ميكال وجمعه الجبال وقذفوا بها الشيطان وأعوانه وزلزلوا زلزالاً شديداً وأدخلوا على قلوبهم الرعب والدهشة في اليوم الثاني؛ وكيف أصر الشيطان على الرغم من ذلك، فصاول وطاول ولج في شره وعناده حتى أرسل الله في اليوم الثالث ابنه المسيح الذي احتفظ له بالنصر وفخاره؛ وكيف سوى المسيح الملائكة صفاً وفي روحه قوة أبيه، وقذف في صفوف أعدائه بالرعد القاصف، ووثب في مركبته فدفعهم دفعاً إلى أسوار السماء؛ وكيف فتحت أبوابها. فألقى العصاة منها جماعات قد امتلأت رعباً وهوت إلى قرار سحيق أعد لها في الظلام والحمم نكالاً من الله؛ وكيف عاد المسيح بعد ذلك ظافراً إلى أبيه.
هذا هو موضوع القصيدة الكبرى أتيت على سرده كي أتستطيع بعد ذلك أن أتكلم عن فلسفة القصيدة ثم عن الشعر فيها موضحاً ماذا يرمي إليه الشاعر في هذا الموضوع مفصلاً ما أجملت من حوادث القصيدة ومواضع الوصف فيها مبيناً على قدر ما يسعه جهدي مبلغ ملتن فيها من الشاعرية مستعرضاً ما أثبته نقدت الأدب الأعلام من آراء وما عقدوه من موازنة بين هذه القصيد وبين مثيلاتها من الملاحم الطويلة.
فلسفة القصيدة الكبرى:
تدور هذه القصيدة على فكرتين أساسيتين: أولاهما هبوط الملائكة من السماء إلى الجحيم؛ وثانيتهما هبوط آدم أو الإنسان من الجنة إلى الأرض؛ والغرض من هذه القصيدة كما جاء في مقدمتها على لسان الشاعر هو أن يبرر أحكام الله ومشيئته تلقاء الإنسان.
وقبل أن نبسط القول في فلسفة القصيدة يجدر بنا أن نشير إلى أمر كان له أهميته في خلق الكثير من آراء الشاعر، وكان له أثره في توجيه ذهنه اتجاهاً خاصاً بحيث أثر ذلك في فلسفة القصيدة على العموم، وذلك أن ملتن لم يجعل من القصيدة وسيلة لعرض آرائه الدينية مجردة فحسب كما يتبادر إلى الذهن بمجرد النظر إلى موضوع قصيدته، وإنما جعل الشاعر بالإضافة إلى ذلك موضوع قصيدته في أكثر من موضع مجالاً للإشارة إلى ما في نفسه من معان تتصل بحياته الخاصة أو بحياته العامة وحياة قومه من ناحيتيها الاجتماعية والسياسية. وهذا كما ذكرنا جانب من فلسفة القصيدة، إذا أغفلناه نقصت في قيمتها كعمل فني نقصاً كبيراً، بيد أننا نؤثر أن ندع بيان ذلك حتى نعقد له فصلاً خاصاً نكشف فيه عن ملتن وحياته في الفردوس المفقود، ولنقصر همنا الآن على ما أراده من الأفكار الدينية.(702/27)
ولكي نستطيع أن نتبين هذه الأفكار، يجدر بنا أولاً أن لم أختار الشاعر هذا الموضوع المستمد من الأنجيل، ونتبين الدوافع التي دفعته إلى ذلك دون غيره.
(يتبع)
الخفيف(702/28)
ضِيزَنَابَاذ
للأستاذ شكري محمود أحمد
موقعها:
أجمعت المصادر القديمة على أن هذه المدينة (موضع بين الكوفة والقادسية، على حافة الطريق على جادة الحج، وبينها وبين القادسية ميل) كما ذكر ياقوت في معجمه.
والذي يظهر لنا أن صاحب معجم البلدان نقل هذا الكلام عن كتاب الديارات لأبي الحسن علي بن محمد الشابستي حيث قال في الكلام على دير سرجس (وهذا الدير كان بطيزناباذ وهو بين الكوفة والقادسية على ساقه الطريق، وبينها وبين القادسية ميل).، وقد نقل هذا الخبر ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار).
تقع آثار هذه المدينة اليوم في الشمال الغربي من قضاء أبي صخير في لواء الديوانية، وبينهما تسعة أكيال، ولا تزال أطلالها ماثلة للعيان يتراوح ارتفاعها بين 15، 20 متراً، وعلى جانب هذه الأطلال آثار أبنية قديمة العهد تشبه أحجارها أحجار الخورنق. وتمتد هذه الأطلال على مسافة كيلين تبتدئ في موضع يسمى اليوم (المصعاد) وتنتهي إلى ما يقرب من قصر الخورنق.
ولا تعرف اليوم هذه المدينة (طيزناباذ) باسمها المشهور، وإنما يطلق عليها الأعراب وسكان تلك المناطق اسم (طُعَيرزات) لأنهم استثقلوا هذا السم الأعجمي في وزنه وتركيبه فاستبدلوه بما هو أخف منه على اللسان.
ضبط هذا الاسم:
ضبط ياقوت هذا الاسم بالحرف فقال: طيزناباذ بكسر أوله وسكون ثانيه ثم زاي مفتوحة ثم نون وبعد الفاء باء موحدة وآخره ذال معجمة، وشكلها ابم خرداذبة والطبري بفتح الطاء وسكون الياء.
وقد صحفت هذه اللفظة كثيراً غيرها من الألفاظ العجمية فقال بعضهم طيزناباذ وقال غيره طرناباد، أما الأستاذ محمد سعيد العريان مصحح كتاب العقد الفريد فقد ضبطه (طيرتاناذ) وذلك عند الكلام على ضروب العروض شعراً، حيث وردت هذه اللفظة في بيت من أربعة(702/29)
أبيات في كل بيت منها تصحيف مشين.
معناها:
هذه الكلمة أعجمية في معناها وتركيبها فهي مكونة من (ضيزن) و (أباذ)، والضيزن ملك الحضر. قال ياقوت: (وسبب تسميته بهذا السم (طيزناباذ) أنه من عمارة الضيزن والدة النضيرة بنت الضيزن وملك الحضر، وأن الفرس ليس في كلامهم الضاد فتكلموا بها بالطاء فغلبت عليها ومعناها (عمارة الضيزن) لأن أباذ العمارة).
وعلى هذا الرأي أيضاً البلاذري حيث ذكر: كانت طيزناباذ تي ضيزناباذ نسبة إلى ضيزن بن معاوية بن عمرو بن العبيد السليحي، وعلى هذا الرأي أيضاً الكلبي.
ولما غلب الفرس على هذه المواضع غلبت لغتهم على هذه الأرجاء، فاستبدلوا الذاد بالطاء لخلو لغتهم منها، فاشتهرت باسمها الأخير (طيزناباذ).
تاريخها:
كانت طيزناباذ عاصمة الحضر، وكان ملكها (ضيزن بن معاوية) معاصراً لسابور ذي الأكتاف ملك الفرس، وكانت بين الضيزن والروم علاقة صداقة وحلف، فتقدم سابور ليخضع هذا الذي تحالف مع أعدائه، وترك رجاله يغيرون على العراق والسواد.
فلما نزل سابور الحضر تحصن ضيزن بالحصن وأقام فيه مدة طويلة، فحاصره سابور شهراً لا يجد سبيلاً إلى اقتحام الحصن، ولا حياة لدخوله.
تقول الروايات والقصص أن النضيرة بنت الضيزن نظرت في أحد الأيام وقد أشرفت على الحضر إلى سابور فهويته وأعجبها جماله، وكان سابور من أجمل الناس شكلاً. وأمدهم قامة، وأرشقهم جسماً، فبعثت إليه إن ضمن لها الزواج منه هدته إلى فتح الحصن، فضمن لها ذلك، فأرسلت إليه أن يذهب إلى نهر الثرثار - وو نهر من أعلى الحصن - فيرمى فيه التبن ثم ينظر أين يدخل التبن فيدخل من ذلك المدخل، لأن ذلك المكان يفضي إلى الحصن ففعل.
ولم يشعر أهل الحصن إلا وجنود سابور معهم في حصنهم، يمعنون فيهم قتلاً وأسراً. ثم عمدت النضيرة إلى أبيها فسقته الخمر حتى أسكرته طمعها منها في زواجها من سابور،(702/30)
ولكن سابور عندما أحتل الحصن قتل أباها، وأمر بهدم الحصن.
هذه هي قصة هدم حصن أبي الضيزن، وقد أكثرت كتب الأدب والسير من ذكر الضيزن وحصنه، وخيانة ابنته له، وزوال ملكه، وضربت بذلك الأمثال.
كل ذلك كان بين 236 وسنة 328 بعد الميلاد.
ما قيل فيها:
هي من المواضع التي ذكرت بالجمال والتهتك وشرب الخمر لأنها كانت محفوفة بالكروم والشجر والحانات والمعاصر، وكانت أحد المواضع المقصودة للهو والبطالة، وقد وصفها بهذا الوصف ياقوت والشابشتي والعمري، وغيرهم من المؤرخين الذين ذكروها، ولهذا السبب جعلها الفرس مصيفاً لهم، يصطاف بها أمراؤهم وسراتهم.
وقد بقيت هذه المدينة عامرة جليلة القدر، يؤمها الخلفاء والفتاك، من أهل المجون والبطالات حتى الفتح الإسلامي حين بدأ الخراب يدب فيها. ففي معركة القادسية جعلها رستم قائد الفرس مباءة لجيشه، قال البلاذري في كتابه فتوح البلدان (وقد رستم ذو الأكتاف فكان معسكراً بطيزناباذ).
وسقطت هذه المدينة بأيدي المسلمين في جملة ما سقط من المدن سنة 15هـ 536م فدب غليها الخراب ولكن استعادت بعض مجدها في عهد المسلمين حيث اقتطعت للأشعث بن قيس الكندي فعمرت بعد الخراب، وازدهرت بعد الاضمحلال، وصار للأشعث بن قيس فيها قصر فخم في عهد الأمويين، وكان هذا القصر يعتبر من القصور المشهورة، والمواقع المذكورة.
ثم سما شأنها في عهد العباسيين حيث صارت من أنزه المواضع وأجملها يقصدها الشعراء ويؤمها الفتاك، وقد ذكر ياقوت فيها (لأهل الخلاعة فيها أخبار يطول ذكرها) وقد قال فيها أبو نواس:
قالت تنسك بعد الحج قلت لهم: ... أرجو الإله وأخشى طيزناباذا
أخشى قضيب كروم أن ينازعني ... رأس الخطام إذا أسرعن إغذاذا
فأن سلمت وما نفسي على ثقة=من السلامة لم أسلم ببغذاذا
ما بعد الرشد ممن قد تضمنه ... قُطْرُّ بلٌ قفريُ بنّا فكلواذا(702/31)
وذكرها أبو نواس في مواطن أخرى مثل قوله:
فتلتني ضيزناباذ ... وقد كنت تقيا
إذ تركت الماء فيها ... وشربت الخرويا
أرض كرم تنبت الدهر ... شراباً سابريا
ثم هي أجمل من بغداد وقصفها ولهوها، بل هي أجمل من أي موضع في العراق لأن أبا نواس قال فيها:
وقائل هل تريد الحج قلت له: ... نعم إذا فنيت لذات بغداد
أمّا وقطربل مني بحيث أرى ... فقنة الفِرْك من أكناف كلواذي
فالصالحية فالكرخ التي جمعت ... شذاذ بغداد ما هم لي بشذاذ
فكيف بالحج لي ما دمت منغمساً ... في بيت قوادة أو بيت نباذ
وهبك من قصف بغداد تخلصني ... كيف التخلص لي من طيزناباذ
جاء في ياقوت: قال علي بن يحيى حدثني محمد بن عبيد الكاتب قال قدمت من مكة فلما صرت إلى ضيزناباذ ذكرت قول أبي نواس حيث قال:
بطيزناباذ كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء
إن الشراب إذا ما كان من عنب ... داء وأي لبيب يشرب الداء
فهتف بي هاتف أسمع صوته ولا أراه فقال:
وفي الجحيم حميم ما تجرعه ... خلق فأبقى له في الجو أمعاء
أقول أخطأ أقوت في ترتيب هذه الأبيات إذ أن لمعنى مضطرب جداً في البيتين الأوليين، ولأجل أن يستقيم المعنى يجب أن يكون هذا البيت (إن الشراب إذا ما كان. . .) قبل هذا البيت (وفي الجحيم حميم ما تجرعه).
وقد ذكر هذا الموضع الحسين بن الضحاك في قصيدة مطلعها:
أخوىّ، هُبّا للصبوح صباحاً! ... هُبّاً ولا تعد النديم رواحا
ثم ذكر الدير في طيزناباذ وأسمه دير سرجس فقال:
هل تعذران بدير سرجس صاحباً ... بالصحو، أو تريان ذاك جناحا
هذه هي أخبار طيزناباذ، وقد اعتمدنا في هذا على المصادر الآتية:(702/32)
ياقوت: ج6 ص 69، ج6 397، ج4 ص 145. مراصد الاطلاع مادة (طيزناباذ).
الطبري ج1، 2264، 2855، ج 30، 718 الطبعة الإفرنجية.
ابن خرداذبة ص 71 الطبعة الإفرنجية.
لغة العرب: السنة الثانية.
ابن الفقيه: ص 183 الطبعة الإفرنجية.
البلاذري: ص255، 274، 284 الطبعة الإفرنجية.
العمري: 284 دار الكتب.
ديوان أبي نواس: 1898 طبعة إسكندر آصاف ص 272، 354.
الشابستي: مخطوط في مكتبتنا ص 102، 103.
بغداد
شكري محمود أحمد
مدرس اللغة العربية بدار المعلمين الابتدائية(702/33)
تعقيبات. . .
للأستاذ عباس حسان خضر
أبكار الهموم وعونها - عثرتان - زواج أم كلثوم - آه من
الأسعار.
أبكار الهموم وعونها:
كتب الأستاذ محمود محمد شاكر بعدد مضى من الرسالة في موضوع أبيات من شعر بعض الأعراب، تحدث فيها الشاعر الأعرابي عن قصته مع أميمة (حوائه) التي أنكرته إذ رأته (شاحباً مهزولاً رثاً أسوأ حالا مما عهدته)، وكان قد آب من سفره الذي دفع فيه لتحقيق أحلامها، وجعلت تسائله مساءلة المتجاهل المزدري: من أي الناس أنت، ومن تكون؟ فإني أراك في حال لا تليق براعي بل، فضلا عن محب يطمع في مثلي! فقال لها - وقد تكشفت له حقيقة حواء -: إذا كان مطلبك وغاية نفسك رونق الجسم واكتناز اللحم والشحم فعليك براعي غنم يعيش في خفض ورغد من لبنها وزبدها. . . إلى أن قال مكملاً وصف هذا الراعي:
سمين الضواحي، لم تؤرِّقه، ليلةً ... - وأنعم - أبكار الهموم وعُونُها
وقف الأستاذ شاكر عند كلمة (أبكار الهموم وعونها) فخال فيها ما لا أراه يُخال، إذ قال أن هذا الأعرابي (قد أراد أن يعلم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمرا غضاً ناضراً ناعماً لم تؤرقه هموم النفس ولم يضر به الكدح في بوادي الأحلام والآمال، فإنه غني عنها، وعن سائر نساء العالمين - وأن أمثالها لسن له بهمٍّ، وأن له من حاجات النفس وهمومها (أبكاراً) كأبكار النساء و (عوناً) كعونها)، وقال فيما يريد بالأبكار: (فإن للنفس شاعراً هموماً (أبكاراً) لم تمسسها يد ولا فكر ولا حلم) وقال فيما يقصد بالعون: (وللنفس أيضاً هموم (عون) قد أصاب الناس منها ما أصابوا ولكن بقيت منها للنفس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند الإمكان ونبل في الخضوع والتسليم عند العجز).
فهل لهذه الكلمة الفطرية (أبكار الهموم وعونها) قِبَلٌ بتحمل كل هذا؟ وهل كانت نفس ذلك(702/34)
الأعرابي في باديته وحياته الساذجة تنطوي حقاً على كل هذه الأحاسيس المزدحمة المعقدة. . .؟
يخيل إليُ أن الأستاذ محمود محمد شاكر قد تراءت له في هذه الكلمة أحاسيسه هو، فخالها أحاسيس الأعرابي. . . وهي أمثل به منه، فما أحسب الأعرابي يريد بأبكار الهموم وعونها أكثر من جديد الهموم وقديمها، على ن استعمال (الأبكار) في الجديد من الهم أدنى إلى المعنى الحقيقي من استعمالها في المختص منه، وكذلك استعمال (العون) في قديم الهم أليق من أخذها من مشتركة.
أما تلك الظلال التي يمد الأستاذ شاكر رواقها حول البيت فهي ظلال نفسه المترفعة الآنفة الساخرة العائشة على المثل والمعاني
وأما الشاعر البدوي فما يبغي بأميمته بديلاً، مهما تدللت وبغت عليه، فإن عاتبها أو غاضبها فإليها بعدُ الهوى نفسه، ولديها محط رحاله، وما يليق به وهو ابن الحياة الفطرية الساذجة أن يدعها ويضرب في بيداء المعاني ليتصيد منها أبكار الخيال وعونه.
عثرتان:
ليس من دأبي تتبع سقطات الأقلام في اللغة وقواعدها، ولكن يهوني أيعثر قلم من الأقلام التي يستأنس بها ويتأثرها الناشئون ومن في حكمهم من غير الدارسين. والذي نحن الآن بصدد التعقيب على جموح قلمه، هو الأستاذ ميخائيل نعيمة، وهو من أدباء المهجر الذين جروا فيميدان الأدب العربي الحديث أشواطاً بعيدة، لكنهم أحيانا يصطدمون - في عدْوهم - بأوضاع اللغة، فلا يعبئون لها!
كتب الأستاذ ميخائيل نعيمة في مجلة (الكتاب) مقالاً هنوانه (مهماز البقاءَ) جاء فيه: (فمثلما نجوع إلى أشياء وأشياء كذلك تجوع إلينا أشياء وأشياء، فنحن أبداً جائعون ومجيعون، وآكلون ومأكولون).
فهو يصوغ من الفعل (جاع) اللازم واسم المفعول دون صحبة ظرف أو جار ومجرور، على أن الصياغة نفسها غير صحيحة إذ جعل واو (مجوع) ياء، ولو تروى قليلاً لقال: () فنحن جائعون ومجوع إلينا.
تلك واحدة، والثانية في قوله بنفس المقال: (لَكم نخاطب الأموات ويخاطبونا) فقد حذف نون(702/35)
الرفع من الفعل المضارع المتصل بواو الجماعة المجرد من الناصب والجازم فقال: (ويخاطبونا) والصواب أن يقول (ويخاطبوننا) فهذا هو الاستعمال القياسي للأفعال الخمسة الذي يجب عليه الألسنة والأقلام، دون التفات إلى الشاذ مثل:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذكي
زواج أم كلثوم:
نشرت الصحف أخيراً زواج أم كلثوم، وقد فوجئ الناس بهذا النبأ، وقابلوه بشيء من القلق وشيء من الارتياح! وكأنه قد استقر لديهم أن أم كلثوم - بانقطاعها لفن الغناء - قد خلصت لهم مغردة طليقة، فما ينبغي أن ينافسهم فيها منافس يستأثر بها. . .
والذي دعا إلى الارتياح أن زوجها الأستاذ محمود الشريف من رجال الفن والموسيقى، فيرجى أن لا يكون حائلاً بينها وبين المستمعين الذي تنقلهم - بصوتها الساحر - من أماكنهم إلى يث تحلق بفنها الرفيع. . .
وليت شعري هل كان أبو الفتح كشاجم يطوي الزمن فيصف (بحة أم كلثوم) إذ قال:
آه من بحة من غير انقطاع ... لفتاة موصولة الإيقاع
أتعبت صوتها وقد يُجتبى من ... تعب الصوت راحة الأسماع
وإذ قال:
أشتهي في الغناء بحة حلق ... ناعم الصوت متعب مكدود
كأنين المحب أضعفه الشو ... ق فضاهى به أنين العود
لا أحب الأوتار تعلو كما لا ... أشتهي الضرب لازماً للعود
ولعل أم كلثوم تواصل حفلاتها الشهرية التي تذيعها محطة الإذاعة، فالناس يتجاوزون للمحطة من أجلها عن كثير. . .
وبعد فإن من حق أم كلثوم التي تبعث إلى قلوبنا البهجة والغبطة - أن نفرح لفرحها ونتمنى لها أطيب التمنيات.
آه من الأسعار:
قال لي صاحبي، وقد لمحت على وجهه ما دلني على أنه ظفر بشيء عزيز المنال: أتحب(702/36)
أن ترى شيئاً من (السماعيُات) التي تسمع وتقرأ عنها في هذه الأيام؟ ودس يده في جيبه بعناية، فأخرج قلماً ثميناً من (ماركة) مشهورة، فتناولته من يده، وأجريته على القرطاس، فجرى ليناً، يكاد يجر اليد إلى الكتابة جرَُاً. . . بل يكاد يمتح من القريحة متحاً. . . فرددت بصري بين وجه صاحبي الظافر. . . وبين القلم الذي يقول لي: هيت لك! ثم رجع البصر إليُ خاسئاُ وهو حسير. . . وأعجلني صاحبي - سامحه الله - في رد قلمه، وهو مغتبط بالحديث عنه قائلاً:
- أتدري ما ثمن هذا القلم؟
- أعلم أنه يباع في السوق بثمن خمسة عشر جنيهاً، فمن لك به. . .؟
- أحضره فلان من أمريكا بمائتين وخمسين قرشاً!
عجباً قلم يصنعه الصانع في أمريكا، يشتري مواده، ويحليه بالذهب، ويبذل فيه بارع فنه، ثم يشتريه التاجر هناك ليبيعه بربح، فيكون الثمن بعد كل هذا مائتين وخمسين قرشاً، فإذا ما جاء إلى مصر بلد العجائب صار ثمنه خمسة عشر جنيهاً. . .! يا ضيعة المنتج والمستهلك بين أظفار التاجر!
ولقد كنا نلتمس الأسباب لغلاء المستورد من الخارج إلى مصر، ونحار لما يدعو إلى غلاء لحمها وسمنها وفومها وعدسها وبصلها. . . فإذا الحيرة تتردد بين هذا وذاك، وتجول هنا وهناك، كما يجول الكلب الشرطي، وتتشمم كما يتشمم، فتكاد تمسك بالتاجر، وأنى لها أن تنال منه وقد أنتفخ وبدا (سمين الضواحي) فلا تملك إلا أن تردد ما قال شوقي في غلاء ما بعد الحرب التي قبل الماضية:
عبادك رب قد جاعوا بمصر ... أنيلا سقت فيهم أم سرابا
حنانك واهدِ للحسنى تجاراً ... بها ملكوا المرافق والرقابا
ورقق للفقير بها قلوباً ... محجره وأكباداً صلابا
أمن أكل اليتيم له عقاب ... ومن أكل الفقير فلا عقابا؟!
أصيب من التجار بكل ضارٍ ... أشد من الزمان عليه نابا
يكاد إذا غذاه أو كساه ... ينازعه الحشاشة والإهابا
يا ولاة الأمر، إنا نستعيدكم على هؤلاء التجار، وإلا فإنا نستعدي عليكم الشعراء، فإن لم(702/37)
يهبوا فحسبنا أمير الشعراء، فإن لم يغنِ فحسبنا الله ونعم الوكيل.
عباس حسان خضر(702/38)
وفاء الشعراء
قضية
(مهداة إلى صاحب (أنات حائرة))
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
قضيةُ أرملٍ نذر الوفاَء ... حكاها الناس أياماً وِلاَء
حكوْا أنّ الفتى عدِم الرجاء ... وراح يصبُّ كالحممِ البكاء
وقالوا ضاقت الدنيا عليه ... وما يجدنَّ في امرأةٍ غَناء
وزادوا أنه نظم المراثي ... وخلَّدَ ذِكر زوجته رثاء
وأقسَم أن يعيشَ بلا شريكٍ ... وأفرط في تحدِّيه القضاء
وصار على الوفاءِ لِواَء صدْقٍ ... وقد عقدوا له فيه اللِّواء
فيا لله من نفرٍ حيارَى ... فما يدرُون أحسن أم ساء
حكوا أن قد تزوج بعد حينٍ ... وضم إليه من حسبٍ كفاء
وزادوا أنّ أفراحاً أُقيمت ... وأنّ عجيجها ملأَ الفضاء
أجل، قد أعرس الرجل المعَّنى ... ولكن، هل نفى هذا الولاء؟!
عجيبٌ أمرُ هذا الناسِ تعشو ... نواظرُهم فلا تعدو الغِطاء
هو القلب الصديع ترون شطْراً ... أمامكم، وسائرُه وَراء
عبد الرحمن صدقي(702/39)
لجسمك. . .
للأديب محمد محمد علي
لجسمك أنغام يشيع أهتافها ... بروحي، وأنسام يهب عبيرها
ودنيا من الأحلام مني قريبة ... يفيض بقلبي بشرها وحبورها
وسحر يلف الآن روحي نعيمه ... فتنمو بها أهواؤها وشعورها
لجسمك نجوى يا فتاتي سمعتها ... ورن بأعماق الفؤاد صداها
تحدثني من غير صوت ولا فم ... وأسمع منها صوتها ورضاها
كأنك أشواق مجسمة بدت ... لعيني، أحلامها ورؤاها
لمستك يا أختي بجسميَ مرة ... فأحسست روحي من ملامسه تنمو
وصرت أرى في كل موضع لمسة ... عبير أزهار يجسمها الوهم
وللجسم مثل الروح حلم يروده ... وآفاق حب بين أقطارها يسمو
تعالى نعش في جنة الأرض ساعة ... تحيط بنا غدرانها وطيورها
فما هي إلا هداة ثم بعدها ... خُطاً نحو أفق الروح، سوف نسيرها
ومن لم يجب للجسم داعيه لم تزل ... على روحه ألفافها دستورها
محمد محمد علي(702/40)
البَريدُ الأدبيّ
مات الأمير شكيب ارسلان:
مات الأمير شكيب ارسلان! بهذا هتف الناعي عشية يوم الاثنين الماضي، فوجمت النفوس للنبأ الأليم، وجزع أبناء العروبة لفقد ذلك الرجل العظيم، واستفاضت الحسرات أسىً ولوعة على علم من أعلام البيان العربي، ورسول من رسل الإصلاح الإسلامي، وقف حياته الطويلة الحافلة على الجهاد للحق، والدفاع عن الحرية، حتى غلبه الموت، وهو الذي طالما غلب الأهوال وارتفع على الشدائد والأحداث.
لقد كان الأمير شكيب - رضوان الله عليه - بالفكرة التي يمثلها،
والغاية التي عاش لها، علماً من أعلام تلك المدرسة المنجبة المنتجة
التي وضع أساسها باعث الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، وتولى
رعايتها المصلح العظيم الأستاذ الإمام محمد عبده؛ فكان يرى الإسلام
عقيدة جامعة، والعروبة رابطة شاملة، والاحتفاظ بتراث السلف دعامة
لنهوض الخلف، فكان هذا هو جماع الفكرة فيما يكتب وينصح به
ويجاهد له.
كان الأمير شكيب في كل ما يكتب يرعى حق الدين وحق الإصلاح الشامل، وكان يفزع لكل مسألة إسلامية، ويزأر لكل نازلة شرقية، ويجاهد لكل قضية عربية، ويوجه خطابه دائماً إلى أحرار المسلمين، ويهيب بجميع أبناء العروبة. ولقد كان له من طيب الأرومة، ونباهة المحتد، واتساع الثقافة والصلة بالناس ما ارتفع بمكانته، وأسمع بكلمته.
وكان الأمير شكيب في مطلع هذا القرن ينهض بفكرته تحت لواء الخلافة العثمانية، وكان يعمل على توثيق الصلة بين الترك والعرب دائماً، وكان يرجو أن تتمازج الوحدة العربية وما يسمونه بالوحدة الطورانية لتكونا وحدة إسلامية جامعة للصفوف، ومانعة من تلصص الاستعمار الغربي. فلما تقلص ظل الخلافة عن الآستانة، ونزل الهلال عن قصور آل عثمان، وقف الأمير شكيب يدعو العرب للوحدة في وجه الاستعمار والتكاتف ضد الدخيل(702/41)
الأجنبي. وفي هذا السبيل كم احتمل رحمه الله ما احتمل من الأحداث الرهيبة حتى قضى عليه ذلك أن يعيش غريباً عن أهله، نائياً عن وطنه، فأمضى النصف الأخير من حياته يطوف آفاق أوربا، وكان يؤثر الإقامة إما في فرنسا لأنها أكثر مقصداً لرجالات العرب، وإما سويسرا لأنها موطن الأحرار. . وعلى أي فقد كان وجوده في أوربا كأنه الديدبان للأمة العربية، فما كانت تمر كلمة في صحيفة أو فكرة في مجالس السياسة تمس الإسلام وتنال من العروبة إلا تصدى لها وكتب في تفنيدها. وكان وهو في مطارح الغربة يملأ الصحف في سائر الأقطار العربية بمقالاته وبحوثه الضافية، وما شغلته مشاغل الحياة وأعباء الغربة عن القراءة والكتابة ونشاط الذهن لحظة.
ومنذ عام أذاعت الصحف ن الأمير في غربته يشكو مرض القلب، وأن كل ما يرجوء عند موته ويتمناه على الله قبل أن يدركه الموت أن يرى والدته التي حرم رؤيتها منذ سنوات، وأنه لا يوصي بشيء إلا أن يدفن رفاته في تراب وطنه. وبعد مشاورات بين رجالات العروبة والسلطات الأجنبية تم الاتفاق على عودة الأمير، فعاد وهو يحمل ثقل الداء المتمكن وأقام بين عشيرته زمناً يغالب الموت حتى غلبه الموت.
مات الأمير شكيب، ولكنه خلف من ورائه سيرة عابرة بالجهاد للحرية، وحياة حافلة بالكفاح للقومية، وتراثاً من الفكر يضن به الزمن على البلى. وليست هذه الكلمة العاجلة العابرة بشيء في جانب ما أسدى وأجدى خدم به القضية العربية والفكرة الإسلامية، فموعدنا بوفائه سلسلة من المقالات نترحم بها لحياته ونعرض فيها لتراثه في الأعداد القادمة من الرسالة إن شاء الله.
محمد فهمي عبد اللطيف
حفلة المجمع اللغوي لاستقبال الأعضاء الجدد:
كانت الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس الماضي موعداً للجلسة العلنية التي عقدها مجمع فؤاد الأول للغة العربية لاستقبال الأعضاء العشرة الذين عينوا به أخيراً.
وقد حضر إلى دار المجمع في الموعد المحدد - عدا الأعضاء القدماء والجدد - طائفة من رجال العلم والأدب، فافتتح الحفل سعادة رئيس المجمع أحمد لطفي السيد باشا بكلمة وجيزة(702/42)
رحب فيها بالأعضاء الجدد، وقال إن أمام المجمع مهام جسيمة ترجو بمعونتهم أن نسير فيها، وأشار إلى أن أعضاء المجمع قد بلغوا الأربعين، وهو أقصى ما يمكن أن تتسع له حجرة الاجتماع، وهو لذلك يذكر الحكومة بضيق مكان المجمع الحالي.
ثم ألقى الأستاذ أحمد أمين بك كلمة المجمع في استقبال الأعضاء الجدد، فبدأ ببيان ما تدل عليه كلمة (مجمع) وذكر تعريف كاتب إنجليزي للمجمع بأنه هيئة متعاونة غرضها تهذيب وترقية الأدب والعلم والفن، يدعوها إلى ذلك العشق الخالص لغرضها. وأشار الأستاذ بكلمة (عشق الغرض) وأثرها في الإنتاج، وقال أن هذا العشق لم يكن بعيداً عنا نحن الشرقيين فقد قامت منا أفراد بما تقوم به المجامع كالأزهري وابن منظور، وذكر أن أمام المجمع مشاكل لا بد أن يجد لها حلولا، وأن له غايات ومطالب، منها وضع معجم واف بحاجات العصر، ومعجم تاريخي مطول، وأن يكون المجمع محكمة عليا للإنتاج الأدبي في العالم العربي، وأن يكون حارساً على اللغة ليشرف على ما يكتب في الصحف وما يستعمل من ألفاظ وأساليب، وأن يستحث الحكومة والأغنياء على التبرع بالمال لتشجيع الأدباء على الإنتاج. وقال إنه وجهت إلى المجمع نقود كثيرة من أن نتاجه قليل أو أنه يختار ألفاظاً لم يستسغها الجمهور؛ ودفع بأن طبيعة المجمع دائماً طبيعة محافظة، وأن طبيعة العلماء تميل إلى التدقيق والبطء، وتفضل النتاج الصحيح القليل على النتاج الكثير في غير نضج، وبأن ليس للمجمع استقلال مالي يشعره بالحرية في العمل. ثم رحب بالأعضاء الجدد وعرف كلا منهم بكلمة قصيرة. ومن الطريف أنه قال بعد ذلك (هذا - أيها السادة - عرض سريع لهذه العشرة الطيبة) فضحك الحاضرون من كلمة (العشرة الطيبة).
ثم قام الدكتور إبراهيم مدكور، فألقى كلمة الأعضاء الجدد فأشاد بفضل المجمع وبين حاجة البلاد إليه؛ وشكر هيئة المجمع على الحفاوة به وبزملائه الجدد، وقال أن المجمع يمتاز بخصائص ثلاثة: عمل صامت، وتعاون صادق، واعتدال وحكمة. ثم أفاض في الحديث عن قوانين علم اللغات المقارن التي من أهمها أن اللغات جميعها تخضع لقانون السير والحركة والتغير والتحول إلى أن قال) إن اللغات في حركة مستمرة، فمن العبث أن تعترضها ونقف في طريقها، أو أن نفرض عليها قوالب جامدة لا تلبث أن تخرج عليها. وإن الصورة المثالية القديمة التي كانت تفرض اللغات لا يقرها العلم المعاصر ولا يقول(702/43)
بها وأصبح يدعو إلى مثالية أخرى عملية ونافعة فاللغة المثالية هي التي تصدر عن روح والعصر وتتمشى مع حاجاته ومطالبه، على أخضر صورة وأوضح مظهر).
وبهذه المناسبة نذكر أن عدد أعضاء المجمع وقت إنشائه سنة 1932 كان عشرين عضواً، وفي سنة 1940 زاد عشرة فصاروا ثلاثين، وفي 28 نوفمبر الماضي صدر مرسوم بتعيين عشرة جدد هم: الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، والدكتور عبد الوهاب عزام بك، والدكتور أحمد زكي بك، والدكتور محمد شرف بك، وزكي المهندس بك، والدكتور مصطفى نظيف، والشيخ محمود شلتوت، ومحمد فريد أبو حديد بك، والشيخ عبد الوهاب خلاف.
وكنا نأمل أن نرى بين هؤلاء الأعضاء الذين عينوا أخيراً بعض أبناء الأمم الشقيقة، وخاصة غير الممثلة في المجمع كفلسطين وفيها الأستاذ محمد إسعاف الشاشيني، وهو - كما يعلم الجميع - من أعلام العصر في اللغة والأدب.
(ع. ح. خ)
مجلة الأزهر في عهدها الجديد:
الرسالات الروحية مجال واسع للدرس العميق؛ والتحليل الدقيق؛ والإسلام ينال من عناية هذه الدراسات المختلفة في جميع اللغات حظاً غير منقوص والأزهر، وهو القوام على رعاية الرسالة الإسلامية؛ الذائد عنها؛ الممهد لها السب ل في غمرة هذا الزحام المتضاعف من الدعاية الذهبية التي تناهض تلك الرسالات؛ وأمضى سلاح في يد تلك المذاهب ما ترمي به عن قوس الصحافة، لذلك كانت الجهود المبذولة لترقية مجلة الأزهر وتدعيمها تقابل بالتأييد، وتحف بالتشجيع. وقد جاءت - المجلة - حاملة خلاصة مصفاة لتلك الدراسات التي تتناول الجوانب الخليقة بالتناول من تلك الرسالة الخالدة؛ وهذه نفحة من نفحات الأستاذ الأكبر الذي مكنته حياته العلمية النشيطة من الوقوف على ثقافة الجامعات الأوربية وأنظمتها وأهدافها؛ وهذا خير ما تطلبه الحياة الجامعية الأزهرية. وتتجلى فيها أيضاً من مجهودات الأستاذ الباحث الموفق - فريد بك وجدي - رئيس تحريرها ومدير دفتها، حتى تستطيع أن تؤدي رسالتها في خدمة الشرق والإسلام.(702/44)
محمد عبد الحليم أبو زيد(702/45)
المسرح والسينما
بمناسبة مشاهدة وفود الجامعة العربية لرواية:
حواء الخالدة
بدار الأوبرا الملكية
للأديب خليل منصور الرحيمي
مسرحية ألفها الكاتب الكبير (محمود تيمور بك) زكي طليمات، ومثلتها الفرقة المصرية. وقد استطاعت هذه المسرحية أن تفرض نفسها على الجماهير - خاصتهم وعامتهم - أياماً وأياماً. وكانت طيالها حديث المشاهد العادي وشغل الأديب والناقد. فهل أتيح لها ذلك كله اعتباطاً وعفو المصادفة، أم تهيأ لها ذلك بما أودعته من خصائص فنية هي وحدها الحكم فيما يكتب له الخلود من ثمرات القرائح. وما يكون نصيبه الموت ساعة ميلاده. ذلك ما سنحاول تبيين أمره في نقدنا للمسرحية.
وقبل الدخول في صميم النقد نحب ن ننبه إلى أمور لها دلالتاه التي يجب ألا تفوت المعنيين بشئون الفن في مصر، وبخاصة الفن المسرحي.
أولاها أن هذه المسرحية كتبت بلغة عربية فصيحة. وكان من الأراجيف الشائعة في الأوساط الفنية، أن لغتنا الفصحى لا تجد استجابة من الجماهير، فضلاً عن أنها تعوق المؤلف عن النفوذ إلى غوار شخصياته مستجلياً خفاياها معبراً عن خلجاتها فكانت استجابة الجمهور لمسرحية (حواء خالدة) شاهداً صادقاً على كذب ما يرجف به القاصدون. فليس باللغة قصور ولا بالجماهير عقم، ولم يعد من الصائغ مد يد الملاينة إلى العامية المبتذلة جرياً وراء ادعاء ثبت بطلانه.
وثانيتها أن المسرحية، من المسرحيات ذات الموضوع، وقد عولجت بطرية علمية، فلم يعمد فيها المؤلف إلى إثارة عواطف الجماهير بالحوادث والمفاجآت والمشوقات المقتسرة. ولكنه استخدم الحوار للتعبير عن الحادث ومغزاه وسببه في آن معاً، فساوق بين العقل والعاطفة في كشفه عما يختلج في طوايا النفوس وما يستتر في أعماقها. وتلك طرفة جديدة في فن المسرحية المصرية، تبعد بها عن (بهلوانيات) الحوادث المفتعلة والاعتماد في(702/46)
التشويق على النكتة المعتمدة. . . ومن هنا كانت هذه المسرحية بدء النقلة الجدية في حياتنا الفنية، والاتجاه بها وجهة سامية.
ونعود إلى المسرحية فنقول أنها موضوع وعلاج، ثم عرض وإبراز. أما الموضوع والعلاج فمن عمل المؤلف؛ وأما العرض والإبراز فمن عمل المخرج والممثل، ونبدأ حديثنا بالموضوع، وكيف عولج.
تدور المسرحية على قصة عنترة وعبلة، تلك القصة التي انحدرت على ألسنة الرواة من أغوار الماضي، ولا تزال شائعة على ألسنة الناس. فعنترة شاعر فارس تيمه الحب، فلم يعد يرى من الدنيا غير محبوبته، يهجر من أجلها الديار، ويركب في سبيلها الأخطار، ويرضى إكراماً لها بالهوان وإن كان أشجع الشبان. وعبلة حسناء بدوية، امتلأ قلبها بالحب لفارسها الأسود زهدت وفاء له في نعيم الحياة، وانتظرت الهناء في ظله وحده دون الناس جميعاً.
فماذا فعل تيمور بتلك المادة التي تقدمها إليه أقاصيص الرواة بيد جامدة في قفص صلب من جلال الماضي.
لقد ارتفع تيمور بالقصة على أوضاع الزمان والمكان والحادث الخاص، فجعل منها قصة إنسانية عامة، دائمة الحدوث ودائمة التجدد، غير متقيد بما يروي عنها من أخبار فالحادث لا يعنيه، وإنما تعنيه دلالته، وذاتيته لا تهمه، وإنما تهمه إنسانيته. . . فالفرد عنده وحدة تتركز فيها أهواء الإنسانية كلها، بل أنموذج صادق لنوازع النوع البشري عامته، على شتى تباين هذه النوازع. فالمسرحية إذا من مسرحيات النماذج البشرية، التي لا تعرض الأشخاص بخصوصياتهم ولكن بدلالاتهم الإنسانية. تلك الدلالات التي تهيئ لها نوزاع أصيلة واغلة في أعماق النفوس. بدأت مع الناس منذ بدأ الخليقة، وصاحبتهم في موكب الحياة، وستظل لهم مصاحبة أبداً، تلبس لهم كل لباس، وتتبدى لهم في كل لون.
فهي في البادية حيية خجولة، تضع نقابها وعينها من ورائه فاحصة وهي في المجاهل مروعة نفور تستتر بأوراق الشجر، ونفسها مشرئبة متطلعة. وهي في المدينة الحديثة متبرجة سافرة وحيلتها حاضرة عاملة. . . إنها هـ هي، في الماضي، والحاضر، وستكون هي عينها في المستقبل، فهي حوا التي لا تحول، حواء الخالدة.(702/47)
من هذه الزواية نظر تيمور إلى تلك القصة. فلم تكن عبلة غير امرأة، امرأة من بنات حواء، بل قل إنها حواء نفسها؛ حواء التي مدت يدها إلى آدم بالكأس المرة اللذيذة منذ بدء الخليقة، فتجرعها مستلذاً مرارتها. ولم تزل تمد له يدها ولم يزل يتجرع الكأس ويستلذها، وليس يعنيها من أمره إلا أن تراه أمامها، بل وراءها، بل محيطاً بها من كل أقطارها. تحاربه لتحارب به وتدنيه لتصل به إلى غايتها، ثم تقصيه لتشبع غرورها بلذة سعيه إليها، غير باخلة عليه بكلمات الحب والإخلاص، ودموع العطف والرثاء. فمن هذا المزاج تملأ له الكأس المرة اللذيذة، التي يتجرعها مستلذاً مرارتها. فما هو الدافع الخفي الذي يقف المرأة من الرجل هذا الموقف؟؟ بل الذي يوجه غرائزها وأطباعها إلى ذلك. أرادت أو لم ترد؟؟
إن المرأة تعبد القوة وتهيم بها - قوتها هي - تلك الهبة التي حرمتها منها الطبيعة فكان لزاماً عليها أن تلتمسها في غيرها ثم تفرض نفسها على ذلك الغير لتكون هي الدافعة والمحركة، فهي القوة وهو آلتها، أما وسيلتها إلى تحقيق تلك القوة أو أخذها قسراً من الرجل، فهي شباك الطبيعة المعطاة لها من جمال ودلال، تتلمس بهما إعجاب الرجل، لتفرض عليه شخصها فإن بطل إعجابه بها فقد انهارت قوتها، وحق لها أن تغدر وأن تخون
ونتلمس مدى صدق هذه النظرية في عبلة فنراها تحب عنترة القوي بجسمه وروحه، مفاخرة بنات حيها بذلك الحب. فهي (عن عنترة أخذت بلاغة الشاعر) ثم هي مفتونة به، لأنها لا تجد سواه (من يحمي الذمار ويذود عن الحمى) ولكنها كما قلنا تحب القوة في نفسها، فلا بد أن يكون عنترة لها تبعاً، ومن هنا جاز أن تدفعه إلى المخاطرة بمصاولة الضرغام، ليأتها بجلده. والويل له إذا لم يأت به. لأنها لا تعرف إذ ذاك (ماذا تقول لنساء الحي إذا هو عاد صفر اليدين). فنفسها وغرورها وفرض شخصيتها هو همها الأول.
ولكن للقوة مظاهر غير الشجاع. فهناك قوة الجاه والثراء تعرض لها متمثلة في شخص الأمير (عمارة الكندي)، الذي يزور الحمى فتلاقيه عبلة يدفعها الحنق عن غياب عنترة، وتأخذ في ملاطفته، حتى إذا ما عاد بطلها حاملاً إليها جلد الضرغام نسيت الأمير وجاهه، لأن غرورها وجد وقوده. ولكنها تريد أن تتأكد لنفسها من أنها تستطيع استلاب هذا البطل(702/48)
أعز ما يملك، ألا وهو سمة رجولته وعنوان شجاعته، فتحتال عليه حتى يحلق لحيته. ثم لا يكون جزاؤه منها إلا التأبي، لأنها لا تريد غير عنترة القوي! ويذهب عنترة إلى فارس وتطول غيبته هناك ويجد الأمير في غيابه منفذاً إلى قلبها، فترضاه خاطباً إن جلب لها مطلبها المرهق من النياق العصفورية. فيرحل هو الآخر في طلبها. ولكن نعىّ عنترة يأتيها فتبكي فيه حبها؛ بل تبكي فيه الطبل الأجوف الذي ينشر أحاديث حبها؛ وسرعان ما تسمع بمقدم الأمير فتخف لاستقباله مراعاة لأدب الضيافة. وأدب الضيافة أحد سيوف المرأة الفواتك. ولكن عنترة لم يمت، فقد عاد إليها من (فارس)، بقلب جديد، لا يؤثر فيه نسيم الصحراء، ولا يسبيه حديث الغرام، ولا يأسره سحر العيون. . . عاد عنترة المدني الجديد. . . فتحتال لاسترجاعه، ولكن كيف، وقد تفتحت عينه على ما لم يدر من الدنيا، فتثور فيها الضغينة على قوتها المفقودة. وإذ ذاك تعد له الطعنة النجلاء، بأن تعيده إلى رقها بما تملك من وسائل، ثم تولى عنه انتقاماً، ويتم لها ذلك، فتطعن عنترة الذي حركت في قلبه الهوى، وتنحاز إلى خطابها الأمير، معتذراً من مداعبتها له بأنها كانت تلهو معه، ولصدقت لقالت (كنت ألهو به)!!
وتزف إلى الأمير وإن قلبها لضائق به. وما أن يعرض لها ركب عنترة، حتى تغري أميرها بنزاله، وتدفعه بيدها إلى الموت بسيف عنترة. ثم تعود لتنظر إليه، وقد أصبح سيد الموقف، وتغنُّ له النداء كما كانت تغنه. فتنسيه ما كابد بسببها من هوان، وما تجشم من أخطار، ويعود إليها منصاعاً مغلوباً على أمره. . . فأي شجاعة في قلبه هذا البطل المقحام. وما غناء شجاعته إذا كانت الحرب بينه وبين حواء!!!
لقد استطاع تيمور بحق أن يعرض لنا صورة عارية للمرأة، تلك التي تلعب بالرجل لتعوض به نقصها، بل لتسلبه قوته نفسها، وهو هو المطية الذلول، سواء أكان أشجع الشجعان أم أهو من أهل الهوان، كل هذا في أسلوب شائق جذاب، وحبك محكم يستحق عليه تهنئة الناقد وتقدير الأديب.
خليل منصور الرحيمي(702/49)
القَصَصُ
وفاء. . .!
للقصصي الفرنسي جي دي موباساق
بقلم الأديب السيد كمال الحريري
كانت عربة القطار غاصة بالركاب منذ (كان)، والأحاديث تدور على ألسنتهم، بعد أن تعارفوا أو تآلفوا. وحين مر القطار (تاراسكون) قال أحدهم.
- في هذا المكان تجري حوادث القتل. وهنا طفق الركب يتكلمون عن سفاك مجهول، أعجز الأمن وأخذ عامين يعيث فتكاً بأرواح المسافرين فكل أخذ يبدي عنه افتراضاً ويدلي برأيه، أما النساء فكن ينظرن برعب إلى الليل البهيم من خلال زجاج العربة، وقد خفن أن يبصرن فجأة رأس ذلك السفاح، يطالعهن من باب غرفة القطار.
ثم أفاض المسافرون في سرد قصص مرعبة ومصادفات مفزعة ومجابهات مع المجانين في عربات القطار.
كل حاضر كان يعلم حادثة من هذا النوع يسردها على شرف جرأته. وما منهم على زعمه، إلا سبق له أن خوف لصاً أو صرع مجرماً أو جندل أثيماً: في ظروف غريبة وبديهة حاضرة وشجاعة فائقة. وأراد طبيب أعتاد كل شتاء عبور جنوب فرنسا أن يدلي بدلوه بين الدلاء فقال:
- أما أنا فلم يسعدني الحظ باختبار شجاعتي في ظروف كهذه، بيد أني أعرف امرأة من زبائني المرضى (وتوفيت الآن) حدث لها أغرب حادثة يمكن أن تحدث في هذا العالم.
لقد كانت روسية، واسمها ماري بارانواي، وهي من كرائم العقائل، ذات جمال ساحر وحسن رائع. وأنتم تعلمون كم هن جميلات الروسيات، أو على الأقل كم يظهرن لنا حساناً فاتنات بآنافهن الدقيقة، وثغورهن الصغيرة، وعيونهن الزرقاء السنجابية
وإن فيهن مزيجاً غريباً من الوقاحة المغرية، والكبرياء الحلوة والقسوة العطوف، التي تجذب القلب الفرنسي وتأسره. وفي الحق قد يكون اختلاف الجنس هو الذي يريني فيهن هذا النوع من الجمال.(702/50)
لقد كان طبيبها منذ سنين عديدة، يراها مهددة بمرض صدري عضال، وكان يسعى كثيراً أن يحملها على السفر إلى جنوب فرنسا للاستشفاء ولكنها كانت ترفض بإصرار مغادرة (بطرسبورغ).
غير أنه، في الخريف الأخير، وقد أيقن الطبيب أنها هالكة توصل إلى إقناع زوجها الكونت، بالإيعاز لها بالسفر إلى (مانتو). فاستقلت القطار وجلست في مقصورة وحدها بالعربة، أما خدمها ومرافقوها، فقد شغلوا غرفة خاصة بجانبها. وهناك لبثت حزينة، بقرب نافذة القطار تطل على الجبال والدساكر والقرى، وهي تمر مراً خاطفاً أمام عينيها. بينما هي وحيد ة منبوذة من الحياة، ايس لها ولد ولا قريب، غير زوج زال حبها من قلبه، فألقى بها إلى البلد النازح كما يبعث السيد بتابعه العليل إلى مصحة دون أن يرافقه. وعند كل محطة كان وصيفهه (إيفان) يأتيها مستعلماً أما إذا كان هناك حاجة تنقصها. ولقد كان خادماً قديماً في خدمة مولاته، متفانياً في إخلاصه لها، مستعداً دائماً لإنفاذ كل رغبة أو إشارة. واعتكر الليل والقطار يدوُِي ويهوي هوياً على السكة الحديدية، وجفن (الكونتس) لم يغتمض لتهيج أعصابها وثوران نفسها. خطر لها فجأة أن تعدّ ما خلفه لها زوجها حين توديعه إياها من نقود ذهبية فرنسية. ففتحت حقيبتها الصغيرة وأفرغت منها على حجرها موجاً براقاً من المعدن الذهبي. ولكن على حين غرة هبت عليها نسمة باردة. وما كادت ترفع بصرها مذعورة مصعوقة من المفاجأة حتى أخذت قبضة باب العربة تتحرك وتهتز، فذعرت الكونتس وألقت بغتة على نقودها المنتشرة شالاً كان في حضنها ثم راحت تنتظر. ومرت لحظات ظهر بعدها رجل عاري الرأس، جريح الذراع، يلهث وهو في ثياب المساء. فأغلق باب العربة وجلس يحدق بعينين لماعتين، إلى جارته. ثم إنه ربط كفه التي كانت تقطر دماً بمنديل. فشعرت الصبية بالخوف يهدها هداً، وتحقق لديها أن الرجل عاينها وهي تعد النقود، وإنما أتى إليها كي يقتلها ويستلبها ما عندها. كان يحدق بها منبهر الصدر لاهث النفس متشنج عضلات وجهه، وهو متهيئ لأن يهاجمها ويسطو عليها بلا ريب. وقال بغتة:
- لا تراعي مني أيتها السيدة. فلم تنطق بكلمة لعجزها عن فتح فمها رعباً، واستمعت له وقلبها خفاق من الذعر، وأذناها تطنان طنيناً مدوياً. قال لها:(702/51)
- إني لست فاتكاً ولا مجرماً أيتها السيدة. بيد أنها ظلت ملتزمة جانب الصمت، وبدت منها حركة فجائية، اقتربت منها ركبتاها إلى بعضهما فجرى الذهب من حجرها إلى بساط الأرض، كما يجري الماء من الأنبوب. ودهش الرجل، فأخذ يحدق في هذا الجدول الجاري من الذهب. . . ثم مال فجأة إلى الأرض لالتقاطه. أما هي فريعت ونهضت ملقية على الأرض جميع ثروتها، ثم هربت إلى باب عربة القطار تود أن تقذف بنفسها؛ غير أنه أدرك ما عزمت عليه، فوثب من مكانه وأمسكها بيديه، ثم أجبرها على الجلوس وقال لها وهي ترتعد بين يديه:
- اصبغي أيتها السيدة. لست شريراً ولا فاتكاً، ودليلي على هذا إني سألتقط هذه النقود وأردها إليك. . . إني رجل هالك ومحكوم علي بالموت، إن لم تعينيني على اجتياز الحدود الروسية، وليس بوسعي أن أبسط لك القول أكثر من هذا. ففي خلال ساعة سنصل آخر الحدود الروسية، فإن لم تنجديني إني إذاً من لهالكين. ومع ذلك أيتها السيدة، أقسم لك أني لم أرتكب قتلاً، ولا اقترفت سرقة أو جرماً يسيء الشرف ويخدش الكرامة. احلف لك على هذا، وليس بمقدوري أن أزيدك في القول. ثم جثا الشاب على ركبتيه، وأخذ يلتقط النقود، وينقب حتى أصغر قطعة متدحرجة منها، وحين أفعمت محفظة النقود كما كانت، ناولها لجارته دون أن ينبس بنت لسان، ثم انتقل وجلس في الزاوية الثانية من عربة القطار، وظل الاثنان ساكنين، لا يبديان حركة، ولبثت هي في صمتها وسهومها وجمودها: أسيرة الخوف الذي بدأ ينجلي عنها شيئاً فشيئاً. أما هو فلم يظهر حركة أيضاً، ولم يبد إشارة. بل استمر مستقيم الجلسة تحدق عيناه إلى الأمام، ووجهه مصفر اصفرار وجوه الموتى.
على أنها كانت من حين لآخر ترميه بنظرة خاطفة. كان رجلاً في الثلاثين من سنيه، شديد الفتنة سليم القسمات، في وجهه سمة النبل والاستقامة. وظل القطار يخترق حجب الظلام، ملقياً في أذن الليل الدامس صفارته الحادة الصارخة، ولا يكاد يهدأ من سيره ويخفف قليلاً من سرعته حتى يستأنف لجبه وهويه وهديره، ولكن فجأة، خفف من مشيته، ثم انطلقت من قاطرته عدة صفارات ووقف تماماً عن السير.
وبدا الوصيف (إيفان) على باب الغرفة، يتلقى أوامر سيدته فتأملت الكونت ماري مرة أخيرة رفيقها الغريب، ثم قالت لتابعها بصوت أجش:(702/52)
- إيفان ستعود إلى زوجي (الكونت)، لأني لست بحاجة إليك الآن. فصعق الرحل وأطل عليها بعينين مفتوحة دهشة ثم تمتم:
- ولكن يا مولاه. . . فقاطعته
- لا، لن تأتي معي، لقد بدا لي فغيرت رأيي، وأريد أن تبقى في روسيا. هاك نفقة رجوعك، وهيا ناولني معطفك وقبعتك.
فتجرد الخادم المدهوش من معطفه، وأنزل قبعته عن رأسه طائعاً دون كلمة، لأنه تعود من مولاته كل إرادة فاجئه أو رغبة وهوى لا سبيل إلى مقاومته. ثم غادر عربة القطار، وعيناه تفيضان من الدمع. وتحرك القطار ثم إنقذف مخترقاً الحدود، وحينئذ قالت (الكونتس) لجارها:
- هذه الملابس هي لك يا سيدي، فأنت منذ الآن (إيفان) تابعي. على أني اشترط عليك شرطاً واحداً جزءاُ ما قدمته إليك من جميل الصنع: هو أن تكلمني ولا تفتح معي باباً من حديث، سواء أكان من أجل شكري؛ أم من أجل توضيح هذا التصرف معك. فانحنى الرجل المجهول أمامها طائعاً، ولم تتحرك شفته بكلمة. وبعد قليل وقف القطار من جديد، ثم طفق موظفون بملابس وبذلات خاصة، يفدون إلى عربات القطار، فمدت الكونتس إليهم أوراق السفر، ثم أشارت إلى الرجل الغريب القابع في زاوية العربة وقالت:
- هذا تابعي (إيفان)، وهاكم جواز سفره. وأستأنف القطار جريانه وهديره، ومرَّ عليهما الليل بطوله ورأسها إلى رأسه لا ينطق ولا تنطق. وأقبل الصباح وقد جاز القطار قرية ألمانية فنزل الرجل المجهول من العربة، ثم وقف على بابها يقول:
- اعذريني أيتها السيدة، إذا أخللت بشرطي معك. . . ولكني حرمتك من خادمك، فمن الظرف والعدل، أن أحل مكانه. . . هل أنت محتاجة إلى أمر أنفذه، فقالت في برود.
- نعم استدعى وصيفتي، فغادر العربة ليقوم بما أمرته ثم اختفى عنها. . .
ولما نزلت إلى مشرب المحطة (بوفيه)، بصرت به عن بعد يرامقها النظر ثم. . . ثم بلغ القطار (مانتون).
وسكت الطبيب المتحدث لحظة، ثم واصل كلامه يقول: ففي ذات يوم، بينما كنت أتقبل زبائني في عيادتي، شاهدت فتى غرانقاً يدخل عليَّ ويقول:(702/53)
- سيدي الطبيب، لقد جئت استعلم منك، عن صحة الكونتس (ماري بارانواي) فإني برغم كوني نكرة عندها، صديق وفىّ لزوجها. فأجبته في أسى: إنها مشرفة على التلف، ولن ترجع إلى روسيا ثانية. فاستخرط الفتى في بكاء مرّ. ثم نهض خارجاً من الغرفة، وقد رنحه الخبر ومال بعطفه.
وفي نفس المساء، أنهيت إلى الكونتس، بأن غريباً جاء يستخبرني عن أنباء صحتها، فبدا عليها التأثر، وراحت تقصّ كل ما سردته على مسمعكم ثم أضافت.
- هذا الرجل الذي ما كنت أعرفه قبل ذلك الوقت، يتبعني الآن كظلِّلي. وإني لألتقي به دائماً، في مراحي ومغداي. وأراه ينظر إليّ نظرات غريبة دون أن يناقلني الحديث، ثم أطرقت لحظة واستأنفت.
- انظر. إني لأراهنك على أنه الآن واقف تحت نافذتي. قالت هذا، ثم غادرت كرسيها الطويل، وراحت تزيح الستار عن النافذة. فإذا بها تبصر الرجل الذي استقبلته في عيادتي. وكان جالساً على مقعد من مقاعد النزهة، وعيناه شاخصتان إلى نافذة الفندق. وبمشاهدته إيانا، نهض وابتعد دون أن يلتفت إلينا. . .
ومنذ يومئذ، كنت شهيد مأساة غريبة: لحب صامت أخرس، يقوم بين شخصين لا يعرف كل منهما عن الآخر شيئاً. أما هو فقد كان يتعلق بها قلبه، وتهفو إليها جوانحه. بإخلاص الحيوان الشاكر منقذه من الموت. وفي كل مساء كان يزورني متلهفاً.
- كيف حالها يا سيدي؟ يقول هذا وهو يعلم أني لأفهم من يقصد. ولقد كان يستعبر بمرارة، حين يعلم أن الضعف والمرض يتخونانها يوماً بعد يوم. وكانت هي تقول لي:
- إني لم أحاوره في حياتي إلا مرة واحدة. ومع ذلك يخيل إلي أني أعرفه منذ عشرين سنة. وكانا حين يلتقيان صدفة ويحييها ترد إليه تحيته في ابتسامة وقورة فاتنة. وكنت أشيم دلائل السعادة في وجهها: فهي المهجورة المتروكة من الزوج والأهل، وهي التي استيقنت من موتها القريب، كان يُشيع في وجهها الرضى والاطمئنان أن ترى نفسها محبوبة بمثل هذا الاحترام الخالص والشاعرية الملتهبة والإخلاص المحض ومع هذا كانت ترفض بيأس استقباله والتعرف إلى شخصه واسمه حتى ومكالمته ولو بكلمة ولقد كانت تقول:
(لا، لا إن ذلك ليفسد علينا ما نحن فيه من صداقة غريبة. وينبغي لكل منا أن يظل غريباً(702/54)
عن الآخر).
وفي الحق، لقد كان هذا الشاب، صورة ثانية لشخصية (دون كيشوت) لأنه لم يحاول مرة الاقتراب منها، كأنما كان يريد أن يستمسك حتى النهاية بالوعد الذي قطعه على نفسه في القطار: أن لا يحدثها أبداً. وفي الغالب، حين تشتد عليها نوبات مرضها وضعفها، كانت تنهض من كرسيها، وتروح تزيح الستار عن النافذة، لترى إن كان هو هناك؛ يرقبها وإذ تبصره جالساً على المقعد جلسته المتأملة الساكنة، تعود إلى كرسيها وعلى شفتيها بسمة الرضى والسعادة. . .
وماتت الكونتس، في الساعة السادسة من صبح ذات اليوم. فبينما كنت خارجاً من الفندق أقبل عليّ الفتى منطفئ اللون بادي الاضطراب وكان على علم بالنعي الأليم فقال ملتاعاً:
- أتمنى عليك يا سيدي رؤيتها لحظة، ولو أمامك. فرافقته إلى غرفة المتوفاة ولما مثل أمام سرير الميتة، تناول يدها وأذ يلثمها لثمات حراراً طويلة ما لها نهاية. . . ثم انفلت من الغرفة كمن فقد صوابه وصمت الطبيب من جديد، ثم قال:
هاكم يا سادتي أغرب حادثة أعرفها عن السفر، ويجب الاعتراف بأن الرجال مصابون بالخبل. فتمتمت امرأة بصوت خافت:
- إن ذينك المخلوقين اللذين ذكرت هما أقبل خبلاً وجنوناً مما تظن. لقد كانا. . . لقد كانا بيد أنها لم تستطع متابعة جملتها لأن البكاء قطعها عليها، وبما أن الحاضرين انحرفوا بالحديث عن وجهته كي يهدئوا جأشها، لم يعلم أحداً أبداً ما كانت المرأة تود أن تتم به كلمتها. . . لقد كانا. . .
(حلب)
كمال الحريري(702/55)
العدد 703 - بتاريخ: 23 - 12 - 1946(/)
تناسخ العادات
للأستاذ عباس محمود العقاد
ماذا يقول السائح الغريب إذا نزل بالقاهرة يوم الأحد فرآها - أو رأى الكثير من أحيائها - مغلقة الدكاكين والمصارف وكاتب الأعمال؟
إنه سيحار في تعليل هذه الظاهرة
وربما رفع بصره إلى الأسماء ليتبين أديان أصحابها فيزداد حيرة على حيرة، لأنه يرى بينها اسم محمد وحسن ومصطفى، كما يرى بينها اسم جرجس ونيقولا وكوهين!
فليس اليوم يوم صلاة دينية عند جميع هؤلاء، وليست البطالة لمعنى من معاني الدين يتفق عليه أصحاب الدكاكين أجمعين
العل القوم إذن خاضعون لحكومة مسيحية؟
ولا هذا أيضاً هو سبب البطالة في يوم الأحد. فأن حكومة البلد حكومة إسلامية، ولم يكن حكامها الأجانب - يوم كانوا يحكمونها - ممن يقترفون هذه الغلطة السياسية التي لا تؤمن عقباها، وهي غلطة الإكراه في مسائل المعتقدات
ولا شك أن الحيرة ستزداد وتزداد إذا طال المقام بالسائح الغريب إلى العيد السنوي المشهور باسم عيد الميلاد
أي إلى اليوم الخامس والعشرين من الشهر الثاني عشر من السنة الميلادية
فإنه سيرى أناساً من المسلمين يسهرون في ليلة هذا العيد ويحتفلون به في المنازل والمحافل، ويطربون فيه ويقصفون
أتراهم يقصدون الاحتفال لمعنى من معاني الدين؟
كلا. ولعلهم لا يذكرون ما معناه على التحقيق. ولكن العادة الاجتماعية هي التي حسنت لهم هذا الاحتفال على سبيل المحاكاة، والعادة الاجتماعية تعززها المصالح الاقتصادية هي التي عممت بين فريق من المسلمين بطالة يوم الأحد، لأنهم يربطون بالمصارف والشركات التي تنقطع عن العمل فيه، فلا يحبون أن ينقطعوا يومين كل أسبوع، ولا يستطيعون أن يعملوا أيام الأسبوع كله. فبطالة الأحد إذن أيسر الحالين
لكن ما العمل إذا كان السائح الغريب من أبناء القرن الأول للميلاد ورأى هذه الأعياد(703/1)
الأسبوعية، وهذا العيد السنوي، في لندن أو باريس أو روما أو برلين، ولا نقول في القاهرة أو دمشق أو بغداد؟
أيخطر على البال أنه لا يرى في الأمر عجباً ولا يحار كما حار صاحبه من إحياء هذه الأعياد بين المسلمين في العصر الحديث؟
أيخطر على البال أنه سيرى الأمر طبيعياً مألوفاً لا يوجب التساؤل ولا يتطلب التفسير؟
كلا. فإن حيرته لأصعب، وإن عجبه لأعجب! لأن الخامس والعشرين من شهر ديسمبر لم يكن قط عيد الميلاد في القرن الأول ولا في القرن الثاني ولا في القرن الثالث للسيد المسيح
ولم يكن يوم الأحد قط يوماً يحتفل به المسيحيون في تلك القرون الأولى
بل كان يوم الأحد قط يوماً يحييه عباد الشمس، لأنه كان عندهم يوم الشمس كما يسمى بالإنجليزية إلى اليوم
وكان اليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر هو يوم انتصار الشمس على أعدائها الثائرين عليها، وهم أرباب الظلام.
ففي هذا اليوم - كما ظهر لهم من حسابهم - يأخذ الليل في القصر ويأخذ النهار في الطول، وفي هذا اليوم - على هذا الاعتبار - ترتد جيوش الظلام أمام جيوش النور، وترجع للشمس حصتها الوافية من الزمن، فلا يسلبها الظلام حصتها من الملوين.
فكان المصريون يحتفلون في هذا الموعد بعيد حوريس، وكان اليونان الأسيويون يحتفلون فيه بعيد مترا إله النور، وكان الرومان يقيمون في الأسبوع كله - من اليوم السابع عشر إلى اليوم الرابع والعشرين - عيدا يسمونه ويتبادلون فيه الهدايا ويقدمون القرابين إلى الأرباب
ولم تتفق كلمة الكنيسة الغربية على الاحتفال باليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر إلا في منتصف القرن الرابع للميلاد. أي سنة 254.
وكان رؤساء الكنائس قبل ذلك يرون أتباعهم يقبلون على محافل الوثنيين في تلك الأعياد فيصرفونه عنها ويحببون إليهم أن يشهدوا الصلوات تكريماً للسيد المسيح بدلاً من شهود المقاصف والملاهي ومعابد الوثنية التي تفتنهم عن الأيمان الصحيح.(703/2)
ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأنهم يثبتون تاريخ الميلاد ويوم الاحتفال، بل لأنهم يرون السيد المسيح أحق بالتكريم والذكرى من مترا وحوريس والشمس وغيرها من الكواكب. ثم تدرجوا إلى الاحتفال بميلاد السيد المسيح بديلا من ميلاد تلك الأرباب.
على أن المتطهرين الذين اشتهروا باسم (البيوريتان) في البلاد الإنجليزية حرموا الاحتفال باليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر واستصدروا بذلك قرارا من البرلمان سنة 1644، وعللوه باستنكارهم لإحياء السنن الوثنية القديمة، واستندوا إلى التواريخ الإغريقية والرومانية القديمة وإلى تاريخ الإنجليز أنفسهم قبل التدين بالديانة المسيحية. فقد ذكر مؤرخهم الكبير بيد الملقب بأبي التاريخ الإنجليزي أن القبائل الإنجليزية الأولى كانت تحي ليلة الخامس والعشرين من ديسمبر وتسميها ليلة الأمومة لأنهم كانوا يقيمون احتفالهم بها قبيل الفجر استقبالا لمولد النور وهو في باكورة أيامه، ولم يكن (بيد) من المخالفين للكنيسة بل كان من كبار رجال اللاهوت، وعاش في القرن السابع للميلاد بين القساوسة والرهبان.
فعادات اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر مزيج من عادات عشرين أمة أو تزيد، وبعض هذه العادات سابق لمولد السيد المسيح وبعضها لاحق له بل متأخر إلى أيام القرون الوسطى.
فأما العادات السابقة فقد ألممنا بطرف منها فيما تقدم.
وأما العادات اللاحقة فمنها عادات الشجرة التي تسمى بشجرة عيد ميلاد وهي من شعائر البلاد الشمالية ولاسيما بلاد الجرمان.
ومنها عادة تعليق الجوارب إلى جانب الفراش وهي مأخوذة من الفرنسيين والبلجيكيين.
ومنها تسمية القديس الذي يطوف بالهدايا على الأطفال وهم نائمون، وهي مأخوذة من الهولنديين. واسم القديس سانتا كلوز من أسماء التدليل والإعزاز للقديس نكولا الذي سجنه القيصر دقلديانوس وأطلقه القيصر قسطنطين. . فليس هو من الهولنديين في أصلة ولا من الأوربيين على التعمم؛ لأنه من أبناء آسيا الصغرى على أشهر الأقوال، واسمه كلوز هو الاسم الذي يستخف على ألسنة الأطفال الصغار للتدليل والتحبيب.
شيء من آسيا الصغرى، وشئ من فلسطين، وشئ من هولندا، وشئ من أوربة على(703/3)
الاجمال، ويحتفل به المشارقة والمغاربة في آسيا وأفريقية. . . ومنهم مسلمون.
فأي دواء لعصبية العادات والشعائر أصح من هذا الدواء؟ وأي سخف في العقول أسخف من عداوة إنسان لإنسان أو أمة لأمة لاختلاف عادة يقال إنها عادة دينية، وقد رأينا كيف يشترك اليوم الواحد في احتفال عباد الشمس وعباد حوريس وعباد الله وعباد سائر الأديان بين سائر الأقوام؟
ومن الطريف أن أناسا من هنود أمريكا الحمر تعودوا أن يقطعوا الجبن في ليلة عيد الميلاد ولا يدرون فيم هذه العادة حين يسألون عنها.
ولكن الإنجليز حملوها معهم إلى القارة الأمريكية فأصبحت من العادات الاجتماعية التي لا علاقة لها بشعائر الدين.
وهل لها مع ذلك علاقة بالدين عند الإنجليز أنفسهم قبل الهجرة إلى القارة الأمريكية؟
كلا. . بل هي من بقايا عادات (القلت) التي كان يباشرها كهانهم المعروفون باسم الدرود. . وكانوا يباشرونها قبل غزوة الرومان للجزر البريطانية.
وأطرف من هذا في باب تسلسل العادات أن ولائم هذا العيد لا تخلو في الشرق والغرب من الديك الذي يسميه المصريون بالديك الرومي، ويسميه أهل الصعيد منهم بالديك المالطي، ويسميه الإنجليز بالديك التركي، ويسميه الفرنسيون بالديك الهندي ' ومنها أخذنا كلمة (الدندي) التي نسمي بها هذا الديك في بعض الأحيان.
فما علاقة هذا الديك الموزع الأسماء بين الأمم بعيد ميلاد السيد المسيح؟
أكان له شأن في قرابين عيد الميلاد التي اصطلح عليها المسيحيون الأسبقون؟
لم يكن له شأن قط بذلك العيد بين المسيحيين الأولين. بل لم يكن معروفا في الدنيا القديمة قبل كشف القارة الأمريكية. لأنه كان من طيور أمريكا الشمالية، ونقل منها إلى جنوب أوربة فأخطئوا في نسبته إلى الشرق، كعادتهم يومئذ في نسبة كل وارد جديد إلى البلاد الشرقية.
ومع هذا يراه السائح الغريب حتما على مائدة الشرقي والغربي في ليلة عيد الميلاد، فيحار ولا يرى آخر الأمر مناص من نبذ الحيرة ظهريا في أمثال هذه الشؤون.
فالعادات الاجتماعية وراثة بين البشر أجمعين، وقلما تنحصر عادة من عادات المحافل(703/4)
العامة في قبيل واحد يستأثر بها من البداية إلى النهاية.
إنها أسرة واحدة. . . ففيم الخلاف على العادات والشعائر والأيام والأعياد؟؟
عباس محمود العقاد(703/5)
مقالات في كلمات:
في أثناء المرض. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
موازين الرجال:
أصبحت من أيام فوجدت رأسي من ثقل كأنه حجر رحى ركّب بين كتفّي، وكأنه من الصداع بدقّ من داخله بالداقّ، وكأن جفنيّ قد شدَّ إلى الأرض فما أفتحهما حتى يعودا فينطبقا، ووجدت في حلقي إذا أبتلع ريقي مثل حزَّة الشفرة، وفي كل مفصل من مفاصلي ألماً، وفي أعصابي من الخَدرَ مثل مشي النَّمال، ووقفت فاصطكت ركبتاي، ودِير بي، فعدت إلى الفراش. . .
ولم يصدق أهل الدار أني مريض: لأنهم لم يروا علىَّ لمرض أثرا، ولأن المريض عندهم إنما هو الشاحب المهزول البادي العظام، وأكَّدت لهم القول فلبثوا مكذَِبين. يعتقدون أني أتدلل عليهم وأني أتكاسل وأوثر الراحة والاستمتاع برعاية المرض، على إرهاق النفس بمعالجة نسوان المحكمة، وصبيان المدرسة. . . ويئست من إقناعهم بمرضي فأعرضت عنهم وتشاغلت بالتفكير.
فكرت في هؤلاء الناس إذا كانوا لا يميزون المريض من الصحيح، والمرض شئ ظاهرة آثاره، بادية إمارته، فكيف يميزون الطيب من الخبيث، والصالح من الطالح؟ وكيف يقيسون أقدار الناس، وكيف تكون عندهم موازين الرجال؟ أو لا يخطئون في أحكامهم على الناس خطأ أهلي في الحكم على مرضي، إذ يقيسون المرض بالشحوب والهزال، ورب شاحب هزيل ما فيه إلا جلد على عظم وهو الصحيح المعافى الأيد القوى، وربّ سمين يكاد يَنْفَزر من كثرة الشحم واللحم، وهو مَحْمَل أمراض وهو الضعف مجسّما والعجز؟
وفكرت فيَّ أنا، كيف أحكم على الناس؟ فذكرت أنه يدخل علىّ الرجل لا أعرفه فأحكم عليه بادي الرأي بثيابه، فان كان يلبس العمامة والجبة أنزلته من نفسي منازل العلماء، وإن كان بزي الفلاحين أحللته محال الفلاحين، فإذا تكلم بدلت رأي فيه وحكمت عليه بكلامه، فإذا عاملته كان الحكم عليه بمعاملته، فهذه عدة مقاييس: الثياب والكلام والمعاملة، فأيها هو(703/6)
الصحيح؟
ثم إن للناس مقاييس غيرها تعلو وتنخفض، وتتسع وتضيق، وتصح وتفسد، فهم يقيسون، وبمنصبه، بل إن فيهم من يتخذ مقاييس أعجب وأدنى، فصبَّاغ الأحذية يقيس عظمة الرجال بلمعان أحذيتهم لا بعلمهم ولا بفضلهم، والخياط يعتبرهم بطولهم وعرضهم، ومفتش القطار بدرجات ركوبهم، ونادل القهوة بحلوانهم وأهل السجن يقيسون عظمة النزيل عليهم بجريمته، فالقاتل أعظم من السارق، وكلما عظم الجرم عظم القدر، وعامة الناس العظمة عندهم بالشهرة فإذا نزلت بلدهم المغنية أو الرقاصة ارتج لها البلد وتسامع بها الناس وتباشروا بمقدمها وهرعوا كلهم إليها، وإذا هبط الأديب المفرد، أو العلاَّمة العَلَم؛ لم يدر بمهبطه إلا القليل، ولم يَسْع للسلام عليه إلا الأقل منهم، وتقرأ على أحدهم المقالة تخبره أنها لرجل مغمور فيوسعها ذماً وقدحاً، فإذا أخبرته أنها للكاتب المشهور انقلب القدح مدحاً والذم ثناء وإكباراً. . .
ولو سألت الخاصة ما هي مقاييس العظمة لوجدتهم مختلفين، وقديماً قال المثل السائر: (وقلت للفرنسي فلان عظيم، قال لك: ما هي شهاداته؟ والإنجليزي يقول: ما هي معلوماته؟ والألماني يقول: ما هي أعماله؟ والأمريكي يقول: ما هي آثاره؟). أما نحن فنقول: من هو أبوه؟ لأن القاعدة عندنا اليوم، أن من قصَّر به نسبه أو نشبه، لم يسرع به علمه ولا أدبه!
فما هو الميزان الصحيح لأقدار الرجال؟
نقابة الأشرار:
ولولا أن الفضل عندنا بالنسب لما قامت قيامة جماعة منا، إذ ألغت الحكومة نقابة الأشراف، ولما نادوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولما زعموا أنه هد ّركن الدين، وهوت قبة الإسلام، وأحدث الحدث الأكبر الذي لا يزيله إلا غسل صحيفة هذا القرار سبعاً إحداهنَّ بالأشنان والتراب الأحمر. . .
ولقد كانت نقابة الأشراف ملغاة فأعيدت من خمس سنين، فما خسرنا بإلغائها شيئاً في ديننا ولا في دنيانا، وما ربحنا بعودتها إلا ثمن عشرين ذراعاً من الحرير الأخضر اتخذها النقباء عمائم، ولا شئ فوق هذا ولا تحته. . .
وأنا أفهم أن يكون للمحامين نقيب لأن المحامين طبقة خاصة من لم يكن منها كان خارجاً(703/7)
عنها، وللأطباء نقيب، ولعمال الطباعة، وسائقي السيارات.
أما الأشراف. . .؟ فهل تريدون أن تسيئوا إلى الإسلام كذبا وافتراء فتوهموا الأجانب أن الشرف عندنا بالنسب؟ وأن من شعائر الدين أن يكون لأشرافكم هؤلاء. . . نقيب؟ وإذا كان الشيء يعرف بضده فهل يكون كل خارج عن هذه (النقابة. . .) غير شريف، أي رذيلاً؟ وهل ترون أن نطالب نحن أيضاً الحكومة أن تعمل لنا نقابة أرذال، أو إذا شئتموها على الوزن. . . (نقابة أشرار)؟
إنكم ستسبونني. . . الله يسامحكم! بسّْ قولوا لي من فضلكم: كيف لم يدرك الصحابة والتابعون أن الشرف بالنسب، وحسبوه (جهلا منهم) بالدين والمعاملة والتقوى؟ وكيف لبثوا في الصدر الأول الذي هو الخير القرون مئات من السنين بلا نقيب أشراف ولم تنقض عري الإسلام؟
كيف يا أيها السادة؟ كيف. . . بالله عليكم؟؟ ألم يخطر على بالكم ذلك أبداً؟؟
وظائف الإنشاء:
ودخل علىّ الطبيب، وهو ابن عمي ولِدَني ورفيقي في مدرستي، فرآني أكتب فقال: ما هذا؟ أتجبر نفسك على الكتابة وأنت مريض، أهي وظيفة إنشاء؟ قبح الله وظائف الإنشاء. قلت: ولم؟ قال: لأني ما أفلحت فيها قط ولا أحسنت كتابتها. قلت: ليس بعجيب وأنت طبيب أنك لم تكن تفلح فيها، ولكن العجيب بي أنا، إذ لم آخذ في الإنشاء مادون الدرجة الوسطى، ولم يكن معلم يعتقد أني أصلح للكتابة، وذلك أنهم كانوا يكلفوننا الكتابة في موضوعات لا يكتب فيها، ولقد سئلنا مائة مرة هذا السؤال: (ماذا تحب أن تكون في مستقبلك؟) كأن الدنيا تمشي على ما أحب وما أكره، وكانوا يقدرون الدرجة لا على حسن الكتابة بل على بعد المطمح. ولقد أبعدت فتمنيت أن أكون ملكا وحاكما بأمره وشيخ إسلام وقائداً فاتحاً وما شئت من بعيد الآمال فما أعجب المعلم شئ من ذلك، ولا أعجبه أن أكون معلماً ولا شرطياً ولا تاجراً ولا لصاً. وسئلنا عشرين مرة أن نكتب في (وصف روضة)، فكنت أكتب وصف بستان أعرفه، فيه مزبلة وراء الباب وساقية ماؤها عكر، وغربان تصبح على الأشجار، فلا يرضى عنه لأنه يريد روضة ماؤها سلسبيل وحصباؤها درّ. وعلى دوحها العنادل والشحارير، ومن أين أصل إلى هذه الروضة حتى أصفها؟ وأعجب(703/8)
من هذا أنهم كانوا يكلفوننا إنشاء الحوار علىألسنة الحمير والقطط وأنواع البهائم، وكيف لي بأن أفكر بعقل حمار حتى أتكلم بلسانه، كما يفكر الأستاذ المحترم حين يصحح الأوراق ويميز صادقها من كاذبها!
وما كان المدرسون ينظرون إلى صورة بارعة أو معنى مبتدع، إنما ينظرون إلى كلمة جاءت على غير الفصيح، أو فعل عدّى بغير الحرف الذي يتعدى به، هذا لأن المدرسين كانوا لا يفهمون إلا النحو والصرف واللغة، أما اليوم فلم يبق ولا هذا، مع الأسف، لأن أكثر المدرسين تعلموا العربية في باريس على أصمعي العصر الشيخ مارسيه. . . والذين نجوا من هذه السَّبة بعثهم الآن ليتعلموا في بلجيكا وسويسرا، أي والله، بل إن شيخاً مدرساً في الجامع الأموي، سيبعثونه ليتعلم علوم الدين في لندن!
على أن الذين تعلوا من طلابنا في الأزهر وجامعة مصر، لم يكونوا أقوى ولا أحسن من أولئك. . . وهذه كلمة حق قلتها ورزقي على الله!
قيمة الفلسفة والأدب:
ولعلّ المرض قد جعلني متشائماً أرى كل شئ في الدنيا أسود. . . وكذلك الإنسان يصيبه صداع يحتاج إلى حبة (أسبرين) أو إمساك دواؤه شربة (زيت خروع) فتبدل نظرته إلى الحياة وآراؤه فيها؛ فلو كان فيلسوفاً لكان متشائماً، ولو كان شاعراً لكان شاعراً أحزان، ولو كان قصصياً لكان مؤلف مآسٍ وفواجع. .
أفتكون قيمة الفلسفة المتشائمة والأدب الباكي، قيمة حبة أسبرين وشربة زيت خروع؟!
ثمرات درس الأخلاق:
ونظرت من الشباك أتسلى، وكان تحته كومة رمل أبيض وضعها جارنا ووكل رجلا وولده بنقلها إلى حديقته. فأقبل تلاميذ المدرسة، فقال عفريت منهم: تعالوا نسرق من هذا الرمل، فقالوا: إن الولد يرانا. قال: نعمل مثل الراعي الكذاب الذي قال لنا المعلم قصته، حين نادى: الذئب الذئب، فجاءوا فلم يروا شيئاً، وضحك منهم، فلما طرقه الذئب حقيقته ونادى لم يجئه أحد، قالوا: وكيف نفعل؟ قال العفريت: انظروا.
وأقبل كأنه يريد أن يسرق فنادى الولد أباه، فترك عمله في الحديقة وأقبل، فلم ير شيئاً(703/9)
ورأى التلاميذ يضحكون فرجع، وجعل التلاميذ يأخذون من الرمل والوالد ينادي فلا يردّ أبوه ولا يصدقه. .
وكانت هذه ثمرة درس الأخلاق في المدرسة!!
ألف جنيه مصري:
وتركت الشباك، وأخذت جرائد عتيقة فجعلت أصفحها، فوجدت في إحداها إعلانا عن جائزة قدرها ألف جنيه مصري لصاحب أحسن اقتراح يقدم إلى المجتمع اللغوي لإصلاح الكتابة العربية. . . فعجبت من هذه الخرافة التي لا تزال تتردد على الألسنة، خرافة فساد الكتابة العربية وحاجتها إلى الإصلاح، وكنا نعظم أن نسمعها من بعض الكتاب المجددين المفسدين، فانعكس الزمان حتى صرنا نسمعها من ألسنة من أقيموا حراسا للغة القرآن وتراث الجدود، بل لقد سمعنا من كبير فيهم قاصمة الظهر التي أنكرناها على الأتراك، وأذاقوهم غصصها، فلما أَبَتْها هذه الأمة وأبى لها عقلها ودينها قبولها، جاءوهم بها في ثوب جديد، هو إصلاح الكتابة، وأنا لا أدري والله أيجدّ هؤلاء القوم أم هم يريدون شيئا يعملونه ويتسلون به حتى لا يقال انهم يجتمعون على غير شئ، ويأخذون المرتبات في غير عمل، فإن كانوا جادين فليعلموا أن كل تبديل في كتابتنا مهما قلْ يقطع صلتنا بماضينا، ويجعل هذه الكتب بالنسبة للناشئ الجديد كأنها مكتوبة بالكوفي لا يفهمها إلا الخاصة، وهو كما يبدو أقصر طريق لإبادة كتب الدين واللغة، والقضاء على المكتبة العربية حتى تصير من الآثار القديمة، وتعود كأنها اللغة الأجنبية التي لا تفهم إلا بترجمة. ثم ما عيب كتابتنا؟ مالها؟ أنا أراها كاملة لا تحتاج إلى زيادة، صحيحة لا يعوزها الإصلاح، بل هي تفضل من جهات كثيرة كتابة الأمم الأخرى.
ومن قال لهؤلاء الناس المحترمين، إننا أتباع لهم في كل مايقررون، نطيع أوامرهم، ونمشي على آثارهم، ونأتم بهم: نركع إن كبروا، ونرفع إن حمدوا، كلا والله، ولو أن مصر - لا سمح الله - قبلت بهذا، ما قبلنا به نحن، ولا أقررنا أي تبديل في كتابتنا، لأننا نثلج بذلك صدور أعداء الله وأعداء العربية الذين لا يغيظهم منا إلا أننا نتمسك بماضينا وعلومنا، فنتخذ منها دافعاً إلى المعالي، وعاصماً من التردّي في هوّة الإلحاد والضياع.
ألا إن هذه الألف، وهي تعدل تسعة آلاف ليرة سورية وزيادة، ربح لمثلى عظيم، وثروة ما(703/10)
ملكتها قط، وإني أستطيع كما يستطيع كل واحد، أن يحصر ذهنه ساعة فيتخيل لهل نوعا من (الإصلاح. . .) كما يتخيل إصلاح رجل من الرجال بتقصير أنفه، وترقيق شفته، وتطويل قامته، ولكني لا أريد أن آخذ هذا المال حراما وقد جمع من أيدي الفقراء والمساكين، وبما كان ثمن ألف فراش بيع بالمزاد العلني، أخذ من تحت المكلف لما عجز عن أداء الضريبة. . . فإذا كان يزيد عن حاجتكم ولم يكن من إنفاقه بدّ فردّوه على هؤلاء الفقراء، فما زلنا نسمع منكم، وتقول جرائدكم، إن في مصر المرض والفقراء والجهل، فهل داويتم هذا كله وأصلحتموه ولم يبق إلا إصلاح الكتابة؟! يا سادة، إن الكتابة العربية التي صلحت خمسة عشر قرناً وكتب بها عشرة ملايين كتاب، تصلح قرناً آخر لتكتبوا بها كل سنة خمسة آلاف كتاب، منها كتب الكفر والتضليل والتقليد الأعور والسخف المضحك ككتاب (هذه هي الأغلال)!
فكفوا عنا، اتركونا. . . إننا راضون بما نحن عليه، فأريحونا واستريحوا!
(دمشق)
علي الطنطاوي(703/11)
فرنسا تَبّرُّ العرب!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كل من شاهد الجريدة الفرنسية السينمائية التي عرضت في الأسبوع الماضي في بعض دور السينما في القاهرة، لاشك قد امتلأ قلبه بكثير من التقزز والاشمئزاز والسخط لمنظر من مناظرها. هو منظر هذه (القطع الآدمية) المشوهة التي جمعتها الدعاية الفرنسية ضد الجزائر والغرب لتعرضها على عيون الناس في العالم كله كنموذج لبرها بعرب الجزائر! لقد جمعت قطعاً من الفقر والتشوه والعري والجهومة والضياع لتؤكلهم ثريداً في عيد الأضحى. .! واجتهدت أن تأخذ لهم صوراً من مقاطع تبرز صوراً فنية للفقر والشناعة! ولو عرضت علينا صوراً لمجموعة من الذباب أو الكلاب الضالة لارتاحت إليها العيون بعض راحة لم تجدها في منظر هؤلاء التعساء! وإن منظر العرايا من زنوج المجاهل العائشين وراء التاريخ، المنقطعين عن العالم لأجمل كثيراً من مناظر هؤلاء الكرام الذين أضناهم البؤس وأضوائهم الحكم المذل المرهق، وجعل على وجوههم سمات من العذاب والضيق؛ فإن الزنوج يتمتعون بالصحة الطبيعية والحرية الطبيعية والمجال الحر في مجاهلهم ومتقلباتهم الواسعة، أما أولئك العرب الذين كانوا مثال الرقة الأندلسية والنظافة الإسلامية والحرية العربية والذكاء اللامع والمشاركة الناجحة في الحضارة، فقد حولهم الحكم الفرنسي إلى مجموعة أشنع من مجاميع الذباب والكلاب الضالة. وإن الكلاب الضالة ربما لا تجد القوت الميسر ولا السهر على مصالحها، ولكنها على كل حال تجد حرية العيش، أما هؤلاء فلا يجدون إلا قيوداً من التعس والذل والحرمان من مقومات الأجسام ومقومات الأرواح.
إنني لا أستطيع أن أفهم من عرض مثل هذه المناظر إلا اهتمام فرنسا بأن تبرهن للعالم على أن هؤلاء العرب الذين ابتلوا بحكمها منذ مائة وعشرين سنة قوم هم حثالة الناس وفي المستوى الأدنى من الحياة، فهم أبعد الناس عن منحهم حق تقرير المصير والحريات العامة، وأقرب الناس إلى فرض القسوة الفرنسية عليهم. ولا أستطيع أن أفهم إصرار فرنسا على إفنائهم عن طريق الجهل والفقر والحرمان والتعس - مع أن فرنسا في زعمها أمة الرقة والجمال وتسجيل حقوق الإنسان - إلا أنها تضمر لتلك الكتلة العربية والإسلامية(703/12)
عداوة وحقداً موروثاً لأسباب تاريخية لا يجهلها أحد، فهي تثأر منهم وتنكل بهم وتحرمهم أبسط حقوق الإنسان وهو حق الحياة وحق التعلم وحق الصحة. . .
إن عاراً على فرنسا أن تظل جامدة في أسلوب حكمها للمغرب العربي مع أن الإنجليز ابتدءوا يخففون وطأة حكمهم في الهند، درة تاجهم. وأصل بلاء العالم العربي بالاستعمار هو وقوعه على طريق الهند.
وإن من العار أيضاً عليها أن تعرض مثل هذه المناظر للذين ابتلوا بحكمها. لأنها هي المسئولة عما هم فيه من تخلف وحرمان ولو شاءت لرفعتهم واجتهدت في وصلهم بقافلة الإنسانية السائرة. والذين يملكون حظائر للحيوانات يجتهدون أن يعرضوا منها على عيون الناس للفخر بما تصل إليه من شبع وسمن وصحة وسعادة، ولو أنها تذهب بتلك الحيوانات أخيراً للمذبح، أو تجز صوفها أو تأخذ لبنها أو تستخدمها في حرث الأرض وزرعها. فلماذا تعرض فرنسا مثل هذه المناظر التعسة لهؤلاء الذين انحطت بهم عن مستوى الحيوان؟! ألا إنها شهادة مسجلة على فرنسا، سجلتها بيدها لتثير بذلك لعنات الأحرار وسخطهم عليها!.
لقد طالما ذكرنا فرنسا برسالتها الإنسانية التي هي تاج مجدها الحقيقي، والعنصر الباقي لفخرها على مدى الزمان، ولكن الذين في مصر من الفرنسيين أصدقائهم يلوح لي أنهم لا يحركون ساكنا ولا يأبهون للتذكير، وقد أخذتهم سكرة الثقة بقوة فرنسا وغلبها على هؤلاء الضعفاء المبتلين بها.
ولكن لتعلم فرنسا أن الفخر الدولي قد سطع على أوكار الرجعية السياسية الجامدة التي تنقل جراثيم الطغيان والجهالة إلى محيط العالم الواسع كله، فلم تعد العين الإنسانية تطيق أن ترى مثل هذه المناظر التي تذكرها بأشنع صور القسوة الجاهلية، ولتعلم فرنسا أيضاً أن مجدها قد أخذ في الأفول منذ أن تخلت عن رسالتها الإنسانية، رسالة ثورتها، وأن سمعتها قد ساءت بواسطة حكمها للمغرب العربي ذلك الحكم العنيف المظلم الذي يحرم المحكومين النور والصحة والعلم ثم يعرضهم على رءوس الإشهاد ليسمع بهم وليمن عليهم بأكلة ثريد! بينما يأكل أكبادهم بالمرض ويطمس وجوههم بالفقر، وعقولهم بالجهل، ثم يشنع عليهم وينسب إليهم وإلى دينهم ونظام حياتهم ما هم فيه من شقاء.
وإن وجوه هؤلاء الأطفال الذين خصهم ذلك الشريط السينمائي بالتفاته لها مغزاها في(703/13)
التشنيع على هيئة شعرهم وعيونهم كان من الممكن، لو أرادت فرنسا، أن تخرج منها وجوه علماء وأطباء ومحامين ومهندسين وقواد وغيرهم، ولكن فرنسا أرادت أن تعطل قوى الحياة في هذه الأجسام إفناء أمتهم وضم أرضها إلى أرض فرنسا. . . ولكن الله العادل الرحيم المقتص من الظالمين قد أراد أن يفني فرنسا ويحطم مجدها ويبلبل عقائدها ويضرب بعضها ببعض وقد دنس بنعال أعدائها حرمات أرضها قبل أن تفنى هؤلاء وتقضي عليهم القضاء الأخير الذي تتربصه منذ مائة وعشرين سنة. وسترى فرنسا أن هذه الأمة المغربية ستنهض وتشترك في تجديد رسالة العلم والحضارة الحقيقية.
وما في فرنسا من براكين الاختلاف كفيل بأن يدمر حياتها
ووقوعها بين قوتي المشرق الروسي والمغرب الانجلوأمريكان سيجعل أرضها مجالا للصراع المدمر الآني لا محالة، وبدلا من أنها كانت تجد في شمال إفريقية مجال لشد أزرها لو أنها أحسنت صنعاً إلى المغاربة وحكمت قلوبهم بالحب، ستجد في هذا المغرب ألبا عليها وقوة تشترك في هدمها. وقد فات أوان الظلام واختلف الحساب وانعكس عليها قصدها من إفناء المغاربة بعد سطوع الفجر الدولي.
وإن الذين يشهدون محافل المغاربة في مصر ليرى العزم المصمم والإيمان الراسخ والجهاد الهازئ بالآلام في سبيل الحرية والحياة.
وإن قلوب المشارقة من العرب والمسلمين لتغلى غليان السخط والعداوة والاحتقار للحكم الفرنسي في شمال إفريقية كلما رأت هذه النخبة الممتازة من شباب تونس والجزائر ومراكش الذين كان من حسن حظ العرب والمغرب عموما أنهم استطاعوا الإفلات من الأغلال الفرنسية ليلفتوا إليها من الخارج متعاونين مع المشارقة. وإنهم لنماذج صالحة تثير الفرح بمستقبل المغرب إذا ما انزاح عنه النير الفرنسي، وإنهم أيضاً ليثيرون السخط على فرنسا حينما نرى وجوههم السميحة وألسنتهم الفصيحة ونقارنها بما رأيناه مع هذه الوجوه المطموسة بسمات الحرمان وإمارات النكال في هذا الشريط السينمائي الذي أرادته فرنسا دعاية لها فكان دعاية عليها.
وإننا لنحس إحساساً صادقاً أن المغرب العربي المبتلى بفرنسا يغلي غلياناً تفور له قلوب العرب في الشرق بالغضب والسخط على ذلك الحكم القاسي الذي يربط على الجناح الأيسر(703/14)
للعروبة بالحديد ويوقد عليه بالنار ويحبسه أن يخفق طليقا موازياً للجناح الأيمن لها حتى ينهض العرب معاً.
فإذا كانت فرنسا لا تحسب حساباً لصداقة العرب وهم أمة كبيرة في البحر الأبيض على الأقل ولا تعاملهم بقانون الجوار والمصالح المشتبكة فإنها تبرهن بذلك على أنها لا تنظر إلا لحاضرها وانظر إلى أمة لا تنظر حاضرها ولا تسعى لمستقبلها بكسب صداقة سبعين مليوناً من الجيران الدائمين المعتدلين الأوفياء الأشراف.
عبد المنعم خلاف(703/15)
من نكبات الحزبية في تاريخنا
للأستاذ سعيد الأفغاني
ليس هذا خوضاً في السياسية، فأنا امرؤ ساء ظنه في محترفيها جميعاً؛ وعلى أنى منذ خمسة وعشرين عاماً مولع بتتبع أحداثها في الأقطار العربية وخاصة في الشام ومصر، شغف بعشرة الخبيرين بخفاياها. . لم أخضها يوماً من الأيام كفاحاً وجهاً لوجه لا أنفة منها، ولكن أنفة من حال الخائضين فيها. وإذا سألتني عن السر في تضييع الفرص على الشعوب العربية وحرمانها من خير لم تقصر في السهر علية والجهاد له، أجبتك: (إنه في داء واحد في الأقطار جميعاً هو: أخلاق القادة!)
ارجع بصرك في أحداث الثلاثين سنة الأخيرة، فستجد أن قطراً من الأقطار لم ين عن جهاد صادق سنة من هذه السنين، ولم يبخل على قضيته بنفس ولا نفس. لقد بذل في سبيل ربه ووطنه دماء وأمواله بسخاء كان مضرب الأمثال، ولكن المتصدين للقيادة بهم داء الكلب والتناحر وصغار النفس والتعلق بالسفاسف، لايخافون الله في أمة طوحوا بها في المهالك من أجل تمتع بمنصب أو مال، أو تلذذ بقهر منافس أو معارض. . . غير خجلين من أن يمدوا أيديهم ضارعين إلى أجنبي وصلوا إلى زعاماتهم بمجاهرة أمتهم بعدائه، وهو يتربص بهم يوماً كهذا اليوم تقودهم فيه ضعة نفوسهم إليه صاغرين، فيضرب بهم مستقبل أمتهم ويضيع عليها ثمرات نضالها الطويل، ثم ينبذهم من بعد ذلك إليها نبذ النواة، فإما أن يكون الله كشف عن بصيرة الأمة فجعلتهم نكالا، وإما أن يستغلوا (طيبتها) ثانية فيستأنفوا زعامة من جديد.
ولست أطمع في صلاح نفوس الساسة اليوم، فالله وحده هو الذي يحيي الأرض بعد موتها، ولكني قوي الأمل في الأجيال الناشئة التي لم تشهد أيام الإذعان لسيطرة الاحتلال، ولا عاينت لعب صبيانه بلحى كبارنا وساستنا، وإنما شهدت كفاح هذه القوى الشريرة فنشأت على الإباء والنضال.
إني لأغتنم فرصة احتفال (الرسالة) بالعام الهجري الجديد، فأضع تحت أبصارهم عبرة مائلة لا تنسى أبداً عسى أن يذكروها كلما حاول من سبقوهم أن يجعلوا منهم وقوداً لفتنة تضرمها الأهواء والنزوات، أو كلما نزغ بهم في المستقبل نزغ يحيد بهم عن خير أمتهم(703/16)
إلى إرضاء أهوائهم، فيذكروا هول الخلاف الذي صلينا جحيمه في صدر دولتنا وما تزال مرارته الأليمة في كل نفس خيرة تدبرت عبر التاريخ.
إني لا أخوض سياسة، وإنما أطلع هذه النفوس المعصومة على عواقب أول خلاف سياسي في الإسلام وما جر من ويلات متتابعات، ناقلا إياه من كتاب انتهيت قريبا من عمله. وأنا أحب أن يجعل الناس بالهم أبداً - كلما قرءوا التاريخ - إلى عبره وتجاربه فيأخذوا من كل شئ أحسنه، ويربئوا بأنفسهم وأمتهم أن يغامروا في تجربة ثبت ضررها وفسادها وخاصة إذا كان الثمن الذي قدمناه فيها دماء عشرات الألوف من أبطالنا:
لقد كان أمر المسلمين الأولين عجباً من العجب: امتلأت نفوسهم بكل ما حباهم ربهم من خير في الإسلام، فأحسنوا فهمه وأحسنوا الاستجابة لرسوله نساء ورجالا. فوطدوا أركانه في الجزيرة، ثم انتقل رسول الله إلى جوار ربه واندفع هؤلاء المسلمون الأخيار في أقطار الأرض يريدون إعلاء كلمة الحق وإنقاذ عباد الله من كل الأجناس والأديان: من شرور الظلم والجهل وامتهان الإنسان؛ فحرر الله على أيديهم بلداناً وشعوباً كثيرة، فأشركوا الناس كافة في سعادتهم وعدلهم وأمنهم. ومن عرف أنهم كانوا قبل عشرين عاماً فقط يأكل بعضهم بعضاً ويعدو قويهم على ضعيفهم، قبائل متعادية، وطوائف يغزو بعضها بعضاً. . . عرف نعمة الله عليهم وعلى الإنسانية بهذا التوحيد الذي ألف بين قلوب ما كانت لتتألف؛ وأدرك المعجزة التي أتى بها الإسلام في توحيدهم وخلقهم خلقاً جديداً جعل من سفكة الدماء أنبياء رحمة ورسل هداية وإسعاد للبشر.
لقد أتوا - وكلمتهم واحدة - بالعجائب في حروب التحرير والفتح ثم البناء والتنظيم، وكان منهم كل الخبر لأنفسهم ولغيرهم فلما صبت الدنيا خيراتها وكنوزها بين أيديهم، وتقادم ما كان جديداً من روعة الدين وعهد الرسول وصاحبيه، وكان أمر الشورى المعلوم، وكثرت في هذه الإمبراطورية الواسعة المناصب والولايات. . . بدأت نوازع الطموح تتحرك في نفوس هؤلاء الأبرار فيكبتونها رهبة من الله. لكن عناصر الشر والغش والفساد من أهل النحل البائدة والأمم المغلوبة كانت أيقظ من أن تغفل عنهم وهي الخبيرة بمداخل الشر ومخارجه، فما زالوا يفتلون لأولئك الطيبين في الذروة والغارب حتى استجاب بعضهم لأهواء نفوسهم من حيث لا يشعرون، ودب دبيب الخلاف بينهم واشتغل بعض ببعض،(703/17)
ووقفت الفتوح أيام على رضى الله عنه حتى خيف على المسلمين من فلول الروم.
أرأيت ما يفعل الخلاف في الدولة القوية الفتية المتماسكة المتينة الأساس؟.
إنه يطمع فيها حتى المغلوب المشرف على الدمار، دع ما أريق في سبيله من دماء غالية بدأت بالخليفة الصابر الشهيد عثمان بن عفان رحمة الله، ثم رفدت بدماء عشرات الألوف. هذا (يوم الجمل) وهو يوم واحد أسفر عن خمسة عشر ألف قتيل على أقل تقدير في بضع ساعات، فلا تسل عما بعده من (يوم النهروان) و (يوم صفيرة) وغيرها من تلك الأيام التي أعملنا فيها سلاحنا في أنفسنا فأوقعنا الوهي في دولتنا والتفرقة في صفوفنا والعداوة في قلوبنا. . . وكان الله قد غسل هذه القلوب وجمع تلك الصفوف.
ولو أن هذه القوى المتطاحنه يوم الجمل ويوم صفين. . . اجتمعت على الخير فسارت إلى قوى الشر شرقاً وغرباً لأكلت الدنيا بقوتها، ولأحالت العالم حينئذ جنة يتحدث بنعيمها وسعادة أهلها الركبان. لكن الله الذي أيد هذه الأمة أول أمرها قضى أن يكون بأسها بينها، فامتلأ تاريخنا بالحروب الداخلية وتحول عن مجراه السعيد الذي كان جرى فيه لخير الإنسانية عامة؛ قضاء من قضاء الله لا حيلة فيه. ولست أدري ما يكون حال دنيانا الآن لو أن العرب لم يفسدها الخلاف والتطاحن ولم تنزل بأسها بينها؟
ولو ذهب باحث يحصى هذه الدماء المراقة في سبيل الخلاف منذ قتل عثمان حتى اليوم، في المشرق والمغرب والأندلس. . . إذا لأفزعته هذه الملايين منها، ملايين لو بذلت في سبيل الحق لكان تاريخ العالم كله على غير ما نعرف، ولكنا أهل الحضارة حتى الآن وإلى الأبد لا يلم بشمسنا أفول.
وقد خاف رسول الله صلى عليه وسلم على أمته آثار الخلاف، فسأل ربه - فما سأل - أن يجنبهم إضراره، إذ علم أن هذه القوى الهائلة المتراصة التي عمرها إيمان لم تعرف الأرض له مثيلا كفيلة بفتح الأرض كلها لدعوة الخير والحق، لا تقف لها قوة إلا أن تنشق هي على نفسها فرووا عنه أنه قال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة:
سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة (القحط) فأعطانيها.
وسألت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها.
وسألت ربي ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.)(703/18)
ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
انقضت الخلافة والخلاف بخيرهما وشرهما، ولم يبق منها إلا هذا التاريخ بين أيدينا مملوءاً بالعبر: فلنتعظ به، ولنحذر أي تفرقة بيننا بكل ما نستطيع، ولتكن تلك الدماء الذاهبة ضياعاً حافزة لنا على الواحدة وجمع الكلمة، فلا نعيدن فاجعتها جذعة، ولنهرب من كل خلاف وتفرقة هرب السليم من الأجرب فإنهما يبدأن صغيرين لا يؤبه لهما ثم يعظمان حتى يلتهمان الأخضر واليابس.
وإن أعجب لشيء فلأولئك الذين مازالوا يجتمعون ويتفرقون متجادلين في هؤلاء الصحابة الأخيار: أيهم المؤمن وأيهم الكافر؟ أيهم على الحق فيحمد وأيهم على الباطل فيذم؟ ويتقربون إلى الله في لعن رجال: ما منهم أحد إلا وله السوابق الحسان في نصرة الإسلام وإملاء كلمة الله والدفاع عن رسوله، وما فيهم إلا من بذل ماله ودمه ودم أهله للخير العام، فخلفوا لنا بفضل إخلاصهم هذه البلاد الواحدة على ترامي أطرافها. إنها وحدة جامعة عجزت ضربات الدهر وسطوات الدول ثلاثة عشر قرناً عن أن تنال منها ما يقضي عليها ويمحوها؛ فما زال العراقي إذا هبط أقصى المغرب في مراكش لا يحس بغربة عن أهل ولا وطن. أستغفر الله، بل مازال المسلم الصيني من أقصى الشرق إذا هبط ساحل بحر الظلمات تلقته القلوب بالبشر والترحاب لقد جمعهم الله بمحمد وصحبه على كلمة حق واحدة فلن يفرق أحد ما جمع الله بمحمد وصحبه.
لست بسبيل تعداد المآثر المشهورة لأولئك الأخبار الذين هم موضوع الخلاف كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة. . .، فأصغر أعمالهم عند الله يمحون كل ما يذكر خصومهم من أخطاء، وقد ذهبوا إلى خالقهم الذي أرضوه بأعمالهم ورضي عنهم، وسجل رضاه هذا في قرأنه الكريم يتلى ما بقي على الأرض إنسان.
فلنمحضهم جميعاً محبة واحدة، ولنستغفر لهم ولأنفسنا، ولنذكرهم بكل خير جزاء ما خلفوا لنا من وحدة قوية، ودولة مثالية بنوها بجهادهم في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، جهاداً أرخصوا فيه مهجهم وضحوا بأعز ما يملكون؛ ولنطرح عن عواتقنا مخلفات عصور الانحطاط والشعوبيات، ولنقتد بهؤلاء الأخبار أنفسهم حين يعرض بعض لذكر بعض، فقد نزع الله ما في صدورهم من غل وعادوا إخوانا متحابين كما أمرهم الله أن يكونوا.(703/19)
وإن الله عز وجل لم يتعبد أحداً بشّم صحابي ولا لعنه، بل عظم من شأنهم وغفر لهم ما أخطئوا قبل أن يخطئوا، ولولاهم لكان العرب اليوم في وثنية أو جاهلية؛ فما هذا جزاء من أنقذنا به من الضلال والفرقة وخلف لنا ملكا وماضياً مجيداً وتاريخاً حافلاً بكل ما يرفع الرأس ويخلد أحسن الذكر وأطيب الثناء. . . .
فرقت السياسات قديماً أمر المسلمين وشتت شملهم، ثم عززها أهل الكيد والدس بغشهم حتى جعلوها تتغلغل في الأديان والعقائد، وصار الدين الواحد أدياناً والأمة الواحدة طوائف شتى وما الأمر كله بالذي يستدعى بعض ذلك، فلنأخذه بالتوسعة والتسامح، ولكل رأيه في السياسة وفهمه للتاريخ فلا يضيقن أحد بفهم أخيه، ولا نجعلن خلاف الرأي في السياسات الماضية (والحاضرة) والحزبيات البائدة (والحاضرة) مفرقا وحدتنا وصادعاً شملنا ومخمداً نارنا، ولا نجعلن هذه الأحقاد والعداوات تتوارث إلى يوم الدين.
إن الأمم من حولنا كالجياع على القطاع، فلن يجدينا في موقفنا اليوم ذلك الجدل ولا تلك الفرقة، بخويصة أنفسنا ما يشغلنا عن هذا الباطل، وفي مطالب الحياة الجادة ما يلفتنا عن التفرق. . . فلنقابلها صفا واحداً وأمة واحدة كما بدأنا الله، ولننبذ عصور الظلام وآثار الجهل وضيق الأفق بمخلفاتها جميعاً.
إن ربنا واحد وكتابنا واحد ورسولنا واحد، فلنعد أمة كما أراد الله لنا ولنبرأ من كل فتنة وخلاف وفرقة. فالظروف عصيبة ونحن على مفترق الطريق، وإننا لمحاطون بالأعداء داخلاً وخارجاً، وهم دائبون على توسع الشقة بيننا؛ فلا نعينهم على أنفسنا، ولا نضعن في أيديهم السلاح الذي يقتلنا ويجعلنا لهم طعمة سائغة.
ليت الله إذ جمع على هدى أمرنا لم يجعل للفرقة إلينا سبيلاً، ولا جعل بأسنا بيننا، وليت هذه السابقة التي هونت على الأمة الواحدة أن يقاتل بعضها بعضاً لم تكن قط.
فليت الظعينة في بيتها ... وليتك (عسكر) لم ترحل
ثم ليتنا بعد هذا كله نعتبر بما في الخلاف من ضرر بالغ في كبير أمرنا وصغيره!
سعيد الأفغاني(703/20)
إلى وزارة المعارف:
وعلى هذا فنحن ندور. . .
للأستاذ كامل السيد شاهين
والظاهرة التي تتجلى في وزارة المعارف بوضوح وقوة، أنها لا تنظر إلى الدراسات التي تجد في مصر نظرة المستفيد، فقد قامت في مصر ثورة قوية على البلاغة ودراساتها العتيقة، حمل لواءها أول الأمر الدكتور طه حسين ثم الأستاذ أحمد أمين، ورسما للنقد الأدبي منهجاً إن لم يكن واضحاً كل الوضوح، فهو - على أية حال - يصح أن يتخذ بذرة لطرق الدراسة التي تصحح الذوق وتقوم الأدب. ورسم الأستاذ الزيات رسماً صحيحاً لطريقة تناول الدراسات الأدبية، ولو أنه لم يعرض للناحية المنهجية، ولكن وزارة المعارف لم تعبأ بهذه الصيحات، وكأنها لا تعنيها هذه الثورة على تلك الدراسات القديمة العقيمة، فليبق تلاميذ المدارس حيث هم - يتلون سورة الاستعارة التصريحية، والمكنية، ويخرجون المجاز المرسل والعقلي، دون أن يصححوا ذوقاً، أو يفهموا نقداً. وآية أخرى على غفلة الوزارة عن الدراسات العلمية أن الأستاذ إبراهيم مصطفى كتب كتابه (إحياء النحو) وفيه ثورة قوية على العوامل، وتيسير كبير على الدارسين، ولكن الوزارة مضت على غلوائها سادرة لا تتلفت ولا تنظر، ولا تقف لإهابه مهيب، ولا تصيخ لصوت داع!.
وها هو ذا المجمع اللغوي يعزم عزمته لتيسير الكتابة، وتسهيل القراءة، ويجمع اللجان ويناقش الآراء ثم يكتب في ذلك الكتب واسعة البسط، وتلقى المحاضرات طويلة الذيل، وتفحص الآراء في المجلات الأدبية والصحف السيارة، ووزارة المعارف مغمضة العين، سائرة في طريقها المعهودة ولو كانت ممتلئة بالأشواك والوحول.
ذكرت ذلك كله عندما أمسكت بكتاب المطالعة المقرر على آخر سنة في المرحلة الابتدائية فوجدته كله مضبوطاً ضبطاً تاماً، على زعم أن في هذا تسهيلاً للقراءة، وإفادة للقارئ ولكن الممعن لا يجد من هذا التسهيل شيئاً، وأكاد أزعم أن فيه إرباكاً له وتشويشاً عليه، ولو أن الكاتب - سهل الله له - ضبط ما هو بحاجة إلى الضبط، ولم يعن نفسه بالضبط التام لكان في ذلك الخير كل الخير. خذ مثلا جملة: (حضارة قدماء المصريين) تجد أن الذي يحتاج إلى ضبط هو (تاء) حضارة (همزة) قدماء، (ميم) المصريين، وليس وراء ذلك ما يدعو(703/21)
إلى تعنيه الكاتب والطابع قد نقول: إنه محتمل، ولكن - لسوء الحظ - نجد في هذا الإمعان في الضبط مساءة إلى القارئ نفسه، ومشغلة له عن القراءة، فهو لا يستطيع أن يتابع الحروف والضبوط، والمعاني في وقت معاً.
ولو أن للوزارة عيناً ترى وأذناً تعي، لفقهت ما قاله الأستاذ الجارم بك، في تقريره بشأن الضبط فهو يقرر أن القارئ للكلام التام الضبط (يقطع أوصال العبارات، لأنه مشغول بتحديد البصر، وإعمال الفكر، تحسساً لضبط ما يقرأ قبل أن يقرأ حتى يستطيع أن يقرأ).
ولو عنيت بأبنائها لرحمتهم من تلك حال، حال المطالعة في كتابها المضبوط التي يقول فيها عبد العزيز باشا فهمي: (فتراه كالمجذوب المتوجد، أو المكروب المتجلد، جاحظ العينين تارة، أخرزهما أو أخوصهما تارة أخرى، مضروب اللسان باللعثمة أو الغمغمة أو الفأفأة أو غيرها من ضروب الارتتاج).
أفلا يجدر بنا - بعد - أن نقتصر على الضروري في الضبط، حتى نخلص بالتلميذ في بعض الجرائد بعد ضبط ما تلجئ الضرورة إلى ضبطه فكنت أجدهم في القراءة أسرع، وعلى الفهم أقدر، إذ لا يعتور ألسنتهم تلك العقل العاقلة التي تحبسها وتلويها وتحول بينها وبين الانطلاق والإسراع.
وإذن، فما كان أجدر أن يشتمل كتاب المطالعة على موضوعات قصيرة يسيرة خالية من الشكل سهلة حتى يمكن التلميذ أداؤها في ثقة واطمئنان، وتكون محكا لاستفادته في قواعد اللغة، وامتحاناً لقدرته على ضبط أواخر الكلمات ومتونها.
فإذا جاوزنا الضبط، وذهبنا نفتش موضوعات الكتاب وجدناها شكولا وأنماطاً، مجموعة من كل ما تباعد وتناءى وازور ووجدنا الرابط بينها هو التنافر والتناكر، فمكة المكرمة، تجاور الموز وفائدته، وسياسة الرعية تتاخم الورق، وقناة السويس تصاحب الحية والأخوان، والإمام علي يرافق البريد في مصر. فهذا الخلط الذي لا يرعى للقربى ذماماً، محال من المحال أن يكون هذا الترابط الذي ننشده وتنشده المعلومات لتتداعى وتتماسك، وأيا ما كان فالكتاب من حيث موضوعاته يعتبر ثورة قوية ناجحة على طريقة المشروع التي ترمى إلى تأليف المعلومات واجتذاب بعضها إلى بعض! ولو أن ثمت لفته يسيرة لأمكن أن يقوم الكتاب على وحدات متناسقة متآخذة، فإذا جئنا بموضوع مثل مصر، جاز أن نضم إليه:(703/22)
نهر النيل - قناة السويس - حضارة قدماء المصريين - مصر في عصر فاروق - واجب المصري - مصطفى كامل - سعد زغلول. الخ فنكون بذلك وحدة وثيقة خالية من التكرير المربك بعيدة عن التشتيت المزري.
وأشنع من هذا وأبشع أن الكتاب - الذي يعاد طبعه كل عام - قد خلا من كل ما يتصل بالأحداث الجديدة التي شهدتها التلاميذ وسرت في عروقهم، واستشرفوا للقراءة عنها والحديث فيها - كالحرب الأخيرة، وغلاء الأسعار، وجشع التجار، واختراع القنبلة الذرية، ولؤم الاستعمار، وخطر الصهيونية، ونكبة فلسطين، فكل هذا يشوق التلميذ مطالعته وحرام أن نقتل هذا الشوق في نفس التلميذ ونرميه بموضوعات جامدة صالحة لكل زمان ومكان لا تتغير بتغير الأحداث.
ومن المضحك المبكي أن تقرأ في القطعة الثانية من الكتاب فتجده، يتمدح بالمعاهدة معاهدة سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف، وقد طواها الزمن فيما طوى، وأطفأ لمعانها، وأسقط شهابها، وبرئ منها أهلها، ونادت مصر كلها بسقوطها، وطالبت بإلغائها، ويتمجد بدخول مصر في عصبة الأمم، وقد أصبحت العصبة اليوم في ذمة التاريخ، وذهبت غير مذكورة ولا مشكورة.
ومما ينبغي الالتفات إليه بعين يقظى أن المدرسين يعمدون إلى كتاب المطالعة فيختارون منه قطعا شعرية يحفظها التلاميذ، وقد خبرت هذه القطع فوجدت كثيراً منها خاليا من الروح الشعرية والجمال الفني، ميتا مدرجا في كفن بال، وما يصح قط أن يكون من محفوظات ذلك العصر الذي يعج عجاجه بالممتع الرائع من الشعر الحديث المتصل بالأحداث القائمة أو القريبة العهد. خذ مثلا قصيدة الإمام الشافعي رضي الله عنه، في الحث على السفر:
ما في المقام لذي عقل وذي أدب ... من راحة، فدع الأوطان واغترب
سافر، تجد عوضاً عمن تفارقه ... وانصب، فإن لذيذ العيش في النصب
ابحث عن الروح الشعرية الجميلة بين هذا الرصف المرصوف فلن تجدلها أثراً، بل لن تجد مزية له على الكلام المبتذل، إلا مزية النظم، وهي أهون المزايا. حكم، وإن أردت التجديد فقل: نصائح، لا قيمة لها في وزن التلميذ، وأكاد أكتب: لا قيمة لها في نفسها. فهل(703/23)
بمثل: سافر تجد عوضاً، يلتذ التلميذ، ويجد النشوة والسرور؟ وهل بمثل: فانصب فإن لذيذ العيش في النصب يستفيد فكرة أو عبارة طريقة؟ اللهم لا.
ثم ابحث معي عن كلمة واحدة شعرية في البيتين فلن تجد، وما أكثر ما تجد هذه الطرافة والجدة في قصيدة مثل (العصفور الصغير) للأسمر، و (أنا. .) لإيليا أبى ماضي وغيرهما مما يهز قلب التلميذ، ويثير عواطفه، ويفتح عينه وقلبه للحياة فتحا.
ولست أزعم أن ذلك خاص بالشعر الحديث فالقديم غني حافل ففي رثاء (السلكة) (للسليك) وفي غزل (المنخل اليشكري) وفي تهكمات (ابن الرومي) جمال وإمتاع وشاعرية نابضة قوية ممتنعة على عقول العلماء الذين يقتسرون الشعر اقتسارا، ويعنفون عليه بقوة اللغة، ولا يقودونه بفيض العاطفة، وسلاسة الطبع، وقوة الشاعرية!
ومما يؤسف أن يخصص للمطالعة حصتان قصيرتان لا تقرئان ولا تفيدان، والمطالعة، مادة العربية، تستغل في الثقافة فلابد من المعنى، وفي الإملاء فلابد من تكرير النظر إلى الكلمات الصعبة وفي الإنشاء فلابد من استعادة الجميل من العبارات، وإدخاله مدخلا كريما في مناسبات جديدة، وهيهات أن تتسع الحصتان لذلك كله.
فهذا كتاب المطالعة يا قوم، لا عون فيه على القراءة، ولا انسجام بين موضوعاته ولا تناول لطريف الأحداث، ولا حسن اختيار لقطع الشعر، فماذا بقي؟
لا تبكوا على التلاميذ إذ يكبون في الامتحان، لا تصرخوا ولا تستصرخوا. . .
أيها القوم. . . السم في الدواء!!
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية(703/24)
علوم البلاغة في الجامعة
للأستاذ علي العماري
- 6 -
قلت فيما سبق إن رجال الجامعة لم يصنعوا شيئا في تجديد البلاغة العربية، غير
أن ملئوا غرف الدراسة، وأذهان الطلاب بالطعن على المتقدمين، والتنويه بقصورهم، فلننظر فيها بين أيدينا من كتب لنرى مصداق ذلك. في سنة1931 ألقى فضيلة الأستاذ الشيخ أمين الخولي محاضرة في الجمعية الجغرافية الملكية وسماها (بحثا تاريخيا تجديديا) تحدث فيها عن صلة الفلسفة بالبلاغة العربية، وتكلم طويلا عن نشأة البلاغة وتطورها والمدارس التي احتضنتها، ثم تحدث عن الدراسة في كلية الآداب ودعا إلى تجديد البلاغة تجديداً شاملاً وكان مما قاله (وهي - يعني الكلية - في إخلاص المجدد المستنير بالتاريخ تستطيع أن تختط طريق الدرس الفني وتجعله واضح المعالم مغايراً لطريق البلاغة التي سميناها البلاغة العلمية، كما عزمت على أن تتلاقى ما كان من أثر الفلسفة في تجدد البلاغة وقصور بحثها، لأن إلزامها حدود دراسة الجملة قد حرمها من أبحاث ضرورية للفن الأدبي، أبحاث نراها في بلاغات اللغات الحية ويحب أن نتناولها بالدرس، ومن تلك الأبحاث البحث في الأسلوب واختلافه وأوجه تفاوته، ومزايا أنواعه المختلفة، ومن ذلك البحث فيما وراء المغنى الجزائي - تشبيه، استعارة - كناية - من معنى كلي وعرض يقصد إليه الأديب. . . الخ)
أبحاث كثيرة يدعو الأستاذ إلى تناولها بالدرس، وبذلك يجدد البلاغة العربية.
ظفر في فم الأماني حلو ... ليت منه لنا قلامة ظفر
وتمضي خمسة عشر عاما كان يمكن أن ترى فيها أثرا لهذه الدعوة، ولكنا نفاجأ في سنة 1946بكتاب للشيخ أمين يسميه (فن القول) ويقول في الصفحة الرابعة منه (إني أحس إحساسا قويا عنيفا بحاجة حياتنا الأدبية واللغوية إلى دراسات كثيرة واسعة لم نقم بها، ولا هيأنا السبيل لإتمامها؛ ولو استطعنا أن، نعرف بها ونقنع بضرورتها، وندفع بمحاولات أولية فيها لنخلق الجيل الذي يقوم بها ويتمها فذلك خير ما نسدي لعصرنا، وجل ما نؤدي به واجبنا. ولن أظن لحظة أننا قد أوفينا في ذلك على الأمل المرجو، والمثل المنشود أبدا،(703/25)
لأن الميدان خال بل مقفر. وسترى في البلاغة التي تزاول درسها هنا مثلا لذلك بينا) وإذن فالشيخ أمين لم يصنع شيئا في هذه المدة الطويلة، ولم يصنع غيره كذلك لأن الميدان (خال بل مقفر) فهل يكون هذا الكتاب الذي يخرجه هو العمل المرجو في تجديد البلاغة؟ هذه محاضرات ألقاها في معهد الدراسات العليا، وقد وصلني منها 120 صفحة، وباقيها في المطبعة كما أظن، وكان من حق الشيخ علينا أن ننتظر حتى يتم طبع المحاضرات، ولكنا نقول هنا كلمة ولا يزال الباب مفتوحاً، مائة وعشرون صفحة هي مقدمة لعمل تجديدي في البلاغة، فماذا تناول فيها؟ تحدث في أربع عشرة صفحة عن التفسير الحيوي والاجتماعي لفكرة إنشاء المعهد، ثم التفت إلى ما كان نشره من محاضرات ومقالات فأعاد نشرها بشيء من البسط والإسهاب، فتكلم عن نشأة البلاغة عن منهج دراستها عندنا وعند غيرنا، وتحدث عن اللغة العامية واللغة الفصحى ومشكلات اللغة الفصحى كل ذلك في هذا العدد الضخم من الصفحات اعتبره مقدمة لكتابه. أليس ذلك حسنا؟ لقد ذكروا أن أحد الرجاز أتى نصر بن سيار والى خراسان ومدحه بأرجوزة تشبيها مائة بيت ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله ما تركت كلمة عذبة ولا معنى لطيفا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك. وأنا أرجو ألا كون كتاب (فن القول) كهذه الأجوزة.
لكن جزءا من دعوة الشيخ أمين قد تحقق، فقد أخرج الأستاذ أحمد الشايب كتاب (الأسلوب) وتكلم فيه عن كل المباحث التي دعا الشيخ إلى تناولها، فهل هذا الكتاب عمل تجديدي؟ لننظر. والذي نراه أن الأستاذ الشايب عمد إلى جهات ثلاث فاختطف منها كتابه.
(1) ترسم خطى أرسطو في خطابته، فقد تحدث هذا عن الأسلوب وقيمته ووضوحه وصفاته الخاصة، والشروط العامة للأسلوب، وفتور الأسلوب وسلامته وشروط ذلك، وشرح ثراء الأسلوب وبسطته ووسائط ذلك، كما بين الأسلوب الكتابي والأسلوب الخطابي والأسلوب الشعري والأسلوب النثري وتحدث عن اختلاف الأسلوب باختلافات الموضوعات وغير ذلك.
(2) سطا على أبحاث المتقدمين من أمثال عبد القاهر والجاحظ وقدامة وابن رشيق والآمدى وصاحب المثل الثائر والقلقشندي فاختطفها اختطافا، وحسبك أن ترجع إلى ما كتبه العمدة عن فنون الشعر، وما كتبه قدامة في نعت الوصف ونعت الهجاء ونعت الرثاء ونعت(703/26)
المديح ونعت التشبيه، ثم تقرأ كلام الأستاذ الشايب فسوف تعتقد معي أن المسألة كما يقولون (حذو القذة بالقذة).
وأما عبد القاهر فأمره معروف فقد كتب كتابا خاصا في النظم الذي يسميه الأستاذ (الأسلوب) قال (للخفة والشيوع) والجاحظ كتب عن صحة المعاني وفسادها ومناسبتها للألفاظ، وحسبنا هنا الإشارة.
(3) الغربيون - كما يقول الشيخ أمين - يعنون في البلاغة بدراسة الأسلوب، ويقول غير مرة إن هذه الأبحاث التي يدعو أليها - وهي قوام كتاب الأستاذ الشايب - مما عنى بع الغربيون عناية تامة، ويخص بالذكر كتاب الأسلوب الإيطالي للباريني.
ولا نستبعد - بل إننا لنوقن - أن الأستاذ الشايب نظر طويلا في البلاغة الغربية وأخذ عنها، وإذن فهل لنا أن نقول كما قال بعض النقاد الظرفاء: (لو قيل لكل معنى في شعر حميد بن ثور ارجع إلى صاحبك لما بقى في يده شئ).
وأعتقد أنا لو حذفنا منه هذه الأبحاث القديمة العربية لبقى الكتاب أبيض مغسولا. على أنه فوق ذلك كتاب وصفي وعمل البلاغة إنما هو وضع القوانين التي إذا ترسمها الأديب استطاع أن ينشئ، وهذا الكتاب في أكثر مباحثه أشد صلة بأدب اللغة منه بالبلاغة، وإن ذكر مؤلفه أنه وضعه في البلاغة، وقدم له بأبحاث فيها.
ومهما يكن من شئ فلازلنا من أن الجامعيين تركوا البلاغة العربية كما كانت على عهد السكاكي، وإذا كانوا صنعوا فإنهم لم يزيدوا على أن رجعوا إلى كتب البلاغة قبل السكاكي، وكتب النقد الأدبي فاغترفوا منها، وهذا عمل يشاركهم فيه كثير من أبناء دار العلوم ومن أبناء كلية اللغة العربية بالأزهر، فأين هو التجديد يا رئيس الأمناء؟!
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي(703/27)
العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم
للأستاذ عبد المنعم ماجد
لم تكن هناك فروق تميز أهل البيت من بني العباس وبني علىّ، حتى وقت قيام الدولة الأموية على يد معاوية بن أبي سفيان الذي جمع في يده سلطة قوية وحوّل الخلافة من بساطتها وديمقراطيتها إلى نوع من الأرستقراطية المتعجرفة المتعصبة، لذلك أطلق العلويون على أنفسهم لقب الشيعة وعُرف أعداؤهم باسم بني أمية. أما أسم أهل السنة فلم يكن له وجود ولم يظهر إلا بعد قيام الدولة العباسية. وبالرغم من أن العباسيين لم يكونوا قد طالبوا بالخلافة لأنفسهم أيام الخلفاء الراشدين إلا أنه أثناء قيام الدولة الأموية في أواخر عهدها التجئوا إلى الدعوة للرضا من آل محمد، أي من يقع عليه اختيار آل البيت يصير هو الخليفة. وقد وجدت هذه الدعوة أذناً صاغية وقبولا من الشيعة، وذلك لأنهم كانوا يأملون أن تؤول الدعوة إلى بني علىّ، وذلك لأن علياً كان أفضل من العباس باعتراف معظم أهل البيت لأنه زوج بنت رسول الله ولسيرته وسبقه في الإسلام. أما العباسفلم تكن له سابقة ولا سيرة. . . ثم بجانب هذا لم يكن العباس ولا ابنه عبد الله قد طالبوا بالخلافة. . . ولكن لما نجحت الدعوة التي بشر بها أبو مسلم الخرساني في خراسان، وانتهت بقلب الخلافة الأموية والإجهاز عليها في موقعة الزاب حولوا الخلافة لأنفسهم وأقصوا الشيعة عنها وادعوا أن العم أحق بالخلافة من ابن العم، ولذلك كانوا يرون أي فتق يجئ من غير ناحية العلويين سهل الرتق. أما هؤلاء أبناء عليّ فهم الخصم الألد الذي يخاف جانبه ويُخشى بأسه، ولذلك طاردوهم، وشردوهم، وضيقوا عليهم الخناق.
إزاء هذا التعنت الذي ضاقوا به ذرعاً أخذ العلويون من أبناء فاطمة يدعون لأنفسهم سراً؛ ليستردوا هذا الحق المغصوب ويقضوا على هؤلاء الذين أقصوهم عن حقهم الشرعي في الخلافة، فلما ضاقت بهم وبدعوتهم أرض المشرق اتجهوا للمغرب حيث كان مركز الخلافة ضعيفاً، ونجحوا في تأسيس دولة هناك، وكان هذا مبدأ الاحتكاك الفعلي بينهم وبين العباسيين، وأول ضربة توجه للخلافة العباسية في جزء من أملاكها في أفريقيا من أبناء فاطمة بالذات. . ولن تكون الضربة الأخيرة. . .!! لأن غرضهم الأساسي كان القضاء على الخلافة العباسية التي اغتصبت ملكهم وشردتهم وطاردتهم. هذا فضلا عن رغبتهم في(703/28)
نشر دعوتهم ونظرياتهم في الدين. لذلك شهر المعز لدين الله الفاطمي سيفه في وجه العباسيين، وطعن الخلافة في مصر والشام والحجاز واليمن، ومنع الناس في هذه الأرجاء لبس السواد شعار العباسيين، وخطب له ولحلفائه على المنابر، وارتفع صوت المؤذن منادياً: (حيّ على خير العمل)، وهو آذان خاص بالفاطميين كما ظهر بطبيعة الحال كفاح وتنافس وحزازات بين الدولتين شأن كل قوتين تعتقد كل منهما أنها أحق بالخلافة والسلطان دون الأخرى. وسنلخص العلاقة بين هاتين القوتين المتزاحمتين في ثلاث مراحل:
الأولى - تبدأ حيث عاصرت فيها الدولة الفاطمية عظماء بني بويه وهم المتربعون في الحكم في بغداد والمتغلبون على الخلافة العباسية فيها.
الثانية - التي عاصرت فيها الدولة الفاطمية البويهيين إبان ضعفهم.
الثالثة - التي عاصرت فيها الدولة الفاطمية الدولة السلجوقية التي انتزعت الحكم من الدولة البويهية.
الفترة الأولى:
تبدأ من سنة 258هـ وهي السنة التي دخل فيها الفواطم مصر إلى سنة 372هـ أي إلى موت عضد الدولة البويهي آخر عظماء البويهيين. . استولى الفاطميون على مصر والشام ومست حدود الدولة الفاطمية أملاك العباسيين التي كانت آنذاك تحت رحمة البويهيين وهم الذين ملكوا زمام الدولة وصارت بيدهم مقاليد الأمور منذ سنة 334هـ أو سنة 945م. فاسمهم يقرن باسم الخليفة العباسي في خطب المساجد، وتضرب الدفوف أمام القصر الملكي البويهي في الضُحى والعشى، وهذا تكريم لم يكن يحظى به غير الخليفة من قبل، والبويهيون متشيعون كالفاطميين بل من الشيعة الغالية التي لا تعترف بالخلافة العباسية رغم سيطرتها عليها. بل وتعتبرها مغتصبة من العلويين الذين هم أحق بها في نظرهم، ولذلك في مناسبات عدة يعملون دائماً على إذلال الخليفة العباسي وإشعاره ببطلان خلافته؛ فمثلا الخليفة القاهر عُزل والمستكنى سُمل والطائع أهين، والمطبع عزل حتى قال ت. و. أرنولد في كتابه الخلافة:
ومعنى هذا أن الفواطم حينما امتد ملكهم شرقاً وجدوا تشيعاً في بغداد، ومركز الخلافة(703/29)
والأراضي الخاضعة لها في العراق والمشرق، وأن صاحب هذا التشريع هو صاحب الأمر والنهي، وكان هذا بطبيعة الحال من شأنه أن يقرب بين الفواطم في مصر والمسيطرين على بغداد أصحاب الأمر والنهي، وأن يوجد نوعاً من العلاقات الحسنه بينهما، وإن كانت العلاقة الطيبة تظهر من ناحية البويهيين أكثر جلاء من ظهورها من ناحية الفواطم، وكان هذا طبيعياً لأن الخليفة الفاطمي كان يُعد في نظرهم إمامهم والرمز الروحي لهم، وهو من النبعة الطاهرة التي يدينون بنحلتهم لها. نلمس هذه الروح والميل الصريح نحو الفواطم مما حاوله معز الدولة البويهي بالكشف عما في قلبه بالبيعة للخليفة الفاطمي لولا أن أشار عليه أصحاب النظرة البعيدة من أتباعه بتركه هذا الأمر خوفا على سلطانه وسلطانهم، ونفوذه ونفوذهم فالخوف هو الحائل الوحيد في سبيل إعلان الفاطميين أئمة عليهم؛ ومع ذلك فالخضوع الروحي للفواطم كان يعلمه الملأ في كل مكان وتحت سمع الخلافة السنية وبصرها؛ فمبدأ الاحتفاظ بسطوتهم في بغداد لا يتنافى أبداً مع إظهار ولائهم للفاطميين، ولعل العلاقة الرسمية لم تكن من القوة والصفاء مثلما كانت في عهد عضد الدولة البويهي. وقد احتفظ لنا أبو المحاسن برسالة من العزيز الفاطمي رداً على رسالة عضد الدولة فيها يشكره على ولاءه وخضوعه، وقد انتهز عضد الدولة هذه الفرصة ووصول مندوب العزيز بهذا المكتوب لُيذل الخلافة السُّنية فأمر المطيع وهو الخليفة السني آنذاك بالخروج لاستقباله. بل تمادى عضد الدولة وقرأ الرسالة مع ما تحمله من خضوع سافر وولاء ظاهر للفواطم في حضرته حتى دهش أبو المحاسن وتعجب، وإن كان ليس هناك ما يدعو للعجب لاجتماع البويهيين والفواطم في رمز واحد وإمام واحد هو (عليّ). ويجعل بنا أن نعرض بعض ما جاء في هذه الرسالة ففيها (,. . إن رسولك وصل إلى حضرة أمير المؤمنين مع الرسول المنفذ إليك فأدى ما تحمله من إخلاصك في ولاء أمير المؤمنين ومودتك ومعرفتك بحق إمامته ومحبتك لآبائه الطائعين الهادين المهديين. . ثم ذكر كلاماً طويلا في المعنى). أما بقية الكتاب فيستدل منها على أن العلاقة لم تقف عند تبادل عبارات المودة والصداقة بل تعدتها إلى تبادل الرأي والمشورة فيما يحيط بهما في العالم الإسلامي من خطر خارجي.
هذه هي مظاهر العلاقة الرسمية بين بغداد والقاهرة. . وهناك مظاهر أخرى لها تتمثل في اشتراك أهل مصر من الشيعة وبغداد في بعض الأعياد الدينية مثل النوح في أيام(703/30)
عاشوراء، وهذه الظاهرة استمرت منذ أن استقر البويهيون في العراق. . .
هذه هي مظاهر التفاهم بين بغداد والقاهرة، والتي كانت نتيجة للرابطة التي بينهما كما ذكرت فخنقت هذه المعاملة الحسنة كما أنها هي التي منعت كلا من الفاطميين والبويهيين على أن يقضى الواحد منهما على الآخر، وذلك بالرغم من أن غرض الفواطم الرئيسي كان تدمير العباسيين المغتصبين للخلافة، ولكنهم لما وجدوا تشيعاً في بغداد مالكا لها أحجموا عن اتخاذ هذه الخطوة العدائية. ولكن مع هذا لم تكن العلاقة صافية تماماً في هذه الفترة، لأن وجود قوتين متواجهتين يؤدي حتما إلى نوع من التنافس قد يتعدى إلى حوادث أخرى وبخاصة في أول هذه الفترة، ولكن رغم تقلب الحوادث سرعان ما تعود الأمور إلى مجراها بحكم اتفاقهم في المبدأ؛ فمثلا نرى عز الدولة باختيار قد أمدَّ القرامطة بالمال والسلاح عند ما تقدم الفواطم وكادت نارهم تلفح وجه العراق وقد كان مدفوعاً لاتخاذ هذه الخطوة خوفا على ملكة، ولكن سرعان ما عادت الحال إلى الصفاء بعد ذلك. إذ ظهرت بأجلى صورها في عهد معز الدولة وعضد الدولة.
الفترة الثانية:
تأتي هذه الفترة بعد عضد الدولة إلى نهاية الدولة البويهية. كان طبيعياً، العلاقة الحسنة بين بغداد والقاهرة والتي استمرت على أتم صفاء، وبلغت أقصاها في عهد معز الدولة، وعضد الدولة آلا تستمر إلى الأبد، لأن السلطان البويهي الذي كان عاملا مهماً على التفاهم بدأ يضعف، أصبح الخلفاء العباسيون قادرين على التدخل في أمور الدولة والسياسة وانتهزوا فرصة هذا الضعف لإظهار ما يكون من عواطف البُغض والحقد للدولة الفاطمية. لذلك يجب أن نعتبر أن العلاقة في هذه الفترة على نقيض الفترة السابقة إذ اتخذت مظهراً آخر من القسوة والكفاح وظهرت نيات الطرفين واضحة بالبغضاء. ولعل أول مظهر لاسترداد الخلفاء العباسيين سلطانهم المفقود هو منعهم (كما يذكر أبو المحاسن) الرافضة من أهل الكرخ والطاق من النوح في يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح، ولكن هذا التحرر نوعاً من قيود البويهيين ليُعنى أن الخليفة العباسي قد أُطلقت يده أو أن في استطاعته أن يعمل شيئاً إيجابياً فهذا من المحال. لأن الخلافة العباسية كانت في أخريات أيامها عاجزة عن كل هجوم إيجابي على من قاسموهم سلطانهم وإن كانت لا تعجز عن الهجوم بسلاح آخر هو(703/31)
سلاح الكلام، والطعن في نسبهم إلى فاطمة، خاصة أن لدولة تأسست على هذا الإدعاء، وكانت دعوتهم قبل أن ينشرها داعيهم أبو عبد الله الشيعي سرية، وذلك خوفا على أئمتهم المستورين من ولاة العباسيين في ذلك الوقت فساعد هذا الجو على الطعن في الظلام، ولذلك صدر محضران الأول في سنة 402هـ في عهد القادر بالله المعاصر للخليفة الفاطمي المستنصر وذلك بعد مضي قرن على إنشاء الدولة الفاطمية، وقد قرأت هذه المحاضر المملوءة بالقدح في نسب الفاطميين ونسْبهم إلى مجوس، في المساجد وأعلنت للناس. ولا يعنى هذا التجريح في نسب الفاطميين بعد قرن أنه لم يكن موجوداً قبل ذلك أي قبل المحاضر فقد أيد هذا الطعن في نسبهم بعض المؤرخين أمثال ابن خلدون، وأما سبب ظهور هذا الطعن بعد مضي قرن فيتحصل كما يظهر للأستاذ الأمير مأمور في كتابة:
1 - الكراهية المتأصلة في العباسية من نسل علي وفاطمة.
2 - المرارة من مقاسمتهم أملاكهم وذلك حينما هددوا سلطانهم.
3 - الحقد الذي تولد من منافسة القاهرة قاعدة الفواطم لبغداد قاعدة العباسيين كمركز للعلم والثقافة والفن والأدب الإسلامي.
4 - الخوف من امتداد سلطانهم لما بقي في أيديهم.
5 - الفرصة مواتية لاختلاف العلويين وعدم تضامنهم. فهذه هي الاثنا عشرية والفواطم والأدارسة.
6 - إمكان التأثير على بعض العلويين وضمهم لجانبهم.
7 - كذلك البويهيون لا يمانعون؛ لأنه قد نالهم الضعف فقدروا الخطر الفاطمي حقَّ قدره.
8 - إمكان إثارة العناصر السنية التي توجد في الأجزاء التي امتلكها الفاطميون.
9 - إعلان هذه المحاضر في مثل هذه الظروف يضعف نفوذ الفواطم، ومن ناحية ثانية فهو لا ضرر منه على العباسيين.
10 - ملاءمة الوقت لوجود خليفة مكروه وهو الحاكم.
على أية حال كتب المحضران، وحرص الحليفتان على أن يوقع عليهما كبار العلويين والقضاة والفقهاء وذلك حتى يحوز الطعن بعض الأهمية ولا يتسرب الشك إلى الناس(703/32)
ويذكر مأمور في كتابه رأى بعض المؤرخين في المحاضر؛ فمثلا قال جرايف في دائرة المعارف الإسلامية (لم يظهر الشك في نسب الفاطميين إلا في وقت متأخر، وكما يظهر بوضوح أراد العباسيون اتخاذ أي وسيلة شرعية للقضاء على منافسيهم الخطرين).
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم ماجد(703/33)
حقائق عن المادة والفكر أيهما أصلح طريقا للمعرفة؟
للأستاذ فؤاد طرزي
الحياة لا تعرف الثبات ولا الاستقرار؛ بل هي في تغير مستمر وفي نزوع دائم نحو التجدد والتحول، تستقر فيها جراثيم التوالد التي لا تنى تنقلها من حال إلى حال منذ الأزل وإلى اليوم وحتى يدركها الفناء. وهذه الخاصة الحية هي نداء الضرورة المطلوبة لإيجاد التوافق بين التغييرات الطبيعية والتبدلات التي تشمل مظاهر الوجود، وبين الكائنات الحية التي لا توجد إلا وهي ساعية نحو الكمال والسمو مهما اختلفت الصور التي تختارها لتعرض نفسها على مسرح هذا الكون.
وقد أطلق على هذا الجوهر الأصيل في طبيعية الحياة اسم التطور، وهو يدل على أن كل ظاهرة من ظواهر الوجود توجد في آن واحد، أي أنها تعمل على خلق حال جديدة لها في نفس الوقت الذي تحيا فيه على حال معين. وبعبارة أبسط إنها تتجدد وتتجدد إلى أن تهرم وتموت. سمة التطور أو الديالكتيك أو ما شئت له من المسميات ولكن بعد أن تعرف أنه الأساس الذي تقوم عليه الحياة وأنه مفروض على الأحياء والجمادات وهو يعمل من غير أن يُطلب أو تُراق لاستحضاره الدماء، بل إن كل ذلك لا يبدْل غايته ولا يغّير وجهته.
كل هذا الذي نقوله متفق عليه من جميع الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وهو ثابت بالبراهين الجلية والعلمية لا ينقضه برهان أو ينكره إثبات، ولكن الاختلاف هو في ماهية هذا التطور أو في الدافع الذي يحركه في سيرة الدائب: فمنهم من يرجع هذا الدافع إلى عوامل مادية، فيقرر أن المادة هي الكل وهي التي تقود التاريخ وتوجه الأحياء، وهي الأصل المفرد الذي لا ينازعه أصل والإله الحقيقي الذي لا يشاركه إله، أو هي - كما يقول انجلز - دورات الوجود الأبدية التي تتم بها الحياة. وأما الآخرون فيؤمنون بأن الفكر الملهم هو الذي يسوس الوجود، وأن العقل المدبر هو الذي يمسك بزمام الطبيعية وهو الذي ينفث القوة في المادة فتكتسب الحياة أو يتركها طينة باردة لا تقدر على الحركة والتحول والإيجاد. فالفكر هو الخالق وهو المبدع، وفي خلقة وإبداعه يستوحي سنة أبدية تعمل بغير انقطاع؛ هاتان الفكرتان ظلتا تتنازعان تارة في ميدان الفلسفة وحينا في ميدان الإصلاح، وأخيراً ظهرت إحداهما وهي الفلسفة المادية في شكل مذهب يعد إقامة المجتمعات وفق أصوله وقيمة.(703/34)
وإذا أردنا النزول إلى ميدان البحث المقارن، ورغبنا في وزنهما من حيث الأساس الذي قامتا عليه، وجدنا أن التفسير الفكري أقرب إلى الحقيقة التي يتركب منها التطور وأدخل في باب الشروح العميقة التي لا تحكم على المشاهدات المحسة ولا تقنع دون النزول إلى أبعد الأبعاد للتعرف على ماهية الموجودات وهذه جملة أدلة نثبت صحة ما نقوله:
(أولا) المادية امتداد والفكرية عمق. والفرق بين الامتداد والعمق أن الامتداد يشغل مكانا يظهر للعيون والأبصار، وأما العمق فيخلق من غير أن يظهر للحواس فهو يُعرف بالبحث المجرد والتأمل النظري أو هو الحقيقة الفعالة وراء العضويات ينفث فيها الإكسير مادة أثيرية جرى العرف على تسميتها روح الحياة. وإذا أردنا أن نضرب الأمثال لنظهر الاختلاف في هذا بين الماديين والفكريين فلنأخذ ظاهرة اجتماعية كبرى تكاد تكون حادثاً فاصلا في التاريخ، وهي معروفة للجميع، إلا وهي الثورة الفرنسية.
فإذا قلت للماديين ما الذي أشعل نار هذه الثورة؟ أجابوك بأنه السعي وراء الخبز أو الانقياد وراء المادة، يتمثل في ثورة الجياع على المترفين، أو هي شكل من أشكال النضال الطبقي بين المحرومين والمتخومين. وكيف لا يكون ذلك وهذه الجماهير خرجت ثائرة تصرخ (نريد الخبز). أيوجد أكثر من هذا السبب الواضح الذي يؤيد رأينا؟ دون شك أنك تلاحظ أن هذا التفسير الذي عرفناه بأنه التفسير الذي لا يوغل في الأعماق ولا يتعرف إلى الماهيات من معرفة أصولها وجواهرها، وأصحابه لا ينفذون إلى أبعد من مرأى العين ولا إلى ما وراء البصر، في حين أن العين لا تستطيع الإحاطة بأكناه الأشياء، وأن البصر ليس بمقدوره أن يواتي البصيرة الوقادة التي تخترق الحجب وتهتك الأستار لأنها تدرى أن وراء الجسوم قوة مجهولة ووراء الأشكال الظاهرة عوامل مسيرة دافعة. إن الثورة الفرنسية تبدو ثورة من ثورات الجياع لمؤلهي المادة، ولكنها في الحقيقة ثورة أوقد نارها الفكر الثائر قبل أن يضرمها الخبز، وأنها لم تكن لتحدث لو لم يقدح زنادها هذا المشغل المحرق. ولنعلم أن الإحساس بالظلم لم يشعر به الكادحون الذين كانوا في خدر لذيذ يرون العبودية جزءاً من الحياة لا محول عنها بعد أ، لصقت كأشبه ما يكون بالقانون في ضمائرهم، بل أن الذين شعروا به هم المفكرون الذين أيقظوا النائمين ووضعوا خطط التحرير. فهؤلاء المفكرون أحسوا بالظلم وتألموا من الاستبداد في الوقت الذي كان فيه الجائعون ينظرون(703/35)
إلى أسيادهم كأنهم من ظلال القدرة العلية في الأرض. وعندما تألم هؤلاء عملوا في سبيل وجود أفضل و (مجتمع أصلح) فأخذوا ينفثون القوة في هؤلاء الذين استكانوا للظلم وراحوا يعلمونهم معنى الحق والعدل والحرية. هذه الألفاظ التي خلقوها خلقاً وأوجدوها إيجادا. وأما المطالبة بالخبز فلم تكن إلا جانباً من الشعور بالحق، هذا الشعور الذي ابتدأ فكرة مجردة ثم أخذ يعمل ليكون حقيقة واقعية. فبعد أن تمكنت فكرة الحق من النفوس عرف الناس أن من حقهم أن يشاركوا في الرفاء والسعادة الأقلية المحتكرة. فالفكر هو الذي هدى وعلم ولم يكن أصحاب الخبز إلا تابعين يأتمون بإمامته. كان الفكر هو المحرك وكانت المادة عنصراً من عناصر التي تعاونت معه. كان هو الأصل. . . هو الحقيقة الأصلية، وإن شئت فقل هو الجوهر المفرد الذي يتركب منه الكون. قل لأصحاب المادة - كما يقول لهم الأستاذ أحمد أمين - هذه عناصر الخلية اخلقوا لنا منها خلية كخلايا الوجود. وعندما ستعرف أنهم لا يستطيعون فعل ذلك مهما أوتوا من مقدرة علمية، لأن جوهر الخلية كنه مجهول ينفث فيها الحياة، وهو سر غامض لا ندري ما هو وكل ما نعرفه عنه ما يبدو من آثاره.
(ثانيا) يجول الماديون ويصولون ويروحون ويجيئون في دوائر جهنمية لا حدود ولا منتهى لها. وكل ذلك ليفسروا فلسفة عمياء كليلة لا تملك من مقدمات الأسس المنطقية ما تستطيع بها أن تحيط بالوجود من جميع جوانبه. وهم يريدون تفسير الوجود فكان أمامهم طريقان: إما أن يقولوا إن هناك قوة مدركة حية تحرك الكون وتدير الحياة وهي بمثابة العلة الأولى لكل هذه النتائج، وإما أن يركبوا متن الشطط فيؤمنوا بالمادة الصماء التي لا تعقل ولا تحس، فاختاروا التفسير الثاني وتركوا الأول. ولا أدري لماذا نترك فلسفة تفسير الوجود بالوجود لنتعلق بأهداب فلسفة غامضة تفسر الوجود بالعدم. فأمامكم يا ناس حركة وأمامكم حياة فلم لا تؤمنون بقوة الحركة وبقوة الحياة، لتغوصوا في أعماق مجهولة لتؤمنوا بالجماد الذي لا يتحرك ولا يحس. إن مثلكم كمثل الذي يؤثر الظلمة على النور، أو كمثل الذي يمسك بالحقيقة البينة ولكنه يدعها تفلت منه لأنه يستعذب الجري والركض ولو إلى غير غاية.
(ثالثاً) ومهما تشعب القول فان هذه المادية منقوضة علما ومنطقا، فهي لا تستطيع أن تفسر ما الأمل وما الطموح وما الأحلام. كما لا تستطيع أن تفسر لماذا يموت الجندي في سبيل(703/36)
وطنه، والتفسير المادي يقتضي منه أن يقدم ذاته على بلده. ولا تستطيع أن تفسر أيضاً كيف تفتدى الأم وليدها في حين أن ظواهر الأشياء ومنطق التفسير المادي يفرضان عليها حب نفسها قبل غيرها. ويثبت المنطق أن الفكرة قوة من القوى والمادة شكل جامد، وأن هذا الشكل لا يكتسب الحركة إلا بعد أن تحل هذه القوة في هيكله. فالفكرة هي التي تدفع وتوجه، والمادة تتشكل وتتخذ أوضاعاً ظاهرة. وقد يقال لا موسيقى بلا أوتار، ولا بناء بلا أحجار، ولا فكرة بغير مادة عصبية؛ ولكن الكمنجة ليست هي الموسيقى، والبناء ليس هو الأحجار، والذهن ليس هو الفكر. إن لحنا من ألحان بيتهوفن - كما يقول الفيلسوف رينان - موجد على الورق، ولكن من يكسبه الحركة والحياة؟ بلا شك العقل. وإن الفعل الإرادي الذي يتمثل في الاهتزاز هو الذي ينقله من عالم الجماد إلى عالم الحياة، وهذا الاهتزاز حقيقة عضوية قابله للوزن والقياس. إن الفكرة قوة تريد أن تكون والمادة تعينها وتنقلها إلى الكينونة والواقع. إن الفكرة هي الموجودة في الواقع وهي وحدها الكامنة، وتطمح إلى الوجود التام بإيجاد التراكب الكيميائية لا ظهارها.
من كل الذي ذكرناه نرى أن الفلسفة المادية لا يمكن أن تتوافق مع الغاية التي تتحول إليها الظواهر والشيات والكائنات، لأن هذه كلها ترتفع من الأدنى إلى الأعلى ولا تريد إلى حالة سابقة ولو تعاونت على ذلك كل قوى الإنسان، في حين أن التوحيد المادي ارتداد رجعي إلى حالة سابقة حيث يتحكم كل شئ في الإنسان فلا إرادة تستطيع أن تؤثر على مجريات التقدم لأن هناك قدرا صارما يحكم، ولا قوة عقلية تقدر أن توجه الأعمال إلى غايات مرسومة لأن الحلقة الآلية قد وضعت الحياة في دائرتها فلا تدع لها الحرية في العمل. وكل هذا يعاكس منطق الأشياء حيث نلاحظ أن الإنسان كلما سار مع الزمن استطاع أن يخضع الطبيعة ويخضع التاريخ لمشيئته، وانه كلما اتجه إلى الأمام ارتفع إلى الأعلى ليتحرر من قيود الظواهر المكانية والزمانية ومن دكتاتورية المعاش ويقرب من الغايات المعنوية في كل موجود من موجوداته
إن علائم التقدم والتطور تجمع في كلمتين اثنتين: (الحرية) و (التقدم المعنوي) فالتحرر علامة فارقه لقياس الحضارة، والتقدم المعنوي عمود التطور إذا جسمنا كلمة التطور وألبسناها حلة التشبيه والتمثيل. وليس قولنا هذا محص سفسطة ومغالطة، بل هو منقول(703/37)
عن الحياة بعد أن خضع لمعاببر العلم وتجارب التاريخ وعبر الأزمان. فالعلم يقرر أن الإنسان كلما ارتفع صعدا في سلم الحضارة دقت عضلاته ومرنت عظامه وخفت حركته، أي كلما تقدم تحرر من قيود جسمه ليماشي الكون في حركته الدائبة نحو الخروج ونحو الانفصال عن المركز إلى الخارج في اندفاعاته الانتقالية. وتحطيم الذرة في عصرنا الحديث ليس إلا مظهراً من مظاهر الشوق الوجودي إلى التحرر والانفصال عن الكتل والهيولى. إن كل ما في الكون في حركة دائمة يريد التحرر من المادة والدنو من الصورة، ويعمل على أن يفك عنه قيود التجسم ليعود إلى النموذج والمثال. فالصراع بين الهيولى والصورة والذي كان لب فلسفة أرسطو العظيم هو ناموس الأبد، بل قل جرثومة التطور وقانون الحياة.
ولعل التقدم المعنوي هو فرع من ناموس الحرية الذي فرض أرادته على الحياة في كل سبيل من سبلها. وإذا أردنا أن نشرح هذا أكثر، فلنأخذ أشد الألفاظ لصوقا بالإنسان وأقدمها في معاصرتها له، ولنسر وإياها في تاريخها الطويل؛ فأننا سوف لا نجدها ألا سائرة من التعبير عن ملابسات المادة إلى السمو والدلالة على تعبيرات الروح والفكر. خذ كلمة (الضحية) وهي الكلمة التي كتب عنها الأستاذ العقاد بحثاً قيماً في عدد من أعداد الرسالة، فهذه الكلمة أول ما وجدت في الحياة، وحياة الإنسان خاصة، كانت تعنى (النذر) التي كانت تقدم للأرباب والمعبودين، ولم تكن تعنى غير هذا المعنى المادي الملموس الدال على تقديم علائم الخضوع في شكل أشياء مادية لاسترضاء الآلهة. ولكن بعد أن سار الإنسان أشواطاً جديدة في ميدان الحضارة أخذت الكلمة تدل على معان جديدة وراحت ترتفع من الدلالة على الأشياء المادية إلى التعبير عن أشياء معنوية كإنكار الذات وفداء النفس في سبيل الوطن أو في سبيل الشرف أو لإراحة الضمير ونحوها من المجازات والدلالات على معاني الأخلاق السامية.
(بغداد)
فؤاد طرزي(703/38)
هاروت. . . أو الملك الثائر
للأستاذ عثمان حلمي
في جنان الخلد مأواه ... ملك أكرمه الله
ناعم فيها فما نظرت ... ما يسيء النفسَ عيناه
همه تمجيد مبدعه ... من بسحر الخلد سوّاه
من بنور الحسن جمَّله ... وبحسن النور حلاّه
تفتن الألبابَ طلعته ... وبشر الحبَّ خداه
فاتن ضاحٍ محياه ... جل من سوّى محياه
ظل في الفردوس يمرح في ... ظلها، في ظل مولاه
معجز في حمد بارئه ... كل لحن يتغناه
لم يدُرْ يوما بخاطره ... عالم الدنيا ولا ما هو
لا ولم تدرك مشاعره ... من صميم الشر معناه
ما درى للشر من وطن ... أو بأن الأرض. دنياه
كاد ما يدريه من قدم ... عن أبى الإنسان ينساه
نبأ ضاعت معالمه ... وانقضت في الغيب ذكراه
قصة عن آدم سلفت ... سجلت فيها خطاياه
آدم المسكين ضيعه ... ما جنت في الخلد حوّاه
قد أراد الله فتلته ... فليكن ما شاءه الله
ذاك أقصى ما أحاط به ... ملك في الخلد مثواه
ثم دار الدهر دورته ... غيرت في الدهر مجراه
دورة جدًَّت فما ونبت ... أفقدت هاروت سيماه
فتولاه الأسى وبكى ... ما قيل ما تولاه
لفتة للأرض واحدة ... بدلت منه سجاياه
الطروب القلب يزعجه ... هاتف بالهمّ يغشاه
والتقرير العين مكتئب ... تتندى منه عيناه(703/39)
ما الذي بدل فطرته ... ما الذي جدّ فأشجاه
قد رأى الدنيا وقد وسمت ... كل شر كان يأباه
ظالم فيها ومجترم ... قاتل ضجت ضحاياه
ليس يرضى بالدماء وقد ... رضيت بالموت قتلاه
وأخ يرمي أخاه وما ... من ضمير ثمَّ ينهاه
وعزيز الجاه ذو صلف ... وضعيف الجاه يخشاه
وشرور مالها عدد ... وبنو الإنسان أشباه
ووجود كله ألم ... صارخ والموت عقباه
ذلك الإنسان أكفر من ... خلق الله وسوّاه
يا لقلب جُن من هلع ... لم يصادف ما تمناه
يا له في الخلد من ملك ... في رياض الخلد مثواه
ثار حتى لم يجد فرجاً ... أو رجاء يتملاه
وتولى سائلا جزعاً ... ما الذي يقصده الله
لو سكنت الأرض كنت بها ... مصلحاً ترجى نواياه
أصلح الدنيا وأجعلها ... مثلا للخير أرضاه
صوت:
لك هذا، إنه حسَن
هاروت:
ولك العزة والجاه
صوت:
شهْوة الإنسان جامحة ... ركب فيك ودنياه
آدمي أنت في ملك ... طاهر طابت خفاياه
فامض واغسل بالطهارة من ... عالم الدنيا خطاياه
وإلى بابل إن بها ... ما تؤمله وتهواه
فأتاها باسما فرحا ... ليس يدري ما سيلقاه(703/40)
يسرت بالطهر يسراه ... وسرت باليمين يمناه
إن رأى خيراً يسربه ... أو أرى شراً تفاداه
ورأته الغيد فابتهجت ... وسباهن محياه
قلن ما أقواه من رجل ... في بني الدنيا وأحلاه
وتمنت كل غانية ... لو غدت فيما تمناه
ورأى فيهن فاتنة ... وله جملها الله
تخذت من قلبه سكناً ... ولمهد الحب مأواه
واستبدت في عواطفه ... فهو يرجوها وتأباه
قوة قد كان يجهل ما ... سرها والحب أفشاه
كم نهاه عقله فأبى ... أي عقل كان ينهاه
والهوى طاغ وأحسبه ... إن طغى جلت ضحاياه
إن أصاب العقل زلزله ... أو أصاب القلب أراده
يا لهذا الحب كم جهلت ... كل ما يجنيه قتلاه
يا لهاروت القوي وقد ... بدل الحب سجاياه
يا لهاروت الضعيف وقد ... كان ما قد كان يخشاه
الهوى والسهد أعياه ... والجوى والوجد أضناه
ورأت من كان يعبدها ... أن سهم الحب أصماه
فدعته فانتشى طربا ... وهو لا يدرك عقباه
ثم أغرته بكأس طلى ... ما تأنى إذ تعاطاه
ثم أغرته بقتل فتى ... كان يقلاها وتهواه
فرماه في الصميم وقد ... ختمت بالقتل بلواه
وأفاقا وهو في جزع ... قاتل يلعنه الله
أي عذر بعد فعلته ... أي صفح يتلقاه
إن سر الخلق يستره ... عالم بالخلق أخفاه
غاية يضمر منشئها ... كنهها من يوم أنشأه(703/41)
الغريبة
(من ديوان (أغاني الليل)، الذي سيطبع قريباٍ)
للأستاذ عمر أبو قوص
خرجتُ عند الأصيل منفرداً ... أضرب في الأرض حاملاً شجنا
وكان فصل الخريف قد بدأت ... آفاقهُ تحمل المزُنا
وكانتِ الروحُ وهي والهةٌ ... تندب حباً رعيته زمنا
فأبصرت مقلتاي عن عرض ... غريبة قد تهالكتْ وهَنا
فقلت للنفس هاهنا فقفي ... أو فاطلبي الأفْق بعدها وطنا
يا زهرة في الحديقة انفردت ... أما ترين الأوراقَ والغصُنا
الركب ولَّي وأنت باقيةٌ ... تحيين أمجادَهُ وما فطِنا
أأنت قربانُ عاشقٍ دنفٍ ... قدَّم للحب روحهُ ثمنا
أم شاعر في الحياة معتزل ... يحُلمُ فيها ليقتلَ الزمنا
أم بسمة في الخريف شاحبة ... لما تعرَّى ليلبس الكفنا
أم نجمة في النجوم شاردة ... حطَّت على الأرض تبتغي سكنا
كأن فيك الكافورَ منتشراً ... يبعث فيَّ الفتور والوهنا
فيذهب الوهم آخذاً بيدي ... حيث أزور القبور والدمنا
أيّ غريب مضى لطيته ... يطوي الفيافي والسهل والحزَنا
حتى إذا مات لم يجد أحداً ... يبكي عليه ولم يجد سكنا
فكنت في البر أنت شاهدة ... عليه تبكين قلبه حزنا
أم هو في أهله وقد جهلوا ... أسراره والدموع والشجنا
غريب روحٍ مستوحش أبداً ... إن حلَّ لم يسترح وإن ظعنا
وعدت للبيت والدجى ظهرت ... راياته والنهارُ قد جبُنَا
وعاد كلٌّ لأهله فزعاً ... حتى إذا صار بينهم أمنا
وكانت الريح وهي ثائرة ... تعصف عصفاً والغيث قد هتنا(703/43)
البريد الأدبي
الأستاذ علي الطنطاوي في القاهرة:
وفُقت وزارة العدل السورية إلى إيفاد القاضي الفاضل السيد على الطنطاوي إلى مصر سنة كاملة للوقوف على الأنظمة الفضائية واللوائح الشرعية، والاطلاع على تطور الأحوال الشخصية والدراسات القانونية في المحاكم الشرعية والمعاهد الدينية والمجالس الحسبية ومقارنتها بالمتبع في سورية لتهتدي الوزارة على ضوء أبحاثه ودراساته وتقاريره إلى تنفيذ ما تريد في محاكمها من الاقتباس أو المحاكاة أو التعديل. والأستاذ بثقافته الشرعية الأصيلة، ومواهبه النادرة الجليلة، وخبرته العلمية الطويلة، أقدر القضاة على الاضطلاع بهذه المهمة، وقد ورد الأستاذ القاهرة مساء الخميس الماضي، فعلى الرحب والسعة
1 - أسبوع الأمير:
كان الأمير شكيب أرسلان رحمة الله عليه أضخم شخصية عربية، وكانت له مزايا جمة كل مزية منها تجعل صاحبها لو اقتصر عليها من عظماء الرجال، منها أنه المؤلف المكثر المجود، ولو لم يكن له إلا تعليقاته على حاضر العالم الإسلامي، والحلل السندسية، ولماذا تأخر المسلمون، لكان بها من كبار المؤلفين. ومنها أنه الكاتب الذي ملأ الشرق والغرب نثراً بليغاً، وكان لسان الإسلام ومدره العرب؛ وأحسب أن مقالاته لو جمعت لجاء منها كتاب في ضعف حجم الأغاني. ومنها أنه السياسي الأكبر الصادق الفراسة الصحيح الرأي البعيد النظر، أنذر وحده العرب (لما قاموا باسم القومية يطعنوا الأتراك إخوانهم في الدين في ظهورهم) وحذرهم عاقبة ما هم فيه، قال لهم إن الإنكليز لا وفاء لهم، وإن الشام إن تخرجوه الآن من يد الترك تدخلوه في أيدي غيرهم؛ فكان والله ما قال، فلما انقلب الأتراك وولوا وجوههم عن الإسلام لوى عنهم وجهه وكان حرباً عليهم. وهو الذي أثار الدنيا على الظهير البربري؛ وهو الذي أرجع عرب الجبل الأخضر، وهو الذي كان سفيراً دائماً لنا في ديار الغرب، سفيراً بلا أبهة ولا رتب يرتضى حياة التقشف ويصبر على مر العيش. ومنها همته وثباته؛ ما كتب إليه إنسان إلا أجابه، ولا خاطبه رجل إلا رد عليه، ورسائله تعد بعشرات الآلاف. ومنها وفاؤه ونبله، وهذان كتابان عن شوقي والسيد رشيد يقومان دليلا ولا يعوزنا الدليل. ومنها - ولن تحصى هذه الكلمة مزاياه، ما يحصيها إلا الدرس(703/44)
الطويل؛ لذلك فكرت دمشق التي روعها نعى الأمير، وجاءها نبأ وفاته وهي تعد لاستقباله، تأمل أن يجيئها أعز زائر وأكرمه وأعظمه، فكرت في أن:
1 - تقيم أسبوعاً للأمير رحمه الله في مدرج الجامعة السورية في دمشق يتعاقب فيه الخطباء والمؤبنون.
2 - تنشر ما ينشر من كتبه وتعد نشر المطبوع منها.
3 - تجمع رسائله الخاصة وتحصيها.
وتألفت لذلك لجنة تمهيدية برياسة صديق الفقيد الأستاذ السيد عارف النكدي رئيس مجلس شورى الدولة، وعضوية الأساتذة السيد سامي العظم المفتش العام في وزارة العدلية، والسيد عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي العربي، والسيد أنور العطار شاعر الشباب السوري، والسيد مظهر العظمة مدير مدرسة التمدن الإسلامي، وعلي الطنطاوي، ورئيس الشرف في هذه اللجنة الأمير عادل أرسلان، لا لأنه وزير المعارف، ولأنه أخو الفقيد، بل لأنه صديقة وما كل أخ صديقاً، ولأنه أعرف الناس به وأشدهم حباً له، ولأنه الشاعر الفحل، والوطني المجاهد، ولأنه الأمير عادل أرسلان. رحم الله الفقيد وألهم هذه الأمة الوفاء له، والاقتداء به.
(ع. ط)
2 - عالم بين الكتب:
من أنباء المعارف في الشام التي تسر وقل فيها السار، أن الوزارة ستجعل إدارة دار الكتب الظاهرية للأستاذ أبي قيس عز الدين التنوخي، وهو اختيار موقف لأن دار العلم لا يجوز أن يقوم عليها إلا عالم
(ع)
1 - واجب الوفاء!
تأليف في سورة عدة لجان لتأبين فقيد العروبة والبيان المغفور له الأمير شكيب أرسلان.
وسورية هي الوطن الذي ولد فيه الفقيد، وفي ترابه دفن جثمانه العزيز، فلا أقل من أن تنهض بهذا الواجب حكومة وشعباً جماعات وأفراداً، نحو رجل من أبر أبنائها، وعبقري(703/45)
من أعظم شخصياتها.
ولكن ما بالنا لم نرى أثراً لمثل هذا التفكير إلى الآن في مصر وقد استوطن الفقيد فترات من الوقت، وكانت له برجالاتها صلات وثيقة، وقد عاش طول حياته يفزع لأمورها كما كان يفزع لسورية وطنه، ولكل قطر عربي؟!
لقد قضى المغفور له الأمير شكيب أرسلان حياته ينادي بالوحدة العربية، ويدعو إلى تقوية الصلات الشرقية، ويندد بشنائع الاستعمار في كل بلد عربي، فليس الأمر تأبينه وتخليد ذكراه أمر سوريه وحدها، ولا أمر مصر وحدها، بل هو واجب على العالم العربي جميعه، فهل للجامعة العربية وقد كان الفقيد من أكبر دعاتها ورعاتها فكرة حتى تمثلت عقيدة ثم أصبحت حقيقة، أن ننهض بهذا الأمر؟ وهل للأمين العام للجامعة سعادة عبد الرحمن عزام باشا الدعوة بذلك قياما بالواجب ووفاء بالدين؟!.
2 - لن يترنم الأطفال بأناشيدهم!
جاء في الأنباء البرقية الأخيرة أن سلطات الاحتلال في ألمانيا حرمت على الأطفال أن ينشدوا أنشودة (الفارس المقدس) التي اعتادوا الترنم بها في الاحتفالات الرسمية لعيد الميلاد، والاحتفالات الشعبية التي ينظمها معلمو بساتين الأطفال فيمدينة شفيرين، كما حرمت عليهم أيضاً إنشاد ترنيمة أخرى وضعها مكتب الشباب في المدينة؛ ومنعت المعلمين كذلك من إخراج روايات عيد الميلاد التي تظهر فيها الملائكة!!
مساكين أولئك الأطفال في ألمانيا. . . لقد شردهم الجوع، وقتلهم البرد، وأفقدتّهم الحرب الجهنمية، الأب الحنون، والأم الرؤوم. والأسرة البرة الراعية، وإن عيد الميلاد ليطالعهم بصبح متجهم. . يفتشون فيه عن اللقمة السائغة فلا يجدونها، وعن اللعبة المسلية فلا يظفرون بها، وعن البهجة المشرقة فتنخلع قلوبهم هولا مما يرون، حتى أناشيدهم المحبوبة أصبحت حراماً على ألسنتهم. .
يقولون إن الإنسانية تحضرت بالعلم، وتهذبت بالفن، ونضجت بالتجربة. . ولكن أين مظهر هذا وجدواه، وما زالت الشريعة بين الغالب والمغلوب قائمة ولها ناب الأسد وظفره، وشراهة النمر وفجوره، ولكن ليس لها أي قلب. .
إن القسوة الغاشمة لا تربى النفوس أبداً على حب الخير والتسامح، فحرمان الأطفال من(703/46)
أناشيدهم، ومتعهم، لن يربى عواطفهم إلا على الحقد والضغينة؛ وغداً عندما يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال سيكون أول ما يفرجون بع عن عواطفهم المكبوتة هو الثأر من أولئك الذين حرموا عليهم كل شئ، حتى الترنم في العيد بأناشيدهم المحبوبة.
محمد فهمي عبد اللطيف(703/47)
الكتب
كتب وشخصيات
تأليف الأستاذ سيد قطب
هذا كتاب في النقد، نقد الأدب المعاصر، جاء في أبانه، فقد أصبحت المكتبة العربية الحديثة كما قال المؤلف: (تستحق ناقداً ففيها أعمال أدبية ناضجة، وفيها مذاهب فنية متبلورة كما أن فيها محاولات واتجاهات تستحق الاهتمام، فالناقد خليق أن يجد له عملا في هذه الظروف الجديدة. . .)
وقد تناول المؤلف بالنقد في هذا الكتاب (كتباً) في مختلف أنواع الأدب، ومعها (شخصيات) مؤلفيها من شتى البلاد العربية، وحرص على أن تكون هذه الشخصيات (من جميع الأنماط والمستويات والاتجاهات) كما حرص على أن بصرر شخصية كل أديب تناول أحد كتبه بالنقد، (فالكتاب وصاحبه في هذا الكتاب موصوفان مرسومان مميزان)
لأشك أنك الآن عرفت معنى اسم الكتاب (كتب وشخصيات) وتصورت موضوعة على وجه الإجمال، ولا أسارع - كما فعل المؤلف في أكثر كتبه وشخصياته - فأعطيك (مفتاح) شخصية مؤلفنا، بل أرى أن نحول معا - أولا - في أنحائه، ونتعرف سماته وطرائفه على قدر ما تحتمله هذه العجالة.
بدأ الأستاذ سيد قطب بفصول في النقد العالم، بين فيها أصولا وأسساً نظرية للنقد، أهمها أو رؤوسها أن حق الناقد في الحكم على صحة الحالات النفسية والصور الذهنية رهن بالنسبة بين رصيده ورصيد الفنان من الآفاق النفسية، والتجارب الفنية على السواء.
وأن صعوبة فهم النصوص الأدبية لا ترجع إلى غرابة اللفظ ووعورة التركيب، أمنا (هي صعوبة التصور والإدراك بسبب نقص الرصيد النفسي من التجارب الحسية والذهنية والروحية)
و (أن الطبائع الفنية الممتازة، والنفوس الفنية الموفورة الرصيد، أقل عدداً في هذه الحياة من الطبائع الشائعة المكرورة والنفوس المحدودة التجارب).
وأن مادة الفن الأصيلة هي التجارب الإنسانية، ومهمته أن يعرضها ويصف جزئياتها، ويسجل الانفعالات التي صاحبتها وبصور ما أحاط بها من تصورات وأخيلة، وأن قيمة(703/48)
العمل الفني في الاحتفاظ لهذا التصوير بالحرارة التي صاحبت الانفعال، وأما من يلقى الحقيقة الأخيرة التي انتهى إليها من تجربته فإن عمله يفقد المتعة الفنية ولا يستثير الحس والخيال بالمشاركة الطويلة المفصلة
وأن التعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلا أدنى إلى الفن من التعبير الذي يلقى المعنى مجرداً.
وأن الشعر يستمد معظم مؤثراته وانفعالاته من وراء الوعي (وكلما فاض الشعور فطغى على الوعي، وانطلق يستمد من الرواسب النفسية ويستوحي الظلال الشعورية، كان يجري في ميدانه الأصيل، وينشئ أجل آثار، وذلك مع عدم إغفال مقومات الشعر الأخرى من عمق وسعة اتصال بالحياة ونفاذ إلى الأسرار الكونية الخالدة).
وبعد النقد العام بحثان: (النفس الإنسانية في الشعر العربي) و (والطبيعة في الشعر العربي) ثم يمضي الأستاذ إلى الكتب والشخصيات على ضوء الأسس العامة السابقة وما يشع من تفصيلات وفروع. وهو يعني في معظمها بالشخصيات أكثر من الكتب، فكثيراً ما يبدأ بتسليم (مفتاح الشخصية) دون أن يبين كيف ضع هذا المفتاح. ولعله يرمي بذلك إلى عرض نتيجة دراسته للشخصية في مختلف آثارها، ثم يسير مع القارئ في الكتاب الذي ينقده. وهذا يفسر اهتمامه بالشخصيات أكثر من الكتب، على أن حظه من التوفيق في إبراز الشخصية كان أكثر في الشخصيات التي جال في أنحائها ودهاليزها وحجراتها قبل أن يعطى (مفتاحها).
وقد تجلت براعة الأستاذ سيد خاصة في أكثر الموازيات التي قام بها بين الشخصيات ومؤلفاتها، كما صنع بين الدكتور طه حسين والأستاذ توفيق الحكيم، وقد خص الثاني بقسط كبير من عنايته في تحليله وتبيين سماته وملامحه.
والجانب الذي يوجه إليه الأستاذ سيد أكثر همة في الأعمال الأدبية، هو الصور والظلال، فهو يجسم أهميتها في فصول النقد العام، ويتلمسها عند كل أديب، ويجعلها أكبر (صنجة) في الميزان، وله ألمعية نافذة في الوقوف والدلالة عليها.
وقد أجاد في تطبيق أسس النقد في العام على الأمثلة التي اختارها لولا (شنشنة) ما كنا نود أن يكون (أخزمها) فقد حرص في كل فصل من الفصول الأولى، عند ذكر ميزات وقيم(703/49)
الفنون على أن يجرد أو ينقص نصيب الأدب العربي منها: فهذا الأدب يغلب عليه طابع المعاني العامة المتبلورة والقضايا الذهنية الكلية، ويطالع القارئ بنتيجة التجربة النفسية لا بطريقتها التي تشغل الحس وتستثير الخيال؛ وهو فقير في الصور والظلال؛ والشعر العربي لا يستطيع أن يقف على قدميه أمام الشعر العالمي فيما يلمح وراء الألفاظ والمعاني من الظلال الإنسانية والحالات النفسية؛ وأن الطبيعة لم تكن متصلة بإحساس الشعراء العرب اتصال الصداقة والألفة، فالطبيعة في الشعر العربي (تستعمل من الظاهر!)
والأستاذ سيد يطلق هذه القذائف في وجه الأدب العربي؛ ثم يخلو إلى قطع مختارة من الأدب الغربية والهندية والفارسية، معظمها من كتاب (عرائس وشياطين) للأستاذ العقاد، فيعكف على ما فيها من الميزات التي جرد منها الأدب العربي، ويأتي من الشعر العربي بما يراه مجرداً من اللحم والدم. . . وهذا صنيع عجيب لأن القطع غير العربية التي أتى بها مختارة، والأستاذ العقاد الذي اختار هذه القطع من معادنها التي هو خبير بها لم يفعل شيئاً مما فعله سيد قطب في استخدامها في الجملة على الأدب العربي
ولست أرى المجال هنا لإثبات ما نفاه المؤلف عن الأدب العربي، لأنني هنا بصدد التعريف والنظرات العامة.
وأستطيع الآن أن أقول إن الأستاذ يجاوز ميدانه جاهداً، فيثير غباراً تقذى بع عيون بريئة. . .
ولم يكن المؤلف منصفاً كل الإنصاف في الموازنة بين شوقي وعزيز أباظة في الرواية الشعرية، ومرد ذلك - فيما ألمح - إلى ما استقر عنده من هو أن أمر شوقي في الشعر، وقد بدأ تحامله على شوقي في نقد الأبيات الآتية من (مجنون ليلى):
لمْ إذن يا هند من ... قيس ومما قال تبرا
أنعم (مناز) مساء ... نعمت سعد مساء
أوغل الليل فلنقم ... بل رويدا واسمعي (ليل) خلي عني دعني
يأخذ عليه في البيت الأول تسكين ميم (لم) وتسهيل الهمزة في (تبرا) وفي الباقي ترخيم منازل وليلى بجعلهما (مناز) و (ليل) وبعد هذه ضرورات يعيبها عليه. . . مع العلم بأن تسكين هزة (لم) وتسهيل الهزة كثير جداً في الشعر، ولا غبار عليه. . . أما ترخيم المنادى(703/50)
فليس من الضرورات، فهو يكون في النثر كما يكون في الشعر؛ وهذا، وذاك، وذلك، أمور مستساغة، بل كثيراً ما تستعذب وتستملح.
ومما أخطئه الإنصاف فيه نقده لتيمور إذ يصف فنه بالفتور، وبأنه يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحرية. وهو في هذا يضع موازين (غير مختومة. .) ويزين بها.
فهذا أديب وديع لطيف يصدر في أدبه عن ذات نفسه، فيؤثر فيه اللطف والدعة، أليس هذا من (الصدق الذاتي) في الأدب؟ أولا يكون النتاج معجبا إلا إذا صخب فيه الأديب وعربد. . .؟
وعلى الرغم من كل ذلك فكتاب (كتب وشخصيات) مرحلة من مراحل النقد في أدبنا الحديث، فيها نضج كثير ودنو من المثال، وأسلوب الكتاب هو أسلوب الأستاذ سيد قطب الذي يعرفه القراء دقيق التعبير نابضاً بالحياة، وسيد قطب هو (الناقد اللازم) الآن للمكتبة العربية، وعدته في ذلك (رصيد) ضخم من الطبيعة الفنية، ونفاذ بارع، وجد بالغ، وقدر لا بأس به من التجرد من عوائق مسير النقد في سبيل الإنصاف، على أن هذا القدر يعوز الكثيرين. . .
عباس حسان خضر(703/51)
أبو عبيدة بن الجراح
تأليف الأستاذ طه عبد الباقي سرور
كتاب تاريخي لعلم من الأعلام الخفاقة في الإسلام. . الزعيم العتيد أبو عبيدة بن الجراح، ولا شك أنه شخصية عزيزة على الإسلام أثيرة عند المسلمين كان لها يد ناصعة في رفعة الإسلام وسيف بارق في فتح البلاد التي غزاها. . . كان أبو عبيدة رجلا كاملا تجتمع فيه الصفات النبيلة كلها فلا يزهبه هذا بل يزيده تواضعاً إلى ربه وخشوعاً. . كان يخاف المديح ويتحاشاه وهو الذي هزأ بالموت وتحداه حتى غلب على أمره. ولم يكن هذا صادراً إلا عن النفسية الإسلامية التي لا تنتظر الجزاء عند الناس بل ونظره وفؤاده إلى الله وحده يرنوان، فتراه حين يتفشى الطاعون في قومه المحاربين بالقدس يأبى أن يعود إلى المدينة، ويرسل إليه عمر ويسر لعاطفة الأمير النبيلة لكنه يخالف الأمر لأول مرة في حياته
ونراه قبل ذلك وهو يستقبل عمر على أبواب القدس، ويعرف عمر بالمرض المنتشر في المدينة فيفكر في الرجوع فيقوم أبو عبيدة في وجهه صارخاً (أفرار من قدَر الله يا عمر! فيجيبه الفروق في تأثر وخشوع: أجل! فرار من قدر الله إلى قدر الله) ويظل النقاش دائراً حتى يأتي عثمان فيدلى بحديث عن النبي (ص) فينحسم النقاش ويرجع عمر أدراجه، ويدخل أبو عبيدة القدس عارفاً بما ينتظره هناك فيتلقاه في رهبة أبي عبيدة وثباته. . . ويجزع أن يجد الخير قد كثر والرزق قد اتسع عليه فيوزع ما لديه حتى لا يصبح عنده إلا ما يمنع العوز ويكفي السؤال. وهكذا عاش أبو عبيدة، وهكذا مات، يضرب الأمثال حيا وحين يموت فإذا هي خالدة تشرئب لذكرها أعناق المسلمين وترتفع بها هاماتهم مفاخرة مدلة بقواد الإسلام وأعلامه.
ولا يسعنا إلا نشكر للأستاذ طه سرور مجهوده القيم، ولكن يبدو أن المصادر كانت قليلة بين يديه فدعاه ذلك إلى الكتابة بأسلوب إنشائي بعض الشيء سبك به القصص التي رواها ولكنه لم يروعن تاريخ حياته ما يروى غلة القارئ، هذا شئ كنا أحوج إليه من الأقاصيص. . . كما أن الأستاذ طه عمد إلى الإنشاء أيضا في التحليل الذي كان يستخلصه من الأقصوصة، وهذا شئ نأخذه عليه؛ لأن التحليل في القصص إنما يكون لرسم الخطوط الرئيسية في الشخصية حتى تخرج من آخر كل أقصوصة بخط جديد، وهذا لا يحتاج إلى(703/52)
الإنشاء بل إلى التغلغل في الناحية النفسية التي تبرزها لك الأقصوصة.
وليس معنى هذا أننا نبخس المؤلف حقه، إنما نطالبه بما كنا نأمل. وعسى أن تحقق آمالنا في البحث الآني أن شاء الله.
ثروت أباظة(703/53)
العدد 704 - بتاريخ: 30 - 12 - 1946(/)
من استرعى الذئب ظلم
للأستاذ محمود محمد شاكر
في سنة 1927 عرفت رجلا إنكليزياً، فنشأت بيني وبينه مودة، وكان رجلاً حريصاً على أن يعرف أشياء كثيرة، على وجهها الصحيح، وكان صادق اللسان فيما يبدو لي منه، وإن كنت قلق الشك في صدق اللسان الإنكليزي! وكان لطيف المعشر طلق المحيا، فيه دعابة رقيقة لا تبلغ العنف ولا يتجاوز بها حدها. وبقينا معاً سنة كاملة؛ فكان كأكمل الناس أدباً، وأركنهم عقلا وأبعدهم عن الملاحاة والمغاضبة وسوء العشرة. وكان إذا تقصى مني أمراً أخلصته القول، فقد ظننت أني جربته وعرفته ونفذت في طوايا ضميره. وكان هو يحدثني فلا اشك أبداً أنه كسائر أهل جلدته، بل كان خلقاً غير الخلق منهم، فهو يقول ويعني ما يقول، وليس كأمثالهم يتسلل من إهاب ليدخل في إهاب. ولم أزل اطمئن إليه وإلى حديثه وإلى بثه ما في نفسي ونفس بلادي من شعورٍ، فكان لا يتردد في إعطاء الحق لمن كان له الحق، ولا يرضى أن يكون ظالماً ولا متعنتاً ولا مدافعاً بالعصبية والكبرياء أو المماراة.
وفي سنة 1928 جاءت امرأته من بلادها ودعاني مرات فما لبثت أن رأيت هذا الرقيق الوديع المنصف ينقلب خشناً جريئاً على الباطل جائراً في الحكومة، متعنتاً فيما كان بالأمس يعطي النصفة فيه، وإذا هو شديد اللدد تياه الخصومة، وإذا هو ينسلخ من إهاب ليدخل في إهاب كفعل سائر قومه، فكان ذلك آخر عهدي به، وكان من عاقبته أني كرهت هذه الإنكليزية العجيبة التي يقال فيها ما قال الشاعر: (كالعُرِّ يكمُنُ حيناً ثم ينتشرُ) فإن مجيء امرأته أعداه كما يعدي الجرب، فثار ما كمن فيه ثم استشرى، فإذا هو وافد قومٍ هم ما هم.
وفي هذه السنة التي انتفض عليه فيها عر قومه، جلسنا يوما نتحدث فجرى الحديث إلى ذكر السودان، فقال لي إن قضية مصر في مسألة السودان ليست إلا دعوى لا خير فيها، فإن هذا النيل الذي تزعمون أنه يربط بين مصر والسودان رباطاً لا انفصام له لا ينفعكم لإقرار الحجة لدعواكم أن مصر والسودان أمة واحدة. وقال: أرأيت إلى نهر الدانوب، كيف يجوز في العقول أن يدعي مدعٍ ممن يعيش على مده أنه يوجب توحيد الأمم التي عليه لتكون أمة واحدة؟ أو ليس إذا قام شعب من شعوب الدانوب فأدعى بمثل ما تدعون،(704/1)
فإن الواقع كله يبطل حجته، والعقل يوجب أن يشك المرء في صحة إدراك هذا الشعب؟ فهذه هذه، فليس ينفع قضية مصر أنه تدعي أن النيل بينكما هو الرباط الذي يوجب أن تصير مصر والسودان أمة واحدة. والعجب العجاب عندي أن حديث السودان كان قد جرى بيننا قبل أن يمسه عر قومه، فلم يقتصر يومئذ على أن يسكت؛ بل كان قد وافقني على ما ذكرت له من حجة مصر في قضيه السودان، فإذا هو قد نسي كل هذا بعد أن ارتد إلى سنخه وطبيعته. . . . وهكذا الإنجليز.
ومضى الزمن، وإذا بنا نسمع إحدى الببغاوات التي سلبت العقل وكسيت الريش الجميل، تردد هذا القول المدخول الفاسد من جميع نواحيه. ولو كان قائله إنجليزياً لهان الأمر، وهو هين على كل حالٍ، ولكنه مع اشد الأسف سوداني بالمولد والإهاب، أما قلبه فقد بيع بالمزاد فوقع في قبضة الرجل الذي رفعته إنجلترا بين عشية وضحاها من وهدة البؤس والحرمان، وكان فيهما رجلاً فاضلاً، إلى ذروة الغنى والجاه، فأصبح بعدهما جانحاً إلى النقصان ساعة بعد ساعة.
زعمت الببغاء أن ليس في الدنيا شيء يقال له وحدة وادي النيل، كما انه ليس في الدنيا شيء يقال له وحدة نهر الدانوب، وإن الذي يبطل هذه يبطل تلك في مقام الاحتجاج، ويخرج من هذا إلى إن السودان ينبغي أن يكون أمة وحده، وأن مصر أو أثرياء مصر! (ينصبون فخاخاً تخفي أغراضهم الحقيقية ببراعة بالغة خلف الثوب اللامع من الدين واللغة والتاريخ، وهو الثوب الذي اصطنعوه بأيديهم). هكذا قالت الببغاء التي يزعمون أنها رئيس تحرير جريدة النيل وعضو في وفد حزب الأمة في لندن لهذا التاريخ!
فهذه الببغاء تجمع إلى نقيصة الترديد والتقليد نقائص كل واحدة منها شر من الأخرى هي الجهل بمعنى ما يقول، والكذب على أهل السودان، والجرأة في التهجم على الناس بما ليس يعلم، والتدليس في التاريخ، والعبث بمصير أمته المصرية السودانية، وشرهن جميعاً ما يلوح في خبئ كلامه من العداوة البغيضة التي يورثها هو والمستأجرون من أمثاله بين مصر والسودان.
وقصة هذا الدانوب الذي يحتج به ذلك الإنجليزي ثم احتجت به الببغاء الملقنة، قصة فاسدة المبنى والمعنى، والإغماض في الاحتجاج بها دال على ضيق التصور وقلة العقل وجثوم(704/2)
الجهل في جمجمة قائلها. فهذا النهر ينحدر من منابعه في بادن مخترقاً المانيا ثم النمسا ثم هنغاريا ثم يوغسلافيا ثم بلغاريا ثم رومانيا حيث ينتهي إلى مصبه في البحر الأسود، فهو مشترك بين ست دول كل واحدة منها لها خصائصها، حتى يبلغ التباين بينها مبلغاً ليس بعده شيء في اللغة والعادات والآداب والتاريخ وأسباب الحياة كلها تقريباً. هذه واحدة.
أما الثانية فهذا النهر واقع في قلب أوربة، وهذه الدول كلها قائمة على حفافيه متاخمة لدول أخرى تحيط بها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فهو ليس نهراً في صحراء جرداء كما ترى في نهر النيل الذي يحده من الشرق صحراء، ومن الغرب صحراء، ومن الشمال بحر ينتهي إليه مصبه، وفيه دلتا مصر.
وأما الثالثة، فهو أنه ليس نهراً تقوم على جوانبه الزراعة في خطٍ ضيق في بلد واحد كالذي تراه في نيل مصر والسودان، بل لعل أكبر فوائده هي النقل لا الزراعة وحدها.
وأما الرابعة فهي أن هذا النهر يمر في دول ستٍ قوام حياتها الصناعة لا الزراعة وحدها. أما نهر النيل فالزراعة هي قوام حياة أهله وسبب أرزاقهم، والذي فيه من مادة الخصب يوجب أن يكون نهراً للزراعة واستصلاح الأرضين البور التي تحف به من شرق وغرب.
وأما الخامسة فهي أن إقامة السدود على نهر الدانوب لا يمكن أن يراد بها إلحاق ضررٍ بالأرضين التي تقع على منحدره، فإذا أراد ذلك مريد وعزم على أن يضر بلداً بمنع ماء الدانوب عنه فقد وقعت الواقعة بين ست دول كلها متأهب للحرب في سبيل رد هذا البغي. فهو كما ترى أمر مستحيل بطبيعته.
وهناك قول كثير ولكن حسبنا هذا لمن يريد لن يفهم فهماً، لا أن يردد الأقوال ترديد الببغاوات التي تباع وتشترى للأغراض الخبيثة التي تريدها إنجلترا بهذه البلاد المسكينة. فهذه المقابلة السخيفة بين مسألة الدانوب ومسألة النيل لا تدل على شيء إلا على جهل الناطق المردد لها، ولا تقوم حجة إلا على خبث النيات التي أخذت تدنس لتفرق أوصال هذا الوادي وتزايل بين روابطه التي لن تفصم، بإذن الله.
ونحن نحمد الله على أن الأحرار أهل السودان ليس لهم برأي أن يقطعوا أرحامهم، ويخربوا بيوتهم بأيديهم، ويمزقوا هذه الوشائج الممتدة من أقصى عهود التاريخ إلى يومنا هذا. فنحن نسوق الحديث إلى هذه الببغاوات التي تنتسب إلى الشعب الأبي الحر لعلها تفئ(704/3)
إلى الحق، وإلى الذين يهادنون في الحق الأبلج مخافة أن يقال إن مصر تريد أن تبسط سلطانها على السودان في زمن تنادي فيه الأمم بالحق الأبلج أيضاً في تقرير المصير. ولولا أن هذا كله تدليس خفي يراد أن تروع به القلوب، ثم يتغلغل خفية إلى معان بعيدة يراد بها قتل السودان ومصر جميعاً، لكان الرد عليه هو إهماله وازدراؤه.
إن هذا النيل الجاري بين الصحراء الشرقية والصحراء الغربية من أقصى الجنوب إلى أدنى الشمال يوجب أن يكون أمة واحدة، فليس مثله كمثل الدانوب. فإنه إذا قدر للسودان أن يكون وحده مستقلاً، وهذا بعد البعيد، أو تحت سلطان إنجلترا، وهو الشيء الحادث والذي يراد الإيغال في إقراره بفصله فصلاً تاماً عن مصر، فإن الخطر الداهم والداهية المصبوبة تكون على مصر جاثمة حاضرة في كل أوانٍ، فإن أسهل السهل أن تضارنا إنجلترا في ماء النيل، وأن تمنع عنا رفده متى شاءت وتتخذه سلاحاً مخوفاً مفزعاً وحشياً للتهديد والإرهاب بقطع مادة الحياة في مصر بل في الشرق الأوسط كله، فإن قحط مصر هو قحط الشق الأوسط، بل قحط جزء عظيم من حوض البحر الأبيض المتوسط. فإذا كان ذلك فبمن نستنجد؟ ومن أين نؤمل النصرة؟ برمال الصحراء الشرقية وسواقي الصحراء الغربية!! إنه إذا كان مثل ذلك في أي مكان من الدانوب لهبت أمم بأسرها - أمم صناعية - تدفع البغي دفعاً رادعاً راداً للحق مانعاً لاستمرار هذا البغي. أما مصر، ماذا تصنع أيها المأجورون للدسيسة الإنجليزية! أتدافع برجالٍ هدهم الجوع والظمأ والوباء؟ تعست الحماقة!
ولو كانت إنجلترا هي الأمة التي تسكن هذا الجزء من وادي النيل المسمى باسم مصر، لما ترددت ساعة واحدة من أجل هذا وحده أن تفتح السودان فتحاً وتنتهبه انتهاباً، وتحتج لفعلاتها فيه بكل حجة، لأن النيل حياة إذا جاء بمده، وموت إذا أمسك سيبه. وهذه إنجلترا نفسها ليس لها حجة في البقاء الذي تريده في الشرق الأوسط وفي قناة السويس وفي نواح أخرى كثيرة، إلا أنها إذا خليت جلبت على الإمبراطورية كل شرٍ، وقطعت شريان الحياة الذي يمدها بالطعام والمال والقوة والسلطان. أفيجوز في العقل أن تحتج إنجلترا بذلك في سبيل أن تبقى عند قناة السويس وفي فلسطين، ولا نحتج نحن بأضرارٍ محققة إذا كان في السودان إنسان واحد في يده قدرة على الإضرار بمصر إضراراً يصيب أبدان أهلها(704/4)
وأرواحهم، ثم أبدان ملايين أخر من أهل الأمم التي تجاورنا ونستعين بها وتستعين بنا.
ونحن لا نقول هذا ولا نسوق الحجة على هذا الوجه لندعي - كما يراد لنا اليوم أن ندعي - أن لمصر حقاً في استعمار السودان أو احتلاله أو الوصاية عليه أو غير ذلك من الأباطيل المضللة، بل لنقول إن هذا وحده يوجب عقلاً أن يكون وادي النيل كله دولة واحدة، لها حكومة واحدة، وتشريع واحد، ونظام نيابي واحد، شأن السودان فيها كشأن أسوان، وقنا وجرجا ومديريات مصر كلها، فإن موقع أية مديرية من هذه المديريات كلها هو من الناحية الجغرافية كموقع السودان؛ فلو جاز أن يفصل السودان اليوم عن مصر بحجة، فهذه الحجة تنطبق كل الانطباق على أسوان ثم قنا ثم جرجا إلى أن تبتلع النيل كله. وأيضاً فإن مكان السودان كمكانها من الناحية التاريخية والأدبية والأخلاقية والدينية. وإذن فالنيل يحدث بلسانٍ لا يكذب بأنه لا يمكن أن يتجزأ إلا إذا جاز التجزؤ على هذه المديريات حتى تصبح كل واحدة دولة قائمة برأسها. والشعب الذي يسكن اسفل الوادي (المعروف باسم مصر)، والشعب الآخر الذي يسكن أعلاه (المعروف باسم السودان)، شعب واحد ناطق بلسان عربي مبين لا يعرف نفاق اللسان إنجليزي ولا تكاذبه وخداعه، بأنه أيضاً لا يستطيع أن يتجزأ، ولا هو قابل للتجزؤ.
ولقد استزل الشيطان بعض ساستنا؛ فأخذوا يقولون إن مصر لا تريد أن تستعمر السودان، بل تريد أن تمنحه الاستقلال الذاتي! فحلا حلا أيها الرجال، فإن هذا ما يريده الإنجليز، إنهم يريدون أن تقروا بألسنتكم ما الحق شاهد على بطلانه، وهو أن الشعب المصري شيء، والشعب السوداني شيء آخر؛ ويريدون أن تقولوا إن النيل ممكن أن يتجزأ، ولو بعض التجزؤ، فإن هذا حسبهم منكم اعترافاً وتقريراً. فتوبوا أيها الساسة من هذا الإثم، ولا يرهبكم حق تقرير المصير، ولا مجلس الأمن، ولا هيئة الأمم المتحدة، فإن هذه الرهبة باطل كلها. توبوا أيها الساسة، ولا تخافوا من أكذوبة الدانوب، فهو النهر الوحيد الذي تتعدد الدول على حفافيه، وهو نهر ليس له قيمة زراعية. واعلموا أنه لا يكاد يوجد في الدنيا كلها نهر زراعي واقع مجراه في أكثر من أمةٍ واحدةٍ، وهذه الأمة الواحدة يكون لها كل السلطان عليه من منبعه إلى مصبه. لا تخافوا أيها الساسة وتوبوا وتبرءوا مما قلتم، وخير لكم أن تدرسوا طبيعة النيل والأضرار المخوفة من تمزيقه، وأن تعرفوا ماذا تريد إنجلترا بفصل(704/5)
السودان عن مصر وضمه إلى الجزء المفضي إلى جنوب إفريقية والجنرال سمطس، فهناك البلاء الأعظم.
أيها المصريون السودانيون: إن النيل هو إفريقية كلها، فاحذروا أن تضيعوا أوطانكم، وتلووا بأمجادكم، وتضعوا أعناقكم في نير العبودية السرمدية إذا احتوشتكم العناصر الغريبة عن إفريقية النائمة التي بدأت تستيقظ من غفوة طالت عليها الآباد. احذروا كذب البغاة الطغاة المفسدين في الأرض، واحذروا ببغاواتهم وصنعاءهم فإنهم الحارقة الآكلة إذا استمكنوا منكم وأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ويسمونكم ذلا مستوراً ببهرج الاستقلال وتقرير المصير. لا تخافوا مجلس الأمن ولا هيئة الأمم إذا قدمتم إليهم قضية فيها كل دليل لا يبطله شيء من تاريخ ولا عقل ولا مصلحة.
وانتم يا إخواننا أهلنا وعشيرتنا في السودان احذروا الدولة التي تريد استقلالكم، وتريد أن ترعاه لكم، كما رعت غيره من قبل!! فإن (من استرعى الذئب ظلم)!
محمود محمد شاكر(704/6)
في محطة القاهرة
للأستاذ علي طنطاوي
دخل (المحطة) في اليوم السادس من سبتمبر سنة 1928 وخرج من (المحطة) في اليوم التاسع عشر من ديسمبر سنة 1946
دخل من باب، وخرج من باب، وكانت المحطة كأنها النسخة المختصرة من كتاب الدنيا، وكأنها الصورة المصغرة لها: كل يركض إلى غايته، ويزحم بكتفه، ويدفع بيده، ويعتدي ويُعتدى عليه، والحمالون ينهبون أموال الناس ما استطاعوا، والناس يتقونه ما قدروا، والقطر تصفر وتزمجر وتملأ الجو دخاناً وشراراً، وتسرع لتفرق أحباباً، وتجمع أحباباً، وتريق دموعاً وتضحك أفواهاً، وكأن صفيرها لحن الوصال العذب لناس، ونواح الفراق الأليم لآخرين، وكان الباب يفتح أبداً ويغلق، والناس يدخلون ويخرجون، لا يلتفت أحد إلى أحد، ولا يسأل سائل أخاه عن آلامه ولا عن آماله، فهو يستمتع بمسراته وحده ويتجرع أحزانه بلا معين. . .
والمحطة كالدنيا تسعد وتشقى، وما تسعد المرء ولا تشقيه إلا نفسه وذكرياته. هذا يحبها لأنه دخلها في مسرة، واستقبل فيها الحبيب، فهو يذكر كلما مر بها، أو سمع صفير قطرها، تلك الساعة التي كانت عنده العمر، ساعة جاءه البشير بقدوم حبيبه فذهب إليها يكاد يطير من الشوق، وقام ينتظر القطار لا يستطيع أن يستقر في مكان، واستبطأ الوقت فهو يخرج ساعته كل دقيقة، يحسب الدقيقة من الانتظار دهراً، فيراها لا تتحرك عقاربها، حتى إذا صفر القطار وهدر خفق له قلبه، وغلى في عروقه دمه، فركض إليه، فلما أبصره رأى سواده نوراً مشرقاً لأنه يحمل الحبيب، وناره المتقدة برداً على قلبه وسلاماً، ودخانه ارق من النسيم العليل؛ ورآه بثقله أخف من الطيف الساري وأقبل يزاحم الناس، يطأ بقدمه حيث لا يدري لأن بصره معلق بالنوافذ ينظر الوجوه فلا يحفل بها ويبصرها كالسرج المطفأ، لأنه يريد وجهاً واحداً يراه مضيئاً بالسناء، حتى إذا وصل إليه وصل إلى السعادة. . . فهو يذكرها كلما رأى المحطة.
وهذه تكرهها لأنها عرفت الشقاء فيها، وذاقت غصة الحياة بين جدرانها، فقد كانت سعيدة حتى حل الوداع، ودنا السفر، وصحبته إلى المحطة، فوقفت معه، ثم سايرته إلى رصيف(704/7)
القطار، فصعدت معه إليه، وقعدت تكلمه كما كانت تكلمه كل يوم، تتحدث بتوافه الأمور، ولو علمت أن هذا آخر لقاء ما كان ذاك حديثها؛ ثم صفر القطار فشدت على يده وعانقته عناقاً خفيفاً على استحياء من الناس ونزلت، فوقفت تنظر إليه وهو في شباكه، والقطار يبتعد. . ولكنها لا تزال تعيش بقربه لم تذق بعد طعم الهجر ولم تعرفه، حتى إذا اختفى عن ناظريها ورأت نفسها منفردة، صحت كما يصحو النائم من الحلم الممتع ليس في يده شيء منه، وتبدلت حياتها السعيدة بالوصال شقاء وألماً، وانطفأ النور الذي كان يهديها السبيل، وكانت المحطة هي خاتمة سعادتها، وهي فاتحة شقائها، فهي تحج إليها كل يوم، تقوم حيث قام الحبيب آخر مرة، وتشم عبقه وتتحسس موطئ أقدامه وتبحث عنه حيث تركته في شباك القطار، وتذكر كل حركة من حركاته، وكلمة من كلماته، حتى صار ذلك مدار أفكارها، وعماد حياتها، ولكنها كانت تكره المحطة، لأنها هي سبب الفراق. . .
وما في الدنيا مكان تستقر فيه محجبات العواطف، وتبرز مكنونات الضمائر كالمحطة، وما في الأمكنة ما هو احفل بالذكريات منها، ففي كل إصبع منها ذكرى عزيزة على قلب، وقطعة من حياة إنسان.
هنالك تبصر المختلف من ألوان الحياة قد ائتلف في هذه الصورة المعروضة، والشتيت قد اجتمع، وهنالك أمام الحاجز الحديدي ذي الأبواب المؤدية إلى الأرصفة، لا يفصل باباً عن باب، ورصيفاً عن رصيف إلا جدار. . . ترى جموع الناس في مد وجزر، كما تضرب أمواج البحر صخرة الشاطئ، يدخل الرجل من الباب فيصل منه إلى البلد الطيب، ويدخل الآخر من الباب إلى جنبه فيحمله إلى القرية المقفرة، وهذا الرصيف فيه لقاء الأحبة، وهذا فيه الهجر والبعاد، وكذلك الحظوظ في الحياة تتقارب بداياتها وتتباعد نهاياتها:
يتردد الطالب إذ يخرج من المدرسة بين طريقين لا يفصل بينهما إلا القليل، ولكن هذا يمشي إلى الجنة وهذا إلى النار، ويتردد التاجر بين أن يشتري البضاعة أو يدعها، وما يتردد إلا بين الخسران والضياع والربح واليسار. . .
دخل من باب وخرج من باب، ولكن المحطة لم تنظر إليه. فقد رأت من الناس وشاهدت من الأحداث، وأبصرت من القبل والدموع، ومن المسرات والأحزان، ما جعلها تمل، فأغمضت عينيها؛ وتركت هذا السيل البشري يجري على هواه يحمل معه ما شاء من لذاته(704/8)
وآلامه، ونامت.
دخل شابا في العشرين متوقدا حماسة، يفور دمه ويتوثب يريد أن يبلغ الذروة بقفزة واحدة، وخرج شيخا في سن الشباب لا يفور دمه ولا يتوثب، ولا يريد أن يبلغ الذروة ولا يفكر فيها. لا يفكر إلا في شيء واحد هو أن يرى نفسه نائما على صفحة النسيم، مرخى الأعصاب، مغمض العينين، لا يصنع شيئا، ولا يعمل فكره في شيء حتى. . . حتى يبلغ ساحل الموت.
دخل يحب الشهرة ويطمع فيها، يريد أن يعرف الناس ويعرفوه، وخرج زاهدا في الشهرة، خائفا من تكاليفها، يفزع من لقاء الناس لا يريد أن يعرف أحدا ولا يعرفه أحد.
دخل المحطة يستقبل الشام، يدفعه الشوق إليها، والغرام بها، يستقبلها ببسمة تبدو من خلال دموع الفرح، كما تبدو شمس نيسان من خلال الغمام، وترك من أجلها مقعده في دار العلوم، ومستقبله في مصر وخرج هاربا من دمشق يريد أن يبتعد عنها حتى لا يأسى على ما يرى فيها، وما يكاد يرى فيها إلا ما يبعث الأسى. . .
كان طالبا في المدرسة همه الارتقاء من فصل إلى آخر، وغايته الامتحان يريد النجاح فيه، فصار موظفا لم تعد لديه غاية يسعى إليها، ولا هم يفكر فيه فتشابهت أيامه، وتماثلت لياليه، وخلت من كل جديد، يصبح خاملا متكاسلا لأنه لا يرقب في نهاره شيئا، ويمسي متكاسلا خاملا لأنه لا ينتظر في ليله شيئاً، ولم يعد يجد ما يعمله إلا أن يشغل نفسه ساعة كل أسبوع بالكتابة للرسالة.
لقد كان إنسانا يحس ويشعر، وكان له عقل يفكر ويدرس، وقلب يحب ويصبو، فعودته الوظيفة الكسل، وسهلت له العيش، حتى خلا رأسه من الفكر، وقلبه من الحب، ويده من الشغل، وصار آلة (تعدد أياما وتقبض راتباً)، ولكنها لا تستبقي من هذا الراتب شيئاً، فالكيس أيضاً خال من المال.
انه لا يشكو المرض الفقر ولا المرض ولا التعب، ولكنه يشكو البطالة، وأن قواه معطلة، وأن عقله صدئ، وأنه كالجواد الأصيل المصفد بالأغلال الذي لا يستطيع أن يتحرك.
هذا هو الرجل الذي خرج من المحطة يوم الخميس الماضي. إنه مدين بحياته للرسالة؛ لا لأنها تنشر له وتذيع اسمه، كلا، فهذا أمر لم يعد له عنده نفع، بل لأنها هي التي تشعره بأنه(704/9)
حي، هي التي تجعل له كل أسبوع جديداً يرقبه ويعيش له. إن الأيام عنده السبت والأحد ويوم الرسالة. فإذا انقطع عنها أسبوعاً، محي من عمره هذا اليوم الذي يجمل الأيام ونسى أنه يحيا كما يحيا الناس، ويأمل في الحياة أملا.
لقد خرج من باب المحطة إلى البلد الواسع، ولكنه ما يدري ما يجد فيه، فالضيق في النفس لا في البلد وأعظم المدن للقلب المغلق سجن، والسجن للقلب المتفتح جنة فيحاء. . .
اللهم اشرح قلبه، وصب فيه الحياة، حتى يجد القراء في قلبه أدباً حياً. . . فإنه لا يخرج الأدب الحي من قلب ميت، يمده قلب مغلق. . .
القاهرة
علي طنطاوي(704/10)
على هامش النقد:
القاهرة الجديدة
تأليف الأستاذ نجيب محفوظ
للأستاذ سيد قطب
من دلائل (غفلة النقد في مصر) التي تحدثت عنها في كلمة سابقة، أن تمر هذه الرواية القصصية (القاهرة الجديدة) دون أن تثير ضجة أدبية أو ضجة اجتماعية!.
ألأن كاتبها مؤلف شاب، لقد كان (توفيق الحكيم) قبل خمسة عشر عاماً مؤلفاً شاباً عندما أصدر أولى رواياته التمثلية (أهل الكهف) فتلقاها الدكتور طه حسين، وأثار حولها فرقعة هائلة. كانت هي مولد (توفيق الحكيم) الأدبي. ولم يمنع كونه في ذلك الحين شاباً من إثارة ضجة حوله، أبرزت أدبه للناس فانتفعوا به، كما انتفع هو نفسه لأنه وجد الطريق بعدها مفتوحاً أمامه للنشر والشهرة.
و (القاهرة الجديدة) شأنها شأن (خان الخليلي) للمؤلف نفسه لا تقل أهمية في عالم الرواية القصصية في الأدب العربي عن شأن (أهل الكهف) و (شهرزاد) لتوفيق الحكيم في عالم الرواية التمثيلية.
فماذا حدث؟
هل صحيح أن الملابسات الشخصية كانت أهم العوامل التي جعلت الدكتور يكشف عما في (توفيق الحكيم) حينذاك من ذخيرة فنية. . . ذلك أن ألقى توفيق بنفسه وبأدبه المغمور إذ ذاك في أحضان الدكتور قائلاً: إنه يضع نفسه وفنه ومستقبله بين يدي (عميد الأدب) وأن نجيب محفوظ وأمثاله من شبان هذه الأيام لا يضعون أنفسهم ولا فنهم بين يدي أحد إلا جمهور القراء
أنا شخصياً لا أميل إلى قبول هذا الافتراض؛ ولكني أقدر أسبابا أخرى طبيعية:
فقبل خمسة عشر عاماً كانت (أهل الكهف) شيئاً فذا يلفت النظر بقوة. كان توفيق الحكيم يخطو خطوة واسعة جداً بالقياس إلى كل من سبقه في التمثيلية العربية. حقيقة أنه لم يكن يفتح فصلا جديداً في كتاب الأدب العربي، كما قال الدكتور طه حينذاك. فهذا الفصل كان(704/11)
مفتوحاً من الناحية الشكلية. إنما كان الجديد الذي له قيمة فنية حقيقية في عمل توفيق الحكيم، هو الانتفاع بالأساطير في عمل فني له قيمة أدبية. مع التقدم الواضح في طريقة الحوار وسبكه وجريانه.
أما اليوم فعمل من نوع (خان الخليلي) و (القاهرة الجديدة) يبدو وليس فيه من البريق ما يلفت النظر. فكثيرون كتبوا روايات قصصية، وروايات تمثيلية، وأقاصيص. . . الخ.
ولكن كان على النقد اليقظ - لولا غفلة النقد في مصر - أن يكشف أن أعمال (نجيب محفوظ) هي نقطة البدء الحقيقية في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة. فلأول مرة يبدو الطعم المحلى والعطر القومي في عمل فني له صفة إنسانية؛ في الوقت الذي لا يهبط مستواه الفني عن المتوسط من الناحية الفنية المطلقة. فهو من هذه الناحية الأخيرة يساوي أعمال توفيق الحكيم في التمثيلية.
أم إنه لا بد لنجيب محفوظ وأمثاله أن يلقوا بأنفسهم في أحضان أحد، ليقدمهم إلى الناس؟.
لقد فات الوقت الذي كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة للظهور، والجمهور لم يعد ينتظر هؤلاء الشيوخ ليقرأ أو يحكم. فعلى هؤلاء الشيوخ أن يؤدوا واجبهم إذا شاءوا أن تظل الأنظار معلقة بهم كما كانت الحال!.
القاهرة الجديدة. . .
هي قصة المجتمع المصري الحديث، وما يضطرب في كيانه من عوامل، وما يصطدم في أعماقه من اتجاهات.
قصة الصراع بين الروح والمادة، بين العقائد الدينية والخلقية والاجتماعية والعلمية، بين الفضيلة والرذيلة، بين الغنى والفقر، بين الحب والمال. . . في مضمار الحياة.
وهي تبدأ في نقطة الارتكاز في الجامعة، حيث تصطرع الأفكار الناشئة هناك بين طلابها - بفرض أن الجامعة ستكون هي (حقل التجارب والإكثار) للأفكار النظرية التي تسير الجيل. . . ثم تدفع بشتى الأفكار والنظريات النابتة في هذا الحقل، إلى مضمار الحياة الواقعية، وغمار الحياة اليومية، وتصور صراع النظريات مع الواقع خطوة فخطوة، تصوره انفعالات نفسية في نفوس إنسانية، وحوادث ووقائع وتيارات في خضم الحياة.
وصفحة فصفحة نجدها في صميم الحياة المصرية اليومية. هذه الأفكار المجردة نعرفها،(704/12)
وهذه الوجوه شهدناها من قبل؛ وهذه الحوادث ليست غريبة علينا. نعم فيها شيء من القسوة السوداء في بعض المواقف، ولكنها في عمومها أليفة. تؤلمنا ولا ننكرها، وتؤذينا أحياناً، ولكننا نتقبلها!
هذا هو الصدق الفني. فنحن نعيش مع الرواية لحظة لحظة. نعيش مصريين، ونعيش آدميين، وفي المواقف القاسية، في مواقف الفضيحة، حيث تبدو الرذيلة كالحة شوهاء مريرة، نود لو ندير أعيننا عنها كي لا نراها، ولكننا نقبل عليها مضطرين ففي القبح جاذبية!. إنها الدمامل والبثور في جسم مصر وفي جسم الإنسانية كذلك، وإذا انفعلنا لها مرة لأننا مصريون، انفعلنا لها أخرى، لأننا ناس وإنسانيون.
لقد أختار المؤلف من بين طلاب الجامعة أربعة ليمثلوا الأفكار والاتجاهات التي تتصارع في المجتمع الحديث. . .!
الإيمان بالدين والخلق والفضيلة عن طريقه، والالتجاء إليه طلباً للخلاص.
والإيمان بالمجتمع والعدالة الاجتماعية، والصراع العملي لتحقيق الفضيلة الاجتماعية والشخصية من هذا الطريق.
والإيمان بالذات، وعبادة المنفعة، وتسخير المبادئ والمثل والأفكار جميعاً لخدمة هذا الإله الجديد!
وموقف المتفرج الذي يرقب هذا وذاك وذلك لمجرد التسجيل والنظر والمشاهدة. . .!
ونستطيع أن نلمح في ثنايا الرواية وفي خاتمتها ميل المؤلف لأن ينتصر للمبادئ على كل حال، وأن يحقر الإيمان بالذات والتدهور الخلقي والاجتماعي، والقذارة، والانحلال.
ولكنه لم يلق خطبة منبرية واحدة في خلال ثمانين ومائة صفحة ولم يفتعل حادثة واحدة افتعالا. . .
لي بعض الملاحظات على سياقه بعض الحوادث وشكلها. فقد كانت فيها قسوة في مواجهة صاحب الإيمان الثالث بالتجارب التي يحك عليها إيمانه ومبادئه! قسوة لم تكن الرواية في حاجة إليها لتصل إلى أهدافها. . . ولكنها في كل حال بعيدة عن التزوير والافتعال.
فمثلا هذا الشاب الذي أسماه (محجوب عبد الدايم)، ووصفه في هذه السطور:
(كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفة الحرية كما يفهمها(704/13)
هو، (طظ) أصدق شعار لها. هي التحرر من كل شئ، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامة! وهو القائل لنفسه ساخراً: إن أسرتي لم تورثني شيئاً أسعد به، فلا يجوز أن أرث عنها ما أشقى به!، وكان يقول أيضاً: إن أصدق محاولة في الدنيا هي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق=طظ، وكان يفسر الفلسفات بمنطق ساخر يتسق مع هواه. فهو يعجب بقول ديكارت: (أنا أفكر فأنا موجود) ويتفق معه على أن النفس أساس الوجود! ثم يقول بعد ذلك إن نفسه أهم ما في الوجود! وسعادتها هي كل ما يعنيه؛ ويعجب كذلك بما يقوله الاجتماعيون من أن المجتمع هو خالق القيم الأخلاقية والدينية جميعاً. ولذلك يرى من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة حجر عثرة في سبيل نفسه وسعادتها! وإذا كان العلم هو الذي هيأ له التحرر من الأوهام، فليس يعني هذا أن يؤمن به أو أن يهبه حياته، ولكن حسبه أن يستغله وأن يفيد منه، فلم تكن سخريته من رجال العلم دون سخريته من لرجال الدين، وإنما غايته في دنياه: اللذة والقوة بأيسر السبل والوسائل، ودون مراعاة لخلق أو دين أو فضيلة.
لقد استعار هذه الفلسفة بإرشاد هواه، ولكن تهيؤه لها نما معه منذ أمد بعيد. فهو مدين بنشأته للشارع والفطرة. كان والداه طيبين جاهلين، ولظروفهما الخاصة، أتم تكوينه في طرق بلدة القناطر، وكان لداته صبية شطاراً ينطلقون على فطرتهم بلا وازع ولا تهذيب، فسب وقذف وسرق، واعتدى واعتدي عليه، وتردى إلى الهاوية. ولما انتقل إلى جو جديد - المدرسة - أخذ يدرك أنه كان يحيا حياة قذرة، وعانت نفسه مرارة العار والخوف والقلق والتمرد. ثم وجد نفسه في بيئة جديدة، طالباً من طلاب العلم بالجامعة، ورأى حوله شباناً مهذبين يطمحون إلى الآمال البعيدة والمثل العالية، ولكنه عثر كذلك على نزعات غريبة، وآراء لم تدر له بخلد. عثر على موضة الإلحاد والتفسيرات التي يبشر بها علماء النفس والاجتماع للدين والأخلاق والظاهرات الاجتماعية الأخرى، وسر بها سروراً شيطانياً، وجمع من نخالتها فلسفة خاصة اطمأن بها قلبه الذي نهكه الشعور بالضعة. لقد كان وغداً ساقطاً مضمحلاً؛ فصار في غمضة عين فيلسوفاً! المجتمع ساحر قديم. جعل من أشياء فضائل وجعل من أشياء رذائل، ولقد وقف على سره وبرع في سحره، وسيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل، وفرك يده سروراً، وذكر ماضيه أطيب الذكر، ورمق مستقبله(704/14)
بعين الاستبشار، وألقى عن عاتقه شعور الضعة. بيد أنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن فلسفته فلسفة سرية. يجوز أن يدعو (مأمون رضوان) إلى الإسلام جهاراً، ويجوز أن يعلن (علي طه) اعتناقه لحرية الفكر والاشتراكية. أما فلسفته هو فينبغي أن تظل سرية - لا احتراماً للرأي العام، فإن من مبادئها احتقار كل شئ - ولكن لأنها لا تؤتى أكلها إلا إذا كفر الناس بها وآمن بها وحده! ألا ترى أنه إذا آمن الناس جميعاً بالرذيلة لم يتميز بينهم بما يتيح له التفوق عليهم؟ لذلك احتفظ بها لنفسه، ولم يعلن منها إلا ما هو في حكم الموضة كالإلحاد وحرية الفكر؛ إلا إذا ضاق صدره أو غلبه شعور الوحشة، فإنه ينفس عن قلبه بالمزاح والسخرية. فبدا للقوم ساخراً ماجناً، لا شيطاناً مجرماً، ومضى في سبيله شابا فقيرا بلا خلق، يرصد الفرص ويتوثب للانقضاض عليها بحرارة لا تعرف الحدود).
وهو تصوير معجب لشخصية هذا (النموذج) وقد صور زملاءه كذلك - كما صور كل شخصية جاءت في الرواية - ويعجبني فيه ذلك التعليل الصامت لاتجاهات (محجوب عبد الدايم) وزملائه. إنهم كلهم في جامعة واحدة، يدرسون نظريات واحدة، ويخضعون لمؤثرات واحدة، ولكن كلا منهم يختط طريقة في التفكير والحياة بحكم مزاجه ووراثاته ورواسب شعوره، ويخلق لنفسه فلسفة يعتمد فيها على نفس الأسباب والعلل التي يعتمد عليها الآخرون في تكوين فلسفة مغايرة! ويصدق سلوكهم فيما بعد هذه القواعد أيضاً.
حقيقة إن محجوب عبد الدايم لم يكن في سلام مع شعوره دائماً وهو يواجه التجارب. فالنظريات شيء - مهما يكن الاقتناع بها، ومهما تكن بواعثها - والتجارب العلمية شيء آخر. ولكنه سار إلى نهاية الشوط، ولم يقف إلا حين صدمته أنانية أخرى ففضحته، وحين إنفضحت الرذيلة في القصة لم يكن ذلك ليقظة في ضمير المجتمع فهو مجتمع مريض. وإنما كانت غلبة رذيلة على رذيلة!!
ولكن - كما أشرت من قبل - آخذ على المؤلف قسوة لم تكن لها ضرورة في بعض التجارب التي تواجه هذا الشاب.
لقد خيرته الظروف بين أن يبقى بلا وظيفة. أو أن يكون في وظيفة مغرية (سكرتير وكيل وزارة ثم مدير مكتب حينما يصبح وزيراً) بثمن! هو في ذاته فادح. أن يتزوج بفتاة عبث بها الوكيل الوزير!(704/15)
وأدى الثمن - حسب فلسفته - وتسلم البضاعة. وكان هذا حسبه، وكان حسبه أن يقبل الوضع مموهاً من الخارج وهو يدرك حقيقته. ولكن المؤلف جعله يواجه الموقف سافراً بلا تمويه. أيقبل أن يكون زوجاً للفتاة التي هذا موقفها؟. . . ثم أيقبل أن يكون مقره (جرسونييرة) البك، وأن يواصل البك ما بدأ به وفي يوم معين يعلمه محجوب وعليه أن يغادر البيت فيه؟!
هذه قسوة لا مبرر لها ولا ضرورة. ومثلها أن تزف إليه (الفتاة) بلا احتفال. وكان من كمال السخرية أن يكون الاحتفال فخماً!
وشئ آخر آخذه على الرواية: لم جعل الفتى المؤمن المتدين لا تصطدم نظرياته بواقع الحياة؟ لقد اصطدم (علي طه) صاحب الإيمان بالمجتمع. اصطدم في قلبه وشعوره. فقد كانت هذه الفتاة التي زفت إلى زميله هي فتاة أحلامه وموضع إيمانه الاجتماعي. ولكنه احتمل الصدمة ومضى يؤمن بالمجتمع الكبير. واصطدم محجوب صدمات شتى وجف لها واضطرب، ولكنه احتملها في سبيل ذاته المقدسة! فلم لم يصطدم أبداً (مأمون رضوان)؟
هل يريد المؤلف أن يقول: إن إيمانه القوي بالله والدين والرجولة قد أعفاه من الاصطدام، كلا. إن المجتمع الفاسد المنحل الذي صوره في مصر - والذي هو مع الأسف واقع - لا بد أن يصطدم به كل صاحب إيمان، سواء كان إيمانا بالمجتمع أو حتى إيماناً بالحياة!
ربما لاحظ أن التنسيق الفني يحتم عليه ألا يبرز على المسرح إلا شخصية واحدة رئيسية. ولكن لا. فالرواية القصصية من طبيعتها أن تسمح لأكثر من شخصية بالبروز، والتنسيق الفني يتحقق بتنويع درجات البروز.
هذه نقطة من نقط الضعف في الرواية، كالنقطة الأولى كذلك.
وبعد فهناك صفحات رائعة قوية في تصوير المجتمع المصري وما فيه من انحلال يشمل الطبقات الأرستقراطية ودوائر الحكومة وآثام الفقر والثراء، وآفات المظاهر والرياء. . . الخ، ولكن يضيق عنها المقام، وأنا معجل عنها إلى مسألة أخرى لها أهميتها في وزن الرواية، وفي وزن كل عمل فني.
إن هذه الرواية على ما فيها من براعة في العرض، ومن قوة في التصوير - تصوير النماذج وتصوير المجتمع وتصوير المشاعر والانفعالات - هي أصغر من قيمتها الإنسانية(704/16)
- وتبعاً لهذا في قيمتها الفنية - من سابقتها (خان الخليلي).
رواية خان الخليلي أضيق في محيطها الداخلي ولكنها أوسع في محيطها الخارجي. أضيق في المجال الذي تعالجه وتضطرب فيه حوادثها. فهي قصة أسرة تفر من الموت بالقنابل فيخترم الموت أجمل زهراتها بلا قنابل! وقصة قلب إنساني شاخ قبل الأوان فانطوى على نفسه ورضى بنصيبه، فإذا الأقدار تخايل له بقطرة ندية فيندى، ثم تجف هذه القطرة قبل أن تبلغ فاه. يرشفها منه أعز إنسان عليه: أخوه المستهتر السادر. وحينما يجد هذا المستهتر ويقومه الحب العميق، تخطفه الأقدار فيموت!
ولو استأنت الأقدار لحظة هنا أو هناك، ولو تغير خيط واحد في ذلك المنوال الأبدي لتغير وجه الحياة.
أما رواية (القاهرة الجديدة) فتعالج جيلا وتصور مجتمعاً. ومجالها مع هذا أضيق من مجال (خان الخليلي!).
في (خان الخليلي) ننتهي من الرواية لنجد أنفسنا أمام رواية الحياة الكبرى: الإنسانية والأقدار، الضعف الإنساني والقوى الكونية، أشواق الناس وأهدافهم أمام الغيب المجهول.
وفي (القاهرة الجديدة) نبدأ وننتهي، ونحن أمام جيل من الناس ومجتمع قابل للزوال، فلا تبقى إلا بعض الملامح الإنسانية الخالدة.
المجال هناك أوسع لأنه خالد بخلود الإنسان، والقيمة الإنسانية هناك أكبر، وهي جزء من القيمة الفنية له أثره في وزن الرواية، وراء المهارة الفنية في العرض والتنسيق والاختبار.
سيد قطب(704/17)
في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
- 5 -
مع الأدباء والصحفيين من أهل النثر:
قبل أن أمضي في الحديث عن (الأدباء الصحفيين) لابد لي من البر بوعد قطعته على نفسي في الفصل الماضي، وهو أن أسرد آثار الأستاذين الأخيرين، ممن تحدثت عنهم في (الأدباء العلميين) فأقول: إن للأستاذ عبد الله الريماويى - عدا كتبه المدرسية - كتباً أخرى عديدة بين علمية وأدبية، أذكر منها: (العقل في طريق التكوين)، وقد ترجمه عن كتاب إنجليزي للأستاذ (جيمس هارفي روبنسن) أسماه وهو شرح مستوفي للحلقات التي تكون تاريخ الفكر البشري. ثم كتابه: (من طاليس إلى ناغاساكي) ويبسط فيه بشكل مختصر الأبحاث العلمية في حقلي الكيمياء والفيزياء، التي انتهت أخيراً باكتشاف القنبلة الذرية. ثم كتابه (الحضارة العلمية)، وفيه يحدد العلم في منابعه وأسلوبه، ويعين مكان العلم وحضارته بين مظاهر الفكر البشري. فيبحث علاقته بالفلسفة والدين والفن والاجتماع، وينتهي - بعد ذلك - ببحث رسالة العلم للإنسانية.
ومن كتبه الأدبية: كتابه (مجمع العباقرة)، وفيه يعالج كثيراً من المشاكل الاجتماعية، ثم كتابه (قصة الأيام) وهو قصة يبسط في ثناياها الوضع الراهن في البلاد، وينتقد أساليب التوجيه والغاية التي تهدف إليها.
وأما الأستاذ علي شعث، فله كتابان أخرجهما للناس، أولهما (من طرائف العلماء) وفيه يتخير عدداً من أساطين العلم، الذين ساهموا في بناء صرحه الشامخ، منذ فجر الإنسانية البعيد، حتى ينتهي إلى علماء النهضة الحديثة في أوربة، ويعرج في خلال ذلك على بعض أعلام العرب النابهين في هذا الميدان. وأما كتابة الثاني فهو: (من البنسلين إلى القنبلة الذرية)، وفيه شرح بأسلوب فريد أخاذ للمراحل التي اجتازها العلم في تذليل العقبات الكأداء، وإزالة العراقيل المؤذية من طريق الإنسانية. كما يورد فيه كثيراً من التنبؤات(704/18)
المبهجة، التي ينتظر أن يحققها العلم عن طريق الذرة، إذا استمر في سيره قدماً، ولم يحل بينه وبين ذلك عارض مفاجئ. والأستاذ شعث - فيما عدا ذلك - كثير من الأبحاث القيمة التي كثيراً ما حاضر أو أذاع بها في الأندية الثقافية في البلاد، ومن دار الإذاعة الفلسطينية. . .
الأدباء والصحفيون:
وحين أتحدث عن (الأدباء الصحفيين)، لا بد لي من أن أعود بالقارئ إلى عام 1911، لأقفه حيال شابين أخوين في مدينة يافا، قد نهلا من الثقافة ما كشف لهما طريق الجهاد في سبيل وطنهما المغلوب على أمره، فإذا هما يستهدفان خدمته عن طريق الصحافة، وينشئان من أجل ذلك جريدتهما (فلسطين) ويكون أحدهما وهو الأستاذ عيسى العيسى (رئيسا للتحرير)، والآخر وهو الأستاذ يوسف العيسى (المدير المسؤول)، وتمضي جريدتهما في طريق محفوف بأشواك العنت التركي، وإرهاق الحكم والاستبداد.
فقد أوقفت الحكومة التركية الجريدة بتهمة (التحريض العنصري)، وذلك حين نبهت للخطر الصهيوني في تلك الأيام. ولكن المحكمة برأت ساحتها حين أثبتت أن مقاومة الحركة الصهيونية ليس معناه مقاومة اليهود.
وقد توقفت هذه الصحيفة (النصف أسبوعية) حين قامت الحرب الأولى، فتفرق الأخوان، إذ نزح أحدهما - وهو الأستاذ يوسف العيسى - إلى دمشق، وهناك اتصل بجلالة المغفور له (الملك فيصل) فيما بعد، وأخلص له الخدمة، ثم أسس جريدة يومية، تناصر الملكية وتعمل من أجلها، وهذه الجريدة هي (ألف باء) الغراء، التي ما تزال تصدر في دمشق إلى اليوم، وهي من أكثر الصحف انتشاراً هناك. وأما جريدة (فلسطين) فقد استأنفت صدورها في يافا بعد الحرب الأولى، واستمرت نصف أسبوعية حتى عام 1929، فصدرت يومية، وما تزال كذلك. وهي اليوم من أمهات الصحف عندنا، وصاحبها الأستاذ عيسى العيسى - الذي هو شيخ الصحفيين بلا منازع - يعتبر من الأدباء المعدودين في المكان الرفيع.
وأما الأستاذ يوسف العيسى، فأنه عرف في سوريا كما عرف في فلسطين، وقد التمع في البلدين معا. وكان - وما يزال - منذ أن أصدر جريدته يتولى كتابة افتتاحيتها بنفسه، ثم يكتب بالإضافة إلى ذلك فصلا انتقادياً، يعالج فيه كثيراً من المشاكل الاجتماعية، ويجعله(704/19)
تحت عنوان (مباءة نحل).
وقد اجتمع لدى الأستاذ من هذه الفصول مجلدات قيمة، في أبحاث مختلفة. منها ما هو في السياسة، ومنها ما هو في النقد، ومنها ما هو في الأدب. وقد حدثني الأستاذ في صيف هذا العام (في دمشق)، أن لديه إلى جانب ذلك مذكرات يحرص عليها أشد الحرص، ويعنى بترتيبها أيما عناية، وقد أسمعني بعضها وكان مما نشر في جريدته إبان عهدها الأول.
ويعجبك من (هذا الأستاذ) نشاطه الدائم ودأبه المتواصل وهم برغم هذا الانصراف الشديد - الذي ينصرفه للصحافة - ما تكاد تجلس إليه حتى تلمس فيه روح الأديب الفذ، إذ ما يتناول القول عن شيء، حتى يستشهد بحكمة أو مثل أو أبيات من الشعر وإليك شاهد من ذلك من كلمته الافتتاحية في العدد (7257) وعنوانها: (هذا عتابك إلا أنه مقة) ويقول فيها:
(إن أحسن مثل يضرب للصحف في هذه الأيام، هو ما قالته العرب: (مثقل استعان بذقنه)، وهو الجمل يثقل حمله فيعجز عن القيام به. وهذه حالة الصحف يثقل حملها في جميع أبواب نفقاتها، فتمد عنقها إلى الحكومة، فتكون (كالمستجير من الرمضاء بالنار).
إن التحكم والاستبداد بمقدرات الصحافة، أن تطلب جلب الورق فلا يسمح لها بذلك، وأن تنضب مستودعات الحكومات فلا تجد ما تقدمه للصحف من ورق. أليس هذا ما يسمونه ب (نقص القادرين على التمام)؟. . .)
وقد نبهني الأستاذ خليل مردم بك إلى أديب صحفي آخر، عاش في دمشق شطراً من عمره ومات فيها. وهذا الأديب هو الأستاذ (أحمد شاكر الكرمي) نسبة إلى (طولكرم) وهي بلدة في فلسطين، عرف أهلها بثباتهم الذي يبلغ حد العناد، وعروبتهم الأبية الصادقة، وإيمانهم الذي لا يتزعزع. وقد نشأ هذا الأديب في عائلة توارثت (العلم والأدب والقضاء والإفتاء) كابراً عن كابر، فأبوه قاضي القضاة الشاعر الناثر الشيخ (سعيد الكرمي)، وأخوه الشاعر الأستاذ (محمود الكرمي)، وأخوه أيضاً الشاعر اللامع الأستاذ (عبد الكريم الكرمي) المعروف ب (أبي سلمى). وسأتحدث عنهم جميعا حين أتحدث عن شعراء فلسطين
وقد اكمل الأستاذ (أحمد شاكر الكرمي)، ثقافته في الأزهر والجامعة المصرية. وهناك بدأ حياته الأدبية بالكتابة في جريدة (الكوكب). ثم سافر إلى الحجاز، وعمل هناك محرراً في جريدة (القبلة)، ثم رجع منها إلى دمشق، وحرر هنالك في جريدة الفيحاء. ثم أصدر بعد(704/20)
حين جريدة (الميزان) أدبية سياسية. واستمر في إصدارها حتى عام 1927. وإذ ذاك اهتصرته يد المنية وهو لا يزال في ريعان شبابه.
وله كتب مطبوعة ومخطوطة. منها كتابه (الكرميات) وهو مجموعة خواطر وآراء كلها قيم، ثم قصص مترجمة عن الإنجليزية، منها (خالد)، وفيها تفصيل عن الصحراء، وسرد لما يقع في جنباتها. ثم (الوردة الحمراء) وهو صورة من الأدب الخالد، ومؤلفها الكاتب الذائع الصيت (أوسكار وايلد). ثم كتب في النقد، ومعظمها نشرت مادته في الصحف التي عاصرته، وكانت بتوقيع (قدامه)، وهو الاسم الذي كان يحتجب وراءه.
وقد كان حجة في اللغة العربية، يراعى في أسلوبه التحرر من قيود الرجعية والجمود. وحسبك أن يعترف له بفضل السبق علماء أجلاء، كالمازني والعقاد، وقد صدر ذلك عنهما في حفل أقيم في مصر، وشهده أخوه (أبو سلمى) الذي نقل إلي طرفاً من حديثهما عنه حينذاك وثنائهما عليه وكالأستاذين خليل مردم بك، والشيخ المغربي في دمشق، وقد حدثاني عنه حديثاً يستشف منه إعجابهما به وتقديرهما له.
وهنالك أدباء صحفيون كانوا هم الطليعة الأولى في هذا الميدان. منهم الأستاذ رشدي شعث صاحب مجلة (المنهل)، ثم الأستاذ جميل البحري صاحب مجلة (الزهور)، ثم الأستاذ حنا العيسى صاحب مجلة (الأصمعي)، ثم الأستاذ خليل بيدس صاحب مجلة (النفائس). وسوف أتحدث عنه مفصلا حين أتحدث عن (الأدباء القصصيين) إذ هو أحدهم. ثم الأستاذ نجيب نصار صاحب (الكرمل الجديد)، ثم الأستاذ بولص شحاذة صاحب (مرآة الشرق)، ثم الأستاذ الشيخ علي الريحاوي وهو مؤسس أول مجلة في فلسطين وهي مجلة (بيت المقدس). وحين أوقف لأسباب سياسية أسس جريدة (النجاح). ولكنه شغل عنها بعد ذلك بالسياسة. فسافر إلى الآستانة مبعوثاً عن قضاء القدس وهنالك تعرف إلى كثيرين وعرفوا أدبه القيم. وهو شاعر فحل وسأورد نماذج من شعره حين أتحدث عن الشعراء. ثم الأستاذ الشيخ سليمان الفاروقي. وهو مؤسس جريدة (الجامعة الإسلامية) التي صدرت عام 1933، واستمرت حتى عام 1937 ثم توقفت بعد ذلك بسبب إرهاق الحكومة لها. والأستاذ الفاروقي أديب مطبوع، درس في الأزهر ثم في جامعة الحقوق في الآستانة، ثم اشتغل بالمحاماة أمداً من عمره، وله شعر ونثر يجعلانه في نظر المعجبين بأدبه (معري فلسطين)،(704/21)
وهو خطيب مصقع إذا تحدث (مرتجلا) ظننته يغترف من بحر، وإذا (أملى) حسبته يستلهم من وراء الغيب. واليك أبياتا من شعره، تلمس فيها الكثير من سخطه، وتتحسس بين ثناياها يأسه المرير وهي قوله:
ولما رأيت الناس ضلت حلومهم ... فلا أحد يهدِي ولا أحد يهدَى
وشمت وجوه الناس قد غاض ماؤها ... فلا وجنة تحمر أو جبهة تندى
يئست من الإنسان! إني وجدته ... يصيب الهدى سهواً ويغشى الأذى عمداً
وأما نثره فإنه يحلق فيه إلى الذروة، وإليك بعض ما يقوله في كلمة عنوانها (الضحايا) يفتتح بها عدد العيد الممتاز الصادر في صباح (15) آذار (مارس) عام 1935 وقد جاء فيها:
(إذا خلا وجه الدهر لأمة، فبسطت على العالم أجنحتها، وسلكت الشعوب بدينها ومدنيتها، وحشرتها فيها كأن لم تكن من قبل ذكرت، وإذا ملأت أمة الماء عوائم، والهواء حوائم، والأرض ذوابل وصوارم، والتاريخ جسائم وعظائم، حقت بالعيد وجدرت، وقمنت بالفخر إذا افتخرت. . . ليس العيد أن تلبس كفنك، وتعبد وثنك، وتجر في باطلك - سادراً - رسنك. وليس العيد ثوباً تستغشيه، وعملا تؤديه، أو مثالا تحتذيه. وإنما العيد حظ الروح، وسمو القلب، وإنما العيد فجوة ما بين جزأي التاريخ، من كد وجهاد، وراحة وجمام)
وهنالك (أيضاً) من الأدباء الصحفيين الأستاذ منيف الحسيني صاحب جريدة (الجامعة العربية)، ثم الأستاذ عبد الله القلقيلي صاحب (الصراط المستقيم)، ثم الأستاذ عيسى بندك صاحب جريدة (صوت الشعب).
وهنالك جرائد محتجبة كثيرة كان يساهم في تحريرها أدباء بارزون أذكر منها: (الكفاح) و (اللواء) و (الشباب) و (المطرقة).
وقبل أن أختتم الحديث في هذا الفصل لا بد لي من أن أشير إلى أديب فلسطيني اتخذ القاهرة له داراً، وأسس فيها جريدته: (الشورى) ثم جريدته (الشباب)، وقد توقفتا كلتاهما، بعد أن كافح فيهما ونافح وجاهد جهاد الأبطال، وذلك الأستاذ هو الأديب المجاهد (محمد علي طاهر) ردّ الله غربته.
(له تكملة)(704/22)
محمد سليم الرشدان
ماجستير في الآداب واللغات السامية(704/23)
قطربل
الأستاذ شكري محمود أحمد
قرية بين بغداد وعكبرا، تنسب إليها الخمور وتكثر فيها المعاصر والحانات لكثرة ما فيها من الكروم. لذلك أمها المجان، وطلب أهل الفتك، وتطرح فيها الخلعاء، حتى فتنوا بغلمانها، وشغفوا بظبائها، فكثر ذكرها في شعرهم، ودار اسمها في قصصهم.
كانت في أنزه موضع وأجمل موقع، تركب كاهل دجلة، وتحاذي الصراة الذي يفصل بينها وبين بادوريا، هي في غربة وبادوريا في شرقه.
جمالها الضاحك الطروب جذب قلوب الشعراء فمالوا إليها، واحتفظت بالمجان حتى عكفوا يرتضعون در الكأس، وينزفون النفس في صبوح ضاحك، وغبوق دافق بالمتع واللذاذة، فطوراً هم بدجلة يصطبحون، وطوراً بالصراة يغتبقون.
ولقطربل أخبار، وفيها أشعار - كما يقول ياقوت - في وسعه أن يجمع كتاباً في أجلاد يسجل أخبار الخلعاء والمجان والشعراء والبطالين والمتفجرين في هذه المدينة.
تشوق إليها إبراهيم المدبر، وطرب لذكراها قائلاً:
طريت إلى قطربل وبلشكر ... وراجعت عما لست عنه بمقصر
وحن لها البحتري فاهتز لمنظرها وقد بدت له مع الشروق، فقال في مدح ابن المدبر:
وقد ساءني أن لم يهج من صبابتي ... سنا البرق في جنح من الليل أخفر
وأني بهجر للمدام وقد بدا ... لي الصبح من قطربل وبلشكر
ووصفها الببغاء الشاعر، ذاكراً مواطن الغزل والصبابة، ومنازل اللهو والبطالة، ومعاهد الأنس واللذة، فقال يذكرها ويذكر كلواذي، هي شمال بغداد، وكلواذى في جنوبها:
كم للصبابة والصبى من منزل ... ما بين كلواذى إلى قطربل
راضعتُ فيه الكأس أهيف ينثني ... نحوي بجيد رشاً وعيني مُغْزل
ذكرها جحظة البرمكي، وما فيها من الخمور التي تعطر في كل حين بقوله:
قد أسرفت في العذل مشغولة ... بعذل مشغول عن العذَّل
تقول هل أقصرت عن باطل ... أعرفه عن دينك الأول
فقلت: ما احسبني مقصراً ... ما أعصرت خمر بقطربل(704/24)
قالت: فأين الملتقى بعد ذا ... فقلت: بين الدن والمبزل
أما الحسن بن هانئ فقد أكثر من ذكرها، وأطال من حديثها، لأنها كانت مسارب لهوه، ومواطن خلاعته. فوصف حاناتها ورياضها، وخمرها وسقاتها، وذكر صحابته فيها. بل إنه أراد أن يدفن فيها.
خليليَّ بالله لا تحفرا ... لي القبر إلا بقطربل
خلال المعاصر بين الكرو ... م ولا تدنياني من السنبل
لعلي أسمع في حفرتي ... إذا عصرت ضجة الأرجل
كان الكرخ مصيفه، وقطربل مربعه، ترضعه درها، وتلحفه بظلها.
قطربل مربعي، ولي بقرى الكر ... خ مصيف، وأمى العنب
ترضعني درها وتلحفني ... بظلها، والهجير يلتهب
وهو في القصيدة الآنية يبدع في وصفها، فيذكر حانته بين الجنان الحدائق، في تلك الرياض المحفوفة بالشقائق، وندمانه الغر الكماة الذين ذل لهم الدهر، وساقيه الغرير المتوج بالريحان:
ومجلس خمار إلى جنب حانة ... بقطربل بين الجنان الحدائق
تجاه ميادين على جنباتها ... رياض غدت محفوفة بالشقائق
أقمنا بها مع فتية خضعت لهم ... رقاب صناديد الكماة البطارق
بمشمولة كالشمس يغشاك نورها ... إذا ما تبدت في نواحي المشارق
يدور بها ظبي غرير متوج ... بتاج من الريحان ملك القراطق
إذا ما جرى فيه تغنى وقال لي ... بسكر: الآهات اسقنا بالدوارق
وقد كان أبو نواس معجباً بخمارها (ابن أذين) لأن هذا الخمار كان ظريفاً لبقاً مساعداً، عنده شراب عتيق، وغلمان صباح. وقد ذكره في شعره قائلا:
اسقني يا ابن أذين ... من سلاف الزرجون
اسقني حتى بي ... جنة غير جنون
عتقت في الدن حتى ... هي في رقة ديني
ولنا ساق عليه ... حلة من ياسمين(704/25)
ويجمل الشرب في قطربل على الورد في نيسان، لأن شرابها عتيق، وليشرب الأغمار من العسل:
اشرب على الورد في نيسان مصطحباً ... من خمر قطربل حمراء كالكاذي
واخلع عذارك لا تأتي بصالحة ... ما دمت مستوطناً أطراف بغداد
نعم شبابك بالخمر العتيق ولا ... تشرب كما يشرب الأغمار في ماذى
وما كان يطيب المقام لأبي نواس في موضع من مواضع القصف والفتك على كثرتها إلا بقطربل فإنها كانت منقلبه ومرجعه.
ذكر ياقوت في الكلام على القفص بعد ما عرف بهذا الموضع، وذكر ما قيل فيه من الأخبار والأشعار قصيدة لأبي نواس هي:
رددتني في الصبى على عقبي ... وسمت أهلي الرجوع في أدبي
لولا هواؤك ما اغتربت ولا ... حطت ركابي بأرض مغترب
ولا تركت المدام بين قرى الكر ... خ فبُورى فالجوسق الخرب
وباطُرنجي فالقفص ثم إلى ... قطربل مرجعي ومنقلبي
ولا تخطيت في الصلاة إلى ... تبت يدا شيخنا أبي لهب
وذكر ياقوت هذا الموضع في الكلام على (بنا) وأورد قصيدة لأبي نواس فيها وصف جميل لخمر قطربل يجمل أن نضعها بين يدي القراء هي:
سقيا لبنا ولا سقياً لعانات ... سقياً لقطربل ذات اللذاذات
وإن فيها بنات الكرم ما تركت ... منها الليالي سوى تلك الحشاشات
كأنها دمعة في عين غانية ... مرهاء رقرقها ذكر المصيبات
تنزو إذا مسها قرع المزاج كما ... تنزو الجنادب أوقات الظهيرات
وتكتسي لؤلؤات من تعطفها ... عند المزاج شبيهات بواوات
مر ذكر هذه القرية في مواطن كثيرة من شعر أبي نواس غير ما ذكرنا. ويجمل بنا أن نثبت أخيراً هذه القصة التي ذكرها الصولي عن بعض بني نوبخت ورواها ياقوت في معجمه قال: لما انصرف أبو نواس من مصر في طريقه إلى العراق، اجتاز بمدينة حمص، فرأى كثرة خماريها وشهرة شرابها. فأقام بها مدة يغتبق ويصطبح، وكان بها خمار يهودي(704/26)
اسمه (لاوى) فقال لأبي نواس: كيف رأيت مدينتنا هذه؟ فأجابه: حدثنا بعض رواتنا أن هذه هي الأرض المقدسة لبني إسرائيل. فقال له الخمار: أيما أفضل هذه أم قطربل؟ فقال: لولا صفاء شراب قطربل، وركوبها كاهل دجلة، ما كانت إلا بمنزلة حانة من حاناتها.
ثم مر أبو نواس بمدينة عانة فسمع اصطخاب الماء في وجداولها فقال: أذكر في هذا قول الأخطل:
من خمر عانة ينصاع الفؤاد لها ... بجدول صَخب الأذى موْار
فأقام فيها ثلاثاً يشرب. ثم قال لولا قربها من قطربل ومجاذبة الدواعي إليها لأقمت بها أكثر من ذلك. فلما دخل الأنبار تسرع إلى بغداد وقال: ما قضيت حق قطربل، فعدل إليها وأقام ثلاثاً أتلف فضلة كانت معه من نفقته، وباع رداءً معلماً من أردية مصر. ولما أراد الانصراف عنها اجتمع الخمارون للسلام عليه. قال الصولي: فما شبهتهم وإياه إلا بخاصة الرشيد عند تسليمهم عليه يوم حفل له. وقد قال في ذلك قصيدة ظريفة هي:
طربت إلى قطربل فأتيتها ... بمال من البيض الصحاح وعين
ثمانين ديناراً جياداً أعدها ... فأتلفتها حتى شربت بدين
رهنت قميصاً سابرياً وجبة ... وبعت رداء معلم الطرفين
لخمارة دين ابن عمران دينها ... مهذبة تكنى بأم حصين
وقلت لها إن لم تجودي بنائل ... فلا بد من تقبيلي الشفتين
فقالت: وهل ترضى بغيرهما هوى ... با بلج كالدينار فاتر عين
وقد كنت في قطربل إذ أتيتها ... أرى أنني من أيسر الثقلين
فروحت عنها ميسراً غير موسر ... أقرطس في الإفلاس من مائتين
وقال لي الخمار عند وداعه ... وقد ألبستني الخمر خف حنين
ألا عش بزين أين سرت مودعاً ... وقد رحت منه حين رحت بشين
بغداد
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية(704/27)
سرفتان قبيحتان:
خطر يهدد القصة المصرية
للأديب كمال رستم
. . . إن المتتبع للحركة القصصية في مصر، لا يستطيع أن يخفي خوفه من الخطر الذي بات يهدد أدب القصة، وأقول (القصة) وأعني في ذلك أن أحمل اللفظ أكبر معناه فتستوي عندي القصة الطويلة والأقصوصة!
. . . ليس فينا من ينكر أن الأدب القصصي مستحدث في العربية، وأن ظهوره كأدب ذاتي متميز لا يرجع إلى أبعد من هذا القرن العشرين. وأقول أدب ذاتي وأنا التمس للتعبير شيئاً غير قليل من التحفظ، فإن لقائل أن يقول: وهل لنا حقا أدب قصصي ذاتي؟
والحق أن الإجابة عن هذا السؤال لا تتطلب كثيراً من الجهد متى ما توفرت لدى الكاتب الشجاعة فيجب من فوره بأن ليس في مصر قصص ذاتي.
. . . أعلم سلفاً أن قولي هذا سيقيم ويقعد جماعة نصبوا أنفسهم آلهة للقصة في مصر، وليس في هؤلاء من يهمني رضاهم أو سخطهم ما دمت أهدف إلى غرض سام أرجو من وراءه أن يعود على أدبنا بالخير والنفع!. . . ويبقى أن ندير السؤال على وجه آخر فنقول: هل القصة المصرية موجودة بالفعل. . . وهل ما تطالعنا به المجلات الأسبوعية قصص مستمدة من صلب الحياة المصرية؟ أكبر الظن أن الإجابة عن هذا السؤال ستكون سلباً. . . فالقصة المصرية لا تعبر عن روح المجتمع بل هي الصدى الشائه لمجتمعات غربية وأجواء أجنبية! إن مقياس الذاتية في القصة أن يجد الإنسان نفسه وأسرته وعاداته وأخلاقه وآماله آلامه في كل ما يكتب الكاتب من القصص، ذلك بأن القصة يراد بها أولا وقبل كل شيء تصوير المجتمع، بل إن مقرري الحالات الاجتماعية لعصر من العصور في بلد من البلاد ليعتمدون في الكثير الغالب على القصة في تقرير الحالة الاجتماعية لهذا العصر باعتبار أنها الصدى الحاكي له. . وليكن المثال التالي مصدقاً لما نقول:
إن مصر ترزح في الوقت الحاضر تحت عبئ ثقيل من الآلام، فأين القصة التي يمكن أن يعتمد عليها مؤرخ في عصر متأخر ليصل منها إلى حقيقة هذا الوقت العصيب الذي تجتازه مصر؟ لقد كتبت قصص في بلاد أخرى كان مدارها علاج المشاكل الاجتماعية لتلك(704/29)
البلاد، فقومت من الأخلاق وهذبت من العادات، وأسقطت حكومات وأدلعت نيران ثورات، فأين قصتنا المصرية من هذا كله؟
أو ليس عجيبا والشعب يعاني قصصا عللا اجتماعية لا حصر لها ألا نجد بين كتابنا القصصيين من يجعل من هذه العلل عقد قصصه؟. . . بل إن النفس لتقطر أسى حينما نقلب بين أيدينا المجلات الأسبوعية فلا نقف فيها على غير قصص الحب، كأنما الشعب الذي يؤود سواده أعباء الجهل والفقر والمرض يمضي كل وقته متغنياً بالحب وما يتصل بهذا الحب من العواطف والانفعالات؟. حتى هذا اللون من القصة الذي استغرق كل أدبها إنما هو لون واغل دخيل!
لقد دلت التجارب على أن الناسخ أو المقتبس لا يستطيع في الغالب أن يخلق أو يبتكر، وهذه حقيقة معروفة لنفر غير قليل من هؤلاء الذين توفروا على النقل والاقتباس.
ولكن ليس هذا كل ما في الأمر من خطر، ذلك بأن القصة غزت ميداناً واسعاً هو ميدان السينما وتأثيرها على العقول لا يحتاج إلى دليل، فإن أولادنا وبناتنا وزوجاتنا يؤثرون دور العرض على غيرها من ضروب التسلية والترويح عن النفس، وهكذا يبرز جلياً خطر عرض عادات وأخلاق غير عاداتنا وأخلاقنا على النشء والبنت والزوجة مما وضح أثره الأليم في اصطناع هذه العادات والتخلق بهذه الأخلاق حتى أشفق المشفقون على مجتمعنا من الانحلال.
وبعد فلعل ختام هذه الكلمة العاجلة هو ما كان ينبغي أن يكون مبدأها، ذلك أني كتبت هذه الكلمة في أعقاب قراءتي قصة لكاتب في عدد المصور الأخير عنوانها (الأرض التي تكفيه)، وقد نسبها الكاتب إلى نفسه، وهي لروائي من أعظم روائي العالم وأبعدهم صيتاً وهو الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي. . . وهي القصة الموسومة باسم:
(كم حاجة المرء من الأرض). . . والنقل على هذه الصورة أبعد ما يتصوره الإنسان من الجرأة، فلو أن الناقل نقل عن كاتب مغمور لالتمسنا له بعض العذر، ولكن أن يضيف إلى نفسه عملا لكاتب لامع كتولستوي فهذا هو ما يحير عقلا كعقلي على الأقل. . فهل ظن الناقل أن أدب تولستوي لا يقرأه شخص عداه؟ فإذا كان شأن، أدباء القصة هنا مع مؤلف (السلم والحرب) و (أنا كارنينا) هو هذا الشأن فكيف شأنهم مع غيره؟(704/30)
هذه الظاهرة الخطيرة رأيتها كذلك في أدب كاتب معروف هو الأستاذ توفيق الحكيم، فقد ظهرت له قصة في أحد أعداد مجلة أخبار اليوم بعنوان (ليلة الزفاف) وليست هذه القصة غير قصة (البحث عن زوج أمين) لكاتب أمريكي هو: وهي منشورة بعدد مجلة (قصص الحب) الأمريكية الصادر في 7 يونيو سنة 1941. وعذر الأستاذ الحكيم أن المؤلف الأصلي غير معروف لقراء العربية على الأقل، فلم يجد حرجاً في التغرير بعقول القراء! ومهما كانت خطورة اعتماد الناقل في أدبه على ما ينقله من أفكار الغرب، فإن هذه الخطورة ستكون أبعد مدى في تأثيرها في المجتمع المصري كما قدمت. ومن هنا حق لي أن انبه إلى مقاومة هذه الظاهرة والحد من تأثيرها السيئ الذي تخلفه بعض هذه القصص في مجتمعنا من جهة أخرى.
كمال رستم(704/31)
العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم
للأستاذ عبد المنعم ماجد
(تتمة لما نشر في العدد الماضي)
يظهر أن أثر المحضر الأول كان بالغاً، فالخليفة الفاطمي في مصر وقتذاك وهو الحاكم بأمر الله الذي كان قد أباح للسنيين من اتباع مالك الحرية في تدريس مذهبهم؛ بل أنشأ مدرسة لتدريس هذا المذهب وخاصة من الناحية الفقهية، فإنه لما سمع بالطعن في نسبه في المحضر، ثارت ثائرته، وحظر ما كان قد أباحه. ويقول أبو المحاسن أنه هان في أعين الناس لكتابة العلماء في المحضر وإنه قامت قيامته. والظاهر أن ثورته كانت شديدة حتى أنها تعدت إلى اليهود كما يذكر كردى ساسي في كتابه (الخليفة الحاكم بأمر الله ص33).
كذلك شهد هذا المحضر من أزر من يحقد على الفواطم، فاتخذه كل عدو لهم سلاحا قويا ضدهم، فحاكم المدينة ومكة أبو الفتوح (وكان حاكما من قبل الفواطم) ألغى الخطبة له. هذان المحضران ظهرا بلا شك كنتيجة لضعف البويهيين في هذه الفترة، ومع سوء العلاقة فيها فإن التفاهم يكون ممكناً في بعض الأحيان ما وجد البويهيون. فمثلا استمر التضامن بين أهل الكرخ من الشيعيين في بغداد والفواطم في مصر في الاحتفال ببعض أعياد الشيعة، ولكن حينما زال حكم البويهيين ساءت العلاقة بمجيء السلاجقة، وذلك لأنهم كانوا سنيين كالخلفاء العباسيين لا يعترفون بحق للفواطم بل هم أعداء لهم.
الفترة الثالثة
وتبدأ من سنة 447، وهي السنة التي دخل فيها طغرلبك زعيم السلاجقة بغداد، ولذلك تعتبر بدء العهد السلجوقي. في هذه الفترة تسوء العلاقة بين بغداد والقاهرة، لأن السلاجقة على عكس البويهيين، وقفوا موقفا عدائيا تاما من الدولة الفاطمية، وذلك لأنهم أولاً كانوا من أهل السنة لا يعتقدون بشرعية الخلافة الفاطمية. وثانياً لأن الدولة السلجوقية عملت على تقوية الخلافة العباسية فحفظت لها نفوذها الروحي وكان مفقوداً في عهد البويهيين، ولذا كان طبيعيا أن يظهر العداء بين الطرفين وأن يتحالف السلاجقة مع الخلفاء العباسيين على الشيعيين الفواطم، فيجب أن نعتبر العلاقة في هذه الفترة على أسوأ ما تكون بعكس ما(704/32)
كانت عليه في الفترة الأولى حينما كان للبويهيين القوة، وحتى في الفترة الثانية كانت العلاقة متوسطة، أما في هذه الفترة فقد أصبح العداء سافراً. ولذلك سنجد كلا من الدولتين تعمل الواحدة منها على القضاء على الأخرى، ولعل أبرز مظاهر هذه العلاقة السيئة ثورة البساسيري، قام بها رجل يدعى أبو الحارث أرسلان البساسيري من موالي الديلم ينسب إلى بلد في فارس اسمها بسا، وكان هذا الرجل من أصل تركي قربه الخليفة القائم إليه، حتى لم يكن يأتي أمراً إلا بعد استشارته، وقلده الأمور، وخطب له على المنابر في العراق وخوزستان إلا انه كان شيعيا كالبويهيين لا يرى الخلافة الحقة إلا في أولاد فاطمة، ورث هذا عن سيده بهاء الدين البويهي فقد كان مملوكا له، وربما يمكننا أن نفسر بهذا السبب انقلابه على الخليفة القائم وتجبره عليه حتى جفاه، وقد رأينا من قبل كيف كان يفعل أسياده البويهيون بالخلفاء العباسيين، وإن كان معظم المؤرخين يذهبون إلى أن سبب سوء العلاقة راجعة إلى جفاءه حتى اضطر القائم إلى إبعاده، وأيد رئيس رؤسائه في عداوته له وفسد الأمر بينه وبين الخليفة حتى أدى الأمر إلى استنجاد القائم بالسلاجقة وما كاد طغرلبك يدخل بغداد حتى فر البساسيري إلى الموصل.
وجدت الخلافة الفاطمية في هذه الحوادث فرصة سانحة للانتقام والعمل على تقويض ملك العباسيين، كما أدركت الخطر من بروز السلاجقة من مواطنهم من تركستان، كقوة فتية على أبواب بغداد، ولذلك مشت الرسل بينها ومدته بيد المساعدة. وفي أبي المحاسن نص يؤيد وصول هذه المساعدة (إن الذي وصل البساسيري من المستنصر من المال خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك، وخمسمائة فرس، وعشرة آلاف قوس، ومن السيوف ألوف ومن الرماح والنشاب شيء كثير).
من قيمة المساعدة يتبين مقدار حماس الفواطم، كما يفسر قبول البساسيري لهذه المساعدة رغبته في الانتقام من أعدائه. ولذلك لم يتردد في المسير إلى بغداد بعد أن مهد لذلك بإيقاع الفتنة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال، وكان قد أطمعه في الملك، حتى خالف أخاه وعصاه على أية حال بالمساعدة القيمة التي قدمها له الفواطم وبولاء أهل الكرخ الشيعيين في بغداد، وبمساعدة حاكم الموصل تم له الاستيلاء على بغداد كلها وسارت جنوده في شوارعها، حاملة الرايات المستنصرية، وعليها ألقاب المستنصر صاحب مصر، ثم خلع الخليفة(704/33)
العباسي، وبايع الخليفة الفاطمي المستنصر بالله وأرسل البردة والقضيب والمنبر إلى مصر.
وقد فرح المستنصر بنجاح ثورة البساسيري فرحاً شديداً، حتى أنه لما غنته إحدى القيان:
يا بني العباس صدوا ... ملك الأمر معد
ملككم كان معرا ... والعوارى تسترد
وهبها هبة كبيرة. ويقول أبو المحاسن، وكان ما وقع للمستنصر هذا تمام سعده، والحقيقة أن ما وقع للمستنصر ما وقع لفاطمي قبله.
واكن كانت هناك حقيقة عظيمة لا تغيب عن الذهن هي أن الدولة الفاطمية كانت قد بدأت بدورها تتدهور هي الأخرى، ولذلك لم تتح لها مواردها السير في مشروعها ضد العباسيين إلى النهاية. كما أن المستنصر خاف من البساسيري فكف عن متابعة إمداده، فما عاد طغرلبك إلى بغداد حتى تمكن من قتل البساسيري وفتك به، وأجلس القائم بأمر الله ثانية على عرش أجداده، وأعاد للخلافة قوة لم تكن تحلم بها في عهد البويهيين وإن كانت روحية أكثر منها مادية. والدولة السلجوقية دولة فتية، ولذلك نجدها تقوم بفتوحات تمتد شرقا وغربا، فتشارك الفواطم ملكهم في الشام، كما نجد أن اتابكة الشام السلاجقة يتدخلون في سياسة مصر وبخاصة أتابكة الدولة الزنكية، وينتهي الأمر باستيلاء صلاح الدين على مصر فيما بعد.
كذلك كانت هناك حركة ثانية حديثة في عهد السلاجقة، وتبين نوعاً من العلاقة بين الفواطم والعباسيين، وإن كانت علاقة غير مباشرة. وهي حركة سرية تعتبر من أقوى ما عرف من الحركات في العالم. هذه الحركة هي حركة الحسن الصباح المشهور بالحميري. حدثت حركته في أواخر القرن الخامس الهجري، وكان هذا الرجل من زملاء نظام الملك الوزير المشهور (في المدرسة) وعمر الخيام الشاعر والفلكي الذائع الصيت. . وكان يأمل أن يصل إلى الحكم كزميله نظام الملك مثلا ولكنه فشل في غرضه، فذهب إلى بلاط القاهرة، فتشبع بروح القاهرة الديني وأكرمه المستنصر كما يقول ابن الأثير وأعطاه مالا وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته. وعلى ذلك ذهب من مصر إلى آسيا فاستولى على قلعة الموت، وكون جماعة عرفت في أيام الصليبيين باسم الحشاشين، ومنها أخذت الكلمة بمعنى قاتل سفاك،(704/34)
وكانت هذه تقاتل بالسيف والخناجر فأوجدت حالة من الفوضى في الخلافة العباسية فأضعفتها، واستولى على أجزاء منها، وكان يدعو في هذه الأجزاء للإمام الفاطمي، وإن كان في آخر أيامه دعي لنفسه وادعى أن نسب المستنصر باطل، وتسمى بالإمام، كذلك تغالى في دعوته كما هو مذكور في كتاب الشهرستاني فاختلف عن الدعوة الفاطمية.
المهم في هذه الحركة أنها لاقت تأييداً من الخليفة المستنصر وكانت الفوضى التي أثارتها سبباً دعا إلى سقوط الدولة العباسية فيمل بعد بحيث أنهكت قواها الفتن والقلاقل وأضعفتها فلما جاء المغولي هولاكو، وجدها لقمة مستساغة.
فالعلاقة في هذه الحركة لم تكن مباشرة بين بغداد والقاهرة كما كانت في عهد البساسيري، تلك هي العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم مرت بمراحل ثلاث كما ذكرت كانت أولاها على أحسن ما تكون العلاقات وتدرجت في السوء حتى وصلت إلى العداء الصريح في الفترة الأخيرة، تدرجا يتبع مدى تشيع أصحاب الأمر والنهي في بغداد للعقيدة الشيعية التي منها الفواطم.
وسينتهي الأمر بتحكم السلاجقة الشاميين وخاصة أتابكة الدولة الزنكية في شئون مصر الداخلية، ويظهر صلاح الدين الأيوبي الذي يكون على يديه القضاء على الدولة الفاطمية في مصر وتكون الدولة الأيوبية. فنجد أنفسنا بازاء علاقة أخرى هي علاقة الشام بمصر، ولذلك نتركها لفرصة أخرى.
عبد المنعم ماجد(704/35)
اتحاد شمال أفريقيا
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
مضى عصر الموت والانحلال في شمال أفريقيا وبدأ عصر جديد يلوح في الأفق، وبذلك لا تضيع السنوات الطويلة التي قضاها في الكفاح سدى. وقد تطورت قضايا تونس والجزائر بحيث أصبح من المستحيل تجاهلها. فلأبواق الاستعمار أن تزعم ما تشاء، وللسلطات المحلية أن تتصرف كما تريد، فإن الفترة الحالية لن تدوم طويلا. إن حالة الضغط والاضطهاد والفوضى التي تشمل اليوم هذه الأقطار العربية الشقيقة، إنما هي مظاهر انهيار يشق طريقه إلى القبر بخطى حثيثة، أما هذه النهضة الوطنية المكافحة الصابرة فهي طليعة عصر جديد. ذلك أن قضايا شمال أفريقيا تخرج من حدودها الضيقة المحدودة، إلى حدود أوسع لم يكن لها عهد بها من قبل، فصوتها يرتفع اليوم في العواصم العربية كلها كما يرتفع في باريس ولندن ونيويورك، وليس هناك من يستطيع أن يقف في وجه شعب صمم على أن يعيش مهما كان الثمن الذي يدفعه في سبيل أن يعيش.
وللاستعمار القاسي الشديد مساوئ لا تحصى، ولكن له حسنة في هذه البلاد، فقد عرف الناس بواسطته أن الحديد لا يفله إلا الحديد، ولذلك لم يوجد فيها من يحاول اصطياد الفرص لأنه لا توجد فرص، وإنما عبئوا جهودهم للمقاومة الطويلة الحافلة بالصبر والكدح والشقاء، فأكسبهم ذلك قوة قل أن يتسلح بها شعب دون أن تصل به إلى النجاح، وبذلك برهنوا على أن بلادهم - بالرغم مما قاسته - غير قابلة للموت.
أضف لذلك أن الوضعية في شمال أفريقيا غير طبيعية، فالناس فيها يحكمون بأساليب بعيدة كل البعد عن أن ترضى ما يصبون إليه بعد أن تعرفوا إلى الحياة الحديثة، ونزعوا إلى الحرية والاستقلال. وإذن فليس هناك بد من أن تتغير الحالة الحاضرة سواء رضي السادة المستعمرون أم كرهوا؛ ذلك أنهم يقفون في وجه التاريخ، ولن يكون من اليسير الوقوف في وجه التاريخ طويلا. . .
ولست أكتب هذه الكلمة لأتحدث عن الاستعمار الفرنسي ومساوئه الشهيرة، وإنما أريد أن أتحدث عن نوع النظام الذي يجب أن تخضع له هذه البلاد الشاسعة بعد أن يزحزح التاريخ هؤلاء السادة الواقفين في وجهه. ما هي قواعد السياسة في شمال أفريقيا الحرة؟ هل يظل(704/36)
التقسيم الحالي قائما أم يقوم مقامه اتحاد؟
يظن كثير من الناس أن تقسيم شمال أفريقيا الحالي يرجع إلى الاستعمار الفرنسي، وهذا ليس بصحيح. فقد عرفت شمال أفريقيا هذا النظام منذ زمن بعيد، حتى قبل الإسلام خضعت أجزاؤه المختلفة إلى مقادير متباينة، بحيث لم يستطع أحد أن يوحده في ظل الحرية أو الاستعمار، إلى أن جاء الإسلام، ولم يكد ولاة القيروان يوحدون تلك الأراضي حتى تصدعت هذه الوحدة من جديد. ويكفي أن نقول إن شمال أفريقيا في تاريخه الإسلامي الطويل لم يتوحد إلا مرتين، أولاهما في عصر الفاطميين إلى أن رحلوا إلى مصر، وثانيتهما في عصر الموحدين ملوك مراكش إلى أن انفصل عنهم بنوا زيان في الجزائر، وبنوا حفص في تونس، وهكذا تصدعت وحدة شمال أفريقيا لآخر مرة في القرن السابع الهجري بعد أن لم يكتب لها النجاح في المحاولتين اللتين أسلفنا الإشارة إليهما. وكان هذا على أساس قيام ثلاث دول هي مراكش والجزائر وتونس، وقد ظل الأمر على ذلك منذ هذا الحين.
ذلك هو التاريخ، وهو دون شك عامل حيوي لا يحمل إغفاله. بيد أن ظروف الحياة في العصر الحديث قد تغيرت وبات نظام العالم يدعو إلى قيام كتل دولية كبيرة، تقوم على أساس التعاون وتبادل المنفعة. فإذا أعدنا النظر في اتحاد أو وحدة شمال أفريقيا على ضوء هذا استطعنا أن نلاحظ أشياء جديدة.
هذه البلاد شديدة التشابه من الناحية الجغرافية؛ فهي مثل الجزيرة الخصبة المحصورة بين رمال الصحراء في الجنوب والشرق، ومياه البحر في الشمال والغرب. والاختلاف في الظواهر الطبيعية بينها جميعاً يشبه اختلاف هذه الظواهر في كل قطر على حدة. ولذلك فإن هناك تشابهاً كبيراً بين السكان في الجنس والعادات والخلقة والتنوع.
ولا توجد حدود طبيعية بين هذه الأقطار، ولذلك ظلت حدودها مطاطة وغير مستقرة خلال عصور التاريخ.
وتاريخها شديد الارتباط في حوادثه بالرغم من انفصالها السياسي، وأغلبية السكان الساحقة مسلمون وهم متشابهون في ظروف الحياة، ومستوى الفكر، وتركيب العقلية، وكل اختلاف في طبائعهم يرجع إلى عوامل استثنائية لن تلبث أن تزول مع انهيار الأنظمة الحالية.(704/37)
أضف إلى ذلك خضوعها في العصر الحديث لدولة واحدة هي فرنسا - مع استثناء الجزء الشمالي الصغير من مراكش الخاضع للنفوذ الأسباني ولا يتعدى سكانه المليون نسمة - ومهما تتعدد الأنظمة وأسماؤها، فقد اصطبغ الاستعمار الفرنسي فيها بصبغة واحدة، لا يختلف في جوهره مطلقاً. قام فيها بإصلاحات مادية واحدة، وأثار فيها مشاكل واحدة أيضاً، هي مشكلة العنصرية ونزع الأراضي وكبت الحريات العامة ومحاولة التوفيق بين التقدم الاقتصادي والاستثمار وبين الحيلولة دون تطور الأهالي واستفادتهم من التقدم الاقتصادي، فنتجت عن ذلك حالة واحدة متشابهة.
ثم إن الموقف الفرنسي إزاء أماني هذه البلاد القومية موقف واحد وهو موقف الحريص على الاحتفاظ بكل شيء وعدم التسامح حتى في المسائل الصغيرة التي لا تقدم ولا تؤخر في صميم النظام الحالي.
وقد قلنا ونحن معتمدون على طبيعة الحياة وقانون التطور - إن هذه البلاد سوف تحقق أمانيها القومية مهما فعل الفرنسيون. فالسؤال الذي نريد أن نطرحه الآن هو: هل في استطاعة هذه الأقطار أن تكون بعد تحررها من النظام الحالي دولة واحدة أو أن تؤلف اتحاداً سياسياً؟.
لقد رأينا أن التاريخ لا يقدم إلينا أمثلة مشجعة على التفكير في قيام دولة واحدة مؤلفة من شمال أفريقيا العربي، ولذلك فنحن نرى استحالة قيامها في المستقبل القريب. أما ما يمكن أن يقوم فهو (اتحاد شمال أفريقيا العربي) وهو مشروع يجب إطالة التفكير فيه، ومحاولة بنائه على أسس مستمدة من التاريخ
كان هذا الاتحاد متعذراً في الماضي يوم كان التاريخ لا يسمح به لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها في هذه العجالة. أما اليوم فإن المآسي الحديثة قد صهرت هذه الأقطار، وقربت فيما بينها، وجعلتها تفكر في مشاكل واحدة، وتقاسي أرزاء واحدة، وتكون على اتصال دائم بحكم النظام المتشابه الذي تخضع له، وتبعيتها لدولة واحدة في العصر الحديث.
كان سقوط الجزائر بيد الأتراك إيذانا بسقوط تونس في يدهم أيضاً. ثم سقطت الجزائر مرة أخرى بيد الفرنسيين فكان سقوطها مقدمة لسقوطهما جارتيها معاً. وإذن فإن من أبسط الدواعي إلى قيام (اتحاد شمال أفريقيا العربي) هو أمن هذه البلاد الإجماعي في المستقبل.(704/38)
وليس ذلك لأنها لن تستطيع الدفاع عن نفسها منفردة، ولكن لأن الحدود بينها ليست طبيعية ولذلك لا يمكن أن يبنى الدفاع عن واحد إلا على أساس الدفاع عنها جميعها. والحرب الأخيرة نفسها تقدم إلينا أسطع مثال على هذا، إذ كان مصير هذه الأقطار واحداً حين انتصر الألمان، وواحداً حين انتصر الحلفاء، وعجز المارشال رومل عن الصمود في تونس أمام جيوش الحلفاء التي احتلت الجزائر ومراكش.
وعلى ذلك فنستطيع أن نصل إلى نتيجة منطقية سليمة هي أن شمال لن يستطيع أن يكون إلا مجتمعاً؛ وسوف يكون اتحاده مصدر قوة، ولن تتمتع واحدة من بلاده باستقلالها كاملا ما دامت إحدى جارتيها محتلة بالجيوش الأجنبية. وإن السبيل الوحيد إلى ذلك هو قيام (اتحاد شمال أفريقيا العربي).
وإلا فسوف يكون من سخرية الأقدار أن يجمع بينها الاستعمار ثم يعجز عن ذلك الاستقلال.
عبد المجيد بن جلون(704/39)
تعقيبات. . .
للأستاذ عباس حسان خضر
أدب حرب - أدباء العروبة - علية بنت المهدي والعصائب -
قصة زواج أم كلثوم. . . . . .
أدب حرب:
كان من فعل الحرب الماضية أن غمرت الأسواق مصنوعات رديئة، خلت لها بانعدام البضائع الجيدة، فلاقت الأولى ما لم تكن تلقاه الثانية من السعر والرواج، واهتبل الفرصة كثير من صغار الصناع والدخلاء في الصناعات، فجدوا، ولم يلبث كبارهم والمهرة منهم أن باروا أولئك فلم يأبهوا بالإتقان واختبار المادة، وأزجى أولئك وهؤلاء بضاعتهم إلى السوق، ورزءوا بها المستهلكين.
ونواحي الحياة من اقتصادية وأدبية وغيرها مشتجرة متفاعلة فكان من الحتم أن يمتد ذلك التيار إلى الأدب، وكان من النتائج ذات المقدمات إن نرى قوما قد استشرى بهم السعار، فراحوا يؤلفون، ويؤلفون. . . أي ينتشون من الكتب ويجمعون ويكونون من الأشتات والنتوشات كتباً يطوفون بها على إدارات الصحف ومكاتب الصحفيين، مرة للإعلان بالثمن ومراراً لرجاء القريظ والتنويه!
أثار بنفسي تلك الشئون والشجون مقال الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في (تجار الأدب) وإن كان الدكتور قصر حديثه على هؤلاء الدخلاء فإن الأمر - من حيث الإكثار وما يقتضيه من عدم الإجادة - قد امتد إلى كبار الكتاب. . . فهذا كاتب يسود الصفحات ذات العدد ولم يبدأ بعد قصته، فإذا أخذ التعريف بأبطالها ترك البطل واقفا ينتظر عودة الكاتب من (مشوار) بعيد. . . وذاك كاتب كثرت مقالاته بكثرة ما يصدر من الصحف والمجلات في هذه الأيام، فيجلس على (مصطبة) كل منها (يدردش) لا يكاد يرتفع حديثه عن هذر الأحلاس بالمقاهي. . . وآخر يملأ الصفحة من حجم الجرائد اليومية بأمشاج من الأخلاط، كلمة من الشرق وكلمة من الغرب، وشطحة لا تدري من أين. . . وأخرى لا تعرف إلى أين. . . ولغيرهم في مثل هذا طرائق قدد. ولا أريد أن أسمي أحداً، فما التجريح وجهة(704/40)
همي، وإنما أقصد أن المعضلة هي مسألة هؤلاء الكبار. أما أولئك المحتبطون فأمرهم ليس بذي بال، فسينكشفون عن الأدب بتنبيه القراء إلى زيفهم، وأما كبارنا - ولهم في الأدب والنتاج القيم ماض مجيد وبلاء محمود - فيظهر أنهم قد اغتروا بذلك واطمأنوا إليه وحسبوا أنهم بلغوا نهاية الشوط فأخلدوا إلى الراحة من عناء الدراسة والإجادة والإيجاز. . . واستسهلوا الإكثار واستهواهم كسبه.
ولا أنكر على حملة القلم أن يكسبوا من كده ما يمكنهم من العيش الكريم، بل أرى ذلك باعثاً على الإنتاج الأدبي ومشجعاً عليه، ولكنا نريد جودة النتاج وعدم الذهاب إلى جشع التجار.
أدباء العروبة
لعلك قرأت في الصحف أخيراً أنباء أو نشرات عن جماعتين تسميان باسم واحد هو (جامعة أدباء العروبة) ولا بد أنك إذن عجبت، فهو أمر يدعو حقاً إلى العجب! على أن الأعجب منه أن تتصفح ما تتضمنه هذه النشرات من الأسماء فلا تجد بينها (معرفة) في الأدب عدا واحدا أو اثنين من غير الصف الأول!
في أوائل هذا العام دعيت إلى تأليف جماعة أدبية قيل لي - فيما قيل - إنها ستؤلف من أدباء البلاد العربية، فلبيت، وأنا وإن كان بي انقباض عن المجتمعات إلا أنني مصاب بحب الاستطلاع، فرأيت هناك أفراداً من مصر، لقليل منهم بعض النشاط الأدبي، وبعضهم من المتخلفين في الأدب، وسائرهم إما غني (يدفع) أو صاحب (مكان وتلفون) أو مخبر في جريدة ولكل وجهة، وتلتقي الوجهات كلها عند الرغبة في التسلق. . . ووقع الأختيار على رجل كبير، معروف - إلى جانب صفته السياسية بالشغف بالأدب ومودة الأدباء، هو معالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا الذي تفضل فشمل الجماعة بعطفه. . .
وشرعت (جامعة أدباء العروبة) في العمل، وماذا سيعملون؟ حملهم رجل كريم في سيارات إلى القناطر الخيرية ليجتلوا الربيع هناك ثم إلى الأهرام ليناجوا القمر. . . ومكن لهم معالي الوزير من إسماع لم (يقفلوا الراديو!)
ومنذ شرعوا في العمل ظهر بينهم شيء من (مفرزات مركب النقص) ما كدت ألمحه حتى نجوت بجلدي. . . وظل (مركب النقص) يعمل حتى تنازعوا وانقسموا إلى فريقين: فريق ما يزال في كنف معالي دسوقي باشا، والآخر قد اختار لرياسته الأستاذ عبد الحميد عبد(704/41)
الحق، وكل من الفريقين يتسمى بجامعة أدباء العروبة!
ونعود إلى العجب من تنازع الفريقين اسماً ليس أحدهما حقيقاً به، لأن المتبادر إلى الذهن من هذا الاسم أنه علم على جامعة عربية أدبية، أي جماعة من رءوس الأدباء في البلاد العربية المختلفة، وليس بين هؤلاء ولا هؤلاء واحد منهم، على أن الصفة الغالبة على الرئيسين هي السياسة، فلو أنهما تخليا عن هذه الرياسة لانصرف كل من الفريقين إلى شأنه
علية بنت المهدي والعصائب:
نشرت جريدة (أخبار اليوم) صورة كتبت تحتها: (تسريحة للشعر عرضت في المؤتمر الدولي الثاني للحلاقة الذي عقد في باريس، ويلاحظ تأثير الذوق الشرقي في الحلية التي تستر جزءاً من الجبين في حالة اتساعه عن المألوف.)
صحيح أن هذا ذوق شرقي، ولكن ما أصل هذا الذوق؟ يخيل إلي أنه يرجع إلى علية بنت المهدي أخت الرشيد، فقد أثر عنها أنها كانت من أجمل النساء، لكن بها عيب، كان في جبهتها سعة تشين وجهها، فاتخذت العصائب المكللة بالجوهر لتستر بها جبينها، قال صاحب الأغاني في ذلك: (فأحدثت والله شيئاً ما رأيت فيما ابتدعته النساء وأحدثته أحسن منه)
وما أخال إلا أن هذه (المودة) قد انتشرت بمحاكاة عليه، وسارت بين النساء على اختلاف الأجيال وتعاقب الأزمان حتى الآن، وها هي ذي تأخذ طريقها إلى باريس. . .
وتلك هي سنة الناس في ابتداع (المودات) وانتشارها، وما أظن كثيراً من أوضاع الملابس التي نرتديها الآن، كربطة العنق وثنية السروال، إلا من عيب كان بأحد الناس في سالف الزمن، أو اضطرار لمواجهة حالة، أو ما إلى ذلك.
قصة زواج أم كلثوم
إن كان حقيقياً ما يقال وما تدل عليه الدلائل فقد انخدعنا - كما نخدع سائر الناس - في ما كتبنا بالتعقيبات الماضية عن زواج أم كلثوم، إذ أيقنا أن هذا الزواج أو العزم عليه حقيقة واقعة، وكانت طريقة إذاعة النبأ تحمل على الوثوق به، ولكن يظهر أنها طريقة أمريكانية.(704/42)
أسبوع واحد جرت فيه الأعاجيب: استعداد تام لعقد الزواج الذي لا بد أن يكون قد فرغ من بحث مقدماته، فإذا المقدمات تتأخر عن ظرفها حتى تبرز في هذا الأسبوع المسحور فتعرف أم كلثوم أن خاطبها متزوج، فترده! ولا ينبغي أن تسأل لم لم تعرف من قبل؟ وهل يخفى مثل ذلك في مثل هذه الحال؟! ليس لك هذا، لأن الأسبوع المسحور يجب أن يتسع لكل شئ
قالوا لأم كلثوم: إن بعض (أفلامك) لم تنجح أخيراً، لأنه لم يعمل لها الدعاية اللازمة، وسنكفيك هذا الأمر، فالرواية من عندنا، والدعاية علينا. . .
ويزاد في ذلك أن ما نشر عن هذا الزواج هو الحوادث الأولى في (الفلم) الجديد الذي يلحن أغانيه محمود شريف وقد يغني فيه من قلبه المفجوع. . . وتغني أم كلثوم مصورة أحاسيسها وانفعالاتها. . .
وسواء أكان ذلك صحيحا أم لم يكن فإن أم كلثوم ليست بحاجة إلى دعاية ولا إلى نجاح (أفلام) ففنها يتركز في أنها (مطربة حفل) وهي ناجحة فيه (بدرجة فوق الممتاز) وهذا حسبها، وأكثر ما يجنى من الدعاية للقائمين بها. . . أما أن هذا لائق أو غير لائق فهو موضوع آخر، وإن كان يجب ألا يغفل حسابه. . .(704/43)
البريد الأدبي
في النحو:
نقد الأستاذ عباس حسان خضر في مقالة له في (الرسالة الغراء) - 702 - الأستاذ ميخائيل نعيمة في مقالة له في (الكاتب) الغراء في قوله (مجيعون) لبنائه اسم الفاعل من (جاع) اللازم مثل هذا البناء وفي قوله (ويخاطبونا) لحذفه نون الرفع من الفعل. واليقين أن الأستاذ نعيمة بنى ما بنى من (أجاع) لا من (جاع) ومعناه أنا نجوع ونجيع غيرنا (جائعون ومجيعون). وإذا كان للحماسي أن يقول:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
وللإمام محمد بن إسماعيل البخاري أن يروي في كتابه المشهور:
(. . . وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون بها الله إلا أعطيتهم إياها) (. . . قال إبراهيم وكانوا يضربونا على الشهادة والعهد ونحن صغار) (. . فقال أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً. . .).
إذا كان للحماسي أن يقول ما قال وللإمام البخاري أن يروي ما روى فللأستاذ ميخائيل نعيمة أن يكتب (ويخاطبونا). قال الإمام التبريزي في (تقلونا) حذف النون الثانية عن الإعراب وهو لغة حجازية، وعلى هذا قول الآخر: (إلى من بالحنين تشوقيني).
والحذف عند التقاء النونين في كلام الأقدمين والمحدثين في شعرهم ونثرهم - كثير.
(السهمي)
(حول كتب وشخصيات):
كتب الأستاذ (عباس حسان خضر) في عدد الرسالة الماضي كلمة مشكورة عن كتابي الأخير: (كتب وشخصيات)
وطبيعي أن يكون له ولغيره من القراء والنقاد وجهة نظر في بعض المسائل تخالف وجهة نظري، ولا سيما في كتاب نقد يتناول عدداً كبيراً من الشخصيات الأدبية تختلف حولهم الآراء.
ولكني أحسب أنه من حقي كذلك أن أوضح وجهة نظري للقراء في مواضع الخلاف:(704/44)
1 - قال: إنني قررت في كتابي أن الأدب العربي (يغلب عليه طابع المعاني العامة المتبلورة، والقضايا الذهنية الكلية، ويطالع القارئ بنتيجة التجربة النفسية لا بطريقتها التي تشغل الحس وتستثير الخيال، وهو فقير في الصور والظلال. . الخ) ثم قال: (والأستاذ سيد يطلق هذه القذائف في وجه الأدب العربي، ثم يخلو إلى قطع مختارة من الآداب الغربية والهندية والفارسية معظمها من كتاب (عرائس وشياطين) للأستاذ العقاد فيعكف على ما فيها من الميزات التي جرد منها الأدب العربي، ويأتي من الشعر العربي بما يراه مجرداً من اللحم والدم. . . وهذا صنيع عجيب لأن القطع غير العربية التي أتى بها مختارة، والأستاذ سيد لم يطلع على كثير غيرها في آدابها. . . الخ) وكان فيما قاله! (وقد أجاد في تطبيق أسس النقد العام على الأمثلة التي اختارها، لولا (شنشنة) ما كنا نود أن يكون (أخزمها) فقد حرص في كل فصل من الفصول الأولى عند ذكر ميزات وقيم الفنون على أن يجرد أو ينقص نصيب الأدب العربي منها)
فأحب أن أقول للأستاذ: إنه ليس بيني وبين الأدب العربي عداوة تحملني على أن (أحرص) على تجريده من المزايا. فثقافتي عربية ودائرة بحوثي على وجه عام هي الآداب العربية. ولكنني (ناقد) يجمع الخصائص ويقدر القيم ويضع القواعد. فإذا لاحظت من مجموع دراستي فقر الشعر العربي في الصور والظلال بقدر احتشاده بالمعاني والأفكار - كما قلت - فإن محبتي للأدب العربي لا يجوز أن تقف بي عند تقرير هذه الظاهرة بإخلاص.
أما مدى دراستي للشعر العربي وهي التي تخول لي إصدار هذا الحكم، فتلك مسألة بيني وبين ضميري الأدبي، وأنا مستريح من هذه الناحية. ولعل مما يطمئن الأستاذ أن لي بحثاً كاملا عن (الصور والظلال) في الشعر العربي رجعت فيه إلى كل ما يملك فرد أن يرجع إليه من مصادر الشعر العربي، وهذا البحث لم ينشر بعد ولكنه بين يدي. والإحصاء الدقيق النسبي يقرر هذه القاعدة التي قررتها عن الشعر العربي بدون حاجة إلى الموازنة بين هذا الشعر والشعر العالمي الذي قد تنقضي مصادره على نحو واسع.
وأحب مرة أخرى أن أقول للأستاذ أنني في الموازنة التي قمت بها لم يكن كل اعتمادي ولا جله على مجموعة (عرائس وشياطين) ففي المكتبة العربية الآن مجموعة من الشعر(704/45)
العالمي - ليست مختارات فحسب - تكفي لبيان الاتجاه العام في التعبير. وبينها وبين الشعر العربي فوارق أصيلة في طريقة تناول الموضوع والسير فيه، وفي طريقة التعبير.
وإذا كانت للشعر العربي القديم ظروف تاريخية وعقلية خاصة جعلته يختار طريقه، ويكون تقاليده، فإن من واجب النقد في العصر الحديث أن يكشف عن الطرائق الأخرى لينتفع بها من يريدون التجديد الداخلي العميق لكيان الشعر في العصر الحديث.
على أنني حرصت على الاختيار من الشعر الفارسي والهندي والمصري القديم، ومن (الكتاب المقدس)، ومن (القرآن الكريم) لبيان خصائص التصوير والتظليل التي تقاس في الشعر العربي، وهي مصادر كاملة في المكتبة العربية لا مختارات.
ولو رجع الأستاذ إلى نقد: (ابن قتيبة)، وأبي هلال العسكري للأبيات:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أو للبيتين:
إن الأولى ذهبوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك ما يزال معينا
لعلم أن النقد العربي القديم لا يقيم وزنا للصور والظلال ولا يعدها قيمة فنية من قيم الشعر. . . وهذا وحده يكفي.
2 - قال: (ولم يكن المؤلف منصفا كل الإنصاف في الموازنة بين شوقي وعزيز أباظة في الرواية الشعرية ومرد ذلك فيما ألمح إلى ما استقر عنده من هوان أمر شوقي في الشعر، وقد بدا تحامله على شوقي في نقد الأبيات الآتية من مجنون ليلى:
لم إذن يا هند من ... قيس ومما قيل تبرا
أنعم (مناز) مساء ... سعدت سعد مساء
أوغل الليل فليقم. بل رويدا ... واسمعي (ليلَ. . .)
(يأخذ عليه في البيت الأول تسكين ميم (لم) وتسهيل الهمزة في (تبرا) وفي الباقي ترخيم منازل وليلى، ويعد هذه ضرورات يعيبها عليه، مع العلم بأن تسكين ميم لم، وتسهيل الهمزة كثير جداً في الشعر ولا غبار عليه، أما ترخيم المنادى فليس من الضرورات. . . وهذا وذاك وذلك أمور مستساغة بل كثيراً ما تستعذب وتستملح).
وهنا أجدني آسفا لأن الأستاذ لم يعرض وجهة نظري كاملة. فلم تكن تلك الأشياء التعبيرية(704/46)
هي التي أخذتها على شوقي في الصميم، إنما كان الذي أخذته هو الضعف في رسم الشخصيات والخوالج النفسية الإنسانية في أبطال الرواية، والتفكك الفني في سياقها، والخطأ في رسم نفسية (المجنون) وعواطفه. . . الخ وقد برهنت على هذا بالأمثلة التي أستطيع نقلها هنا. أما هذه الضرورات فقد لاحظت كثرتها كثرة شديدة، تخرج عما يستعذب ويستملح)، مما لا يلجأ إليه إلا صغار النظامين الذين تعوزهم المرانة. . . وقد استغربت هذا من شوقي فقلت:
(ومن العجيب أن تخون شوقي في روايته الشعرية أقوى خصائصه التي بهرت أهل زمانه، وهي قوة الأداء، ووضوح التنغيم) فهذا عيب إذن خاص بالروايات لا بشوقي الشاعر، كما بينت هناك في وضوح. وقد ذكرته على الهامش ولم يكن هو صميم النقد.
3 - وقال: (ومما أخطئه الإنصاف فيه نقده لتيمور إذ يصف فنه بالفتور، وبأنه يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحيوية. وهو في هذا يصنع موازين (غير مختومة) ويزن بها.
(فهذا أديب وديع يصدر عن أدبه عن ذات نفسه فيؤثر فيه اللطف والدعة. أليس هذا من (الصدق الذاتي) في الأدب؟ أولا يكون الناتج معجبا إلا إذا صخب فيه الأديب وعربد؟). . .
ومرة أخرى أجدني آسفا لأن الأستاذ لم ينقل حقيقة رأيي ولم يعرض مواضع نقدي (فأخطأه الإنصاف) فيما يقول:
فالذي يقوله الأستاذ هنا بديهية لا تبلغ بي الغفلة ألا ألتفت إليها. وليس كل أديب مكلفا أن يخصب ويعربد. وليست الدعة واللطف بأقل أصالة في الفن من الصخب والعربدة.
ولكن أكان هذا مأخذي على فن تيمور؟
أرجع إلى كتابي ص185 فأجدني أقول:
(لقد كان لتيمور الحق أن يتبوأ مكانه الذي ينسبه إليه بعض من يكتبون في النقد هذه الأيام، لو أنه وفق إلى منح الحياة لأبطال أقاصيصه وبث الحياة في تضاعيفها - ولو إلى حد، ولكنه - فيما عدا القليل من هذه الأقاصيص - يخونه التوفيق في إطلاق روح الحياة المتحركة. . .)(704/47)
(ولطالما خيل إلي - وأنا أجول بين شخوص تيمور - أنني في (متحف الشمع)، فتماثيل الشمع هي التي تمثل هذه الشخوص أوضح التمثيل. . .)
(ويحاول تيمور أن يرسم نماذج بشرية من خلال شخصيات محلية، وهي محاولة لو أفلحت لأنشأت فنا إنسانيا رفيعا؛ ولكنه فيما يخيل إلي بعيد كل البعد عن (الناس) وعن البيئة. فالناس - حيث كانوا - لا يتصرفون هذه التصرفات مجتمعة. والناس في مصر ليسوا كما يتوهمهم المؤلف لا في طبيعتهم ولا في أحاديثهم، ولا في خلجاتهم النفسية ولا في سمة من السمات المحلية الكثيرة التي تبرز طابعهم. إنهم ليسوا مصريين لأنهم ليسوا آدميين)!
هذه هي المآخذ الأساسية: فقدان الحياة. أما حكاية الصخب والعربدة فقد جاءت في كتابي هكذا:
(إنه لا يخطر لهذه الشخوص - مرة واحدة - أن تنفعل انفعالا قويا - كما يقع للآدميين - وحتن تنفعل يبدو التكلف والبعد عن الحقيقة البسيطة. . .)
(والحركة العنيفة ليست مطلبا في ذاته؛ ولكنها علامة من علامات الحياة تصدر من البنية الحية في ميعادها فتدل على الحياة الكامنة فيها).
هكذا قلت. وأحسبني كنت أعرف هذه البديهية الواضحة.
إن (تيمور بك) يجد دائماً وفي كل عمل يعمله من يشيد بفضله على الفن، ومن يصعد بفنه إلى السماء. دائماً دائماً يجد من يقول له هذا. فإذا وجد ناقد يملك أن يتخلص من كل الملابسات ليقول مرة واحدة كلمة حق، فيجب أن يكون لهذا الكلمة مكان في وسط التعاويذ والرقي ومجامر البخور!!!
وإلا فأسباب المودة الآسرة التي تربط تيمور بك بنقاده جميعا كانت كفيلة بأن تنطقني بغير ما نطقت. فأنا أتمتع بها والحمد لله. وليس هناك ما يدعوني ألا أنصف ذلك الرجل الوديع الودود.
وبعد فشكرا للأستاذ عباس حسان خضر على جميع الحالات.
سيد قطب(704/48)
ملتن:
بقي في دراسة الأستاذ الخفيف للشاعر ملتن بعض الكلام أرجأه إلى أن تنشر هذه الدراسة القيمة كتاباً حتى لا تتجزأ بين السنة الرابعة عشرة والسنة الخامسة عشرة من الرسالة.(704/49)
العدد 705 - بتاريخ: 06 - 01 - 1947(/)
لمن الملك اليوم؟
نبوءة من غير نبي
يعيش جارنا طاهر أفندي الكاشف بعد خروجه إلى المعاش عيشة الصوفي المتبتل، يتعبد النهار، ويتهجد الليل، ويُزَجّي ما بقي من فراغه بمطالعة الصحف ومتابعة السياسة ومراقبة الحوادث. وقد آتاه الله ألمعيّة عجيبة يستشف بها حجاب الغيب كأنه رسول ينطق عن الوحي؛ فلا يتظنن إلا تحقق ظنه، ولا يتكهن إلا وقعت كَهانته. وكثيراً ما يرى في المنام أموراً لا يلبث أن يراها في اليقظة. وربما أخذته حال من الذهول عن الوجود الخارجي تنفذ بصيرته فيها إلى غيابة المستقبل، فيكون كما يقول أشبه بالصبي الذي ينظر في فنجال (المندل) يرى ما لا يُرى، ويَسمع ما لا يُسمع!
قص علي في صباح هذا النيروز رؤيا من رُؤَى يقظته لم أجد كلاماً خيراً منها أجعله مقدمة لهذا العدد، وفاتحة لهذا العام. قال: كنت في الساعة التي تفرق بين عام وعام في تقويم الزمن، وتفصل بين فصل وفصل في رواية الحياة، قائماً في غرفتي أصلي ركعتين لله توديعاً لعام قضى، واستقبالاً لعام أهل. . . وكان الجو المتماطر القارُّ قد حبس الناس في الدور فلا أسمع في الشوارع المحيطة صوتاً ولا حركة؛ فوجدت نفسي من جلال الساعة ورهبة الوحدة وعمق السكون، كأنما تنسرح من ثوبها المادي وتندمج في الروح العام والشعور المطلق، ثم تغيب في طوايا المجهول، وتصفَحُ كتاب الغد ورقة بعد ورقة، حنى تقع على عنوان من الدم معقودٍ على ما سجلته يد الأقدار من قضايا الدول ومصاير الشعوب، فتحدّق إلى العنوان، وتدقق في السطور. ثم خيِّل إليَّ وأنا مغمض العينين أني أرى نقطة مربعة من النور تنداح في الحماليق وتنبسط حتى تصير في مثل الصحيفة الكبيرة، وأني قرأت في هذه الصحيفة كلاماً كنت في أكثر الأيام أفكر في بعضه، وقد وعته ذاكرتي حتى لأستطيع أن أؤديه إليك الآن على سرده. فقلت له أعد عليَّ بعضه إن شئت. فقال: اجعل بالك إليّ. ثم انطلق يتلو عن لوح قلبه:
(قال جون بول الماكر لصديقه العم سام بعد أن غسلا أيديهما من دم التنّين الألماني وحمدا الله على السلامة: ما هذا الدب الروسي الذي لجّ في الخلاف وأصرّ على العناد حتى كدر بجموحه صفو السلام، وزور بطموحه معنى النصر؟ ألسنا بما جاهدنا في سبيل الحرية(705/1)
والحق والعدل أولياء الله وخلفاءه؛ جعل إلينا وراثة الأرض، وكتب علينا سياسة العالم؟ فما سكوتنا إذن عن هذا الدكتاتور الآخر؟ فقال سام وقد تذكر أن استجابة رزفلت لتشرشل قد كسبته نصف الدنيا: من الطبيعي أن ينبو علينا هذا الوحش ما دام طعامه غير طعامنا، وكلامه غير كلامنا، ومرامه غير مرامنا، ونحن خليقان أن ننظر في أمره؛ فما عندك من الرأي؟
قال جون بول وهو ينفض بيبَته على كعب حذائه: الرأي عندي أن نتغدى به قبل أن يتعشى بنا. وسأضع بين يديك موارد الإمبراطورية، لتضمها إلى موارد الجمهورية، فيكون منهما جميعاً ذلك السلاح الذرَّي الخفي الذي يمحو الروسيا والروس في يوم أو بعض يوم. وحينئذ نقسم الكرة بيننا قسمين بالطول أو بالعرض كما تشاء، وأترك لك أن تختار إما غرب جرينتش أو شمال خط الاستواء!
وكان الدب في الوقت نفسه يقول لخليفة استالين: ما هؤلاء الذئاب الذين لبسوا مسوح الرهبان حتى سلموا وأمنوا، وولغوا في دماء المغلوبين حتى بشموا وسمنوا، وظنوا أن قذائفهم الذرية ما نعتُهم من الله فبغوا بغي (موسو)، وطغوا طغيان (هتلر)؟ إن رسالة الشيوعية إعتاق الإنسان من رق الإنسان. ولن يزول من الأرض استعباد الأفراد برأس المال، واستعباد الأمم في سبيل المال، ما دام على ظهرها ناطق بالإنجليزية. ومن المحال أن يتحالف الخير والشر، ويتآلف الصلاح والفساد. فسبيلنا إذن أن نعمم رسالتنا، ونتمم إنسانيتنا، فنبيد هذه الجراثيم بما هيأه لنا الله من قوى المال ومعجزات العلم فيطهُر الكون ويصلح المجتمع.
وما هي إلا مواضعة الرأي بين رب الشيوعية وزبانيتها حتى انبثت عيون الروس في مخابئ إنجلترا وأمريكا تبحث عن أوكار الطاقة الذرية. وفي ساعة من ساعات الليل الكافر أُرسلت عليها صواريخ روسية ألمانية لم يصل العلم السكسوني إليها بعد. فزلزلت الأرض كلها بضع ثوان، ثم سكن الزلزال وسكن كل حيّ وأنقضَّ به كل قائم.
وأصبح الصباح الأغبر الدامي فإذا العالم قد أسلم وجهه لقوة واحدة؛ وإذا عملاق أصلع من عماليق موسكو يخرج من الكرملين كما يخرج العفريت من القمقم، فيطول ثم يطول حتى يضع رجلاً فوق لندن، وأخرى فوق واشنطون؛ ثم يقول وقد ازدهاه النصر وتملكه الفخر:(705/2)
لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه في الغرب أحد! ولكنه يطلع أمامه فيرى شفقاً من سنا الشرق يغشى بلاد الإسلام من مراكش إلى تركية وإيران وأفغانستان وباكستان وقسم عظيم من ملكوت الصين، وقد تألقت في جنباته المآذن والقباب، وأشرقت من خلاله وجوه تمج أفواهها النور، وتشع أعينها الأمل، وتجيب ألسنتها بصوت واحد تجاوبته الأرض ورددته السماء: الملك لله الواحد القهار! ثم يعلو من بين هذه الوجوه وجه ترمقه الدول العربية، وترقبه الأمم الإسلامية، حتى يواجه العملاق الذاهب بنفسه، ثم يقول له: ألست تزعم أن لك رسالة تشيع وسائل العمل بين العمال، وتفك رقابهم من أغلال رأس المال؟ إن هذه الرسالة آية واحدة من آي الرسالة الإلهية المحمدية شوهتها نقائض العقل البشري بما دس فيها من إفراط وإقساط وتهور. وليس من المعقول أن يسعد الفرد وتصلح الأمة وترقى الإنسانية بإلغاء الوساطة الطفيلية بين المنتج والمستهلك وهي مشكلة واحدة من مشكلات الحياة. هناك علاقة الفرد بنفسه وقد تركتموها كعلاقة الآلة بالمحرك عليها أن تعمل ولها الوقود والزيت والشحم. وهناك علاقته بأسرته وقد جعلتموها كعلاقة الفروج بالفروج في معامل التفريخ الصناعي لا يعرف حنو الجناح ولا يدرك نعيم القنّ. وهناك علاقته بدولته وقد رددتموها كعلاقة قطع الشطرنج باللاعب ينقلها من خانة إلى خانة ولا إرادة لها ولا وعي. وهناك علاقته بربه وقد قطعتموها فانقطع نور الوحي عن ضميره وعقله. وبمثل هذه العلائق الواهنة لا يتماسك مجتمع ولا يترابط شعب. فإذا كنت صادقاً في دعواك، مخلصاً في دعوتك، فاقتبس للعالم الجديد شريعة الإسلام؛ فإنها وحدها هي النظام الذي يحقق الوحدة الإنسانية: يؤاخي بين الناس كافة في الروح والعقيدة لا في الجنس والوطن؛ ويسوي بين الأخوة جميعاً في الحقوق والواجبات فلا يميز طبقة على طبقة ولا جنساً على جنس ولا لوناً على لون؛ ويجعل للفقير حقاً معلوماً في مال الغني يؤديه إليه طوعاً أو كرهاً ليستقيم ميزان العدالة في المجتمع؛ ويجعل الحكم شورى بين ذوي الرأي فلا يحكم طاغ بأمره، ولا يصر مستبد على غيه؛ ويأمر معتقديه بالإقساط والبر لمن خالفوهم في الدين وعارضوهم في الرأي؛ ويوحد بي الدين والدنيا ليجعل للضمير السلطان القاهر في المعاملة، وللإيمان الأثر الفعال في السلوك.
عندئذ يتصاغر عظموت العملاق ويتقاصر طوله، ثم يقول في استسلام وإسلام: تلك مبادئ(705/3)
الفطرة؛ فإذا كانت هي مبادئ الإسلام فسيدخل فيه الناس بالطبع، ويعتقدونه بالضرورة كلما تقدم العلم وترقى العقل وتهذب الخلق وصحت المعرفة!
أحمد حسن الزيات(705/4)
المسألة الإسلامية في الهند
للأستاذ عباس محمد العقاد
قرأت في بعض الصحف المصرية خطاباً موجهاً إلى السيد محمد علي جناح زعيم الرابطة الإسلامية في الهند لم أر كلاماً أدل على الجهل بالقضية الهندية والتهجم على الشؤون الكبرى بغير علم ولا بصيرة.
ونحن قد ألفنا في صحافة مصر أمثال هذا التهجم العجيب على الشؤون المصرية الخارجية، ولكن التعرض لمشكلة الهند بمثل ذلك الجهل المطبق قد جاوز حدود التهجم المعهود في الصحافة على إطلاقها إن صح أن يكون للتهجم حدود.
فالذين أساءوا الفهم وأساءوا إلى واجب الضيافة في توجيه الخطاب إلى السيد جناح لم يفكروا في موضوع الهند وإنما فكروا في كلمة واحدة وظنوا أن كلمة الهند تقابل كلمة مصر، فهما إذن قضيتان متشابهتان يصدق على إحداهما ما يصدق على الأخرى بلا اختلاف ولا حاجة إلى بحث طويل أو قصير لمواطن ذلك الاختلاف.
وهذا هو الخطأ الأول.
وهذا كذلك هو الخطأ الأكبر.
فمصر غير الهند في كثير من الاعتبارات، ولا سيما اعتبارات القضية السياسية؛ لأن مصر قومية واحدة، تتكلم بلغة واحدة وتشترك في مرافق واحدة، ولا توجد فيها أقليات منعزلة أو قابلة للعزلة في حيز المكان أو في المصالح الاجتماعية.
أما الهند فعلى نقيض ذلك لا تشمل على قومية واحدة بأي معنى من معاني التعريف الحديثة أو القديمة.
فاللغات واللهجات فيها متعددة تتجاوز المائة، وقد شهدنا بأنفسنا ثلاثة أو أربعة من الهنود المتعلمين يجتمعون في مكان واحد ولا يستطيعون التفاهم بينهم بغير اللغة الإنجليزية، لأنهم يتكلمون في بلادهم بلغات شتى تختلف في الأصول، ولا ينحصر الاختلاف بينها في مجرد اللهجات.
واختلاف الأديان هناك أكبر من اختلاف اللغات واللهجات؛ لأن البرهمية وحدها مشعبة الفرق والمذاهب، متعددة الفرائض والشعائر، فضلاً عن البوذية وطوائفها، وعن الفرق(705/5)
الأخرى التي نصفها من الإسلام ونصفها من الديانات الوطنية القديمة كالفرقة المشهورة باسم (السيخ) وعدتها نحو سبعة ملايين.
وليس اختلاف الأديان بمعزل عن المسائل الاجتماع وما يلابسها من مسائل الحقوق المدنية والتشريعية.
فإن البراهمة يدينون بالطبقات الأربع، ويحكمون بالنجاسة على طائفة تسمى بالمنبوذين أو الذين لا يجوز لمسهم قد يتجاوز عدد أبنائها في الهند خمسين مليوناً من النفوس البشرية، ولا ذنب للعالم البشري في اعتبار هؤلاء القوم من الآدميين إذا كان البراهمة لا يعتبرونهم كذلك، لعقيدة من العقائد التي هجرها الزمن ويأبى أن يهجرها البرهميون!.
ويظهر لنا مبلغ التعصب في رعاية هذه التقاليد من حقيقة واحدة، وهي أن المهاتما غاندي على اعتباره مثلاً في السماحة الإنسانية قد أنذر بالصيام حتى الموت إذا منحت هذه الطائفة دوائر معينة في قانون الانتخاب.
وفي الهند ثمانون أو تسعون مليوناً من المسلمين لا يعتبرون قلة في قومية واحدة بأي معنى من معاني القلة المصطلح عليها؛ لأنهم كثرة غالبة في بعض الأقاليم، ولهم أصول جنسية ولغة مكتوبة غير التي تشيع بين جمهرة الهنود. وقد يزيد عددهم على العدد المسجل في دفاتر الإحصاء؛ لأنهم يثبتون وثائق زواجهم في غير دواوين الحكومة، ولا يرجعون إلى تلك الدواوين في وثائق الولادة والميراث.
وتشتمل الهند على مائة مليون موزعين في سائر الأرجاء يحكمهم أمراء مستقلون أو على نصيب من الاستقلال.
وقد بينا هذه الحقيقة قبل سبع سنوات في كتابنا عن هتلر حيث قلنا في صفحة 158 منه إن (بين الأمم المستقلة والأمم التابعة أمماً كأهل الهند يتقدمون في طريق الاستقلال، وقد تكون للنازيين مصلحة في الحلول من أهل الهند محل الإنجليز. . . ولكن ما هي مصلحة أهل الهند؟ وما هي مصلحة العالم؟ وما هي مصلحة الأمم الغالبة أو الدول المغلوبة؟ وما هي مصلحة الأمم الواقعة في الطريق؟.
(على أننا لم نذكر الهند لنقرر هذه الحقيقة، فهي غنية عن التقرير، وإنما ذكرناها لنقول إن الحالة الحاضرة في الهند لا ترجع إلى العوامل الخارجية كما ترجع إلى العوامل الداخلية،(705/6)
وإن بريطانيا العظمى لو رفعت يدها اليوم عن تلك البلاد لما زالت جميع الحوائل بينها وبين قيام الحكومة الوطنية الشاملة، ولا قاربت الزوال.
(فهناك الأمراء الحاكمون في ولاياتهم وهم لا يتفقون ولا يرضون أن يحكمهم مجلس في عاصمة بعيدة عن عواصم الإمارات.
(وهناك المسلمون وهم كثرة في بعض الأقاليم وقلة في بعض الأقاليم الأخرى، ولو شملتهم حكومة واحدة لأصبحوا قلة ضائعة في جميع الأقاليم.
(وهناك المنبوذون وهم عشرات الملايين ينظر إليهم البراهمة نظرتهم إلى الرجس الذي يفرقون من ظله، ولا خير لهم في حكومة تضعهم هذا الموضع وتهملهم هذا الإهمال.
(وهناك اختلاف الأقاليم في الأجناس واللغات وعناصر الثروة ومعادن التربة الزراعية، مما لا يجتمع نظيره إلا في قارة من القارات الكبار.
(فمسألة الهند العضال ليست مسألة السيادة الخارجية وحدها سواء كانت عالمية أو مقصورة على بعض أجزاء العالم. إذ لو فرغت كل سيادة عالمية في الدنيا لما فرغت المسألة الهندية، بل لعلها تبدأ يومئذ من جديد. . .).
نعم تبدأ على نحو لا يخطر على بال أولئك الواهمين الذين يحسبون (الهند) كلمة ولا تزيد معرفتهم بها عن هجاء حروف هذه الكلمة.
فإن نهرو زعيم المؤتمر الهندي شيوعي وليست الشيوعية على مسافة بعيدة من الحدود الهندية، وليس طريق الزحف العسكري على الهند بالطريق المسدود.
وعصبيات الدين في داخل البلاد أعجب ما عرف الناس من مصائب المصيبات في جميع الأقطار.
ففي تلك البلاد أناس يقدسون البقر ويحكمون بالنجاسة على خمسين مليوناً من النفوس، ويتحرجون من ذبح البقر وقد ذبحوا في بيهار وما جاورها أربعين ألف مسلم، لأنهم تقربوا بضحاياهم في عيدهم الكبير!.
فأوجز ما يقال في مشكلة الهند أن حكمها كلها بدستور واحد من هيئة واحدة وراء المعقول والميسور.
وإن نظام (الباكستان) ليس بالنظام العجيب كما يبدو للوهلة الأولى، ولا يمكن أن يوصف(705/7)
بأنه انشقاق وطني عن قومية واحدة، كما تخيله بعض الواهمين في هذه الديار.
ولم نقرأ في صحافتنا مقالاً يدل على الإحاطة بحقيقة المشكلة كالمقال الذي كتبه الدكتور هيكل باشا في صحيفة السياسة حيث قال في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر الماضي: (ويدل على هذا الجور كذلك أن الهند ليست أمة لها مقومات الأمة من اتحاد في اللغة أو في العقيدة أو في العنصر، بل هي أدنى إلى أن تكون قارة بين أديانها ولغاتها وعناصرها من التباين ما يزيد أضعافاً على ما بين دول أوربا. .)
وقال قبل ذلك: (ما كنا لنعالج هذا الموضوع لولا ما نرى في التعريض بالمسلمين من الدعاة إلى الباكستان من جور لاشيء من الإنصاف فيه. يد على هذا الجور أن هؤلاء الدعاة إلى الباكستان لم يطلبوا أي امتياز للأقليات الإسلامية الموجودة في سائر ولايات الهند. .)
وهذه صورة قريبة من صورة المشكلة الكبرى التي يعالجها نظام الباكستان. ونحن لا نقرر هذه الحقيقة لأن الباكستان في رأينا يحل المشكلة ويحسم الخلاف، فإن الباكستان يحل بعضاً منها ويترك بعضها الآخر في انتظار الحلول. ولكننا نقرر تلك الحقيقة ليعلم الواهمون عندنا أن الهجوم على المسائل العالمية هجوم على ما يجهلون وخلط في أمور لا تؤمن عاقبة الفتوى فيها بغير علم وبغير روية، وإن الحكاية ليست حكاية كلمة إزاء كلمة وثلاثة حروف إزاء ثلاثة حروف، ولكنها حكاية أمم وأرواح وقضايا تجور على سلام العالم كله إذا عولجت بغير حقها من الفهم والدراية وحسن التقدير لعواقب الأمور.
أما النقص في نظام الباكستان كما نراه فخلاصته أن الأقاليم التي يراد لها الاستقلال لا تأوي إليها جميع المسلمين وليس سكانها جميعاً من المسلمين، وان الرابطة الإسلامية يتبعها عدة ملايين وينفصل عنها فريق آخر بعضهم من الشيعة وبعضهم من السنيين، وأن تبادل السكان بين الأقاليم الإسلامية والأقاليم الهندوسية لتسوية عناصر القلة في جميع الأقاليم ليس بالحل الميسور ولا يتأتى إتمامه في بضع سنوات.
فربما كان نظام الاتحاد على المثال المتبع في الولايات المتحدة أقرب إلى تسوية المشكلة مع الأخذ بالأساس المقرر في نظام الباكستان.
وعلى ذكر الولايات المتحدة الأمريكية نعود إلى الواهمين ليفهموا مرة أخرى أن تقسيم(705/8)
الولايات شيء وجريمة الانشقاق شيء آخر، وأنه إذا جاز هذا التقسيم في بلاد كالبلاد الأمريكية لا تفرق بين أبنائها أمثال تلك الفوارق ولا تعترضهم أمثال تلك المشكلات، فنظام الباكستان في الهند أحق بالتدبر والمعذرة أدنى إلى القبول.
عباس محمود العقاد(705/9)
الفقر آفة البشر
كيف عالجه الإسلام
لصاحب السعادة الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا
الفقر أعظم آفات الاجتماع البشري، وأعظم ما يثير السخط على الحياة، وأشد ما يفجع الناس في حياة الكرامة والسكينة والاطمئنان، ويثير بينهم الحقد والبغضاء، ويرميهم بحروب الطبقات وحروب الأمم، فإذا عولج المجتمع منه نجا من آثار قرينيه وهما الجهل والمرض اللذان يتبعانه ويكوّنان معه ثالوث الشقاء الإنساني الذي إذا خلا منه وجه الحياة بدا جمالها ورضى الناس عن الحياة ورضى الله عنهم. . . لقد نظر الإسلام في حال الفقير فرآه إما أن يكون عاجزاً عن الكسب لعلة به، وإما أن يكون عاجزاً عن الكسب لفقد الوسيلة إلى العمل.
فأما الذي يعجز لعلة لا علاج لها فقد جعل مواساته حقاً على المجتمع لا تبرعاً وتطوعاً. قال الله تعالى (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) فصان بذلك كرامته الإنسانية.
وأما الذي يعجز لفقد الوسيلة إلى العمل فقد أوجب على الدولة إيجاد الوسيلة لتكسبه، وقد قنح الإسلام السؤال ودعا المسلم للترفع عنه، فاليد العليا خير من اليد السفلى. وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائلاً درهماً وأمره أن يشتري به فأساً وحبلاً ويحتطب، ولا يتعرض لذل السؤال.
والأصل في الإسلام هو العمل والتكسب، وقد حض عليه بجميع الوسائل، حتى لقد فضله على الانقطاع لعبادة الله، ولكنه كذلك أنصف المجتمع بإلزام الدولة أن تعين على إيجاد العمل لمن لا يجده، وأن تحمي من يعجز عنه.
وقد أراد الإسلام أن يجعل مستوى المعيشة متناسقاً ومتقارباً بين أتباعه، فحارب الترف في أعلى المجتمع، وطار البؤس في أسفله، وأتخذ لذلك وسيلتين: وسيلة الضمير وهي أقواهما، ووسيلة القانون، فجعل الحياة السعيدة الخالدة لا تنال إلا بالإنفاق على المستحقين من الأهل والأقربين والمساكين، ولا ينال متاعها المسرفون الذين جعلوا شهواتهم في هذه الحياة أهدافهم.(705/10)
جعل ضمير المسلم لا يستريح إذا طعم ولبس وتمتع، وجاره ومن حوله قد عجزوا عن القوت؛ وحضه حضاً قوياً على البذل والقناعة والحد من شهواته في سبيل إغاثة الملهوفين والمحتاجين؛ حتى لقد أمر أن يطعم السيد الخادم مما يطعم، ويكسوه مما يكتسي.
قال المعرور بن سويد (رأيت أبا ذر رضي الله عنه عليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه).
ولم يكتف الإسلام بإيقاظ الضمير لهذا، بل جعل للدولة أن تقتضي من فضلة مال الفرد مقادير لا يستهان بها لتكفل بوسائلها هي أيضاً حاجات الفقراء والمساكين.
وفي الحقيقة حين يحارب الإسلام الترف والاكتناز والربا ويقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. هذا ما كنزتم بأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) وحين يقول: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وحين يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) وحين يقتضي الزكاة على الأموال المكنوزة ويحرم الربا، إنما يريد بذلك كله أن يرفع مستوى الطبقات الفقيرة ويخفض من مستوى المترفين، ليجعل حياة الجميع سعيدة متناسقة.
فتحريم الترف يوجه الأموال إلى إنتاج أكثر فائدة للجميع، وتحريم كنزها يوجب تداولها، وتداولها من غير ربا يؤدي إلى المشاركة فيها. وإذا لم يجد الناس في الترف لذتهم وجاههم، وجدوهما في الإحسان والبر. وإذا لم يجدوا في الكنز ضمانا لهم وجدوه في ضمانة المجتمع الإسلامي المتكافل الذي لم يهمل أحداً، ولم يحتقر أحداً. وإذا لم يجدوه في الربا وجدوه في لذة الكسب والمشاركة مع إخوانهم الذين يعملون في أموالهم.
ولو قامت الدولة بواجبها في كفالة المتخلفين من إخواننا لما يصيبهم في أنفسهم أو أبدانهم، أو مما يصيبهم من انقطاع السبل بهم مع رغبته في العمل، وذلك بأن تكون سياستها قائمة على أساس التكافل الذي جاء به الإسلام في قول رسوله (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) فوزعت الصدقة على من لا سبيل له غير الصدقة،(705/11)
ووزعت العمل على الناس بقصد الخير العام ولو على سبيل الإجبار على عمل معين للقادر عليه، لقاتلت هي أيضاً الفقر بوسائلها الفعالة.
وقد جعل الإسلام في هذا سلطات واسعة لولي الأمر، فله في سبيل الإصلاح العام أن يحدث أقضية بقدر ما يحدث من المشكلات، وله أن يكيف الأحوال لتسير وفق الغرض الأساسي للإسلام، وهو الإحسان.
وقد قرر الإسلام في وضوح وعزم مبدأ المساواة، وهو أعظم المبادئ في مقاومة الشرور الاجتماعية وأخصها الفقر، وجعل هذه المساواة مستقرة في ضمير المسلم، ومالكة زمام تصرفاته في العبادة والمعاملة والأدب.
ومن فضل الدعوة المحمدية على البشر أنها تبغض في الاستعلاء والترفع على الناس، حتى ليكاد المسلم يفر من مجرد الخاطر الذي يخطر بذهنه بأنه أفضل من غيره. والمسلم الصادق لا يضمر في نفسه أنه خير من خادمه مع سيطرته عليه.
والله تعالى يشتد على الرسول نفسه ويعاتبه بالقرآن، لأنه تصدى لقوم من رؤوس العرب يرجو من وراء إيمانهم إيمان أقوام يتبعونهم، وتلهى بهم عن رجل فقير ضعيف جاء راغباً في الأيمان فقال:
(عبس وتولى أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى فأنت عنه تلهى)
ولست تجد في أي تشريع احتفالا بالفقراء واعتناء بشأنهم مثل ما جاءت به الدعوة المحمدية، إذ تحض المسلمين على رياضة أنفسهم على احترام الغير وتقديره (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء، عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان).
ومتى رسخ هذا المعنى في أذهان الملوك والحكام والعامة والفقراء والأغنياء والملاك والعمال كما أرادته الدعوة المحمدية، استحالت الفرقة الاجتماعية وما يثيرها من حسد وبغض، وما يترتب عليها من خلاف وشر ثم قتال وحرب، وما يكون من تسلط الأقوياء على المستضعفين، أو ما يكون من ظهور المستضعفين واستذلالهم لمن كانوا أقوياء.(705/12)
ظاهر إذاً أن مبدأ المساواة بالمعنى الإسلامي هو من أكبر دعامات البر وأفتك الأسلحة بآفة الفقر.
وقد دعا الإسلام إلى البر بكل وسيلة، دعا إليه بالترغيب والترهيب، ودعا إليه بقوة القانون والدولة، فقال تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات).
وقال (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقال (أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين) وقال. (كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين).
وكتاب الله وحياة رسوله يفيضان بفضل الإنفاق في سبيل الله، واتخاذ الدنيا مطية للآخرة. ولم يكتف صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم بأن تكون دعوته موجهة بكل قوتها للبر بالفقراء والمساكين والضعفاء والمصابين والمعوزين، بل جعل البر بهم حقاً مفروضاً لا سبيل إلى المماطلة فيه، حتى إن العرب لما ارتدت عن دفع الزكاة عقب وفاة الرسول، ونصح الخليفة الأول بأن يداريهم، وقد تفاقم الشر، قال رضى الله عنه (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه). أي أنه يوجه كل قوى الدول لقتال قوم يمنعون حق الفقير فيما قيمته قيمة حبل يعقل به بعير.
فحقوق الفقراء في الدول الإسلامية مصونة، وليس لأحد أن يمن بها فهي حق الله في ماله وكسبه وملكه، وقد بينت الشريعة الزكاة وأنواعها وكيفية أدائها، كما بينت مستحقيها وما لهم وما عليهم بتفصيل دقيق.
وكان من أثر الدعوة المحمدية للبر والإحسان تلك الأوقاف المحبوسة على الخير في المشرق والمغرب، وكان من أثرها أن تطهرت نفوس المسلمين، حتى حبسوا من أملاكهم على القطط والكلاب والحيوانات. ومن أمثلة هذا أن نور الدين محمود وقف أرضاً في دمشق لتكون مأوى للحيوان الهرم، يرعى فيها حتى الموت.
وتاريخ المسلمين في كل أوطانهم بفيض بالبر والعطف والرحمة بالبؤساء والغرباء، وما الكرم الذي كان به فخر البيوت والأسر والشعوب إلا أثر من آثار روح البر والإحسان الإسلامي.
ولم يكن البر في الدعوة المحمدية خاصاً بأهل الجنس أو الدين، ولكنه كان عاماً للمساكين(705/13)
من البشر، فما منع اختلاف في الدين دون البر. قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين) (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)
وتنظيم البر في العصر الحاضر يجب أن يقوم على نفس الأسس والوسائل التي جاءت بها الدعوة المحمدية، لأنها أفعل وأدوم، ولكن يجب كذلك أن نتصرف ونجتهد كي نحقق المقصد والغاية، وأن ننظر في عصرنا، وموارد الثروة فيه، ومصادر الغنى، وحالات الناس لنكفل الخير للجماعة ونرضي الله سبحانه وتعالى، حتى يعود للظهور بيننا من كانوا يأبون أن يتعرضوا لوجوب أداء الزكاة عليهم بإنفاق أموالهم كلها، حتى قيل لبعضهم كم يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال: أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم، وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع.
ولهذا المعنى تصدق أبو بكر رضى الله عنه بجميع ماله، وعمر رضى الله عنه بشطر ماله.
ولا عجب فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وروح الدعوة المحمدية واضحة في أن الزكاة وحدها لا تبرئ أموال المسلمين من حقوق المحتاجين فيها، فما دام محل للبر والصدقة فهي واجبة، وحق المسلم لا ينتهي بأداء الزكاة.
يجب إذاً أن نستلهم من شريعة الإسلام الهدى، وأن نستوحي من روح الدعوة المحمدية نظاماً للبر تقوم عليه الدولة، لتوازن بين الثروات والحاجات، وتقيم التكافل الاجتماعي، ونقضي على حرب الطبقات (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
عبد الرحمن عزام(705/14)
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره
للأستاذ محمد عرفه
مدير الوعظ والإرشاد
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين)
ما روعتني آية من كتاب الله ما روعتني هذه الآية، وما قرأتها قط إلا ارتعدت فرائصي وخيل إلي أن الأرض تدور بي الفضاء، ذاك لأنها توجب أن يؤثر المؤمنون الله ورسوله والجهاد في سبيله على الآباء والأبناء والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن، ولا ترضي منهم أن يؤثروا الله ورسوله والجهاد في سبيله كما يؤثر المرء الدواء المر البشع، بل لا ترضي إلا أن يكون ذلك الإيثار عن رضى ومحبة، فإذا دعا داعي الجهاد ودعا المال والولد والعشيرة والمسكن وجب أن يستجيب المؤمنون لداعي الجهاد عن رضى ومحبة؛ فإن لم يكونوا كذلك فليتربصوا حتى يأتي الله بأمره، وقد أبهم الله هذا الأمر لتذهب النفس في أودية الخوف كل مذهب، والله لا يهدي القوم الفاسقين الذين فسقوا عن أمر الله وانحرفوا عن الطريق القويم.
تكليف صعب شاق، وهو على صعوبته ومشقته الطريق الوحيد إلى العزة والأمن والقوة والسمو، فالأمة التي تؤثر الحق والجهاد في سبيله على ما سواهما هي التي تمهد طريقها إلى المعالي، وتسلك سبيلها إلى العزة القعساء.
أما الأمة التي انتكست فطرتها فآثرت الباطل على الحق، والدعة على الجهاد في سبيله، فأقل ما يصيبها من أنواع العقوبات الضعف والذلة والاستكانة إلى الأقوياء، والاستعباد للمغيرين، يستذلونها ويستخدمونها كما يستخدم الإنسان الحيوان الأعجم، وهذا البلاء الشديد وغيره مما يشمله قوله تعالى: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).
ولا عجب فالمعالي سبيلها غير معبد، ولها صعداء مطلعها طويل، وهي لا تنال على الدعة والراحة والطمأنينة والبلهنية، إنما تنال بالتعب والنصب والكد وتهذيب النفس وتقوية الخلق والإرادة القوية والعزم الشديد. إنما الذي ينال على الدعة والراحة، الهم الطويل، والحزن(705/15)
الممض.
فليقس كل امرئ إيمانه بهذه الآية ولينظر أيحزن إذا فاته حظ من دينه مثل ما يحزن إذا فاته حظ من دنياه، أم هو لا يبالي بضياع دينه ويأسى على ما فاته من الحقير من دنياه.
أيجد من قوة اليقين ما يستحبه له دينه على الآباء والأبناء والأهل والعشائر والأموال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا وخيراتها، أم يجد من ضعف اليقين ما يستحب له عرض الدنيا على دينه وآخرته.
ومن خدع الشيطان ما يوسوس به في النفوس من أن هذا التكليف لم يتحقق ولن يتحقق؛ فإذا لم يحققه المرء في نفسه فله في جميع المكلفين أسوة. هذا ما يحدث به المرء نفسه، والمرء يلتمس المعاذير، ولكن التاريخ الإسلامي يحدثنا عن كثير من السابقين الأولين أنهم نالوا هذه الدرجة وكان الله ورسوله أحب إليهم مما سواها.
روى أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلة عضل والقارة وقالوا إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله معهم نفراً ستة من أصحابه فيهم زيد بن الدثنة، وخبيب بن عدي، فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع وهو ماء لهذيل استصرخوا عليهم هذيلاً فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، فقال بعضهم والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبدا، فقاتلوا المشركين حتى قتلوا وأسر زيد وعدي، وخرج بهما المشركون إلى مكة فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة، فأخذ حبيباً عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه الذي قتله المسلمون، وابتاع زيد بن الدثنة صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف الذي قتله المسلمون ببدر وبعث به أمية إلى خارج الحرم، وترامى الخبر إلى أهل مكة أن صفوان سيقتل زيداً بأبيه فخرجوا ليشهدوا مصرعه، وكان ممن خرج أبو سفيان فقال لزيد حين قدم ليقتل، أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال والله ما احب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد(705/16)
محمداً ثم قتل. وأما خبيب فلما خرجوا ليصلبوه قال لهم إن وأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعاً من القتل لا استكثرت من الصلاة، ثم قال حين أوثقوه ورفعوه على خشبة: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. فاضطجع المشركون لجنوبهم حين سمعوا الدعاء، وكانوا يقولون إن الرجل إذا دعى عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه، ثم قتلوه رحمه الله، وكانت آخر كلمة قالها:
ولست أبالي حين أُقتَل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
فإذا كانت محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، أكثر من الآباء والأبناء والمال والمساكن يمكن نيلها وقد نالها الرعيل الأول من المسلمين السابقين، وهي السبيل إلى العزة والكرامة، فما أحرى الأمم الإسلامية أن تربي أبناءها على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، لتنال ما ناله السابقون من العزة والتمكين في الأرض، ولتضيف مجداً طارفاً إلى مجدها التليد، ولتنجو من هذا الوعيد الشديد، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين.
محمد عرفه(705/17)
الإسلام في الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
- 1 -
فتح المسلمون إيران وامتد بهم الفتح إلى كابل سنة أربع وأربعين من الهجرة ثم هبطوا إقليم الملتان؛ ولكنهم لم يستقروا به.
وكذلك حاول العرب فتح الهند من الجنوب من حيث ينصب نهر السند في البحر فغزوا غزوات حتى اعدوا للفتح عدته في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك فسير الحجاج الثقفي جيشاً يقوده ابن أخيه محمد بن القاسم ففتح إقليم السند إلى الملتان؛ ولم يتوغل الفتح العربي في الهند حينئذ؛ ولكن استقر للعرب سلطان هناك زهاء قرنين وبنو المدن وعمروا الأرض.
- 2 -
وفي القرن الرابع الهجري عزم السلطان محمود بن سبكتكين ثاني ملوك الدولة الغزنوية على فتح الهند فأعد لفتحها واحتفل وحشد واجتاز الجبال إلى سهول الهند أكثر من خمس عشرة مرة ما بين سنة 391 و417 ففتح بنجاب وكشمير وكجرات. وبقيت بنجاب في سلطان الدولة الغزنوية حتى غلب الغوريون الغزنويين على غزنة دار الملك فاتخذوا لاهور حاضرة ملكهم سنة 553. فصار في الهند حاضرة دولة إسلامية لأول مرة في تاريخها، وقد مهد فتح الغزنويين وسيطرتهم في الهند أعظمها دولة سلاطين دهلي (من 603 إلى 962هـ) وهي أول دولة إسلامية نشأت في داخل الهند.
وقد فتحت هذه الدول شمالي الهند وبسطت سلطان الإسلام شرقا إلى خليج بنغاله.
- 3 -
وفي القرن العاشر الهجري توجه إلى فتح الهند داهية عبقري لا تنشئ الأجيال أمثاله إلا قليلا: بابر بن عمر بن أبي سعيد ابن محمد بن ميرانشاه بن تيمورلنك، ورث في سنة 899هـ وسنه اثنتا عشرة سنة إمارة في فرغانة وسمرقند، ولقي الصبي من جور أعمامه(705/18)
ومن غير الدهر، وتقلب الحدثان ما ذهب بإمارته بعد أن جاهد فيها سبع سنوات، فبقي ثلاث سنوات شريداً في جماعة من خلصائه وجنوده، فلما يئس من إمارة أبيه أو كاد، وجه همته العالية، وعزيمته الماضية إلى كابل ففتحها سنة 910هـ.
ولما تمكن ملكه في كابل طمح إلى الأرض الواسعة سعة آماله وعزائمه؛ طمح إلى الهند فأخذ يغزو أطرافها سنة 925هـ، حتى مكنته سياسته وعزيمته أن يمحو دولة سلاطين دهلي في موقعة بانيبات الماحقة التي انجلت عن السلطان إبراهيم اللودي قتيلاً بين خمسين ألفاً من جنده.
ويوم الجمعة الرابع عشر من رجب سنة 932 بعد موقعة بانيبات بستة أيام خطب لمحمد ظهير الدين بابر على منبر دهلي.
وبعد سنتين مزق هذا القائد العبقري جموعاً حشدها أمراء كثيرون من أمراء الهند تألبوا عليه لدرء خطره: قاد سانجا زعيم أمراء رجبوت جيشاً فيه ثمانون ألف فرس وخمسمائة فيل ومائة وعشرون قائداً. فلقيهم بابر في كندها وأدار عليهم من جنده وشجاعته وتدبيره حرباً لا قبل لهم بها فهزمهم هزيمة قاضية سنة 934هـ.
وتوفي بابر سنة 937هـ في التاسعة والأربعين من عمره، وقد وضع القواعد لدولة استمر سلطانها في الهند حتى سنة 1275 (1858م). وهي الدولة التي اتسع سلطانها، وعمت سطوتها حتى خضعت الهند كلها لسيطرتها حيناً من الدهر، وما أعرف دولة في تاريخ الهند الجاهلي والإسلامي جمعت الهند كلها في سلطانها إلا هذه الدولة.
توالى على عرش هذه الدولة ستة ملوك عظام في مائتي سنة من بابر إلى محي الدين أورنك زيب، وقد عمل هؤلاء الملوك في سياسة الهند وعمرانها وإصلاحها ما لم يؤثر عن دولة أخرى.
سن هؤلاء السلاطين سنناً في الدولة حسنة، وسلكوا طرقاً في الإصلاح مأثورة، وجمعوا حولهم - ولا سيما جلال الدين أكبر الذي ملك خمسين عاماً - العلماء والفلاسفة والأطباء والأدباء من الهند وأقطار أخرى.
وجمعوا الصناع من شتى البلاد، وشادوا من الأبنية ما يزال قائماً يملأ الرائي عجباً ودهشة، وتملأ مسلمي الهند فخراً وعزة وجلبوا إلى الهند كثيراً من أنواع الحيوان، وأشجار(705/19)
الثمار والزينة، وأحسنوا الحضارة في كل مناحيها. فكان عهدهم أنضر عصور الهند فيما يعرف التاريخ.
- 4 -
كانت الدول الإسلامية في الهند خيراً لها وسعادة، جلبت إليها حضارات مختلفة، حضارات العرب والفرس والترك وحضارات أخرى أخذتها هذه الأمم عن غيرها.
كانت الدول الإسلامية في الهند قائمة بعدل الإسلام، رافعة راية الأخوة بين البشر والحرية للناس جميعاً بين أمم فيها العابد والمعبود، والمقدس والمنبوذ، والطاهر والنجس، وفيها السيد والعبد، والعزيز والذليل، وكانت داعية إلى التوحيد الخالص في بلاد تزدحم فيها الأوثان والخرافات والأوهام، وعملت ما علمه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من علوم وآداب وفنون وصناعات حتى لقد علموا تفصيل الثياب وخياطتها ولم يكن أهل البلاد بها عارفين. لقد عرفوا الإنسان كرامة الإنسان، وحرروا العقول من الأباطيل، وطهروا القلوب من الأرجاس، ونزهوا البشر عما لا يليق بالبشر، وسجلوا على التاريخ مآثر لا يزال يرددها مأثورة مشكورة.
- 5 -
ولا يزال مسلمو الهند اليوم، على كر العصور، وتتابع الخطوب، يؤدون واجبهم لدينهم وللناس جميعاً. لا يزالون يجادلون عن أنفسهم، وينافحون عن دينهم، ويدافعون عن حضارتهم، ويطمحون إلى المقاصد العليا التي يدعوهم إليها دينهم وتاريخهم وحضارتهم.
ولا تزال جماعتهم، التي تجمعها وتسوي بينها أخوة الإسلام، مفزع كل مظلوم، وملجأ كل يائس من العدل والحرية والمساواة. فمن لحق بهم ممن لاحق له، ولا حرية، ولا كرامة شملته الأخوة، وأظلته الحرية، وحي قلبه، وكرمت نفسه، ووجد السبل ممهدة له إلى أبعد الغايات، والسلم منصوباً أمامه إلى أعلى المطامح.
وأنا لموقنون أن المسلمين في الهند ماضون على خطتهم، سائرون على سنتهم، حتى يبلغوا المقصد، ويستولوا على الأمر، لخيرهم وخير الناس أجمعين.
عبد الوهاب عزام(705/20)
شهيد ميسلون
للأستاذ علي محمود طه
(في فجر يوم السبت 24 يوليو من عام 1920 سار إلى ساحة ميسلون القائد السوري العظيم (يوسف العظمة بك) مدافعاً عن دمشق بما أمكن حشده من جنود سورية البواسل مواجهاً هجوماً مفاجئاً لجيش فرنسي يفوقه أضعافاً في العدد والعتاد فكان ذلك البطل الصنديد أول مستشهد في المعركة، وكان استشهاده رمز الوفاء ومثل الفداء، وأول جذوة نفحت نارها في الثورة الوطنية السورية التي انتهت أخيراً بتحرير الوطن من ربقة الاستعباد. إن ذكرى شهيد ميسلون أجمل تحية يقدمها الشعر لدمشق المحررة المستقلة)
هب الكمِيُّ على النفير الصادح ... مهلاً فديتك ما الصباح بواضح
أي الملاحم بين أبطال الوغى ... فَجِئتك بالشوق الملح البارح
فقضيت ليلك لا هدوء ولا كرى ... ووثبت في غسق الظلام الجانح
والشوق من خلف الجبال غمامة ... حمراء ترعش في وميض لامح
سلت حراب البرق فوق سمائه ... هوجاء تنذر بالقضاء الجائح
هي صيحة الوطن الجريح وأمة ... هانت على سيف المغير الطامح
قرنت بحظك حظها فتماسكت ... ترعى خطاك على رُبى وأباطح
في موكب الغادين مجد (أمية) ... بجوانح مشبوبة وجوارح
لو قستهم بعدوهم وسلاحه ... أيقنت أنهمو فريسة جارح
الخائضين الفجر بحر مصارع ... السابحين على السعير اللافح
الناهضين على السيوف وتحتها ... شتى جماجم في التراب طرائح
الرابضين على الحصون خرائباً ... مهجاً تضرم في حطام صفائح
صرعى ولو فتشت عن أجسادهم ... ألفيت، ما ألفيت غير جرائح
يا (ميسلون) شهدت أي رواية ... دموية، ورأيت أي مذابح
ووقفت مثخنة الجراح بحومة ... ماجت بباغ في دمائك سابح
تتأملين (دمشق) يا لهوانها ... ذات الجلالة تحت سيف الفاتح
جرَّت حديد قيودها وتقدمت ... شماء من جلاَّدها المتصايح(705/22)
نسيت أليم عذابها وتذكرت ... في (ميسلون) دم الشهيد النازح
من هبّ في غسق الظلام يحوطها ... بذراع مقتتل وصدر مكافح
وتسمعت صوتاً فكان هتافه ... يا للحبيب من المحب البائح!
أماه! خانتني المقادر فاغفري ... قَدَري، وإن قل الفداء فسامحي!
(فيحاء) إن نَصَّتْ حواليك القرى ... أعلامها، وازَّينت بمصابح
وتواكب الفرسانُ فيك وأقبلوا ... بالغار بين عصائب ووشائح
وشدا الرعاة الملهمون وأغرقوا ... أبهاء ليلك في خِضَمَّ مفارح
أقبلت بين صفوفهم متقرباً ... بأزاهري، مترنماً بمدائحي
حيث الشهيد رنا لمطلع فجره ... ورأى الغمائم في الفضاء الفاسح
وتلفتت لك روحه فتمثلت ... وجه البطولة في أرق ملامح
حيث الربى في (ميسلون) كأنما ... تهفو إليه بزهرها المتفاوح
وكأنما غسلته (بغدادية) ... بدموع مَلْك في ثراك مراوح
أسعى إليه بكل ما جمعت يدي ... وبكل ما ضمت عليه جوانحي
وهو الحقيق بأن أحيى باسمه ... في الشرق كل مناضل ومنافح
من كل نجد نافض مما اقتني ... يدَه، ووهاب الحشاشة مانح
أو كل فاد بالحياة عشيره ... لا القولِ في خُدَع الخيال السانح
قل للدعاة المحسنين ظنونهم ... بالغرب ماذا في السراب لماتح؟
لاتغرينكمو وعود محالف ... يطأ الممالك في ادعاء مصالح
تمضي السنون وأنتمو في وعده ... تتقلبون على ظهور أراجح
والله لو حسر القناع لراعكم ... قَيْدٌ أُعدَّ لكم وخنجر ذابح
من كل مصاص الدماء منوم ... يدعي بمنقذ أمة ومصالح
يا (يوسف) العظمات غرسك لم يضع ... وجناه أخلد من نتاج قرائح
قم لحظة وأنظر (دمشق) وقل لها ... عاد الكمِيُّ مع النفير الصادح
ودعاك يا بنت العروبة فانهضي ... واستقبلي الفجر الجديد وصافحي
علي محمود طه(705/23)
ما ربحه الدين من العلم في الزمن الأخير
للأستاذ محمد فريد وجدي بك
اعتبر العلم منذ أول نشوئه منافساً للدين، ثم ما لبث أن تطور التنافس بينهما إلى تخاصم بسبب اختلاف وجهتيهما. سار كل منهما في طريقه عاملاً على هدم منافسه، وتجاوزت المخاصمة بينهما في آخر أدوارها حدود الكلام إلى الأخذ بالنواصي والأقدام، وكان رجال العلم في هذا الدور في أوربا هدفاً لأقسى ضروب الاضطهاد، ولم ينقذهم من الفناه إلا نشوء انقسام ديني خطير كانت نتيجته في القرن السادس عشر حدوث عهد جديد من حرية البحث والتفكير، خطا العلم بعدها خطوات سريعة، وخاصة في القرن التاسع عشر، في سبيل استكشاف مجهولات، وإظهار مخترعات وجهت الأنظار إليه، وجعلت المعول في ترقية الإنسانية عليه.
ظل العلم من الناحية الاعتقادية عدواً للدين، رامياً إلى محو أثره من النفسية البشرية، لاعتباره إياه عاملاً أتقضى زمنه، وبطلت الحاجة إليه، وما ليس إليه حاجة مادية أو أدبية، كان وجوده معطلا الآخذين به من التأدي إلى الكمال المنشود.
ولكن في القرن التاسع عشر نفسه الذي نال العلم فيه أقصى مناه من الدين، ظهرت آراء علمية، قضت بها الضرورة، كان لها اثر فعال في إعادة سلطان الدين إليه، منها الحاجة الملحة إلى افتراض وجود عنصر أولي لطيف إلى أقصى حد، مالئ للكون كله دعوه الأثير، لا يخلو منه حيز في الأرض ولا في السماء، وأنه كان موجودا من أزل الآزال، وسيبقى موجودا ابد الآباد، وأنه أصل المادة منه نشأت وإليه تعود. وغلا الأستاذ (هيكيل) المدرس بجامعة (يينا) من ألمانيا فكتب في كتابه وحدة الوجود (المونيسم) يقول:
(نعم، إن نظرية الأثير إذا أخذت كقاعدة للأيمان يمكنها أن تعطينا شكلا معقولا للدين، وذلك إذا جعلنا إزاء تلك الكتلة الجامدة الثقيلة، وهي المادة، ذلك الأثير الموجود في كل مكان، الذي يمكن اعتباره إلها خالقاً).
ثم أيد رأيه هذا الأستاذ (شليسنجر) الألماني الذي أفضى به في خطبة ألقاها في (التينبورغ) بألمانيا وهو.
(إن أحقر مظهر من مظاهر الطبيعة غير الآلية، وأكبر مجلي من مجالي الحياة الآلية،(705/25)
يمكن أن يعلل وجودها بفعل قوى طبيعية واحدة. وبما أنهما من جهة أخرى يشتركان في الصدور من الأصل الأصيل المتوحد، الذي بملأ الوجود اللانهائي، وهو الأثير، فيمكن اعتبار هذا الأثير إلهاً، ويكون نتيجة ذلك الحكمأن الاعتقاد بالخالق يتفق والعلوم الطبيعية.).
إلى هذا الحد وصل اعتداد الطبيعيين بالأثير، وهو عنصر افتراضي، اضطر الطبيعيون إليه، لأنه لا يمكن تعليل كثير من ظواهر الطبيعة بدون افتراض وجوده، فهل بقي لهم وجه للاعتراض على الدينيين في القول بوجوب وجود قدرة عليا أوجدت الوجود كله، ومتعته بالقوى والنواميس الضرورية، لبنائه على ما هو عليه، من تنوع موجوداته، وتباين كائناته؟.
لعمري أن ما ذكرناه لربح للدين من العلم أعاد إليه ما سلبه منه من الاحترام في نظر أتباعه، فكان هذا جزاء للعلم من جنس العمل على نحو لا يمكن إخفاءه، يجب أن يفطن له الذين يهيمنون على العقائد.
وكان مما فتن أهل العلم منذ أكثر من ألفي سنة ما ارتآه (ديمو كريت) الفيلسوف اليوناني من أن أصل المادة جواهر فردة متناهية في الصغر لا تقبل الانقسام تتألف مادة جميع الأجسام الكونية منها.
انتشر هذا الرأي وأخذ به أهل العلم في كل مكان وزمان، وقارعوا به حجج الدينيين في أن المادة محدثة كسائر الموجودات، وظل الأمر على هذا المنوال قروناً، ودرس الناس في كل أمة علم الطبيعة على هذا النحو حتى أواخر القرن التاسع عشر، فرأى الأستاذ اللورد (رودفورد) من أساتذة جامعة منشستر أن الجوهر الفرد لا يعقل أن يكون حصاة جامدة متناهية في الصغر، وأنها لا بد من أن تكون مجتمع قوي لو أمكن فض اجتماعها أحدث تفرقها قوى هائلة يمكن استخدامها في الشؤون الصناعية. وأخذ من ذلك الحين يحاول حلها. كان ذلك في سنة (1875). وما جاءت سنة (1910) حتى كان بعض الطبيعيين قد تمكنوا من تفتيت الذرة فثبت ثبوتاً علمياً أنها مجتمع من القوى، فرال من الأذهان ما كان يقوله الماديون من قدم المادة حتى أن الدكتور (فيلبون) كتب في مجلة (العلم والحياة) سنة (1917) يقول:(705/26)
(لقد حلت كلمة (القوة) محل كلمة (المادة) فما يدرينا إذا كانت كلمة (روح) لا تحلمحل كلمة (قوة)؟).
وقال الفيلسوف (جيو) في كتابه (اللاتدين في المستقبل) ولا يتهم بمشايعة الأديأن، قال في طبعته السادسة:
(إن الرأي الذي مؤداه: أن الجوهر الفرد لا يقبل الانقسام ولا التجزؤ، يعتبر من الوجهة الفلسفية من الآراء الطفيلية. فقد أثبت طومسون وهولوتز أن الذرات في ذاتها زوبعات متشابهة ثم قال:
(إذا وسع المذهب المادي مدى نظره، وجب عليه أولاً نسبة الحياة إلى العنصر العام بدلاً من أن يفرضه مادة عمياء).
ثم نقل الفيلسوف جيو بعد ذلك عن سبنسر قوله:
(قال الفيلسوف سبنسر:) كل جيل من الطبيعيين يكشف في المادة المسماة عمياء قوى ما كأن يحلم بوجودها أعلم علماء الطبيعة قبل ذلك بسنين معدودة.). فإننا لما رأينا أجساماً جامدة تحس رغماً من جمودها الظاهر بتأثير قوى لا يحصى عددها؛ ولما أثبتت لنا آلة التحليل الطيفي بأن الذرات الأرضية تتحرك موافقة حركة الذرات الموجودة في الكواكب، ولما اضطررنا إلى أن نستنتج من ذلك أن ذبذبات لا يحصى لها عدد تخترق الفضاء في كل جهة وتحركه، لما رأينا ذلك كله، وجب علينا أن ندرك ما قاله (سبنسر) من أن الوجود ليس بمؤلف من مادة ميتة، ولكنه وجود حي في كل جهة من جهاته، حي بأعم معاني هذه الكلمة، إن لم يكن بأخص معانيها).
وهذا أيضاً ربح عظيم للدين آتاه به العلم بعدما ملأ الخافقين إيذاناً بأن الدين قد قضى زمنه، وانتهت مهمته.
وفي العالم بحوث منذ أكثر من مائة وخمسين سنة موضوعها النفس الإنسانية، كان في مقدمتها ما دعاه مكتشفه الدكتور (مسمر) الألماني حوالي سنة (1770) بالتنويم المغناطيسي، وقد ثبت بتجارب العلماء فيه من خصائص الروح الإنسانية ما كاد لا يصدق لولا أنه شوهد مشاهدة علمية لا تدع عذراً لمستريب. ثبت منه أن الإنسان متى وقع في ذلك الضرب من النوم، ظهر له عقل أرقى من عقله، وذاكرة لا يفلت منها ما كبر أو صغر(705/27)
من حوادثه، فيدرك ما يراد منه إدراكه بذاته، لا بأية آلة من آلاته، وتظهر له من الخواص ما يفوق ذلك، خصائص روحية لا جدال فيها، وهي مع ذلك تجريبية محسوسة. وقد سلك العلماء سبيلا أخرى للوقوف على ما نجهله من خصائص النفس منذ قرن واحد وصلوا منها غايات بعيدة، ومكتشفات مدهشة.
كل هذا ربحه الدين من العلم في مدى المائة وخمسين سنة الأخيرة، وهي تكفي لدحض كل فلسفة مادية، واكتساب حجة الدين قوة تجعلها فوق متناول الشكوك.
أليس من العجيب بعد هذا أن رجال الدين لا يأبهون لهذه الأسلحة العلمية، بل يوجد فيهم من يكذب بها ويعمل على ملاشاتها! ألا فليتحققوا أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم، وأن أي مدرك من المدركات، لا يمكن أن يأبه به أحد ممن يعتد بهم إلا إذا جاءه من طريق العلم، فلا نجعلن بيننا وبينه حجاباً، ولنستفيد مما وصل إليه من التطور لنجتذب القلوب إلى حظيرة الحقائق الإلهية الخالدة بما تقرر فيه من المكتشفات الباهرة، فإن كان لا بد للقائمين بذلك من دراسة خاصة فلنقم بها، وما يذكر إلا أولو الألباب.
محمد فريد وجدي(705/28)
من مذكرات عمر ابن أبي ربيعة. . .
حديث غد. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة): خرجت في صفر من سنة أربعين أريد المدينة أزور فتياناً من أصحابي بها، وأتحسس الأخبار أخبار الفتن المشئومة التي توزعت قلوب المسلمين، وأنظر ما فعل بسر بن أبي أرطأة بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغنا أنه أحدث فيها أحداثاً عظاماً.
غادرت مكة يوم غادرتها وهي كالتنور المتوقد، فقد ذابت عليها الشمس، واحتدم وهجها وبقينا نتنفس بين أخشبيها لظى من فيح جهنم، حتى يحس المرء كأن الدم يفور فوراناً في عروقه، وقد خدر النهار من حوله فلا ريح ولا روح، فلكل نفس لذعة في الخياشيم والصدر تنشف الريق حتى يكاد اللسان ينشق من فرط جفافه، وحتى يكاد يظن أنه الجنون، ما أصبرنا يا أهل مكة على صياخيدها، وما أحبها إلينا على شدة ما نلقى من لأوائها! بوركت أرضاً وتعالى من حرمها وتقدست أسماؤه.
كان النهار حراً ماحقاً منعنا التأويب، فكان سيرنا كله إدلاجاً تحت غواشي الليل إلى أن يسفر الفجر وطرفاً من النهار. ولشد ما أعجبني الليل وراعني حتى تمنيت أيامئذٍ أن الدهر ليل كله، فقد كنت أسري تحت سماء زرقاء ملساء صافية كأن النجوم في حافلتها وعلى صفحتها در يتلألأ على نحر غانية وأنا تحت أنفاسها كالشارب الثمل. وكيف تفعل هذه البيداء بنا وبقلوبنا؟ قيظ يسلخ جلد الحية ويذيب دماغ الضب، لا يلبث أن تنفحنا بعده بنسيم هفافٍ كأن الليل يتنفس به ليخفف عنا بلاء نهارنا، ويفوح من برود الليل شذا الأقاحي فيفعم الفضاء كله أحياناً حتى يخيل إلي أن البادية المجدبة قد استحالت روضةً تنفث أزهارها الطيب من حيث استقبلت، فأجد لها روحاً على كبدي وراحة فأعب من أنفاسها عباً حتى أقول لقد سكرت من غير سكر. ثم ما أندى رويحة الفجر على قلوب السارين في هذه المهامة السحيقة المتقاذفة! فإن عبيرها وبردها والنور المشعشع على أرجائها يجعلك تحس حساً لا يكذب بأنك تحيي في لذاذات لا ينقضي منها أرب ولا يستحيل لها مذاق. ولقد حبب إلى الخروج إلى البادية كلما وجدت في نفسي طائفاً من سآمة أو ملل، فيا بعد ما بين(705/29)
الحاضرة وجوها الكامد الجاثم ليلا ونهاراً، وبين هذه الرحاب المتمادية التي يبثها النهار لواعجه وحرقه، ويأتي الليل فيناجيها نجوى خافتةً في ضميره العميق المشتمل على أسرار الحياة برها وفاجرها، وتقف النجوم على أرجاء سمائها مصغياتٍ مشرقات زاهرات كأنما يومض بعضها لبعض فرحاً بما سمعت من تلك الأسرار المصونة المكتمة.
كلما أوغلنا في البادية وفي قلب الليل ازددت فتنة بليالي الصحراء وتهامس رمالها وتناجي كواكبها، وأسمع لليل هسهسةً كأنها أحاديث قلوب عاشقة قد تدانى بها السرار، فتمضي الساعات والعيس ماضية بنا فلا نمل ولا نكل ولا نحس وحدة ولا مخافة، كأنا قد دخلنا الحرم الآمن الذي لا يراع اللائذ به. وجعلت نفسي تتجدد وتتطهر كأن برد الليل قد غسلها فما تشوب نقاءها شائبة.
وبعد ليال أفضت بنا المسالك إلى (الربذة) التي بها قبر أبي ذر الغفاري رضوان الله عليه، فلم يبق بيننا إلى المدينة سوى ثلاثة أميال، وأدركنا الفجر وإننا لعلى مشارفها، فقلنا نعوج بها فنصلي الفجر ثم نرتحل حتى نبلغ المدينة في نهار يومنا هذا. فلما أنخنا جمالنا وقمنا إلى الصلاة، سمعت صوت قارئ قد تأدى إلينا من بعيد، فتلمسته حتى تبينت صوتاً راعداً تقياً كأن الجبال والرمال والدنيا كلها تهتز على نبراته القوية العنيفة الصادقة، وكأنه في إهاب الليل المهلهل فيفريه فرياً ويمزقه بمدى من النور، وكأنه يسيل في البطحاء كالسيل المتقاذف فتموج فيه رمالها كأمثال الجبال نسفت من قرارتها، وكأن ألفاظه هبات عاصفة تفض دروع الليل فضاً، وكأن نغماته أنوار مشعشعة تخالط هذا كله فتملأ الفجر فجراً من نورها ونور ألفاظها ومعانيها. وأول ما تبينته حين دنوت منه بحيث أسمع قراءته: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. لن يضروكم إلا أذى، وأن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء يغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)، إلى آخر الآيات، فلما أخذ يكبر سمعت التكبير يملأ جنبات الأرض كلها متردداً ظاهراً كأن لم يبق في الدنيا شيء إلا كبر بتكبيره.(705/30)
فرغ الرجل من صلاته ووضع عمامته وبقي حيث هو قليلاً ثم قام، فأضاءه لي ذرو من نور الفجر الناهد من قبل المشرق، فإذا رجل في السبعين من عمره وافر اللحية أبيضها، أسمر شديد السمرة طوال جسام فارع كأنه صعدة مستوية، أصلع الرأس شديد بريق العينين، نظر إلينا نظرةً وحيي ثم انفتل راجعاً إلى فسطاط مضروب قريب من حيث كان يصلي. . رأيته وهو يمشي كأنه قائد يحس كأن الجحافل من ورائه تمشي على أثره. وبعد قليل جاءنا رجل كأشد من رأيت من الناس نفاذ بصر؛ فحيانا وقال: من الناس؟ قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. قال: ابن العدل؟ رحم الله أباك، فقد شهد معنا المشاهد بعد عام الفتح. قلت: فمن يكون الرجل الذي أوى إلى فسطاطه يرحمك الله؟ قال أو ما عرفته؟ إنه محمد بن مسلمة الأنصاري صاحب رسول الله وصاحب أبي بكر وعمر. قلت: فما جاء به، وقد سمعنا أن رسول الله نهى عن أن يرتد المرء أعرابياً بعد الهجرة، وأنه ذكر ثلاثاً من الكبائر منها (التعرب بعد الهجرة)، فيعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً. قال: صدقت يا بني، ولكن لذلك خبر:
كأن محمد بن مسلمة فيمن ثبت مع رسول الله يوم أحد، فأعطاه رسول الله سيفاً وقال له: (إنه ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذك فأت بسيفك أحداً فاضرب به عرضه حتى تقطعه، واكسر نبلك واقطع وترك، واجلس في بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة، فإن دخل عليك أحد إلى البيت فقم إلى المخدع، فإن دخل عليك المخدع فاجث على ركبتيك وقل: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين). وقد فعل حين كانت هذه الفتن بين علي ومعاوية فكسر حد سيفه وقعد في بيته، وأطاع نبيه وعصى الشيطان الذي استزل هذه الناس التي يقتل بعضها بعضاً. ولقد قضى في مكانه هذا ثلاث سنوات يدعو ربه أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين التي جعلت تتفانى على دنيا فانيةٍ، وعسى ربك يستجيب لدعاء هذا الرجل الصالح فتحقن الدماء وتوصل الأرحام ويعز بهم دين الله في هذه الأرض.
(قال عمر): فسألت الرجل أن يستأذن لي على أبي عبد الرحمن محمد بن مسلمة فذهب ثم جاء يومئ إلي أن أقبل. فدخلت على أبي عبد الرحمن فسطاطه فإذا فيه سيف معلق على جانب منه، فلما سلمت رد التحية وقال: مرحباً بك يا ابن أخي! ما جاء بك؟ قلت: زائر إلى(705/31)
مدينة رسول الله يا أبتاه. فدعاني أن أجلس، فو الله لقد أخذتني للرجل هيبة ما وجدتها لأحد ممن لقيت من صحابة رسول الله، ولا من أمراء المسلمين، وكانت عيناه تبصان في سدفة الفسطاط كأنهما قنديلان يلوحان في ظلامٍ بعيدٍ. وجعلت أنظر يميناً وشمالاً فلا ألبث أن أثبت نظري على سيفه المعلق، فلما رأى العجب في عيني قال: لعلك تقول، لقد كسر سيفه وهذا السيف معلق بحيث أرى! ثم قام واستنزل السيف واخترطه فإذا هو سيف من خشب. ثم قال: لقد فعلت ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذت هذا أرهب به الناس.
(قال عمر بعد حديث طويلٍ): قلت له: يا أبتاه والله لقد آنستني وأدنيتني وأطلقت لساني فلو سألتك! قال: سل ما بدا لك يا أبن أخي. قلت لقد حدثني عن قتلك كعب بن الأشرف إليهودي، وعن قتل يهود أخاك محموداً رضى الله عنه، فهلا حدثتني عن إجلائك يهود عن جزيرة العرب في زمان عمر؟ فقال:
رحم الله الرجل، فقد كأن شديداً في الحق حافظاً للعهد، ولكن يهود قوم غدر، أساءوا الجوار وخانوا العهد وتآمروا على المسلمين، فعزم عمر على أن يجليهم عن أرض العرب ليقطع غدرهم ويحسم مادة النفاق في هذه البقعة المباركة. فأرسل إلي وقال: (لقد عهد إليك رسول الله مرات أن تجلي يهود، فأنا أتبع سنته وأعهد إليك أن تجلي لي يهود عن أرض العرب، فلا تظلمهم ولا تؤذهم، ولكن لا تدع منهم صغيراً ولا كبيراً ولا طفلاً ولا امرأة حتى تستوثق من جلائهم بجموعهم عن أرضنا. ولئن عشت لأجلينهم عن كل مكان كبر فيه المسلمون لله، فإنهم أهل فسادٍ ونفاقٍ وخبث) فخرجت إلى طوائف اليهود في خيبر وسقتهم مستقبلاً بهم الشام، فلما بلغنا غايتنا أقبل علي رجل من ولد الحارث أبي زينب اليهودي ثم قال لي: لقد كنت مسترضعاً فينا يا أبا عبد الرحمن، وكنت أنت وابن الأشرف رضيعي لبانٍ، فما لبث أن جاء هذا الدين واتبعتم ذلك النبي حتى قتلت أخاك ورضيعك، وها أنت تخرجنا من ديارنا وأرض أجدادنا، وترمينا في ديار الغربة، فهلا كنت تركت كل ذلك لغيرك أيها الرجل! فقلت له: يا أخا يهود، لئن كنت قتلت رضيعي فقد قتل قومك أخي محمود بن مسلمة غدراً، وعرضتم لحرم رسول الله بالتشبيب والبذاءة والسفه، وأردتم أن تغدروا بنبي الله وتدلوا عليه صخرة لتقتلوه، أفتظن يا أخا يهود أنا تاركوكم تعيثون في(705/32)
الأرض فساداً، وتكفرون النعم، ولا ترعون حرمة ولا ذماماً ولا عهداً، وتتآمرون على المسلمين تحت الليل، وتعدون عليهم غارين آمنين؟ ووالله لقد صبر عليكم عمر صبراً طويلاً، ولو كان حز رقابكم جزاء بما تصنعون لقل ذلك لكم.
قال ابن الحارث: لشد ما تهتم علينا أيها الناس، فوالله ليكونن لهذا اليوم الذي إذللتمونا فيه وفضحتمونا وأجليتمونا عن أرضنا وأرض آبائنا يوم مثله يكون لنا عليكم، فقد جاء في كتبنا أنه سوف يجئ يوم تدخل فيه اليهود على أبناء يعرب هؤلاء فتذيقهم بأساً شديداً وعذاباً غليظاً، حتى ترى اللقمة في يد المسلم قد أدناها إلى فيه فإذا على رأسه رجال من أشداء يهود تنفره حتى يدعها لهم. ولتدخلن نساؤنا على نسائكم حتى لا تبقى امرأة منكم إلا نامت بشر ليلة مما تلقي من نسائنا، ولنسوقنكم كما سقتمونا حتى نجليكم عن ديار آبائكم وأجدادكم ولنفعلن الأفاعيل حتى تكون لنا الكلمة العليا ونحن يومئذ أحق بها. ووالله ما نصبر على ما آذيتمونا إلا انتظاراً لما يكون غداً كما قال أنبياؤنا. وكأني أنظر إلى غدٍ، فأرى وجوه الأحباب من بني إسرائيل قد سقطت عليكم من كل فج كأنهم جراد منتشر تأكل يابسكم وطريكم، ولا تدع لكم موطئ قدم إلا كان تحته مثل جمر النار. وإنكم لتقولون إن الله قد ضرب علينا الذلة والمسكنة، فو الله لئن صدقتم اليوم إذ أمر أمركم، لتعرفن غداً أننا شعب الله الذي لا يرضى له الله بالذلة والمسكنة، ولقد كنا ملوك الأرض فدالت دولتنا كما دالت من قبلها دول، ولكن الله بالغ أمره يوم تدولون كما دلنا ويعود الأمر إلينا، فنحن قوم أولو بأس شديد، ونحن أهل الكتاب الأول، ونحن أتباع الحق. فإذا جاء ذلك اليوم يا أبا عبد الرحمن فستعلمون أينا أشد باسا وأشد تنكيلا. فو الله لنتخذنكم لنا أعواناً على أنفسكم، ولنضربن غاديكم برائحكم ومقبلكم بمدبركم، ولنوقعن الفتنة بينكم حتى يصبح الرجل منكم مؤمنا ويمسي كافراً، وليكونن لنا من أنفسكم رجال يخربون بيوتهم وبيوت آبائهم وهم عنا راضون ولنا مطيعون!
قال محمد بن مسلمة: فسمعت الرجل يقول قولاً كبيراً، فقلت له: لئن صدق أنبياؤكم فكان ذلك، فما صدقوا إلا ليصدقوا رسول الله في خبره، فأنتم اليوم أشتات مبعثرون في جنبات الأرض، وليزيدنكم ربكم فرقةً وشتاتاً، فإذا جاء ذلك اليومفدخلتم علينا أرضنا وعلا أمركم في حيث يشاء الله منها، فلكي تتم فيكم كلمة الله وليعذبكم وليستأصل شأفتكم من أرضه،(705/33)
ولتكونوا عبرة للطاغين من أمثالكم، فقد قال الصادق المصدق رسول الله: (تقاتلكم يهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله)، فو الله ليكون ذلك كما أراد الله، ويومئذ يعض طغاتكم وطواغيتكم أطراف البنان من الندم، فالعرب هي ما علمت يا أبن الحارث لا ينام ثائرها ولا يخطم أنفها بخطام.
(قال عمر) قلت: يا أبا عبد الرحمن! وأن ذلك لكائن؟ قال: يا بني، ما علمي بالغيب! ولكنه إذا جاء فليقضين الله بيننا قضاءه، ويكون يومئذ فناؤهم على أيدينا، فأمر المسلمين إلى ظهور، وأمر يهود إلى حكم الله الذي ضرب عليهم الذلة والمسكنة إلا بحبلٍ من الله وحبل من الناس. والله يحكم لا معقب لحكمه.
محمود محمد شاكر(705/34)
لا بد للأرض من هداية السماء
للأستاذ محمد محمد المدني
الأستاذ بكلية الشريعة
للإنسانية أهداف ثلاثة إذا وصلت إليها وحققتها فقد وصلت إلى القمة، وحققت خلافة الله في الأرض كما أرادها الله. هذه الأهداف الثلاثة هي: الحق، والخير، والجمال. . وكل واحد منهما ضروري ما دمنا نريد السعادة الشاملة للجنس البشري، وننشد الكمال الذي به يكون الإنسان إنساناً.
ولقد مضى على الإنسان قرون وآماد كان فيها فريسة الجهل والوثنية، يعبد الشمس والقمر والنجوم، بل يعبد الأحجار والأشجار والحيوان، ولا يتمتع بلذة المعرفة وإدراك الحقائق، ولا تتصل روحه، ولا يسمو عقله إلى خالق هذا الكون العجيب، ولا يمتد تفكيره إلا إلى ما بين يديه كأنه واحد من هذه الحيوانات التي تعج بها الأرض لا يمتاز عنها كثيراً!
وكان الإنسان أيضاً فريسة هينة مستسلمة لعوامل الشر والفساد التي تتمثل في ضعفه وعجزه، وتتمثل في تسخير الأقوياء للضعفاء، وتتمثل في ظلم الرعاة والمملكين، وتتمثل في البهيمية الحمقاء التي لا تعرف حدوداً، ولا تهدف إلى غرض، وتتمثل في الانحلال والتخبط والارتجال في كل ناحية من نواحي الحياة!
وكان الإنسان محروماً من إدراك الجمال والتمتع بلذته: فالقانون قانون القوة كما هو الشأن بين وحوش الغاب، وليس للأخلاق موازين، ولا للفضائل مقاييس، ولا للشرف قيمة، ولا للحياة مثل تحتذى أو تراد.
وما لهذا خلق الإنسان، ولا بهذا استحق خلافة الله في الأرض، ولا لهذا أستحق بنو آدم التكريم على سائر ما خلق الله!
فلم يكن بد من (هداية السماء) تكفله وتهذبه وتقرب له السبيل، وترسم له الصراط المستقيم، وتخرجه من الظلمات إلى النور، وبذلك كانت الرسالات الإلهية التي تطورت وتركزت وانتهت إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وختمت بها كآخر قانون سماوي ضمن له الحفظ والبقاء، وألا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا لمجرد أن ذلك هو ما قضت به الإرادة الإلهية، ولكن لأنه القانون الذي أتى وفقاً للطبيعة، وزود من المبادئ بما يجعله(705/35)
صالحاً لكل زمان ومكان، وبما يجعله قابلاً لكل خير وصلاح تجود به العقول إلى أن يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين!
ترى ماذا كان يتطور إليه الإنسان لو لم يمد بهداية السماء؟ لا شك أنه كان سيعرف بعض صور الواقع الصحيح، وبعض نواحي الخير، ويدرك بعض أسرار الجمال، ولكن إلى أي حد؟ وبعدكم من القرون والدهور؟ أعتقد أن (الهداية الإلهية) قد عجلت على الأقل إلى حد بعيد، وبعيد جداً، بتهذيب الإنسان وتطويره، وأن المبادئ التي اشتملت عليها الشرائع عامة كانت بمثابة بذور غرست فانبتت وما زالت تنبت وتؤثر في الغذاء الفكري للإنسان تأثيراً عميقاً، سواء أحس الإنسان بذلك أم لم يحس، نعم قد يظن الإنسان أنه وصل إلى ما وصل إليه من الرقي بعقله وأنه لو لم تكن الأديان لكان العقل ديناً وهادياً - وقد قال بذلك فعلاً بعض فرق المسلمين - ولكن ما هي مقاييس العقل وهل كان العقل - إذا لم يلقح بهذه اللقاحات السماوية - يمضي قدماً في الطريق المستقيم لا يضل ولا يشقى؟ إني لفي شك من ذلك وينبغي أن يكون ذلك موضع شك، فنحن نرى الأمم البدائية أو المنعزلة تقيم القرون والدهور في عزلتها، وهي على ما هي عليه في أفكارها وعاداتها وتقاليدها ونظرها إلى الأشياء وإدراكها للمعاني دون أن تتطور، ودون أن تتحرك، ودون أن تنبت فيها نابتة من عقل أو أثارة من علم، إلا إذا جاءها ذلك من خارجها، كأن يتصل بها قوم آخرون، أو يرحل عنها بعض أبنائها ثم يعود إليها، أو نحو ذلك. ويومئذ تبدأ في تفكير جديد، وتنظر إلى ما هي فيه، فتعرضه على العقل وتناقشه، وتختلف فيه خلافاً شديداً، وينتهي أمرها بأن تأخذ منه وتدع وتعدل فيه وتقوم، فربما تطورت وتطور التفكير العقلي فيها، وتطورت أساليب حياتها على نحو جديد، وما ذلك إلا لأن اللقاح فعل فعله، وأثر آثاره، وإن لم يدرك الإنسان في أثناء هذا التفاعل أنه حاصل واقع ماض في سبيله موف على غايته!
بهذا نستطيع أن نقيس حالة البشرية عامة لو لم تمد الأرض بهداية السماء. إنها تكون في غيابة من الجهل وضلال من التخبط وتظل فيهما، وأن تلونا بألوان متعددة، الحقب الطوال، والأزمان المترامية والدهور المتعاقبة، وهبنا سلمنا أنها تتحرر من هذا الجهل شيئاً بعد شيء عن طريق الصدفة، أو التفكير العقلي فإن ذلك يحتاج - والفرض أنه لا مدد من الهداية والنور - إلى أحقاب وربما انقضى عمر الإنسان على هذه الأرض دون أن يصل(705/36)
إلى الغاية الحميدة التي أرادها الله له!
وأحب أن نلتفت في هذا المعنى إلى آية كريمة في كتاب الله تقول (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا).
فهذه الآية تشير إلى الحقب المتطاولة التي مرت بالإنسان وهو في طور الخمول وغمرة الجهالة حتى جاز أن يوصف بهذا الوصف البليغ، فينفي عنه أنه شيء في هذا الوجود يستحق الذكر!
والإنسان هو عماد هذه الأرض، وهو خليفة الله فيها، وهو أكرم من فيها على الله، فإذا وصف من هذا شأنه بأنه لم يكن شيئاً مذكورا، فلا بد أن يكون هذا الوصف تعبيراً عن حالة من الخمول والضعف والتفاهة - لا أقول وصلت به إلى مرتبة الحيوان فإن الحيوان على كل حال شيء مذكور - ولكن أقول: إنه كأن أسوأ حالاً من الحيوان وأبعد وأوغل في الضلال والتسخير!
ثم تذكر الآية بعد ذلك خلق الإنسان وأصله، والغاية من هذا الخلق، وما ركب فيه من استعداد فطري له أدوات ظاهرة من الحواس كالسمع والبصر - سواء أكان المراد بهما هاتان الحاستان الماديتان أم كان مراداً بهما الاستعداد الفطري للتقبلوالفهم والإدراك عامة - وتردف الآية ذلك بنعمة الله عليه في الهداية إلى السبيل، والإرشاد إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وبذر بذور المعرفة والعلم في محيطه، ينتفع بها من ينتفع، ويزور عنها من يزور، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة (إما شاكراً وإما كفورا) ذلك بأنه لا يوصف بالشكر ولا بالكفران إلا من علم.
وكأني بالآية الكريمة حيث ذكرت هذه المعاني الثلاثة في طراد واحد - فلفتت إلى حالة الإنسان في طور جهالته وضؤولته ثم أتبعتها بخلقه واستعداده الذي هيأه الله عليه، ثم ذكرت بعد ذلك الهداية والإرشاد - كأني بها وقد ذكرت ذلك على هذا النحو؛ تلمع إلى أن اعتماد الإنسان على هداية الله وإرشاده ليس بأقل من اعتماده عليه في خلقه، وفي استمداده الوجود منه، فكما لا يوجد الإنسان بدون موجد، ولا يخلق إلا من الخالق؛ كذلك لا يهتدي بدون هاد، ولا يرشد بدون مرشد، ولا يتعلم بدون معلم!(705/37)
من هنا يجب أن يعترف الإنسان وأن يكون خاشعاً في هذا الاعتراف، بالهداية الإلهية، كما هو خاضع خاشع في اعترافه بالخلق والتكوين ويجب ألا يغره عقله، ولا تسول له علومه ومعارفه أمرا مهما بلغ منها، فيتردد في الاعتراف أنه محدود، وبأنه محتاج، وبأنه موضع فضل إلهي، وفيض ربأني، بهما قوامه وبهما عقله، وبهما سموه عن كل ما خلق الله في هذا الوجود، ولولاهما ما كان، ولولاهما ما صار شيئاً مذكورا!!
وناحية أخرى تتصل بهذا البحث: ذلك بأن العقول تتفاوت وتتضارب، ويرى بعضها الشيء حسنا بينما يراه الآخر قبيحاً، وهذه قضية يثبتها الواقع، ولا يجادل فيها متصل بالحياة! وإنما كان ذلك لاختلاف أسباب العلم واختلاف وسائل العلم، واختلاف الأمزجة والأهواء والبيئات، واختلاف العصبيات والجنسيات، وميل الإنسان بطبيعته إلى الاعتزاز بنفسه، والاعتداد برأيه، وتنفيذ فكرته، وفرضها على سواه فرضاً لا يخضع للمنطق ولا للعقل، ولكن يعتمد على السلطان والنفوذ والقوة الذاتية، فإذا ترك الناس يشرعون لأنفسهم، ويضعون المثل لتفكيرهم وثقافتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم فإنهم لا شك متأثرون بما أوضحنا من عوامل الشهوة والمزاج والبيئة والسلطان، ولا يستطيعون أن يتحرروا منها مهما بلغوا من العلم والحضارة، لأنها طبيعية تتغلب كل ما سواها، وإن استترت فإنما تستتر في الظاهر، وهي تعمل عملها في الخفاء ملحة مثابرة لا يثنيها شيء من الأشياء.
ومن هنا رأينا الأمم الحديثة يعتنق كل منها فكرة ويجعلها مذهباً له في الحياة، ويحاول حمل الناس عليها تارة بالقوة، وتارة بالدعاية. فهذه نازية، وهذه فاشية، وهذه اشتراكية، وهذه شيوعية، وهذه ديمقراطية وهكذا. وكل هذه أوضاع إنسانية متأثرة بما يتأثر به الإنسان عادة. وليس أصحابها وواضعوها من الملائكة المقربين، ولا من القديسين المنزهين عن الأغراض والنزعات، ولذلك اختلفت، وتعاركوا عليها؛ واحتاجوا إلى القوة في حمايتها، فلما تخلت القوة عن بعضها انهار وأصبح في عداد الذكريات التاريخية، ولو كأن حقاً وخيراً لبقي وصار الجميع إليه متفاهمين (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
أين هذه النظم من نظام الإله السميع العليم، المنزه عمن الأغراض والأخطاء، الذي ينظر إلى عباده جميعاً نظرة العدل والرحمة والمساواة؟(705/38)
أما بعد!
فقد وضح أن العقل وحده غير كاف - حتى في عهود الحضارة والرقي الفكري - للأخذ بيد الإنسانية وتحقيق أهدافها من الحق والخير والجمال، وأنه لا بد من الهداية الإلهية لتوسيع آفاق هذا العقل، ولكفالة استقامته، وضبط تفكيره والحد من طغيانه!
بذلك، وبذلك وحده، يصل الإنسان في هذه الحياة، إلى الغاية التي أرادها الله.
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(705/39)
نشيد الحرية في عيد الهجرة
للأستاذ محمود الخفيف
معصوبة العينين مغلولة ... واهنة في أسرها شاحبة
لاهثة في القيد برية ... ذاهلة عن قيدها واثبه
عصية هوجاء مأخوذة ... نازعة للطير ما أذعنت
يوماً لهذا الأسير أو هادنت
أو غلبت روح لها غالبة
أبية مهم يعض الحديد ... فليس بالموهن إصرارها
من بأسه بأس لها أو يزيد ... والنار تذكي أن طغت نارَها
هازئة في قيدها بالوعيد ... توعد مَن قيَّدها صيحة
تصغي الأيام مرتجة
وتنقل الأيام أخبارها
تصيح بالسجان يا آسري ... غداً تريك الأرض زلزالها
تغدو بها المقهورَ يا قاهري ... يا صانعاً للروح أغلالها
هيهات أخشى القيد من غادر ... رنين أغلالي في سمعه
ألقى طيوف الرعب في نفسه
والرجفة النكراء أوحى لها
ما ألفت إلا فسيح الرحاب ... طليقة في جوها طائره
في المرج والموج وفوق السحاب ... خفاقة رايتها عابره
وضيئة تلمع لمع الشهاب ... في ظلمة العيش سنا برقها
تهفو إليه الروح مشتاقة
وتجتليه الأنفس الثائرة
كم من فؤاد باسمها خافق ... مستشرف يرتقب الموعدا
وكم لها في الدهر من عاشق ... محلق الروح وإن قيدا
في سجنه ينظر من حالق ... يهزأ بالسجن وأصفاده(705/40)
ما عرف الإذعان قلب له
يطلقه مما يسام الردى!
معشوقة الإنسان من يومه ... حياته قبل ضلال الحياه
قبل الذي أغواه من علمه ... وغره أن الهدى ما يراه
قبل الذي أطغاه من حكمه ... في رأسه الريش وفي كفه
نصل يلوح الشر في ومضه
والغل والأصفاد صاغت يداه
مذ ألبس الناس لباس الحديد ... والذهب الوهاج ما يلبس
يا سوء ما يشقى لديه العبيد ... وليس من يهمس أو ينبس
أين، وقيدٌ كل يوم جديد ... والناس قطعان ورعيانهم
إن بسم الراعي صفا مرجُه
والغيم والإعصار إذ يعبس
وأصبحت من حلم الحالم ... وسهده، الحرية الساحره
كم من مُعَنى باسمها هائم ... يطلبها في الظل والهاجره
يعيش بالأحلام في عالم ... ينسى به الإنسان أغلاله
بالحق والرحمة في أرضه
والسلم كم تربطه آصره
حورية كم سحرت مهجة ... راحت بما تشقى به تسعد
ما إن ترى في عيشها بهجة ... إلا الذي في حلمها توعد
والهول كم خاضت به لجة ... من ظلمة تأوي إلى ظلمة
تهفو إلى النور الذي شاقها
حتى ترى صبحاً له يولد
عذراءُ كم أغلى الهوى مهرها ... من الدم الغلي لها يبذل
كم ألهمت نضواً لها سرها ... من روحها وحي الذي يعمل
يلمح في كل سناً سحرُها ... كل شاد بالهوى حوله(705/41)
ذكره باللحن معشوقة
لو تقتضيه الدمَ لا يبخل
كم راسف في قيده موثق ... يأبى وأن مُنَّي أن يذعنا
أشهى له سجنه الضيق ... أن يلبس الأغلال مستيقنا
عزاؤه في ضيقه المحرق ... ما يحرق الطاغين من غيظهم
مما أصرت أنفس حرة
تأبى إلى الذلة أن تركنا
عذابه في القيد روح له ... يكاد لولا كبره يطرب
ينسيه ما يطلبه هوله ... ياهول ما حمله المطلب
في قلبه ومض محا ليله ... فاض كما كان يفيض الضحى
وهو من السجن وأحجاره
في غيهب من فوقه غيهب
يذوي وفي أضلاعه جذوة ... تدفئه في ركنه الأقتم
تذهله عن موته نشوة ... فثغره يبسم إذ يرتمي
تمضي إلى الموت به غفوة ... فيها خيال رف من فوقه
يعرفه! كم ذا رأى وجهه
بغيره في الأسر لم يحلم
فطرية تنشدها الأنفس ... والأنفس الحرة قربانها
من نفس تحيا به أنفسٍ ... فيها من العزة برهانها
في لمحها النار التي تقبس ... نار تظل الدهر مشبوبة
يخشى لظاها كل مستكبر
وينذر الطاغين بركانها
أبطالها في الدهر أيامهم ... أجمل ما يشدوا به شاعر
توحي إلى الحاضر آلامهم ... كيف أبى أغلاله الحاضر
أسيافهم شهب وأقلامهم ... لحن، على الأيام أسجاعه(705/42)
وحي قلوب خافقات به
في الأرض ما خوفها قاهر
شدوْتُ والهجرة في خاطري ... أنشودتي الحرية العانيه
إشراقها في قلبي الثائر ... لحن به أذكيت ألحانه
تبقى بقاء الفلك الدائر ... توحي إلى الأجيال حرية
ما ولدت (يونان) أختاً لها
والدهر ما جاد بها ثانية!
خوانق الأغلال مفصومة ... مهاجر حطمها واحد
من حوله الأوهام مهزومة ... زلزلها البتهل العابد
أسلحة الطغيان مثلومة ... والناس سوى بينهم دينهم
ما عز إلا الله من حاكم
لغيره ما سجد الساجد
مهاجر عزمته أنطقت ... بما تدين الأنفس الخائفة
منطلق من أسره أطلقت ... هجرته الحرية الراسفه
رسالة للروح قد أشرقت ... تضحي على الأنفس آياتها
قدسية الومض إلهيةٌ
جوانب الأرض بها هاتفه
الروح في منزعها حرة ... من ربقة الذل الذي يوبق
والعقل قد ثارت به ثورة ... تأبى من الأوهام ما يوثق
والجسم كم نامت به شرة ... لا الترف الجامح ماض به
إلى مهاوي الغي يوماً ولا
يخشى من الطغيان ما يرهق
محمد، شرعته قوة ... تذكى طموح الأنفس الطامحه
حمية توقدها دعوة ... إلى الهدى حجَّتها لائحه
في كل نفس حرة جذوة ... صوب العلا تدفعها والفدا(705/43)
كم ألهبت في زحفها عصبة
هزت بها أسيافها الفاتحة
ودينه الحرية الصادقة ... لا عوجٌ فيها ولا زخرف
معارج الفكر به شاهقة ... وسيفه من خلفه المصحف
مراشد الوحي بها ناطقة ... في الدين لا إكراه من قيم
والأمر شورى فيه لا غاصب
يطغى ولا ذو نزق يعصف
يا مدلجاً أخرجه قومه ... خطوت لا في البيد بل في الزمن
يا جاهداً تحت الدجى، عزمه ... والبغي داج ليله، ما وهن
يا واحداً ضاق به خصمه ... هجرتك الغراء من وحيها
في كل عصر ظالم، هجرة
لكل شاك غربة في الوطن!
قصيدة رددها منشدا ... ما هتف الدهر وما رجَّعا
لحن له في كل قلب صدى ... ما أصدق اللحن وما أروعا
شمس هُدى كم ذا تشع الهدى ... من أفق الوحي شعاعاتها
مطلعها الشرق وكم أشرقت
شمس به، أكرم به مطلعا!
(البقية في العدد القادم)
محمود الخفيف(705/44)
في بيت المقدس
للأستاذ علي الطنطاوي
كانت (مارييت) تدور في البيت ما تستطيع أن تستقر من جزعها على زوجها وإشفاقها أن يصيبه مكروه، تضم ولدها الرضيع إلى صدرها، تناجيه وتناغيه، ثم يدركها اليأس، ويخيل إليها أنه قد غدا يتيماً لا أب له، فتساقط الدموع من عينيها على وجه الطفل فيفيق مذعوراً ويبكي، فتمزج دمعة الحب بدمعة الطفولة. . . وكان زوجها قد خرج من الغداة لرد الأعداء المسلمين عن بيت المقدس، ومالت الشمس ولم يعد، ولم تعرف ماذا حل به. . . وكانت (مارييت) فتاة باسلة، ثابتة الجنان، لم تكن تعرف الخوف ولا تخلع الحوادث فؤادها، ولكن وقعة (حطين) لم تدع لشجاع من الإفرنج قلباً، ولم تترك لفارس فيهم مأملاً في نصر، فقد طحنت جيوشهم طحناً، وعركتها عرك الرحى، وزعزعت قلوب الكماة عن مواضعها. فكيف بقلوب الغيد الحسان؟ وكان زوج (مارييت) فارس الحلبة، وبطل القوم، وكان قد رأى البنات من الإفرنج والألمان والإنكليز وكل أمة في أوربة، يملأن جوانب القدس، فلم ير فيهن من هي أفتن فتنة، وأبهى جمالاً، من (مارييت) فهام بها وهامت به، وتزوجها فكانا خير زوجين، وكانت حياتهما النعيم كله، ودارهما كأنها لهما جنة عدن. . . ولكن حبه لها لم يشغله عن حبه لوطنه، وتمسكه بصليبيته، وحرصه على أن يبق أبداً فارس النصرانية المعلم وبطلها فكان كلما سمع نأمة طار إليها، وكلما دعا داعي القتال كان أول الملبين. . .
وفتح الباب، فخفق قلب مارييت وتلاحقت أنفاسها، ولم تدر أهو البشير أم هو الناعي، وتلفتت فإذا هي بزوجها يدخل عليها سالماً، يمد لها ذراعيه فتلقي بنفسها بينهما. . . ويحدثها حديث النصر: لقد رد يسوع الأعداء، وفت في أعضادهم فانطلقوا هاربين، قبل أن نباشر حرباً، أو نشرع في القتال، لقد استقر أيتها الحبيبة ملك المسيح في بيت المقدس إلى الأبد، وياليتك أبصرتهم يا مارييت، وقد ذهب الفزع بألبابهم لما رأوا أسوار المدينة، تطل من فوقها أبطال النصرانية، وفرسان الصليب، فهدوا خيامهم، وولوا الأدبار لا يلوون على شيء لا يريدون إلا النجاة. . . لما صدقت أن هؤلاء هم الذين فعلوا تلك الفعلة في (حطين). لقد فروا كالنعاج الشاردة. . . فيا ليت أبطال القدس كانوا في (حطين)، ليروهم يومئذ ما القتال!(705/45)
ألا تقدس الصليب، وتبارك اسم الناصري، أن أورشليم لنا إلى الأبد!!
ومشت معه إلى الكنيسة الكبرى، لتحضر الاحتفال بالنصر، وكان يحدثها في الطريق عن هؤلاء الوحوش الكافرين، ويصف لها فظاعة ديانتهم، وقسوة رجالهم، وكيف يأكلون لحوم أعدائهم، ويشربون دماءهم، ويصور لها ملكهم (صلاح الدين)، كما وصفه له الكهنة ورجال الكنيسة. فترجف أضالعها خوفاً وفزعاً من هذه الصورة المرعبة، وتضم ولدها إليها وتصلب وتستجير بالقديسين جميعاً، وبيسوع وبالعذراء، أن لا يجعلوا له سبيلاً إليها. . . وأن لا يروها وجهه المخيف. . .
وينقضي الاحتفال ويرجعون من الكنيسة، وهي تحس أن الدنيا قد ألقت إليهم مقاليد الأماني، وأن الدهر قد حكمهم فيه ونزل على حكمهم، وتستلقي على فراشها، وهي تداعب الآمال وتناجيها، حتى إذا بلغ بها التأميل أن ترى هذه البلاد كلها قد عادت للمسيح وأتباعه، ولم تبق في جنباتها منارة مسجد، ولم يعد يتردد في جوها أذان، وترى زوجها قد علا في المناصب حتى صار القائد المفرد؛ أغمضت عينيها على هذه الصورة الحلوة، وأخذتها معها في أحلامها. . . ونامت. . . ولكنها لم تجد إلا حلماً مزعجاً: لقد أحست كأن المدينة تتقلقل وتميد، وكأن حصونها تدك دكا، وتخر حجارتها، وتتهدم كما يتهدم عش عصفور ضعيف بضربة من جناح نسر كاسر، وخالطت سمعها أصوات العويل والبكاء تتخللها صرخات الرجال؛ فعلمت أنه ليس بحلم ولكنها الحقيقة، فوثبت تحمل ابنها، ونظرت إلى سرير زوجها فم تلفه في مكانه. . . فخرجت تسأل ما الخبر، فخبرت أن (صلاح الدين)، قد دار حول البلد حتى حط على جبل الزيتون، ثم صدم المدينة صدمة زلزلتها وهزتها هزاً، وكادت تقتلعها من آساسها، كما تقتلع الشجرة من الأرض الرخوة، ورماها بالمنجنيقات والعرادات، وقذفها بالنيران المشتعلة وهجم جنوده على الأسوار كالسيل المنحط، بل كألبسة الجحيم، لا تحرقهم نيراننا، ولا يقطع فيهم حديدنا، كأن المردة والشياطين كلها تقاتل معهم. . .
وكانت (مارييت) واثقة من قوة الدفاع، فالقدس بلد النصرانية لبثت في أيدي أهلها مائة سنة لا سنة ولا سنتين، وفي القدس ستون ألفاً هم خيرة أجناد الصليب، يقودهم (بليان) ويصرفهم البطريرك الأكبر، ولكن هذه المفاجأة روعتها، وأدخلت الشك إلى قلبها. . .(705/46)
وطفقت الأخبار تصل إليها متعاقبة تترى، وكل خبر شر عليها من الذي قبله، وكلما مرت دقيقة سمعت نبأ جديداً عن شدة الهجوم ومضائه، وعن تحطم أدوات الدفاع، حتى جاءها الخبر بأن الرايات البيض قد رفعت على الأسوار وأنها قد عقدت الهدنة، على أن يخرج من شاء من المدينة في مدة أربعين يوماً، ومن أراد البقاء بقى في حكم صلاح الدين، وأن تفتح له المدينة أبوابها، وأن يدفع الرجل الذي يريد الخروج عشرة دنانير والمرأة خمسة والولد دينارين.
وتركت (مارييت) القوم في رجتهم وخرجت تفتش عن زوجها الحبيب، ومشت في الظلام تدور حول الأسوار، تنظر إلى الأبواب المفتحة، والجنود الظافرين يدخلون بالمشاعل والطبول، فتشد يدها على ولدها وتمضي متباعدة، حتى تبلغ ساحة القتال، فإذا هي تطأ على أعلام الصليبيين ممزقة مخرقة، مختلطة بجثث الأجناد مقطعة الأوصال، فامتلأت نفسها رهبة وخوفاً، وهمت بالعودة ولكنها غالبت النفس ومشت، فقد كانت تفتش عن زوجها، ولا تستطيع أن ترجع حتى تلقاه أو تعرف خبره، وكان حولها رجال ونساء كثيرون يبحثون كما تبحث، عن قريب أو صديق، وتمثلت ذلك الأمل الضخم: أمل (الوطن القومي) الصليبي، فألفته قد مات هو الآخر، وألقيت جثته. . . ورأت هذه الأرض قد عادت للقوم الكافرين بيسوع وأمه. . . وأحزنها ذلك كما أحزنها فقد زوجها، وتضاعفت به مصيبتها وحاولت أن تتعرف وجوه القتلى، من أحبابها وعشيرتها، فأخفقت وعجزت ولم تبصر شيئاً من الظلام ومما أصابهم من التبديل والتغيير. وتمثلت لها حياتها كلها، فإذا هي قد ذهبت وجاءت في مكانها حياة جديدة؛ حياة رعب وفزع وشقاء لا تعرف عنها شيئا، ولا تدري ولا يدري أحد من قومها كيف يكون مصيره في ظل الحكم الجديد، وذكرت ما قاله لها زوجها عن فظاعة هؤلاء الفاتحين، فأحست عند ذكر زوجها كأن قلبها قد أنتزع من صدرها، وطار في أثره، وفكرت فيه: أي أرض تقله؟ وأي سماء تظله؟ وهل هو قتيل قد تمزق جسمه الجميل، وأنتثرت ثناياه الرطاب، و. . . ولم تستطع المضي في هذه الصورة فأغمضت عينيها، وألقت عليهما غشاء من الدمع، وأحست كأن فؤادها يسيل حزناً عليه، فانكبت على الولد تقبله بشدة، وشغف، كأنها تصب في هذه القبل أحزانها وعواطفها، حتى أوجعت الطفل فصرخ يبكي. . . ورغبت في الفرار من هذه المشاهد كلها، ولم تقدر أن(705/47)
تتصور كيف يتبدل كل شيء بهذه السرعة، وتتوهم حيناً أنها في حلم، وأنها ستتيقظ فترى كل شيء قد عاد كما كان، ولكن الحقيقة سرعان ما تفجعها بهذا الوهم، وتبدده أمام عينيها. . .
وكان أشد ما روعها وحز في فؤادها انصراف الناس عنها، وكف أيديهم عن مساعدتها؛ فقد شغلت المصيبة الداهمة كل واحد بنفسه، فكأنه يوم المحشر كل يقول فيه: أنا. . . وكرت راجعة وهي تعرض في ذهنها فصول هذه الرواية التي مثلت الليلة، فابتدأت بالظفر والمجد، والحب والوصال. ثم انتهت بالخيبة المرة، والهزيمة الماحقة، والفراق الطويل، ولم تفهم كيف يمكن أن يهوى في لحظة الصرح الذي أقيم في مائة سنة، وكيف يهدم رجل واحد ما تعاون على إنشائه أهل أوربة جميعاً، أيكون أمير مسلم واحد معادلاً في الميزان لملوك النصرانية كلهم وأمرائهم؟ إذن كيف لو تحالف المسلمون كلهم؟ كيف لو كانت هذه الحروب في أيام الخلافة، إذ كانت مملكتهم مملكة واحدة تمتد من الصين إلى قلب فرنسا؟
وجعلت تسأل كل من تلقاه عن زوجها، فلا يقف لها أحد ولا يرد عليها، وإذا لقيت كريماً منهم رقيق القلب فسألته فعطف عليها بجواب، لم يكن جوابه غير (لا ادري)!
وظهر القمر نحيلاً هزيلاً، من بين فرج الغمام، فألقى على الساحة ضياءً شاحباً حزيناً، جعل الدنيا كأنها وجه مريض محتضر، فرأت قطع اللحم البشري مخلوطة بالوحل تبرز من خلالها الدروع المذهبة، وتبدو من بينها قطع الرماح المكسرة والسيوف، فأشجاها التفكير في هذه الجيف المنتنة التي كانت في الصباح أبطالاً كراماً تخطر على أرض الموعد، وكانت حصن الصليبية وسياجها، وعادت إلى البحث عن زوجها، والتحديق في الوجوه، فمر بها شيخ كان يحدب عليها، ويحب زوجها، فأدركته الشفقة عليها، فأخذ بيدها فاستخرجها من الساحة، وكان الخطب قد حطم إرادتها وتركها كالتي تمشي في نومها، فانقادت إليه طيعة وسارت معه، وسألته هامسة كأنها تخاطب نفسها.
- يا أبتاه. هل رأيت زوجي؟
فلم يحب أن ينبئها بما تكره فلوى الحديث وشغلها بغير ما تسأل عنه، فقالت:
- وما تظن أنهم يصنعون بنا يا أبتاه؟ هل يخطفون ولدي ليأكلوا لحمه أمام عيني؟
- قال: ومن أخبرك بهذه الأكاذيب، إن المسلمين قوم كرام، أهل وفاء ونبل، وأن ملكهم(705/48)
صلاح الدين خير الملوك قاطبة. . .
ومضى يحدثها عما عرفه من صفة المسلمين، وهي فاتحة فمها دهشة لا تكاد تفهم ما يقول ولا تصدقه. فعاد يقول:
- ولو أنهم ذبحونا لما كانوا معتدين، بل كانوا منتصفين منا، فانا لما دخلنا القدس منذ مائة سنة قتلناهم في البيوت والشوارع والمساجد، وحيثما وجدناهم حتى صاروا يلقون بأنفسهم من فوق الأسوار لينجوا منا، وحتى بلغ عدد من قتلنا منهم سبعين ألفاً ولم يتحرك قلب بشفقة، ولا لسان بإنكار. . .
وأصبح الصباح وهي لا تزال تفتش وتبحث، والولد على يدها ينادي: بابا. فيذكرها به، وما كانت ناسية، وإن كلمة (بابا) لأجمل كلمة في الدنيا، وفاتحة اللغات وأمها. فهي أول لفظ شري يجري به لسان الوليد، وهي كلمة الإنسانية تختلف اللغات وتتحد فيها. وهي كلمة الطهر ينطق بها الطفل قبل أن يعرف الشر ويدري ما المكر، وهي أحلى من كلمة (حبيبي) لأن من الحب ما يمدح وما يذم، أما الأبوة فخير كلها. والحب رابطة يصنعها الإنسان أما الأبوة فمن صنع يد الله.
ولكن (مارييت) لم تكن ترى فيها هذا الصباح إلا ناراً تحرق كبدها، وشفرة تمزقها، وضاق بها أمرها، فهرعت إلى جارات لها واجتمعن يترقبن ما يكون من الأهوال، فإذا القدس ترتج بصرخة واحدة اجتمعت عليها حلوق المسلمين والنصارى، أولئك ينادون: الله أكبر، وهؤلاء يعولون ويبكون، فنظرن فإذا أحد الجنود الفاتحين قد علا قبة الصخرة، فانزل الصليب الذهبي الذي لبث فوقها قرابة مائة سنة، وحسبوه سيلبث إلى يوم القيامة. . .
وجاءتهن الأخبار بما يصنع المسلمون في المدينة، فجعلوا يعجبون، ولا يصدقون، أن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، وأن من شاء الخروج دفع ما اتفق عليه وحمل معه ما شاء وخرج، وأن النصارى يبيعون ما فضل عنهم في الأسواق فيشتريها منهم المسلمون بأثمانها، وأنهم يروحون ويجيئون آمنين مطمئنين لم يروا إلا الخير والمروءة واللطف، وأن المسلمين قوم أهل حضارة وتمدن ليسوا وحوشاً ولا آكلي لحوم البشر، وروى لهن ما صنعوا في الحرم، فقد نزعوا كل ما أحدث النصارى، وردوه إلى حاله الأولى، وجاءوا بالمنبر الذي صنعه نور الدين الشهيد ليقام فيه، فأقاموه في الحرم، وخطب(705/49)
عليه خطيبهم يوم الإسراء. . .
قال الراوي: ودخلت فلم يمنعني أحد، ولم يسألني من أنا، فاختلطت بالمسلمين، فإذا هم جميعاً يجلسون على الأرض لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عن واحد منهم، قد خشعت جوارحهم وسكنت حركاتهم، وخضعوا لله، فعجبت من هؤلاء الذين كانوا جنا في المعارك، وشياطين يوم القتال، كيف استحالوا هناك رهباناً خشعاً، ورأيت الخطيب قد صعد المنبر فخطب خطبة، لو أنها ألقيت على رمال البيد لتحركت وانقلبت فرسانا، ومضت حتى تفتح الأرض، ولو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة، ومشت فيها الروح، ووجدت هؤلاء الناس لا يغلبون أبداً ما داموا مسلمين، ولو اجتمعت عليهم دول الدنيا، لأن قوة الإيمان أقوى في نفوسهم من كل قوة، إنه لا يخيفهم شيء لأن الناس إنما يخيفون بالموت ومنه يخافون، وهؤلاء القوم يحبون الموت ويريدون أن يموتوا، كلا، لا يطمع قومنا بهذه الديار أبدا، أنا أقول لكم، وأنا قد عرفت القوم وتكلمت بلسانهم وخالطتهم ووقفت على ديانتهم وسلائقهم. كلا، إنه لا أمل لنا فيها، لقد أنزلوا الصليب اليوم، بعد ما لبث مائة سنة فلن يعود، لن يعلو هذه القبة إلا شعار محمد، فلا نصرانية، ولا يهودية، خسأت وخابت اليهودية، إن كل بقعة في هذه الديار تنقلب إذا حزب الأمر وجد الجد (حطين)، وكل وليد فيهم يصير (صلاح الدين)، فلا يهرق قومنا دماءهم هدراً، ولا يزهقوا أرواحهم في غير طائل.
ونظرت (مارييت) فإذا قومها قد آثر فريق منهم البقاء في ظل الراية الإسلامية، حينما رأوا في ظلالها العدل والأمن والهدى، مع الحضارة والتمدن والغنى، وأبى فريق إلا الرحيل، فاختارت أن تكون مع هذا الفريق لا كرهاً بالمسلمين، فقد بددت شمس الحقيقة ظلام الأوهام؛ وكذب الواقع ما سمعت عنهم من الأحاديث، ولكنها لم تستطع أن تقيم وحيدة في البلد الذي يذكرها كل شيء بزوجها، وبحبها، وبسعادتها التي فقدتها. . .
ومشت القافلة وتلفتت مارييت إلى الوراء، تودع هذه البلدة الحبيبة إلى قلبها المقدسة عندها، بلدتها التي ولدت فيها ولم تعرف لها بلداً غيرها، ونظرت إلى موضع الصليب الذهبي الذي كان يشرق كالشمس على قلبها فرأته خالياً منه. فأحست أنها تركت قلبها في هذا البلد الذي كان لقومها، فصار لعدوها، والذي خلفت فيه زوجها لا تدري في بطن أي(705/50)
طير أو في معدة أي وحش صار قبره. . . وخلفت فيه ذكريات صباها وبقايا سعادتها وحبها ولكنها فرحت بالخروج منه، حتى لا ترى ما يذكرها كل يوم بما فقدت، ولتلحق بديار قومها، وأهل ملتها. . .
سارت وهي سابحة في أفكارها فتخيلت زوجها وهو يمشي معها في الموكب الظافر تحت راية الصليب، فبكت واختلط نشيجها بنشيج النسوة من حولها وهن يبكين من خلفن من الأسرى والقتلى، وإذا بالجنود يقفوهن، فسكتن من الفزع ووقفن وأيقن بالهلاك، فأرجعوهن فإذا على رابية طائفة من المسلمين بينهم شيخ على فرس له، لم يرع (مارييت) وصحبها إلا قولهم: هذا هو السلطان.
هذا هو السلطان، هذا (صلاح الدين) المخيف، آكل لحم البشر وشارب الدماء. وجعلت تختلس النظر إليه فلا ترى ملامح الوحش الكاسر، ولا تبصر الأنياب ولا المخالب، ولا ترى إلا الهيبة والنور والجلال، فلما وقفن عليه، قال: ما تردن؟
قالت امرأة: رجالنا في الأسر، أزواجنا. . .
وتصايحن وبكين، فبكى السلطان رقة لهن، وأمر بإطلاق أسراهن، وأعطاهن الدواب والطعام والمال. . .
لما رأت (مارييت) زوجها صحيحاً معافي، نسيت الشقاء والهزيمة، وألقت بنفسها بين ذراعيه، لم تخف أن يبصرها الناس، فقد جعل كرم السلطان كل واحد يشتغل بسعادته، ثم مشت الطريق بهؤلاء النازحين لم يمشوا هم فيها، لأنهم ملئوها فلم يعد يعرف أول لهم من آخر، فكان الطريق كالنهر الممتلئ بالماء من منبعه إلى مصبه، نهر من الأسى والفرح، والهزيمة في المعركة والظفر بلقاء الأحبة، وكره الغالبين وشكرهم على إحسانهم، وأحست (مارييت) في قلبها بالاعتراف بفضل هذا الرجل المحسن، ورأت خلال الإنسانية والحق والنبل تتمثل فيه هو، لا فيمن رأت من رجال قومها. وكادت تحبه ثم تنبه في نفسها دينها وما علموها من بغض الإسلام فتوقفت وحاولت أن تذكر سيئة واحدة لهذا الرجل ولقومه تستعيد بها بغضاءها إياهم فلم تجد، وجعلت تقابل بينه وبين البطريرك الأعظم، الذي خرج مع القافلة بعدما استلب المعابد كنوزها، وكنس الكنائس وحمل كل ما كان فيها، ولم يعط من هذا المال أحدا، لم يجد به على امرأة ضعيفة تمشي معه، ولا على شيخ عاجز، وذكرت ما(705/51)
سمعت من أن السلطان تركه يخرج بهذا المال، مع أنه شرط لهم الخروج بأموالهم هم لا بأموال الكنائس، وذكرت ما كان يصنع قومها من إخلاف الوعود، والحنث بالعهود، فتمنت لو أنها كانت مسلمة، ولكنها لم تجهر بهذه الأمنية وخنقتها في نفسها.
وتدفق هذا النهر البشري يحمل أعجب أنواع السلائق الإنسانية وأغرب المتناقضات، ففيه حنو الأمهات وإيثارهن، وفيه أثرة الأغنياء وقسوتهم، وفيه الصبر وفيه الجزع، وفيه الصدق وفيه التزوير، وفيه هذا البطريرك الذي يزعم أنه خليفة المسيح ليساعد الفقراء، ويزهد في الدنيا، ثم يأكل مال الله وحده ويعرض عن الفقراء والمحتاجين.
مشت هذه القافلة في الطرق المقفرة، والمسالك الموحشة، لم تكن تحب أن تعرج على شيء من بلاد الإسلام، كانت وجهتها طرابلس، فلما بلغتها بعد الجهد البالغ، والمشقة المهلكة وبعد أن تركت في الطريق ضحايا الجوع والتعب، ما توا وفي القافلة الأغنياء معهم الذهب، وفيها البطريرك يحمل من أموال الله مائة ألف دينار. . .
. . . لما بلغتها، أغلق أميرها السور في وجه القافلة وردها، ثم بعث رجاله فاستلبوها ما كان معها، فانبرى لهم الشجعان والأبطال ليردوهم، فأوقعوا بهم وقتلوهم، وكان فيمن قتل زوج (مارييت).
وتاه من بقي في البرية كما يتيه الزورق في لجة البحر، وعاد أكثر أهلها إلى دنيا الأمن والمروءة والنبل دنيا المسلمين؛ وكانت مارييت مع التائهين، تمشي معهم قد مات حسها وتبلد شعورها، ولم تعد تستطيع أن تفكر في شيء، تنزل بنزولهم وترحل برحيلهم، وتأكل إن أطعموها، وتصمت أن تركوها، وكأنما قد خولطت في عقلها، أو أصابها مس من الجنون؛ حتى بلغوا أسوار أنطاكية، فطردهم أهلها وردوهم. . .
. . . فرجعوا إلى بلاد الإسلام وقد أيقنوا أنه لن يكون في الأرض أنبل ولا أفضل من هذا الشعب الذي علمه محمد كيف تكون الإنسانية. . .
أما (ماريت) فبقيت مكانها ذاهلة كأنها لا تبصر ولاتعى، فاقبل عليها شاب من أهل أنطاكية من قومها، فأخذ بيدها وواساها، فانقادت له، وسارت معه، حتى احتواها منزله على سيف البحر، فسقطت من التعب والإعياء نائمة. . .
وأيقظها لغط حولها؛ فاستفاقت فسمعت صوت رجل يقول لصاحبه:(705/52)
- ما ندعك تنفرد بها إنها أجمل امرأة وقعنا عليها.
- فيقول الأول:
- ولكنها صيدي أنا. . . أنا الذي اصطادها.
فتفهم أن الخلاف عليها، على شرفها وعفافها، ويعود إليها ذهنها، فتذكر الماضي كله، وتدرك أنها فقدت زوجها وحاميها ويشد الغضب من عزمها. فتقول لهما:
- ويحكم، أهذه هي مروءتكم وإنسانيتكم، أهذا هو دينكم يا جنود الصليب. . .
فيضحكان ويقهقهان، فيشتد بها الغضب، وتصرخ بهما:
- بأي لسان أخاطبكم؟ بلسان الدين وأنا أراكم ملحدين كافرين؟ بلسان الإنسانية وما أنتم إلا وحوش في جلد بني آدم؟ بلسان المروءة وقد فقدتموها ونسيتم حدودها؟ ويلكم ألا تستحيون أن يكون هؤلاء المسلمون أشفق على نسائكم، وأحفظ لشرفكم منكم، وأن يكونوا أنبل وأفضل وأحفظ لوصايا السيد المسيح؟ لا والله لستم للمسيح ولا لمحمد أنتم للشيطان أولئك هم الذين جمعوا المسيح ومحمداً، أولئك أهل الفضائل أرباب الأمجاد، خلاصة الإنسانية، إنكم لن تغلبوهم، لن تأخذوا أرضكم المقدسة من أيديهم أبداً، كلا. إنهم أحق بها لأنهم أوفي منكم لبادئ المسيح، إنهم أعرق منكم في الإنسانية إن المستقبل لهم، إن لهم المجد والظفر، ولكم أنتم اللعنة، لكم الخيبة والخزي.
فلا تجد منهما إلا إيغالاً في الضحك، وتتلفت حولها فلا تجد ناصراً وأين المعين على الحق، المدافع عن الشرف في بلد ليس فيه مسلم؟ وتراهما قد أقبلا عليها بعيون محمرة، فيجن جنونها، فتلقي بولدها في اليم وترمي بنفسها.
وكان البحر ساكناً فصعدت من الماء فقاعتان، فيهما اللعنة الحمراء التي خرجت من فؤادها المحترق، على هؤلاء الكلاب. . . (الواغلين على فلسطين)!
وعاد البحر ساكناً كما كان. . .
وأسدل الستار على القصة التي تتكرر دائماً منا ومنهم: قصة نبل لا يدانيه في عظمته البحر، ونذالة لا يغسل البحر أوضارها ولا يطهر الأرض من عارها.
(القاهرة)
علي الطنطاوي(705/53)
قيادتنا الروحية. .
للأستاذ سيد قطب
في حياة الأمم - كما في حياة الأفراد - فترات خاصة، ترتفع فيها على نفسها، وتسمو فيها على مألوفها فتأتي بالخوارق والمعجزات، حتى لتتأمل فيما بعد ما أتمته في هذه الفترات الصغيرة، وما قامت به في تلك الآماد القصيرة، فلا تكاد تصدق، ولا تدري كيف تأتى لها أن تأتي بذلك العجب العجاب!
هذه الفترات الخاصة هي التي ترتفع فيها الجماعات - كما يرتفع فيها الأفراد - إلى ما هو أعلى من الحياة اليومية، ومن المطالب العادية. وتتطلع إلى غايات عليا لا تتعلق بحياة فرد أو جيل، ولا تقف عند رغبة شخص، ولا أنانية فرد.
وفي هذه الفترات يجد الفرد لذته الكبرى في أن يضحي بلذائده. وغايته الأولى في أن ينسى غاياته. وتنبثق من الجماعة حينئذ إشعاعات وطاقات عجيبة؛ تتخطى اللذائذ والغايات المنظورة إلى لذائذ وغايات أخرى غير منظورة؛ قد لا تستطيع تحديدها تماماً، ولا فهمها نصاً. ولكنها تساق إليها سوقاً بدوافع خفية كامنة فيدو كأنما الكل أبطال في وقت من الأوقات.
هذه الفترات هي التي تسمع فيها الجماعات والأفراد صوت الحياة الأزلية، وتصغي فيها إلى إرادة الحياة الأبدية، فتخفت حينئذ أصوات الرغائب الفردية، وتنطوي رغبات الأفراد الزائلة فتندفع الحياة دفعة كبرى إلى الأمام؛ وتدخر بعد هذه الدفعة رصيداً تنفق منه في خطواتها التالية، حتى إذا نفد ذلك الرصيد بطؤت خطاها، وتراخت قواها، وصحت الجماعة من تلك النشوة تتلفت إلى ذاتها، وتحصر نفسها في نطاقها، وتطلع كل فرد إلى شخصه، وصحت رغائبه ولذائذه، وتفككت روابط الجماعة وعادت أفرادا وأنانيات، وصغرت قيم الحياة العليا، وأنكمش المد الزاخر، وانطوى كل فرد على ذاته، يعبدها، ويملقها، ولا يرى أبعد منها شيئاً، إلى أن تنقضي الدورة، وتزهد الجماعة في هذه الحياة الرخيصة، وتتطلع من جديد إلى آفاق أعلى، وتكون قد ذخرت من الرصيد ما يكفي للوثبة فتفعلها.
والملاحظ في هذه الدورات والفورات، اتفاق يبعده التواتر عن أن يكون مجرد مصادفة.(705/55)
هذا الاتفاق هو وجود قيادة روحية في كل وثبة من وثبات الأمم والجماعات. قيادة تهتف للجماهير بنسيان الذات الفانية، وتضحية الرغبات القريبة. وتشير إليها نحو هدف آخر أبعد، وأفق آخر أرفع. وكلما بعد الهدف، وارتفع الأفق، كانت الاستجابة أكبر، والتلبية أسرع، والقفزة أعلى، والخطوة أوسع. وكلما كانت التضحية المطلوبة أوسع مدى، كان الدعاء أسرع إجابة.
فإذا كانت تضحية رغائب فرد في سبيل جماعة محدودة، كان عدد الملبين للدعوة قليلاً. وإذا كانت تضحية جماعات في سبيل أمة على نسق الدعوات الوطنية - كانت التلبية أوسع. فأما إذا كانت تضحية الأفراد والجماعات والأمم في سبيل فكرة إنسانية ومبدأ أسمى، فإن الصدى يكون أبعد، والمدى يكون أفسح، والامتداد يكون أقوى.
هكذا كانت المسيحية، ثم هكذا كان الإسلام.
كانت المسيحية تطهيراً للنفس الإنسانية من رغائبها وشهواتها واستعلاء على اللذائذ الشخصية بالحرمان والتزهد، وفناء للذات الفرد في حب يسوع المخلص. . . لهذا صمدت للتعذيب والاضطهاد والاستشهاد. صمدت لبطش الدولة الرومانية، حتى استجابت لها الدولة الرومانية وظلت تصمد لما هو أقوى من الدولة وجندها وبطشها. . . تصمد للغريزة والشهوة والأنانية وهي أقوى من كل قوة. ظلت تصمد إلى أن نفدت الطاقة، وقل الرصيد. وطغت المراسم والشعائر على العقيدة والمشاعر. فاشترى رجال الدين بدينهم ثمناً قليلاً. وأنفلت الأفراد إلى أنفسهم وذواتهم عاكفين عليها. ووقف نمو المسيحية، أو زادت شخوصاً ولم تزد ضمائر. . . اللهم إلا الفلتات التي كان ينبغ فيها أفراد ممن يدعون الناس إلى السماء فيستجيبون لهم بقدر ما في أرواحهم من رصيد. لم يرتفع مرة إلى القمة الأولى.
وهكذا كان الإسلام تجميعاً للطاقة الإنسانية كلها، وتوجيهاً لها إلى الهدف الأعلى، إلى معنى الإنسانية الأسمى: المساواة والحرية والكرامة والعمل والرحمة والاستشهاد، وفي كل واحدة من هؤلاء كان يرتفع بالنفس الإنسانية إلى آفاقها العليا.
كان يرتفع بها في (المساواة) إلى نسيان النعرة الشخصية، والنعرة المحلية، والنعرة القومية، وجميع النعرات التي تمزق الإنسانية طوائف ونحلا، وتغرس العداوات والبغضاء وتعوق النمو البشري والتقدم الإنساني.(705/56)
وكان يرتفع بها في (الحرية) إلى (المساواة) في آفاقها التي رسمنا. ثم إلى التحرر من الشهوات والمطامع المذلة أو الظالمة (إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. وإن الله على نصرهم لقدير) (ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد من غلب نفسه).
وكان يرتفع بها في (الكرامة) إلى (المساواة) وإلى (الحرية). ثم إلى الترفع على عبادة العبيد، والخضوع للمخلوقين. (إن العزة لله جميعاً).
وكان يرتفع بها في (العمل) إلى (المساواة) وإلى (الحرية) وإلى (الكرامة) جميعاً. . . ثم إلى الإنتاج والتقدم بالإنسانية. (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس: أعطوه أو منعوه). (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
وكان يرتفع بها في (الرحمة) إلى ما فوق الذات، وإلى المشاركة الوجدانية مع الإنسانية، وإلى الشعور بالرحم الأقوى رحم البشرية: (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم). (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (الفقراء عيال الله وأحبكم إلى الله أرأفكم بعياله).
وكان يرتفع بها في (الاستشهاد) إلى ضمان هذه الفضائل جميعاً؛ وإلى الارتفاع عن الحياة المحدودة إلى حياة أخرى غير محدودة. وإلى الخلاص من أشد قيود الغريزة: من حب هذه الحياة المادية، إلى حب الفكرة المجردة.
بهذا الرصيد الروحي الفخم وثب الإسلام بحفنة من الرجال في الصحراء. شعث غبر فارتفع بهم على هامات الإمبراطوريتين الشائختين في فارس والروم. وبهذا الرصيد الضخم انطلقت الشعلة في الهشيم فأحالته ناراً ونوراً ينهض بالبشرية وينير لها الطريق. واندفع الإسلام يعبر الصحارى والجبال والبحار حتى يصل إلى سد الصين شرقاً وإلى بحر الظلمات غرباً في مثل لمح البصر بالقياس إلى عمر الدهر. فكانت هذه إحدى معجزاته الكبرى.
وعند ما انطلق الفاتحون في مشارق الأرض ومغاربها لم ينطلقوا للاستعمار والفتح، ولكن لنشر الفكرة العليا. وكلما هبطوا وادياً حرروا أهله من مستعبديهم ومن حكامهم ومن ذات أنفسهم. حرروهم من السلطان الغاشم، والاستغلال القبيح، ومن الضلالات والأوهام أيضاً؛(705/57)
وردوا لهم كرامتهم الإنسانية وساووهم بأنفسهم (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
واختفت في فجر الإسلام نزعات العصبية، ونزعات اللون، ونزعات الجنس ونعرات العزة بغير الله. كلكم لآدم، وآدم من تراب)!
اندفع الإسلام بهذه السرعة الخارقة، وبهذه القوة الجارفة، لأن الذين اندفعوا به قد ارتفعوا على أنفسهم، وتساموا على ذواتهم، وخفتت في أرواحهم سورة الفردية، وغلت فيها فورة الغيرية. ولأنهم تخلصوا من أوهام الحياة المادية المجسمة، وعشقوا فكرة روحية مجردة. . . وصار لقاء الله في سبيل مبادئه، أحب إليهم من لقاء أهلهم وأبنائهم، ورغبوا في النعيم الموعود برضاء الله عن النعيم الذي يلذونه في هذه الحياة: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون، ويقتلون. وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به. وذلك هو الفوز العظيم).
هذه الروح الإسلامية العالية، وهذا المد القوي الغامر، كان أول من وقف في طريقه، وارتد به سبيله هو معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وإخوانهما وأمثالهما ممن تنكبوا طريق الفكرة الإسلامية الروحية النبيلة، إلى الرغبات والأطماع الذاتية الوبيلة.
وكانوا أول من رد العصبيات الصغيرة المحدودة إلى مكانها، وأول من برر الوسيلة بالغاية، وأول من طعن روح الإسلام في الصميم.
ولم تعد الروح الإسلامية إلى مدها العالي مرة أخرى بعد هذه الفعلة؛ ولكنها كانت ترتفع في فترات، ثم تعود بعدها إلى الهبوط. مع هذا فقد كان المد العالي الأول - وهو أعلى مد بلغته البشرية في تاريخها كله كان كفيلاً بأن تثب البشرية وثبة لا مرجع عنها مهما انحسرت موجتها الأولى فاستمر التيار إلى الأمام وجرف معه الإنسانية جميعاً.
الفكرة الروحية الضخمة تجد التلبية بمقدار ضخامتها. وتتسع موجتها بمقدار اتساعها. وقد ظل العالم الإسلامي بين مد وجزر منذ الموجة الأولى إلى أواخر القرن التاسع عشر، وكان قد وصل إلى انحطاط وخمول وإفلاس روحي ومعنوي.
وعلى عادة الروح الإسلامية في الانبعاث بين فترة وأخرى على مدى التاريخ رأيناها تنبثق في جمال الدين الأفغاني.(705/58)
كان هذا الرجل شعلة محرقة مضيئة، ما مست روحاً إلا ألهبتها وأضاءتها بحسب ما فيها من استعداد للهب والإضاءة.
وكان في هذه الروح رصيد ضخم، تزود به كل من لقي الرجل في بلاد الشرق جميعاً.
ثم استقر في مصر فترة فأودعها الشعلة المقدسة التي يحملها ومنذ ذلك الحين، وفي خلال السبعين عاماً الأخيرة، نهضت مصر ثلاث نهضات عامة، وصلت فيها درجة اليقظة القومية حداً عاليا.
كانت النهضة الأولى نهضة (عرابي) لرفع شأن القومية المصرية، وإحلالها المكان اللائق بكرامة الشعوب.
وكانت النهضة الثانية نهضة (مصطفى كامل) لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، الذي لا يستند على أساس من الحق والعدلوكانت النهضة الثالثة نهضة (سعد زغلول) للثورة على هذا الاحتلال، وتقرير مصر في الاستقلال.
وليست هذه النهضات الثلاث بمنفصلة في حقيقة دوافعها - وإن فصلت بينها الأعوام - فهي جميعها تنبعث عن مصدر واحد، هو هذه الطاقة الضخمة التي انتقلت من شعلة جمال الدين قبل ثلاثة أرباع قرن في الشرق الإسلامي.
ولم تكن شعلة جمال الدين سياسية صغيرة محصورة في الأهداف الوطنية المحدودة، إنما كانت شعلة روحية، تلهب النفس الإنسانية فتتفتح منافذها جميعاً. وهذا هو الذي كفل لها الامتداد طويلاً.
وقد ظلت الأمة المصرية تنفق من هذا الرصيد في ثوراتها السياسية الثلاث، تنفق وتستهلك. ولا تضيف شيئاً إلى الرصيد لأن الزعامات الثلاث، كانت بالقياس إلى جمال الدين، ضيقة محدودة. تطوي أنفسها على مطالب قريبة محدودة، وليس لها رصيد روحي جديد.
وهنا كان موضع الخطر.
فالدفعة السياسية تفلح حين يكون وراءها رصيد روحي ضخم تنفق منه وتشتعل به، وهذا الرصيد يحفظ مستواها من الهبوط، ويصونها من الخمود. فأما حين تنفد هذه الطاقة أو تضعف فالفورة السياسية وحدها لا تكفي وهي مهددة على الزمن أن تخبو.(705/59)
ولا يصعب على الباحث أن يرد ما اعتور نهضتنا القومية الأخيرة من نكسة وفساد تتبدى آثارها في النزعات الحزبية على حساب الوطن، وفي هبوط مستوى الصراع والأسلحة التي تستخدم فيه إلى نفاد الطاقة الروحية أو اضمحلالها، لأن رصيدها المذخور من عهد جمال الدين لم يتجدد أبداً.
وبالمثل يمكننا أن نرد كثيراً مما نراه من الانحلال الخلقي الفردي والاجتماعي إلى خمود الشعلة المقدسة في الوقت الذي تغمرنا فيه موجات من أوربا المنحلة، التي خبت روحها من قرون، واستحالت آلة لا قلب لها ولا ضمير تنفق من رصيد قديم سينفذ بعد حين.
والآن يجب أن نتنبه إلى هذا الخطر. . . إن اليقظة السياسية وحدها لا تبقى ولا تعيش، ولا يرتفع مستواها إلا إذا أمدتها طاقة روحية تنفخ فيها وتقويها، فأين هي القيادة الروحية لهذا الجيل؟ القيادة التي تخلق الشخصيات العظيمة كما خلقتها قيادة جمال الدين؛ وترتفع بالأفراد والجماعات عن المطالب الوقتية إلى المطالب العليا؟
هنالك جماعات تدعوا دعوات إسلامية. ولكنها جماعات هزيلة الروح، ناضبة، خامدة، أضعف من أن تنفخ في الجيل الهابط المنحل.
ترى يتمخض الانحلال عن قيادة روحية عظمى كما عودتنا روح الإسلام على مدى الزمان؛ نرجو أن تكون هناك وثبة قريبة، وأن يظلنا موعدها المرموق.
سيد قطب(705/60)
هجرة الرسول والطبع العربي
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب
زود الله الشعب العربي المجيد بصفتين كريمتين لعلهما لم يتوفرا في أي شعب آخر بمقدار توافرهما لديه: إحداهما شدة التعلق بالوطن الأصلي؛ والأخرى شدة الميل إلى التنقل والهجرة، وشاءت قدرة البارئ الحكيم - وقد كرم هذا الشعب، وفضله على كثير من خلقه تفضيلا، وخصه في سلم الرقي الاجتماعي واللغوي بأمور تعد من قبيل المعجزات - أن يخصه بمعجزة أخرى في ميوله النفسية، فزوده بهذين الميلين المتضادين المتنافرين (التعلق بالوطن والميل إلى الهجرة)، ولكنه ألف بينهما في نفوس أفراده، فأصبحا بنعمته منسجمين تمام الانسجام، يشد كلاهما أزر الآخر ويكمل نقصه ويخفف من غلوائه.
فما كان العربي لتنسيه هجرته حقوق وطنه الأول، ولا لتنال من مكانته عنده، أو تنقص من حبه له أو حنينه إليه. وما كان تعلقه بوطنه الأول ليحول بينه وبين الهجرة منه إذا كان في هجرته رفع لشأن بلاده، أو توسيع لرقعة ملكها، أو مد لنفوذها وسلطانها، أو تخفيف من أعبائها، أو دفاع عن مذهب يقتنع به، أو فرار من ضيم أصابه، أو ابتغاء للرزق، أو سعي لبغية المكارم والمجد. وفي هذا يقول الشنفري شاعرهم الجاهلي.
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ ... سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
ويقول أدباء العرب أن أقذع ذم وجه إلى عربي هو قول الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر ويناضل عن بغيض بن لأي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أما حبهم لأوطانهم الأولى، وشدة حنينهم إليها، فلا أدل على ذلك من حنين الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة بعد هجرته منها، مع أن أهلها قد أخرجوه منها وساموه وشيعته سوء العذاب، ومع أنه قد كان في هجرته منها نشر للإسلام وتوطيد لدعائمه. فقد روى أن أصيلا الغفاري قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قبل أن يضرب الحجاب؛ فقالت له عائشة: (كيف تركت مكة؟)؛ فقال: (اخضرت جنباتها، وابيضت(705/61)
بطحاؤها، وأحجن ثمامها، واغدق إذخرها، وأنشر سلمها)؛ فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وقد أثار هذا حنينه إلى وطنه الأصلي: (حسبك يا أصيل لا تحزني) وفي رواية: (إيهاً يا أصيل! تدع القلوب تقر) وعن أبن عباس رضى الله عنهما قال، قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم في مكة: (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك). وعن الضحاك رضى الله عنه أنه قال: (لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله تعالى عليه: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) (قال أي إلى مكة) - ولا أدل كذلك على حب العرب لأوطانهم الأولى وشدة حنينهم إليها من عنايتهم في وثنيتهم بالحج إلى مكة، حتى لقد ارتقت هذه الشعيرة لديهم إلى مصاف الفرائض الدينية الهامة. وما الحج في نشأته الأولى إلا مظهر من مظاهر حنين العرب إلى وطنهم الأول ومنشأ أجدادهم الأولين وهو الحجاز. فمن المحقق أن الحجاز كان المهد الأصلي للشعب العربي، ومنه انتشر هذا الشعب الكريم في جميع أنحاء الجزيرة العربية وغيرها من بلاد العالم.
وأما شدة ميلهم إلى الهجرة كلما دعاهم إلى ذلك داع جدي فلا أدل عليه من هجراتهم المتوالية في فجر تاريخهم وفي عصور جاهليتهم وإسلامهم.
فمن الحجاز واليمن اتجهت في فجر التاريخ موجات الهجرة العربية إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية وإلى غيرها من بلاد العالم. - فمن هذا القسم نزح الساميون إلى العراق وغزوا بلاد السومريين وغلبوهم على أمرهم وأنشئوا مملكة بابل - ومن هذا القسم كذلك نزح الساميون إلى الشمال فتكونت من سلالاتهم الشعوب التي عرفت باسم الشعوب الكنعانية وهي التي تفرع منها الفنيقيون والعبريون - ومن هذا القسم كذلك هاجر بعض قبائل الإسماعيليين (أي أولاد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام) إلى خليج العقبة حيث تكون من سلالاتهم الشعب النبطي وهو مخترع الخط النبطي المتصل الحروف الذي انشعب منه خطنا العربي الحالي. - ومن هذا القسم كذلك هاجر عرب الرعاة أو الهكسوس إلى مصر حيث أنشئوا ملكاً كبيراً ونشروا حضارتهم العربية على ضفاف النيل. - ومن هذا القسم كذلك هاجر في أقدم العصور قبائل عربية إلى الهند والحبشة والسودان وشمال أفريقيا وشرقها. - ومن هذا القسم كذلك هاجر في أوائل التاريخ الميلادي بعض القبائل(705/62)
المعدية (أولاد معد) التي كانت تقطن الحجاز إلى الشام وبعض القبائل القحطانية التي كان موطنها اليمن إلى الشمال والشرق. فنزلت منها غسان بالشام والأوس والخزرج بالمدينة (وهاتان القبيلتان الأخيرتان قحطانيتان هاجرتا من اليمن إلى المدينة وإليهما هاجر الرسول عليه السلام، وفيهما تكون الأنصار رحمة الله عليهم ورضوانه).
وكذلك كان شأن العرب في عصورهم التاريخية السابقة للإسلام مباشرة، والتي اشتهرت باسم العهد الجاهلي. وقد جمعت لنا كتب الأدب طائفة كبيرة من أخبار هجراتهم وتنقلاتهم إلى مختلف أرجاء الجزيرة العربية وإلى غيرها من بلاد العالم؛ حتى أننا لا نكاد نجد قبيلة استقرت في موطنها الأصلي. وقد ساعد على تتابع هجراتهم وكثرة تنقلاتهم عدم خصوبة أرضهم، واشتغال معظمهم بمهنة الرعي، وسعيهم وراء الكلأ والماء. وساعد على ذلك أيضاً كثرة حروبهم الأهلية التي لم يكد يخمد لها سعير في هذه العصور؛ فكانت القبيلة التي تكون في موطنها عرضة للعدوان أو تغلب على أمرها تنزح في الغالب عن ديارها؛ كما حدث لمعظم بطون تغلب بعد أن هزمتها بكر في حرب البسوس.
أما هجراتهم بعد الإسلام فحدث عنها ولا حرج؛ فقد انتشروا في جميع بلاد العالم المتحضر في ذلك العصر من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، ومن أقاصي السودان جنوباً إلى آسيا الصغرى والبلقان وفرنسا وإسبانيا شمالاً، فنشروا في هذه البلاد دينهم وأخلاقهم وتقاليدهم ودمهم العربي. وأسسوا بنيان ملكهم فيها على تقوى من الله ورضوان. وفي هذا يقول شاعرهم الرحالة أبو دلف (وهو خزرجي من سلالة الأنصار الكرام).
فنحن الناس كل الن ... اس في البر وفي البحر
أخذنا جزية الخلق ... من الصين إلى مصر
إلى طنجة بل في ك ... ل أرض خيلنا تسري
إذا ضاق بنا قطر ... نَزُل عنه إلى قطر
لنا الدنيا بما فيها ... من الإسلام والكفر
فلم يكن إذن حادث هجرة الرسول عليه السلام وجماعة من أصحابه من مكة إلى المدينة غربياً على الطبع العربي؛ بل كان هذا الطبع يحتمه تحتيماً في مثل الظروف التي تمت فيها هذه الهجرة، كما حتم من قبل ذلك في ظروف مشبهة لهذه الظروف هجرة نفر إلى بلاد(705/63)
الحبشة وإلى المدينة نفسها من السابقين الأولين إلى الإسلام. فقد أشرنا فيما سبق إلى أن العربي كان يندفع بطبعه إلى الهجرة من بلاده إذا دعاه إلى ذلك داع من مصلحة عامة أو خاصة أو أصابه ضيم بين عشيرته. وهذه الأسباب جميعاً كانت متوافرة في هجرة الرسول عليه السلام.
ومع أن أهل المدينة كانوا يتألفون حينئذ من قبائل قحطانية تختلف في أصولها الشعبية عن القبائل العدنانية التي ينتمي إليها الرسول عليه السلام، فقد آثر الهجرة إليهم دون غيرهم لأسباب كثير أهمها في نظري ثلاثة أسباب:
(أحدها) أن أخوال أبيه عليه السلام كانوا قحطانيين من أهل المدينة. فكان طبيعياً، حسب مألوف العرب، وقد خذله عصبته وساموه سوء العذاب ووقفوا في سبيل دعوته، أن يلجأ إلى بعض فروع خئولته يلتمس منهم العون والحمامة. فالخئولة أقرب الناس إلى العربي بعد عمومته. بل يظهر أن العرب في مرحلة ما من أقدم مراحل تاريخهم كانت لحمة نسبهم بخئولتهم أوثق من لحمة نسبهم بعمومتهم.
(وثانيها) أنه قد آمن به قبل هجرته عدد كبير من أهل المدينة وبايعوه على الدفاع عن دينه. فكان طبيعياً أن يؤثرهم على غيرهم بهجرته ويتخذ منهم أنصاراً لنشر رسالته. (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
(وثالثها) أن أهل المدينة وضواحيها كانوا أكثر استعداداً لقبول فكرة التوحيد التي جاء بها الدين الإسلامي من بقية أهل الحجاز. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى كثرة احتكاكهم بالموحدين من اليهود والنصارى الذين كانت تتألف منهم حينئذ جاليات كبيرة عربية وغير عربية في المدينة نفسها وفيما يتاخمها من مواطن.
صحيح أنه قد ظهرت بمكة قبيل الإسلام مدرسة الحنفيين الموحدين الذين انحرفوا عن الشرك والوثنية (ومن أجل ذلك سموا بالحنفيين أي المنحرفين) وعبدوا الله وحده على ملة إبراهيم وأقاموا الصلاة وصاموا رمضان وكان من هؤلاء محمد بن عبد الله نفسه قبل أن يبعث رسولا، كما كأن منهم نفر من قريش، ولكن أعضاء هذه المدرسة كانوا يتألفون من(705/64)
بعض النابهين والمتفلسفين من سكان مكة، أما دهماء الشعب نفسه فكانت شديدة التعلق بدينها الوثني، سادرة في ظلالها القديم، تقتفي آثار آبائها فيما كانوا يعبدون. وهذا هو عكس ما كان عليه الأمر في المدينة. فمع أنه لم ينشأ في الأوس والخزرج مدرسة متفلسفة كمدرسة الحنفيين بمكة، فإن السواد الأعظم من الشعب نفسه كان مهيئاً تهيئة كبيرة لعقيدة التوحيد.
علي عبد الواحد وافي(705/65)
كيف ننشئ أطفالنا
للأستاذ كامل كيلاني
أشرف القائد العام على إحدى القلاع ليزورها فلم يطلق من القلعة مدفع واحد لتحيته والترحيب به. فدهش لإهمال والي القلعة، واستهانته بخطره واستدعاه، فمثل بين يديه ليحاكم عسكرياً على تهاونه وتفريطه في أداء واجبه.
ثم سأله القائد العام، وهو يكاد يتميز من الغيظ: (ما بالك قد استهنت بخطري، فلم تحيني التحية المعتادة؟) فأجابه والي القلعة باسماً: (لم يكن في قدرتي أن أطلق - من مائة المدفع والمدفع - واحداً لتحيتك، فقد منعني من ذلك مائة سبب وسبب) فقال القائد العام: (هات ما عندك من الأسباب وقل فأنا أسمع) فأجابه والي القلعة: (أولاً لم يكن في القلعة بارود) فقال القائد العام وقد سرى عنه: (حسبك هذا عذراً، فلسنا في حاجة إلى سماع بقية الأسباب).
ولقد أصاب القائد العام وأنصف فإن في السبب الأول الذي ذكره والي القلعة غنية عما يليه من الأسباب. وثمة قضايا كبيرة يهدم كل أسبابها سبب واحد فلا تبقى لغيره قيمة بالقياس إليه. وقديماً قال أبو العلاء:
لقد أتوا بحديث لا يصدقه ... عقل، فقلنا عن أيِّ الناس تحكونه؟
فأخبروا بأسانيدٍ لهم كذب ... لم تَخْلُ من كرِّ شيخ لا يُزَكُّونَهُ
والأمثلة على هذا أكثر من أن يحصيها العد! فإن صكا - بالغاً ما بلغت قيمته المالية - لا يساوي درهماً واحداً إذا أعوزته الإمضاءة. ومن هذه القضايا التي نحن بسبيلها، قضية اليوم. فإن السبب الأول من أسبابها إذا نقض هدم الأسباب التالية كلها فلم يبق لها خطر. قال لي أحد الوزراء المصريين الكرام:
(لقد أسلمت ولدي إلى مربية أجنبية، لتعنى بأمره وتنشئه أحسن تنشئة، وتربيه على أكمل منهاج أقرته الحضارة، فكان لنا ما أردنا، ولكن وهنا تأتي قصة الإمضاءة التي لا تتم قيمة الصك إلا بها. قال الوزير: (وذا صباح، بينا كنت أسير وولدي الصغير إذا مررنا على مسجد كبير فسألته ما اسم هذه البناية؟) فقال: (هذه كنيسة محمدية) فكدت أخر من هول ما سمعت صعقاً! ثم قال الباشا: (منذ ذلك اليوم وأنا أحذر - كل من أعرف ومن لا أعرف - خطر المربيات الأجنبيات، لأنهم - على ما يسدين إلى أطفالنا من فضل عناية ورعاية -(705/66)
يسئن إلى وطننا العزيز أبلغ إساءة ويسلفن إلى قوميتنا ضرراً يتضاءل بالقياس إليه كل نفع مهما جل وعظم.
وهنا بلغنا الجرثومة من الصميم ووصلنا نقطة البحث ومدار الحديث، وتمثلت أمام أعيننا قصة الإمضاءة التي لا خطر للصك إلا بها، ولا قيمة لما يحويه من المال بغيرها.
لقد أجمع رجال التربية، وأساطين علم النفس، على أن الطفل جدير بأن يتحلى بأكرم الأخلاق وأنبل الصفات - منذ نشأته - وتواصوا بتثقيفه وتكميله، وتحبيب العلوم والفنون والآداب إلى نفسه بكل وسيلة شائقة مغرية. فإذا تم لهم ما أرادوا، فقد كتب الصك وفيه الرقم الذي نريد، ولم يبق إلا أن يمضى، والإمضاءة هي كل شيء في الصك، أو على الأصح الأدق: هي الشيء الذي لا تتم قيمة الصك إلا به.
نعم يبقى شيء نحرص عليه جاهدين ونتثبت منه مستوثقين، وهو: (على أي أساس نشئ الطفل؟ تنشئة عربية، أم تنشئة أجنبية؟ وهل قيد في دفتر مولودينا نحن أبناء العرب ووارثي تاريخهم وتراثهم وأمجادهم؟ أم أثبت في دفتر مولودي غيرنا من الأمم؟).
فإن كانت الأولى فهو من أبنائنا البررة الكرام العاملين على إعزازنا ورفقتنا. وإن كانت الأخرى قيدناه في دفتر الوفيات وضرعنا إلى الله - سبحانه - أن يجعله فرطاً صالحاً ويعوضنا خيراً منه، ويلهمنا الصبر والسلوان ويعزينا عن فجيعتنا فيه أحسن العزاء، ولا غرو أن نثكله حياً فقد ثكل الشريف الرضي بعض رفاقه الغادرين أحياء فقال مبدعاً:
(أحيا إخاءكم الممات، وغيركم ... جرَّبتهم فثكلتهم أحياء
إلا يكن جسدي أصيب فإنني ... قسَّمته فدفنته أجزاء)
رحم الله تلك الأجزاء العزيزة التي ندفنها كل يوم. وماذا يجدينا أن يصبح بعض أبنائنا مثال العبقرية في العالم بعد أن سلخ منا؟ وهل ينفعنا أن يصير أحدهم أشعر شعراء فرنسا أو إنكلترا أو ألمانيا - مثلاً - فيضيف إلى تراثها صفحة خالدة مشرقة ما كان أشد حاجتنا إلى إن يزاد في أسفار أمجادنا العربية الحديثة.
وماذا يعنينا من أمر هذا وأشباهه - مهما عظم خطره وجل - بعد أن يسلخهم منشئوهم من أسرتنا العربية التي نسعى لرفعتها وعزتها مستميتين؟ أو بأسلوب آخر. ماذا يجدي علينا أن تصبح بلادنا أغنى بلاد العالم وأوفرها قصوراً وأعظمها مصانع ما دام أبناء البلاد لا(705/67)
يملكون من هذا كله شيئاً.
فمسألة المسائل الجوهرية - إن صح التعبير - هي أننا نريد أن يكون كل إصلاح نقوم به في بيت نملكه لا في بيت نكتريه. وفي طفل ينتسب إلينا بعروبته وشمائله لا في طفل ينتسب إلى غيرنا من الأمم برطانته ومواهبه. وجماع القول: إننا نريد أن نسخر قواتنا كلها لخدمتنا ورفعة مجدنا - نحن أبناء العرب - لا لخدمة غيرنا من الأمم وإضافة صفحات إلى أمجدهم ولن تعنينا ساقية تدور في بلادنا، ما دامت تسقي أرضاً لا نملكها وتزيد في ثروة لا تعود على مواردنا بفائدة. كما لا يعنينا أن يصبح أبناؤنا سادة العالم ومناط فخاره، ومبعث مجده. ما داموا لا يمتون إلينا بصلة ولا تربطه بنا آصرة.
ماذا؟ إن الأمر أكبر من هذا كله فإن خطر هؤلاء الأبناء والأخوة لن يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى ما هو شر منه فإنهم بلا شك عامدون - وقد رأينا مصداق ذلك في الكثيرين منهم - إلى تراثنا فمحقروه، وإلى أكرم تقاليدنا فمحاربوها، وإلى أنبل مزايانا الشرقية فمفوقون إليها أخبث السهام وأفتك الأسلحة.
وقديماً قال أبو العلاء:
(ربيت شبلاً فلما غدا أسدا ... عدا عليك فلولا ربه أكلك)
ولكن اللوم علينا فقد تنكبنا قول المعري وخالفنا نصيحته التي أوصانا بها في تلك القصيدة البارعة حين قال:
(فلا تعلم صغير القوم معصية ... فذاك وزر إلى أمثاله عدلك
فالسلك ما اسطاع يوماً ثقب لؤلؤة ... لكن أصاب طريقاً نافذاً فسلك)
وقد شكا الشاعر العربي من عقوق ولده فقال:
(وربيته حتى إذا ما تركته ... فتى الحرب واستغنى عن الطر شاربه
تغمد حقي ظالماً، ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه)
ولن نمثل في هؤلاء الخارجين عنا إلا بقول ابن الرومي:
(وإخوان تخذتهم دروعا ... فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها، ولكن في فؤادي
وقالوا قد صغت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن عن ودادي)(705/68)
ورحم الله القائل:
(أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشْتَدَّ ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
إلى هنا قد بلغنا المدى - في_ما نظن وأدركنا أن أول واجب علينا وعلى كل من يتصدى لتنشئة أطفالنا أن ينشئهم عرباً قبل كل شيء. وبعد كل شيء، وعلى الرغم من كل شيء. فما هي الوسيلة إلى بلوغ هذا المأرب الجليل!
الأمر على خطورته، غاية في اليسر فإن مفتاح كل جنسية من جنسيات الأمم المختلفة الأخرى هو لغتها التي تحوي تاريخ أهلها وتراثهم الأدبي الحافل، ومزاياهم وشمائلهم النادرة وما إلى ذلك من ضروب الفضائل والأمجاد فليكن أول هدف يفوق إليه المصلحون سهامهم المسددة أن ينشئوا أطفالنا على الفصحى لنؤمن أولاً أن السجل قد كتبهم في دفاتر مولودينا، ولم يقيدهم في دفاتر وفياتنا، فإن الطفل إذا أنشئ على لغة أجنبية انسلخ عن قوميته، وإذا أنشئ على العامية انسلخ عن شعوب الشرق العربية كلها، وأصبح بمعزل عن أسرته العظيمة المنتشرة في أقطار تلك الإمبراطورية الفكرية العربية الشاسعة. وأن كل تهاون - بالغ ما بلغ من التفه - بهذا المبدأ الأقدس الأسمى هو إساءة وقد كدت أقول (إجرام) في حق الوطن العربي الخالد.
لقد حدثتنا الأساطير أن مصدر قوة (شمشون الجبار) كانت في شعره. قالت الأسطورة. فلما قص أعداؤه شعره - بعد أن فطنوا إلى هذا سر - وهن الجبان واستكان. وقد حدثنا التاريخ الصادق الأمين وقصت علينا حقائق الحياة وعبرها أن شعر شمشون يتمثل في كل أمة - إذا فحصنا عنه - في لغتها فإن قص هذا الشعر، وهذه اللغة، وهنت الأمة في أثره وضاع خطرها وتفككت أواصرها الوثيقة.
ومتى أقررنا ذلك، وجب علينا أن نمهد لهذه الغاية الجليلة وسائلها ونعبد لها طرائقها ونيسر للطفل منهاج العربية واضحاً لا عوج فيه ولا أمتا، مستعينين على ذلك بكل أساليب التربية الصحيحة، ومغرياتها الرشيدة على ألا تسمح في إثبات لفظة عامية أو عجمية دخيلة لا يقرها اللسان العربي، ولا توائم أساليب الفصحى، فإن كل خطأ في ضبط الكلمات التي نقدمها لأطفالنا، وكل تقصير أو إهمال في تحري فصاحتها والتثبت من صحتها جناية على(705/69)
لغتنا أي جناية وتعويق لنهضتنا أي تعويق.
وليضع كل من يتصدى لتعليم الأطفال أو التأليف لهم نصب عينيه، وصك أذنيه وملء ضميره وجهد حبه للخير أن كل خطأ ينطبع في أذهانهم وكل وهم أو زلل يعترض سبيلهم إنما هي في الحقيقة مزالق أو حفر يتردى فيها الطفل الوادع المسكين وليس له ذنب في ترديه إلا وثوقه بكفاية معلمه وأمانة أستاذه الذي أبى قصوره أو تقصيره إلا أن يحقق قول أبي العلاء:
(ما الناس إلا سالك مسترشد ... وأخ - على غير الطريق - يدله)
ولن يغفر التاريخ إثم من يتصدى لتعبيد الطرق للعابرين إذا عرضهم للمخاطر والتلف، ولن تشفع له جهوده العظيمة وحسناته المتوالية في هذا الجرم الشائن.
أما بعد، فليأذن لي القارئ متفضلاً أن أصرخ - قبل أن أختتم هذه الكلمة - صرخة مدوية منبعثة من الأعماق في وجه كل من يتصدى لوضع كتب لأطفالنا ممن لا يدينون بهذا المبدأ المقدس الأسمى، فيملأها رطانة وركاكة وأغلاطاً ويجني بذلك على نهضتنا عابثا أو جاداً، عامداً أ، غير عامد، أكبر جناية يسجلها تاريخ عزتنا، ويدونها سجل قوميتنا، ويقبح جانبها كل غيور على الصلاح، ويلعن جارمها كل محب للعرب منتصر للعروبة.
ألا هل بلغت، اللهم فأشهد.
كامل كيلاني(705/70)
وحي الشرق
للأستاذ محمود غنيم
مهدَ الهدى ومثابةَ الأقمار ... نورُ البصائرُ أنت والأبصارِ
فيكَ الشرائعُ والشموسُ تلاقتا ... فتلاقت الأنوارُ بالأنوار
لله سر في اختياركَ مهبطاً ... للوحي يا مُستودعَ الأسرار
لمسوح عيسى فوق أرضك خطرةٌ ... وعصا الكليم وبردةِ المختار
وضعت شرائعك السماءُ وأين من ... وضع السماء نتائجُ الأَفكار؟
أبصرت غيرك مستعاراً مجدُهُ ... لكن مجدكَ أنت غيرُ معار
مجدٌ بأسباب السماء تعلقت ... أسبابُهُ صنعته كف الباري
قالوا الحضارة قلت أزهر نبتها ... في الشرق قبل منابت الأشجار
أرض ينابيعُ البيان تفجرت ... من جوفها قبل النمير الجاري
سحر الطبيعة والبيان تسابقا ... فيها سباق الخيل في المضمار
تتطامنُ الأيامُ إن مرَّت بما ... ضمَّتْ جوانبها من الآثار
هذا أديمُ الله خصَّ برسْله ... وبيوتهِ القدسيّة الأحجار
في كل عام للحجيج تمسحٌ ... بالقدس أو بالبيت ذي الأستار
الشرق مهوى كل وجه ساجدٍ ... لله لا للقوت والدينار
وإذا النفوس عرين من دين ومن ... خُلُق فليس لهنّ أيُّ قرار
ليس السلام برائج في عالم ... بارت به الأرواح أيَّ بوار
وتقطعت بين السماء وبينه ... شتى الصلات تقطع الأوتار
الغرب سار على هدى أطماعه ... فتعثرت قدماه أيَّ عِثار
أمم سرت في جنح ليل مظلم ... قد ضل فيه النجم قبل الساري
تبكي حضارتها بملء جفونها ... وتئن تحت جدارها المنهار
قل للأولى ضلوا وضلت فلكهم ... في اليمِّ شرعُ الله خيرُ منار
محمود غنيم(705/71)
الناحية العلمية من أعجاز القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
القرآن الكريم حجة الله البالغة على عباده؛ وموضع الحجة القاهرة فيه إعجازه الخلق. وينبغي إلا يكون إدراك إعجازه موقوفاً على فصحاء العرب ومن لف لفهم، فإن الإنسانية كلها مخاطبة به، مطالبة بالتسليم له أنه كلام الله ليس لآدمي فيه كلمة ولا حرف. والإنسانية أعجميها أكثر من عربيها، ومع ذلك فلا بد من أن يتضح إعجاز القرآن لكل إنسان، ولو كان أعجمي اللسان، لتلزمه حجة الله إن هو أبى الإسلام.
هذا النوع من النظر والتفكير يؤدي إلى نتيجة لازمة: أن لإعجاز القرآن نواحي غير الناحية البلاغية، وغير ناحية التنبؤات التي كانت في ضمير الغيب حين نزل القرآن، ثم حققها الله فعلاً فيما استقبل الناس من زمان.
الواقع أن موضوع إعجاز القرآن لا يزال بكراً برغم كل ما كتب فيه. لكني لست أريد أن أتناوله في هذا المقال إلا من تلك الناحية التي لا يتوقف تقديرها والتسليم بها على معرفة لغة لا تتيسر معرفتها لكل أحد. هذه الناحية العلمية من الإعجاز.
وإذا فهمنا الناحية العلمية على أوسع معانيها فإنها تشمل كل ماعدا الناحية البلاغية من النواحي: تشمل الناحية النفسية وكيف اقتاد القرآن النفس ويقودها طبق قوانين فطرتها؛ وتشمل الناحية التشريعية وكيف نزلت أحكام القرآن طبق قوانين الفطرة للأفراد والجماعات؛ وتشمل الناحية التاريخية التي لم يكن يعلمها البشر عند نزول ما اتصل بها من آيات القرآن ثم كشف عنها التنقيب الأثري بعد؛ ثم تشمل الناحية الكونية ناحية ما فطر الله عليه غير الإنسان من الكائنات في الأرض، وما فطر عليه الأرض وغير الأرض في الكون.
هذه النواحي هي التي ينبغي أن يشمر المسلمون للكشف عنها وإظهارها للناس في هذا العصر الحديث. ولن يستطيعوا ذلك على وجهه حتى يطلبوا العلوم كلها ليستعينوا بكل علم على تفهم ما اتصل به من آيات القرآن، ويستعينوا بها على استظهار أسرار آيات القرآن التي اتصلت بالعلوم جميعاً. ولا غرابه في أن يتصل القرآن بالعلوم جميعاً، فما العلوم إلا نتاج تطلب الإنسانية أسرار الفطرة، والقرآن ما هو إلا كتاب الله فاطر الفطرة، فلا غرو(705/72)
أن يتطابق القرآن والفطرة، وتتجاوب كلماتها وكلماته، وإن كانت كلماتها وقائع وسنناً، وكلماته عبارات وإشارات تتضح وتنبهم طبق ما تقتضيه حكمة الله في مخاطبة خلقه، ليأخذ منها كل عصر على قدر ما أوتي من العلم والفهم، وكذلك دواليك على مر العصور.
هذا التدرج في إدراك تمام التطابق بين القرآن والفطرة أمر لا مفر منه في الواقع، ثم هو مطابق لحكمة الله سبحانه في جعله الإسلام آخر الأديان، وجعله القرآن معجزة الدهر، أي معجزة خالدة متجددة: يتبين للناس منها على مر الدهور وجه لم يكن تبين، وناحية لم يكن أحد يعرفها أو يحلم بها من قبل، فيكون هذا التجدد في الأعجاز العلمي هو تجديداً للرسالة الإسلامية، كأنما رسول الإسلام قائم في كل عصر يدعو الناس إلى دين الله ويريهم دليلاً على صدقه آية جديدة من آيات تطابق ما بين الفطرة وبين القرآن.
هذا النوع من الإعجاز يعجز الإلحاد أن يجد موضعاً للتشكيك فيه إلا أن يتبرأ من العقل. فإن الحقيقة العلمية التي لم تعرفها الإنسانية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلاً، والتي ذكرها القرآن، لا بد أن تقوم عند كل ذي عقل دليلاً محسوساً على أن خالق الحقيقة هو منزل القرآن.
وقبل أن نورد بعض الأمثلة التوضيحية يجب أن ننبه إلى أمرين مهمين: الأول أنه لا ينبغي في فهم الآيات الكونية من القرآن الكريم أن نعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا قامت القرائن الواضحة تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه. إن مخالفة هذه القاعدة الأصلية البسيطة قد أدى إلى كثير من الخطأ في التفسير. وسنرى أن من أعجب عجائب القرآن أن المطابقة بين آياته وآيات الفطرة تكون أتم وأيسر كلما أخذنا بتلك القاعدة في فهم كونيات القرآن. هذا أمر.
أما الأمر الثاني فهو أنه ينبغي ألا نفسر كونيات القرآن إلا باليقين الثابت من العلم، لا بالنظريات ولا بالفروض. إن الحقائق هي سبيل التفسير الحق: هي كلمات الله الكونية ينبغي أن يفسر بها نظائرها من كلمات الله القرآنية؛ أما الحدسيات والظنيات فهي عرضة للتصحيح والتعديل إن لم يكن للإبطال في أي وقت.
فسبيلها أن تعرض هي على القرآن بالقاعدة السابقة لتبين مبلغ قربها منه أو بعدها عنه، وعلى مقدار ما يكون بينها وبينه من اقتراب، يكون مقدار حظها من الصواب.(705/73)
فلنأخذ الآن في تبين طرف من أعجاز القرآن العلمي عن طريق ضرب بعض الأمثال. وستكون الأمثال فردية لأن الناحية العلمية العامة من الأعجاز قد سبق بيانها في بعض أعداد الرسالة، إذ أثبتنا التطابق التام بين العلم الطبيعي الحديث والقرآن من ناحية الموضوع ومن ناحية الطريقة، وبينا أن العلم بموضوعه مأمور به في القرآن على التحديد، وأن العلم بطريقته يقره ويؤيده القرآن.
لنبدأ من الأمثلة بأول آية - بعد البسملة - في أول سورة من القرآن. ولنبدأ بالآية الكريمة فاتحة أم الكتاب. (الحمد لله رب العالمين) ولندع إعجاز شطرها الأول، ولنأخذ في إعجاز شطرها الثاني، ولنقصر من ذلك على ما يتمثل من الكلمة الأخيرة من: كلمة (العالمين).
لاشك أنها كلمة فاجأت العرب من الناحيتين على الأقل: ناحية الجمع، وناحية تذكير الجمع،. فالعرب لم يكونوا يعرفون إلا عالماً واحداً هو الذي كانوا يعيشون فيه. والناس إلى اليوم لا يتحدثون إلا عن عالم واحد هو هذا الذي نبصر ونحس ونعيش فيه. فقصر الحمد على رب العوالم شيء. فجأ الناس إذ ذاك ولم يألفه كل الناس إلى اليوم.
والتمس الناس تلك العوالم المتعددة فقالوا هي عوالم الإنس والجن والملائكة، وقالوا هي عوالم الحيوان والنبت والجماد، ولكن ليس كل ذلك بموف بمعنى ذلك اللفظ، لفظ (العالمين) إنه جمع معرف لا جمع منكسر، وأنت إذا قلت العالم لم تفهم إلا عالماً واحدا هو هذا الشامل لكل ما ترى من أرض وسماء. وإذا أخذنا بحرفية اللفظة في الفهم طبق قاعدتنا الأولى، كان عالمنا هذا فرداً من أفراد، وعالماً من عوالم مثله. فأين هذا المعنى في أي كتاب بأي لسان قبل القرآن؟
ثم جاء علم الفلك الحديث بمراقبه ومراصده، وتحليلاته الرياضية وغير الرياضية، فبين أن المجموعة الشمسية التي نحن فيها ومنها ليست في هذا العالم المجري شيئاً مذكوراً؛ وبين أن هناك عوالم مجرية أخرى مترامية المطارح تعد لا بالمئات ولا بالألوف ولكن بالملايين؟.
لكن العلم لم يهتد إلى الآن في العوالم المجرية الأخرى إلى أرض كأرضنا، وإن اهتدى إلى أن في كل عالم مجرى آلافاً مؤلفة وملايين من الشموس. وستجد أكثر الناس يقنع من التطابق القرآني العلمي في هذا اللفظ الكريم بهذا القدر؛ لكن حرفية المعنى القرآني لا تقنع(705/74)
بهذا وتؤدي إلى أكثر من هذا. إن عالمنا، وهو العالم الذي نعرف عنه أكثر كثيراً مما نعرف الآن عن أخواته، فيه أرض تدور حول شمس، بكل ما في الأرض وما في الشمس من أسرار. فحرفية اللفظ القرآني وحقيقة الجمع القرآني يقتضيان أن تكون هناك عوالم أخرى فيها أرض تدور حول شمس. أي أنه لا بد حسب حرفية القرآن أن يكون في ملايين العوالم المجرية الأخرى عوالم ولو قليلة يتحقق فيها ما هو متحقق لنا في هذا العالم الذي جمعه الله سبحانه في أول آية من كتابه جمع تذكير، ليكون في ذلك إشارة وتنبيه للناس إلى ما في الكلمة الكريمة من أسرار ليطلبوهافلا يصرفوا أنفسهم عنها بتعليلهم صيغة الجمع بمراعاة الفاصلة، أو التغليب، أو ما أشبه ذلك من تعليل.
فما مبلغ ما وصل إليه العلم الحديث في شأن هذا السر العظيم الذي أشار إليه الخالق سبحانه بكلمة (رب العالمين)، سر وجود الحياة في أرض غير أرضنا في عالم كعالمنا؟ كل ما وصل إليه من هذا أن وجود الحياة على غير كوكبنا هذا أمر ممكن، بل أمر راجح. ومن يرد الاستزادة من وجهة العلماء في هذا الأمر، فليقرأ فصل: (الحياة في العوالم الأخرى) من كتاب: (عوالم لا نهاية لها) للفلكي الملكي الإنجليزي هـ. سبنسر جونز.
وإذا لم يكن لدى العلم إلا ترجيح ما فهمنا من اللفظ الكريم، فهل في كتاب الله ما يؤيد هذا الفهم وهذا التخريج؟ هل في القرآن ما يفصل هذا السر المجمل في لفظ (العالمين)؟ فإن أوثق ما يفسر به القرآن هو القرآن.
(البقية في العدد القادم)
محمد أحمد الغمراوي
في شهيد ميسلون:
وقع اضطراب في ترتيب هذه القصيدة نصوبه فيما يلي:
جاء بعد البيت الثامن الذي أوله: في موكب الفادين (لا الغادين) قوله:
لو قسمتهم بعدوهم وسلاحه. . . والصواب: أن موضع هذا البيت هو بعد البيت الثاني عشر الذي أوله: الرابضين على الحصون.(705/75)
المجدد المنتظر. . .
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان المسلمون في الماضي كلما حزبهم الأمر، وبلغ اليأس بهم كل مبلغ، وجدوا في خبر المهدي الذي يأتي آخر الزمان، أو المجد الذي يبعث على رأس كل مائة سنة، ما يحي فيهم ميت الأمل، ويبعث فيهم الرجاء بعد اليأس.
وهاهم أولاء الآن قد حزبهم الأمر بما لم يحصل مثله في ماضيهم، فأصبحوا من الضعف بحيث طمع فيهم من لا ناصر له وغلب عليهم كل مغلب، وشمخ عليهم من ضربت عليه الذلة والمسكنة، فهم في أشد حاجة إلى من ينهض بهم من هذا الضعف فيصلح ما فسد من أمرهم، ويجدد ما بلى من أحوالهم، ويقضي على ذلك الجمود المميت، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ويقود جنود الإصلاح إلى النصر، وينظم صفوفهم في الحرب القائمة بينهم وبين دعاة الجمود، حتى ينتظم ما تفرق من صفوفهم، وترتفع في الخافقين أصواتهم.
فهل يقوم لهم بذلك ما يرجونه من المهدي المنتظر، أو من المجدد الذي يبعث إليهم في رأس كل مائة سنة؟ والجواب عن ذلك يجرنا إلى النظر فيما مضى من أثر الفكرتين في المسلمين.
لقد نبتت فكرة المهدي المنتظر بين فرقة الشيعة من المسلمين فانتظروه شخصاً من آل بيت النبوة يوافق اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ويوافق اسم أبيه اسم أبيه أيضاً، فيكون إماماً معصوماً، ويكون مؤيداً فيما يقوم به من الله تعالى، ويكون له حكم المسلمين جميعاً، فيرجعون إليه في أمور دينهم ودنياهم.
ولا شك أن هذه أمور تغري النفس كل الإغراء، وتثير في كل شخص أن يكون المهدي المنتظر، لتكون له تلك القداسة الدينية، وليكون له ذلك السلطان على المسلمين، وكل ما كان من هذا القبيل يدخل فيه الاحتيال، ويستعان عليه بالتصنع، وما يدخل فيه الاحتيال لا ينطلي عند كل الناس، وما يستعان عليه بالتصنع لا يلبث أن يظهر أمره، فيفترق فيه المسلمون حيث يراد اجتماعهم، ويكون وسيلة خصام، لا وسيلة سلام ووئام.
وقد قامت محاولات كثيرة في ذلك كان الفشل نصيبها كلها ولم يستفد المسلمون منها شيئاً، بل كانت تزيدهم فرقة إلى فرقتهم وكان الخلاف يتسع بها بينهم، ولم تفدهم محاولة منها ما(705/76)
يطلبونه من إصلاح، ولم توصلهم إلى ما يريدونه من تجديد.
وكانت أول محاولة في ذلك من أبي جعفر المنصور ثاني ملوك بني العباس، وكان من قبله بني العباس قد وضعوا تنبؤات في ظهور أمرهم، وفي ظهور المهدي من بينهم، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس - والظاهر أنه موضوع عليه - أن أم الفضل حدثته أنها مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: إنك حامل بغلام، فإذا ولدت فأتيني به، فلما ولدته أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وألبأه من ريقه وسماه عبد الله، وقال: اذهبي بأبي الخلفاء. فأخبرت العباس - وكان رجلاً لباساً - فلبس ثيابه، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بصر به قام فقبل بين عينيه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: هو ما أخبرتك، هو أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي، حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم.
ومن ذلك ما روي عن ابن عباس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اللهم انصر العباس وولد العباس - قالها ثلاثاً - ثم قال: يا عم، أما شعرت أن المهدي من ولدك موفقا راضيا مرضيا.
وكان أبو جعفر المنصور يسمى عبد الله، وكان له ابن يسمى محمداً، فأراد أن يجعل منه المهدي الذي مهدوا لظهوره بهذه التنبؤات، وكان أبو العباس السفاح قد بايع لأخيه أبي جعفر من بعده، ثم لابن أخيه عيسى بن موسى من بعد أبي جعفر، فلما صار الأمر إلى أبي جعفر المنصور عمل على أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، وأن يضع مكانه ابنه محمداً، فلقبه المهدي. وأشاع حوله تلك الأحاديث والتنبؤات التي ترمي إلى تقديسه وتعظيمه، وتشير إلى أنه يقوم بالأمر فيملأ الأرض عدلاً، ثم أخذ يرغب الناس فيه، ويجتهد في حمل وجوه دولته على الالتفاف حوله فلما تم له ما أراد من ذلك جعله من فعل الله تعالى، وأنه هو الذي أشرب قلوب الناس مودة المهدي، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا به، ولا يجري على ألسنتهم إلا ذكره، لمعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ثم أقدم على الغاية التي أرادها من ذلك، فأراد أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، ويولي مكانه ابنه المهدي، تنفيذاً لما أراده الله من ولايته، لأنه زعم أنه أمر تولاه الله وصنعه، ولم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا(705/77)
مذاكرة.
ولكن عيسى بن موسى لم ينطل عليه شيء من ذلك، ولم يذعن لهذا الاحتيال الظاهر من عمه أبي جعفر، ورأى أنه لا مهدي يراد، وإنما تراد ولاية العهد لا غير، والباطل يظهر أمره وإن حاول الناس إخفاءه، والحق لا يأتي بمثل هذا الاحتيال والتصنع ولا يقوم أمره على نقض العهود، ولا تستبيح دعوته الحنث في الأيمان.
فلم يزل عمه أبو جعفر يأخذه تارة بالقهر، وتارة بالإغراء، حتى خضع لما أراد، وترك ولاية العهد لابن عمه المهدي، فقام بالأمر بعد أبيه أبي جعفر، وإذا هو ملك كغيره من الملوك، لم يملأ الأرض عدلاً، ولم يحقق للمسلمين أملاً مما يرجونه من المهدي المنتظر، بل سار في الطريق التي سلكها من مضى قبله من ملوك بني العباس وبني أمية، وسلكها من أتى بعده من الملوك ولم يكن ما قام به المنصور من الدعاية له إلا أماني خادعة، واحتيالات لما أراده من قيامه بالأمر بعده.
وكذلك كان أمر كل من ادعى أنه المهدي المنتظر قديماً وحديثاً، يحاول في أمره أن يصله بأمر السماء، ليأخذ الناس بدعوى الولاية، وادعاء التأييد من الله تعالى، ويحملهم على ما يريده من إذعانهم له، حتى يقيم فيهم ملكاً له ولأولاده، أو يجعل له سلطة دينية عليهم، فلا ينخدع به ذلك إلا من تنطلي عليهم خديعته، ويبقى جمهور المسلمين بعيداً عنه، لا يؤمن بخداعه، ولا يرى أن دعوته هي الدعوة التي يرجوها.
لأنهم يرجون إصلاحاً لا ملكا، ويريدون مصلحا لا يبغي لنفسه من الإصلاح شيئاً، ولا يجعله وسيلة لمآرب شخصية، دنيوية كانت أو دينية، حتى تكون دعوته خالصة لوجه الإصلاح لا يشوبها شك ولا تشوبها ريبة.
ولأنهم يرجون الإصلاح من طريق العلم والاجتهاد، ويريدون أن يؤمنوا به بالدليل والبرهان، لا بتلك التنبؤات الموضوعة، ولا بدعوى الولاية والتأييد من الله تعالى، لأن الإسلام قد أغلق باب الإقناع بهذه الوسائل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفتح باب الاجتهاد والإصلاح، وجعل وسيلته الإقناع بالدليل، حتى يؤمن الناس عن بصيرة، ويأخذوه عن علم لا عن تقليد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه دينهم، وكما كان الأصحاب يأخذون دينهم عنه.(705/78)
ولأنهم يرجون مصلحاً ينهض بهم والزمان مقبل، والدنيا لا يزال فيها أمل، فيستردون به ما ضاع من مجدهم، ويعيدون به ما ذهب من عزهم، ويكون لهم في ذلك أمل كأفسح ما يكون الأمل، ويكون لهم فيه رجاء كأقوى ما يكون الرجاء. ويواتيهم فيه الزمان كما واتاهم من قبل.
ولا يرجون مصلحاً يأتي لهم في آخر الزمان، والدنيا مدبرة والآخرة مقبلة، فلا يكون أمامهم من فسحة الزمان ما يشيدون فيه كما شيد آباؤهم، ولا يكون عندهم من بعيد الأمل ما ينهض بهم كما نهض بسلفهم.
وهذا إلى أخبار المهدي المنتظر لا يتفق المسلمون على التصديق بها، بل يذهب كثير من العلماء إلى إنكارها، ويرون أنها تنبؤات وضعت لأغراض سياسية، وقد أكمل الله الدين ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقطع ببعثته حجة السماء على الأرض، ولم يبق بعده حاجة إلى اتصال بينهما، كالاتصال الذي تقوم عليه فكرة المهدي المنتظر.
أما فكرة المجدد الذي يبعثه الله في كل جيل من أجيال المسلمين، فلا تقوم على ما تقوم عليه فكرة المهدي المنتظر من دعوى الولاية، وادعاء التأييد من الله تعالى، ولا يقصد صاحبها ملكاً بين الناس، ولا سلطة دينية ينتفع بها في دنياه، ولا يلزم أن يكون شخصاً من آل بيت النبوة، وإنما هو شخص من عامة المسلمين، كمل عقله، وسما علمه، وعرف الداء والدواء، وآمن بالتجديد والإصلاح، فقام يدعو إلى ذلك بالنظر والاجتهاد، ويؤيده بالدليل والبرهان، ويضحي فيه بنفسه وماله، ويستهين فيه بكل ما يلقى من كيد، وما يصادف من عناء، ويرجو من ذلك كله أن تظهر دعوته، وينتصر حقه على باطل غيره، فترتفع راية الإصلاح، وتنتشر دعوة التجديد، ولا يكون له بين المسلمين إلا شرف الجهاد، وحسن الذكرى.
وتلك كانت غاية الأنبياء والرسل من دعوتهم، من بعثة نوح عليه السلام، إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول نوح لقومه في الآية (72) من سورة يونس (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين)
ويقول هود لقومه في الآية (51) من سورة هود (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)(705/79)
ويقول الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية (104) من سورة يوسف (وما تسألهم عليه أجر إن هو إلا ذكر للعالمين).
وهذا الإخلاص هو الوسيلة لنجاح الدعوة، وجمع الكلمة والثقة بالداعي، إذ لا مأرب له يشوه دعوته، ولا غاية له تشكك في أمره، وليس كالإخلاص في نجاح الأمور، ولهذا عول الدين عليه فيما أتى به من أصول وفروع، وجعله أساساً لصحتها، وركنا من الأركان التي تقوم عليها.
وقد آن للمسلمين أن يزيلوا م أدمغتهم فكرة المهدي المنتظر وأن يلبوا مجدداً ينهض بهم في هذا الزمان، لأنهم لا يجدونه إلا إذا طلبوه، وشعروا بحاجتهم إليه، وقد سبقت الإرهاصات وتوالت البشائر، والأمل قريب بنجاح الطلب، وظهور ذلك المجدد.(705/80)
خنازير تدس أفواهها في وضوء المسلمين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
خبرت كثيراً من الهيئات الإصلاحية، فوجدت فيها نوعاً من الناس يشترك في توجيهها مع أنها لم تنشأ إلا لتطيره هو أو تطهير المجتمع منه! فكيف تأتي لأمثال هؤلاء أن يتسربوا إلى منابع الطهر ومناطق الإصلاح؟ إنها لا شك غفلة وعبث ومجلبة للأضرار حيث تلتمس المنافع، وإنها خدعة لها ما بعدها من انتكاس الحال وازدياد الفساد وانعكاس القصد وضياع الجهود هدراً، وإنها لفجيعة أن تلتمس لوجهك طهوراً فإذا به نجس!
وأنا أفهم أن الإنسان قد يلبس بعض الشر والضعف الخلقي ويقترفه وهو مؤمن بالفضيلة محب للصلاح والصالحين يدعوا الله أن ينفعه وينقذه بهم وأن يمن عليه بسلوكه مسالكهم ومع ذلك يبتعد عنهم كي لا يلوثهم أو يعطلهم أو يؤثر على توجيههم للناس، ولكنني لا أفهم أن يقترب منهم ويشترك في إرشاد الناس معهم مع أنه يعلم رأي الناس فيه وقلة بضاعته في سوق الهدى والتوجيه.
إن المريض بمرض نفسي ينبغي له ألا يزاول التطبيب فيه، إلا إذا كان له من الشجاعة ما يجعله يقدم نفسه دليلاً وحجة على فساد عكس ما ينصح الناس به، وما يجعله يضرب نفسه مثلاً مجسماً أمام الجماهير، يقول بصدقه وصراحته قولاً بليغاً في نفوسهم؛ لأنه حينئذ يكون كذلك النوع النادر من الأطباء الذين يقدمون أنفسهم قرابين للعلم وفداء للناس بتعريض أجسامهم للأمراض الفتاكة ليخبروها ثم يخبروا الناس عن نتائجها.
ولكنا نجد كثيراً من مرضى النفوس وضعاف الأحلام، ومثال الأنانية، لا يجدون مجالاً لعرض أمراض نفوسهم وضعف أحلامهم وجلو شهرتهم إلا في جبهات الإصلاح يتطرقون إليها في جرأة، ويتدسسون فيها في خبث واستغلال، حتى لتبدوا للناقد الفاحص كأنها جبهات إفساد لا جبهات إصلاح!!
وإن السماح لهذا التسرب الخطر هو نوع من الصد عن سبيل الله، لأن الدرهم الزائف يطرد الدرهم الصحيح من السوق ويجعل طابع التعامل هو الغش والخداع، ويحمل الجماهير على الشك في صحة الدعوة الإصلاحية، بل الشك في جوهر الفضيلة ذاتها. . . وهذا أمر في غاية الخطورة على أمة تلتمس لنفسها السلاح الوحيد لإنقاذها وإنهاضها، وهو(705/81)
الإيمان بالقيم الخلقية والعقائد التي تثير أعظم ما في الطبائع البشرية وتوجههاً نحو المجد والقوة والفوز ولعل هذا الأمر هو السر في أننا نجد كثيراً من تلك الجبهات الإصلاحية لا تلبث أن تنهض حتى تنهار، ولا يلبث رجالها أن يتعارفوا حتى يتناكروا ويختلفوا وتظهر أعراض اختلافهم وتناكرهم على عيون الأشهاد، وهذا من طبيعة الأشياء إذ كيف يتأتى أن تجتمع الأضداد والمتناقضات من غير احتراب وشقاق؟ وأي بذرة أو نواة استطاعت قوانين الحياة والنماء أن تخرج منها نخلة أو شجرة فارعة مثمرة إذا كانت عوامل السوس والفساد قد تسرب إليها وهي في طور النمو الأول؟ إن الله تعالى يحافظ على مناطق النمو في النبات والحيوان ويلففها بأقمطة ولفائف ويقيم حولها حراساً أيقاظاً تدرأ عنها عوامل الفساد وتحفظ فيها عوامل الحياة ولا تسمح لسوسة أو نملة أو جرثومة مخربة ضئيلة أن تتطرق إليها وتزعم أنها من عوامل التكوين والنمو. تلك هي سنة الله القادر العالم الحفيظ الغيور على ما يصنع حين يكون المصنوع في دور الضعف دور النشوء، حتى إذا قوى واشتد وصار قادراً على احتمال الصراع بين عوامل الحياة وعوامل الفناء تركه يبرز قواه الذاتية وأسراره الخفية في الحرب الأبدية بين الخير والشر. فلماذا لا يصنع محبو الإصلاح المخلصون ما يصنع الله ويسترشدون بسننه وقوانينه؟ أم هم يظنون أنهم قادرون على تبديل سنن الله ما داموا يتكلمون بحذق ومهارة؟ إن الأمر في إنشاء جيل على الصلاح ليكون أساساً لأجيال بعده، أعظم من أن يكتفي فيه بتزاويق الكلام وتحابيره. إنه يلخص في أمر واحد. عمل مجسم صامت في جوانب الحياة لا يعلن عنه أصحابه وإنما يتحدث عنه غيرهم!
وما ينبغي أن يخدعنا الكلام بعد أن وعينا عبرة الأيام التي هي عبرة العمل وحده في الأمم التي تحب العمل. . .
لقد وجدت بعض الملحدين الفاسقين يحسنون القول في الإيمان أكثر من إحسان المؤمنين الصادقين. . .
ووجدت بعض المجرمين يجيدون القول في احترام العدالة والقوانين أكثر من إجادة الطائعين الخاضعين للنظام. . .
ووجدت بعض الضعفاء يعظمون القول في القوة ة والسلطة أحسن من الأقوياء المسلطين.(705/82)
ووجدت أعداء الحق والفضيلة والصلاح إذا حملتهم المناسبات على القول في أضداد ما يقترفون: أتوا بالقول الساحر والبيان الخالب، طلباً لتصفيق الجماهير البلهاء، لا لوجه الله. . .
ووجدت الجماهير البلهاء أسرع إليهم وأشد احتفالاً بهم من احتفالها بالعاملين الصادقين المحسنين. . .
لقد وجدت هذا. . . فصرت لا أخدع بالكلام. . . وعلمت لماذا كان العمل هو الأمر الوحيد الذي جعله الله ميزان القلوب ومعيار الحساب. . . وعلمت السر في حديث (محمد) سيد المصلحين المخلصين - صلى الله عليه وسلم - في وصف الدجالين الذين يدسون أفواههم في دعوات الإصلاح كما تدس الخنازير أفواهها في وضوء المتطهرين المسلمين: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان: مالك! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهي عن المنكر وآتيه).
عبد المنعم خلاف(705/83)
تسبيحة الرمال. .
في صلاة الصحراء. . .
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
تدفق سلسالا من الوحي صافيا ... فغنت به الصحراء ركباً وحاديا
وطوَّف يسقى جدْبها من روائع ... تحدَّث حِجاها أحرفا ومعانيا
سقى فُجرَها تقوى وعدوانها هدىً ... لك الله من ظمأى تُطاردً ساقيا!
تدافعُها للموتِ حُمَّى تُديرهُ ... على القوم مَجْنياً عليه وجانيا
يثورُ بهم طبعٌ لئيمٌ إلى الوغى ... ليلقوا منايا صِرْن فيهم أمانيا
تمرَّدتِ الصحراءُ وارْبدَّ أفقُها ... وما حجبَ الأصباحَ كالأفقِِ دَاجيا!
ترحلَ كالسر المحجَّب في الدجى ... وكالهمس بين اثنين حين تناجيا
كالحُلم رفَّافاً وكالطَّيف عابراً ... وكالنفس المجهودِ ينسابُ خافيا
تسرْبلَ جنحَ الليلِ لم يخْشَ ضارباً ... من الوحش بل يخشى العصاةَ الضَّواريا
فندَّتْ رمالُ البيد ميمونَ خطْوه ... وهبَّت سواِفَيها عليْهِ حَوَانيا
تقبَّل فيه الفجرَ أبلجَ رائعاً ... ينيرُ النهارَ الحقَّ أروعَ ضاحيا
جلاها من النور السماويِّ شرعةً ... أشعتْ فشقَّت بالضياءِ اللياليا
طرائفُ لم يبل الزمانُ جديدَها ... سيبلَى جديداهُ؛ وتلك كماهيا!
بناها على حقٍ وأرسَى بناءها ... فبوركَ من مبنىً وبُوركَ بانيا
تحدَّى بها الباغينَ فاْندكَّ صرحُهم ... وشادَ بها صَرْحاً على الحقِّ عَاليا
تجنَّوْا فقالوا الحربُ، كانت أداته ... ولم يكُ إلا للأسنَّةِ شاكيا
إذا المنطقُ استعصى على الشرِّ هدُ به ... فليسَ سِوى نطق اللأسنَّةهاديا
وصاحت بهمْ أوهامهم: إنه فتىً ... من السِّحر، فاقَ السَّاحرين الدواهيا
لقد صدقت تلك الأفاعي بكذبها ... فما كلُّ سحارٍ يروضُ الأفاعِيا
وماذا عليهم لو يقولون: شاعرٌ ... يغنِّى بليلاهُ ويشدُو القوافيا
نعم. إنها (ليلى)، وأحمد (قيسها) ... وما ضرَّ أن يلقى عذُولاً وشانيا
أضاليلُ من حُمقِِ الصَّحارى، كمائها ... سَرَاباً، وكالأغصانِ فيها عواريا(705/84)
مزاعمُ مِنْ جدْبِ الرمالِ، أثابها ... إلى الرُّشد، من رَوَّى الرمال الصواديا
تعهدها الرَّاعي بجدْ واهُ فارتوت ... واخصبَ واديها وطابَ مجانيا
أفاءت على الدنيا ظِلالاً وريفةً ... ورَّفت على الدنيا قُطوفا دوانيا
وأملتْ على الأيامِ أكرمَ قصةٍ ... سيبقَى لها الدهرُ المخاتِلُ راويا
صحائفُ منمجد البطولة لو وَعى ... لها الشرقُ معنى ما تعَّثر وانيا
ولالتأمَ الجرحُ الذي باتَ ناغراً ... ولازْدهر الغصنُ الذي بات ذاويا
ولانبثق الفجر المغلفُ بالدُّجى ... ولانبلجَ الصبحُ المنوَّرُ زاهيا
مواكب أجيالٍ ودنيا رغائبٍ ... على يد فاروقٍ سترتدُّ ثانيا(705/85)
الجامعة الإسلامية بعد الجامعة العربية
للسيد محمد أكرم نعماني
من كبار العلماء في الهند
قبل نشوب الحرب العالمي الأخيرة عمدت بريطانيا إلى التفرقة بين دول الشرق الأدنى، مستخدمة شتى الوسائل لفصل بعضها عن البعض الآخر، إلى حد جعل المبادئ الإسلامية العظيمة تنهار، تلك المبادئ التي تدعو، وتهدف إلى اتحاد جميع الدول الإسلامية.
ثم نشبت الحرب التي أثبتت أنه من المستحيل على الدول الصغرى أن تعيش في عصر بلغت فيه الأسلحة وبالأخص القنبلة الذرية من القوة ما بلغت في هذه الأيام.
وكيف تقف تركيا، على سبيل المثال، في وجه الاعتداء الروسي إذا وقع؟ إن القضاء على أداة الحرب التركية أمر سهل لسبب بسيط هو أن مساحة تركيا محدودة، فلا يمكنها أن تنقل المصانع الحربية التي يعتمد عليها جيشها إلى حيث يعجز الأعداء عن الوصول إليها، أما روسيا، وهي الدولة الكبيرة، فإن اتساع أراضيها من الأسباب التي جعلت الألمان يعجزون عن مد أيديهم إلى مصانعها الحربية، لأنها أقيمت على مدى أبعد من أن تصله قاذفات قنابلهم.
إن (حياة) الدول الإسلامية، وبينها تركيا، تعتمد قبل كل شيء على استمرار الخلاف بين روسيا وبريطانيا، وإذا حدث، بطريقة ما، أن تم الاتفاق بينها، ثم تفرعت الدولتان لتقسيم الدول الإسلامية فيما بينهما، فلن يكون لهذه الدول من مستقبل إلا أن تقيد إلى الأبد في سلاسل العبودية، ولن تكون قادرة في يوم من الأيام على تحطيم هذه السلاسل.
وقد يقال إن اتحاد روسيا مع بريطانيا أمر مستحيل، لأن الاختلاف في مبادئ الدولتين اختلاف جوهري، ومع ذلك فإن بريطانيا دولة (نهازة للفرص) ولا يمكن الاعتماد على ميول سياستها الخارجية أو (وعودها) لسبب بسيط، هو أن هذه الميول والاتجاهات عرضة للتغيير إذا اقتضت الحاجة ذلك!
وإذا قررت الدول الإسلامية أن تتحد وتقيم حكومة تشرف على هذا الاتحاد، فسيعني ذلك (بعث) العالم الإسلامي بطرقه الجوية، والبحرية، والبرية، الممتدة من الشرق إلى الغرب، عالم يتحكم في سواحل البحر الأبيض المتوسط من مراكش إلى اسطنبول، عالم يملك البحر(705/86)
الأحمر، والخليج الفارسي وبحر العرب ويسيطر على آبار البترول العظيمة، وعلى المواد الخام الأخرى المكنوزة داخل حدوده، وهي من حقوقه الخاصة. إن مثل هذا العالم، لو أنشئ، أصبحت مساحته. . . ,. 26 , 22 ميل مربع وتعداد سكانه. . . ,. . . , 671 مليون نسمة، وستكون الحكومة التي تشرف عليه حكومة اتحادية أساسها ثقافة واحدة وفلسفة واحدة ودين واحد.
إن الحاجة شديدة اليوم إلى إقامة مثل هذا الاتحاد بين دول الإسلام، لكي يتمكن العالم أجمع من الاحتفاظ بسلم دائم.
وإن في إمكان عالم إسلامي متحد أن يحفظ التوازن بين الدول الكبرى، وبصفة خاصة، بين روسيا وبريطانيا.
إن سياسة روسيا الخارجية، في الوقت الحاضر، هي الاحتفاظ بنفوذها (كدول حاجزة) إذا هاجمتها دول الغرب، ومع ذلك فهي لا تسمح لهذه الدول بالاحتفاظ بقوة كبيرة قد تستغلها بمساعدة، أو بدون مساعدة دول أجنبية في تهديد روسيا نفسها؛ ولا تحب روسيا أن تجد حكومة اتحادية قوية ملاصقة لحدودها الغربية كما أنها ستخاف أن يكون في اتحاد الدول الإسلامية إغراء للجمهوريات التركمانية التابعة للاتحاد السوفيتي على الانضمام إلى هذا الاتحاد، ومما يذكر أن روسيا تعتمد على هذه الجمهوريات.
ومع هذا فإن إقامة هذه الحكومة الاتحادية قد تدفع بروسيا إلى القول بأن الوقت قد حان كي تسلم بريطانيا قناة السويس إلى مصر (التي ستكون قادرة على حراستها) بمقتضى الاتفاقية المبرمة بينهما، وسيكون هدف روسيا مقصوراً على إخراج قناة السويس من القبضة البريطاني؛ وهكذا يضعف النفوذ البريطاني في شرق البحر الأبيض المتوسط. ولا شك أن هذا سيكون في صالح روسيا.
وإذا اقتنعت روسيا بذلك فلن تكون قد أوغلت في الخطأ؛ لأن إقامة حكومة اتحادية إسلامية قوية ستمكن مصر من حراسة قناة السويس.
وهذا ما سيجعل بريطانيا تعارض في إقامة هذا الاتحاد؛ لأن طرقها الجوية والبحرية والبرية إلى بلدان الإمبراطورية في الشرق تمر بالدول الإسلامية، ولن تحب بريطانيا أبداً أن تتحد هذه الدول وتحتفظ بقوة تهدد طرق الإمبراطورية، ولهذا السبب لم تف بالوعد(705/87)
الذي بذلته في الحرب العالمية الأولى، بإقامة حكومة عربية، وعمدت إلى تمزيق الشرق إلى دول صغيرة.
أما اليوم فإن الخطر الروسي قد يلزم بريطانيا الاحتفاظ بعلاقات ودية مع الدول الإسلامية لأنها ترى في ذلك سلامة طرقها الجوية والبحرية وسلامة إمبراطوريتها الهندية، ومع ذلك فان بريطانيا لن تسمح للدول الإسلامية في يوم من الأيام، بإقامة حكومة اتحادية تضم شملهم لأن ذلك يضرها أكثر مما يضر أي دولة أخرى
ومن الطبيعي أن واجبنا نحن هو أن نسعى إلى ما فيه مصلحتنا، ولهذا يجب أن نندمج جميعاً في الحكومة الاتحادية للدول الإسلامية.
وفيما يلي بيان المبادئ الرئيسية التي أقترحها لتشكيل الحكومة الاتحادية التي تضم جميع الدول الإسلامية:
1 - تعلن جميع الحكومات الإسلامية القائمة، أنها حكومات إقليمية محلية تابعة للاتحاد الإسلامي الدولي.
2 - تسلم أعمال وزارات الخارجية والحربية والمواصلات إلى مجلس شورى مشترك من جميع البلاد الإسلامية.
3 - على مجلس الشورى هذا أن ينتخب الرئيس.
4 - على الرئيس أن يعين وزيراً مسئولاً لكل من الوزارات الثلاث التي سبق ذكرها.
5 - تقسم هذه الوزارات الثلاث إلى تسعة فروع بالصور الآتية:
(أ) وزارة الخارجية. 1 - الشؤون الخارجية. 2 - الوحدة بين المسلمين
(ب) وزارة الحربية. 3 - قوات برية. 4 - قوات جوية. 5 - قوات بحرية. 6 - دفاع
(ج) وزارة المواصلات. 7 - المواصلات والنقل الجوي والبحري. 8 - المواصلات والنقل بالطرق والسكك الحديدية. 9 - المواصلات والنقل بطرق البريد.
6 - يعهد بكل فرع إلى مندوب عن جميع الولايات (دول في الوقت الحاضر).
7 - تمثل كل ولاية (دولة الآن) بصورة متساوية مع باقي الولايات في مجلس الشورى.
8 - يختار كل حزب سياسي من كل ولاية (دولة الآن مندوبيه بنفس النسبة التي يتمتع بها هذا الحزب في برلمان ولايته).(705/88)
9 - تجري الانتخابات مرة كل ثلاث سنوات.
10 - لن يكون للحكومة المركزية الحق في التدخل في منطقة نفوذ حكومة الولايات (دولة الآن).
11 - لن تستعمل الحكومة المركزية أي قوة، في صالح، أو ضد أي ملك مسلم.
12 - لا يعلن رئيس الحكومة المركزية الحرب أو الصلح ضد أو مع أي دولة غير إسلامية مستعملاً سلطته الخاصة، فإن هذه مسألة تتقرر بأغلبية الأصوات في جلسة مشتركة بين مجلس الشورى، ووزراء الحكومة المركزية، ورؤساء وزارات الولايات الإسلامية (الدول الآن).
13 - الحكومة المركزية هي الحكم في أي خلاف ينشب بين الولايات الإسلامية.
14 - تتطوع كل ولاية بنصيبها من الأيدي العاملة بنسبة تعداد سكانها وعليها أن، تتحمل جميع الالتزامات المادية التي يتطلبها جيشها.
15 - تتحمل الولايات مرتبات الوزراء الذين يمثلونها في الحكومة المركزية.
16 - تشكل لجنة استشارية للشؤون الخارجية من وزراء خارجية جميع الولايات، وتكون مهمتها مساعدة وزير خارجية الحكومة المركزية.
17 - تتحمل كل ولاية مرتبات عضوها في اللجنة الاستشارية للشؤون الخارجية.
18 - تشكل لجنة استشارية للشؤون الحربية من وزراء حربية جميع الولايات، وتكون مهمتها مساعدة وزير خارجية الحكومة المركزية.
19 - تتحمل كل ولاية مرتبات عضوها في اللجنة الاستشارية للشؤون الحربية.
20 - تغطى باقي أبواب الميزانية من إيراد السكك الحديدية، والبريد والضرائب الأخرى.
21 - جميع الاتفاقيات التي تعقدها الولايات الأعضاء مع دول غير إسلامية تؤيد ويتمسك بها ما دامت لا تقف في طريق تقدم دولة واستقلالها.
محمد أكرم العماني(705/89)
العدد 706 - بتاريخ: 13 - 01 - 1947(/)
إلى اخْوتنا في أعالي الوادي
يا أشقاءنا الأعزة في أعالي الوادي! ما بال نفرٍ منكم يريدون أن يقطعوا ما أمر الله به أن يُوصَل؟ نحن وأنتم شعب واحد ما في ذلك غلو ولا تجوٌّز. خلقنا الله جميعا من هدا النهر المبارك: من صلصال أرضه ومن سلسال مائه؛ ثم سوَّانا على صور تتشابه في الطباع والملامح، حتى في اللون، فلا يكاد يختلف إلا في الريف لكثرة ما تقلب عليه من أمم الأرض؛ ثم أورثنا هذا الفردوس الأرضي، وارتضى لنا الإسلام دينا والعربية لغة، فكيف يصح في الدين أو في العقل أو في الطبيعة أن يساعد هذا النفر هذه الحية الحمراء على أن تغويكم بالوقعية، وتغريكم بالقطيعة، وتمنيكم شجرة الخلد وملك الأبد؟
إن حية الإنجليز ليست من طينة السودان ومصر، كما أن حية إبليس لم تكن من طينة حواء وآدم. إنما هي واغلة متطفلة، غايتها الاستئثار بجنات الدنيا، ووسيلتها الاستعانة بالحُوَّ الغريرات من صاحبات الهوى وطالبات اللذة. فإذا أصغيتم إلى وسوسة الفجَرة، وأكلتم من ثمار هذه الشجرة، هبطنا جميعا من الجنة بعضنا لبعض عدو، وتنفرد الحية بأعلى الفردوس لتقبض به على أسفله، ثم تأمر المستر رضوان أن يفتح أبوابه الثمانية لعلوج السكسون، وشذاّذ اليهود، ومفاليك الروم، وصعاليك الأرمن، ليجعلوا لها من ثرى الوادي ومجاريه وصحاريه ما لا عين رأت ولا أذن وعت.
لقد خدعت الحية هذا النفر بحق تقرير المصير! ومن قبل زعم إبليس
أنه يقرر مصير آدم إلى عيش لا يفنى ومُلك لا يبلى، فأصاره إلى هذا
الكوكب الشقي المظلم الذي لإبقاء فيه ولا دوام له! وهل معنى تقرير
المصير لكم إلا أن تكونوا لجنوب أفريقية وجورج السادس، بعد أن
كنتم لشمال القارة وفاروق الأول؟ إن مصيرنا ومصيركم قرره رب
السماوات والأرض، منذ أجرى الحياة في هذه الصخور الموات، وجعل
بين عُدْوتَي هذا الوادي المقدس وحدة بشرية متماسكة لا ترى مجالها
الحيوي إلا على ضفافه، ولا تجد قوتها الضروري إلا في شواطئه
وأريافه.(706/1)
إن أولى الناس بحق تقرير المصير أمم الدومنيون، فإن ما بينها من بعُد الشقة وعوامل الفرقة وكمال الانفصال يجعل علاقة بعضها ببعض علاقة (أسطولية) لا يجددها مدد من الطبيعة، ولا يؤيدها سند من الحق. وإن أعجب ما في منطق القوم أن التاج الذي يجمع بين أوتاوا وكَمبِرَّا، وبين لندن والكاب، وكل مدينة منها في جهة من جهات الدنيا الأربع، ينكر على تاج مثله أن يجمع بين القاهرة والخرطوم وهما بلدان صنوان عربيان يقعان في قطر واحد، ويُسقيان بماء واحد؟!
يا إخواننا في أعالي الوادي! إذا كان رضاع الثدي يؤاخي بين الجيران، ورضاع الكأس يؤاخي بين الندمان، فكيف لا يؤاخي رضاع النيل بين مصر والسودان؟ ليس فينا ولا فيكم من لم يجر في دمائه والحمد لله رحيق أُوغندَه، ولكن فيكم نفراً يجري في عروقهم والعياذ بالله وِسْكى اسكتلندَه!
احمد حسن الزيات(706/2)
الأمير شكيب أرسلان وحركة الإصلاح
للأستاذ رفائيل بطي
فقد العرب والمسلمون في هذه الأيام شخصية متوهجة جبارة من الشخصيات التي عرفها عصر النهضة الحديثة عند العرب، فقامت بنصيبها من العمل الكبير في نواحي التحرير السياسي، أو إيقاظ الرقود، وبعث الهمم في النفوس، أو إبراز عبقرية هذه الأمة في العلوم والآداب والفنون، بحيث انبثق من هذه المساعي. المشتركة والمتواصلة فحر الانبعاث الذي ينير لنا طريق المستقبل للناطقين بالضاد.
ومما يؤسف له أن هذا الطراز من رجال العلم والعمل قد قل في العهد الأخير فصرنا كلما فقدنا واحداً منهم لا نجد من يشغل مكانه أو يسد الفراغ الذي أحدثه فقدانه. ولاسيما هؤلاء النوابغ الذين دفعتهم علو همتهم وأسعفتهم مواهبهم فجمعوا إلى التبحر في اللغة والتمكن من أسرار البيان فحولة في النظم والنثر، ومعرفة واسعة بما يتصل بقومهم وعشائرهم ودينهم من تاريخ، وخبرة بشؤونهم العامة في السياسة والاجتماع والاقتصاد، يتوج كل هذه القابليات حماسة في الكتابة والتأليف، حبا بأن يشارك القراء الكاتب أو الباحث في صنوف المعارف التي تفيض بها صدورهم. ولعل فقيد العروبة والإسلام الأمير شكيب أرسلان خير مثال لهذه الطبقة من أعلام اليقظة.
تعددت مجالي النشاط الذي أخذ به أمير البيان لتنوير الأذهان، وبعث الأمجاد الخالية، وتوجيه الأفكار نحو طرق النهوض والإصلاح، فقد عنى في أول نشأته باللغة والأدب فنشر (الدرة التيمية) لابن المقفع من أول عهد شدا فيه الأدب قبل نحو خمسين سنة. ثم عالج الشعر فنظم في أبوابه المنوعة وجرت له مساجلات ومراجعات في القصيد مع بعض شعراء جيله، منهم محمود سامي باشا البارودي، الذي انعقد له لواء الزعامة في تجديد ديباجة الشعر العربي البليغ بعد أن أخلقت وعفى عليها الزمن بالركاكة والغثاثة. ومع أن الأمير لم يتفرغ للنظم لتوزع قريحته في أمور ومسائل متعددة بحيث كان مصليا في حلبة الشعر، فإن ما خلفه من القصائد الحسان يعبر عن سليقة خصبة، وطبع سليم مؤات لجيد المنظوم.
واستحكام أواصر المودة بين أمير البيان وأمير الشعراء، مما سجله قلم الكاتب العظيم في(706/3)
كتابه: (شوقي أو صداقة أربعين عاما) يدل على تجاوب روحي بين هذين العلمين النيرين.
ولما اشتد ساعد شكيب ونضج فكره، دفعه حب الاستطلاع وروح الغيرة المتقد في ذهنه، إلى الاتصال بالصفوة المختارة من رواد النهضة والإصلاح، ولاسيما السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ طاهر الجزائري، فاقتبس من أنوارهم، وثقف من مبتكراتهم، وتطلع إلى سعة آفاقهم، ما أنشأه هذه النشأة الحافلة فظل حياته مهموما بدراسة علل تأخر العرب والمسلمين، وسر تقدمهم في العُصر الخوالي، ووسائل إنهاضهم من كبوتهم. وكم جرى قلمه بمقالات وبحوث، ووعت تواليفه من آراء وخطط تجري في هذه المسالك الرشيدة، والمتابع لسيرة الرجل يجد أنه لم يقصر همه على الكتابة والتأليف في السعي مع الساعين لخلق النهضة الجديدة، إنما خاض غمار مداولات مع رجال الدول والممالك، واتصل بهيئات وجماعات مختلفة الأجناس والمنازع جرياً وراء هذا الهدف القومي السامي.
وقد كان الأمير حريصاً على المكاتبة طويل النفس في المراسلة يمده روحه الحائر العالق بأهداب المجد، بالجلد والمواظبة على هذا الجهد، فلا يقف عند الكتابة، والتصنيف في الموضوعات التي يهواها.
وأمر واحد لم يشتهر به شكيب أرسلان هو الخطابة، فلم يؤثر عنه مواقف خطابية ذات خطر، والعل لانقضاء أمد طويل عليه يطوف في البلدان، ويتنقل في المهاجر، حاملا رسالة البعث العربي الإسلامي وفي قلبه إيمان راسخ، وفي يده قلم عسال، مما احتسبهما لخدمة بني أمه خدمة نصوحاً، جعله أن يبقى بعيداً عن المنابر.
والميزة التي اشتهر بها الفقيد الجليل وستخلد آثاره على وجه الزمن هذه الإحاطة المدهشة بأحوال العرب وشؤون المسلمين تحت كل كوكب، ومن شواهد هذه الخصيصة تعليقاته على كتاب: (حاضر العالم الإسلامي) لستودارد الأمريكي، فإن حواشيه وشروحه والفوائد التي علقها على متن مترجمة الأستاذ عجاج نويهض للكتاب تستوعب مجلدين كبيرين من كتب اليوم وفيها من صفة ديار العرب والمسلمين وأوضاع أهليها ما قلما تعثر عليه في مظنة أخرى. وفي هذا السفر صفحات لامعة كتبها علامتنا في الترجمة لجماعة من زعماء الشرق عرفهم وخبرهم بنفسه ما يكشف عن مغاليق حياتهم ويوجد مفتاح شخصيتهم، كما(706/4)
شحن الكتاب بذكريات له عن أطوار في سياسة الشرقيين، ووثبات التحرر والانعتاق في ربوعهم.
ومما ألح في هوايته في سنيه الأخيرة وقد ساقه إليه شغفه بحب قوميته وإعجابه بحضارة أمته في الأعوام المطوية (تاريخ الأندلس) بعد أن خلبت لبه آثارها الباقية في بلاد المجد المفقود عندما وقف على مشاهدها فانصرف إلى تأليف كتابه النفيس: (الحلل السندسية) الذي طبع منه بضعة أجزاء ولما يتمه.
وشاء أن يسجل رحلته إلى البلاد المقدسة في رسالة ممتعة هي (الارتسامات اللطاف). وحفزه وفاؤه لإخوانه وبره لأصدقائه إلى وضع كتاب: (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين عاما). تقف في تضاعيفه على مراحل فكرة الجامعة الإسلامية والثورة العربية، وكثير من مناورات دول أوربا وألاعيب الاستعمار في هذه لرقعة من الشرق.
إن مخلفات الأمير شكيب وتصانيفه الخالدة كثيرة، لا تستوعبها هذه الكلمة، فحسبي أنني أشرت إلى بعضها، وعندي أن من واجب أصحاب المروة، وأعوان الفضل، والمقدرين للرجال أن تتألف منهم جماعة (لتخليد ذكرى أمير البيان) وأول عمل تتوجه إليه، لإشادة بناء هذا التخليد البحث عن كتاباته ودراساته ورسائله التي لما تطبع، فتطبعها في كتب يتيسر اقتناؤها إحياء لذكراه، وإتماماً لرسالته وتعزيزاً للفكرة العليا التي اهتدى بها الراحل الهمام في جهاده.
ومن رسائله الطريفة التي تحمل فكرته الإصلاحية ما نشر بعنوان (لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟) وهي فصول كتبها المصلح الإسلامي جواباً على اقتراح من الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراجا جزيرة سمبس برنيو (جاوه)، بأن يكتب لمجلة (المنار) في أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وأسباب قوة الإفرنج واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة، فكتب شكيب رأيه، وطبع في كتاب مرتين بعد أن أذاعته المجلة الشهيرة.
يعتقد الامير الكاتب في بحثه التحليلي هذا أن عز المسلمين قام أول الأمر بالتمسك بأهداب الإسلام الصحيح، والاهتداء بهدي القرآن الكريم، فلما فقد العرب والمسلمون هذا الحماسة وانحرفوا عن التعاليم القوية ضعفوا وهانوا، فلم يبق لهم اليوم سخاء الإفرنج في(706/5)
المشروعات العامة، والمفاداة في الذود عن حياضهم ببذل الدم والمال، وإن من أول أسباب تقهقرهم في العصور المتأخرة فقدانهم كل ثقة بأنفسهم رغماً عن مقدرتهم على العمل، واستشهد على هذه القدرة على العمل بمشروعي إنشاء خط الحجاز الحديدي ونبوغ طلعت حرب باشا في تشييد بنك مصر والأخذ بمصانعه ومعامله الناجحة.
والسيد الارسلاني يؤمن بان العلم كفيل ببعث الامة، العلم القائم على ركنين: العلم الطبيعي وعلم الدين. ومحصل نظريته في نهضة الشرق العربي والأمم الإسلامية، أن الأمة لا يتم لها النهوض والغلبة إلا بالتضحية أو الجهاد بالمال والنفس، فإذا تعلمت هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف، وإن المضطلعين بالإصلاح غير محتاجين إلى أن يكونوا من كبار رجال العلوم والفنون بل يكفي إذا أوتوا العقل السليم والإرادة النافذة، والتوجه نحو الأعمال، لا الاكتفاء بالتمني والآمال.
وبين ثنايا الكتاب لشواهد وفرائد عن أحوال الناطقين بالضاد وأتباع محمد بالقياس إلى أمم أوربا الناهضة ما يقنع القارئ ويوري زناد الفكر عند من يطلع فيدرك فيتأثر.
وفق الله الامة، لتعمل بإرشاد رجالها المصلحين، فتفوز وتسعد.
رفائيل بطي(706/6)
يا ليل. . .!
للأستاذ الأسدي محمد خير الله
(بحث طريف قيم في أصل هذه الكلمة وتطورها، تفضل به
علي (الرسالة) الأستاذ الأسدي أديب حلب ونحويها، وهو
يزور مصر الآن في مهمة ثقافية، فعلى الرحب والسعة).
يا ليل! وكم أرسلت حناجر الشداة ترنم يا ليل! فهل للتحقيق اللغوي أن يتولاها بحفظ من الدراسة؟ سنحاول ذلك. سنبسط في البداءة مذاهب معاصرينا الدائرة حولها ثم نمضي في مناقشتها. حتى إذا دحضتها مقاييس التحقيق أفضى بنا البحث إلى الإدلاء بمذهبنا
المذهب الأول:
حدثنا ضيفنا الأستاذ رجب المصري أن صديقنا الأستاذ خليل مردم بك يذهب إلى أن أصلها (يا ليلي) بفتح اللام. من أعلام النساء، كان يتغنى به العرب. فلما طرقت ديار الفرس التبست عليهم صورتها. فصحفوها إلى (يا ليلي) بكسر اللام، وجرى الناس على غرارهم.
وإذا جارينا نحن هذا المذهب كان علينا أن نقول: إن (يا ليل) المرسلة المطلقة من الإضافة إلى ياء المتكلم إنما هي من مرخم ليلى، كما في قول الفرزدق:
متى ما بعت عانيك يا ليل تعلمي
المناقشة:
1 - يفضي هذا المذهب إلى أن العرب نادوا ليلى صحيحاً، ثم حرفه الفرس، ثم استعاده العرب منهم محرفاً، فهجروا لفظهم الصحيح، واستعملوا لفظ غيرهم المحرف، وهو ما يستبعد.
2 - إن الغناء ألصق بحاسة السمع منه بحاسة البصر. فالأذن وهي السبيل الأوحد لدرك النغم - ليس لها بعد أن تتلقف من اهتزازات الهواء (ليلي) أن تأذن للفم أن يعيدها مكسورة اللام استجابة لما قد تتوهمه العين.
3 - أقام الأصبهاني والنويري وغيرهما معارض واسعة الأبهاء لما يتغنى به الأقدمون، لم(706/7)
يسجل خلالها أن العرب تغنوا بليلى، ولو أن اسمها تداخل الشعر كثيراً، وبصورة أدق لم يكن (يا ليلي) لازمة غنائية،
4 - لم يقم بين يدي هذا المذهب حجة ما تدعمه، أو تحملنا - على الأقل - على الاستئناس به
5 - سألنا من عرفناه ممن يحسن الفارسية: هل هناك إثارة من يا ليلى في الغناء الفارسي؟ فنفى
المذهب الثاني:
جاء في مجلة المجمع الملكي، من مقالة لصديقنا الأستاذ عيسى اسكندر المعلوف: ومن القبطية. . . وقولهم في الغناء (يا ليلي) بمعنى يا طربي
المناقشة:
1 - انفردت العربية. دون أخواتها السامية باستعمال (يا للنداء)، فما ظنك في أن تشركها لغة حامية.
2 - في الهيرغليفية (ا) أو (ها) علامتان للمنادى، والقبطية جذرها الهيرغليفية إلا ما استمدته من اليونانية.
3 - ازدهرت القبطية في القرن الثالث للميلاد، وظلت هي اللغة الرسمية، حتى أبطلها الوليد بن عبد الملك، واستبدل بها العربية، ثم جاء الحاكم بأمر الله الفاطمي فأمر بإبطالها بالمرة، وعاقب من يتكلم بها، وفي خلال كل هذا العهد لم يسجل تاريخ الغناء ولا غيره (يا ليلي).
4 - تعد القبطية أقل الموارد التي رفدت العربية، فقصارى ما استمدته منها كلمات لا تعدو العقدين انفرد الأستاذ المعلوف بعد (يا ليلي) منها
5 - لعل ما أغرى الأستاذ بمذهبه هذا كون القبطية كالعربية من حيث أن المضاف يتقدم المضاف اليه - لا بعده - ثم من حيث أن ضمير المتكلم المتصل هو الياء.
المذهب الثالث:
هو مذهب الجمهور القائل: أن (يا ليل) إنما هو على حده؛ أعني أنه مناجاة لدنيا الظلام،(706/8)
لما أنه يسدل أستاره على المتحابين، فهو بهذا جدير أن يرعاه الشعر والغناء. كما في الخانة الثانية من توشيح أما ومن بالجمال أنعم:
يا ليل إن الحبيب وافى ... فشد يا ليل دهم خيلك
وانهض ورد الصباح عنا ... دخلت يا ليل تحت ذيلك
وكقول إبن خفاجة:
يا ليل وجد بنجد ... أما لطيفك مسرى؟
وقول سعيد بن حميد:
يا ليل بل يا أبد ... أنائم عنك غد؟
يا ليل لو تلقي الذي ... ألقى بها أو تجد
وعلى هذا المذهب جرى الأستاذ شلفون، مرددا قول شوقي في عبده الحمولي:
يسمع الليل منه في الفجر يا لي ... ل فيصغي مستمهلا في فراره
كما جرى عليه مؤتمر الموسيقى، قال: الغناء بكلمة يا ليل هو نداء الليل بألحان شجية مع مراعاة المقامات، وقد يكون هذا موزونا بميزان يسمى البمب أو الوحدة المتوسطة أو أوزان أخرى مثل السماعي الدارج والأقصاق والسماعي الثقيل.
المناقشة:
1 - لاشك أن النفس تأنس بمذهب الجمهور هذا، لما أن اللفظ جاء على حده فلا يحاد عنه إلا بدليل، لكن هذه الظاهرة ظاهرة اللفظ جاء على حده دحضها جمهرة من الألفاظ تولاها الباحثون، دون أن تغرهم هذه الظاهرة، وما عهد قراء مقالتنا: (حلب) ببعيد.
2 - إن الكثير بل الأكثر الأعم من الغناء، لا مساس له بالليل.
3 - قد تجيء (يا ليلي) مردفة بقولهم: يا عيني ويا سيدي الأمر الذي يرجح أنها نداء الإنسان.
4 - ليس في الأدب العربي كله قصيدة افتتحت بياليل وتداولتها الألسن مثل قصيدة (يا ليل الصب متى غده) ادعاها الكثير، وعارضها الأكثر، وحفظها على توالي العصور مئات الألوف من شداة الشعر، فما كان يقعد هؤلاء المعجبين بها المغالين بالإطراء عليها، أن يشيدوا بأنها طبعت الغناء بطابع مطلعها، لو كان ذلك صحيحا؟ إن شيئا من هذا لم يكن.(706/9)
المذهب الرابع:
يقول الصديق الطبيب فؤاد رجائي في رده على موجز مقالنا هذا وقد نشرناه في مجلة الضاد: س 15 عدد كانون 2 وشباط سنة 1945، كما نشر رده في المجلة نفسها عدد تموز وآب سنة 1945:
(ولا بد لي قبل تفنيد الشق الثاني من مذهبكم أن أذكر لكم مذهبا خامسا كنت قد قرأته منذ زمن بعيد، ونسيت أين قرأته، وهو يقول: (وكان في الأندلس واد يسمى وادي الليل، لأن أشجاره الملتفة كانت تحجب ضوء الشمس، فيخال الجالس في ظلها النهار ليلا، وكان مجمع السمار والأهلين. وحين انقرضت الدولة الأموية في الأندلس، وهجر البلاد أهلها بقيت ذكراه عالقة في الأذهان، فجعل المغنون يرددون اسمه تخليدا لذكراه).
ثم قال: (وسيكون دحض هذا المذهب حين نبرهن أن لفظ (يا ليلي) لم يظهر في عالم الغناء، إلا بعد انقراض الدولة الأندلسية بعصور عديدة، وليس من المعقول بعث هذا الذكرى بعد عصور عديدة قضتها في دياجير العدم).
المناقشة:
رأيت أن الصديق الأستاذ، أورد هذا المذهب على طريقة تسجيله صحيحا كان أو خطأ، ثم رأيت أنه دحضه، وله ملء الحق في دحضه لشيء مما علق عليه ولما نورده فيما يلي:
1 - ذهبنا نبحث في كتب الجغرافية القديمة عن وادي ليل فلم نجد له ذكرا؛ والأسفار التي روجعت هي المسالك والممالك لابن خرداذبة ط ليدن، أحسن التقاسيم للمقدسي ط ليدن، الأعلاق النفيسة لابن رسته ط ليدن، مسالك الممالك للاصطخري ط ليدن، المسالك والممالك لابن حوقل ط ليدن.
على أن معجم البلدان لياقوت يذكر في الواو: والوادي: بالأندلس من أعمال بطليوس.
2 - ذهبنا أيضا نبحث في تارخي الأندلس، فلم نعثر على ذكر له. وكانت مراجعنا: الصلة لابن بشكوال ط مجريط، تكملة الصلة لابن الأبار ط مجريط، بغية الملتمس للضبي ط مجريط، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي ط مجريط، المعجم في أصحاب القاضي الصدفي ط مجريط، المغرب في حلي المغرب ط ليدن، المغرب في ذكر بلاد أفريقية(706/10)
والمغرب للبكري ط الجزائر، نفح الطيب للمقري المط الأزهرية.
3 - ذاع استعمال يا ليل وما تفرع عنها في الموشحات الأندلسية - كما سيأتي -، فالقول بأنها استعملت بعد الجلاء تخليدا للذكرى لا يرد.
4 - تحقيقنا الآتي يثبت أنها من أصل (يا مواليا).
المذهب الخامس:
مذهب الصديق الطبيب فؤاد رجائي الرامي إلى أن في الفارسية ألفاظا تعبر عن شعور الوداد، وهي: جانم عمرم ميرم أفندم يا للا يا للن يا للان. وأن يا للا وما تفرع عنها هي مصدر يا ليل، نقلها زرياب إلى الأندلس، فيما نقل، أيام الحكم بن هشام، فتداخلت الموشحات لتتلاقى نقص الموازين الشعرية عن الموازين الموسيقية، وفي هذا إخضاع الشعر للموسيقا، بعد أن كانت الموسيقا هي الخاضعة للشعر.
استعملت هذه الألفاظ إذن لتملأ الفراغ الذي يقتضيه النغم فاملأت (جانم) فراغ تن تن، و (أفندم) فراغ تتن تن، ويا للا فراغ تن تتن وهكذا، لذا أسموها ترنم: (ترل).
ثم دخلتها يا المتكلم العربية، فكانت مع شيء من التحريف يا ليلي، حدث هذا في عهد الفاطميين، أو ملوك الطوائف بدليل أن الموشحات التي هي في حوزة الأستاذ الشيخ على الدرويش خالية من (يا ليلي) لكنها تظهر فجأة في موشح: (أحن شوقا)، وهو من تأليف عبد القادر المراغي وتلحينه، وكان نديم السلطان حسين بن الشيخ أويس التركستاني وتوفى سنة 818هـ كما يقول رؤوف بكتابك، فظهور هذه الياء حدث إذن بعد انقراض الدولة العربية في الأندلس.
ثم تقلص ظل عمرم ميرم أفندم يا للا، وحل محلها يا للي، ويا عيني ويا سيدي.
المناقشة:
1 - لم تتداخل ألفاظ الترنم الغناء الفارسي. فيصار إلى نقلها إلى الغناء العربي.
2 - كل ألفاظ الترنم ذات دلالة في الفارسية إلا يا للا وما تفرع عنها، فإن اللغة الفارسية خالية منها.
3 - لو حكمنا بزيادة (يا)، كان في الفارسية (لا لا) ومدلوها: العبد والمربى، وإنما كان من(706/11)
مدلولها المربى، لأنه يكون غالبا من العبيد - كما ينص أحمد عاصم - فنداء العبد والترنم بذكره ليس من موضوع الغناء.
4 - تند (لا لا) عن رفيقاتها المعبرة عن شعور الوداد.
5 - لم يسجل في ترجمة زرياب الحافلة أنه أدخل هذه الألفاظ إلى الغناء العربي.
6 - العرب أكثر الأمم عناية بلغتهم، فهل يعد السكوت عن تسجيل هذه الألفاظ إلى العربية مما يتناسب مع العناية؟
7 - لم يكن لألفاظ الترنم ظل في الغناء العربي فيتقلص اللهم إلا نحو (جانم) مما استمد حديثا من الأتراك.
هذا وإن كنا على غير ما يذهب إليه الأستاذ في صدد (يا ليل)، فإننا نسجل له على مقالنا هذا أنه خير من بحث في الموضوع، فكان رده على مقالنا هذا سببا في ازدياد أواصر الصداقة، ذلك لأن الهدف إنما هو العلم والعلم وحده.
(يتبع)
الأسدي محمد خير الله(706/12)
داود باشا ونهضة العراق الأدبية
في القرن التاسع عشر
للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى
تذهب طائفة كبيرة من الأدباء والكتاب إلى أن العراق لم يكن له نهضة أدبية علمية في القرن التاسع عشر كما كان في ديار مصر وسورية، وهذه فكرة خاطئة لأن تباشير تلك النهضة المباركة كانت بادية في حواضر العراق كبغداد والموصل والبصرة والحلة وكربلاء والنجف. غير أن الأدباء الذين دونوا كتباً ورسائل عن النهضة العربية في ذلك الزمن أغفلوا ذكر العراق وما كان عليه من النهوض في العلم والأدب والاجتماع. ومصداقاً لقولنا أن الأستاذ أنيس زكريا النصولي لما وضع كتابه (أسباب النهضة العربية) الذي نشره عام 1926 لم يشرك القطر العراقي في تأليفه بصحيفة واحدة.
إن ما يؤاخذ به واضع ذلك السفر أنه لم يكتب كلمة واحدة تشير إلى ما كان عليه العراق في أوائل القرن التاسع عشر من النهضة الأدبية والعمرانية مع أن عنوان الكتاب: (أسباب النهضة العربية)، وقد اقتصر المؤلف على ذكر أسباب النهضة في القطرين السوري والمصري.
لقد استاء فريق من أدباء العراق وامتعض بعضهم وعدوا ذلك الإهمال والسكوت التام إهانة كبيرة لإقليم عربي كانت تباشير تلك النهضة بادية في معظم حواضره ومدنه، وقد انتقد المؤلف الأستاذ سليم أفندي حسون محرر جريدة (العالم العربي) والأب أنستاس الكرملي في مجلته لغة العرب.
وفي نظري أن صاحب الكتاب المشار إليه لم يكتب صحيفة واحدة عن أسباب تلك النهضة في ديار العراق لسببين، إما لجهله ما كانت عليه بلادنا من النشور الأدبي والعلمي أو لتجاهله، فإن كان الأول فهو معذور، وإن كان الثاني فلا يعذر إذ قد سكت عمداً عن قطر عربي أنجب طائفة كبيرة من العلماء والأدباء والشعراء والمصلحين والمجددين.
وعلى ذلك رأيت أن الواجب يحتم على كعراقي يهمه سمعة بلاده أن أدون بضع مقالات تتناول تلك النهضة في فجرها، ولكن يليق بي قبل الخوض في هذا الموضوع أن أنشر ترجمة داود باشا والي بغداد في القرن المنصرم المعدود من أكبر أركان النهضة الحديثة(706/13)
في العراق.
ولد داود باشا عام 1774م في تفليس قاعدة ديار الكرج، وكان مملوكا نصرانياً اشتراه أحد النخاسين وجاء به إلى بغداد وعمره لم يتجاوز يومئذ الحادية عشرة ليهديه إلى أحد أمرائها، فاشتراه منه مصطفى بك الربيعي وباعه لسليمان باشا الكبير والي الزوراء منذ سنة 1193 - 1217هـ، 1779 - 1802م، وقد ظهرت على محياه مخايل الذكاء وشمائل الفطنة، فلقنه العلم والأدب وأصول الديانة الإسلامية واعتنى بأمره أشد الاعتناء، فشب داود محباً للعلوم والمعارف مغرماً بالفقه والشريعة شهماً فاضلا صادق اللهجة والعمل. وصفوة القول بذل سيده غاية جهده في تثقيفه وتهذيبه، ليكون له في شيخوخته ركناً مكيناً ومعواناً صادقاً إذا تفاقمت عليه الخطوب والرزايا، وقد تمتع في حياته بغرس يمينه إذ رآه نابغة عصره فكان كاتباً تحريراً، وسياسياً محنكاً، وقائداً مدرباً، وبطلاً مغواراً، ذا مقدرة عظيمة في فك المعضلات وحل المشاكل العويصة وأفاد الزوراء فوائد جمة حينما تولى إدارتها كما ستراه فيما يلي:
بعد أن تضلع داود من آداب اللغة العربية أخذ يتردد على أدبائها الكبار ويناظرهم في المسائل المبهمة، وكان أيضاً يناضل علماء الدين فيما وراء الطبيعة والقضاء والقدر والثواب والعقاب والخلود والحشر ونحوها من المسائل التي أرتجت عليه أبوابها، وهكذا صرف شطراً من حياته، ملازماً للعلماء الأعلام منزوياً للمطالعة، وقد أيتح له أن يقرأ بعض المسائل الفقهية العويصة على يد السيد زين العابدين جمل الليل.
كان مجلس المترجم حافلا بوجوه الأدباء والشعراء ومشاهير الكتاب، فكان يطارح هذا ويناقش ذاك، وينظم القصائد ويذكي شعلة المنافسة والمباراة بين شعراء قطره، ويحث الأدباء على التأليف والتصنيف ويجزل العطاء لمن يفوق أخدانه حتى قيل إنه لم يقو على مفارقة الأصحاب ساعة واحدة. وكان يصحب معه فريقا من خواصه في رحلاته، يجلس وإياهم في وقت فراغه، ويتناول المباحث على أنواعها من سياسية وإدارية وأدبية، وقد اشتهر عند الخاص والعام بحب العلم والعلماء، حتى لقب بعالم الوزراء ووزير العلماء، وكانت ترد عليه القصائد الرنانة والرسائل البليغة في مدحه والثناء على أعماله المجيدة، وقد أناط بعهدة جماعة من أدباء بغداد أن يضعوا الكتب الأدبية والعلمية للقطر العراقي(706/14)
فامتثلوا أمره ومنهم من جمع ديوانه وقد فقد، وله غير آثار أدبية وكان عالماً شاعراً وإدارياً محنكا وقائداً مدرباً.
جلس داود باشا على منصة ولاية بغداد في 5 ربيع الآخر سنة 1232هـ - 22 شباط 1817م، فقرت به العيون، ووفد عليه العلماء والشعراء من كل فج عميق يهنئونه ببلوغ المراد، وما كاد يجلس على منصة الحكم حتى أجرى إصلاحات عديدة، منها إصلاح طريقة تعليم العربية. وقد رُوي أنه أراد أن يتقن العربية ويتفنن بأساليبها، ويقف على شواردها ونوادرها، فأحضر أحد لغوييها الفطاحل في عصره وطفق يتلقن عنه آدابها مدة. ففي أحد الأيام بينما كان أستاذه يقرأ عليه نبذة من علم النحو ويفسر له قواعده وشوارده بأمثلة قديمة مستطرفة سئم تلك الأمثلة البالية كضرب زيد عمراً وقتل خالد بكراً، وخطر له إذ ذاك أن يسأل شيخه على سبيل المداعبة عن الجناية التي جناها عمرو ليستحق أن يضربه زيد كل يوم، وينكل به هذا التنكيل الشديد مع أنه ربما لم يأت أمراً فرياً. وهل كان عمرو جباناً أو رجلا ساقط الهمة ذليل النفس إلى هذه الدرجة حتى أنه يغض الطرف عن الإهانة الملحقة به في كل لحظة، ويتجرع غصص الآلام المبرحة عن طيب خاطر، وهو ساكت لا يبدي أقل حراك.
أستغرب الأستاذ ذلك الكلام كل الاستغراب وعدّه من قبيل الأوهام، ولم يتمالك أن استلقي على قفاه من شدة الضحك، ثم قال لدولة الوالي ليس في الواقع يا مولاي ضارب ولا مضروب بل اعتاد النحاة من قديم الزمان أن يأتوا بأمثلة لتقريب القواعد النحوية والصرفية من أذهان طلاب العربية. فلم يرقه ذلك الجواب وعده أو هي من نسيج العنكبوت؛ فلما طلب منه المزيد استاء الشيخ من لجاجته في مسألة تافهة جداً فسكت ولم ينبس ببنث شفة، فاستشاط الوالي غضباً وأخذ يحرق الأرم وعد ذلك السكوت احتقاراً لشأنه وإهانة ليس وراءها إهانة، ثم قال للأستاذ بلهجة المتهكم والشرر يتطاير من عينيه: أيها الشيخ الوقور ما كان يدور في خلدي أن بضاعة علمك خفيفة هذا الخفة، وكنت أظنك أجل من أن تعجز عن الجواب في مثل هذه المسألة البسيطة التي ربما أجاب عنها أولاد المكاتب، ثم أمر الحاجب بأن يأتي بنفر من الشرطة، ويقاد إلى السجن ذليلا صاغراً ليلقي هناك جزاء جهله وغباوته. ثم استحضر نحوياً آخر وألقى عليه ذلك السؤال بعينه، فأجابه(706/15)
بنحو ما أجاب الأول، فغضب عليه وأمر بسجنه أيضاً. ومازال يأتي بالنحويين واحداً بعد واحد ويسجنه حتى أتى على أخرهم، فأقفرت المدارس والكتاتيب من النحويين، وضاقت بهم غرف السجون على رحبها، وأصبحت هذه القضية الشغل الشاغل له ولبطانته عن جميع شؤون الدولة ومصالحها. فلما ضاق ذرعاً ولم يدر ما يعمل فتق له عقله أخيراً أن يبث العيون في اقتفاء خطوات النحاة، ليعرض عليهم ذلك السؤال الذي أصبح لديه أعقد من ذنب الضب.
وبينما هو غائص ذات يوم في بحر تلك الأوهام إذ بلغه أنه في المدينة نحوي بارع طاعن في السن قد تنحى عن منصه التعليم منذ بضع سنوات وهو ملازم داره، فأمر في الحال بإحضاره، فلما مثل بين يديه أعاد عليه السؤال واستطلع رأيه فيه. فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وإمارات الفوز بادية على محياه الجليل وقال: إن الجناية التي أتاها عمرو يا مولاي لجسيمَة جداً، ولا أراني مبالغاً إذا قلت إنه يستحق أن ينال من القصاص أضعاف ما نال. فتنفس صاحب الترجمة الصعداء وذهبت عنه كربته، ثم سأله بلهجة المتلهف: وما هي تلك الجناية يا عماه؟ قال الشيخ بكل هدوء إن عمراً القليل الحياء هجم على اسم دولتكم بدون إذنكم واغتصب منه الواو، ولما كان ذلك منافياً لحكم العدالة رأى النحويون من باب اللياقة والإنصاف أن ينتقموا من عمرو لوقاحته انتقاماً شريفاً، فسلطوا عليه زيداً الصارم، وأمروه أن يذيقه جهاراً كل يوم في ردهات التدريس وغرف المكاتب من العذاب ألواناً، حتى كثيراً ما يغمى على ذلك المسكين من شدة السياط جزاء سلبه وسرقته، فأعجب صاحب الترجمة بذلك الجواب كل الإعجاب وأحله محلا رفيعاً بين أبناء الأعراب، وقال له إنك حقاً لنادرة الزمان وأديب العراق وخراسان والعالم الكبير المشار إليه بالبنان. فأسألك ألا تخرج من هنا ما لم تطلب مني ما تشاء فأمرك مطاع وطلبتك مقضية، فقال له الشيخ إذا كان لابد من طلبتي فأتوسل إليكم أن تطلقوا سبيل زملائي المسجونين الذين تركوا عيالهم ومن يلوذ بهم عالة على ذويهم، فامر في الحال بإطلاقهم وأعاد عليهم رواتبهم التي كانوا يتقاضونها في غرة كل شهر، غير أنه اشترط عليهم أن يصلحوا طريقة تعليمهم العربية وينهجوا منهجاً جديداً، ثم أنعم على ذلك الشيخ الرفيع المنزلة بالجوائز والصلات وقربه من مجلسه، وأمسى من تلك الساعة مرشده الوحيد في الملمات، وساعده الأيمن في حل المشاكل(706/16)
العويصة حتى وافاه الأجل المحتوم فعظم موته على صاحب الترجمة وحزن عليه حزناً شديداً، وقد شيع نعشه بنفسه مع حشمه وأعيان المدينة.
وقد أفاد داود باشا الزوراء فوائد كثيرة، فمن جملة هذه الفوائد تنظيمه الجيش على الطراز المشهور في عصهر وجلبه الصناع المهرة والأساتذة البارعين من ديار الإفرنج وسائر أقطار العالم المتمدين، وإقامته دار صناعة (ترسخانه)، أي معمل لصنع الأدوات الحربية والمدافع والقنابل والبنادق ونحوها من المهمات والذخائر العسكرية وتأسيسه المدارس، وإنشاؤه دوراً للعلم والأدب وتشييده المكاتب العامرة الحاوية من الكتب المخطوطة النفيسة وغيرها من المطبوعات، وإصداره جريدة باسم (جورنال العراق) وكانت تطبع بمطبعة حجرية، وتعميره الجوامع، وشقه الترع والأنهار. ومن بعض آثاره الباقية حتى الآن جامع الباب الشرقي المعروف اليوم بجامع السادة وجامع الثكنة في الرصافة، وهرى السيف الواقع في الجانب الغربي من بغداد (الكرخ) وقد أرخ بناءه الشيخ صالح التميمي بقوله:
أقسم بالله الذي زينت ... سماؤه بالخنَّس الكنس
أن الذي شيد هذا البنا ... ذو همة بالفلك الأطلس
داود ذا الأيدي ومن حلمه ... ما حل في شخص سوى هرمس
فقل لمن يرغب في مكسب ... من ناطق فيه ومن أخرس
أوف إذا كلت ومن بعد ذا ... أرخ وبالميزان لا تبخس
1240هـ
(يتبع)
رزوق عيسى(706/17)
الناحية العلمية من إعجاز القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
نعم! إن الله منزل القرآن ينبئنا في كتابه العزيز أن هناك أرضين أخرى مثل أرضنا. وفرق ما بين الأرض والكواكب الأخرى أن على الأرض حياة، وإلا فالأرض أيضاً كوكب سيار كغيره من السيارات.
وأول ما نجد آيات في سورة فصلت تتعلق بالموضوع: تلك الآيات هي:
(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً؟ ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام، سواءً للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً: قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها؛ وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا؛ ذلك تقدير العزيز العليم!)؟
هذه الآيات الكريمة الأربع فيها فنون من الإعجاز العلمي نكتفي منها بما يتصل مباشرة بالنقطة التي نحن بصدد بحثها. وأول ما نلاحظ من ذلك أن الآية الأولى نصٌّ في صحة ما استنبطنا من أن العالم في آية الفاتحة ليس هو مجرد عالم الإنس والجن، أو عالم الحيوان والنبات، ولكن هو العالم الفلكي الذي يتبادر إلى الذهن من اللفظ. ووجه كونه نصّاً في ذلك أن الآية والتي تليها تتناولان خلق الأرض على شطرين. ولما كان الشطر الثاني في الآية الثانية متعلقاً بتطورات خلق الأرض الضرورية للحياة فيها فإن شطر خلقها في الآية الأولى متعلق بتكوين أرضنا أول ما تكونت عند ميلادها، وتكون خاتمة تلك الآية (ذلك رب العالمين) متعلقة على الأخص بالمعنى الفلكي الذي هو موضوع الآية. ومن لطيف ما ينبغي الانتباه إليه كمثل للإشارات القرآنية العلمية أن يومي الخلق المذكورين في الآية الأولى داخلان طبعاً - في الأربعة الأيام المذكورة في الآية الثانية، إشارة إلى أن طوري الخلق متداخلان كما هما في الواقع. وهو مثل رائع للإعجاز في الإيجاز
فإذا انتقلنا إلى الآية الثالثة وجدناها تنبئنا أن السماء عندما تم خلق الأرض كانت دخانا، وأن السموات السبع لم يكنّ خلقن بعد، بل كن كلهن سماء واحدة بدليل قوله تعالى في الآية(706/18)
الرابعة: (فقضاهن سبع سموات في يومين). وإذن فقد كان هناك قبل خلق السموات السبع أرض واحدة تم خلقها، وسماء واحدة كانت دخانا. وهذا عجيب من أسرار خلق السموات والأرض لا يعرف العلم منها إلى أن السماء كانت يوماً ما دخانا. ولا تزال كتل هائلة مما سماه الله دخاناً يشاهدها الفلكيون بمراقبهم القوية اليوم في السماء وان تكتّل داخلُ أكثرها نجوما، ويسمونها سُدُماً، ما تكتل منها وما لم يتكتل. وهذا مثل عجيب من الإعجاز العلمي للقرآن: هذه الدخانية التي كانت عليها السماء.
وواضح أن تخلق السماء إذ ذاك سمواتٍ سبعاً المشار إليه في الآية الرابعة كان طاعة من السماء لنصيبها من الأمر: (ائتيا) إذن فما هو نصيب الأرض وقد قالتا (أتينا طائعِين)؟ هل الأرض في قوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً) هي نفس الأرض التي نحن عليها؟ إن الجواب المتبادر هو نعم. لكن القرائن تمنع من هذا المتبادر. وأول هذه القرائن وأهمها أن أرضنا هذه كان قد سبق تشكيلها، وتم خلقها وخلق جبالها وخلق الحياة على ظهرها قبل أن يصدر الأمر، بدليل (ثم) الترتيبية في أول الآية الثالثة، بعد تمام خبر خلق الأرض في الآيتين الأوليين. والأمر أمر واحد: (ائتيا)! فإذا كان أمرَ خلقٍ فيما يتعلق بالأرض المخاطبة. فهل يمكن أن تكون الأرض المخاطبة بذلك الأمر هي الأرض التي تم خلقها؟ أليست هذه قرينة قوية جداً على أن الأرض في الآية الثالثة غير الأرض في الآية الأولى، أي غير أرضنا هذه؟ بلى! وتكن أل للعهد في الآية الأولى، وللجنس في الثالثة. فهل هناك قرائن أخرى على هذا الاستنتاج تؤيده وتزكيه؟
إذا تذكرنا أن المقابلة تامة في اللغة بين كلمتي أرض وسماء، وكذلك هي تامة في الآيات الثلاث الأولى حين لم يكن إلا أرض واحدة وسماء واحدة، كان في ذلك إشارة مغنية إلى أن السبع السموات المذكورات في الآية الرابعة يقتضي وجودهن وجودَ سبع أرضين يقمن بازائهن: أرض تقابل كل سماء. ولما كانت إحداهن موجودة تامة الخلق بالفعل حين صدر الأمر، كان المخاطب المعني بالأمر في (ائتيا) هو الأرضين الست الأخرى المقابلة للسموات الست الجديدة: خلقهن - سبحانه - كلهن من السماء الدخانية الأولى. وتكون أل في لفظ الأرض في الآية الثالثة هي للجنس كما استنتجنا.
ويزداد هذا المعنى والتخريج تأييداً فوق تأييد، وتوضيحاً فوق توضيح، بالآية الأخيرة من(706/19)
سورة الطلاق (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلَهن، يتنزل الأمر بينهن، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.)
إن ال في الأرض هنا هي حتما للجنس لا للعهد، بدليل قوله تعالى (مثلهن). والسموات السبع متعددة، ليس في ذلك شك فلابد أن تكون الأرضون السبع متعددة أيضاً على نفس النحو والنمط لتتحقق المثْلية المنصوص عليها في الآية، لا أنهن سبع طبقات في أرضنا هذه كما فهم الناس ويفهمون. فأرضنا واحدة وليس يفهم العلم ولا الناس من لفظ الأرض إذا أطلق إلا أرضنا هذه جملة، بحذافيرها وطبقاتها كلها. فتفسير الأرضين السبع بطبقات سبع في هذه الأرض تفسير لا يتفق مع اللغة، ولا العلم، ولا القرآن، ولا مع الحديث الكريم (اللهم رب السموات السبع وما أظْلَلْن، وربَّ الأرضين السبع وما أقللن) لمن يدقق في تفهم الحديث وتوجيه على المعنى المألوف.
هذه النتيجة التي تتفق مع حرفية القرآن وحمله على الحقيقة اللغوية لا على المجاز تحل لنا وللإنسانية مشكلة السموات السبع حلا حاسما. فقد عجز الناس إلى الآن عن الوصول إلى فهمٍ للسموات السبع ليس عليه اعتراض. قالوا إنها السيارات السبعة فظهر من السيارات عشرة ليس من بينها القمر كما كان يقول اليونان. وقالوا إنها سبعة عوالم في السماء فكانوا كأن لم يقولوا شيئاً، إذ ليس هناك ما يحدد معنى عوالمهم هذه، والعوالم والأكوان أكثر من سبعة بكثير. لكن تعال الآن إلى المعنى القرآني المتبين آنفاً، وتذكر الارتباط والمقابلة بين أرض وسماء في اللغة لفظا ومعنى، وطبِّق ما تفهم من السماء بالنسبة لهذه الأرض على كل أرض من الأرضين الست الأخرى، يتحدد معنى السماء وعددُها بتحدد معنى الأرض وعددها؛ أو إذا جئت المسألة من الطرف الآخر، يتحدد معنى الأرض وعددها بتحدد معنى السماء وعددها. (الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلَهن)! سبع سموات وسبع أرضين، كل أرض تحدد سماءها! وأكبر الظن أن مرقب المائتي بوصة الجديد المنتظر إتمام صنعه قريبا سيكشف مع الزمن عن بعض هذه الارضين فتتجدد بذلك آيات أخرى من آيات إعجاز القرآن.
بقيت نقطة واحدة لعل من الخير استيفاءها. أخبرنا الحق سبحانه أن السموات السبع كن قبلُ سماء دخانية واحدة وهذه الأرض مخلوقة، فهل أخبرنا سبحانه في القرآن شيئاً عن هذه(706/20)
الأرض أين كانت قبل أن تخلق؟ نعم. في آية الأنبياء:
(أوَ لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رَتْقاً ففتقناهما؟)! وإذا تركنا المجاز ولزمنا الحقيقة اللغوية طبق قاعدتنا نتج حتما من هذه الآية الكريمة أن السموات والأرض كانتا شيئاً واحداً متصل الأجزاء. وهذه عجيبة كبرى من عجائب إعجاز القرآن العلمي يؤيد القرآن بها العلم الحديث في قوله بأن الكون كله شيئاً منبثاً واحداً قبل أن توجد فيه أرض أو نجم أو سديم.
وتأمل ان شئت واعجب ما شئت من إعجاز القرآن في التعبير عن هذا السر الحق الهائل في الآية الكريمة آية الأنبياء! تأمل كيف لم يسم ذلك الكون الرتق سماء إذ لم تكن أرض، وإذ كانت السموات والأرضين شيئاً واحداً منبثاً لعله كان دون الدخان
لكننا نكتفي الآن بهذا القدر من الأمثال التوضيحية لما أشرنا إليه في صدر هذا المقال.
إن فيها على الأقل ثلاث معجزات يقينية يستيقنها العلم الآن: تعدد العوامل فلكيا؛ ودخانية السماء في البدء؛ وانفصال الأرض عن السماء بعد أن كانت متصلة بها اتصالا في الأول.
وتبارك اله فاطر الفطرة ومنزل القرآن.
محمد أحمد الغمراوي(706/21)
إلى السماء. .!
للأستاذ محمد العلائي
لك الأمر لا يدري عبادك ما بيا ... لك الأمر لا للناصحين ولا لِيا
وهذي معاذيري وتلك صحائف ... عليها خطاياها. . . وفيها اعترافيا
وفيها من الأمس الدفين وحاضري ... وفيها من الآتي وفيها ابتهاليا
وفيها تهاويلٌ. . ومهجة شاعر ... ينام بها يأساً ويصحو أمانيا
وفيها أعاجيب يكفِّر همها. . ... ذنوبي وإن كانت جبالا رواسيا!!
ونازعني شوق إليك وهزَّني ... من الغيب ما يهفو إليه رجائيا
وجئت من الدنيا الأثيمة هارباً ... بصفويَ من أكدارها ونقائيا
وفي النفس ما أخشى ظلام ضبابه ... على نور إيماني ومسرى حيائيا
وذكرى من الماضي الشهيد وعالم ... ورائيَ منه خدعة وأماميا!
وناديت أحلامي إليك وخافقاً ... تهيَّب أسباب المنى والتماديا!!
أُناديك في ضعف. وأخجل أن ترى ... جراحَ أمانيه ولون دمائيا
لك الأمر. أشواقي ببابك والمنى ... ولي أمل ألا يطول انتظاريا!
دعوتك بالسرِّ المغيَّب في دمي ... وألهمني حبي وفاض عتابيا
ولاح نشيد جئت أشرع لحنه ... فهابتك أرضي واستحتك سمائيا
وهابتك نفس لم يدع لي شبابها ... من الروح ما يهدي إليك اشتياقيا
شباب أحس الدهر ثم حملتُه ... إليك شهيداً لا يحس بكائيا!!
وداريت إلا عنك سر مماته ... وموطن ذكراه ودمع رثائيا
بعدْلِكَ لا تمنح سواي مثيله! ... ولا تَرْوِ عني ما طواه اعتزازيا!!
وبارك شهيداً مات بالأمس ظامئاً ... وما زال مثواه أمامك صاديا!!
منحت جميل الصبر كل مُرزَّأ ... سواي فلم يلمس هُداك عزائيا
زهورٌ على قبر الشهيد عبيرُها ... أهاج ضميري واستعاد اللياليا
وأخرج أسراري وعاد بماضى ... وكشَّف ما بيني وبين زمانيا
لك الأمر. مالي أرتجيك فيلتوي ... لساني وأمضي بالتوسِّل شاكيا(706/22)
ذكرتك في نفس هَداها ضلالها ... إليك وعافت وحدتي وارتيابيا
ومنيت روحي من سناك بلمحة ... أضمِّد آلامي بها وجراحيا
وأرسلته فيما لديك لعله ... يعود بأسباب المحبة راضيا
وأنسى تكاليف الظلام وما اختفى ... وراء تَعِلاَّتي وخلفَ ابتساميا!!
وأشرعُ ألحان السماء فلم يَعدْ ... جميلا بسمع الدهر لحن شقائيا
تعاليت لم أذكر سواك بمحنتي ... ولم أرْجُ إلا من يديك جزائيا
وفوَّضتُ عن علم إليك إرادتي ... وحسبي ما أدَّى إليه اختياريا
ورائيَ آثام وخلفي خطيئة ... كفاك شعوري نحوها وكفانيا!!
تهافتُّ ظمآن الجوانح ساغباً ... وأيأسني مما سواك انتباهيا!
وأجْهدَني ما لا أُطيق بيانه ... فجئتك مشبوب الوسيلة عارياً!!
لك الأمر. شاقتني سماؤك وانتهي ... إليك بأحلام الضمير مطافيا
وأنزلتُ آمالي وفيها ملامح ... تردُّ أمامي ما تركت ورائيا!
يُطالعني منها زمان عرفتُه ... بريح لياليه ولون سهاديا!!
تُقلِّب ذكراه الدفين وماضياً ... تهرَّب منه في الشعاب خياليا!!
أطلَّت مآسيه ببابك فاسمعْ ... إليها حديثاً لم يسعه بيانيا
ضياؤك أغرى باليقين جوارحي ... وفجَّر أعماقي وأفضى بذاتيا
وألهمني حتى لخِلْت مشاعري ... أذابتْ كياني في سناك معانيا!
وأفردني حتى رأيتُ معالماً ... تلاشى زماني عندها ومكانيا!!
وأحسست أن الدهرَ لمحة خاطرٍ ... وأن امتدادَ الكون بعض امتداديا!!
وأن دويَّ الحادثات بمسمعي ... رواسب حلم زارني في مناميا!
وأوشكت أنسى غير أن هواجسا ... من الأرض نادتني ومست كيانيا
لك الأمر. أسبابي ضعافٌ وخاطري ... ببابك يخشى رجعتي وانحرافيا
دعوتك ملَْء النفس ألا تردَّه ... مغيظاً وألاّ تستعيد سؤاليا!!
ويشفع لي أني أتيتك عاتباً ... وأن لي العُبْتى وأجر انطوائيا!
وهذا رجائي في حماك وهبتُه ... لعدلك حتى تستجيب دعائيا!!(706/23)
وحاشاك أن أرضى مع النفس مذهباً ... بغير يقين منك يهدي شعاعيا!
كفاني أوهاماً فهب لي تميمة ... بها أتَّقي نفسي وشرَّ ذكائيا!!
وبارك فجاج الأرض إلا مواضعاً ... شربن دموعي أو شهدن عِثاريا
تناسيتها لولا حديث أهاجه ... تلفت أشواقي وخوف ارتداديا
وجدَّد لي همس الرحيل مكارها ... تولَّى شجاها والجراح كما هيا
وأيامي اللاتي ذهبن وعالماً ... دفنت به عهدَ الصِّبَى وشبابيا
وأودعته سرا حراما ولم أزَلْ ... أعود فأبكيه دموعاً غوالياً
لك الأمر. هذا من يديك عدالة ... وهذا قليل في مقام اتصاليا
أتيتك والحق الصريح يمدُّني ... إليك ولحن البشر ملءُ فؤاديا
وحولي من عرش الجمال ملائك ... ترف أزاهيراً وتسري أغانيا
وفي النفس فجر من يقين وموكب ... من الخير يحدوه إليك ولائيا
وفيها رجاءٌ فاض منك جلاله ... وآفاق نور يستحيها ضيائيا
وأحببت حتى أسكرتني مودَّتي ... وذاب يميني رحمة وشماليا!!
وهامت بآلام الحياة وسائلي ... وفاضت على ما ليس مني هِباتيا
وأرسلت أنسامي عبيراً وبهجة ... لتنفح أشواك الرُّبى والأفاعيا!!
وآمنت حتى كاد يذهب خاطري ... وتصعد أنفاسا إليك حياتيا!
ولم يبق حرف منك إلا أسرَّه ... ضميري وأبدَته إليك سماتيا!!
وزُرْتُك ألحاناً ورَجْعَ مواهب ... وأشهدت سمع الدهر فَيْضَ انسيابيا
لك الأمر آفاق تراءت لخاطري ... وعادوني منها دبيب شكاتيا!
وذكرني بشرُ السماء منازلا ... أتيتك منها عابس الوجه داميا
أُقلِّب أوهامي يميناً ويسرة ... وأرفع آمالا إليك روانيا!!
ينازعني ماض شرقت بعذبه ... وراودت فيه ما أشاب النواصيا
إذا طاف منه حول نفسي طائف ... ذكرت زماني والسنين الخواليا
هناك وفي أرض عليها ملاعبي ... وأطياف آبائي ولغْوُ دياريا
وفيها تَعِلاَّتي وراح مشاربي ... وزلات أهوائي ودمع متابيا(706/24)
وأحلامي الموتى وذات مواجعي ... وأطلال مأساتي ورجع بلائيا
على وطن أفنى شعوري هواجساً ... وألبسني ثوب الشبيبة باليا!!
ولم يرع لي حق الحياة بأرضه ... ولم يرع آلامي له ووفائيا!!
بعدلك لا تمنح مشارق نوره ... حياتي ولا تمنح ثراه رفانيا!!!
لك الأمر. ألهاني حديث أعاده ... عليك ضميري واستحاه لسانيا!!
وأسرفت في ذكر المساء ولم اكن ... لأسرف لولا رجفة من صباحيا
وعذْرِيَ أن الكأس فوق مواهبي ... وأن مقام الحب يشجي المآسيا!
وأن تباشير الصباح تنفست ... وفاح شذاها واستنار ضلاليا!
ولاحت على وجه السماء بشائر ... ولاحت أغاريدي ولاحت ظلاليا
وطاف ضيائي بالمواكب رحمة ... لمن ذاق أيامي وذاق عذابيا
أرد جراحاتي عليهم مسرة ... ونار جحيمي عزة وتساميا
وأنثر أشواكي عليها أزاهراً ... وألوان يأسي حكمة وأمانيا
وأمنح أرض الظامئين موارداً ... تفجر فيهم نشوتي وسلاميا
رجاءً وإيماناً وفيض محبة ... وتفتح للدنيا كنوز انفراديا!!
بعدلك مالي بعد ذلك غاية ... من العيش إلا أن تصون اتجاهيا
لك الأمر. نادت بالرحيل خواطري ... وهبت على نفسي رياح اغترابيا
وذكَّرتها أن الشعاب جديدة ... وأن عليها من سناك هواديا!
وأن شعابَ الأمس واجهتُ غَيْبها ... على غير إيمان فكانت مهاويا!!
هي الأرض تبلوني لتبلو خطبها ... على نور إدراكي وضوء نفاذيا!!
لك الأمر. زلات الشعور تردُّني ... إلى الظن والأيغال فيما أماميا!
ضميران. . هذا ملء نفسي غناؤه ... وذاك يداري ظنَّه في غنائيا!!
لك الأمر. مالي في وداعك باهتاً ... ومالي أخطو شاحب النفس نائيا
لك الأمر. ليست للجديد روائح ... وليس لهذا الدهر لون ولا ليا
لك الأمر. لاحت من بعيد مذاهبي ... وآذن حاديها وآن ارتحاليا!!
ورفت عليها من سناك مآثر ... ورفت عليها غايتي وصلاتيا(706/25)
تنسمت أمواج الرحيل وأشرقت ... عليّ أمانيه فبارك شراعيا!!
(الزقازيق - كفر الحمام)
محمد العلائي(706/26)
وجهة النظر الجديدة في الحياة
للكاتب الصيني الكبير واب يون شينغ
(حديث ألقاه في جمعية الثقافة المركزية بتشنغ كنغ)
بقلم الأستاذ نور ناهين
إني لم ألق محاضرة في مكان عام، في تشنغ كنغ، منذ بضع سنين لسببين: أولهما أنه لم يكن عندي كلام أحب أن أقوله فأحاضر فيه، لذلك أمسكت عن الكلام، لأستر فضيحتي عن أعين الناس. والآخر أنه لو كان عندي شيء من الرأي، لاستطعت أن أنشره في الجرائد والمجلات، وما كنت أود أن أحتل مكانا يحتاج إليه العلماء والأدباء للتعبير عن رأيهم. . . أما اليوم فقد اضطررت أن أقبل ذلك المركز حين دعتني لجنة الثقافة المركزية، وقد اخترت موضوع المحاضرة (وجهة النظر الجديدة في الحياة) لعلي أسترعي انتباه السامعين.
وأبدأكم بأن من الحق ألا أتهور في هذه المحاضرة، فإني لم أتعمق بحث الموضوع، وكل ما جمعت فيه ليس إلا رأيا لا يكاد يجتمع على نفسه ولا نظام له يمسكه؛ لكن يخيل إليّ أني مادمت بشراً يحيا بين أرجاء العالم، وما دام لي شيء بسيط من الفكر، فمن حقي أن يكون لي وجهة نظر في الحياة فيما عدا الضروريات من أكل ونوم وعمل، سواء أكان وجه النظر في الحياة لا تزال تتغير دائما بتغير الأوقات من حيث التقدم والتأخر. إذ من المستحيل أن تظل واحدة مدة الحياة، لذلك طالما تغيرت وجهة نظري في الحياة وتطورت، وأنا أرجو دائما أن يكون تطورها علامة التقدم.
وقع الشك في قلبي من مسألتين، حين قارنت نظم المجتمع ومستقبل الوطن بما أعرف من خلقي الشخصي ومعاملتي للناس.
الأولى أنه قد مضى علينا آلاف ومئات السنين ونحن نبحث عن العفة والفضيلة والخلق الحسن، وندرس عوائد الإنسانية والرأفة والرحمة، منذ عهد كونفشيوس؛ ولكننا مع ما بذلنا من جهد في البحث والدرس، فقد بعدت سيرة الأمة عن القصد كل البعد، حتى خرجنا عن كوننا أصحاب عفة وفضيلة ورحمة. إذن لاشك في أنه لا يكفينا بحث الخلق الحسن(706/27)
ودراسة الفضيلة فقط في هذا العصر.
والأخرى أننا تعودنا كلما تحدثنا في تاريخ الشعوب أن نقول إن لنا تاريخاً مجيداً وحضارة تليدة منذ خمسة آلاف سنة. نعم، ولاشك في أن لنا تاريخا حافلا طويلا وحضارة مجيدة، وهو تاريخنا وحضارتنا حقا. ولكن لماذا تأخرنا الآن؟ لاشك أنه لا ينفعنا مجد أجدادنا منفردا.
بسبب هاتين المسألتين وشكي فيهما، تذكرت ما قال الفيلسوف (نيتشة). (من الضروري تقدير قيمة كل شيء من جديد).
لقد أفزعتني مصيبة الوطن وأزمة الأمة التي أصابتنا منذ حادث 18 سبتمبر جد الافزاع، وحملتني على أن أفكر فيما يستحق التهذيب من خلقي حسب قواعد المروءة خاصة، ثم فيما يجب عليّ لخدمة الوطن حسب القوانين عامة. وأخيراً رأيت أن أعرض على الناس اقتراحي فيما أسميه (خطوات المرء الثلاث)، وهو يشير بأن لا نعمل شيئاً، إلا (أ) لفائدتنا بدون خسارة الناس، و (ب) لفائدتنا وفائدة الناس، و (ج) لفائدة الناس وإن لم نستفد.
نعم، إن الإنسان كان حيوانا أنانيا، إذ كان يفتح فمه لشرب اللبن منذ أن ولد، ثم يخاصم أمه على شيء من الأكل والشرب في عهد الطفولة. ولكن مهما يكن الأمر، فالواجب على من بلغ سن الرشد الذي هو وقت حاجة المجتمع إلى عناية الفرد أن لا يعمل شيئا إلا حيث يستفيد بدون أن يضر الناس ثم إن استفاد وأفاد فذلك خير، أما إن أمكنه أن يضحي بنفسه وفائدتها في سبيل فائدة المجتمع فذلك ممن بلغوا الذروة في الفضل والتضحية.
إنا إذا ترسمنا خطوات هذا الطريق في سبيل مصلحة الوطن والعالم، ضمنا ألا يعمل إنسان إلا لفائدته بدون ضرر الوطن والعالم، أو لفائدته وفائدة الوطن والدنيا جميعا، أو يضحي بنفسه في سبيل الوطن والعالم، وذلك منتهى الإيثار.
على أساس هذه القاعدة، كنت ألقيت خطابا في جامعة (تسين هوا) بمدينة بنغ بين، ثم كتبت ست مقالات تحت عنوان (إلى شبان الشمال) حين وصلت إلى شنغ هاي، بنيتها على هذه الأساس أيضا. أما من ناحيتي، فكنت ولا أزال أتمسك بهذه المبادئ، لتهذيب خلقي الشخصي خاصة ولأحسن معاملتي مع الناس عامة.
وفي الربيع الماضي الذي كان آخر مرحلة من مراحل حرب الدفاع المقدس، حين بدا لنا(706/28)
بارق النصر، استأنفت الجهاد في إيقاظ أبناء وطني، ليعملوا جهدهم في إشعال الروح القومية ونبذ الكراهية والتلاوم والمحاباة. وذلك لما لاحظت في قلوب الناس من دلائل الأغلال واليأس من الحياة، قاصداً بذلك الإيقاظ انتشال الناس من المنحدر الذي كادوا ينحدرون إليه، ودفعهم إلى تيار جديد عاصف. ولكنني الآن قد شعرت إزاء أمنيتي تلك أن كل ما عنيت ليس كافيا.
ولماذا شعرت بعدم كفايته؟ ذلك لأن كل ما بقى فيما أشرت إليه من المسألتين المذكورتين لابد أن يعاد تقدير قيمته ثانية.
إني متأكد كل التأكيد أننا لا نقدر أن نتفوق على الهنود في بحث علوم الفلسفة. ذلك لأن فلاسفة الهنود قد بلغوا ببحوثهم أبعد حدود الخيال الجميل، حتى كأنهم كشفوا مرج عبقر حيث يسكن الجن، وكل هذا بدأبهم على البحث ومزاولة الزهد والطمع في نعيم الجنة، حتى أنكروا الحياة وعدوها من البلايا والمصائب، ولكنهم أصبحوا من أضعف الأمم في العالم ولا يزال وطنهم مستعمرا.
وإني لأعتقد كل الاعتقاد، وقد زعمنا أن لنا تاريخا في الحضارة منذ خمسة آلاف عام، أننا لن نقدر أن نتفوق على المصريين من حيث ذلك التاريخ، لأن أسلافهم قد بنوا الهرم الأقدم قبل خمسة آلاف عام، وألفوا التقويم السنوي لمعرفة أيام السنة، قبل ستة آلاف سنة، وكل هذا ظاهر بين، فمن الحقيقة أن المصريين كانوا من الذين بنوا الحضارة، ولكنهم الآن لا يزالون من أضعف الأمم، ولابد أن يبذلوا أقصى جهدهم للنهضة على الرغم من أن بريطانيا سمحت بالاستقلال.
أما علوم الأخلاق وفلسفة الحياة، فقد كان أهل الصين فيها مسهرة متفوقين على غيرهم، ولكن شعب الصين ما يزال الآن متأخراً أيضا.
وكم شعرت دائما حين بدت لي علائم الضعف، بأن ثمة شيئا من الخلل يعبث بحضارتنا، ولابد أن نبحث عن منشئه الأصلي خلف دائرة البهرج الظاهر في حضارتنا.
بحث صديقي (لين تاو تزي) فلسفة نيتشة ونقدها، ثم بين بحثه في مقاله (نظري إلى نيتشة)، ولخص مذهب الفيلسوف في كلمتين، وهما: (إن الابتكار يكتشف ليعطي للناس، ولكن ذلك الإعطاء ليس شفقة بهم). أي أن القصد من الاختراع هو انتفاع العالم، ولم يكن(706/29)
المخترع رحيما بالعالم فاخترع، إنه يجهد فكره ليستفيد ويتمتع، ثم حين يكتفي بالمتعة، يعرضه على الناس، إنما كان يخترع لنفسه، وما كان يفعل كما فعل (يسوع وبوذا) رحمة للناس وإشفاقا عليهم.
إن النشاط لب الحضارة وروحها حقا، إذ أنه لا تبقى حضارة إلا بالاختراع، ولا يعيش ابن آدم ولا ينمو إلا والاختراع يقدمه من جهاته جميعا.
ومن يوم أن عرفت (أن الابتكار لنفع الناس، ولكن انتفاع الناس ليس ناتجاً عن رحمة المخترع بهم)، اتسع نطاق فكري أو امتدت مسافته، فتمكنت من معرفة بعض أساليب الحياة. خذوا منها مثلا، فالشمس لو أضاءت ونشرت أشعتها وحرارتها، فسرت الحياة في الكائنات ونما النبات وشب الحيوان، ثم توجهنا إلى الشمس وسألناها: (أيتها الشمس! هل أنت أشرقت ونشرت الحرارة من أجل الدنيا وما فيها؟) فقد تجيبنا الشمس مرتبكة حائرة: (لا أدري، لا أدري!) وإذا نحن كررنا السؤال وأبينا إلا أن نعرف السبب في ضيائها، فربما أجابتنا مضطرة (إني أنشر الحرارة لأني أريد الحرارة ولابد لي منها!) تلك إحدى نظريات الحياة وأساليبها عرضتها عليكم أيها الكرام، وهي قانون من قوانين الحياة التي تندفع إلى الأمام بدون تردد، لذلك أعتقد أن الاختراع سيستمر كما فهمت من نظرية الشمس والحياة. وهذه النظرية وإن كانت من أنواع الفلسفة، إلا أنها ليست مما يتفق مع مذهب (نيتشة) بل من فلسفة أعلى من فلسفة نيتشة.
لست أريد الغموض والخفاء بالبحث في الفلسفة والنطق بها في حديثي عن نظرية الشمس، كلا، فانه لا غموض في الأمر ولا خفاء؛ لأن ما قصدت من ذلك هو أن تكون وجهة نظرنا في الحياة متجاوزة نطاق المتاع الشخصي إلى قوانين السماء، المراد بالسماء ما وراء الطبيعة، بل حقيقة الطبيعة، وبكلام أكثر صراحة ينبغي أن تكون وجهة نظرنا في الحياة متعدية تلك الحدود التي يعامل بها بعض الناس بعضا، مسيطرة على الطبائع والكفايات، مستعملة إياها في الابتكار للحياة، وهي مادامت قد استخدمتها على ذلك الأساس فهي عين الفضيلة ولب السعادة للإنسان، وليست تلك الأمور في حاجة إلى مراعاة وغاية، بل هي داخلة في نطاق منافع الحياة عن طريق الابتكار.
إن شدة العناية بالمتاع الشخصي والتجاوز عن مسايرة قانون الطبيعة هو الذي كلف(706/30)
حضارة الصين الخسارة والضرر. ولاشك أن أكثر العلوم العالية الصينية، كان من فلسفة الحياة وأكثر علمائنا قد بحث علاقات الناس ببعض بحثاً عميقاً ظاهر العمق. خذ مثلا: ما يقال من أن كونفشيوس تشرف بزيارة الكاهن (لووتز) طالباً أدباً؛ وكان كونفشيوس لايزال شابا ناضج العقل ذا عزم وطموح، فقال له (لووتز) بوقار الكهنة: (أترك ما في نفسك من العناد والكبر، ثم امح من نفسك ذلك الشره الذي غلب عليك.) يعني ألا تكون مضطرم الفكر متبرم القسمات؛ وألا تبقى في قلبك شيئا من حب الشهرة والطموح. ثم قال: (إن التاجر الغني هو الذي يخزن سلعه في أعماق متجره، حتى كأن دكانه خال من البضائع؛ وإن الإنسان الكامل من يكون في عنقه الموفورة كالأحمق).
فأولى هاتين الكلمتين تعلم الإنسان أن يكون تاجراً خائنا، يدخر بضائعه لينتهز فرصة للربح الفاحش، وثانيتهما تعلم الناس أن يتحامقوا عمداً. إلا أن كونفشيوس احترم (لووتز) ورأيه كل الاحترام، فانصرف وقال لتلاميذه: (إني تشرفت اليوم بمقابلة السيد الكاهن (لووتز)، وما هو إلا تِنِّين!)
وأعظم الظن أن كونفشيوس قد أخذ يكره تلميذه (تزلو) الشديد الجسور بعد أن أدبه، وكان دائما يشتمه قائلا: (يا للمزاج الهمجي! يا للطبع البربري!) ثم أخذ تلميذه الأستاذ (تزلوا) يتاجر نعد ذلك، فكسب كسبا جزيلا. فلا جدال أن فلسفة (لووتز) فلسفة ماكرة. وأما فلسفة (جواتز)، فقد كانت فلسفة الجبن والضعف، لأنها ستار يحتمي به صاحبه من ضرر الملوك الجبابرة من جهة، وطريق يدرج فيه من جهة أخرى.
ولا جدال في أن الإمبراطورين (ياو) و (شون) كانا من المثل العليا للعفة وحسن الخلق، فلذلك دأب الصينيون على ذكر اسميهما في معرض أمثال العفة وحسن الخلق. ولقد كان (شون) يعتبر الدنيا كحذاء عتيق لما كان أمبراطوراً، وكان يبكي بكاء مراً، ويستغفر الله من قسوة أبيه (قوسى)، حتى هم أن يفر من الدنيا. وفوق ذلك كان دائما يهتم بشأن أخيه (شينغ) التعس الشرير لقلبه الحنون، فكان يسر لسرور أخيه، ويحزن لحزنه أيضا: وإذا كانت شئون النبي أو الإمبراطور لم تخرج عن حيز المتاع الشخصي هكذا، فما شأن من قلت منزلتهم عن النبي والإمبراطور؟
قال لي الأستاذ (فوماوجيغ) إنه حاول أن يكتب مقالا، يتحدث فيه عن شئون موظفي(706/31)
الصين. وقال: إن الصينيين تعودوا أن يقرنوا ذكر الوزراء بذكر السرايا والمحظيات، بل إنهم يعدونهم طبقة واحدة من الناس، حتى أصبحت السرايا والمحظيات يتخذن أسلوب الوزراء والموظفين في الحديث، وينظرن إلى الحياة نظرتهم تماما، حيث يتملقون أسيادهم رجاء رضاهم وسرورهم ومحبتهم لهم. ويعودون على زملائهم بالكراهة والخصام والحسد، ثم يظلمون من هم أقل منهم بسطوتهم النافذة كل الظلم.
قلت له: ما أصدق ما قلت، إلا أنني أخشى ألا تسمح سلطة الرقابة الجديدة بنشر مقالك هذا، ولست ضامنا لك قط ذلك.
البقية في العدد القادم
نور ناهين(706/32)
تعقيبات
كلمات تموت:
هي كلمات رددت، فتطلعت إلى الحياة، وتطلبت غذاءها من تحقيق ما تدل عليه، فعللت ومنيت، وعاشت زمنا على التعلات والاماني، حتى أصابها الشحوب والهزال من طول الحرمان، وها هي ذي مشفية على الموت.
تلك هي كلمات (محاربة الأعداء الثلاثة، العدالة الاجتماعية، رفع مستوى المعيشة، إصلاح أداة الحكم، مشروعات السنوات الخمس) وأمثال هذه الكلمات التي توضع في البرامج فتكون لها حلية وزينة، ثم يفتر الحماس لها فتأخذ مكانها على (الرفوف).
وحياة هذه الكلمات بحياة مدلولاتها، فما مدى هذه الحياة عندنا؟ يجيب عن ذلك الأستاذ مريت غالي في مقال له بالأهرام عنوانه (الحساب الختامي لسنة 1946 القومية) قال في مطلعه: (لو جرت العادة على إعداد تقرير سنوي عن شئون الأمة والوطن فكيف يكون التقرير عن سنة 1946؟ أندون فيه نجاحا أحرزناه في نيل الأهداف القومية، أو علاجا قدمناه لمشكلة الموظفين والإدارة، أو معركة كسبناها ضد الأعداء الثلاثة التي تفتك بالشعب، أو مشروعا اقتصاديا أو إصلاحا اجتماعيا حققناه لرفع مستوى المعيشة؟ الواقع المؤلم أن التقرير لابد أن يكون خاليا من كل هذا).
ونحن جميعا نلمس مصداق هذا الكلام الصحيح، فالأعداد الثلاثة لا تزال قوية منيعة الجانب، الجهل لم ينل منه تجاذب الاختصاص وتبادل الموظفين بين الوزارات، والمرض لا تزال ترى فيضه على أبواب المستشفيات وأفنيتها صفوفا متدافعة، لا يرده جشع الممرض ولا جفاء الطبيب. . . والفقر ما فتئ يمد الجهل ويعين المرض، ومستوى المعيشة هو هو، والعدالة الاجتماعية أيضاً هي هي. . . وأداة الحكم ما تنفك في بطئها ووساطاتها وسائر فسادها، والسنوات الخمس لست أدري متى تبدأ. . . أمن وقت انتهاء الحرب؟ وهل بدئ في مشروعاتها؟ أم لا مبدأ لها ولا نهاية. . .؟
وقد ظلت تلك الكلمات تتراقص في أحلام الناس وتهدهد آمالهم، حتى كادت تسقط من فرط الإعياء. وليس من المستحسن أن تموت وفي مقدورنا إحياؤها، وفي إحيائها حياتنا التي ينتفي فيها السخط والانحراف، وتتم لنا فيها مقومات الأمة التي تدفع بها إلى أهدافها لا(706/33)
يقف أحد في سبيلها.
المعنى الديني:
نشرت جريدة المصري أن البدراوي باشا يريد ان يقوم بنفقات مشروع إنارة مسجد الرسول عليه السلام وكسوة المقام النبوي الشريف. فبعث إسماعيل صدقي باشا إلى (المصري) بكتاب يقول فيه إنه يسعى منذ زمن للترخيص له بكسوة المقام النبوي الشريف، ويرجو البدراوي باشا أن يكتفي بالإنارة ويترك له الكسوة. ولم نعلم بعد ذك ماذا تم بين (المليونيرين) الكبيرين في هذا الموضوع، وإن كنت أود ألا يقبل البدراوي باشا رجاء صدقي باشا حائراً لا يدري كيف ينفق ما أعد للكسوة من مال فيما يعوضه ما يفوته من الثواب، فهو رجل غني ومؤمن، وثمة مؤمنون كثيرون فقراء يحتاجون إلى أن يكون معهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، والوسائل إلى ذلك كثيرة.
هذا وقد تحدث الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر إلى محرر مجلة (الأمانة) في رسالة الأزهر، فقال إنها تقوم على فهم (المعنى الديني الحقيقي) وقد أصاب فضيلته المحز، فما أحوجنا إلى فهم حقيقة الدين والقصد إلى لبابه وجوهره؛ وإني - على ما أفهم من حقيقة ديننا - أعتقد أن تواد المؤمنين وتراحمهم، كأن يساعد الغني الفقير، أرضى لصاحب المقام الشريف، وأوفى إلى تلبية دعوته، وأوفق للعمل بمقتضى رسالته، وأدعى إلى نيل الثواب.
وعلى ذلك جرى أسلافنا الذين كانوا أقرب منا إلى عهد النبوة وأكثر فهما لروح الإسلام. ومن الملاحظ أن الاهتمام بالمظاهر والشكليات كثر أو وجد في العصور المتأخرة، حتى كان الحكام الذين أمعنوا في أخذ أموال الناس بالباطل، ثم يرى أحدهم أنه ما عليه من ذلك بأس مادام يمحو سيئاته ببناء مسجد أو إنشاء (تكية). والله أعلم.
(كتب وشخصيات):
عقب الأستاذ قطب على ما كتبته في الرسالة عن كتابه (كتب وشخصيات) فبين وجهة نظره إزاء ما ارتأيته في مسائل تضمنها الكتاب، وقد كنت أعتبر الأمر منتهيا بذلك - على اختلاف وجهة النظر بيننا في تلك المسائل - لولا ما جاء في رده خاصاً بنقده لتيمور، فقد رأيت فيه ما يحتاج إلى هذه الكلمة.(706/34)
قلت: (ومما أخطئه الإنصاف فيه نقده لتيمور إذ يصف فنه بالفتور وبأنه يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحيوية) ولم آت بهذا من عندي، بل أتيت به من (كتب وشخصيات) (ص 189) حيث يقول الأستاذ في أقصوصتين من أقاصيص تيمور (وكلتاهما تنبعان من قلب إنسان ولكنه إنسان يؤثر اللطف والدعة على الانفعال والحيوية، ضحكته ابتسامة فاترة، وغضبته سحابة باهتة، ووثبته خطوة وانية، وإشارته إيماءة رتيبة، ولكنه على أية حال إنسان.
(هذه الظلال الإنسانية التي تبدو في بعض أعمال تيمور - مع شيء من الشاعرية اللطيفة في بعض الأحيان - هي وحدها التي تجعل الناقد لا يستطيع أن يغفل فن تيمور، وهو يتحدث عن الأقصوصة، مهما كان في هذا الفن من فتور. . .)
أفليس هذا يا أستاذ سيد من (حقيقة رأيك) فتقول (إن الأستاذ لم ينقل حقيقة رأيي) وتوهم بذلك أنني (أخطأني الإنصاف) في عرض رأيك؟! وإن كنت تقصد أني لم آت بما أتيت به في الرد من كتابك على أنه مآخذ أساسية، فإن المجال لم يكن يتسع لذلك، وقد اكتفيت بما أتيت به من رأيك في تيمور لأن اتجاهات المآخذ الأخرى تجتمع عنده، فتماثيل الشمع مثلا التي مثلت بها شخوص تيمور. . . أي شيء هي إن لم تكن الفتور وعدم الانفعال والحيوية؟
أما ما قلته غير ذلك في هذا الموضوع فإنما أقصد به دفع استنكار لون من الأدب لخلوه من خصائص لون آخر، والأدب مختلف ألوانه. وقد نطقت به وليس بيني وبين تيمور أسباب المودة الآسرة التي قال الأستاذ سيد قطب إنه يتمتع بها، والحمد لله على كل حال.
أبو العباس(706/35)
الأدب والفنّ في أسبُوع
المجمع اللغوي:
في مستهل الأسبوع المنصرم افتتح مجمع فؤاد الأول للغة العربية دورته الثالثة عشرة بمؤتمر عام جرياً على عادته في افتتاح كل دورة، وقد ألقيت في المؤتمر عدة كلمات وأحاديث تتصل بمهمة المجمع وتتعلق برسالته في خدمة اللغة العربية والنهوض بها.
فتحدث الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا وزير المعارف في كلمة الافتتاح عن المهمة التي يضطلع بها المجمع والتي يصح أن تكون هدفه وغايته فقال: (إن مجمعنا الموقر هو حارس اللغة العربية والقائم عليها، يحرسها ليحافظ على سلامتها، ويقوم عليها ليجعلها ملائمة لحاجات الحياة في عصرنا الحاضر. . . وإنني أعتقد أن مهمة المجامع اللغوية ليست هي الخلق والإبداع، بل هي الإثبات والتسجيل، وعندي أن أعظم المجامع اللغوية نجاحاً هو أكثرها تواضعاً وأقلها ابتكاراً، هو ذلك المجمع الذي يتجنب ما أمكن أن يبتدع لفظاً جديداً أو أن يحيي كلمة ميتة، وإنما يقتصر ما استطاع على إثبات لفظ حي، فهو إنما يقف من الألفاظ عند القائم منها الذي تجري به الألسن ويقع به التفاهم، ثم يعمد بعد المقارنة والمفاضلة والترجيح إلى تسجيل ما اختاره من ذلك، يسجله كما هو أو مع تحوير بسيط قد تقتضيه صناعة اللغة، وليست مهمة التسجيل هذه بالمهمة اليسيرة وإن بدت كذلك في ظاهرها، فهي تقتضي الذوق السليم، والحس المرهف، واليقظة البالغة. . .).
ثم ألقى الدكتور فارس نمر باشا الرئيس النائب كلمة قال فيها: (ولما كان في طليعة أهداف المجمع أن يكون جهده لخير اللغة عاماً بين أبناء اللغة في مختلف البلاد العربية وسواها فقد حرص بمعونة أعضائه في الخارج على أن يعرض أعماله على الهيئات العلمية وجمهرة العلماء في الشام والعراق وغيرهما وهو يتلقى ملاحظاتهم ويدرسها، ومما يدل على أن هذا الغرض قد بدأ يتحقق منه قدر جدير بالاطمئنان أن وزارة العدلية في الحكومة العراقية حين وضعت مشروع قانونها المدني ضمنته بعض ما أقر المجمع من مصطلحات هذا القانون وقبلته في كثير من مواده ونشرت كتيباً خاصاً بما وضع المجمع من مصطلحات القانون المدني. .)
وتحدث من بعده الدكتور منصور فهمي كاتب سر المجمع عن أعمال المجمع ولجانه في(706/36)
الدورة الماضية وما استعد به للدورة الحاضرة، وقد عرض في حديثه لصلة المجمع بالحياة العامة فقال: (فأهل العلم والأدب يتصلون بالمجمع ويغتبطون بجهده المشكور، وأهل الصناعة والفن يقدرون ما يصيبهم من عمله الموفور، حتى أهل الفكاهة والدعابة فلرصيدهم على حساب مجمعنا لطيف الفكاهات وطريف التندرات، فالمجمع إذن يتصل بالحياة العامة على اختلاف ألوانها، وله أن يغتبط حين يشهد انتفاع الجادين بجهوده، كما أنه لا يضره أن يتنادر الظرفاء المتفكهون على حسابه، ولعلنا لا ننسى قصة الشاطر والمشطور، وحكاية الأرزيز والعرعور. . .)
وفي نهاية أشار الأستاذ إلى أن مجلة المجمع ستعود للظهور عن قريب، وأن المجمع سيستأنف العمل في معجم فيشر بعد أن انقطع العمل فيه منذ قيام الحرب الماضية.
ثم ألقى الدكتور طه حسين بك بحثاً ضافياً قيما موضوعه (فن من الشعر العربي يتطور بأعين التاريخ)، وليس هذا الفن إلا الرجز الذي ظلمه علماء الشعر وسموه حمار الشعراء، وقد عرض الدكتور الباحث لنشأة هذا الفن، وتاريخه، وتطوره، كما عرض لذكر أعلامه والمبرزين فيه وما كانوا يؤثرون في تعابيرهم وفي تناول موضوعاتهم، وبعد أن استوفى نواحي البحث أهاب بالمجمع وبرجاله أن يقرءوا هذا الفن من الشعر وأن يعنوا بدراسته فانهم سيجدون فيها كنزاً للغة يمكن الانتفاع به واستخدامه في النهوض بالعربية وتوسيع مادتها. .
وألقى بعد ذلك الأستاذ محمد كرد علي بك بحثاً موضوعه (تطور الألفاظ والتراكيب والمعاني)، فأشار إلى عناية العلماء السابقين بهذه الناحية، وما كان من بالغ حرصهم في تحرير اللغة ورعاية التراكيب العربية إبان نهضتهم العلمية، ثم تحدث عن صنيع الكتاب والمترجمين في هذا العصر وما يرتجلونه من التراكيب الأعجمية والتعابير المخالفة لدستور العربية وأرجع ذلك إلى عجلة كتاب الصحافة حيث لا يجدون وقتاً للتروي والتفكير ثم أشار بما يجب من استغلال الكنوز القديمة التي حفظها لنا القدماء في هذا الباب.
وتحدث أخيراً الأستاذ (ماسنيون) نيابة عن إخوانه المستشرقين، فتكلم عن خصائص المعجم العربي فقال: (لقد ألزمنا الطلاب في لجنة تخريج الأساتذة باستعمال المعجمات(706/37)
العربية المحضة كالمنجد وأقرب الموارد والقاموس المحيط واللسان والتاج وبذلك اضطروا أن يسبحوا في البحر المحيط ومحيط المحيط ولا سفينة لنجاتهم من هذه المخاطر إلا بالالتجاء إلى معجم لا أجد الآن منه نموذجاً كاملا وإن كنت أجد صورة ناقصة منه في المخصص لابن سيده وتهذيب الألفاظ لابن السكيت والألفاظ الكتابية للهمذاني وجواهر الألفاظ لقدامة، ولهذا النوع من المعاجم مستقبل عظيم ونحن إليه في حاجة ملحة لتخريج أساتذة العربية في الخارج.)
وكانت كلمة الأستاذ (ماسنيون) ختام المؤتمر.
الأب أنستاس الكرملي:
نعي إلى أبناء الضاد منذ أيام العالم اللغوي الحجة المرحوم الأب أنستاس الكرملي صاحب مجلة (العرب) وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية.
ومكانة الأب الكرملي غير منكورة ولا خافية، فقد أمضى حياته الطويلة باحثاً متقصياً موفراً كل جهده ونشاطه لخدمة العربية وفقهها والتوسع بمادتها، وكانت له في هذا جولات واسعة النطاق، ومباحثات قوية عنيفة، وكان للأب أنستاس نظريات في أصول العربية واشتقاقاتها، وكان له في ذلك اتجاه يناقشه فيه غيره من اللغويين ولكنها على أي حال نظريات تشهد بالجهد والتبحر في فهم أسرار العربية والتمكن من فقه اللغات الأخرى.
ولقد كان رحمه الله طول حياته أوفى ما يكون نشاطا وهمة في الدراسة والإنتاج، وكان مناضلا في الطراز الأول فلا يسكت على مناقشة ولا يتغاضى على خطأ، فلاشك أن فقده جاء خسارة للعربية، وأن نعيه قد شق على زملائه خاصة وعلى أبناء الضاد عامة، ولعلنا نجد من فراغ النطاق ما نوفيه به حقه في ترجمة حياته وشرح نظرياته.
رحمه الله رحمة واسعة وعوض العربية فيه خيراً.
حروف عربية جديدة:
تحدثت الأنباء الواردة من (نيويورك) بأن السيد نصري خطار قد ابتدع طرازاً جديداً من الحروف العربية، ووضع لهذه الحروف قواعد لاستعمالها في الطباعة والآلات الكاتبة، وأن شركة الآلات الصناعية قد قررت استعمالها فعلا في آلاتها الكاتبة.(706/38)
وقد تحدث الأستاذ الخطار نفسه عن مميزات هذه الحروف فقال: إنها ترجع إلى تسهيل القراءة عل المبتديء، والاقتصاد العظيم في تكاليف الطبع، وتصغير الكتابة دون الإخلال بشرط الوضوح.
ومن المعروف أن مسألة الحروف العربية مثار ضجة كبيرة في دوائر المجمع اللغوي منذ عام، وقد وضعت في ذلك رسائل وكتب، ومن قبل كانت هذه المسألة مثار مناقشة طويلة ومجال اقتراحات متعددة من علماء العربية وخاصة من المستشرقين. ففيهم من يريد أن يختصر المسألة من أقرب طريق، فيقترح استعمال الحروف اللاتينية مكان العربية دفعة واحدة، وفيهم من يقترح تحوير الحروف العربية وتهذيبها حتى تفي بالحاجة.
والطريقة التي آثرها السيد الخطار هي تحوير الحروف العربية إلى ما يشبه اللاتينية في الشكل وكتابتها منفصلة، ومن المعروف أن الحروف العربية في الخط الكوفي وفي الخط النبطي، كانت تكتب منفصلة، فطريقة الانفصال قديمة، وطبيعة الحروف العربية بشكلها الراهن لا تستعصي على الانفصال، فلا ندري لماذا آثر الأستاذ الخطار ذلك التحوير فيها إلى ما يشبه الحروف اللاتينية، وهو تحوير ستكون المشقة به أكثر من الفائدة منه.
الواقع أن المسألة ليست مسألة تشابك الحروف وانفصالها، وليس بنا من حاجة إلى ذلك التحوير في هيئة الحروف التي ألفناها واعتادتها أنظارنا، وإنما العناء يأتي من قواعد الكتابة العربية وتعقدها في استعمال الهمزة والألف اللينة وغير ذلك مما يضجر علماء العربية أنفسهم، فهلا تكاتف علماء العربية على تذليل هذه المسألة فإن ذلك يكون أجدى وأنفع؟!
هل استفاد الأدب من الحرب؟
هذا موضوع مناظرة، أقامتها جماعة الفكر العربي في الأسبوع الماضي، وأيد الرأي فيها الدكتور زكي مبارك والآنسة روحية القليني المتخرجة في كلية الآداب وعارضه الأستاذ علي الجندي والآنسة زينب عبد الحميد.
وموضوع المناظرة جدير بالبحث والدرس، لأنه يمس ناحية كان لها أثرها الظاهر والباطن في الأدب وفي الاتجاه الفكري، ولكن تبادل الكلام بين المتناظرين جرى على الشأن الدارج في مناظراتنا ومحاضراتنا وهو حب الغلبة، والتأثير على الجماهير بالعبارات الضخمة(706/39)
والكلمات الرنانة والنوادر الفكاهية ومن ثم نستطيع أن نقول إن هذه المناظرة لم تصل إلى الحقيقة في الموضوع، والواقع أن الوصول إلى الحقيقة في هذا الموضوع يقتضي بحثا للعوامل النفسية والاتجاهات الفكرية التي كانت نتيجة للحرب وللظروف التي فرضتها على المجتمع وهذا كله أعمق من أن تكشف عنه مناظرة كلامية في ناد.
المواضع والأمكنة في المعلقات:
تنشر جريدة (البلاد السعودية) بحثا مسلسلا للأستاذ محمد بن بلهيد يحقق فيه أسماء المواضع والأمكنة في المعلقات، ويدل على مواقعها القديمة وما صار لها من الأسماء الحديثة.
وهذا بحث جليل مفيد، يحتاج إليه أبناء العربية في دراسة الشعر الجاهلي. ومن الواجب أن يعمم هذا البحث في جميع الأقطار العربية وأن يحرر تحريراً علمياً ليرجع إليه الباحثون، فقد درجت الجامعات والمعاهد في دراسة الشعر الجاهلي على الاكتفاء بالإشارة إلى المواضع والأمكنة في ذلك الشعر بأنها (أسماء أمكنة) وكفى، ومن المعروف أن الأمكنة لم تزل في مكانها، وإن كانت أسماؤها قد تغيرت، فمن الواجب أن يكون بين يدي الباحثين تعريف لتلك الأمكنة في مواقعها وأسمائها الحديثة.
وبهذه المناسبة نقول إن أبناء العربية يجهلون مواقع البلاد العربية ولا يتحققون من أسمائها الحديثة ومعالمها الظاهرة على حين أن الرحالة الأجانب قد اردوا هذه الأماكن وقاموا بتحقيقها، وألفوا عنها الكتب والبحوث الضافية، ومن الأسف أن كثيرا من أبناء العربية يرجعون إلى تلك الكتب والبحوث فينقلون الأماكن والأسماء عنها محرفة، مما يؤدي إلى الخلط وتوسيع الشقة في التضليل.
الفن الروسي:
تهتم المفوضية الروسية في القاهرة بتعريف المصريين بالفن الروسي وإطلاعهم على نماذجه ولوحاته، وقد سبق أن أقامت أيام الحرب معرضاً بجمعية المهندسين عرضت فيه لوحات فنية لمشاهير الفنانين الروسيين تمثل المواقع الحربية والقواد البارزين في الجيش الأحمر(706/40)
وأخيراً أقامت المفوضية معرضاً بمدارس الليسيه عرضت فيه رسوماً وصوراً للتماثيل التذكارية ومعالم الثقافة والعمارة في الاتحاد السوفيتي كما عرضت مجموعة فنية للحيوانات البرية والبحرية استلفتت الأنظار وحازت التقدير والإعجاب.
وحسنا فعلت المفوضية فان المصريين أشد ما يكونون حاجة إلى التعريف بالفن الروسي، وخاصة بعد أن اتجهت مصر إلى الأدب الروسي وأقبل الأدباء على نقل روائعه إلى جانب ما ينقلون من روائع الأدب العالمي.
الشاعر الدباغ:
أقيمت أخيراً في يافا حفلة تأبين للمرحوم الشاعر إبراهيم الدباغ ولقد كانت يافا موطن الدباغ مولداً، وهي موطن أسرته وذوبه، ولكنه وفد على مصر في صدر شبابه لطلب العلم، وبين ربوعها تفتحت عبقريته ونضجت شاعريته، وقد آثرها بالإقامة إلى آخر حياته، وفي أرضها وورى جثمانه.
أجل، لقد عاش الدباغ لمصر بشعره وفنه، وفيها غنى بمقطوعاته وهزج بقصائده، وكانت له صلات وثيقة برجال الأدب والصحافة، وجولات واسعة في الأندية والمحافل، ثم ألمت به محنة المرض المعضل فاعتكف في مسكنه، ثم وافاه الموت، فنسى كما ينسى كل شيء في مصر!!
ليت شعري أين أصدقاء الدباغ في مصر، وأين أحباؤه وأصفياؤه، أين الذين منحهم فنه وشعره مديحاً وإشادة فضنوا عليه حتى بحفلة تأبين في مصر دلالة وفاء وحفظ للجميل وتقدير للأدب والفن؟!
الجاحظ(706/41)
من هنا ومن هناك
أثر أدبي قديم:
نشرت مجلة (الطرائف الأدبية) الفرنسية القصة التالية.
في يوم من أيام (نيسان) عام 1928 عثر فلاح بمنطقة رأس شمرة الواقعة على الساحل السوري تجاه قبرص على عدة قطع وأوان خزفية جميلة، فأرسل حاكم اللاذقية إلى المفوضية الفرنسية يخبرها بهذا الكشف.
ودلت تحريات لجنة الآثار التي تولت بحث الموضوع على أن القطع والأواني التي عثر عليها الفلاح وجدت في مدفن ليس له شبيه في سورية، وهو يشبه مدافن القرن الثاني عشر قبل الميلاد التي اكتشفت على ساحل قبرص. فقررت أكاديمية الآثار القيام بالتنقيب في هذه المنطقة، وانتدبت لذلك بعثة بدأت العمل في آذار عام 1929، واستمرت تباشر البحث والتنقيب حوالي عشر سنين.
وأسفرت دراسات البعثة وتنقيباتها عن حقيقة تاريخية كانت مجهولة، وهي أن مدينة عظيمة قامت في منطقة رأس شمرة منذ القرن العشرين قبل الميلاد، وقد استمرت هذه المدينة حتى القرن الحادي عشر حيث قضى عليها أقوام من الغزاة الخارجين
ومن أهم ما عثرت عليه البعثة المنقبة بقايا مكتبة مؤلفة من ألواح من الفخار على نحو مكاتب بابل وقد نقشت على هذه الألواح رموز وكتابات تبلغ الثلاثين عدداً، ولم يعثر على ترجمة لهذه اللغات وقد تعذر فهمها وفك رموزها لأنها تنتمي إلى لغة غير معروفة بين اللغات الأثرية، ولكن بعد مقارنات ودراسات تبين أنها لغة قريبة من العبرية، وأنها أقدم بنحو عشرة قرون من سائر الكتابات الفينيقية التي اكتشف إلى الآن.
وقد استطاع رجال الآثار أن يميزوا من تلك اللوحات الكتابية ثلاثة آلاف بيت من الشعر الذي يقوم موضوعه على الملاحم والأساطير ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقد وقع عليها كلها باسم (إيليملك).
هذا مجمل القصة التي روتها مجلة (الطرائف الأدبية) الفرنسية، وهي قصة كشف أدبي سيكون له أثره في تاريخ الأدب، وعندما نترجم هذه الأشعار إلى لغة حديثة يمكن لمؤرخي الأدب القديم أن يصححوا كثيراً من الأحكام في ضوء هذا الكشف الجديد.(706/42)
العاقل لا يعدم حيلة:
في (شرح النهج) لابن أبي الحديد:
قال أبو عثمان (الجاحظ) حدثني أبو عبيد الله الأفوه - وما كنت أقدم عليه في زمانه من مشايخ المعتزلة إلا القليل - قال: كنت ألقي من الذر والنمل في الرطب عندي وفي الطعام عنتاً كثيراً، فاتخذت لطعامي منملة، وقيرتها وصببت في خندقها الماء، ووضعت سلة الطعام على رأسها، فغبرت أياماً أكشف رأس السلة بعد ذلك وفيها ذر كثير، ووجدت الماء في الخندق على حاله، فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان قد أنزلها وأكل مما فيها، وطال مكثها في الأرض وقد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال، وتكلمت في ذلك وعرفت الحال فيه، فعرفت البراءة في عذرهم والصدق في خبرهم، فاشتد عجبي، وذهبت بي الظنون والخواطر كل مذهب، فعزمت على أن أرصدها وأحرسها وأتثبت في أمري فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها تركته جانباً وصعدت في الحائط، ثم مرت على جذع فلما صارت محاذية للسلة أرسلت نفسها. فقلت في نفسي: انظر كيف اهتديت إلى هذه الحيلة ولم تعلم أنها تبقى محصورة ثم قلت: وما عليها أن تبقى محصورة بل أي حصار على ذرة وقد وجدت ما تشتهي
(السهمي)
رفاهية العلماء:
جاء في نبأ من موسكو أن الحكومة السوفيتية ستقوم ببناء منازل في ضواحي المدن الكبيرة لأعضاء أكاديمية العلوم في روسيا، وسيتألف كل منزل من حجرة للاستقبال والجلوس وحجرة لتناول الطعام، ومكتبة وحجرة للنوم في الطابق الأرضي ومطبخ ومخزن للطعام وحمام في مؤخر المنزل، وغرفتين أخريين تواجههما شرفة واسعة، وسيكون لكل منزل حديقة خلفية وحوش متسع، وقطعة أرض مجاورة تزرع فاكهة وأزهارا، ويبنى فيها غرفتان للسائق والميكانيكي الذي يتعهد السيارة بالرعاية ومخزن للأخشاب والوقود وكابينة صيفية وحظيرة للمواشي.
ويقول النبأ إن السلطات السوفيتية قد أرسلت إلى كل عالم تصميما ليوافق عليه فبقى أن(706/43)
تشرع في البناء، وأنها ستقوم بنفقات إنشاء هذه المنازل وتكاليفها؛ كما ستقوم بالانفاق على هؤلاء العلماء وتتعهد بما يقلق خواطرهم من الناحية المادية حتى تتيح لهم الفرصة في خدمة العلم وقصر جهودهم على العمل في معاملهم.
ومن نحو خمسة عشر عاماً فكرت الحكومة الفرنسية في بناء مدينة للأدباء والفنانين والعلماء على أن تكون في الوضع الذي يلائم أمزجتهم راحة وهدوءاً وطمأنينة، ولكن المشروع لم يخرج عن دائرة التفكير، وعلق كاتب فكه على هذا النبأ قائلا في سخرية: (أولى بالحكومة الفرنسية أن تقول إنها تريد أن نقيم مدينة للمجانين، وإنها تريد أن تريح المجتمع من هذيان أولئك الذين يقولون عنهم إنهم أدباء وفنانون).
وهذا التفكير الحديث في أوربا قد سبق إليه آباؤنا وخرجوا به إلى دائرة التنفيذ والتحقيق منذ قرون، فقد وقفوا على الأزهر الأوقاف الضخمة، وأنشئوا به الأروقة والمساكن، ورتبوا الرواتب للعلماء والطلاب حتى يكفلوا لهم الراحة المادية، ويصرفوا أذهانهم عن التفكير في شئون العيش إلى التفكير في مسائل العلم.
والواقع أنه ليس هناك همٌّ أثقل على نفس العالم والأديب من التفكير في شئون المال وتدبير العيش. ويروي عن الإمام أبي يوسف أنه قال: جلست في بيتي وقد نشرت كتب العلم بين يدي وأخذت أجتهد في تحرير مسائل الفقه والتشريع، فدخلت الجارية عليّ وقالت ليس في البيت دقيق، فطارت من رأسي أربعون مسألة ولم تعد واحدة منهن أبداً.
فنحن نغتبط أن تهتم الحكومات بتوفير العيش والطمأنينة المادية لرجال الفكر حتى ينتجوا ويثمروا، ولكنا لا نرى من الخير لهم وللمجتمع وللعلم أن يعزلوا في أماكن خاصة، لأن المفكر إنما يتعامل مع المجتمع، فهو يأخذ منه ويعطيه، وبهذا يكون عاملا من عوامل تطوره، وإلزام العالم والمفكر بالانتاج لا يجدي، فقد تخطر له الخاطرة، أو تطوف برأسه الفكرة وهو سائر في ضجيج الشارع أو في مجتمع عام صاخب أو وهو يرى مشكلة تواجه المجتمع، وليس من شك في أن عزل العلماء والمفكرين سيصيرهم على مرور الأيام أشبه بطبقة الكهان، وسرعان ما يضيق بهم المجتمع على هذا الوضع، ويضيقون هم بأنفسهم.
(م. ف. ع)
لن تقوم في الأرض مملكة يهودية فلسطينية:(706/44)
دعا سليمان يوماً فاستجيب له ... ونال ما لن ينال الناس من بَعْدُ
ترى أنال غنى؛ والأغنياء على ... ظهر البسيطة لا يحصى لهم عد؟
أم نال مملكة مهما علت وسمت ... ففي ممالك أخرى العز والمجد
ما نال إذ نال من شيء يميزه ... عن العوالم لولا العقل والرشد
أمسى (الحكيمَ) ووصفٌ غير مطردِ ... أن خصَّ فيه بمعنى ما له حد
فما انبغى قط أن يُعطى حكومته ... على اليهود يهوديٌّ وإن جدوا
ففوق حكمة أهل الأرض قاطبة ... جمع اليهود وإن لانوا أو اشتدوا
كالمال (معبودهم) قد بُعثروا بَدَداً ... وليس مما قضى في أمرهم بد
من معجزات سليمان تآلفهم ... والمعجزات (كأهليها) لها حد
عيشي فلسطين في أمن وفي دعة ... فمعجزات سليمان لها عهد
قد قال: (رب هبني. . .) قال: (مملكة ... على اليهود)، وتمَّ الموقف الفرد
لا ينبغي لسواه بعد أبداً ... تجميع من ربُّهم في المصرف النقد
محمد التهامي وعبد اللطيف النشار(706/45)
البَريدُ الأدَبي
أدباء العروبة:
نشرت مجلة الرسالة في عددها الصادر بتاريخ 30 11 1946
كلمة تحت هذا العنوان عجبت كيف قبلتها وهي ملتقى أقلام
أهل الأدب وميدان النابهين من رجال الفكر، وقد أدهشني ما
جاء بهذه الكلمة من أحكام لا تصدر إلى عن تحيز أو غرور.
وأحب أن أبين للقراء ما دق على فهم الكاتب من أهداف (جامعة أدباء العروبة) في رسالتها للنهضة بالأدب العربي، والسير به قدُماً إلى الأمام.
فالجامعة تعمل على إيقاظ الذهن العربي وتوجيهه نحو الآفاق البعيدة الجديدة من آثار المفكرين النابهين النوابغ، وتريد أن تصل الشرق بالغرب في النافع من الثقافة والأدب، وتجد في سبيل توثيق الأواصر بين الأدباء ليسيروا متساندين في خدمة الضاد، سواء أكانوا من المنضوين تحت لوائها أم من أنصارها الذين يعملون للأدب العربي مستقلين لا يرون في التقيد بالجمعيات خيرا كبيرا. فليس هناك احتكار للأدب في أذهان القائمين بأمر جامعة أدباء العروبة كما زعم الكاتب. وإنه ليسر الجامعة أن تعاون كل من يدعو لخدمة الأدب العربي والنهوض به أفراداً وجماعات. وهنا أريد أن أشير إلى ما سماه الكاتب انقساما في صفوف الجامعة، فليس خروج واحد أو اثنين على جامعة الأدباء يعد انقساما يتساوى فيه الفريقان. على أن جامعة أدباء العروبة يسعدها أن تسمع كل يوم عن تأليف جماعة لخدمة الأدب والشعر، وتدعو لها صادقة بالتوفيق والسداد.
ثم كيف تأتَّى للكاتب - وأحسبه من قراء الرسالة - أن يفهم أن هؤلاء الذين توفروا على خدمة أغراض الجامعة، يحتكرون الأدب، وأنهم عدا واحد أو اثنين من غير الصف الأول! لقد أخطأ خطأ مضاعفا؛ فإن الذين يعملون معنا، إنما وقع عليهم الاختيار قبل كل شيء لنشاطهم في خدمة أغراض الجامعة النبيلة فوق ما يتجملون به من أدب وثقافة. وهم فوق ذلك - في مجموعهم - يقفون في الصف الأول من رجال الأدب العربي في هذا العصر.(706/46)
والجامعة لا تتردد في دعوة البارزين من رجال الفكر والقلم في كافة أنحاء العالم العربي للمساهمة في نهضة الأدب ورفع شأنه بغض النظر عن كونهم من أعضاء الجامعة أو من أنصارها، أو من المستقلين عنها كل الاستقلال.
وإذا لم يكن شاعر مصر الكبير أستاذنا العقاد والشعراء النابهون: ناجي، وغنيم، والأسمر، وأبو فاشا، والغزالي، والعوضي، وبعد المنعم، وشمس الدين، وحمام، والماحي، وعماد، وكامل الكيلاني، ومخيمر، والجرنوسي، وعبد الحميد مرسي، والجمبلاطي، وكبار كتابنا النابغين هم الذين تلمع أسماؤهم في أول الصف الأول من أدباء العالم العربي، فأين يكون هذا الصف الذي يعمل في الخفاء، وينشر رسالة الأدب في خفر واستحياء!
أما ما جاء في ثنايا كلام الكاتب من أن أحد الأعضاء نقل الأدباء في سياراته إلى القناطر الخيرية. . . الخ فهو ضرب من المهاترات الرخيصة التي لا تستحق العناية.
دعونا نعمل، فإننا نرمي لتحقيق غايات شريفة نقصد بها وجه الله وخدمة الوطن، بعيدين عن السياسة والحزبية، والأغراض الذاتية. نرفع راية الضاد عالية يتفيأ ظلها من أراد بشرط أن يكون كفأ ومخلصا في السعي لما نرمي إليه، والله ولي التوفيق.
إبراهيم دسوقي أباظه
الرسالة: نعتذر مخلصين إلى حضرة صاحب المعالي رئيس
(جامعة أدباء العروبة) مما أخذه على كاتب الكلمة. ونؤكد
لمعاليه أن من أمانيّ الرسالة أن تتألف في كل طائفة من
طوائف الأمة جماعة للأدب يقوم عليها وزير أو كبير. ولقد
كانت الرسالة أول من سجل اهتزاز الأدب واعتزاز الأدباء
بتولي معاليه الوزارة؛ إذ لا يستطيع - والأدب من طبعه وفي
استعداده - أن يخلي منه نفسه وهمه وعمله ومجلسه. وإنما
عز الأدب بعز أهله. وحسب الأدب اليوم أن يكون من منتجيه(706/47)
ومشجعيه وزير! ولو لم يعمل صاحب المعالي إبراهيم دسوقي
أباظه باشا ما عمل للفن الرفيع في وزارته وفي داره وفي
حزبه لما تميز في رأينا على نظرائه الذين تقدموا بالأدب
وتعرفوا به ثم أخروه وأنكروه. وإذا كان في الناس من ظن أن
رياسة الباشا لجامعة الأدباء تشريف ودعاية، فقد ثبت من هذا
البيان الحازم أن رياسته لها تكليف ورعاية.
أعوذ بالله!
أعوذ بالله من. . . أأقولها؟ من صورتي أنا! ولست أعني الصورة التي صورني الله بها؛ فإني راض عنها أحمد الله عليها، ولكن أعني هذه الصورة التي وضعت مع مقالتي في العدد الممتاز وقالوا. . . إنها صورتي! مع أنها لا تشبهني ولا أشبهها وليس فيها ملامحي ولا سماتي، ولم يرها أحد ممن يعرفني إلا قال كما قلت: أعوذ بالله! أهذه صورتك!
لا والله يا إخواننا، ليست صورتي، ولا أدري من الذي صورها، ولكن أدريه أن هذا (المصور. . .) مثل زميله الأول الذي بلغ من حذقه ومعرفته بصناعته، أنه صور (ديكا رومياً) فما شك أحد ممن رأى الصورة، بأنها (خريطة الحبشة)
وأنا أفهم من التصوير الكاريكاتوري أنه لابد فيه مع إظهار المقابح، وتعمد الاضحاك، من إثبات الملامح والدلالة على الشخص المصور حتى لا يتردد كل من يعرفه إذ يرى الصورة، في أن يقول ضاحكا: هذا فلان، فإذا لم يعرف من الصورة صاحبها، ولم يوجد فيها ما يدل عليه، ولم تشتمل على فكرة ولا على إضحاكك ولا تظهر معنى من المعاني، فإنها لا تسمى صورة أصلا.
ولا عبرة بأن هذا (المصور. . .) أبرز ملامح بعض كتاب الرسالة، كعزام باشا مثلا، وأنه يجيد تصوير الوزراء ورجال السياسة، فإن كل إنسان إذا مرن على تصوير رجل يحذق صورته. ولقد كان عندنا في الثانوية ناظر عجوز له شاربان ينزلان على شفتيه وأنف(706/48)
أعقف كمنقار الصقر، وذقن غائص في وجهه لا يكاد تظهر، ووجنتان فيهما حفرتان، فكنا نصوره بخطوط معدودة فتبرز ملامحه لا يعجز عن ذلك طالب فينا، أما المصور البارع حقا فهو الذي تظهر براعته في كل صورة، ويصور كل إنسان، وعندنا في الشام من ينظر إليك دقائق، فيصور لك صورة تضحك أنت منها، ولا يشك أحد من أصحابك في أنها صورتك
ثم إن هذه الصورة المنشورة مع مقالتي، لفتى في السادسة عشرة وأنا في حدود الأربعين، وهي لشاب حيي مسكين، وأنا رجل شرس ما كنت، ولله الحمد، مسكينا قط.
فإن كان هذا هو (الفن) في مصر، فيا ضيعة الفن في مصر!
علي الطنطاوي
ذكرى باحث الشرق:
في منتصف شهر مارس من عام 1897، انتقل المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني إلى جوار ربه، ففي مارس القادم يكون قد مضى على وفاة ذلك المصلح العظيم خمسون عاماً كاملة.
ومن نافلة القول أن تقول إن جميع أقطار الشرق الإسلامي مدينة في نهضاتها ووثباتها، وما تحقق لها من مظاهر التقدم والحرية للسيد جمال الدين الأفغاني ذلك الرجل الذي قضى حياته يكافح الاستبداد وينافح الاستعمار، ويصيح بالشرق المستسلم أن يستيقظ، وفي هذا السبيل عاش شريداً طريداً تدفعه يد الأقدار أو يد الاستعمار من قطر إلى قطر، وتخرجه من بلد إلى بلد، حتى قضى شهيداً في مطارح الغربة، وليس حول سريره زوج ولا ولد.
ليس من شك في أن الأفغاني - نضر الله قبره ونور ضريحه - قد أقام دعائم النهوض للشرق الإسلامي، وبنى لحراستها قلاعاً من الرجال وإن بقية الخير وطلائع الإصلاح في الشرق هم تلاميذه، أو تلاميذ تلاميذه، وما كان للأفغاني مع هذا من ولد يريد أن يورثه المجد، ويحفظ له المكانة، وما كان له من مطمع في رفاهية الحياة فقد احتقر عروض الدنيا من أيدي السلاطين والحكام، وازدري المال والرفاهية، وعاش حياة خشنة أشبه بحياة الصوفية والمتزهدين. . .(706/49)
واليوم وقد مضى على وفاة ذلك الرجل الذي وهب حياته للشرق خمسون عاما، فهل للشرق أن يذكر في هذه المناسبة، وأن يذكر أبناء الجيل بما كان في حياته من قدوة، وفي سيرته من أسوة، وفي جهاده من قوة. . .
إن أقل ما يجب في هذه المناسبة، أن ينهض الشرق الإسلامي، شعوبه وحكوماته، هيئاته وجماعاته؛ مدارسه وجامعاته فتقيم أسبوعاً عاماً يدعى بأسبوع جمال الدين الأفغاني، وليس ذلك يعلم الله واجبنا نحو الرجل. بل إنه واجبنا نحو أنفسنا قبل كل شيء حتى ندفع عن أنفسنا معرة النسيان، وتهمة الجحود والكفران.
محمد فهمي عبد اللطيف(706/50)
القَصصُ
القبر تحت قوس النصر
مأساة عن الحرب العظمى في ثلاثة فصول
للكاتب الفرنسي بول رينال
نحن في منزل بإحدى القرى الفرنسية أثناء الحرب العظمى، وقد جلس رجل في الستين من عمره مع فتاة في العشرين تدعى أود وشاب يرتدي الثياب العسكرية. وسرعان ما تفهم أن هذا الجندي هو ابن الهرم وخطيب الفتاة وأنه قدم من ساحة القتال ليرى أسرته وليقوم بعقد زواجه على خطيبته (اود) فقد حصل من أجل ذلك على إجازة أربعة أيام. ولا يكاد الحديث يدور بينهم حتى يعلم من أبيه الشيخ أن خطيبته قد تكلفت إظهار السرور بعد أن غادرها وذهب إلى ساحة القتال. وأنها فعلت ذلك لكي ترضى والده. ولكنها بعد ذلك أخذ القلق يساورها فبدأت تستفسر عن نشأة ابنه الغائب وعن طفولته وشبابه. كان ذلك عزاءها في غيبته. ويسأل الجندي عما إذا كانت قد وصلت رسالة باسمه إلى المنزل فينكران ألوا ثم يحضران له الرسالة فإذا بها من مركز القيادة التابع له وفيها يأمره بأن يلغي إجازته ويعود إلى خط القتال. ولا يكاد يقرأ تلك البرقية حتى يضحك كما لو كان قد فوجئ مفاجأة سارة، ثم يسأل خطيبته: لماذا ثم تخبريني عند حضوري؟ فتجيبه: لقد كنت مبتهجا. فيذكرها بالواجب الملقى على عاتقه، وكيف استشهد من فرقته ألفان، وأنه لابد أن يكون قد صدر أمر بهجوم جديد ويصمم على السفر في أول قطار يقوم في الفجر إذ أن قائده لم يسمح له بالسفر إلا على شرط الرجوع إذا جد في الأمر شيء. وأن هذا القائد عندما سمح له بذلك كان يقدر الخدمات التي أداها للوطن كجندي باسل.
ولا يكاد الابن يذكر مسألة الزواج التي قدم من أجلها حتى يبدي الأب اعتراضه وتقره (أود) على ذلك فزيارته قصيرة لا تسمح باستيفاء إجراءات الزواج.
ويخرج الجندي ويخلو الأب إلى (أود) فيذكر لها أنه واثق من أن ابنه لم يكن ليفكر في الأخطار الكبيرة التي كان معرضاً لها بقدر ما كان يفكر فيها هي. وفي تلك السعادة الجميلة التي قضت الظروف بحرمانه منها. فتسأله:(706/51)
- وماذا أفعل لكي أعيش؟.
- سأعينك
أتحميني من الشجن والشقاء؟
وتتطور المناقشة بين الاثنين، فتذكر له العروس أن واجبه نحو ابنه قد انتهى وأن عاطفته نحوه إنما هي استمرار آلي لما كان يشعر به عندما كان ابنه لا يزال طفلا. أما هي فواجبها لم يكد يبدأ بعد. وعندئذ يقول لها في تأنيب خفيف:
- إنه ابني. . . فتجيبه بك روحها: - إنه حياتي
ثم تنبهه إلى أنه ما دام قد حضر فمن غير اللائق أن يدور الحديث على شيء آخر غيره. وأن واجبها الأوحد هو أن تحبه وتذكره بالضحكة التي ضحكها عندما قرأ البرقية الواردة باستدعائه، وكيف أن هذه الضحكة الرهيبة قد أرعدتها وهي تشرح ذلك فتقول إنه يحمل طابع الحرب على شخصيته. ولقد أحست هي نفسها بكل هول الحرب عندما رأت كيف تقلصت عضلات وجهه المحبوب واستحال إلى عنف مخيف بمجرد أن نظر إلى البرقية.
ويلاحظ الأب الشيخ أنها لم تعد تتحدث إلا عن خطيبها، وأن ابنه لا يتحدث إلا عنها. ويبدو له أنهما يشعران بأنه ليس بين الأحياء سواهما. وهو يحس لذلك بغضاضة على نفسه، ويشعر بشيء من الغيرة إذ يسيطر الشباب هذه السيطرة على منزله. ويتحداه كما كان الظافرون يتحدون خصومهم المغلوبين بالسيوف فيما مضى! وهو يخشى أن يكون عقبة بين ابنه وبينها. وتدهش (أود) لذلك وتصارحه بأنه جد مخطئ إذ يفكر في ذلك كله ولكنه يقول برغم هذا: - ما أسعد هؤلاء الشبان. إن الحرب لم تغير كل شيء! مهما حدث على الأرض فلا يوجد دائما إلا مصيبة واحدة. تلك هي الشيخوخة!.
ثم يعود الابن في ثياب مدنية ويخرج الأب بد أن يحاول استصحاب الفتاة معه فيرجو منه ابنه أن يتركها له قليلا. ولا يكاد العروسان يختليان حتى تلتمس منه (أود) أن يصفح عنها، فإذا سألها عن أي شيء تطلب الصفح، أجابته عن أنها استطاعت العيش بعده. ثم تقول له: - إنك تمثل لناظري كل الأمور. إنني لا أملك من حطام الدنيا إلا التفكير فيك إنه غذاء كياني ونار نفسي، وهدف عيني، وطابع صوتي، ومجرى دمي. إنه كل شيء. إنه أنا!.
ثم تذكره بمنشأ علاقتها به، وكيف أنها طالما زهت وفاخرت بمعرفته وكيف تمنت أن تكون(706/52)
زوجته، فإذا قال لها
- ستكونين زوجتي يوماً ما.
أجابته بعد مجهود كبير: - كنت أود أن أكون زوجتك هذه الليلة.
فيذكر لها أنه ليس من حق أحد في فرنسا أن يكون سعيداً في هذا العام، وأنه يود أن يدعو كل أصدقائه وزملائه في الجيش إلى حضور حفلة زواجه، ويشعر أنهم جميعا يشخصون اليه، ويمدون إليه أيديهم الرقيقة سواء منهم الأحياء والأموات.
هي - الأموات؟
هو - أصدقائي الذين استشهدوا والذين لو بقوا لكانوا هنا الآن. أين هم؟ إنني أدعوهم. فلو ظلوا أحياء لكانوا الآن في مراكزهم بساحة القتال. ولكنهم ماداموا قد ماتوا ففي مكنّهم الحضور! إنني أنتظرهم. سيظهرون، ليحضروا، فلن أتمتع بكل بهجتي وسروري بدونهم. إنني أناديهم.
ثم يبدأ في مناداة أصدقائه من المحاربين الأموات إلى أن يصل إلى اسم صديق تعرفه خطيبته (أود) فيذكر لها كيف أن ذلك الصديق قد سقط مضرجا بدمه في أحد الحصون وكيف أنه طلب إليه أن يرفع تمنياته الصادقة إليها وأن آخر كلماته له وهو يحتضر بين يديه: (كونا سعيدين) وتعجب (أود) بهذه العظمة التي تتجلى في شخصية خطيبها. وتشعر أن نفسها عاجزة عن مجاراته فيها فتقول له: - إنني بجانبك أحس في نشوة بعظمتك. وفي اضطراب بشقائي. . أنت توقن بأنك عظيم فيجيبها في حزم وزهو: - أجل.
- هذا ظاهر! إن هذه الروح التي لا تتجلى إلا في جبهة القتال جعلتك مختلفا عنا وأسمى منا، إننا لا نستطيع أن نفهمك.
ثم تطلب إليه أن يرفعها إلى مرتبته وأن يسمو بها إلى درجة البطولة، أن يرفعها إلى تلك السماء التي تخضبت بدم الشرف الحربي فيقول لها: - إن من يطلب ذلك بهذه اللهجة فلاشك إنه يحصل عليه.
- كلا.
- إنك أنت تلك البطلة التي ترغبين فيها.
ثم يطمئنها بعد ذلك ويخبرها أن الحرب قد وضعت أوزارها وأنها لن يندلع لهيبها بعد.(706/53)
ويتجاذبان أطراف حديث قصير. ثم يهبط الستار وهما يضحكان.
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في غرفة العرس التي قضى فيها العروسان ليلتهما. وهما يتحدثان عن تلك الليلة فنفهم أن (أود) قد وهبت خطيبها الجندي أعز ما تملك الفتاة العذراء! وهي تذكر له أن هناك أشياء كثيرة لا يزالان يجهلانها ومن بينها ما هو في منتهى البساطة. وهي تعطي مثلا على ذلك أنها لم تره من قبل، ذلك أنها لم تره قط وهو مغمض العينين. ولذا تطلب إليه أن يغمض عينيه، فيفعل. ثم يخبرها أنه قد فهم ما تريده من وراء ذلك فإن عينيه المغمضتين تذكرانها بموته! فتنكر ذلك في ضعف. ولكنها تعود فتسأله ثانية عما إذا كانت الحرب قد انتهت حقا كما كان قد أخبرها. وتلح في سؤالها إلحاحاً شديداً وعندئذ يصارحها بأن الحرب لم تنته وبأنه لا يزال أمام النصر النهائي مدة طويلة؛ وهي تذعر من هذا النبأ وتلومه على أنه أطاعها وصارحها بالحقيقة، وتخبره بأنه ما كان يجب أن يعبأ بإلحاح امرأة مفتونة! وهو يلحظ مبلغ وقع النبأ عليها. وكيف أنها أحست بشبه خيبة في حبها له. فسوف تضطر مرة أخرى إلى انتظار مدة طويلة وهي تتوسل إليه أن يبقى إلى جانبها ولكنه يجيبها أنه وحده دون باقي زملائه في الثكنة قد استطاع الحصول على إجازة. وأن قائده قد اشترط عليه وجوب العودة بمجرد استدعائه. وها هو قد استدعى. ولابد أن يكون الجيش في خطر. فقد أخبره قائده أنه لن يستدعيه إلا إذا كان هناك خطر داهم. وهو بناء على معلوماته وبعد ورود تلك البرقية أصبح يوقن بأن المعركة الفاصلة ستدور رحاها يوم الأحد القادم، ولذا يجب الرحيل عند الفجر. وهو ينتقل بعد ذلك فيلقي كلامه كما لو كان ينطق بلسان كل جنود الجيش الفرنسي. فيذكر لها كيف يحب أولئك الجنود نساء فرنسا. وكيف يموتون وهم يذكرونهن ويتمثلون ابتساماتهن الساحرة. وتتملكه فجأة نوبة يأس وأسى فيخبرها أن هذه الحرب لا تعدو أن تكون كسابقاتها من الحروب، لا تكاد تضع أوزارها حتى يكتفي الشعب بأن يلبس الحداد في استهتار وعدم اكتراث مدة ما. وتلقى بعض الخطب بجانب التماثيل المقامة للشهداء. ثم سرعان ما ينسى كل شيء ويعود الجميع إلى السرور والمرح واللهو والعبث. وهو لا يغار من السعادة التي سوف يفوز بها الذين سيبقون بعد موت أولئك الشهداء، فهو يعلم أنه يفني حياته لكي يمهد السعادة للباقين ولكنه يرجو على الأقل أن تحتفظ فرنسا بذكريات أولئك الشهداء، وهو يربأ(706/54)
بذلك التمثال الذي شادوه من حطام آلامهم وأحزانهم أن يدفن في رمال الأجيال والقرون، وهو يرى أنه يجب على فرنسا أن تستمر على معرفتهم وأن ترثي لهم وتترحم عليهم! وتنصت (أود) إلى قوله في صمت ثم تؤكد له أن الأموات من جنود الوطن يسمعونه، فيناديهم بأسمائهم، ويخبرها أنه قد تبين أصواتهم فقد أجابوه وقالوا له جميعاً: (كونا سعيدين).
ثم تطلب إليه أن يدنو منها وهي تقول له في لهجة شعرية رائعة أخاذة.
- دع شفتي حتى أستطيع أن أحدثك. . . ضع فمك بقربهما تماما. لا. اعطني إياه. آه كم كنت أود أن أتمكن من إعطائك قبلاتي وكلماتي في آن واحد! أغمض عينيك كما أغمضهما أنا. أطفئ هذا الضوء الشرير (يطفئ المصباح وعندئذ تظهر على زجاج النافذة بشائر الفجر، الفجر الفظيع الرهيب الذي تحدد لرحيل الجندي العاشق. ولكنهما لا يزالان مغمضين عيونهما فلا يرياه) إنني إذ أكون لك أنسى العامل. خذ مني كل ما في من شباب. إنني أعطيك إياه. إنه لك. لك وحدك. لك دائما وإلى الأبد. أنت وحدك الذي سوف يعرف حرارة جسدي، إنني أذوب في حياتك. ثم تتذكر الفجر فتفتح عينيها وتقول وهي مضطربة: أنظر.! لا تنظر.! إنه هو. كلا. إنه ليس هو. قل إنه ليس هو. إنه ليس هو الفجر! فيقف ويحييها في جرأة وإقدام: إنه الفجر.
فتمسك به وهو على حافة الفراش وتقول: ليس هذا هو الفجر، لا شك أنه هو!
ويتأثر الجندي الشاب لذلك الحنان العجيب الذي تظهره (اود) فيذهب إلى النافذة ويسدل عليها الستائر. وهو يقول: إنه ليس الفجر ما دمت تريدين ذلك
- وماذا تساوي إرادتي؟
مادمت هنا فهي التي تسود العالم
- إذن فلا تسافر
- حسن. سأبقى
ثم يطلب إليها أن تنام لتستريح فتبدي له خوفها من أن يغادر المنزل وهي نائمة. فيؤكد لها أنه سيبقى. وتشعر أنها جد سعيدة إذ تراه بجانبها يتحدث إليها وهي في الفراش. فهذا أبدع من سماع الموسيقى. فالموسيقى تدلل الجسد، أما الحديث فهو وحده الذي يدلل الروح.(706/55)
وتلتمس منه أن يقسم لها بأنه لن يتركها فيقسم وعندئذ تتمتم: إنني سعيدة
وتنقضي فترة ثم يسألها: أتنامين؟
(تجيبه هامسة: (اجل) فيذهب غلى النافذة ويزيح الستار. ثم يرى (اود) نائمة فتخونه شجاعته ويقطع الغرفة ذهابا وإيابا في تهيج واضطراب ويلمس فمها بإصبعه ليتأكد من نومها وهو يتمتم):
- (أتنامين؟)
فاذا وثق من أنها نائمة وضع رأسه على المائدة وأخفاه ثم أخذ يبكي وقد بدا ضوء المصباح يغمر الغرفة وهو يحاول جهد طاقته ألا يوقظ اود. . . ويبكي ويبكي. . . مع أنه لم يكن يعرف البكاء من قبل!
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في غرفة أخرى من غرف المنزل اجتمع فيها الأب الشيخ بابنه الجندي وخطيبته أود. وأنت تفهم منذ بداءة الفصل أن الجندي قد عدل عن الوعد الذي قطعه على نفسه أمام خطيبته، واعتزم الرحيل من جديد والعودة إلى ساحة القتال. وهو يذكر ذلك لوالده ويلفت نظره في سخرية إلى أن هذا الرحيل سوف يتيح له - أي للأب الشيخ - الفرصة للاستمتاع بذلك النظام اليومي الذي إعتاده في حياته مع (أود). سوف يعود إلى تلقي قبلتها في المساء قبل أن تذهب إلى فراشها، وإلى سماع صرير المفتاح في باب غرفتها، وإلى التلذذ بالسكون الفاتر يسود جو المنزل. وأنت تحس بأن الشيخ يحوم حول معرفة ما فعله الشابان في الليلة الماضية، وهو يرغب في معرفة ذلك، فهو يذكر أنه لم يرضوءا في غرفتهما عندما أغلق نافذته في منتصف الساعة الرابعة ويتساءل عن سبب ذلك وهو يستشف من خلال إجاباتهما ما يثيره ويستفزه، فهو يهاجم ابنه إذ اجترأ على تلويث فتاة عذراء كانت تحت حمايته هو! وأنت تحس من طريقة إلقاء ذلك الشيخ ولهجته أنه يغادر من ابنه غيرة لا يكاد هو نفسه يشعر بها، فهي غيرة تشتعل في عقله الباطن، ويتجاهل أن تلك الفتاة إنما هي خطيبة ابنه وحليلته، وهو لا يستطيع أن يضبط غيرته من الشباب الذي يتمثل في ابنه وخطيبته. ويشعر الابن الجندي بذلك ويجابه أباه به، وينكر أن للأبوة حقاً في أن تتعرض لمثل ما تعرض له أبوه. فلا يمكن أن يحكم على تصرفات جندي إلا من عرض حياته للفناء في ساحة القتال، ويثور الابن فيصارح(706/56)
أباه بأنه إنما ينتقده لأنه لا يريد أن يحرم من التمتع بذلك النظام الذي اعتاده في حياته مع (أود) أثناء غيبته في الحرب، ثم يقول بمنتهى الصراحة: (إنه مما يضايقك أن أظل حياً! ويدهش الأب الشيخ لذلك، ولكن الابن الجندي يعلل هذا بما سبق من أن أباه يغار منه دون أن يشعر بتلك الغيرة، وهو يحس الآن بأن غيرته قد جرحت بعد الذي علمه مما دار بين الخطيبين في الليلة الماضية). ويثور الابن على شيوخ العالم ويقول: (إن الشبان قد اختفوا في هذه الحرب وعاد الشيوخ إلى احتلال مكانتهم كرجال وشبان من جديد. ويتهم والده بأنه يكرهه. وهنا تطلع (اود) والد خطيبها على ما ذكره لها خطيبها من أن الحرب ستطول وأنه أخفى عليهما ذلك. ويدهش الأب لهذا، وتخشى (اود) أن يموت خطيبها في تلك الحرب! وعندئذ يقول الجندي لها:
إذا مت فإنني أمانع في بقائك هنا - ثم يبدي رغبته في أن يصطحبها معه إلى باريس، فتمانع في ذلك، ويظن الأب الشيخ أنها تمانع من أجله فيشكرها. ويلح الجندي في ذلك ويطلب إليها أن تختار بينه وبين أبيه؛ ويدور بينها وبين الشيخ هذا الحوار العجيب!
هي - سيرحل؟
الشيخ - هل طرده أحد!
هي - سيذهب؟
الشيخ - ليذهب
هي - سيعود إلى وطيس المعركة
الشيخ - فليؤد واجبه
هي - إنه يواجه الموت
الشيخ - يتوهمون ذلك دائما!
وفي تلك الأثناء تكون أود بجانب الشيخ فيظهر عليها الاشمئزاز منه وتتراجع وهي تنظر إليه في احتقار وازدراء وتقول في صوت قوي: إنك ترعبني! فيصيح الشيخ: (اود!)
ولكنها تلتفت إلى الجندي وتقول: (خذني!) وتصارح الشيخ بأنها تشمئز منه وأنها لا تريد البقاء. وتؤكد لخطيبها أنها لم تفكر في أحد غيره. وأنها له وحده. تفخر وتزهي بأنها زوجته أو بأنه جعلها زوجته! ويسألها الشيخ عما إذا كانت لم تشعر بحبه لها أو بحبها له.(706/57)
ولكنه ينتبه إلى وجوب التزام الوقار والحكمة! وتلتفت إلى خطيبها فتعاهده بأنه إذا مات مستشهداً في ساحة القتال فسوف لا تعرف في الحياة بعده إلا ذكراه. . . وينصح لها الشيخ ألا ترتبط بمثل ذلك التعهد فتسخر منه وتكرر قسمها بأنها سوف تقنع بذكرى خطيبها إلى أن تلحق به. . . فإذا عاد الشيخ إلى نصحها غالت في قسمها وعاهدت خطيبها على أنه إذا مات فستلحق به. ثم يشتد بها الضجر من الجو الذي يحيطها فتطلب أن يأخذها معه فيتوسل الشيخ إلى ابنه قائلا: اتركها لي. وعندئذ تلتفت إليه وتقول: أتوجه إليه الكلام!
الشيخ للجندي - قل لها أن تبقى. وتسخر منه اود فيعترف بأنه وهب قلبه لها للمرة الأولى في حياته. فتنبهه أي أنه يجب أن يهبه لابنه وحده. ثم تسأله: هل تعرف شيئا عن الحرب؟
الشيخ - أعرف اليوم للمرة الأولى. ثم يعترف بأنه لا يمكن لامرئ معرفة الحرب إلا بعد أن تدميه وتمزق قلبه. وها هو يشعر بقلبه يتمزق! وعندئذ تشير إلى الجندي قائلة: إذن أنظر إليه الآن!
الشيخ (نعم) - يا صغيري المسكين!
وتطلب إليه أن يحييه ويستغفره فيتقدم الشيخ إلى ابنه ويسأله الصفح وهو يقول: إن البطولة أيها الشبان من حقكم الطبيعي. إنني أتوسل إليك أن تعفو عما ارتكبته من حطة وضعة. لا أطلب شيئا آخر. . . سافرا. . . انسياني. (لابنه) ولكن لا تسافر قبل أن تقول لي أنك عفوت عني. فها أنا ذا والداك أجثو تحت قدميك. عفوك. فيتأثر الابن الجندي ويعفو عن أبيه ثم يقول: إنه لشيء جميل أن يكون رجل هرم مثلك بهذا الحنان. لا تأسف على ما شعرت به من الألم. فإذا تألم الشيخ أصبح شابا. لا وسيلة غير الألم لكي تقترب منا نحن الشبان.
وهذا هو في الواقع محرر القصة كلها، فقد وفق المؤلف توفيقاً تاماً إلى الغرض الذي يرمي إليه. إذ كان واجب الابن الجندي أن يرفع خطيبته ووالده إلى مستوى البطولة، وأن يسمو بهما إلى المثل العليا النبيلة التي وصل إليها حماة الوطن من جنود الجيش الفرنسي أثناء الحرب. . . وها هما قد ارتفعا وسمت نفساهما إلى السماء. . . وها هو الابن يعرض على (أود) أن تبقى مع والده بعد أن صفح عنه، فيأبى الوالد هذه المرة ويرفض. ولكن الابن يلح فيقبل الشيخ في خجل وحياء أن يحمي زوجة ابنه. ويلتفت الجندي إلى خطيبته فيطلب(706/58)
إليها ألا تنفذ ما قالته له من أنها ستلحق به إذا مات في ساحة القتال فهو لا يريد ذلك. بل هو يتوسل إليها أن تبحث لها بعده عن شاب يكون قد خاض غمار الحرب وأدى واجبه القومي. ويجب عليها ألا تترفع عن حبه إذا بادلها هو الحب. فإذا وصلت شخصيات القصة الثلاث إلى هذا الحد من السمو والتطهر اقتربت اود من خطيبها وهي تقول: أحبك. . . ويقول الوالد لابنه في صوت قوي: إبق حيا.
ويظهر الابن الرضى والاطمئنان ويتقدم إلى الباب وهو يقول: حسن.
وتنتهي القصة هكذا.
الشيخ - عد إلينا ناجيا
هي - أحبك
الشيخ - إنني في حاجة إلى يدك لكي تغمض عيني.
هي - أحبك
ويكون الجندي إذ ذاك قد بلغ الباب فيلتفت إليهما ويقول في لهجة مفعمة بالحب: كونا سعيدين!
ثم يختفي ويسمع صوت الباب الخارجي وهو يغلق ثم صوت العربة وهي تبتعد. وتظهر علامات الأسى على (اود) فتسقط على أحد المقاعد ويشترك الشيخ والشابة في البكاء والأنين!
(البصرة)
سهيل(706/59)
العدد 707 - بتاريخ: 20 - 01 - 1947(/)
أشهر الرسائل العلمية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كلمة الرسالة من الكلمات التي يستشهد بها على تطور الكلمات في معانيها ودلالاتها على حسب أحوال الزمن ومناسباته، فالرسالة مكتوب يرسل من إنسان إلى إنسان، والرسالة دعوة دينية يؤديها رسول من الله، والرسالة مهمة من مهام الإصلاح والإرشاد، والرسالة في المصطلح الحديث كتاب صغير في بحث وجيز، والرسالة اسم هذه المجلة التي تجمع بين هذه الدلالات ما عدا الرسالة السماوية التي يختص الرسل من الأنبياء.
وربما كان أصل الكلمة كلها من مادة (الرسل) بمعنى اللبن إذ يفيض سهلاً من الأثداء، ثم استعملت للخصب والسهولة والانطلاق الرخي الذي لا تعويق فيه، ثم كان إرسال الشيء عامة هو نقله من مكان إلى مكان في رفق ولين. ثم كان الإرسال لكل تحريك رقيق أو عنيف ورخي أو شديد.
وهكذا تتطور الكلمات في اللغة العربية وتبقى أصولها كما تبقى معانيها المجازية وهي تتحول مع الزمان وتحولنا معها وإن أبينا عليها التحويل.
والرسائل التي نعنيها في هذا المقال هي المكاتيب بين الآحاد وهي أيضاً قد تحولت مع الزمن وتطورت مع مستحدثاته السابقة واللاحقة، ومنها تعميم الكتابة وتنظيم البريد وشيوع المطبعة على التخصيص.
فانتشار التعليم مع انتظام البريد قد جعل الرسالة كثيرة الأغراض يكتبها العامي الجاهل كما يكتبها الأديب المطلع، وتكتب في الشئون اليومية كما تكتب في الشئون الإنسانية الباقية. فليست كتابتها اليوم موضع احتفاء وتنميق كما كانت يوم كان كتابها جميعاً من العلماء والأدباء. وكانت - لصعوبة انتظام البريد - تدخر للموضوعات النادرة والأساليب الأدبية أو الأساليب التي تلاحظ في مخاطبات الدول والرؤساء.
وشيوع المطبعة قد جعل الطبع وسيلة لنشر المؤلفات العلمية والمصنفات الأدبية. فأصبحت الرسالة الخصوصية كالملابس الخصوصية في قلة الاحتفاء والعناية، وكادت العناية أن تقتصر على الموضوعات التي تذاع وتشاع، خلافاً لما كان في عصور الأمية ونقل الكتب بالأيدي في نسخ معدودات.(707/1)
فأقل ما يقال عن تطور الرسالة مع الزمن أنها لم تتقدم في عصر المطبعة والبريد، وأنها أصبحت من الموضوعات التي لا تخص بالتجويد والتحسين، وقد خص بالعجلة وقلة الاكتراث.
وهذا سبب من أسباب الحرص على هذا التراث الذي يستحق الإحياء والاستبقاء، ولعلنا نحييه ونحب العناية به إلى كتابه إذا أعدنا ذخائره القديمة إلى الذيوع والتداول، وأضفنا إلى رسائل البلغاء في اللغة العربية نماذج أخرى من رسائل البلغاء في اللغات العالمية، كما فعل صاحب الكتاب.
هذا الكتاب هو (رسائل العالم الكبرى) وجامعه هو لنكولن شستر الأمريكي ومصادره هي لغات العالم القديم والحديث ومنها اللغة العربية. فقد ترجم منها رسالة الاسكندر إلى دارا التي يسمى فيها الاسكندر بلفظه العربي ذي القرنين، وترجم غير هذه الرسالة من الروسية والألمانية والفرنسية واللاتينية والإغريقية. فكان الكتاب من أوفى مجموعات الرسائل الكبرى التي ظهرت في العهد الأخير.
ومن أصحاب الرسائل المجموعة رجال من أعظم أعلام التاريخ في العلم والفن والحرب والسياسة. نذكر منهم كولمبس وباكون وفولتير وواشنطون ونابيلون وروبسبير وهكلي الكبير وبيتهوفن وبيرون ودستيفسي ونتشة ولنكولن وزولا ومارك توين وعشرات من هذه الطبقة في العصور القديمة والحديثة، يفرغون قلوبهم في ودائع أدبية لم يقدروا لها - أو لأكثرها - أن تصل إلى أيدي القراء، ويسرون فيها أحياناً غير ما يعلنون من الوساوس والآراء.
وفي المجموعة رسائل لأناس لم يشتهروا في الشرق كما اشتهر الذين ذكرناهم فيما تقدم، ولكن رسائلهم في الغرب ذخيرة من أنفس ذخائرهم المروية بين الأدباء والأديبات، ومن هذا القبيل رسائل أبيلاب الفيلسوف الكاهن وهلواز الفاتنة المترهبة، وقصة حبها الفاجع كأغرب القصص التي تروي عن عشاق العرب المشهورين.
توفر على ترجمة نخبة من هذه الرسائل إلى اللغة العربية أديب قدير في النقل من الإنجليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنجليزية، وهو الأستاذ محمد بدران، وأصدر الجزء الأول منها في أكثر من مائتين وأربعين صفحة من القطع الكبير، وسماه أشهر(707/2)
الرسائل العالمية، وأجاد النقل في لغة سهلة صحيحة دقيقة التعبير. فهيأ لقراء العربية مادة من القراءة الممتعة النافعة لم تتهيأ لهم قبل هذا الكتاب، وأعطاهم في كل رسالة من هذه الرسائل التي بلغت خمساً وستين زادا للفكر والعاطفة يقعم القلب والخيال.
ويأبى شتر صاحب المجموعة الإنجليزية أن يصدق أن عصر البرق والتلفون قد جنى على الرسائل وضيق عليها المجال. فهو يقول في مقدمة المجموعة: (إن اعتقاد المعتقدين أن البرق والتلفون قتل فن المراسلة هو في رأي اعتقاد بغير أساس. ومن حين إلى حين ينهض كاتب من كتاب المقالات والفصول فينعاها ويأسف لزوالها في غضب مشروع، وإنه لكمن ينعى وقائع الحب العظمى والصراع العظيم والفن العظيم والمأساة العظيمة والخواطر العظيمة، وقد يجد الجواب المبين في الرسائل الباقية التي احتوتها هذه المجموعة واشتملت على تلك الصيحات المثيرة التي بدرت من أميل زولا وروبرت لويس ستفنسون ومدام كوري وبارتولميو فانزيتي ولورنس وكونراد وتروتسكي وتوماس مان. وغيرهم من المعاصرين الذين انتخبنا لهم بعض الرسائل في هذه المجموعة. . .)
وعندنا أن هذا الإشفاق من الرجل المشغوف بفن المراسلة هو ضرب من إشفاق الوالدين على الأبناء.
فكل فنان متعلق بنفه يأبى أن يسمع نعيه أو يترقب زواله، وكل والد يحب وليده يأبى أن ييأس من حياته ولو أنذره باليأس منه أقدر الأطباء.
ومثل هذا الشغف معقول ومقبول، ولكنه لا ينفى الحقيقة التي تدل عليها عبارة المؤلف هذه وهو يسوقها لنفسه وللقراء مساق الطمأنة والتبشير. فلو قيس ما كان ينبغي أن يكتب في العصر الحديث من رسائل الأدباء إلى ما كتب فعلاً واختاره في المجموعة لظهر أن الواقع لا يتجاوز معشار المطلوب أو المأمول. فإن العصر الحديث يخرج لنا من الأدباء في كل قطر ما يربى عدده في الجيل الواحد على عدد أمثالهم في جميع العصور اليونانية واللاتينية، وهم مع هذا لم يكتبوا جميعاً مثل ما كتبه الأدباء الأقدمون أو ما كتبه معاصروهم من العظماء والرؤساء.
فلا شك في جناية البرق والتلفون والبريد والمطبعة ومقابلات المسارح ودور الصور المتحركة على تبادل الرسائل البليغة ومساجلات العاطفة والفكر بين أبناء البلد الواحد(707/3)
فضلاً عن البلاد القصبية، ولكن الأمل في دوام هذا الفن منوط بكثرة الكاتبين وإن قل نصيبهم من الكتابة. فإن ألفاً يكتب عشرهم وينقطع عن الكتابة تسعة أعشارهم أوفر أثراً من عشرين أو ثلاثين يتبادلون الرسائل أجمعين، ومن هنا يرجى دوام هذا الفن الجميل في عصرنا الحديث على الرغم من مواعيد التليفون ومقابلات المسرح وقلة الاكتراث بالرسالة الخاصة إلى جانب المطبوع والمنشور.
على أننا نحسب أن هذا الفن على جماله وإغوائه لا يستغني عن التشجيع والاستبقاء، وليس أدعى إلى استبقائه وإغراء القراء به من تزويدهم بالنماذج التي يلتذونها ويقبلون عليها ويستزيدون منها فقد يكون هذا الإقبال مدعاة إلى المحاكاة أو إلى ابتداع فن للمراسلة لا يتوقف على مرسل ومرسل إليه بل ينفرد به كاتب واحد يفتن في الخطاب والجواب.
ولم يكن هذا التراسل المخترع بدعا في العصور الأولى وهي العصور التي ازدهرت فيها الرسالة ولم يكن لأصحابها غنى عنها بالبرق والتلفون. فقد حقق شميدلر الباحث الألماني أن رسائل أبيلارو هلواز قد أنفرد أبيلار بكتابتها كلها ولم تشاركه فيها هلوار على ما هو مشهور في الآداب الأوربية، وعرض برتبراند رسل لهذه الدعوى في كلامه عن أبيلار فقال: (إنني لست من ذوي الاختصاص في تمحيص هذه الدعوى، ولكني أرى إنه ليس في خلائق أبيلار المعهودة ما يمنع قبولها ويجعلها في حكم المستحيل.
فإذا جاز هذا فيما مضي فهو أقرب إلى الجواز في العصر الذي نحن فيه، ولا شك أن صدق الواقع أجدى في كتابة الرسائل من صدق الفن أو صدق الإبداع. ولكن صدق الفن لا بأس به على العلات إذا كان فيه تعويض لجناية البرق والتليفون على نوع جميل من الكتابة تحيق به نذر الزوال.
وليس أولى بتحقيق هذا الغرض المرجو من عمل كعمل الأستاذ بدران، ولعل إقبال القراء على جزئه الأول يجعل بظهور الأجزاء التالية وإضافة النماذج الجديدة إلى النماذج القديمة، من مصادر شتى تفتح له أبوابها معرفته الوافية بالإنجليزية، وهي لا تخلو من أوسع المراجع في هذا الموضوع.
عباس محمود العقاد(707/4)
الذي قال أنا ربكم الأعلى
للأستاذ علي الطنطاوي
لبس ثيابه واستعد ولكن الباب لم يفتح، فوقف وراءه يصغي فلم يسمع صوتا، فضاق صدره حتى أحس كأن مرارته ستنشق، وأن أعصابه ستتمزق، فجعل يدور في الغرفة وساعته في يده ينظر إليها، حتى فتح الباب وأقبل الحراس ليقودوه إلى المحكمة. . .
وكان يرقب هذه الساعة ويعد لها الدقائق والثواني، لا حباً بالحكمة ورغبة فيها، بل هرباً من الوحدة وخوفاً من لياليها، فقد كان يمر عليه الليل طويلاً ثقيلاً، وهو وحيد في حجيرته (زنزانته) لا رفيق له إلا ذكرياته وأفكاره، ولا مسرح لنظره إلا هذه الغرفة الضيقة، يحدق في جدرانها التي يسيل عليها هذا الضوء الأصفر الشاحب، ويوهمه طول تحديقه فيه أنه يرتجف ويضطرب، وتتراءى له ظلال غامضة لا تلبث أن تضح فيرى فيها صورة مشنقة منصوبة، فيغمض عينيه عنها ويحاول أن ينام فتلاحقه هذه الصور وتزداد بشاعة وهولاً. . . فيحس أنه مشرف على الجنون، ويقوم إلى الباب يشده ويعالجه حتى تكل يداه، فيسقط إعياء وبأساً. . . . ولم يكن يتمنى إلا إنساناً يحدثه، عدواً أو صديقاً يجد عنده صدى خواطره، ورجع أفكاره، ليقنع نفسه أنه لا يزال عاقلاً لم يجن!
لذلك كان يجد هذه الساعة نعمة سابغة، لأنه يلقي فيها أولاده وصحبه، راكبين معه السيارة مقيدين مثله بالسلاسل والأغلال الثقال، ولكن ألسنتهم طليقة فهو يستطيع أن يكلمهم ويكلموه، وهو يلمس من خضوعهم له وإكبارهم إياه ما يثلج صدره، ويعيد له ثقته بنفسه وإنه لا يزال (رباً) معبوداً، وإن قيد وسجن، ولا يزال له عباد مخلصون. . . لم تذهب المحنة سلطانه عليهم، ألم تلق امرأة من أتباعه نفسها تحت سيارة السجن لأنها لا تطيق أن ترى الرب. . . أسيراً مغلولاً؟ ألم يشهد عليه واحد من عبيده غاضاً بصره. فلما قال له الرئيس: أنظر في وجهه. صاح: لا أستطيع، لا أستطيع.؟! فهل يسلمه هؤلاء ويدعون يساق إلى الموت؟ لا. واطمأن ووثق من النجاة، ورأى الدنيا لا تزال على العهد بها، فالشمس مشرقة، والبلد يعج بأهله، والناس يذهبون ويجيئون، ويبيعون ويشترون، ويضحكون ويمرحون، وكان يخيل إليه في وحدته أن الدنيا قد شملها الظلام الذي ملأ نفسه، وإنها فقدت رواءها، وغاضبت منها بهجتها.(707/5)
وسأل ولده: كم مضى من الشهر؟ فلما أخبره نظر فرأى أنه قد مر على سجنه شهران. شهران فقط وقد كان يحسبهما عمراً طويلاً؟! وجحظت عيناه دهشة وسبح بنظره في الفضاء، لقد أنساه هذان الشهران حياته الماضية كلها، ومحوا منها أيام الحرية والعز والربوبية، فكأنه ولد سجيناً مقيداً، لم يكن قط السيد الذي يطاع، والرب الذي يعبد، وكأنه لم يكن له شعب يعيش به وله، ويبذل الروح في سبيله. ولا يريد من الدنيا والآخرة إلا رضاه.
وأيقظه من ذهوله صوت الجندي يدعوه إلى النزول من السيارة، فقد بلغت المحكمة، فرأى الناس مزدحمين لينظروا إليه ويتسلوا برؤيته، وكان يعرف أكثرهم ويعرفونه، فأغضى وامتلأت نفسه حنقاً على الحكومة لأنها جعلت محاكمته في اللاذقية حيث قام عرش ربوبيته ليراه الناس، ويعلموا مصيره، ولم تجعلها في دمشق المدينة الكبيرة التي لا يعرفه فيها إلا القليل ورأى الناس متلهفين على إشباع أبصارهم منه، والشماتة به، كأنهم في رواية تمثل على المسرح، يريدون أن يأخذوا بحظوظهم من المتعة بها ليعودوا إلى دورهم، ويصلوا ما انقطع من أعمالهم، الحملة هكذا: والرواية رهان على رأسه بين النائب العالم والمحامي أيهما أبلغ مقالاً، وأطول لساناً، وأقدر على سرد مواد القانون. نعم سيعود الناس إلى دورهم، إلا الرب، فل تبقى له دار يعود إليها!
وكان في جلسات المحاكمة الأولى ممتلئاً أملاً، واثقاً بنفسه وبقيام شعبه بنصرته، ولكنه سمع في هذه الجلسة شهادات أتباعه عليه، والوثائق تنهال على عاتقه كأنها ضربات معول صلد على جدار من اللين. . . تضيق عليه باب النجاة، وتسد طريق الخلاص، فتضعضع وأوشك أن يموت في نفسه الأمل.
وسمع النائب العام يتكلم، ويطلب له الموت، ففكر أن يثب إلى عنقه، فيضع يديه على رقبته فلا يرفعهما حتى يخنقه وليصنعوا بعد ذلك ما يريدون، أيقدرون على أكثر من الموت؟ وتصور الموت ففزع منه وخافه، لا، إنه لا يريد أن يموت. . . وسمع محامي الدفاع يقول كلاماً سخيفاً، فأعرض عنه، وأبغضه، وماذا يقول المحامي وهو نفسه لا يستطيع أن ينكر شيئاً مما اتهم به؟
ودنت ساعة الحكم.(707/6)
تلى كلام طويل، لم يستطع أن يتفهمه، لأن ذهنه كان معلقاً بكلمة واحدة، هي التي تحدد مصيره، قد حبس لها أنفاسه، ووقفت لها دقات قلبه، وخال كل ثانية في انتظارها دهراً، فلما سمع هذه الكلمة خارت قواه، ووهى عزمه، وسقط على كرسيه لقد كانت هذه الكلمة: الإعدام!
ورأى الناس يثبون إليه، ويتدافعون ليحدقوا في وجهه، والمصورين يوجهون إليه آلاتهم ثم شعر كأنه انفصل عن هذه الدنيا ثم ابتعد عنها، حتى رآها وهي تدور من حوله، وقد تداخلت مشاهدها، وخفيت معالمها، ورأى الناس كأشباح تتحرك خلال ضباب الأوهام، وأحس بالقيود توضع في يديه، وبأنه سيق إلى السيارة فألقي على مقعدها، وسمع قهقهة كأنها صاعدة من جوف جب عميق، ولغطاً فيه ذكر اسمه وذكر المشنقة. ثم أخذه الدوار، ولم يعد يدرك شيئاً.
ولما احتوته حجيرته أحس أنه انحطم وسحقت عظامه، كأنما مشت عليه المسالف. . . لقد حكم عليه بالإعدام. . . ولكن الليل قد انقضى وطلع الصباح، ثم نزل الليل مرة ثانية، وهو حي كما كان من قبل الحكم، إلى إن لم يعد يخرج إلى المحاكمة، ولم يعد يرى أولاده ولا صحبه، وكانت الأيام والساعات تمر به فارغة واسعة كأنها أبهاء قصر مهجور، وقد كانت له أعمال يفكر فيها كما يفكر الناس فينسى بها مر الوقت وكر الزمان، فأمسى وليس في حياته إلا الانتظار، وإذا كانت ساعة انتظار النعمة تبدو طويلة مملة، فكيف بمن ينتظر الموت؟ وكان يود لو يتحقق الأمل بالعفو الذي وعده به محاميه، أو يعجل عليه بالموت ليستريح من هذا القلق الذي هو شر من الموت، إذ كان يجهد خياله أبداً ليتصور ساعة الإعدام، حتى ليحس كل لحظة شدة الحبل على عنقه، وحرارة الرصاص في صدره، فأكنه كان يموت في كل لحظة مرة. . . وكان أشد ما يزعجه من الموت هذه الفضيحة، وأن يراه ذليلاً مهيناً من كان يراه بالأمس سيداً ورباً، ولو جاءه الموت طبيعياً كما يموت الناس لما آلمه هذا الألم، أما أن يتحكم فيه بشر مثله، وأن يملك نزع حياته من بين جنبيه وهو لا يملك منحها ولا ردها، فذلك ما لم يستطع حمله. . . وفكر في العفو فرآه سهلاً قريباً، أن في يد رجل مثله مخلوق من لحم ودم، لا يكلفه إلا أن يكتب بقلمه ثلاث كلمات في ذيل العريضة التي قدمها محاميه، فهل يضن بها؟ وهل تهون حياته هذا الهوان حتى لا تساوي(707/7)
مشقة كتابة ثلاث كلمات؟
وتنبه ضميره فذكر كيف كان يستهين هو بحياة الناس، وذكر كم أزهق من أرواح، وكم أهلك من نفوس، وكيف كان يدع طعامه فيقتل الرجل ثم يعود ليتم طعامه كأنه لم يصنع شيئاً، وكيف كان يقتل وهو يتحدث ثم يرجع إلى حديثه لا يقطعه، ولقد كان فيمن قتل أزواج عاشقون لهم نساء، وآباء لهم أولاد، وشباب لهم أمهات، فما فكر في نسائهم ولا أولادهم ولا أمهاتهم فهل يفكر أحد اليوم في زوجاته وأولاده؟
ومرت به الأصباح والعشايا وهو يرتقب وما من جديد وانحصرت حياته في النوم والطعام والتفكير وما ينام وإنما يهده اليأس فيلقي جنبه على الفراش يرى مروعات الأحلام، وما يأكل وإنما يضعفه الجوع فيدس في فمه لقيمات تقيه الموت، وما يفكر وإنما يرى صور ماضيه ماثلات على جدار الغرفة، فينظر إليها كما ينظر المرء إلى فليم في سينما.
فجعل ينظر إليه. . .
رأى (جوبة البرغال) هذه القرية التي تغلغلت في جبال العلويين حتى وجدت أقفر بقعة فيها وأوحشها وأبعدها عن العمران، في فجوة من الصخر، يطيف بها جبل قائم فيطوقها من جهاتها الثلاث، كأنه حصن حربي فلا يدع لها إلا بابا ضيقاً يطل منه جبل آخر، يمد إلى (خشمه) فينحدر إلى الفجوة حتى إذا توسطها اضطجع وتمدد، فاستقرت الجوبة على عنق هذا الجبل النائم، يحميها كتفه من هنا ومن هناك قلعات الصخر الراسيات من الجبل المستدير، وذراه الشامخات الأعالي، هذه هي عاصمة ملكه، ومعقله ومثوى عرشه الرباني. . . التي ظن أنها ستعصمه من جبابرة الأمس ومن عفاريت الجن، ومن القنابل الطائرة والنازلة والذرية. . . ثم تمده بالقوة والأيد حتى يقرأ منها على الدنيا، مرة ثانية، كتاب الذعر والخوف والاغتيال، الذي كتبه من قبل في هذه الجبال وهذه التلاع اتباع الحسن بن صباح وسنان شيخ الجبل. . .
وتبدل المشهد وعاد به إلى الماضي، إلى أول عهده بالدنيا يوم كان فتى غراً يرعى الأغنام في هذي التلاع، لا يحمل هما، لأن الهم يحتاج إلى فكر ولم يكن له رأس يفكر، ولا يطمع في شيء إلا لقيمات تسد رمقه وتشد صلبه؟ وفراشاً من القش يريح جنبه ألا ليت هاتيك الأيام قد دامت، ودام الفقر والبؤس، ولم يعرف طريق المجد الذي يوصل إلى المشنقة،(707/8)
وذرفت من عينه دمعة، فأسرع فمسحها وتلفت يخشى أن يراه أحد وهو يبكي، قد كان أشد شيء عليه أن يسخر منه اليوم عباده بالأمس، فلم ير أحداً فاطمأن وعاد يستعرض (فلم) حياته على مهل، فرأى أول فصل في كتاب مجده، وأول صفحة من شعر بؤسه. . .
وكان ذلك في يوم بارد من أيام الشتاء، أقفرت فيه الأدوية وسدت المسالك، وبدت الدنيا كلها في ملاءة بيضاء من الثلج، ورجع الرعاة إلى القرية، وعكف الناس على البيوت، وهبط فيه القرية شيخ علوي ذكي مشعبذ، فمر به فرآه مغمى عليه، وكان به داء الصرع. . . فحصاه وأخذه معه، فعلمه فنون الشعوذة، وأقنعه أنه المهدي المنتظر، وطفق يمخرق به على العامة من أهل الجبل، وأهل الجبل كلهم من العامة، وهم أجهل من الأنعام، وأوحش من الوحوش، يفكرون بالله ويؤمنون بالمهدي، وينكرون الوحدانية ويقولون بالتقمص، ويتسلون بالقتل، ويدينون بالنهب، ويتبعون شريعة الذئاب، فسرعان ما آمنوا به وصدقوه والتفوا حوله، كان ذلك سنة 1933.
ويتغير المشهد فيراه وقد قبض عليه وعلى شيخه وحوكما وسجنا، ثم نفيا من الأرض. . . ثم يعود وكله حنق على الشيخ وعلى الحكومة وعلى الفرنسيين وعلى الدنيا كلها، فبدأ بالشيخ فقتله، وأراد أن يمد يده إلى الفرنسيين فإذا هم يمدون إليه أيديهم يعرضون عليه المال والعتاد والألوهية في الجبل على أن يكون عبداً لهم. . .
فصار المهدي رباً. . .
وكر الفلم فرأى هذه الليلة التي أعلن فيها ربوبين ماثلة أمامه: هذا هو القائد الفرنسي، يزوره متذللاً خاشعاً ويقول لقومه: (هذا هو ربنا وربكم)، ثم يطلب إله أن يطلع الشمس في نصف الليل، فيأخذ الرب الجديد مصباحاً في يده فيلوح به، فيرى الجبليون الشمس ساطعة على الجبل الغربي، أطلعها الجنود الفرنسيون بالأنوار الكاشفة، و (البطاريات) القوية، لما رأوا المصباح يتحرك.
وتتابع الصور، أمام عينيه، فيرى (الرب) يتخذ أنبياء وملائكة، ويتزوج النساء بالعشرات ويأخذ ما يطيب له من الأراضي، ومن يستحلي من البنات، ويقتل ويضرب ويحبس، حتى إذا انتهت الحرب، وأحس الفرنسيون أن أجلهم قد دنا، أقبلوا عليه يحالفونه أن يمدوه بالمال والسلاح، ويجعلوه ملكا على الشام كله كما يجعلوه رباً على الجبل، وتمت المحالفة، وصار(707/9)
ملك الشعب الحيدري الغساني (؟!) يسن له القوانين، ويشرع له الشرائع، ويجبي الضرائب، ويولي الولاة. . . ويفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل!
وتمر به صورة أخرى من حياته، فيرى الوطنيين يقبلون عليه يسألونه أن يقبل عليهم، وأن ينفض يده من الفرنسيين، فيأبى ويمتنع. أيدع أحلافه الأقوياء لقوم لا حول هم ولا قوة، أيعود واحداً من هذه الأمة ضائعاً وقد صيره الفرنسيون رباً؟ أيرد ما اغتصب من الأراضي ويحمل وزر ما اجترم من الجرائم؟
كلا. إنه لن يصافح اليد الوطنية، إن الفرنسيين لا يمكن أن يخرجوا من الشام أبداً. . .
(لها بقية)
علي الطنطاوي(707/10)
من الأعماق
للأستاذ سيد قطب
- 1 -
هاأنذا هارب من الدار، ياتوت، لأبعد عن مواقع خطاك، وأهرب من رؤى مصرعك؛ ولكن كيف أهرب من نفسي؟
الصور، والخيالات، والمشاعر المكنونة، والرؤى الحية. . . أولئك أعدائي. . . وهم معي بين جنبي يا توت - وأنت معنا!
رصاصة صماء، ويد بلا قلب. . . وتنطفئ الشعلة، ويطوي سفر، وينطوي عالم. . . وبأيسر من هذا تتم تلك النقلة التي تدير الرءوس هولاً. والأحياء مع ذلك تعيش، وترجو، وتأمل. . . ألا ما أقسى السخرية البلهاء!
كلب!
ما أيسر ما تلوكها الألسن، وما أهون ما تتلقاها المدارك، وما أقل ما تحفل بها المشاعر! ولكن حين يستحيل هذا اللفظ إلى عشرات من الصور والذكريات، وعشرات من الرؤى والطيوف، وعشرات من الاهتمامات الوجدانية والمشاعر الحية. هنا يستحيل كل حرف فيها وكل صوت من مقاطعها، إلى أفاعي مسمومة تنهش القلب، وتجرح الضمير، وتقتات من دماء الأحياء.
دماء! ويحي! ما الذي دس هذه اللفظة في تعبيري الآن؟ دماؤك أنت - يا توت - تلك التي خضبتك وعقرتك! ويحي! لم أنكأ نفسي هكذا، وأتكئ على جرحي بقسوة؟ إنها صورتك الأخيرة يا توت لا تبرح تواجه خيالي، حين يفري جوانحي ألم ضار مسموم.
لقد تماسكت؛ وقد تماسكت، وحاولت أن أغلف المسألة كلها بغلاف من عدم المبالاة. ولكن حين حملتك - يا توت - بين يدي جثة جريحة دامية، لأواريك المقر في جوف الثري، خذلتني قواي كلها. وبدا لي التماسك سخافة كبرى!
ونمت هناك - يا توت - في مقرك الأبدي الذي سويته لك بيدي الراعشة. . . ولكن أنى لي أن أطيق تلك الصورة الواقعة المستحيلة: إن عيني لن تعود فتراك أبداً. إن أذني لن تعود فتسمعك أبداً. إن هذا الجسد الهامد لن يعود فيتحرك أبداً. . . إن شيئاً مما كان كله لن(707/11)
يكون أبداً. . . مستحيل مستحيل ذلك الواقع الذي لن يزول!
توت. توت. توت!
سأقولها، وأقولها، وأقولها. فلا تجيب أيضاً. وسأعود فلا أجدك في الحديقة، ولا في الشرفة، ولا في الردهة، ولا في حجرتي، ولا في المطبخ، ولا في المكتب، ولا في مأواك، ولا في مكان ما على ظهر هذه الأرض الدوارة. . .؟
وحينما يحين موعد انطلاقك من مأواك في الصباح، وموعد غدائك في الظهر، وموعد لعبك في الغروب، وموعد مبيتك في المساء، لن تنبح، ولن توصوص بعينيك، ولن تبصبص بذنبك، ولن تتواثب على أقدامنا وأحضاننا، ولن تزوم احتجاجاً ولن تزق شكراناً، ولن (تصوصو) شكوى. ولن يكون شيء من ذلك أبداً. . .؟
وحين أشتاق إليك كالطفل الحبيب، وحين أذهب لأطل عليك في مخدعك قبل أن أمضي صباحاً. وحين أتوقع أن تطلع لي من حيث لا أعلم عند عودتي ظهراً وحين أجلس للطعام فأسرع لأخلص لك العظم المحبوب. وحين أخشى أن تعبث بكتبي وأوراقي التي تحبها حباً جماً. . . عند ذلك تكون أنت - يا توت - هنالك في تلك الحفرة الصغيرة المنعزلة التي سويتها لك بيدي!
وكرتك النطاطة ستظل هامدة على الأرض، ليس فيها من حراك. وصحفة طعامك، وآنية شرابك، وبيتك الخشبي الصغير كل أولئك لن يعود أحد يسأل: أهي مليئة أم خواء؟!
ويدخل الليل، ويلفنا الظلام، وتغمرنا الوحشة. . . وبين فترة وفترة يشق السكون (نباح) هنا أو هناك، فأنسى أنك هناك وأتلفت بنفسي المتطلعة إلى هجمتك الحبيبة على أطراف ثوبي أو قدمي بأنيابك الصغار؟
ويصبح الصباح، ويمتع الضحى، ويميل الأصيل، ويدخل الليل. وتكر الأيام وأنت أيضاً هناك. ساكن في ذلك المأوي القريب، تفصلني عنك الآباد؟
يا دنيا!
لم كانت هذه السخرية الكبرى سخرية الحياة. . . للفناء؟!
- 2 -
لن أصدق. . . لن أصدق!(707/12)
لقد مضى أمس الأول. ثم مضى أمس. ونحن هؤلاء اليوم. فلم لا تجيء يا توت؟
إن قد مت! أعرف ذلك. ولكن! لم لا تجيء؟!
اليوم هو الجمعة. وأنا هنا في الدار - يا توت - ألا تعلم؟
لقد ضحوت في النوم، فمالك لم تجيء لتوقظني بهمهمتك؟ مالك لا تحاول القفز إلى سريري، مالك لا تزوم محتجاً لأنني لم أستمع إلى ندائك؟ مالك لا تملأ الحجرة نباحاً وقد يئست من إصغائي إليك، فإذا تحركت حركة واحدة عدت تزق فرحاً وابتهاجاً بصوتك الودود الجميل؟
أم لعلك جئت وهمهمت واحتججت ويئست، ثم انصرفت - لتعود - إلى المطبخ، لتتناول نصيبك اليومي من العظام وقد أحضرته لك في الميعاد صديقتك - رقية - التي تحبها وتحبك، وتلاعبها وتلاعبك، وتملأ أوقات فراغها وأوقات خدمتها كذلك مرحاً ووثباً وصياحاً وزياطاً وحيوية، كما تملأ حياة الدار جميعاً!
لا. لست في المطبخ. فها هي ذي شقيقتي هناك وحيدة، ساهمة، كئيبة، مفردة، موحشة. . . هي لا تحاول اليوم أن تحسم الخلافات التي تقع بينك وبين (سوسو) في توزيع الجلد والعظام وزوائد اللحوم. أنت لا ترفع صوتك احتجاجاً لأن زميلك قد عدا على نصيبك، وهو لا يموء صارخاً لأنك عدوت على نصيبه. إنه هادئ ساكن. أم لعله حزين!
ألا تكون في الحجرة الأخرى - يا توت - تعابث صديقتك الأخرى شقيقتي الصغيرة؟ تشد منها كرة الخيط المدلاة وتختفي بها تحت السرير فلا تحس بك ولا بها إلا أن تشد خيطها فلا ينشد فتعلن سخطها عليك، وتحذيرها إياك. حتى إذا نظرت إلى عينيك الجميلتين، ورأت فيهما كل معاني الشيطنة والبراءة، داعبتك باللفظ الذي تعرف، وبالصوت الذي تفهم، وبالإيماءة التي تجيب؟
هأنذا يا توت في حجرة المكتب. . . يا توت! تعال يا توت! ألا تجيء أيها الشيطان الصغير؟ تعال فالشمس التي تحبها تملأ الحجرة، والورق الذي تهيم به ينتظرك للشد والتمزيق.
أوه! رحمتك يا الله!
إن آثار فنجانة القهوة التي سكبت من يدي على المكتب، وأنا أضطرب للنبأ الأليم، نبأ(707/13)
مصرعك الوحشي الغادر، لا تزال. لم يزلها أحد منذ ثلاثة أيام! وهل بقيت في أحد هنا بقية يا توت؟
الفراغ! الفراغ!
ذلك الخواء الموحش العميق المترامي الأطراف، ذلك المخلوق الكئيب الهائل.
ذلك الذي نراه على امتداد البصر وآماد الآفاق.
والصور، والرؤى، والأطياف، والأشباح!
تلك الحيات الكامنة في الضمير، تنهش القلب ويضم عليها جوانحه، وتسمم الحياة والحياة بدونها محال.
والذكريات!
أولئك اللواتي يثبن كلما سكن الحس، وساد الصمت. ولفنا الظلام: ظلام النفس أو ظلام الأرجاء.
وإنا لنهرب إلى أنفسنا - يا توت - فنلقاك هناك. ونهرب من أنفسنا فنلقاك هناك. ونهرب إلى الناس فنحدثهم عنك، وحيثما انجر حديث قفزت إليه من بعيد، واندست ذكراك في مجراه.
يا توت! لم اعترضت طريقنا. ما دمت لا تنوي إلا عمر الأزهار؟
العذاب! العذاب في هذه الحياة!
- 3 -
أبداً لست هنا يا توت. ولو كنت هنا ونحن عائدون هكذا إلى الدار جميعاً، لما وسعتك الحديقة كلها من الفرح، ولملأتها جرياً ووثباً ومراحاً، ولجئتنا عن أيماننا وعن شمائلنا، ولأخذت علينا طريقنا وراء وقداما، ولتواثبت على صدورنا وأقدامنا كالبرق الخاطف أو القذيفة المندفعة، ولملأنا الدار حركة وضجيجاً نتابع بهما حركتك وضجيجك، ونهدئ بهما هذه الشعلة المتوقدة في جوارحك. ولكنك لست هنا يا توت.
فلنخرج صامتين لا نتلفت وراءنا لنرجعك إلى الدار فلا تتبعنا. ولندخل صامتين يجلل الأسى وجوهنا، وتغشى الكآبة نفوسنا، ولنتخاطب فيما بيننا همساً من الكمد، ولتتجاذب عيوننا وقلوبنا بالهم الذي يغمرها جميعاً.(707/14)
أجل يا توت. ولتمت على شفاهنا ألفاظ قاموس كامل كان لك أنت وحدك ألفاظ التدليل والتنبيه والزجر والتخويف والنداء والاسترضاء. فقد انطوى ذلك كله، وعادت ذكراه تلذع أفئدتنا لذعة الجمر كلما هجست في الضمير.
ووددت يا توت - لو أنساك! فقد كدت أفقد كل ما يعرف عن من اتزان وتماسك؛ وتفزعت أعصابي فلست أنام، وفي جوانحي ذلك اللذع الذي لم يعد يطاق. . . ولكن لا أريد أن أنساك - يا توت - لا أريد أن أفقدك كلك. فعزيز على نفسي أن تفرغ من كل شيء حتى من لذعة ذكراك!
- 4 -
كلنا هنا على المائدة - يا توت - فأين أنت؟
لست إلى يميني هنا باسطاً يديك على الأرض في انتظار نصيبك في النهاية، وعيناك تلتمعان بكل ما تريد أن تقول!
عيناك الذكيتان المعبرتان، لقد كانت بيننا وبينهما لغة مفهومة؛ كما كان بينك وبين أعيننا تلك اللغة المفهومة بلا أصوات!
ولكنهما أطبقتا - يا توت - وانطفأت فيهما تلك الشعلة من الذكاء الحاد، والحس المرهف، والإخلاص الودود.
أطبقتا. أطبقتا إلى الأبد. وهذه هي قسوة الموت. . . العدم. العدم المطلق. المطلق إلى غير حد. . . يا للقساوة الصماء!
وأسرع في ازدراد طعامي - يا توت - لا لأخلص لك نصيبك المعلوم، ولكن لأهرب من الخيال المفزع.
لا. لا. لا طاقة لي بهذا العذاب الدائم المتكرر في كل موضع قدم في هذه الدار.
في كل لفتة ذكرى، وفي كل خطوة صورة، وفي كل خطوة عذاب. عذاب قاس ممزق لذاع.
ولكنني أهرب إلى الخارج، فتصاحبني في كل موضع قدم، وفي كل خطرة فكر، وفي كل لفتة بال.
يا توت. يا توت. لم - يا بني! - ألست بنا في الطريق؟! يا رب. يا رب: رحمتك يا الله!(707/15)
سيد قطب(707/16)
يا ليل. . .!
للأستاذ الأسدي محمد خير الله
- 2 -
المذهب السادس:
وقبل أن نمضي في تحقيقنا نورد هنا مذهباً لنا سادساً، كنا على أن نجهر به قبل أن نتولى البحث بما يفرده العلم من حجج، أي أننا كنا نتحسس به، كما هو شأن أرباب المذاهب المتقدمة، دون حجة ولا بينة، ذلك إننا كنا نرى في (يا ليل) مجرد إرسال النغم، أو قل: تجسيده بألفاظ لا معنى لها، شأن موسيقى اليوم لدى إرسالها بالنغم: لي للي لي لم.
والبحث الذي نستقبله كفيل أن يعلم أن الكلمة تنتمي إلى أصل ذي معنى، ثم استعملت لهذا التجسيد.
نعم كثر ما جاء في الغناء من ألفاظ لا معنى لها، غير أن (يا ليل) ليست من قبيلها. ومن هذه الألفاظ: (على يا در يا در يا در يابو العبيسية)، ومنها (دلي يا دلي دلعونا)، ومنها (ما يستعمله العراقيون في مقام البنج كاه - كما يحدثنا الصديق الطبيب رجائي - في قولهم: (هي داد بداد هي جان دلي دلي داد).
فالكلمة إذن ذات معنى مجهول سيأتي كشفه كما كشف لنا الأب بخاش عن سر (الله يسوي دوص دوص ها بيباها) الترتيلة المستعلمة في أعراس حلب دون غيرها.
مذاهب أخرى:
وهناك مذاهب سمعناها من شتى المصادر لا تنتمي إلى شيء مما يحفل به العلم، وهي أن أصل (يا ليل) يا ويلي (وشفيعه أن الحزن من مستلزمات الغناء العربي، ولا يزال العلويون يغنون:
ويل ويلي بوطنجو ... علا جنبو قريبينه
أو أن أصلها يا لآلئ جمع لؤلؤ، كأنما ينادي أحبابه الجميلين المشبهين اللآلي. أو أن أصلها يا آلي أي يا أهلي. أو أن أصلها يا لي بالي أي يا من أنت لي. أنشدني زجال لبناني في دار الأستاذ الفيكونت دي طرازي:(707/17)
قلتلا شو اسمك ... قالت لولو
قلتلا لي لي ... قالت لي: لا لا
وهو من تلاعب البديعيين، وقد سبق إليه.
أو أن أصلها يا أليلي بمعنى يا أنيني مما أيدلت نونه لاما، كقول أبن ميادة:
وقولا لها ما تأمرين بوامق ... له بعد نومات العيون أليل
أو أن أصلها يا ليل بكسر اللام: صنم أضيف إليه، كعبد يغوث وعبد مناة وعبد ود استعملت بعد التحريف للغناء، لأنه ربما يكون إلها للحب كما كان لليونان إله له. أو أن أصلها هلل العبرية، بمعنى سبح، وقد سميت مزامير داود تهليم، أو تصدر جل أبياتها بهللويه أي: سبحوا لله.
تحفيف في يا ليل:
لنمض بعد ما تقدم إلى مهمتنا في التحقيق، ولنتساءل: يا ليل: وأين يا ترى تردد يا ليل؟ أليست تردد في مطلع هذا الضرب الغنائي المسمى لدى العامة بالموال؟ حسن. لنبحث الآن عن الموال في معاجمنا العصرية التي فسحت بعض المجال للمفردات العامية. ها هم أولاء الأستاذة لويس المعلوف في المنجد، وفؤاد البستاني في منجد الطلاب، وحليم دموس في قاموس العوام ينصون في معاجمهم هذه على أن الموال والجمع المواويل محرف المواليا. لنركن إذن إلى هذا النص، ولو جدلا، ثم لنتساءل: ما المواليا؟ ذلك ما يجيب عنه الزبيدي أسمع مؤدي ما ينقل عن حاشية الكعبة للبغدادي، وإذا ذكرت البغدادي لا أتمالك من إبداء عاطفة الزهو والاغباط، إذ إنه احتفظ في آثاره بكثير مما وعته الخزانة العربية الضائعة. نعم لنسمع صدى البغدادي يقول: المواليا نوع من الشعر، اخترعه أهل واسط من مدن العراق، اقتطعوا من بحر البسيط بيتين، وقفوا شطر كل بيت بقافية، تعلمه عبيدهم والغلمان، وصادروا يغنون به على رؤوس النخل لدى جنيه، وفوق مراقي سلالم البناء، ولدى سقى المياه، وفي نحو هذا من الأعمال، وكانوا يرددون آخر كل صوت: (يا مواليا) إشارة إلى سادتهم، فسمى بهذا الاسم، ثم استعمله البغداديون فلطفوه حتى عرف بهم دون مخترعيه إلى أن شاع.
أقول: ولعل في المطلع القديم المشهور الماعا إلي ما ذكر:(707/18)
القول قول العجم: آه يا مواليا ... يا بيض لا ترحلوا ضلوا حواليا
ثم اسمع مؤدي ما يحدثنا به زيدان: وفي العصر المغولي الممتد من القرن السابع الهجري إلى القرن العاشر وضع ضرب من الشعر العامي يقال له: المواليا، كان في بغداد.
وها هو ذا ابن خلدون يقول: وكان لعامة بغداد أيضاً فن من الشعر يسمونه الموليات، وتحته فنون كثيرة، يسمون منها القوما وكان وكان، منه مفرد ومنه في بيتين، يسمونه دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان، تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب. . . بمقتضى لغتهم الحضرية.
ثم يمضي ابن خلدون في سرد طائفة منها (نجتزئ) ذكر واحد:
طرقت بابا الخبا، قالت من الطارق؟ ... فقلت: مفتون، لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق ... رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
والأبشيهي يعقد فصلاً لمختارات المواليا، نورد منها:
وقد أوعدونا الغضايا أننا نخلو ... في ظل بستان حافف بالتمر نخلو
والظل من فوقنا قد بلنا نخلو ... ومن كلام الأعادي قط ما نخلو
والبستاني يتحدث عن المواليا: وفي أصل المواليا أقول أشهرها أن هارون الرشيد أمر بعد نكبة البرامكة أن لا يرثيهم أحد بشعر، فرثت إحدى جواريهم جعفراً بشعر غير معرب، حتى لا يعد شعراً، وجعلت تقول بعد كل شطر يا مواليا، قالت:
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس ... أين الذين حموها بالقنا والترس
قالت: تراهم رمم تحت الأراضي الدرس ... سكوت، بعد الفصاحة ألسنتهم خرس
قال الأستاذ ويل وهو أول ما عرف من الموال. وقال مؤتمر الموسيقى، يقال إن أول ظهوره كان في بغداد، بعد الفتك بالبرامكة، قال الجلال في شرح الموشح (ثم ذكر القصة المتقدمة وزاد عليها):
قيل إن الرشيد حينما بلغه ذلك دعا الجارية، وأراد معاقبتها على مخالفة أمره، فقالت: يا أمير المؤمنين! أنت منعت رثاهم بالشعر، وهذا ليس بعشر لأنه لا يجري على الفصيح، فاقتنع.(707/19)
والمواويل نوعان: الخضر والحمر، والنوع الأخير شائع في صعيد مصر، ويمتاز بالإكثار من التغيير في ألفاظ وقوافيه حتى تتجانس.
حين سرده بعض المعلومات المتقدمة ذاهباً إلى أن الاسمين لمسمى بعينه وأن الثاني محرف الأول - على ما نتصور - ثم زاد: والموال هو أحد الفنون السبعة المعروفة اليوم في الأغاني الشعبية بل هو أكثرها شهرة، تصادفه في كل مكان من العراق حتى مراكش، ومنشأه المدن خلاف العتابا الذي نشأ في الصحراء، ويجوز فيه استعمال اللغة الفصحى ولغة المحادثة. . .
ويكون غالباً من أربعة أشطر أو خمسة أو سبعة.
والقافية في الأول واحدة، أو يشذ عنها الشطر الثالث فقط.
وشاع استعمال ذي الأشطر الخمسة في مصر وتلمسان، والقافية فيه واحد دون الشطر الرابع، ويسمى بالموال الأعرج، وتلمسان تسميه بالخوفي. ومن الطريف أن نشير إلى أن ابن خلدون ذكر هذا الاسم وعده من فروع الموال، ولكن طبعة بولاق استبدلته بالقوما.
أما ذو الأشطر السبعة فيدعى بالموال البغدادي أو النعماني ويطلق مايسنر عليه اسم الزهيري (بالإمالة) أو الزهيري كما هو اسمه في بغداد، والقافية فيه قافيتان، فالأشطر الثلاثة الأولى بقافية، والأشطر الثلاثة الأخرى بقافية مغايرة، والشطر الأخير يرجع إلى القافية الأولى.
أما شهاب الدين في سفينة الملك فيسمى الموال المخمس بالأعرج، والمسبع بالنعماني مقتصراً على ذلك.
وعند جميع المحققين أن الفنون السبعة (المتقدمة) منها ثلاثة معربة أبداً، لا يغتفر اللحن فيها، وهي الشعر القريض والموشح والدوبيت، ومنها ثلاثة ملحونة أبداً وهي الزجل والكان وكان والقوما، ومنها واحد هو البرزخ بينهما يحتمل الإعراب واللحن وهو المواليا، وقيل: لا يكون البيت منه بعض ألفاظه معربة بعضها ملحونة، فإن هذا من أقبح العيوب التي لا تجوز وإنما يكون المعرب منه نوعا بمفرده ويكون الملحون فيه ملحوناً لا يدخله الإعراب، وقد أوضح قاعدة الجميع وأمثلتها صفي الدين أبو المحاسن الحلي في ديوانه وسماه بالعاطل الحالي والمرخص الغالي.(707/20)
انتهى حديث المصادر. ومنها يتضح صحة ما ذهب إليه معجميونا المعاصرون من أن الموال من المواليا، يؤيده:
1 - التقارب اللفظي بين الموال والمواليا.
2 - كون النظم في كليهما تعتوره العامية.
3 - كون الوزن في كليهما من بحر البسيط.
4 - كون أحكام القافية في كليها واحدة.
5 - كون الأعاريض في كليهما يشبهها ضربها.
6 - كون الأعاريض وضربها في كليهما فاعلن وفعلن وفعلان.
7 - أن في كليهما لازمة تردد: هناك يا موالي وهنا يا ليلى.
8 - أن المواليا والموال للغناء.
9 - الغناء في كليهما مرسل.
10 - أن كليهما مصدر بيا.
11 - إطلاق الموسوعة الإسلامية كلمة المواليا.
فإذا كانت هذه القرائن كفيلة أن تقييم الدليل على أن الموال من المواليا كان من الحق أن تحكم أن لازمة هذا لازمة ذاك، وبعبارة أوضح أن (يا ليلي) تحدرت من يا موالي محرفة مطورة تطوير الطبيعة حافر الفرس من زعانف السمك، ما في ذلك عندنا من ريب.
فالموال إذن من المواليا، لا فعال من موله بمعنى صيره ذا مال كأنما يمول صاحبه - كما يذهب الزميل الأستاذ أحمد إيرى - ولا أصله مؤول، لما أن القافية الأخيرة تؤول إلى القافية الأولى - كما يذهب الصديق الطبيب فؤاد رجائي -.
وظني أن لازمة الشرقاوي (يايابا) أو (ياياباي) عدول أتى به الأشراف أو غير الموالي، بعد أن تبوأ الموال مكانه في الغناء العربي، فكأنما أقاموا أباهم مقام المولى.
سبيلنا الآن بعد أن بلغنا غايتنا أن نعقد الصلة بين يا موالي ويا ليل - إن كان ذلك متاحا - الحقيقة أن كرور العصور وكثرة التداول طمسا معالم الأصل في يا ليلى ما خلا النداء واللام والياء فبعد الشبه، حتى لا تكاد تتوسم في هذا الفرع ملامح الأصل إذ ليس ثمة لون من ألوان الاشتقاق المعهود في اللغة يصار إليه، الأمر الذي يجعل الملتمس من وراء(707/21)
الطاقة، وإن كانت إجابة، فإنما هي ضرب من الظن والتخيل، إلا أن تذهب إلى أنه اشتقاق على غير حدود الاشتقاق القياسية، بل ما لنا نطلق كلمة الاشتقاق وللاشتقاق حدود، لنقل: هذه وتلك محرفة بعامل الزمن وبعامل كثرة الاستعمال، كما هو شأن هذه العاديات في المتاحف، وأجدني الآن على حفافي الاطمئنان، وقد لمع في مخيلتي غمر من الكلمات كان شأنها شأن هذا.
(البقية في العدد القادم)
الأسدي محمد خير الله(707/22)
وجهة النظر الجديدة في الحياة
للكاتب الصيني الكبير وان يون شينغ
(حديث ألقاه في جمعية الثقافة المركزية بتشنغ كنغ)
بقلم الأستاذ نور ناهين
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ومع ذلك فإن في تاريخ الصين ما ينزع إلى الأمور الشخصية مثل الذي ذكرت، فمثلاً في عهد أسرة (تنغ) قد استولت على أفرادها النواحي الحزبية، واستعلن النزاع بين (نيو) و (لي)، حيث عقدوا عهداً سرياً على أن يخصوا الإمبراطور، وهذا أمر داخلي، وأما الأمر الخارجي فإنهم اتصلوا بالأجانب وشايعوهم، ثم اشترك أنصارهم (نان شاو) و (هون تسن) في النزاع واحداً بعد الآخر، حتى غرقت الدولة كلها في بحر المصائب والبلايا. وهذا مثل آخر، أحدث في عهد أسرة (سونغ) من النزاع الحزبي بين (وان غان شي) و (يان يو) حيث نفثوا سم خصامهم حتى انتشر وأهلك دولة (سونغ). وأشد ما يحزن ما عم في آخر عهد أسرة (مين) من بلاء (حزب) (دان لين) الذي أثر على مدة حكم الملك أسوأ التأثير. أما ما حدث بعد إعلان الجمهورية الصينية من النزاع الحزبي والخصام، فخير لنا ألا نذكره مؤقتاً، لنتركه إلى التاريخ.
إن مجتمع الصين كله ككتاب تاريخي شامل لما يترتب على الاهتمام بالأمور الشخصية. فكم من الناس من قديم وحديث نجحوا نجاحاً باهراً في الاعتماد على المتعة الشخصية! وكم من الأشخاص، قد تحاربوا وتنافسوا بسبب الأمور الشخصية أيضاً، ذلك لأن الصينيين لا يهمهم إلا ما يعامل به بعضهم بعضاً ويهملون ما ينبغي عليهم أن يتعاملوا به كأفراد للطبيعة.
فيجب علينا بعد هذا الصينيين، في هذا العصر أن نقصد إلى هدف في الحياة، ولابد أن نهدم ما يحيط بالناس من حدود، ونبتعد عن نطاق المتاع الشخصي، لنتغلب على الطبيعة مع بعض، ثم نجدد نظم المجتمع ونصلح شئون الدولة.
يجب علينا أن نجل المستر (لنكولن) زعيم أمريكا المشهور، وتحترم رأيه العظيم كل(707/23)
الاحترام إذ إنه يريد ألا يسترق الناس أحد من الناس، ولا يرضي أن يهدد بني البشر أمثالهم، ولم يتردد في إشعال الحرب لإعتاق الرقيق. وكان يبذل جهده لتحرير الرقيق من جهة، ويحث الناس على الهجرة من جهة أخرى، حيث دعاهم بأن يتقدموا نحو غرب أمريكا متحدين، ليفتحوا كنوز طبيعتها البكر، وهكذا مهد الطريق إلى رقى أمريكا بيديه.
إن إسلوب (لنكولن) العظيم، هو هدم الحدود بين البشر لقهر الطبيعة، أو بتعبير آخر أن يتعدى الناس الحدود الضيقة الشخصية في معاملة بعضهم لبعض، ثم حثهم على الكفاح والجهاد لاقتطاف الثمرات الطبيعية للحياة، وهو أسلوب أشبه ما يمكن بأسلوب المخترعين والمكتشفين، بل إنهم من منع واحد.
وبمناسبة ذكر الكفاح والحياة المثالية الطبيعية، أذكر ما أملاه على ركوب البحر من أفكار، ذلك أنن كنت غارقاً في أعمال إدارة جريدتي، في ربيع سنة 15 للجمهورية الصينية، إذ كنت في منصب رئيس التحرير والمدير العام، وكان هدف الإدارة من نواحي العمل والنظم والمقالات كخيط مستقيم، إذ نبهت أبناء وطني للثورة على الضباط الشريرين الذين يضرون الوطن ويزعجون الشعوب. ثم تركت إدارة جريدتي مضطراً، وفررت راكباً من (تيني جيي) إلى شنغ هاي، حين وصل (تشويي يو) و (لأي جنمغ لين) إلى (تين جين) مع قواتهما. ولما خرجت الباخرة من ميناء (تان قو)، لم أر في الدنيا إلا الماء العميق والسماء المرتفعة والتقاءهما عند الأفق، وسارت الباخرة في البحر الواسع رويداً رويداً كمغرفة القرع، وحينئذ شعرت فجأة بسعة الدنيا وصغر البشر، وفكرت في الذين لا يزالون يتنافسون ويتنازعون ويتحاربون في (تين جين)، مثلهم كمثل عرمة الديدان، لو أن تلك الجملة من الناس ألقيت في البحر، لم يبد شيء إلا الزبد والرغوة فحسب. وعندئذ اعتقدت كل الاعتقاد أن مستقبل الإنسان لن يكون فسيحاً متسعاً، إلا بعد أن يبتعد الناس عن نطاق المتاع الشخصي الضيق، ويبذلوا أقصى جهدهم في سلوك طريق الطبيعة العظيمة الأبدية.
ما أشد ما يعلق مستقبل الإنسان بآثار الحرب الحاضرة! فإن من حسن الحظ أن قام الأمريكيون يساعدون إنجلترا بقانون الإعارة والتأجير، ثم يساعدون روسيا والصين أيضاً حتى حولوا موقف دول الحلفاء من الهزيمة إلى النصر، وكان سبباً في هزيمة المحور، وأصبح العالم كله يحلم بمستقبل منير.(707/24)
وربما رأى بعض الحاذقين أن الأمريكيين من أشد الناس حمقاً، لأنهم يسلمون ما أنتجوا من السلاح والغذاء إلى حلفائهم بدون أي شرط، وهم قد دفعوا الضرائب الثقيلة، وسكبوا عرقاً ودماء. ولكن الأمريكيين أنفسهم ما زالوا يخترعون هكذا، ويعطون هكذا، بل إنهم يستمرون في الاختراع والإعطاء، وبذلك أصبحت أمريكا زعيمة دول الحلفاء، وصار الرئيس روزفلت أول السياسيين في العالم، وصار أهل أمريكا أكثر الناس سعادة. وإن مثل أمريكا الآن مثل الشمس تبعث الحرارة والنور باستمرار، فحصلت عظمتها وجلالها من بذل الحرارة والنور، وهي نفسها لا تعني بتنعمها قط.
وإذا لاحظنا مسألة الأمريكان الاقتصادية بعد الحرب الحاضرة، وقد نفذت اليوم فعلاً ما عرضته على آذان المستمعين الآن من نظرية الشمس والحياة، ظهرت لأعيننا مشكلة النزاع العلني بين فريقين: أولهما الذين يقترحون أن يبقى الإنتاج الجليل كما كان بعد الحرب الحاضرة، كي تتجدد مسألة البطالة، وهم لا يلاحظون حينئذ دفع الضرائب الثقيلة وتحمل الديون. وثانيهما: الذين يقترحون اختصار ميزانية الوطن بعد الحرب الحاضرة والنقص من مدى الإنتاج تجنباً للتضخم المالي.
وإني لموافق على رأي من التوسع في الإنتاج، فأرجو من أمريكا أن لا تنفذ قرار الذي يشير بإنقاص الإنتاج بعد الحرب الحاضرة، بل يجب عليها أن تستمر في الاختراع والإنتاج، لتتمتع الجماهير بالنتائج ويرتفع المستوى المعيشي، ثم تبيع ما يبقى من الإنتاج بعد الاستعمال، ولو بقى شيء من الإنتاج بعد البيع، فما عليها إلا أن تقدمه للناس هدية. إذ إن ثمة بعد الحرب كثيراً من البلدان تنتظر نهضة، وكثير من الأمم تحتاج إلى المساعدة والإنقاذ. ولما كانت لأمريكا هذه القوة على الاختراع وتلك القدرة على الإنتاج، فكيف يجوز أن لا ترفع قواتها إلى أقصى الحد، كي توفر النعمة لجمهورها خاصة وللعالم كله عامة؟
إن السياسيين الأوربيين إذا تحدثوا عن سياستهم الداخلية، طالبوا دائماً برفع المستوى المعيشي، أما السياسيون الصينيون فقد تعودوا أن يبثوا في الناس حب الاقتصاد والزهد، وذلك يوضح مذهب الفريقين المختلفين وفلسفتهما، ويمثل نوعين من السياسة متميزين.
أما كيف يرفع مستوى المعيشة فذلك بالبحث في خامات الطبيعة وقوانينها والأخذ عنها بالاختراع والعمل على زيادة الإنتاج. وأما كيف يكون الزهد والاقتصاد فذلك بالقصد في(707/25)
الطعام والكساء، وجمع النقود مليماً بعد مليم، وتكديس المئونة قيراطاً بعد قيراط، حتى أصبح الشحاذون هم أصحاب الثراء، وفوق ذلك فإن أكبر ضرر ينتج عدم الإنتاج والابتكار، والزهد والشح هو فتح باب الخداع والرشوة، ولهذا كان ضعف الصين وفقرها.
لقد كان صاحب كتاب (الدول الثلاثة) أعظم الناس عقلاً وأكثرهم تجريباً؛ إذ قال في أول كتابه القيم: (لابد أن تتطور حالة الدنيا بحيث يتحد الناس بعد مدة الفراق من جهة، ويفترقون بعد مدة الاتحاد من جهة أخرى).
ولو أننا رجعنا إلى الخلف خطوة، نبحث في تاريخ الصين عن أسباب السلام والصلح من جهة، وعن أسباب التمرد والعصيان من جهة أخرى، لوجدنا أن السبب الوحيد هو وقوف سياستنا في حدود نطاق المتاع الشخصي الضيق، وحدود الاقتصاد في إنتاج الزراعة البسيطة، وعدم استغلال الطبيعة لتحسين حال المجتمع وخصوصاً العجز عن رفع مستوى المعيشة.
لقد كانت مصر من بناة الحضارة بين أبناء آدم، بل كانت الأولى في العالم من قديم الحضارة وبعد التمدن؛ إلا أن أهلها ما زالوا يعيشون على ماء النيل فقط، فإذا لم يرتفع فيضان النيل إلى درجة موفورة، نقص حصاد الزرع، ومات الناس جوعاً. وإذا لم تكف المؤونة بأن كان إنتاج الزراعة ومحصولها محدوداً مع زيادة السكان، حدثت المصائب دائماً، فلذلك ظلت مصر ضعيفة.
وإلى هنا كشفت المشكلة أمام أعيننا علانية، فلابد أن ننزع ما بين البشر من حدود، ونبعد عن نطاق المتاع الشخصي، ثم نتجه إلى السماء بقصدنا المعين، ونستغل الطبيعة بقوتنا المتحدة وعند ذلك تحسن حالة المجتمع وتصلح شئون الوطن، ونرى أنفسنا متقدمين نحو الأمام مشغولين بالاختراع. تلك هي وجهة نظري الجديدة في الحياة، وهي نفسها نظرية الشمس والحياة.
نور ناهين(707/26)
داود باشا ونهضة العراق الأدبية
في القرن التاسع عشر
للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى
- 2 -
ومن آثاره الجامع المسمى باسمه في الكرخ قرب مقام الخضر، والشارع الذي وسعه والباب الذي فتحه في الرصافة بالقرب من رأس الجسر القديم بجانب الثكنة (القشلة) وقد نقشت فوق رتاجه هذه الأبيات:
آثار داود آثار بها لبست ... بغدادُ حسناً يروق العين واضحه
تشكو الرصافة قدماً ضيق مسكلها ... ويكره الضيف غاديه ورائحه
فأُمْنِحتَ بطريق لازحام به ... وباب جسر حُسبىِ بالنصر فاتحهُ
يخاطب الملكَ الأعلى كأن به ... شوقاً إلى المشتري يبغي يصافحهُ
أعيا أبا جعفر المنصور حين بنى ... حظُّ أبو يوسف المنصور رابحهُ
داود من أُيدت بالنصر دولتهُ ... وعن لسان الثنا سارت مدائحه
لا زلت تسمع خيراً من مؤرخه ... بابٌ وداود ربُّ الفتح فاتحهُ
1241 هـ
ومن آثاره أيضاً الجامع القائم بسوق الهرج الذي شيد معالمه بعد درسها وقد كتب فوق بابه ما يلي:
ذا جامع كان قدماً لا شبيه له ... في حسن بنيانه والدهر غيرَّهُ
وكم وزير أتى الزوراء ثم مضى ... ولا لغير خيام الجند صيرهُ
حتى أتى ذا العلي داود آصفنا ... من حك بالسبعة الأفلاك مفخره
فشاد أطنابه من بعدما انهدمت ... للعابدين ووشاه وصوره
وحين ثم غدا الداعي يؤرخه ... ذا جامع بالندى داود عمره
1242 هـ
اهتم داود باشا اهتماماً عظيماً بتوسيع نطاق التجارة والزراعة وترقيتهما فكرى الأنهر(707/27)
وشق الريح ومنها نهر عيسى المعروف اليوم باسم أبي غريب الواقع في الجانب الغربي من بغداد، وقد نظم الشيخ صالح الخيمي قصيدة عامرة الأبيات مطلعها:
لو نهر عيسى يحاكي فيض محبيه ... لصير الماء في أعلى روابيه
نهر عليه ظباء الوحش عاكفة ... دهراً فعادت ظباء الأنس تأويه
ولم تم كري نهر عيسى شرع في كري نهر النيل الواقع في لواء الحلة، فأمر بحشد خمسة آلاف فاعل، وقد أنجز حفره عام 1242هـ، فأكثر الشعراء من مدح المترجم بقصائدهم ومنهم الشيخ صالح الخيمي الشاعر المطبوع القائل في مطلع قصيدته هذه:
دع نهر عيسى وحدثني عن النيل ... واجر الحديث بإجمال وتفصيل
نيل ولا مصر لكن في جوانبه ... نضارة لم تكن في مصر والنيل
ومن مآثره اهتمامه بفتح المدارس وإنشاء المعاهد العلمية والأدبية وقد بلغت في زمن ولايته نحو ثلاثين مدرسة بين عالية وابتدائية ومنها المدرسة المعروفة باسمه وقد نالت شهرة واسعة.
شعره
كان صاحب الترجمة يحسن العربية ويجيد قواعدها وشواردها وله وقوف على آدابها، وقد نظم قصائد عديدة، ودبجت براعته رسائل كثيرة بعث بها إلى أصحابه وإخوانه؛ غير أن آثاره الأدبية فقد معظمها ولم يثبت منها سوى الشيء النزر في بطون الدواوين وعلى صفحات المهارق، وقد ورد في سجع الحمامة وهو ديوان بطرس كرامة ص324 ما نصه: وقال مخمساً والأصل بيتان لبعض شعراء العراق شطرهما داود باشا وإلى بغداد سابقاً:
زند الأسى بين الجوانح قدوري ... لما تأخر ذو الإمام إلى ورا
أين الوفا والغدر قد عم الورى ... ولقد يشق على النواظر أن ترى
ذاهمة في ذلة وصغار
أضحى النبيل الفرد منفصم العرى ... مما يؤمل جاهداً فوق العرا
يا لهف نفس مرة مما عرى ... ما كنت أوثر أن أشاهد أو أرى
كبراء قوم في أكف صغار
فالدهر خصم إن بدا إطراقه ... وإذا الزمان تراجعت أخلاقه(707/28)
سلب الرئاسة من يد الأحرار
لعب الزمان بنا فليس يغادر ... شهماً يميز عاذراً من غادر
يا طالباً شمساً بليل غادر ... ماذا تؤمل من زمان جائر
جعل الخيار بقبضة الأشرار
ومنها قصيدته المعروفة بالدرع الداودية، فقد وجدت في خزانة جرجس بك صفا، أوقفه عليها الأمير سعد حفيد الأمير بشير الشهابي الكبير، وهي من مخلفات شعر جده بطرس كرامه، وها نحن أولاء ندرجها كلها لأننا لم نقف على غيرها من نظم ذلك الوزير الشاعر:
الدرع الداوودية
أما آن للأحباب أن ينصفوا معنا ... فزاغوا وما زغنا وحالوا وما حلنا
نعم هجروا واستبدلوا الوصل بالجفا ... وخانوا عهوداً ماضيات وما خنا
رعينا حقوقاً لا علينا نعم لنا ... عليهم حقوق سالفات ولا منا
وفينا ولم نغدر فكان جزاؤنا ... جزاء أم عمرو فافهم اللفظ والمعنى
وإنا لقوم نحفظ الود غيرة ... ونرعى ذماماً إن حضرنا وإن غبنا
وإن جيشوا جيشاً من الصد والجفا ... بنينا من الصبر الجميل لهم حصنا
هم زعموا أن كل برق يخيفنا ... فخابوا بما قالوا وقلنا وما خبنا
إذا ضيعوا حقي فهم يعرفونني ... إذا هبت النكباء كنت لهم ركنا
وإني أبيُّ أن ألم برببة ... وأستعطف الخب اللئيم أو الأدنى
وما كان عيبي عندهم غير أنني ... إذا بيعت الأرواح لا أدعي الغبنا
وإن قام سوق الحرب إني أشدهم ... لأعدائهم بأساً وأكثرهم طعنا
وأثبتهم جأشاً وأطولهم يداً ... وأوفاهم عهداً وأكبرهم سنا
وأحكمهم عقداً وأمعنهم حمى ... وأصدقهم قولاً وأوسعهم مغنى
أجامل أقواماً ولا لامهابة ... فيزعم قوم أننا منهم خفنا
وأسكت إيفاء لود علمته ... وعندي مقال يحطم الظهر والبطنا
ولو وقفوا يوم الرهان مواقفي ... لأهديتهم روحي ومالي وما يفنى
فيا أسفي ضيعت عصر شبيبتي ... بكل خفيف القدر لا يعرف الوزنا(707/29)
فإن وصلوا حبلي وصلت حبالهم ... وإن قرعوا سني جدعت لهم أذنا
إذا همُ في إسعادنا لملمة ... ألمت بنا قد أسعفونا فلا عشنا
وظنوا بأن الآل يشفي من الصدى ... فخاضوا به للورد جهلاً وما خضنا
وقد بدلوا الغالي الذي تعرفونه ... بصفقة لهم تبت يدا كم وما أغنى
صحائف عندي غيرة قد طويتها ... ولو نشرت يوماً لقوا لها ذقنا
أجول بطرفي في العراق فلا أرى ... من الناس إلا مظهر البغض والشجنا
فخيرهم للأجنبي وقبحهم ... على بعضهم بعض يعدونه حسنا
وشبانهم شابوا المودة بالجفا ... وشبنا وما للصفو في كدر شيئا
حضرنا متى غابوا بموقف حربهم ... وإن حضروا في موقف للخنا غبنا
سمرنا مع السمر العوالي ليالياً ... وهم سمروا في ذكر سعدى وفي لبنى
جفوا فوصلنا حبلهم بعد قطعه ... فدع منهم يبدو الجفاء ولا منا
ألا نخوة منهم فيصغون للذي ... أيادي سبأ قد لاعبت ذلك المغنى
ألا حازم للرشد شد حزامه ... لداهية ينسى بها الطائر الوكنا
ألا مرشد منهم عن الغنى قومه ... فيوقفهم منه على السنن الأسنى
ألا رافع عن قومه بني ظالم ... إذا فقدوا في الحرب من ينطح القرنا
وكان إذا أبدى التشاجر نابه ... يفرون مثل الجمر عنه وما كنا
لقد حملوا ما يثقل الظهر من خنى ... كأنهم من ماله حملوا سفنا
متى تعتذر أيامنا من ذنوبها ... وهيهات من غدر لمومسة لخنا
فكم طحنت قوماً بجؤجؤ صدرها ... وما أصلحت يوماً دقيقاً ولا طحنا
وعصبة لؤم قد تناجوا لحربنا ... فياويحهم ماذا يلاقونه منا
تراموا وحاشا المجد أن يتقدموا ... علينا وهاموا بالأماني وما همنا
وطاشوا ببرق لا أبالهم ... وسلوا علينا المرهفات وما خفنا
فقل لي بماذا يفخرون على الورى ... إذا عدت الآباء أو ذكروا إلا بنا
فهبهم على مجد الأثيل تسمنوا ... ألا يعلمون المجد بالقول لا يبني
ألا غيرة تدعو الصريخ إذا دعا ... ليوم عبوس شره يوقظ الوسنى(707/30)
وطينا عن الزوراء لا در درها ... بساطاً متى ينشر نعد به طعنا
وإني وإن كنت ابنها ورضيعها ... فقد أنكرتني لاسقاها الحيامزنا
إلى الله أشكو من زمان تخاذلت ... وصار الكريم الحريستر فد القنا
ألا مبلغ عني سراة بين الوغى ... وأقيال عرب كيف صبرهم عنا
أهم بأم الحزم في حومة الوغى ... ومن ناهز السبعين أنى له أنى
إذا كفى اليسرى أشارت لناقص ... قطعت لها زنداً وألحقتها اليمنى
وأنا إذا صاح الصريخ لحادث ... أجبنا ولبينا لمن فيه أنبأنا
على الكرخ في الزوراء مني تحية ... وألف سلام ما بها ساجع غنى
صحبتهم طفلاً على السخط والرضى ... وشبت فلا سيفي أفاد ولا أغنى
وبعد مضي أربع عشرة سنة على ولايته في بغداد سولت له نفسه أن يستقل بالقطر العراقي ويسمى أميره كما فعل محمد علي باشا والي مصر، غير إنه لم يفز بوطره إذ فشا على أثر خروجه على الدولة العثمانية طاعون شديد الوطأة في بغداد وما جاورها من البلاد بحيث ثبط عزمه وشتت شمل جيوشه. فلما انتهى إلى الآستانة خبر عصيانه أرسل السلطان محمود خان نحو عشرين ألف مقاتل يقودهم علي رضا باشا وإلى حلب لكبح جماح الوالي المتمرد، فباغت قائدهم مدينة بغداد وشدد عليها الحصار بينما كان أميرها المستقل منهمكاً في تحصين أسوارها وتقوية حاميتها، وبعد مناوشات عديدة وهجوم ودفاع رأي أن لا طاقة له على القراع والكفاح لموت معظم جنوده بالوباء، فأذعن لخصمه وسلم نفسه أسيراً، فأرسل على الفور إلى الآستانة مخفوراً، وقد برح عاصمة العباسيين قاصداً القسطنطينية عام 1247هـ - 1831م حيث عفي عنه، ولقي مزيد الحفاوة والإكرام لكثرة خدماته السابقة للدولة، وبقي مشمولاً بالرعاية والالتفات، مدة إقامته في عاصمة المملكة.
لقد جمعت المترجم لحمة الأدب بالشاعر بالفلق المعلم بطرس كرامة الذي أتحفه بقصيدته الخالية التي بعث بها إلى طائفة من أدباء وشعراء بغداد وطلب منهم أن ينسجوا على منوالها ويباروا صاحبها وهاك مطلعها وبعض أبياتها:
أمن خدها الوردي أفتنك الخال ... فسح من الأجفان مدمعك الخال
وأومض برق من محيا جمالها ... لعينيك أم من ثغرها أومض الخال(707/31)
رعى الله ذياك القوام وإن يكن ... تلاعب في أعطافه التيه والخال
ولله هاتيك الجفون فإنها ... على الفتك بهواها أخو العشق والخال
مهاة أفتديها ووالدي ... وإن لام عمي الطيب الأصل والخال
أقترح صاحب الترجمة على الشيخ عبد الباقي العمري أن ينسج على منوال خيالة بطرس كرامه فعارضها بقصيدة غراء مطلعها:
إلى الروم أصبو كلما أومض الخال ... فأسكب دمعاً دون تساكبه الخال
وعن مدح داود وطيب ثنائه ... فلا القد يثنيني ولا الخد والخال
وقد ختمها بهذين البيتين:
وإني وإن كنت الرديف نظامه ... لمسبوقة حسن الردى لها الخال
فذي معجزاتي ما أرى ابن كرامة ... يعارضها حتى يصاحبه الخال
(يتبع)
رزوق عيسى(707/32)
من أغاني الرق:
عبيد الرياح
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(في غروب يوم قائظ، ماتت رياحه وسكن فيه كل شيء، إلا
غناء شقي يتهاتر أنينه من هؤلاء المعذبين الأبطال. ساروا
مصفدين بحال السفن، يصارعون تيار النيل في عراك جبار
مع الطبيعة، علهم يشقون في صدرها طريقهم إلى الجنوب!).
رأيتهمُ في غروب كئيبْ ... يعز على شمسهم أن تغيبْ
جدتهم بأشلاء ضوء ذبيح ... يعصفر أشباحهم باللهيب
جبابرة عوذا للهواء ... وبثوا رقاهم لريح المغيب
يلوحون صفاً وئيد الحراك ... كأنهمُ صُلبوا في الكئيب
يسيرون سير الهوان المريب ... ويمشون مشي الزمان الكئيب
فتحسبهم أوغلوا في الخيال ... وعينُك تأخذهم من قريب!
على صدرهم من غضون الكفاح ... أفاعي حبال تلف الجُنوب
تجاذبهم خطوهم للوراء ... فهم من عناد بقايا حروب
سواعدهم موثقات الزنود ... ولكنها عدة للهبوب
تشق الفضاء بأصدافها ... فتنشق أجوازه أو تذوب
وأجسادهم حانيات لها ... ركوع المحمل ثقل الذنوب
كأنهمُ في سفوح الزمان ... شياطين تحدو المساء الرهيب
حواميمهم خلف نعش الرياح ... (هواهو) (هواهو) غناء رتيب
سقاهم (سليمان) من سره ... فكادوا يمسُّون سمع الغيوب
أقاموا جنازاً يئن الفضاء ... بأصدائه، وينوح الغروب
يكاد يعزى، ويمشي النخيل ... وراءهمُ، وتلوذ السهوب(707/33)
شدوا وإستجاروا وخاب النداء ... فغاصت خطاهم وشقوا الجيوب
ومروا حفاة عراة لهم ... شهيق الثكالى وزفر الغريب
على الأرض خُرْس وإن همهموا ... فهذي صلاة تذيب القلوب
يجرون أيامهم خلفهم ... وذكرى شقاواتهم والكروب
عبيدَ الرياح، كلانا رقيق. . . ... فغنوا وسلوا عبيد الخطوب!!
محمود حسن إسماعيل(707/34)
الصفقة الرابحة. . .
لطاغور
(تعال يا من يستأجرني).
رفعت صوتي بهذا النداء وأنا أذرع شارعاً معبداً في الصباح. أقبل الأمير في عربته الفاخرة وسيفه في يده، ثم أمسك يدي وقال (لاستأجرنك بقوتي وسلطاني، ثم مضى. . .)
ولكن قوته لا تساوي شيئاً.
وفي مر الظهيرة والشمس حانقة على الوجود، كانت المنازل مغلقة الأبواب، غير إني تابعت سيري في الدروب الملتوية، وأقبل رجل كبير السن في يده حقيبة ملأى بالذهب. . . فكر ملياً ثم قال:
(لاستأجرنك بذهبي. . .)
ثم وزن ذهب قطعة بعد قطعة، ولكنني تركته يعد ذهبه وانفلت هارباً.
وأقبل المساء وأسوار الحديقة تكللها الأزاهير، وبدت فتاة جميلة وقالت:
(لاستأجرنك بابتسامة. .)
شحبت ابتسامتها، وذابت في دموع غزيرة، ثم عادت أدراجها وحيدة وغابت في الظلام.
تلألأت الشمس على الرمال، وهدرت أمواج البحر في عناء، وجلس طفل يلعب بالقواقع على رمال الشاطئ. رفع رأسه وكأنه يعرفني وقال:
(أما أنا فإني أستأجرك بلا شيء. . .).
ومن ذلك الوقت تعلمت معنى الحرية من صفقة طفل يلهو بقواقعه على الشاطئ.
(بغداد)
إبراهيم أبو الفتوح(707/35)
الأدب والفن في أسبوع
مكتبة الأب أنستاس الكرملي:
كلفت اللجنة الثقافية بالجامعة العربية مندوب بغداد الاتصال بالحكومة العراقية على أن تحرص على اقتناء مكتبة فقيد اللغة والأدب الأب أنستاس الكرملي قبل أن تتبعثر وتتخطف الأيدي كنوزها النادرة.
وقد كان الأب الكرملي - رحمه الله - من الباحثين الذين يهتمون باقتناء الكتب النادرة، وقد صرف كثيراً من عنايته إلى هذه الناحية. ومما يذكر أنه في صدر حياته جمع مكتبة ضخمة في خزانة دير الآباء الكرمليين، وقد كانت هذه المكتبة تضم حتى عام 1914 أكثر من 11 ألف كتاب عربي مطبوع وأكثر من 8 آلاف كتاب إفرنجي مطبوع و783 كتاباً من نوادر المخطوطات كان ضمنها ديوان امرئ القيس وديوان السموأل وديوان المزرد ونسخة كاملة في 32 جزءاً من كتاب مرآة الزمن لابن سبط الجوزي، ونسخة كاملة من الخصائص لابن جني، ونسخة من كتاب العين للخيل بن أحمد، ونسخة تامة من ديوان الأدب للفارابي. ولكن هذه المكتبة النفيسة ضاعت إبان الحرب العالمية الأولى، فكان ضيعاها فجيعة قاسية على نفس الأب الكرملي، وظلت الحسرة على ضياعها تلازمه حتى مماته.
على إنه. رحمه الله - أخذ في تجديد تلك المكتبة، وجهد في جمع النوادر لها، وقد استطاع أن يضم فيها قرابة 20 ألف كتاب مطبوع وألفي كتاب مخطوط. ومما يذكر أن الكرملي ألف أكثر من أربعين كتاباً في اللغة والأدب والتاريخ، وقد طبع بعض هذه الكتب، ولكن أكثرها لا يزال مخطوطاً، وفيها ما لم يكمل تأليفه. وكان - رحمه الله - يعتز بهذه المؤلفات ويبالغ في المحافظة عليها، ولما قامت الحرب جمعها في خزائن حديدية ودفنها تحت الأرض حتى لا تفتك بها الأحداث، وقد صرف الكرملي حقبة طويلة من عمره في تأليف قاموس عربي كبير قسمه إلى ثلاثين جزءاً، أنجز منها 22 جزءاً، وكان في آخر حياته شديد الحرص على إتمام هذا الأثر، ولكن المنية عاجلته قبل أن يبلغ غايته.
ومما هو معروف أن الفقيد كان عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية، فإذا كانت الحكومة العراقية ستقوم من جانبها باقتناء مكتبته،(707/36)
فلعل هذين المجمعين يقومان بالواجب عليهما نحو الفقيد ونحو أبناء العربية فيحرصان على نشر آثاره الخاصة وطبع مؤلفاته، حتى لا يضيع جهد ذلك الباحث العظيم على اللغة، وتكون نهايته أن يدفن في خزانة. . .
هل نهضنا؟
زميلتنا مجلة (الأديب) البيروتية دعامة من دعامات النهضة الأدبية العربية، وصفحة مشرقة تنشر مفاخر الآباء ومآثر الأبناء وتسجل حلقات التطور في الفكر العربي، ثم هي تجمع إلى ذلك روائع التفكير الغربي، فهي بحق تضطلع بمهمة شريفة كريمة في خدمة القومية العربية والنهضة الفكرية.
ولكن هذه الزميلة العزيزة كتبت في عددها الأخير تقول إنها تواجه أزمة مالية تهددها، وإنها لذلك وضعت مستقبلها بين يدي أنصارها وأصفيائها، وطالبتهم أن يعينوها باشتراك مادي مضاعف حتى تستطيع السير في خطتها؛ وتقول (الأديب): إنها تقصد بالأنصار أنصار الرسالة الواعية والفهم القومي، وإنها تأمل أن يجد نداؤها صداه البعيد في نفوس الذين في وسعهم تلبيته.
وهذا داء معضل نعرفه في الشرق العربي، فلا نجد صحيفة أدبية تخدم الأدب الصحيح، وترفع لواء الرأي الصريح، وتخلص للقومية العقيدة الرشيدة تصيب من التقدير والإقبال ما يعينها في مهمتها، ويساعدها على ما تضطلع به من إعياء، على حين نجد عشرات الصحف والمجلات التي تعيش على تملق الغرائز والتجارة بالكلام التافه تصيب من التقدير والإقبال ما يغدق عليها وفير المال.
يقولون إننا في الشرق العربي قد نهضنا في الأدب، وأنا أقول أجل! إننا نهضنا ولكن بغرائزنا لا بعواطفنا، ونهضة الغرائز ضراوة وانحلال، ويم أن تنهض عواطفنا، وتتهذب مشاعرنا، نستطيع أن نقدر الفكر القويم، والأدب الكريم، والإنتاج المهذب.
إنها في الواقع ليست محنة (الأديب) إذ لا تجد، ولكنها تهمة لأبناء العروبة إذ لا يقدرون.
كتب الله السلامة (للأديب)، وبصر بحالها كل ندب أريب. . .
جورج ديهامل:(707/37)
يزور مصر في هذه الأيام مفكر ممتاز وأديب فرنسي كبير له صيته ومكانته، هو الأستاذ جورج ديهامل عضو الأكاديمية الفرنسية. وليس مسيو ديهامل بالمجهول لأبناء العربية عامة ولأبناء مصر خاصة، فقد سبق له أن زار مصر كما زار بلاد الشرق، وقد ترجم الدكتور طه حسين بك نخبة من آثاره إلى العربية، كما ترجم له الدكتور محمد مندور كتاب (دفاع عن الأدب) فأدى بذلك خدمة جليلة للأدب العربي في مرحلة التطور التي واجهها الآن.
ومسيو ديهامل في نحو الستين من عمره، وقد درس في أول حياته الطب، واشتغل بهذه المهنة، وكانت نفسه تنزع إلى الأدب فاستجاب لهذه النزعة وأخذ يجمع بين الطب والأدب، ولما قامت الحرب العالمية الأولى خدم فيها، واشتغل طبيباً في المستشفيات الحربية، وقد كان هذا من عوامل التطور في حياته وفي تفكيره. لأنه لمس آلام الإنسانية بيديه، وتمثلت مشاكلها الباطنية لعينيه.
وقد خرج من ذلك بعقيدة ثابتة وهي أن القلب موطن السعادة ومبعثها، وأن العلم والعقل والحضارة لا تستطيع أن تسعد إنساناً إذا لم تشف قلبه وتغمره بالرضا والبهجة والاطمئنان وهذه العقيدة هي محور التفكير عند هذا الأديب الكبير في كل ما ينتج.
وإيماناً بهذه العقيدة يحب ديهامل وطنه فرنسا ويفنى في هذا الوطن كما يقول، لأنه نشأ فيه وترعرع، ولأن فرنسا قد أسدت أكثر من أي أمة خدمات جليلة إلى الفن والأدب وبذلت كثيراً لإسعاد الروح الإنسانية، وقد كان مسيو ديهامل في بيروت قبل أن يصل إلى مصر وقد ألقى هناك عدة محاضرات، وسيلقي في مصر عدة محاضرات أخرى. وفي مساء الأربعاء الماضي ألقى محاضرة الأولى بدار جريد (البروجريه اجبسيان)، وكان موضوع المحاضرة (فرنسا حياتي) فقال إنه ابن فرنسا، وإنه نما وترعرع تحت سمائها؛ وعاصر فيها عدة مراحل سياسية وتاريخية، ولهذا فهو خبير بها مخلص لها، ثم تساءل: بأي مقياس نحكم أن دولة أعظم من دولة، أبكثرة عدد سكانها، أم بما تملك من وسائل الإنتاج الاقتصادي والرواج التجاري، أم بما تحشد من عدد الجنود والأساطيل، ثم أجاب على هذا التساؤل: كلا، بل بما تهب الدولة للعالم الإنساني من رجال عظام يخدمون الإنسانية في شتى نواحي الأدب والفن والعلم والاختراع، ثم أشاد بما وهبته فرنسا للعالم من رجال عظام(707/38)
ونساء عظيمات خدموا الإنسانية في كل فن ومذهب.
ويظهر أن مسيو ديهامل لا يقوم الآن بزيارة الشرق لمجرد الرحلة، بل ليؤدي واجبه نحو الوطن الذي يقول (إنه حياتي) وسيذيع سلسلة محاضرات في تمجيد الثقافة الفرنسية في وقت تتطاحن فيه الدعايات في الشرق للثقافة الأمريكية والثقافة الإنجليزية.
تراث المعري:
لما تجمع أدباء العربية في العراق منذ ثلاثة أعوام للاحتفال بذكرى أبي العلاء المعري رأى الدكتور طه حسين بك - وكان يومذاك مستشاراً فنياً لوزارة المعارف - أن خير ما يجب لأحياء ذكرى ذلك المفكر العظيم هو إحياء تراثه وطبع مؤلفاته. وقد أسرع بتنفيذ هذه الفكرة فألف لجنة من وزارة المعارف قوامها الأستاذ إبراهيم الأبياري وعبد السلام هارون وحامد جادو وعبد الرحيم محمود ومصطفى السقا، وضم إلى اللجنة السيدة ابنة الشاطئ ولكنها لم تقدر على احتمال هذه المهمة الشاقة فانصرف أو صرفت عنها.
واعتكفت هذه اللجنة في حجرة دار الكتب، وجمعت حولها كل تراث المعري وكل ما تحتاج إليه من الأضابير ومجفو الطوامير، واستطاعت أن تحصل على المصادر التي ليست بالدار وما تبعثر من آثار المعري في سائر الأقطار، وقد استطاعت بعد قليل أن تخرج كتاب (تعريف القدماء بأبي العلاء) جمعت فيه كل ما قاله السابقون في المعري، وهو كتاب يغني الباحث عن الرجوع إلى عشرات الكتب كما يجد فيه ما لا يمكن أن يصل إليه لندرة المصادر.
ثم أخذت في إخراج كتاب (سقط الزند) مكملاً بالشروح الثلاثة للتبريزي والبطليوسي والخوارزمي وقسمت الكتاب إلى أربعة أجزاء على أن يضم إليه خامس يشمل فهارس مفصلة، وقد أنجزت منه إلى الآن ثلاثة أجزاء.
وإنه لعمل جليل نافع، يزينه إخلاص أعضاء اللجنة وما يتحلون به من صبر العلماء وتفرغهم لخدمة العلم والأدب منقطعين عن ضجيج الحياة الفارغ، على حين أن الوزارة لا تكافئهم بما يكفي من الأجر، ولا تجازيهم حتى بكلمة شكر. . .
ولكن الأمر الذي يؤسف له أن اللجنة تخرج ما تنجزه من الكتب ثم تسلمه لوزير المعارف ليتصرف فيه بحكمته. ووزارة المعارف توزع الكتب هدية، ولكنها تكون هدية إلى من(707/39)
يستحق ومن لا يستحق، بل إن الوزارة تحبس كثيراً من النسخ لديها ولا تسمح لأحد بالحصول عليها، أليس معنى هذا أن الوزارة تبعث تراث المعري لتقبره من جديد!
فكرة ماتت:
كان تفكير القائمين على دار الكتب المصرية قد اتجه إلى بحث مصادر الأدب المصري التي لا تزال إلا الآن مخطوطة مطمورة بالدار، على أن ننشر نشراً علمياً يستوفي الأسباب والوسائل الكافية، ويقوم بتصحيح كل كتاب أستاذ معروف بقدرته وخبرته.
والفكرة وجيهة رشيدة، بل إن النهوض بها واجب يقتضي الإسراع في إنجازه، فإن من العار أن يبقى أدبنا الذي يمثل شخصيتنا والذي هو منار فخارنا مطموراً منسياً إلى اليوم، وإن من الهوان أن يبقى الأدب المصري في أزهى عصوره مجهولاً حتى الآن.
ولكن يؤسفنا أن نقول إن هذه الفكرة الطيبة قد ماتت وطوى خبرها كما تطوى كل فكرة طيبة في مصر، وليس هذا من سبب إلا لأن الذين فكروا فيها واتجهوا إليها قد بعدوا في مجال العمل عن الإشراف على دار الكتب، فلما جاء الخلف عز على نفوسهم أن ينفذوا فكرة صالحة للسلف.
فهل للقائمين بأمر الدار أن يمضوا في هذه الفكرة، وأن يعجلوا بإنجازها وتنفيذها تقديراً للقومية العربية وإحياء لتراث عظيم مبعثر، قبل أن يندثر ويقبر؟!
مجمعان علميان:
أخذ الحكومة العراقية بالأسباب لإنشاء مجمع علمي عربي على نظام المجمع العلمي العربي بدمشق، وستجعل من مهمته التأليف والترجمة والنشر، على أن تلغي اللجنة التي تضطلع بهذه المهمة.
وكان دولة رياض الصلح بك رئيس الوزارة اللبنانية يفكر في إنشاء على هذا الغرار في بيروت، فلما عاد إلى الوزارة في هذه الأيام كان أول ما انصرفت إليه اتجاهه، هو تنفيذ تلك الفكرة، ويقولون إنه بسبيل تحقيقها وإخراجها إلى الواقع.
وإنشاء المجامع من هذا الطراز يخدم العلم واللغة والأدب، وينظم الإنتاج الفكري ويدعمه، ثم هو يقوي الروابط بين الأقطار العربية، لأن صلات الهيئات تكون أقوى وأشمل من(707/40)
صلات الأفراد.
وإذا ما تم إنشاء هذين المجمعين إلى جانب مجمع دمشق ومجمع اللغة في مصر يكون في بلاد الجامعة العربية أربع مجامع، أي أربع دعامات لخدمة العلم والأدب واللغة، والهدف الذي نرجو أن تتوجه إليه جهود هذه المجاميع هو أن تعمل متحدة متضافرة على جمع التراث العربي المبعثر في الآفاق، الموزع في الأقطار، فمنه جانب في مكاتب الأستانة، وجانب في الأسكوريال، وقسم كبير في مكاتب أوروبا ومتاحفها، ولقد انقضت السنون وما زلنا نعيش على انتظار ما تجود به علينا أيدي المستشرقين من هذا التراث.
جامعة أدباء العروبة:
افتتحت جامعة أدباء العروبة فرعاً لها بمدينة الفيوم، وأقامت لذلك حفلاً رائعاً، في مساء الخميس الماضي خطب فيه معالي دسوقي أباظة باشا وزير المواصلات فتحدث عن أغراض الجامعة ومراميها، وشرح ما تهدف إليه من غاية في رعاية الأدب وتقوية الروابط، ثم تعاقب الشعراء والخطباء في إلقاء قصائدهم وكلماتهم فأنشط وخطب الأساتذة الدكتور إبراهيم ناجي، وطاهر أبو فاشا وأحمد عبد المجيد الغزالي، وخالد الجرنوسي، والعوضي الوكيل، وعبد المنعم إبراهيم، وطه عبد الباقي سرور، وعبد الوارث الصوفي، وهم من الفريق القاهري، وعبد العظيم بدوي، ونبيه أبو زهرة، ومحمد النشرتي، وغيرهم من الفريق الفيومي. وكان موضوع القصائد والخطب حديث عن الفيوم، من الوجهة التاريخية والأدبية، وإنه لموضوع له قيمته، ويا حبذا لو أن الشعراء والخطباء عنوا بتجريده وتخليصه من شوائب المناسبة وسجلوه لتعميم الفائدة.
في موكب الجلاء والحرية:
أقام لبنان الشقيق في مطلع هذا الشهر احتفالاً رائعاً شاملاً احتشدت فيه المواكب المختلفة بمناسبة جلاء الفرنسيين عن البلاد وخلوصها من براثن الاستعمار، ولقد ظلت بيروت أربعة أيام كاملة وهي تفيض بالسرور وتهزج أهازيج الفرح والنشوة.
هذه المناسبة الطيبة الرائعة كانت ربيعاً للشعراء والأدباء، فقد هزت عواطفهم بخالد الشعر ورائع البيان، فانطلقوا يتحدثون عن تاريخ حافل بمآثر الأدباء والأجداد، وذكر عامر(707/41)
بمواقف النضال والجهاد، كما راحوا يشيرون بأصابعهم إلى ما كان من بلايا الاستعمار ورزايا الاستعباد:
إرث من الماضي البغيض مجمع ... في كل عضو منه سوس ناخر
مشت السياسة في حواشيه كما ... يمشي على البلد الأمين الغادر
وطغت على حركاته أمواجها ... فمغامر من أجلها ومقامر
ومؤتمرات تشتري في سوقها ... وتباع بالسلع العجاف ضمائر
ولقد مضى أسبوعان وما زالت صحف لبنان تفيض أنهارها بآيات البيان شعراً أو نثراً في تمجيد يوم الجلاء والابتهاج بيوم الحرية والخلاص، وكنا نود أن نسجل هذه الآثار ولكنها شيء كثير؛ فلعل المسئولين في لبنان يعنون بجمع هذه الآثار وتسجيلها في كتاب يذاع إكباراً لتلك المناسبة الكريمة، وتمجيداً لتلك الذكرى المجيدة.
ترجمة مائة كتاب:
من بين القرارات التي اتخذتها أخيراً لجنة الثقافة بالجامعة العربية العمل على اختيار مائة كتاب من الكتب التي صدرت باللغات الأجنبية، والقيام بترجمتها وتوزيعها على بلاد الشرق الأوسط، وقد ألفت لجنة خاصة للإشراف على هذا العمل والقيام بتنفيذه.
وتقول اللجنة في تبرير هذا العمل إنه مما يقوي العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب، ونقول نحن إنه كذلك يؤدي خدمة ثقافية لأبناء العروبة، ويعينهم على تتبع التطور الفكري في العالم، ولكن ألا توافقنا هذه اللجنة على أن هذا العمل ينطوي على دعاية للغرب في الشرق، وهي دعاية تحرص عليها الأمم الغربية في الظروف الراهنة وترصد للقيام بها الأموال الكبيرة.
هذا صحيح! ولقد كنا نود من اللجنة أن تحرص أولاً على اختيار مائة كتاب عربي وتعمل على نقلها إلى اللغات الأجنبية الذائعة وتقوم بتوزيعها في أوروبا وأمريكا لتكون دعاية للشرق في الغرب، وليعلم أولئك الذين لا يزالون يتصوروننا شعوباً بربرية إننا لا نتخلف عنهم في كثير إن لم نكن لا نتخلف عنهم في شيء، وما أحوج الشرق العربي في هذه الظروف إلى الدعاية السياسية والدعاية الفكرية!
الجاحظ(707/42)
من هنا ومن هناك
ناظم حكمت أكبر شعراء الترك ينظم وهو في السجن:
في أحد السجون التركية يعيش الآن ناظم حكمت أكبر شعراء الترك في العصر الحديث وقد انقطع عن دنيا الناس منذ عشر سنين ولا يزال يرسل خواطره وأحاسيسه إلى العالم المفكر كأنه يقول لهؤلاء الذين قيدوه ولحدوه أن الفكر الحر لا يحصره مكان ولا يعقله قيد.
ولد ناظم حكمت في أوائل هذا القرن في مهد مترف من مهود الأسر التركية الأرستقراطية. ولما أتم دراسته العامة أدخل المدرسة التجهيزية البحرية، فقضى فيها ردحاً من الزمن ثم فر منها عام 1918 ليقصر وقته وجهده على بعث الشعر التركي من جموده، وتحرير الشعب التركي من قيدوه، فدخل جامعة موسكو ليضيف إلى ثقافته الفرنسية التي شب عليها، الثقافة السلافية التي صبا إليها. ولكن الثقافات الأجنبية لم تشغله عن ثقافته التركية، فأحيا في شعره ما مات من الأساطير التركية والأغاني الشعبية، ووصل بين قديم الشعر وحديثه دون أن يجعل باله لما نظم الشعراء الانتقاليون بين هذا العصر وذلك. فهو في الشعر التركي بمثابة مياكوفيكسي ولوركا في الشعر الروسي، وهو في ذيوع الاسم وسمو المكانة بمنزلة يحيى كما أمير الشعر القديم، فلا غرو إذا جعلوه خليفته في إمارة الشعر الحديث.
وناظم حكمت يعشق الحرية ويركب في سبيلها الأهوال، لذلك لم يغض الكماليون طويلاً عن آرائه (الهدامة)، فاتجهوا بالنظر السياسي إليه، وفتشوا داره فيما فتشوا من دور الضباط التلاميذ في الجيش والبحرية، فعثروا على طائفة من قصائده تبرر اتهامه بالتحريض على قلب نظام الحكم الحاضر وإفساد الشباب، فقدموه إلى المحاكمة، فحكم عليه مجلس الجيش ومجلس البحرية بالسجن أربعين عاماً. وقد قضى الشاعر من هذه المدة عشر سنين لم يكف أثناءها عن الكتابة. ولقد نظم فيما نظم قصيدة مطولة في الشاعر التركي الفيلسوف بدر الدين أحد شعراء القرن الخامس عشر الذي حاول أن يؤلب الشعب على طغيان السلاطين فألقوه في السجن ولم يخرج منه إلا إلى المشنقة. وظل ناظم حكمت كما كانت بدر الدين مؤمناً بخلوص الفطرة في شعبه المكظوم المظلوم. فأخذ يقويه بالغذاء الأدبي النافع من مآثر أجداده وتقاليد أبطاله. وهو ينظم الآن ملحمة كبيرة شارفت على(707/44)
التمام عنوانها: (أسطورة الاستقلال)، وموضوعها الحرب التي شنها الشعب التركي على مضطهديه ما بين سنتي 1920 و1922، ومن فصولها فصل عن (نساء الأناضول) وهن يجددن عهود البطولة بنقل الذخائر والمؤن إلى المقاتلين في سهول الأناضول المقفرة.
ذلك هو ناظم حكمت الذي قضى عشر سنين سجيناً في بلاده ربع المدة التي حكم بها، وكل ما اقترفه من الذنوب أنه فكر بحرية، وكتب ما يعتقد في سبيل الحرية!!
طانيوس عبده وشريعة اليونان:
قرأ الشاعر الرقيق المرحوم طانيوس عبده، أن شرائع اليونان تعاقب المرأة الخائنة بجذع أنفها، والرجل الخائن بقلع عينه، فكتب على هامش الكتاب ما يلي:
فلو وصلت شرائعهم إلينا ... على ما نحن فيه من مجون
لأصبحت النساء بلا أنوف ... وأصبحت الرجال بلا عيون
طريق الهجرة النبوية:
خرج النبي صلوات الله عليه معه الصديق رضوان الله عليه من غار ثور بمكة فمرا بالبحرة، والمستدل، وخيمات أم معبد، وقديد، وحذوات، وثنية الرمحاء، وثنية الكوبة، والمرة، وذات كشد، والمدلجة، والعسيانة، وأمج، والحزار، وثنية المرة، ولقف، ومحاج، ومرجح، والأجرد، وذي سمرة، وتعهن، والقاحة، والعرج، وثنية الاعتبار، وكوبة، ورثماء، وقباء فالمدينة المنورة، على ما ذكر في عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس) و (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي) وخريطة الهجرة النبوية للأستاذ الحمصاني، ومعجم البلدان لياقوت، وغيرها
محمد عبد الوهاب فايد
كتابة الأعداد وقراءتها:
ورد في كتاب النحو الواضح المقرر للمدارس الابتدائية (ج2 ص111 الطبعة الثالثة عشرة) المثالان الآتيان:
(غزا المدينة جيش يتألف من ألفين وأربعمائة. . .)
(قرأت من الكتاب مائة وعشرين. . .)(707/45)
لقد قدم الأستاذان الفاضلان ما حقه التأخير وأخرا ما حقه التقديم: قدما الألفين على الأربعمائة والمائة على العشري مع أن الأصل - على ما أرجح - تقديم الأربعمائة على الألفين والعشرين على المائة، لأن التمييز لا يكون إلا للعدد الكبير دون الصغير إذا اجتمعا أي للألفين لا للأربعمائة وللمائة لا للعشرين، ولها يمتنع الفصل بين المميز المضاف التمييز المضاف إليه إلا للضرورة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى لا يجوز كتابة الأعداد وقراءتها من اليسار إلى اليمين، لأن اللغة العربية على عكس غيرها من اللغات لا تكتب ولا تقرأ إلا من اليمين إلى اليسار، فالألوف مثلاً لا تكتب قبل المئات والمئات لا تكتب قبل العشرات والعشرات لا تكتب قبل الآحاد.
وقد ظل أبناء هذه اللغة يكتبون الأعداد ويقرءونها من اليمين إلى اليسار كما هو شأنهم في كتابة الجمل وقراءتها حتى أوائل العصر التركي أو الفترة المظلمة؛ وفي هذا العصر استعجمت الأعداد وبعض الألفاظ أو بعبارة أسح استتركت وأصبح أكثر الكتاب والمؤلفين منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يكتبون الأعداد ويقرءونها من اليسار إلى اليمين خلافاً للقاعدة المتبعة في كتابة اللغة العربية وقراءتها.
وإني لأرجو أن يقوم الأستاذان الفاضلان بتصحيح المثالين المذكورين عند إعادة طبع هذا الكتاب حتى لا يلقن الطالب فيما بعد قواعد مغلوطة.
(عمان)
لطفي عثمان
داء قديم:
جاء في كتاب الكامل للمبرد في أخبار الخوارج هذه القصة (خرج مصعب بين الزبير إلى (باجميرا) ثم أبى الخوارج خبر مقتله يمسكن، ولم يأتي المهلب وأصحابه فتوقفوا يوماً على الخندق فناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب؟ قالوا: إمام هدى. قالوا: فما تقولون في عبد الملك قالوا: ضال مضل. فلما كان بعد يومين أتي المهلب قتل مصعب، وأن أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك بولايته فلما تواقفوا نادهم الخوارج ما تقولون في مصعب قالوا لا(707/46)
نخبركم. قالوا فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا! إمام هدى. قالوا يا أعداء الله بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله).
قلت: وهذه قصة الدنيا ما بقى فيها عبيدها، فلست تجد زمناً خلا منها، ولا جماعة من الجماعات تحللت من هذه العبادة المخزية، غير أن القصة إذا جرت بين قوم يحرمون على الناس عبادة الشهوات كانت أدعى إلى العجب، وأبعد عن الأدب.
على العماري(707/47)
البريد الأدبي
(لا غير) أيضاً:
إلى الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشبي
تحية وإجلالاً.
إن النقطة الأساسية في ملاحظتي حول (لا غير) هي بيان علة التلحيق وأنها ليست كما ذكرتم أولاً. وقد جاء في ردكم الأخير ما يشعر بتأييدكم لما ذهبت إليه، وبذلك تم البحث في هذه النقطة كما هو تام في خصوص صحة تلك العبارة (لا غير) لدى المحققين، وأحسب أنني قد أشرت إلى ما في عبارة (التاج) التي نقلتموها بقولي: (كما جنح إليها كثير من المحققين) الخ.
أما فيما يتعلق بالاستشهاد بما جاء في تلك (الجريدة) إزاء الرد على ابن هشام فإنني لا زلت غير مطمئن إليه لأن ابن هشام قد لحن جميع عبارات المولدين التي انتظمت (لا غير) بحجة أنها لم تسمع عن العرب، ومن ضمن هذه العبارات ما شملته (الجريدة) فالاستشهاد بها ضده استشهاد بما هو منتقد وخطأ في نظره، وهذا ما لا تسمح به قوانين البحث التي تحظر الاستدلال بموضع النزاع، ومن أجل هذا أرى أن الرد عليه لا يكون بهذا الوضع، على أن الاستدلال بكلام أئمة اللغة من المولدين موضع نزاع بين العلماء، والجمهور على عدم جوازه كما هو مبسوط في الخزانة للبغدادي وغيرها من كتب هذا الفن.
والسؤال عن الفاء في (فلم تقنع) فجوابه أن الفاء واقعة في موضعها والتحريف فيما بعدها حيث انقلبت النون ميماً والصواب (فلن تقنع) بالنون كما هو مرسوم في الأصل المحفوظ ولا أدري أكان هذا التحريف وقت الكتابة أم كان وقت التصفيف بالمطبعة ومثل هذا فإن جواب الشرط قد يقترن بالفاء، ولو لم يكن من نوع ما أشار إليه ابن مالك بقوله:
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل ... شرطاً لأن أو غيرها لم ينجعل
وممن نص على جواز دخولها على الجواب المنفي بلم أبو علي أحمد بن جعفر الدينوري كما نقله عنه غير واحد من النجاة.
وأما السؤال عن صحة هذا التعبير: (فيا حبذا لو أن الأستاذ الخ. . .) فجوابه أنني لم أهتد(707/48)
إلى ما يمنع من صحة هذا التركيب بعدما صرح النحاة بأن لو تكون مصدرية كما في قوله تعالى: (ودوا لو تدهنوا فيدهنون) وبعد ما ذكروا أن المخصوص يحذف كما في قول مداد بن هماس الطائي:
ألا حبذا لولا الحياء وربما ... منحت الهوى ما ليس بالمتقارب
وأظن أن مبالغتكم في التحدي بقولكم: (وعن ورود مثل هذا التركيب (فيما حبذا لو أن الأمر كذا وكذا) في كلام قديم أو مولد متقدم أو متأخر) مما ساعدت على الإجابة بما يأتي:
جاء في مقال الأستاذ الكبير محمد كرد على الذي نشرته الرسالة في عدد 92 تحت عنوان: (الدرر الكامنة) ما نصه: وحبذا لم شفع الناشر. وجاء في قصيدة رواية المصاهرة للأستاذ غنيم التي نشرتها الرسالة أيضاً في عدد 301:
هذا كلام واضح صريح ... يا حبذا لو أنه صحيح
إن الأوان هذه الأيام ... يا حبذا لو صحت الأحلام
وفي الختام أشكر لحضرتكم الاعتناء بتلك الملاحظة والرد عليها حياكم الله وبياكم والسلام عليكم ورحمة الله.
(طرابلس الغرب)
عبد الرحمن الفلهود
علية ابنة المهدي في طيرناباز:
اذكرني المقال الذي دبجه الأستاذ الفاضل شكري محمود أحمد بشأن طيزناباذ وما قيل فيها (الرسالة ذات الرقم 702) بأبيات صاحبة الفن علية ابنة المهدي التي تعتذر فيها إلى أخيها الرشيد - رجل الدنيا وواجدها في ذلك الزمان وكان قد انتهى إليه أقامت في تلك المدينة أياماً بعد انصرافها من الحج فغضب. فقالت:
أي ذبن أذنبته أي ذنب ... أي ذنب لولا رجائي لربي
بمقامي بطيرناباذ يوماً ... بعده ليلة على غير شرب
ثم باكرتها عقاراً شمولاً ... فتن النساك الحليم وتصبي
قهوة قرقفاً يراهاً جهولاً ... ذات حلم فراجة كل كرب(707/49)
قالوا: وصنعت في ذلك لحناً، فلما سمع الرشيد الشعر واللحن رضى عنها.
قلت: هذا الاعتذار أفظع من الذنب. . . ولكنها شفاعة الشعر والفن.
وفي أخبار هذه (العلية) الظريفة، مما رواه أبو الفرج في أغانيه، هذه الحكاية اللطيفة:
قال أخوها إبراهيم بين المهدي - وهو مثلها صاحب فن - ما خجلت قط خجلتي من علية أختي؛ دخلت عليها يوماً عائداً فقلت: كيف أنت يا أختي جُعلت فداءك، وكيف حالك وجسمك؟ فقالت: بخير والحمد لله. ووقعت عيني على جارية كانت تذب عنها، فتشاغلت بالنظر إليها فأجبتني وطال جلوسي، ثم استحييت من علية فأقبلت عليها فقلت: كيف أنت يا أختي جعلت فداءك، وكيف حالك وجسمك؟ فرفعت رأسها إلى حاضنة لها وقالت: أليس هذا قد مضى وأجبنا عنه؟
قال إبراهيم: فخجلت خجلاً ما خجلت مثله قط وقمت وانصرفت.
ورجعة إلى طيرناباذ نسأل فيها الأستاذ الفاضل بعد السماح:
هل الأطلال التي ما تزال ماثلة للعيان في تلك المدينة المندثرة هي القباب التي ذكروها فقالوا: (لم يبق بطيرناباذ إلا قباب يسمونها قباب أبي نواس).
هذا وللأستاذ أفضل الحمد
(نابلس)
قدوي عبد الفتاح طوفان
1 - إلى الأستاذ عباس خضر:
استوقفتني بعض التعقيبات التي نشرها الأستاذ في العددين 699، 702 من الرسالة الغراء، فليسمح لي بهذا التعليق المتواضع:
1 - لا أستطيع أن أوافق الأستاذ على رأيه في (رؤيا لم تقص) في قصة: (قطر الندى) للأستاذ العريان، فهو يرى بعض النقص في هذا الموضع ويسأل كيف عرف المؤلف تمام رؤيا لم يقصه رائيها.
ونحن نعرف أن للقصة أصلاً تاريخياً، ولعل ذلك هو الذي دفع إلى هذا التساؤل، ولكني أحب أن أقول إن مؤلف القصص التاريخي لا يقف عادة موقف المؤرخ المحقق، وإنما له(707/50)
حقه - كأديب فنان - في أن يخلق بعض الحوادث الخيالية لكي يتم لقصته ما يريد من التأثير ما دامت الغاية فنية، وليست تحقيقية.
ونحن لن نسأل سؤال الأستاذ قبل أن نسأل أسئلة كثيرة أخرى من قبيله: كيف رأى دانتي صنوف العذاب في جحيمه؛ وكيف رأى شوقي قرية الجن في قصة المجنون؟ وكيف يعرف توفيق الحكيم حوادث قصصه ومعظمها خيالي؟؟
ومع إننا جميعاً نعرف أن أدباء المهجر لا يعبئون بقواعد اللغة كما يقول الأستاذ، إلا إنني لا أصدق بمثل هذه السهولة أن الكاتب يخطئ هذين الخطأين الواضحين الفاضحين، وأرجح أنه أراد في الأولى (مجيعون) على صيغة اسم الفاعل من (أجاع) وأن في الثانية خطأ مطبعياً لا نستطيع أن نجزم بعد وجوده لأنه خطأ مطبعي بسيط منتظر، ولو أنه خطأ لغوي كبير غير منتظر.
وإلى الأستاذ سلامي وتقديري.
2 - إلى الأستاذ محمود شاكر:
رأيتك أيها الأستاذ الفاضل تورد هذا البيت هكذا:
فقالت من أي الناس أنت؟ ومن تكنْ؟ ... فإنك راعي صِرمة لا يزينها
بعلامة استفهام بعد (ومن تكن)
وأغلب ظني أن (من) هنا شرطية وليست استفهامية، والدليل على ذلك هذا الجزم في الفعل المضارع، فإنه لا محل له هنا في حالة الاستفهام، وهذا هو رأيي الضعيف والسلام.
محمد أحمد عيد(707/51)
القصص
الصعلوك. . .
لجي دي موباسان
ترجمة الأستاذ أحمد عبد الرحمن
لقد عرف في حياته أياماً خيراً من هذه، على رغم ما به من عاهة وبؤس. كان قد فقد ساقيه وهو في الخامسة عشرة من عمره حينما صدمته عربة في شارع فارفي الكبير. ومنذ ذلك الحين وهو يطلب الصدقة ماضياً في الطرقات متنقلاً بين المزارع متكئا على عكازيه اللذين جعلا كتفيه يرتفعان إلى ما فوق أذنيه، فكانت هامته تبدو كأنها غائصة بين مرتفعين.
وإذ كان طفلاً لقيطاً قد عثر عليه راع يبيت في نفق، أمسية يوم الموتى فسماه معمده بهذا السبب نيقولا توسان. ثم كانت تربيته مما يجود به أهل الخير فنشأ بعيداً عن كل ثقافة مجرداً عن أية معرفة، قد جرى له هذا الحادث عقب شربه بعض أقداح من الزبيب قدمها إليها خباز القرية، وكان أضحوكة بين الناس ثم غدا ذلك الحين شريداً، فأنه لم يكن يحسن عملاً من الأعمال إلا أن يمد يده.
كانت البارونة أثاري فيما مضى قد تركت له إلى جانب حظيرة الدجاج بالمزرعة الملاصقة للدار كوخاً حقيراً مليئاً بالقش ينام فيه. وكان هو واثقاً في أشد الأيام مجاعة أنه واجد دائماً كسرة من الخبز وكوباً من شراب التفاح في المطبخ. وكثيراً ما كان يتلقى بعض الدريهمات من السيدة العجوز تلقيها عليه من أعلى الدرج أو من نوافذ حجرتها. أما الآن فقد ماتت هذه السيدة.
لم يكن يظفر بشيء في القرى. فلقد عرفه الناس جيد المعرفة وقد برموا به وعيوا بأمره منذ أربعين سنة وهم يرونه يتنقل ببدنه البشع وأثوابه المرقعة على أقدامه الخشبية بين الخرائب والأنقاض، ومع هذا فهو لم يكن يريد أن يبرح المكان. لأنه لم يكن يعرف على الأرض شيئاً غير هذه الزاوية من البلد، هذه القرى الثلاث أو الأربع التي قضى فيها حياته التسعة. لقد وضع حدوداً للأمكنة التي قد أعتاد أن لا يعدوها ألبته
كان يجهل ما إذا كان العالم يمتد إلى ما وراء الأشجار التي تحيط ببصره، ولم يكن يسائل(707/52)
نفسه في هذا الشأن. وحينما كان الفلاحون يضيقون بملاقاته على أطراف حقولهم وحافات إنفاقهم كانوا يصيحون به: لما لا تذهب إلى القرى الأخرى بدلاً من تنقلك هنا على الدوام؟ لم يكن يحير جواباً، بل يبتعد عنهم وهو يشعر بنوع من الخوف المبهم من المجهول، خوف البائس الذي يخشى أموراً كثيرةً لا يتبينها، كالوجوه الجديدة، أو اللعنات، أو النظرات المرتابة التي يرميه بها أناس لا يعرفونه، أو الشرطة الذين يمرون بالطريق اثنين اثنين، والذين كانت رؤيته إياهم تحمله بالغريزة على الإمعان في الشجيرات الوحشية أو الاختفاء وراء كومة من الحطب.
حينما كان يلحظهم من بعيد، ويرى بريق ثيابهم تحت أشعة الشمس، كان يجد للتو خفة غريبة خفة الوحش الذي ينشد الملاذ ويطلب النجاة. فينسلت من بيع عكازيه ويسقط على الأرض كالخرقة، ثم يتدحرج كالكرة ولا يلبث أن يتصاغر ويتضاءل كمنظر أرنب في حجرها وقد اختلطت أسماله القائمة بالأرض.
ومع هذا لم يسبق أن كان له معهم شأن من الشؤون. ولكنه كان يحمل هذا الشعور في دمه كما لو كان قد ورث هذا الخوف والمكر عن أبويه اللذين لم يعرفهما البتة.
لم يكن له بيت يؤويه، فلا سقف يغطيه ولا كوخ يضمه ولا ملجأ يحميه. كان في الصيف ينام في أي مكان. وفي الشتاء كان ينفذ إلى مخازن الغلال أو في زرائب الماشية بمهارة ملحوظة، كان يبادر دائماً إلى الفرار قبل أن يحس وجوده أحد. وكان يعرف الثقوب التي يمكن بواسطتها النفاذ إلى المنازل والأبنية. ولما كان طول استخدام عكازيه قد أكسب ذراعيه قوة غير عادية، فقد كان يصعد متسلقاً إلى سطوح الأهراء معتمداً على قوة راحتيه وحدهما حين يظل أحياناً أربعة أو خمسة أيام دون حركة حينما يكون قد جمع مؤونة كافية.
كان يحيا كوحش الغابة وسط الناس دون أن يعرف أحداً أو يحب أحداً. ولم يكن يترك في نفوس الفلاحين إلا نوعاً من الازدراء الخالي من الاكتراث، والبغض الذي يمازجه الأغضاء وقد لقب كلوش لأنه كان وهو يترجح بين قدميه الخشبيتين أشبه بالناقوس وهو يترجح بين محوريه.
وقد مضى عليه يومان لم يطعم فيهما شيئاً ولم يمنحه أحد شيئاً، فقد ضاق به الناس جميعاً وأرادوا أن يفارقهم ويذهب عنهم.(707/53)
وكان الفلاحات يصحن به على أبوابهن حينما يرونه مقبلاً من بعد: ألا تريد أن تذهب عنا أيها الوغد، ألم أعطك قطعة خبز منذ ثلاثة أيام.
فكان يدور على وتديه، ثم يمضي إلى البيت المجاور حيث يستقبل كما استقبل في الأول.
وتصايح النساء من باب لآخر:
ليس من سبيل مع هذا إلى كفاية هذا المتبطل الكسول من الطعام طوال السنة.
ومع هذا فإن المتبطل الكسول كان في حاجة إلى الطعام كل يوم.
كان قد طاف في شوارع سانتهلير وفارفي وبييت دون أن يربح سنتيماً أو يحصل على كسرة من الخبز، ولم يبق له من أمل إلا في تورنولا؛ ولكن كان عليه أن يقطع إليها فرسخين على الشارع الكبير، وقد كان به من الإعياء ما لا يستطيع معه السير، إذا كان خاوي البطن كما كان خاوي الجيب.
ومع هذا فقد استأنف السير.
كان الوقت في ديسمبر. وكانت ريح باردة تهب فوق الحقول وتصفر من خلال الأغصان اليابسة. وكانت السحب تتلاحق وسط السماء القاتمة الغائمة مغذة في السير إلى حيث لا يعلم لها غاية، والمعوه يسعى ببطيء ناقلاً عكازيه الواحد بعد الآخر في جهد وإعياء متعمداً على ساقه الملتوية التي بقيت له والتي تنتهي بقدم بشعة المنظر قد لفت ببعض الخرق البالية.
ومن حين لآخر كان يجلس على حافة النفق ويستريح بضع دقائق. وقد ألقى الجوع في نفسه الكثيفة المظلمة شعوراً بالغم والحرج. ولم يكن يحمل إلا فكرة واحدة: وهي الأكل، وكلنه لم يكن يعرف الوسيلة إلى هذا.
وشعر بالألم والإعياء بعد مسير ثلاث ساعات على الطريق الطويل ولما بصر بأشجار القرية من بعد جد في السير.
وأجابه أول فلاح التقى به وسأله كلوش الصدقة.
ها أنت لا تزال على حالك القديم، أليس من سبيل إذن إلى التخلص منك؟
فابتعد كلوش وجعل يمر بالمنازل وينتقل من باب إلى آخر فيرده الناس رداً جافياً ويصرفونه دون أن يعطوه شيئاً، فيواصل مع هذا تجواله في صبر وإصرار، فلا يحصل(707/54)
فلساً واحداً.
ثم قصد إلى المزارع وجعل يعبر الطرق المبللة بالمطر، وقد أخذ منه التعب ونالت منه المشقة حتى ما يستطيع أن يرفع عكازيه ولكنه طورد في كل مكان فقد كان هذا يوماً من هذه الأيام التي يشتد فيها البرد وتشيع فيها الكآبة فتنقبض لها القلوب وتضيق فيها الصدور وتظلم لها النفوس ولا تنبسط فيها اليد لإعطاء أو معونة.
فبعد أن طاف بكل المنازل التي يعرفها قصد إلى حظيرة السيد (شيكيه) فاستلقى هناك في زاوية نفق عند طوال الحظيرة، وفك وثاقه كما كان يقال تعبيراً عن الكيفية التي كان يترك بها نفسه ويسقط بين عكازيه بأن يدفعهما من بين ذراعيه. ومكث وقتاً طويلاً لا يتحرك، وقد اشتد به الجوع وطغي عليه الألم، ولكنه كان من البلادة والسذاجة بحيث لا يستطيع إدراك ما هو فيه من بؤس وسوء حال.
كان ينتظر شيئاً مجهولاً، فلقد اعترته تلك الحالة التي نجدها كثير في أنفسنا وهي حالة الانتظار الغامض لشيء مجهول. كان ينتظر في هذا الركن من الحظيرة تحت هذا الجو القارس تلك المعونة التي يتوقعها المرء دائماً من السماء أو من الناس دون أن يسأل نفسه كيف ولماذا وعلى يد من ستبلغه، ومر به عدد من الدجاج الأسود يبحث عن غذائه في الأرض التي تطعم جميع الكائنات، وبي اللحظة والأخرى كانت الطير تميل بمنقارها فتلقط من الأرض حبة أو تصيب بعض الحشرات الدقيقة، ثم تواصل بحثها البطيء الوئيد.
وكان كلوش ينظر إليها دون أن يفكر في شيء. ثم عرض له (وأحرى أن يقال إنه أحس من أن يقال إنه فكر أو قدر) أن إحدى هذه الدجاجات يطيب أكلها إذا هي أصلحت وأنضجت على النار.
وما اختلج في نفسه قط إنه مقدم على سرقة ثم تناول حجراً كان على مقربة منه. ولما كان بارع اليد فقد أصاب للتو أقرب دجاجة منه. فسقطت على جانبها وهي ترفرف بجناحيها، وفرت بقية الدجاج متحاملة على مخالبها الدقيقة، وعاد كلوش فركب عكازيه ثم سار إلى حيث يأخذ القنيص بحركات أشبه بحركات الدجاج.
وما إن اقترب من الجسم الصغير الأسود وقد انتشرت على رقبته بعض النقط الحمراء، حتى تلقى في ظهره دفعة رهيبة أطارته عن عكازيه وأرسلته على الأرض إلى مسافة(707/55)
عشرة أقدام. وانقض السيد شيكه على السارق وقد اشتد به الغيظ وزاد به الغضب فأوسعه ضرباً. فكان وهو يضربه كالمطروق أو كمن به مس، كان يضربه كما يضرب كل فلاح من سرقه أو سلبه شيئاً، فانهال ركلاً ولكماً على المعوه الذي لم يستطع عن نفسه دفاعاً.
وجاء أهل المزرعة بدورهم فاشتركوا مع السيد في ضرب المتسول بما لديهم من الآلات، حتى تعبوا من ضربه، ثم حملوه إلى حظيرة الحطب فأودعوه فيها ريثما يرسلون في طلب الشرطة.
ومكث طريحاً على الأرض وقد سالت دماؤه وأهلكه الجوع وأشرف على الموت حتى جاء المساء ثم تبعه الليل وأعقبه الفجر دون أن يطعم شيئاً. وأقبل اثنان من الشرطة عند الظهيرة ففتحا بشيء من الحذر إذا كانا يتوقعان مقاومة. فقد زعم السيد شيكه أن الصعلوك قد هاجمه وإنه لم يدفع عن نفسه إلا بجهد جهيد.
وصاح به الشرطي أن قف.
ولكن كلوش لم يقو على الحركة. وقد حاول أن يتحامل على عكازه فلم يستطع؛ فظن الشرطة أنه يتصنع العجز ويلجأ إلى الحيلة وينوي شراً، فأمسك به الرجلان المسلحان بعنف وشدة وحملاه بالقوة على عكازيه.
وأذهله الخوف، هذا الخوف الفطري في نفسه من الحمائل الصفراء، خوف الطريدة من الصائد. أو خوف الجرذ من القط. فبذل جهداً خارقاً حتى استطاع الوقوف.
وأمره الشرطي بالسير، فسار على مشهد من عمال المزرعة وهم يرمقونه جميعاً بنظراتهم فكان النساء يشرن إليه مهددات، والرجال يتضاحكون ويسبونه ويحمدونه الله أن وقاهم شره وأراحهم منه.
ومضى كلوش بين حارسيه ولا يزال به رمق من حياة وفضل من قوة كان لابد منهما لكي يواصل السير إلى المساء، واستغلق عليه الأمر واشتد به الانزعاج بحيث لم يستطع أن يفهم شيئاً مما نزل به. وكان المارة يقفون في الطريق لمشاهدته ويتحدث الفلاحون عن لصوصيته؛ وبلغوا قصبة المقاطعة نحو الليل، ولم يكن قد سبق لكلوش أن بلغ قط إلى هذا المكان، فلم يكن يتصور ما وقع له ولا يفكر فيما عسى أن يحل به. وقد أصابه الوجود واستولت عليه الدهشة لهذه الحوادث المباغتة وهذه الوجوه والمنازل التي لم يكن له بها(707/56)
عهد.
ولم ينطق بكلمة واحدة، وما كان لديه ما يقوله إذ لم يكن يفهم شيئاً، وقد مضى عليه سنوات لم يتحدث فيها إلى أحد حتى فقد على التقريب سهولة النطق ومرونة اللسان، وكانت أفكاره من الغموض والاختلاط بحيث لا يمكن الإبانة عنها بالألفاظ وأودع في سجن القرية. ولم يفرض الشرطيان أنه قد يكون في حاجة إلى الطعام، ثم ترك إلى اليوم التالي.
ولكن حين جيء لاستجوابه في الصباح المبكر وجد على الأرض طريحاً وقد أسلم الروح، فيا للمفاجأة!
أحمد عبد الرحمن(707/57)
العدد 708 - بتاريخ: 27 - 01 - 1947(/)
رحم الله أُودلْف هتلر!
رب يوم بكيت فيه فلما=صرت في غيره بكيت عليه!
كان هتلر - سقى الله ضريحه إن كان له ضريح - رجلا صحيح النية صريح الرأي يقول لنفسه المكروبة بعدما أجال النظر في معاهدة فرساي: تحن جياع وفي رءوسنا الفكر، وفي صدورنا العلم، وفي أيدينا العمل؛ والآخرون شِباع وفي رءوسهم المكر، وفي صدورهم الحقد، وفي أيديهم السرقة؛ فما الذي أجاع العالم وأشبع الجاهل، وأفقر العامل وأغنى المحتال؟
وفي ساعة من ساعات التجلي، وفي حانة من حانات (ميونيخ) ألقى عليه الجواب أن الذي أسغب هنا وأتخم هناك، إنما هو رأس المال! ورأس المال لفظ معناه اليهود وسماسرتهم من هذه الطفيليات التي تعيش على دم المجتمع كما يعيش البعوض والقمل على دماء الناس. فإذا قطعت (رءوس الأموال) قطعت الألسنة التي تكذب، والأيدي التي تسرق، والأسباب التي تفرق. وعلى ذلك حكم المرحوم بالإعدام على وايزمان ورينو وتشرشل! ولو شاء ربك السلام للأرض والوئام للناس نقض هذا الحكم رزفلت واستالين. ولكنه لأمر يريده قضى أن يشنق القاضي ويطلق المجرم! ولو كان في قدر الله أن يكون هتلر قاضي (نورمبرج) لما كان لفلسطين قضية، ولا للسودان مشكلة، ولا في شمال أفريقيا مأساة، ولا في الهند الصينية مجزرة.
مَن هؤلاء الملقون بجثثهم على موارد المسلمين في مراكش والجزائر وتونس وطرابلس، يخضمون أرزقهم خضم الخنازير، ويحتلون بلدانهم احتلال الصراصير، ويفسدون أخلاقهم إفساد الأرضة، ومَن هؤلاء الوالغون في النيل الطهور من منبعه إلى مصبه، يسممونه بالجراثيم، ويكدرونه بالشوائب، ويتحرشون على أهله التماسيح والأفاعي؟ ومن هؤلاء الجاثمون على صدور العرب في فلسطين والعراق، يبيحون العدو ذمارهم، ويمنحون الغريب ديارهم، ويتصرفون في شؤونهم تصرف القيم السفيه؟
هم الفرنسيون طلقاء الحلفاء وعتقاء القدَر الذين يزعمون أنهم أعلنوا حقوق الإنسان، وأقاموا صروح الحضارة، وعبدوا طرق الثقافة، وورثوا اليونان في الآداب والرومان في القوانين!!(708/1)
وهم الإنجليز أموات دنكرك وأحياء العلمين وصنائع الحظ الذين لا يزالون يتبجحون بأنهم رسل الحرية وجنود الديمقراطية ومنقذو العالم من طغيان نابليون وغليوم وهتلر.
فليت شعري متى تنكشف أغشية الغرور عن قلوب هؤلاء المساكين فيعلموا أنهم لم ينتصروا، وأن خصومهم النازيين لم يكسروا؛ إنما انتصر الضمير الإنساني فلن يجوز عليه خداع، وانهزم الروح الاستعماري فلن يغني عنه بعد ذلك دفاع!
وما أجدر الذي يتنكر اليوم لمصر الكريمة أن يعرف أن الفلك لا يجري بأمره، وأن البحر مهما ارتفع مده فلا بد من جزره!!
أحمد حسن الزيات(708/2)
مصر هي السودان
للأستاذ محمود محمد شاكر
دخلت المسألة المصرية السودانية في ساعة حاسمة لابد فيها من العمل والتسديد والحزمة والتصميم، وأصبح لزاماً على أهل الرأي ورجال السياسة أن ينزعوا الخوف من قلوبهم ويطرحوا التردد جانباً، ويقبلوا على المعركة مستبسلين لا يخافون. وقد صار أمر مصر والسودان إلى مصير ليس في تاريخ مصر والسودان أسوأ منه، فكل نكول عن أداء الواجب وعن التنبيه والتحذير خيانة لوادي النيل لا يغتفرها لنا آباؤنا ولا أحفادنا من بعدنا. وإذا أضعنا اليوم حق مصر والسودان علينا، فقد ضاع كل ما ترجوه بلاد العرب والمسلمين من أطراف الصين إلى أقاصي المغرب الأقصى، وإذا الفرصة السانحة قد أفلتتْ من يد هذه الأمم إلى غير رجعة. فمسألة مصر والسودان ليست إذن مسألة مفردة برأسها بل هي أمّ المسائل العربية والشرقية جميعاً، وموقفنا حيالها هو المحكُّ لكل ما يرجوه الشرق ويؤمل.
بيد أن مسألة مصر والسودان قد أصابها من البلبلة على مر السنين الطوال ما يخشى معه أن يدع للعدو منفذاً يدسس منه إلى إحداث الفرقة والتنابذ، وقد بدا شيء من آثارهما في العهد الأخير بعد أن استطاعت الدولة الخداعية أن تستميل قلوب نفر من أهل المطامع ورجال السوء في السودان وغير السودان. فلا بد إذن أن نبدأ ونعيد في بيان الحقيقة التي لا تطمس نورها الأكاذيب الملفقة، ولا يطفئ رونقها طول الإهمال والترْك. وآنا لنأسف أن قد مضى على كبار ساستنا زمان وهم يظنون أن علاج المسألة المصرية مفصولة عن السودان هو الطرق إلى نيل الحق عن غاصب وادي النيل، فأصبح الناس وإذا هم يرون ضلال الساسة الغابرين في بتر قضية وادي النيل وشطرها إلى شطرين سموهما باسم المسألة المصرية والمسألة السودانية. ولو هم عملوا منذ ولاهم الله سياسة هذه الأمة، على أن القضية واحدة، وتجزئتها مفسدة للجزأين كليهما، لسار تاريخ مصر والسودان غير هذا السير الخبيث الذي ساقتنا بريطانيا في سراديبه المضللة المظلمة.
إن الجزء المسمى بمصر من هذا النيل المنحدر من منابعه إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، جزء يسير من مجرى هذا النيل، وهو واقع في صحراء جرداء لولا هذا الجزء(708/3)
من النيل لاتصلت رمال الجانب الشرقي والجانب الغربي من الصحراء وتصافحت على مسيله. وهذا الجزء الخصب بمد النيل، خط ضيق محصور أكثره بين الجبال والرمال، ولا يرجو أهله منه خيراً إلا باسم النيل وبماء النيل وبركة النيل. فإذا حبس النيل ماءه أو منع بركته، أو وجد على الجزء الجنوبي منه (وهو السودان) من يحبس ماءه ويمنع بركته، انقلبت هذه الأرض المصرية نقمة على أهله وشراً وبلاءً. والتاريخ يحدث منذ قديم الأزمان بأنه ما امتنع ماء النيل أو قل إلا حدثت في مصر المجاعات والقحط التي أهلكت الحرث والنسل، حتى اضطر أهل مصر في كثير من أزمان القحط أن يأكل الرجل لحم أخيه وولده من شدة المتربة التي حاقت بهذا البلد الخصيب. فالنيل هو كل شيء في بلدٍ لا تمطره السماء إلا غب، وليس فيه ما يغني أهله عن أن يجعلوا مادة حياتهم وأرزاقهم مما تخرجه الأرض التي يكدحون في زراعتها كدحاً شديداً، والتي لا تنفع فيها زراعة إلا إذا استوفت حظها من ماء هذا النيل.
وقديماً قامت في هذا الجزء الأدنى من النيل أمم وحضارات لا تزال آثارها باقية إلى هذا اليوم، وكان أولى بقيام هذه الأمم والحضارات الجزء الأعلى وهو السودان، لولا أن أهل الزمن الماضي فروا من وقدات الشمس المحرقة في السودان إلى هذا الجزء الأدنى فأقاموا الحضارات على حفافيه، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا وهم مطمئنون إلى أن الجزء الأعلى ليس في دولة قائمة يمكنها أن ترد هذا النيل عن مجراه إلى قرارة هذا الوادي الذي سمي (مصر). ولو كان هناك شيء مثل ذلك لرأينا، كما رأينا في شأن الوجه القبلي والبحري، رجالا ينصبون أنفسهم لضم الشمال إلى الجنوب وتوحيدهما حتى لا يكون في الأرض الواحدة دول منقسمة يناوئ بعضها بعضاً، فلا تقوم لواحدة منهما قائمة، ولا يكون لواحدة منهما مجد أو حضارة أو تاريخ. وبذلك بقي النيل الأعلى (السودان) في سلم دائمة، إذ لم تكن فيه دولة مناوئة، وبقيت صلته بمصر كصلة أي بلد من بلاد الدنيا يكون في أرضها جزء متروك لم يعمر بالهجرة أو الاستصلاح والاستثمار. وهذا الترك لا يدل على اقتطاع هذا الجزء، بل على أن الحاجة لم تدفع بعدُ إلى استصلاحه أو استثماره. هذا هو التاريخ القديم في العلاقة بين جزئي النيل (مصر والسودان).
ومضى التاريخ على هذا إلى أن جاء العصر الأخير، فقام شمال النيل (مصر) ليضم(708/4)
الجنوب (السودان)، كما قام الشمال من أمريكا لضم الجنوب إليه، وكما قام جزء من بريطانيا نفسها ليضم إليه بلاد الغال وأرض أسكتلندة. ولو بقي شمال أمريكا منفصلاً عن جنوبه، وبقيت بلاد الغال وبلاد أسكتلندة على أحوالها التي كانت عليها منذ قرون، لما كان في الدنيا شيء يسمى الولايات المتحدة، ولا شيء يسمى بريطانيا، وإذن فضم السودان إلى مصر بالحرب لا يمكن أن يسمى (فتحاً) بل هو ضم فحسب فلذلك يخطئ بعض الساسة الذين يحتجون في المسألة المصرية السودانية بهذا الشيء السخيف الذي يسمونه (حق الفتح). وكل ما هنالك هو أن هذا الجزء المتروك من أرض مصر أو أرض السودان - كما تشاء - كان لابد في ضمه من بعض الحرب حتى تستقر الحال ويستتب النظام، كما حدث في كل بلاد العالم منذ أقدم عصور التاريخ، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وهذا شيء بديهي لا يحتاج إلى زيادة.
ويتبع هذا الخطأ في الاحتجاج بحق الفتح خطأ آخر أقبح منه، وهو احتجاج من , بما أنفقت الأرض الشمالية على الأرض الجنوبية من الأموال، وهذا أيضاً فاسد كل الفساد. فكل داق أنفقته مصر في السودان هو حق السودان على مصر، كحق أي قرية في أرض مصر، وكحق كل شارع أو مديرية. فينبغي إذن أن ننفي من احتجاجنا كل شيء يسمى نفقات أنفقت في السودام، فإن كل ذلك هو حق السودان الذي إذا قصرنا في أدائه وجب عليه أن يطالبنا به بالكلام أو بالسيف أو بكليهما. ومن المؤلم أن يكون هذا الأسلوب الذي جرى ولا يزال يجري على ألسنة بعض الساسة، هو خديعة بريطانية قديمة لم نزل ننزلق في مداحضها ونزل، حتى كادت تكون نكبة عقلية ألمت بهؤلاء الساسة.
فلابد إذن من وضع هذه الحجج حيث ينبغي أن توضع في زوايا الإهمال، وأن ينظر الساسة إلى الحق الطبيعي الذي يجب لمصر على السودان، والذي يجب للسودان على مصر، وأنا أقدم فأقول إن حق السودان على مصر هو الأصل، وهو الحق الأعظم، وهو الحق الذي لا يمكن مصر مهما بلغت من قوة ومجد وحضارة أن تتنصَل أو تتبرأ، فإذا فعلت، فذاك هلاكها وضياعها في هذا العصر وإلى الأبد البعيد.
إن السودان كما كان قديماً، وكما هو الآن، هو حياة الأرض التي تسمى باسم (مصر)، فزراعتها وتجارتها ومالها وأهلها وتاريخها وحضارتها، كل ذلك فضل أتى به النيل. والنيل(708/5)
فيما بعد أسواره إلى منابعه واقع في الأرض التي تسمى السودان، فإذا أبى السودان أن يفضل على مصر بالقدر الكافي من ماء النيل، فقد حدثت المجاعات، وهلكت الزراعة وبارت التجارة وذهب المال واندثرت الحضارات وانطمس التاريخ، ولم يبق في الدنيا دولة تسمي نفسها الدولة المصرية، بل مكان في الصحراء يقال له مصر ليس إلا، مجرداً من كل ما تكون به دولة أو أمة. فالحقيقة التي ينبغي أن لا نتمارى فيها بالعصبية أو الكبرياء هو أن السودان هو سيد هذا الوادي الذي يمده النيل بمائه، وإذن فالسودان هو أحق الشقيقين باسم الدولة، فإما أن يسمى وادي النيل كل باسم الدولة المصرية برضى أهل السودان، أو أن يسمى هذا الوادي باسم الدولة السودانية برضى أهل مصر. فهذا هو الوضع الصحيح للمسألة المصرية السودانية.
ومن البيّن الذي لا خفاء فيه أن السودان كنز كله، بمائه ومعادنه وغاباته وحيوانه وكل شيء فيه، والذي في مصر من ذلك لا يعدل واحداً من ألف من هذه القوى الطبيعية المكنوزة في أرضه وجباله وسمائه. وهذه القوى هي التي تجعل لصاحبها السيادة العليا على الذي يستمد من فضلها. فمصر تستمد من قوى السودان جزءاً يسيراً وهو الماء، وتستمده برضى أهل السودان ومسالمتهم وأخوتهم، فمن العبث إذن أن تدعي مصر (سيادة) على السودان، بل الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن سيادة السودان هي العليا، وأن مصر جزء من السودان، وهو جزء عظيم خصب صالح للاستثمار في الزراعة وغيرها استثماراً عظيما، فمن مصلحة السودان أن يفضل الماء على هذا الجزء لتزدهر زراعته وحضارته ويكون للسودان ذخراً من القوة يضارع القوة التي فيه. والسودان محتاج إلى هذا الأفضل لأن المنطقة الصالحة للزراعة في مصر أعظم وأجدى من المنطقة الواقعة في الجزء المعروف اليوم باسم السودان. ومن هذا تعرف كيف دبر الله لهذين الشطرين العظيمين أن لا يجد أحدهما مندوحة تغنيه عن صاحبه، وتفرض على كل واحد منهما أن يتشبث بصاحبه، فإذا تنابذا وتنافرا وتدبرا وتقاطعا، حاق بهما جميعاً ما يحيق بكل أخوَين متنابذين متدبرين، وهو الهلاك والضياع الذي تخاف مغبته.
وأنا لا أظن أن في الدنيا شيئاً هو أوضح للعقل السليم من هذا الذي ينبغي أن يكون بين مصر السودان، أي الحقوق الطبيعية التي يفرضها وجود هذين الشطرين المتجاورين:(708/6)
شطر لا بقاء له وحده وهو مصر؛ وشطر هو القوى الكامنة التي تعطي البقاء للشطر الأول، وذلك هو السودان. والشطر الأول منهما (مصر) هو الذي مهد الله له سبيل القوة والتاريخ والعلم فكان في الوجود أسبق الشطرين إلى قيام الدولة فيه، والشطر الآخر باقٍ ساكن قار. . . شيخ وقور رزين لا يفارق خلوته إلا بسبب من العطايا والمنح التي يرسلها إرسالا إلى الشطر الأول ليحيى ويقوى ويكون سلطاناً في أرضه، وتاريخاً في الزمن، وحضارة في العالم، ولكن الشيخ هو سر السلطان والتاريخ والحضارة - هو السودان. وذلك حسبه.
وقد كتب الله لمصر أن تكون كما هي الآن، وأن تكون دولة في الدول لها سلطان ظاهر ولها عمل في بعض السياسة، ولها آمال في تحرير نفسها وتحرير العرب وتحرير الشرق من بغاة الاستعمار في أوربا وأمريكا وروسيا، فكيف يجوز في عقل عاقل أن تدع أباها الذي يمدها بكل هذه القوة ينخزل عنها وينفصل ليقع في يد الدولة المستعمرة المعروفة الناس باسم بريطانيا؟ إن مصر هي السودان، ولا مصر بلا السودان، وإذا كانت إنجلترا نفسها تدعي أن الهند لازمة لها، وقناة السويس لازمة لها، وكذلك روسيا فيما تدعيه، وكذلك أمريكا في دعوى مصالحها في الأرض والبحر والجو، فكيف يجوز في عقل عاقل أن يراد لدولة ترجو أن تكون دولة في هذه الدنيا العريضة المتراحبة، وهي ليست إلا خطاً محروماً حظَّ الحياة وأسباب البقاء بانفصال السودان المفضل المتكرم عليها بأسباب القوة التي تمكنها من أن تكون دولة؟
إن واجبنا اليوم هو أن نموت في سبيل السودان، لأن السودان هو حياتنا، ونحن بضعة منه، فدفاعنا عنه وموتنا في سبيله هو دفاع الولد البار عن أبيه، والذي لا حياة له ولا عز ولا مجد إلا بحياته وعزه ومجده. نحن لا نريد سيادة على السودان بهاذ المعنى العامي الجلف، فإن السودان هو سيد هذا الوادي، ولكننا نريد أن تبقى مصر حية قوية في كنف السودان أبينا ومادة حياتنا. إننا لن نفرط ساعة في السودان لأن الدولة المصرية ليست شيئاً، ولن تكون شيئاً في هذا الوجود إلا بالسودان. ولو أنصف القدر وأنصف الناس، لكان ينبغي أن تسمى (الدولة المصرية) الدولة السودانية. أما بريطانيا فهي تريد السودان، لأنها تدرك هذا كله حق الإدراك وتعلم أنها إذا بقيت في السودان، تحكمت في حياة مصر كلها،(708/7)
وزادت عليه ما في السودان من كنوز لا تزال مطمورة تحت تاريخ الحياة الإنسانية المتقادمة منذ أبعد الآباد. فليحذر السودان، والسودان هو الحياة الحقيقية لمصر. فإذا انفصل أحدهما عن الآخر ماتا كلاهما بين أنياب الوحش الذي لا تشبع نهمته ولا تسكن ضراوته.
محمود محمد شاكر(708/8)
عدوان على مصر!
للأستاذ علي الطنطاوي
(جل الأمر عن المجاملة والهزل، فدعونا نتكلم بصراحة وجد.
.)
يعرض في مصر الآن فلم اسمه (لبنان في الجامعة)، تظهر فيه الجامعة أولا ببنائها وقبتها حتى لا يبقى عند أحد شك أنها الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول التي في الجيزة، وأن الذي يأتي من الوصف إنما هو لها، هي، بعينها وأذنها لا لجامعة غيرها وأنها ليست قصة جامعة خيالية، حتى إذا وثق صاحب الفلم من أنك عرفتها وحققتها، ساق لك مشاهدها، وعرض عليك صورها، فلم تر فيها مظهر علم، ولا دلائل تهذيب، لم تر إلا الاختلاط الشائن واللهو المحرم، والغرام والغناء، كأن هذا كل ما في الجامعة، وكأنها أنشئت لمثله: يجيئها الطالب اللبناني فيستقبله طاب مصري، يأبى واضع الفلم إلا أن يجعله مغفلا كأنه ثالث المضحكين لوريل وهاردي، وأن يسميه (سونه). . . فلا يمر على التقائه به ثلاث دقائق فقط حتى يعرف به الطلاب فيهتفوا له، ويقودوه رأساً لا إلى بهو المحاضرات ولا إلى المكتبة، بل إلى البركة، مع أنه جاء في وقت الدرس لا في وقت اللعب فترى في بركة الجامعة الطلاب والطالبات بالأجساد العارية، والعورات البادية، ثم تبصرهم يعمدون إلى طالبة لابسة ثيابها الكاملة فيحلونها فيلقونها في الماء، فإذا خرجت كالقطة المبللة حفا بها ضاحكين عابثين، وتمضي المشاهد على هذا النمط لا تظهر غرفة الدرس إلا مرة واحدة، يدخلها عم الطالب اللبناني وهو في الرواية (المضحك) المعروف بشارة وكيم فيقطع على الأستاذ محاضرته، ويفسد عليه درسه، ويسخر منه، ويستخرج ابن أخيه بلا أذن، لأن عاشقته. . . تطلبه. . .
ويعرض (الفلم) بيت الطلبة الذي أنشأته الحكومة المصرية بأموالها لإيواء الغرباء من الطلاب، فطمأن بذلك آباؤهم في الشام والعراق والحجاز ونجد والمغرب واليمن، لأنهم غدوا فيه بأمانة هذه الحكومة فما يخشى المرض على أجسامهم، ولا الفساد على أخلاقهم، فلا يجعل بيت الطلبة إلا (ماخورا) فظيعاً. . وترى اللبناني يدخله فيسقط في حفرة كان(708/9)
إخوانه حفروها له، فينزلون عليه بجماعتهم فينضوون عنه ثيابه كلها إلا ما يستر العورة الكبرى ولا يكاد، وتجئ طالبة، طالبة في بيت الطالبة - هل تسمعون أيها القراء؟ تقبل عليه فيستحي هو يخجل، ولا تخجل هي ولا تستحي، وتجره من يده فتلبسه من ثيابها. . فيستنوق الجمل، ويتأنث الرجل، ثم يجلسان على مائدة الشراب والغزل، والطلاب ينظرون، ولا يكتفي واضع الفلم بهذا كله حتى يجئ ب (سونة)، فيقفه عليهما وقفة أبله، فيقول للّبناني: هذه خطيبتي فكيف تأخذها مني؟ ثم يضحك ويولي عنه كأن الأمر لا يعنيه، وكأن هذا الفلم قد تعمد فيه أن يكون لعنة على الرجولة والشرف ومصر وجامعتها معاً، وعدوانا على أولئك جميعا. . .
وما هذا الذي ذكرت إلا مثالا مما في هذا (الفلم) فهل يبلغ أعداؤنا منا أكثر من هذا؟ وماذا يقول الناس غدا عن الجامعة المصرية وعن دار طلبتها إذا عرض هذا (الفلم) في بلاد العرب ورآه أهلها الذين يعدون مصر كعبة الثقافة ومورد العلوم؟ هل يرسلون أبناءهم إليها؟ أم يقولون إن هذه هي حقيقة الجامعة ولولا ذلك ما صورها مصريون في هذا الفلم المصري، ولما سمحت حكومة مصر بعرضه، ولما سكتت عنه إدارة الجامعة فلم تطلب منعه، ولم تقاض أهله، ولم تحرك من أجله ساكنا؟
وهذا الفلم مثال مما جرنا إليه تركنا ديننا وأخلاقنا، وتقليدنا الغربيين في رذائلهم وحدها، وحسباننا أن هذا هو التمدن وهذى هي الحضارة. وإذا كان هذا الفلم قد سبق الزمان فصور الجامعة بهذه الصورة المزورة، فإنه سيأتي علينا يوم تكون هذه هي الصورة الحقيقة للجامعة وللمستشفى وللمكتب وللدائرة وللمخزن وللشارع وللترام، ويكون كل مكان يلتقي فيه الرجل بالمرأة ملهى من الملاهي، ولم لا؟ واللذة مطلوبة، والرغبة موجودة، وما ثمة حجاب يمنع العين، ولا قانون يكف الجوارح، ولا دين يزع النفس، ولا شهامة تلجم الشهوات، لم لا؟ ونار الشهوة الكامنة في كل نفس، تؤججها هذه المجلات الصورة، وهذه الأفلام الداعرة؟
أو ليس من العجيب أنك تدخل في القاهرة السينما التي تعرض الفلم الإفرنجي فترى له فكرة وموضوعا وهدفا، وربما رأيت فيها الفلم العلمي أو التاريخي الذي يمر كله فلا تسمع فيه كلمة غرام، ولا ترى فيه قبلة. وتدخل لترى الأفلام المصرية فتجدها كلها إلا النادر(708/10)
منها، سخيفة النسج، مضطربة الموضوع، عمادها العرى والخلاعة والتخنث ورقص البطن؟
أو ليس أعجب منه أن تكون المجلات الفرنسية أعف في الجملة من مجلاتنا التي لا يخلوا أكثرها من صور الأفخاذ والسيقان والبطون والنهود، تسابقت في ذلك حتى بلغت الوقاحة ببعضها أن نشرت صور نساء عاريات لا يسترهن قليل ولا كثير؟
أو ليس أعجب من هذا كله، أني ذهبت مساء الخميس الماضي إلى مجلس يجتمع فيه عادة فريق من أكابر رجال التأليف والتعليم في مصر، فتكلمنا في هذا الموضوع، فإذا أكثر الحاضرين بين غافل عن هذا الداء لا يبصره، أو متهاون به لا يكبره، أو راض به لا ينكره، وإذا هم جميعا يتسلون في ساعة الخطر ويلهون يوم الجد، ويرددون هذه الكلمات الحلوة (حرية الرأي) و (ضرورات الفن) و (مقتضيات العصر)، والنار مشتعلة في البلد؟!
يا أيها السادة المبجلون:
فكروا قليلا فإنكم قادة الرأي فينا، فلا تكونوا تبعا للعامة من أهل أوربا، فما يفلح قوم قادتهم تبع للعوام من أعدائهم، فكروا بعقولهم التي في رؤوسكم لا بعقول أصحاب الوجوه الشقر، تروا أن الحريات كلها، والفنون جميعا، والحضارة من أساسها، إنما كانت لتزداد بها الأمم قوة، والناس إنسانية؛ فإذا أساء قوم استعمالها وأخذوها من ذنبها فجاءت في أيديهم مقلوبة منكسة حتى تبدل وضعها وضاعت فائدتها، وصارت للأمة ضعفا لا قوة، وأعادت الناس إلى البهيمية لم ترتق بهم في سلم الإنسانية، فقد وجب في شرعية العقل وجوبا درء ضررها، ودفع أذاها، وإلا كانت كالسيف يأخذه الأحمق الغرير، فيجرح به نفسه، وما كان السيف إلا ليرد به العادي ويذاد به عن الحمى، وما أظن أن على ظهر الأرض عاقلاً واحداً، يرضى أن يضحي بأخلاق أمته وعفافها، من أجل مقالة فيها كلام جميل، أو قصة فيها وصف رائع، أو صورة فيها فن بارع، وإن الأمم تعيش من غير أدب مكشوف، وفن عار، ولكنها لا تعيش بلا أخلاق،
وأنا أحب الأدب، وأقدس الحرية، ولكني أفضل أن نبقى مقيدة ألسنتنا وأقلامنا بقيد الإسلام والأخلاق، على أن نهلك ونحن أحرار نقول ما نشاء، فمن هو الذي يخالف في هذا من القراء؟(708/11)
لقد صارت المجلات تخاطب الشهوات بالصور العارية، بعد أن كانت تخاطب العقول بالعلم الحق، والقلوب بالأدب السامي، وهبط الأدباء إلى درك السفلة من القراء بعد أن كان عمل الأديب رفع القراء إلى العلاء، وانقلبت الجامعات مسرح ظباء وموعد لقاء بعد أن كانت دار العلم والتقى والصلاح، وغدت السينما عندنا (تهريجاً) فاجرا، بعد أن كانت السينما عند الناس درسا وعبرة وفناً، وأوشكت هذه (الحرية. . .) وهذه (الحضارة. . .) أن تكون تعديا لحدود الشرع، وهدما لأركان الخلق، ودعوة إلى الفسوق، لا عمل لها إلا هذا، ولا ثمرة لها غيره.
أفيرضى عقلاء مصر أن تظل على هذا الطريق؟
يا أهل مصر! إن هذه المجلات، وهذه الأفلام، عدوان على مصر وعلى الفضيلة والعروبة والإسلام، فإذا أنتم لم تقاطعوها وتقتلوها، فمزقوا كتب الدين والأدب والتاريخ، لأن كل صفحة منها تمجيد للعرض، وامتداح للنخوة.
يا أهل مصر!
لقد جرب أجدادنا العمل بالقرآن فكانوا سادة الدنيا لكها، فجربوا أنتم مخالفته وانظروا ماذا تكونون!!
القاهرة
علي الطنطاوي(708/12)
الأساطير الإسلامية
للدكتور جواد علي
من الموضوعات الجديرة بالعناية موضوع: (الأساطير الإسلامية وأثرها على العقلية الأوربية)، وهي أساطير عربية جاهلية اختلطت بعناصر أعجمية في العصور الإسلامية التي امتزجت فيها ثقافات مختلفة متنوعة.
ولما بحث العالم الإسباني (ميكول آسين في (الكوميدية الإلهية) للشاعر الإيطالي الشهير (دانتي) تطرق إلى ذكر العناصر التي أخذ منها هذا الأديب (الفلورنسي) الكبير تلك الصورة البديعة التي رسمها من أوربية وشرقية، وقد أضطر إلى التعرض للقصص الإسلامية التي كانت قد شاعت في إيطاليا أيام هذا الشاعر، فقسمها إلى أقسام وفصول مثل الأساطير الأوربية التي أخذت من (معراج الرسول)، والقصص التي أخذت من أوصاف الجنة؛ وبحث في القصص المختلفة المعروفة مثل أصحاب الكهف والخضر وقصة (بولوقيا) والرحلات المخيفة إلى البحار، وقصص الحيتان البحرية التي تظهر في البحر على صورة جزر عائمة.
وقد بحث مستشرقون آخرون في تأثير القصص الإسلامية في القصص الأوربية، وفي أثر الأساطير العربية في أساطير أوربا في القرون الوسطى، وفي كيفية انتقاها إلى أوربا. وعلى بعض هذه القصص طابع إسلامي واضح، وعلى بعضها أثر التكيف الجديد الذي طرأ عليها في المحيط الأوربي الذي حلت به.
ومن الأساطير الأوربية القديمة قصص مغامرات البحارة ومخاطرات البحار وعجائب البحار وعجائب المخلوقات في هذه المحيطات الشاسعة، وهي قريبة من القصص العربية الواردة في كتاب عجائب المخلوقات، وفي الكتب المؤلفة في حياة الحيوان، وفي كتب السياح العرب الذين دونوا ما شاهدوه في تلك البحار. ومن أمثال هذه الأساطير الأوربية القديمة من الأساطير العربية قصة رحلة (هارولد النرويجي)، ورحلة (كورم الدانماركي) ورحلة (مالدوين الكلتي) ورحلة (أبناء كونال درك أو كورا)، ورحلة (سانت برندن) وهي رحلة حج بحرية مشهورة جداً لراهب ايرلندي وقد جمع فيها عدة قصص لرهبان آخرين مثل وو وومجموعة الرهبان (الأرموريكن) وقد انتشرت في القرن العاشر(708/13)
للميلاد بين المسلمين كثير من القصص البحرية، ويعود ذلك على توسع الحركة التجارية في خليج البصرة، وبين سواحل البلاد العربية، وسواحل الهند والصين وإفريقية الشرقية، وقد تفرعت منها قصص عديدة، منها ما دون في الكتب ومنها ما ذكر عرضاً بصورة مختصرة أو مبتورة. ومن هذه القصص قصة البحث عن الخضر، وقصة رحلات السندباد البحري وقصة الجزيرة الخضراء وقصص الحيتان.
وقد قارن المستشرق الهولندي (دي كويه) بين قصة (سانت برندن)، وهي من القصص الايرلندية وبين رحلة السندباد البحري، وبعض قصص بحرية ذكرها الشريف الإدريسي، وقصة (بولوقيا)
اختار (سانت برندن) الذهاب إلى قلعة نائية لم تكن مأهولة في جزيرة لم تعرف إنساناً من قبل، ولشد ما تملكه العجب حينما وجد مائدة غنية بأنواع الأطعمة والأشربة فأكل منها وشبع وأطعم أصحابه ولم يؤثر ما أكلوه على كمية الطعام.
وفي قصة (بلوقيا) التي رواها (عبد الله بن سلام) وهو يهودي اعتنق الإسلام تشابه مع قصة (سانت برندن)، فبلوقيا وهو حبر يهودي، وكان والده (أوشيا) من أحبار اليهود وإعيائهم أراد البحث عن (محمد) وأمته، فطاف بلاد الشام حتى بلغ جزيرة من جزائر البحر، فإذا هو بحيات كأمثال الإبل عظما كلمهن ثم مر بشجر كثير وبعالم غريب يشبه ذلك العالم الذي مر به ذلك الراهب.
وقصة (بلوقيا) هذه التي قصها الثعالبي استناداً على رواية (أبي بكر بن عبد الله الحزدقي) بإسناده عن عبد الله بن سلام هي قصة، وإن كانت مطبعة بطابع إسلامي إلا أنها من القصص الإسرائيلية البحت. ولأبن سلام قصص أخرى تحمل نفس الطابع، ويحشره العلماء وأصحاب الحديث لهذا السبب في تلك المجموعة التي اشتغلت في إدخال (الإسرائيليات) إلى المسلمين بصورة حديث عن الرسول أو موعظة من المواعظ.
ووجد هذا الراهب في جزيرة من الجزر أشجاراً فاقتطع من أغصانها مقداراً وأوقد ناراً ليصنع طعاماً، فلما تأججت النار تحركت تلك الجزيرة العظيمة وأخذت تموج، فرمى الراهب وأصدقاؤه بأنفسهم في اليم طلبا للنجاة؛ إذ لم تكن تلك الجزيرة سوى سمكة عظيمة من نوع الحيتان البحرية.(708/14)
ويرى بعض المستشرقين مثل (دي كوية) وو ' أن هذه الجزيرة تشبه الجزيرة الأولى التي وصل إليها (السندباد البحري) وأصدقاؤه وقصة السندباد من القصص العربية المعروفة ولعلها النموذج الأصلي لقصة (روبنسن كروسو).
ونجد مثل هذه القصص في الكتب الدينية القديمة مثل: (التلمود) وهو بعد التوراة عند اليهود وعليه عندهم العمل في الأحكام الفقهية. ومثل (الأفستا) كتاب الفرس المجوس. وقد انتشرت أمثال هذه القصص بين العجائز والأطفال ولا زالت معروفة حتى اليوم.
وزعم نفر من المستشرقين أن قصة (سانت برندن)، والقصص المشابهة لها هي من القصص الايرلندية القديمة، وقد عرفها الشرق عن طريق الصليبيين أو عن طريق أسبانيا؛ ودليلهم على ذلك أن سمكة (الحوت) التي وصفت بالكبر والضخامة لا تعيش في مياه الشرق.
وهذا الرأي لا يستند بالطبع إلى دليل ملموس، ولا يعقل انتقال هذه القصة من ايرلندا إلى الشرق. وهناك أدلة علمية واضحة تنفي انتقالها من ايرلندا. فالجاحظ الكاتب البصري وقد عاش في نهاية القرن الثامن للميلاد إلى ما بعد منتصف القرن التاسع (781 - 869 م) يصف قصص البحارة عن الحيات البحرية فيقول: (فقد زعم هؤلاء أنهم ربما قربوا إلى بعض جزائر البحر وفيها الغاض والأدوية واللحاقيق وأنهم في بعض ذلك أوقدوا ناراً عظيمة فلما وصلت إلى ظهر السرطان ساح بهم وبكل ما عليه من النبات حتى لم ينج منهم إلا الشريد).
ويظهر من كتاب الحيوان أن مثل هذه الأساطير كانت معروفة في العراق، وعلى الأخص في البصرة في أيام الجاحظ، وربما كانت معروفة قبل عصر الجاحظ، وأن قصة (السندباد البحري) التي شاعت بين الناس في القرن العاشر وما بعده أخذت من هذه القصص البحرية. وقد تطرق الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) إلى ذكر الحيتان.
أما الجزيرة الثانية من مجموعة الجزر التي زارها القديس فهي جزيرة نائية كانت مأهولة بالطيور المتكلمة وكانت أرواحها من طبيعة أرواح الملائكة. وفي قصة (بلوقيا) مثل هذه الطيور. فلما سأل (بلوقيا) أحدها قال (أما من طيور الجنة، وأن الله قد بعثني إلى آدم بهذه المائدة لما هبط من الجنة، وإني كنت معه حين لقي حواء وأباح الله له الأكل؛ وأنا ههنا من(708/15)
لدن ذلك الوقت، فكل غريب وعابر سبيل من عباد الله الصالحين يمر بها يأكل منها وأنا أمين الله عليها إلى يوم القيامة. فقال بلوقيا ولا تتغير ولا تنقص؟ فقال طعام الجنة لا يتغير ولا ينقص. قال بلوقيا فآكل منها؟ قال كل، فأكل حاجته، ثم قال له أيها الطائر وهل معك أحد؟ فقال معي أبو العباس يأتيني. فقال ومن أبو العباس قال الخضر عليه السلام، فلما ذكر الخضر وإذا به قد أقبل وعليه ثياب بيض فما خطا خطوة إلا نبت الحشيش تحت قدميه. ثم قال غمض عينيك فغمضهما، ثم قال له افتح عينيك ففتحهما فإذا هو جالس عند أمه، فسألها من جاء بي إليك؟ قالت طير أبيض يطير بك بين السماء والأرض فوضعك قدامي).
وتشبه هذه الطيور الطيور المذكورة في قصة: (سانت مكاريوس) وقد ورد في الأحاديث المنسوبة إلى الرسول ذكر الطيور البيضاء، وقد فسرها المفسرون بأنها الملائكة. وهو تفسير يتفق مع مذهب الأوربيين في تصوير الملائكة على أنها على صورة طيور بيضاء ذات جناحين طويلين.
ووجد (القديس) في جزيرة رهباناً كانوا يقتاتون بخبز الجنة لا يعرفون الهرم ولا يصل إليهم المرض، وكانوا لا يتكلمون وفي قصة (ذي القرنين) وقصة (جزيرة الحكماء). شبه كبير بهذه القصة. أما (العنب) العجيب الذي عثر عليه القديس في الجزيرة فله أصل في الحديث المنسوب إلى الرسول إذ يروى أن جماعة سألوا الرسول عن الكرم وهل ينبت في الجنة، فأيد الرسول وجوده فيها، وأبان لهم أن الحبة الواحدة لتكفي الرجل وعائلته. وهو يمثل على كل حال رأي الناس في العنب وهو رأي يشابه رأي الأوربيين في عنب جزيرة القديس.
وفي الأدب العربي عدد لا يحصى من هذا النوع من القصص وقد جمع قسماً منها الثعالبي في كتابه (قصص الأنبياء) وتجد طائفة أخرى في تفسير الخازن، وأكثرها من صنع من أسلم من اليهود مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب أبن منبه وإضرابهم. وروى بعضها عن عبد الله بن عباس.
وتعرف هذه القصص عند المسلمين (بالإسرائيليات). والظاهر أنها عرفت عند المسيحيين كذلك إما عن طريق الكتب الدينية والتفاسير الموضوعة على هذه الكتب، وإما عن طريق(708/16)
اليهود الذين انتقلوا إلى أوربا في عصر الإمبراطورية الرومانية. غير أن وجود العناصر الإسلامية فيها يشعر أنها انتقلت بعد ظهور الإسلام، ولعل ذلك حدث بعد اختلاط الأوربيين بالعرب في الأندلس وفي إيطاليا وفي بلاد الشام وفلسطين، وبعد وقوفهم على كتب الأدب العربية ولا سيما كتب القصص منها، وفيها طائفة كبيرة تلائم العقلية الأوربية والذوق الديني الذي كان يتحكم في نفوس أوربا في القرون الوسطى حيث كان الحكم البابوي هو الحكم السائد، والثقافة الدينية هي الثقافة السائدة، وفي هذه القصص لون من ألوان هذه الثقافة.
جواد علي(708/17)
على هامش محاضرة:
الشر في طبيعة المستعمر
للأستاذ حبيب الزحلاوي
يحار المرء في تفسير ظاهرة الشر الواضحة في الشعوب الغريبة المستعمرة، أهي طبيعة أصيلة فيهم أم هي نتيجة مباشرة لعوامل الاعتداد بالقوة وحياة الترف ولوازم المدنية؟
لا شك في أن الشعوب الغربية المستعمرة بلغت من الرقي الاجتماعي ومن الآداب والعلوم والثقافة العامة والتسامي في التهذيب أو كادت تبلغ أوج التعاليم الإنسانية، فما السر في أنها تقتتل في الحروب قتال الإبادة والفناء والتدمير والتخريب، ويعمل الظافر فيها على سحق أخيه المغلوب؟
ثم ما بال هذه الشعوب الغربية كالجزار تعمل مداها في تلك الأغنام التي تدر الثروة عليها كلما أحست بحركة تدب في هذه القطعان؟ وما هي إلا الشعوب الشرقية الواقعة تحت سلطانها ودائرة نفوذها؟
أفهم أن يستمسك الوارث بما ورثه عن الآباء والأجداد، كما أفهم في طبيعة الغني القوي جشعاً يدفعه إلى تنمية ثروته وتوسيع جاهه ومد سلطانه كالشعب الإنجليزي المستعمر، أما الذي لا أفهمه ولا أجد سبيلاً إلى إدراكه فهو كيف يجوز لمبذر متلاف كالشعب الفرنسي الذي أضاع ما ورثه عن آبائه وأجداده وفقد بسفهه الأخلاقي والاجتماعي، كيف يسوغ له وهو القاصر المريض أن يزود بأسلحة الشر يعملها في رقاب من أرادوا الخلاص منه والإعتاق من رزاياه من سكان شمالي أفريقيا، خصوصاً وأن الفرنسي كالإنجليزي يستويان في ادعاء تهذيب الشعوب وتدريبها على الحكم الذاتي.
أفهم أن نهم الاستعمار يسيل لعاب الإنجليزي ويدفع يده إلى امتلاك كل بقعة من الأرض مجاورة لما اغتصبته يده من قبل، ولكل قطر سهلا كان أو جبلا، نهراً أو قناة، يقع في طريق إمبراطوريته المترامية الأطراف.
أفهم ذلك والإمبراطورية البريطانية خارجة ظافرة من حرب بذلت في سبيلها مهجاً وأموالا، واكتسبت من جرائها عطف العالم وإعجابه بها، وبذلك لا أستغرب أن أراها تمد يدها تنتزع قطراً من هنا وتحتل مقاطعة هناك، وتتطلع إلى ما هنالك، وهي تتذرع بروح(708/18)
الديمقراطية وإسعاد البشرية وتهذيب الشعوب وإنقاذها من الخوف والمرض والجوع، إنما الذي يدهشني حقاً هو أن أرى دولة فرنسا في حال من الهوان والبؤس والذل، والفقر والضعف والجوع، ومن الضعة الروحية والفاقة المعنوية، يدهشني أن أراها تشمر عن سواعد نخرة بالية تحمل سلاحاً فتاكا ترمي به العزل من أبناء تونس والجزائر ومراكش، قطعانها التي تعيش على صوفهم وتشبع من لحومهم كأنها تنتقم من الألمان وقد داسوا كبرياءها بحوافر خيولهم.
حفزني إلى هذا التساؤل والاستطراد محاضرة سمعتها من الأستاذ محمود عزمي ألقاها في نادي الرابطة العربية عن مشاهداته في شمال أفريقيا فبدا لي أن أقارن بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في طريقة استعمارهما الشعوب الشرقية المستضعفة الواقعة تحت حكمهما، مكتفياً بهما وحدهما، لأن الحكومات الأوروبية المستعمرة الأخرى وإن كانت أكثر ظلماً، وأوفر شراهة وجشعاً، تهتدي دائماً بهدى الإنجليز والفرنسيين في استذلال الأمم واستعبادها، وتحذو حذوهما في كل ما يقترفان من شرور ومظالم وما يدبران لها من أغشيةللتضليل والتمويه.
نعرف أن السياسة الإنجليزية رأت أن تقف سداً دون انتشار التعليم في مصر فرمت وزارة المعارف بطاغية يدعى دنلوب عمل جاهداً على أن يجعل من النشء الجدد موظفين لدوائر الحكومة محدودي المعرفة مسلوبي الإرادة.
وما كنا نعرف قبل أن عرفنا الأستاذ عزمي أن الفرنسيين في تونس والجزائر ومراكش لا يسمحون بإنشاء مدرسة ابتدائية أو ثانوية إلا بإذن خاص من المقيم الفرنسي العام، وما أندر ما يأذن ذلك الحاكم الأجنبي بافتتاح مثل تلك المدارس بحجة أن التعليم يجب أن يبقى قاصراً في الكتاتيب على حفظ القرآن، وأن ما نسمع عن المدارس العالية هناك فإنما أمرها بيد الفرنسيين وحدهم وأن برامجها موضوعة وفق مشيئة الروح الاستعماري وهو ولا شك أضل وأسوأ من مشيئة دنلوب.
نعرف أن الشعوب الشرقية التي يحتل الإنجليزي بلادها يحكمهم وفق قوانين موضوعة ومحاكم قائمة وأحكام تنشر وتذاع، بيد أن أقطار شمال أفريقيا تحكم، كما روى الأستاذ عزمي، بغير قوانين، وأن ليس في (رباط) قانون عقوبات، إنما لها محاكم شرعية تحكم في(708/19)
الأحوال الشخصية وتفصل في الملكيات الوراثية، ولها محاكم أخرى تسمى محاكم الباشا عليها مراقبون فرنسيون من رجال الإدارة يرشدون الحاكم المدني إلى الحكم على المتهم.
نعرف أن الإنجليز في مصر من حاكمين ومقيمين أقل الناس استملاك واستثماراً الأراضي الزراعية، بيد أن الحال يختلف مع الفرنسيين من حاكمين ومقيمين في شمال أفريقيا في امتلاك الأرض، وقد سمعنا من الأستاذ المحاضر أن المستعمر الفرنسي يملك الأرض ويستأجر الأهالي لاستغلالها بأبخس أجر ويقرضهم مالا لا يقوون على سداده، وبذلك المال المقرض يبقى الفرنسي المالك قابضاً على عنق المغربي الأجير طول حياته.
نعرف أن المندوب السامي الإنجليزي في مصر حاكم يربض وراء الستار يعمل متوارياً ما يصون مصالح حكومته ومنافعها، وما عرفت مصر مندوباً سامياً يحمل عصا الديكتاتورية المقنعة سوى كرومر، وكتشنر واللنبي، وقل من عرفت منهم من عاش في ظل الأحكام العرفية في أيام السلم. بيد أن الحال في بلاد المغرب تستوي في السلم وفي الحرب، فأن الأحكام العرفية هناك معلنة منذ عام 1912 وحجة الفرنسيين في إعلانها كما قال الأستاذ عزمي أنها تمنح القيم العام حرية مطلقة في الحكم والتصرف الإداري ولولاها لوجب عليه أن يراجع باريس في كل كبيرة وصغيرة من شؤون السياسة والإدارة والقضاء.
نعرف أن الإنجليز في مصر منعوا الخديوي عباس من العودة إلى بلاده وأنهم خلعوه من ولايته الشرعية، وأنهم هيئوا أحد راجات الهند لاعتلاء العرش المصري، وأن السلطان حسين أنقذ البيت المالك بقبوله ولاية السلطنة إبان الحرب العالمية الأولى، وإننا نعرف جيداً أن حادث شهر فبراير المشؤوم ثابت في ذهن كل مصري، ونعرف فوق ذلك أن الحكومات المصرية التي تولت الحكم إبان الحرب الأخيرة أبت على الحكومة الإنجليزية الاشتراك رسمياً معها في الحرب مستمسكة بمعاهدة 1936 التي تنص على حرية الحياد، وعرفنا أن الحكم الفرنسي يستوي والحكم الإنجليزي في معاملة الحاكمين، حدثنا الأستاذ المحاضر عن (المنصف) باي تونس قال: التزم هذا العاهل المخلص لوطنه شروط الحياد التام لبلاده، وقد أبى على الألمان ما أباه على الأمريكان والإنجليز، وقد وقف كذلك في وجه الفرنسيين يصدهم عن تجنيد أبناء رعيته، وقال: كان الجنرال جيرويداً من أيادي المرشال بتان وذنباً من أذناب حكومة فيشى، وأن هذا القائد عندما جاء تونس لينضم إلى الجنرال(708/20)
ديجول أو يعمل معه، كان أول ما عمله ترحيل المنصف الباي إلى فرنسا وأنه احتجزه في الصحراء ستة شهور حتى اضطره إلى كتابة صك تنازله عن العرش، وعندها حملته طيارة إنجليزية إلى باريس تحرسها شرذمة من الجند البريطاني، في حين أن الضباط الفرنسيين والطيارين الفرنسيين رفضوا نقل هذا العاهل المحبوب من شعبه ومن كل من عرفه أو اقترب من بلاطه.
يعرف كل من عاصر الثورة المصرية عام 1919 أن أحداث السنوات الخمس التي تلتها كانت أحداثاً جساماً، وأن الإنجليز لم يجابهوا الثورة مجابهة إلا عندما كانوا يدعون دفع الأخطار عن مصلحتهم أو يتذرعون بحماية أرواح الأجانب وممتلكاتهم، وعندها كانوا يمتشقون السلاح يعملون به ما يتوهمون أنه يقضي علي روح الثورة المتأججة. فكم من دماء أهدرت، وشباب ذوى، وأمهات ثكلت، وزوجات ترملت، وأرواح صعدت إلى باريها تشهد على ظلم الظالمين! وكم من صفحات أضيفت إلى تاريخ الاستعمار البريطاني سطرها اللورد اللنبي بسيفه وقد حاول المرشال ويفل تبريرها وتعزيزها بقلمه، وما تلك الصفحات سوى شهادة صادقة على خنق حرية الشعوب الفتية بأيدي دعاة أنصار الحرية.
أما موقعة الجزائر الأخيرة فقد رواها الأستاذ محمود عزمي، وعززها الأستاذ أمين الجامعة العربية. قال الأول: فعلت دعاية الحلفاء فعلها في نفوس المغربيين وتأثروا كما تأثر سواهم بميثاق الأطلنطي. وسحرتهم الديمقراطية الفاتنة واجتذبتهم الحرية، فما إن ألقى الغربيون المتحاربون سلاحهم حتى هب الشعب الجزائري هبة واحدة يظهر شعور الفرح والغبطة بدنو الحرية، فمشى في الشوارع أفواجاً منظمة يحمل أبناؤه الأعلام واللافتات فيها دعاء للحرية ومطالبة بالاستقلال.
هال المستعمر سماع صوت الشعب وحرارة ندائه فأمر القيم العام البوليس بتفريق المتظاهرين وتمزيق أعلامهم ولافتاتهم، فنفذ البوليس الأمر بغلظة وقسوة. هاج الشعب وغضب لهذه المقابلة الظالمة فعاد ثانية إلى التجمع والمناداة بغضب للحرية والاستقلال، فقابلهم البوليس ثانية برصاص البنادق، ففر الشعب إلى الضواحي يصب غضبه على بيوت الفرنسيين.
قامت قيامة القيم العام فأمر الجيش بإخماد الثورة. . . مشى الجيش بجانبه أصحاب(708/21)
الأراضي من الفرنسيين وقد نضو ثيابهم المدنية وأخذوا يعملون سلاحهم معه في رقاب الآهلين ونيرانهم في أكواخهم، وما زالوا بهم تقتيلا وتحريقاً حتى طرحوا بقاياهم في الصحراء وقد انجلت الواقعة عن ثلاثين ألفاً من القتلى.
وقد عزز هذه الحكاية سعادة الأستاذ أمين الجامعة العربية بقوله: لما كنت في باريس حادثت أولى الأمر هناك بهذه الواقعة المخزنة فلم أسمع منهم إنكاراً لها، ولكنهم قالوا إن فيها مبالغة، والحقيقة التي اعترفوا بها هي أن عدد القتلى لم يتجاوز الثمانية عشر ألفاً!
وددت لو اتسع المجال لعرض كل ما سمعت من الأستاذ المحاضر ومقارنة أعمال المستعمرين بعضها ببعض، ولكن ما إلى هذا رميت، ولا إلى التشهير قصدت، إنما مرماي هو كشف النقاب عن الظلم الكامن في نفوس الغربيين المستعمرين، ثم ما هو الواجب علينا حيالهم.
أنا لست مؤمناً بالإنسان ولا بعلومه، ولا بعقله، وقد كشف الكثير من أسرار الطبيعة، وأنكر كل الإنكار المدنية والحضارة والتهذيب والكياسة وكل الأخلاق الفاضلة في الشعوب الأوروبية التي لم تقو على محو روح الشر المتأصل فيها ولا اقتلاع جذور الظلم الكامن في جوانبها، ولا هبوط حمى الجشع المستعر في ضلوعها، إنما أومن عن عقيدة بأن الشر يدفع الشر وأن الظلم لا يقتله إلا الظلم.
حبيب الزحلاوي(708/22)
إمام الحرمين بين المتقدمين والمتأخرين
للأستاذ الأب قنواتي
النضال بين المتقدمين والمتأخرين نضال قديم ساير الاجتماع على ممر الأجيال. فكل جيل طموح ونزعات تجعله ينظر إلى الجيل السابق بعين الاستخفاف بل العدوان. . . ولئن أردنا أن نقيم دليلا على هذه الحقيقة البسيطة وجدنا التاريخ حافلا بالأمثلة العديدة الشائقة في الميادين المختلفة من مذاهب أدبية أو فنية أو سياسية ونظريات علمية ومناهج تاريخية. . . الخ، وقد يرجع هذا النضال إلى طبيعة الإنسان وشغفه بالجديد. . . (سنة الله في خلقه). . . ولكنه قد يرجع أحيانا إلى التقدم الحقيقي والتعمق في البحث. فقبل أن يكتب النصر للجديد المتأخر لابد له من مقاومة القديم وإقناع مشيعيه، وهناك تغيرات واتجاهات لا تخلو من الخطورة على إخفائها وقلة ظهورها في الخارج يجدر بالباحث أن يحاول إماطة اللئام عن سرها وإبرازها بوضوح لأنها كثيراً ما تكون (مفتاحاً) لفهم تطورات أخرى ضخمة. ونريد اليوم أن نقف برهة عند نضال كان له أثره الخطير في تكييف علم الكلام، ونحن نعني طريقة المتأخرين التي حلت محل طريقة المتقدمين في القرن الخامس الهجري.
يقول أبن خلدون في مقدمته إن أول من كتب في الكلام على طريقة المتأخرين هو الغزالي، وقد ردد هذا الرأي كثيرون ممن أرخوا لتطور علم الكلام ولا سيما الشيخ محمد عبده. ما هي في رأي أبن خلدون، هذه الطريقة؛ وكيف تتميز من طريقة المتقدمين؛ وهل أصاب أبن خلدون في رأيه: تلك هي النقط التي أحب أن أعرض لها اليوم على صفحات (الرسالة).
أما طريقة المتقدمين فقد يراها أبن خلدون متحققة في الأخص
عند الباقلاني (المتوفي سنة 4031013). فبعد سرد الظروف
التي هيأت لعلم الكلام نشأته والتكلم عن الأشعري أخذ يقول:
(وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري واقتفى طريقته من
بعده تلاميذه كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر(708/23)
الباقلاني فتصدر للأمانة في طريقتهم ووضع المقدمات العقلية
التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر
الفرد والخلاء وأن العرض لا يقوم بالعرض وأنه لا يبقى
زمنيين وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه
القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك
الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول.
وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية
والعلوم الدينية، إلا أن صور لأدلة تعتبر بها الأقيسة ولم تكن
حينئذ ظاهرة في الملة. ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ
به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية
بالجملة). إننا - والحق يقال - لا نجد في هذا النص ما يشفى
غلتنا. - فما هو محور طريقة المتقدمين؟. . أهو استعمال
العقل في شرح العقائد؟ هذا لا يكفي، إذ العقل سيظل مستعملا
في طريقة المتأخرين بل سيكون ركنها الركين. هل هو عدم
الاكتراث بالمسائل الفلسفية؟. . ولكنا نجد الباقلاني وهو بلا
شك من المتقدمين يتكلم في الجوهر والعرض الخ فلنواصل
قراءتنا في مقدمة أبن خلدون. يقول مؤرخنا الشهير إن(708/24)
المتكلمين أخذوا على مر السنين يفرقون بين علوم المنطق
وبين علوم الفلسفة إلى أن قال: (ثم نظروا في تلك القواعد
المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين
التي أدت إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام
الفلاسفة في الطبيعيات والالهيات، فلما سبروها بمعيار المنطق
ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان
دليله كما صار إليه القاضي. فصارت هذه الطريقة من
مصطلحهم متباينة للطريقة الأولى وتسمى طريقة المتأخرين).
ففي رأي أبن خلدون يرجع الفرق الحاسم بين الطريقتين إلى
هذا: يعتقد المتقدمون أن بطلان الدليل يؤدي إلى بطلان
المدلول ويرفض المتأخرين هذا الزعم.
وأقر بكل بساطة، مع احترامي لأبن خلدون وسعة اطلاعه، بأني لم أرتض هذا الرأي لأني حاولت أن أطبقه على كتابي إمام الحرمين - الإرشاد والشامل فلم أعثر على المبدأ الذي يقول به المؤرخ العربي الشهير. كما أني لم أجد في كتب الغزالي الخاصة بعلم الكلام - على القدر الذي أعرفه - دحض هذا الرأي الذي يظهر فساده من أول وهلة. ومن يدرس عن كثب المناقشات الطويلة التي وردت في (الشامل) لا يلبث أن يتحقق أن الأمر خلاف ما ذهب إليه أبن خلدون. ولقد تبادر إلى ذهني أن الفرق الحاسم بين الطريقتين قد يرجع إلى نوع المنطق المستعمل فيهما، أو بالأحرى إلى مدى استعمال المنطق اليوناني فيهما. والذي هداني إلى هذا الرأي هو حدوث شبيه هذا المظهر في القرون الوسطى عند المسيحيين؛ فقد كان يوجد في العالم العلمي الأوروبي حتى القرن الحادي عشر منطق(708/25)
أرسطو في مختلف أقسامه، وكان يستعمل في المناظرات اللاهوتية ولكن من الوجهة الجدلية فقط. فعندما ترجمت كتب أرسطو الأخرى وخاصة كتابه ما بعد الطبيعة أحدثت في كهان علم اللاهوت انقلاباً عظيما. . . أصبح القياس الأرسطي محور البحث الديني نفسه، والمبادئ الأرسيطة - بقدر ما تكون غير مخالفة للعقائد - القالب العلمي لتقديم العقائد وربط بعضها ببعض والدفاع عنها والتعمق في مضمونها. ولقد تساءلنا عما إذا لم يحدث ما يشبه ذلك في علم الكلام عند المفكرين المسلمين. فلا شك أنهم عرفوا أرسطو منذ القرن الثاني للهجرة فقد كان بعض المعتزلة يقرؤون كتبه ويستفيدون منها. ومن المحتمل بل من المرجح أن مبادئه المنطقية أخذت تتسرب رويداً رويداً إلى علماء الكلام عن طريق المجادلات والمناظرات مع الفلاسفة أو الملحدين، وأخيراً اندمج في علم الكلام نفسه وأصبح من آلاته الأساسية.
ولقد تحدثنا مع الأستاذ الكوثري في هذا الموضوع، فتفضل
وأرشدنا إلى مخطوط لتلميذ للباقلاني أبو جعفر محمد بن أحمد
السمناني (المتوفي سنة 4441052)، وعنوان المخطوط:
(آليان عن أصول والكشف عن تمويهات أهل الطغيان)
يحوي هذا المخطوط باباً خاصا (بالفرق بين الأدلة الصحيحة
وبين فاسدها وذكر أقسامها)، يمكننا أن نعتبرها أنموذجا
خالصا لطريقة المتقدمين، فلا ذكر هنا لقياس أرسطو، ولا
ذكر لإبطال المدلول بأبطال الدليل الذي جعله أبن خلدون
معيار طريقة المتقدمين، بل يكتفي السمناني في القسم الأول
من الأدلة بذكر (حجة العقول التي نبه الله عليها بقول تعالى
لقوم يعقلون، ويتذكرون أفلا يتدبرون) وهذا القسم يقع(708/26)
الاحتجاج به من وجوه:
الوجه الأول: أن يقسم الشيء في العقل إلى قسمين أو أكثر من ذلك، ومحال أن تكون كلها صحيحة أو كلها فاسدة، فمتى أفسد الدليل أحد القسمين أو كلها إلا قسما واحداً ثبت صحة القسم الباقي.
الوجه الثاني: أن يجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلة، فيجب القضاء على أن كل من وصف في الغائب بتلك الصفة وثبت له ذلك الحكم فإنه لأجل مثل تلك العلة ما يستحقه.
الوجه الثالث: أن تعلم أن الذي يصحح الحكم والصفة إنما هو وجود المصحح، فيجب القضاء لكل من له تلك الصفة أن يكون مصححها مثل ذلك المصحح.
الوجه الرابع: أن تعلم أن حقيقة الشيء هو صفة له، فيجب الحكم بمثل تلك الحقيقة لمثل تلك الذات في الغائب، وكذلك الحد.
الوجه الخامس: أن تستدل بصحة الشيء على صحة مثله وما هو بمعناه، وباستحالة على استحالة مثله وما هو بمعناه.
هذه هي الحجج العقلية التي يبني عليها علماء علم الكلام المتقدمين براهينهم، وهي على ما أظن لا تتجاوز الدلائل العقلية المستعملة في أصول الفقه، ولا صلة لها صلة أساسية بالمنطق اليوناني.
أما الأقسام الأخرى من أقسام الأدلة التي يذكرها السمناني فهي الاستدلال بموجب اللغة، والاستدلال بظهور المعجزات على صدق من ظهرت على يده، لأنها تجري مجرى الشهادة له بالقول، والاستدلال بكتاب الله، والاستدلال بقول الرسول، وإجماع الأمة من أهل كل عصر، والقياس على الكتاب والسنة، والإجماع في الأحكام الشرعية التي لا مجال للعقل فيها بحال.
ومما جعلنا نؤمن بصحة نظريتنا مطالعتنا لرسالة الأستاذ علي محمد جبر من علماء الأزهر: (إمام الحرمين وأثره في بناء المدرسة الأشعرية). فقد درس الأستاذ إمام الحرمين درسا وافيا، راجعا إلى مؤلفاته: (البرهان ولمع الأدلة والشامل والإرشاد) وإلى مخطوطات أخرى مثل (المطالب العالية للرازي وإبكار الأفكار للآمدي). فتمكن من إبراز شخصيته(708/27)
العقلية والاتجاه الجديد الذي أعطاه لعلم الكلام. وقد انتهى الأستاذ جبر إلى أن إمام الحرمين هو رأس المتأخرين، وأن التمييز بين المتقدمين والمتأخرين يرجع إلى ناحيتين:
أولا: بالنسبة لطريقة الاستدلال على العقيدة، فقد يخالف إمام الحرمين الأشعري والباقلاني، إذ هو جعل الاستدلال على العقيدة بطرق ثلاث: السبر والتقسيم المنحصر بين طرفي النفي والإثبات، وقياس الخلف الذي يثبت الشيء بإبطال نقيضه، القياس المستقيم. والأشعرية قبله لم يستعملوا قياس الخلف ولا القياس المستقيم بل كانوا يستعملون طرقا خطابية تارة وقضايا مسهورة أخرى والسبر والتقسيم بقسميه المنتشر والمنحصر.
ثانيا: بالمسبة لبعض الموضوعات الكلامية مثل الكلام على الصفات الخبرية التي وردت في الكتاب والسنة. فطريقة الأشعرية قبل إمام الحرمين هو عدم التأويل وعدم بيان المراد منها. أما إمام الحرمين فقد أول وبين المراد مهنا. ويقول الأستاذ جبر إن إمام الحرمين هو أو من جعل الأبحاث الكلامية مثل البحث في الجوهر والعرض والكون والطفرة والجزء الذي لا يتجزأ وسيلة وطريقة تؤدي إلى الغاية المطلوبة من نفس علم الكلام وهو إثبات الله وصفاته ونفي القدم عن سواه أكان قدما ذاتيا أم زمنيا.
وليس يتسع لي مجال هنا لمناقشة الأستاذ جميع نتائجه فهذا يستحق بحثا على حدة، غير أني أوافقه في جعل إمام الحرمين ممن أثروا تأثيرا حاسما في توجيه علم الكلام توجيها جديدا. ولو أني أميل إلى وضعه لا في رأس المتأخرين كما يفعل الأستاذ بل في محل وسط بين الفريقين، وكحلقة اتصال بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين.
ومهما يكن من أمر، فإني على يقين أننا لا نزال محروم التفاصيل الشافية فيما يخص تاريخ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وذلك للعدد الضخم من المخطوطات التي لا تزال مطوية في أجواف المكاتب، ولو كان لي أن أقدم رجاء فهو أن يهتم شبابنا المثقف من أزهريين وجامعيين (بمعاونة الأزهر والجامعة معاونة روحية ومادية) بنشر النصوص الفلسفية والكلامية القديمة، فد حان الوقت في هذا الميدان أن نطير بأجنحتنا كما يقول الغربيون وألا نظل إلى الأبد عالة على المستشرقين.
إننا نلفت نظر من يهتم بتاريخ الفلسفة الإسلامية والمسيحية في القرون الوسطى إلى ثلاثة كتب قيمة ظهرت حديثاً في هذا الموضوع:(708/28)
أولا - كتاب مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان واليهود، وهو للأستاذ بينسي وقد عربه الأستاذ أبو ريده تعريباً دقيقاً.
ثانيا - كتاب إبراهيم بن سيار النظام وآراؤه الكلامية والفلسفية للأستاذ أبو ريده (الذي يستحق كل الثناء لما بذله في ميدان نشر الفلسفة الإسلامية).
ثالثاً - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط للأستاذ يوسف كرم وهو لا يقل تركيزاً وتعمقاً من كتابه في تاريخ الفلسفة اليونانية.
الأب قنواتي(708/29)
يا ليل. . .!
للأستاذ محمد خير الدين الأسدي
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
نعود الآن فنرهب الموقف، وقد بدا لنا توجيه آخر، ذلك أن الغناء العربي من طابعه الإعادة والترداد، بأن تعاد الكلمات وأحيانا مقاطع هذه الكلمات، على نحو ما نسمعه اليوم، فهل يبعد أن كان ردد مغن مجيد مقطع (لي) من موالي، فكان من وراء هذا الترداد (لي لي) أو قل: ليلي مصدرة بأداة النداء القائمة بالأصل، ثم استحسن هذا التفنن وجرى الناس عليه إلى يومنا.
ولعل ما أغرى المغنين بالتمسك بصورة يا ليلي نزوعهم إلى التفرقة بين الغناء الغرامي والغناء الديني المفتتح بيا مولاي - كما هو شأن التمجيد في المآذن -.
عرفنا بعد ما تقدم أن يا ليلي أصلها يا موالي، فلنسجل هذا المذهب بجازم اليقين، لما أن البينات تدعمه، ثم لنسجل ما تبقى من تطورها بشيء من التحفظ، لما أن تاريخ الغناء ومرور الزمن تألبا على الغموض والإبهام.
انتقال يا ليل من الموال:
وكتب ليا ليل أن تفارق الموال إلى غيره من ضروب الغناء متنكرة بمظهر جديد - كما نرى نحن - منها.
يا ليل في الموشحات:
انتقلت يا ليل إلى الموشح بشكل (يا لا) و (يا لا لا) و (يا لان) و (يا لا لا لا) و (يا للي) كما في موضح (أحن شوقا) وتلحين الموشح كما يحدثنا الأستاذ رجائي:
أحن شوقا إلى ديا إلى ديار رأيت فيها جمال سلمى آه يا لان جانم يا لا يا لا لا يا لان جانم يا لا لا لا يا للي. . .
وقد تظهر بمظهرها الأصلي: يا ليل أو يا ليلي، كما في الموشح الحديث: (زالت الأفراح عنا)، وتلحينه كما يحدثنا الصديق رجائي:
ليلي يا عيني يا ليل زالت زالت يا عيني. . .(708/30)
وقد تكون يا لللي، كما في موشح (ما احتيالي) وقد تدخل في صلب الوزن الشعري بصيغة يا لالي ويا ليا وهلوليا، كما في (يا لالي هوانم آه يا لالي) و (يامه يا ليا يا زرد خلخالي) و (هلوليا هلوليا عيني يا لينية).
وقد تبقى سالمة بإزالة تضعيف الياء، كما في لازمة من أغاني رقص السماح (مواليا يا مواليا والعشق غير حاليا). وقد تحذف الألف كما في طقطوقة (زوالف يابو الزلف عيني يا مواليا).
يا ليل في الغناء الفارسي:
انتقلت يا ليل إلى الغناء الفارسي بشكل (دلاي)، وكان لها هذا التحريف لتتلاقى مع لفظ ذي دلالة في الفارسية، ذلك أن (دلاي) كلمتان: (دل) بمعنى القلب و (أي) أداة نداء وهكذا تبوأ يا قلبي - وما أحلى هذا النداء - مكانه في الغناء الفارسي، حذو أمها (يا ليلي) في الغناء العربي، فتكرر كثيرا ولا تزال دولتها قائمة، وإن كان معاصرونا يقللون من تردادها. حدثنا بذلك موسى أفندي البهائي ابن أخي عبد البهاء في حفلة أقامها لنا الأستاذ ثابت عريس قنصل سورية بحيفا.
يا ليل في الغناء الكردي:
معظم الغناء الكردي من نوع الموال ولازمته التي تردد هي (لو لو وقد تقسم بين جزئي اللازمة (ده) الدالة على التكرار.
وليست لو لو من لو الكردية بمعنى (يا): أداة النداء، إنما هي عندنا تحريف (ليلي) على شكل ينسجم مع مدلول آخر في الكردية.
يردد المغنى الكردي (لو لو) كثيرا وكثيرا، ولقد عاب أحدهم كرديا بهذا الترديد الكثير الممل، فأجابه - وكنت أسمع -: جانم، وانتوليش بيقول: يا ليلي يا ليلي، فرد الحجر من حيث أتاه.
يا ليل في الغناء التركي:
وانتقلت إلى الغناء التركي، إلى ضرب من غنائهم المسمى (غزل) وهو ما يشبه الموال عند العرب لكنها تحرفت كثيرا، إذ كان مظهرها (ياري) أو (يارهي) يذكرنا بكامة (يار)(708/31)
الفارسية بمعنى حبيب مذيلة (بأي) أو (هي) أداة الهتاف وكثيرا ما تلحق بأمان أمان.
وإذا لاحظت إمالة الراء في (ياري) وإمالة الهاء في (يارهي) بدا لك أن وزنهما وزن (يا ليل) الممالة واحدة.
هذا في نوع الغزل، أما ما عداه من الغناء التركي فقد استعملوا فيه (واره للي للي للي) حتى جاء منير نور الدين مغني أتاتورك فاستعمل هذه الأخيرة في المقامين: الغزل وغير الغزل.
وبمناسبة الغناء التركي ويا ليلي نورد لطيفة يتحدث بها أهل استنبول، تلك أنهم زعموا أن عربيا صحب شيطانا في سفر له من استنبول إلى بغداد، واقترح عليه أن يقطعا الطريق بالغناء على أن يركب صاحب الدور في الغناء ظهر صاحبه إلى أن ينتهي، فيؤول الدول إلى الثاني وهكذا.
ها هو ذا الشيطان على ظهر العربي وها هي ذي أغنيته تردد البراري صداها، حتى إذا ما انتهى نزل وكان الدور للعربي، فركب وأرسل الصوت بيا ليلي يا ليلي. . . قالوا بلغ بغداد ولم ينته من يا ليلي. . .
يا ليل في الغناء الأرمني:
تستعمل يار الفارسية في الغناء الغرامي المدعو عندهم (أشوغا كان) ونلاحظ التقارب اللفظي بين هذه الكلمة وكلمة (عشق) العربية.
وتستعمل (لو لو في هذا الضرب وتتجلى في أغنية (سيبانا كاجر) أي أبطال جبل سيبان، وهو قرب مدينة وان، وهذه الأغنية قديمة العهد، وشاعرها مجهول.
وقد تستعمل (لي لي) بالإمالة وهذه مستفيضة. وأن (لو لو) و (لي لي) كليهما لا مدلول لهما في الأرمنية.
يا ليل في الغناء القوقازي:
قبيلة غموق في داغستان تستعمل (دلاي) أو (دللاي) في ضرب من غنائها، يرددها المغني كثيراً، وقد ترددها الجوقة دون المغني، وهي لا مدلول لها عندها.
يا ليل في الغناء الديني ليهود حلب:(708/32)
يهود حلب دون كل يهود العالم يحتفظون في تقاليدهم بكثير من التراث القديم، ولقد كتب لنا أن درسنا في مدراسهم اثنين وعشرين عاما، اطلعنا فيها على الكثير من دينهم ولغتهم وأساطيرهم وما إلى ذلك.
ومما نعرفه ونحن في صدد يا ليلي أنهم ينقلون النغم العربي إلى حفلاتهم الدينية الفرعية بألفاظ عبرانية تشابه جدا الألفاظ العربية كل هذا بتوخ وقصد، ولطالما سمعنا طلابنا الشادين يغنون (يه الي) بإمالة الهمزة، فهي على وزن يا ليلي، وهي قريبة اللفظ منها، ومعنى يه الي: الله إلهي، إذ أن (يه) المقطع الأول من يهوه.
يا ليل في الغناء الغربي:
يستعمل الغربيون عامة لدى تجسيد النغم (لي للي. . . لم) وظني أن هذه الألفاظ التي أهملتها معاجمهم هي من (ليلي) مقفاة بالميم المؤذنة بالوقفة، أو بأمد من السكوت يوحي بع إطباق الفم بها.
فإذا صح ما قدمته صح معه أن دولة يا ليل العربية تمتد من مراكش فشمال أفريقيا فجزيرة العرب ما خلا البادية فالعجم فتركية فأرمينية فالقوقاز فسائر أوروبا، ومن اصطبغ بمدنيتها من أمريكا وسائر المعمورة.
وعلى هذا الامتداد لا يكاد يدور دولاب الزمن نحواً من الدقيقة ألا يتموج الهواء بيا ليل نهار دون انقطاع، وهذا مجد ما بعده من مجد.
(تم البحث)
محمد خير الدين الأسدي(708/33)
بكم تبيع؟!
للأديب الفاضل ثروت أباظه
كان اليوم يوم جمعة، والشتاء يرسل نذره لطيفة جيناً، عنيفة أحياناً، ولا عاصم من تلك النذر إلا الشمس ضحى لها حيث نتوقعها. . .
وبالجيزة قهوة توثقت الصلة بينها وبين الشمس: فهي دفء ونعيم ومنظر، لجأت إليها وحدي مترقباً صديقاً على موعد. . . جلست أنتظر فإذا رجل منتفخ الأوداج، غليظ الشفتين، حليق اللحية الشارب، أسمر الوجه ذو شعر لولبي يأبى على الطربوش أن يطمئن على الرأس، قصير القامة منبعج في امتلاء، يحاول أن يتأنق ما أتاح له جسمه ذلك، وقليلا ما يتيح. . . إنه عبد الشكور أفندي. . استغفر الله. . . بل عبد الشكور بك. . . ولم لا؟! ألم يهبط من عربة فخمة يقودها بنفسه؟! ألم يغد صاحب أملاك وعمارات. . . لا. . . إنه عبد الشكور بك. وباشا إذا لزم الأمر! كنا أعرفه معرفة قليلة، ويظهر أنه هو الآخر جاء على موعد، فهو يقصد إلى منضدة قريبة ولكنه حين يمر علي لم ينس هذه الانحناءة التي تحاول أن تكون أرستقراطية فيقف دون ذلك قوام أفقي! يفعلها على أي حال تمرين رياضة جسدية، على أنه إن لم تكن تحية ودية، ويقصد إلى المنضدة فيجد عليها رجلا أنيق الملبس، أشيب الفودين، طويل القامة، مليح القسمات، يقف ويسلم على عبد الشكور بك في حركات مهذبة رشيقة، ويجلس الرجلان؛ وأظل شاخصاً إليهما حتى يأتي صديقي ويسألني عمن أنظر إليه فأحدثه حديث عبد الشكور الذي كان كما سمعت بائع دقيق، ثم. . . ثم صار عبد الشكور (بك) منذ سنتين! فيؤكد لي هذه القالة ويخبرني أن الرجل الجالس إليه موظف كبير بوزارة. . . وأنه يتمتع بسمعة لا يحسد عليها. . . التفت إلي رفيي وقلت:
- أتعرف كلمة هذا العهد؟
- ماذا تقصد؟
- ألم تعلم يا صديقي أن لكل عهد كلمة تميزه من سائر العهود، كلمة يخلقها الجو العالمي وتنميها ألسنة الناس، كلمة عهدنا هذا: بكم تبيع؟. بكم تبيع شرفك؟! بكم تبيع كرامتك؟ وخلقك ماذا يساوي. .؟!) تسمع الآن هذه الأسئلة وتسمع بجانبها ناصحاً يقول للمسؤول: (قل! أخبره! إنه سيدفع) وآخر يقول للسائل: (أدفع! إنه سيبيع!) ولكل من الناصحين فائدته(708/34)
من بذل هذه النصيحة. . .
- ولكن ألا ترى معي يا أخي أن هذا السؤال لا يعترض إلا صغار الموظفين والذين لا يملكون إلا القليل مما تصبو إليه نفوس السائلين، أما الغالب في كبار الموظفين فضمير كبير نماه احترام الموظفين الصغار.
- ضمير!! أنت تفهم مدلول هذه الكلمة، ولعل كبار الموظفين يفهمونه؛ ولكنه في نظر عبد الشكور شيء معوق يجب أن يزول. . فتراه حين يرى ثروة الرجل الكبير يعرف أن الضمير في هذه المرة غالي السعر قليلا فهو يبذل ويبذل حتى تخمد ثورة وتبدأ مفاوضة. . مفاوضة غير مقطوعة. . فالموظف الكبير لا يقبل الدخول في هذه المفاوضة إلا إذا كان السعر المبذول باهظاً والغني الجديد يعلم أن الضمير إن لم يكن بالسعر المفروض فهو بما يقاربه، وكأنني بابن الرومي قد رأى الشاري والبائع فأرسل هذين البيتين:
إن للحظ كيمياء إذا ما ... مس كلباً أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء كما شا ... ء متى شاء كائناً ما كانا
كلا الرجلين كلب من كلاب الحظ. . .
- هل تريدني أن أفهم العصامية والنشاط الاقتصادي مجرد كيمياء من الحظ. . لا يا أخي أنت مخطئ. إن عبد الشكور رجل عظيم أنتشل نفسه من وهدة الفقر فعمل وعمل حتى تسنم ذروة الغنى. أنا لا أفهم مطلقاً أن يشرع الكتاب أقلامهم لمحاربة قوم عملوا فربحوا. أنا لا أفهم. . .
- اسمع لي قليلا حتى تفهم. . . تقول إن الكتاب مخطئون حين يهاجمون هؤلاء. ولو لم أكن وثيق الصلة بك لأيقنت أنك لم تكن حياً في أيام الحرب، ولكن الغريب أنك كنت معي وكنا نتشاكى الغلاء معاً. . فلا شك أنك كنت حياً. .
العصامية - يا سيد - شيء نقدره - نحن الشرقيين - نقدره إذا كان عن طريق شريف. . والتاجر الذي يربح في السوق الشريفة يحتاج إلى لباقة وكياسة، وما دام يربح شريفاً فلا حاجة للربح الدنس، فهو يحتقر السوق الملوثة ويحاربها، عندنا من هؤلاء الشرفاء قلة ولكنها محترمة لأنها كانت في أمانة فوصلت. . هذه القلة لم تساعدها كيمياء الحظ مساعدتها لعبد الشكور، وإن كان لم يبخل على اجتهادها بقطرة. . ولكن ذلك العبد الشكور(708/35)
الذي أصبح غنياً في سنة أو اثنتين لا نستطيع أن نجري غناه على سنن الشرف. . . وإلا فما أيسر الغنى وما أسهل أن تكون غنياً. . . والحقيقة أن هناك مانعاً بسيطاً يحول بينك وبين الغنى المفاجئ. . . أتدريه؟. . . إنه الضمير!! أنزعه من بين ضلوعك وأقذف به على سلم الفقر الذي تقف عليه تجد نفسك ارتقيت درجات الغنى بخفة وسرعة، ولكنه عنى رخيص
- ترى أبنفسك ترة تحفظها لعبد الشكور؟ أم إنها. . .؟!
- لا! إنها ترة كل مواطن استنزف عبد الشكور قوته وقت عياله. إنها ترة وطن ودين وخلق، وليس في هذا الكلام ما يشفي هذه الترة، ولكن هناك واجباً على الحكومة لا بد أن تقوم به.
- وبك ما ترى الحكومة فاعلة؟!
- كأنك لم تسمع! لقد سنت مشروع قانون تسألهم فيه (من أين لكم هذا؟) ولكن يظهر أن (بكم تبيع؟) أومضت فجأة في عيون الموظفين فمشى المشروع بنفسه إلى درجة من الأدراج ونام، وعلى الناس السلام. . . أريد من الحكومة أن تفتح الدرج وتوقظ مشروع القانون، أريدمنها أن تمنع الموظفين الكبار أن يسمعوا تلك الكلمة السامة التي إذا لن تصب الهدف في الرمية الأولى أصابته في الثاني أو في الثالثة. . . بكم تبيع؟!
ثروت أباظة(708/36)
داود باشا ونهضة العراق الأدبية في القرن التاسع
عشر
للمرحوم الأستاذ رزوق عيسى
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
أعجب داود باشا بهذه الخريدة كل الإعجاب فأهدى إلى ناظمها إمامة قليون نفيسة فأنشد الشيخ طرباً:
إلى إمامة القليون وافت ... فتاهت في محاسنها عيوني
من المولى المشير إلى المعالي ... بأيد حطت الفضلاء دوني
فقبلها فمي ألفاً ونادى ... مفاكهة لقوم يجهلوني
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع الإمامة تعرفوني
وقد مدحه بطرس كرامة بقصائد عديدة منها قوله:
وزير إذا ما سار في حلبة العلى ... على مهل يأتي أمام ذوي الركض
هو البدر للمجد الرفيع وللندا ... وللعلم والعليا هو الحكم المرضي
وذو الحزم والرأي السديد مؤيدٌ ... بكل صواب ما يقول وما يمضي
مهيبٌ حليمٌ جهبذ متجلبب ... من العلم والآداب بالشرف المحض
ومنها قوله:
إن البلاغة واليراعة ... عند داود الوزير
وسمعت من ألفاظه ... داود يلهج بالزبور
فكأنما آدابه ... روض تنوع بالزهور
إن قال نظما خلته ... بعقوده درر النحور
صدر العلوم وبدرها ... بدر لكل ذوي الصدور
شهم إذا حضر النزا ... ل يصول كالأسد الهصور
وقد مدحه أيضاً عبد الغفار الأخرس الشاعر العراقي الذائع الصيت بقصيدة أرسلها إلى الأستانة نقتطف منها هذه البيات:(708/37)
بوادي الغضا للمالكية أربع ... سقتها الحيا منا جفون وأدمع
ومرتع لهو كان للريم ملعباً ... على أنه للضيغم الورد مصرع
إلى أن قال:
أراني مقيما بالعراق على ظمأ ... ولا منهل للظامئين ومرتع
وكيف بورد الماء والماء آجن ... يبل به هذا الغليل وينقع
لعل وما يجدي لعل وربما ... غمائم غم أطبقت تتقشع
يعود زمان مرّ حلو مذاقه ... وشمل أحبائي كما كان يجمع
وكنت إذا طاشت سهام قسيها ... وقتنى الردى من صنع (داود) أدرع
فمن جوده أنى ربيت بجوده ... وزير له الإحسان والجود أجمع
وردَّ شموس الفضل بعد غروبها ... كما ردها من قبل ذلك يوشع
وقام له في كل منبر مدحة ... خطيب من الأقلام بالفضل مصقع
ومستودع علم النبيين صدره ... ولله سر في معاليه مودع
كأن ضياء الشمس فوق جبينه ... على وجهه النور الإلهي يسفع
وزير ومرّ الحادثات تزيده ... ثباتاً وحلماً فهو إذ ذاك أروع
(أبا حسن) هل أوبة بعد غيبة ... فللبدر في الدنيا مغيب ومطلع
لئن خليت منك البلاد التي خلت ... فلم يخل من ذكرى جميلك موضع
ففي كل أرضٍ من أياديك ديمة ... وروض إذا ما أجدب الناس ممرع
يفيض الندى من راحتيك وإنها ... حياض بنز الآمال منهن تكرع
وإني على خضب الزمان وجدبه ... إليك وإن شط المزار لأهرع
ولو أنني وفقت للخير أصبحت ... نياقي بأرض الروم تخدى وتسرع
وكان المترجم مكرماً ومحبوباً من الجميع لما كان يأتيه من العدالة والمساواة والإخاء، وقد مدحه الشيخ صالح التميمي وعدد مناقبه بقصيدة طويلة نثبت منها ما يلي:
زهت الرياض وغنت الأطيار ... وزها المقام ورنَّت الأوتار
وصفا بها العيش الأنيق وروقت ... فيها المياه وجادت الأمطار
وعلت على دوح الأراك حمائم ... وتزاهرت بغنائها الأقمار(708/38)
وزها بها ورد الاقاح ونرجس ... وشقائق النعمان والأزهار
وبعد أن مكث في الآستانة مدة عيّنه السلطان عبد المجيد شيخاً على الحرم النبوي، وأرسله إلى المدينة المنورة عام 1260 هـ 1844 م، وهناك أكب على الدرس والمطالعة والتأليف والتعليم وهو شيخ، وقد أفاد أهل المدينة من وجوه كثيرة، وكان الغرض الذي ينشده هو أن يؤسس كلية إسلامية فقهية تكون بمثابة كعبة للعلوم الدينية يؤمها جميع الطلاب المسلمين من أقصى أطراف المعمور وذلك لإنارة أذهانهم وتوسيع نطاق معرفتهم بيد أن المنية أنشب أظفارها به قبل بلوغ المرام في سنة 1277 هـ 1851 م وقد عظم موته على جميع معارفه ومحبيه لما كان له من الدالة عليهم والمنزلة الرفيعة بين ظهرانيهم ودفن بحذاء مدفن عثمان بن عفان، وقد أوصى قبيل موته أن لا تبنى قبة على ضريحه بل أن ينصب شباكا من الحديد حول قبره ووقف في المدينة بستانه العامر المسمى بالداودية، وكان قد أرخ بناءه وغرس أشجاره الشيخ صالح التميمي بقصيدة عامرة الأبيات فأعجب بها الوزير غاية الإعجاب حتى أنقده ألف ريال، وكان رحمه الله ندي الكف للعلماء والشعراء والأدباء، وقد غمر الكثيرين منهم بالجوائز والصلات السنية مقتدياً بالخلفاء العباسيين الذين كانوا يسبغون العطاء على أرباب العلم والأدب.
ومما يجدر بنا أن نجعله مسك الختام لسيرة هذا العالم العامل هو إنشاؤه خزانة كتب في المدينة وقد جمع فيها طائفة كبيرة من التصانيف على اختلاف موضوعاتها وبينها مخطوطات عديدة، وإن أردنا أن نلم بكل الإصلاحات التي قام بها في بغداد والأستانة ضاق بنا المقام عن نشرها، ولما نعته الصحف رثاه شعراء عصره من عراقيين وسوريين بقصائد عددت مناقبه الحميدة وما كان له من الهمة الشماء واليد البيضاء في نشر العلم والأدب في الأقطار العربية. وقد جمع أحد أدباء بغداد كل القصائد التي نظمت في مدحه والثناء على عبقريته وهذا الكتاب لا يزال خطاً.
(بغداد)
رزوق عيسى(708/39)
من مهرجان جامعة أدباء العروبة بالفيوم
إلى رياض الفيوم
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
منْ لِسارٍ إليك يطوي الصحارَى ... هزَّه الشوقُ أن يزورَ فزَارا
عابراً كالطُّيوف، ولهْانَ كالأنْسام ... هيمان كالأماني الحيارى
مُجْهَداً، علَّ في ظلالك مأوىً ... قلقاً علَّ في رُباك قرارا
صادياً، علَّ في سرابك ماءً ... ساهداً، علَّ في دجاكِ نهارا
يا جنان الفيوم، نازحُ أيْكِ ... بان عن عشِّه إليكِ وطارا
قد خلا العش من رفيق صباه ... فمتى تألفُ القطاةُ الهَزَارا؟
نسلتْ ريشَه الليالي طوالا ... أترى تصبح الليالي قصارا؟
يعبرُ الليل في خداع الأماني ... وتمنى آصالا الأسحارا
ويناغي دراريَ الليل حتى ... تتوارى فيُشهدُ الأقمارا
ويناجي الصَّدى البعيد بعود ... شدَّ أضلاعه به أوتارا
أتراه هنا سيمسي قريراً ... في رياض الفيوم، طابت جوارا
يا عذارى الرياض من كلِّ شادٍ ... أنا أشكو إلى العذارى العذارى
لست بالصادح الذي سئم الصدْ ... ح وعاف الأسمار والسُّمارا
غير أن القيثار أغفى فمن ذا ... غيرها موقظٌ ليَ القيثارا؟!
أنا أشْدُو لها جراحي شعراً ... فعساها تُضمِّدُ الأشعارا
وعساها في جانب النيل تُصغي ... لِنشيد يشعُّ نوراً وناراً
ذكرْتني هنا بحيرة قارو ... نَ به والدجى يحوك الستارا
والشَّوادي من حولنا مرهفات ... سمعَها تستبيننا الأسرارا
وأنا الشاعر الذي أطلق الرو ... ح شراعاً يغالبُ التيَّارا
كيف أخشى من أن يضل شراعي ... والجبين الوضَّاء أمسى منارا
والتي قد تخِذْتها مجدافي ... خُصَلَ أُرسلتْ عليَّ نثارا
والشريدان يذهبان مع المو ... ج يميناً، ويرجعان، يسارا(708/40)
يقدّفان الأنفاس لفحَ سعير ... ينسم الجو شعلة وأوارا. . .
وهتافاً في ضفة النيل يسري ... مقلةً ثرةً، وقلباً مطارا
يا أحبَّايَ والديار تناءت ... كيف أنسى أحبتي والديارا؟
لست أنسى ملاعبي والضفاف الخضر ... تجري من تحتهنَّ نُضارا
لست أنسى بها مواثيق عشْنا ... نتحدَّى بصدقها الأقدارا
لست أنسى ولا إخالك تنْسين ... فحتى متى نُطيق انتظارا(708/41)
قافلة الشعر
(مهداة إلى أدباء العروبة في الفيوم)
للأستاذ طاهر محمد أبو فاشا
موكب للبيان فيه اللواءُ ... يفرَع الدهرَ وخدُهُ، والحداءُ
ضاربٌ في صحرائها يسبق الركْ ... بَ جلال من هدْيه، ورواءُ
مثلما يسبق الشعاعُ إذا ما ... أعلن الصبحَ للوجود ذُكاءُ
الطريقَ الطريقَ: قافلة الشِّع ... ر، وركبُ الوزير، والشعراءُ
لو تحسُّ البيداءُ من سار فيها ... لتغنَّتْ من شجوها البيداءُ
شاعر في محرابه يُعبدُ الف ... ن، وتستهدي ضوءه الأضواء
ذو بيانٍ لو عاقرته الندامى ... لتناهتْ عن شربها الندماءُ
وهتوف يكاد يشرق في أل ... حانه الخير، والمنى، والرجاء!
ومن الشعر ما يبشِّر بالرحم ... ة دنيا طغى عليها الشقاءُ
ومن الشعر ما يعلمك الح ... ق إذا موَّه الوجودَ الرياءُ
ربما استغنت الحياة عن العل ... م إلى رغم ما أتى العلماءُ
وعلى الفن وحده عاش أجدا ... دُك دهراً به سعداء!
إن من أطلقوا العقول علينا ... لست تدري: أأحسنوا أم أساءوا؟
والذي ظنها تراباً، وماءً ... هو - في نفسه - تراب، وماءُ!!
شدَّ ما تجنح الحياة إلى الرُّو ... ح وإن كان في الطريق التواء
موكب للبيان فيه اللواءُ ... ترصد الأرضُ وخدَه والسماءُ
فيه من طاقة البديع أفان ... ينُ، وفيه البدال، والأدباء
(أجمعوا أمرهم عشاءً فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء)
والوزير الضخم المبين مع الرك ... ب دليلٌ برأيه يستضاء!
شخصت حوله النواظرُ حتى ... قال: سيروا. . . فكان هذا اللقاء
وإذا نحن في رياضٍ من الشِّع ... ر لها رونق، وفيها صفاء
طرق الشعر بابها، فإذا شع ... ر يقول: ادخلوا. . وطلب الثواء(708/42)
رحِمُ الفن. . .! والقرابة في الرو ... ح وما كان بيننا غرباء. . .
فسبأنا راووقها وشربنا ... من رحيق مُنغَّمٍ ما نشاء
وسقينا بجامه شعراءً ... وسقينا أولئك الشعراء
من أديب يبلُّ قلب أديبٍ ... وفصيح تحْفى به فصحاء
صلة وثَّقَ البيان عُراها ... ونماها. . . فكلنا أقرباء
جمع الشعر بيننا في صعيد ... ومن الشعر منسب وإخاء(708/43)
في روضات الفيوم
للأستاذ العوضي الوكيل
حداّ الركبَ حاديه فأين مكانيا ... أُبين من الأشواق ما كان خافيَا
على شفتي من خمرة الحب نشوة ... تلهَّب ترنيمي بها وغنائيا
لنا ذكريات في الليالي بعيدة ... ألا منْ يُعيد اليوم تلك اللياليا
أطلُّ عليها والسُّنون سائرٌ ... وينفك قلبي شاخص الحس رانيا
لياليَ تطوي الليل، والصبح بعده ... فيطويهما قولا، وأطويه صاغيا
وآخذُ أزْوادَ النشيد مَلاحماً ... وأقبسُ أحلام الفؤاد معانيا
وقد زعموا لحْظَ الأحبة قاتلا ... فما بالهُ قد كان للجرح شافيا؟!
وما يسْتتِيه القلب إلا هواتفٌ ... تطيل على بُعدِ الزمان نجائِيا
فتأخذني منها خوَالفُ نشوة ... ترى الزمن الماضي من العمر آتِيا
فأحيا على أني دنوْتُ من المنى ... وما كنتُ لولا أن تذكرت دانيا
سقى الله في الفيُّوم روضات فتنة ... ونضَّر فيها أربُعاً ومغانيا
تخيَّلتها معنىً فلما رأيتها ... حسبتُ كأني جئتها اليوم ثانيا
فراديسُ: منضورٌ بها الظل والجنى ... تألَّقُ نوَّاراً وتسحرُ شاديا
وأين السَّواق والنسيم يديرها ... وإن كان خفّاقاً، وإن كان وانيا!
وأين الطيور البيض أَمسَّتْ بحيرة ... ترامتْ على صدْر الفلاة ترامِيا
تسرُّ إلى الشطآن بالحب والهوى ... وتوسِعُها فرطَ الغرام تناجيا
وتأخذ من روادها كل لهفة ... فترسلها لحناً مع النسْمِ ساريا
سقى الله في الفيوم روضات فتنة ... ونضَّرَ فيها أرُبعاً ومغانيا
هدانا إليها في السَّباسب طيبُها ... على أن برْحَ الشوق قد كان هاديا
فجئنا لإخوانٍ كرامٍ وصحبة ... سقوْنا من الود المطهر صافيا
إذا ما انتسبنا فالعروبة منسبٌ ... طوانا كما يطوي القصيد القوافيا
بناءٌ على الأخلاق يُدعم أُسُّمه ... وحسبك أن كان الدسوقيُّ بانيا(708/44)
الأدب والفنّ في أسبُوع
الثقافة الروسية والشرق العربي:
إجابة لدعوة من الحكومة السوفيتية تسافر في هذا الأسبوع بعثتان ثقافيتان إلى روسيا، أحدهما من سوريا، والأخرى من لبنان، وسيقوم أعضاء هاتين البعثتين بزيارة أنحاء الاتحاد السوفيتي للوقوف على مظاهر النشاط الثقافي والعلمي هناك
هذا هو النبأ الذي أذاعته وكالات الأنباء البرقية، وهو نبأ يدل دلالة واضحة على ما تتجه إليه روسيا اتجاها جدياً واسع النطاق في الدعاية لثقافتها في الشرق العربي، ووصل عناصر هذه الثقافة واتجاهاتها بتفكير أبناء العروبة واتجاهاتهم العلمية والأدبية.
وإنها في الواقع لفرصة تنتهزها روسيا في الآونة الحاضرة، فقد مضت أحقاب طويلة والثقافة الروسية معزولة عن الشرق العربي بسد حصين أقامته السياسة والأوضاع الدولية، ففي القديم كانت روسيا هي العدو اللدود لتركيا، ولما كانت تركيا هي المسيطرة على الشرقي العربي يومذاك فقد كان أبناء هذا الشرق ينظرون إلى روسيا نظرة بغض وشحنا، فلم تستطع الثقافة الروسية من خلال هذا أن تنفذ إلى نفوسهم وتفكيرهم، وحاولت روسيا أن تتلافى هذا وأن تجد له الأسباب والوسائل فأنشأت فرعا للاستشراق والدراسات العربية والإسلامية بجامعة (بطرسبرج)، واستقدمت من الشرق العربي الأساتذة لتدريس العلوم العربية، وكان من هؤلاء الأساتذة الشيخ النشرتي والشيخ محمد عياد الطنطاوي من مصر، والسيد سليم نوفل من لبنان، ولكن هذا العمل كله كان ضعيف الأثر، ولم يعن أبناء الشرق بشيء من مآثر الثقافة الروسية واتجاهاتها إلا بما كان من مآثر الفيلسوف الروسي المشهور (تولستوي) لأنه جنح إلى حياة صوفية تلائم الروح الشرقية، ولأنه كتب كتابة طيبة عن النبي محمد صلوات الله عليه حمدها أبناء الشرق.
وبعد الحرب العالمية الأولى وقع الشرق العربي جميعه تحت سيطرة الإنجليز والفرنسيين، ونظراً للفكرة الشيوعية التي تمخضت عنها الثورة الروسية فقد قام هؤلاء بتحصين الشرق العربي تحصينا منيعاً أمام الثقافة الروسية وكل اتجاه روسي، ولم يكن يصل إلى الأقطار العربية من عناصر الثقافة الروسية إلا بضع قصص كانت تأتي عن طريق البريد الإنجليزي والفرنسي مؤداة باللغة الإنجليزية والفرنسية.(708/45)
ولما قامت الحرب العالمية الأخيرة، وقضت تطوراتها بانضمام روسيا إلى الحلفاء، وجدت روسيا الفرصة السانحة للاتصال بالشرق العربي عن قرب؛ فتبادلت التمثيل السياسي مع دولة، وغمر طوفان الدعاية الروسية بلاده، وكان أن ظهرت في اللغة العربية ألوان كثيرة من الثقافة الروسية في شتى نواحي العلم والأدب والفن، وتعتبر سوريا ولبنان أفسح مجال لهذا النشاط اليوم.
فإذا كانت روسيا اليوم تستقدم البعوث من أبناء الشرق العربي للوقوف على مظاهر النشاط الثقافي في بلادها، وإذا كانت هي ترسل البعوث الثقافية من جانبها لارتياد الشرق، فذلك لأنها تريد أن تستغل الفرصة على أوسع مدى في إيجاد تيار للثقافة الروسية بالشرق العربي إلى جانب تيارات الثقافات الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، وكل ما نرجو للشرق العربي أن يجد شخصية وذاتية في مهب هذه التيارات العنيفة.
الأدب العربي في القرن العشرين:
هذا عنوان كتاب أخرجه حديثاً المستشرق الروسي الشهير (يوليفتش كراتشكوفسكي) تناول فيه بالبحث والتحليل التيارات الأدبية في العالم العربي ومؤلفات الكتاب العرب البارزين، وعقد فصلا خاصاً للحديث عن الأدباء المصريين الذين أمتد تأثيرهم إلى العراق وسوريا والأقطار العربية المختلفة، وختم الكتاب بفصل مطول عن المؤلفات التي ظهرت لكتاب العرب في مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، كما تحدث في هذا الفصل عن قصائد الشعراء العرب في الموضوعات الحربية وما نظم منها خاصة في تمجيد بطولة (ستالينجراد).
و (كراتشكوفسكي) وثيق الصلة بالشرق العربي من قديم، وله صداقات كثيرة بعلماء العربية ورجال الأدب العربي، فقد قام برحلة طويلة إلى الأقطار العربية في عام 1908، فزار مكتباتها وتعرف برجالها، ونسخ كثيراً من المخطوطات النادرة، وهو الآن عضو في المجمع العلمي العربي بدمشق.
وقد نشر (كراتشكوفسكي) كثيراً من الآثار العربية النادرة بعد أن قام بتصحيحها واستكمالها، وفي عام 1930 ألف كتاباً خاصاً عن الشيخ عياد الطنطاوي الذي سافر من مصر لتدريس اللغة العربية في روسيا فعاش هناك من عام 1847 كتاباً عام 1861 وتوفي(708/46)
ودفن هناك، وفي العام الماضي أخرج كتاباً طريفاً بعنوان (مع المخطوطات العربية) وقد تحدث فيه حديثاً قصصاً خلاباً عن رحلته إلى بلاد الشرق العربي وما وقع له من النوادر في البحث عن المخطوطات النادرة وما وفق إلى اكتشافه من هذه المخطوطات.
فالمستشرق (كراتشوفسكي) وثيق الصلة بالأدب العربي القديم والحديث، وقد عاصره عن قرب أكثر أربعين عاماً، فإذا ما تحدث عن (الأدب العربي في القرن العشرين) فلا شك أن حديثه حديث العالم الخبير.
المجمع العربي بدمشق:
يعتبر القسط الذي نهض به المجمع العلمي العربي بدمشق في خدمة التراث العربي وبعثه، قسطا واسع المدى محمود الأثر، فقد نشر هذا المجمع كثيرا من النوادر المطمورة، وجمع كثيراً من المخطوطات الغالية التي بعثرتها واستبدت بها أحداث الزمن عوادي الأيام، وكان آخر ما أخرج في هذه الناحية ديوان الشاعر أبن عنين الذي قام بتصحيحه وشرحه الشاعر الأديب خليل مردم بك الأمين العام للمجمع، ثم كتاب: (المستجاد من فعلات الأجواد) لعبد المحسن بن علي التنوخي وهو يشتمل على أخبار الأجواد ومآثرهم في الجاهلية والإسلام، وقد عنى بتصحيح هذا الكتاب وتحقيقه الأستاذ محمد كرد علي رئيس المجمع وعضو المجمع اللغوي بمصر.
ونحن إذ نشيد بأثر الجمع العلمي الدمشقي في هذا، فارجوا أن يحرص على تعميم آثاره ومطبوعاته في العالم العربي، وأن ييسر الحصول عليها لأبناء العربية، وذلك بإنشاء مكاتب فرعية له تقوم بعرض هذه الآثار في كل قطر، فإن كثيراً من الباحثين وأساتذة الجامعات والمعاهد وطلابها، يعييهم أن يحصلوا على آثاره ومطبوعاته.
الأخطل الصغير:
من أخبار بيروت أن الشاعر الكبير الأستاذ بشارة الخوري المعروف باسم (الأخطل الصغير) قد أعتزم ترشيح نفسه لعضوية مجلس النواب اللبناني في المعركة الانتخابية القادمة، وقد علقت إحدى الصحف البيروتية على هذا النبأ قائلة في سخرية خفية: (إن الأخطل الصغير سيرشح نفسه معتمداً على سمعته الأدبية، ورأس ماله في الشعر والأدب.(708/47)
).
وأي غرابة بربكم أيها الناس في أن يكون الأدب طريقاً للنيابة ومرشحاً لها! أليس للأديب والشعر في خدمة الفن والثقافة وتهذيب العواطف الإنسانية، وما هو أجدى وأنفع من مال ضخم يملكه حيوان آدمي لا يرضيه إلا أن يمشي على الرؤوس والرقاب، وأن يحتل على كراسي النيابة أكبر فراغ بكرشه المدلى وأوداجه المنفوخة؟!
إن للأخطل الصغير مئات الأبيات التي تعمر أفئدة الآلاف من أبناء العروبة، وتردد ألسنتهم نبراتها ومقاطعها في شغف وسحر، ترى لو أن له بيتا أو بيتين يسكنهما الناس بالكراء، ويدران عليه وفير المال كان ذلك أجدى في نظر أولئك المستهزئين وكانت أصوات المتملقين ترتفع: يجب على (النيابة) أن تسعى إليه، وأن تركع عند قدميه.
لقد آن لنا أن نفهم أن (النيابة) رسالة إنسانية قبل كل شيء، رسالة قوامها العواطف المهذبة الشريفة، ويوم أن ترسخ هذه العقيدة في نفوسنا، سنرى أن أولى الناس بهذه الرسالة (الأخطل الصغير)، وإخوانه من الشعراء والأدباء وحملة المشاعل الإنسانية.
هذه السينما وهذا الفن:
(من أخلاق الصغار تقليد الكبار، فمن أخلاق الأمم الضعيفة الافتتان بكل ما يصدر عن الأمم القوية، ونحن كأمة ناشئة، ضعيفة، أخنى عليها الاستبداد طويلا، ورسفت في قيود الجمود قرونا، نميل إلى التقليد ونسعى إليه سعي المستميت، ولكن أغلب تقليدنا في القشور دون اللباب، وفي العرض لا في الجوهر). . .!!
(ولنخص بالقول هنا السينما، هذه الدنيا الزاخرة المواراة التي أقبلنا عليها إقبال الصادي على المنهل العذب، فلم تتقيد بواجب أو نحيط لمحذور، فكان من أثر هذه الشراهة وهذا التفريط أن أصيبت نفوس ناشئتنا العزيزة الغريرة ونسائنا الساذجات بعادات وخلائق ليس بينها وبين عاداتنا وخلاقنا الأصلية النبيلة أي ارتباط أو صلة، فهبط المستوى الخلقي والأدبي إلى حيث لا ينفع النصح والإرشاد. وإن تسعة وتسعين في المائة من هذا الهبوط والتدني قد جاءنا عن طريق هذه السينما اللعينة التي يعب عشاقها وروادها من شرورها ومساوئها ولا يستوحون منها غير ما يسمم العقول والنوازع لأن فكرة الأفلام لم تستوح إلا تملق غرائز الجماهير واستهواءهم).(708/48)
(فماذا يمنع حكومتنا ووزارة الداخلية خاصة، أن تقلد الحكومات الراقية في فرض لجان من أهل الرأي والثقافة والغيرة لتراقب كل (فلم) ينقل إلى بلادنا، وماذا يمنعها أن تتقدم إلى أرباب صالات الصور المتحركة بأن يمنعوا القاصرين من أطفالنا، وكذلك الجنس اللطيف من غشياه دورهم إلا في عرض روايات خاصة تخلو مما لا يتفق والمدارك الساذجة والعفة المصونة؟! لماذا لا تعمد الحكومة إلى هذا؟ وإلى متى نحلل كل ما يسيء إلى أخلاقنا وآدابنا باسم الحرية الشخصية وباسم التمدين الحديث؟!)
قرأت هذه الكلمة لكاتب أديب في جريدة (القبس) السورية فقلت يظهر أن العلة شائعة في أقطار الشرق العربي في النكبة بتلك الأفلام التي يسمونها فناً، وما هي في الواقع إلا استهتار رخيص وتملق سافر لأحط الغرائز في الجماهير؟! وإن هذا الذي يقال في سوريا هو الذي يقال أيضا لحكومتنا في مصر. فأن الأفلام السينمائية التي تعرض في مصر والشرق لم تعد بحال من الأحوال أداة للثقافة وتهذيب العواطف، بل إنها عدوة لكل ثقافة وتهذيب، ومعول مسلط على أخلاقنا وتقاليدنا وقوميتنا، سواء في ذلك الأفلام المحلية أو الوافدة من الخارج، ولقد بحت الأصوات في الإهاب بالمسؤولين أن يفزعوا لهذا الخطر ولكن القائمين بتلك الأفلام يملكون من المال ما يغري، ويقدمون من الوسائل ما يحطم كل رقابة. . . وهيهات!!
(الجاحظ)(708/49)
البريد الأدبي
الكتاب المريب:
مجلة (المقتطف) من المجلات العزيزة على كل مثقف، يعرف تاريخها المجيد، وتقاليدها العلمية النبيلة ولكنها - مع الأسف - تعاني في هذه الأيام أزمة قاتلة من هذه الناحية، كما أنها تحتضر وتوشك على البوار. وذلك من جراء إشراف الأستاذ إسماعيل مظهر عليها، بعد ما كان يشرف عليها من قبل من يعرفون كيف يحافظون على تلك التقاليد.
ولقد كان من أول هذه التقاليد ألا تشتم الناس، وألا تهاتر مهاترات الوريقات الرخيصة، فجاء الأستاذ مظهر يحيد بها عن منهجها، ويقودها إلى الموت الوشيك الذي يأسف له كل من أحبوا هذه المجلة في تاريخها الطويل. أولئك الذين يرجون الله أن يقيض لها من ينتشلها من وهدتها، فلا تصير إلى ما صارت إليه (مجلة العصور) على يد الأستاذ رئيس التحرير!
ولقد سمح الأستاذ مظهر أن ينشر في العدد الأخير من المقتطف شتيمة واطية لجميع من تعرضوا لنقد ذلك الكتاب المريب: (الأغلال) ومن بينهم كاتب هذه السطور. وسواء كان هذا الذي نشر من قلمه، وقد أخزى أن يوقعه، فرمز إلى نفسه بتوقيع (مسلم حر). أو كان بقلم ذلك الرجل المريب صاحب الكتاب - كما يبدو - فإن الأستاذ مظهر هو المسؤول عن تمريغ المقتطف في هذا الوحل.
وكل ما قاله كلام مضحك. وهو منشور في مجلة محتضرة - بفضل رئيس التحرير - فلأعد له نشره في مجلة يقرؤها الناس، فلعل هذا يرضيه، ولعله كذلك يضحك القراء.
قال الرجل المريب أو قال رئيس التحرير:
(وثمة خصم ثالث لهذا الكتاب. وهو رجل يتعاطى صناعة الأدب الصناعي؛ ولكن مقاومته لهذا الكتاب، والأسلوب الذي اختاره للمقاومة، كانا برهانين على براءته من كل صلة بالأدب بكل معانيه ومبانيه).
أفادكم الله يا مولانا!!!
لقد انتهى (سيد قطب)، فما عاد له في عالم الأدب وجود، بعد هذا الكلام المفيد. فلا حول ولا قوة إلا بالله!(708/50)
أما بعد، فذلك الكتاب المريب قد انتهى. واسأل يا مولانا من شئت من الناس، فستعلم صدق هذا الذي أقول. انتهى لا لأنني كتبت عنه كلمة أو أكثر. ولكن لأنني (كشفت) فقط عن مدى (نظافته) وعن جراثيم الفناء فيه!
ولست - بعد هذا - أوافق على إيصال الأذى الشخصي لصاحبه، كما اقترح بعض النجديين والمصريين، فهو وصاحبه أهون من ذلك جدا. وليس الإيذاء الشخصي علاجا وأنا أكره مصادرة حرية الناس الفكرية، ولو كان الذي يكتبونه تفح منه روائح غير نظيفة فالموت الأدبي الذي لقيه الكتاب وصاحبه يكفي، مل لم تثبت على الرجل جريمة أخرى غير نظيفة يتناولها القانون العادي، وإني لأحسبه أحرص من أن يترك أدلة مادية!
أما أنت يا أستاذ مظهر - وأنا أسميك باسمك ولقبك ولا أشير إليك كما أشرت إلى، لأن الأدب الواجب يحتم على الناس المؤدبين ذلك - أما أنت فأنا شديد الرثاء لك.
إنني أعلم تلك العقدة النفسية التي توجهك. إنها عقدة الفشل، الفشل في كل مشروع هممت به. وأنت تعزو إلى رجال الدين تبعة هذا الفشل في حياتك. . . فكل شتم للدين ورجاله يغذي هذه العقيدة فيك. فلا تسأل بعدها إن كان نظيفا أو غير نظيف، محقا أو غير محق. ومن هنا تعصبك لكاتب مريب وكتاب غير نظيف، وأنت في هذا تستحق المرثية، فالكاتب لا يحارب الدين وحده، ولكنه ينعى على كل خلق نظيف، ويسمى الضمير والخلق والمروءة وما إليها (أغلالا)، ثم يهدف إلى إخضاعنا الدائم للمستعمرين. والناس يعرفون من ماضي الرجل وتاريخه ما يخزي، ويعرفون ما لا أستطيع نشره لأنه يقع تحت طائلة القانون، وأنت مندفع مع عقدتك النفسية. فالله يرحمك ويرحم المقتطف والسلام.
سيد قطب
كلمة في بيت:
قرأت كلمة الأستاذ محمد أحمد عيد في عدد الرسالة (707) تصحيحاً لخطأ وقعت فيه في نص قول الشاعر: (فقالت من أي الناس أنت؟ ومن تكن؟) إذ جعلت: (من تكن) استفهاماً وهو شرط، كأنه قال: (ومهما تكن، فإنك راعي صرامة لا يزينها). والبيت بهذا التصحيح أدق معنى وأبلغ في سياقه العاطفة التي أوحت بالشعر. ويكون قولي في شرحه أيضاً خطأ.(708/51)
وأنا لا أزال أشكر الأخ الكريم على حسن تسديده للمخطئ، وكمال أدبه في دقة القراءة. وقد أحسن إلي من حيث أساء غيره ممن جعلهم الله على مدرجة المثل الذي جرى على لسان الأوائل، والذي وضعوه لمن يضع نفسه حيث لا يستأهل، وهو قولهم: (متى كان حكم الله في كرب النخل!!).
على أني أحب أن أقول قولا آخر أخشى أن يكون له وجه وإن كنت أوثر هنا القول الأول، وهو أن الفعل ككثير من الأفعال التي كثر استعمالها، قد تلعب به العرب لكثرة دورانه على ألسنتها، حتى حذفوا منه الحرف الذي لا يحذف من أمثاله كقولهم (لم يك) في (لم يكن) وهو حرف من نفس الفعل. فلست أرى ما يمنع هذه العرب الجرئية الألسنة، أن تعلب به في الاستفهام في قولك: (من تكون؟) فإنها إذا وقفت عليه كما تقف على قولك: (من تعرف؟) وهي تنوي الرفع، فيكون عندئذ (من تكون؟) فتحذف أضعف أحرفه لالتقاء الساكنين فتقول: (من تكن؟) في الاستفهام أيضاً. وقد فعلت العرب مثل ذلك في وقولك: (لم أبال) فتوهمت الوقف على حرف لا وقف فيه لأن أصله (أبالي) المكسورة اللام من نفس الفعل بعد حذف الياء للجزم، فكانت عندها: (لم أبال) فحذفت الحرف المستضعف في الكلمة وهو ألف العلة وقالت: (لم أٌبل)، واعتمدت ذلك وجرت عليه في غير الوقف.
وكالذي روى عنهم أيضا (رواه سيبويه وغيره) من قولهم (لا أدر) فحذفوا الياء لكثرة استعمالهم له كقولهم: لم أبل ولم يك. قال أبن سيده ونظيره ما حكاه اللحياني عن الكسائي: أقبل يضربه لا بآل، مضموم اللام بلا واو. وقال الأزهري ربما حذفوا الياء من قولهم: (لا أدرِ) في موضع: (لا أدري)، يكتفون بالكسرة منها، كقوله تعالى: (والليل إذا يسرِ) والأصل يسرى. وقال الجوهري بمثل الذي قال به سيبويه أيضا في تأويل الحذف في (لا أدر). وهناك شواهد أخرى لا خير في الإطالة بذكرها.
فهذا رأى عسى أن يكون فيه وجه من الحق، ودلالة على مقطع من مقاطع الصواب. فإن العرب أجرأ على لغتها وأعرف بها وبما ينبغي لها وما لا ينبغي. ولولا ما تبعثر من ذخائر الذاكرة لاعتمدت هذا الرأي بشاهد آخر في هذا الحرف بعينه، كان مر بي فأنسيته. ولعل الأخ يجعل باله إليه عسى أن يجده أو يقع له.
محمود محمد شاكر(708/52)
طريق الهجرة النبوية:
كتب الأستاذ محمد عبد الوهاب فايد في الرسالة الغراء كلمة وجيزة نقل فيها عن (عيون الأثر) و (مجمع الزوائد) أسماء الأماكن والمواضع التي مر بها ذلك الداعي الكريم محمد العظيم عليه الصلاة والتسليم، أثناء هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ وهو بهذه الكلمة يشارك في تحقيق ذلك المقصد الجليل وهو تحقيق المواضع التاريخية وتحديد مواضعها؛ ولكني ألاحظ أن مجرد سرد هذه السناء في الكتاب أو المقالات، لا يغني كثيرا، فنحن نعرف سلسلة طويلة من هذه الأسماء، ولكنا لو طولبنا بتوضيحها على الخريطة الجغرافية، أو أردنا العثور عليها في مواضعها الحسية، لما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولذلك أرى فيما يتعلق بتحديد هذه المواضع، ومقابلة أسمائها بمواقعها من البسيطة، أن تنصرف جهود الباحثين والمؤرخين والعارفين إلى تحقيق (المصورات الجغرافية) التي يوضحون عليها مواقع هذه الأسماء، وإلى تنظيم الرحلات العلمية إلى هذه المواقع ليصفوا لنا حاضرها، أو ما أصابها من تغيير بمرور الزمان، وتتابع الحدثان.
ويسرني أن أزف إلى قراء الرسالة الغراء بشرى طيبة، وهي أن الأستاذ المفضل الشيخ محمود السيد الحمصاني - هو مدرس بمدرسة التعاون الإنساني بدمنهور، وقد شاب في سبيل الله والوطن والتاريخ، وضحى بالكثير من ماله وأعصابه قد حقق مواضع القرى والآبار والأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته، وأفنى في ذلك سنوات قضاها في الرحلة والبحث والضبط والاستقصاء، ورسم بيده خريطة جليلة مضبوطة سماها (خريطة الهجرة النبوية)؛ وأبان فيها جميع هذه الأماكن، وعلق عليها بقوله: (ليست خريطة الهجرة مجرد شكل يفرح المتأمل لرؤيته، ولكنها إرشاد يوحي بأمجد ذكرى لأكبر حادث في تاريخ البشر، تغير له وجه الأرض بظهور نور الإسلام على سائر الأديان، فما كاد صلى الله عليه وسلم يخطو في طريق هجرته حتى بدأت الدنيا تتقلقل، كأنما مر بقدميه على مركز الأرض فحركها، وكانت خطواته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ، وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين الشرق والغرب)!!. . .
وعندي أنه يجب - تقديراً لمجهود الأستاذ محمود الحمصاني، وتشجيعاً لغيره من الباحثين(708/53)
على متابعة التحقيق والضبط - أن تطبع هذه الخريطة، بالملايين، وتوزع على تلاميذ المدارس وطلبة المعاهد، ليستفيدوا منها تاريخيا وجغرافيا، حتى يتسع أفقنا التاريخي، ونحيط علما بأجزاء وطننا الأكبر، وسيرة رسولنا الأعظم.
وبمناسبة هذه الكلمة أذكر أن للأستاذ الحمصاني خريطة ثانية وضح فيها (مناسك الحج)، وخريطة ثالثة وضح فيها مشروعا (لتيسير الحج) عن طريق (رأس بناس) الواقع على ساحل البحر الأحمر، وهو مشروع يجعل الوصول إلى مكة ميسورا في ثلاثة أيام بالسفر الطبيعي، ولذلك المشروع الجليل حديث مفصل قد عرضه صاحبه في مذكرة مطبوعة يرحب بكل من يطلبها منه، فجزى الله العاملين!!. . .
أحمد الشرباصي
المدرس بمعهد الزقازيق الثانوي
من الأستاذ محمود تيمور بك إلى مؤلف (نهاية الطريق):
تحيات خالصة مشفوعة بجزيل الشكر على هديتكم النفيسة (نهاية الطريق) وإني أتقدم إليكم بتهنئتي الصادقة على توفيقكم في هذه المجموعة الفريدة التي راعني فيها طلاوة أسلوبها وما فيه من عذوبة وسلاسة، وما حوته في تضاعيفها من معان طريفة، وخواطر جديرة بالتقدير والإعجاب.
ولا ريب في أنكم بهذه الباكورة الأديبة قد قفزتم قفزة ملحوظة في ميدان الأدب دلت على ما أنتم عليه نبوغ وتفوق في كتابة القصة الحديثة، فأكرر لكم تهنئتي، وأرجو لكم دوام التوفيق، شاكر لكم حسن عواطفكم وجميل التفاتكم.
وتقبلوا خالص مودتي ووافر احترامي.
محمود تيمور(708/54)
القصص
غرامي الأول:
لذة الحب لحظة. .
للكاتب الفرنسي موريس دوناي
ترجمة المرحوم الأستاذ يونس السبعاوي
سأحدثكم عن حبي في أيام شبابي منذ نصف قرن مضى. ومالي لا أعيد تلك الصفحات وأنا أرى هذا الشباب الجديد سابحاً في عالم بعيد عن الشعر والخيال؟. . .
ومن حقه أن يكون كما تراه، فهو في زمن أزمات وضيق سدت في وجهه أبواب الأمل ونشرت على خطواته ظلام اليأس فلم يأمن على المستقبل ولم يطمئن إلى الغد.
منذ نصف قرن مضى كان العهد عهد خيال، وكان للنساء في أفكارنا وتصوراتنا مقام غير مقامهن في هذه الأيام، ولقد قرأنا الكثير من روايات الغرام، وكان أدبنا كما قال عنه (بركسون) شواني الاتجاه. فلا تقرأ فيه إلا ما يحدثك عن الحب والنساء.
عرفت إنجيل فكانت يوم عرفتها فتاة في الثامنة عشرة ولكنها جمعت نضوج النساء ودل وضعها على أن لها ماضياً ما حاولت أن أسألها عنه. وكانت تعمل في أحد محال الأزياء وتعيش مع أبوين فقيرين من عامة الناس. ولقد طالما سألت نفسي كيف استطاع هذان الأبوان البسيطان أن يلدا هذه الحسناء البارعة الجمال! فقد كانت تمثل في امتشاق قامتها واعتدال جسمها واتساق حركاتها نضرة الربيع فتفتن الناظرين بيدين ورجلين طويلة ناعمة وبشعر أصفر ذهبي وأنف صغير وعينين كبيرتين.
رأيتها لأول مرة في ثوب فتان وتحدثت إليها فلم أر منها ازوراراً عن أحاديث الأدب، وهي وإن لم تكن بارعة الثقافة فإن لها إلماماً بكل ما يتيسر لواحدة من طبقتها من العلوم. فكنت أنظم فيها الشعر فتقرأه وتلحن، وماذا يضيرني أن تلحن إنجيل وهناك كثير من الفتيات يقرأن الشعر أحسن قراءة فلا يجدن من يقول فيهن شعراً! وكانت تهوى الفن وملاعب الفنانين وتحب الموسيقى والشعر والرسم فتحب معها الموسيقيين والشعراء والرسامين، ولكنها تفضل الأخيرين لأن هذه الحسناء المفتونة بحسنها يعجبها أن ترى(708/55)
رسمها في صورة رسام أكثر مما تراه في أبيات شاعر أو أنغام موسيقى.
وكان لي أصدقاء من الموسيقيين والشعراء والرسامين فعرفتها بهم وأنا فخور، ولكن الغرور قرين الرعونة كما يقولون. . .
وكانت في أول أيام تعارفنا لا تعرف غير الأناشيد القديمة تعلمتها من روايات سخيفة فتنشدها بصوتها الهادئ الحزين فتخرج على تفاهتها حاملة للسامع كل معاني الحزن والألم، فأخذت بعد حين تحدثني عن أحدث الأناشيد وتنشد ما لم أكن قد سمعته، وأصبح صوتها شيئاً آخر غير ذلك الصوت الهادئ الحزين. وقد راعني هاذ منها ولكني لم اسألها عمن علمها هذا الغناء الجديد.
وسارت إنجيل على هذا المنوال فأصبحت تقرأ أحدث الروايات وولعت ببعض الكتاب دون أن أدلها عليهم، فأخذت أتلمس فيها تغيراً ورقياً كنت أعزوهما لتأثيري عليها فأزداد تيهاً.
ثم أصبحت تتغيب عن مواعيدي كثيراً. ولقد طالما انتظرتها حتى إذا ما دنت ساعة اللقاء جاءني منها كتابها الأزرق الصغير الذي أعرف خطها في عنوانه فأفتحه بقلب واجف وأقرأ ما فيه بهلع لأنتهي منه فأعرف ما كنت أخشاه، وهو أني حرمت متعتي في ذلك المساء فتنتابني الهموم وتساورني الشكوك فأسأل نفسي أين هي الآن؟ وماذا تعمل؟ وأكثر من هذه الأسئلة التي طالما رددها المحبون المظلومون وسألوا فيها عن أحبابهم الغائبين. وأعود إلى غرفتي فأجلس في مقعدها الوحيد ثم أحذ كتاباً فأحاول أن أقرأ فيه ولكن الأفكار تساورني من جديد فأسأل نفسي أين هي الآن؟ وماذا تعمل؟
ولقد ولعت من أيام الدراسة بالفريد دي موسيه فحفظت له (الليالي) عن ظهر قلب، وعودت قلبي على احتمال الآلام فكنت أذكر لقاءنا الأول وأيام حبنا الأولى فتأخذني الأفكار وتمر الساعات وتكون الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهكذا أقضي ليلة الفرح المنتظر في ترح وشجون وأبيت حليف الآلام والهموم.
وكان لي صديق ظريف كنت أتحدث إليه ذات يوم عن الحب والنساء فبادرني بهذا السؤال:
- أتجتمع كثيراً بإنجيل؟(708/56)
- أجتمع بها ولكن أقل مما أريد.
- وهل تحبها؟
- وكيف لا؟
- وهل تحبك؟
- ومن يعرف حقيقة قلوب النساء؟ ولكن أعتقد إنها تحبني.
- وهل أنت واثق من إخلاصها لك؟
وسكت عند هذا السؤال وسكت معه طويلا، وكنت أعرف في هذا الصديق ميلا إلى المزح والنكتة، فأخذت أحدق فيه عسى أن المح علامات المزح فيما يقول فوجدت أثر الجد ظاهراً عليه ففار دمي وزاد ألمي؟ وأحس بهذا مني فأراد التراجع قائلا: إنه لم يقصد شيئاً بما قال. فألححت عليه أن يبوح بما يسر لأني أريد أن أعرف الحقيقة، فقد أصبحت من شهور رهين الوساوس والشكوك، وإن الذي ينقذني من هذه الشكوك يسدي إليّ جميلاً لا أنساه مدى الحياة.
فقال على عادته في المزح: تقصد أنك لا تنسى له هذه الإساءة ما دمت حياً. فقلت له: إنك لا تعرفني جيداً وإن عليك أن تبوح لي بكل ما تعرف.
وهنا أخذت أصف له آلامي وصفاً صادقاً. فرق لحالي وحمله قلبه الطيب أن ينير الطريق أمام هذا الصديق الأعمى؛ فراح يصف لي خيانتها وتعلقها الآن بصديق من أصدقائنا لا يخلو من الرقة على ضخامته.
والواقع أني لم تدهشني هذه الأخبار فقد أعددت لها نفسي من زمن فأشبعت رغبتي في معرفة أحوال إنجيل، ولم يكذبني صديقي فيما قال فقد سألتها أول مرة رأيتها فيها بعد هذا الحادث وطلبت منها أن تفصح لي عن الحقيقة فإذا بها تثور ثورة الملكة المغضبة وتركتني بلا كلام ولا سلام.
فعدت لنفسي وقلت إني قد أكون مخطئاً في حكمي، وإن من الخير لي أن أعرف الخبر اليقين من صديقها الجديد. فعثرت عليه في ليلة حالكة من ليالي الشتاء ودام بيننا الحديث ساعة أو يزيد وكنت أكلم هذا المنافس السعيد بصراحة تامة أملاً أن يصارحني بمثلها ولكنه أخذ يفند ما اتهمته به ويقسم أنه لا يعرف شيئاً مما قلت، وإن علاقته بإنجيل صداقة لا(708/57)
غير، ولكن اضطرابه واحمراره ومغالاته في التظاهر بالبراءة حملتني على الاعتقاد بأنه يكذب فيما يقول.(708/58)
العدد 709 - بتاريخ: 03 - 02 - 1947(/)
أولياء. . . وأعداء
حياك الله يا سوريا! ورعاك الله يا لبنان! لشد ما قضيتما حق الاخوة، وبيضتما وجه العروبة! آسيتمانا حين صرح البغي عن محضه، وحسر الباغي عن قناعه؛ وآزرتما النيل حين صمم أن يدافع عن حوضه، وأن يعبئ كل القوى في دفاعه.
أما شرق الأردن ففيه جلوب؛ اما العراق ففيه كرونواليس! والرجلان رجلان من أرجل الأخطبوط الضخم الذي آمن الحوت فسيطر الحوت فسيطر على معظم الماء واكثر اليبس. ورجل الأخطبوط ختم على أفواه الساسة؛ يوضع بحذر، ويرفع بقدر. ولطالما كابد ساستنا مشقة هذا الختم أيام كانوا للأخطبوط أرقاء وأصدقاء!
والاستعمار - كشف الله عنا ضره - على الأفواه كمامة، وعلى العيون غمامة، وعلى الأذان حجاب، وفي الأعناق غل. ولكن الأمم العربية التي تستمد غذائها الروحي من عقيدة الإسلام، وآداب العرب، وتاريخ الفتوح، وحضارة الرشيد، وثقافة المأمون، لا يسعها إلا أن تخالف الرؤساء والزعماء لتتفق في الشعور، وتتحد في الوجهة، وتتعاطف في المكروه، وتتناصر في الشدة. ولن تكون هذه العقارب التي يبسها الأخطبوط على دعاة الوحدة العربية إلا طعمة للنار المقدسة التي يشبها شباب العرب لتذيب الغش وتنفي الخبث وتكشف عن المعدن الصحيح.
برح الخفاء ونصل صبغ الرياء عن طبع إنجلترا فبدا على لونه الأصيل من خبث العنصر ولؤم الفطرة. واصبح الأمر بيننا وبينها في ذمة مجلس الأمن، وهو الجهة التي زعموها موئل الحق ومثابة العدالة. فهل كان يظن جون بول ان مصر التي ظل خمساً وستين سنة يتصرف في حكومتها وشعبها تصرف الراعي في القطيع، تقف منه موقف الند من الند من مجلس القضاء الأممي تدمغ باطله بالحق، وتدحض مراءه بالمنطق؟ الحق أن صرح الإمبراطورية يوشك أن ينهار ما دام أمرها قد انتهى إلى سلطان العدل. وهل هي إلا بنيان شاهق من الزور المتراكم والظلم المتراكم يسنده دعامتان من دهاء السياسة وضخامة الأسطول؟ على أن الدهاء قد فضحته يقظة الناس، والأسطول قد نسفته طاقة الذرة. فماذا بقى لسيدة البحار؟ ان إنجلترا غنية بغيرها، فلا تستغني بنفسها إلا يوم تروض حلوقها ثانية على ازدراد القواقع والسمك. والرجل الذي يعيش على الناس يكون مع القوة لصاً يسلب، ومع الضعف متسولاً يستجدي. وقد زالت وسائل اللصوصية عن إنجلترا باستيقاظ الوعي(709/1)
في الأمم المستعمرة، وانخزال السلاح البحري عن الأسلحة الحديثة، والتجاء الدول إلى تحكيم القانون فرقاً من المدمرات الخفية، فلن يبقى لها إذن غير التسول بالمفاوضة، والتعلل بالمعارضة، والتسلل إلى البلاد في ثياب الخونة من طلاب الملك أو الحكم أو المال، كما تتسلل الجراثيم إلى الأجساد على أرجل الذباب وأفواه الكلاب وأجسام الفأرة! فإذا عرفنا نقلة الجراثيم عرفنا مصدر الوباء، وإذا أمنا دسائس الخصم أمنا جور القضاء.
أحمد حسن الزيات(709/2)
أفراح الحياة وآلامها
للأستاذ عباس محمود العقاد
تلقيت من بغداد رسالة لصاحب التوقيع الفاضل جاء فيها: (. . . بينما كنت اقلب هذا السفر الحليل - يسألونك - وجدتني اقف أمام جملة في تعقيبكم على كتاب - مع أبي العلاء في سجنه - وهي:
(. . . ما زلت اعقد وازداد مع الأيام اعتقاداً أن بغض الحياة اسهل من حب الحياة، وان الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة اعم وأشيع واقرب غوراً من أدوات النفس لتي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى فالفرح اعمق من الحزن في رأيي ولا مراء. أما الفرح فهو القدرة والانتصار)
فهلا تفضل سيدي بشرح هذه العبارة. . . الخ.
الكاظمية
جعفر آل ياسين
والموضوع يستحق التفصيل؛ لأننا في الشرق لا نزال قادرين على الحزن عاجزين عن الفرح أو قادرين على التشاؤم عاجزين عن التفاؤل. وربما كن فرضاً اقرب إلى السلوب منه إلى الثبوت. فكثير من أفراحنا ناشئ من قلة الفكر وقلة المبالاة، وقليل منها ناشئ من فهم أسباب الكمال ومعارض الجمال في هذه الحياة.
والألم اسهل من السرور لأن أدوات الألم ميسرة للطفل والجاهل مقصورة على الإنسان.
وأدوات الألم هي الحواس الجسدية، وهي كافية لإشعار صاحبها بجميع المؤلمات والأوجاع التي يشتمل عليها عالم الحس المتسع لجميع الأحياء، ومنها الإنسان.
كل حي يستطيع أن يشعر بشوكة الوردة. لأن الشعور بها لا يحتاج إلى اكثر من جلد وأعصاب.
ولكن الجلد والأعصاب لا تكفي للشعور بجمال الوردة ونضرتها ومعاني الصباحة والحسن التي تتراءى بها للعيون والأذواق، وتتمثل بها فبعالم الخيال.
وكل حي يستطيع أن يرى ظواهر الأشياء ويسمع ظواهر الأصوات فإذا دخل هذا الحي(709/3)
دار الآثار أو دار الفنون الموسيقية رأى وسمع كلما يرى بالعيون ويسمع بالآذان. ولم يجد في ما رآه أو سمعه مدعاة للسرور أو مدعاة إلى تكرار الزيارة باختياره.
ولكن إذا ملك من أدوات النفس فوق حاستي البصر والسمع - وهي حاسة الذوق - عرف مواضع الفرح فيما رآه وسمعه. ونظر في دار الآثار إلى جمال الصناعة ودلالة المعاني التاريخية الخالدة، وسمع في دار الفنون الموسيقية آيات التعبير المنسق وأسرار العاطفة الخفية التي تترجم عن نفسها بلغة الألحان.
كل إنسان يستطيع أن يخسر في الحياة، لأن الخسارة فيها مضمونة للعاجز الذي لا يحسن الفهم ولا يحسن العمل. فكل عاجز (قادر) على أن يأخذ نصيبه من خسائر الحياة بغير عناء، وقادر على أن يأخذ الألم مع الخسارة، لأنه يأتي معها بغير دعوة!
ولكن القدرة على الانتصار في الحياة لا تشيع بين الناس شيوع العجز والقصور.
نعم إن القادرين قد يخسرون والعاجزين قد يكسبون. ولكن هذا لا ينفي الحقيقة التي يعرفها القادرون والعاجزون وهي أن القدرة اندر من العجز وأن أدوات العجز ميسرة للأكثرين وأدوات القدرة لا تتيسر لغير القليل.
كل إنسان يستطيع أن يجد في تمثال المرمر وسيلة إلى الألم، لأنه يحصل على الألم بصدمة في الرأس، والقدم. ولكنه لا يحصل على السرور الذي يوحي به التمثيل إلا إذا أدرك محاسن الفنون وعرف صاحب التمثال وما عمله في حياته وما استحق به هذا التخليد بين قومه وقادري فضله وجهاده.
ولا يعنينا هنا أن تكون الأفراح في الحياة اكثر من الآلام أو تكون الآلام اكثر من الأفراح.
وإنما يعنينا أن أدوات الألم ميسرة للأكثرين، وأن الأفراح التي تحتاج إلى فهم غير فهم الظواهر حقيقة مقررة لا يدركها غير القليل.
وصحيح أن النفس إذا ارتفعت شعرت بآلام لا تشعر بها النفوس الوضيعة وأدركت مواطن للشر لا تدركها الطبائع المغلغلة والضمائر العمياء؛ ولكن هذا لا يغير الحقيقة التي أسلفناها! وهي أن الألم في جملته لا يحتاج إلى أدوات نادرة بين الأحياء، وأن كثيراً من المخلوقات تستطيع أن تتألم وهي في المرتبة الدنيا من مراتب الحياة، ولا تستطيع أن تفرح إلا إذا توافرت لها صفة (وجوبية) غير مسلوبة، وهي على الأقل صفة الصحة واعتدال المزاج.(709/4)
ونعمم هذه الحقيقة فنقول إن المؤلمات سلوب وأن المفرحات ثبوت. لأن الألم يأتي من الفقد، والفرح يأتي من وجود شئ يفرح أو يصدر منه الفرح. ولا حاجة بالإنسان إلى أداة للفقد والخسارة، ولكنه يحتاج إلى أدوات كثيرة للإيجاد والتحصيل.
وقد مضى على الشرق زمن لم نسمع فيه غير الشكاية والحزن في شعره ونثره، وغير الشكاية والحزن في مواعظه وخطبه، وغير الشكاية والحزن في جملة أحواله وأعماله. ولم يكن ذلك الزمن الذي عمت فيه الشكاية والحزن زمن القدرة والعلم بل زمن الفقد والكسل. لأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلاء الحياة أعم وأشيع واقرب غوراً من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى.
والطفل يبكي في اللحظة الأولى من حياته، ولكنه لا يعرف الابتسام قبل بضعة اشهر. لأنه في البكاء لا يحتاج إلى اكثر من صوت وهواء. ولكنه يحتاج قبل الابتسام أن يعرف وجه أمه وأبيه وان يدرك العطف بينه وبين أمه وأبيه.
وإذا تركنا شعور الضرورة إلى شعور المشيئة والاختيار تبين لنا أن الإنسان سريع إلى كشف النقائص والعيوب في الناس بطئ في كشف النقائص والعيوب في الناس بطئ في كشف المحاسن والمزايا. بل مغالط فيها بعد كشفها ومكابر في الشهادة بها لأصحابها.
فهو محجوب عن المحاسن باختياره وبغير اختياره:
محجوب عن محاسن الدنيا ما لم يتهيأ لها بأدوات الذوق والمعرفة وعمق البديهية وسمو الخيال.
ومحجوب عن محاسن الناس لأنه يحب أن يستأثر بالمحاسن لنفسه أو يحب أن يبالغ في تعظيم مزاياه وتصغير مزايا غيره. فلا يحتاج إلى اكثر من الأنانية العمياء يجهل فضائل الآخرين ومظاهر الكمال في المخلوقات؛ ولكنه يحتاج إلى النبل والإنصاف ورحابة الصدر ليعرف تلك الفضائل وينعم بعرفانها ويوفيها حقها من العطف والإعجاب.
فهو في معرض الدنيا معصوب العينين حتى ترتفع العصابة عن عينيه ليتعلم بعد جهل ويقتدر بعد قصور، ويغتبط بجمال من يراه بعد أن كان لا يراه.
وهو في معرض الحياة البشرية يضع كفيه على عينيه باختياره ولا يرفعهما حتى ترتفع عن ضميره عصابة الأثرة والجهود، وينفذ إليه شعاع النور من عالم الحق والإنصاف.(709/5)
لهذا صح أن يقال إن أدوات الآلام اسهل واعم من أدوات الأفراح، وأن كثيراً من الناس قادرون على الشعور بالألم في اعم حالاته ولكنهم لا يقدرون على الشعور بجميع الأفراح ولا بجميع المرضيات.
وإذا طبقنا هذه الملاحظة على أبي العلاء وجدنا أنها تنطبق عليه وعلى زمانه، وتدل في حالته أيضاً على سهولة أسباب الألم وصعوبة أسباب الفرح بالنظر إليه وبالنظر إلى الزمان الذي عاش فيه.
فهو حسير كسير في عقر داره، وزمانه زمان الفتن والحروب وزمان التقلب والنفاق، وغاية الأمل فيه أن يسلم من الشرور أو يتغلب عليها بشرور أكبر منها وكلاهما بلاء على الكريم وبلاء على اللئيم، وقضاء يلوذ منه الحائر بالقبوع أو بالقنوع.
وبعد فيكفي أن نعلم أن الإنسان مطالب بتحقيق أسباب الفرح وغير مطالب بتحقيق أسباب الألم، لنعلم أن افرح محتاج إلى الأداة وإن الألم لا يحتاج إلى أداة، بل إلى نجاة!
عباس محمود العقاد(709/6)
لغة العبيد. .!
للأستاذ سيد قطب
عندما قام الرئيس (لنكولن) بحركة تحرير العبيد في أمريكا لم يكن خصومه هم (السادة) وحدهم، بل كان بعض (العبيد) أيضاً حرباً عليه!
كان بعضهم يهرب من (الحرية) التي يهبها له (لنكولن) ليرتد إلى (العبودية) في بيت أسياده لأنه لا يطيق تكاليف الحرية ولا يستطيع مواجهة الحياة مستقلاً!
ليس عبيد أمريكا وحدهم هم الذين يهربون من الحرية؛ فعندنا في مصر، وفي سائر بلاد الشرق (عبيد) من نوع آخر عبيد يتزيون بزي الأحرار، ولكن في أعماق نفوسهم تلك العبودية التي يهربون إليها بين الحين والحين!
في عدد ديسمبر من مجلة (الكاتب المصري) قرأت للدكتور حسين فوزي مقالاً بعنوان (جولة في ما بعد الحرب) جاءت فيه هذه الفقرات:
(شعور واحد يتملكني في عشرة أيامي الأولى بلوندرة: شعور الإعجاب المتناهي بعاصمة الدولة التي أنقذت العالم من اعظم الشرور التي حاقت به في تاريخه الطويل. قلب الأمة الباسلة العنيد التي وقفت وحدها في مواجهة الأفاقين البرابرة الذين تحدوا البشرية جمعاء، والتي تلقت الضربات الوحشية تنصب عليها من السماء حمماً وناراً، ومن قاع البحر حمماً وناراً).
(كنت فخوراً بإنسانيتي، إذ وجدت من هؤلاء الناس درعاً وواقياً للحضارة. وسواء عندي أن يكون دفاع الإنجليزي عن بلاده وحضارته وإمبراطوريته، ما دام هذا الدفاع في ذاته ذوداً عن الحضارة والإنسانية قطعاً).
(أنا هنا بين رجال ونساء راضين بما حققوا. غلبوا على أمرهم، وطردوا من أوربا والملايا، وقطعت عليهم اغلب طرقهم البحرية، وهاجمتهم الطيارات والقنابل الطائرة والغواصات في كل مكان، وانذروا بالفناء قبل الغزو، أو بالغزو فالفناء. ضيق عليهم أعداء البشرية الخناق، على حدود مصر والسودان، وفي العراق وكريت ومالطا والهند، ولكنهم ثبتوا كصخور مالطا ودوفر وجبل طارق، وردوا الضربات بأقل منها، فبمثلها، فبأضعاف أضعافها. ثم جاء دورهم في الغزو، فنزلوا بالقارة الأوربية، وحرروا فرنسا والبلجيك(709/7)
وهولندا وايطاليا، ثم استعادوا بورما والملايا، واكتسحوا قطعان الذئاب الفاشستية يردونها إلى عقر أوكارهم، حتى قضوا عليها. وهم اليوم يتحكمون في ديارها. إن قدموا الخير فبشعور إنساني كريم وإن اعملوا الشر فبروح انتقام مفهوم، عادل أو غير عادل تبعاً لمزاج من يريد ان يبدي حكماً).
. . . (والصورة التي انطبعت في رأسي لبريطانيا بعد إقامتي القصيرة في لوندرة. هي صورة شعب عامل مجد، محب للنظام والعدالة، يحترم حكومته لأنه اختارها، ويتبرم بها تبرم الأخ لأخيه يوماً أو بعض يوم. صورة شعب أمين في معاملاته، منطقي في عمله، دون أن يكون للمنطق حساب في تفكيره، يتولاه القلق على معاشه ومستقبله في العالم، مع تمسكه بالقيم الروحية المطلقة التي تترجم بالعلم والفن والأدب، والقيم الروحية في السياسة التي تترجم بالنظر إلى العالم نظرة الشعب المسؤول عن الخير العام للبشرية. وهذه في رأيي مقومات الحضارة في شعب كبير وأمة عظمى). ثم يقول عن فرنسا:
(لحظة اللقاء، لمست أقدامي أرض فرنسا بعد طول الغياب، (أمنا فرنسا)، كما يقول أهل لبنان، ومربيتنا باريس. لن أنساك يا فرنسا قبل أن أنسى نفسي. تقطع يداي قبل أن يغدر بك ربيبك يا باريس!).
كاتب هذه الفقرات مصري شرقي وهو رجل اعرفه، وبيني وبينه مودة، ولكن مودات الأرض كلها لا تخدر ضميري وأنا اقرأ له هذه السطور!
هذا الرجل مصري شرقي، يرى كيف تعامل إنجلترا بلاده، وكيف تعامل فرنسا أمم الشمال الأفريقي، ويعرف كيف تصنع إنجلترا في الهند، وكيف تصنع فرنسا في الهند الصينية. . . ثم يكتب كل هذا (الغزل) في الدوليتين الاستعماريتين اللتين تدوسان قومه وأقرباءه بالأقدام!
وأعجب شئ انه كان (فخوراً بإنسانيته) في لوندرة! أية إنسانية تلك التي ترى الاستعمار ينتهك كل حرمات الإنسانية، ويمتص دماء المستعمرات، ويذل أهلها ويسلب أقواتهم وارزاقهم، ويبقيهم في ربقة الجهل والتأخر والتوحش أحياناً حتى لا يفقد قدرته على استغلالهم. ثم لا تغضب، ولا تتألم، ولا تثور؟
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يسلبون بلاده إنسانيتها. يفقرونها إلى حد أن يعيش الفلاح في(709/8)
مستوى اقل من مستوى الماشية. يسرقونها في اسهم قناة السويس، وفي ثمن قطنها وصادراتها لهم في الحرب وغير الحرب، وفي صفقات المناقصات العامة، ويستنزفون غذائها وفاكهتها وملابسها في زمن الحرب بلا مقابل فينشرون فيها السل والأنيميا وشتى أمراض التغذية ثم يكادون يتنصلون من ديونهم القليلة. يستخدمونها في الحرب بكل قواها ثم يتنكرون لها بعد الانتصار. . . أولئك هم السادة الذين يفخر العبيد بإنسانيتهم حينما يرونه ينتصرون!
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز بعد نصف قرن في السودان لا يزال سكانه في الجنوب عرايا وسكنه في الشمال مبعدين عن إخوانهم في الجنوب بدافع التعصب الديني لأن دماء الصليبيين لا تزال تجري في دماء المستعمرين. وبدافع الاستغلال القذر لأن موارد الجنوب يجب ان تبقى للاستعمار!
فخور بإنسانيته. لأن الهند بعد ثلاثمائة عام في الحكم البريطاني، لا تزال أفقر الشعوب وأقذرها. وهذه القذارة تنفر الدكتور حسين فوزي وتطلق لسانه بشتيمة الهند والهنود في كتاب سابق له. ولكنها لا تحنقه إطلاقا على الحكم البريطاني القذر لأن السادة لا يحنق عليهم العبيد!
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز حاربوا الصين مرة لسبب واحد، وهو أنها عزمت على تحريم تدخين الأفيون. حينما تقتضي (الإنسانية) ان يظل الصينيون (مساطيل) لا يفيقون لأن (الانبساط) والانسجام خير يجب أن يتمتع به الصينيون.
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز نشروا وباء الكوليرا في حربهم مع (البوير) في جنوب أفريقيا؛ فكانت هذه وسيلة (إنسانية) للانتصار في الحروب!
فخور بإنسانيته. لأن فاجعة (دنشواي) كانت انتصاراً للروح الإنسانية وللضمير الإنساني في تاريخ الشعوب!
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يقفون في وجه التحرر لا في مستعمراتهم فقط، ولكن في مستعمرات سواهم، كما صنعوا في أندنوسيا، حينما هبت تحارب وحوش الهولنديين!
فخور بإنسانيته. لأن الإنجليز يرتكبون في فلسطين من الجرائم الإنسانية ما تقشعر له الأبدان في سنة 1937. واليوم يجلدهم اليهود علناً فلا يتحركون!(709/9)
ثم (أمنا فرنسا، ومربيتنا باريس). . . إلى آخر هذا الغزل السخيف!
(أمنا فرنسا - كما يقول أهل لبنان - ولم يكن منصفاً فيقول: (كما يقول أهل لبنان):
لقد تحرر لبنان من تلك العبودية يا دكتور فوزي. لقد تحررت ارضه، كما تحرر ضميره. ولعلك لا تذكر واقعة اعتقال رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته في قلعة راشيا. تحرر لبنان فلم يعد ينطق تلك الكلمة المجرمة المخنثة (أمنا فرنسا).
لقد تحرر لبنان، وتحررت سوريا. وبقى أن تتحرر مراكش، وأن تتحرر تونس، وان تتحرر الجزائر. وبقي أن تنكمش هذه الدولة المتبربرة في حدودها القومية. فإذا شئتم حينذاك ان تلجئوا إلى حضن أمكم الحنون. فمع السلامة. ولتذهبوا إليها هناك أجمعين!
واسمع هذه البرقية لمراسل الأهرام في نيويورك:
(تلقت جريدة (نيويورك تيمس) رسالة من السيد محمد أبو الاحرص سكرتير (لجنة المطالبة بحرية شمال أفريقيا) طالب فيها بإلحاح بوجوب رفع الستار (الحديدي) المضروب حول مراكش والجزائر وتونس وبالسماح للصحفيين الأجانب بحرية الدخول في هذه البلاد الثلاثة.
وذكر السيد أبو الاحرص الذي يقول انه يمثل عشرين مليوناً من سكان شمال أفريقيا انه حدث في يوم 12 مايو سنة 1943 أن قتل عشرة آلاف وطني تونسي وسجن أربعون ألفا من غير محاكمة؛ وان عبد المنصف باي تونس عزل ونفي مع أن الحلفاء يملكون من الوثائق ما يثبت انه كان يقاوم سلطات الاحتلال الألمانية مقاومة شديدة.
وزعم أخيراً انه في يوم النصر في سنة 1945 ذبح أربعون ألفا من الجزائريين وسجن مائتا ألف ونهبت بيوت ثلاثة آلاف من الوطنيين).
وعلام كل هذا الغزل؟ و (شعور الإعجاب المتناهي)؟ لأن هذه الامة، إنجلترا (وقفت وحدها في مواجهة الأفاقين البرابرة الذين تحدوا البشرية جمعاء)!
أي أفاقية؟ وأي برابرة؟ يا دكتور فوزي؟ وأية بشرية تلك التي تحدوها؟
الأفاقون والبرابرة هم أولئك المستعمرون الذين يمتصون دماء البشرية، ليتوافر للإنجليزي الزبد والويسكي والديكة الرومية في عيد الميلاد!
الأفاقون والبرابرة، هم الذين يتسببون في إصابة مليون مصري بالسل في زمن الحرب،(709/10)
لأنهم يسرقون المواد الغذائية مقابل عملة ورقية لا رصيد لها، ثم يتنكرون لمصر وللدين المصري الزهيد!
الأفاقون والبرابرة هم الذين يجلدهم اليهود علنا في الشوارع، فلا يحركون ساكنا، بينما يمثلون بالجثث أشنع تمثيل حينما يهب العرب للمطالبة بحقهم المشروع!
ولقد كان جائزا أن تنتشر هذه الأسطورة: أسطورة إن الإنجليز غير الألمان وان هؤلاء وحدهم أفاقون وبرابرة، وان الإنجليز حماة الإنسانية المتحضرون. حينما كانت رحى الحرب دائرة. حينما كان الذهب الإنكليزي - أو البنكنوت المزيف - يتدفق على مراكز الدعاية، وفي جيوب الصحفيين والكتاب، فتنطلق الألسنة بالحمد والثناء لحماة الديمقراطية، وللحرية، وتنطلق بالهجاء والاتهامات للبرابرة الألمان، وحينما كانت الدعاية الإنجليزية تملأ الآفاق ببشريات الحرية العالمية، والأمن من الجوع والخوف والمرض والجهل. وحينما كان المخدوعون يستغرقون في الأحلام اللذيذة على صدى هذه الوعود الجملية.
ويومها كم من أصوات ارتفعت في محطات الإذاعة بالشرق، وكم من أقلام انطلقت في صحافة الشرق، تمجد أولئك الملائكة الأطهار الذين يريقون دماءهم في سبيل البشرية المهددة بالوحوش النازيين!
ذلك إن الذهب الإنكليزي - أو البنكنوت المزيف - كان من القوى والتدفق بحيث ينطق البكم، ويسمع الصم. وذلك أن الوعود المعسولة خدعت بعض المخدوعين، فتاهوا في أحلام الحرية والاستقلال والجلاء. وان كان ضمير الأمة لم ينخدع لحظة واحدة، لأنه كان اصدق حساسية من اولئك المذيعين والصحفيين والكتاب!
أما اليوم، فكيف تبقى عين واحدة مغلقة، اليوم وقد خلع الإنجليز القفاز الحريري وارتدوا جلد النمر. اليوم ما الذي يخدع مصريا واحدا، أو شرقيا واحدا، فيطلق لسانه بمثل هذا الغزل العجيب؟!
وفرنسا، فرنسا أم الحرية، كما يقول عشاقها، كيف بعد حادث راشيا، وكيف بعد مؤامرتها على قتل وزراء سوريا ونوابها في البرلمان، تلك المؤامرة القذرة التي لم تتم بسبب وقوع وثائقها في يد الحكومة السورية في الوقت المناسب.
فرنسا الذي تذبح في يوم النصر أربعين ألفا من الجزائريين. والتي تقيم سورا حديديا حول(709/11)
الشمال الأفريقي كله، يمنع عنه العلم والنور والحرية والتقدم. فرنسا هذه كيف يختلج بحبها ضمير أنساني واحد، بله أن ينطلق لسان لها بمثل هذا الغزل العجيب!
وليس المتغزلون في إنجلترا وفرنسا وحدهم هم عبيد الشرق المنكوب! هنالك من يتغزل في (روسيا) في هذه الأيام. وحقيقة أن بعدنا عن فم الدب بعض الشيء قد يجعلنا اقل حنقا عليه. ولكن هنالك من ينسى مصريته ليذكر (روسيا) العزيزة1 وتلك لغة العبيد.
لقد سمعنا طويلا: أمنا فرنسا، أمنا إنكلترا، أمنا روسيا! بابا ستالين! كما سمعنا من يقول: تقدم يا روميل! ايام العلمين!
ولقد آن أن يخفت صوت العبودية في هذا كله، ليرتفع صوت واحد: أمنا مصر. عمنا الشرق. أبونا النيل.
أيها العبيد! تحرروا مرة من لوثات الضمير
أيها الدعاة في الحرب وغير الحرب!
كفروا عن جريمتكم وعدوا مصريين. وشرقيين!
أنا أوربا المتبربرة قطيع واحد من الوحوش الواغلة في دماء البشرية، المعتدية على كرامة الإنسانية؛ فليس بإنسان من لا يغضب لكرامته ولكرامة (الإنسان) التي يذلها الاستعمار في كل مكان. وهذه البشرية لن ترفع رأسها إلا يوم أن تسحق هذه اللعنة البغيضة. لعنة الاستعمار والمستعمرين. ونحن في الشرق لا ينبغي أن يقوم بيننا وبين هذا الغراب المتبربر سلام، إلا حين تنكمش هذه الوحوش الآدمية في داخل حدودها أو في داخل أقفاصها!
وما يجوز أن يرتفع صوت واحد بالثناء على قوم حاربوا لأنفسهم، دفاعا عن الزبد الذي يأخذونه من بين شفتي العالم، ليستمتعوا، ويصاب بالسل آخرون
إن هؤلاء المستعمرين هم لعنة هذه الأرض التي لا يجوز أن نضمر لها غير الحقد والضغن. فهم الذين يثيرون الحروب العالمية ويتمسحون في الألمان وغير الألمان.
والألمان مثلهم. . . كلهم سواء. وحوش آدمية متبربرة، تتبدى في أزياء من الحضارة الخادعة. فلن تكون حضارة صادقة مع ضمير متعفن كضمير الاستعمار.
الحقد! الحقد المقدس أيها الشرق المنكوب هو وحده المنقذ حين يفتح فاه، فيلتهم قطاع(709/12)
الطرق اللصوص.
أما أولئك المتغزلون في أوربا فليتواروا حياء، فليس الوقت وقت الغزل، بل الساعة ساعة الصراع ألا ولتنطلق من كل فم وقلب صيحة واحدة مدوية: الموت للاستعمار والويل للمستعمرين!
سيد قطب(709/13)
العجز قوة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
حينما أرى شيخوخة متهدمة فانية مدبرة الحياة تجرجر جسمها المتهالك كأنما تحمله حملا يبهر الأنفاس ويعيي الأوصال، في مزدحم طريق مكتظ بأجسام القادرين على الزحام من الرجال ذوي الألواح العريضة والأرجل الخفيفة والخطوات الماضية في خيلاء الشباب وطفور القوة وعزة القدرة على نيل الأشياء، وغرور الخدعة بالحياة، وقد احتدمت الحركة والجلبة ومضت (دواماتها) العنيفة بتلك الشيخوخة ترمى بها المرامي وسط هذا العباب الزاخر حينئذ اشعر أن هذا العجز يقبض على قلبي بقوة غالبة تجيش لها نفسي وتستجيب لها استجابة لا أحسها في كثير من الأحيان التي يطالعني فيها مشهد من مشاهد القوة والاجتياح.
وحين أرى طفلتي الصغيرة تبدأ حياتها منذ أن فصلت عن حياة الرحم وكل سلاحها للعيش وآلاتها في الكفاح هو الصراخ واستنجاد بقوى من يحيطون بها من الوالدين والأقربين، وتلك الغمزات الخفية على قلبي ألام والأب، غمز الرحمة لهذا الضعف في ي هذا الجسم الصغير الضئيل الطريح الذي لا يملك دفع الذباب والنمال عن نفسه ولا جلب غذائه، ومع ذلك فجميع من في البيت وما فيه من مسخر لرضاها والسهر على الدفاع عنها وجلب المسرة والمنفعة لها، اشعر كذلك ان العجز قوة يسخر لها هاد الأقوياء، واشرف ما في النفوس البشرية من أريحية كريمة هي التي تبني الاجتماع وتجمل الأخلاق وتعلو بمستوى الإنسان بل والحيوان.
ولقد أدركت من شيخوخة أمي رحمها الله في سنتيها الأخيرتين ما كان يثير في نفسي لوناً من الحنان الغامر والإشفاق والحساسية التي تبعث الدمع الهادئ اللذيذ حين كنت أرى ذلك العجز الذي طرأ عليها بعد قوة ولكنه مع ذلك سلحها بقوى جميع من في البيت، وسخرهم لها يخدمونها في لهفة ويكفونها كل حاجاتها في رضا ويسألونها كذلك الرضا.
وعجز الشيخوخة اشد إثارة للرحمة والشعور والعاطفة من عجز الطفولة؛ لأن يريك الهيكل البشري في هالة من تاريخ قوته، فتشعر انك معه إزاء طلل لبناء عزيز كان عامراً فأضحى غمراً، تعفيه الرياح، وينال منه الإمساء والإصباح، ويدبر منه ما كان مقبلاً.(709/14)
وقديماً بكى الشعر على الأطلال وبحث في أصباغها الناصلة وشواخصها المائلة عن الأشباح التي كانت تعمرها والصور والظلال والأصوات والذكريات التي وقعت عليها والنفس إزاء عوامل الفناء اشد حساسية وإرهافاً منها إزاء عوامل الحياة، لأن النفس من عالم الوجود فليست عوامل الحياة غريبة عليها غربة عوامل الفناء.
وعوامل الحياة تمدها بالطمأنينة والأمل والشعور بالاستمرار والامتداد، أما عوامل الفناء فتأخذ منها الطمأنينة وتعطيها الرهبة والشعور بالنهاية وتقفها على حافة المجهول الذي مضى إلى هاويته كل ما كان ويمضي إليها كل ما هو كائن.
والعجز هو مدخل الإيمان وحجته الهادئة التي لا جدال معها لمنطق. فهو إن كان يثير اشرف ما في النفس وأعظمه أثرا في بناء روابط الاجتماع على أسس من الرحمة والعاطفة، فهو كذلك يثير اشرف ما فيها وأعظمه أثرا في بناء الإيمان وروابط الإنسان بالله على أسس من الفكر والإدراك. وقفة واحدة مخلصة من فكر الإنسان الضئيل المحدود وسط هذا الكون الجبار الحافل بالقوى ذات الهول والاجتياح والرحابة والدوام، والأجرام السماوية ذات الأحجام والأرقام الفلكية، كافية لأن تطلق من صدر الإنسان آهة عميقة فيها الإقرار بالعجز والاستسلام والإنكار لمزاعم القدرة والاستطالة، وصرخة وجلة دامية فيها طلب اللياذ والاحتماء في صدر كن رحيم حنون، وكنف قوى مأمون هو كنف (الذي) بنى هذا الكون الهائل العاقل من هذه القوى الجبارة العمياء المجنونة التي تسير في نظم ولجم تمسكها يد القهر فلا تفلت ولا تلتوي ولا تجمح!
وإذا كان غرور الحياة في بعض النفوس البشرية قد سول لها أن تزعم مزاعم الاستكبار والإنكار، فذلك لأنها نسيت عجزها وضعفها وسجنها في هذا الكون الذي لا يستطيع منه مهرباً إذ دخلته على غير اختيار وستحرج منه على كره.
وهؤلاء الذين يثيرون بمنطقهم وجدلهم وزخرف قولهم الشغب والثورة على حكومة الكون، ويعييك أن تقنعهم بالحجة الفالجة والحق الدامغ، تستطيع أن تراهم يسرعون إلى الدخول فيما دخل إليه جمهور الناس من إيمان إذا ما ضربهم الزمان بالعجز وقيدهم بقيوده وطرحهم مطارح يرون فيها أنفسهم كائنات تافهة لا تملك لنفسها نفعاً ولا عنها دفعاً ولا يحل بهم الليل والنهار، ولا تنظر إليهم السماء والأرض، ويرون أنفسهم تذهب كما تمضي(709/15)
ورقة جافة أو تبنه تافهة. . عندئذ يأخذهم العجز بقوته السالبة الغالبة إلى عتبات ربهم يطرحون عليها قلوبهم ويعفرون بترابها وجوههم ويبللونها بدموعهم ويقولون مع أبي نؤاس:
ذهبت جدتي بطاعة نفسي ... طلبت طاعة الله نضوا
ومن رحمة الله بالناس أن جعل الدور الأخير من حياة اكرهم فترة عجز وضعف وخمود يدركون فيها حقيقة حياتهم وحقيقة الحياة كلها ويخلصون فيها لأنفسهم، يصفون ما بها من غرور ويبصرون الطريق إلى الإيمان، وتصح أحلامهم ويرعوي بالحلم ويتركون ميادين النزاع والأباطيل ويقولون مع ابن المعتز:
أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام
وارعوى باطلي وبان حديث ... النفس مني وصحت الأحلام
ولو استمر شباب الجسم وعنفوانه يصحب الناس إلى نهاية حياتهم ما ارعوى باطلهم ولا خف طيشهم ونزاعهم، ولا صفت طباعهم من ثورة الأكدار التي تثيرها نوازع الشباب واحتداماته واندفاعاته؛ لأن السر في اندفاع الشباب انه يعتمد على ذخيرة من قوى الحياة التي تقتضيها آلات الجسم الصحيح والعيش الصحيح، ولأنه لم يبصر كثيراً من الأحكام الصحيحة على الحياة إذ هو مشغول بإحساسه بغيض الحياة ونشوتها الغامرة، فلم تترك له عجلتها الدائرة في جلبة وقوة ان يبصر الأشياء الثابتة، لأن حركة الحياة في نفسه تزيغ نظره عن الأوضاع الصحيحة. فإذا ابتدأت العجلة تهدئ من دورانها شيئاً فشيئاً استطاع المرء أن يبصر الأمور في ريث وهينة ويتملى في أوضاعها المختلفة فيحكم عليها حكماً صحيحاً.
فلنرد النفس في فترات إلى الشعور بالعجز وسط جبروت الكون، وهول الطبيعة وإصرارها على قوانينها، ودوامها في سلطانها، حتى تشعر دائماً إنها في الكون شئ ربما يكون غير مذكور ولنأخذ من العدل قوانين تعدل قوانين تعدل قوانين القوة والبطش التي لا يدين الناس لغيرها.
وليكن ما في العجز من ظلال عكسية لأوضاع القوة في الحياة سبيلاً لإيقاظنا إلى واجبات لا نراها إلا في الظلال، تلك الواجبات التي لا تسوقنا إليها القوة، وإنما تسوقنا إليها(709/16)
الرحمة.
عبد المنعم خلاف(709/17)
في يوم المولد النبوي:
يا سيدي يا رسول الله!
للأستاذ علي الطنطاوي
(تسمعون السنة كلها حديث الدنيا فاسمعوا اليوم حديث الدين)
الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله ورحمة الله وبركاته هذا يوم تشرفت في مثله الأرض بمولدك، واستضاءت بنورك، قد جعلناه بعدك عيداً - واشهد ما شرعت لنا إلا (العيدين) - فنصبنا الأعلام، و (اذعنا) الانغام، واجتمعنا على الخطب والكلام ن والشراب والطعام، فالطرقات مزدحمة بالسرادقات، والمساجد والمقابر ملأى بالزائرين والزائرات، والصحف والمجلات، فياضة بالفصول والمقالات، وفي كل مكان مظاهر الأفراح والمسرات: في الشوارع والساحات، والأزقة والحارات. . .
فعلنا ذلك حباً بك، وابتهاجاً بمولدك، ثم ابناً إلى مساكننا فهجعنا هادئة ضمائرنا، هانئة سرائرنا، إذ قد وفينا لهذه الذكرى، التي لم يمر على ذهن التاريخ الإنساني اعظم منها أثراً، ولا أعلى قدراً، ولا أبقى ذكراً. . .
أما اتباع دينك، والاهتداء، والوقوف عند أمرك ونهيك، فلم نفكر فيه ولم ندخله في (برنامج الاحتفال)!
فهل يعجبك يا رسول الله ما فعلنا؟ هل يرضى به ربك عنا؟
لقد بعثت بـ (لا اله إلا الله). دعوت العرب إليها فأبوها، فأمرت أن تقاتلهم حتى يقولوها، وخيرتهم بين السيف وبينها فاختاروا السيف عليها، واثروا أن يهلكوا عن أن ينطقوا بها، استصعبوها لأنهم عرفوا معناها، فعلموا أنها ليست كلمة تقال بطرف اللسان، ولكنها دستور للحياة كلها، وصرف لها عن وجهتها وتبديل لكل صغيرة أو كبيرة فيها.
لا اله إلا الله: لا ينفع ولا يضر إلا الله، فلا تخش في الحق غيره ولا تذل في الرجاء لسواه.
لا اله إلا الله: هو القادر فلا تخف أحداً إن كنت معه، هو البصير فلا تستتر بذنبك منه، هو الرحمن فلا تيأس من رحمته، هو الجبار فلا تأمن غضبه، هم معك حيثما كنت يراك أبداً(709/18)
فاعبده كأنك تراه. هو الخالق الباري المصور، أعطاك البصر فلا تنظر به إلى عورة، والسمع فلا تلقه إلى سوء ن واللسان فلا تحركه بمحرم، واليد فلا تستعملها في عدوان، والرجل فلا تمشي بها إلى ظلم والبطن فلا تدخل فيه إلا حلالاً، وأنت منه واليه لا مخرج لك عن ملكه. وهو المحيي المميت، منحك الحياة فلا تنفق دقيقة منها فيما يكره، وكتب عليك الموت فاذكره أبداً وتهيأ له ولا تنس انه ملاقيك!
لقد كانوا أذكياء ففهموا معناها وكانوا أشرافاً فلم يحبوا أن يقولوا بأفواههم، ما لا يحققونه بأفعالهم، ولذلك استسهلوا القتل واليتم والثكل على النطق بها، ثم لما أعدهم الله لها، وكتب السعادة لهم فقالوها، صاروا بها سادة الدنيا وخلاصة الإنسانية، وملائكة البشر.
ونحن يا سيدي يا رسول الله، نحن نقولها كل يوم على منائرنا ومنابرنا، وفي أسواقنا وفي منازلنا، وعند دهشتنا ومسرتنا، لا نرى كلمة أخف منها على اللسان، ولكنها لا تجاوز ألسنتنا، ولا تبلغ أفئدتنا، ولا يكون لها اثر في حياتنا، فهل نحن مسلمون!
وجئتهم بالقرآن فحاربوه، ومنعوا القارئين ان يتلوه، وفروا منه حتى لا يسمعوه، ولكنهم كانوا إذا وقعت إلى أحدهم الآيات منه، بدلته تبديلا وجعلته رجلاً آخر: اقبل عمر الغليظ الجافي عدو الإسلام الألد، ليأتي الجريمة الكبرى، فسمع آيات معدودات، فإذا هو ينقلب إلى عمر المؤمن الرقيق العبقري الذي ادار وحده إحدى عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام بسلمها وحربها، وقضائها وماليتها، وداخليتها وخارجيتها، وجليل امرها وحقيره، ما قصر في شئ منه ولا أساء فكان نادرة الزمان، وأعجوبة الفلك ونحن نسمع المرتلين يتلون القرآن في كل لحظة وفي كل مكان، في الأفراح والأتراح والحفلات والاذاعات، بحلوق لعلها أندى من حلق قارئ عمر، ونغمات أحلى، وأصوات اشجى، ومعرفة بالتجويد وضبط للمخارج والأداء، وبصر بالألحان، ولكنها لا تصنع بنا ما صنعت بعمر، ما نجد لها إلا الاهتزاز والطرب كما نهتز لكل أغنية حلوة تسمعها آذاننا، ونطرب لكل صوت شجي تعيه أسماعنا، ثم نقوم عنها فنمضي في الحياة حيث توجهنا عقولنا واهوائنا، فهل نحن مسلمون؟
ودعوتهم إلى الإيمان، فآمنوا بالله إيمان مراقبة وخشية وتقى، واستحيوا منه ان يراهم عاصين مخالفين، واستقاموا على الطريقة، وجعلوا أهوائهم تبعاً لما جئتهم به، فإذا غلبتهم نفوسهم فألموا بذنب، ومن هو الذي لا يذنب! تابوا إلى الله وانابوا، ولم يصروا ويستمروا.(709/19)
وآمنوا بالملائكة، فتشبهوا بهم ما استطاعوا في طاعتهم وعبادتهم، واحيوا الملكية في نفوسهم، فماتت بحياتها البهيمية والشيطانية، ورب إنسان هو اقرب إلى البهيمة وأدنى إلى الشيطان. . .
وآمنوا بالكتب، وصدقوا بالقرآن فتلوه تلاوة التدبر والاستنباط فأتوا ما أمر به وانتهوا عما نها عنه وجعلوه لهم إماماً، وحاكماً مطاعاً.
وآمنوا بالرسل وبك خاتمهم وامامهم، فاستمعوا لقولك، أطاعوا أمرك، واتبعوا سنتك، وكنت احب إليهم من آبائهم، وأبنائهم ومن نفوسهم، التي بين جوانبهم.
وآمنوا بالقضاء والقدر، فسعوا للدنيا سعيها، وطلبوا المال من حله، واعدوا للعدو ما استطاعوا من القوة ولم يدخروا وسعاً في سعي ولا طلب ولا اعداد، ولكنهم رضوا بما قدر الله عليهم بعد نتائج، وما قسم لهم من حظوظ، ولم يجعلوا الدنيا أكبر همهم، ولا منتهى أملهم، ولم يتكلوا على المال ولا الولد، لأن الله هو المعطي المانع، ولم يتكالبوا على الدنيا لأن الله هو المطعم الرازق، ولم يقعدوا عن الجهاد خوف الموت، لأن الأعمار بيد الله، فلا تموت نفس حتى يجئ اجلها.
فكان إيمانهم ظاهراً، في كل اعمالهم، وفي كل لحظة من أعمارهم، وفي عبادتهم يخلصونها لله لا يريدون بها إلا وجهه، فلا يتبعون بها عادة، ولا يبتغون بها رياء، وفي معاملتهم الناس لا يغشونهم ولا يظلمونهم، ولا يكذبونهم ولا يؤذونهم، وفي بيوتهم وأسواقهم، وسفرهم وحضرهم. وصحتهم ومرضهم، وأسرارهم وإعلانهم فهل نحن مؤمنون كأيمانهم؟
يا سيدي يا رسول الله، لقد أقمت الإسلام على خمسة أركان فما زال الشيطان يغرينا بأركانه الخمسة، حتى هدمناها وأزلزلناها، فكان فينا من يقول كلمة الشهادة ولا يؤدي حقها، ومن يدعي الإسلام ولا يصلي، ومن يصلي بجوارحه ولسانه ولا بقلبه وجنانه، يقوم إلى الصلاة ليستريح منها لا ليستريح بها، لا يجد فيه انس نفسه ولا قرة عينه، فلا تنهاه صلاته عن فحشاء ولا منكر، فكأنه ما وقف بين يدي الله، ولا ناجى بلسانه مولاه، ومن يدعي الإسلام ولا يصوم ومن يصوم عن أكله وشربه ولا يصوم عن قول الزور والعمل به، ولا يسلم المسلمون من لسان صائماً ولا يده، فلا يرقق له الصوم له قلباً فيعطف على جائع، أو يحسن إلى فقير ومن يدعي الإسلام ولا يزكي ولا يحج، ومن يحج ليسيح فيرى(709/20)
البلاد، ويتجر فيجمع المال، ويكسب من حجه الذكر والجاه ما طهر الحج قلبه، ولا غسل ذنبه، ولا أرضى ربه.
وتركتنا على بيضاء نقية ليلها كنهارها، حلالها بين وحرامها بين، وقلت لنا ان لكل ملك حمى، وان حمى الله محارمه، ونهيتنا ان تحوم حول الحمى لئلا نقع فيه، فتعدينا حدود الله ودخلنا حماه، وأتينا المعاصي جهاراً ونهاراً، لا تخشى عاراً، ولا نخاف ناراً، ولا رباً جباراً، بلغتنا قانون الله الذي أنزله لنحكم به، وسقت إلينا اشد الوعيد، وابلغ التهديد، ان نحن لم نحكم به، فتركناه وحكمنا بقانون فرنسة، فهل نحن مسلمون؟!
يا سيدي يا رسول الله صلى الله وسلم عليك.
لقد كان معك أربعون تخفيهم دار الأرقم في اصل الصفا، فأظهرهم الحق حتى فتحوا المشرق والمغرب، وكان لك منبر واحد، درجات من الخشب لا مزخرفات ولا منقوشات، فاسمعت منه الدنيا كلها صوت الحق، دعوتها فلبت، وأمرتها فأطاعت، ولنا اليوم مائة ألف منبر، فبها النقش البارع والزخرف الرائع يعلوها الخطباء فينادون (يا أيها الناس اتقوا الله). فلا يتقي احد، لأن الخطيب ما قال إلا بلسانه، والمصلي ما استمع إلا بأذنه قد فسد العلماء فهم يعلمون ولا يعملون، ويزهدون من الدنيا ولا يزهدون، ويقولون (الساكت عن الحق شيطن اخرس). ويسكتون، ويتلون (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ويذلون للوزراء والأغنياء والسلاطين. فسد العلماء ففسد الناس فمن أين ينتقى الصلاح؟
فنحن اليوم أربعمائة ألف ألف، امرنا بالجهاد لنفتح الدنيا فقعدنا حتى فتح العدو أرضنا وملك ديارنا، وحكم رقابنا، ولا نزال قاعدين نلهو ونلعب، نعينه على أنفسنا، ونهدم معه دورنا وديننا بأيدينا، وننظر ما لم يأتنا هو به من شروره، فنأخذه نحن بأنفسنا: أخذنا قوانينا وتركنا لها قرآننا، وعاداته وتركنا لها اخلاقنا، وفسوقه فأضعنا فيه أعراضنا.
وقد غدونا دولاً وحكومات وأحزاباً وجماعات، وما المسلمون إلا اخوة في أسرة واحدة، وما هم إلا أحجار البناء المرصوص يشد بعضه بعضا.
ولكنا لم ننس ان نحتفل بمولدك، وان ننصب الأعلام، ونذيع الانغام، ونجتمع على الخطب والكلام، والشراب والطعام، فهل يكفر هذا ما اذنبنا؟ هل يعجبك يا رسول الله ما فعلنا؟ هل يرضى به ربك عنا؟!(709/21)
يا سرول الله! لقد ركبتنا ظلمات فوق ظلمات، وحاقت بن مصائب بعد مصائب، وخفت صوت المصلحين، وعلا نداء الضالين المضلين، وتوارى الحق وجال الباطل، فما العمل؟ ضاقت الحيل، وضعف الامل، وانسدت طرق الأرض ولم يبق إلا طريق السماء؟!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(709/22)
الأدب في سير أعلامه:
تولستوي. . .!
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا)
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
طفولة ونسب
اطل من نافذة قصر أنيق أقيم على مرتفع في ضيعة ياسنايابوليانا الجميلة، طفل في الخامسة من عمره، وقد أعجبه ذلك المنظر البهيج من حوله، ذلك المنظر الذي الفته نفسه وباتت تأنس به روحه ويتعلق بجماله حسه.
كان الطفل يمد عينيه الصغيرتين الحالمتين إلى كل ما يحيط به إلى الغابات التي تتناثر هنا وهناك، والى النهر الذي تتثنى صفحته بين هاتيك الغابات فيظهر لعينيه جزء منه وتتوارى خلف الشجر أجزاء، ثم إلى القرية الهادئة التي تتراءى لعينيه من بين الخمائل التي تحيط بها على مقربة من النهر برك صغيرة وأخرى كبيرة، وتبدو كنيستها المتواضعة بجانب الأكواخ والعشش الصغيرة المبنية من الطين وجذوع الشجر، والتي يفصل بينها طريق عريض هو طريق القرية الرئيسي؛ ثم يمد الطفل عينيه إلى ذلك الطريق البعيد الذي سمع عنه فيما سمع أنه ينتهي عند مدينة تولا على مسافة عشرة أميال إلى الشمال وهي مسافة يصورها له خياله طويلة بعيدة؛ وكم يتمنى ان يرى مدينة نولا هذه التي يسمع عنها وعن حياتها الشيء الكثير. وثمة طريق آخر يمتد إليه بصره هو الطريق المؤدي إلى كييف، وإنه ليتمنى أن يرى كييف تلك المدينة التي يذكر اسمها الناس في احترام وتقديس، والتي يتقاطر إليها الحجاج مارين بضيعة أبيه وفي هذا الطريق القديم. . .
وإذا رد الطفل بصره وقع على الطريق المنحدر من القصر تحيط به أشجار الليمون ويقوم على جانبي مدخله برجان أبيضان جميلان. ولم يكد يتحول الطفل ببصره عما يرى حتى مشت في صفحة وجهه سحابة خفيفة من الهم، فقد تذكر أن عهده باللعب قد انتهى كما أخبرته العمة تاتيانا، وأنه من غده سيخل حجرة الدراسة كل يوم في ساعة معينة من النهار(709/23)
فلا يبرحها إلا متى شاء معلمه ان يطلقه. . . وهو منذ تلك السن يكره القيود كرهاً شديداً فكيف يطيق حجرة الدراسة ويطيق ان يأتمر بما يقضي به المعلم؟ ذلك ما كان يكرب نفسه الصغيرة، بعد أن اخذ ذلك المنظر بمجاميع عينيه، فهو يطل على مسارح لعبه ومجال حريته تحت هاتيك الخمائل وفي فناء ذلك القصر.
ولكن الصبي يعود فيذكر أن لا بأس من حجرة الدراسة وما فيها؛ أو ليس معنى غدوه إليها انه يغدو كبيراً فيقرأ ويكتب كما يقرأ اخوته ويكتبون؟ فلا يدل عليه أحدهم بشيء ينقصه هو ولا حيلة له في هذا النقص، ولا يفاخره منهم أحد بكتبه ودفاتره فسوف تكون له كتب ودفاتر. وتطيب نفس الصبي بهذه الأفكار فهو يكره اشد الكره أن يتفاخر عليه أحد، أو أن يشعر أنه دون من يحيطون به. وكثيراً ما دمعت عيناه غيظاً إذ يرى لغيره من دواعي الفخر ما ليس له. وهو سريع البكاء إذا غيظ لأنه لا يحب ان يغيظ أحداً. فليقبل إذا على حجرة الدراسة في غير نكد بل ليقبل عليها في ارتياح. هكذا توحي إليه كبرياء نفسه الصغيرة، وانه منذ صغره لذو كبرياء، وان كان إذا غضب سريع البكاء.
وكان للطفل واسمه ليو، ثلاثة اخوة أكبر منه وأخت هو أكبر منها. أما أخوته فهم: نيقولا وكان يكبره بخمسة اعوام، وسيرجي وكان يكبره بعامين ونصف، وديمتري وكان يكبره بعام وأربعة اشهر، وأما أخته فهي ماريا، وكانت دونه بسنة ونصف سنة.
وكانت تعيش مع صغار الأسرة بنت ليست منها وهي بنت غير سفيحة لأحد الأصدقاء المقربين من عميدها، وكان أبناء الأسرة يحسنون معاملتها كما لو كانت أختاً لهم، وماذا تصنع غير ذلك نفوس بريئة كهاتيك النفوس التي لم تدر بعد لؤم الحياة؟. . .
هؤلاء هم أفراد الأسرة الصغار؛ فأما الكبار ففي مقدمتهم أبوه، ثم تأتي بعد أبيه العمة تاتيانا، ولم يعرف الصبي منذ بدأ إدراكه أماً له غيرها، فقد ماتت أمه كما يذكر أحياناً أخوه نيقولا في همس وحزن عقب مولد أخته الصغيرة بأيام.
وهناك جدته لأبيه وهي تعيش في هذا القصر منذ مات زوجها، ثم عمته ألين التي جاءت لتعيش في حماية أخيها بعد أن أصيب زوجها بالجنون فقد بلغ به الجنون أن أطلق الرصاص ذات يوم على صدرها. وكانت ألين هذه عمته حقاً، أم تاتيانا فكان يناديها بالعمة كما يفعل اخوته؛ ولكن نيقولا يفهمه ذات مرة أنها ليست عمتهما فهي ليست أختاً لأبيهما(709/24)
فيعجب ليو لماذا إذا يدعوها الجميع عمتهم ولا يدرك مكانها من أبيه ولا موضعها من الأسرة، ولعل نيقولا كذلك لم يكن اقل منه جهلاً بهذا الأمر. وكيف يتسنى له أن يعرف إن أباه احبها في صدر شبابه وأنها أحبته ولكنها أفسحت له الطريق ليتزوج بسيدة غنية يصلح بثروتها حال معيشته إذ رأت منه هذا الميل على الرغم من حبه إياها حباً وثقت منه؛ وكانت تلك السيدة الغنية هي امه، فلما ماتت أمه عاد أبوه يطلب يدها فرفضت أن تتزوجه ولكنها وعدت أن تكون أماً أخرى لبني، وها هي ذي تبر بوعدها، فتكون لهم أماً في مكان أمهم.
لم يكن يعرف ذلك نيقولا مفصلاً هذا التفصيل فما يجدر ان يتحدث إلى الأطفال بمثل هذه الأمور، وحسب أولئك الأطفال أنها تحبهم وانهم يحبونها حباً شديداً، وعلى الأخص ليو فقد كان شديد الحب لها قوي التودد إليها. . .
على أن عطف العمة تاتيانا عليه لم يشغله منذ هذه السن الباكرة عن التفكير في أنها ليست أمه، وإن كان يرى منها مثلما يرى الأطفال من أمهاتهم؛ وإنه ليسأل نفسه أين امه؟ لقد ذكر له نيقولا مرات إنها ماتت وإنه ليرى على وجه نيقولا إمارات الغم كلما أشار إلى ذلك وير كذلك دلائل الرهبة والألم. فما هذا الموت الذي حرمه من أمه؟ إن خياله يصوره له شيئاً كريهاً مخيفاً وإنه ليخاف من اسمه وينفر منه ولكنه لا يدري ما هو.
وإن الطفل ليرهف أذنيه كلما تحدث متحدث عن أمه، ولئن كان يحزنه انه لم يرها فإنه يطيب نفساً بما يسمع من صفاتها والثناء عليها، وإنه ليجد من عطف عمته تاتيانا ما يخفف حزنه؛ ثم إنه ليزداد حباً لهذه العمة كلما سمعها تذكر بالخير أمه، وتظهر الأسف على فقدها بكلماتها أو بما يبدو من صور الهم على ملامح وجهها. .
وتقع عينا الطفل في القصر على عدد من المربين والمربيات، ومن الخدم على اختلاف مراتبهم وتنوع أعمالهم؛ ويجد لأبيه السيطرة على هؤلاء جميعاً، فما يلقاه أحد منهم إلا بعبارات التجلة وتحيات الاحترام، فيداخل نفس الطفل شعور الفخر بجاه أبيه وعظمته، ثم انه إذا مثل بعض هؤلاء الفلاحين الذين يسكنون القرية القريبة بين يدي أبيه رآهم يحنون رؤوسهم خاشعين، ويخاطبونه بألقاب السيادة والعظمة، والسعيد منهم من ظفر بلثم يده إذا شاء أن يمدها إليه، ويعجب إذ يرى أباه يخاطبهم أحياناً في ازدراء ويعنف عليهم في لهجة(709/25)
الأمروالنهي، ويتساءل بينه وبين نفسه لم يترفع عليهم أبوه هذا الترفع، ولم لا يعاملهم كما يعاملونه، ولكن نيقولا يخبره إذا سأله ان الفلاحين في الضيعة كلها ملك أبيه وملك أجداده كما حدثته بذلك العمة تاتيانا.
على أنه يعلم فيما يعلم أن القصر والضيعة كانا من أملاك أمه ورثتهما عن آبائها من أسرة فولكنسكي، ولكن رأسه الصغير لا يتسع لما يقال عن نسب أمه ونسب أبيه، وإن أخاه نيقولا نفسه الذي كثيراً ما علمه ما لم يكن يعلم يبدو منه العجز والتناقض إذا تحدث عن هذا النسب، ولا تحدثه العمة تاتيانا عنه إلا بقدر ما تعتقد أنه يفهم.
لم يكن يستطيع الطفل في تلك السن أن يدرك حديث نسب أبيه ونسب أمه فإنه حديث طويل وتاريخ قديم. . .
كان بطرس اندر فتش تولستوي أول فرع سامق من فروع أسرة تولستوي التي نبت اصلها في ألمانيا من زمن بعيد؛ وقد بدأ سموق هذا الفرع في عهد العاهل العظيم بطرس الأكبر الذي ولي أمر الروسيا في أواخر القرن السابع عشر.
حارب بطرس اندروفتش تولستوي في معركة أزوف عام 1696؛ وأرسله القيصر بعد ذلك إلى أوربا ليتعلم بناء السفن؛ وفي مستهل القرن الثامن عشر عينه سفيراً لروسيا لدى الباب العالي، ولما اشتبكت الدولتان في حرب عام 1710 ألقى به في سجن الأبراج السبعة، وكان يلقى فيه السلطان بالسفراء الذين يكون بينهم وبين دولهم حرب، ولما عاد بطرس إلى بلاده عام 1714 وصل إلى منصب الوزارة. . .
ولم ينس العاهل الجبار بطرس الأكبر صنيع وزيره هذا إذ أرسله إلى إيطاليا ليعود بأبنه اليكسي، وكان قد هرب من بلاده خوفاً من غضب أبيه عليه لما كان من معارضته إياه في إصلاحاته، ولم يزل به ذلك الوزير الماكر يغريه ويمنيه، ويستعين عليه سراً بخليلته، حتى عاد به إلى روسيا حيث أسلمه إلى الموت نكال أبيه، وجزى بطرس رسوله بالمال والضياع المترامية. ومما يروى عن القيصر العظيم انه في أواخر أيامه كان يمس بكفه رأس وزيره قائلاً: (أيها الرأس. . .! أيها الرأس، لولا ما أنت عليه من مهارة لمضى اليوم زمن طويل على الإطاحة بك من فوق كتفيك).
ويأتي دوران الفلك إلى عرش روسيا بنجل اليكس بعد، فيكون أول ما يعنى به القيصر(709/26)
الجديد ان يقتص من ذلك الذي خدع أباه حتى جره إلى مواطن الحتف، ولئن سقاه أمس جده الكأس عسلاً فإنه اليوم يجرعه إياه علقماً، فقد جرده من القاب شرفه ونفاه إلى اركينجل نفياً لم تكن منه عودة. . .
على أن ذلك الفلك الدوار يضع على العرش عام 1741 القيصرة اليزابت ابنة بطرس الأكبر فترد إلى أسرة تولستوي شرفها وضياعها في شخص اندرو ايفانوفتش تولستوي حفيد ذلك الذي قضى نحبه في اركينجل.
وينمو من هذا الفرع الجديد السامق فرع هزبل رخو هو أبنه إليا تولستوي، فلقد كان ماجناً مستهتراً ضيق العقل، بسط يده كل البسط في ثروته العظيمة فبددها، ثم بدد بعدها ثروة زوجه الغنية، ولولا أن تداركه بعض ذوي النفوذ والثراء من أقربائه لحاق به سوء ما فعل، فبفضل هؤلاء عين إليا تولستوي حاكماً لقازان واستطاع أن يسترد بعض ما فقد. . .
ورزق حاكم قازان بغلام اسمه نيقولا، وترك له بعد موته ما بقي من أملاك الأسرة، وفي عهد نيقولا هذا وهنت ثروة الأسرة وهناً شديداً ولم تكن له يد في ذلك وإنما حدث هذا بسبب غيابه إذ أسره الفرنسيون، وكان لم يتجاوز الثامنة عشرة اثناء حملة نابليون على روسيا، وظل سجيناً بفرنسا حتى غلب نابليون على أمره فأطلقت سراحه جيوش الحلفاء الظافرة بعد دخولها باريس. . . ولم يجد نيقولا ما يرأب به ما تصدع ويصلح ما فسد خيراً من زواجه بات ثراء، وتم له ذلك بزواجه من ماري فولكنسكي العظيمة الثراء الكريمة المحتد.
وكان لأسرة فولكنسكي إلى الثروة وعراقة الاصل، الشمم والبطولة وقوة الروح واستقلال الرأي وصرامة العزم فتلك خلال ظهرت كلها أو بعضها في أفرادها، ومن هؤلاء ثائر اشترك في ثورة الديسمبريين وعوقب بالنفي ثلاثين عاماً في سيبريا حيث صحبته زوجته عن طوع، ومنهم ابن عم له خاض المعارك ضد نابليون في حماسة وبسالة اعجب بهما نابليون إعجاباً حمله على أن يرسل في طلبه وهو جريح أسير وعرض عليه أن يرد إليه حريته إذا قطع على نفسه عهداً إلا يحاربه مدة عامين ولكنه رفض هذا العهد في شمم وكبرياء. . .
وعرفت كذلك أسرة فولكنسكي بصلة النسب بين كثير من أفرادها وبعض ذوي المقدرة(709/27)
الفنية من المؤرخين والأدباء والنقاد والشعراء، وكانت تربط ماري كولكنسكي وشائج الرحم من بعد بشاعر روسيا الكبير الأكبر بوشكين.
وكانت ضيعة ياسنايا بوليانا من نصيب ماري فولكنسكي عند زفافها إلى نيقولاي تولستوي نالتها من أبيها كما نالت ذلك القصر الأنيق الذي استقرت فيه وزوجها عقب زواجهما، وكان ذلك القصر الأنيق الذي تستوقف الأعين أخشابه الزاهية اللون في وسطه ويمتد جناحاه الحجريان العظيمان يمنة ويسرة إلى مسافة بعيدة، يقع فوق مرتفع على مقربة من الضيعة. وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس سنة 1828 ولد فيه لك الغلام الذي يقف الآن وهو في الخامسة من عمره يطل من شرفته على الضيعة والنهر والغابات والقرية القريبة، ويذكر ما أخبرته به العمة تاتيانا في رفق وهو انه لم يعد بعده صغيراً وانه سيدخل حجرة الدراسة من غده فلا يبرحها إلا متى شاء معلمه أن يطلقه.
(يتبع)
الخفيف(709/28)
اكتبوا للأطفال
للأديب محمد سيد كيلاني
الشبان عندنا منصرفون عن كتب الأدب، وفيها زاهدون بل إن طلبة الجامعة ينظرون شزراً إلى قسم اللغة العربية، ويركبونه - غفر الله لهم - بالدعاية والسخرية.
ولا غرابة في ذلك فإننا لم ننشئهم تنشئة تطبعهم على احترام لغتنا القومية، وحب هذا التراث القيم من نظم ونثر. اجل!
لقد أهملنا تغذية عقول أطفالنا إهمالا شنيعاً في حين أن الأمم الأوربية اهتمت بهذا النوع من التأليف أنفقت في سبيل ذلك أموالاً طائلة.
1 - فرنسا:
وكانت فرنسا اسبق هذه الأمم إلى إخراج كتب للأطفال. ففي القرن السابع عشر جلس على عرش تلك البلاد الملك العظيم لويس الرابع عشر.
وفي عصره ظهر عدد كبير من الكتاب والشعراء، وألفت مسرحيات رائعة، ونهض غير واحد من الكتاب بالتأليف للأطفال، ونخص بالذكر منهم (بيرو) الشاعر المعروف والعضو بالأكاديما الفرنسية، فقد اخرج بعض القصص بأسلوب سهل وعبارة جذابة، بيد أنه استنكف أن ينسبها إلى نفسه فنحلها ابنه. ثم اخرج مجموعة (أقاصيص وحكايات الزمان الماضي) باسمه هو لا باسم أبنه كما فعل من قبل.
ومضى بعد وفاة (بيرو) زمن طويل لم يعن فيه أحد بإخراج شئ من أدب الأطفال حتى جاء القرن الثامن عشر فظهرت (لبرنس دى بومون) وكانت تزاول تعليم الأطفال في فرنسا فكتبت عدداً عظيماً من القصص، ولعل من أهمها قصة (مخزن الأطفال) ولكنها لم ترزق خيالاً واسعاً ولا أسلوباً قوياً، فلا عجب ان اندثرت حكاياتها ولم يبق منها شيئاً يذكر.
وفي ذلك القرن ظهر (جان جاك روسو) ونشر آراءه في تعليم الأطفال وتربيتهم فآمن بها كثيرون في فرسا وغيرها من البلدان. فقامت (مدام دي جلنس) (1746 - 1830) بتأليف كتب كثيرة للأطفال. وكانت تسير في تعليمهم على مبادئ (روسو). ولم تعن بتربية الخيال عندهم ولكنها حرصت حرصاً شديداً على سلامة أخلاقهم.
وظهر بين عامي (17471791) أديب كبير منح الأطفال قسطاً كبيراً من عنايته فأنشأ لهم(709/29)
صحيفة خاصة بهم أطلق عليها (صديق الأطفال) وقد عر هو نفسه بهذا اللقب. وامتاز بأسلوب في منتهى السهولة واللين. ولم يكتف بما في لغة بلاده بل نقل كثيراً مما ورد في لغات الأمم الأخرى. وبهذا استطاع أن سيد فراغاً كبيراً، وان يشبع رغبة الصغار في القراءة
ولم تشرق شمس القرن التاسع عشر حتى كثر عدد الكتاب الذين زاولوا هذا النوع من التأليف.
وفي القرن العشرين بلغ عدد ما يطبع سنوياً من قصص الأطفال بضعة ملايين، كما ان الصحف الخاصة بهم كثرت وانتشرت في كل مكان.
2 - إنجلترا:
ويغلب الظن على أن العناية بكتب الأطفال في إنجلترا بدأت بعد ظهورها بفرنسا. فأنشأ (نيو بري) مكتبة خاصة للأطفال حوت كثيراً من الكتب التي تستهوي أفئدتهم، ومن بينها قصص الفت عن خرافات العصور الوسطى. ولما سرت تعاليم (روسو) و (لوك) وغيرهما من المفكرين إلى بلاد الإنجليز تأثر بها كتابهم إلى ابعد حد. ولا شك في أن (توماس داي) كان من اعظم كتاب الإنجليز تأثراً بتعاليم (جان جاك روسو) وقد ألف للأطفال قصة دعاها (ستانفورد ومرتون) تدور حول غلام سيئ الأخلاق والتربية يدعى (توماس مرتون) وهو من أب إنجليزي هاجر إلى الهند وأثرى ثراء عظيماً. ولما رجع إلى بلاده نشأت صداقة بين ابنه هذا وبين ابن أحد جيرانه وهو (هاري ستانفورد) وكان حسن الأخلاق طيب التربية بفضل تعاليم قس القرية (المستر بارلو) ولما فطن والد (توماس) إلى حقيقة هذا الأمر ناط بهذا القس تعليم ابنه وتهذيبه. فنتج عن هذا ان اصبح الصبي (توماس) صالحاً لا عوج في أخلاقه.
وظهر بعد (توماس داي) كتاب كثيرون منهم (دي فو) مؤلف قصة (روبنصن كروزو) التي نالت شهرة واسعة ونقلت إلى جميع لغات العالم وقام في كثير من البلدان الأوربية من قلدها ونسج على منوالها.
ولد (دي فو) سنة 1660 وتوفي سنة 1731 واشتغل بالتجارة ولكنه أصيب بالفشل. واشتغل بغير التجارة فصادفه الإخفاق التام. وكان مشغوفاً بالسياسة فاصدر في عام 1703(709/30)
نشرة أغضبت ملك الإنجليز فأمر بإلقاء القبض عليه ومحاكمته. وأخيراً اضطر إلى مغادرة لندن والالتجاء إلى الريف. وهناك كان يقضي وقته في الكتابة والتأليف. وفي سنة 1719 اخرج هذه القصة الشهيرة.
ثم ظهرت قصة رائعة أخرى وهي (أسفار جوليفر) لمؤلفها (سويفت) وكان هذا الكاتب فقيراً جداً. وحاول ان يشتغل بالسياسة ولكنه لم يفلح فاضطر إلى الرجوع إلى موطنه الأول أيرلندا وفي سنة 1729 اخرج هذه القصة في أسلوب مشرق الديباجة.
ثم تتابعت قصص الأطفال في إنجلترا. ومن اشهرها (أليس في بلاد العجائب) لمؤلفها (لويس كارول) (1865) و (بيتر بان) (26 ديسمبر 1904) وغيرهما مما لا يتسع المجال لذكره. وظهرت صحف يخطئها العد لأطفالهم دون سواهم. وقد ساهم في تحريرها الأطفال من الأمراء والنبلاء.
3 - في الأمم الأخرى:
وقد تسابقت الأمم الغربية الأخرى في هذا المضمار وقطعت فيه شوطاً بعيداً. فأنشأت أمريكا مكاتب عامة للأطفال ووكلت أدارتها إلى فريق منهم. وتطبع في أمريكا ملايين القصص في كل عام، وتصدر مئات الصحف التي يشرف عليها الأطفال وتدبجها أقلامهم.
واهتمت فنلندة وغيرها من أمم شمال أوربا بأدب الأطفال كل اهتمام. وامتازت قصصهم بخيال خصب، ترى عليها مسحة من الهزل والطرافة، ولوناً من الحزن يقربها إلى نفس. وممن برع من كتاب أهل الشمال في هذا الباب الأديب الفنلندي (اندرسن) الذي ولد عام 1805 وتوفي عام 1875. ومن خير كتبه التي أخرجها للأطفال قصة (ملكة الثلج).
ولم يقصر أهل الجنوب في هذا الميدان، بل أعطوه قسطاً كبيراً من عنايتهم. وقد كان لقصص الأطفال أكبر تأثير في العمل على وحدة كل من إيطاليا وألمانيا. وامتازت قصص أهل الجنوب بالدرس والتحليل والبحث والتمحيص، وتحكيم المنطق في كثير من الأمور، فلم يكن للخيال عندهم نصيب مذكور.
4 - في الشرق:
أما في الشرق فلم يعن أحد بالاتجاه في هذه الناحية. وذلك لتفشي الأمية وعم العناية بتثقيف(709/31)
النشء. وبقيت هذه الحال حتى عام 1928 إذ قام في مصر الأديب المعروف الأستاذ كامل كيلاني فأوقف مجهوده ووقته لخدمة الأطفال فأخرج في ذلك العام قصة (جوليفر) في أسلوب سهل وضبطها بالشكل وحلاها بكثير من الصور فصادفت رواجاً كبيراً شجعه على نقل غيرها من روائع الغرب. ثم اتجه هذا الأديب إلى ما ورد في اللغة العربية من نفائس القصص فبسطها وحذف منها ما لا يتفق مع عقليات الأطفال وأذواقهم فبدت شائقة جذابة، وانتشرت في أنحاء الشرق العربي كما ترجمت إلى جميع اللغات الشرقية وبعض اللغات الأوربية وعلى هذا يمكننا أن نقول أن الأستاذ كامل كيلاني قد سد فراغاً كبيراً كان من الضروري أن يسد، ووضع أساسا صالحاً لأن نشيد فوقه بناء لا يتطرق إليه الخلل.
فمما لا شك فيه أن أدبائنا الذين حصروا أنفسهم في الأدب العالي قد شيدوا الجدران والسقف قبل ان يضعوا الأساس. وهذا هو السر في إعراض شبابنا عن قراءة كتب الأدب وانصرافهم إلى الروايات التافهة الساقطة التي تنقل عن الغرب.
محمد سيد كيلاني(709/32)
الأدب والفن في أسبوع
تراجم جديدة للقرآن:
ظهرت أخيراً ثلاث تراجم للقرآن الكريم، الأولى باللغة الإنجليزية، وقد قام بهذه الترجمة الشيخ عبد الله يوسف من رجال المفوضية السعودية بالولايات المتحدة، واشرف على طبعها الشيخ خليل الرواف، وتقع هذه الترجمة في مجلدين يشتمل كل منهما على ألف وخمسين صفحة. والثانية باللغة الفرنسية، وقد قام بطبعها المستشرق (ريجيس بلاشير) أستاذ الأدب العربي في معهد الدراسات الإسلامية بباريس، ومؤلف كتاب (نقاد المتنبي).
والثالثة باللغة الأسبانية وقد قام بها الأستاذان (سيف الدين رحال) و (ستنيا غوم بير الله)، وتقع في ثلاثة أجزاء، وقد كتب المترجمان للترجمة عدة مقدمات باللغتين الأسبانية والعربية تناول فيها أعجاز القرآن وتاريخ الأنبياء وروح الإسلام وما تضمنه القرآن من نظريات في العلم والاجتماع والعمران.
وللقرآن تراجم كثيرة في كل لغة، ثم هو لا يزال مقصد المترجمين وموضع اهتمامهم، ونحن نذكر انه منذ سنوات قامت ضجة كبيرة في مصر بين العلماء حول ترجمة القرآن، ونذكر أن الرأي اتجه يوم ذاك إلى ما سموه بترجمة معاني القرآن، ووضع مشروع رسمي لهذا، والفت لجنة من المختصين لتضطلع بهذه المهمة، وارصد لها المال اللازم في ميزانية الدولة، وقالوا إن هذه اللجنة باشرت عملها فعلاً، وانتظرنا، ثم انتظرنا، والى اليوم لم نر أي اثر لهذه الكلمة ولم نسمع أدنى خبر عن تلك اللجنة!! ولسنا ندري ما الذي عطل ذلك المشروع وعاق سبيله.
إن ترجمة القرآن، أو معاني القرآن كما يقولون أصبحت ضرورة لازمة وواجباً يتحتم علينا أداؤه، وإن من المحتم أن تكون هناك ترجمة مقومة مصححة ينهض بها علماء ثقاة في علوم القرآن إدراك أسراره، ويجب أن تكون هذه الترجمة بجميع اللغات الحية الذائعة، أما نظل جامدين، ونترك الباب مفتوحاً للمستشرقين ولغيرهم من أصحاب الجهود الفردية يترجمون القران كما يشاءون وعلى قدر ما يفهمون فإننا لا شك نجني على القران الكريم بجمودنا وإهمالنا. وإذا كان الأزهر - وهو أكبر جامعة إسلامية - لم يستطع أن ينهض بهذا، ولم يمكنه ان يمضي في ذلك المشروع الذي وضع من قبل، فإن لنا كبير الأمل في(709/33)
الجمعة العربية أن تجعل هذه المهمة ضمن غايتها الثقافية.
مصر التي علمت العالم:
أشرنا في عدد سابق إلى وصول الأديب الفرنسي الكبير (جورج ديهاميل) إلى مصر، وقلنا أنه سيذيع في مصر عدة محاضرات ثقافية، ونقول اليوم انه ألقى فعلاً ثلاث محاضرات كلها إشادة بالثقافة الفرنسية وتمجيد لآثارها في الفن والأدب وخدمة الإنسانية، ولكن أسلوب (ديهاميل) الرائع البارع يضفي عليها جدة وخلابة، وقد عرض (ديهاميل) في إحدى محاضراته هذه إلى الحديث عن مصر القديمة بأسلوب طلى فقال:
(قلما تدهشني مناظر الأرض حين أراها من عل. حقاً إنها تبدو في هذه الحال غريبة بمقتضى مقاييسنا الإنسانية، وكثيراً ما أكون كلفاً بهذه الجغرافية المجردة، ولكني لا أتأثر بها إلا نادراً، ومع ذلك فقد شعرت بتأثير لا شك فيه عندما تكشفت لي دلتا النيل فجأة، بعد أن أمضيت ساعات فوق صحراء جرداء عابسة. ولست اعزوا هذا التأثير إلى شعوري باني استعدت مرة أخرى الحياة والخضرة وهما رمز الرجع الأبدي، كلا! فإن الذي هزني وغير إحساسي فجأة أن ألمح هكذا وبنظرة واحدة بعد التنقل من حال إلى حال، إحدى البقاع المقدسة التي انبعثت منها حضارة الغرب، وهي مصر. . .)
(لقد تشكلت هذه الحضارة وتهذبت في بطأ على ضفاف النيل، ثم انتشرت - كمياه النهر الكبير - في شرق البحر المتوسط، فبلغت الجزر، وامتدت إلى أسيا الملساء، وغزت شيئاً فشيئاً كلما سماه (فاليري) بحق: قارة البحر المتوسط، ومن هذا المكان قفزت إلى أوربا كلها ومن شواطئها وثبت إلى القارات الأخرى ثم تهذبت هذه الحضارة تهذيباً واسعاً على ممر الأيام، وظلت مصر التي كانت لها في العهد القديم مكانة مرموقة وهي غريبة عن أجيالنا، فقصارى القول أنها ظلت في الظاهر - على الأقل - بعيدة عن الإسهام في بناء القريب الذي كرست له كل شعوب الغرب جهودها).
(ولكن مصر البدائية هذه التي تبدو لنا غامضة كالطلسم، والتي يتعذر فهمها على الرغم من جهود العلماء التي تبعث الاعجاب، قد علمتنا درساً كبيراً في الماضي، ولا تزال تعلمنا هذا الدرس إلى اليوم، والى أخر الدهر، هذا الدرس الذي يخطئ هذا المجتمع المتحضر كل الخطأ إذا هو غمطه، فقد أرتنا منذ بداية تاريخ أن من أهم ما يجب على الإنسان أن يجاهد(709/34)
من اجله، هو أن يستخلص من النسيان شيئاً، وان يخلف من شخصه أو من جهده أثراً خالداً. وكثيراً من الناس يشيرون في كل وقت إلى الخلود والأبدية، ولكن كثير منهم لا يفرقون بين الخلود والابدية، فهم حين يستعملون هاتين الكلمتين اللتين تبعثان في النفس الرهبة والخشية إنما يعربون في بساطة ساخرة أو مستترة عن اعتقادهم فانون، وعن رغبتهم كذلك في أن يظلوا أحياء بعد موت غيرهم، ان لم يكن بأشخاصهم فلا أقل من أن يكون بأثر من آثارهم يحيي ذكراهم بعد مماتهم. .).
(. . ذلك هو الدرس الذي تلقيه علينا مصر القديمة، وقد عرفته من أول زيارة لها، فابهرني وأنا انظر من أجواء عالية فأرى النهر القديم ينساب في جلال بين آثار إنسانية باقية. ولا شك عندي أن أكثرها دواماً وخلوداً تلك التي خلفها لنا الألى لا نكاد نعرف عنهم شيئاً إلا انهم دفنوا أحقادهم وكل أمر يدعو إلى الخصام. .).
كتاب له قصة:
في العدد السابق من (الرسالة) أشرت إلى ما نهض به السيد محمد كرد علي بك في نشر وتحقيق كتاب (المستجاد من فعلات الأجواء) للمحسن بن علي التنوخي، واشتدت بهذا الصنيع على أنه مأثرة حميدة في خدمة التراث العربي، وبعث آثاره المطمورة، ووصل حلقاته المفقودة.
وقد حدثني الأديب الفاضل بقصة عجيبة غريبة عن نشر هذا الكتاب: (لقد كانت الفكرة في هذا فكرة الأديب الباحث السيد صقر، فهو الذي جمع أصول الكتاب وقام بتصحيحه وتحقيقه، وتأهب لنشره، وأعلن لذلك في الصفحة لأهل العلم والأدب، وكان قد التقى في العام الماضي بالسيد كرد علي بك واطلعه على هذه الغاية، وطلب منه ان يفيده بما لديه من خبرة في ذلك. . ومضت ايام، وبينما الأستاذ صقر ماض في خطته إذا بنبأ من الشام يقول حسبك، فإن الأستاذ كرد علي قد قام بنشر الكتاب. وان أخانا صقر لحائر فلا يدري ماذا يصنع؟ أيصرف نفسه عن هذه الغاية على ما بذل في الكتاب من جهد وعناء، أم يقول بنشر الكتاب وفيه ما أسدى وأفاد)
قلت إنها قصة تروى. . وإني لأعرف من أمثالها كثيرات، ولكن أقول ما قال (الجاحظ) من قبل (ولولا ان أكون عياباً، وللعلماء خاصة، لأريتك من هو أبو عبيدة، ومن هو في وهمك(709/35)
ابعد من أبي عبيدة).
فحسب أخينا الأديب صقر ما قدم، ولعله يحتسبها إحدى (فعلات الأجواد) وان كان صنيع شيخنا كرد علي ليس (بالمستجاد) وان مما يروى عن أبي عبد الله بن الزبير انه دخل على معاوية فأنشده لنفسه.
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضميه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
ثم دخل معن بن أوس وانشده قصيدته التي مطلعها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول
حتى أتى عليها وفيها البيتان السابقان بلفظهما، فاقبل معاوية على عبد الله بن الزبير الم تخبراني انهما لك! فقال: نعم، هو أخي من الرضاع، وأنا أحق الناس بشعره!. .
حرية الرأي والحكومة:
اخرج الأديب اللبناني الأستاذ (مارون عبود) كتاباً بعنوان (الرؤوس) تناول فيه العرب وعاداتهم وتقاليدهم وطرق معيشتهم وأوضاعهم بأسلوب سفساف، تجاوز الحق والأنصاف
وقد تناولت إحدى المجلات (السورية) هذا الكتاب بالنقد، فوصفته بأنه (باطل جريء في لفظ بذيء)، ونعت على مؤلفه أن يشوه الحقائق استجابة لنزعة طائفية ممقوتة، ثم قالت: (ونحن نلفت نظر حكومة لبنان الرشيدة إلى ان الحرية لا تمنح إلا ضمن إطار محدود ومقيد فمجال الأدب والأديب يتسع لكل قول لأن الأدب والأديب ليس وقفاً بين حدود طبيعية، ولكن العناصر والأجناس والأديان والرسل لها مكانها التي يجب أن تحفظ ويجب بالتالي أن يراقب كل ما يكتب بشأنها)!
وأنا أقول كلا، فإنه مهما كان من إسفاف الرأي وضلاله، وتهافت الحكم وانحلاله، ومهما كان من المؤلف في التجاوز والشطط والخلط، فلا يصح بحال ان نستعين عليه بالحاكم ليردعه، وبصاحب السلطان ليقنعه، وإلا كان هذا اعترافاً منا بان للرأي الفاسد قوة تمكنه من البقاء، وتستحق منا كل هذا العناء.
لقد كان (ابن الراوندي) اشد إسفافاً وأحط صنيعاً، فكان يصبح مع المسلمين، ويضحي مع النصارى، ثم هو في الظهيرة مع اليهود، وفي المساء مع المجوس، ولا ادري مع أي طائفة(709/36)
يكون في الليل، وكان يؤلف الكتب لكل فرقة هواها، فكان يلعن كل دين، ويطعن في كل نبي، ويصب على رؤوس الأجناس والعناصر السباب والشتم، ومع هذا كله فقد وسعه الإسلام بسماحته، واحتمله الحكم الإسلامي وهو في عنفوان صولته، ثم مات (ابن الراوندي)، وطارت كل اثاره ومؤلفاته هباء في الهواء، ولو كان منها شئ ينفع الناس لمكث في الأرض. .
ليس للفكرة التافهة أي ضمان للبقاء إلا إن نأبه بها، ولولا أن (ابن الخياط) رد على (ابن الراوندي) في كتاب (الانتصار) وتناولت أراءه بالتفنيد، لما بقى ظل لتلك الآراء على الأرض، فهل تريد الزميلة السورية أن تجعل (لرؤوس مارون عبود) رجع الصدى فهيبة بالحكومة اللبنانية لتمحيصها ومحاسبته عليها؟
فن وتجارة!. .
أرسل الأستاذ يوسف وهبي بك بوصفه نقيباً للمثلي المسرح والسينما البرقية التالية إلى معالي وزير الشؤون الاجتماعية نشرها بنصها وبلغتها: (نقابة ممثلي المسرح والسينما بالقاهرة تهيب بمعاليكم أن تدرءوا عن صناعة السينما المصرية ومستقبل الآلاف المشتغلين بها الخطر الداهم من جراء السماح للشركات الأجنبية بعمل نسخ من أفلامها الناطقة باللغة العربية. إن المنافسة ستكون خطرة غادرة لعدم توازن القوة المادية والفنية بيننا وبينهم، فنستصرخكم لشد أزرنا بإصدار قرار يمنع عرض هذه الأفلام في دور السينما المصرية، أبقاكم الله درعاً لحماية الفن والفنانين!)
فأنت ترى من هذه البرقية أن نقيب الممثلين المرحين والسينمائيين يستصرخ ويستنجد ويغيث بمعالي وزير الشؤون الاجتماعية لمنع عرض (أفلام للشركات الأجنبية ناطقة باللغة العربية) لا لشيء إلا لامتيازها (المادي والفني) على الأفلام المصرية، مما يجعل المنافسة خطيرة، ويجني على مستقبل الآلاف المشتغلين بالسينما في مصر كما يقول حضرة النقيب.
والمعنى واضح لهذا الكلام أن ما يسمونه في مصر بالفن المسرحي والسينمائي ليس باباً للامتياز والإجادة والحرص على المثل الأعلى، وانم هو تجارة و (آكل عيش) لا اكثر ولا اقل ومتى صار الفن هو هذا. . . فكل شئ جائز، حتى ذلك الكلام الذي يقوله نقيب المسرحيين والسينمائيين.(709/37)
أننا لا ندافع عن الأجنبي بأية حال من الأحوال، ولو أن حضرة النقيب طلب إجراء بازاء الأفلام التي تذاع بيننا باللغة الأجنبية لظاهرناه في رأيه بدافع القومية على الاقل، ولكنه يطالب بمنع (أفلام ناطقة باللغة العربية)، ونحن نعرف ان الشركات الأجنبية بقوتها واستعدادها المادي والفني ستخدم اللغة العربية وستخدم الفن بيننا، وستكون منافستها داعياً للإجادة وللقضاء على ذلك الفن الرخيص الذي هو أشبه بسامر الطبالين في القرية. .
لا يا حضرة النقيب، فإن الفن اجل واطهر من أن يتدلى حتى يصبح مجرد تجارة وضماناً.
ولو صح هذا الكلام الذي تقوله لجاز أن يطالب الأدباء بمنع ترجمة المؤلفات الأجنبية لأنها تقضي على مستقبل آلاف من المؤلفين المصريين، يالها من حجة هي حجتك ومنطق هو منطقك!!. .
المسرح الشعبي:
انتهت وزارة الشؤون الاجتماعية من الاستعداد لإنشاء مسرح شعبي يقوم بعرض تمثيليات وأدوار تتصل بالحياة الشعبية في الأحياء الوطنية وفي أقاليم الريف.
والقصد من إنشاء هذا المسرح هو معالجة المشاكل الاجتماعية والخلقية بين طبقات العامة وجماهير الشعب بأسلوب من الفن يلائم مداركهم وعقلياتهم لغة وأداء وموضوعاً، حتى يكون اسهل في التأثير، وابلغ في التوجيه، وأجدى في الفائدة.
والفكرة في إنشاء هذا المسرح ليست بنت اليوم، ولكنها فكرة لجأت فرنسا إلى تحقيقها منذ زمن، وقد كان القصد من إنشاء هذا المسرح أن يكون درجة قريبة الصعود لطبقات الشعب، إذ كان التمثيل على المسرح الفني يجري بأسلوب رفيع، ويتناول موضوعات قوية عميقة المغزى، بعيدة على المدارك، فكان المسرح الشعبي أشبه ما يكون بمرحلة الأعداد للمسرح الأعلى، كمرحلة التعليم الابتدائي بالنسبة للثانوي، والثانوي بالنسبة للعالي
ولكن عندنا تجري الأمور معكوسة مقلوبة، فما يسمونه بالفن التمثيلي والسينمائي بيننا يجري منحطاً مع عواطف الجماهير، ويتدلى إلى ما هو أدنى من مداركهم، ونحن الذين كنا من قبل نهيب بهذا الفن أن يخفف غلوائه، وأن يقدر لأدراك الجماهير قيمة في حسبانه، أصبحنا اليوم نطالب بان يسمو الفن في مهمته واساليبه، وان يترفع عما تردى فيه من عامية منحطة في الأداء والموضوع. فمن مبلغ أولئك المسؤولين ان الفن عندنا جميعه قد(709/38)
اصبح شعبياً وان الذي نحتاجه هو الفن الرفيع المهذب الذي يسمو بالنفوس والعقول؟!
(الجاحظ)(709/39)
من هنا ومن هناك
الضريبة والحية:
(للأديب الصيني (لينزوإيو) (773 - 819))
كان في مدينة (بان جون) حية رقطاء، ما لدغت إنساناً إلا قتلته، وما مست نباتاً إلا أيبسته، وما عرف الناس اخبث من سمها ولكنه إذا استخلص وصب في قوارير كان دواء للجمرة وللبرص والجذام والناسور والطاعون.
ولما استفحل شرها، وعم ضرها، أعلن الملك أن من قتل حية فقدمها إلى طبيبه أعفاه من الضريبة فتسابق أهل البلد إلى جمعها واختصت بذلك أسرة (شيانج شي) فانقطعت إليه ثلاث بطون. ولقد لقيت واحداً من هذه الأسرة فسألته عن حاله فقال:
- (لقد قتلت هذه اللذة أبي وقتلت جدي من قبله، وأنا أمارسها منذ اثنتا عشر سنة، تعرضت فيها للموت غير مرة).
وبدت الكآبة على قسمات وجهه، وشاع الأسى في صوته، فرثيت له وقلت:
- لماذا لا تدعها إذا كان فيها الخطر، وتطلب من الحكام ان يأخذوا الضريبة منك؟
فقال - وهو يبكي بكاء موجعاً:
- أتريد أن ترحمني وتحييني؟ لا إن عملي هذا ليس شراً من دفع الضريبة - وانه يخيل ألي أني لولاه لم أبق حياً إلى الآن. ولقد مرت على هذه القرية ستون سنة ينقصون يوماً بعد يوم، إذ قد وجب عليهم أن يقدموا جميع ما تخرجه أرضهم، فكانوا لا يصبرون على هذا فيدعونها ويرتحلون، أو يسقطون جوعاً وإعياء. وتصيبهم الأمراض والأوباء. ومنهم من لا يستطيع اصطبارا فيجني الجناية فيأكل من حاصلات أرضه، فتفانوا وذهبوا، فلم يبق من الأسر التي عاصرت جدي واحدة من العشر، ولم يبق ممن عاصر أبي غير اثنين أو ثلاث - ولم يبق ممن عرفت أنا منذ اثنتا عشر سنة إلا أربع أو خمس - وأنا الوحيد الذي بقيت أسرته حية بفضل هذه الحية.
ولو أبصرت حين يصل إلى القرية الجباة الجابرون. فيملئون القرية صياحاً وضوضاء، ويهددون بالقتل أهلها، ولا ينجوا من شرهم الدجاج ولا الكلاب ورأيتني متباطئاً فأنظر إلى قدوري لأطمئن على وجود الحية - وحين أطعمها وأغذيها، وانتظر الموسم لأقدمها إلى(709/40)
الطبيب، ثم ارجع إلى بيتي فأكل من ثمرة ارضي مطمئناً لعرفت فضل هذه الحية علي.
على أني لا اقدم على الموت مخاطراً بحياتي إلا مرتين في السنة وأعيش أيامي الباقية عيشاً هنيئاً لا يشوبه هذا القلق الذي يتجرع القرويون غصصه طول السنة.
ولا ريب أني سأموت من هذا العمل يوماً من الأيام، ولكن اجلي يكون أطول على كل حال من أجال أهل القرية، فلماذا أتذمر من هذه المهنة واعدل عنها).
وحز في قلبي كلامه، وانصرفت وقد فهمت معنى قول كونفوشيوس:
(ان الحكومة الظالمة ارهب من النمر واشد افتراساً).
نور ناهين
مكافحة المسكرات عند قدماء المصريين:
بلغت الحياة الاجتماعية عند قدماء المصريين درجة عالية من الرقي، فالمصادر التي تحت ايدينا من النقوش والنصوص تدل على ان المصري كان كثيراً ما يقيم الولائم لاصدقائه وجيرانه في داره وان الزوجة كانت تصحب زوجها في الحفلات الخاصة وفي الاعياد العامة حيث كان القوم يسمعون الموسيقى ويحتسون الخمر. وقد عثر علماء الدراسات المصرية القديمة على كثير من النقوش التي تصور المصري وقد غرس اشجار العنب والنخيل وغيرها لاكل ثمارها أو تحويل هذه الثمار إلى خمور لعلاج بعض الامراض.
وكانوا يضعون العصير في القدور أو جرار تسد سداً محكماً حتى لا يتسرب الهواء إليها ويكتب عليها اسم الملك واسم المكان وتاريخه وكان يذكر نوع الخمر للتمييز بين اصنافه المختلفة.
وعلى مرور الزمن اخذوا يستعملون الخمر في غير ما وضعت له فبعد ان كانت دواء اصبحت داء. ففي احدى المقابر نرى صورة جميلة تمثل حالة سكير قد فقد رشده وخارت قواه وضعفت ساقاه، فحمله بعض الرفاق على رؤوسهم وعلى وجهه علامات التعب. وفي مقابر مدينة طيبة نرى صورة اخرى تمثل امراة ثملة تتقيا ما احتسته من الخمر. وفي بعض نصوص مقبرة الموظف (بحرى) نقرأ حديث لامراة تطلب من الساقى أن يناولها نبيذاً لأن جوفها قد جف (حرفيا: (صار كالقش)) ولعل هذه الحوادث وأمثالها مما حدا(709/41)
بالمشرع المصري القديم أن يوقع العقوبة على السكارى إذا ضبطوا في شوارع المدن.
فمن ذلك ما ورد في بردية أن أحد السكارى قاده رجل الأمن إلى السجن.
وقد عاون الأدباء رجال التشريع والأمن على مكافحة المسكرات فمن أن ذلك أن بعض أوراق البردى تحدثنا أن أديباً نصح ابه قائلا (لا تدخل حانة السكر وتفاخر أنك تستطيع أن تشرب ابريق نبيذ لئلا ينقل عن لسانك ما تقوله وانت لا تدري به. فاذا وقعت على الأرض انكسرت أعضاؤك ولا يمد أحد من رفاقك إليك يده، ويصيحون قائلين ابتعدوا عن هذا السكير).
وجاء في بردية اخرى ما ترجمته (السكير كمعبد بلا اله أو بيت بلا خبز أو سفينة بمجداف مكسور)
ومن هذا نرى أن مصر القديمة كافحت المسكرات بوسائل لا تختلف جوهرياً في الواقع عن الوسائل التى نتبعها في عصرنا الحاضر.
دكتور باهور لبيب
الإنسان الالى معجزة القرن العشرين
اخترع العلماء الأمريكيون في اواخر عام 1945 آلة حاسبة تستطيع أن تحل في خلال فترة قصيرة اعقد المسائل الحسابية التى كانت قبل ذلك تحتاج إلى ملايين من عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة، كما عرف العالم الخارجي أن تلك ألآلة الجبارة تضبط كما يضبط (المنبه) عندما يطلب إليها حل احدى المسائل الحسابية، وهذا كل ما يفعله الإنسان، اما الباقي فإن الآلة تتكفل به من تلقاء ذاتها، ولا تلبث أن تقدم النتيجة المطلوبة دون خطأ ما.
وقد تنبأ أحد العلماء الأمريكيين - وهو الدكتور فإنفرربوش مدير معهد الفنون والصناعة في ولاية ماساشوسيتس الأمريكية بأن هذه الالات ستتطور في المستقبل بحيث يتمكن الإنسان من أن يحصل منها على (حجج منطقية) خارج نطاق علم الحساب نفسه، ولكنه يعترف مع ذلك بان من المستحيل على كل حال صنع الات تستطيع ان تتمنى، أو تنتقد، أو تخترع.(709/42)
ويبدو ان لمثل هذا البحث اهمية قصوى في عصرنا هذا، فإن المشكلة الكبرى التي تواجه هذا العصر هي مشكلة الجماعات والجماهير، والعمل الجماعي بوجه عام، ولم يعد في هذا العالم مكان لاولئك الفلاسفة الارستقراطيين، من امثال (نيتشة) وغيره من فلاسفة اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين. ان العصر الجديد هو عصر الذرة، والرادار، والالكترون، وسيطرة الإنسان على الجماد، وعلى الطبيعة.
ولا شك ان الاعوام الباقية من القرن العشرين ستشهد انقلاباً عظيماً في عالم الاختراع لم يحلم به المفكرون والعلماء في القرن الماضي، وسيكون الاجزء الأكبر من هذا الانقلاب منصباً على الالات التي تكاد تصل إلى مرتبة الإنسان في القدرة على التصرف وعلى مجابهة الصعاب.
مجلة لامرسلييز
ادريان نوربيل(709/43)
البريد الأدبي
تقدير كريم لكتاب الرسالة الخالدة:
بعث سعادة الامين العام لرئاسة الجمهورية السورية الكتاب التالي:
الى مقام رئاسة مجلس الوزراء:
ظهر كتاب الرسالة الخالدة من تأليف المفكر العربي الغني عن التعريف عبد الرحمن عزام باشا (الرسالة الخالدة) وقد اطلع فخامة الرئيس على هذا السفر الجليل فالفاه طافحاً بالايمان القومي حافلاً بالفكرة الروحية التي قام عليها مجد الآباء والتي يهمنا ان تنتظم نفوس شبيبتنا في عصر طغت فيه المادة وضعف فيه الرادع الخلقي.
وان فخامة الرئيس يرغب إلى مقامكم ان تأمروا بان تقتني دور الكتب الحكومية والبلدية هذا السفر الجليل وان توصي المعاهد طلابها بمطالعته حرصاً على ان يعم الانتفاع به من الشبيبة والقراء، ولكم خالص الاحترام.
دمشق في: (1 ربيع الاول سنة 1366 - 23 كانون الثاني
سنة 1947)
الامين العام لرئاسة الجمهورية
انسى الازهر المراغي؟
انسى الازهر المراغي فلا يؤبنه بحفل، ولا يشيد به في جمع، ولا يخلده بمنشأة، ولا يذكره في مناسبة، وقد اخذ بيده هرماً، تحامل عليه الداء، واستبد به المرض؟. . .
لقد كان المراغي عالماً من طراز نادر، يجود به الزمان على قلة وبعد،. . . تعدى تفكيره سور الازهر وجوانب الدرس، وتخطى فهمه مماحكات العلماء ومجادلات القدامى، إلى ما يلائم تطور الزمن، ويساير تقدم الجماعة، ويتفق وطبائع البيئة، مستمداً من روح الإسلام السمحة، ومرونته العجيبة، قوانين توائم بين العلم والدين، وتؤاخي بين الفلسفة والشريعة، واحكاما تنير للناس ما غمض من قضايا، أو خفي من آياته. . . فلما توفاه الله إليه، كان اسوأ الناس ظناً بالعلماء ووفائهم، يؤمن بأن حفلة تأبينيه ستقام على الاكثر في يوم ذكرى(709/44)
الاربعين، وانها لن تكون بالمعنى الذي تواضع عليه الناس، انما تكون مهرجاناً دينياً يردون فيه إلى الرجل بعض ما اسدى إليهم من المعروف، وان فيضا من تخليده وتقديره سيتبع الذكرى، ولكن - وا اسفاه - مات المراغي، فلم يقم له حفل، ولم يذكره عالم، ولم يخلد له اثر!
من كان يظن ان رجلاً اقام جامعة، واحيا منصباً، وفتح بيوتاً، وهذب نفوساً، وصقل ارواحاً، وهز السياسة كما هز الاعواد المنابر، مات ومر على موته عام وبضع عام، ومع هذا فقد ضن عليه مريدوه، واصدقائه وخلصائه، وزملائه واخوانه، والذين نفعهم في الشدائد، بحفلة ولو متواضعة، في حي الازهر العتيق!. . .
والعجيب، ان الذين احسن إليهم المراغي في حياته، فبوأهم المناصب، وبلغهم المراتب، وصنعهم رجالاً. هم في طليعة محاربيه والداعين إلى نسيانه، واهالة التراب على ذكراه؟!.
عفاء على الوفاء عفاء. .!!
الطاهر أحمد مكي
حول (قطربل):
في العراق كثير من الاثار الجليلة لكثير من البلدان والقرى تحدثنا عنها كتب التاريخ والأدب باسهاب. . . منها ما طمست معالمها فلم تعد تظهر الا كتلول ومرتفعات. وما اكثرها في فيافي بين النهرين. . . ومنها ما لايزال ماثلاً للاعيان ينتظر جهود العلماء والباحثين ففي تظافرهم ما يسد هذه الثلمة المزرية في تاريخنا المجيد.
وقطربل واحدة من القرى ببغداد حدثنا عنها الأستاذ شكري محمود أحمد في العدد 704 من الرسالة الغراء حديثاً ادبياً ممتعاً. وقد ابدع في وصف جمالها الضاحك ومناظرها الفاتنة ما شاء له الابداع. ولكن شيئا واحدا لفت نظري في حديثه وهو قوله عنها: (قرية بين بغداد وعكبرا). فهذا القول لا يتفق والحقيقة وقد قاله قبل هذا ياقوت الحموي في معجم البلدان وعليه اعتمد الأستاذ كما اعتقد. . . وقد صحح ابن عبد الحق الحنبلي هذا الغلط الثابت واشار إليه في كتابه مراصد الاطلاع بقوله (قطربل. . . قرية. قال بين بغداد وعكبرا: قلتبين بغداد والمزرفة لأن عكبرا في الجانب الشرقي وهي في الغربي وبينهما فراسخ.(709/45)
واليها ينسب الطسوج التي هي فيه فيقال طسوج قطربل. . . وما فوقه الصراة من اسافل سقي دجيل فهو من طسوج قطربل. . .)
وبعد فلقطربل ذكر حميد في مختلف كتب التاريخ ولعل الأستاذ ان يعود إلى الحديث عنها باسهاب. وبذلك يسدي إلى التاريخ خدمة جلى تذكر فتشكر.
الكاظمية - العراق
محمد موسى الموسوي
1 - في اللغة:
اشاع بعضهم استعمال مثل: (جميل وجميل جداً) باقحام حرف العطف في التأكيد اللفظي.
وإذا عذر في تقليده الناشئون فلن يعذر الراسخون كالجارم والمدني.
قال الأستاذ الجارم في مقالته الخامسة في المعارضات في الشعر العربي المنشورة بعدد يناير 1947 من مجلة الكتاب الغراء:
(وغير هؤلاء كثيرون وكثيرون) أي كثيرون جداً. والوجه ان يقال: كثيرون كثيرون بلاعطف.
وقال الأستاذ محمد المدني في صفحة 18 من العدد الممتاز من الرسالة الغراء (6 يناير 47):
(إلى حد بعيد وبعيد جداً) والوجه: بعيد بعيد جداً، أو بعيد جداً بعيد - ان اراد -
2 - حاشرة (زنزانة):
وضع الأستاذ علي الطنطاوي في مقالة بعدد الرسالة الاخيركلمة حجيرة لزنزانة. والأستاذ الطنطاوي موفق فيما يضع من أسماء لمسميات لم تكن.
وقد كنت سميت الزنزانة باسم (حاشرة) واظن أنه أدل على المعنى من حجيرة الذي لا يفيد سوى التصغير.
ولعل الأستاذ والسادة الأدباء يوافقون على ذلك فيستعملونه.
فلسطيني(709/46)
الكتب
(يسألونك)
(للأستاذ عباس محمود العقاد)
ذلك كتاب قيم من أدب المقالة اخرجه الأستاذ العقاد يضيف به حلقة إلى سلسلة كتبه (الفصول) و (المطالعات) و (المراجعات) و (ساعات بين الكتب)؛ لأن هذه المقالات وان شابهت تلك الحلقات في الموضوع والحيز واسلوب التناول: (لاتدخل تحت عنوان من تلك العناوين لانها كانت على الاكثر اجوبة لاسئلة معينة يوجهها القراء إلى صاحب الكتاب، فهي نتخالفها في المناسبة وان وافقتها في موضوعها وخطتها وايثارها الجوانب العامة على الجوانب الشخصية) والكتاب يشتمل على خمسين مقالة في المسائل المتنوعة والاغراض المختلفة، عالجها الأستاذ الجليل بما تميز به من عمق الفكر واصالة الراي وتقصى الموضوع وبلاغة الاسلوب. وقد نشرته (لجنة البيان العربي) مطبوعاً في مطبعة مصر فاجتمع لهذا الكتاب قوة الانتاج وجمال الاخراج.
(م)
أمهات المؤمنين وأخوات الشهداء
(للسيدة وداد سكاكيني)
ليست السيدة (وداد سكاكيني) غريبة عن قراء الرسالة، ولا عن المتتبعين للحركة الأدبية النسائية في الشرق العربي. فقد كان لها جولات كثيرة موفقة في هذا الميدان الأدبي.
واخر هذه الجولات كتابها الذي نعرض له اليوم عن (أمهات المؤمنين واخوات الشهداء) وهو كتاب عرضت فيه لسيرة طائفة من فضليات النساء العربيات فوقفت عند ابرز صفاتهن، وجلت هذه الصفات مبينة عنها ممجدة لها، حاثة على الاتصاف بها والاقتداء فيها.
والكتاب في اربعة عشر حديثاً تناولت في كل حديث منه سيدة كريمة فبدات بام الزهراء، ثم أم المحسنين، فأم المؤمنين عائشة، فوفاء بنت الرسول زينب، فأخت الحسين، فذات(709/48)
النطاقين، فأم سلمة، فزينب الأسدية، فمارية المصرية، فالخسناء فسكينة، فأم معاوية، فأخت ضرار، ثم انتهت أخيراً إلى أم الامين السيدة زبيدة.
ولقد استطاعت المؤلفة الفاضلة أن تعرض مناحى العظمة في هؤلاء الفضليات من النساء في صور فنية لم تحل بينها وبين الحقيقة التاريخية فلم تخلع عليها من خيالها ما يحجب حقيقتها، ولم تسدل عليها من جمال الفن القولى ما يذهب بواقعها، وانما التزمت - كما تقول في مقدمتها - أن تمضى على طريقها التى جعلت سداها الحقيقة ولحمتها التاريخ.
وفضيلة الكتاب، فوق فضيلته في نفسه، أننا نحتاج الية اشد الحاجة في بيوتنا ومدارسنا. . أن بناتنا واخواتنا لا يجدن ما يقرأن في بيوتهن الا هذا الأدب الرخيص، وهذه المجلات التى لا تتقى الله في حرمة أو شرف أو اباء.
على انه لا بد من أن نلاحظ في اسلوب الكتاب على سموه بعض القسوة والتزمت، فقد كانت بعض الصفحات، وهي قليلة، كأنها ماء متجمد، على حين جرت صفحات أخرى، وهي كثيرة عذبة سائغة في طلاقة وبريق.
ولعل من ذلك أن المؤلفة الفاضلة كانت تنساق في سجع لا يملك الاذن، ولا يقع منها موقع الارتياح والرضا، وارجو الا أكون في ذلك متجنياً، فقد عهدناها طلقة الاسلوب بعيدة عن قيوده، ولكن هذا الذي وقعت عليه.
والثالثة من هذه الملاحظات ان الكتاب مجموعة احاديث القيت في المذياع، أو هكذا يخيل الي. . ولذا جاء اسلوبه وفيه هذا اللون الغالب من الخطاب وما يستتبه من بعض الصيغ الاخرى التي لايحس لها القارئ وقعاً طرياً بينه وبين نفسه.
القاهرة
شكري فيصل
مائدة السمر
(للأستاذ كامل محمد عجلان)
مجموعة اقاصيص طريفة نضدها الأستاذ عجلان فابان عن سعة اطلاعه وطول باعه. . . تنقسم المجموعة إلى قسمين عربي قديم ومدني حديث. . اما العربي فيجمع بضع اقاصيص(709/49)
عن شعراء من الاعراب ذكر المؤلف لكل منهم طرفة مليحة. ولكن يخيل إلى ان القارئ العادي الذي لايعرف العرجى واخوانه من الشعراء القدامى كان ينتظر من الأستاذ كامل نبذة صغيرة عن حياتهم؛ فما كل قارئ يقرأ الاغاني، ولا يضير هذا الأستاذ في شئ!
وفي غمار قصص الشعراء هذه كانت قصص اخرى عن بدو ليسوا من الشعراء. . من هذه القصص (السهم الطائش) ولا ادري ما الذي حدا بالأستاذ كامل ان يختار هذه القصة والمورد امامه ثر. . أي جمال يراه الأستاذ في قصة قاتل قتل عشيقته. . كم كان (السهم الطائش) غريباً بين (اجمل العالمين) و (مغفل وغانية) و (العذارى على الغدير) وغيرها من القصص الجميلة التي تجمع الرقة والمعنى في آن. غير ان هناك اقصوصة بل رواية من ثلاثة فصول عنوانها (الهارب من الحب). . محب باع حبيبته وكانت جاريته ثم رجعت اليه مرة اخرى. . موضوع جميل ولكنه صغير على رواية من ثلاثة فصول ننتقل مع اشخاصها من حجرة إلى حجرة ثم من بلد إلى بلد لنعرف نهاية متوقعة. ولو كنا رأينا في هذاالانتقال حادثاً أو شهدنا واقعة لهان علينا السفر الذي كان خلواً من أي شئ. . القصة جميلة والحوار جميل، ولكنه كان محتاجاً لشئ من الضغط.
لننتقل الآن إلى القاهرة لنشاهد (ست الملك في صحن الازهر). . . طريف هذا العنوان، يراه القارئ فيتوقع قصة شائقة جميلة؛ لكن الأستاذ كامل وفق إلى هذا العنوان دون ان يوفق إلى موضوعه إذ ليس في الامر قصة ولكن هناك حلماً. . كانت (ست الملك) موضوعاً انشائياً احسن اختيار عنوانه. كانت صدمة لي ان اجده في اول القصص الحديثة، واشفقت ان اجد بقية الاقاصيص على هذا النمط، ولكن. . . لم يكن الامر كذلك. هناك قصة بعد (ست الملك) تدل على ان القلم ناضج وان الاقصوصة الاولى كانت كبوة يتبعها القفز والارتفاع. . (قبلة عند باب الضريح) اقصوصة وصورة من اجمل ما كتب في هذا الباب. . وموضوعها السخرية من اولئك المشعوذين الذين يجلسون على ابواب الاضرحة يتخذون من الدين شراكاً وحبائل. بعد هذا نجد (عش من الحديقة). . قصة رمزية التوى بها الطريق فخرجت عن الرمزية، ثم التوى مرة اخرى فعادت وهكذا. . الحقيقة انها غير مفهومة ولعل الأستاذ كامل قصد بها صديقه (س) فحسب.
والأستاذ كامل دقيق الجسم سريع الحركة. وكلك هو في اسلوبه خفيف سريع التنقل يعتمد(709/50)
كثيراً على ذهن القارئ مما يكسب الاسلوب جمالاً ويرغم القارئ على المتابعة في يقظة ذهنية وديعة ومائدة السمر في مجموعها شهية احسن الأستاذ كامل تنظيمها، وانا لنرجوا ان يضاعف هذا الاحسان في المجموعة القادمة ان شاء الله.
ثروت اباظة
1 - اروع القصص
2 - قصص من الحياة
للكاتب الانجليزي شارلز دكنز
(تعريب الأستاذ محمد عطية الابراشي)
اختار الأستاذ محمد عطية الابراشي مجموعة من قصص الاديب الانجليزي (شارلز دكنز) واصدرها في جزأين تحت عنوان (المكتبة الثقافية).
وقد عنى الأستاذ الابراشي بتعريب هذه القصص؛ لما تهدف إليه من غايات اجتماعية، وما يتميز به أدب (دكنز) من معالجة كثير من نواحي الحياة القاسية في المجتمع.
يقول الأستاذ الابراشي (وقد دعاني إلى تقديم هذه المجموعة شغف بالتقويم الخلقي، وحب للاصلاح الاجتماعي، في مصر والشرق، وما رأيته من التشابه بين الامم في الاحوال الاجتماعية التي تحيط بها من حين لآخر، فالإنسان هو الإنسان في غرائزه وميوله، وما يتصل بشعب يتصل بآخر. وإني آمل ان يكون لها في مصر وجميع البلاد العربية من الاثر ما كان لها في إنجلترا من اصلاح اجتماعي وخلقي).
ونحن مع تقديرنا للاهداف الاجتماعية التي ترمي إليها هذه القصص، والدوافع الطيبة التي حملت الأستاذ الابراشي على اختيارها؛ ليكون لها من الاثر في مصر والشرق ما كلن لهما في بلاد الانجليز - نخالف الأستاذ فيما يراه من التشابه بين الامم في الاحوال الاجتماعية، والاتفاق في الغرائز والميول؛ فإن لكل أمة طبيعتها وخصائصها النفسية والاجتماعية.
على ان هذه القصص برغم ما تصطبغ به من الوان محلية، فتنها تمس الجانب الإنساني في كثير من العواطف المشتركة والشعور العام وتثير في النفوس كثيراً من عوامل العطف(709/51)
وارحمة إلى الفقراء والمحرومين.
وقد اصطنع الأستاذ الابراشي في تعريب هذه القصص اسلوب (المدرس) الذي يعنى بعرض الفكرة وابراز جوانبها في صورة بيانية، وعبارات مختارة (بحيث يجد القارئ ثروة فكرية، وخيالية، ولغوية، في كل قصة يقرؤها) كما حرص على ضبط كثير من الكلمات وتذييلها بالشرح والبيان.
محمد كامل حته
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
(للأستاذ عبد المتعال الصعيدي)
من الشعراء الذين ظلمهم التاريخ الأدبي ورماهم بالخمول فباءوا في الاعصر المتعاقبة بهذا الوزر، الكميت بن زيد، فقد اخذ عليه سبيل الشهرة شعراء ثلاثة استبدوا بالمحال وتفردوا بالعناية، وهم الفرزدق، وجرير، والاخطل، حتى كاد يغمره النسيان، والكميت في رأي المؤلف اعظم من هؤلاء الشعراء واحق منهم بالتقديم. وقد عز عليه ان يجني الجهل أو التجاهل أو التحامل على هذا الشاعر فشمر لانصافه، ورد حقوقه، والتمكين له حيث يجب أن ياخذ مكانه اللائق , فدرس هذا الشاعر وابان عن خصائصه الفنية، وصور لنا البية التي كان يحيا فيها - الكميت - وقد مهد لهذه الدراسة بهذه التمهيد الذي تناول فيه الأجتهاد في الأدب، وفتح الكميت في الشعر، وتعصب بني مروان عليه، وجمود الشعر في عصرهم، وتجديد - الكميت - وشهادة الفرزدق له، واثره في سقوط بني مروان وتناول حياته ومنزلته في الشعر، والهاشميات، واشعاره الاخرى ومناقضاته، ومؤاخذات - الكميت - ثم ختم هذه الرسالة بديوان الهاشميات؛ وهذا اجمل واحق ما يجب بذله ازاء هولاء الاشخاص الذين لامر ما وقف منهم التاريخ هذا الموقف الغامض الظالم.
محمد عبد الحليم أبو زيد(709/52)
القصص
روائع ملخصة من قصص الحب العالمية
1 - بول وفرجيني
للكاتب الفرنسي برنادين دي ساق بيير
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
حياة المؤلف:
(ولد في المدينة الهافر في فرنسا عام 1737، ولم بلغ الثانية عشر من عمره، رحل إلى جزر المارتينيك الامريكية فاثارت الرحلة في نفسه رغبة شديدة في دراسة نباتات المنطقة الحارة ولما اتم دراسته وتخرج في فن الهندسة، التحق بخدمة الجيش الروسي، مدة قصيرة، ثم رحل إلى جزيرة في المحيط الهندي، وكانت تابعة لفرنسا في ذلك الوقت، فافادته تلك الرحلة علماً. وعاد إلى فرنسا عام 1771 يعتنق اراء جان جاك روسو الحرة فيما يتصل بالحضارة وانها مفسدة لطبيعة الإنسان. وفي عام 1784 نشر ثلاثة مجلات تحت عنوان: (دراسات في الطبيعة)، قال عنها العلماء في عصره انها افكار شعرية اكثر منها افكار علمية، ولم تصادف ما كان يقدر لها من الانتشار.
وبعد سنوات قليلة نشر قصة (بول وفرجيني) فلقيت رواجاً عظيماً وعين بعد ذلك مديراً لحدائق النبات الملكية ثم أستاذاً للدراسات الاخلاقية. ولما احيل على التقاعد زمن نابليون بونابرت أجزل له العطاء فعاش سعيداً في عزلة شعرية، ورزق في هذه الفترة طفلة سماها (فرجيني) ولما بلغ سن الواحد والستين من عمره رزق طفلاً (بول). وعاش المؤلف بعدها إلى السابعة والسبعين ومات سنة 1814 قبل موقعة واترلو بسنة واحدةالانتقال حادثاً أو شهدنا واقعة لهان علينا السفر الذي كان خلواً من أي شئ. . القصة جميلة والحوار جميل، ولكنه كان محتاجاً لشئ من الضغط.
لننتقل الآن إلى القاهرة لنشاهد (ست الملك في صحن الازهر). . . طريف هذا العنوان، يراه القارئ فيتوقع قصة شائقة جميلة؛ لكن الأستاذ كامل وفق إلى هذا العنوان دون ان يوفق إلى موضوعه إذ ليس في الامر قصة ولكن هناك حلماً. . كانت (ست الملك)(709/53)
موضوعاً انشائياً احسن اختيار عنوانه. كانت صدمة لي ان اجده في اول القصص الحديثة، واشفقت ان اجد بقية الاقاصيص على هذا النمط، ولكن. . . لم يكن الامر كذلك. هناك قصة بعد (ست الملك) تدل على ان القلم ناضج وان الاقصوصة الاولى كانت كبوة يتبعها القفز والارتفاع. . (قبلة عند باب الضريح) اقصوصة وصورة من اجمل ما كتب في هذا الباب. . وموضوعها السخرية من اولئك المشعوذين الذين يجلسون على ابواب الاضرحة يتخذون من الدين شراكاً وحبائل. بعد هذا نجد (عش من الحديقة). . قصة رمزية التوى بها الطريق فخرجت عن الرمزية، ثم التوى مرة اخرى فعادت وهكذا. . الحقيقة انها غير مفهومة ولعل الأستاذ كامل قصد بها صديقه (س) فحسب.
والأستاذ كامل دقيق الجسم سريع الحركة. وكلك هو في اسلوبه خفيف سريع التنقل يعتمد كثيراً على ذهن القارئ مما يكسب الاسلوب جمالاً ويرغم القارئ على المتابعة في يقظة ذهنية وديعة ومائدة السمر في مجموعها شهية احسن الأستاذ كامل تنظيمها، وانا لنرجوا ان يضاعف هذا الاحسان في المجموعة القادمة ان شاء الله.
ثروت اباظة
1 - اروع القصص
2 - قصص من الحياة
للكاتب الانجليزي شارلز دكنز
(تعريب الأستاذ محمد عطية الابراشي)
اختار الأستاذ محمد عطية الابراشي مجموعة من قصص الاديب الانجليزي (شارلز دكنز) واصدرها في جزأين تحت عنوان (المكتبة الثقافية).
وقد عنى الأستاذ الابراشي بتعريب هذه القصص؛ لما تهدف إليه من غايات اجتماعية، وما يتميز به أدب (دكنز) من معالجة كثير من نواحي الحياة القاسية في المجتمع.
يقول الأستاذ الابراشي (وقد دعاني إلى تقديم هذه المجموعة شغف بالتقويم الخلقي، وحب للاصلاح الاجتماعي، في مصر والشرق، وما رأيته من التشابه بين الامم في الاحوال(709/54)
الاجتماعية التي تحيط بها من حين لآخر، فالإنسان هو الإنسان في غرائزه وميوله، وما يتصل بشعب يتصل بآخر. وإني آمل ان يكون لها في مصر وجميع البلاد العربية من الاثر ما كان لها في إنجلترا من اصلاح اجتماعي وخلقي).
ونحن مع تقديرنا للاهداف الاجتماعية التي ترمي إليها هذه القصص، والدوافع الطيبة التي حملت الأستاذ الابراشي على اختيارها؛ ليكون لها من الاثر في مصر والشرق ما كلن لهما في بلاد الانجليز - نخالف الأستاذ فيما يراه من التشابه بين الامم في الاحوال الاجتماعية، والاتفاق في الغرائز والميول؛ فإن لكل أمة طبيعتها وخصائصها النفسية والاجتماعية.
على ان هذه القصص برغم ما تصطبغ به من الوان محلية، فتنها تمس الجانب الإنساني في كثير من العواطف المشتركة والشعور العام وتثير في النفوس كثيراً من عوامل العطف وارحمة إلى الفقراء والمحرومين.
وقد اصطنع الأستاذ الابراشي في تعريب هذه القصص اسلوب (المدرس) الذي يعنى بعرض الفكرة وابراز جوانبها في صورة بيانية، وعبارات مختارة (بحيث يجد القارئ ثروة فكرية، وخيالية، ولغوية، في كل قصة يقرؤها) كما حرص على ضبط كثير من الكلمات وتذييلها بالشرح والبيان.
محمد كامل حته
الكميت بن زيد
شاعر العصر المرواني
(للأستاذ عبد المتعال الصعيدي)
من الشعراء الذين ظلمهم التاريخ الأدبي ورماهم بالخمول فباءوا في الاعصر المتعاقبة بهذا الوزر، الكميت بن زيد، فقد اخذ عليه سبيل الشهرة شعراء ثلاثة استبدوا بالمحال وتفردوا بالعناية، وهم الفرزدق، وجرير، والاخطل، حتى كاد يغمره النسيان، والكميت في رأي المؤلف اعظم من هؤلاء الشعراء واحق منهم بالتقديم. وقد عز عليه ان يجني الجهل أو التجاهل أو التحامل على هذا الشاعر فشمر لانصافه، ورد حقوقه، والتمكين له حيث يجب أن ياخذ مكانه اللائق , فدرس هذا الشاعر وابان عن خصائصه الفنية، وصور لنا البية(709/55)
التي كان يحيا فيها - الكميت - وقد مهد لهذه الدراسة بهذه التمهيد الذي تناول فيه الأجتهاد في الأدب، وفتح الكميت في الشعر، وتعصب بني مروان عليه، وجمود الشعر في عصرهم، وتجديد - الكميت - وشهادة الفرزدق له، واثره في سقوط بني مروان وتناول حياته ومنزلته في الشعر، والهاشميات، واشعاره الاخرى ومناقضاته، ومؤاخذات - الكميت - ثم ختم هذه الرسالة بديوان الهاشميات؛ وهذا اجمل واحق ما يجب بذله ازاء هولاء الاشخاص الذين لامر ما وقف منهم التاريخ هذا الموقف الغامض الظالم.
محمد عبد الحليم أبو زيد(709/56)
القصص
روائع ملخصة من قصص الحب العالمية
1 - بول وفرجيني
للكاتب الفرنسي برنادين دي ساق بيير
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
حياة المؤلف:
(ولد في المدينة الهافر في فرنسا عام 1737، ولم بلغ الثانية عشر من عمره، رحل إلى جزر المارتينيك الامريكية فاثارت الرحلة في نفسه رغبة شديدة في دراسة نباتات المنطقة الحارة ولما اتم دراسته وتخرج في فن الهندسة، التحق بخدمة الجيش الروسي، مدة قصيرة، ثم رحل إلى جزيرة في المحيط الهندي، وكانت تابعة لفرنسا في ذلك الوقت، فافادته تلك الرحلة علماً. وعاد إلى فرنسا عام 1771 يعتنق اراء جان جاك روسو الحرة فيما يتصل بالحضارة وانها مفسدة لطبيعة الإنسان. وفي عام 1784 نشر ثلاثة مجلات تحت عنوان: (دراسات في الطبيعة)، قال عنها العلماء في عصره انها افكار شعرية اكثر منها افكار علمية، ولم تصادف ما كان يقدر لها من الانتشار.
وبعد سنوات قليلة نشر قصة (بول وفرجيني) فلقيت رواجاً
عظيماً وعين بعد ذلك مديراً لحدائق النبات الملكية ثم أستاذاً
للدراسات الاخلاقية. ولما احيل على التقاعد زمن نابليون
بونابرت أجزل له العطاء فعاش سعيداً في عزلة شعرية،
ورزق في هذه الفترة طفلة سماها (فرجيني) ولما بلغ سن
الواحد والستين من عمره رزق طفلاً (بول). وعاش المؤلف
بعدها إلى السابعة والسبعين ومات سنة 1814 قبل موقعة(709/57)
واترلو بسنة واحدةالقصة:
اراد المؤلف من قصته الوصول إلى غايتين: الاولى تصوير تربة ونباتات المنطقة الحارة وما بينهما وبين اوربا من فروق. الثانية: ان يرسم صورة رائعة لمجتمع ساذج مثالي لم تعرف المدنية الطريق إليه.
الراوية: شيخ صادفه المؤلف خلال اقامته في الجزيرة موريتوس قال الشيخ:
في اوائل القرن الثامن عشر، عاشت سيدتان متجاورتان في بقعة قريبة من ميناء سانت لويس. كانت احداهما مدام دى لاتور، وهى ارملة شاب نورمندى، مات وهو يحاول ابتياع عدد من الرقيق في جزيرة مدغشقر، وكانت الاخرى شابة ريفية من مقاطعة بريتان واسمها مرغريت، فرت من مسقط راسها لتفتش عن عالم جديد لا يتصل علمه بزلة اقترفتها. ولدت للاولى طفلة سمتها (فرجيني) وولدت للثانية طفل سمته (بول). عاشت السيدتان في ود متبادل، تتعاونان على ما تطلبه الحياة من كدح مجهود.
شب الفتى والفتاة وفي نفسيهما شعور الاخ لاخت، ولما بلغا اشدهما كان في نية السيدتين تزويجهما وربط قلبهما برباط متين من قداسة الزواج، لولا أن حاكم الجزيرة اقترح ارسال فرجيني إلى فرنسا لتتابع دراستها عند اقربائها الاغنياء هناك. . . وقد اتفق الراي على ذلك ودنت ساعة الوداع والفراق.
دنت ساعة العشاء فالتففنا حول المائدة، وحالت العواطف المتباينة التى تعصف بنفوسنا بيننا وبين الطعام، إذ كان يلفنا صمت رهيب. . . وكانت فرجينى أول من ترك المائدة وتبعها بول وشكا، واتخذوا مجلسها تحت ظل هذه الشجيرات التى نتفيأ ظلها الآن وصمتا. . . وكانت الليلة نموذجاً رائعاً لليالي المناطق الحارة الساحرة التى يعجز القلم عن وصفها: فقد أطل القمر من السماء وعلى جوانبها هالة فتانة من غيوم مبعثرة موشاة باللجين؛ واخذ نوره ينتشر ويمتد إلى جبال الجزيرة، وبدت قممها البعيدة غارق في يم عميق من النور؛ وسكنت الريح، واخذت الاحراج البعيدة والوديان العميقة والقمم الصخرية الحالة تردد صدى اصوات جميلة من حناجر الطيور التى طفقت تتداعب في اعشاشها مرحة بما يضفيه عليها جمال الليلة من فرح وحنان ورغبة في الوجود. . .، وتلالات النجوم في(709/58)
محيطها البعيد مضطربة تبعث بنورها إلى الدنيا النائمة وكانها محبات يطفن بحبيب. . .
كانت فرجيني تتطلع إلى الأفق البعيد وكانها تفتش عن مجهول، فرأت على جبين الافق مما يلي الميناء انواراً حمراء مبعثرة على الشاطئ من قوارب الصيد، ورأت نوراً قوياً وقد وقف إلى جانبه خيال جسم كبير. . . فاعادها ما رأت إلى نفسها وايقنت ان ذلك الجسم الكبير ليس الا تلك السفينة التي ستفرق بينها وبين بول، فأدارت وجهها وهى تغالب ما لا تحتمل من آلام قلبها مخفية دموعها عن الذي تبكيه. وكنت انا ومدام دي لاتور ومرغريت غير بعيدين عنهما، وقد ساعدنا سكون الليل على الاستماع إلى ما دار بينهما من حديث مازال يعيش في ذاكرتي:
بول: لقد علمت بأنك ذاهبة عنا وشيكا إلى فرنسا، وكانك غير وجلة من اخطار البحر التي كان يرهبك مجرد ذكرها!؟
فرجينيا: انما هو واجب على يتطلب مني اطاعة اهلي.
بول: اتتركينا من اجل قريب بعيد لم تقع عينك عليه؟!
فريجينا: شد ما يؤسفني ان اكون مضطرة إلى ذلك! فوالدتي تدفعني إليه، والكاهن الذي اعتدت ان اعترف له قال لي: أنها ارادة الله، ولا بد من الذهاب، وأن الحياة مسرح للتجارب. . . ويا حسرتاه! ما أمر ذلك واوجعه في نفسي!
بول: ماذا؟! تجدين أسبابا كثيرة لتبرير ذهابك عنا، ولاتجدين سببا ًوأحداً لبقائك بيننا!! السبب الحقيقي لسفرك تذكريه! انه الثروة التى تغرى النفوس! أنك لواجدة في ذلك العالم الذي ستذهبين إليه الثروة والى جانبها أشخاصاً أكرم منى مولدا وأرومة وأسع ثراء، تستطيعين في سهولة ويسر أن تتخذي منهم أخا وصديقاً! شد ما يؤلمني أنني لا أستطيع أن أقدم إليك شيئاً من هذه الأمور! أتكونين أسعد منك الآن إذا تم لك ذلك؟! أى شاطئ ستذهبين إليه وتجدين اعز عليك من هذه البقعة التى فتحت عينيك على نور الحياة فيها؟ وأية مخلوقات في مقدورك ايجادها أحب إليك واحنى عليك منا! كيف تحتملين العيش بعيدة عن حنان أمك الذي اعتمدت عليه وماذا يكون شأنها، وقد تقدمت بها السنين، حيثما تتلفت لا تجدك على المائدة إلى جانبها، ولا تستعين بك إذا ما همت بالتحرك من مكان إلى مكان!! ماذا يكون حظ أمي من من اللوعة عليك وهي تكن لك أقوى العواطف وأخلصها؟! ماذا(709/59)
أستطيع من القول لهما وهما تجهشان في بكاء مرير موجع عليك؟! أما عن نفسي! فلا أقول لك شيئاً أيتها الظالمة! ماذا يكون مصيري حينما لا أراك في الصباح، ولا نتلاقى في المساء! وعندما أحدق في هاتين النخلتين اللتين غرستا يوم ولادتنا، واللتين بقيتا شاهدتين على ودنا الذي لا يزول!
ليس بمقدوري أن أثنيك عما اعتزمت! ولكن أليس في استطاعتك السماح لي بمرافقتك وركوب البحر إلى جانبك! سأحرسك من عواصف البحر وأحميك! سأضع رأسي على صدرك وأبعث الدفء من قلبي المحترق إلى قلبك الرحيم، وهناك في فرنسا سأكون خادمك الأمين، وإذا احتاجت سعادتك إلى حياتي فسأبذلها رخيصة تحت قدميك!
وما وصل إلى هذا الحد من الألم حتى غلبت عاطفته العنيفة لسانه عن الكلام فصمت. . . واستمعنا بعد ذلك إلى فرجينيا تتحدث إليه بصوت مرتجف تقطعه شهقات من بكاء عنيف مكبوت.
قالت فرجينيا: انني مغتربة لأجلك!؟ أنت الذي أراه يرهق جسده بالعمل المضني كل يوم ليقيم أود أسرتين بائستين! وإذا كنت قد قبلت هذه الفرصة لأكون غنية فذلك لأني أود أن أرد لك جميلك مضاعفاً ألف مرة! أتحسب أن كنوز الدنيا تعادل حبي وحنيني إليك! لماذا جرحت عواطفي بالتحدث عن نسبك؟ وإذا كان ممكنا أن أختار لي أخا، فهل تحسب انني اعدوك في الاختيار؟ انك يا بول لأعز إلى قلبي من الأخ والأهل جميعاً! كم جاهدت نفسي لأروضها على احتمال البعد عنك!، أعني على انتزاع نفسي من هذا المكان العزيز إلى كالحياة نفسها، إلى أن يبارك الله زواجنا حينما أعود إليك انني أستطيع احتمال كل لون من ألوان الألم والحرمان في الحياة ولكنني لا أستطيع احتمال منظر هذا الحزن العميق المخيم عليك!
وما كادت تتم فرجينيا حديثها حتى صرخ في ألم حزين وضمها إلى صدره وهو يصيح: سأذهب معك! لن تستطيع قوة في الدنيا التفريق بيننا!
واقتربنا منهما فقالت له مدام دي لاتور أم فرجينيا: يا بني! وماذا يكون مصيرنا إذا ذهبت معها؟
قال بول في صوت متهدج حزين يردد ما قالته: يا بني يا بني! انت الام التي تريد التفريق(709/60)
بيننا كيف تريدين ذلك وقد نشأنا اخوين لا نفترق ابداً كيف ترسلينها وحيدة إلى اوربا، إلى تلك البلاد غير الكريمة التي ظنت عليك بمأوى في الماضي! والى اقارب لم يسألوا عنك وعنها ابداً؟ في استطاعتك القول انها ليست شقيقتي وان ليس لي سلطان عليها انها كل شي لدي هي ثروتي، وحياتي، واسرتي. لقد جمعنا في في الماضي سقف واحد ومهد واحد، وسوف يجمعنا قبر واحد أيضاً! فاذا ذهبت فإني لاحق بها.
سيمنعني الحاكم من ذلك كما يخيل إليك. وهل يستطيع الحاكم من القاء نفسي في البحر؟ هل في مقدوره منعي من اللحاق بها سابحاً؟
سيكون البحر احب لي من اليابسة بعد سفرها علىمتن الامواج! وما دام قد قدر لي أن لا اعيش معها فلا اقل من أن اموت واغمض عيني وهي اخر ما ابصر في الوجود. ايتها الام الوحشية! ايتها المرأة التي لاتعرف الرحمة! ليت المحيط الذي تدفعين بها إليه لا يرجعها إليك ابداً! وليت الامواج التي تستعيد جسدي وجسدها إليك يثير مرآها عذاباً لاينقطع من تأنيب الضمير في قلبك الجلمود!
فاسرعت إليه وامسكت بذراعيه، لأن اليأس قد جرده من عقله، فقد جحظت عيناه، وتصبب جبينه عرقاً، واصطكت ركبتاه، واحسست بقلبه يخفق خفقاناً شديداً.
قالت فرجينيا: يا عزيزي بول! انني لأشهد أيام طفولتك الغالية والامك والامي، وكل ذكرى حبيبة يمكن ان تربط مخلوقين بائسين مثلنا، بأنني سأكون لك! انني لاسالكم ان تشهدوا أيضاً ايها الذين ربيتمونا منذ طفولتنا على ما اقول! وانت يا ربي الذي لم أدنس اسمه الكريم بالكذب كن شاهداً علي! وانت ايها البحر الذي ساعتلي متن امواجك، ويا أيها الهواء الذي املا رئتي منك - كونا شاهدين على ما اقول!
لقد عاد إليه هدوءه، فطأطأ رأسه على اثر سماع كلماته الحبيبة، وبكى بكاء مراً اختلطت دموعه بدموع امه التي اسرعت إليه تحتضنه وتردد صدى الامه بسيل من الدموع. ثم قالت له مدام دي لاثور: اني لااستطيع احتمال هذا، فلن تذهب ابنتي إلى فرنسا مهما كان الثمن الذي سادفعه. خذه معك إلى منزلك فلم يذق احداً منا النوم منذ اسبوع ونحن على مثل ما ترى من اللوعة والحزن والدموع. قال لبول: ان فرجينيا لن تسافر يا ابني، وغداً سنتحدث إلى الحاكم في امره ببقاءها. هيا بنا إلى منزلي واترك فرصة لاسرتك تذوق(709/61)
بعض الراحة، فقد انتصف الليل. استجاب بول إلى رغبتي متحاملاً على نفسه يجر رجليه خلفه وكأنما مربوطتان في جسم غيره وقضى الهزيع الاخير من الليل في نوم قلق متقطع. . . وعاد مسرعاً إلى اسرته عند بزوغ الفجر.
سافرت فرجينيا إلى فرنسا وادخلتها عمتها الغنية احدى المدارس، وبعد عامين اعدت لها زواجاً ملائماً رفضته الفتاة رفضاً قاسياً احتفاظاً بالعهد الذي قطعته على نفسها لبول. وما عتمت ان فرت إلى المحيط الهندي على ظهر سفينة كانت تقصد الجزيرة، وما كادت تقترب من الشاطئ حتى ثارت عاصفة اغرقت السفينة وغرقت مع الركاب فرجينيا التي كانت تطوي نفسها على اسعد ما تكنه النفوس من الفرح بلقاء بول ووالدتيها والجزيرة والشجيرات. وحاول بول ان يصارع العاصفة فيصل إلى السفينة قبل غرقها ولكن الموج رده إلى الشاطئ مهشماً محطماً، وما لبث ان مات ودفن إلى جانب فرجينيا في قبر واحد.
علي محمد سرطاوي(709/62)
العدد 710 - بتاريخ: 10 - 02 - 1947(/)
في ميدان عابدين.
شهد ميدان العابدين من أيامهم السود سيظلان في تاريخ الاستعمار عنوانين على الخزي واللعنة: يوم صحت أحلامهم فأخذوا يدخلون ويوم زلت أقدامهم فاخذوا يخرجون! أما اليوم الأول فهو التاسع من سبتمبر عام 1881 يوم وقف عرابي في ساحة القصر، ومن خلف الجنود، ومن خلف الجنود الشعب، يطلب من ولي الأمر في احتشام واحترام أن يسقط وزارة ويقيم وزارة. . .
وكان كلفن ابن جون بول واقفا بجانب الخديوي يشير عليه بقتل القائد الثائر فلما نبا (توفيق) في يد الحية، واستجاب لرغبة الأمة، قبض مشير السوء وسفير الاستعمار بكلتا يديه على ناصية الفرصة العجلى حتى لا تفوت، واخذ يزرع بين القصر والحكومة الزرع الخبيث، حتى فسد الأمر واستطار الشر، وعصفت رياح الفتنة. وحينئذ وضع الماكر الخداع يديه على قوائم العرش يوهم صاحبه إنه يمسكه، وهو الذي يحركه. ثم وجد من طغام الطابور الخامس من إعانة بالخيانة على جيش الثورة، فاحتل البلاد ونفى القواد وسيطر على الحكم!
وأما اليوم الأخر فهو الرابع من فبراير عام 1942 يوم وقف مايلز لمبسون حيث كان يقف عرابي، ومن ورائه فلول الدبابات التي طحنها روميل، يطلب من مليك النيل في صفاقة وحماقة أن يسقط وزارة ويقيم وزارة. . . ولكن جون بول في هذه المرة كان هواه مع الأعرابي لا مع القصر؛ فوضع الكرسي بازاء العرش، والطربوش بجانب التاج: ثم دفعه فجور النفس وفحش الضمير ان يقول لمصر وهو يقتحم أبواب القصر بباس الحديد: أيريد أن يحكم هذا الوزير أو لا يملك هذا الملك!!
كلمة مجرمة لم يقلها في ذلك اليوم البعيد عرابي الثائر، وإنما قوله إياها الكذاب ليحكم عليه بالمصادرة والنفي وعلى وطنه بالاحتلال والحماية! ولكن المجرم قالها في هذا اليوم القريب بلسانه البذيء وسلاحه الجريء، فنزت في الرؤوس نوازي الغضب، وثارت بالنفوس عواصف الحمية، وكاد الزمام يفلت من يد الحليم فيلتاث الأمر على إنجلترا لولا أن سبق في حكم الله أن الجبان يهزم الشجاع، وأن العصا تكسر السيف، وأن (العلمين) تدمر المانيا!
لقد أثار جون بول الجيش يوم عرابي، والجيش قد يهزم لأنه عتاد وعدد؛ ولكنه أثار الشعب يوم لمبسون، والشعب لا يهزم لأنه روح ومدد! وإذا دخل اللص منصورا وراء(710/1)
الجيش، فإنه سيخرج مدحورا أمام الشعب. وإذا كان في يوم الدخول قد وجد الخائن الذي تلقاه في التل الكبير، ودله على الباب الخلفي، وقاده إلى فناء القلعة؛ فلن يجد بعون الله يوم الخروج الا ألسنة تجري باللعن، وأرجلا تمتد بالركل، وأيديا تشير إلى جهنم!!
إلى القضاء يا مجرم!! إلى المحكمة التي أنشأتها سنختصم، وإلى القوانين التي سننها سنحتكم. فإذا كنت أنت وحلفائك جادين، فسيحكمون عليك بما حكمت به على عرابي؛ وإن كنتم هازلين فارتقب يوم ينذرك القضاء بحكم القدر، وتأخذك الصيحة الكبرى فلا تبقى عليك ولا تذر!
أحمد حسن الزيات(710/2)
على ذكر المولد النبوي:
محمد والأمن العام
لصاحب العزة علي حلمي بك
مدير جرجا
تمهيد:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر مروع الأمن مضطرب النظام تسوده الفوضى من جميع نواحيه: عصيبات جاهلية، ووأد للبنات، وارتكاب لأشنع المنكرات، سلب ونهب، وقتل وعدوان؛ تغير القبلية على الأخرى فتبدد شملها وتسلبها حرياتها ومالها وتعتدي على أعراضها فكان الحق للقوة الغاشمة والسيف المسلول. وبديهي ان يتبع هذه الفوضى انحلال في الأخلاق وإزهاق للنفوس وسلب للأموال وضياع للحريات. كل ذلك كان في جزيرة العرب. وما كانت الممالك المجاورة ذات المدنية والحضارة كالفرس والروم خيرا من بلاد العرب من هذه الناحية، بل كانت الحروب فيها قائمة يضطرم أوراها ويشتد لهيبها، وكان العالم يتردى في بؤر الفساد ويرقص على بركان ثائر ينذر بالحروب والويلات - لذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يقوم على إنقاص هاتين الإمبراطوريتينأمةأخرى فتية متوثبة متطلعة للنهوض، ولا ينقصها قوة الجنان ولا تأبه بخوض غمار الحروب للذود عن الإنسانية وأمنها. وقد ألفت التقشف واعتادت شظف العيش، وكانت هذه الشروط موفورة في أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيه من أولئك العرب الذين سما الإسلام بنفوسهم، حتى جعل منهم أمة أخرى لا شاغل لها إلا إعلاء كلمة الله وإصلاح أمور المجتمع الإنساني.
ولقد أعد الله هذه الأمة للنهوض بالعالم وتوحيد كلمته فأرسل من بينها رسولا عرف بالاستقامة والأمانة وحسن السيرة وقوة الشخصية وشرف المحتد وكرم الأصل، وكان لسلوكه الشخصي وسياسته الحكيمة وتأييده بالمعجزات الباهرة ما جعل من أخيارهم القلوب الواعية والآذن الصاغية (يؤتى الحكمة من يشاء ومن أوتي خيرا كثيرا) (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) فأوحى الله إليه بالقرآن الكريم فكان هو الدستور(710/3)
العام لكل ما فيه سعادة المجتمع وخاصة للأمن والنظام والسلام لما اشتمل عليه من قواعد العدل والرحمة والحرية حتى صار دستورا يعمل به في كل جديد من مختلف العصور. لم يأت (مؤتمر سان فرنسيسكو) وغيره من الهيئات التي تحاول وضع مبادئ للحرية والسلام والأمن الدولي بشيء أفضل من مضمون هذا الدستور الإلهي وتطبيق مبادئه السامية عملا بالإشارة التي جاءت بالآية الكريمة (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين) فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أهم مقاصدها هداية الخلق وحقن الدماء ونشر السكينة والسلام. فبعد أن تمت له الهجرة وبلغ الرسالة ربه كانت الحكومة في عهده قائمة على العدل والحرية والإخاء المستمد من هدى القران الكريم ولم يستعن فيها النبي بعسس ولا شرط للمحافظة على الأموال والأنفس والثمرات. وكان مما يساعد على ذلك:
1 - الهيبة التي كان يتمتع بها صلى الله عليه وسلم؛ فقد ملأت قلوب المؤمنين والكافرين والمنافقين على السواء، وقلما كانت نفس المجرم أو قاطع طريق تحدثه بارتكاب ما حرم الله لما غشيهم من خشية الله وهيبة رسوله وقد روى أن أعرابيا دخل عليه صلى الله عليه وسلم فارتاع من هيبته فقال له: (خفف عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد).
2 - إن الناس في الصدر الأول من الإسلام ما كادوا يتلقون الدعوة ويدخلون أفواجا في دين الله حتى فاضت قلوبهم بتقوى الله ورهبته وقلت الجرائم التي كانت ترتكب في الجاهلية. وأصبح كل إنسان على نفسه حسيبا ورقيبا، فمن ارتكب جرما في السر أو العلانية سارع إلى الاعتراف للمصطفى صلى الله عليه وسلم بما ارتكبه فكان الجاني شرطي نفسه. روى ان رجلا أتى النبي فقال هلكت يا رسول الله! فقال ما أهلكك؟ قال أصبت امرأتي في نهار رمضان قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ ومن أجل ذلك كان واجب الحاكم سهلا هينا، غير إن طبيعة البشر الطغيان، والظلم من شيم النفوس، والنفس أمارة بالسوء، فوجب الردع والزجر استئصالا للفساد وتثبيتا للإصلاح. ولذلك قال جل شأنه: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو(710/4)
تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض).
وقد رمت الشريعة الإسلامية فيما جاءت به إلى المحافظة على الدين والنفس والعرض والعقل والمال وتلك أقصى غايات السعادة في الدين والدنيا، فمثلا للمحافظة على الدين حرم الكفر والإلحاد وشرعت الصلاة والعبادات، وللمحافظة على النفس حرم القتل والانتحار. وللمحافظة على العرض حرم القتل والزنا. وللمحافظة على العقل حرمت الخمر ونحوها. ولمحافظة على المال فرضت الزكاة وحرم الميسر والسرقة.
وسنتكلم فيما بعد عن التشريع الجنائي الذي كفل تحقيق هذه الأغراض.
القواعد الأولى التي وضعتها الشريعة الإسلامية لصيانة الأمن
العام
تتلخص في أن تصان النفس البشرية من العوامل التي تحملها على الإجرام وذلك:
أولا - بتهذيب النفس بالوعظ والإرشاد وإقرار العقائد الصحيحة التي تنير القلب وتجعله في شغل دائم بمراقبة الخالق والخوف من عقابه واجتناب ما نهى عنه.
ثانيا - بفرض الزكاة والترغيب في الصدقات صيانة للمجتمع من عوامل الإجرام فقد قال الله تعالى (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) وقال تعالى (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث) وقال تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وقال عليه الصلاة والسلام (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة؛ ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)
وبذلك تزول حاجة الفقير فلا يفكر في ارتكاب الجرائم. فلو علم كل فقير إن له حقا في مال الغني ما وجد عليه، ولساعده في استثمار أمواله لعلمه إن ذلك يعود عليه بالمنفعة فيعمل مجدا مع الغني في زيادة الإنتاج في جو من الأمن والسلام. إذ لا يخفي أن الجرائم إنما ترتكب غالبا بدافع الفقر والعوز وما (مشروع بفردج) وغيره من المبادئ الحديثة الخاصة بتأمين حياة الفقير ورفع مستوى معيشته إلا للأغراض التي توختها الشرائع السماوية.
على إنه ينبغي للغني أن يذكر دائما إنه لا يعطي حين يعطى تبرعا بالمعنى الصحيح بل إن ذلك في الحقيقة حق عليه كما تقدم ذكره في الآية الكريمة، يأخذه الفقير وهو محفوظ(710/5)
الكرامة الإنسانية التي حفظها له الشارع. فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام (اليد العليا خير من اليد السفلى).
ولا شك أن في ترغيب الشريعة الإسلامية في العمل والتكسب والاحتراف إقامة لعماد الكرامة فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائلا درهما وأمره أن يشتري حبلا وفأسا ويحتطب حتى لا يتعرض لذل السؤال.
ثالثا - القصاص الحازم ممن يرتكبون الجرائم ليكون في ذلك ما يردعهم عن ارتكابها، وقد بينت الشريعة الإسلامية تفصيلات الحدود والقصاص وسنوضحها فيما بعد.
رابعا - العناية بالقضاء وجعل منصبه أكبر مناصب الدولة بعد الإمارة فلا يعهد به إلا لمن تفقه في الدين وعرف ما يصلح المجتمع وما يدفع عنه الشر وذلك بتطبيق أحكام الكتاب والسنة واتباع رأي المجتهدين من السلف الصالح، وقد امتازت الشريعة الإسلامية في قضائها بمراعاة المصلحة العامة.
وهناك قواعد إيجابية وأخرى سلبية، وسنحاول أيجاز بيان الهدى الإسلامي من الناحية السلبية في منع الجريمة قبل وقوعها وما لذلك من أثر في الأمن ضاربين بعض الأمثلة من مشاهدتنا العملية.
القتل:
هو أفظع الجرائم. فقد حرمته الشرائع السماوية. قال تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ولما كان إزهاق الروح من طبيعة الحيوان الوحش فارتكاب الآدمي له يدل على إن فطرته خلت من أخص المزايا البشرية، وإن في ارتكاب هذه الجرائم ما يهدم كيان المجتمع ويفضي إلى الإخلال بالأمن. فكثيرا ما تثار للقتيل أسرته وهذا شائع الحصول وكثير الوقوع خصوصا في بلاد الوجه القبلي فتقع بسبب ذلك معارك دموية بين الأسرتين أو الأسر وتسيل الدماء وتزهق الأرواح.
وكثيرا من حوادث القتل يكون نتيجة الغضب وحب الانتقام كلما نلمس ذلك بوضوح في الصعيد وسائر بلاد الريف، والغضب شر أمراض النفس. وقد عالجه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (ليس الشديد بالسرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وكان هو نفسه المثل الأعلى في الحلم وكظم الغيظ واحتمال المكروه حتى أثنى عليه فقال (وإنك لعلى(710/6)
خلق عظيم).
الانتقام والأخذ بالثائر:
ولقد كانت الفوضى في بلاد العرب ضاربة أطنابها. ومن أمثال ذلك الانتقام والأخذ بالثار إذ كان من مظهر ذلك أن النساء لا يرضيهن في الثأر إلا أن يصبغن ملابسهن بدم القتيل، وبعضهن يأكل من كبده وقلبه كما حصل لسيدنا حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات. وكن يعيرن من يمسك عن الانتقام لنفسه أو الأخذ بالثأر لذويه، فوضعت الشريعة الإسلامية الغراء لذلك حدا وشرعت القصاص في قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الأبصار) فإن إعدام القاتل فيه حقن للدماء لما فيه من الزجر والاعتبار فكيف كان جان عن ارتكاب هذه الجناية وبذلك يسود الأمن ويعمم السلام.
ومازالت آثار هذه العادة الممقوتة باقية في الريف وخاصة في الصعيد وهي من التراث المكروه ويجب العمل على استئصالها بكل الوسائل الميسورة، ومن أهمها العناية بالمصالحات والقضاء على الأمية ونشر نور العلم والعرفان بين هذه الأوساط وأن تكون إجراءت المحاكم سريعة وأحكامها رادعة زاجرة.
شهادة الزور وأثرها وعلاجها:
حرمت الأديان جميعها شهادة الزور - وعدتها الشريعة الإسلامية من أكبر الكبائر، ومن دستور محمد القرآني في ذلك (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) وقوله سبحانه وتعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) وفي آية أخرى (ولا تكتموا الشهادة وأنتم تعلمون) ومما يثقل كاهل رجال الأمن في مهمة كشف الجرائم التواء الشهادة أو الإعراض عنها. فما أحكم محمدا حيث يقول ما معناه (لا ينبغي لأحد شهد مقاما فيه حق إلا تكلم به فإن ذلك لا ينقص أجله ولا يمنع رزقه)
ومما يؤسف له أشد الأسف إن الشاهد وخاصة في الريف قلما يجد الشجاعة ما يدفعه إلى أداء الشهادة معاونة منه إلى للعدالة في الاهتداء إلى الجاني لينال الجزاء العادل. ويكون من(710/7)
نتائج ذلك استفحال الإجرام - ويرجع الإحجام عن أداء الشهادة في الغالب إلى الرهبة من الجناة والخشية من سطوتهم أو نفوذ ذويهم نظرا لطول إجراءات المحاكمة الجنائية
وعلاج ذلك تبسيط هذه الإجراءات واختصارها خصوصا وقد دلت التجارب والمشاهدة على أن طول الزمن كثيرا ما يدفع ذوي الشأن فيها إلى الانتقام بأنفسهم فضلا عن إنه يقلل من أثر الأحكام في نفوس الجناة ويضعف وقعها عند أمثالهم من المجرمين، كما أن ذلك إن لم ينس الشهود والوقائع التي شاهدوها من عهد طويل فإنه يتيح الفرص للجناة ولإضعاف أدلة الاتهام والتلفيق لإفلاتهم من يد العدالة.
وفي بلد كمصر تعددت فيه الهيئات القائمة على التحقيق وتوزعت المسؤوليات يجب وضع القواعد الكفيلة بتبسيط العمل بحيث تقوم كل هيئة بما يفرض عليها؛ حتى لا تتعدد الإجراءات تعددا قد يؤدي إلى الاضطراب في التحقيق والأضعاف من قيمته.
المصالحات والوعظ والإرشاد:
ومما جاءت به الشريعة الغراء للمحافظة على الأمن العام: الأمر بإصلاح ذات البين فقد قال الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين) وقال الله تعالى (إنما المؤمنين اخوة فأصلحوا بين أخويكم) وقال الرسول عليه السلام: (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا) من أجل ذلك يكون لمجهود الواعظ في هذا الميدان مجال فسيح عظيم الأهمية في معاونة هيئات الحكومة للوصول إلى الهدف المنشود وهو إحلال الصفاء محل النزاع بما يسدونه إلى الفريقين من الموعظة الحسنة والإرشاد الحكيم وقد قامت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الأساس فالله يقول (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) ويقول (وعظهم وقل في أنفسهم قولا بليغا) ويقول (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وبما أن هذه الدعوة هي رسالة الوعظ فحبذا لو ذلك سبل الانتقال لحضرات الوعاظ ليتمكنوا من كثرة التردد على البلاد التي تقع في دائرة عملهم وليتيسر لهم أداء رسالتهم على الوجه الأكمل. وحبذا لو عنى كذلك خطباء المساجد بمعالجة العادات السيئة والمنكرات الشائعة والجرائم المنتشرة في دائرة عملهم بما يلائم روح(710/8)
العصر وتطورات الزمن بعبارة سهلة مفهومة لعامة الشعب بالحث على التمسك بالدين وغرس صفات الرفق بالضعيف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم والتحذير من الكذب وشهادة الزور والترغيب في أداء الشهادة والصدق وما إلى ذلك من الفضائل. والمأمول أن يتم على أيديهم جميعا تحقيق رسالتهم على أكمل وجه فيساعدون على استتباب الأمن وإسعاد البشر.
(البقية في العدد القادم)
علي حلمي
مدير جرجا(710/9)
إلى إخواننا الأزهريين:
بمناسبة حادث الشيخ أبي العيون
للأستاذ علي الطنطاوي
ما عرفنا علماء الأزهر إلا ملوكا، لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم، إذا قال واحدهم لبت الأمة، وإذا دعا هب الشعب، وإذا أنكر على الحكومة منكرا أزالت الحكومة المنكر، وإذا أمرها بمعروف أطاعت بالمعروف، فكانوا هم السادة وهم القادة، وهم أولو الأمر: هذى حكومة مصطفى فهمي باشا تستجيب سنة 1899 لرغبة الإنكليز في أضعاف القضاء الشرعي، فتضع مشروعها المشهور؛ لتعديل اللائحة الشرعية وضم اثنين من أعضاء الاستئناف الأهلي إلى المحكمة الشرعية العليا، ويبلغ من ثقتها بقوتها، وتأييد مجلس الشورى لها أن لا تبالي باحتجاج الحكومة العثمانية على المشروع، وتعرضه على المجلس. (وكان من أعضائه الشيخ حسونة النواوي، الذي جمعت له مشيخة الأزهر وفتوى الديار المصرية) فيقول كلمة موجزة في إنكار المشروع، وينسحب من المجلس ويتبعه القاضي التركي، فتكون هذه الكلمة كافية لقتل المشروع، فيردده المجلس كله، وتحاول الحكومة إنقاذه على رغمه فلا تجد عضوا استئنافيا واحدا يقبل الانضمام إلى المحكمة العليا، (عرضت ذلك على الشيخ محمد عبده وكان من أعضاء الاستئناف الأهلي وسعد زغلول وأحمد عفيفي ويوسف شوقي ويحيى إبراهيم. فأبوا جميعا) وتمشي كلمة الشيخ في الناس مشي النار في يابس الحطب، فهب الأمة كلها تؤيده حتى ترضى الحكومة بالهزيمة وتسترد مشروعها.
ولم يكونوا يخشون في الحق لومة لائم، ولا يخافون غضبة ملك جبار: هذا حسين باشا الجزائرلي، يصل مصر فيفر منه أمراؤها إلى الوجه القبلي، فيأخذ أموالهم كلها ولا يرضيه في عتوه وجبروته أن يستولي على عروضهم حتى يسطوا على أعراضهم، فيقبض على نسائهم وأولادهم، ويسوقهم إلى السوق ليبيعهم زاعما إنهم أرقاء لبيت المال، وكانت الأحكام عرفية، وسيوف الظلم مصلتة، ولواء البغي مرفوعا، ولكن ذلك لم يمنع علماء الأزهر من إنكار هذا المنكر، ولم يرهبوا بطش الباشا وهم يروون أن أفضل الشهداء رجل قال كلمة حق عند إمام جائر فقتله بها، فمضوا إليه وتكلم الشيخ محمد أبو الأنوار فقال له: (أنت(710/10)
أتيت إلى هذه البلدة وأرسلك السلطان لإقامة العدل ورفع الظلم كما تقول، أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟) فقال (هؤلاء أرقاء لبيت المال) قال: (هذا لا يجوز ولم يقل به أحد) فغضب أشد الغضب وطلب كاتب ديوانه، وقال: (أكتب أسماء هؤلاء وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره) فقال له الشيخ محمد البنوفري: (أكتب ما تريد بل نحن نكتب أسماءنا بخطنا)، وكانت النصرة لهم عليه، فأحقوا الحق وأبطلوا الباطل، ووضع الله في قلبه هيبتهم، لأن من خاف الله خافه كل شئ. فكانوا بذلك (أجل من الملوك جلالة) وكانت إشارتهم للحكام أمرا، وطاعتهم عليهم فرضا، حدث الشيخ محمد سليمان إن أباه قدم لطلب العلم في الأزهر، أواخر أيام الشيخ إبراهيم البيجوري، فشكا إليه ظلم تلك الأيام، وما كان فيها من السخرة والعونة فكتب له ورقة بمساحة إصبعين هذا النص ما كان فيها: (ولدنا مدير الدقهلية. رافعة من طلبة العلم يجب إكرامه. خادم العلم والفقراء. الخاتم (إبراهيم البيجوري)) فدفعها إلى المدير، فقبلها ووضعها على رأسه، ودفعت عنه هذه الورقة كل مظلمة، وأنالته كل مكرمة، ورفعت قدره عند المدير وعند الناس.
وكان الشيخ الأزهري موقرا في الجامع وفي البيت وفي السوق، مبجلا عند الطلبة والعامة والحكام، وكان أقصى أمل الطالب أن يخدم الشيخ وأن يحمل له نعله، وإذا سبه عد سبه إكراما، وتحمله مسرورا، ورآه من أسباب الفتوح.
وكان الطالب الأزهري المجاور، يذهب إلى بلدة في العيد أو في الإجازة، فيقبل البلد كله عليه يقبل يده، ويتبرك به، ويشم فيه عبق الأزهر، ويكون المرجع لأهله في الجليل من شؤونهم والحقير، ويكون فقيهم والحاكم بينهم، لا مرد لحكمه ولا اعتراض عليه، لأنه يحكم بشرع الله، ويبين حكمه في فتواه هذا ما عرفناه. فما الذي جرى حتى تبدلت الحال، ووقع حادث الشيخ أبي العيون؟
ما الذي نزع هيبة المشايخ من القلوب وأنزلهم من مكانتهم عند الحكام؟
أأقول؟ أنتم أيها الأزهريون فعلتم هذا كله! أنتم تنكبتم سبيل أسلافكم، فما الشيخ اليوم شيخ مسلك ولكنه موظف محاضر، وما التلميذ مريد طيع، ولكنه على الغائب مشاغب، وما يطلب علما ولكن يبتغى شهادة. أنتم ثرتم على مشايخكم وعلمتم الناس الثورة عليهم. أنتم أيها الطلاب. أنتم مددتم أيديكم إلى مدرسيكم، فجرأتم هؤلاء أن يمدوا أيديهم إلى أبي(710/11)
العيون. أنتم أطلقتم ألسنتكم فيهم فشجعتم هذه الصحف أن تتطاول حزبية الكلام على شيخ الأزهر. أنتم أيها الأزهريون جميعا جعلتموها جامعة فكان فيها ما يكون في الجامعات، وقد كانت جامعا لا يكون فيه إلا ما يكون في الجامع. لقد كان الأزهر لله فصار للناس، وكان للآخرة فغد للدنيا، وكان يجيئه الطالب يبتغي العلم وحده، يتبلغ بخبز الجراية، وينام على حصير الرواق، ويقرأ على سراج الزيت، ولكنه لا ينقطع عن الدرس والتحصيل من مطلع الفجر إلى ما بعد العشاء، ينتقل من شيخ إلى شيخ، ففي كل ساعة درس، ولكل درس كتاب، ولكل كتاب ساعة للتحضير والمراجعة، لا يدع الدرس إلا للصلاة في المسجد صلاة خشوع وتبتيل، أو للأكل فيه أكل قناعة وتقشف، أو لشرب العرقسوس أو الخرنوب. هذه ملذاتهم من دنياهم، لا يخرجون من المسجد إلا عصر الخميس، يؤمون الرياض والحياض، للاستجمام والاستحمام، لا يأملون من العلم مالا وقد كان أقصى مرتب الشيخ الأزهري إلى عهد قريب ثلاثة جنيهات في الشهر، ولا يبلغها إلا نفر قليل، فراضوا نفوسهم على القناعة، وعودوها الصبر وألزموها الرضا. هذا المرصفي يحدث عند الأستاذ محمود حسن زناتي أنه كان دار بالية في حي قديم وقد جلس على حصير ألقى عليه كتبه وأوراقه، ومن حوله خيط من عسل القصب مرشوش على البلاط يدرا عند هجوم البق لم يمنعه هذا الحصير الخلق في هذه الدار البالية من أن يشرح عليه الكامل. وأورثهم هذا الفقر عزة في نفوسهم: أورثهم كبر العلم، وكل كبر مذموم إلا كبر العلم، فلم يكونوا يحفلون أحدا من أبناء الدنيا، لأنهم لم يتذوقوا لذاتها حتى يداجوا فيها، ولم يميلوا إليها حتى يتزلفوا إليهم من أجلها. كسروا قيودها وتخلصوا من رقها، وهانت عليهم وهان أهلها، هذا هو اللورد كرومر، وما أدراك ما اللورد كرومر؟! يدخل على الشيخ محمد الانبابي شيخ الازهر، ويسلم عليه؛ فيرد الشيخ التحية وهو قاعد، فيعظم اللورد قعوده ويقعد إلى جنبه فيقول له مغضبا: (يا سيدنا الشيخ الست تقوم للخديوي؟) قال: (نعم) قال: (فلم لم تقم لي؟) قال: (إن الخديوي ولى الأمر وأما أنت فلست منا). فيزيد ذلك اللورد إجلالا له، ويكتبه في أحد تقريراته لحكومته.
وهذا هو رياض باشا وكان رئيس الحكومة وناظر المالية يزور مدرسة دار العلوم، وكان الشيخ حسن الطويل مدرسا فيها، فلا يسلم الرئيس ويدخل، حتى يبتدره الشيخ من آخر القاعة، فيقول له: (يا باشا أما أن لكم أن تجعلوني معكم ناظرا؟). فيدهش الباشا ويقول: (ما(710/12)
هذا يا شيخ حسن؟) فيقول: (ما تسمع يا باشا؟) قال: (فأي نظارة تريد؟) قال: (المالية) قال: (لماذا؟) قال: (لأستبيح أموالها!) فذعر الباشا وخرج يرتجف، وقال لعلى مبارك باشا ناظر المعارف: (لابد أن تخرج هذا الرجل من خدمة الحكومة قال: (كيف؟ وماذا اصنع مع علماء الأرض، وهو عالم عالمي؟). كذلك كانوا. زهدوا في الدنيا فجاءتهم الدنيا، واعرضوا عنها فأقبلت عليهم، وهابوا الله فهاجم الناس، فكيف حالكم اليوم يا إخواننا الأزهريين؟ يا إخواننا، إن هذا الأزهر المعمور، لبث خمسمائة سنة من عمره، وهو منار العلم المفرد في الدنيا لولاه لتاهت في ظلمات الجهل، وهو حارس الدين واللغة، فأدركوه لا ينطفئ المنار، ويهجع الحارس، وتترك الدنيا للظلام وللصوص. يا أخوانا، ما عاش الأزهر ولا عز بالعلم وحده، وما العلم بلا عمل؟ ولكن عز بالتقوى وبالعمل وبالخلق المتين. لقد كانت لعلماء الأزهر أخلاق لا أقول ضاعت ولكن اختفت عن الناس تلك الأخلاق، كانوا يجلون مشايخهم فيجلهم الناس كلهم. هذا هوا لشيخ ألبا جوري شيخ الجامع كان يجلس بعد المغرب في الصحن فيقبل عليه العلماء والطلبة يقبلون يده، وكان الشيخ مصطفى المبلط وهو أكبر منه، ناظره في طلب المشيخة ولم ينلها، يندس فيهم ويقبل يد الشيخ، فأنتبه إليه مرة فامسك به وبكي وقال: (حتى أنت يا شيخ مصطفى؟ لا. لا) فقال الشيخ مصطفى: (نعم. وأنا! لقد خصك الله بفضل وجب أن نقره، وصرت شيخنا فعلينا أن نوقرك) وكانوا يقدمون العلم على المنصب، ويعرفون لأهله حقهم. هذا هو الشيخ الشربيني شيخ الجامع الذي يجئ إلى الشيخ ألا شموني فيراه مضطجعا على جنبه فيضع حذاءه بعيدا ويقبل عليه على مشهد من أهل الجامع حتى يلثم يده. وكان الاشموني ربما قال له: (إز يك يا عبد الرحمان؟) فيكون الشيخ كأنما حييته من فرحته بذلك الملائكة، ولم يكونوا يدعون للعدو ثغرة يدخل مها إليهم، ويجعلون خلافهم إذا اختلفوا، بينهم، هذا هو الشيخ الأمير كانت بينه وبين الشيخ القويسنى جفوة بلغت الحاكم، وزاره الأمير فسأله عنها، وأوهمه أن القويسى أخبره بها وكان يريد معرفة حقيقتها ليزيلها. فقال الشيخ الأمير: (ليس بيننا إلا الخير، وما أظن الشيخ القويسنى حدثك بشيء من هذاً) وأثنى عليه ومدحه ونزل من عند الحاكم فمر به على ما كان بينهما، وأنبأه بما كان، فقال القويسنى: (صدقت في ضنك ما قلت للحاكم شيئا) قال الأمير: هكذا أهل العلم يسوون أمورهم بينهم، أما مظهرهم فيجب أن يكون قدوة في التالف إمساكا على(710/13)
عروة الإسلام، وحفظا لكرامة العلم، وزال بذلك ما كان بينهما.
فيا إخواننا الأزهريين، سألتكم بالله، أرجعوا بالأزهر إلى سبيله التي درج عيها. أعيدوه سنته الأولى. أفيضوا عليه الدين والتقوى، فالتقوى روح العلم، فإن فارقته كان جسما بلا روح. أحيوا فيه أخلاق الأسلاف ليكن لكم تقاهم وزهدهم، فتكون لكم عزتهم ومكانتهم. يا إخواننا، لم نجد والله خيرا في الجامعة الأزهرية، فردوا علينا الجامع الأزهر!
علي الطنطاوي(710/14)
أنستاس الكرملي
1866 - 1947
للأستاذ مهدي القزاز
وفاة الكرملي:
في صباح اليوم السابع من شهر يناير سنة 1947 توفي في المستشفى الملكي ببغداد العلامة (الأب أنستاس ماري الكرملي الحافي) أثر أمراض لازمته منذ مدة من الزمن كان يتغلب عليها بحيويته ونشاطه حتى تغلب عليه الأيام الأخيرة فاضطرته إلى دخول المستشفى. وكان وهو يصارع هذه الأمراض داخل المستشفى، يطالع ما يأتيه من الكتب ويرد على الرسائل التي ترده من الشرق والغرب ويجيب على الأسئلة ويستقبل زواره الذين كانوا يتوافدون للاطمئنان على صحته. حتى أصبحت الغرفة التي ينام فيها مجلسا للشعر والأدب والنقد واللغوي! وكان يشترك في بعض الأحاديث - بالرغم من مرضه الشديد ويستأنس بهذا الجو العابق بأحاديث الشعراء والأدباء الذين يفدون للسلام والاطمئنان.
وقبل وفاته بثلاثة أيام منعه الأطباء من المطالعة والكتابة ومنعواأيضاً عنه الزيارات فعاش - رحمه الله - أيامه الأخيرة في وحدة قاسية متألما من شدة المرض الذي هجم عليه هجوما عنيفا وترك هيكله الضخم حطاما لا يعرف، ولم يسهر الأطباء والعمليات التي أجريت له ومختلف أنواع العقاقير فقضى مأسوفا عليه، وأذاعت نعيه محطة الإذاعة العراقية ثم لجنة الترجمة والتأليف والنشر في وزارة المعارف وتناقلت محطات الإذاعة في الشرق والغرب هذا النعي وأبنت الفقيد بما تستحقه مكانته الأدبية وخدماته للغة العرب وتاريخهم.
تاريخ الكرملي:
ولد الكرملي في بغداد في اليوم الخامس من شهر أب سنة 1866 منحدراً من أم عراقية. ولما بلغ سن الدراسة ألحقه والده بمدرسة الكنيسة اللاتينية الابتدائية، واهتم منذ صغره بدراسة العربية ومفرداتها. وفي سنة 1886 رحل إلى بيروت ودخل المدرسة اليسوعية الاكليركية، وعلى يد أساتذتها درس اللاتينية واليونانية، ونبغ فيهما نبوغا عظيما دهش له(710/15)
الأساتذة. وكان إلى جانب دراسته هذه يدرس العربيةأيضاً دراسة متصلة لا تنقطع.
ولما كان طبعه الجسور لا يستقر ولا يهدأ، ومطامعه لا تقف عند حد فقد ترك بيروت قاصداً مدينة (شيفرمونت) في بلجيكيا فانخرط هناك في سلك الرهبنة وانغمر في الدراسات الفلسفية واللاهوتية، وقد فتحت له هذه الدراسات أجواء جديدة من المعرفة. ثم ترك (شيفرمونت) إلى مدينة (لاغنو) ثم مدينة (مونبليبه) في فرنسا، فأنجز دراسته في الدير الكرملي هناك ورسم كاهنا باسم (أنستاس الكرملي) ولما تم له هذا النجاح سافر إلى أسبانيا وأقام هناك مدة يتنقل في المدنالأسبانية ويدرس آثار العرب ومخلفاتهم وما تركوا من ذخائر نفسية في التاريخ والشعر واللغة والأدب، واستنسخ عدة مخطوطات هامة من الأديرة والكنائس المتاحف لا تزال محفوظة في مكتبته العامرة إلى الآن.
وبعد أن أنهى رحلته في أسبانيا رجع إلى بغداد فسلمت إليه إدارة المدرسة الكرملية وتولى فيها تدريس اللغتين العربية والفرنسية. ثم رأى ان هذا الجو يضيق بمعارفه وبتفكيره وما طبع عليه من انطلاق وتحرر وما في جلبته من حب للاستزادة من البحث والدرس فترك المدرسة وانصرف للتنقيب والتأليف في اللغة العربية وتاريخها والوقوف على أسرارها فكان لا يدخر وقتاً ومالاً في سبيل الحصول على كل مخطوط أو كتاب يرى فيه عونا لأبحاثه ودراساته.
وفي هذا التاريخ لمع اسم (الكرملي) باحثاً وعالماً لغوياً لا يجارى، فأخذ يضع التآليف القيمة والبحوث الهامة والدراسات المفيدة وينشر فصولا في المقتطف والهلال والمشرق وفي المجلات الأوربية التي قدرت سعة اطلاعه ونبوغه فأخذت تراسله وتعتمد عليه وتستشيره في الشؤون التي اختص بها. كما أن دوائر الاستشراق رأت فيه عالما مطلعا وباحثا عبقريا فاعتمدته في أبحاثها ودراساتها والإشراف على بعض ما يشكل عليها في تاريخ اللغة والأدب.
وفي سنة 1896 انشأ (الكرملي) جريدة (العرب) فعاشت أربع سنوات ثم مجلة (دار السلام) التي عاشت سنة واحدة. وفي سنة (1911) أصدر مجلة (لغة العرب) فكانت من أرقى المجلات العربية في العالم العربي حرر فيها نخبة من كتاب العراق والبلاد العربية، وقد عاشت هذه المجلة عدة سنوات ثم أغلقت. وعند إعلان الحرب العالمية الأولى سنة(710/16)
1914 نفي الكرملي خارج العراق بسبب ميله الوطنية ثم أفرج عنه، وفي هذه الاستثناء انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق ثم عين عضواً في المجمع الملكي المصري للغة العربية.
وانصرف الفقيد بعد ذلك إلى التأليف وحضور المؤتمرات اللغوية، وكان دائب السفر بين بغداد والقاهرة والقدس وبيروت باحثاً ومستقصياً ومستنسخاً، حتى تمكن من تأليف ما يقارب الأربعين مؤلفا في الآداب واللغة والفلسفة والدين، ومن أهم كتبه المطبوعة (الفوز بالمراد في تاريخ بغداد) و (مختصر تاريخ العراق) و (وجمهرة اللغات) و (كتاب الجموع) و (كتاب العجائب) و (كتاب أديان العرب) وغير ذلك من الكتب المهمة؛ كما إنه وضع معجماً عربياً خطياً يعد حجة في بابه. وله معجم (عربي فرنسي) مطول. أما كتبه وتأليفه غير المطبوعة فكثيرة ومهمة جداً نأمل أن تقوم وزارة المعارف بطبعها خدمة للغة العربية وتأريخها ولذكرى الفقيد الراحل.
وكان الكرملي يتقن إلى جانب اللغة العربية اللغات اللاتينية واليونانية والفارسية والتركية والإنكليزية والفرنسية والأسبانية؛ وله أبحاث عديدة في هذه اللغات نشرتها مجلات الغرب في حينها وكلها تتناول لغة العرب وتاريخهم وآثارهم.
مكتبة الكرملي:
يملك الفقيد مكتبة تعد من أنفس المكتبات في العالم العربي بما حوته من كتب مخطوطة ومطبوعات نادرة. جمعها من مختلف بلاد الشرق والغرب وبذل في سبيلها أموالا كثيرة حتى كان رحمه الله يتجشم مشاق السفر في سبيل الحصول على مخطوط أو استنساخه مهما بعد المكان والقطر. ويقال إن مكتبته تحوي في الوقت الحاضر على ما يقرب من (14) ألف مجلد بمختلف اللغات جمعها الفقيد في خمسين سنة.
وحرصاً على هذا الكنز النفيس من الضياع وحرمان الجمهور من فوائده وتمكيناً للعلماء والباحثين والمطالعين من ارتياد هذه المناهل فقد تقرر بعد وفاته تأليف لجنة لتنظيم شؤون هذه المكتبة وإدارتها وإيجاد عمارة خاصة بها تفتح أبوابها للباحثين من الرواد العلم. وتأخذ هذه اللجنة على عاتقها طبع تأليف العلامة الفقيد والمخطوطات النفيسة الأخرى. والمتوقع تأليف هذه اللجنة من صاحبي المعالي الدكتور حنا خياط ويوسف غنيمة وبعض الأفاضل.(710/17)
وقد علمنا أن اللجنة الثقافية في الجامعة العربية قد عهدت إلى مندوب العراق في الجامعة إبلاغ الحكومة العراقية رجاء اللجنة في أن تقتني الحكومة مكتبة المرحوم الكرملي قبل أن تضيع وتتبعثر.
أدب الكرملي:
نشأ الكرملي نشأة دينية وتثقف ثقافة فلسفية، وعكف على دراسة اللغة العربية واللغات الأخرى وانصرف لبحوث التاريخ. وبرع في علوم اللاهوت واشتغل أكثر سنوات عمره بتأليف الكتب التاريخية والفلسفية والدينية. وكان رائدا من رواد اللغة العربية وتاريخها. ولذا تجلت عبقريته في هذا اللون من الأدب وحده.
وكان حافظا وراويا من الطراز الأول لكثرة ما قرأ من الكتب وطالع من الأسفار وتتبع من الحوادث. كان الفقيد يعقد مجلسا أدبيا بداره في (دير الكرملين) في يوم الجمعة من كل أسبوع، وكان يختلف إلى هذا المجلس صفوة مختارة من الشعراء والأدباء والمؤرخين والصحفيين وبعض الأستاذة والطلاب. تختلف أذواقهم ومشاربهم. ولكن تجمعهم رابطة الأدب واللغة وحب البحث والجدل وتذوق هذا الألوان الفكرية التي كانت تدور في هذا المجلس الذي كان دائما يعمر بالرواد فيبحثون في قضايا الأدب والنقد والشعر ويثيرون بعض المسائل الفكرية التي تتخذ في النهاية شكلا من أشكال الجدل يطلع منه المرء على تيارات مختلفة من الأفكار والمنازع والأهواء.
وكان الكرملي يشترك في جميع المباحثات والمناقشات الفكرية التي تدور في مجلسه ويديرها، وإذا لزم الأمر يبرز ما لديه من المراجع والمستندات والوثائق التي تزدحم بها مكتبته العامرة في مختلف اللغات واللهجات للبرهنة على وجهة نظره وتأييد فكرته
وكنت من الذين يحضرون مجالس الكرملي الأدبية هذه ويشتركون في بعض المناقشات التي تثار في قضايا الأدب والفكر فكان لا يرضيني هذا التزمت في الأدب الذي تفرضه أبحاث العلامة الكرملي ومناقشاته، فقد كان يحاول دائما أن يضع للأدب مقاييس وقيودا وحدودا لا يتعداها ولا يرى في الانطلاق والتحرر إلا خروجا وخطا جريمة. . . وكان تفكيره الرتيب الذي جاء نتيجة دراساته الجافة لا يسمح له بالتجول إلا في آفاق محدودة ودوائر خاصة لا يتعداها ولا يسمح لنفسه بالخروج منها. ولذا كان لا يستسيغ هذا اللون(710/18)
من الأدب الحديث الذي برع فيه ناشئة الأدب في البلاد العربية وتحرروا فيه قيود الماضي وانطلقوا يكتبون في أجواء حرة وأساليب حديثة. لم يكن الكرملي أديبا خلاقا أو باحثا مبدعا، ولم يترك له أثر في الحياة الفكرية فيه هذا اللون المشرق الذي يغذي العواطف ويهز القلوب، ويفتح كوى مشرقة فيها أضواء وأخيلة وأنداء وجنائن مسحورة يعبق جوها بالأماني والأحلام تترك الشعور يخلق في متاهات بعيدة وأبعاد مجهولة فيها أمواج من النعيم وسحر غريب له لذة وفيه نشوة، كما نشاهد في أدب الزيات وطه حسين والحكيم وغيرهم من أساتذة اللغة والبيان.
إن عبقرية الكرملي وإشراق ذهنه في اللغة العربية وتاريخها ودراسته المتصلة للغات القديمة والحديثة ونشاطه المعروف في التتبع والبحث والتأليف لو أضاف إلى كل ذلك إشراق العبارة وذهنية تشرك عقلها وقلبها فيما تنتج وتفكر لعد من العباقرة الخالدين في الأدب العربي. ولكن هذا التحنيط والجمود في أسلوبه قلل من أثره في الحياة الفكرية وجعله أشبه بمعجم لا يراجع إلا عند الحاجة إليه.
إن اسم (الكرملي) سيخلد في مجامع الشرق والغرب كعلم من أعلام اللغة والدين والفلسفة خدم بتتبعه لغة العرب وترك فيها آثار عديدة ونور عقولا وأذهانا، وكان فخر أمته، وعقلا عبقريا من عقولها في الخارج.
بغداد
مهدي القزاز(710/19)
الأدب في سير أعلامه:
2 - تولستوي. . .!
قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه
للأستاذ محمود الخفيف
طفولة ونسب
دخل ليو حجرة الدراسة وأسلم إلى مرب يعلمه ويقوم على تنشئته وكان هذا المربى ألماني الجنس وهو تيودور رويل، وكان من عادة سراة الروس أن يختاروا لأبنائهم مربين من الأجانب ليعلموا هؤلاء الأبناء اللغة الأجنبية التي تراد لهم وهم صغار وذلك بالحوار والمرانة لا بالقراءة في الكتب فحسب، ولقد كان تيودور رويل هذا من الشخصيات التي تأثر بها الصبي تأثرا شديدا منذ دخل حجرة الدراسة، والتي ظل أثرها عالقا بنفسه مدى حياته الطويلة؛ إذ كان المربي مستقيم الخلق كريم الطبع عطوفا على تلاميذه في غير ضعف، شديدا عليه في غير عنف مخلصا في عمله إذا هم بإبداء واجب، ولا يبخل بجهد يرى فيه صلاح تلميذه مهما أرهقه هذا الجهد، وبهذه الصفات الطيبة أو بهذه القدوة الحسنة أثر المعلم في تلميذه وهيأ الجو الصالح لنموا الصفات الطيبة في نفس ذلك الصبي. . .
فإذا انطلق الطفل من حجرة الدراسة كانت العمة تاتيانا أول من يلقى فما يطيق البعد عنها، وإن حبه إياها ليصغر دونه كل حب، وإن أثرها في نفسه ليقل عنده كل أثر، وسيكبر الصبي ويخرج من نطاق البيت إلى مضطرب الحياة ويظل أثر العمة تاتيانا قويا في نفسه، ويظل شخصها حيا في حسه، وتظل صورتها ماثلة في خاطره. وسيعبر عن هذا كله فيما يتناوله قلمه من ذكريات الحياة ومشاهدها. تجد مثلا لذلك في قوله (إني لأتذكر ذات يوم وأنا ابن خمس كيف اندسست خلف أريكة كانت تجلس عليها في الثوى، وكيف مدت إلى يدها ومست جسدي في حنو ورفق، وكيف أمسكت بيدي تلك اليد وقبلتها ودموع الحب في عيني. . . لقد كان للعمة تاتيانا أعظم الأثر في حياتي، فمنذ الطفولة الباكرة علمتني كيف تكون بهجة النفس في روحانية الحب، ولقد علمتني هذه الفرحة لا بكلامها فحسب بل إنها ملأتني حبا بكيانها كله. لقد رأيت ولقد أحسست كيف كانت تتمتع نفسها بنعمة الحب، ومن(710/20)
ذلك فهمت بهجة الحب، وهذا أول ما علمتنيه. ثم إنها بعد ذلك علمتني نعيم الحياة المطمئنة الهادئة).
وحق له يحب هذه السيدة التي يدعوها عمته كما يفعل أخوته والتي تقوم منهم جميعا مقام الأم وقد حرموا من أمهم. وكان ليو منذ صغره مرهف الحس متقد العاطفة تأسره الكلمة الطيبة وتثيره الكلمة القاسية فما يملك ان يحبس دمعه وعرفت عمته تاتيانا كيف توحي إليه ما تحب من المعاني العاطفية. . .
وليس بذكر ليو أمه فقد ماتت وهو دون الثانية بقليل، وكانت سيدة كريمة المحتد نبيلة الخلق عالية الثقافة، تقية رحيمة القلب مرهفة الحس مهذبة الذوق تتكلم خمس لغات ولها بالموسيقى شغف عظيم ولها مقدرة ملحوظة في العزف على البيان وموهبة في سرد القصص جعلت لها شهرة عظيمة في هذا الباب حتى لقد كانت في حفلات الرقص تجتذب إليها كثيرين ممن يفضلون أن يستمعوا إليها على ان يشهدوا ما يدور في تلك الحفلات، وكان الطفل يستمع إلى سيرتها في اهتمام كلما تحدث عنها الخدم أو تحدثت عنها العمة تاتيانا فتقوم في ذهنه صورة لها تطمئن لها نفسه ويبتهج فؤاده وتظل هذه الأحاديث تهجس في خاطره فتزداد صورة أمه وضوحا في نفسه كلما تقدم به العمر فإذا كتب عن أمه غدا فيما يكتب قال: (لست أذكر أمي؛ لقد كنت ابن سنة ونصف حين ماتت، وبسبب مصادفة عجيبة لم تحفظ لها صورة على ذلك فلا أستطيعأن أرسم في خيالي صورتها المادية. وإنيلفرح بهذا من وجهة نظر هي أن ما يقوم بذهني لها إذ أتصورها إنما هو صورتها الروحية، وكل ما أعلمه عنها من هذه الناحية جميل، وأظن إن ذلك لم يكن مرده إلى أن من يتحدثون عنها لا يذكرون لي إلا الخير وإنما كان مرده إلى إن نفسها كانت تنطوي على كثير من الخير حقاً.
ويبقى في ذاكرته من أحاديث الناس عنها الشيء الكثير ولكنه معجب بصفة من صفاتها يراها خير الصفات جميعا ويشير إلى ذلك في قوله (أن أرفع خلالها قيمة هي إنها كانت على حرارة مزاجها وبسرعة تأثرها تضبط نفسها ابدا، ولقد يحمر وجهها ولقد تبكي كما أخبرتني خادمتها ولكنها لا تلفظ قط لفظة نابية بل إنها لا تعرف واحدة من تلك الكلمات) ويقول عنها كذلك (إنها كانت تبدوا في خيالي مخلوقا علويا روحيا طهورا وبلغت من ذلك(710/21)
حدا جعلني في الحقبة الوسطى من عمري أيان جهادي ضد المغريات والوساوس القاهرة اتجه إلى روحها مصليا مبهلا إليها في صلواتي أن تأخذ بيدي. ولقد كان لي في أكثر الأحيان في هذه الصلوات كثير من العون).
ذلك أثر أمه في نفسه وإن لم يرها أما أبوه فقد كان يجلس ليو طيب قلبه وشدة عطفه على أبنائه، وكان يحب قصصه التي يتلوها عليهم أثناء الطعام كما كان يراه رفيقا بهم لا يعنفهم على زياطهم ولا يضيق بهم إذا دخلوا عليه حجرة مكتبه؛ وكان يعجب ليو بوجاهة أبيه وأناقة ملبسه إذا تأهب للذهاب إلى المدينة، وبمهارته ونشاطه وجمال طلعته إذا خرج للصيد. وكم كان ينظر إليه في إعجاب وهو جالس في مركبته وحوله عن قرب خدمه وكلاب صيده. . . كم كان يداخل الطفل شعور الإعجاب به لما يرى من هيبته؛ واستطاع خياله الناشئ واستطاعت عيناه الصغيرتان أن تنفذا إلى سر تلك الهيبة وهو احترام الرجل نفسه وصونه كرامته فما يطأطئ أبوه رأسه أو يخفض صوته أو يغير لهجته لدى أي كبير من الحاكمين مهما علا مقامه؛ ثم إنه يفطن إلى معنى آخر يحبب أباه إليه، وذلك إنه على ترفعه واستكباره أحيانا على مزارعيه يعطف عليهم فلا يرضى لهم بالعقوبة البدنية ولا يحب ان يرهقهم بالعمل فإذا حدث لهم شئ من ذلك كان على غير علم منه وإذا علم بشيء منه نهى عنه واشتد في النهي وأخلص فيه.
وسيرث ليو صفات أبيه فيكون عطوفا رؤوفا يكره العنف على المزارعين ويحب أن يعلمهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور؛ ولكنه كذلك سوف ينشا معتدا بذاته كثير الذهاب بنفسه سريع الميل إلى ازدراء غيره، ومهما حاول التغلب على تلك النزعات في طبعه غلبته على أمره في كثير من المواقف فيزهى ويتكبر ولا يقوم في نفسه إلا شعوره بما نشأ من أيامه من دلائل العظمة والثراء وعراقة الأصل، وحسبه أن ليس هناك في ياسنايابوليانا وما حولها قوم لهم السيادة والجاه منذ عهد بطرس الأكبر إلا آل تولستوي. . .
وأحب ليو اخوته حبا شديدا وأحب اللعب معهم كلما أطلقهم المربي من حجرة الدراسة؛ أحب أكبرهم نيقولا لأنه يعلمه كل شيء ولأنه عطوف عليه مرح فكه الحديث، يراه ليو لا يبارى في سرد الحكايات والقصص الجميلة وفي رسم الصور المختلفة والأشكال والألوان وأحب سيرجى لوجاهة منظره وأعجبه منه حبه الغناء واللهو وكبرياؤه وعدم مبالاته بما(710/22)
عسى أن يقول عنه القائلون؛ أما ديمتري وهو أقرب الثلاثة إليه سنا فكان يأنس بهدوئه وابتسامته الحلوة وعاطفته الرقيقة. . .
وكانت من أحب الألعاب إليه تلك اللعبة التي ابتكرها نيقولا؛ فقد أسر إليه إنه اهتدى إلى نوع من السحر يستطيع به أن يجعل الناس جميعا على ظهرالأرضأحبابا بعضهم لبعض، وإن سحره هذا منقوش على غصن أخضر دفنه في مكان ما بالقرب من موضع حدده لهم، ثم دعاهم إلى الجلوس معا جنبا إلى جنب في بقعة صغيرة يظللهم سقف واحد كما تفعل النمل لتكون لهم مثل اخوة النمل ومحبة جماعاته، فاقبلوا حيث جلسوا تحت غطاء من القماش وضعوه على بعض الكراسي وتلاصقوا هنا وهناك في تعاطف ومودة وأخذ يحدثهم نيقولا إنه بالحب المشترك المتبادل يستطيع الناس أن يكونوا اخوة وهكذا صارت هذه اللعبة من أحب الألعاب إلى الاخوة، ولكم أن تجتمعوا تحت خوان أو في ركن من الأركان ومثلوا اخوة النمل، وأحدثت اللعبة أثرها في خيال ليو ووجدانه فقبل أن يبلغ السادسة من عمره يستقر في نفسه حلم لذيذ عن عالم جديد يرتبط فيه الناس بعضهم ببعض برباط الحب والمودة حتى يصبحوا بذلك إخوانا. . .
استقر هذا الحلم في نفس الطفل وهو دون السادسة ومازال مستقرا فيها حتى بعد أن جاوز السبعين من عمره فقد كتب إذ ذاك يذكر ذلك الحلم فقال (إن ذلك المثال وهو اخوة النمل وتعلقنا بعضنا ببعض متحابين أبقى قائما في نفسي لا يتغير وإن لم يعد كما كان أمس تحت قماش يظلل كرسيين عاليين فهو اليوم عندي تعلق البشر بعضهم ببعض متحابين تحت غطاء عظيم هو قبة السماء وكما صدقت يومئذ إن هناك عصا صغيرة خضراء نقشت عليها تلك الرسالة التي تمحق الشر كله في نفوس الناس وتهي لهم السعادة العامة فكذلك أعتقد اليوم ان هذه حقيقة ممكنة تنكشف للناس وسوف يمنحهم كشفها كل ما تعدهم به من سعادة).
ولقد أوصى تولستوي فيما بعد أن يدفن حين يموت حيث دفنت تلك العصا الخضراء. في تلك البقعة التي صارت حبيبة إلى قلبي من أجل ذلك الغصن الأخضر الذي أوحى إلى نفسي أن يتحاب الناس جميعا ويتآخوا على نحو ما تنطق به قصة أخيه؛ ولقد دفن فعلا الكاتب العظيم في الموضع الذي عينه أخوه مثوى للغصن الأخضر وذلك بعد ستة وسبعين(710/23)
عاما من قصة ذلك الغصن!
وحدثهم نيقولا حديثا آخر أبهج نفوسهم الصغيرة وملاها شوقا وتطلعا وذلك إنه سيقودهم إلى تل ما وسيبلغ بهم قمته، فإذا بلغوها وطلبت نفوسهم أي شئ فلا يلبثون دون أن يكون بين ايديهم، ولكنهم لن يقودهم إلى ذلك التل إلا أن يجيبوا إلى ما يطلب إليهم أداؤه، فعلى كل منهم أن يقف في ركن فلا يتجه ذهنهم لحظة إلى دب أبيض عي عليهم أنلايخطر ببالهم هذا الدب، وعليه أن يمشي مستقيما على شق بين الألواح الخشبية فلا يميل، ثم عليه أن يمتنع عاما كاملاً عن رؤية أرنب حي أو ميت أو معد للمائدة، ومن أخذ نفسه منهم بهذه الشروط فليقسم أن تظل سراً لا يفشيه إلى أحد.
وكم أتجه ليو بخياله ووجدانه إلى ذلك الغصن الأخضر يود أن يعلم ما نقش عليه من سحر، وإلى ذلك التل العجيب يتوق أن يبلغ قمته، وما علمه أخوه إلا أخوة النمل وإلا تلك الشروط التي لابد من أداءها لمن يطمع أن يبلغ قمة التل. . .
ويتطلع ليو إلى سيرجي يريد أن يكون مثله، تحدثه نفسه إذا قارن بينه وبين نيقولا إنه يفضل أن تكون له وجهة سيرجي ولو أنه معجب بأقاصيص نيقولا وسحره ونكاته؛ وهو مولع بتقليد سيرجي فيما يعمل، ولكنه يألم ألا يستطيع أن تكون له مثل وجاهته فلم يجدي في ذلك تقليد، وكان وجاهة أخيه أحب صفاته إليه فما أشقاه أن تكون هي الصفة التي تستعصي عليه؛ وإنه مهما حاكاه في الغناء واللهو والاعتداد بالنفس فلن يزال يشعر بعدم الرضا ان لم يكن له ما لأخيه من حسن السمة وجمال الطلعة؛ وثمة شيء أخر لا يستطيع ليو ان يحاكى فيه أخاه، وذلك عدم مبالات سيرجي بما عسى أن يقول الناس عنه، فهو لم يكن يوماً معنياً بنفسه وإنما يسير على سجيته لا يشغل باله بالتفكير في ذاته، وقد خلق ليو على نقيض أخي فهو بنفسه معني منذ صغره، عظيم الاهتمام بآراء الناس عنه، شديد الإحساس بذاته، كثير الانطواء على نفسه، وتلك خلة أتعبته منذ نشأته وستكون منبع كثير من متاعبه في مستقبل الأيام.
(يتبع)
الخفيف(710/24)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيني
856 - فراق النبي وفراق المتنبي. . .!
تاريخ بغداد للخطيب: أبو علي ابن أبي حامد قال: سمعت خلقا بحلب يحكون - وأبو الطيب المتنبي بها إذ ذاك - إنه تنبأ في بادية السماوة. . . وكان قد تلا على البوادي كلاما ذكر إنه قرآن أنزل عليه، وكانوا يحكون له سورا كثيرة، نسخت منها سورة ضاعت، وبقى أولها في حفظي، وهي (والنجم السيار والفلك الدوار والليل والنهار إن الكافر في أخطار. أمض على سننك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من الحد في دينه وضل عن سبيله) وهي طويلة لم يبق في حفظي منها غير هذا. . .
قال أبو علي بنأبيحامد: قال ليأبيونحن في حلب وقد سمع قوما يحكون علىأبيالطيب هذه السورة: لولا جهله، أين قوله: أمض على سننك إلى آخر الكلام من قوله الله تعالى: (فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين).
إلى آخر القصة، وهل تتقارب الفصاحة فيهما، أو يشتبه الكلامان.
857 - جل (الكتاب) عن الشبيه
في شرح النهج لابن أبي الحديد:
قد اشتملت كتب المتكلمين على المقايسة بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر ليبينوا فضل القران وزيادة فصاحته على كلام العرب نحو مقاييسهم بين قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) وبين قوله القائل: القتل أنفى للقتل ونحو مقايستهم بين قول (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين) وبين قول الشاعر:
فإن عرضوا بالشر فاصفح تكرما ... وإن كتموا عنك الحديث فلا تسل
ونحو إيرادهم كلام مسيلمة وأحمد بن عبد الله بن سليمان المعري وعبد الله بن المقفع والموازنة والمقايسة بين ذلك وبين القرآن المجيد وإيضاح إنه لا يبلغ ذلك إلى درجة القرآن العزيز في الفصاحة ولا يقاربها.
858 - . . . لن يأتوا بمثل هذا القرآن(710/26)
في (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لتقي الدين ابن تيمية:
الصواب المقطوع به أن الخلق كلهم عاجزون عن معارضة القرآن، لا يقدرون على ذلك، ولا يقدر محمد نفسه من تلقاء نفسه على أن يبدل سورة القرآن، بل يظهر الفرق بين القرآن وبين سائر كلامه لكل من له أدنى تدبر كما اخبر به في قوله (قل: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) وأيضاً فالناس يجدون دواعيهم إلى المعارضة حاصلة لكنهم يحسون منأنفسهم العجز عن المعارضة، ولو كانوا قادرين لعارضوه، وقد انتدب غير واحد لمعارضتهم لكن جاء بكلام فضح به نفسه، وظهر به تحقيق ما أخبر به القرآن من عجز الخلق عن الإتيان بمثله.
859 - المتنبي
في خزانة الأدب للبغدادي: إيضاح المشكل لشعر المتنبي من تصانيف أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني:
حدثني أبن النجار ببغداد أن مولد المتنبي كان في الكوفة في محلة تعرف بكندة بها ثلاثة آلاف بيت، واختلف إلى كتاب، فيه أولاد أشراف الكوفة، فكان يتعلم دروس العلوية شعرا ولغة وأعرابا، فنشأ في خير حاضرة، وقال الشعر صبيا، ثم وقع إلى خير بادية فادعى الفضول الذي نبز به. . . وهو في الجملة خبيث الاعتقاد، وكان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما أضل وأما ما يدل عليه شعره فمتلون وقوله:
هون على بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
مذهب السوفسطائية، وقوله
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كري تحت الرجام
فان لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
مذهب التناسخ وقوله:
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه(710/27)
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من شربه
مذهب الفضائية، وقوله في أبي الفضل بن العميد:
فإن يكن المهدي من بان هديه ... فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي؟
مذهب الشيعة وقوله:
تخالف الناس حيى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلد نفس المرء باقية ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب
فهذا من يقول بالنفس الناطقة، ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية. والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه، وأسلمه الله (عز وجل) إلى حوله وقوته وجد في الضلالات مجالا واسعا، وفي البدع والجهالات مناديح وفسحا.
860 - وصفات ضوء الشمس تذهب بالملا
المتنبي:
تركت مدحي للنبي تعمدا ... إذ كان وصفا مستطيلا كاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه ... وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا(710/28)
الحياة الأدبية في طرابلس الغرب
بين الماضي والحاضر
للأستاذ صلاح الدين بن موسى
لعل الحديث عن الأدب في هذا القطر البائس أمر فيه شئ كثير من الغرابة عند أبناء العروبة الذين ارتسمت في مخيلتهم وأفكارهم صور مبهمة غامضة عن طرابلس الغرب - أو (لوبيا) كما يحاول أن يسميها بعض المتأخرين - فهم لا يعرفون عن هذه البلاد إلا قوما خربت ديارهم وخربت مدنهم، وأصابهم من ويلات الحرب ما تركهم في غفلة أو حيرة، وهم بسببها بعيدون كل ماله صلة بالحياة الروحية شعرية كانت أم نثرية وإن أسباب المعيشة وذلك الفقر المدقع في الغذاء والكساء كانا حائلا دون انصراف القوم لتثقيف عقولهم وتحقيق النهضة الأدبية بينهم، وتلك هي الصورة الخاطئة التي ترتسم هذه الأيام في أذهان بني يعرب ويصرحون بها في مجتمعاتهم الأدبية وأنديتهم الثقافية. لهذا وقد وقفت على الحقيقة الناصعة ولمست روح النهضة الأدبية في بلاد (ليبيا) أحببت أن أجعل من حديثي هذا على صفحات (الرسالة) معرضا للفكر الحديث والنهج الأدبي في طرابلس عساي بذلك أكون قد حققت قسطا من واجبي نحو قطعة غالية من بلاد العروبة. . .
قبل الحديث عن نهضة طرابلس الغرب الحديثة سأحاول أن أعطي للقارئ صورة صادقة لتدرج الحياة الأدبية منذ العهد العثماني حتى وقتنا هذا فيرى تطور الروح الأدبي ونمو الذوق الشعري خلال هذه الحقب المتتالية ومبلغ التقدم الذي حازته هذه البلاد في زهاء ربع قرن تقريبا. . .
كانت النهضة الأدبية زاهرة يانعة، قبل احتلال الطليان طرابلس الغرب وكان فيها كثير من الأدباء المجيدين والشعراء الملهمين نذكر منهم: الشيخ علي سيالة صاحب المعلقات الشهيرة، الشيخ محمود نديم بن موسى، والشيخ إبراهيم باكير، والأستاذ العلامة سعيد المسعودي وآخرين ممن ساعدوا على نشر اللغة العربية وبعث مبادئ الحرية والحياة الصحيحة المستقلة.
وكانت جريدة (الرقيب العتيد) خير رسول أمين للنهضة الأدبية تنقل منتجات عقول الآباء ووحي شعورهم أو تفكيرهم، وكان لصاحبها الشيخ محمود نديم بن موسى اليد الطولي في(710/29)
تشجيع الأدباء ناديا للثقافة والأدب كان يلقى فيه المحاضرات المختلفة في السياسة والأدب والاجتماع ويعقد الاجتماعات الأدبية والمساجلات الشعرية والملاحم التمثيلية.
وكان الاستعمار الإيطالي، فطغى على تلك الأفكار الوثابة وغمرها بسيل من التبلبل والارتباك وسد عليها المنافذ فلم تجد ما تتسرب منه وتسمع صوتها، وأمسى هذا الوضع السياسي يسيطر على العقول وبصرف نتاج الأدباء فيما يعود عليه بالراحة والاطمئنان ويعمل ما من شانه جلب الأهلين إليه ومحبتهم له واستسلامهم لما يريد بهم المستعمر، فكنت ترى الأديب منهم يذيب دماغه ويشحذ قريحته في نظم قصيدة أو رصف مقال في مدح الحاكم وسياسة دولته مما أقعدهم على مجاراة الأمم العربية أبعدهم عن الأدب العصري الذي يتناول كل ناحية من نواحي الحياة وحصره ضمن نطاق ضيق، فالاستعمار الإيطالي أطفئ هذا السراج الذي أخذ يضيء ما حوله واخمد جذوة هذا الروح الفياض، وأضحى الأدب منصرفا إلى غير ما يقوم الحياة الحقيقية والاستعمار يناهضه ويسعى بكل ما أوتيه من قوة في إبعادهم عما يرتجي من الأدب وإقصائهم عن غايته الشريفة ويقف عثرة في سبيل الوصول إلى حقائقه المرجوة.
. . . كانت الحرب الثانية وبالا على طرابلس الغرب قاسى أهلوها من مصائبها الشيء الكثير، فشردوا في أقاليم القطر المختلفة وهجروا المدن العامرة، وصواعق الأساطيل وقذائف الطائرات تدك البيوت القائمة وتهدم شوامخ القصور بين عويل النساء وأنين الشيوخ.
لهذا كان من الطبيعي أن تهمد الروح الأدبية تماما في هذه البلاد ويسود القطر ظلام وجهل يبعث الأسى في النفوس، وكانت سنو الحرب في طرابلس مرحلة فتور وجمود في الحياة الأدبية بل في الحياة العلمية بصورة اعم، فكانت مدارس القطر مغلقة والطلاب مشردين والشباب الذي كان يتذوق شئ من الأدب أضحى طريدا في القفار، وبات القلق يسيطر على السكان ويبعث فيهم الرهبة والخوف. وانجلت الحرب عن ديار أصابها الخراب والدمار، وشعب أخره التفرق والانشقاق وقد تربى الجهل على منصة البلاد فلا علم ولا أدب ولا صحف ولا نواد.
وكان في طرابلس الغرب بعض من ذوي العلم والعرفان ممن سلموا من براثن الحرب(710/30)
الضروس فشمروا عن ساعد الجد والعمل وبدءوا صراعا عنيفا بين الجهل والعلم، يؤازرهم في عملهم هذا عدد من رجال الدين وضباط الوصاة البريطانيين فكان لنشاطهم هذا أثره في ازدهار الحياة العلمية والأدبية في سنين قليلة وانتشار المدارس العلمية والأندية الثقافية المنوعة فاقبل الشباب الطرابلسي ينهل م موارد العلم والأدب في مصر ويعود إلى بلاده مزودا بثقافة رفيعة ساعدت على تطور الحركة العلمية والأدبية في البلاد. وكان إقليم برقة أسبق من طرابلس في مضمار الحياة الأدبية، ولعل قربه من مصر خصه بهذه المزية السامية الرفيعة، فسرعان ما أنشئت فيه نواد مختلفة للأدب والعل، منها نادي عمر المختار، والنادي الثقافي اللذان كان عملهما مقتصرا على مدينة (بن غازي) إذ بعثا فيها الروح الأدبية شعرية كانت أم نثرية فنبغ الشعراء والكتاب الذين راو في صحيفة (برقة الجديدة) ميدانا فسيحا للتعبير عن شعورهم والإفصاح عما تجيش به نفوسهم. ولعل صاحب هذه الجريدة الفتية الأستاذ (صالح البوصير) في طليعة الشباب العاملين في الحقل الأدبي فقد قرانا له في صحيفته مقالات مختلفة في الأدب والعلم والاجتماع. وهناك الشاعر الملهم السيد (إبراهيم محمد الهويني) وله قصائد رائعة نشرتها له (برقة الجديدة) تباعا وفي إحداها قوله مادحا سمو الأمير إدريس السنوسي:
نظمت شعور القلب حتى غدا شعرا ... وهذبت هذا الشعر حتى انثنى درا
ومن ذا الذي يستطيع مدحا لعنصر ... تسامي فكان النجم والشمس والبدرا
أمير كان الله أعطاه حكمة ... أذل بها الأعداء وقاد بها الدهرا
فأهلا بعهد قد أنيرت سماءه ... وبعدا لهذاك الزمان الذي مرا
ومن الشعراء الشبان الذين أنجبتهم برقة السيد (محمد بشير المغربي) ومن درر قوله هذه القطعة الجميلة في شكوى الحياة والأصحاب:
على أي جنب في الحياة أميل ... ومالي في ظل الزمان مقيل
وأي سراب قد أضل مشاعري ... وظل به ماء اللجين يسيل
أسير وما هذا الطريق موصل ... لأمر وقد لا يستطاب وصول
دعوت رفاقي للوقوف وإنه ... قليل وما بين الرفاق دليل
فجاوبني منهم تقلب أوجه ... رأيت به ما في الصدور يجول(710/31)
فقلت لهم سيروا وحسبي وقفة ... وصبر على قبح المقام جميل
وأي مقام قد أقمت فليتني ... رحلت ولو أن الرحيل قفول
نسير فرادي والطريق إلى المنى ... له شعب دون المدى ووصول
وللدهر والآمال بين صدورنا ... صراع ودقات القلوب طبول
ألا إن أسباب النجاح قليلة ... وأكثرها دون النجاح كليل
وتكاد تكون مدينة (درنة) بمناظرها الجميلة الفاتنة ملهما لكثير من الشعراء والأدباء الذين قدموا للأدب العربي فصولا أدبية قيمة وقصائد شعرية خالدة، فها هو ذا شاعرها الأول السيد (إبراهيم أسطه عمر) يعبر لنا عن شعور بلده نحو سموا الأمير السنوسي:
إلى الأمير فدته النفس اهديها ... مقالة كنت قبل اليوم أخفيها
لكنني لم أجد ظرفا يلائمها ... غير الذي نحن فيه قد يواتيها
مقالة ملؤها الإخلاص ارفعها ... لقائد الشعب، قلب العشب ممليها
آن الأوان فما التأجيل يمنعنا ... لنعلن الحق إقرارا وتنبيها
وحقنا وحدة القطرين تتبعها ... حرية أنت معناها وراعيها
وفي (برقة) خلا هذين الشاعرين الشابين كثيرون وإنما لم يصلنا شئ من آثارهم العديدة (أحمد فؤاد شنيب) وهو شاعر صغير السن عاش في دمشق وعاد أخيراً إلى وطنه الأم ليبدأ نضالا أدبيا جديدا في بلاده العزيزة ومن لطيف قوله وهو في دمشق يصف ليلة مولد:
مالي أراك كدرة تتلألأ ... شعت فاكسبها البهاء جمالا
وكسوت هذا الكون أسنى شعلة ... سطعت فألهب نورها جمالا
وللنثر مكانه المرموقة في برقة والمحاضرات الأسبوعية تحتفل بأروع الكلمات الأدبية والسياسية ونحوها يلقيها شباب توفر على درس الأدب واللغة العربية وأسرارها وتلك هي قطعة نثرية لأديب درنة (فرج بن جليل) يتحدث فيها عن وحي الهجرة:
(في سجل الخلود ساعات فاصلة ولحظات حاسمة إذا انحرف فيها ميزان القدر يمنة أو يسرة تبعته نتائج كبيرة خالدة وأثار عظيمة باقية تجر ورائها الخير الكثير أو الشر المستطير وتبعث في الدنيا ضياء باهر أو انتشر ظلاما دامسا. ومن اخطر تلك اللحظات واعظم تلك الساعات تلك التي هاجر فيها محمد بن عبد الله، تلك اللحظة الخالدة في تاريخ(710/32)
الإسلام ذات الفضل الأكبر في تغيير مجرى تاريخ البشرية)
وهذه قطعة أخرى لأديب شاب من شباب طرابلس الغرب يصور لنا كيف راقب الهلال وصحبة ليلة العيد:
كنا بربوة جماعة نترقب ظهور الهلال وكانت أنظارنا معلقة بالسماء نجوب بها باحثين منقبين في صفحاتها نريد بصيصا من نور يكون حجة لنا بعيد، وبعد لأي من زمن طال فيه اتجاهنا إلى السماء إذا بخط وضاء لا تكاد تدركه الأبصار يتجلى في كبدها أشار بعضنا إلى انه الهلال. . . الخ. . .
تلك يا قارئ نماذج صادقة شعرية ونثرية من أدب طرابلس الغرب، ولعلك أدركت انه لم يصل بعد إلى درجات الكمال والسمو شأنه في البلاد العربية الأخرى، ولكن الأمل العظيم أن يثمر الأدباء اللوبيون عن ساعد الجد فيبعثوا لأدبهم ماضيه القديم وتغدوا مؤلفاتهم الأدبية وكتبهم العلمية في صدارة مكتبات البلاد العربية فإن عهد الخمول وكبت الملكات وخنق الحريات قد زال بخلاص هذه البلاد من جور الإيطاليين وظلمهم واصبح الطريق ممهداً أمام الأدباء ليعززوا أدبهم ويجددوا للغة العربية منزلتها في بلادهم وليس هذا ببعيد إن شاء الله
صلاح الدين بن موسى(710/33)
يقظة. . .
(مهداة إلى الصديق الكريم الأستاذ محمد العلائي)
شاب الظلام وفارقتهُ الأنجم ... والأفق عن إصباحه يتبسَّمُ
وتحدث الزهر الضحوك مبيِّناً ... معنى السرور وان يكنْ لا يفهم
فاعجبْ لشارح قصة هو جاهلٌ ... اسبابها، ولعالم لا يعلم
وقد اشرأبَّ النخل يُزهى جيدُه ... بقلائدٍ مرجانها يتضرم
مرِحاً تداعبه الصِّبا فترى له ... رقصاً عن المرح الرزين يترجم
فافرح بأعياد الطبيعة إنها ... متجدداتٌ، كلُّ صبح موسمُ
وإذا تجهَّمَتِ الحياةُ هنيهة ... فاصبر فوجهُ المزن فيه تجهم
كم نعمة لبست ثياب رزيَّةٍ ... حتى تداعبَ من بها يتبرم
فإذا التجهم بسمةٌ، وإذا الشقا ... ءُ سعادةٌ، وإذا الرزايا انعم
أو ما ترى الدخلاء في أوطاننا ... قد أيقظوا الأفكار رغماً عنهم
كم ابرموا أمر الجلاء وقرروا ... فإذا غدوا انقضوا الذي قد ابرموا
فأفادنا التسويفُ عزماً لا يني ... عما نروم، وهمةً لا تحجم
هم أقوياء بالعتاد حقيقة ً ... لكننا بالحقّ أقوى منهم
(الزقازيق)
توفيق عوض(710/34)
حول مهرجان جامعة الأدباء بالفيوم:
في موكب الشعر:
للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي
قرأت هذه القصائد الثلاث التي أنشدها الأستاذة الغزالي وطاهر والعوضي في مهرجان أدباء العروبة بالفيوم والتي نشرتها (الرسالة) فوجدت فيها من قبس الفن، وروح الشاعرية، واختلاف المواهب الفنية في الشعر، ومن طريقة كل شاعر في التصوير، وأسلوبه في البيان، ما يستحق النقد والدراسة.
شعراؤنا الثلاثة متشابهون في الثقافة، متقاربون في النزاعات؛ ربطهم صلات الصداقة والأدب والدراسة في مدرسة واحدة، والحياة في ميدان واحد، أو كالواحد، بروابط قوية متينة؛ ولكنهم مع ذلك يختلفون في نزاعاتهم الفنية اختلافا كبيرا.
فالغزالي شاعر وصاحب فن في شعره؛ وطاهر شاعر يعلن بشعره الثورة على الحياة؛ والعوضي شاعر صناع يحفل شعره بالصنعة الهادئة الجميلة؛ وهذه النزاعات الفنية المتفاوتة تكاد تلمسها في هذه القصائد الثلاث كما تقرؤها في ملامح وجوههم وألوان حياتهم طوى (الغزالي) والصحارى في سفرهم لرياض الفيوم الساحرة بعد ما هزه الشوق لزيارتها، وصور ذلك كله في مطلع قصيدته الرائع:
من لسارٍ إليكِ يطوى الصحارى ... هزَّه الشوقُ أن يزور فزارا
ثم يصور عواطفه وإجهاده وقلقه وسهده قبل سفره وتطلعه إلى الفيوم لتزيل عنه أثر كل هذا العناء في تصوير جميل أخاذ فاتن:
عابراً كالطيوف ولهانَ كالأنسام ... هيْمان كالأماني الحيارى
مُجْهَداً علَّ في ظلالكِ مأوى ... قلِقاً علَّ في رُباكِ قرارا
ومم كل هذا الإجهاد والقلق والشقاء؟ وقد فارق الشاعر محبوبه و (رفيق صباه) فعاش عيشة البائس الشقي المحروم من أجمل ما في الحياة:
يا جنان الفيوم نازحُ أيكٍ ... بانَ عن عشه إليك وطارا
قد خلا العش من رفيق صباه ... فمتى تالف القطاةُ الهزارا
نسلتْ ريشة الليالي طوالا ... أترى تصبِحُ الليالي قصارا؟(710/35)
ويستمر الشاعر يصور آلامه وآماله وعواطفه في حبه؛ متمنيا أن يكون له في رياض الفيوم سلوى، شاكيا إلى عذارى الرياض ما يلقاه من أترابهن العذارى:
أتراه هنا سيمسي قريراً ... في رياض الفيوم طابت جوارا
يا عذارى الرياض من كل شاد ... أنا أشكو إلى العذارى العذارى
أنا أشدوا لها جراحي شعراً ... فعساها تُضَمِّد الأشعارا
ثم تذكرهم بحيرة قارون في دجى الليل بمحبوبه، فيشدو ويصدح مؤكدا وفاءه لعهد الأحباب:
يا أحبَّاي والديارتناءت ... كيف أنسى أحبتي والديارا
لست أنسى ملاعبي والضفاف ... الخضر تجري من تحتهن نضارا
لست أنسى بها مواثيق عشنا ... نتحدى بصدقها الأقدارا
لست أنسى ولا أخالك تنسين ... فحتى متى نطيق انتظارا
أما (طاهر) فقد شاهد قافلة الشعر تسير إلى الفيوم وفيها الأدباء والشعراء والوزير الضخم فعنى بتصوير هذا الموكب وجماله أكثر من أي شئ، إنه لموكب رائع للبيان وكما يقول:
موكب للبيان فيه اللواء ... يفزعُ الدهرَ وخدُه والحُدَاءُ
ضاربٌ في صَحرائها يسبق الركب ... جلالٌ من هدية ورُواءُ
مثلما يسبق الشعاعُ إذا ما ... أعلن الصبحَ للوجود ذُكاءُ
والشاعر لا ينسى نفسه في هذا الموكب، وكيف ينسى وهو الذي (في محرابه يعبد الفن وتستهوي ضوءه الأضواء)؟
لو تحس البيداء منِ سار فيها ... لتغنَّت من شجوها البيداءُ
شاعر في محرابه يُعبد الفنُّ ... وتستهوي ضوءه الأضواءُ
ذو بيان لو عاقرته الندامى ... لتناهت عن شربها الندماءُ
وهتوف يكاد يشرق في أنحاءه ... الخبر والمنى والرجاءُ
ثم يعلى شأن الفن في الحياة ويثور على العلم الذي أصبح المعلول الهدام في صرح الحضارة:
ومن الشعر ما يعلمك الحق ... إذا موَّه الوجودَ الرياء(710/36)
ربما استعنت الحياة عن العلم ... على رغم ما أتى العلماء
وعلى الفن وحده عاش أج ... دادُك دهراً وهم به سعداء
ثم يعود إلى قافلة الشعر وموكب الشعراء ومن فيه من (الأبدال والأدباء) و (الوزير الضخم) حتى يحط رحاله في رياض الفيوم:
وإذا نحن في رياض من الشعر ... لها رونق وفيها صفاء
ثم يشيد برحم الفن وصلات الأدب التي جمعت بين أدباء الجامعة وبين أدباء الفيوم:
صلة وثَّق البيان عراها ... ونماها فكلنا أقرباء
جمع الشعر بيننا في صعيد ... ومن الشعر منسب وإخاء
أما (العوضى) فقد وصف ذكرياته في الليالي البعيدة مع أحبائه، وأثر هذه الذكريات في قلبه، ثم وصف روضات الفيوم وجمالها، (الأخوان الكرام) الذين استقبلوه هو وصحبة فيها، وصلات الأدب والعروبة التي تجمع بين الأدباء والشعراء، يقول:
حدا الركبَ حادية فأين مكانيا ... أُبين من الأشواق ما كان خافيا
على شفتِي من خمرة الحب نشوة ... تَلهَّب ترنيمي بها وغنائيا
لنا ذكريات في الليالي بعيدة ... ألا من يعيد اليوم تلك اللياليا
ثم يستمر في شدوه الهادئ وتصويره المصنوع فيصف الفيوم وفتنها:
سقى الله في الفيوم روضات فتنة ... ونضر فيها أربعاً ومغانيا
فراديس منضورٌ بها الظل والجنى ... تألَّقُ نوَّاراً وتسحر شاديا
وإخوانه الكرام فيها الذين سقوه صافى الود:
فجئنا لأخوان كرام وصحبة ... سقونا من الودِّ المطهر صافيا
ويشيد بصلة العروبة التي جمعت بين الجميع وبذلك ينتهي من قصيدته:
هذه هي الأغراض العامة لكل شاعر في قصيدته وهي تجمع بين العواطف الوجدانية والوصف الفني، وكنا نود أن تكون قصائد هؤلاء الشعراء أوسع نطاقا من هذا الأفق المحدود؛ ما ضرهم لو كانت قصائدهم في القرية والحياة فيها أو في النيل وأثره في وحدة الوادي أو في العلم وآثاره على الحضارة في عصر الذرة، أو في شتى الأغراض القومية أو الإنسانية العليا؟ ولكنهم أثروا تلك السبيل الفنية وحدها فلم يشعروا إلا فيها وفيما يتصل(710/37)
بها من العواطف الوجدانية وإن كان (طاهر) قد خرج قليلا عن هذا المجال فأشاد بالفن وأعلن الثورة على العلم والعلماء:
إنَّ من أطلقوا العقول علينا ... لست تدري: أأحسنوا أمأساءوا
ربما استغنت الحياة عن العلم ... على رغم ما أتى العلماء
أما من حيث الأسلوب: فالغزالي يشعر ويسحر ويبلغ في التصوير منزلة كبيرة، نجد ظلالها في كثير من أبياته كما يقول عن نفسه:
عابراً كالطيوف ولهان كالأن ... سام هيمان كالأماني الحيارى
وقوله وهو يعبر عن نفسه أيضا:
يعبر الليل في خداع الأماني ... وتمِّنى آصالة الأسحار
وقوله:
والشوادي من حولنا مرهفاتٌ ... سمعَها تستبينُنَا الأسرار
وقوله:
لست أنسى بها مواثيق عشنْا ... نتحدَّى بصدقها الأقدار
وسوى ذلك من قصيدته التي تمتاز بما فيها من (عيون) كما يقول النقاد؛ ولكنه على رغم ذلك يخطئ سبيل الفن أحيانا فبيته:
يا عذارى الرياض من كل شاد ... أنا أشكو إلى العذارى العذارى
يقصد فيه العذارى حقا؛ فوصفهن بالسحر والفتنة ورقة العاطفة أولى من وصفهم بالشدو، بل وصفهم بالشدو يكاد يكون لا معنى لتخصصهن به من بين سائر الأوصاف. ولو قال (من كل أحوى)، مثلا لكان أولى؛ وتضميد الأشعار في بيته:
أنا أشدُو لها جراحي شعرا ... فعساها تضمّدُ الأشعاراً
لا معنى له، فما ألفنا في القول بان الأشعار تمثلت جراحا بل هي استعارة نافرة عن سمع العربي وذوقه. والبيت:
والتي قد تخذْتُها مجدافي ... خصل أُرسلتْ عليَّ نثارا
لم أفهمه فوق ما فيه من (تشعيث) قافيته، وهذه الهنات لا تغض من القصيدة مكانها الأدبية.
أما (طاهر) فمستوى الشاعرية في أسلوبه، ولكنه في ثورته الفنية التي يستمدها من روحه(710/38)
الثائرة، يبعد أحيانا عن الاجادة، كما تراه في قوله:
الطريقَ الطريق: قافلةُ الشعر ... وركب الوزير والوزراء
وفي قوله يتحدث عن حلهم في رياض الفيوم:
طرق الشعر بابها، فإذا شعر ... يقول: ادخلوا وطاب الثواء
وذلك سبيله في فنه، يثور حتى على سبل الفن الواضحة المألوفة. و (العوضى) أظهر استواء في شاعريتهلأنأسلوبه أسلوب مصنوع تأنق الشاعر في صوغه كما أراد، وهو فيه هادئ واضح، من حيث كان (طاهر) مفكرا ثائرا، والغزالي فنانا شاعرا.
وفي قصيدة (طاهر) روح الحارث ومعلقته:
آذنتْنا بينها أسماء ... رب ثاو يملُ منه الثواء
بل هو يستعير يعض أبياتها:
اجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
كما يستعير بعض ألفاظها وقوافيها، ولكنه مع ذلك ذو شخصية قوية في قصيدته.
والغزالي يشترك في بعض معانيه مع بعض الشعراء؛ فبيته:
نسلتْ ريشه الليالي طوالا ... أترى تصبح الليالي قصارا؟
شبيه بقول ابن أبي ربيعه في المعنى والوزن والقافية من قصيدة طويلى:
والليالي إذا نأيِتِ طوالٌ ... وأراها إذا دنوتِ قصارا
ولكن في قوله (نسلت ريشه الليالي) زيادة في بليغة ليس لها نظير في بيت عمر.
أما العوضي فتكاد قصيدته تشبه قصيدة جرير - في الفن والروح:
ألا أيها الوادي الذي ضمَّ سيله ... إلينا نوى ظمياءُ حييِّتَ واديا
إذا ما أراد الحي أن يتفرقوا ... وحنَّت جمال الحيّ حنِّت جماليا
وان كانت تختلف عنها في كثير من الأوصاف الفنية.
هذا ما أردت أن أذكره من نقد أدبي لهذه القصائد الثلاث لشعراء لهم من بين شعرائنا الشبان مكانة ممتازة ومجد أدبي نرجو أن يعملوا له ليكون لذلك أثره في مستقبل القريض وبالله التوفيق.(710/39)
الأدب والفن في أسبوع
محو الخلافات المذهبية توثيق لعرى الوحدة الإسلامية:
تألفت في مصر لجنة كبار رجال الفكر وعلماء الفقه والمعنيين بالدراسات الإسلامية هدفها رفع الخلافات المذهبية بين المسلمين وتمحيص المسائل التي هي مثار هذه الخلافات في ضوء البحث الحر والتغاضي عن النزعات التي تدعو إلى التعصب في الفروع والمسائل الشكلية.
وهذا هو الواقع عميل جليل، فإن هذه الخلافات التافهة كانت شر ما منيت به الوحدة الإسلامية، وكانت عامل التفرقة بين صفوف المسلمين، حتى شتتت شملهم وصدعت بنيانهم الأصيل، فلم يقو على رد المستعمر الدخيل.
لم تكن هذه الخلافات في شئ من أصول الدين الواضحة، ولكنها كانت من صنع السياسة وأصحاب الأغراض والمآرب في الملك والحكم يوم كان الدين هو الأساس في الملك والحكم، فأخذ هؤلاء يؤلفون العصبيات ويخلقون الجماعات، بما يختلقون من الأخبار والآثار، وبما يعملون في إثارة النفوس وتأريث العداوات، وزاد في البلاء بهذا صنيع الجهلة من الفقهاء الذين كانوا يستجيبون لأهل السلطان وطلاب الحكم بما يقوي نعراتهم ويتمشى مع أهوائهم ومن العجيب أن الأيام تطورت، والأحداث تواترت، وفتح على المسلمين من أبواب البلاء والعناء ما بصرهم بعاقبة الوبال في تلك الخلافات التي فرقت الصفوف، وباعدت بين القلوب ولكنهم لم يتبصروا لحالهم، ولم يدبروا لشانهم، ولم يسارعوا إلى إنقاذ أنفسهم، حتى يمكنهم أن ينقذوا أنفسهم من غيرهم!!
وكثير ما أشفق عقلاء المسلمين من هذه الحال الأليمة، وكثير ما أهاب المصلحون والغير على الإسلام والوحدة الإسلامية بالمسلمين أن يتلافوا تلك الصغائر وأن يوحدوا بين اتجاههم في الرأي لتم لهم الوحدة في الغاية والهدف بازاء الاستعمار الأجنبي وتغلغل الدول الأوربية في بلادهم، وقد كان السيد جمال الدين الأفغاني رضوان الله عليه وهو شريف النسب يعتد بنسبه كثيرا - أول من ندد بهذه الحال وسخر من المسلمين لإصرارهم عليها وهزئ بأولئك الذين يتخذونها مجالا للكلام، ومن كلماته المأثورة في ذلك (لا يصح بحال أن نجسم أمر هذه الفروق في الفروع ونجعلها واسطة للتفرقة وللنزاع فالخصام والاقتتال، وإذا(710/40)
سلمنا أن وجود جهل الأمة وسفه الملوك الطامعين في توسيع ممالكهم كان مفيدا في الزمن الماضي، أو يرجى ورائه إحقاق حق وإزهاق باطل فأن بقاء هذه النعرة إلى اليوم ليس فيه إلا محض الضرر وتفكيك عرى الوحدة الإسلامية وقد آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة ومن هذا الموت قبل الموت. .)
هذه الصيحة التي هتف بها السيد جمال الدين الأفغاني منذ أكثر من ستين عاما كثيرا ما تداولها الألسن، وتناولتها الأقلام، وهتف بها المشفقون على الوحدة الإسلامية والداعون لجمع كلمة المسلمين، حتى اقتنع السواد الأعظم بضرورة تحقيقها ووجوب العمل على تنفيذها وإني لأذكر إنه لما عقد المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931 تقدم فضيلة السيد آل كاشف الغطاء وأم وفود المسلمين للصلاة في المسجد فطرب المسلمون في سائر أنحاءالأرضلهذا النبأ ورأوه بشير خير وتمنوا أن تكون هذه بداية القضاء على الفروق المذهبية القائمة. وقد كان من الطبيعي أن يفزع الاستعماريون لهذا، وأن يتساءلوا عن الخطوة التي تكون بعده، ولذلك أخذت الصحف الأجنبية يومذاك تعلق على هذا النبأ بمختلف التأويلات، والتهويلات، وقالت إحداها وهي بسبيل تحذير الاستعمار الأوربي: يظهر إن المسلمين بدءوا يجمعون كلمتهم للقيام بحرب مقدسة ضد العرب من أجل إبقاء فلسطين.
وفي مقام الأنصاف نذكر أن المغفور له الشيخ المراغي طالما ردد الدعوة إلى هذا الغرض، ونادى جهارا للعمل على تلافي تلك الخلافات التي لا مبرر لها، والتي تؤدي إلى الأضرار بالمسلمين بقدر ما تفيد الاستعمار والمستعمرين.
ولعل القراء يذكرون أن (الرسالة) كثيرا ما أهابت بهذا في كل فرصة سانحة ومناسبة داعية، وكثيرا ما باركت أصوات الدعاة لهذا العمل، والحداة للركب أن يسير، ثم كثيرا ما تعجبت للمسلمين أن تظل بينهم هذه الخلافات قائمة وهم الذين يتوجهون جميعا إلى قبلة واحدة، ويأخذون بكتاب واحد هو القرآن ويسيرون بهدى نبي واحد هو محمد صلوات الله عليه، فإذا ما تألفت اليوم لجنة من أكابر الفضلاء والعقلاء للعمل على محو هذه الخلافات وتمحيص الآراء في دائرة الفكر الحر، فإن مما يطرب الرسالة أن تبارك هذا العمل وأن ترجوا التوفيق فيه، كما يطربها ويسرها أن تسهم في ذلك، وأن تفسح في صفحاتها لما(710/41)
يكون من تمحيص فكرة، أو تصحيح رأي، أو تحقيق مسالة، أو إذاعة دعوة في هذا السبيل.
كان. . . ثم انقضى!
إلى عهد أدركناه كان المولد النبوي الشريف موسما للأدب والشعر والفن والغناء وكان في هذا مجلى العبقريات الكبيرة والأصوات الرخيمة، والمواكب الضخمة الحافلة بكل لون وكانت مصر تمضي على هذا ثمانية أيام وكأنها في فرح شامل عام وكأني بالناس قد ابتدعوا بدعة الحلوى في المولد النبوي حتى يتخففوا من الطعام الثقيل ليفرغوا إلى ما ينشدون في مباهج المولد من متع الفن ومجاليه. . .
كان المولد النبوي موسما للسهرات العظيمة الممتعة بقيمها الأثرياء والوجهاء من أرباب البيوتات الكبيرة العريقة، ويستقدمون لإحيائها عباقرة المغنين وأهل الفن من أمثال عبدة الحموالي ويوسف المنيلاوي وأحمد ندا وعبد الحي ومحمد عثمان وغيرهم؛ ويفتحون أبوابها لرواد الحظوظ والسماع من سائر الطبقات، ويمدون في أسبابها إلى نفوس الفقراء بنحر الذبائح وإطعام الطعام. . .
وكان المولد النبوي موسما لأقامة الحضرات الشجية الفخمة، يقيمها أبناء الطريق على شروطهم ويحيها كبار المنشدين على ذوقهم، ويقبل عليها الناس من كل لون، يستمعون لرائع التواشيح ورائق الفن. .
كان المولد النبوي ذكرى تهز عواطف الشعراء، وتملا وجدانهم، وتسموا بنفوسهم وأرواحهم، فتجيش شاعريتهم بأقوى القصيد وبارع النشيد، ويهل (شوقي) على العالم الإسلامي ليهز عواطفه بقوله: (ولد الهدى فالكائنات ضياء.)
وأخيراً كان المولد النبوي صلة بين الحاكمين والمحكومين، فكان الشعب والحكومة يلتقيان في ساحة، ويتقابلان في أحيائه، ويتقاربان في ذلك على المحبة والألفة والتخلص من الأوضاع الرسمية والبرامج الأميرية ولهذا كان الشعب يشعر دائما بأنه قريب من نفوس الحاكمين. . .
كان هذا كله. . . وكان المولد النبوي يأتي كل عام بجديد في هذا كله أما اليوم فقد انقضى هذا كله، وأصبح الشعب بسائر طوائفه وطبقاته لا يحس بهذا المولد الأعلى وضع رسمي(710/42)
آلي، فالموظف لا يعنيه منه إلا إنه يوم راحة من عناء الديوان، والتاجر لا يحفل فيه إلا ببيع لعب الحلوى للاطفال، وطوائف الشعب لا تستقبله إلا على أنه عادة خلقتها الأيام، أما أبناء الذوات والبيوتات فلم يعد هذا الموسم منهم على بال، وهيهات أن يبلغ في تقديرهم مبلغ سهرة من سهرات (بديعة). وأما أرباب الشعر والفنفإنهميعتقدون أن المناسبة فيه مناسبة قديمة عتيقة. وهكذا مضى المولد النبوي هذا العام وكأنها الرسوم المحلية، وكلمات ألقاها بعض الوعاظ والخطباء وهي لا تعدوا الألفاظ والتعابير التي تموت على الشفاه. . . فما الذي عدا مما بدا؟ هي طبيعة العصر ووجهته، أم ظروف العيش وقسوته، أم هو صنيع الآلة بنا حتى أصبحنا لا نحس الحياة في أجلى مظاهرها إلا على وضع آلي؟!. . .
شاعر يتحدث عن الشعر:
ألقى الأستاذ عمر أبو ريشة الشاعر المعروف في (النادي العربي) بدمشق حديثا عن الشعر وما ينشد من المثل الأعلى في الحياة قال فيه:
(. . . كم شعرت برعشة وأنا أقرا بعض الشعر! وكم حاولت أن أتبين المواطن التي أثارت عندي هذه الرعشة فكنت أبوء بالخيبة)
(أنا في كل يوم أحب وأكره، وأومن وأكفر، فلا أقيم على رأي، ولا أستقر على اتجاه. . . قرأت منذ أمد بعيد الملاحم في الشعر، فأسكرتني روعتها، وهزتني حيويتها، حتى إذا كدت احسبها ما ينتهي إليه طموح شاعر، سمعتني أتمتم بيني وبين نفسي: ما لي ولهذا الشعر الذي ترضعه الخرافة، ويريبه المجهول، ليصبح تسبيحا للماضي السحيق الموهوم؟ ومرت الأيام، إذا أنا في إحدى العشيات، وبعد أن شيعت صديقا عزيزا علي إلى مقره الأخير أمد يدي إلى (الألياذة) مندفعا برغبة ملحة إلى قراءة دموع (أخيل) على جثمان صديقه (بتروكلس)، تلك الدموع التي قراها قبل الشاعر (بيرون)، فشعرت بميل خفي نحو (هومير) فرجعت إليه وقرأته مرة ثانية في نشوة وطرب وأصبحت أجد في الملاحم متعة للنفس المثقلة بأسرار الحياة وأعبائها، فإذا كانت غاية الشعر كما تقول بعض الآراء أن يرفه عن النفس، ويخرجها من افقها الضيق، وينسبها ما يحيط بها من متاعب الدنيا ولو إلى حين، فلماذا أربأ بالشعر أن يكون مشحونا بالخرافات والأوهام؟)
(وقد قرأت الشيء الكثير من القصائد والمقطوعات الشرقية والغربية حتى إذا ارتويت، أو(710/43)
ظننت أني ارتويت، سمعتني مرة أتمتم بيني وبين نفسي: ما لي ولهذا الشعر الذي يخنق الروح الحساسة المرهفة، ثم ينشرها أشلاء مشوهة بألفاظه وتعابيره. . إن الحياة والطبيعة ينبوع الشعر، وهو ما تعيه الروح قبل أن يعيه السمع والإدراك، وليس إلى هذا الشعر الذي يروي ظمأ الروح من سبيل؟. .)
(إذن ما هو مثلي الأعلى في الشعر؟ أأريد من الشعر أن أشم فيه روائح الحياة، وأسمع منه أنفاسها، وأتذوق به نكهاتها؟ أمأريد من الشعر أن يغيبني في هذه الحياة حتى لا أعود اشعر بكياني الذاتي؟ لا أدري ماذا أريد!!. .)
(إلى هذه الدرجة انتهى بي القنوط من فهم الشعر فهما منطقيا، فعجيب إذن أني ما أزال اكتب الشعر! واعجب من هذا كله إنني أحدثكم هنا عن كيف اكتب الشعر! والواقع أني إذا تركت جانبا الموازين المنطقية التي تزن بها قيم الشعر، والتي أراها لا تشفي غلة ولا تبلغ غاية لأن الإحساس بالجمال - كما أرى - مصدره العاطفة والذوق لا العقل والعلم، وأقول أني إذا تركت تلك الموازين جانبا، والتفت إلى الشعر الذي أكتبه، وجدتني فيه شاعر قصيدة لا شاعر بيت ومقطع، والقصيدة عندي فكرة معينة ينطوي تحت أجنحتها الثلاثة: الخيال، واللون، والنغم) هذا ما تحدث به الشاعر (عمر أبو ريشة) عن الشعر، وإنه في حديثه لشاعرأيضاًيفهم الشعر بعاطفته وذوقه، ويعترف بعجزه عن أن يجد في ذلك سبيلا للموازين المنطقية، ومقتضيات العقل العلم، وهذه الحقيقة هي التي عاناها رجل المنطق (سقراط) منذ الآلف السنين إذ قال: لقد وجدت جميع الناس يفهمون الشعر أكثر مما يفهمه الشعراء أنفسهم. .
والخلاف القائم بين الشعراء والنقاد يبتدئ من هنا، فالشعراء يقولون إن الشعر مجرد عاطفة وذوق وينتهون عند هذا، والنقاد يقولون إن الشعر منطق وفهم ويتشبثون بهذا، وذو آن لنا أن نفهم أن الشعر هو الجانبان معا. وعجيب من الشاعرأبيريشة أن يقول: (إن ينبوع الشعر هو الحياة والطبيعة)، ثم ينتهي بعد ذلك إلى إنكار الموازين المنطقية في فهم الشعر، وهل (الحياة والطبيعة) عاطفة وذوق فقط، أو هما عقل ومنطق فقط؟. . . كلا! ولكنهما كل ما في الإنسان. .
مات إلياس أبو شبكة:(710/44)
هتف الناعي من بيروت منذ أيام بموت الأديب الشاعر إلياس أبو شبكة، فعز نعيه على أصدقائه وعار في فضله، وهز فقده وجدان أبناء العروبة القادرين لفضله. . .
مات إلياس أبوشبكة وهو في عنفوان الحياة، إذ كان أوفى ما يكون نشاطا وإنتاجا وكانت آثار قلمه البليغ، وفنه الرفيع تتناثر على أبناء العروبة كأنها قطرات الطل على أوراق الزهر. وهكذا تحطمت (القيثارة) فجأة وهي لما تزال مشدودة الأوتار، تردد أعذب الألحان وأطيب الأناشيد.
نشأ إلياس رحمة الله عليه فتى يتيم، فقد فتكت يد أثيمة بوالده في مطارح الغربة بعيداً عن زوجه وصغاره، فكانت فاجعة قاسية أفعمت نفس الفتى بالألم، وأرهفت قلبه بالأسى والشجن، ثم كانت الحرب العالمية الأولى وآثارها في لبنان موطن الشاعر. . . أرض لا يعمرها (إلا أشلاء الجائعين، ونسمات لا تحمل إلا عبق البارود وأبخرة الدماء والدموع، وأطيار ماتت في الحقول على الأغصان المتكسرة والأوراق اليابسة الصفراء، وليس من حداء الحياة إلا أنين المتألمين وحشرجة البائسين)، ومن هذا كله تغذت نفس الياس، وعلى هذا كله تفتحت شاعريته، فنبت كالزنبقة البيضاء على قمم لبنان وفي أحضان أغواره يتموج بالنشيد، ويهتف بالقصيد. .
وصف فقيد الأدب (فيلكس فارس) شاعريته وهي تتماثل للتمام علم1925 فقال: (لقد قرأت شعر إلياس أبوشبكة قبل أن أعرفه، فجزعت نفسي عليه من نفسه. سمعته ينطق بأرق ما في القلب من الحب، وبأرقى ما في الحب من الوحدة والإخلاص، فقلت إنه قلب معد للسحق، مهيأ لأنيذبح على مذبح غواية الغانيات في زمان وفي وطن تمرد فيه المرأة على كل شئ لتمد عنقها صاغرة أمام آلهة التقليد والبذخ والمطامع. .)
(ورأيته يترامى متهالكا على المغاور المظلمة وقد رفع بيمناه قبس النور، ونبضات قلبه تتدفق بآيات الحكمة من فمه، فارتعشت نفسي أمام هذا الشاب المتلاعب بالحياة والموت، وقلت ان مغاور الظلمة ستبتلعه، وإن قبس النور سيحرق يمناه. .)
(وشاهدته يتهدد سلطات النفوذ والجهل والمال، ويصرخ بالأمة داعيا إلى النهضة والحياة، وسمعت في شعره أجمل شاعر لنصرة الحق على الباطل، فأمسكت على قلبي وسترت عيني بيدي حتى لا أرى ضحية جديدة وشهيدا جديدا. .).(710/45)
(ثم رأيت إلياس أبيشبكة بعد أن قرأته، فعاينت شعره فيه، كما عاينته في شعره. . إن في لفتاته لمعات ليست من هذه البلاد ولا من هذا الزمان، لقد انتقم جسده من روحه قبل أن تنتقم السلطات منه، ويبتسم الشعب المستعبد لأقواله. .).
ذلك هو إلياس أبوشبكة الذي فقده الأدب والشعر، وتلك هي شاعريته التي خسرها الفن والحق، نمت واكتملت، وظهر من آثارها الخالدة ما أكبره أبناء العروبة وقدروه حق قدره. على إنه إلى جانب الشعر كان كاتبا له أسلوبه المشرق، وتعبيره المونق، وفنه المتدفق، فلا شك أن كان فقده نكبة للأدب وخسارة على العربية.
مبشر ثقافي أم سياسي:
لقيني صديق كريم من أبناء سوريا فحدثني عما نشرته (الرسالة) عن رحلة الأديب الفرنسي الكبير الأستاذ جورج ديهاميل إلى بلاد الشرق العربية: (لقد قرأت ما كتبتموه في عددين سابقين عن هذه الرحلة التي يقوم بها مسيو (جورج ديهاميل) الآن، ووصوله إلى مصر لألقاء بعض الأحاديث والمحاضرات، وقد أعجبني أن فطنتم للغرض من هذه الأحاديث والمحاضرات إذا قلتم إنه يقصد بهذا إلى الدعاية للثقافة الفرنسية، وأحب أن أقول لحضراتكم ولقراء الرسالة الكرام، إن ديهاميل قدم إلى أقطار الشرق العربي وفي برنامجه الرسمي الموضوع أن يرى بعينيه ما يريد العرب والمسلمون، وأن يستمع بأذنيه إلى ما عندهم من الآراء فيما يقصدون ويهدفون، وعليه من ضوء ما يرى وما يسمع، أن يذكر بما أدته الحضارة الغربية عامة، والفرنسية خاصة إلى العرب والمسلمين والى التراث الإسلامي، وأن يواجه أنظار الذين يقابلهم ويتحدث إليهم إلى أن مطامحهم لا يمكن أن تتحقق إلا بتمام الاتفاق والحرص على الاتصال بالحضارة الغربية، أو بمعنى أخص وأجلى بالحضارة الفرنسية. . . فهو في الواقع مبشر سياسي يصبغ فكرته بصبغة الثقافة، ولعل ديهاميل يقتنع في نهاية الأمر بأن الشرق قد أصبح على بينة من أمره، وأنه صار يدرك تمام الإدراك أن نفوذ الثقافة لا حد له، ولا وطن له، ولكن نفوذ السياسة يجب أن يكون محدودا بالحدود الطبيعية، محصورا بالدعائم القومية، وعلى هذا الأساس الذي هو ضمان السلام فيالأرضيريد الشرق ان يصغي على حسابه مع الغرب).
شئ مضحك؟؟(710/46)
نشرت إحدى الصحف اليومية برقية لمراسلها الخاص يقول فيها: (إن أبناء تونس تدل على أن في هذه البلاد نهضة كبيرة في ميدان الأدب العربي بصفة خاصة، والعلوم بصفة عامة، ومن الأدلة على ذلك أن مسرحية هامة بعنوان (هرون الرشيد) ستمثل قريبا برعاية جمعية النهضة التمثيلية، وستتبعها رواية (فتح العرب لصقلية) بإشراف جمعية الاتحاد المسرحي، كما مثلت رواية (مجنون ليلى) من قبل على مسرح المدينة الرئيسي، ورواية (طارق بن زياد) ثلاث مرات).
ثم تقول البرقية: (ومن النواحي الأخرى في هذه النهضة زيادة عدد الصحف اليومية والأسبوعية، فقد ظهرت جريدة (المرآة) وهي وطنية، ومجلة الشعب التونسي - وهي تنطق بلسان نقابات العمال).
وأخيرا تقول هذه البرقية (وقد ساهمت المرأة التونسية في تثقيف بنات جنسها، واشتركت كثيرات منهن في إلقاء المحاضرات، ومنهن الآنسة - ليلى حلواني - التي تذيع رسائل بالراديو عن فائدة الرياضة للمرأة، وتجمع الآن اكتتابات لإنشاء مدينة جامعية في ضواحي تونس على مثال مشروع المدينة الجامعية في مصر، وما زالت التبرعات تتدفق على العاصمة لهذا الغرض، وقد زادت حتى الآن على عدة ملايين من الفرنكات).
قرأت هذه البرقية فضحكت، وإنها لشيء يدعو إلى الضحك، وإلى السخرية، وإلى الإشفاق! وهل ثمة أعجب وأغرب في هذا العصر من أن يعتبر تمثيل رواية، أو إنشاء مجلة، أو إذاعة آنسة لحديث دلائل (نهضة كبيرة في ميدان الأدب العربي بصفة خاصة والعلوم بصفة عامة)!! إن هذه الأمور التي تعددها البرقية وتشيد بها ليست إلا أمور بدائية ينهض بها التلامذة في مدارسهم. ففي أي مدرسة ثانوية يمثلون الروايات، ويصدرون المجلات، ويذيعون المحاضرات والمناظرات، فكان هذه (النهضة الكبيرة) في تونس بعد هذا الدهر الطويل ليست إلا نهضة مدرسة ثانوية لا أكثر ولا أقل.
على إنك إذا علمت أن هذه البرقية إنما أذيعت من باريس، وأنها دعاية استعمارية هدفها التمويه والتلبيس، وتبينت حقيقة الحال في ذلك القطر الشقيق، وأدركت أن هذا الذي يمن به الفرنسيون في تلك البرقية قد كشف صنيعهم، وأظهر للناس كيف أن الحياة الأدبية في قطر عريق عتيد لا تزال عند ذلك الوضع البدائي التافه الذي لا يعدو مشاهدة رواية(710/47)
تمثيلية، وذلك كله بفضل الاستعمار الفرنسي العريق العتيد!!
لقد آن لفرنسا أن تعلم أن كل هذا العناء في التمويه أصبح لا يجدي ولا يخفي حقيقة الحال في تونس، فإن أبناء العرب في سائر الأقطار يدركون الحقيقة فيما تفرضه على الثقافة هناك من حجر، وعلى حرية الرأي من حصر، وعلى الإنتاج الفكري من رقابة أشبه بالرقابة العرفية. .
(الجاحظ)
فن وتجارة
أرسل إلينا الأستاذ يوسف وهبي بك في آخر لحظة كلمة يرد بها على ما كتبه (الجاحظ) في العدد الماضي تحت هذا العنوان فأجلنا نشرها مضطرين إلى العدد القادم.(710/48)
الكتب:
ذكريات عشرين عاما في مصحة حلوان:
تأليف الدكتور عبد الرؤوف بك حسن مدير المصحة
عرض وتعليق في خطاب مودة وتقدير
للدكتور لويس دوس
أستاذي القديم وصديقي الكريم:
أهديت إليّ مع الكتاب مودتك وتقديرك، فإذا مودتك يثب إليها من مهجتي صنو يأتلف من الأرواح المجندة، وإذا تقديرك فيما يتم عليه من تواضع العلماء الفضلاء يبتعث في نفسي مالك فيها من كامن الشعور المضاعف بالنظير. وإنيلأعكف على كتابك قارئا ملتهما فآتى عليه في ساعة أو نحوها، وإذا شاعريتك المتأججة الجياشة وراء علمك وطبك تهز مشاعري ترجيعا لمشاعرك، وإذا ذكرياتك تهتاج في نفسي مثيلات تتداعى لها فينشط قلمي ليجلوها عليك.
بدأت كتابك من حيث بدأت صلتك بمصحتك، وقبيل تلك البداية كان أول عهدي بك، إذ كنت معيدا بكلية الطب ردحا من الزمن، وكنت مستهلا دراستي الطبية في غمار جم من الطلاب غفير. وأشهد لقد كان يروقني أسلوب تدريسك والرجل، بله المعلم، هو الأسلوب - وكنت استشف منه روح الشاعر الأديب وراء ذهن المعلم الطبيب، وتلك روح ما فتئت أراها مناط التمايز في التدريس الطبي، وقليل من يؤتاها، ولقد أوتيتا حديثا وكتابة بما تغبط عليه، حتى لأذكر إنني ضننت في محفوظاتي إلى أمد قريب بعجالة لك بالإنكليزية عن البلهارسيا تشهد لك في هذه اللغة - فضلا عن العربية - بجودة البيان. ولقد شاقني من بعد ما تأتى لي من كتاباتك، فلا غرو أن يشوقني كتابك عن مصحة الحلوان، وإن في موضوعك هذا لخافية لست أدري ما كننها، ولكنني عليم إنها تشوق كل طبيب أديب. ألم تصف كيف شاقتك، بل ألهبت خيالك فكرة إنشاء المصحة، ولما تزال طبيبا ناشئا مغتربا عن الاوطان، فساقتك إليها مستدرجا متدرجا حتى أضحيت لها نعم المدبر المدير، وإذا هي تملك عليك أقطار مشاعرك فتتفانى فيها كما يتفانى الربان في سفينة وكأنما هي دنياه، وإذا(710/49)
أنت تستهل كتابك بقصيدة بلغ من براعة استهلالها أن وقفت بالدار، وبكيتها مؤذنة باندثار، وشببت فيها بعروس أفكار، كل ذلك في اتساق وفي آن، وكأروع ما ينوح على منازل القلوب صب ولهان!
أي سحر هذا الذي استحوذ عليك من مصحة حلوان؟ وأية فتنة تلك التي تتجلى في استهواء المصحة للأطباء الأدباء: على ما هو معروف من هوايتك، وما وصفت من هواية الدكتور (برناند) مدير المصحة الأول. وإن شئت مزيدا فإني لأذكر - وإن بعد العهد - غدوات لي إلى المصحة وروحات، كنت أعود بها، وأنا بعد طالب طب، زميلا فاضلا لي كان ثمة ما يستشفي، وكان هو أيضاً يهوى الأدب وما يزال، وقد أبرأته المصحة بمنة الله، فلم يكد يتم دراسته حتى التحق بها ضمن من تتابعوا عليها ممن سميت من أطباء. ولعل سمعت عن أطباء غيره بمثل قصته، وعجيب أن تترادف الأمثلة بهذه الظاهرة في جانب الاطباء، وأن يقابلها في جانب المرضى ما يؤكدها بما هو متواتر مشهور: من تفزز حسهم وحدة خيالهم، وسطوة مشاعرهم وغرائزهم، حتى ليكثر بينهم الموهوبون بالفنون، على ما ألمعت إليه في كتابك، وما حفلت به روائع القصص وأفتن فيه كتابها المبدعون.
على أنني رأيتك، يا صديقي، أوشكت تتنصل في قصيدتك من هوايتك الأدب، فتقول إنك آثرت على يراعتك مبضعك ومسماعك، كأنما أصبح الأدب للأطباء في هذا البلد تهمة تدفع، وزلة يعتذر منها، وانه في سائر بلاد الله لمحمدة تذاع ومفخرة يشاد بها - تنبئ عن ذلك مطابعهم - فما تكاد تخرج إلى عالم الأدب كتابا لطبيب حتى تتلقفه الأيدي فلا يساعفها منه تلاحق الطبعات. ألا فهون عليك، يا صديقي، تحرجك من الأدب، ولا تولع منه بفرط إشفاق: وخذ بنا في تلك الظاهرة التي لفتك - وما أخالك إلا كنت ملتفتا إليها - فحض فيها بالاستقصاء والاستقراء عالما طبيبا، وبالمنظوم والمنثور شاعرا أدبيا، فما حشدت لتجلية هذه الظاهرة مواهب كمواهبك، ولا ظروف كظروفك، وإن تجليتها لفتح طبي وأدبي لا يتعلق به إلا من كان في همتك، وفي الحق إنك لها!
ولقد اصطرعت في قصة مصحتك من شخصيتك شعب ثلاث: نفحتك الشاعرية، وذهنيتك العلمية، وصفة عملك الرسمية، وفي النطاق الذي قسرك عليه هدفك، لقد استطعت ان تبلغ بهذه الشعب في اصطراعها حد الابداع، وكانما قدر للداء الذي أدرت حوله موضوعك ان(710/50)
يطل عليه أبدا - من حيث يدري أو لا يدري - شبح المأساة. ولم تباطئ المأساة مصحتك، إذأوعدتها العوادي أن تجعلها حصيدا كان لم تغن بالأمس، وكان لم تبرح طوال عشرين عاما جمة المآثر، جلية الآثار! فوا أسفاه على بلد ترتجل سياسته فلا يقر لها قرار، ولا ترعى فيه حرمة دار حياها الله من دار! هذا ومن ورائنا أوائل شيدوا، وأمامنا أقوام بنو، فإذا دورهم العامة معالم مكتملة للمقومات، بل شخصيات معنويات، تذكر بذكريات، وتمجد بامجاد، وتعيد لها الأعياد، ويطاول بها الدهر خوالد باقيات ترى لو صح أن الأرواح تحوم هائمات، والأصوات تختزن مكنونات، حيثما تجرى تصاريف الأقدار، ويطاح بالآجال والآمال، ولو أتيح بما أجن في ضمير الغيب من أفانين المخترعات أن تتبدى تلك الأرواح مرئية، وتنطق هذه الأصوات العيية فأي روع وهول كان عساه يتفجر من أرجاء المصحة حمما ودويا، إزاء أمانة أشفقت من حملها الرواسي ولم ترع أنسيا! لكأني أخال ما أتخيل وأتسمع بين تلك الأصوات المدوية صديق دراستي، ذلك الطبيب النافع الذي يقيالآن على مرضاه مما أفاء الله عليه من العافية بالصحة، وهو يجار مستصرخا: لا تنخبوا الدور على منخوبي الصدور، وقد وسع الله عليكم رحابالأرضو جنبات القصور.
وبعد، أي صديق عبد الرؤوف! لئن ضاق صدرك، فقد انطلق لسانك، وبلاغا أبلغت، وربك أشهدت، ولله الحكم، وإليه ترجع الأمور!
دكتور لويس دوس(710/51)
القصص
على الحصان
للقصصي الفرنسي جي دي مو باساق
بقلم الأستاذ كمال الحريري
كانوا في فقر وعوز، يزجون أيامهم تزجيه على راتب الزوج الضئيل. ولقد رزقوا ولدين من زواجهم، أما فقرهم فقد كان من نوع البؤس المخبوء الخجل. بؤس عائلة نبيلة، تريد أن تتمسك بتقاليدها وتأخذ مكانها بين أنداد الأشراف مهما كلفها الأمر. لقد نشأ هكتور (دي كربيلين) في الريف تحت كنفأبمدرس ولم تكن الأسرة في رغد من العيش وإن كانت تحافظ على مظاهرها النعمة. فحين بلغ (هكتور) العشرين من عمره، سعت له أسرته فأدخلته موظفا في وزارة البحرية. براتب 1500فرنك. فاصطدم الفتى بتلك الصخرة التي يصطدم بها كل من لم يعد في بكورة العمر لمعركة الحياة القاسية فهو يرى الوجود من خلال ضباب كثيف، ثم هو يجهل كل الجهل وسائل العيشة وأساليب المناضلة والمقاومة لأنه لم يتزود منذ حداثته بمؤهلات كفاحية لمجابهة مرارة الحياة وشظف العيش، إنما ألقى به إلى هذا الوجود، وليس في يده آله أو سلاح لمنازلة حوادثه.
لقد كانت سنوات (هكتور) الثلاث الأولى في دائرة عمله مدعاة للتوبيخ فلقد ألف من عائلته لفيفا من الأصدقاء قليلي المال مثله، كانوا يحيون أوساط النبلاء، أي في الشوارع الحزينة من ضاحية (سانت جرمان) فربط هكتور معهم حلقة تعارف وصداقة. باغترابهم عن الحياة العصرية كان هؤلاء الأرستقراطيون المعوزون، يقطنون في تواضع الطوابق المرتفعة من المنازل والمساكن الهادئة. ومن أعلى إلى أسفل هذه المنازل كانت ألقاب المستأجرين الضخمة تتردد على كل لسان، ولكن يظهر ان النقود، كانت هي البضاعة المفقودة عندهم من الطابق الأول حتى السادس.
أما أعذارهم لهذا السكن المتطرف، فهي خطورة مراكزهم وتقدم حقوق عائلتهم على بقية الناس، واهتمامهم بعدم التسفل أمام العامة. وقد كانوا في سمو المنزلة وعراقة الأصل. لقي هكتور (دي كريبلين) في هذا الوسط فتاة نبيلة فقيرة مثله، فعقد قرانه عليها، وفي خلال(710/52)
أربعة أعوام كان لهما ولدان. مرت أربع سنين أخر، لم يعرف خلالها (هكتور) المسكين من ملاهي الشباب ومتع الحياة غير التنزه في حدائق الشانزليزه أيام الآحاد، أو حضور ملاعب التمثيل مرتين أو ثلاثا طيلة الشتاء وذلك بفضل تذاكر كان يجود بها عليه بعض زملائه وأصحابه. ولكن ها هو ذا الربيع يقبل فإذا مهمة يكلفه الرئيس بها، يتسلم بعد إنجازها من الرئيس منحة فوق العادة مقدارها ثلاثمائة فرنك. ولما حمل هكتور هذا المبلغ إلى امرأته قال: عزيزتي (هنريت) ينبغي أن نبهج أنفسنا بمسرة أو متعة تدخل على طفلينا السرور والبهجة وبعد جدال طويل قر الرأي على أن يصحب هكتور زوجه وابنيه إلى نزهة خلوية: وهتف هكتور: لعمري إن السير على الأقدام أمر مبتذل لا يليق؛ لهذا سوف نستأجر عربة نزهة لك وللطفلين وللوصيفة. أما أنا فسأحصل على جواد في بداءة ترويضه. فإن ركوبه يثير في نفسي نوعا من الفرح واللذة. . . وفي خلال أسبوع لم يكن حديث العائلة ليتناول أمرا غير النزهة المقبلة ومشروع امتطاء الحصان.
وعند المساء، حينأبهكتور من عمله، كان يتناول طفله البكر فيتخذ له من ركبتيه ممتطى كصهوة الجواد، ثم يقول له وهو يحركه ويقفزه.
هكذا سيعدوا ويركض بحصانه أبوك في الأحد المقبل وقت نزهتنا يا بني. فكان الطفل طوال النهار يهمز الكراسي ويشد عليها بساقيه، ثم يجرها حول الغرف قائلا:
- هو ذا في حالة الركوب. حتى لقد كانت الوصيفة ذاتها ترمق سيدها بعين الدهشة والإكبار حين تتخيله راكبا ظهر حصانه وسائرا بحذاء العربة. وفي أثناء وجبات الطعام كانت تصغي إليه وهو يتحدث عن فروسيته ومفاخره السابقة في ترويض الجياد. فهو ماهر في الركوب من الدرجة الأولى. ويكفي أن يكون الحصان العتيد الشموس بين ساقيه وتحته، إنه وقتذاك لن يخاف شماسه أو حرنه. ولقد كان يكرر لامرأته وهو يفرك كفيه ابتهاجا:
آه لو إنهم آجروني يوم الأحد المقبل حصانا شكسا غير مروض! إني سأكون إذن جد مبهج وستبصرين كيف امتطيه وأعلوه. وإذا أحببت يا عزيزتي، فلتكن عودتنا من نزهتنا عن طريق (الشانزليزه) حين إياب المتنزهين من الغابة. وبما أن منظري على ظهر الجواد لن يكون مخجلا فلا باس أن نلتقي بأحد موظفي البحرية، خصوصا وإن التباهي بين الرؤساء شئ مستحب يدعو إلى الاحترام.(710/53)
وفي اليوم الموعود، وصلت العربة والجواد في وقت واحد إلى منزل هكتور، فنزل فجأة ليفحص الحصان، ثم خاط لبنطلونه سيورا لركوبه، وأصلح سوطا للضرب اشتراه البارحة، ورفع بالتعاقب قوائم الحصان وراح يجس عنقه وخاصرتيه وثنيات قوائمه ثم تحسس بإصبعه كليتيه وفتح فمه، ونقب عن أسنانه فاحصا عمره. وحيث أن العائلة كانت تستعد للنزول فقد خطر له أن ينطلق به حول المنزل، ويطبق في ركوب هذا الجواد الكريم، ما عنده من نظريات في فن الركوب. ولما أخذوا جميعا أمكنتهم من العربة، راح يتأكد من متانة سيور السرج، ثم قفز إلى ظهر الجواد فسقط على ظهره سقوطا أرقص الحصان فأخذ يثب تحت هذا الحمل، وقد قام في نفسه أن يربك راكبه. وتأثر هكتور من هذه الوثبات، فاجتهد أن يهدي من حدته فقال له: هيا. ولكن برفق يا صديقي، وعلى مهل. ولما ثابت للحصان سكينته هتف صائحا:
هل انتم مستعدون؟! فانطلقت الأصوات تقول نعم. وحينئذ قال آمرا هيا إلى الطريق. . . ثم ابتعدت القافلة الصغيرة شيئا فشيئا. ولكن الحصان أخذ يعلوا بصاحبه ويتهادى كأنما هو في حفل رقص، حتى لقد خيل لهكتور إنه موشك على السقوط عن ظهره. لهذا ثبت عينيه في الأرض وقد علت محياة صفرة الرعب. وكانت امرأته وهي تحمل أحد الطفلين إلى صدرها، والمربية وهي ترفع الثاني لا تفتران عن الهتاف في أذن الطفلين: ألا تنظران أباكما؟ وسكر الطفلان بنشوة النزهة وهزة الفرح واعتلال الهواء فكانا يصرخان ويزيطان زيطا أجفل الجواد المسكين فجرى يركض ويعدو. وبينما كان فرسه يجهد في كبح جماحه تدحرجت قبعته على الأرض. فتحتم على سائق المركبة أن ينزل من مقعده لالتقاطها ومناولتها لصاحبها وبحصول هكتور عليها بدا يوجه عن بعد امرأته:
- ألا تريدين إسكات الطفلين عن الصراخ والضجيج؟! إن صياحهما يغيظني. . . ونزلت القافلة فتناولت طعام الإفطار فوق العشب الخضل تحت ظل غابة من صندوق ملئ مؤنه وطعاما، وبالرغم من أن سائق العربة لم يقصر في الاعتناء بالجياد، كان هيكتور بين حين وآخر ينهض ليرى ما إذا كان جواده لا ينقصه حاجة. وحينئذ يأخذ في مداعبته في عنقه ثم يناوله بيده الخبز الأبيض وفطائر (الكاتو) اللذيذة وقطع السكر الفاخرة. وكان لا يفتأ يعلن أن جواه مسباق. . نعم إنه هزني وزلزلني من على صهوته أول الأمر، ولكنك أبصرت يا(710/54)
(هنريت) كيف استمسكت عليه، والآن وقد عرفني فلن يبدي أي حركة مطلقا. ورجعت العائلة من طريق (الشانليزه) كما كان مقررا. كانت الجادة حافلة بالعربات والمركبات وعلى جانبي الطريق ازدحمت الأرصفة بجموع المتنزهين، وكان سيلا دافقا من أشعة الشمس يسقط على هذه الخلائق، فيؤلق دهانات العربات ويلمع نعال الأفراس، ويضوي مقابض ومطارق الأبواب. وكأن جنون الحركة نشوة الحياة كانتا تحركان جماهير الناس وجماعات المتنزهين وأسراب الحيوانات. وما كاد حصان فكتور (قوس النصر) حتى مسته حماسة جديدة. وبالرغم من كل محاولات راكبه لضبطه ورد جماحه أخذ ينطلق في الطريق كالسهم المنقذف. كانت العربة وراءه بعيدة عنه. فلما واجه هكتور قصر (باله لاندوستري) شاهد الجواد الطريق أمامه منفسحا كميدان السباق فانطلق يعدوا كالريح، وكانت امرأة عجوز في ثياب الخدمة تقطع الرصيف بخطوات بطيئة، فرأت نفسها بغتة في طريق حصان هكتور، وكان الجواد قد تنكب الجادة وتوسط الرصيف. ورأى هكتور نفسه عاجزا عن كبح حرن الجواد، فبدا يصرخ بملء صوته، هه. . . هولا. وراءك ولكن ربما كانت العجوز صماء، لأنها واصلت سيرها هادئة حتى اللحظة الأخيرة التي التطمت فيها بصدر الجواد، الذي كان مقذوفا كمحرك القطار. فتدحرجت العجوز عشر خطوات بعد أن أكبت ثلاث مرات على رأسها وبعد أن طار عنها صدار الخدمة وتعالت أصوات من الشارع: اقبضوا عليه، أمسكوه! فضاع رشد هكتور، وتمسك بظهر الجواد، ثم انطلق يقول: النجدة، الغوث. ولكن صدمة عنيفة ألقت به من سرج حصانه، فانقذف كعيار ناري من فوق رقبة الجواد. وإذا به يقع بين يدي ضابط من ضباط الجيش هجم عليه كي يمسكه، وفي لحظة، تحلق حوله رهط من الناقمين، ولكن سيدا متقدما في السن يزدان صدره بكثير من الأوسمة المستديرة، ويعلو فمه شارب ابيض ضخم اغتاظ منه أكثر من الحاضرين فقال:
تبا لك! حين يكون المرء أخرق مثلك يقتضي أن يلزم منزله فلا يخرج ليقتل الناس على قارعة الطريق بعدم استطاعته قيادة جواده. وفي هذه اللحظة ظهر أربعة رجال يحملون المرأة العجوز، وكانت كأنها الميتة بوجهها الأصفر الكالح وقبعتها الملوثة بغبار الطريق قال الرجل المسن:
احملوا هذه المرأة إلى صيدلية إسعاف. وهيا بنا إلى ضابط الشرطة. ومشى هكتور في(710/55)
الطريق بين حارسين من الشرطة وثالث كان يقود حصانه بينما أسراب من الناس تتبعه. وفجأة ظهرت عربة زوجه فانقذفت منها في حين كانت الوصيفة كأنها فقددت صوابها والأطفال كانوا يجهشون بالعويل والصراخ. فشرح لهم هكتور الموقف، وقال: إنه دهس امرأة والأمر لا يهم مطلقا. فمضت العائلة وقد جن جنونها من الرعب والقلق، وعند ضابط الشرطة كانت إفادة هكتور قصيرة. قال (للقوموسير) اسمه (هكتور دي كريبيه لين) موظف في وزارة البحرية. ثم تهيا القومسير لسماع تفاصيل الجريمة. وجاء شرطي نيط به الاستعلام عن حال العجوز يقول: إنها صحت من غشيتها وثابت لرشدها بيد إنها تشكوا آلاما مبرحة في جوفها. وهي امرأة في الخامسة والستين من سنها يدعونها مدام (سيمون) ولما تأكد هكتور. من عدم وفاة الضحية عاد إليه عازب الأمل. فتكفل أن يقوم بنفقات المريضة حتى يوم شفائها. ثم هرول عجلا إلى صيدلية الإسعاف، فابصر جمعا من الناس مرابطا حول الباب وكانت العجوز مستريحة إلى أريكة تشكو وتتوجع ويداها جامدتان ووجهها يعلو شحوب الموت. كان هناك طبيبان يفحصانهاأيضاً ولم يكن في جسمها عضو مكسور، ولكن يخاف من جرح داخلي. كلمها هكتور. هل تتألمين كثيرا؟ - أوه نعم وأين موضع ألمك؟
- إني لأشعر بمثل النار تتقد في معدتي، واقترب طبيب فقال:
- وإذن يا سيدي فأنت بطل الحادث؟!
- نعم يا سيدي.
- ينبغي لك إرسال هذه المرأة إلى مصحة من مصحات المرضى، وإني سأدلك على واحدة تتقبلها بستة فرنكات في اليوم. أتود أن أتولى هذه الخدمة؟ فاستطير قلب هكتور وشكر الطبيب، ثم انقلب إلى بيته مستريحا ناعم البال، وكانت زوجته تنتظره بين الآهات والعبرات، فهداها قائلا:
لا باس علينا من هذه المرأة الجريح إن صحتها في تحسن وبعد ثلاثة أيام لن يبقى في جسمها موضع شكوى أو ألم. لقد بعثت بها إلى مصحة فلا تقلقي من أجلها. وفي الغد، فور خروجه من دائرة عمله انطلق يستعلم أخبار مدام سيمون فألفاها تتهيأ لاحتساء مرق من الحساء، كثيرة الدهن. وهي جدا راضية قريرة العين. فقال لها: آه! أتراك بصحبة جيدة؟(710/56)
فأجابت:
- أوه يا سيدي المسكين، إن حالي هي حالي لم تتغير، وإني لأشعر بأني صائرة إلى العدم ما دامت صحتي تتدهور. أما الطبيب فقد أعلن إنه من الواجب الانتظار فقد يعرض للمريضة حال من اشتباك العلة لا يعلمها الطبيب. وانتظر الفتى ثلاثة أيام ثم عاد بعدها، فإذا المرأة العجوز بصفرة وجهها المضيئة وعينها الزائغة تأخذ في ترداد ألمها حين مشاهدته.
- إني لا أستطيع حتى التحرك يا سيدي المسكين، لا أقدر على ذلك حتى نهايتي الأخيرة. فعرت عظام هكتور رعشة، ومضى يستفهم الطبيب ورفع الطبيب يديه قائلاً:
- ماذا تريد منى يا سيدي؟ أنا نفسي لا أعلم عن حالها شيئاً. إنها تصرخ وتعوي حين يراد إجلاسها وإنهاضها، حتى إنه لا يمكننا تحريك مقعدها دون أن نعرض آذاننا لصرخاتها الداويات المزعجات، وإذن فإنا على تصديق ما تدعيه. لأني لست بداخلها ولا جوفها. وما دمت عاجزاً عن أن أجعلها تمشي وتسعى فليس من حقي أن أفترض أي وهم من ناحية مرضها. وكانت العجوز تسمع كلامه هادئة لا تتحرك، وفي عينيها الخبث والمكر.
ومرت ثمانية أيام، فخمسة عشر. . . فشهر، ولم تبارح مدام سيمون مقعدها المريح، لقد كانت تأكل من الصباح إلى المساء، وكانت تكتظ شحما ولحما. ثم إنها كانت تتحدث بسرور إلى بقية المرضى في المصحة، وكأنها بتعودها على عدم الحركة والنهوض كانت تكتسب فرصة للاستجمام من عناء خمسة وستين عاما للخدمة، قضتها في صعود ونزول الادراج، وتهيئة الأفرشة والأسرة، وفي حمل قطع الفحم من طابق إلى طابق، وفي كنس الغرف وتنظيف الثياب.
وضاع رشاد هكتور، فكان يعودها كل يوم، وفي كل يوم كان يراها هادئة تعلن إليه:
- أواه أنى لا أستطيع الانتقال أو الحركة يا سيدي المسكين! لا أستطيع، لا أستطيع. وعند كل مساء كانت مدام دي كريبه لين تسال زوجها وهي فريسة القلق. ومدام سيمون؟ فيجيبها في خمود يائس:
- لا جديد عنها. فهي لم تتغير أبدا. وسرحت العائلة الوصيفة من الخدمةلأنراتبها أصبح عبئا باهظا عليها. ثم أخذت عائلة هكتور تمضي في الاقتصاد لأنالمنحة التي أخذها الزوج(710/57)
من رأيسه نفذت تماما وفي ذات يوم جمع هكتور أربعة أطباء التفوا حول سرير المريضة فتركتهم العليلة يجسونها ويفحصونها ولكن عينيها ألما كرتين ما كانتا لتحولان عنهم قال واحد منهم.
- يجب إجبارها على المشي فصرخت قائلة:
- لا أستطيع يا سادتي الكرماء لاأستطيع ولكنه قبضوا عليها وأجلسوها عنوة، ثم جروا بها عدة خطوات ولكنها تملصت من أذرعهم وتدحرجت على البلاط وهي تصرخ صرخات كانت من الشدة والإزعاج بحيث اضطروا إلى إعادتها ثانية لمقعدها في احتراس شديد وتشاور الأطباء فيما بينها فاستقر رأيهم على استحالة محاولتهم تحريكها. . .
ولما حمل هكتور هذا النبأ إلى زوجتهم تركت جسمها ينحط على مقعد تجمجم، وإذا فمن الخير أن نجلبها إلى منزلنا فإن ذلك يقلل من نفقتها، شيئا. وقفز هكتور.
- هنا عندنا في دارنا؟ أتفكرين في هذا؟! ولكنها أجابت وقد وطنت نفسها على المكروه، وفاضت من عينها الدموع:
- وماذا تريد أن نفعل غير هذا يا صديقي؟ إن الغلطة لم تكن غلطتي.
(حلب)
كمال الحريري(710/58)
العدد 711 - بتاريخ: 17 - 02 - 1947(/)
جامع وجامعة. . .
الأستاذ عباس محمود العقاد
أوشك الترام أن يفوته، ولكنه أدركه بعد جهد ومخاطرة، فاستقر في مكانه وهو يلهث ويرسل اللعنات على الترام:
- يقطعه ويقطع أيامه!
قال صاحبه وهو أصغر منه: ولم؟ أنه قرب البعيد ويسر الأمور. . . . لقد كان الانتقال من إمبابة سفرة في الأرض مهجورة، فأصبحنا نأتي منها ونعود إليها في ساعة أو أقل من الساعة!
قال الشيخ: ولهذا (عفرت) الدنيا. ركبها عفاريت، وقل خيرها. وقد كنا قبل أيامه نشتري رطل اللحم بقرش وربطة الملوخية الكبيرة بمليم. فجاء هذا الزمن (المعفرت) الذي لم يدع للفلوس بركة ولا في شيء من الأشياء خيراً يرتجى. . . ووافرحتاه بعد ذلك بهذه المراحل التي تنطوي في غمضة عين!
مثل هذا الحديث قد سمع في القاهرة مرات، ومثل هذا القياس يجري في النظر إلى كثير من الأمور، وهو من الأحكام التي تستند إلى مقارنات شعورية ولا تستند إلى مقارنات منطقية، لأنها ترضى الشعور لأول وهلة ولا ترضى العقل بعد النظرة الأولى.
ومن قبيل هذه الأحكام الشعورية مقارنات بين ماضي الجامع الأزهر وحاضره، قرأتها لفاضل من كتاب الرسالة في عددها الماضي وفيها يقول كاتبها - الأستاذ على الطنطاوي - بمناسبة حادث الشيخ أبي العيون: (. . ما عرفنا علماء الأزهر إلا ملوكا، لا أمر فوق أمرهم، ولا كلمة بعد كلمتهم، إذا قال واحدهم لبت الأمة، وإذا دعا هب الشعب، وإذا أنكر على الحكومة منكراً أزالت الحكومة المنكر، وإذا أمرها بمعروف أطاعت بالمعروف، فكانوا هم السادة وهم القادة، وهم أولو الأمر: هذي حكومة مصطفى فهمي باشا تستجيب سنة 1899 لرغبة الإنكليز في إضعاف القضاء الشرعي فتضع مشروعها المشهور لتعديل اللائحة الشرعية وضم اثنين من أعضاء الاستئناف الأهلي إلى المحكمة الشرعية العليا ويبلغ من ثقتها بقوتها وتأييد مجلس الشورى لها ألا تبالي باحتجاج الحكومة العثمانية على المشروع وتعرضه على المجلس - وكان من أعضائه الشيخ حسونة النواوي الذي جمعت(711/1)
له مشيخة الأزهر وفتوى الديار المصرية - فيقول كلمة موجزة في إنكار المشروع وينسحب من المجلس ويتبعه القاضي التركي فتكون هذه الكلمة كافية لقتل المشروع. .).
ثم قال بعد سرد الأمثلة من هذا القبيل وغير هذا القبيل: (هذا ما عرفناه. فما الذي جرى حتى تبدلت الحال ووقع حادث الشيخ أبي العيون؟ ما الذي نزع هيبة المشايخ من القلوب وأنزلهم من مكانهم عند الحكام؟
وأجاب قائلا: انتم أيها الأزهريون فعلتم هذا كله. . . . أنتم أيها الأزهريون جميعاً جعلتموها جامعة فكان فيها ما يكون في الجامعات، وقد كانت جامعاً لا يكون فيه إلا ما يكون في الجامع. لقد كان الأزهر لله فصار للناس، وكان للآخرة فغدا للدنيا، وكان يجيئة الطالب يبتغي العلم وحده: يتبلغ بخبز الجراية، وينام على حصير الرواق، ويقرأ على سراج الزيت، ولكنه لا ينقطع عن الدرس والتحصيل. .).
هذه هي العلة كما رآها الفاضل صاحب المقال، وهي إذا دلت على شيء فإنما تدل على أن الجامع الأزهر ينبغي أن يشتمل على جامعات عدة ولا على جامعة واحدة، ولينشر في الأرض من علم المنطق، ومن صحة القياس، ما يعصمهم من خطأ التعليل في أمره، بله جميع الأمور.
فلا علاقة لسراج الزيت وبين ما كان عليه الأزهر أو ما صار إليه، إلا كالعلاقة بين الترام وقلة البركة في المبيعات والمشتريات.
ولم يتغير الحال في جمله اليوم عما كان عليه في شيء من تلك الأشياء التي عددها الأستاذ.
ففي الزمن الذي يحن إليه الأستاذ حدث أن مديراً للأوقاف جلس على كرسيه في صحن الجامع الأزهر وجيء إليه بفريق من الأزهريين يجلدهم على مرأى ومسمع من الناس.
وفى العصر الحاضر لا يزال أقطاب الجامع الأزهر قادرين على منع كل تشريع يرون فيه مساساً بأحكام الدين. وقد منعوا تشريعات كثيرة أعدتها الوزارات في شؤون الزواج والطلاق، واشتركوا في درس كل قانون يدور على الميراث أو الوصية أو الوقف أو حقوق الآحاد المرتبة على أحكام الدين.
وفي الزمن الذي يحن إليه الأستاذ أنكرت فئة من علماء الأزهر تشريح الجثث في مستشفى(711/2)
(قصر العيني) فلم يكن هذا الإنكار فصل الخطاب.
وفي ذلك الزمن - بل في جميع الأزمان منذ بناء الجامع الأزهر - كانت الصلة بين طلاب الأزهر وعلمائه وبين الحكومات المتوالية على أوثق ما تكون. لأن جامعاً كالجامع الأزهر لا ينبغي أن تنقطع الصلة بينه وبين حياة الجماعة الإسلامية، إذ ليس في الإسلام انقطاع عن الدنيا على النحو المعروف في غيره من الديانات
فكان لمذهب الشيعة شأنه في عصر الفاطميين، وكان لمذهب أبي حنيفة شأنه في عهد العثمانيين، وكان العاملون في الحياة العامة من أقطاب الأزهر اكثر وأكبر من المتنسكين المنقطعين عن شؤون تلك الحياة، وليس الشيخ المراغي - مثلاً - بمضارع في غناه للشيخ العباسي وهو من مشايخ الأزهر في الزمن الذي يحن إليه الأستاذ.
فلا علاقة لسراج الزيت لما كان عليه الأزهر وما صار إليه، وليس بصحيح أن شأن الجامع الأزهر في ما مضى كان أعظم من شأنه اليوم، ولا أن المقبلين على الحياة العامة على أقطابها في عصرنا هذا اكثر ممن كانوا يقبلون عليها في العهود الغابرة، بالقياس إلى عددهم في كل زمان.
والصحيح أن هيبة العالم الديني تتوقف على مكانة الدين في النفوس لا على ما يأكله العالم من خبز الجراية أو ينام عليه من أصناف الفراش.
وفي البلاد الأوربية لا ينام رؤساء الأديان على الحصير ولا يقرئون على السراج ولا ينقطعون عن الشؤون العامة، ولكن هتلر في جبروته كان يتقيهم ويداريهم ويتقبل منهم ما لم يكن يتقبله من كبار القادة والوزراء. وكذلك كان موسليني يفعل في دولته الفاشية، وكذلك فعل ساسة الروس الشيوعيين في العهد الأخير بعد أن جربوا مغاضبة الكنيسة ومحاسنتها، ثم اختاروا بين الخطتين.
وقد يتقي الرجل لمكانته في أمته وفي سائر الأمم وإن لم يكن من رجال الدين فإن تولستوي - كاتب الروس الأشهر - لم يكن ممن يصانعون القيصر ولا ممن يصانعون أحبار الكنيسة الروسية، وكان مع هذا يخاطب القيصر بكلام لا يباح لغيره، فيتقبله ويتغاضى عنه، لمكانة الرجل العالية بين قراء الأدب في القارة الأوربية، وفي العالم بأسره.
فرجل الدين يستطيع أن يكون للدين وللدنيا ولا يخسر مكانته ولا يحط من هيبته ووقاره،(711/3)
ويستطيع أن يكون جامعياً بالنسبة إلى الجامعة الأزهرية كما يكون جامعياً بالنسبة إلى الجامع الأزهر، فيزداد ولا ينقص بهذا الانتساب.
إذ الواقع أن صبغة الجامعة هي التي ميزات الأزهر بين الجوامع في العصور الماضية كما ميزته في العصر الحاضر. فليس اكثر من الجوامع في القاهرة ولا في الأقطار الإسلامية، ولكن الأزهر وحيد بينها لأنه جامعة علمية لا لأنه مسجد مقصور على الصلاة والعبادة.
وأيا كان القول في هذا، فالرجوع إلى الحصير أو إلى سراج الزيت أو إلى صومعة النسك لن يعالج شيئاً من الأشياء، ولن يستطاع ولن يحمد إذا أستطيع.
وخير ما يطلب للأزهر هو أن يزداد نصيبه من الجامعية العلمية، وان يزداد نصيبه من المشاركة في الأعمال الدنيوية، وأن يحال بينه العزلة والانقطاع.
ونحن من المؤمنين بماضي الأزهر العظيم، ولكننا اشد أيمانا بمستقبله بنا بماضيه. لأن وظيفته في الماضي كانت وظيفة واحدة لا منازع فيها. أما وظيفته في المستقبل فوظيفتان ينهض بهما فيكون له شأنان متعادلان في حكمة الإسلام وحكمة العلم الذي يعمل به المسلمون وغير المسلمين.
فالجامع الأزهر أحق مكان بان يحي الفلسفة القديمة التي عاشت فيه وحده يوم ماتت في جوانب الدنيا بأسرها، ومن إحياء هذه الفلسفة أن يزاوج بينها وبين مستحدثات التفكير في كل عصر وبين كل قبيل.
والجامع الأزهر أحق مكان بتوسيع المنطق الذي تمكنت فيه أسسه وتهيأت لما يضاف إلى هذه الأسس من أركان جديدة، في مذاهب المناطقة المحدثين.
والجامع الأزهر أحق مكان بأن يعرض العقيدة الإسلامية المستنيرة على أهل المشرق والمغرب، لأنه أقدر على هذه الرسالة من الآحاد أو الجماعات التي تصدت لها في غير مصر من الأقطار الإسلامية.
والجامع الأزهر أحق مكان بأن يقصده الصين من أقصى المشرق كما يقصده (الفندلاندي) من أقصى الشمال، أو يقصدها الزنجباري من أقصى الجنوب. لأنهم يتعلمون فيه ما لا يجدونه في غيره من الجامعات المقصورة على العلوم الطبيعية.
والجامع الأزهر أحق مكان بان يتدارك عيب العصر الحاضر وهو العيب الجسام الذي(711/4)
يتمثل في العزل بين عالم العقل وعالم الروح. فيتعلم فيه الرجل وهو مؤمن ويؤمن فيه وهو عالم، ويحسن قيادة المتدينين المتعلمين.
ونحن كبيرو الرجاء في إنجاز هذه المهمة العظمى بعد أن صارت مشيخة الأزهر إلى أستاذ الفلسفة الإسلامية على أحدث المناهج العصرية. فإنه اقدر الناس على أن يحقق للجامع الأزهر وظيفتيه في ثقافة العقل وثقافة الروح، وأعوانه من الأزهريين غير قليلين.
فليكن الأزهر جامعة ما دام.
بل ليظل الأزهر جامعة كما كان منذ كان.
وفي ذلك الخير كل الخير والبركة كل البركة. أما أن تكون البركة مرهونة بالحصير وسراج الزيت فهو قول لا بركة فيه ولا يدل على الحاجة إلى شيء في الأزهر الزم من الحاجة إلى توسيع الجامعة لتحويل الأفكار في الشرق من مقارنات الشعور إلى مقارنات العقول، ولا سيما في المقارنة بين الجوامع والجامعات.
عباس محمود العقاد(711/5)
حول قضية فلسطين:
والآن أيها العرب أما تزالون تنتظرون؟!
للأستاذ سيد قطب
قصة العرب مع الاستعمار الإنجليزي في فلسطين هي بعينها قصتهم معه في كل بلد عربي أخر؛ وخديعة الاستعمار الإنجليزي للعرب في فلسطين هي خديعته الخالدة لكل بلد عربي آخر.
وتسميتها قصة هي في الواقع تجوز، فهي في حقيقة الأمر مأساة أليمة متكررة، وأشد ما يؤلم فيها هو هذا التكرار الذي لا يفتح عيون العرب على الخديعة، ولا يغير طريقهم التي سلكوها فخابوا في كل مرة، ولا يجنبهم الجحر الذي لدغوا منه بدل المرة مرات.
هي مأساة الثقة بالضمير الإنجليزي، بل مأساة الاعتقاد بان هناك ما يسمى الضمير الإنجليزي! وذلك هو الجحر الذي لدغ العرب منه مرات، في كل بلد عربي، ثم هم مع ذلك لا يتوقونه، فيصدق عليهم الحديث: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وحاشا لهؤلاء أن يكونوا مؤمنين، وهم في كل يوم يلدغون!
حفنة من الساسة قعدت بهم عن الجهاد مشقات الجهاد، فاختاروا لشعوبهم الطريق الأهون، والخطة السهلة، وراحوا يضيعون أوقات الشعوب بالمؤتمرات والمفاوضات والمحادثات؛ ودعوا الشعوب للهدوء والانتظار في ارتقاب النتائج من هذه الطرق الهينة المأمونة.
وكان من غضب الله على هذه الشعوب إنها سمعت كلام أولئك الساسة الضعفاء والمهازيل، واستجابت لدعوة الراحة والدعة، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
تكررت هذه المأساة في مصر، كما تكررت في فلسطين كما تكررت في كل بلد عربي دنسته أقدام المستعمرين الطغاة. وهب الشعب في مصر، كما هب في فلسطين، كما هب في كل بلد عربي يكافح هذا الاستعمار البغيض، يكافحه كما ينبغي أن يكافح. يكافحه بالدم المبذول، والروح المسترخصة، والتضحية بالنفس والمال. . وكان هذا هو الطريق الصحيح. الطريق الذي سلكته من قبل الولايات المتحدة، وأيرلندا الحرة، كما سلكته أخيراً سورية الأبية، ولبنان الأشم.
وبينما الشعوب في فورتها، والتضحية في عليائها، صاح عليها الأغربة المشئومة: حسبك(711/6)
أيتها الشعوب فقد أديت واجبك حسبك ودعي الأمر لأولي الأمر. دعيه للساسة يعالجون بالحكمة والديبلوماسية، بعد ما عالجته بالدماء والتضحية!
ومنذ هذه اللحظة المشؤومة وقضايا العرب تخسر في كل مكان، ومنذ هذه اللحظة المشؤومة والاستعمار يكسب في كل مكان. لقد التقط الاستعمار أنفاسه بعد الجهد العنيف، بعدما كاد يسلم للشعوب بحقها المغصوب. ولكن لماذا يسلم، وهؤلاء جماعة من هذه الشعوب يخدرونها لتنام، ويروحون على وجوهها لتنعس، ويلوحون لها بالأحلام الجميلة لتستغرق في الأحلام الجميلة؟
ألا قاتل الله اللحظة المشؤومة التي استسلمت فيها الأمم العربية لهذه الغربان المشؤومة!
والآن أيها العرب. أما تزالون تنتظرون.
فأما مصر فقد هداها الله إلى نصف الحق، هداها إلى قطع المفاوضات والمحادثات والمداولات. هداها إلى الخروج من تلك الدائرة البغيضة التي دارت فيها ودارت خمسة وعشرين عاماً كما يدور ثور الساقية، أو حمار الطاحون!
ولكنه لم يهدها بعد إلى النصف الآخر. لم يهدها إلى أن زمام الأمر في يدها هي لا في يد هيئة الأمم المتحدة، ولا في يد مجلس الأمن، ولا في يد محكمة العدل الدولية، ولا في يد كائن من كان على ظهر هذه الأرض إلا المصريين!
لم يهدها إلى أنها تخطو إلى منتصف الطريق عندما تلجأ إلى هذه الهيئات الدولية؛ فأما نصفها الآخر. نصفها المؤدي إلى الغاية، فهو أن تعزم على الاستقلال في ضميرها، وأن تنبذ العبودية من روحها، وأن تطهر دماءها من لوثة الذل الذي فيها. وإن تنبز على سواء إلى هذا الاستعمار فتواجهه بنفسها مواجهة من اعتزم وصمم وانتهى.
ولو فعلت مصر لنظرت في تطهير المصالح المصرية من كل موظف إنجليزي منذ هذا الصباح. وفي تطهير الاقتصاد المصري. من كل نفوذ إنجليزي منذ هذه الليلة. وفي تطهير التعليم المصري من كل أثر إنجليزي دسه الاستعمار على نظمه وبرامجه وكتبه، وحقائقه التاريخية والجغرافية. وفي تطهير الحياة المصرية من كل ما هو إنجليزي مهما اشتدت حاجتنا إليه.
ولو فعلت مصر لرفض أي مصري أن يخاطب أي إنجليزي على ظهر الوادي ولو للسلام(711/7)
العابر. ولأغلقت منذ اللحظة ذلك لنادي العجيب الذي يسمى النادي المصري الإنجليزي، ولأعدمت جميع المصورات الجغرافية التي تكتب هذا العنوان الآثم: (السودان المصري الإنجليزي) وجميع كتب التاريخ في أيدي التلاميذ التي تتحدث عن (الاصطلاحات التي تمت في عهد الاحتلال)!
ولو فعلت مصر لأطلقتها من الأعماق صيحة عداء مدوية للبرابرة المستعمرين. ولأعلنت إنها ستلقن ناشئتها ذلك العداء، وستسقيهم إياه مع الرضاع!
ولو فعلت مصر لأرسلت دعاتها كالمبشرين في كل مكان على ظهر هذه الأرض يفضحون مساوئ الاستعمار، ويتحدثون عن مآسيه الوحشية، ويكشفون للعالم عن فجائع دنشواي والعزيزية و 4 فبراير، وعشرات من هذه المآسي التي يقشعر لها ضمير الإنسانية في كل مكان.
ولو فعلت مصر لسكتت صيحة الحزبية الحقيرة الخسيسة التي تهتف بها الأحزاب التي شاخت، ويلوكها الجيل الذي أنتن، ويرددها الرجال الذين لم ينسحبوا في الوقت المناسب من الميدان!
ولو فعلت مصر لأدرك الإنجليز من فورهم إنها جادة في هذه المرة لا هازلة؛ ولاشتروا منها مصالحهم في العالم وسمعتهم بالثمن الذي تريد؛ ولوجدوا إرضاء مصر اكسب لهم من تشبثهم باستعمارها وقد صرح العداء!
ولكن مصر تقف في منتصف الطريق. تقف لأن الجيل الذي يقودها - في الحكومة وفي المعارضة على السواء - هو الجيل الذي شاخ. الجيل الذي دعاها في فورة الحماسة إلى الهدوء. الجيل الذي افسد عليها طريقها حينما اختار الطريق الأسهل. طريق المفاوضة والمحادثة والمؤتمرات!
وأما فلسطين فقد فارت فورتها في وجه الظلم الذي لم تعرف له البشرية شبيها. وكانت آخر فوراتها في عام 1938. ورأى الإنجليز أن الأمر جد لا هزل، وان الأمة العربية هناك لا تنوي التراجع، ولا تبغي المهادنة. فلجئوا إلى وسيلتهم الخالدة. وسيلتهم التي جربوها في مصر من قبل فعادت عليهم بالخير والأمن والهدوء، دعوا فلسطين إلى مؤتمر المائدة المستديرة! ودعوا معها العرب جميعاً. ومع الأسف صدقت فلسطين، وألقت السلاح،(711/8)
وانتظرت نتائج الكائدة المستديرة!
ومن الإنصاف أن نذكر أن الخديعة في هذه المرة لم تأت عرب فلسطين الأباة من جهة الإنجليز، إنما جاءتهم من جهة من يسمونهم الزعماء، الزعماء هنا في مصر وفي بعض البلاد العربية. وخدع العرب الأباة بذلك الكتاب الأبيض الذي أسفر عنه المؤتمر. وجاءت الحرب فوقفوا في صف إنجلترا هم وسائر العرب في بلاد العرب.
وقيل لهم: أن الإنجليز سيعرفون فضل مناصرتهم في ساعة العسر فصدقوا. وكانوا بلهاء حينما صدقوا! واشترك في خديعتهم أولئك الساسة والأدباء والكتاب والصحفيون المغفلون والمأجورون الذين راحوا يشيدون بالديمقراطية، والمدافعين عن الديمقراطية!
ثم وضعت الحرب أوزارها، وهب الإرهابيون اليهود يجلدون الإنجليز في الشوارع، وينسفون مقر القيادة الإنجليزية، ويخطفون القضاة والقواد؛ ويطلقونها صرخة مدوية: فلسطين لليهود!
وقيل للعرب: اسكتوا واصمتوا واطمئنوا. فقد وقع الصهيونيون في شر أعمالهم، وسينالون عداء الإنجليز، ما في ذك شك، وسيجازيهم الإنجليز على ذلك بالتمكين للعرب في فلسطين!
وقيل للعرب: حذار من أن تكونوا حمقى كاليهود. كونوا (عقلاء) أيها العرب لتكسبوا مودة الإنجليز. . . قالها لهم هؤلاء الساسة الذين اختاروا من أول الأمر طريق المفاوضات والمحادثات والمؤتمرات، إسهالا واستغلالا!
وصدق العرب المساكين، منطق ساستهم المحنكين! وباتوا (عقلاء) عقلاء جداً؛ لا يحركون ساكناً، ولا يرفعون صوتا ولا يعكرون صفواً.
وبدأ الإنجليز يحنقون على الإرهابيين، ويميلون للعرب. . . فالغوا سياسة الكتاب الأبيض، وسمحوا بالهجرة اليهودية بعد ما انتهى الأجل الذي حدده للهجرة ذلك الكتاب! ثم دعوا العرب واليهود إلى مؤتمر في لندن لوضع حل حاسم لقضية فلسطين
ولج اليهود (المجانين) في إثارة أحقاد البريطانيين. ولج العرب العقلاء في الصمت والهدوء. . ثم إذا الإنجليز يزدادون مع اليهود حنقا ويزدادون للعرب مودة. وإذا مستر بيفن يعرض حلا يتفق مع ذلك الحقد ومع هذه المودة. . . انه يقترح السماح لمائة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين في خلال خمسة وعشرين شهراً! أليس الرجل حانقا على اليهود(711/9)
(المجانين)؟!
سخرية! سخرية لا تطاق! ولكن الزعماء لا يزالون هناك يتفاوضون ويتباحثون ويتجادلون!
والآن أيها العرب. أما تزالون تنتظرون؟!
سيد قطب(711/10)
من صميم الحياة
في حديقة الأزبكية
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت بالأمس عند الأستاذ الزيات فدخل علينا شاب في نحو الثامنة عشرة عراقي، فسلم وقعد ساكتاً لا ينبس، وجعل ينظر إليَّ كأن في فيه كلاماً يريد أن يقوله، ولكنه لا يحب أن يظهرني عليه، فهو يتبرم بمجلسي، ويرقب قيامي، فلما طال منه ذلك، قال له الأستاذ: (تفضل!). فقال متردداً: (أني أريد أن أقص عليكم قصتي. . . علَّها. . . تكتب في الرسالة. . . ولكن. . . سأجيء في وقت آخر) وألقى علَّي نظرة لا أقول من نار، ولكن من حروف وكلمات تقول: (لولا هذا الرجل!).
قال الأستاذ معرفا بي: (انه فلان، وهو من أسرة الرسالة فقص القصة أمامه، فلعله إذا سمعها منك كتبها هو). فلما عرفني اشرق وجهه واطمأن وانطلق يقول. . .
وصلت مصر للدراسة في مدارسها في أكتوبر الماضي، وكانت تلك أول مرة اقدم فيها إلى القاهرة، وارى فيها الدنيا، أمضيت عمري قبلها في قرية لا تعرف إلا الجد، ولا تقبل على غير الحرث والدرس، ما فيها إلا الحلقة والحقل، ما فيها سينما ولا ملهى، ولا تلقي في طرقها امرأة سافرة، ولا تصادف في حقولها فتاة، لم اخرج منها إلا مرة واحدة وأنا صغير زرت فيها النجف مع لدات لي فرايتها مدينة عظيمة فيها كل ما يبهج ويهيج، وسعدت فيها أياماً، ثم عدنا إلى القرية، والى حلقة الشيخ، فقرانا عليه كتب الدين والنحو والصرف والبلاغة، ثم اقبلنا على الأدب، نعب الشعر الغزل، كما يعب من النبع العذب الصادي الظمآن، ونحفظه في صدورنا كما يحفظ الشحيح الموسر ماله في صندوقه، فيكون في صدورنا الفتية المشتعلة بالعاطفة حطبا يابساً يزيد اشتعال، ولكنه يكون لقرائحنا مدداً، ولألسنتنا ثقافاً، ولنفوسنا صقالاً، وكانت لنا صبوات يحركها سواد المرأة وهي تخطر في سوق القرية بعباءتها السوداء السابغة، وظلتا من خلف زجاج النافذة، وصوتها من وراء الباب، لا نرى منها اكثر من ذلك، فكان يثير سواكن هذه القلوب التي ما عرفت طريق الإثم. . . وإن لم تخل القرية من آثمين (من الشباب) ومن آثمات.
- قلت: فما فائدة الحجاب؟(711/11)
- قال: أن الخير المطلق ليس من طبيعة الدنيا، والعبرة بالغالب، فالحجاب خير فيه شر قليل، ولكن السفور شر قد يكون فيه خير قليل، وما الإثم في العاطفة يفيض بها القلب، او الشهوة تضطرم بنارها الأعصاب، ولكن الإثم في عمل الجوارح.
وعاد إلى قصته، فقال:
وكنت سمعت على القاهرة إنها، لا تؤاخذوني، إنها كباريز، بلد لذة وانطلاق، وإنها عالم فيه من كل شيء، فيه العلم والجهل، والغني والفقير، والتقى والفجور، والعفاف والفسوق، يصنع كل فيها ما يريد، لا يسأل أحد أحداً ماذا يصنع؟ ولا يقول له: دع ذا، فانه حرام. وكف عن ذا فانه عيب، وإن. . . لأستحي والله أن أتكلم. . .
قلنا له: قل يا آخي، انك تقول الصدق ابتغاء الإصلاح، ولا حياء في الإصلاح
فتردد قليلا، وغض بصره. ثم قال:
- وأن النساء في مصر، أستغفر الله، ما هذا أعني، أعني أن في مصر نساء كثيرات أ. . . الحاصل أن الصورة التي كانت لمصر في مخايلنا لم تكن صورة الأزهر بحلقاته، ولا الجامعة بأبهائها، ولا الجمعيات الإسلامية، ولا النوادي الأدبية، كلا. بل صورة (البلاج) ومشاهده، والسفور والاختلاط، وان الصوت الذي يصل إلى قريتنا عالياً ليس صوت الرسالة والثقافة والكتاب، فإنه صوت خافت فينا، ولكن صوت الاثنين والأخبار والمسامرات، منها تكونت للقاهرة هذه الصورة، فتخيلناها فتاة عابثة مستهترة، لا شيخاً وقوراً صالحاً. . .
- أنا أقول لكم الحق، فأرجو أن يتسع لسماعه صدركم، ولا يضيق به حلمكم. . .
- ولما تقرر سفري إلى مصر، أرقت ليالي بطولها، لا أستطيع الرقاد من فرط الانفعال، ثم سافرت وكلما نقصت من الطريق مرحلة زاد شوقي مراحل، وكلما اقتربت منها ابتعدت عن الصبر، ولست أطيل عليكم، فقد دخلتها ليلا، فنزلت في فندق في العتبة الخضراء بلدي، كانوا دلوني عليه من قبل أن أسافر، اسمه (فندق البرلمان)، فنمت نوماً متقطعاً تتخلله ثائرات الأحلام، يؤرقني ما أرقب من لذائذ هذه الجنة التي دخلتها بعد طول تشوقي إليها فأنهض ساعة، ثم يسحقني السهر والسفر فأهجع أخرى، حتى طلع الصباح.
- ونزلت الساعة العاشرة، فمشيت خطوات، فوجدت في وجهي حديقة الأزبكية، وكنت قد(711/12)
قرأت في (النظرات) للمنفلوطي رحمه الله، أن الأزبكية، ولا مؤاخذة، هي المكان الذي تميل إليه نفس كل شاب، لأنه أوسخ معابد الشيطان، السوق التي تباع فيها اللذائذ، فاقتربت منها وقلبي يجف كأني مقبل على جريمة قتل، وهل الزنا إلا أخو القتل؟ وتمثل لي ماضي وأخلاقي، وطلعة الشيخ، فارتددت وتلفت أنظر هل راني من أحد - لا تضحكوا أرجوكم فإني اصف لكم ما وقع لي، ومر رجال، خيل إلي أن واحداً منهم يحدق في، ويحدّ النظر إلي ويتبسم فشعرت أن دمي كله قد صعد إلى رأسي، وأن أذني قد صارتا جمرتين ملتهبتين، وتصبب العرق من جبيني، لما وقع في نفسي من أن الرجل يعرفني، ويعلم ما اسعي إليه، فأسرعت في مشيتي حتى نبهت الناس ألي بإسراعي، فجعلوا ينظرون إلي متعجبين من عجلتي، وكلما رأيت ذلك منهم ازددت عجلة، كأني الجواد الأصيل يقرع بالمقارع ليقف، وكلما أحس وقعها طار جرياً، حتى إذا ابتعدت وقفت، ووجدت راحة الخلاص من الإثم، كما يجد الغريق راحة الوصول إلى الهواء، ومشيت لا اعرف لي وجهة، فعاد الشيطان يوسوس الي، فثارت الرغبة في نفسي كرة أخرى، وندمت على أن أضعت هذه الفرصة التي انتظرتها دهراً مديداً، وفكرت فيها مسهداً ليالي طوالا، وقطعت من اجلها قفراً وخضت بحراً، ومشيت من مشرق الشمس إلى مغربها، فعدت وجعلت أدور حول سور الحديقة، وقلبي يكاد يمزق بوجيبه جدار صدري، وكان اليوم يوم أحد، فرأيت غوانيها من خلال السور قاعدات باديات المفاتن أو مضطجعات أو منبطحات على الكلأ ساحرات بالمقل النواعس، وبالسوق والأفخاذ، فكدت أجن، ولا تنسوا أنى لا أزال اعتقد أن الحديقة هي (أزبكية المنفلوطي). . .
وشددنا أشداقنا كيلا يفلت الضحك منا، ومضى في قصته.
قال: ورأيت على مقعد شاباً وفتاة، وهما يتناجيان، وعلى وجهيهما من ظلال الحديث، مثل ما يكون على وجه البحيرة الساكنة من شعاع القمر، وقد تداني الرأسان، والتفت الأيدي بالمناكب، وتعارض الساقان، وأحاطهما بجناحيه إبليس الهوى، فجن جنوني، ودفعتني موجة الانفعال التي ماجت في نفسي، فأقدمت حتى إذا ضعفت الموجة وماتت، كما تموت أمواج البحر وسط اللجة، ألفيتني عند الباب، فوقفت لا ادري ماذا اعمل، وتخيلت كأني قد أقمت على عمود في رحبة القرية والناس كلهم ينظرون إلي يقولون: هذا الذي دخل(711/13)
الأزبكية التي لم يعرف (المنفلوطي) من تحديدها إلا إنها فوق الغبراء تحت السماء، وتمنيت من الخجل أن أغوص في الأرض وأحسست أن الدنيا تدور من حولى، ولم ينقذني إلا رجل دخل فتوسط الباب الدوار، فدفع (قرش تعريفة) فأداره له البواب حتى صار في الحديقة، فصنعت صنيعه وأنا لا أعقل ما أصنع. . .
جلت في الحديقة فوجدت نساء من كل لون وجنس، ولكني كنت كمن ألقي في الماء قبل أن يتعلم السباحة، فلم أدر كيف السبيل إليهن، وحاولت أن أتذكر ما قرأت من القصص وماذا يعمل إبطالها في مثل هذا الموقف، وما حفظت من أشعار الغزل، فلم يخطر على بالي إلا أبيات (سألت الله يجمعني بسلمى) فقد كانت حالي كحال هذا الشاعر، أرقب أن تجيء إحداهن فتأخذ هي بيدي وتجرني إليها، ولكني لم أر غرفاً ولا مخادع، ثم وجدت بناء في الحديقة فعلمت أن المخادع والغرفات فيه، وبقيت إلى المساء أدور، لا أفكر في طعام ولا أشكو التعب، حتى إذا قيل اخرجوا ستغلق الحديقة، خرجت وما أظن أن على ظهر الأرض إنسان أخيب مني. . .
وجعلت أعود إليها، كل يوم، فلما كان بعد ثلاثة أيام، وكنت قاعداً على مقعد وأمامي امرأة قصيرة الثوب، عارية الساق قد رفعت رجلا على رجل، فأبدت ما أحسست به كالبارود في أعصابي، وجعلت أنظر إليها، علها تلقي بصرها علي، فأغمزها بعين - وقد فكرت في ذلك الليلة البارحة كلها، ورأيته هو الطريق إليها، بعدما أعياني الوصول، وجربته أمام المرآة حتى حسبتني أتقنته والتفتت إلى فغمزت بعيني، فإذا بها تشمخ بأنفها، وتقوم فتمضي وعلى وجهها مثل إمارات الاشمئزاز. . . وسمعت ضحكا من ورائي فتلفت مذعوراً، فإذا أنا بشاب على رأسه كمة بيضاء يلبس (قفطاناً) يبدو عليه أنه فلاح، تلوح عليه سيمياء الفقر، وراى ذعري فقال: (إزيَّك) قلت: (كلُّش زين) ففهم أني غريب، وأني عراقي. فقال: (عجبتك؟) فاستحييت أن أجيب. فقال الخبيث: (ليه؟ أنت مكسوف)؟ ما تتكسفشي! تعال أوديك واحدة أحلى منها).
إنكم لا تستطيعون أن تتصوروا ماذا صنعت بي هذه الكلمة وأنا الذي عاش عمره يشتهي أن يشم ريح امرأة من مسافة فرسخ وتشجعت فقلت له بصوت مخنوق: (شْلُون؟).
قال: (شلون يعني إيه؟ تعال معايا. تعال) واخذ بيدي وأخرجني من الحديقة، وقال: (تحب(711/14)
ناخذ تاكسي ولاَّ نركب الترام؟) وكنت نافذ الصبر، مجنون الرغبة، فقلت: (تاكسي). ولو كانت طيارة لركبت إلى ما يأخذني إليه طيارة، ولم أساله إلى أين، حتى نزلنا من السيارة، فسألت السائق: (كم تريد)؟
قال: (ثلاثين قرشاً) فارتعت لحظة ولكني لم أبال، ونقدته الأجرة ونظرت فإذا الذي بقي في جيبي اثنان وعشرون قرشاً، وسائر فلوسي عند الفندق. نفقة الشهر كله خمسة عشر جنيهاً. . .
قال الشاب: (إيدك على جنيه بأه). قلت: (جنيه؟) قال: (أمّال؟ دي بنت تمانطاشر، زي الأمر). فنظرت هنا وهناك أبغي مهرباً ولا أعرف الطريق. فقال: (مالكش مزاج ولا إيه؟). قلت: (في وقت ثاني). قال الخبيث: (على خاطرك. هات تعبتي بأه) فأعطيته خمسة قروش، ولم يحب أن يفلتني قبل أن ينتف ريشي فعاد يحدثني حديث الرجس، وقال لي أن عنده بنات أخر، ولكن لكل ثمن، فبنت مصرية سمراء كأن عينيها عينا غزال شارد، وبنت شامية من صفتها كذا، وبنت عراقية من بلادنا من نعتها كذا، وبنت رومية كأن جسمها العاج المشرب بعصير الورد، وكأن شعرها أسلاك الذهب، تسقي من فمها خمراً، ومن مقلتها سحراً ورآني أرتجف من الانفعال، ورأى وجهي شاحباً، فقال: هي بنت بيت (مش من دول) لا تأخذ فلوساً لأن أباها من كبار أصحاب المصارف، ولكن للبواب جنيهان ليغض النظر، وله هو جنيه، واثنان لوصيفتها لتكتم الأمر، وتحفظ الباب. . .
وسحرني الملعون. فقلت: (لا بد لي من الذهاب إلى الفندق لآتي بالفلوس) قال: (هيا بنا).
وتسلم الجنيهات الخمسة، وأدخلني عمارة فخمة في شارع الملكة نازلي، فأصعدني إلى الطبقة السابعة، وأشار إلى باب فقال: إنها هنا. ولكنه لا يستطيع أن يدخل معي، فهو ينتظرني عند البواب، ونزل بـ (المصعد) الذي صعدنا به، وأقدمت مضطراً فقرعت الباب بيد ترتجف، ففتحة لي خادم اسود مسن، ووقف ينظر ما أقول له، ووقفت مبهوتاً فقال: (إيه؟ عاوز مين؟) فسكت. قال: (الله! أنت عاوز مين؟) قلت: (جورج)، وكان هذا هو الاسم الذي خطر على لساني. قال (جورج؟! دا منزل أحمد بك صالح المحامي) واغلق الباب في وجهي، ولم أجد المصعد فنزلت على الدرج، من الطبقة السابعة، فلما بلغت الباب لم أجد الشاب ولا البواب!(711/15)
طبق الأصل
علي الطنطاوي(711/16)
على ذكر المولد النبوي:
محمد والأمن العام
لصاحب العزة علي حلمي بك
مدير جرجا
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
التشريع الجنائي في الإسلام
القواعد الإيجابية التأديبية للأمن
لا قوام للأمن بغير عقوبة توضع للجريمة التي ارتكبت ردعاً للجاني وزجراً لغيره، ولا قيمة لهذه العقوبة إلا إذا نفذت فعلا على المجرم الآثم، فهل وضعت الشريعة المحمدية عقوبات للجرائم التي تزعزع أركان الأمن وتسبب شقاء المجتمع.
نعم. وما الحدود التي شرعها الله وأوصى بها الرسول الكريم إلا عقوبات تحد من الإجرام وتقف بالإنسان عند حده. واليك بيانها بإيجاز:
أولا - عقوبة الإعدام (القصاص): لا شك في أن أول جريمة تقض مضاجع الناس وتروعهم فتشقى بها الإنسانية إنما هي جريمة سفك الدماء وإزهاق الروح. وقد شرع الله لها القصاص فقال (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) وهي مادة أساسية في قانون محمد الجنائي.
ثانياً - حد قطاع الطرق: وهم العصابات المسلحة التي تتربص بالمارة ليلاً أو نهاراً وتقتل للسلب والنهب.
وحكم الشريعة فيهم ينحصر فيما يلي:
أ - الإعدام: أن ثبت أنهم ارتكبوا القتل.
ب - الصلب مع القتل: أن قتلوا وسلبوا الأموال على خلاف بين الأئمة في الصلب.
ج - قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: (اليد اليمنى والرجل اليسرى) هذا أن اقتصروا على سلب المال دون سفك الدماء(711/17)
د - النفي: أن استعملوا الإرهاب ولم يقتلوا أو يسلبوا، وقد فسر بعض الأئمة النفي بالحبس. على أنه ثبت أن عقوبة النفي للمجرم فيها إصلاح وأمن، وأن إبعاد المجرمين الخطرين الذين لا يرجى إصلاحهم وعزلهم عن المجتمع كما حصل أخيراً باتباع هذا النظام في معتقل الطور أدى إلى تحسن حالة الأمن وخاصة في الجهات التي نفي منها هؤلاء - وحبذا لو رأى ولاة الأمور استخدامهم في استصلاح الأراضي الزراعية البور كأرض البراري في شمال الدلتا أو العمل بالمحاجر والمناجم أو تشغيلهم في إنشاء الطرق في الجهات النائية كمديرية قنا وأسوان في سبيل العمران والرخاء والأمن.
هذه العقوبات الموضوعة لقطاع الطرق مستقاة من قول الله عز وجل شأنه (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض).
ثالثاً - السرقة: وهي الجريمة الدنيئة التي تتمثل في سلب الأموال وهي قوام الحياة يلجأ إليها المجرمون من الكسالى والمتواكلين رغبة في الاستمتاع بالعيش السهل على حساب غيرهم من المجدين العاملين.
ولهذه الجريمة أسوا الأثر في اضطراب الأمن وانتشار الفوضى، لهذا كانت العقوبة التي وضعها الإسلام لمرتكبيها عقوبة صارمة. وهي قطع يد السارق إذا ثبت عليه الجرم بلا شبهة وليس هنا موضع الحديث عن المقدار الذي يجب فيه القطع ولا عن المال المسروق ولا عن الشبهة التي تمنع الحد (فمرجع ذلك كتب الفقه) لكننا قصدنا إلى بيان أن عقوبة السرقة التي وضعها الله تعالى هي العقوبة الطبيعية لمنع هذا الجرم ودفعا للكسالى والمتواكلين إلى العمل والسعي إلى الرزق وحفظا لا موال الناس من عبث المجرمين. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يشتد في عقاب السارق ولا يعفو عنه حتى ولو عفا المجني عليه، روي أن صفوان بن أمية عفا عن سارق ردائه فقال عليه الصلاة والسلام (لا عفا الله عني أن عفوت) وأمر بقطع يد السارق وهو الذي يقول في لهجة الغاضب الأسف لجماعة يريدون الاستشفاء لامرأة سرقت ما يوجب الحد عليها (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) فلئن دل هذا الحادث على شيء فإنما يدل على أن إقامة حدود الله وهي روادع البشرية وزواجر الإنسانية لم يكن للعاطفة فيها نصيب ولا للرحمة عندها منفذ. فهذه(711/18)
فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهي أحب ذريته إليه ومع ذلك يقسم صلوات الله وسلامه عليه أنه لو سرقت هذه المحبوبة صاحبة المنزلة الكريمة في نفس لأوقع عليها الحد وأنزل بها العذاب، فأي معنى من معاني السمو الخلقي أسمى من هذا الخلق الكريم فلا شفاعة ولا استشفاع ولا محبة ولا عاطفة تمنع من إقامة الحدود مهما يكن الداعي إليها والمسوغ لها، لذلك انعدمت الجرائم أو قلت كثيراً وعم الأمن وشمل العالم فعمه النظام وطمأنينة البال. وما كان يقع من شرور أو يحصل من آثام فإنما هي أمور شاذة معدودة أمكن علاجها واصبح من المستطاع استئصالها. ولا محل إذن لقول متحامل على الإسلام من مدعى المدينة بأنها أمور وحشية وعقوبات غير إنسانية، فالإسلام لم يكن مبتدعاً لهذه العقوبات ولكنه أقر ما جاء منها في الشرائع السماوية، فكان العالم على ما قدمنا يرزح تحت نيران الفتن وعوامل الفساد، وكانت الحال على أشدها فلا مال يصان ولا نفس تحفظ ولا عرض يحترم. وجاء الإسلام فرعى الحقوق وحقن الدماء ونشر السلام وأمن النفوس وجمع القلوب على دين واحد وتعليم شاملة ومبادئ سامية.
وإن كثيراً من حوادث السرقات إنما يقع بسبب إهمال صاحب المال وعدم الحيطة والحذر كأن يترك مثلا متاعه أو دابته أو سيارته في الطريق ثم يذهب لقضاء عمل يستغرق وقتاً، فيكون في ذلك إغراء للسارق وتشجيع له على السرقة. وقد يكل بعض الناس أمور الحراسة لغير الأمناء بلا حذر أو مراقبة فيستعين الجاني بالحارس على ارتكاب الجريمة.
ولم يهمل المشرع العظيم هذه الناحية. إذ يقول الله تعالى (وخذوا حذركم) ويقول عليه الصلاة والسلام (اعقلها وتوكل)
رابعاً - عقوبات أخرى: شرع الله سبحانه وتعالى على لسان محمد وشريعته الغراء عقوبات أخرى خلقية لها أثرها في الأمن أي أثر
الجرائم الخلقية:
لا تقتصر الجريمة على الماديات فحسب. بل تتعداها إلى غيرها، فهناك الجرائم الخلقية كهتك العرض والفسق التي كثيراً ما تنشأ عن عدم عناية بعض أولياء الأمور بتربية أولادهم وعدم مراقبتهم والمحافظة عليهم.
الزنا:(711/19)
هو شر أدواء المجتمع: يقوض دعائم الشعوب ويهدم أركان الممالك وحسبك أن انتشاره يقطع التناسل ويؤدي إلى انقراض النوع الإنساني ويهدم صرح الأسرة وهي اللبنة التي يكون منها الأمة. أضف إلى ذلك ما ينشأ عن هذا الجرم الشنيع من انتشار أمراض المدنية (الأمراض الخبيثة) وما يترتب عليها من شقاء الزاني وألمه المرير طوال حياته فيعيش مشوها في خلقه متألما في جسمه ونفسه منبوذاً من المجتمع الذي يحيط به. ثم أن الزاني جرثومة قذرة أن لم يبادر بإبادتها نمت وفشت فتصيب بمرضها الوبيل كل من يقترب منها أو يتصل بها.
ولنا أن نستنتج ما يأتي:
1 - أن الزنا جريمة يمتد أثرها إلى المجتمع نفسه فيصيبه بالانهيار والانحلال.
2 - إنه يفقد الشرف والكرامة وهما أسمى آيات الإنسانية الكاملة.
3 - إنه سبيل المرض. ولا خير في أمة مريضة الشباب ضعيفة الرجال.
4 - إنه وسيلة الفقر وذهاب المال والمال قوام الحياة.
5 - إنه أساس لكثير من الجرائم الأخرى التي تؤثر شر تأثير في الأمن العام كالسرقة والتزوير والغصب فضلا عما يؤدى إليه الانتقام للعرض كالقتل كما هو حاصل في أنحاء البلاد وخاصة في الوجه القبلي. والتاريخ يحدثنا أن الأمم التي ترتكب الشهوات وتنغمس في اللذائذ والمنكرات تكون عاقبتها الانحلال والضعف وفقدان الشخصية مهما تكن على قسط من الغنى والقوة أو الحضارة والمدينة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
وليس هناك من علاج حاسم إلا ما قررته الشريعة الإسلامية من عقاب الزاني والزانية في حزم وبساطة (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منها مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله أن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) فلو نفذ حد الزنا من جلد أو رجم لكفانا ذلك العمل على بساطته مؤونة البحث والتنقيب والخطابة والتأليف والكتابة والنشر وتأليف اللجان وما إلى ذلك مما لا يجدي نفعاً في كبح جماح هذه الغريزة الجنسية ولاسترحنا من الويلات والمشاكل والقضايا المترتبة على هذه الجريمة التي تشغل بالنا وتؤثر في امتنا وهذا لا يمنع من إيجاد علاج شاف للنساء الساقطات اللاتي(711/20)
كن يحترفن البغاء العلني بما يمنع تسربهن إلى البغاء السري وذلك بإنشاء مؤسسات تكفل لهن العيش الشريف وضمان المستقبل يعملن فيها بأشغال يدوية كالحياكة وغيرها ويمنحن مكافآت مالية بقدر ما يعملن وتيسير زواجهن إلى أن ينقرض هذا الوباء بعلاج حاسم حازم سريع.
ولنتكلم عن عقوبة الزنا بشيء من الإيضاح لنبين الغرض منها:
قيدت الشريعة السمحة ثبوت هذه الجريمة واستحقاق العقوبة عليها بقيود شديدة تجعلها نادرة التنفيذ ووجهة النظر في التشريع الإسلامي هنا تنحصر في أمرين: الأول منع الجريمة الثاني ستر العرض.
فالإسلام يبغي من وراء هذه العقوبة الصارمة الإرهاب. والخوف كان ولا يزال غريزة من غرائز النفس البشرية كثيراً ما يفيدنا في التشريع والإصلاح الاجتماعي لأن الدين الحنيف يريد استئصال الجريمة من أساسها لما في ذلك من استقرار النظام الاجتماعي وإسعاده ويريد بدوره ستر الأعراض وعدم الفضيحة والعار لقبح هذه الجريمة وشناعتها. لذلك كان ثبوتها من الصعوبة بمكان.
وإليك البيان:
أولا - اشترطت في رجم الزاني:
1 - أن يكون بالغاً فلا يرجم الصبي طبعاً.
2 - أن يكون عاقلاً فليس المجنون محصناً فلا يرجم.
3 - أن يكون مسلماً.
4 - أن يكون الزاني متزوجاً وأن يدخل بمن تزوج منها.
5 - أن يكون فاعلاً باختياره فلا يرجم من أكره على الفعل
ثانياً - أسقطت الشريعة الحد أن وجدت أية شبهة لقوله عليه الصلاة والسلام (ادرءوا الحدود بالشبهات).
ثالثاً - اشترطت لثبوت الزنا واستحقاق الحد سواء أكان رجماً للمحصن أم جلداً لغيره أن يتقدم للشهادة عليه أربعة شهود عدول في مجلس واحد شهدوا وقوع الجريمة ورأوا الفعل رأي العين على حد قول الفقهاء (كالمرود في المكحلة) فلو اختلفوا في الرؤية وتأخر أحدهم(711/21)
عن المجلس الواحد (الجلسة عينها) لم تثبت التهمة ولا حد. بل يحد الشهود الأول حد القذف لأنهم رموا إنسانا بالزنا والجريمة لم تثبت عليه.
رابعاً - رأى بعض الأئمة أن ترك الشهادة في جريمة الزنا أولى إلا إذا كان الزاني متهتكا فاجراً.
خامساً - حتمت الشريعة على القاضي في حالة إقرار الزاني على نفسه أن يرده أربع مرات وان يتغافل عنه وان يقول له (لعلك قبلت أو لمست) في كل مرة يعود فيها للستر من جهة ولصرامة العقوبة من جهة أخرى.
سادساً - إذا رجع المقر عن إقراره بعد ذلك ولو بعد صدور الحكم سقط الحد. من هذا كله نرى أن الشريعة قصدت إلى أمرين هما (منع الجريمة وستر الأعراض) إذ أن إنزال العقاب يكاد يكون مستحيلا مع كل هذه القيود التي سبق سردها، على أن العقوبة نفسها مناسبة لأن هتك الأعراض وفساد المجتمع ليس بالشيء الهين الذي يحتمل الهوادة واللين.
الخمر:
إذا تحدثنا عن الخمر فإنما نتحدث عن أم الخبائث وأساس المنكرات ومبعث الجريمة. وسنبين فيما يلي الحقائق التالية ليتبين منها أثر الخمر في الأمن العام:
أولا - أن الغول (الكحول) الموجود بالخمر يؤثر على المجموع العصبي ويحدث التخدير والنشوة فلا يشعر الثمل بما يأتي من الأعمال ولا يقدر النتيجة المترتبة على فعله، لهذا نجد كثيراً من المجرمين كالقتلة واللصوص يتعاطون المسكرات قبل شروعهم في إجرامهم ليزدادوا جرأة وإقداما.
ثانياً - ثبت في بعض البلاد الأجنبية التي تنتج الخمر وتعتمد عليها كحاصلات أن نسبة الإجرام تزيد في موسم محصول الخمر زيادة تلفت النظر.
ومن الحوادث التي روتها الكتب أن شبانا كانوا يحتسون الخمر فمرت بهم عجوز فدعوها وناولوها كأساً فلما شربتها شعرت بخفة وسرور، ثم لما شربت الثانية أخذت تضحك وتداعب الشبان وقالت لهم: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم قالت: لقد زنين ورب الكعبة.
والواقع الملموس أن كثيراً من حوادث الشغب وما يؤدى إليه من ارتكاب الجريمة يحدث(711/22)
في مواطن شرب الخمر من الحانات والشوارع التي يكثر فيها تناول الخمور. وهناك أقسام البوليس لا يهدأ لها بال ولا تكاد تخلو كل مساء من عدة حوادث إجرامية منشؤها السكر والعربدة. وهي الأقسام القريبة من بؤر الدعارة ومحال الخمور.
ومن أجل ذلك حاولت بعض الدول الكبرى تحريم الخمر في داخل أراضيها كأمريكا، وحرمت بعضها تناولها في أوقات معينة وهى ترمي إلى تقليل ضررها الجسمي والاجتماعي ما أمكن ذلك.
وبعد: فقد علم الله العليم الحكيم ما في الخمر من ضرر جسيم وبلاء عظيم فحرمها الإسلام الحنيف وأوجب عقاب شاربيها.
ويلاحظ أن العقوبة التي وضعت لهذا الجرم فيها إيذاء مادي للبدن. كما أن فيها إيلاماً وامتهاناً للنفس يتناسب مع امتهان الشارب لنفسه وحقارتها لسكره وعربدته حتى تكون زاجرة رادعة له ولغيره من العابثين المستهترين وهنا يستقر النظام ويستتب الأمن.
ثمانون جلدة: عقاب فيه بساطة التشريع وبساطة التنفيذ جريا على عادة البساطة في الشريعة الإسلامية السمحة والإسلام دين الفطرة، ولكن الإسلام مبالغة في الكرامة الإنسانية وإرادة للستر وتخفيفاً على العباد اشترط أن يؤخذ الشارب ورائحة الخمر في فمه.
فأوجب لثبوت الجريمة أن تكون مادتها موجودة وهي رائحة الخمر إلا إذا ذهبت الرائحة لبعد المسافة وطول الوقت، واشترط لذلك أن يشهد على الشارب اثنان تتوفر فيهما العدالة وعدم التجريح وتنتفي التهمة معها العقوبة بأية شبهة يظنها القضاء كأن يثبت أن المتهم شربها للعلاج مثلاً.
ولو رجع في إقراره بعد أن اقر بالشرب لا يحد، وكذلك لو شهد الشاهدان ولا رائحة للخمر في فمه.
فلّله ما أسمى هذا التشريع وما أعدله وما أبعد أثره في تقويم النفوس وتهذيب الأخلاق وسعادة المجتمع.
إن هذا التشريع هو ما يتطلبه المجتمع اليوم للقضاء على ما فيه من شرور وجرائم ليستريح الناس ويتطهر العالم مما علق به من رجس وآثام ويسير مطمئناً إلى حياة الاستقرار والسعادة والنور والسلام. (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى(711/23)
النور)
علي حلمي
مدير جرجا(711/24)
الأدب في سير أعلامه:
3 - تولستوي. . .!
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
طفولة ونسب
ويتصف الطفل منذ نشأته بصفة لعلها وليدة شعوره القوي بذاته، وتلك هي سرعة بكائه، وما يبكي من غيض فحسب، فإن عينيه تدمعان إذا لقي حنواً أو مودة ممن هم أكبر منه، وإن عجباً أن يبكي في موضع السرور ليعبر بدمعة عن امتنانه، فهل كان لذلك سبب أخر هو إحساسه بيتمه منذ أن فطن إلى موت أمه؟ ولكنه بكاء شكاء من قبل أن يفطن إلى ذلك، وهو لا
يملك أن يحبس دمعة إذا رأى غيره يبكي وأن لم يدر ما بكاؤه ولقد يغضب غيره حتى يبكيه ثم لا يستطيع إلا أن يبكي معه؛ كتب فيما بعد عما كان بينه وبين تلك البنت التي كان يربيها أبوها في أسرته فقال: (أتذكر أني أخذت وقد تعلمت الفرنسية أعلمها حروفها الهجائية، وسار ذلك سيراً طيباً أول الأمر، وكنا يومئذ كلانا في نحو الخامسة من عمره ولكن التعب أدركها فأمسكت عن نطق الحروف كما طلبت إليها، فألححت عليها فبكت ثم إذا بي أبكي مثلها، ولما دخل علينا من هم أكبر منا لم نجد ما نقوله بسبب ما كنا نذرف من الدمع).
وكان ليو أكثر من غيره من الأطفال حباً للثناء عليه وابتهاجاً بما يسمع من عبارته، وذلك أنه يفطن إلى أن الثناء عليه ينصرف بالضرورة إلى ما يبدي من دلائل الذكاء والنشاط والطموح، إذ ليس يطمع في ثناء عليه بسبب منظره أو ملاحة وجهه أو رشاقته كما عسى أن يطمع سيرجي أو نيقولا؛ فما أبعده عن ذلك كله، وهو شيء ليس في طوقه، وان كان يتمنى بينه وبين نفسه لو وقعت معجزة فغيرت شكله إلى ما يحب من وجاهة
وحسن؛ ولن تقع هذه المعجزة أبداً فليس له إلا أن يرقى بنفسه وبيدي مقدرته، ولهذا كان إذا دعي إلى عمل جمع عزمه وحرص الحرص كله على أن يكون في احسن حالاته، ومن(711/25)
ذلك ما يكون منه بين يدي أبيه حين يدعوه إلى تلاوة قصيدة من شعر بوشكين أو غيره من الشعراء، أو تلاوة أقصوصة من كتاب أو من ذاكرته أو حين يناقشه في دروسه ليعلم مبلغ فهمه.
وكان شغفه بالموسيقى عظيما يتفتح لها قلبه وتنفعل لها نفسه ويبتهج خاطره إذا سمع لحناً وانشغل غيره عنه فهو مقبل عليه بقلبه ولبه كأنه مسحور به لا يكاد يعي دونه شيئاً.
ويحب ليو الناس جميعاً لا يضمر سوءاً لأحد، ولا يتجهم لأحد، ويكره أن يرى شخصاً يتألم أو تمشي في وجهه كدرة الهم كما يكره أن يعبس أحدهم في وجه صاحبه أو يتكره له أو يتجهمه بالقول، فالصفا والمحبة والمودة من خصائص طبعه ومقومات خلقه
غلام نابه
تمكنت من نفس الصبي روح المحبة للناس جميعاً، ولسوف تتوثق على الأيام وتزداد فيكون لها أثرها البعيد في تكوين آراء الكاتب العظيم في غد، وفي توجيه روحه وتحديد مسلكه في مواطن كثيرة من مواقف حياته.
وكان يحب الطفل فيمن أحب في طفولته كبيرة الخدم العجوز التي لبثت من عمرها في القصر سنين طويلة لا يدرك مدى طولها، والتي تقص أجمل القصص عن أجداده وأحداث أسرته وتلاعبه وتضاحكه كلما ذهب إليها أو كلما لقيته في إحدى ردهات القصر أو حجراته، وتخبئ له الحلوى في ثيابها لتلاقيه بها أو تفتح له خزانتها ليأخذ منها ما يحب؛ وكان كذلك يحب كبير خدم المائدة لأنه يهش له دائماً ويظهر المودة والعطف؛ والحق أنه كان يحب الخدم جميعاً وإنما يختص من هم اكثر تودداً أليه. دخل يوماً على العمة تاتيانا يشكو إليها أنه رأى منظراً كدره وآلمه، وذلك أنه شاهد أحد الفلاحين يساق إلى حظيرة حيث أوثقه رئيسه وضربه، ولما سألته عمته لم لم يحل بينه وبين الضرب أطرق في خجل ولم يحر جواباً، وكأنما يزداد ألماً ألا يستطيع أن يتدارك ما فاته.
وبينما كان أفراد الأسرة كبارهم وصغارهم في الثوى الكبير ذات ليلة من ليالي الشتاء أشار الكونت نيقولا رب الأسرة بسبابته إلى الحجرة المقابلة وكانت مفتوحة، فوقعت أعين الجالسين على منظر أثار ضحكهم ودهشتهم فقد عكست المرآة فيها صورة أحد الخدم يمشي على أطراف أصابعه، وما زال حتى بلغ الصندوق الطباق فسرق منه قدراً وانصرف،(711/26)
وكان الكونت ينظر إليه ضاحكاً لم تزل عنه بشاشته، بل لقد صحب تلك البشاشة شيء من التسامح والرفق، ولما رأى ليو تسامح أبيه أمتلئ سروراً منه وازداد إعجاباً به، وعند انصرافه لثم يده في حماسة ظاهرة ليريه مقدار ما في نفسه من رضاء على ما أظهر من رحمة ورفق.
وامتد عطف الصبي حتى وسع الحيوان فقد أحزنه ذات يوم مرأى كلب مربية والخدم يشنقونه، وكان ذلك الكلب العزيز الرمادي اللون ذو العينين الجميلتين والشعر الناعم الجعد على حد وصفه قد أصيب بكسر ساقه إذ مرات فوقه عربة، فأعدم إذ لم تعد بهم حاجة إليه في الصيد؛ وعجب الصبي لما رأى بقدر ما تألم منه. وانه ليروي هذا الحادث بعد فيما يروي من حوادث الصغر مما يدل على شديد تأثره به، قال: (كان الكلب يعاني الألم وكان مريضاً وقد شنق بسبب ذلك. لقد أحسست أن هناك خطأ فيما يقع، ولكني لم أجرؤ على الثقة في شعوري حيال ما أرى من تصميم ثابت من جانب قوم أحترمهم).
ووقف الصبي ذات يوم يمسح بكفه الصغيرة حصانة، وقد وثب عن ظهره إلى الأرض إذ نبهه أحد الفلاحين وقد رآه يضربه ألا جدوى من ضربه لأنه متعب، ونظر الصبي إلى الحصان وهو يلهث ويخرج أنفاسه في زفرات مؤلمة متقطعة، وجنباه يرتعشان والعرق يتبخر منهما، فبلغ من حزنه أنه (أخذ يقبل عنقه الذي بلله العرق ويسأله الصفح عما أوقع به من أذى). . .
وممن وسعهم عطف الصبي وشملهم بره أولئك الفقراء الذين كان يعدهم الناس من الصالحين الأولياء، وكانوا كثيرين في تلك المنطقة لقربها من كييف حيث يتقاطر الحجيج ليزوروا مواضعها المقدسة، وكان مرأى هؤلاء في أسمالهم البالية وبلاهتهم وتمتماتهم وعدم اكتراثهم لأي شيء أمراً يثير الدهشة في نفس الصبي كما يبعث فيها كثيراً من الرهبة، ويوحي إلى خياله أطيافاً مهمة وصوراً غامضة؛ وكان ينبئه اخوته أن في هؤلاء الصالحين سراً لا يمكن كشف يجعلهم على الرغم من حقارة مظهرهم وقذارة أسمالهم أقرب الناس إلى مرتبة القديسين، وقد وصف تولستوي هذه الطائفة في شخص (جريشا) الذي تحدث عنه في كتابه (عهد الطفولة) وقد كتبه وهو في الخامسة والعشرين من عمره قال: (كان جريشا شخصية مخترعة، وكان يغشى منزلنا كثير من هؤلاء البلة الطيبين، وقد علمت أن انظر(711/27)
إليهم نظرة الاحترام الشديد وهو صنيع أحفظه لمن قاموا على تربيتي، ولئن كان بين هؤلاء من يعوزه الإخلاص أو من قضى فيما سلف أياما في حالة من الضعف والادعاء فإن غايتهم في الحياة كانت على ما يبدو من سخفها في الواقع بالغة السمو؛ حتى إنه ليسرني أني تعلمت في طفولتي على غير وعي مني ما وصلوا إليه بأعمالهم من علو، لقد صنعوا ما تحدث عنه ماركس اورليوس حين قال: (ليس هناك أسمى من أن يتحمل المرء الازدراء من أجل أن يحيا حياة صالحة طيبة) أن الطموح الإنساني إلى المجد والعظمة أمر لا يمكن تجنبه وهو كذلك بالغ الضرر إذ أنه يفسد كل عمل حميد، فلا يسع المرء إلا العطف على أولئك الذين لا يقتصرون على بذل جهدهم لتجنب أن يحمدوا فحسب بل ويتعرضون فوق ذلك للاحتقار. . .
ومما كان يبهج نفس الصبي ويحبب إليه الحياة ما كانت تحتشد له الأسرة من مظاهر الفرح في أعيادها وعلى الأخص عيد الميلاد، فكانت تشيع البهجة في البيت كله فترى دلائلها في كل وجه وتحس روحها في كل ناحية، فرب الأسرة وسيداتها وأبناؤها وجميع من في القصر من خدم يتبادلون المحبة والمودة ويبدون سعداء في ثيابهم الجديدة ويستمتعون بما طاب من الطعام والشراب، حتى الفلاحين ينالهم حظ من هذا الفرح فتطيب نفوسهم وهذا ما ينشرح له صدر الصبي.
وكان خروجه إلى الغابة للصيد مع أبيه واخوته في العربات الجميلة أو على ظهور الخيل المسومة الفخمة يحيط بهم رهط من الأتباع وعدد من كلاب الصيد مما يملأ قلب الصبي سروراً وبهجة، وكثيراً ما كان يبهجه كذلك الخروج إلى الغابة لغير الصيد في صحبة العمة تاتيانا أو في صحبة جدته أو غيرهما من المربين فيرتع ويلعب ويقتطف ما شاء من الزهر، ويستمع إلى القصص حتى يعود إلى البيت وهو يطفر كما يطفر العصفور من فرط المرح. وفي ليالي الشتاء كان تحلق الأسرة حول الموقد والاستماع إلى الموسيقى أو القصص الممتعة، وتبادل العطف بين الكبار والصغار وبين بعضهم مع بعض مما يحبه الصبي ويأنس به ويحرص كل الحرص على شهوده. . .
وليس ثمة إلا حجرة الدراسة تخلو من البهجة ويلقي فيها من درسه عنتاً ورهقاً، على أن عطف معلمة عليه يخفف عنه، ورغبته في أن يرقي بنفسه ويكتسب من دواعي الفخر ما(711/28)
يباهي به اخوته يجعله يتكئ على نفسه ويصبر على مكاره الدرس.
وفيما عدا هذا كانت طفولته بهيجة محببة إلى نفسه ولن تجد وصفاً لهاتيك الأيام السعيد الحلوة أبلغ مما كتبه عنها بعد ذلك في أول كتاب له وهو كتابه (عهد الطفولة) قال (ما اسعد هاتيك الأيام الحلوة أيام الطفولة التي لا تنمحي ذكراها، وكيف ينسي امرؤ أن يحب ذكرياتها وأن ينعم بها؛ أن هذه الذكريات لتنعش روحي وتسمو بها، وهي المنبع لأعظم فيض من السرور يغمرني، وأي وقت هو خير من ذلك الوقت الذي لا يكون للحياة فيه من دوافع غير دافعين هما في الفضائل أجمل فضيلتين: اللهو البريء ورغبة النفس في الحب رغبة لا تحد).
(يتبع)
الخفيف(711/29)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
861 - تهنئة بإسلام
عيون الأخبار: كتب رجل من الكتاب إلى (صديق له) قد اسلم يهنئه:
الحمد لله الذي أرشد أمرك، وخص بالتوفيق عزمك، وأوضح فضيلة عقلك، ورجاحة رايك، فما كانت الآداب التي حويتها، والمعرفة التي أوتيتها لتدوم بك على غواية وديانة شائنة لا تليق بلبك، ولا يربح ذوو الحجى من موجبي حقك ينكرون إبطاءك عن حظك، وتركك البدار إلى الدين القيم الذي لا يقبل الله غيره، ولا يثيب إلا به، فقال: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) وقال: (إن الدين عند الله الإسلام)، والحمد لله الذي جعلك في سابق علمه ممن هداه لدينه، وجعله من أهل ولايته، وشرفه بولاء خليفته، وهنأك الله نعمته، وأعانك على شكره، فقد أصبحت لنا أخاً ندين بمودته وموالاته، بعد التأثم من خلطتك، ومخالفة الحق بمشايعتك، فإن الله (عز وجل) يقول: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).
862 - بالعدل قامت السماوات والأرض
مفاتيح الغيب للرازي: العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال، ومن الكلمات المشهورة: (بالعدل قامت السماوات والأرض) ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر لا ستولى الغالب على المغلوب، ووهى المغلوب، وتنقلت الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب. ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لعظمت السخونة في هذا العالم واحترق كل ما هذا العالم، ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البر والجمود على هذا العالم، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها، فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم. فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم: بالعدل قامت السماوات والأرض.(711/30)
863 - عللاني وعللا صاحبيا
عمرو بن الإطنابة:
عللاني وعللا صاحبيا ... واسقياني من المروق ريَّا
إن فينا القيان يعزفن بالدف (م) ... لفتياننا وعيشاً رخيا
يتبارين في النعيم ويصبن (م) ... خلال القرون مسكا ذكيا
إنما همهن أن يتحلين (م) ... سموطاً وسنبلاً فارسيا
من سموط المرجان فصل بالشذر (م) ... فأحسن بحليهن حليا!
864 - الغيبة
شرح النهج لابن أبي الحديد: أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط بل كل ما عرفت به صاحبك نقص أخيك فهو غيبة، فقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بالإشارة والإيماء وبالمحاكاة نحو أن يمشي خلف الأعرج متعارجاً، وبالكتاب فإن القلم أحد اللسانين. واخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين، وذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم: الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب السلطان والتبذل في طلب الحطام، وقصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص فتخرج الغيبة في مخرج الحمد والشكر لله تعالى. فيحصل من ذلك غيبة المسلم، ويحصل منه الرياء وإظهار التعفف عن الغيبة وهو واقع فيها، وكذلك يقول: لقد ساءني ما يذكر به فلان نسأل الله أن يعصمه. ويكون كاذباً في دعوى أنه ساءه وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته، ولو كان قد ساءه لساءه أيضاً إظهار ما يكرهه ذلك الإنسان. وأعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة بل أشد لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها، وإذا كان السامع الساكت شريك المغتاب فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة.
865 - قليل الراح صديق الروح
خاص الخاص للثعالبي: حنين بن إسحاق المترجم أتفق له هذه اللفظة الوجيزة الشريفة البديعة التي لم أسمع للبغاء مثلها في الجمع بين التجنيس والطباق والترصيع مع حسن المعنى وجودته وصحته وهي قليل الراح صديق الروح، وكثيرة عدو الجسم.(711/31)
866 - أسد همذان
معجم البلدان: من عجائب همذان صورة أسد من حجر على باب المدينة منحوت من صخرة واحدة غير منفصلة عن قوائمه كأنه ليث غابة. وكان المكتفي يهم بحمله من باب همذان إلى بغداد، وذلك أنه نظر إليه فاستحسنه، وكتب إلى عامل البلد يأمره بذلك فأجتمع وجوه أهل الناحية، وقالوا: هذا طلسم لبلدنا من آفات كثيرة، ولا يجوز نقله فتهلك البلد، فكتب العامل بذلك، وصعب حمله في تلك العقاب والجبال، وكان قد أمر بحمل الفيلة لنقله على العجلة، فلما بلغه ذلك فترت همته في نقله فبقي في مكانه إلى الآن.
قال محمد بن أحمد السلمي المعروف بابن الحاجب يذكر الأسد على باب همذان:
إلا أيها الليث الطويل مقامه على نوب الأيام والحدثان.
أقمت فما تنوي البراح بحيلة ... كأنك بواب على همذان
أطالب ذحل أنت من عند أهلها؟ ... ابن لي بحق واقع ببيان
أراك على الأيام تزداد جدة ... كأنك منها آخذ بأمان
أقبلك كان الهر أم كنت قلبه ... فنعلم أم ربيتما بلبان
وهل أنتما ضدان، كل تفردت ... به نسبة أم أنتما أخوان
بقيت فما تفنى وأفنيت عالماً ... سطا بهم موت بكل مكان
فلو كنت ذا نطق جلست محدثاً ... وحدثتنا عن أهل كل زمان
ولو كنت ذا روح تطالب مأكلا ... لا فنيت أكلا سائر الحيوان
أجنبت شر الموت أم أنت منظر ... وإبليس حتى يبعث الثقلان
فلا هرماً تخشى ولا الموت تتقي ... بمضرب سيف أو شباة سنان!
تتنفس النفوس بقدر هممها
اللمحة البدرية في الدولة النصرية للسان الدين بن الخطيب: تذكر يوماً بحضرته - يعني محمد بن إسماعيل من ملوك بني نصر في الأندلس - معنى قول المتنبي:
ايا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
وقول أمرؤ القيس:(711/32)
وإن تك قد ساءتك مني خليقة=فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقول إبراهيم بن سهل:
إني له من دمي المسفوك معتذر ... أقول حملته من سفكه تعبا
فقال (رحمة الله) بديهاً - على حداثته -: بينهم ما بين نفس ملك عربي وشاعر عربي، ونفس يهودي تحت الذمة، وإنما تتنفس النفوس بقدر هممها.(711/33)
ملحمة:
بطل الريف
الأمير عبد الكريم الخطابي
للأستاذ محمود رمزي نظيم
(كنت يوم انهيار جهاد الأمير الجليل محمد عبد الكريم
الخطابي أمير الريف ووقوعه في الخدعة الفرنسية قد نظمت
هذه المزدوجة وقد رأيت نشرها اليوم على صفحات الرسالة
الخالدة في الظرف الحاضر بمناسبة ما يجري لفك إساره).
العين تبكي والدموع تجري ... ولم يعد ذاك النسيم يسري
(عبد الكريم) جاثم في الأسر ... وكان محفوفاً بجند النصر
تسليمه قد حار فيه الساسة ... من بعد طول الجهد والحماسة
وبعد ذاك الحزم والكياسة ... وقد أضل أمره السياسة
ولم تفز منه بكشف السر
رباه ما أتعس حظ الشرق ... من حالق به الخطوب تلقى
ويل لنا من مزعجات البرق ... صواعق تهوي بنا كالبرق
تجيئنا منذرة بالشر
الشرق نامت عينه طويلا ... ولم يزل مضجعاً عليلا
والجهل أرخى حوله سدولا ... فلم يجد لبعثه سبيلا. .
وصار لا يملك كشف الضر
كم أمة من أهله مستعبده ... راسفة في جهلها مقيدة
وليس منها من تعيش سيده ... بشعبها وعلمها مؤيده
وحره يعيش غير حر
وما أذل الشرق غير أهله ... وما به من خلفه وجهله(711/34)
فما الذي أصابه في عقله ... ألم يكن في فرعه كأصله
حتى استنام لحياة الأسر
والجهل قاده إلى التعصب ... وكثرة الشجار والتحزب
تنافر ووحدة في المطلب ... هذا ضلال كله في مذهبي
وبحره ليس له من بر
فانظر إلى تطاحن الهنود ... تعصب يعزى إلى الجمود
ولم يكن لعلة الجود ... ولا القديم احتك بالجديد
لكنه من نكبات الدهر
العصر عصر النور والحياة ... وليس عصر هذه الآفات
ألم يحن لهذه الرفات ... قيامها من غفوة الأموات
ألم تكن من أهل العصر
دسائس الغرب لنا تكيد ... وهكذا الأسياد والعبيد
فهم يريدون ولا نريد ... ونارهم نحن لها الوقود
ونحن في حسابهم كالذر
لهم عقول للحياة تعمل ... تعمقوا في فهمها وأوغلوا
وجددوا وغيروا وبدلوا ... وجربوا وهذبوا وحولوا
فجعلوا الزئبق ذوب التبر
واخترعوا فحيروا ألبابنا ... وملكوا بسعيهم زمامنا
كيف نقول ما لهم وما لنا ... إذا استغل علمهم خمولنا
وجرعوا الشرق كؤوس المر
غواصة تسبح تحت الماء ... طائرة تطير في الفضاء
وصوت (لاسلكي) في الهواء ... فيا لهم من عالم أحياء
ويا لنا من عالم في القبر
مستضعفون كلنا أذله ... ونحن داؤنا ونحن العلة
كل زعيم قام يشفى الغلة ... نتركه في وحشة مملة(711/35)
في عزلة كتائه في القفر
وكم يثير الحسد البغيض ... وكم إناء حاسد يفيض
وهكذا لا يبرأ المريض ... وكل ماء أمل يغيض
وينتهي جهاد كل بر
كم وقفة بين أسود الريف ... للبطل المستسلم الشريف
فيا له من جهده العنيف ... من أسد مكشر مخيف
في معقل يشبه وكر النسر
ممتنع كالأسد الهصور ... مرابط للضرب في النحور
فما لهذا القائد المنصور ... قد غلبته قوة المقدور
فسلم الأمر لرب الأمر
صيت جهاده علا وطارا ... وطبق البلاد والأقطارا
وأدهش العقول والأفكارا ... ثم هوى من شاهق وانهارا
وأوقعوه في شباك الغدر
بالأمس قاد جنده الشجعانا ... ببأسه وقهر الأسبانا
وساقهم أمامه قطعانا ... وأحسن البلاء والطعانا
فانقلبت فلولهم بالكسر
وعاد بالنصر وبالسلاب ... وجنده دامية الحراب
وسد باب الحرب والخراب ... بعد طويل الطعن والضراب
منذ رمى أعداءه في البحر
واستبشر الشرق بهذا الربح ... وهلل القوم لهذا الرمح
ولم يكد يبش وجه الصبح ... حتى أثار الغرب نار الفتح
كي يسترد ثمرات النصر
هب الفرنسيس مع الأسبان ... لخوض نار الحرب والطعان
وليس ليث الريف بالجبان ... فقابل النيران بالنيران
حتى جرت دماؤهم كالنهر(711/36)
ودكت الجبال بالقنابل ... والطائرات هطلت بوابل
وسال بركان على القبائل ... يذهب بالأرواح والمنازل
والريف ملتف بثوب الصبر
ليست به موارد غنيه ... وإنما نفوسه أبيه
وحب حريته سجيه ... ولم يزل ملتهباً حميه
في شدة جديرة بالفخر
والحرب مازالت رحاها دائرة ... والريف لم تدر عليه الدائرة
ولم تزل فيه العقول حائرة ... ويفتدى بكل نفس ثائرة
حرية غالية في المهر
وجددت أبناؤه العزائما ... أن لا يكونوا للعدا غنائما
وأن يموتوا أو يعيشوا دائما ... ولا يكون الغرب فيهم حاكما
وما جرى به القضاء يجري
أبو الوفاء
محمود رمزي نظيم
(منيل الروضة)(711/37)
صحائف مطوية:
التحكيم بين العمال وأصحاب الأعمال
فتوى دينية اجتماعية
للمغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
تعتبر العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال من أهم المشاكل الاجتماعية التي تشتغل تفكير الحكومات والهيئات، وعلى الرغم من الجهود الطويلة التي بذلت في الخمسين سنة الماضية لتذليل هذه المشكلة بما يحسم الخلاف الذي ينشب بين الجانبين على وضع عادل سليم يضمن للعامل راحة الجهد ووفرة الأجر، ويضمن لصاحب العمل تقدم الإنتاج وحسن الربح، وعلى الرغم من تأليف النقابات والهيئات ووضع اللوائح والتشريعات لتنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال فإن المشكلة لا تزال قائمة، وكلما نشب خلاف بين الطرفين انتشر الأمر، وتشبث كل بوجهته ووقعت الحكومة في حيرة لأنها لا تجد مجالا لاستخدام نفوذها في هذه الحال إلا بمنع ما قد يقع من تخريب.
وبينا كنا نقلب الصفحات، وقفنا على فتوى جليلة للمغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في شأن ما يكون من الخلاف بين العمال وأصحاب الأعمال، وكان المرحوم الأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة قد كتب إلى الأستاذ الإمام يستفتيه في هذا الموضوع فكتب إليه بتلك الفتوى، فنشرها الأستاذ أنطون في مجلته ومهد لها بمقدمة طويلة قال فيها:
(كنا نطالع ما كتب بشأن العمال وأصحاب الأعمال في البلاد الإسلامية فعثرنا في أثناء المطالعة على مقال هام لكاتب فرنسي موضوعه (العمل والعمال في الجزائر). ومما أدهشنا في هذا المقال قول كاتبه: أن عقدة العقد التي يتخاصم الآن حولها أهل العمل وأهل المال في العالم كله، والتي هي مشكلة المسائل الاجتماعية في هذا العصر قد حلتها الشريعة الإسلامية. فإنها أوجبت التحكيم بين العامل وصاحب العمل متى قام نزاع بينهما، فوقفنا عند القول الخطير، إذا كان قائله لم يلق الكلام على عواهنه فالشريعة الإسلامية يحق لها أن تفخر بأنها تقدمت في مبدأ العمل الشريعة المدنية الحديثة، ولم نستبعد هذا الأمر لأن(711/38)
مبادئ الأديان القديمة قائمة على عدم احترام حق الملك احتراماً مهماً، وعلى التعاون والمساواة بين أفرادها، خلافاً لمبادئ المدنية الجديدة القائمة على بقاء الأفضل وتنازع البقاء، أي قيام القوي وسقوط الضعيف، وهو معنى حماية حرية الأفراد وملكهم شخصياً وتجارياً وصناعياً، وقد أخذنا نبحث عن هذه المسألة في الكتب التي لدينا ولما لم يرتو لنا منها غليل لم يبق أمامنا سوى استفتاء حملة الشرع الإسلامي فيها، فاغتنمنا هذه الفرصة لنجدد عواطف الاحترام لفضيلة العلامة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وحجة الشرق على الغرب في هذا العصر ونغترف من بحر علمه بالشريعة الغراء فضلا عن رغبتنا في الوقوف على رأي الشرع في هذه المسألة، فكتبنا إلى فضيلة الأستاذ نستفتيه فيها فتفضل علينا فضيلته بالكتاب التالي:
(تلوت كتابكم بعد رجوعي من السفر ولا يخفى على حضرتكم أن التحكيم كما يفهم من لفظه يلزم أن يكون باتفاق الخصمين اللذين يريدان أن يقضى النزاع بينهما بالتحكيم فهو اختياري بطبيعته، ولا يكون إلا فيما هو من حقوق العباد التي يقع التنازع فيها بينهم ولا يجبر أحد خصمين على أن يتحاكم إلى من يفصل بينه وبين خصمه إلا إذا كان الترافع إلى محكمة من تلك المحاكم التي تقررها القوانين العامة أو الخاصة. والعامل متى علة الأجرة وزمن العلم فهو حر أن شاء قبل أن يعمل على شرط مقدار الأجرة ومدة العمل وأن شاء لم يقبل. فهذه هي القواعد العامة المتعلقة بأجرة العمال وتقيد أزمان عملهم ولا وجه لاختلاف العامل ورب المال قبل الدخول في العمل، والمقصود أن يكون الاختلاف في الوفاء بالشرط وعدم الوفاء به والذي يفصل فيه عند ذلك المحاكم أو المحكمون إذا اختار المتنازعان طريقة التحكيم. أما الحالة القائمة الآن في أوربا فمنشؤها أمران: أحدهما اضطرار العامل للعمل لأنه لا وسيلة له إلى المعيشة سواه. وثانيهما مبالغة رب المال في طلب الربح لأن توفير المال أصبح من أهم ما يسعى إليه طلابه في تلك البلاد. فالأول يرغب أن يزاد له الأجر وأن ينقص من زمن العمل، والثاني يبتغي تقدير الأجر والزمن كما يريد، والأول لا يجد من أرباب المال من يجيبه إلى طلبه، والآخر لا يجد من العمال من يرضى بتقديره. فإذا اتفق العمال على ما يلجئون به أرباب الأموال إلى موافاة رغبتهم حدث ما يسمى بالاعتصاب فيتفق العمال على تعطيل الأعمال حتى يلجئوا أرباب الأموال إلى إجابة(711/39)
مطالبهم، ولرب المال أن يصير حتى يلدغ الجوع عماله فيرضوا بما يريد، وللعمال أن يصبروا حتى يضطر الخسران رب المال إلى إجابتهم فيما يطلبون، ولكل منهم أن يتفق مع الآخر في تحكيم محكمين يذعن الفريقان لحكمهم بعد استيفاء شرائط التحكيم، ولا يلزم أحد الفريقين بأن يحكم أحداً أو لا يحكم).
إنما يوجد في أصول الأحكام الإسلامية أن القيام بالصناعات الضرورية لقوام المعيشة أو للدفاع عن حوزتها فإذا تعطلت الصناعات وجب على القائم بأمر الأمة أن يتخذ السبيل إلى إقامتها بما يرفع الضرورة والحرج عن الناس، وكذلك إذا تحكم باعة الأقوات ورفعوا أثمانها إلى حد فاحش وجب على الحاكم في كثير من المذاهب الإسلامية أن يضع حداً للأثمان التي تباع بها).
(وهكذا يدخل الحاكم في شؤون الخاصة وأعمالهم إذا خشي الضرر العام في شيء من تصرفهم. فإذا تعصب العمال في بلد وأضربوا عن الاشتغال في عمل تكون ثمرته من ضروريات المعيشة فيه، وكان ترك العمل يفضي إلى شمول الضرر كان للحاكم أن يتدخل في الأمر وينظر بما خوّل له من رعاية المصالح العامة. فإذا وجد الحق في جانب العمال وإن ما يكلفون به من قبل أرباب الأموال مما لا يستطاع عادة ألزم الأموال بالرفق سواء كان بالزيادة في الأجرة أو النقص في مدة العمل أو بهما جميعاً. وإذا رأى الحق من جانب أرباب الأموال وكان النزق من العمال قضى عليهم بالعمل كما يقضي على المغالين في ثمن الأقوات بالبيع بالثمن متى ظهر فحش عملهم وظلمهم للعامة. هذا ولا يعرف في الشرع الإسلامي أيجاب التحكيم بين العامل ورب المال إلا أن يكون شيء لم نطلع عليه).
(نعم جاء وجوب التحكيم في كثير من المذاهب الإسلامية في مسألة واحدة، وهي مسألة الشقاق بين الزوجين إذا رفع إلى القاضي. فقال الشافعية (إذا اشتد شقاق بينهما (الزوجين) بأن داما على التساب والتضارب وجب على القاضي أن يبعث حكمين، لكل منهما حكم يرضاه ويسن أن يكون الحكمان من أهل الزوجين)
وقال المالكية (ذا ظهر ظلم أحد الزوجين للآخر وجب ردع الظالم، فإذا شكل الأمر على القاضي ولم يعرف أيهما الظالم وجب عليه أن يبعث بالحكمين على نحو ما عند الشافعية) وجعل الحنفية ذلك حقاً من حقوق الحاكم يعمل به إذا اشتد النزاع بين الزوجين ورفع إليه(711/40)
الأمر. والأصل في ذلك قوله تعالى في سورة النساء (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهلها أن يريد إصلاحاً يوفق الله بينهما) فالذي يظهر من لفظ الآية إيجاب التحكيم على أولي الأمر إذا رفع إليهم نزاع بين زوجين أو هو إيجاب للتحكيم على من بلغه الأمر من الحاكم أو جماعة المسلمين، فإن الخطاب في قوله (وإن خفتم) للمسلمين سواء كانوا أولي أمر أو غيرهم وذلك لأن الزوجين قد ارتبطا برباط عقد الزواج ووحد بينهما من الصلة ما يهتم بالحرص عليه ووجد بين أهلهما من وشائج القرابة بالمصاهرة ما لا يصح التساهل في توهينه وتقطع ما اتصل به، ولهذا أمر الله تعالى عباده متى أحسوا بشقاق بين الزوجين وهو النزاع الشديد أن يختاروا من أهل الزوجين حكمين حكما من أهل الزوج يرضاه وحكما من أهل الزوجة وحكما من أهل الزوجة ترضاه ليبحث كل مع صاحبه ويقف على أسباب النزاع وما عساه يكون من أسرار لا يقف عليها القاضي ولا أعوانه، وعلى الحكمين أن يبذلا ما في وسعهما للتوفيق بين الزوجين المتنازعين وإلزام كل منهما بما يريانه لازماً في صلاح العشرة بينهما وحاسماً للنزاع فيما يستقبل من أمرهما فإذا لم يجدا سبيلاً إلى الوفاق بعد بذل ما في طاقتهما فلهما أن يقضيا بالطلاق في بعض المذاهب على طريقة معينه إذا رأيا المصلحة فيه، وبعض المذاهب لا يعطيهما الحق بل ينتهي عملهما بالعجز عن التوفيق بين الزوجين. وعلى كل حال فإيجاب التحكيم في أمر الزوجين معقول فإن ما يقع بينهما لو لم يصلح بنحو هذه الطريقة أفضى إلى فساد في البيوت بين الأولاد والأقارب، ومثل هذا الفساد مما يسرى وينتشر حتى يؤذي الأمة بتمامها في صلاتها بعضها مع بعض كما شوهد ذلك عند إهمال هذا الحكم الجليل من زمن طويل كأنه لم يرد في التنزيل. فإذا كان ذلك الكاتب الفرنسي يعني هذا الأصل ويشير إليه ويريد أن يقتبس به ما يقع بين العملة فذلك رأيه وحده والسلام.
14 رجب 1323
محمد عبده
مفتي الديار المصرية(711/41)
الأدب والفن في أسبوع
قصة المخطوطات العربية:
كثر الحديث في هذه الأيام عن المخطوطات العربية، ووجوب العناية بها، وجمع شتاتها المفرق في خزائن الشرق والغرب، ويجري الحديث في هذا فياضاً بالحماسة والغيرة، وينادي الكثيرون بأن العناية بهذا في مقدمة ما يجب على الأمة العربية، ولا عجب! فإن الشرق العربي اليوم في فترة يقظة يبحث فيها عن نفسه، ويجاهد ليجمع بين يومه وأمسه.
وكان قد أذيع من قبل أن اللجنة الثقافية في جامعة الدول العربية معنية بهذا الأمر، وأنها قد قررت في هذا خطة ستمضي عليها في إحياء التراث العربي وجمع المخطوطات النادرة المتفرقة، سواء ما هو منها في حيازة الأفراد أو في الهيئات والحكومات، ولكننا لا ندري ماذا بلغت من هذه الخطة وماذا أجدت في هذا السبيل.
وللتراث العربي من قديم الزمن قصة، بل مأساة أليمة مثلت فصولها ومشاهدها على مسرح الأحداث القاتمة والأيام المظلمة، فقد انتهب هذا التراث أيام غارات التتار، وفي الحروب الصليبية بالشرق، والحروب الصليبية بالأندلس؛ ثم كان أن غزا الأتراك العثمانيون أقطار الشرق العربي وبسطوا نفوذهم فكان أول ما قصدوا إليه أن نقلوا كثيراً من المخطوطات العربية إلى مكاتب الآستانة، ثم كان أخيراً أن تسلط الغرب على الشرق فتسلطت أيدي الأوروبيين على المخطوطات العربية بالسلب والسرقة والاحتيال حتى اكتظت بها مكاتب لندن وباريس وبرلين على حين أقفرت منها مكاتب العرب أنفسهم.
ولما اتجهت رغبة المغفور له أحمد حشمت باشا في مطلع هذا القرن إلى النهوض بمشروع (إحياء الآداب العربية)، ونشر المخطوطات العظيمة النادرة، كان أول ما فكر فيه هو الاعتماد على مكاتب الآستانة، فسافر فعلا إلى هناك المغفور له أحمد زكي باشا، وقام بتصوير ونقل كثير من المصادر العربية النافعة التي نشرتها ولا تزال تتولى نشرها دار الكتب إلى اليوم.
وفي هذا المقام نرى من الوفاء للحق، أن نذكر عالمين جليلين بالخير والثناء هما المغفور لهما أحمد تيمور باشا وأحمد زكي باشا، فقد بذل هذان الرجلان كثيراً من الجهود الصادقة والأموال الطائلة في العناية للحصول على المخطوطات العربية، ولكنا من الأسف لم نجد(711/42)
من يخلفهما في هذا السبيل، لأن علماءنا - أعزهم الله - على اختلاف ألوانهم ودرجاتهم يؤثرون الوصول والمثالة من أقرب طريق.
وعجيب أي عجيب أننا لا نزال فيما نحقق من تاريخنا وآدابنا عالة على المستشرقين فيما ينقلون من آثارنا ومخطوطاتنا التي هي في خزائنهم، وعجيب أي عجيب أن تكون عندنا الجامعة الأزهرية العتيقة، وجامعة فؤاد الأول، وجامعة فاروق الأول، ودار الكتب المصرية والمجمع اللغوي، ثم ما شئت من هيئات ثقافية كثيرة، حكومية وغير حكومية، ولم تستطع هذه كلها مجتمعة أو متفرقة أن تنهض بعمل جدي في هذه الناحية، ولم تفكر كلها أو واحدة منها في إرسال بعثة بشأن هذا التراث المنهوب.
إنني على يقين من أن بعث تلك المخطوطات النادرة سيصحح كثيراً من مسائلنا التاريخية والأدبية، وإنني على يقين من أن إحياء هذا التراث الخالد سينصفنا أمام أنفسنا وأمام الأمم الأخرى، فلعل الجامعة العربية تسدي في ذلك ما فات غيرها، وتنهض بما هو واجب عليها ومنوط بها، ولعلنا نلمس لهلل قريباً في هذا العمل الجهد المشكور.
تأبين الأمير شكيب:
بعد ظهر يوم الجمعة الثامن من هذا الشهر أقيمت حفلة تأبين كبرى بدار الأوبرا الملكية لفقيد العروبة المغفور له الأمير شكيب أرسلان اشترك فيها لفيف من الرجالات البارزين في الأقطار العربية وأعلام الأدب والصحافة، وحضرها كثيرون من الوزراء والكبراء وأهل الفضل، ولقد جاءت هذه الحفلة عنواناً للأسى الذي شمل جميع أبناء العروبة على فقد ذلك المجاهد العظيم، كما جاءت مظهرا من مظاهر الوفاء والتقدير للرجال العاملين، وإنا - من الوفاء للحق - لنشيد في ذلك بصنيع الرجل العظيم سعادة محمد علي علوية باشا، لأنه هو الذي نهض بأداء هذا الواجب عن مصر، وجاهد لإقامة هذا الحفل براً بذكرى رجل وهب حياته للنضال عن الشرق والإسلام.
وتعاقب الخطباء والشعراء في تأبين الفقيد. فألقى سعادة علوية باشا رئيس هيئة الاحتفال كلمة ضافية أشاد فيها بمواقف الفقيد في الجهاد للحق، والكفاح في سبيل العروبة، والنضال عن حقوق العرب في الحرية والاستقلال والكرامة.
وخطب معالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا فقال: (لقد كان الأمير شكيب أرسلان الديدبان(711/43)
والحارس على الأقطار العربية، فكان المراكشي إذا هددت مراكش، والتونسي إذا نزل الضيم بتونس، والمصري إذا روعت مصر بحادث، والعراقي، والسوري، واللبناني، واليمني إذا اعتدي على بلد من هذه البلاد أو نشبت فيها أظافر الاستعمار وبراثن الاستبداد. ولقد خلا العرين من هذا الأسد الهصور، لكنه خلا بعد أن نشر تعاليمه السامية في كل مكان، وبعد أن أعطى من نفسه القدوة الحسنة في الوطنية والتضحية والإقدام. . .)
وخطب الشيخ سامي الخوري وزير لبنان المفوض في مصر خطبة استهلها بقول الفقيد:
فما العيش إلا أن نموت أعزة ... وما الموت إلا أن نعيش ونسلما
ثم قال: لقد كانت حياة الفقيد جهاداً مستمراً في سبيل بلاده وهو عنها بعيد، ولقد بقي على رغم البعد هدى للأوطان العربية جميعا؛ تستنير بشعلة ذكائه الوقاد، وتهتدي بنور حكمته الرصينة، ثم دهمه الموت بعد أن عاد إلى بلده خافق القلب، إذ لقيه حراً طليقاً من كل قيد. . .
وألقيت في الحفلة كذلك عدة كلمات لممثلي الحكومات والهيئات العربية، وكلها تتوارد على الإشادة بمواقف الفقيد، وتصور مدى الفجيعة الشاملة بموته، والخسارة الكبيرة بفقده. على أنها مما يجري عادة في مثل هذه المناسبة، وليست مما يؤثر للتسجيل الأدبي.
وجاء دور الشعر؛ فألقيت قصيدة لشعار القطرين خليل بك مطران، وقد كنت أنتظر من مطران في هذا الموقف شيئاً كبيراً كثيراً، فإني أقدر وفاءه لإخوانه، وأعرف صلته بالفقيد، ولكن مطران اعتذر بحق اعتذاراً موجعاً أليماً إذ قال:
أبغي الرثاء فيبرق خاطري ... حزناً، ولكن أين صوب غمام؟!
لم يبق لي شعر ولا نثر وقد ... أخنى عليّ تقادم الأعوام. . .
فكان اعتذاره هذا أبلغ وأوجع من أي إفاضة في الرثاء.
ثم ألقى الشاعر علي محمود طه قصيدة قوية الأسر، ابتدأها بتصوير الفجيعة بموت الأمير فقال:
رزء العروبة فيك والإسلام ... رزء النهى وفجيعة الأقلام
هو مأتم الأحرار في متوثب ... بصفوفهم مستبسل مقدام
ثم أخذ في تصوير حياة الفقيد فقال:(711/44)
أأبا المثاليين صوتك لم يزل ... في الشرق وحي يراعه وحسام
لخلاص دار، أو فكاك عشيرة ... خضت الحياة كثيرة الآلام
واجتزت جسر العمر بين عواصف ... هوج، وموج مزبد مترامي
وشهرتها حرباً على مستعمر=متجبر، أو غاصب ظلام
إرث الجدود الصيد أنت وهبته ... قلما يصاول دونه ويحامي
وشباب مهدور الدماء مجاهد ... في الله عن عرب وعن إسلام
وهكذا مضى الشاعر إلى آخر قصيدته يصور حياة الفقيد في شتى نواحيها بهذا الأسلوب الجزل، وقد كان من الموافقة المتواردة أن أتفق الشاعران في الروي والقافية، وفي كثير من المعاني والتعابير التي قوامها حياة الفقيد.
وإني بعد هذا لأسأل: أيكفي هذا الحفل في الوفاء بدين الفقيد العظيم؟ كلا! فقد كان الأمير شكيب أرسلان في حياته وفي جهاده وفي مواهبه أضخم من هذا وأكبر، فمن الواجب على أبناء العروبة جميعاً أن ينهضوا بعمل يخلد ذكراه، وصنيع يحفظ آثاره، وينشر تعاليمه، وإني لأعجب أن تهتم الجامعة العربية فتخاطب حكومة العراق لصيانة تراث الكرملي، ولا تؤدي هذا الصنيع لصيانة تراث الأمير شكيب!!
وأين نحن؟!
يظهر أن الأمة العربية المغلوبة على أمرها لا تدين بالحقيقة حتى تصدم رأسها، ولا تصيخ للنصيحة حتى تخرق أذنها، ولا تقتنع بأمر من تطورات الزمن والحياة إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن يكون الشوط قد بلغ نهايته.
قلت هذا لنفسي إذ قرأت أن الدول التي تحالفت على إدراك النصر قد أنفقت أخيراً على إعداد العالم لتقبل ما تهدف إليه من المبادئ والأفكار. فرأت أن خير سبيل لهذا هو إعداد مجموعة كبيرة من الأفلام الثقافية التي تصور تلك المبادئ. وتنطق بتلك الأفكار وتوزيعها للعرض في كافة أنحاء العالم على الشباب في المدارس والأندية وسائر المنظمات.
وقلت هذا لنفسي أيضاً إذ قرأت أن هناك مفاوضات تجري بين بعض المشتغلين بالسينما من المصريين والشرقيين، وبين فرق آخر من الإنجليز لتكوين شركة إنجليزية شرقية تقوم بعمل أفلام ناطقة باللغة العربية وتكون موضوعاتها ذات صبغة عالمية، وستقوم هذه(711/45)
الشركة الضخمة بتوزيع أفلامها في شتى أنحاء الشرق العربي
فأنت ترى أنها حرب دعاية، وأن السينما قد أصبحت أقوى أداة للتبشير بالمبادئ والأفكار، وإذا كان الخلفاء قد استغلوا هذه الأداة لبث دعاياتهم على أوسع ما يكون في الحرب فإنهم الآن كذلك يريدون أن يعتمدوا عليها وأن يستغلوها لنشر مبادئهم في السلم. ونحن في مصر، حكومة وشعباً، نرى هذا كله، وكأنه لا يعنينا في شيء، وكأننا لا نرجو من دنيا المبادئ إلا أن نربط بالذيل.
وعندنا سينما، وعندنا شركات، وعندنا أفلام. ولكنا نملؤها بأقذر ما في المجتمع من انحطاط الميول وضراوة الغرائز وكل ما يضمن الرواج والإقبال من العامة وأشباه العامة، ثم نوزع هذه الأفلام في الشرق العربي على أنها مظهر فننا وعنوان ثقافتنا ويا له نم فن تافه وثقافة رخيصة.
فيا قوم حسبكم، لقد أن لكم أن تفهموا أن العالم يجد، وأننا لا نستطيع أن نمشي في ذلك الموكب العالمي إلا جادين، أليس من الهوان والبخس والتفاهة أن لا تقدم شركة من تلك الشركات السينمائية في مصر على إخراج فلم قومي يصور ناحية مجيدة من تاريخنا، ويحمل مظهراً صحيحاً من ثقافتنا؟! بل أليس من التفريط والتقصير أن لا تعتمد حكومتنا على السينما - وقد أصبح لها الآن كل هذا نفوذ - في بث ما ترجو من التثقيف والتهذيب. وما تنشده من الإصلاح والنهوض، وأن لا تجعلها أداة دعاية في الشرق العربي؟!
ولكننا أمة مغلوبة على أمرها، فنحن ننتظر دائماً حتى يصل الغرب إلى آخر الشوط، ثم نبتدئ نفكر ماذا نعمل؟!
الفلسفة الهندية القديمة:
يزور لندن الآن الأستاذ وديع البستاني للبحث عن أصول الفلسفة الهندية القديمة، ويقولون إنه عثر على ستة مخطوطات نادرة ولا يزال يوالي البحث والمراجعة لإعداد دراسة مستوعبة عن الفلسفة الهندية القديمة.
والأستاذ وديع البستاني هو أحد فروع تلك الدوحة البستانية العريقة التي أسدت إلى الثقافة العربية خدمات جليلة في شتى نواحي اللغة والأدب والفلسفة، وقد قام الأستاذ وديع منذ ربع قرن بنقل عدة كتب فلسفية طريفة إلى اللغة العربية، وكانت لديه نزعة إلى موضوعات(711/46)
الطبيعية التي يتجلى فيها صفاء الروح وجمال الكائنات، ويظهر أن الفلسفة الهندية الفياضة بالنزعات الروحية قد استهوته فعكف على دراستها منذ سنوات، وهو لا يزال يجد في هذه الدراسة لإخراج سفر شامل في هذه الناحية التي لا تزال معماة على أبناء العربية.
والمعروف أن الفلسفة الهندية القديمة كانت عنصرا من العناصر التي استمدت منها الثقافة العربية بالترجمة والنقل أيام العباسيين، ففي البلاغة وفي الفلسفة وفي علوم الفلك والجبر والحساب نجد نصوصا منقولة عن أصول هندية، ونحن نقرأ هذه النصوص قراءة عابرة لأننا نجهل مصادرها ومراميها، ولا نزال إلى اليوم في كل ما نعرف من معارف الهند القديمة عالة على المستشرقين، وإنها في الواقع لإحدى العجائب، إذ يتيسر لأجدادنا العرب بدافع نهمهم إلى المعرفة نقل المعارف الهندية والانتفاع بها والوقوف عليها، ونحن لا نزال نجهل تلك المعارف جهلا مطبقا مع أن صلتنا بالهند قد توثقت، ومعارفنا قد اتسعت وسبل الانتقال والبحث قد تيسرت.
إن الأستاذ وديع البستاني بعمله هذا يؤدي خدمة جليلة للعربية، وإنها لفاتحة خير بدأها الأستاذ عبده حسن الزيات بكتابه الذي أخرجه حديثا وموضوعه (حكايات من الهند)، وإنا لنرجو أن يرود أبناء العروبة هذه الناحية على أوسع ما يكون، فان الثقافة الشرقية قوامها روح واحدة، ووجهتها غاية واحدة، وقد أصبح من الخطأ استقلال أمة بمعارفها، فكيف والهند ليست غريبة عنا. .
كتاب من غير أقلام:
تناولت عدداً حمله البريد أخيراً من مجلة سورية خصصت صفحاتها للأدب والمباحث الثقافية، وفي عنوانها إنها (صورة الفكر المعاصر)، فوقعت في صفحاته الأولى على مقال بعنوان (الأديب من أين يبدأ)، فتغاضيت عما في العنوان من خطأ شائع درج عليه كثير من الأدباء المعاصرين، إذ يؤخرون اسم الاستفهام وان كانت اللغة تقضي له بالصدارة، وأخذت أقرأ ما تحت العنوان فقرأت في السطر الأول (أني بالأدب مشغوف) وفي السطر الثاني (وكيف عرفت أن ميولك منصرفة إلى هذا المنصرف) وهكذا أخذت أنتقل من سطر إلى سطر، وأنا أنتقل من خطأ إلى خطأ حتى ضاقت نفسي وألقيت بالمجلة من يدي ولم استطع أن أستوعب من المقال اكثر من خمسة اسطر!!(711/47)
إن الفكرة السليمة قوامها الأسلوب السليم، وإن الكاتب الذي لا يستطيع أن يصحح ما يكتب لا يستطيع كذلك أن يصحح ما يقرأ، ومعنى ذلك أنه يقرأ على غير فهم ووعي.
ولكني اعرف كثيرا من ناشئة هذا العصر، وكتاب هذه الأيام قاصرين عن تصحيح لغتهم وتقويم أسلوبهم، وأني لأعرف كتابا بيننا يملئون الدنيا بأسمائهم ويتصدون للنقد والمناقشة وهم حين يجلسون لإراقة المداد على الورق لا يعرفون مصادر الكلام من موارده، فيتركون هذا لأناس يستخدمون أشخاصا على أجر معلوم لهذا الغرض، وعندهم أن هذا ليس بعاب، بل انهم ليحسبون التمسك باللغة عنجهية وتقعرا لا يليق بمفكري هذه الأيام
وأنا والله لست أدري ماذا يكون ذلك الكاتب إذا فقد أول شرط للكتابة، وأي شيء يبلغ من الأدب إذا لم تكن لديه أداة الأدب، وهل يجدي هؤلاء شيئا ما يتشدقون به من انهم يحذقون لغة أو لغتين أجنبيتين على حين يجهلون اللغة التي يكتبون بها وينتسبون إليها؟!
ولكنها بدعة أعجمية، خلقها العجز وبررها القصور عند هؤلاء، وإنهم لكتاب من غير أقلام، وإن حسبوا أنفسهم من الأعلام.
الجاحظ(711/48)
البريد الأدبي
فن وتجارة:
اطلعت في عدد (الرسالة) رقم 709 في باب (الأدب والفن في أسبوع) على كلمة تحت عنوان: (فن وتجارة). .
ولقد اعترتني الدهشة البالغة من تعليق حضرة كاتبها على احتجاجي بصفتي نقيبا للممثلين على عملية (الدوبلاج) للأفلام الأمريكية.
ولقد تضاعف استغرابي من كونه بدلا من أن يشد أزرنا في قضيتنا الوطنية راح يسخر من منطقي ويستنكر طلبي.
ولولا أن مجلة (الرسالة) هي المجلة التي لا يكتب فيها إلا القيم من القول والمتزن من النقد لما راعني الأمر.
ألا فليعلم حضرة الكاتب إنني لم اقدم احتجاجي على أفلام الدوبلاج الأمريكية بصفتي منتجا؛ فأنا لا احترف الإنتاج منذ عشرين عاما، بل فعلت هذا كنقيب للمثلين، بناء على قرار النقابة وأعضائها، واستجابة لاحتجاج نقابة السينمائيين واتحاد المنتجين، فسخريته إذن موجهة إلى كل فنان والى كل سينمائي وكل مصري؛ أي أن حضرة الكاتب اللبق قد ساءه أن يناصر قضية الفنان المصري، فتطوع من تلقاء نفسه للدفاع عن تجار وأصحاب شركات الفيلم الأمريكي.
فهو إذن لا يهمه الدفاع عن كيان الشركات المصرية. بل على النقيض يريد أن يفسح المجال للاستغلال الأجنبي.
فليسمح لي أن أرد له التحية فأقول له: أي منطق منطقك يا حضرة الكاتب؟ وكيف تقارن بين السماح للمجلات الأمريكية بدخول مصر وعدم السماح لأفلام الدوبلاج مع انك تعلم إننا لا نود منع دخول الأفلام الأمريكية بلغاتها الأصلية، وأنت كصحفي قد تطالب غدا بمنع دخول المجلات الأمريكية إذا أرسلتها باللغة العربية!!
ونحن لا نطالب الحكومة بجديد عندما نستصرخها للذود عن أموال الشركات المصرية والفيلم المصري بصفته إنتاجاً وطنياً وهي التي سنت قانونا لحماية البضاعة الوطنية كالأقمشة والحرير وما شابهها.(711/49)
ثم لدى نصيحة للكاتب وهي أن يرسل مقاله هذا إلى الشركات الأمريكية مترجماً وأنا واثق إنها ستجزل له المكافأة كمناصر للاستعمار الأجنبي!!
والطريف في الأمر إننا قرأنا للأستاذ الأديب أحمد حسن الزيات صاحب مجلة (الرسالة) افتتاحية رائعة في العدد نفسه، يستنكر فيها الاستعمار في الشرق، بينما نقرأ لحضرة الكتاب هذه الكلمة التي يناصر فيها الاستعمار ويندد بطلب السينمائيين المصريين بحماية شركاتهم الصغيرة من طغيان الفيلم الأجنبي واستعمار الأجانب لبلادنا فنيا
يوسف وهبي
(الجاحظ): وفر على نفسك النصيحة يا نقيب الممثلين، فليس
صاحب هذا القلم ممن تعرفهم. أما الرد فانتظره في العدد
القادم.
موسم محاضرات تفسير القرآن الكريم:
من الظواهر الفكرية التي تستحق التسجيل والتخليد في مجلة أدبية عربية سائرة كالرسالة الزهراء ذلك العمل الإسلامي الفكري الجليل الذي يحدث لأول مرة في تاريخ مصر العربية. أو في عصرها الحاضر بمعنى أدق، ألا وهو تنظيم محاضرات تلقى كل أسبوع في تفسير آيات الذكر الحكيم، وتوضيح أغراض القرآن الكريم، ولقد اضطلع بعبء هذا المشروع النافع المفيد رجل كريم من رجالات مصر، ومحسن مفضال يعد في الصفوة من أبنائها العاملين لرفعة شأنها، وتجديد شبابها، وبعث دينها، وإحياء أخلاقها ومبادئها، وهو حضرة صاحب العزة المحسن الكبير والمصلح الإسلامي الموفق الحاج يعقوب بك عبد الوهاب الذي عرفته ميادين كثيرة من ميادين الخير والبر والإحسان والإيمان، فكان الساعد الأيمن والعامل الأول في إنشاء معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية والشرقية، وأمد جمعيات المحافظة على القرآن الكريم بمعونته وعنايته، إذ خصص مكافآت مالية سخية توزع على المهرة في حفظ القرآن من طلبة المعاهد وتلاميذ المدارس، وتوزع في احتفال رائع يقام في كل عام تحت رعاية الملك الناصر لدين الله الفاروق المفدى اعزه الله بالإسلام، واعز به(711/50)
الإسلام، ولهذا الرجل الكريم نواح كثيرة يصلح فيها سراً وجهراً، وليس هذا مجال تعدادها أو ترديدها. . .
ثم رأى الحاج يعقوب بك عبد الوهاب أخيراً أن القرآن بما اشتمل عليه من معان سامية ومقاصد جليلة تتصل بجميع الاتجاهات الفقهية والتشريعية والعلمية والصحية والأدبية والاجتماعية يتطلب أساتذة مهرة، وفحولا في البلاغة والأدب، وأدباء خبراء بطرق العرض وأساليب التوضيح، ويتشرف هؤلاء بتناول آيات القرآن الكريم ليوضحوا لجمهور المستمعين ما انطوت عليه من إعجاز وإيجاز، وفصاحة وبلاغة، وتقنين وتشريع، فاختار لذلك أربعة من الفحول هم الأساتذة الإجلاء الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد الوهاب خلاف والدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور عبد الوهاب حمودة، ونظم بجهودهم وعلى أكتافهم موسما للمحاضرات سماه (موسم محاضرات تفسير القرآن الكريم) وجعله يبدأ من نوفمبر وينتهي في مارس، ولقد اختار لإلقاء هذه المحاضرات قاعة رحيبة فسيحة هي قاعة (دار الحكمة) بشارع قصر العيني، فكان هذا فتحاً جديداً، فتح به الحاج يعقوب بك هذه القاعة لما كانت بعيدة عنه بطبيعة اختصاصها من البحث في الدين وتفسير القرآن الكريم؛ ولقد اقبل العلماء والأدباء على هذه المحاضرات إقبالاً منقطع النظير، حتى ضاقت بهم ردهات الدار، واحسن المحاضرون مبنى ومعنى، وتفكيراً وعرضاً؛ ويلوح لي أن النية الخالصة ونبل الغرض كانا السبب في كل هذا التوفيق، مما يدعو إلى أن نسأل الله مخلصين راجين أن يوفق رجالات مصر وأغنياءها إلى يتخذوا من هذا الرجل المصلح قدوة ومثلا؛ والله يهدي العاملين
أحمد الشرباصي
المدرس بمعهد الزقازيق الثانوي
حول الشاعر الطموح
(والشاعر الطموح) كتاب أصدرته أخيراً (سلسلة أقرأ) لعلي الجارم بك.
وهو تصوير لحياة المتنبي في بلاط سيف الدولة وكافور في حلب ومصر وما أحاط به من دسائس ومنافسات وشايات وحب وبغض وتقدير وحسد، وذلك في الفترة التي ما بين عامي(711/51)
(341 - 350هـ).
والكتاب أثر أدبي رائع بيد أن لي عليه بعض الملاحظات:
1 - يذكر المؤلف قصيدة المتنبي.
وا حرّ قلباه ممن قلبه شيم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم
(ص 46 وما بعدها) ويجعلها من القصائد التي نظمها المتنبي عام 341هـ (راجع ص5 وص56)
والحق أن هذه القصيدة من أخريات القصائد التي نظمها أبو الطيب في سيف الدولة الحمداني قبل رحيله عن بلاطه عام 346هـ وتؤكد ذلك القصيدة نفسها وما فيها من إشارات إلى توتر العلاقات وانقطاعها بينه وبين سيف الدولة، وهذه الحالة والمؤامرات التي كانت السبب فيها مما لم تنشأ في بلاط سيف الدولة في ذلك التاريخ الذي ذكره المؤلف.
2 - ويجعل المؤلف قصيدة المتنبي:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب الأماني أن يكن أمانيا
أول قصيدة أنشأها المتنبي في كافور وانشده إياها.
والحق أن أول قصيدة انشدها أبو الطيب أمام كافور هي:
فراق ومن فارقت غير مذمم ... وأمٌّ ومن يمت خير ميمَّم
وذلك ما يتضح للناقد من دراسته لهذه القصيدة.
محمد عبد المنعم خفاجي(711/52)
الكتب
أعلام المحاماة
في كتاب الأستاذ عبد الحليم الجندي
بقلم صاحب العزة الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك
(جرائم واغتيالات القرن العشرين) كتاب نفيس وضعه الأستاذ عبد الحليم الهندي في جزأين أخرجهما للناس في الشهر الماضي. وابرز ما في الكتاب تصويره حياة ثلاثة من أعلام المحاماة. اختارهم المؤلف ضمن عظماء المحامين الذين تألق نجمهم في سماء المحاماة بمرافعاتهم في القضايا الكبرى في القرن العشرين وهم: الهلباوي في مصر، ومارشال هول في إنجلترا، وهنري روبير في فرنسا. قرأت الكتاب قراءة وتأمل وإمعان، فألفيته جديراً بان يقرأه كل مواطن، وكل محام، وكل شاب يعتنق مبدأ الحرية الفردية والسياسية.
المؤلف أستاذ أديب. ومحام نابه. كان محاميا عن الأفراد وقتا ما، وهو الآن محام عن الحكومة في مجلس الدولة. لازمته روح المحاماة، وكتب عنها بقلم المؤمن بها، المحب لها، فجاء كتابه قصة رائعة للمحاماة في أشخاص ثلاثة من أعلامها. مجد المحاماة تمجيدا صادرا عن عقيدة وخبرة إذ وصفها بأنها مهمة قبل أن تكون مهنة، وجعلها دعامة الحرية وسندها في ساحات القضاء. ولعمري أن هذا الوصف لهو أكبر مفخرة للمحاماة. وإن المحامي ليعتز بمهنته إذ يراها سبيل الدفاع عن الحرية وعن الحق. وفي ذلك يقول المؤلف: (سنرى في الصفحات التالية بطولة المحاماة وهي تخوض الغمرات في هذا السبيل. إنما هي الحرية غاية جيلنا من حياته. لا وسيلة لأغراضه ولا طب لأمراضه إلا بتدعيمها، وتعميمها والفسح من مداها، وما حرية الأمة إلا فيض من حريات بنيها واستقرار العدالة فيها. فإلى دعاة الحرية والعدالة هذه الصورة المصغرة لثلاثة من كبار المدافعين عن الحرية في ساحات العدالة).
وفي الحق أن الحرية هي ركن أساسي من أركان المجتمع الإنساني الجدير بهذا الاسم. وإذا تقلص ضلها في بلد من البلدان نزلت الأمة إلى درك عميق من الذل والهوان. الحرية قد(711/53)
تحميها النظم والقوانين، وقد يكفلها الدستور، وتحميها الصحافة. ولكن خط الدفاع الأول والأخير لها هو القضاء والمحاماة. فالقضاء هو فيصل التفرقة بين الحق والباطل، بين الحرية والاستعباد. هو ملاذ المظلوم ممن يتحيفهم طغيان الأقوياء والحكام. والمحاماة هي لسان الحرية والحق المدوي في ساحات القضاء، والمناضل الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، فالقضاء والمحاماة صنوان متلازمان. يتعاونان على أداء مهمة قدسية سامية وهي استخلاص الحق وكفالة الحرية.
عرض لنا المؤلف في الجزء الأول من كتابه صورة حية من الهلباوي المحامي، والهلباوي الرجل، والهلباوي الخطيب. فحلل شخصيته أدق تحليل، وتابعه منذ نشأته إلى أن انتظم في سلك المحاماة إلى أن ظهرت مواهبه فيها وذاعت شهرته في أرجاء البلاد بمرافعاته في القضايا الهامة، وعدد أشهر القضايا التي ترافع فيها في مختلف العهود. وأبرز فضائله في المحاماة ونزاهته فيها إلى جانب عبقريته كمحام قدير، وأبان للقارئ كيف كان يحضر قضاياه، وكيف كان يهاجم ويدافع، وكيف كان يسترعي الأنظار في مرافعاته، وكيف كان يستهدف لغضب ذوي السلطان في أداء واجبه
وعني على الأخص بالقضايا الوطنية التي ترافع فيها عن الحرية وحملاته الصادقة على خصومها ومضطهديها. وأفاض المؤلف في هذا الجانب من حياة الهلباوي، ولا غرو فهو الجانب الذي يضفي عليه هالة من المجد وخلود الذكر.
وأعجبني من المؤلف الأديب انه استثنى من الإشادة بمواقفه مرافعته كمدع عام في قضية (دنشواي) فلم يدافع عن بطله فيها واقتصر على التماس (الظروف المخففة) له حتى عزى موقفه فيها إلى سوء الحظ. وفي الحق أن قبوله المرافعة عن الاتهام في هذه القضية كان سقطة كبيرة من المحامي الكبير؛ لم تنسها له الأمة طول حياته ولا يلومها منصف على ذلك بل هو دليل على تقدم الوعي الوطني فيها. لأن التساهل بازاء أمثال هذه السقطات يغري بتكرارها.
صور لنا المؤلف حيات الهلباوي في كل نواحيها، صورها بلغة مختارة ممتازة، وفي الحق أن لأسلوبه وتعبيراته طابعا أدبيا بليغا، وفيه أناقة وفيه جاذبية، وفيه عمق في المعاني والأفكار(711/54)
وبهذا الأسلوب انتقل بنا من الشرق إلى الغرب. فصور لنا حياة (مارشال هول) الذي سطع نجمه في سماء المحاماة في إنجلترا، وزميله (هنري روبير) في فرنسا. ذلك النقيب العظيم الذي قال عنه (دي مورو جيافري) أن المحاماة في فرنسا فقدت بوفاته اكبر رجل رفع شأنها منذ عهد (بربيه) وهي كما يقول المؤلف مقالة عن مكانته في التاريخ، فلعل (بربيه) اكبر رجال المحاماة في التاريخ الفرنسي، كما كان أعجوبة البلاغة والشجاعة في مجلس النواب ومجلس الأعيان.
إن لدراسة الشخصيات الكبيرة وتحليلها بالطريقة والأسلوب اللذين نهجهما الأستاذ عبد الحليم الجندي قيمة في توسيع الأفق الثقافي والذهني، ففي خلال هذه الدراسات يطالع القارئ وصفا دقيقا لحياة المجتمع وتطوره، وعادات الناس وأخلاقهم وعلاقات بعضهم ببعض. كما يلمح بشيء من التأمل والمقارنة مبلغ الفرق بين الحياة في عصرنا والحياة في العصر الذي سبقه. وفي الكتاب ميزة أخرى وهي انه يطالع المحامي بما هيأ لأعلام المحاماة في الشرق والغرب ما وصلوا إليه من مكانة رفيعة ومنزلة سامية، وما هي العناصر التي عبدت لهم طريق الشهرة والمجد.
فهو كتاب المحاماة وكتاب المحامين. فيه يجد المحامي كبيراً كان أو مبتدئا ما يرسم له سبيل النجاح والتوفيق. 0 فلعل في كل محام مواهب لو عرف كيف يتعهدها يستخدمها على ضوء حياة العظماء من المحامين لأدرك من المكانة والمنزلة ما لا يدركه إذا اغفل هذا الجانب من البحث والدراسة. وأني لأنصح كل محام وكل من يعد نفسه محاميا أن يقرأ كتاب (الأستاذ عبد الحليم الجندي) ففيه صورة واضحة قوية للمحاماة الرفيعة الناجحة
عبد الرحمن الرافعي(711/55)
القصص
لويز. . .
للكاتب الإنكليزي سومرست موم
ترجمة الأديب السيد مصطفى غازي
عرفت لويز قبل أن تتزوج. كانت وقتئذ فتاة ضعيفة رقيقة ذات عينين وسيعتين حزينتين، كان أبواها يحبانها ويرعيانها في قلق وترقب، إذ قد اتفق على ما أذكر أنأصابتها الحمى القرمزية وخلفتها ضعيفة القلب وفي حاجة إلى أن تعنى بنفسها عناية كبيرة، فلما تقدم توم متيلاند ليخطبها إلى نفسه فزع أبواها إذ كانا يعتقدان أن صحتها الرقيقة لم تكن لتحتمل متاعب الزواج ولكنهما لم يكونا موسرين وكان توم ميتلاند غنيا، ووعد بأن يبذل كل ما في وسعه في سبيل سعادة لويز فقبل الأبوان تزويجها منه وقدماها إليه هدية مقدسة.
كان توم ميتلاند شاباً متين البناء، رياضيا، جميل المنظر جذابه، ولقد وضع كل اهتمامه في لويز إذ لم يكن يأمل أن تحيى إلى جانبه بقلبها الضعيف طويلا، وعاهد نفسه على أن يقوم عنها بكل شيء ليجعل سنواتها القليلة على الأرض مليئة بالسعادة والهناء. وترك الرياضة التي كان بارعا فيها لا لأنها كانت تريد منه ذلك فقد كان يسرها أن يلعب (الجولف) ويصطاد، بل لأنه كان يصادف أن تصاب بنوبة قلبية كلما اعرض عليها أن يتركها لمدة يوم واحد. وإذا حدث أن اختلفا في رأي ما كانت تستسلم له توا فقد كانت اسلس الزوجات قياداً، ولكن العلة تعاود قلبها فتحمل إلى فراشها وتبقى فيها أسبوعاًً وادعة راضية، ويحس بأنه كان عليه إلا يكون قاسيا فيعارضها، فيتنازل لها عن رأيه وفي جهد يحاول إقناعها بان تفعل ما ترتئيه.
حدث ذات مرة بعد أن رأيتها تمشي ثمانية أميال في رحلة قامت بها أن قلت لتوم ميتلاند ملاحظا: إنها أقوى مما كان يتصوره المرء، فهز رأسه وتنهد قائلا: (كلا. كلا. إنها رقيقة جدا. لقد ذهبت إلى جميع الأطباء الأخصائيين المبرزين في مرض القلب فاتفقوا جميعا على أن حياتها معلقة في خيط، ولكن لها روحا لا تقهر) وأخبرها بما قلت عن تحملها فقالت لي مؤنبة: سأدفع ثمن ذلك وسأكون على باب الموت. فتمتمت قائلا: (يخيل إلي(711/56)
أحيانا انك قوية جدا على ما تريدين فعله). فقد لاحظت انه إذا حدث وراقتها بعض الحفلات تأخذ في الرقص حتى الساعة الخامسة صباحا فإذا كانت الحفلة مملة تشعر بتوعك شديد فيضطر توم إلى أن يعود بها إلى المنزل مبكرا. ويظهر إنها لم ترتح لجوابي وبالرغم من إنها نظرت إلي بابتسامة وادعة فإنني لم أر لهذه البسمة أثرا في عينيها الوسيعتين الزرقاوين، وقالت: (لعلك تتوقع مني أن اسقط ميتة لا لشيء إلا لأدخل السرور على نفسك).
ولكن لويز لم تمت ومات زوجها وهي حية بعد. لقد لقي حتفه عقب برد أصابه في إحدى رحلاتهما البحرية. وكانت رقة لويز قد دفعت به إلى أن يختصها بجميع الأغطية لتتدفأ بها. مات وقد ترك لها ثروة طيبة وأبنة، فلم تستطع لويز أن تتعزى، لقد كان عجيبا حقا أن تتحمل الصدمة، ولقد توقع أصدقاؤها إنها ستلحق بتوم المسكين عاجلا في القبر. وأحسوا جميعا بالأسف على ابنتها ايريس وقد تيتمت فضاعفوا عنايتهم بلويز.
كانوا لا يدعونها تحرك إصبعا. كانوا يلحون في توفير أسباب الراحة لها لأنهم لو خلوا بينها وبين أي عمل مرهق أو غير ملائم لرقتها فإن قلبها لا يلبث أن تعتاده العلة ويقف بها على باب الموت.
قالت أن خلو حياتها من رجل يعني بها يبلبلها ويرمضها، وإنها لا تعرف كيف تربي عزيزتها إيريس بصحتها هذه الرقيقة فسألها أصدقاؤها لماذا لا تتزوج. أوه إن هذا ما يأباه قلبها وإن كان العزيز توم لم يكن ليأباه بل لعلها إن تزوجت أن يكون ذلك أصلح شيء لإيريس. ولكن من يعني نفسه بزواج امرأة عليلة مثلها؟ ومن العجيب حقا أن يتقدم لها أكثر من شاب كلهم مستعد أن يتكفل بها.
وبعد عام من موت تم قبلت أن تتزوج من جورج هوبهاوس وكان شابا جميلا فارع القوام وعلى جانب من الثراء. ولم أر أحدا أسعد منه لفوزه بشرف القيام على رعاية هذا المخلوق الرقيق الدقيق.
قالت: لن أحيا طويلا لأزعجك. كان جنديا طموحا فاستقال من منصبه إذ كانت صحة لويز تحتم عليها أن تقضي الشتاء في مونت كارلو والصيف في دوفيل. ولقد تردد قليلا وهو يضحي بمستقبله ورفضت لويز أن تستمع إليه بادئ ذي بدء، ولكنها لم تلبث أن امتثلت(711/57)
كما هي حالها دائما فتهيأ لأن يجعل سنواتها الأخيرة سعيدة هانئة إلى أقصى حد.
قالت: أن هذا لن يستمر طويلا. سأحاول أن لا أكون مزعجة وفي خلال العامين أو الأعوام الثلاثة التي أعقبت زواجها الثاني استطاعت لويز بالرغم من قلبها الضعيف أن تذهب في أجمل الثياب إلى أشوق الحفلات وتقامر في إٍسراف وترقص بل وتغازل الشبان الفارعي القوام. ولم يكن جورج هوبهاوس من عنصر زوجها الأول فكان يستعين بالمشروبات الحادة من وقت لآخر وهو يقوم على خدمتها. وكان من المحتمل أن يصبح عنده الشراب عادة فتضيق لويز بذلك اشد الضيق، ولكن لحسن حظها (هي) قامت الحرب فالتحق بفرقته وبعد ثلاثة شهور قتل في الميدان. وكانت صدمة عنيفة على لويز، وشعرت مع ذلك بأنه يجب عليها في حالة دقيقة كهذه أن لا تسلم نفسها للحزن البالغ، وإذا كانت قد أصيبت بصدمة قلبية فإن أحداً لم يسمع بها، ولكي تتلهى عن أحزانها حولت فيلتها بمونت كارلوا إلى مستشفى للضباط الناقهين. وقال لها أصدقاؤها إنها لن تتحمل وطأة هذا العناء. فقالت: ليس عندي من شك في أن هذا سيقتلني، أنا أعرف ذلك ولكن ما حيلتي؟ يجب أن أصنع شيئا. . . ولكن العمل لم يقتلها وبقى في حياتها فسحة.
قابلتها مصادفة في باريس وكانت تتغدى في الريتز مع شاب فرنسي جميل النظر ممشوق القوام، وفسرت سبب مجيئها فقالت إنها إنما جاءت إلى باريس لتقوم ببعض أعمال تتعلق بالمستشفى وأخبرتني أن الضباط ظراف جدا وأنهم لا يدعونها تعمل شيئا ما مراعين في ذلك رقة صحتها. لقد كانوا يعنون بها كما لو كانوا جميعا أزواجها. وتنهدت (مسكين جورج. من ذا الذي كان يظن أنني سأعيش بقلبي الضعيف بعده؟).
فقلت: ومسكين توم! ولست أدري لم كرهت مني أن أقول ذلك فقد أرسلت إلى بسمتها الوادعة وقالت وقد اغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع: إنك تتكلم دائما كما لو كنت تنفس على هذه السنوات القليلة التي يمكن أن أحياها).
- بالمناسبة. أو ليس قلبك الآن في حالة أحسن؟
- لن أتحسن مطلقا. لقد عرضت نفسي هذا الصباح على أخصائي فقال إنه يجب علي أن استعد لما هو أسوأ.
- حسنا. إنك تستعدين لذلك منذ عشرين عاما. أو ليس كذلك؟(711/58)
ولما وضعت الحرب أوزارها أقامت لويز في لندن وكانت وقتئذ في الأربعين من عمرها نحيفة ضعيفة بعينها الوسيعتين وخديها الشاحبين. ومع ذلك فلم تكن تبدو إلا وكأنها في الخامسة والعشرين من عمرها. وكانت إيريس قد شبت وأتمت دراستها فجاءت لتعيش معها. قالت لويز: ستعني بي. حقا أن من الصعب عليها أن تعيش مع امرأة عليلة مثلي ولكن ذلك لن يدوم طويلاً أنا موقنة برضائها.
وكانت إيريس فتاة جميلة، ولقد نشئت وهي تعرف أن صحة أمها منحرفة فلم يسمح لها في طفولتها أن تحدث ضجة في البيت، وكانت تدرك دائما ما يجب عليها من مراعاة راحة أمها. وبالرغم من أن لويز قالت لها الآن إنها لن تسمح لها بأن تضحي بنفسها من أجل امرأة عجوز مزعجة لم تستمع الفتاة لقولها فهي لم تكن تستشعر في عملها أنها تضحي بنفسها وإنما كانت تحس بالسعادة وهي تقوم بخدمة أمها العزيزة المسكينة. وتنهدت الأم وخلتها تقوم بجميع شؤونها. قالت لويز: إن الطفلة مسرورة بأن تجعل من نفسها شيئا ذا نفع. فقلت لها: ألا ترين أنه يجب عليها أن تخرج للرياضة من وقت لآخر. فقالت: هذا ما أقوله لها دائما، أنا لا أستطيع أن أقنعها بأن تسري عن نفسها. يعلم الله أنني ما أردت قط أن أعني مخلوقا بخدمتي.
ولما راجعت أيريس في ذلك أجابتني قائلة: مسكينة أمي العزيزة إنها تريدني على أن أخرج فأجالس الأصدقاء وأحضر الحفلات ولكنني أفضل أن أبقى في البيت فإنها في اللحظة التي أتهيأ فيها للخروج تعتريها نوبة من نوباتها القلبية.
لم تلبث إيريس أن وقعت في حب أحد أصدقائي. وكان شابا طيبا حلو الشمائل تحبه نفسي، ولقد رضيت به إيريس حين تقدم لخطبتها ففرحت بأن الفرصة في أن تحيا حياة مستقلة قد هيئت لها. وأعترض أيريس الشك في إمكان الزواج ولم يلبث الشاب أن حضر إلى ذات يوم وهو في أشد حالات الحزن وأخبرني أن الزواج قد تأجل إلى أجل غير مسمى.
لقد أحست إيريس بأنها لا تستطيع أن تترك أمها. وطبعي أن المسألة لم تكن تخصني بالذات ولم يكن لي فيها دخل ولكنني اهتبلت الفرصة وذهبت لأقابل لويز. لقد كان يسرها دائما أن تستقبل أصدقاؤها وقت تناول الشاي، أما وقد تقدمت بها السن الآن فقد أحاطت نفسها بمجموعة من الرسامين والأدباء.(711/59)
فقلت لها بعد قليل: حسنا. لقد سمعت أن إيريس لن تتزوج
- أنا لا أعرف شيئا عن ذلك. كان يحق لها أن ترفض الزواج لو كنت أنا التي رغبت في ذلك ولكنني توسلت إليها وأنا جاثية على ركبتي أن لا تفكري في. لكنها رفضت أن تتركني
- ألا ترين أن في ذلك قسوة عليها؟
- من غير شك. ولكن هذا لن يدوم أكثر من أشهر قليلة ثم إني أكره أن يفكر أحد في أن يضحي بنفسه من أجلي.
- يا عزيزتي لويز لقد دفنت زوجين ولا أرى أي مانع يقف بينك وبين التفكير في دفن أثنين آخرين.
فقالت وقد ضاقت بكلامي أشد الضيق: أو تجد في الهزء بي متعة لك؟
- يبدو لي انك تقومين دائما على ما تريدين فعله وأن قلبك الضعيف إنما يمنعك من عمل الأشياء التي تضايقك.
- أوه. أنا أعرف. أنا أعرف ما تعتقده في دائما. إنك لم تصدق قط أني كنت مريضة في يوم من الأيام أو ليس كذلك؟
فقلت لها وأنا أحدق في عينيها: بلى أن ما أعتقده هو أنك قد خدعت من حولك هذا الخداع الهائل منذ خمس وعشرين سنة وأنك أعظم امرأة قابلتها أنانية وبشاعة. لقد حطمت حياة هذين الزوجين التعسين والآن تريدين أن تحطمي حياة ابنتك.
لم يكن ليأخذني العجب لو أن لويز قد أصيبت في هذه اللحظة بنوبة قلبية وكنت متوقعا كل التوقع أن تثور علي ثائرتها ولكنها اكتفت بأن ابتسمت في وجهي ابتسامة رقيقة وقالت: يا صديقي المسكين. في يوم ما ستندم أشد الندم على ما قلته لي الآن.
- أوصمت علي أن تمتنع إيريس عن الزواج بهذا الشاب؟
- لقد توسلت إليها أن تتزوجه. أنا أعرف أن ذلك سيقتلني. ولكن هذا لن يهم فما من أحد يأبه لشأني وإنما أنا حمل على كل إنسان
- أو قلت لها أن هذا سيقتلك؟
- لقد اضطرتني هي إلى ذلك.(711/60)
- كما لو قد طلب منك أي مخلوق أن تعملي شيئا لم تكوني تفكرين في عمله.
- يمكنها أن تتزوج من حبيبها غدا لو شاءت. وإذا كان ذلك يقتلني فليكن.
- حسنا. فلنجازف.
- أولا تشفق علي.
- ما من مخلوق يستطيع أن يشفق على من يسليه تسليتك لي فغامت وجنتاها الشاحبتان وظهر الغضب في عينها برغم أنها كانت لا تزال تبتسم. قالت: ستتزوج إيريس في ظرف شهر وإذا حدث لي شيء فأرجو منكما أن تطلبان لنفسيكما الصفح والغفران. وسارت الأحوال على أحسن ما يكون. وحدد اليوم وأعدت ثياب العرس الرائعة ووزعت الدعوات. وكانت إيريس وفتاها الطيب مشرقين. وفي يوم الزفاف في الساعة العاشرة صباحا أصيبت لويز هذه المرأة الشيطانة بنوبة من نوبات قلبها ولفظت أنفاسها. . ماتت في وداعة وقد صفحت عن إيريس التي كانت سببا في قتلها.
السيد مصطفى غازي(711/61)
العدد 712 - بتاريخ: 24 - 02 - 1947(/)
إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم
للأستاذ علي الطنطاوي
أنا لم أتشرف بالانتساب إلى الأزهر ولا إلى غيره من المعاهد الشرعية، لأني تعلمت في المدارس الأميرية من دار الحضانة إلى كلية الحقوق، ولكني نشأت من صغري بين كتب العربية والدين، وربيت في مجالس العلم والأدب، لأن والدي رحمه الله كان من كبار علماء دمشق، وكانت دارنا من الدور العريقة في العلم، فلم تكن تخلو يوما من مراجعات أو مناقشات، ونظر الكتب ومقارعات بالحجج، ومن عامة يستفتون وطلبة يقرئون وعلماء يبحثون، فلما توفي والدي لزمت عالما أزهريا متفننا، فكنت أنصرف من المدرسة فأراجع دروسها على عجل، ثم أتعشى (وكان العشاء في تلك الأيام بعد العصر) وأصلي المغرب وأمضي إليه في مسجده، فأقعد مع الطلبة ننتظره حتى يفرغ من صلاته، وكنا نحو الخمسين طالبا، منا تلميذ المدرسة ومنا التاجر ومنا الموظف، ومنا الشاب ومنا الكهل. وما يبتغي أحد منا بالعلم دنيا، ما نبتغي إلا العلم وحده لنعرف به الحلال من الحرام، نرى طلبه علينا فرضا، وتحصيله عبادة، فكنا نجد في المطالعة لذة، وفي الحفظ مسرة، وفي التعب راحة، فنطالع الدرس قبل أن نقرأه، ونطالعه بعد أن نقرأه، ونحقق مسائله ونحفظ شواهده، ونفتش عن الشروح له والحواشي عليه. . .
فإذا قضى الشيخ صلاته أقبل علينا فسلم فرددنا عليه السلام، لا نقوم له أدبنا بأدب الإسلام، وليس منه هذا القيام، ولكن تثب لمقدمه قلوبنا، وتخشع لمحضره جوارحنا، وتنبض بحبه وإجلاله كل ذرة فينا، فيقعد ونحن من حوله، فيسمى الله ويحمده ويشرع في درس النحو، فيقرأ المعيد ويشرح هو، ويقيم أحدنا إلى لوح أسود كالذي يكون في المدارس، فيملي عليه الشاهد ليوضح عليه القاعدة الجديدة ويذكر بالقواعد القديمة، وكأن أحب شيء إليه أن نستعيده ونستوضحه ونناقشه، فيعيد ويوضح ويجيب باسم الثغر، طلق المحيا، مشرق الشيبة محبوبا مهيبا. فيملك بخلقه قلوبنا، وبعلمه عقولنا، ثم يختم الدرس بحمد الله كما بدأه بحمد الله، ويؤذن المؤذن فنقوم إلى الصلاة، فنرى السكينة قد حفت المجلس، والرحمة قد نزلت عليه، ونحس بالملائكة قد حضرته، ويؤمنا الشيخ فيقرأ قراءة إخال من روعتها كأن القرآن قد هبط به الوحي آنفا، ولقد سمعت قراء أحلى صوتا، وأصح نغما، فما سمعت مثلها(712/1)
أبدا. فإذا قضيت الصلاة قعدنا نذكر الله بقلوب حاضرة، وألسنة رطبة، وجوارح خاشعة، ثم من شاء منا قبل يد الشيخ (ولا يكاد يسمح بتقبيلها) وانصرف، ومن شاء بقى يستمع إلى حديث الشيخ، وكان حديثه أعذب في آذاننا من همسات الحب، وأشجى من عبقريات الأغاني، ثم ينظر الشيخ فيقول: إن فلانا لم يحضر وقد بلغني أنه مريض، فعودوه وساعدوه. فنسرع إليه نعوده ونؤنسه ونأتيه بالطبيب وبالدواء. وإن فلانا في ضيق فأعينوه، فنسد خلته ونفرج ضيقته. وربما استبقى الواحد منا، فانفرد به فنصحه ووعظه، أو أنبه على زي لا يليق بطالب العلم اتخذه. أو محل لا يحسن به حله، أو صاحب لا يدله على الله صاحبه، فيبلغ منا تأنيبه ما لا يبلغه السيف، وندع ما كرهه ولا نعود إليه، ثم ننصرف جميعا إلى بيوتنا: الكبار إلى زوجاتهم وأولادهم والصغار إلى أمهاتهم وأخواتهم، ننام من أذان العشاء على فرش التوبة والاستغفار، ثم نقوم في بواكر الأسحار، عندما يفيق الديك والمؤذن والنور، فنتوضأ فنطهر بالماء أجسادنا، ونصلي فنطهر بالصلاة أرواحنا، ثم نمضي إلى المسجد فنؤدي الغداة مع الجماعة، ثم نجلس في حلقة الشيخ، لنقرأ عليه الفقه والحديث والتفسير في الصباح، كما قرأنا النحو أولا والبلاغة ثانيا في المساء وكما يقرأ عليه غيرنا غير هذا وذاك النهار كله، فلا تلقى في حياة الشيخ إلا العلم والدرس، والمراجعة والبحث، تتخللها مواعظه العامة، وتوجيهاته الناس، فهو المرجع في كل شيء: في الانتخابات العامة يسألونه فيأمرهم بأهل الدين والورع من أي حزب كانوا، وفي الخصومات يرفعونها إليه، فيزيلها بالصلح، أو يفصلها بالحق وفي الأحداث كلها يبين فيها حكم الله. وكان كل نائب أو وزير يؤم داره خاشعا متواضعا كأنه يمشي إلى حرم، فيريه عزة العلم، وجلال الحق، ولطف المؤمن، وتواضع العظيم، ويعظه ويأمره وينهاه، ولا يزرؤه شيئا من دنياه. وكان أيام الثورات على الفرنسيين هو الداعي إلى الجهاد، وهو قائد القواد، أرهبه الفرنسيون فلم يخف، ورغبوه فلم يطمع، وأزعجوه فما لان، فتركوه لم يجرءوا عليه ودونه أهل البلد يفدونه بأنفسهم وأهليهم.
أما الدنيا فلم يكن يسأل عنها أقبلت أو أدبرت، ولم يكن يفكر فيها ضاقت أو اتسعت، فإن حضره الطعام حلالا أكل، وإن دعاه محب أو فقير أجاب، وإن أهدى إليه قبل، فإن كانت الدعوة أو الهدية من فاسق أو متكبر أبى. يلبس ما وجد فربما كانت عليه الجبة من الجوخ(712/2)
الثمين فمر به فقير مقرور فدفعها إليه، ولبس عباءة مرقعة، أو خرج بالإزار وحده. تدخل الدنيا داره فيكون كأنعم الناس، ويدخل المال كيسه فيكون كأغنى الناس ثم يضيق ويفتقر، فيتنكر ويقصد القرى فيشتغل فيها بالطين واللبن، ويعود بما كسبه من كد يده، لا يطغى في الأولى ولا يقنط في الثانية، ولا يذيق قلبه حلاوة الدنيا، فيلين لأبنائها حرصا عليها، وخوفا من زوالها.
وكنا نخرج معه كل ثلاثاء (وهو يوم الراحة عند العلماء) إلى القرى والأرباض، فإذا جاوزنا رحبة دمشق، قال: قد وضعنا المشيخة هنا، ونحن من الآن إخوان. فنمازحه ويمازحنا ونغني أمامه ونثب ونلعب، ونسبح ونركب الخيل ونصطاد، وكان يرغبنا في السباحة والفروسية والرمي، وسائر أنواع الرياضة، لأن ذلك من سنة الإسلام، ويود أن يكون معنا فيه ولكن السن تمنعه والضعف والكبر، ثم نعود من الغد إلى الدرس، ونحن أصفى الناس ذهنا، وأطيبهم نفسا، وأشدهم نشاطا.
ولازمت من بعده مشايخ كثيرين كانت حالهم كحال الشيخ أو قريبا منها، وكانت حياتهم علما وعملا، ومنطقا وخلقا، وكانوا كلهم يحدثونا عن الأزهر وما فيه، حتى حبب إلينا الأزهر القديم من أحاديثهم، وتخيلناه جنة الروح، ونعيم القلب، وتوهمنا أن ما رأيناه من أحوال مشايخنا وردة من تلك الجنة، وطرفا من ذلك النعيم، وبتنا نتشوق إلى الأزهر، ونتمنى أن نزور مصر لنراه، فلما قدمت مصر سنة 1928 رأيت الأزهر قد تغير عما وصفوه لنا، وحال عن حاله التي حدثونا عنها، فتركته ودخلت دار العلوم العليا. ثم لما عدت سنة 1945، لم أجد الأزهر وإنما وجدت مسجدا خاليا، وكليات تنتسب إليه ليست إلا مدارس كما عرفنا من المدارس، فبكيته لما فقدته، وحننت إليه، لا إلى سراج الزيت، وحصير الرواق، بل إلى ذاك التقي وتلك الأخلاق. بكيت فيه شيخي، وبكيت فيه عهد الشيخ الذي مضى عليه اليوم أكثر من ربع قرن، ولا تزال ذكراه غذاء لروحي، وفرحة لقلبي، وأنسة لي في وحشة الحياة، أفكر فيه كما يفكر العاشق المهجور في ليالي الوصال، والسجين في أيام الحرية، والمفلس في زمان الغنى، بل إنه لأحب إلي من عهود الحب، وليالي الوصال، لأنها لذة الهوى وهو حلاوة الإيمان، ولأن ذكراه ذخري الذي لا يفنى، ومفزعي كلما دهمتني خطوب هذه الحياة المادية التي تختنق فيها الروح، ومعين اليقين لي(712/3)
في نوادي الشكوك.
رحمة الله على أولئك المشايخ الذين كانوا ينابيع العلم، ومنارات الهدى، وأئمة الخير. وما كل المشايخ الأولين كانت لهم هذه الحلال، وما كل علماء اليوم تجردوا عنها، ولكن الأعمال بالنيات، والأمور بالمقاصد، وأولئك كانوا يقصدون العلم والدين، فكان الأصل أن يكونوا أهل علم ودين إلا من شذ منهم، والكمال لله وحده، وهؤلاء الطلاب يقصدون الشهادة والمنصب فكان الأصل أن يكونوا أصحاب منصب وشهادة إلا من شذ منهم، والخير لا ينقطع في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
وما أنا بالمحامي عن عهد بذاته، ولا عن أشخاص بأعيانهم، لكنما أدافع عن تقوى العالم وأمانة العلم، والعلم إذا لم يكن معه أمانة كان الجهل خيرا منه، كالطبيب الفاجر، يغش المريض ويماطل في العلاج، ابتغاء دوام الحاجة إليه، وتدفق المال عليه، بل ربما بالغ في الفجور فلم يمنعه علمه إن لم يكن أمينا أن يقتل المريض بالسم، بدلا من شفائه بالدواء.
وخلاصة القول أن نبينا صلى الله عليه وسلم علمنا أن هذا العلم دين، وأمرنا أن ننظر عمن نأخذ ديننا، ونحن لا نستطيع أن نأخذ العلم إلا عن رجل نثق بدينه كما نثق بعلمه، ونطمئن إلى إيمانه كما نطمئن إلى منطقه، فإن لم يكن إلا العلم والمنطق، لم ينفعاه عند الله شيئا.
وأنا لا أقيس الأزهر على الجامعات، فالجامعات فيها العلم والفن، وفيها الكفر والإلحاد، لا يمنع منه عندهم أنه كفر، ما دام يسمى باسم الفلسفة أو العلم، ذلك لأن أسلوب الجامعات أسلوب عقلي لا يبالي بالدين، ولا يتقيد بالوحي، وديننا لا يعارض قضايا العقل المسلمة وأحكامه الثابتة، ولا ينافيها، ولكن أين هذه القضايا؟ وهل يكون منها كل حكم يوصل الباحث إليه عقله؟ ففيم إذن تختلف العقول، ويتناظر الفحول؟ أفنبني ديننا على آراء الرجال، فكلما جاء واحد منهم ببدعة في الدين قلدناه فيها، وأقمناه بيننا وبين ربنا، وجعلنا ما جاء به من شرعنا؟ ومن يكون إمامنا في ديننا إذا لم يبق في الأزهر أئمة دين؟
ألا يكون ذلك تحقيقا للحديث، ومعجزة للرسول عليه الصلاة والسلام إذ قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور العلماء، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس أئمة جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا؟(712/4)
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، والكفر بعد الإيمان!
ألا إن ديننا يقوم على أدلة معروفة هي الكتاب والسنة الثابتة، والإجماع الصحيح والقياس الجلي، لا عمل للعقل فيها، إلا الاستنباط والاجتهاد، على (الأصول) المعروفة، والسبيل المسلوكة وأتباع البيضاء النقية، والإقتداء بالسلف الصالح، فإن جاوز هذا الحد لم يجر لمسلم أن يعول في دينه عليه، أو يرجع في الحكم إليه.
ونحن نريد علماء من أمثال هذا الشيخ رحمه الله ويعملون، ويتبعون ولا يبتدعون، ويتقون الله سرا وعلنا ويحكمون الشرع في خاصة نفوسهم وعامة أمورهم، لا تذلهم الدنيا، ولا يفسدهم الفقر، ولا يطغيهم الغنى، فإن كانوا كذلك فليخرجهم أساتذة جامعات، أو وعاظ جوامع، وليكونوا بعد فلاسفة فالإسلام لا يعادي الفلسفة ما لم كفرا وليكونوا باحثين فالإسلام يحب البحث، وليكونوا مجددين بالاجتهاد ما داموا متبعين في أصول الدين، وليجلسوا على البساط أو على الطنافس، وليقرأوا على السراج أو على الكهرباء، وليسكنوا الأكواخ أو القصور، ولينقطعوا إلى العلم أو ليكونوا أصحاب المناصب أو أعضاء المجالس وأولياء الأمر.
ولكن هل ينتظر أن تخرج هذه الجامعة الأزهرية أمثال أولئك العلماء؟
هذه هي المسألة!
وأنا لا أحب أن أجيب عنها، لأني إن أجبت قلت مرة ثانية:
(ردوا علينا الجامع الأزهر!!)
(القاهرة)
علي الطنطاوي(712/5)
لا تدابروا أيها الرجال!
للأستاذ محمود محمد شاكر
زعموا أن رجلا ضل له بعير فأقسم لئن وجده ليبيعنه بدرهم، فأصابه، فقرن به سنوراً وقال للناس: (أبيع الجمل بدرهم، وأبيع السنور بألف درهم، ولا أبيعهما إلا معا). فقيل له: (ما أرخص الجمل لولا الهرة!) فذهبت مثلا!
والظاهر أن بعض ساستنا لا يفتأون يفعلون فعل هذا الأعرابي، كأنما كتب عليهم أن يتحدوا دائما إرادة هذا الشعب المسكين المصفد في الأغلال الوثيقة، وكأنما كتب عليهم أن يختلقوا العناد اختلاقا حتى يضيعوا عليه كل فرصة سانحة لنيل حقوقه المهضومة منذ قديم الأيام، وكأنما كتب عليهم أن يتعيشوا بنكبات هذا البلد وآلامه. وإلا فليحدثنا هؤلاء الساسة فيم يختلفون اليوم، وعلام يتدابرون تدابر الذئاب التي قال فيها القائل:
وكنتَ كذئب السَّوْء، لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً، أحالَ على الدَّمِ!
لقد ظلت المسألة المصرية السودانية منذ أكثر من نصف قرن وهي تتخبط في أساليب السياسة البريطانية وتكاذيبها وخدعها وتغريرها بعقول الرجال، وتكاثرت النكبات على مصر والسودان، واتخذت بريطانيا صنائع لها لبسوا ثوب الصديق وهم ألد عدو وأبشعه وأخلاه من الشرف والمروءة، ولم تزل مصر والسودان تجاهد بطبيعتها الحرة الصريحة المكنونة في صدور أهل هذا الوادي الحر النبيل، فغلبت الشر وقهرته، واستعلنت على أبين ما تكون وأكمله، فانتهينا من ذلك الوباء الفتاك الذي كان ينخر في جسم هذا الوطن، والذي كان يتهادى عليه من سماهم الناس (زعماء) - انتهينا من وباء (المفاوضة) ومن حصر المسألة المصرية السودانية في حيازة بريطانيا وشرف تاجها ووعودها المبذولة بألفاظ من سراب. وهذه النتيجة وحدها هي حسب مصر والسودان من جهادهما، فإنه لم يكن من المعقول أن يقف مغصوب ضعيف ليفاوض غاصبا قويا مفاوضة الند للند كما كان (الزعماء) يزعمون! ووالله ما ندري كيف كان يجوز ذلك في عقولهم (الزعيمة)؟ وكيف كانوا يخدعون الناس عن عقولهم (المزعومة)!! ولكنه كان، وعلم أسرار ذلك عند الله خالق الزعماء!
ثم خرجنا من بلاء المفاوضة إلى عرض قضيتنا - قضية مصر والسودان - على مجلس(712/6)
الأمن أو هيئة الأمم المتحدة لتحكم بيننا وبين بريطانيا المغتصبة الجريئة على حقوق خلق الله، وعلى الإيقاع بين الأمم والشعوب، وعلى خلق المشكلات التي لا وجود لها، كما فعلت في فلسطين، ثم تظاهرها بعد ذلك بأن حل هذه المشكلات هو همها، وهو تعب صبه الله عليها وحملها إياه، وهي كانت تتمنى لو زعمت أن الله لم يصب عليها هذا التعب ولم يحملها عبء حله وتصريفه حتى تبلغ إرضاء المختلفين في هذه المشكلات!! وهي تريد أن تخدع الأمم في مجلس الأمن أو في هيئة الأمم المتحدة بهذا الكذب الأبلق، وعندها من أفانين الدعاية وأساليب الصحافة، ومن رجال القلم واللسان ما يعينها على إجازة هذا الكذب الصرف إلى عقول الرجال في مجلس الأمن أو سواه. وهي تعلم أن هؤلاء الرجال قليلا ما يعرفون من سيئاتها ومظالمها وبغيها وجرائمها وآثامها في هذا الشرق الذي ابتلى بها وبخداعها.
وظني بساستنا، هداهم الله، أنهم يعرفون هذا حق المعرفة، فإن لم يكونوا يعرفونه فقد نبهوا مرارا ويوما بعد يوم، فهم الآن على أتم علم بما يخاف وما يتجنب في ساعة العسرة التي نحن فيها منذ فتح الله مغاليق القلوب المصمتة فأدركت أن المفاوضة عبث لا يجدي ولا يغني، وإنما هو الجهاد العام في سبيل نيل الحق المغصوب. فما معنى هذا التدابر إذن؟
معناه أن هؤلاء الساسة قوم تصرفهم أهواؤهم لا حقوق هذا الوطن الذي أعطاهم حق الحياة فيما أعطى، ومعناه أيضاً أنهم قوم جمدوا على سياسة لا يحسنون غيرها ولا يفهمون الأشياء إلا على أسلوبها، وهو أخس الأساليب، ومعناه أيضاً أنهم يجهلون معنى خروجنا من أسر المفاوضات وارتفاعنا بقضية وادي النيل إلى مجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة. ولو هم نفوا من صدورهم هذه الشحناء القديمة البغيضة لأدركوا موقف مصر والسودان حق الإدراك. فالأمم لا ترتفع إلى مجلس الأمن أو هيئة الأمم إلا في القضايا التي تهدد السلم العالمي، أي التي يخشى أن تجر إلى حرب مبيدة بين الأمم، فإذا ارتفعت أمتان إلى المجلس أو الهيئة لكي يحكم بينهما؛ فمعنى ذلك أنهما قد بلغا مبلغا يمكن أن يسمى (حالة حرب) كما يقولون اليوم، وإذن فاحتكامنا إلى مجلس الأمن معناه أن ههنا (حالة حرب) يراد من مجلس الأمن أن يتداركها. فإذا كان ذلك كذلك فهل في عقل عاقل أن تكون أمة في ساعة أشبه بساعة حرب، فإذا رجال من قادتها يقومون ليتنابزوا بالألقاب ويتكايلوا بالتهم،(712/7)
ويتدافعوا بالبغضاء، ويبسطوا ألسنتهم في حديث الماضي الذي عفى عليه الزمن حين عفى على أسبابه وهي المفاوضات التي كان قوم يستأكلون بها كراسي الوزارات ومقاعد البرلمان؟
ألا فليعلم هؤلاء جميعا أننا لا تريد أن ننصر قوما على قوم فما بنا إلى أحد منهم حاجة، وأننا إنما نريد لهذا الوطن أن يخرج من المحن منصورا مؤزرا ظافرا بالحق المسلوب. إن مصر والسودان قد أعلنت على بريطانيا - باحتكامها إلى مجلس الأمن - ما يمكن أن يسمى حربا بغير سلاح، فكل مصري سوداني هو اليوم جندي منوط به حراسة الثغرات التي يتدسس منها العدو الأكبر وهو بريطانيا، لا فرق بين كبير وصغير، ولا زعيم ولا تابع، فأهل هذا الوادي جميعا يد واحدة وسواسية كأسنان المشط في التكليف الذي كلفوا به، وعلى كل منهم أن يبذل ما وسعه من النصيحة والمشورة للذين سيتولون الدفاع عن حق الوطن في ذلك المكان الذي سنحتكم إليه.
وخير لأولئك الذين يقولون: إن فلانا هذا لا يصلح لعرض القضية المصرية السودانية على مجلس الأمن أو هيئة الأمم أن ينزعوا هذا الإفك من ألسنتهم فإنه مضلة ومفسدة وخذلان للوطن لا لفلان أو فلان، وخير لهم أن يقضوا الليالي الطوال في درس الحجج التي سنتقدم بها لإقناع رجال يجهلون كل الجهل تاريخ النكبة البريطانية التي صبها الله على رأس مصر والسودان، وخير لهم أن يستخرجوا آثام بريطانيا وضروب بغيها في مصر والسودان، وفي الهند، وفي فلسطين، وفي سائر بلاد الشرق ليعرضوها جملة واحدة تصريحا أو تلميحا ليكشفوا لرجال مجلس الأمن عن فظائع بريطانيا وأفعالها البشعة منذ سلطها الله على هذه البلاد فإن أكثر التاريخ الذي يقرؤه هؤلاء مكتوب بأقلام بريطانية وأهواء بريطانية. وإلا فحدثونا من من رجال مجلس الأمن، فضلا عن شعوب هؤلاء الرجال، عرف ألوان الخساسات التي ارتكبت في دنشواي، وفي فلسطين أيام الثورة العربية؟ إننا لن نذهب إلى مجلس الأمن وحده بالقضية المصرية السودانية بل سنذهب إلى كل فرد في روسيا وأمريكا وسائر الشعوب المشتركة في مجلس الأمن. وإننا لن نذهب بالقضية المصرية السودانية وحدها، بل سنذهب بجميع قضايا الشرق الذي ذاق نكال بريطانيا أكثر من قرن ونصف قرن. إننا نريد أن ندخل قضيتنا وسائر قضايا الشرق في(712/8)
كل بيت وفي كل ناد وفي كل مصنع، وفي كل مكان فيه إنسان يعقل - كما تفعل بريطانيا الغادرة بباطلها الذي تنفثه في كل حنية من حنايا هذا العالم، متظاهرة بأنها المدافعة عن الحق وعن الحرية وعن العدالة وعن رفع مستوى الشعوب!! وياله من كذب لا يلفه إلا الحق الأبلج! فأين نحن من هذا كله؟ أين؟ أفي البغضاء وتعداد المساوئ الماضية، وبسط الألسنة في المطوي من الأحداث القديمة؟ إننا لن ننال شيئا إذا فعلنا إلا الخزي والعار وعرض فضائحنا على أعين الناس!
إننا أيها السادة محاربون، فافعلوا فعل المحاربين في ساحة القتال، لا فعل المتشاتمتين على قارعة الطريق. واذكروا هذا الوطن، فهو أحق بالذكرى من ضغائنكم وإحنكم وإثاراتكم. اجعلوا هذه كلها دبر آذانكم وتحت أقدامكم، فإن الوطن يأمركم بهذا فأطيعوه ولا تطيعوا داعي الشهوات وكراسي الحكم ومقاعد البرلمان فكلها عرض زائل، وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وهي هي التي تتقدم إلى مجلس الأمن بقضيتها، لا فلان هذا ولا فلان ذاك؛ فالكلمة الآن لمصر التي أنتم أبناؤها، لا لأحد منكم على حياله. فأجمعوا أمركم، ولا تحملنكم الكبرياء على تزييف القول إرضاء لشهوات أنفسكم، فإنكم إن فعلتم كدتم لبلادكم وأوطانكم وشرفكم كيدا لا يكيده عدو حقود ولا شامت باغ لكم أهوال المصائب. وماذا تريد بريطانيا إلا اختلاف الكلمة وتفرق الوحدة؟ ألم تدركوا بعد ماذا كان يريد كهف بريطانيا بيفن جين زعم أنه لم يعرف أنه أخطأ إلا يوم عزمت مصر والسودان على رفع قضيتها إلى مجلس الأمن، فإنه زعم أنه أخطأ إذ أدار المفاوضات بينه وبين حكومة أقلية!! ويا سبحان الله! إنه لم يرد تلك الأكثرية التي يعرض بها إلا أن تكون خصومة ولدداً على حكومة الأقلية، وأن يستثير دفائن الأحقاد ويفت من عضد الأمة التي سوف ترغمه وترغم بريطانيا على احترام إرادتها وحقها. فإن لم يكن في الاتحاد والتناصر إلا قتل هذه الكلمة وما ترمي إليه، حتى يحمل الرجل حسرنها إلى الأبد - لكان ذلك واجبا مفروضا وخيرا مرغوبا فيه. وكيف جاز في العقول - أعني عقول بعض الساسة - أن الأمر أمر حكومة أقلية أو أكثرية!! لا أدري، ولكنه كان.
ومع كل ذلك، فالأمر كله تدليس سخيف، ففي البلاد المنكوبة المهضومة الحقوق، لا رأي لأكثرية ولا أقلية بل الرأي للشعوب وللبلاد - أي للشعب من حيث هو تاريخ ماض(712/9)
وتاريخ حاضر وتاريخ مستقبل، فحكومة الأكثرية لو هي خانت الأمانة وفرطت في حقوق البلاد ومهرت ووقعت وأسلمت المقاليد وعقدت المعاهدات وأقرها البرلمان وأجاز كل ما جاء فيها من تفريط - فذلك كله باطل، لأن الحق ههنا حق طبيعي متوارث في البشرية كلها، لا يغير رأي الأكثرية شيئا من حقيقته وجوهره، ولا تمتلك الدولة القائمة في أرض البلاد المحتلة أو المهتضمة أن تنزل عن هذا الحق لأحد، فنزولها عنه عمل باطل من أصله. وإذن فالذي يقيد الأكثرية، ويؤيدها هو حق الشعب وهي بحرصها على هذا الحق تسمى أكثرية لا بغيره. فلو جاءت الأقلية وفعلت ما يدل على أنها حريصة على هذا الحق الطبيعي المتوارث الذي لا يمكن حكومة أن تتنازل عنه لأحد، فهذه الأقلية بمنزلة الأكثرية، لأنها هي المطالبة بالحق الطبيعي، وهذا شيء بين واضح، اللجاجة فيه شهوة وعبث.
أو ليس عارا أن يكتب المرء مثل هذا لقوم كان لهم جهاد في سبيل بلادهم؟ إنه لعار. ألم يكن لهؤلاء أسوة حسنة في سورية ولبنان حين وقفت صفا واحدا كالبنيان المرصوص، على ما كان يومئذ من اختلاف أشد وأعنف من اختلاف رجالنا؟ بلى قد كان.
أيها الرجال! إن العالم كله ينظر إلينا، وإن قلوب الشرق كله تخفق إشفاقا علينا وحبا لنا، وإن الأمم الجريحة التي مزق الوحش البريطاني أوصالها قد كفت عن الأنين لتسمع صوتكم وهو يدوي في جنبات الأرض لتنسى عندئذ آلامها وأوجاعها، وإن فلسطين - وآه لفلسطين - إن الجزع ليأكل قلوب أبنائها مخافة أن تزل أقدامنا، وهم قد ناطوا بنا رجاء قلوبهم. فرفقا أيها الرجال ولا تخذلوا شعبا مجاهدا كتب عليه أن يقاتل أنذال الأمم.
أيها الرجال! لا يغرنكم هذا الوحش البريطاني، فإنه يضرب بقوائمه وهو كالصريع فذففوا عليه باتحادكم، وأجهزوا عليه بتناصركم، وانسوا ما مضى وخذوا عدتكم للذي سيأتي، فإنه النصر لمصر والسودان بإذن الله مذل الجبابرة، ومرغم الطغاة الغادرة، وناصر الأمم المتآزرة.
محمود محمد شاكر(712/10)
صحائف مطوية:
رأس النقب وخليج العقبة
حملة البرنس أرناط على الأراضي المقدسة الإسلامية
عام 578 هجريه
للأستاذ أحمد رمزي بك
قالوا (الحرب رحى ثقالها الصبر وقطبها المكر ومدادها الاجتهاد وثقافها الأناة وزمامها الحذر) (العقد الفريد)، أما تلك التي أضعها أمامك فكانت ملحمة من ملاحم الحروب الفاصلة جمعت بين قوات البر والبحر معاً، وقامت فيها المصادمة على ظهور المراكب والمطاردة على رمال الصحراء. ولم تتسع للصبر لأن السرعة كانت عنصرها، ولا للمكر والاجتهاد واصطناع الخديعة لأنها جاءت على غير إستعداد، ولم يصاحبها الحذر لأنها بنيت على المفاجأة والأقدام.
كان مشروعاً دفعه الحقد والحمق والغرور، ذلك المشروع الحربي الذي دار بمخيلة البرنس أرناط صاحب الكرك الفرنجة فقد أقسم أيمانا ملغظة على فتح الحجاز وإيذاء المسلمين في أشرف بقعه يقدسونها، ولذلك أنشأ أسطولاً في أراضيه جعله من قطع حملتها الإبل، وسارت بها وسط القفار ليلقى بها في خليج العقبة، وساعده بعض أشرار البدو في عدوانه ولم تأت سنة 578 إلا والأسطول يمخر عباب البحر الأحمر، وإذا به ينقسم إلى فرقتين أقامت الأولى على حصن للمسلمين بخليج العقبة تحاصره، واتجهت الأخرى جنوباً تهاجم موانئ البحر على الشاطئين الأسيوي والأفريقي فأختل طريق الحج وأخذ الأسطول يطارد المسلمين في عقر ديارهم وعلى أمواج بحرهم، فأصبحوا تحت رحمة هذا الجبار، ولما وصل الخبر إلى مصر وكان بها الملك العادل أبو بكر نائباً عن أخيه السلطان صلاح الدين، بادر بإنشاء أسطول نقله إلى خليج السويس وسلم قيادته للحاجب حسام الدين لؤلؤ، فسار مجداً في طلب الفرنجه حتى أوقع بهم بعد أن امضوا شهوراً يجوبون البحر الأحمر إلى عدن وينزلون مقاتلتهم إلى ساحل الحجاز، فأحدثوا أموراً لم يسمع في الإسلام بمثلها حتى ذكر المؤرخون (أنهم توجهوا إلى المدينة النبوية فلم يبقى بينها وبينهم سوى مسيرة(712/11)
يوم واحد).
قرأت هذا في مراجعنا ثم وقع نظري على ما كتب الأب لامنس اليسوعي إذ قال: (لفت خليج العقبة وموقع أيلة أنظار البطل الصليبي ولمس أهميته فعمل على إحتلال تلك البقعه ونشر الرعب بأسطوله، ولاشك في أنه في ضرب مثلاً بإقدامه وجرأته لجمع كبير من أبطال الاستعمار الأوروبي وبناته الذين جاءوا من بعده فجاهدوا مثل جهاده، فهو الذي شق الطريق أمامهم وهم نسجوا على منواله)
حركني هذا الكلام مع غيره مما قرأت من كتاب الأوروبيين الذين أشادوا بعمل البرنس أرناط، أن أتتبع هذه المرحلة، التي لم تعجبني الدوافع التي أملتها، وإن كانت عملاً حربياً كبيراً فيه المجازفة والمخاطرة إلى أبعد حدودها، وأعجبت من عمل مصر ورجال صلاح الدين الذين عالجوا الموقف وخطورته بجرأة وإقدام ومجازفته لا تقل عما لدى الخصم وكان أن كتب النصر لهم.
فلنقف هنيهة لننظر ما لنا ذلك العصر من بطوله وقوه ومن مشاكل وأحداث ومصاعب: في الفترة التي برز فيها هذا الخطر كان صلاح الدين بعيداً عن مصر، يجمع شتات ملك الشام. كان ينازل الموصل بعد أن تم له فتح حران وسروج وسنجار ونصيبين والرقة وجميعها من بلاد الفرات الشامية، فإذا برسول خليفة بغداد يستعطفه بشأن الموصل فيرحل عنها ليأخذ حلب من عز الدين مسعود الأتابكي ويعوضه عنها بسنجار.
في وسط هذه المقامع القائمة وتبدل الدول حيث يعمل البطل الكبير إلى عودة حدود الملكية المصرية الإسلامية إلى سابق عهدها، كما كانت أيام طولون والأخشيد والفواطم في إبان مجدهم، يفاجأ بهذه الحركة التي يقصد منها عرقلة مشاريعه وقطع اتصاله عاصمة ملكه. وسنرى أن العاهل الكبير أدرك خطورة هذه الحملة فقطع ما كان مزمعا عليه وعاد إلى الشام ليدبر حملاته الكبرى التي أفتتح فيها أراضي الكرك والشوبك ثم انتهى إلى حطين حيث وقع البرنس ارناط بين يديه.
لقد خدم ارناط العروبة ودين محمد، فقد كنا نحبو إلى حطين حبواً، فإذا بالطاغية وملحمته التي أثارها يجعلنا نركض أليها ركضاً، نعم، لنكتب على صعيد فلسطين أنباء المعركة الفاصلة في التاريخ والتي حطمت ملكاً أنشأه الفرنجة ظلماً على أراضي آسيا الإسلامية(712/12)
بضربه واحدة، وقدم أرناط للمشرق كأساً مملوءة بالظفر شربها أبطالنا بعد مضي قرن من الزمن على المعركه الأندلسيه الكبرى التي أنتصر فيها يوسف بن تاشفين على جموع الأسبان وفلول الادفونش (479هجريه - 1086ميلاديه) وأثبت عن حق إن عزائم المرابطين من قبائل المغرب كانت أقوى من عزائم الأسبان وفرسان أوروبا.
تلك هي الملحمة التي كانت في الماضي نعمه علينا فألبستنا من بعد حطين ثوباً من القدرة والانتصار، مالي أراها تعاودني وتقلق مضاجعي؟ أهناك أشياء آتيه المسها من بعيد، سيخلقها المستقبل لنا؟
أني أذكر تماماً أنه في عام 1935 حينما كنت بالمقدس جاء ألي كاتب يهودي وقدم إلي مؤلفا بالعبرية كتبه عن أراضي النقب وطلب إلى أن أقرأه. وكان أن سألت نفسي ما الذي يشغله بهذه البقعة النائية عن الحضارة الخالية من السكان، وماذا يقصد هؤلاء من النقب، وهم لا يكادون يصلون قرية بئر السبع إلا بشق الأنفس؟ لم أر الأمر بعين الجد، ودار حديث مع المؤلف عن هجرة إسرائيل من وادي النيل وضلالهم في سيناء، وعرضنا لكلمة التيه وعلاقة هذا الاسم بتلك القبائل التي تخطر في الريف المصري باحثه عن المرعى لقطعانها من الغنم والتي يطلق عليها العرب من السكان اسم هتيم؟ هل هم سكان التيه؟ لا أدري. وما خرج المؤلف حتى فتحت الكتاب فإذا به خريطة شاملة لتلك البقعة الهامة من أرض الشرق العربي التي ستؤثر في تاريخنا لألف سنه قادمة. واتجهت أنظاري إلى العقبة إذ هناك تنتهي أراضي فلسطين الحديثة، وتذكرت النزاع الذي قام عام 1906 بين مصر والدولة العثمانية أو بين بريطانيا وتركيا. وتخيلت مجموعه كبيره من الوثائق الرسمية والخرائط كنت اطلعت عليها من زمن مضى ومعها صور للفرمانات السلطانية التي منحت للخديويين والولاة، وكانت الحدود بين مصر والدولة صاحبة السيادة عليها تنتقل بين السويد والعقبة إي تنتهي مره هنا وأخرى هناك.
فما الذي حرك السياسة البريطانية عام 1906 لإثارة مسألة العقبة وجعلها مسألة دوليه وما الذي دفعها لكي تفرض إرادتها فرضا على الدولة صاحبة السيادة على مصر؟ أكانت تقرأ في عالم الغيب والشهادة تطورات ضرب فلسطين ومواقع قتال أم معارك الدردنيل عام1915؟ أما التقارير الرسمية والأوراق السريه فقد أظهرت للعيان أن خطط اقتحام(712/13)
المضايق وغاليبولي قد وضعتها قيادة البحر مع قيادة البر في سنة 1906 وهي السنة التي تمت فيها اتفاقات العقب بين مصر وإنجلتره من جانب والدولة العلية من جانب آخر، فهل كان هذا من قبيل المصادفة ليس إلا؟ لا أستطيع لذلك جواباً لأن للسياسة الأوروبية أسراراً وطلاسم أعجز عن فهمها.
مر كل هذا بذاكرتي بعد أن قدم اليهودي كتابه مجلداً تجليداً حسناً ومهدى إلى ممثل الدوله التي مهدت له الدراسة وسهلت له التنقل في ربوعها ليبحث مسألة علميه، وليساهم بقسط ضئيل من المعلومات والأبحاث عن أرض النقب، والنقب اسم متسع يشمل أجزاء من فلسطين وغيرها في نظره.
وتمر الأيام والسنوات تترى وتشاء الأقدار أن أعيش بمصر بعيداً عن الحياة العامه، فتهتز نفسي يوماً اهتزازاً قوياً، ذلك لأن الجرائد اليومية تنشر ضمن أخبارها برقيه من فلسطين تنبئ بان جماعات صهيونية زحفت على أرض النقب وأنشأت في بضع ساعات عشر مستعمرات يهودية في أماكن لم تكن مسكونة من قبل.
نعم نقلت العمال والزراع والسكان ومواد البناء والبيوت مفككه وآلات الزرع والأثاث على السيارات في ليله واحدة وأنشأت المستعمرات إنشاءً وأحكمت البناء ولم تقدر السلطات على الوقوف أمام هذه الحركة ولا ردها، ولم يكن هناك سكان لأن أراضي النقب غير عامرة، أما أهل البلاد وأصحابها فكانوا في نوم عميق.
هنا انتبهت وعدت إلى حملة ارناط أطلب الوحي منها. ألم ينقل المراكب والسفن مفككه على الجمال؟ ألم يحط مشروعه بالكتمان ليبرز عنصر المفاجأة والمخاطرة، ألم يكن سريعاً في تصميمه وتنفيذ أغراضه. ولكن جاء رد الملك سريعاً وحاسماً، لم يحجم ويتردد، لم يستشر ولم يترك الوقت يغالبه بل انشأ الأسطول ودفعه إلى البحر، وجاء بالحاجب لؤلؤ وكان مضفراً وشجاعاً ومجداً فاخذ الأمر بالمفاجأة والمخاطرة والأقدام وكتب للمسلمين صفحه من المجد.
فأين عمله من عملنا اليوم ونحن إذا رصفنا بين مصر والعباسة أمضينا الشهور والسنوات وغيرنا يقيم عشر مستعمرات في ليله واحدة؟.
رأس النقب يعمر وخليج العقبة تعود إليه الحياة، إنها لكبيره على النفس لأن صفحه جديده(712/14)
من العراك والتصادم تبدأ، لو كنا أحياء نشعر بالإعصار القادم علينا.
إذا أردت أن تعرف بالضبط مدى هذه الصيحة، أفتح خريطة لهذه المنطقة تجد حدود أربع دول تتلاقى في بقعه واحدة هي نهاية خليج العقبة، وتبدأ حدود مصر من (طابة) وهي مع فلسطين لا يشاركهما فيها أحد، أي إذا أردت الذهاب لشرق الأردن أو الحجاز أو نجد، يجب أن تمر بالممر الفلسطيني وهو مثل ممر دانتزيج المشهور، وبهذا الممر تتصل فلسطين لأول مره في التاريخ مع المحيط الهندي وأستراليا بدون أن تحتاج لقناة السويس. ماذا يخبئه لنا هذا الاتصال وماذا سيكون من أثر هذا الممر الأرضي؟ أشياء كثيرة سيعرفها الأبناء والأحفاد قبل أن يلمسها الأحياء الآن لاهون بأنفسهم وأطماعهم أما من الناحية الأخرى فهنالك تتلاقى حدود مملكتين هما العربية السعودية وشرق الأردن، وتقع مدينة العقبة في داخل حدود الثانية.
لننظر الآن ماذا يقول القدماء عن العقبة: هي عقبة ايله وهي مدينه بين الفسطاط ومكة على شاطئ البحر تعد في بلاد الشام وهي جليلة بها مجتمع حاج الفسطاط والشام. وورد عن أيله في قاموس الكتاب المقدس أنا فرضه شهيرة في أرض أدوم على الشاطئ الشرقي من الخليج، مر بها بنو إسرائيل وكانت ذات شأن في زمن سليمان والأرجح أن داود تغلب عليها ثم استرجعها أهل أدوم. ونقل المقريزي في خططه أنها (كانت حد مملكة الروم وعلى ميل منها باب معقود لقيصر وكان بها قوة مسلحة يأخذون المكس، وكانت في الإسلام منزلاً لبني أميه وأكثرهم موالي عثمان بن عفان وكانوا سقاة للحج، وكان بها علم كثير وآداب ومتاجر وأسواق عامرة وهي كثيرة النخل)، وقال عن العقبة (لا يصعد أليها من هو راكب، ولذلك أصلحها فائق مولي خمارويه بن أحمد بن طولون ومهد الطرق إليها)، وعرض في خططه الحوادث التي نحن بصددها أي إلى حملة البرنس أرناط بتفصيل أعم مما ذكره في السلوك فقال نقلاً عن القاضي الفاضل: (في سنة 566 أنشأ صلاح الدين مراكب مفصله وحملها على الجمال وسار بها من القاهرة في عسكر كبير لمحاربة (أيله) وكان الإفرنج قد ملكوها وامتنعوا بها فنازلها في ربيع الأول وأقام المراكب وأصلحها وطرحها في البحر وشحنها بالمقاتلة والأسلحة وضيق عليها الحصار في البحر حتى فتحها ثم أسكن فيها جماعه من ثقاته وقواهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره وعاد إلى القاهرة)(712/15)
وعن القاضي الفاضل أيضاً (في سنة 577 وصل كتاب من نائب القلعة أن المراكب على تحفظ وخوف شديد من الإفرنج إذ وصل البرنس (يقصد ارناط صاحب الكرك) وسير عسكرة إلى ناحية تبوك، وربط جانب الشام لخوفه من عسكر يأتي لمحاربته من مصر) وإنما سقنا كل هذه الإشارات ووضعنا في وسط كلامنا ماسجلته المراجع لكي نثبت للقارئ المتيقظ الذي يهمه أمر مصر والبلاد العربية ومستقبل الأجيال القادمة شيئاً واحداً: هو أن خليج العقبة ورأسه حيث ملتقى الحدود الأربعة كان موقعاً استراتيجياً مهماً جداً يؤثر في عوامل التاريخ وبناء الممالك وفي حفظ الحدود وسوق الجيوش في الجاهلية وفي الإسلام وقد ظهرت خطورته في الحروب الصليبية وكاد أن يكون ضياع هذا الركن حاسماً لولا أن قيض الله للمسلمين الملك القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، الذي عرف في الوقت المناسب أن يسد هذا الخرق ويحفظ هذا الثغر ويقي البلاد من عبث (أرناط) وأخطار رجاله.
ونعلم الآن أن هذا الموقع لم يكن مجمع الحاج من مصر والشام فحسب بل كان أكثر من هذا كان طريق الاتصال الوحيد بين مصر والشام حينما انقطع الطريق المعتاد بينهما بتهديد الصليبيين وأنه لولاه لتعذر على شيركوه وابن أخيه صلاح الدين إنقاذ مصر، ولولاه لتعذر على جند مصر الحصول على شرف القتال بمعارك فلسطين والشام. وإذا قلت أن طريق البحر كان مفتوحاً بين مصر والحجاز فلدينا وصف شامل عن رحلة ابن جبير الأندلسي من القاهرة لجدة ومالقيه من المتاعب في طريق البر والصحراء وطريق البحر من عيذاب وما تعرض من أخطار. فنحن أمام موقع هام من مواقع التاريخ يستدعى أن تتلاقى الحدود بشكل يسمح باجتماعها في نقطه واحدة. وتنحدر من الماضي إلى العصر الحاضر وأهم مظاهر الدنيا هي الحروب، فقد ذكرت المؤلفات الرسمية التي نشرتها وزارة الحربية البريطانية عن تاريخ الحرب العظمى الأولى طبعة 1928 ما يأتي (لقد أصبح من المحتم بعد نشوب معركتي غزه الأولى والثانية مارس وأبريل سنة 1917، احتلال العقبة، وقد تم ذلك بواسطة لورنس في يوليو 1917، وباحتلالها مهد الأسطول في جعلها قاعدة حربيه ومركزا عسكرياً ممتازاً ساعد كثيراً في تهيئة وأعداد العمليات الحربية التي سندت ميمنة جيش اللنيي في قتاله مع الأتراك) ولبيان ذلك نرجع إلى ما كتبه حاكم القدس(712/16)
السابق (سنورس) فقد قرر (أن فترة الجمود التي سادت الجزيرة قد انتهت باحتلال العقبة التي أخذت مكان رابغ والوجه، وجاءت الحرب العظمى الثانية فإذا بخليج العقبة من أحسن الأماكن أماناً لتفريغ العتاد الأمريكي والمؤن والذخائر لبعده عن غارات الطائرات، وكان أن أنشأت السلطات العسكرية البريطانية خطاً حديدياً إضافياً يبدأ من مدينة معان وهي على الخط الحديدي الحجازي ويتجه إلى الجنوب مشرقاً حتى ينتهي إلى رأس النقب. ومن هناك نظراً للانحدار الشديد تعذر أن يصل القطار إلى البحر فاكتفى بإنشاء طريق معبد للسيارات أنتهى إلى ثغر العقبة
هذه كلمه أولى عن المنطقة الواقعة على رأس خليج العقبة وهي في الوقت نفسه رأس النقب إذا أطلقنا هذا الاسم على الشكل المخروطي الذي يبدأ عريضاً من الشمال ويتقارب كلما انحدر جنوباً وهو الجزء من فلسطين الواقع بين حدود مصر وحدود شرق الأردن والذي صمم الصهيونيون على استعماره واستغلاله للوصول إلى البحر الأحمر، وهم يتحدون بعملهم التاريخ والطبيعة والأقطار العربية. فما الذي أعددناه لمواجهة هذا النشاط الإنشائي؟
تبدو لي دائماً الحركة الصهيونية لأنها تحاول أن تأخذ شكلاً توسعياً جارفاً، ولكني مع هذا ألمس أنها تسير وئيداً بخطوات منظمة ومتصلة وهي حركة خطيرة لأنها لا تحمل طابع الغرور والإدعاء ولا تعتمد على الغراء والزخرفة والتشويق وإنما على الوسع والطاقة والعلم والتنظيم، وتمر الأيام فإذا بخبر من رأس خليج العقبة ينبئ بان أول منظمة يهودية لصيد الأسماك قد ظهرت على شاطئ البحر الأحمر وستكون بعد هذه الخطوة خطوات. فماذا أعددنا للعمل في هذه الناحية؟ وهل المياه الإقليمية لمصر والمملكة السعودية محروسة؟ وما هي القوه التي تحرسها في خليج العقبة في الوقت الذي تمر به أكبر الحوادث في مستقبل العالم العربي؟ لا أعرف شيئاً عن اجتماعات العرب واتجاهات الجامعة فأنا بعيد عن الحاضر أعيش في التاريخ، ولذلك انقل من كتاب بعث به السلطان صلاح الدين إلى أخيه من الأسرى الذين أتى بهم لؤلؤ إذ قال (هؤلاء الاسارى قد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها، وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها، ولو جرى في ذلك سبب والعياذ بالله لضاقت الأعذار إلى الله والخلق وانطلقت الألسن بالمذمة في الغرب والشرق)(712/17)
وتقدم الشعراء بمدح الحاجب لؤلؤ فمن ذلك قول أبي الحسن ابن الدروي.
مرّ يوم من الزمان عجيب ... كاد يبدي فيه السرور الجماد
إذ أتى الحاجب الأجل بأسرى ... قرنتّهم في طيهّا الأصفاد
بِجِمالِ كأنهن جبالٌ ... وعلوج كأنهم أطواد
قلت بعد التكبير لما تبدّي ... هكذا هكذا يكون الجهاد
حبذا لؤلؤ يصيد الأعادي ... وسواه من اللآلى يصاد
وهو شعر كما ترى يتفق مع حالنا اليوم في البيت الأخير.
أحمد رمزي(712/18)
ليس هذا هو الطريق يامسيو ديهامل!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
فرنسا تحس وتعلم غاية العلم أنها فقدت كثيراً مما كان لها في العالم العربي من أمكنة ومكانات، وضيعت كثيراً من هيبتها وسمعتها لدى العرب، وأن الثقة القديمة بالروح الفرنسي والثقافة الفرنسية أصابها كثير من الزلزلة والشك والهزال بعد تلك الصدمات التي طوحت بفرنسا وسحقتها في معترك الأقوياء الذين أحاطوا بها من الشرق والغرب، وبعد تلك المواقف غير المشرفة التي وقفتها في سوريا ولبنان ولا تزال تقفها في المغرب العربي الواقع تحت حكمها القاسي الجامد المتغافل عن تيارات الحريات التي تحيط بالناس وتفتح أعينهم على عالم جديد وتكتسح العوائق والسدود.
فرنسا تعلم ذلك وتقدر ماله من نتائج على مستقبلها بل على حاضرها وتريد أن تتخذ الحيطة للاحتفاظ بما بقى لها من تلك السمعة المتداعية ولإنمائها إذا أمكن ذلك حتى تعود إلى المكانة السامية التي لم تكن تدانيها فيها حتى إنجلترا ذات السيطرة الرسمية وذات العلاقات الوطيدة في كثير من البلاد العربية. . لكن فرنسا من سوء حظها تخطئ في التماس الوسائل إلى إعادة سمعتها ومكانتها وتصطنع تلك الأساليب السطحية التي أصبحت لا تتصل بصميم ضمير الشعب العربي ووعيه ولا ترضى طبيعته التي شبت عن الطوق ولم تعد تنطلي عليها تلك الدعايات التي تتصل بالترف الذهني والعلاقات الكمالية وإرضاء بعض الطبقات الموشكة على الانقراض في الحياة المصرية، طبقات الصالونات والأندية التي تعيش بمعزل عن غمار الحياة اليومية المصرية والقومية العربية.
فإذا كانت فرنسا تريد أن تسلك السبيل القريبة إلى صداقة القومية العربية الناهضة التي أصبحت حقيقة سياسية ملموسة يحسب لها حساب في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد، والى صداقة المصريين الحقيقيين بنوع خاص فعليها أن تلتمس لذلك وسائله العملية وتترك أمر الدعايات الكلامية والسفارات الأدبية التي تجند لها بعض مفكريها وأُدبائها كمسيو جورج ديهامل الكاتب الشهير وتحملهم مشقة السفر وعناء الرحلة والحديث المكرر المملول عن فرنسا وخدماتها للثقافة ثم لا يكون من وراء ذلك طائل كبير ولا تبقى آثاره إلا ريثما ينقضي الحفل وتنفض سوامر الصالونات ولا يرسب من ذلك شئ في أعماق المجتمع(712/19)
المصري يصح أن يكون ذخيرة أو خميره لبناء صداقه عربيه فرنسيه تخدم الحضارة وتكون عاملاً من عوامل الاستقرار والتفاهم والتوازن في البحر الأبيض المتوسط الذي يحتل العرب الجزء الأكبر منه. فعلى فرنسا إن كانت تريد عملاً لا كلاماً أمور هامة نرشدها إليها لأننا أعرف من فرنسا بما يفتح قلوبنا لها:
عليها أن تتغير أولا نظرتها (الصليبية) بالنسبة للعرب والمسلمين التي حملتها على احتقار المغاربة والعرب عموماً والتنكيل بهم، وأن تتحرر من ذلك التوجيه الحاقد الذي يستمد حقده من تلك الظلال والأشباح السوداء التي كان يثيرها المثيرون المتعصبون في القرون الوسطى على العرب ويجعلونهم أمام الجماهير حلفاء الشيطان ويتخذونهم وسيله لأثارة ذلك الشعور الذي كان يسمى (الحقد المقدس)!
ولتعلم فرنسا وخصوصاً مفكريها الذين تجندهم للدعايه، أن نظر العالم لم يعد يطيق ذلك اللون السخيف الذي يبدو في محاولات المستعمرين الفرنسيين في شمال أفريقية لفتنة البربر والعرب المسلمين عن دينهم، وضرب الحصار على أبنائهم ليحال بينهم وبين التعرف على قوميتهم ولغتهم إلى صحبتهم منذ فجر التاريخ.
إن هذا منكر غليظ ورجعيه عمياء لا تريد أن ترى طبائع الأشياء وتحاول فصل ما ربطته مشيئة الله التي نوعت الناس أجناساً ولغات لأمر عظيم على جانب من الخطر في عالم الفكر وعالم العمل!
وعلى فرنسا أن ترفع يدها عن ضرب ذلك السور الحديدي حول تونس والجزائر ومراكش، ذلك السور الذي لا يسمح لداخل غريب أن يدخل ولا لخارج أن يخرج ولا يسمح لعيون الناس أن يروا آثار حكمها السعيد! في حياة هؤلاء الأرقاء التعساء الذين ابتلوا بأن يعيشوا في أوطانهم كأنها سجون، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود؛ فإن هذا أعجوبة الأعاجيب في القرن العشرين، حتى ولو كانت هذه البلاد مستقلة استقلالا تاماً ومحكومة ذلك الحكم بأيدي فريق من أبنائها لكان ذلك النوع من ضرب الحصار الحديدي عليها أسلوباً عجيباً في هذا العصر!
وعلى فرنسا أن تقلع عن سياسة الإفقار والتجهيل التي تفرض بها البؤس والجهل على سكان هذه البلاد وتعزلهم بذلك عن حياة العالم وتفنيهم الفناء الأكبر بحرمانهم من وسائل(712/20)
العلم العصري الذي يجعلهم أبناء حقيقيين لزمانهم يساهمون في خدمة المعارف الإنسانية وفي إمداد شعلة الحضارة ومد نورها على ديارهم وهم من أذكى الناس وأشدهم جلداً على التعلم والعمل. وإذا نسى التاريخ مخازي الأمم فلن ينسى لفرنسا أنها تتخذ سياسة تجهيل المغاربة عمداً وترسم لذلك الخطط وتستفتي مفكريها ليهدوا فريقاً من الناس إلى طريق الجهالة العمياء، ويصرفوهم عن طريق المعرفة البيضاء! إن هذا أكبر عار يلحق بفرنسا، وإنه لأكبر (ارتداد) عن رسالة العلم، وإنه لجدير أن يخزي وجهها يوم يستعرض عملها أمام هيئة الأمم المتحدة وينشر عل رءوس الأشهاد في يوم آت قريب.
وإنني لا أذكر لفرنسا هذا الموقف المخزي إلا أشعر سخط الإنسانية كلها لا القومية العربية وحدها يثير في دمي القشعريرة والاشمئزاز! وعلى فرنسا أن تسير مع الزمن في علاقاتها السياسية بشمال أفريقية وأن يتطور غيرها في ارتباطاتها بالشعوب العربية التي بينها وبينها مصالح، وأن تعلم أن الفجر الدولي قد سطع على العالم وكشف أوكار الرجعية والاستبداد ولن يخفى على العيون ما تفعله فرنسا في أفريقية مهما خيل إليها أنها ستصل إلى غاياتها الظالمة في غفلة عن الرقباء، وأن تقلع عن خرافة سلخ أي جزء من المغرب ومن جسم العروبة لضمه إليها فإن ذلك لن يكون لها يوماً ما، لأنه ينافي طبيعة التكوين وحقائق السياسة العالمية الراهنة فيما مسيو ديهامل! إن كان عليك لوطنك واجب فعليك للإنسانية مثله والمفكر المخلص إنسان تملكه الإنسانية كما تملكه وثنية الوطن.
فإن كنت تريد أن تعيد مجد فرنسا لامعاً واسمها عالياً كما كان فسخر قلمك للدفاع عن الحقائق الإنسانية العليا الأبدية التي تحتل الحرية فيها مكان الصدارة واجعل فرنسا أم الحرية في زعمكم لا تنكس لواء الحرية ولا تمرغه في الوحل والدم في الجزائر ومراكش وتونس.
وإذا كانت فرنسا في حياتك - كما حاضرت المصريين - فاجعل حياتك هذه صوره مما ينشد فكرك الحر وأدبك الحار وقلبك العامر لا كما ينشد الفرنسيون الرجعيون الحاقدون والسماسرة والدجالون والجاهلون اللاعبون بالشعوب الذين لا يدركون سير الحياة بالأحياء ولا يعرفون منطق هذا العصر الذي يعيشون فيه بثياب المتحضرين وجلود الآدميين بينما قلوبهم هي قلوب القردة ووحوش الغاب. .(712/21)
وإنها لرسالة لك في فرنسا إذا أردت: أن تعود إليها رسول آلامنا من اجل بني قومنا المثخنين بجراح بني قومك! وقد أرسلتك إلينا (السياسة) التي لا قلب لها لشأن من شئونها الخادعة، فارفض أيها الكاتب ان تخدع. وعد إليها رسول الآلام الإنسانية التي عانت فرنسا مرارتها وحرارتها فترات مظلمة من الزمان البعيد قبل الثورة التي حولت مرارتها حلاوة وحرارتها نداوه، وفترة مظلمة من الزمان القريب الذي لا يزال وقع الحذاء الألماني فيه على أرض فرنسا يصخُّ آذان أحرارها!
يا مسيو ديهامل! أيها الأديب الكبير إننا هنا في الشرق ندعو أن يثور المفكرون عل الواقع السيئ الذي يسيطر عليه العوام وان تحرر الرءوس من سلطان الأقدام، والجامعات من منطق الشوارع. . لأننا نرى في هذه المدينة الحالية مدنيه الحرية والعلم نبوه شيوعية من لم يؤمن بها فقد صبأ عن الإنسانية، ومن سخرها بغير أهلية لها فقد الحد فيها، مع أننا لا نزال في دور فتح العيون على فجرها ولم نأخذ منها ما أخذتم معشر الغربيين، وليست منسوبة إلينا، بل تنسبونها أنتم إليكم. فلماذا لا تدافعون عن سمعتها وعن حقائقها دفاع أنبياء إسرائيل الشرقيين القدماء عن حقائق الأيمان والنبوات الأولى؟ لماذا لا تذوقونها بأرواحكم وقلوبكم بدل ذواقها بجيوبكم وخزائنكم؟! لماذا تجعلون رسلها إلى بلاد المتخلفين هم من السماسرة والمتغطرسين والحاقدين والمتعالين؟
إن اللوم في ذلك واقع على أرباب الفكر الذين يرون هذا ولا ينكرونه، ويرضون لأقلامهم وألسنتهم أن تسخر وراء القطيع الذي لم يدرك أمانة الفكر وحراسة شعلة الحضارة في الروح قبل الجسد.
وما أظنك ترضى لو علمت أن أربعين ألفاً من العرب الجزائريين قتلوا في (سطيف) بالجزائر، لأنهم طالبوا بحريتهم في أيام الاحتفالات بعيد النصر سنة 1945؟
إن صراخ دم هؤلاء الضحايا يجب ان يؤرق نومك ويمد قلمك بمداد من نار لتثأر من قتلة هؤلاء الأحرار الذين طالبو بالحرية التي يمجدها قلمك وأقلام أخواتك وإلا كنت غير مخلص لرسالة الفكر
وما أظنك أن يعيش خمسة وعشرون مليوناً من النفوس محرومين من عصارة فكرك وفكر أمثالك ومعارف الدنيا لأجل أن يكونوا سوائم بلهاء تحرث أرضها وتحلب ضرعها لتستولي(712/22)
عليها عصابات المستعمرين الرأسماليين في فرنسا؟
واعذرنا إذا كنا نتهكم ونسخر مما تقول ويقول أمثالك عن فرنسا وروحها الحر وميراث ثقافتها، ما دمنا نرى أن هذه كلها بضاعة تستهلك في فرنسا ولا تصدر إلى الخارج. .
هذه كلمات صادقه أردت أن تخلص إليك من بين مجاملات الصالونات، وأنا اعلم أن واجب مثلك ان يحرص على سماع الصدق الصريح.
عبد المنعم خلاف(712/23)
الأدب في سير أعلامه:
4 - تولستوي. . .!
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
غلام نابه
كان كلما اقترب ليو من أخوته سمعهم يتحدثون عن موسكو وعن الرحيل إلى موسكو فيرفع بصره إلى وجوههم يتبين هل ثمة فيها شيء من الهم لقرب هذا الرحيل؛ فإن الهم ما يبرح يهجس في خاطره منذ ان علم بقرب انتقالهم إلى موسكو؛ ولكن الغلام لا يجد في وجوههم أية أماره لذلك الذي يعتلج في نفسه من الحزن كلما تطرق الحديث إلى موسكو أو كلما وقع بصره على ما يلمح إلى الرحيل أو يشير إليه، ومن ذلك تلك السراويل الجديدة ذات الأشرطة الزاهية يقلبها أخوته بين أيديهم فرحين؛ وإنه ليشاركهم فرحهم بها وما ينقم منها إلا إنها سوف لبس في موسكو؛ فعما قريب يرحل مع أخوته ليتعلموا في تلك المدينة الكبيرة؛ وإنه ليعجب كيف يطيقوا الرحيل عن يا سنايا بوليانا فيتحدثون عن ذلك الرحيل ضاحكين مستبشرين ويقع الحديث من نفسه موقعاً أليماً.
وهل كان يطيق البعد عن ذلك القصر وعن تلك المدينة وعن هاتيك الغابات التي أحبها وألف المرح في أرجائها؟ وهل كان يطيق البعد عن العمة تاتيانا وهو لا يجد له أُماً غيرها؟ ومن ذا يكون مربيه في موسكو مكان تيودور رويسل؟ وهل هو واجد في موسكو ما يجده هنا من مسرات الحياة ولهوها؟ أيطيق ألا يرى الخدم الذين احبهم وأحبوه والخيل وكلاب الصيد التي أولع بها وأحب ان يراها كل يوم؟ ولكن ما من الرحيل بد فليس له إلا أن يصبر عليه. . . بهذا كان يتحدث الغلام إلى نفسه أو بهذا كانت تحدثه نفسه.
وحان يوم الرحيل؛ ومسح الغلام عينيه وقد انطلقت به وباخوته العربة إلى موسكو فما يجدر به أن يبكي وهو ابن ثمان، وهؤلاء اخوته حوله لا يبكون بل ليكترثون لشيء كأنما هم ذاهبون كما كانوا يذهبون بالأمس إلى الصيد في الغابة!
ونظر الغلام في موسكو إلى مربيه الفرنسي الجديد سنت توماس فإذا هو تلقاء رجل لا(712/24)
يحس في وجهه ما كان يحس في وجه تيودور رويسل من عطف ومحبه وإخلاص، وما لبث أن وجده يعنف عليه كأشد ما يكون العنف، فيحبسه في حجرته ويتهدده بالعصا، الأمر الذي أغضبه أشد الغضب وكره إليه الغلظة والعنف ونفره من العقوبة البدنية ومن صور القسوة جميعاً طيلة حياته؛ كتب بعد ذلك في مذكراته يشير إلى هذا الحادث فقال (حبسني سنت توماس أولا في حجره ثم جاء يتهددني بالضرب بعصاه، ولست اذكر الذنب ولكنه كان أمراً لا يستحق العقاب البتة؛ وعندئذ ذقت شعوراً مخيفاً هو مزيج من الغضب والاحتقار والاشمئزاز، ولم يكن ذلك نحو سنت توماس فحسب، ولكن نحو القسوة التي يتهددني بها كذلك).
وأكبر الظن أن مربيه ما فعل هذا إلا لإهماله وانصرافه عن الدرس، وعناده إذا دعاه إلى العمل؛ ولم يتجن عليه سنت توماس فهذا أحد لداته قد تحدث عنه وعن أخوته فقال: (يرغب نيقولا في التعلم ويقدر عليه، ويقدر سيرجي على العلم ولكنه لايميل إليه، ويميل ديمتري ولكنه لا يقدر، أما ليو فإنه لا يقدر) ولكن مربيه على الرغم من ذلك موقن من ذكائه ومن موهبة فيه عبر عنها بقوله (إن لهذا الغلام رأساً. . . إنه موليير صغير).
وماذا كان في رأسه يومئذ حتى يسميه مربيه هذا الاسم؟ لعل مرد ذلك إلى نفاذ عينيه إلى ما تقعان عليه، ونفاذ بصيرته إلى أفعال أخوته ولداته من التلاميذ وتفطنه إلى خصائص كل منهم، فالغلام على حداثته يقظ مرهف الحس، دقيق الملاحظة للناس وللأشياء جميعاً.
وهو وإن لم يتجاوز الثامنة بعد، تطوف بقلبه الغض عاطفة الحب، ولم يكن هذا الحب الجديد كذلك الذي يحسة نحو العمة تاتيانا أو نحو غيرها ممن أولوه مودتهم وعطفهم من أفراد الأسرة ومن الخدم، وإنما كان حباً كذلك الحب الذي قلما خلا منه قلب فتى أو فتاه في ربيع العمر؛ ويميل بعض علماء النفس إلى عد هذه العاطفة في مثل هذه السن الباكرة دليلاً على الموهبة الفنية، ولذلك يرجى لصاحبها أن يكون في غده من الأفذاذ. . .
أحب ليو تلك البنت الصغيرة التي عاشت بين أفراد الأسرة في كنف عميدها الكونت وكانت تسمى اسْلنيف، وأحب في موسكو غلاماً صغيراً من أبناء عمومته منالبوشكين، وقد بلغ من حبه إياه أنه كان ينعقد لسانه إذا وجد نفسه تلقاءه من فرط إحساسه بعاطفته؛ وكذلك أحب بنتاً لا تكبره في العمر جميلة زرقاء العينين تدعى سونشكا، وكان يشعر بين(712/25)
يديها بفيض من السرور والمودة والرفق، فإذا غابت فإن ذكر أسمها كان يملأ مقلتيه بدموع الفرح من فرط نشوته، وكانت عاطفته نحوها عميقة بالغة العمق صادقه خالصة الصدق بريئة من كل شائبة أو غرض، حتى لقد أتخذها في مستقبل أيامه مقياساً يرجع إليه إذا شاء أن يقارن بين حالات شعوره. . .
أما اسْلنيف فكان يغار عليها كأشد ما تكون الغيره، لايطيق أن تحدث شخصاً غيره كبيراً كان أو صغيراً أو تتجه حتى بنظره إليه، وكان يعسف عليها ويعصف في وجهها إذا وجد منها ما يظنه ميلاً إلى غيره حتى إنه دفعها مره من شرفه حيث كانا يلعبان وقد بلغت بها الجرأة أن كلمت غلاماً أمامه فسقطت ولحق بها العرج من جراء ذلك بضع سنين، وبعد قرابة ربع قرن من هذا الحادث شاءت الأقدار أن يتزوج ليو من ابنة هذه التي غدت سيده أنجبت بنات وبنين، وأصبحت أم زوجته فقالت ضاحكه تذكره بذلك الحادث (أكبر الظن أنك دفعتني من الشرفة إبان طفولتي لكي تتزوج بابنتي فيما بعد).
وذاق الغلام في موسكو لوعة الحزن كما ذاق فرحة الحب، فقد مات أبوه وكان في طريقه إلى مدينة تولا في صيف سنة 1837 وسقط في الطريق جسماً لا حراك به، فمن قائل انه مات بنوبة من نوبات القلب، وآخرون يهمسون أن السم أودى به على يد فلاح ممن ملكت يداه؛ ويتسلط على رأس الغلام خيال عجيب فهو يحس أن أباه حي لم يمت ولا يستطيع أن يتصور أنه مات حقاً على الرغم من أن أخاه نيقولا قد شهد دفنه في ياسنايا بوليانا؛ وإنه لينقل بصره بين وجوه المارة في شوارع موسكو يتوقع ان تقع عيناه على أبيه، وظل هذا الخيال بضعة اشهر متسلطاً عليه.
ويتفكر الغلام مره ثانيه في الموت والحياه، فقد تفكر في ذلك حين أدرك أن عمته تاتيانا ليست أمه وعلم من نيقولا بموت أمه؛ ولقد أحس يومئذ أن الموت شئ كريه مخيف، ولكنه لم يدرك كنهه، وهو كذلك يحس اليوم مثلما أحس بالأمس، وإن كان يصحب تفكيره هذه المرة شئ من التفكير والدهشة، وسيظل هذا شأنه كلما نظر في الموت حتى يجاوز الثمانين من عمره فيطويه ذلك الشيء الكريه المخيف وهو لم يعد من طول النظر في أمره بشيء.
ولم تكد تمضي تسعة أشهر على وفاة أبيه حتى ماتت جدته محزونة على ابنها؛ وجاء المربى يحمل النبأ إلى الصبية وهم يلعبون، فأنقلب فرحهم وزياطهم إلى وجوماً وسكوناً،(712/26)
وأرهف ليو أذنيه ودار بعينيه يسمع ويرى، فكم كره مرآى الحانوطية على مقربه من البيت في ملابسهم السوداء، وكم بث في نفسه الخوف رؤية التابوت بين أيديهم ووجوههم كئيبة عابسة من أثر ما يتكلفونه من الحزن؛ على أنه يطيب نفساً بما يشاهد من مظاهر العطف عليه وعلى أخوته وبما يسمع من عبارات الرثاء لهم والإشفاق عليهم وإن كان ذلك يزيد إحساسه باليتم؛ ولقد تندت عيناه ذات مره متأثرة بكلمة عطف سمعها من سيده إذ قالت لجارتها (إنهم اليوم أيتام كل اليتم فقد مات أبوهم منذ قليل، وهاهي ذي جدتهم كذلك يأخذها الموت).
وينظر الصبي إلى حلته السوداء المخططة الحوافي بخيوط بيضاء وهو يرتديها حداداً على فقد جدته وقد صنعت لهذا الغرض خاصة ويعجبه منظره في هذه الحلة فينسى بعض ما يمسه من حزن.
وللغلام في هذه السن الباكرة اشتغال بما يعد الاشتغال به من أعجب الأمور ممن كانوا في مثل سنه، وذلك هو نظره في الدين ومسائله، ولندع تولستوي نفسه يتحدث عن ذلك قال في مستهل كتابه (اعترافاتي) إني اذكر كيف زارنا ذات يوم من أيام الآحاد فيفي الحادية عشره من عمري غلام يدعى فالرمير موليتين كان في إحدى المدارس الابتدائية وراح يقص علينا ما سماه أحدث الطرائف من الأنباء ألا وهو كشف اتفق وقوعه في مدرسته، ومؤدى ذلك الكشف إنه ليس لهذا العالم إله، وأن كل ما قلناه عنه إن هو إلا محض اختراع. وإني لأذكر مبلغ ما داخل اخوتي
من سرور عند سماع ذلك، لقد دعوني إلى مجلسهم واذكر أننا جميعا شعرنا شعور النشوة لهذه الانباء، وتلقيناها كأمر سار ممتع ممكن الحدوث كل الإمكان).
وعرف الغلام منذ حداثته بقوته البدنية وحيوتيه المتوثبه، تبين ذلك من حادثة تقصها أخته ومؤداها أن أخاها انزل من إحدى العربات ذات مرة وقد توقفت عن السير لأمر ما فظل ماشيا حتى أوشكت العربة أن تدركه فاخذ يعدو عدوا سريعا كيلا تدركه واخوته في العربة يعجبون من سرعة عدوه وطول نفسه؛ ولم ينقطع نفسه إلا بعد ميلين فصعد إلى العربة وهو يلهث ولكنه يحاول أن يخفي تعبه؛ ولسوف تلازمه هذه القوة البدنية وهذه الحيوية على الرغم مما ينتابه أحيانا من أسقام وآلام حتى يطويه الموت بعد أن يجاوز الثمانين.(712/27)
وكان ليو منذ صغره مولعا بركوب الخيل، وقد تعلم الركوب في سن مبكرة على الرغم من معارضة أمه إياه في لك؛ وقد رأى أخويه اللذين يكبرانه يمتطيان جواديهما ذات يوم فما زال يلح حتى سمح له بأن يمتطي جوادا كما فعلا فإذا به بعد خطوات فوق عرفه يطوق عنقه بساقيه ويسمك بجبهته، فلما أعيد إلى حيث كان لم يبد عليه شئ من الخوف وصمم على أن يطلق العنان لجواده وانطلق به يعدو وهو ثابت فوق صهوته ومن ذلك الوقتاصبح يجيد الركوب.
وفكر الغلام ذات يوم في أمر: لم لا يطير كما تفعل الطير؟ لم لا يضع ذلك موضع التجربة؟ إنه يرى أنه مستطيع بحركة ما أن يثب طائرا فيسبح في الجو كما تسبح الطير؛ وإن في نفسه منذ صغره لميلا إلى أن يضع ما يهجس في خاطره موضع الاختبار، ولسوف يكبر معه هذا الميل فيظهر في مواطن كثيرة؛ ويشد الغلام بيديه حول ركبتيه ثم يثب من نافذة يريد أن يطير ولكنه يصحو بعد ثمان عشرة ساعة قضاها في سبات عميق فيفتح عينيه دهشا متحيرا يحاول أن يذكر ماذا كان من أمر طيرانه فيذكره ما يحس من ألم من مفاصله وأضلاعه.
ولم يقتصر شذوذه على هذا الحادث، واكثر ما كان من شذوذه ما كان يتصل باهتمامه بهيئته، ومن ذلك أنه حلق شعره ذات مرة بالموسى لعل في ذلك إصلاحاً لشكله ثم عاد فأطلق شعره حتى استطال، وعمد إلى المشط فجعل به ذلك الشعر في موضع خاص لعل في ذلك أيضاً ما يكسبه وجاهة وليظهره في هيئة المهموم المفكر على نحو ما يظهر بيرون. وعمد مرة أخرى إلى حاجبيه 17. 28 فانتزع شعرهما بملقط كي يشتد بعد ذلك نماؤه فيكسب ملامحه مظهرا عاطفيا شعريا، ولكنه لم يرجع من وراء هذا كله بطائل الأمر الذي نغص عنده العيش.
ولقد جاء في كتابه (عهد الطفولة) قوله (كنت اعلم حق العلم أني لم أك حسن المنظر، ولذلك كانت كل إشارة إلى هيئتي تسيء إلى إساءة مؤلمة، ولقد مرت بي لحظات تملكني فيها اليأس وخيل إلى أنه لا يمكن أن تتهيأ السعادة على هذه الأرض لمن كان له انف كانفي العريض وشفتان كشفتي الغليظتين وعينين كعيني الصغيرتين الشهباوين، وسألت الله أن يحدث معجزة فيجعلني وجيها فأني لأجود بكل ما هو لدي وبكل ما عسى أن اظفر به(712/28)
في المستقبل في سبيل وجه حسن).
وفي صيف 1839 شاهد الغلام في موسكو مشهدا استقر في نفسه فلم يبرحها حتى ظهر أثره في أحد أوصافه فيما بعد في قصته الكبرى (الحرب والسلم) إذ وصف موكبا من مواكب الاسكندر الأول على لسان روستوف أحد شخصيات تلك القصة، أما المشهد الذي رآه الغلام وجعله مثاله فيما كتب من وصف فهو موكب نيقولا الأول يوم زار موسكو ليضع الحجر الأول في بناء كنيسة أقيمت لتخليد ذكرى تحرير روسيا من غزو نابليون.
ولم يطل بالغلام المقام في موسكو فقد أعيد مع أخيه الصغير إلى يا سنايا بوليانا ليكونا في رعاية العمة تاتينا، وبقي الأخوان الكبيران في موسكو ترعاهما الكونتس اوستن سيكن عمتهما على الحقيقة؛ وكانت الكونتس اوستن أو عمتهما ألين امرأة تقية صالحة لله في السر والعلن وتنفق مالها في سبيل الله فلا ترد فقيرا ولا تتكره لذي حاجة، وكانت بالخدم رحيمة عطوفا تكره أن توقظهن إذا آوين إلي مضاجعهن فتعمل عملهن فينا تريد لنفسها من حاجة؛ وكان أثرها عميقا في نفس الغلام فكان يشعر نحوها من الإجلال والإكبار بقدر ما كان يشعر نحو عمته تاتيانا من المحبة، ولئن علمته العمة تاتيانا كيف تكون بهجة النفس في الحب فقد أوحت إليه ألين كيف تسمو النفس وكيف تطيب بالدين
ولكن هذه العمة قضت نحبها في خريف عام 1841 فصارت الوصاية على الاخوة جميعا لعمة أخرى هي السيدة يوشكوف زوجة أحد ذوي الثراء من الملاك في قازان، وثم فقد نقل الصبية جميعا إلى قازان فأقاموا هناك حتى ربيع 1847؛ على أنهم كانوا يقضون إجازاتهم الصيفية في ضيعتهم المحبوبة بناحية ياسنايا بوليانا.
(يتبع)
الخفيف(712/29)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
868 - العلم غني بلا مال
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن قيم الجوزية:
قال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أحمد بن أبي عمران، فمر بنا رجل من بني الدنيا، فنظرت إليه وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكرت فيما أعطى هذا الرجل من الدنيا.
قلت له: نعم.
قال: هل أدلك على خلة، هل لك أن يحول الله إليك ما عنده من المال، ويحول إليه ما عندك من العلم فتعيش أنت غنيا جاهلا، ويعيش هو عالما فقيرا.
فقلت: ما أختار أن يحول الله ما عندي من العلم إلى ما عنده، فالعلم غني بلا مال، وعز بلا عشيرة، وسلطان بلا رجال.
يقول الفقير إلى الله تعالى والغني عن الناس محمد إسعاف النشاشيبي:
يأمل آملون أن لن يكون بعد حين مترف مسرف يزهي، ولا بائس فاضل يشكو.
(وقالوا قسمة نزلت بعدل ... فقلنا ليته جور مشاع)
فقد تتبدل أحوال، وتؤول أمور خير مآل، ويصدق قول من قال:
(دوام حال من قضايا المحال ... واللطف مرجو على كل حال)
وبالدساتير المسنونة - يا أخا العرب - يقف واقفون، ويمشي القهقري أو اليقدمية ماشون. إنها الشرائع إنها الدساتير تشقى الأنام وتسعد، فارجون ولا تيأس من روح الله وعدله وتقدم هذا الإنسان (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) وفي (الكتاب): (لكل أجل كتاب).
قال جار الله في (الكشاف) عند تفسير هذا القول الكريم العظيم:
(الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب على العباد أي يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم).
وقال في موضع آخر من كشافه:(712/30)
(الله (تعالى) ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة. والله (تعالى) عالم بالمصالح والمفاسد فيثبت ما يشاء، وينسخ ما يشاء بحكمته).
869 - أثر البيئة
الحيوان للجاحظ:. . . لا ننكر أن يفسد الهواء في ناحية من النواحي فيفسد ماؤهم، وتفسد تربتهم، فيعمل ذلك في طباعهم على الأيام. . . وقد رأينا العرب وكانوا أعرابا حين نزلوا خراسان كيف انسلخوا من جميع تلك المعاني. وترى طباع بلاد الترك كيف تطبع الإبل والدواب وجميع ماشيتهم من سبع وبهيمة على طبائعهم. وترى جراد البقول والرياحين وديدانها خضراء وتراها في غير الخضرة على غير ذلك. . وقد نرى حرة بني سليم وما اشتملت عليه من إنسان وسبع وبهيمة وطائر وحشرة فنراها كلها سوداء وقد خبرنا من لا يحصى من الناس أنهم قد أدركوا رجالا من نبط بيسان ولهم أذناب إلا تكن كأذناب التماسيح والأسد والبقر والخيل وإلا كأذناب السلاحف والجرذان فقد كان لهم عجوب طوال الأذناب. وربما رأينا الملاح النبطي على وجهه شبه القرد، وربما رأينا الرجل من المغرب فلا نجد بينه وبين المسخ إلا القليل. وقد يجوز أن يصادف ذلك الهواء الفاسد والماء الخبيث والتربة الردية ناسا في صفة هؤلاء المغربيين والأنباط ويكونون جهالاً فلا يرتحلون ضنانة بمساكنهم وأوطانهم ولا ينتقلون، فإذا طال ذلك عليهم زاد في تلك الشعور وفي تلك الأذناب وفي تلك الألوان الشقر وفي تلك الصور المناسبة للقرود.
870 - ويبيع قرطيها إذا ما أعدما
تتمة اليتيمة: قد أكثر الشعراء في الحث على الاضطراب في الاغتراب لالتماس الرزق وقضاء الوطر من السفر، ومن أشف ما قالوا فيه وأشفاه قول هذا الأعرابي الشامي (أبي شرحبيل الكندي):
سر في بلاد الله والتمس الغنى ... ودع الجلوس مع العيال مخيما
لا خير في حر يجالس حرة ... ويبيع قرطيها إذا ما أعدما
871 - ما أقل الروم وأكثر المسلمين!(712/31)
تاريخ الطبري: شهد اليرموك ألف رجل، من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيهم نحو من مائة من أهل بدر، وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول: الله الله، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم، أنزل نصرك على عبادك. وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إن الجنود تكثر بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال.
872 - نعم، بلى
نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي البركات الانباري:
يحكى أن أبا بكر بن الانباري حضر مع جماعة من العدول ليشهدوا على إقرار رجل، فقال أحدهم للمشهود عليه:
ألا نشهد عليك؟
قال: نعم.
فشهد عليه الجماعة وامتنع ابن الانباري وقال: إن الرجل منع أن يشهد عليه بقوله: نعم، لأن تقدير جوابه لا تشهدوا علي، لأن حكم أن يرفع الاستفهام، ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى) لو أنهم قالوا: نعم لكفروا لأن حكم نعم أن يرفع الاستفهام، فلو قالوا: نعم لكان التقدير نعم لست ربنا، وهذا كفر، وإنما دل على إيمانهم قولهم: بلى، لأن معناها يدل على وقع النفي، فكأنهم قالوا: أنت ربنا، لأن أنت بمنزلة التاء التي في لست.
873 - مخيريق خير يهود
سيرة النبي لعبد الملك بن هشام:
كان مخيريق أحد بني ثعلبة بن الفطيون حبرا عالما، وكان غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بصفته وما يجده في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد - وكان يوم أحد يوم السبت - قال يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال لا(712/32)
سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما بلغني يقول: (مخيريق خير يهود) وقبض رسول الله أمواله، فعامة صدقات رسول الله بالمدينة منها.(712/33)
صرخة من عيون الشعر في آذان المسلمين:
في حيرة البيد. . .
(بمناسبة المولد النبوي)
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
قد اهتدت بك في البادين صحراء ... فرقَّ في صفحتيها الظل والماء
تلك الهواجر في البيداء محرقة ... كأنها شعلة بالنار حمراء
لا تستقر على خير ضمائرها ... ولا ترف لها بالنور سيماء
سبيلهم كلها بالشوك عاثرة ... وأرضهم كلها صخر وحصباء
حار الأدلاء فيها وهي موحشة ... فضلَّ رأدَ الضحى فيها الأدلاء
للشرك فيها ترانيم مضللة ... وللطواغيت صيحات وأصداء
كأنهن نعيب البوم في وطن ... تهدمت فيه أركان وأرجاء
الليل في البيد مرهوب جوانبه ... والصبح مثل الدجى ريح وأنواء
في أمة قد أقام الله ألسنها ... لكنها عن جلال الحق خرساء
ياعاكفين على الأوثان مظلمة ... هل عندكم من جميل الصبح أنباء؟
الركب في البيد قد ضلت مسالكهم ... فكلهم فِرَق فيه وأهواء
هم ظامئون إلى ماء وأين لهم ... وفي السراب ضلالات وإغواء
هم واردون إلى وهم إذا ظمئوا ... وصادرون عن الرمضاء إن فاءوا
جاءوا وراحوا فما قرت رواحلهم ... هل ترحم البيد من راحوا ومن جاءوا؟؟
تلك البلاقع من ندَّى حواشيها ... فأصبحت وهي للبادين خضراء؟
فيهن للجائع المحروم منتجع ... خصب وللظامئ الصديان إرواء
بان الطريق على السارين مؤتلفاً ... كأنما ضوأت بالوحي (سيناء)
يا هائمين على الصحراء مغفرة ... لا تجزعوا!! إن أرض الوحي صحراء!
تلك المهامه في البيداء قد خضرت ... وأخصبت صفحتاها وهي جرداء
من فجر الماء فيها وهي مجدبة ... وأنبت الروض فيها وهي صماء؟(712/34)
ومن طوى الريح منها وهي عاصفة ... ونفَّس الصبح فيها وهي ظلماء؟
يا بانيا فوق أصنام مهدمة ... لا بدع إنك هدام وبناء
قد كان للهدم والإنشاء معولكم ... وإنما المجد تهديم وإنشاء
قر الحيارى على كفيك وانتظموا ... وحُررت بك في البيد الأرقاء
وأُغليت قيمة الإنسان في زمن ... ما كان فيه لسعر المرء إغلاء
هاجرت لله في أرض منورة ... لما جفاك على الأرض الأوداء
وقد يكون من الأدنين من بعدوا ... فلا تصح لهم قربى وإدناء
المسلمون حيارى اليوم في زمن ... لا تنفع النفس فيه وهي عزلاء
سبيلهم فيه يا مولاي عاثرق ... بهم، وخطتهم في الحق عوجاء
فلا تبين لهم في الجو معلمة ... ولا تلوح لهم في الأفق أضواء
لهم يد عن بناء المجد عاجزة ... وأرجل عن سبيل الحق عرجاء
فهل لهم أسوة فيما نهضت به ... وهل لهم في (ابن عبد الله) إيحاء؟؟(712/35)
الأدب والفن في أسبوع
مؤتمراتنا الثقافية
وافقت وزارة الخارجية اللبنانية على ما قررته اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية من عقد مؤتمر ثقافي بلبنان في فصل الصيف المقبل، وهذا هو المؤتمر الثاني من نوعه، فقد سبق أن عقد المؤتمر الأول بدمشق في العام الماضي على ما أذكر.
وكذلك وافقت الحكومة اللبنانية على عقد مؤتمر الصحافة العربية بلبنان في الصيف المقبل على أن تتكفل بنفقات المؤتمر والمؤتمرين.
والذي يعنينا من هذا أن نسجل هذه الظاهرة الطيبة التي تؤدي إلى توثيق التعاون الثقافي بين الأقطار العربية، وإذا ضممنا إلى هذا ما يجري كل عام من عقد مؤتمر عربي للمحامين، وآخر للأطباء ازداد تقديرنا لهذه الظاهرة الطيبة، وتفاءلنا بذلك الشعور العميم الذي هو ثمرة من ثمرات اليقظة الفكرية، ودعامة من دعامات الجامعة العربية. فإن اللغة العربية لا شك أقوى مقومات الجنسية العربية، وهي الأساس لما يتفرع عنها من مقومات الدين والتقاليد والتاريخ والاختلاط بين أبناء العروبة في شتى الأقطار، ونحن إذ نبارك هذه المؤتمرات ونحث على التوسع فيها نرجو أن تكون سريعة الأثر والتأثير، وأن لا تطاول الزمن فيما تهدف إليه من المقاصد والغايات، وأن لا تتناول الأمور على الوضع الذي يجري في اللجان الحكومية، فإننا كما هو معلوم في عصر السرعة الخاطفة، فلا سبيل إلى السير إلا بالقفز والتوثب، والجرأة والإقدام. .
في ذكرى الأفغاني
منذ شهرين أهبنا بأبناء الشرق العربي ورجال الجامعة العربية أن ينهضوا للاحتفال بذكرى باعث الشرق المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني بمناسبة مرور خمسين عاما على وفاته، وقلنا إن أقل ما يجب في هذا الشأن أن يحتشد أبناء الشرق العربي في إقامة مهرجان لذلك الرجل يستمر أسبوعا على أن تتولى رعاية هذا المهرجان الجامعة العربية وتشارك فيه سائر الجمعيات العلمية والهيئات الثقافية. قلنا هذا منذ شهرين ولم يبق على يوم الذكرى إلا أيام، وكل ما تحركت له الهمم أن تألفت لجنة من حضرات السادة: محمد علي علوبة باشا والدكتور عبد الوهاب عزام بك والشيخ محمود شلتوت ومحمد صلاح(712/36)
الدين بك وعزيز خانكي وإسماعيل مظهر ومحمد خالد للاحتفال بهذه الذكرى، على أن هذه اللجنة لم تحدد برنامجها بعد.
ونحن إذ نشكر لهؤلاء السادة غيرتهم ووفاءهم نعود فنسأل: وأين الجامعة العربية، وأين الأزهر، وأين جامعتا فؤاد وفاروق، وأين جمعية الشبان المسلمين، وجمعية الإخوان المسلمين، وأين المجمع العلمي العربي في دمشق والجماعات التي لولا الأفغاني لما كانت ولما تيقظت الضمائر لإقامتها إلى اليوم؟!
أن الشرق العربي في موقف هو أشد ما يكون حاجة فيه إلى التذكير بالأفغاني وبتعاليمه في الحرية والإباء والنضال عن الكرامة، ونحن إذ نذكر الأفغاني لا نكبره، فقد استوفى مكانته من تقدير التاريخ، ولكنا نكبر أنفسنا، وندل على أننا أوفياء نقدر الجميل لصاحبه، ونعرف فضل آبائنا فيما أسدوا إلينا وأجدوا علينا.
وآسفاه! لقد كانت آخر صيحة للأفغاني في حياته تلك الصيحة الأليمة اليائسة إذ يقول: (إن المسلمين قد سقطت هممهم ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم، وهو شهواتهم). فهل لا تزال هذه الصيحة كلمة حق، وهل لنا أن نلقي بها في وجه أولئك الجاحدين الناسين، إننا والله نرجو أن لا يكون ذلك.
لغة. . . وأسلوب!
طالعت هذا الأسبوع في مجلة أدبية تصدر في بيروت مقالا لأديب بعنوان (عودة بتهوفن) استهله بقوله:
(عند الشاطئ المغناج، وفي المنحنى البعيد، وخلف تلك الخواطر والخيالات. . . أصابع بتهوفن. . .)
(في عيون سمار الليالي، ومهج السكارى الشاعرين، وحلق العصافير، وبحات النهور، وندب القصب. اختلاجات ودوسات بتهوفن. . .)
(في حرير النسمات، ومجاري العبرات، يقطن بتهوفن ليستحم في كل عين ويجفف جسمه في كل جفن ورمش. . .)
والمقال كله من هذا القبيل، حروف عربية وكلمات عربية أيضا، ولكنك لا شك حائر معي في فهم هذه اللغة وفقه هذا الأسلوب.(712/37)
وأنا رجل والحمد لله قد درست العربية، ووقفت عليها حياتي، واستوفيت ما كتبه علماء البلاغة والنقد في فهم الأساليب، وإدراك أسرارها، ولكني أشهد الله عاجز كل العجز عن فهم هذا الأسلوب المعجز، الذي لا أول له يعرف، ولا آخر له يوصف. . . فيا ضيعة العمر والجهد، إذ أجدني بعد طول ما بذلت وأفنيت عاجزا عن فهم مقال في صحيفة أدبية. . .
ولا أكتم القارئ أني سألت صديقا لبقا أن يعينني على فهم هذا الأسلوب، فقال لي الصديق الماكر: حسبك يا أخي فإنه أسلوب الصم البكم، وفيه ما يسميه البلاغيون (بمراعاة النظير) فقد كان بتهوفن على ما يروون أصم وكانت كل عبقريته في اللحن، فكان من براعة الكاتب أن تحدث عنه بهذا الأسلوب الأصم الملحون. . .
هذا ما قاله الصديق والعهدة عليه، ولكني والله ما زلت حائرا في فهم هذا الأسلوب (المعجز) الذي يكتب به إخواننا الذين يعيشون في (تل من الخواطر والخيالات).
وآخر بريطاني!
في الأسبوعين الماضيين وصل إلى مصر مسيو ديهاميل الأديب الفرنسي الكبير كما عرف القراء مما كتبنا عنه وقام بإلقاء سلسلة من المحاضرات في الأحاديث عن الثقافة الفرنسية وما أدت من خدمات للشرق العربي، ثم طار في نهاية الأسبوع الماضي إلى الجزائر لإتمام رحلته في أداء مهمته. وفي هذا الأسبوع وصل إلى مصر الأديب الإنجليزي الكبير مستر ريموند مورتا يمر لإلقاء سلسلة من المحاضرات في القاهرة والإسكندرية وأسيوط عن الأدب في العصر الفكتوري، وعن الرواية في الأدب الإنجليزي الحديث، ويقولون إنه بعد أن يفرغ من أداء هذه المهمة سيطير هو الآخر إلى قبرص لإلقاء سلسلة محاضرات هناك. .
وأنا أعرف أن الأدب لا وطن له، وأن مودة الفن والثقافة أكبر وأعظم من أن يحدها وضع جغرافي، ولكني أعتقد أيضاً أن القارئ لا يطيق أن يلقى بالا لأديب يبغضه ويمقته، ولا شك أن هؤلاء الدعاة الذين يتوافدون علينا لتزجية الأحاديث الأدبية والثقافية يقدرون هذا، ويقدرون أننا في موقف نضال عن حريتنا وكرامتنا التي يأبى الاستعمار الإنجليزي والفرنسي إلا تقييدها وإذلالها، فليس من المعقول أن يطربنا الأديب الإنجليزي الكبير(712/38)
بأحاديث الأدب في العصر الفكتوري، والرواية في الأدب الإنجليزي الحديث. لأن أحاديث مستر بيفن الاستعمارية لم تترك لذلك مكانا في قلوبنا وعواطفنا. .
أجل! لقد كنا نود أن نستمع لأحاديث الكاتب الإنجليزي الكبير، ولكن الاستعمار الإنجليزي قد سد آذاننا، فليس الذنب ذنبنا.
(الجاحظ)(712/39)
رسالة النقد
حول كتاب (الرسالة الخالدة)
بين معالي عبد الرحمن عزام باشا والأستاذ محمد بهجة
الأثري
(كان الأستاذ محمد بهجة الأثري الأديب العراقي قد بعث من
بغداد الى معالي عبد الرحمن عزام باشا برأي حول مسألة
هامة وردت في (الرسالة الخالدة) هي مسألة تصرف عمر بن
الخطاب رضي الله عنه في أرض السواد بالعراق تصرفاً
جديداً وكانت الرواية التي اطلع عليها عزام باشا وأستشهد بها
لم تذكر جانباً تاريخياً هاماً في النظر إلى المسألة. ولذلك لما
ذكرها له الأستاذ الأثري في كتاب خاص آثر أن يوجه النظر
إليها بنشرها تعميماً لمعرفة الحقيقة وهذان هما كتابا الأستاذ
الأثري وتعقيب عزام باشا عليه):
حضرة صاحب المعالي الجليل الصديق الكريم الأستاذ عبد
الرحمن عزام باشا:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فإن توفيق الله إياك لكتابة (الرسالة الخالدة) تجلو بها (رسالة الله الواحدة الخالدة على الزمن)، وتدعو العالم الجديد إلى الاقتباس من هداها في الاجتماع والسياسة والحرب والسلم والعلاقات الدولية لإزالة أسباب الاضطراب العالمي وإمداد الحضارة بسند روحي وإقامة(712/40)
نظام عالمي جديد لنعمة من نعنه التي أسبغها سبحانه عليك وأنت لها أهل أراك خليقا بأن تستزيدها بالشكر وتستديمها بالحمد والثناء؛ ومظهر لما توسمته فيك من سمو الذات وجلال التفكير منذ سمعتك لأول مرة تخطب ليلة افتتاح المؤتمر الإسلامي العام تحت قبة المسجد الأقصى (ليلة 27 رجب 1350هـ)، ثم لم تزدني صلاتي بك بعد في القدس والقاهرة وبغداد إلا يقينا بما توسمت وتفرست، ووثوقا بكرم العنصر الذي يتمثل في شمائلك وأدبك وفضلك وفي علاقاتك الخاصة والعامة وفي مساعيك الجليلة في سبيل العروبة والإسلام التي توجنها بتأليف هذه الرسالة الخالدة وجعلتها الطغرى في جبينها الأبيض النقي النزيه. ومن أولى منك بأن تنبثق من ذهنه الوقاد هذه الفكرة السامية، وتجول براعته في أشرف ميدان من ميادين الأبحاث الجدية الرفيعة، وأنت الشاغل لمقام أمانة جامعة الدواة العربية بجدارة واستحقاق، وأنت السياسي الأمين والكاتب المفكر الذي تعلق ذهنه بالمثل العليا فاحتذاها وشغل نفسه بالدعوة إليها، وأحب الخير فتمثله وسعى جهده لإيصاله إلى الناس في صدق ونخوة وإخلاص؟
إن كتابك - يا صديقي الكريم - كتاب الموسم، بل رسالة العصر ألم بحالة الشذوذ والاضطراب التي سادت العالم في أثناء الحرب الأخيرة، فكشف عن أسبابها وبواعثها ووصف لها العلاج الشافي بما وجده في صميم رسالة الله الخالدة إلى رسله وأنبيائه وما انتهت إليه من أطوار الأنظمة العالمية في الشريعة المحمدية الغراء في السياسة والاجتماع والحرب والسلم والعلاقات بين الدول والشعوب والطبقات والأفراد يمدها سند روحي لا بد منه لعالم جديد متجه نحو دولة عالمية واحدة تباركها يد الله ويرعاها رضاه على حد تعبير الرسالة.
وليس يعوزه لاستكماله أسباب فوائده وتعميمها حتى يتكون به رأي عالمي أو شبه عالمي إلا نقله، بعد اجالة القلم في بعض نواحيه إلى اللغات العالمية الغربية والشرقية؛ ليتداوله أكبر عدد ممكن من القراء، ويعيه من لا عهد له بموضوعه من المسلمين وغير المسلمين، ولا يزال الخير في الناس إلى يوم القيامة، ولكن الدعاة العالمين إليه قليلون، ولا أدراك إلا فاعلا إن شاء الله.
وبعد فقد وقعت في الكتاب على أمر أخالفك فيه كل المخالفة ولا أخالك إلا حريصا على(712/41)
مكاشفتك به ثم جادا في إصلاحه إذا وقع منك موقع القبول.
ذلك أنني في أثناء تصفحي السريع للكتاب مررت بجملة خطيرة تكررت على سبيل التوكيد ثلاث مرات في صور متعددة، وسرعان ما رأيت من آمن بها من الباحثين - بله عامة القراء - كصديقنا الفاضل الأستاذ عبد المنعم خلاف، إذ أوردها في عرضه للكتاب في مجلة الرسالة (ع699س14ص1322) على سبيل الإقرار والتأييد والإعجاب، وهي في رأيي بعيدة عن الصواب، وإقرارها يفتح منفذا إلى الإسلام يهدمه من أصوله وأنت يا سيدي لا تريده بحال من الأحوال.
قلت في (ص128): (وحيثما كان العدل فثم شرع الله ودينه، فإذا فرض أن هذا العدل يقتضي أمرا لا نص فيه ولا أثر شرعيا فعليه أن يجتهد برأيه).
هذا صحيح لا غبار عليه، ولا جدال فيه، ولكنك لما مثلت له أتيت بمثال عملي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن مطابقا لما قصدت له من التوضيح للقاعدة المذكورة ذلك هو عمله حين أريد على قسمة أرض السواد، فأبى إلا بقاءها بأيدي أهلها، وضرب عليها الخراج. لقد ذهبت إلى أنه عمل ذلك برأيه، وترك ظاهر النص القرآني (ص129)، ثم استحسنت منه هذا التصرف في موضعين من بعد، فقلت في (ص130): (هذا مثل من تصرف تلميذ الرسول وخليفته في أمر جاء به نص، وهو نفسه يسلم بهذا النص. . .)، وقلت في (ص131): (وعليه فالدولة الإسلامية التي يكفل فيها الإمام التوازن الاجتماعي والتي تقوم على قوله تعالى: (وزنوا بالقسطاس المستقيم) والتي أخذ فيها برأي عمر رضي الله عنه في ظرف ما وعدل به عن ظاهر النص القرآني عدولا مبرره المصلحة العامة. . .).
وهذه الأقوال، على اختلاف صورها، تتضمن أشياء منها ما يتعلق بالقاعدة المذكورة في ص128، ومنها ما يتعلق بشخص عمر ومواقفه من النصوص الشرعية، ومنها ما يتعلق بالمصلحة المرسلة والتحسين والتقبيح العقليين، ومنها ما يتعلق بحقيقة المثال وكيفية تصرف عمر في المسألة: هل هو ضمن النص أولا. وإني ذاكرها على الوجه الذي أراه تبيانا للحق في هذه المسائل ووضعا له في نصابه منها.
فأما ما يتعلق بالقاعدة، فهذه المسألة على الوجه الذي ذكرته أو على حقيقتها التي سأوردها،(712/42)
لا تنطبق عليها؛ لأن القاعدة هي إباحة الاجتهاد للإمام في أمر يقتضيه العدل لا نص فيه ولا أثر شرعيا، والمثال إنما هو في أمر جاء به نص من كتاب الله، ولكن الإمام فيما ترى تصرف به خلافه وهو نفسه يسلم بهذا النص! فالقاعدة شيء، والمثال شيء آخر، ولا صلة جامعة بينهما
وأما ما يتعلق بتصرف عمر رضي الله عنه في أمر جاء به نص في كتاب الله، وتركه هذا النص وعدوله عنه إلى رأيه، كائنة ما كانت أسبابه، فأقول: إن هذا لأمر إد منكر ينزه عمر منه، وقد أجمع المسلمون على أنه لا اجتهاد في مورد النص، وإنه ليفتح منفذا إلى الإسلام يهدمه من قواعده، ويجعل القرآن مهجورا، وحينئذ تبطل الحاجة إليه والى الدعوة إلى اتخاذه أساسا للعالم الجديد المنشود. وهذا الرأي فيما أرى يرجع في حقيقته إلى مذهب أهل التحسين والتقبيح العقليين، ومحصول مذهبهم كما قال الشاطبي تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث أن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه.
وأنا أجلك يا سيدي من تصور ذلك فضلا عن إرادته. وإنما التبس الأمر في الموضوع بين المصلحة المرسلة الشرعية والتحسين والتقبيح العقليين، فكان هذا الذي نراه من القول، وهو قول ينبغي تحريره في ضوء القاعدة المذكورة في ص128 ومباحث المصلحة المرسلة التي تبسطت فيها كتب أصول الفقه ونحوها، ومن أحسن ما قرأته فيها ما كتبه الشاطبي رحمه الله في كتاب الاعتصام، وهو مطبوع بمطبعة المنار بمصر. وفي هذا الكتاب يقول الشاطبي: (إن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا، ضلال. . . وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره). وضرب لذلك أمثلة من وقوف كبار الصحابة فيما يعرض لهم من النوازل عند حدود النصوص، وإذعانه لطاعة الله ورسوله دون أن يعبئوا برأي من رأى غير ذلك، منها مسألة السقيفة، وقتال مانعي الزكاة، وبعث أسامة. ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان من أكثر القوم انصياعا إلى نصوص القرآن وأشدهم طاعة لرسول الله، بذلك عرف واستفاضت عنه الروايات، حتى وصفوه بأنه (كان وقافا عند كتاب الله).
ففي الصحيح عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال: جلس إلى عمر في(712/43)
مجلسك هذا قال: هممت أن لا أدع صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين؛ قلت: ما أنت بفاعل قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك. قال: هما المرآن أقتدي بهما - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عينة بن حصن حين استؤذن له على عمر، قال فيه. فلما دخل، قال: يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه. فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله قال لنبيه عليه السلام (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله.
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة عن وقوفه عند الكتاب والسنة، مما لا أريد أن أثقل على طبعك بروايته، وفيما سأورده من القول في حقيقة مسألة تقسيم السواد نفسها مثال آخر أيضاً من أمثلة التزامه حدود كتاب الله؛ لعلمه أن ما جاء به القرآن هو العدل المطلق الذي لا يعقل أن يكون وراءه عنده أو عند أي إنسان آخر عدل أسمى منه بحيث يسوغ له أن يعدل به عن ظاهر النص القرآني أو يتركه لأجله وهو نفسه يسلم بالنص!!
وأما حقيقة مسألة السواد والنزاع الذي قام من أجل تقسيمه أو عدمه بين عمر بن الخطاب وبعض الصحابة حتى وفق للاستناد إلى نص القرآن فسكتوا ورضوا، فهي مذكورة في كتب التفسير والحديث والأموال، ومنها كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة (ص28الى32)، وهو يورد حجة عمر من كتاب الله نصا، ويعلق عليها أجمل تعليق، وأحسب يا صديقي أنك منه نقلت ما نقلت، لتماثل العبارتين، ولكنني أعجب كيف اقتصرت على الجانب التاريخي من المسألة، وأهملت الجانب الديني منها وبه استدلال عمر بالقرآن على صحة ما يذهب إليه من الامتناع من القسمة، حتى رأيت أنه يصح لك أن تقول: إنه عدل برأيه عن ظاهر النص القرآني مع أنه إليه استند والصحابة الذين نازعوه لم يسكتوا ويرضوا حتى أدلى لهم بحجته الناصعة من كتاب الله؟
واليك أسوق حجته التي قالها لمخالفيه كما أوردها أبو يوسف قال: قال عمر رضي الله عنه: إني قد وجدت حجة، قال الله تعالى في كتابه: (وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء(712/44)
قدير) حتى فرغ من شأن بني النضير. فهذه عامة في القرى كلها. ثم قال (وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى اليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب) ثم قال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: (والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). فهذا فيما بلغنا والله أعلم للأنصار خاصة، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم) فكانت هذه هي عامة لمن جاء من بعدهم. فقد صار هذا الفيء بين هؤلاء جميعا، فكيف نقسمه لهؤلاء، وندع من تخلف بعدهم بغير قسم؟ فأجمع على تركه وجمع خراجه.
قال أبو يوسف رحمه الله: والذي رأى عمر رضي الله عنه من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها عندما عرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك توفيقا من الله كان له فيما صنع وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم. . .).
وفي كتاب (الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلام:
قال أبو عبيد: فقد تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين:
أما الأول، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، وذلك أنه جعلها غنيمة، فخمسها وقسمها. . .
وأما الحكم الآخر، فحكم عمر في السواد وغيره، وذلك أنه جعله فيئا موقوفا على المسلمين ما تناسلوا، ولم يخمسه، ولم يقسمه. . .
قال أبو عبيد: وكلا الحكمين فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفئ، إلا أن الذي أختاره من ذلك أن يكون النظر فيه إلى الإمام كما قال سفيان. وذلك أن الوجهين جميعا داخلان فيه. وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم براد لفعل عمر، ولكنه صلى الله عليه وسلم اتبع آية من(712/45)
كتاب الله تبارك وتعالى فعمل بها، واتبع عمر آية أخرى فعمل بها، وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين، فيصير غنيمة أو فيئا. قال الله تبارك وتعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فهذه آية الغنيمة، وهي لأهلها دون الناس، وبها عمل النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله عز وجل: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول. . .) فهذه آية الفئ، وبها عمل عمر، وإياها تأول حين ذكر الأموال وأصنافها، فقال: (فاستوعبت هذه الآية الناس) والى هذه الآية ذهب علي ومعاذ حين أشار عليه بما أشار فيما نرى، والله أعلم.
وكذلك قال سائر العلماء، من مفسرين ومحدثين وفقهاء، ولو ذهبت أروي أقوالهم في التزام عمر النص في هذا الموضوع وسواه وأنه لم يتركه ولم يعدل عنه إلى رأيه أو رأي غيره من الرجال وأن الصحابة كلهم كانوا على هذه الطريقة لم ينزع منهم نازع إلى مذهب التحسين والتقبيح العقليين، لأمللت السامع وثقلت عليه
وبعد، أفلا ترى يا سيدي بعد هذا وذاك، وأنت الملتمس للحق والداعي إليه، أن تتلافى ما كتبته في هذا الشأن بالتصحيح والتنبيه، لئلا يتابعه الناس كما تابعه صديقنا الأستاذ عبد المنعم خلاف؟
على أن الذي يعنيني من أمر عمر رضي الله عنه وتصحيح ما ينبغي تصحيحه من الرأي العارض فيه، ليس بأكبر مما يعنيني من تصحيح جملة القول الذي يتعلق بإباحة ترك النصوص القرآنية لآراء الرجال بدعوى مسوغات المصلحة العامة، لما يترتب على هذا من تعطيل الشريعة وإبطالها؛ فأية مصلحة عامة هذه يهتدي إلى تحديدها البشر ذوو المصالح المشتبكة المتعارضة والنوازع الضيقة الحرجة، ولا يهتدي إليها خالق البشر وهو المنزه عن تلك النقائص، الذي لا يريد لعباده إلا ما يضمن لهم مصالحهم على خير الوجوه؟ إن ما استحسنته من ذلك يا سيدي إنما يدخل في باب التحسين والتقبيح العقليين، وحقيقة ما أردته إنما هو ما يسمى المصلحة المرسلة بلسان الفقهاء والأصوليين، ولكنه اختلط هذا بذاك وجرى البحث إلى غير وجهته. فيا حبذا لو حررت الموضوع ثانية، وأقمت حدا فاصلا بين ما يسمى المصلحة المرسلة وهي شرعية، وبين ما يسمى التحسين والتقبيح(712/46)
العقليين وهو بدعى هادم للشريعة لا يقول به إلا من يريد أن يأتي على الإسلام من قواعده، وأنت بحمد الله من بناته وحفظته الأقوياء المخلصين.
هذا وإني مرسل رسالتي إلى معاليك ولك أن تحتفظ بها أو أن تنشرها بنصها وفصها تنبيها إلى أمر خطير لا يصح إهماله وإغفاله، وإني معتقد اعتقادا جازما بأن من يكتب مثل (الرسالة الخالدة) ويسمو هذا السمو في الدعوة إلى إقامة نظام عالمي جديد أساسه الدعوة المحمدية في مختلف الشؤون الإنسانية، لا يعنيه فيما يكتب ويدعو إليه إلا الحق، ولا يعيش في دنياه إلا لأخرته. بارك الله لك في مساعيك، ورعاك بعنايته ورضاه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته من أخيك المخلص الأمين:
محمد بهجة الأثري
عزيزي الأستاذ الكبير السيد محمد بهجة الأثري:
السلام عليكم ورحمة الله وبعد. فقد تلقيت كتابكم الكريم، وأشكر لكم تقديركم (للرسالة الخالدة) وجميل ثنائكم ونقدكم الخالص لوجه الله والإسلام والصداقة، ذلك النقد الذي أقدره كل التقدير وأعلم ما فيه من غيرة مشكورة على الكتاب والكاتب.
وإني حين ذكرت قصة تصرف عمر رضي الله عنه في أرض السواد تصرفا جديدا لم يسبق إليه، لم أرد ما تبادر إلى فهمك من أني ضربته مثلا لترك النص القرآني بناء على مذهب التحسين والتقبيح العقليين وتحكيمه في دين الله، وإنما أردت أن أعرض مثلا من اجتهاد الإمام في فهم النصوص وعدم وقوفه عند ظاهرها ما دام أمامه طرق لفهم جديد معلل بمصلحة عامة فيها نفع محقق للدولة والأمة، وذلك لأضع أمام الغرباء عن فهم حقيقة الشريعة الإسلامية مثلا من مرونتها واتساع مدى الرأي والتعليل فيها وصلاحيتها أساسا للتشريع في الفرعيات التي تحدث وتتجدد بتجدد الأزمنة والأقضية وألوان حياة الناس، حتى لا يستمر انسياق كثير من الناس فيما انساقوا إليه من توهم وقوف الشريعة الإسلامية لا تتكيف ولا تتسع للتطبيق المعقول.
وإن الرواية التي ذكرتها أنا في المسألة نقلا عن كتاب التشريع الإسلامي للمرحوم الشيخ الخضري قد ذكرت الجانب التاريخي والجدل العقلي بين عمر ومخالفيه فيما رأى من(712/47)
تخميس الأموال وتقسيمها بين أهلها وإخراج الخمس وتوجيهه وحبس الأراضي بعلوجها ووضع الخراج عليهم فيما مع الجزية الشخصية، ولم تذكر استدلال عمر بالآيات التي تلي آيتي الفئ من سورة الحشر كما روى أبو يوسف في كتاب الخراج وكما ذكرت في كتابك إلي.
أما وقد روى أبو يوسف اعتماد عمر فيما ذهب إليه على فهم لهذه الآيات فقد صار للمسألة بذلك وجه آخر. ولم يخطر ببالي قط أن عمر رضي الله عنه يرى نصا قرآنيا لا يقبل التأويل ثم يخالفه، فعمر هو ما هو صدق إيمان وإذعانا لأوامر الله. وأخيرا أكرر لك شكري وتقديري مع فائق التحية.
المخلص
عبد الرحمن عزام(712/48)
البريد الأدبي
فقيد العلم والإسلام:
قضى بموت الفجاءة مساء يوم السبت الخامس عشر من هذا الشهر فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق شيخ الجامع الأزهر، فكانت الفجيعة بموته أليمة قاسية أرمضت النفوس، وأوجعت القلوب، وساد الحزن عليه جميع الأوساط والأقطار. فقد كان الفقيد - رحمة الله عليه - مثالا للفكرة المستقيمة، والحكمة المهذبة، والإنسانية النبيلة، وكان كل هذا سجية في طبعه وغريزة في نفسه، فقد نشأ في بيت عريق الثراء والجاه، واتصل في أدوار حياته بمجالي النشاط السياسي والنضال الحزبي، ولكنه نشأ وعاش على طبيعة الخير وفطرة السماحة؛ فدرس في الأزهر جامعة الشعب، وسافر إلى فرنسا للدراسة، ثم عاد منها لا ليطلب منصبا يوازي جاهه ومكانته بل ليجلس مجلس الأستاذ يفيد تلاميذه في الأزهر وفي الجامعة، وهكذا عاش طول حياته محبا للحكمة، قريبا من النفوس؛ ولقد تقلد المناصب الكبيرة. فعين وزيرا للأوقاف ثم شيخا للأزهر، ولكنه لم يتغير ولم يتبدل.
لقد كان الشيخ مصطفى عبد الرازق رجلا نبيلا فلاقى ربه بهذه الميتة
النبيلة، ولقد رأى الناس نعشه محمولا على الأعناق، ورأوا الألوف
تحتشد لتشييعه والعزاء فيه، ولكنهم لم يصدقوا أنه مات، ولم تستطيع
أذهانهم أن تحتمل تلك الصورة الرهيبة، فيعتقدوا أن الموت طواه كما
يطوي سائر الناس. . .
لن يموت الشيخ مصطفى عبد الرازق، ولكنه سيظل صورة شاخصة ومثالا حيا في أذهان تلامذته ومريديه، وفي نفوس إخوانه ومحبيه، وفي قلوب أولئك الذين ملأ قلوبهم بفيض إنسانيته، وكرم سجيته، وما أفاء الله عليه من فضل عميم.
لقد كان الشيخ مصطفى عبد الرازق عالما فاضلا، وحكيما مهذبا، وأديبا أريبا، وكم له من مشابه في هذا بين الناس، ولكنه كان إنسانا نبيلا لا يشبهه في هذا إلا القليل من الناس، وحسبك برجل لم تحسب له طول حياته فعلة نابية، أو كلمة شاردة أو إساءة قدمها. بل أضمرها، ولكنه عاش طول حياته يزرع الخير في كل مكان. فلا شك أن الفجيعة بموته(712/49)
إنما هي فجيعة لأهل الخير الذين يؤثرونه والذين يطلبونه. . .
ونحن اليوم إذ نعزي العالم الإسلامي في موته، والعلم في فقده، نرجو أن نعود لوفائه حقه من الحديث المستفيض في شتى نواحي حياته وإنسانيته. أسكنه الله فسيح جناته، وأسبغ عليه عميم رحماته.
مرحى توفيق الحكيم!
مرحى يا صديقي الكاتب الكبير! وتهنئتي لك على تحرر قلمك الموهوب وخلوصه لأمتك التي تحتاج إلى فنه وقوته في هذا الدور من تاريخها مسيس الاحتياج. . أمتك العربية الكبيرة لا مصر وحدها.
ومن حقك على أن أسجل لك هذا الموقف المشرف في مقالك (عطور وخمور وفكر) الذي نشرته بالعدد الماضي من (أخبار اليوم) والذي نال من الدعاية الفرنسية ومحاولتها تجديد خديعة مصر عن واجبها إزاء أبناء عمومتها في شمال أفريقية، ما لم ينله مقال آخر، من حقك على أن أسجل لك هذا بعد ما أنحيت عليك بلوم مر على صفحات هذه المجلة لموقف عكسي سابق بدا لي فيه أنك مخدوع بفرنسا متعصب لها تعصبا قد أنساك بعض المجاملة في حديث إخوانك، وأنت الرجل المهذب الهادئ، مما دعاني يومئذ أن أغضي عما لك في نفسي من مكانة حينما بدا لي أنك تغضي عما ترتكبه فرنسا ضد الحرية وضد حرمات الفكر في شمال أفريقية، وأنت يجب إلا يخدع عن ذلك.
والآن أحمد الله إليك على أن سريرتك الطيبة الحرة قد انكشف لها موقف فرنسا على حقيقته، فأثبت أن الثقافة الفرنسية والدعاية الفرنسية لا تستطيعان أن تخدعا المفكرين العرب بعد اليوم عن واجبهم إزاء ما يرونه من تناقض فاحش بين الفكر الفرنسي الزاعم لنفسه الدفاع عن حريات الإنسان وحقوقه، وبين السياسة الفرنسية الغاشمة التي تجعل من تونس والجزائر ومراكش سجونا لأهلها تحرمهم خبز الروح والفكر العربي الذي ينتجه أبناء عمومتهم، وتحبسهم عن الرحلة في طلبه، وتحول بين الناس وبين الرحلة إليهم ليروا آثار الحكم الفرنسي السعيد فيهم.
وأحسب أن بعض أصدقاء فرنسا في مصر قد فاجأهم وأدهشهم موقفك الأخير من فرنسا وأنت ربيبها، وقد كنت من الأوفياء لها حتى بعد انهيارها وسقوطها بينما انقلب كثيرون(712/50)
ضدها بعد أن كانوا من أبواقها قبل الحرب ولا أزال أذكر كلمتك (فيران السفينة) التي نشرتها في الأهرام غداة سقوط فرنسا وتخلي بعض تلك الأبواق عنها ودعايتهم ضدها واشمئزازك منهم ذلك الاشمئزاز الذي صورته في تلك الكلمة. . .
أقول أنا أحسب ذلك وأذكر هذا، ولكن مهما يكن من شيء فإنه لا بد للكاتب الحر أن يفي للحق والحرية ويدافع عنهما في أي أفق، ولا يضيره أن يتغير موقفه في الدفاع، وإني أعتقد أن فرنسا تستفيد من موقفك الأخير أضعاف ما تستفيده من موقف الإغضاء عنها أو الخديعة بدعايتها، لأن ذلك سينبهها إلى أن تترك سياستها التقليدية في خداع العرب عن طريق مصر، وإذا كنت قد عشقت روحها الحرة فمن واجبك أن تذكرها بها وتلومها، وتشتد في لومها وتغاضبها إذا ما رأيتها ترتد عن رسالة تلك الروح، وما أظن عشاق فرنسا من المفكرين والكتاب في الشرق يحبونها لما يرون فيها من البهرج والزينة والمتع الحسية، وإلا كانوا أحرياء ألا يسموا مفكرين، وإنما هم طبعا يحبونها لتقاليد آدابها وما اشتهرت به لديهم من دفاعها عن الحريات. فإذا كشفت لهم الأيام حقيقة خداع فرنسا في ذلك كله فما أحراهم حينئذ أن يناشدوها أن تحقق ما أحبوها من أجله، وبخاصة مع قوم تربطهم بهم روابط الدم واللغة والعواطف والآمال والآلام، فإذا لم تستجب لمناشدتهم فما أحراهم أن يخلعوا من قلوبهم الولاء والحب لها ومن ألسنتهم المجاملة وأن يستقبلوا وافدي الدعاية لها بما هم أهله من الفتور والإهمال.
ذلك هو منطق الذين لا يريدون لأنفسهم التناقض مع أنفسهم، ولا يريدون أن يعدوا لدى فرنسا مخدوعين ولدى الشرق خادعين أو مخدوعين.
فامض أيها الصديق في طريق الدفاع عن المغاربة والغضب لهم لا لأنهم من قومك فحسب؛ بل لأن الحق والحرية، وهما عماد رسالة الفكر، تشتد فرنسا في محاربتهما على مسرح بلادهم. وعسى الله أن ينبه بك أذهان البقية من أصدقاء فرنسا في مصر إلى واجبهم في معالنة فرنسا بالخصومة إذا لم تغير سياستها مع المغاربة تغييرا أساسيا. وانك لمكسب كسبناه والسلام.
عبد المنعم حلاف
فن وتجارة!(712/51)
تحت هذا العنوان كتبنا كلمة في عدد مضى من الرسالة حبذنا فيها ما تقصد إليه شركات الأفلام الأجنبية من عرض أفلام قوية باللغة العربية، وقلنا إن هذا العمل سيفيد الفن السينمائي في مصر قوة وجدة نظرا لما تملك هذه الشركات من القوة المادية والقوة الفنية كما عجبنا لتلك الضجة الصاخبة التي يحمل لواءها حضرة يوسف وهبي بك بوصفه نقيبا للممثلين واستنكرنا أن يفزع إلى ولاة الأمور لمنع عرض هذه الأفلام بحجة أنها ستقضي على كثير من الممثلين السينمائيين بالبطالة، وقلنا إنها حجة تدل على أن هؤلاء السينمائيين إنما يطلبون العيش لا أكثر ولا أقل.
ورد علينا حضرة نقيب الممثلين بكلمة طالعها القراء في العدد الماضي، ولقد حاولنا أن نجد في تلك الكلمة حجة من المنطق بل شبه حجة تقنعنا بأن حضرة النقيب يدافع عن مسألة له فيها رأي وفهم ولكن حضرته كان عند حسن ظننا به وفهمنا فيه، فقد ترك حضرة يوسف بك المسألة من الناحية الفنية وراح يتهمنا بمناصرة الاستعمار، وينصحنا بتقديم ما كتبنا إلى الشركات الأجنبية لتجزل لنا عنه العطاء. .
وإننا لندع هذا الهراء الفارغ ونلتمس للسيد يوسف في ذلك كل العذر، فما نحسبه يقدر أن الكلام الذي يكتب غير الكلام الذي يلقيه على خشبة المسرح على رءوس العامة وأشباه العامة، ندع هذا لنعود فنقول لنقيب الممثلين إنه دل في كلمته على صدق ما قلناه، وهو أن حضرات الممثلين السينمائيين إنما يتاجرون بالفن ويدافعون عن حقهم في العيش، فقيمة فنهم هي قيمة ما يجلب من الرغيف. ومن العجيب أن السيد يوسف بك يقول إنه لا ينكر عرض الأفلام الأجنبية بلغتها الأصلية، ولكنه ينكر عملية (الدوبلاج) لما فيها من خطر المنافسة لأفلامه وأفلام شركاته، ونحن على العكس منه ننكر عرض الأفلام الأجنبية بلغاتها الأصلية ونحبذ تمصيرها ونقلها إلى لغتنا، ولست أدري بعد هذا من منا هو الذي يكون داعية للاستعمار الأجنبي.
إن هذا الفزع يا حضرة النقيب ليس له من مبرر إلا الضعف، وإنكم بإنتاجكم الضعيف الهزيل تحملوننا على أن نحبذ عملية (الدوبلاج) فأنتم العلة وعليكم الوزر، والناس معذورون إذا طلبوا الفن من أي طريق ما دمتم أنتم قد تنكبتم عن الفن كل طريق. . .
(الجاحظ)(712/52)
تصحيح آية:
كتب إلينا كثيرون يصححون كلمة جاءت في المقالة القيمة (محمد والأمن العام) لصاحب العزة علي حلمي بك على أنها آية، وهي (ولا تكتموا الشهادة وأنتم تعلمون) على أنها ليست بآية، والآية هي (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون).(712/53)
القصص
من الأدب الروسي الحديث:
بعد المعركة
للكاتب الروسي الكسي تولستوي
بقلم الأديب فريد وجدي الطبري
كان صديقي إيجور دريموف شخصا متزنا يسود عليه الجد. أحب والدته ماريابوليكا ديوفنا ربوفنا ووالده إيجور إيجونوفتش فكان يقول، (أبي رجل يحترم نفسه، وكثيرا ما علمني أن أفتخر بروسيتي) وخطب فتاة في تلك المدينة الصغيرة. وكثيرا ما يتحدث الجنود في الميدان، وبين فترات القتال عن الزوجات والحبيبات، يتحدثون في الملاجئ، وهم في مأمن من البرد القارس، ومعدهم ملأى، ونور الشمع يوحي بالحديث. فتسمع كل ناحية من ذلك الموضوع، مثلا (أساس الحب الاحترام والحب مجرد عادة، فالإنسان يوزع حبه بين زوجته ووالديه وحيواناته) ويقول آخر (يبدأ الحب عندما يفور دمك، وشعور المحب كشعور المخمور والجذل المرح) ويستمر الحديث ساعات، ولا ينتهي إلا بكلمة أوامر من أحد الضباط.
أما إيجورد ريموف فلم يشترك كثيرا في مثل هذه الأحاديث وإذا أشار إلى خطيبته كان ذلك بأسلوب غير مباشر، فتراه يقول مثلا (فتاة طيبة تنتظر صديقها حتى ولو جاء على رجل واحدة)
ولا ينقاد إلى التحدث عن مغامراته الحربية. وعندما يمتدحه أحد أصدقائه يقول (الأفضل أن لا تتحدث عن هذه الأشياء) وكل ما عرفناه عنه كان من أحاديث زملائه؛ كنا نتوسل إلى سائقه تشفيلوف ليقص علينا أخباره، فيصف لنا مثلا كيف كان ينقض على العدو في المصفحة مطلقا عليه ألسنة اللهيب، فلا يكاد يصل إليه حتى يصرعه. وكم من معركة خاض غمارها وعاد سالما بعد أن يكون فقد عددا من رفاقه وقد أبلى بلاء حسنا دائما وقصص شجاعته عديدة.
وعلى هذه الحال حارب الملازم إيجور دريموف إلى أن أقعده الحظ. كان ذلك في معركة(712/54)
كيسرسك بحيث كان النصر في بادئ الأمر للألمان، واشترك فيها بدبابته، وما كاد يدخل المعركة حتى قتل اثنان من رجاله. ثم اشتعلت النار في الدبابة. أما السائق (تشفيلوف) فقد تمكن من مغادرة الدبابة المشتعلة، وسحب الملازم الذي كانت ثيابه تحترق وهو مغمى عليه وأخيرا انفجرت الدبابة وتناثرت قطعا إلى مسافة تزيد على 150 قدما وأقبل تشفيلوف على الملازم ليطفئ النار المشتعلة في ثيابه وجره إلى مكان أمين. ويقول تشيفيلوف (إنما فعلت ذلك لأني شعرت أن فؤاده ما زال ينبض بالحياة) عاش إيجور دريموف حتى ولم يخسر بصره لكن تشوه وجهه جدا حتى أن العظم ظهر في بعض الأماكن، وبقى في المستشفى ثمانية أشهر، وأجريت له عدة عمليات متوالية لإعادة أنفه وشفاهه، وأجفانه وأذنيه. وعندما نزعت عنه الأربطة بعد الشهور الثمانية، وكانت معالم وجهه قد تغيرت تماما حتى لم يعد فيه شبه للصورة التي كان عليها قبلا. ولما ناولته الممرضة المرآة ليرى وجهه أدارت وجهها بسرعة كي لا يلاحظ الدموع في عينيها من شدة تأثرها بمنظر وجهه. وأعاد إليها المرآة قائلا (كان من الممكن أن تكون المصيبة أكثر مما هي الآن، على كل حال يكفي أني بقيت حيا) ولم يطلب المرآة مرة أخرى، بل اكتفى بلمس وجهه الجديد كأنه يعود نفسه أن تألفه. وسرح من الخدمة العسكرية بناء على تقرير طبي. لكنه ذهب إلى قائده ورجاه أن يسمح له بالالتحاق بفرقته ثانية. ودارت هذه المحادثة بينهما.
(لكنك أصبحت غير قادر على الخدمة) (لا يا سيدي بل لقد أصبحت مخلوقا غريب المنظر ولا أرى كيف يجعلني ذلك غير صالح للقتال) ولاحظ أن القائد كان يتجنب النظر إليه أثناء الحديث، فابتسم بشفتيه الاصطناعيتين الرقيقتين. أعيد إلحاقه وأعطي أجازة مدتها ثلاثة أسابيع، فذهب ليقضيها في البيت، وكان ذلك في الأول من آذار. ولدى وصوله اقترب محطة من قريته، حدثته نفسه أن يستأجر عربة تقله إلى البيت لكنه عاد فقرر أن يقطع المسافة وهي اثنا عشر ميلا مشيا.
كان الثلج كثيفا والهواء الرطب يهب باردا جدا، فيتخلل أطراف معطفه محدثا صوتا كله حنين إلى البيت، ووصل القرية عند الغروب.
رأى وطنه الصغير بخير والطيور على الأشجار تغرد؛ أمامه الآن بضعة بيوت، والبيت السادس يسكنه أبواه. اقترب من البيت ووقف عند الباب لا يجرؤ على الدخول ثم ذهب(712/55)
إلى جانب البيت ونظر في النافذة وكان الثلج يصل إلى ركبتيه. رأى أمه على ضوء المصباح الخافت تعد المائدة للعشاء. وبدت أمه كما يعهدها تماما - طيبة القلب، هادئة، وعلى رأسها تلك القبعة الصغيرة نفسها وقد تغيرت عما كانت عليه عندما رآها لآخر مرة، إذ انحنى ظهرها قليلا. (ليتني كتبت لها قبل مجيء، ليتني كتبت بضعة أسطر كل يوم) كانت تضع الحليب وقطعا من الخبز الأسمر والملاعق والملح، ثم وقفت مكتفة الأيدي وساد عليها التفكير أو الحيرة؟!
شعر إيجور دريموف وهو يراقب والدته من النافذة أنه لا يستطيع أن يوجه إليها هذه الصدمة إذا عرفت أن هذا المخلوق المشوه هو ابنها! ووطد العزم على ألا يعرفها بنفسه، وقرع الباب. سألت الوالدة (من بالباب) فأجاب (أنا الملازم جرينوف أحد أبطال الاتحاد السوفيتي). ووجد أن خفقات قلبه قلت وزال عنه القلق عندما رأى والدته لم تميز صوته. حتى هو نفسه أخذ يلاحظ أن صوته قد تغير بعد تلك العمليات ومن جراء الأهوال، فقد أصبح صوته خشنا وحادا. وقالت الأم (ماذا جرى؟) فيجيب (أحمل رسالة إلى ماريا بوليكا دبوفنا من ابنها الملازم الأول دريموف) ولما سمعت ذلك ضمته بإحدى يديها وصافحته بالأخرى بحرارة قائلة (إذا ولدى ايجور مازال حيا؟ تفضل ادخل وحدثني عنه) جلس إيجور دريموف إلى المائدة حيث كان يجلس وهو صغير يوم كانت رجلاه لا تصلان الأرض وأمه تخاطبه - (قل يا أعز الناس لدى) - أخذ يحدثها عن ولدها أنه بخير وصحته جيدة وأنه سعيد. لكنه لم يذكر لها المعارك التي خاض غمارها بدبابته. وتقاطعه قائلة - (قل لي الحياة في الجبهة فظيعة رهيبة، أليس كذلك؟). (نعم أيتها الوالدة، إن الحرب كلها يظائع وويلات، ولكن الإنسان يألفها مع الأيام).
بعد قليل جاء والده وقد بدا أكبر مما كان وذقنه بيضاء وكأنما اعتراها غبار أو طحين مسح الثلج عن رجليه وخلع معطفه المصنوع من الفراء وصافح الضيف. في هاتين اليدين الكبيرتين يلمس الإنسان الأبوة اللطيفة! وإيجور دريموف يعرف هاتين اليدين فطالما لمسهما! جلس والده ليستمع إلى ذلك الجندي الذي غطى صدره بالأوسمة دون أن يسأله أي سؤال. وكلما طال الوقت على دريموف وأهله لم يميزه كلما ضاق صدره ويهم أن يقول (ميزوني تتعرفوا إلى، بعد أن أصبحت إنسانا غريب المنظر)، لكنه يتراجع.(712/56)
مما يبعث السرور في نفسه، أنه يجلس على مائدة أبيه غير أنه في نفس الوقت كان كمن خاب أمله والآن حان وقت الطعام، فهل لديك ما نقدمه لضيفنا أيتها الأم؟) قال الأب هذا، وفتح جارورا في طرف الطاولة لا تزال فيه سنارات لصيد السمك في علبة كبريت فارغة تخص ولده. وفاحت رائحة مألوفة، هي رائحة البصل والخبز. وأخرج زجاجة خمر صغيرة بقى فيها ما يملأ قدحين صغيرين فقط. وبينما كانوا يأكلون، لاحظ دريموف أن أمه تحاول أن ترى كيف يمسك المعلقة ولما التقى نظرهما غضت طرفها وعلى وجهها مسحة من الحزن والشفقة، فابتسم. طرقوا مواضيع عديدة. المزورعات والحاصلات، الأمل بانتهاء الحرب في الصيف (ولماذا تعتقد يا سيد إيجورفتش بأن الحرب قد تنتهي في هذا الصيف؟).
فأجاب الأب (الشعب هائج، بعد هذه المصائب التي سببها لهم الألمان، لن يقف في وجههم شيء، وهنا قالت ماريا (لم تخبرنا متى يأتي ولدنا في أجازه بعد أن مضى ثلاث سنوات على غيابه عنا؟ ربما تغير شكله كثيرا الآن وربما كان له شاربان ويعيش كهؤلاء الذين يقطنون في جوار الموت. قد يكون صوته تغير؟) (ربما لا تعرفينه متى عاد)
وضعوا له فراشا في إحدى زوايا الغرفة، قريبا من الموقدة؛ في تلك البقعة التي يعرف كل حجر فيها وكل ثقب وعقدة في السقف، ورائحة الخبز، ورائحة البيت، الرائحة التي لا ينساها الإنسان حتى ساعة الموت. وهبت رياح شديدة في الخارج. وكان يسمع شخير والده من وراء الحاجز وكان سهلا عليه أن يتصور أمه مسهدة تصعد الزفرات والملازم مضطجعا على جانبه ورأسه على يده وقد أخذ يقول في نفسه: أحقا يا أماه لا تستطيعين أن تعرفيني؟ واستيقظ في الصباح على صوت طقطقة الحطب وهو يحترق في الموقدة، ورأى أمه منهمكة في عملها قرب النار وجوربيه قد غسلا وعلقا على الحبل وحذاءه نظف ومسح؛ وسألته والدته إذا كان يحب الجبنة مع البسكوت. وبعد أن جلس إلى المائدة قال (طلب إلى دريموف أن أبلغ سلامة إلى كاتيا ابنة أندري سيفانوفتش، فهل لا تزال تسكن قريبا منكم؟) (نعم وقد أنهت المدرسة في العام الماضي وهي تعلم الآن. سأدعوها لك) ثم خرجت تدعو كاتيا مانيشفا، وما كاد الملازم يلبس حذاءه حتى جاءت كاتيا تركض ووقفت أمامه، وها هي عيونها الواسعة اللامعة وحاجباها وقد ارتفعا في دهشة واستغراب، وزاد احمرار خدودها(712/57)
المتوردة عندما ألقت بالشال الصوف الذي كان في يدها. وتمنى لو يقبل هذه الشفاه اللطيفة. بدت أمامه كما كان يتصورها: عروس المستقبل، نضرة مرحة، ناعمة، تكسوها العافية وقد أضاءت الغرفة عندما دخلت.
(هل جئتني بأخبار من إيجور؟ قل له إني أنتظره في الليل والنهار) أدار وجهه من النور ليراها بوضوح؛ اقتربت منه لكنها همت بالتراجع عندما رأت ملامحه. وأراد أن يكشف عن نفسه في ذلك اليوم وفي تلك اللحظة ولكن لم يفعل: وطلبت إليه أمه أن يجلس ويأكل الكعك مع الحليب.
وتكلم إيجور دريموف ولم يعلق على اشتراكه في القتال وتجنب أن ينظر إلى كاتيا كيلا يرى انعكاس بشاعته في عينيها. واقترح أبوه أن يأتيه بحصان يركبه لكنه فضل أن يعود مشيا كما جاء.
لقد تأثر جدا من تلك الزيارة، وكان في الطريق يتحسس وجهه ولا يدري ماذا يفعل بنفسه!
ولما عاد إلى المعسكر اهتم به أصدقاؤه كثيرا وصار يأكل ويشرب ويضحك مثلهم بنشاط وسرور وكأن لم يحدث له شيء. قرر أن يخفي الحقيقة عن أمه. أما ذكريات كاتيا فرأى أن يخرجها من مخيلته كسن تسبب ألما ويجب خلعها.
وبعد أسبوعين تسلم رسالة من أمه:
(تحيات يا حبيبي. ترددت قبل لأني لم أعد أعرف بماذا أفكر؟ جاءنا شخص من طرفك - شاب لطيف جدا لكن وجهه مخيف. وكأنه كان يرغب أن يمكث قليلا لكنه عدل عن ذلك فجأة. ومنذ تلك اللحظة لم أنم ويبدو لي أن ذلك الشاب هو أنت. أما والدك فيقول بأني مجنونة. وربما أنا مجنونة إذ لو كان ذلك الشاب ولدنا لقال ذلك، ولماذا يخفي ذلك عنا؟ كان له وجه يفتخر به! ويحاول والدك أن يقنعني لكن قلب الأم يقول لي، إنه ولدك! اكتب لي يا حبيبي إيجور بالله عليك أشفق علي وأخبرني هل كان ذلك صحيحا أم أنا مجنونة؟
وأطلعني صديقي دريموف على هذه الرسالة كصديق ولما قص على القصة كانت الدموع تملأ عينيه فيجففها بمنديله. لقد ارتكبت خطأ جسيما أيها الغاشم، اكتب لأمك حالا وأطلعها على الحقيقة واطلب الصفح منها. سيزداد حبها لك وأنت في هذه الحال وفي اليوم نفسه كتب لأبويه:(712/58)
(والدي العزيزين، لقد كان ذلك الشاب ولدكم، أنا. . .) وراح يملأ أربعة صفحات من الحجم الكبير وبخط صغير، فكتب رسالة تشغل عشرين صفحة من الحجم العادي.
وبعد أيام كنا نتدرب في الميدان عندما جاء أحد الجنود إلى إيجور وخاطبه قائلا: يا عزيزي الكابتن يدعوك. وتبعته إلى الثكنة التي يسكنها معا، وهناك سمعته يقول (مرحبا يا أمي هاأنذا) ورأيت سيدة عجوزا قصيرة ضئيلة الحجم تعانقه، وكان هناك امرأة أخرى - لم أر مثل ذلك الجمال حيا يتنفس طيلة حياتي!! رفع والدته عن صدره وخاطب الفتاة. (لماذا أتيت يا كاتيا؟ لقد وعدت ذلك الشاب الذي كنت تعهدينه بأن تنتظريه وليس أنا الذي لم تستطيعي. . .) لكنها قاطعته: (إيجور قررت أن أقضي العمر معك، فلا تبعدني عنك من الآن).
(القدس)
فريد وجدي الطبري(712/59)
العدد 713 - بتاريخ: 03 - 03 - 1947(/)
مسألة القضاء والقدر
للأستاذ عباس محمود العقاد
قد راعيت يا سيدي أن اقدم إليك مسألة واحدة حتى لا يشق على مجلة (الرسالة) ردك. . . وهذه المسألة هي (القضاء والقدر) هل الإنسان مسير أم مخير؟. . . وقد وجهت هذا السؤال من قبل لأستاذي فرد علي رداً لم أر فيه مقنعا. . . فتضاربت الآراء بعقلي وإني لأخشى على نفسي وعلى إيماني. . .
محمد علي طالب
بمعمل قنا
مسألة القضاء والقدر هي مسألة الحرية الإنسانية في جميع نواحيها، فهي بهذه المثابة مسالة قضائية نفسية علمية، وليست بالمسألة الدينية وكفى.
وليس من الميسور أن تحل هذه المسألة من جميع وجوهها حلا يدفع كل اعتراض، ويوافق كل رأي، ويكشف النقاب عن العلاقة بين حرية الإنسان وقوى الكون الذي يعيش فيه. فإن العلم بحدود حريتة يتوقف على الإحاطة بهذه العلاقة من جميع أطرافها، وليس ذلك بالمستطاع في عصرنا هذا، ولا نخاله يستطاع كل الاستطاعة في وقت من الأوقات.
لكن المستطاع الذي لا شك فيه أن مسألة القضاء والقدر هي نفسها حل معقول أسهل من جميع الحلول التي تذهب إليها العقول. . .
فبما يقول من ينكر القضاء والقدر كأنه شيء لا يوافق العقل ولا يساغ في منطق التفكير؟
أيقول بأن المخلوقات يجب أن تختلف وأن تتساوى مع ذلك الاختلاف في كل قدر وقضاء؟
ذلك حكم لا يسوغ في عقل عاقل. لآن اختلاف التقدير لازم مع اختلاف الأقدار.
فإذا اختلفت أقدار المخلوقات وأوصافها فلا يخطر على العقل أن تكون بعد ذلك سواء في الأعمال والتقديرات.
وإذا هي لم تختلف فكيف يريد المعترضون أن تكون؟ وكيف يتوهمونها في الخيال فضلا عن تقديرها في عالم الفكر أو عالم العيان!(713/1)
أيريدونه عالماً لا فرق بين حي وحي، ولا بين شيء وشيء، ولا بين موجود وموجود؟
إذن هم يريدونه عالماً لا أشياء فيه ولا أحياء فيه ولا موجودات فيه.
لأن الشيء لا يسمى شيئاً إلا إذا كان مخالفاً لشيء آخر في جوهره أو صفاته. فإذا بطل الاختلاف بين الأشياء بطل قوام الأحياء والموجودات.
فهل يرى المعترضون أنهم هربوا من مسالة القضاء والقدر إلى مسألة يقبلها العقل وترتضيها النفس ويتصورها الخيال؟
وأي الصورتين بعد هذا أقرب إلى عقول المفكرين: عالم فيه اختلاف في التقدير واختلاف في الأقدار؟ أو عالم لا توجد فيه الأشياء ولا توجد فيه الأحياء!
فمسألة القضاء والقدر على هذا أقرب إلى الفهم من كل مسالة تخطر على بال مفكر في هذا الموضوع.
وإذا كانت هي الوجه الذي يقبله العقل فالناحية المجهولة منه ينبغي أن تقاس على الناحية المعلومة. فيطمئن الفكر إلى موافقتها له ومطابقتها لدواعي الإيمان.
أما هذه الناحية المجهولة فهي ناحية التوفيق بين العدل الإلهي واختلاف الجزاء على الأعمال.
فإذا وجب أن تختلف الأشياء ويختلف الأحياء ويختلف الجزاء، فقد وجب أن يكون الجزاء غير مناقض للعقل في نهاية المطاف. . . ونهاية المطاف هذه هي التي يجهلها الإنسان، ويقيسها على ما يعلم فتسري إليه الطمأنينة في هذا القياس الصحيح.
ويتحدث الأديب صاحب الخطاب عن صديق له يسخر من تبلبل خاطره في هذه المسالة فيقول (أنه أبرز لي آراء في هذه المسالة وقال إنها آراء أهل السنة وأخرى قال إنها آراء المعتزلة). . . ولا يدري أيهما أحق بالاتباع.
ولا فائدة من الإطالة في تفصيل هذه الآراء أو تلك الآراء. ولكن كاتب الخطاب خليق أن يوقن أن آراء المعتزلة تؤدي إلى تبلبل في الخواطر يعود على صاحبه بسخرية أمر وأنكى. لأنهم يحلون المشكلة بمشكلات ويخرجون من تيه إلى أتياه. ويقولون إن الإنسان ينبغي أن يكون حراً لأن الله يحاسبه، وإن الله لا يحاسب إلا لأنه حر في عمله واختياره0
فهم لا يقررون أن الإنسان حر في عمله واختياره بدليل من الواقع، بل بفرض من(713/2)
الفروض. فمن أين لهم أن حساب الله لا يوافق حالة التقدير، وأنه لابد أن يتناقض العدل إذا وجب الإيمان بالتقدير؟ ولماذا يمنعون على الله حساباً يتقابل فيه العدل والرحمة وصدق الجزاء والعقاب؟ وإذا وجب التسليم بأن الاختلاف في العالم المشهود هو الحالة التي يتحقق عليها الوجود، فلماذا يجزمون بأن هذه الحالة الواجبة ستناقض ما يجب في مسألة العدل والتوفيق بين العمل والمصير؟
لو كان المعتزلة ينكرون وجود الله لجاز أن يبطلوا الحكمة في الخلق كله وأن يبطلوا العدل والرحمة فيما هو ظاهر لنا وما هو محجوب عنا، ولكنهم يؤمنون بوجود الله ويؤمنون بوجوب الاختلاف بين الأشياء والأحياء. فلماذا تضيق قدرة الله عندهم عما يوافق الحكمة فيما يجهلون؟
وقصارى القول أن الحل الوحيد المستطاع لعقدة القضاء والقدر هو المقابلة بينها وبين العقد التي تنتهي إليها إذا أنكرنا القضاء والقدر. . . وأن العدل بمعنى المساواة الشاملة هو العدم بعينه، لأن المساواة الشاملة تنفي قيام الأشياء والأحياء. فلا بد من معنى للعدل الإلهي غير هذا المعنى، ولا تناقض إذا بين العدل والاختلاف في تركيب الموجودات، إذا وجب أن نفهمه فهما غير فهم المساواة في الأقدار والمساواة في التقدير.
ونحن نرى في حياتنا العملية أن الناس يرثون أخلاقهم من آبائهم وأمهاتهم، وينشئون في عاداتهم على نشأه بيئتهم وبيئات أسلافهم، ولكننا مع هذا لا نبطل التكليف والجزاء ولا نرى أنه عبث في غير جدوى، أو أن إلغاء القوانين والعقوبات مساو لبقائها وسريانها. . . فهناك نصيب من الحرية يكفي لقيام التكليف في المسائل الدنيوية، وهناك نصيب من الحرية يكفي للتوفيق بين العمل والجزاء في هذه الحياة القصيرة. فكيف بالحياة الأبدية التي تدبرها عناية الله ولا يحيط بها علم الإنسان؟
إن مسالة القضاء والقدر عقدة، ولكنها عقدة لا ينكرها المنكر إلا وقع فيما هو أعقد منها، ولاسيما المنكر الذي يؤمن بوجود الخالق القديم.
أما الذين يبطلون وجوده فإنهم يعطلون العقل جملة في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل، لأن تفسير العالم كله بالمصادفة العمياء لا يدع مجالاً للإشكال ولا للسؤال، وكل شيء جائز أو غير جائز. فقد استوى الجائز وغير الجائز على كل حال.(713/3)
عباس محمود العقاد(713/4)
من حديث الجهاد
للأستاذ علي الطنطاوي
ركبت الترام أمس وكان ممتلئاً بالناس، قد قعدوا على مقاعده، ووقفوا في رحباته، وتعلقوا بسلالمه، وكنت قاعداً في الدرجة الأولى، فرأيت امرأة ملتفة بملاءة على يدها ولد يظهر عليها أنها مسكينة مغلبة تريد أن تدخل علينا، فيمنعها رجل بلدي واقف بالباب، ويقول لها: (دامش مكانك، دا بريمو، مكان الخواجات) فتستكين وتقف، فدعوتها وأقعدتها في محلي، وهي حائرة لا تدري في خجلها وشكرها ماذا تقول لي، وسار الترام إلى المحطة التالية فنزل ناس وصعد ناس، وكان فيمن صعد امرأة فرنجية ضخمة كأن خديها زقان منفوخان، وكأن ثدييها عدلان على ظهر أتان. . . وأقبلت تزحم الركاب بوقاحة عجيبة حتى دخلت علينا. فلما رأت المرأة قلبت شفتها، وقلصت وجهها حتى صار كوجه قرد عجوز. . . وحملته كل ما استطاعت من إمارات الاشمئزاز والكبر، وضمت ثوبها ترفعاً أن يمس الملاءة وأشارت لها بيدها، أن: قومي. . .
فنظرت المسكينة نظره بلهاء، وابتسمت ولم تفهم. . . فقالت لها: (دا بريمو، أنت بيروخ هناك، يلا، يلا). . .
فقامت. . . فلم أملك أن صرخت بها: (أقعدي) وقلت لهذه الوقحة: (ألا يكفي أنك زاحمتها على خبز بلدها، وأكلت خيره من دونها، وغنيت به وفقرت هي فيه، حتى أردت أن تقيميها وتقعدي مكانها. . .)
وكانت ثورة مني عاصفة، فلم يجب أحد، ولكن شاباً (مهذباً) استاء مني، وأراد أن يعلن احتجاجه علي، فنهض قائماً وقال (تفضلي يا مدام) وأعطاها مكانه. . .
وذهبت أزور رجلا كبيراً، اعتزل الناس في بيته بعد أن ولج أوسع أبهاء القصور، وحل في أضخم كراسي المناصب، وتشقق الحديث معه حتى بلغ الكلام عن الإخوان المسلمين فقال: (إنهم سيتسلمون الحكومة يوما ما، ولكن المشكلة، أنهم يريدون العودة إلى الحكم الإسلامي، ومصر تمدنت وارتقت حتى صارت قطعة من أوربا، فكيف يمكن أن ترجع إلى أحكام الشرع؟)
وسمعت كثيرين من رجالات العرب، يتظرفون بدس الكلمات الفرنسية أو الإنكليزية في(713/5)
أحاديثهم العربية، من غير داع إليها، ولا فائدة منها، ويجدون ذلك رافعا من أقدارهم معليا من منازلهم.
ورأيت كثيرين من الشباب تجيئهم بالحكمة أو النظرية فتعزوها إلى صاحبها الشرقي المسلم، فيلوون وجوههم عنها، ولا يحفلونها، فإذا نسبتها للفيلسوف الألماني أو الأديب الإنكليزي هشوا لها وبشوا، وتلقوها بالتجلة والإكبار.
وقرأت لكثيرين من المؤلفين والباحثين فصولا في الدين أو اللغة، لا مرجع فيها إلا النقل، ولا تنقل إلا عن أئمتنا وعلمائنا، فرأيتهم يدعون المنبع ويستقون من ذيول السواقي، ويتركون مراجعنا ويعزون إلى فلان وعلان من المستشرقين.
وليس فينا من لا يرى تقليد الأوربيين مدنية، واتباعهم رقياً، ومن لا يشعر في قلبه بإجلالهم، ويتمنى أن يزور بلادهم، ويثقف ألسنتهم، ويا ليت أنا إذ أحببناهم جمعنا حبهم، ولم يفرقنا غرامهم شيعاً وأحزاباً لهم، ويا ليت أنا ارتفعنا اليوم عما وصفه جبران خليل جبران، منذ ربع قرن، حين قال: (كان العلم يأتينا من الغرب صدقة وإحساناً، فنلتهم خبز الصدقة لأننا جياع فأحيانا ذلك الخبز، فلما حيينا به أماتنا، أحيانا لأنه أيقظ بعض مداركنا، ونبه عقولنا، وأماتنا لأنه فرق كلمتنا، وأذهب وحدتنا، وقطع روابطنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة، مختلفة الأذواق، متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشد في حبل إحدى الأمم الغربية، وترفع لواءها، وتترنم بمحاسنها وأمجادها. فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي ارتشف رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيراً فرنسياً، والشاب الذي لبس قميصا من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلا روسيا).
فإذا كنا - ولا نريد أن نماري في الحق، ولا نجادل في الواقع؛ إذا كنا نطوي قلوبنا على حبهم، ونضم جوانحنا على إكبارهم، ونرى أنفسنا صغاراً أمامهم، ونقلدهم في كل شيء ونمشي وراءهم، فماذا ينفعنا قولنا بألسنتنا إننا نكرههم ونعاديهم، ولا نقعد عن حقنا حتى نناله منهم برغمهم؟
لقد تعلمت في المدرسة الابتدائية حكاية لا أزال أذكرها إلى اليوم، هي أن رجلا كان يذبح العصافير في يوم بارد ويبكي، فقال عصفور منها لأخيه: ألا ترى إلى شفقة هذا الرجل(713/6)
ورقة قلبه؟ قال: ويحك لا تنظر إلى دموعه، ولكن انظر إلى ما تصنع يداه.
فهل تظنون أن الإنكليز والفرنسيين أصغر أحلاماً من العصافير حتى يخدعوا وبخطبكم وأقوالكم، ويعموا عما تصنع أيديكم؟
إن قضية فلسطين لم يجر مثلها ولا في أيام نيرون. ولو قرأناها في أخبار الأولين، لما صدقنا أنه يسوغ في إنسانية البشر، وعقل العقلاء، أن تقول لرجل: أخرج من دارك ليأوي إليها هذا المشرد المسكين، ونم أنت في زقاق، أو اضطجع على المزبلة، أو مت حيث شئت. هذا قضاء المدنية، وهذا حكم الديمقراطية.
وإن حوادث المغرب لم يقع مثلها ولا على عهد محاكم التفتيش أن يذبح عشرات الألوف من الأبرياء، لأنهم قالوا لمن دخلوا عليهم بلدهم، واغتصب أرضهم، وأكل خبزهم: أطعمنا معك من خيرات أرضنا، وارفق بنا في عدوانك علينا. . .
فهل أحسسنا حقيقة ببغضاء الفرنسيين والإنكليز؟ ألا يزال فينا من يثني على الإنجليز في الصحف (تقريراً للحقيقة؟)، ويحتفل بدوهامل (تمجيداً للأدب؟) ويودع المجندات الإنكليزيات بالأسى (تقديراً للجمال؟)، ألا يزال فينا نواد أقيمت لتثبيت الصداقة بيننا وبين هؤلاء الذين فعلوا هذه الأفاعيل في فلسطين والمغرب؟
فكيف يجتمع الحب والبغض في قلب واحد؟
إننا في أيام لها ما بعدها، ومصائب تنسينا أواخرها أوائلها فإذا كنا جادين حقيقة في إنقاذ فلسطين والمغرب، وفي العمل لمصر وللعربية الإسلامية وكنا نريد أن نكون أمة تستحق أن تعيش، فيجب أن نتخلص أولا من استعمار الأوربيين أدمغتنا وألسنتنا وبيوتنا، وأن نحكم عقولنا فلا نقتبس منهم إلا ما نعتقد نفعه لنا، وأن نثق بأنفسنا، ونشعر بكرامتنا، وأن يفهم الحاكم منا أن لنا شرعاً أفضل من قوانينهم، فيجب أن نقتبس الأحكام من شرعنا، وأن يعلم الطالب أن لغتنا أكمل من لغاتهم، وأدبنا أسمى من آدابهم، وتاريخنا أمجد من تواريخهم، وأنها لم تخدم أمة العلم ما خدمته أمتنا، وأن يعتقد التاجر أن من الفرض عليه أن يروج البضاعة الوطنية، ويقاطع الأجنبية التي تزاحمها، وأن يؤمن الأديب بأن لهذه الأمة حقاً على قلمه، أن يدافع عنها، ويعيد إليها كرامتها، وثقتها بنفسها، ويصغر الأجنبي في عينها، وأن يفهم أخنع رجل فينا، أنه أعظم من أكبر خواجة من الخواجات، أو (مستر)(713/7)
من المساترة أو (هر) أو (سنيور) من السنانير والهررة، وأن يعلم أنه هو صاحب البلد، وهؤلاء بين غاصب أو لص أو (شحاذ)، وله هو مقعد الدرجة الأولى في الترام، وله الغرفة الأولى في الفندق، والمائدة الأولى في المطعم، وأنه حينما يقنع بالأقل ويتوارى ويبتعد، ويدع الأجنبي يملك الأرض، والعمارات، والمتاجر، يكون مجرماً كالجندي الذي ينهزم بالمعركة.
وملاك الأمر كله، أن نعلم أننا أساتذة الدنيا، ونحن سادتها عززنا بقرآننا وديننا، ولا يزال القرآن مبعث عز لنا، فلنعد إليه ولنجعله إمامنا في حياتنا، ومعقد فخارنا، ولندع الدنيا إلى أتباعه لأنه لا فلاح لها إلا به.
إننا اليوم أضعف من الغربيين في القوى المادية، فلم يبق لنا إلا القوى الروحية: قوة الإيمان وقوة الأخلاق، وقوة العفاف فلنحافظ عليها، ولنحارب الإلحاد والنفاق والفجور، لأنها عون للعدو علينا، وسلاح له يعمل فينا، وأن نجرد للعدو جندا اخرجوا حبه من قلوبهم، وضلالاتهم من رؤؤسهم، وعاداته من بيوتهم، وأبغضوه بغضا بلغ الشغاف، وخالط الدم، وسرى في الأعضاء وظهر في الأفعال. جنداً صدورهم حافلة بالإيمان، عامرة باليقين، يثقون بماضيهم وأنهم يستمدون منه الظفر: من ألف معركة منصورة كانوا أبطالها ومن ألف سنة مباركة كانوا ملوك الأرض فيها، ويثقون بحاضرهم وأن دمائهم، ما أضاعت هذا الإرث، ورؤؤسهم ما فقدت هذه الذكريات، ونفوسهم ما خسرت ذلك الشمم وتلك الفضائل، ويثقون بمستقبلهم وأنهم سيملكون الأرض مره أخرى وسيعودون ملوكها. جنداً: شباباً هم في الحكمة كالشيوخ، لم تسترقهن الشهوات، ولم تستعبدهم الملذات، ولم تلعب بهم الصبايا، وشيوخاً هم في العزيمة كالشباب، لم تفتنهم المناصب، ولم يطغهم الغنى، ولم يسر في أعصابهم الخور. . .
بهذا الجيش فلنجاهد، جهاداً متصلا مستمراً، لايني ولا يقف حتى يهدم قلاع العدو كلها، ظاهرها ومضمرها، وواضحها وخفيها.
إن الجهاد إن لم يبدأ من البيت والمدرسة والجريدة، فلا يمكن أن ينتهي إلى الساحة الحمراء، فإذا أردتم أن تبلغوا نهاية الطريق فامشوا من أوله، وإن شئتم أن تصلوا إلى أعلى السلم فابدءوا من أسفله، فإن من يمشي من آخر الطريق يرجع إلى الوراء، ومن(713/8)
ينزل من رأس السلم يصل إلى الأرض.!
(القاهرة)
علي الطنطاوي(713/9)
النطق وكيف نشأ
في النوع الإنساني وفي الحيوانات العليا
للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي
1 - هل النطق غريزي في الإنسان؟
يتعين علينا قبل الدخول في تصميم الموضوع أن نشير إلى نقطتين أو حقيقتين مقررتين ثابتتين:
تطور اللغات:
الحقيقة الأولى أن اللغات - وهي مظهر النطق أو صورته في مختلف الجماعات والبيئات الإنسانية - لم توجد كما هي منذ ظهور الإنسان على الأرض ولكنها تنشأ وتتطور شأن كل ما في الكون من جمادات ونباتات وحيوانات (بما فيها الإنسان) طبقا لنواميس النشوء والتطور. فمنذ أفي سنة لم يكن للغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية مثلا أثر من الوجود. فكيف نشأت ووجدت؟ لما فتح الرومان باقي أقاليم إيطاليا ثم فرنسا وإسبانيا والبرتغال انتشرت لغتهم اللاتينية في تلك البلاد وكانوا هم الفاتحون الأقوياء كما أنهم كانوا أرقى من السكان الأصليين في المدنية والشرائع والعلوم والفنون، لذلك لم تلبث اللاتينية حتى تغلبت على اللغات المحلية وحلت محلها جرياً على نواميس الانتخاب الطبيعي وما يترتب عليها من انهزام الضعيف وبقاء الأصلح. ولكنها (أي اللاتينية) تطورت بدورها في كل بلد منها تطوراً مختلفاً باختلاف كل من تلك البيئات الجديدة فتحولت شيئاً فشيئاً في فرنسا إلى الفرنسية وفي إيطاليا إلى الإيطالية وفي إسبانيا إلى الإسبانية وهكذا.
وكما أن الصور أو الحلقات المتوسطة بين الحيوانات والنباتات الحديثة وبين الأنواع القديمة التي تسلسلت منها موجودة وقد كشف عن الكثير منها متحجراً في طبقات الأرض التي تكونت في مختلف الأعصر الجيولوجية القديمة، كذلك الحلقات المتوسطة بين اللغات الحديثة وبين جداتها التي تسلسلت منها، وأعني بها المؤلفات التي وضعت بتلك اللغات في الأعصر المتعاقبة ووصل إلينا الكثير منها. فلغة الكتب والرسائل الفرنسية التي وضعت في القرن العاشر مثلا أو الثاني عشر قريبة من اللاتينية ومن مزيج من اللغات الأصلية(713/10)
المحلية. وكلما اقتربنا من عصرنا الحالي نجدها تقترب من اللغة الفرنسية الحديثة بحيث نستطيع أن نتتبع تطور هذه اللغة التدريجي وتحولها شيئاً فشيئاً من اللغة اللاتينية التي اشتقت منها مع امتزاجها بشيء من اللغات المحلية الأصلية. وهكذا الحال بالنسبة للإسبانية وباقي اللغات المتسلسلة من اللاتينية. بل ولسائر اللغات الأخرى.
واللغات اللاتينية واليونانية القديمة (التي اشتقت منها اليونانية الحديثة) والجرمانية القديمة (التي تسلسلت منها الألمانية الحديثة وبعض لغات أوربا الوسطى والشمالية بل واللغة الإنكليزية نفسها)، ومعظم لغات أوربا الأصلية متسلسلة بدورها من لغة هندية قديمة وهي النسكريتية. وجميع هذه اللغات الهندية الأوربية تكتب من اليسار إلى اليمين خلافاً للغات السامية مثلا (التي منها العربية) فإنها تكتب من اليمين إلى اليسار عدا الأرقام لأنها من أصل هندي.
وما يقال عن اللغات الأوربية يقال عن اللغات الشرقية وغيرها. فمنذ ثلاثة آلاف سنه تقريباً لم تكن اللغة العربية ولا العبرية الحديثة ولا الحبشية ولا أخواتها الحالية قد وجدت. فكيف نشأت؟ إنها نشأت وتطورت جرياً على نفس النواميس الطبيعية المتقدم بيانها بفعل العوامل الاجتماعية والسياسية والتاريخية والطبيعية. فاللغة أو اللغات الأصلية القديمة اصطلح على تسميتها بالسامية تطورت تطوراً مختلفاً باختلاف الأقاليم والبيئات التي انتشرت فيها إلى أن تحولت إلى العربية القديمة، والعبرية القديمة والمصرية القديمة (التي اشتقت منها القبطية واستبدلت كتابه حروفها باليونانية)، والحبشية، والحميرية، والكلدانية أو البابلية، وغيرها. وقد استمرت عوامل التطور تعمل في هذه اللغات الأخيرة إلى أن تحولت شيئاً فشيئاً إلى اللغات الحديثة المعروفة. وسأعود في آخر هذا المقال إلى تطور اللغة العربية في مختلف البلاد الشرقية.
وكذلك الحال بالنسبة لمجموعة اللغات الطورانية القديمة والحديثة، (التي منها اللغة التركية ولغات آسيا الوسطى) وغيرها من اللغات الأخرى.
وكما أنه توجد في أنواع النباتات والحيوانات القديمة والحديثة وفي الإنسان أعضاء أثرية لا وظيفة لها إطلاقاً بدليل أنه يمكن استئصالها دون أن يصاب الفرد الذي تجرى له هذه العملية بأي ضرر أو نقص في حيويته، لأنها في الواقع آثار أعضاء قديمة كانت مستعملة(713/11)
عند أجدادنا البعيدين ثم ضمرت شيئاً فشيئاً لعدم استعمالها عندما طرأت عليهم ظروف جديدة جعلتهم يستغنون عنها، كذلك توجد في بعض الألفاظ حروف أثرية لا تنطق ولكنها تدل على الأصل الذي تسلسلت منه. مثل لفظة الفرنسية أي جسم فإن حرفي ولا ينطقان ولكنهما كانا يلفظان في الأصل اللاتيني وكذلك لفظة الفرنسية فإن ال لا تلفظ ولكنها كانت تلفظ في الأصل اللاتيني ويجد القارئ الكثير من هذه الأمثلة في كتب علم نشوء اللغات وتطورها.
وخلاصة القول إن لغات البشر ليست ثابتة ولم توجد كما هي منذ ظهور الإنسان على الأرض ولكنها في تطور مستمر ينشأ الحديث منها من القديم ويتسلسل منه بطريقة التطور التدريجي. وسأبين فيما يلي كيف نشأ النطق في بادئ الأمر كما ينشأ الآن في الأطفال وفي كثير من الطيور والحيوانات العليا.
النطق غير غريزي في الإنسان:
والحقيقة الثانية التي يجب بيانها هي أن النطق ليس غريزياً في البشر ولا هو مميز لهم عن سائر الحيوانات (الإنسان حيوان ناطق) كما كانوا يعتقدون فيما مضى قبل تقدم العلم.
فإذا فصلنا طفلا عن البشر منذ ولادته وعهدنا في تربيته إلى شخص يتولى ذلك بعيداً عن الناس دون أن يفوه أمامه بأي لفظ، فإن هذا الطفل ينشأ عديم النطق بتاتاً إلا ما يصدر منه طبيعياً أو فسيولوجياً من أصوات الألم والانفعالات النفسية كالتأوهات والهمهمة والتأفف مثلما تفعل الحيوانات كما سنبينه فيما بعد. وقد يلجأ إلى بعض إشارات للتعبير عن حاجاته كرفع يده إلى فمه إذا أراد الأكل وما إلى ذلك من الحركات الطبيعية الآلية. وإذا سلمناه إلى جماعة من الخرس فإنه لا يلبث حتى يقلدهم في إشاراتهم ليعبر بذلك عما يتطلبه من أمور الحياة فيكون في ذلك كالأخرس دون أن يعرف إلى النطق سبيلا.
ويؤيد هذه الحقيقة، أي أن النطق اللغوي ليس غريزياً في الإنسان بل هو وليد البيئة ونتيجة التقليد السماعي - كما سيأتي بيانه - ما هو معروف للجميع من أن الطفل الذي ينشأ في وسط قوم يتكلمون العربية مثلا يتكلم هذه اللغة دون غيرها حتى إذا كان آباؤه وأجداده من أبناء لغة أخرى، وكذلك الحال إذا نشأ طفل عربي محض في فرنسا بعيداً عن أهله منذ ولادته فإنه لا يتكلم إلا الفرنسية وهكذا. وإذن فالنطق ليس بغريزي.(713/12)
النطق في الحيوانات:
ومن جهة أخرى لا يخفي أن لكثير من الطيور وذوات الثدي وعلى الأخص القرود العليا، وكذلك الحشرات الاجتماعية كالنمل لغات صوتية أو اصطلاحية بسيطة يتفاهم بها أفرادها إلى حد ما. فإن لبعض الحيوانات إشارات طبيعية تعبر بها عن انفعالاتها النفسية. فالكلب مثلا يهز ذيله للترحيب بسيده ويتفوه ببعض أصوات خاصة لا يبديها إلا في مثل هذا الظرف، وهو يرخي ذيله إلى الأرض بين قدميه عند الخضوع والخشوع والخوف وهو والقطط وبعض الحيوانات الأخرى يكمشون آذانهم عند الخوف إذا هددوا مثلا بالضرب.
وللنمل طريقة للتفاهم أشبه بلغة الإشارات التلغرافية. فإذا تقابل اثنان منها من نوع واحد نراهما يتلامسان بزوائدهما الأمامية برهة ثم يسير كل منهما في طريقه. وإذا اكتشف أحدها شيئاً من الغذاء يسرع إلى استدعاء باقي أفراد جماعته، ومعلوم أنه ليس للنمل وسائر الحشرات قصبة هوائية ولا أوتار صوتية نظراً لأنه ليس لها رئتان بل إنها تتنفس من مسام عديدة على سطح جسمها ينفذ منها الهواء إلى داخل الجسم فلا يمكن والحالة هذه أن تحدث أي صوت تتفاهم به، ولا شك في أنها تتحدث مع بعضها بالإشارات بالطريقة المتقدم بيانها
وليست لغة الحيوانات قاصرة على الإشارات ولكن الكثير منها ينطق بأصوات للتعبير عما يجول في نفسيتها البسيطة من الانفعالات والمقاصد المحدودة. والذي يرقب القطط مثلا في المنازل يراها عند رؤية الطعام أو شم رائحته أو عندما تجوع تبدي نغمة خاصة. ولها عند نداء صغارها صوت آخر لا تنطق به إلا في هذه المناسبة فقط. وللإناث منها عند طلب الذكور صوت معروف أشبه بلفظه (داؤد).
والببغاء تنطق بكلام البشر بوضوح. وقد دلت المشاهدات والاختبارات على أنها تفهم في أغلب الأحيان مجمل ما تتفوه به مما تكون قد حفظته من باب التقليد في بادئ الأمر ثم تكرره وينتهي بها الأمر إلى أن لا تتفوه به بعد ذلك إلا في المناسبات التي تؤدي إليها معانيه، بل إنها كثيراً ترد على ما يوجهه إليها الإنسان بالألفاظ المناسبة مما يدل على أنها تدرك إلى حد ما معاني ما تسمع ومعاني ما تقول. ويتم لها ذلك بالتقليد والتلقين والتمرين كما يحدث للأطفال على وجه التقريب، ذلك لأن الأطفال يتعلمون بنفس هذه الطريقة:(713/13)
التقليد والتلقين والتمرين.
أما تغريد الطيور فأمره معروف، وتمتاز به الذكور في بعض الأنواع لتغري الإناث حتى تكتسب إعجابها وتفوز بها. وتقيم أنواع أخرى منها اجتماعات على الأشجار أشبه بالحفلات الموسيقية يتبارى فيها الذكور في النطق بنغمات شجية مطربة لتخطب ود الإناث فتنتخب هذه أجملهم صوتا، كما أن أنواعاً أخرى يتباهى ذكورها أمام الإناث بريشهم الزاهي، ولهذا كان الذكور أجمل من الإناث لا في الطيور فقط ولكن في كثير من الفصائل والمراتب الحيوانية الأخرى نتيجة ذلك الانتخاب الجنسي الطبيعي طبقاً لنظرية داروين على أن أنصار نظرية لامارك في أسباب النشوء والتطور يضيفون إلى ذلك التفسير تفسيراً آخر يرجع إلى فعل العوامل الطبيعية الخارجية (البيئة والعوامل الجوية ونظام الحياة والعادة والاستعمال أو عدم الاستعمال الخ) والداخلية (العوامل الفسيولوجية والتفاعلات الكيميائية التي تحدث داخل الجسم وعلى الأخص فعل الهرمونات التي تفرزها الغدد الصماء أي الغدد ذات الإفراز الداخلي).
ومما يرجح نظرية لامارك على نظرية داروين في تفسير تلك الظاهرة ونعني بها تفوق الذكور على الإناث في جمال الصوت وزهاء الريش وغزارة الشعر وجمال اللون وهو ما يحدث في كثير من أنواع الأسماك حيث تكتسب الذكور في موسم التلقيح ألواناً زاهية يسمونها في علم الحيوان (حلة الزفاف) على حين أن تلك الأنواع لا تتزاوج ولا تلقح بعضها تلقيحاً فعلياً مباشراً بل إن الإناث تفرز بويضاتها رأساً في الماء ثم يأتي الذكر ويفرز مادته المنوية في الماء أيضاً فيحدث التلقيح بين ما يلتقي منهما بفعل الأمواج، وكل هذا دون أن يتصل الذكور بالإناث. فلا شك في أن الألوان الزاهية التي تطرأ على الذكور إنما هي نتيجة التفاعلات الكيميائية التي تحدثها في الجسم الإفرازات الداخلية للخصيتين عند نضوجها وهي التي تنبت مثل الشوارب وشعر الذقن في ذكور النوع الإنساني وتؤثر في صوتهم وتكسبهم صفات الرجولة، كما أن إفرازات المبيضين تكسب الفتيات عند البلوغ نعومة المرأة وصفات الأنوثة فيها.
نعود إلى النطق في الحيوانات فنقول إن للقرود عامة وعلى الأخص القرود العليا الشبيهة بالإنسان (الغورلا، والشانبازيه، والأورنانجوتان، والجيبون) لغة أو لغات حقيقية وإن كانت(713/14)
على أبسط صور النطق، مكونة من بعض أصوات أو مقاطع لا تبعد كثيراً عن لغات الأطفال في أوائل العام الثاني من ولادتهم ولغات بعض القبائل المتوحشة.
وقد التقط بعضهم أصوات أفراد من القرود على اسطوانات فوتوغرافية ثم أدارها أمام قرود من نفس النوع في حدائق الحيوانات فكانت تصغي إليهم باهتمام وتنبه وتبدي إشارات وحركات وتنطق بأصوات كأنها ترد عليها.
ومما يؤيد أيضاً أن النطق في الإنسان والحيوان ليس غريزياً وإنما هو مكتسب بالتقليد التجربة القديمة الآتية التي أجراها دين بارنجتون الإنكليزي ودونها في موسوعته الفلسفية التي ظهرت سنه 1773 في الجزء وقد نقلناها من كتاب العالم البيولوجي الفرنسي فيلكس ليدانتك (العلم والشعور) طبع سنة 1916 صحيفة 181 فقد أخذ بارنتجون عصافير صغيرة عقب ولادتها من نوع ونقلها إلى عش عصافير من نوع آخر يسمى فاقتبست تغريد هذه العصافير بطريق التقليد وظلت تغرده طيلة حياتها كأنها طبعت عليه إلى حد أنه وضعها بعد ذلك مع أفراد من نوعها فلم تستطع أن تجاريهم في تغريدهم الذي هو تغريد آبائها وأجدادها. ذلك لأن مخ العصافير المحدود يعجز عن وعي شيء جديد غير ما طبع فيه بطريق التقليد في مستهل حياة هذه الكائنات البسيطة.
وخلاصة القول إن النطق ليس بغرزي في البشر ولا هو قاصر عليهم وإنما هو ظاهرة فسيولوجية بسيكولوجية طرأت على بعض الحيوانات وتدرجت حتى وصلت إلى ما هي عليه في النوع الإنساني. كما أن اللغات ظاهرة اجتماعية
فالإنسان ليس بحيوان ناطق كما كانوا يعلموننا فيما مضى وهو لا يختلف في شيء من هذه الناحية عن باقي الحيوانات إلا في الدرجة فقط.
وكل ما هنالك هو أن الإنسان حيوان ثرثار كثير النطق يحب أن يتكلم بلا انقطاع في مجتمعاته الخاصة والعامة، في كل مكان وزمان، يخلق المناسبات ليشبع شهوة الكلام، وإذا تقابل اثنان على غير سابق معرفة في القطار أو الترام مثلاً نراهما يتحدثان ولو في أتفه المواضيع كالجو والطقس. وإذا لم يجد الإنسان من يتحدث معه يظل يتكلم مع نفسه ويكرر مثلاً ما قاله أو ما يود أن يقوله إلى لغيره، وأحياناً يصحب هذا الحديث إشارات يبديها بيده على غير قصد تنم عما يدور في نفسه. وحتى في نومه لا يخلو من الكلام، وكثيراً ما يتفوه(713/15)
وهو على هذه الحالة بألفاظ واضحة أو غير واضحة يسمعها من بجواره. وكثرة الكلام مرض عند بعض الأشخاص يضايقون به غيرهم فيهرب الناس منهم.
وفي المقال التالي نتكلم عن نشوء النطق في النوع الإنساني ثم نعقبه ببحث خاص عن تطور اللغة العربية.
نصيف المنقباوي المحامي(713/16)
من كتاب ديارات بغداد
الديارات وملحقاتها. . .
للأستاذ شكري محمود أحمد
الدير بيت يتعبد فيه الرهبان، ويكون بين الرياض والحدائق في ظواهر المدن والأمصار، أو في المواضع البعيدة عن الناس كالصحارى والمستشرفات ورؤوس الجبال.
وقد أخطأ ياقوت في الكلام على الدير والتعريف به في كتاب معجم البلدان بقوله: (ولا يكاد يكون بالمصر الأعظم، إنما في الصحارى ورؤوس الجبال). فإننا وجدنا أديرة كثيرة في ظواهر المدن، فقطربل مثلا وهي ملاصقة لبغداد فيها دير أشوني، قال الشابشتى: (وعيده اليوم الثالث من تشرين الأول، وهو من الأيام العظيمة ببغداد، يجتمع أهلها إليه كاجتماعهم إلى بعض أعيادهم، ولا يبقى أحد من أهل التطرب واللعب إلا خرج إليه. . . ويباهون بما يعدون لقصفهم، ويعمرون شطه وأكنافه، وديره وحاناته. . .) وفي قطربل أيضاً دير آخر أسمه دير (الجرجون) ذكره الشابشتى في الكلام على دير اشموني.
وقد أحصيت الأديرة التي كانت ملاصقة لبغداد أو قريبة منها فوجدتها تقرب العشرين ديراً، وربما كانت أكثر من هذا؛ أما الأديرة التي حول الحيرة أو قريبة منها فأكثر من عشرين ديراً. وهذا ينقض زعم ياقوت بأن الدير لا يكون في المصر الأعظم، وإذا استقصينا الشواهد على نقضه ضاق بنا المجال.
وربما يكون قول المقريزي في التعريف بالدير أقرب إلى الصواب، فقد قال: (الدير عند النصارى يختص بالنساك المقيمين به، والكنيسة مجمع عامتهم)
أما قول الفيروز ابادي في الدير، والتعريف به فقلق جداً لا يدل على اطلاع في هذا الموضوع، فقد قال: (الدير خان النصارى وجمعه أديار)، والخان يطلق على كل موضع يقام به في سفر أو غيره.
وقد جاء في الشعر العربي إشارات كثيرة إلى مواضع الأديرة التي تكون على سفوح الجبال أو في السهول والرياض. قال أبو الحسين بن أبي البغل الشاعر في دير الأعلى بالموصل، وقد اجتاز به يريد بلاد الشام:
انظر إليَّ بأعلى الدير مستشرفاً ... لا يبلغ الطرف في أرجائه طرفا(713/17)
كأنما غريت غر السحاب به ... فجاء مختلفاً يلقاك مؤتلفا
فلست تبصر إلا جدولا سرباً، ... أو جنة سدفاً، أو روضة أنفا
وربما كان هذا الدير (دير الأعلى) أكثر الأديرة ارتفاعاً.
قال العمري: (وله درجة منقورة في الجبل تفضي إلى دجلة نحو المائة مرقاة).
وقال ربيعة الضبي يصف إحدى الحسان:
لو إنها عرضت لأشمط راهب ... في رأس مشرفة الذرى متبتل
جآر ساعات النيام لربه ... حتى تخدر لحمه متشمعل
لصبا لبهجتها وحسن حديثا، ... ولهمَّ من ناقوسه بتنزل
ومما جاء في وصف موضع الدير الذي يكون بين الحدائق والرياض تحف به البساتين والحقول قول ابن المعتز في دير عبدون:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطالٌ من المطر
يا طالما نبهتني للصبوح به ... في ظلمة الليل والعصفور لم يطر
أصواتُ رهبان دير في صلاتهم ... سود المدارع، نعَّارين في السحر
وقال جحظة البرمكي في دير أشموني بقطربل، وقد خرج إليه في عيد من أعياده، فلما وصل إلى الشط، مد عينيه لينظر موضعاً خالياً يصعد إليه، أو قوماً ظرافاً ينزل عليهم، فرأى فتياناً من أحسن الناس وجوهاً، وأنظفهم لباساً، وأظرفهم آلة، فصعد إليهم وصاح بغلامه: (يا غلام طنبوري ونبيذي، فقالوا: أما الطنبور فنعم، وأما النبيذ فلا، فجلست مع أحسن الناس أخلاقاً وأملحهم عشرة، وأخذنا في أمرنا، ثم تناولت الطنبور وغنيت شعراً لي:
سقياً لأشموني ولذاتها ... والعيش فيما بين جناتها
سقياً لأيام مضت لي بها ... ما بين شطيها وحاناتها
إذ اصطباحي في بساتينها ... وإذ غبوقي في دياراتها
وعلى ذكر أشموني وخبر جحظة البرمكي وشعره فيه، يجمل بنا أن نذكر هذه القطعة البارعة لأبي الشبل البرجمي فيه، وهو كصاحبه جحظة من (عصابة السوء) النواسية:
شهدت مواطن اللذات طراً ... وجبتُ بقاعها بحراً وبرا(713/18)
فلم أر مثل أشموني محلاً ... ألذ لحاضريه ولا أسرا
به جيشان من خيل وسفن ... أناخا في ذراهُ واستقرا
كأنهما زحوف وغيً ولكن ... إلى اللذات قد كرا وفرا
سلاحهما القواقز والقناني ... وأكواس تدور هلم جرا
وضربهما المثالث والمثاني ... إذا ما الضرب في الحرب استحرا
وأسرهما ظباء الدير (طوعاً) ... إذا أسد الحروب أسرن قسرا
فالدير إذن يكون على قمم الجبال وسفوحها، وفي السهول بين الرياض والجنائن ملاصقاً للمدن أو بعيداً عنها في الصحارى والمواضع المنقطعة عن الناس.
ويسمى الدير أحياناً بالعمر وجمعه أعمار قال صاحب تاج العروس في العمر: (والعمر بالضم المسجد والبيعة والكنيسة، سميت باسم المصدر لأنه يعمر فيها أي يعبد).
وقد فرق صاحب مراصد الاطلاع بين الدير والعمر، فخص ما كان منهما قريباً من المدن والعمران بالعمر وما كان بعيداً عنهما بالدير، وذلك في قوله: (. . . وما كان من مواضع المتعبدات التي فيها مساكن الرهبان بقرب العمران فإنه يسمى العمر).
وقد مرت هذه اللفظة في شعر الفتاك والماجنين الذين كانوا يألفون الديارات ويتطرحون فيها، قال أبو نؤاس:
أذنك الناقوس في الفجر ... وغرد الراهب في العمر
وحنّ مخمور إلى خمرة ... وجاءك الغيث على قدر
يا حبذا الصحبة في العمر ... وحبذا نيسان من شهر
يا عاقد الزنار في الخصر ... بحرمة الحانة والفهر
هات التي تعرف وجدي بها ... واكن بما شئت عن الخمر
يا حبذا الجهر بأمر الصبا ... ما كنت من ربك في ستر
وقد أرجع حبيب زيات هذه اللفظة (العمر) إلى أصل أرامي بمعنى البيت والمنزل.
ملحقات الدير:
تشتمل الأديرة على الكنيسة والهيكل، والقلالي وبيوت المائدة، ومستودعات الخمور، والبساتين ومعاصر الكروم والحانات ودور الضيافة، وحجر الرهبان، وحجره لرئيس الدير(713/19)
الذي يشرف على تنظيمه.
ويحف بالدير أحياناً بنايات مرتفعة يسكن كل واحدة منها راهب يقال لها القلالي أو القليات، ومفردها على الأول قلية، وعلى الثاني قلاية، ومعناها الصومعة، وقد تكون هذه القلالي في داخل الدير خلف سوره.
وربما كانت هذه اللفظة (قلية) في الأصل خلية، وجمعها خلايا لأنها تشبه الخلايا في شكلها وانتظامها حول الدير.
وقد مرت هذه اللفظة في شعر العصبة النواسية في مواضع كثيرة نكتفي بقول الثرواني في دير بالحيرة عرف بقلاية القس.
قال:
خليلي من تيم وعجل هديتما ... أضفيا بحث الكأس يومي إلى أمسي
وإن أنتما حييتماني تحية ... فلا تعدوا ريحان قلاية القس
وتنتشر حول الأديرة الحقول والبساتين المعمورة بمختلف الأثمار والأزهار، وقد كانت الكروم أكثر هذه المزروعات عناية، وذلك لأن الخمور النصرانية التي كانت تدخر في الأديرة لها شهرة ممتازة يقبل عليها الناس من كل جانب.
واشتهرت المزرفة - وهي قربه ملاصقة لبغداد، فيها اديرة كثيرة - بالرمان الذي ضرب المثل بجودته حتى قيل الرمان المزرفي. وهذه القرية بين قطربل وبزوغي، وتبعد عن بغداد ثلاثة فراسخ.
ومن الأثمار التي عني بزراعتها في الأديار الزيتون والنارنج والفستق والبندق واللوز. وكان الرهبان يعنون بتربية النحل للاستفادة من شمعه وعسله.
وكانت الأديرة مزينة بالقناديل والصلبان والدمى، مصبوغة بالأدهان، وقد كانت هذه الدمى منقوشة على الحيطان بمختلف الألوان، ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد بالشعر على ذلك لأنها مرت في مواضع كثيرة من الشعر العربي، حتى أصبح ذكرها من متلزمات القصيدة - في بعض الأحيان - كذكر الأطلال والدمن والربوع.
في الغالب المشهور أن هذه الأديرة كانت محاطة بالأسوار المرتفعة خوفاً من اللصوص وقطاع الطرق والفتاك. وربما كان لها باب حديد كدير الأسكون بالحيرة، أو باب حجر(713/20)
كدير باطا، ويسمى هذا الدير أيضاً (دير الحمار) وقد كان بين الموصل وتكريت قال ياقوت: (. . . وله باب حجر يذكر النصارى أن هذا الباب يفتحه الواحد والاثنان، فإن تجاوزوا السبعة لم يقدروا على فتحه. .).
ولكن هذه الأسوار المرتفعة، والأبواب الحديدية القوية لم تكن لتحمي الرهبان والراهبات على كثرة عددهم من اللصوص والفتاك، فقد أصيبوا كثيراً بالنهب والقتل وهتك الحرم.
وقصه اللصوص في دير العذارى خير شاهد على ذلك، وخبر الحادث يرويه لنا الجاحظ في كتابه (المعلمين) وهذا الكتاب مفقود، لكن الخبر ينقله عنه البكري والبلاذري وياقوت والشابشتي والعمري. قال: حدثني ابن فرج الثعلبي أن فتياناً من بني ملاص من ثعلبة، أرادو القطع على مال يمر بهم قرب دير العذارى، فجاءهم من خبرهم أن السلطان قد علم بأمرهم، وأن الخيل قد أقبلت تريدهم، فاختفوا في دير العذارى. فلما حصلوا فيه، سمعوا أصوات حوافر الخيل التي تطلبهم وهي راجعه من الطلب فأمنوا. فقال بعضهم لبعض: ما الذي يمنعكم أن تأخذوا القس وتشدوه وثاقاً، ثم يخلوا كل واحد منكم بواحدة من هذه الأبكار، فإذا طلع الفجر تفرقنا في البلاد؟ وكنا جماعة بعدد الأبكار اللواتي كن في حسابنا أبكاراً. ففعلنا ما أجمعنا عليه، فوجدناهن كلهن ثيبات قد فرغ منهن القس.
وينظم أحد هؤلاء اللصوص قصتهم هذه مع الرواهب قائلاً:
ودير العذارى فضوح لهن ... وعند اللصوص حديث عجيب
خلونا بعشرين ديرية ... ونيل الرواهب شئ غريب
إذا هن يرهزن رهز الظراف ... وباب المدينة فج رحيب
واشتهرت قصة دير العذارى هذه حتى وردت في مواضع مختلفة في الشعر العربي.
وفي أحداث سنة 449 هـ (1057) يذكر صاحب مرآه الزمان: (فيها صعد عشرون رجلاً من الغز إلى دير للنصارى بميافارقين، فيه أربعمائة راهب، فذبحوا منهم مائة وعشرين واشترى الباقون نفوسهم بست مكاكي فضة وذهب).
فالأسوار المرتفعة والأبواب الحديدية التي كانت تحصن الأديرة لم تحافظ على الرهبان والرواهب، لذلك نجد أكثر هذه الأديرة متجمعة بالقرب من المدن الكبيرة، والعواصم المزدحمة، والأمصار المأهولة خوفاً من اللصوص وقطاع الطرق والفتاك.(713/21)
أما الكرح بالكسر فبيت الراهب، ويكون أصغر من القلية، يسكن فيه الراهب إذا قعدت به الحال ولم يستطع الحصول على قلية. وجمع الكرح أكراح، ويجيء جمعه أيضاً على صيغه التصغير اكيراح. قال ابن منظور في اللسان ج 3 ص 405 هي بيوت للرهبان يخرج إليها النصارى في بعض أعيادهم. ومعنى هذه اللفظة اليونانية الكوخ الصغير.
وأشهر المواضع التي عرفت بالأكيراح هو دير حنة بالحيرة الذي وصفه أبو نؤاس في موضعين، قال:
دع البساتين من ورد وتفاح ... واعدل هديت إلى ذات الأكيراح
اعدل إلى نفر دقت شخوصهم ... من العبادة إلا نضو أشباح
يكرورن نواقيساً مرجعة ... على الزبور بامساء واصباح
تنأى بسمعك عن صوت تكرهه ... فلست تسمع فيه صوت فلاح
إلا الدراسة للإنجيل في كتب ... ذكر المسيح بإبلاج وإفصاح
يا طيبه وعتيق الراح تحفتهم ... بكل نوع من الطاسات رحراح
يسقيكها مدمج الخصرين ذو هيف ... أخو مدارع صوف فوق أمساح
ويصف في موضع آخر من شعره رهبانه ورواهبه، وكيف أصبحوا أنضاءً من العبادة:
يا دير حنة من ذات الأكيراح ... منن يصح عنك فإني لست بالصاح
رأيت فيك ظباء لا قرون لها ... يلعبن منا بألباب وأرواح
دع التشاغل باللذات يا صاح ... من العكوف على الريحان والراح
واعدل إلى فتية ذابت نفوسهم ... من العبادة نحف الجسم أطلاح
لم يبق فيهم لرائيهم إذا حصلوا ... خلاف ما خوفوه غير أشباح
تلقى بها كل محفو مفارقه ... من الدهان، عليه سحق أمساح
لا يدلفون إلى ماء بآنية ... إلا اغترافاً من الغدران بالراح
والغريب أن ناشر مسالك الأبصار يقول إن الأكيراح: بلد نزه كثير البساتين والرياض والمياه
والصحيح ما أثبتناه من أن الأكيراح هي بيوت صغيره تشبه القلية يسكنها راهب واحد إذا لم يستطع الحصول على قلية.(713/22)
(بغداد)
شكري محمود أحمد
مدرس العربية بدار المعلمين الابتدائية(713/23)
خواطر مسجوعة:
فلسفه الفأس. . .
قال صاحبي: هل ذكرت الفأس في كتابك، وعطفت عليها بآدابك؟ قلت: نعم وصفتها، وأنصفتها. فاسمع أيها الصاحب الرشيد، ما تريد:
الفأس في تكوينها لا تزيد، عن قطعة من حديد؛ ركبت في غصن تمرد بعد لين، وتجرد بعد تزيين. هذه في تكوينها هي الفأس، أداة البأس؛ فإن لم يدل صنعها على المهارة، فإن وراءها روح جبارة؛ ترد الشظف إن عدا، وتصد السغب إن اعتدى. .
رأيت حامل الفأس في الصباح، كجندي شاكي السلاح؛ يذل بطش العيش ببطش شديد، ويفل بأس البؤس ببأس الحديد؛ فقلت بخ بخ أيها الإنسان، هكذا العزة تصان! وبهذا الفأس يتحطم اليأس! سر في طريقك غير ملوم فلن يثنيك عن الحرية غشوم! وواصل الكد في إيمان، وابحث عن الرزق في اطمئنان؛ غير مسحور بكذب الآمال، ولا مأسور بذهب الأغلال، فإن فأسك أمضى في المنفعة، من السيف في المعمعة؛ وأسرع في الإجابة، من القلم في الكتابة؛ فلو حكمت بأنها أعز من حسام الكمي، وأغلى من يراع العبقري، لكنت في حكمك صائباً، ولم تك كاذباً!
والفأس في يدك أيها الزارع، كالمبضع في يد الطبيب البارع؛ لها رهبة السلاح، وعليها سمة الإصلاح، تعمل حدها في الأرض، فتنسق كثافتها، وتستأصل آفتها. وتمهد السبيل للماء. وتعد الحقل للنعماء. . .
وحسب الفأس شرفاً أنها تؤتي نائلها، وتحمل حاملها؛ بل تحنو على من يحنو عليها؛ وتعز من يلتجئ إليها؛ فترحمه من المن، وتقيه سوء الظن؛ وتدر به بطول الركوع على الخضوع لله، وتهون عليه ما تعقد من أسباب الحياة!
حامد بدر(713/24)
الأدب في سير أعلامه
5 - تولستوي
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
فتى حائر
كان ليو في نحو الثالثة عشره من عمره حينما انتقل مع اخوته إلى قازان؛ وكان جدهم أحد حكام قازان من قبل فكان الصبية ملحوظي المكانة في مضطربهم الجديد وكان يصحب كل صبي منهم خادم خاص جيء به من بين عبيدهم في ساسنايا، وترفع الصبية عمن حولهم من الناس إلا من كانت لهم مثل مكانتهم ولذلك قلت خبرتهم بقازان وأهل قازان. . .
وكانت عمتهم يوشكافا التي يعيشون يومذاك في رعايتها طيبة القلب ولكنها لم تكن على قدر من الثقافة كبير، وكان زوجها من ذوي الثراء يجعل أكثر وقته للموسيقى ولعب الورق إليها؛ ولذلك كثيراً ما كان يغشى بيته جماعات من أصحابه وكثيراً ما صرف الصبية عن الجد من الأمور مشاهدتهم هذه الجماعات وأوحى إلى نفوسهم اللعب واللهو فكان لذلك سوء أثره في دروسهم.
ولكن ليو لا يسرف في ذلك إسراف اخوته، بل انه ليميل إلى مجافاتهم إلى حد ما منذ أن رآهم يتغيرون عما ألفهم، ورأى في أذواقهم وميولهم ما يحس أنه غريب عليه جديد عليهم وما لا يسمعه إلا أن ينكره منهم بينه وبين نفسه.
ولعله ما أنكر ذلك منهم إلا لأنه لا يستطيعه لنفسه، فقد عاوده ما يكدر نفسه من اهتمامه بهيئته وماذا عسى أن يكون وقعها في النفوس؛ وإنه ليطيل النظر في المرآة فلا تعجبه أذناه الكبيرتان ولا أنفه المفرطح الواسع المنخرين ولا عيناه الشهباوان الجاحظتان بعض الشيء ولا شفتاه الغليظتان بعض الغلظ.
على أن له في القراءة مصرفاً عن هذا، وعزاء ومتعة غير ما يسعى إليه اخوته من متعة؛ وهو اليوم في الرابعة عشرة من عمره يلتهم ما تصل إليه يده من الكتب التهاماً؛ ولن يزال مكباً على كتابه ساعات طويلة حتى لينسى نفسه، لأنه يعيش بخياله فيما قرأ؛ وكان مما(713/25)
قرأه يومئذ كتاب ألف ليلة وقد أثرت في خياله وحسه قصة (الأربعين لصاً) تأثيراً قوياً وكذلك فعلت قصة الأمير (قمر الزمان)؛ وقرأ الغلام شعر بوشكين وأعجب بقصيدته عن نابليون، وراقته قصة (الدجاجة السوداء) للكاتب الروسي بوجورولسكي؛ وقرأ الإنجيل وكم تأثر قلبه بقصة يوسف فأن أثرها فيه كان على حد قوله هائلا، ولم يزل بعد ذلك بسنين يصف ما أعجبه من وجازتها وبساطتها وصدقها، ولم يكد يبلغ الخامسة عشرة من عمره حتى أصبح مسحوراً بجان جاك روسو، وإنه من فرط تأثره به ليكاد ينسى كل شيء غيره، وقد بلغ افتتانه به أنه استبدل صورة له بما كان يضع فوق صدره من صليب، واقبل على اعترافاته وكتابيه (إميل) و (هلويز الجديدة) فقرأها مرة بعد مرهة، وكلما أعاد قراءتها ازداد حبه لها واشتد تأثره بها. قال بعد ذلك يصف هذا السحر (كانت صفحات كثيرة منه وثيقة الصلة بنفسي، حتى لقد خيل إلي أني أنا الذي كتبتها لا محالة).
ويمتلئ ذهن الفتى في السادسة عشرة بكثير من مسائل الفلسفة، بل إنه ليطمع أن يحل ألغاز هذا الوجود فيشغل نفسه بالنظر في خلود الروح ووظيفة الإنسان في هذا الكون وصلته به وإمكان وجود حياه أخرى إلى أمثالها من المعضلات والمسائل.
وينظر الفتى في نفسه فيصل إلى رأي، وذلك أن سعادة المرء لا تتوقف على العوامل الخارجية في ذاتها ولكن على صلة الإنسان بهذه العوامل، ومن ذلك مثلاً أن الإنسان إذا أخذ نفسه بالتقشف وتعود الآلام ألف شقاء العيش وآلامه فلن يشقى به ولن يألم منه وعلى ذلك فقد أخذ نفسه بألوان من العنف والشدة كأن يحمل بعض الكتب الثقيلة زمناً ويداه ممدودتان، وكان يضرب جسمه وقد تعرى بحبل حتى تدمع عيناه، ثم إنه يقنع نفسه بأن التفكير في الموت أمر لا محل له وللإنسان أن يستمتع بالساعة التي هو فيها فالموت أمر لابد منه والحياة أتفه من أن يعنى بها المرء قلبه، فليمرح الفتى ما وسعه المرح ولينصرف عن الدرس وليقبل على كل ما يلذه من طيبات الحياة خيرها وشرها وليقض وقته في قراءة القصص وأكل الحلوى. . .
ويحاول أن يتدسس إلى أعماق نفسه ليرى ماذا يجري في شعوره فيصل به الأمر إلى ما يقرب من الخبل، تجد ذلك في قوله (وكنت أفكر في أني أفكر فيما كنت فيه أفكر) وإنه ليستغرق في تفكيره هذا حتى ليأكل ما في يده ذات مره من ديدان كان أعدها طعماً للسمك(713/26)
أثناء صيده ثم يمج الديدان من فمه بين الضحك والتقزز.
ولا يلبث الفتى حتى يجد نفسه قد أخذه التشاؤم من جميع أقطاره، ثم يجد نفسه مستغرقاً في هذا التشاؤم استغراقاً، فلا فكاك له منه ولا منتدح عنه. تجد ذلك واضحاً في عبارة جاءت له في كتابه (عهد اليفاعة)، ولئن كان هذا الكتاب كسابقه (عهد الطفولة) وكلاحقه (عهد الشباب) لم يكتب على أنه تاريخ حياته فأن أكثر ما جاء فيه من وصف لشخصيات خلقها وأكثر ما جاء على ألسنه هذه الشخصيات يدر حول حياته ومن كان له بهم في هذه العهود صلة. قال (لم تشتد نزعة فلسفية في نفسي كما اشتدت نزعة التشاؤم، تلك النزعة التي أشرفت بي ذات مرة على حافة الخبل فقد تخيلت أنه ما من شيء أو شخص هو قائم في هذا الوجود بجانب شخصي؛ وأن الأشياء جميعاً ليست أشياء فقط، ولكنها صور فحسب لا تظهر إلا عندما أتجه بفكري إليها، وإنها لتختفي حين ينتهي تفكيري فيها؛ وقصارى القول أني وافقت شلنج فيما ذهب إليه من أن الأشياء لا وجود لها في ذاتها وإنما الموجود هو علاقتي بها؛ ومرت بي لحظات وصلت فيها تحت تأثير هذه الفكرة المتسلطة علي إلى حالة من الخبل حتى لألتفت في سرعة حولي كي أدرك اللا شيء. . . لقد ازدهتني هذه الكشوف الفلسفية التي بلغتها وأثارت غروري إلى حد عظيم، وكثيراً ما تخيلت أني رجل عظيم يكشف حقائق لخير بني الإنسان، وبهذا الشعور الذي انطوت عليه نفسي، شعور الكبرياء نظرت إلى باقي البشر، ولكني ما واجهت أحداً من هؤلاء الفانين إلا أحسست بالخجل حياله، الأمر الذي يحمل على كثير من العجب، وكلما رفعت قدري نفسي شعرت أني أقل مقدرة لا على إظهار ما يخالجني من شعور الرفعة فحسب، بل كذلك على أن أعود نفسي أن أتجنب الخجل الذي يعتريني من أبسط كلماتي وحركاتي).
وتتوزع فؤاده هواجس الشباب وأحلامه، فبينما هو مستغرق في تشاؤمه مسرف فيه، إذا به يميل بغتة إلى التفاؤل فيجمع عزمه على أن يجد في تحصيل دروسه وأن يكون خير مثال للطالب المجتهد، ويذهب به التفاؤل إلى حد أن يعتزم العمل على أن يكون موضع إعجاب كل من يراه من الناس فإن لم يتفق له هذا في نواحي الكفاية والبطولة، فليس ذلك بمانعه أن يبلغ مأربه في أن يصبح أغنى بني الدنيا وأشهرهم مكانة.
ولكنه لا تكاد تنقضي أيام على ما عقد عليه العزم حتى يعود إلى تشاؤمه والى بطالته(713/27)
ولهوه، ثم إنه يطلق العنان لرغبات جسده، وهو فتى قوي البدن متدفق الحيوية يكاد يلتهب مم يخالجه من رغبات هذا البدن على الرغم من إسرافه فيما يطفئ به هذا الظمأ المتصل به؛ وما يزال به شيطانه يغريه ويزين له كثيراً من الإثم، ويسوقه إلى مهاوي الفتنة حتى يوقع في حبائله فتاة من الخدم ذات ملاحة فيغويها ويقضى منها وطره! ويبلغ نبأ هذا الإثم عمته فتطرد الفتاه من البيت إلى حيث تتلقاها مهاوي الرذيلة ثم يطويها الموت قبل أوانه على صورة محزنة نكراء. . .
وما يعنينا هذا الفعل إلا لأنه استقر في أعماق وجدانه. فكان منه حين تجاوز السبعين من عمره صورة فذة لأهم شخصية في قصة تعد من أعظم آثاره الفنية وأخلدها ألا وهي قصة (البعث)
ويضطرب الفتى اضطراباً شديداً بين وساوس الشباب، فما يكاد يخالجه الندم على ما يعده تفريطاً منه في جنب الفضيلة، حتى يستسلم ثانية إلى الرذيلة، ثم يعود فيجمع عزمه على الورع والطهر والعفة وعلى أن يأخذ نفسه بالجد من الأمور، ولكنه لا يلبث حتى ينقاد إلى ما يوسوس له به شيطانه.
وهكذا ما يزال الفتى يتعلق بالكمال مرة، وينحدر حتى يقرب من قرارة الانحطاط مرة، ويرضى عن نفسه حيناً ويجثم على صدره الندم حيناً، دون أن يستقر على وضع أو يركن إلى رأي. . .
وللمرء أن يعجب حقاً من أن تشغل الفتى مثل هاتيك الأمور في سن كسنه يومئذ؛ ولقد كان بعد ذلك بسنين يشعر بما عسى أن تثير من عجب، بل إنه كان يخشى ألا يصدقها المرء أو أن يردها إلى المبالغة في القول كما ذكر ذلك في كتابه (عهد اليفاعة). فما كان التفكير المتصل في الحياة والناس، وما كانت الرغبة في بلوغ الكمال وتلمس السبيل إلى تحقيق تلك الرغبة مما يكافئ تلك السن، ولولا ذلك الوضع الذي كان فيه وهو حدث لم يلتحق بعد بجامعة من الجامعات، وحسب أنداده أن يقرأ الفتى منهم قصة أو يلهو بديوان شعر. . .
ولكنه كان فيما يشبه الحمى يومئذ مما يجول في رأسه من أفكار وما يهجس في نفسه من خواطر، وما يلج تلك النفس الحائرة من رغبة في السمو ومن طموح نحو المثل الأعلى، وإن تولستوي الفتى اليوم لهو صورة مصغرة لتولستوي الكاتب العظيم في غد، يوم يشتغل(713/28)
ذهنه الجبار بالفن وبالدين وبمسائل الاجتماع، ويوم يبحث حائراً قانطاً أول الأمر عن الغرض من هذه الحياة، حتى تنزل الكنيسة عليه إذ يرى أن الغرض من الحياة يتلخص في العمل على السمو بها نحو ما يريد الله من كمال.
وإن تحمسه للمعرفة على هذه الصورة واهتمامه بان يبلغ ما يطمح إليه من رفعة لدليل لا يدع مجالاً للريب على أنه فطر على البحث عن الحقيقة وأنه من العباقرة القلائل الذين تفطن بهم الإنسانية إلى سر وجودها، والذين يأتون إلى العالم على فترات من الزمن ليقيموا الدليل بوجودهم في ذاته على أن حياة الإنسان جديرة بأن يحياها الإنسان.
وإنك لتجد مثالا لما كان يعنى به نفسه يومئذ فيما جاء بكتابه (عهد اليفاعة) قال:
(كنت يومئذ في نحو السادسة عشرة، وكان العرفاء لا يزالون يترددون علي، وكنت أتهيأ في فتور وكره لألتحق بالجامعة. . . وفي ذلك الوقت الذي أعده نهاية اليفاعة وبدء الشباب، كانت تقوم أحلامي على مشاعر أربعة: أولها حبي (لها) تلك المرأة الخيالية التي كنت أحلم بها دائماً على وتيرة واحدة والتي كنت أتوقع أن ألقاها في أية لحظة في أي مكان ما؛ وثانيها محبتي في أن أغدو محبوباً، فقد رغبت في أن يعرفني كافة الناس وأن يحبوني، ورغبت في أن أصرح باسمي فأجد من الناس جميعاً ما يدل على اهتمامهم بما أصرح به وأراهم يحيطون بي فيسمعوني شكرهم إياي على أمر ما؛ وثالثهما أملي في حظ عظيم غير عادي، وقد بلغ من تسلط هذا الأمل علي أن أشرف بي على الجنون، ورابع مشاعري وهو أهمها كان إحساسي باشمئزازي من نفسي واستشعاري الندم، ولكنه كان ندماً ممتزجاً بالأمل في السعادة ولذلك لم يخالطه الحزن. . . ولقد أحسست السرور في نفوري من الماضي وحاولت أن أجعله أكثر اسوداداً مما كان عليه في واقع الأمر. وذلك أنه كلما كانت ذكرياتي عن الماضي أكثر سواداً، ظهر لي الحاضر الناصع الواضح أكثر وضاءة ووضوحاً، وتراءت لقلبي أحلام المستقبل أكثر جمالا وبهجة، ولقد كان ذلك الصوت المنبعث في نفسي صوت الندم والرغبة القوية الحادة في بلوغ الكمال هو الإحساس الرئيسي لروحي في تلك الحقبة من نموي، وكان هو الذي رسم لي أساس نظراتي في نفسي وفي البشرية وفيما خلق الله من كون).
وكان له يومئذ صديق في قازان، كان فتى طويل القامة، عريض المنكبين حسن الهيئة، في(713/29)
وجهه ملاحة ورقة، يبتسم عن أسنان جميلة دقيقة، ويزين رأسه شعر مسبل ناعم، ولكنه كان على الرغم من ذلك خجولاً كصاحبه إذا لقي الناس، بل لعله كان أشد منه خجلاً وأكثر حساسية. . .
وقد حبب هذا الفتى إلى تولستوي إخلاصه لما يعتقد من رأي وتحمسه له وصراحته في التعبير عما في نفسه مهما يكن من أمره، وقد سأل ديا كوف ذات مرة - وهذا هو اسمه - صاحبه تولستوي قائلا أتدري لماذا أحبك أكثر مما أحب غيرك؟ ذلك لأنك صريح لا تكتم شيئا في نفسك، وهكذا يجتمع الفتيان على الصراحة فتربط بينهما، وإنهما ليتقاربان في كثير من ميولهما، ويتضح لهما ذلك فيما يديرانه بينهما من حوار في أمور كثيرة، فيما يتصل بالدين وفيما يتصل بالمجتمع وأركانه من حكومة وتعليم ونظم مالية وما إليها.
ولقد كان هذا الفتى شديد التأثير في حياة صاحبه فما فرغ من محاورته مرة إلا قويت في نفسه الرغبة في العمل على الكمال المنشود، والانطلاق من حياه اللهو والعبث، تلك الحياة التي يذهب فيها العمر سدى، ولئن لم يك لتولستوي ما لصاحبه من حسن الهيئة فليس ذلك بمانعه أن يعمل على كسب ما يحمل الناس على الإعجاب به مما هو أهم وأجدى من المنظر وحسن الطلعة، بل إنه لحافزه إلى ذلك العمل الذي يعقد عليه عزمه.
على أنه عزم كأكثر مما يعتزم الشباب فما يلبث أن يذهب فيما تحيطه به الحياة من مسراتها ومغرياتها، ولكم اضطرب تولستوي بين عزمه وبين لهوه، ولكم جدد العزم ثم تحلل من عزمه.
وكان ديا كوف هو شخصية ديمتري في كتابه (عهد اليفاعة) فما يفوت كاتب الغد أن يصور أشخاصه كما رآهم في مضطرب الحياة، ولن ينسى شيئاً مما رأى أو يسهو عن أمر يتصل بما يقوم في رأسه من فكرة مهما بلغ من ضآلة هذا الأمر، وتلك ناحية من أهم نواحي مقدرته الفنية يوم يغدو أعظم من كتب القصة في أدب قومه وأحد أفذاذها القلائل في أدب أوربا كلها. .
وستمضي الاعوام ويبقى أثر ديا كوف في نفسه، فقد كان مما أوحته إليه صحبته عبادة الفضيلة، وأن غاية الإنسان في الحياة العمل على بلوغ الكمال والسمو بالنفس أبداً، وسوف يظهر أثر ديا كوف في قصة الحرب والسلم فيما جاء على لسان (أندري) أحد شخصيات(713/30)
القصة قبل معركة أوسترلتز إذ يقول (إني أرغب في المجد، أرغب أن أكون معروفاً عند الناس وأن يحبني الناس، ومالي رغبة غير هذه، وما أعيش إلا من أجلها. . . وإني وإن كان ذلك مني أمراً مروعاً غير طبيعي لأضحى حتى بأعز الناس عندي في سبيل لحظة من المجد والفوز على الرجال ومحبة من لا أعرفهم من الناس ومن سوف لا أعرفهم أبداً
(يتبع)
الخفيف(713/31)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
874 - الله
التبصر في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين لأبي المظفر عماد الدين الأسفرايني:
إن الله لا يجوز عليه الكيفية والكمية والأينية، لأن من لا مثل له لا يمكن أن يقال فيه: كيف هو؟ ومن لا عدد له لا يقال فيه: كم هو؟ ومن لا أول له لا يقال له: مم كان؟ ومن لا مكان له لا يقال فيه: أين كان؟
وقد جاء فيه عن أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) أشفى البيان حين قيل له: أين الله؟
فقال: إن الذي أين الأين لا يقال له: أين.
فقيل له: كيف الله؟
فقال: إن الذي كيف الكيف لا يقال له: كيف.
وسأله آخر: ما جهة وجه الله؟ فأمر حتى أتي بشمعة فوضعها في أنبوبة قصب فقال للسائل: ما وجه هذه الشمعة؟ وبأي جانب مختص؟
فقال له السائل: ليس بمختص بجانب دون جانب
فقال: ففيم السؤال إذن؟
857 ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم:
إن اليهود يقولون للدنيا أربع آلاف سنة ونيف، والنصارى يقولون: للدنيا خمسه آلاف سنة، وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا، وأما من ادعى في ذلك سبعة آلاف سنه أو أكثر أو أقل فقد كذب، وقال ما لم يأت قط عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه لفظه تصح، بل صح عنه (عليه السلام) خلافه، بل نقطع على أن للدنيا عمراً لا يعلمه إلا الله (عز وجل) قال الله (تعالى) (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم) وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (ما أنتم في الأمم قبلكم، إلا كالشعرة البيضاء في الثور(713/32)
الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض) هذا عنه (عليه السلام) ثابت، وهو (عليه السلام) لا يقول إلا عين الحق، ولا يسامح بشيء من الباطل. . .
876 - أثر العربية والأدب في يهودي
عيون الأخبار لابن قتيبة:. . . أبو العيناء قال: كان بالبصرة لنا صديق يهودي، وكان ذا مال وقد تأدب وقال الشعر، وعرف شيئاً من العلوم، وكان له ولد ذكور، فلما حضرته الوفاة جمع ماله وفرقه على أهل العلم والأدب، ولم يترك لولده ميراثا، فعوتب على ذلك فقال:
رأيت مالي ابرّ من ولدي ... فاليوم لا نحلة ولا صدقة
من كان منهم لها فأبعده=الله ومن كان صالحا رزقه
877 - فلو أنني لاقيته ما عرفته
تتمة اليتيمة: أبو الحسن محمد بن الحسين العثماني قال:
أنشدني ابن المغربي الوزير لنفسه في بلوغ الغاية من السلوة، ولم أسمع في معناه أبلغ منه:
حبيب ملكت الصبر بعد فراقه ... على أنني علقته والفته
محاسنُ يأسي شخصه من تفكري ... فلو أنني لاقيته ما عرفته
878 - اقعد، اجلس
وفيات الأعيان: هو (أي ابن خالويه) القائل: دخلت يوما على سيف الدولة بن حمدان، فلما مثلت بين يديه قال لي: اقعد، ولم يقل اجلس، فتبينت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب واطلاعه على أسرار كلام العرب. وإنما قال ابن خالويه هذا لأن المختار عند أهل الأدب أن يقال للقائم: أقعد، وللنائم والساجد: اجلس، وعلله بعضهم بأن القعود هو الانتقال من العلو إلى السفل، ولهذا قيل لمن أصيب برجليه: مقعد، والجلوس هو الانتقال من السفل إلى العلو، ولهذا قيل لنجد: جلساء لارتفاعها وقيل لمن أتاها: جالس وقد جلس، ونه قول مروان ابن الحكم لمن كان والياً بالمدينة يخاطب الفرزدق:
قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ... غن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
أي اقصد الجلساء وهي نجد.
879 - أمر لا يدرك إلا بالذوق(713/33)
ابن أبي الحديد: غن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق والحلو والاحلى والعالي والأعلى من الكلام - أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه، وهو بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء، مشربة حمرة، دقيقة الشفتين، نقية الثغر، كحلاء العينين، أسيلة الخد، دقيقه الأنف، معتدلة القامة. والأخرى دونها من هذه الصفات، والمحاسن لكنها أحلى في العيون والقلوب منها وأليق وأصلح، ولا يدري لأي سبب كان ذلك. ولكنه بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله. وهكذا الكلام، نعم يبقى الفرق بين الموضعين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعض على بعض يدركه كل من له عين صحيحة وأما الكلام فلا يعرفه إلا أهل الذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك ينبغي أن ترجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض إن كنت عادماً لذلك من نفسك.
880 - يا ظبية البان ترعى في خمائله
في (الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم) للصفدي:
(ما من شاعر في الغالب إلا وقد عارض الشريف الرضي في قصيدته التي أولها:
يا ظبية البان ترعى في خمائله ... ليهنك اليوم إن القلب مرعاك
وما منهم من رزق سعادته).
قلت: هذه أبيات منها، قال بعد المطلع:
الماء عندك مبذول لشاربه ... وليس يرويك إلا مدمع الباكي
هبت لنا من رياح الغور رائحة ... بعد الرقاد عرفناها برياك
حكت لحاظك ما في الريم من ملح ... يوم اللقاء فكان الفضل للحاكي
كأن طرفك يوم الجزع يخبرنا ... بما طوى عنك من أسماء قتلاك
أنت النعيم لقلبي والعذاب له ... فما أمرّك في قلبي وأحلاك
سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك
عندي رسائل شوق لست أذكرها ... لولا الرقيب لقد بلغتها فاك(713/34)