لو كانت اللمة السوداء من عددي ... يوم الغميم لما أفلت أشراكي(713/35)
من بودلير
أوهام.
للأستاذ محمد علي مخلوف
نسيت وفي أحداث يومي ما ينسي ... فلا تذكري ما كان مني بالأمس!
أجل كنت ريان الجوانح بالمنى ... وكنت قرير العين أنعم بالأنس
هي الموجة. . . الفرحى تضل طريقها ... إلى القلب في ألفاف موج من البؤس
أنا الشاعر الحيران في عالم الرؤى ... أُطل على الأكوان من هيكل القدس
تغازلني الأرواح في سبحاتها ... وتنشدني حتى أغيب عن حسي
وأحيا على الدنيا غريباً مشرداً ... حليف هوى حتى يواريني رمسي
وأصبو إلى الأنغام والغيد والطلى ... وإن عصفت أفكاري السود في رأسي
يريب رفاقي ما بدا من تمردي ... وإيثاري اللهو البريء على درسي
وما علموا أني دفنت مواهبي ... وحطمت أقلامي وثرت على طرسي
وردد فيَّ الدهر أنشودة البلى ... مغلفة الأصداء خافتة الجرس!
وأخرست الآلام أوتار مزهري ... وغاضت ينابيع السعادة في نفسي
لقد فرغت كأسي. . . فمن لي بغيرها ... وهيهات أن أحيا وقد فرغت كأسي
ظننت الهوى يدني من الخلد موكبي ... فكان الهوى دون المظنة والحدس
وفي حقل عمري كم غرزت تجارباً ... ولكن غيري قد جنى ثمر الغرس
وقلبي في نهر الحياة سفينة ... تميد على صُم الصخور ولا ترسي
يلين إذا مسَّ الرجاء شغافه ... ويقسو إذا طافت به ثورة اليأس
ويحمل أعباء ثقالا. . . تؤوده ... ولا يتشكى حين يصبح أو يمسي
بلى إنه في الحب قد صار كالذي ... تخبطه الشيطان من ألم المسِّ
وفي الشك للحيران ومض هداية ... يضجُّ معانيه، فيرتاح للهمس
لقد بعت في سوف المآثم عفتي ... وحظي من الأخلاق بالثمن البخس
وها هو ذا ثوب التقى قد نزعته ... لتغسله الأقدار في حمأة الرجس
طمست على قلبي فغاب صوابه ... وهوَّم في داج من الريب والهجس(713/36)
وإن حياتي لن يضيء ظلامها. . . ... سوى قبس من نور حسنك يا شمسي
فلا تذكري ما كان مني بالأمس! ... نسيت وفي أحداث يومي ما ينسى(713/37)
قبل الرحيل
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
أغداً أرحل عن جنة حبي ... أغداً؟ لا كان من عمري غد!
تاركا في معبد الأشواق قلبي ... تعبث الذكرى به والموعد!
كل شيء هنا يذكر أني
قد أذبت الوجد من قلبي وعيني ... وغداً أرحل!!. . . لا كان غد
يا عيوني. . . ودعيها ثم نوحي ... فحرام أن ترى الدمع بعيني
وابسمي صبراً كما تبسم روحي ... بالذي يخلد في قلبي وأذني
من ليالي الوصل في ضل الأماني
حينما كنا كأصداء الأغاني ... نتهادى وغدا. . . تبعد عني!
أغداً أرحل عن وكر الأماني ... وغداً تذبل أزهار اللقاء
يا غدي لا كنت من عمر الزمان ... لا رأتك العين يا ظل الفناء
كيف أحيا مفرد القلب غريبا
كيف أنسى ثغرها الحلو الحبيبا ... كيف أنساها. . . وأيام الهناء
يا طريقي. . . كم هاهنا سرنا معاً ... أترى في البعد تنسى خطواتي؟
وهنا الحب. . . بقلبينا سعى ... راقص الفرحة حلو الأغانيات
كم ضحكنا. . كم بكينا. . ها هنا
وانطلقنا. . خلف أسراب المنى ... آه ما أقسى فراق الذكريات(713/38)
بين مصر والسودان:
قصة الروح. . .
للأستاذ عثمان طه شاهين
أخذت الحضارة تصلح على ضفاف النيل وواديه منذ أن بدأ الإنسان يشتغل بالزراعة وبدأت حياة الاستقرار وإنشاء الحكومات، وحيث أن المصريين - كما يقول هيرودوت - هم أقدم أمة متمدينة على الأرض فقد أخذت حضارتهم تنبث إذن على ضفاف الوادي متجهة مع الماء نحو الجنوب، تاركة فيه رواسب متباينة من هذه المدنية القديمة، وعلى هذا الأساس فقد بذرت البذور الأولى من قصة هذه الروح، ثم أن هذه الصلة قد تكونت عن صدق وإخلاص لأن السودانيين كانوا يدينون بالدين المصري القديم ويتكلمون اللغة المصرية.
يرى المحدثون من الباحثين أن معالم الحضارة المصرية القديمة والثقافة العربية قد تسربتا إلى السودان الشمالي عن طريق مصر، وقد استطاع هذا الإقليم أن ينتج في وقت ما حضارة شبه مصرية من حيث طابعها ومظهرها، ومنه خرج الغزاة اللذين أسسوا إحدى الأسر الفرعونية كما أنه أقرب من حيث ثقافته وحالته البشرية العامة إلى مصر من إقليم النوبة الشمالية نفسه مما يرجح الأخذ بان قصة هذه الروح تقوم على دعائم ثابتة وعلى أركان وطيدة راسخة تمد الروح من جهادها العبقري للتخلص من وبقة الاستعمار.
فالروح في الشمال لم تستكن يا صاح - في تاريخها الطويل - للغزاة الفاتحين؛ فإذا نظرنا إلى غزاة مصر من الإغريق والرومان فأنا نجد أنهم لم يفلحوا في فرض طابعهم على الحياة المصرية ذلك لأن هنالك قوة حيوية كامنة في نفوس المصريين تستحثهم الدوام وتوجههم للثورة على الغالبين، فغدوا هم غالبين منتصرين، مسيطرين على المجرى الطبيعي لوادي النيل؛ ومن هنا ندرك أن الروح المؤمنة الشاعرة تنتصر على الدوام لأن رسالتها تنبعث من قوى الإيمان الصادق.
وإذا انتقلنا مع الزمان نقلة سريعة باحثين عن الأثر الذي تركته الحياة العربية في جنوب الوادي فإننا نلمح تجاوباً سريعاً في حياة الروح في الشمال والجنوب، ذلك لأن الآلام واحدة والآمال واحدة كذلك، ومرجع ذلك ومرده إلى وحدة اللغة والدين والعادات والتقاليد، لأن(713/39)
حياة الأمم - كما نعلم - لا تتكون إلا عن طريق هذه النظم الإجماعية الكبرى التي تعبر تعبيراً صادقاً عن التطور الطبيعي المرموق، وعلى هذا فالإيمان الذي يدعوا إليه أبناء الشمال عن الجلاء ووحدة الوادي يجد سبيله النافذ إلى أبناء الجنوب فهم يستمسكون به ويدافعون عنه ويضحون في سبيله بأغلى ما يملكون. فالروحان المتعانقان في الشمال وفي الجنوب يؤمنان ويجاهدان ويعملان. . .
ولكن ما هي العناصر التي تمد هذه الروح وتذكيها، وما هي الآثار التي يخلفها هذا الإيمان، وما هو المدى الذي تتطلع إليه هذه الروح في غدها القريب السعيد؟ كل هذه النتائج يتلمسها المتتبعون لسير الحوادث في جنوب الوادي في هذه الآونة الأخيرة؛ ذلك أن حركة وادي النيل قد أخذت تظهر منذ أن هب المخلصون من السودانيين تلك الهبة المعروفة والتي تمخضت عن حوادث سنة 1924 الدامية إذ قتل فيها من قتل وشرد فيها من شرد، فكانت تلك الحركة إذن وقوداً يذكي لروح الشعبية في جنوب الوادي، وقد وجدت تلك الحركة صداها في نفوس الشعراء من شباب ذلك الحين فانبعثت الألحان الثائرة من عبد الله بن عبد الرحمن، ومدثر البوشي، وعبد الله البنا، وصالح عبد القادر. فكانت الشرارة الأولى للروح الثائرة المؤمنة. . .
وإذا نظرنا إلى قصة الروح في الشمال فإنا نجد أن الحملة الفرنسية قد كان لها دور بعيد في تأريخ هذه الروح، إذ كان الفرنسيون أول أمة غربية هبطت مصر في تأريخها الحديث واستولت عليها، وبهذا فقد اتجهت أنظار الدول الأوربية إلى مصر وغدا لها في تاريخ الروح الأوربية طور جديد؛ أضف إلى هذا أن إنكلترا قد أخذت تهتم بمصر اهتماماً عظيما وذلك لمركزها الجغرافي المرموق، وأخذت تعمل - بالتالي - للحيلولة دون وقوع مصر في يد دولة غربية أخرى، ومن هنا تلعب قصة الروح دورها الذي انفردت به من بعد على مدى التاريخ؛ ومن هنا ظهرت لجنوب الوادي مكانته في نظر السياسة الإنجليزية كما هو معروف.
ومن البداهة أن يلاقي العباقرة من العظماء والمجاهدين والفنانين الآلام المبرحة في سبيل الوصول إلى القمة في حياة الروح، ذلك لأن التخلص من طبيعة الأرض يمسك بهم من الانفلات والصعود فيجاهدون ويجاهدون، ومن البداهة كذلك أن تلاقي الأمم هذه الآلام في(713/40)
تاريخها للوصول إلى العزة والكرامة والاستقلال، فالإيمان والمثابرة شرطان ضروريان للروح في سبيل تلمس مثلها العليا الكريمة، والغاية قريبة - مهما بعدت الشقة - إذا دعمتها إرادة قوية وإيمان مطلق.
كانت الروح التي نادى بها جمال الدين الأفغاني مشتعلة وهاجة، إذ لبث في مصر سنوات يتصل بالطلبة من كل أرجاء العالم الإسلامي ويبث تعاليمه ومبادئه فتجد الاستجابة المؤمنة في نفوس أبناء الأزهر بشكل لم يعهد له مثيل في العصور الحديثة وأخذ الإمام محمد عبده يعيد للفكر قدسيته وللدين مكانته من حيث النظر العقلي السديد مما يذكر الباحثين بابن رشد حينما أراد أن يؤاخي بين الشريعة والحقيقة، ومن هنا كان لهذه الحركة صدى بعيد في الجنوب فارتبط الجهاد على الإصلاح والإيمان كما يرتبط اليوم على الجلاء والوحدة، وكان ذلك النشاط المرموق يستمد قوته وبقائه من الحركة العرابية في الشمال ومن حركة المهدي في الجنوب، وعلى هذا فقد تلاقت الأكف والقلوب والحناجر بالدعاء والتضحية والإباء. . . .
أما اليوم - في حياتنا المعاصرة الرشيدة - فقد أخذت الروح في الشمال تعبر تعبيراً صادقاً عن إيمانها بالجنوب، وأخذ الأديب السياسي الفنان هيكل باشا يصوغ هذا التعبير إذ قال: (إن مصر لم ترد في يوم من الأيام سيطرة على السودان ولا تسلطاً على أهله ولا استغلالا لموارده، ولكنا ونحن نعيش في واد واحد تتحد فيه مرافقنا واقتصادياتنا ومقوماتنا جميعاً لا يستطيع أحدنا أن يستغني عن صاحبه في الشمال أو في الجنوب، كما أن أهل لغرب طالما كرروا ويكررون أن الأمم الصغيرة خاصة لا يمكن أن تعيش وحدها بل يجب أن تتكتل لتصبح قوية قادرة على التعاون، والأمم لا تتكتل إلا إذا تجاورت، وليس هناك تجاور أقرب من تجاور السودانيين والمصريين).
وأخذت الروح في الجنوب تعبر تعبيراً صادقا عن إيمانها بالشمال وتجعل هذا التعبير في القوى المدخورة التي ادخرتها الأمة لوفدها الأمين، وفي هذه الآثار القوية المتجلية في وجود الشعب ومشاعره وأحاسيسه وفي الأفكار التي يبعث بها الجنوب على صفحات الصحف المحلية والخارجية وفي الوثيقة الدموية التي خطها الشباب بقلبه وروحه ودمه، وفي كل ما يحدث من ثورات ويسيل من دماء تعبر عن هذا الإيمان وتكشف عن طبيعة(713/41)
الروح وهي تتخذ طريقها للتعبير. . .
آمنت الروح على ضفاف الوادي بأنها ستنال حريتها وكرامتها، وكان من طبيعة هذا الإيمان أن تتجاوب أنغام التضحية والفداء فأخذت القلوب تتلاقى في الشمال والجنوب مؤمنة برسالة الحرية والإخاء داعية لأنغام الجهاد، فسالت الدماء الطاهرة على قرى الوادي مؤذنة بميلاد الفجر الجديد، وارتفعت الحناجر منادية بالثورة في شباب الجامعة في الشمال وفي أروقة العلم في الجنوب ولفظ الشهداء أنفاسهم الأخيرة وهم ينادون بالاستقلال للوادي الكريم، فأذن المؤذن بميلاد الفجر الجديد.
نعم، قد أراد الوادي اليوم أن يكون خالصاً لبنيه، وإذا أرادت الأمم شيئاً فهي واصلة إلى ما تريد. فالروح إذن إنما تعبر تعبيراً صادقاً عن أحاسيس أبناء الوادي ومشاعرهم وتترجم عن مواطن القوة والكمال فيهم:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي ... ولا بد للقيد أن ينكسر
ذلك لأن إرادة الحياة - كما يقول الشابي - إنما تخلق بالأمم القوية الشاعرة التي تؤمن برسالتها في الحياة وفي حقها في الوجود.
يا إخوان الطفولة ويا حماة العرين! انظروا إلى الأسد البريطاني يفغر فاه ليلتهم القوى المذخورة في النفس. فلنكن يقظين، فالإنجليز معكم يا إخوان يسيطرون على كل شبر في الجنوب، وينبشون بينكم في كل مكان، ويصرفون الأمور بعددهم العديد الجم، فكونوا يقظين حريصين ناظرين، واعلموا أن جهادهم في الحرب قد استنفد منهم كل ما يملكون وفي الجنوب عوض للجهود التي بذلت وللنفوس التي حطمت وللأرواح التي حاق بها الخسران. . .
هل تؤمنون اليوم بان الإنجليز يؤيدون حركة الانفصال ويرعونها لأن فيها خير البلاد ورفاهيتها وتقدمها، وهل يقوم حاكم السودان بجولاته في الغرب والشرق، شارحاً قصة الحكم الذاتي، متحدثا ًعن أسطورة الاستقلال، داعياً إلى مذهبه الجديد، هل يصدق أولئك وغيرهم بأن الحاكم الإنجليزي يفعل ذلك لخير السودان أم لخير الإمبراطورية!؟
نحن مؤمنون يا صحاب بأن موسيقى الحياة تسير على أنغام عذاب، ونحن مؤمنون بأن(713/42)
حركة الانفصال تلعب بها أصابع خفية ناشزة، فلتشدوا الأوتار من جديد ولتصلحوا الحياة، كيما تستقيم، واعزفوا لأطفال اليوم ورجال الغد بأن الإنجليز هم الداهية الدهياء في الشرق الحديث، وابعثوا الأنغام هادئة نقية، وآمنوا بأن للوادي روحاً وجسما وانظروا إلى رسالة السماء. . .
ولتسر هذه الروح مؤمنة برسالتها في الشمال وفي الجنوب واليدان ممدودتان - من ريشة الفنان - قبل الأرض تباركان الخير وتبذران الحب للساعين. . .
عثمان طه شاهين
ليسانسيه في الفلسفة(713/43)
الأدب والفن في أسبوع
هذا واجب قومي:
تلقت وزارة المعارف رسائل من بعض الهيئات الثقافية والعلمية في الحبشة وإريتريا وجنوب أفريقيا والهند وغيرها من الأقطار الإفريقية والأسيوية وكلها تطلب أن تساعدها الوزارة ثقافياً وعلمياً بما يعينها في أداء مهمتها، وكلها تلح أن تبادر الوزارة المصرية إلى بذل هذه المعونة لشدة الحاجة إليها.
ولست أدري ماذا صنعت أو ستصنع الوزارة بهذه الطلبات ولا مدى ما عندها من الاستعداد لبذل المعونة المطلوبة، ولكني أبادر فأقول إن من الواجب على الوزارة أن تبذل هذه المعونة، وتلبي جميع هذه الطلبات مهما كلفها الأمر ومهما لقيت في سبيل ذلك من الضيق والرهق، لأنها بهذا تؤدي واجباً على مصر نحو قوميتها ونحو مكانتها.
إن مصر تقف اليوم موقف الزعامة للعالم الإسلامي والعربي، وللمجد تكاليف شاقة مرهقة، فنحن لا نستطيع أن نحتفظ لمصر بزعامتها ولا أن ندعم مكانتها عند الأقطار العربية والإسلامية إلا إذا حققنا لهذه الأقطار ما تنشده عندنا وما ترجوه فينا وتطلبه منا، وقد كان من الواجب علينا أن نتبرع بهذه الخدمات الثقافية، فكيف وقد توجه إلينا الرجاء بتحقيقها والنهوض بتأديتها. . .
لقد قرأت فيما قرأت من أنباء هذا الأسبوع أن إنجلترا تعاني من داخل بلادها ضنكا في شؤون المعيشة، وأن أفراد الشعب هناك لا يحصلون على حاجتهم من مواد الطعام واللباس، على حين أن إنجلترا تصدر الكميات الضخمة من هذه المواد إلى الخارج، وذلك لأنها تريد أن تحتفظ بأسواقها التجارية وأن تظل عند أمل الشعوب التي تقع تحت سيطرتها فيها، فهي تضحي وتطلب إلى شعبها أن يحتمل الرهق حتى لا تغلبها دولة منافسة على أسواقها، وحتى لا تجد أمة فرصة لاقتحام الميدان عليها. . .
فيا حبذا لو أخذت وزارة المعارف عندنا بهذا المبدأ في تلبية ما يطلب منا من تأدية المعونات الثقافية في الخارج، ويا حبذا لو قدرت الوزارة أن الأمر واجب قومي لابد فيه من التضحية وتجنيد الجهود مهما كنا في أشد الحاجة إلى تلك الجهود.
المعجم اللغوي التاريخي:(713/44)
يشتغل المجمع اللغوي الآن بإنجاز المعجم اللغوي التاريخي الذي وضعه المستشرق الألماني المعروف الدكتور فيشر، وقد قدر المبلغ اللازم لطبع هذا المعجم وإخراجه بألف وخمسمائة جنيه، وإنه في الواقع لمبلغ ضئيل بالنسبة لقيمة ذلك المعجم النافع الذي ليس له مثيل في اللغة العربية.
أقول لا مثيل له في العربية لأنه ليس لدينا معجم لغوي يشرح تطور الكلمات العربية في دلالاتها ومعانيها وما جرى في استعمالاتها المختلفة على نحو ما يعني به علماء فقه اللغة، وقد حاول جار الله الزمخشري في معجمه (الأساس) وضعاً قريباً من هذا ولكنه جعل قصده إلى إظهار تطور الألفاظ وانتقالها من الاستعمال الحقيقي إلى الاستعمال المجازي. وفي العصر الحديث عمد المستشرق فيشر إلى سد هذه الثلمة في القواميس العربية ولما لم تكن هناك مصادر تعينه في قصده جعل كل اعتماده على مراجعة النصوص العربية، ومعنى هذا أن التراث العربي كله كان مصدر بحثه، ولقد اضطلع الرجل بهذه المهمة الشاقة في صبر العلماء وأناتهم حتى استطاع أن يحرر في ذلك آلاف الجذاذات لتكون مادة القاموس إذا ما رتبت.
وعندما اختير هذا المستشرق عضواً في المجمع اللغوي بمصر تقدم إلى المجمع بفكرته وعمله في هذا القاموس فشهد المجمع بأنها فكرة رشيدة وعمل جليل وأخذ الأهبة للعمل على إتمام هذا المعجم وإخراجه في الوقت قريب.
وكان أن قامت الحرب، وسافر فيشر إلى بلاده، وجاءت الأنباء بأنه قضى نحبه في إحدى الغارات، وطوى أمله وعمله في مطاوي النسيان، إذ لم يكن (ضمير) السياسة يسمح بأن يظهر هذا العمل لذلك العالم الذي ينتسب إلى بني الألمان مهما كان عمله خالصاً للعلم. ثم انتهت الحرب، وظهر أن فيشر لا يزال حياً والحمد لله، وأن أحداث الحرب الرهيبة لم تنسه الرغبة في إتمام عمله بإخراج ذلك المعجم الذي وقف عليه العمر، وعلى هذا عاد المجمع يهتم بإظهار هذا الأثر النافع المفيد، وكل ما نرجو أن لا يبدو ما يدعو إلى التطويح به والتسويف فيه.
. . . إن العلم أمانة!!(713/45)
في مجلة (المباحث) - وهي مجلة تصدر في تونس لخدمة الأدب والفن والتاريخ والفلسفة - قرأت فصلين متتابعين عن (كتاب ألف ليله وليلة)، فما انتهيت من قراءتهما حتى تبين لي أني نظرت هذا البحث من قبل، ولما أثرت الذاكرة ظهر لي أن الكاتب أخذ بحثه أخذاً كاملاً أميناً من بحث كتبه صاحب (الرسالة) عن (ألف ليلة وليلة)، ومن العجيب أن صاحب (الرسالة) قد حاضر بهذا البحث أبناء العراق، ونشرته مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ثم مجلة المعرفة في مصر، وأثبتته (دائرة المعارف الإسلامية) في التعليق على مادة ألف ليلة وليلة وسجله صاحبه في كتاب (في أصول الأدب)، ولكن كل هذا لم يحمل الأستاذ التونسي على الإشارة إلى صاحب البحث إبراء للذمة.
ومنذ قريب تناولت مجلة أدبية سياسية تصدر في لبنان، فطالعت فيها قصه لشاب من أبناء لبنان يحسبونه في الكتاب وفي الشعراء أيضاً، ولكني ما كدت أنتهي منها حتى ذكرت إني قرأت تلك القصة في مجلة مصرية لكاتب مصري، وبعد المراجعة تبين لي أن لا فرق بين القصتين إلا أن الكاتب المصري جعل فتاة القصة من لبنان والكاتب اللبناني جعل فتاة قصته من مصر
وكم من عجائب وغرائب، وكلها من هذا القبيل، وإنها لجرأة أثيمة؛ فإن من الأمانة في العلم والإخلاص للأدب أن ينسب كل رأي لصاحبه، وأن يرد كل فضل لفاعله، وقد علمنا شيوخنا أن من شرائط الأدب والتأدب أن نسمي الاقتباس اقتباساً، والنقل نقلاً، وقالوا لنا أن من نسب رأياً إلى صاحبه فقد خلص من تبعته. أما سرقة الأفكار والتطاول بأنها من صنع الابتكار، فإنها لصوصية في تقدير الأخلاق، وجريمة في حكم القانون؛ وعجز يتدلى بصاحبه في عرف الناس.
ملاحم البدو:
قرأت في إحدى المجلات السودانية كلمة يقول فيها كاتبها: (إن في أشعار البدو الرحل في السودان وفي دوبيت العرب القاطنين أشعار كثيرة يتفق الخاطر فيها مع الخاطر العربي الأصيل، ويهيب بأبناء السودان وأدبائه أن يلتفتوا التفاتاً جدياً إلى هذا الضرب من الأدب المقارن.).(713/46)
وكنت قد قرأت كلمة للباحث الفاضل الأستاذ أحمد رمزي بك في جريدة الأهرام أشاد فيها بالملاحم العربية البدوية وقال: (إن ترك هذه الثروة الأدبية التي يملكها العالم العربي بغير بحث واستقصاء وجمع وتسجيل جريمة في حق الأدب الشعبي والفني، وإني أطمع في أن أجد جماعة منظمة تعنى بهذه الناحية وتجمع هذه الثروة الفنية خاصة وأن أثرها لا يزال عميقاً في نفسية شعوب العروبة).
والواقع أن ملاحم العرب البدو جديرة بالاهتمام والتسجيل، ولكنا تغاضينا عن هذا التراث وأهملناه إهمالنا كبيراً، وقد كان للأجانب شغف وعناية بهذا التراث أكثر من عنايتنا به، فهل آن الأوان لأن نهتم بذلك التراث الحافل، وأن نبذل له ما يجب من الدراسة والتسجيل؟
معلوم!
يزور أقطار الشرق العربي في هذه الآونة مستر دكسون المستعرب الإنجليزي استعداداً لإصدار مجلة باللغة الإنجليزية في لندن للدفاع عن قضايا العرب في الشرق الأوسط وشمال إفريقية، ويقول مستر دكسون إن مجلته هذه لن تكون ذات صبغة سياسة، ولكنها ستعنى بالثقافة والعلم والحياة العربية، وستوزع في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة لكي يعرف الغربيون أكثر مما يعرفون الآن عن حياة العرب وقضاياهم.
وليس مستر دكسون بالرجل الغريب عن أقطار الشرق العربي، فقد أمضى بها من قبل نحو عشر سنوات، وتنقل في مصر والسودان وفلسطين وطرابلس وغيرها من هذه الأقطار، وهو يتقن اللغة العربية ولا يزال جاداً في الإحاطة بآدابها وثقافتها، وقد أنشأ أخيراً الجمعية الاسكتلندية العربية وأسند رياستها إلى السير والتر ماكسويل سكوت كما استعان في رعايتها بالسفراء العرب في لندن، ويقولون إنه الآن بسبيل تأليف جمعية أخرى في دبلن بأيرلندا. . .
ولكن ما هذا كله؟ وهل مستر دكسون يبذل كل هذا العناء للدفاع عن العرب وقضاياهم حقاً كما يقول ويقول أنصاره؟!
إنها لمفارقة لطيفة، وإنه لأسلوب من أساليب الدعاية الاستعمارية خبرناه من قبل، ووقفنا على اتجاهاته وأهدافه، فما نال أبناء الشرق العربي من ضر مثل ما نالهم على يد أولئك الأصدقاء الأعداء الذين يتطوعون للدفاع عنا ويذرفون الدموع السخينة لحالنا وما هي إلا(713/47)
دموع التماسيح، ولكن عذر هؤلاء أن هذا الأسلوب لا يزال يجوز على ضعاف العقول من أبناء هذا الشرق الذين تأخذ بلبهم ظواهر الأمور.
إنجليزي يدافع عن العرب عند الإنجليز؟! معلوم!! معلوم ويا له من منطق مفهوم!!
هل هذا صحيح:
كانت كليه الآداب الفرنسية في لبنان قد وجهت الدعوة إلى الدكتور عبد الرحمن بدوي المدرس بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات الفلسفية هناك فلبى الدعوة، ويقولون إنه قد قوبل بالحفاوة والترحيب وإن محاضراته قد قوبلت كذلك بالاعتبار والتقدير.
ولكني طالعت في العدد الأخير من مجلة (المعهد) التي تصدر في جنوب لبنان حديثاً جرى بين محرر تلك المجلة وبين الأستاذ البير عمون صاحب مجلة (الأديب) عرضا فيه لهذه المسألة. فقال الأستاذ عمون - والعهد على راوي الحديث - (إن دعوة الفرنسيين للدكتور عبد الرحمن بدوي لإلقاء هذه المحاضرات ليست إلا إحدى مناوراتهم ومثالا لأساليبهم التي يخدمون بها مركزهم ويجلبون الناس إليهم، ولم يلب الدكتور بدوي الدعوة إلا لأن مركزه كأستاذ في الجامعة المصرية يكاد أن يكون مضطرباً في المدة الأخيرة، وذلك على أثر مذهب فيه شيء من الإباحية كان الدكتور قد دعا إليه في أحد كتبه، فأثار نقمة أولياء الأمر في مصر، وبخاصة أوساط الأزهر، ولا يستبعد أن يرى الدكتور هذه الدعوة بمثابة تأييد لمركزه، وهي من كلية في لبنان بلد العلم والثقافة).
هذا ما جاء في ذلك الحديث بنصه وبحروفه، وأنا رجل شديد الغيرة على أبناء وطني، وظني بهم أباة يترفعون عن أن يكونوا صنيعة لأية دوله مهما عظمت، وإن هذه الغيرة لتدفعني إلى سؤال الأستاذ بدوي: هل هذا صحيح؟!
(الجاحظ)(713/48)
البَريدُ الأدبيَ
واحة الكفرة:
جاء في (أخبار اليوم) العدد (129) أن الذي اكتشف واحة الكفرة هو أحمد حسنين باشا رحمه الله، والباشا رجل أجمعت القلوب على محبته وتجلته، ولكن الحق يذكر، وذلك أن أول من زار واحة الكفرة من غير السنوسيين هو صادق باشا العظم رحمه الله أرسله إليها السلطان عبد الحميد موفداً إلى الشيخ المهدي السنوسي الكبير سنه 1884 ولم يصل إليها رسول قبله، وقد وضع عن رحلته تلك كتاباً باللغة التركية ترجمه إلى العربية جميل بك العظم رحمه الله، وقد أوفده بعد ذلك إلى نجاشي الحبشة منلك سنة 1906 ووضع عن رحلته الحبشية كتاباً ترجمه رفيق بك العظم رحمه الله، ودلة حقي بك العظم رئيس وزراء سوريه سابقاً، وعنه روينا هذا الحديث، والرحلتان مطبوعتان بالعربية.
(قارئ)
خطأ عروضي:
اطلعت في عدد الأهرام بتاريخ 19 فبراير سنه 1947 على قصيدة للأستاذ الشاعر محمد الأسمر في ذكرى وفاة المرحوم أحمد حسنين باشا مطلعها:
أعام مضى أم تلك أحلام حالم ... وذكرى الكريم الحر أم وهم واهم!
قال فيها:
وعدت لنا من حفرة ومجاهل ... ومن عالم تحت الثرى أي عالم!
فوقع في خطأ عروضي هو (سناد الإشباع)، وذلك بتغييره حركه الحرف الدخيل بعد ألف التأسيس من خفض في جميع الأبيات إلى فتح هنا في هذا البيت الأخير، وهو خطأ تواضع العروضيون على عدم استعماله أو الوقوع فيه.
هذا، والقصيدة المترعة بالذكريات واللوعات، لا يغض من قيمتها هنة من تلكم الهنات. والسلام.
عدنان أسعد
في اللغة:(713/49)
كتب بعضهم في الرسالة الغراء: (انطلت عليه الحيلة) يريد جازت عليه. وأظن أن هذا التعبير أول ما دخل عن طريق الترجمة. فليت من يدل على تعبير قديم بهذا اللفظ.
ويقولون: (حديث طلي)، والطليّ كغني الصغير من أولاد الغنم جمعه طليان كرغفان (القاموس). وأما الحسن المعجب فهو الطل (القاموس أيضاً)
فلسطيني
طباق قلعة القاهرة:
كان الأستاذ أحمد رمزي بك أورد في (الأهرام) نص السخاوي في كتابه (الضوء اللامع في تاريخ القرن التاسع) عن سكن ناصر الدين محمد جقمق (بالغور بالقلعة) وقال: هل هناك مكان معلوم للقدماء بالقلعة كان يطلق عليه اسم (الغور)؟
نعم، كان في القلعة اثنتا عشرة طبقة، في كل طبقة نحو ألف ممن يتلقون دروس التدريب على الجندية والحرب، مع بعض علوم الشريعة والعلوم العصرية، ومن هذه الطباق طبقة قائمة على أرض منخفضة، فسميت (طبقة الغور). وفي (الضوء اللامع) يذكر كثيراً من هذه الطباق كطبقة الرفرف وطبقة الزمام وغيرهما.
وهذه الطباق كانت أكبر مدرسة حربية نعرفها في التاريخ وأقدمها، وقد تخرج منها آلاف من الضابط والقواد والأمراء، بل الملوك. ولو جمعت أخبار هذه الجامعة الحربية لجاءت في كتاب حافل.
وفي خطط المقريزي، وزبدة كشف الممالك لخليل بن شاهين الظاهري (المطبوع في أوربة) مفصل القول على هذه الطباق ونظامها، وفي در الحبب في تاريخ حلب لابن الحنبلي بحث عن صلة السلطان الغوري بطبقة الغور، ونسبته إليها، وأنها بفتح الغين، وفي (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) شيء من هذا وكان في المكتبة التيمورية خزانة خاصة لكتب الفروسية والرمي وآلات الحرب؛ ألف الكثير منها في عهد المماليك، وكان كثير منها يدرس في طباق القلعة.
محمد عبد الوهاب فايد
حول (اكتبوا للأطفال):(713/50)
اطلعت في مجلتكم الزاهرة على كلمة الأديب محمد سيد كيلاني (اكتبوا للأطفال) ومع تقديري لاهتمامه بهذا العنصر الهام من عناصر نهضتنا العربية وتدوينه جهود الغربيين فيه آخذ عليه قوله بالحرف الواحد (أما في الشرق فلم يعن أحد بالاتجاه في هذه الناحية. . . الخ).
إذ قد قام المرسلون الأميركيون في بيروت ما بين 1885 و1899 بترجمة وطبع كتب كثيرة للأطفال باللغة العربية مثل حكاية روبنصون كروزو وغيرها من القصص الأدبية الأخلاقية (التي لا صلة لها بالدين) مكتوبة بأقلام كبار أدباء سوريا ولبنان يومئذ وموضوعاتها لذيذة وأساليبها شيقة تستهوي عقول الأحداث والأطفال وهي مزينة بالصور الجذابة، بل أذكر أنني كنت أقرأها وأنا طفل بين العاشرة والخامسة عشرة بشغف وسرور، وكان لدي العشرات منها وكانت جميعها مطبوعة طبعاً أنيقاً (وأحياناً مشكولة) في مطبعة الأميركان في بيروت ولعل الأديب الكيلاني يعثر في مكتبة خاصة أو في مكاتب بيروت على نسخ منها.
ثم إن كاتب هذه السطور (ولا فخر) أصدر مجلته الأسبوعية (مجلة الأولاد) في 15 فبراير سنه 1923 وظل يصدرها أسبوعياً حتى 12 مارس سنه 1931 وكان يتراوح ما يطبع منها في مطبعة اللطائف المصورة بين 14 و16 ألفاً وكانت طافحة بالرسوم المضحكة التي تسر الأطفال وتقر عيونهم وتكتب شروحها باللغة العامية المسجعة وفي أواخر سنيها كان يكتب فيها بلغة صحيحة بسيطة وأضيف إليها معلومات علمية طبيعية وألعاب للتسلية ومسابقات ولم نوقفها إلا لأسباب فنية قاهرة، وكانت معظم رسومها شرقية مصرية وبعد أن أوقفناها سعى الكثيرون من الأدباء والأديبات إلى إنشاء مجلات للأطفال والأولاد على غرار مجلة الأولاد ولكن أغلبها لم يقو على مكافحة الأزمات، وكانت آخر محاولة من الأستاذة إجلال حافظ ومجلات أخرى أظن أنها ما زالت تصدر وأذكر أن مجلة الأسبوع الزاهرة وبعض الصحف بدأت بنشر مواد مصورة للأطفال.
اسلندر مكاربوس
تعليق وتعقيب:(713/51)
1 - اذكر موضوعي حول (طيزناباذ) أديبة فلسطين فدوى طوقان بقصة صاحبة الفن علية بنت المهدي أخت الرشيد، وأقامتها بطيزناباذ بعد منصرفها من الحج، وهي التفاتة ظريفة من الأديبة الفاضلة أذكرتني أيضاً بما يشبه هذا الخبر من قصة حج أبي نواس الذي رواه سليمان بن نوبخت عندما أراد الحج فاستصحب أبا نواس بعد نفار منه وامتناع. لكن (راهب الكاس) اشترط على سليمان أن يتقدما الحاج إلى القادسية، ثم يعرجا (قليلاً) على طيزناباذ، ريثما يصل الحاج فعلا.
وكان في طيزناباذ خمار ظريف، لطيف الآلة، يعتق الشراب اسمه (سرجيس) له ذكاء وفطنة في المنادمة، فشرب أبو نواس هو وصديقه سليمان، ثم استيقظ ليصطبح (على عادته) فأنشد:
وخمار أنخت إليه ليلاً ... قلائص قد ونين من السفار
فحجم والكرى في مقلتيه ... كمخمور شكا ألم الخمار:
أين لي كيف صرت إلى حريمي ... وجفن الليل مكتحل بقار؟
فقلت له: ترفق بي فإني ... رأيت الصبح من خلل الديار
فكان جوابه أنْ قال: صبحٌ ... ولا ضوء سوى ضوء العقار!
وقام إلى العقار فسد فاها ... فعاد الليل مسود الإزار
وشك بزالها في قعر دن ... محفرة الجوانب والقرار
مصورة بصورة جند كسرى ... وكسرى في قرار الطرجهار
وجل الجند تحت ركاب كسرى ... بأعمدة وأقبية قصار
ثم جلس يشرب مع سليمان، وبقيا يصلون الليل بالنهار في اصطباح واغتباق، حتى ورد عليهما أوائل الحاج قد حجوا وعادوا فرحلا معهم إلى بغداد على أنهما كانا حجاجاً معهم. .
أما الآثار التي كانت شاخصة على عهد ياقوت والعمري والشابشتي فقد كانت تسمى في ذلك الحين (قباب أبي نواس).
2 - ومما فاتني ذكره عن قطربل إن حاناتها اختصت بالنظافة وحسن الصفة، والتألق في الآلة، كما امتاز سقاتها وباعتها بالفطنة واللباقة والظرف، ونظافة المنازل والدنان.
واشتهرت قطربل بالمشمش حتى ذكره البحتري في شعره قائلاً:(713/52)
شربت مشمش قطربل ... وجرعتنا دقل الدسكره
إذا حُبَّ في الكاس مسوده ... فكف النديم لها محبره
وكان ينزل هذه القرية الأعراب الذين يفدون على بغداد من البادية، وكانت لغتهم فصيحة لم تشبها شوائب اللحن، وفي القصة الزنبورية خير شاهد على ذلك. فقد نُقل عن الأصمعي أن هؤلاء الأعراب كانوا ينزلون بقطربل، وأن الكسائي لما ناظر سيبويه استشهد بلغتهم عليه، وفي ذلك يقول أبو محمد اليزيدي:
كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه ... على لغى أشياخ قطربل
إن الكسائي وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفل!
أما موقع قطربل بالنسبة إلى جغرافية العراق الحالية، فقد قال
صديقنا مصطفى جواد تعقيباً على ما كتبناه في الرسالة في
العدد 704 بكلمته المنشورة بجريدة العراق عدد 23949 بأنها
(فوق الكاظمية بكيلومترات قليلة مقابل بستان كاظم باشا من
الغرب) ويظن بأنها (كانت الموضع المعروف - اليوم -
بالتاجي)
بغداد
شكري أحمد
النهضة الأدبية في طرابلس:
منذ زوال الحكم الإيطالي الغاشم عن أرض ليبيا العزيزة (طرابلس وبرقة) والنهضة الأدبية تسير بخطوات ثابتة سريعة بصورة تدعو إلى التقدير والإعجاب.
فهنالك في كل من مدينة درنه وبنغازي عاصمة برقة التجارية وطرابلس في جميع هذه(713/53)
المدن قد انتشرت الجمعيات الثقافية والندوات الأدبية التي تتلخص رسالتها في نشر الأدب العربي وبث روح الثقافة العربية بين جميع المواطنين.
وقد كتب المواطن الفاضل الأديب (صلاح الدين بن موسى) مقالا قيما في الرسالة (710) تحت عنوان (الحياة الأدبية في طرابلس الغرب بين الماضي والحاضر) ولكن فاته أن يذكر فيه كلا من الشاعرين العصاميين الأستاذ أحمد الشارف شاعر طرابلس والأستاذ أحمد رفيق المهدوي شاعر برقة وهما بحق علمان من أعلام الشعر والأدب في طرابلس الغرب:
ولقد اطلع أستاذنا العقاد على شيء من شعر الأستاذ رفيق فنال إعجابه وتقديره.
(القاهرة)
فرح بن جليل
بطل الريف:
اطلعت في العدد 711 من (الرسالة) على قصيدة أو بالأصح (مزدوجة) للأستاذ (أبو الوفاء) محمود رمزي نظيم فيها:
واخترعوا فحيّروا ألبابنا ... وملكوا بسعيهم زِمامنا
كيف نقول ما لهم وما لنا ... إذا استغل علمهم خمولنا
(والمزدوجة) كما ترى مؤسسة بألف التأسيس في الأشطر الثلاثة الأولى إلا في الشطر الرابع فقد غيّر من التأسيس إلى الردف وهو حرف الواو، وذلك ما نص العروضيون وتواضعوا على خطئه وعدم جواز استعماله.
وهي هنة هينة والسلام.
(الزيتون)
عدنان أسعد(713/54)
القَصَصُ
أسطورة من الأدب الروسي:
الخير والشر. . .!
للكاتب الفيلسوف ليو تولستوي
(مهداة إلى أستاذنا الفاضل محمود الخفيف)
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
(من الهدى والتوفيق أن ننقل هذه القصة الرفيعة إلى العربية
في الحين الذي يقوم فيه الأديب الكبير الأستاذ محمود الخفيف
بترجمة رائعة لحياة ذلك الفيلسوف الذي ذاعت شهرته الأدبية
وشاعت عبقريته الفلسفية في جميع أنحاء العالم، وترجمت
كتاباته وقصصه إلى معظم اللغات في مختلف البلدان. . . وقد
سبق لنا أن قدمناه إلى قراء (الرسالة الغراء) في قصة
(الملاك) التي نشرناها تباعاً على صفحاتها في شهر أغسطس
سنه 1946.
وفي هذه القصة التي تتنازعها عوامل الخير والشر، وتضطرب فيها دوافع الحق والباطل. . . نلتقي بعبقرية تولستوي الفذة وعقله الجبار في خير ما سطره يراعه في تمجيد الفضيلة ورفعتها.! فهو يجلو لنا في ثنايا هذه القصة صفحة بارعة من الحلم والتسامح والعفو وضبط النفس التي تنزع بالمرء إلى ركوب متن الشطط والغي. . . وقد رأينا أنه من الأفضل أن نتناول عنوان هذه القصة بالإيجاز والتحوير لطوله. . . فهو في الأصل الذي نقلنا عنه ,(713/55)
(م. جميل)
حدث في الأيام التي خلت وطوتها صفحات الدهر منذ القدم. . . أن كان ثمة رجل رضي النفس طيب القلب جليل الشأن عظيم القدر. . . أقبلت عليه الدنيا وأتاحت له وفراً من ماله فملك الضياع والديار. . . وراح يعيش في ثراء ورغد، ومن حوله جمع من العبيد يقومون على خدمته ويتولون قضاء حاجته. وقد بثهم سيدهم من الود وأخلص لهم من العطف ما جعل أفئدتهم تخفق بحبه وألسنتهم تلهج بحمده.!
وراحوا يتيهون بسيدهم فخراً وزهواً، يغبطون أنفسهم على هذا الفضل وهذه النعمة ويعربون لجيرتهم عن مبلغ هناءتهم قائلين:
(لم تطلع الشمس على من يضاهي سيدنا في طيبته ورقة عاطفته. . . فهو يطعمنا إذا ما أدركنا الجوع، ويخلع علينا من الثياب كل طريف ومن الأبراد كل جميل، ويهيئ لنا أعمالا تتفق ومقدرتنا وقوتنا. . . وما تلفظت شفتاه يوماً بكلمة سوء يرمينا بها ولا بيت لنا حقداً ولا ضغناً. . . فما هو كالسادة الآخرين الذين يذيقون عبيدهم هول العذاب ويقسون في عقابهم سواء أحق عليهم أم لم يحق.! ولا يحنون عليهم بكلمه عطف ولا يواسونهم إذا ما مسّهم الضر. . . أما سيدنا فقد وهبه الله قلباً يتمنى لنا الخير ونفساً ترجو لنا السعادة. . . نحن لا نأمل في حياة أهنأ ولا أرغد من هذه.!).
فضاق الشيطان ذرعاً بذلك الحب والود الذي يكنه العبيد لسيدهم، فعمد إلى واحد منهم يدعى (ألب) فسخره ليوغر صدورهم ويشيع بينهم الفتنة والعصيان ويسرب إليهم الفساد. . .
وبينما هم جلوس ذات يوم يتناقلون حديث العطف والكرم الذي يسبغه عليهم سيدهم ويحوطهم بفضله. . . رفع (ألب) صوته قائلا في خبث ودهاء: (إن من الغباء والحمق أن نغرق سيدنا بهذا الحمد ونحيطه بتلك الهالة من المديح. . . وهو لا يستحقها. فالشيطان قدير وكفيل بأن يكون كيساً رقيق الحاشية معكم إذا ما أديتم له كل ما يروم!. فنحن نخدم سيدنا في وفاء وإخلاص ونحقق له كل ما يساور نفسه ويراود فؤاده من بغيات. . . فما الذي يسعه سوى أن يكون رحيماً كريماً معنا؟!. دعونا نحاول أن ندفع إليه ضرراً ما ثم ننظر ما يكون من جلية أمره. . . وإني لعلى يقين من أنه لا يفضل أقرانه السادة. فلسوف(713/56)
يلقى إساءتكم بمثلها بل وأشد منها. . .).
فانطلق بقية العبيد ينكرون هذا القول، ويدرءون الشبهات عن سيدهم وولي نعمتهم. . . بيد أنهم ما لبثوا أن عقدوا فيما بينهم رهناً مع (ألب) الذي أخذ على عاتقه أن يثير حفيظة سيده ويلهب غضبه. . . وقد تعهدوا بأن يدفعوا إليه بالثياب التي يحرمه منها سيده، ويقوموا مدافعين عنه أمامه أو يعمدوا إلى إطلاق سراحه أن حبس أو غل بالقيد!.
كان (ألب) راعياً مسئولا عن فِرْزِ من الغنم النادرة الغالية التي يعتز بها سيده. . .
وفي اليوم التالي حينما أقبل سيده في صحبة من أضيافه ليريهم ويمتع ناظرهم بتلك الأغنام الكريمة. . . غمز (ألب) بحاجبه لرفاقه وكأنه يقول لهم (انظروا الآن إلى أي حد سأثير غضبه وحنقه!.).
وتجمّع العبيد يمدون طرفهم من فوق سياج المرعى! وتسلق (الشيطان) شجرة سامقة حيث استقر فوقها وراح يرقب ما سوف يعمله (ألب) خادمه ورسوله.!
وتهادى السيد مع صحبه يعرض عليهم شياهه وحملانه. . . وانثنى يقول لهم وقد رنّ في صوته جرس الإعجاب والزهو: (إنها جميعاً كريمة نادرة، ولكن بينها كبشاً أصوف أعقص القرن - لا يقدر بمال - أعتز به كما أعتز بمقلتي.!).
وشاع الاضطراب بين حشد الأغنام، فانطلقت تعدو إلى جهة أخرى من المرعى، فلم تنهز للزائرين سانحة لرؤية ذلك الكبش الذي نوه صاحبه بجلال قيمته وعظم شأنه. . .
ولم تكد تستقر الشياه في مكانها حتى أثارها (ألب) من جديد فعادت تجري إلى كنف آخر، وهي تضطرب فيما بينها، وفوَّت على الزائرين نهزة اجتلائها وتبيُّن الكبش. . فلم يجد السيد بداً - وقد أدركه العناء وبرح به الإعياء - من أن يدعو (ألب) قائلاً: (أرجوك أن تحول بين ذلك الكبش الأعقص القرنين وبين الهرب وأمسك به معتنياً حتى تتاح لنا رؤيته)!
ما كاد السيد يقول ذلك، حتى انطلق (ألب) بين الشياه كالأسد الذي يسعى بين رعيل من الظباء!. وقبض على صوفة الكبش في عجلة وتناول رجلاً من أرجله فلواها في شدة حتى تهشمت عظامها وصارت له قعقعة الغصن اليابس حينما بطؤه الإنسان. . لقد حطم ساقه وجعله يخر على الأرض وهو يثأج ويثغي في ألم. . ثم لم يلبث (ألب). أن أمسك برجل(713/57)
أخرى وحاول أن يلحق بها ما أصاب سابقتها!
فصاح الزائرون في جزع، وهتف العبيد في هيعة وفزع. وطرب الشيطان وهو قابع في مكانه على الشجرة، وهلل فرحاً لما رأى من نجاح خادمه وهو يسعى لإثارة سيده! وتقطَّب جبين السيد وعلتْه كآبة سوداء تنذر بعاصفة هوجاء، وزمهرت عيناه وقد اتقد فيهما لهيب الغضب والحنق والسخط. . وقد كاد أن ينشق من الغيظ. . بيد أنه طأطأ برأسه ولم ينبس ببنت شفه. .
ران الصمت - ولكنه صمت رهيب - على الأضياف وعلى العبيد وقد تعلقت أنفاسهم يترقبون ما سوف يتمخض عن هذه الجناية على الكبش المسكين الذي لا يُلفى له نظير!
وبعد هنيهة من السكون، هز السيد كتفيه وكأنه قد تخلص من حمل ثقيل كان يجثم على قلبه. . . ثم لم يلبث طويلا حتى رفع رأسه ومد بصره إلى الأفق البعيد مستغرقا في فكره لا يريم.!
وبغتة.! غاب التقطب عن صفحة جبينه وانفجرت أسارير وجهه وهدأت نفسه وقد عصف بها الاضطراب. . . ونظر إلى (ألب) في عطف وعلى ثغره ابتسامة عذبة. . . وقال في صوت رقيق شاعت فيه الوداعة والطمأنينة:
(إيه. . . يا ألب. . . لقد أغواك صاحبك الشيطان بإثارة غضبي ولكني سوف أخيّب مسعاه وأثير غضبه هو. . . فلست بحانق عليك ولا ساخط منك. . . إنك لتخشى عقابي ويداعب نفسك أمل في أن أعتق رقبتك!. فاعلم - إذن - أني لن أمسّك بسوء، كما أني - أمام هؤلاء الأضياف وتحت سمعهم وبصرهم - أطلق حريتك. . . فاذهب أينما شئت. . . فأنت حر من هذا اليوم. ولك أن تحمل معك ما تود من ملبس وطعام.)
وانثنى السيد عائداً مع رفقته إلى داره في هدوء وبشر أما الشيطان - وقد باء مسعاه بالخسران المبين - فقد هوى من فوق الشجرة. . . وغار في الأرض. . .
(القاهرة)
مصطفى جميل مرسي(713/58)
العدد 714 - بتاريخ: 10 - 03 - 1947(/)
إنه جهاد لا سياسة!
للأستاذ محمود محمد شاكر
عجبتُ أشدَّ العجب حين قرأت في الأسابيع الماضية خبر وَساطة سورية ولبنان وغيرهما من بلاد العرب والتي أرادوا بها اجتلابَ التفاهم بين بريطانيا ومصر والسودان. ومعنى ذلك أن البلادَ التي دفعتها الغيرة والصداقة والقُربَى إلى هذه الوساطة، تَعْني أو تظنُّ أو تؤمِّل أن تكون المفاوضة بيننا وبين بريطانيا خيراً من الارتفاع إلى مجلس الأمن أو الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، ليقضي بيننا فيما اختلفنا فيه!
وللعجب من مِثْل هذا الفِعْل وجوهٌ كثيرةٌ. فمن ذلك أننا ظللنَا نفاوض هذه الدولة المتغطرسة سنين طوالا مغرّرِين بالمفاوضة، فما أجدتْ علينا إلا ألواناً من البلاء، وعلمتنا ضروباً من كَذِب الألسنة واحتيالها وخداعها، وعرفنا أن بريطانيا تراوغ ما استطاعت المراوغة، وتتجنَّى ما أطاقت التجنِّي، ولا نكسبُ نحنُ من ذلك شيئا إلا الفرقَة والتدابُر والتنابُذ والتشاتُم، وهي كلُّها من مبيدات الأمم. نعم، وكانت العبْرة التي لا عِبْرة بعدها أن القوم الذي ظلُّوا أكثر من خمسة وعشرين عاماُ يُصرُّون على أن المفاوضة هي خير طريق لاستنقاذ حقوقنا من الأيدي الغاصبة، هم هُم القوم الذين عرفوا أن لا جدْوى من المفاوضة، فقطوعها وآثروا أن يرفعوا الأمر إلى هيئة دولية تحكُمُ بيننا، هذا فضلا عن أن صريح الرأي، وصريح الدلالة، وصريح التجربة، تُوحي جميعاً بأن بريطانيا لم تستفد قطُّ من شيء في هذا الشرق المبتلى بها ما استفادت من مبدأ المفاوضة. فهو الذي أتاح لها في مصر مثلا أن تُطفئَ جمرة الشعب المصري التي ظلَّت تتوهَّج فيما بعد سنة 1919، حتى صدق فيها قول المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكاتِ ... ولكنه ضحكٌ كالبُكىَ
فمن هذه المضحكات المبكية، ما كان من تغرير المفاوضين الذين جاءوا بمعاهدة 1936، والذين استطاعوا أن يصبُّوا في آذان الشعب من الكلام الفاتن حتى احتفل بها احتفاله المذكور على أنها (معاهدة الشرف والاستقلال)!! ومن ذلك أن ترى شعباً قد أوذي وامتُهِن وحقّر على يدِ فئة من طُغاة العسكريين فإذا هو يحمل ممثل هذا العشب بعدَ قليل على الأعناق! ونحنُ لا نذكر هذا رغبة في ذكره، ولكن الذين توسَّطوا ينبغي لهم أن يعرفوا هذه(714/1)
الفظائع التي أورثتنا إياها مبادئ المفاوضة وما يتبعُها.
ومن أساس العجب أيضاً أن سورية ولبنان تعلم حق العلم، وتعلم بالتجربة التي جربتها مع الفرنسيين، أن المفاوضة لا تجدي، وأنها لم تنل حقَّها إلا حين كانت يداً واحدةً تطالب بحقها المغصوب، فلم تقبل معاهدة ولا شروطاً ولا وعوداً تعد بها فرنسا، وأصرت على ذلك إصرارَ الكِرامِ القادرين، فإذا فرنسا تجلو بجيوشها جميعاً عن كل بقعةٍ من بقاعها، وكل مكتب من مكاتبها. فالذين يعرفون هذا في أنفسِهم، إذا هم أتوا خلافه أو أرادوا غيرهم على إتيان خلافه، إنما يزيدون العجبَ عجباً ولا ريبَ.
أما العجبُ العاجبُ فهو أن هذه الدول التي بذلت وساطتها نسيتْ موقف بريطانيا في مسالة السودان كل النسيان، وغفلت عن السرّ الذي دفع بها إلى إيثار التشدّد على المساهلة، والصراحة على المواربة. وذلك أنها لا تريدُ أن تفصِل السودان عن مصر مُكايدةً لها أو انتقاماً منها، بل لأنها لا تريدُ الجلاءَ عن مصر كل الجلاءِ، وهي تعلم أن السودان هو مصر، فبقاؤها فيه هو بقاؤها في مصر سواءً بسواء. ولكن بريطانيا لا تريدُ أن تفضح نفسَها بالإصرار على البقاء في أرض مصر، فاخترعت قصة الدفاع عن مصير السودان واستقلاله أو تهيئته للحكم الذاتي وأنه لا بُدَّ لذلك من أن تبقى فيه حتى يتهيَّأ ويستعدّ، وأن تمنع مصر الباغية من العدوان على السودان!! وهذا كله تدْليسٌ بيّنٌ، وكنا نرجو أن يعرف المتوسِّطون حقيقة هذه المسألة على وجهها فيكفُّوا عن الوساطة التي تعود بنا إلى المفاوضة - أي إلى تعذيب الشعب المصري السوداني سنين أُخَر، وإلى بقاءِ العالم كله جاهلا بعدالة قضية مصر والسودان على وجهها الصحيح.
وأما أعجبُ العجبِ فهو أنهم نسوا ما تُلاقي فلسطين على يد البريطانيين اليوم، من إرخائها الحبْل لنذالة الإرهاب اليهودي ومعاونتها في هجرة اليهود بأساليبها الخدَّاعة، واحتمالها في ذلك الأمر ما لم تكن تحتملُ قليلا أو كثيراً من مثله حين ثارتِ العربُ على ظلمها وبغيها وعدوانها هي وأشياعها من يهود. وهل ننسى، نحن العرب، لم وعدت بريطانيا شّذَّاذَ اليهود. الذين ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، بأن ينشئوا في فلسطين وطناً قوميَاً، ثم معاونتهم لهم في ذلك، ثم إغضاءها عن جشع اليهود بعد ذلك وطلبهم إنشاء (دولة يهودية) تقوم في قلبِ الأوطان العربية التي تحيط بها من كل ناحية؟(714/2)
إن الوساطة لا تكون حقاً إلا حين تتوسَّط بين شريفين كريمين يُحْسِنان تقدير الوساطة. فما الذي رأته سورية ولبنان وسواهما من الشرف والكرَم في تاريخ بريطانيا في بلادِ العرب حتى تركب هذا المركب الوعر؟
الجواب: لا شيء، بل النقيض هو الصحيح.
وأنا لا أكتب هذا عتاباً ولا ملامة، فأنا لا أشك في أنهم جميعاً إنما أرادوا الخير، وظنُّوا الخير، وعملوا للخير، ولكن غير ذلك كان أولى وأدلَّ على فهم الحقائق.
لقد وضعت الحربُ العالمية الأولى (1914 - 1918) فإذا الشعوب (العربية) فِرَق مقطُّعة بين الدولتين الباغيتين فرنسا وبريطانيا، وكان رأي العرب مفرّقاً ضائعاً في فوضى الاضطراب الذي أعقب الحرب، ومع ذلك فقد قامت الثورات في كل مكان مطالبة بالحقوق الواضحة التي لا جدال في وضوحها، فأنكرتها علينا بريطانيا وفرنسا، ولكنا مع ذلك ثرنا وبقينا نثور في كل مكان.
ثم جاءتنا الحرب العالمية الثانية، فإذا رأى العرب مجتمع غير مفرق كما كان بعد الحرب الماضية، وبدأنا نثور فإذا الثورات عد خمدت بعد قليل، وإذا نحن نوشك أن نتفرق بعد اجتماع. ولعل هذا رأي غريب مع ما نرى من قيام الجامعة العربية، ومن تصريحات في مناسبات كثيرة بأنها تؤيد مطالب مصر أو مطالب غيرها من الأمم العربية بالإجماع. بيد أن السبب الذي من أجله أخشى تفرق الكلمة هو ما رأيت من أمثال هذه الوساطات التي ترد كلها إلى سبب واحد، هو أن الرأي العربي لم يدرس القضايا دراسة مستوعبة، ولم يتخذ لنفسه خطة بينة واضحة في كل قضية. وأظنه لو فعل ذلك لنفى من قلبه خاطر هذه الوساطات بين أقوام العرب، وبين الدول المتغطرسة التي لا أمانة لها، ولا هدف لها إلا استعباد هذا الشرق بأساليب (مطابقة لمقتضى الحال).
وإنه لأولى بنا جميعاً، نحن العرب، أن نصارح بالعداء كل أمة من أمم الطغيان الاستعماري، وأن نحذر كل الحذر مزالق السياسة وأساليبها الخداعة، فإننا أمم مجاهدة، وينبغي أن تظل مجاهدة حتى تنال حقها في كل مكان، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. والمجاهد مقاتل، لا صاحب سياسة ومواربة ومداراة، فإن ضرر هذه الثلاثة على الشعوب المجاهدة أكبر من أن نغفل عنه أو نتهاون فيه.(714/3)
وأنا أتعجب أحياناً: لماذا لا تتعاون الدول العربية جميعاً الدول الشرقية الخاضعة للإستعمار، فتهب هبة رجل واحد، وتقاطع هذه الدول الباغية، وتقول لها: إني لن أتعاون حتى أنال كل حقوقي كاملة غير منقوصة! وهذا شيء ليس بغريب بعد قيام هيئة الأمم المتحدة التي يزعمون أنها أنشئت للمحافظة على سلام العالم، والتي تنقض مبادئها كل حجة تقال في مسألة مخافة العدوان على هذه الأمم بعد خروج الجيوش المحتلة من اراضيها، ولو فعلنا ذلك، وأبينا أن نلقي السلم حتى تحل هذه القضايا الكثيرة التي عقدتها بريطانيا وأشياعها من الدول المستعمرة، لكان قريباً أن ننال كل ما نريد، ولكان ذلك معواناً للشعوب العربية والشرقية على الشعور بقوتها وعزتها واجتماع كلمتها، ولكان ذلك وقاء لنا من أن نكون كما نحن الآن: خداع يراد بمصر، وخداع يراد بالسودان، وخداع يراد بالمغرب، وخداع يراد بالهند وما جاورها.
إنه ليس عجيباً. بل الدلائل على صدقه وعلى صلاحه ما رأينا من نتائجه بعد قيام الجامعة العربية التي لا تزال في أول نشأتها. فالجامعة العربية على قلة وسائلها وقلة تجربتها، قد جعلت العالم الغربي كله يتنبه إلى أن في الدنيا شيئاً من القوة لا ينفع في الخلاص منه سلاح فتاك ولا غطرسة حربية. فإذا اجتمعت الكلمة في الشرق كله، وهبت الأمم الشرقية كلها مرة واحدة لاستيقظ العالم كله على صوت هذه الضجة المدوية، ولطالبت الأمم الغربية نفسها بدراسة هذه المسائل المعقدة وفهمها على وجهها الصحيح، لا على الوجه الذي ظلت بريطانيا وسواها من حكومات الاستعمار تعمل جهدها سنين مطاولة على تدليسه وبثه في صحافتها وكتبها وإذاعتها. فلا سبيل إلى رد هذه الأكاذيب جملة واحدة إلا بأن نشعر العالم جملة واحدة بما نريد فيتنبه ويستعد للمعرفة، ونكشف له عن الأكاذيب التي أذيعت عليه من قبل، ونفضح أساليب سياسية الاستعمار في تشويه الشعوب وقضايا الشعوب.
هذه رأي، وطريقة العمل له ميسرة وواضحة. وهو شيء كبير، ولكن صاحب الحق الذي يستهول الإقدام على بيان حقه بالأساليب التي ينبغي اتخاذها وإن عظمت، لن ينال شيئاً إلا العجز، وتراكم العجز بعد العجز، ثم ضياع حقه إلى الأبد.
ولقد بدأت مصر والسودان تخرج بقضيتها عن محيط المفاوضة إلى الاحتكام إلى الدول الممثلة في هيئة الأمم المتحدة، فينبغي على كل عربي وشرقي أن يحرضها على ركوب(714/4)
هذا الطريق وإن شق مسلكه، وينبغي على كل دولة عربية وشرقية أن تقف صحافتها وإذاعتها صفاً واحداً للجهاد في سبيل مصر والسودان - أي سبيل فلسطين وليبية ومراكش والجزائر وتونس والهند وما والاها، أي في سبيل الدفاع عن حقوق جميع الشعوب التي ذاقت مرارة الاستعمار ونكاله أجيالاً أو أعواماً. والعاقبة للمجاهدين الصابرين على لأواء الجهاد وبأسائه.
محمود محمد شاكر(714/5)
مصر العربية
للأستاذ أحمد رمزي بك
كتب أبو حيان التوحيدي عن العرب بعد أن شملتهم الدعوة النبوة والشريعة فقال: (قد رأيت كيف تحولت جميع محاسن الأمم إليهم. وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم، من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها، وهكذا يكون كل شيء تولاه الله بتوفيقه وساقه إلى أهله بتأييده). وتلك حال مصر العربية من يوم أن دخلها عمرو بن العاص وصحبه منقذين ومخلصين، يحملون أعلام الحرية لا فاتحين وغزاة. فهذه البقعة من الأرض التي خاطب أهلها عمرو من مسجده العتيق بالفسطاط فقال لهم: (اعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، تتجه قلوبهم إليكم، وتتشوق إلى دياركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية).
قد خط الله لها في سجل قدره وإرادته أن تكون من المبدأ قلب العروبة، فهيأ لها أن تجتمع محاسن الأمم إليها وفضائل الأجيال عليها، ومهد لها أن رجالا أتوا إلى الوادي لخدمته، بعبقريتهم سيوفهم، وكان أن صمد أهل مصر طول القرون الماضية وهم في رباط دائم، يخدمون الإسلام والعروبة بعلمهم وفكرهم، ويذودون عن الإسلام ونفوذ المسلمين بأيمانهم وسيوفهم، ألم تقم دولة آل طولون بما تعهدت به للدولة العباسية من حماية الشام وأهله والعواصم والثغور في طرسوس وما حولها؟ ألم يدرك المرض الأمير أحمد بن طولون في أنطاكية وهو عائد من جهاده ضد الروم في آسيا الصغرى ليموت بمصر؟
تلك سنة الله التي اختطها لأهل مصر في الأعصر الخالية، فكتب عليهم القتال والجهاد والشهادة وحملها لهم أمانة لجند مصر وأمرائها وملوكها، فما وهنت أعناقهم عن حملها، وإنما ساروا بها لألف سنة والنصر يواتيهم، والشهادة تلاحقهم، وكتبوا بدمائهم صفحات من المجد الخالد، يعرفها كل من اطلع على تاريخ مصر العربية الإسلامية وشوكتها أيام استقلالها وعظمتها كما اعترف بها كتاب الغرب الذين كشفوا بأبحاثهم عن معارك الحروب الصليبية، وإن ود كثير منهم أن يطمسوا الحقائق وتبعهم فريق منا يحاول التقليد ليخفى من أثر مصر وجهادها في تاريخ الإسلام والعروبة.
إننا في حاجة دائماً إلى من يذكرنا بمواقف مصر وجهاد أهلها السابق؛ لأن هذا التاريخ(714/6)
الذي تنطق صفحاته بأيام النصر المتلاحقة المتتابعة عنصر هام من عناصر التكوين الروحي والعقلي للأمة المصرية، وهذاالإيحاء الدائم المتواصل المستمد من تاريخنا الإسلامي والعربي هو مصدر روحي لقوة الأمة وعبقريتها واستعدادها للتصادم ومقارعة الأحداث.
وأعود بهذه المناسبة إلى كلمة نشرتها عن الفكرة العربية وحاجتها إلى مجهود عدد كبير من المفكرين والباحثين ونظرت إليها كجزء مكمل للتكوين الروحي والعقلي للأمة المصرية. بل ذهبت في إيماني بها إلى تقرير مبدأ يتلخص في أن الكثير من مشاكلنا الخلقية والقومية، والتي تبدو لنا صعبة الحل؛ سيسهل علينا مواجهتها على ضوء الأسس الاجتماعية التي لا تعتمد على العقل وحده بل تحرك القلوب والمشاعر، وليس أعظم من الإيحاء الدائم المستمد من التاريخ الحي لتلقين الجماعات وإشعارها بالدور الذي لعبته في الماضي وتهيئتها لمواجهة المستقبل ومصاعبه.
ونحن الآن في مصر أمام حركة قومية تحدث العالم عنها، ووقفت البلاد إزاءها وقفة من تلك الوقفات التاريخية الخالدة، إذ أجمعت الأمة ممثلة في أحزابها ورجالها وساستها في المطالبة بحق ثابت لها، وهذا عمل عظيم رائع يملأ النفس تفاؤلا ويكاد يشعرنا بأن الأيام المقبلة ستكون حتما أسعد لنا من الليالي القاتمة السواد التي مضت. وإنا لنحس بأن هذه الدفعة وليدة الوعي القائم والرغبة المنبعثة عن إرادة شاملة للتحرر، بل فيها ما يقنع بأن هذه الإرادة ترمي إلى أبعد من ذلك كله: ترمي إلى إثبات كفاية هذه الأمة ومقدرتها على التقدم وإلى تأكيد شخصيتها وتحررها من الصلات القائمة لكي تعتمد في حل مشاكلها القادمة على القوة الكامنة فيها وحدها. هذه حالتنا اليوم في موقفنا إزاء الأحداث القادمة، ولئن شغلتنا قضية البلاد بمشاكلها الداخلية والخارجية ومصاعبها؛ فنحن في حاجة ماسة إلى تعهد هذه اليقظة، بعمل دائم من رجال الفكر، لكي تقوم هذه النهضة على أساس عقلي دائم، ولكي تبرز القيم الروحية لهذا الوعي، حتى تغمر الدوافع القومية كل طبقات الأمة. فيكتب لنهضتنا الدوام والاستمرار، وتحمل طابع الخلود الذي يلازم الحركات القومية الكبرى.
وهذا ما يدعونا إلى تقرير بعض المبادئ العامة التي تصلح لأن يؤمن بها كل منا. فالمبدأ(714/7)
الأساسي الذي تقوم به علاقات هذا الوطن بالعالم: يتلخص في أن الأمة المصرية في نضالها وكفاحها لا تضمر شراً لأحد من الناس أو لإحدى الدول الأخرى، وإنما تطلب معاملة الند للند، أي لا تسمح لأي دولة أن تعاملها معاملة أقل من المعاملة المعتادة التي توجد بين دولة أوربية ودولة أوربية أخرى، أي المعاملة المدنية التي تفرض أوربا قيامها مع أي مجموع راق متطور. ومعنى ذلك أن هذه البلاد كاملة السيادة فهي ليست مستعمرة، وعلى من يعيش فيها أن يخضع لأنظمتها وقوانينها ومحاكمها وتشريعها ويرعى قواعد الضيافة ويعود نفسه على احترم الأمة المصرية وتاريخها وتقاليدها.
وتستند هذه القاعدة لقيام صلات مع العالم المتمدين، على مبدأ شامل عام: هو أن الأمة المصرية تسكن هذه الأرض المعلومة بحدودها، وأن لها أرض الوطن الحق الطبيعي التاريخي الثابت، وما من شك في أن هذه الأمة ممثلة في أفرادها وجماعاتها وهيئاتها، تريد أن تحيا وهي متمتعة بكل حرياتها التي تكفلها حقوق الإنسان، وأن تتمسك بكامل شخصيتها ومميزاتها. ومعنى ذلك أنها لن تتنازل عن شيء من حرياتها ومميزاتها لأن كل هذا وديعة بأيدي الجيل الحالي سيسلمها كاملة وبأمانة إلى الأجيال القادمة وهي لا تقبل التفريط أو التساهل، لأن الأمة التي تفقد هذه الأشياء تصبح في النواحي التي ضعفت لديها، فريسة سهلة لما يحيط بها من تأثير الأمم الأخرى.
وأعظم مظاهر الشخصية للأمم هي اللغة: ولغتنا العربية هي من أعظم لغات الأرض بل هي أقوى اللغات السامية التي شقت بحيوية أهلها طريقها في التاريخ، وتمثلت فيها عبقرية الأمم العربية وتفوق الفكر السامي وقدرته على الخلود ومواجهة أحداث الزمن ونكباته، ولها ميزة انفردت بها عن سائر اللغات السلمية وهي أن غيرها فني وانقرض وبقيت لغتنا خلال القرون وهي حافظة على قوة التعبير والقدرة على التطور والإبداع.
وفي العالم الحديث ثقافات متعددة أو هي بعدد الأمم الحية وللعصر اتجاهات، ولكن لنا ثقافة نريد أن تكون حية وهي ثقافتنا العربية وليدة كفاحنا وجهادنا. لا ننوي أن تطغي عليها ثقافة أخرى من لاتينية أو انجلوسكسونية أو سوفييتية مهم علا كسب أهلها في مضمار الحضارة، لأن ثقافتنا جزء ثابت مكون للشخصية المصرية لا يمكن أن نتنازل عنه أو نقصر في حقه بل يجب أن يبرز في كل ركن وناحية من نواحي نشاطنا. ونحن نطمع أن(714/8)
نأخذ بما في الكون من أشياء نافعة وأفكار مبدعة، ونريد أن نساهم بقسط في تطور الفكر وإبداعه، فذلك حق لنا وضرورة لازمة، ونطمع فيما يطمع فيه غيرنا وهو استكمال النقص فينا لإبراز عناصر الحياة وتدفقها في ثقافتنا ولجعلها حقيقة عالمية تفني حين يفنى العالم بأكمله.
ونحن نعرف ما في قوانين الطبيعة من تفاوت وتفرقة، وما تمليه قواعد الطاقة ونظم الحياة الحديثة وما في العالم من قدرة وقوى محركة، ونعرف مواطن النقص لدينا وأماكن الضعف عندنا، ولكننا سنقبل المعركة كما دخلها الآباء والأجداد من قبل، سنتقدم بغير هوادة، لا تقدم اليائس بل تقدم الواثق من نفسه، سوف لا نقف بعد اليوم لأن الجمود تراجع، وستبرز فينا القوى الكامنة والمستمدة من عناصر الفتوحات الكبرى بشكل يبهر العالم. ولا يغرنكم ما ترون من تطاحن وتناحر واختلاف وتنابذ، أن ما يبدو مستحيلا أو بعيداً للوصول إليه سيتحقق، وسنرى الأحزاب مدارس لإخراج الرجال وتدريب القادة، ستملي النهضة قوانينها الثابتة المستمدة من روح الحياة والتاريخ، وتأخذ سيرها الطبيعي بعد التحرر، وتجعل من الأتباع والأعوان أنصاراً للفكرة الكبرى يثبتون على مبادئهم، ويفرضون على القادة التمسك ببرامجهم السياسية، فلا خصومة شخصية ولا كراهية يمليها الحقد، ستكون المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، ومصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد. وسنصل بالعلم والتدريب والنظام إلى خلق طبقة من الرجال: لا يخشون في الحق لومة لائم، أشداء على أنفسهم، فيهم الصبر والتؤدة والإقدام والسرعة، لديهم البصيرة النافذة والعناد والجرأة، نرى في أعينهم الثبات على الرأي، ونلمس في مشيتهم قوة الإرادة والسرور في ملاحقة الأخطار والصعب من الأمور، سيجمع بينهم طائفة من العواطف النبيلة أهمها حبهم لبلادهم وشعورهم بضرورة التفاهم والتعاون لترقية هذا الوطن: سنرى الشافعي في رجل الدين، وابن بكار في القضاء، وابن خلدون في العلماء، وصلاح الدين وبيبرس في القواد والزعماء وسنقول يومئذ ما قاله توسيديد (إن قوة المدينة في رجالها لا في قلاعها ولا في أسطولها).
أحمد رمزي(714/9)
للتاريخ:
يوم من أيام بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
(لعل ذكرى هذا اليوم تهز بغداد، دار الأعزة الصيد، فيكون فيها لمصر وقضيتها يوم مثله. . .)
طلعت جريدة (البلاد) على أهل بغداد، صباح اليوم الأخير من آذار (مارس) 1939، وفي صدرها مقالة (لكاتب شامي أستحي أن أسميه)، ليست كمقالات، جملا ترصف، وكلمات تؤلف، ولكنها قلب يتفطر، وديناميت يتفجر، عنوانها: (يا غازي. يا غازي. يا غازي). وفيها:
يا غازي، تدعوك الأيامى الثاكلات، يا غازي يناديك اليتامى المظلومون، يا غازي يستنصرك الضعاف العزل، والعجائز الركع، والأطفال الرضع. يا غازي يهتف باسمك الشباب الذي يواجه بجسمه المصفحات، وبصدره الدبابات، ويحارب الدولة الطاغية الغاشمة، لا سلاح له إلا إيمانه، وأمله بالله، ثم بالعرب، وبك يا مليك العرب، يا غازي!
يا غازي: دعوة غريق ينادي منقذه القوي!
يا غازي: هتاف مريض يدعو طبيبه الآسي!
يا غازي: إهابة مشرف على اليأس بالسيد المأمول!
يا غازي: صرخة الدم، واللغة، والدين، والمجد، والجوار.
يا غازي: المدد! المدد!
يا غازي!
لقد نادت امرأة واحدة، في سالف الدهر: (وامعتصماه) فاهتز لها هذا العرش: عرشك. وماج لها هذا الشعب: شعبك وخرجت الجيوش: جيوش بغداد، فلم ترجع إلا وفي ركابها المجد والنصر. فمن غيرك، وغير العراق لهذه الأمة التي حملت البلاء، ورأت الشدائد، وشاهدت ألوان الموت، وخانها الحليف، ونقض عهده لها القوي، وجرد دباباته الضخمة، ومدافعه وعتاده، ليحارب بها النساء والأطفال والشيوخ؟ من غيرك وغير العراق لهذه الأمة التي تنادي اليوم: (واعراقاه). (واغازياه)!(714/10)
فقم يا أيها (المعتصم)، لبها على (الخيول البلق) فان كتاب التاريخ أعدوا صحفهم، وأمسكوا بأقلامهم ليكتبوا المفخرة مرة ثانية للعراق، ولملك العراق!
إن الأمة التي أحبت فيصلا، وأحبها فيصل تناديك اليوم يوم الخطب بابن فيصل!
إن الشعب الذي بايع فيصلا، هو على بيعته لك، فهل تضيع شعبك يا أبا فيصل؟
إن القصر الذي كان يسكنه أبوك ملكاً، والذي كنت تلهو في حدائقه طفلا، هو اليوم مقر عدو العرب، منه يصدر الأمر بتقتيل رجالهم ونسائهم وأطفالهم، يسكنه اليوم العدو الذي بغى على فيصل، وسرق منه عرشه. فأنقذ تراث فيصل، من عدو فيصل، وعد أنت إلى قصر فيصل، يا بن فيصل!
يا غازي؟
الشباب الذين سقطوا في شوارع دمشق شهداء البغي، ماتوا وهم يهتفون باسمك يا غازي. العجائز تلقين أبناءهن المصرعين على أرض الوطن، وهن يهتفن باسمك يا غازي.
يا غازي، كم من طفل وطفلة، عدا عليهم الظالمون، فتلفتوا حولهم يفتشون عن المنقذ الذي حفظوا اسمه، ورفعوا رؤوساً يسيل من جراحها الدم، وأشاروا إلى الشرق بأصابعهم الصغيرة المخضبة بالنجيع الأحمر، ورددوا اسمك: يا غازي!
يا غازي! بك علقوا الآمال، ومنك ينتظرون العون، أفتدع هذا الشعب بين براثن الوحوش يعبثون بكرامته وأمجاده وحياته وكرامته كرامة العرب، وأمجاده أمجادهم، وحياته حياتهم؟
أتتركهم يموتون، وبغداد تستروح رائحة الربيع العطر، وتستمع إلى جرس النشيد الحلو، وتنام على فراش النعيم؟
يا مليكي!
هذا يوم من أيام التاريخ له ما بعده، فلا يقولن التاريخ: (يا ليتهم نصروا الشام في وقت محنته! يا ليتهم لم يدعوه رهن الحديد والنار)!
الشام في كرب شديد. . . الشام في ضيق!
لقد ضج لما يعاني الشام قبر محمد، يا سليل محمد!
لقد اهتز الحطيم وزمزم، ومادت جبال مكة، يا حفيد شريف مكة!
يا مليك العرب: الشام يدعوك. الشام يستجير بك. الشام يهتف باسمك: (يا غازي. يا(714/11)
غازي. يا غازي!)
نشرت المقالة في أشهر جرائد بغداد، فألهبت شبابها، وشباب بغداد كونت أعصابهم من نور ومن نار، وخلقت أيديهم من الندى ومن الحديد، وملئت قلوبهم نخوة وسماحة، وأترعت شجاعة وكرماً.
فإذا حاربوا أذلوا عزيزاً ... وإذا سالموا أعزوا ذليلا
وإذا عز معشر زال يوما ... منع السيف عزهم أن يزولا
وشباب بغداد، جند العروبة حيثما كان للعروبة أرض، وحماة الحمى، وأسد الغاب. أن أطلقت رصاصة في الشام، أو في مصر، أحسوا أزيزها. وإن أشعلت فيها نار وجدوا حرها. وإن سقط شهيد كان عندهم مأتمه، وإن أصيب جريح كان في ضلوعهم ألمه. وشباب بغداد إن غضبوا الإعصار الجارف، والبحر الطاغي، والصواعق المنقضة، والموت. هل من الموت مهرب؟ وشباب بغداد أن رضوا النسيم الرخي، والربيع الطلق، والسلسبيل العذب، والحياة. هل في الوجود أحلى من الحياة؟
وعلم شباب بغداد، أن ديار الشام في خطر، وأن (حلفاءها) قد نقضوا عهدهم لها، وعادوا كما كانوا أعدائها، فأسروا كرامها وسودوا لئامها، وجرعوها من (مدنيتهم. . .) الصاب والحنظل المسموم، وأن شعب الشام قد لبس لأمة الجهاد، ونزل إلى الشوارع يجالد البارود بالحجارة، ويرد الدبابات بالخناجر، حتى سقطت الدور على أهلها فغدت لهم مقابر، وامتلأت بالأبرياء السجون، واشتد الخطب وعظم البلاء، وقل الناصر، وانقطع المدد. . .
. . . واشتعلت الحماسة في صدور شباب بغداد ناراً، ومشت هذه النار في قلوب الشعب، فلم تمض ساعات حتى صار حديث الشام حديث الناس في كل مكان، في القهوات، والطرقات، والمنازل والمدارس، ولم يعد الطلاب يصغون إلى درس، أو يستمعون إلى مدرس، أيشتغلون بالمفاضلة بين الفرزدق وجرير، وبحساب بعد القمر ومساحة سيبريه، والشام غارقة في دماء بنيها، عابقة برائحة البارود، رازحة تحت أثقال المدافع، تطؤها نعال الفرنسيين والسنغال؟. . . أيطلب الشكولاته من لا يجد الرغيف؟ أيقرأ الأشعار من تأكل بيته من حوله النار؟ إنهم يريدون أن يطيروا إلى الشام، ليطبقوا في ساحاتها ما تعلموه في دروس الفتوة من فنون القتال.(714/12)
وفوجئ الناس في المساء، بإذاعة هذه المقالة من محطة الملك الخاصة، في قصر الزهور، فلما انتهى المذيع من تلاوتها، كانت مفاجأة للناس أشد وأمجد، حين سمعوا صوت الملك غازي الذي يعرفونه، يقول:
(لبيك. لبيك يا سورية!).
فكانت هذه الكلمة سحراً ماضياً جعل كل منزل في بغداد ثكنة، وكل قهوة معسكراً، وكل رجل جندياً شاكي السلاح، ينتظر الأمر بالهجوم على الجن والإنس والعفاريت لا يهاب شيئاً، ولا يخشى أحداً، ما دامت الحرب حرباً مقدسة لنصرة الشام، والقائد الملك الشاب الحبيب
وكانت حال لا توصف، ولا تصور ولا تمحو الأيام أثرها.
ودعا ناظر الثانوية المركزية في صبيحة الغد نفراً من المدرسين العراقيين والشاميين منهم كاتب المقال، وأفهمهم سراً، (ولا ضير اليوم في إذاعة هذا السر) أن الحكومة (حكومة السيد نوري السعيد) ترغب في مظاهرة احتجاجية على فرنسا، وأنه ترك لنا أمر تنظيمها، فكان ذلك أحب إلينا من خزائن المال نعطاها، وأسمى المراتب نمنحها، وخرجنا فأخذنا في عملنا.
وكان في بغداد وضواحيها عشر ثانويات، فاقتسمنا ثانوياتها العشر. ينفرد كل منا بإعداد طلاب مدرسته للمظاهرة، وتفننا في هذا الإعداد، واستبقنا فيه، وكنت امرأ أكتب ولكني لا أحسن بيتاً واحداً من الشعر، فبحثت عمن ينظم لمدرستنا نشيداً لهذا اليوم فلم أجد، فنظمت أنا أنشودة مهلهلة النسج، ضعيفة التأليف، لكنها خارجة من القلب وتقع في القلوب، ثم وضعت لها أنا. . . لحناً لفقته من ألحان الأناشيد التي كنت حفظتها قديماً ونسيها الناس، وعمدت إلى لوحات صنعناها من القماش. . . فكتبت عليها كلمات تعبر عن الحقيقة التي امتلأت بها نفوس البغداديين مثل:
(الله جعل العرب أمة واحدة فلن تفرقهم يد مخلوق)
(نحن جند الوحدة العربية، إننا سنكتبها بالدم)
(من تعدى على دمشق فقد اعتدى على بغداد)
(لبيك لبيك يا سورية، إننا آتون)(714/13)
(يا سورية، لن تضامي وشباب العراق في الوجود)
وسهرت مع الطلاب في كتابتها وتلوينها، وأنا الذي لم يمسك من قبل (ريشة) قط.
ولم أنم تلك الليلة بل كنت أنتقل من مكان إلى مكان حتى إذا أصبحنا بكرت إلى ساحة الاجتماع، وهي الساحة الفيحاء بين دار الكتب والمتوسطة الغربية ودار المعلمين العليا فوجدتها تعج بالطلاب من كل مدرسة، وكلهم بلباس الفتوة لا يمتاز طالب منهم من طالب، فكيف أجمع طلاب مدرستي وأصفهم؟
وطفقت أصرخ ولا سامع ولا مجيب ومن يسمع النداء في هذا المحشر الذي جمع فيه عشرة آلاف طالب متحمس كلهم يصيح ويتكلم؟ ثم ألهمني الله فكرة فدعوت عريفاً من عرفاء الطلبة، ميزته من شرائط الفضة على ذراعه، فانتصب أمامي، وحيا ووقف وقفة عسكرية ينتظر مني الأمر. فقلت له: صف هؤلاء الطلاب. فأعاد التحية وقال: حاضر. وانصرف، وأنا أعجب منه كيف يقول: (حاضر)، وقد عجزت من قبله عن ذلك ويعجز عشرة من أمثالي! وإذا به يدعو طالباً معه بوق، فينفخ به، فتقع المعجزة، ويعم الصمت، كأن المتوكل قد طلع بضوء وجهه. . .
. . . . . . . . . فانجلت تلك الدجى وإنجاب ذاك العثير ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هذه الخلائق كلها، تغدو صفاً طويلاً صامتاً مرتباً. وقد مني إخواننا فقلت فيهم خطبة. ومشينا، حتى إذا بلغنا أوائل ميدان باب المعظم، قابلتنا مواكب الشعب الهائلة آتية من حي الفضل وتلك الأرجاء، فتداني الجبلان، والتقى البحران، فعادا بحراً واحداً، تلتطم أمواجه، وتعلو أثباجه، بحراً من الناس ملأ باب المعظم وأفواه الشوارع المفضية إليه، والأرض البراح من هنا ومن هناك. وقام الخطباء في كل مكان فلن يبق في اللغة كلمة تمجيد إلا قيلت للشام، ولا لفظة تحقير إلا سيقت لفرنسا، ولا جملة تعبر عن القوة والإيمان والاستعداد إلا ألقيت على الناس، ولا شيء يهز القلب ويحرك العزائم إلا كان ثم مشى هذا البحر. وإلى أين تمشي البحار؟ والشوارع قد سدت بالناس، والناس على الأرصفة وفي الشبابيك وعلى الأسطحة. وفي كل مكان هتاف ونداء، فالطلاب ينشدون، والعامة يحدون والنساء يزغردن، والتكبير والتهليل، والمواكب تمتد، والخلائق تتوافد، حتى حلت بغداد كلها في شارع الرشيد من باب المعظم إلى باب الشرقي، وكان يوم ما رأيت له مثيلا قط.(714/14)
إننا لم نخض في ذلك اليوم ملحمة، ولا شهدنا معمعة، ولا أرقنا لعدو دماً، ولم نجاوز فيه الكلام، ولكنه كلام جعل كل فتى من هؤلاء الفتيان بطلا، وترك في نفسه ذخيرة تمده بالقوة دهراً، وصب في نفسه من العزة ما جعل نفسه أسمى من النجم، وأكبر من الدنيا. كلام ولكنه كان أساساً من الصخر الراسي في صرح الوحدة العربية غداً والإسلامية بعد غد. كلام ولكنه أرهب العدو وخلع قلبه، ورده عن قصده، ودفع من عدوانه. كلام ولكن بمثله تحيا الأمم، وتبنى النهضات، وتكتب تواريخ المجد. كلام، وإن من الكلام لفعالا من أعظم الفعال، وقوة من أمضى القوى، ومجداً من أسمى الأمجاد.
إن الشام يذكر لك يا بغداد في عرس الاستقلال، ما أسديت إليه في بؤس الاحتلال، فهلا اتخذت عند مصر يداً مثلها تذكرها لك يد الدهر؟
إن مصر، يا بغداد، أختنا الكبرى في العروبة، وقضية مصر قضيتنا، ووادي مصر وادينا، وعدو مصر عدونا، وإننا إن نخذل مصر نخذل بلادنا، وإلا نكن معها نحن أمتنا.
يا بغداد، يا ذات المجد، يا مثوى البطولة، يا عرين الآساد، أن مصر قد عدا عليها العادون، وكشر لها عن أنياب الذئب، من كان يجيئها أيام الحرب في فروة الحمل، سائلا يطلب منها العون ولمال. إنه يريد الآن أن يفرق بين أسودها وأسمرها، وأعلاها وأدناها ويسرق منها نصف واديها، أفتنامين يا بغداد في سرر الأمان، ومصر في الشوارع تصارع الذئاب؟
يا بغداد! اليوم يومك، يا بغداد!!
علي الطنطاوي(714/15)
أم كلثوم تلقي درسا
للأستاذ عبد المنعم خلاف
منذ أن غردت أم كلثوم. تلك القصيدة الفذة (سلو قلبي غداة سلا وتابا) لأول مرة وأنا أشعر أن القلم يريد أن يسجل شيئاً لا يد من تسجيله إزاء ما تجلى في هذه الأغنية من البيان الرفيع والموضوع الكريم والتلحين الشرقي الخالص.
غير أن الأيام قد ذهب مطلها بالقلم مذاهب النسيان والإبطاء، ولكن ما تتأذى به الآذان كل يوم من الأغاني التافهة المسمومة يلح علي بذكرى هذه الأغنية والتنويه بها، ولفت أنظار وزارة الشؤون ومحطة الإذاعة بما يحب قوله تعليقاً على هذا الحادث الأول من نوعه في أغاني أم كلثوم، بل ربما في أغاني هذا الجيل الذي احتملت أعصابه من سموم الأغاني التافهة المسمومة الساقطة ما سمم المنابع وأسقط الهمم وأفسد الذوق وأطفأ الأشواق الرفيعة التي تضطرم في الأفئدة حين تهب عليها الأصداء والهتافات وأنسام الشجو من حنجرة تغرد على طبيعتها السليمة القوية، أو وتر يرتعش في يد ينضب إليها النغم الذائب الحادر في أعصاب العازف المترجم عن تلك الخفايا والأسرار والكلمات المكنونة في الكون ولا يخرج خبأها ويكشف سرها إلا أنامل عازف يعرف كيف يخنق الوتر الدقيق فيخرج حنينة، أو فم ساحر ينفخ في الناي فيخرج أنينه، أو لامس ماهر يلمس الطبل أو الدف فيهيج شجونه، ويرسلها في دبيب ودوي رهيب إلى الأسماع والأوصال فيدخل عليها من هواتف ما وراء المادة والكثافة والجمود ما يدخل!
ولقد هب على قلوب سامعي هذه الأغنية من أم كلثوم نسمات رفيعة من الطرب الحق الذي يثير أعظم ما في النفس الإنسانية من أحاسيس الحب والجمال والقوة والدين والوطنية والبر والتبتل والألم اللذيذ الوديع والرحمة القلقة الملهوفة، والثورة العازمة الواثقة، ما أجرى فيها طهارة ونقاء يطردان الدم الأسود المسموم، ويجريان بدله الدم النقي المطهر للنفوس من عوامل الضعف والفسولة والتخدير والحب الوضيع.
ولقد تقبل الجمهور المصري هذه الأغنية بكل حواسه الموسيقية والمعنوية في الحب والدين والوطنية بما يشجع على أن تتجه الأغاني إلى خدمة الأهداف القومية والأمجاد الرفيعة خدمة لا تتأتى إلا عن طريق الأناشيد السائرة على الحناجر الساحرة التي لها من السلطان(714/16)
على نفوس جماهير الرجال والنساء والأطفال ما ليس لقواد الاجتماع والسياسة والدين، وخاصة في هذا العصر الذي تلاحق فيه الإذاعة الفرد في كل مكان وتقتحم عليه حتى مخادع نومه.
وقديماً كانت (الأصوات) التي يغنيها المغنون العرب للخلفاء والسلاطين والجماهير من منتقي الشعر الرفيع، وكان الغناء بها من أسباب رواج الأدب الكريم.
وكان للبيت الواحد أو للأبيات التي يتغنى بها التأثير اللازم لمعانيها والنتائج الحتمية لدى سامعيها، حتى إن غناء أحد المغنين ببيتين في مجلس الرشيد كان الحافز المثير والنقطة المطففة التي طفحت بها كأس الرشيد فأنزل نكبته بالبرامكة.
ولو علمت أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم بمدى سلطانهم على تربية الناشئين لخافوا الله في تلك النفوس الغضة التي تلاحقها أغانيهم من المهد.
وفي الموسيقى تستعرض قلوب الأمم، وقد استطاعت كل أمة أن تلقط توقيعات من طبيعة بيئتها التي تعيش فيها تطرب لها وترقص بها في ساعات الطفور والمرح والهيام في عالم الرؤى والأحلام، وتعرض فيها أفانين حياتها وأصداء الهواتف الطبيعية في آذانها وصور الدنيا الباطنة كما تراها في مرآتها الخفية.
فالقلب العربي أو المكسيكي أو الهندي أو الألماني أو الزنجي أو غيرهما يمكنك أن تعرف خلاصة اتجاهاته في الحياة حين تسمع ألحانه وأشواقه فيها.
وبودي أن يجتمع جوق عالمي عظيم من فنانين عالميين ليضع ألحاناً آخذة من جميع الأصداء والهواتف لتوجيه قلوب البشر ليدركوا السر الواحد الذي في قلوبهم جميعاً بدون ألفاظ.
وبودي كذلك أن أجمع الوجوه الإنسانية الكريمة من الأجناس المختلفة وتؤلف منها (هرموني) وتناسقاً بصرياً يرى عشاق التحف والطرف ما في العقد البشري المنظوم من جمال وثراء. . .
وبودي كذلك أن أقيم معرضا للطفولة الإنسانية البريئة الموحدة اللغة والإشارة والإدراك قبل أن تأخذها سبل أممها المتفرقة فتجعلها أباديد متناكرة كأنها فصائل أجناس متعادية متناقضة. . .(714/17)
وبودي كذلك أن أقيم معرضاً للقمم الإنسانية العالية العاملة المجاهدة القريبة من عرش الله بالنسك والفكر والعلم والعمل، حتى يراها الفاجرون القاعدون في السفح. . . بودي كل أولئك! ولكن ما مبلغ جهدي غير الآمال والأحلام السعيدة. . .
وإني لأتساءل: من أين أتى الإنسان بهذه الأنغام العالية المعقدة التي يخرجها من المزامير والصنوج والأوتار؟ إن كل أصوات الطبيعة ساذجة محدودة المقاطع ليس فيها إلا توقيع بسيط، فكيف أتى الإنسان بهذه الألحان التي تهيج أعصابه وتثير أشواقه نحو الجمال والحياة وتأخذ بأنفاسه وحواسه نحو المجهول؟ ولماذا تثير الألحان العظيمة قوة الإيمان وانفساح مدى الحياة في أعماق القلوب؟ أيكون ذلك ناشئا من أن روح هذا الإنسان ذات ذخيرة كامنة من أيام حياة في عالم ذي طرب دائم، فلما أخرج منه وأنسى ما فيه صار يبحث في ذهول ولهفة إلى إيجاد أصداء وصور منها في هذه الدار الفانية؟ فجعل ينبش في ذبذبات الأوتار والصنوج عن ذلك النغم الذي كان يعمر جو الجنة ويختلط بأنفاس رياحها ويهب على النفس مع هبوب نسماتها وخفوق خافقاتها؟
إني أشعر أن لتلك الأصداء الموسيقية تأثير الحياة أو الموت على الأعصاب. . . إن لها في الأعصاب وحياً كوحي النسمات وقطرات الندى ودفقات المزن ونضحات الأشعة وانعكاسات الألوان. . إنها أفواه نافخة من شذى الجنة أو لافحة من زفرات جنهم أحياناً. وإني أتلقاها بحاسة خاصة. والألفاظ هنا تضيق والشرح يترك للوجدان المشترك لدى كل حساس. إنها من أعجب ما أودع الله في طبيعة الأشياء!.
وإذا قيل إن الألفاظ والمعلومات (أشياء) أفادها الإنسان من محيطه وتسلسلت حتى تركبت في عقله وصارت هكذا كما نراها معقدة؛ فماذا يقال في النغمات؟ إنها لا تكون أكثر من فيض نفسي، ولا تكون نقلا عن (معلوم) في الطبيعة، وإنما هي تعبير خفي يفيض به همس المجهول في أعماق النفس. ولذلك قال القدماء عنها إنها فضل كلام نفسي ضاق عنه النطق. .
وإن الآلات الموسيقية تظل صامتة خرساء حتى تمسكها يد الإنسان فتنطقها بالأغاريد الغريبة التي في قلبه هو لا في قلبها هي. . .
والشخصية الموسيقية شخصية خفية ليس لها مدد تستعلن به إلا من داخلها، وإني لأسمع(714/18)
إلى الموسيقى الألمانية في ألحان عباقرتها فأدرك ما في نفس الألمان من كبت وتمزيق وهيام وحيرة وصوفية عاجزة عن رؤية الطريق، وصرخات الإنسان الفريد المحس بضياعه في رحاب الكون. .
وأسمع إلى موسيقى الزنوج فأحس فيها طمأنينة الجهل وصخب الغرائز ومجابهة المجهول بدون إحساس به وحيرة فيه.
وهكذا أغلب ألحان الأمم.
ولكني حين أسمع أكثر ألحان الموسيقيين المصريين المحدثين أشعر بشيء مخدر كئيب لا فلسفة فيه ولا أصالة طبع معه، وإنما يختبئ وراءه (دعاء جنسي) مريض غير صحيح الذكورة ولا صحيح الأنوثة.
فهل تدرك (وزارة الشؤون الاجتماعية) ذلك أو لا تدركه؟ إن كانت تدركه فما أحراها وهي المشرفة على الإذاعة الموسيقية أن تحمي الجيل الناشئ من هذه السموم المخدرة التي تنفثها تلك الموسيقى التافهة وأن تجرب وضع برنامج من الموسيقى القوية تستعين في وضعه باللفظ القوي واللحن القوي والذوق الناقد الذي يدرك خطورة الأمر.
وإن كانت لا تدركه فما أضيع هذه الأمة التي تتخذ على شؤونها رعاة يسيرهم القطيع!
عبد المنعم خلاف(714/19)
معاوية بين يدي عائشة
للأستاذ سعيد الأفغاني
الشورى أساس من أسس الحكم في الإسلام، فكلما كان حظ الحكم منها أوفى كان أقرب إلى روح الإسلام. والحاكم الأعلى في العرف الإسلامي أجير للناس كافة: يسهر على مصالحهم ويمضي أحكام الشرع ويستوفي أجره من بيت ما لهم وليس يملك من الأمر غير ذلك.
انقضى عهد الراشدين وفهم أجلاء الصحابة ورؤوس الناس للحكم هذا الفهم؛ فلما اتفق أن ولي الخليفة عثمان رضي الله عنه بعض الأكفياء من أقربائه أعمالا، أعظم الناس ذلك وخافوا أن تصير مصالحهم العامة حكرة لأحد أياً كان أو وقفاً على أسرة أية كانت، ففشت القالة في عثمان وكان هذا أول الشر الذي أودى بخلافته.
أما معاوية، فإن أربعين عاماً سلخها في حكم الشام إلى جوار إمبراطورية الرومان وفي ديارهم القديمة، قد انحرفت به عن الجادة في أمر الحكم، فلم يسلك به الطريق الإسلامي الذي رأينا أساليب مختلفة له في عهد الراشدين، وإنما سلك به طريقاً (بيزانطياً) وأراد الخلافة أسلوباً ملكياً على أساس بيزنطة، وانتوى لها نية فطفق يتألف لها الناس ويهيئ لها الأمور. . . فلما وجد الأحوال مواتية أعلنها بيعة بولاية العهد من بعده لابنه يزيد.
ولم يفعل ذلك معاوية حتى سبر أغوار الأمصار وطباع الناس؛ وكانت قد استلانت واستكانت مدة عشرين عاماً بسبب سياسته وسياسة ولاته الحازمين الأشداء. نعم لقد استكانت إلى الطاعة، حتى من يجيش حمية من رؤوس الناس وأحرارهم، روض معاوية إياهم وأنفتهم بلطفه وعطائه الجم حتى أسلسوا القيادة، أما من لم يسلس له فقد جعله جزر السيوف كما فعل في أمر حجر بن عدي وأصحابه. هذا وقد حصد الموت مدة أربعين سنة أكثر الصحابة وزعماء الجماهير ممن يهابهم معاوية.
مع كل ذلك، لم يخل إعلان البيعة ليزيد من صدمة للنفوس عامة، فأكثرها وقف ثم رضى بالقدر المحتم، وبعضها أنكر ورفع عقيرته بالإنكار.
أما السيدة عائشة فقد لزمت بيتها وسكينتها، وأنا أقطع أنها جاهدت نفسها بهذه السكينة أعظم الجهاد، وكبتتها أعظم الكبت وكظمت غيظاً ما كانت لتكظمه. فما كان هذا الأمر بالأمر الحقير، إنه أعظم ما مر بالسيدة من خروج على الإسلام وتنكر لروحه؛ ولكنها(714/20)
ذكرى يوم الجمل والدماء المهراقة فيه، الدماء دائماً هي الشبح الذي يلوح لعائشة كلما همت بإنكار منكر فترعد فرائصها وتستجير بالله من كل خير يؤدي إلى شر.
لكن أعوان معاوية فاتهم اللطف في تأتيهم لهذا الخرق لحرمة الخلافة، ولم يدركوا ما فيه من كسر لحرية ألفها العرب وشورى يتعبدون بها، ونظم سامية تجري منهم مجرى الدم من العروق. ظن أعوان معاوية أن البيعة ليزيد أمر من هذه الأمور الكثيرة التي يرد بها البريد فتعلق للناس وتنفذ في يسر وصمت. . . مما لا يصدم عقيدة ولا يجافي روحاً ولا يكسر تقاليد أصيلة ولا يذل أنفة قومية.
أرسل معاوية أمره إلى الأمصار بأخذ البيعة لابنه يزيد من بعده، فوقف عامله على المدينة مروان بن الحكم يعلن هذه البيعة على منبر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فكان إنكار الناس لها واحداً، وكان متكلمهم عبد الرحمن بن أبي بكر أخو السيدة عائشة، فقد رد على مروان قائلاً:
(كذبت والله يا مروان وكذب معاوية معك، لا يكون ذلك. لا تحدثوا علينا سنة الروم: (كلما مات هرقل قام مكانه هرقل)، (لقد جئتم بها هرقلية وقوقية؛ تبايعون لأبنائكم؟)
قال مروان: (سنة أبي بكر وعمر).
عبد الرحمن: (بل سنة هرقل وقيصر)، (ما لأبي بكر لم يستخلفني؟ وما لعمر لم يستخلف عبد الله؟).
واشتد الغضب والحنق بمروان فقال:
- يا أيها الناس، إن هذا الذي قال الله فيه: (والذي قال لوالديه: أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله: ويلك آمن، إن وعد الله حق، فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين).
حينئذ، فرغ صبر عائشة وهي تسمع من حجرتها بالمسجد، وقد رأت أن عبث مروان تطاول إلى القرآن، فغضبت وقالت لمن حولها: (ألا بن الصديق يقول هذا؟؟ استروني) فستروها فجهرت ورددت جوانب المسجد صوتها قائلة:
- كذبت والله يا مروان، ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته؛ إن ذلك رجل معروف نسبه. . . ولكن (رسول) الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت قضض (قطعة) من لعنة الله(714/21)
يا بن الزرقاء، أعلينا تتأول القرآن؟! لولا أني أرى الناس كأنهم يرتعشون لقلت قولا يخرج من أقطارها).
وكان لهذه الصرخة أثرها في الجماهير فانخذل مروان وانكسر ولم يعرف أن يقول غير هذه الكلمة: (ما يومنا منك بواحد)
لقد كان جبهها مروان شديداً عنيفاً حاطماً، وما باختيارها جبهته، ولكنه أحرجها. إن الذي بوسعها أن تفعله هو حيادها في أمر هذه البيعة غير المشروعة، وحسبها ذلك قهراً لنفسها وللواجب عليها، وكذلك كان: فلم ترد على مروان شيئاً لما أعلن بيعة يزيد، لكن مروان امتد أذاه إلى أخيها بغير حق، ثم امتد إلى ما هو أشد حرمة من أخيها وما لا يجوز لمسلم أن يقر عبثاً فيه، لقد امتد عبث مروان إلى كتاب الله يدعي أن آية نزلت في عبد الرحمن وهي لم تنزل فيه. . .
لم يكن للسيدة ولا لغيرها أن تسكت على هذا النكر الذي ارتكبه مروان نصرة لعصبيته السياسية.
وأي كان فقد امتنع عبد الرحمن بن أبي بكر عن البيعة وامتنع الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، وامتنع لامتناعهم أهل الحجاز.
كتب مروان بالذي كان لمعاوية، فأقبل نحو المدينة فلما دنا منها استقبله أهلها وفيهم الأربعة المذكورون، (فأقبل على عبد الرحمن بن أبي بكر فسبه وقال: (لا مرحباً بك ولا أهلاً).
فلما دخل الحسين بن علي قال: (لا مرحباً بك ولا أهلاً، بدلة يترقرق دمها - ولله - مهريقة).
فلما دخل ابن الزبير قال معاوية: (لا مرحباً بك ولا أهلا، ضب تلعة مدخل رأسه تحت ذنبه).
فلما دخل عبد الله بن عمر قال معاوية: (لا مرحباً بك ولا أهلاً) وسبه فقال عبد الله: (إني لست بأهل لهذه المقالة)
قال معاوية: (بلى، ولما هو شر منها).
معاوية في بيت عائشة:
دخل معاوية المدينة وكله خوف من السيدة عائشة أن تشتد عليه فيما ابتدع وما يريد أن(714/22)
يبتدع في أمر خلافة المسلمين مما يهون معه كل ما كان الناس نقموا على عثمان. ثم هو يخشى أن تكون السيدة سنداً وملجأ وقوة لهؤلاء الأربعة الأعلام الحجاز من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعاوية من الذين يتأتون للشر قبل وقوعه، ولا تحملهم قوتهم عليه أن يكابروه حتى يقضوا عليه، توفيراً لقواهم ورجالهم، وسياسة لهؤلاء الخصوم عسى أن يصبحوا في جملة أنصارهم فيزيدوا بهم قوتهم.
أراد معاوية أن يتلطف لما في قلب السيدة عليه، فقد قتل قائده - بأمره على ما أرجح - أخاها محمد بن أبي بكر بمصر شر قتله وأشدها نكالا: حرمه قبل قتله شربة ماء وكان يتهالك ظمأ ثم أدرج جثته في جيفة حمار فأحرقها، ولم ينج أخاها من القتل والإحراق شفاعة عائشة ولا إرسالها في أمره رسولا خاصاً من أشراف بني أمية؛ وكذلك أرسلت تشفع أيضا في حجر بن عدي وأصحابه فلم تفد شفاعتها شيئاً. ولا ريب أن في نفس السيدة على معاوية - لذلك - ما فيها، ولكنها كظمت غيظها وردت حنقها. ثم كان من مروان مع أخيها عبد الرحمن في أمر البيعة ليزيد ما رأيت آنفاً.
ومعاوية يخشى أن يفيض الإناء فيكون له من عائشة يوم مثل يوم الدار أو يوم الجمل، والحملة عليه اليوم مواتية ناجحة لاقحة: لهذا الخرق الذي أتاه في الإسلام بأخذ البيعة لابنه يزيد مع أن أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار وأولي الحل والعقد من رجال العلم متوافرون يشهدون ويسمعون: قد تخطى معاوية مشيختهم وأجلاءهم إلى شاب مستهتر سكير سيئ السيرة رقيق الدين فيما زعموا.
لهذا كله، عزم معاوية أن يروض أصعب الناس عليه يومئذ وأشدهم وأجدرهم إذا قال (هلم) أن يلبيه الناس من كل صوب ويثوروا تحت لوائه: عزم قبل كل شيء على زيارة عائشة والتذلل لها وموادتها، (فأقبل ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أم المؤمنين، فاستأذن، فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحد، وكان عندها مولاها ذكوان، فلما استقر به المجلس ابتدرته عائشة تقول:
(يا معاوية، أكنت تأمن أن أقعد لك رجلا فأقتلك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟).
كان التقريع عنيفاً مفاجئاً كما ترى، لكن داهية الأمويين - على ما يظهر - كان يتوقع مثله، فلم تصدمه المفاجأة، بل أجاب متملقاً متودداً:(714/23)
- ما كنت لتفعلين ذلك.
- ولم؟
- لأني في بيت آمن: بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فطامن ذلك من عنفها. ثم إنها حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول الله وذكرت أبا بكر وعمر، وحضته على الاقتداء بهما والاتباع لأثرهما. . . ثم صمتت. وكان على معاوية أن يجيب على خطبتها هذه، ولكنه لم يخطب مخافة إلا يبلغ ما بلغت، فارتجل الحديث ارتجالا في الأمر الذي قدم لأجله، وتلطف في تهوينه وتقريبه، وقال:
- (أنت والله يا أم المؤمنين العالمة بالله وبرسوله. دللتنا على الحق وحضضتنا على حظ أنفسنا، وأنت أهل لأن يطاع أمرك ويسمع قولك، وإن أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم؛ أفترين أن يقضوا عهودهم ومواثيقهم؟؟).
فلما سمعت عائشة ذلك علمت أنه سيمضي أمره فأوصته بهؤلاء المخالفين: أخيها عبد الرحمن وأصحابه فقالت:
- (أما ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتق الله في هؤلاء الرهط ولا تعجل فيهم، فلعلهم لا يصنعون إلا ما أحببت).
ثم قام معاوية، فلما قام ذكرت عائشة فعلته الشنعاء في حجر وصحبه، فقرعته قائلة:
- (يا معاوية، قتلت حجراً وأصحابه العابدين المجتهدين؟)
فقال معاوية مراوغا: (دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟).
قالت: (صالح).
قال: (فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا).
وهكذا انتهى اللقاء الأول بين الخليفة الداهية العظيم وعائشة أم المؤمنين، وأصابه بعض ما يستحق من التعنيف على لسان السيدة
ثم خرج معاوية ومعه ذكوان مولى عائشة، فاتكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول:
(تالله ما رأيت كاليوم خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله) ثم مضى. ولا تظنن وأنت تقرا كلام معاوية آنفاً أن فيه حجة أو أن السيدة اقتنعت، فليس مما يقنع مثلها أن يقال لها(714/24)
في منكر تنكره (هذا قضاء من قضاء الله)، لكن عزيمة سبقت منها في اعتزال السياسة والفتن جعلها تمر بهذه الحجة الواهية متغافلة. ومعاوية يعلم ذلك منها، وكلا الاثنين يجامل صاحبه ويدافع شره.
ثم كان لقاء آخر بمكة زور له معاوية جواباً فيه شبه الحجة في قتل حجر وأصحابه.
والذي أذهب إليه أن السيدة لا تريد هذا التأنيب، وإنما تلوح لمعاوية بقضايا قد تلجأ إلى التشنيع بها عليه إذا هو حاول أن يمس أخاها عبد الرحمن وصحبه بأذى أو بطش، ففهم كل منهما عن صاحبه.
وكأن مكانتها رحمها الله قيدت معاوية عن التصرف كما يريد في إحكام الأمر لابنه في الحجاز فمات وفي نفسه غصة من منزلة عائشة بين المسلمين وتخوف لما قد يكون منها.
أما اجتناب السيدة الشدة في إنكار هذا المنكر فيشرحه أحسن شرح حالها في احتضارها:
ذكروا أنها لما احتضرت جزعت، فقيل لها (أتجزعين يا أم المؤمنين وأنت زوجة رسول الله وأم المؤمنين وابنة أبي بكر الصديق؟). فقالت (إن يوم الجمل معترض في حلقي. . . ليتني كنت نسياً منسياً).
سعيد الأفغاني(714/25)
الأدب في سبر أعلامه
6 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
طالب فاشل
لما بلغ ليو السادسة عشرة من عمره أراد أن يلتحق بجامعة قازان، واختار قسم اللغات الشرقية إذ كانت بغيته أن يكون في غده من رجال السياسة؛ وكان لا بد لمن يلتحق بهذا القسم أن يجتاز امتحان اللغات العربية والتتارية والتركية، مضافا إليها بعض اللغات الغربية وبعض فروع المعرفة العامة، ونجح الفتى في بعض مواد هذا الامتحان وأخفق في بعض؛ وقد حصل في اللغة الفرنسية على أعلى درجة، وتفوق في الألمانية والعربية والتركية، وكان أقل من ذلك جودة في المنطق والرياضة واللغة والإنجليزية والأدب الروسي؛ أما التاريخ والجغرافيا فقد كان نصيبه فيهما الرسوب إلى حد بعيد، وقد ذكر عن نفسه أنه سئل أن يعدد المواني الفرنسية فما استطاع أن يذكر منها واحدة؛ ثم أعيد امتحانه بعد أشهر فيما رسب فيه فنجح وقبلته الجامعة منتسباً. . .
وجلس بين صفوف الطلاب، منصرفاً أكثر وقته عما يقول الأساتذة، يقلب عينيه في أقرانه حيناً فيعجبه منظر هذا وتضحكه هيئة ذاك؛ وينظر إلى الأستاذ حينا فيسخر مما يقول أو يرسم صورة هزلية؛ ثم ينشغل عما حوله حينا كأنما أخذته عن نفسه فما يفيق إلا على نهوض الطلاب ينطلقون من درسهم، فيسرع في انطلاقه منه لأنه ضائق به صدره. . .
وكيف يجعل الفتى للدرس باله وإنه لفي شغل تارة بما يطوف برأسه من أحلام الشباب وأوهامه، وآونة بما يهبط على خاطره من أفكار منها ما يتصل بالدين ومنها ما يتصل بالحياة. . .
أما عن الشباب وأحلامه فقد كان له في قازان مجال أي مجال للهو واللعب، وألفى الفتى نفسه وقد أخذ حب اللهو عليه كل مذاهبه وطالعته مفاتن الحياة ومسراتها من جميع أقطاره، وهو فتى متوثب الشباب تعتلج في نفسه عواطف شتى من الحب والطموح والشهوة وكل(714/26)
ما هو بسييل من هذا؛ ولذلك ألقى بنفسه في متع الحياة صالحها وفاسدها وأرخى العنان لشهواته ونزواته، حتى لينسى في تلك المسرات كل ما عني به نفسه من قبل من رغبة في الكمال. . .
والكمال عنده يوم ذاك أن يلبس أحسن الثياب وأجملها وأن يفتن في اختيار الألوان حتى يحمل الناس على الإعجاب بذوقه، ولعل عدم رضائه عن خلقته قد أدى به إلى كثير من الإسراف في هذا السبيل؛ ثم إنه يلعب الورق ويشرب الخمر في جماعات من لذاته؛ ويدخن الطباق في غليون جميل يحرص أن يكون ثمنه أغلى ثمن، ويتطيب ويمشط شعره ويدهنه بما يكسبه اللمعان، ويتكلم الفرنسية في أناقة متكلفة؛ وإنه ليشهد كل حفلة يقيمها أرستقراط المدينة وذلك بدعوة من أصحابها فما يفوت أحداً أن يدعوه وقد أمسى شخصية من شخصيات المجتمع، وإنه ليبذل قصارى جهده أن يلفت الأنظار إليه، ولكم يبهجه أن يتحقق له ما يريد وبخاصة إذا ظفر بنظرات الأوانس، ولكم يؤلمه ويكدر عليه عيشه أن يصادف من أحد عدم الاكتراث له أو الفتور في تحيته؛ وإنه ليندس بين كل جماعة فيتحدث ويعرض آراءه ويخالف ويعارض ليبرهن على أصالته وقوة شخصيته.
وإنه ليغشى دور اللهو جميعاً، فيتكلف أكثر ما يستطيع من مظهر أرستقراطي في حديثه وتحياته ومشيته وجلسته؛ ويدلي بآرائه فيما يشهد من تمثيل أو يسمع من موسيقى، ويأخذ بقسط من الرقص، وإن كان لا يحسنه كما يجب أن يحسنه.
وإنه ليحسب أكثر من مرة أنه نضو حب، فيخيل إليه تارة أنه أسير هوى لشقيقة صاحبه دياكوف، وتحدثه نفسه أنها خير ما يختار من زوجة؛ ثم إذا به يتجه بخياله وقلبه إلى صديقة لأخته ماري إذ يراها وهي طالبة في معهد عال تجمع إلى جمال الخلقة حسن الخلق وسعة الثقافة؛ ولكنه لا يلبث أن يرى نفسه وقد علق قلبه بفتاة تزوجت حديثاً، ولكنه يؤثر أن يموت بين يديها على أن يكاشفها بما يحس نحوها من حب. . . ولن تزال أحلام الحب تطوف بقلبه شأنه في ذلك شأن غيره من الشباب، ولا تزال الرغبة في الزواج تلح على نفسه وتوحي إليه كثيراً من الأماني العذاب، ولكنه لا يستقر على رأي، وقصاراه أن يحلم بمن يتوق إلى أن يحبها لتكون له زوجاً تجمع بين صدق العاطفة ورجاحة العقل وتحس نحوه مثلما يحسه نحوها وتفهمه كما يفهمها، وأنى له أن يظفر بهذه الزوجة التي لا يجدها(714/27)
إلا فيما يحلم من حلم؟
ولم يقتصر الفتى على الأحلام، فقد كان طلب نساء يسعى إليهن ويسعين إليه ولا يتورع أن يتسلل إلى بيوت يتهامس الناس بأسمائها ويتغامزون بها؛ ولن تخرج المرأة في رأيه عن إحدى اثنتين، فإما واحدة يلهو بها ويطفئ بها لهيب جسده، وإما ثانية يحلم بين يديها أحلام الزواج والعفة ولا يستطيع خياله أن يتجه لحظة أمامها إلى معنى من معاني السوء، ومن عجيب أمره أنه على تنبله بالثياب والمال وعلى حيويته وقوة بدنه كان خجولا شديد الاضطراب إذا وجد نفسه في مجلس أوانس أو سيدات مهما بلغت ألفته لهن، أو إذا تحدث إلى فتاة أو سيدة فما يزول عنه خجله أو يبارحه اضطرابه إلا بعد حين.
ومن كان يحيا حياة كهذه مطلق العنان مسرفا في اللهو كان حقيقة أن يفشل في طلب العلم؛ ولذلك فشل تولستوي فشلا كبيراً، على أنه يحاول أن يبرئ نفسه فيرد سبب إخفاقه إلى اضطغان أستاذ التاريخ الروسي عليه، ويزعم أنه كان حسن الإلمام بهذه المادة، كما يعلم أن هذا الأستاذ أسقطه كذلك في اللغة الألمانية على الرغم من أنه يجيدها أكثر من أي طالب آخر في قسمه بما لا تجوز معه المقارنة.
وترك تولستوي كلية اللغات الشرقية إلى كلية القانون، ولكنه في عامه الثاني بالجامعة لم يك أحسن حالا منه في عامه الأول، فقد ظل مسرفا في لهوه لا يقف فيه عند حد، يسهر أكثر لياليه حتى يسفر الصبح في مجونه وفتونه، ولبث على هذه الحال حتى انتصف العام الدراسي أو جاوز المنتصف.
وكان في الجامعة يتنبل بماله وثيابه، ويصل إليها على جواد جميل وحوله بعض الخدم، ولا يجالس أو يصاحب إلا من يراه في مثل طبقته، ويترفع على من يراه دونه، ولذلك كان بغيضاً إلى هؤلاء ثقيلا عندهم، قال أحدهم يصف شعوره نحوه (لقد كنت أبتعد عن الكونت، ذلك الذي نفرني من أول الأمر تظاهره بالجفاء كما نفرني شعره القصير الخشن وما ينبعث من عينيه نصف المقفولتين من نعنى يخز النفس، وإني لم ألق قط شاباً مثل ما لهذا الشاب من ذهاب بالنفس ورضاء عنها، الأمر الذي يعد غريباً كما أنه لا يفهم؛ وقلما كنت أقابل الكونت أول الأمر، ذلك الذي على الرغم من قميء منظره وخجله قد اتخذ له رفقة ممن يدعون الأرستقراط؛ وقلما عني بأن يرد تحيتي كأنما يريد أن يشير بذلك إلى أننا(714/28)
أبعد من أن نتساوى حتى في هذا المكان حيث أنه يأتي إليه في عربة أو على ظهر جواد وآتي أنا راجلا) وذكر هذا الزميل مرة أخرى أنه تصادف أن حبس في حجرة في الكلية هو وتولستوي بعض الوقت عقابا لهما على تقصير، فرأى تولستوي في يده كتاب تاريخ، فقال إن التاريخ في رأيه أتفه موضوع، فما هو إلا مجموعة من الخرافات والتفاصيل العديمة الجدوى تتخللها طائفة من الأرقام وأسماء الأعلام؛ وتطرق الحديث إلى الشعر فتهكم تولستوي وسخر من الشعر؛ ثم تحدث عن التعليم الجامعي بوجه عام فسخر منه ما وسعته السخرية وسخر من تسمية الجامعة دير العلم إلى أن قال (ويحق لنا أن نتوقع أننا نترك هذا الدير رجلين نافعين مزودين بالمعرفة، لكن ماذا عسى أن نحمله معنا من الجامعة حقاً، وأي شيء نصلح له ولمن من الناس نكون ضرورين؟
هذا هو رأي زميله عنه، ولكن الذين عرفوا تولستوي وقد نسي تكلفه يجدونه شخصاً غير هذا، فهو ذكي الفؤاد محبب العشرة إلى رفقائه، طيب القلب، واسع الأفق متوثب الروح، صادق الحماسة لما يعتقد أنه حق أو صواب.
وهو في أثناء إجازته الصيفية في ياسنايا، ينسى ما كان منه في المدينة من تكلف يبعد به عن طبيعته، ولو أن أحداً من خلانه وآه هناك لأخذه العجب من أن يكون هذه هو الطالب الإرستقراطي الذي عرفه في الجامعة؛ فهو هنا في القرية يستحم في النهر ويجلس تحت شجرة يطالع قصة فرنسية، ويصيد السمك أو الطير ويمشي في الغابة ما وسعه المشي وقد أطلق نفسه على سجيتها، فلا أناقة في ملبس ولا تكلف في مشية أو جلسة أو حديث؛ وإنه لينام في شرفة ويأكل حيث يحب ويلبس ما يلائم لبسه الحر فحسب؛ حتى إذا عاد إلى المدينة رجع إلى تكلفه وأرستقراطيته.
ونجده يعد إسرافه في لهوه يثوب بعد منتصف العام الدراسي الثاني إلى شيء من الجد؛ ويجد لذة في دراسة القانون المقارن والقانون الجنائي وعقوبة الإعدام، ويقبل على القراءة إقبالا شديداً حتى ليتجاوز المقرر كثيراً في هذه الموضوعات، ويأنس منه أستاذه هذا الإقبال فيكلفه أن يقارن بين كتاب منتسكيو (روح القوانين) وبين قانون كاترين الثانية، فيجد الفتى في هذه المقارنة متعة عظيمة حتى ليميل إلى ترك الجامعة كي يستطيع أن يقرأ ما يحب أن يقرأ في غير قيد بما يتطلب المنهاج، فإنه إذا أقبل على قراءة شيء أحبه لا(714/29)
يحب أن ينصرف عنه إلى غيره حتى يستوعبه ويستوفي منه ما يريد. ويخرج الفتى من مقارنته بين الكتابين بأن كاترين في كتابها قد خلطت آراء منتسكيو الحرة باستبدادها وغرورها، وأن هذا الكتاب قد أجدى على كاترين من الصيت أكثر مما أجدى على روسيا من الخير. . .
وفي شهر مارس من سنة 1847 يصيبه المرض ويلح على بدنه القوي فيحمل إلى مستشفى يقضي به أياماً؛ وهناك يبدأ الفتى كتابه يومياته فتكون هذه اليوميات من أهم مصادر تاريخ حياته، فلقد دأب على كتابتها أكثر أيام عمره؛ ولم ينقطع عنها إلا بضع سنين ثم عاد إليها.
وكانت أول صفحة منها بتاريخ اليوم السابع عشر من ذلك الشهر ومما جاء فيها قوله: (ليس يصحبني خادم هنا ولا يساعدني أحد، وعلى ذلك فلن يؤثر مؤثر خارجي في ذاكرتي أو حكمي على الأشياء، ويجب تبعاً لذلك أن يزداد نشاطي العقلي. . . وإن أهم ما كسبته من ذلك هو أن أرى في وضوح أن تلك الحياة المضطربة التي يعزوها الناس عرفا إلى الشباب إنما مردها في الحق إلى فساد روحي مبكر؛ إن من يعيش في جماعة يجد في العزلة من الفائدة له مثلما يجده منها في الجماعة من كان يعيش في عزلة؛ وما على المرء إلا أن ينسحب من الجماعة وينطوي على نفسه ليرى كيف يطرح عقله ذلك المنظار الذي كان يرى خلاله كل شيء حتى ذلك الوقت في ضوء مهوش. . . ولأن يكتب المرء عشرة مجلدات في الفلسفة أهون عليه من أن يحقق فكرة واحدة تحقيقاً عملياً).
وفي منتصف أبريل من تلك السنة كتب في يومياته يقول: (لقد فشلت منذ قريب في أن أجعل سلوكي كما أريد، وكان مرد ذلك بادئ الرأي إلى أنني تركت المستشفى، ثم بعد ذلك إلى من أجدني أعود إلى مخالطتهم من رفقة يوماً بعد يوم؛ وأختتم ذلك بأنه ينبغي أن يقودني تغيير المكان إلى أن أفكر في جد كيف تؤثر فيَّ الظروف الخارجية كلما تجددت الشروط والأوضاع).
ويتفكر في مستقبله فيعاوده ما كان يطمح إليه من كمال على الرغم مما أسرف فيه من عبث ولهو فيقول: (إني أجدني دائماً بحيث يطالعني هذا السؤال: ما الغرض من حياة الإنسان؟ ويغض النظر عما بلغته بطول تفكيري من نتائج وعما أعده في رأيي منبع(714/30)
الحياة؛ فإني ما أزال أصل إلى خاتمة لا تتغير ومؤداها أن الغرض من الوجود الإنساني إنما هو أن نبذل أكبر عون نستطيعه في سبيل أن يرقى كل شيء حي رقياً عالمياً عاماً؛ وإني لو لم أجد غرضاً لحياتي لكنت أشقى بني الفناء على أن يكون غرضاً نافعاً عاماً. . . وعلى ذلك فيجب أن تكون حياتي اليوم كفاحاً دائباً نشطاً في سبيل تحقيق هذا الغرض الذي ليس لي غرض سواه).
ويعود الفتى إلى اعتزامه وما يقطعه إلى نفسه من مواثيق فيذكر ما سوف يأخذ به نفسه من ألوان الجد في عاميه القادمين بالقرية، فسيدرس القانون كله ليتهيأ للامتحان النهائي للجامعة وسيدرس الطب العملي وقسطاً من ناحيته النظرية واللغات الفرنسية والروسية والألمانية والإنجليزية والطليانية واللاتينية، والزراعة النظرية والعملية والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم الطبيعية، وسيدون ما يعن له من ملاحظات وسيبلغ الكمال في الفن والموسيقى، وسيكتب المقالات في شتى المواضيع التي يدرسها إلى غير ذلك من ألوان الجد والدأب. . .
ثم إنه يقطع على نفسه عهداً أن ينجز ما جمع عزمه عليه مهما تكن العقبات وأن ينجزه على خير وجه وألا يرجع إلى الكتب فيما نسي من أمر بل يعمل على أن يسترده من ذاكرته؛ وأن يحرص على أن يبذل عقله أقصى ما في وسعه من طاقة وأن يجهر بقراءته وتفكيره، وألا يخجل من أن يصارح من يقطعون عليه عمله بأنهم يعوقونه عنه؛ وليدعهم أول الأمر يشعرون بذلك فإن لم يفهموا فليصارحهم به في شيء من الاعتذار.
وحق للمرء أن يعجب من هذا الذي يعتزمه الفتى بعد ما كان من لعبه وبطالته، ولعل إسرافه على نفسه هو الذي يوحي إليه بما عسى أن ينسيه ذلك العبث ويعوضه عما فاته من جد؛ وفيم العجب وتلك حال من حالات الشباب، والشباب يتخيل أنه قادر على كل شيء فلننظر ماذا أنجز الفتى من هذا الذي جمع العزم عليه.
لم يلبث الفتى أن ترك الجامعة دون أن يحصل على شهادة ما؛ ففي سنة 1846 خرج أخوه نيقولا من الجامعة والتحق بالجيش، وعاش ليو مع أخويه الباقيين في بيت استأجروه وقد تركوا بيت عمتهم فلا رقيب عليهم؛ وبعد أشهر قليلة قسمت ثروة أبيهم بينهم فكانت ياسنايا بوليانا من نصيب ليو، مضافاً إليها أربع ضياع أخرى تبلغ أربعمائة وخمسة آلاف من(714/31)
الأفدنة، كما كان من نصيبه نحو خمسين وثلثمائة من الفلاحين الذكور ومن ورائهم أسرهم؛ وفي يناير سنة 1846 يحس ليو بكثير من الضيق بعد أن بارح أخوه الجامعة كما يسأم حياة المدينة وملاهيها وغرورها، وحياة الجامعة وقيودها والامتحانات وسخفها، فيكتب إلى إدارة الجامعة لتستبعد اسمه من سجلاتها معتذراً بسوء صحته وبأمور تتصل بمطالب أسرته؛ ونطلق من الجامعة إلى غير عودة، فهل هو فاعل في غده ما تخيله في قازان من ضروب الجد؟
(يتبع)
الخفيف(714/32)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
881 - فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية:
ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله (سبحانه) أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلا، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه، فيكون خائناً لله ورسوله وغاشاً له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله. والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق. وكثيراً ما نرى المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده. فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول هذا هو الصواب، وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق.
في الأحكام السلطانية للماوردي:
يجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي (رحمه الله) أن يقلد القضاء من أعتقد المذهب أبي حنيفة، لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإذا أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه، وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم، وهذا - وإن كانت السياسة تقتضيه - فأحكام الشرع لا توجيه لأن التقليد محظور، والاجتهاد فيها مستحق. وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه وقضى بما أداه اجتهاده إليه وأن خالف ما تقدم حكمه. .
822 - وقدرك خير من وليمة جارك
الأغاني: (قال إسحاق الموصلي) قال لي أبو زياد الكلابي: أولم جار لي يكنى أبا سفيان(714/33)
وليمة ودعاني لها، فانتظرت رسوله حتى تصرم يومي فلم يأت، فقلت لامرأتي:
إن أبا سفيان ليس بمولم ... فقومي فهاتيِ فلقة من حوارك
فقلت له أليس غيرُ هذا فقال: لا، إنما أرسلته يتيما، فقلت: أفلا أجيزه، قال شأنك، فقلت له:
فبيتك خير من بيوت كثيرة ... وقدرك خير من وليمة جارك
فضحك ثم قال: أحسنت بأبي أنت وأمي، جئت والله به قبلا. . وما ألوم الخليفة أن يجعلك في سماره ويتلمح بك، وإنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، ولو كان الشباب يشترى لابتعته لك بإحدى عيني ويمني يدي، على أن فيك بحمد الله ومنة بقية تسر الودود، وترغم الحسود.
883 - المسألة دولية لا دليلية
العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ لصالح بن مهدي المقبلي اليمني (المتوفى سنة 1180):
مثال ما استصغر في الفروع ما فعله الزيدية في عصرنا هذا ولم يكن في أوائلهم، وهو تحريم الفاطميات على من ليس بفاطمي. وجهه الغلو في الرياسة، ولا ينبغي أن يذكر ما تشبثوا به فإنما هو كذب ومخرقة وقد أستدل بعضهم بأن نكاح الفاطمية بمن ليس بفاطمي - بحسب العرف الطارئ - كالهتك لحرمة أهل البيت والوضع من شأنهم فلا يجوز فعله. والتطبيق منذ عصر الصحابة إلى الآن على التزويج بهن في جميع الأرض حتى رأينا وضعاء يترفع عنهم آحاد الناس يتزوجون بالفاطمية ولم يقع استنكار، وإن أردتم، في بقعتكم هذه من جبال اليمن فأما علماء الدين فليس عندهم إلا اتباع الدليل، ولا يستنكرون إلا مخالفته وأما العامة أتباع كل ناعق فإنهم نشئوا في منع الدولة لذلك ودعوى تحريمه وتهويله وظنوه كذلك، فإن المسألة دولية لا دليلية. ثم صرن (يعني الفاطميات) الآن في اليمن يشيب أكثرهن بلا زواج، وتفسد من تفسد، ويتفرع على فساد من تفسد منهن مفاسد أخرى، لأن الرفيع يحاذر مالا يحاذره الوضيع فيقتحم في تستيره نفسه كل هول، وقد علم أن النساء أكثر من الرجال فمن أين لنا فاطميون يقومون بهن؟ وليتهم مع هذا حملتهم النخوة الحمية على القيام بهن وإيثارهن ولكن يعدلون إلى ما يقضي به هواهم من بنات السوقة والحبش! فترى الفاطميات اليوم في اليمن متجرعات لهذه المظلمة مع ما علم من(714/34)
الأمر الشرعي من المسارعة إلى التزويج (إلا تفعلوه تكن في الأرض فتنة وفساد كبير).
884 - وإنما الشأن في الحار جداً والبارد جداً
البيان والتبيين للجاحظ: أنا أقول: إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع. . . ولا ألذ في الأسماع ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة. . . من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء والعقلاء العلماء والبلغاء. . . إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني، وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم ومن الألفاظ الشريفة الكريمة المعاني كما أن النادرة الباردة جداً قد تكون أطيب من النادرة الحارة جداً، وإنما الكرب الذي يخيم على القلوب ويأخذ بالأنفاس النادرة الفاترة التي لا هي حارة، ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط، وإنما الشان في الحار جداً والبارد جداً. . .
885 - قاد الجيوش لسبع عشرة حجة
عيون الأخبار لابن قتيبة: قال أبو يقظان: ولي الحجاج محمد بن القاسم الثقفي قتال الأكراد بفارس فأباد منهم، ثم ولاه السند فافتتح السند والهند، وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، فقال فيه الشاعر:
إن السماحة والمرؤة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... ياقرب ذلك سودداً من مولد
وفي معجم الشعراء للمرزباني: وله يقول زياد الأعجم أو غيره:
قاد الجيوش لخمس عشرة حجة ... ولداته عن ذاك في أشغال
قعدت بهم أهواؤهم وسمت به ... همم الملوك وسورة الأبطال
وكان محمد بن القاسم من رجال الدهر.
886 - . . . وإن أفطر قالوا معذور
نهاية الأرب: قال سعيد بن جبير: لم تر عيناي أجل من فضل عقل يتردى به الرجل؛ إن انكسر جبره، وإن تصدع نعشه، وإن ذل أعزه، وإن اعوج أقامه، وإن خاف أمنه، وإن حزن أفرحه، وإن تكلم صدقه، وأن أقام بين أظهر قوم اغتطبوا به، وإن غاب عنهم أسفوا(714/35)
عليه، وإن بسط يده قالوا: جواد، وإن قبضها قالوا: مقتصد، وإن أشاروا قالوا: عالم، وإن صام قالوا: مجتهد، وإن أفطروا قالوا: معذور. . .
887 - الحلواء، اللوزيتج، القطائف
محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصفهاني:
قال بختيشوع: الحلواء كلها، حقها أن تؤكل بعد الطعام لأن للمعدة ثوراناً عقب الامتلاء كثوران الفقاع، فإذا صادفت الحلاوة سكنت. وقول الناس: إن في المعدة زاوية لا يسدها إلا الحلاوة على أصله والآكل إذا اشتهى الحلاوة ثم فقدها وجد في حواسه نقصاً.
اللوزينج قاضي قضاة الحلوات.
قيل لبعض الناس: إن التمر في البطن، فقال: إذا كان التمر يسبح في البطن فإن اللوزينج يصلي فيها التروايح.
ألذ شيء على الصيام ... من الحلاوات في الطعام
قطائف نضدت فحاكت ... فرائد الدر في النظام
منومات على جنوب ... في الجام كالصبية النيام(714/36)
غروب شمس
للأستاذ كامل الصيرفي
(مهداه إلى روح شقيقتي الوحيدة التي رجعت إلى ربها راضية
مرضية).
تركت الدار موحشة الجناب ... ورحت وأنت في شرخ الشباب
دفنتك في التراب وكنت عندي ... أعز الخاطرين على التراب
وأودعت الثرى كنزاً ثميناً ... من الأخلاق والشيم العذاب
وغاب مع السكون الجهم صوت ... على نبراته يغفو اضطرابي
وغيب في ظلام القبر نور ... وخلف لي لهيبا من عذاب
يؤرقني غيابك من حياتي ... وما أقسى مرارات الغياب!
تلمست النجاة فرحت جسما ... طري العود خفاق الإهاب
وعدت إلى لا نفس خفوق ... ولا روح يلطف من مصابي
ولو أني استطعت بذوب قلبي ... فديتك من أعاصير التباب
أنادي بأسمك الغالي، ولكن ... أراك عييت عن رد الجواب
وكنت إذا سكت ملأت نفسي ... بألوان الحديث المستطاب
أنادي. . . والأنين رجيع صوتي ... وأهتف والجواب صدى انتحابي
وتغلبني الدموع. . . وأي صبر ... يقر أمام دمع في انسكاب!
وأي مصيبة نزلت بساحي! ... وأي رزيئة وقفت ببابي!
وما بالهين الخطب افتقادي ... أعز الأقربين إلى انتسابي
فقدتك وافتقدت عزاء نفسي ... وكنت لي العزاء وقد خلا بي!
أراك - وقد أراك الموت حلما - ... بسمت فقد خلصت من العذاب
رؤى الدنيا كواذب خادعات ... وقد صبغت بألوان كذاب
نساق إلى مفاتنها، ونمضي ... مضي المصحرين إلى السراب
ونعشو كالفراش على شعاع ... جحيمي الحرارة واللهاب(714/37)
نؤمل ما نؤمل ثم تطوى ... مع الأنفاس آمال خوابي
تعللنا بمعسول الأماني ... وتمزج بالتعلة كل صاب
ونأخذ من يد الأيام كأساً ... تداول بالقديم من الشراب
نجرعه وليس لنا سبيل ... إلى الشكوى من الألم المذاب
وتسلبنا الأعز، وليس حرص ... بمانع كفها من الاغتصاب
مضت بالأولين، وسوف تمضي ... بنا وبغيرنا من كل باب
نعيش وحولنا أهل وصحب ... ونحن من الحياة على اغتراب
وما حمل المرارة غير حي ... زواه الموت عن هذا الركاب
يشيع نفسه في كل حين ... وراء الراحلين من الصحاب. .!
شقيقتي العزيزة! لست أدري ... أكنت خيال وهم في عبابي؟!
أسائل موج أيامي أكانت ... ليالينا بها خفق الشهاب؟!
وكنا ناعمين على سبوح ... رخي الريح يمرح في انسياب
يوحدنا الحنان الجم حتى ... كأن رغاب نفسك من رغابي
فلم يعصف برحلتنا خلاف ... ولم نعزف لجاجات الشغاب
ولم يلمم بنفسينا خصام ... ولا خطرات بنا نسيم العتاب
فمالك قد قطعت سراك منها ... وعوجل نجم عمرك باحتجاب؟!
وروع ليلنا الزاهي بفجر ... دميم الوجه مهتوك النقاب
وهبت في الصباح الطلق ريح ... تسوق إليه داكنة السحاب
وزلزت السفينة وهي تمضي ... تشق عباب أمواج غضاب
منكسة الشراع كأن نعشاً ... سرى في اليم ما بين اصطخاب
تمر بها العواصف معولات ... كأن سبيلها أحشاء غاب
وقهقهت المقادر وهي تبدو ... مسلحة بأظفار وناب
فألقى بي الأسى في غير وعي ... شريد الفكر مشدوه الصواب
أجوب الشاطئين غريب دار ... مطلسمة المعالم والشعاب
كأن نسيمها أنفاس جن ... وأن حفيفة صمت اليباب!(714/38)
محا منها البشاشة هول يوم ... أساء إلى مغانيها الرطاب
شقيقتي العزيزة! أي خطب ... بليت به ولم يك في حسابي!
كتاب حياتك اختتمته بلوى ... فكان الرزء خاتمة الكتاب
طويل فصوله سنة وحلم ... سريع الخطو ومضى الوثاب
طواه الموت مخترماً عجولا ... كما يطوى الحديث بالاقتضاب
وكانت قصة القدر المعمي ... وكانت قصة الزمن المحابي
صبرت على متاعبها، وكانت ... شجونك في فؤادي كالحراب. . .
شقيقتي العزيزة! أي ذكرى ... معطرة سمت عن كل عاب!
حديثك في فم الأهلين شهد ... وبعدك عن ديارك كأس صاب
وما عودتني في العيش نأياً ... فكيف وقد رحلت بلا إياب!
ذهبت شهيدة للقاء رب ... كريم الأجر مرجو الثواب
حملت على يديك كتاب طهر ... وعفة خاطر، وتقى شباب
رحلت وأنت باسمة رضاء ... وما خلفت لي إلا اكتئابي
سأمضي بعد موتك في حياتي ... كما يمضي المغامر في الضباب
خلت من كل سلوان وشاهت ... وقد ضاقت بأحزاني رحابي. . .
حسن كامل الصيرفي(714/39)
الأدب والفن في أسبوع
أصول الأدب الهندي
أشرنا في عدد سابق من (الرسالة) إلى الجهد المشكور الذي يبذله الأستاذ وديع البستاني في البحث عن أصول الفلسفة الهندية وآداب الهنود، وأشدنا بهمته في نقل تلك الآثار الخالدة إلى اللغة العربية بعد أن وفر جهده على دراستها أربعين عاماً أو تزيد.
وقد جاء في الأنباء البرقية أن الأستاذ وديع أتم فعلا نقل الملاحم الهندية القديمة إلى اللغة العربية، وهي (الرامايانا) و (المهابهاراتا) و (النالادماينتي) و (الشاكونتالا)، كما أنه ألف كتابا خامساً عن الأساطير الهندية القديمة. . .
و (الرامايانا) و (المهابهارتا) ملحمتان الإلياذة، والأوديسة، فموضوعها تصرفات الآلهة وقصص الأبطال، وتعتبر (الرامايانا) أهم من (المهابهارتا)، كالإلياذة بالنسبة الأدويسة أما (النالادامايانتي)، فإنها إحدى القصص الخمس التي تتألف منها (المهابهارتا)، وأما (الشاكونتالا) فإنها قصة عنيفة من النوع الدرامي. ولكنها تعتبر حديثة بالنسبة لسابقاتها، إذ وضعها الشاعر (كالنياسا) في أواخر القرن الثالث للميلاد.
ويقول الباحثون في الأدب المقارن إن (الرامايانا) تشبه الإلياذة إلى حد كبير، بل إنها تشبهها تمام المشابهة، فإن الهنود ينسبون وضعها إلى شاعر قديم يدعى (فالميكي) ولكن حياة هذا الشاعر غير محققة، وإن البحث الحديث ليشك في وجوده كما يشك في وجود هوميروس، وإذا كانت الإلياذة قد صورت آلهة اليونان مجتمعة بقمة الأولمب، فأن الرامايانا كذلك صورت معبودات الهنود مجتمعة في قمة جبل ميرو، وتنسب الإلياذة إلى المعبودات اليونانية أنها كانت تتغذى بماء الخلود، وكذلك تنسب الرامايانا إلى المعبودات الهندية أنها كانت تشرب ماء العنبرية أي ماء الحق الذي يضمن لهم الحياة الباقية، وفي الإلياذة يقف (جوبيتر) أبو المعبودات اليونانية وفي يده الصاعقة ليرسلها على المغضوب عليهم من الضالين، وكذلك في الرامايانا يقف (أندرا) شيخ معبودات الهنود وفي يده هذه الصاعقة، ولكن الهنود يصورون معبودهم الكبير في وضع مهيب إذ يمثلونه بثوب أزرق مرصع بعيون كثيرة متكئاً على قوس قزح ومن حوله الحور العين، وكأنهم بهذه الصورة يرمزون إلى السماء.(714/40)
وكذلك نجد على وجه العموم مشابهة كثيرة بين الملاحم الهندية والملاحم اليونانية في تصوير الآله والأبطال، (ففينوس) الجميلة المعبودة عند اليونان تقابلها المعبودة (لكمى) عند الهنود ومن الغريب أن كلتيهما قد خلقت من زبد البحر، و (أبولون) إله الوحي والشعر والفنون يقابله (كريشنا) و (إيروس) إله الحب يقابله (كاما) وهكذا نجد لكل إله أو بطل مقابلا في مثل وضعه ووصفه.
وقد يؤدي هذا إلى الاعتقاد بوجود صلة بين الأدبيين، والواقع أن الباحثين في الأدب المقارن لم يستطيعوا أن يصلوا إلى نتيجة حاسمة في هذا الشأن لأن الملاحم الهندية وضعت في القرن التاسع قبل الميلاد، وهو الزمن الذي وضعت فيه الملاحم اليونانية فلم تعرف أسبقية لأيهما بعد، كما لم تكشف صلة في ذلك الزمن بين الهنود واليونان، ولا شك أن عناية الأستاذ وديع البستاني بنقل تلك الملاحم الهندية إلى اللغة العربية سيعين على كشف هذه الحقيقة؛ ولا شك أنه بهذا الجهد الجبار يؤدي خدمة جليلة للآداب العربية، بل للآداب العالمية، وإنها لخدمة تزيد في التقدير والاعتبار عن تلك الخدمة السابقة التي نهض بها عمه الشيخ سليمان البستاني بترجمة الإلياذة إلى العربية، لأن الإلياذة كانت قد نقلت إلى كثير من اللغات الحية في العصر الحديث. أما الملاحم الهندية فأنها لا تزال بلغتها الهندية القديمة.
على أننا في هذا المقام نذكر باحثاً فاضلا بكل خير وهو المغفور له صالح جودت بك، فقد نقل إلى العربية عام 1912 قصة من تلك الملاحم الهندية وقدم لها بمقدمة أشاد فيها بالآداب الهندية القديمة وأشار إلى ما فيها من مظاهر لا تقل عما هو ملحوظ في آداب اليونان.
انحطاط المجلات المصرية:
بهذا العنوان كتبت مجلة (عالم الغد) العراقية كلمة قالت فيها: (يغمر العراق سيل لا ينقطع من المجلات المصرية الأسبوعية المصورة الرخيصة، وهي ملأى بالميوعة والخلاعة والعامية وسوء الأدب وليس فيها إلا الأدب الرخيص الذي يتنافى وعاداتنا وتقاليدنا ويتنافى ونهضتنا التي يجب أن تقوم على أسس ثقافية متينة وتستند إلى دعائم خلقية قويمة، ولو كانت هذه المجلات تباع بالمئات لغضضنا الطرف عنها ولكنها تباع بالآلاف وتتسلل إلى كل بيت ويقرؤها كل شاب وتتصفحها كل فتاة فلا نستطيع إذن أن نتجاهل تأثيرها في(714/41)
أخلاق الناس ومستقبل الثقافة).
(ولقد ارتفعت الشكوى من هذه المجلات في مصر والعراق لأنها أخذت تتسابق في دعارتها. . . وتتفنن في إثارة شهوات المراهقين بما تعرضه من صور خليعة نابية، وما تنشر من أقاصيص مكشوفة بعيدة عن كل ذوق سليم، ونحن لا نعترض على نشر الصور الفنية، وإنما نعارض في نشر الصور الخليعة التي لا ترمي إلى غاية ثقافية وخلقية، فعلى مديرية الدعاية العامة واجب عظيم وهو مراقبة هذه المجلات مراقبة دقيقة والحيلولة دون تسربها إلى أسواق العراق محافظة على الثقافة الصحيحة والآداب العامة).
هذا ما كتبته تلك المجلة الثقافية العراقية، نشرناه بنصه وحروفه، وإن كنا قد حذفنا منه أسماء المجلات التي عينتها وعنتها بالحديث، ونحن ننشر هذا الكلام من غير تعليق، وكل ما نرجو أن نكون بصيرين على أنفسنا قبل أن يبصرنا غيرنا بأمورنا، وماذا يكون موقفنا إذا واجهتنا مديرية الدعاية في العراق بمنع دخول تلك المجلات المصرية إلى العراق بحجة أنها تسيء إلى الأخلاق؟
تاريخ دمشق:
من أنباء دمشق أن مصلحة الآثار هناك اتخذت خطة للعناية بالآثار الإسلامية، ورأت في ذلك أن تذيع نشرات دورية للتعريف بأهم تلك الآثار وأن تقوم بطبع الكتب المخطوطة القيمة التي تؤرخ دمشق وتتحدث عن خططها.
وهذه نهضة طيبة ووجهة حميدة نرجو أن تستمر في طريقها كما نرجو أن تسايرها نهضات مماثلة في مصر والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها من الأقطار العربية الإسلامية، فأن كثيراً من مصادر التاريخ الإسلامي وعواصم الإمبراطورية الإسلامية لا تزال مطمورة مجهولة، ولا يزال المؤرخون في العصر الحديث يجدون في معالجة هذه الموضوعات مشقة بالغة.
ومما يذكر بهذه المناسبة أن نهضة مماثلة لهذه النهضة الدمشقية كانت قد قامت في مصر، وكان لدينا طبقة من العلماء الباحثين الذين يعنون بهذه النواحي، ولكن هذه النهضة ركدت بل وقفت فجأة في منتصف الطريق، حتى إن كتاب مسالك الأبصار الذي حقق المغفور له أحمد زكي باشا الجزء الأول منه وأخرجه منذ ثلاثين عاماً لم يطبع منه أي جزء آخر(714/42)
للآن، بل لقد أهمل أمر هذا السفر العظيم وأصبح في خبر كان.
ولعل عاصمة من العواصم الإسلامية القديمة لم تجد من عناية المؤرخين بتاريخها وخططها وتطوراتها مثل ما وجدت القاهرة، ولكن مما يدعو إلى الأسف أن لا نجد بين أيدينا من ذلك إلا خطط المقريزي في القديم وخطط علي باشا مبارك في الحديث، على حين أن هناك عشرات الكتب المماثلة لا تزال مطمورة مجهولة فهل يمكن أن تتعاون دار الكتب المصرية ودار الآثار العربية على إخراج هذه الآثار؟
آثارنا:
ومن أنباء دمشق أيضاً أن رئيس البعثة الفرنسية التي كانت تقوم بأعمال الحفر والتنقيب في منطقة رأس شمر باللاذقية قد نقل جميع ما عثر من اللوحات الأثرية القيمة إلى فرنسا ولم يسلم للحكومة السورية منها شيئاً مع أن هذا يخالف نص الاتفاق الذي عقد بين الحكومة السورية والبعثة الفرنسية والذي يقضي باقتسام ما يعثر عليه من الآثار مناصفة بين الفريقين، وقد كتب محافظ اللاذقية إلى حكومته يقول أن رئيس البعثة الفرنسية يأبى أن يسلم شيئاً من الآثار التي عثر عليها بحجة أنه نقلها إلى فرنسا ليقوم بدراستها وفك رموزها، ثم يهيب بالحكومة أن تقاضيه نصيبها من هذه الآثار.
وهذه القصة في الواقع هي قصة جميع الآثار لأقطار الشرق، تلك الآثار الغالية التي سرقت تحت أبصارنا وأسماعنا وغمرت بها المتاحف الأوربية، على حين خلت منها متاحفنا ومكتباتنا وأصبحنا لا نستطيع تصحيح تاريخنا إلا إذا شددنا إليها الرحال أو تفضل مستشرق فقدم إلينا من دلائلها ما يريد هو لا ما نريد نحن.
(الجاحظ)(714/43)
من هنا ومن هناك
ترجمة الآداب الثقافية العالمية:
أذيعت أخيراً أهم القرارات التي أقرتها الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في القسم الثاني من دورتها التي عقدت بنيويورك من 23 أكتوبر إلى 15 ديسمبر عام 1946 ومن بينها قراران خاصان بالناحية الثقافية أقترحهما الوفد اللبناني ووافقت عليهما الجمعية بالإجماع وهما:
أولا: تعتبر الجمعية العامة أن ترجمة الآداب الثقافية العالمية إلى لغات أعضاء الأمم المتحدة من شأنه أن يساعد على التفاهم وانتشار السلام بين الأمم إذ يخلق ثقافة مشتركة لجميع الشعوب.
لذلك فهي تحليل هذا الموضوع إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي ليحيله بدوره إلى المنطقة التهذيبية والاجتماعية والثقافية للأمم المتحدة لاتخاذ عمل ملائم، وتوصي المجلس والمنطقة أن يأخذا بعين الاعتبار المبادئ التالية في درس هذا الموضوع:
(ا) أن ترجمة هذه الآداب الثقافية العالمية هي مشروع ذو طابع عالمي له أهميه كبرى من ناحية التعاون والتفاهم الدولي حول المسائل الثقافية.
(ب) أن بعض الأمم ليس لديها التسهيلات الكافية ولا المعدات اللازمة لترجمة هذه الآداب العالمية إلى لغاتهم.
(ج) تعتبر هذه الترجمة من الحوافز التي تساعد على انتشار الثقافة بين الناس.
(د) أن معنى الآداب الثقافية لا ينحصر بالإشارة إلى أدب معين دون سواه بل يتناول جميع آداب الأمم وثقافتهم خصوصاً ما كان منها - بشهادة أكبر الثقاة - ذات قيمة باقية على الدهر
ثانياً: تعتبر الجمعية العامة أن أعضاء الأمم المتحدة ليسوا على مستوى من التطور الثقافي وإن بعض الأعضاء قد يحتاج إلى مشورة الخبراء الفنيين في مختلف نواحي الاقتصاد والاجتماع والثقافة، وإنها مدركة عظم المسؤولية الملقاة على عاتق الأمم المتحدة في تقديم هذه المشورة الفنية لهم بحكم نصوص ميثاقها نظراً لأهميتها في دعم السلم والرفاهية في العلم.(714/44)
لذلك فهي تقرر إحالة هذا الموضوع إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالتعاون مع المؤسسات المختصة لإيجاد الوسائل الفعالة التي من شانها تأمين تقديم آراء الخبراء الفنيين في مختلف نواحي الاقتصاد والاجتماع والثقافة للدول الراغبة في الحصول على مثل هذه الآراء.
هذان هما القراران اللذان أقرتهما الجمعية العامة لهيئة الأمم بالإجماع، ونحن نسجلهما للتاريخ، ولعليا نراهم عن قريب عملا نافذاً، ولعل اتجاهات السياسة المغرضة لا تجعلهما حبراً على ورق، ولا تطويهما في مطاوي النسيان. . .
دولة المماليك البحرية:
أجمع المؤرخون على أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب هو أول من رتب المماليك البحرية وأول من سماهم بذلك الاسم نسبة إلى بحر النيل الذي كان يحيط بثكناتهم بجزيرة الروضة.
غير أن هذا الرأي لا يستند على أساس علمي صحيح، فلقد أثبت أستاذنا الدكتور محمد مصطفى زيادة بالأدلة العلمية القاطعة أن الصالح أيوب لم يكن أول من أوجد تلك الفرقة في مصر ولم يخترع لتسميتها أسم البحرية ولا أدل على ذلك من أن جده السلطان العادل كانت لديه طائفة من الأجناد أسمها البحرية العادلية كما أن الفرقة التي أنشأها الصالح نفسه كانت تعرف باسم البحرية الصالحية ولا معنى لهذه النسبة سوى ما أريد بها من تمييز تلك الطائفة عن الطوائف البحرية الأخرى المنسوبة لمن سبق الصالح أيوب أو من جاء بعده من السلاطين كالبحرية الظاهرية المنسوبة للسلطان الظاهر بيبرس البندقداري.
ويمكنني أن أرغم أستاذي القيمة بأدلة أخرى تتلخص في أن لفظ (البحرية) كان مستعملا في العهد الفاطمي في مصر حيث أطلق على طائفة من طوائف الجند، فيروي أبو المحاسن واصفاً ركاب الوزير في الموكب الخلافي الفاطمي (. . . ثم يأتي حامل الدرق والرمح. . . ثم الأكراد والغز المصطنعة وهم البحرية.
ولم تكن فرق البحرية موجودة قبل عهد الصالح أيوب في مصر فقط، بل كان يوجد في أوربا أيضاً فرق حربية جاءت إلى الأراضي الإسلامية وحاربت المسلمين في الشام وأطلق عليها المؤرخون العرب المعاصرون أسم (الفرنج البحرية) أو (الفرنج الغرب البحرية)(714/45)
فيروي أبو شامة في مخطوطة (النيل على الروضتين) لوحة 8، 9، ح1 (ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وفيها فتح الملك العادل يافا. . . . ومن عجيب ما بلغني أنه كان في قلعتها أربعون فارساً من الفرنج الغرب البحرية فلما تحققوا نقب القلعة وأخذها دخلوا كنيستها وأغلقوا عليهم بابها وتجالدوا بسيوفهم بعضهم لبعض إلى أن هلكوا جميعاً وكسر المسلمون الباب يرون أن الفرنج ممتنعين (صحتها ممتنعون) فألفوهم قتلى عن آخرهم فتعجبوا عن حالهم).
ويروي أبو شامة في موضع آخر (ح1 لوحة 55) (وفي سنة 601هـ تغلبت طائفة من الفرنج البحرية يعرفون بالبنادق على قسطنطينية وأخرجوا الروم منها). وفي موضع ثالث ح2 لوحة 167 يذكر أبو شامة (في سنة 624هـ قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج البحرية على المعظم بعد اجتماعه بالكامل يطلب منه البلاد التي كان فتحها عمه صلاح الدين فأغلط له القول وقال قل لصاحبك ما أنا مثل العزيز ما له عندي إلا السيف).
ويروي ابن واصل في مخطوطة (مفرج الكروب) ح1 لوحة 150 (سنة 599هـ خرج من الاسبتار من حصن الأكراد والمرقب ومن وصل من الغرب وأغاروا على بلد بعرين وعدتهم خمسمائة فارس. . . . . فبلغ الملك المنصور (صاحب حماة) ذلك فخرج إليهم والتقاهم فكسرهم كسرة عظيمة وقتل منهم مقتلة كبيرة وكان من جملة القتلى. . . . . وقومص من البحرية وانهزم الباقون لا يلوون على أحد).
فلفظ بحرية إذن لم يكن جديداً على مصر حينما أنشأ الملك الصالح أيوب فرقته البحرية بل كان لفظاً عاماً أطلق على المسلمين والمسيحيين على السواء.
تبقى أمامنا المشكلة الأخيرة وهي لماذا سميت هذه الفرقة بالبحرية؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نشير أولا إلى خطأ الفكرة الشائعة بأن لفظ بحرية يرجع إلى بحر النيل الذي كان يحيط بثكنات فرقة البحرية الصالحية بجزيرة الروضة، فهذه النسبة لم يذكرها المؤرخون المعاصرون بتاتاً أمثال ابن واصل وأبي شامة، هذا فضلا عن أن وجود هذا الاسم منذ العهد الفاطمي في مصر ينفي هذا الزعم نفياً باتاً.
وأغلب الظن أنهم سموا بحرية لأنهم جاءوا من وراء البحار فيروي الجنرال جوانفيل أحد قواد حملة الملك لويس التاسع على مصر (1249 - 1250م) في كتابه (تاريخ حياة سان(714/46)
لوي) العبارة التالية يعرف بها البحرية الصالحية:
أي أنهم كانوا يسمون بحرية أو رجال ما وراء البحر ,
والجنرال جرانفيل الذي ندين له بالكثير في تفاصيل هذه الحملة في كتابه المذكور، قد حارب المماليك البحرية الصالحية وأسر عندهم وتحدث إليهم، فروايته لها قيمتها بصفته رجلا معاصراً وشاهداً عياناً. وإذا علمنا أن المماليك البحرية زمن الأيوبيين والمماليك كانوا عبارة عن فئة من الغرباء والأجانب الذين جلبوا من أسواق النخاسة بالقوقاز وآسيا الصغرى وشواطئ البحر الأسود تأيدت لدينا عبارة جوانفيل السالفة الذكر.
من كل ما تقدم نرى أن لفظ بحرية في العصور الوسطى كان لفظاً عاماً أطلقه المسلمون والمسيحيون على الرجال الآتين من وراء البحار.
أحمد مختار العبادي
أمين مكتبة كلية العلوم بجامعة فاروق الأول
نجم يهوي.
في موجة من موجات الجنون قذف نجم بنفسه من سمائه العالية وهوى إلى أعماق البحر المظلمة. . .
حملقت ملايين النجوم فزعة مروعة وهي تشاهد هالة من الضوء تغيب في هذا الفضاء المطلق في لحظات معدودات. . .
لقد اندفع النجم إلى أعماق المحيط ذات القاع الصخري وانتثر هناك مع نجوم لاقت مصيره من قبل وابتلع البحر نورها مثله.
ماذا كان سبب مأساة هذا النجم الهادي. . .
أنا وحدي أعرف الجواب.
أنا وحدي أعرف ماذا كان يبليه ويعنيه أثناء إشراقه ولمعانه.
إنه دفع ثمن لمعانه المستمر وكفر عن تلألئه الدائم. . . مثله كمثل قطعة من الفحم الحي تضحك وتبين عن ثناياها لتخفي ظلمتها وسوادها، وكلما زاد تلألؤها ازداد احتراقها وهكذا(714/47)
ضحك النجم وتوهج نوراً، وحينما لم يستطع أن يتحمل آلام الاحتراق هوى من سمائه.
من مملكة الضوء إلى ظلمات الأمواه.
ملايين من النجوم أبصرت النجم الساقط وضحكت في سخرية قائلة.
(إننا لم نسخر شيئاً. فلا نزال السماء منيرة كما كانت من قبل).
إبراهيم أبو الفتوح يوسف
المدرس بدار المعلمين ببغداد(714/48)
البريد الأدبي
إلى العاتبين على الأستاذ الزيات
لقد ظلمتم الأستاذ، فما (هجع قلمه وسط الأحداث التي توقظ النيام)، ولا
(آثر السكوت ابتغاء الراحة والاستجمام) وما زال هذا القلم العضب
سيف الحق في كل مكان، وعلم البلاغة ومنار البيان، ولكنها عزلة
المرض، شفى الله الأدب بشفائه، وأقر بصحته عيون قرائه.
(علي)
قصة الروح:
تمثل الأستاذ عثمان طه شاهين في مقاله في مجلة الرسالة العدد (713) بهذه الأبيات:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدَرْ
ولا بد لليل أن ينجلي ... ولا بد للقيد أن ينكسِرْ
وهي من المتقارب في ضربه المحذوف، غير أن البيت الثاني لحق به خطأ عروضي هو (إسناد التوجيه) وذلك بتغيير حركة الحرف قبل الروي المقيد من فتح إلى خفض، وهو منصوص على خطئه في قوانين العروض والعروضيين.
(الزيتون)
عدنان أسعد
نشر ديوان الشريف الرضي:
يتمتع الشريف الرضي بمكانة مرموقة بين فحول شعراء الأدب العربي؛ وديوانه يعد من النمط العالي. فناً، وصياغة؛ وحجما؛ وطبعاته مع ندرتها بين القراء الآن تشوبها شوائب التحريف الطاغي عليها؛ وتعتورها الأغلاط اللغوية المنتشرة؛ وكان يحز في نفس كل واحد من له اشتغال بالدراسات الأدبية؛ أن يظل ديوان الشربف الرضي ينوء تحت عبء الإهمال، ويعاني هذا الإجحاف؛ وقد قام العالم الباحث الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد(714/49)
بإخراجه إخراجا علمياً دقيقاً؛ وشرح ألفاضه وصور المعنى الإجمالي للبيت؛ وتلافي ما فيه من تأريخ لا يتفق والحقائق التاريخية الثابتة؛ ورقم القصائد بأرقام مسلسلة؛ ورقم أيضا القصيدة بأرقام مسلسلة؛ وقد صدر بمقدمة طويلة جيدة؛ تناول فيها فن الشاعر وعصره؛ وخصائصه الشعرية؛ وقد قسمه إلى أربعة أجزاء؛ وتعهدت نشره (دار عيسى الحلبي) وهي تعد من أرقى دور النشر في الشرق؛ فجاء تحفة فنية في الإخراج؛ وآية رائعة في الطبع؛ وقد أوشك الجزء الأول أن يكون بين أيدي القراء.
محمد عبد الحليم أبو زيد
حول اكتبوا للأطفال:
تفضل الصحفي الكبير الأستاذ أسكندر مكاريوس بالتعليق على مقالي (اكتبوا للأطفال) وقد أخذ على إشارتي إلى أن هذا النوع من الكتابة لم يعن به في الشرق إلا منذ عهد قريب وكان على راس من شقوا أفقه أديبنا الكبير الأستاذ كامل كيلاني بتلك المكتبة الضخمة التي جرت على أدق منهاج واستوفت عناصر الإفادة والإمتاع والتشويق. فالأستاذ الناقد يذكرني بما كان من جهود بعض المرسلين الأمريكيين وما أصدره هو من مجلة الأولاد وما إليها. واحب أن يؤكد للأستاذ أني حين أشرت إلى حداثة العهد بالكتابة للأطفال لم أكن أعني أن العهود الماضية خلت من مطبوعات في هذا الصدد. فقد تعلم آباؤنا وتعلم آباؤهم من قبل وكانت بين أيديهم كتب حوت قصصاً (وحواديت) ولكني كنت أعني حداثة العهد بمحاولات تربوية موفقة تجاري ما نهدف إليه من آمال في إنشاء جيل جديد صحيح التنشئة قوية ملكاته الذهنية والنفسية واستقام لسانه على نطق عربي مبين. ولو كنت بصدد تأريخ حركة الكتابة للأطفال أسرد خيرها وشرها ووثباتها وعثراتها لما غادر شيئاً مما أشار إليه الكاتب الناقد وما احسبني لو فعلت ذلك أرضيه.
محمد سيد كيلاني
نيف. عام:
يجد القارئ في غلاف مجلة الهلال الغراء (الجزء 2 فبراير 1947 المجلد 55) العبارة الآتية: (أسست دار الهلال منذ نيف وخمسين عاماً، وكان لها - وما زالت - أهداف ثلاثة:(714/50)
ثقافة - وصحافة - وطباعة).
لقد استعمل الكاتب الفاضل كلمة (نيف) قبل العقد من العدد والصواب أن يستعملها بعد العقد من العدد. جاء في أقرب الموارد: (النيف كسيد وقد يخفف: الزيادة يقال (عشرة ونيف) وكل ما زاد على العقد فنيف إلى أن يبلغ العقد الثاني. وعن ابن عباس أن ما حصلناه من أقوال حذاق البصريين والكوفيين أن النيف من واحدة إلى ثلاث والبضع من أربع إلى تسع. ولا يقال نيف إلا بعد عقد يقال (عشرة ونيف ومئة ونيف وألف ونيف).
واستخدم كلمة (عام) بمعنى سنة والصواب أن يقال: منذ خمسين سنة. قال ابن الجواليقي البغدادي: (ولا يفرق عوام الناس بين العام والسنة ويجعلونهما بمعنى. فيقولون لمن سافر في وقت من السنة أي وقت كان إلى مثله عام وهو غلط والصواب ما أخبرت به عن احمد بن يحيى قال: السنة من أي يوم عددته إلى مثله والعام لا يكون إلا شتاء وصيفا. وقال أبو منصور الأزهري في التهذيب: والعام حول يأتي على شتوة وصيفة فهو أخص من السنة فكل عام سنة وليس كل سنة عاماً. وإذا عددت من يوم إلى مثله فهو سنة وقد يكون فيه نصف الصيف ونصف الشتاء والعام لا يكون إلا صيفا وشتاءً متوالين).
(عمان)
لطفي عثمان
تعقيب:
1 - في مقال (النطق وكيف نشأ) وردت العبارة الآتية: (فالإنسان ليس بحيوان ناطق، كما كانوا يعلموننا فيما مضى. وهو لا يختلف في شيء من هذه الناحية عن باقي الحيوانات إلا في الدرجة فقط) وقد فهم الكاتب أن النطق الذي جعله المناطقة فصلا يميز ماهية الإنسان عما عداها هو النطق اللساني، فحال ما ذكروه في حد الإنسان باطلا ولغواً من القول. وغاب عنهم انهم يريدون بالنطق التفكير بالقوة أي أن الإنسان خلق مهيئاً باستعداده ومواهبه لأن يفكر ويدرك الكلي من المعلومات وهذه ميزة لا يشركه سواه فيها، ولم يؤتها سائر الحيوان.
وقد آتى الكاتب من إشراك اللفظ بين معنييه اللغوي والاصطلاحي. وهذه أحد أركان(714/51)
الوجوه التي توقع في الخطأ كما نص عليه علماء المنطق.
2 - في ص 260 في نقل الأديب وردت العبارة الآتية: (ولهذا قيل للنجد جلساء) وهذا لا شك خطأ من الطبع وصوابه جلْس؛ فالجلس الأرض الغليضة أو المرتفعة، والجلساء لفظ غير معروف في المادة.
3 - في ص 269 ورد تحت عنوان: (تعليق وتعقيب) أن قطربل اشتهرت بالمشمش حتى ذكره البحتري في قوله:
شربت مشمش قطربل ... وجرَّعتنا دقل الدسكرة
إذا حب في الكأس مسودّة ... فكف النديم لها محبرة
وفي البيتين تحريف كما في الديوان. فمشمش صوابها مشمس، وهو ضرب من الخمر، وحب صوابها صب.
محمد النجار
مدرس بكلية اللغة العربية(714/52)
القصص
أُخت. . .
للأستاذ لبيب السعيد
نظر (صادق) على صورة أخته الصبية بقلب يفيض رحمة ويسيل حباً وحنواً. أن صورتها تطالعه بنظرة يراها تشع وداعة وقدساً، وبسمة ترف له لطفاً وأنساً.
وأراق على الصورة حنين روحه وضراعة فؤاده، ثم انثنى يفكر، وإن دموعه لتنحدر على خديه. . .
لقد حرمته الوظيفة بيت أسرته في المنيا: البيت الذي تملؤه هذه الأخت حياة بنشاطها اللطيف، وجمالا بوجهها الأبلج، ومتعة بحديثها العذب. . . نعم، وحرمته أن يسعد بالعناية بها عن كثب، وأن يستوثق في أصباحه وأمسائه أنها ناعمة في ظلال العافية، سابحة في صفاء النعيم. . .
أبداً تتجه روح (صادق) إلى أخته. . . لقد تزوج أخواتها اللائي يكبرنها، ورمى العيش بأخوتها المرامي، وبقيت هي مع أمها. . . أمها فحسب! فإن أباها قد لحق بآخرته. . . وتركها في سني الغرارة، محرومة من الطاف بره! ضعيفة! مستقبلها سر في ضمير الزمان. . .
إن صادق ليناجي أخته على البعد: (لن مات أبونا يا أختاه، فأنا مكانه، وحاشا أن تحسي بعده نقصاً. أن حياتي رخيصة جداً إذا لزمتك؛ لا تضعفي يا أختاه بل تقوي، تقوي حتى تستطيعي أن تستطيلي بقوتك عند الاقتضاء على كل قوية نهلت من عطف الأوبة أكثر مما نهلت!. . . إن حياتك يا عزيزتي لن تشاب برغم خطبك في أبيك بشائبة من هموم الحياة أو كدر العيش. ذرى لي كل هذا فأنا قوي عليه!).
ولقد ودع صادق قبل مجيئه إلى الإسكندرية أهله وأحباءه في المنيا، غير أخته، هرب من توديعها، سافر وهي في المدرسة، لأنه يدرك أن الحزن الذي كان سيطالعه من كلماتها ونظراتها أهول من أن يطيقه. ولذلك اكتفى بأن أخذ معه صورة لها من صور الامتحان، لتكون له زاداً في غربته، وانطلق وهو يجاهد في سد أبواب التفكير المفتحة. . .
وعندما مر القطار تجاه المقابر، ذكر (صادق) أباه الذي لولا فقده لصح له أن لا يميد من(714/53)
المخاوف على أخته الناشئة. . . وأرسل دعاء قلبه وصلاة نفسه إلى الفقيد الحبيب، وضرع إلى الله، وهو ذارف العين متدفق الوجد: يا رب! أنت بأختي الضعيفة اليتيمة أبر مني وأكرم!!
وها هو في بيته الجديد الذي كأن الوحشة تجثم عليه، ليس بين كتبه شيء من كتب (عوارف) أخته، ولا سبيل له إلى مناقشة (عوارف) في دروسها، ولا إلى الاستمتاع بإنشائها الذي تمليه خطرات صباها الباكر الطاهر، ولا رسومها التي تخرج غالباً على حظ من الإحسان. . . والصباح يسفر، فلا يرى ولا يسمع (عوارف) وهي تهيئ نفسها للمدرسة: تسوي شعرها وتجمع كراسات يومها، وتنظم حقيبتها، وتصيخ لأبواق السيارات حتى إذا بلغها صوت سيارة المدرسة، جرت إليها في خفة العصفورة أو في لطف القطاة، متبلجاً بالبشر وجهها الحبي. والمساء يأتي فلا يرى (صادق) عوارف تقبل بصفحتها الآلقة وصوتها الحلو عليه وعلى أمها، تحدثهما عن يومها، وتفيض خاصة في الثناء الذي تلقته من أساتذاتها وأستاذيها، حتى إذا ما عابثها وهون من شأن مادحيها ومدحهم بدا الغضب والخجل في انكسار طرفها وتناقض بشاشتها، فيصلح صادق تواً من لهجته، ويتجه إليها بكل ما في قلبه من تقدير لرشدها وحنان عليها، ويسكب على وجهها الصغير قبلاته، فتطمئن (عوارف) وتطيب نفساً، وتشرق في الحال بسمتها العذبة على ثغرها السعيد.
كل حالات (عوارف) يمثلها له الشوق، فهي لا تفتأ ماثلة أمام عينيه بل في طيات قلبه. . . وكأنما الآن خلال ضلوعه من فرط الشوق إليها جمرات تتقد.
ويقف صادق أمام (فاترينات) المتاجر في الإسكندرية، فلا يذر شيئاً يمكن أن يفيد أخته أو يسرها على أي وجه إلا اشتراه إنه يريد أن يلبسها النعمي، وإنه ليتمنى لو كان يقدر أن يحيكها من خيوط قلبه! وإنه ليشتري لها الحين بعد الحين مجموعات من الكتب، فإذا لم يلق جديداً يناسبها اشترى لها مصاحف، فإذا قال له البائع مندهشاً: كفى مصاحف! عندك الأستامبولي طبعات، وعندك القاهري أشكالا، وعندك التفاسير كلها، وعندك الكبير الحجم والوسيط والصغير، همس صادق لنفسه: نعم. . . ولكن ليتني أحشد في رحاب (عوارف) كل بركة وكل نعمة!!
وفي صبح من الصباح، وهو يفتح نافذته، التقت عينه فجأة بعين غادة في ربيع العمر،(714/54)
تنشر بعض الملابس في الشرفة المجاورة. . . وتكهرب صادق! كهربته عين الفتاة المشحونة جاذبية وسحراً، والتي مست في مثل ومضة البرق أغلاف قلبه. . . وأغضى بصره في استحياء، واسترجع جسمه كله من النافذة. . . وهو يقول لنفسه: فلأتدبر!! وما هي إلا هنيهة حتى عاد إلى النافذة وهو لا يدري لماذا يعود. . . ووقف واجم اللسان ولو أنه ناطق الأسارير بكل لذعات الرغبة وكل لهفات الحرمان. . .
وابتسمت له الجارة ابتسامة متوهجة بنوازع الحياة والشباب فأحس بسمتها تضيء جوانب نفسه، كما يضيء الصبح للمتململ تحت الظلام كما يشرق الأمل القوي على الحيوان، كما يهز الماء الأرض الهامدة.
ورد الابتسامة مبتهجاً ملتاعاً، منتبهاً مأخوذاً!!
ولما عاد إلى سكنه في العصر، كانت تعتلج في نفسه رغبات تلح في طلب المفيض. . . كان يريد أن يعل من المتعة التي نهل منها مصبحاً، فاتجه إلى الشباك وهو يناضل الحياء الذي عاش معه منذ نشأ في المنيا. ولاحظ أن بعض جيرانه يستطيعون رؤيته في مكانه، فعدل مصراع نافذته بحيث لا تراه إلا جارته البسامة، وتذكر أن خادمه العجوز قد فتح عليه الباب فجأة، فأغلق دونها الباب بالمفتاح. . . ونظر، فرأى فتاته مشغولة بتطريز قطعة قماش مولية ظهرها لشرفتها، فأراد أن يلفتها إليه، فلم يجد في غرفته المتواضعة غير الفرشاة يقرع بها على سقف طربوشه. ونجح فيما أراد، فقد التفتت إليه الفتاة سريعاً وانفرج ثغرها الحلو عن بسمات فاتنة عريضة تنطق ضمن ما تنطق به بأنها فطنت لحيلة صادق، وأنها سعيدة إذ تراه يعنى بها وانتهبت البسمات قلب صادق انتهاباً!. .
ووقفت الحسناء بأقرب نوافذها إلى جارها المفتون محتجبة بالستار عن عيون الجيران إلا عينيه الجائعتين. . . ومضت تكلمه في بساطة وألفة، وسألته في صوت خفيض، ويدها وعيناها وشفتاها وجيدها تعينها إلى الإبانة. . . سألته عن منشئه وعمله واستطردت فسألته لماذا لا تتزوج، فشدهته جرأتها غير المعهودة ولكنه ما لبث أن اعتذر عنها لدى نفسه بأنها تنزل من السذاجة المنزل الذي لا تدرك عنده ما قد يذهب إليه الناس من سوء الظن بها إذا سمعوها تسأل شاباً: لماذا لا يتزوج. وأجابها صادق عن كل أسئلتها في غير تحرج؛ وأحس عجبه لجرأتها يستحيل عاجلا إلى رضى عن صراحتها وارتياح لبساطتها.(714/55)
وامتد حبل الحديث ولم يبق للكلفة ظل بينهما وكأنه وإياها نشآ معاً طفلين في دد وأمان!
وقال لها مدفوعاً بجنون العاطفة: أيكفيني هذا الحديث؟ ليتنا نجلس معاً! ليتنا نسير جنباً إلى جنب! تدبري لنا واحتالي!
فأجابت في رعونة مرحة: الأمر هين. . . نذهب إلى سيدي بشر أو المكس، بل لنبعد إلى الدخيلة.
ولم يكن صادق مستعداً لتقلي مثل هذه الإجابة الجريئة، فقال في استغراب: إلا تخافين؟
- مم؟
ونظر صادق فوقه وتحته وعن اليمين وعن الشمال، كأنما يريد أن يقول: من كل شيء في هذه الجهات، ولكنها مضت تقول وحركات جسمها كله تساعد على فهم أفكارها: إن فيكتورين جارتنا تقابل جارنا الضابط عند رأس الشارع، ومن هنا يركبان السيارة إلى كازينو السفينة في ستانلي، أو يذهبان إلى (اكسنونون) في المكس فيتغديان أو يتعشيان. هي حدثتني بذلك فلنصع كما يصنعان. وقد حدثتني فيكتورين أنها ترافق صديقها أحيانا إلى كابينة له في سيدي بشر، فلنقلدهما؛ أن الشاطئ الآن قليل الرواد، فالفضول فيه قليل. . . هكذا لاحظت فيكتورين. . .
وأثار هذا العرض السافر في نفس صادق ما اثار، فكله فتن قيام في الضلوع قعود. . .
وقال لفتاته: استعدي، وهيأ هو من نفسه، ووقف تجاهها قبل أن يخرجا، مشيراً إليها أن تنهج الطريق يساراً، ويتجه هو يمنة، ليعميا وجهتهما على الحلاق وبائع السجاير القريبين، وعلى من يكون في دكانيهما.
ونزلا مسرعين، ومضى كل منهما في طريقه المرسومة، ثم التقيا بعد دقائق عند محط السيارات، فركبا إلى الدخيلة. . .
وتحدثت (إغراء) بغير حساب ككل امرأة. وبغير عناء لمس (صادق) ظاهر أمرها، واستشف باطنه. أن أباها وأمها غالتهما شعوب، وإن لها لأخاً وحيداً يقتضيه عمله في أحد البيوت التجارية أن يغيب عنها أغلب النهار وزلفاً من الليل. إنها لطيفة الحديث، متسعرة العاطفة، وإن شبابها الظمآن ليحدوها إلى أي منهل يرتوي منه، وهو في قهره وسطوته يجعلها تنكب عن ذكر العواقب جانباً. . . إن (إغراء) متكلمة وساكتة، متلفتة وساكنة،(714/56)
مبتسمة وعابسة جميلة حقاً، وجمالها في كل حالاتها يذهب بالقلب مذاهب. . . وصادق يراها بنزعاتها وشبابها وجمالها في قبضته، وإنه لفرح بها لأنها أول ما كسبت صبوته الوانية. . .
وبلغت السيارة غايتها، فهبط الرفيقان؛ ونقد صادق قائد السيارة أجره، ولكنه لم يرد حافظة نقوده إلى جيبه، بل وقف يتأمل بطاقة في محتوياتها. . . يتأملها في اهتمام، منشغلا عما هو فيه.
وصاحت به (إغراء) بعد دقائق مظهرة الملل: ما هذا؟ فلم يجب. . . واتجه بها منضدة في الكازينو وهو يبتسم لها ابتسامة باهتة يريد أن يستبقي بها رضاها، ويدرأ بها عنها الملل والخجل والدهشة.
وأطرق صادق فترة لا يتكلم، وصاحبته أمامه مستغربة لا تتكلم. . .
إن أخته طالعته بصورتها وهو يفتح حافظة نقوده، إنها قريباً ستجتاز الصِّبى إلى الشباب، وإنها لتناديه في استرحام عنيف أن يطلق سراح طير اقتحم الشر وما يدري. . إنها بقدسها تناشده أن لا يتلطخ، وأن يكون يقظ القلب. . .! إنها ترجوه، بل إنها تؤنبه! بل إنها تؤدبه!. . . وإن مستقبلها ليتراءى له منادياً: (استح لي ومني، وكما تتمناني تمنى مثلي لكل ضعيفة يتيمة!!. . .
وألقى صادق ببصره إلى الأرض خجلان، وبدا كأنه شيخ زلَّ وانفضح زلله؟ وود صادق لو كانت نيته إنساناً ليلقيه بلا رحمة في البحر الواسع حوله، أو ليطوّح به في الصحراء المترامية الدانية منه، ليبرأ إلى الله وليجرؤ أن يفكر في أخته ويناجيها ويتأمل وصورتها، ويلقاها بين حين وحين فيبسم لها وتبتسم له وتتعلق فه فخوراً ويتعلق بها فخوراً!
وقطع الصمت أخيراً والدموع في عينيه، و (إغراء) أمامه أعداها سكوته. . . قطع الصمت بقوله في جد وعزم قاطعين: فلتعودي إلى بيتك وإلى رشدك. . . لقد سوّغ هذا الخاطئ لنفسه أن يذلل لك عنان الشر، ويتهور معك إلى ما لا يتهور إليه الشرفاء، فأنقذتك منه صبية!. . .
وأحست (إغراء) وجدان (صادق) في قوله؛ أحست مشاعره وسرائره، فبدت إنسانةً غير التي هي. . . لقد ذلت نزعاتها الثائرة! وسألته في خشوع ومهابة. فمن هي منقذتي؟(714/57)
- إنها أختي!
(القاهرة)
لبيب السعيد(714/58)
العدد 715 - بتاريخ: 17 - 03 - 1947(/)
بدع التشبيه. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني خطاب من (مستفسر) يسألني فيه بعض التوضيح لمسألتين عرضت لهما في محاضرة عن (الأدب المصري بين حربين) ألقيتها في نادي خريجي القسم الإنجليزي بالجامعة المصرية. وهما بدعة التشبيه والروايات التي تسمى بالملاحم الاجتماعية.
أما بدعة التشبيه فقد كانت مناسبة الكلام فيها أن أدباء الصناعة كانوا يحسبون الوصف فرصة لاختلاق الأشباه التي لا أصل لها في الطبيعة ولا في إحساس الشاعر. فكان الشاعر يصف الدمع الأحمر لأنه استنفد ماء شئونه فجرى الدمع من دم مآقيه، فيأتي بعده من يعارضه بوصف الدمع الأخضر أو الدمع الأسود أو الدمع الأصفر إلى غير ذلك من الألوان التي لم تشاهد قط في عين إنسان.
فمن تعليلاتهم لاحمرار الدمع قول الأرجاني:
دنون عشية التوديع مني ... ولي عينان بالدم تجريان
ولم يمسحن إكراماً جفوني ... ولكن رمن تخضيب البنان
فالدمع هنا نوع من صبغة الأظافر أو صبغة الأنامل التي تقابل (المانيكور) في هذا الزمان.
ولكنه عند ابن سيناء الملك انعكاس لون الخدود:
لا تحسبوا أني بكيت دماً ... ولئن بكيت فليس بالبدع
لكن دمعي حين قابله ... ألقى شعاع الخد في الدمع
وكذلك هو عند الباخرزي حين يقول:
شكوت الذي ألقى سهاداً وعبرة ... وقلت احمرار الدمع يخبر عن وجدي
فقال محال ما ادعيت وإنما ... سرقت بعينيك التورد من خدي
أما ابن الساعاتي فالدمع عنده مطر، والمطر من البرق، والبرق كالصفائح الدامية. . . فلا عجب أن تجري الدموع بلون الدماء كما قال:
سلوا بالحمى أين الظباء السوانح ... وهل ظل بعدي بانه المتناوح
جرى ماء عيني يوم كاظمة دماً ... فأعلمني أن البروق صفائح
وتتحول المسألة إلى أنبيق تقطير عند يوسف بن لؤلؤ الذهبي فيقول:(715/1)
قالوا تباكى بالدموع وما بكى ... بدم على عيش تصرم وانقضى
فأجبتهم هو من دمي لكنه ... لما تصعّد صار يقطر أبيضا
وإلى هنا تنحصر المشابهة في الدمع والدم وهما في بنية الإنسان وفي تركيب العيون.
إلا أنها لا تنحصر فيهما طويلاً حتى يعرض لحلها خليل ابن إيبك الصفدي شارح لامية العجم فيروي في كتابه (تشنيف السمع بانسكاب الدمع) أن الدمع يسودّ كما قال بعضهم:
وقائلة ما بال دمعك أسودا ... وجسمك مصفر وأنت نحيل
فقلت لها أفنى جفاؤك مدمعي ... وهذا سواد المقلتين يسيل
ويعجب الصفدي بالمعنى ولكنه يستضعف الشعر (كأنه عروس جليت في ثياب حداد). . . ثم ينتقل إلى الدمع الأخضر فيروي هذين البيتين:
وقائلة ما بال دمعك أخضرا ... فقلت لها: هل تفهمين إشارتي
ألم تعلمي أن الدموع تجففت ... فأجريتها يا محنتي من مرارتي
ويعود الصفدي فيعقب قائلاً: (وهذا المقطوع ركيك. وإنما الاستطراد اضطرني إلى ذلك. ولقائله عذر واضح لكونه دفع إلى مضيق هذا الجواب، وكنت قد كلفت نظم شئ في الدمع الأخضر فاتفق لي هذا المعنى فنظمته وهو:
يقول عذولي ما لدمعك أخضرا ... جرى في هوى ظبي غلا في نفاره
فقلت صفا دمعي وقابلت صدغه ... فأبصرب فيه لون آس عذاره
وتبرعت بالنظم في الدمع الأصفر فقلت:
وقائلة ما بال دمعك أصفرا ... فقلت لها ما حال عن أصل مائه
ولكن خدي أصفر من سقم الهوى ... فسال به والماء لون إنائه
وهكذا كانوا يفهمون الوصف على أنه مناسبة لاختلاق التشبيهات التي لا وجود لها في الحس ولا في الطبيعة، ولا يشبهون لتقريب المحسوسات إلى العاطفة والخيال.
فلما خلص الشعر من أوهاق الصناعة بطل هذا الاختلاق وأعقبته محاولة التشبيه للتقريب وصدق التمثيل. وهذه خطوة تقدم لاشك فيه. . . فلا يقدح في هذا التقدم أن يكون السابقون أبرع من اللاحقين في اصطياد التشبيهات وتمحل المناسبات. فإن الذي يعمد إلى التشبيه لأنه يحس ويتخيل خير من الذي يعمد إليه لأنه يعرض براعته في التلفيق والاختلاق، وإن(715/2)
قصر الصادق عن المختلق في ظواهر التشبيه.
عرضت لهذا التطور في سياق الكلام على نهضة الشعر الحديث بعد هبوط الصناعة به إلى ذلك الحضيض. فبلغ من دهشة السامعين أن طالباً أزهرياً منهم ظن أنني وضعت هذه الشواهد من عندي لتمثيل تلك النزعة واستبعد أن يجد شاعر في نظم تلك السخافات. فأرضاني منه هذا الشك لأنه كان من أدل الدلائل على ارتقاء الأذواق وتطور الافهام. فما كان براعة يتسابق إليها الأدباء قبل بضعة قرون أصبح في زماننا هذا سخفاً لا يعقل أن يخطر على بال أديب ولا قارئ، وكفى بذلك دليلاً على نشأة الأدب من جديد بعد ذلك المسخ وذلك الانحدار.
ويحق لمن أراد أن يستزيد من تحقيق تلك الأعجوبة أن يعرف مرجعها في ذلك الكتاب الذي أشرنا إليه، فإن كتاب (تشنيف السمع) قد طبع بمطبعة الموسوعات بشارع باب الخلق وليس هو بالمخطوط النادر الوجود
أما الروايات المطولة التي سميناها بالملاحم الاجتماعية فقد عرضنا لها في المحاضرة لنقول إنها لم تظهر في الأدب المصري لأنها تتوقف على قيام المشكلات الاجتماعية التي تدور عليها. وستظهر في حينها متى ظهرت موضوعاتها وظهر أبطالها وذوو (الشخصيات) التي تؤدي أدوارها في الحياة
وقد خطر لبعض السامعين أن يناقش هذا الرأي لأنه أخطأ فهم العنوان وأخطأ فهم التطبيق.
فقد حسب أن القصة التي تسمى بالملحمة وقف على موضوعات كموضوعات الإلياذة وما إليها، أو أنها مقصورة على معارك الحروب وبطولة القتال.
وليس لذلك مسوغ من أصل الكلمة ولا من تطبيقها في الروايات.
فإن الكلمة اليونانية لا تشير في أصلها إلى حرب ولا أسطورة إلهية. ولا تتجاوز معنى الأقصوصة أو الأنشودة.
وتطبيق هذا العنوان القديم لا يستلزم حصر الملحمة في الأساطير لأن رواية موتلي عن الجمهورية الهولندية تحسب من الملاحم وهي تدور على وقائع التاريخ.
وهو لا يستلزم حصر الملحمة في المعارك الحربية لأن (الكوميديا الإلهية) ملحمة وليست هي من روايات المعارك الحربية، ولو جاز الأخذ بالقشور لما جازت تسميتها بالكوميدية(715/3)
ولا (بالأبوبي) على هذا الاعتبار.
وإنما تطلق الملحمة في عصرنا وقبل عصرنا على كل قصة مطولة تدور على موضوع فخم من موضوعات البطولة والعظمة، وهي من ثم صالحة لأن تظهر في كل زمان متى ظهر الموضوع الذي تدور عليه، وليس من الحتم أن تقف بعد عصر هوميروس أو عصور الأساطير.
عباس محمود العقاد(715/4)
أوراق. . .
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
شرعت منذ ساعتين أقلب أوراقي في خزانة كتبي وأرتبها وأمزق م لا أحتاج إليه. وأنا وأمثالي من الأوراق في جهاد دائم. إن أغضيت قليلاً تراكمت على المكتب والكراسي وكان منظرها همَّاً، والتفكير فيها ألماً، ونغّصت علينا العمل. فلابد أن يتعهد الإنسان أوراقه بين الحين والحين وإلا غلبته وتراكمت حوله تراكم الهموم.
وفي طبعي إلْف يدعوني إلى الاحتفاظ بأوراق لا غناء عنها، وكلما طال عليها الزمن، وبعد العهد بما فيها زادت قرباً إلى نفسي، وحباً إلى قلبي، وعزّت عليّ عزة الذِكَر القديمة، والحوادث التي تؤرخ الحياة الماضية.
وقد عثرت - وأنا ماض في نقد الأوراق وتمزيق بعضها، وقد غلبني التعب والملل فهان عليّ تمزيق أوراق ضننت بها زمناً طويلاً - على ظرف فيه وريقات شتى فجلست بها أقلبها وأتسلى بذكرياتها. فإذا هي الوريقات تمثل تقلب الإنسان في هذه الدنيا بين أعمال مختلفة، وشواغل شتى. إن جمع بعضها إلى بعض كانت مفارقات مضحكة أو عظات مبكية.
هذه الوريقات في هذا الظرف الصغير ترجع إلى سفري إلى تركيا قبل تسع سنوات:
فهذه أبيات فيها كتب تركية في موضوعات شتى ومعها بيان أثمانها. بين هذه الكتب نسخة عربية مخطوطة من أمثال الميداني، ونسخة جليلة من كتاب المثنوي أغلب الظن أنها كانت في يد العالم الشاعر الصوفي العظيم الشيخ عبد الرحمن الجامي. ذكرتني هذه الورقة بمجالس لي عند الورّاقين في حيّ بايزيد من أحياء اسطنبول، وهو أحب أحيائها إلى نفسي.
وورقة أخرى فيها أسماء أربع عشرة من خزائن الكتب في هذه المدينة العظيمة اسطنبول وقد دخلتها كلها ونعمت بالقراءة والبحث عن الكتب القيمة فيها.
وأوراق أخرى من هذا الضرب الذي شغلنا في السفر والحضر واليقظة والنوم.
ورقة فيها قطع من الشعر التركي خطها أديب عالم تركي ظفرت بصحبته في تلك الرحلة(715/5)
هو المرحوم فريد بك. وكان رحمه الله متشائماً كثير السخرية.
ومن هذه الأبيات وأحسبها من نظمه:
كجدي دنيادن آداملق دوره سي
اعتماد إيت كَل بد قول راجح
شمدي حيوانلقده درفيض ورواج
روح إنسانية الفاتحة
وترجمتها:
مضى من الدنيا دور الإنسانية. اعتمد على هذا القول الراجح والحيوانية الآن في فيض ورواج. فلروح الإنسانية الفاتحة.
وبعدها ورقة فيها بيان بكتب مخطوطة قديمة محلاّة رأيتها عند واحدة من ولاة الترك السابقين. ورأيت كيف يعتز بها، ولسان حاله يقول:
وقد تخرج الحاجات يا أم عامر ... كرائم من ربّ بهن ضنين
ثم ورقة تذكر بزيارتي بيت الشعب في أنقره وما لقيت هناك من رجال وآراء وتحف وآثار.
وبطاقة فيها ذكر كتب وآثار رأيتها في مدينة قونية حينما زرت ضريح جلال الدين الرومي، ودار المولوية التي صيّرت اليوم متحفاً. وكم لي في دار المولوية من وقفات، وعظات. وكم لها في النفس من ذكريات.
وصورة صغيرة لرجل كريم رافقته في طريقي من اسكيشهر إلى قونية وسايرته في قونية ساعات فحفظ الودّ، وأهدى إليّ صورته وعلى ظهرها كلمة تعرب عن أخوته وصداقته. وتاريخها 13 أيلول سنة 1937، وقد افترقنا ولم يعد أحدنا عن صاحبه من بعد شيئاً. ورحم الله حافظاً الشيرازي. يقول:
(اغتنم الصحبة فإننا حين نفترق من هذا المنزل ذي الطريقين لا نستطيع أن نلتقي أبداً).
وكل منازل هذه الحياة ذات طريقين بل طرق. إن افترقت بالمجتمعين لم يكونوا من اللقاء على يقين.
وبيدي الآن صفحة كتبت بخط نسخي جميل وباللغة التركية وهي رسالة من أحد أدباء(715/6)
الترك إلى آخر يعرب عن تحسره على الشاعر الكبير الصديق المرحوم محمود عاكف. ولست أتذكر الآن المنشئ ولا الكاتب.
وهي صحيفة جديرة أن تترجم إلى العربية وتنشر تجديداً لذكرى شاعر الإسلام عاكف الذي سعدنا بصحبته في مصر سنين.
وهاتان ورقتان نشرتهما فإذا أبيات لي في وصف دمشق وإحدى ذكرياتها مسطورة بالرصاص وللمداد فيها إصلاح وتغيير كالتمثال لا يزال يعمل في جوانبه إزميل النحات، وأول الأبيات:
دمشق يا قرّة العيون ... وبسمة الفؤاد والجبين
لله يوم خلست فيه ... ساعاً من الدهر ذي الشجون
دخلت خلف العصور داراً ... عاد بها غابر السنين
رأيت تاريخنا تتجلى ... يفيض بالشعر والفنون الخ
وهي أبيات كثيرة وصفت فيها داراً قديمة من دور دمشق ذات الحدائق والنوافير والنقوش والزخارف التي تمثل تاريخنا يوم كنا نبني بأيدينا وعقولنا لأنفسنا قبل أن نسلب الاستقلال في كل شئ، ونُعنى بالتقليد في كل شئ.
وآخر الأبيات:
خرجت منها يقول قلبي ... للرِجْل: بالله أنظِريني
ومن الأوراق كتاب من النادي العربي في دمشق يتضمن شكري على محاضرة ألقيتها فيه موضوعها: النهضة العربية.
وأوراق غير هذه فيها حساب الفنادق. ومالي وللحساب.
هذا ظرف صغير نشرت منه هذه الذِكَر كلها، وقد مضت عليها تسع سنين وكأنما وقعت أمس.
وكل حياتنا ملأى بالوقائع، والفِكر والعِبر ولكنها تمر سريعة مرّ الزمان. ويُنحي عليها الزمان المحّاء بالمحو والنسيان. فهل من مدّكر.
أثارت هذه الوريقات ذكريات في نفسي، تتصل بها ذكريات وكشفت النسيان عن حوادث عفّى الزمن على آثارها. فسارعت بكتابة هذه الكلمة قبل أن يمحو الزمان الذِكَر، ويفجع(715/7)
بعد العين بالأثر.
عبد الوهاب عزام(715/8)
ثِبْ وَثْباً. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
كان أبي رحمه الله يوقظني كل غداة لأصلي الصبح، يناديني فأجيبه والنوم في عيني أقول:
- حاضر. سأقوم حالاً.
- فيقول: لا تتراخَ. ثب وثباً.
فأتراخى وأتكاسل، ثم أتناوم فلا أردّ، أو أردّ ولا أقوم، حتى يملّ مني فيدعني. وتوفي أبي، وكبرت، وقرأت الكتب وجالست العلماء، وخبرت الدنيا، وجربت الأمور، فلم أجد تجربة أجدى، ولا كلمة أنفع، ولا موعظة أعظم أثراً في المعاش والمعاد، والأفراد والجماعات. من كلمة أبي تلك: (ثب وثباً) لو أن الله جلّت حكمته مدّ في أجله قليلاً حتى يعوّدني العمل بها، والسير عليها، ولم تخترمه المنية وأنا صغير لم أتمرس بعد بحرب الشيطان ولم أستكمل العدة لدفع أذاه، ورد كيده عني، فلبثت في نضال معه إلى اليوم، أغلبه حيناً، ويغلبني، لعنة الله عليه، في أكثر الأحيان.
تدوّي هذه الكلمة في أذني كل صباح، فأسمع منها صوت أبي يقول لي: (قم إلى الصلاة؛ فالصلاة خير من النوم، وبكّر فالبركة في البكور) فيقول الشيطان: (الوقت فسيح، والنوم لذيذ، والفراش دافئ، والجو بارد) ولا أزال بين داعي الواجب وداعي اللذة، أفكر في متعة الصلاة وثواب الآخرة، فأتحفز للقيام وأتصور مشقة الوضوء، وبرد الماء، فانقلب من جنب إلى جنب. ولا تزال نفسي بينهما كنوّاس الساعة، تتردّد بين: (قم) و (نم) حتى تطلع الشمس ويفوّت الشيطان عليّ الصلاة، ويضيّق عليّ الوقت، فآكل طعامي لقمة بالطول ولقمة بالعرض، ولقمة تعترض في صدري فأغصُّ بها، وألبس ثيابي جورباً على الوجه وجورباً على القفا، وعقدة مائلة وقميصاً أعوج، وأنسى من عجلتي بعض أوراقي، وأهرول في الطريق، فأسيء هضمي، وأتعب معدتي، وأضحك الناس عليّ. ثم إني ما كسبت من هذا الإبطاء نوماً، ولا ازددت راحة، ولو 0وثبت) من أول لحظة لكان في ذلك رضا ربي بأداء الصلاة، وصحة جسمي بحسن الأكل وإجادة المضغ، وإكمال عملي بإعداد أوراقه على أناة، وحفظ منزلتي بين الناس بالسير على مهل.
وأنظر فأجدني أقرأ كل يوم مهما أقللت أكثر من مائتي صفحة، جلها مما لا يفيد علماً، ولا(715/9)
يعلّم أدباً، ولا يقوّم خلقاً، وأدع عشرات الكتب الجدية النافعة في اللغة والأدب والفقه والتفسير؛ فأعزم على قراءتها، وأذهب فأعدُّها وأصفُّها على مكتبي، وأهم بالشروع بها، فأجدها كثيرة، فأرجئ النظر فيها، وأقول: سأبدأ في غد فما يضر التأخير إلى الغد وقد أخرتها هذه السنين كلها، فيجيء الغد والذي بعده، وتتصرم الأيام، وأقرأ خلال ذلك أضعاف أضعافها من الكتب التافهة، والصحف والمجلات التي لا تفيد شيئاً، وليس فيها إلا اللهو والتسلية وإضاعة الوقت، وتبديد ساعات العمر، وتبقى هذه الكتب مرصوفة على مكتبي يعلوها الغبار، حتى ترفعها ربّة الدار، ولم أمسها ولم أقترب منها.
ولو أني (وثبت إليها وثباً) لفرغت منها من زمان طويل.
وأنظر فأجدني قد كدت أنسى اللغة الفرنسية لطول ما أعرضت عنها، وانصرفت عن الاشتغال بها، وهي نافعة لي لا حباً بأهلها قبح الله أهلها؛ بل لأن فيها حكمة، والمؤمن يطلب الحكمة حيث وجدها، وآسف أني بدأت بتعلمها من سنة 1918 وواليت دراستها حتى حذقت صرفها ونحوها، ووقفت على شعرها ونثرها ثم نسيتها. وأعزم على تجديد العهد بها، والعودة إليها، وأهيئ كتبها ومعاجمها، ولكني لا (أثب) إليها. فتمضي السنون وأنا لم أشرع بها.
وأنظر فأرى الشحم قد ركبني، والسِمَن قد علاني، فأبطأ حركتي، وأثقل أعضائي، فأطالع كتب الرياضة، وأستشير رجالها، وأشتري أدواتها، وأنوي أن أمارسها، وأواظب عليها حتى يذهب شحمي، وينشط جسمي. . .
وأزمع وضع كتاب عن الخوارج، وآخر عن المهلب، وكتاب في الدين الإسلامي، وأجمع المصادر وأرسم الخطط، ولا يبقى إلا أن أمسك القلم لأكتب. . .
وأحاسب نفسي، فألقاها قد تنكبت طريقها، وتحولت عن وجهتها، وأنستها الدنيا آخرتها، وصرفتها عن ربها، فأعزم على التوبة، والتحري في المطعم والمشرب، وكفّ البصر وحفظ اللسان، والمحافظة على السنن والنوافل، وهجر رفاق السوء، وصحبة من يذكّر بالله ويدل عليه. . .
ولكني لا (أثب إلى ذلك)، بل أقبل عليه متراخياً، أرقب به يوماً بعد يوم، فتمرُّ الأيام، ولم أشرع برياضة، ولم أبدأ بكتاب، ولم أحقق توبة وإنما استسلمت للحياة فدار دولابها عليّ(715/10)
وأنا ساكن، يصبح الصباح ويمسي المساء، (والحالة هي هِيَه، والعيشة هي هِيَه)، ما نشطت بالرياضة جسماً ولا شحذت بالمطالعة عقلاً، ولا زكيت بالتوبة نفساً، خسرت هذا كله لأني عصيت أبي، وخالفت عن أمره فلم أثب من الفراش وثباً، وبعت هذه الخيرات بتمددي ساعة تحت اللحاف، فما أعظم المبيع، وما أقل الثمن!
وهذا هو مرضنا جميعاً، وعلة عللنا وسبب أدوائنا، وليس تنقص واحداً منا المواعظ والأفكار، ولا يعوزه معرفة طرق الخير. فالمواعظ مبثوثة في كل كتاب، ومترددة على كل لسان، وماثلة حتى في وفاء الكلب، وصبر الحمار، ودأب النملة، وتوكل العصفور وظاهرة في طبائع الأشياء، وصفات الجمادات، من شاء موعظة وجدها، ومن ابتغى نصيحة وقع عليها. وطرق الخير معروفة لا يجهلها أحد، فكل أب يجد إن فكر خطة لتربية ولده خيراً من خطته، وكل تاجر يجد أسلوباً أحسن من أسلوبه لتوسيع تجارته، وكل رجل يعرف الطريق لتحسين صحته، وإصلاح سيرته في بيته مع أهله وزوجته، وفي طعامه وكسوته، وفي يقظته ونومته وأحمق الناس تمر به نفحات يرى فيها سبيل العقل واضحة، وأفسق الناس تسمو نفسه لحظات يبصر فيها قبح الفسوق وجمال الطاعة، ويشعر بالندم ويعزم على التوبة، ولكن ينقصنا المضاء والتصميم و (الوثوب) إلى الخيرات حين تلوح لنا وتمر بنا.
هذا هو مرضنا الذي طالما أضاع علينا أموالاً ومكاسب، وخيرات ومنافع، وأخرنا والأمم تتقدم، وهو مرض الجماعات منا والحكومات، فأعرضوا تاريخنا الحديث تروا كم فرصة أضعنا وكم غنيمة فوتنا، بل انظروا ماذا صنعنا في هذه الحرب وحدها واعجبوا منا إذا فتحت لنا إلى آمالنا باباً واسعاً فلم ندخله، ووضعت في أيدينا سلاحاً ماضياً فلم نستعمله: عجزنا أن نكون أقوى من عدونا، فأضعفته هذه الحرب لنقوى بضعفه، وشغلته عنا لنغتنم الفرصة فنسترد منه ما سلب منا، فأدركتنا رقة الشعور، فرحمناه، وأشفقنا عليه أن نزعجه بمطالبنا في بلواه، وآثرنا الذوق واللطف على واجب الوطنية والشرف، فلم نفتح أفواهنا لنقول له: (أعطنا الذي سرقته منا) بل أعنّاه على عدوّه وعلى أنفسنا، وأيدناه بألسنتنا وأموالنا وأيدينا، وزعم لنا، أنه ما حارب إلا لينصر الديموقراطية، فقلنا: (صحيح. فلتعش الديموقراطية) وقال لنا إنه يبذل دمه ليدافع عن الضعاف المظلومين، ويطهر الأرض من(715/11)
النازيين الباغين، فقلنا: (بارك الله فيك، هذه شيمة السادة الأكرمين). وقال لنا، إنه إن يُغلب في هذه الحروب ينهدم صرح الحضارة، وينهدّ بناء التمدن، ويرجع البشر إلى شريعة الغاب، وطبيعة الذئاب، فقلنا: (هذا لاشك فيه، فأنتم حماة الحضارة، وأنتم أهل المدنية، وما الألمان إلا برابرة همج متوحشون). ولم يكن فينا أمة عاقلة إلا الهند، فلم تجامل هذه المجاملة السخيفة التي جاملناها، ولم تقترف هذه الجريمة التي اقترفناها، ولم ترق مثلنا الدموع على باريس، دار الفسقة الظالمين، أعداء العرب والمسلمين بل قامت تنادي بطلب الاستقلال، على حين كان أدباؤنا يمجدون الديموقراطية في الصحف، ومشايخنا يدعون لها على المنابر بالنصر فكانت عقوبتنا عاجلة، فلم تمر ثلاث سنوات على استجابة الدعاء وانتصار الأعداء، حتى فعل بنا أهل باريس التي بكينا عليها يوم نكبتها (جدد الله نكبتها) ولندن التي مجدنا ديمقراطيتها، ما لم يفعله هتلر باليهود، (وماذا فعل هتلر باليهود؟) ولا موسوليني في الحبشة، ولا الذئب بقطيع الغنم، فضربوا دمشق أقدم مدن الأرض بالقنابل، وذبحوا عشرات الألوف من أهل المغرب وأعانوا الهولنديين على الإندونيسيين ليملكوا أرضهم، ويسلبوهم بلادهم، ويقتلوا أبناءهم، ويسرقوا ثمارهم، ورموا فلسطين بشذاذ الآفاق، ونفايات الأمم، أهل الذلة والمسكنة اليهود، ودفعوا إليهم الرصاص، وأعطوهم السلاح، فسلطهم الله عليهم حتى ذبحوهم بسلاحهم، ثم رأوهم لا يستحقون الرصاص فالرصاص للجندي الشريف، فأعدوا لهم السوط فجلدوا به جلودهم، ومزقوا أبشارهم، فصاروا بذلك أذل من اليهود. . . وتنكروا لمصر من بعد ما لجئوا إليها فآوتهم، وسألوها المال فأعطتهم، وخطبوا منها على ظلمهم لها الودّ فوادّتهم، واستنصروها وهم أعداؤها على قوم لم يعادوها فنصرتهم، فكان جزاءها منهم بعدما أكلوا خبزها، وأخذوا مالها، وسكنوا في مساكنها، جزاء الذي أطعم الحية فلدغته، وآوى الضبع فأكلته.
فهل اعتبرنا؟ وهل عرفنا أن من لا (يثب) على الفرصة تفلت منه، ومن لا يضرب الحديد حامياً يبرد ويشتد فيعجز عنه؟ هل اعتزمنا (الوثوب) في فلسطين، وفي مصر، وفي المغرب، أم لا نزال نؤجل ونسوّف، حتى يأتي يوم لا ينفع فيه الوثوب، ولا يجدي العمل؟
هذه هي علتنا أفراداً وجماعات، مع أن المسلم أبعد الناس عن هذه العلة، وأحقهم بالبرء منها، لأن من مقاصد العبادات في دينه، تعليمه التنظيم والتصميم، لولا ذلك ما جعل الله(715/12)
للصلاة (وقتاً) إذا تقدمت عنه دقيقة لم تصح الصلاة، وقّت للصوم وقتاً إن نقصت منه دقيقة فسد الصيام، وحدّد للحج وقتاً أن لم يكن فيه بطل الحج.
فيجب أن يجتمع لمحاربة هذه العلة، المعلم في المدرسة، والكاتب في الصحيفة، والواعظ في المسجد، حتى ننشئ نشئاً قوي الإرادة، ماضي العزم، (يثب) إلى غايته وثوب الأسد، ويحط عليها حط النسر، ولا يدع اليهود يكونون أمضى منه يداً، وأجرأ قلباً، وأعظم أثراً.
إن (الوثوب) إلى الخير، والثبات عليه، جماع الفضائل كلها، فإن تعلمناها لم نحتج بعدها إلى شئ.
علي الطنطاوي(715/13)
الأزهر بين الجامع والجامعة
للأديب صبحي إبراهيم الصالح
أقبل منذ نعومة أظفاره على الدين مولعاً بدراسته شغوفاً بأسراره شديد الرغبة في بثه وإحيائه؛ حتى إذا نال الشهادة الثانوية في موطنه لبنان قدم القاهرة فانتسب إلى إحدى كليات الأزهر وإن في صدره لآمالاً كباراً، وأحلاماً عذاباً.
لم تكن آماله لنفسه فقد وهب للدين نفسه، ولا أحلامه في شخصه؛ وإنما كان كل رجائه ماثلاً في الأزهر الشريف يرقب وثبته الداعية إلى الإصلاح، وتطوره الباعث على التحرر.
أسرف في حسن ظنه بالأزهر: فما لبثت الأحداث أن صعدت الباب، لتظهره على المستور من وراء حجاب!
واقتصد في حسن ظنه وأصبح ضنيناً في مدحه حين رأى الأزهر على حقيقته. . . فاحترق من الألم فؤاده، وتقطع من الألم قلبه، وفاض من التحسر دمعه.
أخذ يستعرض في مخيلته صوراً للأزهر قد خلت فوجده - منذ بنائه إلى عهد قريب - غير مقصور على العبادة في خشية وخشوع، ولا على الصلاة في تذلل وخضوع، وغير مقصور على علوم الشريعة في تمحيص وتدقيق، ولا على آداب اللغة في تبويب وتنسيق. وإنما كان نسيجاً من ذاك وهذه، وكان النسيج من قوة الحبك ووثوق العرى بحيث استعصى على الحوادث حله مدى عشرة قرون حمل فيها الأزهر مشعل الحضارة بيده، وبدا للعالم كله مثالاً حياً للجامعة المقدسة الوقورة، ونفر إليه الوافدون يتلقون في حلقاته علوماً يزينها الإيمان، ومعارف يجملها الإخلاص، وآداباً يصقلها الخلق المتين.
لقد كان الشرق عزيزاً بالإسلام، يوم كان الغرب منزوياً في الظلام. . . ثم سكر الشرق سكرة أضاعت رشاده، فوثب الغرب وثبة بعثت جهاده!
وغلب الشرق على أمره فقلد الغرب في حضارته، وتأثر به في مدنيته، وانتقل بين عشية وضحاها من عهد مؤمن بالدين القويم، مخلص لرسالته السامية، خاضع لتشريعه الحكيم، مذعن لأحكامه العادلة، إلى عهد متفان في المادة الطاغية، غارق في بحرها المتلاطم مسحور بمتاعها الكاذب، مأخوذ بجمالها الخلاب.(715/14)
ولا ريب أن مهابة رجال الدين تتفاوت قوة وضعفاً تبعاً لمكانة الدين في المجتمع، وإن مكانة الدين في المجتمع تعلو وتهبط تبعاً لنشاط القوامين عليه، الداعين إليه، فلا عجب إذا أتى على علماء الأزهر حين من الدهر كانوا فيه (ملوكاً لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم) في عصر كان فيه صوت الدين مسموعاً، وحكمه نافذاً، وأنصاره كثيرين. ولا غرو إذا نزعت الحياة مهابتهم هذه في عصر خفت فيه صوت الدين. وعطلت أحكامه، وقل دعاته. ولا بدع إذا سارع الأزهر - بدافع من حب البقاء، وحافز من صيانة الحياة - إلى مسايرة العصر الحديث الذي يعيش فيه فانتقل من حلقات الجامع إلى فصول الجامعة، ومن حصير الرواق إلى مقاعد الدراسة، ومن سراج الزيت إلى نور الكهرباء، محاولاً أن يتبوأ مركزاً في الحياة. . .
في مراحل هذا الانتقال أصبح عسيراً على الأزهر تعيين وجهته، ورسم خطته: فقد تعددت أمامه السبل، وتفرعت تحت بصره المسالك، وتشعبت بين يديه الدروب، ولبث في حيرة تنازعه فيها القديم والحديث، فقيض الله رجالاً أشربوا في قلوبهم الإصلاح بإيمانهم، فخافوا على الأزهر أن يسحقه الجديد إذا بقي على القديم، ولم يأمنوا أن يقطع صلته بماضيه إذا سارع إلى الجديد، فتحفظوا وكانوا أمة وسطاً، وأعلنوا للملأ شعارهم الخالد: (نحن لا نهجر القديم لأنه قديم، ولا نعشق الجديد لأنه جديد)!
وكانوا حكماء بهذا التحفظ، كما كانوا حكماء حين لم ينتظروا أن يتم الإصلاح في حياتهم، فبدءوا سلسلة الجهاد ثم تركوها في أيدي أنصارهم وأعوانهم الذين حرسوا في بيئة الأزهر وفي البيئات الموالية له شريعة تهاون بها المجتمع ولم يرعها حق الرعاية.
ومع أن التحفظ خطة حكيمة فقد نجم عنه كبت للشعور، وفي الكبت حرمان اللذائذ، وفي الحرمان إثارة إلى مستعذب الرغائب، وفي الإثارة تحد وإغراء، فكان طبيعياً أن يضيق الأزهري بقيوده في عصر الحرية والانطلاق، فينسى معاني الرضا القناعة المتمثلة في حصير الرواق وسراج الزيت وصومعة النسك، ويمسي حالماً بالوظائف والعلاوات، والمناصب والدرجات.
لكن هذا كله لم يذهب بحسنات التحفظ في نظر المنصفين الذين يعلمون أن الإصلاح التدريجي البطيء خير وأحسن من الانتقال الفجائي السريع، لأن في البطىء اتزاناً ونظاماً،(715/15)
وفي السرعة اضطراباً وفوضى.
والحق أن في الأزهر اليوم نهضة إصلاحية كبرى يعترضها كثير من العقبات. والحق أن في الأزهر ومعاهده شباباً غير قلائل يلتهبون غيرة على الدين، ولكنهم يفقدون القيادة الحكيمة والتوجيه الرشيد. ولو دللت العقاب، ووجه الشباب، لخطا الأزهر أشواطاً إلى الكمال. ولكن. . . أين الأسود لتعلم الأشبال؟
أوضح الأستاذ الطنطاوي ما كان يتلجلج في الصدر حين وجه على صفحات الرسالة كلمة إلى الأزهريين (بمناسبة حادث الشيخ أبي العيون).
كانت الكلمة وكتوبة بشعور فياض، وعاطفة جياشة، فلم أتمالك نفسي وأنا أتلوها من التأثر والبكاء. ورحت أتلوها على إخواني الأزهريين من المصريين وغير المصريين، فلم أجد إلا عيوناً تفيض، وقلوباً تلين. وليس بالجديد أن يكتب الأديب بمداد قلبه، فكثيراً ما يغلب على الأدباء إرهاف الحس، فيقارن أحدهم بوحي من عاطفته ما يسأم العقل من مقارنته، أو يمل من تحليله وتعليله.
هذه المقارنة الشعورية التي تجلت في المقال لم يكن فيها مقنع للأستاذ الكبير العقاد الذي رد عليها تحت عنوان (جامع وجامعة) وإني إذ أوافق الأستاذ علي أن الشرق في أشد الحاجة إلى تحويل أفكاره من مقارنات الشعور إلى مقارنات العقول، أرى أن موضوع الأزهر خاصة وبعض الموضوعات الأخرى ما برحت في حاجة إلى المقارنة الشعورية بين وقت وآخر، على شرط ألا يخالف الشعور العقل في حكمه، وإن خالفه في أسلوبه ونظمه.
إن هذه الحياة - كما هي بحاجة إلى العقل في حكمه الراجح الموزون - لا نستطيع أن نتجاهل أنها في بعض الأحيان بحاجة كذلك إلى الشعور في تصوير الحكم العقلي الجاف بصورة عاطفية مثيرة؛ وإلا فلن يكون للخطباء تأثير، ولا للشعراء تقدير، ولا للأدباء إجلال.
وإني لأعجب للأستاذ الفاضل - وهو الأديب الذي تفخر العروبة بآثاره - كيف استنبط من مقال الطنطاوي أن علة العلل في الأزهر هجرانه حصير الرواق وسراج الزيت وصومعة النسك، وأن البركة كل البركة مرهونة بالعودة إلى هذه الأشياء. وإني لأكثر عجباً بموازنة الأستاذ بين صلة الترام بقلة البركة في المبيعات والمشتريات وبين صلة سراج الزيت بما(715/16)
كان عليه الأزهر وما صار إليه.
ليسمح لي الأستاذ الذي كثيراً ما تعلمت من مقالاته حرية البحث أن أكون حراً في نقدي إذا رضي أن يسميه نقداً وفي حكمي على موازنته بأنها قياس مع الفارق، ليس في رأيي فقط، بل في رأي إخواني الأزهريين الذين تلوت الرد عليهم فلم يجدوا فيها مقنعاً. والأزهريون - كما جاء في مقال الأستاذ - أفنوا حياتهم في دراسة المنطق، والتمكن من أسسه، والتدرب على صحة أقيسته التي تعصم الأذهان من خطأ التعليل، فلهم إذاً حق المناقشة والانتقاد.
وإني مستعد بلا ريب لتحمل مسئولية كلامي حين حكمت على تلك الموازنة بأنها قياس مع الفارق لأن الذي جعل للترام علاقة بقلة البركة رجل من عامة الناس باعتراف الأستاذ؛ أما الذي جعل لسراج الزيت علاقة بماضي الأزهر وحاضره فأديب كبير يعرف فضله الأستاذ.
ولست أزعم أن الأديب معصوم، فما أكثر ما يخطئ الأدباء! لكني لا أرى من الإنصاف للأستاذ الطنطاوي أن نحسبه يصور ما بنفسه تصوير العوام، أو يجري في وصف شعوره على ما يجري عليه الجهال، كأنه يعجز عن الموازنة بعقله، أو يرتبك في المقارنة بمنطقه.
ليس حنين الطنطاوي إلى حصير الرواق ليعود الأزهري إلى النوم عليه ولكن لأن فيه معنى القناعة. .
وليس تشوقه إلى سراج الزيت ليعود الأزهري إلى القراءة عليه ولكن لأن فيه معنى السهر في المطالعة والتحصيل. . .
وليس شغفه بذكرى صومعة النسك ليعود الأزهري إلى الانقطاع بين جدرانها، ولكن لأن فيها معنى التعفف والتقوى والصلاح. . .
وليست الأمثلة التي سردها عن العلماء الأعلام ليرغب الأزهريين في تقليل نصيبهم من المشاركة في الحياة العملية، ولكن لأن فيها إشادة بالمثل العليا التي كانت أخلاق الأسلاف. . .
وليست كلمته في ختام مقاله (يا إخواننا لم نجد والله خيراً في الجامعة الأزهرية فردوا علينا الجامع الأزهر) لينتقل بالأزهريين من جديد إلى الدراسة في حلقات الجامع، ولكن لأن فيها(715/17)
مطالبة بإفاضة التقوى التي كانت روح الجامع الأزهر. فينبغي أن تكون روح الجامعة الأزهرية!!!
هذه الروح الطيبة التي فهمتها وفهمها إخواني من غضون الكلمة، ومن أجل ذلك بكيت وبكوا.
ولو استردت الجامعة الأزهرية هذه الروح لأدت رسالتها الأولى في بيان حكمة التشريع الإسلامي ونشر السلام في ربوع العالم تحت إشرافه، ثم لأدّت رسالتها الثانية التي لا تقل عن الأولى خطراً في استخراج حقائق (العلم الذي يعمل به المسلمون وغير المسلمين، وفي تدارك عيب العصر الحاضر. وهو العيب الجسام الذي يتمثل في العزل بين عالم العقل وعالم الروح. فيتعلم فيه الرجل وهو مؤمن ويؤمن فيه وهو عالم، ويحسن قيادة المتدينين المتعلمين).
تغمد الله الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق بسحائب رحمته، فقد كنت مثلك كبير الرجاء - يا سيدي العقاد - في إنجاز هذه المهمة على يديه!
قابلته رحمه الله أول ربيع الأول مع وفد من زملائي المصريين في كلية أصول الدين، وألقيت بين يديه كلمة جرى بها قلبي قبل لساني، رجوته فيها بتعديل الدراسة في الأزهر على أحدث المناهج العصرية، ليتمكن خريجه من أداء وظيفتيه في ثقافة العقل وثقافة الروح. ولست أنسى مدى حياتي تلك الدمعة الطاهرة التي اغرورقت بها عيناه وهو يقول بحضور فضيلتي وكيل الأزهر ومديره: (يا أبنائي هذه هي النهضة التي طالما تمنيت أن يسعى إليها أبناء الأزهر، وإني لأرجو أن تهيئوا الجو الصالح لأواصل عملي في اتزان وسكينة).
ولقد وفى رحمه الله بوعده فبقي يواصل العمل حتى توفاه الله إليه. وعسى أن يكون خلفه محققاً لرغبات الأزهر في الإصلاح. وبعد، فإن الطالب الأزهري اللبناني لم يكتب هذا المقال إلا ليصور آلامه وآماله، وإنه ليغتنم هذه الفرصة السانحة فيناشد الأستاذين الكبيرين العقاد والطنطاوي ليواصلا الحديث عن الأزهر، وأن يقوما بقسطهما في توجيه شبابه، حتى يعود الأزهر جامعاً لله فيه قداسة الجوامع وهيبتها ووقارها وجامعة للناس فيها علوم الجامعات وفنونها وآدابها، وفيها - فوق ذلك - روح تخرج الناس من الظلمات إلى النور.(715/18)
صبحي إبراهيم الصالح
كلية أصول الدين(715/19)
النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
2 - نشوء النطق في النوع الإنساني
أثبتنا في مقالنا الأول بالمشاهدات والاختبارات المختلفة أن النطق ليس غريزياً في الإنسان ولا هو قاصر عليه ولا مميز له دون الحيوانات الأخرى، بل هو ظاهرة فسيولوجية بسيكولوجية طرأت عليه وعلى بعض الطيور وعدد من الحيوانات العليا وعلى الأخص القرود الشبيه بالإنسان، وإنما الرفق بين الإنسان وبين الحيوانات هو فرق في الدرجة ليس إلا.
ونتكلم اليوم عن كيفية نشوء النطق في الإنسان فنقول: إن لنا في كيفية نشوء النطق في الأطفال الآن وفي اللغة البسيطة التي يبدءون بها الكلام، وكذلك في لغات بعض القبائل المتوحشة الحالية، صورة مصغرة من كيفية نشوء النطق في أول أمره.
إن كل ما يمتاز به البشر عن الحيوانات الأخرى من هذه الناحية هو نمو المخ وبالتالي النشاط العقلي من جهة، ونمو التكوين التشريحي والفسيولوجي للأعضاء التي تشترك في عمليات النطق من جهة ثانية، ونمو الحياة الاجتماعية من جهة ثالثة في النوع الإنساني أكثر منه في الأنواع الحيوانية الأخرى للأسباب الطبيعية التي سيأتي الكلام عليها.
وقد بينّا في مقال نشر في (الرسالة) منذ بضع سنين أن الظروف الطارئة المحلية التي اضطرت أجدادنا البعيدين إلى الالتجاء للغابات ليحتموا بها ويقتاتوا بثمارها أدت إلى نمو اليدين أثر استعمالهما في تسلق الأشجار والقبض على فروعها. ومن القواعد المقررة في علم الحيوان أن جميع الحيوانات والطيور التي تعيش على الأشجار يقابل بعض أصابعها البعض الآخر للقبض على الفروع والأغصان. وهذا ما حدث للإنسان وللقرود وباقي مرتبة الحيوانات الرئيسية وقد سميت هكذا من باب التفخيم والتعظيم لأن من بينها النوع الإنساني.
ولقد توسع الإنسان في استعمال يديه بعد ذلك بالقبض على مختلف الأشياء ورفعها وفحصها ونقلها وكسرها وتقطيعها وتهيئتها لأغراضه المختلفة فخف العمل إلى حد كبير عن الفكين اللذين كانا يقومان بجميع تلك الأعمال ولهذا تقلصا وصغر حجمهما في الإنسان(715/20)
إلى الشكل الذي هما عليه الآن بعد أن كانا على درجة كبيرة من الضخامة وممتدين إلى الأمام، وكانت تحركهما عضلات قوية تصل إلى قمة الرأس من كل ناحية فتلتف حول الجمجمة وتقيدها وتحول دون نموها ونمو ما تحتويه وهو المخ مركز التفكير واداته. وقد صغر حجم الفكين في البشر أكثر منه في القرود العليا الأخرى لأسباب محلية خاصة طرأت مصادفةً على الفريق الذي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى النوع الإنساني.
وكان من نتيجة تقليص الفكين في الإنسان بعد أن صارا قاصرين على مضغ الطعام أن قل بالتبعية شأن العضلات المحركة لها وصغر حجمها وصارت لا تصل إلا إلى أعلى الخدين بالقرب من الأذنين فتحررت الجمجمة من قيودها وتخلصت من ضغطها وخلا لها الجو فنمت ونما معها ما بداخلها وهو المخ نمواً كبيراً وهذا هو السر في تفوق الإنسان العقلي العظيم.
وترتب أيضاً على نمو اليدين واستخدامهما في كافة أعمال الحياة أن زالت الحاجة إلى الذيل فضمر وزال بعدم الاستعمال في الإنسان وفي القرود العليا (الغورلا، والشامبنزيه، والأورنجوتان والجيبون).
غير أن الذيل يظهر في أجنتها بما فيها النوع الإنساني في أول أطوار تكوينها ثم لا يلبث حتى يضمر ويزول جرياً على نواميس الوراثة الطبيعية لأن من القواعد المقررة في علم تكوين الجنين أن كل فرد يمر وهو جنين بجميع الأطوار التي مر بها نوعه في الأزمنة الغابرة. وهو ما يعبرون عنه بقولهم: (إن تطور جنين الفرد يلخص تطور نوعه) - وهذا دليل من الأدلة المختلفة على صحة ناموس التطور والتسلسل - وما زالت في الإنسان وفي القرود العليا المشار إليها بقية أثرية من الذيل وهي عبارة عن بضع فقرات ضامرة ملتحم بعضها ببعض في آخر السلسلة الفقرية ويسمونها:
ومن نتائج نمو اليدين أيضاً أن صغر حجم الأسنان لعدم استعمالها إلا في مضغ الطعام، وخاصة الأسنان الأمامية: الأنياب والأسنان القاطعة فصار المجال أوسع أمام الشفتين، وكانتا في الوقت نفسه قد ترهفتا - نتيجة صغر حجم الفكين - إلى أن تحولتا (الشفتان) شيئاً فشيئاً إلى أداة صالحة للابتسام والنطق
وخلاصة القول إننا مدينون بنمو مخنا وعقلنا، وتفوقنا على باقي الحيوانات الأخرى،(715/21)
واستعدادنا للنطق بوضوح وبسهولة أكثر من الأنواع الأخرى؛ إلى نمو يدينا، نتيجة اعتياد أجدادنا البعيدين الحياة على الأشجار وتسلقهم إياها وقبضهم على فروعها وغصونها ألوفاً من السنين. ولاشك في أن التجاءهم إلى الأشجار والغابات كان لأسباب طبيعية طرأت عليهم مصادفةً كأن يكون الغذاء الذي كانوا يعيشون عليه من قبل قد قل أو أنعدم فاضطروا إلى تسلق الأشجار ليقتاتوا بثمارها، أو أنهم احتموا بها هرباً من الوحوش الكاسرة أو الزواحف والحشرات السامة أو من كوارث الطبيعة كالغرق وغيره. وهكذا أدت تلك العوامل المحلية الطبيعية المحض إلى نتائج هائلة لم تكن منتظرة
ولا يفوتنا أن نقول كلمة عن مراكز النطق في مخ الإنسان فقد تطورت للقيام بوظيفتها هذه، إما بنموها نمواً كبيراً أكثر مما كانت عليه في الطيور والقرود العليا، وإما بتحول بعض مراكز أخرى في المخ عن وظائفها الأصلية إلى وظيفة النطق المركزية. وإن حدوث هذا التحول في أعضاء الحيوانات والنباتات وفي أنسجتها من وظيفة إلى أخرى لكي تلائم الكائنات الحية الظروف المستجدة والعوامل الطبيعية الطارئة أمر شائع ومعروف في العلوم البيولوجية كتحول الأقدام إلى أجنحة في الزواحف القديمة التي اضطرتها الأسباب المحلية الحادثة أن تقفز من شجرة إلى شجرة أو من شاطئ إلى شاطئ إلى أن اعتادت الطيران، وتحولت إلى صف الطيور كما تنطق بصحة ذلك أحافير الصور أو الحلقات المتوسطة التي عثروا عليها متحجرةً في طبقات الأرض التي تكونت في تلك الأعصر الجيولوجية القديمة، وعلى الأخص الأركيوبتيركس وهو شكل متوسط بين الزواحف والطيور. ومثل تحول قشر السمك إلى الأسنان في الزواحف وذوات الثدي التي منها الإنسان، وتحول قشر السمك أيضاً إلى القشر الضخم الذي يغطي أجسام التماسيح، وإلى الهيكل الكبير الجامد الذي تتكون منه ظهور السلاحف.
ولعل مراكز النطق هذه التي نحن بصددها نمت في النوع الإنساني أكثر من اللازم حتى صار حيواناً ثرثاراً كثير الكلام كما قلنا في مقالنا السابق.
ومن العوامل الرئيسية الهامة التي دعت الإنسان إلى النطق والكلام، الحياة الاجتماعية. فبعد أن كان أجدادنا البعيدون يعيشون فرادى لاحظوا أنه كلما صار فريق منهم جماعة يستطيعون القيام بالأعمال التي لا يقوى عليها الواحد منهم منفرداً كالدفاع عن أنفسهم ضد(715/22)
وحش مفترس أو كصيد فريسة كبيرة أو زحزحة صخرة ضخمة أو تسلق شجرة عالية لجني ثمارها أو تقطيع أخشابها لتهيئة مأوى أمين وغير ذلك من صعاب أمور الحياة. ولكن حياة جماعاتهم هذه كانت قصيرة الأمد في بادئ الأمر لأن الأقوياء منهم كانوا يبطشون بالضعفاء ليستولوا عنوة أو خلسة على ما حصلوا عليه من الغداء أو الإناث أو المأوى الصالح، فلا يلبثون أن يتشتتوا هرباً من اعتداء بعضهم على بعضهم، فيشعر الفرد منهم بضعفه وهو وحيد أمام قوى الطبيعة والوحوش المفترسة الخ. فيجتمعون ثم يتشتتون ثم يجتمعون، وفي كل مرة يزدادون اقتناعاً بفوائد الحياة جماعة، وأخيراً فطنوا إلى أنه لابد لبقائهم مجتمعين من احترام حياة الغير وملكيته وإناثه وغير ذلك من القواعد التي دعت إليها المصلحة المحض - مصلحة الجماعة وبالتالي مصلحة الفرد وانتقلت هذه الصفات أو القواعد - التي نسميها حميدة لأنها منافعه - من الآباء إلى الأبناء، ومن جيل إلى جيل حتى صارت غريزية فينا أو كادت، وهذا هو منشأ الغريزة الاجتماعية الأخلاقية في الإنسان وفي الحيوانات التي تعيش جماعة كالنمل والقرود العليا.
نعود إلى النطق فنقول: إنه ما إن بدأ أفراد الناس وأفراد باقي الحيوانات الاجتماعية يعيشون جماعة حتى شعروا بالحاجة إلى التفاهم بعضهم مع بعض والتعبير بأية وسيلة عما يجول في خواطرهم مما يهم كل واحد منهم أو يهم الجماعة. وكان الاستعداد للنطق قد تحقق عندهم بعد أن نما مخهم، وتقلص الفكان وصغر حجم الأسنان، وتحررت الشفتان وترهفتا على الوجه المتقدم بيانه، نتيجة لنمو اليدين، بسبب تسلق الأشجار والحياة في الغابات. فأخذوا يحاولون بعضهم التفاهم مع بعض بمختلف الطرق.
التفاهم بالإشارات:
أخذ الناس وسائر الحيوانات العليا - ومثلهم الأطفال الآن - يبدون إشارات كانت في بادئ الأمر آلية غير اختيارية ولا تقليدية تدل على الانفعالات النفسية أو الحاجات الجسمانية الحيوية وهذه الإشارات ترجع إلى عوامل بيولوجية وفسيولوجية بعضها معروف أسبابه وبعضها مجهول كتقطيب الوجه عند الغضب أو الحزن أو الابتسام عند الارتياح والسرور وكهز ذيل الكلب عند الفرح والترحيب بقدوم من يحب، وكهز رأس الإنسان للدلالة على التعجب وانحنائها للمذلة والخضوع، وكالعض على الأصابع للدلالة على الندم، وككثير من(715/23)
الإشارات التي يصاحب بها الإنسان كلامه الآن ويمكن ردها إلى عوامل بيولوجية قديمة ورثناها عن أجدادنا الذين تسلسلنا منهم.
ثم اعتاد الإنسان أن يقوم بهذه الإشارات بمحض إرادته للتعبير عن المعاني التي تؤدي إليها فصارت اختيارية. فإذا أراد أن يعبر عن استهجانه لشيء أو كراهيته لشخص نراه يقطب وجهه كأنه يقول: (إني أكره هذا). ومثل ذلك ما اعتاده الناس من قديم الزمان أن يرفعوا رؤوسهم إلى أعلى للتعبير عن النفي أو يهزها إلى اليمين واليسار لهذا الغرض نفسه. كأنهم يقولون (لا) كما أنهم يعبرون عن الإيجاب بخفضها نحو الأرض بمعنى (نعم).
ثم أخذوا يعبرون عما يقصدون بتقليد شكل الأشياء التي يريدون الإفصاح عنها أو عن بعض صفاتها كما يفعل الأطفال والخرس الآن.
وبعد أن كانت إشارات الإنسان في أول الأمر تعبيراً عن المحسوسات والأجسام المادية تطورت تدريجياً تحت تأثير حاجات الناس المستمرة وارتقاء حياتهم الاجتماعية والعقلية وتحولت (أي الإشارات) إلى التعبير عن المعاني الرمزية والمعنوية. فبعد أن كانوا يعبرون عن الصخر مثلاً بإشارة إلى قطعة منه صاروا يدللون بهذه الإشارة إلى معنى الصلابة. وهذا ما تفعله إلى الآن كثير من القبائل البعيدة عن العمران سواء في إشاراتهم أو في لغاتهم الكلامية البسيطة المحدودة. وهذه هي أيضاً إشارة الخرس عن هذا المعنى - معنى الصلابة.
ومما يروى على سبيل الفكاهة لهذه المناسبة أن حرس برلين يعبرون من زمن عن شخص فرنسي بحركة يدهم بعنف على رأسهم من الخلف كمن يحاول قطعها. وقد اتضح أن هذه الحركة تشير إلى حادث موت لويس السادس عشر ملك فرنسا الذي أعدمته الثورة الفرنسية بالمقصلة.
(يتبع)
نصيف المنقبادي
المحامي(715/24)
صور من حياة الإنجليز الاجتماعية في اقرن الثامن
عشر
للكاتب العظيم يوسف أديسون
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
1672 - 1719
حياة المؤلف:
(أتم دراسته في جامعة أكسفورد، متمكناً من اللاتينية تمكناً أثار إعجاب الشاعر دريدن، للقصائد الرائعة التي كان ينشرها بتلك اللغة. ونشر 1704 ملحمة بعنوان (كمباين) أي الحملة، أشاد فيها بالنصر العظيم الذي انتصره الإنجليز في معركة بلنهيم. وفي 1706 عين عضواً في مجلس النواب البريطاني فوزيراً للدولة. وسافر بعد ذلك إلى أيرلندا سكرتيراً لحاكمها العاماللورد ورتون. وكان صديقاً حميماً لرجال الأدب في عصره مثل ستيل، وسوفت وفي عام 1709 ابتدأ سلسلة مقالاته الاجتماعية والأدبية التي صور فيها حياة الإنجليز أتم تصوير، والتي ننقل عنها هذه الصور الاجتماعية، وأخذ ينشرها في صحيفة صديقه الحميم ريتشارد ستيل التي كانت تصدر باسم تتلر. وفي عام 1712 تعاون مع صديقه ستيل على إصدار صحيفتي السبكتاتور والغارديان. ولما عاد حزب الأحرار إلى الحكم عام 1715 عين سكرتيراً عاماً لأيرلندا وأصدر جريدته السياسية فري هولد. وفي عام 1716 عين مديراً للتجارة وتزوج من الكونتس وروك. وترك الخدمة العامة سنة 1718 براتب تقاعدي مقداره ألف وخمسمائة جنيه في العام وتوفي في السنة التالية ودفن في كنيسة وستمنستر مقر العظماء.
لقد رثاه شاعر وهجاه آخر بعد موته، وللرثاء والهجاء قصة نوجزها فيما يأتي: كان توماس تكيل يعيش في رعاية أديسون وكان يعطف عليه أشد العطف وقد تخرج في أكسفورد أيضاً. وكان الشاعر الكسندر بوب ينشر ترجمة الإلياذة، وكلما نشر فصلاً، أسرع تكيل إلى نشر الفصل ذاته من ترجمته في جرائد ستيل، فكان يجن بوب من ذلك ويفترض أن(715/25)
أديسون هو الذي يحرضه على ذلك. ولذلك كان الرثاء الموجع من الشاعر تيكل، والهجاء المقذع من بوب)
مباراة في التكشير:
أشرت في مقال سابق، إلى اقتراح قُدّم بإجراء مباريات بين الفنانين، وتخصيص الجوائز، تشجيعاً للإنتاج المحلي في الصناعات اليدوية بين الصناع البريطانيين؛ وقد أدهشني بعد ذلك الإعلان التالي في صحيفة بوست بوي في عدديها الصادرين في الحادي عشر من الشهر الجاري والخامس عشر من شهر أكتوبر التالي، (سيعطى إناء خزفي قيمته ستة جنيهات جائزة لسباق يقام في كولزهل من مقاطعة وروك شير بين الجياد الصافنات، وسيعطى إناء خزفي آخر، أقل قيمة من الأول، لسباق بين الحمير، وخصص خاتم ذهبي، لمباراة تقام في نفس اليوم بين الرجال في التكشير).
أما أولى هذه المباريات فقد تكون لها فائدة معقولة؛ وأما المباريات الأخريان، فلا أرى لهما فائدة معقولة. أما لماذا يريدون إقامة مباراة بين الحمير وأخرى بين الرجال في وروك شير، دون أي مكان في إنجلترا، فهو أمر لا أستطيع له فهماً وتعليلاً. لقد قرأت كثيراً عن الألعاب الأولمبية، فلم أجد فيها سباقاً للحمير أو مباراة للتكشير؛ ولكن مهما كانت الأسباب المؤدية إلى ذلك، فقد اتصل بعلمي أن مجموعات من الحمير تدرب ويسخى عليها في الطعام، وأن عدداً كبيراً من الرجال على بعد عشرة أميال من مكان المباراة - يقضي الواحد منهم الساعات أمام المرآة يمرن عضلات وجهه استعداداً لذلك اليوم العظيم.
لقد أثارت الجائزة المقترحة تنافساً كبيراً بين طبقات الشعب، حتى ليخشى أن تتشوه الوجوه، ويعرف الرجل أنه من وروك شير، بمجرد تكشيره. لقد كانت التفاحة الذهبية جائزة الجمال الساحر في الماضي، فأصبح الخاتم الذهبي جائزة تشويه ما ركب الخالق من جمال في الوجوه.
وإنه لمن دواعي الغبطة أن ألفت نظر الفنانين الهولنديين، إلى اغتنام هذه الفرصة لرسم مجموعة من الوجوه التي ستشترك في تلك المباراة العتيدة.
وتذكرني هذه المناسبة، بحديث اتصل بي من رجل قرأ الإعلان عن مسابقة التكشير التي نحن بصددها، فحدث أصحابه القصة التالية:(715/26)
حينما سقطت مدينة تامور، كان بين الاحتفالات الشعبية، مباراة في التكشير، على خاتم قدمه قاض من حزب الأحرار. وكان أول المتبارين رجل فرنسي، مرّ عرضاً بتلك المدينة، وخيل إليه أن نحافته وقبح وجهه، ربما كانا عوناً له على نيل الجائزة، فوضعت له منصة أمام الجمهور وطلب إليه أن يصعد إليها وأن يواجه الناس. وابتدأ يشد عضلات وجهه، ويديرها يمنة ويسرة، وقد استطاع أن يظهر عشرين سناً من أسنانه في التكشيرة الأولى؛ وسرت همسات الاستياء بين الناس مخافة أن يظفر هذا الأجنبي بشرف الجائزة، ولكن حسن الحظ أظهر أنه لا يجيد إلا التكشير المرح، فلذلك لم يظفر بالجائزة.
واعتلى المنصة بعده إنجليزي، يعتبر الأول في فن التكشير، فأجاد إجادة لا مزيد عليها، حتى لقد قيل إن عشرات من النساء الحبالى أجهضن، ولكن المحكمين أخبروا بأن الرجل يعقوبي (نسبة إلى أتباع الملك جيمس الثاني أو ابنه)، وساء الجمهور أن ينال رجل يخرج في عقيدته السياسية على العرف العام، وأن يصبح بطل التكشير في المقاطعة، فطلبوا إليه أن يقسم يمين الولاء للنظام الحاضر، فرفض وكان السرور عظيماً بإخراجه من بين المتبارين
وتقدم بعده للمنصة عشرات من المتبارين كان سوء الحظ حليفهم، ولست أنسى من بينهم فلاحاً يعيش في طرف ناء من المقاطعة، رزقه الله فكين طويلين، كشر بهما عن سحنة الشياطين نعوذ بالله منها. وقد أدهش الجمهور بمهارته في تكشيرة معقدة، وكادت الجائزة أن تعطى له لولا أن أحد المتبارين برهن للمحكمين على أنه استعمل الغش في المباراة؛ ذلك أنه قد مرن عضلات وجهه على نوع من عصير الفاكهة أكسب تلك العضلات هذا اللين العجيب، وأن حبة زعرور قد وجدت قريبة من مكان وقوفه، فوافق المحكمون على إخراجه باعتباره محتالاً.
وتقدم بعد هؤلاء إسكافي يدعى جيلز جورجون دلت المقدمات على أنه سيربح الجائزة لإظهاره ألواناً من التكشير، اخترعها، وهو يجاهد في رتق الأحذية. لقد ذهبت الملامح الإنسانية من وجهه في التكشيرة الأولى؛ وانقلب وجهه في الثانية إلى ما يشبه المزراب، وأصبح قرداً بشعاً في الثالثة، وأصبح رهيباً كذئب البحر في الرابعة، وككسارة اللوز في الخامسة، وكان إعجاب الجمهور عظيماً بمهارته فمنح بالإجماع الخاتم الذهبي. وأعجب ما(715/27)
يتصل بهذا الإسكافي ونيله الجائزة، أن فتاة ريفية جميلة طالما تودد إليها هذا الرجل فرفضته في الماضي، وما كانت تراه يتسلم الجائزة الثمينة بين إعجاب الجمهور وهتافه وتصفيقه حتى سارعت إليه تطلب وده، وتزوجا في الأسبوع التالي. وكان خاتم الخطبة تلك الجائزة التي تعتز وتباهي لداتها بها.
ليس في النية أن تنتهي هذه المقالة بأفكار جدية، إنما ألفت نظر المسؤولين عن إقامة هذه المباريات إلى الجرم الشنيع الذي يقترفونه في حق مواطنيهم بتشجيعهم مباريات حيوانية منحطة من هذا النوع، أقل ما يقال فيها أنها دعوة علنية إلى التشبه بالقردة والحيوانات؛ وأنهم يملئون رؤوس هؤلاء الجهلاء بطموح رخيص، بدلاً من الارتفاع بهم إلى مستوى تهذيبي يليق بالإنسان.
علي محمد سرطاوي(715/28)
فنان. . .!
للأستاذ ثروت أباظة
يسقط على مجلسك دون أن تعرفه، فلا تملك إلا أن تنعم فيه النظر، فهو أشعث أغبر كأنه ابن السلكة قد وافى بعد إيغال في شعاب الصحراء. . . ضامر شاحب كأنه عامل قد أضرب عن الزاد، قذر الملبس يذكرك بالمار أمام منزلك صندوقه على كتفه يصرخ بأعلى صوته (بوابير جاز أصلح)
تريد أن تسأله من أنت. . . والويل لك إذا فعلت. . . لأنه لا يسمح لإنسان ألا يعرفه وقد أفنى نفسه في سبيل الشهرة. . . إن غيره لا يجهد سوى عقله وقلمه فينالها. . أما هو الشاعر الحق فقد أجهد عقله حتى جهد. . وقلمه حتى تحطم وجسمه حتى ذوى، ثم أنت لا تعرفه؟! ففيم إذن أهمل هذه اللحية وجعلك لا تعرف أن كان يزيلها أو هو يرسلها. . . أليس هذا فناً؟. وفيم إذن أطلق حول أذنيه هذه الإطارات من شعره. . كثة تكاد تخفي أذنه. . طويلة توشك أن تصل إلى فكه. . وفيم إذن ركب لنفسه هذا الرأس الثاني من الشعر. . . إن غطى الطربوش رأسه الأول برز من خلفه يخبر أنه. . فنان. . لا. لابد أن تعرفه أردت أو لم ترد. . تعرفه هكذا دون أن يخبرك. . إن سألته من أنت؟ ثار في وجهك وزمجر واستأسد بعد خنوع، إنه فنان يجلس إليك فيخبرك أنه لم ينم ليلته وأنه هكذا دائماً. . هائم على وجهه في غير مهيم. . . شارد في غير مشرد إنه فنان. . والفن في اعتقاده عزوف عن الراحة وشذوذ يفتعله هو. . وقد لا يتحدث عن نفسه فيروح يرصف القواعد للعبقرية ويضع الخطوط الواضحة بينها وبين الاكتمال العلمي فهو يقول إن العلم شئ سهل الحيازة داني القطوف. . يستطيع أي فدم أن يكون عالماً ولكن العبقرية قبس من الأشعة الإلهية أرسله الله إلى صاحب القسمة فهو شارد اللب يمشي دون وعي ويجلس على غير علم، إنه من الواصلين هكذا هكذا. . ولكن ماذا أفاد الرجل من كل هذا. . انتظر. . انتظر هاهو ذا يتبعه بجملته الخالدة، والله كثيراً ما أمشي في الشوارع دون أن أعرف لنفسي اتجاهاً، إنه عبقري ما أسهل العبقرية وما أشبه العباقرة بعمال التنظيم. . . هكذا الرجل لا يهمه بعد هذا إن كان فنه ناضجاً أو فجاً. المهم أن يتشعوذ وأن يعرفه الناس هكذا وهو بعد فنان. . . أراد الفن أو أبى، لا تظلم الرجل إنه لا يأتي هذا تصنعاً ولكنه تطبع طال به(715/29)
الأمد فأصبح طبعاً.
يتحدث إليك عن حب خاب وأمل خبا، ثم عن حب ما يزال متقد الجذوة، وهو إن فعل نظر إلى شئ خلفه يشبه الإنسان وسأله أن يخبرك عن (ليلى) ما يعلم فيأخذ شبه الإنسان في الكلام واصفاً المحبوبة. . . فتتوقع أنت في هذه اللحظة أوصافاً تخجل الشمس إبان ضحوتها وتزري بالغصن أوده الصبا. . . تتهيأ أذنك لأوصاف المحبوبة لا يخالجها شك في جمالها وفتنتها، ولكن هذا أمر طبيعي ليس فيه شذوذ؛ أو يرتضي الفنان لنفسه أن تطلق على سجيتها الأولى ولو في الحب؟ لا ودون ذلك الفن أجمع. . . هاهو ذا الوصف يخبرك أن الحبيبة سوداء مفلفلة الشعر معبلة، مثقلة الشحم؛ ثم يلتفت بعد هذا إلى الفنان يسائله في عجب ما يزال متكلفاً: لم تحبها. . . إن كثيرات غيرها يهوينك وبودهن لو نظرت إليهن ولو نظرة واحدة يلتفت إليك الفنان متعجباً من نفسه هو أيضاً ولكنه يحاول أن يغالط نفسه قليلاً فيخبرك أن معشوقته شديدة الحساسية عليمة بنبضات الشعر وخفقات الشعور. وإنها - وهو المهم - تحترم شعوره الحساس الرقيق فهو قد يغضب وقد يضربها ولكنها لا تؤذي إحساسه بكلمة وتحافظ على كرامته ما وسعها الحفاظ ومهما كلفتها تلك الخطة من إجهاد لشعورها الرهيف. . . وجماع أمرها وأمره أنها تفهمه وأنه يفهمها
عجيب أن يتكلم الرجل عن الكرامة ولكن كرامته هي الأخرى شاذة من نوع آخر. . . فهو قد يسألك القرش على غير معرفة ولكنه مع هذا ذو كرامة - وهو يفرط في الخمر على حساب غيره ثم يخرج إلى الطريق العام عربيداً. . . ولكنه ذو كرامة. . . وهو ينتقي أقذر الملابس ويضعها على نفسه كما توضع البردعة. . . وما يزال ذا كرامة.
إن الرجل ليس فقيراً، فهو يعمل ويحصل على أموال كثيرة ولكنه يضيعها لا لشيء إلا ليستجدي، ولعله يستجدي وهي في جيبه لمجرد الشعوذة والمحافظة على كرامته الفريدة.
قرأ ذلك الشاعر في بدء حياته بعض تراجم لشعراء غربيين قدامى - فرأى ما يفعله بودلير وسمع ما قيل عن بايرون، فظن أن الفن عربدة كعربدتهم وتحلل كتحللهم، وظن أن هذه العربدة وذلك التحلل هما الطريق السوي الممهد إلى الخلود. . . نسي الرجل أن هؤلاء كانوا أصحاب أفكار سامية وعاطفة ملتهبة نابضة وعلم مكتمل ناضج وأنهم نجحوا برغم سلوكهم لا بسبب سلوكهم.(715/30)
إن من هؤلاء الشعراء المشعوذين من إذا انصرف عن شعوذته إلى فنه لكان نتاجه حقيقاً بالاحترام فكثيراً منهم ذو ملكة مهيأة للفن تهيئة يفتقدها الكثير. . . ولكنه أخطأ الطريق أو لعله رأى وعورتها. . . فانثنى عنها إلى طريق أخرى أكثر وعورة على الكرامة الحقة ولكنها سهلة معبدة للكرامة المشعوذة.
ثروت أباظة(715/31)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
888 - إنهما مما أهل به لغير الله
الموافقات للشاطبي: نهي عن (معاقرة الأعراب) وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما، يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقراً أجودهما، نهي عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان أوان حوادث تتجدد لهم وفي نحو ذلك من الأمور.
وخرّج أبو داود: (نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتبارين أن يؤكل) وهما المتعارضان ليُرى أيهما يغلب صاحبه. وهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل، فإذا زيد عليه هذا القصد كان تشريكاً في المشروع، ولحظاً لغير أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز وقوله فيها: إنها مما أهل به لغير الله.
889 - بحث لغوي في شج وشجى
الاقتضاب في شرح أدب الكتاب للبطليوسي.
قد أكثر اللغويون من إنكار التشديد في هذه اللفظة (الشجى) وذلك عجب منهم، لأنه لا خلاف بينهم أن يقال: شجوت الرجل أشجوه إذا أحزنته، وشجى يشجى شجاً إذا حزن، فإذا قيل: شج بالتخفيف كان اسم فاعل من شجى يشجى فهو شج كقولك عمى يعمى فهو عم، وإذا قيل: شجى بالتشديد كان اسم مفعول من شجوته أشجوه فهو مشجو وشجي كقولك مقتول وقتيل ومجروح وجريح. وقد روي أن ابن قتيبة قال لأبي تمام الطائي: يا أبا تمام، أخطأت في قولك:
ألا ويل الشجي من الخليِّ ... وبالي الربع من إحدى بليِّ
فقال له أبو تمام: ولم قلت ذلك؟
قال: لأن يعقوب قال: شج بالتخفيف ولا يشدد.
فقال له أبو تمام: من أفصح عندك؟ ابن الجُرمقانية يعقوب أم أبو الأسود الدؤلي حيث(715/32)
يقول:
ويل الشجي من الخلي فإنه ... نصب الفؤاد لشجوه مغموم
والذي قاله أبو تمام صحيح، وقد طابق فيه السماع والقياس، وقد قال أبو دؤاد الإيادي، وناهيك به حجة:
من لعين بدمعها موليه ... ولنفس مما عناها شجيه
890 - خذ بيدي فهكذا تزول النعم
تاريخ بغداد للخطيب: أبو محمد عبد الله المعروف بابن الأكفاني قال سمعت أبي يقول: حججت في بعض السنين وحج في تلك السنة أبو القاسم عبد الله بن محمد وأبو بكر محمد بن جعفر الأدَمي القارئ صاحب الألحان، كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن وأجهرهم بالقراءة. فلما صرنا بمدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) جاءني أبو القاسم فقال لي: ههنا رجل ضرير قد جمع حلقة في مسجد رسول الله وقعد يقص ويروي الكذب من الأحاديث الموضوعة والأخبار المفتعلة فإن رأيت أن تمضي بنا إليه لننكر عليه ذلك ونمنعه منه، فقلت له: يا أبا القاسم، إن كلامنا لا يؤثر مع هذا الجمع الكثير والخلق العظيم، ولسنا ببغداد فيعرف لنا موضوعنا، وننزل منازلنا، ولكن ههنا أمر آخر وهو الصواب وأقبلت على أبي بكر الأدمي فقلت له: استعد واقرأ، فما هو إلا أن ابتدأ بالقراءة حتى افلت الحلقة، وانفصل الناس جميعاً، وأحاطوا بنا يسمعون قراءة أبي بكر، وتركوا الضرير وحده، فسمعته يقول لقائده: خذ بيدي فهكذا تزول النعم!!
891 - كلنا صيادون ولكن الشباك تختلف
النجوم الزاهرة: قال القاضي التنوخي: جاء رجل من الصوفية إلى بجكم، فوعظه بالعربية والفارسية حتى أبكاه، فلما خرج قال بجكم لرجل: احمل معك ألف درهم وادفعها إليه، فأخذها الرجل ولحقه، وأقبل بجكم يقول. ما أظنه يقبلها، فلما عاد الغلام ويده فارغة قال بجكم: أخذها؟
قال: نعم.
فقال بجكم بالفارسية: كلنا صيادون ولكن الشباك تختلف. . .(715/33)
892 - سيرة أردشير
ثمار القلوب في المضاف والمنسوب لأبي منصور الثعالبي:
سيرة أردشير - من حسن سيرته أن له كتاباً في حسن السيرة يضرب المثل به، وتقتبس الملوك من نوادره، فمن نكته قوله:
إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن الطاعة.
لا صلاح للخاصة مع فساد العامة، ولا نظام للدهماء مع دولة الغوغاء.
أوحش الأشياء عند الملوك رأس صار ذنباً وذنب صار رأساً.
لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا بعمارة إلا بعدل وحسن سياسة.
ومن كلامه: القتل أنفى للقتل. وأجمل منه في معناه قول الله تعالى: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.
893 - جعلك من عجائب البحر
أخبار الظراف والمتماجنين لابن الجوزي: قال أبو الحسن السلامي الشاعر: مدح الخالديان سيف الدولة بن حمدان بقصيدة أولها:
تصد ودارها صدد ... وتوعده ولا تعد
وقد قتلته ظالمة ... فلا عقل ولا قود
وقال فيها في مدحه:
فوجه كله قمر ... وسائر جسمه أسد
فأعجب بها سيف الدولة، واستحسن هذا البيت، وجعل يردده، فدخل عليه الشيظمي الشاعر فقال له: اسمع هذا البيت وأنشده، فقال الشيظمي: احمد ربك فقد جعلك من عجائب البحر
894 - راحة الجسم والنفس والقلب واللسان
عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة:
من كلام ثابت بن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام. . .(715/34)
توقيع
(طلبت صغرى كريمتي الشاعر الكبير عزيز أباظة باشا إلى
أبيها أن يسجل عيد ميلادها في كراسة توقيعاتها فكانت هذه
الأبيات:
وهبتك قلباً مع شقيقيك عامراً ... بأغلى الذي عندي من الحب والعطف
وأسكنتكم أحناءه منزلاً لكم ... فلو قد صددتم عنه أسكنتكم طرفي
وأصفيتكم من جنة النفس رحمة ... ويسعد نفسي أنها لم تزل تصفي
وأبدي حنو الوالدين. . . وأتقي ... فأخفي. . . فينهلُّ الحنو الذي أخفي
إذا ما بذلتم لي جزاء يضيء لي ... بقية أيامي. . فمن ساكب العرف
وإن كانت الآباء كهف فروعهم ... فكهفكمو حبي وحبكمو كهفي
عزيز أباظة(715/36)
في مهرجان جامعة أدباء العروبة في الزقازيق:
حنين إلى الموطن الأول
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
تسليم مشتاق، ولهفة زائر ... يا مهد أحلامي، ونبع خواطري
ومجال فجري وهو يومئ للضحى ... أن تستفيض على الصباح الباكر
ومنارة الأفق الذي لما يزل ... يهفو له قلبي، ويرنو ناظري
ومثار أشواقي الوليدة، والهوى ... في عشه يحبو بخطو عاثر
متفزعاً من كل سار صادح ... ومبلبلاً من كل طيف عابر
إني ذكرت على (مويس) جراحه ... وغنيت عن دمعي بلوعة ذاكر
رف الشباب على رباه مثلما ... رف الهتوف على الغدير الزاخر
هذي الضفاف الناعسات ملاعبي ... يا طالما يقظت لقلبي الساهر
نديت منها أدمعي وسكبتها ... آلام مهجور، وجفوة هاجر
وقرأت فوق ظلالها أسطورتي ... وأبحتها أن تستشف سرائري
ونثرت آهاتي على آهاتها ... في النسمة الحيرى، ونوح الطائر
يا سامري بين الخمائل هاهنا ... جئنا نجدد عهدنا، يا سامري
أوفى عليك الركب، نفحة مبدع ... ونشيد فنان، وهتفة شاعر
حفوا بركب وزيرهم في نشوة ... كالطير حفت بالخميل الناضر
من لي بركب العبقريين الألى ... صدحوا على لجب الزمان الهادر
وشدوا ملاحم مجدهم وتسابقوا ... في صيحة الداعي، وعزم القادر
حسب الوزير الألمعي وحسبهم ... إحياء مجد للعروبة غابر
مجد أظل الشمس تحت لوائه ... ومشى على هام الزمان الجائر
عزت به الفصحى، فأطلع صبحها ... والدهر يضرب في ظلام حائر
لله من رجل ينشر مجدها ... في مجده سلمت يمين الناشر
ليشيع في الدنيا الجمال، ويحتفي ... بالخير في هدي البيان الساحر
تلك الأيادي يا دسوقي صنعتها ... وورثتها من كابر عن كابر(715/37)
أنا بعضها، فمواهبي شبت على ... بيت هنالك في غزالة عامر
لا كرمة في روضة ساقيتها ... نجوى صلاتي في لحون مزاهري
وعصرتها خمراً ودرت بها على ... ندمان روضك بين أنس غامر
أسقي وأسقى من سلاف شعشعت ... بكريم أمجاد، ونبل عناصر
يا سيدي أسر العروبة جهدكم ... في بعثها، لا زال فضل الآسر
من يبعث الشعراء يبعث قومه ... للمجد في وضح النهار السافر
فإذا سئلت عن الذي نحيا له ... في الشرق والنيل العزيز القاهر
فقل البيان. أعيش أرعى أهله ... في الخافقين. وتلك تلك مفاخري
في ظل فاروق سنرفع ذكره ... ليدور في فلك الزمان الدائر(715/38)
رجعة إلى مويس
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
وصل الركب يا نديم فهات ... هذه رملتي، وتلك رباتي
الرياض اللفاء، والرفرف الخض ... ر، ومغني الصبا، وملهي اللدات
ومغاني عماتك النخل فرعا ... ء صموتاً كعهدها قائمات
والطريق الغيان في جانب النه ... ر عروس الأصيل، حلم الغداة
(ومويس) السكران راوية الح ... ب، وساقي لحونه الثملات
معبد الراهب الخليع بساط ... للندامى، وموعد للغواة
العجوز الزنديق خمارة الشع ... ر، وعُزّى ندمانها، واللات
خطر الفن حوله فجثا يس ... تغفر الحسن، والعيون اللواتي
وعلى صدره بغام حنين ... وعلى شطه عرام سقاة
أنا أيضاً من السقاة ولي في ... ذلك الشط قصتي ورواتي
فوق هذا الثرى سكبت من العم ... ر سنيناً عصرتها من حياتي
وعلى هذه الرمال تناول ... ت حديث المأساة، والمسلاة
والزمان المطمور تحت رباها ... بعض ذاتي، وفيه بعض صفاتي
فاعذروني إذا لويت الرك ... ب ف، ي أسير في ذكرياتي
يا سقى الله بالزقازيق أحلا ... م صباي النواضر العطرات
وسنيناً كأنها طرفة العي ... ن خفاقاً مررن كاللحظات
يسترقن الخطى إلى شاطئ النس ... يان في موكب رهيب الصمات
من ترى أيقظ الخواطر حولي ... وأثار المطوي من صفحاتي
وأعاد الأيام. . . والمعهد السا ... مق مسروج بالنجوم الهداة
العدول الأعلام أمثلة الزه ... د، وشيخانه الفحول الثقات
ورفيق كأنه هامش الشر ... ح إذا صات يمضغ القافات.!
حنبلي كأنه الجبل الأو ... رق صخابة كثير اللتات. .!
السراج العليل يشهق في مح ... رابه، والبلى يروح، وياتي.!(715/39)
ونضيج مفلفل لاذع الطع ... مة يشوي أصابعي، ولهاتي
يتصبى المجاورين فننص ... ب عليه كالفاتحين الغزاة
اترك المتن، واطو حاشية السع ... د، وأدرك شيخون قبل الفوات
أنا من مازن، ومازن مني ... والليالي القمراء من صدحاتي
أبهذا النديم ويحك أوفي ... ت فمل بي على (مويس) وهات
أنا في شطه أراجع في سف ... ر وجودي أيامي الخاليات
أنا في شطه أراقب فعل الد ... هر في أهله وأرقب ذاتي
أنا في شطه أقاوم إغرا ... ء خيالي بهذه الذكريات
أوقظ الماضي البعيد وأخشى ... أن تغيم الأشباح في خلجاتي
وأنا الشاعر الذي زمزم الكا ... س فرنت بهذه المرقصات
ليت من عقني وألحد بالشع ... ر يرد الأخيذ من خطراتي(715/40)
جنة الحب. . .!
للأستاذ أحمد مخيمر
خذي قناعك لا تلقيه إغراء ... يا لمحة أشرقت من طور سيناَء
هذي المحاسن لم يجمعن في جسد ... فحسبك اليوم للعشاق إغواء
كنا ألبّاء والأيام هادئة ... حتى طلعت، فلم نصبح ألباء
جنّ الحنين حنوناً في أضالعها ... وأوسعتنا ليالي الشوق إضماء
وأيقظت ما طوته من رغائبنا ... يد الزمان فما يملكن إغفاء
ينظرن من شرفات الروح في لهف ... يبغين من لمحات الحسن إدناء.
يا روضة من رياض الحب زاهرة ... طابت ظلالها، وأنساماً، وأنداء
كسوت جسمك من فرع إلى قدم ... غلالة من رفيف الظل ملساء
ولم يزل نبعك الرقراق مندفقاً ... لم يأل من وردوه الدهر إرواء
أظل أسمع موسيقى الحياة به ... تطوف بالروح أنغاماً وأصداء
حسبت كل رنين حيث تبعثه ... طيفاً من العالم العلويّ وضاء
يبث ما شاء من ريّ ومن ظمأ ... ويرسم العيش بأساء ونعماء
يا جنة الحب لولا ما سقيت به ... من الدموع لما أصبحت غنّاء
ليس الذي في الغصون الخضر من ثمر ... إلا قلوباً صديّات وأحناء
أزهارك النضر رفت فوقها ذكراً ... وجسمتها يد الأقدار أهواء
وما العبير سوى الأشواق ضائعة ... لا تستطيع لها الأدواح إخفاء
ما بال بابك لم يفتح لحارسه ... وما لأغصانك اللفاء خرساء
أتاك طائرها الصداح، تدفعه ... أشواقه. . فامنحيه الحب والماء
نسيته فتناسى وهو مدَّكر ... وكان - لولا قديم الود - نسّاء
يا جنة الحب لا يخط لديك ولا ... عتب عليك، ولم نبرح أحباء
غنت طيورك في الفيوم فاستمعي ... ما يعجز القوم إفصاحاً وإلقاء
إذا شدونا إلى الدنيا بقافية ... مالت إلى جرسها الأجيال إصغاء
وأوقفت خطوها الأيام، والتفتت ... حتى ترى عزة للشعر قعساء(715/41)
من خمرة الحب نسقيه، ونعصره ... من كرمة الخلد للصادين صهباء(715/42)
الأدب والفن في أسبوع
روائع الفن العالمي:
يقول (جيبو) في كتابه (علم الجمال): لا يخلد من إلياذة هوميروس إلا صلاة عجوز وابتسامة وداع بين زوجين. . .
ويقول (رومان رولان): لا شئ يؤثر على النفس تأثير تحفة فنية صاغتها يد فنان وكونها حذقه وتفكيره، فإذا سمع المرء إيقاع (بيتهوفن) الموسيقي أو تأمل لوحة من لوحات (رامبرانت) نسي ذاته وذابت أنانيته وشاهد الطيبة تتدفق من تلك القلوب الكبيرة ولمع في ناظريه شعاع ذكائهم. . .
ذكرت هذا الكلام وأحسسته في نفسي وأنا أنقل النظر والفكر من لوحة إلى لوحة في المعرض الدولي للفن الحديث الذي أقيم بالسراي الكبرى بالجزيرة وتفضل جلالة الملك بافتتاحه يوم الأحد الماضي وشاهده كثير من رجالات الدولة وكبرائها، ومحبي الفنون وهواتها.
وقفت أول ما وقفت في القسم المصري بالمعرض فاستغرقني التأمل في كثير من اللوحات الخالدة، أعجبني (الفرسان الثلاثة) لمحمد حسن بك و (بنات البحر) للأستاذ محمد سعيد و (الذكر) لمحمود سعيد بك، وهكذا أخذت أتأمل جميع المعروضات المختلفة في هذا القسم للمرحوم المثال مختار والمرحوم سحاب ألماظ والأساتذة جابر وأحمد عثمان وسعيد الصدر والسيدة إيمي نمر، ولكني أعجبت إعجاباً خاصاً بذلك الاتجاه الشعبي الذي اتجه إليه الأستاذ محمد مصطفى عزت في لوحته (قهوة بلدي في خان الخليلي)، وفي صورته الرائعة (نهر النيل)، وقد بلغني أن هذه الصورة الرائعة حظيت بالرضا السامي من جلالة الملك فأثنى على صاحبها ولا عجب أن تتجه عواطف ملك النيل وراعيه إلى (النيل).
وانتقلت بعد ذلك إلى القسم الفرنسي فشاهدت ما ضم من أعمال فنية رائعة في الرسم والنحت، وقطع نادرة من السجاد والتحف والنقوش وكلها تنطق بالشعر والجمال.
وفي القسم البريطاني شاهدت مجموعة من المطبوعات الملونة يرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر، وأربعين لوحة تصور عدة مناظر مختلفة وأكثرها مناظر علمية واقعية وهي الروح التي تسيطر على الفن الإنجليزي.(715/43)
أما في القسم الروسي فقد استوقف نظري صورة البطولة (ثلاثة أبطال من التاريخ) و (أغنية البطولة) و (سباق)، أليست هذه الصور صورة تمثل روسيا في بطولتها وفي سباقها أصدق تمثيل. . .
وكان آخر المطاف بالقسم الأمريكي، وفي هذا القسم عرضت المجموعة التاريخية الفنية لجمعية الفنون الدولية وهي تشتمل على ستين صورة أمريكية يرجع تاريخها إلى القرنين التاسع عشر والعشرين. وكلها من أروع ما أخرج الفنانون الأمريكيون
قال صاحبي بعد أن انتهينا من مطافنا: أنظر. إن الفن بقوته وروعته يعلو على جميع الأطماع الإنسانية ويحطم جميع الفوارق، ألا ترانا هنا نوزع إعجابنا على المصري والإنجليزي والفرنسي والروسي والأمريكي من غير تفريق ولا تحيز، ولكنا لا نحتمل هذا ولا نستسيغه في المجال السياسي والزحام الدولي.
في معرض الآثار العربية:
وأقامت دار الآثار العربية معرضاً افتتحه معالي وزير المعارف في الأسبوع المنصرم وحضره كثيرون من هواة الآثار الفنية والمعنيين بالدراسات التاريخية والأثرية والأدبية، وقد عرضت الدار في هذا المعرض أكثر من مائة وخمسين قطعة لا يعرف تاريخها بالضبط ولهذا سمتها الدار بالآثار غير المعروفة وإن كان من المرجح أن أقدمها لا يسبق في وجوده القرن التاسع الميلادي كما أن أحدثها لا يتجاوز القرن الخامس عشر.
وتشتمل هذه المعروضات على حلي من الذهب الخالص وقطع من القاشاني الفارسي الجميل والزخرف المزوق ونسائج من الصوف البديع وغير ذلك من الزجاج المضيء والصور التي تؤرخ عصرها بما تحمل من طابع الذوق والفن. ومن أروع ما شاهدت مجموعة أثرية نادرة من مختلف القطع كان المغفور له علي إبراهيم باشا قد أوصى بعرضها قبل وفاته بأيام
ولقد شاهدت هذا المعرض، وقضيت ساعة كاملة أتفحص ما فيه من القطع الأثرية الغالية النادرة ثم خرجت وكأني قد استوعبت كتاباً ممتعاً في تاريخ الحضارة الإسلامية، بل لقد تمثل لي فيما شاهدت متعة فنية وفائدة عقلية مما لا يمكن أن يتمثل في قراءة أي كتاب، ذلك لأن الآثار تحمل طابع الذوق وطابع العقل.(715/44)
على أن مما يؤسف له أن هذا المعرض وأمثاله لا يستلفت في مصر إلا أنظار الهواة لهذا الفن، أعني عشاق الآثار والتحف القديمة، مع أنه معرض ثقافي يجب أن يهتم به طلاب الثقافة من كل لون، وهذا يرجع إلى ضعف الاهتمام بهذه الناحية في مدارسنا وفي دراساتنا، بل إن وزارة المعارف نفسها لا تزال تنظر إلى هذه الناحية على أنها من مظاهر الكمال كما يقولون فلا تبذل لها من العناية والاهتمام ما يجب، أليس من المؤلم أن تضيق دار الآثار العربية منذ سنوات بمحتوياتها، وترتفع بذلك الشكوى إثر الشكوى ولكن لا سميع ولا مجيب، وكأن الأمر لا يعني وزارة المعارف في كثير ولا قليل. . . حقاً إنها حال تدعو إلى الأسف. . .
ذكرى الأستاذ الأكبر مصطفى عبد الرزاق:
تألفت لجنة برياسة الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد باشا لتخليد ذكرى المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق، وقد أهابت هذه اللجنة بأصدقاء الفقيد وتلامذته ومريديه والمخلصين للدراسة والبحث العلمي أن يسهموا في مساعدة اللجنة على إنشاء جائزة باسم الفقيد الكريم لتشجيع الدراسات الإسلامية في مصر.
وإنها لفكرة طيبة، نرجو أن لا تكون نخوة يثيرها الحزن على فقد ذلك الإمام ثم تخبو شأن فكرات لها مماثلة، كما نرجو أن تنهض هذه اللجنة بما يجب نحو ذكرى الفقيد من جمع آثاره ونشرها وإذاعتها إلى جانب ما تهتم له بإنشاء تلك الجائزة العلمية، ونحن نعرف أن الشيخ مصطفى عبد الرزاق قد أنفق حياته الحافلة للصالح العام، فخدم الأزهر، وخدم الجامعة، وخدم الوزارة، وخدم في ميدان الثقافة العامة، كما خدم في هيئة سياسية لها مكانتها، فهل لهذه الجهات أن تجتمع كلها ظهرة واحدة على تخليد ذكراه وإحياء تراثه وإذاعته؟ إنها لو فعلت ستؤدي شيئاً له قيمته وخطره، وستنهض بالواجب على أتم ما يكون الواجب، ولكن هيهات، فإن شعورنا نحو من نفقد من رجالنا يتضاءل بمرور الأيام، ورحم الله شوقي إذ يقول:
يزار كثيراً، فدون الكثير ... فغباً، فينسى، كأن لم يزر
شعور كريم:(715/45)
نهض جماعة من تلامذة الأب الكرملي ومريديه الذين انتفعوا بعلمه واغترفوا من بحره لتخليد ذكرى أستاذهم وشيخهم فرأوا أن خير سبيل في ذلك هو إحياء تراثه ونشر كل ما يعرفون من آثاره، وخاصة ما ترك من مؤلفات لم تطبع، وما كتب من مقالات لم تظهر، على أن يضيفوا إلى هذا كل ما كتبه الكاتبون عن ذلك الباحث العظيم الذي خسرته اللغة العربية وخسره العلم والأدب.
ويقولون إن مثل هذه الآثار التي تعدها الجماعة للنشر (رسائل) تبودلت بين المغفور له أحمد تيمور باشا والأب الكرملي، وهي رسائل تدور على مناقشات وتحقيقات في اللغة والأدب والتاريخ ويقوم بطبع هذه الرسائل والتعليق عليها الأستاذان كوركيس عواد وميخائيل عواد وهما من تلامذة الفقيد وخاصته.
وإلى جانب هذا تهتم لجنة التأليف والترجمة والنشر في وزارة المعارف العراقية بإخراج مؤلفات الفقيد وطبعها طبعاً محققاً مصححاً حتى يعم النفع بها من جهة، ويكون إخراجها براً بذكرى الكرملي من جهة أخرى.
وهذا شعور كريم، وعمل خير وبر، خير حيث يتيسر الانتفاع بتلك الآثار الجليلة، وبر لأنه دلالة وفاء لذكرى رجل وقف حياته على خدمة العلم، ويا حبذا لو نهجنا هذا النهج في إحياء ذكرى أدبائنا وعلمائنا بأن نحرص على آثارهم من الضياع، ونضن بمخلفاتهم أن تباع، وأن نقوم بطبع كل ما تركوه من مؤلفات، وإذاعة ما أبدوا من آراء وتحقيقات، فإن هذا كله أجدى وأنفع من تلك الحفلات التقليدية التي نقيمها، وتلك الخطب (التأبينية) التي نتفضل عليهم بها، وهي خطب لا نفع بها للأحياء ولا بر فيها بالأموات.
ذكرى اليازجي:
احتفلت لبنان في الأسبوع الماضي بذكرى مرور مائة عام على مولد الشيخ إبراهيم اليازجي، وأذاعت محطة الإذاعة هناك بهذه المناسبة برنامجاً حافلاً اشترك فيه كبار الأدباء والشعراء وفي طليعتهم الشاعر الكبير شبلي ملاط بك إذ ألقى قصيدة عامرة صور فيها عصر اليازجي وحظه في عصره أقوى تصوير وأروعه.
وإن مما يؤسف له أن تمر هذه الذكرى فلا يشعر بها أديب أو شاعر في مصر، ولا تهتم(715/46)
الإذاعة المصرية عندنا بأن تصنع فيها شيئاً مما صنعته زميلتها في لبنان، مع أن ذكرى اليازجي دين في عنقنا، وواجب يفرضه عرفان الجميل علينا.
حقاً، إن اليازجي قد نبت في لبنان، فكانت موطن مولده ونشأته، ولكنه جاء إلى مصر أديباً كبيراً وعالماً نحريراً فمنح مصر من أدبه وعلمه كل خير وبركة، إذ أصدر بها مجلة (البيان) ثم مجلة (الضياء)، وعني عناية خاصة بتصحيح أساليب الأدباء وتقويمها والتنبيه على الأخطاء الشائعة في لغة الصحفيين، وجمع هذا كله في كتاب سماه: (لغة الجرائد)، وكان الكاتب أو الشاعر في مصر لا يأخذ حظه من التقدير أو الاعتبار إلا إذا فاز بشهادة من اليازجي تزكيه في قومه، وقد ظل الرجل في مصر يفيد بعلمه وأدبه ويجاهد في خطته حتى أعياه الجهد ومات بداء السرطان في ضاحية الزيتون.
هذا هو اليازجي، عاش لمصر بعلمه وأدبه، فكان الواجب علينا أن نكون سباقين للقيام بالواجب نحو ذكراه. . .
جامعة القلم:
طالعت في الصحف أخيراً أن جماعة من الأدباء ورجال اللغة الذين خبروا تصحيح الكتب وتقويم الأساليب وشئون الطباعة قد تألفوا فيما بينهم وأسموا رابطتهم (جماعة القلم) واتخذوا لهم مكاناً وجعلوا من غايتهم مساعدة المؤلفين والناشرين والطابعين على إخراج المؤلفات مصححة مضبوطة محققة بما يضمن خلوها من أخطاء الصناعة وأخطاء الطباعة.
وقد أذاعت هذه الجماعة أو الجامعة كما تقول: أن الذي دفعها إلى هذه الغاية ما لمسته من كثرة الأغاليط والأخطاء في المؤلفات والمحاضرات والأغاني والأفلام والمقالات والرسائل التي تخدش اللغة وتحرف الكلم عن مواضعه وتضلل القراء وتهوي بقيمة المؤلفات وتسئ إلى سمعة مصر زعيمة الشرق، فرأت أن تنهض لتلافي هذا كله حتى تخرج المؤلفات خالية من الزلات بريئة من العثرات
ومهما يكن من شئ فإنها غاية حميدة ومهمة تقع موقعها من الحاجة، فإن المطبوعات الكثيرة التي تقذف بها المطابع في هذه الأيام تخرج مشحونة بالأخطاء والشناعات، وبما يضحك ويبكي من فنون الأغاليط، وذلك يرجع إما لعجز المؤلفين أو قصور الناشرين أو(715/47)
عجلة الطابعين، وشيوع الأخطاء في المؤلفات من أخطر الأخطار على الثقافة العامة لأنه يؤدي إلى شيوع اللحن وانحلال اللغة في الألسن وضعف ملكتها في الأذهان، ولكن ما جدوى هذا وقد أصبحنا في عصر يتظرف أبناؤه باللحن في اللغة، ويرون الحرص على صحيح التركيب وصواب اللفظ من دلائل الجمود والتأخر.
إننا نطالب بشيء أجدى من هذا، إننا نطالب وزارة المعارف بإنشاء رقابة لا تسمح بإخراج الكتب والمؤلفات إلا إذا استوفت شرائطها من سلامة الأسلوب وصواب الأداء وحينئذ يضطر المؤلفون والكاتبون إلى تحري الصواب فيما يكتبون.
الأستاذ ليفي بروفنسال:
قدم إلى مصر منذ أسبوع إجابة لدعوة جامعة فاروق الأول بالإسكندرية المستشرق الفرنسي المعروف الأستاذ ليفي بروفنسال لإلقاء سلسلة من المحاضرات الأدبية باللغة الفرنسية، وقد تقرر أن يلقي أربع محاضرات، ألقى الأولى منها فعلاً مساء يوم الخميس الماضي بقاعة المحاضرات بكلية الطب في جامعة فاروق الأول وكان موضوعها (الشعر العربي الكلاسيكي في إسبانيا)، ويلقي الثانية مساء الاثنين (اليوم) وموضوعها (الشعر العربي الشعبي في إسبانيا)، والثالثة في مساء الخميس القادم وموضوعها (العلاقة بين الشعر العربي الأندلسي والشعر الأوربي الوسيط)، أما الرابعة فسيتحدث فيها الأستاذ المحاضر عن (غرناطة الإسلامية وقصر الحمراء) وسيكون الموعد بإلقائها مساء السبت من الأسبوع القادم.
والأستاذ بروفنسال بقية من المستشرقين المخضرمين، وهو أحد الأعلام الذين أسهموا في إخراج وتحرير دائرة المعارف الإسلامية وله كثير من الدراسات الأدبية والتحقيقات التاريخية النافعة، وكل ما نرجو أن تعنى كلية الآداب في جامعة فاروق بتدوين تلك المحاضرات ونقلها إلى اللغة العربية حتى تكون مرجعاً يرجع إليه وينتفع به.
(الجاحظ)(715/48)
البريد الأدبي
تكريم الأستاذ خليل مطران:
تنبيهاً للأذهان، لا تقريراً لما يجب أن يكتب في هذا الحادث الأدبي العظيم، نقول إن طائفة من أثرياء السوريين واللبنانيين من محبي أدب شاعرهم الخالد الأستاذ خليل مطران اجتمعت فجمعت سبعة آلاف جنيه لطبع دواوين شعره وسائر مؤلفاته الأدبية، وقد اختارت منها لجنة مؤلفة من عشرين عضواً قررت ما يلي:
1 - طبع دواوين مطران السبعة منها (ديوان الخليل) الأول وقد طبع من زمن بعيد، وديوان للأراجيز في الأخلاق والآداب.
كذلك قررت طبع الروايات الأربع المترجمة عن شكسبير وهي هملت، ومكبث، وعطيل، وتاجر البندقية. والروايات الثلاث المنقولة عن كورناي وهي، السيد، وسنّا، وبوليوكيت وأيضاً طبع رواية (برينيس) المترجمة عن راسين (وهرناني) عن فكتور هيجو، (والغريب) عن بول بورجيه ورواية (القضاء والقدر) وقد عارض فيها الشاعر مطران رواية (قسمت) الإنجليزية التي رمى مؤلفها العرب بما هم براء منه، فأعاد الشاعر مطران بروايته (القضاء والقدر) الحق إلى نصابه ووصف العرب على حقيقتهم في أخلاقهم المعروفة، وآدابهم المأثورة
وللشاعر المحتفل به مؤلفات أخرى هي (الموجز في علم الاقتصاد) من خمسة أجزاء اشترك معه في ترجمتها المرحوم حافظ إبراهيم. وكتاب (مرآة الأيام في ملخص التاريخ العام) وكتاب (الإرادة) وهو مجموعة فصول في أدب النفس. وهذه الكتب لم تصدر اللجنة رأياً في إعادة طبعها بعد.
2 - قررت إقامة حفلة بدار الأوبرا الملكية تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك بجعلها تحت رعايته، وقبل رئاستها حضرة صاحب المعالي وزير المعارف وستقام في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم السبت 29 مارس ويخطب فيها معالي السنهوري باشا وصاحبا السعادة علوية باشا وأنطون الجميل باشا وحضرة الشيخ المحترم عباس محمود العقاد وسينشد الأستاذ الأسمر قصيدة من شعره
3 - تقيم لجنة الاحتفال مساء الأحد 30 مارس حفلة عشاء بفندق شبرد وتدعو إليها المائة(715/49)
والسبعة والخمسين وجيهاً الذين تبرعوا بالسبعة آلاف جنيه لهذا الغرض ولفيفاً من أرباب العلم والأدب والوجاهة من أصدقاء المحتفل به يكون خطباؤها سعادة الدكتور محمد حسين هيكل باشا والأستاذ فؤاد صروف والشاعر محمد عبد الغني حسن.
4 - تلبية دعوة معالي وزير المعارف إلى نزهة نيلية تستقر في القناطر الخيرية نهار الاثنين 31 مارس.
5 - تلبية دعوة الأستاذ إدجار جلاد بك إلى حفلة غداء يقيمها في فندق شبرد لرجال السلك السياسي وأصحاب الصحف الأجنبية يوم أول أبريل.
6 - حفلة يقيمها النادي الشرقي بالاشتراك مع الأندية السورية واللبنانية الأخرى وهي نادي الشبيبة، ونادي لبنان، ونادي الاتحاد الأرثوذكسي يوم الأربعاء 2 أبريل.
7 - حفلة أخيرة تقيمها المفوضية اللبنانية يوم الخميس 3 أبريل
8 - ولا تزال اللجنة تدعو كل من يريد الاشتراك في هذا العمل ولم يعرب عن هذه الرغبة بعد، أن يتفضل بمخاطبة سكرتير اللجنة صموئيل بك عطيه أو أمين الصندوق السيد إلياس مرشاق
ومما يجدر ذكره أن لجنة الاحتفال كانت قررت إصدار الجزء الأول والثاني من (ديوان الخليل) قبل إقامة الحفلة الأولى ولكن بعض الموانع الفنية حالت دون ذلك.
وأن محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية وكذلك محطة الإذاعة اللندنية للمستمع الغربي , , , قد قبلتا مبدئياً إذاعة ملخص لما يقال في هذه الحفلات.
وأن السوريين واللبنانيين في مهاجرهم يشتركون أدبياً ومادياً في تكريم شاعر الأقطار العربية. كما أن الحكومة اللبنانية قد قررت الاشتراك في هذا الاحتفال وهو وفاء منها للشاعر الكبير
أما الأموال التي ستجمع لتكريم مطران، والفوائد التي تجنى من بيع مؤلفاته فستنفق على الجناح الخاص الذي سوف يحمل اسم الشاعر خليل مطران في المستشفى الذي شُرع في بنائه باسم دار الشفاء
ليطل الله بقاء مطران، لا ليقول للمحتفلين به ما قال فولتير العظيم يوم احتفلت أمته به (إنكم تريدون القضاء على حياتي من فرط الغبطة والسرور) بل ليسمع على مدى العمر(715/50)
شكر كل ناطق بالعربية على ما أعطاهم من أدب وفن.
(حبيب)
حول اكتشاف واحة الكفرة:
جاء في (الرسالة) الغراء عدد 713 بتوقيع قارئ كلمة قصيرة رداً على ما نشرته أخبار اليوم بعدد 129 حول اكتشاف واحة الكفرة، ونحن بدورنا أردنا أن نثبت شيئاً عن هذه الواحة على ضوء ما كتبه حضرة القارئ المحترم والشيء بالشيء يذكر:
كانت واحة الكفرة المجهولة عند العامة ردحاً من الزمن محلاً يأويه الدعار وللصوص ومخبأ يلتجئ إليه العائثون الذين يشنون الغارة من مصر على السودان الفرنسي وبالعكس حيناً من الدهر، ولم تكن هذه الواحة معروفة عند الليبيين وقتذاك وقد سكنها في وقت من الأوقات (التبو) وهم قبيلة من القبائل السودانية وكانت هذه القبيلة غير متدينة بدين إلا بعد اتصالها بالسنوسي، ثم سكنها الكثير من العرب مثل قبائل (الجهمة) وقبائل (الجوازي) وأخيراً عمرت بأهلها الحاليين وهم قبائل (الزوية) وذلك سنة 1675م على وجه التقريب. ومن ذلك التاريخ أصبحت معروفة عند عرب برقة، وفي سنة 1854 وصل إلى تلك الواحة السيد عمر الفضيل موفداً من قبل الإمام الجليل السيد محمد السنوسي الكبير لبناء زاوية (الجوف) وبذلك أصبحت محط رحال القوافل السائرة بين ليبيا والسودان الفرنسي، وفي سنة 1874 اهتم خليفة السنوسي السيد محمد المهدي بهذه الواحة والطرق المؤدية إليها من الجهات الأربع فأرسل السيد محمد بن الشفيع (رئيس زاوية سرت) لحفر بئر (بشرى) الواقعة بين الكفرة والسودان الفرنسي، وفي سنة 1896 تحول السيد المهدي من زاوية الجغبوب إلى الكفرة فنسق بها الجنان وعمّر ما خرب منها وكثرت بها المباني وبنى بها معهداً لتحفيظ القرآن ودراسة علوم الشريعة وأمها السكان من جميع نواحي القطر الليبي، وفي نفس السنة زارها صادق بك (باشا) المؤيد العظم يحمل تحيات جلالة السلطان عبد الحميد إلى السيد المهدي وفي ذلك يقول الصادق:
مليك ملوك الأرض مذ كان في المهد ... توالت هداياه على السيد المهدي
هدايا عظيم أهديت لمعظم ... فمن هو كالمهدى إليه وكالمهدي(715/51)
كعبد الحميد الملك يحمي حماه من؟ ... وكالسيد المهدي فمن هديه يهدي؟
أتى (صادق) يطوي المهامه قاصداً ... إلى حرم المهدي المطايا له يهدي
يجوب الفيافي لا يميل إلى الكرى ... حليف السرى يهوى مواصلة المهدي
يرى الصعب سهلاً والمتاعب راحة ... وبُعد المدى قرباً وما مر كالشهد الخ
وقد زار صادق باشا سنة 1890 زاوية الجغبوب لنفس الغرض المذكور، وبعد وصول السيد المهدي إلى الكفرة كما سبق أرسل بكثير من البعثات الاستكشافية لبحث وتنقيب الطرق المؤدية من الكفرة إلى السودانين الفرنسي والمصري وإلى مصر ودراسة تلك الصحاري، ومن بين تلك البعثات تلك التي كان يرأسها السيد مصطفى السمالوسي كما جاء في كتاب أرسله العلامة الجليل السيد أحمد الريفي إلى السيد مصطفى المحجوب (رئيس زاوية الطليمون) فعثرت هذه البعثة على موقع واحة (العوينات) وواحة (مرقة) وكانت هاتان الواحتان إلى ذلك العهد مجهولتين، كما اكتشفت مواقع أخرى فلم يكن والحالة هذه المكتشف لواحة الكفرة أو العوينات صاحب السعادة أحمد باشا حسنين رحمه الله وجعل الجنة مثواه؛ ولكنه زار تلك الواحات وغيرها مصحوباً بالكثير من رجال السنوسي ولا يزال الكثير منهم على قيد الحياة.
محمد الطيب بن إدريس
برقية من صاحب (الأديب):
أشرت في عدد سابق من (الرسالة) إلى حديث نشرته مجلة (المعهد) التي تصدر في جنوب لبنان، وعزاه محرر تلك المجلة إلى الأستاذ ألبير أديب صاحب مجلة الأديب وزعم فيه أن الدكتور عبد الرحمن بدوي المدرس بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول إنما لبى دعوة كلية الآداب في لبنان لإلقاء المحاضرات التي ألقاها هناك لأمر يتصل بمركزه في الجامعة المصرية، وأن الفرنسيين وجهوا إليه هذه الدعوة ستراً لأساليبهم الاستعمارية.
وقد تلقينا برقية من الأستاذ ألبير أديب تأخر نشرها سهواً يقول فيها إنه لم (يتحدث إلى مجلة المعهد عن الدكتور عبد الرحمن بدوي) وأنه (نفى الحديث في مجلة الأديب عدد مارس).(715/52)
ونحن نشكر للأستاذ صاحب (الأديب) هذه الغيرة على الحقيقة وبخاصة في جانب أستاذ مصري وجهت إليه دعوة علمية فلم يضن على أبناء لبنان بعلمه وأدبه، وننتظر من محرر (المعهد) أن ينصف الأستاذين بالاعتذار
(الجاحظ)(715/53)
الكتب
أبو هريرة
(تأليف الأستاذ عبد الحسين الموسوي العاملي)
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
اسم كتاب ألفه الأستاذ الفاضل عبد الحسين الموسوي العاملي، وهو من الشيعة المقيمين بالشام، وقد أراد أن يدرس أبا هريرة درساً علمياً بريئاً من التعصب المذهبي، ولكنه لم يكد يفتتح كتابه حتى وقع فيما فر منه، وابتدأه من أول صفحة كتاباً لا ينظر إلى أبي هريرة في ذاته، وإنما ينظر إليه كشخص يقدسه أهل السنة المخالفون له في الغلو في التشيع، لأنا معشر أهل السنة نتشيع لعلي وأهل بيته رضي الله عنهم، ونسلك في ذلك مذهباً وسطاً بين المغالين في التشيع لهم، والذين يكرهونهم من الخوارج ونحوهم، وقد قال علي رضي الله عنه: خير هذه الأمة النمط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي.
فقد ذكر المؤلف أن الذي أوقع أهل السنة في الرضا عن أبي هريرة إنما هو مذهبهم في تعديل كل صحابي، واعتقاد أن الصحبة عصمة لا يمس صاحبها بحرج وإن فعل ما فعل، ثم ذكر أن الصحبة فضيلة جليلة ولكنها غير عاصمة، وأن الصحابة كان فيهم العدول والأولياء والأصفياء والصديقون، وكان فيهم مجهول الحال، وكان فيهم المنافقون من أهل الجرائم والعظائم، كما قال تعالى (ومن أهل المدينة مَرَدوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) فعدولهم حجة، ومجهول الحال نتبين أمره، وأهل الجرائم لا وزن لهم ولا لحديثهم، وقد درس المؤلف أبا هريرة على هذا الأساس ليثبت أنه كان منافقاً كذاباً مجرماً، فيكون عنده من الفريق الثالث الذي عده من الصحابة، ولا يكون هناك وزن له ولا لحديثه.
ونحن معشر أهل السنة لا نعتقد أن الصحبة عصمة، لأنه لا عصمة عندنا إلا مع وحي ونبوة، والشيعة هم الذين يقولون بوجود العصمة بعد النبوة، فالمؤلف فيما رمانا به من هذا على حد قولهم في أمثالهم: رمتني بدائها وانسلّت.
فالصحابة عندنا رجال كسائر الرجال، يصيبون كما يصيبون، ويخطئون كما يخطئون، ولهذا كان مذهب الصحابي ليس حجة عند جمهور أهل السنة، وكان الشافعي فيما أظن إذا(715/54)
خالف مذهبه مذهب الصحابي يقول: هم رجال ونحن رجال
فالصحابي قد يخطئ في رأيه، وقد يخونه سمعه فيخطئ فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل السنة يجيزون تخطئة الصحابي فيما يقع فيه من الخطأ، لا فرق في ذلك بين أبي هريرة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لا يجيزون تجاوز ذلك إلى الطعن في دينهم، ورميهم بما رمى به المؤلف أبا هريرة من أنه كان منافقاً مجرماً كذاباً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عن أصحابه، ونحن نكرمه برضانا عمن رضي عنه، وبالتأدب في حقه وعدم الطعن عليه في دينه، وقد كان أبو هريرة من ألصق الأصحاب بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيهمنا أن يكون رضاه عنه في موضعه، وألا يكون رضاه عن منافق كان يخدعه في دينه، ولنخطئ أبا هريرة بعد ذلك فيما يثبت عليه أنه أخطأ فيه، مع صون اللسان عن السب والشتم والطعن في الدين، فليس هذا السب من النقد الصحيح في شئ، ولا من أدب الجدال في الدين والعلم، وقد نهانا الله عن ذلك في جدالنا مع من يخالفنا في الدين، فقال تعالى في الآية - 108 - من سورة الإنعام (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم)، وقال تعالى في الآية - 46 - من سورة العنكبوت (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، والمسلم أحق بذلك مع المسلم.
وقد ثبت أنه كان هناك رواة يضعون الحديث على أبي هريرة، ومنهم إسحاق بن نجيح الملطي، وعثمان بن خالد العثماني، وابنه محمد، وهو الذي روى عن أبي هريرة أنه دخل على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عثمان بن عفان وبيدها مشط، فقالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي آنفاً رجّلت شعره، فقال لي: كيف تجدين أبا عبد الله - يعني عثمان - قلت: بخير. قال: أكرميه، فإنه من أشبه أصحابي بي خلقاً. وهذا حديث باطل، لأن رقية ماتت في غزوة بدر، وأبو هريرة إنما أسلم بعد فتح خيبر، فلنحمل مثل هذا على أولئك الرواة، ولا داعي إلى الطعن في أبي هريرة.
ضبط الأعلام
(تأليف المغفور له أحمد تيمور باشا)(715/55)
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
هذا أثر نافع مفيد، قام بتأليفه وتحريره فقيد العلم واللغة المغفور له أحمد تيمور باشا، ثم انتقل إلى جوار ربه ولم يكن قد استكمل ما رسم له من المقدمات والتمهيدات، كسائر ما ترك رحمه الله من الآثار والمؤلفات.
يتضمن هذا الكتاب ضبط أسماء الأعلام في اللغة العربية، مما يقع فيه التحريف واللبس إما لندرته وغرابته أو لاختلاف النطق فيه وبعد العهد به، على أن المؤلف رحمه الله لم يكتف بهذا فيما ذكر من الأعلام، ولكنه أورد لها ترجمات قصيرة، وحقق لها ما استطاع من تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة، هذا في الواقع عمل شاق لا يدركه إلا من كابده، وما كان ليتيسر إلا للمغفور له تيمور باشا بما كان له من الاطلاع الواسع، وبما كان يملك من المخطوطات والآثار النادرة. فليس من شك في أن هذا الكتاب قد سدّ طلبة الباحثين والمحققين.
ولقد قامت بنشر هذا الكتاب (لجنة نشر المؤلفات التيمورية) وهي لجنة تألفت للنهوض بهذا العمل الجليل، ولكني أسفت كثيراً وتألمت! إذ وقعت في الكتاب على أغلاط نحوية ومطبعية لا تحصى، ففي صفحة واحدة وجدت قوله (عادياً عنها) والصواب (عارياً)، وقوله (وورد كثيراً منهطا) والصحيح (كثير) وقوله (كابن بنانه) والصواب (نباتة) وقوله (بذكر أبيه وجدّ غالباً) والصواب (وجده)، وإن التبعة في هذا كله على الناشر لا على المؤلف، فقد كان تيمور باشا رضوان الله عليه عالماً محققاً، وقد عرفته يقضي الأيام والليالي في تصحيح لفظ أو ضبط كلمة، فلعل اللجنة تتلافى هذا في الطبعة الثانية لهذا الكتاب، وتراعيه فيما تنشر من مؤلفات أخرى للفقيد العظيم.
أمهات المؤمنين. . .
(تأليف السيدة الفضلى وداد سكاكيني)
للأستاذ كامل محمد عجلان
أهدت إليّ الكاتبة الشرقية ضيفة مصر السيدة وداد سكاكيني كتابها الأخير (أمهات المؤمنين(715/56)
وأخوات الشهداء).
وقراء الرسالة يعرفون هزجات قلمها الفنان، فلست في حاجة إلى وصف براعتها وحسن بيانها، ولكني أريد أن أحيي عاجلاً مرآتها التي جلتها لقراء العربية بعد مراياها الحسان.
وأنا سيئ الظن بآثار الأنوثة القلمية لأنني كلما تناولت عملاً فنياً لنسائنا الشرقيات بدت لي أصابع الرجل عليها شاهدة، ولعل حظ نساء مصر في الانتحال الأدبي أوفى من غيرهن في الأقطار الشقيقة.
لكن السيدة وداد فيما تقدمه لنا ترغمني على أن أستثنيها لأن أدبها تنشئه أناملها الصناع وأنفاسها التي تتموج على شباة قلمها يمدها قلب حي بين أضالع معمورة بحنان المرآة الغيرى على أختها في ماضيها وحاضرها. وكذلك كان كتابها عن أمهات المؤمنين مثل (أم الزهراء) و (أم الحسنين) و (أم المؤمنين) وغيرهن
وعناية السيدة وداد بجمال التصوير لم تمنعها من إبداء الخصائص التي تضيق بها في المرأة مع إيماننا بأنها من لوازم الأنثى حتى ولو كانت من أمهات المؤمنين كالهفوات الخفيفة التي تخللت صفاء الزوجية من جانب نساء الرسول.
وهو هو السمح الذي يصفح بفضل حلمه ورحابة صدره الذي أناره الله بنور النبوة.
وإن تعجب فلك أن تطيل الإعجاب بالسيدة وداد في مقدرتها على نخل كتب السيرة وغربلة روايات الأوائل حتى أخرجت لنا هذا الكتاب.(715/57)
القصص
أسطورة من روائع الأدب الروسي:
بشر وشياطين
(قصة الخمر والدنان وغلبة الشيطان على الإنسان)
للكاتب الفيلسوف ليو تولستوي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
ما كاد الصبح يتنفس، وتخفق جنبات الكون بالحياة. . حتى هرع الفلاح الفقير يغذ الخطى إلى حقله. . . وقد بكر في غداته يروم الحرث والفلح. . . ويحمل معه كسرات يابسة من الخبز ليفطر ثمة بها. . .
فلما هيأ محراثه وربط إليه حصانه. . . علق ثوبه - وقد أودعه كسرات الخبز - إلى شجيرة دانية. . . وانطلق يشق أديم الأرض ويقلب الترب. . . حتى إذا ما تصرمت ساعات الصبح، وتراءت الضحى وأدركه العناء، وتبدى الإعياء والسغب على حصانه. . . أطلقه في سبيل الكلأ. . . وانثنى هو إلى شجيرة يبتغي الكسرات يسد بها جوعه الذي يبرح به. . .
فما إن بسط ثوبه حتى تولاه العجب.! إذ ألفى الخبز قد اختفى منه. . . فقلب الثوب بين يديه وراح يهزه، ولكن عبثاً!. فليس للخبز من أثر. فقال - يحدث نفسه وما زال الشك يتوزعها - (عجباً!!. . إن هذا غاية في الغرابة، إني لم ألمح أي إنسان هذه الصبيحة!. لعل أحدهم كان هنا، وأخذ معه الخبز.!).
أجل لقد أخذه واحداً من الشياطين الصغار، بينما كان الفلاح مستغرقاً في عمله. . . وكان في ذلك الحين قاعداً خلف الشجيرة يترقب ما سوف يتفوه به الفلاح من لعن وسباب. . .
فاض قلب الفلاح بالأسف وألم به الضيق لضياع الخبز الذي أعده لفطوره، بيد أنه ما لبث أن ارتفع صوته في هدوء: (ليست ثمة حيلة. . . وعلى كل حال فلن أقضي من الجوع!. وإني أحسب أن من استولى على الخبز أشد مني حاجة إليه. . . فهنيئاً لمن أخذه!.).(715/58)
ومضى إلى جدول. . فرشف منه بعضاً من الماء ينقع به غلته. . ومال يستريح من عناء العمل ومن قرصة الجوع. . . وبعد حين أسرج جواده وقيده إلى المحراث وعاد يقلب به صفحة الترب من جديد. . .
فطأطأ الشيطان الصغير برأسه. . . وقد ركبه الخجل والألم لإخفاقه في حمل الفلاح على أن يزل لسانه ويشرع في سبيل الخطيئة. . . وانثنى إلى أستاذه الأكبر (إبليس) يروي له ما حدث! وكيف أنه أخفى عن الفلاح الفقير البائس كسرات الخبز فلم يحمله هذا على أن يتلفظ بكلمات السوء. . . بل قال وهو قرير النفس (هنيئاً لمن أخذها.!).
فصاح فيه (إبليس). . . وقد تملكه الغضب وزاد تلهب عينيه وكأنهما جمرتان وسرى الحنق والسخط إلى نفسه: (إنه خطؤك أنت. . . فلست تفقه ما ينبغي عليك أن تعمله. . . فبهذه الطريقة سوف يعيش الفلاحون وأزواجهم وذريتهم سعداء في راحة وهناء. . . يجب عليك أن تبث الضغينة وتنفث فيهم البغضاء وتفسد قلوبهم وتثير الحقد في نفوسهم. . . فهذه رسالتنا منذ أن خلق البشر. . . انطلق ثانية. . . وإني لأمهلك ثلاث سنوات لتصلح ما أتيته من خطأ. . . فإذا عدت بعدها ولم تفلح في أن تدع الشر ينساب في قلب ذلك الفلاح، فسوف أغرقك في الماء المقدس).
فارتعدت فرائص الشيطان الصغير من الفرق والهلع، وهو يرى أستاذه الأكبر يتوعده بالثبور والعذاب الأليم. . . فغاص في باطن الأرض، وهو يجهد ذهنه ويعصره بحثاً عن حيلة توغر قلب الفلاح، وتدفع عنه غضب إبليس. . . وما أرهبه من غضب!. فراح يفكر ويطيل التفكير حتى عثر على خطة بارعة.
فانقلب في شكل واحد من بني آدم. . . وتمثل بشراً سوياً. . . وذهب إلى الفلاح حيث سأله عملاً بأجر رخيص. . . فلم يجد هذا بأساً في أن يلحقه بخدمته ليكون له عوناً في زراعته.!
وفي السنة الأولى أشار على الفلاح بأن يزرع قمحاً في أرض غدقة جرداء ذات جدب ومحل. . . فعمل الفلاح بمشورته، وبذر قمحه في تلك الأرض السبخة. . . فلما انقضى الحول - وكان ذا صيف صيهد شديد الحر - لفحت الشمس غلال الفلاحين الآخرين فأحرقتها. . . دون قمح ذلك الفلاح فقد نما كثيفاً، وغلظت سنابله ودحس حبه. . . ففاض(715/59)
عن حاجته بعد أن أترعت خزائنه وامتلأت. . . فألقاها جانباً. . .
فلما حان موعد الزرع من جديد أخذ الشيطان يزين له أن يبذر القمح هذه المرة في سفح الجبل. . . فرضخ الفلاح لمشيئته. . . بيد أن الصيف في هذه السنة كان طلقاً ذا ريح سجسج. . . فتلفت غلال الآخرين وعفنت ولم تجدل لها سنابل. . . أما الفلاح فقد تأتى له حصادٌ طيب أبلغ في الوفرة من سابقه. . . فحار الفلاح فيما يفعله بكل تلك الزيادة. . .
وحينئذ أوحى إليه الشيطان كيف يستخلص الخمر من الحنطة فينقعها حيناً ثم يقطرها حتى يبلغ منها الراح فيعتقه ثم يشربه. . .
فراح الفلاح يقطر الخمر. . . ويودعها في دنان. . . ثم يدعو رفاقه لينهلوا منها معه حتى ينهلهم الثمل والسكر.!
عاد الشيطان الصغير إلى أستاذه (إبليس) يحدثه بما فعل في زهو وخيلاء. . . فأخبره أستاذه الأكبر بأنه سوف يرافقه، فيرى بعينه ما وفق إليه تلميذه ورسوله. . .
فلما بلغ دار الفلاح ألفى هذا قد جمع حشداً من صحابه وجيرته يدعوهم إلى الشراب وكانت زوجته تدور عليهم بالقداح، فينهلون منها ويعلون، وبينما هي تمد يدها ببعض الشراب إلى واحد منهم. . . تعثرت قدمها فهوت على الأرض وتحطمت إحدى الدنان. . .
فاحتدم غيظ الفلاح، واستشاط غضباً على زوجته. . . وانطلق يعنفها ويلعنها: (ما هذا أيتها الكسيحة الحمقاء؟! هل عميت حتى تهرقي هذه الخمر النفيسة على الأرض؟! اغربي عن وجهي. لعنة الله عليك!.).
فلكز الشيطان الصغير أستاذه (إبليس) في جنبه بمرفقه وهو يقول في صوت رن فيه جرس الانتصار والزهو: (انظر. . . هذا هو الرجل الذي لم أتمكن من إثارة غضبه حينما كان الجوع يصرخ في أمعائه. . . وقد ضاعت منه كسرات الخبز!.)
وقام الفلاح يناول الخمر أضيافه. . . وما زال لسانه يجري باللعن والسب على زوجته. . . وحينئذ دلف إلى الدار أحد الفلاحين، وهو عائد لتوه من حقله. فرأى القوم ينهلون الخمر. . . فحدثته نفسه بأنه واجد عندهم بعض الشراب يبعث الراحة في نفسه، وقد أنهكه التعب وأضناه العمل. . . فجلس إلى أحد المقاعد وراح يتلمظ القطرة من الشراب. ولكن صاحبنا الفلاح - بدلاً من ان يجود عليه ببعض الخمر - قال له في صوت أجش شاعت فيه(715/60)
الغلظة: (ليس عندي شراب لكل عابر سبيل!. . فتفضل بمغادرتنا).
فترسمت على شفتي (إبليس) ابتسامة. . . بيد أن الشيطان الصغير ما لبث أن همس في مسمعه: (انتظر بعض الوقت! وانظر ما سوف يفعلون!.).
نهل الرفقاء الأغنياء مع صاحبهم الفلاح، وجرعوا من الصهباء ما طاب لهم، ولذ لمذاقهم. . . وبدأت تسري بينهم أحاديث النفاق والخداع، وتجري على ألسنتهم ألفاظ السوء والنميمة. . . وتطير بين شفاههم كلمات الملق والمداهنة والرياء.
فأصغى (إبليس) لما يقولون. . . وسره ما رآه من نبوغ تلميذه الشيطان. . . وقال (إذا كان هذا الشراب يحملهم على أن يتبادلوا أحاديث المكر والخداع كما هي خلال الثعالب فإن ذلك يجعلهم عجينه طيعة في أيدينا نحن الشياطين!.).
فأجابه الشيطان الصغير: (دعهم يتناولون زقاً آخر من هذه الخمر. . . ثم ارقب ما يكون من أمرهم. . . إنهم الآن يبصبصون بأذنابهم كالثعالب، ويتماكرون في دهائها ولكن بعد حين سوف ينقلبون إلى ذئاب وحشية!.)
وزع الفلاح على الأضياف كؤوساً أخرى من الخمر فراحوا يعبون منها في نهم. . وبدأت أحاديثهم ترتفع وتخشن. وتنساب في رنتها غلظة ووحشية. . . فبعد أحاديث الملق والرياء، راحوا يتقاذفون بألفاظ السباب والشتائم، ويزمجرون في أصوات مخيفة ويلطم كل منهم الآخر على أنفه ويصفعه على وجهه واشتبك معهم كذلك الفلاح صاحب الدار. . .
فمد الشيطان الأكبر طرفه إلى ذلك، وقد بلغ منه السرور والبهجة مبلغاً عظيماً. . . وراح يردد (هذا عظيم. . . هذا عظيم!) ولكن العفريت ما لبث أن قال له (انتظر قليلاً فثمة ما هو أعظم من هذا. . . ترقبهم حتى يُفرغوا في أجوافهم دناً ثالثة. . . فينقلبوا من ذئاب وحشية تتلاطم وتتصافع، إلى خنازير لا تدرك ولا تعي. . .)
تناول الفلاحون دناً ثالثة. . . فارتفع لجاجهم وعطعطتهم وهم يلغطون كالبهائم التي لا تملك إحساساً ولا شعوراً. فأخذوا يصيحون دون أن يعرفوا سبباً لصياحهم ولا يصغي أحدهم للآخر!
وبدأ الحفل يشرف على منتهاه. . . وانطلق السكارى فرادى ومثنى وثلاث. . . تعلو صيحاتهم الحيوانية وصراخهم الوحشي في هدأة الدجى فيمزق سكونه في رهبة تبعث(715/61)
الرعب!.
وهم الفلاح يودع أصدقاءه. . . ولكنه سقط في بركة من الماء الضحل. . فتلطخ جسده وثوبه بالوحل من هامته إلى أخمص قدمه. . فنفلت يلعن ويسب، وهو قابع في مكانه كالخنزير. .
قهقه (إبليس) عالياً. . وعاد يُطري نبوغ تلميذه ثم قال له: (لقد أمكنك أن تصلح خطأك حين أخفيت الخبز عن الفلاح. . وفزت بالنجاح فيما اختبرتك فيه. .
ولكن خبرني كيف يُركب هذا الشراب الساحر. . لابد أنك وضعت فيه خلاصة من دماء الثعالب. . وأضفت إليه دماء الذئاب ثم مزجتها بدم الخنازير. . ذلك ما جعلهم يتماكرون ويتملق بعضهم بعضاً في أول الأمر كالثعالب!. ثم يتضاربون كالذئاب. . ثم يصيحون كالخنازير التي فقدت إحساسها ومشاعرها)
فأجابه الشيطان الصغير: (لا يا سيدي الفاضل!. ليست هذه الطريقة التي اتبعتها في عمل هذا الشراب. . . كل ما فعلته هو أني لحظت أن الفلاح توفر لديه القمح وزاد عن حاجته!.
إن دماء الحيوانات والوحوش كامنة في عروق الإنسان منذ أن فُطر. . فطالما عنده ما كاد يكفي حاجته من الطعام والخبز. . ظلت هذه الدماء ساكنة حبيسة. . ولذا لم يغضب الفلاح حينما سرقت منه كسرة الخبز.!
وحينما توفر لديه القمح وراح يسعى إلى وجوه جديدة يتنعم فيها بهذا الوفر فدللته على متعة عظيمة. . هي الخمر فلما أخذ يقلب فضل الله وخيره عليه. . . إلى هذه الخمر ليتخذها متعة لنفسه، انطلقت دماء الثعالب ودماء الذئاب ودماء الخنازير من سكونها وراحت تعبث بنفسه وتعبث بعقله. . ولو أن الإنسان داوم على الشراب! لظل حيواناً وحشياً طيلة حياته. . . إن الرغد من أسباب الرذيلة!.).
فامتدح إبليس تلميذه الشيطان الصغير وأثنى على براعته وعفا عما بدر منه سابقاً من ذنوب. . . ورقاه إلى رتبة أعلى في دنيا الشياطين!
(القاهرة)
مصطفى جميل مرسي(715/62)
العدد 716 - بتاريخ: 24 - 03 - 1947(/)
الخيانة العظمى. . .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
كثرت لجاجة الصحف البريطانية ومراسليها في مسألة مصر والسودان، ولا تزال تلح في ترديد الأقوال التي تشكك في عرض قضية الجلاء عن وادي النيل - مصره وسودانه - على مجلس الأمن أو أية هيئة دولية يكون من حقها أن تنظر مثل هذه القضية، ولم تزل هذه الصحف ومراسلوها يدسّون كلمة (العودة إلى المفاوضة) دساً عجيباً حيث يحتاج إليها الكلام وحيث لا يحتاج. وهذه عادة قديمة وأسلوب عتيق كسائر أساليب بريطانيا في الخدع التافهة التي تسميها سياسة. ولسنا ندري على أيّ أساسٍ يبني هؤلاء المراسلون، أو الموحون إليهم، كلامهم وثرثرتهم هذه. ولكن الشيء الذي لا نشك نحن في البتّة، والذي ينبغي أن تعرفه بريطانيا ومن ترسلهم إلى مصر والسودان ليحملوا إليها أنباء هذه البلاد - هو أن الشعب المصريّ السودانيّ قد قال كلمته منذ اليوم، وقد قضى على كل سياسيٍّ يخرج على إجماع الشعب بالخيانة العظمى كما تفهمها الشعوب - لا كما تفهما الحكومات. وقد انعقد إجماع الشعب على اختلاف الأحزاب التي ينتمي إليها:
1 - بأن لا مفاوضة بيننا وبين بريطانيا بتةً وقولاً واحداً.
2 - وأن الجلاء كلمةٌ يراد بها أن تجلو بريطانيا عن وادي النيل لا عن مصر دون السودان.
3 - وأن طلب الجلاء ينبغي أن يعرض على هيئة دولية لها شرفٌ تخاف أن يُثلم، ولها مكانة تتحرّج عن سقوطها في أعين البشر.
4 - وأن التجربة قد دلّت على أن بريطانيا خِلْوٌ من هذين الشرطين، وهما شرطان لابد منهما لمن نرتفع إليه بقضيتنا أو من نفاوضه فيها.
5 - وأن كل دعوةٍ يراد بها أن نعود إلى المفاوضة في حقٍ من الحقوق المكفولة لسائر البشر، ليست إلا خيانة توجب على مرتكبها ما توجبه سائر الخيانات من قصاصٍ.
6 - وأن مصر والسودان أمةً واحدة، سوف تتولى بنفسها عقاب كل خائن.
هذا مختصر ما ينبغي لبريطانيا وساستها أن يعلموه علم اليقين.
أما مراسلوها وجواسيسها الذين كلِّفوا بأن يحملوا إليها الأنباء التي تهتدي بها في سياستها(716/1)
التي تخص مصر والسودان فقد كذبوها أفحش الكذب، لا لأنهم يريدون الكذب على أمتهم البريطانية، كلا. بل لأنهم جهلوا كل الجهل طبيعة الشعب المصري السوداني، وخدعتهم الظواهر عن حقيقة النار المضطرمة في أحشاء مصر والسودان، منذ استيقن شعب مصر والسودان أن بريطانيا أمة من أخلاقها الغدر والوقيعة وإخلاف الوعد والتلوّن في ألفاظٍ من بهرج الكلام وزائفه
ونحن لن ننصب أنفسنا لإفهام هؤلاء القوم ما طبيعة شعب مصر والسودان، ولكنّا سنحدثهم عن مسألة المفاوضة نفسها كيف كان من أمرها، ولهم بعد ذلك أن يحكموا بما يشاءون، فإن إخراج الغرور من رأس المغرور أعسر من رد النور إلى عينَي الأكمه؛ ولاسيّما إذا كان غروراً بريطانياً متغطرساً.
ففي أوائل القرن الماضي قام في مصر فتى ينادي في جنبات هذا الوادي: (بلادي! بلادي!) فهبّت مصر والسودان مستجيبةً لهذا الداعي النبيل الصوت، الحبيب النداء، القويّ الإيمان. لقد كانت مصر والسودان هي التي تنادي مصر والسودان، فهي دمه، وهي أعصابه، وهي نفسه، وهي جنانه، وهي لسانه، وهي حقيقته التي صار بها هذا الفتى يدعى بين الناس (مصطفى كامل). ثم أوحت مصر والسودان إلى فتاها أن يقذف في وجه بريطانيا ذات البأس بكلمتها الخالدة: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، لأن حقيقة مصر والسودان المستقرّة في بيان هذا الفتى كانت تعلم من سرّ ضميرها أن هذا هو الحق، وأما كل شئٍ سواه فباطلٌ وقبضُ الريح، كما قال سليمان. نظرت مصر والسودان إلى هذا الفتى الضئيل المعروق وهي تبكي من فرط لهفتها وتخوّفها ومن فرط ما كانت تشعر به يومئذ من العجز الذي استهلكها وأثقلها عن أن تكون مثله توقّداً ونشاطاً وقوة وحياةً، ولكنها آمنت به ورضيت عنه وجعلت دمعها شهادة الإيمان بحقه وحقها الذي أجراه الله على لسانه
ونجمت يومئذٍ فئة من خلق الله الذين شاء برحمته وحكمته أن يجعل مصر والسودان لهم منبتاً ومباءةً كما جعلها منبتاً ومباءةً لسائر الهوامِّ وخَشاش الأرض وهمج الجو، وقامت بريطانيا تتعهد هذه الفئة وتغدوها وترضعها من درّها بغية أن تشتد فتكون سباعاً وجوارح وأعواناً لها على الفتك بهذا البلد الأمين، وما هو إلا قليلٌ حتى خرج منها خلقٌ يعوي في وجه الفتى وينبح ويهرّ هريراً لا ينقطع، ولكن مصر والسودان أبت إلا فتاها فأطاعته(716/2)
وأنكرت تلك الفئة التي نبتت أبدانها على شئ غير نيلها وتربة هذا النيل.
ثم قبض الله إليه فتى مصر والسودان، فخرجت مصر والسودان في جنازته تبكي الصوت الذي ردّد الكلمة الخالدة المنبعثة من سرّ أحشائها: (بلادي! بلادي! لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، خرجت مصر والسودان حتى سباع بريطانيا وعواتها ونُبّاحها يبكون أيضاً، لأن في دمهم شيئاً من مصر كان يحن بهم إلى صوت بلادهم ومأتمها ونواحها.
بقيت مصر تذكر فتاها، وتسمع صدى كلماته من حيثما تلفتت، حتى جاءت الحرب العالمية الأولى وخشعت الأصوات لهدّ القنابل ودوي الرصاص، فما كاد يسكت ناطق الحرب حتى انبعثت مصر بالقوة الدافعة التي جيّشها في قلبها هذا الفتى الشاب، وصرخت في وجه بريطانيا الظافرة: (حقّي! حقّي! أيتها الغاصبة) لم تهَب بأسها ولا سطوتها ولا جبروت الظفر المسكر الذي ثملت بنشوته.
ثم كان شئٌ لا ندري كيف كان!!
كان منطق الحوادث يقضي بأن تردّد هذه الجماهير الثائرة كلمة مصر والسودان الخالدة: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، ولكنها اقتصرت يومئذ على ما يتضمن ذلك النداء الحكيم الذي نادى به فتى مصر فجعلت تقول (الاستقلال التام)، وخرجت بريطانيا تُقتِّل بالرصاص جمهوراً ثائراً مطالباً بحقه مستبسلاً في سبيله، فكلما انطلقت رصاصة انطلقت معها صيحةٌ واحدة من حناجر أمة بأسرها: (الاستقلال التام)، فكأنها رأتها تغني عن كلمتها: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء). فخما عندها كلمتان مترادفتان
وألحت بريطانيا في التقتيل والفتك والعدوان والبغي، وألحت مصر والسودان في الجرأة على باطل بريطانيا مطالبة بحقها وهو (الاستقلال التام)، ولم يكد يدور بخلدها شئ إلا هذا النداء وحده ليلاً ونهاراً وبكرة وعشية ويوماً بعد يوم، ولم يكن يجري في وهم الشعب الثائر المطالب بالحق أن أحداً سوف يقول: تعالي أفاوضكِ يا بريطانيا! فيحذر عندئذ حذره ويعود إلى ندائه الأول الذي هو الكلمة المستكنة المضمرة في دم هذا الشعب الذكي على قلة علمه، القوي على ضعف حيلته.
ثم كان شئ لا ندري كيف كان!!
كان زعيم هذا الشعب الثائر (سعد زغلول)، وكان رجلاً شيخاً، ولكن ناهيك به من شيخ،(716/3)
وكان خطيباً حسبك من خطيب، كان يسمع الهمهمة التي تدور في دم الشعب ولا تجد لها بياناً، فيصوغ لها بياناً من عنده ويلقي به إلى الشعب فإذا هو يسمع كل ما في ضميره مترجماً في ألفاظ حية تتردّد في أذنيه. وفُتن الشعب بسعدٍ لسانه الذي ينطق بأسراره التي تتحيّر في دمه ولا يعرف كيف يبين عنها، وأسلم القياد لرجل يهديه ويرشده ويعبّر عنه، ويلطم بشيخوخته الوقورة الصاحية شباب بريطانيا الظافرة الطائشة السّكرى براح النصر.
ثم كان شئ الله يعلم كيف كان!!
فإذا هذا الشعب المأخوذ بسعد، الفائز بالثورة في طلب حقه المتهجّم على بريطانيا العاتية، المائج من منبع النيل إلى مصبه يطلب الحرية من قيوده وآصاره فتتلقاه أسنّة الرماح البريطانية ويتخطّف أرواحه رصاص الوحوش ذات المدنية العريقة منذ كان أرسطو إلى هذا اليوم!! إذا بهذا الشعب المنادي بالاستقلال التام يسمع دعوةً إلى مفاوضة بريطانيا لا يدري أحدٌ كيف جاءت وكيف تدسست إليه، وإذا سعدٌ هو المفاوض، فمشت مصر في آثار زعيمها ثقةً به وتسليماً له، ورجت لحكيمها الشيخ أن يرتدّ إليها باستقلالها التام. . .
كان هذا ولا يدري أحدٌ كيف كان!!
ولكن بقيت في مصر والسودان بقية لم تزل تسمع صدى كلمات الفتى الأول، فهبت تصرخ في وجه الشعب المطالب بالاستقلال التام!! حذار حذارِ، وألحت في صراخها ولكن مات صوتها في دوي الأصوات المطالبة بالاستقلال التام! وفي موج الجماهير، وفي أزيز الرصاص وهديره وقصفه. وأخيراً وقف رجل يسخر من كلمة مصر الخالدة: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) سخريةً لاذعة ملففة في ثوب الدعابة المحببة إلى هذا الشعب منذ قديم الزمان، والذي يداعب ويحب الدعابة ولا ينساها وهو في حبل المشنقة، أو في سياق الموت. وكانت هذه الدعابة أفعل من رصاص بريطانيا وحرابها ونذالتها جميعاً في قتل كلمة مصر والسودان: (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء)، حتى صار من يقول بها معدوداً عند أصحاب العصبيات الجاهلية في عداد المجانين والموسوسين والبله والملاحيس.
نعم كان ذلك ولكن لا ندري كيف كان!!
ولكن بقي شئٌ واحدٌ جهلته بريطانيا وجواسيسها، وجهله كل مفراحٍ طيّاش من أصحاب العصبيات الجاهلية التي غلبت على قلوبهم وأعمت أعينهم. ذلك الشيء الواحد هو أن(716/4)
المفاوضات ظلت تجري منذ أن بدأت إلى أن كانت سنة 1936، والشعب يتبع المفاوضة بقلبه عسى أن يرجع إليه الرجال المفاوضون بحق مصر كاملاً غير منقوص، وهو من ورائهم يدفعهم دفعاً رجاء أن ينفعهم ذلك فينتفع بنفعهم. ولكن. . . ولكن مرة أخرى وفي الثالثة كان الشعب يفعل ذلك مجتمعاً، فلو سألت كل رجل وكل أنثى وكل طفل أيضاً: (هل ترجو من وراء هذه المفاوضات خيراً؟) فهو قائل لك: (يا سيدي، يا ما جرّبنا) ثم يمضي لشأنه يائساً تكاد دماؤه التي تجري في عروقه تبكي من الحسرات التي تقطّع قلبه وتنهش ضمير حياته!
هكذا كانت مصر والسودان برغم المفاوضات الدائرة، وبرغم مطالبة الشعب مجتمعاً أحياناً بهذه المفاوضة. كانت الدماء تجري في الأبدان المصرية السودانية تهَمهم وتدمدم، ولكن الرجل الذي يفهم معنى هذه الهمهمة الخفية لم يكن موجوداً، وهي لا تستطيع العبارة عن نفسها بلسان ناطق مبين. وبقينا جميعاً ننظر، لأن عبارة أمثالنا لن تؤدّي إلى شئ، إذ لم يكن لأحدٍ يومئذٍ من قوة الاستجابة لنداء الدم المصري السوداني، ولا من استعداد الأبدان والعقول التي تجري فيها هذه الدماء، ما يجعل لكلمة مصر الخالدة (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) صدىً يتردد فيستجيب له الوادي كله كما استجاب للفتى الأول مصطفى كامل، وبقيت الأبدان العاقلة (والتي هي الشعب بأفراده) في ناحية، والدم الذي يجري في هذه الأبدان نفسها في ناحيةٍ أخرى - وجعل الله بأسنا بيننا، فكانت إرادة الله ولا رادّ لما أراد.
ثم كان شئٌ ونحن ندري كيف كان.
فقد سكنت زمجرة المدافع، وعجيج القنابل الذرية، وقام رجالٌ يريدون مفاوضة بريطانيا، ولكنهم لم يلبثوا إلا قليلاً حتى سمعوا صوت الدم المصري والسوداني ينطق من كل ناحية (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء) فتمت المعجزة التي كان كل امرئ يترقبها، وكان لمصر والسودان النصر بعد الهزيمة المنكرة الأولى، وظهرت كلمة الحق حتى صار أكفَر الناس بها هو أشدهم إيماناً، وأجودهم في سبيلها بروحه وحياته، وعادت مصر والسودان إلى حقيقتها المستكنّة في سرّ القلوب والدماء والأحشاء! (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء): كلمة حكيمة صريحةٌ قوية، ظاهرة المعنى، بيّنة الطريق، كريمة المنبت لأنها بنت مصر والسودان - لا يسخر بها بعد اليوم أحدٌ إلا كان دمه هو أول من يسخر منه ويزدريه ويلعنه(716/5)
ويبرأ من الانتساب إليه.
هذا ما كان من أمر المفاوضات بيننا وبين بريطانيا، فليفهمه من شاء كما شاء. وليقُل أصحاب الغرور المتغطرس، وليقل أشياعهم من المضللين: هذا شعرٌ، وهذه عاطفةٌ، ولكنها ليست بحقيقة معقولة أو تحليل متّزن. ونقول: نعم! إذا شئتم، ولكن الشعوب هي العواطف أولاً، وعواطف الشعوب أصدق حُكماً من عقول الساسة!
وأخيراً، ليعلم من لم يكن يعلم من المتغطرسين أو من الساسة العقلاء الذين أظلّتهم سماء مصر، إن دم الشعب قد نطق بالكلمة المتحيرة فيه، وأجمع عليها، وكتب على نفسه أن ينفي الحبث عن مصر والسودان. ومعنى ذلك أن كل من خرج على إجماعه فقد خان وادي النيل خيانة عظمى، وأنه رهنٌ بالقِصاص، وأن قصاص الشعوب أبقى على وجه الدهر من قصاص الحكومات.
والكلمة الآن لمصر والسودان، لا لفلان الزعيم ولا لفلان السياسي - فمن شاء أن يخالف عن كلمة مصر والسودان فليتقدم، ولينظر ما هو لاق في غد أو بعد غد.
محمود محمد شاكر(716/6)
مقالة بلا موضوع!
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي من أيام صديق لي: أسمع؟
قالت: وهل تحسبني أصم؟
قال: إن كتابتك لا تعجبني.
قلت: آسف جداً!
قال: لا تسخر. سلني، لماذا؟
قلت: سألتك.
قال: لأنك لا تعرف الدنيا. . . لذلك تجيء كتابتك بعيدة عن الحقيقة، خالية من الصور، ليس فيها حياة، ولا ابتكار.
قلت: إن ناساً قد زعموا إلى غير ما قلت.
قال: هو ما أقول لك، فلا تصدقهم، إنهم يضحكون عليك إني ألحظ من كتابتك أنك تعيش منطوياً على نفسك، بعيداً عن الدنيا، فقل لي، بالله عليك، كيف كنت تعيش في دمشق؟
قلت: كما يعيش الناس؛ أغدو على محكمتي صباحاً وأخرج منها ظهراً، فأمر على المكتبة العربية وهي من أحب الأمكنة إليّ، وأصحابها إخوان كرام عليّ، فألبث فيها ساعة، وقد أتغدى فيها، ثم أمضي إلى الدار فلا أفارقها إلى غداة الغد، إلا مرات معدودة في السنة كلها أزور فيها صديقاً أو قريباً، أو أخطب في حفلة، وقد كنت قبل أن ألي القضاء أجلس أحياناً في قهوة، أو أمضي إلى سينما، فتركت ذلك كله.
قال: وفي مصر؟ كيف تعيش ومن زرت وماذا رأيت؟
قلت: أعيش أعيش أنا وأسرتي في منزل خالي، وأمضي إلى (الرسالة) كل يوم، وإلى الوزارة أو المحكمة أو المجلس الحسبي في أكتر الأيام. وأنا في مصر كما كنت في الشام، معتزل متفرّد أفرّ من لقاء الناس، وأنأى عن المجامع، ولم أزر أحداً في داره إلا نفراً من علماء الأزهر، وزرت لجنة التأليف والترجمة مرة، وجلست مرة واحدة في القهوة، وخمساً في السينما، رأيت في إحداها (فلماً) عربياً فخرجت منه غضبان أسِفاً، ورأيت في سائرها أفلاماً فرنجية، ومشيت إلى الحدائق والمتاحف ولولا الصغار ما مشيت إليها؛ فقد وجدت(716/7)
الحدائق، مجمع غيد ودار مواعيد، ورأيت الناس في حديقة الحيوانات، ينظرون إلى امرأة مضطجعة على المقعد أكثر ما ينظرون إلى سبع البحر، ويضحكون لفتيات يلعبن على الحشيش أكثر مما يضحكون للقردة تتراقص في الأقفاص. . .
قال: وهذا كل شئ؟
قلت: نعم. لا شئ فوقه ولا تحته.
قال: ألم أقل لك، إنك لا تعرف الدنيا؟
قلت: فكيف تريد أن أعرفها؟
قال: كما يعرفها كل أدباء العالم، وذلك. . . ولكن قل لي أولاً، هل تحب؟
قلت: أحب؟ نعم. وهل في الدنيا من لا يحب؟
قال: تحب من؟
قلت: أحب أولادي، وأهلي، وإخوتي، وعمتي. . .
فصاح: لا لا، ما هذا أعني. هل أنت عاشق؟ إذن يجب أن تعشق، إنه لا شئ كالعشق يصب الحياة في الأدب.
قلت: هل تريد أن أختار فتاة من الطريق فأعشقها؟
قال: من الطريق، من الشباك، من السينما، المهم أن تعشق.
قلت: ويكفي هذا لتعجبك كتابتي، وترى فيها حياة؟
قال: نعم.
قلت: سهلة، سأعملها غداً؛ أحلق، وألبس أحسن ثيابي، وإن لم يكن عندي، والكلام بيننا، إلا ثوب واحد، ألبسه كل يوم، وأقف في. . . أين يقفون عادة؟ في شارع عماد الدين مثلاً، ثم أختار أجمل امرأة تمر بي، فأقول لها: العفو يا ست، أو يا مدموازيل، كما تقولون في مصر، كلمة من فضلك. فتقول: ماذا؟ فأقول: أنا كاتب يكتب مقالات مريضة، وقد وصف لي أطباء الأدب، أن أحب لتصح مقالاتي، فهل تأذنين لي أن أحبك؟
قال: أنا لا أحب الهزل.
قلت: تحب الجد؟ إذن قل لي، ماذا بعد الحب؟ أي بعد الموعد واللقاء؟ ماذا تكون النتيجة على رجل متزوج له أولاد، وعلى امرأة لا يمكن أن تكون عجوزاً ولا كهلة ما تكون إلا(716/8)
فتاة غريرة، أو عذراء بكراً، لم يطوّح بها الاحتياج والفقر، ولكن هذه المدنية الملعونة، وهذا السفور والاختلاط؟ أيساوي ما أفقده من شرفي وديني، وما تضيعه من عفافها ومستقبلها، المقالات التي أكتبها يومئذ حية مشتعلة؟ وهل تكون تلك المقالات إلا جريمة ثانية لأنها تدعو إلى مثل هذا الحب؟
قال: إنك تتكلم بلسان العصر الماضي، إنا لن نرجع إلى الوراء، فلا تحاول المستحيل، هذه هي دنيا اليوم، ولابد أن أريكها؛ فقم معي.
قلت: إلى أين؟
قال: لا تسأل: امش حيث أقودك.
قلت: بشرط أن لا تدخلني خمارة ولا ماخوراً ولا مرقصاً، ولا مجمعاً فيه نساء سوافر.
قال: فكيف إذن ترى الدنيا؟
قلت: وليست الدنيا إلا هناك؟ هذه دنيا الرجس. . .
قال: ينبغي أن يرى الأديب كل شئ.
قلت: إننا تعلمنا من مشايخنا الرجعيين، أسلوب الدعوة إلى الله، وكيف تكون بالحكمة والتدريج لا تكون طفرة، فلماذا لا تمشون يا أيها المجددون على هذه الحكمة في الدعوة إلى. . . إلى. . . رؤية الدنيا؟!
قال: طيب، آخذك اليوم إلى أمكنة لا تنكرها ولا تأباها
فضحكت وقلت: ثم تمشي بي خطوة بعد خطوة، حتى تبلغ بي حيث تريد. هذه هي الحكمة.
قال: هيا بنا، على أن لا تنفق شيئاً، أنت في ضيافتي.
وأركبني سيارة، سلكت بنا شوارع على النيل، رأينا فيها أزواجاً من الناس، أزواجاً في العدد لا بعقد المأذون الشرعي فقال لي: ترى هؤلاء؟
قلت: نعم.
قال: مثل هذا يفتح قريحة الأديب حتى تتدفق بالشعر الحي الذي يهز القلوب من قراراتها، فهل أمتع من هذا؟ جمال الطبيعة وجمال الحب. . .
قلت: والحكومة ترى هذا ولا تمنعه! والعلماء يبصرونه ولا ينكرونه! والآباء. . .(716/9)
قال: علماء إيه؟ وبتاع إيه؟ إنت فين يا أخي؟
ومشينا، ومر بي على قصور شامخات، فسماها ووصف لي ما يجري فيها، من دفق الذهب على موائد الميسر، وخنق الأعراض في سرر الشهوات، وحرق الأكباد بكؤوس الشراب، ثم قال لي فجأة: هل تعرف الرقص؟
قلت: لا، ولم أحضر في عمري حفلة رقص، ولم أر راقصة إلا في السينما يوم كنت أدخلها
فصفَق كفاً بكف، وأبدى الرثاء لي والشفقة عليّ، وقال بلهجة المؤدب الناصح، للمريد الطائع:
يجب أن تتعلم الرقص، إن له في مصر مدارس خاصة، وإنك تلقى فيها من يلزمك الحب إلزاماً. . .
قلت: وهل الرقص إلا الفاحشة المستترة، كالسم يوضع في علب الحلوى؟
فقال متحمساً: لا. أبداً. من قال هذا؟
قلت: أنا.
قال: هذه أفكار المتأخرين الجامدين.
قلت: وما هي أفكار المتقدمين المائعين؟
قال: ثق أننا لا نفكر أبداً عند الرقص إلا في الرياضة والموسيقى. . .
قلت: ألست تعانق فتاة غريبة عنك، يكاد يمس وجهك وجهها، وصدرك صدرها، و. . . أعني ألست تحتضنها؟
قال: وماذا في ذلك؟ لماذا تنظرون إلا إلى الناحية البهيمية؟ هذا فن!
قلت: وكشف أفخاذ بنات المدارس للرياضة فن، وتجردهن للسباحة فن، وجلب الفتاة العارية ليصورها طلاب مدرسة الفنون الجميلة فن، إن كلمة الفن اليوم مرادفة لكلمة الفجور عند أجدادنا الأولين.
وانتهى الطريق فنزلنا من السيارة، وقلت:
أشكرك. السلام عليكم.
قال: إلى أين؟ إننا سنتعشى ثم نبدأ سهرتنا.
قلت: نبدأ؟ صارت الساعة التاسعة!(716/10)
قال: وماله؟
قلت: نتعشى في البيت ونعود.
قال: دعك من البيت، إنا اتفقنا على أن أريك الدنيا.
قلت: وهل البيت في الآخرة؟
فأصرّ فعلمت أن العشاء في السوق من شرائط رؤية الدنيا إجادة الكتابة، فقبلت ومشينا.
قلت: إني أعرف (مطعماً) جيد الطبخ.
قال: أي مطعم؟
قلت: الحاتي.
قال: الحاتي؟! تعال أرك الدنيا. امش. امش. . .
قلت: وأين الدنيا؟
قال:. . . . . . . . .
وسمى أسماء نسيتها.
وأدخلني واحداً من هذه المطاعم، فرأيت مكاناً مزدحماً، وسقفاً واطياً، وهواء ثقيلاً، ودخاناً مطبقاً، وضجة مرهقة، وموائد ملتصقة، ثم جاءنا النادل فكلمته بالعربية، فلوى شدقه استكباراً ولم يفهم ولم يجب، فكلمه صاحبي بلغة لا أعرفها، فجاءنا بطعام أدعو الله أن لا يطعمه مؤمناً، إلا إذا عذبه به في الدنيا تكفيراً لذنبه، وتخليصاً له من عذاب الآخرة، طعاماً خبيثاً، وشيئاً كالضفادع والسراطين وعقارب البحر ودود البر، وحشرات الجو، وشيئاً لزجاً كأنه مرهم الزنك مخلوطاً بالاكتيول فرفعت يدي عنه ولم أميه، وأكل صاحبي بشماله، لأن من العيب كما فهمت أن يأكل باليمين. . . واستعمل ملاعق وأشواكاً وسكاكين كباراً وصغاراً تسلح عصابة كاملة. . . ثم جاء النادل بزجاجة فتحها له، قرأت عليها اسم خمرة من الخمور، فالتفت فإذا الذي نحن فيه خمارة، فغضبت وقمت، وقلت:
أما إذا بلغ الأمر مبلغه، فاعلم أني أمزح معك، وأتسلى بصحبتك، وما أحب أن تمتد المزحة أكثر من هذا، ولله عليّ أن لا أصحبك بعد اليوم
ورأيته قبل أن أنصرف، قد دفع ثمن عشائه وزجاجته تسعين قرشاً، أطعم بمثلها أسرتي كلها يوماً كاملاً.(716/11)
وعدت إلى الدار، فتلقاني أهله بالمودة والبشر، وأسرع الأولاد وتعلقوا بي، فأحسست إذ أبصرت دعة المنزل، ونعمة الأهل، وسعادة الفضيلة، ولذة الاستقرار، بمثل ما تشعر به السمكة تلقى في الماء، بعد أن أشرفت على الاختناق.
هذا وما مشينا إلا خطوة واحدة من الطريق، وما رأيت إلا المطعم، فكيف لو أكملت الطريق ورأيت الدنيا؟!
لا. لا أريد هذه (الدنيا)، خلّيتها لكم، فاسرحوا فيها وحدكم وامرحوا، لا أريدها، حسبي دنياي، فهي خير لي وأجدى عليّ، ولو لم يكن فيها إلا راحة الأعصاب، وهدوء البال، وصحة الجسم، لكان ذلك مرغباً لي فيها، صارفاً لي عما سواها، فكيف ومع ذلك كله تقدير الناس، ورضا الله؟
أما الأدب فإن كان لا يعجب الناس منه إلا ما يجئ بسهر الليالي، وذرع الطرقات، وسُكنى المراقص، وإغراء الغيد بالفواحش، وسلوك طريق جهنم، فإن أهون شئ عليّ أن أهجره وأن أطلق الكتابة ثلاثاً، ثم لا أعود إليها، ولا أقبل عليها، وأن أنام بعد مستريحاً خليّ القلب فارغ الذهن، إذ لم أخسر بتركها شيئاً ولا خسر القراء!
علي الطنطاوي(716/12)
صورتان للخير والشر
للأستاذ عبد المنعم خلاف
رجلان. . .
أحدهما ملك كريم هبط إلى الأرض بروح السماء، وسيصعد إلى السماء بمكرمات الأرض. . .
وثانيهما روح خبيث صعد من الطين كأنه فقاعة من غاز عفن! وكأنه بثرة ذات قيح وصديد في وجه مجدور. . .، ثم عاد وسفل في الطين وأبى الارتفاع، وسيكون مرجعه إلى عالمه، كالم نجاسات الأرض. . .
وقد رأيتهما في مكان واحد في وقت واحد، فرأيت الضدين الأبديين الخالدين تصطرع روحهما على روحي، فكانت محنة هي محنة العيش بين المتناقضين كمحنة الحديد يوقع عليه في النار ثم (يُطَشّ) في ماء مثلوج. . .
أولهما له وجه أصيل الحسن والسماحة عميق المعاني الإنسانية، يأخذك إلى رحاب الوضوح التفاؤل والحب العميق للخير، ويدعوك إلى تصديق ما أتت به دعوات السلام والحب والبر، وله عينان كأنهما منبعا نور وصفاء يغسلك بأشعته ويطهرك وينير لك سبل الحياة.
والثاني له وجه عميق القبح ممسوخ المعاني، رآه مرة أحد أرباب الصفاء والنفاذ فقال: إنه وجه غادر. . . وله عينان كأنهما جُبّان جفّ فيهما الماء وسكن الظلام وانطلقت الحشرات، فهما يغمران قلبك بالظلام والوحشة، ويأخذان فكرك وخيالك إلى أودية التشاؤم والكراهية للإنسانية، ويوحيان إليك أن كل ما تقرأ عن عالم الخير والسلام وهم واهمين وغفلة غافلين بلهاء. . .
وللأول يد تفيض بالفيض فيضاً ولا تحبسه عن أحد، وتعطي الناس مستحقين وغير مستحقين، وتمسح الجراح والآلام، وترتق الفتوق وتسد الثغور وتسند الذي يريد أن ينهار وتشير دائماً إلى منطقة النجاة والسلام كأنها علامة إرشاد منصوبة على طريق الإنسانية. . .
وللثاني يد كأنها ناب ذئبة جائعة ذات أجراء صغيرة، فهي تختطف لنفسها ولأجرائها قلوب(716/13)
الناس وأكبادهم أو كأنها فم قبر مخروق يأخذ ولا يعطي إلا الشكل والفقد. . .
الأول عظيم بالطبع، عظيم بالوضع، يتوجه مجد الفعال العظيمة والمكرمات الخالدة، ولكنه يتواضع حتى يحس محدثه ومجالسه أنه أمام رحمة مجسمة خلفت إنساناً. . .
والثاني لا يحملك وجهه وعمله على إعطائه ما يليق بآدمي من احترام وائتناس، وإنما تجفل لمرآه أول ما تقع على عينك ظلاله وعلى وعيك أعماله، ولا يحملك ما يحاول أن يحيط به من زينة الثياب والرياش والأثاث البراق إلا على مقارنة قبح ذاته وصفاته بجمال ما يحيط به من الأثاث الجامد!
هذا الأول أسدى لنفسي معاني كثيرة من الخير، وما تملك نفسي إلا أن تسدي إليه الحب وتسجيل الذكر وتخليد الصورة في مثل هذه المناسبة، لأنه مرتفع عن مستوى الحاجة. . . وذاك الثاني أسدى لنفسي شراً كثيراً، وأقل ما أسديت إليه أنني كنت ألتمس المعاذير لقبح خلقه وهوان شأنه على معاشريه، وكنت أغضي عن ذلك رحمة له إذ لم يخلق نفسه، وأنا أرحم القبح ولكن لا أهواه كابن المعتز. ومع ذلك فقد كان حمقه معي أعظم مما مع غيري. . .
وتسأله لماذا يا فلان؟ فيخرس لسانه ويجيب وجهه بتعليل الطبع السائر على نهجه. . . ولقد أجاب لسانه مرة حين قلت له: إنني لا أطيق الشر فهلم معي إلى الخير. . . فقال: لن تستطيع أن تغير ما في القلوب بالأقوال. . .
فكانت هذه حكمته الوحيدة الخالدة. . .
هذا النوع من الناس هو الذي قد يحملك على جحود الخير والإيمان بالشر، إذ يحيل قلبك من هدوئه واطمئنانه إلى الثورة والتشكك واعتناق الشر وتحطيم المثل العليا، أو أنه على الأقل يجعلك تعتقد أن الشر عريق في الوجود عراقة الخير، كأنهما مخلوقان لإلهين مختلفين يحتربان ويصطرعان على تسيير دفة الدنيا، يديرها أحدهما إلى الأبيض ويديرها الآخر إلى الأسود. فيجب أن تطيع الثاني كالأول ويتسع قلبك له وتطاوع شيطانك فيه بحيث لا يحدك ضميرك ولا وجدان ساعة بُحران الشر واحتدام الضغينة فلكل وقت، فكن للشر بقلبك كما تكون للخير بقلبك!
هكذا يسمم هذا النوع من الناس نفسك بشزّة نفسه، كما يسمم الثعبان دمك بلسعة نابه(716/14)
ومسموم لعابه، فلا تتمالك إلا أن تقئ وتهذي وتتلوى وتأتي بالحماقات والشناعات. . .
إنه يجذبك من عالم أحلامك السعيدة العليا إلى الحضيض الذي تتمرغ فيه وتتقلب عليه مع بنات الطين والظلام. . .
إنه بوق الشيطان ينفخ فيه على أفاعي الشر والضغينة في الحجرات المظلمة من نفسك كلما أوشكت أن تموت؛ لتحيا دائماً معك لأنها أعظم جنوده التي أرصدها لحرب ذلك الطفل العبقري الوديع: الحب!
وإن هذه الأفاعي إذا صحت ونشطت فلن تأكل في الحقيقة إلا فلذات قلبك ولن تشرب إلا دمك. . . ولقد جعلت من الذين أوسعوا لها من صدورهم مسمومي الإدراك مطموسي الإحساس بجمال الوجود ولذة الحب والرحمة.
إنها كريهة الدبيب مغتالة لأفضل ما في النفس، مثيرة للدم الأسود المحموم.
إن الشر يجب أن لا يكون إلا لدفع الشر الذي لا يُدفع بالخير. فيجب على القديس الحليم أن يكون عنيفاً شديداً مع الذين لا يرون المثل الأعلى إلا في الشر والعنف. . . أما أن يتخذ ذخيرة وغذاء تجتره النفس انسياقاً مع الغرائز القديمة، واستجابة للوحش الذي فينا، وتنمية لنوازعه وتنقيباً عن سفالاته المطمورة فذلك هو الهدم لدعائم الحضارة والارتداد والانتكاس إلى الوحشية التي تطمس الآفاق التي رأتها الإنسانية على ضوء السكينة النفسية والحب المتبادل.
فليُعِن الله محبي الخير على الحرب الدائرة بينهم وبين هذه النفوس العريقة في عالم الأذى. . .
وليحفظ رقة الخير وضعفه بين الشرور كما يحفظ حرير الورد من جوار الأشواك المسنونة المشرعة التي تهدده دائماً بالتمزق وتؤذي من يريد أن ينعم به نعمة خالصة.
عبد المنعم خلاف(716/15)
تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
بعض الفروض التمهيدية وطريقة التفسير:
كان العلماء إلى ما قبل ظهور علم التحليل النفسي يفسرون الحلم على أنه ظاهرة جسمية تنشأ عن اضطراب في المعدة أو ما شابه ذلك من مؤثرات عضوية. أما نحن فسنفرض أن الحلم ظاهرة عقلية لا جسمية. وقد لا يكون لهذا الفرض ما يبرره، ولكن ليس هناك ما يمنعه أيضاً، فالحلم إذا كان ظاهرة جسمية لا يهمنا في شئ ولكنه يكون ذا فائدة لنا إذا كان ظاهرة عقلية. وعلى هذا فسنسلم بصحة هذا الفرض وسنرى من النتائج التي سنصل إليها إن كنا على خطأ أم على صواب. والآن ما هو الغرض من هذا البحث وإلى أي غاية نوجه هذه الجهود؟ إن غرضنا هو الغرض من كل بحث علمي، أي الوصول إلى دراسة واضحة للظواهر الطبيعية وتكوين علاقة بينها وإخضاعها لسلطتنا على قدر الإمكان.
وعلى هذا فسنواصل بحثنا على فرض أن الأحلام ظاهرة عقلية، ومعنى هذا أنها خيالات رآها الحالم أو كلمات تفوهها أثناء النوم ولكنها لا تدلنا على شئ ولا نستطيع أن نفهم لها معنى.
لنفرض أني تفوهت أمامكم بكلام غير مفهوم فماذا أنتم صانعون؟ ألا تسألونني الإيضاح عما أريد؟ أظن هذا هو الحل المعقول. فلم إذاً لا نتبع نفس الطريقة فنسأل الحالم عن معنى حلمه؟
تذكرون أننا سبق أن وجدنا أنفسنا في مثل هذا الوضع عندما كنا نبحث في زلات اللسان، وقد بينت لكم أنه يجب علينا في هذه الحالة أن نسأل صاحب الزلة عما يقصده أو ما كان يفكر فيه حتى نستطيع أن نصل إلى الدوافع الخفية التي دفعته إلى ارتكاب هذه الزلة، كما بينت لكم أن التحليل النفسي مبني كله على هذه الطريقة، أي ترك الشخص الذي نحلله يجيب بنفسه على مشاكله. وعلى هذا فالحالم يجب عليه أن يفسر لنا حلمه بنفسه(716/16)
ولكن الأمر ليس هنا بالسهولة التي نظن، ففي حالات الزلات كانت هذا الطريقة تنجح في كثير من الأحيان، ولكن في أحيان أخرى كان الشخص المستجوب يرفض الإجابة عن شئ بل كان يرفض الجواب الذي نقترحه عليه من استنتاجاتنا في غيظ وحنق. أما في حالة الأحلام فليس هناك أمثلة من النوع الأول، فالحالم دائماً يقول إنه لا يعلم شيئاً عن حلمه، وهو لا يستطيع أن يرفض تفسيرنا لأنه ليس لدينا ما نقدمه له. فمادام لا يعلم شيئاً ونحن لا نعلم شيئاً ومن المؤكد أن شخصاً ثالثاً لا يعلم شيئاً كذلك، فلا مطمع لنا إذاً في الوصول إلى حل موفق. أعلينا عندئذ أن نقلع عن هذه المحاولة ونقر بعجزنا؟ إذا كان منكم من يرغب في ذلك فليفعل. أما إذا كنتم راغبين في مواصلة البحث ففي استطاعتكم أن تتبعوني فسأريكم أن الشخص الحالم في الواقع يعلم معنى حلمه ولكنه لا يدري أنه يعلم وعلى هذا يظن أنه لا يعلم.
أظن أنه من المحتمل أن تلفتوا نظري عند هذه النقطة إلى أنني قد عدت إلى تقديم فرض آخر ولما يمض على تقديمي الفرض الأول وقت طويل، وأنني بعملي هذا قد بعدت عن جادة الصواب ودقة البحث ولكني أوجه نظركم إلى أني لم أجئ هنا لأتظاهر أمامكم بالشعوذة فأقدم إليكم حقائق سهلة مستساغة بينما أخفي عنكم الصعوبات والشكوك حتى تطمئن نفوسكم إلى أنكم قد تعلمتم شيئاً جديداً. وعلى هذا أقول لكم إني فعلاً قد فرضت فرضين متداخلين فمن يجد منكم في هذا مشقة أو عدم دقة فما عليه إلا أن يتركنا في خير. ولكني أوجه نظركم إلى أن هذين الفرضين ليسا على درجة واحدة من الأهمية. فأحدهما وهو القائل بأن الأحلام ظاهرة عقلية هو الفرض الذي نأمل في إثباته عن طريق النتائج التي سنصل إليها. أما الفرض الآخر فقد سبق إثباته في مجال مختلف وأنا في الواقع لم أعمل أكثر من أن سمحت لنفسي باستعارته في بحثنا هذا. وهذا المجال المختلف الذي أقصده هو التنويم المغناطيسي فقد شاهدت برنهيم عام 1889 في نانسي وهو يقوم بتجاربه على رجل من المدينة نومه تنويماً مغناطيسياً، وعندما استيقظ الرجل بدا لأول وهلة أنه لا يدري شيئاً عما قام به أثناء النوم وقد ادعى أنه لا يستطيع أن يتذكر شيئاً، غير أن برنهيم ألح عليه في السؤال مؤكداً له أنه يعلم كل شئ وأنه لو أجهد نفسه قليلاً لاستطاع أن يتذكر كل ما حدث له. وما كان أشد دهشتنا عندما بدأ الرجل فعلاً يتذكر شيئاً فشيئاً(716/17)
بعض ما حدث له أثناء النوم، وكلما تذكر شيئاً اشتدت ذاكرته فتذكر أشياء أخرى حتى استطاع في النهاية أن يتذكر بالضبط كل ما قام به وهو نائم. ألا يصح لنا إذاً أن نستنتج من هذا أن هذه الذكريات كانت في عقله من مبدأ الأمر ولكنها كانت فقط صعبة المنال؛ فهو لم يكن يدري أنه يعلم بها ولكنه كان يعتقد أنه يجهلها. وهو في هذه الحالة يشبه الشخص الحالم تمام الشبه. والوقع أن هناك علاقة واضحة بين التنويم المغناطيسي والنوم الذي هو شرط أساسي للحلم. فالتنويم المغناطيسي يطلق عليه فعلاً النوم الصناعي، فنحن نقول للشخص الذي نريد أن ننومه مغناطيسياً: (نم!) وما نوعز به إليه وهو نائم يمكن مقارنته بالأحلام في حالة النوم الطبيعي. فالحالة العقلية واحدة في الاثنين، فكما أننا في النوم الطبيعي نقطع كل صلة تربطنا بالعالم الخارجي، فكذلك نفعل في حالة التنويم المغناطيسي فيما عدا الشخص الذي يقوم بتنويمنا والذي نبقى معلقين به.
أظن من الممكن الآن أن نعود إلى عملنا ونحن أكثر ثقة من ذي قبل. رأينا إذاً أن من المحتمل جداً أن الحالم يعلم شيئاً عن حلمه، ولكن المسألة هي كيف يمكننا أن نسهل له الوقوف على هذه المعلومات وإعطائها إيانا؟ الطريقة التي سنتبعها هي أن نسأل الحالم عن معنى حلمه وكيف حلم هذا الحلم، والكلمات التي يجيب بها يجب أن تؤخذ على أنها الإيضاح المطلوب بغض النظر عن كونه يظن أنه يعلم أو لا يعلم شيئاً عن الحلم.
أظن هذه الطريقة بسيطة جداً، ولكني مع هذا أخشى أن تثير فيكم معارضة شديدة فتصيحون: (فرض ثالث! وهو أبعد احتمالاً من سابقيه! أتعني أننا إذا سألنا الحالم عن الأفكار التي تتوارد على خاطرنا فأجابنا على الفور فما علينا إلا أن نأخذ إجابته هذه على أنها الإيضاح المطلوب؟ ولكن من المؤكد أنه قد لا يجد ما يجيب به على الإطلاق أو قد تتوارد على خاطره أفكار يعلم بها الله. إنا لا نستطيع أن نتخيل على أي أساس بنيت هذا الأمل، فهو في الحقيقة يتطلب اعتماداً أكثر من اللازم على العناية الإلهية في الوقت الذي نحن فيه أحوج ما نكون إلى نفاذ البصيرة والمقدرة على النقد. وفضلاً عن ذلك فالحلم لا يتكون من عنصر واحد كزلة اللسان، ولكنه يتكون من عناصر كثيرة؛ فإذا كان الأمر كذلك، فعلى أيها يمكننا الاعتماد؟).
أظن أنكم على حق في جميع النقط الغير أساسية. فالحلم حقاً يختلف عن زلة اللسان من(716/18)
ناحية تركيبه من عناصر كثيرة كما إنه يختلف عنها من نواح أخرى كذلك، وهذه الاختلافات كلها يجب أن تراعى عند التحليل. ولذا فأني أقترح عليكم أن نقسم الحلم إلى عناصره المختلفة وأن نختبر كل عنصر على حدة، وبذا نكون قد أعدنا التشابه الذي بينه وبين زلة اللسان. وأنتم كذلك على حق عندما تقولون إن الحالم عندما يستجوب عن عنصر من عناصر حلمه قد يجيب بأنه لا يجد لديه أفكاراً تتعلق به، وهناك حالات نكتفي فيها بهذا الرد قد أدلكم عليها فيما بعد. أما في أغلب الأحيان فيجب علينا أن نناقضه وأن نلح عليه في الجواب مؤكدين له أن لابد من وجود فكرة ما لديه وسنرى أننا كنا على صواب، فسيبدأ بقوله: (إن هذا يذكرني بشيء حدث لي منذ وقت قريب!) أو (إن هذا حدث لي بالأمس!) وسنرى من هذا أن الأحلام ترتبط ارتباطاً وثيقاً بآثار اليوم السابق. وأخيراً قد يستطيع الحالم إذا اتخذ الحلم نقطة ابتداء أن يصل إلى تذكر حوادث من الماضي البعيد.
أما من حيث النتيجة العامة فأنتم على خطأ. فإذا كنتم تحسبون أن اعتبار الأفكار الأولى التي ترد على خاطر الحالم كجواب عما نسأل عنه مسألة اختيارية بحتة، وإذا كنتم تحسبون أن هذه الأفكار قد تكون هوائية لا علاقة لها بما نحن في صدد البحث عنه، وأنها لا تدل إلا على ثقتي العمياء في العناية الإلهية إذا توقعت شيئاً آخر. . . إذا كنتم تحسبون هذا فأنتم على خطأ مبين. وهذا الخطأ راجع إلى الاعتقاد الراسخ فيكم بأن القوى النفسية حرة غير مقيدة في اختيارها وهذا اعتقاد غير علمي، لذا يجب علي أن أطلب منكم أن تنظروا بعين الاحترام إلى هذه الحقيقة الواقعة: وهي أن فكرة واحدة فقط ولا شئ غيرها هي التي تخطر على بال الحالم عندما يستجوب عن حلمه.
ولما كانت هذه النقطة على درجة كبيرة من الأهمية، لذا أسألكم أن تلتفتوا إليها التفاتاً خاصاً. فعندما أسأل شخصاً عما يخطر على باله بالنسبة لعنصر ما من عناصر حلمه فإن ما أطلبه منه هو أن يستسلم لعملية الترابط المطلق وهذه العملية تحتاج إلى حالة من الانتباه تختلف اختلافاً بيناً عن حالة التروي بل هي في الواقع تعوقها. وبعض الناس يتهيأ لهذه الحالة في سهولة ويسر، والبعض الآخر يلاقي في ذلك عناء كبيراً وعدم استعداد غير معقول. وقد يحسب المرء أن عملية الترابط المطلق التي تنشأ عندما نطلب من شخص ما أن يفكر في اسم خاص أو عدد ما تكون أكثر حرية ويكون لدى الشخصين فرصة أكبر(716/19)
للاختيار؛ ولكن الواقع أنه يمكن أن نثبت أنه في كل حالة توجد عوامل عقلية خفية هي التي تحدد نوعي الترابط، وهذه العوامل تكون مجهولة لدينا في اللحظة التي تبدأ فيها عملها، ولتوضيح ذلك أضرب لكم المثل الآتي:
حدث في يوم من الأيام بينما كنت أعالج شاباً أن ذكرت له شيئاً عن هذا الموضوع وأكدت له أنه على الرغم من الحرية الظاهرة في الاختيار في مثل هذه الحالات فإننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفكر في أي اسم لا يمكن أن نثبت أن الظروف المحيطة بالشخص الذي نقوم معه بالتجربة، وسجيته والحالة التي كان عليها هي التي تحدد هذا الاسم. ولما كان بطبعه ميالاً إلى الشك فقد عرضت عليه أن يقوم بالتجربة في التو واللحظة. وقد سهلت له الأمر بأن طلبت منه أن يفكر في اسم امرأة من صاحباته لما كنت اعلم عن علاقاته المتعددة بكثير من الفتيات والنساء. ولكنه لدهشتي، أو لدهشته على الأصح، لم يغمرني على الفور بسيل من الأسماء، وإنما ظل ساكناً مدة ثم اعترف بان الاسم الوحيد الذي خطر على باله في هذه المدة هو ألبين ولكن الأغرب من ذلك هو أني عندما سألته ما علاقتك بهذا الاسم وكم من النساء تعرفت به؟ أخبرني أنه لا يعرف أحداً بهذا الاسم وأن لا أفكار لديه يربطها به. وقد يظن المرء أن التجربة قد فشلت، ولكن لا، فقد تم التحليل ولسنا في حاجة إلى أفكار أخرى. فالشاب نفسه كان أشقر بشكل غريب، فكانت في حديثي معه أثناء التحليل أداعبه بقولي له (وهي اسم الرجل الأبيض الوجه والشعر) وعلاوةً على ذلك فقد كنا في هذا الوقت منهمكين في تحليل العنصر النسوي في طبيعته. وعلى هذا فقد كان هو نفسه هذه (المرأة) التي شغلته في هذا الوقت أكثر من أي امرأة أخرى.
وكذلك الحال في الألحان التي يترنم بها الإنسان في أوقات فراغه فقد يستطيع إذا حللناها أن نصل إلى مصدرها ومعرفة الأفكار التي كانت تشغل عقلنا في هذا الوقت من غير أن نحس بها فإذا كانت الأفكار الحرة التوارد مقيدة هذا التقييد فإننا نكون على حق إذاً عندما نستنتج أن الأفكار التي تتوارد نتيجة لفكرة محركة واحدة تكون كذلك مقيدة غير مطلقة. وقد أثبتت التجارب كحقيقة واقعة إنها لا تكون متعلقة بالفكرة، المحركة فحسب، بل إنها كذلك تعتمد على ألوان من التفكير وضروب من المؤثرات القوية (أو العقد كما نسميها) لا نعلم عنها شيئاً في ذلك الوقت، أو بعبارة أخرى تعتمد على نشاط لا شعوري.(716/20)
وقد أتخذ الترابط الذي من هذا النوع أساساً لتجارب عديدة أفادتنا كثيراً ولعبت دوراً ملحوظاً في تاريخ الحركة التحليل النفسي. فمدرسة وندت هي التي ابتكرت طريقة (تجربة الترابط) وفيها يطلب من الشخص الذي تجري عليه التجارب أن يجيب على كلمة - محركة - بأسرع ما يمكنه من كلمات رد الفعل - وتلاحظ النقط الآنية أثناء التجربة: وهي الفترة التي تمضي بين النطق بالكلمة - المحركة وكلمات رد الفعل، وطبيعة هذه الكلمات والأخطاء التي ترتكب عند إعادة التجربة إذا أمكن. أما مدرسة زيوريخ تحت رئاسة بلولير وجنج فقد توصلت إلى تفسير رد الفعل في تجربة الترابط بأن ثالث الشخص الذي تجري عليه التجربة أن يلقى قليلاً من الضوء على الأفكار التي تبدو ذات أهمية وذلك بوساطة سلسلة أخرى من الأفكار المترابطة. وقد اتضح من هذه الطريقة أن هذه الردود الغير مألوفة لها اتصال وثيق بالعقد التي في نفس الشخص. وقد كان هذا الاكتشاف هو الخيط الأول الذي ربط بين علم النفس التجريبي وبين التحليل النفساني أظن أنكم من سماع هذا الشرح ستقولون: (إننا نسلم معك إن هذه الأفكار المترابطة خاضعة لقيد معينة وليست محض اختياركما كنا نظن من قبل، كما إننا نعترف بهذا أيضاً في حالة الأحلام ولكن ليس هذا ما يعنينا. إنك تقرر أن كل ترابط بعنصر من الحلم له دافع عقلي خفي لا نعلم عنه شيئاً ولكنا لا نستطيع أن نرى أي برهان على ذلك، حقيقة إننا نتوقع أن تكون الأفكار التي تترابط بعنصر من الحلم ذات صلة وثيقة بالعقد التي في نفس الحالم ولكن ما هي الفائدة؟ إن هذا لن يساعدنا البتة في تفهم معنى الحلم ولكنه يوصلنا فقد إلى بعض المعرفة عن هذه الأشياء المسماة بالعقد، كما في حالة تجربة الترابط، ولكن أي علاقة بين هذه العقد وبين الأحلام؟).
إنكم على حق ولكنكم تغفلون نقطة هامة وهي نفس النقطة التي منعتني من اتخاذ (تجربة الترابط) نقطة ابتداء لهذا البحث. فنحن في حالة التجربة أحرار في اختيار الكلمة - المحركة، وهي الشيء الوحيد الذي يتوقف عليه رد الفعل، أما كلمات رد الفعل نفسها فتعمل كوسيط بين الكلمة المحركة والعقدة التي في نفس الشخص الذي تجري عليه التجربة. أما في حالة الحلم فالكلمة المحركة تستبدل بشيء مشتق من حالة الحالم العقلية، وهذا الشيء ينبع من مناطق مجهولة لديه، وعلى هذا فمن المحتمل جداً أن يكون هو نفسه(716/21)
(إحدى مشتقات العقدة) فليس من الوهم إذاً أن ندعى أن الأفكار التي تترابط مع عناصر الحلم لم تحددها عقدة أخرى غير العقدة التي كونت هذا العنصر الخاص من الحلم وإنها في نهاية الأمر ستوصلنا إلى اكتشاف هذه العقدة.
دعوني أضرب لكم مثلاً آخر تتبينون منه أن الحقائق كثيراً ما تحقق صدق نظريتنا. وهذا المثل هو نسيان الأسماء المعزوفة لدينا ومحاولة تذكرها، فالذي يحدث في هذه الحالة يشبه تمام الشبه ما يحدث في حالة تحليل الأحلام. فلنفرض مثلاً إني نسيت اسماً ما ولكني أشعر في قرارة نفسي أني واثق من معرفته فماذا أفعل؟ لا شك إني سأحاول أن أبذل كل جهد مستطاع في محاولة تذكره، ولكن التجارب علمتني أن كثرة التفكير لا تجدي وأن في استطاعتي دائماً أن أفكر في اسم آخر أو أسماء عديدة أخرى غير الاسم الذي نسيته فإذا حدث أن خطر على بالي أحد هذه الأسماء طوعاً من تلقاء ذاته فهنا فقط يكون الشبه واضحاً بين هذه الحالة وحالة تحليل الأحلام. فعنصر الحلم كذلك ليس هو ما أبحث عنه وإنما هو عوض عن شيء آخر، وهذا الشيء الآخر هو ما لا أعرفه وما أسعى إلى اكتشاف عن طريق تحليل الحلم. ماذا أفعل إذاً لأتذكر الاسم الذي نسيته؟ إن ما يحدث هو أني أوجه التفاتي إلى هذا الاسم الذي خطر على بالي عوضاً عن الاسم المنسي ثم أحاول أن أدع أسماء أخرى تتوارد على خاطري في ترابط مطلق، وبهذه الطريقة أستطيع أن أصل في النهاية إلى الاسم الذي نسيته. ومن المشاهد في مثل هذه الحالات إني عندما أتذكر هذا الاسم ألاحظ دائماً إن هناك علاقة بينه وبين الأسماء التي تركتها تخطر على بالي عوضاً عنه. فقد حدث لي مثلاً أن حاولت في يوم ما أن أتذكر اسم القطر الصغير الذي يقع على ضفاف الريفييرا والذي عاصمته (مونتكارلو) ولكني لم أستطع على الرغم من تأكدي من معرفته. فأخذت أفكر في كل من أعرف في هذا القطر وما كان لي فيه من علاقات ولكن بلا جدوى. وأخيراً كففت عن التفكير وتركت أسماء أخرى تتوارد على خاطري طواعية واختياراً. وقد توالت هذه الأسماء بسرعة وهي مونتكارلو نفسها ثم بيدمون، ومونتفيدو، ومونتنجرو، وكوليكو. وقد لاحظت أن ثلاثة من هذه الأسماء البديلة تحتوي على نفس المقطع (مون) وفي الحال تذكرت الاسم الذي أبحث عنه وهو (موناكو) ومن هذا ترون أن هذه الأسماء البديلة قد نشأت فعلاً عن الاسم المنسي، فالثلاثة الأسماء(716/22)
الأولى تحتوي على المقطع الأول (مون) والاسم الرابع يحتوي على المقطع الأخير (كو) أما السبب في هذا النسيان المؤقت فهو أن (موناكو) هي الاسم لإيطالي (لمونيخ) وقد كانت لي ذكريات في هذه المدينة هي التي وقفت حائلاً بيني وبين تذكر الاسم الذي أريد.
وعلى هذا فما هو ممكن في حالة نسيان الأسماء لابد أن يكون ممكناً كذلك في حالة تفسير الأحلام فإذا ابتدأنا من العناصر البديلة فإنه لا بد أن نصل في النهاية إلى غرضنا الحقيقي عن طريق سلسلة من الأفكار المترابطة، كما إنه في استطاعتنا (كما هو الحال في نسيان الأسماء) أن نفرض أن هذه الأفكار التي نشأت عن عنصر الحلم لم يحددها هذا العنصر فحسب بل حددتها أيضاً الدوافع اللاشعورية التي أنتجت الحلم. فإن أمكن هذا فإننا نكون بذلك قد قطعنا شوطاً بعيداً في تبرير طريقتنا في التفسير.
المترجم
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(716/23)
الأدب في سير أعلامه
7 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
بين الجد واللهو
ودع تولستوي قازان وفي نفسه أنه ودع اللهو والعبث فما إليهما من عودة، وبلغ ياسنايا تلك الضيعة المحبوبة وقد زاده محبة لها إنها غدت من نصيبه، وإن ليشعر أنه أصبح مسؤولاً عنها وعمن يعيش فيها من الناس؛ ولقد زاد هذا الشعور لا ريب في نفسه العزم أن يطلق حياة اللعب والعبث. . .
ثم إن فكرة تسيطر على لبه اليوم وتملأ جوانب نفسه، ومؤداها أن يعمل في جد على إصلاح حال الفلاحين في الضيعة وما جاورها، فما يليق به أن يذرهم فيما هم فيه من جهل وبؤس.
وتستمع إليه العمة تاتيانا دهشة مبتسمة فما يخرج الأمر عندها عن أن يكون نزعة جديدة من نزعات الشباب؛ ولكنه يعود كل يوم إلى هذا الحديث وإنه لأقوى عزماً وأكثر جداً؛ وإن تفكيره في هذا الأمر ليصرفه عن القراءة وعن الموسيقى التي أحبها حباً عميقاً خبرته عمته؛ وإنها لتجلس إلى البيان تحاول أن تمتعه بلحن مما يجب فما يروعها إلا انصرافه عنها وعن لحنها ليقبل على حديث إصلاح الفلاحين. . .
وتعجبت عمته ويزداد عجبها إذ تراه يتخذ لنفسه زياً خاصاً به يعتزم أن يلبسه في كل وقت وفي كل مكان لأنه يظهره في مظهر الفيلسوف؛ ولكن الفتى لا يلبث حتى يخلع هذا الرداء ويلقي به لأن أحد الزائرين لم يتمالك نفسه ذات مرة من الضحك من مظهره، كره الفتى أن يكون موضع استهزاء، وهو الذي طالما تأنق وتنبل بالثياب. . .
وما الذي ألقى في قلب الفتى هذه الرغبة القوية في إصلاح حال الفلاحين؟ أهي مجرد نزعة من نزعات الشباب حقاً؟ أم هي خيال ألقاه في نفسه قراءة قصة حديثة تسمى (القرية) ألفها قصصي يدعى جريجوروفتش وصور فيها حياة الفلاحين، صورة مؤلمة(716/24)
تبعث في النفوس شعور الرثاء لحالهم؟ أم أن مرد ذلك إلى عاطفة عرف بها منذ طفولته وهي أنه يحب أن يرى الناس جميعاً حوله سعداء؟ الحق أن الفتى ما كان ليستطيع أن يرى مظاهر البؤس من حوله ثم لا يتحرك لها قلبه الإنساني الرحيم، وكيف كان يطيق أن يسمع فيما سمع أن امرأة نحبها من الجهد، وأن المرض فتك بالناس فلا يستطيعون له دفعاً؛ وكيف كان يطيق أن يرى بعض الفلاحين يخرون على قدميه سجداً يسألونه القوت؛ لقد كان ذلك يؤلمه أشد الألم أو كما يقول (إن ذلك كان يؤلمني كما تؤلمني ذكرى جريمة ارتكبت لو يكفر عنها).
على أنه يعجب أشد العجب من إعراض الفلاحين عن إصلاحاته؛ وبألم إذ يرى في وجوههم الشك والإنكار والعناد، وإذ يسمع أنهم يصفون ما بنى لهم من أكواخ جديدة بأنها سجون وأنهم يرمون بالمدارس التي افتتحها لأبنائهم والتي كان يعلمهم فيها بنفسه أحياناً، فعندهم إن هذه المدارس تحرمهم من معاونة أبنائهم إياهم في أعمال الزراعة؛ ويقلب تولستوي كفيه حائراً من أمرهم، وفي نفسه شعور الغضب ومرارة الخيبة. . .
ولا يلبث اليأس أن يصرفه عما شرع فيه، فينصرف عنه مكرهاً لأنه كان شديد التعلق به، يدلنا على ذلك ما جاء في قصة كتبها بعد سنوات قليلة، هي القصة المسماة (صباح أحد الملوك) فقد صور فيها أميراً يحلم بأن يعلم الفلاحين ويسعدهم ويوفر لهم أقواتهم، ويصلح رذائلهم التي تنجم من الجهل والتعلق بالخرافات ويجعلهم يحبون الهدى والحق؛ وفي هذه القصة يترك الأمير الجامعة ليعود إلى القرية ويكتب إلى عمته برغبته في إصلاح حال الفلاحين في ضياعه قائلاً بعد أن يصف مبلغ بؤسهم: (أليس واجبي الواضح المقدس أن أعني بحال هذه الأنفس السبعمائة التي سوف يسألني الله عنها حساباً؛ ثم أليس من الإجرام أن أجري وراء أنماط من اللهو والطمع بينما أدعهم لمشايخ أو رؤساءهم عليهم خشن غلاظ؟ ولم أبحث في نواحي أخرى عما عسى أن يظهرني بمظهر الرجل النافع الخير في حين أن أمامي هذا الواجب الوضئ النبيل الذي أعرفه عن وثوق وخبرة؟).
ولم يكن يدور بخلده أن يجد من الفلاحين هذا الجمود، فما أشد ما كره ما كان فيه من جد وما أسرع ما أقبل على لهوه وعبثه، وقد نما إليه أن أخاه سيرجى يعيش مع غجرية مغنية عيشة مطلقة من كل قيد في ضيعته؛ فحبب إليه عبث أخيه أن يعود هو كذلك إلى عبثه،(716/25)
فأقبل على المجون واللعب وأسرف في ذلك إسرافاً شديداً وبخاصة في مخالطة النساء مخالطة لا تأثم منها ولا تورع فيها حتى لقد أحدثت أثرها في بدنه القوي أو كادت، وحتى لقد عاد الفتى إلى سالف ندمه فانه يكتب في يومياته في منتصف شهر يونيو سنة 1847 يقول (ما أصعب على من يقع تحت تأثير الشر أو يزيد ما تنطوي عليه نفسه من خير. . . هل أبلغ بعد الأمد الذي أجدني فيه مستقلاً عن المؤثرات الخارجية؟ إن ذلك معناه في رأيي الوصول إلى كمال عظيم، حيث إنه في حال الرجل الذي يتخلص من العوامل الخارجية تسيطر الروح على الجانب المادي منه بالضرورة فيبلغ ما يريد؛ وسأضع اليوم لنفسي قاعدة جديدة وهي أن الاجتماع بالنساء إن هو إلا شر من شرور المجتمع لابد منه، وعلى المرء أن يتجنبه ما استطاع؛ وممن نتعلم في الواقع الشهوة والخنوثة والتفاهية في كل شيء إن لم نتعلمه من النساء؟ وعلى من تقع تبعة فقداننا تلك المشاعر الغريزية فينا كالشجاعة والمناعة والبأس والتصبر والعدالة إن لم تقع على المرأة؟ إن المرأة أشد استجابة من الرجل للمؤثرات، وكانت في عصور الفضيلة خيراً منا، ولكنها الآن في عصر الفساد والرذيلة قد باتت أسوأ منا وأرذل).
وتلمح إليه العمة تاتيانا ذات يوم بقولها (إنه لا شيء يكون الشاب خيراً مما يكون ارتباطه بفتاة ذات خلق)؛ ولكن توثب حيويته وعرامة فتوته وحبه الاستقلال، كل أولئك يميل به عن أن يركن إلى ما تقول. . .
وسيكبر هذا الفتى وقد ذاق حلو الحياة ومرها فيكون له من ذلك مادة لفنه وسيفيد من لهوه هذا كما يفيد من جده، فما ينسى شيئاً مما تطالعها به الحياة، وسوف نرى نظرته هذه إلى المرأة سنة 1847 وهو في التاسعة عشرة، تتجدد في قصة يكتبها سنة 1889 وهو في الحادية والستين، وهي قصة كروتنزرسناتا.
لم يعد للفتى أمل في إصلاح فلاحيه وأحسن أنه يقضي أيامه في باسنايا عبثاً فصمم على الرحيل منها، وفي شهر أكتوبر سنة 1848 سافر إلى موسكو حيث قضى ثلاثة أشهر أو أربعة طلق العنان لا يلويه عن العبث واللهو شيء، وله من فراغه وشبابه وماله ما يزيد جموحه ويمد في حبال غوايته؛ ثم سافر الفتى إلى بطرسبرج فدخل جامعتها ليدرس القانون ثانية وليحصل على درجة علمية تهيئه للالتحاق بوظيفة من الوظائف المدنية.(716/26)
وأقبل الفتى على الدراسة في جد وعزم كأن لم يعرف اللعب يوماً؛ وكتب إلى أخيه في فبراير سنة 1849 يخبره بما هو فيه من جد، وينبئه بأنه سيبقى في وبطرسبرج إلى الأبد؛ ويصف له في كتابه مبلغ ما للحياة في هذه المدينة من أثر نفسه، فكل شيء يبعث على الجد والدأب، وكل امرئ يسعى سعيه حتى لن يجد المرء من يصحبه إلى حياة عابثة، ولن يستطيع المرء أن يحيا هذه الحياة وحده إلى أن يقول لأخيه (أعلم أنك لن تصدق أني غيرت ما بنفسي وأنك ستقول إنها المرة العشرون ولكن في غير جدوى؛ كلا. . . لقد تغيرت الآن. . . وفوق ذلك فإنني اليوم بداخلي إحساس بأن المرء لا يستطيع أن يعيش بالنظريات والتفلسف، ولكنه ينبغي أن يحيا حياة واقعية، أعني أنه يجب أن يسلك سلوكاً عملياً. . . وهذه خطوة واسعة نحو التقدم).
وفي شهر أبريل يجتاز ليو امتحاناً في القانون المدني والقانون الجنائي بتفوق ملحوظ؛ على أن ذلك لم يكن في الواقع ثمرة جهد متصل وإنما كان ثمرة أسبوعين استوعب فيهما ما استطاع أن يستوعبه من هاتين المادتين.
وفي شهر مايو يكتب لأخيه فإذا به يقول في كتابه (أي سير يوشا. . . أتوقع أنك سوف تقول لي أكثر من عرفت ضعف عزيمة، ولكي أكون أميناً، ينبغي أن أقول إن الله يعلم ماذا كنت أفعل هنا!. . . لقد جئت بطرسبرج بغير سبب معين، ولم أعمل هنا عملاً ذا عائدة، وقصاراى أني أنفقت مالاً كثيراً حتى لقد تورطت في الدين؛ يا للغباء! وأي غباء؟ لن تستطيع أن تصدق كيف يؤلمني ذلك، وبخاصة تلك الديون التي يجب أن أؤديها بأسرع ما في وسعي، وذلك لأنني إن لم أفعل فلست أفقد المال فحسب، بل أفقد معه شرف سمعتي. أعلم أنك ستضج بالشكوى، ولكني ماذا عسى أن أصنع؟ إن الإنسان يقترف مثل هذه الحماقة مرة في مدى عمره. . . وإني لأركن إلى عطفك إذ أرجو منك أن تتدبر في إخراجي من هذا الوضع الكريه حيث أجدني مفلساً يحيط بي الدين من كل جانب).
ويعتزم الفتى أن يلتحق بالجيش في فرقة الفرسان متطوعاً في الحرب، وأن يترك جامعة بطرسبرج دون أن يتم دراسته فيها كما ترك جامعة قازان من قبل وكانت الحرب التي يريد أن يتطوع فيها هي تلك الحرب الظالمة التي قذفت بها النمسا الأحرار المجاهدين في المجر، أولئك البواسل الذين رغبوا في الاستقلال عنها وردوا جيشها وقد عصفت(716/27)
العواصف بأنحاء الإمبراطورية حتى استعانت بالجيش الروسي فجاء لمعونتها خمسون ومائتي ألف من هذا الجيش، وكانت روسيا تريد أن تطفئ نار الثورة في المجر حتى لا تمتد إلى بولندة وكانت تحت حكمها فتخلع عنها نير الاحتلال؛ ومن عجب أن يتجه تولستوي إلى التطوع في حرب ظالمة كهذه الحرب وهو الذي سوف يكون في غده من أكبر الساخطين على العدوان وعلى الحرب أيا كانت بواعثها. . .
وكان لزاماً على من يتطوع أن يقضي سنتين في صحبة الجيش العامل قبل أن يسمح له بحمل السلاح والقتال، ولكن تولستوي كان يطمع أن يتخذ مكانه في الصفوف قبل انتهاء هذه المدة بما عسى أن يبدي من مهارة وقوة، وإن خياله ليس له كل شيء فما إن يفكر في أمر حتى يحسبه حقيقة واقعة، وإنه ليحدث نفسه بأن عمله في الجيش سوف يكسبه خبرة بالحياة والناس، وسوف يخلق منه شخصاً جديداً، إذ إنه بهذا العمل ينجو مما يغريه به الفراغ والشباب من عبث ولهو. . .
ولكنه لا يلبث إلا قليلاً حتى يكتب لأخيه يقول له: (أثبت في كتابي الأخير إليك كثيراً من اللغو، وكان أبرزه ما أشرت إليه من رغبة في التحاقي بفرقة الفرسان، وسوف لا أفعل ذلك إلا إذا فشلت في امتحاناتي أو إذا كانت الحرب ذات خطر).
وجاء الربيع يبعث البهجة والحياة في كل حي، وطافت بخيال الفتى مجاليه في أسحاره وآصاله، هناك في ضيعته المحبوبة ياسنايا بوليانا، فسرعان ما أنطلق من جامعة بطرسبرج كما انطلق قبل من جامعة قازان، وسرعان ما أبعد عن فكره وخياله العمل في الجيش وفي الوظائف المدنية جميعاً، ثم أقبل على ياسنايا، وليس في نفسه هذه المرة من عزم إلا تعلم الموسيقى!
(يتبع)
الخفيف(716/28)
النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
2 - نشوء النطق في الإنسان
التفاهم بالأصوات:
وفي الوقت نفسه استعان أفراد النوع الإنساني على التفاهم بالأصوات - فوق لغة الإشارات المتقدم بيانها - وقد بدءوا بالأصوات الطبيعية للتعبير عن الانفعالات النفسية أو الآلام الجسمانية والحاجات الحيوية كالتنهد والتأوه والأنين والتأفف وغير ذلك كما تفعل الأطفال والحيوانات. وما نزال نرى لغات بعض القبائل المتوحشة التي تعيش في أواسط أوستراليا وفي أواسط أمريكا الجنوبية في هذا الطور من تطورات لغة البشر إلى الآن، فإنهم نظراً لقلة مواد لغاتهم البسيطة يضطرون للتعبير عن أغراضهم إلى الإكثار من استعمال الإشارات. فإذا تكلموا صوتوا وأشاروا بأيديهم وأرجلهم وأعينهم، والإشارات جزء من لغتهم لا يمكنهم الاستغناء عنه فهم لا يستطيعون التفاهم ليلاً. وألفاظ لغتهم أقرب إلى الأصوات الطبيعية ولغات القرود العليا منها إلى ألفاظ سائر لغات البشر وهناك قبائل أخرى بأوستراليا لا تسعفهم لغتهم في التعبير عما وراء الاثنين بلفظ واحد إذ ليس لديهم من الألفاظ العددية إلا لفظتان فقط هما (نتات) أي واحد، و (نايس) أي اثنين. فإذا أرادوا ثلاثة أضافوهما إلى بعضهما وقالوا: (نايس نتات) أو أربعة (نايس نايس) أو خمسة (نايس نايس نتات) أو ستة (نايس نايس نايس). أما السبعة فما فوقها فيقفون عندها حيارى وهم يعبرون عنها بقولهم ما معناه (كثير).
ثم بارتقاء الناس عقلياً ومدنياً وتقدمهم في الحياة الاجتماعية مع قيام حاجات جديدة لهم؛ كل هذا جعلهم يتصرفون في ألفاظهم الأولى ويتوسعون وينوعونها ويفرعون ألفاظاً أخرى فيها إما بتقليد أصوات الطبيعة وانفعالات النفس وإما بالرمز إلى المعاني بألفاظ كانت تدل في بادئ الأمر على الماديات، كما يفعل الأطفال إلى الآن. فأول لفظة يتفوه بها الطفل الرضيع عندما يبدأ في النطق هي (أم) أو (ما) يقصد بها الرضاع، وهو في هذا يعبر تعبيراً طبيعياً عن ذلك المعنى لأنه إنما يقلد الحركة الآلية الفسيولوجية المحض التي يقوم بها لأطباق(716/29)
بشفتيه على ثدي أمه وهو حين يفعل ذلك كأنه يلفظ حرف الميم الذي لا يمكن النطق به إلا بإطباق الشفتين على بعضهما. ثم يتقدم الطفل في السن والنطق قليلاً فيتوسع في ذلك اللفظ الطبيعي إلى (مم) يطلقها على الرضاع أولاً ثم على جميع أنواع الأغذية، وعلى والدته نفسها ويفرع منها (ماما).
وهذا عين ما حدث للإنسانية نفسها في أول عهدها بالنطق ولذلك نجد أن جميع شعوب العالم تعبر عن الأم (أي الوالدة) بألفاظ متشابهة في جميع اللغات تشترك في حرف الميم سالف الذكر.
وكانت اللفظة الواحدة في اللغات الأولى القديمة وفي اللغات المتأخرة الحديثة تدل على الاسم والفعل على اختلاف أزمته (الماضي والمضارع والأمر)، ولم تكن الضمائر وحروف الجر والنسبة والإضافة وغيرها قد ظهرت بعد. فكان الناس - وما زالوا في كثير من اللغات البسيطة إلى الآن - ينوعون معاني اللفظة الواحدة بإضافة لفظة أخرى إليها. فالصينيون مثلاً لخلو لغتهم من حرف الجر (في) يستعيضون عنه بلفظة (وسط) فيقولون (وسط مملكة) أي (في المملكة) ولأنهم لا يعرفون حرف الباء السببية يستعملون بدلها كلمة كاملة مستقلة. فعندما يريدون التعبير مثلاً عن معنى (قتل رجلاً بالعصا) يقولون (قتل رجلاً واستعمل عصا).
وتتقدم لغات البشر خطوة أخرى باستعمال الألفاظ الدالة على المحسوسات والأجسام المادية للتعبير عن المعاني الرمزية والمعنوية فلا تشمل كثير من اللغات البسيطة القديمة والحديثة عل كلمة تدل على معنى الصلابة، ولهذا يستعمل المتكلمون بها لفظة (حجر) للتعبير عن ذلك المعنى كما فعل الناس في لغة إشاراتهم وكما يفعل الخرس الآن. ولا تشمل لغات أخرى على لفظة تؤدي معنى الطول فيعبرون عنه بلفظة (ساق)، وعن لفظة مستدير بقولهم (مثل القمر). ويستعمل العرب أحياناً لفظة (قلب) المادية للتعبير عن (وسط) فيقولون (قلب المدينة) بدلاً من (وسط المدينة) وذلك لأن القلب في وسط الجسم. ولفظة وسط نفسها تحولت في لغتنا العصرية من المعنى المادي ونعني به وسط الأجسام إلى معنى معنوي محض أي وسط غير الماديات وصارت تستعمل بمعنى بيئة.
وقد استطاع علماء نشوء اللغات وتطورها واشتقاقها أن يردوا معظم الألفاظ المستعملة الآن(716/30)
في اللغات الحديثة إلى أصول بسيطة تحاكي أصواتاً طبيعية أو انفعالات نفسية أو آلاماً جسمانية أو تقلد فعلاً مادياً مألوفاً، ويطول بنا المقام لو أردنا استيعاب ذلك فنكتفي ببعض أمثلة عن أصول الألفاظ العربية نقتبسها من كتاب جورجي زيدان الذين نحن بصدده. فمن ذلك ألفاظ: قط وقطب وقطف وقطع وقطم وقطش وقطل، فإنها جميعها تتضمن معنى القطع والأصل المشترك بينها هو لفظة قط وهو حكاية صوت القطع كما لا يخفى - وباللغة الإنجليزية أيضاً (كت) - وبتطور اللغة وارتقاء المتكلمين بها في المدنية تنوعت مدلولاتها بإضافة لفظة ثانية إلى لفظة قط للتعبير عن مختلف معاني القطع وعلى ممر الزمن ضمرت اللفظة الثانية كما تضمر أعضاء الحيوانات والنباتات، وكادت تندثر ولم يبق منها الآن إلا حرف واحد اندمج في لفظة قط وصار وإياها كلمة واحدة بالطرق المقرر في علوم فقه اللغات.
ومن متنوعات (قط) لفظاً (قص) ومنها قصم وقصل وقصب وقصر وقصف وقص، وجميعها تفيد القطع وتحاكي بعض أصوات تنوعاته القطع بالمقص. ومن تحولات قص لفظة كس وهي محاكاة صوت الكسر ولا سيما كسر الخشب - وبالفرنسية أي كسر - ومنها كس وكسر وكسع وكسم. وتحولت (قص) لفظاً من ناحية أخر إلى (جز) ومنها جذه وجذب (بمعنى انقطع فيقال جذب الريق أي انقطع) وجذف وجذم وجميعها تتضمن معنى القطع أو تنوعاته ويجانس جذ جز وهو محاكاة صوت الشعر وتنوعت من جز وجزء وجزع وجزل وجزم. وإن تنوع معنى القطع يفوق المئات عدا فضلاً عن اشتقاقات كل لفظة منها اسماً وفعلاً ونعتاً وفاعلاً ومفعولاً ثلاثياً ورباعياً وخماسياً وغير ذلك مما تطورت إليه اللغة وتحولت من أصولها البسيطة الأولية. وكانت تدل في أول استعمالها على معانٍ حقيقية حسية ثم أطلقوها على معانٍ مجازة وكلها ترجع إلى أصل واحد وهو محاكاة صوت طبيعي وهو صوت القطع.
وهكذا الحالب بالنسبة لمعظم ألفاظ اللغة. فمن (هب) بمعنى ثار أو هاج فرع هب وهيج (أي ضرب ضرباً شديداً)، وهبذ أي أسرع في المشي وهبش بمعنى هيج المتقدمة، وهبص الرجل أي نشط أو عجل، وهبا الفرس أي فر. وهي جميعها تتضمن معنى (هب) وهي محاكاة صوت اللهيب إذا نفخه الإنسان أو نفخه الريح. ومن الألفاظ التي تدل على السرور(716/31)
وطلاقة الوجه: بسب وبساء وبسم وبسط وبسل وبش أي حسنت سحنته وجميعها ترجع إلى معنى واحد وهو (بس) التي يغلب أنها تحولت لفظاً عن بش وهي من الأصوات التي ينطق بها الإنسان غريزياً عند الاستحسان كقول العامة إذا استحسنوا شيئاً أو أعجبوا به (إش) ومنها بش. ووجه بشوش. ومن ضروب معاني الفتح فق وفقاء وفقح وفقر وفقص وفقس وفقش. والعامة تقول فقع. وترجع جميعها إلى (فق) وهي حكاية صوت القربة إذا شقت وهي ملائ أو ما شاكل ذلك من الأصوات القريبة.
وفي الأمثلة المتقدمة جاء الحرف المزيد - المشتق من كلمة إضافية قديمة - في آخر الكلمة الأولى وهذا هو الأغلب ولكن قد يكون في الوسط أي بين الحرفين الأصليين كشلق من شق، وفرق من فق، وقرط من قط، وقرص من قص وقرض من قض، وشرق من شق، ولحس ولعس ولهس من لس.
وألفاظ أخرى كثيرة مشتقة في الأصل من أصوات طبيعية تعبر عن انفعالات نفسية أو حالات جسمانية فسيولوجية يخرجها الإنسان أو الحيوان باختياره أو عن غير قصد مثل (آه) للتألم والتنهد. ولا يخفي أن الآلام وسائر انفعالات النفس تحدث اضطراباً في التنفس عن طريق الجهاز العصبي فيضطر الحزين أو المغموم أو المهموم أن يستنشق من فترة إلى أخرى كمية زائدة من الهواء ليعوض ما فاته من التنفس الناقص أثناء اضطرابه أو حزنه. وهذا هو التنهد بعينه: وقد اشتقت من لفظة (آه) ألفاظ كثيرة منها التأوه وتأوه ومنها لفظة (تنهد) نفسها. ومن ذلك الهمهمة وهي الصوت الحاصل من الزفير عن الحزن ومنها الهم والمهموم الخ. والزفير أي إخراج النفس بشدة عند عمل شاق والشخير وهو محاكاة النائم وهو يغط. والنحنحة والعطاس والسعال. ومن ذلك لفظة (وي) وقد تركب منها ومن اللام لفظة وبل ويعبرون بها على التفجع أو حلول الشر واستعملوها اسماً لوادٍ في جهنم، وشقوا منها ويله بمعنى فضيحة وركبوا من ويل ألفاظ أخرى منها ويح، ومنها ويب وربما كان أصلها (وي أب) للاستغاثة بالأب ولفظة (ويخ) ربما كان أصلها (وي أخ) للاستغاثة بالأخ. وكذلك الألفاظ العديدة المشتقة من كلمة أف ومنها الأنف والتأفف والمنفخ وغيرها.
ويؤيد أن اللغة العربية نشأت هكذا إننا نجد تلك الألفاظ الأصلية في أخواتها العبرية والحميرية والآشورية والحبشية والكلدانية والمصرية القديمة وجميعها مشتقة من أصل أو(716/32)
أصول قديمة اكتشفت آثار بعضها ولا يزال بعضها الآخر مجهولاً. وهي مجموعة اللغات المسماة باللغات الشرقية أو السامية. ويمكننا أن نتبين هنا أصل نشوء وتنوع وتطور الأسماء والأفعال على تباين صورها والحروف المختلفة كحرف الجر والنفي والإضافة والإشارة وكذلك الضمائر، ويمكننا أن نتتبع كيفية تحول جميع هذه الألفاظ وتسلسلها من اللغات السامية القديمة إلى اللغة العربية وأخواتها السامية الحديثة كالعبرية وغيرها. ولكن المقام لا يتسع لذلك فنكتفي بمثل أو مثلين:
فالظرف (مع) في لغتنا العربية يقابله في العبرية (عم)، وفي السريانية (عم) فلا شك في أن (مع) العربية مقلوبة عن (عم) العبرية والسريانية. ومن الغريب أن هذه اللفظة نفسها تفيد أيضاً في هاتين اللغتين - فوق معنى الظرفية - معنى (شعب) ومعنى (العم الشرعي). فيستدل من ذلك أن الأصل فيها معنى الاجتماع والاتحاد فاستعملوها اسماً للعم الشرعي وانتقلت للعربية كما هي، واستعملوها أداة عطف وانتقلت إلى العربية مقلوبة - أو أنها قلبت في الطريق.
ولفظة (ليس) النافية في اللغة العربية أصلها (لا) حرف النفي و (أيس) التي معناها في العبرية الكون أو الوجود ولم تنتقل هذه الكلمة إلى العربية أو إنها انتقلت ولم تلبث حتى اندثرت لعدم استعمالها. فلفظة ليس المستعملة الآن في العربية معناها نفي الوجود و (أيس) هذه بمعناها المذكور موجودة في كثير من اللغات السامية وغير السامية. فهي في العبرية القديمة (يش)، وفي السريانية (إيت)، وفي اللاتينية والسنسكريتية والفارسية واليونانية وفروعهن (إيست أي الكون أو الوجود، وفي الفرنسية القديمة المتسلسلة من اللاتينية كما لا يخفي (إيست أيضاً ومنها تحولت في الفرنسية من اللاتنية كما لا يخفي (إيست أيضاً ومنها تحولت في الفرنسية الحديثة إلى فعل الذي أصله في الفرنسية القديمة الذي يفيد معنى الوجود أو الكينونة وإن عبارة أصلها ومعلوم أن حركة (8) المسماة المستجدة في الفرنسية الحديثة حلت محل حرف في الفرنسية القديمة وعلى هذا النحو تحولت لفظة بمعنى فندق إلى
وكلمة (مال) العربية التي يعتقد جمهور الناس إنها لفظة ثابتة قائمة بنفسها إنما هي مركبة في الواقع من (ما) الموصولة ولام الإضافة كقولهم ما للرجل وما عليه أي الذي له والذي(716/33)
عليه، وقد اندمج هذان الحرفان على مر الزمن وأصبحا كلمة واحدة مستقلة بمعنى المال. واشتقت منها ألفاظ عديدة منها مول واشتقاقاتها فعلاً واسعاً وفاعلاً ومفعولاً، ومنها ملك وملكية ومملوك وفعل ملك وامتلك الخ ومنها ملك وجمعها ملوك. ولا يبعد أن يكون مال يميل مأخوذ عن تلك اللفظة لأن الميل فيه معنى الحب والرغبة، والمال أحب شيء للإنسان.
وما يقال عن اللغة العربية وأخواتها وأجدادها السامية يقال عن اللغات الهندية الأوروبية والطورانية وجميع لغات العالم.
وخلاصة القول إن النطق ظاهرة طبيعية محضة بدأت على أبسط صورة في الحيوانات العليا التي تعيش جماعة مثل بعض الطيور وبعض أنواع ذوات الثدي وعلى الأخص القرود العليا (أما النمل فله طريقة صامتة للتفاهم والتعبير). وقد ارتقى النطق واتسع في الإنسان نتيجة العوامل الطبيعية المتقدم بيانها التي أدت تطور النوع الإنساني وتحوله إلى شكله الحالي. فالفرق بين الإنسان والحيوانات إنما هو فرق في الدرجة فقط - درجة التطور - وليس في طبيعة الأمور.
وقد نشأت اللغات - وهي ظاهرة اجتماعية طبيعية محض - من النطق بأصوات بسيطة لجأ إليها الإنسان الأول للتفاهم وكان يعبر بها عن الانفعالات النفسية أو الآلام الجسمانية أو الحاجات الحيوية، ويقلد بها الأصوات الطبيعية للأشياء والأفعال المختلفة أو أصوات الحيوانات والطيور أو عوامل الطبيعة. ثم تصرف فيها وتوسع بالنحت والاشتقاق والقياس والإضافة والإدماج وتحويل الألفاظ من معانيها المادية إلى المعاني الرمزية والمعنوية الخ طبقاً لحاجاتهم المستجدة مع تقدمه في المدنية وارتقاء الحياة الاجتماعية والعقلية. فصارت اللغات البسيطة الأولية تتطور هكذا تطوراً يختلف باختلاف البيئات والأقاليم فنشأت اللهجات المختلفة واستمرت هذه في التطور والتحول عن أمهاتها حتى أصبحت لغات جديدة مستقلة تولدت من كل واحد منها لغة أو لغات أخرى تسلسلت منها اللغات القديمة ثم الحديثة على نحو تطور الكائنات الحية النباتية والحيوانية (بما فيها الإنسان) وتسلسل الحديث منها من القديم طبقاً لنواميس التطور والتحول الطبيعية التي تشمل كل ما في الكون وعلى الأرض من الجمادات والكائنات الحية (وهي صورة من صور الجمادات(716/34)
ومظهر من مظاهرها) واللغات والشرائع والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية.
نصيف المنغبادي(716/35)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
895 - بين ملك وعالم
نفخ الطيب: قال الحجاري صاحب (المسهب في إخبار المغرب):
كنت كثيراً ما أستشكل هذه التسمية لما قال غير واحد أن (المسهب) إنما هو بفتح الهاء. والفقرة الثانية وهي المغرب تقتضي أن يكون بكسر الهاء. ولم يزل ذلك بتردد في خاطري إلى أن وقفت على سؤال في ذلك رفعه المعتمد بن عباد سلطان الأندلس إلى الفقيه الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن سليمان النحوي الشنتمري المشهور بالأعلم، ونص السؤال:
(سألك - أبقاك الله - الوزير الكاتب أبو عمرو بن غطمش - سلمه الله - عن (المسهب) وزعم أنك تقول بالفتح والكسر، والذي ذكره ابن قتيبة في أدب الكتاب والزبيدي في مختصر العين (أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر الكلام بالفتح خاصة) فبين لي - أبقاك الله تعالى - ما نعتقد فيه، وإلى أي كتاب تسند القولين لأقف على صحة من ذلك).
فأجابه: (وصل إلى - أدام تعالى توفيقك - هذا السؤال العزيز، ووقفت على ما تضمنه، والذي أحفظه وأعتقده أن (المسهب) بالفتح المكثر في غير صواب وأن المسهب، بالكسر البليغ المكثر في الصواب، إلا إني لا أسند ذلك إلى كتاب بعينه ولكني أذكره عن أبي علي البغدادي عن كتاب (البارع) أو غيره معلقاً في عدة نسخ من كتاب (البيان والتبيين) على بين في صدره لمكي بن سوادة:
حصر مسهب جريء جبان ... خير عي الرجال عي السكوت
والمعلقة: (تقول العرب أسهب الرجل فهو مسهب وأحصن فهو محصن وألفج فهو ملفج إذا أفتقر، قال الخليل: يقال: رجل مسهب ومسهب، قال أبو علي: أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر في غير صواب، وأسهب فهو مسهب بالكسر إذا أكثر وأصاب، قال أبو عبيدة: أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر من خرف وتلف ذهن، وقال أبو عبيد عن الأصمعي: أسهب الرجل فهو مسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا خرف وأهتر. . .) انتهت المعلقة. فرأى مملوكك - أيدك الله تعالى - واعتقاده أن المسهب بالفتح لا يوصف به الباليغ المحسن ولا المكثر المصيب، ألا ترى إلى قول الشاعر (حصر مسهب) أنه قرن في المسهب بالحصر(716/36)
وذمه بالصفتين، وجعل المسهب أحق بالعي من الساكت والحصر فقال: (خير عي الرجال عي السكوت) والدليل على أن (المسهب) بالكسر يقال للبليغ المكثر في الصواب أنهم يقولون للجواد من الخيل مسهب بالكسر خاصة لأنها بمعنى الإجادة والإحسان، وليس قول أبن قتيبة والزبيدي في المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب، لأن الإكثار من الكلام داخل في معنى الذم لأنه من الثرثرة والهذر، ألا تراهم قالوا: رجل مكثار كما قالوا: ثرثار ومهذار. فهذا ما عندي والله (تعالى) الموقف للصواب.
896 - أبو بكر، علي
وفيات الأعيان: كانت لأبي الفرج بن الجوزي في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يحكى عنه أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر، وعلي (رضى الله عنهما) فرضي الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاموا شخصاً سأله عند ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته. ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنية: هو أبو بكر لأن ابنته عائشة (رضى الله عنها) تحت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقالت الشيعة: هو علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لأن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تحته. وهذا من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإنعام النظر كان في غاية الحسن فضلاً عن البديهة.
897 - وخير منه عندي
في (بدائع البدائه) لعلي بن ظافر الأزدي:
أخبرني القاضي السعيد (أبن سناء الملك) قال: أخبرني الشريف الجليل الوافد من العراق على الدولة المصرية قال: اجتمعت في بعض الأيام بأمين الدولة أبي الحسن هبة الله بن صاعد المعروف بابن التلميذ فأخذنا في ذم الدهر وإخنائه على أهل الفضل وإذا بكلاب الصيد التي برسم الخليفة قد أبرزت في جلال الوشى والديباج فحرك ذلك ما كنا نتجاذب أهدابه في الدهر فقلت: من كان يكسو الكلاب وشيا ثم يقنع لي بجلدي واستجزته فقال:
الكلب خير عنده ... مني، وخير منه عندي. . .
898 - خفيف على القلب. . .(716/37)
الكنايات للثعالبي: حدثني أبو جعفر محمد بن موسى الموسى قال دخلت يوماً إلى الشيخ أبي نصر بن أربد ببخاري وعنده علوي مبرم قد تأذى بطول جلوسه وكثرة كلامه، فلما نهض قال لي نصر: أبن عمك هذا خفيف على القلب، فقلت: نعم مساعداً له على رأيه. فتبسم ضاحكاً من قولي، وقال لي: لم تفطن للغرض، فما زلت أفكر حتى وقع لي أنه أراد خفيفاً مقلوباً وهو الثقيل، وهذا المعنى أراد أبو سعد دوست بقوله:
وأثقل من قد زارني وكأنما ... تقلب في أجفان عيني وفي قلبي
فقلت له لما برمت بقربه ... أراك على قلبي خفيفاً على القلب
وكان الناصر العلوي الأطروش إذا كله إنسان فلم يسمعه قال له: يا هذا، أرفع صوتك، فإن بأذني بعض ما بروحك، يكنى عن الثقل.
899 - أيشربن من هذا الشراب؟
الحيوان للجاحظ: حدثنا ربعي الأنصاري أن عجوزاً من الأعراب جلست في طريق مكة إلى فتيان يشربون نبيذاً لهم، فسقوها قدحاً فطابت نفسها وتبسمت، ثم سقوها قدحاً آخر فاحمر وجهها وضحكت، فسقوها قدحاً ثالثاً فقالت: خبروني عن نسائكم بالعراق أيشربن من هذا الشراب؟
فقالوا: نعم.
فقالت: زنين ورب الكعبة. . .
900 - يأتم يأبى فروخ. .
الحيوان للجاحظ: قال بعض ظرفاء الكوفيين:
فإن يشرب أبو فروخ أشرب ... وإن كانت معتقة عقارا
وإن يأكل أبو فروخ آكل ... وإن كانت خنانيصاً صغاراً
901 - ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك؟
نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: قال أبو العلاء المعري:
يا ليت شعري وما ليت بنافعة ... ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك
كم خاض في أثرك الأقوام واختلفوا=قدماً فما أوضحوا حقاً ولا تركوا(716/38)
شمس تغيب ويقفو إثرها قمر ... ونور صبح يوافى بعده حلك
طحنت طحن الرحى من قبلنا أمماً ... شتى ولم يدر خلق أية سلكوا
وقال: إنك طبع خامس نفر ... عمري لقد زعموا بطلاً وقد أفكوا
راموا سرائر للرحمن حجبها ... ما نالهن نبي لا ولا ملك(716/39)
زرقاء العيون
للأديب عبد العظيم عمر زين الدين
حينما ترحل النجوم عن الكو ... ن إلى عالم من الخلد زاخر
حينما تختفي الرؤى سابحات ... وتجوز الأحلام وادي الخواطر
حينما يحمل النسيم من المش ... رق بشرى السنا إلى كل ساهر
تجديني يا فتنتي أتملى ... نور دنياك في بشاش طائر
حينما ينضج الندى وجنة الور ... د فتهتز للشروق النواظر
حينما يبسم الضياء على الأف ... ق ابتسام الآمال في قلب حائر
حينما تبعث النسائم بالمو ... ج فينساب في افتتان المغامر
تجديني أطوي الطريق لوادي ... ك وظلي على البحيرة سائر
حينما تنفض العذارى من الج ... ن غلالاتهن من كل ساتر
يتمطين فوق أرجوحة المو ... ج ويرقصن في عيون الأزاهر
حينما تسرح الفراشات عطشى ... لرحيق على الشفاه النواضر
تجديني أدق بابك في رف ... ق وقلبي للحسن حي المشاعر
تجديني بباب كوخك نشوا ... ن، أحييك في الضياء الحبيب
فرحتي باللقاء تطلق روحي ... تتهادى مع النسيم الرطيب
لتزيح الستار عن خدرك الحا ... لم بالسحر، بالرؤى، بالغروب
وأتملى الضياء من صدرك الخا ... فق بالحب، بالحنان العجيب
يا صبا العمر، ذاك مغناك نادى ... والحبيب المشوق، هيا أجيبي
وخذيني من قفرة الوجد والشو ... ق إلى ساحل الهوى، واعبري بي
أنا أهوى الجمال منك رحيقاً ... ينبت الحب في الفؤاد الجديب
وحياة تفيض فيها معان ... كل يوم جديدة في القلوب
أنا عندي كل الذي تتشه_ين فهاتي، كما وعدت نصيبي
في عيوني نجوى يصوبها الشو ... ق لعينيك، في حنان غريب
وبقلبي من أسطر الحب قرآن ... طهور ترتيله في وجيبي(716/40)
وحواليك هالة من حناني ... لتراعيك دائماً من قريب
عجب ما أرى بعينيك من عم ... ق، ومن فتنة، ومن أضواء
وغريب هذا الشعاع الذي يج ... ذب روحي للجه المتنائي
والنداء القهار يسلبني رش ... دي، فويلاه من فتون النداء!
أترى فيه لو تبعت خلودي ... أم أرى مصرعي وألقي فنائي
حدقي بي يافتنتي، ودعيني ... في خيالي وسرحتي وانتشائي
واجعليني أنسى كياني، وعمري، ... ونعيمي، وبهجتي، وشقائي
وأرى الدهر والمكان بعيني ... ك وسحر الرؤى، ونور السماء
أطلقيني في ظل جفنيك أحيا ... عبقري الصبا، جديد الرواء
حدقي بي يا جنتي يا حميمي ... يا دوائي من غلتي وشقائي
وأزيحي الخصلات عن خدك النا ... عم حتى أرتاد دنيا الضياء
سكن الكون حولنا وأصاخ الس ... مع ما حولنا من الأحياء
والغدير الرجراج كف عن الس ... ير، ومال الصفصاف للأصغاء
أسندي رأسك البديع إلى صد ... ري وكوني رفيقتي في هيامي
وصلي من طريق عينيك روحي ... نا، وطوفي بصدري المترامي
واجعليني أحس أنى قد نل ... ت نصيبي الموعود من أيامي
وأغمري وجنتي من أفق عيني ... ك بنور من الرضا والسلام
أنا راو، أتيت واديك وحدي ... من وراء الأزمان والأيام
من بلاد لم يعرف الحب أهلو ... ها فعاشوا في وحشة وظلام
قضوا العمر في قيود من الجس ... م وأفنوه في انتظار الحمام
وذوي القلب بينهم من ظماء ... وقضى دون دمعة أو سلام
إن قومي قد شيعوني كميت ... قربوه في معبد الآثام
قيل: ذو جنة يعيش على الح ... لم، ويحيا في عالم الأوهام
وفتى راح في الخيال بعيداً ... وفقدناه في خضم الزحام
آه. . . يا ليتهم يرون مسرا ... ت المعنى، وفرحة المستهام(716/41)
خبريني، ما قصة العين والجف ... ن؟ إذا أنشدا حديث الغرام
وعظات الكهان في معبد الحب ... وأسطورة الهوى في الأنام
أنت أهلي، وشيعتي وقبيلي ... وبواديك موطني ومقامي
ومنامي على هواك وصحوي ... وابتدائي في ظله وختامي
نبئيني يا زهرتي - أي ربع ... كان مهداً لزهرتي - أي وادي؟
أي دوح أظل عودك ريا ... ن، ونبع سقى صباك الهادي؟
أي أفق بزغت فيه ضياء ... كان صحواً ويقظة في البوادي؟
أي فذ أخذت عنه أناشي ... دك حتى قدست في الإنشاد؟
علم الله أن هذي مغاني_ك بعينيك في جلاء بوادي
والعهود البيضاء من عمرك الزا ... هي أمامي من ليلة الميلاد
وأراها على شواطئ نبع ... أزرق اليم، صافي الإزباد
تتهادين كالنسيم وكالح ... لم، وكاللحن في جمال التهادي
كالفراش النشوان من بهجة النو ... ر، طليق على المروج. وغادي
خطرات الأقدام منك على الشط ... كوقع الندى على الأعواد
يلثم الزهر طرف ثوبك حباً ... ويناجيك في جوي العباد
وتحليك هذه الشمس إعجاباً ... بتاج من السنا المياد
يا فتاتي هذي مغاني مرآتك ... تبدو في مقلتيك نديه
ذلك العالم المليء بأرواح ... عذاري وأنفس سحريه
لفها الطهر في غلالات حس ... وبراها خلاقها عذرية
أنت فيها لحن بديع سماوي ... المعاني، مخلد العبقرية
فإليها حيث التلاقي خلود ... ومسراتنا بها أبديه
وخذيني على جناحك مشتا ... قاً وعودي للسحر - يا جنيه
سوف نحيا بها سوياً كأنا ... نرجسات غيسانة بربه
ولنا الحب والجمال معان ... ساميات في روحنا علويه
عبد العظيم عمر زين الدين(716/42)
كلية الآداب - إسكندرية(716/43)
الأدب والفن في أسبوع
رجالنا المنسيون:
كتب أديب فاضل في جريدة (الأهرام) مقالاً عن المغفور له حفني ناصف بك بمناسبة ذكرى وفاته، وقد اقترح على الحكومة أن تهتم بإنشاء مدفن فخم تضم فيه رفات أولئك العبقريين تخليداً لذكرهم واعترافاً بفضلهم وتذكيراً للأبناء بما أسدوا وأجدوا في خدمة أوطانهم.
وليس هذا الاقتراح بالجديد، فقد ردده كثيرون من قبل، على أن الرجاء في تحقيقه ضئيل بل معدوم، لأننا أمة نعيش على مبدأ (مات الميت فليحيى الحي) وليس من شيمتنا تقدير الفضل لذاته، ولا الاعتراف بالجميل لأصحابه حتى ولو كان أصحاب هذا الجميل هم أبناؤنا وأساتذتنا وأعز الناس على نفوسنا. ولهذا طوى كثير من رجالنا الكبار في مطاوي النسيان، وأصبحوا - بعد أن ملأوا الدنيا بأعمالهم - في خبر كان. . .
حنفي ناصف ومحمد سلطان ومحمد المهدي ومحمد الخضري وعبد الوهاب النجار وعبد العزيز جاويش وغيرهم من الطلائع الذين تخرجوا في دار العلوم لا يعلم عنهم أبناء دار العلم شيئاً، ولا يحسون أثراً من فضلهم وعلمهم، ولا يقفون على شيء من ذكرهم وخبرهم!
ومحمد عبده وأبو خطوة والمرصفي والعباسي وعلي يوسف، وعشرات من إخوانهم الذين تخرجوا في الأزهر لا يعرف عنهم أبناء الأزهر شيئاً ولا يحسون أثراً من فضلهم وعلمهم ولا يقفون على شيء من ذكرهم وخبرهم!!
وأمين الرافعي وسيد كامل ومحمد مسعود وعبد القادر حمزة وتوفيق فرغلي، وعشرات الصحفيين من إخوانهم لا يعلم عنهم أبناء الصحافة اليوم شيئاً ولا يحسون أثراً من فضلهم وعلمهم، وللصحفيين ناد يجتمعون فيه ولكنك مع الأسف لا تجد فيه صورة واحدة من صور أولئك الصحفيين الذين أيقظوا وجدان الأمة وبثوا كيان الشعب.
ومن منا يذكر أحمد زكي تيمور وتوفيق العدل والنجاري والفلكي وسواهم من الأعلام الأفذاذ عليهم رضوان الله أجمعين.
وآسفاه! كأننا جيل خلق بدون آباه وتربى من غير أساتذة فلا تقل يا سيدي مقبرة للأدباء، ولكن قل لعل الأبناء أن يذكروا الآباء.(716/44)
تأثير الأندلس في أوربا وأمريكا:
بمناسبة المحاضرات التي ألقاها أخيراً المستشرق الفرنسي ليبقى بروفنسيال بجامعة فاروق الأول عن الشعر العربي في الأندلس أذكر أن الشاعر الأسباني (فرنسيسكو فيجاسباتسا) ألقي محاضرة منذ عشرين عاماً في مدينة (بيونس أيرس) أشاد فيها بأخلاق الشعب العربي في الأندلس وأطري سجاياه النبيلة وما فطر عليه في الفصاحة والسليقة الشعرية ثم قال (وإن هذه السليقة الشعرية لتكاد تكون ملموسة بنغماتها فيه ومعانيها في الشعر الشعبي الذي تعبر به الأمة الأسبانية عن مشاعرها الحقيقة، وقد انتقلت هذه الروح العربية من إسبانيا إلى أمريكا اللاتينية بواسطة هذا الشعر الشعبي الذي حمله إليها الأسبانيون ولا سيما المهاجرون من الأندلس الذين كانوا في طليعة المستعمرين لأمريكا الجنوبية!!
هذا ما شهد به مفكر كبير من أبناء إسبانيا، ولست أدري رأى المستشرق بروفنسيال في هذه الحقيقة، ولعله يكون قد عرض لها في حديثه عن تأثير الشعر الأندلسي في أوروبا.
التأثير الديني:
لاحظ القائمون بأمر المسرح الشعبي في وزارة الشئون الاجتماعية أن الناحية الدينية هي أقوى مؤثر على عواطف الجماهير واجتذاب مشاعرهم، ولهذا يفكر المشرفون على هذا المسرح في استغلال هذه الناحية على أوسع مدى فيما يقدمون إلى أبناء الريف من المشاهد والتمثيليات.
وهذا في الواقع أمر مفهوم، فإن الشعب المصري شعب متدين بالفطرة، وهو أقدم شعوب الأرض اتجاهاً إلى الله، ولا يزال للنغم الديني في الشرق عامة سحره ولذته، وإن من الواجب أن تقوم دعاياتنا الاجتماعية على ما يتجاوب مع عواطف الشعب وينسجم مع روحه ومشاعره، ولا يمكن أن تفيد تلك الدعاية وتؤتى ثمرها إذا جرينا فيها على التقليد للغرب واقتباس العواطف الغريبة عنا، وما دامت وزارة الشئون الاجتماعية قد لمست هذا بالتجربة فلعلها تتجه ذلك الاتجاه، بأن تتبين نفسية البيئات الشعبية وتتلمس الأوتار الحساسة في عواطف الجماهير وميولهم فتضرب عليها وتأخذهم إلى الإصلاح من طريقها.
تمثال للأمير شكيب:(716/45)
قررت الجالية اللبنانية في الولايات الأمريكية إقامة تمثال لفقيد العروبة الأمير شكيب أرسلان اعترافاً بفضله على العرب والأدب وتقديراً لخدماته الجليلة للأمم العربية في حياته، ووفاء لذلك الرجل العظيم الذي عاش غريباً مشرداً ينادي بالحرية والاستقلال لسائر الأقطار العربية.
وهذا واجب تؤديه الجالية اللبنانية في مطارح الغربة، ولكن يبقى على أبناء العروبة في المواطن الأصيل أن يجعلوا للفقيد تذكاراً حيث نشأ وحيث جاهد وناضل ليذكر الأبناء ويشحذ من عزيمة الأحفاد؟!
نشيد عالمي للشباب:
يعقد الاتحاد العالمي للشباب الديمقراطي مهرجاناً عالمياً في مدينة براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا يستمر من 20 يوليو القادم إلى 17 أغسطس، وسترجى في هذا المهرجان مسابقة عالمية لاختيار نشيد للشباب الديمقراطي العالمي، على أن يكتب النشيد بأية لغة ثم يترجم عند تقديمه إلى الإنكليزية أو الفرنسية أو الروسية أو الإسبانية، ويشترط فيه أن يعبر عن أفكار الشباب الديمقراطي ورغباته في قيام تفاهم عالمي وسلم دائم يشمل جميع أبناء الأرض، وأن يصور مرح الشباب وحيويته وحماسته، وقد طلب الاتحاد مسابقات محلية لاختيار نشيد تتقدم به إلى المسابقة العامة التي ستجري في ذلك المهرجان العام.
وأنا لا أثق بمثل هذه المسابقات ولا أعتقد أنها تنتج نشيداً له سحره وحيويته وفيه من القوة وفيض الإيمان ما يضمن له الخلود والبقاء والاتصال بالقلوب، ذلك لأن الأناشيد لا تصنع ولا تقترح على الشعراء والأدباء، ولكنها تكون فيضاً من الإيمان والحماسة يتنزل على الشاعر في فترة من فترات التجلي كتنزل الوحي، وجميع الأناشيد التي تصنع وتقترح فإنها أشبه ما تكون بالأناشيد التي تصنع لتلاميذ المدارس.
وعلى أية حال فأي معنى سيؤثره الشباب في نشيده، أهو - كما يقول - الرغبة في قيام تفاهم عالمي وسلم دائم في جميع أنحاء العالم، وما قيمة هذه الرغبة وما جدواها بإزاء ذلك التناحر الذي يقوم بين السياسيين في مؤتمراتهم حول اقتسام النفوذ وفرض السلطان على الضعفاء؟!(716/46)
معرض الكتاب اللبناني:
يعتقد القائمون بنشر الكتب العربية في لبنان (أن الكتاب اللبناني في مصر مغمور ومحاط بالغموض، وأن ذلك يرجع إلى نقص في تنظيم النشر أكثر مما يعود إلى عدم إقبال القراء المصريين).
لهذا أقيم معرض للكتاب اللبناني في دار القنصلية اللبنانية وقد افتتحه وزير لبنان المفوض بعد ظهر يوم الجمعة الماضي بحضور كثيرين من رجال العلم والأدب والصحافة. وتقرر أن يظل هذا المعرض مفتوحاً عشرة أيام وذلك لإعطاء أبناء مصر صورة عن حركة النشر الثقافي في لبنان.
وقد علمت أن ناشري الكتب في بيروت قد اجتمعوا أخيراً وألفوا اتحاداً من بينهم يجمع شملهم ويوحد غايتهم وذلك بالدعاية (للكتاب اللبناني في الأقطار العربية والمهاجر المتصلة بها).
كما أذيع من بيروت أن أصحاب المطابع سيصدرون نشرة دورية باللغتين العربية والفرنسية تشتمل على أبناء الطباعة وأعمال النشر.
ومما يذكر بهذه المناسبة أن معرضاً للكتاب العربي الفلسطيني قد أقيم في يافا في الأسبوع الماضي وفي النية إقامة هذا المعرض في فرصة أخرى وذلك للدعاية للكتاب العربي فلسطين. . .
ونحن نرجو أن تقابل هذه الحركة في لبنان حركة مماثلة في مصر وفي سورية وفي سائر الأقطار العربية، وأن يكون هدف الجميع تنظيم أعمال النشر بما يضمن رواج الكتب العربية في سائر أنحاء العالم العربي، على أن يراعي هؤلاء الناشرون أنهم يؤدون خدمة ثقافية قومية أكثر مما يحترفونها مهنة تجارية.
كتاب عن المملكة العربية:
أصبحت البلاد العربية السعودية في الآونة الأخيرة مثاراً لاهتمام الباحثين الأمريكيين ومجالاً لعنايتهم في الكتاب والتأليف ولقد كان من مظاهر هذا الاهتمام أن ظهر أخيراً كتاب للكاتب الأمريكي المستر تويتشل باللغة الإنجليزية ألم فيه المؤلف بتاريخ تلك البلاد ثم(716/47)
تحدث عن وضعها الجغرافي والاقتصادي وموافق الاستغلال والانتفاع فيها، ثم قال إن هذه الصحراء العربية التي كانت مهداً للدين ستصبح مصدراً للثروة وستخرج أمة جديدة تتبوأ مكانتها في التجارة والرقى الاجتماعي.
وقد وقع المؤلف في بعض الأخطاء التاريخية وقرر بعض الأحكام التي لا تطابق الحقيقة في روح الإسلام واتجاهه، وعلى أن هذا ليس بالأمر المهم لأنه ديدن أولئك الأجانب عادة فيما يكتبون عن الإسلام وبلاد الإسلام فإنهم كثيراً ما يتردون في فرض الأحكام الخاطئة بحسن نية أو سوء نية، وإنما المهم الذي يسترعي الأنظار هو أن نلمس هذا الاهتمام المفاجئ عند الباحثين الأمريكيين بتاريخ البلاد العربية السعودية وطبيعة أرضها وسمائها وما فيها من موارد الثورة مصادر الانتفاع، فليس من شك في أنه ليس بالاهتمام الخالص لوجه البحث والعلم وكنه اهتمام بجاري السياسة الأمريكية في اهتمامها بمرافق تلك البلاد، ومن ثم يجب أن نقابل تلك التأليف التي تظهر في هذه الناحية بكثير من الحذر وتدقيق النظر.
(الجاحظ)
(الرسالة): بمناسبة ما كتبه (الجاحظ) عن رجالنا المنسيين من العلماء والأدباء والفنانين نقول إن الرسالة تحشد الجهد وتعد العدة لنشر سلسلة من التراجم المستفيضة لأولئك الأعلام والتعريف بآثارهم وآرائهم وستبدأ في نشرها قريباً، والرسالة لا تريد أن تستقل بهذا الجهد، وترجو من جميع الذين لديهم خبر في ذلك أن يعاونوها على أداء هذا الواجب.(716/48)
من هنا وهناك
ليس:
وجود هذا الفعل في اللغة العربية غريب جداً. غريب في صيغته، غريب في زمنه وغريب في مادته.
ولقد تنبه القدماء إلى صيغته فقالوا: إن أصله ليس بكسر الياء ولكن الياء سكنت استثقالاً، كما سكنت عين كل ما كان على هذا الوزن (قاعدة ذكرها المبرد في الكامل).
أما زمنه فقالوا أنه استعمل بلفظ الماضي للحال (وهذا غريب سنعلم وجهه).
وأما مادته فلم يعرفوا عنها شيئاً أو عرفوا عنها كل شيء فقد ألمعوا إلى أن أصلها لا أيس (وهي ملاحظة لها خطرها).
ويتصل بليس ليت فالمعروف في النحو أنها حرف تمن ولكن بعض العرب يجريها مجرى الفعل (كما في الصحاح).
والمهم أن ليت كليس إلا أنها تقدمت خطوة فاحتلت صيغة واضحة في الأفعال فقيل لات. والأخفش يقول إنهم شبهوها بليس وأضمروا فيها اسم الفاعل.
أما نحن فماذا نقول؟ نقول كما قال الأقدمون في ليس: إن أصلها لا أيس كما نقول في ليت أن أصلها لا أيت. لا معروفة وأيس أوأيت (ما هي).
أيس هذه الرابطة تدل على كون مطلق كأيت وهي في أكثر اللغات واحدة تقريباً خصوصاً اللغات القديمة. ففي العبرانية (يش) وفي السريانية (إيت) وفي الفارسية واللاتينية (أيس) أو (أست). في الفارسية أست وفي الفرنسية وفي الألمانية وفي الإسبانية وفي الإنجليزية وهكذا نجد أن ليت العربية ما هي إلا، لاوأيت السريانية وتركت مع لا كما تركت أيس مع لا.
أما ما يختص بزمن ليس فهو بالضبط ما تدل عليه المادة في اللغات المذكورة: فهو - كما قال الأقدمون - الحال بالرغم من أن صيغتها للماضي.
هذه الكلمة في أغلب اللغات اختصت بشخص معين عند الربط أما في العربية وفي الفارسية فلا. نقول في العربية: لست ولست الخ كما نقول في الفارسية. استم أو هتم وهتى وهست وهستيم وهستيد وهستند.(716/49)
ولكن في الفرنسية والأسبانية والألمانية والإنجليزية مثلاً ليس لها هذا التصرف المطلق كما هو معروف. فقد اختصت بأشخاص دون غيرهم واعتيض عنها في هذا الغير بروابط من أفعال مختلفة في مادتها كما سنبين ذلك فيما بعد.
إذاً فقد كانت في اللغة العربية رابطة للزمن الحالي ولكنها اندثرت ولم تبق منطوقاً بها إلا في النفي.
وهنا يسأل لماذا اندثرت في الإيجاب وبقيت ماثلة في النفي.
الجواب عن هذا في منتهى البساطة. فإن اللغة العربية لم تدون إلا في مرحلة متأخرة من نموها واستكمالها وإن هذه الرابطة استغنى عنها في التخاطب لأنها ليست بذات أهمية كبيرة فيه عند الإيجاب ولكنها لم يستغن عنها في التخاطب إذا كانت في النفي وهذا ما يحصل بالضبط الآن في هذه اللغات التي تحتفظ بهذه الرابطة في كتابتها عن الإيجاب فإنك إذا خاطبت أحد متكلميها وخصوصاً غير المثقف منهم فإنه يستغني عن الرابطة في الإيجاب ولكنه لا يستغني عنها في النفي.
وإذا اتضح ما قلنا في ليس فإن الأمر - عند القراء - في ليت ليس بهذا الوضوح فكيف صارت ليت تدل على التنمي في اللغة العربية؟
هذا سؤال نرجئ الإجابة عنه إلى المقال التالي.
وهنا سؤال أيضاً والإجابة عنه تزيد الموضوع وضوحاً ولا تترك فيه أي مجال للشك وهو:
إذا كان الأمر كما قلت في ليس وأنها مجرد لا + أيس التي للربط فيكيف صار خبرها منصوباً بعد أن كان مرفوعاً؟
والإجابة عنه نتركها حتى نجيب عن ليت بحول الله.
محمد بن ناويت التطواني
ليسانسيه في الآداب ودبلوم في اللغة الشرقية
فلسفة جديدة للألم:
نحن في عصر يحرص أبناؤه على فلسفة كل ظاهرة من ظواهره، وكل معنى من المعاني(716/50)
التي يحسونها في الحياة، فهم يحاولون أن يفهموا الأمور بالتحليل والتأويل، ولا يقنعهم في هذا إلا أن يصلوا إلى طريق غريب، أو ما يحسبونه هكذا. . .
أقول هذا بمناسبة ما جاء في البريد الأوربي أخيراً عن صدور كتاب في بريطانيا بعنوان (من سريري في المستشفى) ألفه كاتب أقعده المرض في أحد المستشفيات وسجل فيه خواطره ومشاعره نحو المرض والعلاج وما انتابه من الألم، وقد استهل الكاتب كتابه بقوله: (من أكبر الخطأ أن نحسب المستشفى مكاناً للألم والبؤس، فإن الكثرة الساحقة من الذين يدخلون المستشفيات يخرجون منها صحاح الأجسام، معافي الأبدان، تاركين وراءهم الأتراح والآلام، والهموم والأسقام).
وتحدث عن شعوره بالألم فقال (إن الألم في الواقع أخف كثيراً من رهبة الألم، وفي شبابي كان أقل ألم يصيبني يقفل عيني بحجاب كثيف من الظلمة التي تبعد قلبي عن الإيمان، مع أني لم أكن في ذلك الوقت أشكو أكثر من وجع ضرس، أو خدش ذراع، وإني اليوم - بعد أن عانيت كثيراً من الآلام المبرحة - لأنظر إلى أوجاعي القديمة بعين الازدراء وأدهش لجبني القديم في احتمال آثارها التافهة الصغيرة).
ثم يقول: إن الألم ليس شراً في ذاته، بل إنه تنبيه يشير إلى وجود الشر، ويمهد للطبيب استئصال النازلة من موطنها، لذلك أرى أن إسكات الألم والعمل على تسكينه فحسب أخطر على المرء من إزالة علامات السير من شارع مزدحم بالسابلة).
ثم يختم هذه الفلسفة بقوله: (إن المرض مادة في ميثاق الحياة، فبعض الناس يحيون بدون كتب أو نزهات أو موسيقى، والأسكيمو يعيشون على نصيب ضئيل من نور الشمس، وأهالي جزر الباسفيك لا يقدمون الثلج وليست لهم به حاجة، والرهبان والراهبات يحرمون أنفسهم كثيراً من الملذات، ولكن الجميع يصرون على استكمال حياتهم إذا شابها شيء من نقص، أو اعتراها أثر من مرض. . .).
الحدود الإنسانية:
هذا عنوان كتاب ألفه أحد العلماء في جامعة تكساس بأمريكا وجعل قوامه دعوة موجهة إلى رجال العلم والفكر أن يوجهوا اهتمامهم إلى دراسة الإنسان وأن يعنوا بإنشاء فرع من العلوم هدفه فهم الإنسان على حقيقته:(716/51)
ويقول هذا الباحث في كتابه إن الخطر الذي يهدد الإنسانية ليس خطراً خارجاً عنها، ولكنه كامن في أطوائها، فليس ثمة خطر من القنبلة الذرية وغير القنبلة الذرية وإنما الخطر كل الخطر مما يدور في داخل الإنسان ويتجه بتفكيره، ثم يقول إن المتاعب الناشئة الآن كلها نتيجة لعدم فهم الإنسان للإنسان، ولهذا يجب على العلماء أن يتجهوا إلى هذه الناحية وأن يوفروا علمهم على الناس وتعرف البواعث والانفعالات التي تحركهم على مسرح الحياة في جميع أدوار حياته، ومتى كان الإنسان مفهوماً في داخله استطعنا أن نتلافى الأخطار التي تهدد الإنسانية من الخارج. . .(716/52)
البريد الأدبي
نعت الاسم المجموع بفعل (جمع أفعل وفعلاء):
قرأت في العدد (712) من رسالتكم تعليقاً لحبر اللغويين في بلاد الشام الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشيبي على نعت الاسم المجموع بفعلاء وقد أجاز ذلك - حفظه الله - وأشار في أثناء التعليق إلى قول لي وقول للأستاذ الرافعي رحمه الله في النعت المذكور، وقدم محصول رأيه بقوله: (نعتوا الاسم المجموع بفعلاء وفعل وليس في كلام المبرد في الكامل ما يدل على منع النعت بالمفرد). وإني أرى في كلامه ما يدل على المنع، قال (فإن أردت نعتاً محضاً يتبع المنعوت قلت: مررت بثياب سود وبخيل دهم، وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه). أراد به النعت الغالب الذي دخل في الاسمية والنعت المحض، وكرر تقرير القاعدة في موضع آخر، فمنع نعت الجمع بفعلاء مستفاد من قوله: (وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه) مريداً (أفعل) الذي هو اسم و (أفعل) الذي هو نعت، ومن قوله (نعتاً محضاً يتبع المنعوت) مريداً (أفعل) الثاني، لأن التمثيل يغني عن التفصيل، ويجوز في هذا الفن تعليل حكمين بعلة واحدة، والإيمان من مسالك العلة. أعني أن في قول المبرد إيماء إلى وجوب جمع النعت المحض بعد المنعوت المجموع وإن كان ظاهر مراده تكسير الصفة دل على ذلك تمثيله بـ (ثياب سود)، ومفرد الثياب مذكر وبـ (خيل دهم) ولابد من تأنيث الخيل، فقد جمع بين المذكر والمؤنث في التمثيل، ولو لم يرد تلك النكتة النعتية لا تقصر على المثال الأول، ثم إن تركه الإتيان بمنعوت عاقل مجموع مثل (نساء دعج ورجال شوس) دليل على إن لا فرق بين العاقل وغيره في هذا النعت.
ويجب أيضاً طرد الحكم في هذه المسألة فيقال (يجب جمع الخبر بأفعل وفعلاء إذا كان المبتدأ جمعاً أو دالاً على الجمع مثل (ثيابهم سود وخيلهم دهم)، ويجب الجمع في الحال أيضاً، وعليه قول المتأخر:
بأنا نورد الرايات بيضاً ... ونصدرهن حمراً قد روينا
ولولا أن قوله - تعالى - (ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً) خاص بالعاقل لاستشهدت به، على أن نعت الاسم المجموع بفعل لغة القرآن الكريم كقوله تعالى (عليهم ثياب سندس خضر) (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) وسبع سنبلات(716/53)
خضر).
وكيفما كاد الأمر فإن القاعدة ثابتة باستقراء كلام الله تعالى وكلام العرب، وهو عندي أقوى الأدلة، أما الجملتان اللتان استدل بهما الأستاذ الكبير العالم على جواز نعت الاسم المجموع (لغير العاقل) بفعلاء وفعل فقد عراهما تحريف في النعت نفسه، فالأولى (وترى جراد البقول والرياحين وديدانها خضراء. . .) والأصل (خضراً) جمع خضراء، إلا أن الناسخ زاد بعد الألف همزة وغير صورتها، وحرف جمعها، والثانية (فنراها كلها سوداء) والأصل (سوداً) بالنصب والجمع ولكن الناسخ الماسخ فعل بها ما قد فعل بخضراً. وقد جرى كثير من هذا التصحيف في (فعل) المنكرة المنصوبة، دون المرفوعة والمجرورة، ومن ذلك ما ورد في رسم (لوب) من مختار الصحاح، ونصه: (اللوبة والنوبة بوزن الكوفة فيهما: الحرة الملبسة حجارة سوداء) والأصل - وهو الصواب - حجارة سوداً. ألا تراه قد قال في رسم (حر) من الكتاب نفسه (والحرة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار). وفي الصحاح من طبعة العجم (قال أبو عبيدة لوبة ونوبة للحرة وهي أرض ألبستها حجارة سود (كذا). فهذا القول على تحريف فيه جمع فيه النعت لما لم يكن إلى النصب المحرف إلى الأفراد سبيل، وفي نهاية المجد أبن الأثير (اللابة: الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها). وجاء في المغرب للمطرزي (اللابة واللوبة: الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود). وعلى ذلك جمهور اللغويين.
فالخطأ الذي انسرب في نسخة وزارة المعارف المصرية من مختار الصحاح إنما هو من آثار النساخ السيئة، وكذلك القول في الجملتين اللتين ذكرهما الأستاذ الكبير - على ما مرت إشارتنا إليه - فلا يصح الاستشهاد بهما، وما أظن سعادته إلا عادلة منذ اليوم عن الاحتجاج بهما، وهو المرء ينتجع الحق في ساحته ويستفاد العلم من قلمه وتستعذب مساجلته لمجده وسمو خلقه.
مصطفى جواد
في ديوان البحتري
في (الرسالة) رقم (714) عقب الأستاذ محمد النجار على بيتين للبحتري - صاحب الشعر(716/54)
العربي - كانا قد وردا في تعقيب للأستاذ أحمد شكري في (الرسالة) رقم (713). فقال إن في البيتين تحريفاً كما في الديوان، فمشمش صوابها مشمس - وهو ضرب من الخمر - كما ذكر الأستاذ، وجب صوابها صب.
قلت: الأستاذ الفاضل مصيب في هذا التصويب. هذا وللديوان طبعتان، إحداهما مصرية - حيا الله مصر وأهلها - والأخرى بيروتيه، وقد جاءت الكلمتان في طبعة بيروت بصوابهما لم تفقداه، إلا أن هناك تغييراً في صورة البيت:
إذا صُبَّ في الكأس مسودّه ... فكف النديم لها محبره
ففي طبعة بيروت ورد البيت هكذا:
إذا صُبَّ مسودّه في الزجاج ... فكأس النديم به محبره
ولعل هذه هي الصورة الصحيحة للبيت، فإن كأس النديم أولى بأن تشبه بالمحبرة من كفه.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوفان
رسالة الوعظ والإرشاد:
مساهمة لها أثرها الفعال في نفوس الجماهير؛ تلك التي يضطلع بها - كتب الوعظ والإرشاد في ذكرى مولد الحسين - فهو بعد عدته لمحاربة تلك العلل التي تهد كيان الأمة الروحي الاجتماعي عن طريق إذاعة المحاضرات بواسطة مكبرات الصوت. وليس في هذا من جديد يستحق النظر والتسجيل، إنما الجديد حقاً هو هذا الأسلوب الذي يصطنعونه في الطب لهذه الأدواء، فهو أسلوب جديد، جدير بالتشجيع لما له من التأثير الاجتماعي والخلقي في روح الأمة، لأنه يقوم على تناول أمراض البيئة وتصويرها في صور مؤثرة مخيفة، حتى إذا ثارت بواعث كراهيتها لتلك الأمراض، وبرزت دفائن احتقارها إياها، قدم لها العلاج الإسلامي في أبهى حلة، وساقها إياه شراباً طهوراً، فلو استطاع العلماء الذين ينهضون برسالة الوعظ في الأمة أن يدرسوا خصائص كل بيئة وعقليتها وأمراضها، ويحالوا علاج ما فيها على هذا الضوء. لكان لرسالتهم صداها القوي؛ في الإصلاح الاجتماعي والخلقي، وما أشد حاجة الريف خصوصاً إلى أمثال هذه الجهود التي تأخذ بيده(716/55)
في حياته الاجتماعية والخلقية المتعثرة، فليس هناك من يستطيع انتشاله من هوته غير رجال الدين إن صح عزمهم، وقوى نشاطهم، واتسعت ثقافتهم الاجتماعية والنفسية بجانب ثقافتهم الدينية، حتى يتهيأ لهم أن يسيروا في معالجتهم تحت ضوئها، وأن يهتدوا في تأدية رسالتهم بإرشادها، فتختفي هذه الظاهرة التي كانت تملأ النفوس خزياً عندما كان الخطيب يرتقي المنبر. ثم يحدث الجمع الريفي الجاهل الفقير عن مضار التصييف في المصايف الأوربية. وأمثال هذه الموضوعات التي لا صلة بينها وبين من يحاول إصلاحهم، مما كان له أسوأ الأثر في تدهور الأمة اجتماعيا، وخلقيا، ولعل رجال الوعظ - وفيهم - صفوة من الشباب المثقف - يتلافون ما ورثوه عن عصور الركود والجمود والظلام، وأن يؤدوا واجبهم في عصر العلم، وفي عصف المذاهب الاجتماعية المتضاربة، وإزاء تلك الموجة الإلحادية التي ترمي إلى التخلص من الأديان، كما يجب أن ينهض به رجل الدين في عصر الثقافة والنور.(716/56)
القصص
قصة من روائع الأدب الروسي:
الملك والناسك. . .!
للفيلسوف الروسي ليو تولستوي
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
زعموا أن ملكاً من ملوك القرون الغابرة الأولى. قيل له أن الفشل والإخفاق لن يملكا إليه سبيلاً، إذا ما أدرك دواماً خير الأحيان للانطلاق في العمل الذي يروق لباله ويعن لخاطره وإذا ما ألم بأجدر الناس بالإنصات إليهم والإصغاء إلى حديثهم. . . ومن هم أولئك الذين ينبغي عليه أن يجانبهم ويرغب عن مجلسهم!. . . وإذا ما تناهي علمه إلى معرفة أحق الأشياء بالعمل وأخلقها بالتحقيق فأمر الملك رجاله بأن يذيعوا في آفاق مملكته، أن كل من يشير على الملك بخير الأوقات للعمل وأجدر الناس بالإنصات والصحبة وأفضل الأشياء وأحقها بالعناية والرعاية سوف يجازى جزاء حسناً ويحظى بهبة سنية من لدنه. . . وأقبل العلماء وأهل الخبرة والتجربة من كل فج على الملك يتنافسون ويتسابقون يجلون له ما غمض عليه ويجيبونه على ما سألهم إياه. بيد أنهم تباينوا في آرائهم وتعارضوا في أقوالهم واختلفوا في مشورتهم. فقال بعضهم - جواباً على السؤال الأول - أن ليس ثمت سبيل إلى معرفة خير الأحيان إلا بتسطير لوحة تسجل عليها الأيام والأشهر والسنون، ولا يسير المرء في شئون الحياة إلا وفق نظامها. وبهذا ينجلي للمرء أي الأوقات خير من الأخرى وقال بعضهم إن ذلك لا يتأتى إلا بالفطنة واليقظة لما مضى ولما يجد من الأمور. فيتعرف على خيرها وأبلغها أهمية فيبتدره في حينه. وقال فريق منهم إنه مهما توخي الملك الدقة والدقة والبراعة في معرفة أجل الأوقات، فلن يبلغ مبتغاه. فمن أشق الأمور وأعضلها على الرجل الواحد أن يقرر الخير فيما يتراءى له من الأوقات. . . وعليه أن يعقد مجلساً من أصحاب الحكمة في دولته فيلقى منهم عوناً صادقاً على تحديد الوقت اللائق الموفق.
واختلفت آراؤهم على السؤال الثاني. فأجابه البعض بأن أجدر الناس بالرفقة والإصغاء هم أهل الشورى والحكمة، وقال آخرون بأنهم رجال دين والأطباء. . . بينما رجع البعض أن(716/57)
الجند هم أفضل من يستفيد المرء من قربهم. . . أما عن السؤال الثالث فرأى جمع منهم أن أحق الأشياء بالرعاية هو العلم. . . ومال آخرون إلى إنه الحذق والبراعة في فنون الحرب والقتال. وارتأى بعضهم إنه الفناء في عبادة الله عز وجل وتأدية فروض الدين على أكمل وجه. . .
فلما استبان للملك أنهم لم يستقروا على رأي صائب راجح منع عنهم عطيته. . . وعقد في نفسه عازماً على أن يتوجه إلى ناسك ذاعت شهرته وطبقت حكمته كل أفق بعيد. . . يستلهمه النصيحة ويستوحيه المشورة. . . وكان ذلك الناسك يتعبد في جوف غابة لا يبرحها أبداً. . . ولا يلقى من الناس إلا الفقراء والمعوزين. فأحاط الملك نفسه بثوب بسيط، ليس عليه من ظواهر الملك شيئاً. . . وترجل عن جواده وخلف حرسه على مبعدة وانطلق وحده. . . فلما أدرك الناسك ألقاه يفلح الأرض أما صومعته. . . وحينما أبصره الناسك بادره بالتحية، وأثنى إلى فأسه يضرب بها أديم الأرض. . . فكانت الضربة التي يهوي بها فيقلب الترب تستنفد ما بقى في جسده من قوة، وتجعله يبهر من الإعياء وينهج من التعب. . . فقد كان شيخاً ضعيفاً وهنت عظامه ووهت قواه. . .!
فدنا الملك منه وأفصح له عما في نفسه قائلاً: (أيها الناسك الجليل. . . لقد أتيت إليك - عن نأي - أروم جوابك عن أسئلة ثلاثة: (أولهما: كيف يتاح لي أن أعلم خير الأوقات لأنجز خير الأعمال؟)، (وثانيهما: أي الناس أولى بالصحبة وأجدر بالاهتمام؟)، (وثالثهما: ما هي الأشياء التي تستوجب مني العناية وتستحق التفرغ لها؟). فأصغى الناسك إليه منصتاً، بيد أنه لم ينبس ببنت شفه جواباً. . . وبصق في راحتيه وعاد ينبش الأرض بفأسه وهو يفلحها من جديد. . . فارتفع صوت الملك - وقد لمح ما على الناسك من دلائل الضعف وظواهر الوهن: لقد بلغ التعب والإعياء منك مبلغاً. . . فناولني الفأس، أتولى عنك الإفلاح حيناً. . .!) فلما هوى الملك بالفأس إلى الأرض مرتين، رفع رأسه إلى الناسك، وسأله ثانية جواباً على ما بسطه له وصارحه به. . . فلم يتلفظ الناسك بشيء، بل مد ساعده إلى الملك يبتغي الفأس قائلاً: (استرح قليلاً، ودعني أوالي العمل برهة!) ولكن الملك رغب عن أن يعطيه الفأس، وعاد يحتفر الأرض.
تصرمت ساعات اليوم ومال ميزان النهار وتولى الضياء عن صفحة الكون. . . وراحت(716/58)
الشمس تتوخى سبيلها إلى المغيب في خمرة موردة وراء الأشجار السوامق. . . فألقى الملك الفأس من يده وهو يقول: (لقد أتيت إليك أيها الناسك الجليل أبتغي جواباً لأسئلتي الثلاثة! فإن كنت لا تود أن تجيبني عليها فخبرني. . . لأنقل إلى داري!) فقال الناسك وهو يمد طرفة إلى الأفق (ثمة من يعدو! فدعنا نرى من يكون!) فتلفت الملك وراءه. . . فالتقى طرفه برجل ذي لحية كثة يركض نحوهما!. . . وقد أمسك يديه على بطنه، والدم يتفجر خلال أنامله. فلما بلغ مكان الملك هوى أمامه على الأرض وهو يئن ويتأوه في وحدة وألم. . . وقد تولاه الإغماء. . . فراح الملك والناسك ينضوان عنه ثيابه. . . فألقيا في بطنه جرحاً غائراً في الأمعاء. . . أخذ الملك يغسله بالماء. . . ويضمده بمنديله ثم برباط أتاه به الناسك من صومعته. . . بيد أن الدم لم ينقطع سيله، فعاد الملك يغير الرباط الملطخ بالدم بآخر أقتطعه من ثيابه. . . فلما توقف فيضه عن الجريان والترف عاد إلى الرجل الجريح رشده وصوابه وأفاق من غشيته. . . وطلب بعضاً من الماء فوافاه الملك بما سأله إياه. . . وكانت الشمس حينئذ قد هوت كالجمرة خلف الأفق وغابت عن صفحة السماء. . . وشاع البرد في كل مكان. . . فاستعان الملك بالناسك على رفع الرجل وحمله إلى داخل الكوخ حيث استقر في الفراش وأغمض جفونه وراح يغط في وسن هادئ وسبات عميق! وارتمى الملك في ركن من الكوخ وقد أعياه العمل وأضناه العناء والكدح فأغرق هو الآخر في النوم.
حينما استيقظ الملك في صبيحة اليوم التالي، كاد إلا يذكر أين مكانه، ولا يعرف ذلك الرجل الملتحي الذي يقبع في فراشه يحدق فيه ويرنو إليه بعينين نفاذتين. . . قال الرجل - وقد أحس أن الملك بدأ يستعيد وعيه ويفيق من نومه وراح ينظر إليه - (أضرع إليك أن تشملني بعفوك!) فأجابه الملك في رنة عجب: (إني لا أعرف من أنت. . . فعلام ترجو عفوي؟!) - (أنت لا تعرفني بيد أني أعلم من أنت!. فأنا ذلك العدو الذي أقسم غير حانث على أن ينزل بك نقمته وعدوانه جزاء ما أعدمت أخاه وانتهبت داره وشردت أهله. . . فقد تناهى إلى علمي أنك قاصد إلى الناسك. . . فبيت النية وعقدت العزم على أن أنهز هذه البادرة وأقتلك وأنت في سبيل العودة. . .! ولكن اليوم تقضي ولم أستبن لك أثراً. . .! فبرزت من مكمني لأنقب عنك. . .! فلمحني رجالك وتعرفوا علي، وأصابوني بجرح بالغ(716/59)
في بطني. . . لدق أفلت منهم فتلقتني براثن الموت، وكدت أن أسلم الروح لولا أو توليتني بعنايتك فآسيت جراحي وآويتني في هذا الكوخ. . . لقد كنت متعمداً قتلك فأنقذت حياتي. . . جزيت خير الجزاء. . . والآن لو امتد بي الأجل فوف أقوم على خدمتك - إن رضيت - عامر القلب بالإخلاص لك كعبد من عبيدك الأوفياء. . . وكذلك أبنائي وأهل بيتي فقد قيدت عنق ربهم بمعروف لن ينساه فأسألك أن تعفو عني وتغفر لي!) فاستخف الملك الفرح والبشر وطربت نفسه وطاب قلبه بما رأى من السلم والوفاق الذي عقده مع عدوه في بساطة وهدوء فكسبه صديقاً وفياً. فلم يعف عنه فحسب بل أخبره بأنه سوف يبعث إليه بخيرة أطبائه وخدمه ليقوموا على العناية به ووعده بأن يرد عليه ماله المسلوب ويعيد إليه ملكه المغصوب.
غادر الملك صاحبه الجريح وأخذ يتلفت في ساحة الكوخ باحثاً بعينه عن الناسك ليرجوه من جديد أن يجيبه على أسئلته. فألفاه جاثياً على ركبته يغرس الحب في النقر التي احتفرها البارحة فدنا منه ودعاه قائلاً: (إني أرجوك لآخر مرة أن تجيبني على ما سألتك إياه. . . أيها الحكيم الجليل). . . فأجابه الناسك وهو ما يزال جاثياً على ساقيه الرقيقتين (لقد أجبت على ما تود!!) فتساءل الملك في دهش وعجب (كيف أجبت!؟ وما الذي تعنيه) فرفع إليه الناسك رأسه وعللا ثغره ابتسامة، وقال في صوت شاع في الهدوء والرزانة: (ألم تر أنك لو لم تترفق بي وترحم ضعفي بالأمس ولم تهيئ لي هذه الحفيرات بل انطلقت في سبيلك لهاجمك ذلك الرجل وبلغ منك مقتلاً. . . وحينئذ كنت تقعد نادماً تأكل قلبك الحسرة وتتمنى لو أنك مكثت لا تبرحني. إن خير وقت كان في ذلك الحين الذي كنت تحتفر فيه الأرض. . . وكنت أنا أولى الناس باهتمامك ورعايتك. . . وكان أفضل عمل أديته هو الإحسان إلى. .! وبعد حين أتانا ذلك الرجل يسعى راكضاً. . . فكان أدق وقت هو ذلك الذي توليته فيه بعنايتك وحدبك. . . إذ لو إنك رغبت عن معونته لقضى دون أن تحظى منه بسلام وحمد ولذا كان هو أجدر الناس وأحقهم بالاهتمام والعطف وكان ما أديته له من معروف من أروع أعمالك وأجمل فعالك. فأعلم إذن لأن ليس ثم إلا وقت واحد يستحق منك الاهتمام ذلك هو (الآن) الذي تكون فيه. . . فهو الآونة الوحيدة التي تتملك فيها قوتك وقدرتك، وأحق الناس بأن تعنى به هو من يكون معك فأنت لا تدري إذا كنت(716/60)
تعامل غيره بعد ذلك أو يكون هو آخر من تعامل! وأجل الأشياء وأعظمها شأناً هو أن تبادر بالخير والمعروف إلى غيرك فلهذه الغاية السامية فطر الإنسان في هذا الكون.
(القاهرة)
مصطفى جميل مرسي(716/61)
العدد 717 - بتاريخ: 31 - 03 - 1947(/)
معروف الرصافي
للأستاذ عباس محمود العقاد
في هذا الكتاب دراسة أدبية للشاعر العراقي الكبير وبيئته السياسية والاجتماعية كتبها الأستاذ بدوي أحمد طبانة مدرس اللغة العربية وآدابها في دار المعلمين العالية ببغداد.
ونحن نرحب بهذا الكتاب وبأمثاله لأكثر من سبب واحد:
لأن تأليف الكتب عن الشعراء المحدثين بعد وفاتهم سنة حسنة لم نأخذ بها كثيراً في حياتنا الأدبية العصرية.
فقد يشتهر الشاعر ويسير شعره في الآفاق ويلتف به المعجبون والرواة المتشيعون. ثم تنقضي حياته فتنقضي العناية به وبشعره وتطويه كل سنة تمضي بعده في حجاب بعد حجاب، وقصارى ما يبلغه من بقاء الذكر أن يعاد طبع ديوانه إن كانت له ذرية يعنيها طبعه والإبقاء على شهرة صاحبه، أو كان طبع الديوان لا يكلف طابعيه مغرماً ولا مشقة. فأما الدراسة والتحليل وتخليد السيرة في الكتب التي تصلح للمطالعة والتداول فذلك عمل نادر في حياتنا الأدبية العصرية أو معدوم. لأن الذين ظفروا بعد موتهم بالكتابة عنهم لم يكن فضلهم كله مقصوراً على الشعر والعبقرية الشعرية، وكانت شفاعتهم إلى الذكر مناصب الدولة أو غير ذلك من الشفاعات.
ونرحب بكتاب (معروف الرصافي) مرة أخرى لأنه علامة من علامات التقارب بين الأقطار العربية في هذه الآونة التي وجب فيها التقارب بين هذه الأقطار وتهيأت له العوامل والأسباب. وكثيراً ما سمعنا العتب من أدباء العرب في سورية ولبنان وفلسطين والعراق والحجاز لأن صحف مصر لا تفسح صدورها للتنويه بآثارهم والتعقيب على أعمالهم، فكنا نقول لهم إن شأن أدباء العرب في ذلك كشأن الأدباء المصريين أنفسهم بغير خلاف. لأن الصحافة المصرية لا تكتب عن مؤلفات الأدباء المصريين ولا تتبع أعمالهم بالنقد أو الثناء، ومن المصادفات التي تذكر في هذا الصدد إن كثيراً من الصحف المصرية يتولاها أناس من أصول لبنانية أو سورية، فليس في الأمر تمييز بين أمم العرب بل هو تقصير شامل لكل أمة منها بلا استثناء.
أما إذا رجعنا إلى الشعب المصري - بمعزل عن الصحافة - فقد يكون إقباله على(717/1)
المؤلفات العربية متى وصلت إليه أكثر من إقباله على المؤلفات المصرية، لأنه في هذه الحالة يضيف حب الاستطلاع وحب المجاملة إلى حب التقدير والاستفادة.
فالآن يسرنا أن نرى أديباً مصرياً يتجرد لدراسة شاعر عراقي كبير ويسبق أدباء العراق إلى هذه الدراسة وهي من واجب الأدباء في الأقطار العربية جمعاء، وقد أشار الأستاذ الجليل السيد محمد رضا الشبيبي وزير المعارف السابق بالعراق إلى هذا المعنى في مقدمته للكتاب فقال: (ومما راقني جداً أن يضطلع بها مؤلف مصري فيحوز قصب السبق في هذا المضمار على أدباء العراق) ثم قال: (وقد تصفحت الكتاب فإذا مؤلفه الأستاذ قد ألم بكثير من النواحي التي ينبغي الإلمام بها في هذا الشأن، فلم يفته البحث في بيئة الرصافي ومنشئه وسيرته وفنه وشاعريته إلى غير ذلك. وقد كون آراءه في النقد وذكر ما للشاعر وما عليه، والموازنة بين محاسنه ومساويه في الشعر والأدب تكويناً لطيفاً يدل على تجرد وإنصاف في كثير من فصول الكتاب).
وقد استعان الأديب المؤلف بجميع المؤهلات التي تندبه للكتابة عن شعر الرصافي وأدبه ومسيرة حياته. لأنه عاش حيث عاش واطلع على معاهد شعره وسيرته، وانطوى له على إعجاب يتيح له أن يفهمه وينصفه وأن يعطف على موضوع دراسته. وربما كان العطف على موضوع الدراسة أول شرط من شروط التأليف في ذلك الموضوع، فإن الناقد الذي يدرس شاعراً أو كاتباً أو رجلاً من رجال تاريخ كائناً ما كان لا يراد منه أن يتعقبه تعقب الغريم أو يدينه إدانة القاضي أو ينظر إليه نظرته إلى غريب لا يعينه أمره ويستوي عنده إنصافه وظلمه. وإنما يراد منه أن يشعر بشعوره وأن يخلص إلى بواطن نفسه، ولا سبيل له إلى ذلك بغير عطف وصداقة نفسية تعينه على الفهم الصحيح.
ولكن هذا العطف لم يمنع الأديب المؤلف من نقد الشاعر حيث يجب نقده في أدبه أو خلقه كما قال الأستاذ الجليل مقدم الكتاب. فمن أمثلة ذلك إنه أنكر عليه التبذل في الغزل فقال: (وله إلى جانب هذا الهوى المتوزع والقلب المتفرق غزل مبتذل ووصف مكشوف لا يتورع فيه الرصافي عن ذكر الخفيات وإنداء العورات في غير تحفظ ولا احتشام، مما يأباه العقل الحكيم ويمجه الذوق السليم، وما كان يليق منه ولا يقبل هذا وهو الذي جعل شعره صورة لمجتمعه وقائداً لأمته، ولا سيما بعد ما عرف إقبال الناس على آثاره وحفظهم(717/2)
لأقواله).
وللنافذ حق في هذا النقد المتفقد عليه. ولا عذر للرصافي فيما يعاب من تبذله إلا إنه وارث من وراث مدرسة العباسيين في بغداد. وقد أطلعت تلك المدرسة أبا نواس والبحتري كما أطلعت الشريف وأبن المعتز. ولا تحسب أن أدباء العصر في العراق يعدون هاتين المدرستين في أسلوب النظم ووجهته. فمن جنح إلى مدرسة الشريف وأبن المعتز فهناك اللفظ الجزل والنمط الرفيع والغزل العفيف، ومن جنح إلى مدرسة أبي نواس فقد يجمح جماحه أو يتبعه في التمرد وخلع الربقة والرقبة في بعض الأمور. فيقف عند الثورة على القديم ولا يتطوح معه في الخلاعة والمجون. . . ولابد للمدرسة من الجناح المتطرف كما يقولون في لغة الحرب والسياسة، فكان الرصافي ذلك الجناح وعليه جناحه ولا مراء!
على أن الأستاذ طبانة قد أفلح ولا شك في إبراز محاسن الشاعر وتشويق القراء إلى استقصاء شعره في مظانه؛ فإن الشواهد التي أتى بها في سياق الترجمة إما حسنات أدبية تروق القارئ لما فيها من الظرف والبلاغة والسجايا المأثورة كقول الرصافي يخاطب وطنه:
يا موطناً لست منه في موادعة ... عش بعد موتى عيش الوادع الهاني
فكل من فيك تعنيني سعادتهم ... وكل أبنائك الأعداء إخواني
إن سرّك الدهر يوماً سرني، وإذا ... آذاك بالمزعجات الدهر آذاني
أو قوله في الهجاء:
سوّد الله منك يا شيخ وجهاً ... غش حتى باللحية السوداء
لو نتفنا من شعرها وغزلنا ... لنسجنا خمسين ثوب رياء
أو قوله في الرد على من يعيبون ظهور الفتاة على مسارح التمثيل:
وما العار أن تبدو الفتاة بمسرح ... تمثل حالي عزة وإباء
ولكن عاراً أن تزيا رجالكم ... على مسرح التمثيل زي نساء
فإن لم تكن الشواهد من هذا القبيل فهي مراجع تاريخية يهم القارئ أن يتابعها للوقوف على مناسباتها، وهي على الجملة مناسبات الشرق الحديث في معرض السياسة والاجتماع.
ولم يبرز الأستاذ طبانة فضائل الرصافي وكفى؛ بل هو قد أبرز من فضائل أهل العراق ما(717/3)
تضرب به الأمثال في تواريخ الأدب بين جميع الأقوام، فنحن لا نرى في تلك التواريخ أمثلة كثيرة لمروءة ذلك المحسن الأريحي السيد (مظهر الشاوي) الذي تكفل بالشاعر في شيخوخته ومنحته فأجرى عليه أربعين دينارً مشاهرة مدة حياته، ولا نرى في تلك التواريخ وفاء كثيراً كالوفاء الذي ظهر من أهل بغداد في تشييع الرصافي إلى مثواه. فكل ما أنكروه عليه أيام حياته من تمرد أو خروج على العرف والعقيدة لم يذكروه ساعة فارق الحياة؛ بل ذكروا له الفضل وحده غير معتز بصولة الجاه أو حواشي المنصب والثراء، فشيعوه ألوفاً إلى مقره الأخير.
عباس محمود العقاد(717/4)
منطقة إنطاكية وخليج الاسكندرونة
للأستاذ أحمد رمزي بك
لمعت كناصية الحصان الأشقر ... نار بمعتلج الكتب الأحمر
وفتحت إنطاكية الروم التي ... نشزت معاقلها على الاسكندر
وطئت مناكبها جيادك فانثنت ... تلقى أجنتها بنات الأصفر
هذا شعر للأبيوردي خاطب به ملكشاه بن ألب أرسلان حينما فتحت الدولة السلجوقية إنطاكية، ولست أعرف ركناً من أركان الدنيا برز في التاريخ بروز هذه البقعة من الأرض، فقد لفتت أنظار الإنسان منذ بدأ يفكر وينظم حياته، فما تأسس ملك أو سيادة أو ظهرت قوة فنية أو دعوة دينية إلا وجعلت من أول أهدافها امتلاك هذه البقعة التي شهدت مصارع الدول، وحمل صعيدها إزراء الحروب وما يتخللها من إزهاق الأرواح، ذلك تاريخها في القرون الغابرة وهذا عهدنا بها اليوم في تاريخنا الحديث. لقد شغلت رجال السياسة بعد الحرب الماضية واهتمت بمصيرها هيئة عصبة الأمم، ثم كان من نصيبها أن ضمت إلى أراضي الجمهورية التركية وبقيت معها طول الحرب العالمية الثانية، وما انتهت هذه أو قاربت نهايتها واستقلت سوريا، حتى قامت تطالب بها، ولا يعلم غير علام الغيوب ما تخبئه لها الأقدار والأيام القادمة.
وإذا ورد ذكر هذه البقعة برز اسم مدينة إنطاكية لأنها رأت من السعد والعظمة في زمن ملكها أنطيوكس الكبير (223 - 187 ق. م) ما جعلها سيدة المدن. فكان أن أصبحت حاضرة سوريا وفاقت غيرها في الثورة والعلوم والمتاجر، ولما دخلت تحت سلطان روما حصل أهلها على حقوق المواطنين في الدولة الرومانية، وإذا بها قد أصبحت إحدى عواصم ثلاث كبرى: روما والقسطنطينية وإنطاكية.
ولقد حاول بعض مفكري الغرب من الفرنسيين أن يجلعوا من ملك أنطيوكس تتمة لملك الإسكندر ومن أثر عمله تكملة لسلطان الغرب على الشرق، ودليلاً على تفوق العقل اليوناني على العقل السامي، والصورة التي أعطاها العهد القديم والمؤرخ يوسيفوس للعاهل اليوناني تنبئ بأنه كان ملكاً مستبداً جباراً، فقد ورد عنه في كتاب المؤرخ اليهودي ما يأتي: (إنه دخل مصر بجيش كثيف وعجلات وفيلة وأسطول عظيم فاستحوذ عليها ثم قوى أمره(717/5)
وعظم شأنه حتى استولى على كثير من الأمم وأطاعته ملوك فارس وغيرهم من الملوك فداخله العجب والكبرياء وطغى وتجبر وسبب الكثير من الآلام لأهل المشرق).
فهذه القوة التي طغت على الشرق يقول عنها الكاتب الفرنسي إنها بقية من عبقرية الإسكندر، وإن بقاءها كان من ضرورات بقاء الاصلح، لأنها تحمل قبساً من روح الهيلينية إلى الشرق، وإنها قوة دافعة منظمة منشئة لأنها أدبت الناس وأخذتهم بالسيف وعلمتهم ما لم يعلموا. ولكن روما لم تلمس الحقائق حين ساقت كتائبها وأخذت إنطاكية مركز هذه الحركة ولذلك لما حطمت الممالك والعروش التي أنشأها أتباع الإسكندر، كانت تحارب نفوذ الهيلينة في الشرق وكانت تحطم بأيديها سيطرة الغرب على الأمم الشرقية. فروما حينما تنازعت مع أهل إنطاكية وقضت على عظمتهم مهدت لشعوب الشرق عودة، بدأت بقيام الفرتيين أو البارتيين وهم قوم عرفوا بشدة المراس والصبر على القتال، وظهرت غضب اليهود بحركة المكابيين وتطورت بظهور المسيحية ضد هذا التحكم ثم في مذاهبها المختلفة التي يعبر عنها بالكنائس الشرقية، والتي تعتبر نفثة ضد استحواذ أهل الغرب على المسيحية وهي شرقية في أصولها ومبادئها ومراميها، وما كان هذا ليحدث لولا اختلاف الكلمة وتعارض المصالح بين روما والإغريق المحتلين لأراضي الشرق، فلو تم بينهم التعاون والتفاهم والتآزر والتكاتف وما تمليه وشائج القربى. لما تهيأت الأسباب لقيام الشرق مرة أخرى، ولما تفاعلت العوامل التي مهدت السبيل أمام جيوش المسلمين فاستولت بعد قرون قليلة على إرث روما وبيزنطة وما أنشأه الإسكندر من مجد وملك قبل ذلك. وتلك دعوة لها خطورتها لأن معناها إن الخلاف الذي قام بين فرنسا وبريطانيا على سوريا ولبنان يمثل النزاع الذي نشب بين روما وأهل إنطاكية في المشرق وأن الإمبراطورية البريطانية تلعب اللعب الخطرة التي أخذت بها الإمبراطورية الرومانية منذ عشرين قرناً فهي قد قضت على نفوذ فرنسا وأبعدتها عن سواحل البحر الأبيض المتوسط في شرقية، كما زحزحت روما نفاذ الهيلينية عن هذا الشاطئ، فكانت النتيجة أن خرج الشرق من تحت سيطرة روما واليونانيين وتقلص حكم الغرب عن أمم المشرق، فإياكم أن يحدث لكم ما حدث للقدماء من قبل ويخرج الشرق من يد بريطانيا وفرنسا على السوء.
وإنما سقنا هذا الحديث للتدليل على أثر هذه البقعة من الأرض في عقول القوم من ناحية(717/6)
السيطرة الفكرية والرغبة في التحكم على مقادير الشعوب من شباك يطل علينا ويثير لنا الكثير من المشاكل. ولقد نظرنا إليها من الوجهة التي يرى بها رجل الفكر الغربي فلنجرب نظرة رجل الدين.
كانت إنطاكية مثل الإسكندرية ميداناً للتنازع بين الوثنية والمسيحية، ذلك التنازع الذي انتهى بانتصار الفكر السامي ممثلاً في تعاليم معلم الناصرة، ولكن إنطاكية فاقت الإسكندرية في ناحية أثرها في حياة المسيحية، فكلتا المدينتين أوتيت حظها من حياة الترف واللهو والخلاعة والتغاضي عن الفضيلة. ثم قامت في كل منها دعوة للخير والصلاح وترك الدنيا والابتهال إلى الله، ولكن النكبات المتتالية وخصوصاً الزلازل المدمرة جعلت أهلها في حيرة منها، وأخيراً قر رأيهم على أن يطلقوا على إنطاكية اسم (مدينة الله) وتحصنوا بالفضائل وجانبوا الرذائل وتقربوا بهذا لله زلفى؛ وكان أن عرفت مدينتهم وسط مدن العالم بأنها حازت سلطان الحياة الدينية، وإذا بكرسيها يتلألأ وسط كراسي ملكوت السماء، ويقول عنها الناس: ليس في المسيحية كلها بعد روما سوى إنطاكية الخالدة.
ولذلك لا تعجب إذا وجدت عدداً من رؤساء الطوائف المسيحية يضعها في المكان الأسمى من نعوته وألقابه الكهنوتية فيقول كل منهم إنه صاحب كرسي إنطاكية وسائر الشرق. وهم على حق في ذلك لأن أنوار المسيحية أشرقت على الأرض من هذه البقعة، وانتقلت من مواجهة إسرائيل إلى مواجهة الدنيا، وفي ذلك يقول القديس لوقا: (وكان الذين تبددوا من أجل الضيق قد اجتازوا فينيقية وقبرص وإنطاكية وهم لا يكلمون أحداً بالكلمة إلا اليهود، ولكن قوماً منهم كانوا قبرصيين وقيرارتيين فهؤلاء لما قدموا إنطاكية أخذوا يكلمون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع).
ففي إنطاكية تحولت الدعوة إلى حركة عالمية. فهذا أثر من تأثير هذه البقعة الفريدة، التي كانت قبلة الدنيا ومجمع مدنية الشرق مع مدنية الغرب، ولو أدركتها المسيحية وهي في أبنا مجده وسطوتها؛ أي لو تقدمت قرنين من الزمن حينما كانت إنطاكية حاضرة سوريا وقد فاقت قرطاجنة وصور وصيدا، فالأغلب على الظن إن كانت تأخذ إنطاكية في عالم المسيحية مكان روما.
ويجمع المؤرخون على إن إنطاكية كانت مركزاً هاماً للدعوة المسيحية في القرن الرابع(717/7)
وإن كان هناك من يقرر بأنها كانت منذ البداية أول مركز أرسل منه المبشرون المسيحيون إلى أقطار العالم، وظهر فيها القديس يوحنا فم الذهب بل كانت مسقط رأسه وسطعت فيها أعماله ومعجزاته، وكان أهلها مائتي ألف نسمة دخل نصفهم في الدين الجديد وتصدروا الدعوة إليه، ولذلك تذكرها الكتب المسيحية بأنها المدينة الأولى في العظمة بعد روما، وإنها تأتي في تاريخ الكنيسة بعد القدس، وهذا ما جعلها مكاناً يؤمه أهل التقوى والصلاح والعبادة ويهرع إليها الزوار لرؤية ما كانت تحويه من قبور القديسين والأبرار وما عرف عنها من العجائب والمعجزات.
فمدينة هذا تاريخها يأتي ذكرها دائماً في الكتب المقدسة وفي تاريخ الكنيسة ويتكرر هذا الاسم في الطقوس والصلوات ويرد في ألقاب رجال الدين من مختلف الطوائف والمذاهب، لا شك في مكانتها وعظمتها واحترامها في قلوب الناس، وإن مجرد ذكر اسمها يحرك ذكريات عزيزة على النفس، وهذا ما تؤكده الآيات الواردة في أعمال الرسل. (ثم خرج برنابا إلى طرسوس في طلب شاؤل ولما وجده أتي به إلى إنطاكية، وترددا سنة كاملة في هذه الكنيسة وعلما جمعاً كثيراً حتى إن التلاميذ دعوا مسيحيين بإنطاكية أولاً).
أحمد رمزي(717/8)
حديث عن دمشق
للأستاذ علي الطنطاوي
دخلت مخزناً أمس أشتري منه شيئاً، فسمع لهجتي الشامية شيخ هم كان هناك، أبيض الشعر كأن رأسه ولحيته الثغامة، فإلتفت إلي وقال:
- أنت من دمشق؟
- قلت: نعم.
فسطع على وجه نور، وبرق في عينيه بريق، وبدت على جبينه ظلال ذكريات حلوة، مرت في رأسه، وأخذ بيدي هاشاً لي باشاً بوجهي، فأقعدني معه، وقال لي:
أهلاً بك، أهلاً وسهلاً، تشرفنا يا ولدي، فتعال. تعال حدثني عن دمشق، فقد طال عنها ابتعادي، وزاد إليها اشتياقي، حدثني عن سهلها وجبلها، عن غوطتها وربوتها، عن (الميزان). ألا يزال الميزان مثابة الطهر، ومعبد الجمال، وجنة الدنيا؟ ألا يزال السراة والتجار يصلون الصبح كل يوم ويخرجون إليه، يقضون فيه حق النفس بالتأمل، كما قضوا في المساجد حق الله بالصلاة، فيجمع الله لهم الجنتين، ويعطيهم نعيم الدارين؟ ألا يزال زاخراً بحلق الأحباب، وجماعات الصحاب، عاكفين على (سماورات) الشاي الأخضر (وسكى) المسلمين، يشرفون على (قنوات) و (باناس) وهما يخطران على العدوة الدنيا متعانقين متخاصرين فعل الحبيبين في غفلة الرقيب، يمشيان حالمين خلال الورد والفل والياسمين، كزوجين في شهر العسل، يظهران حيناً ثم تشوقهما الخلوة، فيلقيان عليها حجاباً من زهر المشمش والدراقن والرمان، وعلى العدوة القصوى زوجان آخران حبيبان، يمضيان يتناجيان ويتخالسان القبل: (يزيد) و (تورا)؟ وبردى! ألا يزال يدب في قرارة الوادي على عصاه، ينظر باسماً إلى بنيه ثم يلوي عن مشهدهم بصره، وينطلق في طريقه لا يبالي. عاف الحب ومل الغرام، وعلمته تجارب العمر، إن كل ما في هذه الحياة باطل، إلا ذكر الله والعمل للآخرة، كله لعب ولهو متاع زائل؟ وقاسيون الجد العبقري الذي عاش عشرة ملايين سنة وما أنفك شاباً، وشاخ أبن أخيه بردى ولم يشخ، ألا يزال قاسيون قاعداً قعدة ملك جبار، قد رفع رأسه ومد ذراعين له من الصخر، فأحاط بهما دمشق وغوطتها، من الربوة إلى برزة، ووطأ لها ركبته فنامت المدينة عليها، كما تنام الحبيبة إن أضناها(717/9)
النعاس على ركبة الحبيب، واحتمت الصالحية بصدره كما يحتمي الطفل الوليد بصدر الأم الرؤوم؟ والشمس! ألا تزال الشمس تضحك لبردى وأبنائه، وتستخم أنوارها في مائة، وتسبح أشعتها في سمائه؟
و (صدر الباز) و (مصطبة الإمبراطور) و (الصوفانية) و (الشاذروان)؟ حدثني عنها. . . حدث عن دمشق، ألا يزال الناس يعيشون في دمشق للخير والجمال؟ ألا يزال التجار يخرجون من صلاة العصر، فيغلقون دكاكينهم ويمضون إلى بيوتهم، إلى أولادهم وأهليهم، ثم يتعشون المغرب، ويؤمون المساجد فإذ صليت العشاء خرجوا، فمنهم من عاد إلى داره ومنهم من ذهب إلى الدرس ومنهم من مشى إلى (الدور). . .
قل لي: ألا يزال (الدور) يجمع الإخوان المتآلفين، والأحبة المتصافين، يسمرون كل ليلة في منزل واحد منهم ينشدون الأشعار ويسوقون النوادر، ويروون المضحكات، ويطالعون الكتب، ويتجاذبون الحديث، ويأكلون أوان الحلويات؛ ويشربون الشاي، ثم ينصرفون إلى دورهم، وقد استمعوا أو في ما يكون الاستماع، وسروا أكثر ما يكون السرور، وما غشوا قهوة، ولا أمسوا ملهى، ولا جالسوا غريباً، ولا أتوا محرماً، ولا أنفقوا في غير وجهه مالاً؟
ألا تزال منازل المشايخ غي (زقاق النقيب) و (حمام أسامة) و (القيمرية) معاهد إرشاد، ومدارس علم، ودارات ملوك؟ قل لي: من بقى من تلك الأسر العلمية؛ آل حمزة وآل عابدين والطنطاوي والعطار والخاني والطيبي والشطي والأسطواني والكزبري والعمادي والمحاسني والمنيني والخطيب؟ ألا يزال فيها العلماء الأعلام أم تنكب الخلف طريق السلف، واستبدلوا الدنيا بالدين، والمال بالعلم، والمنصب بالتقوى؟ والعلماء ألا يزالون أعزة بالدين، يعرضون عن الملوك فيسعى إلى أبوابهم الملوك، ويزهدون الدنيا فتقبل عليهم الدنيا، ويهربون من الولايات والمناصب فتلحقهم المناصب والولايات؟ ألا يزال الناس يعكفون في دمشق على العلم لا يريدون به إلا الله والدار الآخرة، يثنون لذلك ركبهم ويحيون ليلهم، ويكدون نهارهم، ويقنعون في أيام الطلب بما سد الرمق، وحمل الجنب، وستر العورة، لا يسألون عما غاب من ذلك أو حضر، قد فكروا في غيره، وأقبلوا على سواه، فكان العلم أملهم، وكانت المطالعة شغلهم، وكان ثواب الله مبتغاهم، قد صغرت الدنيا في أعينهم حتى إنهم لم يروها ليتكالبوا عليها، ويذلوا من أجلها، و (يضربوا) عن التعلم إن(717/10)
لم يصلوا إليها؟ ألا تزال هذه المدارس عامرة، يجيئها الطالب؛ فينام في غرفها، ويستمع من مشايخها ويأكل من أوقافها، ويجعلها دنياه لا دنيا له وراء جدرانها: العمرية والمرادية والنورية والبادرائية والقلبقجية ودار الحديث وجامع التوبة وباب المصلى والدقاق ومدرسة الخياطين وأمثالها. ألا تزال زاخرة بالطلاب عامرة بالعلم، عاملة للإصلاح؟
ومنازل دمشق! ألا تزال تلك المنازل الواسعة الصحون، ذات الظل والماء، والبرك والنوافير، والأشجار والزهور، والدواوين والمجالس، والصيانة والستر، فهي من خارجها مخازن تبن، ومن داخلها جنات عدن، وهي مصيف ومشتى، وهي مسكن وملهى، وهو دار وبستان.
ألا تزال في دمشق الأسرة كلها تعيش في المنزل الواحد: الجد والأب والأعمام والأولاد، ونساؤهم وأولادهم، ثم لا تجد خلافاً ولا شقاقاً، ولا دساً ولا كيداً، الصغير يوقر الكبير ويطيعه والكبير يرحم الصغير ويحبه، وكل يؤثر على نفسه، ولا يحب لغيره إلا ما يحب لها؟
ألا تزال المرأة لبيتها ولزوجها، لا تقيس الطرقات، ولا تقصد الأسواق، ولا تعتاد منازل الخياطات. إن احتاجت شيئاً اشتراه لها بعلها، وإن أرادت زيارة أهلها ذهب معها، وإن اشترت ثوباً خاطته بنفسها، والحجاب سابغ، والشهوات مقموعة، والزواج شامل. لا يبلغ الولد عشرين إلا وله ولد، ولا تصل البنت إلى الثامنة عشرة إلا ولها ولدان؟
والبوابات! هل زالت البوابات، التي كانت تغلق كل ليلة بعد العشاء وتسد الطرقات في وجوه لصوص الأموال والأعراض فلا تفتح إلا لقاصد بيته، أو ذاهب في حاجة مشروعة؟
والأحياء! ألا يزال في كل حي عقلاؤه وسادته، يسعون لخيره، ويعينون عاجزه، ويسعدون فقيرة، ويأخذون من فضل مال الغني ما يسد خلة المحتاج، وإذا رأى أحدهم غريباً في الحي سأله من هو وما يكون، فلا يدخل الحي إلا رجل شريف. وإن شاهد امرأة متبرجة نصحها وزجرها، وبحث عن وليها ليحميها. وإن علم بأن داراً ترتكب فاحشة، عقد مجلساً فدعا المؤجر والمستأجر وكانت المحاكمة التي لا تؤدي إلا إلى منع الفاحشة في غير ظلم ولا عدوان، فكان الحي كله كالأسرة الواحدة، وكان البلد مجموعة أسر كلها خير فاضل نبيل؟
ألا يزال الناس على وئام وسلام، فلا نزاع ولا خصام، يعرف كل منهم حقه فلا يطلب إلا(717/11)
أقل منه، ويعرف ما عليه فلا يقصر في أدائه، وإن اختلفوا رجعوا إلى العالم ورضوا بحكمه لا يعرفون المحكمة إلا إن استحكم الخلاف، وقلما كان يستحكم الخلاف؟
ألا يزال القاضي الشرعي مرجع كل خصومة، ومصدر كل حكم، يحكم في كل قضية بشرع الله، فلا تطويل ولا تأجيل، ولا مراوغين ولا محامين؟
ألا يزال كل ما يحتاج إليه الناس يصنع في دمشق، فلا يأكلون إلا حاصلات بلادهم، ولا يلبسون إلا نسيج أيديهم، ولا يتداوون إلا بعشب أرضهم، لا يدفعون أموالهم إلى عدوهم، ولا يعينونه بها على أنفسهم؟
ألا يزالون سعداء راضين، قد انصرف العالم لعلمه، والتاجر لتجارته، والطالب لدرسه، والمرأة لبيتها، لا يشتغل أحد بغير شغله، ولا يدخل فيما لا يعنيه، قد تركوا السياسة لنفر منهم أخلصوا لهم فوثقوا بهم، ورأوا أمانتهم فأعطوهم طاعتهم، ورأوهم لا يسرقون مالهم، ولا يمالئون عدوهم، ولا يضيعون مصالحهم، فلم ينفسوا عليه زعامتهم، ولا ضيقوا عليه مكانتهم؟
فقلت للشيخ: منذ كم فارقت دمشق يا سيدي؟
فتنهد وقال: منذ سنة 1897، فارقتها شاباً، ولم أدخلها بعد ذلك أبداً.
فرحمت الشيخ أن أفجعه في أحلى ذكرياته، وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته فتلطفت فودعته، ولم أقل له شيئاً، وماذا أقول؟
أأقول له: إن أهل الشام قد انصرفوا عن صدر الباز والميزان والصوفانية والشاذروان وأهملوها حتى صارت مزابل، لأنهم آثروا عليها العباسية والهافانا وشهرزاد ونادي الصفا؟
وإنهم هجروا منازلها التي كانت جنات، ليسكنوا كالإفرنج في طبقات كأنها سجون أو مغارات، وإن أبناء العلماء الأتقياء، صاروا من الفساق الجهلاء، وإن مدارس العلم هدمت أو سرقت، وإن غرفها احتلت لتكون مساكن أو قهوات أو مخادع للشهوات، وإن طلبة العلم الديني يطلبونه للمناصب والمراتب والأموال والرواتب، وأن الأسر انصدع شملها، وتفرق جمعها، وإن النساء ملأن اليوم الطرقات، وأممن المخازن والسينمات، وعاشرن الشبان في المدارس واللهيات، وإن البنات كسدن في البيوت، لما آثر الشباب اللهو على الزواج، والسفاح على النكاح، وأن الأحياء غلب عليها سفهاؤها، وضعف عن حكمها عقلاؤها. وإن(717/12)
الناس اختلفوا وتنازعوا، وفشا فيهم الغش والخداع، وإن المحاكم هجرت شرع الله وحكمت بقوانين فرنسا. وإن الناس تركوا أشغالهم واشتغلوا بالسياسة. وإن الزعماء طلبوا المال والجاه، وآثروا مصالحهم على مصالح الناس. وأن الموظفين غلبت عليهم الرشوات والبراطيل والسرقات، وإننا تركنا مصنوعات بلادنا وكرهنا أزياءها، وتعلقنا بأذناب الغربيين، وأعطيناه أموالنا. وإنه قد إرتفع الوفاق وحل الشقاق، وذهب الرخاء وجاء السخط، فالرجل يختلف أبداً مع زوجته، والأب ينازعه أبنه، والشريك يسرقه شريكه، وليس فينا راض ولا قانع ولا سعيد، ما فينا إلا شاكٍ باكٍ، كاره الحياة، متمنٍ الموت. . . ثم إننا لم نحس إن هذا كله من لعنة هذه المدنية الغربية، ومن ثمراتها المرة التي لا يمكن أن تثمر غيرها. . .
ولكن لا، فإن في دمشق خيراً كثيراً، لا يعرف خيرها إلا من يعيش في غيرها، إن دمشق التي يصفها الشيخ لم تمت، ولا تزال تتردد ذماؤها، فإما أن تنعشها (رابطة العلماء) ويمدها الإخلاص بالقوة حتى تنقذها، وإما أن يغلب القضاء، فيموت المريض تحت يد الطبيب. . .
ولن تموت دمشق الإسلامية بحول الله أبداً!
علي الطنطاوي(717/13)
الشاعر خليل مطران
للأستاذ حبيب الزحلاوي
جسم نحيل معروق، ونظرات لامعة أخاذة، وصوت مبحوح لاهث من حنجرة صلبتها الأعوام الثمانون وقد ناهزها، وهو بالرغم منها على أحسن ما يكون اتقاد الذهن، ومضاء العزيمة، وخصب الإنتاج.
يمتاز مطران بالخلق الكريم، والحديث العذب، والسعي في الخير، ثم بشاعرية فريدة في نوعها.
يعود خلقه الكريم إلى أرومته الكريمة وتربيته الأرستقراطية المترفعة وإلى نحيزة هادئة ترى المداورة والصبر والاتئاد في التصعيد لبلوغ القمة خيراً من الانقضاض عليها كالنسور الجبارة.
وهو محدث بارع ينضح من ينابيع غزيرة وإطلاع ثقافي عام من أدب العرب والإفرنج قديمه وحديثه، لا يتفلسف مع الفلاسفة، ولا يتعالم مع العلماء، ولا يشعل مصباحه للعميان، يعطي من أدبه بقدر حاجة الطالب، ويهبط أو يرتفع وفق فهم السامع وإدراكه، وهو عف اللسان نصير الغائب، قليل الغضب، كثير التسامح.
من سجاياه سعيه للخير، وهو يتراخى وقد يتكاسل في السعي لخيره الخاص، ولكنه لا يتوانى ولا يتقاعس في السعي لفك ضيق، أو حل مشكلة، أو دفع نازلة، أو إزالة خصومة، أو تزويج فتاة من أية طائفة أو ملة كانت.
يعطي المعوز ما يستدره من مال الغني، وينتزع الدراهم من الشحيح البخيل ويأخذ الدينار من السخي الكريم يقيل بهما عثرات العاثرين.
ما قامت جمعية للبر، أو مؤسسة للخير، أو دار للشفاء، أو تألفت جماعة لعمل من الأعمال إلا وكان مطران من أوائل القائمين بها، وما نشأت بين السوريين واللبنانيين منشأة إلا وكان مطران من الساعين إلى إنشائها، وما شجر بين الطامعين أو بين محبي الظهور شجار على رئاسة أو عضوية في مجلس إلا وكان مطران أول المتنازلين عن الرئاسة أو العضوية حباً بإحلال الوئام محل الخصام. . .
هو ذا مطران الإنسان وقد حدد أمنيته في الحياة بقوله: (أمنيتي أن أجتاز طريقي دون أن(717/14)
أسيء إلى أحد).
مشى مطران وشوقي وحافظ في جادة أدبية واحدة، وما لبث أن سلك كل منهم مسلكاً خاصاً به، وأزعم أن لا مناص لمن يتصدى لدراسة شعر مطران عن معالجة أربعة أنواع من الشعر انفرد بها مطران وحده دون معاصريه من الشعراء.
الأول: شعر المناسبات وينطوي فيه تاريخ حقبة من الزمن تبتدئ في الربع الأخير من القرن الماضي تشمل الأحداث الاجتماعية والشخصية والفردية.
الثاني: الوصف وفيه صورة تريك الموصوف كما برأه خالقه وكما كيفته الطبيعة حساً ومعنى.
الثالث: التحليل وهو ملاحم كبرى خص بها عظماء التاريخ وشعوبه وما كانوا عليه من صفات وخلائق وسجايا، وما في فطرتهم من ظلم وجود وطغيان.
الرابع: إبراز أقيسة اللغة ومقادير ثروتها في المفردات للتعبير عن ملكات النفس.
تجمع لمطران من شعره ما يملأ سبعة دواوين معدة للطبع منها واحد للأراجيز في أدب النفس، وترجم عن الفرنسية ثلاث عشرة رواية تمثيلية لشكسبير وراسين وكورنيل وهيجو وترجم أيضاً كتاب الموجز في علم الاقتصاد في خمسة أجزاء وألف كتاب (مرآة الأيام في التاريخ العام). ولم تخل صحيفة خلال هاتيك الأعوام، على مر الأيام من بحث أو درس أو تقريظ أو نقد لمطران، ولم يعتب منبر نضب في مجمع للأدب أو للخير أن لم يعتله مطران.
هو ذا شاعرنا الذي تحتفل به الأمم العربية اليوم في مصر، وهذه لمحات خاطفة من أدبه الخالد وخلقه الكريم.
حبيب الزحلاوي(717/15)
مراجعات في الفلسفة:
نظرية المعرفة عند شوبنهور
للأستاذ عبد الكريم الناصري
يستهل شوبنهاور (1788 - 1860) أثره الرئيسي (العالم كإرادٍ وفكرة) بقوله: (العالم فكرتي). ولأجل أن يفهم معنى هذا القول على وجهه الصحيح يحسن بنا أن نقدم له بكلمة موجزة في نظرية المعرفة عند فيلسوفين، أحدهما أيرلندي هو بركلي (1685 - 1753)، والآخر ألماني هو كانت (1724 - 1804).
ونظرية الأول تتلخص في عبارته المشهورة: (وجود شيء أن يدرك) أو (الوجود هو الإدراك). فقد كان (لوك) ميز بين (الكيفيات الأولية) و (الكيفيات الثانوية) للموضوعات الخارجية. فالأولى، كالامتداد والشكل والحركة، توجد في الأشياء أنفسها بصرف النظر عن العقل. أما الثانية، كالألوان والأصوات والروائح، فلا وجود لها خارج الحس والعقل المدرك. وقضى بذلك على فكرة (الجوهر المادي) وجعل العقل هو المحل أو الحامل للموضوعات، وكل ما تتصف به، من امتداد وشكل وحركة وزمان وأصوات وأضواء وألوان. فكل هذه الأمور لا يمكن أن تقوم، أو تتصور، مستقلة عن الذات المدركة؛ ومن هنا كان من المناسب تماماً أن تدعى (أفكارا). ويقول بركلي هنا: إن أحداً لا ينازع في إن ذكرياتنا وتصوراتنا وتخيلاتنا إنما توجد في الذهن، ولا يمكن أن توجد بمعزل عنه؛ ولكن لا يقل عن هذا بداهة أن الاحساسات أي (الفكرات) المطبوعة على الحس، على اختلاف مركباتها، أي الموضوعات الخارجية المركبة منها، لا يمكن أن توجد إلا في ذهنٍ مدركٍ. وتتضح هذه الحقيقة كل الوضوح حين نتدبر معنى لفظة (الوجود) أو (الموجود) كما تطلقان على موضوعات الحس. فما عساي أعني حين أقول إن هذه المائدة موجودة؟ أتراني أعني شيئاً غير إني أبصرها وأحسها؟ وإذا كنت خارج الغرفة، وقلت إن المائدة موجودة، أتراني أعني شيئاً غير أنني لو كنت في الغرفة إذن لأبصرت بها، أو إن هناك ذهناً آخر يدركها؟ - لقد كانت ثمت رائحة: هذا معناه أني مشممتها؛ كان ثمت لون أو شكل، أي أني أدركته بالبصر أو اللمس. هذا، كما يقول بركلي، هو كل ما يمكن أن يفهم من أمثال هذه التعبيرات. أما القول بوجود الموضوعات المادية وجوداً مطلقاً فقول متهافت،(717/16)
غير مفهوم أبداً. فإن وجود الأشياء أن تدرك ولا يمكن أن يكون لها أي وجودٍ خارج الأذهان التي تدركها.
ومن هنا فالمعرفة تتألف من عنصرين مختلفين، هما الموضوع أو الفكرة المعروفة، أو الذات العارفة. وليس يوجد إلا المدرَك أو المدرِك.
ولنلاحظ هنا إن كون الموضوعات المحسوسة فكراتٍ في العقل لا ينفي ما بينها وبين الأخيلة والتصورات من فروق هامة؛ كما إن إنكار (الجوهر) المادي لا يعني إنكار واقعية العالم المادي، وإنما معناه إنكار أن تكون هذه الواقعية مستقلةً عن العقل، وأن يكون للموضوع المادي وجود مطلق لا يتوقف على الذات المدركة.
ونظرية شوبنهاور في العالم الخارجي لا تختلف في جوهرها عن نظرية الأسقف العبقري، ومع ذلك فإنه يسلك إلى نظرية المعرفة طريقة (كانت)، ويستعير من مؤسس (النقد) لغته وأسلوب تفكيره. فلا مفر إذن من إلقاء نظرة، ولو عامة خاطفة، على نتائج نقد العقل الخالص (النظري)، بمقدار ما تتعلق هذه النتائج بموضوعنا.
لقد وضع (كانت) حداً حاسماً بين الشيء في ذاته، أو العالم المعقول، وبين الظواهر، أو العالم المحسوس. فالأول خارج المكان والزمان، وخارج نطاق المعرفة الإنسانية. أما الثاني فزماني مكاني بالضرورة، وداخل في نطاق المعرفة، والمعرفة العلمية مقصورة عليه، لا يمكن أن تتخطاه، فلا علم إلا العلم (بالظاهر) وقوانينه. وإنه لعلم صحيح ضروري، لهذا السبب: وهو إن العقل نفسه هو الذي يبدع عالم الظواهر، أو يشارك على الأقل في إبداعه، ويستن له قوانينه، ويخلع عليه شكوله الثابتة.
فالعالم المحسوس يقوم بالضرورة في إطارين: هما المكان والزمان. ولكن هذين الإطارين لا يرجعان إلى الأشياء في أنفسها، وإنما هما (صورتنا خالصتان) لحساسية العقل: ميدان فطريان قبليان، لا وجود لهما خارج الذات الحساسة المدركة. إنهما في الواقع (إسلوبان) أو (وسيلتان) لإدراكنا الأشياء، فلا سبيل إلى إدراك هذه إلا إذا دخل في المكان والزمان، وانطبعت بهذا الطابع العقلي الأجنبي عنها، وتحولت بذلك عن طبيعتها الأصلية، إنهما شرطا إمكان الإدراك والمعرفة؛ وبما إن معرفة الموضوعات هي ما ندعوه (بالتجربة) فالمكان والزمان إذن شرطاً إمكان التجربة، وعليهما تتوقف كل تجربة، واقعة أو ممكنة،(717/17)
فلا يمكن أن يكونا مشتقين من التجربة، لأن الشرط يتقدم على الشروط، وإنما هما سابقان عليها أو هما (قبليان). ولذلك ترانا نستطيع أن نتمثل المكان والزمان خاليين من كل موضوع، تمثلاً عيانياً مباشراً، ولكننا لا نستطيع أن نتمثل الموضوعات بمعزل عن الزمان والمكان. ومؤسس النقد يسمى هاتين الصورتين، معتبرتين في نفسيهما، (بالعيان الخالص) كما إنه يسمى الإدراك الحسي (بالعيان التجريبي). وهذا الأخير يتوقف على شرطين: أولهما أن تقبل الحساسية أو تتسلم من (الخارج) تأثرات مختلفة، صادرة عن الموضوع الحقيقي أو الشيء في ذاته؛ وثانيهما أن تترتب الاحساسات الناشئة عن التأثر في صورتي الزمان والمكان، إذا كان العيان يتعلق بالموضوعات الخارجية، أو في الزمان وحده، إذا كان يتعلق بتعيناتنا الباطنة.
والظواهر الناشئة عن العيان تترابط برباط العلية، وتبدو على هيئة كميات وكيفيات، ونسب وعلاقات، وجواهر وأعراض؛ ولكن جميع هذه التعينات لا ترجع إلى الأشياء في ذاتها. وإنما هي أشكال أو (مقولات) ذهنية قبلية، نتصور العالم ونفهمه على نحوها. والقوة أو الملكة العقلية التي تقوم بهذا الدور هي (الذهن) (أو (الفهم). كما إن حساسية العقل، أو قدرته على قبول التأثرات، هي التي تقوم بالعيان أو الإدراك. وقد قرر (كانت) إن هناك اثنتي عشرة (مقولة) أو (تصوراً خالصاً)، تكون، مع المبادئ القبلية اللازمة عنها، ومع المكان والزمان، شروط إمكان التجربة. وتندرج المقولات، ثلاثاً ثلاثاً، تحت أربعة عناوين أساسية، وتؤلف بذلك مقولاً (الكمية) و (الكيفية) و (النسبة) و (الجهة). ولا حاجة لنا إلى التحدث عن هذه المقولات، ما دام شوبنهاور نفسه قد نبذها جميعاً، إلا مقولة واحدة: هي (العلية). وحسبنا أن نشير - في ختام هذه الخلاصة لمذهب (كانت) - إلى نقطتين أساسيتين فيه؛ أولاهما إن عالم الظواهر متوقف برمته وبغير استثناء على الذات وشكولها القبلية وإن عالم الأشياء في ذاتها (أو بالأحرى عالم (الشيء في ذاته)، ما دام إن (الكمية) مقولة ذهنية) مستقل عن الذات وصورها الفطرية، ولسنا نعرف، ولا يمكن أن نعرف، عنه شيئاً؛ فهو (س) مجهولة. والنقطة الثانية إن قيام الظاهرة مشروط، مع ذلك بتأثير الموضوع أو الشيء في حواسنا.
وقد هوجمت فكرة الشيء في ذاته منذ ظهورها هجوماً عنيفاً. كيف يزعم (كانت) إن(717/18)
الموضوع (يؤثر) في الحساسية، وأن تأثيره ضروري لحصول الإدراك، مع إنه يؤكد في (التحليل المتعالي) إن المقولات، كمقولة الجوهر والواقع والعلية، لا تصح وراء عالم التجربة الممكنة، عالم الزمان والمكان؟ إن العلية تتعلق بالظواهر وحدها، فليس من حقنا أن نطبقها على ما هو خارج الظواهر، وليس لنا أن نصف الشيء في ذاته بأنه علة للظاهرة، بل ولا أن نقول بوجوده أصلاً. إذ من أبن لنا إنه موجود، وعلمنا محصور في دائرة التجربة؟ وكيف نزعم إنه (س) مجهولة ثم نقول إنه موجود، وإنه علة الظواهر؟
كذلك انتقد (الشيء في ذاته)؛ ومن جملة ناقديه (شولتسه) أستاذ شوبنهاور، و (فشته) الذي أنكر، بناءً على هذا النقد، أن يكون ثمة حقيقة مطلقة خارج (الذات)، وانتهى من ذلك إلى أن الشيء في ذاته هو الذات أو الأنا؛ فالأنا المطلق اللا متناهي يضع نفسه بنفسه، ويضع اللا أنا أو العالم الخارجي. على أن فشته، كما يلاحظ شوبهاور، لم يزد على أن جعل الذات (علة) للعالم الموضوعي، مع إن العلية هي الصورة القبلية لكل موضوع مدرك فقط، فلا يمكن أن تعدو عالم الموضوعات إلى العلاقة بينه وبين الذات.
وعلى أن شوبنهاور يأخذ بالنقد الموجه إلى فكرة الشيء في ذاته بحسب مفهومه عند كانت فإنه لا ينتهي من ذلك إلى إنكاره وإبطاله، وإنما هو بضد ذلك يقر (كانت) على القول به، ويراه كما رآه سلفه العظيم المطلق الكامن وراء عالم الظواهر. وإنما الذي يأخذه عليه إنه جعل هذا المطلق (علة) و (موضوعاً)، ووقع بذلك في الخلف والشناعة. إذ لا علة وراء إمكان التجربة، ولا موضوع بغير ذات. والقول بموضوع في نفسه، بموضوع لا تعرفه الذات، تناقض في الحدود. كل موضوع فهو بالضرورة موضوع بالنسبة إلى ذات، أو إدراك مدرك. ليس الشيء في ذاته بظاهرة أو فكرة، ولا هي بشيء (موجود) بالفعل، وإنما هو المطلق المستقر وراء الظواهر والموجودات الواقعية؛ هو ذاك الذي (يظهر)، ذاك الذي يرد أن يوجد، لأنه غير موجود. إنه الإرادة - إرادة الوجود. وقد قرر (كانت) إن الشيء في ذاته ممتنع على المعرفة، وشوبنهاور يسلم له هذا أيضاً، إن كان المقصود بالمعرفة المعرفة الخاضعة لمبدأ السبب الكافي؛ ولكن هناك ضرباً من المعرفة المباشرة، نستطيع أنن نكتشف به المطلق، ونكتشف إنه إرادة سرمدية: نزوع مطلق إلى الوجود والحياة والتحقق الموضوعي.(717/19)
وليس عالم الظواهر بمعلول للشيء في ذاته أو الإرادة، لأن العلية لا تصح إلا على الظواهر وحدهاً؛ وليس هناك، إن طلبنا الدقة في التعبير، عالمان مترابطان برابطة العلة والمعلول، وإنما هو عالم واحد ذو وجهين، وجه الفكرة أو التمثل، ووجه الإرادة أو النزوع - والأول مرئي مشهود، والثاني مغيب غير منظور. إنه من جهةٍ فكرة كله، ومن جهةٍ إرادة كله؛ وبعبارةً أخرى، إذا نظرنا إلى العالم من الخارج فهو فكرة، وإذا نظرنا إليه من الداخل فهو إرادة. وبعبارة أصح، ليس عالم الظواهر إلا تجسم الإرادة، أو تحققها الموضوعي؛ إنه الإرادة كما نراها، كما تبدو لنا.
وصور العالم المرئي هو الزمان والمكان والعلية، وهي كل ما استبقاه شوبنهاور من جهاز (كانت) القبلي؛ على إنه جعل ما أسماه بمبدأ السبب الكافي التعبير العام عن هذه الصور، كما إنه أدرج هذا المبدأ، في كل أشكاله، تحت صورة عليا، هي ازدواج الذات والموضوع، وسنأتي بعد على بيان هذا كله.
وبفضل المكان والزمان والعلية يتم لنا، ولسائر الحيوانات إدراك العالم الخارجي. والذي يقوم بهذا الإدراك أو العيان، ويربط المدركات الحسية برباط العلية، هو (الذهن) وحده، لا الحساسية ثم الذهن، كما ذهب إلى ذلك (كانت)؛ ولا (العقل). ولذا (فكل عيان ذهني). وقد ميز شوبنهاور بين (الذهن) و (العقل) كما ميز (كانت)، ولكن على حين أن الأخير جعل العقل (بمعناه الضيق) قوة الصور أو المثل الكلية المنظمة لأحكامنا، قصره الأول على قوة التصورات المجردة، التي يتميز بها الإنسان على العجماوات، وليس من شأن هذه الملكة أن تكتشف أو تبتكر شيئاً، فذلك من شأن الذهن وحده، وإنما شأنها تجريد المدركات، وتعميمها، وربط بعضها ببعض، وحفظها، وتيسير استعمالها في المقاصد العملية.
(يتبع)
عبد الكريم الناصري(717/20)
يا إخواننا في وادي النيل!
(مهداة إلى الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي)
للأستاذ غائب طعمة فرمان
قرأت - فيما قرأت - في الرسالة الحبيبة إلى القلوب، العزيزة على النفوس، مقالة بليغة للأستاذ الكريم على الطنطاوي عنوانها (يوم من أيام بغداد) أجرى فيها من روحه الأبية، ومن دمه الكريم، قوة متفجرة تهز قلب كل عربي غيور، وتوقظ همة كل أبي أشم؛ فقد - والله - لمست منها قوة العاطفة، وسمو النفس، وكرم المحتد.
(ليست كالمقالات، جملاً ترصف، وكلمات تؤلف، ولكنها قلب يتفطر، وديناميت يتفجر. . .).
وغاية الأستاذ الكريم من هذه الكلمة الجميلة إيقاد الهمم، وإيقاظ النفوس، وشحذ العزائم؛ ليعلمنا (. . . إن مصر. . . أختنا الكبرى في العروبة، وقضية مصر قضيتنا، ووادي مصر وادينا، وعدو مصر عدونا، وإننا إن نخذل مصر نخذل بلادنا، وإلا نكن معها نحن أمتنا). ويتساءل في النهاية مخاطباً بغداد (أفتنامين يا بغداد في سرر الأمان ومصر في الشوارع تصارع الذئاب؟).
وليطمئن الأستاذ إلى إخلاص الشباب العراقي جميعاً.
وليثق بنا في ساعات المجد وفي سوح القتال.
وليعلم إن أجفاننا لا تهدأ، وإن قلوبنا لا تستقر، وإننا لا نخلد إلى السكينة، ولا ننام في سرر الأمان ما دامت مصر تتألم، والمغرب العربي يئن تحت نير الاستعمار، وفلسطين المجاهدة تتناهبها الأطماع، وتنهشها الذئاب البشرية، ويعبث بها أرباب المصالح الأجنبية، وترواغ في حقوقها ثعالب الصهيونية.
أجل لن نهدأ ولن نقر عيناً والبلاد العربية مجروحة تتنزى ألماً، لأن الشعلة المتوقدة في قلوبنا، والشجاعة الممتزجة بدمائنا، والإخلاص الثابت في نفوسنا، والصرخة المدوية في أعماق ضمائرنا - صرخة الحق، والعدالة، والحرية - كلها لا تزال في توقدها، وقوتها الأولى.
كلها أسس حياتنا، ومقدسات فكرنا، ومثلنا العليا التي نؤمن بها إيماننا بديننا.(717/21)
إننا - معشر الشباب العراقيين - لا تزال ثابتين على عقائدنا، حافظين لعهودنا، سائرين في طريقنا القويمة وفق دستورنا العربي المقدس.
نحن لا نزال - كما عهدتنا - مؤمنين بحقنا الأسمى في الحياة، ذابين بأرواحنا وبما تملك أيماننا، رافعين راية الجهاد ضد كل معتد أثيم.
الحق، والعدالة، والحرية، ومكارم الأخلاق، والعزيمة، والإخلاص مواد دستورنا الأولى.
مصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، والجزيرة العربية، وشمال أفريقيا، بلاد أمتنا الكريمة.
ولسنا من العرب في شيء أن تخاذلنا في نصر كل بقعة من بقاعها.
أقسم لك أيها الأستاذ الكريم إننا لا نزال كما عهدتنا نناصر كل بلد عربي؛ إننا نتألم لسوريا ولبنان في محنتهما كما نتألم لمصر والسودان في قضيتهما، وإننا نفزع إلى الجهاد في سبيل فلسطين، كما نفزع إلى الذب عن الغرب الأقصى، المغرب العربي الكريم.
وشاعت في هذه الأيام أن العراق يتوانى عن مساعدة مصر في قضيتها. وتلك لعمري سبة للعراقيين.
فالعراق لا يتوانى ولن يتوانى عن نصرة البلاد العربية لأنه يشعر شعوراً عميقاً بما يصنعه الاستعمار البريطاني إن جروحه لم تندمل وإن صدى البارود لم يذهب عن أذنه، وإن طيف الثورة العراقية الكريمة منتصب أمام عينيه.
وما تلك النهم إلا دسيسة أجنبية تجد طريقها إلى عقول بعض السذج. إنها ألاعيب استعمارية تبث لتفريق الكلمة، وتشتيت الشمل، وشغل العقول.
إذا أردت أن تتأكد من صواب قولي؛ فلا تعتمد على ما تذيعه الصحف، وما تروجه الألسنة المغرضة، بل تعال معي إلى المحلات العامة، تعال معي إلى الشعب العراقي لنسأله: تعال إلى التلميذ في مدرسته، والعامل في معمله، والموظف في دائرته، والفلاح في حقله.
تعال إلى هؤلاء وأنظر إلى ما يقولونه.
تعال أتسمع القصة من أفواههم، ولتلمس أفكارهم: وتسبر غور أنفسهم، ولتعلم بم يفكرون؟
إنني لأقسم لك إنهم يفكرون في قضايا بلادهم، بلادهم بالمعنى الشامل الواسع، البلاد العربية: مصر، الشام، فلسطين، شمال أفريقيا.(717/22)
وفي هذه الأيام يحل الوفد السوداني ضيفاً على العراق. فهل تعلم ما كان في نفس كل عراقي؟
لقد كانت في نفوسنا أحاديث قلبية نريد أن نبلغها.
لقد كانت قلوبنا تخفق، وشفاهنا ترتجف، وعيوننا تبتسم، ونفوسنا في هزة من الشوق.
لقد كانت في قلب كل عراقي كلمات يود أن يبلغها إلى الوفد السوداني الكريم قائلاً: يا إخواننا في وادي النيل إننا نؤيدكم من صميم، ونناصركم بأرواحنا، ونهتم بقضيتكم اهتمامنا بقضيتنا بل أكثر منها. . . إن الجراح التي تحسونها في بلادكم نشعر بها ونتألم لها. . إننا صوت واحد، صوت قلبي يصرخ في وجه المعتدي الأثيم: تباً لك من وغد، هذه الأرض أرضنا نريق من أجلها دماءنا. . . فلا تصدقوا ما يقوله عنا المستعمرون.
وفي النهاية نصرخ صرخة الشاعر العراقي:
أبشري يا طلعة الوادي الأمين ... جاءك الأبطال بالنصر المبين
قد سمعنا عنك ما روعنا ... فأتيناك أسوداً لا تلين
بغداد
غائب طعمة فرمان(717/23)
حول (أغنية السودان)
للأستاذ علي متولي صلاح
نحمد لمحطة الإذاعة اختيارها - الفنية بعد الفنية - إحدى روائع شوقي الخالدات لتغني على الناس في مناسبة عابرة أو ظرف قائم أو لمقتضى حال يجب أن يقال فيه ما يطابقه.
وقد أحسنت الصنيع يوم اختارت قصيدته (نكبة دمشق) التي مطلعها (سلام من صبا بردى أرق)، وأحسنت الصنيع يوم اختارت قصيدته (ذكرى المولد) التي مطلعها (سلوا قلبي غداة سلا وتابا) ولو إنها أضافت إليها - توهما منها أن ذلك يجعلها أدنى إلى المناسبة القائمة وأكثر مطابقة لمقتضى الحال - ما كان منها كالرقعة الرخيصة في الوشى الثمين، ولو لم تفعل لتمت المطابقة دون الحاجة إلى هذا التكلف!
وأحسنت المحطة الصنيع أيضاً حين اختارت - في الأسبوع المنصرم - قصيدته (شهيد الحق) التي مطلعها (إلام الخلف بينكما إلاما) التي قيلت بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة المرحوم الزعيم مصطفى كامل، وأطلقت عليها اسم (أغنية السودان)!. .
ونحن نشكر للمحطة جاهدين أن تختار الشعر العالي، ونود لو إنها تتحلل يوماً بعد يوم من هذا الهذر والسخف الذي تنطق به حناجر بعض المغنين فيها، وإن تترك هذه الأغنيات الرخيصة المائعة التي تتسرب إلى نفوس الناس سماً وفساداً وانحلالاً. . . غير إننا ونحن بصدد الحديث عن اختيارها لقصيدة (شهيد الحق) نريد أن نبصرها بأمور كانت عسية أن تتجنبها، وليكون ذلك دستوراً لها إن أرادت حقاً أن يغني بها شعر رفيع عال كهذا الذي تختاره من شعر شوقي، وإن ذلك لجدير - في المستقبل - أن يعفيها من كل لوم، وأن يجنبها كل زلل، ويوقيها كل عثار.
1 - فنحن لا نفهم أولاً كيف تعدو المحطة على التاريخ الأدبي والتاريخ السياسي فتنحرف بالقصيدة عن الغرض الذي قيلت فيه وتخرجها عما إليه قصد منشئها، ثم تعدو بذلك على ذكرى غالية لزعيم وطني من طراز قل أن يوجد بين الزعماء؟؟ ثم تسميها عنوة واقتداراً (أغنية السودان) وما بها صلة بالسودان إلا إنه ذكر فيها مرة!! ولقد كان للمحطة معدى عن ذلك لو إنها تمهلت قليلاً في الاختيار، أو وكلته إلى أهل الذكر في الأدب الذين يعرفون قول الذي قال:(717/24)
قد عرفناك فاختيارك إذ كا ... ن دليلاً على اللبيب اختياره!
كان لها معدى عن ذلك باختيار شعر آخر أو قصيدة أخرى لشوقي، وله في الوطنية شعر كثير، أو لحافظ وله قصائد متفرقة تفيض وطنية وحثاً على الاتحاد والائتلاف وتنديداً بالفرقة والاختلاف، ولكن محطة الإذاعة راقها مطلع القصيدة (إلام الخلف بينكمو إلاما) وملك عليها أمرها فلم تجد عنه منصرفاً! على إننا لا نفهم كيف أسمتها قصيدة (السودان) وأغل أبياتها التي غناها عبد الوهاب موجهة إلى (شهيد الحق) مصطفى كامل وكيف يوفق سامعوها بين عنوانها هذا وبين تلك الأبيات؟؟
2 - على إن المحطة وهي تريد الدعوة إلى الائتلاف والاتحاد أغفلت الأبيات التي تؤدي إلى ذلك وتدعو له في القصيدة لأسباب يعلمها الله وحده! وإلا فهل دل على هذا الذي تهدف المحطة إليه من قول شوقي: -
لقد صارت لكم حكماً وغنما ... وكان شعارها الموت الزؤاما
وثقتم واتهمتم في الليالي ... فلا ثقة أدمن ولا اتهاما
ومن قوله: -
وكانت مصر أول من أصبتم ... فلم تخص الجراح ولا الكُلاما
إذا كان الرماة رماة سوء ... أحلوا غير مرماها السهاما
أبعد العروة الوثقى وصف ... كأنياب الغضنفر لن يراما
تباغيم كأنكمو خلايا ... من السرطان لا تجد الضماما؟
ومن قوله وقد يكون فيه دعوة واضحة صريحة إلى أن يكون الحكم في أيدي الأحزاب جميعاً متحدين مؤتلفين: -
ولينا الأمر حزباً بعد حزب ... فلم نك مصلحين ولا كراما
جعلنا الحكم تولية وعزلا ... ولم نعد الجزاء والانتقاما
وسنا الأمر حين خلا إلينا ... بأهواء النفوس فما استقاما!
ولكن الأمر ما أغفلت المحطة كل ذلك. . .
3 - كان التلحين الذي غناها به محمد عبد الوهاب بعيداً غاية البعد عن المعنى المنشود، لقد كان هذا اللحن أبعد شيء عن معاني الوطنية والاستنهاض والدعوة السريعة العاجلة إلى(717/25)
الاتحاد والتهكم اللاذع - بالموسيقى اللاذعة - بهذا الاختلاف وتلك الفرقة، والمناداة العالية برأب الصدع، واللهفة الحارة إلى جمع الشمل. . . ما أحست والله وأنا أسمعها إلا بأنين وحشرجة وخفوت ونوم واحتضار!!
فرفقاً بالأدب العالي والموسيقى العالية يا محطة الإذاعة.
علي متولي صلاح(717/26)
الأدب في سير أعلامه:
8 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
بين العبث والندم
لن يصبر الفتى على المقام طويلاً ببسنايا، فإن المدينتين: موسكو وبطرسبرج لا تزال تدعوانه إلى مفاتنهما وزينتهما، وما إن يأخذ الفتى حظه من اللهو في إحداهما أو في كليهما حتى ينطلق إلى ياسنايا يطلب الهدوء ويأمل في التوبة، ويرجو أن يتفرغ لشؤون ضياعه، وعلى هذه الحال قضى الفتى ثلاث سنوات يلقي به طول عبثه إلى الندم، ويؤدي به سأمه من ندمه إلى ما كان فيه من عبث؛ وكان في حاليه يمثل حياتي أخويه. فإذا أمعن في عبثه ومجونه وعدم اكتراثه لشيء مثل حياة سيرجي، وإذا ندم وتقشف وزهد الحياة الدنيا وزينتها عاش عيشة ديمتري
ولم يقف عبثه عند حد في العاصمتين؛ فهو في ليله يسرف في الميسر ويغشى أمكنة اللهو وينتقل بين (صالونات) الارستوقراط وأماكن الغجريات المغنيات، يقضي أرب مشاعره من الجمال البهجة، وغاية بدنه من الفسوق والرجس، وهو في نهاره يستمتع بالصيد أو بركوب الصافنات الجياد، أو يملأ فراغه يلعب الورق أو الشطرنج أو بكتابة ما يداخله من ندم في دفتر يومياته، أو باللعب ساعة على البيان، وهو في ليله وفي نهاره يشرب الخمر ويصيب ما يلذه من طعام في أشهر مطاعم المدينة وأغلاها ثمناً. يفعل ذلك في رفقة من صحابته يعبثون ويلهون كما يعبث ويلهو، ويفوزون منه بما ينفق عليهم من ماله. . .
ويحاول أحياناً أن يصنع ما نصحت به عمته تاتيانا إليه، وذلك أن يرتبط بفتاة ذات خلق وكرم محتد، فيدور بعينيه في سهرات الأرستقراط يطالع وجه الأوانس، ويخفق قلبه هذه أو لتلك، ولكنه لا يلبث حتى ينطلق تحت ستار الظلمة إلى حيث يلقي نفسه بين ذراعي إحدى الغجريات!
ويحلم تارة أحلام الزواج فيهو قلبه إلى الآنسات في صحبة أمهاتهن وقد تبرجن وأبدين(717/27)
زينتهن، ويتظرف في حديثه ويظهر أكثر ما يستطيع من مظاهر الارستقراطية والنبل، ولكنه سرعان ما ينصرف عن هذا إلى ما يوسوس به الشيطان من فجور وإثم يطفئ به ضرام بدنه القوي الذي ما يزال يلتهب من شهوة ويعود إليه تارة تخيله إنه محب وإنه أسير هوى غادة عرفها في موسكو هي الأميرة شرباتوث، وإن كانت هذه الغادة لتجهل كل الجهل ما تحدثه به نفسه من حب، ولا تفطن إلى ما يخيل إليه إنها بعثته في نفسه من عاطفة. . .
وكذلك تساوره أحياناً رغبته في الكمال، تلك الرغبة التي تسلطت عليه زمناً في قازان، ولكن الكمال هنا يتخذ منحنى جديداً غير منحنى الثقافة والمعرفة؛ فهو يريد اليوم أن يكون رجل مجتمعات، يشار إليه في المنتديات والصالونات، ويريد أن يكون حديث مجالس ينصت إله ذوو المكانة ويصفونه بأحسن أوصافهم من النبل والتهذيب والظرف واللباقة؛ ولكنه لا يستقر على هذا الاتجاه. وما هي إلا أن توسوس له أقل المغريات حتى يعود إلى مجونه وجنونه، ليعب منهما ما يشاء له شبابه ثم يعمد إلى دفتره فيثبت فيه ما يخالجه من ندم ومن تأنيب منه لنفسه؛ وهكذا يحيا الفتى في المدينتين حياة لا تختلف عن حياته في قازان إلا ربما يكون من إفراد في اللهو وإسراف في المال.
ولن يزال الفتى كالفراش الهائم يطير من زهرة إلى زهرة، ومن ثمرة إلى ثمرة، أو يقع على اللهب ليرتد عنه ثم يجذبه الضوء فينجذب إليه، ولا يجد ما يبثه خلجات شعوره ونوازع وجدانه إلا دفتر يومياته؛ كتب في هذا الدفتر سنة 1850 يقول وقد كان في موسكو (إن هذه ثالث سنة لي أقضي شتاءها في موسكو دون أن أكون في منصب ما؛ هنا حيث أفضي حياة سخيفة لا غناء فيها، حياة فارغة لا تهدف إلى غرض؛ ولم أحي هذه الحياة لأن كل امرئ في موسكو يفعل مثلما أفعل، ولكن لأن مثل هذه الحياة هيأت لي أسباب المسرة).
وبلغت حاله من السوء في أواخر تلك السنة بما أسرف على نفسه من الميسر أن أصبح يطلب القليل من المال فلا يكاد يجده ولذلك فكر في أن يشغل منصباً يرتزق من وظيفته، واتجه إلى منصب مدير البريد في مدينة تولا؛ ولكنه لم يجد من ذوي النفوذ من أقربائه من أعانه على تحقيق هذا المطلب، كما لم يجد في نفسه المقدرة على أن يعمل عمل الموظفين فانصرف عن هذا المتجه. . .(717/28)
لكن ماذا عسى أن يصنع وقد اشتدت به الحاجة إلى المال وفدحته أعباء الدين؟. . . يا عجباً! إنه يريد أن يحذق لعب الورق ليكس المال من الميسر، عسى أن يعوض شيئاً مما خسره فيما سلف من لعبه، وإنما هو كما عرف من قبل وسيلة لإتلافه؛ ثم إن الفتى يضيق بحياته هذه حتى ما يطبق صبراً فيفد إلى ياسنايابوليانا ويقضي الفتى في ضيعته بضعة أشهر لا يكدر عليه صفوه ولا يقطع هدوءه إلا إلحاح عاطفته الحيوانية عليه وظمأ بدنه ذلك الظمأ الذي لا يفتر؛ ولكنه يغالب تلك العاطفة بكل ما في طوقه من عزم، ويصبر على ذلك الظمأ ما وسعه الصبر؛ ثم لا يلبث حتى يجد نفسه وقد غلب على أمره فعاد أكثر مما كان نهماً وطمعاً. والحق إنه كان يعاني كثيراً من الضيق من جراء فشله كلما فشل في مغالبة هذه العاطفة؛ أشار إلى ذلك مرة لأحد مترجمي حياته بعد أن تقدم به العمر فذكر إنه ما من شيء كان أشق على نفسه من محاولته قهر هذه العادة التي تسلطت عليه فلم يقو على دفعها؛ ولقد كان يتأثم منها ويندم أشد الندم كلما منى بفشل جديد، تجد ذلك في مثل قوله سنة 1850 (إني أعيش عيشة بهيمية، ولقد هجرت كل ما عسى أن يشغلني من عمل؛ وإن ذلك ليكدر روحي كدراً شديداً).
ولا يكاد الفتى يجمع من المال قدراً حتى يعود إلى موسكو في شهر مارس سنة 1851؛ وفي نفسه هذه المرة أن يبتعد عن كل ما يشين لأنه اليوم يريد أن يصل إلى مكانة مرموقة في المجتمع وأن يشغل منصباً ذا خطر وأن يتزوج من ذات ثراء ومحتد. . .
وراح يغشى أواسط الارستقراط يشهد الحفلات والولائم، يهمه أن يتعرف على العلية وذوي المكانة والنفوذ؛ إذا جلس في حلقة أخذ بقسط موفور من الجدل والحديث، وحاول ما استطاع أن يكون هو الذي يدبر الكلام ويصرف وجوهه، وحرص على أن تكون آراؤه مثيرة للدهشة أو للانتباه أو للمعارضة، واجتهد أن يبرز أقصى ما لديه من علم فيما يتشقق إليه الحديث من مسائل فيفيض ويشرح وجهة نظره ويسرد الأمثلة ويبسط الحجج في لهجة المتمكن القادر.
وعادت تطوف برأسه أحلام الزواج؛ وعاد يتذكر ما تمنته له عمته تاتيانا؛ فقد كان أجمل ما تمنته له في رأيها أن يتزوج بفتاة عظيمة الثورة وأن يمتلك من رقيق الزراع أكثر ما يستطاع أن يمتلك؛ ولكنه يرى إن مثل هذا الرباط لن يكون إلا بالحب، وهذا ما لا يحس(717/29)
أنه انتهى فيه إلى رأي. . .
وكان لا يزال يطمع أن يعينه بعض ذوي النفوذ والجاه من أقربائه أو أصدقائه على أن يظفر بمنصب من مناصب الدولة ينعم فيه بالمال والجاه، ولكنه لم يصل من ذلك إلى كل ما يريد. .
وكان قد صمم عند مجيئه إلى موسكو ألا يقرب الميسر وقد أوصته عمته أن يتحرر من هذه العادة المتلفة للمال الموبقة للروح؛ ونفذ الفتى أول الأمر ما عقد عزمه عليه وابتعد عن الميسر كل الابتعاد كأنه أمر ينفر منه بطبعه؛ ولكن ما كان أعجب عودته إليه بعد قليل بأمل من جديد أن يجد فيه مخرجاً مما هو فيه من عسر؛ ولعب ما وسعه اللعب وخسر خسارة كبيرة، ولكن الخسارة لم تزده إلا إسرافاً في اللعب وعد اكتراث لما يكون للعب من عاقبة حلوة كانت أو مرة قاسية المرارة؛ ولقد بلغ به الأمر أن رهن ساعته يوماً ليدفع ثمن معطف ذي فراء أراد أن يدخل على روحه بعض البهجة يلبسه والتنبل به وإن صفرت من المال يده. . .
وضاق صدره بحياته على هذه الصورة وعزا هذا الاضطراب إلى ضعف عزيمته. كتب في دفتره يقول (إن ألاحظ إن أهم عاطفتين تتسلطان علي هما الميل إلى اللعب ثم الغرور)؛ وراح يتهم نفسه كل يوم في دفتره ويندم ما وسعه الندم؛ وجعل لكل يوم من أيام الأسبوع في دفتر آخر فضائل يؤديها وأخذ يشير بعلامة إلى ما قصر في أدائه حتى لا يعود إلى التقصير في مثل ذلك اليوم من الأسبوع التالي؛ ثم لاذ الفتى بالدين فزهد الحياة أياماً فصام وصلى وألف دعاء يدعو به الله ليخرجه مما هو فيه. .
ولمحت للفتى بارقة أمل؛ لم لا يجعل الأدب حرفة له؟ ألم تكن عمته تاتيانا على حق قالت له ذات يوم (إني أعجب يا عزيزي ليو كيف لا تكتب رواية ولك مثل ما لك من خيال؟).
وكان الفتى يقرأ القصص أكثر ما يقرأ، ولم ينقطع عن القراءة مهما شغلته الشواغل أو ملأ حياته اللهو، ولا يزال إعجابه بروسو عظيماً، وكذلك لا يزال يجعل لدكنز منزلة عظيمة في نفسه؛ أما الكتاب الروس فقد كل يقبل منهم على بوشكين وجوجول إقبالاً شديداً، وكان لثانيهما تأثير قوي في خياله وعلقه؛ وبدأ يلتمع اسم ترجنيف وكان أكبر من تولستوي بعشر سنوات، وقد نشر أكل كتبه سنة 1847 وهو مذكرات رجل صيد، وكان لهذا الكتاب كذلك(717/30)
تأثير عميق في خيال ليو ووجدانه، وبخاصة ما أظهره مؤلفه في فنه القوي المحكم من حياة رقيق الأرض. . . وقرأ الفتى لغير هؤلاء الكتاب كتب شلر وكتب ستيرن وغيرهما من فحول القصة والشعر.
وتصادف أن كانت قصة دكنز العظيمة دافيد كوبرفيلد تنشر يومئذ تباعاً في إحدى المجلات فأحدثت في نفسه أثراً لم تحدث مثل قصة غيرها وظلت لها في نفسه المكانة الأولى حتى آخر حياته.
وماذا عسى أن يكتب الفتى؟ ذلك ما حيره أول الأمر حيرة شديدة؛ أيصف حياة الغجر كما فعل بوشكين وإنه اليوم بهم عليم؟ أيكتب قصة عمته تاتيانا؟ لا إنه لا يميل إلى هذه ولا إلى تلك فماذا يكتب؟ ليصف زيارته بالأمس لتلك الأميرة شيرباتوف التي ظن أنه يحبها؛ وأقبل الفتى فوصف هذه الزيارة، ولقد نشرت هذه القصة الصغيرة حديثاً بعد أن عثر عليها ورأى الناس أول عمل أدبي لنابغة كتاب القصة في القرن التاسع عشر فإذا بهذه الباكورة تنطق بكثير من دلائل عبقريته. . .
ويقول ليو في دفتره (إن الوصف ليس كل شيء. كيف ينقل المرء إلى القارئ شعوره؟). قال ذلك لأنه كان قد اعتزم أن يجعل الوصف غايته من الكتابة فيصف كل ما تقع عليه عيناه.
ثم بدا له وكأن أثر دافيد كوبرفيلد قوياً في نفسه أن يكتب أيام طفولته، وانكب على الكتابة كل صباح من الساعة الخامسة حتى الحادية عشر حتى أتم باكورة آثاره التي كتب لها الخلود.
ولكن حياة اللهو وما أسفاه تعود فتصرفه عن هذا الجد. فيقبل على لذاذاته ويسرف من جديد في مجونه وعبثه، ثم لا يجد آخر الأمر خيراً من أن يلوذ بضيعته من هذه الحياة التي سئمها وسئم نفسه بسببها فيعود إلى باسنايا في صيف عام 1851 ولم يتزوج من ذات ثراء ولم يظفر بمكانة في المجتمع ولا بمنصب خطير من مناصب الدولة، ولم يتحرر من الميسر ولا مما يوهن عزمه من نوازع بدنه القوي الذي لا تهدأ حيوانيته. . .
وأقام في القرية أياماً يخالجه شعور الندم على ما كان من عبثه الذي أسرف فيه على نفسه وشعور الحسرة على ما آلت إليها حاله من عسر ومن دين، وينظر اليوم إلى هؤلاء الرقيق(717/31)
الزراع الذين أراد إصلاحهم بالأمس فيؤله أنه انقلب اليوم مبدداً لما تنتجه أيديهم من خير؛ فلا هو أصلحهم ولا أفاد من كدهم إلا ذلك المال الذي يذهب هباء في الميسر والترف والغرور والفسوق.
وينقاد إلى جموح بدنه في القرية كما كان يفعل في المدينة، لا يهدأ هذا البدن ولا ينطفئ لهبه؛ ولكنه يشعر باشمئزاز شديد ذات ليلة أثر فعلة من فعلات الشباب فعلها تحت جنح الظلام، وكأنما استيقظت في نفسه مشاعر جديدة في تلك اللحظة جعلته ينكر هذا الذي فعل إنكاراً شديداً كان أكثر قيمة من ذلك الندم الذي كان يخالجه كل مرة ثم لا يلبث أن يموت.
كره الفتى حياته كرهاً شديداً، وضاق بالمقام في ياسنايا وفي موسكو وفي بطرسبرج، وما له غير الرحيل شفاء لنفسه ومنجاة لروحه، فليرتحل إلى حيث لا يجد شيئاً يذكره بالذي كرهه أشد الكره وأنكره كل الإنكار من مواطن مجونه وعبثه وفراغ حياته.
(يتبع)
الخفيف(717/32)
محاضرات في التفسير
للأستاذ علي العماري
تحتفل قاعة المحاضرات بدار الحكمة في يوم الأربعاء من كل أسبوع بنخبة ممتازة من رجال العلم والأدب في القاهرة يستمعون إلى أحاديث في تفسير القرآن الكريم يلقبها طائفة من العلماء الأعلام، سمعنا منهم إلى الآن فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف والدكتور عبد الوهاب عزام بك والأستاذ عبد الوهاب حمودة، ومع إنهم أسمعونا الطيب المعجب، وطالعونا بأساليب جديدة في تأويل الآيات وفهمها وتفهيمها، ومع إننا نحب أن نسمعهم كثيراً إلا إننا مع ذلك نحب أن نسمع غيرهم من كبار المشتغلي بدراسة القرآن الكريم، فإننا اليوم في حاجة إلى الإطلاع على أكثر من أسلوب في هذا التفسير خصوصاً وقد زاد تنبه الأذهان إلى ضرورة وضع تفسير جديد سهل المأخذ قريب التناول خالياً من تلك الأساطير التي ملأ بها المفسرون كتبهم، وليس القول في قلة جدوى هذه التفاسير، وعدم غنائها من مواليد هذا العصر ولكنه قديم، فقد أنحى بعض العلماء الفضلاء عليها باللائمة، ومن هؤلاء إمام البلاغة الشيخ عبد القاهر الجزجاني فقد قال في كتابه دلائل الإعجاز (ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن توهموا أبداً في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل إنها على ظواهرها فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضوع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل. هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق).
ونحن اليوم أكثر معرفة بهذه الأبواب المفتوحة من الجهل في بعض التفاسير، وأشد حاجة إلى أسس جديدة صحيحة غير هذه الأسس القديمة، وهذه المحاضرات تبشر ببداية حسنة، ففيها من دقة الفهم، وجمال العرض والبعد عن الفضول ما يجعلنا نؤمل أن تكون خطوة أولى في سبيل وضع هذا التفسير المرتقب، ويا حبذا لو قام المشرفون على تنظيم هذه المحاضرات بطبعها حتى تذيع وتنتشر ويعم بها النفع.
وقد استمعت في آخر مرة إلى فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف يفسر الآيات الأولى من سورة آل عمران، وقد أعجبت به إعجاباً ملأ نفسي، غي إني كنت أود أن(717/33)
أناقشه في بعض ما عرض له، وقد لقيته بعد المحاضرة فاعتذر بأنه متعب فرأيت عرضها على صفحات الرسالة الغراء، ذكر الأستاذ - كغيره - إن القرآن اشتمل على كثير من السنن الكونية، ولست أريد أن أخالف عليه في هذا، وأن أعيد ما قاله جماعة من كبار العلماء وفندوا به هذه النظرة إلى القرآن فلكل وجهة، وقال إن القرآن صريح في الدلالة على هذه الحركة وذكر قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) وربما تعجب معي كيف ذهب على المحاضر - وهو رجل فاضل - موضع هذه الآية من القرآن، ولكن هذا يدلنا أكبر الدلالة على استيلاء النقص على جملة البشر، والعرب يقولون في أمثالهم (قد يكبو الجواد). هذه الآية في سورة النمل تصور حالة من أحوال يوم القيامة (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش) وكما قال تعالى في سورة الكهف (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً) جاءت هذه الآية في هذا السياق (ونفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، وكل أتوه داخرين، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون) فليس بخاف أن الآية تذكر حالة من أحوال ذلك اليوم وليس فيها أية إشارة إلى حال الجبال في الدنيا وقد بدا لبعض من ناقشته في هذا الأمر إن قول الله تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) فيه دليل على إنه هذه الرؤية مما يكون في الدنيا وإليه ما قاله الإمام الزمخشري في تفسيره الكشاف (صنع الله. يريد به الإثابة والمعاقبة، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب حيث قال (الذي أتقن كل شيء) يعني إن مقابلته الحسنة بالثواب، والسيئة بالعقاب من جملة إحكامه للأشياء، وإتقانه لها، وإجرائه لها على قضايا الحكمة إنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه فيكافئهم على حسب ذلك).
على العماري(717/34)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشينبي
902 - مناظرة بين عالمين
سأل الإمام أبو الحسن الأشعري شيخ السنة الإمام أبا علي الجبائي رئيس المعتزلة عن ثلاث أخوة، أحدهم كان مؤمناً براً تقياً، والثاني كان كافراً فاسقاً شقياً، والثالث كان صغيراً، فماتوا فكيف حالهم؟
فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة.
فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟
فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما قد وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات.
قال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة.
فقال الجبائي: يقول الباري (جل وعلا) كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت، وصرت مستحقاً للعذاب الأليم فراعيت مصلحتك.
فقال الأشعري: فلو قال الأخر الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي فلم راعيت مصلحته دوني؟
فقال الجبائي للأشعري: إنك مجنون.
فقال: لا، بل وقف حمار الشيخ في العقبة! وانقطع الجبائي.
903 - أمريكة. . .
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لأبن فضل الله العمري:
قال شيخنا فريد الدهر أبو الثناء محمود أبي القاسم الأصفهاني أمتع الله به: لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفاً من الجهة الأخرى. وإذا لم أمنع أن يكون منكشفاً من تلك الجهة لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما(717/35)
عندنا أو من أنواع وأجناس أخرى.
مفاتيح الغيب للرازي في تفسير (الرحمن على العرش استوى) من رده على أصحاب الجهة:
إن العالم كرة، فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض، وبالعكس، فلو كان المعبود مختصاً بجهة فتلك الجهة، وإن كانت فوقاً لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المعبود تحت جميع الأشياء.
شرح النهج لأبن أبي الحديد:
وهي (الأرض) كروية الشكل فمن على حدبة الكرة لا يرى من تحته، ومن تحته لا يراه، ومن على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الآخر، والله تعالى يدرك ذلك كله، ولا يحجب عنه شيء منها بشيء.
904 - فدرى ومثبت في الجاهلية
الأغاني: سماك بن حرب قال لي يحيى بن متي راوية الأعشى وكان نصرانياً عبادياً وكان معمراً: كان الأعشى قدرياً، وكان لبيد مثبتاً، قال لبيد:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال، ومن شاء أضل
وقال الأعشى:
أستأثر الله بالوفاء وبالعدل (م) ... وولى الملامة الرجلا
قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشترى منهم الخمر فلقنوه ذلك.
905 - شعبانية
الشريشي في شرح المقامات: حكى الفقيه أبو الحسن أن أباه حدثه إن الأديب أبا الطاهر بن أبي ركب حضر عنده بسبتة بقرية شنان في نزهة شعبان لاستقبال رمضان، فأكل من حضر ضروباً من الأطعمة والألوان، فقال أبو الطاهر (رحمه الله تعالى) لأبي عبد الله بن زرقون: أجز:(717/36)
حمدت لشعبان المبارك شعبة ... تسهل عني الجوع في رمضان
فقال أبو عبد الله (رحمه الله تعالى):
كما حمد الصب المتيم زورة ... أطاق لها الهجران طول زمان
فقال أبو طاهر:
دعوها بشعبانية فلو إنهم ... دعوها بشبعانية لكفاني
906 - أردت أن أكنسه من القصيدة. . .
ثمرات الأوراق فيما طاب من نوادر الأدب وراق لأبن حجة الحموي: قال أبن سناء الملك من أبيات:
صليني وهذا الحسن باق فربما ... يعزل بيت الحسن منه ويكنس
فوقف القاضي الفاضل (رحمه الله) على هذه القصيدة وكتب إلى أبن سناء الملك من جملة فصل:
. . . والقصيدة فائقة في حسنها بديعة في فنها ولكن (بيت يعزل ويكنس) أردت أن أكنسه من القصيدة، فإن لفظة الكنس غير لائقة بمكانها.
فأجاب أبن سناء الملك قائلاً: قد علم المملوك ما نبه عليه مولانا من أمر البيت الذي أراد أن يكنسه من القصيدة. وقد كان المملوك مشغوفاً بهذا البيت مستحلياً له معجباً به معتقداً أن قافيته أميرة ذلك الشعر وسيدة قوافيه، وما أوقعه في الكنس إلا أبن المعتز. والمولى يعلم أن المملوك لم يزل يجري خلف هذا الرجال ويطلب مطالبه فتتعسر عليه وتتعذر. . . وحبك الشيء يعمي ويصم فقد أعماه حبه وأصمه إلى أن نظم تلك اللفظة في تلك الأبيات تقليداً لأبن المعتز. . .
فأجابه (القاضي الفاضل) بقوله. . . ولا حجة في احتجاجه بابن المعتز عن الكنس في بيته فإنه غير معصوم من الغلط، ولا يقلد إلا في الصواب فقط. . . وقد تعصب القاضي السعيد (يعني أبن سناء الملك) على أبي تمام فنقصه حظه، وأما البحتري فأعطاه أكثر من حقه.
ولو كان هذا موضع العتب لاشتفى ... فؤادي ولكن للعتاب مواضع(717/37)
رحيل. . .!
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
ودِّعيني قبلما يدنو رحيلي ... بلقاء يغمر القلب حنانا
ودعي البسمة في الثغر الجميل ... تملأ الروح صفاء وأمانا
ودعيني قبلما يذبل زهري
فغداً يشرد في الصحراء عطري
يسأل الأيام عن إلهام شعري
إن إلهاميَ في الثغر الجميل
عند إشراقك في يوم رحيلي
ودعيني قبلما أغدو غريباً ... عن منى قلبي وأشقي باحتراقي
لحظة تبصر عيناي الحبيبا ... هي نوري في دياجير الفراق
كلما فاض بي الشوق لثغرك
وصفاء الذهب الحلو بشعرك
وسجود القلب في محراب ظهرك
أتملى في ثناياها الحبيبا
سلوة تسعد في البعد الغريبا
ودعيني آن يا قلبي وداعي ... ودنت ساعة يأسي وفنائي
ودعيني، آه من نار التياعي ... عندما تصرخ أصداء التنائي
عن قريب منذرات بارتحالي
أنا أخشاها فيما سوء المآل
لو دنت مني أشباح الزوال
قبلما تهدأ نيران التياعي
بلقاء منك من قبل الوداع
سوف أمضي ذاهلاً يوم الرحيل ... وسنا عينيك يسري في ضميري
كاشفاً بالنور والحب سبيلي ... كلما أظلم في عيني مصيري(717/38)
لحظات منك من قبل البعاد
هي خلدي، هي هدبي، هي زادي
في صباح الشوق أو ليل السهاد
فتعالي قبلما يدون رحيلي
بسنا عينيك والثغر الجميل
ودعيني واسكبي الصبر بقلبي ... علني أسطيع صبراً في البعاد
وعسى يهدأ في الأعماق حبي ... بالذي يلقاه من صفو الوداد
عند توديعك لي يوم الفراق
وارتواء القلب من خمر التلاق
قبلما تكويه نيران اشتياقي
للمنى والسعد من أيام حبي
فتعالى ودعي روحي وقلبي
ودعيني، ودعيني، ودعيني(717/39)
حديث المدفع. . .!
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
(إذا عبرت (وادي شعبي) وأنت في الطريق من القدس إلى
عمان، عاصمة شرق الأردن، رأيت هناك مدفعاً مطرحاً في
سفح جبل، وهو من بقايا الحرب العظمى الأولى. ويذكر الذي
أدركوا تلك الحرب العجب العاجب من بطش هذا المدفع
وتحديه إلى أن ضرب الضرب القاضية. . .).
عجبت له من أبكم كيف ينطق ... بأعجب ما يجلو بيان ومنطق
ويروي عن التاريخ وهو مطرَّح ... (بوادي شعيب) عبرة ليس تخلق
وقفت به أصغي، وبي لحديثه ... وما فيه من هول وزول تشوق
يقول: لقد كانت قناتي صلبة ... ولي خلق صعب الشكيمة ضيق
أروج شماريخ الجبال ومعقلي ... منيع، على هام السحاب محلق
وبي تتذرى من بني الحرب عصبة ... إذا رزدق منها وني هب رزدق
ونازعني عجب المدل بحوله ... فكنت أخا حمق يطيش ويحرق
أفح فحيح الصل أشرع نابه ... وفي فيه ما يؤذي النفوس ويرهق
وأرسل من زرق المنايا على الورى ... بهول مبيد، ليس فيه ترفق
ولم أدر أن الدهر أزمع ضربة ... تريني بأن الدهر أضرى وأنزق
رماني بها صماء، فانهدَّ كاهلي ... ورحت لَقى، والنفس تردَى وتزهَق
تلفت حولي، لا رجالي هم هم ... ولا حملاتي في الشدائد تصدق
ولم تغني عني المعامع صولتي ... ولم يجدني جيش، ولم يحم خندق
وعُلِّت كيف البغي يوفي بأهله ... على مهلك يردى البغاة ويصعق
وما أنفك يرويها لغاد ورائح ... عظات، تلقاها النفوس فتشفق
وكم عبرة للظالمين. . . وإنما ... تنكب عنها الظالمون وأعنقوا(717/40)
الأدب والفن في أسبوع
ساعة مع الأستاذ وديع البستاني:
كانت ساعة طيبة حافلة قضيتها مع الأستاذ الشاعر وديع البساني، وكان الأستاذ قد طار منذ قريب إلى لندن في مهمة سياسية عربية، فاغتنمها فرصة للبحث عن أصول الأدب الهندي القديم في مكتبة المتحف البريطاني ومراجعة الملاحم الهندية العريقة التي عكف على نقلها إلى اللغة العربية سنوات طويلة، وقد أشرنا إلى خبر هذا في عددين سابقين من (الرسالة) وبعد أن أنجز الأستاذ مهمته وأخذ طريق العودة إلى وطنه (حينا)، أثر النزول في مصر لقضاء فترة من الوقت، وقد زرته حيث ينزل بفندق الكونتنتال في أمسية من أمسيات الأسبوع الماضي فتلقاني بالسرور وجلس يُفيض علي من زاخر علمه، ويحدثني عن آثار جهده في نقل أصول الأدب الهندي وما وقف عليه في ذلك من التحقيقات، فكان حديثاً عامراً قيدت منه بعض الشوارد المفيدة والشواهد النافعة. . .
الحمى. . . الحرام:
. . . سألت الأستاذ عن هذه الملاحم الهندية التي عنى بنقلها وعكف على ترجمتها، فوضع بين يدي حزمة ضخمة من المجلدات والطوامير وقال هذه هي الآثار المقدسة. وإذا قلت المقدسة فإني أعني إنها ظلت طوال العصر القديم كالحمى الحرام لا يفتح بابه لكل طارق ولا يباح عبروه لكل سالك، إذ كان البراهمة يحيطون كتب الحكمة القديمة المعروفة باسم (الفيدا) وملحمتي الرامايانا والمهابهاراتا بسياج من التقديس، فكان البراهمة لا يبيحون الإطلاع عليها إلا لأبناء الطبقات الممتازة، أما العامة من العمال وغيرهم فكانوا يحللون قتل الشخص منهم إذا اختلط نفسه ولو مصادفة بنفس من يتلو آية من كتب الحكمة أو يردد بيتاً من الرامايانا والمهابهارات، ولما قام حاكم الهند في عام 1784 بترجمة نشيد السماء ونشيد المعلم (كريشنا) إلى اللغة الإنجليزية نثراً وضع لذلك النشيد مقدمة افتخر فيها بأنه كان أول من أتاح له البراهمة ترجمة هذا النشيد. والحق أن هذا النشيد - وعدد أبياته في اللغة الهندية القديمة نحو ستمائة بيت - هو أول ما نقل من الأدب الهندي القديم إلى لغة أخرى، ومن بعد ذلك توافرت جهود الباحثين في نقل الملاحم الهندية، فقد نقلت الرامايانا كاملةً إلى اللغة الفرنسية كما ترجمت إلى الإيطالية بقلم أديب إيطالي تحت رعاية أحد الملوك(717/42)
الإيطاليين. ولها ترجمات عديدة في الألمانية والإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى، وحين أقول الرامايانا فإني أقصد رامايانا فالميكي التي نظمت بالسنسكريتية وذلك تمييزاً لها عن ملحمة أخرى لنفس القصيدة وضعت منذ ثلاثة قرون بلغة أخرى من لغات الهند، وقد بلغني أن الأديب المسلم العظيم الدكتور عبد الحق رئيس جمعية ترقي الأدب الأوردي آخذ في ترجمة رامايانا فالميكي إلى اللغة الأوربية وهي من أشهر اللغات الحية في الهند اليوم. وأحب أن أقول لك إني أطلعت على هذه الرامايانا الحديثة مترجمة إلى الإنجليزية، فوجدتها قد نقلت في لغة رديئة وتروي قصصاً تطنب في ذكر راما البطل المعبود، وقد علمت أخيراً أن هذه الرامايانا أخرجت في السينما وتكلف إخراجها نحو 27 ألف جنيه ولكنها في مدى سنة حصلت للشركة التي تولت إخراجها 240 ألف جنيه ربحاً.
فتح جديد في علم الفيلولوجي:
قال الأستاذ: ولقد أدى نقل الملاحم الهندية القديمة إلى اللغات الأوربية إلى فتح باب جديد للبحث في فقه اللغة (الفيلولوجيا) وإن من نظر الآن في قاموس كامل للغة الإنجليزية يدهشه ما يرى من كثرة المفردات الإنجليزية التي ترجع إلى أصل سنسكريتي، وسيكون لنقل هذه الآثار إلى اللغة العربية نفس الأثر؛ فقد ثبت لي ثبوت اليقين إن هناك تشابهاً كثيراً بين المفردات في اللغة العربية واللغة السنسكريتية، فكلمة (الفيدا) وكلمتي دين وديانة، وأسمي (البستاني) يرجع إلى أصل سنسكريتي فقد وردت كلمة (بستان) في شعر جرير الخطفي، وهي في الأصل مؤلفة من كلمة (بو) و (ستان)، وأصل (بو) في اللغة البهلوية - أي الفارسية القديمة - بول، ومنها الكلمة العربية (فول) وهي البقل المعروض الذي إذا زرع منه الحقل كان أبهى ما يكون منظراً وأطيب ما يكون رائحة بزهره الجميل. ومن كلمة (بول) أخذ اسم الزهرة في الفرنسية والإنجليزية، والمعنى الجامع في هذا كله: الرائحة الطيبة. وأما كلمة (ستان) فهي أصل لمئات الكلمات في اللغات اللاتينية وفي اللغة العربية. فإن معناها المكان أو الوقوف، ومنها هندستان أي مكان الهند وتركستان أو مكان الترك. فكلمة (بستان) معناها مكان الروائح.
أقدم الملاحم وأطولها:(717/43)
وسألت الأستاذ عما حققه من تاريخ نظم الراماينا والمهاباراتا فقال: إن الرامايانا أقدم من المهاباراتا بنحو قرن واحد وعدد أبياتها في الأصل السنسكريتي 24 ألف بيت فهي أقدم الملاحم العالمية قاطبة. أما المهاباراتا فعدد أبياتها 124 ألف بيت فهي أطول الملاحم العالمية قاطبة، ولكن عشرات الآلاف من أبيات المهاباراتا قد نظمت في مباحث وموضوعات عامة كأحكام الزواج وآداب الضيافة وتقديم القربان وفلسفة خلاص النفس مما لم يهتم أحد من المترجمين بنقله إلى اللغات الأوربية؛ إلا إن الحكومة الهندية قد أحدثت ترجمة كاملة نثرية باللغة الإنجليزية لهذه الملحمة وطبعت في كلكتا منذ أكثر من مائة سنة.
وآراء الباحثين تختلف في تعيين التاريخ للأدب الهندي القديم، فالمتهندون الذين وقفوا حياتهم على البحث في أصول الأدب السنسكريتي يذهبون إلى أن تاريخ هذا الأدب في وجوده يتراوح بين 2400 سنة و2000 سنة قبل الميلاد، والبراهمة والمحققون من أبناء الهند يعتقدون أن تاريخ وجوده أقدم من ذلك بكثير. ومهما يكن من شيء فإني على يقين بأن الرامايانا والمهاباراتا قد تقدمتا في الوجود على الإلياذة، وإذا كان هناك مظاهر كثيرة من التشابه بين هاتين الملحمتين والإلياذة فإن التاريخ لم يذكر إن فاتحاً فتح الهند قبل الإسكندر المقدوني الذي كان يحمل الإلياذة ويسرح كل أسير يروي بيتاً منها. ومن المعلوم على اليقين إن عهد الإسكندر أحدث من عهد الإلياذة نفسها. وفي أثناء سفرتي الثالثة إلى لندن، وهي هذه السفر عنيت بالاطلاع على ماجد من الكتب في مكتبة المتحف البريطاني لاستيفاء البحث في هذه الناحية، وقد سرني أنني لم أجد شيئاً هناك ينقض ما كنت قد وقفت عليه في هذا الشأن.
في ضيافة طاغور:
وحدثنا الأستاذ عن شغفه بالأدب الهندي القديم والروح الهندية الفياضة بالتأمل العميق وهو لما يزل في مطلع شبابه فقال: لقد أخذت وأنا في طراوة العمر بذلك النغم الذي تبينته في الأدب الهندي والفلسفة الهندية وحملتني نفسي في هذا السبيل على أن أعيش عيشة أهل الهند وأن أنسك نسكهم فسافرت إلى هناك وقضيت شهرين في ضيافة طاغور، وأخذت أروض نفسي على حياة الهنود الناسكين، وكنت قد أحسست في جنايا قلبي بكل المشاعر(717/44)
الإنسانية كشعور المحب وشعور العاشق وشعور الصديق ولكن لم أكن قد أحسست بعد بشعور الوالد، ومن ثم رغبت في الزواج وحملني الإحساس بشعور الأبوة أن أكون أباً، وتزوجت وأقلعت عن حياة النسك ولكني بقيت مندمجاً في تلك الروح الهندية العميقة مأخوذاً بصفائها، ومن ثم كان شغفي بتلك الآداب الهندية القديمة ونقلها إلى اللغة العربية إذ إنها لم تنقل للغة العربية بل لا تزال مجهولة لأبناء العروبة على حين قد عرفها أبناء اللغات الأخرى.
هذه الملاحم:
قال الأستاذ وقد نقلت الرامايانا أعنى رامايانا فالميكي والمهابارابا. والنالا ودامينتي وهي إحدى القصص الخمس المروية في المهاباراتا وقد ثبت إن ثلاث من أبواب كليلة ودمنة وردت قصصها في المهاباراتا ووقع تعريبي لنا لا ودامينتي في 1254 بيتاً، كما نقلت مسرحية الشاكونتالا وقد وضع هذه المسرحية شاعر عاش بين القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد اسمه قاليداس، كما عنيت بنقل الأساطير الهندية القديمة المعروفة بكتب الحكمة وهي ترجع في تاريخها إلى ما قبل وجود الملاحم. . . هذا وقد أسمعني الأستاذ جملة فصول من هذه الملاحم التي نقلها شعراً فأعجبني إنه استطاع أن يكون شاعراً يؤثر الديباجة الرائقة والأسلوب الشعري الموسيقي حتى لقد فاق في ذلك البستاني الكبير في ترجمة الإلياذة. وقد استرعى نظري إنه نقل من الرامايانا فصلاً عن (وصف الشتاء في بنشقائي) فآثر نقله بنغمه الهندي على بحر غير بحور الشعر المعروفة في العربية، وقد أخبرني إنه أثر ذلك ليعطي صورة صادقة من النغم الهندي والروح الهندية.
في الدين الهندي:
وسألته عما يقال عن المعبود (كريشنا) في الأدب الهندي وهل هو يقابل (أبولو) في أدب اليونان. فقال لي أن كريشنا لا يقابل أحداً من آلهة اليونان أو اللاتين، وإنما هو التجسد الثامن عند الهنود، ويعتبر بوذا التجسد التاسع؛ أما التجسد العاشر فلم يظهر بعد وعلامة ظهوره عندهم أن تقوم الملوك ملكاً على ملك وأن تطلب المرأة مساواتها بالرجل. ويعتبر راما التجسد السابع كما أعتبر المسيح تجسداً إذ نسب إلى الله أباً وهذه فكرة هندية قديمة.(717/45)
فإن كلا من كريشنا وراما نطفة الإله قشنوا وشيوا وهو أقنوم موحد (برهم)، فالدين الهندي دين توحيد لا دين تعديد.
لغة القرآن:
وانتقل الأستاذ يحدثني عن ذكرياته في الحياة ونشأته في الأدب فقال: لقد نشأت في رعاية أبن العم الشيخ سليمان البستاني معرب الإلياذة وكنت أقول الشعر وكان يسددني في طريقه، فلما علم إني بلغت فيه مبلغاً ناداني في يوم وقال لي يا وديع، لقد سرت في طريق الشعر وبلغت فيه مبلغاً، ولكن هل تحسن القراءة؟ ثم ناولني كتاباً وقال اقرأ، فقرأت، ثم قال لا بأس، ولكن أنصحك يا وديع أن تحفظ كثيراً من القرآن الكريم، وأن تقف على أحكام تجويده وتلاوته وتروض لسانك عليه فإن ذلك مما يقوم قراءتك، وإن ذلك هو الأساس السليم لتقويم اللسان في القراءة. وإني قد أخذت نفسي بذلك في صدر شبابي وهكذا أبناء الأسرة البستانية الذين أمسكوا أنفسهم بالعناية بالأدب، فأخذت بنصيحته ونفذتها.
وبعد ألا ترى أيها القارئ إنها كانت ساعة حافلة بالأدب والعلم؟ أجل وإني لأسدي صادق الشكر عليها إلى الأستاذ الجليل.
المجمع اللغوي يؤبن عضوين من أعضائه:
أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية هذا الأسبوع حفل تأبين في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية لفقدي العلم والإنسانية المغفور لهما الشيخ مصطفى عبد الرزاق والدكتور علي إبراهيم باشا، وبعد أن أفتتح معالي أحمد لطفي السيد باشا رئيس المجمع الحفل بكلمة رصينة في تقدير مناقب الفقيدين العظيمين وتصوير الخسارة بفقدهما تقدم الدكتور علي توفيق شوشة باشا فألقى كلمة خاصة بتأبين المغفور له علي إبراهيم باشا استهلها بالحديث عن حياة الفقيد طالباً ثم دكتوراً صغير اختار مدينة أسيوط ميداناً لنشاطه ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى القاهرة إذ ذاع صيته وطبقت شهرته فافتتح مستشفى يحمل اسمه في شارع الصنافيري فلم يكن هذا المستشفى مجرد عيادة بل كان كذلك مجال خير عميم للتخفيف من ويلات الإنسانية وميدان نشاط ثقافي رائع إذ صدرت منه أول مجلة طبية حياته رجل الإنسانية وخادمها، فكان دائماً المجاهد في مكافحة الأمراض المتوطنة والأمراض الوافدة، وكان دائماً يعمل في حرص بالغ على رفع صوت مصر في المؤتمرات الدولية، ثم كان(717/46)
إلى جانب عبقريته الطبية صاحب ذوق فني وطبيعة جمال النفس وصفاء الذهن وقد تجلى هذا في شغفه رحمه بالتحف النفيسة والآثار الغالية الجميلة.
وألقى الأستاذ أحمد أمين بك كلمة التأبين للمغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق فقال: رحم الله صديقنا وزميلنا مصطفى فقد كان ممتازاً في خلقه؛ ممتازاً في نفسه؛ ممتازاً في علمه، أما امتيازه في خلقه فقد نأى به عما يتخلق به أمثاله من أبناء الحسب والنسب والغني والجاه فما بطر ولا تعجرف، وأما امتيازه في نفسه فإنه يظهر في أسلوبه الذي كان يؤثره واختيار اللفظ الأنيق في تدبيج عبارته؛ ثم تحدث عما كان يتحلى به من كرم النفس وسماحة اليد وبذل العون للمحتاج، وإنتقال بعد ذلك فتحدث عن حياة الفقيد ونشأته الأولى في كنف الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبدة ثم تنقله بعد ذلك في مدارج الحياة حتى انتهى إلى مشيخة الأزهر ثم قال إنه كان في هذه المرحلة الأخيرة من حياته برماً لما يحيط به من الصعاب في القصد إلى إصلاح الأزهر، وكان يطوي نفسه على كثير من الخير في هذا السبيل لولا إن عاجلته المنية. . .
رحم الله الفقيدين الجليلين اللذين خسرتهما مصر، وخسرهما العلم، وفقدتهما الإنسانية. . .
(الجاحظ)(717/47)
الكتب
المشكلة الألمانية
(دراسة سياسية اقتصادية اجتماعية)
تأليف الأستاذ سامي عازر جبران المحامي
للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك
الأستاذ سامي عازر جبران محام شاب نابه لم يقصر نشاطه على المحاماة؛ بل له في الصحف والمجلات - وفي المجتمعات أحياناً - بحوث في المسائل السياسية والاجتماعية لها طابع خاص من الدرس والتمحيص. ولعله اقتبس هذه الميزة عن والده المحامي الكبير الأستاذ عازر جبران، فقد كانت أحاديثه ومناقشاته في مجلس الشيوخ متسمة باتساع في الأفق وإحاطة بدقائق الموضوعات التي يطرقها. ولقد زاملته وزاملني في هذا المجلس وقتاً ما. ووددت لو استمرت هذه الزمالة. ولكن الحكومة لم تجدد تعيينه بعد انتهاء مدة عضويته. وهو ثالث ثلاثة كان عدم تجديد تعيينهم حجة لي على الذين يرمون هذا الشعب بأنه لا يحسن اختيار الأكفاء لتمثيله في انتخابات حرة. وقلت لهؤلاء اللائمين أن يخففوا من غلوائهم في تجريح الشعب. وضبت لهم الأمثلة على اختيار الحكومة أمعن في الخطأ وعدم تقدير الكفايات من اختيار الشعب إذا تركت له حريته في الانتخاب. منهم الأستاذ عازر جبران وسلم اللائمون بأن حجتي مقبولة بالنسبة لهؤلاء الثلاثة.
(المشكلة الألمانية) دراسة منسقة مستفيضة للأستاذ سامي أخرجها في كتاب متوسط الحجم. عالج فيه مسألة من أهم المسائل العالمية التي تشغل أفكار الناس كافة. وهي الطريقة التي يحسن أن تعامل بها ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الأخيرة. وقد طرق المؤلف هذا الموضوع من شتى نواحيه. وعرضه على القارئ عرضاً شائقاً، وقرن كل دراسة لفصوله بالرأي الذي يرتئيه. ويبدو لن يقرأ الكتاب أن مؤلفه درس المسائل التي عرض لها دراسة مستفيضة. وأحاط بالبحوث التي أخرجها علماء السياسة وأقطابها. فجاء كتابه ثمرة طيبة لدراسات وتأملات عميقة. وفي الحق أن القارئ لهذه الدراسات يسره أن يرى فيها وفي مثلها صورة من جهود الشباب في نشر الثقافة السياسية والاجتماعية بطريقة علمية تأليفية.(717/48)
ولا يرى الأستاذ سامي أخذ ألمانيا بالشدة المتناهية في الانتقام وساق على ذلك أدلة مقنعة، أهمها إن المعاملة الصارمة التي عوملت بها عقب الحرب العالمية الأولى كانت من العناصر التي ولدت الحرب العالمية الثانية. وإن مسؤولية الحربين لا يمكن أن تحصر في سياسة ألمانيا وحدها. وإن نظرية تفرد شعب بالذات بصفة الاعتداء والوحشية نظرية تعسفية؛ لأن أصل شعوب الأرض واحد أياً كان ذلك الأصل. ولأن النازية (الوطنية الاشتراكية) هي سمة ألمانية الفاشية، والفاشية لا هي بالألمانية ولا هي بالإيطالية ولا هي باليابانية؛ وكلنها ظاهرة دولية انتشرت في مختلف بقاع العالم.
وساق الأستاذ سامي الأدلة على إن الشعب الألماني شعب مسالم بطبعه. لم يكن راغباً في الحرب بل كان يميل عنها وينفر منها. ولكن النازية هي التي دفعته إلى الحرب. فمن الإنصاف أن لا يؤخذ الشعب بجريرة النازية. وإن مهمة الديمقراطية المنتصرة ليست في تحطيم الشعب الألماني بل في تحطيم النازية وحدها. أما إذا هي عملت على تحطيم الشعب الألماني فإن هذا سيثير في نفسه روح البغض والكراهية مما يمهد في المستقبل إلى حرب عالمية أخرى. وإن الاحتلال العسكري الطويل في ألمانيا يعطل الثورة الاجتماعية المرتقبة فيها والتي تميل بها إلى الديمقراطية.
ومن آرائه الموافقة قوله إنه لا يمكن أن نتصور أن أية محكمة دولية أو أية حكومة أوربية يصح أن تكون أكثر من ستار شفاف لديكتاتورية يفرضونها على العالم، وإن التاريخ يعلمنا إنه من النادر أن استعمل القوي قوته استعمالاه محايداً للصالح العام، وأن الحل الوحيد الحاسم يتلخص في تحويل ملكية القوات الحربية من ملكية الدول منفردة إلى ملكية دولية عامة. لأنه طالما أن كل دولة تملك قواتها الحربية وأسلحتها فسيظل (توازن القوى) هو الشغل الشاغل للسياسة الدولية.
وقارن الأستاذ سامي بين موقف المنتصرين في أعقاب الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وموقفهم في مؤتمر فينا سنة 1814 - 1815 عقب سقوط نابليون وانتصار الحلفاء على فرنسا وقتئذ، وكيف عولمت فرنسا معاملة معتدلة فقبلت شروط الصلح ونفذتها راضية دون أن تفكر في الانقضاض عليها، فلم تنشب في أوربا حرب عالمية كبرى زهاء مائة عام. على عكس ما وقع في مؤتمر فرساي سنة 1919 فإن(717/49)
شروط المنتصرين القاسية مع ألمانيا جعلت الحرب العالمية الثانية تقوم قبل انقضاء ربع قرن على الحرب العالمية الأولى.
وبعد فإني أهنئ الأستاذ سامي عازر جبران بهذا الكتاب القيم. وبهذا الجهد الموقف في البحث والتفكير، والعرض والتحليل وحسن الأداء. وأرجو له المزيد في الإنتاج والتأليف.
عبد الرحمن الرافعي
معجم أدباء الأطباء
تأليف الأستاذ الباحث محمد الخليلي
موضوع هذا الكتاب يقتصر على طائفة خاصة من الأعلام هم أدباء الأطباء، والعلاقة بين الأدب والطب علاقة وثيقة، وكثيرون هم الذي نبغوا في الناحيتين وبرزوا في الصناعتين، وقد كان العرب يعتبرون الطب أحد فروع الأدب، وكانت الموسيقى وكل وسائل الطرب مما يستخدمه الأطباء في مهنتهم، ونظراً لأن آثار هؤلاء الأطباء الأدباء قد تبعثرت في بطون الكتب القديمة عني الأستاذ محمد الخليلي من علماء النجف الأشرف يجمع تراجمهم وآثارهم في مجمع شامل أخرج الجزء الأول منه، وهو الذي نقدمه اليوم إلى القراء.
وقد ترجم الباحث الفاضل في مجمعه هذا لسائر الأطباء الذين عرفوا بالأدب وكان لهم فيه أثر من شعر أو نثر، سواء في ذلك الذي نبغوا بالمشرق أو بالأندلس أو بشتى الأمصار والأقطار العربية وسواء في ذلك الذين ظهروا في الجاهلية أو في صدر الإسلام أو في العصر الحديث، فأنت تقرأ في هذا الجزء من المعجم مثلاً ترجمة أبن حذيم التيمي الطبيب العربي الجاهلي إلى جانب تراجم الدكاترة إبراهيم ناجي وأحمد زكي أبو شادي وشبلي شميل من أبناء هذا العصر.
والمؤلف يوجز في بعض التراجم ويفيض في بعضها، وذلك على حسب ما يقع له من المصادر، وهو يعني بإسناد كل رواية إلى صاحبها وكل ترجمة إلى مصادرها، وذلك مظهر من مظاهر الأمانة العلمية، وقد أورد التراجم على نسق الحروف الأبجدية، وقسم معجمه إلى جزئين، انتهى في الجزء الأول الذي بين أيدينا إلى حرف العين، على أن يستوفي البقية في الجزء الثاني، ونحن إذ نشكر للمؤلف النجفي الفاضل عمله الجليل،(717/50)
ونظري فكرته وجهد في إخراج هذا المعجم المفيد نرجو أن يوفق لإصدار الجزء الثاني في القريب.
بين العلم والأدب
تأليف الأستاذ قدري حافظ طوفان
إذا تناول القارئ هذا الكتاب وهو من تأليف الأستاذ الباحث قدري حافظ طوفان من أبناء فلسطين النابغين وجده حجة لأبناء الشرق العربي فيما كان لهم من مجد سالف وفيما أسدوا إلى المدنية والمعرفة من فضل سابغ، فإن القسم الكبير من هذا الكتاب إنما هو في بحث التراث العربي والمآثر العربية في العلم والمعرفة وإطلاع أبناء العروبة على ما خلف آباؤهم من آثار نافعة يجب أن تكون ضمن أسلحتهم في تحقيق رسالتهم القومية التي ينشدونها في هذه الأيام.
ففي هذا الكتاب أحاديث ومقالات عن التراث العربي والحاجة إلى إحيائه، والأدب والرياضات، والملاحة عند العرب، وأبن ماجد أسد البحر الهائج، وبيت الأميرة والممهدون للاكتشاف والاختراع، وإلى جانب هذا مقالات عن نيوتن والجمعيات العلمية في إنجلترا، وحول القنبلة الذرية إلى غير ذلك من المقالات والفصول المختلفة التي تتقارب في الموضوع والغرض. وسيق للأستاذ المؤلف أن نشر هذه المقالات وأذاع بعضها في أحاديث الإذاعة ولكنه أحسن إذ جمعها في سفر لتكون مرجعاً يسهل تناوله.
والواقع إننا في نهضتنا قد عنينا بالدراسات الأدبية عناية واسعة، ولكن عنايتنا بتراثنا العلمي وبالثقافة العلمية لا تزال ضئيلة فاتجاه الأستاذ قدري إلى هذه الناحية اتجاه محمود نرجو أن يتسع أثره ويعم نفعه.
محمد فهمي عبد اللطيف(717/51)
البريد الأدبي
العام والسنة:
من أحمد بن يحيى إلى الأستاذ لطفي عثمان - من أين جاءهم أن (السنة من أي يوم عددته إلى مثله والعام لا يكون إلا شتاء وصيفاً) حتى كان ما على غلاف مجلة الهلال الغراء: (أسست دار الهلال منذ نيف وخمسين عاماً) خطأ والصواب (أن يقال منذ خمسين سنة)؟!
وماذا يقولون في قوله تعالى عن نوح (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً)؟ هل يجب أن يكون استخدام العام بمعنى السنة أو أن تكون أعوام نوح مشتملة على شتاء كامل وصيف كامل بخلاف أعوام مجلة الهلال وأن يكون الاستثناء منقطعاً - هل يجب كل هذا ليصح قول أحمد بن يحيى في الفرق بين السنة والعام؟
وماذا يقولون أيضاً في قوله تعالى (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أني يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه. قال كم لبثت؟ قال لبثت يوماً أو بعض يوم، قال بل لبثت مائة عام)؟! أكان ابتداء الحساب مضبوطاً بحيث شكل كل عام صيفاً وشتاء أم هو عد من أي يوم إلى مثله؟ أم إن السنة والعام لا فرق بينهما وإن الصحيح هو مذهب العوام لا مذهب أحمد بن يحيى؟
وما قيل في هاتين الآيتين الكريمتين يقال في قوله تعالى: (وفصاله في عامين) ولا أحسب أن أحداً فهم من هذه الآية إنه إذا اتفق أن ولد المولود في بعض شتاء أو بعض صيف أن يلغي هذا ويبدأ بحساب صيف كامل وشتاء كامل ليتحقق معنى العام بل الكل - كل من رأيت قوله من الفقهاء - يقول بأن مدة الرضاع سنتان أي 24 شهراً، وما الداعي لأن يقول عامين وبقصد سنتين إلا أن يكون العام هو السنة؟ ويقال أيضاً في سائر الآيات الكريمة التي ورد فيها ذكر العام.
فلسطيني
في اللغة:
في العدد (713) من (الرسالة) الغراء قصيدة للأستاذ محمد علي مخلوف بعنوان (أوهام) يقول في بيت منها:(717/52)
وقلبي في نهر الحياة سفينة ... تميد على صم الصخور ولا ترسي
باستعمال الفعل (ترسي) في آخر البيت بالياء بدل الواو، إذ المعلوم أن الفعل (رسا) من باب عدا وسما أيضاً والمضارع منهما هو (يرسو) وليس يرسي بالياء كما ذكر الأستاذ.
ولا أظن القافية تسمح للأستاذ الشاعر بما أورده مخالفاً لقواعد اللغة، وهي ثابتة.
هذا، وللأستاذ (مخلوف) تحية الأديب، والسلام.
عدنان أسعد
جوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول
ذكرنا في عدد مضى إن إرادة صاحب الجلالة الملك فاروق
الأول قد اقتضت أن تنشأ ثلاث جوائز مالية سنوية قيمة كل
منها ألف جنيه يطلق عليها اسم (جوائز فؤاد الأول)
وتخصص كل منها لصاحب أحسن عمل أو إنتاج في الآداب
والعلوم القانون، ويكون موعد محنها في اليوم الثامن
والعشرين من شهر أبريل من كل عام لمناسبة ذكرى وفاة
المغفور له صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول. ورداً على هذه
التحية الملكية الكريمة للعلم وأهله أنشأت وزارة المعارف
ثلاث جوائز سنوية قيمة كل منها ألف جنيه تمنح لصاحب
أحسن عمل أو إنتاج في فرع من الفروع الرئيسية للعلوم
وتسمى (جوائز فؤاد الأول) ويكون موعد منحها في اليوم
الحادي عشر من شهر فبراير من كل عام ابتهاجاً بعيد الميلاد(717/53)
الملكي السعيد. وبمقتضى قرار وزير المعارف بتاريخ
2731946 تألفت برياسته لجنة لوضع شروط المسابقة ومنح
الجوائز، وقد اجتمعت اللجنة أربع جلسات وانتهت إلى إقرار
الشروط التي ستعلنها على الناس. وقد انعقد إجماع اللجنة
على أن الجوائز تهدف أول ما تهدف إلى العلم النافع في
الحياة المصرية الملائم لتطورها والذي يساعد على استثمار
مصادر الثروة المصرية وزيادة الإنتاج.
ولهذه الجوائز لجنة دائمة تؤلف من وزير المعارف رئيساً وستة أعضاء يمثلون الفروع المختلفة، وتختار اللجنة الدائمة في كل عام لجاناً لفحص الإنتاج المقدم في كل مادة يعين أعضاؤها بقرار من وزير المعارف؛ وهذا هو القرار الوزاري لتعيين أعضاء هذه اللجان لهذا العام:
وزير المعارف العمومية
بعد الاطلاع على المرسوم الملكي الصادر في 15 شوال سنة 1365 (11 سبتمبر سنة 1946) بإنشاء جوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول وعلى البند الخامس من شروط منح هذه الجوائز الملحقة بهذا المرسوم.
وبعد موافقة اللجنة الدائمة لجوائز فؤاد الأول وجوائز فاروق الأول المؤلفة بمقتضى المرسوم الملكي الصادر في 4 محرم سنة 1366 (28 نوفمبر سنة 1946). قر:
المادة الأولى
تؤلف لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للآداب عن سنة 1947 من:
حضرة صاحب المعالي أحمد لطفي السيد باشا
(الدكتور إبراهيم بيومي مذكور
(الأستاذ أحمد حسن الزيات(717/54)
(صاحب السعادة أنطون الجميل باشا
(صاحب العزة عبد الحميد العبادي بك
(الأستاذ محمد أحمد خلف الله
(الأستاذ محمد توفيق دياب
(صاحب السعادة الدكتور محمد حسين هيكل باشا
(صاحب العزة محمد عبد الواحد خلاف بك
(صاحب العزة الدكتور محمد عوض محمد بك
(صاحب السعادة الدكتور منصور فهمي باشا
ويتولى سكرتيرية هذه اللجنة حضرة صاحب العزة الدكتور محمد عوض محمد بك يعاونه حضرة الأستاذ علي أدهم
المادة الثانية
تؤلف لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للقانون عن سنة 1947 من:
حضرة صاحب المعالي الدكتور محمد بهي الدين بركات باشا
(صاحب العزة أحمد حلمي بك
(صاحب العزة جندي عبد الملك بك
(الدكتور حسن أحمد بغدادي
(الأستاذ حلمي بهجت بدوي
(صاحب العزة سليمان حافظ بك
(صاحب السعادة سيد مصطفى باشا
(صاحب العزة عبد الرحيم غنيم بك
(صاحب العزة عبده محرم بك
(صاحب السعادة علي زكي العرابي باشا
(صاحب العزة محمد الوكيل بك
(صاحب السعادة محمد كامل مرسي باشا
(صاحب العزة مصطفى مرعي بك(717/55)
(الدكتور وحيد رأفت
ويتولى سركتيرية هذه اللجنة حضرت صاحب العزة عبده محرم بك يعاونه حضرة الدكتور حسن أحمد بغدادي
المادة الثالثة
تؤلف لجنة الفحص لجائز فؤاد الأول للعلوم الطبيعية والرياضية والفلكية عن سنة 1947 من:
حضرة صاحب السعادة حسن صادق باشا
(صاحب العزة الدكتور أحمد عبد السلام الكرادني
(صاحب العزة سيد فهمي بك
(الدكتور صادق بشارة
(صاحب العزة عبد الرحمن الشناوي بك
(صاحب العزة عبد العزيز أحمد بك
(صاحب السعادة عبد المجيد عمر باشا
(الدكتور عدنان والي
(صاحب العزة الدكتور محمد رضا مندور
(صاحب العزة محمد صادق جوهر بك
(الدكتور محمد مرسي أحمد
(الأستاذ محمود على فضلي
ويتولى سكرتيرية هذه اللجنة حضرة الدكتور محمد مرسي أحمد يعاونه حضرة الدكتور إبراهيم حلمي عبد الرحمن.
المادة الرابعة
على سعادة وكيل الوزارة المختص تنفيذ هذا القرار
وزير المعارف
النهوري(717/56)
القصص
المحسنة. . .
مختصرة عن (مرسيل بريفو)
كان كل منا قد قص على الحاضرين قصة، أو حكى طرفة، أو روى خبراً، إلا سيدة حسناء، كانت جالسة طيلة الاستماع لكلامنا، وتحبس حديثها علينا، فقال لها أحدنا:
- أراك يا سيدتي تطيلين السكوت، فهل عدمت ما تقصينه علينا؟
فابتسمت المرأة ابتسامة قصيرة، وقالت؛ وكأنها اعتزمت على هجر الصمت الذي لزمته طويلاً، والخوض في حديث طويل:
- ليس فيما سأقصه عليكم، مجلبة لمرحكم وسروركم، ولكنه مع هذا شيء بسيط، أحسست له اضطراباً في أعماق نفسي، وأثراً بين حنايا ضلوعي، ثم اعتدلت في مجلسها، وتابعت قولها:
-. . . قبل أسبوع خرجت مع طفلتي (سوزان) - وهي كما تعلمون، طفلة وديعة، ذكية، في ربيعها الثاني - سائرة بها إلى مدرستها. وكان الجو رائقاً، والشمس مشرقة، فسرنا على قدمينا نجتاز شارع (الشانزليزيه) ونحن أشد ما نكون سروراً بالحياة، وغبطة بالدنيا. فلما وصلنا ملتقى (الرون برون) تقدم منا، بخطوات مرتجفة، وأقدام هزيلة، صبي فقير، ومد نحونا يده الصغيرة المرتعشة، يسألنا الرحمة، ويناشدنا المساعدة، وهو يتكلم بعينيه، لا بلسانه، فهو على ما يظهر، قد عدم المقدرة على الكلام.
وكنت آنئذ، أمسك يد ابنتي بيسراي، وأحمل مظلتي بيميني، وأقول الحق إنني لم أكلف نفسي عناء إخراج كيس نقودي، لأضع في يده شيئاً من المال، فتابعت مسيري مع طفلتي التي كانت تطيل النظر إليه.
وما كدنا نخطو عدة خطوات، حتى انقطعت طفلتي عن الكلام، وكفت عن مداعباتها لي. وأحسست أنا الأخرى الإحساس نفسه والرغبة في الصمت. ووصلنا ميدان (الكونكرد) ولم ننبس لا أنا ولا ابنتي بكلمة واحدة، منذ أو وقعت عينانا على وجه ذلك الصبي المسكين!
وشعرت في أعماق نفسي بشعور من الضيق كان يتزايد ويتعاظم كلما أوغلت في سيري، كما أحسست إنني قد أسأت إلى ذلك السائل المسكين إذ لم أمنحه شيئاً. غير إنني حاولت أن(717/58)
أخفف جريمتي هذه، فقلت لنفسي: إنني سأساعد أول فقير أصادفه في طريقي بعد الآن.
وظننت إن هذا العزم سينقذني من تقريع ضميري، ويخلصني مما استولى علي من ضيق، ولكنه على عكس ما كنت أتأمل، فإن هذا الشعور، أخذ يزداد وبكبر، وأحسست في نفسي بما يشد قدمي، ويمنعها من متابعة سيرها، والعودة بي إلى ذلك المسكين. ورفعت (سوزان) وجهها الصغير إلي، وقالت:
- أماه. . .
- ما بك يا عزيزتي؟
لم لم تمنحي السائل الذي رأينها في الطريق شيئاً من المال؟
فعلت أن طفلتي، لم تركن إلى السكون، ولم تخلد إلى الصمت، إلا لأنها كانت مثلي مشغولة البال بذلك السائل المسكين، فقلت لها:
الحق معك يا عزيزتي، سنعود إليه ثانيةً.
وألقيت نظرة على ساعتي، فوجدت أن هناك متسعاً من الوقت لكي أعود إلى الصبي المسكين، وأمنحه شيئاً من النقود، ثم أعود بطفلتي إلى مدرستها.
ولم أتردد في استدعاء عربة، عدنا بها إلى (الشانزليزيه)، وكانت (سوزان) خلال الطريق، قلقة النظرات، وكنت أنا أحس في نفسي بمثل قلقلها خوفاً من أن لا نجد الصبي في مكانه.
ووصلنا المكان الذي أبصرناه فيه فلم نجده هنالك، فسألنا عنه عجوزاً كانت تحرس أحد الأبواب، فقالت لنا إنها تذكر إنها رأته قبل دقائق، وإنها لم تره في هذا المكان إلا اليوم فقط.
وينما نحن نهم بالرجوع خائبين، وإذا (بسوزان) تلمحه من بعيد مستنداً إلى جذع شجرة كبيرة. فأسرعت إليه بالنقود، ووضعتها في يديه، وعادت إلي مسرورة مغتبطة. أما أنا، فقد شعرت كأن عبئاً ثقيلاً قد أزيح عن كاهلي، وراحة لطيفة تعود إلى نفسي.
وسكتت الحسناء، فخيل إلينا أننا نعيش في جو غير الذي كنا نعيش فيه، وإننا نحيا حياةً غير تلك التي كنا نحيها، وكأننا كنا نقف خاشعين أمام فيض من الإنسانية والرحمة.
البصرة (عراق)
يوسف يعقوب حداد(717/59)
العدد 718 - بتاريخ: 07 - 04 - 1947(/)
الجلاء الأعظم
للأستاذ محمود شاكر
أكتب هذا وكل ذرة في ثرى مصر وفي جوها وفي مائها تتلفت حواليها لتنظر إلى الضجة التي خفقت في جنيات الأرض المصرية لليوم المشهود - يوم الجلاء عن مدن الوجهين القبلي والبحري إلا ما استثنته بريطانيا عصباً وافتئاتا. نعم هو الجلاء - جلاء الجندي المتغطرس الذي كان يمشي على أديم مصر تياها مستكبراً متعاليا ليذل الشعب الذي احتقره وازدراء على قوته وعلى سلطانه، ولم يعبأ ولا بثيابه بكبريائه. وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الفقير الذي يسير في الطريق حافياً في أسمال؟ وكيف يفعل ذلك وهو الجاهل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من أمر الدنيا إلا ما حضر بين يديه؟ وكيف يفعل ذلك وهو الشعب الذي هزمته بريطانيا في موقعه التل الكبير 1882، ثم انساحت جيوشها في أرضه بالمذلة التي كتبها الله عليه؟ هكذا كان يمشى كل جندي بريطاني على أرض مصر وهو يحدث نفسه بهذا كله، والمصري ينظر ليس فيها الحقد ولكن فيها الاحتقار، ويبتسم إليه ابتسامة ليس فيها الرضى ولكن فيها السخرية، ويصافحه مصافحة ليس فيها الترحيب ولكن فيها الإيمان بأن الذي أمامه إنسان مغرور يظن أن الدنيا باقية له، وهي الدنيا التي تداولتها من قبله القرون والأمم فرالوا وبادوا، ونالها من بعدهم من كانوا لهم تبعاً أو عبيداً.
هكذا كان ينظر الشعب الجاهل الفقير المهزوم بزعمهم نظرة فقيرة ولكنه عزيز، شعب جاهل ولكنه مؤمن، مهزوم ولكنه مترفع عن دنايا الأخلاق.
نعم هذا الجلاء، ولكن هل يقنع هذا الشعب به؟ وهل يزيله الفرح بما تم عن الهدف الذي رقى إليه؟ إن بريطانيا قد علمت أن لا قبل لها بإبقاء جنودها مفرقة في مدن مصر فتكون قذى في العيون يحدث آلاما تنبه النفوس يوماً بعد يوم إلى عدوانها وبغيها، فآثرت أن تحمل جنودها وتجمعهم في مكان بعيد عن عيون الشعب، تريد أن تجعل مثل هذا العبث منة يحملها الشعب المصري، فكيف عن مطالبتها وعن كشف عيوبها وسيئاتها وخبثها. فما رأت أن هذا الشعب العجيب قد فرح بجلائها عن بعض أرضه، ولكنه لم يكف عن مطالبتها، ولا عن إماطة اللئام عن رذائلها، قامت صحفها تزعم أن الصحف المصرية قد شنت على بريطانية (حملة سباب) ف نفس المكان الذي أشارت فيه إلى مسألة الجلاء(718/1)
إشارة عابرة. وهذا دليل على أن موقف الشعب قد غاظها غيظاً شديداً وأنها كانت تؤمل أن تخدعنا بهذا الجلاء من أماكن في أرض مصر إلى مكان واحد حصين في أرض مصر أيضاً، فلما كان غير الذي أرادت زعمت أنها (حملة سباب).
ومن الذي يسب؟ أمصر المسكينة التي احتملت وقاحة جيوشها وقوادها منذ سنة 1882، وصفاقة رجالها جاءوا ليحكموا هذا الشعب بالقوة والبطش من أمثال كرومر وكتشنر واللنبي ولويد ومايلز لامبس؟ أهي مصر المسكينة التي تسب اليوم بريطانيا وقد سمعت سفاهة الصحافة البريطانية على شعبها وهو يوصف بالرعاع، وسباب الصحف البريطانية للطلبة المصريين الذين كانوا يخرجون من مدارسهم للجهاد في سبيل وطنهم وبلادهم.
إن مصر حين تصف أعمال بريطانيا بالسفاهة والوقاحة والصفاقة - لا تسب بل تقرر حقائق وتسميها بأسمائها التي خلقت لها، ولم تخرج في ذلك عما وصفها الرجال المحايدون الذين وقفوا ينظرون إلى أعمال بريطانيا في مصر والسودان. فالشعب المصري لا يسب بريطانيا وإنما تسبها أفعالها وأفعال رجالها. وإذا أرادت بريطانيا أن لا تسمع المسبة من الشعب المصري ومن سواه في أقطار الأرض، فلتقلع عن سياستها التي توجب لها هذه الصفات، والتي تدفع أمما كثيرة غير مصر والسودان إلى أن تصفها بأشد مما وصفتها به مصر والسودان.
والعداوة التي بيننا وبين بريطانيا قائمة ما بقى في أرض مصر من منبع النيل إلى مصبه جندي بريطاني واحد، ولن تكف عن عداوتها وعن ذكر سيئاتها إلا إذا جلت جلاء تاما عن كل مكان انتزعته من بلاد مصر والسودان بالكذب والمكر والخديعة والتدليس، ولن تكف ألسنة مصر عن وصف أعمال بريطانيا بأسمائها التي خلقت لها إلا إذا كفت هي عن عداوتها وأعطت كل ذي حق حقه. إنها عداوة باقية بيننا وبينها حتى تدع لنا أرضنا، وتدع للعراق أرضه، وتدع لفلسطين العربية أرضها، وتقاوم معنا كل باغ أعانته هي فيما مضى على بغيه وعدوانه، كالذي كان من أمرها في مسألة تونس ومراكش والجزائر وليبية وبلاد إفريقية التي أطلقت فيها يد فرنسا وإيطاليا ليطلقوا لها يدها في مصر وفي سوى مصر.
بل إن جلاء الجنود البريطانية لن يكفي وحده أن يكون مدعاة لنسيان تاريخ بريطانيا وأفعالها. لقد دخلت بريطانيا بلادنا وبلاد سوانا، فاستعانت بشذاذ الأمم الذي لا يجدون في(718/2)
بلادهم ما يأكلون، وجاءت بهم إلى مصر والسودان وكل أرض كتب الله عليها أن تبتلي ببريطانيا وسياستها الاستعمارية، وحمت هؤلاء الشذاذ وشدت أزرهم وملكتهم الأموال والأرزاق، ونفخت في قلوبهم كبرياء الحقير الذي علا بعد ضعة، ومدت لهم مدا طويلا حتى صاروا سادة علينا وهم يأخذون ما في أيدينا - أي يسرقون ما قي أيدينا. أنت بالشذاذ من كل أمة وجعلتهم جاليات وأقليات وفرضت على نفسها حمايتهم فيما تزعم، واستنكفت لهم أن يتقاضوا في محاكم البلاد التي آوتهم بعد تشرد، وميزتهم عن أبناء البلاد في كل شئ حتى في معاملاتهم التجارية. حتى صارت لهم قوة بيوتنا، ويتعالون عنا، ويحتقرون أبناءنا ورجالنا، ويسخرون من آدابنا وعقائدنا. ويطعنون في أخلاقنا، ويشتموننا في الطرقات وهم في حمى بريطانيا ذات المجد والشرف!!
وأكبر من ذلك أنها حمت هؤلاء الشذاذ حماية أخرى ليكونوا لها جنوداً في ثياب مدنية، فأقطعتهم المدارس ينشئونها حيث يشاءون، وجاءت بدنلوب ليضرب التعليم المصري ضربات قاضية لا تزال إلى اليوم باقية لا تدري وزارة المعارف كيف تخلص منها. وإذا هذه المدارس تأخذ أبناءنا من بيوتنا، فتضعهم بين جدرانها، وتنفث فيهم سمها، وتحقر لهؤلاء الصغار بلادهم وأهلهم، وتمتهن لغتهم حتى كانت تمنع طلبتها عن أن يتكلموا بالعربية بتة، ولا في أوقات الفسحة ما بين الدروس، فإذا فعل ذلك طفل منهم عوقب أشد العقاب، وداروا به على الفصول كأنه مجرم قد ارتكب أشنع جريمة يعاقب عليها القانون وبقيت بريطانيا الممثلة في دنلوب ونظام دنلوب ورجال دنلوب تحمى هذا الوباء وهذا البلاء حتى استفحل، وخرج جيل من أبناء مصر نفسها ينظر إلى بلاده كأنها أرض غريبة يحتقرها كما رأى أستاذه الأجنبي يحتقرها، وكما رأى زميله الأجنبي يزدريها.
وأكبر من ذلك أيضاً أنها أخذت هؤلاء المساكين الذين أضلتهم مدارسهم الأجنبية فآوتهم ونصرتهم ثم مكنت لهم، وصاروا لها أشياعاً يثنون عليها ويفضلونها على سائر أهل الأرض، وعلى أهل بلادهم. واتخذوا لذلك كل أسلوب يدل اتخاذه على أن بريطانيا لا تتورع عن أن تجعل أخس الطبائع البشرية والشهوات الإنسانية سلاحاً تقاتل به الشعب الذي اعتدت عليه واستبدت به. فصار الشعب المصري يسمع مصرياً مثله يبسط لسانه في تاريخ شعبه وفي أخلاق شعبه غافلا عن السبب الأول الذي كان داعياً إلى انهيار هذا(718/3)
الشعب، ألا وهو بريطانيا وشذاذها.
فكل هذا وكثير سواه كان احتلال أدبيا ضرب على مصر والسودان كما ضرب عليها الاحتلال العسكري، فنحن لن نكتفي بأن يزول الاحتلال بجلاء الجنود؛ بل لابد من إجلاء ما ورثناه الاحتلال العسكري من نظم ومن شيع ومن عادات ومن أخلاق؛ حتى لا يكون المصري والسوداني غربيا في بلاده، ممتهنا في أرضه، مضروبا بالفقر والجهل والهزيمة في دياره.
ذلك هو يوم الجلاء الأعظم: يوم يعود إلينا أخونا المصري السوداني المقيم في بريطانيا (يعقوب عثمان) ليقول لبلاده إني أخطأت فاغفري لي زلتي وتجاوزي عن خطيئتي، ويوم يخلع الشباب المصري السوداني من فتيان وفتيات كل الزينة التي أضفتها عليهم مدارس الليسية الفرنسية، وفكتوريا الإنجليزية، والمدارس الأمريكية، ويخرجوا إلى أهليهم خاشعين خاضعين نادمين يعتذرون من الآثام التي ألموا بها أو قارفوها في حق بلادهم وفي حق آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم وأسلافهم وأعقابهم. بل يوم يخرج المهدي عن أمواله لمصر والسودان، ويعفر وجهه في ثرى النيل الأعظم، ويستغفر الله مما كسب من الإثم في حق مصر والسودان، أرض آبائه وأجداده؛ بل في حق أبيه الذي لم تتورع بريطانيا عن إهانة عظامه وهو ميت لا يملك دفعا عن نفسه.
إنه يوم الجلاء الأعظم - يوم يقف كل مصري سوداني أيامه وساعاته للتكفير عما فرط منه، ويوم يعمل جاهداً في إزالة كل اثر للاحتلال في نفسه، ويوم يخرج إلى الطريق ليميط الأذى عنه استعداد لمقدم الأجيال الحرة التي ترث أرضا طاهرة لم تلوثها غفلة القرون الماضية أو ضعفها أو استكانتها أو رضاها بالذل والمهانة طمعا في مال زائل ومجد حائل.
إنه يوم الجلاء الأعظم، يوم لا يسمع ثرى مصر لسانا أعجميا من أهله أو من غير أهله ينطق بغير اللغة التي ينطقها الشعب المصري السوداني، ويوم لا يخرج المصري السوداني فتتحداه تلك الطوائف من شذاذ الأمم ناطقة بغير لسانه وساخرة من لسانه.
إنه يوم الجلاء الأعظم، يوم يستطيع المصري السوداني أن يقف على ثرى أرضه مطمئنا لأنه حر من أحرار، وينظر حوله متلفتا يمنة ويسرة فلا يرى إلا وجوها عربية وبلادا عربية تضم الأحرار أبناء الأحرار.(718/4)
محمود محمد شاكر(718/5)
من صفحات مطوية:
إنطاكية وخليج الإسكندرونة في الحرب العظمى الأولى
للأستاذ أحمد رمزي بك
ينعم المرء بمناظر رائعة إذا كان على ظهر باخرة تسير على مقربة من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إذ تظهر جبال لبنان والعلويين أمام ناظريه وتحتها المرافئ متقاربة متشابهة؛ فإذا جن الليل تبدو أنوار القرى المتناثرة على سفوح الجبال وهي تتلألأ في الظلام. إنه منظر يوحى لراكب البحر في ظلمات الليل البهيم شعور الأمن والاطمئنان، فتزول من نفسه مخاوف البحر ومخاطره. فإن وصلت إلى خليج الإسكندرونة وجدت البحر يغزو الأرض ويبدو هذا الجزء منه كأنه بحيرة تحيط بها الجبال من ثلاث جهات، ووراءها قمم عالية شامخة كأنها تناطح السماء: هذه جبال اللكام عند العرب وأمانوس عند الفرنجة وطوروس وجبال الكفرة، كاروطاغي، عند الأتراك.
ولقد كنت مسافراً مرة في أواسط الأناضول فبلغت مدينة قيصرية، وهي التي فتحها ملكنا الظاهر بيبرس، وركبت القطار منها إلى الشام، فوقف بنا عند مخرج نفق على جبال طوروس، وكان على رأسه محطة أشاروا على بالنزول فيها لآخذ منها القطار السريع من هذه الرابية العالية رأيت البحر ممتداً من بعيد، وكشفت سهول ولاية أضنة أو كيليكية، كما تبدو للناظر إليها من نافذة طائرة محلقة في السماء: قلت هذا هو أول ما تقع عليه أنظار كتائب الزاحفين من الشمال، وهذا ما رأته جنود الصائفة والحمدانيين وعسكر مصر أيام ابن طولون وبيبرس وقلاوون في عودتهم من حروب أرض الروم، بل قل هذا أول مناظر الحياة التي لقيها الصليبيون في زحفهم على سوريا بعد أيام الويل والحرمان التي ذاقوها في أرباض آسيا الصغرى.
فإذا انحدرت من مضايق الجبال ودخلت السهل واتجهت إلى الساحل كان أول ما يلفت النظر هذه البحيرة التي تكون خليج الإسكندرونة، لو رآها رجل البحر لقال عنها هذي أكبر مرافئ الشرق، وتصورها الموئل الطبيعي لمئات السفن، ولو نظر إليها رجل البر لقال هذا مركز من المراكز الممتازة في العالم. فهنا التصق الخليج بالأرض وكونا في التاريخ قطعة واحدة وأصبح لها قصة واحدة: هي قصة تلك البقاع من الدنيا التي لها ذنب واحد هو ما(718/6)
حبتها به الطبيعة وجغرافية الأرض من مزايا.
هذي البقاع ليست كثيرة على الأرض ولكنها خلقت لتكون مسرحا للمشاكل والمعارك والتصادم وتتابع الحوادث والخطوب. إن مثلها كمثل بعض الناس ممن يأتي إلى الدنيا ليثير ضجة بين الخلق من يوم مولده إلى يوم وفاته كأنهم جاءوا إلى الدنيا تحت طالع من طوالع الضجيج أو سوء الحظ، كذلك هذه الرقعة من الماء والأرض والجبال، أتراها قد برزت للوجود تحت برج خاص من بروج السماء، فحكمت عليها الأقدار أن تكون فريسة للطامعين من ذوي الغلبة والسلطان، وموطناً للحروب والقتال، وأن يكتب على أهلها تحمل مصائب الدهر من ضيق الحصار ونقص في الأموال والأنفس، وتحمل غضب الطبيعة فما تثيره من أوبئة وزلازل، أن يكتب في سجل القدر لهذه البقعة من الأرض فيقترن اسمها بالعز آنا وتعلو علوا كبيرا حتى تسمو على غيرها من بقاع الأرض، ثم يلاحقها سوء الطالع فترى الأيام السود وتذوق الويل المرة بعد المرة حينما يطأها الفاتحون والغزاة، فتندك صروحها وتفنى بشاشة أهلها وتبكي نساؤها بكاء طويل في الليل كما يتحدث بذلك تاريخها في أكثر من عشرين قرنا من الزمن؟
وغريب أمر هذه البقعة: تقوم عليها المدنيات المختلفة وتتبادلها الشعوب، وينطق أهلها بكل لسان ويفنى شعب بعد شعب على أرضها ولكنها تخرج من وسط النكبات والمصائب وهي باقية لن تبيد، لأن الحياة لا تلبث أن تعود إليها. ولا تزال إلى اليوم إنطاكية وما حولها: ترى أسوارها القديمة وتلمس عظمتها الفانية. تراها صغيرة بجانب ما كانت عليه، ومع هذا تشعرك بماضيها ومجدها، وقد يدخل المرء مستهينا بها فيخرج منها وهو حامل في نفسه ما يدعو لاكبارها، إن فيها سراً يجبر الناس على احترامها.
نعم لقد قدر لهذه البقعة من الأرض أن تبرز خلال العصور الماضية وأن يتحدث عنها الناس من أهل الشرق والغرب، وسنبذل بعض الجهد لنأتي بشيء من ذكرها في كل عصر من العصور السالفة وخصوصا ذلك العصر المملوء بالبطولة والكفاح: عصر الحروب الصليبية، ونذكر ما حولها من حصون الإفرنج وما أقيم أمامها من حصون المسلمين وقلاعهم والكتابة في هذه الناحية من أحب الأشياء إلى من يؤمن بعظمة ماضينا، ولكن هناك ناحية لا تزال خافية عن قراء العربية هي أهمية هذا الركن من العالم في الحرب(718/7)
العظمى الأولى، فقد بقيت منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة بعيدة عن ميادين القتال ولم تغمرها الحوادث ولذلك لم يشهر اسمها ولم يعلم الناس عنها إلا لما أثيرت مسألتها أمام عصبة الأمم وأخذت تتطور مشكلتها بين فرنسا وتركيا ثم أخيرا سوريا وتركيا.
ولهذه المنطقة تاريخ طويل في مدة هذه الحرب وما تلاها من الحوادث، سنعرضه ملخصا ما أمكن راجعين من النهاية إلى البداية:
حينما قامت الحركة التركية وحصلت حكومة أنقرة على الانتصارات الأولى على اليونان. أرسلت وفدا إلى باريس في يولية سنة 1921 أخذ يفاوض الفرنسيين في عدة مسائل، وفي 25 أكتوبر سنة 1921 عقد اتفاق أنقرة الأول وفيه سلمت فرنسا بالحدود التركية التي تبدأ من بياس إلى ميدان اكبس ثم تستمر على شريط سكة حديد بغداد، وكان من ضمن ما اتفق عليه إقامة نظام إداري خاص بسنجق الإسكندرونة واعتبار اللغة التركية لغة رسمية فيه.
جاء هذا الاتفاق عقب حرب بين الفرنسيين والأتراك دامت من يناير 1920 إلى 1921 قال عنها الفرنسيون في كتابهم عن تاريخ الشرق ما يأتي: (إنها حرب مقدسة وقومية اتسمت بالقسوة والعنف اللذين يتصف بهما أهل تلك البلاد وأنها وافقت زمن غليان الحركة الكمالية التي استنفرت الأناضوليين في وجه مشروع يشعر بتفكيك الوطن التركي).
ويتعجب صديقنا الأستاذ أدموند رباط في كتابه بالفرنسية عن الوحدة السورية ويتساءل (كيف سلم الفرنسيون بعد معاركهم الطاحنة في كيليكية وخسائرهم فيها بهذه الحدود؟ ويقول إن في ذلك سرا سيبقى أمام مؤرخي المستقبل من المعميات التي يجدون الصعاب لفهمها).
أما نحن فلا نعجب وقد عرفنا النزاع والتنافس بين بريطانيا وفرنسا، وإنما نتساءل ونقول للكاتب الفرنسي الذي ذكرنا نظريته في المقالة الأولى: من كان يمثل دور الإمبراطورية الرومانية في عام 1921. بريطانيا أم فرنسا؟
إن مثل هذه الأمور تأخذ وقتا طويلا لكي تكتشف تفاصيلها وما يلابسها من المعميات. وقد يطرأ حادث طفيف يتمثل في طلب احتلال الإسكندرونة وخليجها فينتج عنه أكبر الأمور وبعيد إلى ذكريات السياسيين مسائل ومشاكل بقيت لمدة طويلة طي الكتمان.
وهذا ما حدث في عام 1918 ففي أكتوبر سلمت الدولة العثمانية وأمضت هدنة مدروس، وكانت الجيوش التركية تحتل منطقة إنطاكية وتشرف على خليج الإسكندرونة وبقيت في(718/8)
حوزتها بعد إمضاء هذه الهدنة، ولما كانت شروطها تحتم إجلاء الجنود والضباط والقواد الألمان فقد تقرر سفر الجنزال فون ساندرس ومن معه، وعليه تسلم القائد مصطفى كمال القيادة، وقد فهم أمرين: الأول أن الهدنة عقد لوقف القتال بين المتحاربين وأن الأراضي التي في حوزة الأتراك تبقى معهم لحين إمضاء معاهدة الصلح، والثاني: أن خط الحدود لوطنه هو الذي أثبته الأتراك بقوة السلاح في آخر معركة دارت مع الإنجليز والهنود في شمالي مدينة حلب عند انسحابهم منها وترتب على هذه المعركة إيقاف الزحف البريطاني على نقطة تبعد ثلاثين كيلو متراً من المدينة.
ويقرر في مذكراته ومخابرته الرسمية أن هذا الخط من صنع يديه، ولذلك تمسك به حتى النهاية في مفاوضاته مع الفرنسين، ولم يكتف بذلك بل عارض قبل ذلك الحكومة المركزية حينما طلب الإنجليز السماح لهم باستعمال خليج الإسكندرونة والميناء لتموين جيوشهم المحتلة لمدينة حلب، وتبادل مع رئيس الوزارة مكاتبات في منتهى الخطورة، وكانت هذه الفترة موجهة له في حياته المقبلة لأنه من تلك اللحظة بدأ يفكر في تأليف جيش من شراذم الوحدات التي تحت قيادته، حينما أقنعته الحوادث بأن إنقاذ البلاد يحتم مداومة القتال إلى النهاية.
فالمطالبة بتسليم ميناء الإسكندرونة كان معناه احتلال المنطقة، وقد أثار هذا الطلب مخاوف الفرنسيين لماسيرد بعد ذلك من تفاصيل في هذا البحث، وأثار قلق القائد التركي الذي فسر احتلال هذه المنطقة كرغبة في احتلال غيرها من الأراضي وأن هذا الطلب يهدم الشروط المتفق عليها. فلما طلبت منه الحكومة إجابة هذا الطلب أجابه بصراحة:
(أنا لا أتزحزح عن عقيدتي بوجوب تعيين وتحديد التضحية التي يمكن أن تبذلها الدولة بعد هزيمتها)، وكتب إلى رئيس الوزارة (إن الانقياد إلى البريطانيين في طلباتهم قبل إزالة ما في نصوص المعاهدة من إبهام وليس لا يبقى هناك وسيلة للوقوف أمام أطماعهم).
وكان الفرنسيون على علم بنيات البريطانيين وهم حلفاؤهم طول مدة الحرب، وكان الأتراك على علم بما يدور حولهم وما يمكن أن يسببه لهم التساهل والإغضاء عن حقوقهم، والآن وقد نشرت أغلب وثائق الحرب العظمى الأولى، أصبح من السهل تتبع المركز الخطير الذي لعبته منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة في استراتيجية الحرب بين السنوات(718/9)
1914و1918.
وسوف نبدأ من الناحية التركية ثم ننتقل إلى وجهة النظر البريطانية: ففي سنة 1916 تألقت مجموعة من الفرق أطلق عليها اسم مجموعة الصاعقة (ييلدريم) وكانت حلب مركزاً لها وتولى قيادتها الماريشال فون فالكنهاين ومعه نخبة من رجال الجيش والبحريةوالطيران، ومن الاطلاع على التاريخ الرسمي الذي نشرته وزارة الحربية التركية في نشراتها عن تاريخ الحرب؛ يتبين أن القصد من تأليف هذه القوة هو السيطرة على ميادين القتال في فلسطين والعراق ثم حماية منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة ضد أي هجوم يشنه الحلفاء ويكون القصد منه قطع المواصلات العسكرية وعمليات تموين الجيوش في أهم نقطة حساسة في أراضي الإمبراطورية العثمانية.
ويؤكد هذا ما كتبه هندنرج: (لو وفق الإنجليز إلى إنزال جنودهم في خليج الإسكندرونة لفقدت تركيا الحرب نهائياً أو اضطرت إلى الاحتماء في جبال طوروس)، وكان قد شبه في مذكراته هذه المنطقة بالشريان الحيوي لتموين الجيوش التي تقاتل في العراق وسوريا وفلسطين وقال: (إن مدافع السواحل لم يكن لها وجود).
وأشار إلى ما قاله أنور باشا (من أن أمله الوحيد هو ألا يلمس العدو حالة الضعف التي عليها خليج الإسكندرونة).
ولذلك ختم حديثه بقوله (إن قيام الدولة العثمانية أو استمرار الحرب كان مرتبطا بمصير هذه البقعة، وإن الضربات التي لقيتها بسقوط بغداد وتحطيم جبهة فلسطين جعل تجمع جيوش الصاعقة ضرورياً، وألزم منه إسناد قيادة هذه المجموعة إلى قائد ألماني معروف وهذا ما جعله يوافق على هذا التعيين). ومن اطلاعك على ذلك يتضح ما مر بمخيلة مصطفى كمال حينما تمسك بشروط الهدنة ولمس في الإخلال بها رغبة جديدة لاتخاذ سياسة أشد عداء لبلاده، وقد كان محقاً في ذلك لأن نيات البريطانيين من ناحية خليج الإسكندرونة لم تكن خافية طول مدة الحرب كما قلنا؛ فقد ذكرت المؤلفات الرسمية لوزارة الحربية البريطانية عن تاريخ الحب العظمى ما دار من نقاش بين اللورد كتشنر والجنرال مكسويل في نوفمبر سنة 1914 بخصوص إنزال حملة بريطانية على خليج الإسكندرونة وتوجيه ضربة قاصمة إلى منطقة إنطاكية ونهاية الخطوط الحديدية في جبال طوروس(718/10)
حتى يمكن تحطيم مواصلات الإمبراطورية العثمانية.
وقد تبين من هذه المحادثات أن احتلال هذه المنطقة قد درسته القيادة البريطانية درسا وافيا، وكان القصد من إنزال الجنود هو حماية مصر أو منع الحملة التركية الموجهة إلى مهاجمة قناة السويس من إتمام فتح مصر، وكان هذا المشروع جديا لدرجة أن نظر إلى الناحية السياسية التي ستنتج عنه وهي قيام ثورات الأرمن ووسط قبائل النصيرية والإسماعيلية وتحريك كل ما يؤدى إلى انحلال الحكم التركي، وقد عرض كل ذلك بموافقة الإمبريالية البريطانية على مجلس الوزراء، ولكن كتشنر عاد أمام أسباب عسكرية وسياسية إلى التمسك بضرورة حماية قناة السويس والوقوف موقفاً دفاعيا سلبياً والاكتفاء بتشديد الرقابة والحصار على شواطئ سوريا بأكملها، وبادرت القيادة البريطانية إرسال الفرق البريطانية والهندية التي صدت هجوم جمال باشا على مصر في فبراير سنة 1915.
ثم عادت حملة خليج الإسكندرونة إلى الظهور مرة أخرى، وكان ذلك في نهاية عام 1915 حينما فشلت بريطانيا في حرب الدردنيل وقررت إخلاء شبه الجزيرة وسحب جنودها منها فقد جاء كتشنر بصفته وزيراً للحربية إلى ميادين القتال في غاليبولي ومصر ولمس بنفسه سوء الحالة العسكرية قبل الإخلاء وما تحمله من تطورات ومفاجآت وأشار إلى رد الفعل الذي قد يحدث بعد فشل حملة الدردنيل في العالم الإسلامي وإلى وجود عدد من الفرق التركية المدربة على أصول القتال الحديث بعد اشتباكها في معارك الدردنيل، ثم نظر إلى أن دخول بلغاريا الحرب قد فتح الطريق بين تركيا وألمانيا وأصبح تدفق الأسلحة والعتاد ممكناً، ولذلك تجدد الخطر مرة أخرى على مصر وهي مركز الزاوية في العمليات الحربية البريطانية. . . وجاء التصريح الذي ألقاه أنور باشا أمام مجلس المبعوثين وقال فيه (إن الحلمة الأولى على مصر كانت عملية استكشافية تعرضية وسيعقبها حملة ثانية لاسترجاع مصر)، لتحريك هذه المخاوف.
ولذلك ازداد قلق ماكسويل وصارح وزارة الحربية البريطانية بأن إخلاء الدردنيل سيكون شديد الوطأة على المكلفين بحماية مصر وسيكون أثرة بعيداً من الناحيتين السياسية والعسكرية إن لم تبادر بريطانيا بتوجيه ضربة عاجلة إلى الدولة العثمانية. وعاد ليعزز اقتراح كتشنر بضرورة إنزال حملة بريطانية على خليج الإسكندرونة بل ذهب في تحمسه(718/11)
أن عرض على حكومته أن احتلال هذه المنطقة يجب أن يسبق عمليات الأخلاق في الدردنيل. ورجعت وزارة الحربية إلى دراسة هذه الحملة وقدرت القوات اللازمة بمائة ألف مقاتل وأخذت القيادة العليا مع قيادة الأسطول تضمان الخطط التفصيلية، واتفق الطرفان على مبدأ الجمع بين المشكلة السورية ومسألة الدفاع عن مصر، وضرورة تنسيق العمليات الحربية بين قناة السويس وخليج الإسكندرونة.
وعرضت جميع الخطط في الاجتماع الحربي الذي عقده كتشنر في جزيرة مدروس ودعي إليه كبار القواد، وكان قرارهم على ضرورة احتلال منطقة الإسكندرونة بالإجماع حتى حددت في هذا الاجتماع على الخرائط الأماكن الذي اختيرت لا نزال الجنود ولكن هذا المشروع تعرض من الوجهة الفنية العسكرية لانتقاد رياسة أركان الحرب العامة للإمبراطورية، ودارت عدة مناقشات طويلة يجدها الباحث مفصلة في الكتب والوثائق الرسمية، وفي أثناء ذلك جاءت المذكرة الفرنسية التي قدمها الكولونيل دي بانوس الملحق العسكري بسفارة فرنسا بلندرة، وهي المذكرة التي قضت على المشروع لتعارضه مع مصالح الفرنسيين إذ جاء فيها إن أي عمل جربي في هذه المنطقة يجب أن يكون باتفاق الحكومتين لأن فرنسا لا تدافع عن مصالحها الاقتصادية فحسب، وإنما تضع الناحية السياسية والنفوذ الأدبي قبل كل اعتبار في بلاد تعدها بواسطة الاتفاقات الدولية داخلة في مناطق نفوذها وذهب رئيس وزارة بريطانيا إلى باريس ولما عاد أصدرت الحكومة البريطانية قراراً برفض مشروع الحملة واستبعاد فكرة احتلال خليج الإسكندرونة، وإن بقيت كل من تركيا وألمانيا تنتظران هذه الحملة حتى نهاية الحرب العظمى وإعلان الهدنة.
ذكر هندنبرج في مذكراته أن أعباءه مدة الحرب لم تكن تسمح له بقراءة التقارير التي يرفعها إليه خبراؤه العسكريون فكان يكتفي بالملخصات ولكن لفت نظره ما جاء في أحدها من أن نهاية الحرب سوف تقرر في خليج الإسكندرونة، وذلك باستدراج العدو إلى معركة كلس.
قال (كنت أجهل هذا الاسم، ولهذا كان أول عمل لي هو البحث عنه وقد وجدته اسما لبلدة صغيرة في شمالي حلب).
ومن الغريب أن الانتقادات التي وجهها الخبراء البريطانيون إلى مشروع كتشنر ترتكز(718/12)
على افتراض تجمع في هذه الناحية وقالوا إن طبيعة المنطقة بأكملها تساعد على إخفاء قوات كبيرة في أماكن مختلفة وتسهل عمليات الدفاع والمفاجأة.
إن الفكرة التي نظر إليها باستهتار القائد الألماني العظيم كانت من ضمن الأسباب الفنية التي أخرت تنفيذ هذه الحملة.
والآن وقد قامت سوريا تطالب بعودة هذه المنطقة إلى أراضيها نعرض هنا هذه الآراء على المهتمين بمستقبل الشرق وأممه إذ نستخلص منها حقيقة ثابتة هي أن الدفاع عن البحر الأبيض المتوسط سيتولاه في المستقبل أهله، وإنه لن يقتصر على المضايق وسواحل اليونان وجزر بحر ايجه بل يرتكز على منطقة الإسكندرونة وأن الدفاع عن وادي النيل كما رأينا يرتبط ارتباطا وثيقا بالدفاع عن هذه الناحية في السنوات القادمة.
أما ملاحم العروبة والإسلام على هذه الأرض فلها عودة في مقال قريب بإذن الله.
أحمد رمزي(718/13)
رثاء الأستاذ الأكبر
للأستاذ عباس محمود العقاد
عصف النعّي بكل قلب خافق ... يوم استطار بنعي عبد الرزاق
من راب سمع السامين بخطبه ... وهو المعلم كل علم صادق
ومن استقام على الفضيلة والتُّقى ... ورعى مع المخلوق حق الخالق
ومن ارتضى شيم الثبات لزيه ... ولرأيه، ولكل سمت لائق
ومن اتقى حسد الحسود بخير ما ... يُرجى ويُحسد من نُهى وخلائق
نظرٌ كساري النجم مؤتلق على ... أدب كأفواف الربيع العابق
بلغ المدى في الدين والدنيا معاً ... وعلا من الأحساب ذروة شاهق
أسفاً عليه! وكم حزين آسف ... أسفي على ذاك المحيا الرائق
ماذا عليه لو استتم بقاءه ... كتمامه في كل وصف فائق
ذاك الذي كملت جوانب فضله ... وتناسقت في الحسن أي تناسق
من مثل نابغة النوابغ، مصطفى ... في سابق من مجده أو لاحق
رجّاه والده الكريم لغاية ... حسبني، فوفاها وفاء الواثق
ربّاهِ حبراً للديانة فاستوى ... في نخبة الأحبار أسبق سابق
ونماه في حجر العبادة مسلماً ... فهدى الحجيج وحج كلَّ منافق
وأعده للعلم فاستوفى به ... حظ العليم الفيلسوف الحاذق
وغذاه بالتبيان فانقادت له ... غرر اليراع بكل معنى شائق
وهداه للإحسان فهو وليه ... لمعاهد الإحسان غير مفارق
ورجاه للعلياء فاستبق الخطى ... سبق الكرام إلى المقام السامق
لا وانياً عنها، ولا متعجلا ... فيها، تعجّل مشفق من عائق
وكأنه وعد الأمين وفى به ... فطوى صحيفته كلمح البارق
لو لم يكن قدراً قضاه لما قضى ... كالنجم يرجع غارباً من شارق
إن المطالع لا يقر قرارها ... بعد التمام، ولا تدوم لطارق
يا آخذاً من كل شئ صفوه ... بوركت من ذي معجزات خارق(718/14)
حتى الخمول بلغت غاية حظه ... عجباً، وأنت من العلا في حالق
لم ألق قبلك من نبيه آمن ... من شرة الباغي وغيظ الحانق
تلك المدامع ما امتزجن بدمعة ... من كاذب في حزنه أو ماذق
ولتلك من رضوان ربك آية ... تخذت من الإجماع أصدق ناطق
فادخل حظيرته بخير خلائق ... مرضية منه وخير علائق
مال الموت يا كشاف كل حقيقة ... إلا حقائق حُجَّبت بحقائق(718/15)
مصطفى عبد الرزاق
الشيخ الأكبر الذي فقدناه!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أيها الروح الزكي الكريم الذي حبسه الموت عن كل قلب عرفه كما يحبس النسيم الرخي عن قلب المحرر الظمآن!
أيها العقل الكبير الذي حول في نفسه ما عرفه من هدى الدين وفلسفة الرأي الصحيح إلى حكمة الخلق الراجح واللفظ النزيه والعمل المبرر، فلم ير فيه الناس ذلك التناقض البغيض بين حكمة القول وطبش العمل، وعلم الدرس وجهل العيش، بل رأوا دينه وعلمه وحكمته كماء الشجرة الطيبة يحيها ويجري فيها عنصرا أصيلا يتحول لبابا حيا وورقا حريريا نديا وزهرا شذيا وثمرا شهيا يملأ الحواس والإدراك وحيه وتعبيره، لا كالماء في شجرة الحنظل يتحول فيها إلى مر زعاق، أو في دم الأفعى يتحول إلى سم مدوف كما يتحول العلم في بعض العقول!
ويا أيتها الواحة المخضلة الوارفة التي كانت تعيش هادئة في مد الرمال الطاغية، رمال الخيلاء العلمية المزدهاة والتعقرات الكلامية الجوفاء، والدعاوى العريضة والمزاعم المنادية على نفسها مناداة المتاجر في الأسواق!
ويا أيتها السكينة النفسية التي كانت تشع على من يقرب منها ألواناً من الرضى والطمأنينة، وتدخله إلى رحاب عالم من السكون والصمت المتحدث!
ويا أيتها (القطعة الفنية) الباقية من الشرق الكريم في وجوهه الحيية وألفاظه العفيفة وثيابه الساترة التي فيها شخصيته وأبوته ووقاره!
ويا أيتها الصوفية العقلية العملية التي تربى مريدها بالأدب الرفيع يتحلى به الكبير أمام الصغير فيأخذه عنه بدون قوالب ألفاظ وفلسفات ومجادلات، بل بذلك السر الخفي الذي يعطيه الآباء الحكماء للأبناء!
ويا أيتها المكرمات التي لا حد لما كانت تبذله من جاهها ومالها وحسن إقبالها على المحتاجين إلى برها، كأنها الينبوع الفياض في هدوء بين قسوة الظروف وشح الأنفس!
ويا أيتها التقاليد الصالحة العارفة بما عند قومها من محامد، فهي معتزة بها مستمسكة بعراها(718/16)
في آداب البيت والزي واللهجة وإن اختلف الزمان واختلت الأوضاع وطغت عوامل التحلل من الواجبات والتقاليد الكريمة على البيت والألسنة والحرمات!
ألا أيتها المعاني والعوالم التي كانت مجسمة في هذا الجسم المهذب الحواشي الدمث الجوانب الذي كان الكمال والسمت يقيده في الحركة واللفتة والكلمة. . . . هل يملك مثلي ممن كان يعيش معك فترات يجدد فيها ذكرى والده في صورتك وروحك ويحي الوفاء الذي كان بينكما، إلا أن ينظر الآن من وراء الغيب إلى هذه الحفرة التي أسلموا إليها ذلك الجسم الزكي الحبيب الذي كان مجتلاك أيتها المعاني؟! وماذا يغني النظر في تلك الحفر التي مضى إليها كل من كان ويمضي إليها كل من هو كائن في أبد الآبدين؟!. . . هل يغني إلا الحسرة على الفقد وضياع ما في يد الإنسانية من تلك المعاني العزيزة النفسية التي هيهات أن تجتمع في ذات إلا في خطفات زمنية وذوات معدودة يجود بها الزمان على بخل وشذوذ؟ إن هذه الذوات التي تجتمع فيها هذه الخلال إنما هي الكتب الحية والكلمات المجسمة التي تفسر الأفكار والأحلام التي يقرؤها القارئون في عالم الكتب المسطورة فيظنونها مخلوقات من عالم الأطياف لا حياة لها على هذه الأرض حتى يروا النموذج في شخص حي فيصدقوا. . . .
وكم يرى الناس من عالم يملأ طباق الفكر علما، ولكنه لا يملأ الفجوة الواعية الحساسة الصادقة في النفس! لأن علمه منفصل عن ذاته وحياته، فهو في فكره كالشيء المقتنى في يده، لم يجر من ذاته مجرى الدم في قلبه والرأي في عقله والخلق في سلوكه فهو حقيق ألا يرى الناس فيه قدوة تهدم أرواحهم القلقة. وإنما ينظرون إلى علمه بإعجاب، كإعجابهم بالمشعوذ أو الحاوي!
وكم رأى الناس من روحي لا يحسن الكلام ولكن يحسن السلوك والعمل وتفيض يداه بالخبر وقلبه بالعطف فيكون فيه للناس علامة مشيرة أبدا إلى منطقة النجاة من لجج الوحل والدنس التي تقطع السبل على الرجل المتطهر! فإذا اجتمع العلم والروح في شخص كان فضل الله عليه عظميا، فإذا كان ذلك على غنى وجاه لرجل يؤدى زكاة الغنى والجاه بالكيل الوافي كان ذلك فضلا عظيما مضاعفاً يعتبر ندرة تجمع عليها القلوب بالحمد.
أنا واثق أن كل فرد من اتصل بالعقيد يستطيع أن يسرد وقائع شخصية له من مكارم هذه(718/17)
الذات، أدبية أو مادية، ولذلك أقترح أن تدون هذه المكارم لتضم إلى المذخور المأثور عن أجواد العرب وساداتهم وعلماء المسلمين الأبرار، فإن في هذا التدوين ثروة تضاف إلى عبقرية الخلق التي هي أعظم العبقريات في الإنسان على رغم ما يشاع عن عبقرية الفكر أو عبقرية الفن، لأن عبقرية الخلق هي (فن الحياة) الذي ينمو في ظلاله الاجتماع الإنساني بما فيه من نتاج فكري وفني وعملي، فهي عبقرية أشبه شئ بالأمومة المضحية الفادية المعطية من غير أخذ. وهي عبقرية يختص الله بها قلوب طراز من الرجال يصح أن يسمى (الرجال الأمهات)! لشدة حبهم لنفع الإنسانية وتفانيهم في خدمتها وبرها.
أيها الروح الزكي الذي كان أبا وأخا وصديقا للجميع؛ إن القوم اجتمعوا لا ليكرموا ذكراك، فإنها عنصر من مكونات معنى الكرم ذاته في إفهام الناس في هذا العصر. . . . ولكنهم اجتمعوا ليكرموا أنفسهم بحديث ذكراك. ولو أرادوا أن يكرموك لأدركوا منك في حياتك كامل ما أدركوه بعد فقدك. . . ولكنهم اعتادوا مع الأسف ألا يكرموا الفضائل إلا بعد موت الفاضل. . لأن انتقال الموت فاجأهم ويفجعهم فيحسون أن الأرض تزلزل تحت أقدامهم بعد أن يتحطم قطب من أقطاب حياتهم عليه. . . وكانوا يدورون حوله وهم لا يشعرون. . . .
فمتى ترشد الأمم الشرقية فتتمتع بثمارها الناضجة التي أودع الله فيها سر النوع البشري قبل عطبها أو اختطافها! لماذا لا ندرك منازلهم في قلوبنا إلا بعد فقدهم، لماذا لا نسرهم في حياتهم بالاستجابة لداعية الخير في نفوسهم حتى يمضوا مطمئنين إلى بقاء الخير والبر بعدهم؟ لماذا لا تكون المدائح قبل المرائي؟
ما أصدق تلك الكلمة التي قالها الأول:
لا أعرفنك بعد الموت تندبي ... وفي حياتي ما زودتني زادي!
وما أصدق قول الآخر:
ترى الفتى ينكر فضل الفتى ... ما دام حياً فإذا ما ذهب.
لج به الحرص على نكته ... يكتبها عنه بماء الذهب!
فاللهم أرشدنا وبصرنا حتى ندرك أن أعظم ثروات الأمة هم رجالها الأفذاذ في الخلق والعلم فتنتفع بهم وتتمتع بعبقريتهم، ولا نضيعهم ثم نبكي عليهم!
روح الله الفقيد وأرواح أحبائه، وأحسن العزاء فيه للجميع فإنه فقيد الجميع.(718/18)
عبد المنعم خلاف(718/19)
مراجعات في الفلسفة:
نظرية المعرفة عند شوبنهور
للأستاذ عبد الكريم الناصري
- 2 -
وللذهن وظيفة واحدة، وهي معرفة (العلية). ولكن العلية تفترض الزمان والمكان مقدماً، وتفترضهما متلازمين متحدين. إذ ليست العلية مجرد توال للأشياء في الزمان، وإنما هي هذا التوالي بالإشارة إلى موضع من المكان؛ ولا هي مجرد وجود الأشياء في المكان، وإنما هي هذا الوجود بالإشارة إلى لحظات الزمان. إن العلية هي (حاصل ضرب المكان في الزمان) وبهذه الوظيفة الواحدة، أعني معرفة العلة من المعلول، والمعلول من العلة، يدرك الذهن العالم الواقعي. والمعلول هنا هو تأثرت (الموضع المباشر) أي الجسم الحيوان، ومهمة الذهن أن يحيل هذه التأثرات - التي نعطاها مباشرة - إلى عللها الخارجية، وبذلك يتم إدراك هذه العلل كموضوعات ممتدة في المكان. وليست الإحالة المذكورة عملية تجريدية تصورية، وإنما هي فعل مباشر، فوري، ضروري، ولولا الذهن ووظيفته، لما أمكن الإنسان والحيوان أن يدركا العالم المادي القائم في المكان، والمتغير في الزمان، والمترابط برباط العليه، بل لكانا يشعران شعورا (نباتياً) غامضا بتغيرات البدن، وأحاسيسه المتوالية، دون أن يكون لمثل هذا التوالي دلالة مفهومة؛ وإنما تكتسب التغيرات المتعاقبة في (الزمان) معناها وترجع الأحاسيس مدركات حسية، ممتدة في (المكان) بفضل الذهن، حين ينتقل من الإحساس إلى علته، أي الموضوع الخارجي ومن هنا فالعلم المادي (لا يوجد إلا بالنسبة إلى الذهن، وبواسطة الذهن، وفي الذهن).
وتتدرج معرفة العلية من أبسط أشكالها، وهو الإدراك الحسي، أو معرفة الصلة العلية بين الموضوع المباشر والموضوعات غير المباشرة المؤثرة فيه، حتى أغلب درجات الروابط العلية القائمة بين الموضوعات غير المباشرة، وينتظم ذلك استكشاف القوانين الطبيعية؛ فإن هذا كله من عمل الذهن والعيان، وليس من عمل العقل والتصور، وما المجردات في الواقع إلا انعكاسات باهته لعالم الحس والعيان.(718/20)
ولكن إذا كان الإدراك يحصل عن طريق معرفة العلية، فليس معنى ذلك، فيما يرى شوبنهاور، أن صلة الذات بالموضوع صلة علة بمعلول، لأن هذه الصلة لا تقوم إلا بين الموضوع المباشر والموضوعات غير المباشرة أي بين (الموضوعات) وحدها - وليست تعدو الموضوعات إلى الذات. ومن ثم لا يجوز لنا أن نعتبر الموضوع معلولا للذات، ولا الذات معلولة للموضوع. إن العلية هي شرط إمكان وجود (الموضوع) وصورته العامة ولكن الموضوع يفترض الذات مقدما أو ضمناً، إذ لا موضع بغير ذات تدركه، فإذا كان ثمت موضوع، فهناك بالضرورة ذات. ويعكس ذلك يقال، إن الذات تتضمن وجود الموضوع فلا ذات بغير موضوع، ولا عارف بغير معروف. وبذلك يكون ازدواج الذات والموضوع أعم صورة لعالم (الفكرة). أنه أعم من الزمان والمكان والعلية. لأن كل هذه الصور تتضمن النسبة إلى الذات. لا شئ في هذا العالم إلا وهو - أولا وقبل كل اعتبار - موضوع بالنسبة إلى الذات، أو هو (فكرة). ومن هنا فليس للعالم المحسوس واقعية (متعالية) أو مطلقة، ولكن هذا لا ينفي واقعيته (التجريبي)، أو النسبية. ولكل كان مدرك أن يقول: (إن العالم فكرتي)، وإن كان الإنسان وحده قادرا على تصور هذه الحقيقة في وعيه المروي المجرد. (وهو إن يفعل ذلك حقا) كما يقول شوبنهاور في أول أثره الرئيسي، (يكون قد بلغ الحكمة الفلسفية. وعندئذ يتضح له ويتيقن عنده أن ما يعرفه ليس شمسا ولا أرضاً، وإنما هو عين ترى شمساً ويد تحس أرضاً، وأن العالم الذي يحيط به لا يوجد إلا بالنسبة إلى شئ آخر، هو الوعي.). وإذا كان ههنا حقيقة يمكن أن تقرر مقدما أو (قبليا) - أي قبل كل تجربة - فهي هذه الحقيقة، لأنها (تعبر عن أعم صورة لكل تجربة ممكنة ومتصورة صورة هي أعم في الزمان، والمكان، والعلية، لأن هذه الصور جميعا تفترضها مقدما. . . . إن ازدواج الموضوع، والذات هو الصورة المشتركة بين جميع أصناف الفكرات، هو الصورة التي بمقتضاها وحدها يمكن أن تقوم أو تتصور أية فكرة، أياما كان نوعها، مجردة أو عيانية، خالصة أو تجريبية. ما من حقيقة إذن أكثر يقينا، وأكثر استقلالا عن سائر الحقائق، وأقل حاجة إلى الدليل من هذه الحقيقة، وهي أن كل ما يوجد بالنسبة إلى المعرفة، وبالتالي هذا العالم كله، فإنما هو موضوع بالنسبة إلى الذات، إدراك مدرك، وبالإيجاز فكرة).(718/21)
الذات والموضوع إذن هما قطبا عالم الفكرة، وشطراه الضروريان. والذات هي (ذلك الذي يعرف كل شئ، وليس يعرفه شئ)، وهي لذلك حاملة الظواهر، وشرط كل ما يعرف أو يمكن أن يعرف شرط العالم كله، باعتباره فكرة. وكل منا هو هذا الحامل للعالم الظاهر، بجباله وأنهاره، ونجومه وأفلاكه؛ كل منا ذات، ولكن من حيث هو يعرف، لا من حيث هو معروف، أو موضوع معرفة. ذلك أننا لسنا محض عقول خالصة، وإنما نحن أبدان أيضا. والبدن موضوع بين الموضوعات، وخاضع لشروط وجودها (المكان والزمان والعلية)؛ وبما أن الزمان والمكان هما شرطا الكثرة أو التعدد، فأبداننا تتعدد؛ ولكن الذات لا تخضع لهذين الشرطين، لأنهما يتعلقان بالموضوعات أو المعروفات فقط ولكن يفترضان الذات العارفة مقدما؛ ولذا فالذات لا تتعدد؛ ولكنها ليست بعد واحدة؛ (إنما هي حاضرة - كاملة لا غير منقسمة - في كل كائن مدرك. ولذا فأي كائن مدرك خليق بأن يكون، مع الموضوع، عالم الفكرة كله، كأتم ما تكونه الملايين القائمة؛ ولكن لو اختفى هذا الكائن الواحد، إذن لاختفى العالم كله، بما هو فكرة) هذان الشطران إذن مقترنان، متضايفان، لا سبيل إلى فصل أحدهما عن الآخر كل منهما يحد صاحبه مباشرة، فحيث يبدأ الموضوع تنتهي الذات.
ومن الممكن اعتبار الزمان والمكان والعلية، التي تستقر في وعينا قبليا، وتكون الشكول العامة للعالم الموضوعي، الحد المشترك الذي تلتقي فيه الذات والموضوع. ولذلك نستطيع أن نكتشف هذه المبادئ إما من الموضوع (أو بعدياً) وإما من الذات (أو قبلياً). وقد جعل شوبنهاور مبدأ السبب الكافي - كما سبق القول - التعبير العام عن جميع معارفنا القبلية الخاصة. وبمقتضاه تسود الضرورة السببية جميع أنواع الفكر أو الموضوعات. فما من موضوع إلا وهو معين من جهة معين من جهة أخرى. فلا شئ مستقل، لا شئ حر، لا شئ مطلق، بل كل شئ نسبي، قائم بغيره، مفتقر إلى غيره، موجود لأن غيره موجود. إن عالم الظواهر خاضع لقوانين ضرورية صارمة، وكل هذه القوانين ترجع في النهاية إلى مبدأ السبب الكافي.
وقد شرح شوبنهاور هذا المبدأ، بأشكاله الأربعة، في رسالته الموسومة (بالجذر الرباعي لمبدأ السبب الكافي، وهي أطروحته للدكتوراه، ومجمل القول فيه أن هناك أربعة أصناف من الموضوعات وهي (المدركات الحسية) و (التصورات) و (العيانات الخالصة) و(718/22)
(المشيئات). وكل من هذه الأصناف خاضع لشكل من أشكال المبدأ المذكور، الذي يقوم طبيعة الموضوعات بما هي موضوعات، أي تمثلات بالنسبة إلى الذات. فالصنف الأول يسوده مبدأ الصيرورة والثاني يسوده مبدأ المعرفة والثالث يسوده مبدأ الوجود والرابع يسوده مبدأ الفعل
(البقية في العدد القادم)
عبد الكريم الناصري(718/23)
الأدب في سير أعلامه
9 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
روسيا لا تزال في الغسق
أهل على أوربا نور القرن التاسع عشر وروسيا ما تزال في الغسق؛ ولئن لاحت في أفقها بشائر الفجر لحظة على يد قيصرها الإسكندر الأول ولى أمرها في أول أعوام هذه القرن فإنها ما لبثت أن علمت أنه الفجر الكاذب!
كان الإسكندر يريد أن يوجه همه إلى النهوض ببلاده في الداخل، وقد اعتزم أن يجنبها ويلات الحرب في الخارج، ولكن سرعان ما فطن أن طوفان الحرب لابد مدركه فحالف إنجلترة والنمسا وظاهرهما على نابليون، ومن ثم ذهبت بشائر الفجر أباديد في حلكة الليل العابس.
وما لبثت أن ساق نابليون الجيش الأعظم ليذل به روسيا ولكن حملته عليها كانت بداية نهايته؛ ولما حمل بعد وترلو إلى سنت هيلانة، أصبح القيصر في القارة مرموق المكانة عظيم الخطر ولكن هذا الوضع الذي هيأته الظروف لروسيا في سياسة القارة كان يتطلب رجلا غير الإسكندر، فلقد حار هذا الرجل بين دعاة الرجعية وأنصار الحرية كما أضله زمنا تصوفه وحلمه اللذيذ الذي خيل إليه أن في الإمكان أن تجعل أوربا تسامح المسيحية أساس العلاقات الدولية؛ وأخيرا تغلبت عليه سياسة مترنخ، فصار من أكبر أنصار الرجعية في القارة وفي روسيا، وفقد دعاة الحرية أملا عللوا به أنفسهم برهة على يديه.
وأخذت أوروبا تقاوم الرجعية فكانت تلوح بشائر النور مرة وتختفي مرة، ولكنها ترى كل مرة أسطع منها في سالفتها نورا وأطول أمداً حتى ذهب الليل وانهل النور فأضاء كل ركن في القارة ومحا كل ظلمة.
ولكن ليل روسيا قائم قاتم وآفاقها عابسة دامسة؛ وكان يدب تحت هذا الليل نحو تسعة وأربعين مليونا من الأنفس كلهم عبيد ومن هؤلاء زهاء ثلاثة وعشرين مليونا تابعون(718/24)
للقيصر، ومثل هذا العدد تابعون لملاك الأراضي، وما تبقى بعد ذلك فتابعون للكنيسة أو أوزاع وخدام.
ولم يك هؤلاء الملايين يملكون من أمرهم شيئا؛ إذ كانوا في كل أمر خاضعين لمشيئة سادتهم لا ينتقلون من جهة إلى جهة غيرها ولا يمتلكون شيئا أو يبيعونه إلا بإذن من هؤلاء السادة؛ وهم فوق ذلك مكلفون بأن يؤدوا للسيد ما يطلب من المال كضريبة أو كمنحة وأن يعملوا مسخرين في أرضه، وللسيد إذا باع أرضه أن يبيعهم كما تباع القطعان والسلع؛ وهو ينزل بهم ما شاء من أنواع العقاب كالجلد والحبس والنفي إلى سيبيريا.
وكان السادة الأرستقراط يعيشون عيشة مترفة، ولهم في قصورهم كل ما في الحياة الأوربية من مظاهر النعيم، فالموائد والحفلات الساهرة الأثاث والخدم على اختلاف أعمالهم ومراتبهم كل أولئك على النمط الأوربي. وأخذت العادات وآداب المجتمع الأوربي تتغلب على عادات الروس وعرفهم في هذه البيوت الأرستوقراطية التي تجعل قياس التمدن الأخذ بأكبر قسط من كل ما هو أوربي، حتى اللغة فإنهم في هذا الوسط يتكلمون الفرنسية في حفلاتهم التي تجمع بين الرجال والنساء وفق الأسلوب الأوربي. . .
وانحطت الحكومة، فلا أمانة ولا عدالة، ولا إصلاح؛ وكانت وظائف الدولة لمن يدفع من المال أكثر مما يدفع غيره، لو لمن كان له بذوي الجاه صلة، فأصبحت الرشوة أمرا لا غرابة فيه، وتفشت حتى تسللت إلى المحاكم دانيها وعاليها، ولم يكن للحكومة منهاج أو شبة منهاج للإصلاح، وحسب رجالها في المقاطعات أن يجمعوا لأنفسهم المال بكل ما وسعهم من حيلة أو واتاهم من بطش. . .
وكان الملايين من الزراع أضعف من أن يشتكوا؛ لهذا حملوا الآلام كما تحملها الدواب فلم يكونوا صابرين على حالهم وإنما لم تكن لهم فيه حيلة! ولقد كانت حال هؤلاء المساكين أسوأ كثيراً من حال المزارعين في فرنسا قبل ثورتهم الكبرى، ولكن أولئك الفرنسيين كانت بينهم طبقة امتلكت وتعلمت وتأثرت بكتابة المفكرين والفلاسفة وهي الطبقة الوسطى، ومن بين صفوف هذه الطبقة انبعثت الشكوى ثم رجفت بعد ذلك الراجفة!
أما في روسيا فلم يكن غير كبار الملاك وهم السادة وملايين الزراع وهم العبيد؛ على أن مقاومة الاستبداد في روسيا جاء على يد نفر من هؤلاء السادة المتملكين، الأمر الذي يبدو(718/25)
عجبا لما فيه من تناقض؛ ولكن للمسألة وجها يفسر هذا التناقض، وذلك أن هؤلاء السادة لم يكرهوا الاستبداد ولكنهم كرهوا أن تعتمد الحكومة القيصرية على طبقة الموظفين والحكام ومعظم رجالها من عنصر ألماني وتهمل أعيان الروس رغبة في القضاء على طموحهم نحو التسلط، ومن ثم رحب هؤلاء بكل شكوى تنبعث ضد القيصر وحكومته.
وثمة فريق آخر أشد العطف على كل رغبة في الإصلاح وهؤلاء هم رجال الجيش العائدون من فرنسا والقارة بعد سقوط نابليون وبخاصة الشبان، فلقد امتلأت قلوبهم بآمال وأحلام، وعادوا إلى روسيا آملين أن يطلع على بلادهم نور يزيح عنها هذا الغسق، كما عاد لافابيت وأقرانه من شباب فرنسا الذين تطوعوا في صفوف الأمريكان في حرب استقلالهم إلى وطنهم يحملون مبادئ الثورة ويرتقبون الميلاد الجديد. . .
وتسامع هؤلاء الرجال بالجمعيات السرية في القارة كالكاربوناري في إيطاليا والهيتيريان في اليونان، فأسسوا لهم في روسيا رابطة الخير العام، وجعلوها سرية بالضرورة، وتفرع من هذه الجمعية فرع في الشمال كانت وجهته الملكية الدستورية، وفرع في الجنوب كان لا يرى غير الجمهورية؛ كما نبتت في الجنوب جماعة سرية أخرى جعلت منهاجها ضم جميع السلاف في اتحاد عام ولكن هذه الجمعيات كانت كما وصفها أحد الكتاب (جيلا لا آباء له ولا أبناء)، فظلوا بعد أفكارهم ومبادئهم عن أذهان معاصريهم محصورين لا يكاد نطاقهم يتسع، ولم يأتوا عملا ذا بال إلا في سنة 1825 فإن لما مات الإسكندر ترك ثلاثة أخوة كان أكبرهم قسطنطين ولذلك فهو وارث الحكم، ولكن الذي ارتقى العرش كان نيقولا بدعوى أن أخاه تنازل له عن حقه كما أراد القيصر المتوفى؛ وأحيط ارتقاء نيقولا العرش على هذا النحو بشبهات فانتهزت الجمعيات السرية الفرصة ورفضت فرقة جيش موسكو أن تقسم يمين الولاء للقيصر الجديد، ووقعت بعض القلاقل في الجنوب، ولكن القيصر ما لبث أن تغلب على هذه الحركة في يسر وتعرف بحركة الديسمبريين لأنها وقعت في ديسمبر من ذلك العام؛ وقضى بعض أفراد الجمعيات نحبهم ونفى البعض إلى سبيريا. قال أحد زعمائهم عند إعدامه (لقد كان خطأي أني حالت أن أجمع الحصيد قبل أن أبذر الحب)؛ وقال آخر (لقد عرفت من قبل أن لا أمل لنا في النجاح كما عرفت أنه لابد أن أضحي بحياتي! إن ساعة الحصار آتية فيما بعد).(718/26)
لقد كان الحصار الذي يرجون هو الحكم الدستوري والمساواة لدى القانون وتحرير الزراع؛ ولئن قضى عليهم اليوم فلم تذهب دماءهم عبثاً، دم هو مهر للحرية الزهراء. . .
واشتدت حلكة الغسق في عهد نيقولا الذي عرف منذ البداية بالصرامة القاسية، وامتدت يد الطغيان إلى كل مكان، فعلى كل ما يطبع من الكتب والصحف وما يرد منها من الخارج. رقيب عتيد له من السلطان ما يمكنه من إلقاء أي شخص في غيابة السجن أو نفيه بغير محاكمة؛ والشباب سجناء في روسيا لا يسمح له لهم بالتعلم في أوروبا مخافة العدوى، ورجال الشرطة السرية يبثون عيونهم في كل ركن، ولا يحد سلطانهم قانون ولا عرف؛ ولا تقل آثامهم وفظائعهم عن فظائع محاكم التفتيش الإسبانية في العصور الوسطى إن لم تزد عنها فحشا وهولا، والقيصر مهيمن متربع على عرشه يحسب سكون الناس رضاء وولاء أو لا يجري في حسابه من عصيان أو ولاء. . .
ونسى القيصر أو لم يدر بخلده أن الحرية يعمل لها أعداؤها وأنصارها على سواء، فأولئك يذيقون الناس لباس الذل والخوف ليزدادوا له مقتا ويحتالوا على النجاة منه؛ وهؤلاء يذيقونهم الأمن والسلام ليلذهم طعمه ويحرصوا على الدفاع عنه.
ونعم القيصر بالا بما يرى من هدوءه، ولكن دوى العاصفة يسمع من خارج روسيا لا من داخلها، فها هي ذي حرب القرم تضعه وجيشه منذ سنة 1853 تلقاء جيوش انجلترة وفرنسا وتركيا مجتمعة، ويتلفت القيصر باحثا عن حماسة الروس فينقلب إليه البصر خاسئا إذ أن كل ذي رأى في البلاد ينقم على الجيش ضعفه ويعزو ذلك إلى ما شمل الحكومة كلها من فساد. . ويحرم الطاغية من الاحترام كما حرم من المحبة، ويوشك أن يسمع دوياً آخر من داخل بلاده؛ وأي دوي كان إذ مس أذنه أشد إزعاجاً له مما احتواه ذلك المخطوط الذي تداوله الناس فيما تداولوا من المخطوطات على غفلة من الرقيب والشرطة السرية. قال مؤلفه فيما قال (يقول القيصر: لقد جعلني الله حيث أنا مهيمنا على روسيا فعليكم أن تنحنوا راكعين أمامي فإن عرشي هو كرسيه، ولا تعنوا أنفسكم بالمصالح العامة فإني أفكر من أجلكم وأسهر على مصالحكم كل ساعة؛ إن عيني الساهرة تنفذ إلى المساوئ الداخلية وإلى ما يعده لنا في الخارج أعداؤنا؛ وما أنا في حاجة إلى من يشير على فإن الله يلهمني الحكمة فافخروا إذا أيها الروس بأنكم عبيدي واجعلوا مشيئتي قانونكم.(718/27)
ولقد أنصتنا معشر الروس إلى هذه الكلمات في خشوع عميق وسلمنا طائعين. فماذا كانت العاقبة؟ كانت عاقبة ذلك أن دفعت المصالح الحقيقية تحت جبال من أكداس الأوراق الحكومية، وصار يستمسك بحرفية القانون في كل ما يصدر منا، بينما يترك الإهمال والجريمة بغير عقاب إذا جاءت من أعوان الحكومة، هؤلاء الذين يتمرغون في التراب أمام الوزارة ثم يسرقون في غير حياء. . . لقد باتت السرقة أمرا مألوفا حتى أصبح أكثر الناس احتراما أكثرهم سرقة؛ وصارت تقرر كفايات الضباط بمجرد النظر؛ وإذا حصل شخص على منصب قائد فإنه في نفس الوقت يمكن عده حاكما قديرا أو مهندسا ممتازاً أو سياسيا حكيما. وإن هؤلاء الذين يختارون حكاما في الجملة هم طغاة حقا يوكل إليهم عذاب الناس في الإقليم؛ وكذلك تملأ المناصب الأخرى دون أقل مراعاة للاستحقاق، فسائس الخيل مثلا يعين رقيباً للمطبوعات! ولماجن الأحمق من حاشية القيصر يعين أميرا للبحر!. . . وماذا صنعنا نحن معشر الروس طوال ذلك الوقت؟ لقد نمتا!. . أدى الفلاح ما فرض عليه وهو يئن ورهن المالكأااا نصف ضيعته وهو يئن، وأدبنا جميعا ما يطلب منا لرجال الحكومة ونحن نئن؛ ولقد هززنا رؤوسنا أحيانا في جد هامسين إن هذا عار وهوان، كما تهامسنا أن لا عدل في ساحات العدل، وأن الملايين يقضون حياتهم عبثا في سبيل تمتع القيصر بسياحاته وجواسق حرسه ومباني أبهته وسرادقاته؛ إن كل شئ حولنا خطأ، ومع ذلك فأنا بضمير هادئ يشاغب بعضنا ليحظى بالتقدم خطوة ليلحق بهذه الخدمة التي نمقتها كل المقت. . . فإذا صاح أحد بنا بغتة في هذه الغفلة الشاملة أن أفيقوا وجاهدوا في سبيل الحق وفي سبيل روسيا فما أعظم ما يبدو لنا من سخفه، ثم إنه يتعلم في سجن مظلم في سبيريا أي إثم عظيم ارتكبه بمحاولته إقلاق ما يغط فيه الغافلون من العبيد من نوم عميق.
ولكننا مع هذا كله كان لنا عزاء واحد؛ أمر يحق أن نفخر به وذلك هو قوة روسيا، وها نحن أولاء أسفاه بعد تفاخرنا قد أخذنا على غرة وأحيط بنا ونحن غافلون. . . أفيقي يا روسيا! التهمك الأجانب من أعدائك وحطمتك العبودية؛ واضطهدك وأخجلاه الحمقى من ذوي السلطة ومن الجواسيس. . . . أفيقي من نومك هذا الذي امتد في جهل وغفلة وقفي ثابتة هادئة أمام عرش الطاغية واسأليه أن يقدم حسابا عن الكارثة القومية)
وكان رجال الحكومة يشعرون أن كثيرا من الأنظمة القائمة يومذاك إنما تقوم على ما يحسه(718/28)
الناس في أنفسهم من اطمئنان إلى قوة القيصر أو قوة الدولة، فلما سقط حصن سباستبول زلزلت القيصرية زلزالا عنيفا، حتى لقد تناثرت الإشاعات أن القيصر نيقولا حين قضى نحبه إنما مات منتحراً، ولقد كان حكم ذلك القيصر الذي حكم روسيا ثلاثين سنة أشبه بظلمة الليل إذ تشتد حلكته قبيل الفجر، وكان لروسيا آخر عهدها بالظلمة، فلما مات تنفست الصعداء، وتلفتت تتلمس مطعم النور.
(يتبع)
الخفيف(718/29)
1 - مضحكات مبكيات
للأستاذ صلاح الدين المنجد
(حديث أنقله إلى صديقي النابغة العالم الأستاذ علي الطنطاوي)
(صلاح الدين)
كنا أربعة نفر، مللنا عملنا الرسمي، فانطلقنا نستروح نسمات الربيع الدافئة المعطرة في غوطة دمشق، جنة الدنيا، وكنا نحس، وقد ابتعدنا عن المدينة مجمع الشقاق والنفاق، أننا نستطيع أن نتكلم. . . فلا رقيب يحصي أنفاسنا ونظراتنا وكلماتنا وليس من يطالبنا بالنفاق باسم اللباقة والتمدن والمصانعة. فقلت لصاحبنا الفتى: لقد أمر اللغة والأدب بهؤلاء الذي عادوا وقد لقنوا اللغة على الأعاجم من ذوي الرطانة والعطانة؛ لقد صادفت اليوم في طريقي طالبا في الجامعة فحدثني حديثا أهمني. . . حدثني أن أستاذه قرأ عليه نصا فيه (لبس ثوب الحداد) فقرأها (اَلحدَّاد) فلما قال له الطالب: إنها اِلحدَاد يا أستاذ! انتهره وأصر على أنها الحداّد. ثم ساق الأستاذ على ذلك دليلا تمسك به فقال هكذا أخذناها عن المستشرق فلان. . . أتعلمون من هو هذا المستشرق؟ إنه أوسع أهل الاستشراق علماَ، وأذكاهم فهما، وأفصحهم لسانا. وقوله لا يرد لأنه ثقة، ضابط، محرر.
قلت: لقد مسخ الزمان، فجاء بهؤلاء المسوخ الذين يقولون هكذا أخذناها عن المستشرق فلان. ليت شعري إذا كان الأستاذ هكذا، فكيف يأتي التلاميذ؛ وليت شعري أما درى من انتقى هؤلاء ليكونوا في الجامعة أنهم يهدمون اللغة ويهتكون الأدب؟ فقاطعني صاحبي، وقال لا تلم هؤلاء إذا أخطئوا. ولا تعجل عليهم بنقدك إذا تكبروا. . . فما كبرياؤهم غير ستر لجهلهم. إنهم ليسوا بشيء، ولو بلغوا رتبة الوزارة. فما يزال في الناس ناس يعلمون أن الفضل لأولى العلم، لا لذوي الجهل. لقد غشهم من أوفدهم لتلقى العربية عند ذوي الرطانة. . . فعادوا يغشون الطلاب بجهل فاضح، والناس بشهادات أزياف كواذب.
قال أكبرنا: ولكن هذا ليس بالأمر العجب. فهناك أعجب وأغرب. ألم يأتكم نبأ ذلك الذي عاد من أوربة، كما تعود هذه الجماعة الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، شغفا بأقوال المستشرقين، مدلها بمذاهبهم، فجعل نفسه من شباب محمد، فطنطن صحبه بعلمه وفضله، ثم أخرج كتابا، فإذا هو يطعن فيه على محمد، فيختلق ويفتري، ويدس ويماري ويأخذ(718/30)
بالنبي إلى اليمن، ويقرئه التوراة والإنجيل ويجمعه إلى الرهبان والأحبار ثم يقول إنه ألف القرآن.
فما أدرى مما أعجب؟ أأعجب من هذا العلم الذي شداه، أم أعجب ممن يفتري على محمد، وهو من شباب محمد؟
قال صاحبي: لا تلم هذا أيضا. إنما هو ببغاء لقنوه الشر فأعاده. إنما لم أبويه اللذين أغفلا تربيته وسددا خطواته وعرفاه من هو محمد. ليت شعري أتطمع من المستشرقين أن يفعلوا غير هذا؟ إنه ليكفيهم أن يغرسوا في نفوس من يلقونه من ناشئة المسلمين الشك. . . في الدين، والكتاب، واللغة. . . فإذا شككت وكنت من الضعاف الإيمان، زلت بك القدم فهويت. لا تلم هذا، بل لم أولئك الذين لم يحسنوا تلقين الدين، ولا تعليم التاريخ، ولا انتقاء الأساتيذ. . .
قال ثالثنا: ولكن عندي ما ليس عندكم. فقد حدثت عن واحد من هؤلاء، هواه مع الشيوعيين، ومعدود في المسلمين وقد شارف على الأربعين، إنه عاد من أوربة يحمل دراسة عن كنيسة من كنائس فرنسة، نال بها الدكتوراه. فبلغني من صفته أنك إذا رأيته يمشي في الطريق، وهو يتثنى وأبصرته وقد نتف حاجبيه، وصفف شعره، حسبت أنه عانس تلبس البنطلون. دعوه يوما إلى المسجد الأموي ليحتفل بمولد الرسول. فنظر في بطاقة الدعوة شزراً، ثم غمز الجرس فأستدعى كاتبا عنده فلما أتاه قال له:
أما تزالون تنزعون نعالكم إذا دخلتم المسجد؟
فصعق الكاتب لهذا السؤال، وحدق بالسائل يريد أن يعلم أهو في الجد أم الهزل. فهذا سؤال لا يسأله مسلم. . . فأجابه.
- نعم يا سيدي.
قال: ومتى تتمدنون؟ لقد غبت عن دمشق تسعة أعوام كاملات وعدت فرأيتكم حيث كنتم. . . متى يصبح عندنا علماء يجتهدون، فيقلبون الدين رأساً على عقب؟ متى ينقذوننا مت خلع النعال، وينقذوننا من الركوع والسجود؟ لم لا يفعل المسلمون فعل النصارى؟ إنهم يدخلون كنائسهم بنعالهم، لا تتسخ جواربهم، فيقفون قليلا يرتلون. . . ثم يخرجون لم يتعبوا، ولم تتسخ سراويلهم!. لم لا تنشرون هذه الدعوة.؟ آه! سأنشرها بين طلابي بنفسي. . . .(718/31)
وأخرس الكاتب، وطار لبه، وخرج ولم يجب، وهو يلعنه في قلبه ألف لعنة ولعنة. . .).
قال: لقد شككت عندما أخبرت؟ ولكني قصدت إلى الكاتب بنفسي فحدثني كما أخبرت.
قلنا: وكيف يسكت عنه علماء الدين؟ كيف تسكت عنه وزارة المعارف؟ أبمثل هؤلاء نحفظ الاستقلال؟ أنحفظه بإفساد العقائد الإلحاد والتخنث ونتف الحواجب؟ أنحفظه بالوقاحات؟ أهذا أستاذ قد أؤتمن على تثقيف الطلاب؟
قال صاحبي: لا تلم هذا أيضا؛ فمن عدم المروءة والدين طلب خلع النعال والتشبه بالنصارى ورفع الركوع والسجود من الصلاة. ولا تلم وزارة المعارف فهي أم الفوضى. ثم لا تلم علماء الدين، فهم في أمر دنياهم لاهون، وعن دينهم ساهون. إنما لم من نصبه لتثقيف التلاميذ ولم يخبروه. . . آه لو كان هنا الطنطاوي إذن لجرد قلمه لنصرة الدين والحق والشرف. ولأصلي هؤلاء نارا حامية تشويهم شياً.
قلت: أما قلت لكم لقد مسخ الزمان فجاء هؤلاء المسوخ! فانبرى، رجل كان يقربنا يسمعنا، وقال: كل ما ذكرتموه ليس بشيء. . . فعندي ما هو أعظم وأدهى. . .
قلنا: هات ما عندك هات.
(للكلام بقية)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(718/32)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
908 - فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا
منهاج السنة النبوية لابن تيمية: إن الله بعث رسوله (صلى الله عليه وسلم) بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد بعد الملك والمنصور وغيرهم فإما أن يقال: يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يتولى غيره كما يفعله من يرى السيف فهذا رأي فاسد فإن مفسدته أعظم من مصلحته، وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكان الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة بالبصرة وأمثال هؤلاء. وغاية هؤلاء إمام أن يغلبوا وإما أن يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي قتل كثيراً وقتله أبو جعفر المنصور.
وأما أهل الحرة وابن الأشعث فهزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينا، ولا أبقوا دنيا، والله (تعالى) لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا. وإن كان فاعل ذلك من عباد الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، ومع ذلك لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم.
وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين والله يغفر لهم كلهم.
909 - النداء من الله للعباد ومن العباد لله
الموافقات للشاطبي: إن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ومن العباد لله سبحانه، فحين أتى من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضى للبعد ثابتا غير محذوف كقوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا، إن أرضي واسعة) (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله) (قل: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا) فإني أتى بالنداء من العباد إلى الله تعالى جاء من غير حرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل، والله منزه عن التنبيه: (ربنا لا تؤاخذنا إن أخطأنا، وبنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته(718/33)
على الذين من قبلنا) (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا). . . فحصل من هذا التنبيه على أدبين: أحدهما ترك حرف النداء ولآخر استشعار القرب، كما أن في إثبات الحرف التنبيه على معنيين: إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة وهو العبد، والدلالة على ارتفاع شأن المنادي وأنه منزه عن مدانات العباد، إذ هو في دنوه عال، وفي علوه دان، سبحانه!
910 - تهنئة بعزل
الشريشي: من غرائب التكاتب في العزل ما كتب به أحمد ابن مهران معزول: بلغني (أعزك الله) انصرافك من عملك، فسررت بذلك ولم أستفظعه لعلمي بأن قدرك أجل وأعلى من أن يرفعك علم تتولاه، أو يضعك عزل عنه. والله لو لم تختر الانصراف وترد الانعزال لكان في لطف تدبيرك وثقوب رويتك وحسن تأتيك - ما تزيل به السبب الداعي إلى عزلك والباعث على صرفك. ونحن إلى أن نهنيك بهذا الحال أولى بنا أن نعزيك إذ أردت الصرف فأوتيته، وأحببت الاعتزال فأعطيته، فبارك الله لك في منقلبك، وهناك النعم بدوامها، ورزقك الشكر الموجب المزيد لك فيها.
911 - تمتع من الدنيا فإنك فاني
سعيد بن حميد:
نمتع من الدنيا فإنك فإني ... وإنك في أيدي الحوادث عاني
ولا يأتين يوم عليك وليلة ... فتخلو من شرب وعزف قيان
فإني رأيت الدهر يلعب بالفتى ... وينقله حانين تختلفان
فأما التي تمضي فأحلام نائم ... وأما التي تبقى لها فأماني
921 - . . . ما بعت الضيعة
شرح المقامات للشريشي: كان بالبصرة رجل ذو ضياع فأنفق ماله في الشراب، فباع ضيعته، فلما تم البيع قال له المشتري: تأتيني بالعشى أدفع لك المال وأشاهدك. فقال: لو كنت ممن يرى بالعشى ما بعت الضيعة. قال محمود بن الحسن الكاتب بعت داري فأصابني مثل هذا فقلت:(718/34)
أتلفت مالي في العقار ... وخرجت فيه عن عقاري
حتى إذا كتب الكتاب (م) ... وجاءني رسل التجار
قالوا الشهادة بالعشى (م) ... ونحن في صدر النهار
فأجبتهم ردوا الكتاب (م) ... ولا تعنوا بانتظاري
لو كنت أظهر بالعشى (م) ... لما سمحت ببيع داري
913 - ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة
تاريخ الطبري: أحمد بن يوسف بن القاسم: سمعت إبراهيم ابن صالح يقول: كنا في مجلس ننتظر الأذان فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده، ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بن زائدة، وممن ذمه الحسن بن زيد، ثم إذن لنا، فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين ما كنت احسبني أبقى حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك فيثنى عليه، فقال أبو جعفر: وما استنكرت من ذلك؟ رجل استكفاه قوم فكفاهم، والله لوددت أتى وجدت مثل الحجاج حتى استكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين. فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك قال: ومن هم؟ كأنك تريد نفسك؟ قال: وإن أردتها فلم أبعد من ذلك. قال: كلا لست كذلك، إن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمنك فخنتنا. . .
معجم البلدان: ذكر الحجاج عند عبد الوهاب الثقفي بسوء، فغضب، وقال: إنما تذكرون المساوئ أو ما تعلمون أنه أول من ضرب درهما عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وأول من بنى مدينة بعد الصحابة في الإسلام، وأول من اتخذ المحامل وأن امرأة من المسلمين سبيت بالهند فنادت يا حجاجاه! فاتصل به ذلك، فجعل يقول: لبيك، لبيك، وأنفق سبعة آلاف ألف درهم حتى افتتح الهند، واستنقذ المرأة، وأحسن إليها، واتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهارا، إن كان ليلا أشعلوا نيرانا فتجرد الخيل إليهم، فكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط، وكان قزوين ثغرا حينئذ. . .
سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي: قال - عمر بن عبد العزيز -: ما حسدت الحجاج على شئ حسدي إياه في حبه القرآن وإعطائه أهله.(718/35)
الواعظ الضرير!. . . .
للشيخ حسن عبد العزيز الدالي
كان ذلك منذ ثلاثة أشهر، وكان المطر غزيرا، والبرد قارسا وأزقة القرية مملوءة بالأوحال، وقد لاذ أغلب الأهليين إلى دورهم طلبا للدفء، وإذا بشيخ وقور مكفوف البصر تقوده ابنته وهي في العاشرة من عمرها، عليه مهابة وله جلال، يخب في جبته وقفطانه وقد بلل المطر ثيابه فاصبح كالقاضي الذي قيل فيه:
وسخ الثوب والعمامة والبر ... دون الوجه والقفا والغلام
دخل علينا فحييناه وأدفأناه، ثم قال:
شكرا ومعذرة يا سادة إذا كانت وظيفتي غير منسجمة مع حالتي، وكان عملي شاقا مرهقا، فإن كثرة العيال، والحاجة إلى العيش تجعل الرجل يركب الصعب، وأنا نكلف برسالة دينية يجب أن أؤديها مهما كان الثمن.
أثبتوني في دفتر 14 وبلغوني المسجد. . أنا واعظ المركز. . . ثم أدى رسالته وانقلب إلى أهله.
وفي هذا الأسبوع، دخل الشيخ علينا يتفصد وجهه عرقا وينوس برأسه من الحر؛ فالشيخ ربع القامة، شحيم الجسم، وقد افتر ثغره لطيفة، هي بسمة الرضاء بالقضاء، حدثناه وحدثنا، فكان مما قال إ، هـ في هذه السفرة عدم الرفيق فضل الطريق، بعد أن نزل من السيارة العامة، وكان لابد من أن يجتاز الترعة التي اعترضت طريقه، فخلع سرواله واجتازها وحمد الله على النجاة من الغرق. ثم إنه بالأمس القريب كان يؤدي رسالته في قرية أخرى، فأشلت الأطفال كلابها عليه فمزقت ثيابه وخدشت إهابه.
وفي ذات مرة نبه السائق أن ينزله أمام قرية كذا، فأنزله خارج حدود دائرته فحمد الله وشكره على أنه لم يصب بمكروه! يا سبحان الله، ما هكذا يكون الاختيار يا إدارة الوعظ والإرشاد؟ وما هكذا يكون الوضع السليم يا وزارة الداخلية!
إذا كان ولا بد أن يكون هذا العالم الجليل في سلك الوعظ والإرشاد، لذلاقة لسانه وقوة بيانه، وعظيم إيمانه، فألحقوه بمنطقة في مدينة يطمئن فيها على نفسه، ويستطيع أن يباشر مصلحة أهله ويأمن فيها على كرامته، فلا يجتاز ترعة، ولا تهره الكلاب ولا يضل(718/37)
الطريق، حتى يخرج إلى دائرة أخرى، وهناك يكفيه مؤنه هذا العناء قائد صغير لا يكلفه غير دراهم معدودة. إن ما يقوم به فضيلة الشيخ المكفوف، من وعظ وإرشاد بالقرى في يوم كامل يقوم به فضيلة البصير في نصف يوم مع الراحة التامة والكرامة الموفورة.
يا أولى الأمر: أنقذوا أمثال هؤلاء المكفوفين من عناء هذا العمل، فالميدان واسع، والنقل سهل، والثواب من الله عظيم، وإن كانت الحكمة في تعيين المكفوفين للوعظ والإرشاد أن يعظوا الرجال والنساء، فما في الريف نساء يجتمعن لسماع الوعظ؛ وإن كان فمن وراء حجاب.
حبذا لو فكرت وزارة الشئون مع وزارة الداخلية تفكيرا جديا فعممت الإذاعة بالريف، وجعلت للوعظ نصيباً من الإذاعة كل أسبوع، فإن ذلك يكون أجدى وأصلح وأوفر. اذهبوا مشكورين يا أولى الأمر بهؤلاء الوعاظ إلى المساجد المغلقة والمهدمة فافتحوها وشيدوها.
اذهبوا بهم إلى التدريس بالمعاهد والوعظ بالسجون العمومية والفرعية. أفسحوا لهم المجال بالمحاكم الشرعية والمحاماة: إنكم إن فعلتم ذلك فقد خطوتم بنا إلى الأمام، وخففتم العبء عن هؤلاء المكفوفين الكرام. ولعلنا نسمع قريبا أن وزارة الشئون قد أخذت بيد أمثال فضيلة واعظ مركز طلخا المكفوف البصر وأجلسته بدار الإذاعة ليلقى محاضراته الدينية في هدوء واطمئنان بعد أن تعمم الإذاعة بالريف، فيعم النفع ويسلم الوضع، ويطمئن الشيخ. . . ليت. . . ليت!
حسن عبد العزيز الدالي
عمدة كفر دمبرة القديم(718/38)
قصائد تكريم مطران في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
كان وفاء كريما من أدباء العربية وعلية رجالها، وكان دينا استحق الوفاء والأداء لصاحبه منذ زمن سحيق، وكان تكريما أدنى ما ينبغي أن يكون، وأقل ما ينبغي أن يقدم لشيخ الشعراء وأستاذهم وإمامهم ورائدهم خليل مطران.
نعم. . . كان هذا التكريم - على روعته وجلاله - بعض ما ينبغي لهذا الشيخ الوقور جزاء وفاقا لما قدم للشعر العربي من جهد كبير متواصل، ولما قدم لشعراء العرب من مناهج وطرائق وراد لهم من مجاهل كانت محجبة مستخفية مطوبة، إلى أن تكشفت لعبقريته، وتفتحت لوحيه، وأشرقت على يديه. . .
ولقد عرف الناس ما كان في هذه الاحتفالات التي تتالت وتعاقبت أياما ثلاثة، وقرءوا كل ما فيها من خطب وما أنشد فيها من شعر، وشاهدوا حشود الناس تسعى من مصر وشقيقاتها إلى الاحتفال في نهضة كريمة ووفاء شديد، في زمن عز فيه الوفاء وغاض ماء الخير.
ولقد كان موكباً أدبياً فذاً متفرداً، تكلم فيه الأدباء الكبار والشعراء الكبار، وترجموا الرجل وآثاره ترجمة وافية مستفيضة وفصلوا القول فيه وفي فنون أدبه تفصلا، ودرسوا آثاره جميعاً دراسة لا زيادة لمستزيد عليها، فكان سجلا أدبيا وكان سفرا أدبيا رائعا حقا. . .
ونحن نجد أن من تمام هذا السجل ومن كمال هذا السفر أن يقول النقد الأدبي فيه كلمته، وأن يزن الميزان الأدبي محتوياته بميزانه العادل الدقيق، فذلك أدنى إلى أن يبلغ هذا السفر غايته، ويستوفى كماله!
ونحن - من جانبنا وعلى سوانا أن ينهض بالباقي! - آخذون في كلمات متتابعة في وزن وعرض الشعر الذي قيل، ووضعه في ميزان النقد الذي يعلم الله براءته من الهوى، وخلوصه من الغرض، وبعده عن الميل أو الانحراف عن الحق. . .
ولقد أنشد في هذه الاحتفالات فحول من شعراء العرب في مصر والعراق ولبنان هم أعينان الشعر وأعلام الأدب في بلادهم، وإن خليل مطران لقمين بأن يقول فيه هؤلاء، عسى بتمداحهم والإطراء منهم. . .
وكان أول هؤلاء الشعراء الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد فألقى قصيدته مثلثة القافية -(718/39)
وهو نوع كان العقاد يكثر منه أيام صدر شبابه الأول - قاربت الخمسين بيتا تضمنت وصف الأستاذ المحتفل به وصفا دقيقا شاملا محيطا ألم فيه بجميع خصائصه وجميع سماته، بل وجميع قسماته، لم يترك دقيقة من دقائقه، ولم يدع خلجة من خلجات نفسه، ولا همسة من همسات قلبه، ولا خطرة من خطرات فؤاده. . . وتلك الإحاطة الشاملة، والإفاضة الكاملة هي مزية العقاد الكبرى في كل ما يكتب وما يتناول وما يصف.
ولقد زخرت قصيدة العقاد - كالعهد به دائما - بالمعاني البكر المستحدثة التي يزخر بها كل ما ينشئ ويكتب ويفيض بها كل ما يخرج للناس!
ولعلي لا أجد من لا يرى الجمال غاية الجمال، والمعنى البكر غاية البكورة - إن جازت هذه العبارة! - في قول العقاد عن مطران إنه (محراب القريض)! وفي قوله معدد سجاياه الكريمة:
ماذا أعدد من سجا - ياك الحان وهن شتى
أدباً وعرفاناً وآلا - ء محبة وسمتا
وإذا أطلت فغاية الإ - طراء أنك أنت أنتا
وأي طرافة وجدة واستحداث أبعد من قوله:
أنطقت بالعربية ال - فصحى معاجم شكسبير
ونقلتم نقل الأما - نة في الكبير وفي الصغير
بدلت في لغة اللسا - ن. . ولم تبدل في الضمير!
ولم ينس العقاد أن يعرض في قصيدته لما خدم مطران به التمثل والاقتصاد، ولما سبق به من التجديد والتحرر من ربقة القديم تحررا لطيفا لينا ليس بينه وبين تجديده كمال الانقطاع وتمام الانفصال، ولكنه تجديد وئيد رفيق هين يأخذ من القديم أبهاه ومن الجديد أزهاه، ويرتشف من كل بحر قطرة، ويقطف من كل بستان زهرة، فيستوي للناس بعد ذلك أدبا مشرقا رائعا يملك عليهم ألبابهم وهواهم وعقولهم. . . نعم فإن مطران كان ذلك المجدد، وإنه بحق للحلقة المفقودة بل الحلقة المنشودة بين المجددين!
(للكلام بقية)
علي متولي صلاح(718/40)
صحائف مطوية:
قصة فاشودة. . .!
أو قصة الاستعمار الإنجليزي في السودان
رواية شعرية فكاهية للمغفور د. حافظ إبراهيم بك
(قصة فاشودة معروفة مشهورة، وتتلخص في أن بعثة فرنسية انحدرت من الحبشة إلى أعالي النيل ورفع قائدها العلم الفرنسي هناك فتصدى له حاكم السودان البريطاني بحجة أن هذه الأرض ملك لمصر، وتخرج الموقف يوم ذاك بين فرنسا وبريطانيا حتى توقع العالم قيام الحرب بينهما لهذا السبب، وقد استطاعت بريطانيا أن تفوز بغايتها وأن تتخذ من موقف الحكومة المصرية مطية لهذه الغاية.
وهذه الرواية من الشعر المجهول لحافظ إبراهيم فليست في ديوانه، ولا عرفها أحد له، ولكنا وقفنا عليها منشورة في إحدى المجلات عام 1901 م، فنحن ننشرها على أنها أثر أدبي نادر يكشف عن ناحية من نواحي الشاعرية في حافظ إبراهيم ثم لنذكر بها أنباء مصر بتارخها بمناسبة ما يجري من أفاعيل السياسة الإنجليزية في السودان).
محمد فهمي عبد اللطيف
تمهيد
فشودة رواية ... للمصريين آيه
قد مثلت في العصر ... ليهتدى في مصر
فما اهتدى ولا عقل ... ولا درى كنه الحيل
بل شهد التمثيلا ... ثم انثنى بخيلا
مولى الأكتاف ... في ساعة الإسعاف
فلا تلم فرنسا ... وفضلها لا تنس
وقل لمن رام السبب ... شقاء مصر قد غلب
الفصل الأول: مرشان في قشودة(718/42)
مرشان بالنيل التقى ... من بعد ما عز اللقا
تقابلا في سلم ... على الصفا الأتم
حيث المياه تجرى ... نهراً بجنب نهر
والأرض بكر لم تزل ... كما دحاها في الأزل
تخرج أصناف الثمر ... تنبت أجناس الزهر
تفيض بالمأكول ... من عدس وفول
ترابها التبر السنى ... وكم بها من معدن
وغرسها ابن يومه ... (لمرشن) وقومه
فهي كما الجنات ... ما غير خذ وهات
مرشان فيها قد ثبت ... كأنه عود نبت
يلين للعواصف ... فما له ن قاصف
أخرجه دلكاس ... ألعوبة للناس
ألعوبة وتنقضي ... قد خاب فيها من رضى
وكيف كان العاقبة ... فإن مصر الخائبة
إن لم يكن لبطرس ... من طاقة بدلكس
ولاله من بورى ... يسمع سالسبورى
ولاله من أمة ... تنجده في الغمه
ولاله من دولة ... تمده بالصولة
الفصل الثاني: مرشان والنيل
النيل كان نائما ... رأى (المجور) قائما
يضربه في رأسه ... يحسبه في رمسه
خاطبه يا نيل ... يا أيها القتيل
يا تارك البلاد ... لأفسد الأولاد
يا صانع الميراث ... والصبية الأحداث(718/43)
ذُبحت بالسكين ... من ظالم مهين
وكان اهلك المدى ... والحبل كانوا واليدا
فما صرخت صرخة ... بل قد ذهبت فرخه
قد سقطت في زير ... أو وقعت في البير
فلا تلمني بعد ذا ... إذا تعمدت الأذى
إني أنا المحامي ... عنك لدى الأنام
لا بد لي من حصه ... قبل ضياع الفرصه
إذ قد غدا في النية ... أن تحفظ القضية
فهبَّ داعي النيل ... من نومه الطويل
يقول يا مرشان ... يا أيها الشيطان
يا أسد القفار ... يا حية البراري
يا سمكا عواماً ... يا طائراً حوَّاماً
يا لبكة العجين ... يا بسلة في طين
يا ضجة الطبول ... على طريق الغول
يا خارجاً من علبه ... يا حادثاً من لعبه
يا مشكلا لما نزل ... ومشكلين إن رحل
إذا أردت جدي ... فأنت خير عندي
من كل ذي قلب بطل ... لجنة الأرض وصل
ما كانت الشهور ... يكفى لها طابور
ولا الحمام الأزرق ... يعصم منه زورق
ولا الأسود السود ... يصدها بارود
ولا مجاهل الثرى ... تطوى كما تطوى القرى
سلكتها يا غازي ... أبية المجاز
حتى ملكت مجرى ... بحر الغزال طرا
تبيعه وتشترى ... براية وعسكرى(718/44)
لكن تعال قل لي ... ولا تكن مضلي
من ذا أباحك الحمى ... من ذا حباك المغنما
من ذا لهذا جرّا ... من ذا عليه جرّا
بحر الغزال مني ... كيف يزول عني
وهذه فشوده ... ربيبتي المعهوده
كيف أساء فيها ... وكيف تقتليها
فاندفع الماجور ... بسحره يدور
وقال قولا مقنعا ... أثبت فيه ما ادعى
يا سيد الأنهار ... وملك الديار
ماذا يهمك السقط ... من بعدما الرأس سقط
الفصل الثالث: سالسبورى ومصر
وجاء سالسبورى ... لمصر في سرور
يقول وهي تسمع ... يقنعها فتقنع
يا مصر يا فتاتي ... يا زينة البنات
يا مشتهى إنجلترا ... يا بنت أخت لندرا
يا منية التاميز ... والوطن العزيز
بل يا أتان الملكة ... يا ألف ألف سكه
يا ناقة السردار ... وجيشه الجرار
يا أصل ما قد أكتسب ... من ثروة ومن تعب
يا بلداً ما فيه ... ذو ناظر يبكيه
يا أمة ولا وطن ... يا منزلا لمن سكن
يا موطئ الأقدام ... يا فتنة الأقوام
إني أرى النشالا ... يختلس الخلخالا
هيا نصيح السارقا ... ونشهد الخلائقا
وبطرس والوزرا ... يحررون القمطرا(718/45)
ويثبتون فيه ... نهمة سارقيه
وبعد عرض الشكوى ... نقيم نحن الدعوى
ونظهر النصوصا ... ونطرد اللصوصا
أو لا فقد خاب الأمل ... ولا سبيل للعمل
فما أتم قوله ... أن ضحكت مصر له
وأقبلت تقول ... يا أيها المأمول
الوزرا عبيدكا ... والكل من جنودكا
فاقض بما تشاء ... لا يُنقص القضاء
رقصة الختام
إليكم عن بطرس ... نادرة في المجلس
إذ قالت النظار: ... يا من له الفخار
نرى المجال صعبا ... ذئب بعض ذئبا
فهات حدث عنه ... كيف خرجت منه
فقام فيهم ناصحاً ... يقول قولا راجحاً
فشودة تعيش مثل اسمها فشوش
ما الخلف والتجافى ... إلا على اللحاف
دفعته للورد ... وبتُّ تحت جلدي(718/46)
الأدب والفن في أسبوع
في تكريم مطران:
تميز الأسبوع الماضي بمظهر أدبي رائع هو نظهر التقدير للأدب والإكبار للفن والتكريم للمواهب والإعجاب بالخلق القويم، إذ اجتمع أبناء العروبة من سائر الأقطار في دار الأوبرا الملكية بعد ظهر يوم السبت الماضي لتكريم شاعر العروبة الكبير صاحب العزة خليل مطران بك. فكان جمعهم وما أبدوا فيه من جميل الرأي مظهراً من مظاهر الوفاء الطيب في عرفان الجميل للرجل الطيب.
وكل جميل يؤديه أبناء العروبة نحو مطران إنما هو وفاء للدين ورد لبعض الصنيع الذي بذله ذلك العبقري نحو أبناء العروبة وعاش عليه طول حياته المديدة إن شاء الله، فما حياة مطران في الواقع إلا فيضاً من المجاملة وحسن الصنيع يؤديه نحو الكبير والصغير والغني والفقير، وينهض بذلك في ميدان الحياة العامة ويأخذ به نفسه في النواحي الخاصة، ويبذل لذلك من أدبه ومن خلقه ما يعد غريباً عن طبيعة البشر، وناهيك برجل جاوز الثمانين ولا يستطيع أحد أن يحصى عليه إساءة لشخص أو موقف تخلف عن طريق الخير، على أنه مع هذا كله ظل على تواضعه لا يمن ولا يتطاول ولا يتنفج بما أجدى في الأدب وبما أبدى في الخير، فلا غرو إذا ما اجتمع أبناء العروبة لتكريمه وأجمعوا على تقديره، ولا غرو إذا ما صنعوا له ما هو أكبر من التكريم والتقدير. . .
حفل حافل:
ويطول بنا القول إذا أخذنا أنفسنا بتسجيل الذين حضروا هذا الاحتفال أو شاركوا فيه، ويكفى أن نعرف أنهم الطلائع من أعلام السياسة والقانون والأدب والصحافة والمقدرين للفن والمواهب في العالم العربي، ولقد زاد في روعة الحفل أن توجه الفاروق حفظه الله برعايته السامية فأناب مندوباً حضر الاحتفال وأبلغ المحتفى به سابغ العطف الكريم والتحية لشخصه خاصة ولأهل الأدب والعلم عامة.
الخطباء والشعراء:
وبعد أن ألقى الأستاذ خليل ثابت بك كلمة الافتتاح تعاقب الخطباء والشعراء في إلقاء(718/47)
خطبهم وقصائدهم، فخطب أصحاب المعالي والسعادة والأساتذة عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف والدسوقي أباظه باشا وزير المواصلات ومحمد علي علوبة باشا وأنطوان الجميل باشا والأستاذ السراج مندوب سوريا والأستاذ زكي طليمات وألقى الشعراء قصائدهم وهم الأساتذة عباس محمود العقاد وعبد الرزاق محي الدين بك مندوب العراق ومحمد الأسمر وشيلي ملاط بك مندوب لبنان ثم ألقيت قصيدة شكر من المحتفى به ثم عزف الأستاذ سامي الشوا مقطوعة موسيقية تحية للشاعر الكبير.
إجماع الرأي
وقد أجمع الخطباء والشعراء في حديثهم عن مطران على أنه شاعر سلك في الشعر العربي طريق التجديد والابتكار وأنه أستاذ المدرسة الحديثة في الشعر، وأنه استطاع بعبقريته وباطلاعه الواسع أن يلائم بين طريقة العرب وطريقة الفرنج في براعة وتوفيق وأنه عاش طول حياته رجل فضل ونيل وخير وبر، وقد كان هذا جماع القول فيما تكلم به خطباء الحفل وشعراؤه وإن كان لكل ما أورد من الشواهد ونهجه في تناول الحديث.
الشعراء الثلاثة:
وكانت المناسبة بتكريم مطران مما أثار الحديث عن شوقي وحافظ، فقد عرض الخطباء إلى ذلك الثالوث الذي عاش مندمجاً كالحلقة المفرغة حتى كان أسماؤهم تتردد على الألسن وأشخاصهم تتوارد في كل موقف وكأنهم شخص واحد أو دعائم يتكون منها بنيان واحد، وإذا كان خطباء الحفل قد اختلفوا في تقدير الطاقة الشعرية لكل واحد من الثلاثة فإن هذا الخلاف قد قام منذ ظهر الثلاثة على مسرح الشعر، وسيظل قائما إلى ما شاء الله. . .
وأخيراً:
وأخيرا نقول: لقد أقيمت بقية الحفلات لمهرجان مطران في أيام الأسبوع المتوالية وقد كان بودنا أن نسجل كل ما بدا في تلك الحفلات من ألوان الأدب والفن وأن نؤدي هذا الواجب نحو الشاعر الكبير ولكن لجنة الاحتفال ضنت على (الرسالة) بأداء هذا الواجب، لأنها آثرت للمهرجان صبغة محلية رسمية لا تلائم روح مطران ولا تنسق يحال مع شخصيته وشاعريته!(718/48)
تأبين الشيخ مصطفى عبد الرزاق:
تعددت حفلات التأبين لفقيد العلم والإسلام المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق؛ وكان أهمها وأجلها تلك الحفلة التي أقيمت في الأسبوع المنصرم بقاعة الاحتفالات بجامعة فؤاد الأول حيث خدم الفقيد بعلمه وأفاد بثقافته وخرج جيلا من الأساتذة في الأدب والفلسفة، وقد احتشد في هذه الحفلة جمهور كبير من رجال الدولة والأدب والصحافة وأساتذة الجامعة وطلابها وشيوخ الجامعة الأزهرية وأبنائها كما خطب فيها كثيرون كلهم من أعلام البيان وأعيان الكلام.
تكلم الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا فقال: لقد عرفت مصطفى يحكم عقله علمه، ويحكم علمه لسانه وقلمه. . .
وتكلم معالي عبد العزيز فهمي باشا فأوغل في فلسفة الموت ذلك الشيء الغامض على العقول والأفهام، المحير للفلاسفة والحكماء وتحدث سعادة الدكتور محمد حسين هيكل باشا فقال: لقد كان مصطفى المفكر الفيلسوف والأديب الكاتب، لا يعرف العنف ولا يميل إلى البطش بل كان يؤمن بالحرية لأنه حر الفكر وبالتسامح لأنه طيب القلب وديع الخلق. . .
وقال معالي إبراهيم دسوقي أباظه باشا: إن مصطفى كان رجل الأخلاق، ولكن الأقدار لم تمهله، فكانت الفجيعة فيه قاسية! وتناول الدكتور طه حسين شخصية الشيخ مصطفى من جميع نواحيها تناول العارف فقال: إن تاريخ الأدب العربي المعاصر حين يكتب سيحتل مصطفى في صفحاته مكانا ممتازا، وسيلاحظ الذين يكتبون التاريخ الأدبي لمصطفى أنه صورة صادقة أمينة للذكرى فقد كانت حياته ذكرى قوامها الوفاء.
وتحدث الدكتور منصور فهمي باشا عن مصطفى الصديق ومصطفى العالم المتمكن والحكيم الروحي وقال: إن الناس إذا كانوا قد نعموا من الفقيد بجانب الصديق الكريم فإنهم قد انتفعوا منه كذلك بجانب المرشد العليم والموجه الحكيم. . .
وتعاقب الباقون من الشعراء والخطباء فألقى الأستاذ العقاد قصيدة من شعره العميق، وتحدث الأستاذ أمين الخولي عن الناحية الجامعية من حياة الفقيد، ثم أنشدت قصيدة عامرة للأستاذ السيد حسن القاياتي، ثم تحدث الدكتور محمود عزمي عما كان للفقيد من فضل في تقريب المسألة بين اتجاهات الدين والاتجاهات العصرية ف العلوم، ثم ألقى الأستاذ محمود(718/49)
غنيم قصيدة من رصين الشعر، ثم ألقى الشيخ عبد اللطيف دراز كلمة عن نواحي الفقيد المختلفة في ميدان العمل، وألقى الأستاذ فؤاد شاكر رئيس تحرير جريدة أم القرى بالمملكة السعودية قصيدة جيدة، ثم ألقى معالي الأستاذ علي عبد الرزاق شقيق الفقيد كلمة شكر باسم الأسرة. . .
وأخلص من هذا كله لأقول لك إن حفلات التأبين عندنا لا تزال تجرى على ذلك الوضع الدارج فهي أشبه بالمناحات، وإن الذين أبنوا الفقيد العظيم في هذا الحفل إنما أبنوه بدموعهم وسرعان ما تجف الدموع، فيذهب ذلك الكلام الكثير الذي قالوه ويحف وتبقى عبقرية مصطفى وشخصيته وسيرته حديث الناس. . .
تراث الأندلس:
أرسلت حكومة إسبانيا إلى الحكومة المصرية بدعوة موجهة إلى بعض أساتذة الجامعة وطلابها للقيام برجلة علمية إلى إسبانيا يقومون فيها بالإطلاع على أصول التراث الأندلسي، ويزورون العالم التي كان مسرحا للفكر العربي حقبة طويلة من التاريخ. ولعل إسبانيا تهدف بهذه الدعوة إلى التقرب من العرب على نحو ما تصنع إنجلترا وأمريكا وروسيا وفرنسا في هذه الأيام، أو لعلها تكون في هذا مخلصة للعلم والبحث والتاريخ، وعلى أي حال فمن الواجب أن نكون نحن مخلصين في تلبية هذه الدعوة وأن ننتهز هذه الفرصة السانحة للإفادة والدراسة وأن نستغلها للعلم والأدب والاطلاع على تراثنا الذي لا يزال مطموراً في أقبية تلك البلاد ومكتباتها.
إن المعلومات التي لدينا عن التراث الأندلسي محدود معدودة ونحن فيما نكتب عن هذا التراث نعتمد على جملة قليلة من المؤلفات العربية ابتذلت لكثرة ترديدنا لنصوصها، ثم على ما يقدمه إلينا المستشرقون والباحثون الأجانب الذين يسافرون للبحث والكشف عن الجديد في ذلك التراث، وقد نقل عنهم خطأ الرأي وضعف الاستنتاج، وإن العار أن نظل قانعين بهذا وأن لا يكون لنا في ذلك جهد يذكر، فلعل رجال الجامعة يستغلون هذه الدعوة إلى هذه الرحلة استغلالا علميا مفيدا ولعلها تكون مقدمة لرحلات متتابعة تؤتى ثمرها.
المستشرق بروفنسيال أيضا:(718/50)
نشرنا في الرسالة من قبل أن المستشرق المعروف الأستاذ ليفي بروفنسيال قد ألقى أربع محاضرات عن الأدب الأندلسي في كلية الطب بالإسكندرية بدعوة من جامعة فاروق الأول، ولما كانت الظروف لم تمكنا من الاستماع لتلك المحاضرات فقد سألنا صديقا أدبيا من الذين حضروها وسمعوها فأخبرنا بأنها كانت محاضرات سطحية لا جديد فيها من الرواية أو الرأي وأنها لا تعدو المعلومات التي يتناولها الطلاب ويقدمها الأساتذة في مصر قال الصديق الفاضل؛ ومن العجب أن جامعة فاروق قد قدرت لهذا المستشرق ستين جنيها أجرا عن كل محاضرة كما سمعت، وقد كان في مقدورها أن تنظم سلسلة من المحاضرات يلقيها الأساتذة المصريون فيبلغون فيها فوق ما بلغ ذلك المستشرق، ولكن يظهر أننا لا نزال مأخوذين بقدرة هؤلاء المستشرقين لنبذل لهم المال من غير حساب.
هذا ما قاله الصديق، أردنا أن نسجله والعهدة عليه في صدق الرواية، ونقول بهذه المناسبة إن المعهد الفرنسي في مصر قد دعا المستشرق بروفنسيال لإلقاء ثلاث محاضرات عن الشعر الأندلسي وقد ألقى المحاضرة الأولى عن الشعر الأندلسي الفصيح، والثانية عن الشعر الأندلسي الشعبي وعنى في هذه المحاضرة عناية خاصة بالحديث عن ابن قزمان.
وفاء كريم:
أصدر الأستاذ (الحوماني) المجاهد العربي المعروف العدد الأخير من مجلته (العروبة) خاصا بالحديث عن المغفور له الأمير شكيب أرسلان فجاء سفرا حافلا بالمعلومات والطرائف عن حياة فقيد البيان وشرح مآثره ومظاهره جهاده في خدمة اللغة والدين والعروبة، وقد كان الأستاذ (الحوماني) صديقا أثيراً عند الأمير شكيب، وكانت له به صلات خاصة ومودات صادقة فكان من الواجب أن يتوجه إلى ذكراه بهذه التحية الطيبة، وإذا كان مجال القول في مجلة لا يتسع للإفاضة، فإننا نطمع أن يعمد الأستاذ الحوماني إلى جمع ذكرياته وما يعرف من خصوصيات الأمير في كتاب يكون مرجعا للباحثين على نحو ما صنع الأمير طيب الله ثراه نحو ذكرى شوقي بكتابه المعروف (شوقي أو صداقة أربعين عاما)
إسلام هرقل:(718/51)
أقام طلبة المعهد الأزهري بالقاهرة في الأسبوع الماضي حفلة تمثيل في معهدهم مثلوا فيها رواية (إسلام هرقل) وهي من تأليف الطالب الأديب محمد عبد المنعم المغربي، وقد حضر هذه الحفلة طلاب المعهد وكثيرون من أساتذتهم وشيوخهم، وهذا خير يسترعى النظر لأنه مظهر التطور في الأزهر الحديث، فقد أدركنا عهدا في الأزهر كان شيوخه يختلفون في جواز ابتداء الشعر بالبسملة، فكان بعضهم يتسامح في جواز ذلك، وبعضهم يقول إنه لا يجوز لأن الشعر ليس من الأمور ذوات البال.
ولكنا عشنا حتى رأينا التمثيل يدخل الأزهر، ويؤثره شيوخه كلون من ألوان التثقيف للطلاب.
(الجاحظ)(718/52)
البريد الأدبي
قلعة مصر القاهرة
أشكر للأستاذ محمد عبد الوهاب فايد اهتمامه وبحثه الأخير فقد اطلعت بعدد الرسالة على كلمته الشائقة بشان تحقيق الطباق بقلعة مصر القاهرة. وقوله (هذه الطباق كانت أكبر مدرسة حربية نعرفها في التاريخ وأقدمها، وقد تخرج منها آلاف من الضباط والقواد والأمراء بل الملوك، ولو جمعت أخبار هذه الجامعة الحربية لجاءت في كتاب حافل).
ولقد أردت بكلمتي في الأهرام أن أحقق غرضين: الأول إثارة البحث والاهتمام حول القلعة ومبانيها القديمة وأثرها في تاريخ مصر الإسلامي العربي. والثاني: تحقيق سم السلطان الغوري ونسبته الصحيح فقد رأينا بعض المؤرخين المتأخرين ينسبه إلى الغور بأفغانستان وهو يطلق على جبال وولاية بين هراة وغزنة كما ورد في معجم ياقوت.
أما الآن وقد انكشف فور القلعة، فيمكن التحقق من أصل هذه النسبة أو التأكد بنص تاريخي يثبت اتصال قانصوه الغوري بالغور في مستهل حياته.
ويهمنا جميعا الاهتمام بالقلعة ومبانيها وما تحويه من آثار لأنها في الواقع أكبر أثر قومي لمصر الإسلامية، ولذلك يتحتم علينا المحافظة عليها من عهد إنشائها إلى اليوم فلا يطغى عصر على عصر بل يحتفظ برونقها كاملا كما كانت في أبهى عصورها.
والذي أتمناه هو أن تسلم بأكملها إلى عهدة مصلحة الآثار الإسلامية وأن تتولاها بعنايتها بشرط أن توضع لها الوسائل الكافية حتى تتمكن من إعادة مبانيها وأبراجها إلى ما كانت عليه وأن تعيد أجزاء منها تمثل العهد الأيوبي. والعهود المملوكة ثم عصور آل عثمان والعهد العلوي.
لقد آلمني ما رأيت من قيام حائط مستحدث لم ير الموكلون بعمله سوى طفراء لأحد ملوك مصر القدماء لكي يقيموا حائطهم أمامه فأخفوا الكتابة وتكسرت أجزاء منها وهذا ما أخشى أن يتكرر.
إلا ترى وقد تعددت المعسكرات والمباني والثكنات أننا في حاجة إلى إخلاء القلعة من جنود الجيش وورش وزارة الدفاع حتى يخلو الجو لأهل البحث والعلم، وحتى ندرس برامج إعادة القلعة إلى سابق مجدها.(718/53)
لقد رأيت قلعة مصر وقلعة دمشق وقلعة حلب وأرسلت كلمة تحت عنوان أمجاد ثلاثة للعروبة أدعو إلى إصلاحها كما فعل الفرنسيون بقلعة الحصن أي حصن الأكراد الواقع بأراضي سوريا.
أما قلعة مصر فقد كانت كرسي السلطنة في أزهى العصور حينما كانت مصر بحق حامية الإسلام وحينما كان الناس يقولون القلعة المحروسة وهذه القلعة ليست لمصر وحدها بل للإسلام وأمم العروبة التي شاركتنا في السباق أمجادنا وهي ليست للجيل الحاضر بل للأجيال القادمة.
وما يقال عنها يقال عن قلعة دمشق وقلعة حلب، ولقد عمل الفرنسيون عملا هائلا في قلعة بلادنا هي قلعة الحصن، وكان غرضهم أن يثبتوا الأصل الصليبي في مبانيها ولهم وجهة نظرهم، فهل تعجز الدول العربية أن تبرهن مرة واحدة على أنها أقدر من هؤلاء في إعادة الآثار الإسلامية إلى سابق عهدها؟ وتعمل عملا يشبه أو يقرب من عمل فرنسا؟
إننا لا نزال ننتظر ونؤمل! وأول عمل ننتظره هو إصلاح القلاع الثلاث، فهل يطول أملنا؟
أحمد رمزي
في تكريم الأستاذ خليل مطران بك:
شهدت حفل التكريم الذي أقيم للشاعر العظيم خليل مطران بدار الأوبرا الملكية في أمسية من أماسي هذا الأسبوع، وحين انشد الشعراء قصائدهم قلت: أين شاعر الشام فيشقشق هذه العشية بلسانه ويسحر تبيانه، وتلفت فلم أجد من صواب بلادي وجه شاعر وكانت تحتهم تهتز المنابر في مصر أيام الحفول السوالف في تكريم شوقي وحافظ، وتساءلت أين شفيق جبري الذي قراه المصريون ناثراً ولم يسمعوه إلى اليوم شاعراً، ورباع الشام طالعات بأزاهيره ودارات العراق عارفات بفيض خواطره، وأين فحل الشعراء محمد البرم فيرد بضفاف النيل لشعر العصر أبراد ماضيه القشيب في ديباجة جرير والأخطل، وما خبر النابغة الملهم عمر أبي ريشة الذي تردد شعره هواتف عبقر فيملك الألباب ويلعب بالشعور، وهل حالت الحوائل دون بدوى الجبل الذي سحر طه حسين في مهرجان المعري فقال له أدب العصر هذا سحر وليس بشعر.(718/54)
بل أين شعراء الشباب وفيهم أمجد الطرابلسي الذي تطامن له الشعر على ريق العمر، وسليم الزركلي شاعر ميسلون بدماها وجلق ورباها، وأنور العطار وشعره المعطار، وجميل سلطان ذو الروعة والألحان، أين كل هؤلاء، أما كان في مكنة سوريا أن ترسل واحداً منهم لينشد قصيدة في تكريم شارع الأمة العربية؟ ومن سواهم أجدر بالإنشاد في حفلة إشادة يمجده، واعترافا بفضله ولقد شهدت الحفل الكريم خالياً من صوت المرأة التي تعتز بشاعرية الخليل وكان لها خير نصير، وقد شاء حفظه الله أن يشجعني بكلمة منه حين لقيني بباب الأوبرا تلك العشية فقال لي:
(. . . إنما أرجو من الله أن يفسح في أجلي حتى أشهد تكريمك وأقول فيه كلمتي) فجللني قوله بالخجل وكانت كلمته الكريمة باعثة لعبتي على لجنة الاحتفال التي نسيت المرأة في منهاجها الطويل.
فيا شاعري الذي أنبته مهد الشعر في فردوس لبنان زهرة إلهية، ليكون خير هدية لوادي النيل، اعترافا بالجميل، إنك خالد خلود الأهرام، ففي شعرك رواسم التجديد، وفي بيانك مياسم التخليد، لك تحياتي الطيبات.
(القاهرة)
وداد سكاكيني
أي القولين أصدق؟
احتفلت البلاد العربية بتكريم الشاعر خليل مطران بك وتسابق الشعراء والخطباء والكتاب إلى الإشادة بروائع شعره والتنويه بعظيم قدره.
ولقد كان من خير ما قيل في هذا التكريم تحية طيبة أرسلها الدكتور طه حسين بك على صفحات جريدة الأهرام خاطب فيها صديقه بقوله. (إنك لتعرف مكانك في قلبي ومنزلتك في نفسي وتعرف إعجابي تخلقك العظيم وإكباري لأدبك الرفيع وإعلاني في كل قطر زرته من أقطار الأرض في الشرق والغرب وإلى كل متحدث تحدثت إليه في الشعر من الشرقيين والغربيين أنك زعيم الشعر العربي المعاصر وأستاذ الشعراء العرب المعاصرين. لا يستثنى منهم أحد ولا يفرق منهم بين المقلدين والمجددين. وإنما أسميهم جميعا بأسمائهم(718/55)
غير متحفظ ولا متردد ولا ملجلج ولا مجمجم، وإنما هو اللفظ الصريح أرسله واضحا جليا لا التواء فيه ولا غموض علمت المقلدين كيف يرتقون بتقليدهم. . . وعلمت المجددين كيف ينزهون أنفسهم عن الغلو. . وعلمت أولئك وهؤلاء أن الفن حر. . . كريم. . . نشيط. . . أنت حميت حافظا من أن يسرف في المحافظة. . . . وحميت شوقي. . . من أن يسرف في التجديد. . وأنت رسمت للمعاصرين من الشعراء هذه الطريق الوسطى التي تمسك على الأدب العربي شخصيته الخالدة وتتيح له أن يسلك سبيله إلى الرقى والكمال، وقد حاولوا أن يتبعوك في هذه الطريق فطار بعضهم بجناح واستسلم بعضهم فأراح وأقمت أنت على قمة الشعر الحديث شيخا جليلا وقوراً. . . .).
هذا بعض ما قاله الدكتور طه حسين بك وهو صريح واضح في أن مطرانا هو زعيم الشعراء في العصر الحديث بلا استثناء وأنه أستاذهم جميعاً - حتى حافظ وشوقي -!
ولكنا قد سمعنا الدكتور طه حسين بك نفسه منذ ثلاث عشرة سنة يقف في حفل تكريم العقاد الذي أقيم في سنة 1934 ويقول: -
(إن العقاد هو الصورة الناطقة واللسان الخالد والمرآة الصافية المجلوة التي حفظت صورة مصر الناهضة وأبقتها ذخرا للأجيال القادمة. . . أنا سعيد جداً. . . في أن أعلن رأي في صراحة وأن أقول. . . إني لا أؤمن في هذا العصر الحديث بشاعر عربي كما أؤمن بالعقاد أنا أعرف حق المعرفة وأقدر كما ينبغي نتيجة هذه المقالة التي أعلنها سعيداً مغتبطاً، أعلم هذا حق العلم وأعلنه مقتنعا به محتملا تبعاته).
وإني (أؤمن به وحده. . . لأني أجد عند العقاد مالا أجده عند غيره من الشعراء. . . وأكبر العقاد وأؤمن به وحده دون غيره من الشعراء في هذا العصر. . لأنه يصور لي هذا المثل الأعلى في الشعر. . هذا المثل الأعلى الذي يجمع بين جمال الشعر العربي القديم وبين أمل المصري الحديث. . .).
وختم قوله الذي استغرق صفحتين من جريدة الجهاد بهذه الصيحة (ضعوا لواء الشعر في يد العقاد وقولوا للأدباء الشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء فقد رفعه لك صاحبه).
هتاف هو حكم الدكتور طه حسين بك - بالأمس - في زعامة الشعر في العصر الحديث، وذاك قضاؤه الذي قضى به اليوم نعرضهما أمام الأدباء جميعا ليروا رأيهم فيهما(718/56)
(المنصورة)
محمود أبو ريه
إلى الأستاذ محمود بك تيمور:
أنت تبكى آه ما أقسى الدموع ... حينما تنساب يا محمود منكا
لا تلم دمعي ففي جمر الضلوع ... قلبي الباكي أسى يسأل عنكا
كنت بالأمس تداري الحزنا ... في وليد راح في عمر الورد
وأراك اليوم تبكي شجنا ... روح إسماعيل في ساح الخلود
نحن نبكي من مضى. . . والدمع صدق ... أترى ننسى؟ وقد عز الفداء
أأعزيك؟ أجل فالموت حق ... ومصير الكون والدنيا فناء
عبد القادر محمود
مكتبة لوزارة العدل السورية:
رصدت وزارة العدل السورية مبلغا كبيرا من المال لشراء ماجد في مصر في هذه السنين من الكتب الشرعية والحقوقية والمالية وإمداد مكتبة الوزارة ومكتبات المحاكم بها وكلفت الأستاذ سامي بك العظيم مفتش العدلية العام الموجود في مصر الآن بالإشراف على انتقائها وشرائها.
كتاب (أبو هريرة)
نشرت مجلتكم الغراء (الرسالة) - في عددها 715 - كلمة للأستاذ الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي حول كتابي (أبو هريرة) فأبرأته مما نال مني ولم أتعقبه فيما أفرط من التمويه المغالطة.
ولكن البحث العلمي فرض على أن أمعن في قوله: (وقد ثبت أن هناك رواة يضعون الحديث على أبي هريرة ومنهم إسحاق بن نجيج الملطي وعثمان بن خالد العثماني وابنه محمد وهو الذي روى عن أبي هريرة أنه دخل على رقية بنت رسول الله امرأة عثمان بن عفان وبيدها مشط. فقالت: خرج رسول الله من عندي آنفاً رجلت شعره. فقال لي: كيف(718/57)
تجدين أبا عبد الله - يعني عثمان - قلت: بخير. قال أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا. (قال) وهذا حديث باطل لأن رقيه ماتت في غزوة بدر وأبو هريرة إنما أسلم بعد فتح خيبر (قال): فلنحمل هذا على أولئك الرواة ولا داعي إلى الطعن في أبي هريرة).
قلت: لا يمكن حمله على أولئك الرواة من وجهين.
1 - ثبوته عن أبي هريرة بالسند المتصل الصحيح وقد أخرجه وصححه الحافظ الكبير إمام المحدثين أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الحاكم النيسابوري في كتاب معرفة الصحابة أثناء ذكر وفاة رقية ودفنها في ص48 الجزء 4 من المستدرك وأورده الذهبي في تلخصيه معترفا بصحة سنده وإنكار متنه.
2 - أمعنا في البحث عن سند هذا الحديث فلم نجد أحداً قبل اليوم زعم أنه يروى من طريق محمد بن عثمان بن خالد. وإنما روى بسندين لا ثالث لهما أوردها الحاكم وليس في واحد منهما إسحاق بن نجيح الملطي ولا عثمان بن خالد ولا ابنه محمد فكيف نحمله عليهم والحال هذه يا منصفون؟!.
وليت الشيخ يدلنا على مأخذه فيما حمله على محمد بن عثمان بن خالد العثماني إذ قال: وهو الذي روى عن أبي هريرة أنه دخل على رقية وبيدها مشط الخ، ومتى فعله كنا له شاكرين وسدد الله من أمعن نقد كتابي بنصح فنبهني إلى أخطائي محرراً للحق مجرداً من سواه.
(صور - لبنان)
عبد الحسين شرف الدين(718/58)
الكتب
نموت ولا نسلم
(تأليف الأستاذ عباس علام)
الأستاذ عباس علام أحد النابهين القلائل الذين أسهموا في بناء الأدب التمثيلي والقصصي في اللغة العربية، لا أقصد بذلك الذين ترجموا وآثروا النقل والاقتباس، وإنما أقصد الذين ألفوا وآثروا تصوير حياتنا الاجتماعية وما يتمثل فيها من المظاهر والميول والاتجاهات واستجابوا في هذا إلى مواهبهم الفطرية. وإلى غيرتهم القومية، وإلى رغبتهم في إصلاح الحياة الاجتماعية.
ويمتاز الأستاذ علام في معالجة هذا الفن بالفهم الدقيق للمجتمع المصري وما يتدافع فيه من التيارات. فهو خبير بهذا المجتمع حيث يبدو في الشارع، وفي المنزل، وفي النادي، وفي الصلات التي تقوم بين الناس في شتى النواحي المختلفة، ولهذا تجده إذ يقص عليك قصة من قصصه كأنه يروى لك حادثة شاهدتها ورأيتها. ولهذا تجده أيضاً في تلمس نواحي هذا المجتمع يضع إصبعه على موطن العلة ويمثلها لعينيك حقيقة واضحة، ويكفى له في هذا أنه استطاع أن يحمل الحكومة في يوم من الأيام على إصدار القانون الذي يحقق المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق الزوجية، وذلك تحت تأثير مسرحيته المعروفة (باسم القانون).
وهذا الكتاب الذي تقدمه اليوم إلى القراء (نموت ولا نسلم وقصص أخرى) يشتمل على عشر قصص من وضع الأستاذ علام وتأليفه، خمس منها في تصوير النواحي الوطنية، وخمس أخرى في معالجة النواحي الاجتماعية، وجميعها تحمل طابع كاتبها الفاضل من صفاء الروح وقرب الأسلوب وتسلسل الحوار وبراعة التصوير. ويظهر أن عناية الأستاذ الفاضل بالقصص المسرحي قد أثرت عليه في ذلك، فجميع قصصه في تسلسلها وتصويرها يمكن تحويلها إلى المسرح بأدنى جهد، وإنك لتقرأ القصة له فترى أشخاصا يتحركون ويتكلمون، وتتمثل لك صورة ناطقة لا ألفاظا جامدة ميتة على الورق، ولقد أحسن نجل المؤلف الفاضل إذ قام بتقديم هذه المجموعة من قصص والده إلى الطبع، واعدا بأن يتولى طبع جميع قصصه ومسرحياته وتقديمها إلى القراء، فإن هذا مظهر بر بالأبوة(718/59)
وبالأدب.
محمد فهمي عبد اللطيف
المربي
تمهيد في التصوف وأثر الأستاذ الكامل في تربية الروح
(تأليف الأستاذ حسن كامل الملطاوي)
ليس من ينكر من المنصفين أن الصوفية الحقيقيين كانوا من رواد المسلمين إلى المثل العليا، وكانوا في قضايا الحق والخير من العمال الأقوياء الأمناء. وتلك صحائفهم في كتب الجهاد لنشر الدين والفضيلة نضيرة مقروءة، ومناهجهم في تهذيب أتباعهم والتصاعد بهم في مدارج الرقي الروحي موصلة محمودة، وما زالت سيرهم بما تنضح به من إخلاص وإشراق وروحانية مناهل للواردين وذكرى للذاكرين.
بيد أنهم منوا في بعض مراحل تاريخهم بدخلاء حرموا المواهب الفكرية والروحانية والذوقية. فتعوضوا عنها بالتكبر على الناس والاستطالة، وجعلوا التصوف مجرد رسوم وإشارات، وأضافوا إليه شعبذات تردها الإسلامية ويجل عنها التصوف، شعبذات يقع أثرها في النفس تارة مضحكاً وتارة مبكيا.
وهكذا ذهبت في أهل الحقيقة الظنون مذاهب، ومزقتهم الأقاويل، وتطرف بعض الناس فرأوا التصوف الذي تهدف رسالته إلى إسعاد مظهراً من مظاهر الهبوط الاجتماعي!
وكان الظن بالمتعلمين أن يقبلوا على التصوف ليحسنوا العمل به كما أراده السابقون، ولسهموا في كشف الضباب الذي غلفه، فيعود نوره إلى الإشراق في القلوب فيملؤها سعادة وطمأنينة، ويعود بقوته الحقيقة إلى المجتمع الإنساني الذي مشى فيه لؤم الحياة، والذي أشقته المادة وبهظته الدنيات، فينقيه جميعا، ويوجد عالما مرتفعا قدسيا ولكنهم من أسف أعفو أنفسهم من الواجب، وقنعوا بإطلاق ألسنتهم بالثلم والهدم، بالحق وبالباطل
واليوم، نستنشي الرجاء من الشباب المثقف إذ نرى واحداً منهم وهو (الأستاذ حسن كامل الملطاوي) الذي تداولت كفايته الوظائف الطبية، يقدم لنا رسالته الجيدة في التصوف. والطريف أن المؤلف على ما لديه من ألوان الغذاء الصوفي المهضوم لم تتصل دراسته ولا(718/60)
عمله بشئ يمت إلى التصوف بصلة، فهو منذ عهد الطلب من المشتغلين بشؤون الاقتصاد والمال.
قال مؤلفنا في مقدمته لرسالته: (وقد جهل بعض الناس رسالة الصوفية فعابوهم وأنكروا عليهم مسلكهم ظلما وزورا أو جهلا وغرورا، ولا عجب فالناس أعداء ما جهلوا، فمن قائل إن الصوفية بدعة لا أصل لها في الدين، ومن قائل إن الصوفية قوم كسالى متواكلون، ومن قائل إنهم متشددون، وكل هذا بعيد عن الصواب، وسأحاول إن شاء الله أن أبين في هذه الرسالة على قصرها شيئا من فضل هؤلاء السادة الأماثل، ولعلي أبلغ من ذلك المراد من إعطاء الناشئة الإسلامية فكرة صحيحة عن الصوفية وما تدعو إليه وما تؤديه للإسلام من خدمات في تربية القلوب وإصلاح الأرواح. . .).
ونستطيع أن نطمئن الأستاذ إلى أنه بلغ المأمول، فرسالته على إيجازها تنقل إلى الأذهان والأرواح التي تجهل التصوف معاني متسامية تهزها وتبهرها وتفتحها. . .
تكلم المؤلف موفقا عن معنى الصوفية، ومتى، وكيف نشأت، ومم اشتق اسمها، وعرض لغايتها، ثم لخص محسنا قواعد التصوف، واستطرد إلى إيضاح سبل الصوفية في نشر مبادئهم، وأوضح كيف يختار المريد شيخه، ثم عقب بترجمة مناسبة لأستاذه ومسلكه (الشيخ عبد السلام الحلواني) رحمه الله.
والمؤلف في كتابته يورد عن السلف الصالح عبارات جذابة. وترجمته لشيخه تتأرجح بالوفاء والحب، وتستأهل الثناء الأوفى، فقليل الآن من المريدين من يشكر لصنيعه أستاذه وقليل منهم من يسقى المودة بينه وبين شيخه، وخاصة بعد أن يذهب هذا إلى العالم البعيد. عالم الموت.
والذي يلفتني في ترجمة الشيخ - وهي حافلة كلها بما بجدد في الأذهان ذكرى الأسلاف الأمجاد من الصوفية - مناقب يجب أن تكون من ألمع مناقب المربين الصوفيين. . . تلك هي: استغناؤه عن الناس، وتعففه عما في أيدي مريديه، وتواضعه لهم. . .
ولا جرم أن شيخا لا يستوفي هذا الشمائل، فلا يقيم الموازين لغير المال، ويعمل تحت ستار المشيخة شحاذا أو سلابا، ويلقى الناس في ترفع شامخ، هو أبعد ما يكون عن التصوف، بل هو أبرز مظهر للفساد الخطير الذي دب إلى الصوفية، والذي يضرع رجالها(718/61)
الصادقون إلى الله أن بهو ويبدل منه الروحانية والسمو.
والكلمة الختامية للمؤلف التي يناجي فيها شيخه ويشيد فيها بفضله هي بما فيها من حب صاف ووفاء خالص وعواطف حارة مؤثرة صلوات الشيخ الراحل الذي وقف على تربية الشباب عمر، والذي كان المؤلف من أقرب خلصائه.
وليس لدى ما آخذه على الرسالة سوى أن مؤلفها بما أوتى من طبع مشرق نقي وثروة في الثقافة الصوفية ضافية كان حقيقاً أن يطيل إمتاعنا بكتابته، لا سيما وأن أمامه منتدحاً كيراً للقول.
ولقد نشر المؤلف رسائل خاصة لأستاذه، وكنت أوثر لو صفيت هذه الرسائل من بعض أشياء لا يضار الجوهر من تصنيفها، بل لعل التصفية كانت تزيدها بروزاً وجملاً.
أما بعد، فالصوفية يطربون لهذه النفحة المباركة من المؤلف الصالح، ويعتزون بإقبال أمثاله على خدمة الدين والتصوف.
آجره الله ما فعل.
لبيب السعيد
نائب المشيخة البيومية بالدقهلية(718/62)
العدد 719 - بتاريخ: 14 - 04 - 1947(/)
مقاييس وأصول في النقد والشعر
للأستاذ عباس محمود العقاد
(كتب الأديب السوري العصري الأستاذ خليل هنداوي مقالاً في مجلة الكتاب الفيحاء تناول فيه بالنقد مؤلف الأستاذ سيد قطب الحديث عن (كتب وشخصيات). واستطرد من نقده إلى الكلام على ما سماه المدرسة الشوقية والمدرسة العقادية في الشعر، ثم انتهى من كلامه قائلاً: ومثل شوقي لن تظهر قيمته مدرسة عقادية لأنها أظهرت فيه تحيزها يوم كانت تريد أن تجعل من المازني الشاعر الأكبر، ومن شكري الشاعر المصور. وها قد طلق المازني الشعر لأنه لم ير نفسه أهلاله، وها شعر شكري لا يردده أحد، لم يبقى من تلك الفئة إلا العقاد. والعقاد رجل ذهنية جبارة وعقل خصيب عجيب، لا يسمح له أن يطير إلا بقدر. . .
(وكان من الحق أن أرجع إلى صاحب المدرسة في هذا السؤال الذي أردت له جواباً شافياً عن هاتين المدرستين. . . فما قول الأستاذ فيما كتبه الهنداوي وما زعمه من التحيز وما حكم به بين المدرستين. . . الخ.
علي نافع
ونحن نوجز غاية الإيجاز في الجواب المفيد على هذا السؤال، فنقول إن التحيز في أحكام الأدب - وفي جميع الأحكام - أخلق أن ينسب إلى الذين يستحسنون أو يستهجنون لغير سبب يعلمونه إلا إنهم قد استحسنوا وإنهم قد استهجنوا ولا مزيد.
أما أن يبنى حكمك على أصول ومقاييس نعم الآداب كلها ولا تخص أحداً من الشعراء أو الكتاب فليس ذلك من التحيز في شيء كائناً ما كان الرأي الذي ترتئيه. وليس المتحيز إلا الذي يستمع إلى تلك الأصول والمقاييس فلا ينقدها ولا يبطلها ولا يفهمها على الوجه الصحيح.
ونحن لا يعنينا شاعر من الشعراء بعينه إذا فهمنا الشعر على حقيقته وطلبناه من معدنه. أما إذا كان نجهل تلك الحقيقة ولا نعرف المحك الصادق لذلك المعدن فالمصيبة أعم من محاباة شاعر أو الإجحاف به والتحامل عليه لأنها مصيبة الميزان نفسه لا مصيبة الشيء الموزون في إحدى كفيته، أو في كلتا كفتيه.(719/1)
ونحن لم نقل إن المدرسة الشوقية خلو من محاسنها ومزاياها، ولا قلنا إنها لم تشتمل على شيء غير النقائص والعيوب.
ولكننا قلنا إنها لم تحقق للشعر أشرف مقاصده وأرفع مزاياه، وعرضناها على المقاييس الخالدة التي لا سبيل إلى التشكيك فيها بحال من الأحوال، فلم يصدق عليها مقياس منها ولا حاول أحد أن يصحح لنا ما قسناه مخالفاً فيه مذهبنا في (التطبيق).
وهذه خلاصة تلك المقاييس التي ندع إنكارها لمن يستطيع إنكارها، أو ندع تطبيقها على خلاف رأينا لمن يشاء كما يشاء.
فالمقياس الأول أن الشعر قيمة إنسانية قبل أن يكون قيمة لفظية أو صناعية.
فما من أمة على وجه الأرض إلا وهي تنظم الشعر على اختلاف اللغات والأوزان.
وهي لا تنظم الشعر لأنها تتكلم بهذه اللغة أو تلك، وتعرف هذا الضرب من العروض أو ذاك. ولكنها تنظمه لأنها كائنات إنسانية حية تجمعها كلها سليقة الإنسان ونوازع الحياة.
فأول مقياس للشعر الصادق الرفيع إنه يحتفظ بقيمته الكبرى إذا ترجم إلى جميع اللغات، لأنه يرجع إلى الطبيعة ولا يجعل مرجعه كله إلى أعاريض الأوزان أو موقع الألفاظ في الآذان.
نعم إن الموسيقية اللفظية مزية من مزايا الشعر في كل لغة من اللغات.
ولكنها إذا كانت هي مزيته الوحيدة؛ أو مزيته الكبرى التي لا ينهض بغيرها، فأول ما يفهم من ذلك إنه كلام منفصل من الطبيعة الإنسانية، وإنه صناعة محض وتلفيق من الألفاظ والأوزان، وليس من الشعر الإنساني الخالد في طراز رفيع.
والمقياس الثاني إن الشعر تعبير عن نفس صاحبه وإن كان وصفاً لغيره.
فإذا قرأت ديواناً كاملاً من الشعر وجب أن تعرف صاحبه وتتمثله في دخائل طبعه ونوازع سريرته وأطوار حياته.
وإذا تتبعت غزله - مثلاً - في أطوار تلك الحياة وجب أن تتمثل لك سمات حبه وسمات محبوبه في كل طور من تلك الأطوار.
فلا يكون الشعر تعبيراً عن نفس حية إذا كنت تجهل تلك النفس حين تقرأ ديوان صاحبها، ولا تستخرج لها من ديوانه ترجمة حياة داخلية لا يعوزها شيء غير الأرقام والأعلام.(719/2)
ولا يكون الشعر تعبيراً إذا كنت تقرأ غزل الشاعر كله من صباه إلى شيخوخته فلا ترى فيه فارقاً بين محبوب ومحبوب، ولا بين عاطفة وعاطفة، ولا بين شباب ومشيب.
ولا يكون الشعر تعبيراً إذا كان صاحبه يزعم لك إنه معطيك صورة من الأحياء والجمادات وهي لا يعطيك صورة من نفسه.
وإنما هذا صناعة وفقر في نوازع الحياة؛ لا يبلغ بقائله من القوة أن يميزه (شخصاً كاملاً) بين غيره من شخوص الأحياء.
والمقياس الثالث للشعر الصادق أن القصيدة بنية حية أو (بنية عضوية) يقع كل جزء منها في موقعه الذي لا يغني فيه غيره، كما تتألف الأجسام من الجوارح والأعضاء.
فإذا عالجتها بالتقديم والتأخير ماتت كما يموت الجسم الحي الذي تضع قدميه في موضع رأسه أو رأسه في موضع قدميه.
أما إذا جاز لك أن تبعثرها شذر مذر ثم تعيدها في كل مرة على وضع جديد فهي إذن من عالم الجماد لا من عالم الأحياء. بل هي من عالم الجماد الذي لا فن فيه ولا تنسيق له ولا معنى لتركيبه. لأنك لا تستطيع أن تصنع هذا الصنيع بجماد كالتمثال أو جماد كالدولاب أو القدح المنقوش.
هذه أمثلة من المقاييس التي ندين بها في نقد الشعر وتقدير الشعراء. . .
فعلى أي وجه تجوز المخالفة فيها؟
لا تجوز المخالفة فيها إلا على وجه من وجهين:
فإما أن يقول القائل إن هذه المقاييس باطلة في جملتها وتفصيلها، وإن الشعر قد يكون من طراز الشعر الرفيع وهو لا يعطينا مزية إنسانية بمعزل عن رنين الأوزان وطلاوة الألفاظ، ولا يعبر لنا عن نفس صاحبه ودخيلة حياته، ولا تتماسك قصائده تماسك البنية الحية التي تستعصي على التقديم والتأخير.
فإن قال القائل هذا فهو وشأنه فيما يراه، والناس وشأنهم في الأخذ بما رآه.
أما إذا قبل تلك المقاييس وارتضاها فليس له غير وجه واحد للمخالفة فيما قدمناه، وذاك أن يقول إن المقاييس صحيحة ولكنها تنطبق على شعر المدرسة الشوقية وما جرى مجراها.
ومعنى ذلك إنه يستطيع أن يستخلص من دواوين شوقي صورة صادقة له كالصورة التي(719/3)
نستخلصها من الدواوين لأمثال المتنبي والمعري وأبن الرومي وأبي نواس وأن يعرف من غزله أطواراً لحبه في الشاب والمشيب، وأوصافاً لمن أحبهم ونظم الغزل فيهم على اختلاف المحاسن والسجايا وألوان الغرام.
ومعنى ذلك إنه يستطيع أن يترجم قصائد شوقي ويحتفظ لها بالجوهر الذي لا يزول بزوال المحاسن اللفظية والنغمة الموسيقية، ويستطيع أن يتحدى الناقد بقصيدة تتماسك في بنيتها كما يتماسك الأحياء وتستعصي على محاولة التقديم والتأخير.
فإذا استطاع هذا جاز له إن يسمى استحسانه استحساناً وأن يسمى كلامه رداً على نقد وبياناً في معرف الآراء والأذواق.
أما أن يكون قصاراه (الاستحسان وبس)! فله أن يستحسن (وبس) كما يريد، وله أن يقول إن المستحسنين مثله (وبس) كثيرون. . . ولكن أي استحسان هذا الذي تقيمونه معياراً لآداب الإنسانية يا هؤلاء؟
إن الذين طربوا لشعر شوقي ولم يلمسوا مواطن النقص فيه هم بأعيانهم أولئك الذين طربوا لتلك الأغاني السقيمة الشائعة، ورددوها وترنموا بها ولا يزالون يترنمون بها وهي تغثي النفوس وتفرغ المعدات.
أفهذا هو المقياس القويم المستقيم، وما نبسط نحن من خلاصة الآداب الإنسانية هو التحيز والعجز عن التقدير؟
أفهموا يا هؤلاء أولاً.
وأفهموا يا هؤلاء ثانياً.
وأفهموا يا هؤلاء أولاً وأخيراً.
أفهموا قبل أن تتهموا، وأفهموا قبل أن تنصبوا أنفسكم قدوة للنقد والتقدير، ومحكمة تقضي بالتحيز وتستأثر لقضائها بالإنصاف.
عباس محمود العقاد(719/4)
2 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن للحلم:
رأيتم أن دراستنا لسيكولوجية الأخطاء لم تكن عديمة الفائدة، فقد استطعنا بفضل الجهود التي بذلناها في هذا الاتجاه أن نصل، عن طريق الفروض التمهيدية التي تعلمونها، إلى نتيجتين: الأولى فهم لطبيعة عنصر الحلم، والثانية العثور على طريقة لتفسير الأحلام. أما عن طبيعة عنصر الحلم فقد رأينا إنه ليس في حد ذاته شيئاً رئيسياً، وإنما هو بديل من شيء آخر مجهول لدى الشخص الحالم. وإنا لنأمل في تطبيق هذا الفهم على الحلم بأكمله كمجموعة من هذه العناصر، والطريقة التي سنتبعها هي أن ندع بعض الأفكار البديلة تتوارد على خاطرنا، وبواسطة الترابط المطلق سنصل إلى كشف الغطاء عن الأفكار اللاشعورية وإبرازها إلى منطقة الشعور.
فإذا انتقلنا الآن من النظر إلى العنصر الواحد ونظرنا إلى الحلم كوحدة كاملة وجدنا أن الحلم ما هو إلا تحريف لشيء آخر لا شعوري وأن الغرض من التفسير هو الكشف عن هذه الأفكار اللاشعورية، وعلى هذا يجب مراعاة الثلاث قواعد الهامة الآتية عند التفسير:
1 - لا داعي للاهتمام بالمعنى السطحي للحلم سواء أكان معقولاً أو غير معقول، واضحاً أم غير واضح، فهو لا يحتوي بأي حال من الأحوال على الأفكار اللاشعورية التي نبحث عنها.
2 - يجب علينا أن نركز جهودنا في محاولة تذكر أفكار بديلة لكل عنصر على حدة من غير أن تنعم النظر فيها كثيراً لنرى إن كانت تحتوي على شيء يلائم الحلم أو لا يلائمه. كما يجب علينا أن لا نهتم كثيراً إذا شعرنا أن هذه الأفكار تقودنا بعيداً عن عنصر الحلم.
3 - يجب علينا أن ننتظر حتى تبرز الأفكار اللاشعورية الخفية التي نبحث عنها من تلقاء نفسها كما حدث في حالة الكلمة المنسية (موناكو) التي رويتها لكم في المحاضرة السابقة.(719/5)
والآن أظنكم أدركتم إنه لا داعي مطلقاً للقلق أو المبالاة إذا كنا لا نتذكر الحلم بأكمله بل نتذكر جزءاً كبيراً أو صغيراً منه فقط، وأيضاً إذا كنا نتذكر هذا الجزء جيداً أم لا فالحلم كما نتذكره ليس هو الشيء الحقيقي الذي نبحث عنه وإنما هو بجيل محرف له نستطيع بوساطة الأفكار البديلة التي تنتج عنه أن نقترب من المعنى الحقيقي وأن نصل إلى إبراز الأفكار اللاشعورية إلى منطقة الشعور. فإذا حدث إننا أخطأنا في تذكر الحلم فمعنى ذلك أن تحريفاً آخر وقع في البديل وهذا التحريف لا يمكن أن يكون من غير دافع.
وكما أن في استطاعتنا أن نفسر أحلام الغير فإن في استطاعتنا كذلك أن نفسر أحلامنا، والحقيقة إننا نتعلم كثيراً من هذا التفسير. فإذا حدث أن أجرينا تجربة على أنفسنا فإننا نلاحظ أن هناك قوة داخلية تعمل على عرقلة التفسير. حقيقة أن الأفكار المترابطة تتوارد على خاطرنا ولكنا نجد أننا لا نريد أن نعترف بها جميعاً بل نأخذ في نقدها والتمييز بينها لتنتخب ما هو صالح فنقول لأنفسنا: (لا: هذه الفكرة لا تلائم الحلم). أو (هذه فكرة تافهة جداً). أو (هذه فكرة بعيدة عن الموضوع). ثم نلاحظ إننا بهذه الاعتراضات كلها قد خنقنا الأفكار المترابطة وفي النهاية أقصيناها عنا قبل أن تتمكن من الظهور بوضوح تام. وعلى هذا فإننا نحاول من ناحية أن نتمسك بالفكرة الأصلية، أي عنصر الحلم نفسه، ومن ناحية أخرى نعرقل عملية الترابط المطلق عندما نحاول النقد والتمييز. فإذا حدث إننا لم نقم بالتفسير بل تركنا شخصاً آخر يقوم به فإننا نلاحظ جيداً إن هناك دافعاً آخر يدفعنا إلى هذا التمييز بين الأفكار المترابطة فنقول لأنفسنا في بعض الأحيان: (لا هذه فكرة يثقل على النفس التحدث بها. إني لا أستطيع بل لن أقولها له).
ومن الواضح أن هذه الاعتراضات تهدد مسعانا بالفشل، ولذا يجب علينا أن نتخذ لأنفسنا الحيطة ضدها. فإذا كنا نقوم بتفسير أحلامنا وجب علينا أن نعقد العزم على أن لا نخضع لهذه الاعتراضات مهما بدت قوية، وإذا كنا نقوم بتفسير أحلام الغير فيجب أن نضع نصب عينيه هذه القاعدة الصارمة وهي أن لا يخفى عنا أي فكرة تخطر على باله أثناء عملية الترابط المطلق حتى لو اعترضها أحد الاعتراضات الأربعة التي ذكرتها لكم كأن تبدو عديمة الأهمية أو سخيفة، أو غير ملائمة، أو يثقل على النفس التحدث بها. وقد يأخذ الشخص على نفسه عهداً أن لا يخرج عن هذه القاعدة، ولكنا سنشعر بالخيبة والضيق بلا(719/6)
شك عندما نرى أنه سرعان ما ينسى هذا الوعد. وقد نحسب لأول وهلة أن هذا النسيان يرجع إلى عدم ثقته في نجاح عملية الترابط المطلق على الرغم من تأكيداتنا القاطعة له. وربما كانت الخطوة التالية لذلك هي أن نحاول أن نجتذبه أولاً إلى نظريتنا بأن نعطيه كتباً يقرأها أو نرسله إلى محاضرات يسمعها حتى يتحول إلى وجهة نظرنا في الموضوع، ولكن قليلاً من التفكير يرينا أنه لا داعي لاتخاذ مثل هذه الخدوة الخاطئة، لأننا سنرى أننا أنفسنا عرضة لمثل هذه الاعتراضات على الرغم من عدم شكنا البتة في نجاح طريقتنا.
ولكنا بدلاً من التبرم بهذا الإهمال من الشخص الحالم في المحافظة على وعوده لنا سنتخذ من هذه التجربة مادة صالحة لنا في الحصول على شيء جديد، شيء ذي أهمية كبرى لأننا لم نكن نتوقعه البتة. فمن الواضح أن عملية تفسير الأحلام تلاقي معارضة قوية بوساطة (مقاومة) تبدو على هيئة اعتراضات في شكل نقد، وهذه المقاومة لا علاقة لها بإقناع الحالم نظرياً بنجاح العملية. وقد أثبتت التجارب أن الاعتراضات التي من هذا النوع ليس لها ما يبررها بل على العكس قد ثبت أن الأفكار التي يحاول الشخص إخفاءها عنا هي بغير استثناء على درجة كبيرة من الأهمية، وأنها لازمة جداً للوصول إلى الأفكار اللاشعورية. وعلى هذا يجب علينا أن نعتني عناية خاصة بالأفكار التي يصحبها اعتراضات من هذا النوع.
وهذه (المقاومة) تعتبر شيئاً جديداً لم يكن متوقعاً بالمرة. وهي ظاهرة لم تكن ضمن الفروض التي فرضناها في مبدأ الأمر ولكنا اكتشفناها أثناء البحث. وإنا لنخشى أن تكون هذه الظاهرة عقبة في طريقنا مما قد يدعونا إلى اليأس أو الكف عن بذل المجهود في تفسير الأحلام. ولكنا من وجهة أخرى قد نجد لذة في التغلب على هذه الصعوبات، فهذه المقاومة التي تعترضنا كلما توغلنا في البحث عن الأفكار اللاشعورية لابد وأنها تخفي وراءها شيئاً ذا أهمية عظمى. وإلا فما الداعي لهذه الصعوبات التي نلاقيها ولا غرض لها إلا التستر والتعمية على قدر الإمكان؟ إن الطفل عندما يرفض أن يفتح لنا قبضة يده ليرينا ما بداخلها فما لا شك فيه أنه يقبض على شيء لا حق له في امتلاكه.
وهذا العامل الجديد (المقاومة) يختلف من الناحية الكمية باختلاف الأحلام. فقد نجد أنفسنا أثناء العمل عرضة لمقاومات قوية ومقاومات ضعيفة. وهناك عامل آخر كثيراً ما نلاقيه(719/7)
أثناء التفسير يمكن أن نقرنه بهذا العامل، أعني أنه في بعض الأحيان قد تكفي أفكار قليلة أو فكرة واحدة فقط للوصول من عنصر الحلم إلى الأفكار اللاشعورية التي تستتر وراءه، بينما في أحيان أخرى قد نحتاج إلى سلسلة طويلة من الأفكار المترابطة، وإلى التغلب على كثير من الاعتراضات قبل الوصول إلى غايتنا. وهذه الأفكار المترابطة يختلف عددها باختلاف شدة المقاومة، فإذا كانت المقاومة ضعيفة فإن الأفكار البديلة تكون قريبة من الأفكار اللاشعورية، أما إذا كانت المقاومة قوية فإنها تسبب تحريفاً كبيراً في الأفكار البديلة، ومن ثم نحتاج إلى طريق أطول للوصول إلى الأفكار اللاشعورية نفسها.
أظن أن من الأوفق الآن أن نختار حلماً من الأحلام ونطبق عليه طريقتنا في التفسير لنرى إن كان ما توقعناه صحيحاً أو لا؟ ولكن أي حلم نختار؟ هذه هي المشكلة. فأنتم لا تعلمون الصعوبات التي ألاقيها في ذلك، ولا أنا بمستطيع أن أفسر لكم هذه الصعوبات الآن. وقد يرى بعضكم أن الحلم الواضح الغير مشوش يكون سهل التفسير ولكنه بذلك يكون قد ارتكب خطأ كبيراً، فقد أثبت التحليل أن مثل هذه الأحلام تكون قد تعرضت إلى درجة عالية من التحريف وعلى هذا فإنني أقترح عليكم أن نختبر عنصراً واحداً فقط من الحلم ونطبق عليه طريقتنا لنرى ماذا ستكون النتيجة:
(أ) قصت علي سيدة أنها وهي طفلة كانت دائماً تحلم: (إن الله يلبس على رأسه قبعة من الورق تغطي عينيه). كيف نستطيع إذاً أن نفسر هذا الحلم إذا لم تمد لنا صاحبته يد المساعدة؟ أظنه من غير المعقول فالحلم يبدو تافهاً لا معنى له. ولكن هذه السخافة سرعان ما تختفي عندما تروي لنا السيدة أن أهلها وهي فتاة صغيرة كانوا يضعون على رأسها مثل هذه القبعة كلما جلست إلى المائدة لأنها لم تكن تكف عن النظر أطباق أخواتها لترى إن كان أحدهم قد نال نصيبا أكبر من نصيبها. ومن الواضح إن هذه القبعة كانت تستخدم كعائق يعوقها عن التلفت يميناً وشمالاً، وقد روت السيدة هذه المعلومات غير صعوبة تذكر. وقد استطاعت أن تفسر الحلم بنفسها عندما تواردت على خاطرها فكرة مترابطة أخرى قالت: (ولما كنت قد لقنت وأنا طفلة إن الله يرى كل شيء ويعلم كل شيء، فلا بد أن الحلم يعني أنني مثل الله قد رأيت وعرفت كل شيء، على الرغم من محاولتهم منعي من ذلك). أظن هذا المثل بسيطاً جداً.(719/8)
(ب) رأى أحد مرضاي حلماً طويلاً نوعاً ما كان منه الجزء الآتي: (كان لفيف من أفراد عائلته يجلسون حول مائدة ذات شكل خاص. . . الخ) وقد لفتت هذه المائدة نظر الحالم إلى إنه قد سبق له أن رأى مائدة تشبهها عند زيارته لإحدى العائلات. ومن ثم تسلسلت أفكاره على النمط الآتي: كانت العلاقة بين الابن والأب في هذه العائلة من نوع غريب، وقد أضاف الحالم أن علاقته بأبيه كانت في الحقيقة من نفس النوع. وعلى هذا فقد اتخذت المائدة في الحلم كأداة للتشبيه.
وليس من المستغرب أن يلتفت صاحبنا إلى مثل هذه التفاصيل التافهة كشكل المائدة، فقد كان على علم منذ زمن طويل بما يتطلبه تفسير الأحلام فنحن تنكر إنكاراً باتاً أن هناك شيئاً اسمه المصادفة في الأحلام، بل على العكس فإننا نتوقع أن نصل إلى غايتنا عن طريق البحث في هذه التفاهات التي تبدو كأنها غير مقصودة. وقد تعجبون جداً لأن الحلم لم يقع اختياره إلا على المائدة كأداة يعبر بها عن الفكرة: (إن العلاقات بيننا تشبه العلاقات بينهم تماماً) ولكن من الممكن توضيح ذلك أيضاً إذا علمتم أن العائلة المذكورة تدعى عائلة فالحالم عندما جعل أهله يجلسون على نفس المائدة كان يعني أنهم أيضاً كانوا (أي مائدتين).
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(719/9)
عالم إيطالي يدافع عن تعدد الزوجات
انسجام مبادئ الإسلام مع تطور المدنية
للأستاذ علي عبد الله
من أسرار الشريعة الإسلامية السمحة، إنها تتفق مع نظام الحياة وتطورها، وإنها تصلح لجميع الأزمان والأجيال، فلا يتحرج المسلم الذي عاش في القرن الأول من أن يعيش في القرن العشرين، دون أن يجد غضاضة أو حرجاً أو أوضاعاً تباعد بينه وبين دينه. وقد امتاز الإسلام وهو الدين الذي أعزه الله بمسايرته لتطور المدنية، واتساع صدره لما في الحياة من مفاجآت، وانسجامه مع التقدم العلمي، والسمو الفكري، والإبداع الفني.
وكلما بلغ العقل البشري غايته من الكمال واتسع نطاق الأبحاث العلمية إلى حدود الإعجاز، أدرك العالم أسرار الإسلام وآمنوا بأن هذه المبادئ المحمدية السامية هي أصلح المبادئ وأكفلها لسعادة الحياة، وأقدرها على ضمان العيش الهنيء والصفو المريء، والمتاع الموفور!!
وبين يدي الآن وأنا أكتب هذه الكلمة محاضرة لعالم إيطالي جليل ألقاها في مدينة شيكاغو في موضوع تعدد الزوجات في اجتماع حضره أكثر من خمسة آلاف رجل وسيدة وقد قال في هذه المحاضرة ما نصه (إن تعدد الزوجات أصبح في هذا الوقت ضرورة من ضرورات الحياة الحديثة، وقد أضحت مسئوليات الزوجة عديد بشكل مستحيل عليها معه أن تقود بلوازمها الخاصة كامرأة وزوجة وهو الأمر الذي حال بين الأزواج وبين كثير من المتع والرغبات.
ولست أرى علاجاً لهذه المشكلة سوى أن يكون للزوج أربع زوجات يوزع العمل بينهن حسب الكفاءات ونوحي الاختصاص: فالزوجة الأولى بحكم أقدميتها تتولى تربية الأولاد، والثانية تتولى الإشراف على نظام العمل والشئون المنزلية العامة، وتقوم الثالثة بإعداد كل ما يلزم للزوج من وسائل الراحة. أما الرابعة فمهمتها الترويح والترفيه عن الزوج وملاطفته، والتفنن في إدخال السرور عليه، ومسح غبر المتاعب عن رأسه، وجعل غرفتا عشاً لغرامه، وفردوساً لأحلامه!!).
هذا هو ملخص رأي العلامة الإيطالي هيراد في محاضرته الجديدة، وقد أشارت جريدة(719/10)
المصري الغراء إلى هذه المحاضرة إشارة لطيفة.
ويعتقد الكونت هيراد إن السعادة الزوجية لا يمكن أن تقوم دعائمها إلا على هذا الأساس إذ تقوم كل زوجة بمهمتها على نظام دقيق، فإذا مرضت إحدى الزوجات أما ماتت كان لابد للزوج أن يعيد النظر في تنظيم مملكته من جديد وأن يبحث عن زوجة شابة جميلة يضعها في مركز الصدارة العظمى من هذه المملكة.
وقد كان المفروض أن يثور المستمعون على هذه الآراء الجديدة الجريئة التي تخالف ما أصطلح القوم عليه وتتعارض مع تقاليدهم المأثورة والموروثة.
ولكن الأمر كان على العكس إذ قوبلت المحاضرة بالسرور والإعجاب والتصفيق من المستمعين جميعاً ذكراناً وإناثاً.
وأحب أن أعلق هنا على هذه الآراء التي نشرتها الصحف على إنها من مبتكرات العلامة الكونت هيراد لأنها منقولة مع شيء من التحريف من أحكام الشريعة الإسلامية التي طالعت العالم بها منذ ثلاثة عشر قرناً، وقد كان الغربيون يعتبرون هذه الأحكام من عيوب الدين الإسلامي ويتخذونها سبيلاً للطن فيه، كما كانوا يعيبون على المسلمين إقرارهم لمبادئ الطلاق. فلما كشف الله عن بصائرهم، وطار رماد التعصب من عيونهم، وارتقت بهم المدنية إلى إدراك أسرار الحياة، وفهم حقائق الوجود، آمنوا بتعاليم الإسلام وأقروها ونفذوها بالفعل على اعتبار إنها ضرورة من ضرورات العيش، حتى ليخيل إلي أنهم قد أصبحوا مسلمين بقوة الواقع وإن لم يعلنوا إسلامهم بحكم التقاليد!!
وأتذكر أني ألقيت في العام الماضي محاضرة في نادي رابطة الموظفين بالمنصورة عن حكمة تعدد الزوجات في الإسلام حضرها كثير من أهل الرأي والعلم، فلما انتهيت منها قام شاب من إخواننا المسيحيين ومن مدرسي المدارس الثانوية، فأعلن في صراحة عجيبة بأن لم يكن يعرف أبداً أن الإسلام بمثل هذه السماحة وهذا اليسر، وإنه يشعر تحت تأثير الإعجاب بما انطوت عليه أحكام الشريعة الإسلامية من مزايا وفضائل وأسرار؛ إنه مسلم بجوارحه وروحه!! فدوت القاعة الكبرى بتصفيق حماسي هز جوانح الجميع.
أما تعدد الزوجات في الإسلام فحكمة أرقى بكثير مما ذكره الكونت هيراد، وهو في اعتقادي من مزايا الدين الإسلامي وفضائله، على أن يكون هذا التعدد لحكمة وضرورة، لا(719/11)
للهو ولا للمتاع ولا لمجرد العبث والتنقل بين أذرع الغيد!! ويمكن النظر في حكمته من ناحية الباعث عليه، فإذا كان لرجل زوجة مريضة ويئس من شفائها ورأى من الوفاة لها أن يبقيها للعناية بها على أن يأتي بزوجة أخرى تعفه وتروح عنه فما هي الحكمة في منعه عن هذا الزواج، وهي شيء تنادي به الفطرة والطبيعة وحقائق الحياة!! وهل ذلك خير أم نتركه يتخذ الأولى زوجة والأخرى خليلة؟؟
إن الدين الإسلامي ينظر إلى الحقائق مجردة ولا يؤمن بالخداع والنفاق، ولا يوافق أبداً على أن يتخذ الرجل زوجة واحد ثم يتخذ بجانبها خليلتين أو ثلاثاً! ثم يدعي بعد ذلك أنه قد اقتصر على واحدة وهو في الواقع متزوج بأربع، واحدة بشريعة الله وثلاث بشريعة الشيطان!! ومع ذلك فالإسلام لا يكلفه إلا أن يجعل الحرام حلالاً.
وما ذلك إلا لأنه دين واقعي يحارب الرياء والخداع والتظاهر بما لا يتفق مع الواقع.
وماذا يصنع العالم في عشرين مليوناً من الفتيات في أوربا وحدها تركتهن الحرب الضروس بدون أزواج؟ المسألة واضحة، فإما أن يبيح القوم تعدد الزوجات لرجل واحد أو يبيحوا البغاء لهؤلاء المسكينات!! وهنا تظهر عبقرية الإسلام في الاحتياط للطوارئ وتنظيم نواميس الحياة، والتشريع الصالح للخلود.
وهذه ألمانيا المحتلة قد نفذت بالفعل نظام تعدد الزوجات بناءً على طلب الفتيات والنساء وإلحاحهن؛ لا على طلب الرجال. ولو قلنا للألمانيات الجائعات المشردات إن الإسلام هو الذي وضع لكم هذا التشريع المحكم وأعده لمثل هذه المحنة القومية لهتفن بحياة الإسلام!! الدين الذي جاء لإنقاذ البشرية والإنسانية من الوبلات!!
وليست ألمانيا وحدها هي التي أخذت بنظام الإسلام في هذه الظروف العصيبة، بل تبعتها إيطاليا مقر البابوية، وهاهي ذي أمريكا تسير في هذا الطريق. بل وهذا هو برناردشو يقرر في صراحة واضحة بأن مبادئ الإسلام ستغزو العالم لأنها المبادئ الصالحة للبقاء!!
وبعد فقد آن الأوان للدنيا كلها أن تصغي لهذه الآية الكريمة:
(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)!!(719/12)
وصدق الله العظيم
(المنصورة)
علي عبد الله(719/13)
الأدب فير سير أعلامه:
10 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
خيوط من النور
لئن اشتدت حلكة الليل في عهد نيقولا، وأحاطت الناس المخاوف مما كان يتهددهم من المهالك، فإن خيوطاً من النور برغم ذلك كانت تتراءى على الأفق فتكون لأنفس الأحرار أنساً وشفاء وعزاء. . .
حالت القوة بين الروس وبين أي عمل يتصل بالسياسة فقام الفكر والأدب مقام العمل؛ ولكن أي فكر هذا وأي أدب وكيف يتسنى له أن يخرج من الرؤوس، وكيف تتجاوب به نفوس الأحرار والرقيب من ورائهم محيط وسلطة لا يجدها قانون ولا نقومها نصفة؟ ليس غير الفن ينفس به الأحرار عن أنفسهم وقد اختاروا من صور الفن: القصة والشعر والموسيقى. . . وراحوا يهمسون بهذا الفن همساً سوف يكون له في روسيا دوى عظيم.
كانت القصة الروسية على حد تعبير أحد الكتاب (صرخات من فوق خشبة الصلب)، ولكنها كانت صرخات القوى الذي أنطقه الألم الهائل على رغمه، لا صرخات الخائر الذي يستعطف ويبكي. . .
ولما كانت القصة في مقدمة الوسائل التي عبر بها الروس عما في نفوسهم، فقد برعوا فيها براعة جعلت الكثيرين من فطاحل النقد في أوروبا يسلمون لروسيا بالتنسيق في هذا الميدان، فعندهم أن فن القصة بلغ أوج كماله في القرن التاسع عشر في روسيا فقد سبق الروس في هذا القرن أساتذتهم من الفرنسيين والإنجليز والألمان حتى غدوا هم الأساتذة وأحدثوا في هذا القرن أثراً بعيداً في فن القصة في هذه الأمم الثلاث وفي غيرها ممن نقلوا القصة الروسية إلى آدابهم. . .
وليس بعجيب أن ينبغ الروس في هذا النوع من القصة، فأمام غيرهم مجال القول متسع في غير هذا الفن، ولكن الروس اضطروا أن يظلوا على القصة عاكفين زمناً طويلاً(719/14)
فتهيأت لهم أسباب التفوق، وتعددت في القصة مذاهبهم وأساليب تعبيرهم، واتضحت هذه المذاهب واستقرت، وطوعت هذه الأساليب وأساس قيادها.
كان على كتاب القصة أن يخلقوا وسيلة بها يتكلمون ولكن على ألا يفطن إلى ما يريدون المنصتون من الحكام والرقباء، وكانت القصة في ذاتها كعمل فني خير معين لهم على ذلك ولكنهم أضافوا إليها ما أضافوا من صور الوصف فأبدعوا تصوير ما كانوا يريدون تصويره من مشاهد الحياة وآلامها، وألوان العواطف الإنسانية وخلجاتها؛ ولقد أدى بهم هذا إلى أن يسلكوا وإن لم يقصدوا مذهب الفن للفن، فلم يدعوا إلى شيء إيجابي أو يقترحوا علاجاً لداء؛ وإنما اكتفوا أو اضطروا في الحق أن يكتفوا بتصوير الحياة الروسية كما هي بما فيها من خير وشر، ومن هنا كذلك كان المذهب الواقي هو الغالب في القصة الروسية.
وكان هذا الوصف أعلى في الآذان صوتاً وأعمق في النفوس أثراً من كافة صورة التعبير التي أتيحت لغير الروس، من فلسفة ومقالة ومحاضرة وبحث، وتلك هي ميزة الفن وبخاصةً فن القصة وقد بلغت أقصى ما يبلغه فن كأداة للتعبير على أيدي أساطين القصة الروسية.
وثمة صفة أخرى للقصة الروسية، وتلك هي انطواؤها على كثير من النذر، ويشاركها في ذلك الشعر إلى حد كبير، حتى ليمكن القول إن الأدب الروسي في القرن التاسع عشر كان أكثر من أدب أية أمة تنبؤا بالمستقبل المخيف؛ بل لعل هذا التنبؤ هو خاصته التي مازته من غيره فهو نذير للناس بالهول والبلاء والشر المستطير، وقل أن كان بشيراً بشيء إلا بما يفهم مما يتضمنه هذا الشر المنتظر من معنى الثورة التي تذهب بالمساوئ القائمة وتفتتح في تاريخ البلاد عهداً جديداً. . .
ولقد كان الأدب الروسي في الواقع لهذه العوامل المحيطة به أدباً تأثراً؛ لا بما كان ينذر به من هول فحسب ولكن من هدوئه كان متنفساً للنفوس مما كانت تنطوي عليه من ثورة، أو كان شكاة وأنيناً أو (صرخات من فوق خشبة الصلب).
والفرق واضح بين هذا الأدب الروسي وبين أدب فرنسا قبيل ثورتها الكبرى على أيدي فلتير وروسو ودبدرو وإضرابهم فقد تفلسف أولئك الفرنسيون وسخروا وبينوا سبل الخلاص وواجهوا المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية مواجهة مباشرة فكانوا في(719/15)
الغالب فلاسفة مفكرين، ولكن الروس صوروا فحسب، فلم يبينوا لنا المعايب الاجتماعية وأسبابها وشقاء العيش وعوامله، وإنما خلقوا لنا أناساً أشقياء يتألمون وتفدحهم كوارث الحياة ولا يدرون ماذا يفعلون.
ولقد أحدث هذا الأدب أثره العميق في النفوس على الرغم من الرقابة والرقباء، حتى انتهى الأمر إلى ثورة جارفة كانت في الواقع من صنع الفن وحده؛ وليس في هذا الذي نذكر شيء من الغلو، فبالفن لا بالأفكار المجردة، ولا بالدراسة المباشرة لمشكلات روسيا هدم أدباء الروس صرح العهد القديم، وعلى ألسنة أشخاصهم التي خلقوها وفي ميول هذه الأشخاص ونزعاتها وحركاتها عبر الكتاب عما يريده كل روسي وأفصحوا دون أن يقولوا قولاً صريحاً عما كان يشغل الأذهان من آراء في الاجتماع والسياسة والاقتصاد ما كان ليسمح بها الرقيب. . .
وفي الأدب الروسي جانب روحي أسكبه صفة إنسانية عامة بها وجد سبيله إلى قلوب الناس في كل أمة؛ وهذا الجانب الروحي فيه هو محاولة الوصول إلى خلاص للإنسان عامة من شرور الحياة وشقائها، وتوقعه حياة أخرى أسمى من هذه الحياة، ومرد ذلك في الواقع إلى هول ما عانى الروس من ظلم وما ذاقوا من ألم وشقاء. ومن عجب الأمور أن كثيراً من الأدباء الروس على ما بلوا من شرور الحياة حولهم وآثامها كانوا يؤمنون في كتابتهم بالخير وأنه هو الأصل في الإنسان، وأن الشر يأتيه من الحياة وملابساتها، فكان هؤلاء الأدباء متفائلين مع ما كانت تريهم الحياة من دواعي التشاؤم.
وكفر أدباء روسيا بمدنية الغرب وثقافة الغرب، فلم يروا إنهما حق كلهما، وإنما أحسوا فيهما بكثير من صور الباطل؛ وارتابوا في كثير من المبادئ التي أخذ بها العالم الغربي واطمأن إلى استقرارها وصلاحيتها لتقدم العمران والسمو بمستوى الحياة؛ وساورهم كثير من القلق فيما عسى أن تفضي إليه هذه المبادئ من كوارث قد تطيح بها وبمدنية الغرب جميعاً، وقد أضاف هذا الكفران بمدنية الغرب وثقافته إلى الأدب الروسي والقصة الروسية نغمة ارتاحت إليها النفوس القلقة، وزادت هذه النغمة ثورة هذا الأدب بروزاً، وجعلت له خطراً كبيراً في تاريخ الفكر البشري. . .
وأدى هذا الكفران بمدنية الغرب ومبادئ المجتمع الغربي إلى اتساع أفق الأدب الروسي،(719/16)
فبات يتعمق النظر في مسائل الحياة والموت وما عسى أن يكون وراء هذا الكون العجيب من أسرار ود الأدباء لو استطاعوا أن يهتدوا إلى شيء ما، وقد صبغ هذا الاتجاه الأدب الروسي بصبغة دينية صوفية لا مثيل لها في أدب الغرب. . .
كان الشعر أسبق من النثر في هذا القرن ولذلك حق أن نتكلم أولاً عما كان للشعر من أثر فيما نحن بصدده، وقد تجلى هذا الأثر في شعر شاعرين كانت لهما أو على الأصح كانت لأولهما زعامة الشعر الروسي الحديث وهما بوشكين وليرمونتوف. وقد ولد أولهما سنة 1799 ومات في الشهر الأول من سنة 1837. وولد ثانيهما سنة 1814 ومات سنة 1841.
تمثلت الروح الجديدة في حياة بوشكين وفي شعره، ولقد كان لهذا الشاعر الفذ الذي مات في الثمانية والثلاثين من عمره، أعمق الأثر في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر. . .
يعد بوشكين بحق أحد عباقرة الشعر في جميع عصوره وعلى اختلاف بيئاته، فقد خلق موهوباً كما يخلق أفذاذ هذا الفن وفحوله فله قوة الشعر وعمق الفكرة وصدق الإحساس وحدته وسمو الروح وحرارة الإيمان وجمال النفس، وله إلى جانب ذلك الأداة الطيعة من التعبير الجميل القوي والموسيقي الرائعة الحلوة.
على أن ما يعنينا هنا هو أثر فنه لا قيمة ذلك الفن؛ ولقد كان أكبر تأثيره في حياة قومه بما تغنى به من أغاني الحرية، تلك الأغاني التي هزت النفوس هزاً.
تأثر بوشكين بشاعر عظيم متمرد تأثر هو اللورد بيرون الذي قضى نحبه سنة 1824 في حصار مسولنجي مصاباً بالطاعون، وقد كان يدافع مع المدافعين عن حرية اليونان، وأعجبت بوشكين حمية بيرون كما أعجبته طريقته في الشعر، وكان من أبرز خصائص بوشكين أنه يتمثل آثار غيره ويتأثر بها ولكنه لا يفقد أصالته ولذلك فقد احتفظ بروحه الروسية وإن اصطنع أسلوب بيرون.
تغنى بوشكين بعظمة روسيا وقوتها وكان يعد بطرس الأكبر بطلها الفرد، وغنى بمثل البكاء حياة فلاحيها وشقائهم، وكان شعره مليئاً بالنذر، فكان منذراً للطاغيين مبشراً بحرية سوف تنعم بها روسيا بعد طول الأسر والعذاب تجد ذلك في قوله (إنا منتظرون، وقلوبنا المتلهفة تخفق بالأمل في الحرية المقدسة كما ينتظر العاشق الشاب ساعة لقائه بفاتنته).(719/17)
وتأثر بوشكين كذلك بمبادئ الثورة الفرنسية، وكان صديقاً للديستمبريين، ولكنه كان قد نفى إلى ضيعة أمه قبيل حركتهم فلم يشارك فيها ونجا بذلك من الموت لينظم لروسيا خير ما أخرجت من شعر وليوقظ مشاعرها ويطبع أدبها بطابعها، وليكون شعره حداءها الممتلئ بالأمل والسحر.
وكان حول بوشكين عدد من الشعراء، كان ليرمنتوف الذي بدأ ينظم الشعر من سن الرابعة عشرة أبرزهم وأقواهم موهبة، وقد تأثر هذا الشاب الشاعر بيوشكين أولاً ثم بشلر وأخيراً باللورد بيرون ذلك الذي أحبه ليرمونتوف حباً كاد ينسيه كل شاعر غيره حتى بوشكين نفسه.
وكان ليرمونتوف في شعره منذراً أكثر مما أنذر بوشكين، وقد أذاع قصيدة غفلا من اسمه سنة 1830 تنبأ فيها بالثورة، حتى ليعجب من يقرأها بعد الثورة البلشفية من صحة نبوءته؛ فكأنما كانت تتكشف له حجب الغيب؛ وتغنى ليرمونتوف بالحرية كما تغنى بوشكين، وكان ينظم الشعر في يسر فيجئ قوياً متدفقاً كالسيل، ولكن الموت لم يمهله لتمد موهبته غاية مدها فمات وهو في السابعة والعشرين. . . على أنه قبل وفاته بسنة أخرج وصية نثرية سنة 1840 تعد أول قصة تحليلية في الأدب الروسي الحديث وهي القصة المسماة (بطل من أبطال عصرنا)، ولذلك يعد هذا الشاعر الفذ طلعة في فن القصة.
ونعود بالحديث إلى القصة فنجد أن الكاتب الذي يعد مقامه في القصة كمقام بوشكين في الشعر هو جوجول المولود سنة 1809 والمتوفى سنة 1852؛ وليس معنى ذلك أنه لم يوجد قبل جوجول قصصي، وإنما نقصد أن جوجول كان رائد القصة الروسية في القرن التاسع عشر وكان زعيماً من أكبر زعمائها غير مدافع. . .
قام فن هذا القصصي على أساس السخرية من المعايب الاجتماعية في عصره، ولم تكن سخريته سخرية نفس هادئة تعطف على ما تخلق من الشخصيات وترفق بهم وتضحك مع الضاحكين كسخرية شارلزدكنز مثلاً، وإنما كان سخرية عنيفة هدامة تبرز المعايب عن سخيمة ونقمة كأنها سخرية شيطان يلهو بزلة فريسة من فرائس غوايته. . .
كان يؤلم جوجول أن يرى روسيا وقد ذاع فيها الشر والفساد والباطل، وماتت فيها روح العدالة والخير، وكان يقول دائماً إنها ممتلئة بالأقعنة الكاذبة حتى ما تقع العين على آدمي(719/18)
واحد فيها، والحق أنه قلما اطمأن إلى وجود شيء من الخير في الحياة الروسية فقد استشرى الشر في رأيه حتى لم يدع للخير مجالاً. . .
وقد أنتج جوجول عدداً غير قليل من القصص والصور الاجتماعية، ويهمنا فيما نحن بصدده ثلاثة منها هي (المفتش العام) و (الأنفس الميتة) و (العباءة) أما القصة الأولى فهي ملهاة تهكمية تدور حول نبأ أذيع بأن مفتش الحكومة العام قادم للتفتيش في مدينة من مدن الأقاليم، ولما كان المفتش غير معروف فقد أخذ الموظفون مسافراً من المسافرين على أنه المفتش الموهوب الجانب، فأكرموا وفادته ومشوا بين يديه بالزلفى وأعطوه المال والهدايا، ولما رأى ذلك المسافر أنه قد أخذ منهم كل ما استطاع أخذه من المال فر هارباً؛ ويسدل الستار عقب إعلان إن المفتش الحقيقي قد وصل فعلاً!؛ وقد أحدثت هذه الملهاة ضجيجاً كبيراً وأثارت من حنق الحكومة على مؤلفها ما اضطره إلى مغادرة روسيا إلى إيطاليا حيث أتم قصته الكبرى (الأنفس الميتة).
تعد هذه القصة الثانية من أعظم الآثار في أدب أوروباً جميعاً ولم تكن لها عقدة معينة أو حكاية غرام، وقد أتمها جوجول في عدة سنوات، وفيها سخر أشد السخرية من كل ما عده معيباً في الحياة الروسية، وتهزأ بمن شاء من الأشخاص الذين صور أمثلة لهم في قصته الكبرى، وقد نفذت عينها نفاذاً عجيباً إلى كل معيب شائن في جوانب تلك الحياة وإلى كل وضيع مرذول من صور الناس وأنماطهم، لم يغادر شيئاً من ذلك إلا أحصاه. . .
ولو أراد النقاد أن يعدوا عشرة كتب في فن القصة لها أثرها في توجيه هذا الفن، ولها خطرها فيما تقاس به رسالة هذا الفن لكان كتاب جوجول (الأنفس الميتة) أحد هذه الكتب العشرة بلا جدال، فهو فيما تواضع عليه نقدة الأدب أعظم ملحمة للضعة الآدمية في أدب العالم كله، وذلك حسب ما يفهم من معنى الملحمة كعمل فني، وليس كما قد يذهب إليه الذهن من معنى المعركة. فما في القصة معركة ما وإنما نقصد معنى الملحمة كما تسمى ملهاة دانتي المقدسة، أعنى أنها عمل أدبي شامل يحيط بكل شيء مما هو منه بسبب. . .
(يتبع)
الخفيف(719/19)
مرجعات في الفلسفة:
نظرية المعرفة عند شوبنهور
للأستاذ عبد الكريم الناصري
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
1 - مبدأ الصيرورة:
أو مبدأ التغير، أو قانون العلة والمعلول. ومفاده أن كل شيء في العالم الواقعي المتغير فهو حلقة في سلسلة العلل والمعلولات، وخاضع إذاً للجبرية المطلقة. وسلسلة العلل أزلية أبدية، بمعنى إنها تمتد إلى الماضي اللامتناهي، وإلى المستقبل اللا متناهي. والعلة تسبق المعلول بالضرورة، فلا مجال لتبادلها الأثر في وقت واحد. وهناك ثلاثة أنواع من العلل؛ وهي (العلة) بمعناها الضيق، وتسود التغيرات الميكانيكية واللا عضوية، و (الحافز) أو المهيج الذي يتحكم في الحياة النباتية عند النباتات والحيوانات (كالهضم والدورة الدموية عند الحيوان والإنسان مثلاً)، و (الباعث)، وهو يسيطر على الأفعال المقودة بالإدراك والشعور عند الحيوان والإنسان.
2 - مبدأ المعرفة:
يتحكم هذا المبدأ في تصوراتنا وأحكامنا. وقوة التصورات هي (العقل) الذي يختص به الإنسان، بينما (الذهن) مشترك بين الإنسان والحيوان. والتصورات أو المجردات تتوقف على المدركات أو العيانات، والتصور قد يحيل على تصور آخر، وهذا على آخر مثله، ولكن سلسلة الأفكار المجردة لا بد من أن تقف عند عيانٍ، ويكون هذا هو السبب الكافي للتصور الذي يتوقف عليه مباشرةً؛ كما أن هذا التصور هو الأساس الكافي للتصور الذي يتوقف عليه، أي الذي هو أكثر منه تجريداً. وهناك أربعة قوانين منطقة علياً، هي قانون الذاتية، وقانون التناقض، وقانون الثالث المرفوع، وقانون السبب الكافي للمعرفة.
3 - مبدأ الوجود:
أو مبدأ المكان والزمان. ونحن لا نستطيع أن نتصور العالم الواقعي موجوداً إلا في الزمان(719/21)
والمكان. ولكننا نستطيع، من وجهة أخرى، لا أن نتصورهما مستقلين عن التجربة تصوراً مجرداً فحسب، بل وأن ندركهما بالعيان المباشر. ومن أجل ذلك يعتبرهما شوبنهاور صنفاً مخصوصاً من أصناف الموضوعات. ومبدأ الوجود في الزمان هو (التوالي)، ومبدأ الوجود في المكان هو (الوضع). كل لحظة من الزمان تتعين باللحظة السابقة، وتعين اللحظة اللاحقة. ومواضع المكان يعين بعضها بعضاً بالتبادل. والإضافات (أي العلاقات) المكانية هي موضوع علم الهندسة، والإضافات الزمانية موضوع علم الحساب. وكل هذه الإضافات تدرك، أول ما تدرك، بالعيان الخالص، لا بالتصور والبرهان.
مبدأ العقل:
أو مبدأ البواعث أو الباعثية. وقد كنا - في كلامنا على مبدأ العلية - عددنا الباعث من أنواع العلل الثلاثة. ولكننا كنا عندئذ ننظر إلى العلية من الخارج. فإذا تأملنا الآن في أحوالنا الباطنة، وجدنا أن أفعالنا الإرادية أو مشيئاتنا تتعين بالأسباب التي ندعوها (البواعث). وقد وصف شوبنهاور قانون الباعثية (بأنه العلة مرئية من الداخل)، وعن طريقه يتم الانتقال من عالم الظواهر إلى الشيء في ذاته، ومن الفيزياء إلى الميتافيزيقا.
والمبدأ الأول من مبادئ السبب الكافي هو المبدأ الفيزياوي، والمبدأ الثاني هو المبدأ المنطقي، والثالث هو المبدأ الرياضي، والرابع هو المبدأ الأخلاقي. وهذا معناه أن (الضرورة) المطلقة تعمم عالم الظواهر؛ في صورة الضرورة الفيزياوية، والمنطقية، والرياضية، والأخلاقية. والفرد الإنساني ظاهرة بين الظواهر، فهو إذن خاضع خضوعاً تاماً للضرورة السببية الجبرية، ولا حرية له بهذا الاعتبار.
وكل مبدأ من هذه المبادئ لأربعة، أو بالأحرى كل (شكل) من أشكال هذا المبدأ الواحد، مبدأ السبب الكافي، يعبر كما قلنا آنفاً عن طبيعة الموضوعات الخاضعة له. فمبدأ الوجود في الزمان الخالص هو (التعاقب) أو (التوالي)، وليس الزمان شيئاً سوى هذه الرابطة. ومبدأ الوجود في المكان الخالص هو (الوضع)، وليس المكان في جوهره سوى (الوضع) والعلية هي الرابطة التي تسود موضوعات الإدراك الحسي، التي تملأ المكان والزمان، وتؤلف العالم المرئي، عالم المادة. فإذا سألنا: ما طبيعة المادة؟ فالجواب أن (المادة) ليست في جوهرها سوى العلية. كيان المادة كله هو الفعل، والفعل هو العلية، فالمادة علة(719/22)
ومعلول، ولا شيء وراء ذلك. ومثل هذا يقال في تصوراتنا ومشيئاتنا. وصفوة القول إن كل موضوع من الموضوعات فإنما يوجد ويعرف بمقدار ما يرتبط بغيره من الموضوعات، وفقاً لمبدأ السبب الكافي في صورة من صوره الأربع. وهذه الرابطة تستنفد طبيعة الموضوع باعتباره موضوعاً فحسب، أي فكرة بالإضافة إلى الذات. فلنا إذن أن نقول أن عالم الموضوعات أو الفكرات لا يزيد عن كونه شبكة من العلائق والروابط والنسب، والوجود فيه إذن وجود محض نسبي. ومبدأ السبب الكافي، الذي يظهر لنا العالم مطبوعاً بطابعه (طابع الضرورة والنسبية) واحد متشابهة في كل صوره، فإذا اعتبرنا أبسط هذه الصور مثلاً، وهي الزمانية أو الزمان، فهمنا الصور الأخرى، وطبيعة عالم الظواهر. ونحن نجد أن كل لحظة من الزمان إنما توجد لأنها محت اللحظة السابقة، التي ولدتها، ثم لا تلبث أن تختفي هي أيضاً، إذ تمحوها اللحظة اللاحقة. فالماضي والمستقبل خاويان خواء الأحلام، وما الحاضر إلا الحد المترجرج، غير المنقسم، بين الماضي والمستقبل.
ومثل هذا الخواء نصيبه في المكان، وفي مضمون المكان والزمان، أي في كل ما يصدر عن البواعث والعلل، فلا شيء من ذلك يوجد إلا بالنسبة إلى شيء آخر مثله، أي نسبي زائل. (وهذا المذهب في لبابه قديم: فهو يظهر عند هرقليطي، حين يندب سيلان الأشياء الأبدي؛ وعند أفلاطون، حين يهبط بالموضوع إلى ما هو سائر أبداً، وليس بكائن قط؛ وعند اسبينوزا، في صورة القول بأعراض الجوهر الواحد، الكائن الباقي، كما إن (كانت) يعارض الظاهرة المحضة بالشيء ذاته. وأخيراً فإن حكمة الفلاسفة الهنود القديمة تصرح قائلة: (إن مايا، نقاب الوهم، هو الذي يغشى على أبصار الفانين، ويريهم عالماً لا يستطيعون أن يقولوا عنه، لا إنه موجود ولا إنه غير موجود: إنه كالحلم. إنه كضوء الشمس على الرمال، يحسبه المسافر على البعد ماء. . .) - ولكن ما يقصد إليه كل هؤلاء، وما يتحدثون عنه جميعاً، ليس شيئاً أكثر من هذا الذي نظرنا فيه: العالم باعتباره فكرة خاضعة لمبدأ السبب الكافي).
عالم الظواهر إذن حلم باطل. وليس ثمة من فرق حقيقي بين ما ندعوه الواقع أو اليقظة، وبين حلم الرقاد. إذ ما عسى أن يكون معيار التفرقة؟ إن القول بأن أحلامنا أقل وضوحاً وتميزاً من إدراكنا في حال اليقظة، لا وجه له، إذ لم يتفق أن استطاع إنسان من الناس عقد(719/23)
مقارنة عادلة بين الحالين، لأننا لا نستطيع أن نقارن إلا ذكرى الحلم بالواقع الحاضر. وقد جعل (كانت) ترابط الأفكار أو الموضوعات وفق قانون العلية معياراً للتفرقة بين حياة الواقع وبين الأحلام؛ ولكن يرد على هذا بأن تفاصيل كل حلم على حدته، على الأقل، تترابط تبعاً لمبدأ السبب الكافي في كل صورة؛ ولا ينقطع الترابط إلا بين اليقظة والأحلام، أو بين حلم وحلم. وعلى ذلك نستطيع أن نصوغ معيار (كانت) على الوجه التالي: إن الحلم (الطويل) - الذي نسميه (الحياة) - تترابط أجزاؤه جميعاً وفقاً لمبدأ السبب الكافي؛ ولكنه لا يرتبط هذا الارتباط بالأحلام (القصيرة) وإن كان كل حلم من هذا النوع الثاني مترابط الأجزاء على الوجه نفسه؛ ونحن إنما نميز بين الحلم الطويل والحلم القصير لانقطاع الصلة السببية بينهما.
والحق أن أعظم المفكرين والشعراء لم يترددوا في تشبيه الحياة بالحياة بالحلم. فأصحاب (الفيداس) و (البوراناس) مثلاً لا يملون من تشبيه العالم الواقعي - الذي يسمونه نسيج (مايا) - بالحلم. وكان أفلاطون كثيرا ما يقول: إن الناس يعيشون في حلم، وإن الفيلسوف وحده يحاول إيقاظ نفسه. وشكسبير من الشعراء يقول: لقد جبلنا من المادة التي تصنع منها الأحلام؛ وحيتانا القصيرة يحف بها النوم). وقد جعل كلدرون عنوان إحدى مسرحياته: (الحياة حلم). ولا يكتفي فيلسوفنا الأديب بما يقتبسه من الحكماء والشعراء، بل يدلي هو أيضاً بدلوه، ويستأذن قارئه في هذا التشبيه من تشبيهاته الرائعة: إن الحياة والأحلام صفحات من كتاب واحد. والقراءة المنظمة لهذا الكتاب هي الحياة الواقعية؛ ولكن بعد أن نتهي ساعات القراءة (أي اليقظة) ترانا كثيراً ما نستمر على تقليب الصفحات في تراخ وكل، فنقرأ صفحة من هنا وصفحة من هناك، بغير نظام أو إرتباط؛ وكثيراً ما تكون الصفحة مما قرأناه سابقاً، وقد تكون في بعض الأحيان جديدة علينا؛ ولكن الكتاب المقروء واحد لم يتبدل. ولا ريب في أن مثل هذه الصفحة المنفردة مقطوعة الصلة بالدراسة المنظمة للكتاب، ولكن الفرق لا يبدو كبيراً إذا تركنا أن القراءة المتصلة، كالأمر في قراءة الصفحة المفصولة؛ تبدأ وتنتهي فجأة، وفي وسعنا إذن أن نعتبر المقروء في الحالة الأولى صفحة واحدة كبيرة).
إن عالم الظواهر، هذا الحلم الذي لا نهاية له، والذي يتسلسل في الزمان والمكان وفقاً لمبدأ(719/24)
السبب الكافي، هو موضوع التجربة المادية والعلوم المختلفة، كالفيزياء والكيمياء والتاريخ؛ فإن غاية العلم ومهمته استقصاء ترابط الظواهر أو الجزئيات أو الأفكار وفق المبدأ المذكور، وعلى هدى من (اللماذا). وتسمى هذه العملية بالتعليل وظيفة العلم إذن تعليل الظواهر؛ ومضمونه، الذي لا يستطيع يقدم لنا سواء، هو ما يصل إليه التعليل من الروابط السببية. أما مضمون الظواهر، ومعناه الأخير، أما الشيء في ذاته، فإن النظر فيه والإخبار عنه ليس من شأن العلم، لأنه خارج نطاق السبب الكافي، الذي يهتدي العلم في تعليلاته به. وإنما هو من شأن الفلسفة. العلم يستطيع أن يخبرنا لماذا، وكيف، وأين، ومتى، حدثت هذه الظاهرة عن تلك، ويستطيع أن يصوغ قوانين لاطراد الظواهر، من جذبية وكيماوية وكهربائية ومغناطيسية، ولكنه لا يستطيع أن ينبئنا (ما) المادة، وما الكهرباء وما الجذب وما الألفة الكيماوية، وما سائر (القوى الطبيعية) التي تبقى، بالنسبة إليه، (كيفيات خفية) أو صفات مستوردة؛ وهكذا يتركنا في جهل مطبق بشأن الطبيعة الباطنة لكل شيء. ولكن حيث ينتهي العلم تبدأ الفلسفة. فإن الوصول إلى هذه الطبيعة الباطنة، إلا ماهية العالم، والهدف الذي ترمي إليه، وهي لا تبلغه عن طريق التعليل ومبدأ السبب الكافي، فإن هذا المبدأ لا يمتد إليه كما سبق القول، وإنما تبلغه بضرب من المعرفة العيانية المباشرة، ويقول شوبنهاور هنا إن كل إنسان يعرف في الواقع ما هو العالم، ولكن هذه المعرفة تجريبية، وجدانية، غير متميزة؛ ووظيفة الفلسفة إعادة هذه المعرفة الغامضة بلغة تصورية تجريدية دقيقة. إن الفلسفة هي مجموع أحاكم عامة، أساسها الكافي هو العالم نفسه برمته؛ وهي لذلك تلخيص أو انعكاس للعالم، في صورة أفكار مجردة. . .
(بغداد)
عبد الكريم الناصري(719/25)
نقبل منهم. . .
للأستاذ ثروت أباظة
تلقينا (الرسالة) ونحن في مجلس كأنما أعد لها، فتناولها قارئ منا وأخذ يتلو علينا مقالاتها متنقلاً بين علم وفن وأدب حتى بلغ الصفحة الأخيرة، فطوينا الرسالة - لازالت منشورة - ثم أخذنا نجيل الحديث بيننا نخفف به ثقل الوقت ونقصر طوله. وكان في شعر المجلة أبيات من شاعر إلى أبنه يبثه الأبوة الرحيمة، ويعقد به الرجاء المأمول، فقال أديب جالس:
- عجيب أمر هذه الأبوة! كانت في صدر الزمان قداسة يشرف الابن أن يتطلع إليها ويستمع إلى ممثلها كأنه إله لا يصدر في أفعاله وأقواله إلا عن الصواب المحض. وكان الأب من ناحيته يرث القسوة عن أبيه وأجداده، فيبديها لأولاده، ولو ترك لعاطفته لما بدا منه غير الرحمة. وهكذا قام الصراع في قلب الوالد بين قسوة دخيلة ورحمة أصيلة، وظلت العاطفتان تصطرعان منذ عهد الرومان أيام كان الوالد يملك الحياة والموت على أهله حتى اليوم، إذ نرى الوالد يتوجه إلى أبنه بهذا الحب الصافي وبذلك الرجاء الواسع الذي يعلقه عليه. . . وهكذا تغلبت الرحمة الموهوبة على القسوة المكسوبة، وانطلقت النفوس لا يقيدها عرف، فأبان الوالد عن خلجاته، وكشف للابن عن نبضاته، فانسجم البيت على حب ظاهر لا قسوة فيه ولا عنف. قلت: جميل أن يظهر الوالد عواطفه، وجميل أن يأخذ ولده باللين. . . ولكن إذا شب الولد عن الطوق ووالده لا يزال يأخذه بالرحمة، لا يهديه إذا ضل، ولا يعاقبه إذا زل، وأمه لا تنفك تعامله بالحنان؛ فهل يمكن أن يكون هذا الابن تكأة لوالديه عند الكبر، أو مفخرة لهما يوم الفخر؟. . .
أثبتت الأيام، وما تزال تثبت، أن هذا لا يكون وأن هذا الابن ذا المعلقة الذهبية يتمرد على أبيه إذا قدم له الطعام في ملعقة من فضة. . . فهو يستوطئ الدعة ولا يعرف من حياته غير مائدة شهية، وفراش وثير، وغيد ملاح، وكؤوس دهاق. . . فالأبوة على هذا اللين قسوة. . . إنما تتمثل الرحمة في عصا الوالد التي تقود الابن إلى السبيل الأقوم.
- لقد تحدثت فأسهبت، ولكنك أطلقت قولك كمن يلقي محاضرة لا يعرف موضوعها، فأنا حين أقول إن النفوس أرسلت على طبيعتها لم أقصد بذلك أن يضع الوالد ولده على كرسي ثم يسمعه عبارات المديح والحب. . . إن الحبيب لا يطيق هذا من حبيبه، فكيف والأمر(719/26)
بين أبن وأب؟ إن الابن لا يقبل هذا الثناء فهو يعرف عن حب أبيه إياه ما لا يحتاج معه إلى هذا التبيان؛ بل لعل القول يغض من قيمة هذه العاطفة في نظر الابن. . . إنما أقصد إلى الرحمة الصادقة. . . أما ما كان في غابر العصور من قسوة فهو يخالف الطبيعة ويرهق الوالد والابن جميعاً.
- نسيت يا صديقي أننا نتكلم عن قصيدة من شاعر إلى أبنه.
أنساني طول المناقشة سبب النقاش فأرتج على حين جبهني مناقشي به، وكان بالمجلس شيخ وقور أخذ يستمع إلى الحوار في إنصات ولذة دون أن يتكلم، ولكنه لما سمع الإجابة الأخيرة ورأى حيرتي شارك الحديث:
- أمنكما والد؟
قلت - إنما نحن أبناء.
قال - إن كليكما قد أصاب في قوله. . . وكأني بكما وأنتما تتناقشان تمثلان الصراع الذي كان قائماً في صدر الوالد قبل أن تتغلب الرحمة، ولكن الأب الحق وسط بين قوليكما؛ فالرحمة الدائمة والقسوة الدائمة كلتا الخلتين فيها مضيعة لقوام الابن. . . فالوالد محتاج إلى كثير من الحزم يعرف به كيف يضع الأمور في أوضاعها الصحيحة، فلا يجعل الشدة في موضع اللين، ولا الرحمة في مواطن القسوة، ولكن نسى كلاكما إنه إنما يتحدث عن الشاعر، وهو وحده الذي يستثنيه المجتمع من كل هذه القيود. فإننا لا نحتمل شاباً يحدثنا عن مغامراته الغرامية، ولكن إذا كان شاعراً وصاغ لك مغامرته في قصيدة فإنك لا شك تطرب لها وتعجب بها. وإذا كنت محباً فإنك واجد في قصيدة الشاعر متنفساً عما يجيش بصدرك وتشفق من إخراجه نثراً حرصاً على كرامتك إذا كنت أخا كرامة، وكذلك الوالد الشاعر يقول قصيدته معبرة عن مشاعره نحو أبنه فيقرؤها القارئ ويعجب بها لأنها تعبير صادق عن شعور صادق، ويقرؤها الوالد غير الشاعر فيرتاح لها ويجد بين أبياتها المتنفس الذي أعياه البحث عنه ليفرج فيه عن أحاسيس طال عليها الكظم.
وهكذا الشعراء في كل أمة وفي كل عصر يحملون من قومهم ما لا يطيقه القوم، ويذيعون ما لا يذيعه غيرهم فتجري على أسنة أقلامهم إرسال العواطف. فهلا سمحتم بأن يقولوا ما دام في قولهم راحة لغير الشعراء!(719/27)
قال صاحبي وقد بدت عليه علائم الاقتناع:
- إذن فالثناء لا نقبله من والد لابنه ما دام الوالد غير شاعر؛ أما الوالدون والمحبون الشاعرون فنقبل منهم.
قال الشيخ:
- هو ما قلت، نقبل منهم.
ثروت أباظة(719/28)
قصائد تكريم خليل مطران في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
- 2 -
وكانت ثانية القصائد التي ألقيت في تكريم مطران قصيدة الأستاذ عبد الرزاق محي الدين المفتش بوزارة المعارف العراقية وكانت قصيدته - في الحق - غاية في الإشراق والبهاء والنصاعة، وكانت الموسيقى، وكان الجرس العذب الشجي شائعين في جميع أجزائها. . .
وكانت (الحضارة) واضحة جلية فيها، ولعل أصدق وصف يوصف به هذا الشاعر أنه الشاعر (المتحضر)! واعتقادي أن لحياته الخاصة، ولماضي أيامه، ونظام عيشه، دخلاً كبيراً في ارتقاء شعره وأخذه هذا السمت الرفيع وإن لم أنل شرف التعرف إليه.
وقصيدته في جملتها قطعة موسيقية متناسقة متسقة لا ترى بها نشوزاً ولا تحس فيها انحرافاً عن النهج الموسيقي القويم، وهي تغريك بقراءتها إغراءً قوياً ملحاً، وتأخذ بك إلى غايتها دون توقف أو تمهل أو تراخ، فليس لك عن تمامها معدي أو منصرف. . .
ولقد استطاع أن يضفي عليها جواً شعرياً صافياً نقياً متعطراً وكان له فيها - إلى ذلك - معان رائقة طريفة ما أحسب الكثير من شعرائنا المعاصرين يأتون بمثلها وتتفتح لهم مغاليقها إلا من عصم الله!
وقد وصف فيها (الشاعر) الشاعر لذاته مطلقاً أروع وأجمل وصف، فبين خصائصه التي يجب أن تكون، وميزاته التي يجب أن تتوافر، وأوضح طريقه الذي يجب أن ينهج، وفلكه الذي ينبغي أن يدور فيه أنظره يقول عن الشاعر إنه:
آلة مسحورة تحيا متى ... فنيت بالشيء روحاً وخلالا
ضلت الألباب عن إدراكه ... ومضت تحطب رشداً وضلالا
وأنظر قوله هـ ممثلاً في شخص مطران:
الغواني البيض ما زالت لها ... فاتناً. . . تُوليك حباً ووصالا
والمعاني العصم ما زلت بها ... أكثر الناس اقتناصاً واعتقالا
تتحدى السرب في شاهقة ... وتعاف السهل للناس مجالا. . .
وأنظره يقول عنه هذا البيت الطريف الرائع البديع:(719/29)
مصلح في غير دعوى مصل ... ونبي لم يكلفنا امتثالا. . .!
ولعل من كمال الجو الموسيقي الذي أحاط بالقصيدة من كافة جوانبها أن أختارها الشاعر من هذا البحر الغنائي المرقص (الرمل). . .
وهو وإن يكن قد اضطر في القليل جداً من أبياته إلى ضرورات كنا نود لو تنزه عنها مثل قوله:
جئت والنهضة فينا طفلة ... بعدُ. . . لم تبلغ فطاماً أو فصالا
والفطام والفصال بمعنى، ومثل قوله يصف الشاعر (وبماذا تتحامى شره؟). فإن هذه العبارة فوق مجافاتها للغة الشعر وللغة هذه القصيدة خاصة، فإن الشاعر ملاك رحيم، وليس بالشيطان الرجيم! وليس وراء الشعراء هذا الشر المستطير، وهذا الويل الكبير الذي يتهيبه الناس ويتقونه ويلتمسون الوسائل للنجاة منه! وصدق الذي قاله: (أنتم الناس أيها الشعراء). إلا أن هذه هنات هينات جداً لا تضيره في شيء. ولا تنقص قليلاً من قصيدته الرائعة التي نباركها عليه، ونشد على يديه مهنئين طالبين ألا يسكت - ما وسعه الجهد وواتته الظروف - عن الإنشاد، وألا يسلم إلى الصمت القياد، وسبحان من له الكمال وحده. . .
وكانت ثالثة القصائد لشاعرنا الأستاذ محمد الأسمر، وقد وجدت شيئاً بنفسي يرجع بي وأنا أقرأها إلى الوراء لم أتبينه للوهلة الأولى، غير أنه أخذ يدفعني دفعاً قوياً شديداً إلى الوراء كلما أمعنت في قراءتها حتى وجدتني أردد معلقة عنترة العبسي:
هل غادر الشعراء من متردّم ... أم هل عرفت الدار بعدتوهم؟؟
ولكنني ما كدت أهتدي إلى هذه المعلقة حتى أوغلت في قراءاتها وتركت قصيدة الأسمر؛ ومن وجد البحر استقل السواقيا!
أراد الأسمر أن يقلد القدامى، فنظر وأطال النظر في هذه المعلقة، ووقف وأطال الوقوف عندها، عله يقول كلاماً فيه منها مشابه وملامح، ولكنه عاد من النظر والوقوف يظل باهت، وصدى خافت.
على أن ألفاظه كنت بعيدة عن جرس الشعر وما ينبغي له من تخيرو انتقاء واصطفاء، وهل من الشعر قوله:
قدمتهم نحو العلا فتقدموا ... والفضل فضل مقدم المقدم!(719/30)
وهل من الشعر كذلك قوله.
هذا. . . وكم لك من شمائل حرة ... هي (في الحقيقة) روضة المتوسم
أو قوله:
من شاعر يثني عليك وناثر ... هو شاعر أيضاً وإن لم ينظم
أو قوله:
صورت جنة ظالم وجحيمه ... حتى الغناء وآهة المتألم
ولا أدري ولا المنجم يدري كيف يكون التصوير إن خلا من آهة المتألم وغناء النشوان وهما أدنى ما ينبغي أن يقال!
وفي مقالنا القادم إن شاء الله سنتناول القصائد الباقية وهي لشبلي ملاط وعبد الغني حسن وللمحتفل به.
(المنصورة)
علي متولي صلاح
(الرسالة) للأستاذ الكاتب رأيه في شعر الأستاذ الأسمر،
والرسالة لا توافقه في جمله ما يرى.(719/31)
في الخضم
للأستاذ العوضي الوكيل
طال ليلي، وغام أفق صباحي ... هل لديكم من بلسم لجراحي
يا مدير الأقداح ما بالك اليو ... م تدير الهموم في الأقداحِ
أنا في سطورة الخُمَار، وما أح ... سبُ أني منها مَدى الدهر صاحِ
وكأن السنين أشباحُ لَيْلٍ ... ملأته قوافلُ الأشباحِ
وكأن المنون غفوة غافٍ ... وكأن الحياة صحوةُ صاحِ
طرقت راحةُ الزمان على قل ... بي كطرق المستعجل الملحاحِ
يا صديقي لا تلحني حين أبكي ... فبكائي رأيته كصداحي
رب لاح من الصحاب حيكم ... خبر الأمر فاغتدى غير لاحِ
رب دمعٍ أبيحه في قوافيَّ ... ودمع في القلب غير مُباحِ
وأنا اليوم أعزل يدفع الدهر ... وبكف والدهر شاكي السلاحِ(719/32)
رحمة!. . .
للآنسة الفاضلة دنانير
يا أيها الروح الغريب الحاني ... يا مؤنسي في وحشة المكان
ومنقذي من قسوة الزمان ... ألهب شعوري وأسر في جنان
عاطفة قدسية النيران
نجيتني من جهل سحيق ... سد على ثلجه طريقي
ذر الهوى يبعث بالحريق ... ويشعل الدماء في عروقي
فرعدة المقرور في كياني
ما زلت تحت وطأة الأعوام ... أخبط في تيه وفي ظلام
حتى تنزلت على أيامي ... روحاً من الضياء والسلام
يهدي إلى شواطئ الأمان
يا رحمة من رحمات ربي ... هل نار سيناء أضاءت دربي
أم قبس ألقيته في قلبي ... فأشرق الكون بنور الحب
وفاض بالعطف وبالحنان
لما تسمعت حنون شدوي ... يقطر دمعاً من أسى وشجوِ
حننت، وانطلقت تهفو نحوي ... تهتف: يا أختاه، أنت صنوي
نحن بخد الدهر دمعتان!.
نحن بخد الدهر دمعتان ... من أدمع الأشواق والأشجان
إن يكن المزار غير دان ... فقد تلاقي في الهوى القلبان
وائتلفت على النوى الروحان
وانساب إشعاعك من بعيد ... على بقايا هيكلي المجهود
فاخضر من بعد الذبول عودي ... واهتز للحياة من جديد
قدست يا محي الرميم الفاني(719/33)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
914 - أتق شر من أحسنت إليه
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلوني:
(اتق شهر من أحسنت إليه) وفي لفظ من تحسن إليه. قال في الأصل: لا أعرفه، ويشبه أن يكون من كلام بعض السلف، قال: وليس على إطلاقه بل هو محمول على اللئام دون الكرام، ويشهد له ما في المجالسة للدينوري عن علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه): الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لطف. وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ما وجدت لئيماً قط إلا قليل المروءة. وفي التنزيل: (وما نقموا منهم إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله).
وقال أبو عمرو بن العلاء يخاطب بعض أصحابه: كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا رحمته، ومن المفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك. . . وعن البيهقي في الشعب عن محمد بن حاتم المظفري قال: أتق شر من يصحبك لنائله، فإنه إذا انقطعت عنه لا يعذر، ولم يبال بما قال وقيل فيه.
915 - خلت الديار قسدت غير مسود!
قال أبن خلكان: كان أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي المعروف بالمستظهري الملقب فخر الإسلام - فقيه وقته،. . . وانتهت إليه رياسة الطائفة الشافعية، وصنف تصانيف حسنة. . . وتولى التدريب بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد سنة (504) إلى حين وفاته، وكان قد وليها قبله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر أبن الصباغ صاحب (الشامل) وأبو سعيد المتولي صاحب (تتمة الإبانة) وأبو حامد الغزالي، فلما انقرضوا تولاها هو. وحكى لي بعض المشايخ من علماء المذهب إنه يوم ذكر الدرس وضع منديله على عينيه، وبكى كثيراً وهو على السدة التي جرت عادة المدرسين بالجلوس عليها، وأنشد:(719/34)
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن العناء تفردي بالسؤدد
وجعل يردد هذا البي، وهو يبكي، وهذا إنصاف منه، واعتراف لمن تقدمه بالفضل والرجحان عليه.
916 - فوزر بلائهم أبداً عليه
تاريخ الطبري: لما قسم هارون الرشيد الأرض بين أولاده الثلاثة (محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم المؤتمن بعد مبايعتهم) قال بعض العامة قد أحكم أمر الملك، وقال بعضهم: بل قد ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع في ذلك مخوفة على الرعية، وقالت الشعراء في ذلك فقال بعضهم.
أقول لغمة في النفس مني ... ودمع العين يطرد اطرادا
خذي للهول عدته بحزم ... ستلقي ما سيمنعك الرقادا
فإنك إن بقيت رأيت أمراً ... يطيل لك الكآبة والسهادا
رأى الملك المهذب شر رأي ... بقسمته الخلافة والبلادا
رأى به ليقطع عن بنيه ... خلافهم ويبتذلوا الودادا
فقد غرس العداوة غير آل ... وأورث شمل الفتهم بدادا
وألقح بينهم حرباً عواناً ... وسلس لاجتنابهم القيادا
فويل للرعية عن قليل ... لقد أهدى لها الكرب الشدادا
وألبسها بلاء غير فإن ... وألزمها التضعضع والفسادا
ستجري من دمائهم بحور ... زواخر لا يرون لها نفادا
فوزر بلائهم أبداً عليه ... أغياً كان ذلك أم رشادا
917 - مهما
الكشاف: (مهما) هي ما المضمنة معنى الجزاء، ضمنت إليها ما المزيدة المؤكدة للجزاء في قولك: متى ما يخرج أخرج، أينما تكونوا يدرككم الموت، فإما نذهبن بك، إلا أن الألف قلبت هاء استثقالا لتكرير المتجانسين، وهو المذهب السديد البصري. فإن قلت: ما محل مهما؟ قلت: الرفع بمعنى أيما شي تأتنا به، أو النصب بمعنى أيما شيء تحضرنا تأتنا به،(719/35)
و (من آية) تبيين لهما، والضميران في (به وبها) يرجعان إلى مهما؛ إلا أن أحدهما ذكر على اللفظ الثاني أنت على المعنى، لأنه في معنى الآية، ونحوه قول زهير:
ومهما يكن عند أمرئ من خليفة ... وإن خالها تخفي على الناس تعلم
وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها غير موضعها ويحسب مهما بمعنى متى ما، ويقول: مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية في شيء، ثم يذهب فيفسر مهما تأتنا به من آية بمعنى الوقت، فليحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه.
918 - . . . ولكن أين من يصبر على أحكام العقل؟
رسالة الغفران للمعري: قد تجل الرجل حاذقاً في الصناعة بليغاً في النظر والحجة، فإذا رجع إلى الديانة ألفي كأنه غير مقتاد، وإنما يتبع ما يعتاد. . . ويلقن الطفل الناشئ ما سمعه من الأكابر، فيلبث معه في الدهر الغابر. والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المختبر، لا يميزن في الصدق من الكذب لدى المعبر. فلو أن بعضهم ألقى الأسرة من المجوس لخرج مجوسياً، ومن الصابئة لأصبح لهم قريباً سياً. وإذا المجتهد نكب عن التقليد، فما يظفر بغير التبليد. وإذا المعقول جعل هادياً، نفع بريه صادياً، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل، وبصقل فهمه أبلغ صقل؟ هيهات عدم ذلك في من تطلع عليه الشمس، ومن ضمنه من الرمم رمس، إلا أن يشذ رجل في الأمم، يخص من فضل يعمم. . .
919 - . . . فأبى وحمى أنفا وقائل متى قتل
أنساب الأشراف للبلاذري: قال عبد الملك يوماً لجلسائه: من أشد الناس؟ قالوا: أمير المؤمنين. قال: اسلكوا غير هذه الطريق. قالوا: عمير بن الحباب. قال: قبح الله عميراً، لص، ثوب ينازع عليه أعز عنده من نفسه ودينه. قالوا: فشبيب. قال إن للحرورية طريقاً. قالوا: فمن؟ قال: مصعب، كانت عنده عقيلتا قريش: سكينة بنت الحسين، وعائشة بيت طلحة، ثم هو أكثر الناس مالاً، جعلت له الأمان، وضمنت أن أولية العراق، وعلم أني(719/36)
سأفي له لصداقة كانت بيني وبينه، فأبى، وحمى أنفاً، وقاتل حتى قُتل. فقال رجل: كان يشرب الشراب، قال: ذاك قبل أن يطلب المروءة، فأما مذ طلبها فلو ظن أن الماء ينقص من مروءته ما ذاقه.(719/37)
الآداب والفن في أسبوع
جوائز المجمع للبحث والشعر والقصة:
أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية في الأسبوع الماضي حفلاً أدبياً بدار الجمعية الجغرافية الملكية لتوزيع الجوائز المالية التي رصدها هذا العام للفائزين في مسابقات البحث الأدبي والشعر والقصة، وقد افتتح الحفل الدكتور طه حسين بك بحديث ممتع مستفيض عن نشأة البحث الأدبي في الأدب العربي وتطوره بتطور العصور والثقافة، ثم تأثره بما اقتبسناه في ذلك من ألوان الأدب الغربي واتجاهاته، ثم انتهى إلى الحديث عن البحوث الأدبية التي قدمها أصحابها لنيل جائزة المجمع فقال: (وقد استحق ثناء المجمع وتقديره السيدة سهير القلماوي عن بحثها (ألف ليلة وليلة) والأستاذ سليم حسن بك عن كتابه (الأدب المصري القديم)، والأستاذ جما الدين الشيال عن (الترجمة في القرن التاسع عشر) والدكتور سيد نوفل عن كتابه (الطبيعة في الشعر العربي) والأستاذ أحمد خاكي عن كتابه (قاسم أمين).
ثم تحديث من بعده الأستاذ عباس محمود العقاد عن الشعر ومذاهب الشعراء في النهضة الأدبية الحديثة فقسمهم في ذلك إلى مذهبين، أو كما يقولون إلى مدرستين. مدرسة التجديد والابتداع ومدرسة التقليد والإتباع. وقد أنحى الأستاذ باللائمة على الآخرين بمذهب المدرسة الثانية، ثم قال: وقد رأى المجمع أن يوزع جائزة الشعر هذا العام بين شعراء المدرستين؛ فنالها الأستاذ محمد عماد عن (ديوان عماد)، والأستاذ محمد مفيد الشوباشي عن (ديوان الشوباشي) وهما من المدرسة الإبتداعية، كما نالها الأستاذ محمود غينم عن ديوانه (صرخة في واد) والأستاذ محمد الأسمر عن ديوانه (تغريدات الصباح) وهما من المدرسة الاتباعية أو التقليدية.
ثم تلكم الأستاذ محمد فريد أبو حديد عن القصة في نشأتها من عهد اليونان والرومان وما تم فيها من التطورات والاتجاهات ثم ما صار لها من المقام في الآداب العالمية قاطبة وما أصبح لها من الشأن في الأدب العربي الحديث، وبعد أن نوه بكثير من القصصيين النابغين قال: وقد استحق جائزة المجمع للقصة هذا العام الأستاذ محمد تيمور بك عن مجموع إنتاجه القصصي الغزير.
وعلى أثر انتهاء الأساتذة الثلاثة من إلقاء بحوثهم وقف الدكتور منصور فهمي باشا(719/38)
السكرتير العام للمجمع وأعلن أسماء الفائزين وقيمة الجائزة التي استحقها كل منهم.
هذا وستجتمع لجنة الأدب بالمجمع في هذا الأسبوع للنظر في إجراء المسابقات للعام القادم، وقد أرصد المجمع لهذا الغرض مبلغ ثمانمائة جنيه توزع على نواحي الإنتاج الأدبي حسب ما تقدره تلك اللجنة.
ونحن من جانبنا نرجو أن يعمد المجمع في إجراء هذه المسابقات إلى تقدير أوضاع أدبية للفائزين إلى جانب تلك الجوائز المالية التافهة، لأن الجوائز المالية يذهب أثرها وتفقد قيمتها بعد قليل، وإذا راعى المجمع أن أكثر الفائزين ممن يعملون في الحكومة فمن الواجب أن يبذل سعيه ليكون هؤلاء في العمل الذي يلائم اتجاههم ويساعدهم على الإنتاج الأدبي، ومن من القراء يذكر أن الشاعر محمود عماد مثلاً يعتبر من الشعراء المبرزين منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكان اسمه يتردد مع الشعراء النابغين النابهين، ولكنه قضى حياته على مكتب ضئيل في ركن مظلم من أركان وزارة الأوقاف، فلم تمكنه هذه الحياة من أن يظهر للناس فنسيه الناس، ولما أعلن فوزه بالجائزة قال القائلون: ومن هو محمود عماد. بل لقد رأيت الصحف ذكرت اسمه بين الفائزين محرفاً، فقلت يا لله، أيكون اسم ذلك الشاعر الكبير مجهولاً إلى هذا الحد؟
وبعد، فإنه تقليد طيب على أي حال، وتقدير للأدب يدعو إلى التشجيع ويحض على الإجادة في الإنتاج الأدبي، ولعل صديقنا الأسمر بعد هذا لا يعود فيزدد قوله القديم:
نصحتك لا تكن صداح أيك ... وكن في مصر ناعبة القبور
تيسير الكتابة العربية:
وكان المجمع قد فتح باب مسابقة لإبداء الاقتراحات والآراء فيما يقصد إليه من تيسير الكتابة العربية، وقدر لذلك جائزة مالية ضخمة مقدارها ألف جنيه. وقد تلقى المجمع في هذا الموضوع عشرات الاقتراحات والمشروعات من الباحثين في مصر وشتى الأقطار العربية، فأخذ في بحثها وتقديرها ووضع تقرير شامل عن مختلف الآراء التي قدمت إليه وإعلان الرأي في مدى صلاحيتها وفائدتها وما يمكن أن تؤدي إليه في خدمة هذا المشروع.
ومن المعلوم أن هذه المشروع يتناول وضعاً أساسياً من أوضاع العربية، وأن الشأن فيه يهم سائر أقطار العروبة، فليس القصد فيه بمنح الجائزة للتشجيع كما هو الشأن في المسابقات(719/39)
الأدبية، وإنما القصد هو الوصول إلى طريقة مثلى في الإصلاح، ولهذا يجب على رجال المجمع أن لا يمنحوا هذه الجائزة وأن لا يجزموا باختيار أي اقتراح في هذا الموضوع إلا بعد عرضه وطرحه تحت الأنظار حتى يتناوله العلماء والباحثون في الخارج بالمناقشة والدرس والتعليق، وإلا فالجمع مهما بلغ من المكانة والاعتبار لا يستطيع أن يفرض مشروعاً في هذا السبيل لا تقبله الأفهام ولا تقره الأقلام. . .
محنة الأدب المصري:
قرأت مقالاً في إحدى المجلات الأسبوعية قال فيه كتابه: (إن المجتمع المصري يضطرم اليوم بالحركة وبالحياة، وهو في يقظة متوثبة، ومع ذلك فأدبنا عقيم راكد، وأدباؤنا أيقاظ في أذهان أنفسهم، أيقاظ بأسمائهم وبشرتهم المولية في أذهان قرائهم، ولكنهم رقود عما يجري حولهم حتى لينطبع سباتهم العميق على ما ينتجون من أدب راكد. . . وإذا كان الأدب المصري اليوم يعاني أزمة في جميع فنونه من شعر أو قصة أو مسرحية لا تقل في شدتها عن الأزمة السياسية القائمة، فمرد ذلك إلى أنه أدب سطحي لا ينفذ إلى أعماق الحياة المصرية، ولأنه أدب مفتعل لا يخدم غاية حتى ولو كانت هذه الغاية مجد منتجيه وشهرتهم. . .).
ومقال الكاتب يدور كله حول هذا المعنى، فهو يرمي شيوخ الأدب في مصر بالجمود والركود، وينبغي على الشبان أن أحداً منهم لم يتقدم في هذا المعترك ولم يتوجه بأدبه وفنه نحو الحياة المصرية القائمة، وإنما عنيت بتقييد هذا الكلام لأنه يصور عقيدة قائمة في أذهان بعض الشبان الذين أذهلتهم الحرب بأهوالها وبأحدثها عن القيم الروحية في الحياة، فأصبحوا يطالبون بتوجيه التفكير إلى النواحي المادية والحياة المعيشية التي يحياها الشعب وتواجهها الجماعات في مصر، ويعلل الشيوخ الأدباء هذه الظاهرة بأنها أثر من آثار التعلق بالشيوعية، وعندي أنها أثر لتوتر الأعصاب التي ينتاب أبناء الشرق العربي عامة في هذه الآونة، ومن الطبيعي أن تكون هذه الحال بعد تلك الحرب الضروس التي أرهقت العالم سبع سنوات كاملة، وقد بدت مثل هذه الحال عقب الحرب العالمية الأولى إذ طغت على جميع الآداب الأوروبية عامة موجة واسعة النطاق من الشك والحيرة، حتى لقد دعا بعض الأدباء إلى التخلص من جميع الأوضاع القديمة دفعة واحدة ومواجهة الحياة على وضع(719/40)
سافر، ولقد ظلت النفوس عامرة بهذا الشك حتى جاءت الحرب الثانية بأهوالها فأنضجته وأثارته عند أبناء الشرق العربي المخمورين بالنغم الروحي.
ومهما يكن من شيء فإننا الآن بازاء مذهبين في تقدير مهمة الأدب والأدباء، رأي يقول: الأدب للأدب، أو الأدب لتغذية الروح والعواطف والعقل والفكر، ورأي يقول الأدب لإسعاد الشعب وإطعامه والدفاع عن حقه في العيش والحياة الرغيدة، ولن نلبث قليلاً حتى نشاهد معركة حامية بين الرأيين، والتقديرين!
الموت الأحمر:
على أن هذا التمرد ليس خاصة في مصر وحدها، فقد تلقيت العدد الأخير من مجلة (المواهب) التي يصدرها أبناء العروبة في المهجر الأمريكي فطالعت فيها مقالاً افتتاحياً مطولاً قصره محرر المجلة على الحديث عن (نهضتنا الأدبية الحديثة)، وبعد أن أطرى الكاتب ما في هذه النهضة من ظواهر القوة والتوثب قال: (إن أدبنا الحاضر في الأعم الأغلب أدب نقل وصنع لا أدب سجية وطبع، أدب فروع لا أدب أصول، أدب لهوجة وسمعة لا أدب إتقان ورفعة. وعلاوةً على ذلك فهو الآن يطغي عليه - كما تعاون على تكوينه من قبل - فقران جائران: فقر القلوب وفقر الجيوب والفقر في عرف جميع الناس هو الموت الأحمر. وقد نشأ أدبنا وشب على هذه الحال الضعيفة السقيمة، وفي كنف هذه البيئة الخاملة القانعة بأيسر الأمور. وتفاقمت العلة وانتشر الداء. . . حتى أسلم الأدب أمره إلى التزلف والاستجداء. ونعوذ بالله من التزلف والاستجداء فإنهما الخزي بعينه، وإنهما ليقتلان الضمير قتلا، حتى لا يدعا في قرارة النفس ذرة من العزة والشهامة ولا قلامة من المتعة والكرامة).
وأعود فأقول إنها نزعة طارئة، كانت أثراً من أثر تلك الحرب الجهنمية في النفوس، وكان من المتوقع أن تكون، ولن يضير الأدب أن تكون. . .
إنشاء كرسي باسم شوقي بك:
تقدمت وزارة المعارف إلى مجلس الوزراء بمذكرة تطلب فيها إنشاء كرسي بقسم اللغة العربية باسم المغفور له أمير الشعراء أحمد شوقي بك لتدريس الأدب العربي الحديث في(719/41)
مصر وسائر الأقطار العربية على أن يعني في ذلك بدراسة أدب شوقي وشاعريته دراسة مستفيضة من شتى نواحيها واتجاهاتها.
وقد ضمنت الوزارة مذكرتها المبررات التي تدعو إلى إنشاء هذا الكرسي وتحتم وجوده فقالت: إن دراسة الأدب العربي كانت منذ نشأة كلية الآداب في مقدمة الدراسات التي عنيت بها الجامعة، وإذا كان الأدب العربي خليقاً بعناية خاصة فقد أنشئ بعد ذلك للعناية بدراسة الأدب المصري الإسلامي في أطواره المختلفة إلى عصر النهضة الحديثة، ولكن مصر الحديثة امتازت في الأدب العربي فحملت له لواء نهضة حديثة في بلاد الشرق العربي وظهر في مصر من العلماء والأدباء والشعراء المعاصرين من توسطوا هذه النهضة في مصر وبلاد الشرق العربي، ومن هؤلاء الشاعر الكبير المرحوم أحمد شوقي بك الذي امتاز من بين زملائه بالسبق في تصوير الصلات السياسية لمصر ومسايرة النهضة الأخيرة فيها وبخدمة المسرح العربي بما كتب من روايات ووضع من أغان وبتقدمه الفني على شعراء العربية الحديثين حتى بايعوه بأمارة الشعراء حياً وأبقوا على ذكراه ميتاً). . .
وهذه فكرة رشيدة جليلة لا يسعنا إلا تحبيذها وتشجيعها ونرجو أن يتم لها التوفيق على أكمل وجه وعلى ما يحقق تلك الأهداف التي تناولنها الوزارة في مذكرتها وأن لا يكون إنشاء ذلك الكرسي مجرد وضع من الأوضاع الرسمية، فإن مما يؤسف له أن الكرسي الذي أنشئ في كلية الآداب منذ سنوات لم يثمر ولم يجد شيئاً في تحقيق الآمال الكبيرة التي كانت منوطة به، فما زال الأدب المصري على عهده مجهولاً مطموراً لم يكشف فيه ذلك الكرسي جديداً، ولا أحدث في دراسته تجديداً، ولكنها جملة من المعلومات تتداولها الأقلام من قديم، وتدرج عليها الأفهام كأنها الصراط المستقيم، فلعل الله يجعل لكرسي شوقي حظاً أوفي ويوفر له جهداً أوفر. . .
(الجاحظ)
نشر ما انطوى
يقولون أسراب الغواني سوانح ... فهلا بعثت الطرف فيهن رائدا
نراك اعتزلت الغانيات فكلما ... سنحن صرفت القلب عنهن ذائدا(719/42)
وما ذاك شأن الشاعرين وإنما ... أخو الشعر من تلفيه بالغيد واجدا
لقد ملت عن طيب الحياة وصفوها ... بميلك عن حب الحسان نواهدا
رأيت غرام الفاتنات مضلة ... يكدر من هذى الحياة المواردا
يقود زمام النفس للشر عنوة ... وذو اللب من قد كان للنفس قائدا
إذا ما أطعت النفس في اللهو الهوى ... ضللت وخير الناس من كان راشدا
(دمشق)
أحمد عبيد(719/43)
البريد الأدبي
نسبة عرب الشمال إلى إسماعيل:
إلى الأستاذ أحمد محمد شاكر:
تذكر التوراة في الإصحاحين: الرابع والعشرين، والخامس والعشرين من سفر التكوين إن (هاجر) حينما فرت بابنها إسماعيل من (سارة) زوجة إبراهيم لجأت إلى بادية بئر السبع، وإن الماء الذي سقت منه ابنها إسماعيل كان في مكان بلدة بئر السبع التي سميت بذلك الاسم منذ زمن بعيد، وإنها زوجت ابنها من فتاة مصرية.
والذي نؤمن به، نحن المسلمين، إنها قد هربت به إلى الحجاز وإن الله قد فجر له ينبوعاً، هو ماء زمزم في مكة إلى آخر ما ورد من تفصيل في سيرة أبن هشام وجه 122 إلى 130 من الطبعة المصرية التي نقحها الأستاذ العلامة محمد محي الدين عبد الحميد، وفسر غامضها، وأنه قد أصهر لقبيلة جرهم العظيمة.
والشيء المعقول، في صلة غريب عن طريق النسب، لقبيلة عظيمة أن يذوب نسب هذا الغريب الطارئ في أنساب القبيلة وأن يمحى اسمه من الوجود.
والشيء الذي لا يعقل، أن يقبل العرب وهم الحريصون على أنسابهم أن ينتسبوا إلى الرجل الذي لجأ إليهم وبسطوا عليه جناح الحماية والرعاية، فيقال عنهم إنهم من نسل إسماعيل. ولم تذكر السيرة أنا طاعوناً جارفاً قد فتك بالقبائل العربية التي كانت تملأ الجزيرة وأماتها عن بكرة أبيها وترك للحياة الذين قد انحدروا من صلب إسماعيل فقط، وإنما نذكر قبائل جرهم وبكر وخزاعة وغيرهم وغيرهم مما لا يقع تحت العد.
والذي يتراءى، أن المؤرخين الذين كتبوا في التاريخ العربي قد استلهموا ذلك من آي الذكر الحكيم التي أشارت إلى هذا الحادث، ولم يكن لديهم دليل مادي على صحة هذه النسبة.
وعلى ضوء هذه الحقيقة لا يمت اليهود للعرب بصلة من الصلات وليسوا أبناء عمومة، وكل ما في الأمر أن لغتهم مجاورة للغة العربية في محيط متماثل تأثرنا به في فترة من الزمان.
أرجو أن يتفضل الأستاذ العلامة الجليل فيفيد قراء الرسالة من علمه وأدبه بما يجلو الحقيقة.(719/44)
علي محمد سرطاوي
الموسيقى القديمة والحديثة:
لم يكد يطلع القراء على المقال البليغ الذي دبجته براعة الكاتب المفن الأستاذ عبد المنعم خلاف حول المفاضلة ما بين الموسيقى القديمة والحديثة. وما تركته في نفسه تلك القصيدة الفذة (سلوا قلبي غداة سلا وتابا) للآنسة أم كلثوم من الأثر البالغ حتى تناقلت المقال الأيدي وتعاورته، وكان له الوقع الحسن لدى المنصرفين إلى هذه الصناعة من أعضاء الأندية الموسيقية في الشام، إذا عرفوا أن في مصر نقمة على الموسيقى الحديثة الرخيصة المبتذلة تحكي النقمة عليها في سائر أقطار العروبة، وعرفوا أن في مصر حنيناً إلى الموسيقى القديمة لما فيها من روح الطرب الصادقة والفن العربي السامي الذي يلذ المسامع ويستهوي الأفئدة، ويأخذ بمجامع القلوب.
لقد كان الأستاذ محقاً في طلبه من وزارة الشئون الاجتماعية، الإشراف على هذه الأنغام الباكية الحزينة ذات المعاني التافهة والألحان المريضة التي تميت القلب وتحمل إلى النفوس السآمة والضجر. . . إنه لطلب يشاركه فيه كل عربي سليم الذوق، وإن في هذا الإشراف وقاية للنشء الجديد الذي شب على سماعها وكادت تألفها أذنه، وإذا كنا ننتحل الأعذار للملحنين المصريين المتكسبين في تسجيل هذه الألحان على الشاشة البيضاء سعياً وراء نيل بلغة العيش، فلن نجد لهم عذراً في إماتة الفن القديم، والتخلف عن وضع ألحان مبتكرة تحكي ألحانه القوية الممتعة التي يستسيغها كل ذوق، وتهنأ بها كل نفس وتطرب لها كل أذن سليمة. . . أين وهن الأنغام المستحدثة من قوة الألحان القديمة التي كنا نسمعها من شيخ الفن وعمدته الأستاذ المرحوم الشيخ درويش، ومن زملائه الحمولي والمنيلاوي والشيخ سلامة ومحمد عثمان وداود حسني وسالم الكبير والسفطي وغيرهم من كبار المنشدين والملحنين؟
تلك أنغام قوة عذبة تبعث في النفوس القوة والنشوة والعزة القومية، وهذه ألحان تميت النفوس وتقتل المشاعر وتحمل إلى القلب الخمول. كانت النفحات الأولى تنبعث من حناجر أصحابها حلوة عذبة شجية ساحرة كأنها أنغام مزامير داود، فتملأ قلوب مستمعيها طرباً(719/45)
ونشوة، وتحمل إلى النفوس البائسة الراحة والسلوى والطمأنينة والهناء، ويقضون الليل كله في الإصغاء إليها والتملي من نشوتها، فغدت الأصوات اليوم تصدر من الحناجر الخشنة وتصيح بما يسمونه فناً ولو لم يحمل في ثناياه السحر والطرب.
إن البلاد العربية التي تصدر في موسيقاها عن الديار المصرية، ليعز عليها ويسوؤها أن يتردى الفن في مصر إلى هذا الدرك الذي يعلن عن نفسه بمظاهر التماوت والتخنث والضعف، وتود من صميم أفئدتها أن يلهم القائمون على هذا الفن في مصر، الرجوع به إلى القديم مع اقتباس النافع الجميل من الحديث، ذلك لأنا حديثنا اليوم قد غمر نفوسنا وكاد ينسينا قديمنا، فإذا لم توفق مصر، وهي زعيمة العروبة اليوم إلى هذا الذي نرجوه، فلن ترى في الجيل الجديد إلا مضيعاً للفن وأهله وإننا لنشاهد اليوم بوادر هذا التضييع منذ بدأنا نكلف آذاننا أن تستسيغ الأنغام الشعبية على ما بها من تبذل في المعاني وحطة في الفن هرباً بأنفسنا عن سماع المقطعات الحديثة الجافة. . .
ونحن لا نريد أن نشمل بحكمنا كل حديث، إذ لا نكران أن بعض الملحنين المعاصرين قد صدحت حناجرهم بألحان فيها فتنة القديم فأقبل الناس على تلقيها وتعلمها وذاعت على أفواههم وأجمع أفراد الشعب على استحسانها مثل أغنية (على بلدي المحبوب) وأغنية (ما أحلاها عيشة الفلاح) و (ليلة العيد) وغيرها من المقطعات ذات النغمة البياتية الساحرة وكان سرور الناس عظيماً بالألحان التي طلعت بها علينا حديثاً مطربة الشرق في فلم (سلامة) من تلحين الشيخ زكريا أحمد، وهذا يدل على أن بعض الملحنين العصريين بدأوا يعودون إلى القديم.
(دمشق)
حسني كنعان
مداعبة:
عندما أصف الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي بأنه من المحافظين أكون قد خففت كثيراً مما أسمعه من وصفه الذي يدل على (المغالاة في المحافظة).
هذا المسلم المحافظ لم يعجبه أن يبقى المسلمون بدون (وسكي) فسمى الشاي الأخضر(719/46)
(وسكي المسلمين) ولما قرأت هذا في الرسالة الغراء (العدد 717) قلت فوراً: حتى أنت يا أستاذ!! أتقولها وأنت الفقيه الذي قرأ قول الفقهاء: لو شرب الماء على هيئة ما تشرب الخمر كان شربه حراماً؟
صدق رسول الله: لتتبعن سنن من قبلكم. لم يكن للمسلمين وسكي فجعلت لهم الشاي الأخضر وسكي.
فلسطيني
في اللغة والعروض
1 - نبه الأستاذ (عدنان أسعد) في العدد 717 من الرسالة الغراء على خطأ (ترسى) في البيت:
وقلبي على نهر الحياة سفينة ... تميد على صم الصخور ولا ترسى
من قصيدة الشاعر (محمد علي مخلوف) ظناً منه أن الفعل من الثلاثي والصواب ضم أوله على أنه رباعي - ففي القاموس (رسا الشيء رسواً ورسوا ثبت كأرسى) ولشوقي بك.
نفسي مرجل وقلبي شراع ... بهما في الدموع سيري وأَرْسِى
فلا دخل للقافية ولا مخالفة لقواعد اللغة في بيت الشاعر (مخلوف).
2 - ونبه الناقد في العدد 713 من الرسالة على أن في قول الشاعر محمود رمزي نظيم.
واخترعوا فحيروا ألبابنا ... وملكوا بسعيهم زمامنا
كيف نقول لهم وما لنا ... إذا استغل علمهم خمولنا
تغيير التأسيس في الأشطر الثلاثة إلى الردف في الشطر الرابع وذلك ما نص العروضيون على خطئه، وفي نقده مجانبة للصواب علا ردف في الشطر الرابع أصلاً فإن الردف لا يفصل بينه وبين الروى. وما فيه هو (سناد التأسيس) ولم يتواضع العروضيون على خطئه بل نصوا على جوازه للمحدثين مع القبح والكراهة.
رياض عباس(719/47)
الكتب
السادهانا أو كنه الحياة!
(تأليف الأستاذ محمد محمد علي)
حفلت المكتبة العربية في أذيال الحرب الأخيرة بثروة عظيمة من ثمار الفكر والمعرفة، وأخذت تضم إليها من فنون الأدب والفن ما يبشر بنهضة فكرية عالية. ونحن مع اغتباطنا بهذه النهضة الحديثة نود أن تسير في طريقها الواضح السليم نحو تحقيق غايتها المنشودة. ولا يتيسر ذلك إلا بالنقد الصحيح.
فسفينة الأدب تسير في فجاج بعيدة الأغوار وتجتاز عوالم عديدة الألوان والناقد البصير يجلس على سكانها يريها الطريق الرشيد، ويجبنها الانحراف عن جادة الطريق المستقيم.
ومن الكتب التي تخرجها المطابع ما يمر عليه الناقد مر الكرام، ولا يسمح لقلمه بأن يعرض له بخير أو بشر، ولا لوم عليه في ذلك ولا تثريب؛ ولكن أمهات الكتب ومنها كتاب السادهانا الذي أتكلم عنه لها على الناقد حق يجب أن يقضيه. وإلا بطلت مهمة النقد.
وقد أطلعت على ترجمة لهذا الكتاب أخرجتها لجنة النشر للجامعيين تحت عنوان السادهانا أو كنه الحياة للأستاذ محمد محمد علي فراعني ما في عنوان الكتاب من التحريف الذي يدل على تقصير عجيب عن فهم معناه، فالكتاب عنوانه في الإنجليزية ومعناه تحقيق الحياة أي جعل الحياة حقيقة. وليس في الكتاب أي بحث في كنه الحياة، ولكن هذا الخطأ في عنوان الكتاب قد يكون شيئاً بسيطاً بالنسبة لترجمة الكلمات الآتية:
جاء في صفحة 109 من الكتاب: في الليلة الأخيرة، ترجمة لكلمة وصحتها البارحة. وفي صفحة 121 هناك قول ملاحظة ترجمة وصحتها قول مأثور، وفي صفحة 67 لعب الحياة والموت ترجمة لكلمة ' وصحتها رواية الحياة والموت، وفي صفحة 94 عن القارة الأوربية، إن جزئيتها في إنها مشغولة تماماً وجزئيتها هنا ترجمة لكلمة وصحتها ودورها، وفي صفحة 2 معرفة الروح ترجمة لكلمة وصحتها الوعي الروحي. وفي صفحة 88 الإدراك في العمل. ترجمة لكلمة وصحتها تحقيق الحياة بالعمل، ولا تخلو صفحة من صفحات من الكتاب كانت أمثال قوله: الذين ضعفت أفكارهم لا غيرهم الذين ينالون الفرح ص 30 أو قوله: يا عامل الكون بدلاً من يا باري الكون ص101 اقوله: إن(719/48)
خلاص طبيعتنا العضوية في نيل الصحة.
وبعد فإذا كانت القوانين لا تعاقب من يرتكب مثل هذه الأخطاء، للأدب حكومة يجب أن لا تغضى عن حقها في الضرب على أيدي العابثين في مملكة الفن والجمال.
محمد طاهر الجيلاوي
القضايا الكبرى في الإسلام
(تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي)
ظهرت منذ أيام مكتبة الآداب بالجماميز بالقاهرة كتاب القضايا الكبرى في الإسلام للأستاذ عبد المتعال الصعيدي في 404 صفحات من القطع الكبير، وصاحب الكتاب معروف لقراء الرسالة، وقد نشر فيها نحو خمس عشر قضية. فأذاع بعضها عنها بعض محطات الإذاعة الشرقية، ونقل بعضها عنها عن بعض المجلات في الأقطار الشقيقة، وقد كانت اللغة العربية هذا النقص، وابتكر فيها هذه الدراسة الجديدة.
ولم يدون صاحب الكتاب هذه القضايا كما يدونها من لا يعنى بالنقل، ومن يعوزه الرأي المجتهد والفكر المجدد بل اظهر فيها من التجديد في تصويرها ونقد أحكامها ما اظهر، وأحيا فيها من الاجتهاد ما أماتته سبعة قرون أو أكثر وهي ما هي في اختلاف القدامى من القضاة والفقهاء في أمرها واضطرب رأيهم فيها فحل هذا الكتاب منها ما أشكل، واتى فيها بالفهم الصحيح والقول الفصل.
وقد اشتمل الكتاب على ستين قضية في مختلف العصور والدول والأقطار، ورتبها من اعصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الحديث، ليعطى القارئ فكرة عن خال القضاء في هذه العصور، ويعرف أمره في مختلف الدول والأقطار، فيظهر تاريخ القضاء الإسلامي أمامه واضحاً جلياً، ويعرف الأسباب التي أدت إلى نهوضه، والأسباب التي أدت إلى انحطاطه، ول تقف فائدته من الكتاب عند دراسته القضائية، بل تتناول معها الناحية التاريخية.
أثر الشرق في الغرب
(تأليف المستشرق الألماني جورج يعقوب)(719/49)
أثر الشرق في الغرب، خاصةً في العصور الوسطى، هذا هو عنوان ذلك الكتاب القيم الذي ألفه الباحث المحقق الأستاذ جورج يعقوب المستشرق الألماني المعروف، وترجمه دكتور فؤاد حسنين علي المدرس بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وقامت بنشره لجنة البيان العربي.
أما المؤلف فعالم جليل، وباحث محقق مدقق، كان يؤمن بعظمة الشرق، وخاصة الشرق العربي، ويعترف بما أدى في سالف الزمن من خدمات جليلة مفيدة للثقافة الفكرية، والحضارة العالمية، وقد بذل كثيراً من الجهود لدعم هذه الحقيقة، ولاقى في سبيلها ما لاقى من المقاومة والرهق، وأما كتابه فوثيقة مدعمة بالأسانيد والأدلة العلمية الناطقة على أثر الشرق في الغرب وما أداه أبان مجده السالف نحو المعرفة والحضارة، وإذا كان الشرق يتلقى اليوم عن الغرب ما يتلقى من علم ومعرفة، فإن من حقه أن يقف وفي يده هذه الوثيقة ليقول: إنها بضاعتنا ردت إلينا. . .
أجل. لقد أنصف هذا المؤلف الغربي الشرق إنصافاً قوامه الحق والصدق، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن أحداً من أبناء الشرق الأصليين لم يبلغ في هذا شيئاً مما بلغه، فقد عرض في كتابه لكل ما أده الشرق نحو الغرب في العلم والرياضة والأدب والفن والعمارة والنقش والزخرفة وما إلى ذلك من مظاهر المعرفة والثقافة، وإنه ليورد في الدليل على رأيه ما يدل على الاستقصاء في البحث والأمانة في العلم وكثرة ما بذل من التنقيب والرحلة إلى الأقطار الشرقية في سبيل الحقيقة، فلا عجب إذا ما جاء كتابه هذا حجة للشرق على الغرب، وإن أبناء الشرق جميعاً لفي أشد الحاجة إلى هذه الحجة وخاصةً في هذه الآونة التي يناضلون فيها عن حقهم ومكانتهم، وإننا إذ نشيد بالعمل الجليل الذي أداه الباحث الفاضل الدكتور فؤاد حسنين بترجمة هذا الأثر النافع، فإننا نعتب عليه أن ترجمه بتصرف كما يقول، ولسنا نجري لماذا عمد إلى هذا التصرف، فإن من الأمانة العلمية أن تترجم مثل هذه المؤلفات العلمية التاريخية كما كتبها مؤلفوها، كما نعتب عليه أن أخرج الكتاب وكأنه بحث واحد فلم يعن بوضع عناوين لموضوعاته وبالتالي لم يضع فهرساً لهذه الموضوعات. ولعله أراد بهذا أن يحمل القارئ على تناول الكتاب دفعة واحدة.
محمد فهمي عبد اللطيف(719/50)
القصص
قصة مصرية:
ألوان. . .
للأستاذ نصري عطا الله سوس
كان قطار الليل يشق طريقه المظلم إلى الصعيد. . .
وكانت هذه المرة الأولى التي يستقل فيها الدكتور فؤاد هذا القطار في طريقه إلى مقر عمله الجديد.
لقد عاش طول حياته في العاصمة، وكان طبيباً بإحدى مستشفياتها. . . وأخيراً، وبعد نزاع مع رئيسه، نقل إلى إحدى المستشفيات الصغيرة بأعالي الصعيد، وكان يمكنه أن يستقيل ويكتفي بإيراد عيادته التي تدر عليه الكثير. . . وقد فكر في ذلك حتى أضناه الفكر، فليس من السهل على رجل ألف حياة العاصمة أن يجد نفسه فجأة في جو لم يألفه، وحياة خشنة جافة هزيلة لم يعتدها!
ولكن تياراً أقوى كان يدفعه في الاتجاه الآخر: لم يكن قد أفاق بعد من صدمة هائلة أذهلته عن كل شيء وأنسته كل الاعتبارات. . . كان يود أن يهرب من المكان الذي كان مسرحاً لمأساة قلبه، والذي كان يذكره بها وينكأ جراحه كلما قاربت الالتئام!
لقد فكر وفكر. . . وأخيراً فضل أن يهرب من أشباح الماضي التي كانت تلاحقه في عناد، وتعذب قلبه، وتغمره في ليل أبدى لا فجر له!
ولم يكن الدكتور فؤاد من أولئك الأطباء الذين تتركز كل حياتهم في مهنتهم، فيحشون أدمغتهم بالمعلومات الطبية التي يطبقونها تطبيقاً أعمى، بينما يشاركون في الوقت نفسه رجل الشارع في ثقافته وأخلاقه وكل غرائزه، بل كان شخصية ممتازة، رقيق العاطفة، مرهف الأعصاب، ولوعاً بالأدب والموسيقى، ظامئاً إلى الحياة الدسمة الغنية بمختلف العواطف والاحساسات، ولم يكن ينقص حياته إلا شيئاً وحداً لا معنى لأي شيء في الحياة بدونه: ذلك المخلوق الناعم الحلو الذي تمسح ابتسامته السحرية كل الهموم والمتاعب، وتخلق في النفوس الشجاعة والعزم والأمل، ذلك المخلوق الجميل الرقيق الذي نسميه(719/52)
(المرأة)، وعندما رآها بعد سنوات طويلة من الحنين والانتظار، ظن أنه قد عثر على ضالته وحقق أمله، فاندفع وراء الخيال، وراح ينسج الأحلام، ويكيف حياته تكييفاً جديداً على هدى الكوكب الجديد الذي غمر حياته بالنور. . .
وبعد عامين كاملين عرف أنه مخدوع. . . وأن الشيطان كان يسرق القربان الذي يتقرب به إلى (كيوبيد) في معبد الحب ويستحله لنفسه. . . واستحالت حياته إلى بحر من الدموع، وكره العاصمة الكبيرة والحياة فيها، فلما فوجئ بخبر نقله لم يحزن كما يفعل الموظفون، بل تلقى الخبر بفتور، وحمل كتبه وموسيقاه ليهرب من الحياة البراقة الزائفة، وليخلوا إلى نفسه عله يستطيع أن يلهمها العزاء والسلوان! إنه سيحقق حلماً جميلاً طالما تمنى تحقيقه، حياة الطبيعة الساذجة الجميلة، والمساحات الشاسعة الخضراء التي قرأ عن سحرها وجمالها، وما توحيه إلى النفس من صفاء، والناس السذج البسطاء الذين لم يتعلموا شرور المدن الكبيرة وآثامها!
إن حياة المدن تفرض نفسها على الإنسان وتستعبده وتخنق فيه حياة العاطفة والروح. . . وحياة العاطفة والروح هي كل ما ينشده الطبيب الحزين، إنه يأمل أن يجد في صدر الطبيعة ما لم يعثر عليه في صدر المرأة!
وتمكن من أن يروض نفسه على حياة الريف ويستسيغها، ووجد في بساطة الحياة فيه الراحة التي يجدهاً الملاح بعد عاصفة هوجاء هددته بالفناء كان في الصباح يؤدي عمله في هدوء، وفي الأمسية يخرج للرياضة بين المزارع الخضراء، وعنده بعد ذلك كتبه وموسيقاه، ولكنه ظل شديد الانقباض عن الناس زاهداً في الحديث معهم حتى في رؤيتهم!
ووجد (فؤاد) شيئاً من العزاء الذي كان ينشده ولكنه كان عزاء يمازجه كثير من اليأس. . . والفلسفة. كان يقول لنفسه إن الذي يعيش مثله بين المرضى ويرى الإنسانية تتألم وتتعذب بهذا القدر، ويشاهد كل يوم شبح الموت يلهو بالأرواح، لا بد أن يتعلم كيف يزن مسرات الحياة وفواجعها، ويميز صحيحها من باطلها. . . إن أوجاع الحياة توحي إليه بتفاهتها، تلك الحياة التي نجهد أنفسنا في سبيلها حتى الجنون! نفني السنين تلو السنين في المتاعب والهموم، حتى يحل خريف العمر وتذبل أوراقه، عندئذ نبحث عن ثمار جهودنا وعنائنا فلا نجد شيئاً! وتهب علينا ريح باردة تهمس في آذاننا أن الكل باطل، حينئذ، وحينئذ فقط،(719/53)
ندرك. . . ونشيح بوجوهنا عن الحياة.
. . . وبمثل هذه الأفكار كان يعزي نفسه عما فاته من مباهج الحياة ومفاتنها، ومرت شهور وهو منهك في عمله وبقايا همومه وأفكاره القاتمة التي كان يطاردها فتغيب عنه حيناً ثم تعاوده في قسوة وعنف. . .
وفي صباح أحد الأيام كان جالساً كعادته إلى مكتبه يطالع صحف الصباح. . . وفجأة دخلت فتاة. . . وكان من عادته أن يطلب من أولئك الذين يقتحمون عليه خلوته أن ينتظروا بفناء المستشفى حتى يحين موعد العمل، ولكنه نظر إليها، وسكت. . . وبعد برهة سألها في صوت واع عما تطلب بينما كانت عيناه تلتهمانها التهاماً. . .!
وأسبلت جفونها، واصطبغ وجهها بلون الدم، وتلعثمت وهي تجيب. ودعاها برفق أن تقترب. . . وتخبره عن مرضها.
واقتربت، وأخذت تقص عليه أعراض مرضها بصوت ناعم حالم. . . بينما كان هو يتأملها في نشوة سعيدة كأنه يتأمل أثراً فنياً خالداً: كانت ترتدي ملاءة حريرية تحتها جلبات باهت اللون وفي إحدى يديها قارورة فارغة، وفي الأخرى تذكرة أمراض باطنية، وكان في مشيتها فتور ثمل كأن رأس قد حمل أكثر ما يسع من الأحلام، وفي عينيها ذلك الحنين الذائب الذي تشعه عيون الفتيات عندما تطرق قلوبهن تلك الاحساسات الحلوة الآسرة التي لا يدركن كنهها، ونظراتها كطيور تائهة تبحث عن وكرها في عيون أليف حنون يقتنص الأحلام الهائمة في السماء وبريقها في أذنيها بصوته الحلو الرقيق. . .!
وتناول منها التذكر وقرأ البيانات المدونة عليها فعرف أن اسمها (عزيزة) وعمرها سبعة عشر عاماً.
كانت تشكو ورماً بسيطاً في أصابعها وساقيها، وتناول يدها في كفه وأخذ يتأملها، واهتزت يده اهتزازاً خفيفاً وهو يضغط على أصابعها ليعرف طبية الورم، ثم فحصها فحصاً دقيقاً، وطلب منها أن تمتنع عن تناول بعض المأكولات، وزودها بنصائحه ثم أعطاها ما يلزمها من دواء وانصرفت.
وجلس يفكر وقد ملكت عليه نشوته بحسنها وودعتها كل حواسه. . . أين كان هذا الكنز مخفياً؟ لم لم تحضر قبل الآن؟ لقد جاءت ثم ذهبت كأنها الحلم السعيد في هدأة الليل،(719/54)
وكانت اللحظات التي قضاها وهو يتأمل هذا الوجه السماوي الجميل من أسعد لحظات عمره. . . إن هذا الجمال من نوع نبيل يوحي بالعبادة أكثر مما يوحي بالحب: عيناها عسليتان يشعان وداعة وطهراً، وبشرتها خمرية يعلوا تاج كثيف من الشعر الفاحم، وكانت نحيفة وهو يكره الجسم المكتنز الذي يوحي دائماً بالرغبات كما إنها أطول من رأى من فتيات القرية!!!
ثم ابتسم وهو يقول لنفس: (ألأنها جميلة تهتم بها أكثر من بقية المرضى؟؟ قد تكون الدميمة المشوهة الخلقة أكثر احتياجاً إلى العطف والرعاية)، ولكنه هرب من الإجابة عن سؤاله، وأشعل سيجاراً وأخذ يغني بصوت خافت، وود أو أمكنه أن يرقص أيضاً.
وعندما بارحته عزيزة لم يأمل أن يرها مرة ثانية، فقد مضى عليه في هذا المستشفى نصف عالم لم تحضر خلاله إلا هذه المرة، كما أن ملابسها وأناقتها - بالنسبة للقرويات - تدل على أنها تنتسب إلى الطبقة الموسرة التي لا تستسيغ التردد على أماكن العلاج العامة. . .
ولكنها عادت في الأسبوع التالي، وكانت هذه المرة أكثر اعتناء بهندامها وشعرها. وتردد كثيراً قبل أن تتقدم نحوه. أما هو فكان يرقب خجلها وترددها في سرور.
وأخيراً جمعت شجاعتها وذهبت إليه. . . ولا حظ وهو يحدثها أن أسنانها أكثر بياضاً مما كانت عندما رآها في الأسبوع الماضي وأخذ يلقي عليها عشرات الأسئلة حتى تطول وقفتها أمامه وأحس وهو يحدثها أن الثلوج التي ظلت تكتنف قلبه منذ كارثته الأولى بدأت تذوب وتفسح له مجال الحياة مرة أخرى.
كان يكلمها وفي عينيه وجرس صوته أطياف من الشوق والحنان ود لو تجسمت شخصاً حياً يطوقها ويغمرها القبل.
ولم تلمح هي في عينيه ذلك الظمأ الخشن الذي ألفت أن تراه في عيون الرجال، إن عيناه تشعان وداعة وسلاماً.
ثم فحصها مرةً أخرى، وأعطاها دواء جديداً وانصرفت.
واطمأنت إليه، وبدأت تألفه، واعتادت التردد على المستشفى مرة كل أسبوع على الأقل، وكانت تتلمس مختلف المعاذير للذهاب إلى المستشفى مرة كل أسبوع على الأقل، وكانت(719/55)
تتلمس مختلف المعاذير للذهاب إلى المستشفى، وكان هو ينتظر حضورها في نوع من القلق، ورغب في أن يتعرف بأبيها فلم تعيه الحيل، ووثق صلاته به وغمره بكل عطفه، الأمر الذي أثار دهشة الرجل، وجعله يتساءل عما يرمي إليه الطبيب من وراء كل هذا الاحتفاء!
وأحس (فؤاد) أن جراحه القديمة تبرأ بسرعة. . إنه سعيد بهذه الطفلة البريئة الساذجة! إنه لا يطلب أكثر من أن يراها لترد إليه من جديد إيمانه بالحياة، وتزيح عن قلبه الظلام المتراكم، لقد غمرها بكل ما في قلبه الأبيض من حنان. . . ذلك الحنان الذي كان يعذبه لعدم عثوره على من يغدقه عليه! ولا شك أن هذه القروية الساذجة، الطاهرة القلب أجدر الناس به. . .
وعندما يمنح الطبيب قلبه للمريض تلهم العناية الإلهية يده وتحدث المعجزات. . . وكانت عزيزة تبدو أكثر نضرة وشباباً في كل مرة تذهب فيها إلى المستشفى. وكان هو يتأمل احمرار خديها في فرح وهي تتقدم نحوه والخجل يكاد يقيد قدميها بالأرض آه. . . لو كان شاعراً لنظم أروع قصائده في هذه اللحظة التي يراها فيها وهي مقبلة عليه في خطواته الموسيقية الهادئة. . .
واستولت الريفية الفاتنة على لب الطبيب الذي نزح من المدينة ناشداً السلوى والعزاء. . . وأصبح خيالها يراوده في اليقظة والمنام. . . فعندما كان يقرأ، أو يفكر، أو يتأمل الطبيعة والدنيا والناس فينبض قلبه بمختلف العواطف، وتنتشي نفسه بأجمل الاحساسات، كان يفكر فيها ويتخيلها جالسة إلى جانبه تشاركه عواطفه واحساساته ويحدق في وجهها فيرى بريق الذكاء في عينيها والبسمة الحلوة تضيء قسماتها معبرة عن الفهم والفرح.
ولكن لا تلبث أن تظلل محباه سحابة من الأسى. إنه يسرف في الخيال: وهي لا تستطيع كل هذا: إنها الغريرة الساذجة التي تنطبق حدود الدنيا في ذهنها على حدود القرية. . .
ثم يعود يسأل نفسه لم يعكر صفو سعادته بمثل هذه الأفكار؟ إنه سعيد، فرح، يعيش في دنيا جديدة من خلق عينيها. إن الغيوم الداكنة المتراكمة في سماء روحه تتبدد تحت أشعة بسماتها الصافية، ونظراتها الحلوة وتطرد من رأسه كل الأفكار السوداء التي قضى أشهراً وهو يجهد في إقناع نفسه بها، وتعلمه من جديد نفاسة الحياة وجمالها، وعاد يأنس الناس(719/56)
ويتبسط معهم ويجد في حديثهم الساذج التافه كثيراً من الغبطة والسرور.
وسارت الأيام في طريقها والعلاقة بينهما قوة وعمقاً، كان هو يتفانى في خدمتها ويبدي لها من دلائل الوداد والحنان ما يجعلها تحس بأنها أسعد أنثى في الوجود، لقد اعترفت له وعيناها تتألقان بشراً وحبوراً أن يوم حضورها إلى المستشفى هو (يوم العيد) عندها. . .، وتبادلا كثيراً من التذكارات، وطلب منها مرة أن تهديه صورتها فاعترفت له في كثير من الخجل أنها لم تقف مرة واحدة طول حياتها أمام آلة التصوير، فصورها بنفسه عدة صور. . . وكان يصله من العاصمة بين حين وآخر ما لا يتيسر وجوده في الريف من الحلوى والفاكهة؛ فلا يطيب له تناول شيء منها إلا إذا أهداها بعضها فينتهز فرصة وجود أبيها معه ويعطيه من كل ما كان يرد إليه.
وآمنت هي بطيبة قلبه وإخلاصه ولم تعد تخجل منه أو تتهيبه بل كانت تجد سعادتها في أن تعترف له بكل ما في قلبها. . .
وكان يلاحظ أحياناً على وجهها آثار الحزن والألم فيسألها عن سبب أشجانها، ويلمح الدموع تجول في عينيها وهي تعترف له بأنها كثيراً ما توصد على نفسها باب غرفتها، وتظل تبكي وتكبي دون أن تدرك لذلك سبباً.
وأدرك هو أن قلبها يعذبها، خاصة عندما سألته في صوت يقطر توسلاً وضراعة لماذا يعيش وحيداً؟ لماذا لا يحضر أمه أو إحدى أخواته لتؤنسه وتسهر على راحته؟؟ وابتسم، وعرف إنها لم تعد تقنع بهذه اللحظات العابرة التي تقضيها معه.
وابتدأ يحاسب نفسه ويسألها عن النتيجة!
لقد نبه في قلبها الشوق؛ وأشعل فيه الحرب، وها هو الحب يجلب معه الشجون والأفكار.
لقد فتنته جمالها وطيبة قلبها فهل يربط مصيرها بمصيره؟ ظل وقتاً طويلاً حائراً معذباً بين فكره وقلبه وقضى ليالي برمتها لا يذوق جفنه النوم وهو يفكر كيف تكون حياتها معه لو. . . تزوجها؟
ولكنه اقتنع أخيراً أن بينهما من الفروق ما يجعل الحياة الدائمة معها مستحيلة، إنها القروية الساذجة التي لم تتلق من العلم شيئاً وقد تهلك عندما ينزعها من تربتها ليزرعها في تربة أخرى!. . . إن نواحي كثيرة فيه ستبقى مجهولة منها. . . مستغلقة عليها وسيشقى كثيراً(719/57)
في طريق الحياة المجهد وهي إلى جانبه لا تدري بشقائه وبواعثه، وسيسعد كثيراً في دنيا الفكر والفن والطبيعة وهي إلى جواره لا تستطيع أن ترد ذلك المنهل العذب وتتيح لنفسها تلك المتع الرفيعة التي لا تمتلك الحياة نفسها أن تمنح أسمى أو أجمل منها. . .
ولم يخفف قراره هذا من لوعته وألمه: إن سيحطم بيديه القلب الذي بدد وحشته، وأنساه آلامه وهز أوتار قلبه هزات رائعة وسيعود يوماً ما إلى برد الوحدة من جديد ولا يجد إنساناً وحداً يستطيع أن يفرح ويحزن معه. . .
وظل حائراً معذباً ولكن ماذا يفعل؟ لقد أحبها أكثر من أي أثنى رآها في حياته ولكنها ليست له، هذه الجوهرة النفيسة ما زالت (خاماً) وفي حاجة إلى كثير من الصقل والتهذيب، لقد غمرها بحنانه لأنها الزهرة الوحيدة في تربة لا تنبت إلى الحشائش وكان سعيداً بها لأنه يراها لحظات كل أسبوع ولكن الحياة الدائمة بينهما قد تكون مثال التعاسة والشقاء. . .
كانت كل هذه لأفكار تصطرع في رأسه وهي تزداد حباً له وتفانياً فيه، وهو لا يجرؤ على أن يبوح لها بمكنون ضميره، وأهل القرية يتهامسون بأن طبيبهم سيتزوج من عزيزة. . .
وظل هكذا موزع القلب بين حبه لها وإشفاقه عليها من عاقبة هذا الحب حتى صدر قرار بنقله إلى بلدة أخرى، وللمرة الثانية تلقى الخبر في فتور حزين مؤمناً أن للقدر أحكامه وسخرياته.
وسمعت هي نبأ نقله فجاءته والدموع تجول في عينيها وسألته في لهفة عن حقيقة الأمر، وعما إذا كان سيعود أم لا؟؟
وللمرة الأولى منذ حل هذه البلدة وجد الدموع تنحدر على خديه وقال لها: (الله يفعل ما يشاء يا عزيزة، من يدري ماذا سيحدث غداً؟).
وأحس من نظراتها القلقة الحادة أن إجابته لم تعد إليها طمأنينتها، ولكنه لم يجد ما يقوله. وبعد أن قضت معه فترة انصرفت وهي تتعثر في خطواتها. . .
شعر بقلبه يمتلئ سخطاً على نفسه وندماً! ليته ما عرفها، إن سيذهب ولا يخلف لها إلا الحسرة والألم والدموع. . . ولكن هل كان يستطيع أن يحول بين قلبه وبين الهيام بها والافتتان بجمالها الرقيق وروحها العذب؟ وهل في طبيعة الأشياء أن يقف المرء في طريق قلبه ويخنق عاطفته التي تفيض طهراً وسمواً، وتغدق على حياته، وحياتها هي، أنبل(719/58)
المعاني وأجمل الاحساسات؟
وحل اليوم الموعود وغادر البلدة إلى مقر عمله الجديد.
وتوالت الشهور والأيام وذكراه تحتكر فكرها وقلبها، وظلت تمني نفسها أنه سيعود يوماً ويملأ حياتها فرحاً وسعادة. . . وطال انتظارها وعادت إلى وحشتها وكآبتها ودموعها. . . وكانت تجلس ساعات وحيدة ساهمة تحدق في الطريق البعيد المؤدي إلى المحطة. . . فقد يلوح شبحه فجأة قادماً من بعيد.
وتقدم أبن عمها لطلب يدها فرفضت.
أما هو فكثيراً ما كان يفكر فيها ويمتلئ قلبه شوقاً إليها، ولا تكاد تمر ليلة دون أن يضع صورها أمامه، ويطيل التأمل فيها، ويسأل نفسه: (ترى من سيتزوجها؟ ليس بين أهله قربتها من هو جدير بها!) ثم يرفع وجهه نحو السماء ويضرع إلى الله أن يمنحها الرجل الذي يستطيع أن يمنحها السعادة والهناء!.
نصري عطا الله سوس(719/59)
العدد 720 - بتاريخ: 21 - 04 - 1947(/)
نحن العرب. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
إني لأسألُ نفسي، كما يسألُ كل عربي نفسه: (إلى أين يسار بنا تحت لواء هذه الحضارة البربرية الحديثة؟) وجواب هذا السؤال يقتضي العربي منا أن يلمح لمحاً في طوايا النفوس وخبايا السياسات، ويقدمَ الحذر بين يديه، ليكون على بينة من رأيه ومن مصيره أيضاً. ولعل القارئ قد فوجئ لإقحام هذا الوصف للحضارة الحديثة بأنها حضارة بربرية، ولكن لا يعجل بالعجب مما لا عجب فيه فإنه حق بيّن لا تخطئه العين البصيرة.
نعم! إنها حضارة لم يوجد لها مثيل بعدُ في التاريخ كله منذ كان آدم إلى يومنا هذا. حضارة قد نفذت إلى أسرار المادة فكشفت عنها كشفاً يسر للبشرية أن تقبض على زمام الحياة وتصرفها في حيث شاءت وإلى حيث تريد، وجعلت الإنسان يشعر شعوراً لا خفاء فيه بأنه قادر على أن ينشئ التاريخ إنشاءً، وبنى الوجود بناء جديداً، ويملأ ظلام الليل وضياء النهار حياة وقوة وجلالا، وينفث في الأشباح روحاً ويكسوها لحماً ويعطيها من مقدرته ما يجعلها كائناً متصرفاً بشيء أشبه بالعقل والإرادة. ونعم! إنها حضارة قد قامت أركانها على جم يعجز المتأمل عن إدراكه وبلوغ آفاقه، علم تدسس إلى ضمير الأرض والسماوات فاسترق السمع إلى نجواه وإلى خواطره فقبس منها قبساً مضيئاً أنار ظلمات هذا الوجود الذي لا يعلم ما انطوى عليه إلا الله الذي يعلم الخبء في السماوات والأرض. ونعم! إنها حضارة أزرت بالحضارة كلها وجعلتنا نشعر بالقوة التي طواها الله في هذا (العالم الأصغر) حتى مكن له أن يكون سيد (العالم الأكبر) غير منازع.
نعم إنها حضارة مجيدة عاتية أحيت الإنسانية ورفعت شأنها، ولكنها على ذلك كله حضارة بربرية طاغية قد امتلأت فساداً وجوراً وحماقة وفجوراً، حضارة بربرية رفعت الإنسانية من ناحية العقل، ولكنها قتلت ضميرها ومزقت شرفها، وجعلتها تشعر بقوة غير شريفة ولا صالحة ولا أمينة في أداء حق الإنسانية عليها.
والعربي منا إذا نظر اليوم فينبغي أن ينظر أولا إلى هذه (البربرية) من الناحية التي لها مساس به وبحياته وبتاريخه على هذه الأرض، ليعلم إلى أين تريد هذه الحضارة أن تسوقه؟ وأي بلاء تريد أن تبتليه به؟(720/1)
إن تلك الدول التي صارت دولا في تاريخ هذه الحضارة البربرية وبمعونتها تريدنا على أشياء وتريد بنا أشياء لابد لكل عربي أن يراها بعين لا تغفل. هذه الدول التي ادعت ولا تزال تدعي أنها خاضت غمار الحرب المبيدة الثانية دفاعاً عن حرية البشر في الحياة، وعن رفع مستوى المعيشة في هذه الأرض، ترتكب كل يوم من ضروب الخيانات والغدر والنذالة ما لم يشهد التاريخ مثله، كما لم يشهد مثل حضارتها هذه البربرية. .
هذه أمريكا وبريطانيا وروسيا وفرنسا جميعاً ولا نستثني تزعم كل يوم أنها تغضب للحق، حق الناس في الحرية، وتثور استنكاراً للمظالم التي تفرض على الشعوب العاجزة عن دفع الظلم، وأنها تحوط لإنسانية من أن يدنسها باغ أو طاغ بجبروته وبطشه، وهي جميعاً لا تزال تملأ جنبات الأرض عجيباً وضجيجاً إذا رأت ضيما أصاب شعباً من الشعوب، وتتنبل كل منها بالدفاع عنه وبالذياد عن حقه المهتضم، ونرى أمريكا خاصة ومن دونها جميعاً تذيع بين الناس وتشيع أنها حامية الحضارة، وأنها حامية الناس من البغي، وإنها لم تخض غمار الحرب إلا لهذا وحده: أن تحمي الحضارة من الدمار، وأن تحمي الناس على اختلافهم من البغي. وكذلك تفعل بريطانيا أيضاً، وهكذا تزعم روسيا، وهكذا تتبجح فرنسا.
ولكن - هذه فلسطين فلذة أكباد العرب قد شهدت أنذال الأمم يطئون ديارها منذ سكنت الحرب العالمية الأولى، ثم أخذوا يسيلون عليها سيلا منذ ذلك اليوم يريدون أن يجلوا العرب عن بلادها ليحتلوها وينشئوا في ربوعها دولية يهودية، فإذا بنا نرى أمريكا تعينها بالمال واللسان والقلب، ونرى بريطانيا تغريهم بما يريدون وتصبر على إذلالهم لها صبراً لم يعرفه قط تاريخ بريطانيا التي كانت تسمى رجال العرب المجاهدين (رجال العصابات)، ونرى روسيا وفرنسا تلوذان بالصمت المطبق لا تقول ولا تنبس ولا تتحرك دفاعاً عن الهضيمة التي تراد بالإنسانية، كما تحركت من قبل.
وهذه تونس والجزائر ومراكش تجري فيها المذابح الوحشية التي لم يعرف التاريخ مثلها. فتسيل دماء أربعين ألف عربي ما بين عشية وضحاها، بين سمع سفراء الدول وبصرها، فلا نرى أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا تثور أو تغضب أو تقول، وتمضي فرنسا الباغية تنفذ سياستها في تدمير شعوب برمتها. تدمر حضارتها وماضيها وقواها وتستل الأرواح من أبدانها بالسلاح غدراً وغيلة، وتمتهن الرجال وتسب الأديان وتفتك بالأحرار، ويرى ذلك(720/2)
ويسمعه سفراء أمريكا وبريطانيا وروسيا المدافعات عن الحرية وعن الحضارة وعن الإنسانية.
نعم، وهذه فرنسا أيضاً تقيم الولائم للسباع والوحوش في جزيرة مدغشقر، فتفتك بأهل الجزيرة فتكا لا رحمة فيه ولا هوادة والعالم كله يسمع، والإشاعات تتناقل خبر المجازر وتسميها (إخماد ثورة) وتقف بريطانيا صامته عليها الوقار، وتدير أمريكا ظهرها قد شغلتها هيئة الأمم المتحدة التي تنظمها للدفاع عن حريات البشر ورد البغي عنهم! وتنكب روسيا على إصلاح معايش خلق الله ورفع الضيم عنهم بالمساواة بينهم في حقوق الحياة!
وهذه بريطانيا ترتكب شر الأفاعيل في السودان وفي إفريقية، وتقول لأمريكا وفرنسا وروسيا إني أريد أن أكفل لهؤلاء الناس استقلالهم، وأريد أن أرد عنهم اعتداء بني جلدتهم الطامعين في استعمارهم، وأريد أن أترفق بهم حتى أرفعهم من حضيض الجهالات لكي يصبحوا شيئاً في تاريخ هذه الإنسانية، فهي تقتل منهم كما تقتل السائمة، وتدعهم عراة بل تجبرهم على أن يظلوا عراة ليخرجوا لها من ثمرات الأرض ما يرفع مستوى معيشتهم. وتعرف ذلك أمريكا وفرنسا وروسيا فيقولون لها أن نعم، ولك الشكر، ونعم ما تفعلين!
وهذه أمريكا تنطلق من معزلها مرة واحدة لتقول للعالم إني أحمي الضعفاء وأجبر كسر المحتاجين، وأعين على نوائب الحق، وأدفع الظلم عن الناس، وأرفع الضيم عن الضيم، وترى كل هذه ويراه سفراؤها ورجال جامعاتها في الشرق، فلا تكون نصرتها لنا إلا بأن تذهب إلى جزيرة العرب وإلى إيران وإلى بلاد كثيرة من بلادنا لتأخذ البترول، وتقول لنا سأعطيكم من المال مبلغاً ضخماً ترفعون به مستوى معيشتكم، فلا تحملوا المصالح الأجنبية في بلادكم على محمل سيئ أيها الرجال العقلاء. أما مسألة مصر والسودان، وأما مسالة مراكش وتونس والجزائر وهذه المذابح والمجازر، وأما مسألة فلسطين وما فيها من الجور والبغي والعدوان والنذلة، وأما مسألة العراق وسائر البلاد العربية، فذلك كله أمور تتم على وجه آخر إذا جاء حينها، وأنا لا أستطيع أن أتدخل في شئون الدول، بل الأمر كله متروك لهيئة الأمم المتحدة إن شاء الله، فاطمئنوا.
هكذا يرى العربي فعل هذه الدول القائمة على الحضارة والمدافعة عن تاريخ الإنسانية وعن شرفها وعن حريتها: فإذا رأتنا نقول لها الحق غضبت وزعمت إننا نتعصب على الأجانب(720/3)
بجهلنا وغباوتنا وحماقاتنا الموروثة، وصدقوا، فنحن جهلاء أغبياء، لأننا صدقنا يوما أن روسيا هبت لتدفع الظلم عن الطبقات المهضومة الحقوق، وأن بريطانيا ثارت لتدفع الشر عن الإنسانية المهددة بالجبروت والطغيان، وصدقنا فرنسا أنها هي الداعية إلى العدل والمساواة والإخاء، وصدقنا أمريكا أنها البريئة المدافعة عن حقوق البشر وتساويهم في هذه الحياة لا فرق بين صغير الأمم وكبيرها، أو ضعيفها وقويها، إننا جهلاء وأغبياء، لأننا أبحنا بلادنا للأجانب ليرفعوا لنا مستوى العلم والثقافة، ومستوى العيش والحياة، فأكرمنهم وآويناهم وخُدعنا بهم، وحرصنا على أن نجعلهم لا يشعرون بأننا نريد أن نكون حرباً عليهم، فأنشئوا ما أنشئوا من مدارس ومتاجر وأوغلوا في بيوتنا وأراضينا فسرقوا منا قلوب أبنائنا وأموال أغنيائنا وفقرائنا، واستبدوا بالأمر دوننا، وتركونا لا نستطيع أن ننفذ في بلادنا ما تنفذه كل دولة من القوانين والأحكام فإذا أردنا نحن أن نفعل شيئا قليلا مما تفعله الدول لحماية أرضها وأموالها، ثاروا علينا من الشرق والغرب ومن يمين وشمال يرموننا بالتعصب، ويمنون علينا أنهم هم الذين رفعوا مستوى معيشتنا، وهم الذين علمونا كيف نلبس وكيف نأكل وكيف نشرب.
فهل يحل منذ اليوم لعربي أن يصدق أكاذيب هذه الأمم الباغية في دعواها ومزاعمها؟ هل يحل لعربي أن يثق بأن أهل هذه الحضارة التي اشتملت على روائع الفن والعلم والفلسفة، قد صاروا حقاً أهل حضارة تستحق أن تسمى حضارة لأنها قربت المسافات بالطائرة التي تخطف في جو السماء خطفاً، ومست موات الأرض فاهتزت وربت وأنبتت من كب زوج بهيج، وألقت السحر في بنان الإنسان فإذا هو طبيب يدفع عوادي الموت عن رجل في النزع ليس بينه وبين الموت حجاب؟ هل يحل لعربي أن يصدق شيئاً من هذا كله وهم يكذبون على خلق الله العرب ويغررون بهم ويخدعونهم ويقتلونهم ويذبحونهم بلا رحمة ولا شفقة ولا ضمير يفزع من كل هذه الجراثيم البشعة في تاريخ الإنسانية!
تعس العلم وتعس الفن وتعست الفلسفة، وتعست هذه الحضارة البربرية، إذا كان هذا خلقها وهذا ضميرها! وما نفع العلم والفن والفلسفة إذا هي خلطت لنا نحن العرب بالكذب والوحشية حتى في الأعمال التي يصفونها بأنها علمية خالصة. أننا على ضعفنا وجهلنا وفقرنا أكرم نفوساً وأعلى أخلاقاً، وأنبل قلوباً من أهل هذه الحضارة البربرية التي لا يثور(720/4)
أهلها إلا لحاجة في نفوسهم، والذين لا يفزعون مما ترتكب أيديهم من الوحشية في بلادهم وفي بلاد غيرهم من البشر.
ليعلم أهل هذه الحضارة في أوربة وأمريكا، وينبغي أن نعلمهم نحن في بلادهم وبين ظهرانينا أننا لن نهاب بعد اليوم أن نكاشفهم بعداوة عربية، لا كعداوتهم هم تلك العداوة الممزوجة بالرقة والخداع والكذب والتغرير، إنها عداوة طالب الحق الذي ينتصف لعدوه من نفسه، وينتصف لنفسه من عدوه، والذي لا يغمط حقاً وال ينكر معروفاً، ولكنه لا ينسى أن عدوه هو عدوه!
ولقد سمع أحد رجالنا، هو ابن شبرمة، يوماً عروة بن المغيرة وهو ينشد هذه الأبيات:
لا أتقي حسَك الضغائن بالرَقى ... فعل الذليل، ولو بقيت وحيدا
لكن أعد لها ضغائن مثلها ... حتى أداوي بالحقود حقودا
كالخمر خير دوائها منها بها ... تشفي السقيم وتبرئ المنجودا
فقال: لله در عروة! هذه أنفس العرب.
فهذه نفوسنا، لن تهادن من يعادينا عداوة طويت على الضغائن الصغيرة المحتقرة، فإذا أنابوا وانتصفوا لنا من أنفسهم، وعرفوا قبح ما أتوا وشناعة ما ارتكبوا، فيومئذ نصافحهم مصافحة العربي الذي لا يضمر الغدر ولا الغيلة ولا الفتك، ولا يعرف الكذب ولا المخاتلة.
محمود محمد شاكر(720/5)
على هامش معركة عين جالوت:
بين مصر ولبنان
للأستاذ أحمد رمزي بك
أمراء الغرب البُختُريون من تنوخ أهل المجد وأصحاب الرياسة في لبنان كانوا طوال الأعصر الماضية حلفاء مصر ويدها اليمنى في كثير من الملمات والحوادث. كانت (إعبية) معقلا لهم وفيها آثار قلاعهم وقصورهم، ما مررت بها إلا وغلبتني دمعة حاولت إخفاءها، فقد دالت منذ زمن بعيد دولة أمراء الغرب وذهبت ريحهم أو قل مع الريح أخبارهم، كما دالت وذهبت مع الريح دولة مصر الإسلامية التي كامن تهزّ الدنيا ويخشاها أهل الشرق وأهل الغرب.
وبقيت ذكريات ذلك العهد وآثاره وأعمال مصر الإسلامية العربية وجهادها وهي جميعاً تحرك النفس وتدعوا إلى العجب من هذا النسيان الذي لا أجد له تفسيراً لدى أحد من الناس، نعم عجبي من هذا النسيان الشامل الذي نعيش في غمراته.
لقد ذهبت أخبار أمراء الغرب ودفعوا ثمن ما عُرف عنهم من ولائهم لمصر وعرشها غالباً بعد معركة مرج دابق وزوال الدولة المصرية من الوجود، ثم فنيت جموعهم واندكت صروح مجدهم ولم يعد يسمع لهم خبر بعد أن ورث المعنيون وهم أتباعهم ثم أصهارهم الملك والإمارة من بعدهم، وجاء الشهابيون وهم من أتباع آل معن فورثوا الإمارة والرياسة من هؤلاء، فاندثرت الرياسة الكبرى لأمراء الغرب من تنوخ إذ هم الأصل والكل فروع، مثلهم في لبنان كمثل آل سلجوق في الدنيا، الكل لهم فروع من أتابكة وأيوبيين وأمراء من البحرية والبرجية وملوك من آل عثمان وسلاجقة الروم لأنهم كانوا الأصل والموئل والمرجع ومن سواهم فهم فروع لهم.
بنو هاشم في كل شرق ومغرب ... كرام بني الدنيا وأنت كريمها
وسآتيك بنبأ من أخبارهم يحلو لي ترديده وذكره، وهذا حديث يصح فيه قول البحتري:
وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس
فقد ذكر صالح بن يحيى خبر المرسوم الذي بعث به المعز أيبك صاحب مصر إلى سعد الدين خضر أحد مقدمي أمراء الغرب وقال إن أهل الشام نسبوا أمراء الغرب إلى(720/6)
المصريين فجمعوا لهم جموعاً من العشائر النازلة في بعلبك والبقاع وساروا بهم نحو جبال لبنان، والتقوا معهم في بلدة عيتات في 2 ذي القعدة سنة 653 هجرية، فاقتتلوا وكتب النصر لألوية أمراء الغرب، وكان فارس المعركة وصاحب الشهرة واليد الطولي أمير منهم اسمه زين الدين صالح بن علي بن بحتر بن علي، سطع نجمه من ذلك اليوم وسيأتي ذكره في معركة عين جالوت وغيرها من حوادث الزمن.
وصالح بن يحيى هذا مؤرخ القوم قال (وجدت باسم سعد الدين منشوراً من الملك المعز أيبك التركماني أول سلاطين الترك بالديار المصرية والعلامة (حسبي الله) وأبدي لنا تعجبه لأن بيروت كانت تتبع الشام والمنشور مصري وهو يعلم أن الملك الناصر الأيوبي صاحب ديار الشام كان يروم أخذ مصر وإعادة ملك الأيوبيين كسابق عهده قبل أن يستقل بها أمراء الأتراك، وكان المعز أيبك يدافع عن ملك مصر ويروم قهر الناصر، وكانت حوادث وخطوب ومعارك، وانتصر فيها المعز وزينت القاهرة ومصر وقلعة الجبل وقلعة الروضة عدة أيام حينما دخل العاصمة والأسرى بين يديه والسناجق منكسة والطبول مشققة، ولعبت الفرسان بالرماح على الخيول في ساحة بين القصرين، حتى إذا وصلوا إلى تربة الملك الصالح نجم الدين أيوب، صاح البحرية: (أبن عينك اليوم يا مولانا لترى أعداءك بين أيدينا).
واستمر الأمر بين مصر والشام على المنازعة والمخاصمة حتى تدخل بين الملكين من أصلح الأمر على أن تكون بلاد الشام إلى العريش للناصر وأن تكون مصر للمعز.
وكان الفرنج على الساحل وبيدهم الحصون والمعاقل يغزون ويقاتلون المسلمين كافة من أهل الشام وأهل مصر، وفي تلك الأثناء سقطت بغداد بيد التتار وساقوا خيولهم إلى أراضي الفرات والشام، فأرسل الملك الناصر صاحب الشام ابنه الملك العزيز إلى هولاكو ومعه تقادم وعدة من الأمراء فوعده بنجدة لإنقاذ مصر من حكامها.
في تلك اللحظة انتهى أمر الأيوبيين أو قضوا على أنفسهم بالفناء بعد أن خالفوا تقاليد صلاح الدين وارتموا في أحضان الغاصب، فضاعت منهم بلاد الشام ولم تقم لهم قائمة، وألقت الأقدار على جند مصر كتابة الملحمة الكبرى في عين جالوت التي تناقل حديثها الأجيال.(720/7)
في هذه المعركة انضم إلى التتار أمراء وملوك من آل أيوب وغيرهم من مقاتلة المسلمين، وجاء من أمراء الغرب من وقف في صفوف التتار يحارب بإرادته أو رغم أنفه، وكان منهم زين الدين الذي أشرنا إليه فنقل عنه أنه حضر المصاف بين عسكر مصر والتتار على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 658 فلما انهزم التتار وتفرقت جموعهم لجأ فريق منهم إلى المرتفعات واختار بعضهم قمة جبل يشرف على المعركة وتحصنوا هناك فأحاطت بهم المماليك السلطانية وسدت عليهم منافذ الخلاص فلحق بهم الأمير زين الدين وانضم باختياره إلى جند مصر وحارب التتار وأعجب مماليك السلطان بقتاله وقوة بأسه حتى صاروا يقدمون له النشاب من تراكيشهم (التركش هي جعبة السهام). ولما انتهت المعركة وجلس المظفر قطز ملك مصر، وجيء بين يديه بالأسرى وفيهم ملوك المسلمين وأمراؤهم الذين أعانوا الخصم وحاربوا في صفوفه، وقدموا إليه الملك المسعود صاحب قلعة الصبية من ملوك بني أيوب وكان شديد الوطأة في حربه على المسلمين فأمر السلطان في الحال بضرب عنقه. وجيء إليه بالأمير زين الدين المذكور وهو من أمراء الغرب فتقدم مماليك السلطان جماعة وشهدوا في حقه وحسن بلائه وقتاله للتتار على ذروة الجبل فنظر المظفر إليه وعفا عنه.
ونقل عن زين الدين المذكور وصف شائق للمعركة يوم عين جالوت قال فيه (والله ما خفت في يوم أكثر منه) وذكر أنه رأى مع العسكر الطبول محملة على ثلاثمائة جمل حتى أخفى أصواتها وقع الضرب بالسلاح على القراقل (الدروع) والخوذ وما كان يتخلل ذلك من صراخ الرجال، وذكر أن بين ما وقع بين يديه فرس هائل المنظر من خيول التتار كان يسابق عليها طويلا.
ذلك خبر أمير من أمراء الغرب على هامش معركة عين جالوت. أما مواقفهم بعد ذلك مع ملوك مصر أيام الظاهر وقلاوون وابنيه الأشرف خليل والناصر محمد فكثيرة، تبرهن على ود وصداقة وتآلف مع مصر، ومنها رسالة من ديوان مصر تقول: (قد بلغنا أن جموعكم قد تفرقت، وأنتم تعلمون أن هذا الوقت الذي يظهر فيه مناصحة الدين والدولة القاهرة فليتقدم الأمراء أيدهم الله برد الرجال إلى جهة صيداء، وليجتهدوا في المساعدة على حفظ هذا النفر مؤيدين إن شاء الله). . .(720/8)
أحمد رمزي(720/9)
3 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
والآن فلنستخدم تعرفين جديدين كان يحق لنا أن نستخدمهما من قبل. لنطلق كلمة (المحتوى الظاهر للحلم) على الحلم كما يرويه صاحبه. ولنطلق كلمة (المحتوى الباطن للحلم) على المعنى الخفي الذي نصل إليه عن طريق الأفكار المترابطة. ولننظر بعد ذلك في العلاقة التي بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن في الأمثلة السابقة. نرى في المثال (1) أن المحتوى الظاهر للعنصر الذي اختبرناه من الحلم عبارة عن جزء صغير من المحتوى الباطن، ولكنه جزء قائم بذاته أي أن قطعة صغيرة من بناء عقلي ضخم في منطقة اللا شعور قد استطاعت أن تتخذ طريقها إلى المحتوى الظاهر. وقد تبدو هذه القطعة في أحيان أخرى على هيئة إشارة أو تلميح إلى شيء مجهول. ومهمة التفسير هي العمل على إتمام هذا البناء العقلي الذي تنتمي إليه تلك القطعة أو ترمز إليه تلك الإشارة. أما في المثال (ب) فإننا نعثر على علاقة من نوع جديد. فالمحتوى الظاهر ليس تحريفاً للمحتوى الباطن بالقدر الذي هو تمثيل له، ولكنه تمثيل بصري، أي أن الأفكار والكلمات في المحتوى الباطن يستعاض عنها بصورة بصرية في المحتوى الظاهر
والآن هل في استطاعتكم أن تقدموا في شجاعة على تفسير حلم تام بأكمله؟ دعوني أقص عليكم حلماً غير غامض تماماً ولكنه على أية حال يعطينا فكرة واضحة عن خواص الأحلام، ولنر إن كنا أصبحنا معدين لهذا العمل أم لا؟
رأت سيدة متزوجة منذ بضع سنوات الحلم الآتي: (رأت نفسها كأنما في أحد المسارح مع زوجها بينما كان نصف القاعة تقريباً خالياً من النظارة. وقد أخبرها زوجها أن صديقتها (أليس) وخطيبها قد أرادا الحضور، ولكنهما لم يجدا غير أماكن رديئة، ثلاثة مقاعد بفلورن ونصف، ولذا رفضا بالطبع شراءها. وقد أجابت السيدة إنهما في رأيها لم يخسرا كثيراً بعدم الحضور).(720/10)
كان أول شيء روته السيدة التي رأت هذا الحلم أن هناك إشارة في المحتوى الظاهر إلى السبب الحقيقي الذي أدى إلى هذا الحلم؛ فقد أخبرها زوجها فعلا في اليوم السابق أن جارتها (أليس) التي تقاربها في العمر قد تمت خطوبتها وقد جاء الحلم كرد فعل لهذه الأخبار. والآن كيف تفسر خلو نصف القاعة من النظارة؟ تقول الحالمة إن هذا العنصر يشير إلى حادثة حقيقية وقعت لها في الأسبوع الماضي. فقد أرادت السيدة أن تشاهد إحدى المسرحيات فحجزت المقاعد مقدماً مما اضطرها إلى دفع مبلغ إضافي في نظير الحجز. ولكنها عندما ذهبت إلى المسرح رأت أن تسرعها بالحجز كان من غير محله، لأن ناحية بأكملها من القاعة كانت خالية تقريباً. فلم يكن هناك داع إذاً للعجلة، وكان في استطاعتها لو تمهلت أن تشتري التذاكر ليلة التمثيل، وقد اتخذ زوجها هذه الحادثة مدعاة للتسلية والتفكه على حسابها مما أحنقها. والآن كيف نفسر الفلورن والنصف؟ يشير هذا العنصر إلى مادة غير المادة السابقة ولكنه كذلك يرجع إلى أخبار تلقتها الحالمة في اليوم السابق. فقد تلقت أخت زوجها مبلغاً وقدره 150 فلورن من زوجها على سبيل الهدية فأسرعت كالطائشة بالذهاب إلى محل لبيع الحلي حيث أنفقت المبلغ كله في شراء قطعة من الحلي. أما عن العدد ثلاثة (ثلاثة مقاعد) فلم تستطع الحالمة أن تعطينا فكرة عنه اللهم إلا أن الفتاة المخطوبة (أليس) كانت تصغرها بثلاثة شهور فقط بينما هي متزوجة منذ عشر سنوات. أما عن الجزء الغير معقول في الحلم وهو أنها اشترت ثلاث تذاكر لشخصين فقط، فلم تستطيع الحالمة أن تفسره لنا أو تعطينا أية معلومات أو أفكار أخرى بعد ذلك.
ومع هذا فقد استطعنا أن نحصل من هذه الأفكار القليلة التي أعطتنا إياها على المادة اللازمة للكشف عن المحتوى الباطن للحلم. فمما يلفت النظر أن هناك دائماً إشارة إلى الوقت في مواضع مختلفة من رواية السيدة فهي تشتري تذاكر المسرح (مبكرا) وتشتريها على (عجل) مما يضطرها إلى دفع مبلغ إضافي. وكذلك أخت زوجها قد عجلت بالذهاب إلى بائع الحلي لتشتري حلية بالمبلغ الذي معها كأنما هي تخشى أن (تفقد شيئاً) فإذا ربطنا بين هذه النقاط وبين الأسباب التي أدت إلى هذا الحلم (أي الأخبار التي تقلها السيدة من أن صديقتها التي تصغرها في العمر بثلاثة شهور فقط قد استطاعت مع هذا أن تحصل الآن على زوج صالح) وبين النقد الذي يتمثل في الخشونة التي استخدمتها في اتهام أخت(720/11)
زوجها بالحماقة والطيش لتهورها؛ فأننا نستطيع أن نحصل على التركيب الآتي للمحتوى الباطن الذي جاء المحتوى الظاهر بديلا محرفاً له: -
لقد كان من (الحماقة) أني تسرعت هكذا بالزواج فها هي أليس تضرب لي المثل على أنه كان من استطاعتي أنا أيضاً أن أجد لي زوجا فيما بعد. (التسرع ممثل بتصرفها في شراء التذاكر وبتصرف أختها في شراء الحلي. أما الزواج فممثل بالذهاب إلى المسرح). هذه هي الفكرة الرئيسية. وقد نستطيع أن نتابع التحليل، ولكن في ثقة أقل لأن التحليل في مثل هذه الحالات يحتاج إلى أن يدعم برواية السيدة الحالمة نفسها، فنقول (ولقد كان في استطاعتي أن أعثر بنفس المبلغ على زوج أفضل مائة مرة) (150 فلورن تساوي مائة مرة الفلورن والنصف). فإن استعضنا عن المال الرديئة والحلي تمثل الزوج. ولقد كنا نود لو كان في استطاعتنا أن نرى صلة بين الثلاث تذاكر والزوج، ولكن معلوماتنا للآن لا تؤهلنا لمثل هذه المعرفة. والذي استطعنا أن نعرفه فقط هو أن الحلم يمثل إنقاصاً لقدر زوجها وأسفاً على زواجها المبكر.
أظن أننا سنكون أقرب إلى العجب والارتباك منا إلى الاقتناع بهذه النتيجة التي وصلنا إليها في محاولتنا الأولى لتفسير الأحلام. فهناك أفكار كثيرة تفرض نفسها علينا بالقوة قبل أن نكون على استعداد بعد لتلقيها. وعلى هذا أرى أن نشرع على الفور في البحث عن النقط التي قد نجد فيها مادة جديدة من المعرفة: -
أولا: نلاحظ أن أهم ما في المحتوى الباطن هو عنصر التسرع والعجلة، ولكن المحتوى الظاهر على العكس لا أثر فيه لهذه الصفة بالمرة، ولولا التحليل لما داخلنا الشك مطلقاً في أن هذه الصفة تلعب أي دور. وعلى هذا يبدو لنا أنه من الجائز أن النقطة الرئيسية التي تدور حولها الأفكار اللاشعورية قد لا يوجد لها أثر إطلاقاً في المحتوى الظاهر.
ثانياً: لاحظنا أن هناك ارتباطاً لا معنى له بين الأفكار في المحتوى الظاهر (ثلاثة تذاكر لشخصين) كما أننا لاحظنا أن المحتوى الباطن يحتوي على الفكرة (لقد كان من الحماقة أن أتزوج مبكراً) ألا نستطيع أن نستنتج من ذلك أن الفكرة (لقد كان من الحماقة) قد استعيض عنها في المحتوى الظاهر بإدخال عنصر تافه لا معنى له في الحلم؟
ثالثاً: نلاحظ أن العلاقة بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن ليست من النوع البسيط(720/12)
الذي يحل فيه المحتوى الظاهر محل المحتوى الباطن دائماً. وإنما هي من النوع المركب الذي يجوز فيه أن يمثل المحتوى الظاهر عدداً من المحتويات الباطنية أو بالعكس يستعاض عن المحتوى الباطن بعدد من المحتويات الظاهرة.
أما بالنسبة إلى المعنى الإجمالي للحلم فقد اعترفت السيدة فعلا بالتفسير ولكنها عجبت له؛ فهي لم تكن على علم بأنها تحمل لزوجها مثل هذا الشعور بالاحتقار، بل لم تدر ما الداعي بالمرة للحط من قدره بهذا الشكل. ومعنى ذلك أنه مازال أمامنا كثير من المعميات لا نعلم عنها شيئاً، وعلى هذا أظن أننا لسنا معدين بعد الإعداد الكافي لتفسير حلم كامل وأننا مازلنا في حاجة أولا إلى كثير من الاستعداد والمعرفة.
محمد جمال الدين حسن(720/13)
الامتيازات الطائفية القضائية
وجوب إلغائها كالامتيازات الأجنبية
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
تخلصت البلاد من الامتيازات الأجنبية أو كادت، وتنفس الناس الصعداء، وعما قريب سيصبح جميع السكان خاضعين مدنياً وجنائياً لقضاء واحد هو القضاء الوطني أو السلطة القضائية المصرية، ولتشريع واحد مستمد من السلطة التشريعية المصرية. سلطتان هما، مع السلطة التنفيذية، مظهر السيادة القومية للدولة.
ولكن لم يفكر أحد إلى الآن - لا الحكومة والأفراد - في وجوب إلغاء الامتيازات الداخلية القضائية التي اختصت بها جميع الطوائف في مصر حتى المصرية المحض منها، بل إن تلك الهيئات أخذت تطالب الآن - لمناسبة مشروع القانون المعروض على مجلس الشيوخ - بالمزيد من امتيازاتها والتوسع فيها وهي ترفض بشدة إشراف القضاء الوطني العالي على أحكامها كما ترفض تنظيم الحكومة لأقلام كتابها، وذلك بدلا من أن تشكرها على هذه العناية وترحب بهذا الإصلاح المشكور الذي أرادته لها الحكومة.
ولا يخفى أن من أول واجبات الحكومات تولي القضاء وإقامة العدل بين الأفراد، وهذه هي وظيفة السلطة القضائية، إحدى السلطات الثلاث التي تكون منها سيادة الدولة، وعليها يقوم كل نظام، بل إنها الأساس العام للمجتمع الإنساني في عصرنا الحالي ولولاها لكان العالم على الحالة البدائية للشعوب المتوحشة والقبائل البدوية غير المتحضرة.
وما القول إذا عهدت حكومة من الحكومات إلى فرد من الأفراد أو جمعية أو شركة أمر الحكم في بعض القضايا المدنية أو محاكمة طائفة من الذين يرتكبون الجرائم كذلك النظام الشاذ الذي كان يتمتع به الأجانب، مع أن الذي كان يتولى محاكمتهم إنما هي محاكم نظامية قضائية تابعة لحكومات حقيقية شرعية ولكنها حكومات أجنبية، وكانت المحاكم القنصلية تحكم بمقتضى قوانين وضعية مدونة معروفة للجميع سنتها سلطات تشريعية عامة في حدود سلطانها. وحتى المحاكم المختلطة فأننا كنا نشكو بحق من وجودها لأنها تحدُّ من السلطة القضائية الوطنية وبالتالي من سيادة الدولة مع أنها محاكم شبه مصرية تحكم بمقتضى قوانين كانت تشترك الحكومة في وضعها مع الحكومات ذات الشأن، وتتوج أحكامها باسم(720/14)
جلالة الملك.
ولكن المدهش حقاً أن برى الحكومة المصرية تتولى القضاء في أمور الأفراد المالية فقط وتغفل ما هو أهم من المال بكثير، وأعني به مسائل الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والبنوة والولاية على النفس ونفقة الأقارب وغيرها مما هو أساس الأسرة، وعليه يقوم النظام الاجتماعي بأكمله، لأن الأسرة هي نواة المجتمع، وتترك الحكومة هذه الأمور الهامة الحيوية لبعض الهيئات الطائفية تتصرف فيها كما تشاء من غير رقيب عليها ولا قانون وضعي ثابت لها يقيدها إلى حد ما في أحكامها، قانون صادر من السلطة التشريعية المصرية صاحبة الولاية على التشريع في البلاد.
وكم كتب المفكرون والمصلحون عن فوضى محاكم الأحوال الشخصية في مصر، والفساد المنتشر بين جدرانها، والتحيز والتلاعب بل الظلم البين الذي طالما وقع في أحكامها. وإني أحيل القارئ إلى المقالات الضافية التي ينشرها عنها بحق الأستاذ عزيز خانكي بك وغيره ممن طوقوا هذا الباب وبينوا عيوب تلك الهيئات وفساد نظامها وخلوها من كل تشريع وضعي لأحوالها الشخصية صادر من السلطة التشريعية. ولا أنكر أنه توجد بعض مجالس منظمة قليلا إلى حد ما مثل المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس بالقاهرة، ولكن هذا استثناء لا يبنى عليه حكم، وهو يرجع إلى بعض الأفراد الأفاضل الذي يجلسون الآن في هذه الهيئة وليس ما يضمن بقاء الحال فيها هكذا. ويكفي أن نقول إن كثيراً ما تؤجل القضايا إدارياً لعدم حضور الأعضاء كلهم أو بعضهم في أكثر من نصف جلسات الستة وأن هذه المجالس تعطل مدة أربعة شهور الصيف.
فواجب الحكومة الآن أن تمحو هذا النظام العتيق البالي من أساسه وأن تلغي الامتيازات الداخلية القضائية التي كانت قد اختصت بها الطوائف في الأزمنة الغابرة لعدم ثقتها بالحكومات القائمة في تلك العهود إذ كانت فكرة حماية الأسرة والنظم الاجتماعية معدومة من أذهان الناس، وكانت وظيفة الحكومات في تولي القضاة غير راسخة - نقول إن واجب الحكومة الآن أن تلغي هذه الامتيازات الداخلية الطائفية أسوة بالامتيازات الأجنبية، وذلك بأن تلحق اختصاص محاكم الأحوال الشخصية جميعها الشرعية والمالية بالمحاكم الوطنية كما هو حاصل في جميع البلاد الغربية وفي تركيا نفسها، وأن تسن تشريعاً عاماً للأحوال(720/15)
الشخصية لجميع السكان يضم إلى القانون المدني تطبقه على الجميع محاكمنا الوطنية. وأعتقد أن قضاتنا أوفر علما وأكفأ من أعضاء تلك المجالس وأبعد عن الهوى والتحيز وسوء التصرف. وها هو القانون المدني في تركيا وفي جميع البلاد الغربية والأمريكية وفي اليابان يشتمل من جهة على الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والبنوة والولاية على عديمي الأهلية الخ كما يشتمل من جهة أخرى - في الجزء الثاني منه - على الأحوال الخاصة بالمال كالملكية والالتزامات والعقود وغيرها.
ولا مانع من إنشاء نظام انتقال يقوم في فترة من الزمن ثم يلغي، تشكل فيه مثلا دوائر أحوال شخصية بالمحاكم الوطنية، دائرة لكل ملة، يجلس فيها مع القاضي الوطني الرئيس (عضو ملة) من أبناء الطائفة كما هو حاصل الآن في المجالس الحسبية ويسن لهذه الفترة تشريع وقتي للمسلمين، وآخر لجميع الطوائف غير المسلمة تقرب فيه أوجه الخلاف بين التشريعين، فيقيد مثلا حق الطلاق وحق تعدد الزوجات في التشريع الأول وتوسع هذه المسائل قليلا في التشريع الثاني إلى أن يلتقيا مستقبلا في التشريع الموحد الأمثل المنشود.
ولنذكر الخطوة الجريئة التي خطتها الحكومة المصرية الوطنية قبل الاحتلال المشؤوم حين سنت القانون المدني وقانون العقوبات العصريين العظيمين، واستعاضت بهما عن الأحكام القديمة، فلم يرتفع في ذلك الحين إلا احتجاجات خافتة من بعض العناصر الرجعية الجاهلة، لم تلبث أن سكتت لأن أولي الأمر يومئذ لم يعيروها أدنى اهتمام وذهبوا في طريق الإصلاح الاجتماعي العظيم الذي بدءوا فيه حتى رفعوا مصر إلى مصاف الدول المتمدنة الراقية، واستطاع المصلح العصري الكبير الخديو إسماعيل أن يقول كلمته المشهورة وهي (إن بلادي ليست من أفريقيا ولكنها جزء من أوربا). وكان هذا بفضل النهضة العلمية التي ألقى بذورها العلماء الفرنسيون الذين حضروا إلى مصر في عهد بونابرت (نابليون) ثم أخرجها إلى حيز الفعل ونشرها المصلح الأول في مصر الحديثة وهو محمد علي الكبير وخلفاؤه من بعده حتى عمت جميع النواحي من التعليم - العصري الصحيح - إلى الصناعة والتجارة، إلى الفنون العسكرية والصناعات الحربية. واستمر ذلك العهد السعيد يرتقي ويزدهر إلى أن جاء الاحتلال اللعين فقضى على كل شيء صالح في هذا البلد المسكين، حارب التعليم وقتل الروح العلمية العصرية وجنى على العقول وأفسد الأخلاق(720/16)
ورجع بنا إلى الوراء بنحو المائتي عام على الأقل.
ومن الغريب أن يزعم بعض رجال الطوائف في مصر أن الزواج عندهم عقد ديني محض يجب أن لا يمسه أحد. وإني لا أدري إلى أي نصوص في كتبهم الدينية يستندون وهي خالية من وضع أحكام لمسائل الزواج وغيره من الأحوال الشخصية، ولم يكن الدين المسيحي دين عقائد وتشريع كبعض الأديان الأخرى وإنما هو دين عقائد فقط. ولو رجع هؤلاء المعترضون على الإصلاحات العصرية المرجوة إلى تاريخ منشأ الأنظمة الاجتماعية وتطورها لا تضح لهم أن الزواج ليس له أي مصدر ديني إطلاقاً بل إنه كان - على العكس - في بادئ الأمر في كثير من الجمعيات الإنسانية نظاماً مكروها. فكان في عدد كبير من الشعوب القديمة قاصراً على الأرقاء من النساء يستحوذ عليهن الرجال ويملكوهن ولهم عليهن حق الحياة والموت، ولكن كانت المعاشرة تؤدي في كثير من الأحوال إلى شيء من الألفة والعواطف الطيبة خصوصاً إذا كانت المرأة على جانب من الإخلاص ووداعة الأخلاق، وعلى الأخص إذا أبحت نسلاً فيحسن سيدها معاملتها وقد يدوم ارتباطهما طيلة الحياة. ولما تراءى ذلك للأحرار من النساء الفقيرات قبلت الكثيرات منهن أن يستسلمن للرجال على ذلك الوجه لتضمن القوت والمأوى ثم أخذت هذه الحالة تتدرج إلى أن عمت معظم النساء، وعندئذ تدخل المشرعون ونظموا هذه العلاقة بين الرجل والمرأة - علاقة المعاشرة المستمرة التي سُميت بالزواج، وهي قائمة إلى حد ما في بعض أنواع الطيور وبعض أنواع ذوات الثدي العليا وعلى الأخص القرود الشبيهة بالإنسان (الغورلا، والشامبنزه، والأورنجوتان والجيوبون) وتقتصر ذكر بعض هذه الأنواع على زوجة واحدة. ونذكر مثلا أن من بين طرق الزواج في القانون الروماني القديم (التقادم) فمن عاشر امرأة مدة عام كامل دون أن ينقطع عنها ليلة واحدة تصبح زوجته من تلقاء نفسهما بحكم القانون بلا حاجة إلى أي إجراء آخر، كما هو الحال في الملكية وباقي الحقوق العينية تُكسب بالتقادم أي بوضع اليد المدة الطويلة المقررة في القانون.
ومن هذا كله يتضح أن الأديان ليست مصدر الزواج وإنما هو نظام اجتماعي محض نشأ في النوع الإنساني وفي بعض أنواع الطيور والحيوانات العليا بفعل العوامل الطبيعية البحت.(720/17)
وما لنا وهذا كله، تركيا وباقي بلاد أوربا وأمريكا واليابان قد نظمت قوانينها المدنية أمور الزواج وأحكامه وكيفية انعقاده وفسخه عند الاقتضاء وما يتبعه من أحوال الطلاق والنبوة والولاية على النفس وعلى المال الخ. . . دون أي دخل للأديان. وقد فرضت أغلب الشرائع البلاد المتمدنة عقوبات صارمة على رجال الدين الذين يعقدون الزواج قبل أن يعقده موثق الزواج الحكومي الرسمي فضلاً عن أن هذا الزواج يُعد باطلاً قانوناً وكأنه لم يكن لأن الحكومات هناك ترى بحق أن الزواج نظام اجتماعي هام هو أساس الأسرة والمجتمع بأسره فلا يمكن أن يترك أمره للأفراد مهما كان مركزهم. وكل ما هناك أنه يجوز لمن يشاء من الأزواج أن يذهب، بعد إتمام العقد بالطريق النظامي الرسمي، إلى رجال الدين ليجروا طقوسهم الدينية عليه.
وإني لا أدري لماذا تفضل الحكومة الأقليات الطائفية التي تريد أن تستأثر بأحوالها الشخصية بدعوى أنها من أصل الدين - لماذا تفضلها على الأغلبية من المصريين وقد أبطلت استعمال تشريعهم الديني الخاص بالمعاملات والعقوبات واستعاضت عنه بالقوانين المدنية والتجارية والجنائية العصرية.
ومعروض الآن على مجلس الشيوخ مشروع قانون لتأييد تلك الامتيازات الطائفية مع تنظيمها. فكل محب لخير بلاده يرجو من حضرات شيوخنا أن ينظروا إلى الموضوع من ناحية مصلحة الوطن العليا غير متأثرين بفكرة مجاملة زملائهم من أبناء الطوائف الأخرى فيرفضون المشروع برمته ويرسمون للحكومة في رفضهم الخطة المثلى التي يجب أن تتبعها وهي ألا تترك أمر الأحوال الشخصية في أيدي الأفراد فإن من أول واجباتها أن تقوم هي بتنظيمها وسن قوانين عصرية صالحة لها وتتولى القضاة فيها على ما تقدم بيانه.
وليضع رجال التشريع وأولو الأمر فينا نصب أعينهم أن أول صفة يجب أن يتحلى بها من يتزعم الحكم هي الشجاعة والأقدام في تنفيذ الإصلاحات النافعة دون أن يبالي بمقاومة العناصر الرجعية الجاهلة.
نصيف المنقباوي
المحامي(720/18)
الوقائع الحربية في الشعر العربي
للرئيس نعمان ماهر الكنعاني
من بين أبواب الشعر العربي العديدة باب هام جدير بالحديث أيما جدارة ذلك هو باب شعر الوقائع الحربية. وإني لا أزعم أن هذا اللون من الشعر لم تصبه عناية الباحثين فقد بحثه كثير من رجال الدراسات الأدبية وتاريخ الأدب، وأشاروا إلى مواطن الإجادة والإبداع فيه ودلوا على قيمته الأدبية والفنية، إلا أني لم أقع على من خصه بهذا الوصف أو بحثه بحثاً عسكريا أدبيا في آن فإن جل باحثي هذا الشعر كانوا يضعونه تارة في باب الحماسة وأخرى في باب الفخر وأحيانا يزجون به في موضوع المديح وقليل منهم يضمه إلى الوصف، وقد مررت أثناء مطالعاتي لدواوين القدامى بقصائد احتوت على الكثير من أقسام المعارك التي نظمت تلك القصائد بها، أي أنها احتوت على أكثر صفات المعركة كالتحشد والاستطلاع والتقدم والتصادم واستثمار الفوز إلى غير هذه المصطلحات الحديثة. وكانت تصور تلك المعارك تصويرا بارعا يخيل لمن يقرؤها أنه يشاهد عرضاً مصورا لهاتيك الوقائع على تفاوت في السرد والتصوير فمن الشعراء من جعل منظومته لوصف المعركة فقط، ومنهم من مزجها بالمديح أو ذكرها على سبيل الفخر أو أشار إليها في معرض الحماسة.
من هؤلاء الشعراء أبو فراس الحمداني وأبو الطيب المتنبي وأبو تمام وابن هانيء الأندلسي وآخرون غيرهم سجلوا في شعرهم كثيراً من المعارك التي اشتركوا فيها أو شهدوها أو سمعوا بأنبائها. ولكن الذي أجاد وبرع إجادة ظاهرة هو الحارث بن سعيد أبو فراس الحمداني لأن هذا الشاعر اجتمعت له إمارة السيف والقلم اجتماعاً ندر أن يتم لغيره.
فاستمع إليه يحدثك عن حرب له مع الروم واقرأ صفحات هذا المعركة في هذه الرائية صفحة صفحة تعلم صحة ما ذهبنا إليه.
قال يصف تقدم جيشه في بلاد العدو:
وجبن بلاد الروم ستين ليلة ... تغادر ملك الروم فيمن تغادر
ولكن ماذا كان موقف سكان البلاد التي سارت فيها خيول الحمداني ستين ليلة:
تخر لنا ملك القبائل عنوة ... وترمي لنا بالأهل تلك المصادر(720/20)
ثم استمر على قراءة القصيدة لتعلم اقتراب جيشه من جيش العدو أعني لتعلم التقدم نحو الهدف:
ولما وردنا (لدرب) والروم فوقه ... وقدر (قسطنطين) أن ليس صادر
ضربنا بها عرض (الفرات) كأنما ... تسيرنا تحت السروج الحرائر
إلى أن وردنا (الرقتين) نسوقها ... وقد نكلت أعقابها والمقاصر
فهنا اصطدم جيش الحمداني بجيش قسطنطين وهرب الأخير واستمر الأول على الزحف:
ومال بها ذات اليمين (بمرعش) ... مجاهيد يتلو الصادر المتصادر
فلما رآى جيش (الدمستق) زاحمت ... عزائمها واستنهضتها البصائر
لقد اصطدم هذا الجيش بقوات جديدة للعدو هي جيش الدمستق فاستمع إليه يصف هذا الصدام الجديد:
وما زلن يحملن النفوس على الوجى ... إلى أن خضبن بالدماء الأشاعر
وولى على الرسم (الدمستق) هاربا ... وفي وجهه عذر من السيف عاذر
فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وفي الشدة الصماء تفنى الذخائر
لقد تحملت خيول الحمداني عبء المعركة ثقيلا إلى أن خضبت أشاعرها بالدماء حيث تم له النصر واندحر جيش الروم وفر قائده الدمستق بعد أن ترك ابنه أسيراً لدى أبي فراس.
هذه أبيات صورت معركة من معارك العرب تصويراً يكاد لا يختلف كثيراً ووصف المعارك الحديثة بالكتابة.
وهذا ابن هاني الأندلسي له باع طويل في تسجيل المعارك في شعره، فأقرأ قصيدته الدالية التي يصف فيها نصراً شهده لجيش جعفر بن علي بن غلبون واستيلاءه على قلعة كتامة قال:
أقمنا فمن فرساننا خطباؤنا ... ومنبرنا من بيض ما تطبع الهند
ولو لم يقم فيها لحمدك خاطب ... علينا وفينا قام يخطبنا الحمد
على حين لم يرفع بها لخليفة ... منار ولم يشدد بها عروة عقد
وكانت شجاً للملك ستين حجة ... وما طيب وصل لم يكن قبله صد
بها النار نار الكفر شب ضرامها ... ولو حجبت في الزند لاحترق الزند(720/21)
وعادت بها حرب الأزراق لاقحا ... وإن لم يكن فيها المهلب والأزد
ولما اكفهر الأمر أعجلت أمرها ... فألقت وليد الكفر وهي له مهد
أخذت على الأرواح كل ثنية ... وأعقبت جنداً واطئا ذيله جند
لقد تحشد جيش ابن غلبون لغزو هذا الحصن الممتنع العاصي الذي لم يطع الخلافة الأندلسية ستين عاما حتى كان شجا في حلق الدولة وتقدم إليه ورماه بالنار فصمدت واكفهر الأمر على الفاتح فأعجل الضربة حتى سقط بين يديه وأحاطه بعسكره بعد أن سد على المدافعين الطرق والمسالك ودهمهم بجنده فتساقطوا جثثا وأشلاء.
ثم هذا أبو الطيب المتنبي يسجل وقعة للأمير الخالد سيف الدولة الحمداني بقصيدة رائعة شهيرة هي تلك التي يقول في مطلعها على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
وكان سيف الدولة قد غزا قلعة الحدث وصحب معه الشاعر:
خميس مشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما تفهم الحداث إلا التراجم
فلله وقت ذوب الغش ناره ... فلم يبق إلا صارم أو ضبارم
أما وقد علمت هذا الجيش ومقداره وتحشده فاعلم حاله قبل الصدام: -
تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا ... وفر من الأبطال من لا يصادم
وهنا تخلص الجيش الحمداني من الضعفاء وسيدخل المعركة قريبا وبعد فاستمع إلى الشاعر يصور لك تعبئة القائد وأسلوب دخوله المعركة:
ضممت جناحيهم على القلب ضمة ... تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب ... وصار إلى اللبات والنصر قادم
وينخذل العدو بعد هذه الضربة ويستثمر الفوز ابن حمدان فيقول الشاعر:
نثرتهمُ فوق (الأحيدب) كله ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
تدوس بك الخيل الوكور على الذرى ... وقد كثرت حول الوكور المطاعم
ثم يعلن لك المتنبي خسائر العدو في هذه المعركة ويذكر هرب قائدهم ومقتل ابنه وصهره وابن صهره حيث يقول:
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم ... قفاه على الإقدام للوجه لائم(720/22)
وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصهر حملات الأمير الغواشم
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبى ... بما شغلتها هامهم والمعاصم
ففيما تقدم من رائعة المتنبي هذه قرأنا صفحات المعركة كما اصطلح عليها الفن العسكري الحديث من تحشد إلى دخول المعركة إلى استثمار الفوز.
هذه أمثلة من أمثلة شعر الملاحم العربية تدل على غنى الأدب العربي عامة والشعر منه خاصة في هذه الناحية من نواحي تدوين الوقائع بالمنظوم، وعسى أن تكون لنا عودة إلى هذا الموضوع فنأتي بأمثلة أخرى لنقرأ فيها أخبار وقائع أخرى.
نعمان ماهر الكنعاني
الرئيس في الجيش العراقي(720/23)
الأدب في سير أعلامه:
11 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
خيوط من النور
وبطل هذه القصة التي هي في الواقع مجموعة فصول أقوى مثال للصعلوك الذي لا يكترث لشيء والذي لا يتأثم من شيء، والذي يرضى كل الرضاء عن أعماله جميعاً لا يشعر بأي أثر في نفسه مما يسميه الناس وازع الضمير؛ وفكرة القصة الرئيسية التي تدور حولها حوادثها هي أن هذا الصعلوك المسمى شيشكوف قد اعتزم أن يشتري من ملاك الضياع من يموت من رقيق الأرض قبل أن يسجل في سجل الموتى اسمه، لكي يرهن هؤلاء للمصرف على أنهم أحياء ويربح من وراء ذلك ربحاً كبيراً؛ وينتقل من مالك إلى مالك يتواطأ معهم على الإقرار بوجود هؤلاء الرقيق، وفي أثناء ذلك يصف المؤلف حال هؤلاء التعساء الذين يقول عنهم إنهم لا يحيون كما يحيا الخلق وإنما يوجدون فحسب! وكان هؤلاء الرقيق يسمون في روسيا وقتذاك الأنفس وكان الواحد يسمى نفساً، فإذا سأل أحد الملاك صاحبه عن عدد رقيقه قال له كم نفساً تمتلك، ومن هنا جاء اسم القصة (الأنفس الميتة)؛ والقصة مليئة بتلك السخرية القاسية وذلك الضحك الشيطاني الذي يتميز به فن جوجول. . .
ونشر جوجول في نفس الوقت الذي نشر فيه (الأنفس الميتة) قصة كان لها أثرها في النفوس؛ وهي ثالثة ما أشرنا إليه من قصصه، ألا وهي قصة (العباءة) أو (المعطف) أو يؤدي معنى الرداء الخارجي الذي يلبس فوق الملابس جميعاً اتقاء للبرد، وخلاصة هذه القصة أن أحد الكتبة الفقراء وهو شيخ ضعيف كانت أعظم أمنية له أن يشتري معطفاً، فما زال على خصاصته يقتصد من ماله القليل حتى اشترى المعطف المنشود، ولكنه مُنى في أول يوم فرح فيه بمعطفه بفتية من صعاليك الشوارع سرقوا منه المعطف فقضى نحبه من فرط غمه ويأسه، والقصة على بساطة موضوعها تصف البؤس والشقاء وسوء الحظ أقوى(720/24)
تصوير وأصدقه. . .
ولجوجول كما أسلفت القول غير هذا الذي ذكرت كثير من القصص الطويلة والقصيرة والمسرحيات والنبذ الوصفية وما إليها وإنما اخترت هذه القصص الثلاث لأنها أكثر صلة بما نريد بيانه وأعني به كيف عبر أدباء الروس بالفن عن ثورة نفوسهم المكبوتة
وهكذا كان بوشكين وجوجول ومن دار حولهما من النوابغ يلقون على الأفق الحالك في حكم نيقولا الأول خيوطاً من النور كانت لأنفس الأحرار أنساً وشفاء وعزاء. . .
بقيت بعد ذلك كلمة عن تيارين فكريين قوى ظهورهما في عهد نيقولا وأعني بهما المدرسة الشرقية والمدرسة الغربية، أو بعبارة أخرى الاتجاه نحو أوربا والإبقاء على سلافية روسيا. . .
وكانت المدرسة الشرقية أو السلافية تؤمن بان مدنية روسيا غير مدنية أوروبا، وأن على الروس أن يحذروا مادية الغرب الوضيعة وأن يعودوا إلى تلك الجماعات التعاونية التي أقامها السلاف الأقدمون في قرى روسيا؛ وكانت قادة هذه المدرسة يعتقدون أن بطرس الأكبر لم يخدم روسيا بقدر ما أساء إليها بمحاولته صبغها بالصبغة الأوروبية، وكذلك كان أنصار السلافية يعدون الغرب في طور انحلاله لأنه بعد عن الجانب الروحي من الحياة، ذلك الجانب الذي اتصفت به روسيا السلافية والذي يجب أن يعيده الروس اليوم سيرته الأولى فينعموا بالإيمان والمحبة والتعاون فيما بينهم، ثم يذيعوا هذه المبادئ حتى تشمل الإنسانية جميعاً فيكون ذلك رسالة روسيا إلى العالم.
أما أنصار المدرسة الغربية، فكانوا يعزون ما في روسيا من شقاء العيش وطغيان الحكام إلى عزلتها عن أوربا وفلسفة أوربا وعلم أوربا. فإذا أرادت روسيا أن تخرج مما هي فيه فعليها أن تأخذ بمدينة أوربا في كل شيء فهذا سبيلها الذي لا سبيل لها غيره.
ومهما يكن من خلاف بين المدرستين فقد أفادت روسيا من دفاع كل منها عن وجهتها، وكانت لها من خلافهما يقظة، وبخاصة لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على أمر جوهري وذلك أنه في أي الوضعين لا يرجى لروسيا خير إذا أسلم أمرها إلى رجل واحد يستبد فيها بالأمر، ويصرف شؤونها كما لو كانت ضيعة من ضياعه.
هذه لمحة في الحال الأدبية في روسيا حتى أواخر حكم نيقولا الأول أي حوالي سنة 1851(720/25)
عندما بدا الفتى ليو تولستوي يتجه في جد إلى الأدب ليغدو بعد أمد غير بعيد أعظم كتاب القصة في القرن التاسع لا في روسيا وحدها بل في أوروبا جميعاً.
هجرته إلى القوقاز
كان لابد للفتى من هجرة إلى بلد ما، فقد ضاقت نفسه بيسنايا وبموسكو وببطرسبرج جميعاً، ومل حياته بين العبث والإسراف فيه والندم والركون إليه حتى لم يعد يطيق شيئا من هذا، بل إنه لم يعد يصبر حتى على التفكير فيه. . .
واتفق أن جاء من القوقاز أخوه الضابط نيقولا إلى يا سنايا في إجازة عيد الميلاد فنصح لأخيه نصحه في كثير مما كان يشغل باله، ومن ذلك أن يدع الزواج حتى يطمئن إلى ارتباطه برباط الحب ثم حبب إليه أن يصحبه إلى القوقاز فما أسرع ما أخذ ليو برأي أخيه وتأهب للرحيل. . . واتفقت الأسرة أن يصرف زوج أخته أمور ضياعه في غيابه وأن يدفع عنه ديونه وذلك على أن يقنع ليو بخمسين ومائة جنيه كل عام حتى يؤدي الدين كله، وقبل ليو هذا الشرط وسافر في صحبة أخيه. . .
ووقفت بهما العربة عند أول محطة على بعد أربعة عشر ميلا فما راعه إلا كلبه الأسود المحبوب قد أقبل يلهث من شدة الحر ومن سرعة العدو حتى لحق به، وعلم بعد ذلك أنه كسر لوحا من زجاج إحدى نوافذ الغرفة التي كان محبوسا بها وانطلق يعدو ليدركه لأنه لا يطيق أن يرحل عنه.
ويذكرنا هذا الرحيل برحيل (تشايلر هارولد) أو اللورد بيرون حين اضطر إلى مغادرة انجلترة إذ ضاق بها وضاقت به بعد أن أسرف على نفسه فيما أنكره المجتمع منه، وقد وجه بيرون الخطاب إلى كلبه في أول قصيدته التي وصف فيها رحلته يقول إنه لا يجد من يأسف على رحيله حتى كلبه هذا فلسوف ينساه وينكره حتى ليثب عليه ويعضه إن قدر له أوبة من غربته. .
كانت رحلة بهيجة سارة، فقد قطعا جانباً منها إلى استراخان في زورق على صفحة الفلجا، وقد عرجا على موسكو وقازان وقضيا بضعة أيام في كل من المدينتين، وكتب ليو من موسكو إلى عمته تاتيانا يخبرها في لهجة الفخر أنه استطاع أن يقهر نفسه حين زار ناحية الغجريات، ويصف لها مقدار ما بذل من مغالبة منه لنوازع نفسه حتى أمكنه أن ينتصر بعد(720/26)
جهد بالغ. . .
وفي قازان قابل تلك الفتاة التي عرفها منذ نحو خمسة أعوام صديقة لأخته ماري وأحس يومها بميل شديد نحوها وهي زنايدا مولستفوف، ولقد أحس أنه على الرغم من تلك الأعوام الخمسة لم يزل بها متعلقا. قال في يومياته بعد ذلك بشهرين (لم أفه بكلمة من كلمات الحب، ومع ذلك فقد كنت واثقا أنها كانت تدرك مشاعري، ولئن كانت بادلتني إياها فذلك لأنها كانت تفهمني. . كانت صلاتي بزنايدا يوم ذاك لا تعدو تلك المرحلة البريئة، مرحلة انجذاب روحين كل منهما نحو الأخرى؛ أيداخلك الشك في أني أحبك يا زنايدا، إن كان ذلك فإني أسألك الصفح فإن الخطأ خطأي إذ كان على أن أؤكد لك ذلك بكلمة. . أتذكرين حديقة كبير القساوسة يا زنايدا وممرها الجانبي؟ كان على أثلة لساني ما أفصح به عما في نفس كما كان على لسانك، ولكن كان عليَّ أن أكون أنا الباديء؛ أتدرين لماذا فكرت ثم لم أقل شيئا؟ ذلك لأنني كنت من السعادة بحيث لم يبق ما أرغب فيه، وخشيت أن أفسد لا هناءتي وحدي بل هناءتنا. . وسيبقى هذا اللقاء أعز ذكرى إلى نفسي حتى نهاية حياتي).
غادر ليو قازان إلى القوقاز مستمتعاً بصحبة أخيه، مبتهج النفس بما تركه فيها لقاء زنايدا، مرتاحا إلى ما يهجس في خاطره من أنه انطلق من حياة العبث انطلاقا لا رجعة فيه؛ ويجد القارئ وصفا لهذه الحال النفسية في شخصية أولينين بطل قصة (القوزاق) التي كتبها بعد ذلك بقليل، وكان أولينين كذلك مسافراً قال (في مثل هذه الحال العقلية السعيدة التي يحدث فيها نفسه فجأة شاب يستشعر أخطاءه الماضية قائلا إن ذلك لم يكن حقيقياً، فكل ما حدث في الماضي كان عرضا عديم الأهمية، وإنه حتى ذلك الوقت لم يكن حاول محاولة جدية أن يعيش، ولكن حياة جديدة بدأت تتهيأ له أسبابها، حياة لا شيء فيها من خطأ ولا من ندم، فليس إلا السعادة. وكان من الأمور البينة أن تلك الأخطاء لن تعود بين الجبال ومساقط المياه والأخطار والشركسيات الحسان)
وجد المسير بهما جده حتى بلغا ستارى يورت في القوقاز وأقاما في خيمة أول الأمر، وأعجب ليو بمنظر الرواسي الشامخة من الجبال، وكان لا يفتأ يقلب عينيه فيها ويتأمل فيما يبعثه منظرها من رهبة في نفسه، وكتب إلى عمته تاتيانا يصف لها تلك الأطواد في نشوة وحماسة، ويشرح لها البيئة التي سوف يقضي في قراها قرابة ثلاثة أعوام؛ وإن المرء إذ(720/27)
يقرأ ما جاء في قصة (الفوازاق) من وصف للجبال ليتملكه العجب من روعة وصفه، ومرد ذلك الوصف البليغ الساحر إلى معيشته سنين في سفوح هاتيك الجبال الشاهقة. . .
ولم يكد يمضي أسبوعان عليه في ستارى يورت حتى عاد إلى إحدى عاداته السيئة التي كم اعتزم أن يطلقها ألا وهي الميسر، فجلس يلعب ذات ليلة فخسر في هذه الجلسة خمسين وثمانمائة روبيل أو ما يساوي سبعة وعشرين ومائة من الجنيهات، وكدرت نفسه هذه الخسارة لا ريب، وكدرها كذلك عودته إلى هذا الذي طلب الهجرة ليتخلص منه وهو من أرذل نزعات نفسه؛ ولكن الندم عقب ذلك أخذ يتغلغل في أعماق نفسه. وآية ذلك أنه استطاع ألا يقرب الميسر بعد هذه الليلة ستة أشهر كاملة، كان يقضي فيها أوقات فراغه في الصيد والكتابة والقراءة (وتعقب حسان القوزاق).
ولفت إليه ببسالته القائد العام في تلك الجهة للجيش الروسي وذلك أثناء تطوعه ذات مرة في حملة على بعض القبائل، كانت مهمة ذلك الجيش هناك مطاردتها؛ وقد اقترح القائد أن يحلقه بالفرقة ليكون أحد رجالها؛ ووقع ذلك من نفسه موقعاً حسنا، ولعله تخيل لنفسه ما تخيله أولينين بطل قصته من البسالة والقوة، وحلم كما حلم أولينين بأن يكون قاهر القوازاق وبأن يعزى إليه وحده الفضل في تسكين القبائل الثائرة هناك.
وأرسل إلى تفليس ليمتحن هناك نوعا من الامتحان يهيئه النجاح فيه للالتحاق بالجيش، ورأى في تفليس ما يشبه الحياة في قازان فحن إلى حياة المدن بعد تلك الأشهر التي قضاها في القرى والأماكن البرية وأوشك أن يعقد النية على أن يعود أدرجه إلى موسكو، وصار يحس أنه يحيا في تلك القرى حياة أشبه ما تكون بالمنفى. . .
وظل في تفليس أياما يستمتع بمثل ما كان يستمتع به في موسكو أو في قازان، ويترقب بقلب نزوع وصبر فارغ نبأ إلحاقه بالفرقة الرابعة متطوعا فإن ذلك كفيل أن يخرجه من تردده ويجعله يركن إلى البقاء في القوقاز.
وتم له ما أراد فعاد إلى ستارى يورت، وهناك توثقت عرى الصداقة بينه وبين فتى يدعى سادو، وكانا يتعاونان في السراء والضراء ويطعمان معاً كلما واتتهما فرصة لذلك ويقتسمان المال بينهما ويتبادلان الهدايا، وقد أعجب ليو بصاحبه وما رأى من بسالته وجميل مودته وإخلاصه له ذلك الإخلاص الذي أدى به أكثر من مرة إلى أن يعرض نفسه للأخطار(720/28)
لينجي صاحبه؛ وطاب الفتى نفساً بهذه الصداقة وأحب من أجلها الحياة في القوقاز.
وكان سادو مقداماً لا يهاب شيئا، يهجم على قرى الأعداء فيأتي منها بما يبيعه وبذلك يحصل على المال فهو متلاف يبسط يده كل البسط وأبوه على ثرائه يضن عليه إلا بالقليل الذي لا ينقع غلته. . .
وكان على ليو أن يدافع عن سادو كما يدافع هذا عنه، ولذلك كان يتعرض لكثير من الخطر من أجله، حتى لقد أوشك ذات مرة أن يؤسر هو وصاحبه، ونجا مرة أخرى من الموت وهو على حافته إذا انفجرت قذيفة مدفع على مقربة منه.
ويعنينا من هذا ما نذكره عن حياته في القوقاز لصلته بفنه، فلسوف يصف هذه الحياة وصفاً يكسبه على حداثته ذيوع الصيت في دنيا القصة، ويضفي على عمله من الأصالة والروعة والدقة ما يسلكه وهو حدث في القلائل الأفذاذ.
(يتبع)
الخفيف(720/29)
قصائد تكريم مطران في الميزان
للأستاذ علي متولي صلاح
- 3 -
عندما كرموا شوقي منذ أكثر من عشرين عاماً أرسل لبنان شاعره المجلى بشاره الخوري فصدح بقصيدته الخالدة:
قف في ربى الخلد واهتف باسم شاعره ... فسدرة المنتهى أدنى منابره
فطار ذكرها في الآفاق، وبقيت بقاء الزمان. . . وعندما كرموا خليل مطران في الشهر الماضي أرسل لبنان الأستاذ شبلي الملاط بك شاعر الأرز، وهو الذي نعرف له ماضيه البعيد، وآثاره الحسان، وبدائعه الجميلة، فصدح بقصيدة خانه التوفيق فيها كثيراً!!. . . نعم، كنا نود لو أن لبنان كرم الخليل وهو ابنه وشاعره، وقيثارته المغردة بذكره وحمده، المتغنية بأمجاده وآثاره، المترجمة عن مشاعره وهواه. كنا نود أن يكون تكريمه بالجليل العظيم من الشعر، والفخم الضخم من الكلام الذي يسير سير الشمس، ويمشي على أفواه الناس مشي النار في يابس الحطب وإنه بذلك لقمين.
ألقى الأستاذ شبلي الملاط بك قصيدة طويلة تزيد على الستين بيتاً لم يعرض لذكر الخليل إلا في عشرة منها، وانصرف في باقيها يسوق كلاماً يأخذ بعضه برقاب بعض، ويجر نفسه جراً، دون وقفة تأمل، أو هدأة تصور، ودون خلجة قلب، أو همسة نفس! ولقد كنت تحس وأنت تقرأ القصيدة أنك تعتسف في بيداء مجهل، لا ظل ولا ماء، وكنت تشعر بالفراغ يشتملك ويحيط بك من كل نواحيك، وتحس إقفار البيداء إقفاراً شديداً، فتنظر هنا وتنظر هناك علك تصيب حياة أو تجد أنساً فلا تلقى إلا صوراً باهتة لا تدل على شيء، ولا تسمع إلا أصداء بعيدة لا تؤدي بك إلى شيء!
ولقد أسرف الشاعر في نسج أبيات يشهد الله أنها كانت هواء خلاء لا تكاد تعرف لها معنى إلا أن يقال عنه طويل النفس فأي معنى في قوله:
تعاقبت القرون فيمن هبوط ... تمر به القرون ومن صعود!
وأي معنى وأي شعر في قوله:
لها في كل ناحية حدود ... وتأبى أن تنام عن الحدود!(720/30)
ولقد كانت قصيدة شبلى الملاط جميعها كالحجارة المرصوصة المصفوفة بعضها وراء بعض لا ترى بينهما زهرة يانعة، أو وردة متفتحة. . . وقد خلت القصيدة من كل خيال ومن كل ظل ومن كل صورة من بدائع الصور التي لا يكون الشعر شعراً إلا بها وإلا فهو كلام لا طعم له ولا مذاق فيه! وأغلب ظني أن الشاعر عنى بأن يضفي على قصيدته ثوب القصة أو الملحمة القصيرة فخانه الحظ كثيراً فخرجت من أساطير الأقدمين أو بحكاية من حكايات كليلة ودمنة! وليتها كانت!
وكان الكثير من كلامه مبتذلا رخيصاً بعيداً عن جو الشعر وما ينبغي له من رونق وجمال وإشراق، وماذا من الشعر في قوله لمصر:
فإنا ما يشاء بنوك شئنا ... من استقلال آفاق الصعيد!
وماذا منه في قوله:
بلبنان. . . الجلاء أصاب عيداً ... وفي مصر سنشهد أي عيد!
وماذا منه في قوله إلى عذارى النيل:
وشاركن الشباب وكل حر ... يموت ولا يعيش من العبيد
أين الموسيقى الشائعة في القصيدة؟ وأين العبارة الزنانة الآخذة بمجامع القلوب؟ قصارى ما بلغته هذه القصيدة - وهي لم تصور من نواحي الخليل إلا اليسير القليل - أنها خلت من الأخطار اللغوية والأخطاء النحوية إلا في كلمة واحدة، وذلك أضعف الإيمان!!. . .
وكانت القصيدة الأخيرة في حفلات تكريم الخليل التي قرأناها لصديقنا الشاعر محمد عبد الغني حسن، وأشهد أن هلا في جملتها إشراقا وموسيقى لم يتوفرا لقصيدة الملاط، غير أن الناظر فيها نظرة المتأمل المدقق، يجد فيها هنات كنا نربأ بصديقنا عنها فقد ابتدأها بقوله (جئت ألقي في بابك الأعذارا) والأعذار لا تلقى وإنما تلقى الأحجار، وقال فيها مخاطباً الخليل (أنت كالبدر في الوجود ائتلاقاً) وكلمة الوجود فوق أنها ليست من الشعر في شيء لا ضرورة لذكرها والأستاذ خير من يعلم ذلك، وقال عجزاً لأحد الأبيات (ثم أصلح في كفك المزمارا) وأصلح هذه لغة رجال (التخت) لا رجال الشعر، وقال البيت الآتي عن العود:
لا تقل حطمته مر الليالي ... لم تحطم من عودك الأوتارا!(720/31)
والبيت لا شعر فيه، وأين هو من قول خليل مطران في مثل هذا المعنى:
حطم العود إن كر الليالي ... لم يغادر في العود إلا الأنينا!
والأوتار لا تحطم وإنما تقطع ولكنه رد العجز على الصدر وكفى. وقال يصف قلب خليل مطران:
أنت ذوّبته حناناً وعطفاً ... أنت رقعته جوى واستعاراً
وما معنى أنه رقعه جوى واستعاراً؟؟، وقوله عن الدموع (زدتها في عيوننا إكبارا) أقرب إلى كلام العامة وقوله للخليل (يا وقور الأشعار) اضطرار في الكلام كريه، فالشعر رجع للانفعال والإحساس الثائر المرهف فلا أفهم وصفه بالوقار، وقوله عن جبل لبنان إنه (مثل الأهرام في الجو خلداً) فإن كلمة الجو هنا لا معنى لها! وقوله بعد ذلك إننا (انتظمنا عواطفاً وشعوراً) يريد العكس أي انتظمتنا عاطفة واحدة وشعور واحد وهذا هو الأولى. . .
على أن الأستاذ عبد الغني كان شاعراً حقا في قوله:
يا دليل الركبان في القفر إني ... ما رأيت الحياة إلا نفارا
يا دليل السفين في البحر إني ... لم أخض في الحياة إلا بحارا
وإذا ما المنى نفرن علينا ... فمن الخير أن نزيد نفارا
فعلينا المسعى الجميل ولكن ... ما علينا أن ندرك الأوطارا
ولعله كان في هذه الأبيات يتكلم عن شعور متدفق من نفسه، وذخيرة مكنونة في فؤاده.
وكنا نود أن نتكلم قليلا عن شعر خليل ولكننا وجدنا المحتفلين به قد أفاضوا القول فيه، وصار كل كلام يقال فيه بعدهم معاداً مكرراً. . . على أننا نقولها قولة حق لا التواء فيها إن الشعر لم يؤد ما يجب عليه لشيخه الجليل، وإن الشعر قصر كثيراً في تكريمه والاحتفال به، والوفاء له، وكان الرجل حرياً بأن يقال فيه أجزل الشعر، وأقوى القصيد وأكرمه، فذلك حق يتقاضاه ويدٌ لا تقوم بشكر أياديه، وله العمر المديد حتى يؤدي إليه دينه كله!
علي متولي صلاح(720/32)
نقل الأديب
للأستاذ محمد اسعاف النشاشيبي
920 - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
صيد الخاطر لابن الجوزي: بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام، فقال: لا آكل، فقيل له: لم؟ قال: لأن نفسي تشتهيه، وأنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي، فقلت: لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين، وسبب خفائها عدم العلم. أما الوجه الأول فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن على هذا ولا أصحابه، وقد كان (عليه الصلاة السلام) يأكل لحم الدجاج، ويجب الحلوى والعسل. ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد، ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله، ولا أحب من أكله. فقال الحسن: لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم؟ وجاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالجوذج. فقال: ولم؟ قال: يقول: لا أؤدي شكره. فقال: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد. وكان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج والحمل المشوي، ويقول: إن الدابة إذا أحسن إليها عملت. وما حدث في الزهاد أمور من الفن مسروقة من الرهبانية وأنا خائف من قوله تعالى (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) والوجه الثاني أنى أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي أن لا يتناول، وللنفس في هذا مكر خفي، ورياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل وإدلالها في الباطن به، مخاطرة وغلط.
شرح النهج لابن أبي الحديد: جاء فرقد السبخي إلى الحسن، وعلى الحسن مطرف خز، فجعل ينظر إليه، وعلى فرقد ثياب صوف، فقال الحسن: ما بالك تنظر إليّ، وعليَّ ثياب أهل الجنة وعليك ثياب أهل النار؟ إن أحدكم ليجعل الزهد في ثيابه والكبر في صدره فلهو أشد عجباً بصوفه من صاحب المطرف بمطرفه. وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: إن كان لباسكم هذا موافقاً لسرائركم فلقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، ولئن كان مخالفاً لها لقد هلكتم
في (الكتاب) الكريم العظيم:
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟).(720/33)
(هو الذي سخر لكم ما في الأرض جميعاً).
(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه).
921 - أبو نواس
الموشح للمرزباني: الجمار قال: كنت عند أبي نواس، قال: اسمع أبياتاً حضرت، قلت: هات، فأنشدني:
وملحمة باللوم تحسب أنني ... بالجهل أوثر صحبة الشطار
بكرت عليّ تلومني فأجبتها ... إني لأعرف مذهب الأبرار
فدعي الملام فقد أطعت غوايتي ... وصرفت معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إتياني اللذاذة والهوى ... وتعجلا من طيب هذي الدار
أحرى وأحزم من تنظر آجل ... علمي به رجم من الأخبار
ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنة من مات أو في النار
فلما بلغ إلى هذه البيت قلت له: يا هذا، إن لك أعداء وهم ينتظرون مثل هذه السقطات، فاتق الله في نفسك، ودع الإفراط في المجون، وأكتمها. قال: والله لا أكتمها خوفاً، وإن قضى شيء كان، فنمى الخبر إلى الفضل بن الربيع ثم إلى الرشيد فما كان بعد هذا إلا أسبوع حتى حبس.
922 - . . . لكان خليفة وقتنا أحق باللعن
منهاج السنة النبوية لابن تيمية:
كان (الشيخ عبد المغيث الحربي) ينهي عن ذلك (عن لعن يزيد) وقد قيل: إن الخليفة الناصر ما بلغه نهي الشيخ عبد المغيث قصده وسأله عن ذلك، وعرف عبد المغيث أنه الخليفة، ولم يظهر أنه يعلمه فقال: يا هذا، أنا قصدي كيف ألسنة الناس عن لعن خلفاء المسلمين وولاتهم، وإلا فلو فتحنا هذا الباب لكان خليفة وقتنا أحق باللعن، فإنه يفعل أموراً منكرة أعظم مما فعله يزيد؛ فإن هذا يفعل كذا ويفعل كذا، وجعل يعدد مظالم الخليفة حتى قال له: ادع لنا يا شيخ. وذهب. . .
923 - الناس على دين ملوكهم(720/34)
تاريخ الطبري: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد، مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع النار، وأعطى الناس، وأعطى المجذّمين وقال لا تسألوا الناس. . . وفُتح في ولايته فتوح عظام: فتح موسى بن نصير الأندلس، وفتح قتيبة كاشغر، وفتح محمد بن القاسم الهند. . . وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن التزويج والجواري، فلما ولى عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟
924 - . . . فعاق اللقاء
نفح الطيب: قال أبو الحسن بن سعيد: ما سمعت ولا وقفت على شيء أبدع من قول الجزار وقد تردد إلى جمال الدين بن يغمور رئيس الديار المصرية فلم يقدر له الاجتماع به:
أسأل الله أن يديم لك الع ... ز ويبقيك ما أردت البقاء
كل يوم أرجو النعيم بلقي ... اك فألقى بالبعد عنك شقاء
علم الدهر أنني أشتكيه ... لك إذ نلتقي فعاق اللقاء
فبعث له بما أصلح حاله من الإحسان، وكتب في حقه إلى ولاة الصعيد كتباً أغنته مدة عن شكوى الزمان. ولم أسمع في وضع الشيء موضعه أحسن من قول المتنبي:
وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
ولم أسمع في وضع الشيء غير موضعه أحسن من قول أبي الفرج:
مر مدحي ضائعاً في لؤمه=كضياع السيف في كف الجبان
925 - أنسب العرب
أمالي المرتضى: ابن المزرع قال: قلت لأبي عثمان الجاحظ: من أنسب العرب؟ فقال الذي يقول:
عجلت إلى فضل الخمار فأثرت ... عذبانه بمواضع التقبيل(720/35)
وقال: هذا للبحتري في القصيدة التي أولها: (صب يخاطب مفحمات طلول).
وفي نسيب هذه القصيدة بيت ليس يقصر في الملاحة والرشاقة وأخذن بمجامع القلوب عن البيت الذي فضله به الجاحظ وهو:
أأخيب عندك والصبا لي شافع ... وأرد دونك والشباب رسولي
وفي مديح هذه القصيدة بيت معروف بفرط الحسن وهو:
لا تطلبن له الشبيه فإنه ... قمر التأمل مزنة التأميل
926 - العمل على العادة. . .
العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ لصالح بن مهدي المقبلي اليمني:
كان بعض الأمراء المغفلين قال له أصحابه: إذا جاءك أحد لأمر فقل: العمل على العادة. فجاءه يوماً إنسان قد ضرب رأسه والدم يسيل منه، فشكا إليه ذلك، فقال: العمل على العادة.
فقال الرجل: لم يكن في رأسي عادة أن يضرب قبل. وكانوا أيضاً عينوا له يوماً من الأسبوع للشكاية هو أمس ذلك اليوم فقال للرجل: يوم الشكاية أمس، فهلا جئتنا أمس؟ فقال الرجل: إنما ضرب رأسي كما ترى اليوم. ونرى أرباب الدولة الظالمة وسائر أعوانهم. . . إذا قيل لهم في شيء مما يأخذون من الأموال وكثير مما يأتون ويذرون: ما وجه هذا؟ قالوا: عادة، فإن عاودتهم سخروا منك، وقالوا وفعلوا بحسبما يقضي الهوى في القضية. . . وكذلك أشياء جرى عليها الناس مما يتعلق بالدين ومما يتعلق بالدنيا إذا سألتهم عنه كان جوابهم الذي لا يراجع فيه إلا أحمق عندهم - قولهم: عادة. . .(720/36)
وحي الساعة. . .
بين رياض المنصورة
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
بين يمن الزمان والإقبال ... حدثينا عن خالدات الليالي
يا ربوع الأبطال قصي علينا ... سيرة من مواقف الأبطال
نحن في فرحة الجلاء ظماءٌ ... لمعين من نبعك السلسال
فأفيضي الحديث ذكرى نضال ... يعربي أكرم به من نضال
يوم ذل الجبار في ساحة الأس ... ر وباع الحياة بالآمال
جاء يُزَهي بصولجان وتاج ... فانثنى بالقيود والأغلال
مثلما تطمع الحمامة في النس ... ر ويمشي الغزال للرئبال
زلزل الأرض تحته لجب الخي ... ل يُدوِّي بين القنا والنضال
واثبات عليه تصهل بالمو ... ت وبأس الجياد في التصهال
إيه يا ساحة البطولة والنص ... ر ومهد الهوى ومغنى الجمال
جنة الله أنت تزخر بالحو ... ر تهادى بين السنا والظلال
والضفاف السواحر الخضر تجري ... تحتها في وضاءة وجلال
تتغنى بها النسائم لحنا ... في معاني قطيعة أو وصال
آه من همسة الغصون ونجوى الطير ... بين البكور والآصال
ومن الموج حين يبعث في الشطآن ... ذكرى ليلاتهن الخوالي
ومن النور في مرائيه يسري ... حائراً حيرة الرؤى في الخيال
ومن الخافق الذي تستثير الشو ... ق فيه تلك الربى والمجالي
يا لقلبي لما اطمأن به الرك ... ب وألقى هنا عصا الترحال
شاركتني ضلالة الحب قلبي ... فتبارى ضلاله وضلالي
وانتبذنا هنا مكانا قصيا ... وشكوت الهوى له وشكا لي
كيف ننجو من المفاتن تبدو ... هاتفات بسحرهن حيالي
لم تدعني أنضد الشعر فيها ... في عقود تغار منها اللآلي(720/37)
واستبدت بناظري فتملي ... وتجلت لخاطري فصفا لي
فشغلنا بذاك عنها فعذراً ... رب كُثْر يكون في الإقلال(720/38)
هو الوجد. . .
للأستاذ العوضي الوكيل
هوَ الوجدُ ما تخفى بنفسك أو تبدي ... هو الوجد. . . فاذكر ما لقيت من الوجد!
ونهنه ترنيما بقلبك أوشكت ... تفيض، كمنهلِّ الدموع على الخد
وقد خلق الله المدامع رحمةً ... فتجدي، إذا ما الصبر أصبح لا يجدي!
عرفت هنا من منذ عشرين حجةً ... معاهدَ ما زالت على حالها بعدي
وما كان لي فيها هوى فأعيده ... ولا كان لي وجد بليلي ولا هند
رأيت هنا من لا أطيق ادِّكاره ... يهدهدني، حتى كأنَي في المهد
ويا طالما سرنا على النيل صحبة ... وهاأنذا أمشي على شطه وحدي
فهل أنا سال بالبساتين نضرة ... تأزرن من آذار بُرداً على برد
وبالشفق المخضوب قد لاح فاتناً ... وعطر الربى يسري في الآس والورد
وهل أنا سال بالنخيل وقد بدا ... كرهبان دير في التبتل والزهد
له صور في الماء كالطيف روعة ... تعيد من الأحلام والشعر ما تبدي
سرت في دمي نجوى خفيٌّ دبيبها ... فأورت خفوقاً في ضلوعي كالزند
فيا جيرة الأيام ولت حميدة ... أعندكم من لهفة الشوق ما عندي؟
وهل أنا سال بالأصيل وسحره ... وما فيه من هول التصاوير والجد
يرف الهوى الريان في نسماته ... ويخطر نشوان التنقل والوخد
وبالصحبة الغر الذين إذا شدوا ... شدت لهم الأيام لحناً من الخلد
يقودهم للنصر أكر قائد ... ويهديهم للمجد أرشد من يهدي
أبا الشعر لا يجديك شكر نسوقه ... ولا خالص صاف من الحب والود
أقمت عكاظ الشعر والنثر ها هنا ... بأرباض وادي النيل لا في ربى نجد
وأحييت من ذكرى البطولة وقعة ... بها غزى الغازي وبوغت بالقيد
جعلت لأيام العروبة رونقا ... يجمله الفاروق ذو العزم والأيد(720/39)
الأدب والفن في أسبُوع
خطبة. . ودهشة!
نقلت الأنباء البرقية تفاصيل الزيارة التي قام بها سلطان مراكش لمنطقة طنجة، وقالت هذه الأنباء فيما نقلته: (وقد أدى السلطان صلاة الجمعة في مسجد طنجة الكبير، ودهش الناس إذ رأوه يرتقي منبر المسجد ويلقي خطبة الجمعة بدل الإمام. .)
دهش الناس!! هكذا قالت الأنباء في روايتها بالنص، وحق للناس والله أن يدهشوا وأن يعجبوا، لأنهم يعتقدون في هذه الأيام أن مرتبة الخطبة في الجمعة مرتبة نازلة يكفي أن يتقلدها فقيه كتّاب، أو شخص يحسن قراءة الفقرات المسجوعة من كتاب. .
كلا أيها الناس، لا موضع للدهشة لو علمتم، فقد شرعت خطبة الجمعة لتكون قوة موجهة للعقول والأفكار، ولتكون صلة بين الحاكم والرعية في التوجه إلى الدين والأخذ بمظاهر الدنيا، وقد كانت مرتبة النبوة من قبل، وكان منبر المسجد مرقى الخلفاء الراشدين وحكام المسلمين، وكانت في موضوعها يوم ذاك تعالج الحال القائمة في صفوف الجماعة، وفي أسلوبها نموذج من الأدب العالي تتجلى فيه الروعة والبراعة، فلما صار الأمر في قيادة العرب للأعاجم، وارتضخت الألسن العامية واللكنة، وتدلت الأقدار عن مراقيها، كان شأن الخطبة ما نراه اليوم، مادتها كلام ملق مضطرب، وأداتها سيف من الخشب، وهدفها تعداد الفضائل للأيام والمواسم. . . إنه تقليد حسن ذلك الذي أحياه سلطان مراكش العظيم، فهل يمكن أن نراه تقليداً سائداً في جميع الأقطار الإسلامية؟.
الغرب والسيادة الأدبية:
تنشر (الأهرام) تحقيقات صحفية عن الحالة في إيطاليا بعد الحرب للصحفي النابه الأستاذ أميل خوري، وهي تحقيقات تتميز بدقة الملاحظة وعمق التفكير وتبين العلل الكامنة وراء الظواهر الواضحة. .
وإنما يعنينا من هذه التحقيقات كلمة عرض بها الكاتب إلى الحالة الأدبية في إيطاليا خاصة وفي أوربا عامة إذ قال: (والأضرار الأدبية التي أنزلها الفاشية الغاشمة بالأمة الإيطالية يلمس الباحث بعضها في ضعف الإنتاج الفكري ذي القيمة الصحيحة، فقد تضاءل عدد الأدباء المنتجين من أبناء الجيل الذي تفتحت أكمام نفسه لشمس الحياة في مطلع عهد(720/40)
موسوليني والذي هو اليوم جيل الشباب في إيطاليا. وأظنني أكون أكثر إنصافاً وأقرب إلى محجة الصواب والحقيقة إذا قلت إن هذا النضوب تشكو منه بلاد أخرى، أو البلاد الأوربية بأسرها التي لم يقم فيها طاغية ولم تأخذ النظم الغاشمة على شبابها سبل الأدب الحر والتفكير الطليق، ففرنسا مثلا التي ظهر فيها غداة الحرب العامة الأولى رهط من كبار الكتاب والمفكرين لا نجد فيها من الكتاب الجدد سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة)
(فالداء إذن أوربي عام، لا إيطالي خاص، وأظنه مظهراً من مظاهر إحدى الأزمات الحادة التي يشكو منها الغرب والتي لا تدل على أن هذه القارة آخذة بالأسباب التي تضمن لها الاحتفاظ بعد وقت قصير بالسيادة الأدبية والفكرية التي بسطتها على العالم غداة خروجها من ظلمات القرون الوسطى. .)
وهذا الذي يقوله الكاتب صحيح، وإن الباحث ليلمس آثاره وشواهده لأول نظرة يلقيها على الحالة الأدبية والفكرية في أوربا، ولكن ليس معنى هذا أن أوربا ستفقد سيادتها الأدبية والفكرية كما يتوقع الكاتب، لأنها حال عامة تتمثل في جميع قارات العالم، فنحن مثلا في مصر لم نجد الشبان الذين استطاعوا أن يشغلوا الأذهان عن أولئك الشيوخ الذين سيطروا على الحركة الفكرية منذ الحرب الأولى ولا تزال أسماؤهم إلى اليوم تتداولها الألسن وتشخص إليها الأبصار، وهذه أيضاً هي الحال في جميع الأقطار العربية وفي كل مناحي الشرق.
وهذه الحال في حقيقتها لا ترجع إلى إقفار الأذهان من النبوغ، بل إنها ترجع إلى ضآلة التقدير للقيم الأدبية، فالعالم الآن يعيش في نشوة علمية اقتصادية يغذى بها عواطفه ومشاعره، فالناس يعنيهم أن يلتفتوا إلى الصراع القائم بين المذاهب الاجتماعية والسياسية الآن أكثر مما يعينهم الأدب الخالص، وليس هذا مما يدعو إلى التشاؤم والخوف على مستقبل الأدب والقيم الروحية فإن العالم لابد أن يضيق بهذه الحال الطارئة، ويعود الناس في يوم قريب متلهفين يبحثون على صلاتهم الطبيعية بالحياة، ولن يكون ذلك إلا إذا هدأت الأعصاب المتوترة واطمأنت الأفكار القلقة وانتهى ذلك النضال العنيف القائم حول الرغيف.
المؤتمر الثقافي العربي الأول:(720/41)
أذاعت الأمانة العامة للجامعة العربية أن اللجنة الثقافية بها تعمل على تهيئة الوسائل لعقد المؤتمر الثقافي العربي الأول في لبنان في شهر سبتمبر القادم، وأن اللجنة لا تزال تتلقى كثيراً من الأبحاث والتقارير من مختلف البلاد العربية عن المواد التي سيتناولها المؤتمر في جداول أعماله، وسيشترك في هذا المؤتمر مندوبو البلاد العربية وكثيرون من العلماء والباحثين في الثقافة العربية كما سيحضره بعض المستشرقين للاستماع أو المحاضرة، وسينتهي المؤتمر إلى اتخاذ قرارات حول مواد الثقافة العربية في اللغة والأدب والتاريخ والتربية الوطنية ويبدي ما يراه من المقترحات لتعديل برامج التعليم والثقافة بما يحقق الفكرة الموحدة. .
مؤتمر للآثار العربية:
كما أذاعت الأمانة أيضاً أن الإدارة الثقافية بالجامعة تتخذ العدة لإقامة مؤتمر آخر في الصيف القادم للبحث في شؤون الآثار الموجودة في البلاد العربية والعمل على صيانتها وتبادلها، وهذان المؤتمران هما أول المؤتمرات التي تعقدها الجامعة العربية مستهدفة فيها توثيق عرى الصداقة بين البلاد العربية وتنشيط الاتجاه القومي العربي فيها، ونحن إذ نحبذ هذه المؤتمرات وندعو إلى الإكثار منها حتى تكون طريقاً من الطرق لتوثيق الروابط بين أبناء العروبة وتوحيد الاتجاه الفكري في البلاد العربية، فإننا نرجو أن لا تجعل الجامعة العربية الشأن في هذه المؤتمرات قاصراً على الرجال الرسميين، وأن تتعدى بها دائرة المؤتمرات الحكومية التي تقف في إبداء الرأي عند التقاليد المرعية، بل يجب على الجامعة أن تفتح الباب الواسع للباحثين الطلقاء والمفكرين الأحرار حتى تثمر هذه المؤتمرات ثمرتها، وتؤدي مهمتها
آثار الهند:
أعلن الزعيم الهندي المسلم أبو الكلام آزاد عضو الحكومة الهندية المؤتمر أنه سيطلب إلى الحكومة البريطانية، إعادة بعض القطع الأثرية الهندية التي نقلت إلى المتاحف البريطانية، ومن القطع الغالية التي سيطالب الزعيم الهندي بإعادتها الجوهرة المعروفة باسم (جبل النور) وهي الجوهرة التي قدمتها شركة الهند الشرقية البريطانية عام 185 إلى الملكة(720/42)
فيكتوريا والتي أضيفت إلى مجوهرات التاج البريطاني يوم ذاك ولا تزال تشع فيه حتى الآن. .
وليس من شك في أن إنجلترا قد انتهبت الآثار الهندية انتهاباً، وأنها نقلت إلى متاحفها من الهند كثيراً من القطع الغالية والآثار التاريخية التي لا تقدر بثمن، وهذه محنة لحقت بالآثار في جميع بلدان الشرق، فقد نهبت تلك الآثار في غفلة الزمن وظلمة الأحداث ونقلت إلى دور الغرب ومتاحفه، ولقد مضى عليها زمن طويل وهي تعيش غريبة عن أوطانها وبين أهل غير أهلها، وما نحسب أن دول الغرب تذعن لتصفية هذه المسألة في سهولة.
سيطلب مولانا أبو الكلام، ولكن هل تسمع الحكومة البريطانية لهذا الطلب؟! هيهات. .
تصوير المخطوطات العربية:
سافرت إلى سوريا ولبنان البعثة التي أوفدتها الجامعة العربية لتصوير المخطوطات العربية التي كانت قد اختيرت للتصوير في العام الماضي، وتجد الإدارة الثقافية بالجامعة في انتقاء المخطوطات العربية الأخرى التي ستقوم بتصويرها بعد أن تنتهي البعثة من عملها في سورية ولبنان.
والذي نحب أن نقوله لرجال الإدارة الثقافية بالجامعة العربية هو أن الشأن في المخطوطات العربية الموجودة بالأقطار العربية هين ميسور، ففي الإمكان تبادل هذه المخطوطات ونقلها وتصويرها بواسطة الهيئات العلمية والثقافية، ولكن الشأن كل الشأن هو تصوير المخطوطات القيمة المجهولة التي توجد في مكاتب تركيا والأسكوريال ومكاتب أوربا عامة، فلعل الجامعة تعني بأمر هذه المخطوطات قبل كل شيء، ولعلها تهتم بتصويرها حتى تكون في متناول أيدي العلماء والباحثين من أبناء العروبة.
وهناك مجال آخر يجب أن يكون مثار اهتمام الجامعة، ونعني بذلك المخطوطات التي هي في حيازة الأفراد. فهناك مخطوطات في المكاتب الخاصة غالية القيمة نادرة الوجود، وقد تكون النسخ التي يملكها الأفراد منها هي النسخ الوحيدة، فلعل الجامعة توجه اهتمامها إلى تصوير هذه المخطوطات والإسراع بجمع شملها قبل أن تبدد وتتغير وتضيع في قسمة التركات وفي مطاوي الإهمال، وعندي أن الاهتمام بهذه المخطوطات أولى، لأن المخطوطات التي في المكاتب العامة محفوظة ويمكن الحصول عليها في أي وقت.(720/43)
(الجاحظ)
أدباء العروبة في المنصورة:
افتتحت جامعة أدباء العروبة شعبة ثالثة لها في المنصورة في اليوم العاشر من (إبريل)، واتخذت من دار الأستاذ سعد الشناوي رئيس الشعبة الجديدة مكاناً للمهرجان، وحرص صاحب المعالي دسوقي باشا أباظة رئيس الجامعة على اختيار هذا اليوم بالذات لأنه يتصل بذكريات حبيبة تجعل عوامل الإلهام، وبواعث الشاعرية، وينابيع البيان، دانية لمن يريد أن يقول. فهو يعيد إلى الذاكرة صفحة مشرقة من صفحات المجد القومي يعتز بها الشرق كله بشهادة دار ابن لقمان، وهو يوافق عيد مولد جامعة أدباء العروبة ومرور العام الأول على تأليفها، ثم هو يقبل مع الزهور في بواكير الربيع، ويأتي في أعقاب جلاء الإنجليز عن المدائن المصرية.
ومن هذه المعاني المؤتلفة، والذكريات المتفقة، يجد الأديب مداداً لكلماته، ويرى الشاعر أفقاً واسعاً لخياله، فإذا جمعنا إلى هذا كله ما تميزت به المنصورة من سحر وجمال وروح وريحان لم يبق لصاحب البيان الأصيل حجة في عدم الإمتاع، ولا لذي الباع الطويل في الشعر معذرة في القصور عن الإبداع.
وقد تبارى الشعراء والأدباء في القول فأسمعونا كلاماً ليس حسناً كله ولا قبيحاً كله، ولكنه يتصل بالحسن أحياناً فيثير العواطف ويهز المشاعر، ثم يهوي إلى درك القصور والتفاهة فينصرف عنه المستمعون ويتحدث بعضهم إلى بعض فيما لا يتصل مع هذا الكلام بسبب!
كان أول الخطباء هو الأستاذ حسين رأفت بك مدير الدقهلية، وكان الناس يعتقدون أن كلمته ستكون أدنى ما تكون من لغة الإدارة منها إلى لغة الأدب، فلما استمعوا إليه كأديب وكخطيب أدركوا أنه أديب بالفطرة لا بالكسب، وكاتب بالطبع لا بالتكلف!!
ولعله الخطيب الوحيد الذي تكلم عما للأدب من أثر في حياة الأمم، وما للشعر من فعل في تهذيب العاطفة وتربية الوجدان وتنشئة الذوق الأدبي، وطبعه على غرار يمكن أبناء الأمة من إدراك ما في الحياة من معاني السمو والجمال، ومن عباراته اللطيفة قوله (وهل هز شاعر الأمم في كل العصور وحدا بها إلى غايات المجد على مر الدهور، إلا تلك البروق(720/44)
المنبعثة من آفاق البلاغة، كلما أضاء لهم سناها مشوا فيه، وهل تدين الحضارة في تقدمها، والإنسانية في تطورها، إلا لأولئك الرسل الكرام من حملة الأقلام؟)
أما معالي دسوقي باشا رئيس الجماعة فقد كان كلامه كالنبع الصافي يتدفق بالمعاني السامية والعبارات الأنيقة، ويتحدث عن رسالة جامعة الأدباء فيقول: إنها تعمل لجمع كلمة الغرب ورفع شأن الأدب، وتوثيق عرى الصداقة بين أدباء وطننا في سائر أرجائه، وبين أدباء العالم العربي في جميع أقطاره، وما العرب إلا:
أمة ينتهي البيان إليها ... وتؤول العلوم والعلماء
وتعاقب بعد الرئيس والمدير شعراء وأدباء؛ منهم من أجاد فاستحق الثناء والتقدير وأثبت وجوده بإنتاجه وحسن بيانه، ومنهم من خانه التوفيق فأذاع خطأه على الناس واستوجب النقد من حيث كان يريد الشهرة والظهور.
ومن حقنا أن نأخذ على قلم المراجعة والتصحيح في جامعة الأدباء، عدم عنايته بحذف القصائد والكلمات التافهة المغسولة التي اعتبرها أهل الذكر موضع الضعف في المهرجان، وكان من الواجب ألا يقول إلا من يحسن القول، لا كل من يريد أن يقول! ولولا المجاملة في الحق لصار أدب الجماعة خالصاً كله، ولكن لكل شيء آفة، وآفة الأدب دخول الفضوليين فيه، واستباحتهم حماه، وانتسابهم إليه وهم من غير أهله!!
ولولا أننا نكرم صفحات (الرسالة) أن تسجل ما لا خير فيه ولا فائدة في الحديث عنه لعرضنا على الفقراء بعض ما قيل مما لا يستحق أن يقال، ولكنا نؤثر أن ندع الزبد يذهب من تلقاء نفسه ولن يبقى إلا ما يصلح للبقاء.
(المنصورة)
علي عبد الله(720/45)
مِن هنا ومن هناك
الحكومات الأوربية:
(هذه فقرات من مقالة لم تكتب اليوم ولا عقب الحرب الثانية
ولا عقب الحرب الأولى. ولكن كتبت قبل ذلك كله، كتبها سنة
1912 الأستاذ العلامة محمد إسعاف النشاشيبي في حديث له
مع صديق شكا إليه ما كانت البلاد العربية عليه يومئذ، وبين
له أن لا أمل إلا بالدول الأوربية وحضارتها، اطلعنا عليها في
مجلة النفائس فأردنا تسجيلها في الرسالة سجل العرب، قائلين:
ما أشبه الليلة بالبارحة!).
(منقب)
. . . فإن هذه (الدول) لا تسعى سعيها ولا تبذل مجهودها في الاستيلاء على البلاد الشرقية لتنجيها من عذابها، وتنتاشها من ضلالتها، وتسعدها بعد بؤسها، وتهذبها وتثقفها وتعلمها ما لم تكن تعلم - ولو اتبعت ذلك لسلكت غير هذه السبيل، ولخالفت عن بُنيّات طريقتها الاستعمارية المشهورة ولكنها جدّت في تملك بلادك لتموت أنت وتحيا هي، ولتملق أنت وتثري هي، ولتذل أنت وتعز هي. وإن يوماً تراك فيه استيقظت من هجوعك وثبت إلى رشدك، وجرى في عروقك دم الوطنية ليوم عليها عظيم
ولقد لبثت فرنسا في الجزائر وتونس والتونكين وغيرها ما شاء شقاء أهلها أن تلبث، وأقام الإنكليز في الهند ومصر وأسترالية ما قدر القدر الجائر أن تقيم، ومكثت روسيا في القرم وبخارى وخيوه ما أراد القدر القاهر أن تمكث، وظلت هولاندة في جزيرة جاوا ما كتب لأهلها النحس أن تظل، ومكدت إيطالية في الصومال ما حكم الدهر الوغد أن تمكد، وتملكت غير هذه الدول من الأرجاء في المشرق والأقطار ما تملكته - فلم نرها جاءت من الخير للذين سلبتهم سلطانهم ما كان يجب عليها أن تجيء به، ولم نلفها بلغت هؤلاء(720/46)
المساكين من الإصلاح العلمي والاجتماعي ما أمله المؤملون منها، ولم نجدها بدلت من خلائقهم شيئاً، بل وجدناها كادحة جاهدة في إرداء شعورهم وإحساسهم وإفساد كل صالح فيهم، ووجدناها ضاربة دونهم ودون الرقي الذي ينشدونه بالاسداد ابتغاء ألا ينتبهوا من نومهم ويرجعوا إلى أنفسهم فيردوا ما ألم بهم وما صبحتهم به الليالي (أقال الله عثرتنا من الليالي) فيكبروه وينكروه، وإن كل جريمة تحتقبها أوربة، وإثم تكتسبه حلال طلق في شريعة السياسة ودين الاستعمار.
وإني لأقرّع القوم بأعمالهم كثيراً ولا أعذرهم على حال، لأنهم موقنون جد الإيقان بفظاعة ما يأتون وشناعة ما يجترمون وعالمون كل العلم بأنهم يجرحون فؤاد الإنسانية بما يجترحون من الإثم بإذلال بنيها وإضراعهم؛ لكنهم متصلبون في عنادهم مصرون، ومقيمون على ضلالهم لا يتزحزحون، وكافرون بدين الرحمة جاحدون، ولو كان من عذر لما سمعت استيد وجوريس وإضرابهما من الإنسانيين يصيحون ويجلبون، ويندبون ويبكون، ويقولون في كل حين: (أوربة، إنك ظالمة، أوربة، إنك آثمة، أوربة إنك جارمة. . .).
محمد إسعاف النشاشيبي
الموسيقى الإيرانية وأثرها في العالم:
لقد علمت إيران العالم كيف يغني وكيف يترنم، ولإدراك هذه الحقيقة نقدم إليك النبذة التالية التي نشرتها جريدة (القبس) الدمشقية:
(تعتبر إيران بحق سيدة الموسيقى الكلاسيكية الشرقية، ذلك أنها عرفت قبل الإسلام بزمن طويل نهضة موسيقية وصلت إلى أوجها في القرن السابع على عهدي الملك كسرى أبرويز، فقد كان هذا الملك نفسه موسيقياً، لهذا لم يأل جهداً في إنهاض فنه المحبوب، فوضع بواسطة الموسيقى الإيراني الشهير الشيرازي ومساعده الأرمني سركيس هوروم أوزان ونظريات الموسيقى الإيرانية).
(وعندما احتل العرب بلاد الفرس، لم تكن الموسيقى عندهم فناً يستحق توجيه الجهد إليه، لأنهم انصرفوا إلى توسيع رقعة لغتهم وشعرهم، ومع هذا فقد استعاروا من الإيرانيين(720/47)
طرقهم الموسيقية، وألحانهم، وآلاتهم، ونشروا هذا في بلادهم وفي البلاد التي احتلوها بآسيا الوسطى وبمصر وشمالي إفريقية، حتى في أسبانيا حيث وصل العرب بالموسيقى إلى نقطة تحول في تاريخ الفنون الجميلة في العالم، وكان للموسيقى الإيرانية تأثير كبير في هذا التحول. واليوم - وبعد قرون عديدة - ما زالت هنالك نواح في الأغاني الشعبية الأندلسية تنطبع فيها صور إيران وما زال في أسبانيا الحديثة مؤلفون موسيقيون ينحون في مقطوعاتهم وألحانهم منحى العرب).
(ولم يقتصر تأثير الموسيقى الإيرانية على العرب وحدهم، بل أثرت كذلك في الأتراك وفي الأرمن وفي الروس إذ يتجلى مدى هذا التأثير في ألحن بورودين وموسورغسكي وريمسكي كورسا كوف).
(هذه الخطوط الرئيسية للموسيقى الإيرانية، إلا أن كثرة الغزوات التي اجتاحت البلاد الإيرانية كان لها تأثير كبير في تدهور الفن الموسيقي الإيراني والزج به في مهواة الابتذال وتتابع الأنغام الرديئة). . .
طريقة جديدة في معالجة السعال الديكي
كانت معالجة السعال الديكي بالبقاء بضع ساعات على ارتفاع يتراوح بين 2500 و 3500 متر متبعة قبل الحرب. ولكن هذه الطريقة لم يكن يستطيع بها إلا بعض من أسعدهم الحظ من أصحاب الطائرات وأعضاء أندية الطيران والتابعين لسلاح الطيران الحربي.
وقد اكتشف هذه الطريقة سنة 1927 في (ستراسبورج) إثر انتشار السعال الديكي في شكل وباء، ففكر أحد الطيارين من السرب الثاني في قوة المطاردة بسلاح الطيران في أخذ ابنه الذي كان مصابا بهذا المرض بدرجة خطرة في طائرته لعلمه أن تتغير الهواء سيخفف عنه فقضى ساعة في التحليق على ارتفاع ثلاثة آلاف متر فلم يمض على ذلك ثلاثة أيام حتى شفى الطفل شفاء تاما.
واهتم السويسريون بهذه الطريقة اهتماما كبيرا وأطلقوا عليها سام (طريقة ستراسبورج)
غير أنه لو حظ في أثناء تجربته هذه أن بعض المصابين بالسعال الديكي يشفون بعد 24 ساعة. والبعض الآخر كان يحدث عنده تحس ملموس وخاصة في حدة السعال. وأخيراً(720/48)
هناك فريق ثالث يقدر بنصف الذين يعالجون بهذه الطريقة لم يكن يحدث لهم أي تغيير في الحالة.
وشرع الأطباء بعد ذلك في دراسة هذه الطريقة على وجه أتم وتنظيم استعمالها. وكان من التجارب التي أجريت أن طياراً من (ميتز) اسمه (شوفان) نجح في شفاء حوالي مائة طفل في شتاء سنة 1938 - 1939 فكان من أوائل الذين استطاعوا الوصول إلى استنتاجات من ملاحظاتهم وتقرير طريقة عملية. فكان يصعد بالأطفال إلى ارتفاعات تتراوح بين 1500 و 3500 متر وفاقا لأعمارهم.
وكان يصعد وينزل ببطء منعاً لإصابة الأطفال بأمراض الأذن التي تفسد فعل هذه الطريقة في العلاج. ولما كان النوم يغلب على الأطفال عندما يصلون إلى أقصى حد من الارتفاع فإنه كان يغطيهم لدرجة التدفئة. وعدا هذا فإنه كان يأمرهم بالغناء ليكون تنفسهم من الفم.
وفي سنة 1945 أنشئ (مركز البيولوجيا) في مدينة الطيران. وعهد إليه بدراسة هذه الطريقة تحت إشراف الطبيين (روبير بالدي) و (ماكس ريشو). فأجريت عدة تجارب في الطائرات وانهالت الطلبات من عائلات الأطفال المصابين بالسعال الديكي. فخصصت وزارة الطيران إحدى طائراتها لهذا وهي الطائرة التي كان يستقلها (جورنج) وزير الطيران في الحكومة النازية وهي من طراز (يونكر 52). وقد اختارت الوزارة هذه الطائرة لأنها بطيئة في سيرها فسيحة في فراغها ومريحة جداً في ركوبها. ولكن العلاج بطريقة (ستراسبورج) كان يكلف نفقات باهظة بالنظر لقلة البنزين وارتفاع ثمنه واستخدام طيارين أخصائيين.
لذلك أنشأ هذا المركز في داره (صندوق التنفس الصناعي) فلوحظ أن هذه الآلة يمكن أن تحدث من التأثير على الأرض ما يحدث للمريض وهو مرتفع في الجو بالطائرة. ومن ذلك العهد أوجد الدكتور (ريشون) نطاقاً لمعالجة السعال الديكي.
وقد استمر العمل بهذه الطريقة في معالجة الأطفال المصابين بالسعال الديكي تحت إشراف الأطباء الأخصائيين وملاحظاتهم.(720/49)
البريد الأدبي
تهجم لا داعي له:
نشرت مجلة الرسالة في عددها 719 نقداً للسادهانا التي قمت بترجمتها عن الشاعر الروحي تاجور، لمترجم آخر قام بذلك، هو الأستاذ طاهر الجبلاوي.
وأنا أوفق الأستاذ على أن السادهانا من أمهات الكتب العالمية، وأنها يجب أن توضع في ميزان النقد، ولكن الذي قام به الأستاذ لم يكن نقداً، بل تهجم محنق مغيظ. لقد عدد الأخطاء التي في ترجمتي فبلغت سبعة كاملة!! وذلك لا يبيح له أن يرفع عقيرته طالباً الضرب على أيدي العابثين كما يقول؛ فما بالك وهو مخطئ في تخطئته؟ إن موقفه هذا ليس موقف الناقد الممسك لسكان سفينة الأدب؛ بل موقف مدعي الاتهام الذي لا يملك شيئاً من الأدلة، فيضرب بكلامه ذات اليمين وذات اليسار.
1 - ترجم الأستاذ كلمة بتحقيق الحياة، وفسرها بقوله جعل الحياة حقيقية، وليست الحياة باطلة حتى يجعلها الكتاب حقيقة، وليس من معاني التحقيق في اللغة العربية جعل الشيء حقيقة، بل إن تحقيق الأمر إثباته، والتحقيق في الأمر فحصه، وكلاهما غير مقصود هنا؛ ولكن المقصود هو إدراك حقيقة الحياة. واستتبع خطأه هذا خطأ آخر في ترجمة بتحقيق الحياة في العمل مع أن المعنى المراد هو إدراك كنه الحياة في العمل، أو الإدراك في العمل كما ترجمتها موجزة غير مخلة للمعنى، ولا هادمة للأسلوب العربي الصحيح
2 - خطأ الأستاذ ترجمتي للجملة بمعرفة الروح، وترجمها بالوعي الروحي، وفي تخطئته خطأ مركب فالوعي في اللغة العربية الحفظ والانتباه وليس هذا هو المقصود؛ وقد جاء هذا التعبير في الفصل الأول عن العارف بالله، ولا أظن الأستاذ يستبدل بها (الواعي لله) إذن لكانت خطأ مضحكا، ونسبة الوعي للروح بدل على أنها التي تعي وتنتبه، وذلك خطأ؛ لأن المراد هنا من هذا الفصل أن يعرف الإنسان روحه، كما ورد في ص 30 (اعرف أنك واحد، أنك روح فذلك هو السبيل الذي يقودك إلى الموجود الأبدي) أما الكلمة في اللغة الإنجليزية فتستعمل للمعنيين؛ الانتباه الظاهري، والمعرفة الباطنية، كما ورد في دائرة المعارف البريطانية؛ ولكن ما بعدها هو الذي يحدد معناها، فترجمتي تنفي هذه الأخطاء المتراكبة.(720/50)
3 - خطأ الأستاذ ترجمتي لكلمة بعامل الكون، وصححها بكلمة بارئ الكون التي تقابلها في الإنجليزية وقد ورد قبل هذه الكلمة في الكتاب بأسطر قليلة: (من طبيعة المعرفة والقوة والعمل) وورد أيضاً (دعنا ننزع من أفكارنا الوهم الضعيف الذي يجعل من فرحك شيئاً منفصلا عن عملك) فلا معنى الكلمة الصحيح، ولا سياق الكلام يثبت صواب الأستاذ وخطئي ولكنه يثبت الضد.
4 - انساق الأستاذ مع التجني فحرف جملة موجودة في الكتاب؛ ثم خطأ التحريف الذي حرفه بنفسه، وهذه الجملة كما وردت في كتابي ص 30: أولئك الذين صفت أفكارهم - لا غير - هم الذين ينالون الفرح الدائم. وقد حرفها إلى قوله: الذين ضعفت أفكارهم لا غيرهم الذين ينالون الفرح؛ ولست أدري أهذا من ضعف البصر عند الأستاذ أم من ضعف البصيرة
وهناك كلمتان خطأهما وأثبت صوابهما، بينما تصح فيهما الترجمتان، ولكن سياق الكلام يحتم ترجمتي:
1 - كلمة يصح فيها معنى دورها أو معنى جزئيتها التي انصرفت إليها؛ ولكن الأستاذ لو قرأ قبل ذلك بسطور: (إن الحقيقة الصادقة أننا لا نستطيع أن نحيا إذا قسمناه - الذي هو حق - إلى جزأين، يجب أن نثوي فيه ظاهراً كما نثوي فيه باطناً) لما أسرع بإثبات الخطأ لي، ولأثبته لنفسه.
2 - كلمة يصح فيها معنى رواية الحياة والموت على أسلوب منحرف في اللغة الإنجليزية، كما يصح فيها معنى لعب الحياة والموت على أسلوب صحيح، وفي الصفحة التي قبلها ما يحتم الترجمة الثانية وينفى الأولى. إذ يقول: إن إرادته هي التي وضعت الحدود لذاته كلاعب الشطرنج يحد إرادته في لعبه بالقطع. . . والقانون الذي جعل الأرض والماء هوفان ينفصل به اللاعب عن لعبه ففي ذلك يوجد فرح اللاعب، فسياق الكلام، والأسلوب الصحيح يخطئ الأستاذ ويقف معي
بقيت لي نصيحة أنصح بها الأستاذ؛ ويه أن التهجم في النقد قبيح ولو كان على صواب، فما بالك إذا كان ممن يخطئ الصواب البين، ليأتي بدله بالخطأ الواضح، وما بالك إذا كان من رجل غير متثبت من كلامه، يهجم والأرض مزعزعة تحت أقدامه؟(720/51)
(أسيوط)
محمد محمد علي
مضحكات مبكيات:
جاء في عدد الرسالة الغراء رقم 718 تحت عنوان مضحكات مبكيات بقلم السيد صلاح الدين المنجد ما نصه:
(لقد صادفت اليوم في طريقي طالباً في الجامعة (يعني الجامعة السورية) فحدثني حديثاً أهمني. حدثني أن أستاذه قرأ عليه نصاً فيه: (ليس ثوب الحِداد) فقرأها (الحدَّاد) فلما قال له الطالب: إنها الحِداد يا أستاذ! انتهزه وأصر على أنها الحدَّاد. ثم ساق الأستاذ على ذلك دليلا تمسك به فقال هكذا أخذناها عن المستشرق فلان. . . أتعلمون من هو هذا المستشرق؟ إنه أوسع أهل الاستشراق علماً، وأذكاهم فهماً، وأفصحهم لساناً، وقوله لا يرد لأنه ثقة، ضابط، محرر).
ومن المؤلم أن ينشر السيد المنجد هذا الخبر قبل أن بتحقق من صحته. وحقيقة الأمر أن الأستاذ الجليل عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق، ومفتش اللغة العربية في وزارة المعارف في الجمهورية السورية، وأستاذ النحو والصرف في فرع اللغة العربية من كلية الآداب في الجامعة السورية، أراد في أحد دروسه أن يرمي كعادته على طلابه نكتة ليخفف عنهم قليلا من عناء الدرس فقال ما معناه:
مهما تعمق المستشرقون في دراسة لغتنا العربية، ومهما توسعوا في الاطلاع عليها فلا يستطيعون أن يتفهموا معانيها كما يتفهمها أبناؤها. ومما يروي عن أحدهم وهو من كبارهم أنه بينما كان يقرأ نصاً عربياً على طلابه قرأ (لبس ثوب الحدَّاد) بدل لفظة (الحِدَاد) ولما راجعه أحد طلابه قائلا: (إنها الحِدَاد وليست الحدَّاد يا أستاذ) أصر الأستاذ المستشرق على لفظة الحدَّاد مفسراً ذلك بقوله بما أن ثوب الحدَّاد أسود مما يصببه من هباب الفحم الأسود فإنه يقال لمن يحزن أنه لبس ثوب الحدَّاد كناية عن الحزن!
هكذا روى أستاذنا الجليل التنوخي النكتة، وعلق عليها بما قدمت. فالقضية إذن لا تتصل بأستاذ جاء من أوروبا ولكنها تتصل بأستاذ لم يذهب للدراسة في أوربا أبداً.(720/52)
أما الدكتور أمجد الطرابلسي الذي درس في أوربا ويدرس لطلاب فرع اللغة العربية تاريخ الأدب، والنصوص الأدبية، فلا يحتاج إلى تعريف.
وأما بقية ما جاء في كلمته فليس له اطلاع على حقيقته لأنه لا يمت إلينا بصلة ولكني أحب للسيد المنجد ألا يتسرع في نشر أخباره قبل أن يتحقق منها تماماً والسلام.
عمر توفيق سفر أغا(720/53)
القَصصُ
من أساطير القدماء:
خصومة في الحب!
للأستاذ ماجد فرحان سعيد
(نقلت عن الإنجليزية من كتاب (أساطير بلفنتش) '. . . .
. . . . . . .)
في يوم من الأيام، رأت يونو - زوجة المشتري وحارسة النساء - سحابة مظلمة فوق رأسها، فساورها الشك بأن زوجها قد أقام تلك السحابة ليخفي عن عيون الناس بعض أعماله المستنكرة؛ ولذا أمرت السحابة بالانقشاع، فتلاشت في الحين؛ وإذا بزوجها جالس على ضفة نهر لجيني الصفاء، وبجانبه عجلة جميلة. فاشتبهت يونو بأن شكل العجلة يخفي حورية هيفاء فاتنة الجمال. وفي الحقيقة كان ظنها صادقاً، لأن زوجها - وهو إله السماء العظيم وملك الآلهة جميعها - كان يداعب إيو إبنة إله النهر إناخوس - وعندما أحس مقدم زوجته غير شكل الحورية.
ثم جلست يونو بجانب زوجها، وبدأت تثني على جمال العجلة وتسأل عنها وعن القطيع الذي تنتمي إليه. أما زوجها، فلكي يوقف هذا الفيض المستمر من الأسئلة، أجاب بأنها مخلوقة بريئة خرجت من الأرض قبل مدة وجيزة؛ فطلبتها يونو هدية منه، فحار فيما يصنع، إذ كان يحز في نفسه ويمضها أن يهب خليلته لزوجته، ولكن كيف يمكنه أن يضن عليها بهدية زهيدة كهذه العجلة، ألا يكون قد أثار في نفسها عاصفة هوجاء من الشك والارتياب؟! فوافق على ذلك؛ أما زوجته فظلت الشكوك تتطرق إليها، ولذا عهدت إلى أرجوس مراقبة العجلة والمحافظة عليها.
وكان لأرجوس مائة عين في رأسه، فلم يتعود النوم بأكثر من اثنتين منها، لتظل إيو تحت المراقبة المستمرة. وكانت إيو ترعي سحابة النهار؛ وعندما يزحف الليل بجحافله يربطها حارسها بحبل خشن حول عنقها. وكم كانت تود لو تستطيع مد يديها لتضرع إليه أن يطلق سراحها ويمنحها الحرية! غير أنها كانت تحجم عن ذلك لأن خوارها مرعب لدرجة(720/54)
عظيمة. وكان أبوها وأخوتها يقتربون منها، ويربتون لها على ظهرها، ويعجبون بجمالها، ويغرقون في استحسان شكلها، ويقدمون لها حزماً من الحشيش الأخضر فتعلق أيديهم الممدودة. وأخيراً سولت لها نفسها أن تعترف عن اسمها لأبيها وتعرب له عن رغبتها، غير أنها لم تكن تقوي على التعبير عن شعورها؛ فعن لها أن تحفر لها اسمها على الرمل بظلفها. أما إناخوس فميزة؛ وعندما عرف أن ابنته التي كان ينشدها من غير جدوى متنكرة بتلك الهيئة، علا وجهه ضباب قاتم من الحزن، وعانق على الفور جيدها الناصع الجميل، وصرخ قائلا: (لهفي عليك أيتها العزيزة الغالية! فلأن أفقدك بالمرة أهون على من رؤيتك بهذه الحالة!) وعندما لاحظ الحارس ذلك، جاء وساقها أمامه وجلس في محل عال يتمكن فيه من رؤية ما حوله.
أما المشتري، فقد كان يزعجه كثيراً أن يرى خليلته تعاني أبرح الآلام والأهوال؛ فالتجأ إلى عطارد - رسول الآلهة - وطلب إليه أن يدبر حيلة تنتهي بالتخلص من الحارس. فأسرع عطارد واحتذى خفيه المجنحين، ولبس قبعته، وتأبط عصاه السحرية، وقفز من أبراج السماء إلى الأرض؛ وهنالك خلع أجنحته واحتفظ بعصاه وتظاهر بأنه راع يسوق قطيعه. وكان في طريقه يعزف على سرنكس مزماره الغريد، فأطرق أرجوس وأرهف مسمعه للنغمات العذاب التي أخذ يصدح المزمار بها، إذ لم يكن رأي مزماراً كهذا من قبل. فناداه قائلا: (تعال هنا أيها الشاب واجلس بجانبي على هذا الحجر؛ لتكن نفسك مطمئنة، إذ لا يوجد مكان يكثر فيه العشب كالمكان الذي ارتادته أغنامك؛ وههنا الظل الظليل الذي يتوخى الرعاة أن يصطفوا فيه مجالسهم) فجلس عطارد بجانبه، وأخذ يخوض معه في أحاديث متنوعة، ويقص عليه الأقاصيص الطريفة، ويعزف على مزماره صوادح الألحان التي تبعث النوم إلى الأجفان. . . كانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وخضبت وجنة الأفق بأشعتها السحرية التي تبهج النفوس. أما الحارس، فقد ظل يقظان ليقوم بالمراقبة، بالرغم من كل الجهود التي بذلها عطارد ليجعل النعاس يستحوذ عليه، والهجوع يستبد بجفونه. ومن بين تلك الأقاصيص قصة اختراع آلته الصداحة، قال: (كانت تعيش حورية حسناء تدعى سرنكس، وقد تيم حبها الجنيين وأخذ بمجامع قلوبهم، ولكنه لم يخطر ببالها قط أن تتزوج أحداً منهم لأنها كانت متعبدة مخلصة لديانا - إلهة الصيد. وكانت سرنكس مغرمة(720/55)
بالصيد أيضاً، فلو رأيتها في زيه لما ونيت دقيقة بأن تحسبها ديانا نفسها. فالشيء الوحيد الذي يفرق بينهما هو أنها اتخذت قوساً قرنية، بينما اتخذت ديانا قوسها من الفضة الخالصة. وفي ذات يوم بينما هي راجعة من الصيد التقى بها بان - إله الرعاة والقطعان - وأخذ ينظم لها العقود المنضدة من عبارات الغرام. ولكنها جعلت ذلك دبر أذنيها وولت هاربة بيد أن بان حفز في أثرها، وأدركها عند ضفة النهر؛ وهنالك طلبت المعونة من صويحباتها - عرائس الماء - فوافقن على إجابة طلبها. أما بان فطوقها بذراعيه، ولكنه سرعان ما دهش عندما رأى أنه يطوق مجموعة من القصب! وعندما تنهد، سمع للهواء صوتاً داخل القصب، وكانت النغمة حزينة مطربة، وأعجبته حلاوة موسيقها، وكان لها وقع عظيم في نفسه؛ فقال مشدوهاً من شدة الفرح: (وهكذا ستكونين لي!). فأخذ بضع قصبات متفاوته في الطول والقصر، ووضع بعضها بجانب البعض الآخر، ووضع آلة موسيقية جديدة أسماها سرنكس، تذكاراً لتلك الحورية). وما كاد عطارد ينهي أقصوصته حتى مد النعاس إلى الحارس ذراعيه، وطوق بهما عنقه، فأعفى. ولما رأى عطارد أن الحارس قد اطمأن إلى النوم، فصل رأسه عن جسمه بضربة قاضية دحرجته عن الصخور، وأطفأت نور عيونه المائة إلى الأبد أما يونو فأخذت عيونه وزخرفت بها ذنب طاووسها ولا تزال عليه إلى اليوم.
ولكن يونو لم تكتف بالانتقام من إيو على هذه الصورة، بل سلطت عليها ذبابة خيل لتسومها سوء العذاب أينما تذهب وتحل. أما إيو فطافت العالم كله لتأمن شرها: سبحت في البحر الأيوني الذي اشتق اسمه من اسمها وقطعت سهول اليريا وصعدت في جبل هيموس واجتازت مضيق البوسفور وجالت في أراضي سيثيا حتى وصلت أخيراً إلى ضفاف النيل؛ فاستشفع المشتري لها زوجته بعد أن وعدها أن لا يولي خليلته أي اهتمام بعد ذلك الوقت؛ وعندئذ سمحت زوجته لإيو أن تسترجع شكلها الأصيل. وكم يبدو غريباً أن تشاهدها وهي تسترجع ذلك الشكل، فيسقط الشعر الخشن عن جسمها ويتقلص قرناها، وتضيق عيناها، ويقصر فمها، وتستبدل بأظلافها أنامل رخصة؛ غير أنها كانت تخشى الكلام ظناَ منها أنها ستخور؛ ولكن ثابت لها بالتدرج شجاعتها وثقتها بنفسها؛ فذهبت لتعيش مع أخواتها وأبيها.(720/56)
وكالستو حسناء ثانية أضرمت سعير الحسد في صدر يونو، فمسختها الإلهة دبة قائلة لها: (لأسلبنك تلك الفتنة التي استهويت بها زوجي فعنا لها!). وعندها خرت كالستو إلى ركبها، وحاولت أن تتوسل إلى يونو، غير أن يديها بدأتا تتغطيان بشعر أسود، وتتسلحان بأظافر ملتوية. وأما ذلك الفم الذي طالما تغنى المشتري بجماله، فصار ينفرج عن فكين شنيعين؛ وأما صوتها الذي لو بقي على حاله لأثار كوامن الحب والشفقة في القلوب، فتحول زمجرة مرعبة. ولكن مزاجها الأصيل بقي على حاله، فلم يعتره أقل تغيير أو تبديد. وبتلك الزمجرة المستمرة، كانت تندب سوء حظها وتستعطف الرحمة من قلوب الراحمين؛ ولكنها صارت تشعر بأن المشتري عدم الشفقة، مع أنها لم تجهر بما تضمر. وفي مناسبات عديدة، كانت تخشى البقاء في الأحراج وحيدة طوال الليل وخصوصاً بين الكلاب التي تخيفها بهريرها، فتنطلق نافرة من الصيادين. ولقد بلغت بها شدة الخوف إلى أن صارت تهرب من الوحوش البرية حتى من الدببة، متناسية أنها أصبحت من معشرهن.
وفي ذات يوم وأت شابا يصطاد في الحرج، فأيقنت أنه ابنها، وثارت في نفسها آنئذ أمواج من العواطف الأبوية؛ فتوقفت وأرادت أن تعانقه. وعندما اقتربت منه وجف قلبه، فأشرع رمحه، وأوشك أن يطعنها به؛ غير أن المشتري حسما لوقوع الجريمة اختطف الاثنين إلى السماء واتخذ منهما الدب الأكبر والدب الأصغر.
فثارت ثائرة الغضب في صدر يونو عند ما رأت خصمها متسنمة عرش السماء؛ فأسرعت تيثيس وأوشيانوس - وهما إلها البحار - وخاطبتهما قائلة: - (أتسألان ملكية الآلهة لماذا انحدرت من السهول السماوية إلى هذه الأعماق؟ أجل! انظرا عند ما تخيم الظلمة تريا بجانب القطب الاثنين اللذين بولغ في إكرامهما وحلا محلى في السماء! أتظنان بأن أحداً بعد اليوم سيقيم لي وزنا أو سيني في احتقاري عند ما يعلم بأن الإساءة إليّ تقصي عني مثل هذه المكافأة؟! هذا ما استطعت أن أعمله وهذه سعة قدرتي!! حرمتها من شكاها البشري فحلت بين النجوم النيرات!! إنه لمن الأفضل أن تستعيد شكاها القديم كما فعلت إيو عند ما تجاوزت عنها؛ لهذا السبب جئت مستغيثاً بكما - إن كنتما ترأفان بي وتستنكران هذه المعاملة السيئة التي نكبت بها - أن تثأرا لحقي المسلوب، وتمنعاهما من المجيء إلى مياهكما).(720/57)
فوافق الإلهان على ذلك، إذ منعا الدب الأكبر والدب الأصغر من أن يغيبا تحت البحار كما تفعل غيرهما من النجوم، وفرضا عليهما الدوران الدائم في السماء.
القدس - كلنة تراسانطا
ماجد فرحان سعيد(720/58)
العدد 721 - بتاريخ: 28 - 04 - 1947(/)
روح اليابان. . .
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني الخطاب الآتي من الأستاذ (محمود محمد الحبيب) المعلم بمدرسة المربد بعشار البصرة قال فيه بعد ثناء نشكره عليه: (. . . نقرأ الشيء الكثير من الأدب الإنكليزي، وأكثر منه من الأدب الفرنسي، ونطالع الأدب الأمريكي والألماني واليوناني؛ ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فكشفت لنا القناع عن الأدب الواقعي الروسي خاصة في الأقاصيص. كذلك لنا نظرات في الأدب الصيني والهندي طالعناه في كثير من الكتب المعربة؛ ولكن شيئاً واحداً هو الذي لم يحظ من أدبائنا بالعناية. ذلكم هو الأدب الياباني. وهذا ما أردت من سيدي أن يلقى عليه شيئاً من أنواره ليكشف لنا مجاهله ومراميه. . . وقد عرفنا بعض فلاسفة الصين، فمن يقود الحركة الفلسفية في اليابان؟) إلى أسئلة من هذا القبيل تتلخص في السؤال عن (روح اليابان) كما تتمثل في عالم التفكير والإبداع الأدبي والفنون.
ومما هو غني عن الشرح أن أمة كبيرة عريقة التاريخ كالأمة اليابانية لا تخلو من أدب وفن وفلسفة على نمط من الأنماط
ولكن الأستاذ الحبيب على صواب حين يقول إن الآداب اليابانية لم تظفر من الغربيين ولا من العرب بالعناية التي ظفرت بها آداب الصين أو الهند القديمة. ويبدو لنا أن السر في هذا يرجع إلى المنافسة السياسية أو الحربية بين اليابان والولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا على الخصوص. فإن الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين لم ينظروا إلى الصين والهند نظراتهم إلى منافسين يهددونهم في ميادين التجارة والاستعمار، ولكنهم نظروا هذه النظرة إلى اليابانيين، فكان لهذه المنافسة شأن في الجفاء الذي قوبلت به آداب اليابان بين الناطقين باللغتين الإنجليزية والفرنسية ومن يعتمدون على هاتين اللغتين في الاطلاع على الآداب العالمية.
وقد ظفرت الصين والهند بالعناية الكبرى من مترجمي الآداب الشرقية لسبب آخر غير هذه المنافسة الاستعمارية، وهو أصالة الآداب الصينية والهندية وغلبة الاقتباس على الآداب اليابانية. فإن الهند أولا والصين ثانياً هما مرجع الثقافة الأولى التي عول عليها اليابانيون(721/1)
قبل نهضتهم الأخيرة منذ أواخر القرن الماضي، فلما نهضوا نهضتهم تلك في العصر الحديث كانت ثقافتهم نسخة مصحفة من الثقافة الأوربية أو الأمريكية؛ فلم يحفل بها الأوربيون والأمريكيون لأنهم يطلبون الغرائب ولا يحفلون كثيراً بنقل الآثار الفنية التي تشبه ما تعودوه وألفوه.
وقد حال بين الأمة اليابانية وبين تسجيل مأثوراتها الشعرية والنثرية أنها لم تعرف الكتابة قبل القرن الرابع للميلاد، ولم يكن شعراؤها وأدباؤها من جمهرة الشعب ولا من أوساط الناس في أكثر الأحوال، بل كانوا من الأمراء والكهان والأساتذة الذين يقرضون الشعر كما يقرضه المترفون في أوقات الفراغ.
على أن هذا كله لم يمنع العبقرية اليابانية أن تسلك طريقها إلى اللغات الأوربية، فتجلت تلك العبقرية في نمطين من الشعر تعلو فيهما الصبغة القومية على كل صبغة، وهما مقطوعات (الهاكو) ومنظومات الوقائع الحماسية التي وضعوها قديما في أسلوب الروايات التمثيلية.
أما مقطوعات (الهاكو) فهي أشبه الشعر بما طبع عليه اليابانيون من الدقة والأناقة، وهي مقطوعات لا تتجاوز الواحدة منها بيتين أو شطرين. ومن أمثلتها التي نشرناها في بعض مقالاتنا بيت يقول فيه الشاعر وقد نظر إلى شجرة: (ها قد سقطت هنالك زهرة كلا إنها فراشة!) وبيتان يقول فيهما الشاعر في حقائق الحياة وأوهامها: (ما دمت أعلم أن الوقائع التي نشهدها ليست هي كل اليقين، فمن أين لي أن أحلام المنام ليست سوى أحلام؟).
وكل هذا الشعر على هذا النحو من الدقة التي تتلألأ في ألفاظها الوجيزة كما يتلألأ الفص النفيس في الخاتم الفريد. وأكثر ما ينظمونه في الوصف والحكمة على هذا المثال.
أما شعر الحماسة في الروايات التمثيلية أو القصائد المطولة فهو من سليقة اليابان التي استقلوا بها عن المقتبسات الصينية، لأن أهل الصين لا يقدسون المجد العسكري كما يقدسه جيرانهم الشرقيون
وأشهر شعرائهم فيه (شكامتسو) الذي يلقب بشكسبير اليابان. وقد ترجمه إلى الإنجليزية أديب ياباني معاصر هو الأستاذ اساتارو مياموري أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة طوكيو، وقد له تقديماً حسناً يغني بعض الغناء عن المطولات في التعريف بهذا الفن(721/2)
الخاص من فنون بلاده.
ومهما يقل القائلون عن غلبة الاقتباس على الفنون اليابانية فمما لا شك فيه أن هذه الأمة مطبوعة على ذوق الجمال الأنيق والإعجاب بمحاسن الطبيعة. وقد شاءت لهم هذه الطبيعة أن يتفرغوا للأناقة وحدها بين أفانين الحسن والملاحة. فكانت الأناقة أيضاً هي السمة الغالبة على فن العمارة في جزائرهم البركانية، لأنهم قد استغنوا عن فخامة البناء بالأكواخ الصغيرة والجواسق المنقمة، فاتفقت لهم أسباب الأناقة في جميع الفنون.
ولا يخفي أن الأناقة تكون مع الاقتباس كما تكون مع الاختراع فتأنق اليابانيون فيما اقتبسوه كما تأنقوا فيما ابتدعوه.
إلا أنهم محافظون تقليديون في عاداتهم ومشاربهم قبل كل شيء
وآية هذه المحافظة التي تغني عن إطالة البحث فيما عداها أنهم لا يزالون يعبدون الملوك، ولا تزال أسرة المالكين المعبودين فيهم هي الأسرة التي ملكتهم وحلت بينهم محل الأرباب منذ عشرات القرون.
أما الفلسفة فهي كما يعلم القراء على اقتران دائم بالعقائد الدينية، ولا سيما فلسفة البحث فيما وراء الطبيعة.
وقد أخذ اليابانيون عقائدهم من البوذية الصينية، وأخذوا عن أهل الصين كل تصرف في هذه العقائد، سواء منها عقائد العبادات وعقائد السلوك.
ونشأ بينهم قديما حكماء على نهج الحكماء الصينيين، محور حكمتهم الوصايا السياسية وقواعد العرف المرعي في المعيشة اليومية. وقل بين حكمائهم من توسع فيما بعد الطبيعة وتابع النساك البوذيين في التوجه إلى الحقائق المجردة والإعراض عن الأوهام الدنيوية؛ لأن اليابانيين دنيويون بالسليقة لا يسيغون فلسفة التجرد وإنكار الحياة.
لا جرم لم تكن لليابانيين إذن فلسفة مستقلة فيما وراء الطبيعة، ولم ينبغ بينهم الفلاسفة كما نبغ الشعراء الغنائيون والحماسيون ومهندسو البناء ومنسقوا الحدائق ومنازه الجبال.
وقد ظلوا كذلك إلى القرن الماضي الذي ترجموا فيه المذاهب الفلسفية عن الغربيين، فاستبدلوا تقليداً بتقليد، ولم ينجبوا بعد فيلسوفا يبدع لليابان مذهباً لا يدين في جوهره ولبابه لأحد من فلاسفة الأوربيين والأمريكيين. وربما كان أروج الفلاسفة بينهم سبنسر ووليام(721/3)
جيمس وكارل ماركس ونيتشه، أو أقربهم إلى مذهب العمل والكفاح.
فالروح الياباني كما يتراءى في ثقافته وفنونه يتلخص في المحافظة والاقتباس وإثبات السليقة اليابانية بعد ذلك بالأناقة والحركة والنزعة العملية، أو يتلخص في كلمة واحدة هي (الدقة) التي تبدو في الطبيعة والصناعة، وتبدو في الأبدان كما تبدو في الأذواق والأذهان.
وليس هذا التعريف على كل حال بالتعريف الذي يحيط بموضوعه، ولكنه موضوع لا يحاط به في مقال، وربما كان بهذا القدر مفيداً على الأسلوب الياباني الذي أشرنا إليه.
عباس محمود العقاد(721/4)
وكم في مصر من بنات أمبان!
للأستاذ علي الطنطاوي
إجلاء هذه البنت عما تسمّيه ملك أبيها، أعظم عندي من إجلاء الإنكليز عن مدن مصر.
لأنها تحتل بحق (التملك. . .) وأولئك يحتلون بسيف الغصب.
ولأنها توشك أن تصير (كما صار غيرها) مصرية. . . في سجلات الإحصاء، على حين أنها لا تزال أجنبية الدم والهوى واللسان، وأولئك يبقون إنكليز غرباء، غاصبين أعداء، ويبقون قذى في عين كل مصري، وغصّة في حلقه، وثقلا على قلبه، حتى يخرجوا، وما من خروجهم بدّ، لأن الباطل إلى اضمحلال وإن كانت له جولة، والحق إلى ظفر وإن كانت له كبوة، وقد طالما بغى باغون، وظلم ظالمون، ولكن لم يدم باغٍ ولا خلد ظالم!
هذه البنت وأمثالها شر من الإنكليز، وسند التملك في يدها أقطع في رقابنا من السيوف في أيديهم، وفندقها في مصر الجديدة أخطر على استقلال مصر من ثكنات قصر النيل، لأن المصيبة في هؤلاء أنهم يعدون (في جنسيتهم الرسمية) منا، وهم في حقيقتهم من غيرنا، فيدخلون في الأمة دخول السم في الجسم، وصندوق الديناميت بين أحجار البناء، ويكونون منا كالشيطان من الإنسان يجري منه مجرى الدم، فلا يستطيع الخلاص من شره، ولا النجاة من أذاه. ثم إن أصحاب كل بلدٍ هم ملاّك أرضه، وأصحاب عماراته، هم سادته، وهم الحاكمون فيه، فإن شاءوا عطلوا هذه الأراضي وتركوها مواتاً فجعلوا البلد مقفراً، وردّوه فقيراً، وإن شاءوا أخلوا عماراتهم للبوم والعناكب أو هدموها، وإن شاءوا أدخلوا الناس إليها وأسكنوهم فيها، وإن شاءوا أخرجوهم منها وأغلقوا دونهم أبوابها، فمن هو الذي مكّن لهذه البنت وأمثالها أن يكونوا هم ملاك هذا البلد، وترك الكثير من أهله حفاة عراة جائعين، يدورون يسألون هذه (الخواجاية) صدقة وإحساناً، فتزورّ عنهم وتنأى بجنبها، وتصعِّر خدها، وترميهم بكل قبيحة من فمها الجميل. . .
من الذي أجرم هذه الجريمة الكبيرة، أو غفل هذه الغفلة العجيبة، حتى أصبحنا اليوم والمتاجر الكبرى للخواجات، والفنادق للخواجات، والقهوات للخواجات، وأكبر العمارات يملكه الخواجات، وأفخم السيارات يركبه الخواجات، حتى إن شارعاً عظيما هو شارع قصر النيل، لا يملك فيه المصريون، كما أخبرني الثقة، إلا ثلاث عمارات فقط، بقيت(721/5)
مصرية لأنها موقوفة. . . وسائره للخواجات. فماذا ينفعك أنك مصري مستقل، وأن الوادي وادي أبيك وجدك وواديك، إذا كان الخواجة يستطيع أن يطردك من مأواك، فلا تلقي إلا بإذنه سقفاً يكنُّك، وأن يعريك فلا تجد إلا بإذنه ثوباً يسترك، وأن يسيّرك فلا تصل إلا بإذنه إلى ترام يحملك؟
ما الاستقلال وأنت محتاج إليه في كل شيئ؟ ما العزة؟ وأنت تأكل الخبز الأسود وهو يأكل لباب البر من أرض مصر؟ وأنت تسكن الكوخ المهدم وهو يملك الصرح الضخم على أرض مصر؟ وأنت تشرب الماء العكر وهو يشرب الرحيق المصفي من خير مصر؟ وأنت تمشي حافياً وهو يختال بسيارته على ثرى مصر؟ وأنت تلبس الجلباب الخلق وهو يتخذ الثياب الرقاق من قطن مصر؟ أيصير الغريب صاحب البلد، وابن مصر يصير غريباً في مصر؟ هذا فظيع! هذا (عهد المماليك) يعود بثوب جديد!
لما كنت في العراق كنت أرى بعض العراقيين يظهرون الكراهية للمدرسين السوريين، وينفسون عليهم رواتبهم التي يأخذونها، ويقولون لهم، أنتم آتون (لتقشمرونا)، ويبغضون السوري الذي يزاحمهم على مورد الكسب في التجارة، ومنبع الربح في العمل، فكنت أتألم من ذلك وأقول، ليتهم تعلموا اللطف ومحبة الغريب. فلما جئت مصر، ورأيت هذا اللطف وما جر إليه من الضعف، وحب الغريب وما أوصل إليه من الخراب عرفت أن الخير فيما يفعل العراق.
وأنا لا أدعو العرب ليكره بعضهم بعضاً، ولكن أدعو إلى شيء معقول: هو أن العرب اليوم في أقطار العربية كلها، كجيش في مصافّه، على كل فرقة أن تدفع العدو عن حماها، ولا تدع الجيش يؤتي من قبلها، ونحن نحارب (فيما نحارب) الفقر والإفلاس، فعلى كل قطر عربي ألا يدع في أبنائه فقيراً، وألاّ يترك فيه رجلا بلا عمل، وأن يمنع الغرباء عنه من مزاحمة أهله في زراعته وتجارته وصناعته، حتى إذا اشتغلوا جميعاً، وبذلوا قواهم كلها، وبقي فيه بعد ذلك فراغ لأيد غير أيديهم، وأموال غير أموالهم، استعانوا بأبناء الأقطار العربية الأخرى، ولم يفتحوا لهم الباب إلا بمقدار الحاجة، أما أن يجيء السوري ليعمل في مصر، ويجيء المصري ليشتغل في الشام، ويترك أهل البلد بلا مال ولا عمل، فتفسد البطالة أخلاقهم، ويذلّ الفقر نفوسهم، ويعلّمهم هذا وذاك كره أخيهم العربي، فليس من(721/6)
مصلحة العرب أن يكون. هذا رأيي أعلنه بلا جمجمة ولا مداراة.
وهذا للعرب. أما (الخواجات) فأجلوهم عن بلادكم إجلاءً تاماً فلا يأتوها إلا سياحاً أو زوَّار آثار. وارفعوا أيديهم عن مرافقها فلا يملكوا منها إلا ما يملك مثله الأجنبي في بلادهم. وكل بلاد الدنيا، تمنع الأجنبي أن يملك فيها أرضاً أو عقاراً إلا بمرسوم فما بال مصر مائدة ممدودة لكل طاعم، وكنزاً مفتوحاً لكل آخذ؟ وما بال الخواجة يجيء مصر فقيراً مفلساً، لا يبتغي إلا القوت يمسك رمقه أن يموت، ولا يتمنى إلا قرشين يعود بهما إلى بلاده، فلا تمر السنون حتى يصير الفقير غنياً، والواغل على البلد مالكا له، ويغدو الشحاد صاحب المنزل؟ ويجيء معه بالغانية راقصة أو بغياً، فيقدمها للمصري بيد ويأخذ منه الإسناد على موسم القطن بيد، ثم تتجمع الإسناد فتأكل الموسم، ثم تعجز المواسم عن سداد الدين، فيملك الأرض، ثم تتبدل الدنيا غير الدنيا، وينقلب الفلك، فيصير السيد عبداً، والعبد سيداً. . .
هذا احتلال شر من احتلال الجيوش الإنكليزية، لأنه احتلال المومسات: راقصات وارتيستات، واللصوص: أصحاب متاجر وأعضاء شركات. والخلاص منه أصعب وأشق، لأنه لا يكون بالرصاص والبارود، ولا يكون بالمظاهرات والثورات، بل يكون بإعلان (النفير العام) في الكتاب أولا، وتجنيد القوى الأدبية كلها، للعمل على إعلاء همة هذا الشعب، وأن نعيد إليه ثقته بنفسه، وان نردّ عليه عزّته وكبرياءه، حتى ترتفع هامته، وتشتد عضلاته، ويشمخ أنفه، ويعلم انه لا يكون حقيقاً بملك مصر، ولا أهلا للاستقلال، ولا سليل من ملكوا الدنيا، إن لم يكن عزيزاً في نفسه، سيّداً في بلده.
ثم نعمل على أن نصب فيه روح المغامرة، وندفعه إلى اقتحام المخاطر، وركوب الأسفار، ونعلمه حب المال، فما يفلح شعب لا يريد فراق وطنه، ولا النأي عن عشه.
ثم نعلمه بغض الأجنبي، حتى يكون له ديناً، ويغدو له طبعاً، نعم البغض. . . لماذا تنفرون من سماع هذه الكلمة؟ إلا أنها منافية للّطف والمجاملة والكرم؟ يا ناس. لقد قتلنا اللطف، لقد ضيعتنا المجاملة، لقد أودى بنا الكرم. الكرم صيّرنا شحادين، والتواضع جعلنا عبيداً، فلنتعلم الاقتصاد، والعزة، أو فلنعلمهما أولادنا إذا لم يمكن أن نأخذ بهما نفوسنا.
ثم لنفهم هذا الشعب أن الأوربي يضحك علينا بالأرتستات والخمور والأزياء، كما يضحك على زنوج أفريقية بالخرز والأجراس، فلنره أننا عقلنا وشببنا عن الطوق، وأننا لم نعد(721/7)
نرضي أن يضحك أحد علينا، وما لنا ولارتستات وعندنا نساؤنا أزكى واطهر واجمل وأكمل؟ وما لنا ولأزيائه ولنا أزياؤنا؟ وما لنا ولخموره ولنا. . . شرائعنا التي تحرم علينا الخمرة، وأخلاقنا؟
فإذا استكملنا عدة الهجوم، شرعنا الرماح وهجمنا، وخضنا المعركة نحاربه بمثل سلاحه، بالعلم والجد والدأب والتعاون حتى نلقي عنا هذه القيود التي كبلنا بها، حلقة بعد حلقة، كما شدها من حولنا حلقة بعد حلقة، على أن المعركة قد بدأت من زمان، وما معامل المحلة الكبرى، ومصانع الطرايش والزجاج إلا أعلام النصر في معركة الوطن، فلنمض فيها، ولنؤلف لكل ميدان فرقة: شركة اقتصادية، فيكون لكل مرفق من المرافق شركة، حتى إدارة الفنادق والمقاهي، وتسيير الترام وبناء المنازل.
لقد أعلن فاروق مصر المعركة المقدسة، بإجلائه هذه البنت عن أرض مصر، وعقد لكم اللواء، ورفع العلم فامشوا تحته أدباء واقتصاديين وعلماء، فإن الميدان يتسع لكم جميعاً، ويحتاج إليكم جميعاً، واعلموا أن الاستقلال الحقيقي لا يكون إلا عندما يلتفت المصري فلا يرى حوله شركة أجنبية، ولا مدرسة أجنبية، ولا متجراً لأجنبي، ولا عقاراً يملكه أجنبي، وتكون كل خيرات مصر لأبناء مصر!
هذا هو الاستقلال، فعلى كل مصري أأأألأ [بشضضيبشسبشسبشن يعمل له ما يستطيع!
علي الطنطاوي(721/8)
تلفون الأرواح
للأستاذ نقولا الحداد
ذكر مراسل المصري الخاص أن المستر جون وليمسن العالم بما وراء الطبيعة قال (إن استعمال آلات تحطيم الذرة في مضمار الاتصال بعالم الأرواح، يؤدي أخيراً إلى اختراع تليفون يصل بين عالمنا المادي وعالم الأرواح بحيث يتيسر لأي شخص أن يقتني آلة تليفونية روحية لا تكلفه أكثر من خمسة جنيهات ويخاطب بها الأرواح).
إذن فليبشر العلامة الروحاني الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير. لأن أول آلة تصدر من مصنع التليفونات الروحانية ستقدم له هدية بحكم رسالته وجزاء لاجتهاده فيها. وحينئذ سينقم من الساعة التي بدأ يدرس فيها عالم الروحانيات لأن ألوفاً من طلاب أرواح أهليهم وأصحابهم سيهجمون عليه لكي يتصلوا بأرواح ذويهم ويزعجونه أي إزعاج ويقبضون على خناقه ريثما تنتشر آلا هذه التليفون في الأسواق وتتيسر لكل إنسان.
إن نظرية المستر جون وليمسن هذه مسندة إلى نظرية (أن الأفكار تتولد من الطاقة. ولذلك فإن أفكار الأرواح التي تتحدث بطريقتها الخاصة تخلق نوعاً من الذبذبات تصبح إشارات يمكن أن تلتقطها آلة التليفون الروحاني وتقويها وتنقلها).
هذه نظرية معقولة على فرض واحد لا محيص من تحقيقه بعملية هذا التليفون وهي أن الروح لابد أن تكون هيولانية أي مادية من طبيعة مادة الجسد، لأن الطاقة (التي تتولد منها الأفكار كما يقول المستر وليمسن) وذبذباتها أي موجاتها هي خاصة رئيسية للمادة. فالمادة لا تتحرك إلا بما لها من طاقة، والطاقة لا تحرك إلا المادة.
وإذا كانت الروح شيئاً مادياً كسائر عناصر المادة تسنى لنا أن نظفر بها في المعمل الكيماوي كما نظفر بالراديوم أو الأورانيوم وفي المصانع الميكانيكية أو في المطياف أو تحت الميكروسكوب الذري الجديد الذي يعظم مائة ألف مرة. وحينئذ يمكننا أن نشرح الروح ما نشرح الجسد وكما شرحنا الذرة، وأن نعرف أسرارها كما عرفنا أسرار النور وسائر الموجات الكهربائية. ولعلنا نهتدي حينئذ إلى صلتها بهذه الكهربائية أو نراها حالة من حالاتها. وثم يتيسر لنا أن نتصل بالأرواح عن يد الموجات الكهرتيسية، وإذن فلا يستحيل علينا إذ ذاك اصطناع التليفون الروحاني.(721/9)
وإذا أمكننا حينئذ مخاطبة أرواح الموتى بهذا التليفون فبالأحرى يمكننا أن نخاطب أرواح الأحياء به مهما كانوا بعيدين عنا. وثمة لا يبقى لزوم للوسطاء بين الأساتذة الروحانيين وأرواح الموتى والأحياء.
وما أدرانا حينئذ أن يطلع بعضنا عن أفكار بعض بناء على نظرية وليمسن (أي أن الأفكار هي ضرب من الطاقة المذبذبة كما قال). وإذا صح هذا الحلم الجميل فكيف يمكن أن يعيش الناس بعضهم مع بعض وهم يضمرون خلاف ما يظهرون؟ هل يتورعون حينئذ عن الكذب والدس والكيد والغش والزور. وهل يسلكون سلوك الملائكة الأطهار والقديسين الأبرار ويستغنون عن البوليس والقضاء والحكومة والحكام.
ولكن إن صح هذا يستلزم أن يتلاشى الطمع والاستئثار واستغلال القوي للضعيف من الناس. وكيف يمكن هذا إذا كان الناس متفاوتين في الكفاءات والأهليات والمؤهلات والذكاء؟. . .
وإذا استرسلنا في هذه الافتراضات وجدنا العالم منقلباً رأساً على عقب بل مختلطا بعضه مع بعض وقد انصهر في بوتقة الروحانيات وأنسبك عالماً آخر جديداً. ولعله يكون أفضل من عالمنا هذا. ويكون الله تعالى قد رضى عن خليقته وصاغها خليقة جديدة صالحة
ولكن هل يسلم الروحانيون بأن الروح شيء مادي من صنف مادة الجسد لها طاقة مذبذبة الموجات؟ أم هي شيء غير مادي. فإذا كانت شيئا غير مادي فنظرية المستر جون وليمسن تنهار لأنها لا تكون ذبذبات طاقة كما زعم. وإن كانت شيئاً مادياً فالأرواح تنحل بانحلال الجسد ولا يبقى ثمت عالم أرواح.
نقولا الحداد(721/10)
4 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
أحلام الطفولة:
أظنكم تشعرون أننا قد تقدمنا في سرعة زائدة عن اللازم، وعلى هذا فلنقصر من خطوتنا قليلا. تذكرون أننا عندما قمنا بتجربتنا الأخيرة في محاولة التغلب على الصعوبة التي تنشأ عن التحريف في الأحلام، قلنا إنه من المستحسن أن نحتال على ذلك بأن نركز كل جهودنا في اختبار الأحلام التي تكون خالية أو شبه خالية من التحريف إذا كان هناك أحلام من هذا القبيل. ولكننا بهذا القول نكون قد عدنا إلى البعد عن جادة الصواب، لأن الطريق الذي سلكناه في البحث لم يهدنا في الواقع إلى معرفة شيء عن هذه الأحلام الخالية من التحريف إلا بعد أن طبقنا طريقنا في التفسير مراراً وتكراراً على أحلام من النوع المحرف، وحللناها تحليلا مضنياً استنفد منا مجهوداً كبيراً.
وهذا النوع الذي نبحث عنه من الأحلام موجودة في الأطفال، فأحلام الطفولة أحلام واضحة، سهلة الفهم، متماسكة خالية من التعقيد. وليس معنى هذا أن كل الأحلام في الأطفال من هذا النوع، فالتحريف يبدأ عادة في الظهور من بواكير الطفولة، وتوجد تحت يدنا أحلام لأطفال بين الخامسة والثامنة تظهر فيها كل الخواص التي تظهر في أحلام البالغين. ولكن إذا اقتصرنا على النظر في الأحلام التي تحدث في المدة الواقعة بين بدء النشاط العقلي للطفل والسنة الرابعة أو الخامسة من حياته، وجدنا أنها تحتوي على سلسلة من الأحلام يمكن أن نطلق عليها حقاً (أحلام الطفولة). وهذه الأحلام قد توجد بصفة فردية في أواخر الطفولة. كما أن كثيراً من البالغين يرون في ظروف معينة أحلاماً لا تختلف عنها اختلافاً يذكر.
وهذه الأحلام في إمكانها أن تمدنا بمعلومات وافية عن الطبيعة الأساسية للحلم نأمل في أن تكون عامة تنطبق على جميع الأحلام على اختلاف أنواعها:(721/11)
1 - هذه الأحلام لا تحتاج في تفهم معناها إلى أي تحليل أو تطبيق لطريقتنا في التفسير. فليس من الضروري أن نستجوب الطفل الذي رأى الحلم بل يكفي أن نعرف شيئاً عن حياته. وهذه المعرفة لابد منها لأننا نجد في كل حالة أن حادثة من الحوادث التي وقعت للطفل في اليوم السابق هي التي تفسر لنا الحلم، وما الحلم في الحقيقة إلا رد الفعل الذي ينتج عن هذه الحوادث أثناء اليوم.
دعوني أضرب لكم بعض الأمثلة حتى نستطيع أن نبني استنتاجاتنا القادمة عليها:
(أ) كان على طفل يبلغ من العمر سنة وعشرة شهور أن يقدم صندوقاً من الحلوى هدية إلى أحد أقرانه بمناسبة عيد ميلاده. ومن الواضح أن الطفل قام بهذا العمل على غير رغبة منه، على الرغم من أنه قد وعد بأن ينال شيئاً منها لنفسه. وفي الصباح روى الطفل الحلم الآتي: (لقد أكل هرمان كل الحلوى).
(ب) قامت طفلة تبلغ من العمر ثلاث سنوات برحلة بحرية لأول مرة في حياتها، فلما وصل الركب إلى الشاطئ أخذت الطفلة تصيح راغبة عن النزول من المركب فقد مر الوقت بالنسبة لها مراً سريعاً من غير شك. وفي صبيحة اليوم التالي قالت الطفلة: (لقد رأيت نفسي في النوم على ظهر مركب يمخر عباب الماء). وقد يكون في إمكاننا أن نستنتج أن هذه الرحلة طالت عن الرحلة الحقيقية حتى تشبع رغبة الطفلة.
2 - نرى من هذا أن أحلام الطفولة ليست عديمة المعنى بل هي عمليات عقلية واضحة المرمى مفهومة المعنى، وقد سبق أن بينت لكم أن النظرية الطبية تفسر الحلم على أنه ظاهرة جسمية تنشأ عن اضطراب في المعدة أو ما شابه ذلك. وقد شبهه بعضهم بالأصوات التي تصدر عن آلة موسيقية من يد غير بارعة. ولكنكم بلا شك لن تغفلوا عن التناقض الواضح بين هذا التشبيه وبين أحلام الأطفال التي رويتها لكم. فإذا كان في استطاعة الطفل أن يقوم بعمليات عقلية كاملة أثناء النوم فليس من المعقول إذاً أن يقنع الرجل البالغ بأن تجيء أحلامه رد فعل لعوارض جسمية ليس إلا! هذا مع العلم بأن الطفل عادة يكون أعمق نوماً من الرجل البالغ.
3 - هذه الأحلام خالية من التحريف، وعلى هذا فهي لا تحتاج إلى تفسير، فالمحتوى الظاهر والمحتوى الباطن متماثلان. ومن هذا يمكننا أن نستدل على أن التحريف ليس من(721/12)
الأشياء الضرورية في تكوين الحلم. أظن هذه النتيجة سترفع عنكم عبئاً ثقيلا، ومع هذا فإننا إذا دققنا النظر وجدنا أن التحريف موجود حتى في هذه الأحلام وإن كانت على درجة طفيفة جداً، وأن هناك اختلافاً ولو بسيطاً جداً بين المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن للحلم.
4 - الحلم الذي يراه الطفل عبارة عن رد فعل لحادثة وقعت له في اليوم السابق وخلفت بعدها آثاراً من الندم أو الطموح أو رغبة لم تحقق. وهذه الرغبة تتحقق في الحلم في صورة واضحة مكشوفة. ومن الواضح أننا لا نجد في أحلام الطفولة هذه أي أثر للمؤثرات العضوية التي يركن إليها بعض العلماء في تفسير الأحلام ولكن ليس معنى هذا أننا ننكر أثر هذه المؤثرات في تكوين الأحلام، وإنما كل ما أود قوله هو أن أسألكم لم تغفلون من مبدأ الأمر أن هناك مؤثرات عقلية كما أن هناك مؤثرات عضوية تقلق نومنا؟ فنحن نعلم بلا شك أن هذه المؤثرات هي التي تمنع الرجل البالغ من النوم لأنها تجعل من العسير عليه أن يتهيأ للحالة العقلية اللازمة للنوم أي قطع كل صلة تربطه بالعالم الخارجي، فهو لا يرغب في أي شيء يقطع عليه حبل أفكاره ويود لو ظل يعمل فيما هو مشغول به وهذا هو السبب الذي يمنعه من النوم. وعلى هذا فالمؤثر العقلي الذي يقلق نوم الطفل هو الرغبة التي لم تحقق والحلم هو رد الفعل الذي ينشأ عن ذلك.
5 - نرى من هذا أن قيمة الحلم كرد فعل للمؤثرات العقلية تتوقف على قدرته على تصريف الرغبات المكبوتة حتى يزول المؤثر ويظل النوم متصلا. ونحن لا نستطيع أن نعرف بعد كيف يحدث هذا التصريف من الوجهة الديناميكية، ولكنا قد لاحظنا بلا شك أن الأحلام ليست مقلقة للنوم (وهي التهمة التي تلصق بها دائماً) وإنما هي حارسة عليه تخلصه من عوامل القلق والإزعاج. وقد يميل البعض إلى الظن بأننا لو لم نحلم لنمنا نوماً أحسن ولكنه بذلك يكون مخطئاً لأن الحقيقة أن الفضل في القدر الذي نمناه يرجع إلى الحلم وأننا لولاه لما نمنا على الإطلاق. وإذا كان الحلم لا يجد بدا من إزعاجنا قليلا فمثله في ذلك كمثل الشرطي الذي لا يستطيع أن يتجنب إحداث جلبة أثناء طرده من قد يعكر علينا هدوءنا أو يوقظنا من النوم.
6 - من الصفات الرئيسية للأحلام أنها تنشأ عن رغبة وأن محتوى الحلم يمثل هذه(721/13)
الرغبة. هذه واحدة والثانية أن الحلم لا يعبر عن فكرة وحسب، وإنما يمثل الرغبة كأنها تحققت. فمثلا في الحلم الذي رأته الطفلة كانت الرغبة: (إني أود أن أظل على ظهر المركب) أما محتوى الحلم فكان: (لقد رأيت نفسي على ظهر مركب يمخر عباب الماء). ومن هذا ترون أنه حتى في أحلام الطفولة هذه يوجد فرق بين المحتوى الظاهر والباطن للحلم. وأن هناك تحريفاً بسيطا إذ تحولت الفكرة في المحتوى الباطن إلى تجربة حسية في المحتوى الظاهر. وعلى هذا يجب علينا عند التفسير أن نعمل أولا على إعادة كل شيء إلى ما كان عليه.
7 - تعتبر الأحلام توفيقاً بين قوتين: إحداهما تعمل على استغراقنا في النوم والثانية تعمل على إيقاظنا منه لإشباع الرغبة المكبوتة. فتكون النتيجة أننا ننام وفي نفس الوقت نشبع هذه الرغبة عن طريق الحلم.
8 - جرى الناس على أن يطلقوا كلمة (أحلام اليقظة) على الخيالات التي يسبح فيها الإنسان وهو يقظان ليحقق بها آماله في الطموح أو رغباته الجنسية. ولكن أحلام اليقظة هذه تظل دائماً أفكاراً وخيالات فقط ولا تتحول أبداً إلى تجارب حسية كما هو الحال في الأحلام أي أنها تحتفظ بإحدى الصفات الرئيسية للأحلام التي ذكرناها في البند السادس ولا تحتفظ بالصفة الأخرى.
وهناك أيضاً أقوال مأثورة في اللغة تشير إلى أن الحلم عبارة عن إشباع لرغبة. فكلنا يعلم المثل القائل: (يحلم الخنزير بثمرة البلوط والإوزة بالذرة). أو (بماذا يحلم الفروج؟ بالحَب). وهناك أيضاً جمل كثيرة تستخدم أثناء الحديث تشير إلى نفس المعنى كقولنا (جميل كالحلم) أو (ما كنت لأحلم بمثل هذا أبداً).
والآن تأملوا أي محصول غزير جمعناه في غير صعوبة تذكر أثناء دراستنا لأحلام الطفولة! فقد رأينا أن وظيفة الحلم هي المحافظة على النوم، وأنه ينشأ عن قوتين متعارضتين تظل إحداهما، وهي الرغبة في النوم، ثابتة؛ بينما تعلم الأخرى على إشباع رغبة ملحة، كما ثبت أيضاً أن الأحلام عبارة عن عمليات عقلية غنية بالمعاني، وأن لها صفتين رئيسيتين هما إشباع الرغبات وتحويل الأفكار إلى تجارب حسية؛ وهذا كله في الوقت الذي كدنا أن ننسى فيه أننا ندرس التحليل النفساني.(721/14)
نرى من هذا أن الأحلام لو كانت كلها من نوع أحلام الطفولة لانحلت المشكلة ووصلنا إلى غايتنا في غير ما حاجة إلى استجواب الحالم أو الرجوع إلى عقله الباطن أو استخدام طريقة الترابط المطلق. وعلى هذا فالمسألة التي علينا أن نبت فيها الآن هي معرفة ما إذا كانت الصفات التي تنطبق على أحلام الطفولة تنطبق كذلك على بقية الأحلام وبالأخص تلك الأحلام التي تبدو غير واضحة المعنى والتي لا نستطيع أن نرى في محتواها الظاهر أية إشارة أو تلميح إلى رغبة ظلت بغير إشباع من اليوم السابق. هذه الأحلام في رأيي قد تعرضت إلى درجة عالية من التحريف وعلى هذا أرى أن لا نتسرع بالحكم عليها، فأغلب الظن أننا سنحتاج في التغلب على هذا التحريف إلى معونة التحليل النفساني الذي استطعنا أن نستغني عنه أثناء دراستنا لأحلام الطفولة.
ومع هذا فهناك على الأقل نوع آخر من الأحلام خال من التحريف كأحلام الطفولة ويعبر مثلها عن إشباع رغبته. وهذا النوع ينشأ عن الحاجات الطبيعية الملحة كالجوع والعطش وإشباع الرغبة الجنسية. فتحت يدي مثلا حلم لطفلة لها من العمر سنة وسبعة شهور يحتوي على قائمة بأصناف المأكولات وفي أعلاها اسم الطفلة. وقد جاء الحلم كرد فعل ليوم اضطرت فيه الطفلة إلى الصيام عن الطعام نظراً لسوء الهضم الذي ألم بمعدتها نتيجة لكثرة الأكل من نوع من الفاكهة ظهر مرتين في الحلم. وقد أثبتت المشاهدات أن السجين الذي يترك بغير طعام، أو المسافر الذي يعاني الجوع والحرمان يحلم دائماً بإشباع رغباته. وقد جاء في كتاب لأوتو نوردنسكولد عن العصبة التي أمضى معها فصل الشتاء ما يلي:
(كانت أحلامنا في هذا الوقت تشير بوضوح إلى الاتجاه الذي كانت تتخذه أفكارنا، فلم يسبق لنا قبل ذلك أن رأينا أحلاماً بهذه الكثرة والوضوح، حتى إن الرفاق الذين كانوا لا يحلمون إلا نادراً أصبحت لديهم قصص طويلة يقصونها علينا في الصباح عندما كنا نتبادل رواية ما قمنا به من تجارب في هذه الدنيا الواسعة من الأطياف. وقد كانت الأحلام كلها عن هذا العالم الخارجي الذي أصبح بعيداً عنا، ولكنها كانت غالباً ما تحوي تلميحات إلى الحالة التي كنا عليها؛ فالأكل والشرب والسفر كانت في أغلب الأحيان المحور الذي تدور حوله أحلامنا. . . فكان بعضنا يحلم بالموائد الحافلة، والبعض الآخر يحلم بالسفن رائحة وغادية وهكذا. .)(721/15)
وإذا كان أحدكم قد أكل يوماً أكلة أظمأته أثناء الليل فمما لاشك فيه أن سيحلم بشرب الماء. ولكن هذا الحلم بالطبع لن يخفف عنه حدة الظمأ، وما يحدث في هذه الحالة هو أنه يصحو من النوم ظمآن ويضطر إلى أن يشرب ماء حقيقياً. والخدمة التي يؤديها الحلم في هذه الحالة ليست بذات قيمة من الوجهة العلمية، ولكنها مع ذلك ترينا أن الغرض من الحلم كان حماية النوم من المؤثرات التي تدفعنا إلى اليقظة والعمل، وقد تستطيع هذه الأحلام أن تؤدي الغرض منها إذا كانت الرغبة على درجة أقل من الحدة
وليس معنى هذا أن أحلام (إشباع الرغبة) التي هي من نوع أحلام الطفولة لا تنشأ عند البالغين إلا كرد فعل للحاجات الطبيعية الملحة التي ذكرتها سابقاً، وإنما هناك أنواع أخرى كذلك من الأحلام، قصيرة واضحة تنشأ عن حالة عقلية خاصة تكون مستولية على تفكير الشخص. فمثلا هناك (أحلام الملل)، وهي تنشأ عندما يكون الشخص آخذاً في الاستعداد للقيام بعمل هام كرحلة طويلة، أو مشاهدة مسرحية ذات موضوع يستهويه، أو زيارة صديق، أو سماع محاضرة شيقة. . . الخ. فمثل هذا الشخص ما تكاد عينه تغفو حتى تلم به الأحلام فتحقق له مقدماً ما كان يستعد لتحقيقه، فإذا به يرى نفسه على ظهر الباخرة، أو في قاعة التمثيل، أو يتحدث إلى صديقه الذي كان يأمل في زيارته وهكذا.
وهناك أيضاً أحلام من نوع آخر يطلق عليها (أحلام الراحة)، وهي تنشأ عندما يكون الشخص مستغرقاً في النوم لا يريد أن يصحو منه أبداً، وفيها يرى الشخص نفسه كأنما هو يغسل وجهه، أو يرتدي ملابسه، أو في طريقه إلى المدرسة، ومعنى ذلك أنه يفضل أن يحلم أنه استيقظ من النوم على أن يستيقظ منه فعلا. وفي هذه الأحلام نرى أن الرغبة في النوم (وهي التي قلنا عنها إنها تدخل في تكوين الأحلام)، تتمثل بوضوح وتبدو كأنها السبب الحقيقي في تكوين الحلم. وهي في هذا الاعتبار تدخل ضمن الحاجات الطبيعية الملحة التي ذكرناها سابقاً.
تذكرون أنني سبق أن قلت لكم إننا نجد في جميع الأحلام فيما عدا أحلام الطفولة وما يشبهها، عائقاً يعوقنا عن التفسير وهو التحريف. ونحن لا نستطيع أن نقرر من الآن إن كانت هذه الأحلام أيضاً إشباعاً لرغبات، كما أننا لا نستطيع أن نخمن أي مؤثر عقلي دفعها إلى التكوين، ولا أن نثبت إن كانت هي أيضاً تعمل كأحلام الطفولة على تصريف(721/16)
الرغبات. فالحقيقة أن هذه الأحلام يجب أن تفسر أولا، أي تترجم؟ ولذا يجب علينا أن نعكس عملية التحريف، وأن نستبدل المحتوى الظاهر بالمحتوى الباطن، وذلك قبل أن نقرر إن كانت الصفات التي اكتشفناها في أحلام الطفولة تنطبق أيضاً على بقية الأحلام على اختلاف أنواعها
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(721/17)
طائفة المستعمرين في شمال أفريقيا
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
ما من شك في أن فكرة الاستغلال الاقتصادي هي الأصل في الاستعمار، فقد نشأت نتيجة لتطور الاختراعات ووجود أزمة المواد الأولية في دول قادرة على الصناعة الضخمة السريعة، بينما توجد بلاد عاجزة عن الاستغلال وتتوفر لديها المواد الأولية بكثرة في نفس الوقت. ثم استتبع ذلك حاجة الدولة المستغلة إلى إرسال أفراد إلى هذه البلاد، لكي يشرفوا على العمل في أرض عجز أهلها عن التنظيم والعمل، طبقاً للنظريات الحديثة. وهكذا نشأت فكرة الاستيطان في البلاد المستعمرة، أي أنها كانت تستند إلى عامل زيادة الإنتاج وتغذية المصانع بأكبر كمية مستطاعة من تلك المواد الأولية.
وإذا نحن انتقلنا إلى الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقية وجدنا أنه تعدى هذه الحدود تعديا مخيفاً، إذ اتخذ شكل هجرة كان للسياسة فيها دخل كبير، وكان الأساس الظاهري الذي تستند إليه هو أن المنتج الفرنسي أقدر من المنتج المحلي، ولذلك برزت فكرة انتزاع الأراضي وتوزيعها على المستعمرين الفرنسيين لتحقيق هذه المصلحة العامة. . . المصلحة العامة التي لا تدخل في حسابها مصلحة الأهلين.
أما في الحقيقة فإن فرنسا كانت تستند في إرسال المستعمرين إلى شمال أفريقيا إلى بواعث سياسية منذ احتلت جيوشها الجزائر سنة 1830، وقد كان شعار الكونت ديسلي المحارب (الفتح بالسيف والمحراث). وقد ظلت هذه العبارة شعارا للاستعمار الفرنسي في أفريقية الشمالية إلى اليوم.
وليست مشكلة الجنسية التي أثارتها فرنسا في الجزائر ببعيدة عن سياسة نزع ملكية الأراضي، لأنها كانت تعمل على تفتيت القومية الجزائرية بإدخال عنصر جديد إلى البلاد عامل ونشيط، وإذا لم يكن من المستطاع أن تكون فيها أغلبية عددية فإنها كانت تفكر في إنشاء أقلية أكثر أهمية من الأغلبية العددية، وذلك بما يتوفر لديها من نشاط وقدرة وتفوق. ولذلك نجد أن فرنسا كانت تمنح جنسيتها للمواطنين بشروط معينة، ثم نجدها بعد ذلك قد منحت هذه الجنسية لليهود الجزائريين جملة واحدة بمقتضى قانون 14 أكتوبر سنة 1870.
ولا محيد لنا عن الإشارة إلى نشأة الاستعمار الفرنسي في الجزائر إذا نحن أردنا نفهم هذا(721/18)
الموضوع، لأنه امتد منها إلى تونس ثم إلى مراكش. وجدت فرنسا الأراضي الجزائرية من أملاك الدولية طبقاً للنظام العثماني، فأبقت على ذلك النظام لكي تستعين به على منح ما تشاء منها لمن تشاء. واستولت في الحال على أراضي الأتراك وأراضي المحاربين، وكانت تمنح هذه الأراضي إلى الفرنسيين وتعترف لهم بملكيتها، بينما ظلت الأرض التي يقيم فيها المواطنون غير معترف بملكيتهم لها. وقد امتد هذا الأمر إلى سنة1863، حينما اعترف لهم نابليون الثالث بهذه الملكية.
وخرجت فكرة المحراث من حيز التفكير إلى حيز الوجود وبدأ الفرنسيون يدفعون بالجزائريين إلى الجنوب ليستولوا على الأراضي الخصبة في الشمال. لكنهم وجدوا أنفسهم أمام مشكلة جديدة هي: من أين لهم أن يوجدوا طائفة المستعمرين وبلادهم عاجزة عن المستعمرين من أبنائها؟
حصل بعد الثورة الفرنسية في سنة 1848 - وهي السنة التي صدر فيها قرار باعتبار أراضي الجزائر أراضي فرنسية - أن عمت البطالة بين الطبقة العاملة في باريس، إلى درجة فادحة، فقرر المجلس الوطني الفرنسي إرسال العمال إلى الجزائر لاستعمار الأراضي، ليخفف بذلك من حدة البطالة، ويحقق الهدف الاستعماري في تلك البلاد. وكانت الحكومة تنقل العمال مجاناً إليها فإذا وصل العامل إلى هناك منحته عشرة هكتارات من أجود الأراضي الزراعية.
بيد أنه لم يكن من اليسير أن يصبح عامل المصنع فلاحا. لقد توافد هؤلاء المستعمرون إلى أرض الجزائر أفواجا أفواجا. ولكن بدلا من أن يبرهنوا على تفوقهم في الإنتاج أفسدوا الأرض وعجزوا عن استغلالها، وما هي إلا بضع سنوات حتى بدءوا يرجعون إلى فرنسا من جديد وكان عدد الذين رجعوا أكثر من النصف.
وهكذا عجزت فرنسا عن أن تمد الجزائر بالفلاحين من أبنائها، ولكنها لم تستطع بالرغم من ذلك أن تتنازل عن فكرة إيجاد أقلية تفتت القومية التي قد تحدث لها مشاكل في المستقبل تعجز عن مقاومتها، ولذلك عمدت إلى اتخاذ أجراء خطير، هو تشجيع الأجانب من أسبانيا وإيطاليا وكورسيكا على الهجرة إلى تلك البلاد والقيام بالدور الذي عجز أبناؤها عن القيام به. وفعلا توافد عليها خليط غريب من أجناس مختلفة، منحتهم فرنسا جنسيتها(721/19)
مقرونة بامتيازات عديدة، ووزعت عليهم الأرض، ومن هؤلاء تناسلت الكثرة الغالبة من طائفة المستعمرين، الذين يدعون أنفسهم بالفرنسيين الجزائريين، وازداد خطرهم استفحالا مع مرور السنين.
ولقد كانت الإدارة المحلية دائما أشد تطرفاً من حكومة باريس في تشجيع طائفة المستعمرين هذه منذ نشأتها، حتى إن التشريعات التي أصدرها نابليون الثالث لإنصاف عرب الجزائر قبرت في الإدارة المحلية بتأثيرهم، وقد ظلت الإدارة تراوغ في تنفيذها إلى أن قامت الجمهورية الثالثة وتنوسي أمر تلك التشريعات نهائيا.
ثم بعد ذلك مدت فرنسا حمايتها على تونس سنة 1881 ثم تقدم الزمن واستطاعت أن تمدها على مراكش أيضاً سنة 1912 فكان شعار الفرنسيين فيهما أيضاً هو (الفتح بالمحراث والسيف) وجاء المستعمرون الفرنسيون في إثر الجيش وبدأت نفس الإجراءات القديمة تتخذ في أفريقية الشمالية كلها، على الرغم من التباين الموجود في علاقة شعوبها بفرنسا، ولم تمر إلا مدة قصيرة حتى كان خطر هذه الطائفة يهدد مراكش نفسها التي لم يمر اليوم على تبعيتها لفرنسا سوى خمسة وثلاثين عاما.
وتعمل تلك الطائفة اليوم في تونس ومراكش على أن تنال كراسي في البرلمان الفرنسي لكي يزيد تأثيرها في السياسة الفرنسية وتمهد لاعتبار أراضيهما أراضي فرنسية، ولكنها اصطدمت بالقومية فيهما، وقد كاد يتم تأسيس دائرة انتخابية للفرنسيين فيهما لولا احتجاج جلالة ملك مراكش وسمو باي تونس على ذلك، ولولا أن الوضعية السياسية في البلدين تمنع من تأسيس مثل هذه الدائرة، ولكن هذا لم يفت في عضد المستعمرين، إذ ما يزالون يسعون في نشاط للوصول إلى غايتهم متحينين الفرص وعاملين على خلقها.
وهم يتخذون مختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة للتأثير على العسكريين والموظفين، سواء في هذه البلاد أو في فرنسا. وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نقول إن وجود هذه الطائفة خطر شديد على الحياة الاقتصادية، إذ يستطيع أفرادها بما لهم من نشاط وقدرة وأساليب خاصة، أن يهدموا القواعد التي تسير عليها الدولة حتى إن كبار الموظفين الفرنسيين يصطدمون بهم، وقد حدث كثيراً أن اصطدم بهم ممثل فرنسا نفسه.
وتمتاز طائفة المستعمرين بالجشع الذي لا نهاية له، والأنانية التي تستهين بكل شيء في(721/20)
سبيل تحقيق المآرب الشخصية، كما يمتاز أفرادها بالتعصب والتطرف وسرعة التأثر، وبالعمل الدائب المستمر على الوقوف في وجه الأهالي حتى لا يكسبوا أي حق من الحقوق لأنهم يعتقدون أن في ذلك ما يمس مصالحهم، وهم لا يضمرون عطفاً للأرض التي يعيشون بفضلها ولا للدولة الفرنسية التي تحميهم، كما أنهم على استعداد لمناصرة أي نظام يستطيعون في ظله أن يشبعوا نهمهم، ولو قام ذلك النظام على أنقاض النظام الفرنسي الحالي. وربما بلغ بهم الأمر حد التآمر على الممثل الفرنسي لأنه لم يحقق لهم مأربا، بل يبلغ بهم الأمر أن يحتجوا في جرأة ووقاحة إذا ما نال المواطنون حقاً من الحقوق البسيطة. إنهم ليسوا من صميم الفرنسيين، ولكن فرنسا هي التي تتحمل مسؤولية ما يقومون به من أعمال لاستعباد الأهلين الفلاحين في هذه البلاد، واستغلال جهودهم وامتصاص دمائهم وكل المساوئ التي تتمثل فيهم. فرنسا مسؤولة عن أعمالهم لأنها هي التي عملت على أن تكون حياتها في أفريقية الشمالية معتمدة على هذه الطائفة الخطيرة وهي التي أنشأتها وساعدت على تمكينها من أجود الأراضي الزراعية ومن مقاليد الحياة الاقتصادية عموما.
وسوف تستمر الفوضى في أفريقية الشمالية ما دامت هذه الطائفة موجودة فيها على هذا النحو الخطير، لسبب بسيط هو أنها تستمد حياتها من هذه الفوضى، فهي لا تصطاد إلا في الماء العكر، ومن مصلحتها أن لا يصل الوطنيون إلى أي اتفاق مع الحكومة الفرنسية، ولذلك فإن أول خطوة كان يجب أن تتخذها فرنسا هي أن تحد من نشاطها وتضرب على يدها وتكافح هؤلاء الناس الذين لا يستوحون في حياتهم سوى ملء الجيوب والبطون. أما تفتيت القومية في تلك البلاد فلعل هذه السنين الطويلة الحافلة بالمآسي كافية لكي تفهم الفرنسيين أنهم يحاولون المستحيل، فقد برهن العربي في أفريقية الشمالية على أنه غير قابل لأن يفنى مهما كانت القوة التي تحاول أن تقضي عليه، وربما عجز الخيال عن تصوير النتائج الخطيرة التي يمكن أن تنجم عن استمرار هذه الطائفة في التقوى والاستعلاء.
عبد المجيد بن جلون(721/21)
الأدب في سير أعلامه:
12 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
في القوقاز
كان أكثر ما يجد من الأنس في صحبة صديقه سادو وفي صحبة رجل آخر هو إبيشكا القوزاقي صاحب الكوخ الذي كان يقيم به، وذلك الذي برع في الصيد براعة عظيمة أو الذي برع في الحديث عن مقدرته ومهارته فيه، وعن أيام شبابه الأولى وكيف كان الغواني يأخذن عليه كل سبيل ويفتتن به كل الافتتان، ولقد جعل منه ليو صورة إروشكا في قصته (القوزاق) فبلغ في ذلك غاية الإبداع.
وكان الصيد من أحب ما يلهو به في ساعات فراغه، وقد كانت الأرض غنية بطلبته من الأرانب البرية والثعالب، وكان يصحبه إبيشكا إلى قرى وأماكن بعيدة في الجبال حيث كانت تحيط بهما المخاطر في كثير من الحالات. . .
وليته جعل للصيد كل فراغه، فلقد عاد إلى الميسر منذ سنة على الرغم من مغالبته نفسه ابتغاء الإقلاع عنه، وما استطاع أن يكف عنه إلا ستة أشهر بعد أن وقع في الشرك ولم يمض عليه في القوقاز أسبوعان؛ وما إن عاد إلى التفرج على إخوانه الضباط وهم يلعبون حتى غلبه حب اللعب فأقبل عليه إقبال النهم الذي حيل بينه زمناً وبين الطعام، ففي كتاب منه إلى عمته تاتيانا في شهر يناير سنة 1852 أخذ يقص عليها كيف عاد إلى الميسر وكيف لحقته الخسائر من كل فج! وظل هذا شأنه طول تلك السنة والتي تلتها حتى عاوده ندمه وضيقه.
أما عن جانب الجد من حياته في القوقاز، فإنه في الجيش قد أبدى من البسالة في مواطن كثيرة ما استحق به صليب سان جورج للبطولة، ولكنه لم يحزه فعلا نظراً لعجزه عن تقديم شهادات وأوراق خاصة كان لابد أن يقدمها من يحظى بهذا الإنعام. . .
وكان كما سلفت الإشارة إليه قد أخذ يكتب منذ سنة 1851 وفي شهر يوليو سنة 1852 أتم(721/22)
كتابه (عهد الطفولة) باكورة فنه وخطوته الأولى صوب المجد وذهاب الصيت وأرسلها بإمضاء ل. ن. إلى مجلة شهيرة كانت تسمى (المعاصر) وكان يصدرها رجلان من أعلام الأدب وقتئذ وهما نكراسوف وبانييف. . .
وظل ليو شهرين ينتظر رداً من المجلة وهو يسلم نفسه إلى الأمل الحلو تارة وإلى اليأس المرير تارة حتى جاءه كتاب من نكراسوف ينبئه فيه بقبول القصة للنشر، ولكن على ألا يدفع لصاحبها أجراً حسب ما تعارف عليه أصحاب المجلات الأدبية يومئذ إذ كانوا لا يدفعون أجراً لكاتب غير معروف على أول شيء يقبل منه للنشر. . .
وفرح تولستوي فرحا عظيما بالنشر في ذاته فهذه أمنيته، أما الأجر فما خطر بباله قط؛ وازداد فرحا إذ جاءه كتاب ثان من نكراسوف يقول فيه إنه ازداد رضاء عن القصة وهو يصححها للطبع وأنه يعتقد أن مؤلفها ممن وهبوا المقدرة، وإنه لأمر ذو أهمية أن يعمل المؤلف ذلك في بداية عهده بالكتابة. . .
ونشرت القصة في عدد أكتوبر فسرعان ما حظيت بثناء أهل الفن جميعا وفي مقدمتهم تُرجنيف ذلك الذي كان اسمه من أشهر الأسماء يومئذ في فن القصة، ومنهم دستويفيسكي وكان في منفاه بسيبيريا فكتب إلى أحد أصدقائه يسأله من يكون ل. ن. هذا صاحب تلك القصة. . .
ولم يكن بالأمر الهين أن يلتفت ترجنيف ودستويفسكي إلى هذا الكتاب فقد خلف هذان الكاتبان جوجول في زعامة القصة واغتدى اسماهما أرفع الأسماء في الجيل الذي أعقب جيل جوجول. . .
وطابت نفس الفتى ليو نيقولا تولستوي وابتهج فؤاده بهذا النجاح، وإن كان ضايقه من الناشر أنه غير عنوان الكتاب فجعله (تاريخ عهد طفولتي) بدلا من عنوانه الأصلي (عهد الطفولة) وذلك أن الكاتب كما ذكر في أكثر من موضع لم يقصد بكتابه أن يكون ترجمة منه لنفسه. . . وكذلك ضايقه أن الرقيب تناول بالحذف أو التغيير بعض عبارات الكتاب.
أخذت تتفتح الأكمام في هذا الكتاب عن عبقرية الكاتب الناشئ الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وبدأت تنجلي خصائص فنه وتتضح مواهبه وفي مقدمة تلك المواهب إحساسه المرهف وقلبه الشاعر وذكاؤه الحاد وبصيرته النافذة إلى أعماق الأشياء المحيطة(721/23)
بتفاصيلها ودقائقها وروحه الدائبة المتوثبة التي لا تعرف سأماً وحيويته الكفرية التي لا تقل عن حيويته البدنية.
أما فنه فكان قوامه الأصالة والصدق والسمو وتجنب ما لا عائدة منه في التعبير والتصوير، وكان يجمع فيه بين عاطفة الفنان ومهارة الصانع وتفطنه إلى كنه ما في يده؛ وكان يقبل على الكتابة في تحمس شديد وإخلاص بالغ، ثم يطيل النظر فيما يكتب فيمحو ويثبت ويحذف ويضيف حتى يستقر على وضع ترتاح نفسه إليه ويقرأ ما يكتبه على من يدخل عليه يتبين أثره في نفسه، كما كان ينفعل انفعالا شديداً إذ يتلو لنفسه ما كتب فتدمع عيناه ويهتز بدنه وترتعش يداه، ثم يشيع السرور في كيانه وتستقر الطمأنينة في وجدانه.
كتب في مذكراته في هذه السن المبكرة يقول في أوائل سنة 1851 (إن الخيال هو مرآة الطبيعة، مرآة نحملها في أنفسنا وفي هذه المرآة تصور الطبيعة، وأجمل الخيال هو أصفي المرايا وأصدقها وتلك هي التي نسميها العبقرية. . . إن العبقرية لا تخلق وإنما هي تعكس ما ترى) وقال في موضع آخر (إن الكتابة الأدبية ينبغي أن تكون أغنية منبعثة من صميم نفس الكاتب).
لم يكن كتابه (عهد الطفولة) ترجمة لحياته، ولم يكن كذلك عملا خيالياً بحتاً، وإنما كان وسطاً بين هذا وذاك، ولعله كان إلى وصف حياته وبيئته الأولى أقرب. قالت زوجته فيما بعد (كانت كل الصور فيه مشتقة من أعضاء أسرته، وكان الإسكندر إسلنيف هو صورة جدي لأمي).
ولم يعن تولستوي في كتابه هذا بالحوادث في ذاتها فليس فيه إلا الحياة العادية التي يحياها الناس كل يوم، وإنما عنى بإبراز المشاعر والأحاسيس التي تثيرها الحوادث فيما صور من الأشخاص فكان عمله أقرب إلى التحليل النفسي الذي سوف تمتاز به القصة الروسية عما قريب بوجه عام وفي فن دستويفسكي بوجه خاص.
ولقد وفق تولستوي توفيقاً كبيراً في تصوير الخلجات النفسية في كتابه هذا حتى ما يظن قارئه (إن لم يكن يعرف) أنه عمل مبتدئ، هذا إلى دقة اللمسة الفنية والبراعة في عرض الصور مع وضوحها وخلق المناسبات، واختيار ما يحتاج إليه السياق في غير استطراد ممل أو على حد تعبيره (استبعاد كل ما لا ضرورة له وكل ما هو سطحي أو ضعيف).(721/24)
وللكتاب أهمية من ناحية أخرى إذ هو يرينا تأثره إلى حد ما بروسو وستندال ودكنز وبخاصة في قصة دافيد كوبر فيلد التي هي في الواقع حياة دكنز في بيئته الأولى مقنعة كما شاء القصصي العظيم، وكانت هذه القصة كما ذكرنا تنشر تباعاً يومئذ مترجمة إلى الروسية في مجلة المعاصر. . .
وحفزه نجاحه في كتابه الأول إلى أن يكتب (عهد اليفاعة) فأقبل على ذلك في نشاط وأمل وغبطة؛ وكان أثناء كتابته (عهد الطفولة) قد كتب بعض الأقاصيص عن حياته في الجندية ومنها (قطع الغابة) و (الغارة)، وقد أرسل هذه الأخيرة إلى مجلة (المعاصر) فنشرتها وقد اطمأنت إلى القصصي الشاب؛ ولكن الرقيب شوه بعض أجزاء هذه الأقصوصة حتى لقد اشتكى مؤلفها قائلا (لقد قضى عليها الرقيب، فقد محا كل ما كان حسناً فيها أو بدله).
وأقبل القصصي الشاب على مذكرته يثبت فيها ما يعتزم كتابته من قصص؛ وكلما طرأ على خاطره موضوع يصلح لقصة عجل بإثباته ودون ما يعن له من ملاحظات ليعود إليها في حينها، وكلما أعجبته حادثة أو شخصية ممن يحيطون به كتبها مخافة أن ينساها ليجدها فيما بعد حين يأخذ في بناء قصصه وهكذا بث نجاحه الأول في نفسه كثيراً من الأمل والنشوة. . .
أخذ يزداد سأم الفتى من القوقاز ومن حياة الجندية يوماً بعد يوم، منذ أن ذهبت عن تلك الحياة جدتها؛ واشتد ضيقه في شهر أكتوبر سنة 1852 حتى إنه ليكتب في يومياته إنه يعد سني نفيه من ذلك التاريخ، ويقول فيما يُشعر بالأسى إنه لن يستطيع أن يعتزل خدمة الجيش إلا سنة 1855 (وعندئذ أكون في السابعة والعشرين من عمري، وما أكثر ما أكون من الكبر في هذا السن!. . . ثلاث سنوات أخرى في خدمة الجيش منذ اليوم؟ إن عليّ أن أقضيها فيما يجدي).
وفي مستهل سنة 1853 يقول (يا للناس من أغبياء! إنهم جميعاً وبخاصة أخي لا يدعون الخمر، وهذا شيء أراه كريها. . . إن الحرب أمر باطل. . . هي شر لا ريب حتى إن الذين يخوضون غمارها ليحاولون تلقاءها أن يخنقوا ضمائرهم. أحق ما أنا فاعل؟ أرشدني يا إلهي واغفر لي إن كنت أعمل باطلا). . .
والحق إنه لولا ما كان يصادفه في القوقاز مما يكون مادة طريفة لفنه من الناس والحوادث(721/25)
والمناظر، ما استطاع صبراً على العيش هناك، ولا أطاق حياة الجندية وما فيها من خشونة وما كانت تبعثه في نفس كنفسه من سأم وضيق بأيامها المتكررة المتشابهة. . .
وبدأ يشكو أسقاماً في معدته وأمعائه وكان مرد ذلك إلى ما اعتاده من إسراف في الطعام، فقد كان من مرذول عاداته نهمه في تناول أنواع من الأطعمة كان يحبها كالفطائر والمثلجات وأصناف الحلوى، وكان لا يستطيع أن يصد نفسه عنها إذا تهيأت له، أو يفطمها إذا غابت عنه، وإنما كان يسعى إليها سعياً حتى يظفر منها بأوفر نصيب وإن مسه الضر؛ وكان لا يكترث لنصح أو يشفق من أذى اتكالا على ما يحس من قوة بنيته وشدة حيوانيته، ورغبة منه في تعويض ما يبذله من طاقة في تلبية نداء جسده. . .؛ ولكن ذلك النهم قد أضر بمعدته ضرراً أخذ يزداد منذ كان في القوقاز وسوف يتمكن منها حتى ليستعصي على العلاج حين يتقدم به العمر. . .
وكذلك أخذ يشكو من الروماتزم والحمى والرعاف والتهاب الحلق في كثير من الأحيان، ونجده يكتب إلى عمته تاتيانا ذات مرة يقول لها (لا تظني أنني أخفي عنك شيئا. . . إني وإن كنت متين البنية أعاني دائما ضعف الصحة).
وفي شهر مارس سنة 1853 يكتب في يومياته قائلا (إن الخدمة في القوقاز لم تجر عليَّ إلا المصاعب والكسل ومعرفة غير الأخيار. . . إنه ينبغي أن أخلص منها أسرع ما أستطيع. . . لقد فقدت ما كان معي من المال جميعاً، ولا زلت مديناً بثمانين من الروبلات لأوجولين وستة ليانوفتش وخمسين لسكوفنين وثمان وسبعين لقنسطنطينوف؛ وتبلغ جميعاً أربع عشرة ومائتين، وقد أنفقت فضلا عنها ثلاثين ومائتين كانت كل ما أملك. . . إن ذلك لسيئ).
(يتبع)
الخفيف(721/26)
إِلْكِيا الهرَّاس
للأستاذ برهان الدين محمد الداغستاني
450 - 504هـ
اسمه ونسبته:
هو عماد الدين شمس الإسلام أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراس، وإلْكِيا بهمزة مكسورة بعدها لام ساكنة ثم كاف مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت كلمة أعجمية معناها: الكبير القدر المقدم بين الناس. والهراس بتشديد الراء لا تعلم نسبته لأي شيء.
مولده ونشأته الأولى في طبرستان:
ولد إلكيا في طبرستان خامس ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة من الهجرة ونشأ فيها نشأته الأولى حتى بلغ الثامنة عشرة. ويقول مترجموه إنه تفقه في بلده قبل الخروج إلى نيسابور. وليس فيما لدينا من المراجع ما يكشف عن حاله في بلدته مدة ثماني عشرة سنة التي قضاها فيها سوى هذه النبذة القصيرة ولا تذكر شيئاً بعد ذلك عن أبيه وعائلته وبيئته كما أنها لا تذكر شيئاً عن شيخه أو شيوخه الذين تفقه عليهم، وعلى كل حال فدراسته الفقهية التي تلقاها في بلدته قد أعدته وهيأته لتلقي دروس شيخ الشافعية في عصره إمام الحرمين الجويني في نيسابور والاستفادة منها بل جعلته في مقدمة تلامذته ومعيدي درسه. ونستطيع أن نفهم من هذا أن دراسته الأولى كانت في مستوى علمي متوسط - على الأقل - إن لم نقل في مستوى عال وإلا لما تهيأ له أن يستفيد من دروس إمام الحرمين من يوم وصوله إلى نيسابور.
في نيسابور:
لابد أن الكيا - وهو يطلب العلم في بلده - بلغته شهرة إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني رئيس الشافعية في عصره وتطلعت نفسه المتعطشة إلى العلم إلى لقيا هذا الإمام الجليل والأخذ عنه فارتحل وهو في الثامنة عشرة إلى نيسابور.
يقول ابن عساكر في تبيين كذب المفترى: (ورد نيسابور في شبابه وكان قد تفقه فحصل(721/27)
طريقة إمام الحرمين وتخرج به فيها وصار من وجوه الأصحاب ورؤوس المعيدين في الدرس، وكان يعيد الدرس على جماعة حتى تخرجوا به، وكان مواظباً على الإفادة والاستفادة. ونقل السبكي في طبقات الشافعية الكبرى عن الكيا نفسه قوله: كانت في مدرسة سرهنك بنيسابور قناة لها سبعون درجة وكنت إذا حفظت الدرس أنزل القناة وأعيد الدرس في كل درجة في الصعود والنزول وقال: وكذا كنت أفعل في كل درس حفظته ثم يقول السبكي: وفي بعض الكتب أنه كان يكرر الدرس على كل مرقاة من مراقي درجة المدرسة النظامية بنيسابور سبع مرات وأن المراقي كانت سبعين مرقاة.
وهذا الذي نقلناه يدلنا على أن الكيا في نيسابور كان طالباً مجداً بكل ما تحتمله كلمة من مجد من معنى، وأنه ظل على جده واجتهاده في طلب العلم حتى أصبح من كبار تلامذة إمام الحرمين وحتى إنه كان يقوم بإعادة دروس شيخه على كثير من زملائه الطلبة حتى تخرجوا عليه، وعلى هذا النحو بقى في نيسابور إلى أن توفي شيخه الجويني سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فارتحل عنها إلى بيهق.
في بيهق:
خرج إلكيا من نيسابور إلى بيهق وقد استكمل علماً فقد علمنا أنه كان من كبار تلامذة إمام الحرمين وانه حصل طريقته في إلقائه الدروس والبحث العلمي؛ ونرى أن الوقت كان ملائماً كل الملاءمة لهذا الطارق على بيهق ليظهر علمه ونبوغه. ولا شك أنه فعل ذلك حتى عظم قدره عند ولاة الأمور هناك. ولكن المصادر التي بأيدينا لا تتكلم عن هذه الفترة من حياته من سنة 478 التي مات فيها إمام الحرمين إلى 492 التي دخل فيها بغداد إلا قليلا، فابن خلكان يقول: ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة ثم خرج إلى العراق. وأكثرها يهمل هذه المدة الطويلة من حياته فلا يذكرها بخير أو بشر. إلا أن ابن خلكان كشف عن هذا الغموض قليلا حين نقل عن عبد الغافر الفارسي صاحب تاريخ نيسابور قوله: (ثم اتصل بخدمة مجد الملك بر كيارق ابن ملكشاه السلجوقي وحظى عنده بالمال والجاه وارتفع شأنه وتولى القضاء بتلك الدولة).
وفي حوادث سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من الكامل لابن الأثير ما يأتي: في هذه السنة في شعبان وصل إلكيا أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالهراس الفقيه الشافعي(721/28)
ولقبه عماد الدين شمس الإسلام، برسالة من السلطان بر كيارق إلى الخليفة الخ.
ومن هذا نرى أن الكيا قد عظم شأنه وأنه بعد أن درس مدة في بيهق اختير قاضياً في سلطنة بركيارق السلجوقي وعظمت صلته بالسلطان وثقة السلطان به حتى اختاره للسفارة بينه وبين الخليفة في بغداد.
في بغداد:
قلنا إن الكيا وصل بغداد في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة يحمل رسالة إلى الخليفة. ويقول ابن الأثير: واعتني بأمره مجد الملك البلاساني وقام له الوزير عميد الدولة ابن جهير لما دخل عليه ثم لا نعلم شيئاً عن حياته في بغداد إلى ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة لما ولي التدريس بالمدرسة النظامية في بغداد يقول ابن شهبة في طبقات الشافعية: وتولى النظامية في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة واستمر بها عظيم الجاه رفيع المحل يتخرج عليه الطلبة إلى أن توفي في المحرم سنة أربع وخمسمائة.
شيوخه وتلامذته:
لا نعلم شيئاً عن شيوخ الكيا الهراس إلا أنه تفقه في نيسابور على إمام الحرمين وأخذ عنه طريقته في الفقه والأصول والخلاف وأنه لازمه حتى مات، ويذكر السبكي في الطبقات أن الكيا حدث عن إمام الحرمين وأبي علي الحسن بن محمد الصفار وغيرهما ولكنه لم يذكر غيرهما من شيوخه كما أن كل من رجعت إليهم من المؤرخين لم يذكروا من شيوخه إلا إمام الحرمين وأبا علي الحسن بن محمد الصفار، وعلى الرغم من أنه تولى التدريس زمناً طويلا في بيهق وإنما تقتصر على بعض من تلقى عنه في نظامية بغداد مثل الحافظ الكبير السلفي، والمحدث الرحالة سعد الخير بن محمد الأنصاري الأندلسي البلنسي، وأبي إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور.
ومهما يكن من شيء فإن الكيا الهراس - وقد قضى أكثر عمره في الاستفادة والإفادة - لا شك أنه خدم العلوم الإسلامية وخاصة الفقه والأصول خدمة جليلة حتى دعي شيخ الشافعية في بغداد وتطلعت إليه العيون من كل صوب ولا شك أن الكثير من فقهاء الشافعية في أواخر القرن الخامس وأوائل السادس تخرج عليه واستفاد منه وخصوصاً أيام توليه(721/29)
التدريس في نظامية بغداد من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة إلى وفاته سنة أربع وخمسمائة من الهجرة.
الثناء عليه:
يقول الشيخ محمد الأنصاري البهنسي في الكافي: أنه تفقه ببلده وقصد إمام الحرمين بنيسابور فلازمه حتى برع في الفقه والأصول وكان هو والغزالي والخوافي أكبر تلامذته ومعيدي درسه. وكان إماماً نظاراً، قوي البحث، دقيق الفكر ذكياً فصيحاً جهوري الصوت. وقال أبو طاره السلفي: سمعت الفقهاء ببغداد يقولون: كان أبو المعالي الجويني يقول في تلامذته إذا ناظروا: التحقيق للخوافي، والجريان للغزالي، والبيان لإلكيا.
وصفه السبكي في الطبقات: بأنه أحد فحول العلماء ورؤوس الأئمة فقهاً وأصولا وجدلا وحفظاً لمتون أحاديث الأحكام. وكان ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت، وأبين في العبارة والتقرير منه؛ وإن كان الغزالي أحد وأصوب خاطراً وأسرع بياناً وعبارة منه. وكان يحفظ الحديث ويناظر فيه وهو القائل: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح.
وقال فيه ابن شهبة في طبقات الشافعية: إنه كان إماماً نظاراً قوي البحث دقيق الفكر ذكياً فصيحاً جهوري الصوت حسن الوجه جداً، قدم بغداد وتولى النظامية في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة واستمر مدرساً بها عظيم الجاه رفيع المحل يتخرج عليه الطلبة إلى أن توفى. وقال ابن خلكان: وكان حسن الوجه جهوري الصوت فصيح العبارة حلو الكلام. ويقول ابن عساكر في تبيين كذب المفترى: كتب إلى الشيخ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل قال: إنه ورد نيسابور في شبابه وقد تفقه وكان حسن الوجه مطابق الصوت للنظر، مليح الكلام، فحصل طريقة إمام الحرمين وتخرج به فيها وصار من وجوه الأصحاب ورؤوس المعيدين في الدرس، وكان ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت وأبين في العبارة والتقرير منه، وهذا كان يعيد الدرس على جماعة حتى تخرجوا به وكان مواظباً على الإفادة والاستفادة.
(له بقية)(721/30)
برهان الدين محمد الداغستاني(721/31)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
927 - حشو اللوزينج
ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي:
حشو اللوزينج يضرب مثلا للشيء يكون حشوه أجود من قشره وأفضل، وذلك أن حشو اللوزينج خير منه فيشبه به الحشو في الكلام يستغني عنه وهو أحسن منه. ومن أشهر ذلك قول عوف بن محلم:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله (بلغتها) حشو مستغنى عنه، ومعنى الكلام يتم بدونه ولكنه أحسن من جملته. . . قال أبو سعد رجاء: دخلت يوماً على أبي الفضل بن العميد فقال لي: امض إلى أبي الحسين بن سعد فقل له: هل تعرف أن لقول عوف (إن الثمانين وبلغتها) ثانياً في كون الحشو أحسن من المحشو. فسرت إليه وبلغته الرسالة فقال: سألني عنه محمد بن علي بن الفرات فسألت عنه أبا عمرو غلام ثعلب فقال: سألت عنه ثعلباً فلم يأت بشيء، ثم بلغني أن عبيد الله ابن عبد الله سأل المبرد فأنشده قول عدي بن زيد لابنه زيد بن عدي في حبس النعمان:
فلو كنت الأسير ولا تكنه ... إذن علمت معد ما أقول
قوله (ولا تكنه) حشو مستغنى عنه ولكنه في الحسن نظير (وبلغتها) قال مؤلف الكتاب (الثعالبي): قد افتتحنا كتاباً صغير الجرم لطيف الحجم في نظائر هذين الحشوين وترجمته بـ (حشو اللوزينج) فمما أودعته إياه أن المأمون قال يوماً ليحيى ابن أكثم: هل تغديت؟ فقال: لا وأيد الله أمير المؤمنين! فقال المأمون ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعها. . . ومما عثر عليه من حشو اللوزينج في شعر البحتري قوله للمتوكل:
وجزيت أعلى رتبة مأمولة ... في جنة الفردوس غير معجل
فقد تم الكلام عند قوله في (جنة الفردوس) وقال (غير معجل) أي بعد عمر طويل لأن الجنة إنما يوصل إليها بالموت.
وفي شعر لأبي الطيب:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا(721/32)
فقوله (وحاشاك) حشو فيه ما فيه من الحلاوة، وعليه ما عليه من الطلاوة.
928 - الشريعة تأبى التضييق والحرج
الاعتصام للشاطبي:. . . إن عدّوا كل محدث العادات بدعة فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المأكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعاً، وهذا شنيع، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، هذا من المستنكر جداً. . . وأيضاً فقد يكون الزي الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعباً ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه، ولم يكن ثم معارض.
929 - يعدل حيا وميتا
كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: قال (ابن الأثير) ومن عدله أيضاً (من عدل نور الدين) هو من أعجب ما يحكى أن إنساناً كان بدمشق غريباً استوطنها وأقام بها لمِا رأى من عدل نور الدين (رحمه الله) فلما توفي تعدى بعض الأجناد على هذا فشكاه فلم ينصف، فنزل من القلعة وهو يستغيث ويبكي وقد شق ثوبه وهو يقول: يا نور الدين، لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم لرحمتنا، أين عدلك؟ وقصد تربة نور الدين ومعه من الخلق ما لا يحصى، وكلهم يبكي ويصيح، فوصل الخبر إلى صلاح الدين فقيل له: احفظ البلد والرعية وإلا خرج عن يدك، فأرسل إلى ذلك الرجل وهو عند تربة نور الدين يبكي والناس معه، وطيب قلبه، ووهبه شيئاً، وأنصفه، فبكى أشد من الأول، فقال له صلاح الدين: لم تبكي؟
قال: أبكي على سلطان عدل فينا بعد موته.
فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما ترى فينا من عدل فمنه تعلمناه.
930 - كان يحلق لحيته وشواربه
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السخاوي:
عبد الملك بن عبد الحق بن هاشم الحربي المغربي كان صالحاً معتقداً، يذكر أن أصله من الينبوع. . . وقد ولى بمكة مشيخة رباط السيد حسن بن عجلان، ومات بها في ليلة السبت(721/33)
ثامن شعبان سنة خمس وأربعين، وبنى على رأس قبره نصب بل حوط نعشه، وهو مما يزار ويتبرك. وكان يحلق لحيته وشواربه. . .
931 - في شعر البحتري
قال الصفدي في شرح اللامية: أنشدت يوماً بعض الأفاضل قول البحتري من قصيدته المشهورة:
وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب
فقال بدل ينسكب: (ينهمر) فقلت: كيف تصنع في الأول وهو قوله:
هذي مخايل برق خلفه مطر ... جَود وورى زناد خلفه لهب
فقال بدل لهب: (شرر) فقلت هذه القصيدة بائية، فلم يحر جواباً لكنني اعترفت له بالإحسان لسرعة الجواب في الثاني.
قلت. في القصيدة هذان البيتان:
قلب يطل على أقطاره ويد ... تمضي الأمور ونفس لهوها التعب
وما صحبتك من خوف ولا طمع ... بل الشمائل والأخلاق تصطحب
و (على أقطاره) هي رواية الديوان، وروى ابن الأثير البيت وفيه (يطل على أفكاره) ثم قال: فقوله (قلب يطل على أفكاره) من الكلمات الجوامع، ومراده بذلك أن قلبه لا تملؤه الأفكار ولا تحيط به، وإنما هو عال عليها، يصف بذلك عدم احتفاله بالفوادح وقلة مبالاته بالخطوب التي تحدث أفكاراً تستغرق القلوب، وهذه عبارة عجيبة لا يؤتي بمثلها مما يسد مسدها.
932 - أيها الصدر قد اجتمع عندك رءوس أهل النار
النجوم الزاهرة لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردى: وفيها (سنة 488) توفي عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بُندار القزويني شيخ المعتزلة، كان إماماً في فنون، فسر القرآن في سبع مائة مجلد - وقيل في أربع مائة وقيل في ثلاث مائة - وكان الكتاب وقفاً في مشهد أبي حنيفة (ض) وكان رحل إلى مصر وأقام بها أربعين سنة، وكان محترماً في الدول، ظريفا حسن العشرة، صاحب نادرة. قيل: إنه دخل على نظام الملك الوزير وكان عنده أبو(721/34)
محمد التميمي ورجل آخر أشعري، فقال له القزويني: أيها الصدر، قد اجتمع عندك رءوس أهل النار. قال نظام الملك: وكيف ذلك؟ قال: أنا معتزلي، وهذا مشبّه (يعني التميمي) وذلك أشعري، وبعضنا يكفر بعضاً. فضحك النظام. وقيل: إنه اجتمع مع ابن البراج متكلم الشيعة، فقال فقال له ابن البراج: ما تقول في الشيخين؟ فقال سفلتين ساقطين. قال: من تعني؟ قال: أنا وأنت. . . وكانت وفاة القزويني هذا في ذي القعدة وقد بلغ ستاً وتسعين سنة، ودفن بمقابر الخيزران عند أبي حنيفة (ض).(721/35)
على مضجع الآمال. .!!
للأستاذ محمد العلائي
(أستاذنا الجليل عميد الرسالة:
. . . وتلك قصيدة ثالثة أملتها ضجعة الأمل المحموم على سرير المحنة وأنا في هذه القرية المصرية التي نزلتها زائراً فأمسكتني عليها سجيناً. والتي نزلتها مودعاً فأدركني بها ما صنعت (وزارة المعارف) في عهدها السابق بقضيتي حين أوقفت بعثتي إلى (لندن) وحين استباح الهوى الغاشم حرمة الضعف النبيل وظل الشجى يبعث الشجى حتى انكمشت مشاعري وتراجعت عن هذا العالم الصاخب وتجمعت في هذا البلد الصغير الذي استقبلت عليه مأساتي ودرجت على ربوعه أحلامي. . . وظل الشجى يبعث الشجى حتى صدق الله وعده وأراد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة فزهق الباطل وجاء أستاذنا (السنهوري) إلى وزارة المعارف. . . واستفاقت قضيتي من جديد ما بين عدالة الوزير الكريم وحصافة المستشار الجليل. وأستاذنا (إسماعيل القباني) مستشار له كرامة ورجولة وله حقيقة أكبر من ظاهره وسأدخر شكري للوزير الخير والمستشار الحاسم ولأستاذنا (شفيق غربال) الوكيل الفاضل الذي ناصر قضيتي وهي في وهدة الظلم وأيدها بكلمته وهي في مطلع العدالة. . . سأدخر شكري لأولئك وهؤلاء حتى يعبر عنه ما سأبذل من واجب يشرف الاستعداد المصري في آفاق الغربة والمعرفة وما سوف أقدمه من جهد وتضحية في قضية أبناء الظلام بعد رجعتي إلى الوطن المصري الحبيب. والحبيب مهما نزفنا على أرضه من دماء ومهما تركنا عليها من شوق وأشلاء. . . وليتقبل عميد الرسالة وأسرتها تحيتي ووداعي).
(العلائي)
ما زال مرتجفَ الأحلام هيمانا ... حتى تساقط آمالا وأحزانا
وقلّب الشوكَ في أغصانه يقظاً ... ومدَّ أنفاسه للزهر وسنانا
وعانق الليل حتى اسود خاطره ... ولم يجد لبياض الصبح وجدانا
وكم تمنّى ولما جاء مورده ... ألقى الضمير بذات الماء غصانا
وكم تشكى ولما صد غايته ... ألفى مذاهبها ظلا وريحانا(721/36)
يا مهد أحلامه، ما كان مقدمه ... إلا وداعاً، فألفي غير ما كانا!
وافاك يصنع من أشلائه أملا ... قبل الرحيل فذاق اليأس ألوانا
وافاك يدفن في أرض الصبا شجناً ... فواجهته بملء الأرض أشجانا
يا مهد أحلامه. وافاك منفردٌ ... سقى الأجادب حتى عاد ظمآنا
ألقى الصلاة على الأقداس فاختنقت ... بها المعابد أوثاناً ورهبانا!!
تذكر الشاعر الوسنان وارتجفت ... ذات المشاعر ألواناً وأنغاما
يا مهد أحلامه، ولَّى وأتعبني ... ليل الشباب. وضاع العمر أوهاما
يا ليت ليلك إذ خابت مشارقه ... أمست عليه صروف الدهر أحلاما!
نزلت أرضك أوجاعاً مضمدة ... فانساب أخطرها حساً وإلهاما!
رفَّت ببابك أفراح الصبا قطعاً ... من الظلام ورف الشوق آلاما!
على ديارك ذكرى كلما ارتجفت ... تساقط الأمس في واديك أياما!
والفجر مازال مسوداً يباكرني ... كالهم ناصية والموت أنساما!
لا ألمح الشمس في واديه مشرقة ... ولا الصباح على الآفاق بسَّاما
ولى الشباب ومازالت مصائبه ... على ربوعك أشلاءً وأسقاما
مضى الزمان بما أشجى وما برحت ... سود الليالي على ناديك أعلاما!!
يا مهد أحلامه. لا شيء في خلدي ... إلا وذكرني في الأمس أشياَء
تلك الروائح والأشلاء من أمد ... كانت بأرضك آلاماً وأهواَء!
نزلت أرضك بالآمال فانقلبت ... على ربوعك يوم اليأس أرزاء!
نزلت أرضك بالآمال فانتثرت ... على الضغائن والأفواه أشلاء!!
وساورتني على مغناك أخيلة ... وبعثرتني على الآفاق أخطاء!!
وطالعتني من الأيام أوجعها ... حتى شربت تراب اليأس صهباه!
وللنوائب كأسٌ بات شاربها ... يقلب النفس تبريراً وإرجاء!
والهم ينسج أحداثاً لينقضها ... ويفتن العقل تثبيطاً وإغراء!
ويجعل الصدق في أفواهه كذباً ... واليمن مشأمة والعزم إعياء!!
والهم يجعل من ذات الرؤى حدثاً ... ويملأ الصمت في الأسماع أنباء!(721/37)
يا مهد أحلامه، ماذا تملكني؟ ... وخالط النفس أجواءً وأعماقا
أمست وأضحت كأن الأرض ما عرفت ... يأساً ولا نظرت من قبل إخفاقا!
ماذا دهاها؟ فصبت أمسها كسفاً ... وأزهقت يومها في الأمس إزهاقا!!
ليس الجديد قليلا في مداركها. . ... حتى تجدد للأحزان آفاقا!
وليس حاضرها خِلواً فتملأه ... ولا الضمير إلى ما كان مشتاقا!
هي الليالي وألوان الشجى رحم ... والعرق يجمع في الآلام أعراقا
واليأس أوجعُه ما ناء حامله ... وكان لولا جراح فيه سباقا!
والليل أفجعُه ما نام ساهره ... وقام لا يرتجي للنور إشراقا!!
والنفس أبعد أشواطاً إذا عدمت ... شوقاً فهاج على مثواه أشواقا!
والنفس أبلغ من أعماقها ألماً ... إذا أطالت على المأساة إطراقا!
يا مهد أحلامه. طافت على خلدي ... مواجع الأمس أرواحاً وأجساداً
كم جئت أرضك بالآمال هامدة ... وبالوسائل أشباهاً وأضدادا
عجبت للدوحة السوداء ما برحت ... كأن فيها على الأيام أحقادا!!
الأصل في أرضه ما زال منشعباً ... والفرع في أصله مازال ميادا!
يا دوحة في ضمير الليل ما شهدت ... شمساً ولا نظرت للدهر أعيادا!
بات الغناء على واديك حشرجة ... والظل أصبح في ساقَيَّ أصفادا!
سرب المكاره مازالت عصائبه ... على غصونك أزواجاً وأفرادا!
طوبى لروضك مازالت جمائمه ... أشهى وأوجع مما كان إنشادا!
طوبى لنسمتك السوداء ما تركت ... على المذاهب لا ماءً ولا زادا!!
أحفاد خطبك لا طابت منابتها ... أمست على نسب الأحزان أجدادا
يا مهد أحلامه، فاحت على خَلدي ... ريح الليالي تباريحاً وأوصابا!
أبى وفاؤك إلا أن تنسق لي ... سود الأزاهر في لقياك ترحابا!
ما كاد يشرح آلام النوى جسدي ... حتى صببت لذات النفس أكوابا!
هاج المساء وهاج الصبح ما شرقت ... به ديارك أنفاساً وأعتابا!!
عطر النوائب في مغناك أبهجني ... ومد للنسمة السوداء أسبابا!!(721/38)
وخايلتني على مغناك أزمنةٌ ... فيها مواجعها أهلا وأحبابا!!
والتفت بالنفس ماضيها وقلبني ... على المضاجع محزوناً ومرتابا
ماذا بأرضك أعرى النفس فارتجفت ... على منابتها دوحاً وأعشابا
ماذا بأرضك ناداها وذكرها؟ ... وفتح الواقع المشئوم أبوابا!
كأن بين خطوب الأرض قاطبة ... وبين خطبك أرحاماً وأنسابا!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتعد ... يغشى المعالم أجداثاً وأهوالا
وطاف بالأمس لا يلوي على طلل ... إلا وكشف أطلالا وأطلالا!
وطاف بالأمس حتى جن رائده ... وخاض ما فيه أشلاءً وأوحالا!
وخاض في لجة الأيام وانتفضت ... موتى الأمانيّ في الأكفان أجيالا!
قامت تجر خطاياها، ومن أمد ... كانت تجر وراء الضعف أثقالا!
كانت تجدد أوجاعي وتجعلني ... أخشى المغايب أسحاراً وآصالا!
كانت على النفس أرواحاً مدللة ... فأصبحت في مهاوي الأمس أغوالا!
موتى الأماني لا أنسى تعثرها ... بين المخاوف إدباراً وإقبالا
حملتها اليوم آلاماً على كبدي ... وكنت أحملها بالأمس آمالا!!
وكنت أجعلها للنفس أجنحة ... فأصبحت في حنايا الصدر أغلالا
يا مهد أحلامه. وافاك مغترب ... يشكو المذاهب أشواكا وأزهارا
رأى الأصائل فارتابت مشاعره ... فيما يراه تباشيراً وأسحارا!
ألقى عصاه على يومين فانتكست ... به الأماني في مغناك أشعارا!!
ما كاد يعزف بلواه على وتر ... حتى أهاج أنين اللحن أوتارا!
ولا تعمق في شط المنى خبراً ... إلا وذكَّره في اليم أخبارا!
ولا تأمل غصناً في بشائره ... إلا تخوفه ظلا وأثمارا!!
ولا أزاح ستار الغيب عن ظلَم ... إلا وأسدل خوف النور أستارا!
ظن الظنون وذاق الناس واختنقت ... منه الخواطر أشراراً وأخيارا
ما كان أكبره نفساً وأطهره ... لو أن في البر أو في البحر أطهارا!
رأى القلوب عبيداً فانطوى ألماً ... وغاظه أن يرى الأفواه أحرارا!(721/39)
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل ... صب الضمير على مغناك أسقاما!
ما بال دارك يا ابن الليل حافلة؟ ... لم ترع شوقا ولم تستبق آلاما!
ما بال روضك لا تصفو مشاربه؟ ... ولا يطيب على الآفا أنساما
نزلت أرضك والآمال في غدها ... فانساب رائدها في الأمس أوهاما!
وارتد هامدها في الوهم أخيلة ... والتف ذابلها بالنفس أنغاما!!
ومن توارى من الأيام مشأمة ... خال التراجع بالأشلاء إقداما!
وبات ينزف أوهاماً ويسكبها ... ويستمد من التصميم إحجاما!
وراح بالنفس لا يدري لها أفقاً ... وعاد يملؤها ظناً وأحلاما!
وراح يطلب للتبرير مستمعاً ... وعاد يمسخ ذات اليأس أحكاماً!
وراح يسخر بالآمال تعمية ... وعاد ينظر للإخفاق بساما!
يا مهد أحلامه ما كان من ألم ... ولى وأورثني في النفس أشياءً
والقلب أوسع للضراء تذكرة ... إذا تنسم في الآفاق سراء!
والروح يذكر عند الظل حرقته ... كما يهيج رحيل الداء أدواء!
والهم أثقل خطواً قبل مخرجه ... والنفس أكثر بعد الشوط إعياء!
والليل يلمس ألباباً فيتركها ... لا تستطيب لذات الفجر أنباء
واليأس إن لمس الأعماق فادحه ... رد البشائر في الأسماع أرزاء!
واليأس يطمس في الميؤوس حكمته ... حتى يظن طنين الهم آراء
واليأس ينسج أشلاء المنى عقداً ... ويملأ الأرض للميؤوس أعداء
واليأس ينفخ أوهام الفتى ورماً ... ويخلع القلب تخييلا وإيحاء
ويخنق النفس تبريراً وتغطية ... ويقلب الكون في الأذهان أخطاء!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل ... أفنى الوساوس أجواءً وأعماقا
مد الفؤاد إلى الآمال مختنقاً ... وكان في سكرات اليأس خفاقا
وأغمض الشوق عن أقداسه ورعا ... وكان في حمأة الأرجاس مشتاقا!
وأفرغ الكأس لما جاء واقعها ... وكان يشربها في الوهم ترياقا!
من خالط الدهر لا يروي له خيراً. . . ... ولا يصدق للآفاق إشراقا(721/40)
ومن تعود شُحَّ الجدب آمله ... رأى الهشيم بذات الخصب إغداقا
ومن تعود في الإخفاق خاطره ... خال النجاح على الأهداف إخفاقا
ومن تمرض بالأشواق خافقه ... ألفي الحفيظة في الأفواه أشواقا!
ومن تذوق للإغراق منقلباً ... ظن التبسم للأيام إغراقا!
ومن تجرع صاب الوهم في أفق ... خاف الحقيقة آفاقاً وآفاقا
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل ... أبلى حوادثها فقداً وإيجادا!!
ولم يزل في شعاب الأمس يذكرها ... إن مس نازلة أو مس أعيادا!
يا بؤس دارك ما زالت نوائبها ... سوداً وأسودها مازال وقادا!
لم يعل محنتها شيب وقد نظرت ... على الملاعب أبناءً وأحفادا!
يا بؤس دارك لا يصفو لها خبر ... وإن صفا لم يجد للصفو أكبادا
تسد مسمعها إن كان عارضها ... غيثاً وتفتحه إن كان إرعادا!
يا ويح دارك قد فاحت سريرتها ... وأزبد الألم المكبوت إزبادا
وجسم الأمل المحموم سامرها ... وماج منقلب الأيام أشهادا
واهتز في دوحة الأشواك فارعها ... حتى اشرأب دفين الأصيل ميادا
وأخرج الأمس ألفاظاً وأحكمه ... على المشاعر والأهواء أصفادا!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل ... أفنى الخواطر إنكاراً وإعجابا!
طالت مذاهبه وارتاب رائدها ... وأطنب الدهر في نجواه إطنابا
واشتف أعماقه حتى تشربها ... فما أطاق لها شهداً ولا صابا!
واستل أنفاسه صبراً وتضحية ... وامتص خاطره بعداً وإغرابا!
وضاع في صخب الأقدار هامسه ... وانشق مرهفه عتباً وإعتابا
وراح في غسق الأهواء مقتنعاً ... وعاد في وضح الأقداس مرتابا
جنى المصائب آمالا وأحرقها ... على المذاهب توديعاً وترحابا!
وأذهل الشوق عن أبواب واقعه ... وهام يطلب خلف الغيب أبوابا
ومال بالنفس عما لاح شاطئه ... ومد للشاطئ المجهول أسبابا
وأزهق العمر تفكيراً وتجربة ... وما تخير من دنياه محرابا!!(721/41)
يا مهد أحلامه. وافي وطالعني ... يوم الرحيل وهاج الشوق أهوالا
الحق أزهق أغراضاً ومزقها ... على المذاهب والأفواه أمثالا!
والخير أخمد أهواءً وأركسها ... تحت المذلة أرداناً وأوحالا!!
والحق كالدهر إن أملي لباطلة ... وفي وأوغل في التشهير إيغالا
والخير أرزن مأساة فإن عصفت ... رد الحبائل في الأشرار أغلالا
والنوم أبلغ للأقدار تذكرة ... والصمت أبعد في الآفاق إرسالا
ومن ترامى على الأحداث مرتعدا ... ذاق المنى فشلا واليأس آمالا!
ومن تفكر أفناه تفكره ... وخال ميسرة الأيام إقلالا!
ومن تعمق لا ينمو له أمل. . . ... إلا تقصف أوهاماً وأقوالا!
وأحصف الناس لا يدري تعثره ... إن كان نازلة أو كان إقبالا!!
يا مهد أحلامه. نادي وخايلني ... يوم الرحيل وماج الغيب أسرارا
ما بال أمسك ألقاه على خلدي ... شوكا وأنثره للدهر أزهارا!!
ومن تسامى عن الأوضاع منزلة ... ألفي سعادته بذلا وإيثاراً!
يا مهد أحلامه. ما كان أوجعها ... ذكرى وأعمقها عطراً وأخباراً
والنفس خاشعة الأهواء يلمسها ... نور فيملؤها شوقاً وأخطارا!
ومن تسامى عن الأوضاع معرفة ... رد الظلام على الأيام أنوارا!!
يا مهد أحلامه. ناداك مرتحل ... مد المشاعر للأنسام تذكارا
أودعت أرضك أخطاءً ستجمعها ... بعد اغترايي آلاءً وأثمارا!!
ومن تسامى عن الأوضاع تجربة ... لاحت مآثره للناس أوزارا!!
وأقرب الناس للأقدار منفرد ... يرعى الحياة كما لو كان مقدارا!
محمد العلائي(721/42)
الأدب والفنّ في أسبُوع
المرصد والجامعة:
وافق مجلس الوزراء هذا الأسبوع على اقتراح لكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول بضم المرصد الملكي بحلوان إلى الجامعة على أن يكون وحدة مستقلة، وأن تتألف لجنة من القائمين بالمرصد الآن ومن رجال الجامعة لتقديم التفاصيل الخاصة بهذا المشروع وتقدير الاعتمادات اللازمة لتنفيذه.
وهذه في الواقع خطوة طيبة كان من الواجب أن تتم منذ سنين، وكانت المصلحة العلمية تقضي بتحقيقها من يوم أن قامت الجامعة وتهيأت المكانة اللازمة لكلية العلوم، فإن المرصد لا يصح أن يقوم على أنه آلة تسجل ظواهر الجو المعتادة وكفى، بل يجب أن يكون مركزاً علمياً للتجارب والإفادة في تلك الناحية التي استغلتها العقول الكبيرة حتى جعلت لها السيطرة على جميع ظواهر الحياة.
إن علم الظواهر الطبيعية أصبح دعامة من دعامات النهوض والقوة عند الأمم، وقد أدى هذا العلم في الحرب الماضية من الجهد ما غير مجرى الحوادث وحول دفة التاريخ، فلعل أن تكون هذه الخطوة مقدمة لاهتمام شامل بهذه الناحية حتى تؤدي فيها الجامعة رسالتها العلمية.
بعد المرحلة:
أشرنا في أعداد سابقة من الرسالة إلى تلك المرحلة الطويلة التي قام بها الأديب الفرنسي الكبير مسيو جورج ديهاميل في بلاد الشرق العربي حيث طاف بسوريا ولبنان ومصر وبلاد شمال أفريقيا، وقد جاء في نبأ من باريس أن ديهاميل تقدم إلى الأكاديمية الفرنسية بتقرير واف عن نتائج رحلته وما تبينه في بلاد الشرق من اتجاهات.
ولست أدري ماذا قال الأديب الفرنسي الكبير في بيانه أو في تقريره هذا. فإن الأنباء البرقية لم تشر إلى شيء من مضمونه، ولست أدري هل كتب ديهاميل ما كتب بروح الأديب الإنساني الذي عاش طول حياته ينشد الإنسانية المهذبة فأطرب أبناء الشرق والغرب، أم بضمير السياسي المسعور الذي لا يرجو لأمته إلا أن تستعمر البلاد وتستعبد العباد وتظل قائمة سيف الإرهاب والبطش تجره على رقاب الضعفاء.(721/43)
إننا أبناء الأدب نرجو دائماً أن نظل أوفياء لرسالتنا، محترمين لإنسانيتنا، فلعل الأديب الفرنسي قد حدث (الخالدين) من أبناء أمته بما رأى من شنائع الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقية، ولعله صور لهم ما رأى بعينيه من تلك المآسي الأليمة في تونس ومراكش وغيرهما من البلاد التي اغتصب الفرنسيون أقواتها وتركوها نهباً للجوع. . . وأن يكون في هذا كله قد اعتصم بضمير الأديب الإنساني لا بضمير الجلاد السياسي، وإلا فعفاء على أدبه، ولعنة الأدب على شخصه. . .
يقظة الشباب العربي:
عقدت رابطة الطلبة العرب بأكسفورد في الأسبوع الماضي مؤتمراً عاماً حضره طلاب يمثلون جميع الأقطار العربية، وقد عقد المؤتمرون عدة اجتماعات للبحث والتشاور ثم اتخذوا عدة قرارات بعضها في مجال العمل السياسي وبعضها يتصل بالنشاط الثقافي.
ففي مجال السياسة قرروا العمل على إدخال عرب شمال أفريقيا ممن يوصفون بالشعوب المنسية في حظيرة الجامعة العربية، والعمل على حصول فلسطين على استقلالها ووقف الهجرة اليهودية إليها، ثم العمل على تحقيق الاستقلال التام لمصر والسودان.
وفي مجال النشاط الثقافي قرروا الموافقة على إنشاء مراكز اجتماعية وثقافية في جميع عواصم البلاد العربية يطلق عليها اسم (البيت العربي) لتكون منازل للمسافرين من العرب وندوات علمية ثقافية لأبناء العروبة. . .
وإن هذه اليقظة من الشباب العربي المثقف لتدعو إلى الاطمئنان والتفاؤل، وتملأ النفوس بالغبطة والبهجة، وإننا إذ نبارك هذه الروح نرجو أن تظل في يقظتها متوثبة ملتهبة حتى لا يفسدها التراخي ولا يخدرها طول الوقت.
كانوا يقولون: (آه لو علم الشباب، وآه لو قدر المشيب)، ولكننا اليوم أصبحنا نجد في الشرق العربي الشباب العالم القادر الذي يتبصر الطريق، فلعل الله يحقق على يديه للعروبة ما تمنى الأدباء وتلهفوا عليه.
تكريم مطران مرة ثانية:
أما التكريم الأول فهو الذي قامت به لجنة تألفت لهذا الغرض وقد كان من أمره ما نشرناه(721/44)
من قبل.
وأما هذه التكريم الثاني فقد قام به الاتحاد العربي في داره بالقاهرة هذا الأسبوع في حفل جامع حضره كثيرون من أعلام الأدب وأقطاب العرب، وقد افتتح الاحتفال صاحب السعادة محمد علي علوبة باشا رئيس الاتحاد بخطبة قيمة ضافية استهلها بقوله: (لنا الفخر أن نكون شرقيين منبع المدنية والآداب والعلوم التي اهتدي العالم بهديها، وسار في ضوئها. منا البابليون والآشوريون والفينيقيون والفراعنة، وفينا ظهر الأنبياء عيسى وموسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، ولنا لغات راقية ممتازة في مقدمتها اللغة العربية الشريفة التي نهضت بأعباء المدنية نحو العالم قروناً طويلة والتي يستطيع الإنسان أن يعبر بها عن كل احساساته ومطالبه بما لا يجده في لغة أخرى).
وفي هذا المنحى من الحديث أفاض علوبة باشا في الإشادة بمجد الشرق عامة والإسلام خاصة، ثم انتهى في الحديث إلى الضعف الذي انتاب الشرق في العصور المظلمة وما كان بعد ذلك من مصارعة بين الشرق والغرب في ميدان الحياة فقال: (ابتلينا بالغرب، فهدم مدنيتنا، وأضاع حريتنا، وقتل شخصيتنا، وفي هذا الظلام الخانق تأخرت اللغة العربية، وندر الشادون بها من فحول الأدباء والشعراء، ولكن بين الحين والحين كانت تظهر في تلك التربة الخصبة حبات صغيرة تحاول استرداد مجد اللغة، ومن هذه الحبات حبة نبتت في جبل لبنان الأشم ثم أراد الله لها أن تنمو وتفرع وتثمر في وادي النيل حتى صارت دوحة عظيمة، وليست هذه الدوحة إلا شاعر العروبة الكبير الأستاذ خليل مطران بك).
وتحدث علوبة باشا عن مطران الرجل، وشاعريته العبقرية الفياضة، وما له من آثار جليلة في خدمة العربية والتراث الأدبي، وأهاب بالشاعر الكبير أن يتوجه بشاعريته إلى إيقاظ المشاعر بالإشادة بمجد الشرق العريق وتذكير الأبناء بما كان للآباء من تراث عظيم.
وتعاقب الشعراء والخطباء بعد ذلك، فأنشد شبلي ملاط بك جملة من القصائد والمقطوعات القديمة والحديثة، وألقى الأستاذ حسين السيد زجلا رقيقاً والأستاذ موريس أرقش خطبة بليغة وأنشد بعض قصائد مطران الخالدة، ثم ألقى الأستاذ جميل الرافعي بعض الكلمات التي قيلت في تكريم مطران في عدة مناسبات، وكان هذا ختام الحفل لتكريم الشاعر الكبير.
وبعد، فليس هذا كله بكثير على خليل مطران بل إنه بعض الدين الذي في عنق أبناء(721/45)
العربية نحو شاعر العربية الذي غنى فأطرب وأنشد فأعجب. . .
مجمع للشريعة الإسلامية:
وضعت لجنة خاصة من هيئة كبار العلماء تقريراً اقترحت فيه إنشاء مجمع لبحث المسائل الدينية والتشريعية يسمى (مجمع فاروق الأول للشريعة الإسلامية) على غرار (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) وقد استهلت اللجنة تقريرها بمقدمة أشارت فيها إلى الضرورة التي تدعو إلى قيام هذا المجمع فقالت: (إذا كان مجمع فؤاد الأول للغة العربية قد قضت به الضرورة ودعا إليه داعي الإصلاح واستلزمته مقتضيات العصر وما وجد فيه، فإن ذلك يوجب أيضاً أن يكون في مصر وتحت ظلال الأزهر مجمع ديني علمي ينسب إلى الفاروق العظيم. . . وإن مجال العمل في مثل هذا المجمع الديني العلمي لفسيح، وإن الأمة الإسلامية لفي حاجة ماسة إليه لا تقل عن حاجة اللغة العربية إلى مجمعها الراهن، بل تزيد أضعافاً، فقد حدثت صور من المعاملات لم تكن، وبانت حاجات للناس لم تبن، ووفدت علينا تيارات فكرية تارة، ونزعات اجتماعية ضارة، ليس من الخير ولا من الرأي أن نغض النظر عنها وأن نتركها حتى يستشري داؤها ويتفاقم خطبها). . .
ثم تحدثت اللجنة عن الأغراض التي سينهض بها هذا المجمع فأوجزتها فيما يلي:
1 - دراسة ما يرد للأزهر من أسئلة تتعلق بالأحكام الشرعية الاعتقادية والعلمية دراسة تتجلى فيها روح الشريعة الإسلامية في وحدة العقيدة ورعاية المصالح.
2 - بيان ما هو بدعة وما ليس ببدعة، ووضع كتاب في هذا الموضوع والإجابة عن الأسئلة التي تتعلق به ونشر المهم من البدع وإذاعته على الناس.
3 - تفسير القرآن الكريم تفسيراً سهلا خالياً من الإسرائيليات وموافقاً لما تقضي به القواعد العربية والأصول الدينية والإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بتفسير الآيات الكريمة ونشر المهم من ذلك وإذاعته على الناس.
4 - وضع كتات يحتوي على ما نسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مع بيان مراتبه وشرح وجيز لما يحتاج إلى شرح من المقبول، والإجابة عما يسأل عنه من تفسير الأحاديث أو تخريجها ونشر المهم من ذلك وإذاعته على الناس.
5 - إحياء الكتب النافعة في الشريعة الإسلامية وما له صلة بها إحياء يسهل معه الانتفاع(721/46)
بها.
6 - إيداء الرأي في الكتب التي يرى شيخ الجامع أخذ رأي المجمع فيها لشرائها لتدريسها في مراحل التعليم بالأزهر والمعاهد الدينية وحل المشكلات العلمية العامة.
هذا هو الاقتراح الذي تقدمت به اللجنة لإنشاء مجمع للشريعة الإسلامية، وهو اقتراح نوافقها عليه كل الموافقة، ونرى معها أن الضرورة تقضي بإنشاء هذا المجمع في أقرب فرصة ممكنة، ولكنا نخالفها كل المخالفة في أن تكون الأغراض التي أبدتها هي أغراض ذلك المجمع ومهمته، لأنها كما يرى القارئ أغراض ثانوية ومن الواجب أن تضطلع بها هيئة كبار العلماء ودار الإفتاء بالأزهر وإلا فلا حاجة تدعو إلى بقائهما. . . وإنما يجب أن يكون المجمع المقترح مجمعاً للعالم الإسلامي عامة وأن يكون من أول أهدافه تحرير المسائل الخلافية التي فرقت الشمل وجعلت المسلمين جماعات، ثم تنقية هذا الدين من شوائب النزعات المذهبية والاتجاهات الطائفية والتلفيقات الخرافية ورده إلى أصوله السمحة؛ ونحسب أن الأذهان تهيأت في العالم الإسلامي للاستجابة إلى هذه الغاية الشريفة التي هي غاية الإسلام الصحيحة القويمة. . .
انحطاط الفن السينمائي في مصر:
وأخيراً انتبهت وزارة الشئون الاجتماعية إلى أن الفن السينمائي في مصر يمشي في سيل من الفوضى وأن الأفلام التي تعرض على الشعب ليست إلا ألواناً من التهريج الفارغ حتى أصبحت الجماهير الشعبية تشعر نحوها بالغضاضة وعدم التقدير.
نقول تنبهت وزارة الشئون الاجتماعية إلى هذا فقامت إدارة الإرشاد الاجتماعي وهي الجهة المختصة بالوزارة ببحث هذه الحالة وفحص العلة فيها ثم تقدمت إلى معالي الوزير بمذكرة ضمنتها ما ترى لعلاج هذه الحالة وملافاة ذلك النقص، وهي ترى في مذكرتها أن السبب في تدهور الفيلم المصري يرجع إلى ضعف القصة، ولذلك نقترح أن تمتنع الوزارة عن الترخيص بتصوير القصص الضعيفة التأليف أو التافهة الموضوع على أن تتألف هيئة بالوزارة من الفنيين يكون لها الرأي في تقدير القصص الصالحة للعرض بما يجتمع لها من براعة ونبالة الغرض وقوة الموضوع، أشارت المذكرة إلى ما يجب على الوزارة في منع الأفلام التي تسيء إلى سمعة مصر والبلاد العربية أو تسيء إلى صناعة السينما واقترحت(721/47)
توافر شروط خاصة فيمن يزاولون الأعمال الفنية الأساسية في صناعة السينما، كما رأت أن يظل باب المنافسة بين الأفلام الأجنبية والأفلام المصرية مفتوحاً إذ أن المنافسة داعية الاجتهاد وتحري الإجادة. .
وكل ما نقوله في التعليق على هذا هو أن الوزارة قد لمست الداء وتبينت الدواء فلعلها تكون حازمة فتنقذ مصر من هذه الفوضى التي تدلت بالفن إلى مدى سحيق!!
(الجاحظ)(721/48)
البَريدُ الأدَبي
بل أي الأقوال أصدق؟
قرأت ما كتبه الأستاذ محمود أبو رية في عدد الرسالة الغراء 718 عن حكم الدكتور طه حسين بك للعقاد منذ ثلاث عشرة سنة وعن حكمه لمطران اليوم، وأقول إن الدكتور قد حكم من قبل ذلك لشوقي وحافظ بما حكم به بعد ذلك للعقاد ومطران.
فالدكتور يقول في الصفحات الأخيرة من كتابه (حافظ وشوقي): (. . . . . . وكلا الشاعرين قد رفع لمصر مجداً بعيداً في السماء، وكلا الشاعرين قد غنَّى قلب الشرق العربي نصف قرن أو ما يقرب من نصف قرن بأحسن الغذاء. . .
هما أشعر أهل الشرق العربي منذ مات المتنبي وأبو العلاء من غير شك، هما ختام هذه الحياة الأدبية الطويلة الباهرة التي بدأت في نجد وانتهت في القاهرة) ويستطرد الدكتور إلى أن يقول: (هما أشعر العرب في عصرهما. . .).
وإني إذ أضيف هذا الحكم القديم للدكتور إلى ما نقله الأستاذ أبو رية لا أود أن أعرض ذلك أمام الأدباء جميعاً ليروْا رأيهم فيه فحسب، بل أعرض ذلك للدكتور نفسه قبل هؤلاء جميعاً ليعلن رأيه الفصل، ويوفق بين ما أعلنه في صراحة ووضوح وله مني أطيب التحيات والسلام.
(السودان - بربر)
عز الدين الأمين
عود إلى ترجمة:
كتبت كلمتي السابقة في الرسالة عن ترجمة كتاب السادهانا للأستاذ الأديب محمد محمد علي وأبرزت بعض نواحي الخطأ في هذه الترجمة. وأنا أشعر بأنني أؤدي واجباً نحو الأدب والفن لا يحسن السكوت عنه وقد قرأت في عدد الرسالة الأخير رد الأستاذ على ما كتبت وكان بودي أن ينتهي الأمر عند هذا الحد ويترك إلى ذوق القارئ وتفكيره.
ولكن الكاتب الأديب قد عمد إلى تحريف الكلم. وقدم للقراء صوراً زائفة من القول يبرر بها أخطاءه التي أشرنا إلى بعضها في الرسالة الغراء.(721/49)
كتب شاعر الهند تاجور فصلا عن السادهانا بعنوان وترجمها معرفة الروح. وصححنا هذه الترجمة فقلنا الوعي الروحي ولكن الأستاذ رد على نقدنا بقوله (خطأ الأستاذ ترجمتي للجملة بمعرفة الروح وترجمها بالوعي) ونحن نضع يدنا على يده ونقدمها للقراء متسائلين عن الذي دعاه إلى هذا التحريف في كلام تاجور وهو تحريف يخل بالمعنى الذي رمى إليه، ويخالفه كل المخالفة. فالوعي الروحي هنا هو الضمير الروحي ومنه قوله تعالى (والله أعلم بما يوعون) أي يضمرون في نفوسهم. والمقصود بهذا في لغة الفكر: أن يعي الإنسان كل شيء عن طريق الروح وشتان بين هذا وبين معرفة الروح.
وخطأ ترجمة كلمة بتحقيق الحياة التي ترجمها بكنه الحياة. ولم يجد سبيلا إلى هذه التخطئة غير قوله: (ليست الحياة باطلة حتى يجعلها الكتاب حقيقة) وهذا نقد كان يجدر به أن يوجهه إلى مؤلف الكتاب لا إلى. والذي يعرف اتهام الهند عند الغربيين بالتجرد والزهد في الحياة واعتبارها شيئاً باطلا، يفهم قصد شاعر الهند بهذا العنوان. وتدعيم الرأي في هذا بأقوال مصلحي الهند وأنبيائها في سياق الكتاب.
ولست أرى الرد على بعض المغالطات التي عمد إليها الكاتب في تأويل بعض الأخطاء التي وقع فيها وأشرت إليها في مقالي السابق فهذا ما لا يحتاج القول فيه إلى بيان.
وإذا كانت هذه الأخطاء قليلة في رأي حضرة الكاتب الأديب فإن هذا القليل الذي ذكرناه يدل على الكثير الذي أهملناه.
محمد طاهر الجيلاوي
إلى معالي عبد العزيز فهمي باشا:
سيدي معالي الباشا
تفضلت فأهديت إلى كتابك القيم متوجاً بإهدائك البليغ الذي صغته من تواضعك الرفيع وعطفك السامي، فهممت أن أجيب عن هذا التكريم العظيم بالمثول بين يديك أرجو على الشكر مقدرة، أو التمس عن العجز معذرة. . . ثم انثنيت عن هذا لأنه عمل لا ينسجم مع نبل لفتتك؛ وأخذت أجيل النظر والفكر في كتابك وإهدائك، فكان فضلهما ونبلهما يخجلان كل ما ينثال على ذهني من الصور والخواطر، فانتهيت يا سيدي إلى أن ألجأ من فضلك(721/50)
إلى فضلك، محتمياً به منه؛ وتلك هي السبيل التي سلكها كل من طوقتهم بجميلك، وهديتهم إلى سبيلك، تسدي إليهم المعروف ثم تمن عليهم بالإغضاء عن شكره. مد الله في عمرك وظلك، وأبقاك لبني وطنك تلقي عليهم دروس الكرامة والوطنية والعزة.
ثروت أباظه
حول أبي هريرة:
كتبت كلمة نقد لكتاب أبي هريرة سلكت فيها جادة الإنصاف، ووضعت توجيهاً جديداً لدراسة أبي هريرة دراسة عادلة، ولكن هذا لم يعجب صاحب الكتاب، ولم يعجب بعض إخواننا من الشيعة، فحملوا عليّ في بعض جرائدهم حملة ظالمة، وقد رد علي صاحب الكتاب بكلمة في الرسالة لم يأت فيها بشيء نحو ذلك التوجيه الجديد في دراسة أبي هريرة، ولم يجد فيما يأخذه عليّ إلا إسناد حديث دخول أبي هريرة على رقية إلى محمد بن خالد بن عثمان، وقد كنت ذكرت معه بعض أسماء من كان يضع الأحاديث على أبي هريرة، فسقط في الطبع بعض هذه الأسماء، وترتب على هذا إسناد ذلك الحديث إلى محمد بن خالد. والحقيقة إنه من وضع غيره لا من وضعه، وقد ورد هذا الحديث بروايتين في مستدرك الحاكم، جاء في إحداهما محمد بن أحمد بن سعيد الرازي، وهو من الضعفاء، والمطلب بن عبد الله، وهو من الضعفاء أيضا، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وقد ضعفه النسائي والبخاري.
وجاء في الرواية الثانية عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه، وهو قصاص لا يعتمد عليه، وقد ذكر أحمد بن حنبل إنه كان يكذب على وهب بن منبه، وذكر البخاري أنه ذاهب الحديث
فلم يبق إلا تصحيح الحاكم لسند هذا الحديث، ولا شك أن تصحيحه له يشمل أبا هريرة أيضا، فلا يصح لصاحب كتاب أبي هريرة أن يعتمد عليه في رأيه فيه، وقد قال الحاكم عقب هذا الحديث: ولا أشك أن أبا هريرة رحمه الله تعالى روى هذا الحديث عن متقدم من الصحابة أنه دخل على رقية رضي الله عنها، لكني قد طلبته جهدي فلم أجده في الوقت، وهذا هو الإنصاف الذي يجب أن يدرس به أبو هريرة وغيره.(721/51)
وقد جاءني من حضرة الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجمجموني إنه وجد هذا الحديث في كتاب التاريخ الصغير للبخاري (100) وأنه ذكر إسناده إلى المطلب بن عبد الله عن أبي هريرة، ثم قال: ولا يعرف للمطلب سماع من أبي هريرة، ولا تقوم به الحجة، فأعَّله بالانقطاع. وقد ذكر هذا الأستاذ الفاضل أن الحاكم يروي في كتبه ما لا يعقل، وقد طعن في بعض أحاديثه الإمام السيوطي في كتابه (اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) وكذلك طعن فيه صاحب كتاب (الصارم المنكى). وذكر الشيخ عبد العزيز الخولي في كتابه (مفتاح السنة) أن في المستدرك للحاكم كثيرا من الموضوعات، وطعن فيه صاحب المنار في المجلد السادس منها، والشيخ طاهر الجزائري في كتابه (توجيه النظر إلى أصول الأثر)
وما كان أحرى صاحب كتاب أبي هريرة أن يتناول دراسته بهذا التوسيع الذي يجده في دراسة هذا الحديث، ويثبت منه أنه موضوع على أبي هريرة، لا إن أبا هريرة هو الذي وضعه على النبي صلى الله عليه وسلم.
عبد المتعال الصعيدي
تصويب:
1 - جاء في مقال الأستاذ أحمد رمزي بك: (بين مصر ولبنان) المنشور بالعدد الماضي في التعليق على كلمة تنوخ. وتنوخ اسم حبشي والصواب اسم جنسي، وورد في المقال غالباً وصوابها غالياً.
2 - جاء في مقال الأستاذ علي متولي صلاح أن قصيدة الأستاذ بشارة الخوري ألقيت في تكريم شوقي والصواب أنها ألقيت في رثائه(721/52)
القَصصٌ
الجاسوسة العاشقة
عن الإنجليزية
للأديب شفيق اسعد فريد
كان مقهى فندق كوزمو بوليتان يعج بالجالسين حتى لقد تعذر على (فانيا) المسير لضيق مسافة ما بين المناضد. وتوقفت الفتاة لحظة وقد بدا عليها التردد، على أنها استأنفت التقدم ثانية حتى وصلت إلى منضدة كان يجلس إليها رجل منفرد. ولاح كأنها كانت على وشك السقوط إذ مدت يدها مسرعة إلى المنضدة ولم تلبث أن سقطت منها حقيبتها اليدوية على الأرض.
وانحنى الرجل يلتقط الحقيبة ثم وقف وقال وهو يقدمها إلى فانيا:
- أرجو المعذرة. . . ولكن هل تتكرمين بالجلوس معي يا سيدتي. . . يلوح أنه لا توجد أماكن خالية الليلة في المقهى.
وابتسمت الفتاة دلالة على الشكران ثم جلست. . . وقبلت قدح القهوة الذي طلبه لها ثم بدأت تشكره على تلطفه معها.
ولم يخف على رئيس الخدم ورجاله المنتشرين في أرجاء المكان أن (فانيا) الجاسوسة في قلم المخابرات السرية بموسكو قد عادت لاستئناف نشاطها ثانيا.
ولكن أن أندريه ليرو لم يكن يدري ذلك برغم معلوماته الجمة عن الجاسوسية وعن حيل الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلام المخابرات السرية.
لقد كان هو نفسه جاسوساً فرنسيا طاف بكثير من الممالك منتحلا شخصيات عديدة ومستعملا في ذلك جوازت سفر تطابق الأسماء التي كان ينتحلها. . . ومع ذلك فإنه لم يكن يدري أن رفيقته (فانيا) من أخطر جواسيس موسكو.
لم يكن يدري أن فانيا هي التي أدارت الحديث ثالث يوم من صداقتهما ناحية بولندا وزيارته إلى تلك المملكة. . . لأنه كان يعتقد أنه هو نفسه الذي وجه الحديث إلى هذه الناحية الشيقة(721/53)
لم يكن يدري أن مرض خادمه في الفندق في اليوم الرابع من وصوله ومجيء خادم جديد بدلا عنه كان من صنع (فانيا) وأنى له أن يعرف ذلك وقد خرج في اليوم ذاته في نزهة في السيارة استغرقت أكثر من أربع ساعات بعيداً عن المدينة، كان أحد مهرة صانعي الأقفال يعمل خلالها بنشاط عجيب ويفتح جميع أدراج مكتبه في الفندق على حين كان رجل آخر يلتقط صورا فوتوغرفية لجميع أوراقه ويعيدها إلى مكانها كأنما لم يحدث شيئا مطلقاً
حقاً لقد كانت (فانيا) ماهرة في عملها كل المهارة. . . ومع ذلك فإن أندريه ليرو لم يكن يأبه إلا للنظرة الساحرة التي كانت ترميه بها من وقت لآخر.
كانت فانيا تجلس في غرفة استقبال أندريه ليرو في فندق كوزمو بوليتان بعد مضي أسبوعين على لقائهما.
ونظرت الفتاة إلى ساعتها اليدوية. . . (لم يبق غير دقيقة واحدة).
قال أندريه: إنني ذاهب إلى أمريكا أولا، ثم أخترق القارة إلى سان فرنسيسكو. . . ألا تشعرين بأنه يجدر بنا - إذا أردنا السعادة - أن نتزوج في وارسو أو في باريس أو في أي مكان آخر ثم نرحل معاً. . . كم هي جميلة حياة الأسفار حيث يتجول الإنسان في ممالك غريبة عنه. . . إنني أملك مالا كثيراً. . . فهل تتزوجينني يا فانيا؟.
ولم تستطع الفتاة أن ترفع بصرها عن ساعتها اليدوية. . . وكانت تحاول أن تتجه بأفكارها اتجاها آخر بعيداً عن أندريه وعن حديثه. . . وابتسمت. . . وراحت تفكر في زميلها كرجل يغازلها ويعرض عليها الزواج ولكن كرجل له أهمية عظمى في مؤامرة أعظم. . .
ولم تجب، فاسترسل أندريه في حديثه قائلا:
- فانيا. . . أصغي إليَّ. . .
وتوقف فقد اهتز باب الغرفة في تلك اللحظة اهتزازاً عنيفاً تحت تأثير ضغط عظيم من الخارج. . .
وسمع الاثنان صوتا خشناً يقول:
افتحوا الباب وإلا فسنحطمه في أقل من خمس ثوان. . . افتحوا الباب. . .
ولم ينتظر الآمر إذ يبدو أنه كان في عجلة شديدة. . . وأسرعت فانيا تحتمي بجانب أحد جدران الغرفة. . . ثم دوت طلقة نارية لم يلبث بعدها أن تحطم قفل الباب وتناثر داخل(721/54)
الغرفة في قطع صغيرة. . . واهتز الباب اهتزازاً عنيفاً ثم فتح الباب على مصراعيه. . .
ووقف ثلاثة من الجنود على عتبة الباب وقد رفعوا مسدساتهم في أيديهم.
وتقدم أحدهم وقام بتفتيش الجاسوس الفرنسي تفتيشا دقيقا ثم قبض على كتفه في شيء من العنف.
وفي تلك اللحظة دخل فورناشوف الغرفة.
كان فورناشوف هذا من كبار موظفي حكومة السوفييت على أن الجمهور لم يكن يدري من أمره شيئاً فقد كان نادر الظهور أمام أفراد الشعب، كما أن اسمه لم يكن يذكر في الإدارة السرية في الكرملين إلا في ظروف خاصة.
هز فورناشوف رأسه في إيماءة خفيفة إلى فانيا ولكنها كانت أبلغ من الكلام. . .
كانت هذه الإيماءة الخفيفة تحوي كل معاني التهنئة. . . حقاً لقد قامت الفتاة بدورها على ما يرام فسارت الأمور في نصابها دون أن تحدث أي ثغرة بسيطة في الخطة الموضوعة. . .
وصاح فورناشوف يأمر الجند: خذوه خارجاً. . .
كان أندريه ممتقع الوجه ولكنه لم يفه ببنت شفه. . . وحين كانوا يسوقونه إلى الخارج ألقى على الفتاة نظرة عاجلة ولكنها كانت خالية من كل المعاني. . . وسر الفتاة أنه لم يقل شيئاً وأدركت أن هذا الرجل العظيم لم يكن على شاكلة الآخرين الذين أوقعتهم في حبائلها. . . كانوا يثورون ويلعنون أما هذا الرجل الباسل فقد كان هادئاً برغم الخطر العظيم الذي كان يحدق به. . .
ولم يتكلم فورناشوف أيضاً بل أومأ إلى أحد أعوانه بأن يجمع حقائب أندريه كما أرسل أحد الجنود لإحضار نجار يصلح الباب. . . وغادر الغرفة في النهاية وانصرفت فانيا على الأثر إلى منزلها.
وفي الصباح التالي كانت فانيا قد نسيت كل شيء عن أندريه وحين زارت فورناشوف في مكتبه علمت أن قلم المخابرات قد أحرز نصراً عظيما بالقبض على أندريه.
قال فورناشوف: إننا نأمل أن تكشف لنا الأوراق التي عثرنا عليها مع أندريه عن معلومات ثمينة إذ يبدو أن فيها ما يشير إلى وجود رجل إنجليزي في المؤامرة. . . وفي اعتقادي أن وجود الإصبع الإنجليزي في المؤامرات ضد الروسيا قد أصبح من الأمور المألوفة. . .(721/55)
وقهقه ضاحكا إذ كان يشعر بالغبطة والانشراح. . . والتقط قلماً من فوق مكتبه وراح يعبث به. وهتف: لقد نجحت نجاحا عظيما يا فانيا فقد استطعت أن تقومي بدورك في هدوء وسكينة دون أن تثيري حولك ضجة تجذب أنظار الجمهور. . . إن أحداً - غير موظفي قلم المخابرات السرية - لا يعلم أن شخصاً معلوماً قد اختفي من عالم الوجود كما حدث أمس وكما سيحدث قريباً جداً. . . فقد وصل إلى علمي أن إنجليزياً على وشك الوصول إلى موسكو ولما كان أمر ذلك الإنجليزي يهمني فسأعهد إليك بالمهمة الخاصة به في الوقت المناسب. . . ولكن تذكري أنني لا أريد ضجة لا مبرر لها لأنني رجل سلام. . . والآن يمكنك أن تنصرفي أيتها المواطنة على أن تعودي بعد أسبوع. . .
كانت محادثتهما خالية من كل ما يشير إلى أندريه. . . ولكن ماذا يهمهما من أمره. . . لقد لاقى جزاءه المحتوم مثل الكثيرين الذين سبقوه في هذا المضمار. . .
كانت الفتاة تدرك ما حدث للجاسوس المسكين فقد كانت تعرف في مثل هذه الأمور ما لا يعرفه إلا القليلون.
وتمثلت في ذهنها اللحظات السوداء التي تمر بالجاسوس بعد القبض عليه وقبل أن يساق إلى الموت. . . وتراءى لها أندريه وقد ساقوه إلى مكتب المخابرات حيث مثل بين يدي رئيس المكتب الذي طلب إليه أن يتكلم ويبوح بكل ما لديه من المعلومات واعدا إياه بالحرية المطلقة أو على الأقل بالحرية داخل حدود روسيا السوفيتية. . . وتمثلت منظر الجاسوس وقد رفض التكلم لعلمه بغدر العارض، وعندئذ يسوقونه إلى سجنه المعتم حيث يوضع تحت المراقبة الدقيقة. . . فإذا كان الفجر سيق الرجل في دهليز طويل ضيق. . . ويبرز من إحدى المنعطفات رجل يسير بحذر وخفة ثم يرفع هذا الرجل يده وقد حمل فيها مسدسا يطلقه في هدوء على الجاسوس المسكين فلا يلبث أن يخر صريعاً. . .
وهكذا سوف تتخلص روسيا من أندريه ليرو الجاسوس الفرنسي الكبير. . .
كانت فانيا في طريقها من محطة المترو إلى فندق كوزموبوليتان وقد تدثرت بملابس ثقيلة التماسا للدفء. . . كان متجهة بكل أفكارها إلى شخص معين يدعى اليوت فانجدون.
لقد زودوها بكل ما يلزمها من المعلومات عن هذا الرجل وأوصافه ولكنهم لم يخبروها أن هذا الشاب من الشبان القليلين الذي لا يفقدون رباط جأشهم إبان أشد الأزمات خطورة وأنه(721/56)
أرسل من قبل الحكومة الإنجليزية في مهمة تتعلق بالتجسس على مشروع خطير قيل إن حكومة روسيا تقوم به في الأوساط الهندسية - لأنهم لم يكونوا يعرفون ذلك هم أنفسهم. . .
وتكرر حادث سقوط حقيبتها اليدوية للمرة الثانية كما تكرر وقوع الشاب الإنجليزي في حبالها أيضاً. . . ولعله كان من أعجب الأمور أن يقف الخادم بجوار فانيا حين سقطت الحقيبة ومع ذلك فإنه لم يكلف نفسه مؤونة التقاطها تاركا ذلك للشاب. . . ولم يمض على ذلك الحادث غير نصف ساعة حتى كان اليوت فارنجدون يعبر للفتاة عن سروره لأن عثر على فتاة روسية ظريفة تستطيع التحدث باللغة الإنجليزية.
كان الاثنان يجلسان في شرفة الفندق ثالث يوم على لقائهما. . . قال اليوت:
- كان يجب أن ترتدي قبعة من تلك القبعات التي تغطي العينين والتي تلبسها السيدات هذه الأيام ومعطفا من الفرو السميك حتى تبرزي محاسنك الفاتنة يا فانيا. . إنني لا أعني أنك لست جميلة ولكني أعتقد أنك تكونين أجمل لو أنك. . .
فقاطعته قائلة: إنني لا أدرك ما تعني. . . إن لدي معطفاً للشتاء كما لدي قبعة. . . وفي اعتقادي أن رجال الإنجليز يعشقون الملابس لا النساء اللائي يرتدينها. . .
فصاح اليوت: لا تكوني حمقاء. . . إنني أخبرك بما سأبتاعه لك لو أنك سمحت لي بذلك الشرف. . . تعالي نرقص معاً هذا المساء.
فهتفت فانيا: سوف نرقص هنا ثم نخرج في نزهة قصيرة في موسكو وعندئذ سوف تخبرني عن قصة حياتك. . . أليس هذا ما تفعله الفتيات الإنجليزيات. . .
فقال في هدوء: بلى.
والآن وقد مضت سبعة أيام على هذا الحديث فقد بدأت فانيا تشعر بشيء من القلق والاضطراب فقد تحاشى اليوت الكلام عن نفسه وعن المركز الخطير الذي يشغله في قلم المخابرات السرية الإنجليزي. . . أجل لقد تجنب الكلام عن نفسه بصفة خاصة حتى إنه لم يطلعها على أمر تلك المكالمة التليفونية التي تلقاها من بوخارست والتي استغرقت مدة ساعة بأكملها ما بين الساعة الواحدة صباحاً والساعة الثانية صباحاً. . . فهل يا ترى كانت تلك المحادثة الطويلة لسؤال اليوت عن جو موسكو. . .
لقد قرر جاسوس المخابرات الروسية الذي استرق السمع أبان المكالمة أنها كانت عبارة(721/57)
عن تقرير بخصوص حالة أخي اليوت الصحية إذ مرض هذا الأخ فجأة في بوردو. . .
(البقية في العدد القادم)
شفيق أسعد فريد(721/58)
العدد 722 - بتاريخ: 05 - 05 - 1947(/)
من مذكراتي اليومية
يوم الأحد 23 فبراير سنة 1947:
اختلف أطبائي الخمسة في شرح ما بي، ولكنهم اتفقوا على أن أذهب إلى حلوان فأنقع في هدوئها ودفئها أعصابي وأوصابي. ففي صباح هذا اليوم العابس القر انتقلت إلى هذه المدينة ونزلت فندقاً من فنادقها الكبرى، ثم قطعت ما بيني وبين دنيا الناس فلا أشغل ذهني بفكر ولأيدي بعمل - هذا الفندق الغريق في الضوء والسكون أشبه الأشياء بالدير الجبلي في روعته الأخاذة ووحشته القابضة: وهؤلاء النازلون به المستشفون فيه أشبه الأحياء بالرهبان المنقطعين في معيشتهم الرتيبة وعزلتهم الرهيبة. إنه كالدير في غير بساطة ولا زهادة؛ وإنهم كالرهبان في غير ورع ولا عبادة. هم أزواج ومزاج من جاليات الأمم الذين انتجعوا مصر انتجاع البدء ومساقط الغيث، ففيهم اليوناني والطلياني واليهودي، وفيهم كذلك خلق عجيب من جيراننا الأدنين يلبسون القبعة حتى لا يقال إنهم مصريون، ويتكلمون الفرنسية حتى لا يتهموا بأنهم شرقيون. وأكثر هؤلاء الأخلاط كهول وكهلات يشكون ذات الصدر أو وهن الأعصاب أو وجع المفاصل أو داء الملوك؛ فمنهاجهم اليومي أن يغدوا إلى العين الكبريتية فيستحموا، أو إلى العين المعدنية فيشربوا، فإذا متع الضحى رجعوا فرادى وثناء حتى يتجمعوا حلقاً حول الموائد تحت مضلات الحديقة وفوق شرفات الفندق. فهنا جماعات العجائز السمان والعجاف جلسن يثرثرن وفي أيديهن إبرة الحياكة تدخل وتخرج، وفي أفواههن آلة الغيبة تتحرك وتهرج، فلا يزلن معظم النهار بين أيد تحوك، وألسنة تلوك، وأهدافهن أعراض أولئك الحسان القليلات اللائى جلسن متفرقات يهدهدن أجسامهن وأحلامهن على الكراسي الوثيرة الهزازة.
وهناك جماعات الكهول الثقال والخفاف يتراطنون بفضول الكلام وغث الحديث ولؤم الوقيعة، وكل منهم يتفغل عجوزه المراقبة من بعيد ليخالس النظر إحدى أولئك الجميلات المنفردات فلا يرى منها بالاً يعي ولا طرفاً يجيب!
كان مرضي يمنعني القرار في مكان واحد، فكنت أسترق السمع حيناً إلى جماعات النساء، فلا أجد حديثهن يخرج عن أن هذه الفتاة الداخلة عشيقة الغنى فلان تاجر القطن وقد أخفاها عن زوجه في هذا الفندق، وهو يزورها من الإسكندرية كل أسبوع فيقضي معها الليلة أو(722/1)
الليلتين؛ وإن هذه المرأة الخارجة أرملة لعوب وصلت أسبابها بالمرابي الأرمل فلان؛ فهو يلقاها كل عصر في (دار الينبوع) أو في (الحديقة الصينية)؛ وإن هذه المستلقية على الكرسي الطويل يهودية بذلت سريرها لصديق زوجها فانتحر الزوج وأفلس الصديق؛ وهي الآن في حضن صاحب سينما. . .
ثم أسترق السمع حيناً إلى جماعة الرجال فلا أجدهم يخوضون إلا في الهجر والنكر، ففلان أثرى بالسرقة، وفلان يتجر بالفحش، وفلان قضى بهذا الفندق شهرين ثم لم يعط الخدم يوم سافر إلا قرشاً صاغاً كان من نصيب الخادم الذي نقل له الحقائب. فإذا أفضى بهم الحديث إلى قضية المصريين والإنجليز مطوا الشفاه، وعوجوا الأفواه، وقاموا على أنفسهم خلطاً أسود من الغمز بنا والطعن فينا، وأخونا الشرقي المقبع الذي يناقلهم الحديث لم يرد أن يقول لهم ولنفسه: (حسبكم! فإن لحم أشداقكم التي تلوونها بالبذاء، وشحم أعناقكم التي تثنونها بالكبرياء، هما من ضيافة هذه البلاد!) ولكن المجتمع الأجنبي هنا كأكثر المجتمعات الأجنبية في كل مكان: نسيج من عمل الشيطان، لحمته الجناية على الأخلاق، وسداه الزراية على مصر.
أحمد حسن الزيات(722/2)
الحكم العدل
للأستاذ محمود محمد شاكر
يسمع كل عربي ويقرأ أن بلاده في حاجة إلى (الدعاية) لها في بلاد الأجانب، وبخاصةً في أمريكا التي صارت اليوم ملتقى الأمم التي يسمونها الأمم المتحدة. وصارت هذه الكلمة حلوة على ألسنة رجال الصحافة العربية وعلى ألسنة رجال السياسة العربية، فكلهم يقول لك أو يكتب لك إننا تعوزنا (الدعاية) لبلادنا في الخارج. ولا بأس في أن يستحلى رجال الصحافة ورجال السياسة كلمة يديرونها على ألسنتهم، ويجدون في طمعها وفي نبرتها وفي جرمها لذة تحملهم على ترديدها واللجاج بها، ولكن البأس كل البأس أن يفضي استحلاء هذه الكلمة إلى استحلاء صب الملامة والتأنيب على أنفسنا، ونحت أثلاتنا بالتعنيف على ما نرتكب من تقصير في حق أوطاننا. ولو كان ذلك التقصير حقاً محضاً لا يعتروه رأي ينقضه، لكن كثرة اللجاج فيه عملاً لا خير فيه البتة. ومع ذلك فلنفرض إنه حق محض، فما وراء ذلك؟
نعم إنه لحسن أن نظهر الناس على وجه الحق في مطالبنا، وعلى بشاعة الظلم المضروب علينا؛ وحسن أن ندعو الناس إلى سماع حجتنا؛ وحسن أن نزيل من أوهام ألئك الخلق ما علق بعقولهم عنا؛ وحسن أن نبدي لهم حقيقة أنكروها أو أنكرتها علينا السياسات فصدقوا السياسات وكذبوا أعينهم وأسماعهم. كل ذلك حسن، ولكن ليس بالحسن أن نأخذ الأمور من أقفائها لا من وجوهها، وأن ندع الرأي البين إلى الرأي الخفي، وأن نغفل الحقيقة الواقعة ونبصر الرجاء الذي لا يدري المرء أيتحقق له أم لا يتحقق.
فمسألة (الدعاية) تكاد اليوم تكون منصبة كلها على الدعاية في (أمريكا) إذ لا سبيل إلى الدعاية في روسيا بحال من الأحوال، وبريطانيا هي طرف النزاع في مسألة مصر والسودان ومسألة فلسطين وفي سائر المسائل الشائكة التي يعاني العرب منها ما يعانون؛ وكذلك شأن فرنسا في مسألة بلاد تونس ومراكش والجزائر، فلم يبق إلا أمريكا، وهي التي يدور حديث رجال الصحافة ورجال السياسة في وجوب الدعاية لقضايانا في أرجائها.
فلننظر إذن إلى جدوى هذه الدعاية علينا هناك، وفي أماكنها قبل جدواها، وفي حقيقتها قبل جدواها وإمكانها.(722/3)
فأمريكا لم تزل تزعم منذ الحرب الماضية إنها نصير العدل والحق، وإنها عدو البغي والعدوان، وإنها صديق الأمم المستضعفة، وإنها تبغض أشد البغض كل الاستعمار، أي إنها الحكم العدل الذي لا يرى بغياً ولا عدواناً ولا مظلمة إلا نبض قبله إشفاقاً، وتحركت دماؤه اشمئزازاً وأنفة، وأبى إلا أن يكون كما أراده الله أن يكون حكماً عدلاً لا يرده عن إقرار الحق والعدل جهد يبذله، ولا دم يريقه، ولا مال ينفقه في سبيل الحل والعدل والحرية.
وهي لا تزال تحقق ذلك - فيما ترى بكل ما آتاها الله من قوة وحيلة ومعرفة، فهي تتدسس إلى قلب روسيا لتكشف الغطاء عن هذا الوحش الباغي المستقر بين جنبيها، والذي يخشى أن يكون أشد بغياً وعدواناً من الفريق الأول الهالك (ألمانيا)، وهي تتسلل إلى خفايا السياسات في أرجاء أوربة لتظهر العالم على أساليب روسيا في العمل لإدخال كل أوربة في حوزتها وتحت سلطانها، وهي ترسل جيوشاً لا تحصى من الخبراء والمخبرين ليستطيعوا طلع الحقائق التي تسترها روسيا في كل حنية من حنايا هذه الأرض، وهي تؤوي إليها كل شريد أو طريد ناله من عسف الروس وبطشهم له صدرها، وتفسح له الصحف أيضاً حتى يقول للناس ماذا تحاول روسيا أن تخبأ عن الناس، وكيف تفعل روسيا بالناس، إلى آخر هذا كله.
بل أعظم من ذلك أنها لم تتردد لحظة واحدة في أن تبذل كل البذل لتركيا واليونان حتى يتاح لهما أن يصدا عن نفسهما بلاء الروس وبطشهم واضطهادهم، وأن تكونا جبهة مزودة بالقوة التي تعينها على الجرأة فلا يروعهما تهديد الروس ولا تخويفهم. ولم تتوان صحف أمريكا عامة عن أن تجعل مسألة تركيا ومسألة اليونان من أعظم المسائل التي تشغل الرأي العام حتى يتهيأ للكونجرس أو يؤازر حكومته في سياستها التي أرادتها لدرء خطر الروس عن هذين البلدين.
كان هذا كله ليس يشك فيه أحد، ورأت أمريكا إنها إما تؤدي بذلك حق الإنسانية علها، وتؤدي حق المكانة التي تبوأتها عند الناس، وتؤدي ما يجب على الحكم العدل الذي لا ينبغي إلا إقرار الحق والعدل، وإزهاق الظلم والجور.
ولكن ما الذي فعله هذا الحكم العدل في شأننا نحن العرب؟
كان أول ما فعله أنه طلب باسم الحق والعدل أن تبيح فلسطين أرضها لصعاليك الأمم(722/4)
فتؤويهم وتمهد لهم أن يقيموا في قلب بلاد العرب دولة يهودية تفعل بهذه العرب ما تشاء، وسكتت باسم الحق والعدل عن المحرضين من يهود بلادها على انتزاع الأرض عامرها وخرابها من يد العرب لتكون في يد صعاليك اليهود، وغلفت باسم الحق والعدل عن شعب يسكن هذه الأرض منذ آلاف السنين تريد اليهودية أن تفقره وتذله وتنزع منه أرض آبائه وأجداده بالجور والعدوان والنذالة الحديثة التي تسمى قوة المال. ثم أرسل الحكم العدل رسلاً من عنده ليدرسوا القضية مع طائفة أخرى من البريطانيين، فخرجت رسل الحكم العدل وهي ترى إن العرب أمة متأخرة، وإنه لابد لليهود من أن يستعمروا هذه الأرض ليرفعوا عن هذه الأمة المتأخرة أساطير الجهل وغشاوة البؤس - ولو أفضى ذلك إلى أن يخوضوا في الباطل خوضاً حتى يبلغوا الحق!
ثم جاءت مسألة مصر والسودان، فإذا نحن نموج ونضطرب ونفزع من هول الغدر البريطاني وهذه المظالم الاستعمارية، وإذا الحكم العدل يصم آذانه ويستغشى ثيابه باسم الحق والعدل حتى لا تروعه صرخات المظلومين والبائسين، وإذا صحافته تضن بكلمة واحدة أن تقولها في إنصاف هذا الشعب من الظالمين والباغين عليه، بل لعل أكثرها ذهب إلى خلاف هذا وألح فيه.
وليس يقول أحد وهو يجد إن هذا الحكم العدل يجهل قضية فلسطين؛ ولو هو كان يجهلها حقاً لكان أول ما تفرضه عليه هذه الحكومة التي تبوأها في العالم أن يرسل إلى فلسطين رجالاً من أهل سياسته، ورجالاً من أهل صحافته ليدرسوا وينبشوا وينقبوا ويكشفوا خفايا الدسائس اليهودية والبريطانية كما يفعلون في روسيا وفي أوربة وفي سواهما من بلاد الله. وليس يقول أحد وهو يجد إن هذا الحكم العدل يجهل قضية مصر والسودان، فلو كان حقاً يجهلها لفعل مثل ذلك حتى يتاح له أن يقف على أسرار هذا القضايا ليحكم بين الناس بالعدل والقسطاس ما دام مصراً على أنه حكم عدل لا ينبغي من وراء عدله إلا إقرار الحق وإزهاق الباطل. ولو فعل لرأينا الصحف في بلاده تملأ الدنيا عجيجاً وضجيجاً وبحثاً وتنقيباً وكشفاً عن خفايا السياسات كما تفعل في مسائل روسيا وأوربة.
لا، بل أكثر من ذلك إن لهذا الحكم العدل رجالا طالت إقامتهم في مصر والسودان، وفي فلسطين والشام، منهم رجال الصحافة ومنهم رجال الجامعتين الأمريكيتين ورجال المدارس(722/5)
الأمريكية، ومنهم رجال الشركات ومنهم غير هؤلاء ممن يذكرون بأسمائهم ومن لا يذكرون. فماذا يفعل هؤلاء جميعاً؟ أي معروف يسدونه إلى البلاد التي طالت أقامتهم بين أهلها فعرفوهم وخبروهم؟ أليس فيهم إنسان واحد فيه قدرة على أن يعرف خفايا الدسائس اليهودية والبريطانية في بلاد مصر وبلاد الشام وفلسطين؟ أليس لأحد منهم لسان ينطق بالحق دفاعاً عن أمم يكتم الاستعمار حقها ويبطش بها بطشاً وحشياً لا رحمة فيه؟ كلا بل فيه، ولكنهم حرب علينا ولا يريدون أن يقولوا لبلادهم، وكأن بلادهم لا تريدهم أن يقولوا - وإلا ففيم صمتهم، وفيم ممالأتهم لبريطانيا ويهودها وأفاقيها جميعاً من حثالات الأمم؟ أم ترانا لا نستحق عدل الحكم العدل؟ أم نحن لسنا بأهل لأن تقال في حقوقنا كلمة تجعل الحكم العدل يتنبه إلى إن في الدنيا شعباً تبلغ عدته أكثر من مائة مليون وعشرين مليوناً من الأنفس البشرية قد ضربه الاستعمار اليهودي والبريطاني والفرنسي ضربات مبيرة مبيدة بغير شرف ولا ورع ولا إنسانية.
أيقال إن رجال الجامعات والمدارس، وهم أهل العلم والثقافة والأدب، ليسوا سوى جماعة يعيشون في سراديب العلم والفلسفة لا يعرفون ما يجري على أديم هذه الأرض؟ وإنهم لا يخالطون أحداً ولا يخالطهم أحد؟ وإنهم رجال مقنعون بالأثواب الجامعية من فرع الرأس إلى أخمص القدم، فهم عمى لا يبصرون إلا نور العلم، وصمم لا يسمعون إلا نداء الحقائق الخالدة في الفلسفة؟
كلا كلا! إنهم يسمعون ويبصرون ولكنهم لا يريدون أن يبينوا عما يسمعون وعما يبصرون، فإذا أبانوا فلن يبينوا عن الحق، بل يبينون عن خلافه مما سمعوه من أعوان بريطانيا وأشياع يهود، ويطعنون فينا كل طعن، ولا يرون بأساً من تعظيم أخطائنا وإخفاء صوابنا أو حقنا. بل يمنون علينا أن فعلوا لنا وفعلوا وهم يعلمون علم اليقين إننا لو قد كنا أحراراً في بلادنا لفعلنا لأنفسنا ما لا يستطيعون هم ولا سواهم أن يفعلوه بنا.
ثم فليخبرونا: أنحن الذين يجب علينا أن نتولى الدعاية لبلادنا في بلادهم؟ أيجب علينا أن نذهب إلى الحكم العدل الذي يرسل إلى بلاد الله سوانا من يعرف خبايا أسرارها، فنقول له بألسنتنا إن حجتنا حقنا ومظالم عدونا، فإذا به يسمع لنا ويقنع بما نقول نحن، وينسى كل ما تقول بريطانيا واليهود، وإذا الرأي العام الأمريكي قد أصبح معنا!!(722/6)
كلا ليس بهذا بمنطق ولا حق، بل الحق هو إن الحكم العدل هو الذي يجب عليه أن يتتبع حقائق القضايا ويرسل رجاله ورجال صحافته ليعرفوا ويسألوا، ويجب عليه أن يطالب المقيمين من أهله في بلادنا أن يقولوا الحق غير متجانفين ولا باغين ولا تابعين للأهواء والعصبيات، وأن يتولى هو وصحافته بيان الحق في ذلك كله حتى يستطيع أن يحكم بالعدل، وإلا كان حكما لا يصلح للحكم.
أما دعاتنا الذين يحرضوننا على (الدعاية) لأنفسنا في بلاد الحكم العدل، فليعرفوا إن الصحافة هنا لن تقبل منا أن ننشر ما نشاء إلى أن ندفع عليه مالاً كثيراً، وهم ينشرون لنا على أنه (إعلان) لا أكثر ولا أقل، وإن القارئ سوف يقرؤه على إنه إعلان لا أكثر ولا أقل. فإذا كان لنا أن نرجو خيراً من الحكم العدل، فهو يوم يلين قلبه ويرق ويشعر إننا أهل لأن ترفع عنا المظالم، ويومئذ يرسل إلينا من يسألنا ويستخبرنا ويعود لقومه قضاة الحق أن أنصفوا مظلوماً طال ظلمه، وأما قبل ذلك فلا. وإن كان هذا لا يمنع أن نبذل الجهد ما نرجو أن يوقظ الحكم العدل من سباته الذي طال كما طال ظلمنا. وقبل ذلك فلنحذر أن نلوم أنفسنا على تقصير لم يكن، لأنه ليس تقصيراً بل هو معرفة للحقيقة الظاهرة وهي أن الحكم العدل لا يريد أن يكون معنا نحن العرب دون الناس جميعاً - حكماً عدلاً.
محمود محمد شاكر(722/7)
من معجزات القرآن
تفسير الآيات الأولى من سورة الروم
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
لابد لتفسير الآيات الكريمة التي افتتحت بها سورة الروم من مقدمة تاريخية تبين الحوادث التي أشارت إليها هذه الآيات.
- 1 -
كان غربي آسيا، في جملته، متنازعاً بين الدول الفارسية المختلفة التي قامت في إيران وبين الدول الأوربية التي مدت سلطانها إلى آسيا. وقد استمر النزاع في هذه البقاع قروناً كثيرة أكثر من ألف عام.
فدولة الأكمينيين، الدولة الفارسية الأولى التي أقامها كورش في منتصف القرن السادس قبل الميلاد وأزالها الإسكندر المقدوني حوالي سنة 330 ق. م، هذه الدولة نازعت دولة اليونان حقباً، وحروب دارا وخلفائه في آسيا الصغرى وبلاد اليونان معروفة مشهورة.
والدولة الأشكانية التي نشأت في إيران بعد الإسكندر حاربت الرومان في هذه البقاع عصوراً طويلة.
والدولة الساسانية التي قامت في إيران سنة 226م وبقيت حتى أزالها الفتح الإسلامي نازعت الرومان ودولة الروم الشرقية التي تسمى الدولة البيزنطية ودام بينهما النزاع إلا فترات قصيرة حتى زالت الدولتان كلتاهما عن آسيا بالفتوح الإسلامية.
- 2 -
والحادثات التي تشير إليها فاتحة سورة الروم هي خاتمة الجلاد الطويل والحروب المتمادية بين الدولتين.
وخلاصة هذه الحادثات على طولها واضطرابها فيما يأتي:
كسرى برويز حفيد كسرى أنو شروان، من أعظم ملوك الفرس وهو آخر ملوكهم العظام، ولي الملك سنة 590م بعد قتل أبيه هرمزد أثناء ثورة قائد فارسي عظيم اسمه بدام جوبين.(722/8)
ولما تولى برويز العرش حاول إصلاح هذا القائد فاستعصى عليه وحاربه حتى اضطره إلى دخول مملكة الروم، وقد استنجد الإمبراطور موريس فأمده بجند رده إلى عرشه فاستحكمت المودة بين الملكين. فلما قتل موريس سنة 602م شن كسرى الحرب على فوكاس خليفة موريس. وتوالت وقائع زلزلت دولة الروم الشرقية زلزالاً شديداً.
توالت هزائم الروم في آسيا الصغرى والجزيرة وشمالي الشام حتى فزع الروم، واستغاثوا هرقل (هركليوس) أبن وإلى أفريقية فأقبل إلى القسطنطينية فاختير إمبراطوراً مكان فوكاس.
وحاول هرقل جهده أن يصد الفرس، ولم يدخر وسعاً في حربهم فلم يستطع لهم رداً. وامتدت فتوح الفرس إلى الجنوب حتى استولوا على دمشق سنة 614 واتخذوها مركزاً سيروا منه الجيوش إلى أرجاء مختلفة حتى فتحوا بيت المقدس بيجوش جرارة فيها ستة وعشرون ألفاً من اليهود وبلغت كبرياء كسرى غايتها فأخذ الصليب الذي يزعم النصارى إن المسيح صلب عليه، وكتب إلى هرقل كتاباً خلاصته:
(من كسرى بروبز رب الأرباب إلى عبدة الحقير هرقل. تزعم إنك تعتمد على المسيح فلماذا لا يخلص المسيح بيت المقدس من يدي. ولماذا لم ينقذ نفسه من أيدي اليهود حينما صلبوه).
ثم امتد الفتح إلى مصر فظفر بها الفرس بعد تسعة قرون من خروجهم منها أيام الإسكندر المقدوني.
وفي العام التالي صمم الفرس على فتح القسطنطينية ولم يكن بينهم وبينها إلا المضيق، وحالفوا الأوار على أن يغزوها من تراقيا.
وزاد أمر الروم إضطراباً، وبلغ يأسهم أن عزم هرقل على الفرار إلى قرطاجة لولا أن عرف الروم أمره فثار الناس واستحلفه البطريق في كنيسة آياصوفيا ألا يبرح المدينة على أية حال.
في أثناء هذه الهزائم المتوالية الماحقة التي توالت على الروم عشرين عاماً، وحوالي سنة 615 حينما غلب الروم في أدنى الأرض إلى بلاد العرب، في أرض الشام وهي الهزائم التي أهمت العرب نزلت الآية الكريمة:(722/9)
ألم. غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين الخ. وكان خبراً عجيباً، أنكره مشركو العرب حتى راهنوا على كذبه.
روى الطبري وغيره إن أبا بكر رضي الله عنه راهن أبي بن خلف على خمس إبل إلى خمس سنين فأمره الرسول صلوات الله عليه أن يزيد في الرهان ويمد الأجل فراهنه على مائة ناقة إلى تسع سنين.
- 3 -
في سنة 622 أعد هرقل العدد لحرب الفرس، وتحمس النصارى لمجاهدة العدو الذي استولى على بيت المقدس وأخذ الصليب الحقيقي. . . وحقر النصرانية وسفه عليها هذا السفه، وبذل القساوسة الجهد حتى صهروا آنية الكنائس من الذهب والفضة يتخذونها عدة للحرب.
ولم يكن لهرقل بقية من أمل إلا في أسطول بقى لهم، فأبحر في جيش والفرس مشرفون على الخليج ينظرون إليه حتى نزل في أسوس على ساحل الأناضول.
وكان هذا أول انتصار للروم بعد موت موريس أي منذ عشرين عاماً.
ثم توالى النصر في آسيا الصغرى وأرمينية إلى أن عبر هرقل الفرات شطر الغرب والجنوب سنة 625.
وحاول كسرى برويز أن يوقع بالروم في حاضرة ملكهم، فحالف الأوار وسير جيشاً لمحاربة هرقل وآخر لحصار القسطنطينية سنة 626 مع الأوار. فلقي الجيشان كلاهما الخيبة والهزيمة.
وأغرى هرقل الظفر المتتابع فعزم على أن يغزو كسرى في مدينته دستكبرد وهي على تسعين ميلاً إلى الشمال من المدائن عاصمة الدولة. وكانت وقعة الزاب في 12 ديسمبر سنة 627 ثم فر كسرى، وقابلته العاصمة بالثورة عليه وخلعه. ثم حبس في بيت الظلام ولا زاد إلا الخبز والماء. وبالغ ساجنوه في إهانته. وقتل كثير من أولاده أمامه ثم قتل هو قتلة فظيعة. وذلكم كسرى برويز الذي أرسل إليه رسول الله كتاباً فمزقه (فقال اللهم مزق ملكه كل ممزق).
وخلفه على العرش أبنه شيرويه (قباذ الثاني) فصالح الروم على أن يرد إليهم كل ما فتح(722/10)
الفرس من البلاد التي في سلطان الروم، وعلى أن يرد الصليب. وقد سار هرقل بالصليب إلى بيت المقدس فوضعه مكانه في شهر سبتمبر سنة 629. وكان يوماً عند النصارى مشهوداً، وتمت الغلبة للروم.
كان انتصار الفرس في الشام حوالي سنة 615 وبعد بضع سنين شرع الروم يهزمونهم سنة 622 وتوالت عليهم الهزائم حتى قتل برويز وصالح أبنه مصالحة المغلوب على أمره.
وذلك تأويل الآية الكريمة: (وهم من غلبهم سيغلبون في بضع سنين).
ونرجع إلى رهان أبي بكر وأبي بن خلف.
روى أن أبا بكر حين هاجر أخذ عليه كفيل وإنه حين انتصر الروم أخذ الرهن من أولاد أبي بن خلف.
وهنا نقول: لماذا اهتم العرب بحوادث الروم والفرس ولماذا أنزل فيها قرآن؟ يقول المفسرون إن مشركي العرب فرحوا بانتصار الفرس وهم أصحاب أوثان كالعرب المشركين وبانهزام الروم وهم أهل كتاب كالمسلمين، وقالوا للمسلمين سنغلبكم كما غلب الفرس الروم. فاهتم المسلمون وأخبروا رسول الله فنزلت الآية الخ.
ولا أحسب إن اهتمام العرب بالأمر كان لهذا بل أحسب، والله أعلم، إن العرب قلقوا لغلبة الفرس على الشام وهي منقلبهم للتجارة، وقد ألفوا الروم فيها، واتصلوا بهم بالتجارة وغيرها واتخذوا من عامتهم وخاصتهم أصدقاء وأعواناً، وتجاراً يعاملونهم ويبايعونهم، فكان الروم أقرب إلى عرب الحجاز ومن يتصل بهم من قبائل الشام وفلسطين، وكان العرب بهم أعرف، وبينهم وبين الروم من الأسباب، ولهم فيهم من المنافع ما جعلهم يشفقون من غلبة الفرس على الشام، وزوال سلطان الروم عنها، ثم كان انهزام الروم انهزام حلفائهم وأنصارهم من عرب الشام ولهم بعرب الحجاز صلات.
(يتبع)
عبد الوهاب عزام(722/11)
تعليق على كتاب:
إلى علماء الشيعة
للأستاذ علي الطنطاوي
كان أهل القسطنطينية يتجادلون في مسائل تافهة لا تقدم ولا تؤخر والعدو على الأبواب فضرب بهم المثل حتى قيل لكل جدال سخيف في وقت عصيب: (جدال بيزنطي). ونحن المسلمين اليوم، يحيط بنا الأعداء من كل جانب، وتنصب علينا المصائب من كل مكان، ثم تختلف في أبي بكر وعلى أيهما كان أحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نتائج بنيناها على هذه المقدمة، وفروع فرعناها من هذا الأصل، أطلنا الكلام فيها، والجدال عليها، حتى لم يبق فيها شيء يقال إلا قلناه ولا حجة إلا احتججنا بها، وحتى صارت من الحديث المعاد، والقول المملول، وصرنا (معشر أهل السنة) نتمنى أن تطوى صحيفتها، وينسخ حديثها ويتناسى حتى ينسى، لذلك رحبنا في مصر بالعالم الإيراني محمد تقي قمي، كما رحبنا من قبل في الشام ومصر بسلفيه أبي عبد الله وعبد الكريم الزنجانيين، ومكناه من افتتاح (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية)، وسررنا حقيقة بتقرب إخواننا الشيعة منا ورجوعهم إلينا بعد إعراضهم عنا.
وجمهور أهل السنة لا يعلمون عن الشيعة إلا إنهم حزب سياسي ألف في وقت من الأوقات لتأييد أحد المرشحين للخلافة، اعتقاداً منهم بفضله، وإيماناً بصلاحه، ويرون هذا شيئاً طبيعياً ومفهوماً، لا يخلو من مثله بلد فيه انتخابات عامة، والحكومة فيه برأي الأمة لا بنص سماوي، ولا بحق إلهي، فمن انتخبته الأمة ورضيت به فهو الحاكم الشرعي. . . أما الشيء الذي لا يرونه طبيعياً ولا مفهوماً، فهو أن يبقى في أمريكا مثلاً حزب لا يزال يسب لنكولن، ويعادي الأمة الأمريكية كلها لأنها انتخبته، وقدمته على خصمه الذي يراه هذا الحزب أصلح منه، ويستمر ذلك إلى الآن، وقد مات لنكولن، ومات خصمه، وولى بعده رؤساء كثيرون وماتوا. أو أن يبقى في المسلمين حزب يعادي الكثرة الكاثرة من سلف هذه الأمة وخلفها، وينتقص جمهرة الأحياء والأموات منها، لأن الخليفة الذي بايعته هذه الأمة سنة خمس وثلاثين للهجرة، كما من حقه أن يبايع بها سنة عشر، ويرى أن تأخير بيعته خمساً وعشرين سنة وتقديم ثلاثة رجال عليه، أمر يستحق أن نتنازع (نحن) الآن عليه،(722/12)
بعد ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، وبعد ما تبدلت الأرض، وتغير وجه الدنيا، مع إن هذا الخليفة نفسه قبل بتقديم الثلاثة عليه، وبايعهم بالخلافة بيده، وأعطاهم طاعته، وأولاهم مودته. . .
إن الأحزاب تتنازع وتختلف وقد يسب بعضها بعضاً، ويبغي بعضها على بعض، ويسلك كل منها إلى تقوية مرشحه أوعر الطرق، فيمدحه بالباطل، ويفتري على خصمه، ويصمه بكل ما يشين، ولكن تنقضي المعركة الإنتخابية، ويعود السلام، ويرجع الجميع إخواناً متصافين، يجمعهم العمل للوطن، والسعي لإعلاء شأنه، فما بالنا نشتغل اليوم بمسألة انتهت من. . . ثلاثة عشر قرناً؟!
شيء عجيب جداً!
على إن أهل السنة لا يطيلون النزاع في (أفضلية) أبي بكر أو علي، ولا يرون لذلك خطراً في الدين، لأنه إن كان الفضل عند الله، فالله أعلم به، وهو لا يسأل عما يفعل، ونحن لا دخل لنا في القضية، وإن كان في الإدارة والسياسة؛ فقد ولى الرجلان والحكم الآن للتاريخ وأهله. ولا طريق للاتفاق بيننا وبين الشيعة، إلا:
1 - بأن ندع الكلام في تفضيل بعض الصحابة على بعض لأن ذلك ليس من أركان الإيمان، ولا من أسس الدين، وليس له في حياتنا نتيجة عملية.
2 - وأن نجل الصحابة جميعاً، ونكبرهم كلهم، ولا نخوض فيما كان بينهم من حروب فتلك دماء طهر الله سيوفنا منها (كما قال الإمام مالك) فلنطهر ألسنتنا عن الخوض فيها.
3 - وأن نرجع جميعاً إلى أصول الدين: إلى الكتاب معتمدين في تفسيره على المأثور كالذي نقله الطبري في تفسيره أولاً ثم على المعقول الموافق للعربية ولأسباب النزول وإلى السنة الصحيحة وما بنى عليها من فقه، وفرع من فروع، وأن نترك كتب الخلاف التي تؤرث الأحقاد، وتثير السخائم.
هذا هو الطريق الذي نراه، ولعل (دار التقريب) ترى طريقاً أقصر منه، وأسلم، فنسلكه معها إلى هذه الغاية التي صار السعي إليها اليوم واجباً، وأن يتعاون الشيعة والسنة على منع كل ما يصدع الشمل، ويفرق الجمع، ويلقى الخلف بين جماعة المسلمين كهذا الكتاب الذي كتبت هذه الكلمة تعليقاً عليه. . .(722/13)
وهو كتاب أهدى إلى الرسالة للإطلاع والنقد، أسمه (تحت راية الحق في الرد على الجزء الأول من فجر الإسلام) مكتوب على غلافه (لمؤلفه البحاثة المحقق الشيخ عبد الله السبيتي) مطبوع في طهران طبعاً سقيماً، أسلوبه ضعيف كثير الأغلاط، له مقدمة (بقلم صاحب السماحة الكبير حجة الإسلام الشيح مرتضى آل ياسين الكاظمي) ولست أريد تتبع كل ما فيه ولكني أمثل عليه بهذا الذي أنقله منه بحروفه، ولم أتعمد اختيار أشده وإنما أخذت ما وقع تحت نظري منه:
قال في صفحة (15): إن تاريخ سقيفة بين ساعدة يملي علينا درساً كاملاً يوضح لنا به نفسية المهاجرين والأنصار وإنه لم تصف نفوسهم إلى حد وصل الدين (كذا) إلى أعماق قلوبهم. وقال فيها: والصحاح تحدثنا عن قول عمر (إن النبي يهجر) ذلك حينما قال النبي (ص) إيتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فكل ذلك يشرف بالباحث على القطع بأن الدين لم يصل إلى أعماق قلوبهم، ولم يفهموا الإسلام كما يريد الإسلام. وقال (154): وحسبه أن يرى كعب الأحبار اليهودي الدساس إلى جانب عثمان وهو مستشاره. وقال (50): معاوية رأس النفاق - معاوية المستهتر. وقال (85) معاوية رأس القاسطين. وقال (79): ورب رجال أقعدهم بغض أمير المؤمنين عن القيام بواجب الشهادة فأصابتهم دعوته كأنس بن مالك. وقال (98): أبو هريرة يحدث بالترهات، ويختلف الخرافات. وقال (130): حديث المنافقين كابن هند (أي معاوية) وأبن النابغة (أي عمر بن العاص) وأبن الحكم وأبن شعبة وأمثالهم ولا بحديث الكذابين الدجالين المخرفين كأبي هريرة. . . وقال (40): الشيخان (أي البخاري ومسلم) عينا بأمور لا وزن لها ولا قيمة - ولسنا نعلم لو كان النجاح في هذه الحرب (الخندق) لغير علي أكان يهمله الشيخان فاتضح لك أن تلك الأقلام (الكلام كله على البخاري ومسلم) التي تسود تلك الصفحات كانت تمشى وراء الميول والأهواء والتبصيص (كذا) حول التيجان. وقال (93): على أن مسلماً في صحيحه زاد في اختصارها (خطبة للنبي صلى الله وعليه وسلم) جرباً على مقتضيات السياسة التي تخرس الناطق وتصم السميع فحذف شطرها المختص بعلي عليه كما لا يخفى، ومما يدلك على أن السياسة لا دين لها، وأنها تعمى البصر والبصيرة. وقال (96): كرر البخاري هذه السخافة في مواضع عديدة من كتابه. وقال فيها: وقد أخرج البخاري من الغرائب والعجائب(722/14)
والمناكير ما يليق بعقول مخرفي البربر، وعجائز السودان. وقال (100): تراه (أي البخاري) يخرج من الأحاديث الموضوعة ما قد تقرب الواضع به إلى الظالمين الغاشمين تصحيحاً لما كانوا يرتكبونه من القتل والمثلة وسائر الأعمال البربرية. وقال (146): إن الشيعة لا تعول على تلك الأسانيد (أي أسانيد أهل السنة) بل لا تعتبرها ولا تعرج في مقام الاستدلال عليها فلا تبالي بها وافقت مذهبها أو خالفته. وقال فيها: إن لدى الشيعة أحاديث أخرجوها من طرقهم المعتبرة عندهم، ودونوها في كتب لهم مخصوصة وهي كافية وافية لفروع الدين وأصوله عليها مدار علمهم وعملهم وهي لا سواها الحجة عندهم، فما أغناهم بها عن حديث غيرهم صح حديث الغير أو لم يصح. وقال (162): والتجسيم معروف عن الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه - ولقد رأينا من قبل أن أبن تيمية الخ. . . وأبن القيم رأيه ذلك أيضاً -. وقال (163): والتجسيم رأي محمد بن عبد الوهاب وعليه اليوم الوهابية جميعاً لا يتحاشون في ذلك وقد نقله الشهرستاني عن أحمد بن حنبل وداود بن على الأصفهاني (أي الظاهري) ومالك بن أنس ومقاتل بن سليمان وجماعة من أئمة أهل السنة. وقال (161): والأشاعرة جميعاً على هذا الرأي - أفليس هذا هو القول بالتجسيم؟! وقال (64): ومتى كانت الشيعة تعتبر تفسير الطبري وتعتمد عليه؟! وقال (86): ومتى كان أبن خلدون وغيره من علماء السنة، اللهم إلا القليل، لا يحمل حقداً ولا يتحامل عند يقف مؤرخاً للشيعة ومتى كان المؤرخ منهم لا يرتكب زوراً وبهتاناً عند سفوح كل فرصة؟! وقال فيها: الاعتماد على أبن خلدون مثل من يريد أن يبحث عن الشريعة الإسلامية وصحة نبوة النبي فيعتمد على كتب النصارى قبل سبعة قرون الخ الخ.
ومؤلف الكتاب (البحاثة المحقق) لا يسوق هذا على أنه رأى له، بل على أنه معتقد الشيعة، وأنه المعتمد عندهم، وأنا أصدقه في ذلك ما لم أر علماء الشيعة يكذبونه فيه، وينكرونه عليه، وأقول:
إذا كان إخواننا الشيعة يعتقدون أن المهاجرين والأنصار لم تصف نفوسهم لفهم الدين، ولم يصل إلى أعماق قلوبهم، ونحن نراهم أئمة الهدى، وورثة الرسول. . . وإذا كانوا يسبون أكثر الصحابة ونحن نجدهم خلاصة الإنسانية ولباب البشر. . . وإذا كانوا لا يقبلون إسنادنا ولا يحتجون بحديثنا، ونحن نبني على هذه الإسناد ديننا، ونقيم على هذه الأحاديث(722/15)
شرعنا. . . وإذا كانوا يرون الصحيحين مملوءين بالموضوعات والسخافات، لا يليقان إلا بمخرفي البربر وعجائز السودان، ونحن نراهما أصح الكتب عندنا بعد كتاب ربنا. . . ولا يعتبرون تفسير الطبري وهو عمدة تفاسيرنا. . . وكانوا يطعنون على أئمتنا، ويصمونهم بالتجسيم وفساد المعتقد. . . وإذا كان المؤلف قد صرح في الصفحة (15) و (64) و (132) إن لم يقل كل ما عنده، ولم يجهر بكل ما يعتقده (لئلا يقوده البحث إلى نتائج غير صالحة قد لا تلتئم مع العصر الذي يطلب فيه الوفاق)، وإذا كان عنده، أي عند الشيعة، أكثر من هذا الذي قاله. . . فكيف يا علماء الشيعة، وكيف يا أعضاء دار التقريب، وكيف يا محمد تقي قمي، يكون الوفاق، ويتم التقارب؟
أو ليس من التناقض أن يأتي من إيران محمد تقي قمي، ليعمل على التقريب بين المذاهب، فينزل في أفخم فندق في القاهرة ويفتح داراً ينفق عليها وعلى موظفيها وزوارها أضخم النفقات، في الوقت الذي يطبع فيه في طهران هذا الكتاب؟ وهل وجدتم في مصر أو الشام أو العراق كتاباً لسني يسب فيه أهل البيت الأطهار، أو يتعرض فيه لسيدنا علي وذريته الطيبة؟ فلماذا إذن افتتحتم دار التقريب في مصر التي تحب عترة النبي صلى الله عليه وسلم وتتبرك بقبور الحسين وزينب ونفيسة، ولم تفتحوها في (طهران) حيث طبع هذا الكتاب الذي لم يترك مؤلفه أحداً من سلف هذه الأمة وخلفها حتى أصابه برشاش من أدبه السامي؟
ألم يكفينا هذا الاختلاف أربعة عشر قرناً؟ أما آن لنا أن نصطلح ونتفق، ونجرد المسألة من ثوبها الديني لتعود مسألة سياسية، وقضية حزبية إنتخابية، لا أكثر ولا أقل، ويرجع إخواننا الشيعة إلى حظيرة الجماعة، فيترضوا عن الصحابة كلهم كما نترضى نحن عن آل البيت جميعاً؟ ويجلوا أبا بكر وعمر كما نجل نحن علياً؟
ما قول علماء الشيعة الأفاضل؟ وما قول أعضاء (دار التقريب)؟
القاهرة
علي الطنطاوي(722/16)
5 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
الرقابة في الأحلام:
استطعنا من خلال دراستنا لأحلام الأطفال أن نصل إلى معرفة شيء عن حقيقة الحلم وكيفية حدوثه وما هي خواصه الرئيسية ووظيفته فرأينا أن الحلم يعمل كوسيلة لإزالة المؤثرات العقلية التي تقلق النوم. ونحن وإن كنا لم نتمكن بعد من الوصول إلى معرفة شيء عن أحلام البالغين، اللهم إلا النوع الذي هو من نوع أحلام الطفولة، إلا إن النتيجة التي وصلنا إليها ليست مما يستهان به؛ فقد اتفق أننا في كل مرة نتوصل فيها إلى تفسير الحلم تفسيراً واضحاً نجد أنه عبارة عن إشباع لرغبة. وهذا الاتفاق لا يعقل أن يكون عرضياً أو عديم الأهمية. أما الأحلام التي من نوع آخر فقد فرضنا، اعتماداً على الشبه الذي بينها وبينا زلات اللسان، إنها عبارة عن بديل محرف لمحتوى مجهول لدينا. الخطوة التالية إذن هي أن نجتهد في معرفة شيء عن ماهية هذا التحريف الذي ينشأ في الأحلام.
هذا التحريف هو الذي يخلع على الأحلام هالة من الغرابة تجعلها بعيدة عن مدارك الفهم. وهناك أشياء كثيرة نريد أن نعلمها عنه؛ أولاً: كيف ينشأ هذا التحريف؛ وثانياً: ما هي وظيفته، وثالثاً: كيف يؤدي هذه الوظيفة.
دعوني أرو لكم حلماً قصته علينا سيدة معروفة في دوائر التحليل النفساني وهي الدكتور فون هج - هلموت - وهذا الحلم كما تقول الدكتورة رأته امرأة عجوز ولكنها مثقفة ثقافة عالية ولها مكانة محترمة بين الناس وهي لم تقم بتحليله لأنه على حد قولها لا يحتاج إلى أي تحليل بالنسبة إلى المحلل النفساني، كما إن الحالة نفسها لم تقم بتفسيره ولكن طريقتها في نقده وذمه تدل على أنها قد فهمت مرماه، فقد قالت: (تصوروا امرأة في الخمسين من عمرها لا هم لها بالليل والنهار إلا رعاية أولادها، تحلم مثل هذا الحلم الفظيع الذي لا معنى له!).(722/17)
والآن دعوني أرو لكم هذا الحلم الذي يدور حول (الخدمة - الغرامية في الحرب).
قالت الرواية: رأت السيدة فيما يرى النائم أنها توجهت إلى المستشفى العسكري الأول وأبدت للحارس الذي يقف بالباب رغبتها في مقابل كبير الأطباء (وقد أعطته اسماً لا تعرفه) لأنها ترغب في عرض خدماتها على المستشفى. وقد ضغطت السيدة على كلمة (خدمات) بطريقة فهم منها الحارس إنها تقصد بها (الخدمة الغرامية) ولما كانت المرأة متقدمة في السن فقد أفسح لها الحارس الطريق بعد قليل من التردد، ولكنها بدلاً من العثور على كبير الأطباء وجدت نفسها في حجرة مظلمة تحتوي على عدد من الضباط وأطباء الجيش جلس بعضهم حول مائدة طويلة بينما ظل البعض الآخر واقفاً. وقد توجهت المرأة إلى أحد الأطباء وأفضت إليه باقتراحها، ففهم الطبيب تواً ما تقصد إليه. وقد كانت الكلمات التي استخدمتها في الحلم هي: (إنني وكثيرات غيري من نساء وفتيات فينا لعلى استعداد في سبيل الجنود والضباط أو الرجال أن. . .) وهنا انتهت الجملة بدمدمة غير واضحة. وقد ارتسمت على وجوه الموجودين علامات تجميع بين الخبث والارتباك رأت المرأة منها إنهم فهموا ما ترمي إليه فتابعت حديثها قائلة: (إني أعلم إن هذا التصميم من جانبنا يبدو لكم شاذاً غريباً ولكني جادة كل الجد فيما أقول، فالجندي لا يسأل في المعركة إن كان يرغب في الموت أو الحياة. ثم أعقب ذلك فترة رهيبة من السكون المطبق قطعه أحد الأطباء بقوله لها، وقد تأبط خصرها بذراعه (لنفرض يا سيدتي إننا حقاً قبلنا أن. . . (دمدمة) وهنا تخلصت المرأة من ذراعه وهي تتمتم (إنهم كلهم سواء) ثم أجابت: (يا للعجب! أنني امرأة عجوز وقد لا يحدث لي هذا أبداً؛ على إن هناك شرطاً يجب أن يراعي وهو مسألة السن، بحيث لا يسمح لامرأة عجوز وشاب يافع أن. . . (دمدمة) إن هذا يصبح في غاية الفظاعة). فهز الطبيب رأسه قائلاً: (إني فاهم تماماً ما تقصدين). غير إن بعض الضباط ضجوا بالضحك فطلبت السيدة أن تؤخذ فوراً إلى كبير الأطباء الذي تعرفه حق المعرفة، حتى يوضح كل شيء في نصابه. ولكن الدهشة عقدت لسانها عندما اكتشفت أنها لا تعرف أسمه. غير إن الطبيب مع ذلك أرشدها إلى الطريق الذي يؤدي إلى الطابق العلوي في أدب جم واحترام متناه وبينا هي تصعد درجات السلم إذ وصل إلى سمعها صوت أحد الضباط يقول: هذا تصميم عظيم بلا شك. وسواء أكانت عجوزاً شمطاء أم(722/18)
صبية حسناء فلها الشرف العظيم على أية حال). وهنا ملأها شعور بأنها لا تقوم إلا بتأدية أبسط ما يتطلبه منها الواجب، فأخذت تصعد درجاً لا نهاية لها.
وقد تكرر هذا الحلم مرتين في خلال بضعة أسابيع مع تغييرات طفيفة هنا وهناك قالت عنها الحالة إنها عديمة الأهمية ولا معنى لها إطلاقاً:
وهذا الحلم يشبه في تسلسله أحلام اليقظة، غير إنه هناك مقاطعة في بعض المواضع. كما إن هناك كثيراً من النقط الغامضة كان من الممكن توضحيها إذا استفهمنا من الحالة عنها، ولكن هذه الخطوة لم تتخذ كما تعلمون. وإنما الغريب الذي يلفت النظر في هذا الحلم هو وقوع كثير من الفجوات لا في السرد بل في المحتوى نفسه: فهناك آثار للمحو تبدو في ثلاثة مواضع من المحتوى، وحيثما توجد هذه الفجوات فالحادثة تقاطع (بدمدمة): وبما إننا لم نقم بتحليل هذا الحلم، فليس لنا في الحقيقة إذا توخينا الدقة أن نتكهن بشيء عن معناه. غير أن نستخلص منها بعض النتائج. كما إن الحديث الذي يقطع قبل الدمدمة مباشرةً لا يحتاج لإتمامه إلا إلى نوع واحد من التركيب. فإذا قمنا بإتمام هذا الأحاديث فإننا نحصل على رؤيا خيالية مؤداها إن الحالة، تلبية لنداء الواجب، مستعدة لأن تهب نفسها لإشباع الرغبات الجنسية للجند على اختلاف درجاتهم. وهذا شيء فظيع حقاً فهو نموذج للرؤيا الجنسية المكشوفة. ولكن الحلم لا يخبرنا بشيء من هذا، فحيثما احتاج الأمر إلى هذا الاعتراف وجدنا في المحتوى الظاهر دمدمة غير واضحة، كأنما هناك شيء قد فقد أو قمع.
أظن من الواضح جداً إن السبب في قمع هذه العبارات يرجع إلى طبيعتها البشعة. والآن أين نستطيع أن نجد شبيهاً لما يحدث هنا؟ أظنكم في غير حاجة إلى البحث بعيداً في هذه الأيام، فأنتم إذا تصفحتم اليوم أي صحيفة سياسية وجدتم أن ههنا وهنا بعض الفقرات قد حذفت من الأصل وظل البياض الناصع للصحيفة يطالعكم بدلاً منها. وهذا كما تعلمون من فعل الرقيب على الصحافة، فحيثما وجدت هذه الفواصل البيضاء فمعنى ذلك إن شيئاً ما وقع رفع من هذا الموضع لعدم موافقة الرقابة على نشره. وقد تأسفون على هذا العمل لأنه مما لاشك فيه أن هذا الموضع كان يحتوي على أهم ما في الجريدة أو على (زبدة) الأخبار كما يقولون
ولكن في أحيان أخرى قد يتنبه الكاتب مقدماً إلى العبارات التي من المحتمل أن تتعرض(722/19)
لقلم الرقيب، فيقطع عليه خط الرجعة بأن يحور في العبارة تحويراً يجعلها لا غبار عليها، أو قد يكتفي بأن يلمح من بعيد إلى ما يريد أن يكتبه فعلاً. وفي هذه الحالات لا توجد مواضع بيضاء خالية من الكتابة وإنما في إمكاننا أن نستنتج من طريقة اللف والدوران التي يستخدمها الكاتب أو من تعبيراته الغامضة أنه كان يكتب وهو يخشى قلم الرقيب.
والآن نستطيع أن نقول بالمثل إن الأحاديث التي حذفت من الحلم والتي جاءت متنكرة على شكل دمدمة كانت هي الأخرى ضحية لنوع من الرقابة: ونحن في الواقع نستخدم الاصطلاح (رقابة الأحلام) ونرجع جزءاً من التحريف إلى فعلها به فحيثما توجد فجوات في المحتوى الظاهر فإننا نعرف على الفور إن الرقابة هي المسؤولة عن ذلك. بل إننا نذهب إلى أكثر من هذا؛ فإن رأينا وسط العناصر الواضحة الجلية من الحلم عنصراً غامضاً غير واضح المعالم أو لم تستوعبه الذاكرة جيداً قلنا إن هذا دليل على عمل الرقابة. على أن الرقابة قلما تتخذ هذه الطريقة الواضحة المكشوفة كما هو الحال في الحالم الذي يدور حول (الخدمة الغرامية) وإنما تستخدم في أغلب الأحيان الطريقة الثانية التي ذكرتها لكم وهي التحوير في العبارات أو الاكتفاء بالإشارة والتلميح بدلاً من الإفاضة والتصريح.
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن(722/20)
إلى طلبة التوجيهية:
شاعران في المنفى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
تمهيد - موضوعات القصيدتين - الصور والخيال - الأسلوب
- كلمة عامة. . . . . .
- 1 -
شاعران مصريان معاصران تغنيا بمصر وأخلصا لها الحب، فكان جزاؤهما النفي، أما أحدهما فمحمود سامي البارودي، وأما الآخر فأحمد شوقي.
نفي البارودي إلى جزيرة سرنديب في أعقاب الثورة العرابية؛ لأنه أحد زعمائها وقادتها، ونفي شوقي إلى الأندلس في أول الحرب العالمية الأولى؟ لأنه يناهض الاحتلال البغيض، ولأنه شاعر الخديوي عباس وترجمانه، وهوى مولاه وهواه مع تركيا، وهي يومئذ في صف ألمانيا ضد إنجلترا، وقد حيل بين الخديوي ومصر فليبعد شاعره شوقي من مصر.
قضى البارودي في منفاه سبعة عشر عاماً يتسلى فيها بالشعر، وينفس به عن نفسه، وقضى شوقي في منفاه خمسة أعوام يردد النظر في شعر الأقدمين، ويصور ما يعتلج بنفسه من ألم وحنين.
وتجلت في شعر كل منهما نزعته وطبيعته، فالبارودي يتحسر على أيامه السعيدة بمصر، ويكثر من ذكر الروضة والمقياس والحسان المائسات على الجسر، ويود أن تكتحل عيناه بمرأى مصر، ويفتخر بشجاعته في الحرب، لأنه من رجال الجيش.
وشوقي يأسى على عهده النضير بمصر، ويتغنى بطبيعتها المزدانة الفاتنة، ويتوق إلى الرجوع إليها، وبمجد ماضيها العظيم ويفخر بجلاله، ويتحدث بآثارها الخالدة، ولا ينسى مجد العرب والإسلام في الشرق والغرب فينوه به، منساقاً في ذلك مع ثقافته التاريخية الواسعة.
وإذا كانت النعم أحياناً تجنى من لهب الشدائد فإن نفى الشاعرين بلية أجنت الأدب حلو الجنى، إذ أثرته بكثير من القصائد الجياد قد بعثها عاطفة جياشة بالألم والحرمان والشوق(722/21)
واللهفة إلى الوطن والخلان.
ونحن الآن نوازن بين القصيدتين المقررتين على طلاب التوجيهية في هذا العام موازنة تكشف عن نواحي الاتفاق ومناحي الاختلاف.
- 2 -
ليس في القصيدتين وحدة، فكلتاهما ذات أغراض عدة، ولكنها مما يتداعى في خاطر الشاعر إذ يذكر وطنه ويحن إليه.
فالبارودي بدأ قصيدته بالشكوى، الشكوى من الفراق المؤلم المسقم الذي لا يخففه عطف المواسيات، حتى ليحسبن إنه مجنون لا يفيق، لأنهن يجهلن داءه، وما داؤه إلا تباريح الحب المهلك، ثم يتألم لأنه يكلف بحب من لا يهتمون بأمره، وكرر الشكوى من الأرق والوحدة حيث لا يجد صاحباً يبثه همه. قال:
ترحل من وادي الأراكة بالوجد ... فبات سقيما لا يعيد ولا يبدي
سقيماً تظل العائدات حوانيا ... عليه بإشفاق وإن كان لا يجدي
يخلن به مساً أصاب فؤاده ... وليس من مس سوى حرق الوجد
به علة - إن لم تصبها سلامة ... من الله - كادت نفس حاملها تردي
ومن عجب الأيام أني مولع ... بمن ليس يعنيه بكائي ولا سهدي
أبيت عليلاً في (سرنديب) ساهراً ... أعالج ما ألقاه من لوعتي وحدي
أدور بعيني لا أرى وجه صاحب ... يربع لصوتي، أو يرق لما أبدي
ولكن شوقي بدأ بدءاً آخر، فيتخيل حماماً ينوح بوادي الطلح، وناجاه بأن بلواهما متشابهة، لأن اليد العاتية التي طيرت الحمام من واديه هي اليد الغاشمة التي حرمت الشاعر من وطنه وأهله، وكلاهما في وادي الطلح غريب ضائق الصدر يحز الألم في نفسه، ولا ينفك يشتاق إلى وطنه ولكنه لا يستطيع الوصول إليه، وهذا الطائر صديق شوقي لأن الألم يربطهما، وهو دائم الحنين والذكرى لواديه والحزن على فراقه، قلق يتنقل من غصن إلى غصن في فتور واسترخاء باحثاً عن مواس ولكنه لا يجد، لأن لأمراض الجسوم أطباء ولكن إسقام الأرواح لا أساة لها، وشوقي يرمز إلى نفسه بهذا التصوير، وهذا بدء يلائم الحال النفسية للشاعر المبعد من وطنه، لأن الحمام من طبعه الحنين إلى وطنه وألفه،(722/22)
والشعراء إذا ما سمعوا حنينه هاجت ذكرياتهم فحنوا وأنوا. قال شوقي:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا ... نشجي لواديك أم نأسى لوادينا؟
ماذا تقص علينا غير أن يداً ... قصت جناحك جالت في حواشينا
رمى بنا البين أبكا غير سامرنا ... أخا الغريب وظلا غير نادينا
كل رمته النوى: ريش الفراق لنا ... سهماً، وسل عليك البين سكينا
إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع ... من الجناحين عي لا يلبينا
فإن يك الجنس يا أبن الطلح فرقنا ... إن المصائب يجمعن المصابينا
لم تأل ماءك تحنانا ولا ظمأ ... ولا ادكاراً ولا شجواً أفانينا
تجر من فنن ساقاً إلى فنن ... وتسحب الذي ترتاد المؤاسينا
أساة جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنطس المداوينا؟
ثم يتفق الشاعران في أن رأى كل منهما برقاً يتلألأ حقيقة أو تخيلاً، فاهتاجه إلى مصر، فالبارودي رأى برقاً يلمع فيضيء الجبال والسهول، فبات ليلته أرقان يرقب النجوم الذي أجهدها طول السرى كأنه ملدوغ أو فريسة في مخالب الأسد، وصور لآلاء النجوم بالياقوت اللامع في درع. قال:
ومما شجاني بارق طار موهناً ... كما طار منبث الشرار من الزند
يمزق أستار الدجنة ضوؤه ... فينسلها ما بين غور إلى نجد
أرقت له، والشهب حيري كليلة ... من السير، والآفاق حالكة البرد
فبت كأني بين أنياب حية ... من الرقط، أو في برثني أسدورد
أقلب طرفي، والنجوم كأنها ... قتير من الياقوت يلمع في سرد
ولكن شوقي صور البرق بأن ناره تلمع مقتبسة من النار التي تشتعل في أضلعه، وصور المطر الذي يعقب البرق بأنه مستمد من غزير مدامعه، فهو مؤرق طوال الليالي يراقب النجوم، ويرعى عهد الحب لمصر، حتى لقد ذوى ونحل، فصار كزفرة حيري في الليل. وحمل هذا البرق وهذا المطر تحية إلى الوطن، وصور المطر بأنه يجوب ظلمات البحر يحرسه جبريل من الأذى والعدوان حتى يصل إلى سماء مصر الأبية التي لا تقبل عطاء الغير وإن كان مطراً مباركاً، وحتى رويت بقطراته حدائق الوادي ومروجه وحقوله وريفه(722/23)
الجميل، وطالبه أن ينزل على خمائل الوادي في إيقاع رقيق كأنه تغريد وتطريب، وأن ينزل سلاماً على النبات كما يتساقط الندى على أكمام الزهر، وأن يواسي منازل الشاعر وأحبابه. قال شوقي:
يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا ... بعد الهدوء ويهمي عن مآقينا
لما ترقرق في دمع السماء دماً ... هاج البكا فخصبنا الأرض باكينا
الليل يشهد: لم تهتك دياجيه ... على نيام ولم تهتف بسالينا
والنجم لم يرنا إلى على قدم ... قيام ليل الهوى للعهد راعينا
كزفرة في سماء الليل حائرة ... مما نردد فيه حين يضوينا
بالله أن جبت ظلماء العباب على ... نجائب النور محدواً بجبرينا
ترد عنك يداه كل عادية ... إنسا يعثن فساداً أو شياطينا
حتى حوتك سماء النيل عالية ... على الغيوث وإن كانت ميامينا
وأحرزتك شفوف اللازود على ... وشى الزبر جد من أفواف وأدينا
وحازك الريف أرجاء مؤرجة ... ربت خمائل واهتزت بساتينا
فقف إلى النيل واهتف في خمائله ... وأنزل كما نزل الطل الرياحينا
وآس ما بات يذوي من منازلنا ... بالحادثات ويضوي من مغانينا
ثم يتفقان في الحنين إلى ملاعب الصبا ومراتع الشباب، ويصور كل منهما حنينه تصويراً يوائم شاعريته، فالبارودي يذكر جزيرة الروضة حيث داره ومنبت غرامه ومرتع لذاته وحياته الهانئة، ويوازن بين حاله البائسة في حاضره وحاله الناعمة في ماضيه فتكاد تفارقه روحه، ويدعو لهذا المنزل بأن ينزل عليه المطر غزيراً كما كان يدعو العرب، محاكياً لهم في دعائه، على أن الروضة التي يحتضنها النيل من جهاتها الأربع في غنى عن هذا المطر، ويذكر بعض ما لقي من سعادة في هذا المنزل والدنيا مواتية والحياة ناعمة، وحبيبته وافية. قال:
خليلي هذا الشوق لاشك قاتلي ... فيملا إلى (المقياس) إن خفتما فقدي
ففي ذلك الوادي الذي أنبت الهوى ... شفائي من سقمي، وبرئي من وجدي
ملاعب لهو، طالما سرت بينها ... على أثر اللذات في عيشة رغد(722/24)
إذا ذكرتها النفس سالت من الأسى ... مع الدعم حتى لا تنهنه بالرد
فيا منزلاً رقرقت ماء شبيبتي ... بأفنائه بين الأراكة والرند
سرت سحراً فاستقبلتك يداً لصبا ... بأنفاسها وانشق فجرك بالحمد
وزر عليك الأفق طوق غمامة ... خضيبة كف البرق حنانة الرعد
وشوقي يحن إلى مصر، ويراها صورة من الجنة وإن تهاونت في تخليصه؛ وهو يحبها لأنها مدرج طفولته وملعب صباه، ومهبط آماله، ومجال عظمته، ومولد أبنائه وأحبائه ومثوى أجداده وآبائه، ويدعو بالخير لأيامه الماضية وحياته المسعدة المواتية حيث كان هو وأحبابه جمال الحياة، صلتهم حب ووفاء، وزمانهم حافل بالسعادة والصفاء. قال:
لكن مصر - وإن أغضت على مقة - ... عين من الخلد بالكافور تسقينا
على جوانبها رفت تمائمنا ... وحول حافتها قامت رواقينا
ملاعب مرحت فيها مآربنا ... وأربع أنست فيها أمانينا
ومطلع لسعود من أواخرنا ... ومغرب لجدود من أوالينا
سقياً لعهد كأكناف الربا رفة ... أنى ذهبنا وأعطاف الصبا لينا
إذ الزمان بنا غيناء زاهية ... ترف أوقاتنا فيها رياحينا
الوصل صافية، والعيش ناغية ... والسعد حاشية، والدهر ماشينا
(البقية في العدد القادم)
أحمد محمد الحوفي(722/25)
إليكا الهراس
للأستاذ برهان الدين محمد الداغستاني
450 - 504 هـ
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
مناظراته:
كانت مجالس المناظرة تعقد صدر الإسلام وعهد الأئمة المجتهدين للبحث في العقائد ومسائل علم الكلام أو للمناقشة بين مجتهدين في مسألة اجتهادية ثم تطورت المناظرات في القرن الرابع الهجري وما بعده - بعد أن ترك العلماء الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية وألزموا أنفسهم بمذاهب المجتهدين الذين كانوا قبلهم أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأقرانهم - وتغيرت مواضيعها فأصبحت مسائل فقهية خلافية بين الأئمة المجتهدين وكانت أكثر المناظرات تدور عليها بين أتباع المذاهب.
فمع أنه تخرج من علماء الإسلام وفقهائهم في القرن الرابع وما بعده من لا يقل عمن تقدمهم من المجتهدين علماً بأصول التشريع والاستنباط لكن لم تكن لهم الجرأة الكافية للظهور بمظهر الاستقلال ولم تكن لهم الجرأة الكافية للظهور بمظهر الاستقلال ولم تكن لهم الحرية الواسعة التي تمتع بها أسلافهم فقيدوا أنفسهم بنصوص المتقدمين لا يتعدونها وقصروا همهم على تعليل الأحكام التي وصلتهم من أئمتهم وترجيح بعض الروايات على البعض الآخر واعتنى كل فريق منهم بتأييد مذهب أمامه على مذاهب الآخرين وكثرت المناظرات المذهبية بين الحنفية والشافعية لأن أغلبها كانت بالعراق وعلماء المذهبين فيها متوافرون والمنافسة بينهم شديدة.
ومن هذا القبيل ما يرويه أبن خلكان من أنه كان بين إليكا الهراس والشيخ الإمام أبي طالب الزينبي وقاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني - وهما من أكابر الحنفية يومئذ ببغداد - من المنافسة والتنافر بسبب الخلافات المذهبية وما يرويه السبكي في الطبقات إذ يقول: وكانت في إليكا لطافة عند مناظراته. ربما ناظر بعض علماء العراق فأنشد:
أرفق بعبدك إن فيه يبوسة ... جبلية ولك العراق وماؤه(722/26)
قيل أنشد هذا البيت في مناظراته مع أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي.
فتاويه:
قلنا إن العلماء في القرن الرابع وما بعده لم يجدوا في أنفسهم الشجاعة الكافية لإعلان استقلالهم عن الأئمة المتقدمين في الاستدلال من الكتاب والسنة بل قصروا أنفسهم على نصوص أئمتهم، ولكن هذا لم يحل بينهم وبين استنباط العلل للأحكام التي نص عليها المتقدمون فتسنى لهم بذلك قياس ما جد بعد ذلك من الأحكام على ما نص عليه من سبقهم وبذلك استطاعوا أن يفتوا في المسائل التي كانت تعرض لهم في مختلف الشؤون وربما اختلفت أنظارهم في علة الحكم الواحد فتختلف آراؤهم في المسائل المستجدة تبعاً لذلك، وكانت مسألة يزيد بن معاوية وقتله الحسين رضى الله عنه مسألة مثارة في كل مجلس وناد مدة الحكم العباسي فكان لابد أن يسأل كل عالم عن لعن يزيد وهل هو جائر شرعاً أو لا، وقد سئل إلكيا نفسه عن لعن يزيد فقال: إنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما قول السلف في لعنه ففيه لأحمد قولان تلويح وتصريح، ولمالك قولان تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان تلويح وتصريح ولنا قول واحد التصريح دون التلويح. وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد والمتصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معروف ومنه قوله:
أقول لصحب ضمت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... فكل وإن طال المدى يتصرم
ولا تتركوا يوم السرور إلى غد ... فرب غد يأتي بما ليس يعلم
وأفتى الغزالي وأبن الصلاح بخلاف رأي إلكيا لأنه وإن غلب الظن بقرائن الأحوال أن يزيد رضي قتل الحسين أو أمر به فلا يجوز لعنه ويجعل كمن فعل كبيرة. وجواب الغزالي بكامله في الجزء الأول ص 466 من وفيات الأعيان وهو في غاية الإبداع والرصانة.
ويقول الحافظ أبو طاهر السلفي: استفتيت شيخنا إلكيا الهراس ببغداد في سنة خمس وتسعين وأربعمائة لكلام جرى بيني وبين الفقهاء بالمدرسة النظامية. وصورة الاستفتاء ما يقول الإمام وفقه الله تعالى في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل تدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية؟ فكتب الشيخ تحت السؤال نعم، وكيف لا وقد قال النبي صلى(722/27)
الله عليه وسلم: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً.
ونقل النووي عن إلكيا في موضع واحد من الروضة أوائل كتاب القضاء إن العامي يلزمه أن يقلد مذهباً معيناً ثم نقل عن أبن برهان عكسه ورجحه.
مؤلفاته:
لا يذكر المؤرخون شيئاً عن مؤلفات إلكيا إلا السبكي فقد ذكر إن من مؤلفاته شفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين وقال إنه من أجود كتب الخلافيات ونقد مفردات الإمام أحمد، وكتاباً في أصول الفقه لم يذكر أسمه.
وذكر أبن الملقن الأندلسي في العقد المذهب الرد على الإمام أحمد ومباحث المجتهدين وأحكام القرآن. ولسنا نعلم عن كتب إلكيا أكثر من ذلك ما عدا أحكام القرآن الذي ذكره أبن الملقن فإن منه نسختين في دار الكتب المصرية نسخة بخط قديم أكثره غير منقوط تحت رقم (144) تفسير وأخرى منقولة عن النسخة السابقة مكتوبة بخط جميل ثم نسخها يوم السبت 27 جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة تحت رقم (710) تفسير، ولكتاب أحكام القرآن هذا أهمية علمية كبرى هي التي حدث بي إلى كتابة هذا الفصل في التعريف بالكيا الهراس والتنويه بكتابه أحكام القرآن.
تفسير آيات الأحكام نوع من أنواع التفسير نشأ مع نشوء المذاهب الفقهية في الإسلام، لجأ أصحاب المذاهب من الفقهاء إلى هذا النوع من التفسير لتأييد مذاهبهم التي ذهبوا إليها واقتصروا على تفسير الآيات التي تعرض للأحكام الفقهية من قرب أو بعد وفسروها على قواعدهم في الفهم والاستنباط.
وفي كشف الظنون إن أول من صنف في هذا النوع من التفسير الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 ثم الشيخ أبو الحسن علي بن حجر السعدي المتوفى سنة 244 ثم الإمام القاضي أبو أسحق إسماعيل بن أسحق الأزدي البصري المتوفى سنة 283 ثم الشيخ أبو الحسن بن موسى بن يزداد القمي الحنفي المتوفى سنة 305 ثم الشيخ الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي المتوفى سنة 321 ثم الشيخ أبو محمد القاسم بن أصبغ القرطبي النحوي المتوفى سنة 340 ثم الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد(722/28)
المعروف بالجصاص الرازي الحنفي المتوفى سنة 370 ثم الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن محمد المعروف بالكيا الهراس الشافعي البغدادي المتوفى سنة 504.
وأهمية كتاب الإحكام لإلكيا تأتي بنوع خاص من ناحية إنه ألفه على طريقة الإمام الشافعي وعلى أصوله في استنباط أحكام الفقه من آيات الكتاب العزيز كما يقول في مقدمته.
ولأنا لا نعلم عن كتاب الأحكام الذي ألفه الشافعي - كما يقول صاحب الكشف الظنون - شيئاً ولأنه من ناحية أخرى ليس لدينا إلى اليوم كتاب مطبوع في تفسير آيات الأحكام على طريقة الشافعي مع كثرة هذا النوع من التفاسير في المذاهب الأخرى، ولأن إلكيا الهراس كتب كتابه الأحكام بعد الإطلاع على كتب من تقدمه من الحنفية والمالكية في الأكثر الغالب - نرى إن أحكام القرآن للهراس ذخيرة علمية يجب الانتفاع بها وحبذا لو قام بطبعه ونشره من يهمهم نشر البحث العلمي في هذا البلد فإنهم يؤدون بعملهم هذا خدمة جليلة للفقه الإسلامي ويحيون أثراً قيماً من آثار أسلافنا الأمجاد.
وفاته ورثاؤه
توفي إلكيا الهراس وقت العصر من يوم الخميس مستهل المحرم سنة أربع وخمسمائة في بغداد ودفن بباب أبرز في تربة الشيخ أبي أسحق الشيرازي وكان مولده - كما تقدم - في خامس ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة فيكون قد عاش ثلاثاً وخمسين سنة وقريباً من شهرين وحضر دفنه الشيخ أبو طالب الزيني وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني - وكانا مقدمي الحنفية في بغداد وكان بينه وبينهما في حال الحياة منافسة وتنافر مما يكون بين الأقران فوق أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أبن الدامغاني متمثلاً:
وما تغني النوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس
وأنشد الزيني متمثلاً:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم
ونقل أبن خلكان عن أبن عساكر في تاريخه الكبير إن تلميذ إلكيا أبا أسحق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور رثاه ارتجالاً فقال:
هي الحوادث لا تبقى ولا تذر ... ما للبرية من محتومها وزر
لو كان ينجي علو من بواثقها ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر(722/29)
قل للجبان الذي أمسى على حذر ... من الحمام متى رد الردى الحذر؟
بكى على شمسه الإسلام إذ أفلت ... بأدمع قل في تشبيهها المطر
حبر عهدناه طلق الوجه مبتسما ... والبشر أحسن ما يلقي به البشر
لئن طوته المنايا تحت أخمصها ... فعلمه الجم في الآفاق منتشر
سقى ثراك عماد الدين كل ضحى ... صوب الغمام ملث الودق منهمر
عند الوري من أسى أبقيته خبر ... فهل أتاك من استيحاشهم خبر
أحيا أبن إدريس درس كنت تورده ... تحار في نظمه الأذهان والفكر
من فاز منه بتعليق فقد علقت ... يمينه بشهاب ليس ينكدر
كأنما مشكلات الفقه (يوضحها) ... جباه دهم لها من لفظه غرر
ولو عرفت له مثلاً دعوت له ... وقلت ديني إلى شرواه مفتقر
هذا فصل وجيز قصدت به التعريف بإلكيا الهراس والتنويه بأهمية كتابه (أحكام القرآن) إلا إنه ضاق فلم يتسع لتناول أحاكم القرآن إلا بقدر يسير. وأرجو أن تتاح لي فرصة التحدث عنه في فصل آخر خاص به في القريب العاجل إن شاء الله.
برهان الدين محمد الداغستاني(722/30)
الأدب في سير أعلامه:
13 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمد الخفيف
في القوقاز
قرأ ليو كثيراً في القوقاز وهو منذ حداثته لا يسلو الكتب مهما صرفته عنها أهواء شبابه؛ فإذا عاد إليها أقبل يقرؤها في جد وعناية وقراءة تدبر واستمتاع، ولم يتفه كتاب مما كان يصدر يوم ذاك في روسيا أو في أوربا، كذلك لم تفته صحيفة أدبية تعنى بألوان الأدب المعاصر وتهتم بنقده، وكان في مقدمة تلك الصحف مجلة (المعاصر) التي نشرت له أول آثاره. . .
وكان لترجنيف جانب كبير من اهتمامه، وكان ترجنيف الذي يكبره كما أسلفنا بعشرة أعوام قد نشر سنة 1947 أول كتاب له وهو (مذكرات رجل صيد) الذي سبق أن أشرنا إليه، فكان ليو يعيد قراءته بين الحين والحين؛ ولعل ما استمتع به ترجنيف من ذهاب الصيت بكتابه الأول هذا قد ألقى في نفس ليو تولستوي أحلام المجد الأدبي وبخاصةً بعد أن صادف كتابه (عهد الطفولة) ما أشرنا إليه من نجاح.
وكان لجوجول كذلك منزلة عظيمة في نفس تولستوي، فكان يطيل التأمل في قصة (الأنفس الميتة) في قصته الفكهة (في). . .
ولم يسه تولستوي عن الأدب الأوربي فكان يقرأ آثار أعلامه جميعاً، وكان يتتبع ما ينشر دكنز في شغف كبير ويقدمه على كل قصصي سواء؛ وكذلك كان عظيم الإعجاب بالكاتب الإنجليزي ستيرن الذي ذكرنا اسمه قبل فيمن ذكرنا ممن قرأ الفتى آثارهم؛ كان ستيرن من رجال الدين ولد سنة 1713 وتوفي سنة 1768 فهو من أعلام القرن الخامس عشر وقد اشتغل بالأدب، وامتازت مؤلفاته بروح الفكاهة والعاطفة، وبلغ في قوة خلق الأشخاص وتصويرهم مالا يبلغه إلا الأفذاذ القلائل، فكان لآثاره ميزة الأصالة والنبوغ، وقد نشر قبيل وفاته أشهر كتبه وهو (الرحلة العاطفية)، وقد كان تولستوي شديد التأثر عظيم الانجذاب(722/31)
نحو هذا الكتاب؛ يضعه في مستوى آثار روسو من حيث قيمته في ذاته ومن حيث أثره في نفسه. . .
وكثيراً ما كان الفتى يطيل التأمل في ساعات فراغه، أو عقب قرائه كتاباً من كتبه، وكثيراً ما كان يثبت تأملاته في كراسته فكان لهذه الكراسة بذلك خطرها كمصدر من مصادر تاريخ حياته.
وكان أول ما تأمل الفتى في الدين ولما يمض عليه في القوقاز غير أيام، ولم تكن هذه أول مرة يتجه فيها تأمله هذا الاتجاه، فقد سبقتها مرات ومرات؛ وقد أشرنا قبل إلى ما ذكره في مستهل كتابه (اعترافاتي) عن ذلك الصبي الذي تحدث إليه ذات مرة وهو في نحو العاشرة عن الله ووجوده، وكيف تلقى ذلك الحديث في اهتمام وأفضى به إلى أخوته. . . ومما ذكره كذلك في مستهل ذلك الكتاب قوله (لقد عمدت ونشأت على العقيدة المسيحية الأورثوذكسية؛ وقد عملت هذه العقيدة في طفولتي وطول أيام يفاعتي وشبابي؛ ولكني عندما تركت الجامعة وأنا يومئذ في الثامنة عشرة لم أعد أصدق شيئاً مما علمته. . . وقد ذهبت المعتقدات الدينية التي علمتها في صغري؛ ونظراً لأني منذ سن الخامسة عشرة بدأت أقرأ الآثار الفلسفية، فإن رفضي هذه المعتقدات كان أمراً شعورياً في سن مبكرة جداً؛ فمنذ سن السادسة عشر انقطع ذهابي إلى الكنيسة وانقطع صومي؛ ولم أصدق ما لقنت في طفولتي ولكني كنت أصدق شيئاً ما؛ أما ما هو ذلك الشيء فما كنت أستطيع وقتها أن أقول، لقد صدقت بالله أو على الأصح إني لم أنكر الله، ولكني لم أستطع أن أقول أي إله هذا، وكذلك لم أنكر المسيح ولا تعاليمه، ولكم مم كانت تتألف تلك التعاليم؛ ذلك أيضاً ما لم أكن أستطيع أن أقوله. . .
وإذا رجعت إلى تلك الحقبة من عمري أرى الآن في وضوح إن إيماني، إيماني الحقيقي الذي لم يكن لي غيره، ذلك الذي كان يحفز حياتي بصرف النظر عن غرائزي الحيوانية هو عقيدتي في بلوغ الكمال النفسي، ولكن مم يتألف هذا الكمال وما غرضه؟ ذلك ما لم أستطع أن أبينه، لقد حاولت أن أكمل نفسي عقلياً، فدرست كل ما استطعت أن أدرس، كل شيء ألقته الحياة في طريقي، وحاولت أن أكمل إرادتي فوضعت قواعد أخذت نفسي بإتباعها، وكملت نفسي من ناحية البدن قد دربت قوتي ونشاطي بكافة أنواع التمرينات، وعودت نفسي التحمل والصبر بكافة ضروب التقشف؛ واعتبرت كل أولئك وسائلي نحو(722/32)
الكمال؛ وكان أول ما اتجهت إليه الكمال الأدبي ثم أعقب ذلك وحل محله الكمال من جميع الوجوه، أو الرغبة في أن أكون أحسن حالاً، لا في نظري فحسب ولا عند الله وحده، ولكن في نظر غيري من الناس. . . وسرعان ما اتجهت محاولاتي بعد ذلك إلى رغبة أخرى هي أن أكون أقوى من غيري وأبعد منهم صوتاً، وأعظم خطراً وأكثر ثراء. . .
هذا هو مبلغ اهتمام الفتى بالدين وكل ما هو من الدين بسبب منذ حداثته، أما اهتمامه به في القوقاز فنجد شاهداً عليه فيما أثبته هناك من تأملاته ومنها قوله بعد أن ذكر إنه لم ينل ليلته بسبب صلاته ونسكه لله (إذا أريد بالصلاة إنها استغفار أو شكران فإني إذاً لم أكن أصلي؛ بل إن رغبة كانت تتملكني نحو شيء طيب سام. أما عن كنه ذلك الشيء فذلك ما لا أستطيع تفسيره، ولو إنني أشعر شعوراً تاماً ماذا يكون ذلك الذي رغبت فيه؛ إن الذي رغبت فيه هو أن أذوب فأمتزج بذلك الجهور المحيط بكل شيء وأن أستغفره عن آثامي. . . لا، ليس هذا ما رغبت فيه لأني شعرت إذ منحني هذه اللحظة المباركة إنه بهذا منحني كذلك المغفرة).
والذي يستخلص مما كتبه تولستوي حتى هذه السن إنه لم يفقد الإيمان لحظة بقوة مطلقة في هذا الوجود، وكان مرد إيمانه إلى عاطفته وإن كان يشعر إنه لا يستطيع أن يصالح عليها عقله ومنطقه، فلقد كان شديد الشك في صورة العقيدة كما تضعها الكنيسة الأورثوذكسية الروسية، ولذلك عظم الصراع بين عاطفته وعقله. . . وتراه يتساءل ذات مرة في دفتره معتمداً على العقل والقياس قائلاً: حتى ولو إن الجسم والروح شيئان، وإن الجسم يلحقه الفناء، فماذا في ذلك من البرهان على فناء الروح؟ لقد رأيت الجسم يموت، وعلى ذلك أستخلص إن جسمي أنا سوف يموت، ولكن ليس في ما يريني إن روحي سوف تموت، وعلى ذلك فبناء على ما يقوم في فكري أقرر إنها خالدة).
وقال عن الصلاة في موضع آخر (هل الصلاة لازمة؟ وهل هي ذات فائدة؟ إن التجربة وحدها هي التي ترينا مدى ما يكون في ذلك من اقتناع. إني أصلي هكذا. رب نجني من السوء ومن الغواية أن أفعل السوء، وهب لي الخير أو هب لي القدرة على أن أعمل صالحاً؛ وسواء أكان خيراً أم كان شراً ما أعمل فإن مشيئتك هي النافذة).
وعاد يبحث عن الله في قوله (هل لي أن أنجح نجاحاً لأمرية فيه فأكون عن الله واضحة(722/33)
وضوح فكرتي عن الخير؟ لقد باتت هذه الرغبة أقوى رغابي!
إن فكرة الإنسان عن الله هي وليدة تغطية إلى ضعفه هو. . . ولم يقنعني بوجوده بصلتنا به شيء أقوى من هذه الفكرة: ألا وهي أن كل مخلوق قد وهب من المسكنة ما يتفق مع ما يرغب فيه من مطالب، لا شيء أكثر من ذلك ولا شيء أقل؛ ولأي غرض وهب الإنسان قوة إدراك مثل هذه المسائل وهي العلة الأولى والأبد واللانهاية والقوة المطلقة؟ إن المقدمة فيما أتحدث عنه هي فروض تؤيدها علامات، وإن الإيمان حسب تقدم المرء يتمم صحة هذه الفروض).
وتشتد حيرته بعد ذلك فيقول: إني عاجز عن أن أثبت لنفسي وجود الله، أو حتى عن إيجاد قرينة مقنعة به؛ كما أني لست أرى ثمة ضرورة حتمية لهذا الإدراك، إنه لأيسر وأبسط أن نتخيل الوجود الأبدي للكون بنظامه العجيب الذي لا يمكن تصور مداه، من أن نتخيل وجود خالق له. . . إن تطلع الجسم والروح إلى السعادة هو السبيل الوحيدة إلى تفهم أسرار الحياة، وإذا تصادمت نوازع الجسم ونوازع الروح فيجب أن تهيمن نوازع الروح لأن الروح خالدة كالسعادة التي تنتجها. . . وإن تحقيق السعادة هو السبيل لتقدم الروح ورقيها. . . إني لست أفهم ضرورة وجود الله، ولكني أومن به وأصلي له كي يعنيني على أن أدركه).
وتنطوي سنوات كثيرة قبل أن يغير تولستوي ما أثبته في كراسته في نوفمبر سنة 1852 وهو قوله (إني أومن بإله واحد لا تدركه الأبصار وأومن بخلود الروح وأومن بالجزاء على أعمالنا؛ وما يضيرني أني لست أفهم خفايا الثالوث ومولد أبن الله؟ إني أجل عقيدة آبائي ولست أجحدها).
ويتأمل الفتى غير الدين في أمر يتصل بالأخلاق فيقول (إن الضمير خير رائد لنا وخير ما نعول عليه من هاد، ولكني ما هي الشواهد التي بها نميز صوت الضمير من بين الأصوات الكثيرة التي تنبعث في أنفسنا، على إنه الصوت الوحيد الحق؟ ذلك لأن الغرور يتكلم بنفس القوة. . . إن الرجل الذي يكون غرضه في الحياة سعادة نفسه هو رجل سوء؛ وإن الذي يكون غرضه حسن رأى الناس فيه رجل ضعيف؛ وذلك الذي يجعل غرضه إسعاد الآخرين رجل خير؛ ولكن الذي يجعل غرضه وجه الله هو رجل عظيم. . . إن(722/34)
الشر في رأي يتكون من إتباع السوء تجاه الآخرين والخير كامن في محبة الخير لهم؛ بهذا يتحدث الضمير أبداً؛ وإن غرض الحياة لهو الخير وهو عاطفة موروثة في النفس، ورأى أن الوسيلة لنعيش عيشة طيبة هي معرفة الخير والشر. . . وأنا لن نكون أخياراً إلا عندما توجه جميع قوانا دائماً نحو هذا الغرض).
(يتبع)
الخفيف(722/35)
مهرجان الربيع. . .
للأستاذ خليل شيبوب
مهرجان الربيع في الأيام ... فرحة الكون تجتلى كل عام
وشباب الدنيا يجدده الده ... ر بفيض من الحياة سجام
ألهميني عروس شعري شعوراً ... صافي البث صادق الإلهام
أتمل الربيع نوراً به ينفس ... ح العمر والزمان أمامي
يا ابنة الفجر أيقظيني فإني ... أذهلتني طوائف الأحلام
وأنظر فالحياة نظرة حب ... وابسمي فالمنى ضياء ابتسام
وأفيضي عي وصف محيا ... ك أطوع له عصى الكلام
قد تولى الشباب وأكتهل القل ... ب ومالت به عوادي المقام
وربيعي في وجنتيك وعيني ... ك وفي الجيد واللمى والقوام
طالعي الأرض والسماء بنفع ... منك يسري مساري الأنسام
وابعثي في الفؤاد ضوء رجاء ... منك يحيا به حياة سلام
واستمدي له من الشعر فناً ... صادراً عن حقائق الأوهام
عادت الطير من مهاجرها حا ... ملة ذكر أفقها الترامي
فروت للرياض عنها حديثاً ... لحنته لها بغير نظام
وسرت في النسيم ثرثرة تف ... صح عما به من الإبهام
وجرى الجدول الصغير ضياء ... سائلاً منه يرتوي كل ظام
وزهت حوله الخمائل غناً ... فتراها من عنبر لا رغام
ظللتها الأشجار فهي عروش ... ظللتها خوافق الأعلام
موجتها أشعة الشمس إذ تم ... زج فيها الصفاء بالاضطرام
وتغطي زمرد النبت بالتب ... ر وتسرى كالروح في الأجسام
قد أفاقت هذى الطبيعة تزهي ... بقواها من بعد ذلك المنام
وتناجت آفاقها مائجات ... بالشذى والنسيم والأنغام
في الصحارى والروض والبحر والشا ... طي وبين الأكام والآجام(722/36)
تتناغى أصواتها في خرير ... وحفيف ورنة وبغام
ليست أبهج البرود وحطت ... عن وجوه الجمال كل لثام
وتحلت بالزهر سيان ما فت ... ح منه أو كان في الأكمام
باللآلئ والدر شيء نثير ... ونظيم ورونق وانسجام
فتراها روانياً كعيون ... فترت بالدلال والاحتشام
وتراها بواسماً كثغور ... سحرها مبعث الهوى والهيام
وتراها حيية كخدود ... هاج فيها الهوى ندى الضرام
وكأن الرياض منسج ألوا ... ن ومسرى شذى ومسقى مدام
وتهاويل ساحر عبقري ... وتصاوير ملهم رسام
كل لون وكل معنى وفن ... وجمال وصبوة وغرام
فتن تشرح الصدور وتشفى ... من جمود القلوب والإفهام
هي في اليوم باعثات الأماني ... وهي في الليل ناعشات الظلام
وهي عوذ المعربد المتغنى ... ولياذ المرفرف النسام
تلك حور الجنان في سبحات ال ... نور قد أرضعت ثدي الغمام
والغصون الولدان طاقت من الز ... هر بجام على الطيور فجام
إنما هذه مقدمة الجن ... ة في الأرض فأدخلوا بسلام
كيف هذا الورى عن الحق يسهو ... وهو لاه عن الهوى متعام
وهو يحيا على خلاف ويبقى ... أبداً في تنازع وخصام
ينقضي الدهر بين حرب وسلم ... مثل حرب في شدة وعزام
طمع جر القوى فظن ال ... حق مستمسكاً يحد الحسام
وضعيف أبى المهانة يرجو ... مثلهم أن يعيش عيش الكرام
عالم تستحل فيه الخطايا ... وتراق الدماء حول الحطام
قلق ساور الحياة وحق ... ضاع بين السيوف والأقلام
ليتهم في الربيع يستلهمون الرو ... ض حتى يحيوا حياة الوئام
في نعيم القلوب مؤتلفات ... بين رعي الرضى ورعي الذمام(722/37)
يا أبنة الشعر رفرفي في مجا ... لي النور حيث الصفاء بحر طام
لا يفتني ربيع حسنك في قل ... بي إذا فاتني ربيع الأنام
خليل شيبوب(722/38)
الأدب والفن في أسبوع
يوم من أيام العلم:
شهدت جامعة فؤاد الأول في الأسبوع الماضي يوماً رائعاً من أيام العلم في تقدير النبوغ وإكباره، ولقد زاد في روعة هذا اليوم وبهائه أن باركه الفاروق العظيم برعايته السامية وعطفه السابغ، إذا وقف المليك العظيم في لباسه الجامعي بين أبناء الجامعة، أساتذة وطلاباً، ورجال العلم والأدب: شيوخاً وشباباً، يوزع جوائز فؤاد الأول على الذين استحقوها من العلماء المبرزين، ويسلم الدرجات العلمية للذين نالوها من المتخرجين المتفوقين، وما الجامعة العظيمة إلا غرس فؤاد العظيم ومأثرته على العلم، فلا غرو أن يكون الغرس موضع الرعاية من شبله، وإنما الابن سر أبيه. . .
جوائز فؤاد العلمية:
ولقد افتتح الاحتفال معالي وزير المعارف عبد الرزاق السنهوري باشا بخطبة ضافية ألقاها بين يدي المليك العظيم نصير العلم والعلماء واستهلها بقوله: (مولاي إن لوالدكم الراحل العظيم من الأيادي البيضاء على العلم، ما جعل رجال العلم في هذا البلد تختار يوم ذكرى وفاته ليكون موسماً للعلم، فاختارت لجنة الجوائز هذا اليوم لتوزيع الجوائز العلمية التي تفضلتم بتخصيصها كل عام للفائزين من كبار العلماء والأدباء، وهي الجوائز التي أطلقتم عليها اسم والدكم العظيم. كما اختارت جامعة فؤاد الأول هذا اليوم أيضاً لتوزيع درجاتها العلمية على النابهين من أبنائها الخريجين. . وسيتشرف بالمثول بين يديك يا مولاي لأخذ الجوائز العلمية ولتسلم الدرجات الجامعة كهول وشباب، أما الشباب: فأولئك هم المتفوقون من الناشئين في العلم، وأما الكهول فأولئك هم النابغون فيمن نضج من العلماء).
العقل المصري:
قال معالي الوزير: (لقد أثبت علماؤنا اليوم يا مولاي إن العلم ليس وقفاً على الغرب، وإن العقل المصري إذا أطلق من عقاله وأفسح له المجال، يثب ويرتفع، حتى يصل إلى المستوى الذي وصل إليه علماء الغرب، وهذه الحقيقة تدل عليها مؤلفات علمائنا الذي فازوا بجوائز هذا العام، وهي ليست إلا مثلاً لمؤلفات كثيرة أخرى، فالعالم المصري بحق(722/39)
له اليوم أن يطالب بمكانه بين علماء الغرب، وهو في ذلك لا يستحدث جديداً، بل يواصل تقاليد قد سلفت، يوم كانت مصر هي منار العلم ومنبع المدينة ومقر الحضارة). . .
النهضة العلمية في مصر:
ثم قال: (والنهضة العلمية في مصر هي عز الماضي، وأمال المستقبل، بنينا مجدنا بالعلم، وسنعيد بناءه بالعلم، وهانحن نمد النظر إلى آفاق بعيدة، آفاق يشع منها النور قوياً وهاجاً، ونرى النور يقترب منا رويداً رويداً، ولكما اقترب زاد إشعاعاً وقوة، فهل يغمر مصر وهي تمشي إلى مستقبلها هذا النور المتألق؟ لقد أخذت غياهب الجهل تنقشع عن سمائنا، يبددها هذا النور الذي يقترب، فليكن سيرنا نحن النور، ولنمش إليه بخطوات ثابتة، فإن هذا النور الذي نراه هو مرآة الماضي، وعنوان الحاضر ورجاء المستقبل). . .
الفائزون بالجوائز:
وتكلم بعد ذلك الأستاذ الكبير معالي أحمد لطفي السيد باشا رئيس لجنة الفحص لجوائز الآداب فأعلن إن اللجنة لن تفرغ من عملها بعد ولهذا قررت إعلان تأجيلها إلى العام القادم، ثم تكلم معالي بهي الدين بركات باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة القانون ثم سعادة الدكتور حسن صادق باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة العلوم ثم قدوم معالي وزير المعارف الفائزين بجائزة القانون إلى جلالة الملك وهما الدكتور محمد مصطفى القللي بك عميد كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول والدكتور محمد زهير جرانه المحامي فتسلما البراءة بالجائزة وقدرها ألف جنيه، ثم قدم معالي الوزير الفائزين بجائزة العلوم وهم مصطفى نظيف بك والدكتور محمود الشيشيني الأستاذان بكلية الهندسة والدكتور محمد عبدة السعيد الأستاذ بكلية الهندسة وعضو بعثتها إلى إنجلتراً.
درجات المتفوقين:
وبعد ذلك تفضل جلالته بتسليم المتفوقين من الخريجين درجاتهم العلمية، وقد قدمهم إلى جلالته الدكتور عبد الوهاب عزام بك نيابة عن مدير الجامعة بكلمة الجامعة رائعة ختمها بقوله: (إن مصر والأمة العربية جمعاء تبني اليوم تاريخاً وتنشئ أجيالاً وتعد مستقبلاً يكافئ مكانتها بين الأمم ومآثرها على الزمان. والله أسأل أن يرعاها ويسدد خطاها وأن(722/40)
يجعل عرشكم الزاهر مناراً لنا في تاريخ مصر وتاريخ العرب كلهم، وتاريخ الحضارة الإنسانية).
وكان هذا الدعاء الصادق مسك الختام.
البراءة الملكية بالجائزة
ويهمنا أن نسجل فيما يلي نص البراءة الملكية بالجائزة التي منحت للدكتور مصطفى نظيف بك وهي نموذج للبراءات التي منحت لجميع الفائزين.
وهذا هو النص:
من فاروق ملك مصر بعناية الله تعالى
إلى صاحب العزة مصطفى نظيف بك الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة فؤاد الأول.
بناء على ما أقرته اللجنة الدائمة لجوائز فؤاد الأول وفاروق الأول من استحقاقكم جائزة فؤاد الأول للعلوم عن سنة 1947 لما امتاز به مؤلفكم (الحسن بن الهيثم - بحوثه وكشوفه البصرية) من دقة البحث.
قد أمرنا بإصدار براءتنا الملكية هذه من ديواننا بمنحكم تلك الجائزة وفقكم الله لخدمة العلم والوطن.
تحريراً بقصر القبة الملكي بالقاهرة في اليوم السابع من شهر جمادى الآخرة لسنة ألف وثلاثمائة وستة وستين من هجرة خليفة المسلمين وفي السنة الحادية عشرة من حكمنا.
صدر بأمر مولاي الملك المعظم
رئيس ديوان جلالة الملك
مولانا أبو الكلام:
اختارت حكومة الهند مولانا أبو الكلام آزاد ليكون سفيراً لها في مصر، وهو أول سفير تختاره لتمثيلها في البلاد العربية، وثاني سفير يمثلها في العالم، إذ اختارت أول سفير لها ليمثلها لدى الولايات المتحدة.
ومولانا أبو الكلام أحد الزعماء المسلمين البارزين في الهند الذين قضوا حياتهم في مجاهدة الاستعمار مقاومة الطغيان والنضال في سبيل الحرية نضالاً أبياً شريفاً لم ينل منه سجن(722/41)
ولا تشريد، ولم يفل من حدته وعد ولا وعيد، ونحن إذا تجاوزنا عن الناحية السياسية في حياة هذا الزعيم العظيم وهي موضع خلاف بينه وبين الزعماء الآخرين فإننا نجده زعيماً من زعماء الإصلاح الديني الذين جاهدوا لنصرة الإسلام وعملوا على تقوية الروابط الإسلامية وانتصروا لها في صدق وإخلاص وأبدوا في ميدان الثقافة الإسلامية جهوداً مشكورة كان لها أعمق الأثر عند بني قومه وأطيب الذكر في العالم الإسلامي أجمع.
فمنذ عام 1912 وقف مولانا أبو الكلام وهو لما يزل في مطلع شبابه، يهيب بالمسلمين في الهند أن يتحرروا من ربقة الجمود والتقليد، وإن يكون طريقهم في الدين التمسك بالكتاب والسنة ونبذ البدع والخرافات، وتطهير الأعمال والعقائد من المحدثات، ويصيح فيهم تلك الصيحة المأثورة: (إن الدين ما كان عليه الرسول وأصحابه والسلف الصالح من أمته، لا ما قاله فلان وفلان وإن القرآن مهيمن على الكتب السماوية والعلوم البشرية فلا تشوهوا وجهه باليونانيات ولا بتخريفات المتفرنجين).
وكان الرجل في كل ما يكتب ويدعو إليه ينطق بتلك الروح القوية التي غرسها المصلح الكبير السيد جمال الدين الأفغاني في النفوس؛ فهو الذي يقول لأبناء وطنه (إن الإسلام من أوله إلى آخره دعوة عامة إلى البسالة والجرأة والتضحية والاستهانة بالموت في سبيل الحق والقرآن، وإن التوحيد يعلم المسلمين أن الخوف والخشوع لا يكون إلا لله الواحد القهار، وأن المسلم الذي أمره ربه أن يرحب بالموت الأحمر ويتغلغل في لجج الدواهي لا يقبل السكوت عن الحق ولا يغضي على المكروه).
ولما قامت الحرب العالمية الأولى واشتبكت إنجلترا في ميدانها مع تركيا وهي أمة الخلافة يوم ذاك، وقف مولانا أبو الكلام يدعو المسلمين في الهند وفي الأقطار الإسلامية عامة أن يمتنعوا عن معونة إنجلترا في تلك الحرب التي تقوم بها ضد الدولة الإسلامية الكبرى، وطاف بالهند يلقي الخطب ويذيع البيانات في هذا، فلما أعيت إنجلترا الحيل في جذبه أو ردعه سجنته أربع سنوات، وبعد عقد الهدنة أطلقت سراحه فخرج يدعو إلى وحدة إسلامية عامة بين المسلمين، ويهيب بالدول الإسلامية أن تلتف حول دولة الخلافة لتعينها من كبوتها وتساعدها في محنها حتى ضجر به الإنجليز فأعادوه مرة ثانية إلى السجن.
فسر الزعيم أبو الكلام قدراً من القرآن الكريم تفسيراً علمياً عصرياً، وترجم القرآن كله إلى(722/42)
اللغة الإنجليزية، وله مقالات إسلامية وبحوث ثقافية ضافية كان ينشرها في مجلتي (الهلال) و (البلاغ) اللتين أنشأهما للدعوة إلى التحرر الديني والتحرر السياسي ثم عطلتهما الحكومة لشدة أسلوبهما، وعلى الرغم من هذه الغيرة الإسلامية الصادقة التي تفيض بها نفس ذلك الزعيم فإنه من أنصار الدعوة إلى توحيد الصفوف وجمع الشمل بين طوائف الهند، فلا شكل أنه سيكون خير سفير للهند في أقطار العروبة.
وزارة للفكر:
كتب مستر برناردشو الكاتب الأيرلندي الذائع الصيت إلى جريدة (التيمس) يقترح إنشاء وزارة للفكرة في إنجلترا ويقول في رسالته: (إن التقدم الذي أحرزته آسيا الصحراوية التي تسكنها القبائل حتى توصلت إلى قلب المدينة إنما يرجع إلى الاشتراكية الزراعية والصناعية. . . وإننا إذا ما وضعنا أسس الاشتراكية فلن يقف شيء في سبيلنا غير الكسل الفكري والسياسي، وخوفنا وكراهيتنا للتفكير. لدينا وزارات لكل شيء ما عدا وزارة للفكر على إنها العامل الوحيد الذي يستطيع مسايرة المدينة الحديثة).
وإني لأعجب لذلك الكاتب الكبير أن يقصد إلى حصر التفكير في حدود الرسميات وأن ينزعه من جو الصراحة والطلاقة حيث يعيش ليجعله في رعاية الحكومة تصرفه وتمشى به كما تريد، فإن ذلك في الواقع قتل للتفكير، وحجر على العقول الطليقة أن تثمر وتنتج.
وهل يعتقد برناردشو إنه لو كانت هناك وزارات للتفكير في العالم من قديم الزمان كان في الإمكان أن يصل تطور الفكر إلى تلك الحال التي بلغها وكان العالم قد رأى ما نراه اليوم من ألوان الفكر المختلفة في مناحي الحياة الاجتماعية والعلمية والأدبية والاقتصادية؟! كلا! ونحسب أن برنادرشو نفسه يعلم حق العلم إن تاريخ التطور في التفكير ليس إلا نزاعات ووثبات وصفت بالتمرد والتهور وقوبلت في أول الأمر من الحكومات والوزارات بالمقاومة والصرامة، وفي هذا السبيل كثيراً ما ذهب أصحاب الأفكار ضحية أفكارهم وتفكيرهم.
وشيء آخر نراه واضحاً ملموساً وهو يدحض ذلك الرأي الذي يراه برناردشو، ونعني به تلك الهيئات الرسمية والمجامع الحكومية التي تتولى الإشراف على ناحية من نواحي التفكير، فإننا نراها جامدة خامدة لا تسير إلا في بطء ولا تنتج إلا في ضوء المتابعة للتفكير الحر الخارج في دائرة الرسميات، ولهذا كثيراً ما كانت تلك الهيئات والمجامع في دائرة(722/43)
الرسميات، ولهذا كثيراً ما كانت تلك الهيئات والمجامع هدفاً لسخرية الساخرين وضحك الضاحكين!
وزارة التفكير؟! كلا أيها الكاتب الكبير، فإن هذا سيكون إيذاناً بوضع نهاية لإيجاد التفكير. . .
الشمس تغني:
اكتشفت مصلحة الرادار في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الماضية إن الشمس ترسل في الفضاء موجات (راديوفونية) كالموجات التي ترسلها محطات الإذاعة اللاسلكية في أنحاء العالم. . .
وقد وقع هذا الاكتشاف مصادفة إذ كان البريطانيون يراقبون اقتراب طائرة مغيرة للعدو على أجهزة الرادار في نطاق الأربعة أمتار والستة أمتار فأدهشهم أن استمعوا إلى أصوات موسيقية غريبة استمرت في عزفها يومين ونصف يوم وكانت اتجاهات الرادار تشير طول هذه المدة إلى الشمس، فلما انتهت الحرب قامت هذه المصلحة بعدة تجارب أثبتت إن الشمس ترسل في الفضاء موجات (راديوفونية) على أبعاد مختلفة.
وقد أثارت هذه الظواهر اهتمام العلماء والباحثين، فهم يجرون التجارب لكشف هذه الظاهرة العلمية واستغلالها ويقولون إنه ليس ببعيد أن نسمع صوت المذيع في يوم من الأيام يقول: هنا راديو الشمس، تسمعون الآن قطعة موسيقية تعزفها الشمس!
(الجاحظ)(722/44)
البريد الأدبي
نهضة العراق الأدبية في منهاج الوزارة العراقية الجديدة
مما يلفت النظر في منهاج الوزارة العراقية الجديدة التي ألفها السيد صالح جبر احتواؤه على (14) مادة لتشجيع حركة نشر الفنون والآداب في العراق. وضعها دولة رئيس الوزراء كما قال لي في حديثه لما رآه من تأخر العراق عن بعض الدول العربية الشقيقة في الحركة الأدبية والثقافية في ميدان النهضة الأدبية في العصر الحديث في حين أن له من تاريخه الثقافي وقابليات أبنائه الفكرية وطبيعته الموحية ما يؤهله أن يكون عاملاً هاماً في الحركة الأدبية المعاصرة. وسبب تأخر العراق الأدبي ناشئ من انصراف المسئولين الذين تعاقبوا على الحكم في العراق إلى حصر جهدهم في السياسة، في حين إن العمل الثقافي يجب أن يسبق غيره من الأعمال ويحظى بعناية المسؤولين لكي ينير لهم طريق السياسة ويمهد لهم إنشاء مجتمع صالح سعيد.
لذلك راعى في منهاجه هذه الناحية الهامة في بناء العراق الحديث
وخصص لها المبالغ اللازمة في الميزانية لصرفها في هذه السبيل
وتجنيد المخلصين من الأدباء والعلماء والكتاب والمثقفين في العراق
والبلاد العربية للعمل معه في هذا الميدان، وللإشراف على وضع
دستور أدبي للعراق والعمل على نشر الثقافة العامة في الجمهور
واستغلال القوى الأدبية للترجمة والكتابة والنشر.
وسيعنى قبل كل شيء بإنشاء مئات المدارس القروية ورياض الأطفال والابتدائية والثانوية لكي تضم كل راغب في التعلم من أبناء العراق. كما إنه سيهتم بتوسيع المعاهد العالية ووضعها على أسس علمية رصينة والمباشرة بإنشاء الجامعة العراقي والإكثار من البعثات العلمية ورفع مستواها لتهيئ للبلاد ما تحتاجه من العلماء والأدباء والفنيين وتشجيع التعليم الحرفي والصناعي والزراعي والتجاري والفنون الجميلة وتوجيه معظم خريجي المدارس ولا سيما الابتدائية منها إلى هذا النوع من التعليم.
وسيتهم بتشجيع الثقافة العامة بين مجموع أفراد الشعب عن طريق المدارس المسائية(722/45)
والإذاعة والسينما والمعارض وإنشاء كليات شعبية لرفع المستوى الثقافي والمهني العام في البلاد وتوجيه التربية والتعليم في العراق نحو تنمية المواهب والقابليات لدى أبناء الشعب كافة لما فيه خير البلاد وأعمارها والعناية بالمبادئ السليمة والأخلاق قبل كل شيء. وسيحرص على العناية بثقافة الطلاب بعد تخرجهم من المدارس وذلك بتأسيس نواد ثقافية لغرض الدرس والمطالعة والتفكير.
لقد حدثني دولة رئيس الوزراء بكل هذا وزاد عليه بأنه سيوعز بالمباشرة حالاً بإنشاء مجمع علمي عراقي لتعضيد حركة الترجمة والتأليف والنشر وجعله صلة ثقافية بين العراق والبلاد العربية، وتسهيل مهمة اللجنة الثقافية في الجامعة العربية بما تقترحه من أمور ثقافية تخدم الأغراض الأدبية في العراق وتساهم في نشر وإذاعة التفكير العربي.
وطلب مني دولته أن أذيع على صفحات (الرسالة) الغراء بأنه سيوعز بتصوير وجمع وشراء جميع المخطوطات العربية في المكاتب العامة والخاصة التي لها أهمية تذكر في أدبنا العربي للاستفادة من بعضها ونشرها، كما إنه سيستعين بكل أديب وكاتب عربي يخدم هذه الأغراض وبكون ذا فائدة في نهضة العراق الأدبية والثقافية وذلك باستخدامه بأجور تتناسب ومكانته الأدبية والعلمية ليساهم مع أدباء العراق وعلمائه في تدعيم حركة نشر الثقافة بين العراقيين:
وسيكون (المجمع العلمي العراقي) على غرار (لجنة التأليف والترجمة والنشر) في مصر ومن جملة مهامه طبع مؤلفات الأدباء والشعراء والكتاب وإذاعتها ونشرها في العراق والعالم العربي ليساعد بذلك المؤلفين العراقيين الذين تقف نفقات الطبع والورق حائلاً دون نشر أفكارهم وما يضعونه أو يترجمونه من كتب وأقاصيص:
لقد احتوى المنهاج الوزاري العراقي على الخطوط الرئيسية للمعلومات التي شرحها دولة رئيس الوزراء. ولا ريب أن حماسته في العمل والإنشاء ستعجل بتنفيذ هذا المناهج الثقافي الضخم الذي تقوم لأول مرة، وزارة عراقية بنشره وتتعهد بتطبيقه في العراق.
بغداد
مهدي القزاز(722/46)
إلى الأستاذ الطنطاوي:
أخي الأستاذ علي
ذكرت في مقالك الممتع الذي تحدثت فيه عن دمشق (العدد 717 من الرسالة) إن حمام سامي منسوب إلى البطل المشهور أسامة بن منقذ. فاسمح لي أن أبين لك ما يلي:
إن هذا الحمام لا ينسب في الحقيقة إلى أسامة بن منقذ. ذل ينسب إلى أمير آخر اسمه أسامة الجبلي. قال ابن كثير (أسامة الجبلي. . . كان أحد أكابر الأمراء. وكان بيده قلعة عجلون وكوكب. . . اعتقله العادل بقلعة الكرك سنة تسع وستمائة. واستولى على حواصله وأملاكه وأمواله. وكان قيمة ما أخذه منه قريباً من ألف ألف دينار؛ من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية).
أما أسامة بن مرشد. . . بن منقذ، فلم يدرك القرن السابع، ولا أيام العادل. بل توفي أواخر القرن السادس، أيام صلاح الدين سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ولم يذكر أحد إنه بنى بدمشق حماماً.
أنظر تنبيه الطالب للنعيمي (مخطوط) المدرسة البادرائية - مختصر تنبيه الطالب للعلموي. ص35 (مطبوعات مديرية الآثار العامة) - البداية والنهاية لأبن كثير ج13، ص63 - النجوم الزاهرة ج6 ص107 -
, , , 22 - , 1930.
ولأخي الأستاذ، خالص تحيتي.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
شعاب قلب:
أهدى الأستاذ حبيب الزحلاوي مجموعة قصصه (شعاب قلب) إلى الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك، فكتب إليه الكتاب الآتي:
تحية طيبة وبعد فقد تفضلتم فأهديتم إلى مجموعة قصصكم (شعاب قلب) وتوفرت على(722/47)
التمتع بقراءتها ولم أقدم على كتابة هذا الشكر الواجب إلا بعد أن فرغت من قراءتها.
وقد كانت متعة كبرى في خلال هذا الأسبوع الذي قضيته في عمل متصل إذ حملتني صورها إلى آفاق شتى من المعاني تتصل كلها بصميم النفس الإنسانية. وقد راعني فيها أسلوب رصين متين فيه السلاسة وفيه الجزالة كما راعني من صوره كثير مما يهز النفس ويدفعا إلى القصة الأولى (غريب) وإلى السادسة (هواجس) فإنها تجمع إلى الأسلوب المتين وضوح الصورة وحبك الحوادث واطراد السباق في الأسلوب بغير ما يعوق مثول أهم الأشخاص دائماً في (بذرة) الاهتمام.
فأهنئك على هذا المجهود الكبير وأرجو لكم دائماً حسن التوفيق ولك شكر مكرراً وتحياتي خالصة.
محمد فريد أبو حديد
حول (انطلى عليه):
في بريد (الرسالة) الأدبي في العدد (713) كلمة تحت عنوان (في اللغة) بإمضاء (فلسطيني) يخطئ فيها استعمال الفعل (انطلى عليه. . .) بمعنى جاز عليه، ويقول إنها جاءت عن طريق الترجمة. . .
وعليه أقول: لو إننا تركنا المعاجم أو التعابير القديمة لوجدنا كلمة (الطلاء) وهو ما يطلي به الشيء أو يدهن، لتغيير لونه الأصيل الباهت أو تضييع معالمه، ومن الممكن الجائز اشتقاق الفعل (انطلى عليه الأمر) بمعنى اغتر بطلائه دون أصله، وظن خيراً ما يمكن تحته الشر كالنار في الزند. . . ومنه يقال (انطلت عليه الحيلة) أي جازت عليه بغير تفطن إلى الأصل الذي غيبه الطلاء
وإذاً، فالتعبير على هذا الأساس صحيح لا غبار عليه ولا التباس فيه. . . والسلام.
(الزيتون)
عدنان
تصويب:(722/48)
جاء في كلمة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي المنشورة في العدد الماضي، تحت عنوان (حول أبي هريرة) إن حديث أبي هريرة: دخلت على رقية الخ جاء في كتاب التاريخ الصغير للبخاري (ص100) والصواب (ص10).(722/49)
الكتب
يوم ميسلون
(تأليف الأستاذ ساطع الحصري بك)
بقلم الأستاذ حبيب الزحلاوي
الأستاذ ساطع الحصري مؤلف هذا الكتاب، علم من أبرز أعلام الرجال في البلاد العربية، وعالم محقق مدقق، صبور على التتبع، مفطور على التقصي والتحليل، ومرب فاضل له في المعارف رأى صائب سديد، وفي السياسة باع طويل، ودراية واسعة، ولباقة نادرة، ما وكل إليه شأن من شؤون الدولة إلا قام به خير قيام، ولا أسند إليه عمل من الأعمال إلا بلغ به الغاية من التمام.
من أحدث مؤلفاته كتاب (يوم ميسلون) وليوم ميسلون شأن أي شأن في تاريخ الأمة العربية، فإن أحداثه الكبرى برغم إنها دكت عرشاً، وأنزلت بالشعب السوري هواناً، وأقامت بدلاً من العرش وهو رمز الأمة، طوداً للاستعمار البغيض جثم على الصدور، وثلم الكرامة الواعية. فإن تلك الأحداث على عنفها لم تكن عاجزة فقط عن قتل روح الأمة ومحو قوتها المعنوية بل كانت باعثاً من أكبر البواعث على الاستفزاز وعلى النشاط للجهاد ومحو آثار ذلك اليوم المشئوم، ودرء أخطار مثله.
قرأت الكثير مما كتبه الفرنسيون في تبرير يوم ميسلون، وسمعت الكثير من أقوال رجال سورية العاملين، منهم الذين شاركوا في التمهيد ليوم ميسلون، ومنهم من عمل ليتفادى أو يستبدل أحداث ذلك اليوم المشئوم، فلم أقع على ما يروى غلة متعطش إلى معرفة الحقيقة، ولكن هذا الكتاب، لا يغير فقط طريق المؤرخ، بل يعطيه الوثائق والأسانيد الصحيحة ويطلعه على حقائق كان بعضها خافياً على الكثيرين من رجال الحكم، وبعضها الآخر كان يعمل على إخفائه رجال الحكم أنفسهم، أو تجار الوطنية من عباد الوظائف الكبرى، وعلى طمس معالمه حتى لا تثلم زعامتهم، ولا يفتضح أمرهم عند سواد الشعب، الذي كان حتى الأمس القريب، يؤخذ بالتقاليد العتيقة البالية فيحترم فلاناً الحاكم أو الزعيم لا لفات تؤهله للزعامة أو الحكم، بل لأنه من آل فلان الحاكمين أو الأثرياء. . ويمجد علاناً الموظف لأنه(722/50)
يشغل معقد الوظيفة
يقول المؤلف الفاضل (إن حوادث يوم ميسلون لم تكن بنت ساعتها، بل كانت صفحة من صفحات القضية السورية، والقضية السورية نفسها لم تكن قضية قائمة بذاتها، بل كانت جزءاً من القضية العربية، كما إن القضية العربية كانت وثيقة الارتباط بالمسألة الشرقية) ولكي يقيم المؤلف الدليل على هذه الارتباطات المتسلسلة أنشأ فصلاً كان بمثابة تمهيد يبرز أطماع فرنسا في سورية جعل مردها إلى الحروب الصليبية، كما كان بمثابة توضيح لسياستها الاستعمارية التي سلكتها في الربع الأول من القرن الثامن عشر، وقد أخذت منذ ذلك الحين تبسط نفوذها على بلاد إسلامية واسعة الأرجاء، وتعلن إنها صاحبة إمبراطورية إسلامية وإرث عظيم يؤول إليها من تركة الدولة العثمانية، ويستعرض المؤلف الفاضل ببراعة وإيجاز فصل اصطدام فرنسا الاستعمارية بالعقبات الدولية وتناحرها من الإنجليز، أصحاب الإمبراطورية التي لا تغرب الشمس عنها لامتدادها في أصقاع الأرض، لينتهي إلى الاتفاق الذي تم بين الدولتين الحليفتين، فرنسا وإنجلترا على تنفيذ معاهدة سايكس - بيكو بنصوصها وحذافيرها، وكان ذلك الاتفاق بمثابة مقدمة لحلول القضاء المشئوم يوم ميسلون.
فصول الكتاب متعددة متنوعة بارعة، ولعل أبرعها الفصل الذي تم فيه اختيار أعضاء مجلس المديرين زميلهم السيد ساطع الحصري وقد حبذ الملك رأيهم للسفر إلى مقر قيادة الفرنسيين في لبنان قبيل زحف الجيش الفرنسي على سورية للتفاهم مع الجنرال غورو المندوب السامي، خصوصاً وقد قبل وزير الخارجية السورية كافة المطالب الفرنسية: ففي هذا الفصل يصف المؤلف البارع الموقف أبلغ وصف، ويكشف القناع الشفاف عن مطامع الفرنسيين المستعمرين، وكيفية توسلهم بكل وسيلة تحقق أمانيهم وتدرجهم في الطلب حتى يستوفوا أغراضهم تامة كاملة. ثم يفضح أذناب المستعمرين من أبناء سورية بسرد نتف من أعمالهم ولمحات من تصرفاتهم وسكوته المهذب عن ذكر أسمائهم، فتنطق الأعمال بلسان أوضح من تبيان الأسماء، فلا يتمالك القارئ من استنزال لعنة يصبحها على ذلك الزعيم الخسيس أو ذاك المتكالب على الوزارة أو الطامع في وظيفة، أو هذا المائع المتفلسف يلبس لكل حالة لبوسها.(722/51)
في الكتاب فصول عدة لا محيد لكاتب تاريخ سورية من اقتباس بعضها بالنص، والاستئناس والاسترشاد ببعضها الآخر لأنها بمثابة متون تحتاج إلى شرح وتفصيل.
يرى المؤلف الفاضل أن واقعة ميسلون - وإن كانت بمثابة الفصل الأخير من رواية (المنافسة الدولية) التي حامت حول سورية - فإنها كانت في الوقت نفسه بمثابة الفصل الأول من منقبة (المنافسة الوطنية القومية) التي قامت في سورية ضد القوى الفرنسية. فهذا القول صحيح لا غبار عليه، وإننا نتمنى مخلصين أن تكون أعمال المتنافسين قد انتهت لتتجه الاتجاه الخاص في بناء الملك على أوطد دعائم العدل والأمن والقوة بشرط أن لا تأخذها نشوة الانتصار بإجلاء الفرنسيين وتنام عن تقلبات السياسة وألاعيب عباد كراسي الحكم.
يطول بي المقام لو وقفت حيال كل موضوع من مواضيع هذا السفر القيم، ولكني أدعو قراء العربية إلى إقتنائه، ومن ثم أقف لأعترف بفضل مؤلفه الرجل الكريم الذي دون أحداث أمة ناهضة وعلم ناشئتها وما برح يعلمها كيف تزجر زعماؤها وكيف تهدي حكامها سبيل الحرية والاستقلال.
حبيب الزحلاوي
الشريد
(تأليف علي بك حلمي)
للأستاذ محمد خليفة التونسي
بين يدي بهذا العنوان مسرحية ذات ثلاثة فصول كتبها علي بك حلمي مدير جرجا.
1 - فالمؤلف - مع إنه من رجال الإدارة والشرطة - يمتاز بإطلاع واسع وعميق، وهو - إلى ذلك - أديب يكتب المقالات ويدبج المسرحيات، وأقرب الأمثلة إلينا بحثه الممتع (محمد والأمن العام) الذي نشرته الرسالة في عددها (710، 711) وهذه المسرحية.
2 - والمشكلة الكبرى التي تدور حولها هذه المسرحية هي مشكلة الطفولة المحرومة من عطف الآباء والأمهات وحمايتهم، والطابع المصري يبدو واضحاً راسخاً على كل ما في المسرحية سواء في ذلك موضوعها الأكبر، والحوادث التي تظهر دقائقه، والشخوص التي(722/52)
تظهر فيه، وهذا امتياز كبير قل أن يتوفر اليوم في إنتاجنا القصصي عامة والمسرحي خاصة، فهو قصص عاطل من السمات والملامح المحلية حتى إن الناقد يبحث فيما يقرأ عن المؤلف والبيئة التي نشأ فيها قصصه والشخوص المفردة التي يعبر عن حياتها فلا يكاد يفوز - مهما جد - بطائل، فمن الممكن أن يقع بعد ألف عام أو قبل ألف، هنا أو في أي مكان من الأرض أو غيرها حيث يمكن أن يكون بشراً، فإذا ظفر الناقد بعد الكد بشيء من هذه السمات والملامح لم يجدها إلا حائلة حائرة مائعة، مع أن الخصائص أول شرط من شروط الإنتاج الأدبي عامة والقصصي خاصة، والخصائص في مسرحية الشريد بارزة لا في مشكلتها الكبرى وحوادثها وشخوصها الأساسية فحسب، بل في المشكلات الثانوية المنتثرة فيها دون قصد خاص إليها.
3 - وقد جاءت هذه المسرحية في أبانها، فمشكلة الطفولة المشردة من مشكلاتنا القائمة بيننا الآن بكل متاعبها، وأعباؤها لا تزال تثقل كواهل كثير من أولي الأمر فينا في عدة وزارات، كما تشغل عقول كثير غيرهم من محبي الإصلاح ودعاته.
وعلى الرغم مما قرأته من بحوث متعددة لكثير ممن كتبوا في هذه المشكلة حكوميين وغير حكوميين - لم أستطع أن ألم بخفاياها وصعوباتها وطرق علاجها كما ألمت بها من هذه المسرحية فهي تصور أوضح تصوير حياة الأطفال المشردين بكل ما تزخر به من منغصات وأوجاع، وما يتعرضون له من استغلال الزعار والشطار لهم ليعيشوا فساداً في الأرض، والتخفي وراء براءتهم والشفقة عليهم للعبث بقوانين المجتمع ونظمه وحماته توقياً من العواقب الوخيمة، فهم يسخرونهم في السطو والاختلاس والتجارة المنكرة بالأغراض والسلع المحرمة؛ كي يضللوا حماة الأمن الذين لا يجدون في هؤلاء الأبالسة الصغار غير أطفال ملائكة أطهار جنى عليهم آباؤهم وحرمهم المجتمع عنايته دون ذنب، فهم لا يستحقون منهم إلا العطف والعون، مما يتيح لفساد محركيهم في الخفاء أن يستشري ويتسع دون أن يفطن إليه الموكلون بدرئه.
ولا شك إن صلة المؤلف بهذه المشكلة أهم عوامل نجاحه في تعرف حدودها وخفاياها وأساليب علاجها الميسورة.(722/53)
القصص
الجاسوسة العاشقة
عن الإنجليزية
للأديب شفيق أسعد فريد
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
دخلت فانيا شرفة الفندق فانحنى لها الخادم بينما وقف إليوت لاستقبالها. . . وقبل الشاب أناملها في رفق. . . وحين جلسا بادرها قائلاً:
- أصغي إلي يا فانيا. . . يجب أن أرحل هذه الليلة. . . إنني متأسف كثيراً لذلك، بيد أن الأمر جد هام أعني أن لدى أعمالاً تستلزم رحيلي إلى الغرب. . . فقد وصلني اليوم خطابك. . . فقاطعته قائلة: أعمال. . . لم أكن أدري أنك قدمت إلى موسكو لأجل العمل. ولكن خبرني، ألا ترجع ثانيةً لموسكو. . .؟ وهل أنت ذاهب بعيداً. . .؟
فأجاب: إني ذاهب إلى باطوم. . . ولكنني سأعود ثانية فإن الأوامر التي عندي تقضي على بالبقاء في باطوم لمدة أسبوع. . . سوف أشعر بكثير من الوحشة لفراقك يا فانيا. . .
وشعرت الفتاة بشي من الاضطراب إذ لم يبلغ سمعها أي نبأ عن وصول مثل هذا الخطاب. . . وخطر لها أن تتحرى الحقيقة من أعوانها. . . فاستأذنت الشاب لبضع دقائق.
ودخلت فانيا الغرفة السرية التي يحتلها مندوب قلم المخابرات السرية في الفندق. . . ونظرت إلى الرجل الذي كان يجلس إلى المكتب وقد ارتدى معطفاً غليظاً. . . ثم قالت:
- يقول الشاب إنه ذاهب إلى باطوم الليلة وذلك بناء على التعليمات التي أرسلت إليه في خطاب وصله اليوم. . . وسيعود إلى موسكو ثانية بعد أسبوع.
فهتف الرجل قائلاً: ليس هناك خطاب أيتها المواطنة. . . إننا ندري كل شيء عن المحادثة التليفونية. . . على كل حال ستذهبين إلى باطوم الليلة. . . وسأنظر في أمر جواز سفرك. . . على إني أعتقد إنه لمصلحة المهمة التي تقومين بها ينبغي أن تسافري بالدرجة الثالثة. . .
كان قطار الغرب مزدحماً ازدحاماً شديداً في تلك الليلة. . . ولقد استطاعت فانيا أن تجد(722/54)
مقعداً خالياً بصعوبة شديدة. . . وبعد أن وضعت السلة التي كانت تحملها فوق المقعد غادرت العربة. . . ووقف فوق الرصيف ترقب وصول إليوت. . . ولم يمض أكثر من بضع دقائق حتى رأته يشق لنفسه طريقاً وسط الزحام الشديد. . .
ووصل القطار أخير إلى باطوم بعد رحلة شاقة. . . فغادرت فانيا العربة وراحت تراقب إليوت عن بعد. . . واستمرت في رقابتها حتى انصرف من المحطة واستقل سيارة ثم انطلق إلى فندق باطوم. . .
وفي المساء تسلل شبح إلى ممر فندق باطوم ولم يلبث هذا الشبح أن دخل إحدى الغرف في هدوء. . . وتلفت فانيا حولها فوجدت أن رجال قلم المخابرات قد زودوها بكل ما يلزمها في عملها. . . ولم تمض لحظة حتى طرق رئيس قلم المخابرات السرية في باطوم الباب. . . وحين دخل بادر الفتاة قائلاً:
- لقد كانت حيلة مرض الأخ الأصغر حيلة تدل على الذكاء النادر، على إنني واثق إن بين اليوت ومحادثه طريقة سرية للكلام، وفي اعتقادي أن كلمة بورد وتعني باطوم وأن سان سباستيان مثلاً يقصد بها سبستابول. . . يا له من أمر مضحك. . .
فقالت فانيا: ماذا تعتقد إنه سيحدث. .؟
فقال الرئيس: أعتقد. . . إنني متأكد مما سيحدث لأن من واجبنا معرفة الحقائق. . . يوجد شخص معين في باطوم يعرف الكثير من المعلومات الهامة عن أحد المشروعات الهندسية الكبيرة التي ستنفذها الحكومة على نهر فولجا. . . إن هذا الرجل روسي لسوء الحظ. . . ولما كانت معلومات هذا الرجل تهم الكثيرين من المهندسين الأجانب وبخاصة الإنجليز منهم فقد جاء أليوت لمقابلة هذا الرجل للحصول منه على ما عنده من المعلومات. ومع ذلك فإن الرجل لن يستطيع أن يبوح بهذه المعلومات إلا مرةً واحدة. . . وسوف نمكنك من سماع ما سيدور بين الرجلين من حديث بواسطة تليفون سري أعد لك في الغرفة رقم 114. . . والآن أريد أن أوجه انتباهك إلى إننا نريد الرجلين معاً. . . سوف نكون في حاجة إلى شهادتك فيما بعد. . .
تلفتت فانيا حولها في اشمئزاز، فقد شعرت للمرة الأولى بالكراهية للعمل الآلي الذي تقوم به. . . والواقع إنها كانت تحس اضطراباً داخلياً لم تستطع مقاومته. . . كانت تريد أن(722/55)
تطلق الجاسوسية ومؤامراتها وإيقاع الأبرياء في حبائلها لتسوقهم إلى الهلاك. . . أجل لقد شعرت بأنها امرأة شريرة. . .
واستولى الإعياء عليها، وشعرت برعب عظيم يتسرب إلى قلبها ولكنها استطاعت أن تقاوم هذا الذعر وبدأت تفكر في هدوء!
ودق جرس التليفون فجأة فأفاقت من تأملاتها. . . وسمعت صوت عامل التليفون يعلن أن رجلاً اسمه المستر راكوف قد اتصل بالمستر أليوت وطلب إليه أن يحدد له موعداً للمقابلة كي يطلعه على النماذج اللازمة. . . ولقد حدد المستر أليوت الساعة السادسة للمقابلة في الغرفة رقم 110. . .
وبدأ للفتاة أن وقت العمل قد حان، فقد أستقر رأيها على أمر معين وصممت على تنفيذه مهما كانت العقبات التي تعترض سبيل هذا التنفيذ. . .
وتسللت فانيا من غرفتها إلى الشرفة في هدوء. . . وتقدمت إلى الغرفة رقم. . . وطرقت النافذة في رفق، وحين فتح اليوت النافذة وضعت في يده مذكرة صغيرة كانت قد أعدتها في غرفتها ثم قفلت راجعة دون أن تلوى على شيء. . .
كان قلبها يدق في عنف ووحشية. . . وشعرت بنوع من الحمى يدب في جسدها، ولكنها - مع ذلك - شعرت بشيء من الطمأنينة إذ حذرت الشاب في الوقت الملائم.
وفي الساعة الثالثة سمعت فانيا وقع أقدام الشاب في الدهليز وصوت أقدامه وهو ينزل الدرج - وراحت تتساءل: ترى هل سيعمل بنصيحتها. . .؟ وهل ستنقذه هذه النصيحة من مصيره المحتوم؟!
لم تكن ترتاب في أنه إنما قدم إلى الروسيا ليبتاع معلومات لو إنها أذيعت لسببت متاعب جمة لحكومة السوفييت. . . إنه أحد أعداء بلادها ويجب القضاء عليه بكل الوسائل الممكنة. . . ولكن. . . يا لله. . . لقد أقدمت على خيانة وطنها خيانة عظمى دون أن تدري لذلك سبباً. . .
ودقت الساعة في بهو الفندق معلنة الرابعة والنصف ومع ذلك لم يعد أليوت. . .
وحين دقت الساعة الخامسة بدأت تتساءل: ترى هل هرب؟
ونظرت الفتاة إلى ساعتها فإذا بها السادسة إلا ربعاً. . . وما هي إلا لحظات حتى سمعت(722/56)
وقع أقدام في الدهليز أعقبها طرق على بابها. . .
ودخل الخادم لينبئها أن شخصاً جاء لمقابلة المستر إليوت في غرفته وإن هذا الرجل موجود فعلاً في غرفة الانتظار في تلك اللحظة. . .
كان هذا الإعلان نذيراً ببدء العمل. . . فالتقطت فانيا سماعة التليفون ووضعتها فوق أذنها وراحت تصغي. . .
كان الصوت واضحاً حتى لقد استطاعت فانيا أن تسمع صوت تحرك اليوت في الغرفة. . . وخطر لها أن تصيح لتحذره ولكن أني لها ذلك. . .
وسمعت الفتاة وقع أقدام في الدهليز فعرفت أن المستر راكوف في طريقه إلى مقابلة أليوت في الغرفة رقم 110.
واستولى عليها الاضطراب حتى لقد سقطت منها حقيبتها اليدوية. . . وفجأة سمعت الحديث الذي دار بين الرجلين. . .
كان الصوت واضحاً عالياً. . .
وراحت تصغى وقد أدركت أنها لن تستطيع الفرار من مواجهة الأزمة. . .
كان أليوت يتكلم بصوت عالِ بكلام لا معنى له دون أن يجعل لرفيقه فرصة الكلام.
إذن فقد أدرك الشاب إن هناك من يسترق السمع. . .
وأسرعت الفتاة فوضعت السماعة مكانها وهرعت نحو الباب وأشارت إلى الخادم إشارة فهم المقصود منها. . .
وفجأة امتلأ الدهليز برجال قلم المخابرات السرية. . . وحين واجهها رئيسهم باسماً قال:
- هل سمعت ما فيه الكفاية أيتها المواطنة؟
وصاح أحد الرجال في تلك اللحظة:
- افتحوا الباب وإلا حطمناه. . .
وفتح الباب فجأة بينما اندفع الرجال داخل الغرفة.
كان أليوت باسماً على حين كان راكوف أبيض الوجه يرتجف من الخوف. . .
وفتش الجند الرجلين بسرعة وفي خشونة وعنف. . . بينما وقفت فانيا على مبعدة وقد أطرقت برأسها إلى الأرض.(722/57)
وقال رئيس الجند: تعاليا معي لتوضحا مسلككما الحالي. . .
لقد استطاعت هذه المواطنة أن تسمع الحديث الخطير الذي دار بينكما منذ لحظة.
ولاح لفانيا إنها تشاهد إحدى المهازل. . . ولم يبق لديها شك في أنهما وقعا في الفخ
وأخيراً قالت في صوت مبحوح: لقد سمعتهما يتحادثان أيها الرئيس، ولقد استنتجت من حديثهما إنهما يتكلمان طبقاً لطريقة خاصة!. . لقد ذكرا أنهما يتوقعان محادثة تليفونية من بوردو بخصوص حالة أخي المستر أليوت الصحية.
ودق جرس التليفون في تلك اللحظة فانصرفت أنظار الجميع إلى الآلة الصغيرة الموضوعة على منضدة بجوار السرير. . . وكاد أليوت يتناول السماعة حين منعه رئيس الجند من ذلك وتناول هو السماعة ثم قال رداً على المتكلم:
- ماذا تقول. . .؟ مكالمة خارجية. . .! مستعجلة. .! تقول إنها للمستر بارنجتون. . حسن. . . ماذا؟ من بوردو. . .!
والتفت رئيس الجند حوله في غضب. . . وأخير قال لفانيا:
هل تتكلمين الفرنسية. . .؟ حسن! يمكنك أن تصغي للمتكلم. . . أخبريه أن المستر فارنجدون مريض أو بالخارج أو ما شابه ذلك. ووضعت فانيا السماعة على أذنها وبدأت تصغي. . . وقالت رداً على المتكلم:
- أجل. . سوف أخبر المسيو أليوت. . تقول إنه أحسن حالاً. . هذا بديع. . لقد كان المسيو أليوت قلقاً على أخيه. . .
- حسن! سأخبره بذلك يا سيدي. . . الوداع. . .
والتفت إلى رئيس الجند وهي تقول:
- إن المكالمة من بوردو كما ذكرت وهي مكالمة خاصة للمستر أليوت. . . إنها تقرير عن صحة أخيه. . . يلوح أننا أخطأنا يا سيدي. . . ربما أخطأت في إدراك مغزى حديثهما. . .
وبدأ الغضب واضحاً على رئيس شعبة قلم المخابرات السرية في باطوم وعض على شفتيه قهراً ثم ألقى نظرة غاضبة على أليوت والتفت إلى فانيا قائلاً:
- حقاً. . ربما أخطأت أيتها المواطنة. . . إن الإنسان معرض للخطأ. . . وعلى ذلك(722/58)
فهاأنذا أتقدم للمستر فارنجدون باعتذاري وأنا جد واثق إنه يقدر المتاعب والأخطار التي تعترض سبيل عملنا الدقيق. . . إني أعتذر إليك للمرة الثانية يا مستر أليوت والتفت إلى راكوف قائلاً: أما أنت فاتبعني.
وحين غادر الجميع الغرفة التفت أليوت إلى فانيا وقال في صوت رقيق: خبريني لماذا أقدمت على هذه المخاطرة من أجلي؟
فقالت: الواقع أنني لا أدري يا أليوت. . . لقد شعرت بالملل فضحك. . .
وفجأة ضمها إلى صدره في حنان ثم قال: والآن سوف نذهب معاً إلى بوردو. . .
شفيق أسعد فريد(722/59)
العدد 723 - بتاريخ: 12 - 05 - 1947(/)
لوازم الحديث
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان الحديث عن آفاك الأرمني الذي قيل إنه طبيب روحاني يشفي الأمراض المستعصية ويلمس المريض مرة أو مرتين فينهض سليما معافى.
وكان المتحدث رجلا يصدق من الغرائب والمفارقات بمقدار ما فيها من مفاجأة الناس ومصادمتهم بالمستبعد المستغرب من الأمور. . . له في الحديث لازمة هي كلمة (لا) النافية. يقولها عشرين أو ثلاثين مرة في الجلسة الواحدة، ويقولها لمن يوافقه ومن يعارضه، ولمن يقبل كلامه على علاته ومن يرفضه (على طول الخط) كما يقولون. ويخيل إليك وأنت تستمع إلى حديثه إنه يفضل إنكارك كلامه على موافقتك وتأمينك. لأن الإنكار يفتح له باب الجدل والاستمتاع بتلك الكلمة المحبوبة لديه، البغيضة إلى الناس اجمعن، وهي كلمة (لا) النافية ومرادفاتها في اللغة العربية.
قال: إن أفاك شفى مشلولا كسيحا لا ينهض على قدميه.
قالها والتفت إلى متوقعا أن أنكر منه هذا الخبر، واجزم باستحالته أو استبعاده.
فخيبت ظنه وقلت: يحصل. نعم يحصل في الزمن القديم وفي هذا الزمن. وقد حصل على أيدي الأطباء الذين لا ينتحلون لأنفسهم قدرة روحانية ولا كرامة من كرامات الأولياء. وحصل في عهد العباسيين قبل هذا العهد الحاضر الذي عرف الناس فيه علم العلاج النفساني وسلكوه في عداد العلوم الطبيعية. وذكرت قصة الجارية التي كان الرشيد يحبها فرفعت يدها ذات يوم فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها، وعولجت بالتمريغ والدهن فلم ترجع يدها إلى حركتها. فلما استدعى ابن بختيشوع لعلاجها قال الرشيد: إن لم يسخط على أمير المؤمنين فلها عندي حيلة: تخرج الجارية إلى هاهنا بحضرة الجميع حتى أعمل ما أريده فأمر الرشيد بالجارية فأحضرت، أسرع إليها الطبيب وأوثق يدها الطليقة وأمسك ذيلها وكأنه يريد أن يكشفها. فانزعجت الجارية وبسطت يدها المعتقلة إلى أسفل. وكان ذلك شفاءها.
هذا وأشباهه جائز في الطب مشاهد في الواقع، والمعمول فيه على استفزاز القوى الحيوانية من طريق المؤثرات النفسانية. فإذا كان آفاك يملك القدرة على استفزاز هذه(723/1)
القوى في نفوس معتقديه فلا مانع فعلا أن يشفي بعض الأمراض بهذا النحو من العلاج.
وليس المهم في مقالنا هذا هو حديث آفاك الأرمني وان كان حديثه ليجري الآن على كل لسان. وإنما المهم (لا النافية) على لسان صاحبنا الذي آمن بآفاك ليقولها ويسمعها من سامعيه!. . فقد ظننت أنني أخذت عليه الطريق وانتزعت هذه الكلمة من بين شدقيه. فإذا هي والله أول كلمة علق بها على هذه القصة، وإذا به يفتح فاه ليقول: لا. ليس هذا قصدي. . .
قلت لا. بل ينبغي إن يكون هذا قصدك. ماذا تعني أيها الرجل (بلا) هذه التي تفاجأ بها الناس موافقين أو مخالفين؟ قلت إن آفات يشفي المرضى فقلنا لك: يحصل. فأين موضع (لا) هنا لا حرمك الله سماعها من كل لسان؟
فانقبض واستخزى. وكانت عنده بقية أدب في الخطاب فقال معتذرا: والله إنها لازمة. ولازمة ذميمة والحق يقال. ولكن ما العمل في العادة وسيئاتها قبحها الله!
وخطرت لي لوازم الكلام عند اكثر المتحدثين؛ فسألت نفسي: أيها يا ترى خير وأفضل. (لا) هذه التي تقال في كل جواب؟ أو (نعم) ومرادفاتها التي تعود بعض الناس أن يعقبوا بها على النقيضين في مجلس واحد؟
- حبذا لو خلت مصر من الأحزاب.
- صحيح.
- ولكن الأحزاب ضرورية في الأمم الديمقراطية.
- صحيح والله!
- إلا إن الديمقراطية قد تستغني عنها في بعض أوقات التطور والانتقال.
- معك حق. فهذا صحيح.
فكم من المتحدثين يستمع إلى أمثال هذا التعقيب في كل يوم وبين كل طائفة من الناس؟ وكم تسوءهم هذه الموافقات وهم ينتظرون الشجاعة الأدبية من ذوي الرأي فلا يرون بينهم وبين الجهلاء الإمعات من خلاف؟
إن كانت هناك (نعم) شر من (لا) فهذه النعم شر من جميع اللاءات وجميع أدوات النفي على الإطلاق.(723/2)
ومن اللوازم ما هو أعجب من الموافقة والإنكار على هذا المنوال؛ لأنها لازمة تلقى على المستمع تهمة لا ذنب له فيها ولا مناص له من دفعها.
تلك هي لازمة (على رأيك) عند بعض الناس.
يحدثك عن رجل لا تعرفه ولعلك لم تذكره قط في حياتك، فإذا به يقول: (على رأيك إنه رجل لئيم). . . ويمضي في تحميل رأيك المظلوم تبعات هجائه وأنحائه وأنت لم تر شيئا مما اتهمك برؤيته، ولم يفكر هو بعقله في إسناد التهمة إليك وإنما جرت التهمة (البريئة) على لسانه من حيث لا يريد.
وحضرت مجلسا فيه واحدا من أصحاب هذه اللازمة وهم غير قليلين. فصرح أحد السامعين الذين اتجه إليهم الحديث مستغيثا:
يا شيخ حرام عليك! متى وصفت الرجل بهذه الصفات؟ وهل هو رأيك أو رأيي الذي تحكيه وترويه؟
وضحك صاحبنا وكان ظريفا حسن التخلص. فراح يقول: هو التواضع يا فلان. هو التواضع. وهل يليق بأدب الحديث إن أقول: هذا رأيي! هذا رأيي في كل ما أرويه واحكيه؟
ومن اللوازم ما يبعث الضحك ولا يبعث الفزع كهذه اللازمة التي يلازمها الاتهام، لا قد يضحك الحزين إذا غلبت عنده روح الفكاهة على روح الجد والصرامة.
من هذه اللوازم لازمة كانت لأحد القضاة المشهورين يرددها وهو ذاهل عما يسمع وذاهل عما يعنينه. وهي لازمة (برافو برافو) التي يتخلص بها من التفكير فيما يقول.
ولقي شابا كان يعرف أباه فسأله: أين أنت الآن؟ قال: موظف في هذا الديوان. . .
قال: برافو برافو. وأين أبوك؟
قال: تعيش. . مات منذ شهور.
فلم يلبث إن حيا أباه تحية الاستحسان المعهودة. لأنه مات!
لكن اللازمة البغيضة حقا تلك اللازمة التي تضطرك إلى الجواب على كل فقرة من فقرات الحديث كأنك في محضر تحقيق
- أخذت بالك؟ (فاهمني)؟(723/3)
ولابد من الجواب، ولابد من انتظاره جوابا ملفوظا لا يغنى عنه الإيماء ولا السكوت.
ومن هؤلاء من يبدي لك الرأي ثم يسألك:
هل أنا غلطان؟
فتقول مثلا: معاذ الله. بل أنت على صواب.
فلا يكتفي بذلك ويعود سائلا: إن كنت غلطان قل لي. هل أنا غلطان بالله؟
لا لست بغلطان.
لا لا. إن كنت غلطان فقل لي ولا تخف الحقيقة عنى. إنني رجل صريح. أليس هذا الواجب؟
ويكررها: أليس هذا الواجب؟ أليس هذا الواجب؟ حتى تفض المشكلة بقسم غليظ. . . فيصدق انك قد آمنت بأنه ليس (بغلطان).
وقد تكون اللازمة التي من هذا قبيل عقلية تأتى من نقص الوعي والإدراك ولا يقف بها الأمر عند حب التكرار والإعادة مع فهم الحديث المعاد.
تسأل أحدهم: هل لقيت فلانا؟
فإذا هو قد أعد كلمة الاستفهام في منتصف السؤال وبادرك مستفهما: نعم؟
- هل لقيت فلانا؟
- فلانا؟
- أي نعم فلان!
ما له؟ أو ما باله؟ أو علام تسال عنه.
ولا يعي إنك تسأله عن لقائه إلا بعد السؤال الثالث أو الرابع على هذا المنوال. وهي عادة غالبة على الطبقة الجاهلة في بلاد الريف على الخصوص مرجعها بطئ الحركة الذهنية وإهمال الكلام واعتباره لغوا لا يرتبط بالتفكير ولا يحمل معناه إلا مع التوكيد والترديد.
وبعض هذه اللوازم لازم في الحديث المفيد، لأنه يعينك على تتبع الحديث والوقوف على مراحله وغاياته. كلازمة (نهايته) في موضوعها الصحيح، أو لازمة (على كل حال) أو (لا تؤاخذني) إذا كانت تهيئ الذهن حقا لسماع شيء يحتاج إلى الاستئذان أو طلب السماح. فهذه اللوازم في المحادثات أشبه بعناوين الفصول والأبواب في الكتب والمخطوطات.(723/4)
ولكنها قد تتواتر وتتكرر حتى تفقد معناها ولا تتعدى أن تكون حشوا بغير دلالة. . .
ومن قبيل ذلك فنان قدير في فنه تلازمه كلمة (ثانيا) حين يقيم الأدلة على صحة فكرة أو مذهب من المذاهب الفنية. فإذا (بثانيا) هي أولا وثانيا وثالثا ورابعا إلى آخر العشرة، أو تزيد!
وكفى بمراقبة هذه اللوازم إنك تستمد منها سببا للإصغاء إلى الأحاديث سواء منها ما استحق الإصغاء وما استحق الأعراض. . . لأنك تسمع على الأقل (لوازم) تصلح للتفكه وتصلح للدلالة على الفوارق بين (الشخصيات) والفوارق بين أساليب الألسنة وحركات العقول.
عباس محمود العقاد(723/5)
من معجزات القران
تفسير الآيات الأولى من سورة الروم
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
لم ينزل القران للأخبار بانتصار الروم فقط، بل للأخبار بأن المر كله لله وإنه سينصر المسلمين على ضعفهم وقلتهم في بضع سنين كما ينصر الروم. فتبشير المؤمنين بنصر الله لم يأت في الآية تبعا كما يوحي كلام المفسرين بل كان الأخبار بانتصار الروم تمهيدا للتبشير بنصر الله المؤمنين. والأخبار بغلبة الروم وحده فيه معجزة واضحة، وبيان لصدق النبوة ولكنه مع هذا لم يكن القصد الأول من نزول الآية الكريمة.
وينبغي إن نذكر هنا إنه حينما تمت الغلبة للروم وذهب هرقل إلى بيت المقدس في أعقاب ظفر توالى من القسطنطينية إلى بيت المقدس في ذلك الحين ذهب جيش إسلامي صغير إلى البلقاء - التي تسمى اليوم شرق الأردن - فحارب جيشا من الروم والعرب، وتلكم الوقعة المعروفة في التاريخ الإسلامي باسم غزوة مؤته. وقعت في السنة الثامنة من الهجرة، وهذه الغزوة التي يبال بها هرقل ولعله لم يسمع بها كانت فاتحة الغزوات الإسلامية التي نزعت الشام من سلطان هرقل وجعلته يقول وقد يئس من الشام: سلام يا سورية سلاما لا لقاء بعده. ولم يكن بين تمام الظفر لهرقل وبين تمام الهزيمة عليه في الشام وتسلط المسلمين عليها إلا بضع سنين، فبين غزوة مؤته وبين واقعة اليرموك ست سنوات من السنة الثامنة من الهجرة إلى السنة الرابعة العشرة.
لله الأمر من قبل غلبة الفرس على الروم ومن بعدها بل له الأمر قبل كل شيء وبعده لا شريك له في سلطانه. وبأمر غلب، الفرس على الروم عشرين عاما ولاء، ثم أديل للروم في بضع سنين ثم أديل للمسلمين على الروم في بضع سنين أخرى.
عل إن الله الذي له الأمر قد وضع للبشر سننا للنصر والهزيمة من سار على سنن النصر انتصر ومن أخذ بسنن الهزيمة هزم. ليس الأمر متروكا للفوضى أو الاتفاق.(723/6)
ويومئذ يفرح المؤمنون - إلى - لا يعلمون.
في هذه الآية أخبار بأن المؤمنين سيفرحون بنصر الله حينما يغلب الروم الفرس. فهل نصر الله الذي يفرح به المؤمنون هو انتصار الروم. هذا بعيد، وما للمؤمنين يفرحون بانتصار الروم وهم عدو لهم كسائر أمم الأرض التي كرهت هذا النور الجديد حفاظا على تراثها من أديان وأباطيل، ثم في الآية: وعد الله لا يخلف الله وعده. فهل هو وعد الله المسلمين أن ينتصر الروم. لا. بعيد كل البعد أن يقال إن المسلمين يفرحون بانتصار الروم وقد الله المسلمين، انتصار الروم، إنما الوعد لمن يعود إليه الخير من الواعد، ولم يكن للمسلمين في انتصار الروم خير.
بين جدا أن الآية تبشر المؤمنين بنصر قد وعدوه، وأنهم سيفرحون بهذا النصر في السنة أو السنين التي يغلب فيها الروم فما هذا النصر؟
رجحت من قبل أن هزيمة الروم التي اهتم بها العرب فنزلت هذه الآيات وقعت حوالي سنة 615، فالنصر الذي يفرح به المسلمون حين يغلب الروم في بضع سنين من هذه الهزيمة، هو انتصارهم يوم بدر، وكانت وقعة بدر في السنة الثانية في الهجرة أي سنة 624 من الميلاد وبين 615، 624 بضع سنين.
وقد روى أن خبر انتصار الروم بلغ المسلمين وهم في غزوة الحديبية، وكانت الغزوة سنة ست من الهجرة، وهذه الرواية مردودة بدليلين:
الأول أن بين الحديبية وبين هزيمة الروم في الشام أكثر من اثني عشر عاما ولا يقال لهذه المدة بضع سنين.
والثاني أن الحديبية لم تكن نصرا فرح به المسلمون بل كانت صلحا رأى فيه الرسول الله صلوات الله عليه وسلامه خيرا للإسلام وكانت عاقبته خيرا، ولكن المسلمين حزنوا له حيثما وقع ورأوا فيه ذلا لهم إذ رجعوا عن مكة وقد خرجوا لدخولها والاعتمار بها.
على أن انتصار المسلمين، وظهور الإسلام قد بدأ بالهجرة وتوالى انتشار الإسلام، وانتصار المسلمين في الوقائع من بعد. فجائز ألا نخص النصر الذي يفرح به المسلمون بوقعة واحدة أو حادثة معينة، بل نقول قد وافق انتصار الروم أول عهد ظفر فيه المسلمون وعز دينهم وأول انتصار للروم وقع سنة الهجرة سنة 622 م كما أسلفت.(723/7)
تضمنت الآيات خبرين عن المستقبل صادقين، انتصار الروم وانتصار المسلمين، وتضمنت كذلك أنهما يقعان في وقت واحد.
(ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) ولكن مشيئته جرت على أن ينصر من يأخذ بوسائل النصر، وفي القران الكريم: (ولينصرن الله من ينصره). (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)، (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللهينصركم ويثبت أقدامكم).
فنصر الله لا يؤتاه من أساء عملا، أو قعد عن التوسل إلى النصر بوسائله، أو أخذ بأسباب الهزيمة، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلا.
(وعد الله لا يخلف الله وعده).
هذا هو الوعد الذي في قوله: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وهو مطابق لوعد الله العام وسنته الدائمة أن ينصر المؤمنين ويؤيد المجاهدين، ويمكن الصالحين، (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات - إلى - فأولئك هم الفاسقون). (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). (الذين إن مكناهم في الأرض - إلى عاقبة الأمور).
فلا يقعد أحد ويرجو ثواب الساعين، ولا يفرط وينظر جزاء المجدين ولا يقصر ويبغ أجر المجاهدين، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى - إلى - الأوفى.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى - غافلون).
أكثر الناس لا يعلمون سنن الله في خلقه، ونصره المؤمنين وتمكنيه الصالحين وهم غافلون عن القوانين الإلهية، والسنن التي يسير الخالق عليها عباده. وما قدره لأهل الخير وأهل الشر، وأنصار الحق، وأنصار الباطل. غافلون عن أن لله وعداً وأن وعده لا يخلف وسنته لا تبدل. عليها سارت الأمم، وتعاقبت الدول، وتقلبت الأمم، وتغيرت الجماعات، ولم تتبدل أو تتحول. أكثر الناس في غفلة عن هذا. (لم يتفكروا فيها ولم ينعموا النظر وأخذوا الأمور بالظن، وقاسوها بالوهم)، (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).
(إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون).
أكثر الناس لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، أمور من المحسات عرفوها بالممارسة، والتعود، أدركوها بالتقلب في المعاش، والتجربة. وهم في غفلة عن الحقائق الكبرى، التي(723/8)
تتصل بالمبدأ والمنتهى والقوانين التي تسير الناس في الحياة، والتي تقضي بين الحق والباطل والخير والشر، وتفصل بين أمة مصلحة وأخرى مفسدة، وجماعة يغلب فيها الحق، وأخرى يسود فيها الباطل. وهم في غفلة عن الآخرة وما فيها من جزاء عادل، وقصاص حق.
عبد الوهاب عزام(723/9)
من أحاديث الإذاعة
السعادة. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت أقرأ في ترجمة (كانت) الفيلسوف الألماني الأشهر، أنه كان لجاره ديك، قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عمد إلى شغله صاح الديك، فأزعجه عن عمله، وقطع عليه فكره. فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ويذبحه ويطعمه من لحمه، ودعا إلى ذلك صديقا له، وقعدا ينتظران الغداء، ويحدثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجد بعده من لذة وراحة، ففكر في آمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه. . . .
. . . . ودخل الخادم بالطعام وقال معتذرا، إن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح!
فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح، وسعد به وهو لا يزال يصيح، ما تبدل الواقع ما تبدل إلا نفسه، فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته، وقلت: ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي إليها من غير طريقها ونلجها من غير بابها؟ إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك، لأن الأرض مملوءة بالديكة، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسد إذ أننا عنها إذا لم نقدر أن نسد أفواهها عنا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهواءنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل الأرض بسيرها على الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تسمع الموتى، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة، وخطوة ثراها خفيفة. فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي. فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي، ولا صوت القطار وهو يهتز بي. فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك؟ وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟(723/10)
ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره، وأن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد أقوى وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخفت، لأنك وجهت إلى هذا حسك، وأدخلته نفسك فسمعته على خفوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء، وأغفلت ذاك وأخرجته من نفسك فلم تسمعه على شدته، وخفي عنك كما تختفي في الظلام عظائم الموجودات فلماذا لا تصرف حسك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك. ولكن ما أدخلته أنت برضاك، وقبلته باختيارك، كما يدخل الملك العدو قلعته بثغرة يتركها في سورها. فلماذا لا نقوي نفوسنا حتى نتخذ منها سورا دون الآلام؟
أيها السادة المستمعون:
إني أسمعتكم تتهامسون. تقولون: (فلسفة وأوهام). نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذيانا. وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص، ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام:
يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغني فكأنه ما حمل شيئا، ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد فيتشاءم هذا ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة، فتسرع إليه ويسرع إليها. ويحكم على الرجلين بالموت، فيجزع هذا فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكم فكره، فإذا لم تنجه من الموت حيلته، لم يقتله قبل الموت وهمه. . .
وهذا بسمارك رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسلم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خل فكره، وساء تدبيره. وكان يوما في حرب فنظر فلم يجد معه إلا دخينه واحدة ولم يصل إلى غيرها، فاخرها إلى اللحظة التي يشتد عليها فيها الضيق ويعظم الهم، وبقى أسبوعا كاملا من غير دخان، صابرا عنه أملا بهذه الدخينة فلما رأى ذاك ترك التدخين، وانصرف عنه، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة. . .
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري، أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعبانا،(723/11)
فراجع الأطباء، وسأل الحكماء فكانوا يدارون الضحك حياء منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين. فلا يصدق.
حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير النفسيات، قد سمع بقصته، فسقاه مسهلا وادخله المستراح وكان قد وضع له ثعبانا فلما رآه اشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس العافية ونزل يقفز قفزا، وكان قد صعد متحاملا على نفسه يلهث أعياء، ويئن ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبدا.
ما شفي الشيخ لأن ثعبانا كان في بطنه ونزل، بل لأن ثعبانا كان في رأسه وطار، لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وان في النفس الإنسانية لقوى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
تنام هذه القوى فيوقظها الخوف ويوقظها الفرح؛ ألم يتفق لواحد منهم أن يصبح مريضا، خامل الجسد، واهي العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حية تقبل عليه، ولم يجد من يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبا، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هده الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كرسيا يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له انه قادم الساعة من سفره، أو كتابا مستعجلا من الوزير يدعوه إليه ليرقي درجته، فأحس الخفة والشبع، وعدا عدوا إلى المحطة أو مقر الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيا عذبا، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة.
أيها السادة والسيدات: إنكم أغنياء ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها زهدا فيها، واحتقارا لها.
يصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع الضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة، فلماذا لم يرها لما كان صحيحا بيضاء مشرقة؟ ويحمى عن الطعام ويمنع منه، فيشته لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها، فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه ولا يضحك الشاب لصباه؟ لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت(723/12)
عنا ولا نبصرها إلا غارقة في ظلام الماضي أو متشحة بضباب المستقبل؟
كل يبكي ماضيه، ويحن إليه، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيا؟
أيها السادة والسيدات:
إنا نحسب الغنى بالمال وحده، والمال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يؤتى بأطايب الطعام فلا يستطيع أن يأكل منها شيئا، لما نظر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيا؟
فلماذا لا تقدرون ثمن الصحة؟ أما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من انفه بأموال عبود باشا؟
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء، وكاد يهلك جوعا وعطشا، لما رأى غدير ماء والى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس بأمل أن يجد فيه تمرا أو خبزا يابسا، فلما رأى ما فيه، ارتد يائسا، وسقط إعياء. لقد رآه مملوءا بالذهب!
وذاك الذي رأى مثل ليلة القدر، فزعموا إنه سال ربه أن كل ما مسته يده ذهبا، واستجبت دعوته، فلمس الحصى فصار ذهبا، ولمس الخشب فصار ذهبا، فكاد يجن من فرحته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه ليأكل فمس الطعام فصار ذهبا، وبقى جائعا، وأقبلت بنته تواسيه فعانقها فصارت ذهبا. . . فقعد يبكى يسال ربه أن يعيد إليه ابنته وسفرته وان يبعد عنه الذهب.
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة فأنصفق عليه بابها فمات غريقا في بحر من الذهب.
يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وانتم تملكون ذهبا كثيرا؟ أليس البصر من ذهب والصحة من ذهب والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
كلفتني المحطة بهذه الأحاديث الأربعة من شهر، فما زلت أماطل بها، والوقت يمر، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها ولا انتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبقى إلا يوم واحد، أقبلت على الوقت انتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يوما، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرا وتبرا، واستفدت من كل لحظة حتى(723/13)
إني لأكتب هذا الحديث والله، في محطة (باب اللوق) وإذا انتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك علي من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها، فلو إني فكرت كلما وقفت أنتظر الترام بشيء أكتبه، وأنا اقف كل يوم أكثر من ساعة متفرقة أجزاؤها، لربحت شيئا كثيرا، ولقد كان صديقنا الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب (قواعد التحديث) للأمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب، والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائما، حتى انه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئا من العلم فألف (الحاشية). والسرخسي أملى وهو محبوس في الجب، كتابه المبسوط، أجل كتب الفقه في الدنيا، وأنا اعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يضيق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؟ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا إنه لو قرأ مثله لا أقول كل ليلة، بل كل أسبوع مرة لكان علامة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي والجاحظ، بل خذوا كتابا واحدا كنهاية الأرب، أو لسان العرب، وانظروا، هل يستطيع واحدمنكم أن يصبر على قراءته كله ونسخة مرة واحدة بخطة فضلا عن تأليف مثله من عنده؟
والذهن البشري، أليس ثروة؟ آماله ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكن للذهن أن يعمل لو عمل لجاء بالمدهشات؟ لا اذكر الفلاسفة والمخترعين. ولكن أذكركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم، هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري لما امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطها وصوابها. والشافعي لما كتب مجلس مالك بريقه على كفه، وأعاده من حفظه. والمعري لما سمع أرمنيين يتحاسبان بلغتهما، فلما استشهداه أعاد كلاهما وهو لا يفهمه. والأصمعي الذي وحماد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار. وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار. والمئات من أمثال هؤلاء. . . فتعجبون، ولو فكرتكم في أنفسكم لرأيتم إنكم قادرون على مثل هذا ولكنكم لا تفعلون.
انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس والبلدان، والصحف والمجلات، والأغاني والنكات، والمطاعم والمشارب، وكم قصة يروى من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل(723/14)
من ذهنه ما يمر به كل يوم من مقروءات والمرئيات والمسموعات فلو وضع مكان هذا الباطل علما خالصا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.
أعرف نادلا كان في (قهوة فاروق) في الشام اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة أو شايا أو كازوزة أو ليمونا، والقهوة حلوة ومرة، والشاي احمر واخضر والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة ويرد هذه الطلبات جهرا في نفس واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحد حرفا!
فيا سادة، إن الصحة والوقت والعقل، كل ذلك مال، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن يشاء إن يسعد.
وملاك الأمر كله ورأسه الأيمان، الأيمان يشبع الجائع، ويدفئ المقرور، ويغني الفقير، ويسلي المحزون، ويقوي الضعيف، ويسخي الشحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنسا، ومن خيبته نجحا.
وأن تنظر إلى من هو دونك، فانك مهما قل مرتبك، وساءت حالك، احسن من آلاف البشر ممن لا يقل عنك فهما وعلما، وحسبا ونسبا، وأنت احسن عيشة من عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا ملكي الأرض. فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيبا يحشوها ويلبسها الذهب، وأنت لا تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب. وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة. وكانا يرحلا من دمشق إلى مكة في شهر وأنت ترحل في أيام أو ساعات.
فيا أيها السادة السيدات.
إنكم سعداء ولكنكم لا تدرون. سعداء أن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك ولم تطلبوا المستحيل فتحاولوا سد فمه عنكم، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم.
أكمل الله عليكم سعادتكم، وأسعد الله مساءكم، والسلام عليكم.
(القاهرة)
علي الطنطاوي(723/15)
الذكرى العاشرة للرافعي
للأستاذ محمود أبو ريه
مما يجب علينا لعظمائنا وعلمائنا الذين ينتزعهم الموت من بيننا، أن ننتهز كل مناسبة تمر بنا لنستعن بفضلهم، ونبعث التحية الطيبة إلى أرواحهم، في ذلك وفاء لهم وإحياء لذكرهم حتى لا نرمي بعدهم الوفاء، ولا نزن بنكران الجميل
ولمناسبة انقضاء عشرة أعوام على وفاة أديب العربية وكاتبها السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله نرى من الحق علينا أن نبعث إلى روحه الطاهرة بتحية مباركة طيبة ونرجو أن تفي هذه التحية ببعض ماله من فضل وما يستحق من تقدير
نبت الأرفعي في اكرم منبت وأزكى مغرس؛ فبيت (الرافعي) مشهور في الأقطار الإسلامية بأنه بيت علم أدب وتقوى، ولئن كان رحمه الله قد ورث من آبائه الدين والتقوى، فإنه قد نشا على حب الأدب العربي، فأقبل على دراسته دراسة استيعاب واستقصاء وتحقيق، حتى تضلع من فنونه، وتملأ من أصوله، ووقف على أساليب بلغاء العربية وأحاط بطرائقهم ومناحيهم حتى أصبح صدره خزانة أدب. وقد أتاه الله ملكة قوية في البلاغة، وحاسة دقيقة في البيان، وبهذه الدراسة المحيطة للأدب العربي، والملكة القوية في البلاغة، والذوق الدقيق في البيان، استطاع أن يبتدع لنفسه أسلوبا خاصا في الكتابة العربية يباين أساليب الكتاب جميعا إذ يجمع هذا الأسلوب بين البلاغة والحكمة والخيال، هذا مع النكتة اللاذعة والكناية المستلمحة. حتى انك لو نصبت جملة من إنشاء غيره من كتاب العربية لبانت جملته منها جميعا، ولنادت على نفسها بأنها للرافعي ومن أسلوبه رحمه الله
وقد شبهوه بالجاحظ، وكأنهم لما رأوا أسلوبه محكم النسج متخير اللفظ مصقول العبارة أنيق الديباجة، قد خلعت عليه البلاغة زخرفتها، وكسته الفصاحة بجميل وشيها؛ قالوا إنه جاحظ هذا العصر. ولكن الجاحظ على إمامته في البلاغة وبراعته في الترسل، وطول نفسه في العبارة، وافتنانه في تلوينها وإبداع تصويرها، كان يستطرد إلى غير الغرض الذي ساق كلامه إليه، ويذهب في شعاب القول هاهنا وهاهنا يؤدي به هذا الاستطراد إلي الخروج عن بلاغته العالية.
ومع إن الجاحظ حجة من حجج العربية وأمام كتابها على مد العصور فانك لا تجد في(723/17)
مطاوي كلامه قبسا من الحكمة. والحكمة من أقوى أداة الكاتب والشاعر
ولقد كان برافعي خيال بعيد ينفذ به إلي أقطار المباني الدقيقة فيستوحي منها الدرر، ويحلق في أجواء التصورات البعيدة فيستنزل منها الغرر
ولا نقول هذا مجاملة له رحمه الله، ولا يدفعنا إليه تشييع لما كان بيني وبينه من أواصر الصداقة والمودة، وإنما هو الحق والأنصاف.
وقد كان الرافعي أستاذ مدرسة خاصة في الأدب والكتابة، وكان في الأخلاق الكريمة والتمسك بآداب الإسلام ومجد العرب أمة واحدة، لا يعنيه شيء في الحياة إلا أن يحرس لغة القران ويحافظ على أساليبها، ويبعث من تراثها، ثم كان لا يفتأ يعمل على أحياء الآداب الإسلامية والأخلاق الدينية، حتى ينشأ هذا الجيل محبته لغته ودرس فنونها والتمرس بآدابها ثم يأخذ بأخلاق دينه وصالح عاداته. إذ كان يستيقن رحمه الله - وهو على حق - إن الأمة لا تنهض إلا باستمساكها بأصول لغتها وكريم أخلاقها، ثم لها بعد ذلك أن تأخذ من العلوم والفنون النافعة في الحياة ما شاءت وشاء لها نظام العمران
ولما انبعثت فتنة (التجديد والمجددين) منذ اكثر من ثلث قرن وكان أهلها يحاولون أن تكون الكتابة (باللغة العامية) وان نهجر أدبنا القديم وتراثنا التليد كان هو أول من نازل دعاتها وظل وحده يناضل ويصول حتى كتب له النصر وخرجت الأساليب العربية الصحيحة ظافرة تشرق على أسلات الأقلام
وما كانت هذه الفتنة لإصلاح يراد ولا كانت لتطور معتدل وإنما كانت ترمي إلي غرض بعيد؛ ذلك إن القضاء على البلاغة العربية يؤدي لا جرم القران وعدم فهمه وبذلك يصبح هذا الكتاب المقدس للغة العربية كاللاتينية للغات الأوربية؛ ومتى صار القران كذلك فقل على الإسلام العفاء.
وظل رحمه الله رابضا متحفزا يحمي ذمار العربية ويذود عن حوضها إلى إن انقلب إلى ربه
وإني لأشهد انه كان يتحرق على ما وصلنا إليه من ضعف في الأدب، وانحلال في الخلق، ويود لو تتاح له الفرصة ليطلع على الناس في كل أسبوع بمقال في إحدى الصحف يؤدي فيه شيئا من رسالته حتى سنحت له فرصة الكتابة بمجلة الرسالة الغراء وارتقى منبرها(723/18)
فامتلأ قلبه فرحا وقد بدا سروره في خطاب أرسله إلى فقال
(أما الرسالة فهم كتبوا إلي بعد أن تركت طه حسين. . . وقد رأيت إني مخطئ في الاقتصار على وضع الكتب، وكان في نيتي من زمن الكتابة أسبوعيا في مجلة كبيرة كما أخبرتك فلما عرضت هذه الفرصة انتهزتها لأجرب هذه الطريقة. . ولعلي أوفق إن شاء الله بعونه تعالى في المضي في الكتابة والقوة بالله وسأنوع المواضيع كما رأيت ويدخل فيها فصول الكتاب النبوي بين الوقت والوقت إلى أن يتم وان أقاسي في كتابه الآن عسرا شديدا من الحر والتعب وحاله المعيشة الحكومية لعنة الله عليها
(وهذا الموضوع صعب جدا يا أبا ريه ليس في العربية مقال واحد منه. ومن يومين أطلعني العريان على الجزء الأول للنظرات فإذا فيه مقال عن الهجرة لا يساوي نصف مليم! فأدع الله لنا بالعون في اقتحام هذه العقبة. . .)
والكتاب النبوي الذي يشير إليه الرافعي في هذا الخطاب هو كتاب كان يريد أن يضعه في رسالة الرسول صلوات الله عليه ويجعل عنوانه (محمد).
ولقد كان له غير ذلك آمال يريد تحقيقها وأعمال يود استكمالها، ومن هذه الأعمال كتاب (تاريخ آداب العرب) الذي كان يقول عنه إنه دين في عنقه حتى يتمه. وقد انعقد الإجماع عندما ظهر الجزء الأول منه انه لم يؤلف في موضوعه مثله
وممن أشادوا به الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا فقد عقد له صفحات كثيرة في الجريدة ولولا أننا نؤثر الإيجاز لأتينا على ما كتبه هنا
وعقد له الأمير شكيب أرسلان رحمه الله صفحة طويلة في صدر جريدة المؤيد جاءت فيها هذه العبارة (لو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه منه لاستحق إن نحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نوا شيء الأسحار لكان جديرا أن يعكف عليه)
ومن الكتب التي أتمها كتاب (أسرار الأعجاز) وكان رحمه الله يفاخر به وقد وضع أكثره. وكان يريد أن يضع (رسالة في معارضة الدرة اليتمة لابن المقفع بنفس الأسلوب وعلى الطريقة الأولى في الكتابة العربية طريقة المتقدمين)
وكتب إلي في خطاب
(وأنت قرأت الأم فرز وهذا الكتاب مشهور في لغات أوروبا وآدابها فأنا أريد معارضته وقد(723/19)
قام بذهني إنه لا راحة إلى إلا إذا أخرجت مثله)
وقال في خطاب آخر:
(ولا يزال في فكري أن أتضع كتابا صغيرا يكون أشبه بقصيدة واحدة في معارضة سفر من أسفار التوراة كأناشيد سليمان مثلا)
وقال في خطاب
(وأنا بحسرة من كليلة ودمنه فلو وقفني الله إلى إتمامه كتابا برأسه لكان حادثا في تاريخ العربية كلها)
ولا استوفي هنا كل ما كان يريد عمله
ولقد كان له في البحث والاستقصاء شان عجيب فيوم إن غمره بالجمال وأخذ يؤلف كتاب أوراق الورد بعد رسائل الأحزان أراد أن يعرف هل كتب (إخوان الصفا) في الجمال فكتب لي في خطاب مؤرخ 19 يوليو سنة 1930
(. . . أبحث في إخوان الصفا هل كتبوا عن الجمال فإني لم أقرا هذا الكتاب إلا قليلا ولا وقت عندي لتصفحه. .)
كتب إلي في خطاب آخر مؤرخ 21 نوفمبر 1931 يقول
(أحب أن تراجع قسم المنطق من رسائل إخوان الصفا لمعرفة هل استعمل واضعو هذه الرسائل كلمة (استنتاج) أم لا فإن من مقالات المجموعة مقالة عن هذه الكلمة وحل استعمالها. أما الكلمة نفسها فعثرت عليها في كتابة ابن سينا وهذا يدل على إنه أخذها عمن قبله، فلا بد أن تكون قد وردت في رسائل إخوان الصفا). وإن القول في الرافعي وأدبه لطويل؛ وإنما هي سطور كتبناها لمناسبة انقضاء عشرة أعوام على وفاته رحمه الله
وإذا كان أقصى ما يقال في العظماء بعد وفاتهم أن يتحدث عن صفاتهم وأعمالهم، وعما أصاب الناس بفقدهم، وهل لهم خلف يعزى عنهم أو انهم قد خلا مكانهم فإني أقولها كلمة ولا أخشى فيها أحدا.
ذلك إن مكان الرافعي قد خلا وإنه لم يخلفه في أداء رسالته أحد. رحمه الله رحمة واسعة.
المنصورة
محمود أبو ريه(723/20)
هل الموت نتيجة لازمة للحياة؟
الحيوانات والنباتات الخالدة - الشيخوخة وأسبابها
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
(إلى ذكرى العالم البيولوجي المصري الكبير الدكتور عثمان
غائب باشا اقدم هذه الثمرة البسيطة من حديقة تعاليمه الفيحاء)
يعتقد جمهور الناس أن الموت نتيجة طبيعية لازمة الحياة، وأن كل كائن حي لابد من ان يموت. فإذا صحت هذه العقيدة فلا محل للبحث عن أسباب الشيخوخة ولا محاولة الكشف عن علاج لها لاتقاء حدوثها لأنها تكون حينئذ قضاء محتما لا مفر منه. ولكن من ينعم النظر ويدقق البحث على ضوء الاكتشافات والحقائق العلمية الحديثة يتضح له أن تلك العقيدة لا تستند إلى أي سند علمي وأن سبب قيامها في أذهان الناس هو ما يشاهدونه عادة في الإنسان وفي باقي الحيوانات والنباتات المتعددة الخلايا نتيجة عوامل الشيخوخة التي سيأتي الكلام عنها.
وقبل أن نتكلم عن هذه العوامل ونبين أن الشيخوخة مرض كسائر الأمراض ينشأ عن تسمم تدريجي ناتج من نظام التغذية وجهاز التصريف الناقصين في النباتات والحيوانات (بما فيها الإنسان) - قدم من الآن الأدلة القاطعة التي تهدم تلك العقيدة من أساسها - عقيدة ضرورة الموت - ونعني بذلك الحيوانات والنباتات الخالدة.
الحيوانات والنباتات الخالدة:
كل من يفحص بالميكروسكوب قطعة من جسم إنسان أو من جسم أي حيوان أو أي نبات يتضح له إنها مؤلفة من خلايا صغيرة متلاصقة لا ترى بالعين المجردة وهي أشبه بخلايا النحل ولكنها غير منتظمة مثلها، والخلية تتركب من مواد زلالية مخلوطة أو ممزوجة بمواد دهنية ومواد سكرية أو نشوية، وفي وسطها نواة من مواد زلالية أخرى، ولمعظمها غشاء أو غلاف يحيط بها من مادة زلالية وغيرها في الحيوانات، ومن مادة السليلوز في النباتات وهي من فصيلة السكر والنشا ومادة الخشب.
وأصل كل فرد من النباتات والحيوانات (ومنها الإنسان) خلية واحدة تسمى في علمي(723/22)
الحيوان والنبات (بالبيضة) وهي خلية ميكروسكوبية تنتج من تلقيح بويضة الأنثى بخلية خاصة مشتقة من أعضاء التذكير في الحيوانات والنباتات. وتأخذ البيضة بعد التلقيح في النمو بطريق الانقسام نتيجة التغذي فتنقسم إلى قسمين يبقيان متلاصقين، وينقسم كل منهما إلى قسمين آخرين وهلم جرا، وعلى هذا النحو الخلايا المشتقة من البيضة وتنشأ منها مختلف الأنسجة والأعضاء فيتكون الجنين ثم الفرد الكامل.
غير انه توجد كائنات حية مكونة من خلية واحدة واعني بها النباتات الأولية كالبكتريا والمكروبات، والحيوانات الأولية الميكروسكوبية كالأميبيا التي يسبب نوع منها مرض (الدوسنطاريا) وكجرثومة الملاريا وجرثومة مرض النوم وغيرها. وكيفية توالد وتكاثر هذه الأحياء ذات الخلية الواحدة هي أن تنقسم كل منها إلى قسمين (وأحيانا في بعض الأنواع إلى أقسام عديدة) كما يحدث لخلايا الحيوانات والنباتات الأخرى المتعددة الخلايا وخاصة أثناء تكوين أجننها (جمع جنين) على الوجه المتقدم بيانه. غير أم كل قسم جديد من أقسام الخلية الأصلية ينفصل هنا عن غيره ويصبح فردا جديدا يحيا حياة مستقلة ويتغذى فينمو وينقسم بدوره إلى أقسام أخرى تصبح أفرادا جديدة، وهكذا، بحيث لا يموت ولا يغني شيء من هذه الأفراد إلا بحادث مهلك كان يجف الماء الذي تعيش فيه أو يفسد أو كان تبتلعها حيوانات أخرى مع الماء وتهضمها.
ولكن يحدث إنه بعد عدة انقسامات تصبح الأفراد الأخيرة غير قابلة للانقسام كأنها شاخت أو هرمت، وهذه أول صور الشيخوخة وابسطها في عالم الأحياء. ولاشك في أن هذا العجز ناتج مما يتراكم داخل أجسامها من بقايا المواد الإفرازية السامة المتوالدة من احتراق المواد الغذائية بعد هضمها وعدم تصريفها (أي الإفرازات السامة) إلى الخارج بأكملها، ذلك الاحتراق اللازم لتوليد الطاقة (القوة والحرارة) الضرورية لعمليات الحياة، ولهذا يعرف الفسيولوجيون الغذاء بأنه وقود الماكينات الحية الحيوانية والنباتية. ولو أستمر هكذا حال تلك الأفراد العاجزة عن الانقسام لماتت لا محالة كما يموت أفراد الأحياء العليا بالشيخوخة. غير انه يكفي لاسترداد شبابها ونشاطها الانقسامي أن يلتصق كل فردين منها أحدهما بالآخر ويتبادلان نصف نواتيهما ثم ينفصلان بهما شباب ناهض قابل للانقسام من جديد. وهذه هي أول صورة من صور التلقيح في عالم الكائنات الحية. وليس التلقيح سرا من(723/23)
وراء الطبيعة فقد استعاض عنه البيولوجيون (علماء الحياة) وفي مقدمتهم جاك لوب ببعض مؤثرات طبيعية أو كيميائية على الأرفاد العاجزة عن الانقسام فيفصلون فردا واحدا منها في قليل من الماء ويضيفون إليه قليلا من بعض الأحماض أو القلويات الخفيفة أو يسلطون عليه تيارا كهربائيا ضعيفا أو يرجونه داخل أنبوبة صغيرة فيأخذ هذا الفرد الهرم في الانقسام من تلقاء نفسه كما يحدث عقب اتصاله بفرد آخر مماثل له وتلقيح الواحد مهما الآخر على الوجه المتقدم بيانه.
ويظهر إن فعل التلقيح الطبيعي وفعل هذه المؤثرات الاصطناعية إنما هو تنشيط تصريف تلك الإفرازات السامة المتراكمة داخل أجسام الأفراد التي شاخت وصارت عاجزة عن الانقسام أو أحداث تفاعلات كيميائية من شانها إزالة تلك السموم الإفرازية ومحو أثرها.
وخلاصة القول أن الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة هي كائنات حية لا تموت ولا ينعدم منها شيء، فمتى وصل الفرد منها إلى تمام نموه ينقسم إلى قسمين مستقلين يصبح كل منهما فردا جديدا ينمو ثم ينقسم بدوره إلى أفراد جديدة، وهكذا إلى ما لا نهاية له دون أن يموت أو يتلاشى شيء منها إلا بحادث مهلك كما تقدم في ذلك القول. فهي أحياء خالدة بالمعنى الحقيقي ويمكن القول أن أفرادها التي تعيش الآن هي هي التي نشأت منذ نحو مائة مليون سنة عند ظهور الحياة على الأرض وما زالت حية تنقسم منذ ذلك الماضي البعيد المتغلغل في القدم إلى اليوم وإن كان قد طرأ عليها أثناء ذلك بعض التغير في أشكالها بفعل العوامل الطبيعية جربا على نواميس التطور والتحول. وإذا لوحظ إن هذه الكائنات الأولية ذات الخلية الواحدة هي أول ما ظهر على الأرض وانه مضت مئات الألوف أو الملايين من السنين قبل أن يتحول فريق منها إلى الحيوانات والنباتات المتعددة الخلايا - إذا لوحظ هذا يمكن القول أن الموت ليس نتيجة لازمة للحياة وأنه مرت على الأرض فترة طويلة من الزمن تنعم فيها الأحياء بالخلود، وإنما طرأ الموت على الكائنات الحية في طور من تطوراتها في الوقت الذي أخذت فيه الأحياء ذات الخلية الواحدة تعيش جماعة متلاصقة لأسباب طبيعية محلية دعت إليها الظروف المستجدة، ذلك لأن خلايا هذه الأحياء المتعددة - المتعددة الخلايا - ثابتة في مكانها في الأنسجة المختلفة، ولا تستطيع (أي الخلايا) أن تنتقل لتلتقي بالخلايا الأخرى حتى تتلاقح وتتقى الشيخوخة على ما تفعل(723/24)
الأحياء الوحيدة الخلايا، خصوصا وان كل فريق من تلك الخلايا المجتمعة في الحيوانات والنباتات العليا تخصص في وظائف معينة من أعمال الحياة وتنوع في شكله ليلائم وظيفته كخلايا الأعصاب وخلايا العضلات وخلايا الغدد وخلايا الجلد وغيرها في الحيوانات، وكخلايا الأنسجة المختلفة في النباتات فصار غير صالح لأن يتلاقح مع غيره (وقد تخصصت فيها خلايا أعضاء التناسل للتلقيح لمصلحة مجموع الحيوان أو النبات وهي التي تضمن بقاء النوع وعدم تلاشيه - النوع فقط دون الأفراد).
فالموت يبدو لنا إنه نتيجة تطور الكائنات الحية من فالأحياء الأولية ذات الخلية الواحدة إلى الأحياء الأرقى مرتبة وهي المتعددة الخلايا فهو الفدية التي تدفعها ثمنها لذلك الارتقاء، ثمنا غاليا حقا.
وهذا ما يقوله أستاذي المأسوف عليه العالم الكبير داستر الذي كان أستاذ علم الفسيولوجيا في كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون) وعضوا في المجمع العلمي (أكاديمي العلوم) وعضوا في أكاديمي الطب في كتابه الحياة والموت صحيفة 227 وما بعدها.
. . . ومن هذا يتبين أن الخلود هو من خواص الكائنات ذات الخلية الواحدة التي تتناسل بطريق الانقسام النصفي، وإنما لوحظ إن هذه الكائنات هي أول ما طهر من الأحياء على الأرض وإنها سبقت بزمن طويل الحيوانات والنباتات الأخرى المتعددة الخلايا فتكون النتيجة المنطقية البديهة إن الحياة ظلت مدة طويلة على الأرض دون الموت، وان الموت طرأ بعد ذلك نتيجة تطور الأحياء وتحولها من ذات الخلية الواحدة إلى المتعددات الخلايا.
ومما يؤكد هذا - أي عدم ضرورة الموت - التجارب القديمة المعروفة التي قام بها بعض من البيولوجيين على كثير من أنواع الديدان والحيوانات الجوفاء كأخطبوط الماء العذب بل وعلى حيوانات أعلى مرتبة، بتقطيعها قطعا تنو كل قطعة منها وتصبح فردا جديدا كاملا يحيا حياة مستقلة، وهكذا يصنعون من الحيوان الواحد عدة حيوانات، ويكررون ذلك في الأفراد الجديدة وهلم جرا. ويمكن مواصلة هذا العمل إلى ما لا نهاية له دون أن يتطرق الموت إلى تلك الأفراد ما داموا يقطعونها وهي فتية، وهذه العملية معروفة ومألوفة في النباتات.
ويؤيد هذه أيضاً التجارب والأبحاث العظيمة الشان التي يقوم بها منذ سنين عديدة الدكتور(723/25)
كاريل فانه يحفظ أجزاء حية صغيرة مفصولة حديثا من أجسام الإنسان والحيوانات في سوائل مغذية مطهرة تجدد وتهوى باستمرار، فتستمر حية يستعين بها الجراحون في عمليات الترقيع وغيرها حتى انهم وصفوا الدكتور كاريل (بأنه تاجر أنسجة حية)، والأغرب من هذا إن تلك الأجزاء المحفوظة كثيرا ما تنوا وتتكاثر خلاياها بطريق الانقسام كما يظهر من فحصها تحت الميكروسكوب من حين إلى آخر بعد أن تكون قد فقدت تنوعها وعادت إلى شكل الخلايا الجنينية الأولى (الشكل البسيط الذي تكون عليه خلايا الجنين في أول أطوار تكوينه).
ويتصل بهذا الموضوع بحث على جانب كبير من الأهمية وهو إن تقسيم الكائنات الحية إلى حيوانات ونباتات، والى فروع وصفوف ومراتب وفصائل أو أفراد إنما هو تقسيم اصطناعي من وضع الإنسان، وانه ليس للفوارق التي تفصل في الظاهر بينها وجود مطلق حقيقي ثابت في المكان والزمان، فلا توجد في الحقيقة والواقع إلا المادة أو مجموعة المواد الزلالية المعقدة التركيب المسماة (بالحية) وهي صورة من صور المواد الكيميائية الأخرى ومشتقة منها - تشتق على الدوام تحت أعيننا وعلى مرأى منا من الجمادات، من الهواء والأرض بفعل طاقة إشعاع الشمس بواسطة الكلورفيل (المادة الخضراء النباتية). وقد ظهرت المواد المذكورة الموصوفة بالحية على الأرض منذ أن أصبحت هذه صالحة للحياة وستظل هكذا إلى أن تمسى غير صالحة لها، كل هذا بفعل العوامل الطبيعية. وكل ما في الأمر إن هذه المواد الحية الدائمة تبدو لنا في صور مختلفة اختلافا ظاهريا وقتيا كما تبدو الجمادات والمعادن في أشكال متنوعة يتحول بعضها إلى البعض وهي في مجموعها لا تفنى. على أن هذا موضوع عويص يضيق بنا المقام دون بسطه الآن.
(البقية في العدد القادم)
نصيف المنقبادي
المحامي(723/26)
إلى طلبة التوجيهية:
2 - شاعران في المنفى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
تمهيد - موضوعات القصيدتين - الصور والخيال - الأسلوب
- كلمة عامة. . . . . .
وفي كلتا القصيدتين فخر، ولكنه أيضاً صورة من نزوع الشاعر وميله، فالبارودي رجل الجيش والحرب يفتخر بشجاعته وبلائه في الحرب، ولم تزايله حماسته في منفاه، فسيفه هنالك صاحبه الوحيد، يحمله جسمه القوى الشديد، وهو سيف متعطش إلى الدم، حتى ليشرئب من الغمد إذا لمسه البارودي متلهفا إلى أن يضرب به. ويفخر بوفائه وأقدامه، وصواب رأيه إذا استبهم الصواب، وربما كان غرضه هنا تعزيز رأيه الذي أبداه قبل الثورة العرابية متخوفا من سوء عقباها، ويكرر الفخر بشجاعته وتقدير الأبطال له حتى ليفدونه بأنفسهم، وببلاغته وسحر شعره، ولكنه غالي في قيمة هذا الشعر إذ زعم إنه يضارع ابلغ شعر سابق، ويكبر أن يشبهه شعر لاحق، وجرته محاكاتة كأنه للقدماء إلى تقدير لذاذة شعره بأنها ألذ من الحداء، وختم الفخر بأنه قوال وفعال وغيره يقول ولا يفعل.
وفخره بنفسه وبشعره في مجال الشكوى تسرية عن نفسه من ناحية، ومحاكاة لآبي فراس الحمداني وهو أسير من ناحية. قال:
ولأصاحب غير الحسام منوطة ... حمائله منى على عاتق صلد
إذا حركته راحتى لملمة ... تطلع نحوي يشرئب من الغمد
سجية نفس لا تخون خليلها ... ولا تركب الأهوال إلا على عمد
وإني لمقدم على الهوى والردى ... بنفسي، وفي الأقدام بالنفس ما يرى
وأنى لقوال إذا التبس الهدى ... وجارت حلوم القوم عن سنن القصد
فان صلت فدانى الكمى بنفسه ... وإن قلت لباني الوليد من المهد
ولى كل ملساء المتون غريبة ... إذا أنشدت أفضت لذكر بنى سعد
أخف على الأسماع من نغم الحدا ... وألطف عند النفس من زمن الورد(723/27)
مخدرة تمحو بأذيال حسنها ... أساطير من قبلي، وتعجز من بعدى
كذلك إني قائل ثم فاعل ... فعالي، وغيري قد ينير ولا يسدى
أما شوقي شاعر مصر المنوه بأمجادها، المعتز بماضيها، العليم بتاريخها فقد أفتخر بسالف عهدها، فالدهر منذ طفولته لم يحتفل بغير الفراعنة، ولم يعرف أقوى منهم، وهم صبر على النوائب وفيون بالعهد لا يتلونون كالحرابى، وهو هنا يشير إلى وفائه للخديوي عباس ويعرض بمن تلون من أصدقائه أو يعرض بالإنجليز أصحاب السيادة المتقلبة، والشمس لم تشرق على ملك عظيم كمصر، وقد عبدت على ضفاف النيل، ورأت ملوكاً له أبناءها الفراعين، وانه لواد جميل خصيب تشرق الشمس عليه فتكسوه أشجارا ووروداً وحريراً، ونحن الفراعنة حكمنا الأرض قبل الرومان، وكنا رواد العالم، ولم يفت شوقي أن يعرج على الأهرام الخالدة، فوصفها هذا الوصف البارع: بناها الدهر لا الإنسان الفاني، وعمرت مقاصيرها أربعة الآلف عام تقوضت فيها عروش الملوك وهي باقية، وكأنها وبحر الرمل حولها سفن واراها اليم إلا قلوعها، وكأنها والضحا يتلألأ فوقها كنوز فرعون يزنها على موازين كبار فغطتها وتكومت فوقها. قال:
لم يجر للدهر اعذار ولا عرس ... إلا بأيامنا أو في ليالينا
ولا حوى السعد أطغى في أعنته ... منا جياداً ولا أرخى ميادينا
نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ... ولم يهن بيد التشتيت غالينا
ولا يحول لنا صبغ ولا خلق ... إذا تلون كالحرباء شانينا
لم تنزل الشمس ميزاناً ولا صعدت ... في ملكها الضخم عرشاً مثل وادينا
ألم تؤله على حافاته، ورأت ... عليه أبناءها الغر الميامينا؟
إن غازلت شاطئيه في الضحا لبسا ... خمائل السندس الموشية الغينا
وبات كل مجاج الواد من شجر ... لوافظ القز بالخيطان ترمينا
وهذه الأرض من سهل ومن جبل ... قبل القياصر دناها فراعينا
ولم يضع حجر بأن على حجر ... في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن أهرام مصر حائط نهضت ... به يد الدهر لا بنيان فأنينا
إيوانه الفخم من عليا مقاصره ... يفنى الملوك ولا يبقى إلا واوينا(723/28)
كأنها ورمالاً حولها التطمت ... سفينة غرقت إلا أسا طينا
كأنها تحت لألاء الضحا ذهباً ... كنوز فرعون غطين ألموا زينا
وهذا الفخر بماضي الوطن من مشاعر مبعد حزين لما ألم به من أحداث وكوارث قوى الصلة بمحور القصيدة، وبنفسية الشاعر المكروب من الحاضر المتجهم، فيرجع إلى الماضي المشرق لأنه يجد فيه عزته وراحته وسلوانه.
وأخيرا يتحدان في الغزل المصطنع من كليهما في هاتين القصيدتين، فالبارودي ينعت حبيبته بالوفاء، ويصفها بالجمال وجهاً وخصراً، ويعرض حالة ماضيه إذ أسرته بنظرها الساحر فعلق بها وتبعها، فتظاهرت بالهشة من حماقته كأنها لا تعلم إنها الجانية، ويرجوها ألا تصد عنه حتى لا تعذبه وتقعده عن طلب المجد، وألا تظن إن في قلبه قدرة على تحمل مزيد من الحب، ويصور مقدار خضوعه لها بأنها لو أمرته أن يهلك نفسه لفعل. قال:
فلست بناس ليلة سلفت لنا ... بواديه، والدنيا تغر بما تسدى
إذ العيش ريان إلا ما أريد، والهوى=جديد وإذا لمياء صافية الود
منعمة، للبدر ما في قناعها ... وللغصن ما دامت به عقدة البند
سبتني بعينيها، وقالت لتربها ... ألا ما لهذا الغر يتبعني قصدي
ولم تدر ذات الخال - والحب فاضح - ... بأن الذي أخفيه غير الذي أبدى
حنانيك إن الرأي حار دليله ... فضل، وعاد الهزل فيك إلى الجد
فلا تسألي مني الزيادة في الهوى ... رويداً، فهذا الوجد آخر ما عندي
وها أنا منقاد كما حكم الهوى ... لأمرك فأخشى حرمة الله والمجد
فلو قلت: قم فأصعد إلى رأس شاهق ... والق إذا أشرفت نفسك للوهد
لألقيتها طوعاً لعلك بعدها ... تقولين: حيا الله عهدك من عهد
وشوقي تغزل في عجل بحبيبته التي يعف في حبها، فهو يحن إليها حنيناً لا يشوبه تدلل، وهو غير مستطيع صبراً على فراقها، وهو جلد ولكن الحزن غلبه لأنه ابعد عنها بالنفي من وطنه وحصنه، وليله طويل لا نهاية له تتناوبه فيه الذكريات الحلوة والمرة فتميته وتحييه، وتكاد الآلام الفراق ترديه، ولا يفتأ يبكى ويئن، ويراقب النجوم حتى ترثى له أو تمل مراقبته وتتعب من السير، ولكنه في النهاية يتكلف الصبر أمام الأعداء حتى لا(723/29)
يشمتوا. قال:
يا من نغار عليهم من ضمائرنا ... ومن نصون هواهم في تناجينا
ناب الحنين إليكم في خواطرنا ... من الدلال عليكم في أمانينا
جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا ... في النائبات فلم يأخذ بأيدينا
وما خلنا على دمع ولا جلد ... حتى أتتنا نواكم من صياصينا
ونابغي كأن الحشر آخره ... تميتنا فيه ذكراكم وتحيينا
نطوي دجاه بجرح من فراقكم ... يكاد في غلس الأسحار يطوينا
إذا رسا النجم لم ترقأ محاجرنا ... حتى يزول ولم تهدأ تراقينا
بتنا نقاسي الدواهي من كواكبه ... حتى قعدنا بها حسرى تقاسينا
يبدو النهار فيخفيه تجلدنا ... للشامتين ويأسوه تأسينا
ويتفرد شوقي بتمجيده عرب الأندلس والبكاء على ملكهم المضيع، ولم يعرج البارودي في قصيدته ولا في غيرها على مجد المسلمين بالهند أثرهم في تحرير عشرات الملايين من أبنائها من الوثنية، وجوبهم البحار قبل كولمبس وماجلان، وهي ينابيع ثرة بالذكريات يترع بها خيال الشاعر لو انه مثقف وبصير بالتاريخ.
ثم يتميز بأن شكر لمصر برها به، وإرسالها الهدايا والأموال إليه، وأجاد تصوير حالها حين اضطرت إلى نفيه محبة له حريصة على سلامته.
ثم يفترق من البارودي بالتمهيد لموضوع قصيدته بمناجاة الحمام النائح ويختلف عنه أيضاً في تخيله نسمة عبقة قد سرت من مصر إليه فأنعشته، ثم ينفرد بوصفه الرائع لجمال الطبيعة في مصر، ووصفه أهرامها.
(البقية في العدد القادم)
أحمد محمد الحوفي(723/30)
هذا العالم المتغير:
دمك يؤثر على تفكير عقلك
للأستاذ فوزي الشتوي
مخك يتأثر بغذائك:
إلى أي مدى يظل عقلك أداة مفكرة تسيطر على عضلات جسمك، إذا تعرض للحرارة أو البرودة أو نقص غذاؤه من الأوكسجين أو السكر أو الكالسيوم أو غيرها من المواد؟
موضوع جديد، واسع الآفاق، عسير الفهم. ولكن العلماء يد ركون أهميته البالغة، ويعرفون إن المخ البشري مثل جهاز اختبار محكم لا يكل لحظة عن الحركة. فهو يتلقى المؤثرات الخارجية أو الداخلية المختلفة، ويحللها واحدة واحدة ثم يعطى أوامره للاستجابة المناسبة لكل منها أيضاً. ودراسة هذه الحركة الدائمة تتبع علماً حديثاً نسميه بكيمياء العقل. فكلما تغيرت نسب المواد الكيميائية في المخ تغيرت أيضاً استجابات الإنسان، وآراؤه، وشخصيته وأخلاقه، وقدرته العقلية من ذكاء أو غباوة فهل تعرف مثلاً إن مخ الوليد أفقر في المواد الحديدية من مخ البالغ؟ وإن أقصر العقل عن أداء وظائفه إنما ينطوي على نقص في عناصره المعدنية؟
أكتشف ابراهام ميرسون وليو الكسندر الأخصائيان في الأمراض العقلية هاتين الحقيقتين بتعريض أنسجة المخ إلى أشعة المرقب الطيفي الكاشفة: وقاس آخرون مواد العقل الكيميائية في حالات اضطرابه فوجدوها ناقصة في بعض أنواع الكبريت والحديد.
الماء في المخ
وكميات الماء في المخ عامل جوهري في أداء وظائفه وتقرير ملكانه. فإن زاد أو قل عن النسب المعقولة أدى إلى كوارث لا يقتصر أمرها على نقص القدرة العقلية بل يسفر عن هذيان وذهول وإغماء. فإن الماء في المخ يحتفظ بالمواد الكيميائية في محاليل ذات نسبة معينة من التركيز، وأي زيادة أو نقص في كمية الماء تزيد تركيز المحاليل الكيميائية أو تنقصها مما يؤدي إلى اضطراب التفكير.
وزيادة الحوامض أو القلويات في المخ ذات تأثير وقتي في الغالب، ولكن المخ القلوي(723/31)
يعرض صاحبه للصرع، ويقلبه بين حالات التشنج واضطراب الأفكار. أما المخ الحامضي فيعرض صاحبه لمرض السكر، فعندما تتركز الجسيمات الحامضية يضعف المخ ويسفر عن الذهول ثم الإغماء أو يتوقف تماماً عن كل نشاط.
الأوكسجين والذكاء
والأوكسجين بالنسبة للذكاء من أهم العناصر في المخ. وقد برزت هذه الحقيقة عام 1862 حين قام العالم الطبيعي جليشر يصحبه كوكسول الأخصائي في المناطيد برحلتهما المشهورة في طبقات الجو العليا. ففي 48 دقيقة صعد بهما المنطاد إلى ارتفاع 28. 000 قدم. وعندئذ أدرك جليشر انه لا يستطيع قراءة أرقام مقياس الحرارة أو ساعته. ولاحظ كوكسول حالة زميله فهبط بمنطاده وعندئذ استعاد جليشر قدرته العقلية.
وتمادى هالدان وكالاس في دراسة هذه الظاهرة فدخلا غرفة محكمة من الصلب، وتولى آخرون إفراغها من هوائها حتى هبط الضغط داخلها إلى 320 ملليمتراً من الزئبق أي ما يوازي ارتفاع 24. 500 قدم. وعندئذ تعذر على هالدان أن يقرا أو يبدي أية ملاحظة وكانت إجابته على أي سؤال يوجه إليه (دعه على 320) وبعد ساعة وربع استولى القلق على زملائهما خارج الغرفة فكتبوا رسالة وضعوها أمام نافذة الغرفة ولكن أجابتهما لم تكن سوى إجابة أناس تعطل تفكيرهم بسبب الحاجة إلى الأوكسجين.
وخفف الصحب الضغط لأي 350 ملليمتراً أي ما يوازي ارتفاع 21. 000 قدم. ومعنى هذا زيادة كمية الأوكسجين في الغرفة وان القوة العقلية تسترد جزءاً من قدرتها لا كلها، والدليل على ذلك أن هالدان أراد أن يرى شفتيه في مرآة تناولها ولكنه بدل أن ينظر إلى سطح المرآة العاكس حدق في ظهرها.
وخفف الضغط مرة أخرى إلى 450ملليمتراً (14. 500 قدم) فأنجلى ذهن هالدان تماماً. ولكنه لم يحس بمرور الوقت كما إن ذاكرته لم تع شيئاً مما مر به في تلك الفترة الطويلة.
ينام في ثلاجة:
وأجرى السير جوزيف باركروفت عدداً من التجارب ليعرف تأثير التبريد على المخ. وهو كما تعرف أحد العمليات الهامة في الكيمياء. فخلع ملابسه ودخل ثلاجة رقد على أرضها(723/32)
ليرى النتيجة. وكان يعرف إنه يعرض نفسه باختياره للتجمد ليدرك استجابات العقل في مثل هذه الحالة وكان يرقبه خارج الثلاجة أحد اتباعه، فلما رآه يفقد وعيه لفه في أغطية صوفية وأسقاه مشروبات ساخنة ليفيق. وقد كرر السير باركروفت تجربته.
ووصفها يقوله إن ما ذكره عن محاولتي خفض درجة حرارة جسمي قليل. ففي كل من التجربتين اللتين قمت بهما أحسست بلحظة تغير خلالها كل مظهري العقلي. فعندما كنت راقداً عاريا في الثلاجة كنت ارتعش، وكانت مفاصلي تنتفض رغماً عني في محاولاتها القيام كما أحسست تماماً بالبرد الشديد.
(وجاءت فترة مددت فيها ساقي، وغادرني الإحساس بالبرد وأعقبه شعور لطيف بالدف. ولعل كلمة (تشميس) أو (اصطلاء) هي انسب تعبير لحالتي فقد كنت أتشمس بالصقيع. وفي اللحظة التي توقف فيها ارتعاش جسمي بدأت الطبيعة البشرية في قتال عنيف لتقاوم استمرار التجربة. استيقظت كل غريزتي وكان من الضروري بذل جهد جبار حتى استمر. ومضت هذه اللحظة فرضيت عن نفسي في غبطة لأن تأثير الغريزة زال.
وشعرت بأنني وصلت إلى ذروة الحالة التي يصل إليها المسافرون حينما يكرهون على النوم في الصقيع في أقسى برودته وهم واثقون انهم لن يستيقظوا أبدا)
(وأدركت تغييراً أخرا في حالتي العقلية العامة، فإن الخجل الطبيعي من إن شخصاً يشترك في التجربة سيدخل الغرفة ليجدني عارياً قد اختفى تماماً. لقد تغير الحياء الطبيعي لأي شي لا أدري ما هو. ونم الجلي إن الإنسان يجب أن يكون شديد الحذر من انطلاق العقل. وهذه هي النقطة التي عرفتها فإن أرقى أجزاء الجهاز العصبي المركزي كانت أول ما تعرض للإرهاق حتى زالت موازينها.
تأثير الحرارة
أما ما يحل بالمخ إذا حدث العكس ورفعت درجة الحرارة، فكان موضوع التجربة التي قام بها هارفي ستون، وأسفرت عن استرخاء العضلات والنعاس واسترسال العقل في سبات عميق وما تحولت عنه إلى نوبات اضطراب وقلق.
وقد وصف التجربة بقوله (إن قراءة كتاب أو الجلوس في وضع واحد كانت من الأشياء المرهقة، وكان البقاء في وضع مريح يحتاج إلى قوة إرادة ملموسة. كما أن تلمس الراحة(723/33)
استلزم الحركة البطيئة الدائمة لكي يغير الإنسان وضعه)
وتؤثر كمية ثاني أو كسيد الكربون التي في الدم أيضاً على المخ. وقد جرب هالدان وعالمان آخران البقاء لمدة عشرين دقيقة في جو نسبة ثاني أوكسيد الكربون فيه 7. 2 في المائة، وهي تعد نسبة كبيرة، فأحسوا بعوارض الإجهاد العقلي. فلم يكن في وسع هالدان مثلاً أن يركز تفكيره أو ينتبه إلى ما يدور حوله من حديث بغير عناء كبير. ولم يستطيع قراءة جريدة ويدلرك معنى عباراتها. كان تعباً كأنسان اقبل على الفراش بعد إن أمضى أسبوعا بغير نوم. وكان يحس ذهنه كصفحة بيضاء لا تعي شيئاً مما يدور حوله.
يرى كل شي مزدوجاً:
ويحدث أيضاً تفاعل كيميائي معروف بتأثيره السيء على المخ عندما تتمزق إحدى الأوعية الدموية. وقد وصف الدكتور لوسيان كلارك ما حدث له في إحدى هذه الحالات بأنه كان يقاسى من ارتفاع ضغط الدم الذي بلغ 230 وهي نسبة كبيرة الارتفاع. وكان يتوقع أن ينفجر أحد الأوعية الدموية في أي وقت.
وصدقت نبوءته فكتب يقول (في 2 نوفمبر سنة 1934 كنت عائداً بسيارتي من زيارة أحد مرضاي حتى وقفني ضوء إشارة المرور، فلما أردت متابعة السير ومدت يدي إلى مفاتيح السيارة رأيت يدين وبدل المفاتيح مفتاحين. وتولاني الاضطراب لمدة ثانية واحدة استعدت بعدها وعيي، ولكني أدركت ما حدث، فأسرعت إلى البيت قبل أن يستفحل الأمر. وكانت عيناي طول الفترة تريان مختلف ألوان الأضواء.)
(كنت أرى كل شي مزدوجاً ولم أستطيع القراءة لأن ارتباط الحروف أو الأرقام ببعضها لم يرسل أي معنى إلى ذهني. حتى أدواتي الجراحية التي استخدمها سنوات طوالاً بدت غريبة أمام ناظري. ومع إني كنت اعرف طريقها فإني لم أدرك طريقة استخدامها. وكانت الكتابة نوعاً من المستحيلات.
كان من العسير أن اكتب سطراً واحداً فلما وفقت إلى كتابة حرف لم أجد له أي معنى. وفي هذه المرحلة بلغ الاضطراب والارتباك العقلي اشده. ولا ريب إني فقدت توازني الجسماني، فعندما حاولت اجتياز الغرفة تعثرت بعدة أشياء واتجهت رغبتي إلى النوم طول الوقت.(723/34)
الذكاء ودم المخ:
والتركيب الكيميائي للدم من العوامل الحيوية في تغذية المخ ونشاطه أو ركوده، وقد لجأ العلماء في السنوات الأخيرة إلى عدة وسائل علمية لدراسة كيمياء الدم الذي يغذي المخ بأجراء عملية بذل يحصل بها على الدم من أوعيته قبل المخ وبعده مباشرة.
وقد وصل العالمان ارهام ميرسون وهالوران إلى نتائج باهرة كشفت كثيراً من أسرار تغذية العقل. فوجدا مثلاً إن السكر في الدم يختفي بعد مروره بالمخ، أي إنه يتغذى بالسكر ويمتصه، فإذا زادت كميته أو قلت في الدم فإن نشاط المخ يختلف أيضا.
وقد لوحظ إن مخ الأصحاء يستهلك مقداراً كبيراً من السكر، فإذا قلت كميته في الدم انخفض نشاط العقل أيضا.
واثبت التركيب المعدني لدم المخ أهميته البالغة في تقديره ذكاء الفرد، فأعطانا مفتاحاً نتلمس به أسرار العقلية البشرية، فالكالسيوم والفسفور ضروريان لحفظ النشاط العادي لجميع أنسجة المخ فإذا قلت كميتها ظهرت عوارض البلادة الذهنية والخمول العقلي، فإذا زادا عن المعقول تجاوز النشاط الذهني حده العادي وربما بلغ حد الاضطراب مما دفع أطباء الأمراض العقلية إلى استخدامها في علاج مرضاهم.
وقد لا تمر فترة صغيرة حتى يحتل علم الكيمياء العقلية مكانه إلى جوار علم النفس ويساعد أخصائييه على فهم الطريقة الغامضة التي يعمل بها العقل البشري الكثير الغموض.
فوزي الشتوي(723/35)
من نشيد الحرية
للأستاذ محمود الخفيف
بالشرق غنيت وكم هزني ... وألهم الأسجاع قيثاريه
تعضنى الأغلال لكننى ... لاتعرف الأغلالَ أوتار يه
الحاضر المغلوب لم ينسنى ... روحاً به خالدة أيقظت،
بعد سبات حالك، دهره،
منىً بها رقرقت أشعاريه
والغرب كم في أفقه كوكب ... في ظلمات أطبقت، أومضا
يرقبه المدلج إذ يطلب ... هدى له في الدهر ممن مضى
لولاهم استوحش إذ يضرب ... في فلوات شد ما أوحشت
والعيش داج حوله عابس
والدهر كم من أمل قوضا
كم من أبيٍ عاف طعم الحياة ... ذليلة مذعنة ضارعه
غبية دانت بشرع الطغاة ... راسفة في جهلها راكعة
صماء ما إن أسمعتها شكاه ... خرساء ما أنت ولا استصرخت
عمياء ترعى الوهم منقادة
بلهاء في بأسائها رائعة
سقراط كأس الموت في كفه ... عن خمرها الشنعاء هل أحجما؟
أعجله اليأس إلى حتفه ... فأسلم الروح وما استسلما
مبتسم والموت في جوفه ... الظلمة الخرساء في حفرة،
أحلى له من باطل غاشم
في الأرض كم جرعه العلقما
وسيف روما الفاتح القاهر ... فتى الوغى فارسها قيصر
أرداه من شيعته جازر ... من دمه جنجره يقطر
يقول هذا غاضب جائر ... أضله الطغيان عن نهجه(723/36)
من حوله الحرية استصرخت
ألا فَتىً ذو نخوة ينصر؟
ما عدمت في دهرها نٌصْرَةً ... وما خبت شعلتها الساطعة
تمثلت ثائرة مرة ... في الحقل كانت زهرة وادعه
فانقلبت في حقلها ثورة ... عذراء في درع على ضامر
من حولها تحت غبار الوغى
أسنة ملء الفضا لامعه!
عن جانبيها جحفل واثب ... تلهبه الحرية الباسله
ساحرة كل لها خاطب ... ودونها نارٌ وغى آكله
النار ما إن هابها هائب ... كيف وهم في غمرات الردى،
يرونها إنسية بينهم
في درع (جندرك) لهم ماثلة!
تنقلت في ظلمات العصور ... الشعلة الوهاجة العاليه
كم ذائدٍ في كل عصر جسور ... فدى لها مهجته الغالية
هيهات لا يطفئ ما في الصدور ... قيد ولا خوف ولا غيلة
وكيف تخشى الموت نفس أبت
عيشتها في ذلة جاثيه؟
من الردى (لوثر) لم يفزع ... والغيظ نار حوله تضرم
ينزو به الخافق في الأضلع ... لو لم يبح أرداه ما يكتم
بِكرٌّ كَرَّ البطل الأروع ... بالرأي صوال على خصمه
وخصمه في الرأي ذاك الذي
يجود بالغفران أو يحرم!
والمارد الجبار في عصره ... الساحر المبتسم الناقم
يرتعد الطغيان من ذكره ... وما له من حربه عاصم
في نثره الويل وفي شعره ... (فلتير) والدهر له منصت(723/37)
ينقل للأجيال آياته
والظلم مستخذ له راغم
كأن في أضلاعه جمرة ... بنارها كم مهجة أشعلا
في كل قلب نافث ثورة ... مل كلَّ أو أبطأ أو بدلا
هاجر عن أوطانه هجرة ... نجت من (البستيل) آراءه
وا عجباً بالقلم المنتضى
بنيان هذا الحصن كم زلزلا!
وجاءت الرجفة من بعده ... وجن بركان بها يفهق
وأذهل الطغيان عن عهده ... فحوله الهول الذي يصعق
والدم موج جد في مده ... يخوضه الفادون في موكب
عروسه الحرية، أدركت
من حولها ألوية تخفق
زلزلة في الغرب قد جاوبت ... أختا لها في الأفق النازح
أختاً لها نازفة غالبت ... منذرها بالعاصف الجائح
بالموت إذ أنذرها حاربت ... فالعيش في الأغلال موت وما
يخشى الردى إلا الذي يرتضى
قيوده في عيشه الرازح
وهاجة شعلتها لاتنى ... تضئ لا يحبسها حابسٌ
من موطن سارت إلى موطن ... خانقها من موتها يائس
نار سناها ليس في الأعين ... ملء أبيات النفوس السنا
أعْظَم ما ضوَّأ لأ لاؤها
والليل مرهوب الدجى عابس
قيثارتي كم بطل خالد ... غير الذي غنيت ضاحى الكفاح
وكم شهيد نازف جاهد ... غاب اسمه وهو وضئ الجراح
وخامل تحت الثرى هامد ... كان طليق الروح ذا عزة(723/38)
لو كشف الدهر مدى عزمه
شدا به العزم وغنى الطماح!
في الأفق النازح لاتغفلي ... عن كوكب قيثارتي ابلج
عن نور (إبراهام) لا تذهلي ... في كل دهر قبلة المدلج
الناشئ البادئ بالمعول ... محطم الأغلال في قومه
هدية الغابة مبعوثها
أندادَه الأمصار لم تخرج
غنى بابراهام واستلهمى ... رسالة في عرسها استشهدا
رسالة ابن الفطرة الملهم ... الصارم العزم الوثيق الفدا
الحامل الأعباء لم يسأم ... والفتنة السوداء من حوله
حتى محا الرقَّ بياض الضحى
وألف الأبيض والأسودا
من بعده الشعلة حارت فما ... تلوح حتى يحتويها السحاب
ثم توارت بعد حين كما ... يموت في الظلمة ومض الشهاب
الأفق الغربي قد أظلما ... لولا مصابيح به نورهم،
باق على الدهر وأسماؤهم
حاضرة ما إن لها من ذهاب
في الغرب عهد الموقنين انقضى ... كما انقضى في الشرق وحي السماء
احتجب النور الذي أومضا ... وأعتم الليل ومات الرجاء
وا أسفا! كم أمل قوضا ... وكم تراءى شفق كاذب
مخضبُ مٌنكَدِرُ أفقه
البغي فيه والخنا والدماء
استدبر النور فما استقبلا ... فجراً ولا بارقة أبصرا
يخبط في أوهامه معجلا ... يخطو وما يمشي سوى القهقري
يعيش عيش الغيلة الأولا ... الناب والظفر تغطيهما،(723/39)
أغطية ما إن يرى مبصرُ
أشقى له منها ولا أخسرا
في شغل أٌفٍ مل يفيق ... معبوده ذو وهج يبرق
النور ما يلقيه هذا البريق ... فليس ومض غيره يعشق
وهو شواظ من عذاب الحريق ... يهوى إلى لألائه دائباً
هذا الفراش المستهام الذي
يجذبه اللمح الذي يحرق!
وألقيت في السجن مكبولة ... حيري به الحرية الراغمة
معصوبة في القيد مغلولة ... في أسرها جاثية قائمة
موصولة الثورة مذهولة ... تعجب، من البسها غلها
وفيم هذا السجن تلقى به
بعد ضحى رفت به هائمة؟
تصيح بالسجان إني هنا ... فانظر غداً إذ ترجف الراجفة
ما كان هذا السجن لي موطنا ... قد أزفت يا آسري الآزفة
هذا ندائي الخافت استعلنا ... أصغ له. . . للريح مجنونة
صافرة من كل صوب، أتت
تنبئ عما تحشد العاصفة
إني هنا لكنما تجتلى ... روحي في كل عَتىٍ طليق
في البحر. . في البيداء روحي فلا ... توثق أو تخشى ظلاما يحيق
في هزمة الرعد إذا جلجلا ... في السحب السابحة استرسلت
في رعدة الأرض إذا زلزلت
في زفرة البركان عاتي الحريق!
روحي في رفرفة الطائر ... وفي تغنيه إذا حلقا
وجذوتي في مهجة الشاعر ... بنارها ضوء أو أحرقا
ويحك! طال الأسر يا آسري ... يا موثق الطين بأغلاله(723/40)
الروح نور الله. . . من غَلّها
هيهات يا آسر إن توثقا(723/41)
الأدب والفن في الأسبوع
قبر الكاظمي:
كان المغفور له الشاعر العربي الكبير السيد عبد المحسن الكاظمي قد أوصى قبل وفاته أن يدفن بأرض مصر وأن لا ينقل رفاته إلى العراق. وتنفيذا لهذه الوصية قامت الحكومة العراقية من جانبها بتشييد مدفن له في مقبرة الأمام الشافعي، وقد تم بناء هذا المدفن في الأسبوع الماضي على وضع يليق بمكانة الشاعر الكبير وإكرام الحكومة العراقية لذاكرة ونقل رفات الشاعر إليه في حفل حضره كثيرون من رجال الأدب وأبناء العروبة.
ولعل من المعروف إن الكاظمي رحمه الله قد نشأ في العراق من أسره عريقة شريفة، ولكنه غادرها في صدر شبابه هرباً من العسف والطغيان وجاء إلى مصر فوجد من أريحية بنيها عامة ومن رعاية المغفور له الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبده ما جعله يؤثر الإقامة بها ويتخذ من أهلها أهلا وسكنا. وكانت له رحمة الله عليه صلة وثيقة بالمغفور له الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول، ولما قامت الثورة المصرية وقف الكاظمي ينصرها بشعره، ويرسل القصائد العامرة في تمجيد سعد والإشادة بزعامته، وله في ذلك جملة قصائد مطولة سماها بالمعلقات. . .
كان الكاظمي مثال الشاعر العربي القديم في صفاء الفطرة وغزارة المادة وحضور البديهة، وكان يرتجل القصيدة تزيد على المائة بيت دفعة واحدة فتاتي خالية من الحشو والفضول. وكان يترنم في الشعر بنغم يدوي حلو فيهز النفوس هزا، وقد أخذ حافظ إبراهيم عنه هذه الطريقة فكانت قوام الروعة في إلقائه المعروف، وعلى الرغم من بداوة الكاظمي في مضهره وفي طريقته فإن أسلوبه كان حلواً سائغا خالياً من المعاظلة والتعقيد. . .
حقاً إن الحكومة العراقية قد أكرمت ذكرى هذا الشاعر الكبير بتشييد هذا الضريح، وبما أغدقته من رعاية لابنته الوحيدة رباب وقد كانت (رباب) كل أمل للكاظمي في حياته، فلعل حكومتنا تقوم من جانبها بإكرام ذكرى شاعر منح مصر قلبه وخصها بشعره، فتجمع كل آثار الكاظمي وأشعاره وتطبعها في ديوان فإن الكاظمي يخلد بشعره أكثر مما يخلد بقبره.
برناردشو والجاحظ:
يشتغل الأستاذ أحمد حقي نائب مدير مكتب البعثات المصرية في لندن بتلخيص مؤلفات(723/42)
الكاتب الأيرلندي المعروف برناردشو وإخراجها في كتاب جامع، وقد أراد بهذه المناسبة أن يقابل الكاتب الكبير ليباحثه في بعض الآراء، فكتب إليه برناردشو يعتذر عن المقابلة ويقول له: إن المقابلات أمر خارج عن الموضوع، فإني رجل هرم، وليس في مقدوري استقبال الزائرين، ولا البحث معهم في مؤلفاتي، وما كتبته قد كتبته، وأود الآن أن يقراني الناس لا أن يروني. . .
وقد اذكرني هذا بحادثة مماثلة من كاتب العربية الكبير أبى عثمان الجاحظ، فقد روى عن أبس طاهر انه قال: صرت إلى الجاحظ ومعي جماعة وقد أسن واعتل في آخر عمره، وكان يجلس في منظرة له وعنده ابن خاقان جاره، فقرعنا الباب فلم يفتح لنا، واشرف من المنظرة فقال: إلا إني قد حوقلت وحملت رميح أبى سعد فما تصنعون؟ سلموا سلام الوداع، فسلمنا وانصرفنا فما أشبه صنيع برناردشو اليوم بصنيع الجاحظ بالأمس، والناس هم الناس في جميع الأزمان والأجيال. . .
نشاطنا الثقافي:
يعنى معالي وزير المعارف عبد الرزاق السهوري باشا برسم الخطة لإصدار سجل ثقافي تتولى إخراجه كل عام إدارة مختصة في وزارة المعارف وتضمنه مظاهر النشاط الثقافي في مصر ليكون تاريخا لحياتنا الثقافية وما يجد فيها من تطورات واتجاهات، وما يبدو في مجاليها من جهد وإنتاج.
وإنها لفكرة طيبة وخطوة موفقة، لأن إصدار مثل هذا السجل فضلاً عما له من الفائدة التاريخية سيكون حافزاً لشحذ العزائم، فسيقف الناس فيه على مدى النشاط الفكري، أي إنه سيكون بمثابة صحيفة حساب عن الجهد الثقافي في عام. . .
وحبذا لو أخذت جميع الهيئات والجماعات الثقافية والعلمية بهذه الفكرة، فتقصد كل منها إلى وضع سجل سنوي يؤرخ مظاهر إنتاجها ومناحي نشاطها حتى تبرر وجودها أمام الناس، على ان تتولى الوزارة تنسيق هذه السجلات الخاصة في سجلها العام.
الروابط الثقافية بين الأقطار العربية:
تبدي الجامعة العربية نشاطاً ملحوظاً مشكوراً في توثيق عرى الروابط الثقافية بين الأقطار(723/43)
العربية، وقد أشرنا إلى مظاهر هذا النشاط ومقاصده الطيبة في أعداد الرسالة السابقة، ويسرنا أن نشير اليوم إلى خطوة سديدة خطتها الجامعة في هذا السبيل، ذلك إنها قررت أخيرا أيفاد أساتذة محاضرين من مصر إلى عواصم الأقطار العربية الأخرى، واستقدام أساتذة محاضرين من تلك الأقطار إلى مصر والى غيرها من الدول العربية لإلقاء محاضرات عامة تقوية للروابط الثقافية بين أقطار العروبة.
وأنها كما قلنا خطوة موفقة تدعو إلى الغبطة والاطمئنان على مستقبل العالم العربي ومستقبل الوحدة العربية، فإن الوحدة الثقافية في الواقع أساس الوحدة السياسية ولن تجتمع كلمة العرب في القصد إلى هدف سياسي واجتماعي موحد إلا إذا تقارب اتجاههم في التفكير وتوحدت وجهتهم في الإدراك العقلي والثقافي، غير إننا نعود إلى ما سبق أن حذرنا الأمانة العامة للجامعة العربية من الوقوع فيه، وهو الاقتصار في النهوض بهذه المهمات على الرجال الرسميين والأساتذة الموظفين، بل يجب أن تجعل ذلك ميدانا مفتوحا يجرى فيه رجال الفكر والثقافة المتحررين من ربقة الرسميات وتقاليد الوظائف لأن التفكير الرسمي أجدب ما يكون في خدمة تلك الاتجاهات والنهوض - كما يجب - بمثل هذه المهمات. . .
شاعر. . . وطباخ:
قرأت في إحدى الصحف العربية التي تصدر في المهجر الأمريكي نبأ طريفا تقول فيه: علمنا أن حضرة المواطن الفاضل الشيخ حسين أبو حمزة شاعر الجيل الفذ المشهور نزيل مدينة جكسنفيل قد افتتح مطعما جميلا في تلك المدينة، فنرجو الله أن يوفقه في تجارته وان يدعمه بلبلا غريدا في حقل الشعر. . .
وضحك صاحبي الذي كان يستمع لما قرا وقال: أظن أن شعر صاحبنا هذا تفوح منه روائح البهار والتوابل، وأعتقد إنه مما تشتهيه البطون. . . ثم اندفع يعلق على هذا الكلام فقال: لقد كان المرحوم الأستاذ محمد السباعي يقول: لا تقل يانسيم الصبا وياريح الغرام، بل خير لك أن تقول: يا نسيم المطبخ ويا ريح الشواء، وكان يقول أيضا: لأجل أن تعيش لا تكن أديبا فحسب، بل كن ادبيا وصانع أحذية أو أديبا وبائع لعب أو أديبا وشيئا من ذلك. . . وتصور أنت إن أديبا من أدبائنا الكبار افتتح مطعما أو احترف حرفة من هذا القبيل،(723/44)
أن الناس لا شك كانوا ينظرون إلى هذا على انه شيء غريب مضحك. . .
قلت: اجل. إن هذا قد يبدو لنا أمرا غريبا عجيبا لأننا تعودنا أن ننظر إلى الأدب على انه حرفة متميزة، لا يصح أن تقرن بحرفة أخرى، أصبحنا ننظر إلى الأديب على انه إنسان يعيش في عزلة عن دنيا الناس، فلا يصح منه ولا يليق به أن يسلك سبيلا في الحياة من سبل الناس، وهذا إسراف لا مبرر له، وإجحاف لا أنصاف فيه.
إن الأدب يا صاحبي ليس حرفة في ذاته، وان الأديب إذ يبتذل فنه في سبيل العيش يكون قد تدلى إلى اسفل، ونزل به إلى سوق التجارة، وإنما الأدب الهام وتضحية كما يقول تولستوي. وقد كان الجاحظ وهو أديب العربية يشتغل في أول حياته يبيع الخبز والسمك على نهر سيحان، وكان أبو هلال العسكري يبيع البز في الأسواق، وكان الخبز أر زي يصنع خبز الأرز، والحسين الجزار يشتغل جزاراً، وهناك عشرات أمثالهم من الأدباء والشعراء كانوا يعيشون من البيع والشراء في عروض التجارة وينتجون في الأدب ويقولون الشعر، فليكن يا صاحبي فينا الشاعر الطباخ والأديب الخباز والفنان النجار، فإن هذا لن يضير الأدباء ولن يغض من قيمة أدبهم، وإنما الانحطاط الأدبي إن يجعل الأديب من أدبه مادة تجارة لكسب الرغيف.
جائزة فؤاد للآداب
عرف قراء الرسالة مما نشرناه في العدد السابق أن الأستاذ الكبير معالي أحمد لطفي السيد باشا رئيس لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للآداب قد أعلن في حفلة توزيع الجوائز بالجامعة إن اللجنة لم تستطع إنجاز مهمتها لضيق الوقت ولهذا رأت تأجيل منح الجائزة إلى العام القادم، ولكن بعض الصحف علقت بكلام كثير في هذا الشان وزعمت أن الأدباء الذين تقدموا لنيل الجائزة لم يستحق أحد منهم الفوز بها.
ولما كان صاحب (الرسالة) عضوا في لجنة الفحص، فقد سألناه كما سألنا غيره من الأعضاء عن الحقيقة فأكدوا لنا جميعا أن الحقيقة هي أن وقت اللجنة كان أضيق من أن يتسع للمفاضلة بين ما أرسلته إليها وزارة المعارف وقد بلغ حوالي مائة كتاب في أغراض مختلفة. وقد رأت اللجنة إن الأفضل أن تمنح الجائزة وقدرها ألف جنيه لتتويج مجموع إنتاج كاتب من الكتاب لا مكافأة كتاب من الكتب فتكون جائزة فؤاد على غرار جائزة نوبل(723/45)
التي يكافأ بها كاتب أو عالم أو سياسي على مجموع عمله. أما مكافأة الكتاب الواحد فتكفيها الجوائز التي يمنحها سنويا مجمع فؤاد للغة العربية وهي جوائز تتراوح قيمة كل منها بين المائة جنيه والمائتين واللجنة تسعى لدى وزارة المعارف لتحقيق ذلك.
وهناك ناحية أخرى يجب أن تكون موضع الاعتبار، وهي فتح الباب للفوز بهذه الجائزة أما أبناء الأقطار العربية الأخرى، إذ لا يخفى أن هذا مما يرتفع بقيمة الجائزة ويتمشى مع الرغبة في توثيق الصلات الثقافية بين الأقطار العربية.
(الجاحظ)(723/46)
البريد الأدبي
تعليق على تعليق:
هذا كتاب أرسله إلينا الأستاذ محمد تقي القمي السكرتير العام لجماعة التقريب تعليقا على مقال الأستاذ الطنطاوي المنشور في العدد السابق.
. . . وبعده، فقد نشرت الرسالة في عددها 722 كلمة للأستاذ الفاضل علي الطنطاوي بعنوان تعليق على كتاب، إلى علماء الشيعة عرض فيها للخلافات الطائفية بين المسلمين، وذكر إنها خلافات سياسية كان من الواجب أن تنتهي بانتهاء معاركها السياسية. ويقرر حضرته إن أهل السنة يتمنون أن تطوى الخلافات وينسخ حديثها وتتناسى حتى تنسى، وعرج على كتاب تحت راية الحق في الرد على الجزء الأول من كتاب فجر الإسلام واقتبس منه فقرات تمس أهل السنة؛ وأظن إن عنوان الكتاب كاف للدلالة على إنه وضع منذ ست عشرة سنة رداً على مطاعن وجهها إلى الشيعة مؤلف فجر الإسلام نفضل ألا نشير إليها حتى لا نثير مسائل نعمل للقضاء عليها. وقد تبين للمؤلف عدم صحتها فحذفها من الطبعة الثانية - ومعنى هذا إن الشيعة لم يعتدوا وإنما دافعوا عن أنفسهم فقط. لو أن الأستاذ طنطاوي التفت إلى مقدمة الكتاب المذكور للعلامة آل يس الكاظمي وقد كتبه منذ ستة عشر عاما لوجد فيها ما يصرفه عن تناول هذا الموضوع، ولتأكد إن علماء الشيعة ينفرون مما ينفر منه، ويدعون لما يدعو إليه، ويرغبون في التقرب إلى إخوانهم السنيين. ولوجد أن الكاظمي نفسه أخذ على المؤلف إسرافه وان كان التمس له بعض المعاذير.
وبصفتي عضوا في جماعة التقريب وملما بأحوال النجف وإيران أؤكد إن أحدا من علماء الشيعة لا تسمح له نفسه أن يهاجم المذاهب الأخرى - اللهم إلا أن يكون كاتباً يؤجره المستعمرون - الذين يريدون القضاء على فكرة التقريب بأي ثمن - وليس في علماء الشيعة - والحمد لله - من يغريه المال. . .
ولا يفوتني أن أكر أن ما ينصح به كاتب المقال ويراه طريقاً للاتفاق بين الشيعة والسنة هو بعض ما تسعى إليه جماعة التقريب، وفي المادة الثانية من قانونها الأساسي ما يؤكد ذلك، واعتقد إن من السهل تحقيقه في زمن قصير لو أعاننا رجال الفكر والعلم والقلم أمثاله.(723/47)
أما نفقات دار التقريب فإن مصدرها تبرعات حضرات أعضاء الجماعة سنيهم قبل شيعيهم وسجلات الدار مفتوحة لكل من يريد الاطلاع.
ومع إني أشكر لآخي الأستاذ طنطاوي حسن ظنه بجماعة التقريب واعتقاده إنها قادرة على رفع الخلافات الطائفية في ثلاثة اشهر - أي من وقت تأسيسها إلى الآن - إلا إني آخذ عليه ما ذكره من إني اقدم لأصدقائنا الكثيرين من فاخر المآكل والمشرب فإني أخاف أن يثوروا جميعا علينا، إذ لم يقدم إليهم سوى القهوة أو الشاي.
واحب أن أقول لحضرته لو عرف حياتي الخاصة في إيران ما حسب إن نزولي بفندق الكونتينتال فيه شيء من الترف أو الإسراف كما خيل إليه.
محمد تقي الفمي
السكرتير العام لجماعة التقريب
تحقيقات تاريخية
للدكتور علي إبراهيم حسن جولات في التاريخ الإسلامي كان آخرها دراسات في تاريخ المماليك البحرية وفي عصر الناصر محمد بوجه خاص، وهو كتاب قيم جدير بمؤلفه ولا تكفي هذه العجالة للإلمام به أو الإشارة إلى قيمته ولكن ورد فيه بالصفحة 29 بعض تعليقات منها ما جاء تحت رقم 5 (والمعروف أن والد السلطان برقوق كان من فلاحي الدانوب) ولما كان المعروف لدى المعاصرين والمجمع عليه كما جاء في ابن أياس وهو حجة لأنه جركسي الأصل إن السلطان برقوق مؤسس دولة الجراكسة كان من خلاصتهم. وفيه أيضا: حضر من بلاد الجراكسة والد الاتابكي برقوق فخرج الناس لملاقاته قاطبة فلاقوه في البكارشة في يوم الثلاثاء 8 ذي القعدة سنة 781.
وفي وفيات 783 وفيها انس بن عبد الله الشركسي والد برقوق الملك الظاهر كان كثير البر والشفقة لا يمر أسير مقيد إلا ويطلقه لا سيما إذا رأى الذين يعمرون بالمدرسة التي ابتدأ السلطان بعمارتها، توفى في شوال ودفن بتربة يونس ثم نقل إلى المدرسة (يقصد البرقوقية) فدفع ولده الظاهر إلى جلال الدين التباني ألف مثقال وستمائة ذهبا ليحج عنه ويقال انه جاوز التسعين (((شذرات الذهب).(723/48)
فمن أين جاءت مدام ديفونشير بان هذا الوالد من فلاحي الدنوب؟ اسم برقوق من الأسماء التي يحملها الجراكسة إلى الآن ضابط من اصل جركسي وصل إلى رتبة جنرال في الجيش التركي والتقيت به مرارا مدة خدمتي بأنقرة بالسفارة المصرية، ولم أتمكن من تحقيق الناحية اللغوية لهذا الاسم ولكني قرأت في تعليقات الأمير شكيب أرسلان على ابن خلدون صفحة 102 ومن أصناف الترك (الشاروق) أو (الجاروق) وكانوا يسكنون في مدينة برقوق التي هي اليوم ماد الباشي.
وفي الضوء اللمع: برقوق ابن أنص الظاهر أبو سعيد الجركسي العثماني نسبة لجالبه كان شهما شجاعا ذكيا خبيرا بالأمور. وساق كلاما عن ترجمته حتى قال وترجم له الفاسي في مكة وله سيرة طويلة جمعها بعض أهل العصر في مجلد.
وفي كشف الظنون إن له سيرة جمعها ابن دقماق ثم العيني وذكره أي برقوق المقريزي في عقوده وجاء في خططه صفحة 341 جزء 3 انه اخذ من بلاد الجركس ويبيع في بلاد القرم.
وجاء عنه انه تعلم الفقه وسائر العلوم الإسلامية حتى أن أستاذه بليغا لقبه بالشيخ فمن أين أتى ذكر بلاد الدانوب؟ وهل لدى مدام ديفونشير نص تاريخي يمكن الاستشهاد به؟
لا يمكن إنكار حقيقة واقعة وهي أن بلاد الدانوب وبعض بلاد البلقان أتى عليها وقت ساد فيه الإسلام ربوعها وذلك قبل آل عثمان وقبل هجمات التتار أي في أوائل القرن السابع الهجري. وجاء في تعليقات الأمير شكيب إن جميع البلاد إلى النصف الأول من القرن السادس عشر للمسيح من شبه جزيرة البلقان وشطوط البحر الأسود إلى الصين ممالك إسلامية متصلة كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية.
وفي نص نقله الشيخ عز الدين عمر بن علي بن إبراهيم بن شداد عن الأمير بدر الدين يسرى المشمسي انه كان رفيق الملك الظاهر بيبرس في بلاد القفجاق وهي الجزء الشمالي من البحر الأسود فلما زحف التتار من القوقاز عليها كاتب قبائل القفجاق أنس خان ملك الاولاق أن يعبروا نحو صوراق إليه، والمفهوم أن بلاد الاولاق باللغة العثمانية، كما أن المفهوم أن صوادق تقع في شبه جزيرة القرم، وإن الأسماء الروسية والأجنبية مثل سباسيتول وغيرها أطلقت حديثا على بلاد إسلامية بعد ضمها إلى الروسيا.(723/49)
فهل أخذت مدام ديفونشير إن اسم أنص هو لكل من يسكن أو يأتي من نهر الدانوب؟ ام كيف تنسب الظاهر برقوق إلى هذه الجهة وتاريخه العائلي معروف بالتفصيل بدليل مجيء والده واخوته وأخواته وبعض أولادهم واستيطانهم مصر بعد سلطنته؟ وجميع المصادر المعاصرة تقرر في كل مرة يحضر فيها واحد منهم أو بعضهم بان حضورهم من بلاد الجركس وانهم كانوا مسلمين وماتوا مسلمين.
أحمد رمزي
اقتراح
يخطب الخطيب فيصفق الناس أو يدعون فيعرف ما يحبون وما يكرهون، ويغني المغني فيهتف السامعون أو يسكتون فيدرك إن كانوا يطربون أو يكتئبون، وتصدر المجلات ويكتب الكاتبون. فلا يدرون أيرضى القارئون أم يسخطون.
فلماذا لا تسن الرسالة سنة جديدة يعلن بها القراء عما يرضيهم ليصلوا إليه. ويعلم به الكتاب فيكثروا منه؟ ثم أن الرسالة اليوم على أبواب تطور جديد في جوهرها ومظهرها. وإصلاح شامل تستكمل به قوتها. وتحتل مكانها فلماذا لا تشرك القراء معها، (وهي لهم وهم لها) في وضع منهاج هذا التطور، ورسم طريق هذا الإصلاح. فتسال كل قارئ (1) عما يعجبه من الرسالة لتزيده له (2) وما يكرهه لتخلصه منه (3) وما يؤمله لتحققه له. ويؤلف لجنة لفحص الأجوبة وترتيبها وإعلان نتيجتها ونشر الجيد المعلل المدلل منها؟ ما هو رأى الرسالة؟
علي الطنطاوي(723/50)
الكتب
الله
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
بقلم الأستاذ محمود الخفيف
هذا الكتاب جليل القدر من ناحيتين: ناحية موضوعه وناحية كتابه. . .
ولست أجد في وصفه خيرا من أن أقول إنه كتاب عظيم، والحق إن هذا الكتاب لو صدر في أي لغة لكان بين كتبها من أعلام الكتب والآثار من اهتمام المفكرين والقراء ما هو خليق بأشباه من الكتب الفذة، وإنه ليسرني في هذا المجال الضيق أن أتحدث حديثا موجزا عن هذا الكتاب هو اقرب إلى التحية منه إلى النقد.
يحق لكتاب العربية من زمن طويل أن يستبشروا بكل ما يكتب العقاد، فقد اتفق له من الخواص ما يجعله بغير ريب من مفاخر جيلنا هذا، بل ومن مفاخر الفكر العربي في تاريخه كله، ومن هذه الخواص أصالة الرأي واتساع أفق الثقافة، وحدة الذكاء وقوة المنطق، هذا إلى لقانة عجيبة يستشف بها الحجب وينفذ بها إلى الأعماق، فإذا أضفت إلى هذا براعة أسلوبه وقدرته على التعبير القوى الموجز الذي لا يزيد ولا ينقص عن المعنى، وذوقه وضلاعته في اختيار اللفظ المطلوب، تمت لك صورة العقاد الكاتب، وانك لتجد هذه الخواص مجتمعة في اكمل صورها في هذا الكتاب الذي أتحدث عنه.
تبقى بعد ذلك صفة هامة من صفات الكتاب، وهي الإحاطة المدهشة بنواحي الموضوع على دقته وعلى الرغم من تشعب مذاهب القول فيه. والواقع إن كل فصل من فصول هذا الكتاب يصلح موضوعا لكتاب، وانك لتخرج مع هذا من كل فصل بما تخرج به من كتاب كامل. فالأستاذ المؤلف يعرض ما دار من الآراء حول ما يطرق من الموضوعات، ولا يكتفي بالعرض بل يأتي بكل ما يرد به على هانيك الآراء، وهنا تبرز قوة منطقه وسعة أفقه وتمكنه مما يقول، ولا يسعك إلا الإعجاب العظيم كما انك تستشعر اللذة التي يبعثها اتساق الفكر وحسن السياق. . .، وتجد ذلك جليا في فصول الكتاب جميعا وبخاصة أصل العقيدة وفي براهين وجود الله.(723/51)
خصصت لقراءة هذا الكتاب زمنا ما، فما فرغت منه حتى عدت إلى قراءته، ثم عاودت النظر اكثر من مرة في بعض فصوله مثل ذلك الفصل الجميل الوعي الكوني الذي تتمثل فيه أصالة العقاد، ومثل البراهين القرآنية التي ترينا كيف يغوص العقاد فيخرج بما يطلب من المكنونات والخفايا. . .
ولقد قرأت في الإنجليزية كثيرا من الكتب التي تناولت مثل هذا البحث، واشهد في غير مجانية للحق إني ما ظفرت في أحدها بمثل ما ظفرت به في هذا الكتاب من الإلمام والاستيعاب، وإني لأعجب كيف يجتمع هذا كله بين دفتي كتاب لا تزيد صفحاته على ثلاثمائة، ولكنه فن العقاد. . .
وبعد فهذا كتاب ينبغي أن يقرأه المؤمن ليزداد إيمانا مع إيمانه، والحائر ليجد سبيل هدايته، والمتشكك ليطرح شكه، والجاحد ليعلم علم اليقين انه أسرف على نفسه بجحوده، هذا ما تركته في نفسي قراءة هذا السفر الجليل، ولعلي بعد ذلك لم أوف على الغاية مما أحببت أن أقول.
ولا يفوتني أن أشير إلى شيء آخر راقني في الكتاب كله، ذلك هو منطق ترتيب البحث وتأليف الكتاب، فأنت تخرج من فصل إلى فصل كما تنتقل من فكرة إلى فكرة لها أوثق الصلة بها، بحيث لا تستطيع أن تقدم منه فصلا على فصل، يضاف إلى ذلك انه ليس بين هذه الفصول المتساوقة ما يشعرك بأن في هذا الموضع أو ذاك فصلا ناقصا كان يجب أن يكون. . .
بحث الأستاذ في اصل العقيدة الإلهية وتطورها وتكلم عن الوعي الكوني كتمهيد للبحث في ذات الله، وفكرة الوعي الكوني هذه من اجمل وابرع ما صور للعقاد، واستعرض الكاتب بعد ذلك الأديان القديمة في مصر والهند والصين واليابان وفارس وبابل واليونان كلا منها في فصل، ثم عرض الأديان السماوية قبل الفلسفة وبعدها، وألمع إلى التصوف، وانتهى إلى براهين وجود الله العقلية منها والنقلية، وختم كتابه الجليل بكلمة في آراء الفلاسفة المعاصرين وفي العلوم الطبيعية وعلاقتها بالمباحث الإلهية. . .
ومن هذا يدرك القارئ كيف كان بناء الكتاب على هذه الصورة من براعة المنطق.
تحيتي للأستاذ الكبير مشفوعة برجائي أن يزيدنا من ذخائره الطيبة الفذة التي نحن أحوج(723/52)
ما نكون إليها، والتي يحق أن تفخر بها المكتبة العربية.
الخفيف
في فلسطين العربية
(تأليف الأستاذ محمد يونس الحسيني)
تعتبر فلسطين في هذه الأيام مشغلة الأذهان في العالم العربي، لهذا تمتلئ النفوس للهفة إلى معرفة كل شيء عن تلك البقعة المقدسة التي هي مثار ذلك الخلاف العنيف، وليس هذا الكتاب في الواقع إلا تقريرا ضافيا وافيا عن طراز الحياة العربية القائمة في فلسطين، وقد قدم المؤلف الفاضل لشح هذه الحقيقة في كتابه بمقدمات تاريخية مفيدة عن بيت المقدس وعن فتح العرب لفلسطين وما كان لذلك القطر من شأن على عهود الدول الإسلامية المختلفة، ثم انتقل من هذا إلى الحديث المستفيض عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على نهج علمي يعني بالحقائق وإيراد الأرقام وعقد المقارنات، ثم شرح الصلة بين هذه النواحي وبين مستوى المعيشة والحياة التي يحياها أبناء فلسطين العرب في هذه الآونة.
فالمؤلف الفاضل قد سد بكتابه هذا حاجة عند أبناء العروبة وصور لهم ناحية كان من الواجب أن يقفوا عليها ويفهموها لأنها في الواقع الأساس لفهم المشكلة الفلسطينية والعمل على إنقاذ ذلك القطر العربي من براثن الاستعمار والطغيان وإنه لعمل يذكره له وطنه ويشكره له سائر أبناء العروبة.
الحكر في مصر
(تأليف عثمان بك فهمي)
والحكر في مصر ناحية من النواحي التي تشغل الأذهان في الدوائر القضائية والحكومية نظرا لكثرة ما يجد فيها من المشكلات ثم ما يكون في ذلك من اختلاف في الرأي والتقدير، وقد عرض المؤلف الفاضل في كتابه هذا إلى هذه الناحية فتناولها تناول الباحث المحقق والخبير المدقق، إذ عني بالحديث عن عقد الحكر وما يحدث من الخلاف في تطبيقه وأتى(723/53)
في هذا على وجهات النظر الواردة في الفقه وفي القانون وفي العدل، وصحح ما هو شائع في التطبيق من الأخطاء الشائعة والاعتبارات التي تصطدم بالواقع وفارع وزارة الأوقاف ما تدعيه في عقد الحكر منذ خمسين عاما وختم بحثه بالمطالبة بإبعاد القضاء عن نظر مسائل الاحتكار. وإن هذا الكتاب بموضوعه هذا وبما اشتمل عليه من الدقة والعمق في البحث يهم رجال الفقه والقانون والمعنيين بمسائل الاحتكار بصفة عامة بل إنه يعتبر مرجعا وافيا ومصدرا نافعا في الاعتماد عليه.
محمد فهمي عبد اللطيف(723/54)
القصص
الاختيار الذي كسر قلبي
معربة عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ عبد الحميد حمدي
(ماذا يجب أن تعلم المرأة إذا هي ووجهت بهذه المشكلة؟ بل ماذا تستطيع أن تعلم؟ وهل هناك قانون يحدد الصواب والخطأ تستطيع أن تسترشد به؟)
سألتني صاحبتي، بعد أن خرجنا من دار السينما على أثر مشاهدتنا الرواية القوبة (أنا كارنينا)
- كيف استطاعت ذلك؟ لقد كانت القصة رائعة حقا وقد مثلت تمثيلا مدهشا، ولكنني لا أتستطيع أن أصدق أن أية أم يمكن أن تتخلى عن طفلها جريا وراء رجل ما، بلغ حبها ذلك الرجل ما بلغ من عنف ومن يأس!
فلم أقل شيئا تعقيبا على كلمات صاحبتي، ولكن يدي المخبأتين في قفازيهما تشنجتا وانطبقت شفتاي انطباقا محكما، ومن أين لها أن تبين ذلك الألم الصامت الذي يمزق صدري ويلهب رأسي، فالنساء اللواتي يجتمعن في الشرق الأقصى ويتحدثن ويشربن يصطنعن الصداقة ولكن لأغلبنا أسرارا يحتفظن بها في أعماق قلوبهن لا تستطيع هذه الصداقة المزعومة أن تفض خاتمها.
لقد تزوجت من (روني كوبلرن) لأنني كنت أحب (تيد بورتر) حب جنون ويأس. وليس لهذا التصرف من معنى معقول، على أن أشد من هذا بعدا عن كل معنى معقول أن تيد كان يحبني وكان، بعد أن تنتهي السنوات الثلاث المفروض عليه أن يقضيها في الخدمة فيما وراء البحار، طليقا من كل قيد يحول دون زواجه مني. ولقد انتظرته سنتين من هذه السنوات الثلاث قضيتها في التلهي والتروض مع الشبان الآخرين، ولكنني احتفظت في أثنائهما بشفتي وجسمي وقلبي لتيد بعد عودته.
لقد كان ذلك آمرا شاقا علي، بعد أن نعمت سنتين بقرب (تيد) وجسمه وقبلاته وضمات ساعديه، ولكنني ظننت أنني أتستطيع تحمل هذه التجربة القاسية، لقد كان ذلك واجبا علي(723/55)
حتى أكون أهلا (لتيد) فلقد كان يحارب الوحدة وحرارة جو الحمي، لا يجد حتى فتاة تواسيه أو شرابا ينعشه، لقد كان (تيد) قويا، وكان الرجل الذي لا يحب غير امرأة واحدة - وكنت أنا هي تلك المرأة!
كان الله في عوني! فلم أكن أرغب في إنسان غير (تيد) ولكن لم يكن لي مثل قوته. وكان (روني كولبرن)، الذي قابلته في أثناء السنة الأخيرة من افتراقنا - إذ لم يبق غير اثني عشر شهرا يعود (تيد) في نهايتها إلى الوطن - كان روني هذا شديد الإصرار والإلحاح. وكان طروبا جذابا في أسلوب شيطاني. وقد صمم على أن أكون له. ولعل جريان دمي كان يزداد سرعة كلما دنا موعد رجوع (تيد) لذلك أصبحت لا أملك شعوري كلما لمسني (روني)، وحدث في ذات ليلة قضيناها في رقص وبهجة رائعين أن رجاني في توسل أن أسمح له (بقبلة واحدة) وإذ مال رأسي إلى الوراء شعرت بشفتيه تضغطان شفتي فكأنما كانت هذه القبلة طعاما قدم لجائع تقتله المسغبة.
ووقفنا هناك متعانقين في الشرفة وهو لا يفتأ يقول:
- ليس يضرنا إننا لم يعرف أحدنا الآخر إلا منذ شهر واحد. فهذا هو الحب ياعزيزتي (بام) وستتزوجين مني. . . في الحال.
وحاربت رغبته الملحة ثلاثة أسابيع كنت في أثنائها أتقي الاجتماع به ما استطعت، وقلت في نفسي إنني مجنونة حمقاء. ولكن غبية (تيد) قد طالت حتى إنني، ولو حننت إليه وعلى الرغم منكل ما كان بيننا، لا أتستطيع أن أذكر حتى ولا شكل وجهه. أما (روني) فكان قريبا مني، وكان شخصا حقيقيا أراه وألمسه وأشعر بوجوده وهل كان شيئا غير الحب ذلك الذي سرى في كياني سريان الكهرباء عندما ابتسم لي وأمسك بي؟
وانتصر (روني) آخر الأمر، وقضينا إحدى (العطلات) الأسبوعية مختفيين عن أعين الناس وتحت تأثير شعور لذ مبهج مخيف، أقسمت إيمانا لم أقصد إلى الوفاء بها، وكل ما كنت أعزي به نفسي فكرة يائسة سخيفة هي إنني إن كنت قد أخطأت فإنني أتستطيع أن أسترد حريتي بالطلاق. فكان كل ما حدث حلما جنونيا مرعبا، تدرج من دهشة الذين علموا بأمر زواجي، إلى قضاء شهر العسل في المسكن الذي استأجرناه خصيصا له، ثم بخروجنا أمام الناس متأبطين - فكان حلما خاطفا غير مكتوب له الدوام.(723/56)
ولو يكن بد من أن أستيقظ من ذلك الحلم فأدرك إنني قد تزوجت من رجل غريب عني في كل شيء. لقد كان لطيفا يسر الإنسان أن يكون معه ولكنه لم يكن (تيد). ولقد كنت كذلك المرأة الوحيدة (لروني) أيضا ولكن على غير الطريقة العمياء المطوية على الوله والعبادة التي كانت تظهرني في عين (تيد) مثالا لكل شيء جميل.
ولم يلبث (روني) أن نظر إلى النظرة العادية إلى الشيء المألوف، لا يقبلني إلا نادرا إن خطرت له فكرة التقبيل على بال، وكان من النادر أيضاً أن يقول لي إنه يحبني، ولم يقصد قط النظر إلى ملابسي أو شعري، ولم يكن ليبدي له من الإعجاب ما تشعر كل فتاة بأنه من حقها الواجب أداؤه لها.
وفي كثير من المرارة والألم ذكرت كيف لم أكن لأبدل ملبسا أو أضع دبوسا في شعري دون أن يهمس (تيد) في دقة (يا للسماء يا حبيبتي كيف تستطيعين أن تنوعي جمالك بهذه الوسائل العديدة؟). وذكرت كيف كان يندر أن يتركني أغيب عن نظره، وكيف كان دائما إذا ما اجتمعنا لمس يدي أو شعري أو شفتي. . . يالها من ذكرى. . . فأواه يا تيد أواه. . . .
وبعد أسبوع واحد يصل (تيد) إلى الوطن وسيتجول في الطرقات المألوفة لنا في غير صحبتي ولعله يذهب لزيارة أمي، رافع الرأس متألما ومتذكرا - كما أتذكر أنا هنا في هذه البلدة الصغيرة في مقاطعة نور ثمبرلاند التي أخذني روني إليها بعد زواجنا.
لقد كانت الأزمة شديدة لذلك حمد (روني) الله إذ وفق إلى مركز كاتب في أحد الجراحات، وهو عمل صغير يتقاضى أجرا عليه ثلاثة جنيهات في الأسبوع، فاستأجرنا لإقامتنا مسكنا رخيصا وعشنا عيشة رثة. فأين الآن ما كنت أتوقع من حياة ساحرة
لقد أردت أن أعود إلى بيتي إلى أبي وأمي و (تيد) ولكن على الرغم من غضبي مما دفعني إليه روني ومن إهماله إياي بعد ذلك كنت أشفق عليه، فلقد كان نصيبه من قسوة هذه الحياة مثل نصيبي منها: فمن شجار بيننا إلى حياة الفقر التي نحياها إلى اضطراره للعمل الشاق ساعات طويلة من اليوم. وكنت إذ ذاك كل شيء له في الوجود.
إن الحياة لغز عسير الحل، فقد كان ألا أتزوج منه، وكان يجب ألا أستلم أبدا للشفقة في بقائي معه حتى أصبح من العسير، على كل حال، أن أتركه، لقد كان (تيد) في حاجة إلي(723/57)
وكان مستعدا لأن يرجعني إليه في الحال، وقد علمت ذلك من الخطاب العجيب الذي بعث به إلي متحدثا في موضوع زواجي وفيه يقول: (إن سعادتك هي كل ما أعيش له، ي (بام). ولن يحل أحد مكانك من نفسي، وسأنتظرك إلى الأبد، فإذا أردتني مرة أخرى أو احتجت إلى. . .)
إن أردته؟ أو احتجت إليه! إنني لم أكن أشد حاجة إليه مما أنا الآن، ولكنني لم أكن لأستطيع الذهاب إليه وأنا أحمل جنين (روني) في أحشائي.
لقد فرح (روني) بهذا الخبر، وقال: (إن هذا الوليد سيبقينا معا) فخيل إلي أن هذه الكلمات معناها الحكم بالسجن الأبدي، فشعرت بما يشبه الجنون. . . الأمومة. . . . الرباط الوثيق. . . . وحماسة روني الفرحة كل ذلك أثار عوامل غضبي. فقبلت:
- وكيف يمكننا حتى أن نكفل هذا الوليد؟
على أننا قد استطعنا ذلك على صورة ما. وقد أصاب روني في ذلك كما أصاب في قوله إن الوليد سيبقينا معا - في بيت واحد، فلقد بقينا معا بالفعل سنتين على الأقل، سنتين امتزجت في خلالهما الفاقة في حياتنا بنشوة السرور.
لقد أحببت أنا وروني ابنتنا الصغيرة (سو) حبا مفرطا، ففي اللحظة التي وضعت فيها هذه الوليدة التي لا يزيد حجمها على حجم القطيطة، بين ساعدي، تحللت جميع عوامل البغضاء والغضب التي تملكتني تسعة أشهر طوال إلى شعور فياض بالرقة والمحبة. لقد كان صغر حجمها! ومعجزة وجودها وجمالها! كان كل ذلك باعث حب لا يطاوله حب ولا تدانيه أية عاطفة إنسانية.
كذلك قبضت (سو) على قلب (روني) بقبضتها الصغيرة، في حين أصبحت، أنا التي كنت حبيبته من قبل، ولا صفة لي إلا إنني أم ابنته ولا مهمة لي إلا السهر عليها والعناية بأمرها، فقد انصرف حبه كله إلى أرجوحتها الصغيرة. فقد ينفق من المال ملا قبل لنا به على ابتياع اللعب والملابس الصغيرة، وكان في أغلب الأوقات يجلس في الظلام إلى جانبها بعد أن تستغرق في النوم، وكان يقضي الوقت الطويل في ملاعبتها معتقدا أنه وحده هو الذي علمها المشي والكلام، وكان شديد التفاخر بأنها تشبهه بأنفها الشامخ، وابتسامتها الساحرة؛ فكانت حسبه من الحياة كلها، وقد احتلت من نفسه مكمن العواطف والخيال ولم(723/58)
أكن أقل حبا لابنتي من أبيها لها. ولكنه كان حبا من طراز آخر. فلم يبد لي صواب القول بأن ثمرة الحب تضع حدا للاحساسات، أيا كانت، التي حملت اثنين على الاقتران أحدهما من الآخر. فقد خيل إلى أنه قد قدر لي أنا وروني أن نعيش متلازمين إلى الأبد، ولكي أرفه من حياتنا ظننت أنه يجب علينا أن نأخذ بهذه الفكرة، وأقسم إنني قد حاولت ذلك، ولكن جمود روني وعد قابليته لأن يفهم ما أنا محتاجة إليه غير البيت والطفلة والعلم بأنه مخلص لي وفي، كل ذلك أشعرني احتقار لنفسي حرمني النوم.
فكنت أبكي وأناقش وأتوسل ولكن ذلك كله لم يكن إلا ليزيد العلاقة بيننا سوءا.
ثم إذا أدركت إن روني لا يستطيع أن يغير ما به اعتزمت أن أكتفي بحب الأمومة. فيجب أن أكتفي بملاحظة (سو) وهي تنمو من طفلة قوية البنية صحيحة الجسم إلى بنية صغيرة مرحة حلوة المحيا، ولقد علمتها بعض الأغاني والشعر الخفيف، وكنت أتروح معها كل يوم ماشيتين نجمع في الشتاء أوراق الشجر الزاهية أو ننزلق على الجليد - وكنت أشعر بالكبرياء تملأ نفسي عندما يلتفت الناس إليها فيبتسمون معجبين بخطواتها القصيرة السريعة وشعرها الناعم الذي يتلاعب به الهواء وعينيها الجميلتين البراقتين. لقد كانت جميلة حساسة سريعة الحركة بشوشة الوجه شديدة المرح. . . لقد كانت ابنتي. . وهي لي وحدي آه يا (سو). . . (سو) عانقي أمك يا ابنتي واملئي حياتها الموحشة سعادة وعزاء.
كان حب (سو) يعزيني في أغلب الأحيان، ولكنه لم يكن كل العزاء الذي تتعطش نفسي اليه، فلقد كنت امرأة كما كنت أما. وكنت لا أزال صغيرة جذابة كمثل ما كنت يوم تركني (تيد) والآن أريد (سو) وأريد (تيد)، ولكني كنت أعلم - كمن وقع في الفخ - إنني لن أستطيع أن أجمع بينهما. فإن روني لن يتخلى عن (سو) أبدا، ولقد كان ينذرني بذلك كلما حدثته في أمر الطلاق فكان يقول: (حسنا يا بام لك أن تطلبي الطلاق إذا كنت غير قادر على إسعادك - ولكنك لن تأخذي سو أبدا).
ومع ذلك كان تفكيري في (تيد) يعذب نفسي، لقد كنت أحلم به في الليل وفي النهار. لقد كنت أتساءل: أين هو؟ وحيثما كنا نذهب - وكنا كثيرا ما نغادر البيت - كنت أبحث عنه بنظري بين الجماهير، حائرة، آملة. يقفز قلبي كلما رأيت رجلا طويل القامة عريض الفك مجعد الشعر. . . إذ كنت أتخيله (تيد).(723/59)
كنت أشعر إنني مندفعة في طريق الجنون. ولو إنني عرفت على الأقل أخباره وطريق حياته لاطمأنت نفسي وهدأت أعصابي فصممت آخر الأمر على أن أكتب إليه، معنونة الكتاب بعنوان بيته القديم الذي لا يزال في رعاية أبويه اللذين لاشك في إنهما يعرفان مقره الجديد وسيحولان الخطاب إليه.
(لها بقية)
سعبد الحميد حمدي(723/60)
العدد 724 - بتاريخ: 19 - 05 - 1947(/)
من مذكراتي اليومية
حلوان في يوم الجمعة 28 فبراير سنة 1947:
زوجة مدير الفندق يوغسلافية حسناء، يحلو لها أن تلبس في ساعات العمل القميص الرياضي الأبيض، والبنطلون الرمادي الطويل، وأن تسرح شعرها وتصففه على الأسلوب الغلامي الفاتن فتكون أشبه الناس بأبناء الذوات حتى في النتوءين الجميلين المكورين في أعلى البطن وفي أسفل الظهر. ثم يعجبها ويعجب الناس أن تمشي البخترة في الشرفة أو في الردهة أو في البهو فتوزع التحيات والبسمات على من تعرف ومن لا تعرف من نزلاء الفندق. فأينما تمر ينبثق منها على القعود الخمود أشعة من الصبا والفتوة فلا تجد غافيا إلا صحا، ولا غافلا إلا وعى، ولا مغضيا إلا فتح عينيه، ولا ساكنا إلا رفع يديه، ولا شيخا إلا تمنى أن تقف لحظة على طلله فتسأله كيف أمسى وكيف أصبح!
كانت تصد عامدة عن الشباب وأشباه الشباب حتى لا تفسر نظراتها وبسماتها بغير المجاملة التي تقتضيها طبيعة عملها من مواساة المريض ومؤنسة الوحيد ومباسطة المنقبض؛ ولكنها كانت تؤثرني بقسط موفور ِهذه المجاملة الغزلة، وتعلل هذا الإيثار بأنني مصري وهي ترتاح لهذا الجنس، وبأنني حي وهي تطمئن إلى هذا الخلق.
أقبلت على ضحى اليوم إقبال الربيع في لونه وحسنه وعطره، وكان المرض ساعتئذ قد أحرج صدري وأفرغ صبري وتركني لا أتقار من الضجر، ولا أنفرج من الضيق. فلم تكد تحيي وتجلس حتى أحسست في جسمي ذلك الخدر العجيب الذي يسكن الألم ويحرك النفس. ثم أخذت تساقطني أعذب الحديث حتى جرى ذكر هذه الطغمة التي تنعم بخير مصر وتنكره، وتنتشي برحيق النيل ثم تعكره؛ فقالت لا تعجب أن يجحد هؤلاء اللئام فضل مصر؛ فإن منفعتهم قائمة على أن تظل موسومة بالعجز موصومة بالجهالة! لقد خالطت بحكم عملي أنماطاً شتى من الأجناس فلم أجد أنبل فطرة ولا أسجع خليقة ولا أندى راحة من المصري الأصيل القح. أتذكر ذلك الرجل البذيء الذي كنت تجادله بالأمس في مشكلة فلسطين؟ إنه أغنى أرمل في يهود الإسكندرية. ومع ذلك طمع يوم نزل الفندق أن ينام دون أن يأكل؛ فلما أبينا عليه ذلك اتفق مع يهودية مصدورة تقيم في إحدى الغرف المفروشة على أن تشترى غداءه وعشاءه بستين قرشا؛ ولها فوق البيعة أن تتمتع بشمس الفندق(724/1)
وحديقته وأثاثه وحفلاته؛ وبذلك ينام هو بستين قرشا ويأكل بعشرين، وتنام هي بعشرين قرشا وتأكل بستين! فأين هذا الشحيح القذر وأمثاله منك وأنت لا تكاد تأكل خمس ما تنفقه، أو من المصري الآخر م. باشا، وطعامه يأتيه كل يوم من داره فيفرقه؟ إن المصري سمح سهل، لا يساوم في (تعريفة) الأجرة حين تعرض عليه، ولا يراجع قائمة الحساب يوم تقدم إليه. فقلت لها: من هنا يا سيدتي جاءته الخيبة! فلو أنه كان بخيلا لاستدرُّوا بالتقبيل كفه، ولو أنه كان فظاً لاستماحوا بالتدليل عطفه!
أحمد حسن الزيات(724/2)
هي الحرية
للأستاذ محمود محمد شاكر
قالوا في قديم الأمثال: (ليس المتعلق كالمتأنق)، فالرجل الذي أنعم الله عليه بسعة العش، وأرخى باله من هموم الحياة، مطيق أن يتأنى فيما يختار لنفسه متذوقا ومتخففاً حتى يرضى، أما الذي قدر الله عليه رزقه فهو كالسهم قي الوتر المشدود ترمي به يد الحاجة إلى هدف يتخايل له أو يتحقق، وهو لو أراد لما أطاق إلا الذي فعل لأنه مدفوع بالاضطرار. ورب سارق لم يجد من السرقة بدأ لأنه دفع إليها بحاجة طبيعية لا يطيق أحد خلافها، وهو التعلق بالحياة والإبقاء على النفس، فهو يريد أن يطعم الغريزة التي تلهب أحشاءه بالجوع المهلك. ومهما تكن روادع نفسه، ومهما تكن قوتها، فهو منتهٍ إلى ساعة لا يجد عندها إلا أن يمد يده ليخذ شيء يمسك عليه رمقاً يوشك أن يتبدد. وما مد الرجل يده، ولكن الحياة هي التي مدتها، فهو خليق أن لا يكون عندئذ مسئولا عما فعل. وكذلك الشأن في أحداث كثيرة تكون في هذه الحياة الدنيا وفي هذا الناس، فإن المجتمع الإنساني يعنف بأبنائه أحياناً ويعتسف بهم أضل المجاهل، لأنه لا يبالي بأن يكفل لأبنائه جميعاً حاجتهم التي لا غنى لأحد منهم عنها، ولأنه يغفل في فورانه عن الطبائع الأولى التي تتطلب زادها من الحياة، والتي إذا فقدت هذا الزاد لم تبق على شئ، ولم ترع شيئاً، ولم ترعو عن شئ. وهذا ضلال قديم في النظام المجتمع الإنساني، أراده الأنبياء بالإصلاح، وأراده عقلاء المفكرين بالتغير، فأدركوا شيئاً ووقف بهم العجز عن كثير، لا من عجز في هدايتهم أو آرائهم، بل من عجز المجتمع عن أن يدرك سمو الأغراض التي رمى إليها الأنبياء والمفكرين.
وفي عصرنا هذا أمثال كثيرة على تغلغل الفساد والجهل والعسف وقلة المبالاة في قلب المجتمع الإنساني. أمثال يكون فيها الأفراد هدفا منصوباً لاضطهاد جماعة الأمة أو الشعب، وأمثال تكون فيها الأمة هدفاً لاضطهاد جماعة الدول أو الشعوب.
فليس في الأمم اليوم أمة لا تتداعى وتتنادى باسم الحرية: حرية الفرد، وحرية الفكر، وحرية العقيدة، وحرية التجارة إلى أخر هذا الحشد من الحريات، فهي بذلك تقرر جميعا أن الحرية أكبر أغراضها، وهذا طبيعي، لأن الحرية هي إحدى الطبائع المستقرة في الإنسان الفرد، وهو يطلها طلباً حثيثاً ملحاً، حتى ولو اضطر أن يستعبد نفسه لعملا يكدح في سبيله(724/3)
طول حياته، ولكن غايته من هذا الكدح هي أن يتحرر من الكدح وهذا إحدى عجائب الطبيعة البشرية.
نعم أن الحرية غاية الفرد التي يسعى إليها وهو وحيد في مشاعره وفي بعض وجوده، ولكنه إذا صار فرداً من جماعة كان للجماعة سلطان على هذه الحرية وتصرفها، وهو شيء من حقها أيضاً. ولكنها إذا إرادة أن تتعسف وتحرمه حريته فقد أساءت من حيث أرادت الإحسان، ولا تكون الجماعة رشيدة حتى تعرف أن الحرية حاجة طبيعية لابد للفرد من الاستمتاع بها على وجه من الوجوه، فلابد إذا من أن تتيح أوسع ما يمكن من مجال تتصرف فيه الحرية على الأسلوب الذي يجعلها وافية بحاجته الطبيعية. ومن هنا يأتي الفرق بين نظام ونظام، فيكون هذا بغيضا مملولا، وذاك محببا مألوفا.
والأمم اليوم في جماعة الدول بمنزلة الأفراد في الجماعة، فلا بد للنظام الذي يريد أن يكون محببا مألوفا من أن يتيح للأمم جميعا أوفر قسط من الحرية يتيح لها أن تتصرف على الأسلوب الذي يجعل الحرية وافية بحاجتها الطبيعية، فإذا لم تفعل ذلك جماعة الدول انتقضت الأمم المسلوبة حريتها ورأت ذلك النظام بغيضاً مملولا، وكرهته وكرهت أهله، وصارت حرباً على الجور والعسف حتى تنال حريتها وتستمتع بها طبقاً لحاجتها الطبيعية. ومن أجل ذلك فيما زعموا، أنشئوا هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية.
ولكن ماذا نرى من فعل جماعة دول اليوم؟ إنها جميعا قد أنكرت بأسلوب يجمع بين الخسة والمكر والنفاق، أن تكون فلسطين المضطهدة أمة عربية مستقلة حرة كما تشاء الفطرة الإنسانية، وأرادوها أن تكون يهودية تفتح أبوابها لأنذال أمم الأرض، فهم يتدسسون إليها من كل حدب ومن كل فج، وهم يزمعون أن يغزوها بأجساد يهودية تتساقط من الطائرات على أرضها، وأرادوها أن تظل ساكنة هادئة مطيعة حتى تمتلئ جنباتها بالإنذار الذين يريدون أن يحولوها من عربيتها إلى يهوديتهم.
وهذه الأمم التي كانت، ولا تزال تتداعى وتتنادى باسم الحرية، تسمع وتبصر، فينسكت بعضها ويمالئ بعضها، ويعاضد بعضها، وتأذن جميعها للصهيونية الخبيثة أن تزرع بذورها الخبيثة في الأرض الطيبة. فإذا قامت العرب تناديهم باسم الحرية حاوروها وداوروها وتنذلوا معها بكل أساليب الخسة والخداع والنفاق، لأنهم يريدون أن لا تكون(724/4)
الحرية حقا لهؤلاء العرب، ويريدون أن تكون عونا لهم على سلب هذه الحرية من العرب، ولن يبلغوا بأذن الله ما يريدون.
ثم هذه مصر والسودان ظلت اكثر من خمس وستين سنة وهي تتفزع من ثقل النير المضروب عليها، فلما جاءت الساعة التي لا تطيق معها صبرا على ضروب الذل والهوان التي لقيتها من احتلال جيوش بريطانيا، ومن احتلال شذاذ الأفاق الذين نزلوا أرضها فرتعوا في نواحيها كما يرتع السوس في الصوف في الصيف، كما يقولون، ولما جاءت الساعة وطلبت الفطرة الإنسانية في مصر حاجتها من الحرية التامة التي تتنادى بها تلك الأمم، لاذت تلك الأمم بالصمت ولجأت إلى الخداع وتلفعت بالنفاق، ويوشك أن تنكر على مصر والسودان حقوقهما في هذه الحرية العامة التي ينبغي أن تستمتع بها البشرية كلها أمما وأفرادا.
بل أعجب من ذلك أنها لجأت إلى أدنى الأساليب يوم أرادت تفريق كلمة المصريين بأن يوقعوا الشقاق بين أهل دينين ظلا أجيالا يتعاشر أهلهما بالمعروف. فلما سقط في أيديهم وأخفق سعيهم وحبطت أعمالهم، انحازوا إلى أسلوب آخر هو تسليط جماعة من المرتزقة يقال لهم المراسلون الصحفيون، يذيعون عنا كل خبيث بكل لسان لا يرعون حرمة ولا ذمة ولا عهدا. وحرضوا أيضاً أعوانهم من الأجانب الذين عاشوا في مصر طويلا أو قليلا، ليجلسوا في المجالس ويذيعوا أن بلادنا وبلاد العرب جميعا تسئ اليوم إلى الأجانب. ويعنون بذلك أنه منذ جلا الإنجليز عن جزء من مصر، صار المصريون وحوشا مفترسة تعتدي على الأجانب وتهينهم وتزدريهم قولا وفعلا. وكل ذلك يتناقله المراسلون الصحفيون من المرتزقة، ويرسلونه ليذاع في الصحف في جنباتالأرض ونحن نعلم علم اليقين أن هذا ليس من فعل المرتزقة أنفسهم، بل هو من حث بعض الدول وإغرائها لهم بأن يقولوا هذا ويذيعوه ويتناقلوه بينهم وبين من يلقون.
هذا، والأجانب أنفسهم قد عاشوا في مصر مع بريطانيا خمساً وستين سنة وهم يمتهنون المصريين ويسيئون إليهم في أنفسهم وأموالهم وأرضهم وعقائدهم، حتى ألفوا هذا النوع من الغطرسة، فلما جئنا اليوم نأباها عليهم كما تأباها بريطانيا وأمريكا وكل بلد قل شأنه أو أرتفع، تصاخبوا علينا، وراحوا يبسطون ألسنتهم وأفعالهم فينا وفي أخلاقنا وعاداتنا، فإذا(724/5)
أراد أحدنا أن يكفكف من شر أحدهم، أنطلق يزداد صخبا وجلبة يستصرخ الدنيا كلها على هؤلاء المتوحشين الذين يسمون المصرين. ومع ذلك فمصر منذ عشر سنوات هي مصر اليوم لم يزد ما كان يلقاه الأجانب أمس فيها من رد وقاحتهم وجرأتهم علينا، على الذي يلقونه اليوم من ذلك، ولكنهم سمعوا السنة هؤلاء المرتزقة تذيع عنا الأباطيل، فانطلقوا يتصايحون علينا كأننا صادرنا أموالهم وأجليناهم عن بيوتهم، ونصبنا لهم المشانق، وأعمالنا فيهم استئصال الشأفة كما كان يفعل طاغية ألمانيا باليهود!!
ثم تأتى المرتزقة من المراسلين فتزعم أن بلادنا قد أصبحت متطرفة في الحماسة للحرية، وأن كلمة (مصر للمصريين) قد أصبحت أهم كلمة في مصر، ويقوم صعلوك منهم يقول: (ولذلك لا يعجب المرء كثيراً يراهم (يعنى المصريين) قد ضلوا الطريق! ولكننا نعجب حينما نتساءل إلى متى سوف يستمرون في اندفاعهم الذي لا يكبح جماحه من أجل الحرية؟).
ونحن نأسف لأن الشعب المصري لا يزال هادئا صابرا على كل هذه الوقاحة التي يصبها علينا مرتزق بين ظهرانينا، ونأسف لأن حكومتنا المصرية لا تزال هادئة صابرة بل مجاملة أشد المجاملة لهذا النوع من المرتزقة. وكان خليقاً بأية حكومة في الدنيا - لا حكومة مصر - أن تعرف لولئك الذين أذاعوا أنباء غير صحيحة في طائفة من المسائل التي تتعلق بمصر، وان تقول لهم إنكم كذبتم فإما أن تكفوا عن إذاعة هذه الأكاذيب، وإما أن تغادروا بلادي. ثم ترفع كل الأدلة التي تصبح كذب هؤلاء الكذابين من المرتزقة إلى حكوماتهم، وأن تبرأ ذمتها من دخيل لا يرعى أدبا ولا خلقاً، ولا يعرف قدره ولا أقدار الناس!
إننا نطلب الحرية وسننالها، وسنكون أحراراً في بلادنا نسوسها بالسياسة التي نرتضيها لأنفسنا. ونحن لن نرضى لأنفسنا إلا الأنصاف، ننصف أنفسنا، وننصف من يعاشرنا من الأجانب. ولكن إذا ظن الأجانب أن هذا الإنصاف الذي لهم ينبغي أن يكون على ما تعودوه منذ خمسة وستين سنة، من امتهان المصريين ومن الغطرسة عليهم، ومن بقاءهم طبقة واحدة ترى أنها أنبل منا، واشرف منا، واحسن عقلا منا، وأولى بثروتنا منا، وأحرى بالامتياز من كل مصري يعيش على أرض مصر - فيومئذ سوف ننصفهم أيضاً، ولكن بما(724/6)
نرضى به نحن غضبوا أو رضوان وضجوا أو سكتوا.
أما الدول التي تتنادى باسم الحرية، والتي تنكر على مصر والسودان، وعلى فلسطين، وعلى العراق، وعلى بلاد المغرب كلها - أن تكون أمما حرة، فلتفعل ما تشاء، لأن هذه العرب لن تهادن إلا من يهادنها، ولن تجامل إلا من يجاملها، ولن تعاون إلا من يعاونها، ولن تمد يدها إلا من يمد لها يدا نقية من الغدر والفتك والنفاق.
الحرية حق طبيعي، فنحن بالغوه ومدركوه شاءت الأمم أم أبت. والقوة الدافعة إلى طلب الحرية غريزة فطرية، فنحن خاضعون لها حتى تتحقق غايتها شاءت هذه الأمم أم أبت. والإنصاف طبيعة فينا، فنحن سننصف أنفسنا وننصف من يعاشرنا، رضى بذلك من رضى كرهه من كره وهذا كله شيء ليس لنا فيه خيار، لأننا كدنا نموت ونريد أن نحيا. ونحن نتعلق في حياتنا هذه كالجائع المشرف على الهلاك حين يتعلق بكسرة خبز ورشفة ماء، هي الحرية، وأما هم فيريدون أن يتأنقوا ويتنبلوا ويتفاصحوا باسم الحرية التي يريدون بها حريتهم هم مقرونة بالاعتداء على سواهم من الشعوب المتعلقة بالحرية أمثالنا نحن.
وسوف يأتي على الناس يوم وتظهر العرب، وتعلم هذه الأمم كيف تكون الحرية، ثم تقودها إلى هذه الحرية مرغمة كما يقاد الجمل
محمود محمد شاكر(724/7)
من أحاديث الإذاعة
بين الوحوش والبهائم!
للأستاذ على الطنطاوي
أيها المستمعون الكرام. أنتقل بكم هذه العشية إلى بقعة في مصر، جمعت فيها عجائب البلدان، وغرائب الحيوان، فوضح فيها البحر بحيتانه وتماسيحه، وأفراسه وسباعه، والبر بصحاريه وغاباته، وأسوده وفهوده، ووعوله وغزلانهن وأقيمت بها الذرى المخضرة من لبنان تتفجر منها الينابيع وتتحدر السواقي، وتغني عليها البلابل والشحارير، ومدت فيها القفار والجرداء من الجزيرة تسعى فيها المها وتتسابق العير، والأحراج الملتفة من الهند تمشى فيها الفيلة، والثلوج المبسوطة من القطب تخطو عليها الدببة. وعاشت فيها الحيات والثعابين إلى جنب الحمام والعصافير، وصحبت فيها المعزى الذئاب، والثعالب الدجاج، والسباع البشر. وفيها (الجبلاية) هذا الجبل المسحور، تدخل منه إلى مسارب منحوتة في الصخر ولا صخر، وكهوف تتسلسل فيها العيون ولا عيون، وقاعات في باطن الأرض كأنما أعدت لتكون مخادع للحب أو محاريب للتأمل، وكأنما هي أحلام شاعر قد تحققت، وأمنية حالم قد تجسمت، وطرق ظاهرة وخفية تنقلك في خطوات من حر الصيف إلى برد الشتاء، ومن جلوات الطبيعة في أعراس الربيع، إلى خلوات النفس في نشوات الرؤى، تلك هي (حديقة الحيوانات).
وهي بعد هذا كله معرض للإنسان، ترى فيه طباعه وأزياءه، وخلائقه ولغاته، تسمع فيه أشتات الملاحظات، وعجائب التعليقات، تمشى مع الناس فتجد فيهم من يسير على هدى فيرى كل شيء ويقف عليه، ويخرج وما فاته مشهد، ولا ناله تعب، ومن يدع اللوحات الدالة على الطرق، والحراس المرشدين إلى المسالك؛ ويسيرعلى غير الطريق، فيدور دوران السانية، فيتعب نفسه، ولا يبصر شيئا، ولا يخرج بفائدة، فكأنه الرجل الضال الذي يترك هدى الأنبياء، وحكمة الحكماء، ويتبع عقله الأعوج وهواه، فلا يسعد في دنياه، ولا يسلم في أخراه، وتمر على حراس الحيوانات فتجدهم قد فرقت بينهم الحظوظ إذ ساوت بينهم الوظيفة، فحارس القرد والفيل والدب الأسمر، يلعب حيوانه فيقف عليه الناس، وتلقى عليه القروش، فيتسلى ويغتني، وحارس الخنزير لا يلتفت إليه أحد.(724/8)
زرت الحديقة، ومشيت مع الناس أنظر كما ينظرون إلى أنواع الحيوان، وأرى فيهم أمثالها، ولكنها قد تلففت بالثياب، ففيهم أسد له بطشته وإن لم تكن له لبدته، وفيهم ثعلب له حيلته وإن لم تكن له فروته، ودب له غلظته، وحمار له غفلته، وطاووس له خيلته وذئب له عدوته، حتى وقفت على الأسد وهو يدور في قفصه متألما في صمت، صابرا في استكبار، كأنه النابغة من الناس حبسوه في (قفص) من وضيفة صغيرة، أو إفلاس شامل، أو قرية منقطعة، يلحظ الناس بطرف عينه يقول: آه، لو كنت طليقاً في البادية يا أيها أل. . . بشر! ورأيت الحارس يخرجه إلى متنزهه، إلى قفص الضيق، بعد القفر الواسع والفضاء الرحيب، يذله بعصاه، ويستطيل عليه بسوطه، كما يستطيل الفرنسي اللئيم على المغربي الكريم، ويذله بسيف العدوان وقوة السلطان، وسمعته يزأر مقيداً، كما يصيح المصلح في أمة أفسدها التقليد، فلا يفزع من زئيره إلا الصبية الصغار، ولو زأر عند العرين لخلع هذي القلوب وزلزلها حتى قفزت من حناجر أصحابها.
ووقفت على الفيل وقد تواضع، حتى غر الناس منه لينه فنسوا شدته، وهان على أحدهم حتى أركبه صبيته، وصرفه الفيال واتخذه لعبته، كما يطيع الرجل امرأته، فيضيع رجولته، ويفقد منزلته.
ووقفت على دبين متجاورين، أبيض كبير، قد اتخذوا له في قفصه من الجبس كهيئة الجليد، ووجهوا مسكنه إلى الشمال حتى يظل باردا لا تدخله الشمس، فيظنه موطنه، وموطنه هناك على حدود القطب الشمالي. . . ولكنهم لم يخدعوه، إنه ينظر فيرى قوماً لا يشبهون قومه، إذا لم تستعبدهم فئة قليلة منهم ولم تظلمهم باسم العدل، ولم تخرسهم حرية الكلام، ولم تملك دونهم كل شيء وتستمتع بكل متعة، بشريعة ماركس ودين لينين!
ودب أسمر صغير. . .
يدور الأبيض النهار كله، غضبان أسفاً لا يهدأ ولا يستريح فلا يصل إلى شئ، ويلعب الأسمر بكرة من الحديد، ويراوغ الحارس، ويضحك النظارة، كلاهما سجين ولكن هذا ينسى سجنه، وذاك يذكره أبداً، كالناس منهم من يذكر المصيبة، ويدنيها من خياله، فيراها أبداً أمامه، ومنهم من (يخادع نفسه في الحقائق) فتصفو له الحياة.
والأبيض على جمال شكله ونعومة جلده، ثقيل سمج، والأسمر على قبحه لطيف خفيف،(724/9)
لأن الجمال جمال الروح، لا جمال الجسد، فرب حسناء تنبو عنها القلوب، وغير ذات حسن تهواها الأفئدة، وتعلق بها العيون.
ووقفت على القردة، وهي تعيشن العمر كله مجلس لهو ولعب تقلد كما يقلد (قردة) البشر، ولكنها تقلد فيما تنفعها وهؤلاء يقلدون فيما يؤذيهم، وعلى الببغاء وهي تردد ما يقال بلا فهم، كهؤلاء الذين يعيدون علينا كل ما يقول الغربيون، وعلى الحيات وهن ناعمات الملمس، ناقعات السم، كالصديق المخادع، يخالك ليخاتلك. ويسقيك من قولة العسل وفيه من قبح مقصده الحنظل
ومررت على فئات الحيوانات على اختلاف أشكالها وألوانها، ومطامعها ومشاربها، من كل سائر أو سابح أو طائر، مما يحار بمخلبه ونابه، كالشجاع الأبي، وما يدافع بسمه كالنمام المفسد، وما يقاتل بثقل جسمه كثقال الروح من الناس والقنفذ وسلاحه شوكه كسليط اللسان، بذئ المنطق، والسلحفاة وسلاحها درعها كالمنطوي على نفسه، المعتصم بصمته، والطاووس وهو كالمرأة سلاحه جماله وحسن منظره. . . والذي يعيش في الماء نظيفاً مطهراً كالسمك، والذي يغسل في اليوم عشر مرات كالدب، والذي لا يطيب له العيش إلا في الأوساخ والقاذورات كالخنزير، يلغ فيها كما يلغ المغتاب في أعراض الناس، وينغمس انغماس الفاسق في حمأة الفجور، وسبع البحر وهو أعلاها صوتا، وأضخمها زئيراً وأقلها غناء، وأضعفها قوة، كالجبان الفخور، والجاهل المدعي، وما ينحط على فريسته من عل كالنسر، وما يأخذها قوة واقتداراً في وضح النهار كالأسد، وما يسلك إليها المسالك المظلمة، ويتسلل صامتاً خلال الحجارة وفي أصول الجدران كالحيات، وعلى الغزلان والعصافير، وهي أبهى الحيوان فلا يقف عليها أحد لكثرتها ويقفون على حيوان قبيح لأنه نادر لأن قيمة الشيء بندرته لا بمنفعته، ولولا ذلك لما كان الهواء أرخص شئ، والألماس أغلاه.
. . . حتى إذا مررت على طائفة من الحمير محشورة في زريبة، طائفة من حمير الشارع تأكل وتهز أذنابها، تتلفت ترقب العصا تنهال عليها كما يرقب الذليل المهانة، ويعجب إن افتقدها، فلما لم ترها وعرفت أنها في أمان منها بطرت بطر حديث النعمة، وترفعت ترفع اللئيم يسود في غفلة من الدهر، ونسيت ما كانت فيه كما ينسى غنى الحرب عهد الفقر، ويأنف من السيارة الفورد وكان لا يجد عربة الكارو، ويدخل أولاده المدارس الأجنبية وكان(724/10)
لا يعرف طريق الكتاب
يستخشن الخزَّ حتى يلبسه ... وكان يبرى بظفره القلم
وفكرت هذه الحمير وقدرت، فانتهى بها التفكير إلى أنها لم تعد حميراً وإنما صارت بشراً، أليس في البشر (حمير)، فلماذا لا يكون في الحمير بشرا؟
ومر حمار مسكين، يجر عربة مثقلة بالحشيش لطعام حيوانات الحديقة فنظر إليها، فلما رآها. . . أجفل وارتد. . .
ما هذا؟ حمير مثله؟ إنه يفهم أن يكون في الحديقة نسور وصقور، وفهود ونمور، وزرافات ونعام، وأن يكون فيها حمير الوحش لأنها غريبة المنظر، بعيدة الموطن، نادرة الوجود، أما أن يكون فيها حمير مثله، تسمن وتخدم ولا تعمل، فهذا ما لا يفهمه أبداً.
ووقف ونهق لها يحييها فترفعت عنه، وتألمت من تطاوله عليها، ومدت شفاهها الرقيقة، وضمت آذانها القصيرة، ولوحت بأذنابها استنكاراً واستكباراً، ونسيت أصلها وتجاهلت أخاها، كما يفعل الموظف الصغير الذي يعيش بمال الأمة إذا وقف عليه أحد أبناء الأمة يسأل حاجة، أنه يظنه يسأل صدقة، أو يطلب إحساناً، أو الشرطي حين يلقى البائع السيار من أهل بلده، وترجمان المستشار حين كان يقابل واحداً من بنى قومه. . .
فلما رأى ذلك منها، بصق ومشي يلعن الحظ الذي جعل (الحمير. . .) سادة، وأقام (الناس) لهم خدما وخولا وبكى على خلائق الجنس (الحماري)، لقد ضاعت تلك الخلائق، وهبطنا حتى صرنا مثل بنى أدم، لا نعرف أقدار أنفسنا ولا أقدار إخواننا.
وجعلت أعاود الحديقة، وأكرر زيارتها، فأرى هذه الحمير محشورة في الزريبة، تأكل وتشرب، وتتعجب لماذا لا يقف عليها أحد! إنها لا تلعب لعب القردة، ولا تغنى غناء البلابل، ولا تملك هيبة السبع، ولا ضخامة الفيل، ولكن لها فنها وجمالها، وما الفرق بينها وبينها، ألا يقرأ الناس لأدعياء الرمزية ولصقاء الأدب، ولصوص البيان، كما يقرئون لأئمة البلاغة، وملوك الكلام؟ ولكن هذه (الفلسفة) لم تقنع أحداً فظل الناس معرضين عنها، لا يحفلون بها. وماذا يبتغون منها؟ وهل قلت الحمير حتى ما تشاهد إلا بقرش صاغ؟ إن الحمار يبقى حماراً ولو وضعته في القصور، وأركبته السيارات، وكسوته الحرير، وأطعمته الفستق المقشر. . .(724/11)
حتى كان أمس فرأيت القائمين على الحديقة، قد عزموا على إخراج هذه الحمير منها، كي يوفروا على بنفسهم ثمن طعامها، وينتفعوا بجهدها وعملها، ويجملوا الحديقة بأبعادها عنها. . . فعلمت أن هذه آخرة كل (حمار) يتجاوز قدره، وينسى أصله، فليعتبر سائر (الحمير)!
يا سيدات ويا سادة. العفو إذا لم أجد ما أحدثكم به إلا حديث الوحوش والحمير، فالحديث عنها، أكثر فائدة وأسلم عاقبة من أحاديث الناس.
والسلام عليكم ورحمة الله.
على الطنطاوى(724/12)
القفجاق
للأستاذ أحمد رمزي بك
(له براثن تحت إبطيه وصدر وجنبات عليها أطواق وأتراس
ملونة، ليس لأقمشة الترك والتتر أن تحاكيها. . . . . .)
جحيم دانتي
القفجاق أو القبجاق أو الخفشاق أو القبجق كلمات وردت في الكتب العربية القديمة ويعادلهابالإفرنجية
هل القفجاق إسم مكان أطلق على السكان، أم هم قبيل من الناس أطلق اسمهم على الأراضي التي سكنوها فعرف المكان باسمهم؟
هذا بحث يقصر عنه الجدل.
فمن قائل إن القفجاق في لغة الأتراك القدماء هو الصعيد المتسع أو الفيافي من الأرض الواسعة المنبسطة أي حيث يكثر المرعى وينبت الزرع، ثم يأتي الجدب فتصبح الأرض كالصحراء ولذلك كثر ورود اسم صحاري القفجاق في كتب العرب
وعليه فسكان هذه البقاع هم أهل السهول والبوادي مثلهم كأهل البادية من العرب الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته بقوله (لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن) وعليه فالقفجاق قوم يعشقون الحرية ولا يخضعون لنظام، اختلفوا عن غيرهم من سلالات الترك الذين هم أهل جماعة وسلطان ونظام، الذين تجمع بينهم وحدة التعاون والخضوع للرآسة وما يمليه قانون الجماعة، فإذا تركنا أهل المشرق في آسيا جانبا يقول علماء الأجناس إن أهل فنلنده وبعض سكان اسكندنافيا والبشكاريين وفريق من سكان القوقاز المستوطنين هم أهل حضارة وباقي سكان هذه المناطق من أهل هجرة العناصر التركية الأولى في فجر التاريخ: قفجاق.
ويقول الباحثون إن العناصر التركية البدوية اتجهت من هجراتها إلى ناحيتين: صحراء جوبى في الصين وصحراء القفجاق في الروسيا، وأقام ملوك الصين سداً لحماية بلادهم، أما في أوربا فقد عبر القفجاق نهر الفولجا (أتل) ودخلوا السهول واتجهوا إلى الغرب(724/13)
فوصلوا إلى الدانوب جنوبا والى المجر وسهول بولونيا فأينما اتجهت جماعاتهم ووصلت سنابل خيلهم فهي امتداد للقفجاق
ويطلق اسم القفجاق على القبائل التي هاجرت ودخلت بلاد الرمال بألوانها المختلفة. الرمال السوداء والحمراء والبيضاء وغيرها قرة، قزل، آف، باثان قوم، وهي هذه السهول الواقعة بين الفولجا وجبال الكربات. وفي مسالك الأبصار عن بلاد القفجاق إنها (كانت قبل استيلاء التتار عليها معمورة الجوانب وإنها لا تزال في بقايا تلك العمارة والغراس) وعدد ما فيها من أنواع المزروعات والفواكه وأسماء بعضها بلغة القفجاق.
وفي أسماء البلاد ما يشير إلى ألوان الرمال التي مر ذكرها، فمنها مدينة أفجا كرمان الواردة بمسالك الإبصار وصبح الأعشى وهي بقرب مدينة أوديسا الروسية وفى مقابلها صاري كرمان، وفي القرم آق مشهد وآق شيار (سباستبول) وآق بلغات الترك معناه: أبيض؛ ولو فتحت خريطة مفصلة لأراضى الروسيا الجنوبية لهالك ما تجد من أسماء القرى والمحطات التي لا تزال تحمل أسماء مشتقة من لغة القفجاق سكان البلاد.
ويحاول بعض المؤلفين أن يجمع بين القازاق والقفجاق فيقول بأن القيرغيز وهم أهل بداوة إلى اليوم يطلقون قازاق على التائه أو الشارد، والقفجاق في لغتهم هم الذين انقطعوا عن قومهم وانفصلوا وشردوا.
فالقازاق أو القفجاق هم الذين تركوا العشيرة الكبرى وحكم عليهم بالغربة، فإذا استقروا في جهة ما وشغلوا أنفسهم بفلاحة الأرض: استفلحوا وظهرت عليهم مزايا الشعوب المستقرة ومظاهر ضعفها، ولكن إذا جاءت سنوات القحط وأجدبت الأرض أو أصابهم ظلم الحكام عادت إليهم غريزة الكفاح الأولى ووقفوا أمام الطبيعة وأمام الإنسان، فإن أخطئهم التوفيق بدءوا غربة جديدة وواجهوا مصاعب الزمن وتحكم الأقدار، وهم في بلاد الروسيا وقد تغيرت مذاهبهم ولغاتهم ولكن يطلقون إلى اليوم على الدواب والمحاصيل وما تحت أيديهم من منقول كلمة (مال) وعلى سكنهم كلمة (ايزبة) وهى عزبة عندنا.
وليس معنى رجل السهول والبادية أنه يأنف من سكنى المدن بل هو يفرح بحياة الاستقرار ويضع مزايا البداوة في تحسين حياته الجديدة، فالقفجاق قوم أشداء طوال القامة أعصابهم قوية ذوو شدة ومراس على الحروب، ولكن الأقدار لم تكن تسمح للرجل منهم بحياة الراحة(724/14)
في صحاريه التي تحيط بها الأطماع، فما أن يهاجم في عقر دياره أو تأتي سنوات القحط حتى يبدأ الهجرة إما شارداً من عدو أو باحثاً عن الكلأ ويسير في هذا الطريق الصعب الشاق الذي يذكرنا بتغريبة بنى هلال فيأخذ بالبكاء على الأطلال والغابات ومساقط المياه، ولهم حوادث سجلتها الأغاني الشعبية، ولا يزال قوزاق الدون ينشدون جماعات ذكرى هذه الهجرات ويبكون الأطلال ويرسلون التحية للأسير الغائب والابن الضائع والفتاة المسلوبة، ولكن بلغة غير لغة آبائهم وأجدادهم، وإن حملت أغانيهم وعبرت عن مشاعرهم تلك النغمة الحزينة التي لازمتهم من أواسط آسيا حيث مشرق الشمس ومنبع سراج الدنيا.
ولقد أخرجت المطابع العربية بمصر الكثير من الكتب والأبحاث التي عرضت لتاريخ مصر الإسلامية، وكان من الطبيعي أن يتعرض واضعو هذه المؤلفات إلى بعض المسائل الجغرافية أو الأمور المتعلقة بشؤون الأجناس، فكان مما رأيت أن البعض أخذ لفظ جبال القبق على أنه الفقجاق، وأن القفجاق هم سكان القوقاز بل رأيت خريطة جغرافية وضع راسمها جبال القفجاق على أراضي القوقاز، ولما كان القبق وباب الأبواب والدربند في البلاد الواقعة بين بحر الخزر والبحر الأسود وهي المعروفة بسكانها من الجراكسة والكرج والداغستانيين وغيرهم وهي غير صحاري القفجاق الواقعة حول شبه جزيرة القرم والممتدة من نهر الفولجا شرقاً، رأيت أن أجمع بعض ما عثرت عليه في الكتب العربية تأكيداً لذلك.
فقد ورد في صبح الأعشى عند كلامه على بلاد الدشت قوله (وهي صحاري في الشمال وتضاف إلى القبجاق بفتح القاف وسكون الباء الموحدة وفتح الجيم وألف بعدها قاف وهم جنس من الترك يسكنون هذه الصحاري أهل حل وترحال على عادة البداوة) وفي كلامه عن القفجاق قال (هذه المملكة متسعة الجوانب طولا وعرضاً كبيرة الصحراء قليلة المدن وبها عالم كثير لا يدخل تحت حصر)
ونقل عن صاحب التعريف: إن صاحبها في أيام الناصرية (يعني الناصر محمد بن قلاوون) هو سلطان أزبك خان، وما زال بين ملوك هذه المملكة وبين ملوكنا اتحاد قديم وصدق وداد من أول الدولة الظاهرية بيبرس وإلى آخر الوقت. وفي مادة تركستان عدد ياقوت أصناف الترك وذكر القفجاق تحت اسم خفشاق، وفي المسعودى أنه كان في البلغار من قديم الزمن دار إسلام ومستقر إيمان نقل ذلك صاحب المسالك وأضاف (أما الآن فقد(724/15)
تبدلوا بإيمانهم كفراً وهم يتدارون سلطان القفجاق لعظيم سلطانه وأخذه بخناقهم لقربه منه.
ويقرر الأصطخري أن لغة البلغار والخزر تفترق عن لغة الترك، وأن لهجات القيرغيز والقبجاق تركية محضة وهذا يتفق مع أبحاث العلماء الأوربيين الذين وصلوا ما بين القيرغيز والقبجاق كما قلنا. ويقرر الأمير شكيب أن لغة الترك الرحالة الساكنين حول نهر الأنيل وهو الفولجا، أنقى من لغات أهل المدن وهو قول صريح في أن لغة القفجاق كانت من أنقى لغات الترك.
ويقرر علماء العرب أن نهر أنيل هو المركب عليه مدينة سراي وهي تقع جنوبي ستايلنجراد وهو ينبع في ذيل جبل قاقونا ثم يتجه جنوبا آخذاً بغرب في صحاري القفجاق على شمالي معادن الفضة حتى يصب في بحر طبرستان.
وفي ياقوت عند كلامه على مدينة (كرش) بلدة صغيرة على ساحل بحر الأزق أهلها قبجاق كفار، ويقابلها من البر الآخر الطامان. وفي كلامه على (كفا) يقول (هي على ساحل بحر القرم وهي شرقي صوداق وعليها سور من لبن ومن شماليها وشرقيها صحراء القبجاق. وعنه حينما تكلم على حملات التتار (وقتلوا القبجاق في بواديهم حتى انتهوا إلى بلغار في نحو عام واحد).
ومدينة (كفا) هي الميناء الذي كان أهل جنوا والبندقية ينقلون منه فتيان المماليك من أهل هذه البلاد لتسليمهم إلى ملوك مصر مدة دولتي المماليك البحرية والجراكسة، ولقد وصل الظاهر بيبرس إلى تسهيل هذه التجارة باتفاقه مع ميخائيل باليولوج ملك بيزانطة للترخيص بمرور السفن عبر البوسفور في ذهابها إلى البحر الأسود وعودتها إلى مصر.
وجنى أهل جنوا والبندقية أرباحاً طائلة من هذه التجارة كما كانوا يتاجرون بالرقيق الأبيض من فتيان الشرق إلى أوربا، ومن نقل فتيان المجر والصقالبة وغيرهم من أوربا إلى الشرق، وقد عثر على سجلات بالأثمان التي كان يباع بها الرقيق، وأن عدد المماليك الواردة من نواحي البحر الأسود لمصر كان لا يقل عن. . . 2 مملوك تضم كل سنة إلى جنود سلاطين مصر.
وليس هنا موضع بحث هذه الناحية فقد يتسع البحث ويعرض لموضوع تنظيم هذه التجارة والاتفاقات التي كانت قائمة والقواعد التي كان معمولا بها وهذا مما يخرجنا عن موضوعنا.(724/16)
ولكن أهم ما يربط التاريخ المصري بالقفجاق هو ما جاء بصبح الأعشى نقلا عن مسالك الأبصار وهو (ومنهم معظم جيش الديار المصرية من ملوكها وأمرائها وجندها، إذ لما رغب الملك الصالح نجم الدين أيوب في مشترى المماليك منهم، ثم صار من مماليكه من انتهى إلى الملك والسلطنة، فمالت الجنسية إلى الجنسية، ووقعت الرغبة في الاستكثار منهم حتى أصبحت مصر بهم آهلة المعالم، محمية الجوانب فهم بقمار مواكبها وصدور مجالسها وزعماء جيوشها وعظماء أرضها).
(وحمد الإسلام مواقفهم في حماية الدين حتى إنهم جاهدوا في الله أهليهم).
إذ يظهر أن جل المماليك الذين أطلق عليهم اسم البحرية كانوا من قبائل القفجاق مثل بيرس وقلاوون وفارس الدين اقطاي وغيرهم فأحاطوا أنفسهم بمماليك وأمراء من جنسهم.
ويفسر النزاع الذي قام بين المعز وهو تركماني وبين المضفر قطز وهو خوارزمي بعد ذلك وبين البحرية من جهة أخرى هو اتفاق الجنسية بين المماليك البحرية وتفاهمهم وتعاونهم وعدم وجود قوة منظمة متماسكة تقف في سبيلهم، ولذلك وصلوا إلى فرض إرادتهم على من نازعهم من الجناس التركية الأخرى وبرزوا في التاريخ.
وللمماليك البحرية موقفان: أحدهما في المنصورة والثاني في عين جالوت، وفي الثاني يقول صاحب مسالك الأبصار (وكفى بالنصرة الأولى يوم عين جالوت في كسر الملك المضفر قطز عساكر هولاكو بعد أن عجز عنهم عساكر الأقطار واستأصلوا شأفة السلطان جلال الدين محمد بن خوارزم شاه) وقتلوا عساكره مع أن الجيش المصري بالنسبة إلى العساكر الجلالية كالنقطة في الدائرة والله يؤيد بنصره من يشاء).
وفي تاريخ المماليك الأتراك فترات غامضة يفسرها لنا النزاع القائم بين الأجناس المختلفة، فالمعز أيبك التركماني اعتمد على البحرية في وقت ما ثم حاربهم، وقطز وهو خوارزمي حاربهم وصالحهم ثم قتلوه، وحاول زين الدين كتبغا أن يوجد حوله عصبية من جنسه فضاع الملك منه، وكان بيبرس الجاشنكير من البرجية فلم يثبت له ملك، وتمسك الأمراء ببيت قلاوون لأن الغالبية منهم وهم من جنس واحد مع أولاد المنصور قلاوون وهكذا عاش هذا البيت رمزاً للرئاسة مدة أطول من غيره.
وفي الجزء الرابع من صبح الأعشى: (أما في زماننا فإنه منذ قام السلطان الملك الظاهر(724/17)
برقوق من جنس الجركس رغب في مماليك من جنسه وكثر من المماليك الجراكسة حتى صار منهم أكثر الأمراء والجند، وقلت مماليك الترك من الديار المصرية حتى لم يبقى منهم إلا القليل من بقاياهم وأولادهم).
ويؤكد هذا النص ما سقناه من الحديث، وإن بحث المشاكل التي قامت بين أمراء المماليك يجب أن يكون قائماً على النصوص وعلى الاستقراء والبحث في كتب التراجم مع الإلمام بأجناس الترك والجركس وعصبياتهم.
في القرن السابع الهجري أتم جوني ابن جنجيز خان فتح بلاد المسلمين وأخضع إيران واتجهت كتائبه شمالاً إلى القوقاز حيث اقتحم الدربند وباب الأبواب، وفي الشمال التقى على نهر الدون بقبائل تركية هي القفجاق فخضعت لأول وهلة للفاتحين كأبناء عمومة وأخوة، ولكن المعاملة القاسية التي لقيتها أقنعت غيرها من سكان بحر الأزق (أزوف) أن الأفضل لها وأسلم هو أن تتجه غرباً، وكان ذلك من أسباب مطاردتهم والفتك بهم وتشريدهم لإعادة القطيع الضال إلى حكم الخان الأعظم. وترتب على هذه المطاردة أن توجه فاندان جوبي وسابوتاي بحملة إلى وادي الدنيبر فأتموا إخضاع الجزء الجنوبي من روسيا الحالية وهو المسمى بأراضي القفجاق.
في هذه الأثناء أي سنة 639 كانت إحدى قبائل القفجاق لا تجد مأوى أمامها، فاتجهت إلى القرم بجواد صوداق حال البحر بينها فكاتبت أنس خان ملك الأولاق ليعبروا البحر إليه فراراً من جحافل التتار، وأجابهم إلى ذلك وأنزلهم وادياً بين جبلين وكان عبورهم إليه سنة 640 فلما أطمئن بهم المقام غدر بهم وشن الغارة عليهم فقتل منهم وسبي، وكان من بين السبي غلامان هما بيبرس الملك الظاهر وبدر الدين بيسري الشمسي ناقل هذا الحديث، وكان عمر بيبرس أربعة عشر عاماً فكان أن بيع في مدينة سيواس وأخذ إلى حلب وانضم في مصر إلى جماعة من جنسه القفجاق يعملون في خدمة سلطان مصر.
أما في بلاد القفجاق فاستمرت المطاردة ضد القطيع الشارد إلى أن جاء الأمر من جنجيز خان باستدعاء قائديه، ومات الخان الأعظم فإذا حفيده على عرش أراضي القفجاق وما يستجد من الفتوحات.
والآن بعد مضي مئات السنين على هذه الحوادث يرقد الملك الظاهر في مدرسته بدمشق(724/18)
وتزول من الوجود دول التتار وعظمة الخان، ولكن ملايين الخلق من القفجاق والعناصر المغولية والأسيوية قد استوطنت روسيا الأوربية منذ قديم الزمن وتركت عوائدها وتقاليدها وآثرت الحياة الفكرية والتكوين العقلي وصبغت اللغة والأناشيد، إن هذا التأثير كان قوياً عميقاً لدرجة أكثر من أن يعترف بها الروس أو يحاول أن يشعر بها أو يسلم بها الباحثون في شؤون روسيا من أهل أوربا الغربية لأنها تقلب المقاييس والقواعد.
ذلك لأن روسيا بأكملها خضعت لخانات المغول الذين حكموها وامتد سلطانهم إلى ما وراء غاليسيا وأتى وقت لم يبق للروس غير نوفو جورود، ثم خضعت هي بدورها، ولذلك يقول الدكتور رابوربورت صاحب (تاريخ روسيا) ومؤلف كتاب (لعنة الرومانوف)
(موسكو وارثة المغول، كان القيصر الوارث الروحي لأمراء المغول الذي تجري دماؤهم في عروقه، أن جودونوف كان مغوليا وكان القياصرة يفخرون بأنهم أصحاب عرش القفجاق).
وفي تعليقات الأمير شكيب على ابن خلدون يقول (أما الروس فكانوا يفرقون دائماً بين القفجاق وغيرهم، فكانوا يطلقون من أواسط القرن الثاني عشر المسيحي على جميع أصناف الترك ما عدا القفجاق سرنيكلوبوكي أي (الطرابيش السود) وهذا دليل على أنهم قدماء في تلك الأرض.
في القرن السادس الهجري وصل أحد أمراء القفجاق إلى جند من أجناد المسلمين فقال واحد منهم (رزقه الله الإسلام) فأسلم القفجاق ودخلوا الدين الحنيف. والآن في القرن العشرين نقول (هل يأتي وقت يذكرون فيه أنهم كانوا مسلمين) مرة أخرى (رزقهم الله الإسلام).
أحمد رمزي(724/19)
الأخطل والمرأة
للأستاذ مهدى السامرائي
يستلهم كثير من الشعراء والأدباء قصائدهم وتخيلتهم من شياطين مختلفة. والمرأة من هذه الشياطين التي توحي لهم بمختلف الغرر والأفكار، ولكن أثرها فيهم يختلف من فرد لآخر كل حسب نوع تأثره بها.
والأخطل من الشعراء الذين أثرت فيهم المرأة، ولكن أثرها كان فيه سلبيا حتى أنه وقف منها موقفا أقرب إلى العداء منه إلى المحاباة والتلطف. فهناك كثير من الشذرات موزعة في أنحاء ديوانه صرح الأخطل فيها بآرائه في خلق المرأة ونفس المرأة وعقل المرأة وموقف المرأة من الشباب والشيب، ولكنها آراء لا ترضي كثيرا من النساء والمتعلمات منهن خاصة. والحق أنه كان متحاملا عليها شديداً في القسوة معها.
لم يكن يرى الاخطل في المرأة إلا ألعوبة يلهو بها كيف شاء ومتى أراد، فعندما تلعب برأسه بنت الحان وعندما تداعب شياطينها وعندما يأخذ السكر منه مأخذه، هناك يتذكرها فيقصدها ليقضي منها وطراً من لذاذة ولعب حيث يقول:
ولقد شربت الخمر في حانوتها ... ولعبت بالقينات كل الملعب
فهو لا يرى في المرأة إلا دمية لحمية يقضي معها لياليه، وإلا وسيلة من وسائل لهوه عندما يكون ناعم البال مرتاح الفكر.
طهوت ليلة ناعم ذي لذة ... كقرير عين أو كناعم بال
ويبدو أن المرة قد أذاقت الأخطل مر الفعال وسقته كاس الأهوال فهو حتى في نومه وأحلامه لا يرى منها غير الويل والثبور إذ يقول:
طرق الكرى بالغانيات وربما ... طرق الكرى منهن بالأهوال
ولا يكتفي بهذا وحسب، بل يصفها بالتلون والتبدل ويشبهها بجنية مروعة تذيق الرجال طعم الأهوال
فتغدّلت لتروعنا جنية ... والغانيات يرينك الأهوال
فهو من أعداء المرأة القدامى حاربها بكل قوة، وكشف عن جانب الشر في نفسها ولم يكن يؤمل منها غير الشر وغير الجنة، وغير اللوعة والهول قريبة وبعيدة، حاظرة وغائبة، حية(724/20)
أو ميته:
فلو كان مبكي ساعة لبكيتها ... ولكن شر الغانيات بديل
وكنت صحيح القلب حتى أصابني ... من اللامعات المبرقات خبول
وأني لأعجب كثيرا من نساء العصر الأموي أن سكتن عن الأخطل وهو يعلن عليهن حرباً عواناً ويهيب بالرجال أن يبتعدوا عنهن وان يكفوا عن وصالهن إذ هن لا يبيتن لهم غير الحيلة والغواية وما هن إلا بلاء أبتلى به الرجال وغول يقض عليهم حياتهم.
وهن على أحبالهن يصدنني ... وهن باليا للرجال وغول
وإن امرءاً لا ينتهي عن غواية ... إذ ما اشتهتها نفسه لجهول)
هذه الحكمة يقدمها الأخطل لأبناء جنسه لا ترضى المرأة في أي عصر من العصور ولا في أي حال من الأحوال، إذ لا شك في أنها لعنة في الصميم من حياتها، فلو كف الرجال عنها وانتهوا لبارت وثقلت على أهليها ولأصبحت حياتها مملة خالية من الأمل لا يمكن أن تطاق. ويكشف لنا الأخطل عن ناحية خفية من نفسية المرأة فكأنه اطلع على خفايا هذه النفس ونفذ إلى قرارها، فعلى الرغم من بعد غور المرأة وكتمانها الشديد لدفائن قلبها لكنه استطاع أن ينفذ ببصيرته القوية إلى أعماقها وأن يستشف من وراء ظل حركة تأتيها معنى بعيداً لا يصل إليه إلا من عرف المرأة معرفة جيدة وإلا من ذاق منها مرارة العذاب والصد، فقوله:
المهديات لمن هوين مسبة ... والمحسنات لمن قلين مقالا
يدل على أنه عرف أساليبها الملتوية، تلك الأساليب التي تستعملها مع من تحب ومع من تكره، ويدل أيضاً على أنه قد درس هذه النفسية التي لا تريد إلا أن تريد أن تبطن غير ما تظهر وتظهر غير ما تبطن.
والأخطل لا يتحرج من وصف المرأة بالمكر والخديعة إذ يظهر أنها قد لعبت به كل ملعب وأذاقته من أحابيلها وحيلها ما جعله يفرغ ثورته المكبوتة ضدها بقوله:
ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى ... فينا ولا كحبالهن حبالا
كما إنه لا يتحرج من وصفها بالجهل، ولكن أي جهل هذا الذي يصفها به، انه جهل أشد من العلم والذكاء فعلا وأقوى من المكر والثقافة تأثيراً، إنه جهل يرمي أقوى الرجال تحت(724/21)
أقدامها صريعا مجندلا بسهامها النارية مفكراً بإيماءاتها الخفية:
يمددن من هفواتهن إلى الصبي ... سبباً يصدن به الغواة طوالا
ويذهب الأخطل إلى أبعد من ذلك في إظهار معايب المرأة الخلقية فيصفها بالمماطلة في العهود، وبعدم الوفاء بالوعود، فهي مشهورة بالخلف، معروفة بالمطل فيقول:
وإذا وعدتك نائلا اخلفنه ... ووجدت عند عداتهن مطالا
وأروع من هذا المعنى في وصفه لهذا النوع من خلف بعض النساء قوله:
إذا مطل الدين الغريب فأنها ... على كل أحيان تحل ديوانها
والأخطل لا يني عن التهجم على المرأة ونعتها بسرعة التبدل وكثرة التحول فهو يقول:
يرعين عهدك ما رأينك شاهداً ... وإذا مذلت يصرن عنك مِذالا
فما دمت بقربها تقدم لها فروض الحب والطاعة، وما دمت حاضراً بين يديها تطري جمالها وتصفها بكل ما في قاموس الجمال من أوصاف، فهي تحبك وهي باقية على عهدك وإلا فنصيبك النسيان إن قصرت في ذلك أو نأيت قليلا عنها.
ويلتفت الأخطل التفاته أخرى تدلنا على ما في نفسه من نقمة على المرأة وحقد عليها فهو يصف غرابة تصرفها مع الرجل وشذوذ سلوكها معه، فهي تتخاذل أمام من يظهر لها الضغينة، وتتفانى في حب من يمتنع عليها ويظهر لها الجفوة، ولعل هذا يعزي لضعفها الطبيعي من جهة ولروحها الخيالية من جهة أخرى، فالرجل الذي لا يظهر لها ضعفاً ولا يبدو أمامها متخاذلا لا شك يشعرها بقوته وسلطته، كما أنه إذا ما ابتعد عنها ولم يتقرب كثيراً منها ستبقى تنسج حول شخصيته أخيلتها وتتصور فيه فتى أحلامها فيزداد حبها له ويكثر تعلقها به. والأخطل يصور لنا ذلك بقوله:
اذا احتثها الركبان كان ألذها ... إلى ذي الصبي ذو ضغنها وحزونها
أما رأي الأخطل في عقل المرأة فرأي يكاد يغضب كل النساء، والمتعلمات منهن كما قلت خاصة، فهو لا يرى فيها غير ضعف العقل وخطل الرأي وقلة التفكير، فالمرأة في نظره لا تصلح للحياة العقلية ولا تصلح لإبداء الرأي السديد ولكنها حاذقة في تسديد السهام إلى القلوب، ماهرة في اللعب في العقول عن طريق العيون:
يبرقن بالقوم حتى يختبلنهم ... ورأيهن ضعيف حين يختبر(724/22)
وأكثر من هذا سخرية بعقل المرأة وحطاً من قيمته ذلك الكيل العجيب الجائر الذي يزن به الأخطل عقل المرأة فهو يقول:
وإذا وزنت حلومهن إلى الصبي ... رجح الصبي بحلومهن فمالا
يوضح لنا الأخطل ناحية أخرى من نواحي نفسية المرأة، تلك هي موقفها من الشيب والشباب فيصور لنا فرار الغواني من هؤلاء المساكين الذين بلغوا من العمر عتيا والذين استنزف كر السنين منهم ماء الحياة وسطر مر الأعوام في وجوههم تجاعيد الكوارث والأحداث فهو يقول:
يا قاتل الله الغانيات وصل الغانيات إذا ... أيقن انك ممن قدزها الكبر
أعرضن لما حنا قوسي موترها ... وابيض بعد سواد اللمة الشعر
لا يرعوين إلى داع لحاجته ... ولا لهن إلى ذي شيبة وطر
يظهر أن الأخطل كان تبع نساء ولكنه ليس موفقا كعمر ابن أبي ربيعة، فهو لم يقعد عن متابعتهن وعن مضايقتهن حتى في أيام شيخوخته حتى اضطررن آخر الأمر إلى طرده بقسوة واستهزاء فهو يخبرنا عن ذلك بقوله:
يقلن لا أنت بعل يستقاد له ... ولا الشباب الذي قد فات مردود
وقول الأخطل:
هل الشباب الذي قد فات مردود ... أم هل دواء يرد الشيب موجود
يحمل المرء على الرثاء لحال هذا الشيخ الذي يبكي صباه ويحن لأيام شبابه ويفتش عن ذلك الدواء الذي أعيا العلماء والأطباء إيجاده، ويجد المرء نفسه اكثر من هذا عطفا على الأخطل حينما يسمع قوله:
اعرضن فن شمط في الرأس لاح به=فهن منه إذا أبصرنه حيد
قد كن يعهدن مني مضحكا حسنا ... ومفرقا حسرت عنه العناقيد
فهن يشدون مني بعض معرفة ... وهن بالود لا بخل ولا جود
فقوله: (وهن بالود لا بخل ولا جود) مما يبعث في النفس الرثاء لحال ذلك المسكين الذي تقف الغواني منه هذا الموقف الحيادي، فهو من قلة الأهمية ومن التفاهة بحيث لا يثير في نفوسهن حباً ولا بغضاً كما لا يثير في قلوبهن العواطف المضطربة والأحاسيس المتباينة(724/23)
ورجل كهذا حري بالرثاء والعطف.
ويصف لنا الأخطل منظرا لا يخلو من ظرف ودعابة مع ما فيه من مرارة، منظر تلكم النسوة اللواتي اجتمعن يهمهمن ويهسهسن وقد علت وجوههن الكدرة وأصبن بالهم والحزن لدخول الأخطل عليهن وهو في حالة شيخوخة وتضمر وهزال فيقول:
ورأين أني قد علتني كبرة ... فالوجه فيه تضمر وسهوم
وطوين ثوب بشاشة أبلينه ... فلهن منك هساهس وهموم
وأخيرا بعد أن يئس الأخطل من وصل المرأة، وبعد أن عجز في هذا الميدان لا يريد إلا أن يبث الدعاية السيئة، ويأبى إلا أن يحرض الرجال في الابتعاد والكف عنها فيقول:
فدع الغواني والنشيد بذكرها ... واصرف لذكر مكارم ومقال
ولكني متأكد أنه لم يقل ذلك إلا بعد أن عجز عن جلب ودها إليه وإلا بعد أن خابت سياسته معها.
حاولت أن أجد الأسباب المبررة لهذا الموقف العدائي الذي يقفه الأخطل من المرأة فلم أجد سوى خبرين قد يمكن أن نستشف من ورائهما شيئاً عن ذلك العداء، أحدهما خبره أو قصته المشهورة مع زوجة أبيه تلك التي يقول فيها:
ألم على عتبات العجوز ... وشكوتها من غياث لمم
فظلت تنادي ألا ويلها ... وتلعن واللعن منها أمم
وقد كانت زوجة أبيه تناصبه العداء وتسئ معاملته وتؤثر أبناءها بالعطف والحب كما تؤثرهم بأطايب الطعام والشراب وتحرمه هو من كل ذلك؛ فلا شك أن هذه القسوة في المعاملة من زوجة أبيه قد أثرت في نفسه تأثيراً بالغاً وتركت في قلبه جروحاً لم تندمل فنقم على المرأة متمثلة في زوجة أبيه فأراد أن ينتقم منها فصور لنا ما رأيناه فيها من مساوئ ومعايب.
والخبر الثاني الذي يفسر لنا ثورة الأخطل على المرأة هو ما رواه صاحب الأغاني في الجزء السابع من كتابه قال: (طلق أعرابي امرأته فتزوجها الأخطل، وكان الأخطل قد طلق امرأته قبل ذلك، فبينما هي معه إذ ذكرت زوجها الأول فتنفست فقال الأخطل:
كلانا على هم يبيت كأنما ... بجنبيه من مس الفراش قروح(724/24)
على زوجها الماضي تنوح وإنني ... على زوجتي الأخرى كذلك أنوح
من هذا الخبر يمكننا أن نستنتج أن الأخطل لم يكن موفقاً في حياته الزوجية، فهو لم يسعد مع زوجته الأولى ولم ينجح في حياته معها فاضطر إلى تطليقها، كما إنه لم يستطع أن يرضي الثانية أو يجلب ودها وحبها فينسيها زوجها الأول فهي تعيش معه بجسمها ولكنها تعيش مع مطلقها بروحها وقلبها، ولا شك أن هذا يدلنا على أن الأخطل كان فاشلا مع المرأة، لم يحذق ذلك الفن الصعب (فن سياسة المرأة) وربما يكون هذا الفشل الواضح في حياته الزوجية مما جعله ينقم على المرأة نقمته المرة التي رأيناها في شذراته السابقة والتي لا نوافقه في أكثر آرائه فيها.
(العراق)
مهدي السامرائي(724/25)
مؤتمر آثار الشرق
للدكتور جواد علي
قررت اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية عقد مؤتمر في مدينة دمشق في شهر أغسطس أو أوائل شهر سبتمبر من سنة 1947 لدراسة آثار الشرق الأدنى يدعى (مؤتمر آثار الشرق) وقد عينت اللجنة التحضيرية التي وضعت منهج المؤتمر أغراضه بما يلي:
1 - الاهتمام بالثقافة الأثرية وتبادل الآراء العلمية والفنية.
2 - المحافظة على تراث الشرق العربي ووضعه في الإطار اللائق به.
3 - تقوية الصلات بين أمم الشرق، وتذليل العقبات في سبيل تحقيق التعاون فيما بينها من الناحية الأثرية.
وقد تصفحت التقرير الذي وضعته اللجنة التحضيرية ليكون جدولا لأعمال المؤتمر فلم أجد فيه - وآسف لذلك - أية إشارة إلى عرب ما قبل الإسلام. كما أنني لم أجد في قائمة الموضوعات العامة التي ستبحث فيها المحاضرات التي تلقى في المؤتمر أية محاضرة قد تناولت تاريخ ما يسمى (بالجاهلية) أو (العصر الجاهلي) وكل ما وجدت هو أن سلسلة المحاضرات بدأت بالعلاقات بين مصر والشرق الادنى، ثم تطرقت إلى العلاقات بين بابل وأشور والشرق الأدنى، فأثر الفينيقيين في حضارة الشرق الأدنى، فالعلاقات بين الشرق الأدنى والإغريق. ثم انتقلت رأساً إلى موضوع أثر العقائد الدينية في حضارة الشرق القديم، ثم إلى حظ الشرق من الحضارة الإغريقية في العصور الهلينية فيدخل في ذلك حظ مصر من تلك الحضارة ثم حظ سورية فبابل ثم تنتقل السلسلة إلى مظاهر الحضارة الإسلامية في دول الشرق العربي وتلك طفرة عجيبة بالطبع، وتنتهي بموضوع الحفائر الأثرية في ممالك الشرق العربي فموضوع ترميم الآثار.
وكنت أطمع في أن أرى للتاريخ العربي القديم المحل الأول في قائمة الموضوعات التي ستدرس في هذا المؤتمر، إذ أن اللجنة الثقافية التي وكلت إلى اللجنة التحضيرية أمر تهيئة خطط المؤتمر هي مؤسسة من مؤسسات الجامعة العربية، وأنها وضعت نصب عينها إحياء التراث العربي القديم وحرصت على ذلك في كل مناسبة. فالأولى بها أن تعني بتاريخ عرب ما قبل الإسلام فتجعله الهدف الثقافي الأول نظراً إلى أن التاريخ العربي القديم يكاد(724/26)
يكون حتى اليوم في حكم المجهول، ولأن الآثاريين الغربيين لم يتمكنوا من التنقيب فيه لأسباب كثيرة، منها أن الدول العربية التي تشتمل على المناطق الآثارية، لم تسمح لهم بالعمل، خوفا من النفوذ الأجنبي ومن تسرب تلك الآثار إلى الخارج، وإن اللجنة الثقافية ستنتهز هذه الفرصة فتثير لذلك هذا الموضوع في مؤتمر الآثار لتحث الدول العربية على العناية بآثار العرب وبتاريخ العرب القديم، ولتطلب إلى حكومات الجامعة القيام بحفريات علمية بنفقتها أو بنفقة الجمعيات العلمية الأوربية التي توافق على التنقيب بإشراف الجامعة. أو أنها ستسعى لأن تسهل لمن تخصص من أبناء دول الجامعة العربية بتاريخ العرب القديم الدخول في مناطق الآثار لدراستها والكتابة عنها والقيام بحفريات علمية فيها أن أمكن ذلك من الوجهة العلمية والمادية.
وقد قام نفر من العلماء المستشرقين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أمثال (هاليفي) و (أرنو) و (كلاسر) وغيرهم بزيارة مختلف أنحاء بلاد العرب المجهولة وفي ظروف حرجة فتعرضوا إلى مختلف الأخطار والمهالك فعادوا بأنباء مهمة تشير إلى وجود أماكن آثارية على جانب كبير من الأهمية. وقد نقلوا معهم بعض الألواح والأحجار المكتوبة التي عثروا عليها على سطحالأرض وهي توجد اليوم في المتاحف الآثارية الكبرى وهي تؤيد هذه النظرية وتتحدث عن حضارة عربية قديمة أصيلة.
وقد بذل هؤلاء العلماء جهوداً كبيرة حتى تمكنوا من حل رموز الحروف اليمانية القديمة المسماة بالحروف الحميرية. واستطاعوا بعد معرفتها أن يقرءوا ما هو مكتوب فنشروه، وقد دل ما نشر حتى الآن وهو قليل بالطبع على أن الحضارة اليمانية قديمة قدر عمرها بعض العلماء بما يزيد على ألف وثلاثمائة عام قبل المسيح.
كما انهم بحثوا في النصوص الآشورية والبابلية والمصرية وفي التوراة، وفي النصوص السريانية واليونانية واللاتينية فكونوا من هذا البحث مقدمات لمن يريد في المستقبل الكتابة عن تاريخ عرب ما قبل الإسلام.
ولا يمكن أن يكتب للأمة العربية تاريخ قديم إلا إذا سهلت الدولة العربية للمستشرقين وللشبان العرب الذين تخصصوا بتاريخ ما قبل الإسلام الدخول في المناطق الآثارية وقاموا بحفريات علمية بأشراف تلك الدولة أو الدول العربية على أن يحفظ ما يستخرج من أثار(724/27)
من متحف الدولة أو متحف جامعة الدول العربية مثل. وأني أرجح اشتراك دول الجامعة كلها في نفقات الحفرحتى لا تتسرب الآثار إلى الخارج فتنتقل إلى المتاحف الأوربية أو الأمريكية، وأن تكون عمليات الحفر بأشراف المتخصصين العرب.
ولما كان المؤتمر لم يعقد بعد وأن هناك متسعاً من الوقت لتدارك الحال أرجو من اللجنة الثقافية أن تهتم بهذه الناحية اهتماما كبيرا بان تجعل في رأس المواد التي ستدرس في المؤتمر موضوع دراسة الآثار العربية القديمة، وان ترجو من دول الجامعة ولا سيما اليمن والمملكة السعودية بذل العناية لخدمة التاريخ العربي القديم، وأن تطلب من المتخصصين العرب أو المستشرقين التطوع للقيام بحفريات علمية أو دراسة الأطلال الموجودة تمهيدا للقيام بالحفر، وأن تمنع الناس من نبش تلك الأطلال لسرقة الآثار أو هدمها لاستعمالها مادة للبناء. فالعبث بهذه الآثار عبث بتاريخ الأمة العربية الذي نريد إحياءه. وأن تقوم الجامعة بتخصيص المبالغ لإرسال المتخصصين إلى مواقع الآثار كما فعلت بإرسال نفر من العارفين بالمخطوطات إلى سوريا لتصوير ما هو موجود من المخطوطات.
وأن تخصص في قائمة المحاضرات مكاناً للتاريخ العربي قبل الإسلام وأن نرجو بهذه المناسبة من الذين سيمثلون دول الجامعة في مؤتمر الآثار توجيه أنظارهم نحو خدمة كإثر عربي قديم، وأن يكون لآثار العرب نفس الحظ الذي نالته الآثار القديمة الأخرى في الأقل، وإن كنت أطلب المزيد لأنه تاريخنا المباشر، ولأنه يوازي الآثار الأخرى في القدم والدرجة، إذ أن من العار على العرب أن يتركوا متاحفهم عارية من آثارهم وهي كثيرة مطمورة فيتصور العالم أنهمأمةهمجية لم يتكون لها تاريخ قبل الإسلام وانهم كانوا عالة على حضارات الأمم الأخرى أو أنهم كانوا نقلة تعوزهم قوة الإبداع والابتكار.
جواد علي(724/28)
أنديتنا الموسيقية
للأستاذ حسني كنعان
كانت الموسيقى قبل ربع قرن، تصدر في بلاد الشام عن مصر بطريق أسطوانات الحاكي، وكان الموسيقيون لدينا يجهلون النوتة الغربية، فيضع أحدهم الحاكي أمامه ويدير مفتاحه وينقل عنه الأغنية أو الدور أو البشرف أو الدولاب أو السماعي كما يسمعه دون تحوير أو تبديل. وكان أرباب هذه المهنة محتقرين لديناحتى أنالأب إذا علم أن ولده قد ظهرت فيه مخايل المواهب الموسيقية تبرأ منه وأخرجه من داره، ولبثت الحال على ذلك حتى انبثق فجر النهضة الكبرى في بلادنا عقب الحرب العالمية الأولى فتأسس أول ناد للموسيقى في دمشق ضم الصفوة المختارة من رجالات الفن عندنا، فيهم المحامي والطبيب والموظف والتاجر والمزارع والصحفي وغيرهم ممن كان يمنعه الحياء ومسايرة البيئة من الظهور، وبعد أن تمرن أعضاؤه على القطع الموسيقية الصامتة والغنائية والموشحات وسواها، وحذقوها على أساتذة فنيين معروفين بخبرتهم الواسعة وكفاءتهم، بدءوا بإقامة أول حفلة موسيقية على مدرج الجامعة السورية الفخم فلم يبق أحد في دمشق ممن حضرها إلا وقد سرًّ بما سمع وبما شهد من تنسيق وإبداع وانسجام بين أعضائها الذين ظهروا على المرشح بمظهر من يبغي إعزاز هذا الفن وإزالة ما علق في نفوس القوم من احتقار أربابه واشياعه، ولا تزال ذكرى هذه الحفلة عالقة في النفوس برغم بُعد العهد بها. وأطلق على هذا النادي اسم (النادي الموسيقي السوري) وهو أقدم أنديتنا، وقد قام بفضل أموال أعضائه المشتركين، وريع حفلاته وكان رئيسه الفخري وهو أحد الرجال الوطنين المعروفين، لا يألو جهداً في جمع الإعلانات له وإقامة حفلات خاصة لعظماء الرجال الذين يؤمون سوريا للاصطياف أو في مناسبات خاصة، أذكر أن المرحوم طلعت حرب باشا باعث نهضة مصر الاقتصادية قد دعي مرة إليه، وأقيمت له حفلة رائعة خرج منها مغتبطاً مسرورا، وجادت يداه رحمة الله بإعانة مالية كان لها الواقع الحسن والأثر الحميد.
بقى هذا النادي محلقا في سماء الفن حقبة من الزمن، إلى أن أصابه ما يصيب كل حي في هذا الوجود من ذرور قرن الخلاف والشقاق بين أفراده. وظهر فيه داء الغرور والمنافسة فتفرق أعضاؤه بعد اتفاق، واختصموا بعد وئام، وكانت عاقبة ذلك أن انقسم النادي إلى(724/29)
أندية عدة ظهرت باسم (الرابطة الموسيقية) و (دار الألحان والتمثيل) و (المعهد المعهد الموسيقي) و (الموسيقى الوطنية) و (معهد الآداب والفنون) و (ندوة أصحاب الفنون) بيد أن هذه الأندية جميعا لم تؤلف فيما بينها وحدة فنية عامة، فأعضاؤها على كثرتهم، من الهواة الذين تخذوا الفن ألهية خاصة، وقد سعى الكثيرون من الذين يغارون على هذا الفن، إلى هذه الأندية فما قدر أحد منهم على ذلك، ولذا فأخذت هذه الأندية تنحل الواحد إثر الآخر بسبب الضائقة المالية، ولم يبق منها ثابتاً قوياً إلا الاقل، وانقلب بعضها إلى دور اللعب الورق والنرد وغيرها من ألعاب المقاهي، ولو أن أولى الأمر مدوا يد العون لهذه الأندية وساعدوها بالمال والرجال لعاشت في تقدم وازدهار ولضارعت بنهضتها أندية العالم الكبرى، لأن مواهب رجال الفن عندنا مشهود لها بالسمو والقوة، وقد زادت قوة في هذا العهد الاستقلالي الجديد بعد أن ذهب الأجنبي عنا لا رده الله، ومما يسرنا اليوم أن نرى القائمين على محطة الإذاعة في دمشق قد افتتحوا مدرسة فنية لتعليم ناشئة البلاد النوتة الموسيقية على أحدث الطرق، وأحياء موات الموسيقى القديمة والموشحات الأندلسية الرائعة، وتعاقدت مع أساطين الفن في دمشق وحلب الذين يندر وجود مثلهم في الأقطار العربية الشقيقة، وكل من ينبغ من طلاب هذه المدرسة يؤخذ فورا إلى محطة الإذاعة ليذيع منها فنه ويظهر مواهبه، وهذا مما يبعث على التنافس الحميد بين الطلاب، ونحن نرجو أن تعيد دمشق مجد الأندلسيين الزاهر في مختلف الضروب الموسيقية والأصوات والأنغام، والرقص المسمى برقص (السماح) وبطل هذه النهضة عندنا هو نائب دمشق السيد فخري البارودي الذي يشتغل اليوم في وضع مؤلف قيم شامل في الموسيقى العربية، ومدير الإذاعة الفنان السيد شفيق شبيب، والمدير العام الشاعر المعروف الأستاذ سليم الزركلى. وحبذا لو أن محطة الإذاعة فاوضت الأستاذ توفيق الصباغ نابغة (الكمان) لا في سوريةوحدها بل في الشرق العربي كله، وهو الذي عرفته مصر في المؤتمر الموسيقي الذي انعقد في عهد جلالة الملك فؤاد رحمه الله. وكان جلالته بمواهب الأستاذ، فالأمم لا تنهض إلا إذا قدرت نابغيها حق قدرهم وأحلتهم المنازل اللائقة بهم.
دمشق
حسني كنعان(724/30)
من وراء السور الحديدي
جامعة عربيةأماتحاد فرنسي؟
للأستاذ عبد الهادي الشرايبي
يتحدث الرأي العام الفرنسي حكومة وشعبا، وفي صحفه ومجتمعاته عن الاتحاد الفرنسي الذي أحدثه الدستور الجديد وحار في كيفية تطبيقه على بلدان ما وراء البحار. كأنما يحاول بذلك أن يسدل الستار على تاريخ الاستعمار القائم المظلم، ليبدله بلون أخر قد يكون اشد هولا وأشنع عاقبة.
إن نقطة الضعف في هذا القرار هي أنه لم يحترم إرادة هذه الشعوب ولم يستشيرها ليأخذ رأيها بالموافقة أو الرفض، حتى إذا شرع في تطبيقه كان مبنيا على أساس متين، واستطاع أن يؤتى ثماره المطلوبة. على أن الحكومة الفرنسية، فيما يظهر، كانت أعمق تفكيرا، فلم تقدم على اتخاذ هذا القرار إلا بعد أن خير الرأي العام في البلاد، وخرجت مقتنعة بغرام شعوبها بالحكم الفرنسي، وهيامها بكل ما يقدمه إليها الدول الفرنسية، وما (تضحي) به في سبيل سعادتها وتطورها من مال ورجال وعتاد!
أما الشعب المغربي فإنه بدوره يزداد كل يوما أيماناً بفوائد هذا (الاتحاد الفرنسي) وما سيجره إليه في مستقبل الأيام من خير ورفاهية ونعيم. خصوصا بعد (حوادث الدار البيضاء) التي تركت السنة الناس تسبح بحمد الإدارة الفرنسية، وحسن تصرفها، وسداد موقفها، فقد فتحت هذه الحوادث الأعين، وعرفت الناس مزايا الدخول في (الاتحاد الفرنسي) عن طيب خاطر، وأنهم سيعيشون في عهده في ضلال الأمن الطمأنينة والسعادة والسلام! أن هذا الحدث الجديد الذي يراد ربط مصيرنا به، يتطلب منا أن نقف عنده قليلا وندرسه على ضوء التفكير السليم، والمنطق الصحيح. فالشعب المغربي، ككثير من الشعوب الإسلامية العربية التي أريد لها أن تسمى (شعوب فرنسا ما وراء البحار) هو الآن في مفترق الطريق. وإمامة: أن يختار الانضمام إلى جامعة الدول العربية أو الاندماج في (الاتحاد الفرنسي) وشعوب فرنسا ما وراء البحار.
أما جامعة الدول العربية فتربطنا بها، أو تربطها بنا، روابط متينة راسخة الأعراق الأصول، كونها مختلف العوامل النفسية، والتاريخية، والجغرافية، على ممر العصور(724/32)
والأحقاب وجمعتنا بها عوامل لا انفصام لها ولا يمكن أن تعمل بها يد الدهر، مهما كانت قاسية: فالدين واحد، وهو الذي جمع الهندي والمغربي ويوغسلافي في صعيد واحد، وهو الذي وجههم جميعا إلى قبلة واحدة ووحدهم في عقيدة واحدة. والتاريخ قد جمعنا في السراء، فتنعمنا بأيام عزه وازدهاره، كما تحملنا آلامه واقتسمنا مرائره وشدائده.
أما الوضع الجغرافي فإنما هو سلسة واحدة متصلة الحلقات ابتدعتها يد الآلة متماسكة البناء. ممتدة من ضفاف البحر الأحمر إلى شواطئ المحيط الأطلسي، وهي وضعية اقتصادية وسياسية ممتازة قلما ظفرت بها أمةمن أمم الأرض.
أما العوامل النفسية التي كونها القرآن، ومتنت عراها تعاليم الإسلام، وصهرتها حوادث الأيام، فإننا نلمس آثارها في كل يوم، ونشاهد نتائجها عند كل حادث، فوقائع فلسطين، ومعارك الهند الصيني والهند الهولندية، تدمى قلوب المغاربة، كحوادث المغرب، والدار البيضاء عند شعوب الشرق الأدنى والأقصى. وقد نشا عن هذه العوامل الكثيرة المختلفة، عوامل سياسية ربطت مصير الأمم العربية بعضها ببعض، وجعلت سعادة البعض منها متوقفة على سعادة الكل، بحيث لا يطمئن لإحداها خاطر، ولا يقر لها قرار، ومهما نالت من أسباب السيادة والعزة، إذا كان البعض الآخر لا يزال أنينه يتردد صداه في انتحاء المعمورة، تحت وطأة الاستعمار الثقيلة.
هذه طائفة من الأسباب التي تربطنا بجامعة الأمم العربية، وتجعل مصيرنا مرتبطاً بمصير أخواتنا الشقيقات، بلاد الشرق العزيزة، فلنقالآن نظرة أخرى على ما يمكن أن يربطنا بالاتحاد الفرنسي من أسباب وما يمكن أن يجمعنا به من علائق ومصالح.
أما صلاتنا بهذا الاتحاد، أو بالأحرى، بالدولة المبتكرة له، فتبتدئ منذ نيف وثلاثين سنة. وإن نظرة عجلي على هذه الفترة من تاريخنا القومي كافية لبيان ما هية هذا الاتحاد، وشرح الأسس التي يراد بناءة عليها. فهي فترة مهولة، مليئة بالنار والدم والحديد، وبمعارك وحروب، وسجون ومناف، وأنواع من الإرهاق والعسف، لم يشهد لها التاريخ مثيلا حتى في العصور التي تسمى (مظلمة)!
هذه نظرة قصيرة على كلا الاتجاهين، وعلى الطريقين المقترحين أمامنا. فما الذي يختاره الشعب المغربي من ذلك: سبيل (الجامعة العربية) أم سبيل (الاتحاد الفرنسي) الجديد؟(724/33)
لقد تفضل جلالة مولانا الملك، ترجمان الأمة الصادق، ولسانها الناطق، فأجاب عن هذا السؤال الذي يختلج في صدر كل مغربي، وقلب كل عربي في تصريحه الأخير لرجال الصحافة قبيل مغادرته لمدينة طنجة. قال جلالة الملك المحبوب:
(. . . ومن جهة أخرى، فإن المغرب يحرص أشد الحرص على تمتين صلات الود مع جميع البلاد التي حاربت من اجل الحرية، ولا تزال تواصل الكفاح في سبيل نجاح قضيتها، أن المغرب ليأمل بكل ما أوتي من قوة، أن ينال حقوقه كاملة. ومن الواضح الجلي أن المغرب بلد عربي، مرتبط مع بقية بلاد الشرق العربي بروابط قوية متينة، وإنه يرغب في أن تتقوى هذه الروابط يوما بعد يوم، خصوصا منذ أن أصبحت (الجامعة العربية) تلعب دورا هاما في السياسة العالمية. وأننا لمقتنعون بأن الصلات الثقافية ستساهم بقسط وافر في تحقيق هذا الاتحاد. وهذه هي الأسباب التي تحدو بنا إلى إنشاء مؤسسات للتعليم العالي لإنارة عقول الشعب المغربي، تكون برامجها مستمدة من برامج التعليم في جامعات القاهرة والشام ولبنان والعراق.
إن همنا الأكبر منذ اعتلائنا العرش المغربي هو أن نمنح رعايانا نعمة التمتع بالحقوق الديموقراطية التي يصبون أليها. وأن أملنا أن أملنا القوي في الحصول على هدفنا الأسمى الذي سنواصل السعي لإدراكه).
هذه تصريحات جلالة الملك المفدى لرجال الصحافة الأجنبية. وهي كما ترى - قد حددت الاتجاه، وكانت القول الفصل في هذه المسألة التي أثارت مخاوف وشكوكا، سرعان ما انقشعت وتبخرت في مهاب الرياح. فما على شعبنا العزيز، إلا أن يقتفي الطريق التي اختطها له جلالة العاهل العظيم، والرائد الخبير، ويسير على النهج الذي سنه له. واضح المعالم، موفق الخطى.
المغرب الأقصى
عبد الهادي الشرايبي(724/34)
هل الموت نتيجة لازمة للحياة؟
الحيوانات والنباتات الخالدة - الشيخوخة وأسبابها
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
الشيخوخة وأسبابها:
رأينا فيما تقدم أول مظهر من مظاهر الشيخوخة في الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة وهو عجزها عن الانقسام إلى أن تتلاقح فتعود إلى شبابها، وقد بينا أن هذا ناتج من تراكم بعض المواد الإفرازية السامة داخل أجسامها وعدم تصريفها في الحال بأكملها إلى الخارج لنقص في تكوين الكائنات الحية وعلى الأخص نظام التغذية والتصريف.
وما يحدث للخلايا المنفردة يحدث للخلايا المجتمعة في النباتات والحيوانات العليا ومن بينها الإنسان فإن الدم في الحيوانات والسوائل المماثلة له في النباتات تنقل إلى جميع الخلايا المواد الغذائية وهذه تحترق ببطيء أي تتأكسد داخلها فتتولد الطاقة (القوة والحرارة) التي تستعين بها الكائنات الحية على القيام بمختلف وظائف الحياة. ونقول أجمالا أن بقايا احتراق المواد الزلالية هي التي تسم الجسم تدريجيا وتسبب الشيخوخة.
وتفصيلا لهذا الأجمال نقول أن المواد الغذائية مهما تنوعت مظاهرها تنقسم ثلاثة أقسام: المواد الهدروكربونية مثل السكر والنشء، والمواد الدهنية، والمواد الزلالية مثل اللحوم والبيض والجبن والخضراوات البقولية كالفول والعدس والفاصولية والبسلَّي وغيرها.
فالمواد النشوية السكرية والمواد الدهنية نظرا لأنها مكونة من هدروجين وأوكسجين وكربون تحترق داخل الجسم احتراقا كاملا فتتحول إلى ماء لا ضرر منه والى غاز حامض الكربون تفرزه الرئتان بأكمله على اغلب الظن. فهذه المواد لا تلحق في الغالب ضررا بالجسم، ولكن قد تتولد منها أثناء احتراقها التدريجي مواد كيميائية ضارة تشترك في تسميم الجسم بطريقة غير محسوسة في الفترة القصيرة التي تمكث فيها قبل أن تحرق هي أيضاً بدورها.(724/35)
آما المواد الزلالية فإنها الفاعل الأصلي حقاً في ذلك التسمم التدريجي الذي يسبب الشيخوخة فالموت، فهي أهم غذاء وفي الوقت نفسه أكبر عدو لنا لأنها مواد رباعية يدخلها الازوت إلى جانب العناصر الثلاثة سالفة الذكر ولهذا فإنه يتخلف عنها عند احتراقها في الجسم عدا الماء وغاز حامض الكربون - مواد أخرى تشمل الازوت وهي المواد الإفرازية المعروف بعضها مثل المادة البولية والحامض البولي وأملاحه ومثل الصفراء وأحماضها وأملاحها. وهي جميعها سامة وضارة وكثير منها غير قابل للذوبان في الماء فلا يفرز بتاتاً ويتراكم داخل الخلايا وفي الأنسجة المختلفة وعلى جدران الشرايين فيصلبها وبالتالي يقلل من قدرتها على تأدية وظائفها ويؤثر تأثيراً سيئا في الجهاز العصبي وفي جميع الأعضاء الأخرى ويضعفها فتنحط ولا تقوى على القيام بأعمال الحياة وهذه هي الشيخوخة بعينها: تصلب عام في الشرايين، وتيبس في الأنسجة، وقصور في وظائف الأعضاء الخ.
يضاف إلى هذا السبب في تسمم الجسم سبب أخر وهو تخمر فضلات الطعام في الأمعاء، ونتيجة هذا التخمر هي تولد مواد عفنة سامة يمتصها الجسم مع المواد الغذائية النافعة خصوصا وان الأمعاء عضو ملائم للامتصاص اكثر من غيره
ويضاعف أسباب الشيخوخة المتقدم بيانها فعل كريات الدم البيضاء التي كشف عن وظائفها متشنكوف فخطا بالعلوم البيولوجية والعلوم الطبية خطوات واسعة عظيمة النفع نظريا وعمليا. فإن من يفحص تحت الميكروسكوب نقطة من دم الإنسان أو أي حيوان يجد أنها مكونة من سائل شفاف تقريبا يشتمل على كريات حمراء عديدة هي التي تكسب لونه الأحمر وكريات بيضاء اقل عددا، ومن أهم صفات الكريات البيضاء أنها تفترس بشراهة كل ما يقابلها في الجسم من البكتريا والميكروبات والجراثيم الحيوانية الأخرى.
غير أن فعل الكريات البيضاء غير مقصور على افتراس الميكروبات والجراثيم والمواد الغريبة عن الجسم بل أنها لا تحترم حتى زميلاتها من الخلايا الأخرى في مخلف أنسجة الجسم لأنه لا عقل لها يجعلها تميز بين النافع والضار فهي تحاول على الدوام التهام كل ما يقابلها لأنها حيوانات حقيقية مفترسة لا تقف شراهتها عند حد. غير أن الخلايا والأنسجة حين تكون في كامل صحتها وعنفوان شبابها تصد بسهولة تلك الكريات المشاغبة الجشعة بأن تفرز عند اقترابها منها مادة كيميائية تمنعها من الاعتداء عليها، ويتم ذلك بطريقة آلية(724/36)
طبيعية. ولكن خلايا الجسم وأنسجته، متى أضعفتها تلك السموم التي تتراكم في الجسم تدريجيا على النحو المتقدم بيانه، لا تقوي على الكريات البيضاء وتضعف مقاومتها لها فتنخر الكريات البيضاء في جميع الأنسجة كالعضلات والغدد والأعصاب والمخ فتزيد الجسم هبوطاً بعد أن تكون تلك السموم قد أنهكته، وتجتاز تلك الكريات البيضاء الشرايين الرفيعة الشعرية وتتكدس في جميع أنحاء الجسم وتتكون منها أنسجة جامدة وحتى جذور الشعر لا تسلم من اعتدائها فتسبب الشيب سامحها الله
والذي يراه البيولوجيون (علماء الحياة) إنه متى اهتدى العلماء في المستقبل إلى وسيلة لتطهير الأمعاء والدم تطهيرا تاما أول بأول عقب كل أكلة دون المساس بعمليات التغذي المختلفة أمكن التغلب على الشيخوخة وتطول حياة الإنسان إلى مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر. وقد تكون الفيتامينات الجديدة والمطهرات المدهشة التي اكتشفت أخيراً كالسلفيناميد والبانيسلين مقدمة لذلك الاكتشاف العظيم الذي يصبو إليه الناس من قديم الزمان. وقد يستنبطون عقاقير تنشط بعض الغدد الصماء المعروفة أو غدداً جديدة يكشفون عنها فيما بعد في مجاهل الجسم فتفرز هرمونات من شأنها تطهير القناة الهضمية كلها والدم والأنسجة تطهيرا تاما مستمرا من تلك السموم مع تصريفها بأكملها في الحال إلى الخارج أولا فأولا.
ولكن تبقى عقبة كؤود لا أرى وجها للتغلب عليها وهي وضع الكبد ونظام صرف إفرازه. فإن البول الذي تفرزه الكليتان يجتمع في المثانة ويصرف إلى الخارج رأسا. أما الصفراء التي تفرزها الكبد فإنها لسوء حظ الإنسان والحيوانات لا تنصرف إلى خارج الجسم مباشرة بل تصب مع شديد الأسف في الأمعاء وتبقى فيها فترة من الزمن قبل أن تصل إلى الخارج عن طريق المستقيم، بل أن الأمعاء مملوءة على الدوام بالصفراء التي تفرزها الكبد باستمرار فتمتص (أي الأمعاء) كميات منها (أي من الصفراء) وهي مادة سامة ضارة كل الضرر بالجسم، ولولا ذلك لكان هناك أمل أن يصل العلم يوما من الأيام إلى قهر الموت نفسه ومنعه منعا باتا وذلك أمر لا يراه العلماء مستحيلا من الوجهة النظرية بدليل الحيوانات والنباتات أولية ذات الخلية الواحدة الخالدة التي تقدم لنا الكلام عليها. وقد رأينا كيف أن البيولوجيين عالجوا الشيخوخة التي تطرأ عليها عقب الانقسامات المتكررة وأعادوا إليها شبابها ونشاطها الانقسامي الذي يضمن لها الخلود. والذي نقصده بالخلود هنا(724/37)
هو أو تبقى حية لا تموت إلى أن تمسي الأرض غير صالحة للحياة بفعل العوامل الطبيعية بعد عدة ملايين من السنين على ما يقدرون
غريزة الموت:
ويتوقع متشنكوف أنه متى تغلب العلم على الشيخوخة وباقي الأمراض وعاش الإنسان حياة طويلة لا تقل عن المائتين أو الثلاثمائة من السنين عيشة سليمة من كل علة أو ضعف فإنه حين يصل إلى أخر هذا العمر الطويل يشعر بحاجة إلى الراحة النهائية ويستقبل الموت بهدوء وارتياح كما يشعر المرء في أخر النهار بالحاجة إلى النوم ويرتاح إليه. وهذا ما يسمونه بغريزة الموت، تحل في أخر الحياة محل غريزة حب البقاء. وحين تنشأ هذه الغريزة في البشر يكون العلم قد قهر آخر عدو للإنسان وهو الموت، إذ يكون الناس قد حلوا فبل ذلك المعضلة الاجتماعية الكبرى الخاصة بتوزيع العمل وخيرات الطبيعة بين الناس توزيعا عادلا مع تحديد النسل، وتكون الغريزة الأخلاقية قد تأصلت في النفوس بمرور الزمن الطويل كما هو الحال في النمل فتمتنع الجرائم والحروب وترتقي الأخلاق وتعم الفضيلة ويكون الطب قد تغلب على جميع الأمراض، بل أن الطب الوقائي سوف يمنعها قبل وقوعها فيعيش البشر في سلام ونعيم دائمين، ذلك النعيم الذي ظلوا العصور الطويلة يحلمون به ولن يحققه لهم إلا العلم
نصيف المنقبادي(724/38)
إلى طلبة التوجيهية
شاعران في المنفى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
- 3 -
شوقي أثرى صوراً، واطرف خيالا، وأبرع معنى، فنحن لا نجد في معاني البارودي مبتكراً مستحدثاً، وإنما هي معاني شائعة سبق بها، وطالما كررها في شعره وهو بسرنديب.
ونزعته إلى محاكاة الأقدمين غالبة على تصوره ومعانيه، حتى أن بعضها لا يلائم العصر الذي عاش فيه كالدعاء للمنزل بالسقيا، وهو دعاء يلائم الصحراء حيث الجفاف وندرة الإمطار، وبأن تهب عليه ريح الصبا، وهي ريح كان يستطيبها أهل الحجاز لأنها تهب لطيفة من الشرق، وطالما تغنى بها الشعراء، ولكن ريح الشرق في مصر سموم ورمال، ومثل تعبيره عن مصر سموم ورمال، ومثل تعبيره عن مصر بوادي الأراك من شجرها، وذكره شجرة الرند وليست من نباتها، وتقديره إطراب شعره بأنه ألذ من الحداء وقد انقضى زمن الحداء ونعم الناس منذ زمن بعيد بالموسيقى والغناء، وفي بعض معانيه ضعف مثل قوله لسيفه:
أقول له والجفن يكسو نجاده ... دموعاً كمرفَضِّ اُلجمان من العقد
فليس في تشبيه دموعه بحبات اللؤلؤ براعة، لأن هذا التشبيه يستجاد من شاعر يشبه دمع محبوبته قاصداً الجمال والنفاسة، ولكن البارودي في حال باك حزين لا يلائمه إلا تصوير الدموعبأنها حارة تكوي، أو غزيرة لا تنقطع كما صور شوقي، على أن البكاء ليس من مفاخر الرجال. وفي خياله تناقض مثل شكواه من الوحدة وانه لا يرى صديقا بعد عدت أبيات من تقريره أن العائدات يعدنه ويعطفن عليه.
ولكنا نجد في صور شوقي ومعانيه ما يهز النفس، كتصويره حال الطائر الغريب اللهفان إلى وطنه، الظمآن إلى مائه يجرر ساقيه وذيله باحثا عن دواء، وكتصويره حال مصر نفته مرغمة وهي تحبه وتود سلامته وتأمل عودته بحال أمموسى ألقته في اليم وامقت به مسلمة(724/39)
أمرها وأمره لله ذي الرحمة، ضارعة إليه أن يكلأه بعنايته، وكطلبه من المطر أن ينزل بردا وسلاما في نغم رتيب وإيقاع عجيب، وكوصفه للأهرام هذا الوصف البارع.
على أن قصيدته لم تخل من تراكيب قليلة متأثرة بالتصوير القديم مثل قوله للبرق:
بالله إن جبت ظلماء العباب على ... نجائب النور محدودا بجبرينا
يقصد بنجائب النور المشبه للنوق المسرعة، وليس هذا بشيء.
ومثل قوله: (ريش الفراق لنا سهماً) وليس السهم المريش ولا غير المريش من أدوات القتال في العالم المتحضر.
- 4 -
أجاد شوقي في اختيار المفردات وصوغ التراكيب إجادة أشاعت في القصيدة موسيقى ورنيناً، وأجاد اختيار القافية نونا بعدها ألف لينة تلائم الحنين والألم، وأجاد البارودي في انتقاء كلماته، وجنح إلى الجزالة والفخامة وإن حرمت قصيدته موسيقية شوقي، على أنه استعمل كلمات مبهمة المعنى مثل (لا يعيد ولا يبدي).
- 5 -
وبعد فكل من القصيدتين مرآة لنفس قائلها، تتجلى في قصيدة البارودي صرامته وشجاعته وجنديته واعتداده بنفسه وبآبائه المماليك، وولعه بمحاكاة الأقدمين في أساليبهم ومعانيهم وأخيلتهم.
وتتجلى في قصيدة شوقي ثقافته التاريخية، وحبه لمصر، واعتزازه بماضيها المجيد، وفخره بماضي العرب، وتغنيه بجمال الطبيعة في مصر، وكلفة بموسقة أسلوبه وابتداع معانيه وافتنان خياله.
على أن قصيدة شوقي خير من قصيدة البارودي فيما اتفقنا فيه من أغراض، ومتفردة ببعض أغراض، وإذا كان شوقي قد تتلمذ للبارودي فقد بزه، وما اهنأ للأستاذ أن يفوقه تلميذه.
أحمد محمد الحوفي
المدرس بالسعيدية الثانوية(724/40)
الأدب والفن في أسبوع
حول جائزة الآداب:
أثير في أول الأمر بعض الغبار حول قرار لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للآداب الذي أعلنه معالي رئيسها الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا في حفلة توزيع الجوائز بالجامعة، قال معاليه أن الوقت لم يتسع أمام اللجنة للمفاضلة فرأت تأجيل منح الجائزة إلى العام القادم.
وكاد يسكن ذلك الغبار لولا أن أثاره عالية كثيفا الأستاذ عباس محمود العقاد في مقال عنوانه (علامة الاستفهام في قرار لجنة الآداب) نشرته (أخبار اليوم) وجه فيه الأستاذ الكبير النقد إلى تصرف اللجنة لأنها قبلت العمل وأجابت الدعوة وهي تعلم الموعد المقرر وتعلم المهمة المطلوبة، وتسأل: (ولماذا لم تتنحى عن العمل منذ اللحظة الأولى إذا كانت قد علمت أنها لا تستطيع الوصول فيه إلى نتيجة؟).
ومما قاله الأستاذ العقاد أن اللجنة تشهد على نفسها أنها لم تطلع على ثقافة وطنها اطلاعاً يكفي للفصل فيها وأن اللجان التي تقبل أمثال هذه المهام ينبغي أن تكون مرجعاً يستفاد منه العلم بحركة الثقافة الأدبية في بلادها؛ ورد على اعتذار اللجنة بتنوع الموضوعات الذي يحتاج إلى وقت أوسع للموازنة والتمييز، بأن تعدد الموضوعات هو الذي أعان لجنة العلوم على الفصل فيما عرض عليها، فاختارت لجائزة هذا العام موضوعاً خصته بالتفصيل وتركت الباب مفتوحاً للموضوعات الأخرى في الأعوام المقبلة. ولم صنعت لجة الآداب مثل هذا الصنيع لما كان أيسر عليها من تخصيص هذه السنة بجائزة الشعر أو بجائزة القصة أو بجائزة البحوث والدراسات وما اليها، فيتسع وقتها للفصل والتمييز.
وخلص الأستاذ العقاد بعد ذلك وبعد عبارات (حريفة) وجهها إلى اللجنة، وبعد أن ذكر أنه في خلال سنوات الخمس التي قررها المرسوم أصدر ثمانية عشر كتاباً جديداً، لا تقدر اللجنة أن تسقطها من الحساب أو تهملها في ميزان الترجيح، خلص الأستاذ بعد كل ذلك إلى (أن قرار اللجنة معناه تفسير المرسوم على معنى لا يفهم له معنى سواه: وهو أن الجائزة مشروطة في هذا التفسير بأن يعطاها صاحب الآثار الأدبية في السنوات الخمسة الأخيرة ما لم يكن شخصا يسمى عباس العقاد. . .).(724/42)
وقد سمعت في بعض المجالس الأدبية على هذا الموضوع فوجدت الكثيرين يوافقون الأستاذ العقاد على صميم نقده، وإن كان الكثيرون لا يرون رأيه في الإعلان عن إنتاجه بنفسه مع تقديرهم له وإحلاله محله اللائق به، أما اتهامه اللجنة بالقصد على مجاوزته في منح الجائزة فهو من قبيل الحكم على النيات.
الشعبة الثقافية العالمية:
كانت بعض المدن الأوربية في أثناء الحرب الماضية موئل كثير من رجال الأمم التي غلبت على امرها، وفيهم وزراء المعارف في هذه الأمم ورؤساء الهيئات الثقافية والتعليمية، فكان ذلك داعيا إلى التفكير في تكوين هيئة ثقافية عالمية تكون شعبة من هيئة الأمم المتحدة، وولدت هذه الفكرة في لندن سنة 1945 وتألفت الشعبة فعلا ووسعت مدى الانضمام إليها بإباحته لمندوبي الأمم غير المشتركة في هيئة الأمم المتحدة، وواصلت نشاطها في سان فرانسسكو، حتى اقتنعت هيئة الأمم بفكرتها واعتمدتها من شعبها بمقتضى المادة (57) من ميثاقها. ثم انتقلت الشعبة بعد ذلك إلى باريس حيث اخذ في تنظيم أعمالها ووضع الخطط التي تكفل تأدية رسالتها.
وفي مساء الاثنين الماضي وبنادي الخريجين المصري تحدث الدكتور محمد عوض محمد بك رئيس قسم العلوم الاجتماعية بتلك الشعبة في (رسالة الشعبة الثقافية في هيئة الأمم المتحدة) فبين أغراضها التي تتلخص في تثقيف الناشئة والكبار تثقيفا إنسانيا يرمي إلى خدمة قضية السلم العالمي ببث الأفكار الصحيحة والتقريب الثقافي بين أبناء العالم، لا فرق في ذلك بين الشعوب والأجناس، فتنتفي الأفكار المخطئة ويجنب الناشئون التربية التي تحض على كراهية الشعوب الأخرى، مما كان يؤدي إلى سوء التفاهم فالحروب.
وقال المحاضر إن هيئة الأمم إذا كانت تعالج المشاكل السياسية والاقتصادية فإن الشعبة الثقافية تريد وقاية العالم من هذه المشاكل.
ثم أفاض الدكتور عوض في الحديث عما أقامت به الشعبة في باريس فقال أنها جعلت لكل فرع قسما مختصا، فهناك قسم الصحافة والإذاعة والسينما، وقسم التربية، وقسم الآداب والفنون، وقسم العوم الاجتماعية، وقسم العلوم الطبيعية، وأخذ كل قسم يبحث فيما خصص له، ومن الأمثلة التي ذكرها بنشاط هذه الأقسام وبيان عملها موضوع الآداب المقارن الذي(724/43)
اقترح أن يكون به قسم الآداب والفنون، وذلك بأن يقوم الأساتذة المتمكنون في اكثر منأدب واحد بدراسة مقارنة بين الآداب المختلفة ونشر هذه الدراسة بمختلف وسائل النشر
ومن تلك الأمثلة ما اقترح أيضاً من إنشاء معهد دولي للدراسات المختلفة، وعقد مؤتمرات سنوية تمثل فيها الهيئات تمثل فيها الهيئات الثقافية في أنحاء العالم.
وقد أجاب المحاضر عن السؤال عن علاقة لجنة التعاون الثقافي في الجامعة العربية بالشعبة الثقافية العالمية بأن الجامعة العربية هيئة سياسية والشعبة ثقافية بحتة، وكل ما يمكن أن يكون من الصلة بينهما أن تدعى لجنة التعاون الثقافي العربية إلى مؤتمرات الشعبة الثقافية العالمية، وتكون هذه المؤتمرات فرصة للعمل على تحقيق الأهداف الثقافية المشتركة.
الشاعر المكار:
هو الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وقد وصفه بالمكر الأستاذ عباس محمود العقاد في مناقشة دعابية دارت بينهما في (أخبار اليوم) حول ما كان قد أعلنه الأستاذ المازني منذ سنين من إنكار الشاعرية على نفسه وبراءته من الشعر والشعراء، فقد خاطبه الأستاذ العقاد واصفاً ذلك بأنه (مكرة صغيرة صنعتها أنت أيها الصديق بيديك وانتظرت عاقبتها حتى الآن أربع سنوات أو خمس سنوات) وقال له (ولعلك قدرت أن الناس لا يسمعونك تنكر الشاعرية على نفسك وتتأخر من صف إلى صف ومن رعيل إلى رعيل، حتى يتسابقوا إليك في الصف الثاني، أو الصف الثالث، أو الرابع، ليجدونك قابعا هناك تنتظر المطاردين والكاشفين، فما هو إلا أن يلمحوك في زاوية من الزوايا حتى يلقوا عليك القبض ويسلسلوك ويحملوك إلى الطليعة في أول الصفوف، ثم يمثلوا معك دور (الشاعر على رغم انفه) كما مثلوا دور الطبيب على رغم أنفه في رواية موليير)
ورد الأستاذ المازنى على ذلك بإقراره إذ قال (كل ما قاله صديقي الأستاذ العقاد صحيح، ولست استثنى قوله أنى مكار وأني شاعر)
ثم علل الأستاذ المازنى كفة عن قرض الشعر بأنه كان بطئ النظم، ولم يكن يرضى عما يقول، وانه أساء الظن بصدق سريرته فيما نظم من الشعر وتوهم أن العواطف التي وصفها والتي ولدت ما أعرب عنه من أراء لم تكن صادقة وإنما كانت تقليدا لا اكثر، وأنه(724/44)
كفر بالخلود والأدب كله (وطلع في دماغه) أن ينكر أنه أديب.
أفيكون الأستاذ المازنى قد رجع عن تجريد نفسه من الشاعرية إذ يعترف الآن بأنهشاعر؟ وكل ما في الأمر أنه مورط بما اقره من مكره الذي كانت نتيجته كما قال الأستاذ الاتقاد: (أن يصغي الناس إلى المطيبين في ركاب المغنيات والمغنين، ولا يصغوا إلى المازنى في أغانيه وأناشيده، ولا إلى المازنى في مترجماته التي لو نظمها الخيام أو هاينى أو شيكسبير عربية فصيحة لما جاوزه في التجويد والإتقان)
ولكن هل يستطيع الأستاذ المازنى أن يتلافي (مكرته) ويخرج من ورطته فيعود إلى قرض الشعر؟ ما احسبه يستطيع، فقد اكتفى الناس منهأيضاً بما بلغة من الشان في الكتابة، وذلك حسب الناس وحسبه، وهو الذي طغى على شعره، ولولا لكان من المحتمل أن يتلمسوه حيث يقبع هاربا ويحملوه إلى الطليعة في أول الصفوف ليقوم بدور (الشاعر على رغم انفه).
نواة الجيل الأدبي
خصت مجلة (المصور) الأدب بصفحة من صفحات عددها الخاص (المجتمع المصري) كتبها الدكتور طه حسين بك تحت عنوان (بعض بيئاتنا الأدبية) ويعتبر هذا المقال - على وجازته - الفصل الأول في تاريخ أدبنا الحديث. فهو حدثنا عن نواة النهضة الأدبية التي نبتت في مستهل القرن العشرين والتي اطرد نموها حتى أثمرت الأدب العربي الحديث الذي اصبح يعد أدبا من الآداب العالمية الكبرى.
يحدثنا الدكتور طه عن البيئة الأدبية الأولى التي اتخذت لها مكانا مختارا في الممر الضيق الذي يفصل بين إدارة الأزهر القديمة وبين الرواق العباسي في مدخل الجامع الأزهر حيث كان مجلس جماعة من الأزهريين يعرف الناس منهم في هذا الجيل (محمود حسين الزناتي، وأحمد حسن الزيات، وطه حسين)
كانوا يختلفون على ذلك الممر قبل أن يرتفع الضحى لينتظروا درس الأستاذ المرصفي في الأدب، وبعد صلاة العصر لانتظار درس الأستاذ آلاما في البلاغة وتفسير القرآن الكريم.
يقول الدكتور: (وكانت هذه الجماعة تتحدث حين تلتقي بما تسمع من الأستاذين - أحدهما أو كليهما أحاديث الإعجاب والاكبار، وبما تسمع من الأساتذة آخرين في الفقه والنحو(724/45)
والمنطق والأصول، أحاديث السخرية والعبث، ثم كانت تعلق على إقبال المقبلين وانصراف المنصرفين، وعلى ما يكون بينهم من تفاوت في الأشكال والأزياء والسمات. تذهب في هذا كله مذهب النقد أو مذهب العبث والتشنيع، لا تحفل ولا تأبه لأحد ولا تتحرج من لفظ!)
واتصلت هذه البيئة ببيئة أدبية جديدة من طراز أخر هي (الجريدة) التي كانت يديرها أستاذ الجيل (أحمد لطفي) السيد باشات الذي كان يحدثهم عن مونسكيو، وروسو وفولكير، وجولسيمون. وكانت (الجريدة) ملتقى الشباب من الأزهر ومن المدارس العليا يزخر بهم مكتب مديرها معممين ومطربشين، يقول الدكتور (وكذلك التقى الشباب) الناشئ بعضهم ببعض فأخذت الأسوار تنهار بعض العمائم والطرابيش، والتقوا بالشباب الناضج والكهول والشيوخ من إعلام الحياة المصرية على اختلاف فروعها، فأخذ دم جديد يدور في جيل جديد من المصريين) ويتقدم الزمن وتتعاقب السنون وتتخذ هذه البيئة الجديدة في نفسها ناديا أخر في دار العبد الرازق التي أثرت في الحياة العقلية المصرية أقوى أثر وأبقاه.
ولا شك أن خرجي هذه البيئة في مقدمة اللذين قادوا الحركة الفكرية ووجهوا النهضة الأدبية في صدر هذا القرن - لذلك رأينا أن نسجل هنا بعض تضمنته من حديثها ما قال الدكتور طه حسين بك الذي أحسنت به (المصور) إلى المجتمع الأدبي في عددها (المجتمع المصري)
(العباس)(724/46)
تحية الأمام
للأستاذ أنور العطار
(ألقيت في الحفلة الكبرى التي أقامها النجف احتفالا بالوفد
الثقافي السوري في آذار (مارس) 1947)
سلم على النجف الأطيب ... سلام على ورده الأعذب
على مهده عالم الذكريات ... ودنيا توقد كالكوكب
وكون كآذار جمَّ العبير ... أنيق كمنظوره الأهدب
تنشقْ ففي الترب مسك الخلود ... تهادى، وفي الجو عطر النبي
وطُف بالهدى والندى والعلاء ... وبالجدث الطاهر الطيب
وسلم على العبقري الهمام ... على نبعة الخير من يعرب
وسلم على أرج الكائنات ... وريحانة الشرق والمغرب
هنا الحسب السمح عم الفضاء ... وأسنت به مقلة الغيهب
سرى العبق الطهر ينشئ الصرود ... ويورق نديان في السبسب
يموج من النور في موكب ... ويندى من الطيب في موكب
يطوف على الناس مثل الصباح ... إذاافترعن مبسم أشنب
ويختال في الكون مثل الربيع ... يرن بفينانة المعشب
وعرج على موئل النعميات ... وعلى الأريحي النجيد الأبي
أخي الحزم والعزم والمكرمات ... أخي النائل الأطول الأرحب
وهم بالبيان السني الشهي ... وأعذبْ بمنهله أعذب
وزد مورداً حافلا بالخلود ... وما شئت من ممتع مطرب
على! ويا سحر هذا النداء ... واعجب بروعته اعجب
تحن إليك القلوب اللهاف ... حنين الصغار لصدر الأب
إذا أغطش الليل كنت الشعاع ... وكنت رجاء الغد الأصعب
وكنت الحنان ورمز الندى ... وكنت المعين على المنصب(724/47)
ولم لا وأنت رفيق النبي ... وأنت شذا الطهر من يثرب
وأنت قريش العلي والبطاح ... وأنت مدى السؤل والمآرب
فيا ساكني النجف المستحب ... سلام القريب إلى الأقرب
سلام الشآم كشدو الهزار ... على حافة الجدول المذهب
بنى الجود الخلق المستطاب ... من الأفرخ الزغب والشيب
رفاق الكفاح رعاة الذمار ... حماة المسالك والمشعب
صبغتم طريق البقاء الحبيب ... بهذا الدم الثائر المغضب
فكنتم ضحايا النضال الطويل ... مشيتم على حده المرهب
وطهرتم الوطن المستضام ... من الصل ينفث والعقرب
نقمتم على الظلم والظالمين ... وثرتم على الغاصب الأغلب
فيا ثورة النجف اليعربي ... غضبت وحقك أن تغضبي
يسيل الفرات بها صاخباً ... ونهر العلي إن يثر يخصب
ولولاك ما كان فجر الخلاص ... ولم يجل عن دارنا الأجنبي
سأذكر ما عشت هذا الجهاد ... وأفني بملهمه الملهب
وأحيا لهذا الحمى نغمة ... وقلبيَ إِما يهمْ يطرب
فيا طير هذا الغناء الرقيق ... فان شئت ترتيله فأندب
ويا جفن هذا سبيل البكاء ... فإن رمت ترويحه فاسكب
ويا قلب هذا قريض الخلود ... فإما استباك العلى فاكتب
ويا نفسي من ورده فانهلي ... ويا فكر من مائه فاشرب
شباب الحياة شباب الجهاد ... يشق المتاعب بالمنكب
مضى يستهين بغلب الصعاب ... ويدفع بالناب والمخلب
تدرع بالحزم يوم الهياج ... وأزرى بمرهقه المتعب
وما الحق إلا الطماح الصراح ... بغير الرجولة لم يطلب
إذا ما توانيت عنه استبيح ... وإن تغف عن صوته يسلب
فشيد منار العلى بالدماء ... وبالمثل الرائع المعجب(724/48)
(دمشق)
أنور العطار(724/49)
البريد الأدبي
أبو هريرة والصعيدي:
كان الأستاذ عبد المتعال الصعيدي نشر - في العدد 715 من الرسالة الغراء - كلمة حول كتابنا (أبو هريرة) فأجبناه بما نشرته الرسالة - في عددها 718 - جنحنا في جوابه إلى الدعة لا نسأله عن شيء مما غالط به أو غلط فيه كالعصمة التي حمل بها حملته على غير روية، فإن العصمة من الذبوب - التي تثبتها الأساسية للأنبياء وأوصيائهم - شئ، والعصمة من الجرح المسقط لعدالة المجروح - التي يثبتها أهل السنة لكل صحابي شيء آخر
واليوم وافانا العدد 721 من الرسالة فإذا به - يعترف بالغلط في نسبة وضع الحديث إلى محمد العثماني المذكور فقال: والحقيقة أنه من وضع غيره إلا من وضعه.
ثم ضعف سنده بما لا تتنزه عن مثله أسانيد كثيرة من الصحاح، على أنه لم يستند في تضعيفه إلى أئمة الجرح والتعديل وإنما أرسل تضعيفه كسائر مرسلاته.
ونحن نستند في تصحيحه إلى إمامين مسلمي الإمامة في الجرح والتعديل عند أهل السنة، حجتين عندهم في السنن لا يدافعان، الحاكم في المستدرك، والذهبي في تلخيصه (ص48 من الجزء الرابع).
والأستاذ لا يجهل دأب الذهبي في تعقب الحاكم وإفراطه بتضعيف كثير من صحاح المستدرك وإسقاط بعضها بأقل شبهة، لكنه مع ذلك لم يتعقبه في هذا الحديث بل صرح بصحته عن أبو هريرة. فقال: صحيح منكر المتن فإن رقية ماتت وقت بدر وأبوهريرة أسلم وقت خيبر 1 هـ.
وما كان الذهبي ولا الحاكم مع حسن ضنهما بأبي هريرة ليثبتا عنه هذا الباطل لو وجدا إلى حمله على غيره سبيلا، لكنها الأمانة لا يحمل وزرها إلا من (كان ظلوما جهولا).
وقد حاول الحاكمصرف الباطل عن أبي هريرة - كما جاء في كلمة الأستاذ - لكنه لم يفلح.
نقل الأستاذ أن كلا من الأمام السيوطي والشيخ الخولي وصاحب المنار وشيخ الجزائري طعنوا في بعض أحاديث المستدرك ونحن نقول: أنهم طعنوا في البعض من حديثه، لكنهم(724/50)
لم يذكروا هذا الحديث بسوء، ولو كان ضعيفاً لنبهوا إلى ضعفه، ولو كان من الأحاديث الموضوعة لنضمه السيوطي وغيره في سلك الموضوعات، ما علمنا أحد من أئمة الحديث فعل ذلك.
أما ما نقله الأستاذ عن الفاضل الجمجموني - من انقطاع الحديث لأن المطلب بن عبد الله لا يعرف له سماع عن أبي هريرة - ففيه نظر، وقد قيل أن الذي لم يدرك أبي هريرة إنما هو المطلب ابن عبد الله بن المطلب بن حنطب، وراوي الحديث إنما هو المطلب بن عبد الله بن حنطب، فهما - على الأصح - اثنان يروى الأول منهما عن أنس وجابر وابن عمر وعائشة وأبى هريرة، وروى عنه الأوزاعي وعمر بن أبى عمر، وقد وثقه أبو زرعة والدارقطنى وحديثه ثابت في السنن الربعة وغيرها.
وهب أنا صرفنا النظر عن هذا الحديث ولوازمه الباطلة فما رأى الأستاذ وسائر المنصفين فيما يلزم أبا هريرة من أحاديثه الثابتة عنه في الصحيحين؟ وحسبهم منها ما اشتمل عليه كتابنا (أبو هريرة) في جميع فصوله فليمعن به الأستاذ، وليدع توجيهه الجديد جانباً وليسلك جادة العلماء المنصفين (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) والذي دعانا إلى هذا إنما هو الذود عن السنة المقدسة والغيرة على الإسلام والمسلمين بتمحيص الحق المتصل بحياتنا العملية والعقلية اتصالاً مباشرا، أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.
صور - لبنان
عبد الحسين شرف الدين
إلى الأستاذ علي الطنطاوي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فإنني من المعجبين بك وبما تكتبه، وبهذا الأسلوب السهل السلس الذي يجرى من النفس مجرى الطبع والذوق السليم. هذا أما من حيث مناقشتك للآراء فهي مناقشة القاضي العدل الذي ينظر إلى كل شيء فاحصاً مدققاً ثم يناقش على أساس راسخ وعلم غزير.
وإن حميتك العربية وفضائل الإسلام التي تتدفق في عروقك والخير الذي ترجوه للمجتمع الإسلامي من الاتحاد هو الذي رفعك لنقد هذا الكتاب (في مقالة بالعدد 722 بعنوان إلى(724/51)
علماء الشيعة) بالرغم من أن هذا الكتاب هو طبعة ثانية لكتاب صدر منذ ستة عشر عاماً. فإن مجرد وجوده دون هذا التعليق كان دليلاً على أن النزاع سيظل قائماً والجدل سوف لا ينتهي إلى حد. ولهذا فقد أحسنت يا سيدي صنعاً. وان حرصك يا سيدي على الوحدة والتئام شمل المسلمين في هذا الطرف العصيب لما هو جدير بالتقدير ولكن قل من يعرف المواقف وما تقتضيه في هذا الزمن.
وإن رغبتك يا سيدي في نبذ الجدل بين السنيين والشيعيين لمما يقتضيه الموقف في هذه الظروف الحاضرة، ولكن هنالك في التاريخ الإسلامي سابقة هي أن العالم الإسلامي أتحد في ظرف عصيب على يد شخصية بارزة إلا هو البطل صلاح الدين الأيوبي - طيب الله ثراه - اجتمع العالم الإسلامي كله من سنيين وشيعيين لمواجهة خطر داهم، إلا وهو الخطر الصليبي. وهذا الخطر يهدد الأمم العربية اليوم ولكن بصورة أخرى. فالقوى الاستعمارية تريد أن تكيف العالم كما تريد. وتريد أن تجعل فلسطين العربية طعماً خالصاً لليهود! لا لشيء سوى أن الدول الكبرى تريد أن تهيئ لليهود وطناً في أرض مقدسة ليست لليهود وحدهم وتأبى أن تستقل فلسطين العربية دماً ولحماً.
لقد أحسنت يا مولاي بقرع جرس الخطر وبالنداء للوحدة والتكتل. فعسى أن يفيق القوم من سباتهم العميق ويهبوا ليحملوا السلاح للدفاع عن فلسطين وليستعدوا مجدهم التالد الخالد. ويا حبذا لو ذكر لنا أستاذنا العلامة المحقق أحمد رمزي بك طرفاً من حياة صلاح الدين وتوحيده شمل العالم الإسلامي ومقاومته للصلبيين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شفيق أحمد عبد القادر
كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
كلمة صغيرة: -
كان بودي أن تكون كلمتي في الرد على الأستاذ طاهر الجبلاوي هي الأخيرة لولا شبهه صغيرة أتى بها في رده الأخير، رأيت أن أوضحها إظهاراً للحق - فقد أراد الأستاذ أن يثبت صحة ترجمته بالوعي الروحي بأن الوعي هنا بمعنى الضمير استشهاداً بالآية الكريمة (والله أعلم بما يوعون) أي يضمرون. . . وليسمح لي الأستاذ أن اقدم أمامه هاتين(724/52)
الحقيقتين الواضحتين:
1 - الوعي ليس مصدر (يوعى) أي يضمر بل هو مصدر (وعى) وهو في الأساليب الحديثة يأتي بمعنى الانتباه مثل الوعي القومي ولا يأتي بمعنى الضمير، وفي ذلك مراعاة لمعناه الأصيل في اللغة العربية.
2 - ليس في الفصل كله جملة واحدة تؤيد رأى الأستاذ في أن الروح يجب أن يدرك ضميرها الاشياء، والفصل كله يؤيد رأيي في أن الخطوة الأولى لمعرفة الحقائق هي معرفة الروح، فليتفضل الأستاذ بمراجعته مرة ثانية قبل أن يتهمني بالتزييف والتحريف!!.
وقد ختم الأستاذ باتهام مبهم لوح فيه بأخطاء في ترجمتي للسادهانا غير موجودة، وهذا الكلام المبهم مما لا يرد علية؛ لأنه يحتاج إلى دليل يؤيده.
هذه كلمة صغيرة في هذا الموضوع. وأؤمل أن تكون الأخيرة.
أسيوط
محمد محمد علي
إلى أصدقاء أحمد محرم:
المرجو من أصدقاء ومقدري فضل شاعر العربية المغفور له أحمد محرم أن يرسلوا مشكورين ما قد يكون في حوزتهم من آثاره الأدبية (شعراً ونثراً) - ما نشر منها بالمجلات والجرائد وما لم ينشر إلى الأستاذ محمود أحمد محرم بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول.(724/53)
القصص
الاختيار الذي كسر قلبي
معربة عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ عبد الحميد حمدي
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وفي الحق كان هذا الخطاب أول ما شعرت به من عوامل الارتياح منذ أشهر طوال. فلقد أخبرته فيه بما يحيط مركزي من حرج يدعو إلى اليأس. خبرته بمبلغ حبي ابنتي حباً يحول بيني وبين اللحاق به ولكنني اعترفت له بأنني كنت شديدة الحماقة في تصرفي الذي أدى بعد الواحد منا عن الاخر، وقلت إنني أود على الأقل أن أتعزى في شقائي بمعرفتي أحواله ولقد كنت أعلم على كل حال أنه قد انتظرني وأنه لم يستبدل بي أحدا. وطلبت منه أن يبعث برده على خطابي إلى شباك البريد.
قضيت أسبوعين في عذاب متواصل تنتابني على التوالي عوامل الخوف والشعور بالجريمة واليأس والأمل إذ كنت اذهب كل يوم إلى دار البريد لأسال سؤالي المألوف: (هل جاءتني خطابات)؟ وأتلقى الجواب المألوف أيضاً: (لا، يا سيدتي)
وأخيراً جاء الرد، فكان أشبه بالمعجزة أن أقرأ العنوان وكلمات (تيد) مكتوبة بخطه الذي ألفته زماناً طويلا فكان من أعز الأشياء على نفسي. وكأنما كانت تلك الكلمات صوتاً خارجاً من القبر وقد استهلها بقوله (عزيزة نفسي) وقد قال لي في ذلك الخطاب أن شيئاً واحداً كان ثابتا في حياته التي اكتنفها الاضطراب، وأنه كان متنقلا من مكان إلى مكان وكان خطابي يتبعه حيثما ذهب. وأنه قد عاد الآن إلى لندن، وسيغادرها بعد قليل ليبحر مرة أخرى إلى الشرق الأقصى. وقد رجاني أن أذهب إليه، وأن لا أكلف نفسي أكثر من حمل طفلتي معي.
وتبادلنا المراسلات شهراً كاملا محاولين أن نصل إلى حل لمشكلتنا. وقد خيل إلي أنني بعثوري عليه مرة أخرى أستطيع أن أتجمل حظي في الحياة. ولكني لم ألبث أن أدركت أن هذا الوضع الذي أريد وضع الأمور فيه غير عادل ولا مقبول، فهناك في لندن يقيم الرجل(724/54)
الذي أشتاق لقاءه وهو ينتظرني ويرجوني أن أذهب أليه. فلم أضيع الحياة الوحيدة الصالحة لي احتفاظاً بعقد زواج مجرد من الحب؟
ومع ذلك لم أكن لأستطيع التفكير في هجر ابنتي (سو) وكنت أعلم أنني إذا حاولت أخذها من (روني) فإنه يقدم على كل مستحيل للحيلولة دون ذلك.
وهناك إلى جانب ذلك شعوري الشخصي بروح العدل والأنصاف لا يسمح لي بأن آخذ الشيء الوحيد الذي يعيش من أجله في هذا العالم وما كانت القسوة لتبلغ بي إلى حد أن آخذ (تيد) ولا أترك (لروني) شيئاً. كذلك لم أكن لأسمح لنفسي بأن أعرض (سو) للحياة في مركز حربي ببلاد نائية حتى لو استطعت أن أخرج بها من هذه البلاد.
احتفظت بخطابات (تيد) وكنت أكرر قراءتها المرة بعد الأخرى باحثة عن حل لهذا الأشكال، وكنت في كل يوم أعتزم أن أحرق هذه الخطابات، ولكنها كانت جميلة جداً وكان حرقها في نظري أشبه بالتخلص من الحب الذي كنت متعطشة إليه، بعد أن أصبح بين يدي. فكان احتفاظي بهذه الخطابات هو الغلطة الكبيرة الثالثة التي ارتكبتها. فقد كنت أدرك جيداً الخطر من وجودها عندي، وكنت في خوف دائم من أن يعثر (روني) عليها ولو أنها كانت محفوظة في صندوقي المقفل.
وفي يوم من الأيام انحنيت فوق الصندوق أبحث عن شيء من القصاصات لأجعل منها ملابس لعرائس (سو) وكانت (سو) إلى جانبي فمالت إلى نصفها داخل الصندوق وقالت بلهجة الطفولة العذبة (ورق).
ولم تسترع هذه الكلمة نظري بادئ الامر، ولكن بعد بضع دقائق كانت (سو) جالسة على الأرض تعبث ببعض الأوراق عندما دخل روني الغرفة.
فأغلقت الصندوق مسرعة وقد دق قلبي دقاته العنيفة وهو يقول:
- لقد عدت لأخبرك أنني لن أحضر الغداء اليوم هنا.
ثم حمل (سو) بين يديه وقبلها، وهو يقول:
- كيف حال ابنتي الصغيرة. . أترسمين؟ ألا فدعي أباك يرى ما عملت)
وعلى حين فجأة وفي ثورة جنونية عرفت ما كان في يدها، فصحت في حماقة بالغة:
- لا. . أريد أن أقول. . إنها لا شئ. . هاتها لي) فنظر روني إلي نظرة غريبة. . ثم(724/55)
أنزل (سو) إلى الأرض فاستمرت ترقص وهي متعلقة بساقيه، ونظر إلى الخطاب الذي أخذه من ابنته، فحاولت أن أختطفه من يده ولكنه أمسك بيدي ورفع يدي على رأسي، وكان لون وجهينا قد استحال إلى صفرة الموت وثقل تنفسنا، وقال في إيجاز:
- لقد اشتبهت في شيء من هذا القبيل منذ عهد بعيد ثم ترك يدي وبدأ يقرأ الخطاب، فانحنيت على الصندوق وخبأت وجهي بكفي واندفعت في بكاء عنيف، علماً بأن ما وجدت كان الخاتمة والبداية. فقد كان علمه بما بيني وبين (تيد) عذاباً لي وراحة في وقت واحد. فمعناه مواجهة الحقيقة ثم الاستقرار على أمر
ثم قال وقد تجهم وجهه وتقلصت شفتاه واشتعلت عيناه بنار الجرح الذي أصابه:
- حسناً، ولعل الخير في أن تذهبي، ألا ترين ذلك؟
فضممت (سو) بين ساعدي وضغطت جسمها الصغير الدافئ إلى صدرى، وقلت في لهجة منقطعة بالتنهد:
- لا أستطيع أن أتركها وأبتعد عنها.
فعانقتني الطفلة وهي تقول بلهجة الطفولة المرحة:
- لا تبكى يا أمي. . لا تبكي. . وانظري (سو) فهي تحبك لا تبكي. . .
فانتزع روني الطفلة مني وقال بلهجة مخيفة:
- لابد من أن تفارقيها، فإنك لن تأخذيها معك ولن تبقي هنا معها. . . إذهبي إليه إن كنت تعنين به فوق ما تعنين بأهلك! إنك تحبينه، فلن تبقي هنا تخادعينني
فقلت متوسلة:
- أرجوكيا روني. . . أرجوك أن تفهم!
- فأجاب في ثبات:
- أني فاهم. . . لقد كنت تحبينه دائماً. . . ولم تحبيني قط! فاذهبي إليه. . . ولكنك لن تأخذي (سو) أبداً.
فقلت باكية: إن لي فيها النصف. فقال:
- إنها لن تعرف لها أباً غيري. . . وسأقف معك أمام أية محكمة في البلاد يا (بام) وسأبرهن على أنك أم غير صالحة لكفالة ابنتك. وسأعمل الآن على كل شيء لإبعادها(724/56)
عنك.
فتدلت شفة (سو) واضطربت وانحدرت الدموع على وجنتيها الصغيرتين. فامسك روني بها ولكنها مدت إلي يديها الصغيرتين وهي تبكي وتقول:
- لا تبكي يا أمي. . . أرجوك لا تبكي. . .
وإني لأستيقظ في بعض الليالي فأتخيلها أمامي وأسمع كلماتها الأخيرة لي: (لا تبكي يا أمي!) ولعل هذا هو السبب الذي لا يعينني على البكاء.
حمل (روني) ابنته إلى الغرفة الثانية، وسمعته يكلمها في رقة وهو يلفها في معطفها المصنوع من الصوف الأحمر ويلبسها قبعتها الجميلة ويداعبها ويسألها هل تحبه وتحب الخروج معه.
ثم سمعتها تتحدث فرحة مبتهجة. . . والحق أنهما سيعيشان عيشة سعيدة، فلقد كان أباً صالحاً جداً وكانت الطفلة تحبه حباً مفرطا. . . فهما يستطيعان أن يعيشا من غيري.
ووضع (روني) (سو) في الردهة ثم عاد فوقف بباب غرفتي وقال:
- سأعطيك ورقة طلاقك ولكني سآخذ (سو) معي اليوم. فاسحبي من البنك أي مبلغ من المال شئت، وخذي أي شيء أخر تريدينه.
أي شيء آخر أريده؟ وأي شيء يمكن أن أريده غير ابنتي؟ فشعرت بأن قلبي قد جمد في صدري وقلت باكية:
- ألا تريد حتى أن أبقى هنا!
ولقد كنت حتى تلك اللحظة مستعدة للبقاء معه إذا هو قبل ذلك. فهز رأسه وقال:
لم يعد ذلك الآن بممكن، فمن الخير (لسو) أن تعيش بعيدة عن أم لا تستطيع حتى أن تخلص لزوجها.
وسمعت صوت خطاهما يجتازان الردهة، ثم سمعت صوت إغلاق الباب وصوت تحرك السيارة، ثم وثبت إلى النافذة كمن أصيب بفاجعة مفاجئة وأزاحت الستار، فرأيت وجه ابنتي الصغير ملتصقاً بالزجاج الخلفي وقد تفرطح أنفها وهي ترسل لي بيدها قبلة في الهواء قبل أن تبتعدا عن نظري.
فاستولى الخبل على نفسي وأسرعت إلى آلة التليفون وطلبت لندن ثم بدأت أعد حقائبي،(724/57)