. . .
واحب أن تعلم قبل أن أحدثك عن القضية أنني رجل لا أطيق أن أرى مخلوقا في موطن مواطن الضعف أو المذلة، ولقد يجبهني شخص بما لا أحب فافضل ذلك على أن أراه يستعطف ويبكي؛ ولقد احب من أحد تلاميذي أن يكلمني في شيء من أن يجهر لي بالقول، ولا أحب منه أن يستخزي ويضعف ويستكين. . .
ومن أراد أن يزحزحني عن شيء عقدت الشيء على ألا أتزحزح عنه، ومن أراد أن يستلب مني شيء وهو عزيز على أن كان ثمة عندي ما يستلب، فليأت إلى ثم فليتصنع الضراعة وليظهر التفجع والتوجع فانه إذ ذاك يراني تراجعت تراجعا عجيبا ثم ليجهش إجهاشه واحدة فعندئذ يراني قد سلمت تسليما. . .
وليغفر لي القارئ إسرافي هذا الحديث عن نفسي فما كنت لأفعل لولا إنه يتصل بسبب قوي من قضيتي التي أريد أن أتحدث عنها. . .
دخلت على أحد ذوي قرباى في بيته وهو ممن يشغلون أحد المناصب الكبيرة، فلمحت في وجهه من إمارات الغضب والتكره ما لم أرى مثله من قبل في هذا الوجه السمح وما كاد يراني حتى ابتدرني بقوله: ادخل هذه الحجرة فستجد سيدة مع زوجتي فأخرجها وإياك أن تبطئ أو تتهاون.
فدخلت الحجرة مندهشا، فإذا بي تلقاء سيدة في حدود الأربعين غارقة في دموعها كما يقولون، ويقطر من منديلها الدمع وتسح عيناها سحا وتجهش حتى لا تكاد تبين الكلام، والى جوارها ابنة لها في نحو الخامسة عشر حسناء رائعة لولا ذبول وصفرة في محياها ونحول في بدنها، وطفلان أحدهما في العاشرة أو فوقها قليلا والثاني طريدة في العمر، وكانت البنت تجهش لإجهاشات أمها والطفلان ينظران في دهشة وألم يمسح كبيرهما عينه بمنديله.
وعلمت أن زوج السيدة مختلس، وان التحقيق أدانه، وإن زوجته باعت حليها وأدت عنه ما(733/35)
اختلس، وإنها علمت إنه سيطرد من عمله وان قريبي هو الذي أعد مذكرة يقترح فيها الطرد؛ وأخرجت السيدة صورة طفلين آخرين من أولادها وقالت ماذا نصنع جميعاً والي أين نذهب؛ ثم أجهشت إجهاشة طويلة أستفرغت فيها كل المها ووضعت بنتها وجهها بين كفيها وشهقت شهقة طويلة.
وما وقعت والله عيناي على صورة الطفلين الصغيرين، وما سمعت بكاء الأم وبنتها حتى انخلع قلبي وأحسست بالدموع تتساقط على وجنتي ساخنة وأنا لا ادري ماذا أقول، وما أحسبك أيها القارئ إلا تحبس دمعك في جهد الآن أو لعلك تسخر مني وتضحك من ضعفي سامحك الله. . .
واستبطاني قريبي فناداني، فخرجت إليه وأنا على هذه الحال، ورحت أتوسل إليه أن يخفف العقاب، قائلا ما ذنب هؤلاء وأين تذهب هذه البنت؟ وكيف تطعم هؤلاء الصغار؟
ونظر إلي طويلا وهو يتفكر ثم قال: (ولكنه مختلس وانه يسلب حق المجتمع، أنني تلقاء اختلاس محض. . . ألم يكن يعلم هذا المختلس السافل أن له زوجة وأطفالاً؟)
وقلت ناشدك الله أن تعفيني من سماع هذا كله - ماذا يصنع هؤلاء وما جريرتهم؟
وتنهد وقال أنت لا تصلح أن تكون قاضيا. فقلت يرحمك الله ما سالت أحد أن يجعلني قاضيا، ولو أعطيت إضعاف ما أعطى أجراً على عملي ما قبلت أن أكون قاضيا ولا فقد أطلقت كل مستعطف ودفعت ما اقبض من اجر لكل باك متوسل.
وضحك قريبي وقال: لم ارفع المذكرة إلى الوزير بعد وسأقترح خصم نصف مرتبه وإنذاره بالرفت. . .
وأسرعت إلى الحجرة فما كدت أفضي إليها بهذا النبأ حتى أقبلت على تريد أن تقبل يدي، فحلت بينها وبين ذلك في رفق ثم سألتها كيف تعيش الشهر بنصف المرتب؟ فقالت (وعد إخوانه إن وصل الأمر إلى هذا أن يجمعوا له إعانة. . . ولكني لن ارضي بهذا وسوف أبيع صيوان الملابس.)
وخرجت ولست انسي أبداً نظرة الشكر في عينها وعيني بنتها، وعدت إلى قريبي فنظر إلى يسخر من ضعفي وأعاد على قوله: أنت لا تصلح أن تكون قاضيا. . وابتسمت وأجبته ولكنني كسبت القضية.(733/36)
وإياك أن تسخر من ضعفي أيها القارئ، وخير ما أرجوه لك أن تكون ضعيفا مثلي وان لم تبلغ في الضعف حد البكاء.
الخفيف(733/37)
تعقيبات
جناية أدبية
لكل شئ في مصر حمي يرعى من رادع القانون أو زاجر الضمير أو
حرمة التقاليد إلا مسالة الملكية الأدبية، فإنها لا تزال كالكلأ المباح
ينتبه الناهبون تحت سمع الناس وبصرهم في غير تحرج ولا تأثم،
وكان أثر الفكر، وهو الغالي العزيز، كتب عليه في هذا البلد أن يكون
كالطفل اللقيط، يصح لأي عقيم من الناس أن يتبناه. . .
على أني قد استسيغ انتهاب الأثر الفكري يتأتى من جاهل يريد أن يتحلى بالانتساب إلى العلم، لأنه يكون كجرم من عالم إذا يسرق ليأكل، ولكن كيف يستساغ هذا الجرم من عالم يجب أن يتحلى بأمانة العلم وكرامة العلماء، وبخاصة إذا وقع من الحي نحو الميت، ومن الصديق مع الصديق، وكان الأمر في هذا معلما لسائر الناس؟
وهذه قصة من قصص الجنايات الأدبية التي تقع كثيراً في مصر، ولكنها غريبة في أطوارها مريبة في تفصيلها، وان الأمر فيها ليتجاوز كل ما ألف الناس في هذا السبيل.
يرجع الفصل الأول من هذه القصة إلى اكثر من عشرين عاما مضت، إذ كان أستاذنا وصديقنا الأستاذ محمود مصطفي رحمة الله عليه قد تملكته الرغبة في نقل كتاب قصص اللغة العربية بأسلوب جزل يقوي ملكة الإنشاء في الشباب ويقوم ألسنتهم في التعبير، وما كان الأستاذ محمود مصطفي يعرف لغة أجنبية، أو قل إنه كان لا يدرك من ذلك القدر الذي يعينه على النقل والترجمة، ولكنه رأى أن السيد مصطفي لطفي المنفلوطي وهو أيضاً لم يتعلق بلغة أجنبية قد نقل إلى العربية عدة روايات عن الفرنسية وغيرها، إذ كان يعتمد في هذا على مترجم ينقل له نقلا حرفيا، ثم يأخذه فيصقله صقلا عربيا مبينا، بعد أن يتصرف فيه على هواه ويجري به في السرد كما يرى، ومن ثم قوبلت روايات المنفلوطي بالارتياح والتقدير من ناحية أسلوبها العربي ولكنها قوبلت بالاستنكار من ناحية ارتباطها بالأصل الأجنبي، حتى قال أحد الأدباء أن من الخطأ والإسراف أن يسمي المنفلوطي عمله هذا نقلا وترجمة وإنما الأحرى أن يسميه مسخا وتشويها.(733/38)
ثم كان أن نهض الأستاذ الزيات (صاحب الرسالة) بترجمة (رفائيل) و (آلام فارتر) عن الفرنسية بأسلوب عربي هو أسلوب الزيات، وفي رعاية دقيقة للأصل الأجنبي مكنه منها حذقه للغة الفرنسية، فقوبل هذا العمل ببالغ التقدير والثناء في الدوائر الأدبية؛ وكان هو الباب الذي دخل منه الزيات) إلى ما بلغ من مجد أدبي.
وعلى نهج الأستاذ الزيات أراد أن يسير الأستاذ محمود مصطفى في تنفيذ رغبته، وان يراعي في نقل الكتاب الذي يريد نقله دقة الارتباط بالأصل الأجنبي حتى يتقي ما وجه إلى المنفلوطي من نقد وان يكسب ما كسب الزيات من تقدير، وقد كان المختار (يوميات الفيلسوف القانع) واعتمد على الأستاذ اسعد عبد الملك - وكان زميلا في وزارة المعارف - في نقل هذا الكتاب نقلا حرفيا، ثم ترك أهله وداره وسكن مصر الجديدة ليتفرغ إلى صقل الكتاب في الأسلوب الذي يريد، وقد تم له ما أراد وظهر الكتاب في طبعته الأولي وعليه اسم الأستاذ محمود مصطفي - وفيه الأسلوب وروحه وجهده، والي جانبه اسم الأستاذ اسعد عبد الملك الذي نقله عن الفرنسية نقلا حرفيا. . . وكان الأستاذ محمود مصطفي شديد الاعتزاز بهذا الأثر، وكان يحدثني كثيراً عما لاقي فيه من العناء، وقال لي: لا تحسب يا فلان أن الترجمة الصحيحة عمل سهل، بل إنه عمل اشق من التأليف. . .
وفي هذه الأيام ظهر كتاب (يوميات الفيلسوف القانع) في طبعة ثانية، ولكنه يحمل اسم الأستاذ اسعد عبد الملك وحده، ويعلل حضرته هذا الاستئثار بملكية الكتاب بأنه أولا رأى أن أسلوب الكتاب في طبعته الأولى أشبه بأسلوب الجاحظ وابن المقفع وكتاب الصدر الأول فعمد إلى تبسيطه وحذف ما فيه من كلمات وتعبيرات رآها غريبة عميقة مما لا يناسب روح العصر كما يقول، ومن جهة ثانية لأن الأستاذ محمود مصطفي نزل له عن الإسهام في الترجمة بعقد مؤرخ في 5 - 9 - 1927م.
أما مسالة تغيير الأسلوب فانه جناية على الأستاذ محمود مصطفي لأنه مسخ لجهده، وجناية على الكتاب لأنه حط قيمته، على أني قابلت بين الطبعتين فلم أر هذا التغيير إلا في كلمات وتعبيرات كان الأستاذ محمود مصطفي يشرح معناها، فحسبها صاحبنا غريبة لا تلائم العصر.
أما مسالة العقد فقد حدثني الأستاذ محمود مصطفى رحمة الله إنه لما فرغ من الكتاب اتفق(733/39)
مع زميله على أن يتقاضى منه قدرا من المال وينزل له عن الحق المادي فيه ليتولى هو تصريفه وجمع نقوده لأنه لا يصبر على المساومات المادية، وقد كان هذا شأن الأستاذ محمود مصطفى في جميع ما ألف من الكتب، وهب أن الأستاذ مصطفى نزل عن حقه الأدبي فهل يكفي هذا العقد لنقل هذه الملكية، وهل يصح يا أخي لدور النشر التي تشتري حق تأليف الكتب من المؤلفين أن ترفع أسماءهم من عليها وتدعي إنها من تأليفها وعبقرية أموالها؟!
إنه الواقع عمل غير مستساغ، إنها تجارة بأكفان الموتى إنها جناية أدبية أضع تفاصيلها تحت الأنظار ليرى الناس فيها رأيهم.
أستاذي يا صاحب الرسالة. أرجو ألا تغير حرفا من هذا الكلام فيما يخصك أو يخص غيرك، فانه حق الأدب والتاريخ، وإني لأكتب للأدب والتاريخ، وقد عاش الأستاذ محمود مصطفى يقاسي أهوالاً من الجحود، وأنا لا ارضي - وأنا تلميذه الوفي - أن يلاحقه هذا الجحود في قبره، نضر الله قبره، ورحمة رحمة واسعة. . .
ولكنها الأوضاع المقلوبة:
كتب صديقنا الأديب الأستاذ (وديع فلسطين) في جريدة الإنذار التي تصدر بإقليم المنيا يقترح على جامعة فؤاد الأول أن تأخذ بتلك السنة التي استنتها الجامعات الغربية بمنح الأفذاذ من العلماء والساسة درجة الدكتوراه الفخرية دون أن تكفلهم أعداد رسالة خاصة أو أداء امتحان شفهي كما يحدث مع سائر الذين يظفرون بالدكتوراه.
وبعد أن سرد الأديب أسماء بعض العظماء الذين منحوا الدكتوراه الفخرية من الجامعات الغربية والأمريكية مثل الرئيس ترومان والمستر مارشال والمستر بيفن والدكتور تشارلس واطسون والدكتور فارس الخوري ممثل سوريا في مجلس الأمن قال: (أما في مصر فلا نكاد نشعر بأن جامعاتنا تقدر هذه الدرجة الفخرية، ولذلك لم تمنحها إلا إلى أفراد لا يتجاوز عددهم ثلاثة أو أربعة مع أن في مصر عشرات من الأدباء والعلماء والساسة الذين يخلق أن تفكر الجامعة في منحهم الدكتوراه الفخرية أمثال الأساتذة عباس العقاد وفؤاد صروف واحمد أمين واحمد حسن الزيات وأنطون الجميل باشا وخليل ثابت بك وخليل مطران بك ومحمود تيمور بك وإسماعيل صدقي باشا وعبد العزيز فهمي باشا، فأن جميع هؤلاء(733/40)
وغيرهم يستحقون عن جدارة أن تكرمهم الجامعة هذا التكريم الرمزي بأن تمنحهم شهادة الدكتوراه الفخرية اعترافا منها بالخدمات الجليلة التي أسداها كل منهم في ناحية من نواحي الحياة العامة).
وهذا اقتراح حميد في ذاته، وأنا أرجو أن تأخذ الجامعة بهذا التقليد، لا لأن الدكتوراه سترفع من قيمة هؤلاء الأساتذة، بل لأنه سيكون دلالة على أن الجامعة عندنا قد نضجت وإنها تحسن تقدير القيم الفكرية وتعترف للموهوبين بمواهبهم، وإلا فإن هؤلاء الأساتذة قد أخذوا مكانتهم في تقدير الأمة وفي تقدير الأجيال القادمة، ولن تستطيع أية دكتوراه في العالم أن تفرض لإنسان مكانة في هذا وان فرضت له مكانة في وظائف الدولة وأفسحت له مكانا في مكاتب الحكومة. . .
ولكني أرجو أن لا يتم هذا التقليد في هذه الاونة، لاننا في وقت أفسدت فيه السياسة الحزبية عندنا كل تقدير وكل تصرف، ولعل لنا في مسالة اختيار الأعضاء لمجمع فؤاد اللغوي اكبر عبرة، فقد رأينا كيف يختار فلان وفلان أعضاء في هذا المجمع، على حين ينسي ويهمل الذين هم أهل لهذا من العلماء والأدباء، ولولا أن أكون معيبا - كما يقول شيخنا الجاحظ - لضربت بالقول رأس فلان وفلان ممن لا يصح أن يكونوا من أهل هذا المجال قلامة ظفر، ولكن السياسة الحزبية أصرت على أن تربطهم رغم العلم والأدب بهذا المجال.
وكذلك الشان لو أن الجامعة أخذت بهذا التقليد المقترح، فإني أتوقع أن تجري الأمور على ما عرفنا وألفنا، وسينال الدكتوراه الفخرية كل من هو على شاكلة فلان وفلان، ولن ينالها أولئك الأدباء والعلماء والساسة الذين ذكرتهم.
يا سيدي. اترك الملك للمالك كما يقول أبناء مصر، وانشد مع المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا
بها نبطي من أهل السواد ... يدرس انساب أهل الفلا
فنحن في كل أمورنا ما زلنا نأخذ بهذه الأضحوكة، نجعل تدريس انساب العرب لكل نبطي أعجمي من أهل السواد، ونعوذ بالله من انعكاس الأوضاع، وانتكاس الأوجاع.
(الجاحظ)(733/41)
الأدب والفن في أسبوع
بين الشبان والشيوخ:
مسالة الشيوخ والشبان في الأدب بمصر، مسالة قديمة ظهرت بوادرها منذ سنين، إذ هب بعض أدباء الشباب يعلنون أن الشيوخ يستأثرون بمجالات الأدب، ويتجاهلون الشبان، ويسدون عنهم الطرق؛ وقامت إذ ذاك معركة كان هجوم الشباب فيها عنيفا، ودفاع الشيوخ متثاقلا غير مكترث. . وسكن عجاجها، ولكن دواعيها وآثارها بقيت كامنة، تبدو في أحاديث المجالس وخاصة بين الشباب، وتحجم عن الظهور في كتابة منشورة، لأن فرقاً الشباب قد انطووا تحت ألوية الأدباء الكبار، وخاصة من رأوهم بحيث يقدمون ويؤخرون، وينفعون وقد يضرون. . . ومن الشباب من لم يستطيع أن يعلن ثورته، لأن المشرفين على النشر من الشيوخ لا يمكنون له، أما مجاملة، أو لأن ما يكتب يند عن اللقيان.
استقرت الحال على ذلك، ودامت الهدنة طيلة السنين الماضية، ولكنها الآن أعيدت جذعة. . . فمن آثارها؟ أهو الدكتور طه حسين بك في (هلال) يونية الماضي، أم الأستاذ سيد قطب في (العالم العربي) هذا الأسبوع؟
قال الدكتور طه في مقاله بالهلال: أن الشباب يقولون للشيوخ أفسحوا لنا الطريق إلى الأدب والعلم والفن، والشيوخ لا يصدون الشباب عن أدب أو علم أو فن، وتساءل: أليس من الممكن أن يكون ينفسه الشباب على الشيوخ إنما ما قد ينتجه الأدب والعلم والفن من إقبال الناس على الشيوخ اكثر مما يقبلون عن الشباب؟ وقال أن الشهرة لا تكسب ألا بالعمل الشاق، والمال يسعى إلى العاملين وهم اشد مما يكونون ابتذالا له واستهزاء به. والشيوخ في طريقه إلى الراحة الموقوتة أو الدائمة، والشباب في طريقهم إلى أن يأخذوا مكان الشيوخ، والذوق كل الذوق ألا يتعجل الأبناء مصارع الاباء، والخير كل الخير أن تقوم الصلات بين الأجيال على المودة والحب لا على التنافس الذي يحفظ القلوب ويفسد الضمائر.
مر هذا الكلام عابرا سالما أربعين يوماً، ولكن الأستاذ سيد قطب عده اعتداء على دولة الشباب، فأعلن بدء المعركة بين الشبان والشيوخ في العدد الأخير من مجلة العالم العربي، قال إنه يواجه الدكتور وسائر الشيوخ بالحقيقة التي يحسها الشبان ويرددونها في ندواتهم(733/43)
ومجامعهم: إن هذا الجيل من الشيوخ قد تخلى عن امانته، لا لذلك الجيل من الشبان فحسب، ولكن للوطن، وللمجتمع، وللإنسانية، وأخيراً للضمير الأدبي كله).
وبين هذا التخلي عن الأمانة بأن شيوخ الأدب لم يرعوا قضايا الوطن المعلقة في خلال الحرب الماضية، وإنما انصرفوا إلى الدعاية لقضية المستعمرين في الإذاعة والصحف والكتب ابتغاء الذهب، وإيثاراً للذائذ الخاصة على مصائر الأوطان ومصالح الأقوام.
ولما وضعت الحرب أوزارها لم يكونوا في نصرة الشعوب العربية التي نهضت تطالب بحقها، ولم يكونوا في الميدان القومي، بل كانوا في ميدان الحزبية أبواقاً لها. . . ولم يناضلوا لتحقيق العدالة الاجتماعية إلا قلة منهم استجابي في تخاذل لهتاف الشعب، واندفعت الكثرة وراء أرستقراطية مصطنعة تتظاهر بها، ووراء رخاء مادي تناله من ذوي السلطان والثراء، ثم قال: (هجرتم صحفكم الأدبية العلمية النظيفة، ورضيتم صحفا أخرى، وواعدتمونا هناك، حيث لقيناكم وبجواركم الأفخاذ العارية والموضوعات القذرة)، وقال (إننا لم نجد عندكم الضمير الأدبي الذي كنا نتخيله في الأساتذة المرموقين. فانتم لا تحاولون أن تبرزوا على المسرح إلا أذيالكم وبطانتكم، والذين يؤدون لبعضكم خدمات شخصية قد لا يؤيدها الرجل الشريف!. . . وإننا معذورون إذا شككنا في شهادتكم لبعض الناس، وفي إغفالكم لبعض الناس!)
وهذه التهم التي وجهها الأستاذ سيد قطب إلى شيوخ الأدب صحيحة في جملتها، وان كان قد بالغ في بعضها واشتط في بعض. .
ولكن هل هي القضية بين الشبان والشيوخ في الأدب؟
لقد كان كلام الدكتور طه في هذه القضية، أما الغارة التي شنها الأستاذ قطب، فليس من العدل أن يخص بها الشيوخ دون الشبان! لأنها قضية الوطن مع الأدباء عامة شيخهم وشبابهم، وإن كانت تبعة الشيوخ فيها اكبر، بحكم الإقبال عليهم في الأعمال التي أخذها عليهم، وبحكم مكانتهم والثقة بهم. ولم يكن فيما قاله من قضية الشبان والشيوخ في الأدب إلا ما جاء في الفقرة الأخيرة من أن الشيوخ لا يبرزون على المسرح لا أذيالهم وبطانتهم، وانهم ينحرفون في شهادتهم لبعض الناس وفي إغفالهم لبعض الناس، ولكن كيف فات الأستاذ قطب أن هؤلاء الذين يسميهم أذيالاً وبطانات من الشبان الذين يقودون المعركة(733/44)
باسمهم ضد الشيوخ؟
الاتحاد الثقافي المصري:
عرف القراء مما كتبناه في العدد الماضي من الرسالة، إنه تقرر أن يقام الاتحاد الثقافي المصري على أنقاض الاتحاد المصري الإنجليزي المنحل.
ونضيف الآن إلى ذلك إنه تجري الآن تصفية أمتعة الاتحاد القديم ومحتوياته ليأخذ كل عضو لا يرغب في الانضمام إلى الاتحاد الثقافي - ما يستحقه نقدا أو عينا، وفي جملة هذه الأشياء مكتبة الاتحاد، وفي مكتبة قيمة تحوي كبيرا من المؤلفات العربية والإنجليزية، واكثر هذه المؤلفات تتناول الموضوعات المصرية من مختلف نواحيها، وكانت الفائدة الوحيدة التي جنتها مصر من ذلك الاتحاد، استفادة الشباب المثقفين المصريين الذين انضموا إليه من تلك الكتب.
ولقد أثير موضوع مكتبة الاتحاد قبل نشأة فكرة الاتحاد الثقافي، من حيث مصيرها والأسف عليها، فلما استقر الرأي على تكوين الاتحاد الثقافي، هشت نفوس الآسفين لملاءمة المكتبة لفكرة الاتحاد الجديد. . . ولكن التصفية ستحتم عرضها للمزايدات والمساومات. . . وهنا تبدد أمل النفوس الهاشة، ولا يزال الأمر موضع التفكير.
ونحن نعلم أن بين الأعضاء المصريين من كانوا يهبون المئات والآلاف لحلفائنا الأعزاء. . . ولإنشاء نادي العلمين الذي انكشف بعد الجلاء عن عراء. . . ولما أضيف إلى (العلمين) ميم (المعلمين) كانت كميم المساكين، ومن أولي بالعراء منن المساكين؟
فهلا تفضل أولئك الواهبون بأقل مما كانوا يهبون لإنقاذ المكتبة؟
ولكن الأمل ضعيف في هؤلاء، فمالهم احب إليهم من العلوم والآداب والفنون، ولا احسبهم سينضمون إلى الاتحاد الثقافي، ولا باس بذلك فحسبنا الشباب المثقفون ومن في حكمهم من الشيوخ، أما المكتبة فيمكن فداؤها بجزء من ألف الجنيه التي كانت الحكومة تمنحها سنويا للاتحاد القديم، وستستمر على منحها للاتحاد الثقافي الجديد.
هذا وستدعي الجمعية العمومية من الأعضاء المصريين إلى الاجتماع في أوائل أكتوبر القادم، لتكوين الاتحاد الثقافي. والفكرة السائدة أن أعضاء مجلس الإدارة سيكونون جميعاً من المصريين، وان غير المصريين الراغبين في الانضمام إلى الاتحاد يعتبرون أعضاء(733/45)
منتسبين.
بقي أمر نحب أن نفضي به إلى المشرفين على تكوين الاتحاد الثقافي، ذلك إنه، وقد هدأت الحالة النفسية التي نشأت مما حدث في الاتحاد القديم والتي كان من نتيجتها الشعور الحاد بالمصرية، يجب أن نشرك شقيقاتنا العربيات في الاتحاد الثقافي، ويكون اسمه (الاتحاد الثقافي العربي) لأن العرب جميعاً يتجهون إلى الوحدة الثقافية، بل هي واقعة فعلا، وجميع الآراء متفقة على تنمية هذه الوحدة، وإنها ألزم أنواع التعاون العربي لصالح جميع الأمم العربية.
الشعر والصور:
تتحايل مجلات اللهو والتسلية بشتى الحيل على نشر صور النساء المغرية بأوضاعها المثيرة بأوضاعها المثيرة. . . فهذه ذات نظرة فاتنة، وهذه ترجل شعرها بطريقة مبتكرة، وهذه تداعب كلبها، وهذه صاحبة اجمل (مايوه) وهذه تبدو في (مايوه سنة 1947) وهذه لا يرضي عنها الشيخ أبو العيون. . .
ولم يقتصر على ذلك نشاط الصحفيين المشتغلين بهذا النوع من الصحافة، بل امتد إلى الشعراء يستعينون بهم على جديد في ذلك المضمار. . .
- ما رأيك يا أستاذ في هذه الصورة؟
- وجه حالم. . يوحي بالشعر!
وينزل الوحي) على الشاعر فيكون (جوازاً) لنشر الصورة. . . وقد أكثرت تلك المجلات في الأسابيع الأخيرة من نشر هذه الصور مع أشعار الشعراء، وقد لا يري في ذلك باساً من ينظر إلى المسالة من الناحية الفنية البحتة، ولكن الواقع أن ما ينشر من الشعر على هذه الطريقة لا يرضي الخاصة ولا يعجب العامة، لأنه مصنوع لا يعبر عن عاطفة ولا ينبئ عن احساس، وإنما يقال بدافع الرغبة في شئ ينشر، فهو أشبه بتصريحات بعض الكبار للصحفيين التي تكذب في اليوم التالي، لأنهم أرتجلوها ثم رأوا أنها لا تليق بهم!
ذكرى محمد عبده:
احتفل في هذا الأسبوع بذكرى المغفور له الشيخ محمد عبده فنشرت الصحف وبعض(733/46)
المجلات كلمات تناولت صاحب الذكرى من نواحيه المختلفة.
والشيخ محمد عبده حقيق بالذكرى، والناس في حاجة إلى دروس من حياته، فقد كان من أوائل المجددين في العصر الحديث. جدد في الفكر الاسلامي، وكان ممن حرروا الكتابة العربية من تكلف السجع، فقد عدل عما بدا به من التزامه، فأرسل كتابته طليقة منه، فساهم بذلك في رقي الأسلوب الكتابي وخلوصه من أغلال الصنعة؛ وقد كان الفضل في ذلك لتوجيه أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني الذي كان يدعو تلاميذه إلى صرف الجهد عن الزخارف اللفظية في الكتابة إلى تأدية المعاني والأفكار مع أحكام التعبير. . .
ومن آثار الشيخ محمد عبده الأدبية (شرح نهج البلاغة) وشرح (مقامات بديع الزمان وكتابته في مؤلفاته ورسائله الخاصة تضعه في صفوف البلغاء من الكتاب. وتمام صفاته الأدبية براعته في الخطابة، فقد كان من خطباء الثورة العربية البارزين الذين قادوا الجماهير وغرسوا في النفوس بذور القومية المصرية.
ذكرى حافظ:
في مثل هذا اليوم الذي يصدر هذا العدد من الرسالة أي في (21 يوليه سنة 1922) نعى حافظ إبراهيم، فنحن اليوم في ذكراه الخامسة عشرة، وليت شعري ماذا يفعل قومنا في أحياء ذكرى هذا الشاعر الذي قاوم الاحتلال بشعره، والذي وضع سيفه في الجندية المغلوبة على امرها، وشهر سيفا آخر لم يكن إلا شعره، وجهه إلى صدور المحتلين.
ما أحوجنا اليوم وفي هذه المرحلة التي تمر بها قضية الوطن قاصدة نحو تمام التخلص من احتلال وادي النيل - إلى ذكرى شاعر النيل والى شعره الوطني الذي عبر به عن الأم بلاده وأمالها داعيا إلى الجهاد لتحريرها وإصلاح عيوبها ورفعة شأنها.
وما أحوجنا اليوم، وفي هذه الآونة التي اتجهت فيها الأمم العربية نحو الوحدة والتضامن في الدفاع عن حقوقها إلى ذكرى حافظ إبراهيم الذي دعا إلى الوحدة العربية، وقال الشعر في شؤون الشرق والإسلام، وغرد في حفلات التكريم العربية الجامعة.
وما أحوجنا اليوم، وقد استراح شعراؤنا من الوطنيات والقوميات و (المناسبات) وتعلقوا بذيل فكرة (الفن للفن) إلى الانتفاع بذكري حافظ إبراهيم.
(العباس)(733/47)
هوى وفقر
للمرحوم التيجاني يوسف بشير
سما بالهوى فقري ومن لك بالهوى ... سماوي معني كله أبداً نبل
هوى ساوقته النفس والشعر فانتمي ... إلى القلب واستولي مقاوده العقل
وهبت له نعمي الحياة وزدته ... ذخائر أسرار المفاتن من قبل
وهبت له الدنيا فاثري ولم أهب ... له التبر منها أن مشرعه ضحل
عجبت لها كم ذا أروح واغتدى ... على ظمأ، يروي سواي ويبتل
وما بي ما أفلت منها وإنما ... تخيرت من دنيا الصبابة ما يحلو
ولي في كنوز الروح سلوى وغنية ... بحسبي لا خلف لديها ولا مطل
غفرت لها أني شقيت وأنها يصح ... بها مرضي النفوس وأعتل
وهل كان ما أسموا نضاراً وفضة ... وما كاثروا الدنيا به وهم قل
وما هموا فيه الزمان ولم يزل ... يقدس من رحمانه العلم والجهل
سوي الترب وطأنا سوانا فصكه ... دنانير لم يأخذ بناصرها العدل
ضللنا وسامرنا خداعاً وبهرجاً ... ونكب عن نهج الحقيقة من ضلوا
جراح!
للأستاذ محمد برهام
يا ويح نفسي. هل عمري سأقضيه ... على الأسى، وشبابي الغض اطويه؟
يقال لي (كل ما في الكون مبتسم) ... فما لعين أصابت ظلمة فيه؟
لا الخرد الغيد تسبيني ملاحتها ... ولا الرياض بمرأى الطرف تسبيه
أعمي وما هو أعمي، غير أن رؤى ... عن الجمال، ودنيا الحسن تقصيه
ليت الذي سرد من دنياه ينصت لي ... حتى أقول الذي عندي وأمليه
أمشي وئيداً بأعصاب محطمة ... ومن يراني خطوي ليس يرضيه
يترحم الحطو تصغيراً، فيظلمني ... بالقول يطلقه، والذنب يلقيه(733/48)
ترمي رديئاً، ولو لم تقض عن عجل ... لكنت بالخير لا بالسوء ترميه
ذهن ملول، فأن يوكل له عمل ... يروح ينقضه طوراً، ويبنيه
يستحسن الليل ما لم يستسغه ضحي ... والرأي يرجع عنه، ثم يبديه
أني أطل بمنظار برمت به ... على الوجود وصرف الدهر مهديه
قد أعجز الكون في شتى محاسنه ... عن أن يسوق لعيني أي ترفيه
حاولت تحطيمه لكن حلوكته ... أخشى تدور على جهدي فتفنيه
فما حياتي أسواناً ومغترباً ... أن العليل جوار الناس يشفيه
دعني من الناس أدناهم وأبعدهم ... كل أقل شكاة منك تؤذيه
فداو نفسك بالسلوان عن أمل ... ظللت عمرك مخدوعاً ترجيه
واهاً لدمع يد الآلام تدفعه ... إلى الأمام، وكف الحزم تثنيه
هو الصديق الذي أشكو فيرحمني ... ويعلم السر في همي ويخفيه
أحلام وردة
للأستاذ أحمد عبد الحفيظ سلام
هات يا صبح ورقرق في رياضي نسماتي
وابعث الأضواء ترقص حول غصني ومضاتي
وانثر الطل على كاسي وتوج ورقاتي
أنني نضرت من فجر حياتي أمنياتي
ريثما انساق من مهدي إلى شعر فتاتي
أيها الجدول واف الروض بالري النمير
واقذف الموجات في شطي ولطف من هجير
واسق أغصاني وسلـ - سل نفحاتي وعبيري
أنني رقشت من أضـ - واء أحلامي مصيري
ريثما اهتز من سحر الهوى فوق الصدور
خضبي يا شمس من لألائك الباهي وشاحي(733/49)
والثميني يا فراشا - تي بأهداب الجناح
واسكبي الأنفاس في ثغري كأنفاس الصباح
كي انمي في هوى أطيا - فك البيض الوضاح
زهرة يروي شذاها ... صدر أصحاب الجراح
غني يا طير وردد ... نغمة العشاق غني
وأملا الكون فإني ... منك قد ألهمت فني
حينما تهتز بالألحان ... يا صداح دعني
أنظم الفن الذي ... ينساب من وحيي المرن
كي يدوي غنوة ... في عالم الأحباب مني(733/50)
البريد الأدبي
أسف واعتذار:
منذ أسبوعين انتقلت إلى الإسكندرية، وكان يشرف على تحرير الرسالة صديقنا الأستاذ علي طنطاوي؛ ولكنه أضطر في آخر الأسبوع الماضي أن يعود فجأة بالطائرة إلى دمشق. ففي هذه الفترة التي ارتفعت فيها الرقابة مني ومنه عن المجلة نشرت في (تعقيبات) كلمة ينكرها الذوق والحق في صديقنا الأستاذ الجليل أحمد أمين بك. وليس في موضع الإنكار النقد في ذاته؛ وإنما موضعه ذلك التهكم الكاذب الذي لا يجوز في رجل يعد عاملاً من عوامل النهضة الفكرية، ومفخرةً من مفاخر مصر الحديثة
فنحن نأسف لنشر هذه الكلمة بهذا الأسلوب. ونعتذر لصديقنا الأستاذ من خطأ لم نكن طرفاً فيه، ولم يكن في مقدورنا تلافيه. . .
رئيس التحرير
إلى الأستاذ (أبو بكر نمري):
أرسلت إلى ردك الطويل على تعليقي القصير فرأيت ألا أنشره حتى لا يتشكك القراء في نيتك حين يرونك تنقل الحديث من الأدب إلى الدين، وتثير الجدل بين عيسي ومحمد. ولا أدري مالك ولهذا كله وأنا حين أشرت في كتابي (دفاع عن البلاغة) إلى غثاثة الترجمة الأمريكية للتوراة والإنجيل لم أكن بسبيل البحث في رواة العهدين من هم، ولا في اللغة الأصلية (للأناجيل) ما هي، ولا في الترجمات المختلفة للكتابين المنزلين أيها أبلغ؛ إنما كنت بسبيل التدليل على إفساد الترجمة الحرفية الركيكة لبلاغة الأصل، فضربت المثل بهذه الترجمة المتداولة بين الناس للتوراة والانجيل، وهما في اعتقادنا من كلام الله أنزلهما على موسى وعيسى بلسان قومهما فليس صورة من صور البلاغة تناسب المتكلم الأعلى. والترجمة الأمريكية وهي التي قصدناها ليس فيها من العربية غير الألفاظ، أما أسلوبها فغريب عن أساليب اللغات على الرغم من أن الذين نقحوها كانوا من أفاضل الأدباء النصارى.
ذلك أصل الموضوع، وهو بهذا التحديد لا يقبل الجدل، لأنها قضية الترجمة الحرفية(733/51)
صادقة، ولان الترجمة الأمريكية ركيكة. أما نقل المسألة إلى جهة الخلاف بين الأديان، وتعارض ما تعتقدونه مع القرآن، فذلك موضوع رجاله من غير أهل الأدب، ومجاله في غير الرسالة.
(صاحب دفاع عن البلاغة)
من يكون إذق
قرأت للأستاذ إحسان عبد القدوس مقالا بمجلة المصور العدد 1187 - مقالاً تحت عنوان (بنات الصيف) ولست أجد وصفا لذلك المقال غير إنه دعوة خليعة ماجنة، وتحلل خلقي يدني من النهاية، وخروج على تعاليم الإسلام الحنيف وآدابه، فقد قال حضرته بالحرف الواحد: لست من الهاتفين في موكب الفضيلة، ولست من أنصار الشيخ أبي العيون ولا من دعاة الحشمة. . . الخ (كذا والله) ولست أدري ماذا يكون الإنسان أن لم يكن من الهاتفين للفضيلة أو من أنصار الشيخ أبو العيون أو دعاة حشمة؟؟!
محمد محمد حسن الديب
إلى الشيخ أبي العيون:
يا سيدي: قرأت حديثك المنشور بمجلة آخر الساعة، ورأيت صورتيك المعلنتين مع هذا الحديث.
فما الحديث، فلا غبار عليه، ولا شية فيه.
وأما الصورتان، فعليهما ما عليهما، وفيهما ما فيهما!
وأنا أعرف أن الصورتين ملفقتان. وذلك واضح لكل ذي عينين؛ ولكن ذلك لا يغير من الأمر شيئاً.
فأن كنت يا سيدي لم ترض بما كان فعلمهم أن يوقروا رجال الأزهر، ويرعوا حرمات الدين.
ووان كنت يا سيدي - ولا أخا لك - قد رضيت بهذا الأمر؛ إيثاراً لذيوع الاسم! وطمعاً في بعد الصيت! فوا أسفاه! ثم وأسفه!
إبراهيم محمد نجا(733/52)
العالمية مع إجازة التدريس من كلية اللغة العربية
1 - طرائف!!
طالعت العدد - 56 من اقرأ (طرائف من الصحافة) للكاتب الصحافي محمد العزب موسى وبرزت لي من بين سطور الطرائف واللطائف (سخائف) لا تقل عن أختها طرافة، أورد منها على سبيل المثال لا الحصر (سخيفتين) اثنتين في الأخلاق واللغة. . .
أما التي في الأخلاق فهو قوله في ص 93:
قالا (أمعك الآن مال في الجيب الوقور)
قلت (نعم)
قالا (إذن هيا)
هيا إلى امرأة عجوز تعيش في بار متواضع غير معروف لا تبيع فيه غير النبيذ الرخيص. . فدلنا إلى بارها. وشربنا ثلاث زجاجات من النبيذ القاتل. . .)
وكنا نظن أن الحديث الشريف (وإذا بليتم فاستتروا) له عند الأستاذ في مجال الصحافة والتأليف مقام واحترام. ولكن المؤلف وهو الذي يبدأ أسمه بلفظ (محمد) يلبي الاعتراف بحديث محمد. . ولا يجد غضاضة في عرض الحرام في كتاب يطالعه من الشباب وغير الشباب ألوف وألوف. . .
وأما الثانية - وهي اللغة - فكثيرة الوقوع في أنهر الجرائد والمجلات الأخبارية التي لا تعني بالأصل والصواب وإنما تقذفها إلى القراء وفيهم السذج البسطاء - قذفاً جريئاً بلا تحقيق ولا تدقيق، من ذلك ما وقع في ص24:
(كان أصحاب الصحف أخلاطاً من الناس وكانوا (ثقاة) في الجهل الخ) فالأستاذ يجمع (ثقة على (ثقاة) بالتاء المربوطة شانها شان (الدعة والسعاة والبغاة. .)
2 - المرأة والمساواة:
أطلعت في العدد - 728 من الرسالة الغراء على مقال (بين أدب المرأة وأدب الرجل) للكتابة العراقية الفاضلة منيبة الكيلاني؛ وليس بودي أن أتعرض للمقال في قليل أو كثير وإنما أستسمح الكاتبة الفاضلة في أن اقتطف من مقالها المانع بعض أبيات لشاعرة من(733/53)
شواعر العرب لأقدمها إلى بنات الجنس أولئك اللائى يطلبن المساواة مع نقص الأداة. . .
تقول الشاعرة عفيدة بنت عفان:
وإن أنتمو لم تفضوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل!
ودونكموا طيب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل!!
. . . . . . الخ
أقول إلى بنات الجنس أهدي هذين البيتين على لسان شاعرة لا شعر يؤخذ كلامه على الظن والاتهام. . وهي بعد أبيات صريحة تقرر حقيقة المرأة ووضعها في الأسرة الإنسانية إزاء الرجل
ثم يا أيها المدافعون عن حقوق المرأة من الرجال. . خذوا الحكمة من شعر الشاعرة، فعند (جهينة) الخبر اليقين. . .
3 - في قصيدة:
في مجلة (العلم العربي) العدد الثالث لشهر يونيو الجاري قصيدة للشاعر السوداني المرحوم التيجاني بشير بعنوان (في محراب النيل) فيها هذا البيت:
واستفاقوا يا نيل منك لنغا - م شجي من إلهي ربابك
والقصيدة من الخفيف، والبيت بصورته مكسور، وأغلب ظني أن الصواب في الأصل. . . فحبذا لو انبرى من إخواننا السودانيين من يدلنا على الصواب، إحقاقا لشاعرية الشاعر، ودفعاً للشك العارض غير المقصود. والسلام
(الزيتون)
عدنان
الدكتور أحمد فؤاد الاهواتي:
اسمح لي يا سيدي الدكتور بتقديم الأسئلة الآتية وأنت أهل لأن تجيب عليها بما يشفي الصدور:
1 - يذكر (التنويم المغناطيسي) محاطاً بالغموض والإبهام فهل هو علم ثابت الأساس أم شعوذة وإيهام وما مدي اتصاله بعلم النفس.(733/54)
2 - هل هناك من خطر في تعلمه وأن كان هناك خطر فما هو؟ وهل يتعارض والدين؟
3 - إلا ترى إنه يعصف باليقين بنتائجه الخارقة المدهشة؟ هذه أسئلة نرجو أن يجيب عليها الدكتور مشكوراً
(ج ع م)
كوستي السودان(733/55)
القصص
أسطورة من روائع الأدب الروسي:
العمل والموت والمرض
للفيلسوف الروسي العظيم ليو تولستوي
للأستاذ مصطفي جميل مرسي
(هذه قصة الإنسانية من قديم الأزل. . وقصة البشرية منذ فجر التاريخ. . . تتجلى لنا فيها النوازع التي تضطرب بين انفس البشر، والعواطف التي تمور في قلوبهم، والنزوات التي تختلج في أفئدتهم. . .
تناولها تولستوي ببراعته البارعة الملهمة، وعقله الفذ الجبار - وقد راعه ما بلغته حال العالم من شر وفساد - فتلمس بين تجاربه البعيدة في الحياة، ودراسته العميقة للنفوس وحياً طريفاً صاغ منه القصة الرائعة. . . التي تتمثل فيها - على بساطتها - الدعوة إلى (الحب والخير) وهي دعوة طالما نادي بها تولستوي. بل ظل ينادي بها حتى أدركته منيته وقد بلغ الثمانين)
(م. جميل)
إنها الأسطورة من تلك الأساطير التي يؤمن بها (هنود جنود أمريكا). . . ويتناقلوها خلفاً عن سلف!.
حينما فطر الله البشر - كما يقولون - جعل الإنسان في غير حاجة للعمل والسعي!. فما تعوزه دار يؤوي إليها ولا ثياب يلقيها على جسده يتقي بها لفحة الحر ونفحة القر. . . بل ما كانت تضطرب في نفسه رغبة إلى طعام ولا شراب!. فامتدت بهم الحياة مئات من السنين. . لا يعرف المرض إليهم سبيلا. .
فلما تجلي (الله) تعالى على الكون - بعد أن تصرمت حقب ودهور - لينظر خلقه كيف يعيشون. . ألفاهم - وقد حسب أن السعادة ضاربة بينهم إطنابها - يتشاجرون ويتضاربون. وراح كل منهم يعني بنفسه دون رعاية لأخيه. . فساءت حالهم وفسدت دنياهم وحاق الشر بهم. . .(733/56)
فحدث (الله) نفسه، وهو يتدبر صلاحية لهذه الحال: (إن الذي أوردهم هذا المصير تفرقهم، وعيش كل منهم على حدة!) فهيا الله أمور الحياة، وجعل من المستحيل على الإنسان أن يحيا دون أن يجد ويعمل!
فسخر عليهم الحر والبرد حتى يسعوا في طلب الملبس وبناء المسكن!. وسلط عليهم الجوع حتى يفلحوا الأرض ويبرزوها ما ركزت فيها الطبيعة من خيرات ورزق ويخرجوا منها الثمرات فيتخذوا فيها غذاء لهم. . .
وانثنى (الله) يفكر: (إن العمل سوف يوحد بينهم ويجمع شملهم، فلن يستطيعوا كل منهم أن يعتمد على نفسه في صنع آلته وحمل أخشابه وبناء داره وغرس حقله وجني محصوله ونسج ثيابه بعد غزلها. . . وتهيئة طعامه!. أن ذلك سوف يجعلهم يدركون إنه ما دام الإخلاص سيدهم والود رائدهم في تعاونهم على العمل!. فسيضاعف الله ما يأتيهم به من الخير والنعم. ويعيشون في رغد وبلهنية. . . سوف يزيد ذلك من وحدتهم وتضامنهم في الحياة!. . .)
دارت عجلة الزمن، وتقضت الدهور سراعاً بعضها أثر بعض. . . وعاد (الله) يقلب النظر في صارت إليه حال الخلق. . . ويري أن كانوا في عيشتهم سعداء أم ما برح الشقاء ينغص حياتهم. . . فوجدهم في حال اشد سوء مما كانوا عليه. . . فقد أقاموا يعملون معا - كما أرادهم (الله) فليس لهم من سبيل في الحياة غير ذلك - بيد أنهم تفرقوا شيعاً وأحزاباً وانقسموا على أنفسهم جماعات تحاول كل منها أن تحرم غيرها من العمل وتعوقها عنه حتى تنفرد به وحدها!.
فراحوا يهدرون أوقاتهم في نزاع لا نفع فيه وينهكون قواهم في صراع لا طائل منه. . فاضطربت أمورهم واختلت حالهم!. .
فلما رأي (الله) ذلك السوء الذي انحدرت إليه حال الخلق عزم على أن يهيئ أمور الحياة بحيث أن المرء لا يلم بالحين الذي توافيه منيته فيه. فيفاجئه الموت على غرة منه في أية لحظة. ثم أوحي بذلك إلى الخلق. . وقال يحدث نفسه:
(إذا علم كل منهم أن الموت سوف يخترمه في أي حين. . داخلت قلبه الخشية، وأشفق أن يضيع ساعات العمر في شغب وعراك لا يرتد بفائدة عليه!.)(733/57)
فلما آب (الله) - بعد أن طويت صفحات كثيرة من الزمن - ليراجع النظر في أمور الخلق، وكيف يعيشون. . ساءه أن يري الشر قد اتسعت هوته وأستفحل شأنه! فقد أفاد هؤلاء الذين وهبتهم الطبيعة قوة جبروتاً من الحقيقة الأبدية التي سنها الله للبشر، إلا وهي أن الإنسان عرضة للموت في أي حين. فسخروا أولئك الضعفاء وسلطوا عليهم نقمتهم، فقتلوا منهم كثيرين وراحوا يهددون الآخرين بالموت. .
اصبح هؤلاء الأقوياء ينعمون وذريتهم دون أن يعلموا شيئاً. . ثم ما لبثت السآمة إلى نفوسهم من البطالة والعطل أما أولئك الضعفاء فلا يبرحون يعملون فوق طوقهم ويتلمسون شيئاً من الراحة فلا يدونها ويتنسمون ريح السكينة فلا يصادفونها. . .
فأخذ كل فريق يضج بالشكوى ويحمل ألوانا من البغضاء وصنوفا من الحقد للفريق الآخر. . فازدادت الحياة سوء على سوء وتتابع الشقاء شرا أثر شر!.
فلما أحاط (الله) علما بما حاق بالخلق، عقد العزم على أن يراب الصدع ويقيم الأود. . فأخذ يتلمس وسيلة أخرى لذلك. . فلم يلبث أن سلط عليهم الأمراض والعلل. . وجعلها تشيع بين الناس فلا تذر واحداً منهم!. .
وظن (الله) أن البشر إذا ما أعتقد كل منهم إنه عرضة لأن يخر صريع المرض ضجيع الفراش، فلسوف يدركون ما على الأصحاء من واجب الرحمة والعطف، ومد يد المعاونة إلى من برحت بهم العلة وأشتد عليهم السقم!. وحينئذ يلقون من جانب الآخرين شفقة ورحمة وعوناً.! ومضي (الله)!
حتى إذا عاد لينظر حال الخلق، وقد تفشى بينهم المرض. . رأى أن السوء قد أستفحل أمره واستشرى شره. . فامرض - وقد ظنه (الله) جامعاً لهم موحداً بينهم - أدى إلى تفرقهم وتنافر بعضهم. .
فأولئك الأقوياء الذين يسخرون غيرهم من الضعفاء في العمل اضطروهم أيضاً إلى رعايتهم والعناية بهم حينما تنشب فيهم العلة أظفارها!. . بيد أنهم لا يسعون إلى معاونة الضعفاء إذا ما مرضوا بل يبالغوا في إرهاقهم، فلا يتيحون لهم فترة من الراحة للعلاج والشفاء!.
وجعلوا لهم بيوتاً حقيرة في عزلة عنهم، يعاني فيها هؤلاء الضعفاء سكرات الموت،(733/58)
ويلفظون بين جدرانها أنفاسهم الأخيرة بعيداً عن القوم المنعمين، حتى لا يكدر منظر هذه المجموع التعسة الشقية - وقد أصابها المرض - متعة الأثرياء وبهجتهم!. . . وحتى لا تتسلل إلى أجسادهم العدوى من هؤلاء المرضي المكروبين. .
فقال (الآله) يحدث نفسه - وقد نفض يديه من أمور الخلق (إن كانت هذه طرائق والأسباب لا تجعل من البشر من يفطن إلى مستقر سعادته. . فلندعهم يدركونها من بعدد ما يعنون منها ما يعانون!.)
وخلى الله بين الناس وبين أنفسهم!.
عاش الناس حقباً طوالاً في بلاء مع أنفسهم، قبل أن يدركوا إنه ينبغي عليهم أن يكونوا جميعاً سعداء. . .
ففي القرون الأخيرة تجلي الخلق عن فئة من البشر. .
يعلمون حق العلم إنه يجب إلا يكون العمل كشبح مخيف لبعض الناس، وكغنيمة خالصة للبعض الآخر. . . بل يجب أن يكون مدعاة للتعاون لصالحهم، ومبعثاً لخيرهم وأسعادهم، وسبيلاً لوحدتهم وتضامنهم!. .
ويعلمون أن الموت، وهو سيف مسلط على قارب العباد في غير ميعاد!. . لا يلائمه إلا العمل الحكيم، فواجب كل إنسان أن يستفيد من سنوات حياته وأيامها وساعاتها بل ولحظاتها التي يوهب إياها. . فيبذلها في الخير والحب والتأليف بين القلوب!
ويعرفون أيضاً أن المرض - بدلا من أن يكون سبباً للتفرقة وأداة للتنافر بين الناس - يجب - على الضد من ذلك أن يؤدي إلى تهيئة المجال للمحبة والمودة، والتعاطف والإيناس. . .
(طنطا)
مصطفي جميل مرسى(733/59)
العدد 734 - بتاريخ: 28 - 07 - 1947(/)
أحمد عرابي المفترى عليه
ذلك عنوان الكتاب الفريد الذي أخرجه للناس في هذا الأسبوع صديقنا الكاتب الشاعر المؤرخ الأستاذ محمود العقاد الخفيف، عن زعيمنا الوطني الأبي المجاهد المظلوم أحمد عرابي. هذا الكتاب هو الحق الذي اختفى منذ خمسة وستين عاماً لم يظهر في خلالها على لسان ولا قلم، حتى ظهر أخيراً على ضوء هذا اليراع النبيل رائع البيان ساطع الحجة. والحق كالصبح لابد أن ينبلج مهما تطاول الليل وأحلو لك ظلامه.
استبهمت معالم الحق في قضية الضابط الفرنسي (دريفوس) اثنتي عشرة سنة حتى جلاء الكاتب الجريء أميل زولا، فاجبر القضاء العسكري على رد اعتباره، وإطلاقه من إساره.
واستعجمت معالم العدل في قضية عرابي ثلثي قرن حتى أبانه الكاتب النزيه محمود الخفيف، فإذا عرابي زعيمنا الصادق، وقائدنا الشجاع وموقظنا المبكر!
تاريخ عرابي هو تاريخ الثورة الوطنية والنهضة القومية، و (المسالة المصرية) والنكبة الإنجليزية وقضية الوادي كله. فإذا كتب على النهج الواضح، والمرجع الثقة، والاستقصاء المحيط، والتمحيص الكاشف والاستنتاج الصحيح والتحليل الدقيق، والتعليل الصائب، والتبويب المحكم، كان لمصر من هذا التاريخ يضئ لها جوانب الطريق إلى (مجلس الأمن)؛ لأن عرابي هو اليد البريئة التي سخرها القدر لكشف الستار عن مأساة الاحتلال، والنقراشي هو اليد الجريئة التي يهيئها الله اليوم لإرخاء الستر على فصاها الأخير. ومن المحال أن تدرك مرامي الرواية إذا نمت عن بعض الحوادث أو غبت عن بعض الفصول. والأستاذ الخفيف قد اجتمعت له في هذا الكتاب أولئك المزأيا؛ فهو من حيث المادة لم يدع مصدرا يعول عليه من المؤلفات والمذكرات والمقالات والوثائق والرسائل والأحاديث إلا استمد منه بعد النظر النافذ والموازنة العادلة، ومن حيث الطريقة قد اتخذ المنطق ميزانا يأخذ به ويعطي، فهو يروى بالنص الصريح ويدعي بالدليل الناهض ويقنع بالحجة العالية، ويدافع بالحق المبين ويستقرى فيحسن الاستقراء ويستنتج فيجيد الاستنتاج ثم جعل همه منذ اللحظة الأولى تبرئة الجندي الثائر، فسلسل الوقائع والفصول سلسلة المقدمات الصحيحة ثم خرج منها بالنتيجة التي لا موضع فيها للشبهة. ومن حيث الأسلوب قد اختار اللفظ السائغ والنظم المتسق والسياق المطرد، والمعرض الجذاب حتى ليستولي على القارئ العجلان فيمعن فيه لولا أن الكتاب ستمائة صفحة والقيظ مقلق والصيام مرهق، ولكنه على كل حال(734/1)
لن يفتح كتابا غيره حتى يفرغ منه!.
إن هذا الكتاب أول كتاب في بابه. ولعله هو وكتاب (الله) للأستاذ العقاد كتابا السنة؛ لأنهما على اختلافهما في الموضوع والوضع خطوا بالكتاب المصري خطوة سديدة وأضافا إلى الأدب العربي ثروة جديد.
أحمد حسن الزيات(734/2)
5 - رحلة إلى الهند
غاندي في دهلي وفي المؤتمر
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
(تتمة)
ارتقب الناس قدوم غاندي إلى دهلي أثناء اجتماع مؤتمر العلاقات الأسيوية. فإن حدثا عظيما كهذا يعول عليه الهنادك في الإبانة عن حضارتهم ومكانتهم، والتمهيد لدواتهم في آسيا وفي تأييد آسيا لهم في العمل للهند المستقلة - لا يغيب عنه الرجل الذي يدعوه الهنادك (أبا الأمة) والذي هو اعظم زعيم سياسي وديني بينهم.
وكأن غاندي قبل اجتماع المؤتمر يطوف في إقليم بهار، وهو إقليم في شرقي الهند غربي بنغالة، ثارت فيه فتنة بين الهنادك والمسلمين والمسلمون قلة لا حول لها هناك فصال عليهم الهنادك، وفتكوا بهم وقتلوهم قتلا عاماً لا يفرق بين رجل وامرأة، ولا بين صغير وكبير. وكأن لهذا المذابح دويها في أرجاء الهند وأثرها في هيج الشر بين الفريقين وقد هاجر كثير من مسلمي بهار فرارا بأنفسهم ويأساً من أن يعيشوا في ذلك الإقليم بعدما شهدوه من هول تلك الوقائع. ورأيت للمهاجرين محلة في كراتشي كأنهم لم يشعروا بالأمن إلا في أقصى الغرب في ولأية السند، حيث للمسلمين الكثيرة والغلبة وهاجر جماعات منهم إلى إقليم أخرى.
ذهب زعماء المسلمين والهنادك إلى بهار حين ثارت الثائرة، وطوف غاندي في أرجائه يسكن الهياج ويطفئ الثائرة، ويحاول أن يصلح ما أفسدته البغضاء والعدوان والقسوة والفظاعة فلبث اشهرا يجول في الإقليم.
ثم جاء إلى دهلي أيام المؤتمر ونزل في محلة الكناسين وهي تسمى بهنكي كولوني (مستعمرة الكناسين). وفيها دور صغيرة نظيفة بنيت لهؤلاء الكناسين وهم من المنبوذين ولغاندي مسكن بينهم في دار لها فناء واسع في صدر معبد صغير وحجرات من الحصير نزل غاندي في واحدة بجانبها عبد الغفار خان زعيم ولأية الحدود الشمالية الغربية الذي(734/3)
يسمى غاندي الحدود.
وكأن الناس يجتمعون إلى غاندي كل مساء قبيل الغروب ليشهدوا صلاته ويسمعوا خطبته.
وقد ذهبت مرة فرأيت إلى يمين الداخل جمعا حاشدا وقوفا وغاندي على منصة مشرقا على الحاضرين وإلى يمينه عبد الغفار خان حاسر الرأس كعادته. . . فانتبذت مكانا أرى واسمع، سمعت صبية هندية تنشد أناشيد بلغات مختلفة منها سورة الإخلاص بالعربية. وسمعتها تقول في أناشيدها راما كريم، راما رحيم بهذين اللفظيين العربيين.
وراما أحد الأبطال أو الآلهة في الدين الهندي.
وهذه الأناشيد من كتب مقدسة مختلفة للهنادك والمسلمين والفرس القدماء الخ ويريد غاندي أن يقرب بين الناس ما استطاع باقتباسه في صلاته من كتب مختلفة.
وقد عارض بعض الحاضرين يوما في تلاوة أي من القرآن فترك الصلاة في ذلك اليوم.
ولما جاء للصلاة يوما آخر قال أنه تلقى رسالة تطالبه بأن يكف عن تلاوة القرآن في صلواته أو يترك معبد بلميكي (حيث يقيم) وسال الحضور أفيهم من ينكر عليه تلاوة آيات من القرآن، فرفع نفر أيديهم قائلين أنهم لن يمكنوه من الصلاة أن تليت آيات من القرآن فترك الصلاة وصمت قليلا وقال أن الصلاة ذكر الله لتطهير القلب ويستطيع الإنسان أن يصلي صمتاً.
ثم قال في خطبته التي يلقيها بعد كل صلاة: أنه ليس بالرجل الذي يحجم عما يراه واجبا؛ ولكن دعوته إلى ترك العنف أوحت إليه أن يترك الصلاة إذا اعترض عليها أحد ولو كان صبياً واحداً.
ولكن هذا لا ينبغي أن يؤول بالجبن. أنه ترك الصلاة ليتجنب الجدال والعنف. أن من عمل الشيطان وقد جاهده طول عمره.
ثم قال: على الذين ينكرون صلاتي لا يشهدوها فإن شهدوا فليقتلوه أن شاءوا. أنه لن يقلع عن ذكر رام ورحيم وهما عنده اله واحد. وأنه يموت مطمئنا ذاكرا هذين الاسمين.
أن كف عن ذكر رام ورحيم فكيف يستطيع أن يلقى الهنادك في توكلي والمسلمين في بهار وهنادك نوكالي ومسلمو بهار قتلوا اضطهدوا في بعض الفتن.
ولما هم بالانصراف تنازع الحاضرون فخطب فيهم قائما خمس عشرة دقيقة وقال فيما قال:(734/4)
أن الغضب لا يجدي نفعا؛ وأن عليهم أن يفكروا كيف يداوون جروح البنجاب دون أن يؤذوا أحداً فإن هذا ليس من دينهم.
وأنصرف غاندي إلى حجرته وتدخلت الشرطة لحفظ السلام. وكأن ذهابي إلى مقام غاندي في مساء الخميس 10 أبريل انتظرت بعيدا حتى فرغ من صلاته وحديثة؛ فجاءني عبد الغفار خان وشاب من أنصاره اسمه محمد يونس ودعواني إلى الدخول على غاندي في حجرته؛ فوجدته قاعدا على الأرض مستندا إلى الجدار وعليه إزراً قصير عاري الصدر والظهر. فتحدث عن اللغة العربية وقال أنه حاول أن يتعلمها وأنها لغة واسعة جدا وقال ضاحكا أن للجمل فيها مائتي اسم. وقال أنه قرا القرآن بالإنكليزية وبالأردية وأنه يؤثر قراءته بالأردية لأن بها كثيرا من الكلمات العربية فهو يقرا فيها كلمات من القرآن يجد فيها روحه.
وسألته: أكشفت في تجاربك الطويلة بين البؤساء عن دواء ينقذ الإنسانية من البؤس؟
قال: لم اكشف عن هذا الدواء ولكني أعدت الكشف عنه هذا الدواء هو الحق وتجنب العنف الحق هو الدواء. قلت أن المسلمين كذلك يجلون الحق ويقدسونه حتى يسموا الله تعالى - كما سماه القرآن - الحق. قال اعلم هذا.
ثم قال أنه يتكلم كثيرا ولا يجد من يصغي إليه. ولذا يود أن يطيل معنا الحديث ولكنه على موعد.
وشهد غاندي المؤتمر مرتين شهد إحدى جلساته وحفلة الختام وتكلم في المرتين في اتفاق أمم آسيا وفي توحيد العالم كله.
عبد الوهاب عزام(734/5)
صفحة سوداء:
الاستعمار الهولندي يعتدي على جمهورية إندونيسيا الجرة
للأستاذ أحمد رمزي بك
قضى الأمر ووقعت الواقعة، وسالت الدماء في ربوع إندونيسيا بعد أن خيل إلى كثيرين أن دعائم الاستقلال قد وطدت وأن أعلام الحرية قد رفعت فإذا نحن بعيدون عن ذلك اليوم وناسف مرة أخرى أن يقع بعض ما تنبأنا به، فقد جهزنا بالقول: أن الدول الاستعمارية أشد اليوم تمسكا بسلطانها من أي وقت مضى، وإنها تسالم الحركات القائمة وتسايسها وتخضع لبعض مطالبها لكي تتم أهبتها وتستعيد قوتها ثم تضرب الشعوب القائمة ضربات حاسمة؛ وأن أوروبا تنتظر حتى تضمد جراحها وتجمع شملها وسيكون لها مع الأمم الناهضة موقف جديد. فعلينا أن نستعد لذلك اليوم.
وفي حديث طويل مع ويلكي الأمريكي الذي جاب العالم والتقيت به في منزل قنصل أميركا حينما أتى بيروت صارحته بما أعتقد وقلت له: أن كيان الدول الصغيرة واستقلالها مثل بلجيكا وهولندا والبرتغال يستندان على المستعمرات، وأن اليوم الذي تنال فيه الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها، شيئا من الحكم الذاتي أو التمتع ببعض ما يتمتع به الإنسان في القرن العشرين من حرية واستقلال ونهضة، تزول فيه هذه الدول الصغيرة من الوجود وتصبح أما ولآيات أو مدنا ساحلية، لأن بقاءها يعتمد على حكمها للمستعمرات واستغلالها لأرضيها وتحكمها واستبدادها بملايين من عباد الله، فهل في نظام العالم الجديد ما يسمح بتحقيق هذه الأهداف؟ فلم أسمع جواب من الزعيم الأمريكي.
ولقد مضت سنوات على هذا اللقاء وانتهى عهد روزفلت وويلكي وهما في مقدمة الرجال العالميين الذين سيذكرهم هذا الكوكب المسمى بالأرض، لأجيال قادمة وتبدلت في أثنائها شؤون الكون وتغيرت انهارت مبادئ وأفكار وأراء وأنظمة بنيت على الطغيان والجبروت، ولكن مظاهر الطغيان والجبروت لا تزال قائمة وطيدة الأركان في بقاء هذه الدول الصغيرة تحكم الإمبراطوريات الضخمة وتتحكم في مصير الشعوب المظلومة، واغرب المتناقضات وابلغه بروزا هو أن العالم الذي قام يحارب الطغيان والظلم يقر بحق هذه الدول الصغيرة ويعترف بسيادتها على هذه البقاع ولم يقف ليحول دون تعديها. لماذا؟(734/6)
لأن مثل هولندا كمثل الطفل المدلل وسط الديمقراطيات الكبرى لأسباب كثيرة وعوامل متعددة سوف نكشف الغطاء عنها. مثلها كمثل الطفل المدلل الذي لا يعجبه شئ؛ فهو لا يرضى بما يقدمه إليه أميركا وبريطانيا من مزايا هو لا يعجبه الحيوان الأليف يلهو به ويلعب لأن جمعيات الرفق بالحيوان تخيف الدولتين إذا ما عذب الحيوان الأليف، أما إذا عذب الإنسان فليس هناك جمعيات تثور وتحتج.
هذا الطفل المدلل لا يرضى أن يلعب بالدبابات والأسلحة ومدافع التومي إلا إذا كانت حقيقة وهو لا يجمعها من الديمقراطيات ليلهو بها ويلعب أو ليضعها في متحف الأسلحة. هو بطل صغير يرضيه شئ واحد هو التحكم والسيطرة على ثمانين مليونا هم سكان إندونيسيا يريد استعبادها واستغلال أراضيهم. أما هذه الأسلحة فليست ليلعب بها الطفل المدلل أو يستعملها للزينة والصيد والقنص وإنما يسره ويضحكه ويسليه أن توجه هذه الأسلحة إلى قلوب أهل إندونيسيا ليفنى جموعهم ويجعل منهم يوم نادوا باستقلالهم، عبرة لمن اعتبر.
هذا الطفل المدلل على الديمقراطيات لم يجد من يقف أمام عبثه ولعبه، لم يجد من يمنع جنوده وطائراته من المرور، ولا من يمنع مدرعاته وسفنه المحملة بالعتاد من الوقوف في البحر، فلماذا لا يحارب؟ ولم لا يفرض إرادته على جاوة وسومطرة وبقية جزر الهند الشرقية؟ هذا ما تنبأنا به من قبل ولكن هنا يبرز الإسلام في هذه البقاع كقوة مقاتلة مكافحة لا تلين ما اتعس الاستعمار ورجاله حينما يواجهونه تفنى حيلهم وعلومهم وقوتهم أمام هذه الصخرة التي لا تلين. وسنرى من جهاد أهل إندونيسيا صفحة من الجهاد والكفاح في سبيل العقيدة يبرز فيها ما يجمع بين الموت والبطولة وهما اعظم ما أخرجته النفس البشرية في هذا الكون واعظم ما ورثه الإسلام أهله من عظمة وجمال من يوم أشرقت شمس الرسالة المحمدية.
فتحية منا إلى الشهداء الذين سقطوا في ميدان الحق أنهم الطليعة الأولى الذين ستتبعهم الجموع، إذ بموتهم واستشهادهم سيكون الخير كل الخير، لا للعالم الإسلامي وحده، بل سيضربون بموتهم مثلا خالدا للعالم كله ولشعوبه التي تئن تحت الظلم والطغيان. أننا ننحني أمام هذه الطليعة ونحي الدماء التي سفكت في سبيل الحق، ونصلي صلاة الغائب عليها في مساجدنا الجامعة ونهتف من أعماق القلوب ونقول أنها حية إلى الأبد في قلوبنا.(734/7)
وغريب أمر المستعمرين أنهم شر ذمة واحدة تسير على خطوات منظمة. أنظر إلى القائد الذي يقول لجنوده: (أنكم لا تعادون الشعب الأندنيسي، بل تعملون على تحريره من الطغيان والإرهاب) أنه نبوليوني التفكير، لأن السر عسكر بونابرت خاطب جنوده بهذا الأسلوب وخاطب أهل الإسكندرية ولم يمنع هذا التحرير من الظلم أن أصاب مصر ما أصابها على أيدي جنوده ولا يزال لدينا مائة وثمانون أثرا إسلاميا وسدا خرابا من هدم جنوده غير الدماء التي سفكوها والحرم انتهكت على أيديهم.
ضع هذا التصريح بجانب منشور الطليان حينما دخلوا طرابلس وحينما بدأ بادوليو وجراتزياني حملاتهما على أهالي برقة وليبيا، وتساءل هل كان القتل والتشريد وإفناء السكان إلا لتحريرهم؟ أنهم شر ذمة واحدة تسير عل خطوات منظمة: لله درهم! ولكن مضى الوقت الذي كان يصدق فيه الناس هذه الأقوال.
أن أنظار العالم بأكمله تتجه اليوم إلى إندونيسيا وكفاحها وهو لا شك كفاح مجيد وسوف تتحطم مرة أخرى أصنام الطغيان وتبرز في العالم القيم الحقيقة المستمدة من روح الشعوب المجاهدة مهما لاقى الأحرار من عنت.
أنني احبكم من صميم قلبي أيها الزملاء في القتال، أيها الرفاق في السلاح، أنكم بمعارك اليوم وبأقدامكم وضحاياكم تفتحون طريق الحياة لعالم الجديد، فطوبى لكم!
أحمد رمزي(734/8)
شهر النصر
للأستاذ محمود محمد شاكر
كأن محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينبأ رجلا من العرب، ثم كان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكأن لا يرى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكأن يخلوا بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. ومن يومئذ صار هذا الرجل من العرب رسول الله الذي وجبت على الناس كافة طاعته والامتثال لأمره فيما نهى عنه وما أمر. ذلك أول الإسلام الذي نفض العرب من بواديهم حتى ملأ الأرض عدلا وإيمانا وتكبيرا باسم الله العلي الأعلى.
وقد فجئه الحق وهو بغار حراء في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فيومئذ نزل أول القرآن، إذ قال له الملك: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فرجع بها رسول الله خلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة واخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي! فقالت خديجة: (كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، أنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق) فكأن كما قالت رضى الله عنها فلم يخزه ربه الذي أرسله بالحق ليهدي الناس إلى صراط مستقيم وذلك أول الإسلام.
ثم كانت سنة ثنتين من الهجرة ففي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، واعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله وكانت فيصلا في تاريخ الإسلام. ويومئذ حقق الله للمؤمنين ما وعدهم إذ يقول: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وأن كثيرا من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر القوم الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ثم قال الله تعالي بمن على المؤمنين ما أكرمهم به: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن(734/9)
يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).
فكانت بدر الكبرى هي المنة العظمى على البشر جميعا إذ أتاح الله يومئذ للمسلمين أن يسيحوا في الأرض وأن ينصروا الله وأن يجعلوا كلمته هي العليا، وأن يردوا العرب إلى شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام وهي الحنيفية السمحة، فانكشفت خلائق العرب بنبلها وكرمها وعدلها وصفائها حتى لم يبق على ظهر الأرض من بلغته الدعوة، أو من رأى هؤلاء الأحرار المؤمنين حتى تبع قبلتهم وأثرهم بالحب، فمكن الله للعرب أن يفتحوا الأرض ويثلوا العروش ويملكوا ما أظل ملك كسرى وقيصر في ثمانين عاماً، وأقاموا حضارة قامت على العدل والمساواة والأنصاف والتسامح، وعلى رعاية أهل الأديان وحياطتهم وعلى رد بغي الباغين وعدوان المعتدين من أي ملة كانوا.
كأن الإسلام فيصلا حقا في تاريخ الأديان، وكان أول أمره في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وكانت غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها أهل الإسلام من العرب في يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. ثم شاء الله أن يدور الزمن دورته على مجد العرب وحضارة العرب وأن تكون مصر والسودان مناط أمال العرب في هذا القصر وشاء ربك أن ينعقد اجتماع مجلس الأمن على أن تعرض قضية مصر والسودان في يوم الثلاثاء بعد أن تخلو من رمضان ثماني عشرة ليلة من سنة 1366 من الهجرة، وهو اليوم الموافق للخامس من أغسطس سنة 1947 من ميلاد المسيح عليه افضل الصلاة والسلام أنها أن شاء الله بشرى الحق بأن الله قد كتب لقضية مصر والسودان أن تخرج من معمعة مجلس الأمن مؤيدة بنصر الله (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). فهذا شهر مبارك قد عود الله فيه العرب والمسلمين أن بنصرهم على عدوهم، وأن يمكن لهم في الأرض، وأن يؤيدهم بالنصر في ساعة العسرة حيث هم قليل مستضعفون يخافون أن يتخطفهم الناس. . .
ولا يستهين أحد بخطر هذه القضية، فإن مصر والسودان هي قلب أفريقيا أولا، ثم هي قلب العالم العربي، ثم هي قلب العالم الإسلامي كله. فالنصر الذي سوف تناله أن شاء الله على بريطانيا هو نصر لهذه الثلاثة واجتماع لكلمتها وتاريخ جديد لحياة أفريقيا وحياة العرب وحياة الإسلام.(734/10)
أنها ساعة فاصلة في تاريخنا، فعلى كل مصري سوداني أن يعد عدة الجهاد، وأن يملأ منذ اليوم كنانته، وأن ينصر هذا الوفد الذي سافر إلى أمريكا بيده وقلبه ولسانه. وهذا فرض واجب لا يكاد يسقط عن أحد منا من ذكر أو أنثى. فأننا في ساعة يصنع فيها التاريخ ولن يخطئ المخطئ المتعمد، أو يولى المقاتل للتهيب إلا كان ذلك فتاً في أعضاء المجاهدين الذين رموا بأنفسهم في وطيس المعركة.
ونحن نناشد زعماء الأحزاب الذين تعودوا الخلاف والنزاع أن يكفوا غرب ألسنتهم عن إخوانهم الذين سبقوهم اليوم إلى جهاد عدوهم، وأن يوجهوا قدرتهم على الطعان إلى نحور القوم الذين اغتصبوا حقنا وآذونا وضربونا بالذل والهوان أكثر من ستين عاماً، ولم يرعوا فينا شيئا من إنسانية أو شرف. وكل كلمة تنال من وفدنا إلى أمريكا هي ضرب من التخذيل يسوء مصر والسودان ويسر بريطانيا التي تحاول اليوم أن تملأ الدنيا علينا كذبا، فلا نكونن إذن حربا على أنفسنا، وعونا على اهتضام حقها، ونثرا لأعدائنا على أنفسنا.
وحقيق بمصر والسودان في هذه الساعة الفاصلة التي شاء الله أن يوافق تاريخها الساعات الفاصلة في تاريخ العرب والإسلام حقيق بها أن تتوجه إلى الرجل العربي الشريف والأصل الكريم المحتد الطاهر النسب والذي إن شاء كان النصر الأعظم الحاسم لقضية مصر والسودان، وكانت كلمته القضاء الفصل والحجة الدامغة لأباطيل بريطانيا ودعواها الرجل الذي هو ثاني اثنين في السودان فشق الإنجليز ما بينهما بالدسيسة والوقيعة والتخذيل حتى فرقوا بين الأخوين.
فإلى الرجل الذي مثلت بريطانيا بجثمان أبيه الطاهر وإلى الرجل العربي المسلم الذي يؤدي حق ربه وحق عباده خاشعا متخشعاً لله، وإلى المصري السوداني الذي أراد الله أن يمتحنه بأعظم المحن في هذه الساعة الفاصلة في تاريخنا وفي هذا الشهر المبارك من شهور الإسلام - إلى السيد مهدي:
إنك أيها الشريف رجل من العرب ثم رجل من المسلمين قد أكرمك الله وأيدك وبارك لك وأعانك، والرجل العربي المسلم لا يتخلف عن نصرة الحق بل هو كما قال له ربه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) والرجل العربي المسلم لا يلدغ من جحر مرتين وبريطانيا قد لدغتنا جميعا مراراً كثيرة. أليس زعمها أنها(734/11)
حريصة على استقلال السودان وكفالة حرية أهله في تقرير مصيرهم هو نفسه ما كان يوم دخلت مصر زاعمة أنها لا تريد استعمارا ولا اعتداء وأنها إنما تريد تثبيت العرش صدقة وتبرعا فإذا استتب عادت إلى بلادها وجلت عن بلادنا؟ فهل فعلت أيها السيد الشريف العربي المسلم؟ أني لأنزهك عن أن تخدع بكذب بريطانيا فهي اكذب من هذه الحياة الدنيا واغدر.
وخلائق الدنيا خلائق مومس ... للمنع آونة وللإعطاء
طورا تبادلك الصفاء وتارة ... تلقاك تنكرها من البغضاء
فهذه بريطانيا العدو المحتال الذي من شيمته أن يوقع بين المتحابين ليحطم باسهم جميعاً وهذه مصر التي ربطها الله بالسودان منذ اقدم الأزل والتي هي قطعة من السودان يراد بترها منه، فإلى أيهما أنت اقرب وفي هوى أيهما أنت ارغب؟.
أننا ندعو الله الذي هدأنا وهداك إلى الإسلام أن يهديك إلى الحق ويسددك وينصرك وأن يوفقك إلى ما يتمناه قلب كل مصري وسوداني: أن تكون ناصر الإسلام وقاهر الأعداء ومحق الحق ومبطل الباطل فتضع يدك في يد أخيك السيد الميرغني وتخرجا على بريطانيا مرة أخرى واحدة تعلنان أن مصر والسودان أمة واحدة وأن بريطانيا كاذبة فيما ادعت علنيا وعليكم وأن لا حياة لأحدنا إذا اقتطع عن صاحبة. افعل هذا أيها السيد الشريف العربي، تكن اعظم مجاهد في تاريخ أفريقيا وتاريخ العرب وتاريخ الإسلام. افعل هذا في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، والذي نصر الله عباده ببدر وكانوا يومئذ مستضعفين في الأرض يخافون أن يخطفهم الناس افعل هذا أيها الشريف العربي تنل لكلمة واحدة مجد الأبطال ومجد الملوك. ويصبح اسمك هدى ومنا ر لكل عربي وكل مسلم ما بقى على الأرض عربي أو مسلم. أنني أدعوك باسمي وباسم الصداقة التي كانت بينك وبين أبي رحمة الله عليه. أدعوك دعوة رجل صائم لله وأدعو الله أن يهديك ويؤيدك بنصرك ويمكن لك، في هذا الشهر الطاهر المبارك يرجو المسلم أن تستجاب دعوته: اللهم أنقذنا وارحمنا وكن عونا لنا ولإخواننا في الدين والعروبة.
أيها الشريف العربي، أننا وقوف نترقب ونتوق ونتلهف وظني فيك أنك فاعل ما أراد الله من نصرك لأهله وأنت أهل الخير ومعدن الكرم وابن الصناديد الاماجد من بني قحطان(734/12)
والسلام عليك أيها الرجل سلام أخ وابن أخ.
محمود محمد شاكر(734/13)
صورة مشهودة:
من صميم الواقع. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
عرفت أدبيا ذائع الصيت، طوف في بعيد الأقطار وقريبها، فأفاد من ذلك علما في خلائق الناس، إلى جانب ما هو عليه من سعة اطلاع ورجاحة عقل. وعرفته كذلك عصاميا ابن نفسه، لم يعتمد على مال يسنده ولا جاه يرفده فخاض ميدان الحياة دائبا صابرا، وانتهى إلى ما احب دون ما صخب أو جلبة، ودون أن يظهر عليه اثر من خيلاء الفوز ببلوغ الغاية.
وعرفته إلى جانب ذلك كله مؤمنا - مفرط الإيمان - في مبادئ اختطها لنفسه، ومقاييس وقف عندها لا يعدوها مهما يحوطه من ظروف وربما خطر لي أن أتهمه بأنه يحمل ذلك عن طريق تربيته الأولى فهي أصداء تتجاوب في قرارة نفسه، ولعله لا يقوى على دفعها ومغالبتها بل ربما ضاق بها أحيانا في إحدى هذه الفترات التي أبصره فيها ساهما واجما كأنما هو يلمس مكانها من نفسه (كلما عاد إلى تلك النفس) فيقف عند حدود ما اتهمه به! وهو مع ذلك لا يتنكر لها، ولا يتبرم بملازمتها، حين يرى هذا الإجماع من إخوانه وأخدانه على استهجانها واستثقال ظلها، في هذا الزمن الذي تغيرت فيه مقاييس الناس واعتباراتهم!.
أجل، كذلك عرفته منذ كشف لي عن دخيلة هذه النفس الغامضة، وطالما سمعته يتحدث إلى بصوته الخفيض كلما جلسنا على انفراد، فيقول: أتدري - ويحك - من هي فتاة أحلامي التي لم أجد لها شبيها منذ شرعت ابحث عنها؟! فابتسم في وجهه وأنا اعلم من هي، فقد حثني عنها طويلا - وأن اختلفت أساليب حديثه - ولكني لم أجد أبداً من أن استرسل في مجاملته فأقول: ومن أين لي أن أدري - يا حفظك الله - من تكون! فتبدوا على محياة سمات الرضوان لهذا (الجهل) الذي سيمكن له من أن يطيل في الوصف ما شاء خياله الجامح، ويقول: أنها - يا أخي - فتاة قد أصابت حظا من العلم، يكفى لأن يجعل منها أما صالحة وقد تقول أن هذا أمر ميسور يتفق فيه الفتيات جميعا! غير أن فتاتي يجب أن تكون إلى جانب ذلك، ربيبة بيت ما يزال يتفيأ ظلال الدين والتقوى، ويتقلب ذووه على مهاد وثير من الفضيلة والخلق العربي الكريم. ولابد من هذه الأخلاق وأتحسس مدى رجولتهم(734/14)
وأنفتهم. فأنا مؤمن بالقول المأثور: (تكاد المرأة تلد أخاها. .) ولا يعزب عنك بأنني شديد الحرص على أن يكون هذا (الخال) الذي أتخيره لابني موضع اعتزازه حين ينصرف إلى أترابه ولداته. ولست أبالي من هذه الفتاة بعد ذلك أن تكون كيف شاءت فحسبي أن تستوفي جمال النفس وجمال الحق، فتجمع الكمال من أطرافه علم تزينه الفضيلة، وخلق يجمله النظام والتدبير. وهل سعادة العيش إلا بذلك؟!
ولا اعتراض ما يقول فطالما ألفيته شديد الغيرة على هذه الصورة الجميلة التي رسمها في خياله وحاطها بسياج من أحلامه الذهبية. وما أزيد على أن أقول: وأين تراك واجدا هذا؟ وهل تظن هذه المتعلمة ستضع نقابا على عينيها فلا تبصر من آثار هذه المجلات الداعرة التي تعرض عليها ألواناً شتى من ضروب العبث في كل أسبوع، وتريها مختلف الأوضاع في التبرج والعرى! ثم هي أن زارت (دار الخيالة) ولو لمأما، أفلا تظنها تقتبس منها ما يشوه عليك هذه الصورة الشعرية الفاتنة؟! ولا يكون من صديقي إلا أن يحدجني بنظرة ملؤها الإنكار وهو يقول: ستكون حيث وصف لك ما دمت قد نشأت في ذلك البيت الذي عينته.
هذا الحديث لم يكن جديدا على من ذلك الصديق، ولكن الذي كان جديدا أن أراه قد أقبل علي يوما وجهه يتهلل بشرا ويتدفق سرورا وهو يبادرني قائلا: لم أقل لك أنك تسرف في تشاؤمك حين تزعم أن الذي ابحث عنه ليس في عالم الحقيقة؟! لقد وجدتها على ما خيلت ووصفت وكأنما كنت استلهم الغيب حين تحدثت لك عنها فما تزيدت فيما قلب شيئا!! بالله ما عجب!! أتظن ذلك من ضروب المصادفة وليس غير!؟.
ولا يكون مني إلا أن أشاطر هذا الصديق سروره حين اعلم أنه تقدم فطلب يدها، ثم أجابه إلى ما طلب ذلك الصهر الذي لم يدع صفة من صفات الكمال إلا نسبها إليه، ومما حدثني به عنه أن قال: ليتك كنت معي، فتسمع إلى رجل يحدثك بقلبه ولسانه (وقليل ما أولئك)، تراه وأبناءه جميعا يلبون داعي الله إذا نودي للصلاة في أوقاتها، فيتسابقون إليها من صغير وكبير!! ثم أنهم لا يصيبون من طعام أو شراب، ولا يأتون عملا صغر أم كبر، إلا متأدبين بآداب الإسلام مقتفين سنة نبيه الكريم!! وما لك لا تراه نسيج وحده بين أهل هذا الزمان، حين اقسم لك جاهدا: أنني رأيته يدعو أبناءه ليتعطروا قبل الصلاة من يوم الجمعة، بعد أن(734/15)
يأخذوا زينتهم يأتسون بالنبي فيما كان يصنع. أرأيت!! بل أني لك أن تكون رأيت أحداً من مثله؟!
وقال صديقي متحدثا عن هذا الصهر التقي كذلك: وقد أحببت - يا أخي - أن احتاط للأمر فحدثته أنني رجل كثير الخصوم، وأن كنت لا اعرف معظمهم!! فهم يخاصمونني لوجه الشيطان! وينتقصونني بما يفثأ سخيمة نفوسهم المضطرمة حسدا وغلا. . فقال الرجل النبيل: وهذا مما يزيد قدرك في نفوسنا! فذو العلم والفضل محسود من صغار النفوس، يتلمسون له العيوب ليجذبوه إلى حضيضهم الذي تردوا إليه، ورضاء الناس غاية لا تدرك. . .
فقلت - منشرحا لما أصاب صديقي من نعمة الاستقرار - إذن بوسعي أن أقول مع الشاعر:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ... كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر
قال أجل. بوسعك بوسعك! وأنني منصرف إلى أهلي أزف إليهم البشرى. .
وانقضت أيام بعد ذلك. ثم لقيت هذا الصديق (مصادفة) في ندى، فإذا هو قد غاض من وجهه ذلك البشر، وإذا هو ساهم مطرق حائر. فقلت له: ويحك ماذا ألم بك؟ ألم تعثر على ضالتك المنشودة؟ فماذا ترتقب بعد ذلك!! قال لا ارتقب شيئا، فقد أضللتها ثانية، ولن أنشدها (من هذا السبيل) بعد اليوم!! قلب وكيف؟ لعلك انتهيت إلى غاية غير التي توخيت؟! قال اجل انتهيت إلى شر غاية! وأن كنت تعدني بأن لا تجادلني بسبب ما صرت إليه فيما أحدثك به حدثتك. قلت أعدك! قال: فاعلم إذن أن الرجل قد نكث العهد وخاس بالوعد!! قلت: التقي النقي (بقية السلف الصالح) كما قلت؟! قال: إياه عنيت وكأن هذا بعد أن أذعت الخبر في أهلي، ولقيت العنت في ارضائهم، ورد ما يعترضون به على!! واعلم أنني من جراء ذلك تنازلت عن يقين طالما حرصت عليه اشد الحرص، وهو الإنكار على (أبي العلاء المعري) مدلول بيت من أبياته، وأنا - بعد اليوم - ممن يرون رأيه. فلا عجب أن سمعتني اردد بلسان الإيمان قائلا ما يقوله عن يقين وتجربة، (وحسبك بالمجرب من عليم!!. . .).
وهنا ألفيت مدخلا عليه، فإذا أنا اطمئن في جلستي، استعدادا لجال طويل، وذلك على نحو(734/16)
مما تعودت أن اصنع معه حين أجادله. ولكنه أدرك ما عزمت عليه، فإذا هو يبادرني بقوله: ماذا؟ أنسيت ما اشترطت عليك؟!
وما نسيت، ولكني أحببت أن أتأول، فلا تفوتني لذة المناقشة في هذا التقلب الذي صار إليه، فقلت: أنني لم أنس، غير أني. . . فقال مقاطعا حانقا: ولا هذه (الغير) تجوز لك، فأنته عند حدودها قبل أن توغل!!
فعز علي أن أضيف إلى ما انتهى إليه سوء العشرة، فقلت: افعل!
وانتهيت كما حب. وفي النفس حاجات. . . .
(القدس)
محمد سليم الرشدان
ماجستير في الآداب واللغات السامية(734/17)
من وحي الصوم:
عشاق الطعام!!
للشيخ محمد رجب البيومي
النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرف، وقد هجم رمضان على الناس بلا هواده، فجفف الحلوق وطوى البطون، وأخذنا نتلمس الليل فلا نكاد نظفر به لقصر مدته، وسرعة دورته، وكم امتدت الأيدي إلى عقارب الساعات نستخفها السير، وتسألها العجلة، فتمضي بطيئة ثقيلة وما تتم دورتها المحددة حتى تهن العزائم بعد قوة، وتستسلم الأجسام الفتية إلى الضعف والإعياء.
ولقد بينت في العام الماضي على صفحات الرسالة كيف وقف فريق من الأدباء موقف العداء الصريح من هذا الشهر الكريم فأوسعوه ما لا طاقة له باحتماله من الذم والقدح، وأريد اليوم أن ارفه عن القراء بحديث قوم اخلصوا لبطونهم واسترسلوا مع شهواتهم فهم يتفقدون الطعام في كل زمان ومكان، حتى إذا اشتموا رائحته سقطوا عليه كالضواري الفاتكة، وما اجمل أن نشيد بذكراهم في هذا الآونة، لنعتاض عن الطعام بالحديث عن أبطاله الأفذاذ وفرسانه المغاوير.
وإن تك قد منعت لقاء ليلى ... ففي أخبارها أرج يفوح
ونحب أن نعلن أن التفتن في المأكل والمشرب ليس مذمة تشين صاحبها، فقد أباح الله لنا أن نأكل من الطيبات ما لذ وراق (قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) كما حرص عز وجل على أن يسهب في غير موضع من القرآن في وصف ما بالجنة من فاكهة ولحم طير وخمر ولبن وعسل، لما يعلمه جل ذكره من لهفة ابن آدم على الطعام، وتطلعه إليه في شوق وانكباب.
ونحن نرى رجال الصوفية وهم المثل الأعلى في التقشف والزهد لا يتحرجون من الطعام الكثير متى وجدوه سمينا فقد كان عمر بن الفارض رضى الله عنه بطينا سمينا يأكل ويأكل حتى يلفت إليه الأنظار وكأن إبراهيم بن ادهم يتفق معه في مذهبه، فقد دفع إلى بعض إخوانه دراهم عديدة وقال: خذ لنا بهذه زبدا وخبزا وعسلا. فقال يا أبا إسحاق: بهذا كله؟ فقال إبراهيم ابن ادهم: ويحك، إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر(734/18)
الرجال.
كما يروى عن سفيان الثوري قصة عجيبة فقد جلس على مائدة مليئة وفوقها حمل شهي، فأخذ يأكل مع أصحابه بنهم؛ فقال صاحب المنزل يا غلام ارفع المائدة إلى الصبيان، فرفع الحمل إلى داخل البيت. فقام الثوري يعدو خلفه فقال صاحب المنزل إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال آكل مع الصبيان. فاستحيا الرجل وأمر برد الحمل ثانية إليه.
ولقد طلعت في كتب المتصوفين اصطلاحات عجيبة تدل على كلفهم بالمأكل والمشرب. فالحمل عندهم هو الشهيد بن الشهيد، والقطائف هي قبور الشهداء والفالوذج هو خاتمة الخير، واللوزينح هو أصابع الحور، وهذا قليل من كثير جدا ذكره الثعالبي في كنايته، والأصفهاني في محاضراته فليرجع إليهما من شاء.
وإذن فالكلف بالطعام ليس بمذموم على إطلاقه، ولكن لكل شئ نهاية، فإذا أدى الكلف إلى النهم والشره فذلك ما لا يطاق معه صبر واتئاد. واذكر أن صحابياً جليلا - أظنه ابن عباس - دخل عليه سائل نهم فأكل أكلاً عينفا، فجعل ينظر إليه في تعجب، حتى إذا خرج من عنده قال لخادمة إياك أن تدخله مرة أخرى، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المؤمن يأكل في مع والكافر يأكل في سبعة أمعاء.
ويعجب المطلع على الأسفار الأدبية حين يجدها متخمة بأخبار الكثيرين ممن أطاعوا شهواتهم فجن جنونهم بالطعام، ينصبون له الحبائل، ويتصيدونه من مظانه، باذلين ما يملكون من جهد في تحقيق رغبات أمعائهم سالكين شتى الطرق المباحة والمحرمة لا يزعهم وازع من خلق، ولا يقف أمامهم زاجر من ضمير، حتى كان من أحدهم أن رفع يده إلى السماء - حين قيل له هذه ليلة مباركة - فقال: اللهم اجعل التخمة دائي وداء عيالي. وسلك نهجه شره آخر فقال: اللهم أني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة، أكل حملا وشرب معسلا ونام في الشمس، فلقي الله شبعان ريان دفأن ملأن!!.
ومن المدهش الغريب أن يجاوز النهم طبقات العامة والدهماء إلى الملوك والخلفاء، وخاصة رجال العصر الأموي فقد أطلقوا العنان لملذاتهم، ونضدوا الموائد الدسمة لرغباتهم، وكأن كل خليفة ينظر إلى طعام من قبله فيزيد عليه متخيرا، وكأن الطعام قد صار كل شيء في الدولة، فهو الميدان الأول للتنافس والمباهاة!.(734/19)
وقد انتقلت حمى الجشع والنهم من الخلفاء إلى الأمراء والحكام في هذا العصر الشره، فكأن عبيد الله بن زياد يأكل قبل غدائه أربع خرادق أصبهانية. وكأن الحجاج بن يوسف ينسج على منواله، قال سلم بن قتيبة: عددت للحجاج أربعاً وثمانين لقمة، في كل لقمة رغيف من خبز، وفي كل رغيف ملء كفه سمك شهى. وكم تندر العرب بنهم خالد القسري وعبد الله ابن المغيرة الثقفي، مما يؤكد لنا أن الناس على دين ملوكهم في كل زمان.
ونبدأ بمعاوية، فنذكر أنه كان ذا أنياب حادة، وأضراس مفترسة، تأتيه المائدة محملة مثقلة فترجع خاوية خالية. وكانت الوفود تترى عليه من القبائل النائية فتعجب لما تشاهده من طعامه وشرابه، وتتحدث بذلك في شتى الأصقاع حتى قال فيه الوليد بن عقبة:
إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد ... لها أبدا ما دام فيها الجراضم
وأهل اللغة يقولون الجراضيم هو الواسع البطن الكثير الأكل ثم نثني بهشام بن عبد الملك فنسجل له مهارته النادرة في هذا المضمار، فقد خرج للتنزه ذات يوم فرأى راهباً يتحنث في بستان له، فدخل عليه فأخذ الراهب يجمع له من الفاكهة ما يقدم عادة للملوك والخلفاء، وهشام يأبى على ما يجيئه غير مقتصد في نهمه، ثم قال له: أتبيعني هذا البستان؟ فسكت الراهب لم يجب، فقال له: مالك لا تجيبني؟ فقال وددت لو مات الناس جميعا غيرك، قال: لماذا ويحك؟ الراهب: عسى أن تشبع!.
أما لوليد بن يزيد فلم يكتف بالبطولة في ميدان الطعام بل ضم إليها بطولة أخرى في ميدان الشراب، قال ابن أبي الزناد كنت عند الوليد ذات مساء فدعا بالعشاء فتعشينا ثم جاءت ثم جاءت المغرب فصلينا، وجلس ثم قال اسقني فجاءوا بإناء مغطى وجئ بثلاث جوار فصففن بيني وبينه حتى شرب ودهش فتحدثنا واستسقى ثم مازال كذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا من الشراب!!.
وقد يظن كثير من القراء أن هذا الأخبار ملفقة مصنوعة قد ألصقت بأصحابها إلصاقا لما يرون من غرابتها العجيبة، وأنا لا ارتاب في صحتها لحظة واحدة، لأننا نشاهد في عصرنا الذي نعيش فيه من يزيدون شراهة ونهما عمن ذكرنا من الخلفاء، فعندك (فقهاء) الريف يجلسون على الموائد المتعددة في ساعة واحدة ملالة أو سأم، وكأنهم يرجون الخدم فيغسلون الأطباق غسلا لا يحتاج معه إلى تنظيف وتجفيف. ورحم الله الأستاذ الشيخ عبد العزيز(734/20)
البشري فقد ذكر في الجزء الثاني من المختار ما رآه بعينه من الجشع والشره دون أن يخبره به مخبر، وهو عندنا صدوق مصدق. ولم لا أعلن القراء شاهدت نهما يأكل من سقط مملوء بالخبز اللين والجبن - وكنا نركب القطار من المنصورة إلى الزقازيق - فما كدنا نقطع الطريق حتى كان صاحبنا قد ترك الوعاء خاليا مما فيه، وكأن يستعين على أداء رسالته الجسيمة بالشراب المثلج بين الفينة والفينة حتى وفق في مهمته اكبر توفيق!! فهل نشك بعد ذلك فيما ترويه الكتب من أنباء؟.
أما الطامة الكبرى فهو سليمان بن عبد الملك فقد فاق من تقدمه في مضماره، وتحدث الناس بنهمه كما يتحدثون عن معجزة خارقة أخذت بمجامع الألباب، وهم يروون له قصة عجيبة نسمعها فتدعنا في حيرة منها ومنه، وما ظنك بمن يأكل في مجلس واحد جديا مشويا وخمس دجاجات وقصعة كبيرة من الثريد ثم يقعد ليشتكي الجوع!! ولقد كان جشعه هذا سبب موته ببطنته. . . قال أبو الحسن المدائني أقبل نصراني إلى سليمان بن عبد الملك وهو بدابق بسلتين، أحدهما مملوءة بيضا والأخرى مملوءة تينا، فقال قشروا فجعل يأكل بيضة بيضة وتينة تينة حتى فرغ من السلتين ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا بسكر فأكله فأتخمه، فمرض ومات صريع الطعام!!.
ونعرج على خلفاء العصر العباسي وأمرائه فنذكر أنهم ضربوا في هذا الباب بأوفر سهم، ويكفي أن نعلن أن الواثق والمتوكل والمستعين والمنتصر والمعتمد لم يكن يعنيهم من أمور الدولة ومشاعلها غير الطعام والشراب. وكانوا إذا فرغوا من الموائد انتقلوا إلى الحديث عنها مع من يلوذ بهم من الأمراء والسمار، حتى ليجوز لنا أن نسمى هذا العصر عصر الموائد والولائم - كما يقول الأستاذ العقاد - وهل رأيت قبل المتوكل على الله خليفة غضب على سميرة ونفاه من مجلسه لأنه لا يتفنن في الطعام؟ وهل رأيت أسفارا ضخمة كتبت في هذا الموضوع بذاته في غير زمان بني العباس؟ فقد ظهرت ثلاثة كتب في فن الطبيخ وحده وضعها أحمد بن يوسف الكاتب، وجحظة البرمكي، وإبراهيم بن العباس الصولي، (وخفت مذمة النهم لأنه اصبح قدوة علما وظمأ وكأنه في ذلك كله اقرب إلى الفخر منه إلى الملامة، وربما كان الخليفة وجلساؤه يتواعدون إلى الموعد، ومع كل منهم طعامه يتفهون باستعراض ألوانه والمقابلة بين صناعاته وطعومه).(734/21)
وتسألني لماذا أولع المؤلفون بتسجيل نهم الأمويين ومذمتهم دون العباسين مع أن بين أمية لم يبلغوا شأوهم في هذا المضمار؟.
والجواب أن خلفاء العصر الأموي مبتدعون مخترعون، فحقت عليهم الملامة والمذمة دون من ترسموا خطواتهم، لا سيما وقد حكموا الناس بعد الخلفاء الراشدين مباشرة، وهم كما نعلم أهل تقشف وورع فكانت عورتهم واضحة، وسبتهم بلقاء، وليت شعري أين الأرض من السماء؟!.
هذا ولن يتعجب أحد من ميتة سليمان بن عبد الملك بسبب بطنه فكثير من الآكلين يرون من الفخر أن تحين آجالهم في معركة حامية تستخدم فيها الأنياب والأضراس، وبدور رحى الخضم والمضغ، وهنا تكون الشهادة في ذمة الشره والنهم، وأن قائلهم ليصيح:
ألا ليت خبزاً تسربل رائباً ... وخيلا من البرنى فرسانها الزبد
فأقضي فيما بنيهن شهادة ... بموت كريم لا يعد له الحد!!
وخيال هذين البيتين يعطيك فكرة حميدة عن النضوج الذهني لعقلية قائلهما، ويخبرك أن بين المنهومين من صقله الطعام، وثقفه الشراب فأتى في شعره بالتركيب المتسق والمعنى البارع، والعقل السليم في الجسم السليم!!.
وأنت لو نظرت إلى أجوبتهم المسكتة، وردودهم المفحمة لعلمت أن وراء هذه البطون المكتظة عقولا فذة مفكرة تفحم مناظرها، وتستحوذ على الإكبار والإعجاب ودونك فاستمع هذه النادرة:
كأن للمغيرة بن عبد الله الثقفي وهو على الكوفة جدي يوضع على مائدته فلا يأكل منه، فتقدم أعرابي وتعرق عظامه، فقال: يا هذا أتطالب هذا البائس بزعل؟ هل نطحتك أمه؟ فأجابه على البديهة؟ وأنت شفيق جدا عليه هل أرضعتك أمه؟.
وهذا الجواب من الإبداع بمكان وهو ينفي تهمة البلادة التي تلصق بهذه الطائفة إلصاقاً مع أن الذكاء والغباء لا يأتيان من القناعة أو الشراهة، بل عما مما ركب في النفس يوم أن ذراها الله وإلا فلدي قصة عجيبة تدل عل ذكاء لماح ونضوج فذ، وما أظنها تدع القارئ شكا في صحة ما أقول:
استضاف أعرابي صديقه وكأن نهما أكولاً، فقدم إليه فحلا من الإوز، وكانت الأسرة جميعها(734/22)
تأكل معه، فأخذ الضيف الرأس وأعطاها لصاحبه، والساقين فأعطاهما لابنتيه، ثم هجم على الباقي فما ترك منه شيئا!! وحين اختلى الرجل بزوجته صمم على أن يكثروا من اللحم ما دام الضيف على هذا الجانب من الشراهة فاحضر على المائدة في المرة الثانية خمس دجاجات وانبرى الضيف للقسمة فقال أقسم بالشفع أم بالوتر؟ فقيل له بالوتر فأعطى الرجل وامرأته دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة وأعطى الولدين دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة، وأعطى البنتين دجاجة وقال ثلاثة ثلاثة!! وهنا صاحت المرأة نريد القسمة بالشفع، فأعطى الرجل وابنيه دجاجة وقال أربعة أربعة، وأعطى المرأة وابنتيها دجاجة وقال أربع أربع، ثم أشار إلى نفسه وتخذ ثلاث دجاجات قائلا أربعة أربعة!! ثم فأكل الجميع في وجوم ثم أنصرف الضيف بعد ذلك مشهودا له بالبراعة والتوفيق!!
(البقية في العدد القادم)
محمد رجب البيومي(734/23)
هوى المرأة
للآنسة نعمت أحمد فؤاد
ليس جمال الرجل هو كل شيء في عين المرأة، بل هناك صفات أخرى فيه تستهويها وتستبيها، فالقوة قوة الروح، وقوة الجسم تأسرها وتروعاها، وللفظ العذب المشرق يحلو في سمعها ويسري في دمها غبطة، فتنتشي منه وتسكر.
ولعل الرجل الفنان هو أحب الرجال إلى المرأة وآثرهم عندها.
أن العلوم من صنع العقل وهي حظ مشترك بين الجميع، ولكن الفنون هبة من الله يمنحها بقدر.
ولكم رأينا من النساء المترفات من تهجر زوجها الطبيب أو العالم، وتعلق بموسيقار أو رسام أو شاعر.
إن نفس المرأة تفيض رقة لهزج القيثار وتلوين الريشة، وترنيمة الشاعر. . . هذه الروائع الخالدة التي أبدعتها السماء، فجاءت في صفاء جمال البدر ولآلاء النجوم، وباركتها يد الله وكأنها صيغت من القطر حين ينزله من الغمام.
هذا هو التاريخ اسمعه معي يحكى لنا ولع الغانيات ببشار ابن برد الشاعر.
لم يكن بشار وسيما تأخذه العين، بل كان كما وصفه الأصمعي ضخما عظيم الخلق والوجه مجدوراً طويلا جاحظ المقلتين قد تغشاهما لحم احمر، فكأن اقبح الناس عمى وأفظعهم منظرا، وكأن إذا أراد أن ينشد، صفق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله، ثم ينشد فيأتي بالعجب!.
كان بشار بمجلسه الذي كان يسميه (الرقيق) وقد مد بساط الراح وحوله ندامى شرابه وعشاق شعره.
كانت ساعة أصيل تودع الشمس فيها الأرض، وتمنيها الأماني أن ترسل إليها البدر يرفدها بنوره حتى تطالعها هي في صباح الغد الجديد وراحت الشمس ولم تخلف وراءها في الأفق غير ألوان منها الأحمر والأصفر والأزرق كأنها تستعرض ألوان الزهر الذي تصنعه بحرارتها، وتمد له في الحياة. . .
ودارت الكئوس على الرفاق حمراء من لون الخمر كان الورد أراق فيها شرابه فتضرجت(734/24)
وارتفع الصخب حتى كاد يغطي رنين الأوتار، إذ وافى المجلس غانيات خمس كما يوافي الأمل دنيا موعود، فخشعت الأصوات وكأنها اطمأنت، وسكنت الضجة حتى وضح عزف المزاهر، واستوت القادمات مجلسهن حول بشار، ثم أندفع المغني يردد قول شاعرنا:
أيها الساقيان صبا شرابي ... واسقياني من ريق بيضاء رُود
إن دائي الظمأ وإن دوائي ... شربة من رضاب ثغر بَرُود
وأخذ الشادي يترفق باللحن تارة فتستنيم القلوب من النشوة، ويشتد به أخرى فتعصف بها الرغبة ويسمع لها وجيب.
هذا بشار في شغل بضيفاته يميل على هذه ويداعب تلك، ويهمس في إذن الأخرى، ويسر إليها حديثا لا يسمعه أحد، ولكنها تضحك فيفتضح المعنى وينكشف السر. وإذ تستجيب له الغانيات ويتهافتن عليه، تتمنع واحدة منهن وتزور عنه في كبرياء يمازجها دلال آسر. . . ويرتسم العجب على وجه بشار من أهوائها فيقبل على غلامه يسأله عنها فيعلم أنها (عبيدة).
كانت الفتاة كاملة الصغو للمغني تكاد تشرب النغم وكأنها لا تروى على كثرة العب وطول الرشيف، حتى إذا انتهى المغني أخذت عبيدة تعيد النغم بعده وتقلد تقليدا تاما راع الجمع وآثار دهشتهم وبشار في هذه المرة لا يتلاهى عن الغناء، بل ينصت ذاهلاً بحواسه كلها، حتى ليخيل إلى من يراه أن بصره ذهب في هذه اللحظة فقط استجابة لرغبته في أن يكون له عوضا عن البصر سمعان.
وتفرغ عبيدة من الغناء وتومئ إلى صاحباتها أن يتهيأن للخروج فيلبين دعوتها، وتخلف وراءها بشاراً غريقا في لجج النشوة، تائها عن نفسه وعن الوجود حتى إذا استفاق من غشيته ولم يجد الشادية، انطوى على نفسه، شارد اللب موزع القلب يعبث بعود ريحان في يده يخط به على الأرض تارة، يعبث بوريقاته تارة أخرى، ثم يسبح له خاطر فيضغط عل وريقات العود ويعتصرها في كفه، فتحتضر المسكينة ولا ذنب لها.
ويتقدم إليه هشام بن الأحنف راويته يسأله بمن يا ترى يهذي فيتمتم:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والإذن تعشق قبل العين أحيانا
ويكمل بشار القصيدة ويأمر راويته أن يكتبها ويسلمها لغلامه ليبلغها عبيدة التي هشت له،(734/25)
وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها، فيأكلن عنده ويشربن، وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها، ولا تطعمه في نفسها.
وظل الحبيبان يتزاوران تارة، ويتبادلان الرسائل أخرى، حتى شاع الخبر ورقى إلى أهلها ففزعوا إلى محتسب الجند بالبصرة واعلموا نبا بشار، فأخذ هذا يضيق عليه الخناق ويراقبه، فامتنع عن عبيدة، واسلم نفسه للجوى والسهاد. . . وهل غيرها عزاء للمحبين. . .؟
وأنه لذات يوم مع راويته هشام بن الأحنف يملي عليه شعر هواه، إذ أتته امرأة فقالت: يا أبا معاذ عبيدة تقرئك السلام، وتقول لك: قد اشتد شوقنا إليك، ولم نرك منذ أيام. فقال: عن غير مقلية والله كان ذاك. . ثم قال لراويته هشام: خذ هذه الرقعة واكتب فيها ما أقول ثم ادفعه للرسول:
عبدَ أني إليك بالأشواق ... لتلاقٍ وكيف لي بالتلاقي؟
أنا والله اشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق
وأهاب الحرسي محتسب الجن ... د يلف البريء بالفساق
أعلمت لماذا أرسلت إليه عبيدة؟ لم يكن الشوق وحده هو الذي دفعها بل أرادت أن تراه لتفضي إليه بالنبأ الخطير. . .
أن أهلها عملوا على أن يزوجوها برجل من عمان لتخرج عن البصرة ليخفت الحديث الذي سار بين الناس وتناقلته مجالسهم.
ويذهب القوم ليحتفلوا بزفاف عبيدة ويشهدوا رحيلها مع زوجها إلى عمان، ويبقى شخص واحد!.
نحن هنا (بالرقيق) أيضاً ولكن لا كئوس ولا أوتار ولا ندامى!.
إن شاعرنا اليوم كاسف البال ملتاع الفؤاد قد اجتمع عليه الوجد والبعد والأسى ثلاثتهم وخيم على البيت الصاخب الكابة والسكون. . . سكون عميق لم يشقه إلا صوت بشار يسأل هشاما أين الأحنف: وهل رضيت عبيدة بالخروج مع زوجها إلى عمان؟.
نعم رضيت، ولعلها على مقربة من عمان الآن! فينكب بشار عل نفسه، ويتمتم في صوت خفيض:(734/26)
هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت ... وأشفى لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ... تناهي وفيها من عبيدة طيب
نعمت أحمد فؤاد(734/27)
الأشغال الشاقة المؤبدة
للأديب فؤاد السيد خليل
قالت: ما هي مدة الأشغال الشاقة المؤبدة؟ قال: خمس وعشرون سنة، ينقص ربعها الذين يحافظون على النظام والطاعة في السجن، فهل تريدين ارتكاب جناية؟ فابتسمت وقالت: لقد تزوجت! وعلى الرغم من محافظتي على النظام والطاعة، وتبرعي بما هو أكثر من النظام والطاعة، لم تنته مدة عقوبتي بعد نيف وعشرين سنة ولا أظنها تنتهي أبداً! قال: إنما كنت اعرضها للسعادة! قالت: هذه أمنية! قال: على كل حال كانت محاولة لم تنجح وشكرا لك. وما هي الأشغال الشاقة التي تفعلينها؟ ألا يقوم الخدم بأعمال المنزل؟ قالت: أيقومون بها دون مساعدتي بل اشتراكي الفعلي؟ ومع ذلك فهذه أمور يسيرة! قال: أعندك بعد هذا ما يسمى أشغالاً شاقة؟! قالت: نعم! الفكر والصبر، والقهر! قال: لا تبالغي! قالت: إنك لا تنكراننا لا نبلغك (كوارثنا) إلا بالتدريج، وبعد أن ننتهي من علاجها أن استطعنا وإنك قد تأتي من الخارج أو تصحو من نومك فلا تعلم كيف قضينا النهار أو الليل في قضايا وإسعاف وتمريض! قال: ولا تنكري أنني لا أبلغكم مصائبي أبداً، وأنني أعمل كالرجل الذي كان إذا أراد أن يدخل منزله ركع وقال للتعب والهم اركبا الآن يا ابني الزمان! قالت: ولكننا نقرا كل شيء في وجهك ونخبرك به! فهل استطعت أنت مرة أن تقرا ما نخفي عنك؟ قال: أشهد أنني أمي في قراءة الوجوه الناعمة! فخبريني بما عندك، وبالتدريج من فضلك. قالت: ابنك الكبير لم يكتب إلينا منذ بضعة شهور. قال: لأننا نكتب إليه، ونسأل عنه، ونحبوه عطفنا قبل أن يحتاج إليه، فهل تحبين أن نضطره إلى الكتابة؟ قالت: وهذا الطفل لا (يتعاطى) إلا الماء والشاي والبطيخ! قال: أخشى أن يأتي يوم تشتكين فيه من أنه (يتعاطى) كل شئ! قالت: لا تمزح، فإني لم أبلغك إلا أخف الأخبار! قال: فما الأخبار الثقيلة؟ قالت: هذه البنت تلزمها عملية جراحية وقد تموت فيها. قال الأعمار بيد الله، والحكومة (الله يسترها) تنقل الموتى من الموظفين وعائلاتهم إلى بلادهم على نفقتها، أما الإحياء فإنها تتركهم إلى أن يموتوا! قالت: فما كنت تريد؟ قال: كنت أفضل أن تنقل الإحياء كل عشر سنوات (بدل وفاة) ولا تتركهم يموتون من الحر والقهر! قالت: وإذا ماتوا؟ قال: تدفنهم حيث يموتون فليسوا خيرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت: لا(734/28)
تخرج عن الموضوع، فقد تشفى البنت و. . . قال: وهذه مصيبة أخرى! قالت: ألا تنظر ابعد من أنفك؟! ألا تعلم ما يلزم لكل فتاة؟ إنه هم ثقيل. قال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قالت: فإني لم أبلغك بعد اثقل الأخبار! قال: هاتي اثقل ما عندك! فابتسمت بحرارة وهي تقول: ابنك الثاني رسب في الامتحان كما تعلم و. . . قال: نعم، وسينجح في الملحق. قالت: كلا! إنه يأبى أن يذاكر ولا يريد أن يدخل المدارس! قال: لا شك أنه جن! قالت: لم يجن بعد، ولكنه في دور المراهقة وأنت تعلم خطورة هذا الدور عليكم معاشر الذكور. قال: إنني لا اعلم هذا الدور علي التحقيق يا عزيزتي، لأنني ولدت بعده! قالت: لا يغنك أن عصمك الزواج المبكر، فإن بعض الشيوخ يموتون وهم لا يزالون في دور المراهقة! قال: أتعنين أنه (كالحصبة) لا بد أن يمر به كل إنسان؟ قالت: نعم، وهو على الكبار اخطر! قال: فما العلاج؟ قالت: للصغار الرياضة وللكبار الزواج. قال: فهل تنصحين لي إذن بالزواج؟ فابتسمت وقالت: نعم! إذا مت أنا ووجدت من ترضى بك! قال: أرجو إذن أن تموتي الآن أو لا تموتي أبدا! قالت: اسأل الله أن أموت قبلك! قال: بل اسأليه أن يعيش أحدنا حتى يربي الأطفال قالت: وبم أربيهم أنا إذا بقيت لا قدر الله؟ قال: بالمعاش! قالت: وكم يكون هذا المعاش، ومن يستطيع الحصول عليه؟ ألم تقرأ أن والدة كاتب النيابة الذي قتله (الخط) في العام الماضي لا زالت تسعى للحصول على معاش ابنها بدون جدوى قال أعجزت النساء أن يلدن من يستطيع حل هذه المشكلة؟ قالت: إن النساء لم تعجز، ولكن الرجل عجزوا! قال: كان خيراً لنا والله أن ندفع ما ندفعه في المعاش لإحدى شركات التامين على الحياة! قالت: ولم لا تنشأ شركة للتأمين على المعاش؟ قال: كيف ذلك؟ قلت: تؤلف شركة يرأسها (خواجه) أو على الأقل (باشا) تحصل للمستحقين على معاشهم في مقابل نسبة مئوية من المعاش. وأؤكد أنها ستحصل على أي معاش قبل مضي شهر على تاريخ الوفاة. قال: توجد الآن طريقة أخرى، فقد سمعت أن أحد المحالين على المعاش أمكنه الحصول بسرعة على معاشه بواسطة صديق له من صغار الموظفين أهدى إليه (صفيحة ملوحة)! قالت: إنها تشنيعا من تشنيعاتك! قال: من يدري، فلعل ما خفي اعظم قالت: وما السبب؟ قال: كثرة اللوائح والتعليمات وقلة المرتبات. قالت: فما العلاج؟ قال: أما عن المستقبل، فالعلاج عدم التوظيف وعدم الزواج! وقالت: عن الماضي؟ قال: إني(734/29)
أرى أن كثرة اللوائح والتعليمات والتعقيدات لا لزوم لها، فإن أية مصلحة حكومية في أي بلد يمكنها صرف المكافأة أو المعاش في بضعة أيام، كما تفعل شركات التامين، بغير أن تلزم الموظف أو أسرته بالجري سنين في وزارة المالية! قالت: وكثرة الموظفين وقلة المرتبات؟ قال: على الحكومة إبقاء الموظفين اللازمين وزيادة مرتباتهم وفصل الباقين! قالت: وماذا يصنع الباقون؟ قال: صحيح. . . إلى السودان! قالت: إنهم لا يستطيعون! قال: فإلى إنجلترا إذن! قالت: فإن لم يستطيعوا يهاجروا إلى روسيا! قال: هذا إذا لم تهاجر روسيا إليهم!
فؤاد السيد خليل
خواطر مسجوعة
المرأة
هي الناعمة الجبارة، واللينة القهارة، ذات الأدوار الغريبة والأطوار العجيبة. . .
أردت وصفها فأبدت زيفا، وتنكرت كما وكيفا؛ والمرأة أن تنكرت عكرت. وإن تغيرت حيرت. وإن ألغزت أعجزت.
فمعذرة يا قارئي إن بحثت عن حقيقتها فلم أجد، ورسمت صورتها فلم أجد، فليست لها صورة واحدة بل صور متعددة. وكلما زادت معرفتي لها ازداد الأشكال تعقدا، وزادت الأشكال تعددا؛ وأي قيس لم تخامره في ليلاه الحيرة، وأي رجل لم تساوره على أنثاه الغيرة؟! وإذا كان ذلك شأن من أبلى وتعلم، فما بال من لم. .؟!.
رأيت المرأة كالضلع على اعوجاجها حانية، وعل صنوها صلبة قاسية!
رأيتها - إن أخلصت - رحمة، وفضلا من الله ونعمة، ورأيتها - إن تنكرت - ليلا مظلما، ولغزا مبهما!
ترضى فتظهر الجميل، وتقنع بالقليل وتستر العيب، وتؤمن بالغيب، وتشفي العلة، وتروى الغلة، وتنير الظلام، وتنيل المرام.
وتغضب فتكدر الصفاء، وتجلب الشقاء، وتقبح الحسن، وتضمر الفتن؛ وتعمد إلى التدمير والتخسير فتبدد الكثير واليسير.(734/30)
وللمرأة مقدرة في حروبها، وقوة لا يستهان بها؛ تحسبها عزلاء وكلها أسلحة وكلما حاربت كانت هي المفلحة وهل ترى سلاحا أقطع من دموعها الكذابة، وكلمتها الخلابة؟!.
تحسن المظاهر والله اعلم بالسرائر فتبكي إذا شاءت وتضحك كلما أرادت!
تذهب إلى المناحة كمحزونة ثكلى، وتعود إلى الزفاف كعروس تجلى! وقد تراها في المرقص راقصة لاعبة، وفي المعبد عابدة راهبة!.
تتقن المائد، وتتفنن في لامكائد؛ ومن عجب أنها على قسوتها مرحومة، وعلى جنايتها مظلومة، وعلى رقتها مرهوبة، وعلى إساءتها محبوبة!.
تبذل الجهود لأجلها ويستهان بالصعاب في سبيلها. ساكنة وهي المحركة، آمنة وهي اصل المعركة. فهي في خدرها ذات قيادة وصاحبة سيطرة وسيادة توقظ الهامة وتحبي العزيمة، وتفتق الذهن، وترفع شأن الفن؛ وهل ننسى ما لها من الأثر الهام، في الوحي والإلهام؟ وأهم من ذلك وأعم، إن كل عبقري ولدته أم؛ فللوالدة فضل المولود، بل عليها قوام الوجود. . . .
حامد بدر(734/31)
تعقيبات
الانتحار في مصر:
في عدد سابق من الرسالة كتب الدكتور أحمد موسى مقالا عن الانتحار كظاهرة اجتماعية نفسانية قال في مطلعه: (لم يكن الانتحار معروفا في مصر قبل ربع قرن، وكان الناس على الأرجح أكثر قناعة واحتمالا وارحب صدرا لمقابلة آلام الحياة وأقل تبرما بها، أما الآن ولا سيما خلال عشر السنوات الأخيرة، فقد بدت ظاهرة مخيفة هي أقدام الكثيرين على الانتحار، سواء في ذلك لا شبان والشابات، والرجال والنساء دون فرق ظاهر بين متعلم وجأهل، وبين فقير وغني، وبين صحيح ومريض، وين متزوج وأعزب. . . . .).
وهذا كلام يحتاج إلى تصحيح، والصواب أن يقول: إن الانتحار لم يعرف في مصر كظاهرة اجتماعية قبل نصف قرن، ولم تتمثل هذه الظاهرة للعيان إلا بعد أن اتصلت مصر بأوربا، وأخذت تعب من شرور المدينة الأوربية أضعاف ما تقتبس من خيرها، وكان هذا الداء الوبيل ضمن الشرور التي أصابت المجتمع المصري وتأصلت فيه.
والطريق الذي وصل منه هذا الداء إلى مصر هو الأدب، أدب القصص الأوربي وما يحمل من انتحار أبطال تلك القصص وبطلاتها، ثم ما كإن يصوره ذلك الأدب من حوادث الانتحار على المسرح وقد وجد هذا النبات الغريب في بيئتنا تربة خصبة وعوامل للنمو مما خلفته العصور المظلمة في نفوس المصريين فما وفرع ولعل أوضح آثار لهذا الداء هو ما بدا بين تلامذة المدارس الراسبين في الامتحان من الإقبال على الانتحار بكثرة مخيفة أفزعت أولياء الأمور، وقد صور المغفور له أمير الشعراء هذه الظاهرة وندد بها في قصيدة من أروع قصائده إذ يقول:
كل يوم خبر عن حدث ... سئم العيش ومن يسأم يذر
عاف بالدنيا بقاء بعد ما ... خطب الدنيا وأهدى ومهر
حل يوم العرس منها نفسه ... رحم الله العروس المحتضر
ضاق بالعيشة ذرعا فهوى ... عن شفا الناس وبئس المنحدر
راحلا في مثل أعمار المنى ... ذاهبا في مثل آجال الزهر
إلى أن يقول:(734/32)
لامه الناس وما اظلمهم ... وقليل من تغاضى أو عذر
قال ناس صرعة من قدر ... وقديما ظلم الناس القدر
ويقول الطب بل من جنة ... ورأيت العقل في الناس ندر
ويقولون جفاء راعه ... أب اغلظ قلبا من حجر
وامتحان صعبته وطأة ... شدها في العلم وأودى بالأسر
لا أرى إلا نظاماً فاسداً ... فكك العلم وأودى بالأسر
ولما نظم حافظ إبراهيم قصيدته المعروفة في شكوى الحياة، وقال فيها عن نفسه:
سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ... وعدت وما أعقبت إلا التندما
سلام على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنسا ومغنما
أضرت به الأولى فهام بأختها ... وإن ساءت الأخرى فويلاه منهما
فهي رياح الموت نكباء وأطفئ ... سراج حياتي قبل أن يتحطما!
انتقدته الصحف ونددت بهذه الروح، وقالت إحدى المجلات الأدبية: حرام علت حافظ إبراهيم أن يصور اليأس لأبناء مصر بهذه الصورة، وأن يكون لهم قدوة في التلهف في الموت ومفارقة الحياة، لأن هذا مما يحبب لهم الإقدام على الانتحار.
ولاشك أن ظاهرة الانتحار في مصر قد تطورت في مظاهرها وفي أسبابها، فبعد أن كانت محصورة في استعمال الشنق أو تجرع المواد السامة، أصبحت تتم بفنون مختلفة لإزهاق الروح وبعد أن كانت قاصرة على التلاميذ الراسبين، غدت نهبا لكل أسباب المضايقة ونكد الحياة، وقد دل آخر إحصاء عن حوادث الانتحار والشروع فيه بمصر في عام واحد على أن الإقدام على هذا الجرم الشنيع يرجع إلى عدة أسباب تبلغ في النسبة المئوية 86 بدافع المرض المزمن، و54 بسبب الفقر المدقع، و30 من جراء الشقاق العائلي، و24 من المتاعب الزوجية، و22 لسوء المعاملة، و17 من اثر الحزن، و16 بدافع الكوارث المالية، و12 لأسباب غرامية، و9 سبرا للعار وخوفا من الفضيحة. وعلى أي حال فإن هذا المرض ليس من طبيعتنا، ولكنه لعنة لحقت بنا من لعنات المدينة الأوربية. وما أكثرها.
هذه الألفاظ الأثرية أيضا:
لا أريد أن أدخل في مناقشة مع الأستاذ أحمد رضا عضو المجمع العلمي العربي الدمشقي،(734/33)
لأني على يقين أنه هو ومن يلف لفه من اللغويين يمسكون أنفسهم بفكره لا يريمونها، وهي أن القواميس قد جمعت من الألفاظ ما يكفي لكل معنى مستحدث فغاية البراعة في التقديم هي أن يبذل الرجل منهم جهد الطاقة ليظفر بكلمة مهما كانت مجفوة ميتة، ثم يكرهها إكراها على أداء معنى حادث ولو لأني ملابسة؛ وإني إذ اطلب منه ومن أصحابه الاتجاه إلى ناحية ارحب في توفير مادة اللغة، فإني أكلفهم خطة شديدة.
غير أني أعود إلى هذا الموضوع لأقول لحضرته في كلمة قصيرة أنني لا أقول أن (الألفة الذوقية وحدها تكون ميزانا لوضع الكلمات اللغوية واختيارها) كما فهم من كلامي، ولكني أقول أن اللغة لا شك ظاهرة اجتماعية تتطور بتطور الحياة، وأرجو أن لا يغضبه هذا التعبير، وهي بهذا المعنى تتأثر بالظواهر الاجتماعية الأخرى، وتكون صورة لأفكار أهلها وأذواقهم وما يناسب اتجاهاتهم وميولهم نحو الحياة، ولهذا تموت من اللغة ألفاظ وتعابير وتستحدث ألفاظ وتعابير، ولولا أن تكون اللغة مطواعة قابلة بمادتها لهذا التطور فإنها لا بد أنها تختفي ولهذا السبب كم اختفت لغات ولغات!.
ولقد ماتت من اللغة العربية ألفاظ كثيرة، ماتت لأنها فقدت ما يصلها بحياة الناس من الجرس والأداء والمعنى، ثم بقيت محفوظة في المعاجم كأنها قطع الآثار في المتاحف، وهي لاشك عربية أصيلة، وقد تكون وردت في أمثال من فصيح الشعر والنثر ومأثور الكلام، ولكنا لا نستطيع أن نبعث فيها الحياة مرة أخرى، وإلا لظلت هي حية على رغمنا، فالدرمك والدغري والمدغرة والدلق والمربقة ألفاظ عربية لا أماري في عربيتها ولكنها ماتت منذ زمن قديم وليس في طبيعتها نحن ما يهي لها الحياة ويقدر لها التداول في الألسن والسير في أساليب الكتابة والشعراء والخطباء وهم صيارفة الكلام.
ولعل الأستاذ يعرف أن جماعات وأفراداً من الأفذاذ المخلصين قد وقفوا جهودهم على هذه الخطة التي ينتهجها في خدمة اللغة بإحياء الألفاظ المجفوة الميتة، ولكنهم لم يجدوا كثيرا، فنادى دار العلوم والمجمع اللغوي القديم الذي تالف برياسة السيد البكري، والمغفور لهما فقيدا اللغة أحمد تيمور باشا، واحمد زكي باشا، وغير هؤلاء جميعا قد جهدوا في اختيار ألفاظ قديمة لتأدية المعاني المستحدثة، وأرادوا مدافعة الدخيل من أسماء المخترعات والمكتشفات بإحياء ألفاظ قديمة نسيها الزمان فما أجدى هذا العناء كما يجب.(734/34)
اختاروا (البرندج أو الأرندج) لبوية الأحذية و (الوهين) لمقدم الفعلة، و (الدريئة) للهدف الذي يتعلم عليه الرمي، و (الطريخ) لسمك السردين، و (الطيلسان) للشال، وهو الكساء المعروف، كما اختاروا عشرات من أمثال هذه الكلمات، فأين هو الكاتب أو الشاعر أو الخطيب الذي استعمل هذه الكلمات حتى من بين أولئك الذين أضنوا أنفسهم في إخراجها واختيارها، وهكذا سيكون الشأن فيما اختاره الأستاذ رضا الدرمك والدغري والقنع، فسيظل الأدباء يؤثرون عليها في التعبير الدقيق، الفاخر، والحروب المفاجئة، وطبق الفاكهة. . .
وبعد، فلا يحسب الأستاذ إني أسد هذا الطريق من بابه، أو أنقضه من أساسه، أو أنكر إحياء الألفاظ العربية، ولكني أنشد الألفاظ التي تصلح للحياة حتى يمكن أن نحيا، ولي في هذا رأى قد ادعته في (الرسالة) منذ عشر سنوات في مقال بعنوان (مهجور اللغة)، ولولا ضيق المقام، وأن المقدر لي في هذا الباب أن يكون (تعقيبات) خاطفه، لمددت القول في تلك الناحية إلى الغاية.
(الجاحظ)(734/35)
الأدب والفن في أسبوع
مصر وسودانها وشعرائها:
غنت أم كلثوم (أغنية السودان) في المذياع يوم الاثنين، بعد أن قدمت لها بكلمة رقيقة قالت فيها: (إنه في هذا الوقت الذي تعرض فيه قضية الوطن على مجلس الأمن أردت أن اقدم هذه الأغنية التي تعبر عما يجيش في نفوسنا نحن أبناء الوطن.
و (أغنية السودان) التي غردت بها أم كلثوم هي أبيات مختارة من قصيدة (اعتداء) التي قالها شوقي في تهنئة سعد زغلول بنجاته من حادث إطلاق الرصاص عليه، وذكر فيها من المسائل الوطنية مسالة السودان.
ومنذ شهور اختيرت لعبد الوهاب أبيات من قصيدة (شهيد الحق) التي قالها شوقي في ذكرى مصطفى كامل وجاء بها ذكر السودان في البيت التالي:
وأين الفوز؟ لا مصر استقرت ... على حال ولا السودان داما
فأخذنا هذا البيت ضمن أبيات تندد بما كان في ذلك الوقت من اختلاف الأحزاب وانقسام الزعماء، وسميت أيضا (أغنية السودان) ثم غير هذا الاسم فكان (وحي السودان) ثم سميت (إلام الخلف) ثم طويت. . .
أما أغنية أم كلثوم فقد لوحظ في اختيارها أن يكون ذكر السودان فيها أكثر مما كان في أغنية عبد الوهاب؛ ويخيل إلي أن الذي قام باختيارها بحث في شعر شوقي حتى عثر على قصيدة (اعتداء) فتنفس الصعداء وشعر بلذة الظفر، إذ وجد بها عدة أبيات في قضية السودان، ولكن كيف يستخلصها؟.
بدأت الأغنية هكذا:
وفي الأرض شر مقاديره ... لطيف السماء ورحمانها
وموضع هذا البيت هناك في قصيدته حيث التعبير عن الارتياح لسلامة الزعيم ولطف الله بالبلاد، فنقل البيت كارها متبرما ليكون مطلع الأغنية! فتبدأ به جثة مسلوبة الروح. . . ويأتي بعدة خمسة أبيات هي خمسة أشلاء متقطعة الأوصال فاقدة الحياة. . . ثم يأتي ذكر السودان، واصله في القصيدة هكذا:
ويا (سعد) أنت أمين البلا ... د قد امتلأت منك إيمانها(734/36)
ولن ترتضي أن تقد القنا ... ة ويبتر من مصر سودانها
وحجتنا فيهما كالصبا ... ح وليس بمعييك تبيانها
فيحذف البيت الذي فيه (سعد) ويبدأ البيت التالي بـ (ولن نرتضي) بتحويل تاء المضارعة إلى نون، ولا ادري من يكون المخاطب بقوله (وليس بمعييك تبيانها) بعد حذف (سعد)؟
ولا أريد أن أطيل بالاسترسال في بيان الاضطراب والتشويه والمسخ في هذه القطعة، وإنما أريد أن اخلص إلى أمرين:
الأول: إن اختيار الأبيات على هذا النحو من قصائد قيلت في حوادث ماضية، لمجرد التشابه بينها وبين حال حاضرة، إنما هو عبث بالآثار الأدبية وجناية عليها، ليس بالتشويه والمسخ فحسب، بل كذلك بعدم الالتفات إلى الدقائق الفنية التي تدل على الفوارق بين حال وحال.
الأمر الثاني: هو أنه ما دامت الرغبة متجهة إلى غناء قطعة موضوعها (السودان) فلم الالتجاء إلى تلك الطريقة؟ أذلك لاعتبار اقتصادي؟ أم أن مصر أقفرت من شاعر ينظم في السودان قطعة مناسبة تغنيها أم كلثوم أو عبد الوهاب؟
أيصح أن نبتغي الغناء بما يجيش في صدورنا نحو وطننا في الوقت الذي تعرض فيه قضيته على مجلس الأمن، فلأنجد شاعرنا يغنينا عما قيل منذ ربع قرن وقد تطورت الأفكار وجدت أحداث؟
فأين شعراؤنا من قضايا الوطن الحاضرة؟ ألا يشعرون بها؟ وأين التعبير عن هذا الشعور؟
لقد كان الشعراء يحفزون الهمم ويغذون المشاعر، أما الآن فالناس يتحفزون ويتوثبون وهم لا يحسون للشعراء بوجود. أنهم يلتهبون عندما تغنيهم أم كلثوم لشوقي من قصيدة (سلوا قلبي):
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تأخذ الدنيا غلابا
رأينا الجمهور يفور حماسة من هذا البيت وهو ليس نصا فيما يريد. . . مما يدل على أنه يتلمس الوقود تلمسا فلم لا يستجيب الشعراء لمشاعر الأمة ومطالبها الوطنية؟
إن من نكد الأيام على هذه الأمة المسكينة أن الفنون فيها إنما تستعمل لإثارة الغرائز وجلب ما يملأ البطون. أما الشعور بالصالح العام فليس حظ الفن منه بأكثر من حظ السياسة. . .(734/37)
فلك الله يا مصر. . .
حول معجم الحديث:
أتينا في العدد الأسبق ممن الرسالة، على فحوى ما كتبه الأستاذ فرج جبران إلى الأهرام في شأن (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي شرع فيه بعض المستشرقين بليدن ولكنه لم يتم إلى اليوم لأن إتمامه يحتاج إلى معاونات مالية ودعوته إلى تقديم يد المعونة إليهم لكي يتسنى لهم إتمامه.
وقد نشرت الأهرام تعليقات على هذا الموضوع تدور كلها حول الإشادة بعمل أولئك المستشرقين والثناء على مجهوداتهم في خدمة لغتنا وديننا إلى آخر ما طالما سمعناه من هذا الكلام ومللناه.
وأقول أولا أن ما تضمنته كلمة الأستاذ فرج جبران من أن مصر كانت قد ساهمت قبل الحرب في دفع النفقات اللازمة لإتمام هذا العمل - لم أجد أصلا في الجهات ذات الشأن في مثل هذا، التي رجعت إليها للتحقيق من صحته. ويعزز عدم صحته ما ذكره الأستاذ فؤاد عبد الباقي في الأهرام من أنه راجع مقدمة الجزء الأول، فلم يطلع فيها على ما يدل على تلك المساهمة.
ومما ذكره الأستاذ فؤاد أن الدكتور منسنك أراد قبل أن يبدأ في وضع العجم إشراك أكبر هيئة إسلامية فيه فقدم إلى الأزهر نموذجا منه لأخذ رأيه فيه فألف لجنة قامت ببحثه وقررت ألا فائدة ترجى منه.
أننا لا ننكر المجهودات القيمة التي قام بها المستشرقون في خدمة اللغة العربية والتاريخ العربي الإسلامي والتي لم يطلبوا مساعدة مالية فيها من الحكومة المصرية ولا من غيرها، ولكنا منذ نحو نصف قرن من الزمان نتلقى هذا المجهودات وننظر فيها وننتفع بها؛ وأكثرها، بل كل النافع منها، ما يتعلق بالترتيب والتنسيق ومن أهم ذلك الفهرسة أي أن جهودهم النافعة مما لا مشقة في اكتسابه، فهل تعلمنا ذلك منهم بعد كل ما تقدم؟ وهل أصبحنا نستطيع أن نقوم مثلهم بتلك الأعمال؟ إذا كان الجواب نعم فيجب أن نضع حدا لتلك الطريقة التقليدية في التنويه بكل ما يرد من الخارج، وأن لم يكن كذلك ففيم جهدنا طوال تلك السنين؟(734/38)
فيصنع القائمون بذلك المعجم ما يصنعون من إتمامه، أو تركه حسبما يتفق لهم أما ما يرجى أن نساعد به من مال أو جهد فاستغلاله في بلادنا تحت أعيننا فيما نراه مفيدا خير على أي حال من الرمي به إلى ما وراء البحار. . .
رفض تمثيلية:
نشرت (أخبار اليوم) أن محطة الإذاعة وفضت تمثيلية معريه من مسرحية (كنديدا) للكاتب الإنجليزي برناردشو واتت بنص التقرير الذي رفضت به، واهم ما في التقرير من أسباب رفضها أن فيها سخرية بالقسيس زوج (كنديدا) وأنها تصور التهتك النفسي لزوجة تفاضل بين زوجها الطيب وعاشقها، وأنه ليس من الوفاء لوطننا أن نواصل الترويج لآداب الأمم الأجنبية في وقت نحن أحوج فيه إلى تغليب شخصيتنا الفكرية.
ولا شك أن تغليب شخصيتنا الفكرية على المترجمات مطلبنا القومي في الأدب والفن، ويسرنا أن تعمل إذاعتنا في تحقيقه بالإكثار من إذاعة تمثيليات مصرية بلغة مصري عربية فصيحة من إنتاج أدبائنا الناضجين.
ولكن (التغليب) ليس معناه رفض المترجمات كلها وعدم الانتفاع بالجيد منها، وهل نفهم من ذلك التقرير أن محطة الإذاعة لن تذيع بعد ذلك تمثيليات مترجمة كتلك التي يقوم عليها الركن الثقافي لهيئة خريجي القسم الإنجليزي؟
أن مسرحية كنديدا يعدها النقاد من الأدب العالمي، ويقولون أن برناردشو خرج في هذه القصة على مألوف عادته في تناول الموضوعات الوقتية وحاول أن يرسم فيها شخصية المرأة الخالدة.
على أنه، بغض النظر عن هذه التمثيلية بالذات، لا يجوز أن نختط هذه الخطة التي يرمي إليها تقرير الإذاعة فلا ينبغي أن يكون العمل على إبراز شخصيتنا الأدبية مدعاة إلى إغفال الروائع العالمية.
إصدار المطبوعات واستيرادها:
كتبت دار النشر العربية ببيروت إلى (الأهرام) كتابا أشارت فيه إلى ما قررته الحكومة المصرية من تقييد الاستيراد، وقالت إن هذا القرار يطبق على استيراد المطبوعات من(734/39)
البلاد العربية ورجت فيه رفع هذا الحظر ذاكرة أن ما تصدره البلاد العربية كلها إلى مصر من المطبوعات لا يعدل واحدا في المائة مما تصدر مصر إلى لبنان وحده. وقال المسؤولون بوزارة المالية في ذلك أنه رأى وقف الإصدار والاستيراد مؤقتا ريثما تنتهي اللجنة المختصة من وضع القواعد الجديدة التي تقيدهما.
وهذا الذي أجاب به المسؤولون لا يزيل الباعث على شكوى دار النشر البيروتية، فهو يدل على وقف الإصدار والاستيراد، ولا شك أن الوقف أو التقييد في استيراد وإصدار المطبوعات يثير شكوى دور النشر في البلاد العربية كلها. وإصدار المطبوعات يثير شكوى دور النشر في البلاد العربية كلها.
وللمسألة وجه آخر غير الناحية المادية التي تقلق لها دور النشر، ذلك الوجه هو الرباط الفكري بين البلاد العربية التي تعد من هذه الناحية على الأقل أمة واحدة، يهيا لها زاد ثقافي واحد. ولا يجوز مطلقا أن توهن الاعتبارات الاقتصادية من هذا الرباط فيجب ألا يشمل أي إجراء من وقف أو تقييد في الإصدار والاستيراد - ما تتبادله بلاد الأمة العربية من جرائد ومجلات وكتب ولا ينبغي أن يكون هذا موضع بحث لجنة أو رهن الفراغ من عمل لجنة، إلا أن يكون كذلك إرسال ما يصدر في القاهرة من صحف ومجلات إلى الإسكندرية أو أسيوط. . . إنما هي مسألة بديهية يبت في بالفور ولا تحمل التسويف.
الأدب اللبناني في مصر:
تضمن كتاب دار النشر العربية ببيروت الذي أشرنا إليه، موازنة ما تصدره البلاد العربية كلها إلى مصر من المطبوعات بما تصدره إلى لبنان وحده. . . ولا يسعنا إلا الإغضاء عن حصر اهتمامها وقلقها في تقييد ما تستورده مصر من المطبوعات لأن ما تصدره مصر لا يعنيها في محيطها التجاري ولكن تلك الموازنة تنطوي على أمر وثيق الصلة بما يردده إخواننا أدباء لبنان من أن مصر تهمل الأدب اللبناني ون الكتاب اللبناني كاسد في السوق المصرية، وأن الأدباء المصريين لا يكترثون به، على عكس ما يلقاه الكتاب المصري في لبنان. . .
ومن ذلك كلمة لأديب لبناني هو الأستاذ سهيل إدريس في مجلة العالم العربي، قال فيها: (أن الكتاب اللبناني يموت في السوق المصرية ويهمل في الوسط الأدبي، ولا يتناوله(734/40)
الكتاب المصريون بالنقد أو التعريف، على الرغم من أنه يضاهي - في كثير من الأحيان - الكتاب المصري روعة أدب وسمو فكر وإتقان إخراج. . . حتى لقد اصبح الشعور العام في لبنان أن هناك مؤامرة على الكتاب اللبناني يدبرها الأدباء المصريون!)
وجاء في رد محرر العالم العربي (أن حظ الكتاب المصري في هذا ليس خيرا من حظ الكتاب اللبناني، فحركة النقد هامدة ومعظم الذين يتولونها لا يصلحون لها. وفوق ذلك فكثير ممن يتولونها يرونها وسيلة لإرضاء الأصدقاء والتشهير بالأعداء، وكثيرون لا يتحركون للتنويه إلا تلبية لأغراض وردا لخدمات)
ولكن في ذلك ما يدل على أن حظ الكتاب المصري خير من حظ الكتاب اللبناني. . وإنما يتساوى حظهما إذا جاء المؤلفون اللبنانيون إلى مصر في اثر كتبهم وطافوا بالصحف والمجلات واصطنعوا بها ما يصطنع المؤلفون المصريون من أصدقاء التنويه. . ولن يفعلوا قلنا ما علينا فهل نقول ما لنا.؟
أن المؤلفين اللبنانيين لا يرضيهم أن ينقد أدباء مصر مؤلفاتهم نقدا حرا. . . ويرون فيه غضا من شأنهم والمصريون أهل حساسية (ذوق) وهم حريصون على مودة إخوانهم في العروبة على أن هذا وذاك إنما هو نظر في واقع. . أما ما يجب أن يكون فلا شك أنك تعرفه.
(العباس)(734/41)
رسالة حائرة:
الرسالة الأولى
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
إليك بعثت ألحاني ... وفيك نظمت أشعاري
ليعلم قلبك ألحاني ... بأحلامي وأسراري
لعلك تعطفين على ... محب نازح الدار
ترقرق دمعه نغماً ... على أوتار فيثار
حياتي كلها حلم ... بأفْق غير منظور
تذيع طيوره سَحَراً ... عناق الظل والنور
نعيش به كما نهوى ... مع الأملاك والحور
يزف الحب ساحرة ... إلى أحضان مسحور
احب الحب لكني ... أعيش بغير ما حبَّ
شكا قلبي الذي يحيا ... على الحرمان والجدْب
وما عندي سوى دمع ... به ابكي على قلبي
إليك بعثت شكواه ... وشكوى الروح يا ربي
خلقت الحب في الدنيا ... جناناً ذات أفياء
ونيرانا تحيا ... قلوب ذات أهواء
فإن أك طائعاً فاجعل ... نعيمي حب عذراء
وإن أك عاصياً فاحرقْ ... بنار الحب أحشائي
احب الدمع اشربه ... بكأس مواجعي خمرا
أحب الليل أسهره ... لأنظم لهفتي شعرا
وحيدا بين أحلام ... تمر بخاطري مَّرا
وأطياف تراقصني ... على ألحاني السكري
وقالوا أنه غني ... وأن بغير ما جدوى
وضاع شبابه تفي الشو ... ق، والأحلام، والنجوى(734/42)
دعوني! أنني لا أم ... لك النسيان والسلوى
حياتي كلها ألم ... وعمري كله شكوى
أنا المحروم. . . لكني ... أغذي بالخيال دمي
ظمئت، ولم أجد ماء ... فهام إلى السراب فمي!
وغنيت الجمال، فلم ... أجد إلا صدى نغمي
فغنى اليأس في قلبي ... على قيثارة الألم
أنا الحيران في الدنيا ... كطير ضل عن فننهْ
يَهيج الفجر صبوته ... ويذكي الليل من شجنه
هبيه عشك ألحاني ... ترديه إلى وطنه
ويكفيك الذي لاقى ... من الحرمان في زمنه
أنا الروح الذي يهفو ... إلى دنياك مسحورا
وضميه إليك يبُحْ ... بسر ظل مستورا
ليفرح فرحة الزهر ... عليه الطلُّ منثورا
أنا يا روح أيامي ... خيال خافق القلبِ
أوقعَّ لحن أحلامي ... على قيثارة الحب
تعاَليْ واسمعي لحني ... تعالي واجلسي قربي
لنحيا مثلما كنا ... معاً في عالم الغيب
تعالي يا منى عمر ... ويا أحلام أيامي
تعالي يا هدى روحي ... ويا روح الهوى السامي
تعالي؛ فالربيع البكِـ ... رُ ناداني بأنغام
فغني الحب في نفسي ... وغنت كل أحلامي
تعالي إن لي قلباً ... يهيم كعطر أزهارِ
وروحا صيغ من نور ... وهذا النور من نار
فأن شئت اكن نوراً ... كنور الكوكب الساري
فنون علّمتْنها ... خيالاتي وأفكاري(734/43)
نعمت بها وحيدا في ... عشياتي وأسحاري
فكانت نور أيامي ... وكانت روح أشعاري
فنون أنت غايتها ... وما هي؟ تلك أسراري!
سأحيا طول أيامي ... أناجي حبك النائي
بلحن هاجه دمعي ... فراح يبث أهوائي
لعل هواك يغمرني ... بفجر منه وضاء
وإلا عشت منفرداً ... بشجوى بين صحرائي(734/44)
البريد الأدبي
طرائف:
قرأت نقدا أو تعليقا أو تصويبا أو أي شيء آخر عن كتابي (طرائف). وما كنت أحب أن أتناول الموضوع من جديد. غير أنه يحلو لي أن أشكر (الذي فكر في أن يصفني بالكاتب الصحفي) على هذا الوصف الجميل ثم أقول: (أن الكتاب كله (سخائف) ما في ذلك شك. والأسخف منه أن يمضي الكاتب في قراءة (سخائف) ويقيني أنه وهو الرجل الفاضل المتدين المتفقه في اللغة ما كان يجدر به أن يحمل نفسه عناء القراءة ثم الكتابة لو كان لديه (فسحة) من الفضل والأدب والدين.
فالمفكر العميق لا يمضي في قراءة البسائط. ورجل الدين المتعلق بإذا بليتم فاستتروا، ليس له أن يقف أما أبواب الحانات وأن يتسكع مع (الثقاة) و (السعادة) و (البغاة) وإنما عليه أن يمر باللغو كريما. وقد همس الدين بإذنه هذه الهمسة للطيفة الطيبة
وليس أسمي (محمدا) وإنما أسمي محمود فلعل في هذا التصويب ما يطمئن على أن اسم محمد من الفضل بحيث لا يقع في أمور اشمأز لها الناقد أو المعلق أو المصوب أو الشيء الآخر.
وماذا افعل - وقد ازدحمت أخطاء المطبعة - مع ما أنا عليه من أخطاء، وتكاتفت كلها متعاونة متآزرة حتى ظهر الكتاب على هذا النحو من السخف وضلال الرأي وقلة الحيلة.
والكتاب فيه أكثر من مائة وعشرين صفحة. لم يقع أخو القلم إلا على (غلطة) قد تكون صحيحة منى أو مطبعية من العمال ولكنها واحدة لي لا علي. وأحب أن أقول له أنني (بالذات) قد أحصيت أكثر من ألف غلطة بعد أن طبع الكتاب، فلو أراد صديق الرغبة في النقد إلى آخره أن يقف على هذا العدد فأنا على استعداد لأضع إصبعه عليها عندما يريد.
محمد صاحب الرسالة (عليه السلام) لا محمد صاحب السخائف (عليه اللعنة) كان رقيق العاطفة، واسع الفكر، كريم الملاحظة، وكأن في يده السف يستطيع أن يضرب به عنق من يخرج على أصول الدين، ولكن الذي أدبه ربه فاحسن تأديبه كان يتناول الأمور بما هو عليه من رقيق العاطفة وواسع الفكر، وكريم الملاحظة، فكأن يعالج هذه الأمور بروح عالية، روح العالم بالآداب والأخلاق وما انطبعت عليه النفوس من خصائص ومميزات.(734/45)
أما محمد صاحب (السخائف) كما أرادته دار المعارف فلا يخرج عن كونه بشرا، له من الأخطاء في السلوك والمعاملة، وفي اللغة والأدب ما يجعله دائما بشرا، لا ملاكا ولا قريبا من ملاك. وكنت أحب أن أكون فنانا، أو مفتنا حتى اشكره على حسن الظن بأن يعقد مقارنة في الهواء بين الفن، وبين سخائف ولكن شاء القدر أن يسلبني كل شيء حتى صحيح الاسم. ولذلك قصة لا تخلو من السخافة كنت أود أن أرسلها على صفحات الرسالة. ولكن ما العمل وكتاب الرسالة خطباء منابر، ورجال دين وفقه وعلم لا ينفع معهم ارتفاع صوت مدني سخيف اسمه:
محمود العزب موسى
ما جرى من أرى:
من الظواهر الطبيعية في مصر أن المحسن لا يجيد من يقول له متطوعا (أحسنت) بينما يجد المسيء فورا من يقول له (أسأت) وهي ظاهرة لا تشجع على الإحسان، لولا أن المحسنين يستمدون الشجاعة من أنفسهم ويرون دليل إحسانهم أن أحدا لم يقل لهم أسأتم.
لبثت أربعين عاماً أقول الشعر في مصر لم اظفر خلالها بمن تبرع بتسجيل إحسان لي في صحيفة، حتى كدت احسبني مسيئا لولا إيماني بتلك الظاهرة، ولولا أن المجمع اللغوي سجل لي هذا الإحسان.
واليوم، حين يتوهم مني الخطا، اسمع كلمة (أخطأت) سريعة مجلجلة. ولا خطأ هناك، وإنما سقطت كلمة (أرى) من هذه الجملة (وما أرى الضمير الثاني إلا ضميراً قلقاً نابياً) فقرأت (وما الضمير الثاني إلا ضميرا قلقا نابيا) والصواب في الحالة الثانية رفع الضمير كما قال الأستاذ (ع) ولكن ما حيلتي ولم أكن أقدر أن ستسقط (أرى) فيجري منها ما جرى؟؟
وسائر الغلطات النحوية التي تقع في عبارات الكتاب في الصحف مردها إلى وجه كهذا الوجه والأصل فيها صواب الكتاب لأن قواعد النحو ميسرة للجميع.
على أني كنت بسبيل أن اشكر للأستاذ (ع) تصويبه، فهو وأن لم يفدني فقد يفيد غيري لولا غمزة خبأها الأستاذ في قوله أنه ما عمد إلى تصحيح كلامي إلا لأني حريص على تصحيح(734/46)
كلام الناس.
أما تصحيحه كلامي فقد بينت نصيبه منه، وأما تصحيحه كلام الناس فذلك ما لا اعرف لي منه نصيبا فقد ظللت طول حياتي الأدبية منصرفا إلى شعري وحده بعيدا عن المجادلات والمساجلات التي هي سبيل الشهرة في مصر وأنا ازهد الناس فيها وما أثرت اليوم موضوع (الضمير القلق) لأخطئ به شخصيا بعينه ولكن لا تعرف مع القراء وجه الصواب فيه. .
محمود عماد
أفي مصر أيضا. . .!؟
لقد قرأت في العدد 731 من الرسالة الغراء كلمة للأستاذ الخفيف سطرتها براعته السيالة من وراء منظاره الذي حمله وأخذ يطوف به بين مجاهل حياتنا الاجتماعية باحثا مستقصيا عن جراثيم أمراضنا الاجتماعية، إلى أن هداه بحثه واستقصاؤه إلى مرض خطير ألا وهو مرض الجنون بالألقاب والرتب.
نعم لقد أقبلت على قراءة كلمة (يا خسارة) بشرهة ونهم كعادتي في تتبع إنتاج الأستاذ الخفيف ولا سيما من وراء المنظار - وما أن انتهيت من قراءة الكلمة حتى شعرت بوخزات الأسى والألم تحز في نفسي، وقلت سائلا مستفهما أفي مصر أيضا ينظر إلى المعلم الإلزامي تلك النظرة المزرية لأنه معدوم السلطان ولأنه لا يحمل لقبا من تلك الألقاب البالية. .!؟
أفي هذا المجلس الذي يضم القاضي والمحامي والأستاذ والنائب والكاتب والشاعر والصحفي هؤلاء النخبة الممتازة من سواد الأمة ومثقفيها يزدري المعلم الإلزامي ويضحك منه ويزور عنه رغم علمه وثقافته وسعة اطلاعه التي قرها له الجميع. . لا لسبب إلا أنه معلم إلزامي!! قلت في نفسي (يا خسارة) أن تكون في مصر مثل هذه المجالس. . (ويا خسارتين) أن يكون الجالسون فيها أمثال أولئك الذين فتنوا بزيف الألقاب والرتب. .!
البصرة - عراق
أحمد سالم الفرج(734/47)
ما زال الضمير مطمئنا:
في العدد الأسبق من الرسالة الغراء لم يقنع الأستاذ محمود عماد ما سقته من القرآن الكريم دليلا ناهضا على أن تكرير الضمير المفيد للملكية صحيح، وأنه يراد به مع ذلك القصر، أو التقرير كما في قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) وقول المصريين: (هذه المسالة لها أهميتها) ولجأ في رده إلى أن هناك فارقا بين الآية التي أوردتها والمثال العصري؛ إذ في المثال العصري يسبق الضمير صفة والآية ليست كذلك؛ فإن كان، ولا بد من إصابة الهدف فما على المرشد أو المجيب إلا أن يتوخى ذلك، ولا يتعداه؛ إذ له أهميته؛ وعلى هذا فما زال الضمير العصري قلقا، وخاصة أن الآية تقيد القصر بعد الملكية، والمثال العصري يفيد الملكية الخاصة وهي تطابق القصر أو التقرير والتفرقة بين الآية والمثال دعوى لا دليل عليها.
وتوضيحا للمقام نود أن نعرض على الأستاذ ما فيه المقنع، وها نحن نفتح المصحف في المرة الأولى فنقع على هذه الآية في سورة البقرة: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم) وفيها ما سنشده السائل: أي تلك أمة قد مضت لها كسبها، ولكم كسبكم؛ إذ أن ما مع الفعل يؤولان بمصدر. ونفتحه مرة ثانية فتصادفنا هذه الآية من السورة عينها: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، ونعيده مرة ثالثة فتطالعنا هذه الآية من سورة الشورى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا عمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير) وهنا أتوهم أن الأستاذ سيعيد ما سبق أن قاله: من أن المراد من المثال الوصف، وليسمح لي أن أقول له: إن هذا يعد تحكما ولا أدل على هذا من أننا لو قلنا: (هذه المسالة لها أهميتها) على سبيل التعريف لظلت المسالة بالوصف ليس وراءه كبير فائدة، وإنما الذي يتمسك به هنا هو تكرير ضميرين: كلاهما يفيد الملكية وأحدهما ليس له فائدة في رأيك وذا - في الواقع - هو محل النزاع بدليل ما عللت به في العدد 730 من الرسالة.
على أن أمثلتك التي أوردتها اتفق للضمير وما يليه أن يقع صفة؛ وأنت لو أوردتها على أن(734/48)
يكون الضمير وما يليه خبرا لما كان هناك باس وبهذا وضح لنا أن التمسك بالوصف لا يجدي.
وإلى هنا صارت الأمثلة على اختلافها تتفق والآيات القرآنية السابقة، واللاحقة ومفادها كما قلت هو: القصر، أو التقرير؛ فعندما نقول: (هذه المسالة لها أهميتها، أو هذه مسالة لها أهميتها) أو يقول القرآن الكريم: (فلهم أجرهم) إنما يراد أن هذه المسألة بالذات أو المعينة في ذهن القائل مختصة وحدها بأهميتها، وكذلك اجر المنفقين بالليل والنهار سرا وعلانية، والمعلومين عند الله. . مقصور عليهم لا يتعداهم إلى غيرهم، ولعلنا إن نكون قد وفينا المقام حقه، وفي هذا القدر كفاية.
محمد غنيم
إلى الأستاذ محمود الخفيف:
كأن قارئا للقرآن يطوف بالبيوت وكأن له من وراء ذلك اجر فكأنما سدت في وجهه أبواب العمل فلم يجد إلا هذا رزقه الله ولدين وبنتا، فعلم الأكبر ما استطاعت ذات يده أن تمده حتى حاز كفاءة التعليم الأولى وعين مدرسا بالمدارس الإلزامية كان يضع فيه أمله في المستقبل ليكون عونا له ولزوجته وولده الثاني وابنته - على عادية الزمن.
زوجه وأنفق في سبيل كل ما يملك، ولكنه للأسف لم يعش طويلا إذ سرعان ما مات كمدا واسى فقد هجره ولده بعروسه وتنكر له يا ترى هل خلت الدنيا من الوفاء حتى بين الولد ووالده؟
واليوم سمعت الابن الأصغر - وهو لم يتعد الثانية عشرة من عمره - يقرأ القرآن في بيت بجوارنا حتى يستطيع أن يعين والدته وأخته على الحياة بذلك القليل الذي يجود عليه به الناس.
هذا طالب قوت بالريف وليست القاهرة وحدها المليئة بهم فما أحوج الريف إلى نظرة من منظارك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(أجا)(734/49)
محمد محمد حسن الديب
نشيد فلسطين أيضا:
إلى الأستاذ إبراهيم عبد الستار:
لست أنكر شاعرية الأستاذ محمد حسن علاء الدين، ونشيده الذي نشرته (الوحدة) الغراء، لا شك في قوته، ولكنه لم يلحن، ولم ينشد، ولم تقره لجنة مسئولة فليس يكفي أن يشهد له أديب أو أن تقدمه جريدة وإنما المعروف في مثل هذا الموقف أن يعلن عن مسابقة في الموضوع ثم تؤلف لجنة من أعلام الأدب للنظر في الأمر تقرر النتيجة على مسئوليتها هي، لا على مسئولية شخص أو صحيفة.
أما أن في كتابكم (شعراء فلسطين العربية في ثورتها القومية) غير نشيد واحد فليس كافيا، لأن هذه الأناشيد محلية، وليس فيها واحد يردده جميع أبناء القطر، فكيف يكون أحدهما نشيدنا القومي المنشود؟!
وأما أنني اجهل الكثير عن الموضوع - كما حكمتم - بدليل أن في كتابكم المذكور غير نشيد واحد فأمر يتوقف على شهرة الكتاب إلى حد بعيد. . .
وأخيراً أرجو أن تطمئنوا إلى أن لا خطر من الصورة الأدبية التي ارسمها للأقطار الشقيق - لا الشقيقة كما كتبتم؛ إذ أن هذه الأقطار أعضاء في جسم الوطن العربي الكبير الذي اصبح بلدنا موضع الخطر فيه، وليس عربي عن أخيه بغريب!
(البقية - عكا)
حنا فارس مخول(734/50)
الكتب
من وراء الأفق
(تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن)
للأستاذ علي متولي صلاح
تفضل الصديق الشاعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن فأهدي إلى ديوانه (من وراء الأفق) الذي ضمنه بعض قصائده التي قيلت في مناسبات شتى اغلبها في التغني بمفاتن ما جاس الشاعر من بلاد أوربا حيث كان يطلب العلم في ربوعها وهو بعد في فورة شبابه، واكتمال قوته وازدحام قلبه ونفسه بالصبوة واللهفة والحب.
والأستاذ محمد عبد الغني حين شاعر منذ باكورة صباه، وقد عرفته لأكثر من عشرين سنة وغرفت شعره كله منذ بدا يقول الشعر على وجه التقريب إلى الأن، وتبينت في وضوح وجلاء ملامح نفسه، وحركات قلبه، وعرفت طابعه في الشعر، وميسمه فيه، حتى لا كاد أرده إليه ولو لم يكن اسمه إلى جانبه!
وقد عجبت أن أغفل الأستاذ الكثير من شعره الذي نشره على الناس ولم يضمه إلى ديوانه هذا، على أنه لا يقل عنه شأنا، ولا يقف دونه عند الموازنة إن لم يكن خيرا منه وأعلى كعبا إلا أن يكون أراد لهذا الديوان معنى خاصا، وأراد له طابعا خاصا لا يحب أن بعدوه أو يحيد عنه أو ينحرف عما يبتغيه له. . .
وشعر ديوان الأستاذ عبد الغني يمتاز بسهولة عجيبة وسلاسة لا نكاد نظفر بها في شاعر اخر، فاللفظ يطاوعه ولا يكاد يعصي له أمرا! والكلمات تواتيه هينة لينة يجر بعضها بعضا إليه حتى لا أحسبه يحمل مشقة أو مجهدة في ذلك، وأنا أضمه في هذه الخاصة إلى شاعر العراق الكبير الأستاذ جميل صدقي الزهاوي.
وشعر الأستاذ على وجه العموم يمتاز إلى ذلك بجو (الإشراق) الذي تراه وهاجا في كل قصائده، وأنك لتحس هذا (الإشراق) يفيض عليك من كل جوانبك وأنت تقرا شعره، وأن هذا الجو المشرق ليرسل إلى نفسك نشاطا وقوة، وأنه ليحمل إليك لذة ونشوة، وأنك لتقرا وتقرأ فلا تمل ولا تكل ولا تحس رغبة في الانصراف عنه أو التحلل منه، وأحسب أن(734/51)
مرد ذلك إلى طبيعة الشاعر نفسه، فأنك لتجد ذلك كله وأنت جالس إليه متنقل بك في حديثه هنا وهناك، فلا سام ولا ضيق ولا ملال. . .
وأغلب ظني أن الأستاذ عبد الغني تأثر إلى حد كبير - وخصوصا في صدر حياته - بشوقي، المح هذا في جلاء ووضوح في قصائده التي نظمها أول ما نظم الشعر، وقالها وهو بعد طالب مبتدئ، والمحه في التزامه ما كان يلتزم شوقي من الاستفهام في مطلع قصائده، والإكثار من سوق الحكمة فيها واتخاذ اغلب البحور والقوافي التي كان يتخذ واستعمال بعض ما كان له من عبارات ولازمات وأنك لتحس هذا التأثر واضحا جليا في إحدى قصائده (شباب) التي مطلعها:
يا شباباً بارك الله لكم ... وتولتكم رعايات القدر
وفي (في نعش الامتيازات) التي يقدم لها بكلام شوقي نفسه في سينيته التي عارض بها البحتري فيقول الأستاذ عبد الغني (تحررت مصر من قيود الامتيازات الأجنبية وأصبح الدوح حلالا على بلابله بعد أن كان محرما عليها وحلالا للطير من كل جنس) وهذا الكلام كما قال شوقي هو:
إحرام على بلابله الدو ... ح حلال للطير من كل جنس؟
وفي (مهرجان النيل) وفي (إلى الجبل الأشم) التي يقول فيها:
زمان الفرقة النكراء ولى ... وزال عن العروبة الانقسام
ويقول فيها:
سلوا عنهم أبوة آل حرب ... وما لأب على الدنيا دوام!
فإن شوقي يبدو هنا للعيان! وليس يعيب الشاعر أن يتأثر شاعرا آخر، وأن يتخذه رائدا له وإماما، وأن يجعله عمدته في قراءته، وإنما العيب أن يفنى فيه، وتمحى ذاته وشخصيته ويكون وكده أن ينهج نهجه، ويحذو حذوه، ويلوك كلامه!! وليس الأستاذ عبد الغني ممن انتهى إلى ذلك ولكنه تأثر فأسرف في التأثر كثيرا!
وفي الديوان قصائد ينبغي الوقوف طويلا عندها، والتنويه كثيرا بها، إنما اقدم للقارئ نماذج من جمال شعر الأستاذ يجد الكثير منه لو قرا الديوان كله! فمنها قصيدة (ذكريات نهر) التي يقول فيها:(734/52)
ألفيت في واديك أنسا ... وصفاء عيش ليس ينسى
أمسى طوته يد الغيو ... ب فمن يرد إلى أمسا؟
أودعت تلك الذكريا ... ت لديك بالكتمان رمسا
فاحفظ وديعتك التي ... خلست من الأيام خلسا. . .
خلت الحياة على ضفا ... فك لا تزول ولا تضيع
فإذا الحياة قصيرة ... وإذا البطيء بها سريع
وإذا الليالي الذاهبا ... ت هناك ليس لها رجوع
لا دام - يا نهر - الشتاء ... بها ولا بقى الربيع. . .
وقصيدة (تحت ظل الصنوبر) التي يقول فيها:
سلي وادي الأحلام كيف قطعته ... وكيف أثارته العواصف من بعدي
تفرقت الأحباب وأنفض عقدهم ... وصرف الليالي لا يدوم على عقد
وأصبح ماضينا خيالا وأمسنا ... مناظر لا تشفى الفؤاد ولا تجدي
قنعنا بذكراها وفي القلب حسرة ... وفي النفس لوعات تزيد على العد
سلي شجرات الغاب ماذا أصابها ... فعميت وصارت لا تعيد ولا تبدي
كأن لم يباكرنا النسيم بظلها ... وينفح بأنفاس ألذ من الند
بشاشة هذا العيش ولى زمانها ... وأصبحت من نار القطيعة في وقد
ومن عجب يلقى المحبون سلوة ... بشعري. . . وأشقى دونهم في الهوى وحدي
وقصيدة (بقية الكأس) التي يقول فيها:
يا خائن العهد عهدي في الهوى باقي ... تنبيك عنه صبابتي وأشواقي
أخلفت بالصد ميثاق الهوى زمنا ... لكنني في الهوى أحكمت ميثاقي
لم يبق لي من تعلات تعللني ... إلا خيالك فهو الدائم الباقي
يا مستخفا بمشتاق تؤججه ... حرارة الشوق لا تهزأ بمشتاق
دارت عليه بكاس الهجر ساقية ... كما يدور بكاس الخمرة الساقي
فما له من حلاوات الهوى بدل ... وما له من مرارات الجوى وافي
في ذمة الله ليلاتي التي سلفت ... وأخصبت بالهوى فيهن أوراقي(734/53)
كم لألأت بمنانا أي لألأة ... وأشرقت بهوانا أي إشراق
ما بالنا اليوم؟ لا بيض المنى بقيت ... على المحب ولا ليل الهوى باقي
وفي الديوان إلى ذلك نواح أخرى من خصب وجمال، وفيه كذلك مأخذ يسيرة وهنأت هينة، سأكشف عن هذه وتلك في المقال الآتي إن شاء الله
(للكلام بقية)
علي متولي صلاح
رمضان
(تأليف الأستاذ محمد سعيد العريان)
كتب الأستاذ محمد سعيد العريان الحلقة الأولى في سلسلة جديدة اسمها (مكتبة الشعب) يقوم بإصدارها الأساتذة محمد ثابت ومحمد عبد الهادي البيومي واحمد يوسف، ويقصدون منها إلى تقديم زاد ثقافي مناسب للجمهور الذي لا يرتفع مستوى إدراكه إلى كتب الخاصة ومجلاتهم، بحيث يجد في هذه الثقافة الميسرة ما يغنيه عما يكتب لمجرد التسلية واللهو.
وهذه الحلقة الأولى بدا بها الأستاذ العريان موضوعها (رمضان) وقد تناول فيها رمضان من جميع نواحيه: الأحكام الدينية والعادات والصور الشعبية فجمع فيها بين الدين والفن والاجتماع بأسلوب سهل ممتع جذاب.
عباس حسان خضر(734/54)
القصص
اشتراك في الإثم. . .
للشاعر الفرنسي القصصي بول بورجيه
بقلم السيد كمال الحريري
لقيت في ميلان على رصيف المحطة (آدم ريموند) بينما كنت اصعد إلى قطار من تلك القطر التي يتبجح الإيطاليون بتسميتها (البرق). بصور أن هذه القطر لا توصلك في أقل من سبع ساعات إلى بلد لا يستغرق الوصول إليه أكثر من خمس. ماذا، أتتسخط أتتذمر؟؟ إنك إن تفعل يجيبوك بابتسامة رقيقة لا تقاوم (ذلك هو الحظ الإيطالي! أيسخرون من أنفسهم أم يستهزئون بك؟؟ مهما يكن من الأمر فأنت مجبر على أن تغتفر لهذا القطار (البرقي) استراحاته المستمرة على طول الطريق ليتسلم حزم البريد من كل محطة. ومع ذاك ففيم الحنق والإنكار وأنت في رحلة لذيذة إلى (جه ن) لمشاهدة (القصر الأحمر) و (القصر الأبيض)؟ ذلك أني كنت أقصد (جه ن) حين دلفت إلى (آدم ريموند) وكأن قاصدا إليها أيضا فسألني:
- أترغب في مرافقتي يا صديقي؟ فأجبته وأنا أتقدمه في صعود القاطرة (ليس احب إلي من هذا) مع أني لم اكن مخلصا في قولها، لا لأن شخص (ريموند) كان مقيتا إلى، فهو فتى رقيق الحاشية ظريف الطبع، ما أنكرت منذ العشرين عاماً التي مرت على تعارفنا شيئا من علاقتنا الودية معا، رغم اختلافنا في الذوق والمنزع. زد على ذلك أنه حديث بارع ظريف الحوار له من ثروته الفائضة عن حاجاته ما يسمح بالارتحال والسياحة. ولقد ساح فعلا في بلاد كثيرة وشاهد ممالك مختلفة على أنه مهما كان من شأنه فهو (باريسي) وعندما لا يستطيع المرء أن يختلس من شتائه غير عشرين يوما يخصصها للاستحمام في حمامات إيطاليا، يتخوف ويتهرب من كل ملاقاة من شأنها أن تقذفه ثانية إلى (باريسه) المتروكة.
قص علي (رايموند) قصة كانت من التأثير على بحيث أريد أن أقصها بدوري، لأنها تتعلق بسلسلة من (حالات الضمير) وبالرغم مما قاله عنها (باسكال) فإن كل ما في الحياة الإنسانية من خير وجمال إنما يصدر عن هذه (اليقظات الوجدانية) وعما تؤدي إليه من(734/55)
حلول. لقد كان رفيقي يسرد على هذه الحكأية، على حين يطوي القطار المسافة من (نوفي) حتى (سمبيه دارينا) في هضاب مرتفعة متعوجة على طول الوادي الضيق الذي تتلوى فيه (سكرفينا) الموحشة ولقد كنا نتبادل على مصادفات الطريق كثيرا من المناسبات والأحاديث، حين طرح على هذا السؤال العارض البسيط:
- أين تنزل في (جه ن)؟
فسميت له فندقا خارجا بعض الشيء عن منطقة أشباهه من فنادق المدينة. كنت أفضله لبستانه الفينان الواسع.
فقال (رايموند).
- يؤسفني إذا أننا سنفترق فكر يا صديقي في أن هذا الفندق يثير في نفسي ذكرى مؤلمة، وأني لأتطير أبدا من العودة إلى مكان جرى لي فيه حادثة مكروهة مزعجة. حادثة؟؟ إن هذا التعبير مجاوز حده. ولكن مع ذلك. . .
وسكت قليلا ثم قال: أتحب أن اذكر لك هذه الحادثة، خصوصا وأني ارغب في معرفة ما عساك تفعله لو كنت محلي آنذاك؟ لسوف أبدل لك أسماء أبطال القصة، وبهذا لا تعلم عن هويتهم شيئا. ثم ساق لي رايموند القصة فقال:
مضى على هذه الواقعة التي أنا بصددها خمسة عشر عاماً، وكأن ذلا لأول زيارة ازور فيها (جه ن) هبطت إذا ذلك الفندق الذي ذكرته أنت، لنفس الأسباب الني حببته إليك. وكأن الوقف خريفاً. وأؤكد لك أني زرت يومئذ جميع القصور والكنائس الشهيرة: قصر الفنان فانديك، قصر ده برينيول، سان بالبي، به ران، وكنيسة (سانت اسطفانو) و (سانتا ماريا) وتماثيل (ده سانت لورانزو) من هذا تعلم أني جواب بحق، وفي المساء بينما كنت جالسا إلى عريشة أنيقة من عرائش بستان هذا المنزل أدون بعضاً من مشاهداتي وتأثراتي اليومية، إذا برنين صوت نسائي على بضع خطوات مني في ممشى من مماشي البستان، يهزني من محلي. لقد كانت غادة تتكلم وهي تظن نفسها على التأكيد منفردة وفي نجوة من الآذان المتطفلة، وبجانبها فتى يمشي متمهلا مترفقا. وكانت جمل الحوار التي يرددانها، دارجة كثيرة الاستعمال مما يؤكد أنهما في حداثة الحب.
- كانت تقول (آه يا حبيبي العزيز. ما كنت لأجسر حتى على الحلم بهذا: إن أكون هنا(734/56)
بجانبك إزاء هذا البحر وتحت هذه السماء وأمامنا ساعات طويلة للمتعة واللذاذات؟؟ فأجابها صاحبها:
- أما أنا فلست أقل منك سعادة وسرورا، لأني لم أكن أحلم أن باستطاعتك الانطلاق حرة إلى هنا. . ولكن ليكن رائدنا الحيطة، ولنعد إلى النزل فأنه أمن لنا من هذا البستان المكشوف الذي ربما نلقى فيه أحدا يعرفنا، فأسالته:
- ومن يكون إذا؟ أنه لمن الممتع اللذيذ أن أنشق هذا النسيم المنعش واشهد مغيب الشمس الجميل بصحبتك.
فقال الشاب:
- ومع هذا لقد كنت احسن صنعا، من هنيهة لو أني حين نزولي الفندق اتبعت فكرة البحث في قائمته عمن فيه من السواح. فأجابته الغادة بغتة العتاب الرقيق:
- يا ضنين؛ أتراك تأسف على عدم اختلاسك مني هذه الخمس دقائق؟ آه لو كنت شغوفا بي كل الشغف، ما تعاقلت كل هذا التعاقل، ولما عرفت لك كل هذه الفطنة والحذر.
فأجابها رفيقها:
- ولكن ذلك كله من أجلك يا حبيبتي وإنما ابغي بكل جهده مستطاع أن أجنبك المخاوف والمتاعب.
فتنهدت الفتاة قائلة:
ليأت من يريد أن يأتي، أني من الغبطة والانتشاء بالسعادة بحيث يستوي عندي كل شئ. أسمعت؟؟ كل شئ لا يهمني. ومر العاشقان بدون أن يلمحا شخصي، واترك لك الآن الحكم على مبلغ اضطرابي ومبعث ارتجاجي. لقد عرفت في شخصي هذه الصبية المستهامة التي لم تستطع أن تحبس لسانها عن الجهر بسعادتها وهواها، امرأة صديق من أعز أصدقائي وأخلص خلصائي. واسمح لي أن أطلق عليه سياقا للقصة (شارل روتيه) واسم امرأته أن أحببت (مارغريت) أما شريكها في هذا الموعد الغرامي لدى هذا الفندق المتطرف الضائع (بجه ن) فقد كان مجهولا عندي. ولا بأس أن تعلم أيضا، أني أثناء ذهابي في صباح تلك الملاقاة للبحث في شباك البريد عما لي من رسائل، تسلمت من نفس صديقي (روتيه) في باريس، رسالة يقص على فيها أن قرينته تستفيد من سياحتها القصيرة بإيطاليا عند ابنة عم(734/57)
لها دعتها إليها كي تقضي خمسة عشر يوما في (فلورنسا) و (روما) ولقد سمى لي في رسالته اسم هذه (الابنة العم) بلهجة الامتنان والشكران على ما قدمته لامرأته الحبيبة من متعة وسرور. لم تكن عائلة صديق (روتيه) معدودة من العوائل الواسعة الثراء؛ فهو نفسه كان في مفتتح مهنة المحاماة التي بدا يلمع فيها نجمه ويعلو. أما ابنه العم فهي على العكس من ذلك: كان إيرادها في السنة مائة ألف فرنك. ولقد كنت اعلم كل هذا التفاصيل باعتباري كنت شاهدا لزواج صديقي (شارل روتيه) واذكر يومئذ أني سرت وابنة العم هذه في مركب القرآن وقد عقدت ذراعي بذراعها. دخل المحبان بهو الفندق منذ زمن، حيث أخذا هناك لا شك يتناولان الغداء على انفراد في جو من الإيناس المسكر الخطر، الذي خطره وحده يخلق اللذة والمتعة في العلاقات المستورة أما أنا فكنت ما أزال في البستان جالسا إلى المنضدة الصغيرة محدقا في دفتري المفتوح، غارقا في لجج التفكير. وبعد أن ثبت لدي انهيار بناء تلك العائلة، سأشعر بمض الألم أكثر من شعوري بعاطفة السخرية. ولكن أليس من السخر ما هو الألم مجسما؟ إن التناقض الظاهر بين حضوري مراسيم حفلة الزواج تلك، وهذا الموعد الغرامي أفعم قلبي منذ ذلك الحين مرارة غريبة أليمة. أضف إلى هذا أن (روتيه) كان عندي صديقا عزيزا. وهو يعبد امرأته التي تزوجته بالرغم من إرادة والديها. كما أني كنت اعرف تمام المعرفة أن شارل كان يرهق نفسه في العمل كل الإرهاق مناجل ترفيهها وتدليلها وأنه وهو العقيم الذي لم يرزق ولدا كان توأما إلى النسل. وأظنك لو جمعت كل هذه الأسباب جملة قدرت الاضطراب النفسي الذي أوقعني فيه ذلك الاكتشاف المفاجئ: اكتشاف المرأة المعبودة المقدسة تخون زوجها هذه الخيانة النكراء. ترى كم مضى من الزمن على هذه المغامرات؟ ثم أين التقت بهذا الفتى الذي لا اذكر أني شاهدته أو صادفته عندهم؟ وأخيراً ما هو الدور الذي تلعبه (ابنة العم) في هذه المأساة؟ أترى (مارغريت) متواطئة معها، أم أن الزوجة الخائنة استطاعت أن تجد الوسيلة لخداع ابنة العم، كما خادعت زوجها؟ وهل تكون هذه الملاقاة هي الأولى التي بات العاشقان فيها الواحد للآخر؟ من يدري لعل هذا الولد الذي يهفو صديقي إلى إيجاده مدفوعا بغريزة الأبوة النبيلة، أن يتولد ويتخلق هنا في هذا المنزل الذي أرى من خلال أغصان أشجاره، واجهته المضيئة بالنقوش والمثقبة بالنوافذ والشبابيك؟! ثم أي نافذة من تلك النوافذ هي التي تتفتح(734/58)
على الغرفة التي يأوي إليها الزوجان غير الشرعيين؟! كل هذه الأسئلة كانت تخطر على ذهني دفعة واحدة، ثم تتجمع كلها حول هذا السؤال الأخير، عجبا ما هو واجبي أنا؟. . . هناك حكمة هندية تعلمها جيدا كما اعلمها تقول: لا ينبغي أن تضرب امرأة حتى بزهرة، إن فكرة الشرف والفروسية التي أنغرست في أعماقنا منذ عصور بعيدة كانت من التمكن (والتسلط) على بحيث أخذت اردد في نفسي: إن واجبي هو التزامي حدود الصمت والكتمان. . . السكوت؟ الكتمان؟. . . ورحت أتخيل (شارل روتيه) كما اعتدت رؤيته غالبا منذ زواجه مكباً على أضابير (زبائنه) يستقبلني في غرفة أعماله بهذه الكلمات أو ما يماثلها: ليس لدى من الوقت ما يمكنني من مصافحتك أني لأغص بالأشغال وأرهق بالدعاوى. ومصالحي وأعمالي تزيد وتطرد يوما فيوما. وثروتي الصغيرة تنمو معها أيضا ومع ذلك لا شئ يعجز الإنسان حين يكون له شخص حبيب إليه. كنت أتمثل وجهه وكأنه قناع جمدته المشاغل وحضرته المتاعب، تضئ من خلاله ابتسامة سعيدة راضية.
يا للجمود أفي الوقت الذي ينصب صديقي جسمه ويقتل نفسه بالانكباب على العمل المرهق ليؤمن لامرأته أسباب ترفها وبذخها تسلم هذه الأخيرة زمام فؤادها وعواطفها إلى شخص آخر؟ إنها لتنفق على تجملها وتزينها مالا بعرف جبين زوجها. وكل ذلك كي تعجب رجلاً غيره وا أسفاه! وأنا نفسي، هل يجمل بي أن أسمح باستغلال أتعاب صديقي النزيهة الشريفة على هذه الصورة المخزية، من قبل هذا السارقة الخبيثة بعد أن سمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت؟ أأصمت فلا أنطق؟ ولكن ذلك اشتراك في الإثم!! ومرت على الذاكرة عهود صداقتي الطويلة المدى مع شارل: فتمثلته في سن العاشرة، بقميصه المدرسي المشابه لقميصي، وتمثلت ملاهينا وألعابناً آنذاك. ثم تخيلته في الخامسة عشرة وأنا معه في سفرة قصيرة لعطلة قضيتها عند أهله في الريف. لقد كنا طالين داخليين بمدرسة (لويس كراند) ترى أكنا سعداء ذلك الصيف بانصرافنا عن مرج المدرسة البارد الضيف إلى سهل (لوار) الأخضر الممرع؟ ثم تصورت صديقي في العشرين من عمره يمارس معي خدمته العسكرية، وكيف كانت بعد ذلك حياتنا في الحي (اللاتيني) ونحن نتابع دراستنا معا في كليه الحقوق كل هذه الصحبة الطويلة التي استمرت ما بيننا أربعين سنة، والتي هي بالاخوة أشبه، ثارت بي وتمردت على هذا الاشتراك في الجرم. وفي الحق أن صمتي لا(734/59)
يمكن أن يوصف بأقل من ذلك. فلو فرضنا أن العاشقين اقترافا إثماً أو أتيا منكرا (ونزهتهما الحمقاء في البستان تبرر ذلك وتؤيده) فهل أجد الجرأة على أن أقول لشارل: (لقد كنت اعلم كل شئ من قبل؟. . . لئن جبهته بذلك القول ألا يسخط لأني لم أنذره من قبل؟ ولكن كيف لي بإنذاره وإعلامه؟ أفي الممكن الوشاية بامرأة؟ أمن اللائق والذوق فضحها وإشهار أمرها؟ كان لزاما على إعلام صديقي شارل برسالة عن كل شئ ولكن أليس يجدر بقلمي أن ينكسر بدلا من كتابته ما فاجأت به امرأته؟ وأخيراً أبي حاجة إلى أن أزيدك كلمة على ما ذكرت؟. . . وأظنك الآن فهمت لماذا يثير هذا الفندق الذي أمضيت فيه تلك الأمسية فريسة لتقريع الضمير، ذكرى أليمة لا تطيقها نفسي أبدا. إن نجرد شعوري بأن الخيانة وقعت على بضع خطوات مني، وأن ماري كانت بين ذراعي حبيبها، في غرفة ربما تكون ملاصقة لحجرتي كان يضيف إلى هذا الاضطراب النفسي عذابا جسيما كاد يطغى فيتحول إلى آلام لا تحتمل.
البقية في العدد القادم
كمال الحريري(734/60)
العدد 735 - بتاريخ: 04 - 08 - 1947(/)
ملاحظات وردود على تأملات ونقود
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأستاذ مظهر في مجلة (المقتطف) فصلا افتتاحيا ضمنه بعض (التأملات والنقود) حول موضوع كتابنا عن (الله) ثم ألحقه بتذييل عن المصطلحات والأسماء التي (لا يوافق عليها).
وفي هذا وذاك مجال للمناقشة والتعقيب من قبيل التصحيح أو التوضيح.
وهذا بعض ما رأينا نناقشه من تلك النقود والملاحظات
انتقد الأستاذ مظهر ترجمة الأنيميزم بالاستحياء وقال أن حقيقتها الفكرة الروحانية واستشهد على ذلك بمعجم من المعجمات الإنجليزية.
ونقول أن هذه المصطلحات لا يرجع فيها إلى المعجمات العامة وإنما يرجع فيها إلى معنى المذهب الذي تدل عليه
فكلمة (الأنيميزم) لها معان كثيرة تختلف باختلاف العلوم التي تدخل فيها، وهي في علم وظائف الأعضاء غيرها فيما وراء الطبيعة وغيرها في علم أصول الإنسان.
والمعنى المقصود هنا في مذهب تيلور أن الهمجي كان يؤله الأشياء والظواهر الطبيعية لأنه كان كالطفل الذي يضرب الباب إذا اصطدم به لأنه يحسبه في حكم الأحياء. ونحن لا نقول أن الطفل يضرب الباب لأنه يؤمن بالفكرة الروحية وإنما نقول إنه يضرب لأنه يؤمن بالاستحياء، أو لأنه (يستحي) الأشياء التي ليست لها حياة.
وانتقد الأستاذ مظهر ترجمتنا البوليثزم بتعديد الآلهة وقال: (هو الإشراك أو الشرك وهو اصطلاح قديم جار على الألسنة وتضمنته المؤلفات العربية من اقدم عصور البحث الفلسفي فيها).
نقول نعم. . . ولكنك لا تقول أن القبائل الهمجية كانت تؤمن بالشرك لأن الإيمان بالشرك يقتضي الإيمان قبل ذلك بوحدانية الله. ولا معنى لأن تصف إنسانا بأنه مشرك قبل أن يظهر على الكرة الأرضية دين يدعو إلى التوحيد، أو يدعو إلى الإله الواحد الذي يدعو إلى غيره أولئك (المشركون).
وفرق بين كلام الكاتب العربي عن المشركين بعد ظهور الإسلام وبين كلام المؤرخ الذي(735/1)
يرجع إلى التوحيد. فلو قال ذلك المؤرخ أن الهمج أشركوا قبل أن يؤرخ لنا ديانات التوحيد لكان كلامه هذا خطأ في التاريخ وخطأ في التعبير.
وانتقد الأستاذ مظهر بعض الحروف كقولنا الشيشيميون بدلا من (الخيخيميون) كما يرى أو كقولنا كرونوس بدلا من أخرانوس إلى أمثال هذه التصحيفات في رأي الأستاذ.
وجوابنا عن ذلك أن كتاب العربية يكتبون (أرشميدس) كما يكتبون (أرخميدس) أو يكتبون ارشميد وارخميد بغير سين
وانهم يكتبون كريستوفر كولمبس كما يكتبون خرستوف كولمبي أو كولمب في الحالتين.
وأن العرب اخذوا من الفارسية (خسروا) فجعلوها كسرى مع وجود الخاء في اللغة العربية.
وإن كرونوس بذاتها لا يصح أن تترجم اخرونوس في المقام الذي ترجمت فيه؛ لأنها تتصل بمعنى الزمان ونحن نقول اليوم (كرونومتر) ولا نقول (أخرونومتر) كما يريد الأستاذ.
ويعيب الأستاذ مظهر ترجمة الديالكتك بالثنائية وفضل ترجمتها بالجدلية.
وهو في ذلك على خطأ عظيم من جهة اللفظ ومن جهة المعنى؛ لأننا رددنا ديا إلى معناها الأصيل وهو التثنية ومنها الآن كلمة بالفرنسية بالإنجليزية.
ولأن مذهب كارل ماركس وهو (الديالكتك) يقوم على أن المادة ثنائية الخصائص تشتمل على الخاصة ونقيضها ولا يقوم على أن المادة جدلية أو يجادل بعضها بعضا في أطوارها المتتابعة وقال الأستاذ مظهر في مفتتح كلامه: (ما من شئ في دنيا الفكر ينبغي أن تحدد معانية تحديدا دقيقا إذا أردنا أن نأمن العثار ونطوي مراحل الجدل كتحديد المعنى ندركه من كلمة الله والمعنى الذي ندركه من الألوهية أو الربوبية. . . . ولكن ينبغي أن نتواضع على تفرقة بينهما في الاستعمال، وأود لو إننا ندرك إذا قلنا الله إنه موضوع مرده إلى الدين، وان ندرك من القول بالألوهية والربوبية انه موضوع مرده إلى الفلسفة والتأمل).
وقد كان خليقا بالأستاذ مظهر أن يرجع في هذا إلى غرضنا من الكتاب.
فنحن قد أردنا به أن نبين كيف وصل الإنسان إلى الإيمان بالله، ولم نرد أن نبين كيف وصل إلى مجرد الربوبية، لأنه آمن برب ما من الأرباب قبل عصور التاريخ.
وقال الأستاذ مظهر عن كلمة الوجود ينتقد قولنا (إننا نعطي الوجود الزم لوازمه إذا قلنا انه(735/2)
غير المعدوم) فعقب على ذلك قائلا: (ذلك قول غير مستقيم ذهنا لأن الوجود يقابله العدم ولا يقابله المعدوم).
نقول نعم. . . ولكننا إذا قلنا الشبيبة قصدنا بذلك الشبان؛ وإذا قلنا العلم قصدنا بذلك المعلومات، وإذا قلنا: هذا الوجود قصدنا بذلك هذه الموجودات.
ومن اعجب قول الأستاذ مظهر أن الوجود يتوقف على إحساس من يحسونه. فهل معنى ذلك أن الشيء لا يكون موجودا لذاته إلا إذا وجد من يحسه انه موجود!
وانتقد الأستاذ مظهر قولنا أن الوعي الكوني هو علة البحث عن العقيدة، ثم استشهد بكلام (اوغست كونت) حيث يقول: (إن الاعتقاد في إرادات أو ذوات عاقلة لم يكن إلا تصورا باطلا تخفي وراءه جهلنا بالأسباب الطبيعية. أما الآن وكل المتعلمين من أبناء المدينة الحديثة يعتقدون بان كل الحوادث العالمية والظاهرات الطبيعية بدلا من أن تعود إلى سبب طبيعي وانه من المستطاع تعليلها تعليلا مبناه العلم الطبيعي فلم يبق ثمت من فراغ يسده الاعتقاد بوجود الله، ولم يبق من سبب يسوقنا إلى الإيمان به).
ونلاحظ أولاً أن الأستاذ مظهر يترجم باوغست فلماذا ترجمها هكذا وليس في الفرنسية حرف الغين!
ثم نلاحظ أن الأستاذ قد اغفل الجانب المهم من الفلسفة الوضعية كلها وهو أن كونت لا ينفي وجود ما وراء الطبيعة ولا ينفي ضرورة الاعتقاد، ولكنه يقول أن العقل قاصر عن عقيدة إنسانية تؤمن بالإنسان وتنوط الثواب الأعظم بإسداء الخير إلى بني الإنسان.
وقد وجد بعد كونت فلاسفة يعلمون ما لم يكن يعلمه في زمانه، ولم يكفوا عن البحث فيما وراء الطبيعة ولم يذهبوا إلى ذلك السخف الذي ذهب إليه حين وقع في ذلك التناقض الذي لا تقبله العقول فضلاً عن وجدان الدين.
فأي تناقض اسخف من تناقض القائلين بأننا نترك الإيمان بغير المحدود لأنه غير محدود؟
أي كائن أحق بالإيمان من الكائن المطلق الكمال؟ فلماذا يكون سبب الإيمان الوحيد هو السبب المبطل لكل إيمان؟
فإذا كانت المعرفة العلمية قاصرة عن الإحاطة بغير المحدود على زعمه فيجب أن يكون هناك سبيل إلى الشعور به من غير المعرفة العلمية، وهو سبيل الإيمان.(735/3)
والمسألة ليست من البساطة والسهولة بحيث يقول الأستاذ مظهر أن علم التطور (اثبت أن الإنسان نتيجة مترتبة على النواميس القديمة الأزلية وان حدوثه ليس أكثر من توليف جديد حدث في جوهر المادة).
فكيف اثبت علم التطور أن الإنسان توليفة جديدة فقط حدثت في عالم المادة؟
هل اثبت علم التطور حتى الآن علة الفرق بين اصغر الخلايا الحية وبين الذرة المادية؟
وإذا كان علم التطور لم يثبت ذلك فكيف يجزم بالرأي في حقيقة الإنسان كله وهو أعلى ما شهدنا ظواهر الحياة؟
وإذا كان علم التطور قد اثبت ذلك فلماذا لا يخرج لنا خلية حية تنشطر وتلتئم وتتوزع وتتجمع وتدخل في الرحم بدلا من خلية الإنسان أو خلية الحيوان فينشا منها مولود جديد على مثال أمه وأبيه؟
إن جهل همجي لهو اصدق شعورا بالعالم من الفيلسوف المصري الذي يحصر مسالة الحياة هذا الحصر المعيب. لأنه على الأقل يدرك للكون عظمة ورهبة تخفيان على الفيلسوف الذي يظنن أن الآزال والآباد كانت في انتظاره حتى يظهر في سنة 180 أو 1900 أو 2000 فيضع الكون كله في تلك العلبة الصغيرة ويغلقه هناك بالمفتاح الأخير.
على إننا ندع الخوض في هذا الغمار عرفنا كيف كان وقوف الأستاذ مظهر على الشاطئ بين الماء والرمال، ونرجع إلى المصطلحات والنقود فلا نزيد على ما تقدم إلا أن نرجو الأستاذ ومن ينقدون على غراره أن ينقدوا بعد أناة طويلة. فقد تبين مما تقدم أننا لم يفتنا شئ مما يقع في خواطرهم، ولكنهم هم قد يفوتهم شئ كثير مما توخينا. . .
عباس محمود العقاد(735/4)
القسم السابع:
فرنسا ومستعمراتها الاعتداء على الجزائر
للأستاذ أحمد رمزي بك
(يا ويلاه! أن المصائب والنكبات وامتحان الدهر ليست وحدها
العائق الذي يعترضنا في الحياة بل أن أعمالنا وجهودنا نفسها
كثيرا ما تكون حربا علينا)
(فاوست)
ليذكر العرب جميعا والعالم الإسلامي وسائر أمم الأرض أن فرنسا اعتدت بلا مبرر، بل بسبق إصرار وتربص على حرية الأمة الجزائرية، وكان ذلك بغير إعلان حرب ولا أخطار للدولة صاحبة السيادة، وإنما جمعت وحشدت الجنود وأنزلتها في يوم 19 يونية سنة 1830 عند الصباح في مرسى سيدي فرج، حيث انسحبت قوات والي الجزائر من البرج القائم حقنا للدماء وإثباتاً للتعدي أمام طوفان الفرق التي جاءت من فرنسا بمدافعها وعتادها الحربي.
هذا اليوم يجب أن يبقى خالدا في ذكريات كل فرد منا، مهما كانت ثقافته ومهما كانت آماله، ولأهل الجزائر أن يرفعوا أيديهم بالاحتجاج على هذا العدوان، وأن تنصت السماوات العلى إليهم، وتستمع الأرض ومن عليها لشكواهم وآلامهم.
وليتخذ أبناء العروبة هذا يوم حداد لهم يقفون دقائق معدودة تحية للمجاهدين والمقاتلين الذين جادوا بأرواحهم دفاعا عن حريات الأمة الجزائرية في كفاحها الطويل وجهادها، وليبق هذا اليوم الأسود قائما بيننا حتى يصفح الله عن شعبه وأرضه ويرد إليه حقه، والى أن تعود الحياة والنور إلى الشعب الجزائري على الثرى الذي حمل أمجاده والذي هو له وحده.
كان هذا الاحتلال نكبة كبرى على العروبة والإسلام، لا للحوادث التي تمخض عنها من ضياع استقلال تونس ومراكش، ولا لحوادث الكفاح والقتال والتصادم التي دامت سنوات(735/5)
عديدة، ولا لما أثاره من المعارك والمقاتل والأيام المشهودة، وإنما كان محنة إزاء ما تبينه العالم من صمت المسلمين وجمودهم وتفرق كلمتهم. لقد كشفنا هذا العدوان الفرنسي أمام الدنيا وشعوبها. كنا قوة تخشاها أحداث الزمن، فإذا نحن لا شئ. كان العالم يحسب ألف حساب للروح التي تفيض حماسة وقوة ورفعة تلك الروح التي أفرغتها تعاليم الإسلام على الأفراد والجماعات والشعوب فإذا هذه الروح لا وجود لها، أنها قد ماتت ولم يعد لها بقاء ولم تقم لها قائمة، ولهذا حمل أهل الجزائر عبء القتال وحدهم، وكان عبئا ثقيلا عليهم. حقا انهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ولكن للطاقة البشرية حدا، انهم دافعوا دفاع المستميت حتى القوا في النهاية أسلحتهم.
هذه ناحية جديرة بالبحث والتحقيق، نقول ماذا دهى العالم الإسلامي وأهله؟ ماذا أصاب هذه الشعوب التي عهدناها في التاريخ زاحفة على الأخطار تتلقاها بصور ملاها الايمان، لا تلين يوم ترجف الراجفة ولا تخضع ولا تستأمن وإنما تقوم للأحداث وتقعد أين ذهبت تلك الحيوية التي كانت تتبع الرادفة بالرادفة، وتهز بعزائم أهلها الدنيا وتواجه بصدور أهلها طوفان الحوادث فتعلو عليه والنصر من كل جانب يواتيها؟
ولقد افتتحت هذا المقال بجعله من فاوست قالها جوتة الشاعر الألماني، هي تلخص حال المسلمين في افتتاح القرن الماضي، إذ كانت قد خفتت منذ سنوات وقرون أصوات المعارك الزاحفة، وانهدرت صروح الممالك القوية، وتفككت عرى الدنيا الإسلامية حينما أطلت طلائع القرن التاسع عشر علينا فأصبحت المدن التي كانت عامرة أنقاضاً وهبط عدد المسلمين في مصر وفارس وسوريا والمغرب، وضعف شان المسلمين كل جانب ومنذ ابتداء القرن الثامن عشر لم يبقى لهم إلا دولة آل عثمان التي وصلت جحافلها إلى فينا مرتين، ثم إذا هي تواجه الهجمات المتتالية في جبهة البلقان والمجر وتدافع ببطولة واستماتة؛ فمن كان بوسعه أن يخترق حجب الغيب قبل وقوع هذا الحدث الأعظم بثلاثة قرون، ويجاهر المسلمين بان مصائب القرن التاسع عشر وأرزاءه كانت نتيجة للأخطاء التي ارتكبها أسلافهم بحروبهم وسياستهم وتفرق كلمتهم؟
لم يبقى من شك في أن الحروب التي شنها سليم الأول على مصر وإيران اضعف الكيان الإسلامي كقوة فعالة، ولا سيما إذا حللنا على ضوء المنطق الأسباب التي دفعته إليها، فقد(735/6)
كانت مشاكله مع الدولتين من الأمور التي كانت بوسعه حسمها بدون أن يتورط في معارك مع دول إسلامية بطبيعتها حليفة له. فكان من اثر حروبه أن زالت من الوجود دولة مصر التي كانت الحروب الصليبية في مواجهة أوربا، وناهيك بذلك مفخرة لها.
أن الضربة التي وجهت إلى مصر في سنة 922 هـ، كانت ضربة ضد العروبة الإسلام إذ كان من أثرها أن انهار ركن من دعائم دنيا المسلمين كان المقام الأول في الدفاع عن أراضيهم وصد أعدائهم، وسرعان ما ظهرت للعيان فداحة هذا الرزء حينما لم يمض نصف قرن حتى أعقب ذلك هبوط سريع في عدد السكان، ونقص في العمران الذي كان قائما بأراضي مصر والشام، بل أن اثر الفتح العثماني كان شديدا حتى على الحركة العلمية والأدبية التي كانت سائدة بمدارس القاهرة ودمشق، فلم نعد نسمع بمصر عن رجال من أمثال ابن خلدون والسيوطي والقريزي وغيرهم من أئمة الدين والفقه والشريعة، ثم انظر إلى اثر هذا العدوان ضد بلاد الإسلام في العقلية الأوربية نفسها، فهذه جمهورية البندقية استمرت في علاقات حسنة مع مملكة مصر طول القرون الوسطى. وانك إذا ذهبت إلى المدينة وزرت قصر الدوجات تجد في إحدى قاعات العرش رسما كبيرا يمثل سفراء إيران بين يدي عاهل البندقية أن هذه الصور توحي بأشياء كثيرة فان هذه الجمهورية بعد زوال مصر أخذت تبحث عن حلفاء لها من بين المسلمين.
والمعروف أن دوج البندقية كان عدوا للأتراك العثمانيين، فهو يضع في مواجهة العالم اعتزازه بتحالفه مع أعداء الدولة العثمانية من المسلمين وليس ابلغ للدلالة على تفرق كلمة المسلمين وتشاحنهم بعد حروب سليم من هذه الصور القائمة حتى اليوم درسا وعبرة لمن يريد أن يعتبر.
وما يقال عن إيران ينصب على سلطنة مراكش، فهي تمد عاشت أكثر من ثلاثة قرون في شبه عزلة تامة نتيجة للسياسة العامة التي وضعها سليم بضرورة فرض سيادة الخاقان الأعظم على بلاد المسلمين وممالكهم وهي سياسة لم تكن تسمح بإيجاد علاقات واضحة صريحة مع دولة مراكش المستقلة ولم يكن نتيجتها سوى توالي المحن والنكبات، وتحضير الظروف وتوطئة الأحوال الملائمة لذلك الهجوم الفرنسي الذي تمثل في الاعتداء على القطر الجزائري الشهيد.(735/7)
قارن هذه السياسة المبينة على الدعوة إلى السيطرة العامة والخضوع لسلطان الخلافة مع المرونة التي أظهرها ملوك مصر ابتداء من الملك الظاهر بيبرس مع خانات التتار والقبيلة الذهبية وأصحاب عروش الفنجان في روسيا، تجد انهم نقلوا هذه البلاد من الوثنية إلى الإسلام.
أما السياسة العثمانية فلم تنجح مع أنها كانت قريبة منهم لأنها جاءت لملوك هذه البقاع وفضلت فرض نوع من الوحدة والسيادة عيهم، وكان هؤلاء في عنفوان قوتهم فرفضوا الإذعان لسلاطين آل عثمان وكانت دولة الخلافة في أبان مجدها وفتوتها فتمسكت بسياستها، وبعد قرنين ضعف الجانبان ودخل خانات القرم طوعا تحت كنف السلطان الأعظم، فإذا هو عاجز عن حمايتهم، وإذا بالقوى تتجمع ضد الدولة العثمانية، وكان أول من جاهر بالعصيان جماعات القوزاق الذين خضعوا لملوك المسلمين أباطرة وقياصرة، وكانت قلاع العثمانيين على نهر الدنيير في شمالي رومانيا وفي وسط بلاد المجر كافية لصد جموع أوربا مجتمعة، ولكن ماذا تفعل الجحافل العثمانية وقد امتدت الجبهة شرقا وظهر عدو جديد هو الروسيا التي أخذت تكتسح الإمارات الإسلامية حتى وصلت إلى شواطئ البحر الأسود الذي عرفته القرون بحيرة إسلامية؟
لقد ظهرت للعيان أخطاء قرنين من الزمن لان حلفاء الدولة العثمانية الطبيعيين هم سكان نهر الفولجان المسلمين وأمراء القرم وهم الذين كان بوسعهم دفع الشر أبان قوتهم وكان المنطق والعدل والاخوة تملي بتقوية هذه الإمارات وتشجيعها بدلا من مناوأتها فإذا هي أول ضحايا الزحف المسكوبي وإذا بالجبهة العثمانية تنهار بسرعة إذا بمجهود السلطنة والخلافة ينصرف من يوم حصار فينا إلى عهد حملة نابليون 1812 في صد الهجمات المضادة التي شنتها أوربا فإذا وفقت في صدها عالجها الذئب الروسي الأسيوي مستعينا بمن كانوا حلفاءها، لقد كانت محنة كبرى ولكنها من صنع أيدينا قبل أن تكون من عمل أعدائنا. فالويل إذا تكررت مرة أخرى.
فهل كان من حرج على سلاطين آل عثمان لو اتبعوا أساليب وسياسة سلاطين القاهرة في علاقتهم مع مسلمي الفولجا والقرم؟ لقد أثبتت الأيام أن ملوك مصر كانوا ابعد نظرا وأكثر انتباها.(735/8)
ولذلك لم تكسب الدولة العثمانية كثيرا في سياستها الإسلامية وجاء اتساع رقعة أراضيها فلم يمكنها من أن تصير دولة متماسكة قوية ومع خدماتها الجلى للإسلام جاء وقت كانت هي وحدها الدولة الإسلامية التي تتلقى الصدمات التي يوجهها أعداء الإسلام وخصومه إلى أممه. وفي غمرات هذه الحالة جاءت حملة فرنسا على القطر الجزائري فإذا القوى مبعثرة والأيدي مغلولة وأراضي المسلمين الشاسعة خالية من السكان.
نذكر هذا ونكرره إزاء الصيحات التي نسمعها نحو الوحدة وتأليف دولة موحدة إسلامية ونحن نبادر إلى القول بان المتناقضات لا تزال قائمة في داخلية العالم الإسلامي هذه المتناقضات التي أورثتها لنا الأطماع والحزازات والعقد النفسية، فلنحذر من الوقوع في أخطاء السلف لان هذه الأخطاء قد تكون أكثر وبالا علينا من المصائب والنكبات التي يسببها الأعداء لنا.
وكلمة هادئة نسوقها هنا وهي: إننا من دعاة حرية الشعوب الإسلامية ولكن مع الإسراع في الأخذ بمدنية القرن العشرين ومع العمل على نقل الشعوب إلى وعي قومي صحيح مبني على العلم والنور وفهم الحقائق والتثبت منها، بحيث لا يمكن التأثير عليها وقيادتها إلى أعمال تحمل من المبدأ جراثيم الفشل وتنتهي إلى نكبات ومحن تضعف من شان المسلمين، فعلى ضوء تجارب الماضي ودروسه القاسية تبنى وتؤسس دعائم المستقبل فنحن طلاب حرية وتقرير مصير واستقلال كل شعب داخل نطاق حدوده القومية والتاريخية، ولسنا من أمصار الفكرة العثمانية الني رأينا أثرها بعد ثلاثة قرون ممثلة في ضياع شمال أفريقيا، وإنما ندعو إلى تأسيس علاقات جديدة بين الوحدات العربية والإسلامية تنو على ضوء التجارب مع الزمن نحو التحالف والتكاتف والتعاون، حتى يعاد العمران وتنشا المواصلات وتختفي الأنقاض والخرائب وتحطم أغلال الجهل التي أورثتها لنا أجيال عشنا منها تحت كنف الاستعمار والاستعباد.
هذه ناحية هامة أعادتها إلينا ذكرى احتلال الجزائر وما لمسناه من خمود أية فكرة عليا للدفاع عن هذا القطر الشهيد؛ فلننظر من ناحية أخرى لهذا الحدث الكبير في تاريخنا لنعرف الدوافع الكامنة وأثرها.
لقد رأينا جيوش المسلمين تسير لتحرير العالم، حتى إذا انتهت إلى إسبانيا عبرت جبال(735/9)
البرانس ودخلت فرنسا بقيادة عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي في سنة 732 ميلادية.
وكانت انتصاراته سهلة على حكام البلاد فوصل زحفه إلى وادي نهر اللور، ولكن في وسط الوديان الشاسعة بين بلدتي تور وبواتييه، حيث المروج الخضراء، التقت جموع العرب لأول مرة مع جموع عنصر أوربي مقاتل عم الجرمان وعلى رأسهم شارل مارتل، ودارت رحى معركة قال عنها كتاب أوروبا (هي المعركة الفاصلة الإسلام والمسيحية لان اغلب مقاتلة الجرمان كانوا وثنيين، ولكن الدعاية والرغبة في التهويل والتفخيم أسبغت على هذه المعركة ثوبا فضفاضا لان نتيجتها كانت انسحاب العرب من وسط فرنسا إلى جبال البرانس، فقالوا هنا التقت أوربا واسيا، وفي هذه المعركة انهزمت قوى الإسلام ومن الغريب أن يذكر بعض المؤرخين أن بين من حارب في صفوف المسلمين أمراء مسيحيين.
لقد شاءت الروح الصليبية السائدة في أوروبا أن تجعل من معركة تور وبواتييه ابتداء الهجوم المضاد على المسلمين، لا في فرنسا وحدها بل في إسبانيا، واستمرت هذه الدعوة القائمة على الكراهية والإفناء سائدة لمدة ثمانية قرون وهي تلاحق العرب حتى صفيت المشكلة الإسلامية فيبحر من الدماء والمذابح في إسبانيا وغادر آخر ملوك غرناطة ساحل الجزيرة الخضراء.
ولقد ظن المسلمون أو خيل إليهم أن نكباتهم قد انتهت وان جحافلهم قد أن لها أن تستريح وكانوا في ذلك من الواهمين لأنه لم تمض ثلاثة قرون حتى لاحقتهم الحروب في عقر ديارهم، وقذفت فرنسا التي حكمها العرب وفتحوا ديارها بحملة قوامها أربعة وثلاثون ألفاً من خيرة جنودها وحملوها على أسطول عدته أربعمائة سفينة أنزلت مع الحملة مائة وعشرين مدفعا تجرها الخيل.
ولم تكن هذه أولى الحملات بل تقدمتها محاولات أخرى لقيت فيها مدينة الجزائر الكثير من عبثهم وهدموا أحياء منها، ويذكر التاريخ مثل هذا الهجمات على مدن السواحل الأفريقية كلها حتى مدينة الإسكندرية وبيروت وسواحل الشام أصيبت في عهد الدول العثمانية وقبلها بشيء من هذا العدوان على أيدي قراصنة الأوروبيين.
ومع ضعف المسلمين وتفرق كلمتهم تمكن أهل المدن الساحلية وهم أهل المتاغرة والرباط(735/10)
من رد هذه الحملات إلى البحر والمحافظة على السواحل الإسلامية واسترجاع المناطق التي سيطر العدو أحياناً عليها، ولعل هذه الانتصارات السهلة هي التي جعلت أمراء المماليك بمصر يستصغرون شان الحملة الفرنسية عليهم، وكانوا في هذا من المخطئين فدفعوا الثمن غاليا بهزيمتهم وموتهم وأضاعوا البلاد من أيديهم.
وبهذه الحملة انتقلت حلقات الهجوم المضاد لمعارك تور وبواتييه إلى الشاطئ العربي وبدأت حرب الموت والفناء تشنها قوة تعتقد أنها تستعيد مجد روما على الرمال التي حملت أعلام روما القاسية، وتستوحي في قتال المسلمين ذكريات الحروب الصليبية ومعارك لويس التاسع في أفريقيا، وهكذا شاءت فرنسا أن نعيش نحن معاشر العرب بأفريقيا الشمالية في غمرات الهجوم المضاد الذي بدأه الجرمان شارل مارتل علينا.
ولم يكن هناك ما يبرر هذا العدوان فقد تقرا الكثير مما ذكره المؤرخون عن حادث إهانة الوالي حسين باشا للجنرال دوفال قنصل فرنسا حينما قدم عليه للتهنئة بعيد الفطر سنة 1234 هجرية وما سبق هذا من النزاع على الديوان التي ماطلت فرنسا في دفعها لحكومة الجزائر والدور الذي لعبه كل من يعقوب كوهين بلري وميخائيل أبو زناك اليهودي في هذه القضية وهل ترفع إلى مجلس الجزائر أو إلى محاكم باريس التجارية للفصل فيها ثم احتجاج القنصل ومغادرته البلاد ومن معه من التجار الفرنسيين وما قيل من أن هذا القنصل تعمد إيجاد هذا الحادث بتوجيه عبارة غير لائقة للوالي حينما طلب إليه إجابة صريحة من حكومته فرد عليه انه ليس من عادة ملك فرنسا أن يكاتب من هو دونه بغير واسطة فأثار بقوله غضب الوالي.
إذ ما الفائدة في تعرف أسباب العدوان بين القوي والضعيف والنية مبيتة والاستعداد قائم، ولم يكن اختيار الجنرال ليرأسها وهو عسكري إلا توطئة وتحضير للأعمال الحربية القادمة.
ووقعت الواقعة في التاسع عشر من يونية سنة 1830 إذ أقدمت فرنسا بغير إعلان حرب ولا أخطار للدولة صاحبة السيادة أو إنذار للوالي فأنزلت عساكرها في مرسي سيدي فرج، وهي بقعة خالية من الناس لا تحرسها غير قوة صغيرة من الجنود في برج قائم رأت أن تنسحب بغير قتال حقنا للدماء أمام طوفان الفرق النازلة من الأسطول بمدافعها وعتادها(735/11)
الحربي.
فلنذكر جيدا هذا اليوم ولا ننسه، لأنه يحمل ذكريات العدوان الفرنسي على الأرض الأفريقية على بر الجزائر الشهيد. وبعد مائة عام أي في 19 يونية 1930 احتفلت فرنسا بهذا اليوم فأثارت بعملها حمية شر ذمة من أباة الجزائريين واحرارهم وخرجوا من ديارهم يجوبون المماليك حتى لا يروا بأعينهم في ديارهم وأوطانهم ذل يوم يحتفل فيه الغاصب ويرفع أعلامه على أنقاض الوطن الجريح والشعب الشهيد، فلقيني جماعة منهم في مدينة استنبول، وذكروا لي مشاهد عما يلقونه من عنت وما صارت إليه أوطانهم ومرابعهم وهي البلاد العزيزة التي حملت أعلام المرابطين والموحدين وقبائل المسلمين من العرب والبربر، وكانت لهم السيادة والقيادة والحول والقوة أيام كانت ترتج أمام أمجادهم وعزائمهم جحافل الفرنجة وتخشاهم الدنيا.
وجاء منهم فريق إلى مصر، فأمضى أياما من غير أن يسمع لهم صوت أو أنين ولما جاء الفوج الثاني أرجعهم بوليس مصر وشرطة المواني بحجة أن مصر لم تكن موقعة على جوازات سفرهم وضحكت من الأيام التي جعلت بولسينا حريصا على تنفيذ تعليمات حكومة الاستعمار الفرنسية متيقظا إلا يدخل مصر العربية من هم من اقرب الشعوب إلينا وألصقهم بنا، ومن يحملون تأشيرة مصرية قانونية، ولا ادري من الذي لفت الأنظار إليهم ومن حال بينهم وبين مصر ومن أعطى التعليمات بإعادتهم.
وارتجت مدن الجزائر في يونية 1830 وقامت القائمة فيها، والوالي يجمع جنده ويحشدهم ويرسل إلى البلاد والأقاليم يدعو للجهاد والدفاع ويطلب النجدة من وهران وقستنطينة وخرجت الجموع لمهاجمة معسكر الفرنسيين، فاقتحموا المراكز الأمامية أمام تراجع الجنود الفرنسية حتى إذا صاروا تحت مرمى المدفعية حصدتهم بنيرانها حصدا، فاختلت صفوفهم وأخلوا الأماكن التي احتلوها وتعقبهم الفرنسيون وكانت هذه أول ملحمة على ارض الجزائر في يوم 25 يونية 1830.
وكانت قوات والي الجزائر محتشدة داخل حصون في ناحية أبي جارية، فخرجت منها للقتال والتحمت مرة ثانية مع الفرنسيين فلم تصبر على النيران وارتدت وأخلت هذا المعسكر فاحتله القدو ثم تقدموا منه واحتلوا بساتين المدينة وأطرافها وبدءوا حصارها.(735/12)
وبعد أيام اخذوا في إطلاق نيران المدفعية فأصابت قذائفها برج مولاي الحسن وكانت فيه مخازن البارود. فأصابتها قنبلة سببت انفجارا هائلا. فاندك البرج على من فيه وتطايرت حجارته وتهدمت عدة منازل ومات خلق كثير تحت الأنقاض.
وبهذه النائبة اهتزت أركان المدينة وفقدت روح المقاومة واستولى الرعب والقلق على السكان فقرر الوالي تسليم المدينة.
وفي صباح يوم 6 يولية 1830 المحرم 1246 دخلت جيوش فرنسا من الباب الجديد وأنزلت الأعلام العثمانية من القصبة والأبراج ورفعت الرايات الفرنسية واحتلت الجنود القصبة والقلاع والشواطئ وزالت من الوجود حكومة الجزائر الإسلامية.
وتم العدوان على الأرض التي أمضت فرنسا السنين تحلم بوضع اليد عليها بعد أن فقدت أملاكها في الهند وأمريكا وجزائر المحيطات، ولم يرد في ذكر شروط الهدنة والتسليم نص على الاحتفاظ بحقوق الأهالي وتقرير مصيرهم سوى النص الاستعماري الذي وضعه نابليون في مصر وهو: احترم الديانة المحمدية وعدم التعرض لنساء المسلمين.
وهو النص الذي ما انفك دعاة الاستعمار يرددونه في كتبهم وأبحاثهم وخطبهم دليلا على روح التسامح، ويقولون وماذا يريد المسلمون وقد تركنا لهم حرية التدين وحفظنا لهم أعراضهم كان حياتهم وقف على هذا لا تتعداه أو كأنهم أهل آخره لا تشغلهم أمور الدنيا فلا تهمهم العاجلة ما داموا قد ضمنوا الآجلة واخذوا بأيديهم مفاتيح الجنان.
ويقولون مؤرخو المسلمين: اهتزت لهذه النائبة المشارف والمغارب وكانت من اعظم النوائب. والحقيقة أن العالم الإسلامي الذي عهدناه يهتز لما يحدث في كل ركن منه لم يتحرك لهذه الكارثة ولا لما تلاها من نكبات وإنما تحرك القطر الجزائري وحده أمام العدوان وقامت قبائله ورجاله يذودون عن حياضهم وانضموا تحت لواء الأمير عبد القادر، يكتبون بدمائهم ملحمة من ملاحم الحروب القاسية، في تاريخ الإسلام الذي واجه الحقائق وقال:
(لقد تبينت ما قدر على وهاأنذا مستعد للأقدام).
ولكن بعد مضي قرن من الزمن يقف أهل الجزائر مرة أخرى للامتحان أمام فرنسا ويرددون هذا القول لقد عرفوا وتبينوا ما كتبته لهم الأقدار فهل عم على عهد الأقدام(735/13)
قائمون؟
هذا ما ستفسره الأيام.
وسنرى في القسم التالي ما كان من هذه الواقعة الخالدة
أحمد رمزي(735/14)
عشرة أيام في الشام
للأستاذ علي الطنطاوي
يمضي المسافر أياما طوالا لا يقطع فيها إلا أذرعا من طريقه، ثم يجتاز الفراسخ والأميال في ساعات ويعيش المرء سنين لا يفهم فيها من أسرار الحياة، ولا يرى من معالم الكون إلا الأقل، ثم يرى في لحظة أخفى المعالم، ويفهم اعمق الأسرار، وكذلك شأني:
سرت على طريقة العمر قريبا من أربعين سنة، فلم أدرك من حقائق الحياة حولي، ولم اعرف من خلائق الناس مثل الذي أدركته وعرفته في هذه الأيام العشرة التي (طرت) فيها فجأة إلى دمشق، ثم عدت طائرا منها، وعلى دين أكاد اعجز عن قضائه لا اعرف السبيل إلى استرضائه ولكني مع هذا عدت رابحا لأني تعلمت فصولا من كتاب الحياة كنت أجهلها وهذا قليل من كثير مما تعلمت:
- 1 -
كان أقصى علمي بالصديق انه الذي يألفني وألفه، ويأنس بي وانس به، ويسال عني أن غبت ويزورني أن حضرت ويستقبلني أن زرته، ويصغي أن حدثته، وكنت اعتز بصداقات رجال احسبني نلت بهم ما تمناه المأمون وهو خليفة وعجز عنه، وما عده الأولون ثالث المستحيلات، وحشروه مع الغول والعنقاء ولم احتج إلى واحد منهم كي أجربه فلما كانت هذه التجربة (تجربة دخول الانتخابات) رأيت أكثر هذه الصداقات كأنها بقايا ثلوج الشتاء تحت شمس الصيف سرعان ما يذهب بياضها ونقاؤها ثم تذوب ثم تجري على التراب فتكون سواقي عكرة تنحدر إلى الحضيض، بعد أن كانت في العلاء ما بقي بين يدي من هذه المودات إلا كالذي يبقى من هاتيك الثلوج على صخور الجبل!
لقد تنكر لي رجال كانوا رفاقي في السفر وفي الحضر، وإخواني في الصبا والشباب، واعرضوا عني إيثاراً للراحة، أو هرباً من إغضاب الحكومة، أو فروا من المشاكل وحبسوا عن مساعدتي أقلاماً لهم والسنة طالما شددت أزرها، ودافعت عنها بقلمي ولساني، وامسكوا عن نصرتي أكفاً طالما امتدت إليها_مصافحة مؤازرة_كفى. وقالوا ما لنا ولمرشح نساعده على الحكومة ونقويه عليها، وهي ذات السلطان وبيدها العطاء والحرمان؟
ونسوا إني موظف في الحكومة، لست عدوا لها، ونسوا عهود الإخاء، وأيام الصفاء هذا وما(735/15)
سقطت السقطة التي لا يرجى لها قيام ولا كنت تاجرا افلس، ولا موظفا عزل ولا صحيحا ازمن، ولا حكم على بسجن أو نفي، ويبقى عيالي من بعدي أمانة عند الصديق وإنما هي تجربة هينة فكيف لو كان شئ من ذاك؟ وعل من اعتمد بعد اليوم؟
سأعتمد على الله ثم على هؤلاء الذين وجدت من إخلاصهم، وحبهم وعطفهم علي، أيام العسرة ما هو اثمن عندي من النيابة والوزارة، ومناصب الأرض كلها. ولن أنسى أبداً لان هؤلاء هم الذين ابقوا علي القليل من ثقتي بهذا الإنسان وأنقذوني من أن اكفر به كفرا مركبا تركيبا مزجيا كحضرموت. . . . . لا يستطيع إخوانا عبد المنعم خلاف أن يحله أو يزيله ولو انزل عليه في دينه الجديد كتاب آخر؛ وأن أومن بان الكلاب والحمير أو في من الناس واحفظ للوداد.
- 2 -
وكنت احسب كل متظاهر بالتقي تقياً، وكل لاهج بذكر التصوف صوفيا، وكل مزهد في الدنيا زاهداً وكل داع للعبادة عابدا، واحبهم جميعا وأراهم أهل الدين وأرباب الاخلاص، ولا يبلغ وهمي أن يكون في الألف منهم مراء واحد أو خداع، فلما جربتهم وجدت. . .
لا احب أن أقول ماذا وجدت منهم، لأني اظلم العلماء إذا أخذتهم بجريرة نفر تسلطوا على (رابطة العلماء) التي هللنا لظهورها وباركنا يوم إنشائها وسيروها على هواهم وكفوا أيدي العلماء الاجلاء من أعضائها.
ولكن أقول أن الصالح المصلح، والعالم العامل، هو من يجعل هواه تبعاً لحكم دينه، ويضيع منفعته أن كان فيها مضرة أمته، ويؤخر نفسه ويقدم من هو اصلح منه، ويحكم الشرع في دقيق أمره وجليلة وظاهره وخفيه أما تكوير العمة وتطويل اللحية وحسن الكلام وسائر هاتيك المظاهر، فهو لآخر ما يستدل به على الصلاح وهو أهون شئ عند الله الذي لا ينظر إلى الصور وإنما إلى السرائر وعند الناس.
- 3 -
وكنت اكبر هؤلاء الذين وقفوا أنفسهم على الجمعيات الخيرية، وقصروا عليها جهودهم واثروا خدمة أمتهم على راحتهم واراهم مثلا في الإخلاص من أعلى الأمثال، لأني لا اسمع(735/16)
عنهم إلا الرغبة في إعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق وإذاعة الخير، فلما بلوتهم في هذه الأيام العشرة وجدت أكثر الجمعيات يسيرها رجل أو رجال، يستبدون بها، ويسمون لها أعضاءها ممن يعرفونهم موافقين لهم، ووجدت في هؤلاء، على إخلاص بعضهم وأمانتهم. . .
أأقول ماذا وجدت، فأضع في أيدي خصوم الإسلام سلاحا جديدا يقاتلون به أهله؟ أم اسكت عن بيان الحق؟
المسألة مشكلة. .
وأنا أسال الله أن يعجل اليوم الذي نجد فيه رجال هذه الجمعيات قد نسوا نفوسهم وأهواءهم فجعلوها كلها جمعية واحدة، لها فروع وأقسام إذ لا يعقل أن تتعدد الجمعيات ما دامت تزعم أن غايتها واحدة هي خدمة الحق والخير، وان يكون القائمون على هذه الجمعية أمناء يعلمون أن لكل مسلم حقا في أموالها يحاسبهم يوم القيامة على كل قرش منه أنفقوا في غير وجهه، وعلى كل مقعد للجمعية قعدوا عليه لغير مصالحها، ودار لها أقاموا فيها ساعة لغير خدمتها وسيارة لها ركبوها من غير ضرورة لركوبها وراتب أخذوه لأنفسهم أو أعطوه موظفا أقاموه، ما دامت المصالح العامة تسير بغير هذا الموظف وتضمن بغير هذا الراتب.
فهل نرى هذا اليوم؟
إذا لم أره، فحسبي إني قد رأيت حقيقة هذه الجمعيات وكنت لا أرى من قبل إلا الستار اللماع الذي يخفيها.
- 4 -
وكنت اقرأ مهاترات الصحف الحزبية في مصر والشام وما تسوق من تهم، وما تصب من فرى، فأرى المبالغة ظاهرة، ولكني أقول انه لا دخان من غير نار. ما كنت أظن أن القحة في الشر تبلغ برجل أن يفتري كذبا يعلم انه لن يصدقه أحد، ولا يقبله عدو فضلا عن صديق، واحسن الظن بالبشر، فاحسب انه لا يزال في نفوسهم بقية من الوفاء والحياء، فهم يقدرون الإخاء ويستحبون من اختراع الكذب المحض، فلما قرأت ما كتب في الصحف عني وعن غيري وجدتني قد وضعت ظني الحسن في غير موضعه وأنا رجل في نقائص كثيرة، وعيوب جمة ويستطيع من يكتب عني أن يعرض لها فيكون قد نال مني وبلغ ما أراد من هجائي أما أن تبلغ بكاتب قلة الفهم، والجهالة بأصول الشم إلى أن ينسى عيوبي(735/17)
كلها ثم لا يلقى إلا أشياء أنا ابعد الناس عنها يلصقها بي فيضحك الناس عليه، فهذا يدعو إلى الأسف على ضياع (الهجاء) في هذه الأيام.
لم تجد هذه الصحف ما تقوله عني إلا أن تعرض تعريضا غامضا بسيرتي في العراق وتقول إني أسأت بقلمي لوطني لأني انتقدت في الرسالة ما كان في احتفال الجلاء من تكشف وبلاء، وتنقل عن مجلة تصدر في دير الزور إني كنت من صنائع الفرنسيين.
أما سيرتي في العراق فان هؤلاء يعلمون أن الرسالة تقرا في العراق أكثر من جرائدهم، وأنا استحلف في الرسالة كل من يعلم عني مخزية في العراق أن ينشرها في الصحف أو يبعث بها إلى هؤلاء الخصوم وماذا صنعت في العراق ويحكم؟ هل فجرت؟ هل سرقت؟ هل كنت جاهلا في العلم الذي ادرسه أو مهملا في العمل الذي أمارسه؟ وهل كان في كل من قدم العراق مدرسا من هو احفظ لوده وأكثر (بعد الدكتور زكي مبارك) كتابة عنه مني؟
أما صلتي بالفرنسيين فمن كان يعلم إني عرفت فرنسيا من كان معلما أو مستشارا في الوزارة فليقل ومن كان يعلم أنها خلت سنة مدرسية من نقلي مرتين لخلافي مت الوزارة - وكانت الوزارة هي المستشار أو يعلم إني مدحت فرنسيا بلسان أو قلم أو أعنته بيد أو يعرف رجلا كتب في سب فرنسا مثل الذي كتبت، حتى يوم سقطت باريز وكانت الحرب مستمرة، والفرنسيون حاكمين؛ فليقل أما إني أسأت لوطني في الرسالة فهذا هذيان لا يقبل من محموم. وهل جرى قلم كاتب في القديم والحديث بوصف محاسن الشام، وتمجيد أيامها، وتصوير جهادها، بمثل ما جرى به قلمي في الرسالة منذ سنة 1933 إلى اليوم، وفي فتى العرب واليوم، وألف باء، والزهراء، قبل أن تنشا الرسالة، وهذا كلام ما كنت أظن إني سأقوله يوما من الأيام، ولكني اضطررت إليه وأنا اعتذر إلى القراء واستغفر الله، ولن أعود إلى مثله.
- 5 -
وبعد فأنا رجل قاض وأديب، ولكني لم اكن اعرف قبل هذه الأيام قيمة ما أنا فيه، ولقد حمدت الله أن انتهت هذه الأزمة وعدت قاضيا أقول الحق أياً كان أثره، وأديباً يشرك قراءه في نعيمه وبؤسه، وخواطر نفسه، وحديث يومه وأمسه لا يكتم عنهم امرا، ولا يمسك سرا ونجوت من السياسة وشرورها.(735/18)
ومالي وللسياسة؟ وما لبست لها لباسها، ولا أعددت لها سلاحها، ولا عرفت مسالكها ورب جاهل جال في الطرقات، وصاح في المواكب، وولج وخرج، وخالط الكبار والصغار، وصحب الأعلياء والأدنياء وعرف لسان كل فخاطبه بلسانه، اقدر على السياسة مني ومن كل أديب في الدنيا وكل عالم. ورب رجل مثل هذا لا يموت حتى يصير اسمه ملء الأسماع، وملء الصحائف، ويكون علما في طريق التاريخ وآلاف مثلي في (أخصاصهم) لا يدري بهم أحد!
ولكني راض بما أنا عليه قانع به، لا ابتغي أكثر منه، وهل ابتغي أكثر من مرتب كاف يريحني من الكدح للعيش والسعي للخير، وعمل لا يأخذ من وقتي وذهني إلا الأقل أقوم به بما أستطيع من الأمانة، فأخذ الراتب بما يمكن من الحل، ثم اتصل بقراء أشاركهم أفراحي وأتراحي وبصحب انس بهم ويانسون بي، وأهل اخلص لهم ويخلصون لي؟
فماذا بعد هذا؟ وهل النائب أو الوزير أو الرئيس اسعد نفساً واهدأ بالا مني؟ وهل السلطان اكبر من الأديب؟ هل النعمان اعظم من النابغة؟ وسيف الدولة اجل من المتنبي؟ والخديوي عباس اخلد من شوقي؟ وهل بيني الحكومات ويهدمها، وينشئ الممالك ويدمرها ويرفع الأمم ويخفضها إلا الأديب؟
فمالي وللسياسة، وأنا قد تشرفت بان أسير في ذيل ركب الأدباء إلى سوح الخلود؟
لقد كانت تجربة لن أعيدها، ولو جرتني إليها كل حروف الجر، لقد كانت تجربة تعلمت منها دروسا جمة أهمها إني لست مخلوقا للسياسة، أن السياسي هو الذي يقول للحمار: أنت غزال بأذنين طويلتين! وأنا لا أقول للحمار، إلا يا حمار، فان غضب فدونه (بردى)!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(735/19)
حجة تاريخية
للدكتور جواد علي
نعم حجة تاريخية من تلك الحجج التي يتذرع بها المدعون ولكنها من أوهى ما عرفه المؤرخون فلسطين وطن العبرانيين! فيها نشا هذا الشعب واليها يريد العودة بعد هجرة طويلة تزيد على عشرين قرنا. يريد أن يستردها وان يكون فيها ثقافة يهودية ووطنا يجمع شمل يهود العالم.
لا اعتقد أن رجلا صاحب منطق يجازف بشخصيته فيقول مثل هذا القول؛ لان نبش الماضي السحيق والحكم عليه معناه تغيير خارطة العالم وتوزيع الأراضي على شكل جديد ولو أخذنا بهذا المبدأ لوجب علينا رد دعوى الصهيونية مقدما لأن الأرض التي يقال لها عند اليهود (أرز إسرائيل) أي (ارض إسرائيل) لم تكن ارض إسرائيل بل كانت (ارض الكنعانيين) و (ارض الفلسطينيين) قبل أن يتبرع متعصبو التوراة بمنح هذه الأرض إلى الإسرائيليين باسم (إله إسرائيل) وقبل أن تعرف عند العبرانيين المتأخرين باسم (ارض الميعاد)
وكلمة (فلسطين) نفسها حجة قوية تطعن مزاعم الصهيونيين في الصميم وترد دعواهم لأنها تشير إلى نسبة الأرض إلى شعب قديم كان يسكن في هذا الموضع قبل مجيء العبرانيين وكان يقال له (الفلسطينيون) وقد عرفت الأرض التي كانوا يقيمون بها والتي هي السهل الساحلي في الأغلب في التوارة باسم (فلسطيا) نسبة إلى هذا الشعب ثم أطلقت على كل الأراضي التي أقام بها الإسرائيليون فيما بعد.
وقد ذكرت فلسطين في النصوص العبرانية بلفظة بلشتيم و (بلشتيم) وقيل (لفلسطية) وهي المنطقة التي كان يقيم فيها (الفلسطينون) (بليشيت) وقيل للفلسطنيين (بلشتي) وتقابلها في النصوص المصرية
وولا بد أن تكون للفلسطينيين قوة وشكيمة دفعت اليهود إلى تسمية (أرز كنعان) أي (ارض كنعان) كما كانت تعرف في الأسفار الأولى للتوراة باسم (فلسطين) حتى تغلبت على كلمة (أرز إسرائيل) أي ارض إسرائيل. والأرض الموعودة وقد أطلقها الكتاب باليهود المتأخرون الذين دونوا الأسفار المتأخرة فشاعت بين الشعوب الأخرى منذ ذلك الحين. وقد(735/20)
ذكر المؤرخ (هيرودوتس) أن العرب كانوا قد تمكنوا من الدخول إلى منطقة (فلسطينية) قبل أن يتمكن من ذلك الإسرائيليون وانهم كانوا في تلك المنطقة في أيامه.
لم يترك البشر الأولون الذين سكنوا هذه المنطقة قبل العصور التاريخية أثاراً يمكن التعرف منها على طبيعتهم. وكل ما يمكن أن يقال عنهم انهم كانوا يسكنون المغاور والكهوف ويظهروا أنها أصبحت في العصور التاريخية تحت نفوذ (الاكادبين) كما يتبين ذلك من النقوش.
وفي الألف الثالث قبل المسيح كان يقيم في فلسطين شعب لا نستطيع أن نعرف عن هويته شيئا؛ إذ أن العظام التي عثر عليها في المغاور والكهوف وفي الحفريات التي أجريت منطقة (حيزر) كانت في حالة تلف شديد. والظاهر أن ذلك الشعب كان من شعوب البحر المتوسط ولعل (الحوريين) الذين ورد ذكرهم في التوراة هم من نسل هذا الشعب القديم. ويظهر مما ورد في التوراة كذلك أن (الحوريين) هم سكنة منطقة (ادوم) و (جبل سمير) وانهم من نسل (عيسو) الذي هو جد الادوميين وانهم كانوا من سكنة الكهوف في المنطقة التي أطلق عليها اليونان اسم والتي كان يسكنها العرب في أيام (سترابو) ولذلك سماها أو (العرب سكنة الكهوف) والذين كان يقال لهم في اليونانية القديمة. ويرى (سترابو) أن هذه الكلمة تصحيف أي بمعنى (عرب) أو (عربي).
وفي حوالي سنة 2500 قبل الميلاد لعبت الشعوب السامية دورا هاما في فلسطين؛ وقد عرف هؤلاء باسم (الكنعانيين) والذين يقال لهم (العموريون) كذلك. وقد أطلقت التوراة وجميع الكتاب على ارض فلسطين اسم (ارض كنعان) وقد عرقوا في النصوص المصرية باسم أو ويرى بعض العلماء أن (العموريين) اقدم من الكنعانيين وان الكنعانيين هم فرع منهم بدليل تشابه اللهجات والأسماء وعدم تمييز التوراة في كثير من المواضع بين الجنسين.
وكان (حمورابي) من ملوك العموريين في العراق. وهم الذين سكنوا سهل (شنعاد) ويرى بعض العلماء أن العموريين هم من أسلاف العرب لوجود تشابه كبير في طرق الحياة والأسماء واللغة فيما بين العرب والعموريين.
ويرى العلماء أن الكنعانيين والعموريين ظلوا محافظين على خصائصهم الجسمية وان كانوا(735/21)
قد بدلوا ديانتهم فاعتنق قسم كبير منهم الديانة اليهودية ثم اعتقوا بعد ذلك الديانة المسيحية وتثقفوا بالثقافة الآرامية الني تغلبت على اليهودية أيضاً. ولما تحررت فلسطين من ربقة البيزنطيين وعادت إلى أصحابها الشرعيين كان أكثر هؤلاء قد تثقفوا بالثقافة العربية الآرامية فحاربوا في صفوف المسلمين ضد أبناء دينهم البيزنطيين ثم اعتنق أكثرهم الديانة الإسلامية وتكلموا باللغة العربية. وأما الذين فضلوا البقاء على ديانتهم وهي المسيحية فانهم تكلموا باللغة العربية التي تكلموها قبل الإسلام ولا زالوا يتكلمون بها حتى اليوم وقد شاركوا إخوانهم في تقدم بلادهم وفي تقدم الخلافة الإسلامية ولم يكن الدين ليميز بين الطرفين. ولما وقعت الحروب الصليبية اشترك هؤلاء مع إخوانهم المسلمين في مقاومة الغزاة وابلوا في ذلك بلاء حسنا ولا يزالوا يحاربون من اجل فلسطين.
ويمكن ملاحظة الخواص والمزايا الجسمية واللغوية والصور الكنعانية العمورية حتى الآن بين السكان الفلسطينيين الأصليين وهم القرويون والفلاحون الذين يمثلون اقدم شعوب فلسطين والذين لم تذهب عنهم ميزاتهم التي ورثوها عن ألوف من السنين وقبل مجيء المهاجرين من اليهود بكثير. والذين لم تتمكن السنون من تغييرهم على الرغم من الحوادث الدامية الطويلة التي جرت على هذه البلاد.
وبالنظر إلى اتصال فلسطين بمصر اتصالا طبيعيا أصبحت مقدراتها ومقدرات مصر مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا كليا. وهذا أمر هام يجب الالتفات إليه لان عدم الاهتمام به معناه تجاهل أمر طبيعي من الأمور المفروغ منها. وقد خضعت فلسطين قبل هذا العهد الذي نتحدث عنه إلى الأسر الفرعونية المختلفة. وقد دخلت في أيام (تحتمس الثالث) (حوالي سنة 1500 قبل الميلاد) وفي أيام (امنهوتب) (انحوتب الثالث) حوالي سنة 1450 قبل الميلاد في حكم المصريين تماما وأصبحت من المقاطعات الفرعونية يحكمها ملوك يخضعون لفرعون وللحكام الذين يعينهم عليهم.
وقد شغل الفرعون (امنحوتب الرابع) بالإصلاحات الدينية التي حاول إدخالها إلى الشعب المصري ومن جملة ذلك عقيدة التوحيد عن إدارة أملاك مصر والشؤون الداخلية المصرية فانتهز أعداؤه هذه الفرصة وثار الحكم في الداخل والخارج على (امنهوتب) لأنه جاء نظرهم ببدعة جديدة وأخذت الممتلكات المصرية في الخارج تستقل الواحدة بعد الأخرى(735/22)
ومن جملتها مدن فلسطين.
وتتحدث ألواح (تل العمارنة) عن شعب اخذ يهاجم ارض فلسطين اسمه (خبيري) وقد ارتأى قسم من علماء التوراة أن هذا الشعب هو (العبري) أو (العبرانيون) غير انه لا توجد هنالك أدلة مقنعة تؤيد أن (الخبيريين) هم (العبرانيون) بالذات ولو أن جماعة من علماء اليهود تحاول البرهنة على ذلك لتظهر أن اليهود كانوا قد دخلوا ارض فلسطين منذ هذا العهد.
والذي يظهر من التوراة أن (العبرانيين) كانوا أرقاء في مصر ثم خرجوا منها هاربين حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد تحت قيادة زعيم لهم هو (يشوع) الذي حل محل (موسى) وخلفه وهو ابن (نون) من سبط (افرايم) الذي عبر الأردن وقاد جماعة (إسرائيل) إلى (ارض الموعد) وحارب شعب كنعان ست سنين واخذ أرضهم وقسمها بين الإسرائيليين. وسقطت على يديه أسوار أريحا وست إمارات صغيرة غير أن الإسرائيليين لم يتمكنوا من فتح كل فلسطين ومن التغلب على الإمارات الوطنية وعل مقاومة كل الكنعانيين.
ويفهم من الكتابات القديمة للتوراة أن من الأسفار المكتوبة قبل الأسفار الني أخذنا منها روايتنا الأولى أن الإسرائيليين عبروا إلى حدود فلسطين ولم يكن على رأسهم قائد أو زعيم بل تقدموا على هيئة قبائل متفرقة ثم صاروا يهاجمون المدن الفلسطينية الضعيفة من جهات مختلفة ولم يتمكنوا من الاستيلاء إلا على نواح قليلة من فلسطين وهذا ما يلائم ما جاء في نصوص (تل العمارنة) كل الملاءمة.
لم يتمكن الغزاة من الاستيلاء على كل فلسطين ولم يتمكنوا من احتلال السهل الخصب المهم المسيطر على البحر الأبيض المتوسط وهو سهل (فلسطية) نسبة إلى سكانه القدماء وهم (الفلسطينيون) وظل الفلاحون القدماء على تقاليدهم القديمة وفي محلاتهم مثل (الجبعونيين) الذين كانوا يقيمون في مدينة (جبع) والذين ظلوا يقاومون الإسرائيليين مع أن مدينتهم هذه لا تبعد سوى خمسة أميال تقريبا عن جنوب القدس والتي تقع في موضع (الجب) في الوقت الحاضر، وقد اشتركت مع الملوك (الكنعانيين) في محاربة (الإسرائيليين) ومهاجمتهم مرارا عديدة؛ وقد اضطر إلى مغادرة وطنهم بعد أن دخلت في(735/23)
حوزة (البنياميين) غير انهم لم يذهبوا بعيدا عنهم واضطر العجزة منهم إلى اعتناق الديانة الإسرائيلية غير أن كثرتهم ظلت تحارب الإسرائيليين.
جواد علي(735/24)
اُمّان
للسيدة الفاضلة منيبة الكيلاني
لا ادري أين قرأت أن اجمل منظر في الدنيا هو منظر الأم الشابة، هو قول ينطبق عل الواقع كثيرا؛ غير إني في الوقت ذاته أراني أتصور أن اقبح منظر في الدنيا هو منظر الأم الشابة أيضاً!
هذه الفتاة الشابة الجميلة تمر من هذا الشارع كل يوم في ردائها الأسود الجميل فتثير على جانبي الطريق جدالا بين الناظرين إليها، في قامتها الأنيقة وانسدال السواد عليها، وفي عينيها الباهرتين وتجللهما بالصمت المبين، وفي شعرها الذهبي الرائع وإهمال تنسيقه على نحو ما يليق به. تثير جدالا بين الناظرين إليها فينبري دعي يقول بان هذه الفاتنة احتسبت أباها أو ماتت عنها أمها فهي تتشح بالسواد على أحدهما. ويقول دعي آخر أن ظهور الحزن عليها وتطامنه في عينها الساجيتين ليومئ بأنها احتسبتهما جميعا. وإن القلب لا ينضح بما فيه دائما، فتسير الغانية من دارها إلى حيث تريد، وتعود إلى دارها من حيث انتهت لا يجد في استشفاف أمرها جديد. والراجح في الظن أن الغانية جاءت هذا البلد وافدة من مواطن الذكريات لتطوي ماضيا بأحداثه الكثيرة طي السجل للكتاب، ولتجد في هذا المنهج ذي الوتيرة الجديدة المحدودة بلسما للجرح في صيدلية الزمن، فإنها فيها أنجع الأودية لأخبث الجراح.
وما كان ليفوتها أن تلج بيت الله في أيام الآحاد تنفض في ساحته الكبرى خلجات الضمير وتمد بصرها راجية راحة النفس وطمأنينة الحس، وتسأله العون وتستر فده الرعاية، فقد ذهب الراعي فبدلها ذهابه من حال إلى حال. . .
الأمن يكون راعيها الذي تشكو خلو مكانه إلى الله آسى القلوب المحطمة التي لا تشعب؟ ومن يكون راعيها هذا الذي تلتقي بطيفه في ساحة الله الكبرى فتنعم بالذكرى تحيط بالطيف، وبأنغام الأرغن والصلاة الصاعدة إلى ملكوت السماء تحيط بالذكرى. ثم تخضل عينان من دون العيون بأدمع قليلة بالغة السخونة. . ثم تنفرج شفتان من دون الشفاه بصلاة قصيرة. . ثم تنهنه الدمعة. . وتطبق الشفتان ثم تستدير القامة الفارعة الجميلة فتيمم شطر الباب ثم تمتد اليد بالصدقات للفقراء والمساكين؛ ثم يتكرر المنهج اليومي محاطا بالذي(735/25)
يقول أنها فقدت أمها أو فقدتهما جميعا.
وإنه ليوم من أيام الآحاد في الربيع الباسم وقد انتثرت فراشات الحقول وتحمل النسيم رسائل الفل والياسمين وجاءت الساعة التي تقف فيها الغانية في ساحة الله بقلب رققته الذكرى المفعمة هذه المرة بمعاني الربيع، وانكفأت الحسناء كعهدها كل مرة ولكنها ساقها التوت وسقطت على الأرض سقطة غير متوقعة فأنهضها رجل بجانبها ورافقها حتى الباب. . . ثم تمنى لها العافية وانصرف.
ورآها مرة أخرى فسال عنها ثم كان طريقهما واحد فتحادثا. وقد يلذ للإنسان أن يتحدث عن نفسه، وقد يلذ أن يسمع. . فتحدثت وسمع. . ثم تحدث فسمعت. . وقد تقابلا من بعد فعرف منها ما استعصى على المدعي من قبل وما كان خليقا به وبغيره أن يستعصي عليه؛ فقد عرف أنها أرمله وان الذي فقدت هو زوجها الذي بنت به في الربيع الخامس عشر من عمرها والذي تخلو بطيفه في ساحة الله الكبرى على نغم الأرغن وصلاة الكاهن خلوة الروح. . . بالروح!. . وقالت له فيما قالت أنها أم لابنة أيضاً وكان الرجل يصغي لها وهو يرتشف الكلام ارتشافا ويسكر من جرسه سكرا لا يعرفه إلا صرعى العواطف المؤججة. وأحيط قلب الرجل بشغاف من حسنها وإخلاصها وعرف انه باخع نفسه على آثارها أن هو لم يحط الخطوات الأخرى في إخراجها من دنياها السابقة إلى دنياها اللاحقة، وينعم بها ويبذل لها النعيم المقيم وفاتحها في الأمر مفاتحة الخائب المترقب رفضاً أو إعراضاً وأعاد عليها المفاتحة صابرا متفائلا، ثم أعاد حتى انتهى معها إلى خاتمة البداية فمهدت له زورة في دارها يحتسيان فيها الشاي ويبحثان الموضوع بحثا جديا جديداً.
وكان هذا - فرأى الرجل أن يجمل لابنة الحبيبة هدايا يعقد بها معاهدة التحالف وحسن الجوار فقد تحدجه الطفلة غيري. وقد يحز في قلبها اللدن الغرير أن تجد رجلا يحل من قلب أمها الحلوة الشابة مكانا ودخل الرجل خميلتها موقرا بهداياه لابنتها هدايا من الألاعيب لبنات خمس أو دونهن قيلا. . . وحفت للقائه. . ثم كان كلام وحديث ثم عرض هداياه سال عن الطفلة فأخبرته أنها في حاشية الحديقة تلهو وتلعب وان من الخير له أن يذهب بالهدايا إليها ويفاجئها فان هذا قد يكون ادعى لبهجتها وسرورها. فعل الرجل هذا وانتهى إلى الطرف الذي أشارت إليه الأم وهتف باسم الطفلة فردت عليه كاعب على العشب في(735/26)
السابعة عشرة من عمرها وقد استلقت تردد طرفها الأزرق البهي في أكناف كتاب، وانبهر الرجل وأسقطت اللعب من يده وفهمن الفتاة القصة وتضاحكت من فعلته؛ ولكن لغة أخرى تتحدث بغير اللعب لان لغة الكلام انتهت رسالتها. . ووقفت الأم الشابة الحلوة ترقب قيام المعجزة وتمددها وطغيانها وجمعها القلبين على طرف الحديقة فلم لا تأتي هي بمعجزة اكبر ولم لا تقول ما يخشع له الطرف وقد رأت ابنتها تستملح الفتى ورأت هذا ينعقد لسانه ويزوغ طرفه. . دلفت الأم تجمع اللعب وقالت وهي تعود إلى البناية سأحتفظ بهذه اللعب ملهاة الأطفال ستلهون بهم كثيرا وانقلبت مسرورة فقد أسعدت قلبين وقد سعدت بالتضحية سعادة لا يعرفها إلا ذوو القلوب الكبرى التي تستطيب الحرمان لتذود عن غيرها اجمل منظر في الدنيا في ثوبها الأسود وقامتها الهيفاء. . وعينيها الصافيتين وفعلتها السامية. . . وستنعم كل يوم بدموعها وتضحيتها لأنها أحيت قلبين وجمعت نفسين.
وهذه فتاة شابة دون الجميلة قيل لها أنها جميلة تمشي من هذا الشارع كل يوم فتثير على جانبي الطريق جدالا بين الناظرين إليها فينبري مدع يقول بان هذه الفتات أجنبية جاءت هذا البلد مع الحرب كأنها علة من عللها. . . فركنت إلى هذا المنزل الذي تديره هذه البدينة الأجنبية لصلة بين الاثنتين. ويقول مدع آخر بل هي من أهل البلد تنهز مع الغواة بدلوهم وتسوم سرح اللهو حيث أساموا، فتعود في أخريات الليالي حينا وفي أواسطها أحيانا أخر، وتحتسي الخمر حتى تتقطع أحشاؤها ويغيض ماؤها، ثم تستدرك الفائت على يد الطبيب، ثم توغل في حركات منعكسة بعضها عن بعض لا ينتظمها تدارك ولا يخترمها نظام فيضل المدعون لان السر لا يطفو على الوجوه جميعا وان القلب لا ينضح بما فيه دائما فتذهب الوجناء من نزلها حيث تريد وترجع إلى نزلها لا يجد في استشفاف ما بها جديد، ويرجح أمرها أنها جاءت هذا البلد وافدة تتبدل زمانا ومكانا كانا بالمساعفين وقد قيل لها أنها جميلة. وإنها مرهفة الحس عصبية كنود بينها وبين أن يجهز عليها الموت شعرة. . . شعرات ثلاث بينها وبين الحياة فلتمرح ولتطرب فهي جميلة قصيرة العمر لو شاءت. . . مديدته لو شاءت، فحملتها في قلبها وفكرت بهذين جميعا فأولدتهما أفانين من الأعمال وضروبا من الأقوال. وخيل إليها أن الناس كلهم خاطبون وان دنياها ملئت بالمدلهين هذا بينه وبين الانتحار بسببها قليل وهذا خطبه في رفضها ودلالها جليل. . فلتنأ بنفسها عن(735/27)
الماضي نايا ولتطو ذكريات حبها وزواجها. . . وولادة طفلين حبيبين وأمومة وفشلا وطلاقا جاهدت من اجله واستحقته استحقاقاً طي السجل للكتاب. ولتمش في هداة الليل البهيم في ثوب اسود حتى لا يراها الشيطان الذي استأجرها لروحه ومغداه ولتسر طويلا، ولتعبر النهر خائفة مذعورة ولتنظر من ورائها ومن جانبها وليرها القمر الآفل خيالها المعقب المتأثر الملحاح المستهزئ ولتسر من شارع إلى شارع لا ترى إلا النوافذ المغلقة ولا تبصر إلا السكون المتمطي، ولتغذ السير حافية إن أرادت منتعلة أن شاءت ولتمش في نفس المسالك التي مشت فيها سيارة الخاطب الموهوم أو الكاذب المشئوم ذلك الذي اتخذت منه مدلها ممعنا في الغلام ولتسمع ضحكاتها من السيارة التي مرت في دماغها ولتذهب إلى ساحة كبرى ليست من سوح الله لا لتفض همومها وآلامها، بل لتقف وقفة المدان تستنزل عليها اللعنة الكبرى باردة في هجمة الليل وهداة الظلام لتذهب فقد اخذ مدى عينها يستوعب بنية سوداء في المبنى المحيطة بها تحدق بها حديقة ساهمة هاجعة. . والكوي راجعة إلى طبعها السادر الحالم في أخريات الليالي لا نفضي بأسرارها. وهنا؟ هنا. رأت نفسها غير مرة على متن سيارة إلى جانب قريب أو خاطب. . في ألوان زاهيات لا تقربها من الأمومة أبداً. . فهي توكل السيدة البادنة ربة المنزل بخصائص الأمومة التي برئت نفسها منها. . تنساب هي مع مقتضيات الحديث من جانبها جادة أو هازلة حتى تنقضي الزيارة المبتورة بأن حمل للطفلين عن الأم المحمولة على غارب الهوى. فاكهة يطعمانها عن غير يدها وغير قلبها. فلتقف هنا. . ولتنتظر نزول اللعنة في منبلج الفجر.!
وجاوزت السياج واتقت إلى الكوة ارتقاء مزعجا، فالكوة لا تريدها، ونظرت عل خيوط الشفق البيضاء الأولى بين الأطفال الهاجعين في ذلك الملجأ. . طفلين. . هما الوحيدان اللذان فيهما معنى اليتم. . وما هو باليتم من فقدان الأبوين بل من فقد العطف ولاحمان عند هذه الأم الأغلف قلبها فلا يعقل. . الصم آذانها فلا تسمع. العمى عيونها فلا تبصر، وطفلاها اللذان حملتهما كرها ووضعتهما كرها. . في ملجأ الأطفال الغافلين العاثرة جدودهم. . الطائشة حيلتهم. . صبرهم هباء. . وأفئدتهم هواء.
وتشرق الشمس فتتمطى هذه الأم مفيقة من الحلم الذي أسرى بها ليلا من المنزل إلى الملجأ. . من حيث لم تبرح فراشها(735/28)
وإن الأسس بشرابه وسهره وألحانه ودعاباته قد أورثها صداعا لا بد له من الطبيب والحبيب والقريب والخطيب، ولا بد من صحب ولدات يرون هذا فيغبطون أو يرثون، ولا بد أن تبدأ عندما تساعفها أصابعها الواهنة في خنق شئ. . هو حب الطفلين. . وإنكار عطفها أو علاقتها بهما. . للخطيب الموهوم ليتم اقبح منظر في الدنيا منظر أم شابة مؤتزرة بتضحيتها لأنها ضحت بقلبين، وقربت طفلين للصم الذي خيل إليها انه يهب الخير ويتم النعمة. . وستبقى هكذا ما بقى خيالها وخيالها ورجالها.
الأم الشابة! اجمل منظر في الدنيا. . واقبح منظر في الدنيا. . لا ادري أين قرا هذا، ولكني قرأته وعرفته. . وأمنت به. . فلننظر الأم أين هي؟ أهي اجمل منظر؟ أم اقبح منظر؟ أما الوسط في هذا فمحال!
منيبة الكيلاني(735/29)
من وحي الصوم:
عشاق الطعام!!
للشيخ محمد رجب البيومي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرق، وقد هجم رمضان والعاشق النهم لا يعذر في محبته. فكم من أكول هده العشق، وبراه الوجد، ثم هو لا يقدر على التصريح بما يختلج في صدره لما وقر في نفسه أن القلب لا يتسع للطعام والغرام، وقد يكون نبيها فطنا فيحاول أن يوفق نهمه وولهه فيأتي بما يسميه البديعيون حسن التعليل، كان يقول:
وإن طعاماً ضم كفى وكفاها ... لعمرك عندي في الحياة مبارك
فمن اجلها استوعب الزاد كله ... ومن اجلها أهوى يدي فأدارك
وأنا لا ادري لماذا تنكر الصبوة من هؤلاء؟ ولهم عيون تنظر وقلوب تخفق!! ويخيل إلي أن كراهية الناس للأكول جعلتهم يستنكرون جميع ما يأتيه، ولو كان عاديا مألوفا وإلا فهال من المنطق الصحيح أن يقول الشاعر في صديقه النهم:
ويعجبني من جعفر أن جعفرا ... ملح على قرض ويبكي على ُجملْ
فلو كنت عذري العلاقة لم بيت ... سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
ثم ما هي العلاقة بين الحب والامتناع عن الطعام؟ الحق أن هذا منطق غريب!
ومن جماعة الشرهين من يستغل ذاكرته القوية فيشحنها بشتى الأخبار والأحاديث فإذا استضافه إنسان اخذ يعرض معلوماته عرضا، فما يدع صغيرة أو كبيرة مما اختزنه في رأسه إلا كررها مثنى وثلاث ورباع، فيضيف إلى ثقل بطنه ثقل حديثه، وهنا يتضاعف البلاء وتعدد الكارثة وفي هذا الطراز المتكلم يقول حميد بن الأرقط:
يسطرون لنا الأخبار أو نزلوا ... وكلما سطروا للقم تمكين
باتوا وقصعنا الصهباء بينهم ... كان أيديهمو فيها سكاكين
والغريب أن ألسنتهم تنعقد غب الطعام فما يكادون ينطقون بكلمة واحدة بعد التشدق والتفيهق، وكان ازدحام المعدة قد عطل مجرى التفكير، وأوقف دولاب النطق - وقتا ما -(735/30)
فغدا الأكول صنما لا يبين، وصدق عليه قول القائل:
أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل
فما زال منه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم بأقل
تجهز كفاه ويحور حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل
ومن اطلع على هيئة هؤلاء في أثناء تناول الطعام اخذ منه العجب كل مأخذه ليحقن في وجوههم فتربد، وان أيديهم ليسرع في القذف وللقم وان أعضاءهم لا تستقر على حال من القلق حتى يبلغوا ما يريدون.
(امتنع الحارثي عم مؤاكلة صديقه الأسواري فيقل له في ذلك، فقال: ما ظنكم برجل نهش قطعة لحم فانقلع ضرسه وهو لا يدري! وكان إذا أكل ذهب عقله وجحظت عيناه وسكر، وسدر، وتربد وجهه، وغضب ولم يسمع ولم يبصر فلما رايته وما يعتريه ويعتري الطعام منه صرت لا أذن له. . . الخ)
وقد أجاد ابن الرومي حين شبه هؤلاء بمن أصيبوا بالحمى فهم معها في تغير دائم، وانفعال مستمر اسمعه إذ يقول:
تعلوه حمى شره ناهض ... لكن حمى هضمه صالب
كأنما الفرّوج فيكفه ... فريسة ضرغامها دارب
ذي معدة ثعلبها لاحس ... وتارة ارنبها ضاغب
وابن الرومي اقدر من غيره على الإجادة في هذا الفن فقد كان كما يقول صاحب زهر الآداب منهوماً شرها، وكان جشعه من أسباب حتفه، وله في المآكل وصف طويل فهو أذن ينطق عن خبرة وابتلاء، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، وأنت ترى وصفه للمنهومين ينبئ عن حصافة ويخبر عن دقه ووعي كقوله:
ألم تره لو شاء بلع تهامة ... وأجبالها طاحت هناك بلا ارش
على انه ينعى إلى كل صاحب ... ضروسا تأتي على الصلب والهش
تخبر عنها أن فيها تثلما ... وذلكمو أدهى وآكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحى عند نقرها ... وتجريشها تأتي على الصلب والهش
وهو في قوله هذا متخصص متفنن يغوص على المعنى الخفي ويأتي بالتعليل المطابق(735/31)
فيشبه الأسنان الثلمة بالرحى الجرشة، في القدرة على الطحن والهضم وهو يذكرني بابن هانئ الأندلسي فله من هذا الباب كلام جيد. وان كان إلى لا وضوح اقرب منه إلى التعمق ولكنه يلذ القارئ ويمتعه ويوقفه على الحقيقة سافرة في سهولة ورقة كان يقول:
يا ليت شعري إذا أوحى إلى فمه ... أحلقت لهوات أم ميادين
كأنها وحثيث الزاد يضرمها ... جهنم قذفت فيها الشياطين
لف الجداء بأيديها وأرجلها ... كأنما افترستهن السراحين
وغادر البط من مثنى وواحدة ... كأنما اختطفتهن الشواهين
أين الأسنة أم أين الصوارم أم ... أين الخناجر أن اين السكاكين
تبارك الله ما أمضى أسنته ... كأنما كل فك منه طاحون
ونحب أن نعلن أن ابن هانئ كان قنوعا راضيا ولكنه يصف حالة رآها فقط دون أن ينطق عن ذات نفسه كابن الرومي ذلك الذي يرضي بالبطنة الممرضة والكظة القاتلة معللا نفسه بزوالها بعد يوم فيقول مخاطبا لائمته في شرهه:
دعيني قسطنطين آخذ شهوتي ... وتبشمني إني بذلك راضي
فأكثر الزاد ما ألقى من الزاد كظة ... مدى يومها واليوم اسرع ماض
ويخيل إلي أن الكظة لو استمرت معه طيلة حياته - لا يوما واحدا كما يزعم - ما رجع عن نهمه العجيب!!
ويطول بنا البحث لو تقصينا ما ورد عن هؤلاء من النوادر وما قيل فيهم من رائع الشعر. ولكن احب أن انصفهم بعض الشيء فأعلن أن شرههم هذا غريزة نفسية ركبت في طبائعهم فهم معذورون حين يهجعون على الموائد، وماذا عسى أن يصنعوا وأمعاؤهم تتلوى كالأفاعي القاتلة. لذلك نجد الكثيرين منهم يعلنون عن أنفسهم بالقول حتى لا يفاجئوا الناس بشرههم الجشع قبل التمهيد له. واظرف ما قرأت في هذا الموضوع ما حدث به معبد بن خالد الجدلي قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد فجئت لأنظر إليها وكان بيني وبينها رواق فدعت بجفنة عظيمة من الثريد مكللة باللحم فاتت على أخرها وألقت العظام نفية ثم دعت بشن مملوءة لبنا فشربته حتى أكفته على وجهه وقالت: يا جارية ارفعي السجف فإذا هي جالسة على جلد أسد، وإذا شابة جميلة، فقالت يا عبد الله، أنا أسدة من(735/32)
أسد، وعليّ جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي فعلام ترى؟ فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وان أحببت أن تتأخر فشانك فقلت استخير الله في أمري وانظر قال فخرجت ولم أعد!!
ولعمري أن هذه المرأة وإضرابها جديرات بالعطف والإشفاق! ومن يدري لعلها تكون خفيفة الظل فكهة الروح كالتي قالت لزوجها وقد أكلت حملا سمينا وأراد أن يتغشاها فلم يصل إليها مهلا فبيني وبينك بعيرا!!
على أن الرجل لا يرحم امرأته إذا كانت مصابة بهذا الداء الفاجع، وقد رأينا في كتب الأدب أمثلة عديدة من الهجاء الفاحش الذي صب فوق رؤوس النهمات الشرهات من الزوجات بل قد تجاوزهن إلى الأمهات على ما لهن من حرمة التربية والرضاع وحسبك أن يقول العجيف في هجاء صاحبة الفضل الأول عليه.
يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... أما إلى جنة أما إلى نار
ليست بشبعى وان أسكنتها هجرا ... ولا بريا وان حلت بذي قار
تلهم الوسق مشدودا أشظته ... كأنما وجهها قد ساح في القار
وأمثال هذه الطعنات الجارحة لا تحصر في طيات الأسفار!
وبعد فالطعام كما يقول الأستاذ البشري فن جميل. وأبطاله النوابغ فنانون مطبوعون، وقد جحدهم الناس وأنكروا ما لبطونهم من مواهب نادرة، فلا اقل من أن ننصفهم بعض الشيء فنستغفر الله لهم في شهر طالما حاربهم في حياتهم ثم ها هو ذا يذكرنا بهم في سباتهم العميق. .
(الكفر الجديد)
(محمد رجب البيومي)(735/33)
يوم (17) رمضان:
يوم بدر
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
سوف تبقى على مدى الأيام ... شرعة الخير. . شرعة الإسلام
أنت بعث من البلى، وشفاء ... لصدور مليئة بالسقام
وهدى يمحق الضلال، ونور ... سر مدى يشق قلب الظلام
وصعود إلى العُلا، وسمو ... عن حياة الشرور والآثام
يا رعاك التاريخ يا يوم بدر ... أنت في الدهر غرة الأيام
أنت معنى الكفاح في الحق، لافي ... باطل موهوه بالأوهام
أنت بدر وافى الظلام، فولَّتْ ... من سناه كتائب الإظلام
إنما أنت يقظة بعد نوم ... وصفاء في الأفْق بعد الظلام
إنما أنت قوة بعد ضعف ... وحياة من بعد موت زؤام
إنما أنت عودة النور والآ ... مال، بعد الظلام والآلام
فيك أصغى الزمان، والتفت الده ... ر إلى ساحة الوغى والصدام
حيث جند الضلال قد جاء يبغي ... نصرة الشرك بالقنا والسهام
والنبي الكريم بين صحاب ... كل فرد كالصارم الصمصام
لم يروا في الحياة إلا حطاما ... فاشتروا دينهم بهذا الحطام
كبَّروا ثم أرقلوا بقلوب ... ونفوس إلى الحمام ظوامي
وتلاقى الجمعان أي تلاقٍ ... أرأيت الأسود في الآجام؟
فتعالى الغبار، وانعقد العث ... ير فوق الرءوس مثل الغمام
لو رأيت السيوف تلمع فيه ... خِلْتَ ناراً تطايرت في قتام
وأمد الله النبي بجيش ... من جنود مسوَّمين كرام
لم ير المشركون غير سيوف ... تتهاوى بالهام بعد الهام
عن يمين وعن شمال ضراب ... وطعان من خلفهم والأمام
ففريق على الرمال صريع ... وفريق تساق كالأغنام(735/34)
وفريق مشردون حيارى ... في فجاج الصحراء مثل النعام
قنعوا بالهون والذل عقبى ... ورضوا بالنكوص والأحجام
هدّ ركن الضلال، وانصدع الشر ... ك، وباءت فلوله بانهزام
واستفاض الرشاد، وانقشع البغ ... ى، ودالت عبادة الأصنام
واستقام الإسلام حصنا قويا ... ثابت الركن، مستقر الدعام
ومضى يفتح الممالك باسم الل ... هـ، لا باسم سلطة وانتقام
أينما سار فالحياة رخاء ... في سلام، وعزة في وئام
يا لقومي مما أرى في زمان ... حائر الخطو ما له من زمام
لا أرى فيه للهدى من سبيل ... لا، ولا للرشاد من أعلام
قد بغى أهله كاسد ضوار ... هيجتها الرعود في الآكام
وأحالوا الحياة حربا ضروسا ... طال فيها تناحر الأقوام
تلك حرب الضلال. . . سيان فيها ... - لو علمنا - مهاجر ومحام
أرهقتنا! لا بارك الله في جن ... د، ولا قادة، ولا حكام
نحن لم نشعل الضرام. . لعمري ... كيف نكوى بنار هذا الضرام؟!
زعموها قد أطفأت، ولظاها ... لم يزل يستكن تحت الحطام!
قد أضرت بنا سنون عجاف ... صيرتنا خطوبها كالحطام
قلق دائم، وهم مقيم ... وغلاء في ملبس وطعام
قد شكونا لهم بقلب حزين ... وبكينا لهم بجفن دام
وأنظارنا، فما أفادت شكاة ... لا، ولا أجدت الدموع الهوامي
ورجونا الغيث الكثير، ولكن ... قد رجوناه من سحاب جهام
ورأينا الأحكام تترى، ولكن ... أين تنفيذ هذه الأحكام؟
تلك فوضى قد أحدثوها، لكن ... البسوها زورا لبوس النظام
ضاق صدري بما أحس، ولكن ... في فمي الماء يا أولي الإفهام!
يا لقومي! لقد تغير قومي ... ورماهم زمانهم باصطلام!
غيروا قوة بضعف! وعزا ... بهوان! وصحة بسقام!(735/35)
واستعزوا بغيرهم، ففضى (الغي ... ر) عليهم بالعسف والإرغام
ورماهم من شره بدواه ... قاتلات. . . شلت يمين الرامي
فأقاموا على الهوان، وساروا ... في طريق الحياة كالأيتام
ونسوا مجدهم، وكان حياة ... وضياء، بعد الردى والظلام
أين مجد الإسلام ضخما عريضا؟ ... أين بنيانه المتين السامي؟
لا تقولوا مضى إلى غير رجعى ... لا، ولا تسمعوا لقول النيام
وأعيدوا ذكراه في كل يوم ... فقليل ذكراه في كل عام
واستعيدوه مثلما كان صرحا ... محكم الخلف أيما إحكام
ودعوا اليأس والتعلل بالوه ... م، ولا تركنوا إلى الأحلام
أتريدون عزكم بالتمني؟! ... أتريدون مجدكم بالكلام؟!
تعست أمة تحاول بالقو ... ل بلوغ المنى، ونيل المرام
إنما منطق الضعيف ضعيف ... وكلام القوي حد الحسام
فاتركوا الضعف، وارفعوا الذل عنكم ... واهجروا الآن مضجع النوام
واعملوا؛ إنما الحياة كفاح ... وجهاد في ساحة الأيام
وامسحوا عنكم الفتور، وبثوا ... في النفوس القوى، وفي الأجسام
انزعوا اليأس، حطموا الخوف، هبوا ... هبة الأسْد روعت في الموامى
واهزؤوا بالخطوب أن عبس الده ... ر، ولا تعبؤزا بكيد الخصام
واحملوا مشعل الهداة، وسيروا ... في طريق الحياة نحو الأمام
وليكن حكمكم بما حكم اللّ ... هـ ودستوركم هدى الإسلام
سوف نبني صرح السلام مكينا ... مستقراً. . . والويل للهدام
سوف نحمي الأخلاق من نزوة الشر ... وبغى الهوى، وجهل الطغام
ونعيد الحياة روضا جميلا ... يتغنى بزهره البسام
ثمر يانع، ودوح ندى ... وارف الظل، ريق الأنسام
ونضم القلوب بعد انفصام ... ونلم الصفوف بعد انقسام
ونعيد المجد القديم كما كا ... ن، وانف الطغيان تحت الرغام(735/36)
ولنا الدين غاية وطريق ... وأمام. . . انعم به من أمام
ولنا الله. . ناصر ومعين ... وهو نعم النصير، نعم الحامي
إبراهيم محمد نجا(735/37)
أنغام الحب
ومن الحب عبقري الأغاني
للأستاذ أنور العطار
عش بقلبي كما تعيش الأماني ... واثر خاطري ونضّر جناني
وأعدني كالناي أسكره اللح ... ن فغنى في رقة وحنان
تتهامى ألحانه مشجيات ... ومن الحب عبقري الأغاني
يا هواي الذل أناجيه لهفا ... ن ويا منيتي ويا سلواني
أمن العدل أن يبت أخو الحب صريع الهموم والأشجان
ينهب الشوق عمره غير وان ... ويُقَضى الحياة في الهجران
يهب القلب للهموم توالي ... والأسى والدموع والأحزان
ويبيت الحبيب يغمره الصف ... ووبحبوحة النعيم الداني
وهو الحب خافق غير مرتا ... ع وقلب مؤجج الخفقان
وخدود مجرحات دموعاً ... وخدود نواضر الألوان
وعيون من المسرات ملأى ... وعيون مخضلة الأجفان
ها هنا البشر سائغاً مستطايا ... وهنا الشجو خالدا غير فان
يا هواي الذي أغنيه أحلى ... ما تغنت بلحنه شفتان
طف بقلبي كما تطوف الشاشا ... ت وجدد على المدى الحاني
لك من مدمعي ينابيع تهمي ... بغزارة من ماء قلبي قان
لك من خاطري نشيد رقيق ... طافح بالهيام والتحنان
لك من روحي اللهيف نزوع ... كنزوع الغريب للأوطان
لك سر مغيب في جناني ... لك شدو مفجر من بياني
لك يا ملهمي الأناشيد بكرا ... أتغنى برائعات المعاني
ويجوز الخيال أخبية الوه ... م ويمشي على ثغور الأماني
أنور العطار(735/38)
تعقيبات
تراث المعري:
منذ ثلاث سنوات تألفت في وزارة المعارف لجنة من الأساتذة الأفاضل: إبراهيم الأبياري وعبد السلام هارون ومصطفى السقا وعبد الرحيم محمود وحامد عبد المجيد لتقوم على بعث تراث الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري ونشر مصححا، وشرحه شرحا يقربه من الأفهام، وهو عمل جليل أشدنا به على صفحات الرسالة من قبل، وباركنا ما بدا من اثر ذلك في همة اللجنة وعنايتها. وإني اشهد الله أن أعضاء اللجنة الأفاضل قد تجردوا لمهمتهم في عزيمة صادقة، وعكفوا عليها في صبر العلماء وشغفهم بمكاره الدرس والمراجعة، فانفردوا في غرفة منعزلة بدار الكتب المصرية بين أكداس من المخطوطات ومجفو الطوامير يراجعون ويحققون ويبذلون ماء عيونهم لإلقاء النور على ذ لك التراث المدفون فكأنهم جماعة العلماء الذين يعكفون على الأبحاث الذرية في أمريكا. . .
وقد استطاعت اللجنة أن تخرج في هذه المدة كتاب (تعريف القدماء بابي العلاء) والجزأين الأول والثاني من (سقط الزند) وما له من شروح وهي الآن بصدد إخراج الجزء الثالث منه، وستتمه بجزء رابع يتضمن فهارس كاملة ثم تأخذ بعد ذلك في إخراج ديوان (لزوم لا يلزم) وما عليه من الشروح. . .
ولكني ألاحظ أن اللجنة تمضي بطيئة في أداء مهمتها وإنجاز عملها وقد سالت فقيل لي أنها تحتاج إلى أكثر من عشر سنوات للفراغ من هذا العمل إذا سارت بهذه الخطوات، ومعنى هذا أنها ستخرج ذلك التراث للجيل القادم على أن اللوم في هذا البطء لا يرجع إلى اللجنة بل أنها نفسها تشكو ذلك وتحرص على أن تسير في عملها بخطى واسعة، وإنما اللوم على نظام دار الكتب لان المطبعة لا تسعف اللجنة في إنجاز الطبع والإخراج بحجة كثرة العمل، وذلك في الوقت الذي تجد فيه هذه المطبعة الوقت الواسع جدا لإخراج مؤلفات مدير الدار ومؤلفات المؤلفين الذين يتاجرون بمؤلفاتهم مع أن الواجب يقضي بان تخصص مطبعة الدار لإنجاز مطبوعات الدار.
ومسالة أخرى تدعو إلى العجب، وهي أن ما تخرجه اللجنة من آثار المعري تضع وزارة المعارف يدها عليه وتنقله إلى مخازنها ولا تسمح إلا بإهدائه لذوي الجاه في الدولة ممن لا(735/40)
يعنيهم المعري وتراثه في كثير ولا قليل، فكأني بالوزارة قد قررت بعث تراث المعري لتنقله إلى قبر جديد.
كلا! أن هذا التصرف ليس بالعمل الذي يؤثر في خدمة الأدب، وقد أحسنت الوزارة من قبل يوم أن قامت بطبع ديوان حافظ إبراهيم وعرضه للبيع بنفقات الطبع، فهل لها أن تؤثر هذا الصنيع في بعث تراث المعري ونشره والإفادة به؟!
ولكنهم المعلمون:
نشرت إحدى الصحف خبرا زعمت فيه أن المعلمين ألفوا عصابة من بينهم لبيع أسئلة الامتحانات العامة، وان التحقيق كشف عن أمور خطيرة من أعمال هذه العصابة، ولما كانت تلك الصحيفة قد هولت في إيراد الخبر وتهجمت به على كرامة المعلمين، فقد أذاعت (جمعية المعلمين) بيانا على الصحف ترد على هذا التهجم وتقول (وما كان للصحيفة المذكورة أن تتسرع بهذا الاتهام حتى ينتهي التحقيق وتظهر براءة البريء أن كان بريئا وذنب المذنب أن كان مذنباً. . .).
وأنا لا يعنيني هنا تلك الواقعة، ولا تصحيحها ولكني اشهد الله أهي لا افهم (براءة البريء أن كان بريئا) ولا اعرف ذلك في أسلوب عربي إلا أسلوب الصحف التي تقول: (وتزوجها زوجها وعاشرها معاشرة الزوجية)
ولو أن هذا التعبير وقع من جماعه المهندسين مثلا لأغضينا عنه، وقلنا انه أمر ليس من صميم صناعتهم فلا لوم عليهم ولا ابتغينا له اوجه التأويل ولكنهم المعلمون وصناعتهم العلم، وهم الذين يتعهدون أبناءنا في تعليم اللغة والبيان فيضيعه الأبناء المساكين (ويا ضيعة اللغة والبيان) إذا كانت لغة المعلمين من نحو (براءة البريء أن كان بريئا)
كان آباؤنا أبر واكرم:
نشرت مجلة (المسامرات) في عددها الأخير صفحة مصورة عن إنشاء بيت في لندن لتأجير ما يلزم للعرائس من الثياب ليلة الزفاف نظير مبلغ خمسة جنيهات وذلك تخفيفا عن الفتيات الرقيقات الحال واللائي لا يستطعن الحصول على الثياب اللائقة بهن نظرا لشدة قيود التموين التي لا تزال قائمة في إنجلترا، وقد أشادت المجلة بهذا الصنيع كما أشادت به(735/41)
المجلات والصحف الإنجليزية وقالت انه عمل مشكور أعاد الإشراق إلى وجوه العرائس وادخل السرور والانشراح على قلوبهن.
قلت أين هذا من مآثر أبانا السابقين ومكارمهم التي من هذا القبيل فقد كانت ابر واكرم وكان عملهم مما يدل على عراقة الروح الإنسانية في نفوسهم.
فمن ضمن وثائق الأوقاف الإسلامية وثيقة بوقف خيري في مكة المكرمة لإعارة الحلي وأدوات الزينة للفقراء ومتوسطي الحال الأعراس والأفراح بحيث يستعيرون منه ما يلزم حتى تظهر العروس في المظهر اللائق جبرا لخاطرهم ثم يرد مكانه بعد مضى مدة الفرح المعتادة، كما كان في مكة أيضاً وقف لإعارة المفروشات وأدوات السفر في إقامة الولائم والحفلات.
وذكر ابن بطوطة في رحلته وقفا في دمشق اسمه وقف (الزبادي) وهو مكان توجد فيه الأواني الفاخرة من الصين وقفها أصحابها بحيث إذا كسر خادم آنية مطبخ سيده وخاف أن يضربه السيد أو يحسم ثمنا من أجرته قصد إلى ذلك المكان وسلم من الآنية المكسورة وتسلم بدلها صحيحة وقد علمت أن في فاس وقفا مثل هذا الوقف وكذلك في تونس.
ومن الطف ما يتصل بهذا وقف في فاس خصص ريعه لمن وقع على ثيابه زيت من الفقراء أو مادة تذهب ببهجته وجدته كالحبر، فيأخذ منه نقودا ويشتري ثوبا جديدا مماثلا لذلك الثوب الذي كان يلبسه.
وفي تونس وقف لتزويج الشابات الفقيرات وآخر لختان الأولاد الفقراء وإعطائهم كسوة ودراهم وثالث لتوزيع الحلوى على المحتاجين بالمجان في شهر رمضان.
وفي مراكش مؤسسة اسمها (دار الذمة) عليها أوقاف كثيرة وهي دار تقصد إليها النساء اللاتي يقع بينهن وبين أزواجهن نفور وليس لهن عائلات فيقمن فيها أكلات شاربات متمتعات بكل وسائل الرفاهية حتى يذهب ما بينهن وبين أزواجهن من الجفوة ويعدن إلى دار الزوجية.
وفيها أيضاً مكان اسمه (سيدي فرج) عليه أوقاف كثيرة تدر الأموال الوفيرة وقد أوقفها أصحابها لإيواء المجاذيب ولتجهيز الموتى من الفقراء وتكفينهم وشراء ملابس توزع على الفقراء في أول الشتاء.(735/42)
وروى الكاتبان الفرنسيان الأخوان (جان وجيروم تارو) في رحلتهما إلى مراكش انهما شاهد هناك مؤسسة لا يوجد مثلها في الدنيا وهي دار كبيرة فسيحة تتسع لستة آلاف ممن أصيبوا بمحنة العمى من الفقراء فيقيمون فيها يأكلون ويشربون ويقرؤون، ولهم أنظمة وقوانين يسيرون عليها، وتشرف على شئونهم إدارة كبيرة تدبر لهم كل وسائل الراحة والرفاهية. . .
وفي أوقاف مصر وقف لسكنى الأيامى الفقيرات، ووقف أخر لكسوة أولاد الفقراء وثالث لإطعام الكلاب التي ليس لها أصحاب. . .
فهذه وأمثالها كثير مما يطول سرده وعده من مآثر أبانا الكريمة وأريحيتهم النبيلة التي كانوا يبذلونها استجابة لداعي الإنسانية وتلبية لنداء الخير والمروءة، وما كانوا يرجون عليها أجرا إلا ثواب الله وحسن جزائه، فكل ما يجري الآن من صنائع المدنية الحديثة في الترفيه عن الفقراء وإدخال السرور على نفوسهم لا يعدل قليلا من ذلك الذي كان.
والواقع أن روح الإنسانية التي تملكت أبانا السالفين ووصلت قلوبهم بقلوب هي التي وقت المجتمع الإسلامي على تطاول العصور من الهزات الاجتماعية العنيفة، ومن الثورات التي تصطدم بها النفوس المحرومة على أهل السعة وأصحاب والاموال، وليس من المعقول أن يثور الفقراء أو ينقموا السعادة على الأغنياء ما داموا يجدون في أموالهم الحق للسائل والمحروم. . .
(الجاحظ)(735/43)
الأدب والفن في أسبوع
عام التوائم:
توالت على الصحف أنباء التوائم في أنحاء البلاد، وأفاضت الصحف في الكتابة عن أحوال هذه الولادات، لما فيها من غرابة وطرافة.
وقد لاحظت اقتران هذا الإخصاب في الولادة، بإخصاب آخر في التأليف، واسترعى نظري إعلان أحد المؤلفين عن كتابين أخرجهما معا، وزاد انتباهي إعلان آخر مماثل. . فقلت في نفسي: نحن حفا في عام التوائم!
ومما يدل على الإخصاب في التأليف هذا العام أن (الأهرام) هالها ما يرد إليها من المؤلفات، ولعلها ضاقت بإلحاح أصحابها في طلب التعريف والتنويه بها، فكتبت يوم الثلاثاء بعد ثبت طويل من الكتب التي عرفت كلا منها بكلمة_كتبت بعد ذلك تعتذر من عدم استطاعتها التعريف بكل ما ورد إليها، فقالت أن عدد المؤلفات قد زاد في هذا العام زيادة لم نعهدها في السنوات الماضية فقد بلغ ما تلقته الأهرام في ثمانية الأشهر الأخيرة 382 كتابا بمعدل 50 كتابا في الشهر تقريبا واعتذرت من التأخير في الإشادة بكل هذه الكتب ووعدت بأنها ستواصل التعريف بها ما استطاعت!
وقد لاحظ بعد الكتاب أن النساء المنجبات هن من الطبقة الفقيرة؛ ولا عجب هي هذا فالطبقات الدنيا هي العاملة المنتجة النجبة في المجتمع. ويلاحظ أيضاً أن أكثر تلك الكتب الوفيرة تدل على أن أصحابها من فقراء الفكر وكثير من هؤلاء يوالي الواحد منهم إصدار المؤلفات في أوقات متقاربة والذي افهمه في فن التأليف أن الشارع فيه تقوم بذهنه فكرة الكتاب، يعاشرها زمنا يقضيه في التفكير فيها وتحقيق مادتها وتحين الفرص التي يبيح ما يخدمها في أثناء المطالعات والتأملات؛ حتى إذا نضجت على مهل، أخرجها للناس كتابا سويا فيكون كالوليد الذي تتغذى أمه وهي تحمله جنينا بغذاء كامل ملائم للحامل، وتتبع في حياتها النظام النافع للحمل، وتقضي المدة اللازمة قبل أن تضع حملها.
وقد أفضى طبيب (ملوى) بأسباب وفاة ثلاثة من الأربعة التوائم التي ولدتهم أمهم هناك، فقال أن أهم تلك الأسباب رداءة تغذية الأم وهي حامل، فهل نأخذ العبرة من هذا للتأليف مع فرق واحد هو أن الوليد السقيم قد تجدي عليه العناية والمعالجة، أما الكتاب الملفق(735/44)
المرتجل فهو الموت في مهده على ميعاد. . .
حكايات (أبو النواس):
جاء في العدد الخاص (بالفراشة) من مجلة الاثنين، فصل في (الفراشة عند العرب) احتوى على بضع حكايات قدم لها بما يلي: (كان العرب يتذوقون النكتة ويجزلون العطاء لقائلها، وقد حفلت كتب الأدب العربي القديم بألوان طريفة من الفكاهات ويرى القراء طائفة منها فيما يلي) والقارئ المستنير يتوقع أن يطالع بعد هذه المقدمة ملحا وطرائف من التي حفلت بها كتب الأدب العربي حقا، والتي هي جديرة أن يزود منها عدد خاص بالفكاهة أو (بالفراشة) كما أطلقوا عليه؛ ولكن الحكايات التي أتى بها إنما هي من التي يتبادلها العامة، ويحصلونها من الكتيبات التي وضعها لهم بعض الوراقين وخاصة ما كان منها عن (أبو النواس) كما يسميه العوام؛ وإلا فقل لي أي كتاب من كتب الأدب العربي القديم حكى عن الرشيد انه أراد أن يفاجئ أبا نواس بزيارته في داره فاختبأ أبو نواس وراء الباب وأزعج جواد الرشيد وهو يهم بالدخول فسقطت عمامة الرشيد فتطير من ذلك وأمر بضرب عنق أبي نواس فيضحك أبو نواس معللا ضحكه بأنه يقتل بغير سبب، فيقول له الرشيد:
- إنما أقتلك لأنك مشئوم الطالع. فقد (اصطبحت) برؤيتك فسقطت عمامتي!
- وأنا اصطبحت بوجهك ففقدت حياتي، فأينا أكثر شؤما؟ فهل كان من طبيعة العلاقة بين الرشيد وأبي نواس، وهل يليق بهما، أن يحدث بينهما هذا الذي يشبه لعب الأطفال المسمى (استغماية)؟ وهل كان خلفاء المسلمين يقتلون للطيرة وشؤم الطالع. .؟ وهل يصح أن يساق هذا الكلام المسف المبتذل على انه فكاهات مختارة من الأدب العربي؟!
لقد كان يمكن تحقيق الرغبة في الإضحاك بإيراد طائفة من فكاهات الأدب العربي (الحقيقية) التي يزخر بها (الأغاني) و (العقد الفريد) و (عيون الأخبار) و (ذيل زهر الآداب) وغيرها من كتب الأدب. وكان يمكن بهذه الفكاهات الجمع بين (الفرفشة) والمتعة الفنية، وكان كل ذلك خيرا من حكايات (أبو النواس) التي لا منفعة فيها إلا أن تفغر أفواه الفارغين. . .
شخصية الفنان:(735/45)
نشرت بعض الصحف البيروتية خبر حادث أسفت له، وأشارت إلى سوء موقعه من النفوس، ذلك أن الأستاذ محمد عبد الوهاب كان في مجلس (عالية) ضم نخبة من رجال السياسة والأدب، وفيهم الأمير مجيد أرسلان وزير الدفاع في لبنان، الذي طلب من عبد الوهاب أن يغنى فرفض واختلفت الروايات فيما حدث بعد هذا الرفض، فقيل انه حدثت مشادة تخللها اعتداء وقيل أن الوزير نهض واقفا كأنه يهم بالاعتداء. . وتدارك الحاضرون الموقف فانتهى بسلام وكذبت الحكومة اللبنانية (أن وزيرا حاول ضرب الأستاذ محمد عبد الوهاب في عالية) وقالت انه خبر عار عن الصحة. ونفى الحكومة ينصب على الاعتداء ومحاولته، أما الاجتماع وما كان فيه من طلب الغناء ورفضه فلم يكذب خبره. وهذا الجزء من الخبر هو الذي يتعلق به موضوعنا أما الإساءة إذا كانت قد وقعت فاليقين أن إخواننا اللبنانيين قد عالجوها أمرها على خير ما يرجى.
أما الذي أرمى إليه فهو (شخصية الفنان) التي حفها عبد الوهاب برفضه إجابة طلب الغناء فهو اعتزاز في موضعه، وحفاظ على كرامة الفنان أن يكون طوع إشارة وزير أو كبير. وقد مضت العصور التي كانت الفنون فيها تعيش في ظلال الكبراء، وصار الفنان (من موسيقى وأديب وغيرهما) يستمد عزته من فنه ومن جمهوره، كما تستمد الحكومات الدستورية سلطاتها من أممها. .
تلك هي روح العصر في الفن وهي اثمن ما كسبناه، وهي تتمثل في أولئك الأعلام الذين برزوا في حياتنا الفنية بأنواعها نهضوا على سوقهم ومشوا بجهودهم إلى غاياتهم مسددين ويسير الجميع الجديد على أثرهم في هذا السبيل، من الشعب نحو الشعب، يرعى الجميع جلالة الفاروق.
أبو زيد الهلالي:
كتب إلى الأستاذ عبد الحميد يونس ما يلي:
(طلب المدير المنتدب للإذاعة المصرية في عهدها القومي إلى الأدباء والكتاب أن يشاركوا بأفكارهم وأقلامهم في تدعيم هذه المؤسسة الثقافية العظيمة التي بلغ من خطورتها في توجيه الرأي العام أن احتفلت بها الهيئات الدولية العليا، وقد رأيت أن أتقدم إلى هذه(735/46)
الإذاعة بطلب متواضع من الجهد الفني، هو تقريب الآثار الشعبية المعروفة إلى جمهور الخواص وبدأت بحلقة من حلقات سيرة أبي زيد الهلالي، ولأمر ما انصرف المعنيون بإخراج هذه الآثار عن اللغة الفصحى إلى اللغة العامية مع أنني كتبتها باللهجة الفصيحة لحكومة ظاهرة، وهي جعل الخواص والأوساط يتذوقون هذه الآثار الشعبية التي يحفظها العامة عن ظهر قلب، ثم أخرجت هذه الحلقة دون أن يصلني كتاب واحد من الإذاعة اللاسلكية القومية التي تشرف عليها الدولة المصرية ينبئني بقبولها أو رفضها أو يدعوني على الأقل إلى مشاهدة إخراجها وإقرار هذا الإخراج، وقد حضرت التجربة النهائية اتفاقا محضاً وكنت بين المخرج وأعوانه كالتطفل على مأدبة لم يدع إليها. وعند التسجيل سحب الصوت من الغرفة التي اجلس فيها عمدا وعلمت بعد ذلك أن القصة التي قدمتها قد حورت في مصنعين تحويرا يمس أثراً محفوظا لدى الشعب قد وقف في تطوره عند صورة متبلورة بعينها، كما أن الحوار حمل أفكاراً وصورا لا يمكن أن اقرها بحال فاضطررت إزاء هذا كله إلى أن اطلب بما لي من حق الاستماع إلى التسجيل الكامل، ولولا وساطة بعض أصدقائي ممن احترمهم وأوقرهم لوقفت إذاعة هذه الحلقة واحتكمت إلى القضاء وبخاصة لأنهم جعلوا المؤلف غيري واكتفوا بان ذكروا أنني قدمت (المادة العلمية) كما يفعل رجال الدعاية الزراعية مثلا. والإذاعة وان غيرت هذا الوضع بعض التغيير وإلا أن الأمر لا يزال على حاله من حيث تحوير القصة وتحميل النص مالا يحتمل. .
ولعل هذا يدعوك إلى تنبيه الإذاعة اللاسلكية في هذا العهد القومي إلى احترام المؤلفين ومحاولة القضاء على ما يشبه الاحتكار الثقافي والفني لفرد أو طائفة.
وأملي أن ينال هذا الموضوع ما يستحق من عنايتكم وعناية الرسالة الغراء)
وقد أصغيت إلى هذه التمثيلية وقت إذاعتها يوم الثلاثاء، فسمعت أصواتا تتصايح بلغة لست ادري ما هي بالنسبة إلى قصة أبي زيد الهلالي، فلا هي لغة جمهور المستمعين العامية ولا هي لغة (شعراء الربابة) التي هي اقرب إلى الفصحى من لغة التمثيلية ولا هي لغتنا العربية الفصحى؛ وإنما هي من لغة بعض القبائل البدوية المعاصرة ولم هذا وقد وضعها مؤلفها معربة فصيحة؟ يقولون في مثل هذا: انه تهيئة للجو الفني في القصة. . فهل يطابق هذا الحوار الذي وضع لقصة ابي زيد الهلالي لغة القبائل العربية بنجد في(735/47)
القرن الخامس؟ وما أظن لغتهم في ذلك الوقت كانت قد بعدت كثيرا عن الفصحى.
على أنني سمعت في تمثيل القصة غناء ينصت إليه أمراء القبيلة، فيدخل عليهم أفراد من القبيلة يصيحون بهم: أمنصتون إلى الغناء والطرب والشعب يهلك من الجوع؟ وسمعت أحد أفراد القبيلة يحاول أن يبيع ابنته ليلقى ضيفاته فيعلم بذلك أمير القبيلة فلا يمنح الرجل ما هو في حاجة إليه ويطلق الفتاة بل يتزوج منها فيعترض عليه أبو زيد ويعلن أن الوقت وقت شدة وعسر ولا يليق أن ينفق في الأفراح بل يجب أن ينفق في مصلحة الشعب ورخائه.
وليست تلك الأفكار الاشتراكية مما يتفق والروح السائد ف زمن القصة وتصرف أمير القبيلة مع والد الفتاة ليس من النخوة العربية، فهل يتفق هذا مع الجو الفني للتمثيلية الذي يعملون على تهيئته بتلك الأصوات المنكرة. .؟
واكبر الظن أن ذلك مما يقصده الأستاذ عبد الحميد بقوله أن القصة حورت وحمل الحوار أفكارا وصورا لا يمكن أن يقرها ويبدو من تغافلهم عنه في أثناء الإخراج انهم كانوا يخفون عنه ما يصنعون بقصته حتى ينتهوا ويضعوه أمام الإفساد الواقع. ومن عجيب الأمر أن ينزل الكاتب المبين منزلة صاحب (المادة العلمية) الذي لا يقتدر على التعبير فيقدمها لمن يصوغها في أسلوب صحيح. .
وبعد فهل تتفق دعوة مدير الإذاعة الأباء إلى المشاركة بأفكارهم وأقلامهم في تدعيم الإذاعة المصرية في عهدها القومي مع هضم حقوق المؤلفين والتصرف في أناجهم بما لا يقرونه؟ أو ليس من حق الأدباء أن تعاملهم الإذاعة في التقدير والأدبي على الأقل معاملة المغنين ومن دونهم من الملهين. . .؟
(العباسي)(735/48)
البريد الأدبي
القران والفرقان:
اطلعت في العدد الأول من مجلة (لواء الإسلام) على مقال وصين للأستاذ الكبير عبد الوهاب حمودة بعنوان (التعريف بالقران) جاء فيه قوله (وللقران أربعة أسماء هي القران، والذكر، والكتاب، والفرقان)
ونحن نوافق الأستاذ في الأسماء الثلاثة الأولى ولكننا نخالفه في الرابعة وهي كلمة (الفرقان) بمعنى القران إطلاقا، لان من معانية الذكر ودليلنا في ذلك قوله تعالى وهو اصدق القائلين (شهر رمضان الذي انزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى (الفرقان).) وقوله تعالى (وإذ أتينا موسى الكتاب و (الفرقان). .)
ثم أن الأستاذ زيادة في الإيضاح يقول مستشهدا: ثم نزل لفظ (الفرقان) في سورة (الفرقان) في قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) فلو صح ما ذهب إليه الأستاذ في معنى الفرقان لصح وجود سورة باسم سورة (القران) ولكان القران ما نزل على العاملين إلا ليكون نذيرا لا غير.
ثم أن الآية (ولقد أتينا موسى وهرون الفرقان) تنفى ما ذهب إليه الأستاذ في معنى الفرقان على انه القران نفيا لا ياتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه. ويكون الفرقان بمعنى الذكر الذي يفرق بين الحق والباطل من الاقوال والافعال. وللأستاذ في الختام وافر التحية والسلام. . .
(الزيتون)
عدنان أسعد
1 - إلى سائلين:
كتب إلى الأفاضل: السيد (سعيد احمد) من القنيطرة، والسيد (نهاد عيسى) من حيفا، والسيد (حنا نصار) من طبريا وشافهني آخرون ممن الق، وكلمهم يسال عن (فصول الأدب في فلسطين) ولماذا توقفت عن متابعتها؟
وجوابي إلى هؤلاء السادة: أنني سأتابع هذه الفصول حين يتسع المجال في (الرسالة)(735/49)
الزاهرة فتنشر فصلين وجهتهما للإدارة. وذلك ليتسق نظام الحديث.
2 - الحاصرة:
كتب الأديب (فلسطيني) في بريد الرسالة الأدبي. يرتأي أن نستبدل بالزنزانة (الحاشرة). وكتبت آنذاك وقد توهم بعض إخواني أنني ذلك (الفلسطيني) انفي ذلك الوهم، وأبين أن (الحشر) في اللغة هو: (الحشد والجمع) من ذلك (يوم الحشر) ولا يكون بمعنى: (الحبس والتضييق) إلا في مدلول الكلمة العامي عند أهل فلسطين. . . ومن هنا كان خطا اللغوي (فلسطيني)! ولعل الكلمة التي تؤدى المعنى المراد_هاهنا_هي: (الحاصرة). .
وفي عدد الرسالة الأخيرة رأيت الأستاذ حسني كنعان يستعمل هذه الـ (حاشرة) بمدلولها العامي في فلسطين، في موضوعه القيم: (نهاية دجال) ولذا رأيت أن أعود ثانية فانبه إلى ذلك
3 - أروقة سود:
جاء في بداية موضوع السيدة الفاضلة منيبة كيلاني (لسان الدين بن الخطيب) ما يلي: (مد الليل أروقته السوداء في غرناطة. . .) والمعروف أن (سوداء) وصف لمفرد مؤنث، ووصف الجمع منه (ومن جمع التكسير) هو (سود).
فنقول في الأفراد: ليلة سوداء، كما نقول: حية رقطاء. ونقول حين الجمع: ليال سود وأيام بيض وحيات رقط. . ولعل هذا لا يغيب عن الأديبة الفاضلة.
(القدس)
محمد سليم امرشداق
1 - إلى الأستاذ محمود شاكر:
في مقال الأستاذ الكبير (محمود شاكر) (شهر النصر) أورد الأستاذ آيات من كتاب الله جاء فيها سهو بين وتلك الآيات هي قوله تعالى (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وان كثيرا من المؤمنين) والصواب (وان فريقا من المؤمنين لكارهون) وسهو أخر في قوله تعالى (ويقطع دابر القوم الكافرين) والصواب (ويقطع دابر الكافرين) بإسقاط لفظ القوم وفقنا الله(735/50)
للصواب.
2 - إلى الشيخ محمد رجب البيومي
في مقالك - عشاق الطعام - أوردت ما نصه (واذكر أن صحابيا جليلا - أظنه ابن عباس - دخل عليه سائل نهم فأكل أكلاً عنيفا فجعل ينظر إليه في تعجب حتى إذا خراج من عندجه قال لخادمه: إياك أن تدخله مرة أخرى فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. المؤمن يأكل في مع واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) واحب هنا أن اذكر - للحقيقة - أن ذلك الصحابي هو ابن عمر لا ابن عباس - كما ذكرت أنت - وذلك كما جاء في رواية البخاري (عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه فأدخلت رجلا يأكل معه فأكل كثيرا فقال: يا نافع لا تدخل هكذا علي. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) وأنت ترى - أيها الزميل - أن لفظ معي ورد هكذا في الرواية الصحيحة بكسر الميم وفتح العين منونا مقصورا فإني لك مخالفة الرواية المشهورة؟ أقنعنا وفقك الله
(دميرة)
علي زين العابدين منصور
الأشغال الشاقة المؤبدة:
جاء في كلمة للأديب فؤاد السيد خليل بالعدد (734) من الرسالة الغراء (إن الأشغال الشاقة المؤبدة مدتها خمس وعشرون سنة، ينقص ربعها للذين يحافظون على النظام والطاعة في السجن) وتحديد العقوبة بهذه المدة خطا كثير الشيوع والصحيح أن الأشغال الشاقة المؤبدة ليست محددة بمدة معينة، وإنما تكون إلى نهاية حياة المجرم.
على أن نظام الإفراج الشرطي يجيز الإفراج عن المحكوم عليه بهذه العقوبة إذا أمضى في السجن مدة لا تقل عن عشرين عاما، وكان خلالها حسن السير لذلك رأيت التنويه إرضاء للقانون، وتكديرا لخواطر المجرمين
محمد محمود عماد(735/51)
القصص
اشتراك في الإثم
للشاعر القصصي (بول بور جيه)
بقلم السيد كمال الحريري
(تتمة ما نشر ف العدد الماضي)
وفي الصباح صحت عزيمتي، على الكتمان. لا أبداً لن افضح امرأة صديقي، ولن يعلم صاحبي عن خيانتها شيئا: فما هو أول زوج ولا أخر زوج تخونه زوجته، ويعيش مع ذلك هادئا قريرا شارل صديقي، يذهب في حب امرأته أنزه المذاهب وأقربها من التقديس، لذلك سيكون في اطلاعه على خزيها وشنارها. وضع للسلاح في يده ليقبل نفسه به. فمن الخير إذا أن يجهل الأمر كل الجهل أما فيما يتصل بي، فإني أرجو أن أتناسى مشهد هذه المصادفة الغريبة، ولا سيما أن (مرغريت) لم تراني أبداً وتجهل اطلاعي على أمرها وسوف تجهله إلى الأبد. فمن الحتم على أن ارحل بقطار معاكس لقطارها يبرح (جه ن) في نفس الساعة. ولقد عولت على تأخير ذهابي إلى المحطة كيلا أتعرض لملاقاتها هناك برغم تحقيقي من أنها ستأتي المحطة بمفردها، فليس من الجائز أن تكرر مخاطرة الأمس الحمقاء فتبرز للملأ مع عشيقها على إني لم اقدر نشوة الخطر الخبيثة التي تدفع بالمحبين إلى أن يقتحموا كل خطر مهما كان نوعه أو زمنه. ذلك أن في المرأة التي تستهيم بصاحبها وتتدله بهواه فتهبه سرا جسمها وقلبها شهوة طاغية للظهور في ملأ من الناس، مستندة إليه معقودة الذراع بذراعه، كأنها تبغي الإعلان للناس عن أنها امرأته الشرعية؛ ترى لماذا تفعل هذا؟ إني لا أستطيع لذلك تفسيرا ولكنه يقع غالبا. والمآسي العرضية التي تقوض سعادة الأسر بنسبة 99 في المائة ليس له من سبب إلا ما ذكرت. مع أن شدة الحذر واليقظة من الزوج كافية لمنع حدوثها. واحسن مثال على ذلك واقعة صديقي، على إني في تلك الليلة المؤرقة خرجت باكرا من الفندق وفي نيتي إلا ارجع إليه إلا متأخراً حين أكون مرغريت قد غادرته إلى المحطة، فبعد أن جلست فترة في المدينة ذهبت في الساعة العاشرة إلى زيارة (القصر الأحمر) (باله روج) لمشاهدة لوحات الفنان (فانديك) وادع لك(735/53)
أن تحكم على مقدار ذهولي ودهشتي حين طرق مسمعي مجددا، في صالة هادئة من صالات ذلك المتحف، جرس الصوت نفسه الذي هزني وزغرني البارحة مساء تحت أشجار البستان. لقد كانت هي نفسها هناك نعم وبرغم تخوفي واحتسابي من ملاقاتها ولو بمفردها. حبذا لو كانت حقا وحدها! ذلك أن صوتا كان يحاورها، هو صوت رفيقها في أمسية البارحة. وكنت أمام لوحة المركيزة (باؤل) المشهورة. الاتذكرها؟ أنها تمشك بكفها البيضاء قرنفلة حمراء وترتدي فستانا اخضرا غامقا كان العاشقان يدنوان مني شيئا فشيئا. كنت أحس ذلك من وضوح حديثهما بالتدريج في اذني، فهما يتخاطبان بصيغة الجمع وكان هذا التحفظ القليل منهما تنبيها لمن عساه أن يسمعهما أو يعرفهما من الأصدقاء والمعارف. عند ذاك يكون في مقدورهما تبرير نزهتهما المنفردة مع بعضهما بانتحال مصادفة ملاقاتهما في بهو المتحف، وسكتا فى حين غرة ولكني بفضل حاسة السمع اليقظة التي ترهف في مثل هذه اللحظات، ميزت وسوسة هامسة فيما بينهما لقد خافا فجأة من صوتهما لان ماري أبصرتني ولا ريب عندي في أنها أسرت حينذاك لعشيقها هذه الكلمات المخيفة الهائلة لديها (صديق لزوجي) ومع ذلك لم تغادر الصالة بل كانت خطواتهما تقترب قيلا قليلا مني ووقعهما على بلاط الصالة يجعل صمت الأصوات أكثر وضوحا وجلاء. هناك تساءلت وعيناي مثبتتان في اللوحة وذراعاي معقودتان إلى صدري في متأملة غارقة: أليس الأولى بي الزوغان عنها وتجنب محنة ملاقاتها المربكة؟؟
ليس من المعقول على أي حال استمراري هكذا جامدا دون حراك، لأني بذلك أتخذ هيئة من يراها فعلا، ويتظاهر بعدم رؤيتها، وتلك وقاحة بلا مراء ذلك أن عدم إرادتي النظر إليها هو الإقرار بأنها تصاحب رفيقا أما إذا حييتها فلسوف أفسح لها المجال لكي تشرح موقفها وتتلل بعذر من واجبي التظاهر بتصديقه ومع إني فكرت وقدرت كل هذه الحلول لوقفي فإني لم ارم مكاني. ووقف الحبيبان أخيراً ورائي. لا جرم أن المرأة كانت تتساءل عما إذا كنت امثل دورا. وعلى أي حال لم ترد أن تكون هي البادئة بالاقتراب مني غير أنها اجترأت أخيرا اجتراء المرأة التي تبغي حماية هنائها فجهرت بصوتها لكي تضطرني إلى الالتفات إليها قالت لصاحبها:
- انك لعلى حق يا سيدي فهذه الصورة من أروع وأبدع الصور في الرواق كله، ولن أنسى(735/54)
لك جميل تعريفي بها وإظهاري على جمالها. وإني لجد سعيدة بالمعاونة الطيبة التي جمعتني بك، وأمل أن ألقاك في باريس. . أما الآن فينبغي لي أن أعود سريعة إلى المحطة كي لا يفوت موعد القطار. لقد كان من المحال إلا اسمع صوتها، ولكني أم أتحرك حركة ولم انقل قدما ولم أكلمها كلمة. فترددت (مرغريت) لحظة ثم ابتعدت وكأنها هي أيضاً لم تبصرني (مع أن خطابها المرتفع لم يكن موجها إلا إلى) واقتفى الفتى أثرها بعد بضع لحظات كنت أثناءها ما أزال على هيئة استغراقي الذاهل غير المعقول في صورة (لادام) للرسام (فانديك) ولما ابتعدت خطوات حبيب مدان رددتيه عن الصالة واستأنفت سيري المعتاد انتابتني نوبة من الندم والألم من الصعب وصفها: إني بتظاهري عدم مشاهدة مارغريت عرفتها بجلاء بهائها ودللتها على جرمها. ولا ريب في أن أول عمل سيقوم به الفتى حين رجوعه إلى الفندق هو مراجعة قائمة النازلين فيه. وماذا بعد عثورهما على اسمي إلا أن يستخلصا أمر اكتشافي وجودهما في هذا الفندق! أن عدم التفاتي إليهما في صالة (القصر الأحمر) يعني إني لم أجد في مرافقتهما مفاجأة غريبة، وإلا كانت المباغتة دفعتني إلى بعض الحركات والإشارات وإذا فالنتيجة المنطقية هي: إني لا أستطيع أبداً الاستمرار في تظاهري أمام امرأة (شارل) إني اجهل علاقتها بعشيقها. هي تعلم إني ادري لها عشيقا وهي تدرك إني اعلم من هو جيدا ليت شعري كم ضيقة هي المسافة التي تفصل الواحد منا عن الآخر في العالم. . لقد كنت أشفق كل الإشفاق من اشتراكي في الإثم، وإذا بي الآن احشر نفسي فيه حشرا. والمجرم حين يستوثق من معرفتنا بجرمه ومن حمايتنا إياه بسكوتنا عنه، له كان الحق أن يعتبرنا متواطئين معه على الجرم لقد كان الحزم والحكمة يقضيان على أن اشترك (في الملهاة) التي دعتني إليها جملتها. فلو كنت ملتفتا إليها ببساطة، لقلت لها: أهي أنت يا مدام؟؟ حينئذ كانت تعرفني بصاحبها معلنة مصادفته في (جه ن) ولكانت أنبأت بصاحبها بذلك زوجها بكتاب كما كان في مقدوري أن اكتب أنا إليه أيضاً على حين أنها ملزمة بالسكوت أمام زوجها كيلا يناقض قولها ما لعلني أتحدث به أنا إليه (هذا إذا كان في عزمي أن أتكلم) لسوف تسمم هذه الرعونة التي ارتكبتها انا، علاقتنا إلى الأبد فهذا الحزم في غير موضعه مني هو أشد شئ يدعو إلى الاتهام. لهذا كان من اثر هذا الموقف الخاطئ. أن بات من المحال على الرد على كتاب صديقي شارل،(735/55)
طيلة الأيام التي استغرقتها سياحتي. ولعلها المرة الأولى منذ طفولتنا التي لبثت فيها مدى أسبوعين دون إثباته بصحتي وأخباري أو أنبائه عن صحته وأخباره. وحين حللت باريس بقيت أسبوعين أيضاً دون أن أكلف نفسي زيارته مع ثقتي بان ذلك التغيب هو اشد مخالفة للصواب من مسلكي في رواق (القصر الأحمر) فليس من المعقول أن لا يندهش شارل من انقطاعي عن زيارته، فلا يستفسرني عن الأسباب التي كنت مصمما على كتمانها عنه، وإذاً فأي معنى لتأخري عن زيارته!
كل هذا كنت أعلله واستخلصه ولكن التفكير في إني سأشترك في قذف افحش شتيمة يمكن لرجل أن يتعرض لها في عرضه كانت تثني خطاي إلى أن كنت ذات يوم في منزلي أفكر في الوقت الذي يجب فيه استئناف علاقاتي مع أسرة (شارل) وإذا بخادمي ينبئني بان سيدة ترغب في لقائي فأمرته أن يدلها. وإذا بي ابصر (مرغريت روية) تدخل غرفة الاستقبال وكانت أول كلمة لقيتني بها (إني هالكة) ولم تزد عليها شرحا واو تفسيرا. ثم انفجرت كالمجنونة قائلة: المصادفة وضعت سري بين يديك، وأنا اعلم انك لم تش بي إلى (شارل) وبسبب هذا وحده كان انقطاعك عن زيارتنا. ولكن بين جنبيك قلبا نبيلا، يرثى لحال امرأة تعسة. . أعيد عليك القول باني من الهالكات. . . نعم وإني حامل. . . لم تكن الشقية تطلب مني الاشتراك السلبي في الآثم فحسب، بل الاشتراك الإيجابي أيضا. فلقد عادت من إيطاليا منذ ثلاثة أيام موقنة من أنها حامل لشهر. . . وينبغي لي إضافة ما أقرت به أيضاً خلال العبرات والشهقات، قالت: أنها من حين تعلقها بصاحبها أخذت تنتحل الأعذار باختلال صحتها كي تعيش بعيدة عن زوجها. ولقد تهددتها هذه الأمومة اللائمة في الوقت الذي كنت فيه أنا صديق بعلها الوفي وخله الأمين، هناك في النزل ولماذا؟ لكي اكتفى فقط بما رايته وسمعته. . . . أما هي فقد فكرت بالفرار مع عشيقها، وحاولت أن تسلكه في طريقها بأساليب شتى، لم تزدها كلها إلا معرفة بالعواطف الكاذبة التي يكنها لها ذلك الرجل حتى الانتحار فكرت فيه، لولا أن غريزة صون الحياة ردتها عن فكرتها لأجل هذا جاءت إلى في نوبة من نوبات هواجسها وهذيانها تستجدي عطفي وتستنجد رحمتي.
ماذا؟. . آه! ما أوهي ذلك الحاجز الذي يفصلنا عن الجريمة؟ لقد أتت تبتهل إلى أن أرافقها إلى طبيب لستعطفه وتتوسل إليه لماذا؟ بمساعدتها في الإجهاض. . . أراني محتاجا إلى أن(735/56)
أحدثك عن جوابي ونصيحتي لها ورجائي أن تحفظ شبابها وتبقى على ذلك الطفل الذي تحمله في أحشائها؟! لقد سمعتني اردد في إلحاح:
- الأولى بك أن كنت ترجين لأمرك خلاصا أن تعترفي (لشارل) بكل ما حدث. . . وبهذا تحتفظين بطفلك وثروتك وتجدين الوسيلة إلى طلاقك ذلك خير من تحمل جريرة القتل وبينما كنت أكلمها هكذا، كانت إمارات الهدوء تعاودها قليلا قليلا فانسحبت من عندي بعد إذ أعطتني ثقتها من أنها لن تقترف جريمة الانتحار ولا قتل طفلها. وفي الغد وضعت حدا لترددي في الذهاب إلى منزل (شارل) صديقي. فلم تحن الساعة العاشرة حتى كنت عنده، بعد وثوقي من لقائه في ذلك الوقت لقد أشعرني استقباله لي بأنه كان فارغ البال من المأساة الأليمة التي كان منزله لها مسرحاً قال لي بلهجة المعاتب وهيئة المداعب.
- انك لا تستأهل مني أن أعرفك بعد الآن ما معنى هذا التصرف الغريب؟ أن (مرغريت) لم تعد من هناك بل أبت من (إيطاليا) مبتهجة بسياحتها. . .
ولكن قل لي بحقك، ما الذي حدث لك أنت؟؟ أظنها مغامرة غرامية جديدة. . لعمري أليس في نيتك الاستقرار والانتظام في حياتك. . .
ومع ذلك فالسعادة في الزواج. . . نعم وكل السرور والنعيم فيه، ثق بذلك وصدقني يا صاحبي. . أما أنا فلن أعيد عليك الأسباب التي ادعيتها لذل الزواج المخدوع تبريرا لسكوتي وغيابي عنه. . . وفي مساء ذلك اليوم كنت أتعشى معه بجانب امرأته، التي كان في وجهها الساكن الجامد ما ينم على أنها نسيت تماما نوبة الألم التي جازتها وهول الخطر الذي كان يتهددها. . . على إني فهمت أي حل حلت به عقدة هذه المشكلة المؤسية. . . وذلك إني كنت عند صديقي (شارل) بعد شهر من زيارتي الأولى، وكنا ندخن منفردين حين بدرني قائلا:
- أني لجد مغتبط يا صديقي: لقد كاد حلمي أن يتحقق فأنا أمل بعد مدة أن أغدو أبا. . . لوليد ستكون لا شك أنت (إشبينه). . .
لم تكد تمضي على هذا ثمانية شهور، حتى ولد ذلك الطفل الذي اخبرني ابوه (المدعي) عن زنته لبالغة. فقال في كبرياء وافتخار لم يخطر لي وفتئت أن اسخر منهما.
- نعم يا صديقي، انه يزيد كيلو غراما عن وزن الطفل. العادي ثم انه ولد قبل الميعاد(735/57)
المنتظر لولادة الأجنة. . . ستة شهور ونصف فقط. . . أليس ذلك عجيبا!؟ لقد تملكني الخوف منه بادئ الامر، ولكن الطبيب طمأنني وهو طبيب من النوع الممتاز عرفت (مرغريت) عنوانه على سبيل الصدفة بواسطة إحدى صويحباتها لدن عودتها من (إيطاليا). . . (واحفظ عني يا صديقي. . . لقد تألمت المسكينة بالوضع اشد الألم، حتى إني لم أمل أن اصبح أباً. . . بيد أن ذلك لم يكن له كبير خطر لان الطبيب عرف كيف يعتني بها الاعتناء المطلوب. . . وبينما كان شارل يفضي إلى بسعادته الكاذبة، كنت أذوب خجلا وأملاً في نفسي. وفي الواقع لم اكن واحدا من أولئك الذين ائتمروا به حتى يثبتوا في ذهنه الوهم الفاحش الخادع الذي سيعيش ويموت على لضلاله وبطلانه؟
على إني علمت من ذلك أن مرغريت حين بارحت منزلي، ذهبت فورها إلى طبيب من الأطباء وعرضت عليه عملية الإجهاض، ولكن الطبيب نصح إلى (زبونته) المرتاعة بالعودة إلى زوجها، وبأن تزن نفسها حين تقترب ولادتها بإقناعه بتاريخ لحملها منه. . . يكون. . بعد ذلك مقاربا للحقيقة أكنت على حق أم في ضلال بعيد لعدم إفشائي الحقيقة في حينها؟؟ أمصيباً كنت أنا بالسكوت أم مخطئا؟ إني وقد تعاقبت على هذه الحادثة سنون عدة ما افتأ أتساءل وأقاول نفسي بكل هذه الأسئلة. ولكن دون أن اظفر لها بجواب. . . ترى هل أصبت أم أخطأت بغمسي في ماء (التعميد) لذلك الطفل الذي أنا اعرف الناس بابيه؟! لم تمض خمسة شهور على ولادته حتى وجدت أمه الوسيلة إلى إفساد ما بيني وبين زوجها الذي لم أجر أنا منع نزعي معه، لان التردد على ذلك المنزل كان يسبب لي كثيرا من الغصص والندامة.
ولعلك تفهم جيدا علة عدم مرافقتي لك إلى ذلك المنزل في (جه ن). أمن اللازم اعترافي أنا الآخر بان عدم حلولي في ذلك الفندق مراعاة لشعور صديقي رايموند؟. . . ومع ذاك لم انفك أسائل نفسي منذ ذلك الحين، ترى ما عساني كنت فاعلا لو أني مكانه؟! تجاه صديق صدوق، يعد الصمت عن مثل هذه الجريمة جريمة ابلغ وأنكر كما يعد إفشاؤها فظاعة ما بعدها من فظاعة.
وفي هذا، ما يبرهن على انه يجعل أحياناً أن يجهل المرء أسرار غيره أن من أمن شئ واسلم عاقبة في هذه الحياة الدنيا، أن تغمض عينك فلا ترى وتسد أذنك فلا تسمع شيئا عن(735/58)
مثالب ونقائض الآخرين ذلك السبيل الأوحد كي يظل الإنسان على خالص طهره ونقائه ولكن هل ذلك مستطاع؟
حلب
كمال الحريري(735/59)
العدد 736 - بتاريخ: 11 - 08 - 1947(/)
نحن والظالم أمام القضاء!
كان يوم الثلاثاء الماضي يوماً مشهوداً في تاريخ مصر؛ رددت ذكره الألسنة والأقلام في كل أرض، وستردد ذكراه الألسنة والأقلام على مدى الأحقاب في كل عهد وفي كل معهد! في ذلك اليوم وقفت مصر كلها ممثلة في النقراشي، بجانب إنجلترا كلها ممثلة في كادوجان، أمام العالم كله ممثلاً في مجلس الأمن، ندعي نحن ونثبت، وتغالط هي وتراوغ، ويوازن هو بين حجج الإنسان يبسطها لسان فيصل، وحجج الذئب يؤيدها ناب أعصل، والناس في مشارق الأرض ومغاربها يتتبعون المحاكمة ويترقبون الحكم ليرو بالتجربة أيخضع الأقوياء كما زعموا لسلطان العدل والعقل، أم يظلون كما كانوا يحافظون على الموضوع ولا يغيرون إلا في الشكل!
قضية وادي النيل قضية الحق الذي لا يمارى فيه إلا الذين يتكئون إلى الباطل، ويعيشون على الحرام، ويتسمون على الظلم؛ وقد جعلها النقراشي أداته الواضحة، وحججه الملزمة، من بدائه العقول، فلا يمكن أن تؤتى من جهة القانون والمنطق؛ إنما يجوز أن تؤتى من جهة السياسة التقليدية القائمة على تبادل المنفعة وتقارض المعونة، ويومئذ علم المؤمنون بتقدم العقل، والمتفائلون بتغلب العدل؛ إن العالم يكابد اليوم خدعة أخرى، وإن (هيئة الأمم المتحدة) لم تره إلا اسماً جديداً للاستعمار في أخس معانيه وأقبح صوره.
كان النقراشي بإجماع المنصفين عظيماً في موقفه، رائعاً في بيانه، بارعاً في خطته، صريحاً في طلبه، موفقاً في عرضه؛ فإذا لم يستطع صديقنا الأستاذ الجليل فارس الخوري رئيس مجلس الأمن أن يعصم البصائر من الزيغ، والضمائر من الخدر، فلن نقول يوم يعمى أعضاؤه عن الحق أننا أسأنا الدفاع، أو أضعنا الفرصة، أو تنكبنا الطريق؛ ولكننا سنقول تعلقنا بالخيال وتركنا الواقع، وتدرعنا بالحق وأهملنا القوة سنقول النقراشي يوم يجعلون الحق دبر آذانهم: أراهم أننا أقوياء كما أريتهم أننا محقون. وقل لهم إن شعباً كان تاجه الشمس، ولا يزال علمه الهلال، ومن بين يديه كتاب الله ينطق بالحق، ومن خلفه دول العرب والإسلام تمده بالقوة، لا يفشل من ضعف، ولا يخذل من قلة.
- ولكن ما بالك تتسلف الخذلان وتتوقع الجور وتغلو في التشاؤم وسوابق الأقضية في مجلس الأمن تقوى الثقة به وتنعش الأمل فيه؟ ألم تسمع بما قضى به على الروسيا في إيران، وعلى إنجلترا وفرنسا في سورية ولبنان، وعلى هولندا وإندونيسيا في ساحة(736/1)
الميدان؟
- بلى قد سمعت. ولكن لا ننسى أن الذي تصرف كان الهوى لا القانون، وأن الذي تعفف كان العجز لا العدالة. فهم إذا اختلفوا حكموا على أنفسهم، وإذا اتفقوا حكموا على الناس!
أحمد حسن الزيات(736/2)
في الماضي
للأستاذ محمود محمد شاكر
كنت أتمنى أن يكون لي مكان هذا القلم الأصم قلم حيي نابض يصحبني حيثما سرت، ويلهمه الله من دقة الحس ما يجعله يتلقف كل خاطرة تومض في أعماق نفسي، ويشعر بكل هاجس يعتلج في سر ضميري، وإلا فإن الكاتب ذا لقلم أعجز من أن يطبق لم هذا الشعث المنثال المتتابع من الخواطر والهواجس التي تنتابه وتعتريه وهو يرى أو يسمع أو يفكر. وفي هذا اليوم بعينه كنت أشد الناس ضراعة في التمني أن لو أتاح الله لي مثل هذا القلم النابض الحي حتى يأخذ عني وعما يحيط بي، ويسجله قبل أن تمسحه عن قلبي يدالدقائق والساعات التي جعلها الزمن رصداً على الأفكار تمحوها بالنسيان، أو تطمسه بالفتور، أو تعفيها بتراب الحوادث التي تجد في كل لحظة من لحظات العمر.
خرجت أنا وصديقان لي، هما الأستاذ علاّل الفاسي الزعيم المراكشي الصابر على لأواء الجهاد في سبيل بلاده، والأستاذ محيي حقيالقصاص المبدع في زمن ليس للإبداع فيهقيمة ولا قدر، وكان الذي دعانا إلى هذا الخروج فنان كهل قد ودع الصبا ولكنه تشبث بعطره ونفحاته وتوهجه، فلا تزال تشم من فنه حين يتحدث عنه شذاً لطيفاً من عنفوان الصبا والشباب، وذلك الفنان هو الصديق الأستاذ حسن فتحي المهندس الذي أبى أن يتعبد للهندسة، بل أرادها أن تكون عبداً له يخدمفنه الذي يعيش فيه ويعيش به.
كان يوم الأحد السادس عشر من رمضان سنة 1366 يوماً قائظاً ومداً يجعل العرق ثقيلاً كثيفاً يضجر النفس ويأخذ بالأنفاس، فلما ركبنا السيارة، وتخففنا من بعض ثيابنا، واستقبلتنا لفحات الهواء السخن، انتعشت القلوب ودبت فيها الحركة، على سكونها وفتورها من شدة الصيام وحاجة الأبدان إلى الماء في مثل هذا اليوم. وعندئذ بدأ الفنان يتحدث عن الوجه الذي يقودنا إليه، فطاف علينا من حديثه مثل الظل، حتى نسينا إننا في رمضان في يوم قائظ تحت الشمس. إنه ماض بنا إلى أثر عربي قديم في ناحية (بيت القاضي) يقال له (قاعة حب الدين الشافعي) وتعرف أيضاً بقاعة (كتخدا). فلما أوشكنا على دخول القاهرة القديمة شمعت روائح مصر الإسلامية، وتمثلت لعيني خوالي أيامها، ورأيت كأن هذه الجموع التي تسير في الطرقات كأنما انبعثت من الماضي البعيد بلباسها وشمائلها وآدابها(736/3)
رائحة غادية تحت عين. وكان حديث الفنان يحيي هذه الصور في نفس حياة جديدة، حتى كدت إخالنيأحدثها وأسمع وجع حديثها، وأرى الثياب الفضفاضة، والعمائم البيض، واللحى المرسلة، والسمت الوقور، والمشية الهادئة، وكأن كلل شيء قد أنقلب فجأةفصار ماضياً لم تمسخه يد الحضارة الغربية الحديثة، ولم تمح من بهائه وروائه ذلك الجمال الوديع اللطيف المطمئن القانع بالحياة كما شاء الله أن تكون.
ثم نزلنا من السيارة، وفتح لناباب القاعة التي صارت في عداد الآثار، فماكادت قدمي تطأ بلاطها الضخم حتى أحسست كأن قلبي ينتفض من فجاءة الذكرى، وكأني دخلت داري التي ألفتها وعشت فيها، وسمعت في أرجائها غمغمة الحديث وقهقهة الضحكات، والتي سعيت في نواحيها طفلاً وشاباً وكهلاً حتى نشأت لها في قلبي مودة لا تبليها الغربة، ولا تطمس آثارها الرحلة في أرجاء الدنيا، وتطارح الزمن المشت الفرق بين الأحباب والأحباب. ففي هذا المكان عهدتني أجلس على أريكة موشاة بالثياب المطرزة، وأستقبل هذه (الفسقية) الجميلة التي أراهافي وسط القاعة، مزينة أرضهابالرخام الملون المرسوم على أشكال تستريح إليها العين راحة لا يعدلها شيء من متاع هذه الأرض. ومن هذا المكان عهدتني أرى تلك الحلية الهائلة التي كأنها محراب الدهر، مصنوعة منمقة، قد أجلها وأدقها الصنع الماهرالذي لم يعبأ بالزمن كيف يمضي ويتصرم، بل كانكل همه أن يتقنالفن الجميل الثابت الذي يربك الإبداع في صورةحيةباقيةتشعرك بأن الحياة هي الاستمتاع بفن الحياة لا بأشياء الحياة. ومن هذا المكان كنت أرسل طرفي إلى القبة العالية التي تتوسط السقف كأنها هامة مفكرة كل أفكارها أحلام جميلة سامية لم تتدنس بالمطامع الدنية التي يكدح في سبيلها الإنسان على أديم هذه البسيطة.
وجعل صديقنا الفنان يحدثنا وهو يتدفق من نواحيه عن روعة هذا الذي نرى وعن جلاله وعظمته، وعن هذه الضخامة الهائلة في البناء، وكيف استطاع بانيها الفنان أن يحفظ النسب بين ضخامتها وبين سائر ما في القاعة كالأبواب وغيرها حتى لايشعر الإنسان بالرهبة والمخافة والارتياع، بل يشعره بأنه مالك هذا كله والمستولي عليه والمستمتع به، فهو يروض الفخامة والضخامة حتى تكون أليفة مستأنسة محبة إلى رائيها وصاحبها، فجعل الأبواب بين بين لا تطول قامة الرجل إلا قليلاً، ولم يجعلها هي أيضاً عالية ضخمة فخمة،(736/4)
فيحس المرء عندئذ بالقلة والذلة والغربة والوحشة في البيت الذي هو سكن النفس ومكان ارتياحها؛ وكنت أسمع هذا ونحواً منه، ولكن لم يأخذني منه شيء، فإني كنت أسمع همسات من هنا وهنا ومن ثم، هي همسات الآباء والأجداد تذكرني بما أضعناه من فن نحن أنشأناه وتعهدناه، وقمنا عليه وأتقنا دقيقه وجليله، ثم رحنا نستعير أشياء الناس نتشبع بها ونتصنع، على غير هدى ولا بصيرة ولا فن، وأكاد أقولولا حياة، فنحن أحياء ولا أحياء، لأننا نستعير حياتنا ولا ننشئها إنشاء، ونتزين بزينة سماوية نحن فيها كالصعلوك الأشعث الأغبر في ثياب ملك. كنت أسمع حديث الأسلاف، وأسمع في صوت صديقنا الفنان وهو يشرح ويبين بكاء وحسرات وتنهدات وآلاماً كأنه وقف يؤبن أعز أحبابه متجلداً خاشعاً بين أقوام لا يحسون ما يحسولا يشعرون ما يشعر به. إنه خليق أن ييأس، ولكنه يجاهد حتى ينتزع الأمل من بين دواعي اليأس، يريد أن يستنقذ الدرة المضيئة قبل أن تلفها الأمواج الطاغية العاتية وتذهب بها إلى حيث لا رجعة.
كنت كالمأخوذ لا أريد أن أفارق هذا الملك الذي أعيش في رحابه. إنها قاعة صغيرة، ولكنها اتسعت حتى رأيتها تشمل كل هذه الأرض المصرية لأن كلشيء فيها منتزع من طبيعة الأرض وجوها وسمائها وأيامها ولياليها واختلاف فصولها، ومن طبائع أهلها وشمائلهم ونوازع قلوبهم ومن كل شيء يقول أنا مصري عربي. وأخيراً فارقتها على رغم، ولم أدر حتى انتهينا أو انتهت بنا السيارة إلى قاعة أخرى أو أثر آخر بني بعد جيل من زمان هذه القاعة، فكان الفرق بيناً. فقد أخذ الضعف يغزو القوة، ولكن القوة أبت إلا أن تتبدى كما هي برغم هذه الطوارئ التي تنتابها أو تعمل فيها. فهاهنا أثر الضعف الإنساني إذا بدأ الإنسان يشعر بأنه غير حر وغير مريد للحرية، وإنه مروع في حياته بشيء لا يملك له دفعاً ولا رداً، فهو يتخاذل وكذلك يتخاذل فنه ويتخاذل بناؤه. وهو حائر لايدري مايأتي وما يذر، فإذا فنه حائر لا يدري ما يأتي وما يذر، وهو مختلط الإرادة، وإذا فنه مختلط يأخذ بأسبابها الأولى ولكنه لا يلبث أن يحيد عنها إلى شيء ليس منه ولا من خاص طبائعه. ومع كل ذلك فإن النفحة الخالدة لا تزال عالقة به تجعله قوة صريحة مصممة مريدة للبقاء.
ثم خرجنا إلى آخر أثر زرناه وهو (بيت السحيمي)، وهو بيت كامل - لا قاعة ولا جزء(736/5)
من بيت - وأخذنا نطوف في أرجائه ونواحيه، فهذه غرف الضيوف، وهذا مصلى الرجال، وهذا مكان الطعام، وهذه غرفة استقبال النساء، وهذه غرف النوم، وهذا مصلى النساء، وكلها موزعة على مساحة الأرض في الطابق الأسفل والأعلى على نظام هندسي فيه شيء من التحرر من أسر الهندسة الدقيقة، فتكاد تشعر بأن بانيه لم يكن يبالي أن يتقيد بشيء، بل يريد أن يكون حراً طليقاً يفضي من مكان إلى مكان كما يشاء له هواه. وكنت كلما دخلت منها مكاناً أحسست بشيء فيه يناديني، فلما دخلنا القاعة الأولى هتف بي الهاتف إلى الصلاة، فقمنا نصلي، فكأني ما صليت في دار قط سوى هذه الدار. إن في روح البناء إسلامية عجيبة، فيه ورع وصدق ومحبة وتخفف من ثقل هذه التكاليف الداعية إلى الكدح والطمع والعدوان، وفيه ألفة لم أحس بمثلها قط، ولم أشعر إلا يومئذ أن أصدقائي الذين معي هم أصدقائي لا معارفي، ألقاهم بوجه وأستدبرهم بوجه، ولم أجد إلا يومئذ تلك اللذة المنعشة بالأخوة تجمع بين الرجلين على اختلاف الدار والنشأة، وخفق قلبي خفقة كأنه يقول لعلال الفاسي: مرحباً بك من أخ جمعت بيني وبينه أخوة هذا الدين النبيل الذي جعل أهله أمة واحدة فكانت خير أمة أخرجت للناس.
ومضينا نطوف بالدار العجيبة، فكأني كنت أسمع حس أهلها وهم يتنادون، وأراهم وهم يسعون وأشهد إمائهم وعبيدهم وهم يطوفون عليهم، وأرى الضيوف وهم يتسامرون. فلما دخلت غرفة استقبال النساء، ورأيت الذوق اللطيف والنوافذ عليها المشربياتالدقيقة الصنع، والخزانات القائمة في الجدران بنقشها البديع، ورأيت (الصفة) التي يلمع رخامها وتتحلى بزينةمن رسومها الدقيقة وأعمدتها القائمة كأنها ساق غانية راقصة، ورأيت ذلك الزجاج الملون بالألوان الهادئة الناعمة، وهذا الجو الساطع بالغنى والنعمة، الساكن بالوقار والطمأنينة، الناعم بالرقة والجمال؛ عندئذ أخذني مثل الحلم فرأيت ربة الدار في حليها الأنيق وثيابها الموشاة، وضفائرها المرسلة. ووجه ينير في جنبات هذه القاعة بالنبل والكرم والحفاوة بضيوفه من الأصحاب والأحباب، وسمعت حديثهن المتخافت باللفظ المرقق والصوت الناعم المنغم، وانتهت إلى ضحكاتهن الحبيبة التي كأنها ابتسامة مشرقة من وراء نقاب. رأيت الماضي ينبعث كله بفضائله ورذائله، ورأيتني أعيش ساعة أتنسم نسمات من حياة أجدها في دمي، كما يجدها كل مصري وعربي في دمي، ولكننا كدنا ننساها بطول(736/6)
الترك وقلة العمل على استحيائها واستنقاذها واستعادتها، حتى نتعلم منها كيف نكون أحراراً في التعبير عن سر طباعنا الكامنة في أعماق قلوبنا وضمائرنا. إن هذا الفن الذي أوحت به حضارة لها أصول لا تزال قائمة في نفوسنا، وفي تربة أرضنا، وفي جو سمائنا - ينبغي أن ينبعث جديداً مرة أخرى بما يلائم حاجتنا، وبما يعنينا على تمييز أنفسنا بين الناس فلا ندخل في غمار حضارات الأمم التي لا يجمع بيننا وبينها وطن ولا دين ولا أدب ولا جنس ولا دم ولا شيء مما يتقارب به الناس أو يختلفون، وتمنيت عندئذ أن أفيق من أحلامي فأجدني قد رجعت إلى داري فإذا هي تنفحني بهذه النفحات التي تحيي النفس لأن فيها شيئاً من سر هذه النفس. فلما خرجنا من بيت السحيمي حقق الله طرفاً من هذه الأمنية.
لقد حملنا صديقنا الفنان إلى داره، وهي في عمارة كسائر عمارات القاهرة في ظاهرها، وهو يسكن منها شقة كسائر الشقق التي يسكنهاسائر المصريين، بيد إن المصريين يعيشون عبيداً لهذه الهندسة الغربية الغريبة عن بلادهم، ويسكنون فيها إلى أنماط من الحياة ليست وليسوا منها في شيء. أما هو فما كاد يفتح لي الباب حتى هبتتلك النفحة المسكرة من الماضي المنبعث حياً نابضاً كأحسن ما تنبض الحياة. لقد رفعت هذه الأبواب الحديثة الثقيلة ووضعت مكانها الستائر من النسيج العربي الشرقي بألوانه وتقاسيمه وفنه، ووضع مكان بعضها أبواب مشبكة، وأقيمت هنا وهنا المشربيات الدقيق، وبسطت الأرض بالبسط العربية الرسم المصرية الصنع، وهذه الأرائك والمناضد والقناديل وكل شيء يجعل البيت عربياً هادئاً مطمئناً في وسط هذه المعمعة الطاحنة الفوارة التي تسحق طباعنا، وتمسخ قلوبنا، وتحيل أذواقنا، وتجعلنا عالة على الأمم، نأخذ منها عارية لا تزيدنا حضارة بل تزيد بؤساً وشقاء وحيرة ونفوراً وقلقاً في هذه الحياة وفي هذه الأرض، وفي هذه الطبيعة التي تكتنفنا من حولنا، وفي هذه الطبائع التي تستولي على دخائلنا وضمائرنا.
هذا بيتي! هكذا قال لي قلبي، فاطمأننت وكان الصوم والتعب قد بلغا منا جميعاً، فأوينا إلى مضاجعنا، فلما قمنا إلى إفطارنا، وأضيئت القناديل (بالكهرباء) ورأيت ظلال الشبك على الجدران وطالعتني المشربية من ناحية البيت، رأيتني أحيا في هذا الغموض الهادئ بقلب جديد نابض مؤمل في الحياة، مستبشر راض عنها غير يائس منها. وتمنيت لكل مصري أن يقضي في الماضي يوماً من كل أسبوع حتى يجدد حياته، وحتى يتاح لنا بذلك أن نجدد(736/7)
لأنفسنا فناً وعيشة وسيرة وحضارة ليست مسلوبة ولا منتزعة ولا مستعارة من أحد من خلق الله، بل هي فتنتنا نحن وعيشتنا نحن وحضارتنا نحن، تألفها نفوسنا وقلوبنا، ويعرفنا الناس بها وتكون علماً علينا، وتدل على أننا نصنع الفن فنجيد، ونبني الحضارة فنبدع كما أبدع آباؤنا رضي الله عنهم. يوم واحد تعيشه في الماضي وتحس أنك قد عشته وتمليت بالعيش فيه، لهو ذخيرة لا تنقد تعينك على فهم طبيعة الأرض التي تسكنها، وعلى الوصول إلى كنه ما تنطوي عليه نفسك، وهو بعث للهمة الراقدة وإحياء للقوة الكامنة، وتحرير لنا من أسر التعبد للمدنية الغربية على غير هدى وفي غير طائل. يوم في الماضي يحرر المرء من أسر الحاضر، فإذا نالت النفس حريتها فهي خليقة أن تعرف طريقها إلى تحرير أمة من استعباد أمة أخرى، أرادت أن تفرض عليها إرادتها وحضارتها معاً. ونحن مقبلون على اليوم الذي ينبغي أن تملأ فيه قلوبنا حرية مستمدة من أصولنا البعيدة، لا حرية مستعارة من الأمم المعاصرة، فلترجع إذن إلى الماضي قليلاً، ففيه المدد الذي لا ينفد والمعين الذي لا يغيض.
محمود محمد شاكر(736/8)
على ثلوج (حزرين)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 3 -
ولو استجاب لهما الكون فثبت الفلك، ووقف الزمان، لكانا أسعد سعيدين عرفتهما الأرض، ولكن هيهات. . . فالفلك دوار، والزمان سيار، والأيام لا تستقر على حال، ورب يوم يحمل محض السعادة، يتبعه يوم يحمل محض الشقاء، ورب فرح بالولادة والموت مترقب على بابه، ومسرور بالوصل والهجر متربص على أعتابه، ولو كشف للناس الغطاء لضحك باك، وبكى ضاحك، واستحالت مآتم أفراحاً وأفراح مآتم.
لقد غابا عن الدنيا في عناق لذ تهون معه الدنيا وما عليها، وتدنو به الآمال حتى لا مأمل بعده إلا أن يدوم، ولكن الدنيا لا يدوم فيها شيء.
لقد وقف هذا الطفل الجبار، الذي ولد بلا حمل، ونما بلا زمن، يعبث بهما، هذا الطفل الذي اسمه الحب. . . فلما شبع من العبث، نام، وترك الفتاة لشياطين اللهو والترف والغنى تلعب بها، كما تلعب بكل فتاة في الدنيا، نام في صدرها الحب أو شبع.
ولقد كانت تستطيع أن تجمع الحب والغنى، والعاطفة والمال، لولا أن هذا الطفل كان (على جبروته) أعمى لا يبصر، أمسك بيد ليلي فانقادت له وهي لا تشعر، ثم جرها وهو يتلمس طريقه في الظلام حتى إذا وقعت يده على أول رجل لقيه، عقد قلبها بقلبه، عقداً شيطانياً بلا شرع ولا عقل، وقال لها: هذا هو الحبيب.
وكان أول رجل لقيه هاني، هاني الذي لا يستطيع أن يصعد إليها ليعقد له عليها عقد الشريعة والعرف، ولا تقدر أن تنزل هي إليه، ولولا أن سيدي الشيخ رحمه الله أشفق عليه فحمله معه، ما علقت به ولا علق بها، ولا كان هذا القيد الذي ألقاهما معاً في جحيم الدنيا.
أفرأيت كيف يعلق القدر سعادة الناس وشقاءهم بأوعى الأسباب؟.
حكمة إلهية تخفى عن إفهام البشر!
هذا هو الحب: ثوب براق تحمله المرأة وتمشي حتى تلقى رجلاً، فتخلعه عليه فتراه به أجمل الناس، وتحسب أنه هو الذي كانت تبصر صورته من فرج الأحلام، وتراها من ثنايا الأماني.(736/9)
مصباح في يد الرجل، يوجهه إلى أول امرأة يلقاها، فيراها مشرقة الوجه بين نساء لا تشرق بالنور وجوههن، فيحسبها خلقت من النور وخلقن من طين، فلا يطلب غيرها، ولا يهيم بسواها، لا يدري أنه هو الذي أضاء محيّاها بمصباح حبه.
خدعة ضخمة من خدع الحياة، خفيت عن المحبين كلهم من عهد آدم إلى هذا اليوم.
هذه هي حقيقة الحب، فلا تسمع ما يهذي به المحبون!
لقد قبضت ليلى على الحاضر، وهي عند الصخرة، واطمأنت عليه ففكرت في المستقبل، فقالت لهاني:
- ماذا تنتظر يا هاني! اذهب فاضرب في الأرض وعد إليّ غنياً قوياً، فاحملني معك إلى حيث تشاء.
- قال: كيف أفارقك يا ليلى؟ كيف أعيش بعيداً عنك وأنت حياتي؟ ولكن تعال نذهب معاً.
ولو سمعت هذه الكلمة قبل لحظات، قبل أن يشبع هذا (الطفل الجبار) وينام، لوثب قلبها إلى لسانها ليقول نعم، ولانطلقت معه إلى البحار لتخوضها، والجبال لتقطعها، ولكنها سمعتها والحب شبعان نائم، فقالت له:
وكيف نعيش يا هاني؟ ومن أين ننفق؟ أنام على بلاط الشارع؟.
وتصور هذا المصير الذي لا يرضاه لها، فذابت كبده رقة عليها، وقال لها:
- إذن أبقى معك، وأحتمل كل شيء من أجلك.
وسكتا، وتكلم في أذنها شيطان اللهو والترف، وغمز فؤادها فنظرت تحتها، فرأت أضواء تلمع في أوائل الليل تبدو من (عاليه) من بيت فارس أفندي طنوس الذي عاد إليها من أمريكا وفي جيبه نقد جديد لم يألفه أهلوها، وعلى جسده ثياب لم يلبسوها، وفي رأسه أفكار لم يعرفوها، ولمحت بريقاً وحركة فعلمت أنها حفلة من حفلاته الراقصة التي أرقصت أحاديثها صبايا الجبل وشبابه، وأغضبت مشايخه وكهوله، فاستطارت قلبها الرغبة في رؤيتها، وقالت:
- هذا ما أبتغي، هذا ما أريد، فتعال، تعال نرها من قريب وسحبته من يده وانطلقت به، يقفزان كغزالين روعهما الصياد، لا يشعران بقسوة الحجر، ولا بصعوبة المنحدر، ولا يبعد الطريق، حتى وصلا (عاليه) وكانت دار فارس أفندي التي بناها على الطراز الأمريكي(736/10)
أول دار فيها. فوقفا على صخرة أشرفا منها على الدار، وطفقا ينظران.
رأيا الأبهاء قد حفلت بنساء يلبسن الثياب الكواشف من الحرير، ورجال يلبسون السراويل الضيقة من (الجوخ)، وهم يرقصون متخاصرين حيناً متباعدين حيناً، ينقلون الخطى على رنات العيدان، وسجحات المزامير، ورأت الرجال يأخذون بأطراف أنامل الفتيات وهم يحنون لهن رؤوسهم، ويبدون إعجابهم فتخيلت نفسها في هذا النعيم، وتصورت هؤلاء الرجال ذوي السراويل الأمريكية الضيقة ينحنون لها، وقابلت في أعماق سرها بينهم وبين هاني، ثم طردت هذا الخاطر، وأبعدته عن حسها وحسبت أنها تخلصت منه، لم تدر أن (السوسة) بدأت تنخر جذع السنديانة الضخم!
- قالت: هلم ندخل.
- قال: ومن أين ندخل يا ليلى؟
- قالت: أريد أن ندخل. أريد أن ندخل
وألحت إلحاح الولد المدلل، فأطاعها، وهل يخالف العاشق معشوقه؟ إنه لا يستحق اسم العاشق حتى يرى كل نزوة للمعشوق حكمة بالغة، وكل رغبة فرضاً لازباً، وكل نقيصة كمالاً ما بعده كمال.
وتسلق الجدار، وهبط بها، فلم تكد تستقر على أرض الحديقة، حتى أحس بها كلبان كأنهما ذئبان، فوثبا إليها فأنشبا فيها أنياباً من حديد، ولم يستطع هاني دفعهما عنها، وأسرع القوم إلى الصوت، فرأوا المشهد، رأوا فتاة ناضرة الصبا، نقية الثياب، وفتى قذراً، فحملوها مكرمين، وأمروا الخدم بالقبض على (اللص)، فأمسكوا به ونزلوا عليه ضرباً حتى هدوه. . .
ثم جاؤوا به إلى البهو، وكانت على كرسي والخادمات يعالجن جروح قدميها، فاقترب منها فسألها أن تعود معه، فاعتذرت بعجزها، وزجره القوم، فقام بينهم فاستنزل اللعنة عليهم، وأوعدهم أنه سيرجع فيهدم هذه الدار على رؤوسهم، وبصق على الأرض وذهب. وبقيت هي في الدار التي كانت تحن إليها.
لا، لا تلمها إن فكرت في الترف، ومدت عينيها إلى متع المال، وهي عند الصخرة. محراب الحب الأقدس، وجرت هذا البلاء على حبيبها، فإنه لابد للحبيبين من مشغلة فإن لم(736/11)
يجدها، وظلا متعانقين العمر كله والحب بينهما، فإنه يختنق.
وكيف يعيش الحبيبان إن اقتصرا على حديث الحب؟ وهل في لغة الحب إلا: (أحبك) و (أحبك)؟ كررها عشرين مرة تتم. . . وهل في دنيا الحب غلا العناق والقبل؟ فهل تمضي الحياة تقبل وتعانق؟ ألا تمل؟ ألا تكل؟ ألا تجزع، ألا تجوع؟ ألا تظمأ؟ إن حياة كهذه خير منها السجن، وأحلى منها الموت، وأولى بالعاشق أن يفر منها ولو إلى سقر.
ذاقت ليلى في هذه الدار لذة الغنى، وعرفت متعة الترف، واستمرأت الرقص والغناء، وتخطرت في الثياب الغاليات، وأصغت إلى حفيف الحرير من أردانها، وإلى منمقات الألفاظ من القوم العلية من حولها، فتملك شيطان الترف روحها فأفسدها كما تفسد جراثيم السل أجساد الأصحاء، وشغلها بفقاقيع البحر من جواهره، وأبداها لها تلمع في أشعة الشمس فحسبتها أكرم من الجواهر وأغلى، وزاغت من بريقها عيناها فلم تعد ترى وجه الحب، ولم تعد تذكر الحبيب، ولبثت شهراً كاملاً تتقلب في الحرير، وتمشي على الذهب وهو ينام على الجمر، ويخطو على الشوك، حتى تم شفاؤها ولم يبق بد من عودتها إلى المنزل، فحملتها العربة الفخمة، تجرها الجياد المطهمة حتى بلغت بها الباب، فنزلت منها، وأقبلت على دنياها التي لم تكن تعرف غيرها ولا تطمح إلى سواها، فرأتها ضيقة مقفرة، وأحست بأن قلبها قد بقى في تلك الدار، فتمسكت بأسعد (ابن فارس أفندي) الشاب المهذب الأنيق الذي رافقها إلى منزلها، تتذكر به الشهر الذي مضى كأنه رؤيا منام.
وإنها لفي هذا الشعور، وإذا بهاني قد وقف أمامها بثيابه الوسخة ثياب الإسطبل، فابتعدت عنه، وضمت إليها ذيل ثوبها الأبيض، ولم تكن تعرفه من قبل إلا في هذه الثياب، ولكن الحب كان (صابوناً) يزيل اوضارها، وطيباً يذهب ريحها، وصبغة زاهية تفيض عليها، فأين الحب الآن؟ إنه نائم لم يفق بعد في قلبها، لذلك أنكرت هذه الثياب، وفرت منها، وأبدت الترفع والاستعلاء، ولم تذكر إلا إنها ابنة صاحب القصر، وأنه صبي لقيط سائس خيول يقابل أدبارها، ويرفع أقذارها، وتألمت لدخوله عليها أمام أسعد، ورأت في ذلك صغاراً لها في عينه وخاف أن يظن أنها ليست من طبقة الأكابر المتمدنين. . .
غضبت لعدوان هاني على كرامتها، وتخطيه قدره إلى محاذاتها، ولم ير هو فيها إلا الحبيبة قد لبست هذه الثياب التي تكشف مفاتنها التي يعبدها، وأبدت أعضائها التي يقدسها، لغريب(736/12)
عنها، فغضب للحشمة الجبلية أن يذهب بها هذا التكشف، وللحب أن يهينه هذا العبث، وقال لها:
- ما هذا؟
- قالت: وأنت من أذن لك أن تدخل عليّ؟
- قال: أنا. . . من أذن لي. . . يا ليلى؟
- قالت: لا أسمح لك أن تناديني باسمي لقد عدوت حدّك.
ودخلت الخادم فقالت لهاني:
- أمسك عربة أسعد أفندي.
- فصاح بها: ليمسكها هو.
وخرج مغضباً.
وقال أسعد: أنا لا أفهم ما صبرك على هذا الخادم القذر.
الخادم القذر؟ لقد كانت هذه الكلمة صرخة عالية أيقظت الحب النائم، فقالت له:
- أنا لا أسمح لك، إنه صديقي، لا أسمح لك، أخرج من داري، أخرج.
وتركته حيران مشدوهاً، وانطلقت إلى (صخرة الملتقى).
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي(736/13)
2 - حجة تاريخية
للدكتور جواد علي
لم يتمكن الغزاة أو المهاجرون الجدد من احتلال كل فلسطين فظل ساحل (فلسطية) بأيدي الفلسطينيين الذين جاءوا إلى هذا المكان مكن الخارج. ويقال إن أصل هؤلاء من (جزيرة كريت) وقد نزلوا في أيام الكنعانيين. وظلت أماكن أخرى بأيدي أصحابها القدماء، وقد كان الكنعانيون على ما جاء في التوراة منقسمين إلى أحد عشر سبطاً أو أكثر وكان من أشهرهم (اليبوسيون، والعموريون، والجرجاشيون والجوبون والفرذيون والعرقيون والسينيون والإرواديون والصماديون والحماثيون.
وقد اشتركت كل هذه الأسباط في مقاومة العبرانيين واتحدت مع الإمارات الأخرى في طرد العبرانيين وفي الدفاع عن أرض فلسطين من هجمات الأمم القوية كالآشوريين والبابليين. وقد عثر في هيكل الكرنك في أرض الصعيد على جدول مثلث لمدن كنعان يتضمن ذكر 1118و119 مدينة يظن أنها المدن التي افتتحها (تحتمس الثالث) قبل أيام يشوع أي قبل مجيء الإسرائيليين.
كان الإسرائيليون على جانب عظيم من البداوة عند دخولهم (أرض كنعان) وكانوا في درجة واطئة من الحضارة والثقافة بالنسبة إلى الكنعانيين ولذلك تأثروا عند مجيئهم إلى هذه الأرض بالثقافة الكنعانية ولا سيما أولئك الذين قيل لهم (الإسرائيليون) وهم الذين سكنوا في الشمال واتصلوا في بالفينيقيين وتأثروا بهم وعبدوا الإله (بعل) بدلاً من إلههم (يهود) إله التوحيد. أما أولئك الذي سكنوا المنطقة التي عرفت فيما بعد باسم (مملكة يهودا) فإنهم ظلوا على فطرتهم الأولى وعلى جانب من البداوة وقد كان هذا الاختلاف الثقافي من عوامل الانقسام الذي حدث في أيام الملك (رحبمام).
قيل لليهود (العبرانيون) وفي اللاتينية وقد أخذت هذه الكلمة من (عبراية) الآرامية. وهذه من (عبرى). أو (عبريم) الواردة في التوراة والتي كانت تطلق بصورة عامة على (بني إسرائيل) ' أي (أبناء إسرائيل).
وقد أطلق الكنعانيون كلمة (العبرانيين) على المهاجرين الذين كانوا يدعون أنهم من صلب (إبراهيم) (إبرام) لتكون لهم علامة فارقة ولتدل على إنهم من الشعوب الغريبة الطارئة(736/14)
على الكنعانيين.
أما النظرية اليهودية فتقول أنهم إنما سموا (عبرانيين) لعبورهم نهراً أو لقطع حد (أي عبورهم من جهة إلى جهة أخرى. . . عبرها - ناهار) - أي (عبور النهر إلى الجهة الثانية منه) ويظن إن المقصود من (النهر) نهر الفرات الذي عبره عند (حاران)
ويقال للأرض التي خرج منها إبراهيم وناحور (آرام النهرين) - ويرى العالم (سايس) أن معنى الكلمة (تجار) لأنهم كانوا يعبرون نهر الفرات لأغراض تجارية).
ويرى بعض العلماء أن كلمة (عبرانيين) من (عابر) وهو حفيد (سام بن نوح). ولعابر على ما جاء في جدول أنساب التوراة أولاد ولهؤلاء أولاد أيضاً وقد تكونت من ذريتهم قبائل وعشائر. ويرى بعض علماء التوراة أن هذه الأسماء هي أسماء مواضع جغرافية تقع فيها بين النهرين وأن الموطن الأصلي التي انحدرت منه الشعوب السامية هو منطقة (أرآرات) انحدرت منه إلى شمال العراق ثم إلى الجنوب فسائر الأنحاء.
على كل فقد رأيت أن موطن العبرانيين على ما جاء في التوراة وهو كتاب اليهود المقدس كان خارج فلسطين وأن (إبراهيم) الخليل وهو الجد الأعلى للعبرانيين لم يكن من أهل فلسطين بل كان من العراق على ما جاء في التوراة ثم انتقل إلى أرض كنعان فسكن بين الكنعانيين حيث تكونت له ذرية. ثم استرق المصريون الإسرائيليين إلى أن تمكنوا من الخروج من مصر بزعامة (عيسو) حيث اتجهوا نحو الشرق إلى أراضي كنعان.
وتفند أسفار التوراة دعوى اليهود في أرض كنعان أو (أرض فلسطين) كما دعيت فيما بعد. فسكانها القدماء على ما جاء في التوراة هم الكنعانيون وذلك قبل مجيء العبرانيين بآلاف السنين. واليهود حسب رواية اليهود هم مهاجرون جاءوا إلى أرض فلسطين وعاشوا مدة عيشة (عشائرية) إذ كان يحكم كل عشيرة منهم (قاض) هو شيخ العشيرة وحاكمها؛ ولذلك عرف الدور الأول من أدوار اليهود في فلسطين باسم (دور القضاة).
وأما الذين جاءوا من مصر وهم من نسل (يعقوب) فإنهم كانوا قد استعبدوا في أيام الفراعنة بعد أن غادر (يعقوب) أرض فلسطين ونزح إلى مصر حيث تكاثرت ذريته هناك وتولوا مراكز سياسية ولم يفكروا في العودة إلا بعد أن ساءت حالتهم هناك وبعد أنم استرقهم الفراعنة؛ عندئذ فكروا في الهجرة إلى مكان جديد فلم يجدوا محلاً آمناً غير فلسطين وقد(736/15)
جاءوا بعدد قليل وعلى دفعات فلم يتمكنوا من الدخول إليها عنوة ولم يتمكنوا من قهر أهل أرض كنعان والتغلب على الكنعانيون ويظهر ذلك بكل وضوح من أقوال التوراة.
ووردت في التوراة بعض الشهادات التي تفند مزاعم الصهيونية تماماً فما ورد فيه إن الشعب الذي يسكن في هذه الأرض كان على جانب عظيم من الحضارة وأن العبرانيين كانوا على العكس على جانب كبير من البداوة. (ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي خلف لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وآبار محفورة لم تحفرها، وكروم وزيتون لم تغرسها؛ وأكلت وشبعت، فاحترس لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية).
فهذه شهادة عبرانية واردة في أقدس واقدم كتاب عند العبرانيين وهو الكتاب الذي استشهد به اليهود في إثبات حقهم في فلسطين؛ هي شهادة تتكلم بكل وضوح عن بداوة العبرانيين وانحطاطهم بالنسبة إلى (الكنعانيين) سكان فلسطين القدامى.
وهناك شهادة أخرى تلفت الأنظار حقاً وهي تشرح لنا حالة اليهود عند محاولتهم الدخول إلى فلسطين ودرجة انحطاطهم وحالتهم البدائية وقلة عددهم كذلك ومقدار تفوق الشعوب الأصلية على اليهود. فها هو إله إسرائيل يخاطب (موسى) فيقول (أرسل هيبتي أمامك وأزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم وأعطيك جميع أعدائك مدبرين، وأرسل أمامك الزنابير فتطرد الحوبين والكنعانيين والحثيين من أمامك، لا أطردهم في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة فتكثر عليك وحوش البرية، قليلاً قليلاً أطردهم من أمامك إلى أن تثور وتملك الأرض. فهذه شهادة تشرح حالة اليهود عند مجيئهم إلى فلسطين وقلة عددهم وانحطاط مستواهم الثقافي والمدني بالنسبة إلى شعوب فلسطين وهي شهادة لا تصلح أن تكون حجة في صالح اليهود.
لم يتمكن اليهود من تثبيت أقدامهم في المناطق التي استولوا عليها من فلسطين إلا بعد مدة طويلة ولم يكن ذلك إلا بعد اتخاذ طرق مختلفة منها التزاوج ومناه التبشير بالديانة اليهودية ولم يتمكنوا من تشكيل حكومة بالمعنى الحديث المفهوم من كلمة (دولة) إلا لمدة قصيرة جداً وتحت عوامل ضغط شديدة؛ ولم تعمر هذه الدولة طويلاً بل عاشت منذ عهد (شاوؤل) في(736/16)
سنة 1020 قبل المسيح وهو أول ملك تولى الملك عند العبرانيين وانتهت مع حكم سليمان حوالي سنة 930 قبل المسيح أي أنها عاشت فقط بجهود شاوؤل وداود وسليمان. فلما مات سليمان وانتقل الملك إلى ابنه (رحبمام) وكان ضعيفاً انقسمت المملكة إلى قسمين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل.
هذا هو عمر الدولة العبرانية الموحدة التي يتغنى بها الصهيونيون. ومما يستحق الالتفات كذلك أن ملوك هذه الدولة لم يكونوا ليتمكنوا من تكوين دولتهم هذه لولا المساعدات الخارجية التي كانت تصل إليهم من الأمراء الفلسطينيين عن طريق التقرب والصداقة. فهذا (داود) وكان من قواد الملك شاوؤل ينتهز الفرصة فيتحالف مع ملوك الفلسطينيين للإيقاع بالملك شاوؤل ليتولى بنفسه الحكم، فلما تولى الحكم لاقى مصاعب كبيرة في سبيل التوفيق بين (إسرائيل) ويهوذا، لما كان بين الطرفين من تباعد بسبب الاختلاف في درجة الثقافة والحالة الاجتماعية؛ ولم يتمكن داود من تعمير قصره في القدس إلا بمساعدة الفينيقيين والفلسطينيين بل حتى والعرب الذين كانوا على اتصال باليهود كما يفهم ذلك من التوراة وكذلك في أيام سليمان.
وإذا استعرضنا تاريخ المملكتين الصغيرتين اللتين تكونتا فيما بعد نجد أن العبرانيين لم تكن لديهم فكرة (حكومية) بل كانت عندها فكرة (دينية) هي الغالبة على كل شيء وكانت هي من عوامل انقسام العبرانيين كذلك. ولذلك نجد قتلاً واغتيالاً وثورات على الملوك وطلب نجدات من الأمراء الوطنيين ومن الحكومات التي كانت في العراق أو في سوريا أو في مصر للاستعانة بها على محاربة ملوكهم. وكان رجال الدين في طليعة الثائرين على الحكام عند ظهور أقل شيء منهم يدل على أنهم يريدون الانتقاص من نفوذهم أو ميلاً إلى التجدد أو الأخذ بأساليب الثقافة التي كانت عند الكنعانيين أو الفينيقيين، حتى آل ذلك إلى سقوط مملكة إسرائيل وعاصمتها (السامرة) سنة 722 ثم سقوط القدس على أيدي البابليين سنة 586 قبل الميلاد.
جواد علي(736/17)
الخلان والزمان
بين أبي فراس والبارودي
للأستاذ محمد محمد الحوفي
تمهيد:
1 - نفسية الأديب هي الشاعرة أو الناثرة؛ فهي أحق بالدراسة حين تريد أن تفهم الآثار الأدبية للشاعر أو الكاتب.
2 - المقارنة المفصلة الشاملة بين الآثار الأدبية طريقة طريفة مشوقة، تميز الجيد من الرديء، وترينا نوع العلاقة بين الأديب اللاحق والأديب السابق.
3 - وعن طريق هذا الأدب النفسي المقارن، سنعمد إلى تفهم أبي فراس والبارودي إذ وجدنا بينهما تشابهاً عجيباً في نواح كثيرة.
4 - أبو فراس الحمداني: من آل حمدان ملوك حلب، ولد 320هـ وتوفى 357.
ومحمود سامي البارودي: من سلالة المماليك بمصر، ولد 1255هـ وتوفي 1327.
الخلان
تركت أبي طفلاً وكان أبي ... من الرجال كريم العود ناضره
هذا بيت لأبي فراس، وهو صورة لقلب آس دامع، ودليل على يتم مبكر شعر بهوله ذلك اليافع؛ فماذا عسى أن يكون هذا اليتم في نفس أبي فراس وفي تفكيره وفي عبقريته؟
خلفه أبوه في الثالثة من عمره، فشب أبو فراس في حضانة أمه، وتلقن منها ذكريات العزة والبسالة التي آثرت عن أبيه.
وما ظنك بطفل أول ما يدرك يعرف أن أباه إنما عاش محارباً ومات محارباً! إن هذا الناشئ لابد أن ينطبع على شيعة أبيه فينشأ بازلاً باسلاً، ولا سيما أنه في بيئة بني حمدان، وطابعهم كلهم النزال والصيال.
ثم ما ظنك بصبي يتيم ينشأ في وسط أبناء عمه من الأمراء الذين لم ييتمهم الزمان؟ إنه يرى هؤلاء الأبناء من حوله مدللين مكرمين مغمورين بعطف آبائهم، محظوظين برعايتهم، ويرى الناس يجاملون أولئك الأبناء، ويعطفون عليهم؛ رعياً لمكانة آبائهم، وتزلفاً لهؤلاء(736/18)
الآباء الأمراء.
أما أبو فراس فمن يعوضه عطف أبيه، وأي الناس يلاعبه ويناغيه، في حين أن لا أب له يتزلف إليه الناس بالعطف على ابنه.
وإذن فقد نشأ أبو فراس شاعراً بنوع من النقص - والشعور بالنقص أول مراتب الكمال - فلابد أن تدفعه الطبيعة إلى استكمال ما نقص، فينشأ فارساً أي فارس.
ولابد كذلك أن يعتز بكرامته وشرفه، ويفخر بنفسه وأهله وأبيه حتى إنك تراه لا ينسى هذا الفخر، وإن كان يعاني كرب الأسر.
فها هم أولاء آباؤه مغاور، يقدمون حين يحجم القساور، ومن ورائهم شهب ثواقب، وهو أثقبهم شهاباً، وأحماهم ضراباً:
أنا ابن الضاربين الهام قدما ... إذا كره المحامون الضرابا
ألم تعلم ومثلك قال حقا ... بأبي كنت أثقبها شهابا
وها هو ذا يستحث سيف الدولة على فدائه، بأنه نسيج وحده في المعالي، وفي الذود عن حمى أسرته:
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى ... شديداً على البأساء غير ملهد؟!
فإن تفتدوني تفتدوا لعلاكم ... فتى غير مردود اللسان ولا اليد
يطارد عن أحسابكم بلسانه ... ويضرب عنكم بالحسام المهند
ثم يستحثه بأن الإسلام لا يستغني عن حراسته:
فإن لم يكن ود قريب نعده ... ولا نسب دون الرجال قراب
فأحوط للإسلام ألا يضيعني ... ولي عنك فيه حوزة ومناب
وهو يقرع عشيرته بأنه بازلها الذي يحميها، وهو ذؤابة أشرافها وأعاليها:
تمنيتم أن تفقدوني وإنما ... تمنيتم أن تفقدوا العز أصيدا
أما أنا أعلى من تعدون همة ... وإن كنت أدنى من تعدون مولدا
وهو سيد قومه وعمدتهم:
منعت حمى قومي وسدت عشيرتي ... وقلدت أهلي من هدى القلائد
خلائق لا يوجدن في كل ماجد ... ولكنها في الماجدين الأماجد(736/19)
وإنه في أسره ليحزنه أن تمر به الليالي آمنة ساكنة لا يغير فيها ولا يجير:
تمر الليالي ليس للنفع موضع ... لدي ولا للمستقين جناب
ولا شد لي سرج على ظهر سابح ... ولا ضربت لي بالعراء قباب
ولا برقت لي في اللقاء قواطع ... ولا لمعت لي في الحروب حراب
وهكذا نجد ديوانه مليئاً بشعر الفخر والاعتزاز بالكرامة، وهذا كما قلنا طبيعة نشأها فيه اليتم المشعر بالنقص، الحافز إلى الكمال.
وقد جر أبو فراس البلاء على نفسه بسبب عبقريته الحربية: فالناس في كل زمان يحقدون على العباقرة، ويتمنون لهم كل فاقرة. وإن عشيرة أبي فراس وأقرانه ليعجبون! ما لهذا اليتيم يبز أبناء عمه ممن تربوا في رعاية آبائهم، وتلقوا عنهم دروس النزال والصيال، ثم ما له يخنق صيتهم بصيته، ويعفى على آثار سيوفهم بصليته، مع أنه - إلى يتمه - ليس أغناهم مالاً؟!
لابد إذن أن يأكل الحقد صدور هؤلاء الناس، وأن يفرحوا بكل سيئة تصيب أبا فراس.
كما جر أبو فراس على نفسه البلاء بسبب فخره وتعاليه، وغلوه في اعتداده بنفسه، فالناس إن حقدوا على العباقرة فهم أحرى بالحقد على المتحدثين عن أنفسهم، الفخر بأعمالهم وأحسابهم، ولا سيما إذا كان الفخر من مثل أبي فراس، هذا اليتيم الذي لم يسمع من أبيه كلمة مجد أو عزة، وأي الناس لا يحقد عليه، ولم يدع لغيره فضلاً، وكرر دعواه بأنه سيد عشيرته، وألمع شهاب في سماء أرومته.
وقد كان أسر أبي فراس محكاً ميز أصدقاءه الأوفياء من غيرهم فقد حسب الذين كانوا يدارونه أن لا فداء له، ولا غناء فيه، فكشفت هذه الشدة خفاياهم، وكذبت ألسنتهم ومراياهم.
وبعد:
فليس بدعاً من أبي فراس بعد ما قدمنا أن يشغل بالتحدث عن الصداقات والصحاب والحساد والمرائين، في كل مناسبة، ولا سيما مدة أسره. وقد قرر هو بعد التجربة أن الدنيا خلو من الصديق الوفي الذي يرضيك ما ظهر منه وما خفي.
وها هو ذا قد خبر أصحابه، فرأى أنهم كلهم عبيد المنفعة، وأنهم يضرون ولا ينفعون، حتى أصبح الخليل هو من يبتعد عنك حتى لا يضرك:(736/20)
تناساني الأصحاب إلا عصيبة ... ستلحق بالأخرى غداً وتحول
وإن الذي يبقى على العهد منهم ... وإن كثرت دعواهم لقليل
أقلب طرفي لا أرى غير صاحب ... يميل مع النعماء حيث تميل
ومنها ترى أن المتارك محسن ... وأن خليلاً لا يضر خليل
تصفحت أقوال الرجال فلم يكن ... إلى غير شاك في الزمان وصول
أكل خليل أنكد غير منصف ... وكل زمان بالكرام بخيل؟!
والناس في نظره ذئاب في ثياب فلا تتخيل أن كل الملاطفين صحاب
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحر الكريم صحاب
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ... ذئاباً على أجسادهن ثياب
وهو يتحسر في أسره على صاحب فرد، لا يريم عن وده، وإن تتنكر الزمان وأشتد:
أما ليلة تمضي ولا بعض ليلة ... أسر بها هذا الفؤاد الموجعا
أما صاحب فرد يدوم وفاؤه ... فيصغي لمن أصغى ويرعى من رعى
وفي كل دار لي صديق أوده ... إذا ما تفرقنا حفظت وضيعا
وليس بدعاً كذلك من أبي فراس وقد شام الغدر في الناس أن يكون أول ما يمتدح به الوفاء، فها هو ذا يقول لصاحبه أبي الحصين وقد كان من أوفيائه:
أبا حصين وخير القول أصدقه ... أنت الصديق الذي طابت مخابره
أين الخليل الذي يرضيك باطنه ... من الخليل الذي يرضيك ظاهره
وكذلك يمتدح نفسه بأنه يسار صديقه بعيبه، ويجهر أمام الناس بفضله وحبه:
وإذا وجدت مع الصديق شكوته ... سراً إليه وفي المحافل أشكر
ويقول لأبي زهير ابن عمه:
ابن عمي إني على شحط دار ... والقريب المحل غير قريب
صادق الود خالص العهد أن ... س في حضوري محافظ في مغيبي
وفي توديع أبي الحصين صديقه يقول:
يا من أصافيه في قرب وفي بعد ... ومن أخالصه إن غاب أو شهدا
أضحى وأضحيت في سر وفي علن ... أعده والذي إذ هدني ولدا(736/21)
وليس معيار الصداقة عند أبي فراس وعند أحرار الناس، أن يغدق الصديق على صديقه عطاياه، أو يمطره إطراء عندما يراه ولكن هو الذي يصون الغيب، ويصفو على البعد والقرب، والأصدقاء بهذا المعنى أعزاء قلة؛ ومن ينبئك عن حقيقة الصحاب غير أبي فراس وقد خبرهم:
أعيا على أخ وثقت بوده ... وأمنت في الحالات عقبى غدره
وخبرت هذا الدهر خبرة ناقد ... حتى أنست بخيره وبشره
لا أشتري بعد التجارب صاحباً ... إلا وددت بأنني لم أشره
ويجيء طوراً ضره في نفعه ... جهلاً وطوراً نفعه في ضره
وأحب إخواني إلي أبرهم ... لصديقه في سره أو جهره
وإنه ليعرف الصداقة والعداوة تعريفاً جديداً استمده من تجاربه، كما يعرف (القريب) و (الغريب):
أشد عدو بك الذي لا تحارب ... وخير خليلك الذي لا تناسب
لقد زدت بالأيام والناس خبرة ... وجربت حتى هذبتني التجارب
فأقصاهم أقصاهم من إساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
ولا أنس دار ليس فيها مؤانس ... ولا قرب أهل ليس فيهم مقارب
وتبعاً لهؤلاء الحساد الكلاب، يتلفتون ليتأكدوا أن أبا فراس غاب، ثم يسلقونه بألسنة حداد؛ ولكنه يعتبر هذا شرفاً له؛ فإنما يحسد ذو النعمة:
ومضطغن لم يحمل السر قلبه ... تلقت ثم اغتابني وهو هائب
تردى رداء الظل لما لقيته ... كما يتردى بالغبار العناكب
ومن شرفي ألا يزال يعيبني ... حسود على الأمر الذي هو عائب
رمتني عيون الناس حتى أظن - ها ستحسدني في الحاسدين الكواكب
ولست أرى إلا عدواً محارباً ... وآخر خير منه عندي المحارب
فهم يطفئون المجد والله واقد ... وهم ينقصون الفضل والله راهب
ويرجون إدراك العلى بنفوسهم ... ولم يعلموا أن المعالي مواهب
وقد كان حرصه على غيظ الحساد مشجعاً له على تجلده في الأسر:(736/22)
وإني لمجزاع ولكن همتي ... تدافع عني حسرة وتغالب
ورقبة حساد صبرت اتقاءها ... لها جانب مني وللحزن جانب
(يتبع)
محمد محمد الحوفي(736/23)
العلاقات الدبلوماسية الجديدة بين إندونيسيا وهولندا
(بمناسبة عرض القضية على مجلس الأمن)
للأستاذ محمد جنيدي
في 17 أغسطس سنة 1945 - أعلن الإندونيسيون استقلالهم السياسي التام وقيام حكومة جمهورية ترعى كيان الوطن. وتحفظ حقوق الشعب. وانتخب الزعيم الإندونيسي الشهير الدكتور سوكارنو رئيساً للجمهورية. ثم ناشد الدول العظمى الاعتراف بها كدولة مستقلة ذات سيادة تامة.
إذن. . . لقد دخلت إندونيسيا في عهد جديد. فقد تحررت من الحكم الهولندي ومن الاحتلال الياباني.
وفي شهر سبتمبر سنة 1945 - تدفقت القوات الإنكليزية التي تمثل القوات المتحالفة إلى إندونيسيا لتجريد أسلحة القوات اليابانية وتسريح المعتقلين الأوربيين. وتولى قيادتها اللورد مونتباتن. وقد انحشرت القوات الهولندية في القوات الإنكليزية لتقوم باستعادة إندونيسيا وإرجاعها إلى حظيرة الاستعمار الهولندي. وقد دارت رحى الحرب بين القوات المتحدة والفرق الإندونيسية المجاهدة. واستمرت هذه الحرب دائرة حتى 17 نوفمبر سنة 1946 - ذهب خلالها ثلاثة ملايين إندونيسي.
وفي سبتمبر سنة 1946 - ظهرت القوات الهولندية في بعض المدن الإندونيسية، فعبثت بالسلام؛ ثم اصطدمت مع القوات الإندونيسية في معارك عنيفة لم تنته حتى الآن. وأن معارك (موجوكارنو) الأخيرة تدل على أن الحكومة الهولندية تريد خلق اضطراب في أداة الحكومة الإندونيسية في جميع ولاياتها ومناطقها وإساءة سمعتها في الدوائر السياسية العالمية.
ومضى الزمن مسرعاً طاوياً في أعماقه الصفحة الأخيرة من صفحات الاستعمار الغربي.
وهناك الرقباء ومندوبو الدول الشرقية والغربية يراقبون ثم يقررون دقة السياسة السلمية والحربية الإندونيسية، وانتشار الروح الديمقراطية بين الشعب وانتظام الحياة الاقتصادية في أنحاء الجمهورية. فتضطر الحكومة الهولندية إلى إشعار ممثلها الدكتور فان موك بإجراء محادثات سياسية مع زعماء الجمهورية للوصول إلى نتيجة مرضية لها. وفي 31(736/24)
أكتوبر سنة 1945 اجتمع ممثلو الجمهورية الإندونيسية مع ممثلي الحكومة الهولندية بمدينة جاكرتا (بتافيا) وترأس مندوبي الحكومة الإندونيسية الدكتور أمير شريف الدين رئيس الوزارة الإندونيسية الحالي واشترك معه الدكتور محمد حسني نائب رئيس الجمهورية والدكتور أحمد سوبارجو وزير الخارجية الإندونيسية السابق والحاج أغوس سالم وزير الخارجية الإندونيسية الحالي كما ترأس مندوبي الحكومة الهولندية الدكتور فان موك. وحضر معه المستر فاندر فلاس، والمستر ايدنبورخ، وحضر الاجتماع أيضاً المستر مايرلاي ممثلاً للورد مونتباتن.
بحث في هذا الاجتماع الحالة السياسية الإندونيسية. ثم عرض الدكتور فان موك (الحكم الذاتي) لإندونيسيا فرفضه المفاوضون الإندونيسيون. وانفض عقد الاجتماع.
وفي 16 نوفمبر سنة 1945 - طلب ممثل الحكومة الهولندية من الحكومة الإندونيسية للدخول في مفاوضات أخرى لبحث المسائل السياسية المعلقة بين إندونيسيا وهولندا. واجتمع ممثلو الحكومتين الإندونيسية والهولندية. وكان رئيس ممثلي إندونيسيا الدكتور سودان شاهرير رئيس الوزارة الإندونيسية السابق، ورئيس ممثلي هولندا الدكتور فان موك. وفي هذا الاجتماع عرض الدكتور فان موك نظام (الدومنيون) لإندونيسيا فرفضه ممثلو الحكومة الإندونيسية.
ومضى الزمن مسرعاً طاوياً في أعماقه الصفحة الأخيرة من صفحات الاستعمار الغربي.
وفي يناير سنة 1946 - أثار الدكتور مانوليكي مندوب أوكرانيا المسألة الإندونيسية في مجلس الأمن الدولي شارحاً لمندوبي الدول المتحدة خالة الجمهورية الإندونيسية ومدى اشتداد القتال فيها بين القوات الهولندية والبريطانية متحدة، والقوات الإندونيسية، وطلب إرسال لجنة تحقيق دولية إلى إندونيسيا للوقوف على حالة الجمهورية الإندونيسية، والتحقيق عن أسباب القتال. فرفض ممثلو هولندا وبريطانيا طلبه، كيلا ينكشف عملهما الحربي. ثم أسدل الستار على المسألة الإندونيسية. وقد استفادت إندونيسية من عرض أوكرانيا لمسألتها فائدة كبرى إذ عرف العالم ماذا يجري فيها، وما هو موقفها، وسياستها السلمية، إزاء العدوان الاستعماري المتحد.
وفي فبراير سنة 1946 - بعثت الحكومة البريطانية سفيرها في موسكو السير ارشيبالد(736/25)
كلارك كير إلى إندونيسيا للاشتراك في المباحثات السياسية بين ممثلي هولندا وإندونيسيا.
وفي 10 فبراير سنة 1946 - عقد ممثلو الحكومتين اجتماعاً بدار السير ارشيبالد بجاكرتا. وفي هذا الاجتماع قدم الدكتور فان موك المشروع الذي وضعه مشتركاً مع المستر اتلي في لندن إلى ممثلي الحكومة الإندونيسية. ويحتوي على خمس عشرة مادة وهو مشروع يخول لإندونيسيا إنشاء (كومونويلث) على غرار الحكومة الأسترالية؛ فرفضه ممثلو الحكومة الإندونيسية قائلين لممثلي هولندا (إننا لن نقبل غير اعتراف حكومتكم باستقلال الجمهورية الإندونيسية التام) ثم انفض الاجتماع وأسفر عن رفض الحكومة الإندونيسية لمشروع الحكومة الهولندية.
ومضى الزمن مسرعاً طاوياً في أعماقه الصفحة الأخيرة من صفحات الاستعمار الغربي. . .
وفي 30 مارس 1946 - قدم الدكتور فان موك مقترحات أخرى لرئيس الحكومة الإندونيسية.
وفي أول إبريل سنة 1946 - رد الدكتور شاهرير على مقترحات فان موك بشأن العلاقة الجديدة بين هولندا وإندونيسيا ثم سافر وفد دبلوماسي إندونيسي إلى هولندا مكون من الدكتور سواندي رئيساً والدكتور سودارسونو والدكتور عبد الكريم فرينغديغديغو أعضاء لشرح غاية استقلال الجمهورية الإندونيسية للحكومة الهولندية. وقد كانت الحالة السياسية في هولندا مضطربة في ذلك الظرف، لسياسة الحكومة الهولندية المتطرفة إزاء الحكومة الإندونيسية، فالشعب الهولندي يريد السلم والاتفاق مع الشعب الإندونيسي ولكن المستعمرين الرأسماليين منهم أمثال المستر (وولتر) وزير المستعمرات الهولندية السابق يريدون التشدد في بقاء السيادة الهولندية على إندونيسيا. بعد أن أعلنت للعالم حريتها واستقلالها.
هذه مراحل المباحثات السياسية بين إندونيسيا وهولندا وقد ظهر منها أن الحكومة الهولندية قد عرضت على الحكومة الإندونيسية المستقلة أنواعاً من الحكومات بعد أن يئست من الوصول إلى استعادة سيادتها على إندونيسيا. . . وهذه الحكومات هي. . (1) الحكم الذاتي (2) الدومنيون (3) الكومونويلث وقد رفضتها إندونيسيا لأنها متمسكة باستقلالها التام.(736/26)
ومضى الزمن مسرعاً طاوياً في أعماقه الصفحة الأخيرة من صفحات الاستعمار الغربي. . . وفي 17 نوفمبر 1946 اجتمع ممثلو الحكومة الإندونيسية والهولندية واشترك معهم ممثلي الحكومة البريطانية اللورد كايرن. وفي هذا الاجتماع اتفق الطرفان الإندونيسي والهولندي على عقد اتفاق سياسي بين حكومتيهما يوضح علاقة كل منهما بالأخرى. ثم وضعا مواد الاتفاق، وعرف هذا الاتفاق باسم (اتفاقية لنجرجاتي) وهي تحتوي على سبع عشرة مادة ونحن نقدمها للقارئ العربي ليعرف مدى السيادة الإندونيسية على إندونيسيا وعلاقة إندونيسيا بهولندا في المستقبل.
نص الاتفاق السياسي بين إندونيسيا وهولندا المتفق عليه في
17 نوفمبر 1946
المادة الأولى: تعترف الحكومة الهولندية بسلطة الحكومة الجمهورية الإندونيسية على جزيرة جاوا وسومطرا ومادورا وتضم المدن التي تحتلها القوات المتحدة والقوات الهولندية الداخلة في نطاق هذه الجزائر إلى الحكومة الجمهورية الإندونيسية قبل أول يناير 1949.
المادة الثانية: تتعاون الحكومتان الهولندية والإندونيسية على إنشاء دولة حرة ذات سيادة تامة تسمى (دولة إندونيسيا المتحدة)
المادة الثالثة: تتكون دولة إندونيسيا المتحدة من جميع أراضي جزر الهند الشرقية ما عدا الأراضي التي تقرر ذلك. فسننشئ لها علاقة خاصة مع الحكومة الإندونيسية وهولندا.
المادة الرابعة: تنشأ دولة إندونيسيا المتحدة على النظام الديمقراطي.
المادة الخامسة: القسم الأول. إن قانون دولة إندونيسيا المتحدة تقرره هيئة خاصة لتنظيمه. حسب القواعد الديمقراطية الصحيحة. وهذه الهيئة مكونة من ممثلي الحكومة الإندونيسية وأعضاء الولايات المنضمة في الدولة الإندونيسية المتحدة، وملاحظة ما يشير إليه القسم الثاني من هذه المادة.
القسم الثاني: إن إنشاء هذه الهيئة يكون باشتراك ممثلي الحكومة الجمهورية وممثلي الولايات. ويسمح أيضاً بالاشتراك في هذه الهيئة لطبقات الشعب التي لم يتم لها وكلاء يمثلونها في هذه الهيئة.(736/27)